Professional Documents
Culture Documents
نموذج المقارنة والاستنتاج
نموذج المقارنة والاستنتاج
يعد الجمال قيمة من القيم اإلنسانية ،فهو الحسن والوسامة والمالحة والبهاء الذي يثير فينا اإلحساس الداخلي
المرتبط باإلعجاب واالستحسان ،ويرتبط الجمال بموضوعات عدة كالطبيعة واإلنسان والسلوك ،وينقسم إلى جمال
الجوهر والروح ،وجمال المظهر ،وتجدر اإلشارة إلى أن المقطعين قيدا المقارنة يتناوالن الجمال موضوعا لهما.
فما أوجه التشابه واالختالف بينهما؟
توجد قواسم مشتركة بين المقطع األول والثاني ،كما أن هناك اختالفات فيما بينهما .نقف أوال عند أوجه
تشابههما ،فعلى مستوى الشكل ،نجد تشابها من حيث العنوان ،بحيث يتناوالن نفس القيمة اإلنسانية المتمثلة في
الجمال ،كما يتفقان في شكلهما العام ،إذ ينتميان إلى الشعر العمودي ذي نظام الشطرين المتناظرين ُم َوحّد القافية
والروي ،وهو األمر الذي يتحقق كذلك جزئيا على مستوى حرف الروي من خالل تشابه المقطعين في نفس صفة
الروي المتمثلة في "الجهر" ،وال يفوتنا اإلشارة إلى أن التوافق يمتد إلى المعايير الجمالية والفنية واألسلوبية ،إذ
نالحظ على أن كال النصين يهيمن عليه أسلوبيا األسلوب الخبري على حساب األسلوب اإلنشائي ،وتصويريا اللغة
التصويرية على حساب اللغة التقريرية.
هذا على مستوى أوجه التشابه ،أما فيما يخص أوجه االختالف ،فيتجسد أوال على مستوى الشكل في العنوان
من من جهة مضمونه ،بحيث يوحي العنوان في المقطع األول (سر الجمال) باالهتمام بالجمال الروحي الداخلي،
فيما تحيل داللة العنوان في المقطع الثاني (جمالك) على جمال المرأة ،ويمتد االختالف كذلك لصاحبي المقطعين،
إذ نجد أن ناظم المقطع األول هو أنيس المقدسي ،وناظم المقطع الثاني هو عبد الكريم بن ثابت ،كما نجد تباينا على
مستوى جنس الروي وحركته ،إذ جاء في المقطع األول "راء مكسورة" ،وفي الثاني "نونا ساكنة" ،وما قيل عن
الروي يقال عن القافية ،حيث جاءت مطلقة في مقطع أنيس المقدسي ،ومقيدة في مقطع عبد الكريم بن ثابت.
وعلى الرغم من تناول الشاعرين على مستوى المضمون نفس القيمة اإلنسانية (الجمال) ،فإنهما اختلفا في
طريقة عرضها وبسطها ووجهة تناولها ،ف"أنيس المقدسي" يتحدث عن الجمال األزلي الذي ال يفنى مهما تقدم
الزمن وتطور ،فهو جمال روحي يشكل أساس كل شيء جميل ،وال تدركه األبصار التي تنظر إلى المظهر ،وإنما
التي تتوغل وتخترق الستار نحو عمق األشياء وجوهرها ،وهذا الجمال الروحي الذي ينشده الشاعر هنا هو منبع
جمال الوحي والشعر ،في حين أن "عبد الكريم بن ثابت" عن الجمال من منظور آخر ،من خالل ربطه بالمرأة
سر الناظرينالتي تعتبر جماال ال يُقدّر بثمن ،نظرا لكونه كنزا ثمينا يصعب إيجاده ،كما يعتبره روضة غناء ت َ
وت ُح ِيي القلوب ،ناشدا إياها أن تهتم بجمالها وأن ال تتلفه أو تستهين بما تملكه من نعمة الجمال الذي يعتبر عملة
نادرة يصعب تعويضها إذا أتلفتُ ،مف ِسحا عن كون الجمال بالنسبة إليه أم ِنية كثيرا ما بحث وسأل عنها داخل جمال
الحياة والطبيعة ،وكثيرا ما تغ ّنى ب ُحسنها ،معتبرا نفسه َم ِدينا لهذا الجمال الذي َيبُ ّ
ث فيه الروح.
ومما ال شك فيه أن باختالف الموضوع يختلف المعجم ،إذ نجد أن المعجم في المقطع األول يُ َهي ِمنُ عليه ما هو
ديني( :الدين -النبي -القاهر -الجبار ،)...والمقطع الثاني يُهي ِمن عليه ما له عالقة بالمرأة( :جمالك -تعلمين -بربك-
تتلفيه -عنك.)...
نستنتج مما سبق أن المقطعين يتشابهان على المستوى اللفظي للعنوان ،وفي الشكل الخارجي العمودي ،وصفة
الجهر في الروي ،ومن حيث غلبة األسلوب الخبري واللغة التصويرية ،كما نجدهما يختلفان في مضمون العنوان،
وفي الناظم (الشاعر) ،وجنس الروي وحركته ،ونوع القافية ،والمضمون العام ،والمعجم .وفي رأيي الشخصي،
شد للجمال من خالل ربطه بالروح التي تحتوي أسرار أرى نفسي تميل إلى تفضيل مقطع أنيس المقدسي الذي َين ُ
كل شيء جميل ،فالجمال الروحي هو سر جمال الكون ،لكونه جمال أبدي ال يفنى وال يزول ،أما ما دونه فهو
زائل.