Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 296

‫األقليات الدينية في الدولة العثمانية‬

‫املسيحية ‪ -‬اليهودية ‪ -‬األرمنية‬

‫إعداد‬

‫الدكتور خالد عبد القادرالجندي‬


‫األقليات الدينية في الدولة العثمانية‬
‫املسيحية ‪ -‬اليهودية ‪ -‬األرمنية‬

‫إعداد‬

‫الدكتور خالد عبد القادرالجندي‬

‫‪Published By: IKSAD Publishing House‬‬

‫‪2017‬م‬
Copyright © 2020 by iksad publishing house
All rights reserved. No part of this publication may be reproduced,
distributed or transmitted in any form or by
any means, including photocopying, recording or other electronic or
mechanical methods, without the prior written permission of the publisher,
except in the case of
brief quotations embodied in critical reviews and certain other
noncommercial uses permitted by copyright law. Institution of Economic
Development and Social
Researches Publications®
(The Licence Number of Publicator: 2014/31220)
TURKEY TR: +90 342 606 06 75
USA: +1 631 685 0 853
E mail: iksadyayinevi@gmail.com
www.iksadyayinevi.com

It is responsibility of the author to abide by the publishing ethics rules.


Iksad Publications – 2020©

ISBN:978-625-7139-46-5
Cover Design: İbrahim KAYA
October / 2020
Ankara / Turkey
Size = 14,8 x 21
‫اإلهداء‬

‫كل ّ‬
‫املهمشين‬ ‫إلى ّ‬

‫إلى ّ‬
‫كل املستضعفين‬
‫إلى ّ‬
‫كل الباحثين عن الحقيقة‬
‫ّ‬
‫مقدمة‬

‫تلق دراسة التاريخ االجتماعي من املؤرخين‬ ‫لم َ‬


‫املسلمين وغيـرهم‪ ،‬العناية الكافـية فـي الدولة العثمانية‪،‬‬
‫كما لم يهتموا بدراسة املجتمع وأجناسه ومدى‬
‫ّ‬
‫انصب‬ ‫اختالطهم‪ ،‬وطوائفه ذات الديانات املختلفة‪ ،‬بل‬
‫يخص امللوك وأمور البالط واألحوال‬ ‫ّ‬ ‫اهتمامهم علـى ما‬
‫السياسية واملعارك الحربية؛ من هنا كان علـى من يريد‬
‫دراسة الحياة االجتماعية وظواهر املجتمع تاريخيا‪ ،‬أن‬
‫ينقب عن تلك الحقائق فـي ما يرد من إشارات فـي املراجع‬ ‫ّ‬
‫املختلفة‪ ،‬تاريخية كانت أو أدبية أو دينية أو غيـرها‪،‬‬
‫باإلضافة إلى ما وصلنا من آثار ووثائق‪.‬‬
‫من هذا املنطلق كانت أهمية الوثائق‪ ،‬وما فـيها من‬
‫كل املصادر األخرى فـي‬‫حقائق وظواهر وأحداث تفوق ّ‬
‫مجال دراسة التاريخ االجتماعي‪ .‬وهو مطمئن إلى ّ‬
‫صحة ما‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫ألنها لم ُتكتب أصال بغرض‬‫إال فـي حاالت نادرة‪ّ -‬‬ ‫ورد فـيها‪-‬‬

‫‪4‬‬
‫التأليف التاريخي‪ ،‬لذا انتفت عنها األهواء الذاتية‪ ،‬وهي‬
‫ُ‬
‫لذلك ت َع ُّد مصادر تاريخية ذات قيمة كبيرة‪ ،‬بل هي‬
‫مصادر معلومات من الدرجة األولى‪ ،‬فإذا ضاعت األصول‬
‫(الوثائق) ضاع التاريخ معها‪ .‬وهناك بعض املراجع التـي‬
‫ً‬
‫تناولت التاريخ االجتماعي للدولة العثمانية‪ ،‬وخصوصا‬
‫تاريخ عالقة الطوائف مع بعضها البعض‪ ،‬وعالقاتها مع‬
‫الدولة العثمانية‪ ،‬وقد امتألت بالتحريف والتزوير‪ ،‬وكان‬
‫بعض الباحثين العرب ينقل عن هذه املراجع من دون‬
‫التمحيص باملعلومات‪ ،‬ف ّ‬
‫ـيردد كالببغاء ما كان يردده‬
‫املستشرقون األوروبيون من دون العودة إلى األصول‬
‫التاريخية (الوثائق)؛ وقد مأل هؤالء املستشرقون كتبهم‬
‫الذمة‪ .‬ويتضح من خالل‬ ‫ّ‬
‫املزورة عن عالقة الدولة بأهل ّ‬
‫الوثائق العثمانية‪ّ ،‬أن الدولة عاملت هذه األقليات‬
‫معاملة جيدة ال بل ممتازة‪ ،‬والدليل علـى ذلك الفرمانات‬
‫التـي أعطاها السالطين العثمانيون لألقليات عند افتتاح‬

‫‪5‬‬
‫ً‬
‫بعض املناطق‪ ،‬وخصوصا السلطانان محمد الفاتح‬
‫وسليم األول‪1.‬‬

‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الذمة وما يتعلق بحقوقهم‬ ‫إن موضوع أهل‬
‫وحرياتهم من املواضيع ّ‬
‫املهمة‪ ،‬وهي من القضايا التـي كان‬
‫ّ‬
‫لها تأثير علـى السياسة العثمانية‪ ،‬كما شكلت الدعاية‬
‫ّ‬
‫املكثفة ملنحهم تلك الحقوق السياسية واالمتيازات‪،‬‬
‫ً‬ ‫ّ ً‬
‫تحديا حقيقيا للدولة العثمانية؛ وتتضح الخطورة إذا‬
‫ّ‬
‫تعرفنا علـى هذه األقليات وحجمها وأعدادها‪ ،‬والتـي يراد‬
‫الذمة ّ‬
‫أقلية عددية دينية‬ ‫لها أن تنال مطلق الحرية فأهل ّ‬
‫(مسيحية‪ -‬يهودية‪ -‬أمنية)‪.‬‬
‫ولم تعرف الحضارة اإلسالمية مصطلح األقليات‪،‬‬
‫بالداللة التـي تطرحها العلوم االجتماعية املعاصرة‪ ،‬والتـي‬
‫ً‬
‫اختالفا‪ ،‬تفارق به األقلية األغلبية فـي أحد ّ‬
‫املقومات‬ ‫تعني‬
‫ويؤدي هذا االختالف‬‫الطبيعية أو الثقافـية أو الدينية‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫إلى تدني نصيبها فـي القوة االجتماعية والسياسية‪،‬‬

‫‪ - 1‬سنعرض في سياق البحث هذه الفرمانات وسنضعها في املالحق‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫وتعرضها ملمارسة تمييـزية‪ ،‬تدفع أفرادها إلى التضامن‪،‬‬ ‫ّ‬
‫يؤدي إلى ّ‬
‫فـي ما بينهم ملواجهة هذه املمارسات‪ ،‬مما ّ‬
‫توتر‬
‫فـي العالقة بين األقلية واألغلبية فـي املجتمع‪1.‬‬

‫ونقطة البداية فـي الفكر اإلسالمي تنطلق من‬


‫مقدمة‪ ،‬مفادها ّأن مفهوم األقليات داخل الدولة‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫اإلسالمية‪ ،‬ال يقوم إال علـى أساس ديني بحت‪ ،‬فاإلسالم‬
‫ال يعرف التفرقة بسبب اللون أو الجنس أو اللغة‪ ،‬لقوله‬
‫عليه الصالة والسالم‪":‬ال فضل لعربي علـى عجمي إال‬
‫بالتقوى"‪ .‬وقوله عليه الصالة والسالم‪":‬الناس سواسية‬
‫كأسنان املشط‪ ،‬ال فضل ألحمر علـى أسود وال لعربي علـى‬
‫عجمي"‪ .‬وحتـى األقليات الدينية التـي تتمتع بالجنسية فـي‬
‫الدولة اإلسالمية‪ ،‬أو من ُيطلق عليهم اصطالحا اسم‬
‫ّ‬ ‫"أهل ّ‬
‫الذمة" فقد نظم اإلسالم معاملتهم‪ ،‬وكفل لهم من‬
‫ً‬
‫الحقوق ما لم تكفله أية قوانين أخرى‪ ،‬انطالقا من‬
‫القاعدة الفقهية‪":‬لهم ما لنا وعليهم ما علينا"‪.‬‬

‫‪- 1‬نيفين عبد املنعم سعد‪ :‬األقليات واالستقرار السياس ي في الوطن العربي‪ ،‬مركز البحوث‬
‫والدراسات السياسية‪ ،‬جامعة القاهرة‪ ،‬ط‪ ،1982 ،1‬ص ‪.15-7‬‬

‫‪7‬‬
‫والذمة فـي اللغة هي العهد واألمان والضمان‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ويعرفها البعض ّ‬
‫بأنها األمان والضمان والعهد‪ ،‬وهي إقرار‬ ‫ّ‬
‫غيـر املسلمين علـى دينهم‪ ،‬بشرط بذل الجزية والتزام‬
‫ّ‬
‫الذميين هم‬ ‫أحكام امللة‪ .1‬بينما يرى البعض اآلخر ّأن‬
‫املعاهدون املستوطنون من النصارى واليهود وغيـرهم‬
‫ُ‬
‫ممن يقيم فـي دار اإلسالم‪ ،‬وأطلق عليهم هذا االصطالح‪،‬‬
‫فأمنوا علـى أرواحهم وأموالهم‬‫ألنهم دفعوا الجزية‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫ذمة املسلمين‪2.‬‬‫وأصبحوا فـي ّ‬

‫الذمة هم املعاهدون من املسيحيين واليهود‬‫وأهل ّ‬


‫ممن يقيمون ببالد املسلمين‪ ،‬وقد أطلق عليهم الرسول‬
‫ً‬
‫‪ ،‬اسم أهل الكتاب‪ ،‬تمييـزا لهم عن عبدة األوثان‪،‬‬
‫ً‬ ‫وذلك ّ‬
‫ألن لهم كتبا منزلة هي التوراة والزبور واإلنجيل؛‬
‫وعندما خضع أهل الكتاب للمسلمين‪ ،‬كفل لهم الرسول‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬حرية العبادة من دون الوثنيين‪،‬‬

‫‪- 1‬ابن منظور‪ :‬لسان العرب‪ ،‬مادة ذمم‪.‬‬


‫‪- 2‬عبد الكريم زيدان‪ :‬أحكام الذميين واملستأمنين في دار اإلسالم‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬مكتبة‬
‫القدس‪ ،‬بغداد‪ ،1976 ،‬ص ‪.22-20‬‬

‫‪8‬‬
‫مقابل آدائهم الجزية‪ ،‬وإذا واظبوا علـى أداء االلتزامات‬
‫املفروضة عليهم‪ ،‬ضمن لهم حماية الحكومة اإلسالمية‪،‬‬
‫بوصفهم من املعاهدين أو أهل ذمة‪1.‬‬

‫‪ - 1‬سلوى علي ميالد‪ :‬وثائق أهل الذمة في العصر العثماني‪ ،‬وأهميتها التاريخية‪ ،‬دار الثقافة‬
‫للنشروالتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،1983 ،‬ص ‪.7‬‬

‫‪9‬‬
‫الفصل األول‬

‫األقليات الدينية‬

‫‪ -1‬نظرة الدولة العثمانية إلى األقليات‪.‬‬


‫ّ‬
‫‪ -2‬نظام امللة‪.‬‬
‫‪ -3‬تدهور العالقات بين أهل ّ‬
‫الذمة والدولة العثمانية‪.‬‬
‫‪ -4‬استنتاج‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫نظرة الدولة العثمانية إلى األقليات‬

‫ّ‬
‫التزم العثمانيون تعاليم اإلسالم‪ ،‬فـي ما يتعلق بغيـر‬
‫املسلمين الذين يعيشون داخل األراض ي العثمانية‪ ،‬فهذه‬
‫ً‬
‫القواعد الشرعية التـي كان معموال بها من قبل‬
‫تعد طبيعية كون الدولة إسالمية‪ ،‬تطلق‬ ‫العثمانيين‪ُّ ،‬‬
‫الذميين" علـىغيـر املسلمين الذين يعيشون تحت‬ ‫اسم " ّ‬
‫ً‬
‫حكمها‪ ،‬ويعقدون صلحا معها‪ .‬ولم يكن هناك أي تفريق‬
‫بينهم فـي اللغة‪ ،‬أو اللون‪ ،‬أو القومية‪ .‬ومن الطبيعي أن‬
‫يكون للذميين فـي الدولة العثمانية مالمح تجعلهم‬
‫مختلفـين عن املسلمين‪ ،‬وهذا نتاج طبيعي لالختالف فـي‬
‫بشر قبل ّ‬
‫كل ش يء‪.‬‬ ‫ألنهم ٌ‬‫الدين‪ ،‬فقد كانوا محل احتـرام‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫وعلـى سبيل املثال‪ :‬كان املسلمون مكلفـين بأداء فريضة‬
‫الذمة معفون من دفعها‪ ،‬وبدل ذلك‬ ‫الزكاة‪ ،‬بينما أهل ّ‬
‫ً‬
‫كانوا يدفعون الجزية سنويا بحسب القدرة املالية‪ ،‬حتـى‬
‫‪11‬‬
‫ُ‬
‫ّإن البعض منهم قد أعفـي من دفع هذه الجزية‪ ،‬كالفقراء‬
‫ورجال الدين واملرض ى واملسنين والعاطلين عن العمل‪،‬‬
‫ولم يكونوا مجبرين علـى الجهاد واالنخراط فـي الجيش‪،‬‬
‫ويتبعون تعاليم دينهم‪ ،‬وفـي ما خص قوانين األحوال‬
‫الشخصية وامليراث وغيـرها‪1.‬‬

‫وقد وردت فـي إحدى الوثائق مراسلة من بطريرك‬


‫َّ‬
‫تتعلقق بإعفاء الفقراء‬ ‫القدس إلى الصدر األعظم‪،‬‬
‫واألرامل من دفع الجزية‪ ،‬يذكر البطريرك فـي هذا‬
‫الصدد‪ّ ،‬أنه خالل أواسط شوال ‪862‬ه وأواسط ربيع‬
‫تم منح االمتيازات من جانب الدولة‬ ‫األول ‪933‬ه‪ّ ،‬‬
‫العثمانية‪ ،‬لكل ممتلكات الرهبنة ورجال الدين الذين‬
‫كانوا تحت إمرة البطريرك "صـوفـرو لـيـوس"‪ ،‬وأعفوا من‬
‫الضريبة‪ ،‬وكذلك دور األيتام واألرامل ومنازل الرهبان‪2.‬‬

‫‪ - 1‬أحمد آق كوندز‪ :‬الوثائق تنطق بالحقائق‪ ،‬ترجمة مصطفى الستيتي وأنعم عثمان‬
‫الكباش ي‪ ،‬وقف البحوث العثمانية‪ ،‬استنبول‪ ،2014 ،‬ص ‪.222‬‬
‫‪2- B.O.A: ŞD, 2308/17-5.‬‬

‫‪12‬‬
‫وكان املسلم والذمي يعامالن معاملة واحدة فـي‬
‫الدعاوى القضائية‪،‬وشاهدنا علـى ذلك آالف الوثائق فـي‬
‫السجالت الشرعية للمحاكم العثمانية‪ ،‬وفـيها ّأن‬
‫"يورجي" محكوم له ضد أحمد أوديمتري محكوم له ضد‬
‫ُّ‬
‫وتعد الكنائس واملعابد الكثيرة فـي استنبول‬ ‫عثمان‪،1‬‬
‫خيـر دليل علـى تسامح الدولة العثمانية مع أهل ّ‬
‫الذمة‪.‬‬
‫وقد افترى بعض املستشرقين علـى الدولة‬
‫العثمانية‪ ،‬ووصفوها بأبشع الصفات‪ ،‬منها أنها كانت‬
‫تضطهد غيـر املسلمين وتجبرهم علـى اعتناق اإلسالم‬
‫لكن الحقيقة والواقع يدحضان هذا الكالم‪،‬‬ ‫قس ًرا‪ّ ،‬‬
‫فالعثمانيون جسدوا بصدق أخالق اإلسالم السمحة فـي‬
‫ستدل ّ‬
‫مما يلي‪:‬‬ ‫ُّ‬ ‫معاملتهم لغيـر املسلمين كما ُي‬
‫ا‬
‫أوال‪ّ -‬إن طبيعة اإلسالم الذي التزمه العثمانيون‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ترفض رفضا قاطعا مبدأ اإلكراه فـي الدين‪":‬ال إكراه فـي‬

‫ا‬
‫‪ - 1‬ملعرفة املزيد راجع سجالت املحاكم الشرعية في الواليات العثمانية‪ ،‬وخصوصا سجالت‬
‫املحكمة الشرعية في طرابلس‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫الدين"‪ .1‬بل ّإن أخالق القرآن الكريم‪ ،‬وهدي النبوة‪،‬‬
‫تحض علـى معاملة أهل الكتاب معاملة طيبة‪ ،‬ما داموا‬
‫يبتعدون عن الكيد لإلسالم‪ ،‬وإثارة الفتن ضد املسلمين‪.‬‬
‫َ‬ ‫ا‬
‫ثانيا‪ -‬تروي معظم املراجع التركية التـي أ ّرخت‬
‫مؤسس‬ ‫للعثمانيين‪ّ ،‬أن "أرطغرل" عه َد البنه "عثمان" ّ‬
‫الدولة‪ ،‬بوالية القضاء فـي مدينة "قره جه حصار" سنة‬
‫‪1285‬م‪ ،‬وأن "عثمان" حكم لبيزنطي مسيحي ضد مسلم‬
‫تركي‪ ،‬فاستغرب البيزنطي‪ ،‬وسأل عثمان‪":‬كيف تحكم‬
‫لصالحي وأنا من غيـر دينك؟"‪ ،‬فأجابه‪":‬بل كيف ال أحكم‬
‫ّ‬
‫لنا‪":‬إن هللا يأمركم أن‬ ‫لصالحك‪ ،‬وهللا الذي نعبده يقول‬
‫تؤدوا األمانات إلى أهلها‪ ،‬وإذا حكمتم بين الناس أن‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫تحكموا بالعدل""‪ ،‬وكان هذا التسامح سببا لدخول هذا‬
‫الرجل فـي اإلسالم‪.2‬‬

‫‪ - 1‬القرآن الكريم‪} :‬سورة البقرة‪ :‬اآلية ‪.{256‬‬


‫‪- 2‬زياد أبو غنيمة‪ :‬جوانب مضيئة في تاريخ العثمانيين األتراك‪ ،‬دارالعرفان للنشر والتوزيع‪،‬‬
‫عمان‪ ،‬ط‪ ،1983 ،1‬ص ‪.76 -75‬‬

‫‪14‬‬
‫ّ‬ ‫ا‬
‫ثالثا‪ -‬بدت السياسة العثمانية تجاه سكان البلدان‬
‫املفتوحة‪ ،‬عادلة‪ ،‬فنظروا إلى العثمانيين كمحررين لهم‬
‫ّ‬
‫من الحكام الظاملين‪ ،‬التـي كانت تحت حكم البيزنطيين‪،‬‬
‫وبذلك لم َير هؤالء فـي استيالء العثمانيين املسلمين علـى‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مدنهم مجرد فتح لها‪ ،‬بل خالصا وإنقاذا من ظلم الدولة‬
‫ً‬
‫البيزنطية‪ .‬ويذكر "بول كولز" ّأن العثمانيين القوا ترحيبا‬
‫ً‬
‫متالحقا‪ ،‬باعتبارهم محررين للسكان من سادتهم‬
‫األوروبيين الذين أخضعوهم الستغالل اقتصادي بشع‪،‬‬
‫وكان استعدادهم لقبول الحكم العثماني ّ‬
‫يتردد صداه فـي‬
‫بعض مدن إيطاليا ذاتها‪.1‬‬
‫وينقل زياد أبو غنيمة عن املوسوعة اليونانية‪ ":‬أن‬
‫"أورخان" بعد أن استسلمت له بعض حاميات املدن‬
‫البيزنطية أعطى األمان لجميع أهاليها من الروم‬
‫البيزنطيين‪ ،‬علـى حياتهم وأموالهم وأعراضهم‬
‫وممتلكاتهم‪ ،‬فآثر الروم البيزنطيون البقاء فـي مدنهم‬

‫‪- 1‬بول كولز‪ :‬العثمانيون في أوربا‪ ،‬ترجمة عبد الرحمن عبد هللا الشيخ‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الهيئة‬
‫املصرية العامة للكتاب‪1993 ،‬م‪ ،‬ص ‪.152‬‬

‫‪15‬‬
‫تحت سيادة العثمانيين‪ ،‬عندما خيـرهم "أورخان" بين‬
‫البقاء أو الرحيل إلى أي مكان يريدون"‪.1‬‬
‫وتقول "ماري ملز باتريك"‪ ،‬التـي عاشت فتـرة طويلة‬
‫فـي استنبول ‪ ":‬الواقع ّأن السلطان محمد الفاتح قد‬
‫ً‬
‫عظيما مع املسيحيين‪ ،‬وليس ّ‬ ‫ً‬
‫أدل ذلك من‬ ‫أظهر تسامحا‬
‫قوله لهم‪ّ ":‬إننـي أقسم بحرمة مساجد هللا التـي نتعبد‬
‫فيها‪ ،‬أن أضمن لكم أن تجتمعوا فـي كنائسكم للصالة‬
‫ّ‬
‫والتضرع إلى هللا"‪2.‬‬

‫ويقول "برنارد لويس"‪ ":‬كانت املسيحية واليهودية‪،‬‬


‫فـي نظر العالم اإلسالمي‪ ،‬دينين سماويين ينظر إليهما‬
‫املسلمون نظرة تسامح‪ ،‬وقد انعكست هذه النظرة‬
‫املتسامحة من املسلمين فـي املعاملة الحسنة والتسامح‬
‫الكبيـر ال ـذي الق ـاه أص ـحـ ـاب ال ـدي ـان ـات السماوية فـي‬

‫‪- 1‬زياد أبو غنيمة‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.80‬‬


‫‪- 2‬ماري ملز باتريك‪ :‬سالطين بني عثمان الخمسة‪ ،‬ترجمة حنا غصن وكامل مروة وكامل‬
‫صموئيل‪ ،‬بيـروت‪ ،1983 ،‬ص ‪.51‬‬

‫‪16‬‬
‫املجتمع العثماني‪ ،‬علـى الرغم من موقف املسيحيين‬
‫العدائي لإلسالم كديانة منافسة"‪.1‬‬
‫وساعدت الثقافة العثمانية وطبيعة الدين‬
‫اإلسالمي واملذهب الحنفـي علـى أن يقبل العثمانيون‬
‫أهالي البلدان التـي فتحوها كجزء من ّ‬
‫األمة العثمانية‪،‬‬
‫وعلـى قدم املساواة مع مواطنيهم املسلمين‪ .‬ونشير فـي هذا‬
‫املجال إلى ّأن الجيوش العثمانية التـي فتحت آسيا‬
‫ً‬ ‫تعمقت فـي أوروبا‪ ،‬وكانت ّ‬ ‫الصغرى‪ ،‬والتـي ّ‬
‫تضم أعدادا‬
‫كبيـرة من غيـر املسلمين‪ ،‬كالبلغار واليونان والصرب‬
‫ً‬
‫وأهالي الجبل األسود‪ ،‬واأللبان الذين يشكلون جزءا من‬
‫األمة العثمانية‪ ،2‬ولم يحدث فـي التاريخ واملمارسة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬أن وجد داخل مؤسسة الجيش مثل هذا‬
‫العدد الهائل من الجنود غيـر املسلمين‪ ،‬من دون‬
‫حساسية تجاه دينهم أو طائفتهم أو والئهم للدولة‪ .‬وهذا‬
‫‪- 1‬برنارد لويس‪ :‬الغرب والشرق األوسط‪ ،‬ترجمة الدكتور نبيل صبحي الطويل‪ ،1965 ،‬ص‬
‫‪.215‬‬
‫‪- 2‬محمد جميل بيهم‪ :‬فلسفة التاريخ العثماني‪ ،‬شركة فرج هللا للمطبوعات‪ ،‬بيـروت‪ ،‬لبنان‪،‬‬
‫ص ‪.242‬‬

‫‪17‬‬
‫االنتظام لغيـر املسلمين فـي الجيش اإلسالمي يعود إلى‬
‫ثالثة عوامل‪:‬‬
‫ً‬
‫أوال‪ -‬تسامح العثمانيين وعدالتهم‪.‬‬
‫ً‬
‫ثانيا‪ -‬صرامة القواعد التـي وضعها العثمانيون‬
‫لقيادة الجيش‪.‬‬
‫ً‬
‫ثالثا‪ -‬اعتبار غيـر املسلمين مواطنين علـى قدم‬
‫املساواة فـي الدولة مع املسلمين‪.1‬‬
‫وكانت الدولة العثمانية ضد القومية‪ ،‬فال تمييـز بين‬
‫مواطنيها علـى أساس العرق أو القبيلة‪ّ ،‬‬
‫وإنما كان علـى‬
‫ً‬
‫أساس الدين أو امللة؛ وكان هذا التمييـز وظيفـيا ال‬
‫ً‬
‫عنصريا‪ ،‬فالذين يختلفون مع الدين الرسمي للدولة‪ .‬هم‬
‫ً‬
‫رعايا للسلطان أيضا‪ ،‬يربطه بهم عقد يتبادل فـيه‬
‫الطرفان الحقوق والواجبات‪ .‬وكان بوسع املخالفـين‬
‫ً‬
‫للدولة فـي دينها وعقيدتها أن يكونوا جزءا من األمة‬

‫‪- 1‬كمال السعيد حبيب‪ :‬األقليات والسياسة في الخبرة اإلسالمية من بداية الدولة النبوية‬
‫حتى نهاية الدولة العثمانية ‪1908 -621‬م‪ ،‬مكتبة مدبولي‪ ،‬القاهرة‪ ،2004 ،‬ص ‪.264‬‬

‫‪18‬‬
‫العثمانية‪ ،‬لهم ما لبقية مواطنيها وعليهم ما عليهم‪ .‬ولم‬
‫يكن مصطلح "عثماني" أو "األمة العثمانية" سوى داللة‬
‫كل الذين يعيشون فـي الدولة العثمانية‪،‬‬‫حضارية علـى ّ‬
‫من املسلمين‪ ،‬أي ّإن مصطلح "عثماني" هو األوسع من‬
‫حيث داللته السياسية من مصطلح "مسلم" ألنه يشير‬
‫إلى "الجنسية" أو "املواطنة" فـي لغتنا السياسية‬
‫املعاصرة‪ .‬وفـي وقت كان العالم يضـ ّج فـيه باملمارسات‬
‫الوحشية من قبل جماعة مسيطرة‪ ،‬ضد الجماعات‬
‫األخرى التـي تتجاور معها فـي املجتمع الواحد‪ ،‬بسبب‬
‫مخالفتها لها فـي الدين أو املذهب‪ .‬وكانت الحروب ضد‬
‫املجتمعات األخرى ّ‬
‫تشن بسبب الدين‪ ،‬والدولة العثمانية‬
‫تقف فـي شموخ حضاري وأخالقي‪ ،‬ال تمارس فـيه ضد‬
‫متحيزة‪.1‬ولم يعرف العثمانيون‬‫ّ‬ ‫مخالفـيها ّأية ممارسة‬
‫مصطلح األقلية‪ ،‬شأنهم فـي ذلك شأن الدول اإلسالمية‪،‬‬
‫ممن سبقوها‪ .‬وكان هذا املصطلح ُيطلق لإلشارة إلى‬ ‫ّ‬

‫‪- 1‬عبد العزيزمحمد الشناوي‪ :‬الدولة العثمانية دولة إسالمية مفترى عليها‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مكتبة‬
‫األنجلو‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.16‬‬

‫‪19‬‬
‫يتميزون عن األغلبية فـي العرق أو اللغة أو‬ ‫الذين ّ‬
‫القومية أو الدين‪ .‬وأطلق العثمانيون اسم "أهل ّ‬
‫الذمة"‬
‫أو أهل "امللة" علـى أولئك الذين كانوا ّ‬
‫يتميزون عن الدولة‬
‫فـي الدين والعقيدة‪ .‬والدولة العثمانية لم تعرف مصطلح‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫خضم صراعها مع العالم الغربي بعد‬ ‫األقلية إال فـي‬
‫ظهور املسألة الشرقية‪ ،‬حيث كانت الجماعات غيـر‬
‫املسلمة من املسيحيين أو أهل ّ‬
‫الذمة‪ ،‬إحدى آليات‬
‫الضغط الغربي للتدخل فـي البالد العثمانية‪.1‬‬
‫كما يشير إلى ذلك "ألبرت حوراني"‬
‫فـيقول‪":‬اإلمبرطورية العثمانية إمبرطورية عاملية جامعة‬
‫متماسكة فـي إطار ّ‬
‫موحد من النظام واإلدارة‪ ،‬وبوالء‬
‫ألسرة حاكمة فـي مناطق مختلفة عديدة‪ :‬البلقان وآسيا‬
‫الصغرى‪ ،‬وبالد آسيا ومصر وساحل شمال أفريقيا‪،‬‬
‫وجماعات من أعراق متباينة‪ :‬اليونان والصرب والبلغار‬
‫والترك والعرب واألكراد واألرمن‪ ،‬وطوائف دينية مختلفة‪:‬‬

‫‪- 1‬فهمي هويدي‪ :‬مواطنون ال ذميون‪ ،‬موقع غير املسلمين في مجتمع املسلمين‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار‬
‫الشروق‪ ،‬ط‪1989 ،1‬م‪ ،‬ص ‪.42‬‬

‫‪20‬‬
‫الروم األرثوذكس واألرمن واألقباط واملوارنة وغيـرهم من‬
‫املسيحيين واليهود من فرق متعددة وأنظمة اجتماعية‬
‫مختلفة‪ ،‬من بين سكان املدينة والفالحين فـي السهول‬
‫والوديان وأهل القرى فـي الجبال كاأللبانيين واألناضوليين‬
‫الشرقيين واألكراد ورجال القبائل البدوية فـي السهول‬
‫والصحراء"‪.1‬‬
‫ً‬
‫والثابت تاريخيا‪َّ ،‬أن العثمانيين كانوا يتعاملون مع‬
‫غيـر املسلمين بحسب مقتضيات الشريعة اإلسالمية‪،‬‬
‫ويطلقون اسم "أهل ّ‬
‫الذمة" أو " نظام امللل" أو "أهل‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫الكتاب" علـى من يتبعون الديانات التـي أنزلت لها كتب‬
‫سماوية‪ .‬وعلـى الدولة التـي يعيشون فـيها‪،‬حماية أرواحهم‬
‫وأموالهم‪ ،‬وتأمينهم‪ ،‬وأن تترك لهم الحرية املطلقة فـي‬
‫ممارسة شعائرهم وعاداتهم وتقاليدهم الدينية‪ .‬ولكن لم‬
‫يكن ُيسمح لهم بأي ممارسة تخالف الشريعة اإلسالمية‪.‬‬
‫وكانت الدولة العثمانية ملتزمة بالحفاظ علـى الكنائس‬

‫‪- 1‬عبد العزيزمحمد الشناوي‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.93‬‬

‫‪21‬‬
‫واملعابد‪ ،‬وتسمح بترميم القديم منها‪ ،‬ولم يكن يسمح‬
‫ّ‬
‫ببناء الجديد منها إال بموجب فرمان سلطاني‪.1‬‬
‫كل أهل األديان السماوية طوال العهد‬ ‫وعاش ّ‬
‫العثماني تحت رعاية الدولة وسماحة الشريعة‬
‫ّ‬
‫التعرف بشؤونهم اإلدارية‬ ‫اإلسالمية‪ُ ،‬وتركت لهم حرية‬
‫والدينية‪ ،‬لكي يتولونها بأنفسهم‪ ،‬وقد حافظوا علـى‬
‫أديانهم‪ ،‬وتعاملوا بحسب مذاهبهم وطوائفهم‪ ،‬وتركت‬
‫الدولة العثمانية حق املقاضاة واألحوال الشخصية لهم‪،‬‬
‫كل بحسب دينه ومذهبه‪ ،‬واعترفت لهم باملعاهدات‬ ‫ٌ‬
‫والتعهدات التـي سبق لهم الحصول عليها‪.2‬‬
‫باإلضافة إلى أهل ّ‬
‫الذمة من أهل الكتاب‪ ،‬كان تحت‬
‫حكم الدولة العثمانية رعايا من غيـر أهل السنة وغيـر‬
‫ً‬
‫املسيحيين واليهود أيضا‪ .‬ومن الصحيح ّأنهم ليسوا كثيري‬
‫العدد‪ّ ،‬‬
‫لكنهم كانوا ومنهم موجودين‪ :‬الزيدون الشيعة فـي‬

‫‪1- B.O.A: AMTZ (04):16/18.‬‬


‫‪- 2‬ستانفورد‪.‬ج‪ .‬شو‪ :‬يهود الدولة العثمانية والجمهورية التركية‪ ،‬ترجمة الصفصافي أحمد‬
‫القصوري‪ ،‬دارالبشيرللثقافة والعلوم‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪ ،2015 ،1‬ص ‪.14‬‬

‫‪22‬‬
‫اليمن‪ ،‬اإلثنا عشرية أو الجعفرية الشيعة فـي العراق‪،‬‬
‫الخوارج فـي بعض أماكن من الجزائر وتونس‪ ،‬الدروز فـي‬
‫لبنان وسوريا‪ ،‬اإلسماعيلية الشيعة فـي بعض املناطق‪،‬‬
‫العلويون فـي سوريا‪ .‬وكان باستطاعة هؤالء ممارسة‬
‫بكل حرية‪ ،‬وال ُتمارس الدولة ّ‬
‫أي‬ ‫شعائرهم ومعتقداتهم‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫ضغط عليهم‪ ،‬أو تدخ َل فـي شعائرهم ومعتقداتهم‪،‬‬
‫وبإمكانهم تدريس أصول فقههم الخاص فـي مدارسهم‬
‫الدينية‪ ،‬أبرزها‪ ،‬الشيعية فـي النجف‪ ،‬التـي سمحت‬
‫الدولة العثمانية بتدريس الفقه الشيعي فـيها بمستوى‬
‫أي تدخل أو اعتراض‪ .‬وكانت عقلية‬ ‫جامعي من دون ّ‬
‫الدولة العثمانية‪ ،‬ال تبالي كون بعض رعاياها من‬
‫العلويين‪ ،‬شيعة‪ ،‬دروز‪ ،‬ولو كان األمر عكس ذلك‪،‬‬
‫لضغطت‪ ،‬وحاولت بشتى الوسائل أن‬

‫‪23‬‬
‫تحولهم إلى املذهب السني‪ ،1‬غيـر ّأنها عاملتهم كرعايا‬
‫ّ‬
‫عثمانيين‪ ،‬إذ فتحت لهم العديد من املدارس‪ّ ":‬‬
‫وتم‬
‫االهتمام بإنشاء مكاتب ابتدائية فـي القرى التابعة إلى‬
‫قضاء مرقب‪ ،‬وضرورة تدريس الدين الصحيح والدين‬
‫اإلسالمي السليم ضد انتشار العقائد الباطلة مثل‬
‫اإلسماعيلية التـي انتشرت بين الناس"‪ .2‬وبحسب هذه‬
‫الوثيقة انتشر املذهب اإلسماعيلي بين الناس‪،‬وهذا دليل‬
‫الحرية لجميع املذاهب‪،‬وجل ما‬‫ّ‬ ‫علـى ّأن الدولة تركت‬
‫كانت تسمح به هو أن يقوم بعض علماء املسلمين بهداية‬
‫ألنها كانت تعتبرها ضالة‪ ،‬ويجب هدايتها‪،‬‬‫هذه املذاهب‪ّ ،‬‬
‫وفـي كتاب موجه إلى والية بيروت من الباب العالي‪ ،‬عالوة‬
‫علـى محاولة إنشاء ‪ 8‬مكاتب فـي الالذقية من أجل تنوير‬
‫طائفة النصيرية وهدايتهم إلى اإلسالم والحضارة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬قام الشيخ علي رشيد أفندي من علماء‬

‫‪- 1‬يلماز أوزتونا‪ :‬موسوعة تاريخ اإلمبرطورية العثمانية السياس ي والعسكري والحضاري‬
‫(‪1341 -629‬هـ‪ 1922 -1231 /‬م)‪ ،‬ترجمة عدنان محمود سليمان‪ ،‬مراجعة محمود‬
‫األنصاري‪ ،‬ج‪ ،4‬الدارالعربية للموسوعات‪ ،‬ط‪ ،2010 ،3‬ص ‪.462‬‬
‫‪2- B.O.A: Z.MF.MKT: 1044/75(7-12).‬‬

‫‪24‬‬
‫طرابلس الشام‪ ،‬بهداية حوالي ‪ 15‬ألف شخص نصيري إلى‬
‫ّ‬
‫الدين املبين‪ ،‬فتطلب من حضرة السلطان العظيم إنشاء‬
‫مدارس ومساجد من أجل املسلمين الجدد"‪. 1‬‬
‫وحاول العثمانيون بذل أقص ى جهدهم فـي إدارة‬
‫شؤون غيـر املسلمين‪ ،‬وخيـر دليل علـى ذلك‪ ،‬هو الحفاظ‬
‫ّ‬ ‫علـى البراءات والتعهدات التـي ُمنحت ألهل ّ‬
‫الذمة‪ ،‬ممثلين‬
‫بالبطاركة والحاخامات والروحانيين منذ األزمنة‬
‫السابقة‪ ،‬بل واألمر العالي الشأن الذي أصدره السلطان‬
‫سليمان القانوني والذي جاء فـيه‪ ":‬عندما وقع الفتح‬
‫الشريف زمن املرحوم واملغفور له أبي السلطان سليم‬
‫خان الرحمة والرضوان له ومقامه الجنة والفردوس‪،‬‬
‫ّ‬
‫املسمى "أطاليا" وسائر الرهبنة‬ ‫أقبل عليه البطريرك‬
‫والرعايا وأعلنوا الطاعة والرجاء‪ .‬وعلـى ضوء طلبهم‬
‫بتجديد العهد الذي استحصلوا عليه زمن عمر بن‬
‫الخطاب وزمن أبي السلطان سليم والسالطين القدامى‪،‬‬

‫‪1- B.O.A:Z.MF.MKT:1044/75(3-3).‬‬

‫‪25‬‬
‫كل الكنائس واألديرة‬ ‫فقد أقر قرار توضع بموجبه ّ‬
‫وأماكن العبادات واملزارات‪ ،‬داخل مدينة القدس‬
‫تصرف وإدارة بطريرك ورهبانية‬‫الشريف وتوابعها‪ ،‬تحت ّ‬
‫ّ‬
‫ملة الروم‪ ...‬فقد قررنا ّأن جميع األديرة تحت إدارة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بطريرك ورهابنة ملة الروم‪ ،‬وأكدنا إعفاء جميع أماكن‬
‫وكل ما هو تحت تصرف الرهبنة‬ ‫دور العبادة واألوقاف‪ّ ،‬‬
‫من مختلف الضرائب والرسومات والجزية والرسومات‬
‫الجمركية ومختلف الرسومات املتداولة بحسب األعراف‪.‬‬
‫ً‬ ‫وبموجب ما ّ‬
‫تقرر أيضا‪ ،‬فقد سمح لهؤالء بإنشاء املباني‪،‬‬
‫وإقامة التعديالت والترميمات‪ ،‬وإيصال املباني ببعضها‬
‫تقدم من‬‫البعض وأدراج الغرف‪ ،‬وإدراجها ضمن ما ّ‬
‫إعفاءات من الرسوم الضرائبية والجمركية‪ ،‬وال يجوز‬
‫أي ظرف‪ ،‬التعدي علـى هؤالء أو‬ ‫ألي كان‪ ،‬وتحت ّ‬ ‫ّ‬
‫إهانتهم‪ ...‬وال يجوز ألحد فسخ هذا القرار السلطاني الذي‬
‫منحته لهؤالء‪ ،‬فهو مسؤول علـى ما سيناله من غضب‬
‫وعذاب هللا"‪.1‬‬
‫أنظرالفرمان (ملحق رقم ‪1- B.O.A:A.DVNS,KLS.d,8-7. )-1-‬‬

‫‪26‬‬
‫وفرمان السلطان "ياووز سليم األول" الذي منحه‬
‫إلى بطريرك الروم "أطاليا" أو "عطاليا" جاء فـيه بعد‬
‫املقدمة‪ ...":‬نعلن بموجب الحكم الشريف إبقاء الكنائس‬
‫واألديرة‪ ،‬وسائر أماكن العبادات والزيارات بالقدس‬
‫تصرف بطريرك‬‫ّ‬ ‫الشريف واملناطق التابعة له‪ ،‬تحت‬
‫طائفة الروم‪ ...‬وبناء علـى عهدنامة حضرة عمر بن‬
‫الخطاب والسالطين القدامى‪ ،‬نعلن منحنا لفرمان عالي‬
‫يتم إعفاء جميع املمتلكات والكنائس‬‫الشأن‪ ،‬وبموجبه ّ‬
‫واألوقاف ودور العبادة (تعداد لجميع دور العبادة وأماكن‬
‫األوقاف)‪ ،‬من مختلف أنواع الضرائب والدفوعات ّ‬
‫وكل‬
‫ً‬
‫التكاليف العرفـية بالجملة‪ .‬وأيضا وبموجب هذا األمر‬
‫ألي كان التدخل وإلحاق الضرر أو‬ ‫الشريف ال يجوز ّ‬
‫ّ‬
‫إهانة هذه الـملة املذكورة"‪. 1‬‬
‫وأطلقت الدولة العثمانية لفظة "كافر" علـى غيـر‬
‫ّ ً‬
‫"كفارا" أو "كفرة"‬ ‫املسلمين من أتباعها‪ ،‬وبصيغة الجمع‬

‫أنظرالفرمان (ملحق رقم ‪1- B.O.A:A.DVNS,KLS.d,8-8. )-2-‬‬

‫‪27‬‬
‫ولم يكن هذا اللفظ ألجل التحقير‪ّ ،‬إنما للتعبير عن فكرة‬
‫"بربري" وتعني أجنبي‪ ،‬ليس من دين الدولة‪ ،‬وهي تماثل‬
‫"بربري" التـي أطلقها الرومانيون علـى غيـرهم من‬
‫الشعوب‪ ،‬و"عجم" التـي أطلقها علـى غيـر العرب‪ .‬فالدولة‬
‫العثمانية‪ ،‬ليست دولة دينية‪ ،‬فهي ولو كانت كذلك‬
‫تتكون من ّ‬
‫السنة فقط‪.1‬‬ ‫لوجب أن ّ‬

‫ّإن محافظة جميع األديان واملذاهب علـى كنائسها‬


‫أي عراقيل علـى أماكن‬ ‫بكامل تشكيالتها‪ ،‬وعدم وضع ّ‬
‫العبادة العائدة لها أو مراسمها‪ ،‬كان مبدأ عند العثمانيين‬
‫ال يتغيـر‪ ،‬وأصبحت الدولة العثمانية قدوة فـي هذا‬
‫الشأن للعالم أجمع‪"،‬والحقيقة التـي ال يمكن أن تنكر‪،‬‬
‫أن العثمانيين كانوا أول َمن ّاتخذ مبدأ إطالق الحرية‬
‫هي ّ‬
‫الدينية كحجر أساس عند تأسيس دولتهم فـي العصور‬
‫ّ‬
‫الوسطى األولى"‪ .‬وينقل "أوزتونا" عن العالمة الفرنس ي‬
‫"‪ "Bodin‬فـي أواخر القرن السادس عشر‪ّ ،‬إنه أوص ى‬

‫‪- 1‬يلمازأوزتونا‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.15‬‬

‫‪28‬‬
‫مليكه‪ ،‬بأن يدير فرنسا كالدولة العثمانية‪ّ ،‬‬
‫وأن البادشاه‬
‫ً‬
‫هو ليس فقط رئيسا للدين اإلسالمي‪ ،‬وإنما فـي الوقت‬
‫نفسه رئيس لألرثوذكس‪ ،‬والكاثوليك واملوسويين‬
‫املوجودين فـي إمبرطوريته‪ّ ،‬‬
‫وأنه يعامل اتباع هذه األديان‬
‫باملساواة‪ ،‬ويق ّسم النعم والهبات عليهم بالتساوي‪ .‬وينقل‬
‫أوزتونا عن العالم اإليطالي"‪":"Chémier‬أظهر األتراك‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬
‫سموا إنسانيا وتسامحا مطردا تجاه جميع األديان‪ ،‬وتح ّل‬
‫كل الجماعات غيـر املسلمة دعاويها املدنية فـي ما بينها‬‫ّ‬
‫بواسطة كنائسها‪ .‬ويمكنهم مزاولة التعليم فـي كنائسهم‬
‫بلغاتهم الخاصة؛ ويجب قراءة صورة املعاملة التـي كنت‬
‫تعامل بها املذاهب املتنافسة مع بعضها وفـي أوروبا فـي‬
‫نفس العصر‪ ،‬فـي الكتب األوروبية‪ ،‬والفرق بينهما‪ ،‬ما‬
‫جاءت به العثمانية من مبادئ حديثة"‪.1‬‬
‫وسارت الدولة العثمانية علـى منهج الدول اإلسالمية‬
‫ً‬ ‫فـي ّ‬
‫كل شؤونها‪ ،‬فاإلسالم ال يعرف تمييـزا بين أبناء آدم‬

‫‪- 1‬يلمازأزتونا‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.467 -466‬‬

‫‪29‬‬
‫فالكل أصله واحد‪ ،‬وال‬‫ّ‬ ‫علـى أساس الجنس أو العرق‪،‬‬
‫ً‬
‫تفاضل بينهم إال بالعمل الصالح والتقوى‪ ،‬تطبيقا لقوله‬
‫يأيها الناس ّاتقو ربكم الذي خلقكم من نفس‬ ‫تعالى ‪ّ ":‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ونساء‬ ‫واحدة وخلق منها زوجها وبث فـيهما رجاال كثيرا‬
‫و ّاتقو هللا الذي تساءلون به واألرحام ّإن هللا كان عليكم‬
‫يأيها الناس ّإنا خلقناكم‬ ‫رقيبا"‪ 1‬وقوله سبحانه وتعالى‪ّ ":‬‬
‫ً‬
‫من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ّأن‬
‫إن هللا عليم خبير"‪ .2‬وقوله صلى‬ ‫أكرمكم عند هللا أتقاكم ّ‬
‫منا‬‫منا من دعا إلى عصبية وليس ّ‬ ‫هللا عليه وسلم‪ ":‬ليس ّ‬
‫من قاتل علـى عصبية‪ ،‬وليس منا من مات علـى عصبية"‪.3‬‬
‫لذلك لم تعرف الدولة العثمانية التعصب اللهم فـي‬
‫أواخر أيامها علـى يد االتحاد والترقي وعلـى هذا فتحت‬
‫ذراعيها لكل أصحاب امللل والنحل‪ ،‬يعيشون داخل ديارها‬
‫ّ‬
‫ويشكلون مع املسلمين ّأمة واحدة‪ ،‬فاللمسلمين دينهم‬

‫‪- 1‬القرآن الكريم‪} :‬سورة النساء‪ ،‬اآلية ‪.{1‬‬


‫‪- 2‬القرآن الكريم‪} :‬سورة الحجرات‪ ،‬اآلية ‪.{13‬‬
‫‪- 3‬حديث‪ :‬رواه أبو داوود‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫وألهل الكتاب دينهم‪" ،‬لكم دينكم ولي دين"‪ 1‬يأمنون علـى‬
‫أنفسهم وأموالهم وديارهم‪ ،‬طاملا ّأنهم ال يتآمرون علـى‬
‫الدولة‪ ،‬وال يعينون األعداء ّ‬
‫ضدها‪.‬‬
‫وسمحت الدولة لغيـر املسلمين ممارسة ّ‬
‫كل‬
‫وأمنت لهم ّ‬
‫كل‬ ‫شعائرهم الدينية وإقامة أماكن لها‪ّ ،‬‬
‫الوسائل التـي تيسر لهم ذلك‪ ،‬ولم تتدخل قط فـي‬
‫كنائسهم أو معابدهم‪ ،‬بل تركت ذلك لرؤسائهم‬
‫الروحانيين‪.‬‬
‫كل هذه التقديمات والتسهيالت التـي أعطتها‬‫ومع ّ‬
‫الذمة‪ ،‬نجد بعض املؤرخين‬ ‫ّ‬ ‫الدولة العثمانية ألهل‬
‫يصفها‪ ،‬ولألسف بشتى أنواع الصفات‪ ،‬فمنهم يرى ّأنها‬
‫ً‬
‫كانت تنظر إلى الشعوب املغلوبة ‪ -‬وخصوصا املسيحية‬
‫واليهودية‪ -‬كاملواش ي اإلنسانية‪ ،‬ولذلك اقتض ى أن‬
‫ُ"يحلبوا" ُ‬
‫و"يجزوا" ما ّ‬
‫تيسر لهم‪.2‬‬

‫‪- 1‬القرآن الكريم‪} :‬سورة الكافرون‪ :‬اآلية ‪.{6‬‬


‫‪- 2‬فيليب حتي‪ :‬تاريخ سورية ولبنان وفلسطين‪ ،‬ترجمة كمال اليازجي وجبرائيل جبور‪ ،‬دار‬
‫الثقافة‪ ،‬بيـروت‪ ،‬ط‪ ،1983 ،1‬الجزء الثاني‪ ،‬ص ‪.274‬‬

‫‪31‬‬
‫ً‬
‫استنادا إلى ما َّ‬
‫تقدم نستغرب وصف الدولة‬
‫قدمت أروع‬ ‫العثمانية‪ ،‬بهذه التهم‪ ،‬فـي الوقت الذي ّ‬
‫ً‬
‫األمثلة للرفق بالحيوان‪ ،‬عندما لم يكن شائعا فـي أوروبا‬
‫حتـى الربع األخيـر من القرن التاسع عشر‪ .‬وعلـى سبيل‬
‫املثال احتوت القوانين العثمانية الخاصة بالشؤون‬
‫البلدية‪ ،‬والصادرة فـي عهد السلطان "بايزيد الثاني"‪ ،‬أي‬
‫سنة ‪1502‬م علـى بعض األحكام التـي احترمت حقوق‬
‫الحيوان‪.1‬‬
‫فمن املستحيل لهذه الدولة التـي راعت حقوق‬
‫الحيوانات‪ ،‬أن تبدي عدم احتـرامها لحقوق اإلنسان‪.‬‬
‫ً‬
‫ولم تصبح مسألة حقوق اإلنسان فـي أوروبا مفهوما‬
‫ً‬
‫راسـخا حتـى بداية االنقالب الصناعي سنة ‪1848‬م‪ ،‬علـى‬
‫ّ‬
‫الرغم من بعض التطورات فـي هذا املجال‪ ،‬إال ّأن احتـرام‬
‫الحقوق والحريات لم يشمل طبقات املجتمع والناس فـي‬
‫أوروبا‪ ،‬فكانوا نصف عبيد بحسب النظام اإلقطاعي‬

‫‪- 1‬أحمد أق كوندز‪ :‬القوانين العثمانية‪ ،‬استنبول ‪ ،1990‬ص ‪.297‬‬

‫‪32‬‬
‫ً‬
‫الذي كان سائدا فـي تلك الفترة‪ ،‬وأصحاب األراض ي الذين‬
‫كانوا يملكون مقاطعة‪ ،‬كانوا فـي الوقت نفسه مالكين‬
‫لألفراد الذين يعيشون فـيها‪ .‬وفـي هذه الحالة ينبغي‬
‫الحديث ليس عن حقوق اإلنسان وحرياته‪ ،‬بل عن بعض‬
‫اإلمكانات التـي كان يمنحها امللوك أو النبالء لألفراد‬
‫ً‬
‫الذين يملكونهم‪ ،‬إحسانا منهم ال غيـر‪ .1‬ومجمل القول َّإن‬
‫الحقوق والحريات التـي ُمنحت للفرد فـي أوروبا كانت‬
‫عبارة عن خلعة يخلعها اإلقطاعيون أو النبالء علـى‬
‫عبيدهم‪.‬‬
‫ً‬
‫أما فـي الدولة العثمانية‪ ،‬فكان األمر مختلفا‪ ،‬إذ لم‬
‫يكن هناك فرق بين علية القوم وعامتهم‪ ،‬بين عربي‬
‫وتركي‪ ،‬بين غالب ومغلوب‪ ،‬والجميع كانوا سواسية‪ ،‬وهم‬
‫أحرار بالفطرة‪ .‬وجاء فـي إحدى الوثائق العثمانية‪ ":‬إن‬
‫الشرع الشريف‪ ،‬أي النظام القانوني العثماني يحتوي‬

‫‪- 1‬محمد سعيد عمران‪ :‬تاريخ أوروبا في العصور الوسطى‪ ،‬دارالنهضة العربية‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪ ،2006‬ص ‪34-11‬‬

‫‪33‬‬
‫ً ً‬
‫علـى أحكام قانونية كثيـرة‪ ،...‬وقد منع التعذيب منعا باتا‬
‫أثناء استجواب املتهمين‪ ،‬وغيـر ذلك من األحكام"‪.1‬‬
‫والدولة العثمانية لم تكن تقبل بنظام الطبقات فـي‬
‫املجتمع‪ ،‬إذ ال يمكن تصنيفه أو تقسيم شرائحه إلى رعايا‬
‫عنصريين‪ ،‬قوميين ومتدينين‪،‬أو تصنيفه بحسب‬
‫املذاهب الدينية‪ .‬فال رعايا من الدرجة األولى‪ ،‬ورعايا من‬
‫الدرجة الثانية أو رعايا من الدرجة الثالثة‪ ،‬بل هناك‬
‫رعايا عثمانيون فقط‪ .‬أي لم يكن هناك ترجيح أو تمييـز‬
‫فـي املهن والحرف‪ ،‬وبعضها كان يزاوله املسلمين دون‬
‫سواهم‪ ،‬كأن ُيشترط اإلسالم فـي مهنة أو حرفة ما‪ ،‬وال‬
‫يجوز للمسيحي أو اليهودي مزاولتها‪ .‬وبتعبيـر آخر‪ ،‬لم تكن‬
‫هناك شروط أولية فـي التعيين والتوظيف فـي شؤون‬
‫الدولة‪ ،‬من إدارية وسياسية واقتصادية واجتماعية‪ ،‬بل‬
‫املعول عليه هو الخبـرة واللياقة‪ ،‬بصرف النظر عن‬‫كان ّ‬
‫العاهات البدنية والحاالت النفسية‪ ":‬الرجل املناسب فـي‬

‫‪1- B.O.A:YEE, 14/1540.‬‬

‫‪34‬‬
‫ّ‬
‫الذميين‪ ،‬رعايا‬ ‫مما سبق َّأن‬
‫املكان املناسب"‪ .‬ويتضح ّ‬
‫عثمانيون متساوون فـي الحقوق والواجبات فـي الدولة‬
‫العثمانية‪ ،‬يتمتعون بجميع الحقوق والحريات التـي يتمتع‬
‫بها املسلمون فـي جميع املجاالت‪.1‬‬
‫وأظهرت مراسيم ‪1855‬م‪1856 -‬م السماح لغيـر‬
‫املسلمين باالنخراط فـي املجاالت السياسية‪ ،‬كدخولهم‬
‫فـي البرملان عام ‪1877‬م‪1878 -‬م‪ ،‬وينبغي النظر فـي طبقة‬
‫ّ‬
‫املوظفـين التـي ّ‬
‫قسمت إلى أربعة أقسام‪:‬‬
‫ّ‬
‫املؤسسة الدينية‪.‬‬ ‫‪-1‬‬
‫‪ -2‬الجيش‪.‬‬
‫َ‬
‫‪ -3‬خ َدمة القصر‪.‬‬
‫‪ -4‬الحكومة‪.‬‬

‫‪- 1‬صبري خدمتلي‪":‬التطورات املتعلقة بأوضاع األقليات في الدولة العثمانية بعد إعالن فترة‬
‫ّ‬
‫التنظيمات"‪ ،‬أعمال املؤتمر الذي نظمه قسم التاريخ في الجامعة اللبنانية‪ ،‬الفرع الثاني‬
‫بعنوان‪":‬األقليات والقوميات في السلطنة العثمانية بعد ‪1516‬م" املنعقد بين ‪ 28‬و‪30‬‬
‫نيسان ‪1999‬م‪ ،‬الفنار‪ ،‬لبنان‪2001 ،‬م‪ ،‬مكتبة لوبوان‪ ،‬جديدة املتن‪ ،‬ص ‪.151‬‬

‫‪35‬‬
‫ّ‬
‫يحق لغيـر‬ ‫أما فـي املؤسسة الدينية فلم يكن‬
‫املسلمين الدخول فـيها‪ ،‬وقد أعطت الدولة الرؤساء‬
‫الروحيين من غيـر املسلمين‪ّ ،‬‬
‫حق فـي شؤون رعيتهم‪ .‬وفـي‬
‫مجال الجيش كان غيـر املسلمين ّ‬
‫يفضلون اإلعفاء (دفع‬
‫بدل عسكري) باستثناء توظيفهم فـي مجال طبابة‬
‫ً‬
‫الجيش‪ .‬وفـي خدمة القصر كانت الوظائف ُمباحة‬
‫للجميع‪ .‬أما الظهور البارز لغيـر املسلمين فـي الوظائف‬
‫العامة فكان فـي الحكومة كالسفارات والقنصليات‬
‫والوزارات واملكاتب اإلدارية‪ ،‬وبالنظر إلى وضعهم فـي‬
‫وزارة الخارجية‪ ،‬يمكننا أن نلمس حقيقة املساواة بين‬
‫جميع رعايا الدولة العثمانية فـي الحقوق والواجبات‪.1‬‬
‫ّ‬ ‫ُوتظهر املعلومات إلى ّ‬
‫أي مدى تمكن العثمانيون من‬
‫إرساء أسس الدولة خالل القرن التاسع عشر من ضمن‬
‫نطاق وزارة الخارجية‪ .‬وباملقارنة مع عددهم القليل‪ ،‬فقد‬
‫تمكن الكثيرون من غيـر املسلمين من الحصول علـى ثلث‬

‫‪1- Bernard Lewis and Benjamin Braude: Christians and Jews in the Ottoman‬‬
‫‪Empire, First published in the United States of America, 1982, pp.339- 343.‬‬

‫‪36‬‬
‫املراكز فـي الوزارة‪ .‬وخالل النصف الثاني من القرن‬
‫التاسع عشر‪ ،‬وصل األرمن واليونانيون واملسيحيون‬
‫ّ‬ ‫املهمة ومنهم العديد ّ‬
‫بشكل عام إلى املراكز ّ‬
‫ممن تسلموا‬
‫منصب وزير خارجية‪ ،‬ما بين أعوام ‪1878‬م‪1919 -‬م‪،‬‬
‫ً‬
‫وكان سكرتير وزارة الخارجية أرمنيا لفترة طويلة‪.1‬‬
‫كأي دولة‬ ‫وحكم العثمانيون إمبرطورية متنوعة ّ‬
‫ّ‬
‫واملتنوع فـي‬ ‫ّ‬
‫املتعدد‬ ‫أخرى فـي التاريخ‪ ،‬وفـي هذا املجتمع‬
‫ّ‬
‫التعبد‪ ،‬إذ‬ ‫الديانات‪ ،‬نجـح املسلمون واملسيحيون فـي‬
‫ً‬
‫درسوا جنبا إلى جنب‪ ،‬مغنين ثقافاتهم املتميـزة فـي‬
‫كل مجتمع‪ ،‬وال ّ‬
‫سيما‬ ‫التقاليد واملمارسات القانونية فـي ّ‬
‫فـي مسائل األحوال الشخصية‪ ،‬املوت‪ ،‬الزواج وامليـراث‪،‬‬
‫حيث كانت هذه املسائل محترمة ومصانة علـى امتداد‬
‫اإلمبرطورية‪ ،‬فعشرات اللغات وآدابها استخدمت‪،‬‬
‫ومجموعة من النصوص ازدهرت‪ ،‬وكانت فرص التقدم‬
‫واالزدهار قد منحت لجميع رعايا اإلمبرطورية‪ ،‬وخالل‬

‫‪1- Bernard Lewis: op.cit, pp.351- 357.‬‬

‫‪37‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ذروة ّ‬
‫قوتهم‪ ،‬أنشأ العثمانيون مجتمعا أتاح قدرا كبيـرا‬
‫من الحكم الذاتي مع الحفاظ علـى مركز الحكومة‬
‫وماليتها‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وكانت اإلمبرطورية العثمانية مثاال كالسيكيا‬
‫التعددي‪ ،‬فاملراقب للمجتمعات ينطبق عليه‬ ‫ّ‬ ‫للمجتمع‬
‫التالي‪":‬لعل ّأول ش يء يفاجئ الزائر هو مزيج من‬
‫ّ‬ ‫القول‬
‫الشعوب‪َّ ...‬إنه ٌ‬
‫مزيج باملعنى الحرفـي للكلمة‪ ،‬الختالطهم‬
‫وليس الندماجهم‪ّ ،‬‬
‫فكل فريق يلتزم دينه‪ ،‬بثقافته ولغته‬
‫تعددي‪ ،‬يشمل‬ ‫ّ‬ ‫وأفكاره وأساليبه‪ .‬وهناك مجتمع‬
‫ً‬
‫قطاعات مختلفة تعيش جنبا إلى جنب"‪.1‬‬
‫وكانت سياسة العثمانيين تجاه رعاياهم من أهل‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫الذمة جزءا من نمط أكبـر للعالقات بين املسلمين وغيـر‬
‫املسلمين‪ ،‬التـي برزت خالل قرون من الحكم اإلسالمي‪.‬‬
‫فاتهامات العالم املسيحي ضد اإلسالم‪ ،‬كانت خاطئة ولم‬
‫ّ‬
‫بالقوة‪ ،‬فالتهمة بالقمع الوحش ي بدأت مع‬ ‫يتم فرضها‬

‫‪1- J.S: Furnivall: Coloniol policy and practic , New York, 1956, pp: 304- 305.‬‬

‫‪38‬‬
‫عصر النهضة لتجديد الذات لهوية أوروبا املسيحية‪،‬‬
‫فتقارب املسلمين وغيـر املسلمين مع بعضهم البعض‪ ،‬لم‬
‫يشهد له مثيل فـي باقي املجتمعات‪ ،‬حتـى فاضل البعض‬
‫بين التسامح التركي والقمع الكاثوليكي‪ .‬لذلك ّ‬
‫فإن اإلسالم‬
‫ُ‬
‫هو دين املساواة فـي الواقع‪ ،‬تحت رعايته أنشئت املساواة‬
‫فـي املجتمع‪ ،‬فاإلسالم ال يعتـرف بالطبقية وال‬
‫باالرستقراطية‪.1‬‬
‫ّ‬
‫نظام الـملة‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الـملة جماعة تتألف من املواطنين املحليين‬
‫الخاضعين للباب العالي‪ ،‬لها ديانة محددة‪ ،‬وال تنتمي إلى‬
‫وتكون وحدة سياسية اجتماعية‬ ‫َّ‬ ‫أصل عرقي واحد‪،‬‬
‫مستقلة‪ ،‬تحت سلطة البطاركة والحاخامات الدينية‬
‫ّ‬
‫واملدنية‪ .‬ونظام الـملة هو استمرار تاريخي وقانوني‬

‫‪1- Bernard Lewis, op.cit, pp.2-4.‬‬

‫‪39‬‬
‫ّ‬
‫الذمة‪ ،‬إال ّأن األخيـر تعبيـر عن الخبـرة‬
‫ملصطلح أهل ّ‬
‫ّ‬
‫العربية‪ ،‬بينما الـملة تعبير عن الخبرة العثمانية‪.1‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فمؤسسة الـملة التـي تنظم شؤون غيـر املسلمين فـي‬
‫الدولة‪ ،‬بمنحهم حق االستقالل بانتخاب رؤسائهم‬
‫الدينيين‪ ،‬وحق ممارسة شؤونهم الخاصة فـي التعليم‬
‫والقضاء‪ ،‬ودفع الضرائب تحت إشراف رؤسائهم‪.‬‬
‫ّ‬
‫ومؤسسة الـملة وهي الوسيطة بين الدولة وأهل امللل‬
‫األخرى‪ ،‬إذ يقوم ئيس كل ّملة ّ‬
‫بتلقي الفرمانات واألوامر‬ ‫ر‬
‫ّ‬
‫السلطانية ويبلغها إلى جماعته ويتابع تنفـيذها‪ ،‬وفـي‬
‫ّ‬ ‫املقابل ّ‬
‫فإن اتباع الـملة يبلغون رؤساءهم الدينيين‬
‫بمطالبهم‪ .2‬وفـي الحقيقة ّإن السلطان "محمدالفاتح" هو‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫الذي جعل من مؤسسة الـملة جزءا من بنية الدولة‬

‫‪- 1‬حنا سعيد كلداني‪ :‬املسيحية املعاصرة في األردن وفلسطين‪ ،‬عمان‪ ،1993 ،‬ص ‪.3‬‬
‫‪- 2‬كمال السعيد حبيب‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.56 -55‬‬

‫‪40‬‬
‫ووضع لها القواعد واألسس التـي لم يسبق لها مثيل فـي‬
‫تاريخ الدولة اإلسالمية‪.1‬‬
‫مشوهة‪ ،‬ومؤداها ّأن‬
‫ويبدو أن لدى البعض صورة ّ‬
‫ّ ً‬
‫مقسما إلى طوائف دينية أو ملل‬ ‫املجتمع العثماني كان‬
‫منعزلة بعضها عن البعض اآلخر تواصل اجتماعي‪،‬‬
‫جو من الكراهية املتبادلة‪ ،‬حيث كان‬ ‫ويعيشون فـي ّ‬
‫املسلمون يكرهون النصارى‪ ،‬والنصارى يكرهون اليهود‪،‬‬
‫واليهود يكرهون النصارى الذين كانوا بدورهم يكرهون‬
‫ً‬ ‫املسلمين‪ّ .‬‬
‫لكن هذه الصورة تجافـي الحقيقة تماما‪،‬‬
‫وسنعرض بعض األمثلة عن تعايش هذه األقليات مع‬
‫بعضها البعض‪ ،‬وطريقة تعامل الدولة معها‪.‬‬
‫لم يبدأ تعامل الدولة العثمانية مع املسيحيين‪،‬‬
‫ً ّ‬
‫واليهود بشكل واسع عمليا إال بعد فتح القسطنطينية‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قرر بعد هذا الفتح سيكون نظاما كامال ُيعمل به فـي‬ ‫وما ت ّ‬
‫سائر الواليات العثمانية فـي كل مراحل الدولة العثمانية‪.‬‬
‫‪1- Stanford J. Shaw and Ezel Kural Shaw: History of the Ottoman Empire and‬‬
‫‪modern Turkey. Vol. II, Cambridge, New York, 1988, p.62.‬‬

‫‪41‬‬
‫املؤرخ اإلنكليـزي "أرنولد تونبي"‪ّ ،‬أن "محمد‬ ‫ويرى ّ‬
‫األول عن بقاء شعوب دول أوروبا‪،‬‬ ‫الفاتح" هو املسؤول ّ‬
‫التـي كانت خاضعة للدولة العثمانية‪ ،‬علـى ديانتهم‬
‫املسيحية واليهودية‪ .‬ولو ّأنه فعل ما فعله األسبان‬
‫باملسلمين واليهود بعد سقوط غرناطة‪ ،‬لكانت شبه‬
‫ً‬
‫الجزيرة البلقانية بلدانا إسالمية ال أثر فـيها ألهل الكتاب‪.‬‬
‫إال أن ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يطبقوا شريعة‬ ‫ولكن الحاكمين باسم اإلسالم أبوا‬
‫موحد باهلل الواحد‪،‬‬‫بكل ّ‬ ‫اإلسالم السمحة‪ ،‬ويعترفوا ّ‬
‫ومناد بتعاليمه السماوية مهما كانت ديانته‪.1‬‬‫ٍ‬
‫ويرى "ألبرت حوراني"‪ّ ":‬أنه بعد سقوط‬
‫تمتعت الطوائف املسيحية واليهودية‬ ‫القسطنطينية‪ّ ،‬‬
‫سميا‪ ،‬فقد ّ‬‫ً‬
‫أقرت الدولة العثمانية للبطاركة‬ ‫باالعتراف ر‬
‫األرثوذكس واألرمن ولحاخام العاصمة األعظم‪ّ ،‬‬
‫بأنهم‬

‫‪- 1‬قيس جواد العزاوي ‪ :‬الدولة العثمانية قراءة جديدة لعوامل االنحطاط‪ ،‬الدار العربية‬
‫للعلوم‪ ،‬بيـروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪ ،1994 ،1‬ص ‪.81‬‬

‫‪42‬‬
‫ليسوا رؤساء طوائفهم الروحيين فحسب‪ ،‬بل رؤساؤها‬
‫ً‬
‫السياسيون أيضا‪.1‬‬
‫عندما دخل السلطان "محمد الفاتح"‬
‫القسطنطينية فـي ‪ 29‬أيار ‪1453‬م‪ ،‬أصدر أوامره بمنع‬
‫كل اعتداء ُيفسد األمن‪ ،‬ثم زار كنيسة "آيا صوفـيا"‪ ،‬وأمر‬
‫ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫بأن يؤذن فـيها للصالة‪ ،‬إعالنا بجعلها مسـجدا للمسلمين‪.‬‬
‫ً‬
‫وأعلن أيضا أنه ال يعارض إقامة شعائر ديانة‬
‫املسيحيين‪ ،‬وإعطاهم نصف الكنائس‪ ،‬وجعل النصف‬
‫ثم جمع أئمة دينهم لينتخبوا‬‫اآلخر مساجد للمسلمين‪ّ ،‬‬
‫ً‬
‫بطريركا لهم فاختاروا "جورج سكوالريوس"‪ .‬واعتمد‬
‫ً‬
‫السلطان هذا االنتخاب‪ ،‬وجعله رئيسا لطائفة الروم‪،‬‬
‫واحتفل بتثبيته بنفس ّ‬
‫األبهة والعظمة‪ ،‬التـي كان يعمل‬
‫وخصه بحرس‬ ‫ّ‬ ‫بها للبطاركة أيام ملوك الروم املسيحيين‪،‬‬
‫من عساكر االنكشارية‪ ،‬ومنحه حق الحكم فـي القضايا‬
‫املدنية والجنائية بكافة أنواعها املختصة باألروام‪ .‬وفـي‬

‫‪- 1‬ألبرت حور اني‪ :‬الفكرالعربي في عصرالنهضة‪ ،‬بيـروت‪ ،‬دارالنهار‪ ،‬ط‪ ،1977 ،3‬ص ‪.53‬‬

‫‪43‬‬
‫ً‬
‫مقابل هذه املنح فرض عليهم الجزية مستثنيا من ذلك‬
‫ّ‬
‫أئمة الدين‪.1‬‬
‫َّإن موضوع العالقات التـي سادت بين مختلف‬
‫الطوائف فـي اإلمبرطورية العثمانية‪ ،‬كان من املواضيع‬
‫ً‬
‫التـي تستحق أن نقف عندها‪ ،‬نظرا إلى الصراعات‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫القائمة حاليا فـي البالد التـي كانت فـي السابق جزءا من‬
‫هذه اإلمبرطورية‪ .‬ويكفـي أن نشير إلى الصراع الفلسطيني‬
‫اإلسرائيلي والقضية الكردية‪ ،‬واألحداث ّ‬
‫املروعة التـي‬
‫جرت فـي البوسنة وكوسوفو منذ أمد قريب‪ .‬وهذا يقودنا‬
‫إلى السؤال‪ :‬ما الذي يربط هذه األحداث باملاض ي‬
‫العثماني لهذه األقوام والشعوب؟؟‬
‫لم يكن هذا الصراع بين القوميات والطوائف‬
‫لينشأ‪ ،‬لوال ظروف تاريخية ّ‬
‫معينة وأحداث اتخذت فـيما‬
‫ً ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫بعد منحا خاصا‪ ،‬وتحديدا تدخل الدول األوروبية فـي‬
‫ً‬
‫إذكاء هذه الصراعات‪ ،‬وخصوصا فـي القرن التاسع‬
‫‪- 1‬محمد فريد بك املحامي‪ :‬تاريخ الدولة العلية العثمانية‪ ،‬تحقيق إحسان حقي‪ ،‬دار‬
‫النفائس‪ ،‬ط‪ ،1981 ،1‬ص ‪.165‬‬

‫‪44‬‬
‫عشر‪ ،‬ألن هذه الطوائف كانت تعيش فـي رخاء وعالقات‬
‫ود ومحبة فـي ما بينها قبل القرن التاسع عشر‪ ،‬أي قبل‬
‫تدخل الدول األوروبية‪ ،‬وإدعائها بحماية أهل ّ‬ ‫ّ‬
‫الذمة‪،‬‬
‫حيث أفسدت هذه الدول عالقة األلفة واملحبة التـي‬
‫أرستها الدولة العثمانية بمعاملتها الحسنة‪ ،‬وتسامحها‬
‫مع أهل ّ‬
‫الذمة‪ ،‬وقد أمر بها اإلسالم‪ ،‬علـى الرغم من‬
‫األفكار الكثيـرة والخاطئة‪ ،‬حول طبيعة التعايش بين‬
‫مختلف الطوائف فـي الدولة العثمانية‪ .‬وال يمكن أن‬
‫ننكر َّأن العالقات بين مختلف األقوام وأهل ّ‬
‫الذمة كانت‬
‫الذمة الخاضعين للحكم‬ ‫شك ّأن أهل ّ‬‫جيدة‪ .‬وما من ّ‬
‫العثماني كانوا يتمتعون بحقوق وبحماية أكثـر من‬
‫األقليات التـي كانت تعيش فـي املمالك األخرى‪ ،‬مثل‬
‫بأن هذه‬ ‫فرنسا وإمبرطورية الهبسبورغ‪ .‬إال ّإننا ّ‬
‫نقر ّ‬
‫العالقات‪ -‬أي العالقات بين الطوائف‪ -‬أخذت تسوء فـي‬
‫القرنين الثامن عشر والتاسع عشر‪ ،‬ومن وجهة نظرنا‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فإن تدهور هذه العالقات يرجع إلى تسلط الرأسمالية‬
‫ّ‬
‫الغربية من جهة‪ ،‬وتدخل الدول الغربية فـي الشؤون‬
‫‪45‬‬
‫الداخلية للدولة العثمانية‪.1‬وعاش أهل ّ‬
‫الذمةفـي ظل‬
‫الدولة العثمانية أفضل بكثيـر من الدول املسيحية‬
‫نفسها‪ .‬وتنقل جريدة ثمرات الفنون فـي هذا الصدد‬
‫خطاب اللورد "باملسترون" واملعروف بعدائه لإلسالم‬
‫والدولة العثمانية‪ ،‬أمام مجلس اللوردات فـي شهر آذار‬
‫َّ‬
‫املحمدية هي الوحيدة‬ ‫‪1854‬م‪ ،‬جاء فـي ّ‬
‫ه‪".‬إن الشريعة‬
‫التـي يمكن أن تحفظ بها مملكة ذات شعوب مختلفة‬
‫األجناس واألديان‪ ،‬وهي الشريعة الوحيدة التـي يصيرون‬
‫بها أمة واحدة كاململكة العثمانية‪ ،‬ولوال دسائس‬
‫املفسدين لكان كل فرد من أفراد هذه األمة فـي أرغد‬
‫عيش وأهناه‪ ،‬وإنه لعلمـي من ّأن كثـرة تدخل األوروبيين‬
‫فـي أحكام البالد العثمانية يعود علـى النصارى بالضرر ال‬
‫باملنفعة"‪ .‬وفـي العدد نفسه تنقل ثمرات الفنون عن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫جريدة "السيار" املصرية التـي صدرت حديثا‪ ،‬مقاال‬
‫لشاب نصراني يقول فـي ّ‬
‫ه‪":‬إن املسيحيين قد ملكوا فـي‬

‫‪- 1‬دونالد كواترت‪ :‬الدولة العثمانية(‪1700‬م‪1922 -‬م)‪ ،‬تعريب أيمن أرمنازي‪ ،‬مكتبة‬
‫العبيكان‪ ،‬السعودية‪ ،‬ط‪ ،2004 ،1‬ص ‪.307 -306‬‬

‫‪46‬‬
‫أيام الدولة العلية العثمانية‪ ،‬إلقامة شعائرهم الدينية‬
‫بحرية لم يحلم بها أجدادهم‪ ،‬وهذه أحوالهم الشخصية‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫معلقة برؤسائهم الدينيين‪ ،‬وهم يعفون من الخدمة‬
‫العسكرية وسائر رعاياهم‪ ،‬وهذه أمالكهم املوقوفة ّ‬
‫حرة‬
‫تمسها يد مغتصب‪ ،‬وال تضرب عليها عوائد الظلم‬ ‫ال ّ‬
‫ورسوم االستبداد‪ ،‬وهذه لوازم الكنائس تدخل معفاة من‬
‫الجمارك"‪.1‬‬
‫ولم تحتـرم دولة فـي العالم حقوق اإلنسان‪ ،‬كما‬
‫َ‬
‫احترمته الدولة العثمانية‪ ،‬حيث قدم إليها ثالثة من‬
‫حق اللجوء السياس ي‪ ،‬فقبلت بهم‬ ‫البلغاريين وطلبوا ّ‬
‫الدولة‪ ،‬وقد طالبت بهم الحكومة البلغارية‪ّ ،‬‬
‫لكن الدولة‬
‫ً‬
‫العثمانية‪ ،‬وحرصا منها علـى سالمة هؤالء‪ ،‬سألتهم إن‬
‫يودون املغادرة إلى بلغاريا أم ال‪ ،‬فكان جوابهم‬ ‫كانوا ّ‬
‫الرفض‪ ،‬وهكذا بقي هؤالء فـي الدولة العثمانية‪.2‬‬

‫‪- 1‬جريدة ثمرات الفنون‪ :‬العدد ‪ 10 ،1051‬جمادى األولى ‪1313‬هـ‪ 16/‬ت‪1895 / 1‬م‪.‬‬
‫‪2- B.O.A:HR. Sys, 1963/1.‬‬

‫‪47‬‬
‫وبعد انتهاء الحرب البلقانية الثانية سنة ‪1913‬م‬
‫وبعد عودة الدولة العثمانية إلى بعض األراض ي التـي كانت‬
‫بلغاريا قد أخذتها منها فـي الحرب البلقانية األولى ‪1912‬م‪،‬‬
‫طلبت الدولة العثمانية بواسطة البلدية إعادة جميع‬
‫األمالك إلى البلغاريين من "غيـر املسلمين"‪.1‬‬
‫بلغ إنسانية ورحمة وسماحة وعدل الدولة‬
‫العثمانية مع غيـر املسلمين‪ ،‬ما ال يخطر ببال أحد‪،‬‬
‫فأثناء الحرب البلقانية األولى ‪1912‬م‪ ،‬وأثناء حصار‬
‫البلغار ملدينة أدرنة‪ ،‬كانت الدولة العثمانية تعمل علـى‬
‫حماية املواطنين من غيـر املسلمين وحماية عدد من‬
‫الراهبات‪ ،‬حيث طلب بعض الراهبات واألهالي مغادرة‬
‫أدرنة‪ ،‬وقد سمحت لهم الدولة باملغادرة‪ ،‬وفوق ذلك‬
‫أمنت لهم الدولة العثمانية وسائل نقل والحماية الالزمة‬
‫لسفرهم‪.2‬‬

‫‪1- B.O.A:HR. sys, 1963/1.‬‬


‫‪2-B.O.A:HR.sys, 1967/3.‬‬

‫‪48‬‬
‫وعلى الرغم من وقوف غيـر املسلمين مع بلغاريا ضد‬
‫الدولة العثمانية فـي الحرب البلقانية األولى ‪1912‬م‪،‬‬
‫فبعد استرداد أدرنة من قبل الدولة العثمانية فـي الحرب‬
‫البلقانية الثانية ‪1913‬م فقد أقرت الدولة‪":‬إن عودة‬
‫األهالي من غيـر املسلمين إلى أمالكهم وإلى أراضيهم حق‬
‫طبيعي وإجراء يكفله لهم القانون"‪.1‬‬
‫لم تكتف الدولة العثمانية‪ ،‬باحتـرام حقوق غيـر‬
‫املسلمين من رعاياها‪ ،‬ولم تكتف بإعفاء املسنين من غيـر‬
‫املسلمين من الجزية‪ ،‬بل أصدرت إرادة سنية بإنشاء دار‬
‫العجزة (من مسلمين وغيـرهم) ألجل إقامة الفقراء الذين‬
‫يتحقق عجزهم وتسهيل أسباب معيشتهم‪ ،‬وأشارت‬
‫اإلرادة إلى أن يتم بناء بجانب دار العجزة جامع وكنيسة‬
‫وكنيس ليقوم العجزة بأداء واجبهم الديني‪.2‬‬
‫لم يتوقف األمر علـى تقديم الخدمات للمسنين‬
‫والفقراء من أبناء الطوائف غيـر اإلسالمية‪ ،‬بل وصل‬
‫‪1 - B.O.A:A.MTZ (04), 43/33.‬‬
‫‪- 2‬جريدة ثمرات الفنون‪ :‬العدد ‪ 7 ،785‬شوال ‪1307‬هـ‪ 13 /‬حزيران ‪1890‬م‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫األمر بالدولة العثمانية إلى تقديم املساعدات املادية إلى‬
‫بطريركيات بكل مذاهبها‪ ،‬حيث أعطى السلطان سبعين‬
‫ألف قرش إلى بطريركية الروم‪ ،‬وأربعين ألف قرش إلى‬
‫بطريركية األرمن‪ ،‬وخمسة وعشرين ألف قرش إلى‬
‫بطريركية األرمن الكاثوليكية كهبة‪.1‬‬
‫وكانت الدولة العثمانية تشارك املسيحيين بتـرميم‬
‫الكنائس‪":‬صدرت اإلرادة السنية بأن يوزع علـى بطريركية‬
‫الروم واألرمن الكاثوليك مبلغ وقدره سبعمائة وخمسون‬
‫ليـرة عثمانية لتعميـر ما هدمه الزلزال من كنائس"‪.2‬‬
‫َّ‬
‫"بروكلمان"‪":‬تمتع‬ ‫يقول املستشرق األملاني‬
‫النصارى‪ ،‬بالحرية املدنية والدينية الكاملة‪ ،‬والواقع َّأنه‬
‫كان لبطريرك الروم فـي القسطنطينية من القوة‬
‫والسلطان‪ ،‬فـي ظل العثمانيين أكثـر ّ‬
‫مما كان له فـي عهد‬

‫‪- 1‬جريدة ثمرات الفنون‪ :‬العدد ‪ 2 ،1004‬شعبان ‪1312‬هـ‪ 16 /‬كانون الثاني ‪1894‬م‪.‬‬
‫‪- 2‬املصدرنفسه‪ :‬العدد ‪ 26 ،1009‬جمادى اآلخرة ‪1312‬هـ‪ 12/‬كانون األول ‪1894‬م‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫بيزنطة نفسها‪ ،‬وكانت مراسيم املعمودية والزواج والدفن‬
‫ُتقام عالنية‪ ،‬وفـي فخامة ّ‬
‫وأبهة فـي معظم األحيان"‪.1‬‬
‫أما املستشرق الفرنس ي "أندريه ميكال"‪،‬فـيقول‪":‬لم‬
‫أي شخص فـي‬ ‫أي مكان من اإلمبرطورية إدخال ّ‬ ‫ّ‬
‫يتم فـي ّ‬
‫اإلسالم باإلكراه‪ّ ،‬أما تحول بعض املناطق فـي أوروبا إلى‬
‫اإلسالم‪ ،‬فقد كانت مثلما حدث علـى ابتداء تاريخ‬
‫أهمها تسامح الدولة تجاه‬‫اإلسالم‪ ،‬نتيجة لعوامل عدة‪ّ ،‬‬
‫ً‬
‫رعاياها‪ .‬واختصارا للقول َّإن اإلمبرطورية العثمانية تبدو‬
‫من أجمل أيامها فـي النصف األول من القرن السادس‬
‫عشر‪ ،‬كملجأ للسالم الديني فـي مواجهة أوروبا‬
‫املضطهدين"‪.2‬‬
‫ونقلت "ثمرات الفنون" عن كتاب "ارتكاب‬
‫األوروبيين" للمؤلفـين املستر "فون" واملستر "واهويلر"‬

‫‪- 1‬كارل بروكلمان‪ :‬تاريخ الشعوب اإلسالمية‪َّ ،‬‬


‫عربه نبيه أمين فارس ومنير بعلبكي‪ ،‬بيـروت‪،‬‬
‫دارالعلم للماليين‪ ،‬ط‪ ،1984 ،1‬ص ‪.489‬‬
‫‪- 2‬أندريه ميكال‪ :‬اإلسالم وحضارته‪ ،‬ترجمة كمال الدين الحناوي‪ ،‬صيدا‪ ،‬املكتبة العصرية‪،‬‬
‫‪ ،1981‬ص ‪.341 -340‬‬

‫‪51‬‬
‫الصفحة ‪ 208‬ما حرفـي ّ‬
‫ته‪":‬إننا نرى أبناء جلدتنا‬
‫يتخطفون املسلمين من ّ‬ ‫ّ‬
‫كل جانب‪ ،‬ومع هذا فهؤالء‬
‫يحسنون إليهم‪ ،‬ويحمونهم من بعضهم البعض‪،‬‬
‫ويحرسون معابدهم ورؤساءهم الروحيين‪ ،‬فكأنه لم يذق‬
‫مما فعله متوحشو أوروبا من الفظائع‪ .‬فـيا‬ ‫املسلمون َّ‬
‫فضيحة من يقول إننا قوم عادلون‪ ،‬وهذه أعمالنا‬
‫ً‬
‫التاريخية تشهد علينا بعكس ذلك"‪ .‬وتتابع الجريدة نقال‬
‫عن الكتاب نفسه الصفحة ‪":548‬ولقد كثـر قتل اليهود‬
‫وحرقهم بالنار من دون استثناء للصغيـر أو الكبيـرفـي‬
‫ينج من العذاب إال القاطنين‬ ‫كافة املدن األوروبية‪ ،‬ولم ُ‬
‫فـي بالد الدولة العلية العثمانية بالد األمن والسالم"‪.1‬‬
‫وتتابع "جريدة ثمرات الفنون"فـي السياق نفسه‪،‬‬
‫ً‬
‫نقال عن بعض الصـحف األوروبية‪":‬لقد بذلت الدولة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫العثمانية جهدا كبيـرا لحماية اليهود من الصرب‪ ،‬فجعلت‬
‫إحدى مواد الصلح مع الصرب حق املساواة ما بين‬

‫‪- 1‬جريدة ثمرات الفنون‪ :‬العدد ‪ 18 ،1196‬ربيع الثاني ‪1316‬ه‪ 24/‬آب ‪1898‬م‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫اليهودي واملسيحي ماديا وأدبيا"‪ .‬وتتابع "ثمرات الفنون"‬
‫ً‬
‫نقال عن الصحف األوروبية‪ ...":‬حدث اضطهاد عظيم‬
‫علـى جميع البروتستانت فـي بالد املجر وغيـرها‪ ،‬وكثـرفـيهم‬
‫القتل‪ ،‬فاستعانوا بالدولة العثمانية‪ ،‬فأعانتهم وأنقذتهم‬
‫كل َمن هاجر منهم‬ ‫مما هم فـيه من الباليا‪ ،‬وأحسنت إلى ّ‬‫ّ‬
‫ّ‬
‫إلى بالدها‪ّ .‬إن جميع أهل األديان واملذاهب املستظلين‬
‫يمسهم سوء‪ ،‬ولوال‬ ‫بالراية العثمانية فـي أمن وسالم ال ّ‬
‫ً‬
‫الدولة العثمانية وعدلها ألفنـى النصارى بعضهم بعضا‬
‫من روم أرثوذكس وأرمن كاثوليك وبروتستانت"‪.‬‬
‫وفـي ‪ 23‬آذار ‪1853‬م كتب اللورد "كلرندون" وزير‬
‫خارجية إنكلتـرا إلى سفـيرها فـي بطرسبورغ السير‬
‫"سيمور"‪ ،‬جملة أشياء من حسنات الدولة العلية كي‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫قوله‪":‬أما ما‬ ‫يعرضها رسميا علـى الحكومة الروسية منها‬
‫ُيقال ّ‬
‫بأن املسيحيين فـي البالد العثمانية فـي حالة سيئة‬
‫فغيـر صـحيح‪ّ ،‬‬
‫فإن معاملة هذه الدولة لجميع رعاياها من‬
‫أحسن املعامالت التـي يندر صدور مثلها من الدول‬
‫األوروبية"‪ .‬وتنقل "ثمرات الفنون" عن املستر‬
‫‪53‬‬
‫"ستور"‪":‬لقد أصبح الكذب واالفتـراء علـى الدولة‬
‫العثمانية خيـر تجارة وأحسن زينة يتاجر أو يتـزين بها"‬
‫مما يعتقد هذا االفتـراء املبين من الشعوب األوروبية‪ ،‬مع‬
‫تعمقنا فـي الحوادث نجد ّأن املسيحيين فـي أرغد‬ ‫ّإننا إذا ّ‬
‫عيش وأهناه"‪.1‬‬

‫‪- 1‬جريدة ثمرات الفنون ‪ :‬العدد ‪ 22 ،1209‬رجب ‪1316‬ه‪ 23/‬تشرين ا لثاني ‪1898‬م‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫تدهور العالقات بين أهل ّ‬
‫الذمة والدولة العثمانية‬

‫إزاء هذا الواقع من العالقات ّ‬


‫الجيدة بين الدولة‬
‫الذمة‪ ،‬ما الذي غيـر هذا األمر‪ّ ،‬‬
‫وحوله‬ ‫العثمانية وأهل ّ‬
‫متفجرة بين الدولة‬ ‫ّ‬ ‫إلى عالقات متوترة‪ ،‬بل وحتـى‬
‫ً‬
‫العثمانية واألقليات‪ ،‬خصوصا فـي القرن التاسع عشر‪.‬‬
‫يميـزون أنفسهم عن باقي‬ ‫فالعثمانيون لم يكونوا ّ‬
‫القوميات املنضوية تحت لوائهم‪ ،‬اللهم فـي نهاية القرن‬
‫تبدلت‬‫التاسع عشر وبداية القرن العشرين‪ ،‬حيث ّ‬
‫بتدخل الدول األوروبية‪ ،‬فحتـى منتصف القرن‬ ‫ّ‬
‫الصورة‬
‫أي نزوع قومي أو‬ ‫التاسع عشر‪ ،‬لم يكن لدى العثمانيين ّ‬
‫عرقي‪ ،‬بدليل املساواة بين جميع املواطنين‪ ،‬علـى األقل فـي‬
‫ً‬
‫الوظائف‪ ،‬وخصوصا فـي وزارة الخارجية‪ .‬فنـرى ّأن‬

‫‪55‬‬
‫ّ‬
‫اليهودي واألرمنـي واليوناني والالتينـي‪ ،‬قد تولوا املناصب‬
‫الرفـيعة فـي وزارة الخارجية‪.1‬‬
‫فقد عاش العثمانيون مع غيـرهم من أهل ّ‬
‫الذمة‬
‫سبعة قرون متتالية آمنين فـي ّ‬
‫ظل اإلسالم لقوله تعالى‬
‫ً‬
‫‪":‬يا ّأيها الناس ّإنا خلقناكم من ذكر وأنثـى وجعلناكم شعوبا وقبائل‬
‫ّلتعارفوا إ َّن أكرمكم عند هللا أتقاكم"‪.2‬‬
‫ً‬ ‫وكان معظم الوعي القومي ألهل ّ‬
‫الذمة مبنيا علـى‬
‫الهوية الدينية‪ ،‬وليس هذا بمستغرب ألن الكنائس‬
‫املسيحية كانت‪ ،‬ولقرون عديدة‪ ،‬مؤتمنة علـى الثقافة‬
‫لكل مجموعة مسيحية‪ .3‬فكانت الدولة العثمانية تقوم‬ ‫ّ‬
‫بكل واجباتها تجاه رعاياها‪ ،‬وقد سمحت لكل الطوائف‬ ‫ّ‬
‫ً ً‬
‫بإقامة شعائرها الدينية‪ ،‬واعتمدت لكل منها رئيسا دينيا‪،‬‬

‫‪1- Bernard Lewis: op.cit, pp 343- 344.‬‬


‫‪- 2‬القرآن الكريم‪} :‬سورة الحجرات‪ :‬اآلية ‪.{13‬‬
‫‪3- Kamal Karpat: ottoman population (1850- 1914), the university of‬‬
‫‪Wiscomsim press, 1985, p.60.‬‬

‫‪56‬‬
‫حتـى اليهود‪ ،‬وسمحت ببناء الكنائس‪ ،‬وقدمت‬
‫املساعدات لهم‪.1‬‬
‫تجاه هذا التسامح الذي اتبعته الدولة العثمانية مع‬
‫الذمة‪ ،‬فما الذي جرى؟ حتـى يقوم أهل ّ‬
‫الذمة‬ ‫أهل ّ‬
‫بالدعوة إلى االستقالل واالنفصال عن الدولة العثمانية؟‬
‫ً‬
‫وعلـى الرغم من ّأنها كانت تعيش فـي أمان جنبا إلى جنب‬
‫مع العثمانيين‪ ،‬فمن املؤرخين من يقول ّإن تدخل الدول‬
‫األوروبية ساهم فـي تفجيـر األوضاع‪ ،2‬وآخر يقول‪ّ :‬إن‬
‫السياسة التـي انتهجتها جمعية االتحاد والترقي‪ ،‬كانت‬
‫وراء تدهور األوضاع وانبعاث القوميات‪ ،‬التـي ّأدت إلى‬
‫املطالبة باالستقالل‪.3‬‬
‫وكانت العصبية القومية فـي الدولة العثمانية من‬
‫ادا فلسفـي ًا من أوروبا الغربية‪ّ ،‬‬
‫لكن‬
‫ً‬
‫غيـر ريب استير‬

‫)‪1- B.O.A:A.MTZ(04), 16/18 (38‬‬


‫‪2- Stanford J. Shaw and Ezel Kural Shaw: op.cit.p.273.‬‬
‫‪3- R.W.Seton Watson: The Rise of Nationality in the Balkan, London, 1917,‬‬
‫‪p.60.‬‬

‫‪57‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫تطورها كان فريدا‪ .‬فمنذ بداية دولتهم‪ ،‬سمح العثمانيون‬
‫بوجود طوائف مسيحية ويهودية‪ ،‬كما سمحوا‪ ،‬من خالل‬
‫نظام الحكم الذاتي املحدود للملل الدينية‪ ،‬باالنفصال‬
‫ّ‬ ‫علـى أساس الدين ‪ ،‬وأتيح ّ‬
‫لكل جماعة أو ملة دينية أن‬
‫يكون لها حكم ذاتي ال محدود‪ .‬وكانت املحاكم واملدارس‬
‫وأنظمة الخدمات االجتماعية فـي يد املسؤولين الدينيين‪.‬‬
‫وانعكس هذا االنفصال القانوني علـى الحياة اليومية‬
‫ً‬
‫ألعضاء امللل الذين عاشوا وعملوا معا علـى إقصاء‬
‫الجماعات الدينية األخرى‪ .‬وربما كان من املستحيل‬
‫توحيد الجماعات املتباينة من دون تحويل دين قسري‪،‬‬
‫ولم يتبع العثمانيون سياسة كهذه‪.‬وخالل قرون الحكم‬
‫ّ‬
‫والتحول القسري‬ ‫العثماني‪ّ ،‬‬
‫تحول الكثيـرون إلى اإلسالم‪،‬‬
‫ً‬
‫لم يكن موجودا‪.‬‬
‫تقدم القرن التاسع عشر ّ‬
‫ونمو الوعي "القومي"‬ ‫ومع ّ‬
‫الذمة والعرقية‪ّ ،‬اتخذت عصبية أهل ّ‬
‫الذمة‬ ‫بين أهل ّ‬
‫العثمانية الطابع "العنصري" كالقومية اإليطالية‬
‫واألملانية‪ّ ،‬‬
‫لكن االرتباط القوي بالدين لم يضمحل قط‪،‬‬
‫‪58‬‬
‫ّ‬
‫وتأسس أكثـر وعـي اليونانيين والبلغار واألرمن القومي‬
‫ً‬
‫غريبا‪ّ ،‬‬
‫ألن الكنائس‬ ‫علـى الهوية الدينية ولم يكن ذلك‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫املسيحية ظلت قرونا طويلة‪ ،‬املستأمن للثقافات‬
‫لكل جماعة مسيحية‪.‬‬ ‫املختلفة ّ‬
‫لم َ‬
‫يلق العثمانيون إال القليل من االعتـراف بالفضل‬
‫علـى تقليدهم الطويل والفريد فـي التسامح الديني‪،‬‬
‫فاستخدم األوروبيون عذر حماية ملل األخوة املسيحية‪،‬‬
‫كذرائع للتدخل فـي الشؤون العثمانية‪ .‬واعتمد أعضاء‬
‫امللل املسيحية علـى هذا الشعور باالستقالل الديني‬
‫ّ‬
‫ليشكلوا قومية مناهضة للعثمانية‪.1‬‬
‫ً ّ ً‬
‫فعاال فـي تقويض‬ ‫ولعبت الدول األوروبية دورا‬
‫دعائم الدولة العثمانية‪ ،‬عبـر تحريض أهل ّ‬
‫الذمة وإثارة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الفتن‪ .‬ولم يكن هذا الدور طارئا أو غريبا علـى تاريخ‬
‫ً‬
‫الدولة التـي أصبحت فـي نظر الدول األوروبية خطرا‬
‫ً‬
‫جسيما‪ّ ،‬‬
‫يهدد مصالح أوروبا فـي الشرق؛ فأطماع الدول‬
‫‪- 1‬جستن مكارثي‪ :‬الطرد واإلبادة مصير املسلمين العثمانيين (‪1821‬م‪1922 -‬م)‪ ،‬ترجمة فريد‬
‫الغزي‪ ،‬قدمس للنشروالتوزيع‪ ،‬سوريا‪ ،‬ط‪ ،2005 ،1‬ص ‪.28‬‬

‫‪59‬‬
‫األوروبية بأمالك الدولة‪ ،‬قديمة‪ ،‬ولوال اختالفها علـى‬
‫اقتسام الغنائم‪ ،‬لكان انهيار الدولة قبل ذلك بكثيـر؛‬
‫واتبعت الدول األوروبية مجموعة من الوسائل للتدخل‬
‫فـي شؤون الدولة العثمانية منها‪:‬‬
‫‪ -1‬تعزيز الشعور القومي عند األقليات الدينية‬
‫والعرقية‪.‬‬
‫‪ -2‬ضغط الدول األوروبية علـى الدولة إلجراء إصالحات‬
‫ّ‬
‫تتعلق باألقليات الدينية‪.‬‬
‫وقدمت الدول األوروبية كل أنواع الدعم لألقليات‬ ‫ّ‬
‫لنيل استقاللها‪ ،‬وكان هذا الصراع قد أخذ شكل صدام‬
‫بين الدولة واألقليات‪ ،‬بحجة نيل هذه األقليات‬
‫استقاللها‪ ،‬وهو الذي عرف هذا الصراع فـي التاريخ باسم‬
‫"املسألة الشرقية"‪.‬‬
‫ّ‬
‫ويلخص وزير خارجية الدولة "نوردانجيان"‬
‫"األرمنـي" معاناة الدولة مع الدول األوروبية‪ ،‬وتدخلها فـي‬
‫وعرف املسألة الشرقية‪ ،‬بتصريح إلى جريدة‬ ‫شؤونها ‪ّ .‬‬

‫‪60‬‬
‫ّ‬
‫يبق أحد إال ويعلم‪َّ ،‬أن‬ ‫لسان الحال‪ ،‬جاء فـيه‪":‬لم َ‬
‫ً‬
‫مملكتنا جعلت ألوروبا يدا فـي شؤوننا الداخلية‪ ،‬عبـر‬
‫كنا ّ‬
‫مكبلين‬ ‫الكثيـر من االمتيا ات واملعاهدات‪ ،‬حيث ّ‬
‫ز‬
‫فكنا كمن يحكم علـى نفسه‬ ‫ّ‬ ‫بمواثيق وسالسل‪،‬‬
‫باإلعدام"‪.1‬‬
‫ّإن تحامل الدول األوروبية علـى الدولة العثمانية‪ ،‬ال‬
‫يعنـي مراعاة أحوال مسيحي الدولة أو محبتهم‪ ،‬وال‬
‫الحيلولة دون قيام الثورات والفتن فـيها‪ّ ،‬إنما أمنيتهم هي‬
‫جالء العثمانيين عن القارة األوروبية‪ ،‬وإزالة آثارهم منها‪.‬‬
‫فكانت هذه الدول تتحين الفرص لالنقضاض علـى الدولة‬
‫العثمانية‪ ،‬حتـى وصلت إلى مرحلة من الضعف‪،‬‬
‫وأصبحت لقمة سائغة وفريسة سهلة للدبلوماسية‬
‫ومما زاد فـي ضعف الدولة‪ ،‬كما يقول السفـير‬ ‫األوروبية‪ّ .‬‬
‫األمريكي فـي اآلستانة‪":‬اعتالء السلطة من قبل جمعية‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تركيا الفتاة عام ‪ ،1908‬فكانت حزبا غيـر مسؤول‪ ،‬ونوعا‬

‫‪- 1‬جريدة لسان الحال‪ :‬العدد ‪ 4 ،7202‬نيسان ‪.1903‬‬

‫‪61‬‬
‫من جمعية سرية‪ .‬وقد استطاع أعضاؤها من القيام‬
‫باملؤامرات‪ ،‬واعتماد وسائل الترغيب‪ ،‬واستالم معظم‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫مناصب الدولة‪ّ ،‬‬
‫مما زاد عدد املعارضين داخليا وخارجيا‪،‬‬
‫حيث استطاعت أوروبا أن ّ‬
‫تمد يد املساعدة إلى هؤالء‬
‫املعارضين الذين سهلوا عليهم تدمير الدولة‪ ،‬ولكن بأيدي‬
‫العثمانيين أنفسهم"‪.1‬‬

‫‪1- Henry Margenthou: Ambassador Margenthou's Story, New York, 1918.‬‬

‫‪62‬‬
‫إستنتاج‬

‫امتدت الدولة العثمانية لفتـرة زمنية طويلة‪،‬‬ ‫ّ‬


‫الستة‪ ،‬حكم خاللها سبعة وثالثين‬ ‫ّ‬ ‫تجاوزت القرون‬
‫ً‬
‫سلطانا‪ ،‬وعاصرت تطورات دولية وعاملية خطيـرة علـى‬
‫أي دولة إسالمية من‬ ‫كافة املستويات‪ ،‬بشكل لم تعرفه ّ‬
‫قبل‪ ،‬فهـي التـي عاشت االختالفات الدينية والحروب‬
‫املذهبية الكبـرى‪ ،‬وظهور القوميات فـي أوروبا‪ ،‬وهي التـي‬
‫مهدت للعصور الحديثة بفتح القسطنطينية‪ ،‬وعاصرت‬ ‫ّ‬
‫الكشوف الجغرافـية‪ ،‬وتأسيس املذهب البروتستانتي‪،‬‬
‫والحروب الدينية التـي ترتبت علـى ذلك‪ ،‬وظهور روسيا‬
‫كقوة صاعدة مع بطرس األكبـر وكاترين الثانية‪ ،‬وحرب‬ ‫ّ‬
‫االستقالل األمريكية وظهورها كدولة مستقلة‪ ،‬وقيام‬
‫الثورة الفرنسية‪ ،‬وانتشار األفكار القومية‪ ،‬وبدايات‬
‫املوجات االستعمارية‪ .‬وكان آخر األحداث الكبرى التـي‬

‫‪63‬‬
‫عاشتها الدولة العثمانية‪ ،‬الحرب العاملية األولى‪ .‬ولذا ّ‬
‫فإن‬
‫ً‬ ‫سلوك الدولة العثمانية تجاه أهل ّ‬
‫الذمة لم يأخذ نمطا‬
‫ً ّ ً‬
‫دا‪ ،‬وإنما ّ‬
‫تعددت اتجاهاته فـي مواجهة مشكلة‬ ‫ثابتا موح‬
‫ً‬ ‫تنظيم الجماعات ّ‬
‫املكونة لها‪ ،‬وفقا للظروف التاريخية‬
‫مرت بها‪ّ .‬‬‫واملوضوعية التـي ّ‬
‫واتبعت الدولة عدة سياسات‬
‫تجاه أهل ّ‬
‫الذمة منها‪:‬‬
‫‪ -‬التسامح تجاه أهل البلدان املفتوحة‪ ،‬فلم يعرف عن‬
‫العثمانيين ّأية ممارسة إكراهية لتحويل الناس عن‬
‫ّ‬
‫متعصبين لدينهم‬ ‫دينهم‪ ،‬علـى الرغم من ّأنهم كانوا‬
‫يمثل أهم وأعظم قيمة فـي حياتهم‪ .‬ويقول‬ ‫ّ‬
‫الذي‬
‫ّ‬ ‫َّ‬
‫كلو"‪":‬إن براعة العثمانيين تمثلت فـي حكمهم‬ ‫"أندى‬
‫باالعتدال واالنصاف؛ ومساعدة عامل التسامح‬
‫الديني قبلت الشعوب بسيطرة األتراك من دون‬
‫صعوبة"‪.‬‬
‫وقال "دونالد كواترات"‪":‬هذا ال يعنـي ّأن رعايا الدولة‬
‫من مسيحيين ويهود لم ُيضطهدوا من حين إلى آخر‪ ،‬علـى‬

‫‪64‬‬
‫أصرت الدولة علـى‬‫الرغم من مبدأ التسامح الثابت الذي ّ‬
‫التقيد به‪ ،‬ولكن هذه الحاالت كانت فردية من قبل بعض‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫الوالة أو الحكام املحليين‪ ،‬فهؤالء بشر يصيبون‬
‫ويخطئون‪ ،‬ولكن هذا االضطهاد كان يعاقب عليه عندما‬
‫والحق ّ‬
‫أن مبدأ‬ ‫ّ‬ ‫يصل إلى مسامع الحكام فـي استنبول‪.1‬‬
‫التسامح العام بقي لعدة قرون بحكم العالقات بين‬
‫مختلف شرائح املجتمع العثماني‪ ،‬بيد ّأن الشقاق بدأ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يذر قرنه فـي السنوات األخيـرة من حياة الدولة‪ .‬ولعله‬
‫ليس من أبواب الصدف ّأن هذه السنوات هي التـي تدخل‬
‫الذمة‪ ،‬فأفسدوهم مع‬ ‫أهل الغرب فـيها فـي شؤون أهل ّ‬
‫الدولة‪ ،‬وفـي ما بينهم‪ .‬فلم يكن التعايش بين أهل ّ‬
‫الذمة‬
‫لحظة عابرة من تاريخ هذه األقليات‪ ،‬وهكذا فتدخل‬
‫الذمة لم يفسد العالقة‬ ‫الدول األوروبية فـي شؤون أهل ّ‬
‫فـي ما بينها‪ ،‬وبينها وبين الدولة العثمانية‪ّ ،‬إنما ّأدى إلى‬
‫أهم أسباب سقوطها‪.‬‬ ‫تمزيق وحدة الدولة ‪ ،‬وكان من ّ‬

‫‪- 1‬راجع بهذا الخصوص‪ ،‬فاضل بيات‪":‬بالد الشام في األحكام السلطانية الواردة في دفاتر‬
‫املهمة"‪ ،‬منشورات لجنة تاريخ بالد الشام‪ ،‬الجامعة األردنية‪ ،‬عمان‪ ،2005 ،‬ثالثة أجزاء‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫أن إحياء العصبية والقومية‬ ‫فلقد أد ك األوروبيين ّ‬
‫ر‬
‫والوطنية والشعوبية هي أقصر طريق إلى تفتيت الدولة‪،‬‬
‫واعتمدت أوروبا فـي ذلك علـى أهل ّ‬
‫الذمة املنتشرين فـي‬
‫كل ناحية‪ .‬ولتحقيق ذلك‪ ،‬عمد أبناء أهل ّ‬
‫الذمة إلى إنشاء‬
‫جمعيات أدبية وعلمية فـي ظاهرها‪ ،‬بينما تسعى إلى إحياء‬
‫النعرة العصبية والطائفـية لتفتيت الدولة من الداخل‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫الفصل الثاني‬

‫النصارى في العهد العثماني‬

‫‪ -1‬نظرة الحكم العثماني إلى النصارى‪.‬‬


‫‪ -2‬أسباب تدهور العالقات بين الدولة العثمانية‬
‫والنصارى‪.‬‬
‫‪ -3‬استنتاج‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫النصارى فـي العهد العثماني‬

‫تفاوتت آراء الباحثين واملؤرخين حول عالقة الدولة‬


‫ً‬
‫وخصوصا‬ ‫العثمانية لرعاياها من غيـر املسلمين‪،‬‬
‫النصارى‪ ،‬فالبعض إتهم الدولة العثمانية بأنها عاملت‬
‫رعاياها من غيـر املسلمين كاملواش ي‪ ،‬وكأرقام لدفع‬
‫الجزية‪ ،‬فـيما ذهب البعض إلى القول أن الدولة‬
‫العثمانية عاملتهم معاملة متساوية مع املسلمين‪.‬‬
‫لذلك التـزم العثمانيون تعاليم اإلسالم فـي ما يتعلق‬
‫بغيـر املسلمين الذين كانوا يعيشون داخل األراض ي‬
‫ً‬
‫العثمانية‪ ،‬فهذه القواعد الشرعية التـي كان معموال بها‬
‫من قبل العثمانيين‪ ،‬كانت تطلق كلمة " ّ‬
‫الذميين" علـى‬
‫غيـر املسلمين الذين يعيشون تحت حكم الدولة‪،‬‬
‫ً‬
‫ويعقدون صلحا معها‪ ،‬ولم يكن هناك أي تفريق بينهم ال‬
‫فـي اللغة وال فـي اللون وال فـي القومية‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫وإلى جانب هذه األحكام الشرعية الخاصة بهم‪،‬‬
‫كانت أرواحهم وأعراضهم وأموالهم فـي حماية الدولة‬
‫العثمانية‪ ،‬كالرعايا املسلمين‪ ،‬حتـى إن فقراءهم كانوا‬
‫يستفـيدون من الخدمات االجتماعية‪ ،‬ويوظفون فـي‬
‫املصالح الحكومية عدا بعض االستثناءات؛ وكانت‬
‫ّ‬
‫والذمي‬ ‫العناية تشمل موتاهم وقبورهم‪ ،‬فاملسلم‬
‫يعامالن معاملة واحدة فـي الدعاوى القضائية‪،‬‬
‫فالكنائس واملعابد فـي استنبول هـي خيـر دليل علـى‬
‫تسامح الدولة مع أهل ّ‬
‫الذمة‪.‬‬
‫واتفق كل املختصين فـي التاريخ العثماني من‬
‫مستشرقين وعرب وعثمانيين علـى تقويم أوضاع أهل‬
‫ّ‬
‫الذمة‪ ،‬وعلـى االعتـراف بما كان لنظام امللل العثماني‪،‬‬
‫ً‬
‫الذي بدأ عمليا مع فتح القسطنطينية ‪ ،‬من آثار إيجابية‬
‫الذمة‪ ،‬واندماجهم الفعلي فـي جسم األمة‬ ‫علـى أهل ّ‬
‫العثمانية‪ ،‬مع االحتفاظ بكياناتهم الدينية وقوانينهم‬
‫ً‬
‫الخاصة‪ .‬ومنح نظام امللل أهل الكتاب حقوقا مدنية‬
‫ودينية‪ ،‬وجعل لهم سلطة سياسية لم يتمتعوا بها قبل‬
‫‪69‬‬
‫الفتح وفـي ظل الدولة البيزنطية نفسها‪ ،‬ويعتـرف بذلك‬
‫كل املستشرقين علـى اختالف نزعاتهم وميولهم‪ .‬ونشير فـي‬
‫هذا الصدد إلى أن أوضاع امللل االقتصادية‪ ،‬لم تكن ّ‬
‫أقل‬
‫جودة من أوضاعهم األخرى‪ ،‬بل أفضل مما كانت عليه‬
‫ً‬
‫سابقا‪ .‬فبينما كان بعض املسيحيين واليهود يقيمون فـي‬
‫ويختصون بالتجارة والحرف واملهن‪ ،‬كان البعض‬ ‫ّ‬ ‫املدن‬
‫اآلخر يحتل مراكز نافذة فـي الحياة السياسية‪ّ ،‬‬
‫ويؤدي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫دورا جوهريا فـي الدولة‪،‬كصرافـي القسطنطينية األرمن ‪،‬‬
‫وصرافـي بغداد اليهود‪ ،‬وعائالت الفنار اليونانية‪ ،‬التـي‬
‫كانت تقوم بأعمال الترجمة فـي املفاوضات األجنبية‪.1‬‬
‫وهكذا نرى َّأنه‪ ،‬وألول مرة فـي التاريخ‪ ،‬تسمح دولة‬
‫إسالمية أن يحكم املسيحيون أنفسهم‪ ،‬كما حصل فـي‬
‫إمارات الفالش والبغدان ومملكة ترانسلفانية وجمهورية‬
‫فكل هذه الواليات واإلمارات كانت تابعة‬ ‫دوبرنديك‪2‬؛ ّ‬
‫للدولة‪ ،‬وتعد من ديار اإلسالم‪ ،‬ومع ذلك فروح السماحة‬

‫‪ - 1‬قيس جواد العزاوي‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.86 -85‬‬


‫‪ - 2‬ألبرت حور اني‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.51‬‬

‫‪70‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫التـي عرف بها لإلسالم‪ ،‬جعلت من نظام امللل مثاال فريدا‬
‫لنظام تعددي‪ ،‬تعجز األنظمة العلمانية اليوم القائمة‬
‫علـى ما يسمونه بالديمقراطية الدستورية‪ ،‬أن تلحق به‪،‬‬
‫فتعامل السلطان مع رعاياه كان ينبع من طبيعة نظام‬
‫قسم سكان الدولة إلى مسلمين‬ ‫امللل العثماني‪ ،‬الذي ّ‬
‫يدفعون الزكاة ورعايا من غيـر املسلمين يدفعون‬
‫الجزية‪.1‬‬
‫تلك كانت أوضاع أهل ّ‬
‫الذمةفـي إطار نظام امللل‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫استمرت إلى أن حدث ما يعكر صفوها‬ ‫العثماني‪ ،‬وقد‬
‫بفعل عوامل خارجية‪ ،‬وذلك عندما بدأت الدول‬
‫الذمة‪ ،‬بحجة الضغط علـى‬ ‫ّ‬ ‫األوروبية تتالعب بأهل‬
‫الدولة‪ ،‬بغية الحصول علـى حقوقها علـى حد قولها‪ ،‬فـي‬
‫الوقت الذي كانت فـيه الدولة العثمانية تعطي أهل‬
‫ّ‬
‫الذمة ما يتوجب عليها‪ ،‬بينما الدول األوروبية تمارس‬

‫‪- 1‬مسعود ضاهر‪ :‬الجذور التاريخية للمسألة الطائفية اللبنانية ‪ ،1861 -1697‬بيـروت‬
‫معهد اإلنماء العربي‪ ،‬ط‪ ،1984 ،2‬ص ‪.285‬‬

‫‪71‬‬
‫أبشع أنواع القتل والتعذيب والتنكيل ملخالفـيها فـي‬
‫الدين‪.‬‬
‫ومصطلح "أهل امللل" أو"أهل ّ‬
‫الذمة" ال يحمل أي‬
‫داللة عنصرية أو متحيزة خاصة‪ ،‬إذا علمنا أن املسلمين‬
‫أنفسهم يطلق عليهم أهل امللة اإلسالمية‪ .‬ولقد وصفت‬
‫ً‬
‫الدولة العثمانية بأنها دولة عاملية‪ ،‬كونها تضم أنماطا‬
‫متعددة من الشعوب واألقوام والثقافات واألديان‬
‫واملذاهب واللغات‪ .‬وعلـى الرغم من هذا التعدد الهائل‬
‫كان الجميع يعيشون فـي سالم ووئام‪ ،‬ولم يكن ذلك إال‬
‫بسبب قدرة مؤسسات الدولة العثمانية علـى التعامل مع‬
‫هذا التعدد والتنوع بفعالية وكفاءة‪ .‬ويشير "روبير‬
‫مانتران" إلى هذا األمر فـي قوله‪":‬فالسالطين العثمانيون ال‬
‫يبدو البتة ّأنهم برابرة بال مبادئ‪ ،‬وانضواء األعيان‬
‫والوجهاء البيـزنطيين تحت راية العثمانيين وغياب القهر‬
‫واضطهاد املسيحيين شاهدان علـى تعايش معين"‪.1‬‬

‫‪- 1‬روبير مانتران‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬ترجمة بشير السباعي‪ ،‬دار الفكر للدراسات والنشر‬
‫والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،1993 ،‬ج‪ ،1‬ص‪.12‬‬

‫‪72‬‬
‫نظرة الحكم العثماني إلى النصارى‬

‫تعود صلة العثمانيين بالكنيسة إلى الفتح اإلسالمي‬


‫للقسطنطينية‪ ،‬فالسلطان محمد الفاتح عقب فتحه‬
‫للقسطنطينية‪ ،‬أمر بإجراء انتخابات الختيار بطريرك‬
‫جديد‪ .‬فاجتمع رؤساء الكنيسة والرهبان واختاروا‬
‫ً‬
‫بطريركا لهم‪ .‬وقد ّ‬
‫تم هذا االنتخاب وفق أنظمتهم وطرقهم‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الخاصة‪ .‬واتخذ البطريرك الجديد لقبا كهنوتيا هو‬
‫"أجناديوس"‪ ،‬ومنحه الفاتح‪ ،‬الحق فـي إدارة شؤون‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫املسيحيين روحيا ومذهبيا‪ .‬والواقع أن السلطان محمد‬
‫لم يكتف بإعطاء "أجناديوس" هذه السلطة‪ ،‬بل منحه‬
‫لقب "رأس امللة"‪ ،‬وهو يعنـي الرياسة املدنية أو إدارة‬
‫الشؤون الحياتية للمسيحيين‪ ،‬وبهذه الصورة جعل‬

‫‪73‬‬
‫ً‬
‫السلطان محمد الفاتح هذا البطريرك مسؤوال عن جميع‬
‫شؤون إخوانه فـي الديانة‪.1‬‬
‫وبهذه الصورة اتسعت صالحيات بطريرك‬
‫املسيحيين فـي القسطنطينية‪ ،‬واعترفت به السلطات‬
‫الرسمية العثمانية علـى أنه كيان دينـي مستقل‪ .‬واتسعت‬
‫هذه الصالحيات إلى الحد الذي تجاوزت به نطاق‬
‫ً‬
‫الكنيسة‪ ،‬إذ أصبح هذا البطريرك رئيسا لألرثوذكس‬
‫داخل الكنيسة وخارجها‪ ،‬وهو صاحب السلطة املطلقة‬
‫علـى جماعته‪ ،‬بعد أن دعمته الدولة العثمانية َّ‬
‫وأيدته‪،‬‬
‫وذهبت إلى أبعد من هذا األمر فجعلت منصب‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫البطريرك‪ ،‬مساويا تماما ملنصب الوزير فـي الوزارة‬
‫العثمانية‪ ،‬الذي هو علـى جانب كبيـر من األهمية‪ ،‬وبهذا‬
‫ً‬
‫أصبح البطريرك مرجعا لألرثوذكس‪ ،‬ليس فـي مسائلهم‬
‫الدينية فقط‪ ،‬بل وفـي شؤونهم الحقوقية والجزائية‪،‬‬
‫وأصبح بالفعل صاحب السلطة املطلقة واملرجع األول فـي‬

‫‪- 1‬ثريا شاهين‪ :‬دور الكنيسة في هدم الدولة العثمانية‪ ،‬ترجمة محمد حرب‪ ،‬داراملنارة للنشر‬
‫والتوزيع‪ ،‬جدة‪،‬ط‪ ،1997 ،1‬ص ‪.25‬‬

‫‪74‬‬
‫جميع شؤون امللة ومسائلها‪ .‬وكان تحت رياسة هذا‬
‫ً‬
‫البطريرك "مجلس شعب" أيضا‪ .‬وفـي إطار السلطة‬
‫العثمانية‪ ،‬كان له حق التحدث فـي "الديوان" فـي أي‬
‫وقت يشاء‪ ،‬وفـي أي موضوع يراه ذا فائدة له وألتباعه‪،‬‬
‫ً‬
‫فهو رسميا رئيس الجماعة املسيحية داخل الدولة‬
‫العثمانية‪ ،‬وهذا يعنـي أنه كان يدافع عن حقوق الروم‬
‫الدينية واملدنية فـي الدوائر الحكومية‪.1‬‬
‫ً‬
‫ويذكر أن البطريرك لم يكن موظفا لدى الدولة‬
‫ّ‬
‫العثمانية‪ ،‬ولكن كان رئيس ملة دينية‪ ،‬لها احتـرامها من‬
‫ً‬
‫قبل السلطان‪ ،‬وله استقاللية قضائيا علـى أتباعه‪ ،‬ويدير‬
‫جميع ممتلكات الكنيسة وأوقافها‪2.‬‬

‫وتجدر اإلشارة إلى أ َّن هؤالء الذين يرمون العثمانيين‬


‫املسلمين بتهمة اضطهاد املسيحيين‪ ،‬وإجبارهم علـى‬
‫دخول اإلسالم‪ ،‬مثلهم كمثل املجرم الذي يتحدث عن‬
‫َّ‬
‫الشفقة والرحمة‪ .‬ويكفـي فـي هذا املجال أن نطلع علـى‬
‫‪- 1‬ثرّيا شاهين‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.26‬‬
‫‪2-Bernard Lewis and Benjamin Braude: op.cit, p.117.‬‬

‫‪75‬‬
‫وصية السلطان محمد الفاتح لولده بايزيد الثاني‪،‬‬
‫لنعرف مدى السماحة واإليمان لدى سالطين الدولة‬
‫العثمانية‪ ،‬فهم بعيدون عن هذه التهم واالفتـراءات التـي‬
‫وجهت إليهم‪ ،‬ومما جاء فـي الوصية‪:‬‬
‫‪ .1‬يا بنـي‪ ،‬إن نشر اإلسالم فـي األرض هو واجب‬
‫امللوك‪ ،‬فأعمل علـى نشر دين هللا حيثما‬
‫استطعت‪.‬‬
‫‪ .2‬يا بنـي‪ ،‬اجعل كلمة الدين فوق كل كالم‪ ،‬وإياك‬
‫أن تغفل عن أي أمر من أمور الدين‪ ،‬وأبعد‬
‫عنك الذين ال يهتمون بأمر الدين‪.‬‬
‫قرب العلماء منك‪ ،‬وأرفع من شأنهم‪،‬‬ ‫‪ .3‬يا بنـي‪ّ ،‬‬
‫فإنهم ذخيـرة ّ‬
‫األمة فـي ّ‬
‫امللمات‪.‬‬
‫‪ .4‬يا بنـي‪ ،‬حذار أن ّ‬
‫تغرك كثـرة األموال والجنود‪،‬‬
‫وإياك أن تخالف أمر الشريعة فـي أي شأن‪،‬‬
‫واحرص علـى الدين فإنه سر انتصارنا‪.1‬‬

‫‪- 1‬زياد أبو غنيمة‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.23‬‬

‫‪76‬‬
‫ّ‬
‫وهكذا فدولة مثل الدولة العثمانية‪ ،‬وحكامها الذين‬
‫أوصوا أبناءهم بهذه التعاليم واملبادئ‪ ،‬فال تنطبق عليها‬
‫الصفات التـي عرضناها‪ ،‬فهـي أبعد ما تكون عن إجبار‬
‫ً‬
‫غيـر املسلمين علـى اعتناق الدين اإلسالمي‪ .‬وهناك أيضا‬
‫وصية السلطان عثمان البنه أورخان وهي شبيهة إلى حد‬
‫كبير بهذه الوصية‪.1‬‬
‫ً‬
‫والدولة العثمانية‪ ،‬هي دولة رضيت باهلل ربا‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وباإلسالم دينا وبمحمد صلى هللا عليه وسلم نبيا ورسوال‪،‬‬
‫لذلك فإن تعاليم اإلسالم ال تعرف التفاضل بين أبناء آدم‬
‫أصل واحد‪ ،‬وال‬ ‫علـى أساس الجنس أو العرق‪ ،‬فالكل من ٍ‬
‫تفاضل بينهم إال بالعمل الصالح‪ ،‬والتقوى‪ ،‬والدليل قوله‬
‫ً‬
‫تعالى‪":‬يا أيها الناس ّإنا خلقناكم من ذكر وأنثى‪ ،‬وجعلناكم شعوبا‬
‫وقبائل‪ ،‬لتعارفوا أن أكرمكم عند هللا أتقاكم‪ ،‬إن هللا عليم خبير"‪.2‬‬

‫‪- 1‬جمال عبد الهادي محمد ووفاء محمد رفعت وعلي أحمد‪ :‬صفحات من تاريخ الدولة‬
‫العثمانية‪ ،‬دارالتوزيع والنشراإلسالمية‪ ،‬ص ‪.9‬‬
‫‪ - 2‬القرآن الكريم‪} :‬سورة الحجرات‪ ،‬آية ‪.{13‬‬

‫‪77‬‬
‫وعندما شاهد املسيحيون وملسوا بالفعل سماحة‬
‫العثمانيين وعدلهم فـي معاملة رعاياهم من غيـر‬
‫املسلمين‪ ،‬سارع هؤالء إلى الطلب من السالطين‪ ،‬دخول‬
‫العثمانيين بالدهم‪ ،‬وتخليصهم من الظلم الذي كانوا‬
‫يرزحون تحته من إخوانهم فـي الدين أي من املذاهب‬
‫األخرى‪ .‬وبعد أن فتح السلطان مراد الثاني سالونيك‪،‬‬
‫جاءه وفد من مسيحي مدينة "يانيا"‪ ،‬وقال متحدث‬
‫باسمهم ‪":‬جئنا نلتمس منكم العون‪ ،‬فال تخيب رجاءنا"‪،‬‬
‫فرد عليه السلطان‪" :‬وكيف أستطيع معاونتكم"‪ ،‬رد عليه‬
‫رئيس الوفد‪":‬يا موالي إن أمراءنا يظلموننا‪،‬‬
‫ويستخدموننا كالعبيد‪ ،‬ويغتصبون أموالنا ثم يسوقوننا‬
‫للحرب"‪ .‬رد عليه السلطان‪":‬وماذا أستطيع أن أفعل لكم‪،‬‬
‫إن هذه مشكلة بينكم وبين أمرائكم"‪ ،‬رد رئيس‬
‫الوفد‪":‬نحن أيها السلطان لسنا بمسلمين‪ ،‬بل نحن‬
‫ً‬
‫نصارى‪ ،‬ولكننا سمعنا كثيـرا عن عدالة املسلمين‪ ،‬وأنهم‬
‫ً‬
‫ال يظلمون الرعية‪ ،‬وال ُيكرهون أحدا علـى اعتناق دينهم‪،‬‬
‫وإن لكل ذي حق حقه لديهم‪ ...‬لقد سمعنا هذا من‬
‫‪78‬‬
‫السياح‪ ،‬ومن التجار الذين زاروا مملكتكم‪ ،‬لذا فإننا‬
‫نرجو أن تشملنا برعايتكم‪ ،‬وبعطفكم‪ ،‬وأن تحكموا بلدنا‬
‫لتخلصونا من حكامنا الظاملين"‪ .‬فاستجاب السلطان‬
‫ً‬
‫لطلب أهل املدينة وأرسل جيشا فتحها سنة ‪1431‬م‪.1‬‬
‫ومما يؤثر فـي هذا السياق ما أورده "توماس أرنولد"‬
‫فـي كتابه "الدعوة إلى اإلسالم"‪ ،‬عندما كانت صربيا‬
‫محاصرة من قبل الدولة العثمانية‪ .‬قام "جورج‬
‫برانكوفتش" القائد الصربي األرثوذكس ي‪ ،‬بإرسال وفدين‪،‬‬
‫واحد إلى السلطان العثماني‪ ،‬وآخر إلى ملك املجر‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الكاثوليكي‪ .‬وكان الوفدان يحمالن سؤاال واحدا‪ :‬ماذا‬
‫تصنع لو دخلت بالدي تحت حكمكم؟؟ كان جواب‬
‫املجر‪ ،‬نؤسس للعقيدة الرومانية الكاثوليكية"‪ ،‬ووجه‬
‫نفس السؤال إلى السلطان العثماني‪ ،‬ماذا تصنع لديننا‬
‫لو انتصرت؟؟ فأجاب السلطان‪ ،‬أقيم كنيسة إلى جانب‬

‫‪- 1‬أورخان محمد علي‪ :‬رو ائع من التاريخ العثماني‪ ،‬دار الكلمة للنشر والتوزيع‪ ،‬مصر‪،‬‬
‫‪ ،2007‬ص ‪.36 -35‬‬

‫‪79‬‬
‫كل مسـجد‪ ،‬وأعط الحرية لكل فرد ليصلي فـي أيهما‬
‫شاء"‪.1‬‬
‫ّ‬
‫وإن ما أورده أورخان محمد علـي عن معاملة الدولة‬
‫ٌ ًّ‬ ‫العثمانية ألهل ّ‬
‫حقا‪ .‬فقد‬ ‫الذمة املسيحيين هو ملفخرة‬
‫أمر السلطان محمد الفاتح ببناء مسجد فـي استنبول‪،‬‬
‫ّ‬
‫وكلف أحد املعماريين الروم‪ ،‬واسمه"اسبالنتي" ببنائه‪،‬‬
‫وطلب منه أن تكون األعمدة من املرمر‪ ،‬ومرتفعة تظهر‬
‫ضـخامة املسـجد‪ ،‬ولكن لسبب ما قطع هذا املعماري‬
‫األعمدة وجعلها قصيرة‪ ،‬فغضب السلطان‪ ،‬وأمر بقطع‬
‫يديه‪ ،‬لم يسكت املعماري عن هذا الظلم‪ ،‬بل رفع دعوى‬
‫ً‬
‫أمام القاض ي "صاري خضر جلبـي"‪ ،‬الذي أصدر حكما‬
‫ُ‬
‫بقطع يد السلطان؛ ذهل املعماري من هذا الحكم‪ ،‬وطلب‬
‫من القاض ي أنه يتنازل عن الدعوى‪ ،‬وأن يحكم له‬
‫بتعويض مالي‪ ،‬وبالفعل حكم القاض ي له بعشر قطع‬

‫‪- 1‬توماس أرنولد‪ :‬الدعوة إلى اإلسالم بحث من تاريخ نشر العقيدة اإلسالمية‪ ،‬ترجمة حسن‬
‫إبراهيم حسن وعبد املجيد عابدين‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار النهضة املصرية‪ ،1947 ،‬ط‪ ،2‬ص ‪-169‬‬
‫‪.170‬‬

‫‪80‬‬
‫نقدية عن كل يوم طوال حياته‪ ،‬لكن السلطان قرر أن‬
‫يعطيه عشرين قطعة‪.1‬‬
‫ّ‬
‫ولعل خيـر مثال عن تعامل الدولة العثمانية مع أهل‬
‫الذمة املسيحيين‪ ،‬الخبـر الذي أوردته جريدة ثمرات‬ ‫ّ‬
‫الفنون‪":‬فـي بيت املقدس كنائس ومدارس وأديرة ال عد‬
‫لها‪ ،‬وأغلب هذه األديرة صدرت الفرمانات الشاهانية‬
‫بمنحها امتيازات خاصة وصفات استثنائية‪ ،‬كإعفائها من‬
‫دفع الضرائب والرسوم‪ ،‬وليس فـي تلك املدينة ما يعيق‬
‫القساوسة من دق نواقيسهم فـي أي وقت‪ ،‬ويطوفون‬
‫بالشوارع متـى شاؤوا علـى شكل موكب ملناسبة حفلة‬
‫مذهبية أو ما ماثلها‪ .‬وكان رجال األمن يقومون بإيقاف‬
‫العربات والجمال عن السير فـي تلك الطرقات‪ ،‬وإذا كانت‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫املناسبة الدينية مهمة جدا‪ ،‬جعلت الحكومة صفوفا من‬
‫العساكر علـى حافتي الطريق زيادة فـي رونق االحتفال‬
‫ومبالغة فـي بهجته‪ .‬وقد يكون االحتفال لتشييع جنازة‪،‬‬

‫‪- 1‬أورخان محمد علي‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.51 -49‬‬

‫‪81‬‬
‫ً‬ ‫فـيتقدم املوكب ٌّ‬
‫قس يحمل صليبا‪ ،‬ويتبعه رجال‬
‫اإلكليـروس بمالبسهم املعتادة فـي مثل هذه الظروف‪،‬‬
‫ً‬
‫ويبقى سائرا علـى هذا املثال فـي طرقات‪ ،‬أغلب القاطنين‬
‫بها من املسلمين؛ والحق ُيقال ّإن هؤالء كلما مرت عليهم‬
‫حفلة يتظاهرون بمظهر االحتـرام‪ .‬وأثناء احتفال‬
‫الكنائس بأي مناسبة كانت الدولة العثمانية تعمل علـى‬
‫السهر علـى راحة هؤالء‪ ،‬فترسل لهم عساكر للمحافظة‬
‫علـى األمن العام‪ .‬هذا وال يخفى علـى أحد أن العساكر‬
‫العثمانيين عن بكرة أبيهم مسلمون‪ ،‬فهل فـي هذا الواقع‬
‫ش ٌيء من التعصب الذي يتهم الغربيون به املسلمين‪،‬‬
‫ويظهرونهم بواسطته كأقوام متوحشة متأهبة الغتيال‬
‫ّ‬
‫التعصب فـي البالد العثمانية إذا كان‬ ‫األمم الغربية‪ .‬وأين‬
‫ً‬
‫الجندي ملزما بأداء السالم العسكري لرجال الدين‬
‫املسيحيين‪ ،‬كما يؤديه لقائده أو لحاكم مدينته! ألم تكن‬
‫البضائع الواردة باسم القسيسين معفاة من رسوم‬
‫الجمارك؟ ألم تكن من عادة املسيحيين أن يجعلوا فوق‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قباب منازلهم وأماكنهم املذهبية صلبانا كبيـرة جدا"؟‬
‫‪82‬‬
‫وتتابع الجريدة ‪":‬فليتأمل املنصف فـي هذه التسهيالت‬
‫ً ً‬
‫التـي يسميها املغرضون بغضا دينيا ومصادرة للحرية"‪.1‬‬
‫إن الدولة العثمانية ال تقبل نظام الطبقات فـي‬
‫املجتمع‪ ،‬فال يمكن تصنيفه أو تقسيم شرائحه إلى رعايا‬
‫عنصريين‪ ،‬وقوميين‪ ،‬ومتدينين‪ ،‬أو تصنيفه حسب‬
‫املذاهب الدينية‪ ،‬فالذميون رعايا عثمانيون متساوون‬
‫فـي الحقوق‪ ،‬يتمتعون بجميع الحقوق والحريات التـي‬
‫كانت للمسلمين فـي جميع املجاالت‪ .‬وينقل "صبري‬
‫خدمتلي" عن "أ‪ .‬دي أكيجس" فـي تعريفه الستنبول حيث‬
‫يقول‪":‬الجوامع‪ ،‬وكنائس اليهود‪ ،‬وكنائس الروم‬
‫والكاثوليك واألرمن مكتظة وكأنها فـي سباق لنيل‬
‫التفوق"‪ .2‬فهو عندما يقول ذلك‪ ،‬إنما يؤكد أن لكل ملة‬
‫مبادئها‪ ،‬والكل يتمتع بحريته الدينية فـي الدولة‬
‫العثمانية‪.‬‬

‫‪- 1‬جريدة ثمرات الفنون‪ :‬العدد ‪ 13 ،1096‬ربيع الثاني ‪1314‬ه‪ 9 /‬أيلول ‪1896‬م‪.‬‬
‫‪- 2‬صبري خدمتلي‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.152‬‬

‫‪83‬‬
‫لذلك ‪ ،‬لم يذب غيـر املسلمين بين املسلمين‪ ،‬بل‬
‫استمروا فـي عيشهم‪ ،‬محافظين علـى أعرافهم ودياناتهم‬
‫داخل األراض ي العثمانية‪ ،‬وتحت رعاية السالطين‪ .‬ذلك‬
‫ألن العثمانيين إذا ما فتحوا بقعة من األرض مأهولة‬
‫بسكان مختلفـين فـي دينهم وعرقهم وثقافتهم‪ ،‬أقاموا‬
‫ذمة"‪ ،‬وبذلك‬‫الذمة‪ ،‬وأصبح هؤالء "أهل ّ‬ ‫معهم عقد ّ‬
‫يستطيعون هؤالء الحفاظ علـى جميع شؤون ثقافتهم‬
‫ومعاشهم واقتصادهم؛ ويحصل هؤالء بموجب ذلك‬
‫فصله الفقهاء املسلمون‪،‬‬ ‫العقد‪ ،‬علـى نظام‪ ،‬حقوقي َّ‬
‫ً‬
‫حيث استطاعوا العيش جنبا إلى جنب مع املسلمين‪،‬‬
‫محافظين علـى دينهم وقيمهم الثقافـية مئات السنين‪.‬‬
‫ونظام امللة هو التنظيم الذي ينظم شؤون غيـر‬
‫املسلمين فـي الدولة‪ ،‬وذلك بمنحهم حق االستقالل‬
‫بانتخاب رؤسائهم الدينيين‪ ،‬وحق ممارسة شؤونهم‬
‫الخاصة فـي التعليم‪ ،‬والقضاء‪ ،‬والضرائب تحت إشراف‬
‫هؤالء الرؤساء؛ وكانت كل مجموعة من غيـر املسلمين‬
‫تمثل طائفة مستقلة َّ‬
‫يتحدد وضعها ووضع املنتسبين إليها‬
‫‪84‬‬
‫املؤسسة ّ‬‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫مؤسسة‬ ‫وفقا النتمائهم الديني‪ ،‬وتمثل هذه‬
‫وسيطة بين الدولة وأهل امللل املختلفة فـيها‪ ،‬بحيث يقوم‬
‫رئيس كل ملة باستقبال "الفرمانات" واألوامر السلطانية‪،‬‬
‫ويبلغها إلى أهل ملته‪ ،‬ويتابع أمر تنفـيذها بينهم‪ ،‬وكان‬
‫أفراد كل ملة يبلغون الدولة ما يريدون عبر رؤسائهم‬
‫الدينيين املنتخبين منهم‪ ،‬وذلك بموافقة سلطانية معلنة‬
‫بفرمان خاص‪1.‬‬

‫ويقول ‪ ":‬محمد فريد بك" عن السلطان أورخان‬


‫بعد فتحه أزميد‪":‬ومما جذب إليه قلوب األهالي‪ ،‬أن‬
‫عاملهم باللين والرفق‪ ،‬ولم يعارضهم فـي إقامة شعائرهم‬
‫َ‬
‫الدينية‪ ،‬وأذ َن ملن يريد الهجرة أن يأخذ كافة حاجاته‬
‫وبيع عقاراته مع تمام الحرية فـي إجراءاته"‪.2‬‬
‫ومما ُيروى عن السلطان "بايزيد الثاني" أنه كان‬
‫رحب الصدر كريم الخلق مع رعاياه املسيحيين‪ ،‬يسمح‬
‫لهم بالتردد علـى مجلسه بحرية كاملة‪ .‬واشتهر مراد الثاني‬
‫‪- 1‬كمال السعيد حبيب‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.322‬‬
‫‪- 2‬محمد فريد بك املحامي‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.124‬‬

‫‪85‬‬
‫بعنايته فـي تحقيق العدالة‪ ،‬وإصالح املفاسد التـي سادت‬
‫عهد األباطرة اإلغريق‪ ،‬وعاقب‪ ،‬من غيـر هوادة‪ ،‬أي‬
‫ّ‬
‫استبد برعاياه‪1.‬‬ ‫موظف من موظفـيه‬
‫ويذكر "توماس أ نولد" فـي موضع آخر‪ّ ،‬‬
‫"أنه لو‬ ‫ر‬
‫تأملنا عدالتهم ونزاهتهم وسائر فضائلهم الخلقية‪،‬‬
‫لخجلنا من جحودنا‪ ،‬سواء فـي عبادتنا أو تراحمنا من‬
‫جورنا وتعسفنا وإفراطنا‪ ،‬فال ريب ّإنهم سيقيمون الحجة‬
‫أن تقواهم وأعمال الرحمة فـيهم‪ ،‬كانت‬ ‫علينا‪ ،‬وال شك ّ‬
‫َّ‬
‫املحمدية"‪.2‬‬ ‫األسباب الرئيسية لنمو الدعوة‬
‫وكانت الجزية تفرض علـى غيـر املسلمين مقابل‬
‫يؤدي خدمات‬ ‫عمن ّ‬ ‫حمايتهم والدفاع عنهم‪ ،‬وتسقط ّ‬
‫مثال‪3‬؛ وال ّ‬‫ً‬
‫يؤدي الجزية‬ ‫خاصة للدولة‪ ،‬كاألطباء‬
‫القساوسة ورجال الدين من غيـر املسلمين‪ ،‬كما ال ّ‬
‫يؤديها‬

‫‪- 1‬توماس أرنولد‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.173‬‬


‫‪ - 2‬توماس أرنولد‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.152‬‬
‫‪- 3‬هاملتون جب وهارولد ُ‬
‫بودن‪ :‬املجتمع اإلسالمي والغرب‪ ،‬ترجمة أحمد عبد الرحيم‬
‫مصطفى‪ ،‬القاهرة‪ ،‬داراملعارف‪ ،1970 ،‬ج‪ ،2‬ص ‪.468‬‬

‫‪86‬‬
‫العاجزون عن حمل السالح‪ ،‬كاألطفال والنساء والعجزة‬
‫وكبار السن‪ .‬وقد ورد العديد من الفرمانات التـي تعفـي‬
‫أماكن العبادة والفقراء واألرامل من دفع الضرائب‬
‫‪":‬بموجب فرمان صادر عن البادشاه بخصوص إعفاء‬
‫املكاتب والجوامع وأماكن العبادة بمختلف أصنافها‬
‫وتبعيتها واملستشفـيات‪ ،‬وما إلى ذلك من املباني الخيـرية‪،‬‬
‫عن دفع الضرائب"‪ .1‬وورد فـي فرمان آخر‪ّ ،‬‬
‫وتم منح‬
‫امتيازات من طرف الدولة‪ ،‬إعفاء األديرة والكنائس وكل‬
‫املؤسسات الخيـرية الوقفـية ودور األيتام واألرامل ومنازل‬
‫الرهبان واملكاتب‪ ،‬وغيـرها من املؤسسات الخيـرية من‬
‫دفع الضرائب"‪.2‬‬
‫وكانت الكنائس واألديرة والبطاركة ورجال الدين‬
‫يتمتعون بالحرية الكاملة واالستقالل التام فـي ترتيب‬
‫التنظيمات الكنسية والجماعات الدينية للمسيحيين‬
‫والحق ّأن السلطات العثمانية لم‬
‫ّ‬ ‫الذين يرأسوهم؛‬

‫‪1- B.O.A: ŞD, 402/20-2.‬‬


‫‪2- B.O.A: ŞD, 2308/17-5‬‬

‫‪87‬‬
‫تتدخل كذلك فـي مدارس أهل ّ‬
‫الذمةالتـي عاشت فـي‬
‫كنفها‪ ،‬وال فـي برامجها التعليمية‪ -‬باستثناء النصف‬
‫الثاني من القرن التاسع عشر‪ -‬وفـي ظل القوانين‬
‫العثمانية كانت الجماعات الدينية من أهل ّ‬
‫الذمة داخل‬
‫الدولة‪ ،‬تستطيع إنشاء املدارس علـى درجاتها بحسب‬
‫النظم التعليمية السائدة‪ .‬وكانت هذه املدارس عادة ُتقام‬
‫مبان ملحقة بالكنائس‪ ،‬ويقوم القساوسة بأداء‬ ‫فـي ٍ‬
‫العملية التعليمية فـي املدارس املسيحية‪ ،‬مثلما كان‬
‫املشايخ من علماء املسلمين يقومون بالتعليم فـي املدارس‬
‫الدينية اإلسالمية‪.1‬‬
‫وعندما افتتح السلطان محمد الفاتح‬
‫القسطنطينية‪ ،‬أعطى أهالي "غالطة"‪ ،‬وهو أحد أحياء‬
‫ً‬
‫القسطنطينية‪ ،‬عهدا علـى جميع ممتلكاتهم وحرياتهم‬
‫الشخصية والدينية ّ‬
‫ومما جاء فـي العهد‪":‬هذا عهد ذمي‬
‫غالطية‪ ،‬عاهدهم أبو الفتح السلطان "محمد خان" ملا‬

‫‪- 1‬ثريا شاهين‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.27 -26‬‬

‫‪88‬‬
‫فتح القسطنطينية‪":‬أنا السلطان محمد خان ابن‬
‫السلطان مراد‪ ،‬أقسم باهلل خالق السموات واألرض‪،‬‬
‫وبحق روح حضرة الرسول صلى هللا عليه وسلم الطاهرة‬
‫املنورة‪ ،‬وبحق املصاحف‪ ،‬وبحق روح جدي‪ ،‬وبحق روح‬
‫أبي‪ ،‬وبحق حياتي‪ ،‬وبحق حياة أوالدي‪ ،‬وبحق السيف‬
‫الذي أحمله‪ ،‬إن أرسل أهل غالطية مفتاح القلعة‬
‫ً‬
‫املذكورة‪ ،‬طلبا للسلم إلى عتبتـي العالية‪ ،‬معلنين الطاعة‬
‫واالنقياد لي‪ّ ،‬‬
‫فإنني‪:‬‬
‫‪ -1‬قبلت أن يقيموا عباداتهم (طقوسهم) وأركانهم علـى‬
‫الوجه الجاري بحسب األسلوب القديم لعاداتهم‬
‫وأركانها‪ ،‬وأن ال أهاجمهم لهدم وتخريب قلعتهم‪.‬‬
‫قر فـي أيديهم وأرزاقهم وأمالكهم‬ ‫‪ -2‬وأمرت أن ُي ّ‬
‫ومخازنهم وبساتينهم وطواحينهم وسفنهم وقواربهم‬
‫وعموم أمتعتهم ونسائهم وأوالدهم وعبيدهم‬
‫ُ‬ ‫وإمائهم‪ ،‬وال ّ‬
‫أتعرض إلى ش يء وال أكرههم علـى ش يء‬
‫فـي ذلك‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ -3‬وعليهم أن يعملوا‪ ،‬وأن يسافروا برا وبحرا مثلما فـي‬
‫سائر ممالكي‪ ،‬فال يمنعهم ويزاحمهم إنسان‪ ،‬وأن‬
‫يؤمنوا ويسلموا‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪ -4‬وأن أضع عليهم الخراج ّ‬
‫يؤدونه عاما بعد عام‬
‫كغيـرهم‪ ،‬وأن أرعاهم بنظري الشريف‪ ،‬فأحميهم‬
‫مثل ممالكي األخرى‪.‬‬
‫‪ -5‬وأن تكون كنائسهم ملك أيديهم‪ ،‬ويقروا حسب‬
‫طقوسهم‪ ،‬وأن ال أستولي علـى كنيسة لهم ألجعلها‬
‫ً‬
‫مسجدا‪.‬‬
‫‪ -6‬وأمرت أن ال يؤخذ ولد للجيش الجديد‬
‫(اإلنكشاري)‪ ،‬وال يجبـر كافر علـى الدخول إلى‬
‫اإلسالم ‪ ،‬بغيـر رضاه‪ ،‬وأن ّ‬
‫ينصبوا من بينهم من‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يختارونه صاحبا (راعيا) ملصالحهم‪.1‬‬
‫وبعد فتح البوسنة من قبل السلطان "محمد‬
‫ً‬
‫الثاني"‪ ،‬أعطى ألهلها فرمانا أمنهم فـيه علـى حياتهم‪،‬‬

‫‪- 1‬أحمد آق كوندز‪ :‬الوثائق تنطق بالحقائق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.223‬‬

‫‪90‬‬
‫ومما جاء فـيه‪":‬أنا السلطان محمد‬ ‫وأمالكهم وعبادتهم‪ّ ،‬‬
‫خان‪ ،‬بكل حواس ي ومداركي‪ ،‬وبموجب فرمان الهمايوني‪،‬‬
‫أمنح مزيد العناية والحقوق لرهبنة البوسنة‪ ،‬وال يمكن‬
‫ألي كان مزاحمتهم أو منعهم‪ ،‬وال يسمح ملن يتوقف‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫ويخل باألمن‬ ‫بممالكنا أو ملن يأتي بطريقة غيـر شرعية‬
‫ّ‬
‫العام؛ علـى العكس نحرص أال يشعر من يسكن ممالكنا‬
‫يحل بها بالخوف‪ ،‬وال يمكن ألي طرف سواء من‬ ‫أو ّ‬
‫املتمكنين من الكنائس أو حتـى من طرف حضرتي‬
‫ً‬
‫شخصيا ووزرائي ورعيتـي ومن الذين بمملكتـي‪ ،‬التدخل‬
‫والتعرض وتعذيب هؤالء الذين وقع ذكرهم أعاله‪ .‬أقسم‬ ‫ّ‬
‫باليمين وبحق السموات السبع وبحق علو رسولنا محمد‬
‫املصطفى صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وبحق السبعة‬
‫ًّ‬
‫نبيا‪ ،‬وبحق‬ ‫مصاحف‪ ،‬وحق املئة واألربعة وعشرين‬
‫أال يخالف ّ‬‫ّ‬
‫أي فرد هذا املكتوب‬ ‫السيف الذي أحمله‪،‬‬
‫تحت أي ضغط‪ ،‬وما دام هؤالء مطيعين ألمري"‪.1‬‬

‫(أنظرامللحق رقم ‪1- B.O.A: A.DVN, DVE. D,14/2. ) 3‬‬

‫‪91‬‬
‫وال ننس ى الفرمان الذي منحه محمد الفاتح لنصارى‬
‫القدس‪ ،‬قبل فتحها من قبل السلطان سليم األول‬
‫بحوالي سبعين سنة‪ .‬وقد منحهم الفاتح هذا الفرمان ً‬
‫بناء‬
‫لطلب بطريرك القدس بعد أن تم للفاتح فتح‬
‫القسطنطينية عام ‪1453‬م‪.1‬‬
‫ومما دفع البطريرك إلى الطلب من قبل الفاتح‬
‫منحهم هذا الفرمان‪ ،‬حتـى قبول دخول الدولة العثمانية‬
‫ً‬
‫وتحديدا القدس‪ ،‬بإعتقادي ثالثة أمور‪:‬‬ ‫بالد الشام‪،‬‬
‫‪ -1‬سماحة وعدل الدولة العثمانية مع جميع‬
‫رعاياها مسلمين وغيـر مسلمين‪.‬‬
‫‪ -2‬من أجل السماح للمسيحيين بالذهاب إلى‬
‫القدس ألداء مناسك الحج‪.‬‬
‫‪ -3‬تصنيف الدولة العثمانية من كبار الدول‬
‫العاملية‪ ،‬فكان من املتوقع أن يخطب ّ‬
‫ودها‬
‫الجميع القاص ي والداني‪.‬‬

‫)أنظرامللحق رقم ‪1- B.O.A: A.DVNS.KLS.d-8/6. (4‬‬

‫‪92‬‬
‫كما َّأمنهم السلطان علـى أرواحهم وممتالكتهم وكنائسهم‪.‬‬
‫وبعد فتح القدس من قبل السلطان سليم األول‬
‫سنة ‪1516‬م جاءه وفد من الرهبان والقساوسة األرمن‬
‫واألرثوذكس يطلبون من السلطان أن يأمنهم علـىأرواحهم‬
‫وممتالكتهم وحريتهم الدينية‪ ،‬فقد منحهم السلطان‬
‫سليم هذا الفرمان الذي كفل فـيه عباداتهم وحريتهم‬
‫الدينية َّ‬
‫وأمنهم علـى كنائسهم‪.1‬‬
‫والتاريخ خيـر شاهد علـى التـزام سالطين آل عثمان‬
‫الذين أعقبوا "محمد الفاتح"‪ ،‬بكل االمتيازات التـي منحها‬
‫السلطان للنصارى ‪ ،‬بل إن امتيازات املسيحيين فـي‬
‫الدولة العثمانية‪ ،‬قد زادت بسبب الظروف السياسية‪،‬‬
‫ونتيجة لبعض الضغوط الخارجية‪ ،‬حتـى وصل األمر بأن‬
‫أصبحت البطريركية "دولة داخل دولة"‪ .‬وبتعبيـر آخر إن‬
‫البطريرك وأعوانه لم يكتفوا بالحفاظ علـى كيان‬
‫الكنيسة وكيانهم فقط‪ ،‬بل أصبح مدى النفوذ والسلطة‬

‫)أنظرامللحق رقم ‪1- B.O.A: A.DVNS.KLS.d-8/7. (2‬‬

‫‪93‬‬
‫اللذين يتمتعون بهما فـي ظل الحكم العثماني املسلم‬
‫مما ّ‬ ‫ً‬
‫جدا ّ‬
‫تمتعوا به فـي ظل أعظم عهود‬ ‫أكبـر بكثيـر‬
‫بيزنطية املسيحية قوة‪ .‬وقام البطريرك داخل الدولة‬
‫العثمانية املسلمة بدور أكثـر أهمية من عهد الدولة‬
‫البيزنطية‪ ،‬وهي مسيحية‪ ،‬ولم يكن ذلك إال بفضل‬
‫االمتيازات التـي منحتها الدولة العثمانية للكنيسة‬
‫وأتباعها‪ .‬وقد شهد الغربيون علـى هذا األمر‪ ،‬واعترفوا‬
‫به‪.1‬‬
‫ُ‬
‫وطبع النصارى فـي الدولة العثمانية‪ ،‬بطابع‬
‫عثماني‪ ،‬فأخذ الرهبان والقساوسة فـي كثيـر من األماكن‬
‫يتزيون بزي األتراك‪ ،‬ويقرأون كافة أدعيتهم وترانيمهم‬
‫الدينية األخرى عدا اإلنجيل باللغة التركية‪.2‬‬
‫وعرفت الدولة العثمانية بالعدالة والتسامح مع‬ ‫ُ‬
‫رعاياها من غيـر املسلمين أيام السلم والحرب‪ ،‬فبعد‬

‫‪- 1‬ثريا شاهين‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.27‬‬


‫‪- 2‬إكمال الدين إحسان أوغلي‪ :‬الدولة العثمانية تاريخ وحضارة‪ ،‬ترجمة صالح سعيداوي‪،‬‬
‫منظمة املؤتمراإلسالمي‪ ،‬استنبول‪ ،1999 ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.164‬‬

‫‪94‬‬
‫انتهاء الحرب البلقانية األولى والثانية ‪1912‬م‪1913 -‬م‪،‬‬
‫وبعد عودة الدولة العثمانية إلى األراض ي التـي ُسلبت منها‬
‫ً‬
‫فـي الحرب األولى‪ ،‬أصدرت الدولة فرمانا بضرورة إرجاع‬
‫جميع األراض ي إلى غيـر املسلمين ‪":‬إن القاعدة اإليجابية‬
‫التـي تطلب إجراؤها واتخاذها هي بإجرائكم معاملة كبيرة‬
‫للمحافظة علـى حقوق دولتنا وعلـى حقوق رعاياها فـي‬
‫األراض ي"‪ .1‬وحتـى بناء الكنائس كانت تنشأ بفرمان من‬
‫بناء علـى طلب‬ ‫الدولة العثمانية‪ُ 2،‬وتمنح تراخيصها ً‬
‫تبين املساحة املنوي‬ ‫األهالي‪ ،‬مرفقة بالخرائط التـي ّ‬
‫تشييدها‪":‬قرار صادر عن مقام الصدارة العظمى بتاريخ‬
‫‪ 18‬رمضان ‪1331‬هـ‪ ،‬الصدر األعظم‪ ،‬ومعه نظارة املالية‬
‫ونظارة املذاهب والعدل‪ ،‬يوافقون علـى إقامة كنيسة‬
‫بحارة نعمة هللا الواقعة فـي مدينة أورفة‪ .‬وتبلغ مساحة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الكنيسة اإلجمالية ‪ 980‬مترا مربعا‪ ،‬وفـي الوثيقة‬

‫‪1- B.O.A: A.MTZ (04): 16/55‬‬


‫‪2- B.O.A:A.MTZ (04): 16/18‬‬

‫‪95‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تفصيالت لجميع املقاسات طوال وعرضا والطوابق وحتـى‬
‫النوافذ"‪1.‬‬

‫وقد اتهم بعض املؤرخين والباحثين علـى الدولة‬


‫العثمانية َّ‬
‫بأنها لم تكن تسمح ببناء الكنائس فـي األحياء‬
‫اإلسالمية‪ ،‬وهذه الوثيقة هي أكبر دليل علـى أن الدولة‬
‫الذمة سواسية مع‬ ‫العثمانية كانت تتعامل مع أهل ّ‬
‫املسلمين‪":‬طلب من امللة البروتستانتية بخصوص توسيع‬
‫الكنيسة التـي هي بالقرب من الجامع واملقبرة اإلسالمية‪،‬‬
‫تقرر أن تقام الكنيسة"‪ .2‬وذهبت الدولة العثمانية‬‫فقد ّ‬
‫تصرف القدس بإعطاء‬ ‫إلى أبعد من ذلك‪ ،‬عندما أمرت ُم ّ‬
‫ّ‬
‫وتكفلت‬ ‫أرض للملة الكاثوليكية إلقامة كنيسة لهم‪.3‬‬
‫ّ‬
‫واهتمت الدولة العثمانية‬ ‫ببناء الكنائس للمسيحيين‪.4‬‬
‫بالفقراء من املسيحيين واملسلمين علـى السواء‪":‬سيتم‬
‫افتتاح اإلصالحية املخصصة لإلناث "بروستجوك"‬
‫‪1- B.O.A: I.AZN: 113/20-2.‬‬
‫‪2- B.O.A:I. ŞD,49/2728-1.‬‬
‫‪3- B.O.A:DH.ID, 14-2/24-2.‬‬
‫‪4- B.O.A:BEO, 1189/89137.‬‬

‫‪96‬‬
‫وقبول إناث املسلمين واملسيحيين وكل أصناف تبعية‬
‫الدولة العثمانية علـى حد سواء"‪ .1‬وحتـى بناء‬
‫يتم بطلب ّ‬
‫يقدم من‬ ‫املستشفـيات للملة املسيحية‪ ،‬كان ّ‬
‫الدولة للحصول علـى موافقة من أجل بنائها‪":‬بأمر من‬
‫الباب العالي يسمح للمارونيين بالقدس الشريف بإنشاء‬
‫مستشفى بالقرب من دير مار يعقوب التابع لهم"‪.2‬‬
‫ولم تكن الدولة العثمانية تسمح للمسلمين‪،‬‬
‫باعتبارهم مسلمين من دين الدولة‪ ،‬باالعتداء علـى أرض‬
‫ألي ملة‪":‬قرار بموجب فرمان سلطاني‪ ،‬يجب‬ ‫تابعة ّ‬
‫تسليم املدرسة والجامع القريب من مبنى صالح الدين‬
‫القائم فـي مبنى أو موقع كنيسة مريم عليها السالم‬
‫بالقدس الشريف إلى الطائفة الالتينية لتحويلها إلى‬
‫كنيسة‪ ،‬كما كانت عليه قبل فتح القدس من طرف‬
‫"صالح الدين األيوبي"‪ .‬ومنذ أن تم فتح القدس‪ ،‬وبموجب‬
‫تم تحويل هذا املبنى إلى جامع ومدرسة‪ُ ،‬ووضعت‬‫قرار‪ّ ،‬‬

‫‪1- B.O.A:C.MF,131/6542.‬‬
‫‪2- B.O.A:A.DVN.NMH, 6/1.‬‬

‫‪97‬‬
‫ً‬
‫تحت إدارة عائلة أبو اللطف َجدا عن أب عن ابن وذلك‬
‫بما ينص عليه الشرع"‪ .1‬وسمحت الدولة العثمانية‬
‫للطوائف املسيحية باستيراد جميع املواد للكنائس‬
‫واملدارس واملكاتب واملؤسسات الخيـرية‪ ،‬من دون دفع‬
‫رسوم جمركية عليها‪":‬علـى غرار ما يتمتع به األجانب‬
‫املقيمون بتراب اإلمبراطورية العثمانية‪ ،‬من إعفائهم من‬
‫دفع معلوم الجمارك عن املواد واألشياء التـي يتم جلبها‬
‫لصالح أماكن العبادة والتعليم وغيـرها من املنشآت‬
‫الخيـرية‪ ،‬علـى غرار ذلك‪ ،‬وقع إعفاء ما يجلب من األشياء‬
‫للمكاتب ومسافر خانة واملستشفى التابعة للكنائس‬
‫األرثوذكسية"‪.2‬وكان يتم إعفاء الكنائس ورجال الدين‬
‫من دفع الضرائب‪":‬هذا الفرمان صادر خالل جلوس‬
‫الهمايوني‪ّ ،‬‬
‫ويقر بإعفاء كنائس وأديرة رهبنة ملة الروم‬
‫بالبوسنة وكل األراض ي والبساتين التابعة لهم‪ ،‬من‬
‫ً‬
‫مختلف الضرائب‪ ،‬وأيضا علـى غرار سائر امللل القاطنة‬

‫‪1- B.O.A:A.DVN,MHM,2/12.‬‬
‫‪2- B.O.A:BEO,2663/199707-1.‬‬

‫‪98‬‬
‫باألراض ي العثمانية يقر السلطان بحمايتهم وحماية‬
‫عرضهم وممتلكاتهم"‪.1‬‬
‫وبلغ حرص الدولة العثمانية علـى الطوائف‬
‫ً‬
‫املسيحية وأماكن عبادتها حدا ال يوصف‪ ،‬فمنعت‬
‫السلطة املحلية من مداهمة الكنائس‪ ،‬باعتبارها أماكن‬
‫عبادة‪ ،‬وال يجوز تفتيشها‪ ،‬وعاملتها علـى غرار السفارات‬
‫لتابعة للدول األجنبية‪":‬مراسلة صادرة عن الباب العالي‬
‫إلى متصرف القدس ونائب يافا‪ ،‬علـى أثر شكاية أو عرض‬
‫حال موجه من بطريرك الروم إلى الباب العالي‪ ،‬وذلك‬
‫ّ‬
‫علـى أثر ما قام به متصرف القدس من تجاوزات تمثلت‬
‫فـي تفتيش الكنائس واألديرة املتواجدة بالقدس وتوابعها‪.‬‬
‫ويرى الباب العالي ّأن هذه املؤسسات تحت تصرف وإمرة‬
‫البطاركة‪ ،‬لذلك ال يجب تفتيشها أو التعدي عليها‪ ،‬إال‬
‫بأمر من السلطة العليا‪ ،‬وبأمر من مسؤولي املنطقة‬
‫بالكف عن مثل هذه التجاوزات"‪.2‬‬

‫‪1- B.O.A:MVL,312/53-2.‬‬
‫‪2- B.O.A:A.DVN,MHM,10/20.‬‬

‫‪99‬‬
‫ً‬
‫وعلـى الرغم من أن البطريرك لم يكن موظفا لدى‬
‫ّ‬
‫يخصه‪ ،‬بمبالغ مالية‪ ،‬إما‬ ‫السلطان‪ ،‬إال أن األخيـر كان‬
‫علـى شكل هبات أو كتعويض شهري علـى خدماته‪":‬أعطى‬
‫السلطان سبعين ألف قرش إلى بطريرك الروم كهبة‬
‫منه"‪ .1‬كما صدرت إرادة سنية بتخصيص خمسة آالف‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قرش‪ ،‬راتبا شهريا لحضرة بطريرك الروم السابق‪.2‬‬
‫وكانت الدولة العثمانية حريصة علـى كنائس‬
‫املسيحيين‪ ،‬وطالبهم وفقرائهم‪ ،‬حيث صدرت اإلرادة‬
‫ً‬ ‫السنية بأن ّ‬
‫يوزع علـى بطريرك الروم مبلغا وقدره‬
‫سبعمائة وخمسون ليرة عثمانية‪ ،‬لتعمير ما هدمه‬
‫ً‬
‫الزلزال من كنائس‪ .3‬كما أصدرت أمرا بقبول عشرين‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تلميذا سنويا من تالمذة الروم‪ ،‬إلدخالهم فـي املكاتب‬
‫"الشاهنية" علـى نفقة الخزينة الخاصة السلطانية‪.4‬‬

‫‪- 1‬جريدة ثمرات الفنون‪ :‬العدد ‪ 2 ،1004‬شعبان ‪1312‬هـ‪ 16/‬تشرين الثاني ‪.1894‬‬
‫‪-2‬جريدة ثمرات الفنون‪ :‬العدد ‪12 ،1007‬جمادى اآلخر‪1312‬ه‪28 /‬تشرين الثاني‪1894‬م‪.‬‬
‫‪-3‬جريدة ثمرات الفنون‪ :‬العدد ‪21 ،1009‬جمادى اآلخر‪1312‬هـ‪ 12 /‬كانون األول ‪1894‬م‪.‬‬
‫‪- 4‬جريدة ثمرات الفنون‪ :‬العدد ‪ 6 ،1042‬ربيع األول ‪1313‬هـ‪ 14/‬آب ‪1895‬م‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫وإثر عودة القوات العثمانية إلى قضاء "قرق‬
‫كليسيا" بعد الحرب البلقانية الثانية ‪1913‬م‪ ،‬طلبت‬
‫السلطات العثمانية من الوالي إعادة جميع ممتلكات‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫األهالي إلى املسيحيين‪ ...":‬إن أغراضا وأمواال قد خلفها‬
‫املهاجرون البلغار بسبب الحرب‪ ،‬واستلم عسكرنا أثمانها‬
‫إثر بيعها‪ ،‬لذلك يطلب إلى متصرف القضاء إعادة الحق‬
‫إلى أصحابه"‪.1‬‬
‫ومما يدعو إلى الدهشة‪ّ ،‬أن مقاومة اختالف الدين‬
‫ّ‬
‫لدى الشعب املسيحي املحلي‪ ،‬كانت محدودة للغاية‪ ،‬هذا‬
‫ً‬
‫الشعب ‪ ،‬كان ممتنا للحرية الدينية التـي منحها لهم‬
‫العثمانيون‪ ،‬والتـي كانت مجهولة فـي أوروبا فـي ذلك‬
‫العصر‪ .‬وكانت الضرائب العثمانية‪ ،‬أقل بكثير من‬
‫الضرائب البيزنطية‪ ،‬إذ لم يكن يجبى من املسيحيين‬
‫سوى الضريبة اإلسالمية التـي ّ‬
‫تسمى "الجزية" وفـي مقابل‬
‫ذلك‪ ،‬كان املسيحيون يعفون من الخدمة العسكرية قبل‬

‫‪1- B.O.A:HR. SYS, 1963/1‬‬

‫‪101‬‬
‫أقرت التنظيمات العثمانية‬ ‫عصر التنظيمات‪ .‬وعندما ّ‬
‫وحددت‬‫الخدمة العسكرية لجميع رعايا الدولة العثمانية ّ‬
‫ً‬
‫تعويضا يدفع عنه وهو "البدل العسكري" ملن ال يريد‬
‫الخدمة‪ ،‬وأعفت فقراء املسيحيين من دفع هذا البدل‪.1‬‬
‫تتعرض الدولة العثمانية ألمالك املسيحيين‪،‬‬‫ولم ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فلم تمس مخزنا أو محال يخصهم فـي املدن‪ ،‬وكانت فـي‬
‫املدن الكبيـرة وبخاصة استنبول‪ ،‬جماعة من املسيحيين‪.‬‬
‫ألغنياء الذين كانوا يعيشون فـي غاية الرفاهية‪ ،‬حتـى ّإن‬
‫أزواجهم كن يلبسن اللباس والزينة التـي ال تختلف عن‬
‫لباس وزينة األميرات األوروبيات‪ ،‬ولم ينظر إليهم‬
‫العثمانيون نظرة سوء‪.‬‬
‫التجار وأصحاب السفن‪،‬‬ ‫وكان املسيحيون من كبار َّ‬
‫ً‬
‫والبنوك واملقاولين قد خصصت الدولة لهم حرسا من‬
‫اإلنكشارية لصيانة ممتلكاتهم‪ .‬واحتل البنادقة جزيرة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫"ساقيز" لفترة قصيرة‪ ،‬فارتكبوا ظلما شديدا إلى درجة أنه‬

‫‪1- B.O.A:A.DVN, 115/75.‬‬

‫‪102‬‬
‫عند عودة اإلدارة العثمانية إلى هذه الجزيرة‪ ،‬استقبل‬
‫شعبها العثمانيون بسرور كبير‪ ،‬وأقاموا االحتفاالت‬
‫ومما ال شك أن العثمانيين لم يحاولوا إزالة دين‬‫واألفراح‪ّ .‬‬
‫أو محو حضارة شعوب األقطار التـي فتحوها‪ .‬ونظر‬
‫املسيحيون فـي دعاواهم املدنية فـي محاكمتهم الكنسية‬
‫بالنسبة إلى توزيع امليراث‪ ،‬إلى القانون اإلسالمي‪.1‬‬
‫وأزاء هذه الحريات والتقديمات التـي منحتها الدولة‬
‫العثمانية للكنيسة‪ ،‬كان من الطبيعي أن تكون مسؤوليتها‬
‫أمام الدولة العثمانية بقدر الحريات والسلطات التـي‬
‫ُمنحت لها بموجب هذا االمتياز؛ والبطريرك هو الرئيس‬
‫الديني وفـي الوقت نفسه‪ ،‬الرئيس الروحي لطائفته‪،‬‬
‫واملسؤول الذي يجب علـى الدولة أن تخاطبه فـي ما‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫يخص شؤون طائفته‪ .‬ومن السهل جدا إدراك هذا بكل‬
‫ّ‬
‫صراحة عند قراءة الفرمانات العثمانية املنظمة لشؤون‬
‫تنص علـى ّأنه‪":‬ال ّبد من النظر فـي كل‬
‫الكنيسة‪ ،‬فهي ّ‬

‫‪- 1‬يلمازأوزتونا‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.469 -468‬‬

‫‪103‬‬
‫أنواع األمور واملسائل الخاصة بهم‪ ،‬بمعرفة البطريرك‬
‫املذكور‪ "...‬وهنا‪ ،‬نتوقف عند خاصية أخرى تسترعي‬
‫َ‬
‫االنتباه ‪ ،‬أال وهي ق َسم البطريرك ووعده أمام‬
‫ً‬
‫السلطان‪":‬على أن يظل ُمخلصا للسلطان‪ ،‬ينفذ قوانين‬
‫الدولة العثمانية ويحترمها"‪ .‬وهذا القسم الذي ّ‬
‫يسمى‬
‫ّ‬
‫وينص علـى‬ ‫"يمين نامه" يتلوه البطريرك أمام السلطان‪،‬‬
‫ّأنه لن يخون الدولة العثمانية‪ ،‬وسيؤدي عمله علـى ّ‬
‫أتم‬
‫وجه‪ ،‬ويكتب للدولة عن كل من تبدر منه خيانة للبالد‪،‬‬
‫سواء كان من رجال الدين أو من غيـرهم‪.1‬‬
‫وكانت معاملة الدولة العثمانية ألهل ّ‬
‫الذمة رحيمة‪،‬‬
‫فقد شهد علـى ذلك األعداء قبل األصدقاء‪ ،‬حيث زار وفد‬
‫من املوارنة فـي لبنان البابا يشتكون إليه من سوء‬
‫أوضاعهم‪ ،‬وبحسب ما ورد فـي جريدة ثمرات الفنون‪،‬‬
‫كان رد البابا بما يلي‪ ":‬أنتم بفضل هذا السلطان (يقصد‬

‫‪- 1‬ثريا شاهين‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.28‬‬

‫‪104‬‬
‫عبد الحميد) لفـي أكثـر حرية وسعة من سائر اإلكليروس‬
‫حتـى ونحن فـي روما"‪.1‬‬
‫وأثناء القحط الذي ضرب جبل لبنان فـي نهاية‬
‫القرن التاسع‪ ،‬أرسلت الدولة العثمانية إلى أهل الجبل‬
‫املواد الغذائية‪ ،‬من دون النظر إلى ملة هؤالء‪ ،‬بل كان‬
‫ً‬
‫جل اهتمامها كونهم بشرا بالدرجة األولى‪ ،‬ورعايا‬
‫عثمانيين بالدرجة الثانية‪ .‬فقام البطريرك املاروني‬
‫بإرسال برقية شكر إلى الصدارة العظمى فـي ‪ 1‬مارس‬
‫‪1871‬م وهذا نصها‪":‬سيادة ولي نعمتنا البادشاه ذو شيم‬
‫الكرام والرحيم والعطوف برعاياه بهدف رفع حالة‬
‫تسببت فـيها بالجفاف الذي‬ ‫اضطراب الفقراء‪ ،‬التـي ّ‬
‫تم استالم عشرة‬ ‫ضرب جبل لبنان هذه السنة‪ ،‬فقد ّ‬
‫آالف كيس من الحنطة التـي أمر بتسليمها الباب العالي‪.‬‬
‫كل إنسان‪ّ ...‬‬
‫فإن‬ ‫وإلحسانكم وكرمكم فقد دعا لكم ّ‬

‫‪- 1‬جريدة ثمرات الفنون‪ :‬العدد ‪ 5 ،1395‬جمادى الثانية ‪1320‬هـ‪ 26/‬آب ‪1902‬م‬

‫‪105‬‬
‫يتقدم للسلطان األعظم واملليك األفخم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫البطريرك‬
‫يعترف بسلطتكم العلية ويدعو لكم بالخلود"‪.1‬‬
‫وحتـى َّإن الدولة العثمانية لم تبخل علـى املسيحيين‬
‫ّ‬
‫دينهم‪":‬قررت نظارة املعارف املصرية تعميم‬ ‫بتعليم‬
‫التعليم الديني فـي جميع املدارس االبتدائية‪ ،‬وبما ّأن‬
‫قررت‬‫األقباط قد طلبوا أن ُيعاملوا إسوة باملسلمين‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫نظارة املعارف أيضا أن يعلم أبناء األقباط دينهم"‪ .2‬وبعد‬
‫عهد التنظيمات والسماح لغيـر املسلمين االنخراط‬
‫باملؤسسة العسكرية سمحت الدولة لهم بالدخول إلى‬
‫املدارس الحربية‪.3‬‬
‫وكان الشرع اإلسالمي هو الذي يحكم تصرف‬
‫السلطان أمام الرعية‪ ،‬فعندما كان يخطأ بعض‬
‫السالطين بحق أهل ّ‬
‫الذمة‪ ،‬وأمام تنبيهه ألمر الشرع‪،‬‬
‫كانوا يمتثلون لألوامر اإللهية؛ فهذا السلطان سليم األول‬

‫‪1- B.O.A:I.DH, 630/43827‬‬


‫‪- 2‬جريدة ثمرات الفنون‪ :‬العدد ‪ 11 ،1605‬صفر‪1325‬ه‪ 2 /‬آذار‪1907‬م‪.‬‬
‫‪ - 3‬جريدة ثمرات الفنون‪ :‬العدد ‪ 2 ،95‬صفر‪1294‬ه‪ 3 /‬شباط ‪1878‬م‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫وبعد إتمام فتح بالد الشام‪ ،‬واستتباب األمن فـيها‪ ،‬حاول‬
‫بعض العناصر املسيحية تشويه صورة جميع‬
‫بأن جميع أهل‬ ‫املسيحيين‪،‬وإعطاء صورة للسلطان سليم ّ‬
‫الذمة هم من العناصر غيـر املنضبطة وغيـر امللتزمة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وهي تقطع اليد التـي تمتد إليها‪ .‬من خالل اإلساءة إلى‬
‫جميع املسيحيين‪ ،‬حيث أبت بعض النفوس الضعيفة إال‬
‫اإلساءة ملن أحسن إليها‪ ،‬فقد حاولت هذه العناصر‬
‫تعكير صفو العالقة بين العثمانيين واملسيحيين بإثارة‬
‫فسببت بعض املتاعب للدولة‪ .‬لذلك‬‫بعض االضطرابات‪ّ ،‬‬
‫كانت ردة الفعل من قبل السلطان سليم‪ ،‬قوية ليس ضد‬
‫العناصر غيـر املنضبطة فحسب‪ ،‬إنما "ذهب الصالح‬
‫قرر تخيير أهل ّ‬
‫الذمة بين أمرين إما‬ ‫بعهد الطالح"‪ ،‬إذ ّ‬
‫الرحيل عن املمالك العثمانية أو الدخول فـي اإلسالم‪،‬‬
‫ً‬ ‫فما كان من شيخ اإلسالم إال أن ّ‬
‫تصدى للسلطان قائال‬
‫له‪ ":‬ما داموا قد قبلوا أن يكونوا رعايا للدولة‪ ،‬فنحن‬
‫ّ‬
‫مكلفون بحماية أموالهم وأرواحهم وأعراضهم‪ ،‬مثلما‬

‫‪107‬‬
‫تحمي أموال وأعراض املسلمين"‪ ،1‬فما كان من السلطان‬
‫إال أن امتثل للشرع اإلسالمي‪َّ ،‬‬
‫وعدل عن فكرته‪.‬‬
‫ّ ً‬ ‫ّ ً‬
‫ومكرما‪،‬‬ ‫معززا‬ ‫وكان اإلنسان فـي الدولة العثمانية‬
‫بغض النظر عن دينه وعرقه ولونه‪ ،‬حتـى الحيوان أخذ‬
‫حقوقه فـي هذه الدولة‪ ،‬فقد احتوت القوانين الخاصة‬
‫بالشؤون البلدية‪ ،‬والصادرة فـي عهد بايزيد الثاني فـي‬
‫بداية القرن السادس عشر علـى الحكم القانوني اآلتي‪":‬‬
‫ال ُيستخدم الحمار ّ‬
‫املعوق الساق فـي تأدية األعمال‪،‬‬
‫وينبغي االهتمام الدائم بسيقان الخيول والبغال‬
‫ً‬
‫والحمير‪ ،‬ويجب أن ال تحمل أثقاال فوق طاقتها‪ ،‬فهي‬
‫دواب غيـر ناطقة وال تستطيع الشكوى‪ ،‬ويجب تنفـيذ‬
‫ً‬
‫وتفصيال‪ ،‬ومن ال يلتزم بها ّ‬
‫يتعرض‪،‬‬ ‫هذه األوامر جملة‬
‫للحساب وهذه الحيوانات وغيـرها خلقها هللا سبحانه‬
‫ّ‬
‫وتعالى‪ ،‬وكلها ُمنحت الحقوق من لدنه عز وجل‪ ،‬وهو‬
‫ً‬
‫اللطيف الخبير‪ ،‬وهذه الحقوق ثابتة شرعا"‪.2‬‬

‫‪- 1‬زياد أبو غنيمة‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.46‬‬


‫‪- 2‬أحمد آق كوندز‪ :‬الوثائق تنطق بالحقائق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪220‬‬

‫‪108‬‬
‫لذلك من املستحيل لهذه الدولة التـي راعت حقوق‬
‫الحيوان‪ ،‬أن تبدي عدم احتـرامها لحقوق اإلنسان‪ ،‬عدا‬
‫بعض األخطاء وحاالت استغالل النفوذ‪ ،‬فهؤالء الحكام‬
‫بشر قد يصيبون وقد يخطئون‪ ،‬وكان الظلم إن وقع‪ ،‬يقع‬
‫ً‬
‫علـى املسلم واملسيحي معا‪ .‬وهذا يحدث من بعض‬
‫تم الترويج لهذه‬‫العناصر غيـر املنضبطة‪ .‬ولألسف فقد ّ‬
‫واملؤرخين‪ ،‬علـى ّأنها‬
‫ّ‬ ‫األخبار من قبل بعض الباحثين‬
‫ُ‬
‫السياسة العامة امل ّتبعة من قبل الدولة العثمانية؛‬
‫ً‬
‫والحقيقة هي عكس ذلك تماما‪ .‬وإن حصل بعض الظلم‬
‫متصرف أو بعض املوظفـين‪،‬‬‫ّ‬ ‫أو التجاوزات من ٍ‬
‫وال أو‬
‫كانت الدولة تتدخل إلعادة األمور إلى نصابها‪":‬وردت إلى‬
‫الباب العالي من سفارتي النمسا وروسيا‪ّ ،‬أنه نتيجة‬
‫للخالفات التـي نشبت بين مسلمي ومسيحي "غوسينا"‪،‬‬
‫ً‬
‫قام القائمقام ورئيس املحكمة بتوقيف ‪ 15‬شخصا من‬
‫ً‬
‫املسيحيين‪ ،‬ولم يوقفوا أحدا من املسلمين‪ ،‬لذلك يأمر‬
‫الباب العالي بعزل القائمقام ورئيس املحكمة"‪.1‬‬
‫‪1- B.O.A: BEO, 2246/168408-1.‬‬

‫‪109‬‬
‫ولم تتردد الدولة من رفع الظلم عن أي مواطن‬
‫عثماني‪ ،‬إن وصلت هذه املظلمة إلى مسامع السلطات‬
‫العثمانية‪ .‬فقد أورد الدكتور فاضل بيات فـي كتابه "بالد‬
‫املهمة‬ ‫ً‬
‫استنادا إلى دفاتر ّ‬ ‫الشام فـي األحكام السلطانية"‬
‫عددا من هذه القصص‪ّ ،‬‬ ‫ً‬
‫ومما جاء فـي إحداها‪ ،‬أمر‬
‫موجه من الصدارة العظمى إلى والي الشام للقيام‬ ‫ّ‬
‫بالتحقيق فـي دعوى ذمي رفعها ضد الوزير‬
‫الذمي جرجس وهو من قضاء بيروت‬ ‫تقدم ّ‬ ‫السابق‪ّ ":‬‬
‫وحامل الفرمان السلطاني‪ ،‬بعريضة أبلغ فـيها ّأن وزيري‬
‫السابق مصطفى باشا‪ ،‬ألقى القبض عليه‪،‬وأخذ منه‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫قسرا خمسة آالف ذهبا وما يعادل ألفـي من امللح واألرز‬
‫بحجة ّأنه يقوم ببيع الحبوب لطائفة اإلفرنج‪،‬‬‫ملخازنه‪ّ ،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ولهذا أصبح يطالبه شرعا بما مجموعه ستة آالف ذهبا‪،‬‬
‫وأمرت أن تقوم أنت (أي الوالي) إلى جانب قاض ي الشام‬
‫ّ‬
‫وتسترد له‬ ‫وأمير السنجق‪ ،‬بالنظر فـي أحوال املذكور‬
‫حقه الثابت بال نقصان"‪.1‬‬
‫‪ - 1‬فاضل بيات‪ :‬بالد الشام في األحكام السلطانية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬ص‪.183‬‬

‫‪110‬‬
‫وأورد البيات عدد من الوثائق التـي تصون ّ‬
‫حق‬
‫ومما جاء فـي‬ ‫ّ‬ ‫املسيحيين واليهود واملسلمين‪،‬‬
‫إحداها‪":‬سبق أن تعرض بعض املسلمين واليهود فـي والية‬
‫البحيرة إلى املداهمة‪ ،‬وسلبت أموالهم وأرزاقهم‪ .‬وعند‬
‫وصول حكمي الشريف إليك (أي للقاض ي) أن تعرض إلى‬
‫سدة سعادتي‪ ،‬وبالتفصيل وعلـى وجه السرعة‪ ،‬ومن دون‬
‫عمن‬‫تأخيـر‪ ،‬وبالوجه الذي تحاط به وتطلع عليه‪ّ ،‬‬
‫ارتكبوا املظالم واالعتداءات‪ّ ،‬‬
‫وممن قاموا باإلغارة علـى‬
‫املسلمين واليهود"‪.1‬‬
‫واتسمت العالقة بين املسلمين واملسيحيين فـي بالد‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الشام عموما وفـي طرابلس خصوصا‪ ،‬وعبر تاريخهم‬
‫الطويل‪ ،‬بأفضل العالقات تقوم علـى الصداقة واأللفة‬
‫ّ‬
‫ويسجل التاريخ بعض املالمح املشرفة عن‬ ‫ُ‬
‫وحسن الجوار‪.‬‬
‫تلك العالقة الطيبة التـي تجمع بين املسلمين واملسيحيين‬
‫واليهود‪ ،‬فقد أمكن للمسيحيين التقاض ي فـي املحكمة‬

‫‪- 1‬فاضل بيات‪ :‬البالد العربية في الوثائق العثمانية‪ ،‬تقديم خالد أرن‪ ،‬استنبول ‪،2010‬‬
‫منظمة املؤتمراإلسالمي‪ ،‬أرسيكا‪ ،‬ص ‪.64‬‬

‫‪111‬‬
‫الشرعية فـي طرابلس‪ ،‬ملواجهة كبار الشخصيات النافذة‬
‫ً‬
‫بعيدا عن الهواجس الطائفـية‪ .‬وقد عثر فـي سجالت هذه‬
‫تبين ذلك‪ ،‬ومنها ّأن‬
‫املحكمة علـى عدد من الوثائق التـي ّ‬
‫أحد السكان املسيحيين يقاض ي مفتي طرابلس بشأن‬
‫خالفه معه علـى بستان شجري فـي قرية عشاش*‪.1‬‬
‫إن هذا النوع من القضايا املحفوظة فـي سجالت‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫املحاكم الشرعية‪ ،‬يؤكد واقعا يرتكز علـى العيش الواحد‬
‫البعيد عن القهر واإلذالل والهواجس والعقد‪ ،‬الذي‬
‫حاول البعض تصويره لتشويه صورة العالقة بين أهل‬
‫ّ‬
‫الذمة والدولة العثمانية؛ فعندما يتجرأ مسيحي أن يرفع‬
‫دعوى علـى مفتي املدينة أو الوالية‪ ،‬فذلك ّ‬
‫يدل علـى مدى‬
‫الذمة بالحرية التامة فـي عهد الدولة‬ ‫ّ‬ ‫تمتع أهل‬‫ّ‬
‫العثمانية‪ ،‬واحتـرام الدولة لإلنسان من أي طائفة أو‬
‫مذهب كان‪ّ .‬إن إقامة الدعوى علـى مفتي املسلمين فـي‬

‫* قرية عشاش‪ :‬هي قرية في شمال لبنان كانت تابعة لناحية الزاوية من أعمال طرابلس‬
‫الشام‬
‫‪- 1‬سجالت املحكمة الشرعية بطرابلس‪ ،‬سجل رقم ‪ 11‬سنة ‪ ،1755 -1754‬ص ‪.132‬‬

‫‪112‬‬
‫مدينة طرابلس فـي ظل الحكم العثماني‪ ،‬ومن قبل أحد‬
‫ً‬
‫عاديا‪ّ ،‬‬ ‫ً‬
‫لكنه‬ ‫السكان أو "الرعايا املسيحيين"‪ ،‬لم يكن أمرا‬
‫حصل كما تفـيد الوثائق التاريخية‪ .‬ولكن الالفت للنظر‬
‫كحدث‬
‫ٍ‬ ‫مرت فـي السجالت‬ ‫ّأن خسارة املفتي لهذه الدعوى ّ‬
‫يتم تمييـزه عن ّأية قضية أخرى‪ .‬وال شك ّأن‬ ‫عادي‪ ،‬لم ّ‬
‫ّ‬
‫لهذا األمر دالالت ومعاني عميقة‪ ،‬أقلها ّأن مناخ العيش‬
‫ً‬
‫الواحد والتسامح كان قويا‪ ،‬وأن مناخ التحدي واالنحياز‬
‫ً ّ‬
‫كان غائبا‪ ،‬وإال ملا أقدم أحد السكان املسيحيين العاديين‬
‫علـى مقاضاة مفتي طرابلس‪ ،‬والدفاع عن حقه أمام‬
‫ً‬
‫محكمتها الشرعية طلبا للعدالة‪.‬‬
‫ومما يسجل عدالة الدولة العثمانية وتسامحها‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫مسجدا علـى‬ ‫قضية الحاج األسعدي بطرابلس‪ ،‬الذي بنى‬
‫أنقاض أحد منازل املسيحيين فـي طرابلس‪،‬وهو"نعمة هللا‬
‫غريب"‪ ،‬وقد حكم قاض ي طرابلس فـي العهد العثماني‬
‫بعدم جواز الصالة فـي املسجد‪ ،‬ألن البناء ّ‬
‫تعدى علـى‬
‫ّ‬
‫الواقعة‪":‬إن علي باشا األسعد بنى‬ ‫أمالك الغيـر‪ ،‬وخالصة‬
‫الجامع علـى أنقاض دار نعمة هللا غريب من العائالت‬
‫‪113‬‬
‫الطرابلسية املسيحية‪ ،‬وقد ّ‬
‫تقدم هؤالء بشكوى من‬
‫مجلس طرابلس بهذا األمر‪ ،‬وتذكر مختلف املصادر‬
‫التاريخية الفتوى الشهيرة للمفتي محمد كامل الزين‪،‬‬
‫بعدم جواز الصالة فـي هذا املسجد‪ ،‬ألنه مخالف‬
‫للنصوص الشرعية"‪ ،1‬وما زال آل الغريب يحتفظون‬
‫بحكم القاض ي حتـى اآلن‪.‬‬
‫وإذا كنا نرغب فـي التفتيش عن حقيقة وواقع ما‬
‫كان عليه العيش بين الطوائف الدينية فـي املاض ي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫القريب‪ ،‬علينا أال نكتفـي بهذه املعطيات‪ ،‬وأن تفتش عن‬
‫معطيات أخرى‪ ،‬أكثـر داللة‪ ،‬نجدها فـي وثائق املحكمة‬
‫يبين لنا وجود بيوت‬ ‫الشرعية‪ .‬فبعض هذه الوثائق ّ‬
‫للمسيحيين‪ ،‬كانت تشترك مع بيوت املسلمين‪ ،‬فـي مدخل‬
‫مشترك‪ ،‬وعبر دهليز مشترك ودرج مشترك‪ .2‬كما نجد‬

‫‪ - 1‬عبد الغني عماد‪ :‬مجتمع طرابلس في زمن التحوالت العثمانية‪ ،‬دار اإلنشاء للطباعة‬
‫والنشر‪ ،‬طرابلس‪ ،2002 ،‬ص ‪.166 -165‬‬
‫‪ - 2‬فاروق حبلص‪ :‬املدلوالت االجتماعية للديمغر افية التاريخية وتموضع األديان في مدينة‬
‫طرابلس في العصر العثماني من خالل الوثائق الرسمية العثمانية‪ ،‬ص‪ .173-172:‬أعمال‬

‫‪114‬‬
‫مدونة فـي سجالت املحكمة الشرعية‬ ‫دعاوى ومنازعات ّ‬
‫فـي طرابلس‪ ،‬منها شهادات أدلى به مسيحيون أمام‬
‫القاض ي فـي املحكمة لصالح مسلمين ضد مسيحيين‪،1‬‬
‫ُوتظهر بعض الوثائق توكيل مسيحيين ملسلم‪ ،‬بهدف‬
‫شراء عقارات لهم من املسيحيين‪ ،2‬ووكالة من مسلم‬
‫ملسيحي‪.3‬‬
‫ّإن املعطيات التاريخية التـي تتضمنها مثل هذه‬
‫الوثائق‪ ،‬تعكس عمق العالقة بين املسلمين واملسيحيين‪،‬‬
‫وتسمح لنا بالحديث عن حسن التعايش بينهم‪ .‬فهي تثبت‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أن قسما كبيـرا من أبناء طرابلس قبل ليس بمجاورة أبناء‬
‫طائفة أخرى وحسب‪ ،‬بل باالشتراك معهم فـي سكن دار‬
‫واحدة‪ ،‬والدخول إليها من مدخل واحد‪ ،‬واستخدام‬
‫فسحة داخلية واحدة مشتركة بينهما‪ ،‬بل ومطبخ واحد‬

‫املؤتمر الذي عقد في فندق الكوالتي بتاريخ ‪ 27‬و‪ 28‬آذار ‪2009‬م بعنوان "طرابلس وتحديات‬
‫العيش املشترك"‪.‬‬
‫‪- 1‬سجالت املحكمة الشرعية بطرابلس‪ :‬سجل رقم ‪ ،26‬تاريخ ‪1666‬هـ‪،‬ص ‪.20‬‬
‫‪ - 2‬املصدرنفسه‪ :‬ص‪ 30:‬و‪.45‬‬
‫‪ - 3‬املصدرنفسه‪ :‬ص‪.168 :‬‬

‫‪115‬‬
‫ً‬
‫ليتم لوال ّأن حالة من االنفتاح‬‫مشترك‪ ،‬وهذا ما كان ّ‬
‫الواسع‪ ،‬واالحتـرام والثقة‪ ،‬بل واملحبة التـي ّميزت العالقة‬
‫بين الشريكين وعائلة كل منهما‪.1‬‬
‫وكذلك األمر فـي تأجير بعض األراض ي الزراعية‪،‬‬
‫فإقدام املسلمين علـى تأجير أراضيهم للمسيحيين‪ّ ،‬‬
‫يدل‬
‫بوضوح علـى فرص االستثمار والتملك املتبادلة‪ ،‬وتحسين‬
‫األوضاع املادية لكال الطرفـين‪ ،‬وهذا نموذج من التعايش‬
‫اإلسالمي املسيحي فـي الدولة العثمانية‪ ،‬ويدل علـى عدالة‬
‫الدولة مع رعاياها‪ ،‬وإذا فتشنا فـي سجالت املحاكم‬
‫الشرعية للواليات العربية لوجدنا الكثير منها‪.‬‬
‫وخيـر دليل علـى تسامح الدولة العثمانية ووالتها مع‬
‫الذمة‪ ،‬تسلم عدد كبير منهم التزام بعض املقاطعات‬ ‫أهل ّ‬
‫فـي والية طرابلس؛ واملثال علـى ذلك‪ ،‬هو ناحية الزاوية‬
‫التـي كانت تابعة لوالية طرابلس التـي كانت تضم فـي‬
‫ً‬
‫القرن السادس عشر عددا من القرى علـى النحو التالي‪:‬‬

‫‪ - 1‬فاروق حبلص‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.174:‬‬

‫‪116‬‬
‫‪ 9‬قرى مسيحية‪ 17 ،‬قرية إسالمية و‪ 8‬قرى إسالمية‬
‫ومسيحية‪ ،1‬حيث ّ‬
‫تم تلزيم هذه املنطقة‪ ،‬والتـي بغالبيتها‬
‫السكانية إسالمية‪ ،‬إلى مشايخ من الطائفة املسيحية‬
‫وألكثـر من مرة‪.2‬‬

‫‪- 1‬عصام خليفة‪ :‬أبحاث في تاريخ شمال لبنان في العهد العثماني‪ ،‬بيـروت‪ ،1995 ،‬ص ‪.12‬‬
‫‪- 2‬راجع سجالت املحكمة الشرعية في طرابلس سجل ‪ ،4‬ص ‪ ،149‬وسجل رقم ‪ ،7‬ص ‪،259‬‬
‫وسجل ‪ ،8‬ص ‪.43‬‬

‫‪117‬‬
‫أسباب تدهور العالقات بين الدولة العثمانية‬
‫والنصارى‬

‫الذمة (املسيحية)‪ ،‬فترة رخاء ورغد من‬‫عاش أهل ّ‬


‫ً‬
‫العيش طوال العهود األولى للدولة العثمانية‪ ،‬وخصوصا‬
‫القرون األربعة األولى‪ ،‬ولكن هذه األوضاع ّ‬
‫تبدلت مع نهاية‬
‫القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر‪ .‬فعلـى‬
‫الرغم من كل التسهيالت والتقديمات التـي قدمتها الدولة‬
‫العثمانية‪ ،‬إلى أهل ّ‬
‫الذمة‪ ،‬فما الذي تغيـرحتـى ينقلب أهل‬
‫ّ‬
‫العدو األول‬ ‫الذمة ضد الدولة العثمانية‪ ،‬وتصبح‬ ‫ّ‬
‫للمسيحيين‪.‬‬
‫ومما ال ّ‬
‫شك فـيه‪ ،‬أن غيـر املسلمين عاشوا فـي هناء‬ ‫ّ‬
‫عيش ورغد‪ ،‬عندما كانت الدولة العثمانية قوية وفـي‬ ‫ٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫عصرها الذهبي من عمرها املديد‪ ،‬غيـر أن حياتهم تبدلت‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫‪ ،‬وتأملوا فـي فترة انحدارها عندما تقلدت الحكم إدارة‬

‫‪118‬‬
‫ُ‬
‫غيـر عادلة وط ّبق نظام مختلف للضرائب‪ .‬وكان النتشار‬
‫تيار "القومية" السريع فـي الغرب منذ القرن الثامن‬
‫عشر‪ ،‬وإلعالن حقوق اإلنسان وحقوق املواطن‪ ،‬واألهم‬
‫من كل هذا‪ ،‬كان للتدخل األوروبي‪ ،‬أكبر األثر فـي تأليب‬
‫أهل الذ ّمة ضد الدولة العثمانية‪ ،‬فثار هؤالء الذميون‬
‫أصحاب القول والفصل فـي االقتصاد العثماني‪،‬‬
‫مستغلين بذلك وبنجاح تفوقهم من إجادة أبنائهم اللغات‬
‫األوروبية وعدم آدائهم الخدمة العسكرية‪ ،‬حيث أوفد‬
‫الذميون أبناءهم إلى أوروبا ليترعرعوا بين أحضانها‪،‬‬
‫ويشربون من ثقافتها‪.‬‬
‫ولم تتوان الدول األوروبية الكبرى عن استخدام‬
‫أهل ّ‬
‫الذمة‪ ،‬فضغطت علـى الدولة العثمانية‪ ،‬وطالبتها‬
‫ّ‬
‫الذميين‬ ‫بإجراء إصالحات جذرية لصالحهم ‪ ،‬بهدف ضم‬
‫ثم استخدامهم فـي تأسيس‬ ‫وجعلهم تحت جناحها‪ ،‬ومن ّ‬
‫سيطرة سياسية واقتصادية علـى األرض العثمانية‪.‬‬
‫فكانت النتيجة‪ ،‬نجاح هؤالء فـي مسعاهم هذا‪ ،‬أما‬
‫رجاالت الدولة فقد شرعوا من جانبهم فـي التجديد‬
‫‪119‬‬
‫واإلصالحات علـى كافة األصعدة‪ ،‬فاإلصالحات كانت‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫بالدرجة األولى مطلبا عثمانيا داخليا من جهة‪ ،‬ومن جهة‬
‫أخرى كف يد الدول األوروبية بعدم التدخل فـي شؤون‬
‫الدولة بحجة حماية أهل ّ‬
‫الذمة‪ ،‬وضمان حقوقهم‪.‬‬
‫وقامت الدول األوروبية بدور ّ‬
‫مميز فـي إيقاظ‬
‫الشعور القومي لدى شعوب الدولة العثمانية‪ ،‬تارة‬
‫ً‬
‫بالعزف علـى الوتر الديني‪ ،‬وطورا عن طريق الوتر العرقي‪.‬‬
‫وقد استغلت أوروبا هذه الشعوب املتعددة األعراق‬
‫والديانات فـي الدولة‪ ،‬الستخدامها فـي دفع شعوب‬
‫ّ‬
‫الدولة للمطالبة باالستقالل عنها‪ ،‬فقد تبنت‬
‫روسيا‪،‬ودعمت الروح القومية السالفـية من ناحية‪ ،‬ومن‬
‫ناحية أخرى دعمت الشعور الديني األرثوذكس ي ّ‬
‫بحجة‬
‫استرجاع القسطنطينية من يد العثمانيين‪.1‬‬
‫وكانت روسيا تشجع علـى ارتكاب املجازر فـي‬
‫الواليات العثمانية ضد املسيحيين‪ُ ،‬لت َ‬
‫وهم الرأي العام‬

‫‪1- R.W.Seton Watson: op.cit, p.60.‬‬

‫‪120‬‬
‫األوروبي "بوحشية" الدولة العثمانية ضد املسيحيين‪.1‬‬
‫فقد ّبينت الوثائق العثمانية ّأنه كان بعض العصابات‬
‫املسيحية (البلغارية) ترتدي البذة العسكرية العثمانية‪،‬‬
‫أن هذه‬ ‫وتقوم بإطالق النار علـى املسيحيين إليهامهم ّ‬
‫املجازر يرتكبها الجيش العثماني‪ ،‬وبالتالي تقوم الشعوب‬
‫املسيحية بالثورة ضد الدولة العثمانية‪.2‬‬
‫ً‬
‫واتخذت الدول األوروبية من هذه املذابح سببا‬
‫لتأليب الرأي العام األوروبي ضد السلطنة‪ ،‬فانساقت‬
‫املحرضة‪ ،‬من دون ّ‬
‫تدبر‬ ‫ّ‬ ‫الشعوب البلقانية وراء الدول‬
‫لعواقب هذه الثورات‪ ،‬وال أن تعرف الشعوب املسيحية‬
‫فـي الدولة العثمانية األغراض الخفـية التـي تريدها أوروبا‬
‫من وراء هذا التحريض‪ .‬وفـي حالة االنتصار ستجعل‬
‫الدول األوروبية من الواليات العثمانية فـي أوروبا‪ ،‬مناطق‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫نفوذ لها سياسيا وعسكريا واقتصاديا‪ ،‬وفـي حالة إخفاق‬

‫‪- 1‬جريدة لسان الحال‪ :‬العدد ‪ 31 ،7028‬أيار‪1912‬م‪.‬‬


‫‪2- B.O.A: HR. Sys, 2012 (1-23).‬‬

‫‪121‬‬
‫الثورات‪ ،‬تكون أوروبا قد ّ‬
‫حققت أحد أهم أهدافها‪ ،‬وهو‬
‫إضعاف الدولة العثمانية‪.1‬‬
‫ويذهب بعض الباحثين إلى ّأن مطالبة الدول‬
‫األوروبية للدولة العثمانية‪ ،‬بضرورة إجراء اإلصالحات‬
‫ّ‬
‫الذمة ّإنما هو تدخل سافر فـي شؤون الدولة‪ ،‬كونها‬
‫ألهل ّ‬
‫أعطتهم كامل حقوقهم‪ ،‬وألنها كانت دولة إسالمية‪ ،‬وما‬
‫مر معنا خيـر دليل علـى ذلك‪.‬لذلك ُيطلق علـى القرن‬‫ّ‬
‫التاسع عشر ميالدي‪ ،‬من تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬عهد‬
‫اإلصالح العثماني‪ ،‬فالدولة سارت فـي طريق إصالح‬
‫مؤسساتها العسكرية واملدنية من أجل الحفاظ علـى‬
‫ً‬
‫تماسكها‪ ،‬وخوفا من انهيارها‪ ،‬متوخية إقناع الدول‬
‫ً‬
‫األوروبية‪ ،‬فالدولة تسير قدما فـي طريق اإلصالح‪،‬‬
‫وتحسين أحوال املسيحيين‪ ،‬حتـى تمنع هذه الدول من‬

‫‪- 1‬عبد العزيزمحمد الشناوي‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.148‬‬

‫‪122‬‬
‫بحجة حماية الرعايا‬ ‫ّ‬ ‫التدخل فـي شؤون الدولة‬
‫املسيحيين‪.1‬‬
‫ّ‬
‫وبدأت الدولة فـي تعديل قوانين توفر إمكانية‬
‫املساواة بين املسلمين وغيـر املسلمين‪ ،‬فقام الداعون إلى‬
‫أن ّ‬
‫كل‬ ‫التجديد بإعالن املساواة بين جميع املواطنين‪ .‬غيـر ّ‬
‫هذه املحاوالت واألنشطة لم ُترض الدول األوروبية‪ ،‬ولم‬
‫ُ‬
‫تسقط الضغوط عنها‪ ،‬وهي لم تستطع كف اعتداءات‬
‫تشجع من يقوم‬ ‫الذميين الرافعين راية العصيان‪ ،‬ولم ّ‬ ‫ّ‬
‫بدور التوعية القومية‪.2‬‬
‫ويؤكد الخط الهمايوني علـى هذا التعهدات‪ ،‬التـي‬
‫ً‬
‫منحها السلطان‪ ،‬فـي خط كلخانة‪ ،‬وأضاف مبدأ هاما‬
‫يتعلق بامتيازات وحصانات رعايا الدولة من غيـر‬
‫املسلمين‪ ،‬وهو معاملتهم علـى قدم املساواة مع إبقاء‬
‫ُ‬
‫الحقوق واالمتيازات املمنوحة لرؤساء امللل كانتخاب‬

‫)‪1- William Miller: The Ottoman Empire and its Successors (1801- 1927‬‬
‫‪London 1966, p.298.‬‬
‫‪- 2‬صبري خدمتلي‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.155‬‬

‫‪123‬‬
‫البطريرك لكل ملة‪ ،‬وتحديد رواتب رجال الدين من غيـر‬
‫املسلمين‪ ،‬وإنشاء محاكم مختلفة للفصل فـي املنازعات‬
‫التـي تحصل بين املسلمين وغيـر املسلمين‪ ،‬وتأمين الحرية‬
‫الدينية لكل طائفة‪ ،1‬وفتح املجال لكافة رعايا السلطنة‬
‫فـي تولي الوظائف العامة‪.2‬‬
‫واستقبلت هذه اإلصالحات‪ ،‬من قبل أهل ّ‬
‫الذمة‪،‬‬
‫والدول األوروبية‪ ،‬بفتور شديد‪ ،‬وذهبت إلى املطالبة‬
‫باملزيد‪ ،‬إلى أن تولي السلطان "عبد الحميد الثاني" عرش‬
‫السلطنة‪1876( ،‬م‪1909 -‬م) حيث واجهته عدة ثورات‬
‫فـي البلقان (بلغاريا‪ -‬صربيا‪ -‬الجبل األسود) فكانت الدول‬
‫األوروبية تضغط علـى السلطنة لتقديم املزيد من‬
‫التنازالت‪ ،‬وصودف وجود تيار قوي فـي الدولة‪،‬وعلـى‬
‫رأسه الصدر األعظم (مدحت باشا) يطالب بإعالن‬
‫الدستور‪ ،‬ويعتقد ّ‬
‫بأنه السبيل إلنقاذ الدولة من التدهور‬
‫ّ‬
‫واالنحالل‪ ،‬وكف يد الدول األوروبية عن التدخل فـي‬

‫‪1- William Miller: op.cit. p.298.‬‬


‫‪2- Bernard Lewis and Benjamin Braude: op.cit, p.365.‬‬

‫‪124‬‬
‫ً‬ ‫شؤون الدولة‪ .‬ثم ّ‬
‫إن إعالن الدستور سيكون جوابا‬
‫ّ ً‬
‫مسكنا للدول األجنبية‪ ،‬بما فـيها دول البلقان التـي كانت‬
‫تطالب بإصالح األوضاع فـي الدولة‪ .‬وبعد إعادة العمل‬
‫بالدستور عام ‪1908‬م‪ ،‬دخل إلى "مجلس املبعوثان"‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إال ّ‬
‫التنوع من األعراق‬ ‫أن هذا‬ ‫جميع امللل واألعراق‪،‬‬
‫ّ‬
‫الذمة بالدولة‬ ‫واألديان لم يساعد علـى ربط أهل‬
‫العثمانية‪ ،‬بل كان عامل هدم لوحدتها‪.1‬‬
‫ّ‬
‫وقد لخص وزير خارجية الدولة "نوردانجيان"‬
‫ّ‬
‫"األرمني" معاناة الدولة مع الدول األوروبية‪،‬وتدخلها فـي‬
‫شؤونها الداخلية‪ ،‬وتعريفه للمسألة الشرقية‪ ،‬بتصريح‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الحال‪،‬ومما جاء فـيه‪":‬لم يبق أحد إال‬ ‫لجريدة لسان‬
‫ً‬
‫ويعلم‪ّ ،‬أن مملكتنا جعلت ألوروبا يدا فـي شؤوننا‬
‫الداخلية عبر الكثير من االمتيازات واملعاهدات‪ ،‬حيث‬
‫مكبلين بمواثيق وسالسل‪ ،‬فكنا كمن يحكم علـى‬ ‫كنا ّ‬
‫نفسه باإلعدام"‪.2‬‬

‫‪1- Stanford J. Shaw and Ezel Kural Shaw: op.cit, p.275.‬‬


‫‪- 2‬جريدة لسان الحال‪ :‬العدد ‪ 4 ،722‬نيسان ‪1903‬م‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫وقد اعترف الساسة األوروبيون أنهم أفسدوا‬
‫العالقة الجيدة التـي كانت قائمة بين الدولة العثمانية‪.‬‬
‫الذمة‪ ،‬وذلك بتدخلهم فـي شؤون أهل ّ‬
‫الذمة‬ ‫وأهل ّ‬
‫وتحريضهم علـى الدولة‪ .‬يقول اللورد "باملرستون" فـي‬
‫خطاب أمام مجلس اللوردات فـي آذار ‪1854‬م ّ‬
‫‪":‬إن‬
‫الشريعة املحمدية هي الشريعة الوحيدة التـي يمكن أن‬
‫ُتحفظ بها مملكة ذات شعوب مختلفة األجناس واألديان‪،‬‬
‫وهي الشريعة الوحيدة التـي يصيرون بها ّأمة واحدة‬
‫كل فرد‬‫كاململكة العثمانية‪ ،‬ولوال دسائس املفسدين لكان ّ‬
‫من أفراد هذه األمة فـي أ غد عيش وأهناه‪ّ ،‬‬
‫وإنه لعلمي ّأن‬ ‫ر‬
‫تدخل األوروبيين فـي أحكام البالد العثمانية يعود علـى‬
‫النصارى بالضرر ال باملنفعة"‪.1‬‬
‫ً‬ ‫كل واحد من أهل ّ‬ ‫وأخذ ّ‬
‫الذمة يعمل وفقا ملصلحته‬
‫الخاصة‪ ،‬وبقيت مشكلتهم قائمة ولم تنته إال بخروج‬
‫الدولة من كافة األراض ي األوروبية‪ ،‬والعمل علـى تفتيتها‬

‫‪- 1‬جريدة ثمرات الفنون‪ :‬العدد ‪ 10 ،1051‬جمادى األولى ‪1313‬ه‪ 16 /‬تشرين الثاني ‪.1895‬‬

‫‪126‬‬
‫من الداخل‪ .‬وكان لسياسة التتريك التـي اتبعتها جمعية‬
‫تركيا الفتاة األثر الكبيـر فـي ازدياد تفاقم األوضاع بين‬
‫الذمة‪ ،‬حيث بدأ أهل ّ‬
‫الذمة املطالبة‬ ‫السلطنة وأهل ّ‬
‫باملزيد من اإلصالحات‪ ،‬بالرغم من حصولها علـى‬
‫معظمها‪.1‬‬

‫‪1- Henry Margenthou: op.cit, p.11.‬‬

‫‪127‬‬
‫استنتاج‬

‫ّإن الدولة العثمانية هي الدولة الوحيدة التـي عاملت‬


‫رعاياها الذين يدينون بغيـر دينها‪ ،‬بالتسامح واالنفتاح‬
‫واالعتدال‪ ،‬فقد اتبعت أوامر الشرع الحنيف‪ ،‬وتركت‬
‫للمسيحيين حرية عبادتهم وعاداتهم وتقاليدهم‪،‬‬
‫ً‬
‫واحترمت عقائدهم كل االحتـرام‪ ،‬فعاشوا طويال متمتعين‬
‫بهذه الحرية‪ .‬ولم تكتف الدولة العثمانية بمعاملة‬
‫املسيحيين واحتـرام أديانهم وعقائدهم‪ ،‬بل عاملتهم مثل‬
‫أبنائها املسلمين‪ .‬وسلكت طريق املساواة فعينت الكثير‬
‫من املسيحيين فـي املناصب العليا‪ ،‬وائتمنتهم علـى‬
‫أمورها‪ ،‬وجعلتهم محل ثقتها‪ ،‬وما بقاء املسيحيين حتـى‬
‫ّ‬
‫اليوم فـي تركيا إال أكبر شاهد علـى عدالة الدولة‬
‫العثمانية فـي املاض ي والحاضر‪ ،‬بل بقاء الجنسيات‬
‫املختلفة كالبلغار والصرب واليونان وغيـرها‪ ،‬دليل‬

‫‪128‬‬
‫ساطع‪ ،‬وبرهان قاطع‪ ،‬علـى ّأن الدولة عاملت الجميع‬
‫ً‬
‫بالتساوي‪ ،‬ولم تقهر أحدا علـى اعتناق الدين اإلسالمي‪.‬‬
‫ً‬
‫جميعا‪ّ ،‬‬ ‫ويعترف ّ‬
‫بأن الدولة العثمانية‬ ‫الكتاب واملؤرخون‬
‫كان فـي مقدورها‪ ،‬يوم كانت أقوى دول األرض‪ ،‬أن تجبر‬
‫ّ‬
‫كل املسيحيين فـي بالدها علـى اعتناق الدين اإلسالمي‪ ،‬أو‬
‫ّ‬
‫غبتها‪،‬ولكنها احترمت‬‫أن تطردهم من أراضيها إذا خالفوا ر‬
‫الشرع الحنيف‪ ،‬فاحترمت الدين املسيحي وأصحابه‪ ،‬وهي‬
‫حقيقة ّ‬
‫يقرها التاريخ‪.‬‬
‫وتسامح الدولة العثمانية مع الطوائف‬
‫املسيحيةعلـى اختالف أنواعها‪ ،‬دفع الدول األوروبية إلى‬
‫التدخل فـي شؤون الدولة‪ ،‬بحجة حماية هؤالء‬
‫سببا لحروب ّ‬‫ً‬
‫جمة‪،‬‬ ‫املسيحيين‪ .‬وكانت هذه التدخالت‬
‫فمسألة اختالف الدين فـي الدولة العثمانية التـي هي‬
‫نتيجة االعتدال الديني والتسامح والعدل واإلنصاف‪،‬‬
‫كانت الداء الدفـين الذي يهدد حياة الدولة‪ ،‬من وقت إلى‬
‫آخر‪ ،‬كتدخل الدول األوروبية فـي شؤونها باسم‬
‫املسيحيين‪ ،‬ومضايقة أوروبا لها ‪ ،‬واإلنذارات التـي توجه‬
‫‪129‬‬
‫ً‬
‫إليها باسمهم أيضا وأغلب الحروب كانت باسم‬
‫املسيحيين‪.‬‬
‫ً‬ ‫وكان أهل ّ‬
‫الذمة وخصوصا املسيحية يعيشون فـي‬
‫وئام تام مع الدولة ومع األهالي‪ ،‬وليس أصدق ّ‬
‫مما نقوله‪،‬‬
‫ما ترويه جريدة "ثمرات الفنون" فـي عددها ‪24 ،1196‬‬
‫ّ‬
‫املسيحيين‪":‬إننا نرى‬ ‫نقال عن بعض ّ‬‫ً‬
‫الكتاب‬ ‫آب ‪1898‬م‪،‬‬
‫كل جانب‪ ،‬ومع هذا‬‫أبناء جلدتنا يتخطفون املسلمين من ّ‬
‫نرى هؤالء ُيحسنون إليهم ويحمونهم من بعضهم البعض‪،‬‬
‫ويحرسون معابدهم ورؤساءهم الروحيين‪ ،‬فكأنه لم يذق‬
‫املسلمون ما فعله متوحشو أوروبا من الفظائع‪ّ .‬إنها‬
‫فضيحة من يقول إننا قوم عادلون‪ ،‬وهذه أعمالنا‬
‫التاريخية تشهد علينا بعكس ذلك"‪.‬‬
‫لذلك عاش أبناء الدولة العثمانية من املسلمين‬
‫كل يعرف حقوقه وواجباته‪،‬‬‫وغيـرهم‪ ،‬آمنين مطمئنين‪ٌ ،‬‬
‫لكن تجاه هذا التسامح الذي انتهجته الدولة مع أهل‬
‫الذمة فما الذي جرى؟؟ حتـى يقوم أهل ّ‬
‫الذمة بالدعوة‬ ‫ّ‬

‫‪130‬‬
‫إلى االستقالل واالنفصال عنها فقاموا بالعديد من‬
‫الثورات التـي قضت مضاجعها ‪ ،‬علـى الرغم من ّأنها كانت‬
‫ً‬
‫تعيش بأمان جنبا إلى جنب مع العثمانيين!!‬
‫لقد أدرك أبناء أوروبا‪ ،‬أعداء الدولة العثمانية‪ّ ،‬أن‬
‫أسهل طريق لتفتيت هذه الدولة وإسقاطها‪ ،‬والتخلص‬
‫من هذا العدو الجاسم علـى صدورهم‪ ،‬هو إحياء‬
‫العصبية والقومية والشعوبية‪ ،‬وهي أقصر طريق إلى‬
‫تفتيت وحدة الدولة‪ .‬واعتمد أبناء أوروبا فـي ذلك علـى‬
‫الذمة من املسيحيين املنتشرين فـي األصقاع‬ ‫ّ‬ ‫أهل‬
‫املختلفة من أرجاء الدولة‪ ،‬ولتحقيق ذلك ‪ ،‬قام أبناء‬
‫الطوائف املسيحية بإنشاء جمعيات أدبية وعلمية فـي‬
‫ظاهرها‪ ،‬بينما كانت فـي األصل تسعى إلى إحياء النعرات‬
‫العصبية والطائفـية لتفتيت الدولة وقد نجحت فـي‬
‫تحقيق مسعاها‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫الفصل الثالث‬

‫اليهود في الدولة العثمانية‬

‫‪ -1‬تمهيد‪.‬‬
‫‪ -2‬أسباب هجرة اليهود إلى الدولة العثمانية‪.‬‬
‫‪ -3‬هجرة اليهود إلى الدولة العثمانية‪.‬‬
‫‪ -4‬وضع اليهود في الدولة العثمانية‪.‬‬
‫‪ -5‬تدهور العالقات بين الدولة العثمانية واليهود‪.‬‬
‫‪ -6‬استنتاج‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫اليهود في الدولة العثمانية‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬


‫ومحركي الفتن فيه وجالديه"‬ ‫"نحن اليهود لسنا إال سادة العالم ومفسديه‬
‫(د‪ .‬أوسكارليفي)‬

‫تمهيد‬

‫كانت عالقة الدولة العثمانية باليهود تختلف عن‬


‫عالقتها باملسيحيين واألرمن‪ ،‬فوضع اليهود فيها كان عبارة‬
‫عن هجرات متتالية من أوروبا نحوها ‪ ،‬وهذه الهجرات‬
‫كانت أشبه بعمليات طرد لليهود قامت بها الدول‬
‫األوروبية‪ .‬وهذا ال يعني ّأنه لم يكن هناك من يهود في‬
‫الدولة قبل هذه الهجرات‪ .‬في حين استخدمت الدول‬
‫األوروبية األقليات الدينية "أهل الذمة" من مسيحية‬
‫وأرمنية‪ ،‬لتقويض دعائم الدولة وإثارة الفتن الطائفية‬
‫‪133‬‬
‫أي من الدول األوروبية ّأن استخدام اليهود‬
‫فيها‪ ،‬ولم تجد ّ‬
‫في الدولة كان لنفس الغرض‪ ،‬وذلك عائد إلى سببين‪:‬‬
‫ً‬
‫أوال‪ّ -‬إن الدول األوروبية هي التي طردت اليهود من‬
‫بالدها لتستريح منهم‪ ،‬وذلك لفسادهم وسوء تصرفهم‬
‫وأدائهم‪.‬‬
‫ً‬
‫ثانيا‪ّ -‬إن العقلية اليهودية تختلف عن العقلية‬
‫املسيحية واألرمنية‪ ،‬فالنظرة االستعالئية إلى اليهود‬
‫واعتقادهم‪ ،‬بأنهم شعب هللا املختار‪ ،‬دفع الدول‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫األوروبية إلى التخلي عنهم نهائيا‪.‬‬
‫لذلك فأثناء طردهم من أوروبا‪ ،‬لم يجد اليهود ملجأ‬
‫لهم سوى الدولة العثمانية‪ ،‬التي كانت ملجأهم الوحيد‬
‫الذي احتضنهم من الطغيان واالضطهاد األوروبي‪ ،‬وقد‬
‫شغل هؤالء اليهود في الدولة العثمانية مراكز اقتصادية‬
‫وسياسية ّ‬
‫مهمة للغاية‪.‬‬
‫وكان كل أهل األديان السماوية خالل العهد‬
‫العثماني‪ ،‬يعيشون تحت رعاية الدولة وسماحة الشريعة‬
‫‪134‬‬
‫ُ‬
‫اإلسالمية‪ ،‬فتركت لهم حرية إدارة شؤونهم اإلدارية‬
‫والدينية‪ ،‬لكي يتولوها بأنفسهم‪ ،‬وحافظوا على‬
‫معتقداتهم الدينية‪ ،‬وتعاملوا بحسب مذاهبهم ُومنحوا‬
‫كل وفق دينه‬ ‫حق املقاضاة واألحوال الشخصية ‪ّ ،‬‬
‫ومذهبه‪ ،‬واعترفت الدولة باملعاهدات والتعهدات التي‬
‫سبق لهم الحصول عليها‪.‬‬
‫وحاول العثمانيون بذل أقص ى الجهد الستمرار‬
‫العقائد غير اإلسالمية في إدارة غير املسلمين‪ ،‬وخير دليل‬
‫على ذلك هو الحفاظ على البراءات والتعهدات التي‬
‫ّ‬
‫ُمنحت ألهل الذمة‪ ،‬ممثلين بالبطاركة والحاخامات منذ‬
‫األزمنة السابقة‪ ،‬وما تزال السجالت التاريخية وأرشيف‬
‫رئاسة الوزراء في تركيا‪ ،‬تحتفظ بالعهدة العمرية التي‬
‫منحها الفاروق "عمر بن الخطاب" لكنيسة الروم‪،‬‬
‫ومعاهدة "صالح الدين األيوبي" وفرمان السلطان "سليم‬
‫األول" الذي طالب فيه األبناء والوالة من بعده‪ ،‬بالحفاظ‬
‫على الكنائس واألديرة واملعابد اليهودية‪ ،‬وأن ّ‬
‫يؤمنوا طرق‬
‫كل هذه املواثيق تحفظ لهم‬ ‫الحجاج إلى بيت املقدس‪ّ ،‬‬
‫‪135‬‬
‫حقوقهم في العبادة وتصون أموالهم وأرواحهم‪ ،‬ما داموا‬
‫محافظين على تعهداتهم ‪ ،‬كما سمحت لهم بزيارة األماكن‬
‫املقدسة‪ ،‬وأداء مناسكهم بحرية تامة‪.‬‬
‫وتركت الدولة العثمانية لرجال الدين من غير‬
‫املسلمين‪ ،‬الحرية الكاملة إلدارة شؤونهم األسرية وامليراث‬
‫لتابعيتهم‪ ،‬فلم تتدخل في شكل تكوين األسرة‪ ،‬أو توزيع‬
‫امليراث‪ ،‬وأوضحت ذلك بشكل صريح في البراءات‬
‫والفرمانات التي كانت تصدرها عند تعيين البطاركة‬
‫والحاخامات وأتاحت الدولة لغير املسلمين ممارسة ّ‬
‫كل‬
‫شعائرهم الدينية والحفاظ على أماكن ممارسة هذه‬
‫تيسر لهم ذلك‪،‬‬‫الشعائر‪ .‬وأمنت لهم كل الوسائل التي ّ‬
‫ولم تتدخل قط في كنائسهم أو معابدهم‪ ،‬بل تركت ذلك‬
‫لرؤسائهم الروحيين‪.‬‬
‫وعاش يهود املشرق اإلسالمي على مدى يقارب األلف‬
‫ومائتي عام‪ ،‬تحت حكم اإلسالم‪ ،‬وأطلق عليهم طيلة هذه‬
‫الفترة اسم أهل الذمة‪ ،‬وكان يحق لهم ممارسة شعائرهم‬

‫‪136‬‬
‫الدينية في مقابل دفع الجزية التي كانوا يدفعونها إلى‬
‫ّ‬
‫السلطات التي كانت تتولى حماية ممتلكاتهم‪ .‬واتسمت‬
‫عالقة اليهود باملجتمع بقدر كبير من االستقرار‪ ،‬وكانوا في‬
‫مما كان‬‫الشرق خاضعين للحكم اإلسالمي‪ ،‬أفضل بكثير ّ‬
‫عليه يهود أوروبا‪ ،‬الذين اضطهدوا ألسباب سياسية‬
‫ً‬
‫واقتصادية ودينية‪ .‬فكثيرا ما كانوا يطردون من البلدان‬
‫يتعرضوا لهذا املصير في‬‫التي أقاموا فيها‪ ،‬في حين لم ّ‬
‫مكرمين معززين‪ .‬ويالحظ‬ ‫الشرق‪ ،‬بل على العكس كانوا ّ‬
‫دارسو التاريخ اليهودي في العصور الوسطى ّأن السلطات‬
‫اإلسالمية حرصت على جباية الجزية من اليهود‪ ،‬وتطبيق‬
‫ولكنها أتاحت لهم في الوقت نفسه‬ ‫القوانين اإلسالمية‪ّ ،‬‬
‫تقلد العديد من املناصب ّ‬
‫املهمة‪.‬‬
‫توسعت حدود الدولة العثمانية‪ ،‬وأصبحت‬ ‫وعندما ّ‬
‫بورصة هي العاصمة‪ ،‬دخل تحت ظاللها العديد من‬
‫أصحاب الديانات‪ ،‬ومن بينهم اليهود‪ .‬وكانت املرة األولى‬
‫ً‬
‫التي تصبح الدولة وجها لوجه مع "جماعة" من اليهود‪،‬‬
‫ً‬
‫فمنحهم السلطان إذنا بإقامة "معبد" لهم‪ .‬وبعد أن‬
‫‪137‬‬
‫انتقلت عاصمة الدولة العثمانية إلى "أدرنة"‪ ،‬دخل اليهود‬
‫الذين كانوا في هذه املناطق تحت حماية العثمانيين‪ّ ،‬‬
‫حتى‬
‫ّإن يهود البلدان املجاورة‪ ،‬وبسبب الظلم واالضطهاد‬
‫الذي كانوا يتعرضون له‪ ،‬فقد بدأوا يهاجرون إلى الدولة‬
‫العثمانية ليعيشوا تحت حمايتها‪ .‬وكانت الهجرة الالفتة‬
‫للنظر هي تلك التي حدثت سنة ‪1492‬م من األندلس‬
‫وسنة ‪1496‬م من البرتغال‪ .‬فبعد أن أصدرت محاكم‬
‫التفتيش أحكامها واألوامر بطرد ونفي املسلمين واليهود‬
‫الذين نجوا من الحرق في األفران‪ .‬بدأ اليهود بالهجرة إلى‬
‫واليات الدولة العثمانية في شكل تجمعات من كل دول‬
‫أوروبا‪ ،‬وال يستطيع أي باحث منصف أن ينكر دور‬
‫السلطان "بايزيد الثاني" في إنقاذ يهود جزيرة "إيبريا" من‬
‫اإلبادة الكاملة من أفران محاكم التفتيش املسيحية‪،‬‬
‫ّ‬
‫التوجه إلى‬ ‫حيث كلف السلطان األسطول العثماني‬
‫الجزيرة عام ‪1492‬م في محاولة إلنقاذ املسلمين واليهود في‬
‫األندلس‪ ،‬على الرغم من الخالف الذي كان بينه وبين‬

‫‪138‬‬
‫املمالك في مصر والشام‪ .‬ونقلت السفن العديد من اليهود‬
‫إلى البالد العثمانية‪1.‬‬

‫‪ - 1‬ستانفورد‪ .‬ج ‪ .‬شو‪ :‬يهود الدولة العثمانية والجمهورية التركية‪،‬ترجمة الصفصافي أحمد‬
‫القطوري‪ ،‬دارالبشيرللثقافة والعلوم‪ ،‬مصر‪ ،‬ط ‪ ،2015 ،1‬ص ‪.16‬‬

‫‪139‬‬
‫أسباب هجرة اليهود إلى الدولة العثمانية‬

‫ّإن اليهود في شتى أنحاء العالم لم يندمجوا في‬


‫املجتمعات األصلية‪ ،‬بل حاولوا خالل التاريخ البشري‬
‫الطويل‪ ،‬التكتل في ما بينهم‪ ،‬وقد أدى ذلك إلى انحصارهم‬
‫معينة من العالم‪ ،‬فانطلقوا من نظريات‬ ‫في مناطق ّ‬
‫عدوا أنفسهم " شعب هللا املختار"‪ .‬وهذا‬‫معينة‪ ،‬حيث ّ‬
‫يعني بالنتيجة عدم اختالطهم وتزاوجهم مع العنصر غير‬
‫اليهودي‪ ،‬بغية املحافظة على النقاوة العنصرية املزعومة‪،‬‬
‫ولكن هذا ليس معناه ّأنهم لم يخلفوا معضالت ومشاكل‬
‫في البلدان التي وجدوا فيها‪ ،‬حيث قامت حمالت كثيرة‬
‫ضدهم‪ ،‬نتيجة لسلوكهم السياس ي ومخططاتهم العاملية‪.‬‬
‫واجتاحت أوروبا منذ بداية العام ‪ 1881‬موجة‬
‫بغض لليهود وكراهيتهم‪ ،‬وأصبحت حياتهم ّ‬
‫مهددة‬
‫بالخطر في أقطارها‪ ،‬وبدأت هذه الكراهية تظهر في روسيا‬
‫‪140‬‬
‫القيصرية‪ ،‬وتكررت بعد مقتل الكسندر الثاني عام‬
‫‪1881‬م‪ ،‬إذ قامت املذابح ضد اليهود بعد وفاته‪ ،‬وقد‬
‫أدت إلى ظهور قوانين اقتصادية ضدهم‪ ،‬وهجرة عدد‬
‫كبير منهم إلى الواليات املتحدة وأوروبا الغربية بعد أن‬
‫رفضتهم بولندا‪.1‬‬
‫ُ‬
‫وطرد اليهود من البلدان األوروبية‪ ،‬التي سكنوا فيها‪،‬‬
‫من دون أن يتعايشوا أو يتكاتفوا وينسجموا مع شعوبها‪،‬‬
‫بل تقوقعوا على أنفسهم‪ ،‬وعاشوا في أحياء منعزلة‬
‫مقفلة عليها‪ ،‬أطلق عليها اسم "الجيتو ‪"Ghetto System‬‬
‫فكرهتهم هذه الشعوب ونبذتهم‪ ،‬وأساءت معاملتهم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫َّ‬
‫وحرمت عليهم في معظم األحيان تولي املناصب العامة‪ ،‬بل‬
‫التنصر‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫وخيروا في أحيان أخرى ما‬ ‫أكرهتهم أحيانا على‬
‫بين التنصر والطرد من البالد‪ .‬فقد طردوا من إنكلترا عام‬
‫‪1290‬م‪ ،‬ومن فرنسا عام ‪1306‬م‪ ،‬ومن إسبانيا عام‬

‫‪1- Nevil J. Mandel: ottoman policy and Restrictions on Jewish Settlement in‬‬
‫‪Palestine 1881- 1909, part I, Middle Eastern Studies, Vol 10, N.3 October 1974,‬‬
‫‪p 312.‬‬

‫‪141‬‬
‫‪1492‬م‪ ،‬ومن روسيا عام ‪1881‬م‪ ،‬وفي سنة ‪1483‬م‪،‬‬
‫خيرهم "لويس الثاني عشر" ملك فرنسا بين الطرد أو‬ ‫ّ‬
‫التنصر‪ ،‬فقام يهود فرنسا باستشارة حاخامي استنبول‪،‬‬
‫إن ملك فرنسا يطلب أن‬ ‫ّ‬
‫وتلقوا منه الجواب التالي ‪ّ ":‬‬
‫فلبوا طلبه‪ ،‬إذ ليس‬ ‫تعتنقوا الديانة املسيحية‪ّ ،‬‬
‫باقتداركم مخالفته‪ ،‬ولكن احفظوا على الدوام شريعة‬
‫موس ى في قلوبكم‪ ،‬ويقولون إنهم يقصدون االستيالء على‬
‫ً‬
‫أموالكم ‪ ،‬فاجعلوا أبناءكم تجارا‪ ،‬فبواسطة التجارة‬
‫تسترجعون مالكم‪ ،‬وتضيفون عليه مالهم‪ ،‬تؤكدون لنا‬
‫بأنهم يهدمون مجامعكم وكنائسكم‪ ،‬فأبذلوا الجهد لكي‬ ‫ّ‬
‫يصير أوالدكم كهنة أو إكليروس ‪ ،‬وهكذا ّ‬
‫يتسنى لكم أن‬
‫تهدموا كنائسهم"‪1.‬‬

‫وفي الحقيقة بدأت الهجرات اليهودية إلى الشرق قبل‬


‫سنة ‪1492‬م‪ ،‬وال يشير التاريخ إلى بداية موجة النفي‬
‫الكبير‪ّ ،‬‬
‫وإنما إلى الحركة اليهودية نحو الشرق اإلسالمي‪،‬‬

‫‪- 1‬حسان حالق‪ :‬موقف الدولة العثمانية من الحركة الصهيونية (‪1909 -1897‬م)‪ ،‬جامعة‬
‫بيروت العربية‪ ،1978 ،‬ص ‪.30 -29‬‬

‫‪142‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫والتي بدأت قبل ثالثة قرون تقريبا‪،‬ويشير أيضا إلى‬
‫وصول القمع املسيحي إلى ذروته فقد بدأ يهود أوروبا‬
‫يتعرضون الضطهادات جديدة عندما‪ ،‬بدأ العثمانيون‬ ‫ّ‬
‫يتقدمون في آسيا الوسطى إلى األناضول والشرق‬ ‫ّ‬
‫األوسط‪ .‬ولقي رجال الكنيسة الش يء الذي أطلقوا عليه‬
‫التأثير اليهودي على الجماعات املسيحية‪ ،‬وهكذا‬
‫استهدفوا إنهاء هذا النوع من االتصاالت بقانون أصدره‬
‫زعماء الدين واملجالس‪ .‬وأمر البابا بعدم تسلم اليهود‬
‫أي‬ ‫املهمة في البالد املسيحية‪ ،‬وعدم تفضيل ّ‬ ‫املواقع ّ‬
‫يهودي على املسيحي‪ .‬حيث كان ُيتهم اليهود منذ أمد بعيد‬
‫وأنهم تسببوا في "صلبه"‪.‬وطرحت‬ ‫بأنهم " قتلة عيس ى" ّ‬ ‫ّ‬
‫ً‬ ‫الكنيسة اليونانية ‪ّ -‬‬
‫ألول مرة‪ -‬العناصر األكثر تخريبا‬
‫ً‬
‫بينهم‪ .‬ووفقا لهذا كان اليهود يهربون ويقتلون األطفال‬
‫املسيحيين‪ ،‬ويسيلون دماءهم حتى آخر قطرة‪،‬‬
‫الستخدامه في الخبز والشراب طوال العيد في املراسم‬
‫الدينية املقامة‪.1‬‬
‫‪- 1‬ستانفورد‪ .‬ج‪ .‬شو‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.42‬‬

‫‪143‬‬
‫ولم يتوقف املسيحيون عن الهجوم على الجماعات‬
‫اليهودية ونهب أشيائهم الخاصة‪ ،‬وفق قول الرهبان‪ّ :‬إن‬
‫ًّ‬
‫جدا من غفران هللا عندما‬ ‫املسيحيين سيستفيدون‬
‫يجبرون اليهود على اعتناق املسيحية‪ .‬وقتل املسيحيون‬
‫مئات اليهود وعمدوا إلى نهب منازلهم وأماكن عملهم‪ّ .‬إن‬
‫انتشار "املوت األسود" في أوروبا بين األعوام (‪1348‬م‪-‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫‪1350‬م) ّ‬
‫قدم عذرا جديدا إللصاق الكارثة باليهود‪،‬وهذه‬
‫ً‬
‫املرة ظهرت الحكاية الشائعة‪ ،‬وهي ّأن اليهود كانوا سببا في‬
‫ّ‬
‫انتشار الطاعون‪.1‬وهكذا لم تتحمل املسيحية وجود‬
‫اليهودية داخلها‪ ،‬فكان ال ّبد من عزلهم عن املسيحيين‪،‬‬
‫فالتفريق الذي ظهر ضد اليهود أجبرهم على تغيير دينهم‪،‬‬
‫وسيطرت املسيحية بواسطة مجموعة قوانين تجبر‬
‫تميزهم‬‫القبعات وبعض الشعارات التي ّ‬ ‫اليهود على ارتداء ّ‬
‫‪ ،‬وأجبر اليهود في معظم أوروبا املسيحية على سماع‬
‫املواعظ التي تهدف إلى عبورهم للدين الحقيقي‪ ،‬وأمر‬
‫ملوك فرنسا بجمع الضرائب الباهظة من اليهود‪،‬‬
‫‪1- Nevil J. Mandel: op.cit, p.315.‬‬

‫‪144‬‬
‫وحملهم دبوسين مخصوصين على شكل دائرة‪ ،‬على أن‬
‫يكون أحدهما على ظهورهم‪ ،‬واآلخر على صدورهم‪،‬‬
‫وأمرت إسبانيا اليهود بحمل "ختم العار"‪ .‬وفرضت ضريبة‬
‫املال والجلد على الخارجين‪ ،‬باإلضافة إلى شروط مماثلة‬
‫قبعة صفراء على‬ ‫في إنكلترة‪ ،‬وكان الشرط ارتداء اليهود ّ‬
‫شكل ألواح القانون بارتفاع ثالثة أصابع في داخلها‬
‫وبطول ستة أصابع‪ .‬وأخذت األختام في إيطاليا أشكال‬
‫متنوعة‪ ،‬و ُربطت رقع صفراء دائرية على مالبس الرجال‬
‫وعلى حجاب النساء‪ ،‬وأرغم الرجال في الواليات البابوية‬
‫على القبعة الصفراء‪ّ ،‬أما النساء فأرغمن على الحجاب‬
‫األصفر‪ ،‬وانتشر هذا النوع من القواعد في ّ‬
‫كل املناطق‬
‫املسيحية في السنوات التالية‪ ،‬وفرضت مجالس الكنيسة‬
‫املنقطة‪ ،‬وأضيف الختم‬ ‫القبعات ّ‬‫في أملانيا ارتداء اليهود ّ‬
‫إلى القبعة فيما بعد‪ ،‬وأمر املجلس األملاني في عام ‪1418‬م‬
‫ً‬
‫بتعليق النساء اليهوديات جرسا على مالبسهن‪ ،‬وعندما‬

‫‪145‬‬
‫حل القرن الثامن عشر‪ ،‬اضطر يهود "براغ" إلى تعليق‬
‫شريط أصفر الصق على معاطفهم‪.1‬‬
‫ولم يكتف األوروبيون بفرض إشارات معينة على‬
‫اليهود‪ ،‬وتنصيرهم وطردهم من أوروبا‪ ،‬بل عمدوا إلى قتل‬
‫اليهود وحرقهم في النار من دون استثناء للصغير والكبير‬
‫في كافة املدن األوروبية ‪ ،‬ولم ينج من هذا العذاب إال‬
‫القاطنين في الدولة العثمانية‪.2‬‬
‫وفي إطار تضييق الخناق على اليهود في البالد‬
‫ً‬
‫األوروبية‪ ،‬أصدرت السلطات الروسية أمرا بمنع اليهود‬
‫من مزاولة مهنة الصيدلة‪ ":‬أمرت السلطات الروسية‬
‫اليهود الذين يمارسون مهنة الصيدلة بالتوقف عن‬
‫العمل‪ ،‬وأعطتهم مهلة سنة واحدة لبيع صيدلياتهم إلى‬
‫الروس‪ ،‬كما منعت الدولة الصيدليات التي أصحابها‬
‫روس من استخدام ّ‬
‫أي من العمال اليهود"‪.3‬‬

‫‪- 1‬ستانفورد ج‪.‬شو‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.46 -45‬‬


‫‪- 2‬جريدة ثمرات الفنون العدد ‪ 18 ،1196‬ربيع الثاني ‪1316‬هـ‪ 24/‬آب ‪1898‬م‪.‬‬
‫‪- 3‬جريدة ثمرات الفنون‪ :‬العدد ‪ 22 ،376‬جمادى األولى ‪1299‬هـ‪ 29/‬آذار‪1882‬م‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫وحدثت مذابح جماعية بحق اليهود في "فرانكفورت‬
‫‪ "Frankfurt‬عام ‪1241‬م‪ ،‬و" ميونيخ ‪ "Münih‬عام‬
‫‪1285‬م – ‪1286‬م‪ ،‬و"آملدار ‪ "Amledor‬عام ‪1336‬م‪-‬‬
‫‪1337‬م‪ .‬وكان النفي قد بدأ في القرون السابقة‪ ،‬وبأمر من‬
‫األول في ‪ 18‬تموز ‪1290‬م‪.‬‬ ‫امللك "إدوارد ‪ّ "Edward‬‬
‫ً‬
‫واستمر متزايدا في القرون األربعة التالية حتى عام‬
‫‪1650‬م‪ ،‬وحينما خرج امللك " لويس ‪ "Louis‬الحادي‬
‫عشر في الحملة الصليبية األولى عام ‪1149‬م أمر بنفي كل‬
‫اليهود من اململكة‪ّ .‬أما "أديل فيليب ‪ "Adil Philip‬فقد‬
‫أعطى تعليمات باعتقال ّ‬
‫كل اليهود في مملكته‪ ،‬وفيما‬
‫ً‬
‫بعد‪ ،‬أصدر أمرا بنفيهم‪ ،‬والحجز على أموالهم‪ ،‬ونفي‬
‫ّ‬
‫يتحولوا إلى‬ ‫اليهود من لتوانيا عام ‪1495‬م عندما لم‬
‫املسيحية‪ ،‬حيث ّإنهم هربوا من قهر الفرن إلى املناطق‬
‫التي كانت تحت سيطرة املسلمين‪ ،‬فالقوا هناك الرفاهية‬
‫والتسامح الكبير‪ ،‬أكثر من املناطق املسيحية‪.1‬‬

‫‪- 1‬ستانفورد‪ .‬ج‪ .‬شو‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.49 -48‬‬

‫‪147‬‬
‫واستمرت االعتداءات على اليهود في عدد من املدن ا‬
‫لروسية‪ ،‬فقد عمد الروس إلى نهب وكسر وإبادة كل ما‬
‫هو عائد إليهم‪ .‬وقد أدى هذا األمر إلى نزوح عدد كبير‬
‫أمانا‪ .1‬ومارس الروس ّ‬‫ً‬
‫كل أنواع‬ ‫منهم إلى مدن أكثر‬
‫الضغط على اليهود‪ ،‬بهدف إجبارهم على الهجرة من‬
‫ً‬
‫روسيا‪ ،‬فقد أصدرت اإلمبراطورية الروسية قرارا يقض ي‬
‫بأن يمتنع اليهود عن إقفال حوانيتهم أيام السبت‪ ،‬وعليهم‬
‫مجاراة املسيحيين بإقفال محالتهم أيام اآلحاد‪ ،‬ومن‬
‫يعرض نفسه لطائلة القصاص‬ ‫يخالف هذا القرار ّ‬
‫والجزاء‪.2‬‬
‫وأصدرت وزارة املعارف الروسية أمرها إلى كليات‬
‫ّ‬
‫روسيا‪ ،‬تحظر عليهم قبول أكثر من ‪ %2‬من تالمذتها من‬
‫اليهود‪ .3‬كما تقدم املسيحيون في النمسا بعريضة إلى‬

‫‪- 1‬جريدة ثمرات الفنون‪ :‬العدد ‪ 30 ،380‬جمادى الثانية ‪1299‬هـ‪ 26 /‬نيسان ‪1882‬م‪.‬‬
‫‪- 2‬املرجع نفسه‪ :‬العدد ‪ 22 ،840‬ذي القعدة ‪1308‬هـ‪ 17/‬حزيران ‪1891‬م‪.‬‬
‫‪- 3‬جريدة ثمرات الفنون‪ :‬العدد ‪ 11 ،1344‬جمادى األولى ‪1319‬هـ‪ 13/‬آب ‪1901‬م‪.‬‬

‫‪148‬‬
‫مجلس النواب بعدم السماح لليهود املهاجرين من‬
‫روسيا‪ ،‬بالدخول إلى النمسا‪.1‬‬
‫وكان ألملانيا دور كبير في تضييق الخناق على اليهود‬
‫ً‬
‫إلجبارهم أيضا على الهجرة من أوروبا‪ ،‬حيث قام أحد‬
‫أعضاء الحزب املعادي لليهود في أملانيا بخطبة أمام‬
‫مجموعة كبيرة من الناس‪ ،‬طالب فيها الحكومة بالحجز‬
‫على جميع أموال اليهود‪.2‬‬
‫إضافة إلى رجال السياسة والحكومات األوروبية‬
‫بالحرب على اليهود‪ ،‬كان ألهالي أملانيا دور في طرد اليهود‬
‫قدم معروض إلى‬ ‫من دولتهم‪ ":‬وجاء في أخبار أملانيا ّأنه ّ‬
‫ّ‬
‫البرنس بسمارك ضد اليهود موقع من أكثر من ماتين‬
‫ً‬
‫وخمسة وخمسين ألفا من جميع أقطار أملانيا‪ ،‬وقد‬
‫تضمن ّأن الشعب األملاني شعب مسيحي‪ ،‬ال يخطر بباله‬
‫ً‬
‫مطلقا ّأن سيحكمونه يوما ما‪ ،‬وعليه ُيطلب طرد اليهود‬

‫‪- 1‬املرجع نفسه‪ :‬العدد ‪ 19 ،384‬رجب ‪ 1299‬هـ‪ 24 /‬أيار ‪1882‬م‪.‬‬


‫‪- 2‬املرجع نفسه‪:‬العدد ‪ 24 ،1049‬ربيع الثاني ‪1313‬هـ‪ 2 /‬تشرين األول ‪1895‬م‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫من الوظائف العالية"‪ .1‬كما أصدرت الواليات املتحدة‬
‫ً‬
‫األمريكية أمرا بمنع آالف اليهود من الهجرة إليها‪.2‬‬

‫‪- 1‬جريدة ثمرات الفنون‪ :‬العدد ‪ 18 ،331‬جمادى الثانية ‪1298‬هـ‪ 4 /‬أيار‪1881‬م‪.‬‬


‫‪- 2‬املرجع نفسه‪ :‬العدد ‪ 5 ،1399‬رجب ‪1320‬هـ‪ 23/‬أيلول ‪1902‬م‪.‬‬

‫‪150‬‬
‫هجرة اليهود إلى الدولة العثمانية‬

‫كانت أوروبا تعيش في القرن السادس عشر ظاهرة‬


‫عدم االستقرار السياس ي‪ ،‬حيث عاشت فترة محاكم‬
‫التفتيش‪ ،‬وأصبحت الحريات الدينية مكبوتة في أوروبا‪.‬‬
‫وكان يحكم إسبانيا منذ عام ‪1492‬م امللك "فرديناند"‬
‫وزوجته" إيزابيال"‪ ،‬وهما شديدا التعصب للمذهب‬
‫الكاثوليكي‪ ،‬ولهما وجهات نظر معادية لليهود‪ ،‬بسبب‬
‫ً‬
‫فضال عن ذلك‪ّ ،‬‬
‫إن‬ ‫غدرهم بسيدنا عيس ى عليه السالم‪،‬‬
‫قيام اليهود كعادتهم بمحاولة التغلغل إلى حريم ومصارف‬
‫الشعب اإلسباني بقصد التخريب‪ ،‬قد زاد من غيظ امللك‬
‫وامللكة‪.1‬‬

‫‪1- Haim Beinart: The Jews in spain, in the Jewish World, Ed. Alie Kedourie,‬‬
‫‪London, 1979, pp 161- 167.‬‬

‫‪151‬‬
‫وباإلضافة إلى ذلك قام حاخام اليهود بتفسير‬
‫بأنها قطعة متكاملة من‬ ‫وادعى ّ‬ ‫الفلسفة اليونانية‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫فيلسوفهم‪":‬إن‬ ‫الشريعة اليهودية‪ .‬وفي هذا الشأن قال‬
‫ً‬
‫النظريات اليونانية هي نفس ما جاء في دين اليهود تماما‪،‬‬
‫وإن حقيقة الفلسفة التي سادت على الغرب‪،‬غدت‬
‫الحركات املعادية للدين والقومية والتاريخ وهي من اليهود‬
‫وشريعة التوراة"‪.1‬‬
‫أحس امللك "فرديناند" بعمل اليهود هذا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وعندما‬
‫بشدة لتنصيرهم‪ ،‬بغية وضع نهاية لحركاتهم‬ ‫ألح عليهم ّ‬ ‫ّ‬
‫لهدامة ضد املسيحية‪ ،‬تحت قناع العلم والفلسفة‪.‬‬ ‫ا ّ‬
‫ً‬ ‫ونتيجة تشدد امللك ّ‬
‫تنصر بعضهم ظاهريا‪ ،‬وفي الوقت‬
‫نفسه قام امللك بطرد أكثر من ثالثمائة ألف يهودي من‬
‫إسبانيا سنة ‪1492‬م‪ّ .‬‬
‫ثم من "البرتغال"‪.2‬‬

‫‪- 1‬أحمد نوري النعيمي‪ :‬اليهود والدولة العثمانية‪ ،‬دارالبشير‪ ،‬ط‪ ،1997 ،1‬ص ‪.24‬‬
‫‪2- Hikmet Tanyu: Tarih Boyunea Yahudiler Ve turkler, Birinci Cilt, Ikinci Baski,‬‬
‫‪Bileg Yayincvi, Ankara, 1979, p.148.‬‬

‫‪152‬‬
‫وعلى عادة املسلمين في التسامح الديني‪ ،‬لم يمانع‬
‫ً‬
‫العثمانيون من لجوء اليهود إلى بالدهم‪ ،‬هربا من‬
‫االضطهادات األوروبية‪ ،‬ومع ّأنهم لم يجدوا ّأية مضايقات‬
‫أصروا على تشكيل أحيائهم‬‫في الدولة العثمانية‪ ،‬إال ّأنهم ّ‬
‫أي مبرر سوى‬‫الخاصة "الجيتو"‪،‬من دون أن يكون هناك ّ‬
‫تعودهم على ذلك لسنين‬ ‫رغبتهم في العيش املنعزل أو ّ‬
‫طويلة‪ .‬وقد انصرفوا إلى مزاولة التجارة والصيرفة‬
‫والصياغة‪ ،‬ووصل بعضهم إلى مناصب رفيعة في الدولة‬
‫العثمانية‪ ،‬فكان منهم الوزراء والنواب‪.1‬‬
‫وفي هذه األثناء كان "بايزيد الثاني" على كرس ي‬
‫تقدمت مجموعة من‬ ‫ّ‬ ‫السلطنة العثمانية‪ ،‬حيث‬
‫حاخامات اليهود في أوروبا بطلب إليه‪ ،‬يسمح لهم بالهجرة‬

‫‪- 1‬أورخان محمد علي‪ :‬السلطان عبد الحميد الثاني حياته وأحداث عهده‪ ،‬دار األنبار ‪،‬‬
‫العراق‪ ،1987 ،‬ص ‪.248‬‬

‫‪153‬‬
‫إلى الدولة العثمانية‪ ،‬وقد ّلبى هذا الطلب من دون قيد أو‬
‫شرط‪1.‬‬

‫ونتيجة فتح "أدرنة" ّ‬


‫تحولت إلى أكبر مجتمع يهودي‬
‫في أوروبا‪ ،‬بينما تستمر الفتوحات العثمانية‪ ،‬في كل‬
‫االتجاهات‪ ،‬كان ُي َّعين رئيس الحاخامات األول‪ ،‬بإشراف‬
‫اليهود املقيمين في جنوب شرق أوروبا‪ّ ،‬‬
‫وتحولت أدرنة إلى‬
‫مركز ّ‬
‫مهم للدين والثقافة اليهودية‪.2‬‬
‫وعند ازدياد أعداد اليهود الوافدين إلى الدولة‬
‫العثمانية‪ ،‬قام السلطان "بايزيد الثاني" بإرسال قسم من‬
‫هؤالء الالجئين إلى جزيرة "ساقز"‪ ،‬وأمر أن يعيشوا هناك‬
‫بحرية تامة‪ .‬وبعد فتح السلطان "سليمان القانوني"‬
‫جزيرة "رودوس" عام ‪1533‬م‪ ،‬أتى اليهود الذين استقروا‬
‫في جزيرة "ساقز" إلى "رودوس"‪ ،‬ومنحهم امتياز كبريت ‪-‬‬
‫إينجرلي‪ -‬املوجود هناك‪ ،‬والذي أعطى إمكانية اإلثراء‬

‫‪- 1‬ناجي‪.‬س‪ :‬املفسدون في األرض أو جرائم اليهود السياسية واالجتماعية عبر التاريخ‪،‬‬
‫مطبعة اإلرشاد‪ ،‬دمشق‪ ،1965 ،‬ص ‪.311 -310‬‬
‫‪- 2‬ستانفورد‪ .‬ج‪.‬شو‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.72‬‬

‫‪154‬‬
‫لهؤالء‪ ،‬في الوقت الذي أصيبوا فيه بالفقر والعوز‬
‫الشديد واملجاعة بعد طردهم من أوروبا‪.1‬‬
‫وعندما وصل العثمانيون إلى "بودابست" سنة‬
‫‪1525‬م‪ ،‬ودخول القانوني "بودين" سنة ‪1527‬م‪ ،‬وبعد‬
‫فتح حصن "شوكزيم" وجد األتراك أمامهم جماعات من‬
‫اليهود‪ ،‬وقد سيطر عليهم البؤس والفاقة‪ ،‬وكانوا يعيشون‬
‫في أوضاع سيئة‪ ،‬فقام العثمانيون بمساعدتهم وأرسلوا‬
‫مجموعات كبيرة منهم إلى املدن الرئيسية في الدولة‬
‫العثمانية كالقسطنطينية وأدرنة وأزمير وسالنيك‪.2‬‬
‫وفي عهد السلطان محمد الفاتح وصل عدد سكان‬
‫القسطنطينية إلى ‪ 114،248‬نسمة‪ ،‬وعدد املنازل إلى‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ 16236‬منزال‪ ،‬وفي عام ‪ 1478‬أي بعد ثالثين عاما من‬
‫الفتح العثماني‪ ،‬كان عدد منازل املسيحيين ‪، 5162‬‬
‫ً‬
‫واليهود ‪ 1647‬منزال‪ ،‬ونسبة املسلمين من السكان ‪، %58‬‬
‫واملسيحيين ‪ ،%32‬واليهود ‪ . %10‬ولم ّ‬
‫تتغير هذه النسب‬
‫‪1- Hikmet Tanyu: op.cit, p.148.‬‬
‫‪2- Ibid, p.148.‬‬

‫‪155‬‬
‫ً‬
‫كثيرا في القرون التالية‪ ،‬والتي زاد فيها عدد السكان عن‬
‫ً ً‬
‫ذلك‪ .‬وبذل السلطان "محمد الفاتح" جهدا كبيرا في سبيل‬
‫ترغيب هجرة اليهود إلى الدولة العثمانية‪ ،‬بينما كانوا‬
‫يتعرضون في أوروبا الغربية للنفي واملذابح واالفتراءات‬‫ّ‬
‫ً‬
‫واملظالم املتزايدة تدريجيا‪ .‬وبذل سالطين الدولة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫العثمانية جهدا متواصال لكي يعيش اليهود في الدولة في‬
‫مناخ من الحرية والتسامح كما كانوا في إسبانيا املسلمة‪.‬‬
‫وجه ً‬
‫نداء إلى كل‬ ‫ُويقال ّإن السلطان "محمد الفاتح" ّ‬
‫اليهود جاء فيه‪ ":‬هذه كلمات السلطان محمد‪ ،‬منحني هللا‬
‫مملكة في األرض‪ ،‬وأمرني بجمع شعوبها كمختارين ألصل‬
‫ً ً‬
‫يعقوب وخدام ألصل إبراهيم‪ ،‬وأعطاني لهم ملجأ آمنا في‬
‫كل شخص مع دينه إلى القسطنطينية‬ ‫األرض‪ّ .‬‬
‫هيا فليأت ّ‬
‫عاصمتي‪ ،‬وليجلس تحت شجرة التين والعنب مع مواشيه‬
‫ّ‬
‫وليستقر على األرض وليعمل بها‪،‬‬ ‫وأمالكه وذهبه ّ‬
‫وفضته‪،‬‬
‫ولتتحول إلى قطعة منه"‪.1‬‬

‫‪- 1‬ستانفورد‪.‬ج‪.‬شو‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.74‬‬

‫‪156‬‬
‫وفي هذا املجال كتب الحاخام "إسحاق" رسالة إلى‬
‫األول من القرن الخامس عشر‪،‬‬ ‫يهود العالم في النصف ّ‬
‫ّ‬
‫يحثهم فيها على اإلسراع في الهجرة إلى تركيا‪ ،‬جاء فيها‪":‬‬
‫أكتب هذه الرسالة وأنا أصف حالة اليهود في أملانيا‪ ،‬حيث‬
‫ّإن املوت أفضل لهم في هذا املجال‪ّ .‬‬
‫إن إخواننا في أملانيا‬
‫يعانون معاناة كبيرة جراء القوانين االستبدادية ‪ ،‬إذ ّ‬
‫تم‬
‫إجبارهم وطردهم من أملانيا‪ ،‬ونتيجة لذلك استأجروا أية‬
‫سفينة للتخلص من هذه املعاناة‪...‬‬
‫ومع ّإنني من ساللة فرنسية‪ ،‬إال ّإنني ولدت في‬
‫ّ‬
‫أملانيا‪ ،‬وجلست عند أقدام أساتذتي املوقرين‪ ،‬أعلن‬
‫إليكم ّأن تركيا هي األرض التي ال ش يء فيها ُيفتقد‪ ،‬ويكون‬
‫الجميع طيبين معكم‪ .‬والطريق لألرض املقدسة تكون‬
‫مفتوحة لكم عبر تركيا‪ ،‬أليس من األفضل أن تعيشوا‬
‫تحت حكم املسلمين أكثر من حكم املسيحيين‪ ،‬هنا‬
‫كل إنسان بسالم تحت شجرة الكروم والتين‪ ،‬هنا‬ ‫يعيش ّ‬
‫يسمح لكم بأن تلبسوا أروابكم ومالبسكم اليهودية‪ّ ،‬أما‬
‫فإنه على العكس من ذلك‪ّ ،‬‬ ‫في األ ض املسيحية ّ‬
‫فإنكم ال‬ ‫ر‬
‫‪157‬‬
‫تتجرأون املخاطرة بإلباس أطفالكم األحمر أو األزرق‬
‫تعرضوهم إلى التجاوز أو‬ ‫بموجب مزاجنا من دون أن ّ‬
‫الضرب‪ ،‬وعليه أدعوكم ملغادرة األرض امللعونة التي أنتم‬
‫عليها إلى تركيا"‪.1‬‬
‫وتكررت الدعوات من حاخامات "استنبول" إلى يهود‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫العالم يحثونهم فيها على ترك بلدانهم‪ ،‬واملجيء إلى تركيا‪،‬‬
‫ملا فيها من رغد العيش‪ .‬وفي رسالة ثانية أرسلها الحاخام‬
‫نفسه جاء فيها ‪ ":‬وصلت صيحاتكم ودموعكم إلينا‪،‬‬
‫وشعرنا باملساوئ واألذى الذي تعانوه في األرض‬
‫األوروبية‪ ...‬فدول ظاملة ووحشية أخضعت أبناء الشعب‬
‫املختار للقمع‪ ...‬ويريد رهبان وقساوسة الروم محو اسم‬
‫ً‬
‫إسرائيل وقطع ذكر يعقوب الثائر‪ ،‬ويحققون ظلما‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫جديدا مستمرا‪ ،‬ويريدون حملكم على الخازوق‪ ...‬إخوتي‬
‫ُ‬ ‫أنصتوا إلى ّ‬
‫وصيتي‪ ،‬أنا طردت من بلدي من أملانيا‪ ،‬وجئت‬
‫إلى تركيا‪ ،‬وهي بلد مألى بالخير‪ ،‬وحصلت هنا على الراحة‬

‫‪1- Naim Guleryuz: The history of the Turkish Jews, Turkish Review Quartel‬‬
‫‪Digest, V5, N. 26, Winter, 1991, p.30‬‬

‫‪158‬‬
‫والسعادة‪ ،‬فتركيا بلد مألى بالراحة لكم‪ ...‬يا من تعيشون‬
‫مما ّ‬
‫يقدمه لنا هللا في هذه‬ ‫أن ‪ّ %10‬‬ ‫في أوروبا‪ ،‬لو تعلمون ّ‬
‫بكل ش يء‪ ،‬وتسافرون على الفور‬ ‫األراض ي‪ ،‬فستجازفون ّ‬
‫أي ش يء في األرض‬ ‫للمجيء إلينا‪ ...‬فنحن ال نشتكي من ّ‬
‫ً‬
‫التركية‪ .‬نحن نملك ثروات هائلة‪ ،‬وكثيرا من الذهب‬
‫والفضة في أيدينا‪ ،‬وال نخضع لضرائب باهظة‪ ،‬ونتاجر‬
‫حر من دون إعاقة‪ ،‬وأنواع الطعام كثيرة‪ّ ،‬‬
‫وكل‬ ‫بشكل ّ‬
‫ش يء رخيص ‪ ،‬ونعيش في سالم وحرية‪ ،‬فاليهود هنا ليسوا‬
‫القبعات الصفراء التي كانت ختم‬ ‫ُمجبرين على ارتداء ّ‬
‫العار على عكس ما كانوا في أملانيا‪ .‬فالثروة الكبيرة والغنى‬
‫ن ً‬
‫وباال على أسه‪ّ ،‬‬
‫ألن‬ ‫ر‬ ‫الذي يكسبه اليهودي في أملانيا‪ ،‬يكو‬
‫ّ‬
‫الحسد يتولد عند املسيحيين‪ ،‬ويختلقون كل أشكال‬
‫شمروا عن‬‫االفتراءات للحجز على ما اكتسبه‪ .‬أخوتي‪ّ ،‬‬
‫سواعدكم واجمعوا قواكم وتعالوا بجوارنا هنا‪،‬‬
‫ّ‬
‫ستتخلصون من أعدائكم وستستريحون"‪.1‬‬

‫‪ - 1‬ستانفورد‪ .‬ج‪.‬شو‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.79 -78‬‬

‫‪159‬‬
‫ويوضح الحاخام" إليا قابصالي ‪"Eliya Kapsali‬‬
‫الجهود الكبيرة التي بذلها السلطان "بايزيد الثاني" لجلب‬
‫يهود أوروبا إلى السلطنة‪ ":‬لقد سمع السلطان "بايزيد"‬
‫طبقها ملك إسبانيا على اليهود‪ّ ،‬‬
‫وإن‬ ‫كل املساوئ التي ّ‬ ‫عن ّ‬
‫اليهود يبحثون عن مكان يلجأون إليه ويستريحون فيه‪،‬‬
‫ّ‬
‫فعطف عليهم‪ ،‬وكتب عدة خطابات‪ ،‬وأرسل موظفين‬
‫خاصين إلى الوالة حتى ال يرفضوا مجيء اليهود إلى إيالتهم‪،‬‬
‫ويستقبلوهم بشكل لطيف‪ .‬ونتيجة هذا التسامح لجأ‬
‫آالف اليهود إلى األراض ي العثمانية ‪ ،‬وكنتيجة لهذه‬
‫تعرضوا‬‫الدعوات‪ ،‬تدافع الكثيرون من اليهود الذين ّ‬
‫كل مكان‪ ،‬واستقروا في‬ ‫للتعذيب واملذابح والنفي من ّ‬
‫املدن العثمانية‪ .‬وأمر السلطان "بايزيد الثاني" بأن يعمل‬
‫كل ما في وسعهم‪،‬‬ ‫املوظفون العثمانيون الرسميون ّ‬
‫ّ‬
‫وسنطبق‬ ‫لتسهيل دخول اليهود الحدود العثمانية ‪.‬‬
‫بأي شكل أو‬‫يضر باملهاجرين ّ‬‫عقوبات صارمة ضد الذي ّ‬
‫يعاملهم معاملة سيئة"‪.1‬‬
‫‪ - 1‬ستانفورد‪ .‬ج‪.‬شو‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.80 -79‬‬

‫‪160‬‬
‫وبعد وصول هؤالء اليهود من إسبانيا واملناطق‬
‫األخرى في أوروبا‪ ،‬وضعوا أيديهم في أول األمر على امليادين‬
‫التجارية كافة‪ ،‬وبدأوا بالسيطرة على املرافق االقتصادية‬
‫في الدولة العثمانية‪ .‬وقد عاش اليهود على عهد الدولة‬
‫العثمانية‪ ،‬كما يصفه املؤرخون ّ‬
‫بأنه عصر رخاء‬
‫واستقرار وأطلق عليه العصر الذهبي‪.1‬‬

‫‪1- Hikmat Tanyu: op.cit.p.148.‬‬

‫‪161‬‬
‫وضع اليهود في الدولة العثمانية‬

‫بعد استقرار اليهود في الدولة العثمانية‪ ،‬طبقت‬


‫الحكومة عليهم أحكام الشريعة اإلسالمية‪ ،‬وتمتعوا في‬
‫ّ‬
‫ظلها بقدر كبير من االستقالل الذاتي؛ وفي الواقع ّإن يهود‬
‫إسبانيا وبقية الدول‪ ،‬لم يجدوا املأوى في تركيا العثمانية‬
‫وحسب‪ ،‬بل الرفاهية والحرية التامة‪ .‬وأصبح لهم‬
‫التسلسل الهرمي في الدولة‪ ،‬إذ تغلغلوا في املراكز‬
‫الحساسة‪ .‬وبموجب النظام الوطني "‪"Millet System‬‬
‫تمتع اليهود بش يء كبير من االستقالل وعمل كبير‬ ‫ّ‬
‫الحاخامات على ممارسة السلطة في الشؤون الدينية‬
‫والحقوق املدنية‪ ،‬بحيث كانت مراسيمه وقراراته ُيصدق‬

‫‪162‬‬
‫ّ‬
‫يخص‬ ‫من قبل الحكومة إلى درجة ّ‬
‫تحولت إلى قانون‬
‫اليهود‪.1‬‬
‫طبقه العثمانيون على‬‫ويمكن تلخيص النظام الذي ّ‬
‫ّ‬
‫اليهود باآلتي‪ :‬أصبح الحاخام "باش ي" في اآلستانة يمثل‬
‫جميع اليهود في الدولة العثمانية أمام الحكومة‪ ،‬وتقع‬
‫عليه املسؤولية في تحديد الضرائب للطائفة اليهودية؛‬
‫حدد هذا النظام قيام الحاخام‬ ‫عالوة على ذلك فقد ّ‬
‫باملصادقة على اختيار الرؤساء املحليين الذين ينتخبون‬
‫ّ‬
‫ومما ال شك فيه ّأن‬‫ممثلين من امللة املحلية‪ّ ،‬‬ ‫من قبل‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫هؤالء الرؤساء ال يمكنهم تقلد مناصبهم إال بفرمان‬
‫سلطاني‪ ،‬ولهم مكانتهم في الهيئة الدينية الرسمية للدولة‪،‬‬
‫ويمكن اعتبارهم في طبقة املوظفين‪ ،‬فهم بحكم منصبهم‬
‫أعضاء في املجالس اإلدارية في الواليات‪ .‬ويساعد الرؤساء‬
‫يتكون من أعضاء دينيين وعلمانيين‪ .‬وكانت‬ ‫في مجلس ّ‬
‫امللة ذات استقالل ذاتي في املجاالت الدينية واإلدارية‬

‫‪- 1‬أحمد نوري النعيمي‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.321‬‬

‫‪163‬‬
‫"وبالحق في إدارة املمتلكات والتعليم والكنائس" وفي‬
‫النواحي التشريعية "كالزواج والطالق والنفقة والحقوق‬
‫املدنية والوصية"‪ .‬وكانت األحكام التي تصدرها تنفذها‬
‫الدولة ملصلحتها‪. 1‬‬
‫قوم وزير خارجية الدولة العثمانية‬ ‫وفي هذا الصدد َّ‬
‫ً‬
‫وضع اليهود في الدولة قائال" ّإن اليهود طردوا من أوروبا‪،‬‬
‫وقد وجدوا السلم واألمان وحرية الوجود بشكل كامل في‬
‫الدولة العثمانية"‪.2‬‬
‫صنف اليهود‬ ‫وعلى الرغم من ّأن اإلسالم قد ّ‬
‫بأنهم من أهل الكتاب‪ ،‬أو‬‫واملسيحيين – على السواء – ّ‬
‫ّ‬
‫تتم حمايتهم تحت اسم "أهل ذمة" إال ّأن‬ ‫باعتبارهم رعايا ّ‬
‫يطبقون هذا املصطلح‬ ‫العثمانيين في أغلب األحيان كانوا ّ‬
‫استخدم هذا االسم‬ ‫على املسيحيين فقط‪ .‬وناد ًا ما ُ‬
‫ر‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫لليهود الذين احتفظوا بمكانة ّ‬
‫مميزة نسبيا‪ ،‬والتي وفرها‬

‫‪ - 1‬علي إبراهيم عبده وخيرية قاسمية‪ :‬يهود البالد العربية‪ ،‬مركز األبحاث ‪ ،‬منظمة التحرير‬
‫الفلسطينية‪ ،‬بيروت‪ ،1971 ،‬ص ‪.20‬‬
‫‪- 2‬أحمد نوري النعيمي‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.328‬‬

‫‪164‬‬
‫لهم السلطان "محمد الفاتح"‪ .‬وفي الحقيقة‪ّ ،‬إن هذا‬
‫األمر‪ ،‬قد أعطاهم حرية عمل أكبر‪ ،‬وأعفاهم من القيود‬
‫ً‬
‫العديدة املفروضة على املسيحيين‪ ،‬وبات واضحا‬
‫احتفاظهم بالسيطرة املالية واالقتصادية على‬
‫املسيحيين‪ ،‬تلك السيطرة التي منحها لهم السلطان‬
‫"محمد الفاتح"‪.1‬‬
‫الرغم من معاملة الدولة العثمانية ّ‬
‫الجيدة‬ ‫وعلى ّ‬
‫لليهود‪ ،‬إال ّأنهم احتفظوا ببعض العادات والتقاليد التي‬
‫كانت لهم في البالد األوروبية‪ ،‬وعاشوا في أحياء خاصة بهم‬
‫ً‬
‫أحيانا أحياء ّ‬ ‫ّ‬
‫مقسمة‪ ،‬وال‬ ‫سميت " محلة ‪ ،"Mahlle‬أو‬
‫يخرجون منها فيما عدا خروجهم إلى األسواق‪ .‬ولقد‬
‫حد ّأن الحاخامات ّ‬
‫اهتموا بأفضل‬ ‫امتدت هذه العزلة إلى ّ‬‫ّ‬
‫ّ‬
‫التحول أو االرتداد‪ ،‬وإلبعادهم عن أنصار‬ ‫الوسائل ملنع‬
‫الديانات األخرى‪ .‬فكانوا يمنعون أو على األقل ُيعيقون‬
‫كل اتصال يحدث بين اليهود واملسلمين واملسيحيين‪،‬‬ ‫ّ‬

‫‪- 1‬ستانفورد‪ .‬ج‪.‬شو‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.150‬‬

‫‪165‬‬
‫ً‬
‫خوفا من التأثير على اليهود بتغيير دينهم من ناحية‪،‬‬
‫ّ‬
‫وألنهم شعب هللا املختار من ناحية أخرى‪.1‬‬
‫ّأما أوضاع اليهود القانونية واالجتماعية في الدولة‬
‫العثمانية طيلة الفترة املمتدة من القرن السادس عشر‬
‫ّ‬
‫مستقرة للغاية‪ ،‬ولم يطرأ عليها‬ ‫حتى القرن الثاني عشر‬
‫أي تغيير ُيذكر‪ .‬فقد عاشوا طيلة هذه الفترة بما يتوافق‬
‫مع القوانين اإلسالمية‪ ،‬واملصالح التقليدية العملية‬
‫ً‬
‫دائما ّ‬ ‫للحكام الذين لم ّ‬
‫كل نصوص الشريعة‬ ‫يطبقوا‬
‫اإلسالمية على اليهود‪ ،‬ور ّبما تجاوز العثمانيون بعطائهم‬
‫أقرته الشريعة‪ .‬ولذلك نعم اليهود من‬ ‫مما ّ‬ ‫اليهود أكثر ّ‬
‫الناحية االجتماعية بحرية التنقل من مدينة إلى أخرى‪،‬‬
‫وباالستقرار عالقاتهم مع املجتمع املحيط‪ .‬وكانت نهاية‬
‫القرن الثاني عشر وبداية القرن التاسع عشر نقطة‬
‫مهمة في تاريخ عالقة الدولة العثمانية مع أهل‬ ‫تحول ّ‬‫ّ‬
‫ً‬
‫الذمة‪ .‬فشهدت هذه الفترة تصاعدا للقوميات األوروبية‪،‬‬

‫‪- 1‬املرجع نفسه‪ :‬ص ‪.103 -102‬‬

‫‪166‬‬
‫التمرد القومي اليوناني‪ ،‬وقامت بعد ذلك الثورة‬‫ونشوب ّ‬
‫اليونانية التي نتج عنها حصول اليونان عام ‪1832‬م على‬
‫ّ‬
‫يتعلق باليهود‪ ،‬فقد ّ‬
‫فرت‬ ‫استقالل بعض أراضيه‪ .‬ففي ما‬
‫أعداد كبيرة منهم إبان حرب االستقالل اليونانية من‬
‫األراض ي التي أخذتها اليونان من الدولة العثمانية إلى‬
‫سالونيكا التي كانت تحت السيطرة العثمانية‪ ،‬وإلى تركيا‬
‫فضلوا العيش تحت الحكم العثماني املسلم‪ ،‬وليس‬ ‫حيث ّ‬
‫تحت الحكم اليوناني املسيحي‪.1‬‬
‫وهاجر العديد من اليهود من أوروبا املسيحية إلى‬
‫الدولة العثمانية‪ ،‬نتيجة التسامح الديني الذي القوه في‬
‫املوطن الجديد‪ ،‬فقد استفادوا من اإلعفاءات الضريبية‬
‫للمعابد في عهد محمد الفاتح‪ .‬وكان لليهود في حي غالطة‬
‫معبدان‪ ،‬فيما كان للمسلمين ثالثة مساجد‪ ،‬ولألرمن‬
‫ّ ً‬
‫ثالث كنائس‪ .‬ولم يكن الحاخام موظفا لدى السلطان‪،‬‬
‫ّ‬
‫ولكن كان رئيس ملة دينية لها احترامها من السلطان‪ ،‬وله‬

‫‪- 1‬صموئيل أتينجر‪ :‬اليهود في البلدان اإلسالمية(‪ ،)1950 -1850‬ترجمة جمال الرفاعي‪،‬‬
‫مراجعة رشا الشامي‪ ،‬عالم املعرفة‪ ،1995 ،‬ص ‪.192‬‬

‫‪167‬‬
‫استقاللية قضائية على أتباعه‪ ،‬ويدير جميع ممتلكات‬
‫الكنيس بما فيها األوقاف‪.1‬‬
‫ويبدو ّأن املحاكم اإلسالمية (الشرعية) كانت في‬
‫ً‬
‫الكثير من األحيان تمنح اليهود حقوقا ال تتوافر في‬
‫املحاكم املذهبية لليهود‪ .‬لذلك كانوا يلجأون من حين إلى‬
‫ً‬
‫آخر إلى املحاكم الشرعية إلنصافهم‪ ،‬علما ب ّأنهم لم‬
‫يكونوا ملزمين بذلك‪ .‬والجدير بالذكر ّأن اليهود كانوا‬
‫ً‬
‫كثيرا ما يلجأون إلى املحاكم اإلسالمية في القضايا اإلرثية‪،‬‬
‫ألن الشرع اإلسالمي كان يضمن الحقوق اإلرثية‬ ‫وذلك ّ‬
‫لجميع أفراد األسرة واألقارب‪ ،‬واليهود يخشون حرمانهم‬
‫من هذه الحقوق فيلجأون إلى الشرع اإلسالمي إلنصافهم‪.‬‬
‫ومن ناحية أخرى كان بمقدور الشابة الذمية التي‬
‫يرغمها أهلها على الزواج من شخص ال تريده‪ ،‬أن تلجأ إلى‬

‫‪1- Bernard Lewis and Benjamin Braude: Christians and Jews in the ottoman‬‬
‫‪Empire, VI, First published in the United States of America, 1982, pp 117- 145.‬‬

‫‪168‬‬
‫املحاكم الشرعية‪ ،‬ملنع عقد هذا الزواج‪ ،‬إذ ّ‬
‫إن الشرع‬
‫اإلسالمي يشترط موافقة املرأة بهذا املوضوع‪.1‬‬
‫ً‬ ‫وكانت الدولة العثمانية‪ ،‬تعطى ّ‬
‫كل سنة مبلغا من‬
‫املال إلى رؤساء امللل من غير اإلسالمية‪ ":‬وبحسب العادة‬
‫السنوية‪ ،‬صدرت اإلرادة السنية منذ أيام‪ ،‬بأن يعطي من‬
‫الخزينة الجليلة‪ ،‬ستون ألف قرش إلى بطريركية الروم‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وأربعين ألفا إلى بطريركية األرمن‪ ،‬وعشرين ألفا إلى‬
‫ً‬
‫بطريركية األرمن الكاثوليك‪ ،‬وثالثين ألفا إلى أسقف‬
‫ً‬
‫البلغار وعشرين ألفا إلى رئيس حاخامية اليهود"‪.2‬‬
‫وباإلضافة إلى الهبات السنوية التي كانت تقدمها‬
‫الدولة العثمانية إلى رؤساء امللل غير اإلسالمية‪ ،‬كانت‬
‫تعطي األموال إلى بعض رؤساء امللل في املناسبات‪:‬‬
‫"بمناسبة عيد الفطير عند اليهود تكرم حضرة سيدنا‬

‫‪- 1‬دونالد كواترت‪ :‬الدولة العثمانية (‪1922 -1700‬م)‪ ،‬تعريب أيمن أرمنازي‪ ،‬مكتبة‬
‫العبيكان‪ ،‬ا لسعودية‪ ،‬ط‪ ،2004 ،1‬ص ‪.312‬‬
‫‪- 2‬جريدة ثمرات الفنون‪ :‬العدد ‪ 7 ،1613‬ربيع اآلخر‪1325‬هـ‪ 7 /‬أيار ‪1907‬م‪.‬‬

‫‪169‬‬
‫وموالنا السلطان األعظم‪ ،‬على حضرة حاخام اليهود في‬
‫اآلستانة بثالثماية ليرة عثمانية"‪.1‬‬
‫واعتبرت الدولة العثمانية نفسها مسؤولة عن‬
‫حتى قبل وصولهم‪ ،‬فقد‬ ‫اليهود املهاجرين إلى أ اضيها‪ّ ،‬‬
‫ر‬
‫عمدت إلى حمايتهم مع عائالتهم‪ّ ":‬إن مجموعة من اليهود‬
‫قدر بعشرين عائلة‪ ،‬كانوا عائدين من "كرنوفا" هجمت‬ ‫ُت ّ‬
‫عليهم مجموعة من البلغار‪ ،‬وسلبتهم وأعملت فيهم‬
‫ّ‬
‫القتل‪ ،‬وكان من بينهم النساء واألطفال‪ ،‬وقد شكلت‬
‫السلطنة العثمانية لجنة لحماية هؤالء اليهود"‪.2‬‬
‫الجيدة التي ّ‬ ‫ً‬
‫واضحا في املعاملة ّ‬
‫تلقاها‬ ‫وكان الفرق‬
‫اليهود على يد الدولة العثمانية‪ ،‬باملقارنة مع الدول‬
‫األوروبية‪ .‬فبعد احتالل "سالونيك" من قبل الجيش‬
‫اليوناني‪ ،‬أرسل حاخام اليهود "ناحوم" في استنبول رسالة‬
‫إلى السلطات العثمانية‪ ،‬يطلب منها التدخل لدى‬
‫اليونان‪ ،‬من أجل الحفاظ على طائفة اليهود هناك من‬
‫‪- 1‬جريدة ثمرات الفنون‪ :‬العدد ‪ 12 ،1027‬ذي القعدة ‪1312‬هـ‪ 24 /‬نيسان ‪1897‬م‪.‬‬
‫‪- 2‬جريدة ثمرات الفنون‪ :‬العدد ‪ 25 ،337‬رجب ‪1296‬هـ‪ 24 /‬تموز ‪1879‬م‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫ظلم الجيش اليوناني‪ ،‬جاء فيها‪ ...":‬قام العسكر اليوناني‬
‫بمضايقة الطائفة املوسوية هناك – سالونيك – وإيذائها‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫والتعرض لشريعتها بالسباب والشتائم‪،‬‬ ‫جسديا‪،‬‬
‫ّ‬
‫والتسلط على أموالهم معابدهم‪ّ ،‬‬
‫مما خلق مظالم على‬
‫ً‬
‫هذه الطائفة وتعديات قاسية يصعب احتمالها إنسانيا"‬
‫وقد طالبت الرسالة الدولة العثمانية اإلسراع في ّاتخاذ‬
‫اإلجراءات لوقف األعمال الوحشية ضد اليهود‪ .1‬ونرى ّأنه‬
‫ظل اليهود‬ ‫‪ ،‬وبعد خروج العثمانيين من سالونيك‪ّ ،‬‬
‫يصرون على الدولة العثمانية بحماية حياتهم وأموالهم‬ ‫ّ‬
‫وأعراضهم‪ .‬ولو لم يلمس اليهود من الدولة العثمانية‬
‫العدل والرحمة تجاههم‪ ،‬ملا ّ‬
‫توجهوا إليها بهذا النداء‪.‬‬
‫ً‬
‫ويؤخذ على الدولة العثمانية ّأنها فرضت نوعا من‬
‫املالبس واإلشارات على امللل غير اإلسالمية‪ّ ،‬إنما ذلك‬
‫بهدف املحافظة على التخصيص على اللباس العثماني‬
‫وتمييز الوظيفة والحالة االجتماعية لكل فرد في هذا‬

‫‪1- B.O.A: HR.Sys, 2012/1.‬‬

‫‪171‬‬
‫ً‬
‫النظام‪ ،‬وهو إجراء كان ُمتخذا من قبل البيزنطيين‬
‫وطبقت هذه القاعدة ليس على دين أو مجموعة ّ‬
‫معينة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ولكن على أفراد الطبقة الحاكمة واألفراد التابعين لكافة‬
‫األديان‪ ،‬وكان على أفراد املجتمع العثماني‪ ،‬على ارتداء‬
‫ً‬ ‫املالبس ذات قماش معين وألوان ّ‬
‫محددة‪ ،‬تبعا لطبقتهم‪،‬‬
‫وامللة والوضع االجتماعي‪ ،‬وقد اختلف بالشكل واللون‬
‫ّ‬
‫املحدد لغطاء الرأس واألحذية‪ ،‬وذلك بهدف تبيان الحالة‬
‫ّ‬
‫االجتماعية لكل فرد‪ ،‬وتمكن اآلخرين من التعامل معه‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫كان هذا عنصرا ضروريا في قواعد السلوك السليم‬
‫وحتى املالبس‪ ،‬اختلفت في شكلها بين‬‫للمجتمع العثماني‪ّ .‬‬
‫ً‬
‫أعضاء األسرة الحاكمة‪ ،‬طبقا للمؤسسة التي ينتمي إليها‬
‫الفرد‪ ،‬وبالدرجة التي يكون فيها علو منصبه ودرجة قربه‬
‫من السلطان‪.1‬‬
‫وبلغ تسامح الدولة العثمانية مع اليهود درجة ال‬
‫توصف‪ ،‬فقد أورد "أورخان محمد علي" قصة عن‬

‫‪- 1‬ستانفورد‪.‬ج‪.‬شو‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.152‬‬

‫‪172‬‬
‫السلطان سليمان القانوني‪ ،‬مع أحد اليهود‪ّ ،‬‬
‫ومما جاء‬
‫فيها‪" :‬أراد السلطان سليمان القانوني بناء مسجد‪ ،‬ووقع‬
‫اختيار املهندسين على تلة في املدينة‪ ،‬ولكن كان عليها كوخ‬
‫لرجل يهودي‪ ،‬وبعد مفاوضات كثيرة‪ ،‬رفض اليهودي‬
‫إخالء املكان‪ ،‬ليتاح لرجال السلطان الشروع ببناء‬
‫بكثير من األموال‪ ،‬ومع ذلك‬‫ٍ‬ ‫املسجد‪ ،‬حتى ّإنهم أغروه‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫رفض أيضا‪ .‬فطلب رجال السلطان منه أن يصدر أمرا‬
‫بطرد اليهودي‪ ،‬ليتسنى لهم بناء املسجد وهدم الكوخ‪.‬‬
‫لكن السلطان رفض وقال‪ ":‬ليس من عادتنا هذا‪ ،‬وال‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫يسمح ديننا بظلم أحد أو ترويعه‪ ،‬يجب أن نجد حال‬
‫ٌ‬
‫مناسبا"‪.‬‬
‫ً‬
‫وهكذا توقف بناء املسجد بحثا عن حل شرعي‪،‬‬
‫وقرر السلطان استشارة شيخ اإلسالم في األمر‪ ،‬فأجابه‪":‬‬ ‫ّ‬
‫حكم اإلسالم‪ ":‬حكم اإلسالم واضح في هذا األمر ّأيها‬
‫أي جزاء أو عقاب على‬ ‫السلطان‪ ...‬ال تستطيع فرض ّ‬
‫ألن الكوخ ملكه‪،‬وال يجوز‬ ‫اليهودي المتناعه عن البيع ّ‬
‫ً‬
‫أخذه قهرا‪ .‬وباختصار ال يوجد أمامكم سوى سبيل واحد‬
‫‪173‬‬
‫قرر السلطان أن‬ ‫وهو‪ :‬القيام بإرضاء اليهودي"‪ .‬لذلك ّ‬
‫يذهب بنفسه إلى اليهودي‪ ،‬ويرجوه أن يبيعه الكوخ‪ّ ،‬‬
‫فلما‬
‫شاهد اليهودي السلطان أمام كوخه ذهل من هول املنظر‬
‫‪ ،‬فعرض عليه السلطان أضعاف مضاعفة من ثمن‬
‫الكوخ‪ ،‬فوافق اليهودي على بيعه‪ ،‬وهكذا ّ‬
‫تم بناء املسجد‬
‫وهو املعروف بمسجد "السليمانية"‪.1‬‬
‫ً‬
‫واعترافا من اليهود بجميل الدولة العثمانية‬
‫وفضلها‪ ،‬بإيوائهم‪ ،‬بعد طردهم من البالد األوروبية‪،‬‬
‫تقدم اليهود بكتاب‪ ،‬يشكرون فيه السلطات العثمانية‪،‬‬ ‫ّ‬
‫على حسن استقبالهم‪ ،‬وفتحها ذراعيها الحتضانهم‪.‬‬
‫وبمناسبة مرور أربعمائة سنة على لجوء اليهود إلى‬
‫البالد العثمانية‪ ،‬بعد جالئهم وإبعادهم من إسبانيا‪،‬‬
‫قدمت جمعية اتحاد اإلسرائيليين عريضة الشكر إلى‬ ‫ّ‬
‫الدولة العثمانية جاء فيها‪ّ ":‬إنه في ربيع سنة ‪1492‬م طرد‬
‫اليهود من إسبانيا‪ ،‬وأظلمت في وجوههم مسالك املمالك‪،‬‬
‫‪- 1‬أورخان محمد علي‪ :‬رو ائع من التاريخ العثماني‪ ،‬دار الكلمة للنشر والتوزيع‪ ،‬مصر‪،‬‬
‫‪ ،2007‬ص ‪.87 -84‬‬

‫‪174‬‬
‫ّ‬
‫اطمأنت‬ ‫وكانوا عرضة لالعتداء‪ ،‬إال ّأنهم حازوا على ملجأ‬
‫نفوسهم به‪ ،‬وذلك بتفيئهم تحت ظل عدالة وحماية‬
‫حكومة أجداد الجنان السلطاني األعظم‪ .‬من ذلك التاريخ‬
‫إلى يومنا هذا‪ ،‬يعيشون تحت ظل الحكومة السنية بكمال‬
‫األمن والرفاهية والراحة"‪ ،1‬وختمت العريضة بالدعاء‬
‫للسلطان‪.‬‬
‫وقام الدكتور "بول ناتان" وهو أحد أطباء اليهود في‬
‫منطقة البلقان‪ ،‬بتوجيه رسالة إلى اللجنة اليهودية‬
‫األميركية في مؤتمرها املنعقد في أمريكا‪ّ ،‬إن وضع اليهود في‬
‫حرب البلقان ال يمكن وصفه‪ ،‬ويحتاج إلى اإلغاثة‬
‫عبر املؤتمر عن أسفه ملأزق تركيا الحالي‪.‬‬ ‫العاجلة‪ ،‬وقد ّ‬
‫يوسعوا تعاطفهم مع ضحايا هذه‬ ‫وطلب من العالم‪ ":‬أن ّ‬
‫الحرب‪ ،‬والتعبير عن أملهم بأن تنتهي قبل‪ ،‬أن يراق املزيد‬
‫يودون التعبير عن تعاطفهم مع‬ ‫من األرواح‪.‬وهم ّ‬
‫ّ‬
‫اإلمبرطورية العثمانية‪ ،‬التي وخالل عصور‪ ،‬وفرت الرخاء‬

‫‪- 1‬جريدة ثمرات الفنون‪ :‬العدد ‪ 13 ،883‬شوال ‪1309‬هـ‪ 9 /‬أيار‪1892‬م‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫لليهود‪ ،‬الفارين من األراض ي املسيحية‪ ،‬والتسامح الذي‬
‫ّ‬
‫أظهرته لهم‪ ،‬وقد شكل إحدى الصفحات املضيئة في‬
‫تاريخنا السابق‪ ،‬وهناك عزاء في التفكير فالعديد من‬
‫الجنود اليهود الذين فنوا في الحرب الحالية‪ ،‬حاربوا من‬
‫أجل شعب ال ينكر حقوقهم اإلنسانية‪ ،‬لذلك أخلص‬
‫ً‬
‫اليهود األتراك دائما لتركيا‪ .‬وعندما أجبروا على الهجرة‬
‫ً‬ ‫من إسبانيا والبرتغال‪ ،‬ذهبوا إلى تركيا‪ ،‬حيث ّ‬
‫تلقوا فرصا‬
‫عادلة ومتساوية للحماية‪ ،‬أكثر من أي بلد في العالم‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ونالها في تركيا دائما حظا من التسامح في ممارسة‬
‫شعائرهم الدينية"‪.1‬‬
‫وأجرى اليهود مقارنة بين وضعهم في أوروبا ووضعهم‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫في املشرق اإلسالمي‪ ،‬وخصوصا في الدولة العثمانية‪ ،‬وملا‬
‫ً‬
‫عقدوا اجتماعا في لندن‪ ،‬لقراءة التقرير الرابع والعشرين‬
‫حول أحوال اليهود‪ ،‬أعرب املؤتمر عن األسف الشديد‬
‫لعدم نجاح املساعي التي ّاتخذت من القيصر نيقوال‬

‫‪1- B.O.A:HR.Sys, 2012/1.‬‬

‫‪176‬‬
‫ّ‬
‫الثاني (قيصر روسيا)‪ ،‬ومع ذلك فقد شكلت جمعية في‬
‫"بطرسبورغ" للنظر في أحوال الطائفة كوسيلة إلى إصالح‬
‫شؤونها‪ ،‬وننتظر أن ترفع هذه الجمعية تقريرها إلى‬
‫مجلس الوزراء‪ .‬ويضيف التقرير‪ّ ،‬إن حالة الطائفة في‬
‫رومانيا آيلة إلى التعاسة وسوء املصير‪ّ ،‬‬
‫وأما حالتها في‬
‫بلغاريا والصرب فهي أحسن منها في رومانيا‪ .‬واختتم بأن‬
‫ً‬
‫الحكومات األوروبية وخصوصا في أوستريا وفرنسا تعامل‬
‫اليهود معاملة اإلهانة والتحقير‪ .‬أما معاملة املسلمين في‬
‫جميع البالد لرعاياهم من اليهود‪ّ ،‬‬
‫فإنها مبنية على الرفق‬
‫يستحقون جزيل الشكر من هذه‬ ‫ّ‬ ‫واإلنسانية‪ ،‬وهم‬
‫الطائفة"‪.1‬‬
‫وقامت الجمعية اليهودية في باريس بإرسال رسالة‬
‫شكر إلى الدولة العثمانية‪ ،‬بمناسبة مرور أربعمائة سنة‬
‫على تهجير اليهود من إسبانيا‪ ،‬وفيها تعبير عن امتنانهم‬
‫وشكرهم للدولة‪ ،‬لحسن استقبالهم وكرمها معهم‪ ،‬وهذا‬

‫‪- 1‬جريدة ثمرات الفنون‪ :‬العدد ‪ 7 ،1038‬صفر‪1313‬هـ‪ 17 /‬تموز ‪1895‬م‪.‬‬

‫‪177‬‬
‫ترجمة للوثيقة‪ ":‬ترجمة املحضر القادم من الجمعية‬
‫العمومية بباريس إلى سيادة البادشاه على أثر طرد‬
‫الجالية اليهودية من إسبانيا سنة ‪1492‬م‪ ،‬والتجائهم إلى‬
‫كل الحماية من املظالم‬‫املمالك العثمانية‪ ،‬حيث وجدوا ّ‬
‫التي عاشوها‪ ،‬وتوفير سبل العمل والعيش الكريم لهم من‬
‫كل االحترام‬‫طرف السلطان العثماني الذي نال ّ‬
‫ويتوجه أعضاء الجمعية العمومية‬ ‫ّ‬ ‫والعواطف النبيلة‪،‬‬
‫وكل العاملين بمختلف مكاتبها‪ ،‬بالشكر للباده‬‫املاسونية ّ‬
‫شاه‪ ،‬وتعلن تبعية الجالية اليهودية املتواجدة باألراض ي‬
‫العثمانية لجاللتكم مع حرصها على النهوض بالدولة‪،‬‬
‫وذلك ملا وجدته من اندماج في مجال الزراعة والتجارة‬
‫نوجه شكرنا إلى السلطان‬ ‫والفنون والعلوم‪ ،‬وكذلك ّ‬
‫لحرصه على حماية مذاهبهم وديانتهم‪ .‬وبناء على ذلك‬
‫يتوجه كل أعضاء الجمعية باإلجماع‪ ،‬بالشكر والدعاء‬ ‫ّ‬
‫بطول العمر لحضرة السلطان‪ .‬وبمناسبة مرور أربعمائة‬
‫سنة على لجوء الجالية اليهودية إلى املمالك املحروسة‪،‬‬
‫وما وجدوه من حماية ورعاية‪ ،‬تتوجه الجمعية العمومية‬
‫‪178‬‬
‫املاسونية وكل العاملين بها باالعتراف بالجميل للشهانة‬
‫العظمى‪ ،‬راجية له طول العمر والرفاه للدولة"‪. 1‬‬
‫ّ‬
‫واتسمت عالقة اليهود باملجتمع املحيط بهم‪ ،‬طيلة‬
‫الفترة الواقعة في القرنين السادس عشر والثاني عشر‪،‬‬
‫بقدر كبير من االستقرار‪ ،‬فكانت أماكن العمل تجمع‬
‫اليهود مع املسيحيين واملسلمين‪ .‬وكان أبناء هذه الطوائف‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يلتقون معا آنذاك خارج العمل أيضا‪ .‬وتجدر اإلشارة إلى‬
‫ّأن األبحاث الحديثة أثبتت ّأن يهود الدولة العثمانية‬
‫ّ‬
‫تأثروا إلى حد كبير بكافة فنون املجتمع اإلسالمي‪.‬‬
‫وتسللت بعض مظاهر هذا التأثير إلى عالم املمارسات‬
‫الدينية اليهودية‪ ،‬وأخذ اليهود العديد من الفنون‬
‫اإلسالمية واملسيحية‪ ،‬التي كانت سائدة في الدولة‬
‫العثمانية‪ .‬وفي الواقع‪ّ ،‬إن استقرار السلطة العثمانية‬
‫ً‬
‫واألوضاع االقتصادية فيها كان كفيال بحالة استقرار‬
‫دائمة في العالقات بين اليهود واملجتمع‪.2‬‬

‫)أنظرامللحق رقم ‪1- B.O.A:Y.MTV, 61/51. (-5-‬‬


‫‪- 2‬صموئيل أتينجر‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.207‬‬

‫‪179‬‬
‫ونتيجة لهذه العالقات الجيدة بين شرائح املجتمع‬
‫كافة‪ّ ،‬اتخذت الدولة العثمانية عدة إجراءات مع أهل‬
‫ً‬
‫الذمة وخصوصا اليهود الذين عاملتهم بالحسنى‪ ،‬فقد‬
‫مخصصة لإلناث "بروستجوك"‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫افتتحت إصالحية‬
‫وكل أصناف‬‫وسيتم قبول إناث املسلمين واملسيحيين ّ‬
‫تبعية الدولة العثمانية على حد سواء‪.1‬‬
‫كما أعفت الدولة العثمانية رجال الدين من أهل‬
‫الذمة وأماكن العبادة من الضرائب‪ ،‬بموجب فرمان‬
‫سلطاني‪ ":‬مراسلة من إدارة الضرائب إلى نظارة املالية‪،‬‬
‫ّ‬
‫والنظارة تذكر ّأنه بموجب فرمان أو قرار صادر عن‬
‫البادشاه‪ ،‬بخصوص إعفاء املكاتب والجوامع وأماكن‬
‫العبادة بمختلف أصنافها وتبعيتها واملستشفيات‪ ،‬وما إلى‬
‫ذلك من املباني الخيرية‪ ،‬من دفع الضرائب"‪.2‬‬
‫ولم تكتف الدولة العثمانية‪ ،‬بإعفاء اليهود وغيرهم‬
‫من أهلة الذمة‪ ،‬من دفع الضرائب عن رجال الدين‬
‫‪1- B.O.A:C.MF, 131/6542.‬‬
‫‪2- B.O.A:ŞD, 402/20-2.‬‬

‫‪180‬‬
‫وأماكن العبادة‪ ،‬بل عمدت إلى بناء مأوى للعجزة‪ ،‬إليواء‬
‫املسنين من كافة رعايا الدولة العثمانية‪ ،‬حيث صدرت‬‫ّ‬
‫إرادة سنية تقض ي بإنشاء دار العجزة (من مسلمين‬
‫وغيرهم)‪ ،‬ألجل الفقراء الذين يتحقق عجزهم وتسهيل‬
‫أسباب معيشتهم؛ وأشارت اإلرادة إلى ّأن ّ‬
‫يتم بجانب دار‬
‫العجزة بناء جامع وكنيسة وكنيس‪ ،‬ليقوم العجزة بأداء‬
‫ً‬
‫واجبهم الديني‪،1‬إذا لم تكتف الدولة ببناء دار للعجزة‬
‫لجميع املسنين من جميع امللل فحسب‪،‬بل عمدت إلى‬
‫بناء دور للعبادة لجميع الناس على اختالف طوائفهم‪،‬‬
‫ليتسنى لهم املحافظة على صالتهم‪.‬‬

‫‪- 1‬جريدة ثمرات الفنون‪ :‬العدد ‪ 7 ،785‬شوال ‪1307‬هـ‪ 13/‬حزيران ‪1890‬م‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫تدهور العالقات بين الدولة اليهود‬

‫بقيت عالقة الدولة العثمانية مع اليهود واملجتمع‬


‫حتى بداية القرن التاسع عشر‪،‬غير ّأن هناك جملة‬ ‫جيدة ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫تدخل الدول‬ ‫عوامل ساهمت في إفساد هذه العالقة‪ ،‬منها‬
‫أن أطماع اليهود التي ظهرت وحلمهم‬ ‫األوروبية‪ ،‬كما ّ‬
‫باالستيالء على األراض ي املقدسة‪ ،‬فاستغلوا طيبة الدولة‬
‫وتسامحها مع أهل الذمة‪ ،‬لتحقيق مآربهم في األرض‬
‫املوعودة "حسب زعمهم"‪ ،‬وغيرة املسيحيين من اليهود‬
‫نتيجة للتفوق الذي ّ‬
‫حققوه في كافة املجاالت الحياتية‪،‬‬
‫الجيدة التي ّ‬ ‫ّ‬
‫تنكر اليهود لكل هذه املعاملة ّ‬
‫تلقوها‬ ‫لذلك‬
‫من الدولة بعد هجرتهم أو طردهم من أوروبا‪.‬‬
‫وإبان القرن التاسع عشر‪ ،‬ومع تزايد الشعور‬
‫القومي لدى املسيحيين‪ ،‬تفاقم الصراع بين الطوائف‬
‫املختلفة لدى الدولة العثمانية‪ ،‬فاليهود الذين كانوا‬
‫‪182‬‬
‫يؤيدون السلطة‪ ،‬ويحظون في املقابل بعطفها‪ّ ،‬‬
‫تعرضوا‬ ‫ّ‬
‫الضطهادات عديدة من املسيحيين الذين نجحوا في‬
‫إخراج اليهود من املجاالت التي كانوا يسيطرون عليها‪،‬‬
‫فنجح املسيحيون ومنها على سبيل املثال املعامالت‬
‫املالية‪ ،‬وصناعة النسيج‪ ،‬والتجارة الدولية‪ .‬وهي املجاالت‬
‫التي عرف عنها بسيطرة اليهود عليها‪.1‬‬
‫وكان اليهود العثمانيون على علم تام بمجموعة‬
‫املصالح بينهم وبين املسلمين‪ ،‬بصفة خاصة في ما يتعلق‬
‫باملسيحيين‪ ،‬وإذا كان هناك من اضطهاد لليهود في الدولة‬
‫فإن هذا لم يتأت من‬ ‫العثمانية في أوج قوتها وسلطانها‪ّ ،‬‬
‫الحكام العثمانيين ورعاياهم املسلمين‪ّ ،‬إنما من رعايا‬
‫الدولة املسيحيين‪ .‬وقد أثار القادة املسيحيون بصفة‬
‫مستمرة‪ ،‬حفيظة السلطان ووزرائه ليحملوهم على‬
‫تقديم حقوقهم واملزايا املمنوحة لهم على حساب املجتمع‬
‫اليهودي‪.2‬‬

‫‪- 1‬صموئيل أتينجر‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.208 -207‬‬


‫‪- 2‬ستانفورد‪ .‬ج‪.‬شو‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.160‬‬

‫‪183‬‬
‫ً‬
‫وعلى الرغم من ّأن الدول األوروبية‪ ،‬لم تتدخل كثيرا‬
‫في شؤون الدولة العثمانية‪ ،‬عن طريق حماية أهل الذمة‬
‫ً‬
‫(اليهود)‪ ،‬وخصوصا ّأن أوروبا هي من لفظت اليهود من‬
‫ّ‬
‫أراضيها‪ ،‬بحجج كثيرة‪ ،‬إال ّأن هذا لم يمنع بريطانيا من‬
‫التدخل في شؤون السلطنة بحجة حماية اليهود‪ ،‬عندما‬
‫رأت ذلك ضرورة ملصالحها‪ .‬وحاولت بريطانيا منذ عام‬
‫‪ 1838‬التدخل في الشؤون العثمانية عن طريق اليهود‪،‬‬
‫وكان هدفها من وراء ذلك‪ ،‬تأجيج الخالف بين اليهود‬
‫والدولة العثمانية‪ .‬وفي هذا املجال كتب "باملرستون"‬
‫ً‬
‫قائال‪ ":‬ينبغي أن ُيسمح ليهود الدولة العثمانية تقديم أية‬
‫شكوى إلى الباب العالي عبر السلطات البريطانية ضد‬
‫ً ًّ‬
‫جدا للسلطات‬ ‫السلطات التركية‪ ،...‬وسيكون مفيدا‬
‫دخول اليهود املشتتين إلى فلسطين عبر أقطار أخرى في‬
‫أوروبا وأفريقيا‪ ،‬بسبب الثروة وعادات النظام‪،‬‬
‫ألن هذا سيؤدي بصورة‬ ‫والصناعة التي سينقلوها معهم‪ّ ،‬‬
‫ويطور ّ‬
‫تقدم‬ ‫ّ‬ ‫فائقة إلى زيادة موارد اإلمبرطورية التركية‪،‬‬
‫الحضارة فيها‪ّ ،...‬إن وظيفة الحماية البريطانية سوف‬
‫‪184‬‬
‫تساعد على منع العنف والظلم واالضطهاد التي ّ‬
‫تعرض‬
‫ً‬
‫لها اليهود وخصوصا في سوريا"‪.1‬‬
‫ومن مظاهر تزايد تأثير أوروبا في الدولة العثمانية‪،‬‬
‫إن العصر الحديث شهد تفاقم قوة مشاعر العداء‬
‫لليهود‪ ،‬وقام السكان املسيحيون بدور بارز في هذا املجال‬
‫ّ‬
‫فاستغلت الكنائس اليونانية واألرمنية سيطرة مشاعر‬
‫العداء لليهود على أتباعها الذين كانوا من الفقراء‬
‫والجهلة‪ ،‬لتوحيد حقوقها في مواجهة السلطات‬
‫العثمانية‪ ،‬واستخدمت هذه الكنائس اليهود كبش فداء‬
‫في صراعها ضد الدولة‪ .‬وكانت املذابح التي ّ‬
‫تعرض لها يهود‬
‫الدولة على أيدي املسيحيين إبان القرن التاسع عشر‪،‬‬
‫من أبرز مظاهر العداء املسيحي لليهود بينما شهدت‬
‫الفترة املمتدة من القرن السادس عشر حتى التاسع‬
‫تعرض اليهود لحوادث قليلة ‪ ،‬ووقفت السلطات‬ ‫عشر‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫بشكل دائم إلى جانب اليهود وتأييدهم‪ ،‬إال ّأنها ازدادت في‬

‫‪1- Bernard Lewis: The Jewis of the Islam, England, 1984, p.160.‬‬

‫‪185‬‬
‫القرن التاسع عشر‪ ،‬لدرجة يمكن فيها القول ّإن هذه‬
‫الفترة شهدت وقوع حادثة كل عام ضد اليهود‪ .‬وكانت‬
‫الحوادث تقع عادة في املدن التي كان غالبية سكانها من‬
‫املسيحيين وبخاصة إبان أعياد الفصح‪ ،‬إذ كانت تنتشر‬
‫آنذاك شائعات‪ ،‬مفادها ّأن اليهود يختطفون أطفال‬
‫املسيحيين لشرب دمائهم‪ .‬وكان املسيحيون يقومون‬
‫باالعتداء على اليهود والتنكيل بهم‪ ،‬وكانت مذبحة أزمير‬
‫ّ‬
‫عام ‪1872‬م‪ ،‬واحدة من أشهر هذه املذابح‪ .‬وتدخلت‬
‫ً‬
‫السلطات العثمانية آنذاك إلنقاذ اليهود‪ ،‬وأصدرت فرمانا‬
‫تدين فيه هذه املذابح‪ .‬وكان من بين هذه الفرمانات‬
‫فرمان أدان حادثة دمشق التي ذهب ضحيتها مئات‬
‫اليهود‪.1‬‬
‫ور ّبما يعود هذا العداء الذي استحكم بين اليهود‬
‫والنصارى في ظل الدولة العثمانية‪ ،‬في جذوره إلى أسباب‬
‫دينية‪ ،‬كما أسلفنا أثناء الحديث عن عداء أوروبا لليهود‪،‬‬

‫‪- 1‬صموئيل اتينجر‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.208‬‬

‫‪186‬‬
‫والسبب اآلخر هو استعالء اليهود ونظرتهم ا لفوقية إلى‬
‫جميع الشعوب‪ّ ،‬‬
‫بأنهم شعب هللا املختار‪.‬‬
‫غير ّأن بريطانيا بدأت تناقض نفسها‪ ،‬وهي ّ‬
‫تتحدث‬
‫عن اليهود في دول أخرى‪ ،‬بينما كان اليهود في أوروبا‬
‫مضطهدين‪ ،‬وكتب معاون القنصل البريطاني في املوصل‬
‫ً‬
‫عام ‪1909‬م قائال‪ ":‬لو قارنا يهود اإلمبرطورية العثمانية‬
‫بيهود إيران‪ ،‬لوجدنا ّأن يهود الدولة العثمانية كانوا‬
‫يعيشون في ّ‬
‫الجنة"‪.1‬‬
‫وأعرب القناصل األوروبيون آنذاك عن تأييدهم‬
‫ولكن القناصل الفرنسيين الكاثوليك كانوا ّ‬
‫أقل‬ ‫ّ‬ ‫لليهود‪،‬‬
‫ً‬
‫نشاطا من القناصل اإلنكليز والبروسيين البروتستانت‬
‫الذين عملوا على توفير األمن الالزم لليهود‪ ،‬حيث أرسلت‬
‫إنكلترا عام ‪1871‬م فرقاطة بحرية‪ ،‬رابضت أمام سواحل‬
‫أزمير قبل اقتراب عيد الفصح‪ ،‬واتخذت الحكومة‬
‫اإلنكليزية هذا اإلجراء بناء على طلب اليهود اإلنكليز الذين‬

‫‪1- Bernard Lewis: The Jewis of the Islam, op.cit.p.160.‬‬

‫‪187‬‬
‫حرصوا على أمن إخوانهم من اليهود في الدولة العثمانية‪1‬‬

‫‪.‬‬
‫وتعد حادثة دمشق التي وقعت عام ‪1840‬م‪ 2‬نقطة‬ ‫ُّ‬
‫تحول ّ‬
‫مهمة في تاريخ اليهود في عهد الدولة العثمانية وفي‬ ‫ّ‬
‫تم في أعقاب هذه الحادثة‪ ،‬وللمرة‬ ‫العصر الحديث‪ ،‬إذ ّ‬
‫كل الوسائل اليهودية والصهيونية‪ ،‬التي‬‫األولى استخدام ّ‬
‫من شأنها مساعدة يهود الشرق‪ .‬وكان االهتمام الذي‬
‫أبداه يهود أوروبا بيهود الشرق في ذلك الحين‪ ،‬واملساعدة‬
‫قدموها إليهم‪ ،‬من أبرز مظاهر ّ‬
‫قوة العالقة التي‬ ‫التي ّ‬
‫سادت بين يهود الشرق والغرب‪ .‬وعلى الرغم من ّأنه كان‬
‫هناك بعض االتصاالت بين الطوائف اليهودية في الشرق‬
‫ّ‬
‫والغرب‪ ،‬إال ّأن ر ّدة فعل يهود الغرب على هذه الحادثة‬

‫‪- 1‬صموئيل اتينجر‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.209‬‬


‫ّ‬
‫‪- 2‬تتلخص هذه الحادثة‪ ،‬أنه في شهر شباط ‪ 1840‬م اختفى أحد القساوسة مع خادمه‬
‫املسلم‪ ،‬وبعد أن وجهت إلى اليهود آنذاك تهمة قتل القسيس بغرض شرب دمه في عيد‬
‫الفصح‪ ،‬استغل مندوب فرنسا في دمشق فرصة اختفاء القسيس إلثارة الجماهير‪ ،‬فقام‬
‫الفرنسيون باعتقال قادة الطائفة اليهودية في دمشق‪ ،‬ووجهوا إليهم تهمة قتل القسيس‬
‫ألغراض خاصة بالعبادة‪ .‬وانتشرالخبرفي الصحف األوروبية‪ ،‬حيث جاء وفد من يهود أوروبا‬
‫ا‬
‫اللتقاء القادة العثمانيين‪ ،‬الذي أصدروا فرمانا أدانوا به الحادث‪.‬‬

‫‪188‬‬
‫تحول ّ‬‫شكلت نقطة ّ‬ ‫ّ‬
‫مهمة في تاريخ عالقاتهم‪ .‬حيث بدأ‬
‫يهود الدول األوروبية والحركة الصهيونية بالضغط على‬
‫هذه الدول للتدخل لحماية اليهود في الشرق‪ ،‬بالرغم من‬
‫ّأن هذه الدول طردت وقتلت ونفت اليهود خارج حدودها‪،‬‬
‫لكن ضغط اليهود األغنياء والحركة الصهيونية من جهة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫والتقاء مصالح الدول األوروبية وخصوصا بريطانيا‬
‫للتخلص من الدولة العثمانية وإنشاء وطن قومي لليهود‬
‫كل هذه األمور دفع البريطانيين إلى التدخل‬‫في فلسطين‪ّ ،‬‬
‫بقوة وإدعائهم بحماية اليهود‪ .‬وطلبت بريطانيا من الدولة‬ ‫ّ‬
‫العثمانية السماح لليهود في أوروبا‪ ،‬بالهجرة إلى املمالك‬
‫العثمانية‪ ،‬وقد وافقت السلطات العثمانية بهجرة اليهود‬
‫إلى ممالكها ما عدا فلسطين‪ ،‬وأن يعاملوا معاملة كالرعايا‬
‫العثمانيين‪.1‬‬
‫وكان للتدخل األوروبي من جهة‪ ،‬وأحالم الحركة‬
‫الصهيونية بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين من جهة‬

‫‪- 1‬جريدة ثمرات الفنون‪ :‬العدد ‪ 13 ،258‬محرم ‪1299‬هـ‪ 23/‬تشرين األول ‪1881‬م‪.‬‬

‫‪189‬‬
‫أخرى‪ ،‬أن أفسد العالقة القائمة بين اليهود والدولة‬
‫العثمانية التي امتدت عبر مئات السنين‪ .‬وبسبب ازدياد‬
‫شكوك السلطان "عبد الحميد الثاني" بالتحرك‬
‫الصهيوني‪ ،‬أفهم املبعوث اليهودي "أوليفانت" ّ‬
‫بأن اليهود‬
‫يستطيعون العيش بسالم في ّ‬
‫أي جهة من اململكة ما عدا‬
‫ترحب باملضطهدين‪،‬‬ ‫وأن الدولة العثمانية ّ‬‫فلسطين‪ّ ،‬‬
‫ترحب بإقامة مملكة لليهود في فلسطين يكون‬ ‫ّ‬
‫ولكنها ال ّ‬
‫أساسها الدين‪.1‬‬
‫وسمحت الدولة العثمانية لليهود بزيارة القدس‬
‫شرط أن ال يقيموا فيها‪ ،‬حيث وردت رسالة من مقام‬
‫الصدارة العظمى بتاريخ ‪ 18‬حزيران ‪1891‬م إلى سنجق‬
‫القدس الشريف وفيها‪":‬يلزم عدم مساعدة اليهود‬
‫باإلقامة في لواء القدس الشريف بعد أدائهم الزيارة‪،‬‬
‫وحيث كان توطنهم في داخل اللواء ممنوع‪ ،‬فمن يرغب‬
‫منهم باإلقامة عليه أن يراجع الباب العالي"‪.2‬‬

‫‪- 1‬فرانك مانويل‪ :‬بين أميركا وفلسطين ‪ ،‬تعريب يوسف حنا‪ ،‬عمان‪ ،1967 ،‬ص ‪.25‬‬
‫‪- 2‬جريدة ثمرات الفنون‪ :‬العدد ‪ 29 ،841‬ذي القعدة ‪1308‬هـ‪ 24 /‬حزيران ‪1891‬م‪.‬‬

‫‪190‬‬
‫ّ‬
‫وتؤكد املوسوعة اليهودية‪ّ ،‬أن السلطان "عبد‬
‫الحميد الثاني" عامل يهود الدولة العثمانية معاملة‬
‫جيدة‪ ،‬ويشهد بذلك بعض ّ‬
‫املقربين إليه من اليهود‪ ،‬أمثال‬
‫"أرمينيوس فامبري ‪ "A.Vambery‬الصديق الشخص ي‬
‫ً‬
‫للسلطان الذي صرح قائال‪ّ ":‬إنه من خالل الصداقة‬
‫ّ‬
‫املستمرة التي تربطني بالسلطان منذ سنوات طويلة‪ ،‬كان‬
‫لي الفرصة للتعرف على معاملته الطيبة لليهود‪ ،‬وكان أول‬
‫حاكم تركي يعطيهم املساواة أمام القانون مع رعاياه‬
‫املسلمين‪ ،‬وعامل الحاخام كما يعامل كبار موظفي‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫الدولة‪ُّ ،‬‬
‫واتخذ تقليدا بأن يرسل سنويا في عيد الفصح إلى‬
‫حاخام القسطنطينية ثمانية آالف فرنك لتوزع على‬
‫فقراء اليهود"‪.1‬‬
‫ّ‬
‫إال ّ‬
‫أن‬ ‫وعلى الرغم من هذه املعاملة الطيبة‪،‬‬
‫يميز في معاملته بين اليهود وبين الحركة‬‫السلطان كان ّ‬
‫ّ‬
‫الصهيونية‪ ،‬وتؤكد ذلك املوسوعة اليهودية في‬

‫‪1 - The Jewish Encyclopedia (U.,S.A. 1901), Vol I, p.47.‬‬

‫‪191‬‬
‫ً‬
‫قولها‪":‬نظرا ألهداف الحركة الصهيونية املتعاظمة‪ ،‬ارتاب‬
‫السلطان من هذه الحركة وسياستها‪ ،‬وبالتالي وعمل‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫ضدها‪ ،‬ولم يكن متعاطفا أو مساعدا لها‪ ،‬وكانت نظرته‬
‫إلى اليهود تخالف نظرته إلى الصهيونية"‪.1‬‬
‫شك فيه ّأن هؤالء اليهود الذي عوملوا‬ ‫ومما ال ّ‬
‫ّ‬
‫جيدة من قبل الدولة العثمانية‪ ،‬قد‬‫معاملة حسنة ال بل ّ‬
‫تعاونوا مع الحركة الصهيونية ‪ -‬ونسوا أو تناسوا ما‬
‫ّ‬
‫املخولة إعادة‬ ‫قدمته لهم الدولة‪ -‬باعتبارها الحركة‬‫ّ‬
‫األراض ي املقدسة إلى الشعب اليهودي‪ ،‬وال يخفى دور‬
‫الفعال في ثورة ‪1908‬م وخلع السلطان عبد‬ ‫ّ‬ ‫اليهود‬
‫الحميد الثاني عام ‪1909‬م‪.2‬‬
‫" وإذا ذكرت املؤامرات والحروب فتش عن اليهود‬
‫ً‬
‫فهم أهلها دوما"‪ .‬لقد حاول السلطان عبد الحميد الثاني‬
‫بكل ما أوتي من قوة وذكاء وفطنة‪ ،‬طوال فترة حكمه‬ ‫ّ‬
‫الطويلة‪ ،‬التصدي للمؤامرات اليهودية واألجنبية من‬
‫‪1- Ibid: p.75.‬‬
‫‪2- Bernard Lewis: The Emergence of modern Turkey, London, 1961, p.208.‬‬

‫‪192‬‬
‫الدول األوروبية ‪ ،‬إال ّأنه في نهاية األمر فشل‪ ،‬والدليل على‬
‫ذلك خلعه عن العرش بواسطة اليهود واملاسون في دولته‪.‬‬
‫الطيب املتسامح مع‬‫ّ‬ ‫أراد السلطان أن يكون الحاكم‬
‫ّ‬
‫اليهود‪ ،‬وقد رأوا منه ذلك إال ّأنهم حين أرادوا منه‬
‫إعطاءهم حق الهجرة واالستيطان في األرض الفلسطينية‬
‫رفض ذلك‪ ،‬فعمل اليهود على التخلص منه‪ ،‬فاليهود‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫دائما وأبدا أهل خيانة وغدر‪.‬‬
‫ونتيجة لهجرة اليهود إلى الدولة العثمانية نستنتج‬
‫النقاط اآلتية‪:‬‬
‫ّإن اليهود وكعادتهم لم يندمجوا في‬ ‫‪-1‬‬
‫مجتمعات الدول التي ُوجدوا فيها‪ ،‬وقد‬
‫ّأدى ذلك األمر إلى تكتلهم وتمركزهم في‬
‫أحياء معينة في إطار هذه الدول‪ ،‬وكان‬
‫هذا أحد أسباب اتخاذ الدول األوروبية‬
‫ً‬
‫قرارا بطردهم‪.‬‬

‫‪193‬‬
‫عند هجرة اليهود من أوروبا إلى الدولة‬ ‫‪-2‬‬
‫العثمانية‪ّ ،‬اتبع اليهود نفس األساليب‬
‫باالشتراك مع بعض العناصر التركية‪ ،‬كما‬
‫فعلوا من قبل في قتل "الكسندر" قيصر‬
‫روسيا عام ‪1881‬م‪ ،‬مع فارق هو ّأن‬
‫العثمانيين لم يتبعوا سياسة العنف ضد‬
‫اليهود‪.‬‬
‫عند هجرة اليهود إلى الدولة العثمانية‪،‬‬ ‫‪-3‬‬
‫نقلوا تجارب الشعوب األوروبية إليها‪،‬‬
‫وكان نتيجة هذه التجارب نشوء بعض‬
‫األفكار السياسية والفلسفية التي ال ّ‬
‫تمت‬
‫بصلة إلى تقاليد املجتمع العثماني‪.‬‬
‫ً‬
‫إن جزءا من املسؤولية يقع على عاتق‬ ‫‪-4‬‬
‫العثمانيين في استقرار هؤالء املفسدين في‬
‫الدولة العثمانية‪ ،‬حيث ّإن بعض‬
‫ّ‬
‫السالطين لم ينتبهوا إلى خطر اليهود إال في‬

‫‪194‬‬
‫ّ‬
‫متأخر‪ّ ،‬‬
‫وأن السالطين انطلقوا من‬ ‫وقت‬
‫املفاهيم اإلسالمية في مساعدة هؤالء‪،‬‬
‫وإنقاذهم من بطش الدول األوروبية‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أخيرا ال ينكر أحد ّأن اليهود نقلوا أيضا‬ ‫‪-5‬‬
‫معهم خبراتهم التجارية واالقتصادية‪ ،‬التي‬
‫رّبما كانت من العوامل التي ّأدت إلى ازدياد‬
‫الصناعة والتجارة في الدولة العثمانية‪.‬‬
‫وبعد كل هذا يتحدث البعض عن الظلم الذي وقع‬
‫ّ‬
‫إال ّأن هذا األمر‪ُ ،‬ي ّ‬
‫عد‬ ‫على اليهود في ظل الدولة العثمانية‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫شيئا طبيعيا‪ ،‬فالدولة العثمانية شهدت حوادث لم يسلم‬
‫ينج منها بعض كبار رجال‬ ‫منها املسلمون أنفسهم‪ ،‬ولم ُ‬
‫الدولة وال السالطين أنفسهم‪ ،‬وأفراد أسرهم‪.‬‬

‫‪195‬‬
‫استنتاج‬

‫ّ‬
‫نختم بما بدأنا به‪ ":‬نحن اليهود لسنا إال سادة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ومحركي الفتن وجالديه"‪( .‬د‪ .‬أوسكار‬ ‫العالم ومفسديه‬
‫ليفي)‪.‬‬
‫ّإن املؤرخ األمريكي "جستن مكارثي" يعزو مصائب‬
‫ّ‬
‫القتل والترحيل التي حلت بالعثمانيين في القوقاز‬
‫والبلقان وأماكن أخرى في القرن التاسع عشر‪ ،‬ونتج عنها‬
‫مقتل أكثر من خمسة ماليين مسلم وتهجير خمسة‬
‫ً‬
‫ماليين أخرى‪ .‬أيضا‪ ،‬إلى تسامح العثمانيين األوائل مع أهل‬
‫الذ ّمة وسكان البالد التي فتحوها ‪ ":‬وكان التسامح من‬
‫أفضل ميزات التقليد العثماني في الحكم‪ ،‬مع التنوع‬
‫العرقي والديني‪ ،‬ولكن كان بإمكان ّأمة مطبوعة بطابع‬
‫ً‬
‫تركي أن تكون أكثر أمانا‪ ،‬وأن تعطي األمم األوروبية ذرائع‬
‫قوتهم قوميين من‬ ‫أقل للتدخل‪ ...‬ولو كان األتراك في أيام ّ‬

‫‪196‬‬
‫النوع املسيحي أو اليهودي‪ ،‬لكان املسيحيون هم الذين‬
‫اض َي كانت تركية مسلمة ّ‬ ‫ُ‬
‫بكل‬ ‫ٍ‬ ‫ر‬ ‫أ‬ ‫اءهم‬ ‫ر‬‫و‬ ‫تاركين‬ ‫ردوا‪،‬‬‫ط‬
‫ً‬
‫معنى الكلمة‪ .‬وبدال من ذلك‪ ،‬عانى العثمانيون‪ ،‬وبقي‬
‫ً‬
‫املسيحيون‪ ،‬وغالبا ما كان يعامل املسيحيون واليهود‬
‫ً‬
‫معاملة جيدة‪ ،‬وأحيانا سيئة‪ ،‬لكنهم سمحوا لهم بأن‬
‫يستمروا بالبقاء ويحافظوا على لغاتهم وتقاليدهم‬
‫ودياناتهم‪ ،‬لقد كانوا على حق حين فعلوا ذلك‪ ،‬ولكن لو‬
‫ّأن أتراك القرن الخامس عشر لم يكونوا متسامحين‬
‫لبقي أتراك القرن التاسع عشر على قيد الحياة في‬
‫بيوتهم"‪.‬‬
‫ويقول املؤرخ "كاربل"‪ " :‬لقد كان اليهود في العالم‬
‫العثماني على دراية كافية‪ ،‬كم كان من األفضل لهم‬
‫العيش في سالونيكا أو استنبول أو إزمير‪ ،‬أو في ّ‬
‫أي مكان‬
‫قدمه الغرب واليهود‪ ،‬هو الشكر‬ ‫كل ما ّ‬
‫من أوروبا"‪ .‬وكان ّ‬
‫النظري الذي يناقض التنكر العلمي‪ ،‬فقد قام رئيس‬
‫الكيان الصهيوني سنة ‪1992‬م بزيارة إلى تركيا لحضور‬
‫احتفاالت الذكرى الخمسمائة لقبول الدولة العثمانية‬
‫‪197‬‬
‫إيواء اليهود النازحين من إسبانيا بعد سقوط غرناطة‪،‬‬
‫وفي هذه الزيارة عرض الرئيس الصهيوني شريط فيديو‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫يتضمن خطابا للرئيس‬ ‫على املدعوين إلى املناسبة‪،‬‬
‫األمريكي "جورج بوش" األب‪ ،‬يشير فيه إلى ترحاب‬
‫العثمانيين بقدوم الالجئين اليهود من إسبانيا‪ ،‬وما زالوا‬
‫يعيشون بسالم منذ خمسة قرون في تركيا‪ ،‬وهذا مثال‬
‫لحياة املسلمين واليهود‪ .‬ويقول األستاذ "وديع أبو زيدون"‬
‫ً‬
‫متسائال‪ ":‬ملاذا ال يعيش املسلمون واليهود في سالم في‬
‫فلسطين‪ ،‬بعد أن سيطرت أمريكا على العالم‪ ،‬وبإمكانها‬
‫فعل ش يء مشابه ملا فعلته الدولة العثمانية اإلسالمية"‪.‬‬
‫ولم يكن استخدام الغرب ألهل الذمة املسيحية‬
‫واليهودية‪ ،‬هو الجزاء الوحيد الذي قوبل به الجميل‬
‫العثماني‪،‬ولعل املسألة اليهودية مثال واضح على نكران‬
‫للجميل واستخدام أقلية غمرها جميل العثمانيين‪ ،‬في‬
‫الوقت الذي تنكرت لليهود ّ‬
‫كل أوروبا‪ ،‬فطعنوا الدولة التي‬
‫ً‬
‫آوتهم ونصرتهم بدال من االعتراف بجميلها‪ ،‬ليصبح‬
‫املسلمون في نهاية املطاف هم "اإلرهابيون" و"الهمجيون"‬
‫‪198‬‬
‫ّ‬
‫و"املتخلفون" و"الدمويون"‪ .‬بينما يمارس اليهود ضدهم‬
‫ّ‬
‫كل الجرائم التي يعرفها الجنس البشري من إبادة وتهجير‬
‫وسلب ونهب وتعذيب وحصار وتفريق واعتقال وإنكار‬
‫أبسط حقوق اإلنسان‪ ،‬جزاء الجميل واإليواء الذي قام‬
‫به املسلمون في زمن الضيق اليهودي‪ ،‬سواء إثر سقوط‬
‫غرناطة‪ ،‬أم بعد ذلك في زمن ارتفعت فيه روح املعاداة‬
‫لليهود في ّ‬
‫كل أوروبا‪.‬‬

‫‪199‬‬
‫الفصل الرابع‬

‫األرمن في العهد العثماني في ضوء الوثائق‬

‫‪ -1‬تمهيد‪.‬‬
‫‪ -2‬عالقة األرمن بالدولة العثمانية‪.‬‬
‫‪ -3‬تدهور العالقات العثمانية األرمنية‪.‬‬
‫‪ -4‬استنتاج‪.‬‬

‫‪200‬‬
‫تمهيد‬

‫ضمت الدولة العثمانية (‪1299‬م‪1923 -‬م) في كيانها‬ ‫ّ‬


‫السياس ي مجموعات كبيرة من التشكيالت اإلثنية‬
‫واألقليات العرقية‪ ،‬وكانت فسيفساء للشعوب التي‬
‫تحكمها‪ ،‬بمثابة لوحة من املوزاييك‪ ،‬استمرت بديعة‬
‫املنظر فترة من الزمان‪ ،‬توحي بالتناسق والتناغم‪ .‬وما‬
‫ّ‬
‫دامت الدولة قوية‪ ،‬قلت الثورات والتمردات في املناطق‬
‫املكتظة باألعراق املختلفة‪ ،‬مثل برميل البارود املسمى‪":‬‬
‫شبه جزيرة البلقان"‪.‬‬
‫وكان األرمن إحدى هذه األقليات التي ّ‬
‫ضمتها الدولة‬
‫أقلية ّ‬
‫متميزة‪ ،‬إذ ُعرفت بـ"األمة املخلصة"‬ ‫العثمانية‪ّ ،‬‬
‫لكنها ّ‬
‫ً‬
‫أو بالتعبير العثماني " مللت صادقة"‪ ،‬نظرا إلى املكانة التي‬
‫تبوأتها في النواحي االجتماعية واالقتصادية والسياسية‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫إال ّأن النشاط األرمني خارج الحدود‪ ،‬وعالقاتهم املتشعبة‬
‫سهل انتقال األفكار القومية‬ ‫مع عدة دول وقوى كبرى‪ّ ،‬‬

‫‪201‬‬
‫اشتدت‬ ‫ّ‬ ‫والثورية إليهم‪ ،‬كما أن "حمى القومية" التي‬
‫سخونتها عقب الثورة الفرنسية والجامعة السالفية‪،‬‬
‫يتلقاها‬ ‫كل هزيمة عسكرية ّ‬ ‫والتي كان يعلو صوتها عقب ّ‬
‫فضال عن لعبة توازن القوى‬ ‫ً‬
‫العثمانيون على يد الروس‪،‬‬
‫التي كانت تمارسها الدول الكبرى ‪ ،‬للحفاظ على نفوذها‬
‫السياس ي‪ ،‬ومصالحها االقتصادية‪ ،‬وطرق مواصالتها مع‬
‫كل ذلك جعل األرمن‬ ‫مستعمراتها اآلسيوية واألفريقية‪ّ ،‬‬
‫ورقة رئيسية في هذه اللعبة السياسية‪ ،‬خاصة وهم من‬
‫املسيحيين الذين‪ ،‬يتوزعون على املذاهب الثالثة‪:‬‬
‫األرثوذكسية‪ ،‬الكاثوليكية والبروتستانتية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫واملحرك‬ ‫وال يمكننا أيضا إغفال الدور الرئيس ي‬
‫األساس ي للكنيسة األرمنية‪ ،‬التي كانت بمثابة الوطن ّ‬
‫األم‬
‫ّ‬
‫لكل األرمن‪ ،‬سواء في املهجر املنتشر عبر دول العالم كله‪،‬‬
‫أو تحت الحكمين‪ :‬العثماني والروس ي‪ .‬فقد مثلت هذه‬
‫الكنيسة ‪ ،‬منبع الدعم الروحي‪ ،‬ومركز الحركة القومية‪،‬‬
‫ومحرك أو مح ّرض الثورات والتمرد ضد الحكم‬ ‫ّ‬
‫العثماني‪ ،‬أضف إليها النشاط التبشيري ملختلف املذاهب‬
‫‪202‬‬
‫ً‬
‫املسيحية‪ ،‬والذي كان مرتبطا بشكل وثيق باملصالح‬
‫السياسية للدول التي تدعم هذه اإلرساليات التبشيرية‪.‬‬
‫ومع ظهور أعراض النهاية على الدولة العثمانية‪،‬‬
‫واعتبارها رجل أوروبا املريض‪ ،‬واملحاوالت اإلصالحية‬
‫العثمانية املعروفة بـ"التنظيمات"‪ ،‬والتي كان من‬
‫سلبياتها‪ -‬التي فاقمت سرعة انهيار الدولة‪ -‬اعطاؤها‬
‫امتيازات واسعة للدول األوروبية‪ّ ،‬‬
‫بحجة حماية األقليات‬
‫التي سرعان ما تعالت صيحاتها في ّأول جلسة للبرملان‬
‫العثماني‪ -‬إبان حكم عبد الحميد الثاني‪ -‬مطالبة‬
‫باالنفصال واالستقالل عن الدولة‪ ،‬وهذا يعني االنهيار‬
‫بشكل رسمي‪.‬‬
‫وكان األرمن قد سكنوا في شبه جزيرة األناضول قبل‬
‫عدة عصور‪ّ ،‬‬
‫وحتى قبل مجيء األتراك‪ ،‬فكانوا لذلك على‬
‫طريق الفاتحين‪ ،‬وفي منطقة النزاع بين اإلمبراطوريات‬
‫الكبيرة آنذاك وهي اإلمبرطورية البيزنطية والفارسية‪ّ ،‬‬
‫مما‬
‫ً‬
‫ّأدى إلى وقوعهم تارة تحت سيطرة هذه وطورا تحت‬

‫‪203‬‬
‫ّ‬
‫سيطرة تلك؛ ويعزى تشتتهم مع قلة عددهم إلى هذا‬
‫السبب‪ ،‬أي وقوعهم في منطقة الصدام بين‬
‫مما دفع البعض إلى االبتعاد عن منطقة‬‫اإلمبرطورتين‪ّ ،‬‬
‫القتال والتوجه إلى مناطق أخرى‪.‬‬
‫والشعب األرمني هو من األوائل الذين استوطنوا في‬
‫عد من الثقافات‬ ‫األناضول مع تراثهم وثقافاتهم التي ُت ُّ‬
‫التركية املختلفة‪ .‬ولم ُيعرف عن تلك الفترة أي‬
‫اضطرابات أو مشاكل مع األتراك‪ ،‬حيث كانوا يعيشون‬
‫بحرية‪ ،‬وبدون أي ضغط من َّأنهم مسيحيون يعيشون في‬
‫كنف دولة إسالمية‪ ،‬إذ كانت لهم حرية العبادات وبناء‬
‫الكنائس ضمن أمالكهم‪ ،‬ومن آثارهم القديمة كنيسة‬
‫مبنية على طراز أبنية السالجقة‪1.‬‬

‫ّ‬
‫وشكل األرمن في تاريخهم بعض اإلمارات والدول التي‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫كانت غالبا تحت سلطة الدول الكبرى وسيطرتها‪ ،‬وقلما‬
‫تيسرت لهم سبل االستقالل‪ ،‬وقد عانوا اضطهاد الدول‬ ‫ّ‬

‫‪1 - Recep Karacakaya: Türk Kamuoyu Ve Ermeni Meselesi )1908- 1923),‬‬


‫‪Cağaloğlu, Istanbul, 2005, pp:13-16.‬‬

‫‪204‬‬
‫الكبرى وثنيهم عن دينهم وعقيدتهم‪ ،‬ويستوي في هذا األمر‬
‫الفرس والبيزنطيون‪ ،‬إذ حاول الفرس تحويلهم عن‬
‫املسيحية‪ ،‬بينما حاول البيزنطيون تغيير مذهبهم‪،‬‬
‫وإدخالهم في املذهب األرثوذكس ي‪ ،‬ومحاربة لغتهم‬
‫وثقافتهم‪1.‬‬

‫ُّ‬ ‫وبعد ظهور اإلسالم ّ‬


‫وتوسع دولته‪ ،‬وتغلب املسلمين‬
‫على الفرس وعلى البيزنطيين‪ ،‬أصبح األرمن تحت حكم‬
‫ً‬
‫العرب املسلمين تارة‪ ،‬وطورا تحت حكم البيزنطيين‪ .‬وفي‬
‫عهد معاوية كان األرمن يتمتعون بحكم ذاتي مع ضمان‬
‫حرية عقيدتهم‪ ،‬كدأب املسلمين على احترام عقائد‬
‫اآلخرين على مدار التاريخ‪ .‬وليس بوسعنا هنا على أن‬
‫نستعرض جميع األدوار التاريخية التي ّ‬
‫مر بها األرمن في‬

‫‪- 1‬أورخان محمد علي‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.206‬‬

‫‪205‬‬
‫عهود الدول اإلسالمية‪ ،‬ولكن نستطيع أن نقول َّإنهم‬
‫عاشوا بسالم كامل مع الحكم اإلسالمي‪1.‬‬

‫وبدأت العالقة بين األرمن والدولة العثمانية في وقت‬


‫مبكر من عمر الدولة‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫وإبان توسعاتها في األناضول‪،‬‬
‫كإمارة حدودية على أطراف اإلمبرطورية البيزنطية‪ّ .‬‬
‫ولعل‬
‫ّأول ّاتفاق رسمي ذكره املؤرخون بين األرمن والعثمانيين‬
‫كان عام ‪1326‬م‪ ،‬فبعد أن أصبحت بورصة عاصمة ‪،‬‬
‫منحت الدولة األرمن الحق في تنظيم أنفسهم كجماعة‬
‫دينية بشكل مستقل‪ُ ،‬ونقلت مراكزهم الروحية‬
‫وكنائسهم إلى العاصمة الجديدة‪2.‬‬

‫ثم جاء محمد الفاتح لينقل العاصمة من جديد إلى‬


‫استنبول بعد فتحها‪ ،‬فاستمرت عالقته باألرمن‪ ،‬وأهدى‬
‫كنيسة "سولومانستر" إلى أسقف األرمن "يواقيم" املقيم‬

‫‪- 1‬يلماز أوزتونا‪ :‬تاريخ ا لدولة العثمانية‪ ،‬ترجمة عدنان محمود سليمان‪ ،‬مراجعة محمود‬
‫األنصاري‪ ،‬منشورات مؤسسة الفيصل للتمويل‪ ،‬تركيا‪ ،‬استنبول‪ ،‬ط‪ ،1‬ج‪ ،1990 ،2‬ص‬
‫‪.129‬‬
‫‪2- Erdal LLTer: Ermeni Meselesi, nin perspekti ve zeytun Isyanlari (1780-‬‬
‫‪1880), Ankara, 1988, p.29.‬‬

‫‪206‬‬
‫ً‬ ‫في بورسة‪ّ ،‬‬
‫وعينه بطريركا لألرمن الذين انتقلوا إلى‬
‫العاصمة الجديدة من جميع أنحاء األناضول‪ 1.‬وبعد هذا‬
‫نرى أن األرمن بدأوا ينزحون من بعض املدن في األناضول‬
‫تم إسكانهم في مناطق مختلفة منها‪،‬‬ ‫إلى استنبول‪ ،‬حيث ّ‬
‫ّأما الباقون في األناضول‪ ،‬فقد ُعهدت إلى معظمهم وظيفة‬
‫حراسة القالع‪ .‬وهكذا فقد عومل األرمن بكل عدل‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫ورحابة صدر وأطلق عليهم صفة "امللة الصادقة" نظرا‬
‫لخدماتهم التي ّ‬
‫قدموها إلى الدولة العثمانية‪2.‬‬

‫وكان األرمن ينتظمون في شؤونهم الدينية تحت‬


‫ً‬ ‫ً‬
‫املذهب األرثوذكس ي األوسع انتشارا‪ ،‬وقد ارتبطوا أيضا‬
‫ببطريركية الروم في استنبول املعروفة باسم بطريركية‬
‫الفنار‪ 3.‬وآنذاك أخذ املذهب الكاثوليكي ينتشر بينهم ّ‬
‫مما‬
‫ً‬
‫حدا بالباب العالي أن يعترف رسميا بالكنيسة األرمنية‬

‫‪1- Bernard Lewis and Benjamin Braud: Opcit , pp 89- 100.‬‬


‫‪- 2‬يوسف حالج أوغلو‪ :‬تهجير األرمن (‪ :)1918 -1914‬الوثائق والحقيقة‪ ،‬ترجمة أورخان‬
‫محمد علي‪ ،‬ط‪ ،1‬قدمس للنشروالتوزيع‪ ،2010 ،‬ص ‪.25‬‬
‫‪3- Ahmet Cevdit: Tarihi- I- Cevdet, Istanbul, 1309, XI, p.9.‬‬

‫‪207‬‬
‫الكاثوليكية‪ ،‬وذلك في عام ‪1831‬م‪ ،‬ثم تبعه االعتراف‬
‫بالكنيسة األرمنية البروتستانية‪1.‬‬

‫وعلى الصعيد الديني كان األ من ّ‬


‫موزعين على ثالثة‬ ‫ر‬
‫مذاهب من دون أدنى تدخل من الدولة العثمانية‪ ، ،‬التي‬
‫منحتهم حق انتخاب رجال الدين‪ ،‬وإدارة شؤونهم الدينية‬
‫الداخلية بواسطتهم‪ ،‬وعن طريق أساقفتهم املنتخبين في‬
‫ّ‬
‫كل املدن العثمانية‪.‬‬

‫‪1- Recep Karacakaya:op.cit, p.16.‬‬

‫‪208‬‬
‫عالقة األرمن بالدولة‬

‫الدعاية من األ من وغيرهم‪ّ ،‬‬


‫أن‬ ‫مروجو ّ‬ ‫ّادعى ّ‬
‫ر‬
‫العثمانيين أساؤوا معاملة غير املسلمين وبخاصة األرمن‬
‫منهم‪ ،‬غير َّأن الوقائع التاريخية تدحض ذلك‪،‬‬
‫ً‬
‫فالعثمانيون واألرمن عاشوا جنبا إلى جنب مدة ستمائة‬
‫سنة‪ ،‬وهل من املعقول أن يقوم العثمانيون فجأة بذبح‬
‫جميع األرمن !!!‪.‬‬
‫بعد إخضاع استنبول على يد محمد الفاتح سنة‬
‫ٌ‬
‫جديد من االزدهار الديني‪ ،‬االجتماعي‪،‬‬ ‫‪1453‬م‪ ،‬بدأ ٌ‬
‫عهد‬
‫االقتصادي والثقافي لألرمن‪ ،‬كما لغير املسلمين من‬
‫سكان الدولة الجديدة‪ .‬لقد سمح الحاكم العثماني ّ‬
‫األول‬
‫" عثمان باي" لألرمن بتأسيس مركزهم الديني األول‬
‫شمال األناضول‪ ،‬في "كوتاهية"‪ ،‬لحمايتهم من االضطهاد‬
‫ً‬
‫البيزنطي‪ ،‬وهذا املركز انتقل الحقا مع العاصمة‬
‫‪209‬‬
‫العثمانية‪ ،‬إلى بورصة عام ‪1326‬م‪ ،‬ثم إلى استنبول عام‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪1461‬م‪ ،‬حيث أصدر الفاتح فرمانا نهائيا بتأسيس‬
‫البطريركية األرمنية‪1.‬‬

‫كان األرمن "الغريغوريون ‪ "Gregorians‬كغيرهم من‬


‫املجموعات الدينية الرئيسية ينتظمون في مجموعات‬
‫نص الفرمان‬ ‫"امللل" تحت لواء قيادتهم الدينية‪ .‬وقد َّ‬
‫الذي أصدره الفاتح بتأسيس البطريركية األرمنية في‬
‫استنبول‪ّ ،‬أن البطريركية ليست القائد الديني وحسب‪،‬‬
‫ً‬
‫بل أيضا املدني‪ .‬وتمتع األرمن كاملسلمين بالحقوق نفسها‪،‬‬
‫ً‬
‫وكانت لهم أيضا امتيازات خاصة‪ ،‬من أهمها إعفاء من‬
‫الخدمة العسكرية‪ .‬وكان املسلمون يدفعون الخراج أو‬
‫الزكاة‪ ،‬بينما األرمن يدفعون الجزية‪ ،‬وقادتهم هم زعماء‬
‫امللل الدينية‪ ،‬يجمعون الجزية من أتباعهم‪ ،‬ويحولونها إلى‬
‫أمناء خزينة الدولة‪2.‬‬

‫‪1- The armenian issue in nine Questions and Answers, published by foreign‬‬
‫‪policy institute, Ankara, 1989, p.7.‬‬
‫‪2- Ibid: p.8.‬‬

‫‪210‬‬
‫وكان تعيين البطريرك األرمني يخضع لفرمان من‬
‫السلطان العثماني‪ ،‬بعد أن ّ‬
‫يتم انتخابه من القساوسة‪،‬‬
‫حيث ورد في جريدة " ثمرات الفنون"‪ّ :‬‬
‫"أتمت اللجنة‬
‫ّ‬
‫املؤلفة النتخاب بطريرك لألرمن في اآلستانة العلية‪،‬‬
‫أعمالها وقراراتها على حضرة رتبتلو "ماطؤس‬
‫أزميرليان"وقدمت مضبطة بذلك إلى نظارة العدلية‬
‫وتم التصديق على هذا االنتخاب‬ ‫واملذاهب الجليلة"‪ّ 1،‬‬
‫من قبل الحضرة السلطانية‪2.‬‬

‫وفي املقابل كان البطريرك األرمني في اآلستانة‪ ،‬وفي‬


‫أكثر األيام‪ّ ،‬‬
‫يتردد على الباب العالي‪ ":‬يتردد بطريرك األرمن‬
‫على الباب العالي‪ ،‬ويتداول مع حضرة الوكالء الفخام‪،‬‬
‫وما برح يوص ي أبناء قومه بالطاعة والخضوع للسلطنة‪،‬‬
‫ويحضهم على العمل بمهمتهم‪ ،‬واملواظبة على الدعوات‬ ‫ّ‬
‫الخيرية للحضرة السلطانية"‪3.‬‬

‫‪- 1‬جريدة ثمرات الفنون‪ :‬العدد ‪ 10 ،1011‬رجب ‪1312‬هـ‪ 26/‬كانون األول ‪1894‬م‪.‬‬
‫‪- 2‬املرجع نفسه‪ :‬العدد ‪ 2 ،1014‬شعبان ‪1312‬هـ‪ 16 /‬كانون الثاني ‪1895‬م‪.‬‬
‫‪- 3‬جريدة ثمرات الفنون‪ :‬العدد ‪ 13 ،1096‬ربيع الثاني ‪1314‬هـ‪ 9 /‬أيلول ‪1896‬م‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫ونتيجة إعفاء األرمن من الخدمة العسكرية‪،‬‬
‫انصرفوا إلى الزراعة والتجارة والصيرفة والصياغة‪،‬‬
‫وتفرغوا ألعمالهم أكثر من املسلمين الذين كانت حياتهم‬‫ّ‬
‫مليئة بالجهاد في حروب تكاد ال تنقطع‪ .‬والستمرار الوئام‬
‫والوفاق بينهم وبين الدولة العثمانية‪ ،‬أطلقت الدولة لقب‬
‫ّ‬
‫"امللة الصادقة" على األرمن‪ ،‬يقول جمال باشا في إحدى‬
‫مذكراته‪ ...":‬لقد عاش األرمن واألتراك في األناضول‪،‬‬
‫والرومللي واآلستانة‪ ،‬بل في طول الدولة وعرضها‬
‫إن تاريخ ذلك العهد‬‫متجاورين‪ ،‬وساد بينهم الوفاق‪ ،‬حتى ّ‬
‫ً‬
‫خال بتاتا من ذكر ش يء اسمه املسألة األرمنية‪ .‬وكانت‬
‫الصداقة بين األتراك واألرمن في الشؤون العائلية ال ّ‬
‫حد‬
‫لها‪ ،‬ومنها على سبيل املثال ّأن التركي كان إذا غادر قريته‬
‫في آسيا الصغرى لشؤون خاصة أو مصلحة شخصية‪،‬‬
‫عهد إلى جيرانه األرمن برعاية أسرته ومتابعة شؤونه‪،‬‬
‫والعناية بحقوقه‪ ،‬فقاموا بذلك خير قيام‪ ،‬وباملقابل كان‬
‫األرمن يبدون من جهتهم الثقة نفسها مع جيرانهم األتراك‪.‬‬
‫وكانت القداديس تقام باللغة العثمانية‪ ،‬واملناصب‬
‫‪212‬‬
‫عدوا من أكثر‬ ‫الحكومية مفتوحة أمام األرمن‪ ،‬وقد ّ‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫وأشدهم إخالصا‪ .‬وسمح‬ ‫الرعايا العثمانيين والء‬
‫السلطان "محمد الفاتح" للبطريركية األرثوذكسية‪،‬‬
‫بالبقاء في اآلستانة بعد سقوطها في أيدي العثمانيين‪،‬‬
‫عددا من الحقوق ّ‬ ‫ً‬
‫تسمى "باالمتيازات‬ ‫ومنح اليونانيين‬
‫ً‬
‫الدينية"‪ ،‬وأنشأ أيضا بطريركية أرمنية في عاصمة‬
‫مملكته‪1.‬‬

‫وعالوة على قيام األرمن بممارسة شعائرهم الدينية‬


‫ً‬ ‫ّ‬
‫بكل حرية‪ ،‬فقد منحوا أيضا حق انتخاب رجال الدين‬
‫بأنفسهم‪ ،‬وبعد دخولهم ضمن الحماية العثمانية‬
‫ّ‬
‫التكلم بلغتهم األرمنية بكل حرية ومن دون ّ‬
‫أي‬ ‫استمروا في‬
‫عائق‪ ،‬إذ قامت اإلدارة العثمانية بتطبيق السياسة‬
‫نفسها‪ ،‬التي كانت تتبعها مع الجماعات األخرى؛ وكانوا‬
‫ً‬
‫أحرارا في استعمال األسماء األرمنية‪ ،‬كما مارسوا‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫فعالياتهم الثقافية بلغتهم أيضا‪ .‬وقد أذن ألحد األساقفة‬

‫‪- 1‬جمال باشا‪ :‬مذكرات جمال باشا‪ ،‬إعداد محمد السعيدي‪ ،‬الكتاب األول‪ ،‬دار الفارابي‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬ط‪ ،2013 ،1‬ص ‪.472 -469‬‬

‫‪213‬‬
‫األرمن عام ‪1567‬م‪ ،‬بإنشاء املطبعة األرمنية‪ ،‬وذلك قبل‬
‫إنشاء املطبعة التركية بمئة وستين سنة‪ ،‬على عكس‬
‫اإلجراءات التي ّاتخذها "لويس الرابع عشر" ملك فرنسا‬
‫بإغالق املطبعة األرمنية في مدينة مرسيليا الفرنسية‪،‬‬
‫فأصبحت الصحافة األرمنية في الدولة العثمانية في ّ‬
‫توسع‬
‫دائم‪ .‬وعالوة على املطبعة األرمنية في استنبول‪ ،‬فقد‬
‫أنشئت مطابع في إزمير عام ‪1759‬م‪ ،‬وفي مدينة وان عام‬
‫‪1859‬م‪ ،‬وفي مدينة سيواس عام ‪1871‬م‪ .‬وفي عام ‪1908‬‬
‫بلغ عدد املطابع األرمنية في الدولة ‪ 38‬مطبعة‪ .‬وفي عام‬
‫‪1910‬م كان في استنبول وحدها خمس صحف وسبع‬
‫مجالت باللغة األرمنية‪1.‬‬

‫وأثناء فتح السلطان "ياووز سليم" بيت املقدس‬


‫سنة ‪1517‬م‪ ،‬وفد عليه البطريرك األرمني وبطريرك الروم‬
‫مع بقية القساوسة‪ ،‬والتمسوا منه أن يشملهم بكرمه‪،‬‬
‫فيبقي على الكنائس واملعابد تحت تصرفهم‪ُ ،‬وي ّ‬
‫جدد لهم‬

‫‪- 1‬يوسف حالج أوغلو‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.26‬‬

‫‪214‬‬
‫العهد الذي قطعه "عمر بن الخطاب" رض ي هللا عنه‬
‫و"صالح الدين األيوبي" منذ القديم‪ً .‬‬
‫وبناء على ذلك‪ ،‬فقد‬
‫حق التصرف في‬‫أعطى السلطان الرهبان األرمن والروم ّ‬
‫دير كمامة‪( 1،‬كنيسة القيامة) الواقع في بيت لحم‪،‬‬
‫ومفاتيح الباب الشمالي والشمعدانين ومصابيحها داخل‬
‫دير كمامة‪ ،‬وأوقاف املزارع والحدائق التي تعود على‬
‫الكنائس الكبرى‪ ،‬وهي مار يعقوب ودير الزيتون وحبس‬
‫املسيح‪ .‬واألمر نفسه بالنسبة إلى أتباع الدين من‬
‫األحباش واألقباط والسريان‪ُ ،‬فأعطي هؤالء ّ‬
‫حق‬
‫التصرف بمملكاتهم وتركاتهم‪ ،‬ولن يتعرضوا لهم‪ ،‬وقد‬
‫صدر األمر بأن ّ‬
‫يتم العمل بهذا القرار من قبل الرعايا‬
‫والوزراء الصالحين والقضاة وأمير األمراء وأمراء‬
‫السناجق وأمراء األلوية والضباط وغيرهم‪ .‬ومن يحاول‬

‫ا‬
‫‪- 1‬ديركمامة‪ :‬هي نفسها كنيسة القيامة وهو كان األكثر شيوعا في املصادر العربية‪ ،‬وهو‬
‫يتعلق بالصراع اليهودي املسيحي‪ ،‬وهي تنطلق من تقليد املسيحي الذي يقول أن اليهود دفنوا‬
‫خشبة صليب املسيح بعد صلبه‪ ،‬وغطوها بالقمامة‪ ،‬إلى أن اكتشف مكانها‪ ،‬واستخرجت في‬
‫عهد هيالنة‪ ،‬لذا جاء اسم كنيسة القمامة من هذه الو اقعة‪.‬‬

‫‪215‬‬
‫إنقاض أمري عليه لعنة هللا تعالى وعذابه‪ ،‬هذا الحكم‬
‫الهمايوني ّ‬
‫يتم حفظه واعتماده والعمل به‪.1‬‬
‫وقد صدرت العديد من الفرمانات التي تحمي األرمن‬
‫وتحافظ عليهم ومنها‪":‬تذكر النظارة أنه ‪ ،‬بموجب فرمان‬
‫أو قرار صادر عن البادشاه بخصوص إعفاء املكاتب‬
‫والجوامع وأماكن العبادة بمختلف أصنافها وتبعيتها‬
‫واملستشفيات وما إلى ذلك من املباني الخيرية‪ ،‬من دفع‬
‫الضرائب"‪2.‬‬

‫ّ‬
‫وتميز األرمن باتقان اللغات األجنبية‪ ،‬واملهارة في‬
‫بعض األعمال اإلدارية والشؤون املالية والصناعات‬
‫الدقيقة‪ّ ،‬‬
‫مما جعل الدولة تعتمد عليهم‪ ،‬وقد برزوا في‬
‫مجال الصيرفة‪ ،‬وكانوا املسؤولين عن دار ّ‬
‫صك النقود‪،‬‬
‫إن أسرة "دوزيان" األرمنية احتكرت نظارة هذه‬ ‫بل ّ‬
‫املؤسسة العثمانية‪ ،‬وبرزت عائلة "طبراميان" في صناعة‬
‫املجوهرات‪ ،‬وكانت املسؤولة عن توريد هذه املصنوعات‬
‫‪1- B.O.A:A.DVNS.KLS.d,8-7‬‬
‫‪2 B.O.A: ŞD,402/20-2 .‬‬

‫‪216‬‬
‫ثم أسرة‬‫إلى القصر السلطاني وكبار رجال الدولة‪ّ ،‬‬
‫"ارابياريان" التي أدارت مناجم الفضة‪ ،‬وأسرة "داديان"‬
‫التي كانت مسؤولة عن مصانع البارود والورق والنسيج‪،‬‬
‫وأسرة "باليان" التي حملت لقب "معمار باش ي سلطان"‬
‫أي كبير معماري السلطنة‪1.‬‬

‫وسمح لألرمن بإنشاء مؤسسات دينية لتوفير الدعم‬‫ُ‬


‫املادي لنشاطاتهم الثقافية والدينية والتعليمية واألعمال‬
‫الخيرية‪ ،‬وعند الحاجة كانت وزارة الخزانة العثمانية‬
‫تقدم مساعدات مادية إضافية إلى املؤسسات األرمنية‬ ‫ّ‬
‫التي كانت تقوم بمثل هذه النشاطات‪ ،‬وإلى البطريركية‬
‫‪ّ 2‬‬
‫وتمثلت املساعدات في ّ‬
‫كل نواحي الحياة‪،‬‬ ‫األرمنية نفسها‪.‬‬
‫فقد كانت الدولة العثمانية ّ‬
‫توزع كل عام مساعدات‬
‫مادية إلى كافة البطريركيات بكل طوائفها ومنها األرمنية‪":‬‬
‫صدرت اإلرادة السنية السلطانية باإلحسان على بطارقة‬

‫‪ - 1‬محمد رفعت اإلمام‪ :‬القضية األرمنية في الدولة العثمانية‪ ،‬القاهرة‪،2002 ،‬‬


‫ص‪.17-16‬‬
‫‪2- The Armenian issue in nine Questions and answers, op.cit, p8.‬‬

‫‪217‬‬
‫الطوائف املسيحية‪ ،‬على جاري العادة السنوية في أعياد‬
‫القوم‪ ،‬وقد بادرت نظارة املالية الجليلة بأداء ‪ 40‬ألف‬
‫قرش إلى بطريرك األ من"‪ 1.‬وكانت الدولة ّ‬
‫توزع‬ ‫ر‬
‫املساعدات العينية عند الحاجة وفي األزمات‪ ،‬إلى فقراء‬
‫األرمن‪ ":‬و ّزعت الدولة العلية ‪ 2670‬كيلو من الفحم على‬
‫ّ‬
‫محلة "توب كابي"‪2.‬‬ ‫فقراء األرمن الضعفاء القاطنين في‬
‫ولم يغرب عن بال الدولة العثمانية تخصيص ّ‬
‫مرتبات‬
‫شهرية إلى بطارقة األرمن السابقين‪ ":‬صدرت اإلرادة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫السنية بتخصيص أربعة آالف قرش راتبا شهريا إلى‬
‫حضرة رتبتلو "بارغميوس أفندي" وكيل بطريركية األرمن‬
‫ً‬
‫سابقا"‪ ،3‬وعندما تعرضت الدولة العثمانية لزلزال كبير‪،‬‬
‫تهدم الكثير من األبنية ومن بينها عدد من الكنائس‪،‬‬ ‫ّ‬
‫قامت الدولة العثمانية بتقديم مساعدات مادية إلعادة‬
‫تهدم‪ ":‬صد ت اإل ادة السنية بأن ّ‬‫إعمار ما ّ‬
‫يوزع على‬ ‫ر ر‬

‫‪ - 1‬جريدة ثمرات الفنون‪ :‬العدد ‪ 7 ،1560‬ربيع األول ‪1324‬هـ‪ 17/‬نيسان ‪1906‬م‪.‬‬


‫‪ - 2‬املرجع نفسه‪ :‬العدد ‪ 25 ،1160‬رجب ‪1315‬هـ‪ 8 /‬كانون األول ‪1897‬م‪.‬‬
‫‪ - 3‬جريدة ثمرات الفنون‪ :‬العدد ‪ 14 ،1112‬شعبان ‪1314‬هـ‪ 6 /‬كانون الثاني ‪1897‬م‪.‬‬

‫‪218‬‬
‫بطريركية الروم واألرمن ا لكاثوليك مبلغ وقدره سبعمائة‬
‫وخمسون ليرة عثمانية لتعمير ما هدمه الزلزال من‬
‫كنائس"‪1.‬‬

‫قدر رجال الدين األرمن هذه الهبات‬ ‫وفي املقابل ّ‬


‫واملكرمات التي تفضلت بها الدولة العثمانية على الشعب‬
‫ً‬
‫األرمني‪ ،‬حيث أصدر البطاركة عددا من التوجيهات إلى‬
‫عامة الناس من األرمن‪ ،‬بالتقيد باألنظمة العثمانية‬
‫ومنها‪ ":‬قرئت في كافة الكنائس األرمنية الوصية التي بعث‬
‫بها بطريرك األرمن والتي تدعو إلى التمسك بعرى‬
‫الصداقة واالستقامة تجاه الدولة العلية"‪2.‬‬

‫وازدهر املجتمع األرمني ّ‬


‫وتوسع نتيجة الحرية التي‬
‫منحها السالطين‪ ،‬وفي الوقت نفسه شارك األرمن‬
‫وساهموا في الثقافة التركية العثمانية وأسلوب حياتهم‪،‬‬
‫لدرجة ّأنهم نالوا ثقة خاصة من السالطين عبر قرون من‬
‫ّ‬
‫الزمن‪ ،‬فاكتسبوا صفة "امللة املخلصة"‪ .‬وأصبح األرمن‬
‫‪ - 1‬املرجع نفسه‪ :‬العدد ‪ 3 ،1010‬رجب ‪1312‬هـ‪ 19 /‬كانون األول ‪1894‬م‪.‬‬
‫‪ - 2‬جريدة ثمرات الفنون‪ :‬العدد ‪ 15 ،1020‬رمضان ‪1312‬هـ‪ 27 /‬شباط ‪1895‬م‪.‬‬

‫‪219‬‬
‫ً‬
‫أصحاب بنوك‪ ،‬تجارا وصناعيين‪ ،‬بينما ارتقى آخرون إلى‬
‫مراتب عالية في الجهاز الحكومي‪ ،‬وعلى سبيل ا ملثال‪ ،‬في‬
‫ً‬
‫القرن التاسع عشر اكتسب ‪ 20‬أرمنيا لقب "باشا" وكان‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫هناك ‪ 22‬وزيرا أرمنيا من بينهم وزراء خارجية‪ ،‬ووزراء‬
‫قدموا‬‫خزانة‪ ،‬وتجارة وبريد‪ ،‬باإلضافة إلى ّأن العديد منهم ّ‬
‫ً‬
‫مساهمات رئيسية في مجال الزراعة‪ .‬كان هناك ‪ 36‬نائبا‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫ُمنتخبا في البرملانات التي تشكلت بعد العام ‪1876‬م‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ومنهم سبعة سفراء‪ 11 ،‬قنصال‪ 11 ،‬بروفسور (عاملا)‬
‫و‪ 41‬شغلوا مناصب رسمية رفيعة‪1.‬‬

‫وبناء على هذه املكانة املرموقة التي ت ّبوأها األرمن في‬


‫ً‬
‫ً‬
‫الدولة العثمانية‪ ،‬ونظرا إلى خدماتهم وإخالصهم للدولة‪،‬‬
‫مر معنا‪ -‬لقب "مللت صادقة" أي‬ ‫فقد أطلق عليهم‪ -‬كما ّ‬
‫ّ‬
‫"األمة املخلصة"‪ ،‬وهذا ما أكده السلطان عبد الحميد‬
‫ّ‬
‫الثاني في مذكراته‪ ":‬وأستطيع القول‪ ،‬وأنا مرتاح القلب‪،‬‬
‫ّ‬
‫ّأن األرمن أفضل من يتبنون العثمانية‪ ،‬ومن يمثلونها؛‬

‫‪1- The Armenian issue in nine Questions and Answers, op.cit, p.8.‬‬

‫‪220‬‬
‫لقد خدموا حضارتنا‪ ،‬وعملوا على الحفاظ على دولتنا‪،‬‬
‫وظهر منهم عثمانيون ممتازون بخدماتهم وحسن‬
‫منا شكوى قط"‪1.‬‬ ‫صداقتهم‪ ،‬ولم تكن لأل من ّ‬
‫ر‬
‫ً‬
‫والدولة العثمانية هي الوحيدة التي اعترفت رسميا‬
‫باألديان السماوية الثالثة‪ ،‬وأوجد نظامها السياس ي‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تعايشا سلميا يسوده االنسجام؛ فقد بلغ عدد القوميات‬
‫فيها حوالي ستين قومية‪ ،‬وكان لها دور في بناء دولة قومية‬
‫ّ‬
‫حديثة‪ ،‬أو في إثارة مشاكل األقليات التي استعص ى حلها‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إال ّأنها تمكنت من إيجاد حلول‬ ‫على الحكومات الحديثة‪،‬‬
‫لها‪2.‬‬

‫وعاملت الدولة العثمانية األرمن معاملة جيدة‪،‬‬


‫فقدمت لهم ّ‬
‫كل أنواع املساعدة املادية واملعنوية‪،‬‬
‫ومنحتهم التراخيص إلنشاء الكنائس من دون تردد‪ ،‬إذا‬
‫كانت مطابقة للشروط القانونية‪ ":‬تم استدعاء بطريرك‬

‫‪- 1‬محمد حرب‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.122‬‬


‫‪- 2‬أحمد عبد الرحيم مصطفى‪ :‬في أصول التاريخ العثماني‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪،1992 ،‬‬
‫ط‪ ،2‬ص ‪.9‬‬

‫‪221‬‬
‫امللة األرمنية من قبل متصرف القدس‪ ،‬على أثر الطلب‬
‫الوارد بخصوص ترميم ثماني كنائس وإنشاء سبع ‪،‬‬
‫بمختلف أنحاء القدس‪ .‬قام البطريرك بعرض الخرائط‬
‫تم توجيه الطلب في منح‬ ‫وتم ّ‬
‫التثبت من املقاسات‪ ،‬لذلك ّ‬ ‫ّ‬
‫ترخيص لهم"‪ 1.‬بل ّإن الدولة العثمانية‪ ،‬وباإلضافة إلى‬
‫منح التراخيص إلنشاء الكنائس‪ ،‬كانت تأمر بإعطاء‬
‫األراض ي في حال عدم توفرها لبناء الكنائس‪ 2.‬وقد ذهبت‬
‫ّ‬
‫إلى ابعد من ذلك‪ ،‬عندما أبلغت امللة األرمنية في حلب‪،‬‬
‫تتكفل بمصاريف إنشاء بعض الكنائس‪3.‬‬ ‫بأنها ّ‬
‫ّ‬
‫وحتى إنشاء املكاتب واملدارس كانت تصدر بفرمانات‬
‫عن الدولة العثمانية‪ ،‬فقد وافقت الدولة على إنشاء‬
‫مكتب للملة األرمنية في بغداد‪ ،‬بعد أن امتأل املكتب‬
‫ّ‬
‫امللة‪4.‬‬ ‫السابق‪ ،‬ولم يعد يتسع لعدد الطالب من أبناء‬
‫وقامت بافتتاح إصالحية مخصصة لإلناث‬
‫‪1- B.O.A: AMD, 73/48.‬‬
‫‪2- B.O.A:DH.ID, 114-2/24-2.‬‬
‫‪3- B.O.A:BEO,1189/89137.‬‬
‫‪4- B.O.A:BEO,1821/136517.‬‬

‫‪222‬‬
‫"بروستجوك"‪ ،‬وسيتم قبول اإلناث املسلمين واملسيحيين‬
‫ّ‬
‫وكل أصناف الدولة العثمانية على حد سواء‪1.‬‬

‫ونتيجة هذه املعاملة من الدولة العثمانية‪ ،‬أقدمت‬


‫ّ‬
‫مجموعة كبيرة من امللة األرمنية في "بيرجيك" (تابع لوالية‬
‫حلب)‪ ،‬على إشهار إسالمها وطلبوا تغيير أسمائهم‪ ،‬كما‬
‫طالبوا الدولة بتحويل الكنائس التابعة لهم إلى مساجد‪2.‬‬

‫وتنقل جريدة "ثمرات الفنون" عن جريدة "املؤيد" ما‬


‫يلي‪ّ ":‬إن لألرمن في اآلستانة وحدها تسع وثالثين كنيسة‪،‬‬
‫وإحدى وخمسين مدرسة ابتدائية تحت رعاية‬
‫البطريركية‪ ،‬وخمس مدارس تجهيزية‪ ،‬ومدرسة صنائع‬
‫ً‬
‫فضال عن ّ‬ ‫ً‬
‫أن أبواب‬ ‫تحتوي على نحو ‪ 425‬تلميذا‪،‬‬
‫إن بعض‬ ‫املدا س الحكومية مفتوحة أمامهم‪ ،‬حتى ّ‬
‫ر‬
‫وجل تالمذتها من األرمن واألساتذة‬‫ّ‬ ‫املكاتب العالية‬
‫مما يساعدون‬ ‫األوروبيين الذين كانوا يساعدونهم أكثر ّ‬
‫بقية الطلبة‪ .‬وكان لألرمن عدة مدارس للبنات تحتوي‬
‫‪1- B.O.A:C.MF,131/6542.‬‬
‫‪2- B.O.A:DH.ŞFR,484/37.‬‬

‫‪223‬‬
‫ً‬
‫على ثالثة آالف فتاة"‪ .‬و"لألرمن أيضا مستشفى خاص‬
‫بهم ودار لأليتام‪ ،‬تجري عليهم ّ‬
‫املرتبات من السلطنة‪،‬ولهم‬
‫العديد من الجمعيات املختصة بنشر التعليم‪ ،‬ولها‬
‫وحدها في اململكة العثمانية ‪ 45‬مدرسة‪ ،‬منها ‪ 35‬للذكور‬
‫وعشرة لإلناث‪ ،‬ولجميع هذه املكاتب والجمعيات مرتبات‬
‫خاصة من الدولة العلية‪ ،‬فهل يقال بعد ذلك‪ -‬والكالم‬
‫لجريدة "ثمرات الفنون"‪ّ -‬إن طائفة األرمن مهضومة‬
‫الجانب‪ ،‬ضائعة الحقوق ّ‬
‫امللية‪ ،‬فاقدة وسائط الترقي‪،‬‬
‫واملدنية مغتصبة في مبادئ الحرية"‪1.‬‬

‫ّإن املجتمع الذي قامت على أساسه الدولة‬


‫ً‬
‫العثمانية كان متعددا‪ ،‬ومن غير الجائز أن يقوم من دون‬
‫بالتعددية‪ ،‬بما ال يتعارض وأهداف ّ‬
‫األمة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫االعتراف‬
‫وتمكنت الدولة من تحويل هذه ّ‬ ‫ّ‬
‫املكونات إلى عناصر‬
‫قوة وحيوية‬‫فاعلة‪ ،‬أعطت للنظام السياس ي العثماني ّ‬
‫ّ‬
‫مكنته من االستمرار واالمتداد والفتح‪ .‬ولم يكن هناك‬

‫‪- 1‬جريدة ثمرات الفنون‪ :‬العدد ‪ 15 ،1056‬جمادى الثانية ‪1313‬هـ‪ 20 /‬تشرين األول‬
‫‪1895‬م‪.‬‬

‫‪224‬‬
‫فصل بين املجتمع والدولة‪ ،‬بل كانا متداخلين أي ال‬
‫تعارض أو صدام بينهما‪ ،‬وعندما حدث ذلك كانت الدولة‬
‫في طريقها إلى االنهيار‪1.‬‬

‫لذلك حافظت األقليات الدينية في الدولة العثمانية‬


‫على كيانها الديني والثقافي (وفق نظام امللة)‪ ،‬وهذا لم‬
‫ّ‬
‫يمنع من اندماجها في الحياة العامة‪ ،‬فتقلد أبناؤها‬
‫مناصب عليا في الدولة كالوزراء واملستشارين‪ ،‬ونبغ منهم‬
‫األطباء والعلماء والفلكيون والشعراء واألدباء‪ ،‬وكان‬
‫النصارى واألرمن يقطنون في طول البالد العثمانية‬
‫وعرضها‪.‬‬
‫ونتيجة تسامح الدولة العثمانية مع األقليات‪،‬‬
‫ً‬
‫وخصوصا األرمن‪ ،‬عاش هؤالء في رفاهية وسعادة‪ ،‬وأثروا‬
‫بفضل مزاولتهم بعض الوظائف‪ ،‬كالتجارة والصيرفة‬
‫وصياغة الذهب‪ ،‬وقد بلغ عددهم داخل الدولة ما يقارب‬
‫املليون ً‪ .‬وكانت العائالت األرمنية املعروفة تعيش في‬

‫‪- 1‬كمال السعيد حبيب‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.227 -225‬‬

‫‪225‬‬
‫استنبول كاألمراء‪ ،‬وحرية األديان واملذاهب مؤمنة بشكل‬
‫حقيقي‪ ،‬فأكثر األرمن ينتمي إلى املذهب‬
‫األرثوذكس ي‪،‬ومنهم الكاثوليك والبروتستانت وكان‬
‫لبطاركتهم املكانة املرموقة في بروتوكول الدولة‪ .‬وكان‬
‫يحبون هذا الشعب الوديع‪ ،‬املنصرف ألعماله‪،‬‬ ‫األتراك ّ‬
‫املتقبل للثقافة التركية بشكل كبير واملتفهم لها إلى ّ‬
‫حد‬ ‫ّ‬
‫ما‪1.‬‬

‫وساهم األرمن عبر قرون عديدة في الفنون‪،‬‬


‫والثقافة العثمانية‪ ،‬فقدموا الفنانين على مستوى ٍ‬
‫عال‬
‫وقد استحقوا املديح‪ ،‬وكانوا مصدر فخر لألتراك‬
‫العثمانيين‪ ،‬فأول صحيفة أرمنية مطبوعة تأسست في‬
‫اإلمبرطورية العثمانية في القرن السادس عشر‪.‬‬
‫لذا عاش األرمن واألتراك وغيرهم من األقليات‬
‫الدينية واألعراق املختلفة بسالم وثقة متبادلة عبر قرون‬
‫من الزمن ومن دون أي شكاوى كبيرة ضد النظام أو‬

‫‪- 1‬يلمازأوزتونا‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.129‬‬

‫‪226‬‬
‫اإلدارة العثمانية‪ ،‬التي كانت هي األساس في إشاعة هذا‬
‫املناخ املريح وإن كانت من وقت آلخر تحدث بعض‬
‫املشاكل الداخلية بين امللل لكنها لم تكن خطيرة‪ ،‬فقد‬
‫ً‬
‫حدث مثال نزاع حول انتخاب بطريرك لألرمن أكثر من‬
‫ّ‬
‫مرة بين األرمن سكان األناضول وبين الوافدين من إيران‬
‫ً‬
‫والقوقاز؛ وهذه املجموعات غالبا ما اشتكت على بعضها‬
‫البعض لدى العثمانيين‪ ،‬في محاولة لكسب الدعم‬
‫ّ‬
‫الرسمي ملرشحهم ومصلحتهم الخاصة‪ ،‬وفي الوقت نفسه‬
‫كانوا يشتكون إلى العثمانيين كلما جاءت القرارات لغير‬
‫مصلحتهم‪ ،‬على الرغم من إصرار العثمانيين الدائم‬
‫الحفاظ على الحياد بين هذه املجموعات‪ .‬وقاد االنتصار‬
‫(التفوق) التدريجي للشرقيين إلى تعيين أشخاص غير‬‫ّ‬
‫ً‬
‫ملتزمين دينيا كبطاركة‪ ،‬مما ّأدى إلى فساد وسوء حكم‬
‫بين ملل األرمن‪ ،‬وإلى مواجهات دامية بين املجموعات‬
‫السياسية املتصارعة‪ ،‬على خلفية ذلك‪ ،‬حيث وجد‬

‫‪227‬‬
‫العثمانيون أنفسهم مجبرين على التدخل ملنع األرمن من‬
‫فناء بعضهم البعض‪1.‬‬

‫‪1- The Armenian issue Questions and Answers, op.cit, p.9.‬‬

‫‪228‬‬
‫تدهور العالقات العثمانية األرمنية‬

‫عاشت األقليات الدينية (املسيحية‪ -‬األرمنية‪-‬‬


‫اليهودية)‪ ،‬فترة رخاء ورغد من العيش طوال العهود األولى‬
‫ً‬
‫وخصوصا القرون األربعة ‪ّ ،‬‬
‫لكن هذه‬ ‫للدولة العثمانية‪،‬‬
‫تبدلت في نهاية القرن الثامن عشر‬ ‫األوضاع ما لبثت أن ّ‬
‫وبداية القرن التاسع عشر‪ .‬فعلى الرغم من كل‬
‫قدمتها الدولة العثمانية‪،‬‬‫التسهيالت والتقديمات التي ّ‬
‫لهذه األقليات‪ ،‬فما الذي حصل حتى تغير الوضع‬
‫ً‬
‫وانقلبت هذه األقليات‪ ،‬وخصوصا األرمن ضد الدولة‬
‫ّ‬
‫العدو األول‬ ‫العثمانية‪ ،‬وأصبحت الدولة في نظرهم تمثل‬
‫لألقليات‪ .‬فما الذي دفع هذه األقليات إلى االنتفاضة‪،‬‬
‫ً‬
‫وخصوصا األرمن الذين قاموا بثورة ضد الدولة‬
‫العثمانية‪ ،‬خاصة في املناطق الشرقية والحدودية‪،‬‬
‫وتصاعد وتيرة هذه الثورة أثناء الحرب العاملية األولى؟‬
‫‪229‬‬
‫وعلى فترات زمنية طويلة كان املجتمع التركي يجمع‬
‫كل الثقافات واملذاهب واألديان‪ ،‬والتعايش بين هذه‬
‫الثقافات في أحسن صوره‪ ،‬ومنذ بدايات القرن‬
‫العشرين‪ ،‬بدأت األحداث تظهر مع الخالفات بين الدول‬
‫األوروبية والدولة العثمانية‪ .‬حيث ّ‬
‫قدمت أوروبا الكثير‬
‫مما ساعد بعضهم‬ ‫من املساعدات والخدمات إلى األرمن ّ‬
‫على دخول الطبقة البرجوازية‪ .‬وفي هذه األثناء بدأت ّ‬
‫كل‬
‫من روسيا‪ ،‬وإنكلترا وفرنسا‪ ،‬بالتدخل بشكل الفت ومقلق‬
‫بحجة حماية األقليات‬‫ّ‬ ‫في أمور الدولة العثمانية‪،‬‬
‫وحقوقها‪.‬‬
‫ومنذ ذلك الوقت بدأت املسألة األرمنية تظهر إلى‬
‫العلن‪ ،‬وفي نهاية عام ‪1878‬م‪ ،‬كانت معاهدة "أيا‬
‫ّ‬ ‫استيفانوس" ّ‬
‫ثم معاهدة "برلين" اللتان ركزتا على إجراء‬
‫اإلصالحات لألرمن‪ 1.‬وبعد هذا بدأ الرأي العام التركي‬
‫ّ‬
‫باالنتباه إلى املسألة األرمنية‪ ،‬واإلعالم يركز عليها‪ ،‬في‬

‫‪1- A. Schopoff: Les Réformes et la protection de Chrétiens en Turquie )1673-‬‬


‫‪1904), Paris, librairie plan 1904, p.390.‬‬

‫‪230‬‬
‫ًّ‬
‫مهما عند‬ ‫الصحف‪ .‬وأخذت املسألة األرمنية منحى‬
‫الجمهور التركي بين عامي ‪1908‬م‪1923 -‬م‪ ،‬حيث ّ‬
‫تم‬
‫التركيز من قبل الصحف املحلية على كل األحداث‬
‫املتعلقة بهم‪ ،‬منذ بدء ظهور األرمن على الساحة‬
‫السياسية واستغاللهم من قبل الدول األوروبية‪ ،‬إلثارة‬
‫الفوض ى واالضطرابات ضمن الدولة العثمانية‪ ،‬وأخذت‬
‫الصحف البحث عن الوثائق والدالئل إلظهار الحقائق‬
‫حول هذه املسألة‪1.‬‬

‫وكانت املادة ‪ 61‬من معاهدة "برلين" تطلب من‬


‫الدولة العثمانية إجراء إصالحات لصالح األرمن في ‪6‬‬
‫واليات هي‪ :‬أرضروم‪ ،‬ديار بكر‪ ،‬سيواس‪ ،‬خربوط‪-‬‬
‫العزيز‪ ،‬وان وتبليس‪ّ .‬‬
‫لكن السلطان "عبد الحميد" لم‬
‫ً‬
‫يضع هذه املادة موضع التنفيذ أبدا‪ ،‬ورفض جميع‬
‫الضغوط التي أجرتها الدول الكبرى لتنفيذها ولم يكن‬
‫ّ‬
‫األرمن يشكلون األكثرية في هذه الواليات‪ ،‬وفي إحدى‬

‫‪1- Dr. Recep Karacakaya: op.cit, p.12.‬‬

‫‪231‬‬
‫املناسبات‪ ،‬أبلغ السلطان "عبد الحميد" السفير األملاني‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يفضل املوت على أن يضع هذه املادة موضع‬ ‫بأنه‬
‫التنفيذ‪1.‬‬

‫وشارك األرمن في جميع النشاطات االقتصادية‪،‬‬


‫وباألخص في مناطق البحر املتوسط وفي الشرق‪ ،‬حيث‬
‫ظهرت تجارتهم في هذه املناطق‪ ،‬وكانوا معفيين من‬
‫الخدمة العسكرية مقابل دفع الجزية‪ ،‬لذلك اشتهروا‬
‫ً ً‬
‫بالتجارة وبعضهم أصبح غنيا جدا‪.‬‬
‫وعلى الرغم كل هذه االمتيازات املمنوحة لألرمن في‬
‫ّ‬
‫إال ّأنهم بدأوا ّ‬
‫يتقربون من الدول‬ ‫اإلمبرطورية العثمانية‪،‬‬
‫األوروبية‪ ،‬وخاصة من فرنسا‪ ،‬ملصلحة التجارة في البداية‬
‫التي ما لبث أن تطور هذا األمر‪ ،‬ودخلوا في بروباغندا‬
‫الكاثوليك في عام ‪1630‬م‪ .‬وبمعنى آخر‪ ،‬جعلوا ارتباطهم‬
‫بالكنيسة الكاثوليكية في روما‪ ،‬التي أصبحت األب الروحي‬
‫لهم‪ .‬وفي البداية‪ ،‬استغلوا مساحة الحرية الدينية‬

‫‪- 1‬يلمازأوزتونا‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.130 -129‬‬

‫‪232‬‬
‫املعطاة لهم من الدولة ‪ ،‬وبدأوا بنشاطات سرية تابعة‬
‫للكنيسة الكاثوليكية‪ ،‬محاولين إقناع األرمن بأهمية‬
‫السير على خطى الكنيسة‪ ،‬على الرغم معارضة البعض‬
‫بعدم التدخل في أي نشاط ّ‬
‫يضر بهم‪.‬‬
‫وفي هذه األثناء بدأ الخالف بين األرمن حول موضوع‬
‫التقيد بالكنيسة الكاثوليكية على حساب بابا استنبول‬
‫الذي كانوا يتبعونه في األصل‪ ،‬ودخلت فرنسا على الخط‪،‬‬
‫فطلبت إقامة كنيسة في استنبول تابعة للكنيسة‬
‫الكاثوليكية في روما‪ .‬وبعد الضغوط من فرنسا على‬
‫تم في عام ‪1830‬م إنشاء الكنيسة‬ ‫الدولة العثمانية ّ‬
‫األرمنية التابعة لروما‪ .‬قامت إنكلترا في الوقت عينه بطلب‬
‫بحماية األقلية األرمنية البروتستانتية من دون أن يجبروا‬
‫ً‬
‫على ترك أرضهم‪ ،‬كما سعت أيضا باالشتراك مع أميركا إلى‬
‫إنشاء جمعية للبروتستانت في استنبول للحفاظ على‬
‫حقوقهم‪ .‬وفي ارضروم قام األميركيون بنشر املذهب‬
‫وتطورت األمور إلى أكثر من‬ ‫ّ‬ ‫البروتستانتي بين األرمن‪،‬‬
‫مدينة فدخل معهم الكثيرون؛ واستغل األميركيون هذه‬
‫‪233‬‬
‫القضية‪ ،‬وبدأوا بالضغط لفتح املدارس والكنائس في‬
‫تلك املناطق‪ ،‬وقاموا بتعليم تالمذة األرمن من دون‬
‫مقابل‪ ،‬بل على العكس كانوا يشجعونهم ّ‬
‫بكل الطرق‬
‫والوسائل لدخول هذه املدارس‪ .‬وما لبث أن انتقل‬
‫املبشرون باملذهب البروتستانتي إلى استنبول وفتحوا‬
‫املدارس واملعاهد واملعابد وعملوا على مساعدة األطفال‬
‫وتعليمهم التعاليم املسيحية البروتستانتية‪ .‬وما لبثوا أن‬
‫أصبحوا كتلة‪ ،‬وطالبوا بتعيين رئيس أو مسؤول عنهم‬
‫فكان لهم ما أرادوا‪ .‬وقد ّأدى التبشير وفتح املدارس‬
‫واملعاهد واملعابد‪ ،‬إلى ظهور حالة القلق لدى الدولة‬
‫العثمانية مما دفع باملسؤولين العثمانيين إلى مراقبة‬
‫ّ‬
‫بالتقرب‬ ‫األوضاع عن كثب‪ .‬وإلبعاد الشكوك قام األرمن‬
‫من السلطات إلبراز الطاعة للدولة‪ ،‬وتبيان حيادهم من‬
‫ّ‬
‫كل األمور التي تحصل‪1.‬‬

‫‪1- Dr. Recep Karacakaya: op.cit, p.13- 14.‬‬

‫‪234‬‬
‫املؤرخ األمريكي "جستن‬ ‫وفي هذا الصدد يقول ّ‬
‫مكارثي" عن القضية األرمنية ّإن االستعمار الروس ي‬
‫ّ‬
‫والتطفل األوروبي والعصبية الثورية األرمنية باإلضافة‬
‫إلى الضعف العثماني تشترك في مسؤولية ما لحق‬
‫باملنطقة من خراب ودمار زمن الحرب الكبرى ‪1914‬م وما‬
‫ّ‬
‫بعدها‪ّ 1.‬أما املؤرخ "جيرمي سولت" فيوثق دور التبشير‬
‫األمريكي واإلنسانية البريطانية في خلق املسألة األرمنية‪،‬‬
‫ّ‬
‫وينقل عن أحد املبشرين قوله‪ّ ،‬إنه لو تركت أوروبا األرمن‬
‫ثم إحباطهم‪.‬‬ ‫مع األتراك لكان أفضل بكثير من إثارتهم ّ‬
‫كما ُينقل عن املستشرق والعميل البريطاني "إيفن‬
‫فامبري" قوله‪ّ ":‬إن دور بريطانيا في إثارة الخالفات‬
‫واألحقاد بين عناصر الدولة العثمانية ال ينكره غير‬
‫األعمى"‪2.‬‬

‫‪- 1‬جستن مكارثي‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.24 -19‬‬


‫‪2- Jermy Salt: Imperialism Evangelism and the ottoman Armenians (1878-‬‬
‫‪1896), Frank Cass, London, 1993, pp 154- 155.‬‬

‫‪235‬‬
‫ً‬
‫وبدأت الدول األوروبية بإثارة األقليات (وخصوصا‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫األرمن) دينيا وسياسيا واقتصاديا من أجل مصالحها‪،‬‬
‫ً‬
‫فقامت محاوالت اإلثارة ‪ ،‬التي كانت جزءا من سياسة‬
‫الدول األجنبية تجاه الدولة العثمانية‪ .‬وقد أطلق‬
‫مصطلح "املسألة الشرقية" على السياسة التي ّاتبعتها‬
‫الدول األوروبية تجاه الدولة العثمانية‪ .‬وكما هو معلوم‬
‫ّإن "املسألة الشرقية" كانت في جوهرها محاولة للدول‬
‫األوروبية تهدف إلى تمزيق الدولة العثمانية وتوزيع‬
‫أمالكها في ما بينها‪ ،‬تحت ذريعة الدفاع عن حقوق‬
‫مواطنيها املسيحيين القاطنين فيها‪ .‬وأصبحت السياسة‬
‫الثابتة لهذه القوى التي كانوا يطلقون عليها اسم "الدول‬
‫ً‬
‫العظمى"‪ ،‬املطالبة أوال بحقوق امتياز للمسيحيين‪ ،‬ثم‬
‫بحكم ذاتي‪ ،‬االنفصال عن الدولة العثمانية‪ .‬وبعد أن‬
‫قويت األفكار القومية بعد الثورة الفرنسية عام ‪ 1789‬م‬
‫ّ‬
‫وانتشرت‪ ،‬استغلت بعض الدول األوروبية هذه األفكار‪،‬‬

‫‪236‬‬
‫واستخدمتها لتقويض الدولة العثمانية‪ ،‬وذلك بنشرها‬
‫بين أوساط املسيحيين في الدولة العثمانية‪1.‬‬

‫وتركت املسألة األرمنية آثارها السلبية على عالقة‬


‫الدولة العثمانية باألقليات‪ ،‬والتي بقيت لسنوات عديدة‬
‫مدار صراع بين الدولة العثمانية والدول األوروبية‪،‬‬
‫ً‬
‫وخصوصا روسيا وبريطانيا‪ ،‬فالروس كانوا يريدون‬
‫الوصول إلى املياه الدافئة‪ ،‬والبصرة وخليج اسكندرون‪،‬‬
‫بواسطة إمارة أرمنية تكون ألعوبة في يدها‪ .‬وكذلك كان‬
‫هدف بريطانيا إنشاء إمارة أرمنية متاخمة للحدود مع‬
‫روسيا‪ ،‬ملنع اقتراب الروس من هذه املناطق‪ّ ،‬أما فرنسا‬
‫فكانت تريد أن تكون "أرمنستان" تحت نفوذها‪ ،‬إلحياء‬
‫الذكرى البائدة للحروب الصليبية‪2.‬‬

‫وكان لظهور القوميات في أوروبا‪ ،‬والحركة الطورانية‬


‫في تركيا‪ ،‬ومعاناة الشعب األرمني‪ ،‬بحكم موقع املقاطعات‬
‫األرمنية بين ثالث أمبرطوريات –الفارسية والروسية‬
‫‪- 1‬يوسف حالج أوغلو‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.32 -31‬‬
‫‪ - 2‬يلمازأوزتونا‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.130‬‬

‫‪237‬‬
‫والعثمانية‪ ،-‬والضغط األوروبي ‪ ،‬أبلغ األثر في تدهور‬
‫العالقات العثمانية األرمنية‪ ،‬من خالل تضافر جهود‬
‫الكنيسة مع الشعب في سبيل إنشاء وطن قومي لهم‪ .‬وفي‬
‫ظل محافظة الكنيسة األرمنية على امتيازاتها‪ ،‬حيث لم‬
‫تعمد الدولة العثمانية إلى صهر العناصر األرمنية في‬
‫كيانها‪1.‬‬

‫ّ‬
‫وأفضل َمن لخص مسألة التدخل األوروبي في‬
‫شؤون الدولة العثمانية‪ ،‬وتدهور العالقات بين الدولة‬
‫واألقليات‪ ،‬وزير خارجية الدولة األرمني" نوردانجيان"‪،‬‬
‫ّ‬
‫حيث قال‪":‬لم يبق أحد إال ويعلم‪ّ ،‬أن مملكتنا جعلت‬
‫ً‬
‫ألوروبا يدا في شؤوننا الداخلية عبر الكثير من االمتيازات‬
‫َ‬ ‫واملعاهدات‪ ،‬حيث ّ‬
‫كنا ّ‬
‫مكبلين بمواثيق وسالسل‪ ،‬ك َمن‬
‫يحكم على نفسه باإلعدام"‪2.‬‬

‫وقد عاش األرمن واألتراك في ظل الدولة العثمانية‪،‬‬


‫متحابين‪ ،‬وساد بينهم الوفاق‪ ،‬حتى ّإن تاريخ ذلك العهد‬
‫‪ - 1‬أورخان محمد علي‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.208‬‬
‫‪- 2‬جريدة لسان الحال‪ :‬العدد ‪ 4 ،7202‬نيسان ‪1903‬م‪.‬‬

‫‪238‬‬
‫ً‬
‫(قبل منتصف القرن التاسع عشر) قد خال تماما من‬
‫ذكر ش يء اسمه املسألة األرمنية‪ ،‬إلى أن جاء الروس‪،‬‬
‫واختلقوا املشاكل‪ ،‬وفي ذلك يقول السلطان "عبد‬
‫الحميد"‪ ...":‬وظهر منهم (األرمن) عثمانيون ممتازون‬
‫بخدماتهم وحسن صداقتهم‪ ،‬ولم تظهر لألرمن شكوى‬
‫قط‪ّ .‬‬
‫لكن الروس كي يصلوا إلى آمالهم في بلغاريا‪ ،‬ولكي‬
‫يقتطعوا من السلطنة قطعة أرض جديدة ّلفوا األرمن‬
‫حول إصبعهم‪ ،‬وأرسلوا جواسيسهم بصحبة قساوستهم‬
‫ّ‬
‫ومعلميهم إلى األرمن‪ ،‬فألبوهم علينا‪ ،‬وانغمس هؤالء في‬
‫املغامرة"‪1.‬‬

‫ويوضح ّ‬
‫املؤرخان " شو" دور الدعاية الروسية التي‬
‫طورت واستعملت القضية األرمنية "بمهارة كبيرة" في‬ ‫ّ‬
‫الوقت الذي لم تكن روسيا سعيدة باالستقالل األرمني‬
‫عن الدولة العثمانية‪ّ ،‬‬
‫ألنه يثير األرمن وبقية القوميات‬
‫عندها‪ .‬وكانت تفضل إثارة االضطرابات للعثمانيين‬

‫‪- 1‬محمد حرب‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.124 -123‬‬

‫‪239‬‬
‫استغل الروس‬‫ّ‬ ‫فقط‪ ،‬وفي هذا الصراع الطويل‬
‫واألوروبيون األرمن‪ ،‬إلثارة املشاكل للدولة العثمانية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫مستقل على رقعة واسعة ال يشكلون فيها‬ ‫واملطالبة بوطن‬
‫األغلبية‪1.‬‬

‫ّإن حركة التململ التي بدأت من قبل األرمن‪ ،‬وانتهاز‬


‫ّ‬
‫فرص ضعف الدولة العثمانية‪ ،‬لم تبدأ في أول األمر إال‬
‫بتشويق وتمويل وتحريض روس ي من أجل خدمة املطامع‬
‫ً‬
‫علما ّ‬
‫بأن األرمن في روسيا القيصرية‪ ،‬كانوا‬ ‫الروسية‪،‬‬
‫ً‬
‫قاس وظروف سيئة جدا ال تقاس‬ ‫يرزحون تحت حكم ٍ‬
‫بالظروف الطبيعية‪ ،‬التي كان يعيشها األرمن في الدولة‬
‫ّ‬ ‫العثمانية‪ّ .‬‬
‫ويبرر أحد املؤلفين األرمن وهو "مخائيل‬
‫أوهانسيان" في كتابه املطبوع باللغة األرمنية سنة ‪1906‬م‬
‫باسم "الطاشناق ومعارضوه" سبب ظهور الحركات‬
‫األرمنية في الدولة العثمانية وليس روسيا القيصرية في‬
‫ً‬
‫قوله‪ّ ":‬إنه من الصعب جدا الوقوف والنضال أمام وحش‬

‫‪1- Stanford J. Shaw and Ezel Kural Shaw: Op.cit, pp. 188- 205.‬‬

‫‪240‬‬
‫كاسر مثل روسيا‪ ،‬لذا فمن األفضل واألنسب إبداء‬
‫الفعاليات في تركيا"‪ .‬ويالحظ ّأن معظم قادة الجمعيات‬
‫ّ‬
‫األرمنية التي قامت بالحركات املسلحة ضد الدولة‬
‫العثمانية‪ ،‬كانوا من أرمن القفقاس الروسية‪1.‬‬

‫وينقل "أورخان محمد علي" عن " سيدني واتمان" في‬


‫كتابه "ذكريات تركية" "‪ّ "Turkish Memories‬أن أحد‬
‫أن إحدى هذه الحركات‬ ‫اليهود في "طرابزون" قال‪ " :‬لو ّ‬
‫حدثت في روسيا‪ ،‬ملا بقي هناك أرمني واحد على قيد‬
‫الحياة‪ .‬وكان األرمن يؤخذون للجندية في روسيا‪،‬‬
‫ويرسلون إلى الخدمة في مناطق نائية عن بلداتهم‪،‬‬
‫ورسائلهم مراقبة‪ ،‬بينما يعيشون في رفاه داخل تركيا‪،‬‬
‫ويقتنون الثروات‪ ،‬ويعفون من الجندية‪ ،‬ومدارسهم ّ‬
‫حرة‬
‫يد ّ سون فيها تا يخهم القومي‪ّ ،‬‬
‫ويلقنون فيها العداوة‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫والخصومة للدولة العثمانية‪2.‬‬

‫‪- 1‬أورخان محمد علي‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.211‬‬


‫‪ - 2‬أورخان محمد علي‪ :‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪.212‬‬

‫‪241‬‬
‫تحرض األرمن القاطنين في الدولة‬ ‫وأخذت روسيا ّ‬
‫ً‬
‫داخليا‪ّ ،‬‬ ‫ً‬
‫ثم إثارة‬ ‫العثمانية للوصول أوال‪ :‬إلى إضعافها‬
‫مبرر للتدخل في شؤونها‬ ‫القالقل في وجهها‪ ،‬إليجاد ّ‬
‫ً‬
‫الداخلية‪ ،‬بدعوى الدفاع عن املسيحيين‪ ،‬ثانيا‪ :‬تشكيل‬
‫دولة أرمنية على حدودها مع الدولة العثمانية‪ ،‬تكون‬
‫متبعة بذلك نفس سياستها في‬ ‫تحت سيطرتها ونفوذها‪ّ ،‬‬
‫ولكنها عندما رأت‪ -‬أي روسيا‪ّ -‬أن الدول التي‬ ‫البلقان‪ّ ،‬‬
‫ساهمت في تشكيلها في البلقان‪ ،‬أمثال رومانيا وبلغاريا قد‬
‫ً‬ ‫ًّ‬
‫سدا وعائقا أمامها في‬ ‫انقلبت عليها‪ ،‬وأصبحت تشكل‬
‫وتكرر الخطأ نفسه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الوصول إلى البحر املتوسط‪،‬‬
‫وتحولت إلى سياسة‬‫فنفضت يديها من املسألة األرمنية‪ّ ،‬‬
‫القومية الروسية‪ ،‬أي تذويب جميع القوميات فيها‪ ،‬بمن‬
‫فيهم األرمن‪ ،‬فحورب األرمن في لغتهم‪ ،‬وكنيستهم‪،‬‬
‫وقوميتهم‪ ،‬من قبل الروس‪1.‬‬

‫‪ - 1‬أورخان محمد علي‪ :‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪.218‬‬

‫‪242‬‬
‫أن حضرة قيصر‬ ‫وقد ورد في الجرائد الروسية ّ‬
‫روسيا قال لسفير ا لدولة العلية في "فينا" بحضور‬
‫اإلمبرطور "فرنسوا جوزيف" إمبرطور النمسا ّ‬
‫إن األرمن‬
‫ّ‬
‫يستحقون الشفقة من أوروبا املتحدثة‪1.‬‬ ‫فوضويون‪ ،‬وال‬
‫وعانى األرمن في روسيا القيصرية ما عاناه اليهود‬
‫على أيدي القياصرة‪ ،‬فقد أوردت جريدة "ثمرات الفنون"‬
‫ً‬
‫ما يلي‪ ":‬أصبح حال األرمن في بالد الروس أسوأ حاال‪ ،‬فهم‬
‫معرضون للشقاء‪ ،‬وقد سقطوا بين أمرين أحالهما ّ‬
‫مر‪،‬‬ ‫ّ‬
‫فإما أن يهاجروا ويتركوا ثروتهم وعقاراتهم وأمالكهم‪ّ ،‬‬
‫وإما‬ ‫ّ‬
‫أن يصبروا على ما هم عليه تحت الحكم الروس ي‪ ،‬فتحت‬
‫الحكم العثماني لم يلحق بهم أي ش يء مما لحق بهم تحت‬
‫ّ‬
‫الحكم الروس ي‪ ،‬ومع ذلك كانوا يشتكون ويتظلمون‪،‬‬
‫فروسيا سلبتهم حقوقهم القديمة وألغت بعض‬
‫القوة ألساقفتهم على بطريركهم‪،‬‬‫امتيازاتهم‪ ،‬وأعطت ّ‬
‫ّ‬
‫وحطت من قدر لغتهم‪ ،‬وألغت طقوسهم الدينية‪،‬‬

‫‪- 1‬جريدة ثمرات الفنون‪ :‬العدد ‪ 13 ،1096‬ربيع الثاني ‪ 9 ،1314‬أيلول ‪1896‬م‪.‬‬

‫‪243‬‬
‫ومنعتهم من حقوق جنسيتهم‪ ،‬فاستولت على مدارسهم‪،‬‬
‫وضمت تالمذتها إلى مدارسها‬ ‫ّ‬ ‫وأبطلت معظمها‪،‬‬
‫الخصوصية التي ألغت منها اللغة األرمنية‪ ،‬ومنعتهم من‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تولي الوظائف إال الدنيا‪ ،‬وقد أملت بهم املصائب‪ ،‬وال‬
‫سيما ّأنهم باتوا منقسمين على بعضهم بسبب دسائس‬
‫الروس"‪1.‬‬

‫وكان األرمن يشتركون في إدارة اإلمبرطورية العثمانية‬


‫بنسبة تفوق عددهم‪ ،‬فلم يشاهد أو يسمع في الدول‬
‫االستعمارية‪ ،‬كإنكلترا وفرنسا وروسيا التي يسكنها‬
‫عشرات املاليين من املسلمين‪ ،‬عن وزير أو ّ‬
‫حتى نائب‬
‫واحد مسلم‪ .‬بينما كان من املمكن في الدولة العثمانية أن‬
‫ونواب من األرمن وغيرهم‪.‬‬‫يكون هناك وزراء ّ‬

‫سببت لهم‬‫وعلى الرغم من ذلك‪ ،‬لم يدرك األرمن ما ّ‬


‫الدول الكبرى من لعبها مع الشعوب الصغرى‪ ،‬وسوقهم‬
‫ّ‬
‫نحو ما تقتضيه رغباتها ومصالحها ثم التخلي عنهم‬

‫‪- 1‬جريدة ثمرات الفنون‪ :‬العدد ‪ 30 ،263‬محرم ‪1297‬هـ‪ 30/‬كانون األول ‪1879‬م‪.‬‬

‫‪244‬‬
‫ً‬
‫وجها لوجه مع الدولة العثمانية التي ّ‬
‫حرضتهم‬ ‫وتركهم‬
‫ضدها‪ .‬وهكذا تركت الدول األوروبية الكبرى األرمن‬
‫الذين أقحمتهم في هذه الورطة يلقون مصيرهم لوحدهم‪.‬‬
‫يؤد الحكم العثماني إلى صهر األرمن بفعل‬‫ولم ّ‬
‫تمسكهم بالديانة املسيحية‪ ،‬فالحقيقة ّأن الثورة‬
‫األرمنية كانت من نتائج مؤتمر "برلين" غير املباشرة‪،‬‬
‫ّ‬
‫فاألرمن لم يظفروا من هذا املؤتمر إال بوعدين من الباب‬
‫العالي هما إدخال اإلصالحات على الواليات الستة‪،‬‬
‫ومنحهم األمن واالستقرار‪ ،‬وبتعهد من الدول األوروبية‪،‬‬
‫بمراقبة تنفيذ الباب العالي لوعديه‪1.‬‬

‫مر معنا ‪ ،‬أعطت‬‫والواقع ّأن الدولة العثمانية‪ ،‬وكما ّ‬


‫كل حقوقهم ولم تمنعهم وتحرمهم من ش يء‪،‬‬ ‫األرمن ّ‬
‫وبالنسبة إلى اإلصالحات التي تطالب الدول األوروبية‬
‫لألرمن‪ ،‬ما هي إال سبب للتدخل في شؤون السلطنة‬
‫لتدميرها‪ّ ،‬‬
‫بحجة حماية هذه األقليات‪ّ .‬أما اإلصالحات‬

‫‪1- A. Schopoff: op.cit, p.390.‬‬

‫‪245‬‬
‫أقرها مؤتمر "برلين" فقد طالبت الدول األوروبية‬ ‫التي ّ‬
‫ً‬
‫الدولة العثمانية‪ ،‬العمل فورا على تطبيق البنود الواردة‬
‫لكن الدولة ماطلت بتطبيقها لجملة‬ ‫في هذا املؤتمر‪ّ ،‬‬
‫أسباب منها‪:‬‬
‫عدم قناعتها بتطبيق بنود املؤتمر‪ّ ،‬‬
‫ألن‬ ‫‪-1‬‬
‫األرمن لم يكونوا يشكلون األكثرية في‬
‫الواليات الست‪.‬‬
‫أخذت الدولة تماطل بتطبيق بنود املؤتمر‬ ‫‪-2‬‬
‫وأنها ال‬‫بحجة دراسة هذه اإلصالحات‪ّ ،‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ولكن األمر يتطلب وقتا‬ ‫تمانع في ذلك‪،‬‬
‫للتدقيق في بنود املعاهدة والقيام ببرنامج‬
‫إصالحي‪ 1.‬وكانت الدولة العثمانية ترى في‬
‫هذه اإلصالحات التي تطالب بها أوروبا ّأنها‬
‫محاولة لسلخ الواليات األرمنية عن‬
‫الدولة‪.‬‬

‫‪1- B.O.A: I.DUIT, 146/59-1.‬‬

‫‪246‬‬
‫ً‬
‫دائما في حالة ّ‬
‫تجدد‪ ،‬تقوم‬ ‫وكانت الدولة العثمانية‪،‬‬
‫ً‬
‫بإصالحات ‪ ،‬وخصوصا بعد عهد التنظيمات ‪ ،‬وقد أجرت‬
‫العديد منها بخصوص األرمن وغيرهم‪ 1،‬في الدولة‪ ،‬ولكن‬
‫ّ‬
‫تدخل الدول األوروبية من جهة‪ ،‬وعدم رض ى هذه‬
‫األقليات عن هذه اإلصالحات من جهة ثانية‪ ،‬كان ّ‬
‫يؤجج‬
‫نار الفتنة بين الدولة وهذه األقليات‪.‬‬
‫ً‬
‫وشعر األرمن بعد مؤتمر "برلين"‪ ،‬واعتبارا من العام‬
‫‪1881‬م ّأن الوقت قد حان ليحققوا آمالهم في‬
‫وأن الباب العالي لم يقم بتنفيذ‬ ‫االستقالل‪ ،‬خاصة ّ‬
‫مقررات مؤتمر برلين الخاصة باألرمن‪ -‬ألسباب باتت‬
‫نصت املادة ‪ .61‬في حين كانت‬ ‫معروفة من الجميع‪ -‬كما ّ‬
‫ً‬
‫اتصاالتهم بالعالم الخارجي تزيد مداركهم اتساعا‪ ،‬إذ‬
‫وقعوا تحت تأثير ا لبعثات التبشيرية الكاثوليكية‬
‫األوروبية والبروتستانتية األميركية والبريطانية‪ ،‬ومن هذا‬
‫املنطلق ّ‬
‫تحركت ميولهم القومية والعرقية والدينية‪2.‬‬

‫‪1- B.O.A:I.DUIT, 146/45-1.‬‬


‫‪- 2‬مصطفى كامل‪ :‬املسألة الشرقية‪ ،‬ص ‪.320 -301‬‬

‫‪247‬‬
‫ّ‬
‫وتأكدت الدوائر الحاكمة في استنبول ّأن بعض‬
‫األرمن يعملون كعمالء لروسيا وبريطانيا‪ ،‬وساورتها‬
‫الشكوك حول والئهم لها‪ ،‬ومن ثم نظرت إليهم على أنهم‬
‫خطر ّ‬
‫يهدد أمن الدولة في كيانها ومستقبلها‪1.‬‬

‫ّ‬
‫وبدأ األرمن يعتمدون على أنفسهم‪ ،‬متسلحين‬
‫بالعلم والثقافة األرمنية التي حافظوا عليها بدعم من‬
‫الكنيسة‪ .‬وانقسموا إلى فئتين الطاشناق (هم أعضاء‬
‫االتحاد األرمني الثوري)‪ ،‬الذي يطالب بحقوق األرمن‬
‫والوحدة‪ ،‬إن لم يكن بالحرية واالستقالل‪ .‬والفئة الثانية‬
‫ّ‬
‫املتمثلة بالبطريركية التي مثلت مصالح الطبقة التجارية‪.‬‬
‫وطالب البطريرك بحقوق العامة‪ ،‬لذلك عارضت‬
‫سياسته سياسة الطاشناق الثورية‪2.‬‬

‫‪1- William Miller: Op.cit, p.428.‬‬


‫‪2- Feroz Ahmed:" unionist Relation with the Greek Armenian and Jewish‬‬
‫‪Communities of the ottoman Empire (1908- 1914)" : in Christian and Jews in‬‬
‫‪the ottoman Empire, edited by: Benjamin Braud and Bernard Lewis, Vol.I,II,‬‬
‫‪publishers, New York, London, 1982, 8418.‬‬

‫‪248‬‬
‫وساندت روسيا انتفاضة الشعب األرمني في بادئ‬
‫األمر‪ ،‬وإن كانت قد راودتها فكرة استبدال مشروع‬
‫بلغاريا التي تبددت آمالها في إنشائه‪ ،‬إلثارة املتاعب في‬
‫وجه الدولة بهدف تفتيتها وإضعافها‪ ،‬واقتطاع ما يمكن‬
‫ّ‬
‫من ممتلكاتها‪ .‬ويتمثل هذا املشروع الجديد في تشجيع‬
‫األرمن على املطالبة باالستقالل أو تطبيق نظام الحكم‬
‫الذاتي‪1.‬‬

‫ّ‬
‫إال ّأن الروس‪ ،‬باإلضافة إلى األسباب التي ذكرناها‬
‫ً‬
‫سابقا‪ ،‬أدركوا ّأن الوسائل املتبعة في إضعاف الدولة‬
‫العثمانية بهذا األسلوب‪ ،‬كان من املمكن أن يصحبها نشر‬
‫مبادئ ثورية في البالد‪ ،‬قد يؤدي إلى قيام ثورات بين‬
‫أن التدخل البريطاني في‬ ‫الرعايا الروس‪ .‬ورأت روسيا ّ‬
‫املسألة األرمنية يخالف مصالحها‪ ،‬إذ كان البريطانيون‬
‫يهدفون إلى إنشاء دولة أرمنية في آسيا الصغرى تسير في‬
‫ركابهم‪ ،‬وتتخذها مطية لتحقيق أهدافهم‪ ،‬خشية قيام‬

‫‪1- Stanford J. Shaw : op.cit, p.200.‬‬

‫‪249‬‬
‫األرمن الخاضعين لسيطرتها بالتنادي لالنضمام إليها‪،‬‬
‫لذلك نفضت روسيا تأييدها للقضية األرمنية‪1.‬‬

‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وشكل "الطاشناق" املنظمات الثورية‪ ،‬ملحاربة‬
‫الوجود العثماني في مناطقهم‪ ،‬وإنشاء كيان مستقل بهم‪،‬‬
‫ّ‬
‫وقد تبنت قضيتهم بريطانيا بعد أن نفضت روسيا يدها‬
‫منهم‪ ،‬ورأت ّأن الفرصة سانحة لتوجيه ضربة قوية إلى‬
‫الروس‪ ،‬في مساعدة األرمن على إنشاء وطن قومي لهم‪،‬‬
‫ً‬ ‫ًّ‬
‫سدا منيعا أمام أطماع روسيا في الشرق‪ ،‬لذلك لم‬ ‫يكون‬
‫ّ‬
‫تتأخر في دعم املنظمات الثورية األرمنية باملال والسالح‪.‬‬
‫وعلى الرغم من رغبة البريطانيين في إقامة وطن لألرمن‪،‬‬
‫ّ‬
‫إال ّإنهم لم يسعوا إلى ذلك في بداية األمر‪ ،‬القتناعهم ّأن‬
‫ّ‬
‫األرمن لم يتمكنوا من مجابهة قوة األكراد واملسلمين‬
‫املنتشرين بينهم‪ ،‬وفي املناطق املجاورة لهم‪2.‬‬

‫‪- 1‬مصطفى كامل‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.341‬‬


‫‪2- Kemal H.Karpat: ottoman population (1850- 1914), the university of‬‬
‫‪Wiscomsim, press, 1985, p.51.‬‬

‫‪250‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫وقدمت بريطانيا الوعود لألرمن طبقا ملصالحها‪،‬‬
‫فسلحت منهم البروتستانت‪ ،‬ووعدتهم باملساعدة على‬
‫ّ‬
‫تأسيس مملكة أرمنية مستقلة وقد هدفت بريطانيا من‬
‫وراء هذا إلى ما يلي‪:‬‬
‫خلق بلبلة وزعزعة االستقرار داخل‬ ‫‪-1‬‬
‫الدولة العثمانية‪ ،‬إلجبار السلطان عبد‬
‫الحميد الثاني على الخضوع لرغباتها‪.‬‬
‫صرف نظر السلطان وباقي الدول‬ ‫‪-2‬‬
‫ّ‬
‫األوروبية عن تدخلها في مصر‪.‬‬
‫السيطرة على منطقة آسيا الصغرى‬ ‫‪-3‬‬
‫للوقوف في وجه روسيا املتوثبة نحو‬
‫الخليج العربي عبر العراق وبالد الشام‪.‬‬
‫كل من روسيا وفرنسا بإحداث‬ ‫إضعاف ّ‬ ‫‪-4‬‬
‫خالف بينهما‪ ،‬ودفعهما إلى التصادم وذلك‬
‫عن طريق تقسيم ممتلكات الدولة‬

‫‪251‬‬
‫العثمانية التي كانت تشكل بتماسكها‪،‬‬
‫ً‬
‫نا بين الدول األوروبية‪1.‬‬‫تواز‬
‫لقد وقفت أملانيا ضد سياسة بريطانيا وضد الثورة‬
‫ً‬
‫األرمنية في آن معا‪ ،‬وساندت الدولة العثمانية‪ ،‬وقد ّأدى‬
‫هذا املوقف إلى عرقلة جهودها‪ ،‬وتصاعد التوتر في بعض‬
‫عمت‬ ‫املناطق التي يقطنها األرمن‪ ،‬ولم يلبث أن ّ‬
‫االضطرابات‪ ،‬وأخذ األرمن يهاجمون جامعي الضرائب‬
‫لالستيالء على ما بحوزتهم من أموال‪،‬وعمال البريد‪،‬‬
‫يمزقون الرسائل البريدية‪ ،‬ولم يسلم القضاة‬ ‫وراحوا ّ‬
‫وسائر املوظفين العثمانيين من تعرضهم لالعتداء‪2.‬‬

‫ّ‬
‫وملا رأى األرمن ّأن الدول الكبرى‪ ،‬باستثناء بريطانيا‪،‬‬
‫ً‬
‫جديا‪ّ ،‬‬ ‫ً‬
‫صعدوا عملياتهم املسلحة‬ ‫لم تعر قضيتهم اهتماما‬
‫ووسعوا نشاطهم خارج األراض ي العثمانية‪،‬‬ ‫ضد الدولة‪ّ ،‬‬
‫فكونوا جمعيات ثورية من أشهرها جمعيتان‪" :‬الهاشناك"‬ ‫ّ‬
‫تكونت األولى في جنيف عام ‪1887‬م ونقلت‬ ‫و"الطاشناق" ّ‬

‫‪- 1‬مصطفى كامل‪ :‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.310 -301‬‬


‫‪2- Stanford J. Shaw: op.cit, p.203.‬‬

‫‪252‬‬
‫نشاطها إلى أثينا ّ‬
‫ثم إلى لندن‪ ،‬في حين تكونت الثانية في‬
‫روسيا عام ‪1890‬م‪1.‬‬

‫وأمام تراجع الدول األوروبية عن تأييد القضية‬


‫األرمنية‪ ،‬وفي الوقت نفسه نظر األرمن إلى وعود السلطان‬
‫ّ‬ ‫التي اعتبروها غير مجدية‪ّ ،‬‬
‫قرروا نقل نشاطهم املسلح إلى‬
‫العاصمة استنبول‪ ،‬فأحدثوا االضطرابات فيها ووقع عدد‬
‫كبير من القتلى بين الطرفين‪2.‬‬

‫ولم ييأس األرمن من تحقيق أمانيهم القومية‪،‬‬


‫فتعاونوا مع جمعية تركيا الفتاة‪ ،‬واستطاعوا انتزاع قرار‬
‫في مؤتمر باريس الثاني‪ ،‬الذي انعقد في شهر كانون األول‬
‫ّ‬
‫عام ‪1907‬م‪ ،‬تركز على إسقاط النظام وقيام حكومة‬
‫دستورية نيابية‪ ،‬ومع ذلك لم يخدم هذا القرار القضية‬
‫األرمنية بشكل مباشر‪3.‬‬

‫‪1- William Miller: op.cit, pp.428- 429.‬‬


‫‪- 2‬أ‪.‬ج‪ .‬جرانت وتمبرلي هارولد‪ :‬أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين‪ ،‬ترجمة علي أبو‬
‫درة ولويس إسكندر‪ ،‬مؤسسة سجل العرب‪،‬القاهرة‪1967 ،‬و ص ‪.60 -59‬‬
‫‪3- Bernard Lewis: The Emergence of modern Turkey, Oxford, 1962, p.206.‬‬

‫‪253‬‬
‫وشارك األرمن في الحياة السياسية إثر االنقالب‬
‫الدستوري في عام ‪1908‬م‪ ،‬لكن على نحو ضئيل يتناسب‬
‫ّ‬
‫مع تعدادهم‪ .‬واستغلوا وجود ممثلين لهم في مجلس‬
‫"املبعوثان" إلحداث بلبلة‪ ،‬يحدوهم األمل في ّأن الفوض ى‬
‫السياسية سوف تساعدهم على تحقيق مطالبهم‪1.‬‬

‫ّ‬
‫واستمر األرمن في جهودهم بعد العهد الحميدي لتحقيق‬
‫ّ‬
‫إال ّأن ّ‬
‫كل ما استطاعوا الحصول عليه‪،‬‬ ‫أمانيهم القومية‪،‬‬
‫ّ‬
‫هو نظام املراقبة األوروبية على أرمينيا‪ ،‬وتعيين مفتشين‬
‫عامين من دولتين محايدتين هما هولندا والنروج‪ ،‬ولكن‬
‫ُ‬
‫أوقف العمل بهذا النظام بعد قيام الحرب العاملية‬
‫األولى‪2.‬‬

‫وهكذا نرى ّأن األرمن كانوا يعيشون أفضل حياة في‬


‫ظل الدولة العثمانية‪ ،‬وكانوا أصحاب نفوذ قوي‪،‬‬
‫وامتلكوا الثروات الكبيرة‪ ،‬ولكن كان للتدخل األوروبي‬
‫األثر الكبير في تدهور العالقات مع الدولة العثمانية‪،‬‬

‫‪1- Stanford J. Shaw: op.cit, p.279.‬‬


‫‪2- William Miller: op.cit, p.431.‬‬

‫‪254‬‬
‫وسنتناول ما تناقلته جريدة ثمرات الفنون‪ ،‬عن التدخل‬
‫األوروبي في إفساد العالقة الجيدة بل املمتازة بين األرمن‬
‫والدولة العثمانية‪.‬‬
‫نقلت جريدة "ثمرات الفنون" عن بعض الصحف‬
‫أعدها السائح الشهير "ج‪.‬إكز ثميس"‬ ‫األوروبية دراسة ّ‬
‫مدة إقامته‬‫وطبعها في لندن‪ ،‬وقد ذكر فيها مشاهدته ّ‬
‫الطويلة في كردستان في شمال آسيا (من أمالك الدولة‬
‫العثمانية) في ديار بكر‪ ،‬وقد أخذت هذه الدراسة أهمية‬
‫ّ‬
‫كبرى‪ ،‬حيث ذكر فيها املؤلف ّأنه كان في تلك البقاع أيام‬
‫حدوث ما يسمونه "بالفظائع األرمنية" وشاهد بعينه كل‬
‫ّ‬
‫ما جرى‪ .‬وملخص ما قاله‪ّ ":‬إن األتراك غير متعصبين على‬
‫كل اإلنصاف في املسائل‬ ‫جيرانهم‪ ،‬بل هم أنصفوهم ّ‬
‫الدينية‪ ،‬ولكن غير ُم َّبرئين من بعض اإلهمال‪ ،‬بحيث لم‬
‫تكن أحوال النظام هناك كما ينبغي‪ّ ،‬‬
‫وإن ما ُينسب من‬
‫الحزازيات بين األكراد واألرمن في تركيا‪ ،‬ليس له دخل في‬
‫أمر اختالف الدين بينهم على اإلطالق‪ .‬والدليل على ما‬
‫أقول ّإن األلفة واالتحاد سائدان في بالد العجم التي يكثر‬
‫‪255‬‬
‫فيها عدد األرمن واألكراد‪ .‬وكذلك األمر في بالد الدولة‬
‫العلية‪ ،‬حيث األكراد يعيشون بصفاء البال مع األرمن‪،‬‬
‫تقو العوامل الدينية التي ّ‬
‫يبثها اإلنكليز واألميركان‬ ‫ولم َ‬
‫بقصد أفساد ذات البين‪ .‬وأكثر األرمن راحة وصفاء بال‪،‬‬
‫هم الذين يعيشون مع األكراد خلف سالسل الجبال‬
‫الشامخة ال يوسوس‪ ،‬وفيهم نازع إلى التفريق‪ ،‬على ّأنني‬
‫وتحققت من ّأن‬‫ّ‬ ‫قد علمت من مشاهداتي العديدة‪،‬‬
‫املسيحيين في الشرق‪ ،‬تالئمهم أكثر من غيرهم املعيشة‬
‫مع األتراك‪ ،‬أضعاف ما تالئمهم املعيشة مع األقوام من‬
‫أبناء جنسهم‪ .‬وقد أدخل األوروبيون إلى البالد املشرقية‬
‫ما لم تكن نتيجة حميدة (بذار الشقاق)‪ ،‬إذ كان‬
‫املسلمون واملسيحيون في بالد الدولة العلية يعيشون‬
‫بالصفاء والسكينة واالتحاد‪ ،‬وذلك قبل أن تنغرس في‬
‫يسمونه بعجبة الجنس (العرق)‪ .‬وزد على ذلك‬ ‫قلوبهم ما ّ‬
‫ّ‬
‫فإن املسيحيين في ّ‬
‫كل هذه األزمنة كانوا يتمتعون بالحرية‬
‫املطلقة في واجباتهم الدينية‪ ،‬حيث كان األمر بعكس ذلك‬

‫‪256‬‬
‫في أوروبا‪ ،‬إذ أتى زمن على الطوائف املسيحية ينتهش‬
‫ً‬
‫بعضا‪ ،‬ويقاتل كل فريق اآلخر"‪1.‬‬ ‫بعضها‬
‫ونقلت جريدة "ثمرات الفنون" عن جريدة‬
‫"الجيبشن هرالد" ما يلي‪ ":‬ليت شعري ملاذا يكون جميع‬
‫العناصر النصرانية املقيمين مع األرمن‪ ،‬يعيشون بالراحة‬
‫ّ‬
‫إال طائفة األرمن‪ ،‬وما معنى كون‬ ‫واملحبة مع املسلمين‪،‬‬
‫مضطهدين في عقائدهم وشعائرهم الدينية‪ ،‬حيث‬ ‫األرمن ّ‬
‫ّ‬
‫تكون بقية الطوائف األخرى ساملة من االضطهاد‪ ،‬وإال‬
‫ملاذا لم تشترك الطوائف املسيحية األخرى مع األرمن في‬
‫ّ‬
‫إحداث االضطرابات والقالقل‪ ،‬أليس ذلك كله لكون‬
‫ُّ‬
‫تحركهم أيدي الدسائس األجنبية وأالعيب‬ ‫األرمن‪،‬‬
‫السياسة"‪2.‬‬

‫وتتابع جريدة "ثمرات الفنون" نقل األخبار عن‬


‫ً‬
‫الجرائد األوروبية‪ ،‬كيف كان للتدخل األوروبي وخصوصا‬
‫البريطاني‪ ،‬األثر الكبير في تدهور العالقات بين الدولة‬
‫‪- 1‬جريدة ثمرات الفنون‪ :‬العدد ‪ 12 ،1027‬ذي القعدة ‪1312‬هـ‪ 24/‬نيسان ‪1895‬م‪.‬‬
‫‪- 2‬املصدرنفسه‪ :‬العدد ‪ 17 ،1052‬جمادى األولى ‪1313‬هـ‪ 23/‬تشرين األول ‪1895‬م‪.‬‬

‫‪257‬‬
‫العثمانية واألرمن‪ ،‬حيث نقلت في أحد أعدادها ما يلي‪":‬‬
‫بالشر والطغيان في أنحاء‬ ‫ّ‬ ‫ّإن األرمن هم املتسببون‬
‫األناضول واآلستانة‪ ،‬وقد برهنت الحالة الراهنة ّ‬
‫بأن‬
‫إنكلترا هي املثيرة لألرمن‪ ،‬بل لعوامل الفوض ى العامة‪ ،‬وكل‬
‫ما جرى لألرمن البسطاء ّإنما هو بسببها وإغرائها لهم‪ّ ،‬أما‬
‫وزارة املحافظين اإلنكليزية فال تريد أن تنظر إلى الحوادث‬
‫بل أن تكون اآلمرة في بالد الشرق‪ ،‬فلذلك كانت هذه‬
‫االضطرابات من شأنها أن تخدم مشروعاتها وغاياتها‪،‬‬
‫تتكلم عنها ّ‬ ‫ّ‬
‫بكل‬ ‫ولذلك كانت تهيء أسباب املشاكل ثم‬
‫تشاؤم ّ‬
‫وتطير"‪1.‬‬

‫وجاء في جريدة "الطان" ّإن إحدى األرمنيات فقدت‬


‫زوجها وابنها أثناء األحداث األخيرة‪ ،‬فأصبحت بال عضد‬
‫وال معين‪ ،‬وقد صادفت أنها شاهدت أحد مراسلي‬
‫ً‬
‫الصحف اإلنكليزية ما ّرا في جهتها‪ ،‬فخاطبته وهي تبكي‪:‬‬

‫‪- 1‬جريدة ثمرات الفنون‪ :‬العدد ‪ 15 ،1056‬جمادى الثانية ‪1313‬هـ‪ 20 /‬تشرين الثاني‬
‫‪1895‬م‪.‬‬

‫‪258‬‬
‫ّ‬
‫وصدقناكم‪،‬‬ ‫"خرب هللا دياركم أنتم الذين ّ‬
‫غررتمونا‬ ‫ّ‬
‫فتب ًا لكم ولسياستكم"‪1.‬‬ ‫ً‬
‫وأيتاما‪ّ ،‬‬ ‫فأصبحنا أرامل‬
‫وكتب أحد الصحفيين اإلنكليز رسالة ّ‬
‫مطولة إلى‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫فيها‪":‬إن رجاال مثل املستر‬ ‫جريدة "التايمز" جاء‬
‫"غالدستون" وأسقف جبل طارق اإلنكليزي‪ ،‬إن كان‬
‫عندهم ضمير سياس ي فال يستطيعون أن ينكروا ّ‬
‫حتى‬
‫على أنفسهم ّأنهم مسؤولون عن دماء األرمن املسفوكة‬
‫بقدر ما هي مسؤولة عنه اللجان الثورية‪ ،‬وليس ذلك‬
‫ُ‬
‫فحسب‪ ،‬بل ّإن االجتماعات العمومية التي تعقد في بالد‬
‫ّ‬
‫اإلنكليز ليس من شأنها إال التغرير باألرمن وإغراءهم على‬
‫إتيان منكرات جديدة"‪2.‬‬

‫ً‬
‫وأخيرا أرسلت ملكة إنكلترا رسالة إلى السلطان‬
‫العثماني‪ ،‬تضمنت حسب ما أفادتنا "شركة رويتر‬
‫ً‬
‫التلغرافية" اعتذارا عن السياسة الخرقاء التي انتهجها‬

‫‪ - 1‬جريدة ثمرات الفنون‪ :‬العدد ‪ 13 ،1060‬رجب ‪1313‬هـ‪ 18/‬كانون األول ‪1895‬م‪.‬‬


‫‪- 2‬املصدرنفسه‪ :‬العدد ‪ 12 ،1100‬جمادى األولى ‪1314‬هـ‪ 19/‬تشرين األول ‪1896‬م‪.‬‬

‫‪259‬‬
‫"سالسبوري" تجاه األرمن في تأليبهم ضد السلطنة‬
‫العثمانية‪1.‬‬

‫‪ - 1‬جريدة ثمرات الفنون‪ :‬العدد ‪ 2 ،1106‬رجب ‪1314‬هـ‪ 25/‬تشرين ا لثاني ‪1896‬م‪.‬‬

‫‪260‬‬
‫استنتاج‬

‫ّإن الحرية املمنوحة والتسامح الكبير الذي أظهره‬


‫ً‬
‫معروفا في ّ‬
‫كل أوروبا حتى‬ ‫العثمانيون لغير املسلمين‪ ،‬كان‬
‫أصبحت اإلمبرطورية العثمانية ملجأ للهاربين من‬
‫ً‬
‫االضطهاد الديني والسياس ي بدءا بآالف اليهود الذين‬
‫هربوا من االضطهاد الذي تال إعادة االستيالء على‬
‫األندلس عام ‪1492‬م‪ .‬لقد لجأ اليهود إلى اإلمبرطورية‬
‫ً‬
‫العثمانية هربا من املذابح التي كانوا عرضة لها في وسط‬
‫وشرق أوروبا وروسيا‪ .‬كما ّأن الكاثوليك والبروتستانت‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫فروا إلى اإلمبرطورية العثمانية‪ ،‬وغالبا ما دخلوا في خدمة‬
‫وقدموا مساهمات أساسية للحياة العسكرية‬ ‫السالطين‪ّ ،‬‬
‫فر العديد من الالجئين السياسيين إلى‬‫والحكومية‪ .‬كذلك ّ‬
‫اإلمبرطورية العثمانية‪.‬‬

‫‪261‬‬
‫ً‬
‫وعاش األرمن في كنف الدولة العثمانية قرونا‬
‫لكن‬‫طويلة‪ ،‬ولم يظهر أي شكوى أو تذمر من الطرفين‪ّ ،‬‬
‫مطامع الدول األوروبية بأراض ي السلطنة دفع هذه الدول‬
‫إلى اختيار األرمن من بين مسيحيي الدولة لتقويض‬
‫دعائمها‪ .‬ومن املسائل التي تركت آثارها السلبية على‬
‫عالقة الدولة العثمانية باألقليات‪ ،‬القضية األرمنية التي‬
‫بقيت لسنوات عديدة مدار صراع بين الدولة العثمانية‬
‫ً‬
‫والدول األوروبية‪ ،‬وخصوصا روسيا وبريطانيا‪ ،‬فالروس‬
‫كانوا يريدون الوصول إلى املياه الدافئة‪ ،‬والبصرة‪ ،‬وخليج‬
‫اسكندرون‪ ،‬بواسطة إمارة أرمنية تكون ألعوبة في يدها‪.‬‬
‫وكذلك كانت بريطانيا تريد إنشاء إمارة أرمنية متاخمة‬
‫للحدود مع روسيا للحيلولة دون اقتراب الروس من هذه‬
‫املناطق‪.‬‬
‫لذلك حاولت الدول األوروبية‪ ،‬وفي مقدمتهم‬
‫بريطانيا‪ ،‬من خالل تحريض األقليات غير املسلمة على‬
‫الدولة وإثارة مخاوفها من جهة‪ ،‬وإغرائها بتغذية أطماعها‬
‫واالنفصال عن الدولة من جهة أخرى‪ .‬وإضعاف االنتماء‬
‫‪262‬‬
‫والوالء الوطني لديها‪ ،‬لتفتيت املجتمع وخلخلة تماسكه‬
‫ليكون الصراع ذريعة للتدخل األجنبي وبسط نفوذ الدول‬
‫ّ‬
‫املستفيدة واملغذية للصراع‪ ،‬لتحقيق أهدافها‬
‫ومصالحها‪ ،‬وال سيما أن أراض ي الدولة العثمانية تحوي‬
‫فضال عن كونها تسيطر على الطرق‬ ‫ً‬
‫الكثير من الثروات‪،‬‬
‫ً‬
‫التجارية البرية والبحرية تقريبا من ثالث قارات‪ ،‬كما أن‬
‫ٌ‬
‫الدولة العثمانية سوق لتصريف منتجاتها‪ ،‬ومصدر‬
‫للمواد األولية‪ ،‬لذا سعت الدول األوروبية إلى دعم‬
‫األقليات واستغاللها‪.‬‬
‫كل اإلصالحات التي قامت بها الدولة‬ ‫وعلى الرغم من ّ‬
‫ً‬
‫العثمانية تجاه األقليات‪ ،‬تجاوبا مع رغباتها ورغبة الدول‬
‫ّ‬
‫األوروبية‪،‬على األقل لكف يدها عن التدخل في شؤونها‬
‫الداخلية‪ .‬لكن رأت هذه الدول ّأن اإلصالحات غير كافية‪.‬‬
‫طبق‪ ،‬وغير مرعية‪ ،‬فطالبوا باملزيد منها‪،‬‬ ‫وأعلنت ّأنها ال ُت َّ‬
‫وطلبوا من الدول األوروبية الضغط على الدولة من أجل‬
‫الحصول على الكثير من اإلصالحات واالمتيازات‪.‬‬
‫فالقضية ليست قضية إصالحات أو امتيازات‪ّ ،‬إنما‬
‫‪263‬‬
‫ّ‬
‫الضغط على الدولة القتسام أمالكها‪ ،‬وهكذا احتلت‬
‫مسألة األقليات مكانة الصدارة في السياسة العثمانية في‬
‫حتى أصبحت الشغل الشاغل‬ ‫نهاية القرن التاسع عشر‪ّ ،‬‬
‫لها‪.‬‬

‫‪264‬‬
‫املالحق‬

‫‪265‬‬
‫ملحق رقم ‪1‬‬

‫‪266‬‬
‫‪BOA: A.DVN.S.KLS. d-8/7‬‬
‫الفرمان الذي منحه السلطان سليمان القانوني إلى رهبانية القدس الشريف‬
‫ّ‬
‫وفـيه يؤكد القانوني علـى الفرمان الذي أعطاه والده السلطان سليم األول لنفس الرهبنة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تصرف رجال الدين‬ ‫وفـيه يؤكد القانوني علـى أن تبقى الكنائس وأماكن العبادة تحت‬
‫ّ‬
‫املسيحين كما يؤكد الفرمان علـى إعفاء أماكن العبادة من مختلف الضرائب والرسوم‬
‫الجمركية‪.‬‬

‫‪267‬‬
‫ملحق رقم ‪2‬‬

‫‪BOA: A.DVN.S.KLS. d 8/8‬‬


‫الفرمان الذي منحه السلطان سليم األول بعد فتحه القدس وفـيه‬
‫يؤمن املسيحيون علـى أرواحهم وأموالهم وأماكن عبادتهم وإعطائهم كامل‬
‫الحرية الدينية‪.‬‬

‫‪268‬‬
‫ملحق رقم ‪3‬‬

‫الفرمان الذي منحه‬


‫محمد‬ ‫السلطان‬
‫الفاتح ألهالي البوسنة‬
‫بعد فتحها وفيه ّ‬
‫يؤمن‬
‫الفاتح أهالي البوسنة‬
‫على أموالهم وأمالكهم‬
‫وحرية‬ ‫وكنائسهم‬
‫عبادتهم‬

‫‪269‬‬
‫ملحق رقم ‪4‬‬

‫‪BOA: A.DVNS.KLS. d-8/6‬‬


‫الفرمان الذي منحه السلطان محمد الفاتح لرهبانية القدس بعد فتح‬
‫القسطنطينية‪ ،‬وقبل فتح القدس من ِقبل السلطان سليم األول بأربع وستون سنة وذلك‬
‫بعدما ملس املسيحيون حسن معاملة األقليات الدينية والذي أمنهم فـيه محمد الفاتح علـى‬
‫أمالكهم وكنائسهم ومعابدهم‬

‫‪270‬‬
‫ملحق رقم ‪5‬‬

‫‪271‬‬
‫تابع ملحق رقم ‪5‬‬

‫وثيقة شكر وإمتنان من الجالية اليهودية في لندن إلى‬


‫الدولة العثمانية وفيها يشكرون الدولة على حسن‬
‫إستقبالها الهاربين اليهود من إضطهاد الدولة‬
‫اإلسبانية بعد سقوط األندلس عام ‪1492‬م‪.‬‬

‫‪272‬‬
‫ملحق رقم ‪6‬‬

‫وثيقة عثمانية تمنح األرمن ترميم ثماني كنائس وإنشاء‬


‫سبعة جدد في القدس الشريف‪.‬‬

‫‪273‬‬
‫ملحق رقم ‪7‬‬

‫‪BOA: ŞD.00402 / 00020 – 002‬‬


‫وثيقة تعفي كل أماكن العبادة من دفع الضرائب‬
‫(املسيحية واليهودية واألرمنية)‪.‬‬

‫‪274‬‬
‫ملحق رقم ‪8‬‬

‫‪BOA: ŞD.02308 / 00017 – 001‬‬


‫وثيقة عثمانية تظهر إعفاء الفقراء واألرامل من دفع‬
‫الجزية لغيراملسلمين‪.‬‬

‫‪275‬‬
‫آلئحة املصادرواملراجع‬

‫‪276‬‬
‫ا‬
.‫ القرآن الكريم‬:‫أوال‬
‫ا‬
:‫ الوثائق العثمانية‬:‫ثانيا‬
1- B.O.A: SD, 2308/17-5.
2- B.O.A: AMTZ(04), 16/18.
3- B.O.A: Z.MF.MKT, 1044/75 (7-12).
4- B.O.A: Z.MF.MKT, 1044/75(3-3).
5- B.O.A: A.DVNS.KLS,d8/7.
6- B.O.A: A.DVNS.KLS,d8/8.
7- B.O.A: YEE, 14/1540.
8- B.O.A: HR.SYS, 1963/1.
9- B.O.A: HR.SYS, 1967/3.
10- B.O.A: A.MTZ(04), 43/33.
11- B.O.A: A.MTZ(04), 16/18(38).
12- B.O.A: SD, 402/20-2.
13- B.O.A: SD, 2308/17-5.
14- B.O.A: A.DVN.DVE.D, 14/2.
15- B.O.A: A.DVN.KLS.D, 8/6

277
16- B.O.A: A.MTZ(04), 16/55.
17- B.O.A: I.AZN, 113/20-2.
18- B.O.A: I.SD, 49/2728-1.
19- B.O.A: DH,ID, 14-2/24-2.
20- B.O.A: BEO, 1189/89137.
21- B.O.A: C.MF, 131/6542.
22- B.O.A: A.DVN.NMH, 6/1.
23- B.O.A: A.DVN.MHM, 2/12.
24- B.O.A: BEO, 2663/199707-1.
25- B.O.A: MVL, 312/53-2.
26- B.O.A: A.DVN.MHM, 10/20.
27- B.O.A: A.DVN, 115/75.
28- B.O.A: I.DH, 630/43827.
29- B.O.A: BEO, 2246/168408-1.
30- B.O.A: HR.SYS, 2012(1-23).
31- B.O.A: HR.SYS, 2012/1.
32- B.O.A: Y.MTV, 61/51.
33- B.O.A: SD, 402/20-2.

278
‫‪34- B.O.A: AMD, 73/48.‬‬
‫‪35- B.O.A: DH.ID, 114-2/24-2.‬‬
‫‪36- B.O.A: BEO, 1189/89137.‬‬
‫‪37- B.O.A: BEO, 1821/136517.‬‬
‫‪38- B.O.A: C.MF, 131/6542.‬‬
‫‪39- B.O.A: DH.SFR, 484/37.‬‬
‫‪40- B.O.A: I.DUIT, 146/59-1.‬‬
‫‪41- B.O.A:I.DUIT, 146/45-1‬‬
‫ا‬
‫ثالثا‪ :‬سجالت املحكمة الشرعية فـي طرابلس‪.‬‬
‫ا‬
‫رابعا‪ :‬املراجع العربية‪:‬‬

‫‪ -1‬ابن منظور‪ :‬لسان العرب‪ ،‬مادة ذمم‪.‬‬


‫‪ -2‬أبو غنيمة‪ ،‬زياد‪ :‬جوانب مضيئة فـي تاريخ العثمانيين‬
‫األتراك‪ ،‬دارالعرفان للنشروالتوزيع‪ ،‬عمان‪ ،‬ط‪1983 ،1‬م‪.‬‬
‫‪ -3‬أتينجر‪ ،‬صموئيل‪ :‬اليهود في البلدان اإلسالمية (‪-1850‬‬
‫‪1950‬م)‪ ،‬ترجمة جمال الرفاعي‪ ،‬مراجعة رشا الشامي‪ ،‬عالم‬
‫املعرفة‪1995 ،‬م‪.‬‬

‫‪279‬‬
‫‪ -4‬أرنولد‪ ،‬توماس‪ :‬الدعوة اإلسالم‪ ،‬بحث من تاريخ نشر‬
‫العقيدة اإلسالمية‪ ،‬ترجمة حسن إبراهيم وعبد املجيد‬
‫عابدين‪ ،‬دارالنهضة املصرية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪1947 ،2‬م‪.‬‬
‫‪ -5‬اإلمام‪ ،‬محمد رفعت‪ :‬القضية األرمنية في الدولة العثمانية‪،‬‬
‫القاهرة‪2002 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -6‬أوزتونا‪ ،‬يلماز‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬ترجمة عدنان‬
‫محمود سليمان‪ ،‬مراجعة محمود األنصاري‪ ،‬منشورات‬
‫مؤسسة الفيصل للتمويل‪ ،‬تركيا‪ ،‬استنبول‪ ،‬ط‪ ،1‬ج‪،2‬‬
‫‪1990‬م‪.‬‬
‫‪ -7‬أوزتونا‪ ،‬يلماز‪ :‬موسوعة تاريخ اإلمبرطورية العثمانية‬
‫(‪629‬هـ\‪1341‬هـ‪-‬‬ ‫والحضاري‬ ‫والعسكري‬ ‫السياس ي‬
‫‪1231‬م\‪1922‬م)‪ ،‬ترجمة عدنان محمود سليمان‪ ،‬مراجعة‬
‫محمود األنصاري‪ ،‬الدار العربية للموسوعات‪ ،‬ج‪ ،4‬ط‪،3‬‬
‫‪2010‬م‪.‬‬
‫‪ -8‬أوغلي‪ ،‬إكمال الدين إحسان‪ :‬الدولة العثمانية تاريخ‬
‫ّ‬
‫وحضارة‪ ،‬ترجمة صالح سعيداوي‪ ،‬منظمة املؤتمر اإلسالمي‪،‬‬
‫إستنبول‪ ،‬ج‪1999 ،1‬م‪.‬‬

‫‪280‬‬
‫‪ -9‬باتريك‪ ،‬ماري ملز‪ :‬سالطين بني عثمان الخمسة‪ ،‬ترجمة حنا‬
‫غصن وكامل مروه وكامل صموئيل‪ ،‬بيروت‪1983 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -10‬باشا‪ ،‬جمال‪ :‬مذكرات جمال باشا‪ ،‬إعداد محمد السعيدي‪،‬‬
‫الكتاب األول‪ ،‬دارالفارابي‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪2003 ،1‬م‪.‬‬
‫‪ -11‬بروكلمان‪ ،‬كارل‪ :‬تاريخ الشعوب اإلسالمية‪ّ ،‬‬
‫عربه نبيه أمين‬
‫فارس ومنير بعلبكي‪ ،‬دار العلم للماليين‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪1984‬م‪.‬‬
‫ّ‬
‫العلية العثمانية‪،‬‬ ‫‪ -12‬بك‪ ،‬محمد فريد (املحامي)‪ :‬تاريخ الدولة‬
‫ّ‬
‫تحقيق إحسان حقي‪ ،‬دار النفائس‪ ،‬ط‪1981 ،1‬م‪.‬‬
‫‪ -13‬بيات‪ ،‬فاضل‪ :‬البالد العربية فـي الوثائق العثمانية‪ ،‬تقديم‬
‫ّ‬
‫خالد أرن‪ ،‬إستنبول‪ ،‬منظمة املؤتمر اإلسالمي (أرسيكا)‪،‬‬
‫‪2010‬م‪.‬‬
‫‪ -14‬بيات‪ ،‬فاضل‪ :‬بالد الشام فـي األحكام السلطانية الورادة فـي‬
‫املهمة‪ ،‬منشورات لجنة تاريخ بالد الشام‪ ،‬الجامعة‬ ‫دفاتر ّ‬
‫األردنية‪ ،‬عمان‪ ،‬ثالثة أجزاء‪2005 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -15‬بيهم‪ ،‬محمد جميل‪ :‬فلسفة التاريخ العثماني‪ ،‬شركة فرج هللا‬
‫للمطبوعات‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪.‬‬

‫‪281‬‬
‫‪ -16‬جب‪ ،‬هاملتون وهارولد بودن‪ :‬املجتمع اإلسالمي والغرب‪،‬‬
‫ترجمة أحمد عبد الرحيم مصطفى‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫ج‪1970 ،2‬م‪.‬‬
‫‪ -17‬جرانت‪ ،‬أ‪.‬ج وعتبرلي هارولد‪ :‬أوروبا في القرنين التاسع عشر‬
‫درة ولويس إسكندر‪ ،‬مؤسسة‬ ‫والعشرين‪ ،‬ترجمة علي أبو ّ‬
‫سجل العرب‪ ،‬القاهرة‪1967 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -18‬حبيب‪ ،‬كمال السعيد‪ :‬األقليات والسياسة فـي الخبرة‬
‫اإلسالمية من بداية الدولة النبوية حتـى نهاية الدولة‬
‫العثمانية ‪1908-621‬م‪ ،‬مكتبة مدبولي‪ ،‬القاهرة‪2004 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -19‬حتي‪ ،‬فـيليب‪ :‬تاريخ سورية ولبنان وفلسطين‪ ،‬ترجمة كمال‬
‫اليازجي وجبرائيل ّ‬
‫جبور‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪ ،1‬الجزء‬
‫الثاني‪1983 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -20‬حرب‪ ،‬محمد‪ :‬مذكرات السلطان عبد الحميد الثاني‪ ،‬دار‬
‫العلم‪ ،‬دمشق‪1984 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -21‬حالج أوغلو‪ ،‬يوسف‪ :‬تهجر األرض (‪1918-1914‬م)‪ ،‬الوثائق‬
‫والحقيقة‪ ،‬ترجمة أورخان محمد علي‪ ،‬قدمس للنشر‬
‫والتوزيع‪ ،‬ط‪2010 ،1‬م‪.‬‬

‫‪282‬‬
‫ّ‬
‫حالق‪ّ ،‬‬
‫حسان‪ :‬موقف الدولة العثمانية من الحركة‬ ‫‪-22‬‬
‫الصهيونية (‪1909-1897‬م)‪ ،‬جامعة بيروت العربية‪1978 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -23‬حور اني‪ ،‬ألبرت‪ :‬الفكر العربي فـي عصر النهضة‪ ،‬دار النهار‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬ط‪1977 ،3‬م‪.‬‬
‫‪ -24‬خدمتلي‪ ،‬صبري‪ :‬التطورات املتعلقة بأوضاع األقليات فـي‬
‫الدولة العثمانية بعد إعالن فترة التنظيمات‪ ،‬أعمال املؤتمر‬
‫ّ‬
‫الذي نظمه قسم التاريخ فـي الجامعة اللبنانية‪ ،‬الفرع‬
‫الثاني‪ ،‬بعنوان "األقليات والقوميات فـي السلطنة العثمانية‬
‫بعد ‪ ."1516‬املنعقد بين ‪ 28‬و‪ 30‬نيسان ‪ ،1999‬الفنار‪،‬‬
‫لبنان‪ ،‬مكتبة لوبوان‪ ،‬جديدة املتن‪.‬‬
‫‪ -25‬خليفة‪ ،‬عصام‪ :‬أبحاث فـي تاريخ شمال لبنان فـي العهد‬
‫العثماني‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪1995 ،‬م‪.‬‬
‫ّ‬
‫الذميين واملستأمنين فـي دار‬ ‫‪ -26‬زيدان‪ ،‬عبد الكريم‪ :‬أحكام‬
‫اإلسالم‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬مكتبة القدس‪ ،‬بغداد‪1976 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -27‬س‪ ،‬ناجي‪ :‬املفسدون في األرض أو جرائم اليهود السياسية‬
‫واالجتماعية عبرالتاريخ‪ ،‬مطبعة اإلرشاد‪ ،‬دمشق‪1965 ،‬م‪.‬‬

‫‪283‬‬
‫ّ‬
‫األقليات واالستقرار السياس ي فـي‬ ‫‪ -28‬سعد‪ ،‬نيفـين عبد املنعم‪:‬‬
‫الوطن العربي‪ ،‬مركز البحوث والدراسات السياسية‪ ،‬جامعة‬
‫القاهرة‪ ،‬ط‪1982 ،1‬م‪.‬‬
‫ثريا‪ :‬دور الكنيسة فـي هدم الدولة العثمانية‪،‬‬ ‫‪ -29‬شاهين‪ّ ،‬‬

‫جدة‪ ،‬ط‪،1‬‬‫ترجمة محمد حرب‪ ،‬دار املنارة للنشر والتوزيع‪ّ ،‬‬

‫‪1997‬م‪.‬‬
‫‪ -30‬الشناوي‪ ،‬عبد العزيز محمد‪ :‬الدولة العثمانية دولة‬
‫إسالمية مفترى عليها‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مكتبة األنجلو‪ ،‬ج‪.1‬‬
‫‪ -31‬شو‪ ،‬ستانفورد‪ .‬ج‪ :‬يهود الدولة العثمانية والجمهورية‬
‫التركية‪ ،‬ترجمة الصفصافـي أحمد القصوري‪ ،‬دار البشير‬
‫للثقافة والعلوم‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪2015 ،1‬م‪.‬‬
‫‪ -32‬ضاهر‪ ،‬مسعود‪ :‬الجذور التاريخية للمسألة الطائفـية‬
‫اللبنانية ‪1861-1697‬م‪ ،‬معهد اإلنماء العربي‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪،2‬‬
‫‪1984‬م‪.‬‬
‫‪ -33‬عبد الهادي‪ ،‬جمال‪ ،‬محمد ووفاء محمد‪ ،‬رفعت وعلي‬
‫أحمد‪ :‬صفحات من تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬دار التوزيع‬
‫والنشراإلسالمية‪.‬‬

‫‪284‬‬
‫‪ -34‬العزاوي‪ ،‬قيس جواد‪ :‬الدولة العثمانية قراءة جديدة‬
‫لعوامل اإلنحطاط‪ ،‬الدار العربية للعلوم‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪،‬‬
‫ط‪1994 ،1‬م‪.‬‬
‫‪ -35‬علي‪ ،‬أورخان محمد‪ :‬السلطان عبد الحميد الثاني وأحداث‬
‫عهده‪ ،‬داراألنبار‪ ،‬العراق‪1987 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -36‬علي‪ ،‬أورخان محمد‪ :‬رو ائع من التاريخ العثماني‪ ،‬دار الكلمة‬
‫للنشروالتوزيع‪ ،‬مصر‪2007 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -37‬عماد‪ ،‬عبد الغني‪ :‬مجتمع طرابلس فـي زمن التحوالت‬
‫العثمانية‪ ،‬داراإلنشاء للطباعة والنشر‪ ،‬طرابلس‪2002 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -38‬عمران‪ ،‬محمد سعيد‪ :‬تاريخ أوروبا فـي العصور الوسطى‪،‬‬
‫دارالنهضة العربية‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪2006 ،1‬م‪.‬‬
‫‪ -39‬قاسمية‪ ،‬خيرية وعلي إبراهيم عبده‪ :‬يهود البالد العربية‪،‬‬
‫ّ‬
‫مركز األبحاث‪ ،‬منظمة التحرير الفلسطينية‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫‪1971‬م‪.‬‬
‫‪ -40‬كامل‪ ،‬مصطفى‪ :‬املسألة الشرقية‪ ،‬مطبعة اآلداب‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫ط‪1898 ،1‬م‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪ -41‬كلداني‪ ،‬حنا سعيد‪ :‬املسيحية املعاصرة فـي األردن‬
‫وفلسطين‪ ،‬عمان‪1993 ،‬م‪.‬‬

‫‪285‬‬
‫‪ -42‬كوترات‪ ،‬دونالد‪ :‬الدولة العثمانية ‪1922-1700‬م‪ ،‬تعريب‬
‫أيمن أرمنازي‪ ،‬مكتبة العبيكان‪ ،‬السعودية‪ ،‬ط‪2004 ،1‬م‪.‬‬
‫‪ -43‬كولز‪ ،‬بول‪ :‬العثمانيون فـي أوروبا‪ ،‬ترجمة عبد هللا الشيخ‪،‬‬
‫القاهرة‪ ،‬الهيئة املصرية ّ‬
‫العامة للكتاب‪1993 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -44‬كوندز‪ ،‬أحمد آق‪ :‬القوانين العثمانية‪ ،‬إستنبول‪1990 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -45‬كوندز‪ ،‬أحمد آق‪ :‬الوثائق تطق بالحقائق‪ ،‬ترجمة مصطفى‬
‫الستيتي و أنعم عثمان الكباش ي‪ ،‬وفق البحوث العثمانية‪،‬‬
‫إستنبول‪2014 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -46‬لويس‪ ،‬برنارد‪ :‬الغرب والشرق األوسط‪ ،‬ترجمة الدكتور‬
‫نبيل صبحي الطويل‪1965 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -47‬مانتران‪ ،‬روبير‪ :‬تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬ترجمة بشير‬
‫السباعي‪ ،‬دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫ج‪1993 ،1‬م‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪ -48‬مانويل‪ ،‬فرانك‪ :‬بين أميركا وفلسطين‪ ،‬تعريب يوسف حنا‪،‬‬
‫ّ‬
‫عمان‪1967 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -49‬مصطفى‪ ،‬أحمد عيد الرحيم‪ :‬في أصول التاريخ العثماني‪،‬‬
‫دارالشروق‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪1992 ،2‬م‪.‬‬

‫‪286‬‬
‫‪ -50‬مكارثي‪ ،‬جستن‪ :‬الطرد واإلبادة مصير املسلمين العثمانيين‬
‫(‪1821‬م‪1922-‬م)‪ ،‬ترجمة فريد الغزي‪ ،‬قدمس للنشر‬
‫والتوزيع‪ ،‬سوريا‪ ،‬ط‪2005 ،1‬م‪.‬‬
‫‪ -51‬ميكال‪ ،‬أندريه‪ :‬اإلسالم وحضارته‪ ،‬ترجمة كما الدين‬
‫الحناوي‪ ،‬املكتبة العصرية‪ ،‬صيدا‪1981 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -52‬ميالد‪ ،‬سلوى علي‪ :‬وثائق أهل ّ‬
‫الذمة فـي العصر العثماني‬
‫ّ‬
‫وأهميتها التاريخية‪ ،‬استنبول‪2014 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -53‬النعيمي‪ ،‬أحمد نوري‪ :‬اليهود والدولة العثمانية‪ ،‬دار النشر‪،‬‬
‫ط‪1997 ،1‬م‪.‬‬
‫‪ -54‬هويدي‪ ،‬فهمي‪ :‬مواطنون ال ّ‬
‫ذميون‪ ،‬موقع غيـر املسلمين فـي‬
‫مجتمع املسلمين‪ ،‬دارالشروق‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪1989 ،1‬م‪.‬‬

‫ا‬
‫خامسا‪ :‬املراجع األجنبية‪:‬‬

‫‪1- LEWIS, Bernard & Benjamin Braud: Christians and‬‬


‫‪Jews in the Ottoman Empire. First Published in the‬‬
‫‪United States of America, 1982.‬‬

‫‪287‬‬
2- Furnival, J.S: Coloniol Policy & Pratic, New York,
1956.
3- Shaw, Stanforn J. & Ezel Kural Shaw: History of the
Ottoman Empire and modern Turkey. Vol II,
Cambridge, New York, 1988.
4- Karpat, Kamal: Ottoman Population (1850-1914),
the University of Wiscomsim Press, 1985.
5- Seton R.W.: The Rise of Nationality in the Balkan,
London, 1917.
6- Margenthou, Henry: Ambassador Margenthou’s
Story, New York, 1918.
7- Miller, William: The Ottoman Empire and its
Successors (1801-1927), London, 1966.
8- Mandel, Nevil J: Ottoman Policy and Restrictions
on Jewish Settlement in Palestine 1881-1909, Part1,
Middle Eastero, Vollo, N3, October 1974, P312.
9- Beinart, Haim: The Jewsin spain, in the jewish word,
Ed. Alie Kedourie, London, 1979, PP 161-167.

288
10- Tanyu, Hikmet: Tarih Boyunea Yahudiler Ve
Turkler, Birinci Cilt, Ikinci: Baski, Bileg vayincvi,
Ankara, 1979.
11- Guleryuz, Naim: The History of The Turkish Review
Qurtel Diget, V5, N26, Winter, 1991.
12- Lewis, Bernard: The Jewis of The Islam, England,
1984.
13- The Jewish Encyclopedia (U.S.A 1901), Vol 1, P47.
14- Lewis, Bernard: The Emegence of Modern Turkey,
London, 1961.
15- Karacakaya, Recep: Turk Kamouyu ve Ermeni
Meseli (1908-1923), Cagaloglu, Istanbul, 2005.
16- Lter, Erald: Ermani Meselesi, Nin perspekti
Vezeytun Isyanlari (1780-1880), Ankara, 1988.
17- Cevdit, Ahmet: Tarihi Cevdet, Istanbul, 1909, P:9.
18- The Armenian issue in nine questions and answers,
published by foreign policy institute, Ankara, 1989.

289
19- Schoppof, A: Les reformes et la protection de
cheritiens en Turquie (1673-1904), Paris, Librairie
Plan, 1904.
20- Salt, Jermy: Imperialism Evangelism and The
Ottoman Armenians (1878-1896), Frank, Cass,
London, 1993.
‫ا‬
:‫ الدوريات‬:‫سادسا‬

.‫ جريدة ثمرات الفنون‬-1


.‫ جريدة لسان الحال‬-2

290
‫الفهرس‬

‫‪Contents‬‬
‫الفصل األول ‪3..........................................................................................................‬‬
‫األقليات الدينية ‪10...................................................................................................‬‬
‫تمهيد ‪Hata! Yer işareti tanımlanmamış. .................................‬‬
‫نظرة الدولة العثمانية إلى األقليات ‪11 .......................................................‬‬
‫تدهور العالقات بين أهل ّ‬
‫الذمة والدولة العثمانية ‪55 .......................................‬‬
‫إستنتاج ‪63 ...................................................................................‬‬
‫الفصل الثاني ‪67.......................................................................................................‬‬
‫النصارى في العهد العثماني ‪67.....................................................................................‬‬
‫النصارى فـي العهد العثماني ‪68 ..............................................................‬‬
‫نظرة الحكم العثماني إلى النصارى ‪73 ........................................................‬‬
‫أسباب تدهور العالقات بين الدولة العثمانية والنصارى ‪118 ...............................‬‬
‫استنتاج ‪128 .................................................................................‬‬
‫الفصل الثالث ‪132....................................................................................................‬‬
‫اليهود في الدولة العثمانية ‪132.....................................................................................‬‬
‫تمهيد ‪133 ....................................................................................‬‬
‫أسباب هجرة اليهود إلى الدولة العثمانية‪140 ................................................‬‬
‫هجرة اليهود إلى الدولة العثمانية ‪151 ........................................................‬‬
‫وضع اليهود في الدولة العثمانية ‪162 .........................................................‬‬

‫‪291‬‬
‫تدهور العالقات بين الدولة اليهود ‪182 ......................................................‬‬
‫استنتاج ‪196 .................................................................................‬‬
‫الفصل الرابع ‪200....................................................................................................‬‬
‫األرمن في العهد العثماني في ضوء الوثائق ‪200................................................................‬‬
‫تمهيد ‪201 ....................................................................................‬‬
‫عالقة األرمن بالدولة ‪209 ....................................................................‬‬
‫تدهور العالقات العثمانية األرمنية ‪229 .....................................................‬‬
‫استنتاج ‪261 .................................................................................‬‬
‫املالحق ‪265...............................................................................................................‬‬
‫آلئحة املصادرواملراجع ‪276.........................................................................................‬‬
‫الفهرس ‪291.............................................................................................................‬‬

‫‪292‬‬
293
294

ISBN: 978-625-7139-46-5

You might also like