Document 68EED8FB

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 29

‫دراسة‬

‫دولة ما بعد االستعمار والتحوالت االجتماعية في ليبيا‬

‫د‪ .‬علي عبد اللطيف احميدة* | مايو ‪2102‬‬

‫* النص األصلي للدراسة باللغة اإلنجليزية‪ ،‬ترجمه إلى العربية‪ :‬عمر أبو القاسم الككلي‪.‬‬
‫دولة ما بعد االستعمار والتحوالت االجتماعية في ليبيا‬

‫سلسلة‪ :‬دراسات‬

‫د‪ .‬علي عبد اللطيف احميدة | مايو ‪2012‬‬

‫جميع الحقوق محفوظة للمركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات ‪© 2012‬‬

‫____________________________‬

‫المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات مؤسسة بحثية عربية للعلوم االجتماعية والعلوم‬
‫ٍ‬
‫أبحاث فهو‬ ‫االجتماعية التطبيقية والتاريخ اإلقليمي والقضايا الجيوستراتيجية‪ .‬واضافة إلى كونه مركز‬
‫اهتماما لدراسة السياسات ونقدها وتقديم البدائل‪ ،‬سواء كانت سياسات عربية أو سياسات دولية تجاه‬
‫ً‬ ‫يولي‬
‫المنطقة العربية‪ ،‬وسواء كانت سياسات حكومية‪ ،‬أو سياسات مؤسسات وأحزاب وهيئات‪.‬‬

‫يعالج المركز قضايا المجتمعات والدول العربية بأدوات العلوم االجتماعية واالقتصادية والتاريخية‪،‬‬
‫وبمقاربات ومنهجيات تكاملية عابرة للتخصصات‪ .‬وينطلق من افتراض وجود أمن قومي وانساني عربي‪،‬‬
‫سمات ومصالح مشتركة‪ ،‬وامكانية تطوير اقتصاد عربي‪ ،‬ويعمل على صوغ هذه الخطط‬ ‫ٍ‬ ‫ومن وجود‬
‫ٍ‬
‫وخطط من خالل عمله البحثي ومجمل إنتاجه‪.‬‬ ‫وتحقيقها‪ ،‬كما يطرحها كبرامج‬

‫المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات‬


‫شارع رقم‪ - 628 :‬منطقة ‪88‬‬
‫الدفنة‬
‫ص‪ .‬ب‪01211 :‬‬
‫الدوحــة‪ ،‬قطــر‬
‫هاتف‪ | +917 77099111 :‬فاكس‪+917 77610840 :‬‬
‫‪www.dohainstitute.org‬‬
‫المحتويات‬
‫‪0‬‬ ‫مدخل‬

‫‪1‬‬ ‫الملكية السنوسية الليبية (‪)0989-0940‬‬

‫‪7‬‬ ‫الحرب الباردة‪ ،‬هيئة األمم المتحدة والقضية الليبية‬

‫‪01‬‬ ‫اكتشاف النفط وتعديل الدستور سنة ‪0981‬‬

‫‪04‬‬ ‫الملكية السنوسية والنظام الثوري‬

‫‪01‬‬ ‫األسطورة وسياسة إعادة إنتاج القبلية‬


‫دولة ما بعد االستعمار والتحوالت االجتماعية في ليبيا‬

‫"خاش على الجبل بقادومة"* ‪-‬مثل شعبي ليبي‪-‬‬

‫مدخل‬

‫إن هدفي من هذه الورقة‪ ،‬هو تفحص موضوع الدولة والتحوالت االجتماعية عقب‬
‫ياسيين الليبي ْين‪ ،‬وهما‪:‬‬
‫ظامين الس ْ‬
‫استقالل ليبيا سنة ‪0940‬؛ وذك من خالل التركيز على الن ْ‬
‫الملكية السنوسية (‪ )0989-0940‬والثورة العسكرية بعد ‪ 0989‬وحتى الوقت الحاضر‪.‬‬
‫وستتناول هذه الورقة النظام السياسي األول من خالل طرح القضايا التالية‪ :‬لماذا كانت ليبيا أول‬
‫دولة في المغرب تنال استقاللها من الحكم االستعماري في ‪ 27‬كانون األول ‪ /‬ديسمبر‪0940‬؛‬
‫وذلك قبل المغرب وتونس والجزائر وموريتانيا؟ ولماذا أصبحت مملكةً اتحاديةً ثم دولةً موحدةً في‬
‫‪0981‬؟ وكيف يمكن تقييم قاعدتها االجتماعية‪ ،‬وسياستها وبرنامج التحديث السياسي فيها؟‬
‫أخيرا‪ ،‬لماذا انهارت الملكية في ‪ 0‬أيلول ‪ /‬سبتمبر ‪ ،0989‬بعد ثماني عشرة سنةً فقط من‬
‫و ً‬
‫إقامتها؟‬
‫أما النظام الثاني‪ ،‬فسيقع النظر فيه من خالل طرح األسئلة التالية‪ :‬كيف نظر المجتمع‬
‫حقبتي االستعمار وما بعد االستعمار؟ وما هي السيرورات االجتماعية‬ ‫ْ‬ ‫في ليبيا المستقلة إلى‬
‫أخيرا‪ ،‬لماذا آلت هذه التجربة السياسية المتعلقة بإقامة‬
‫والتاريخية التي ولدت الدولة "الجماهيرية"؟ و ً‬
‫دولة متوط ٍ‬
‫نة ‪ Indigenous‬إلى ٍ‬
‫وهم‪ ،‬وتحولت ‪-‬مع منتصف ثمانينيات القرن الماضي‪ -‬إلى‬ ‫ٍ‬

‫ديكتاتوري ٍة؟‬

‫* عازم على شق الجبل بفأس‪.‬‬

‫‪0‬‬
‫دولة ما بعد االستعمار والتحوالت االجتماعية في ليبيا‬

‫ينصب بحثي على السياقين االجتماعي والوطني للتاريخ الليبي وللعمليات السياسية‪ .‬ولقد‬
‫اسات مقار ٍ‬
‫نة‪ ،‬ووثائق‪ ،‬وتاري ٍخ‬ ‫جهد تنظيريٍّ‪ ،‬ودر ٍ‬
‫ارتكزت في هذا البحث على ما تراكم لدي من ٍ‬

‫شفوي خالل العقدين األخيرين‪.‬‬


‫ٍّ‬
‫يقوم طرحي للمسألة أوًال على فكرة أن الملكية السنوسية كان يسيطر عليها نخبة من‬
‫شيوخ القبائل واألعيان الحضريين ذوي الذهنية األبوية‪ .‬وهذه النخبة هي التي صاغت الدستور‪،‬‬
‫وسيطرت على الدولة‪ ،‬واستغل أفرادها مواقعهم في إدارة الدولة؛ بحثًا عن الثراء ألنفسهم‪ ،‬وإلفادة‬
‫تحديثي‬
‫ٍّ‬ ‫نامج‬
‫خصوصا بعد اكتشاف النفط سنة ‪ .0949‬ابتدأت الملكية ببر ٍ‬
‫ً‬ ‫أتباعهم وجهاتهم‪،‬‬
‫مة علني ٍة‬
‫معارضة منظ ٍ‬
‫ٍ‬ ‫تسمح بقيام‬
‫ْ‬ ‫ألنظمة التعليم والصحة والضمان االجتماعي‪ ،‬غير أنها لم‬
‫لدى الجيل األصغر من الليبيين الذين تعلموا في مدارسها‪ .‬وقد شعر موظفو الدولة والعمال‬
‫مجتمعا‬
‫ً‬ ‫والطلبة وضباط الجيش الذين تحدوهم اآلمال الكبيرة‪ ،‬والمنقادون بتصوٍر عن ليبيا يجعلها‬
‫وطنيًّا؛ باالغتراب عن الملكية الفاسدة الموالية للغرب‪ ،‬وتزايد ذلك الشعور لديهم‪.‬‬
‫ثانيا‪ ،‬على فكرة أن الدولة الليبية في بدايتها المبكرة لم تكن انح ارفًا؛‬
‫ويقوم هذا الطرح ً‬
‫ِّ‬
‫متجذرةً في التاريخ والثقافة الليبيين‪ .‬فالجماهيرية على الرغم من أنها دولة تسلطية‬ ‫وانما كانت‬
‫‪ Authoritarian‬شعبوية ‪ Populist‬ريعية ‪ ،Rentier‬إال أنها كانت تقدم حلوًال ألبرز المشاكل‬
‫السياسية البنيوية في ليبيا الحديثة؛ والمتمثلة في الموروث األليم للدولة االستعمارية (‪-0900‬‬
‫‪ ،)0971‬وضعف الدولة االتحادية خالل فترة الملكية السنوسية (‪ ،)0989-0940‬والهويات‬
‫الجهوية المترسخة‪ ،‬وثقافة الالدولة ‪ .Statelesness‬لقد قدم صغار الضباط العسكريين القوميين‬
‫ٍ‬
‫إصالحات اجتماعية‬ ‫‪-‬الذين أطاحوا بالملكية السنوسية سنة ‪ -0989‬بقيادة القذافي عدة‬
‫ومؤسساتية مبتك ٍرة‪ ،‬كاللجان والمؤتمرات الشعبية‪ .‬وقد زادت هذه اإلصالحات من الدعم‬
‫االجتماعي للنظام؛ ذاك الذي عزز من مستوى معيشة العديد من الطبقات االجتماعية الوسطى‬

‫‪2‬‬
‫دولة ما بعد االستعمار والتحوالت االجتماعية في ليبيا‬

‫خصوصا في الريف الليبي في ما بين ‪ 0989‬و‪ .0914‬و ًّأيا كان األمر؛ فقد‬
‫ً‬ ‫والدنيا في ليبيا‪،‬‬
‫أدت االنشقاقات واالنقالبات المضادة والتشاحن الداخلي ضد النظام إلى التطهير‪ ،‬والى إعدام‬
‫‪ 11‬بعد اتهامهم بالتخطيط النقالب في سنة ‪ ،0914‬وهؤالء يمثلون نصف التنظيم الثوري‬
‫األصلي الذي قاد الثورة ضد الملكية‪.‬‬
‫واثر ذلك‪ ،‬انبثق نظام جديد بقيادة جناح العقيد القذافي‪ .‬وقد تكون من أعضاء مجلس‬
‫قيادة الثورة‪ :‬جلود ويونس والخروبي والحميدي‪ ،‬إضافةً إلى القذافي‪ .‬وأصبح النظام الجديد عديم‬
‫الرحمة في تركيز سلطته‪ .‬واستخدم مركزيةً مفرطةً‪ ،‬بتعزيز األجهزة األمنية والمخابراتية على‬
‫مدم ًار بذلك اإلصالحات السابقة‪ .‬وقاد هذا إلى ضمور‬
‫حساب المؤسسات الرسمية وحكم القانون؛ ِّ‬
‫التجربة المرتكزة على الشعبوية السياسية المتوطنة ‪ ،Indigenous‬والى نهوض المعارضة‬
‫اإلسالمية‪ .‬وقد تضافر مناخ العداء الدولي واالقتصاد المتأثِّر بانخفاض عائدات النفط‪ ،‬في‬
‫تشكيل أزمة النظام‪ .‬وهو األمر الذي أدى إلى ضعف المؤسسات العامة وتشوهها؛ مثل المحاكم‬
‫والجامعات واالتحادات النقابية والمستشفيات والمصارف‪.‬‬
‫وقد فاقمت السياسة الليبية الجديدة التي ابتغت التصالح مع المجتمع الدولي ‪-‬والتي أدت‬
‫إلى رفع العقوبات‪ -‬الصراع بين الحرس القديم (كاللجان الثورية‪ ،‬واألجهزة األمنية) واألجنحة‬
‫عام‪.‬‬ ‫اإلصالحية داخل النخبة الحاكمة‪ ،‬وكذلك داخل المجتمع المدني الليبي ٍ‬
‫بوجه ٍّ‬

‫الملكية السنوسية الليبية (‪)1595-1591‬‬

‫إن هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية‪ ،‬واحتالل الجيوش البريطانية والفرنسية ليبيا‪،‬‬
‫بمعونة القوات الليبية في المنفى في مصر سنة ‪0971‬؛ قد خلق نتائج غير مقصودة تتعلق‬
‫بمستقبل ليبيا‪ .‬وهو ما حدث كذلك بفعل إعادة توطين اإليطاليين وغيرهم من الجنسيات‬
‫االستعمارية األخرى‪ .‬وزيادةً على ذلك‪ ،‬لم يتمك ْن األربعة المنتصرون ‪-‬الواليات المتحدة‬
‫‪1‬‬
‫دولة ما بعد االستعمار والتحوالت االجتماعية في ليبيا‬

‫األميركية‪ ،‬واالتحاد السوفياتي‪ ،‬وفرنسا‪ ،‬وبريطانيا‪ -‬من االتفاق سنة ‪ 0974‬بشأن مصير ليبيا‬
‫السياسي‪ .‬وهو ما نقل القضية الليبية إلى هيئة األمم المتحدة سنة ‪ ،0979‬وأصبح استقالل البالد‬
‫جذابا بالنسبة إلى القوى الغربية؛ خصوصا بريطانيا والواليات المتحدة األميركية‪ .‬والعتبار ٍ‬
‫ات‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ٍ‬
‫تحالف بين بريطانيا راعي الدولة‬ ‫إستراتيجي ٍة تتعلق بالحرب الباردة؛ قاد استقالل ليبيا إلى نشوء‬
‫الجديدة‪ ،‬والقيادة السنوسية في المنطقة الشرقية من ليبيا بزعامة السيِّد إدريس السنوسي‪ .‬وقد جاء‬
‫هذا التحالف على حساب القيادات الحضرية في إقليم طرابلس؛ تلك القيادات التي دافعت عن‬
‫نظام موحٍد في الجامعة العربية في مصر‪.‬‬
‫ٍ‬

‫الحرب الباردة‪ ،‬هيئة األمم المتحدة والقضية الليبية‬

‫نوقشت‬
‫ْ‬ ‫ٍ‬
‫محسوم‪ .‬فقد‬ ‫إثر هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية؛ ظل مصير ليبيا غير‬
‫مقترحات بشأن وضع فزان تحت الوصاية الفرنسية‪ ،‬ووضع بقية البالد تحت الوصاية البريطانية‪.‬‬
‫لت الجمعية‬
‫عارضت هذا المقترح‪ ،‬وتوص ْ‬
‫ْ‬ ‫غير أن االتحاد السوفياتي والكتل العربية واآلسيوية‪،‬‬
‫العامة لألمم المتحدة إلى قرٍار يجعل ليبيا دولةً مستقلةً في ‪ 20‬تشرين الثاني ‪ /‬نوفمبر ‪0979‬‬
‫ضا في‬ ‫نت الدكتور أدريان بلت ‪-‬مساعد األمين العام لألمم المتحدة‪ -‬مفو ً‬
‫(القرار رقم ‪ .)269‬وعي ْ‬
‫سياسي‪ .‬وصل بلت إلى ليبيا‬
‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫هيكل‬ ‫ٍ‬
‫دستور وبناء‬ ‫ليبيا؛ ليقدم مشورته لليبيين بشأن إعداد مسودة‬
‫في ‪ 06‬كانون الثاني ‪ /‬يناير ‪ ،0941‬وزار األقاليم الثالثة؛ وهي طرابلس وبرقة وفزان‪ .‬وبعد‬
‫ات مطو ٍ‬
‫لة مع الزعماء الليبيين والجماعات واللجان المنظمة المختلفة؛ قرر‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫مناقشات ومشاور ُ‬
‫وبدال من ذلك‪ ،‬طلب من زعماء كل‬
‫التخلي عن الدعوة إلى انتخاب أعضاء الجمعية الوطنية‪ً .‬‬
‫مندوبا؛ لتكوين جمعية الستين التي ستكون مهمتها وضع‬ ‫ٍ‬
‫إقليم من األقاليم الثالثة اختيار عشرين‬
‫ً‬
‫وبناء على ذلك‪ ،‬وقع تعيين ممثلي برقة من جانب األمير إدريس السنوسي‪،‬‬ ‫دستور ٍ‬
‫جديد للبالد‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ً‬
‫وممثلي فزان من جانب أحمد سيف النصر‪ ،‬وممثلي طرابلس من جانب مفتي طرابلس الشيخ‬
‫‪7‬‬
‫دولة ما بعد االستعمار والتحوالت االجتماعية في ليبيا‬

‫محمد أبو األسعاد العالم‪ .‬كما ُسمح لألقليات اإليطالية واليهودية والمالطية واليونانية‪ ،‬بأن يكون‬
‫لها ممثلوها‪.‬‬
‫مناقشات معم ٍ‬
‫قة بشأن الدستور‬ ‫ٍ‬ ‫شرعت الجمعية‪ ،‬في تشرين الثاني ‪ /‬نوفمبر ‪ ،0941‬في‬
‫الذي فُرغ منه في تشرين األول ‪ /‬أكتوبر ‪ .0940‬واستمرت الجمعية في أعمالها‪ ،‬حتى إعالن‬
‫االستقالل في ‪ 27‬كانون األول ‪ /‬ديسمبر ‪ .0940‬وقد جرى تقرير طبيعة االستقالل الليبي من‬
‫جهة بريطانيا وأميركا‪ ،‬وفق اعتبارات إستراتيجية الحرب الباردة‪ ،‬والرغبة في خلق ملكي ٍة مح ٍ‬
‫افظة‬
‫مو ٍ‬
‫الية للغرب؛ وذلك لمواجهة نهوض القومية العربية الجذرية في الشرق األوسط وأفريقيا‪.‬‬
‫وقد حافظت الجماعات الليبية في المنفى‪ ،‬في ٍّ‬
‫كل من مصر وسورية وتونس وتشاد‪،‬‬
‫على قضية استقالل ليبيا حيةً‪ .‬وكانت من بين هذه الجماعات الكبرى في سورية وتونس‪ ،‬لجنة‬
‫ٍ‬
‫كقائد لحزب المؤتمر‬ ‫دفاع طرابلس‪ -‬برقة‪ ،‬بقيادة الزعيم الطرابلسي بشير السعداوي‪ ،‬الذي برز‬
‫الوطني في طرابلس في ‪ 1‬تموز ‪ /‬يوليو ‪ .0979‬وانتبه الزعيم السنوسي المنفي البراغماتي‪،‬‬
‫األمير إدريس السنوسي‪ ،‬إلى ضرورة انتهاج الدبلوماسية‪ ،‬عقب الهزيمة العسكرية التي ُمنيت بها‬
‫ٍ‬
‫مفاوضات مع البريطانيين في مصر؛ حيث كان يعيش منفيًّا لمدة ثالثين‬ ‫المقاومة‪ .‬ودخل في‬
‫بت بمساعدة إدريس‪،‬‬
‫سنةً‪ .‬وكانت بريطانيا من جانبها‪ ،‬تتطلع إلى حماية وجودها في مصر؛ فرح ْ‬
‫وبتجهيز القوات الليبية في حربها ضد القوات األلمانية واإليطالية في شرق ليبيا وغربها‪ .‬ومقابل‬
‫وعدت الحكومة البريطانيةُ األمير إدريس بعدم سماحها بعودة سيرانايكا (برقة) إلى الحكم‬
‫ْ‬ ‫ذلك‪،‬‬
‫اإليطالي‪ ،‬بعد نهاية الحرب العالمية الثانية‪.‬‬
‫مدينتي طبرق وبنغازي‪.‬‬
‫ْ‬ ‫خصوصا في‬
‫ً‬ ‫خربت الحرب شرق ليبيا بأكثر من ألف غا ٍرة‪،‬‬
‫وجنوبا‪ ،‬انضمت القبائل الليبية‬
‫ً‬ ‫إيطالي على المغادرة إلى طرابلس‪.‬‬
‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫مستوطن‬ ‫أجبرت ‪ 11‬ألف‬
‫ْ‬ ‫و‬

‫‪4‬‬
‫دولة ما بعد االستعمار والتحوالت االجتماعية في ليبيا‬

‫المنفية في تشاد بقيادة أحمد سيف النصر (شيخ صف قبائل أوالد سليمان) إلى القوات الفرنسية‪،‬‬
‫مساعدا لحاكم اإلقليم سنة ‪.)0(0974‬‬
‫ً‬ ‫في زحفها نحو إقليم فزان‪ .‬وعينه الفرنسيون‬
‫جلبت بريطانيا االستقالل لليبيا سنة ‪0940‬؛ وذلك بالتحالف مع األمير السنوسي‪،‬‬
‫وبعض الزعماء الطرابلسيين المنفيين في مصر‪ .‬وكانت بريطانيا والواليات المتحدة األميركية‬
‫فقتين على عدم السماح لالتحاد السوفياتي بأن يكون له نفوذ في ليبيا‪ .‬وقد نظرتا إلى ليبيا‬
‫مت ْ‬
‫مالئم لمصلحتهما في المرحلة المبكرة من الحرب الباردة‪ .‬نظرت السياسة‬ ‫ٍ‬ ‫المستقلة كمشروٍع‬
‫كدولة مو ٍ‬
‫الية‪ ،‬يمكن لها أن تؤدي وظيفةً إستراتيجيةً تتعلق بالقواعد‬ ‫ٍ‬ ‫األنغلو‪ -‬أميركية إلى ليبيا‬
‫أساسي لضمان أمنها في الشرق‬
‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫كرصيد‬ ‫العسكرية‪ .‬وكانت بريطانيا تهدف إلى استخدام ليبيا‬
‫األوسط‪ ،‬وصد موجات القومية العربية؛ من خالل دعم السنوسية في شرق ليبيا على حساب‬
‫الحراك القومي الحضري في إقليم طرابلس‪ .‬وقد وافق الزعيم السنوسي المنفي ‪-‬األمير محمد‬
‫إدريس السنوسي‪ ،‬حفيد مؤسِّس الحركة السنوسية‪ -‬على رعاية المصالح البريطانية‪ ،‬مقابل‬
‫جماال‪ ،‬أدت المصالح األميركية والبريطانية في بداية الحرب الباردة وخوف‬
‫سياسي‪ .‬وا ً‬
‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫استقالل‬
‫ٍ‬
‫بمساومات قادت إلى‬ ‫ٍ‬
‫تحالفات‪ ،‬والقيام‬ ‫ليبيا من الوقوع مجد ًدا تحت الحكم االستعماري؛ إلى عقد‬
‫(‪)2‬‬
‫الملح هو‪ :‬لماذا أصبحت البالد ملكية سنوسيةً‬
‫استقالل ليبيا سنة ‪ . 0940‬لكن السؤال ُ‬
‫اتحاديةً؟‬

‫‪1‬‬
‫‪For an over view of the literature on the role of Libyan exiles see: A. Baldinetti, “Libya’s Refugees,‬‬

‫‪their Places of Exile, and the Shaping of their National Idea”, The Journal of North African Studies,‬‬
‫‪Vol. 8, N:1 (Spring 2003), pp. 72-86.‬‬

‫‪2‬‬
‫‪M. Khadouri, Modern Libya: A Study in Political Development (Baltimore: The John Hopkins Press,‬‬
‫‪1963), pp. 33-37.‬‬

‫‪8‬‬
‫دولة ما بعد االستعمار والتحوالت االجتماعية في ليبيا‬

‫ٍ‬
‫نسمة؛ منهم ‪ 141‬ألف نسمة في طرابلس‪،‬‬ ‫في سنة ‪ ،0940‬كان سكان ليبيا مليون‬
‫و‪ 111‬ألف نسمة في برقة‪ ،‬و‪ 81‬ألف في فزان‪ .‬وقد الحظ الدكتور بلت حين وصل إلى ليبيا‬
‫في كانون الثاني ‪ /‬يناير سنة ‪ ،0941‬أنه إذا ما وافق غالبية الليبيين على موضوع االستقالل؛‬
‫ٍ‬
‫خالفات سياسيةً كانت موجودة بين أقاليم البالد بخصوص كيفية تنظيم هذا االستقالل‪ .‬كان‬ ‫فإن‬
‫ثلثي عدد سكان البالد‪ -‬على‬ ‫ِّ‬
‫متخو ْفين من سيطرة إقليم طرابلس ‪-‬الذي يمثل ْ‬‫ِّ‬ ‫إقليما برقة وفزان‬
‫النظام الموحد‪ .‬وفي إقليم برقة‪ ،‬كانت غالبية السكان ‪-‬باستثناء أنصار جمعية عمر المختار في‬
‫المدن الحضرية‪ -‬تؤيِّد النظام االتحادي‪ ،‬واختيار األمير إدريس مل ًكا للبالد‪ .‬وقد دعم وفد فزان‬
‫اإلقليم الشرقي‪ ،‬ولعل السبب الرئيس في ذلك‪ ،‬هو أن أحمد سيف النصر كان من أتباع الحركة‬
‫إقليمي برقة وفزان تحت النظام الجديد‪.‬‬
‫ْ‬ ‫السنوسية‪ .‬كان النظام الفيدرالي تسويةً لضمان انضواء‬
‫أما المشكلة األخرى‪ ،‬فكانت تتمثل في مسألة اختيار المدينة التي ستكون عاصمةً‪ .‬وقد أراد وفدا‬
‫إقليمي طرابلس وفزان أن تكون طرابلس؛ في حين أصر وفد إقليم برقة على أن تكون بنغازي‪.‬‬
‫ْ‬
‫أمين‪ ،‬وأن‬
‫عاصمتين تو ْ‬
‫ْ‬ ‫وأنهى األمير إدريس الخالف بأن اقترح أن تكون طرابلس وبنغازي‬
‫العاصمتين(‪ .)1‬وفي ‪ 1‬تشرين األول ‪ /‬أكتوبر ‪ ،0940‬وافقت‬
‫ْ‬ ‫ًّ‬
‫سنويا على‬ ‫تتناوب الحكومة‬
‫الجمعية العامة لألمم المتحدة على الدستور؛ غير أنه ينبغي التذكير بأنه كانت هناك أصوات ‪-‬‬
‫داخل ليبيا وخارجها‪ -‬تنتقد الدستور الجديد في الصحافة العربية‪ .‬وقد أبرز المنتقدون أن الجمعية‬
‫تعيينا‪ ،‬وأن الدستور يفتقر إلى المشروعية؛ ألنه لم‬
‫ً‬ ‫العامة لم تكن منتخبةً؛ بل ُعيِّن أعضاؤها‬
‫يجر بشأنه استفتاء عام(‪.)7‬‬

‫‪3‬‬
‫‪I. R. Khalidi, Constitutional Development in Libya (Beirut-Lebanon: Khayyat’s College Books,‬‬
‫‪1963), pp 62-63, and for UN commissioner Adrian Pelt’s own account sees his book, Libyan‬‬
‫‪Independence and the United Nations (New Haven: Yale University Press, 1970).‬‬

‫‪4‬‬
‫‪Khalidi, Op.cit., pp. 34-36.‬‬

‫‪1‬‬
‫دولة ما بعد االستعمار والتحوالت االجتماعية في ليبيا‬

‫في ‪ 21‬كانون األول ‪ /‬ديسمبر ‪ 0940‬تُِّوج األمير إدريس السنوسي ‪-‬تحت اسم الملك‬
‫عاصمتين‬
‫ْ‬ ‫إدريس األول‪ -‬مل ًكا للملكة الليبية المتحدة؛ بوصفها مملكةً دستوريةً اتحاديةً ذات‬
‫ٍ‬
‫حكومات ألقاليمها الثالثة‪ :‬طرابلس وفزان وبرقة‪ .‬وقد سيطرت عائالت الطبقة العليا‬ ‫وثالث‬
‫الحضرية وشيوخ القبائل ‪-‬وغالبيتهم من برقة‪ ،‬قاعدة الملك إدريس والحركة السنوسية‪ -‬على‬
‫شديدا؛ إذ يبلغ معدل دخل الفرد فيها ‪ 14‬دوالر سنويًّا‪،‬‬
‫فقر ً‬‫الحكومة‪ .‬كانت الدولة الجديدة تشكو ًا‬
‫متخرًجا‬
‫ِّ‬ ‫شخصا‬ ‫حاجة ماس ٍة إلى ٍ‬
‫دخل لميزانيتها‪ .‬لم يكن يوجد أيامها سوى ستة عشر‬ ‫ٍ‬ ‫وهي في‬
‫ً‬
‫في الجامعة‪ ،‬ولم تكن هناك مدارس ثانوية‪ ،‬وكانت نسبة األمية تبلغ ‪ .%91‬ولم يكن يوجد في‬
‫طبيبا في برقة وثمانين في طرابلس؛ يقدمون‬
‫ً‬ ‫فزان سوى ثالثة أطباء فرنسيين وثمانية عشر‬
‫إيطالي في إقليم طرابلس‪ .‬وفي سنة ‪ ،0947‬أجرت المملكة‬
‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫مستوطن‬ ‫أساسا لـ‪ 71‬ألف‬
‫ً‬ ‫خدماتهم‬
‫الليبية ‪-‬بسبب حاجتها إلى مز ٍيد من الدخل‪ -‬قاعدةً عسكريةً لبريطانيا والواليات المتحدة‬
‫عت‬ ‫ٍ‬
‫معونات اقتصاديةً‪ .‬وفي ‪ 29‬تموز ‪ /‬يوليو ‪0941‬؛ وق ْ‬ ‫األميركية‪ ،‬وتلقت في مقابل ذلك‬
‫ٍ‬
‫وتحالف مع بريطانيا العظمى مدتُها عشرون سنةً‪ .‬وهو‬ ‫ٍ‬
‫صداقة‬ ‫المملكة الليبية المتحدة معاهدة‬
‫ٍ‬
‫معونة‬ ‫ٍ‬
‫قاعدة عسكرية في العدم قرب طبرق‪ ،‬مقابل‬ ‫األمر الذي مكن بريطانيا من امتالك‬
‫اقتصادي ٍة وتدر ٍ‬
‫يب ومساعدة عسكريين‪ .‬ثم تبعت هذه االتفاقية اتفاقية أخرى‪ ،‬أُبرمت مع الواليات‬
‫المتحدة األميركية؛ ُمنحت بمقتضاها الحكومة األميركية حق إنشاء قاعدة ويلس ‪Wheelus‬‬
‫معونة اقتصادي ٍة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫قاعدة عسكري ٍة أميركي ٍة في المنطقة)‪ ،‬مقابل‬
‫ٍ‬ ‫الجوية قرب طرابلس (وهي أكبر‬
‫وقد جرى توقيع هذه االتفاقية في ‪ 9‬أيلول ‪ /‬سبتمبر ‪.)4(0947‬‬
‫فقر في العالم؛ فكانت محتاجةً إلى‬
‫كانت الدولة الليبية الجديدة واحدةً من الدول األشد ًا‬
‫ف يضمن أمنها وبقاءها في خضم المد الناهض للحركة القومية‬ ‫المعونة الخارجية‪ ،‬والى حلي ٍ‬

‫اإليرانية والعربية الجذرية المعادية لالستعمار‪ ،‬ال سيما عقب الثورة المصرية سنة ‪ ،0942‬وحرب‬

‫‪5‬‬
‫‪Ibid., 363-398.‬‬

‫‪6‬‬
‫دولة ما بعد االستعمار والتحوالت االجتماعية في ليبيا‬

‫السويس سنة ‪ ،0948‬وحرب التحرير الجزائرية‪ ،‬والثورة العراقية سنة ‪ .0946‬وأكثر من كل ذلك‪،‬‬
‫بدعم الرأي العام العربي للقضية الفلسطينية‪ .‬وقد تأثر الناشطون من جيل معمر القذافي بهذه‬
‫الموجة من القومية العربية المعادية لالستعمار‪ ،‬وخرجوا إلى الشوارع في الستينيات من القرن‬
‫العشرين؛ منتقدين الملكية والنخبة القديمة‪ ،‬لخيانتهما النضال الوطني الليبي الطويل من أجل‬
‫االستقالل بسماحهما للغرب بإقامة هذه القواعد العسكرية(‪.)8‬‬
‫رت ‪-‬تب ًعا لذلك‪ -‬البنية االقتصادية‬
‫ثم اكتُشف النفط في ليبيا سنة ‪ ،0949‬وتغي ْ‬
‫واالجتماعية‪ .‬وحين بدأ تصدير النفط سنة ‪0980‬؛ انتقل دخله بالدولة من كونها واحدةً من أشد‬
‫فقر في العالم‪ ،‬إلى و ٍ‬
‫احدة من أغنى الدول في أفريقيا‪ .‬لقد قفز معدل دخل الفرد من ‪14‬‬ ‫الدول ًا‬
‫مصد ٍرة للنفط‬
‫ِّ‬ ‫دوالر سنة ‪ 0940‬إلى ‪ 2111‬دوالر سنة ‪ .0981‬وأصبحت ليبيا رابع أكبر ٍ‬
‫دولة‬
‫في العالم‪ .‬كان هذا التغيُّر الجذري في االقتصاد الليبي نتيجة القانون الليبي المبتكر الخاص‬
‫ٍ‬
‫ومكافآت للشركات النفطية المستقلة‪ ،‬إضافةً إلى الموقع الجغرافي‬ ‫بالنفط؛ ذاك الذي منح حوافز‬
‫القريب من أوروبا‪ ،‬والنوعية الجيِّدة للنفط؛ وهما ما مكنا ليبيا من أن تصبح في طليعة الدول‬
‫وتبعا لذلك‪ ،‬فقد أصبحت ليبيا مهمةً بالنسبة إلى الواليات المتحدة؛ ال سيما‬ ‫ِّ‬
‫المصدرة للنفط‪ً .‬‬
‫لقاعدة عسكر ٍ‬
‫ية‬ ‫ٍ‬ ‫مقر‬
‫بسبب االستثمارات النفطية‪ ،‬إلى جانب وظيفتها اإلستراتيجية؛ بحكم كونها ًّا‬
‫ظا(‪.)1‬‬ ‫جو ٍ‬
‫ية‪ ،‬وحليفًا محاف ً‬

‫‪ 6‬لالطالع على نقد للملكية من وجهة نظر معارضة في طرابلس‪ ،‬انظر‪ :‬أحمد زارم‪ ،‬مذ ّكرات‪ :‬صراع الشّعب اللّيبي مع مطامع‬
‫االستعمار (تونس‪-‬طرابلس‪ :‬الدار العربية للكتاب‪ ،)8811 ،‬وفوزي الطاهر البشتي‪ ،‬حلم الثّورة في الشّعر اللّيبي الحديث (طرابلس‪:‬‬
‫المنشأة العامة للنشر والتوزيع‪.)8818 ،‬‬

‫‪7‬‬
‫‪D. Vadewalle, A History of Modern Libya (Cambridge: The University press, 2006), pp. 53-61.‬‬

‫‪9‬‬
‫دولة ما بعد االستعمار والتحوالت االجتماعية في ليبيا‬

‫اكتشاف النفط وتعديل الدستور سنة ‪1591‬‬

‫يتمثل العامل األساس الذي ساعد على إحداث التعديل الدستوري‪ ،‬في اكتشاف النفط‬
‫اإلقليمين‬
‫ْ‬ ‫كقطاع بعد سنة ‪ .0981‬وبحلول سنة ‪0981‬؛ أدركت النخبة ‪-‬بما فيها نخبة‬
‫ٍ‬ ‫وادارته‬
‫نظام موحٍد‪ ،‬للتغلب على المشاكل العديدة المرتبطة بالنظام‬
‫ٍ‬ ‫الشمالي ْين‪ -‬مدى الحاجة إلى‬
‫االتحادي‪ ،‬ومنها‪ :‬نقص التخطيط المركزي‪ ،‬وصنع القرار‪ ،‬والجدارة‪ .‬وهكذا صوت البرلمان الليبي‬
‫نظام موحٍد يحل محل النظام االتحادي‪ .‬وقد منح الدستور الجديد‬
‫في سنة ‪ ،0981‬لصالح إقامة ٍ‬

‫المرأة الليبية حق التصويت‪ .‬وبعد اكتشاف النفط وتصديره سنة ‪0980‬؛ شرعت الحكومة في‬
‫ٍ‬
‫جامعة‬ ‫إنشاء‬ ‫ٍ‬
‫تحديث في قطاعات التعليم والصحة والمواصالت واإلسكان‪ .‬وقدم‬ ‫القيام ببرامج‬
‫ُ‬
‫فرصا جديدةً في التعليم‪ .‬وقد قادت السياسات التعليمية‬
‫ً‬ ‫ليبي ٍة لها مقران في بنغازي وطرابلس‬
‫ٍ‬
‫وحركة‬ ‫ٍ‬
‫جديدة تعيش على مرتباتها‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫طبقة وسطى‬ ‫الجديدة في أواخر الستينيات‪ ،‬إلى ظهور‬
‫ٍ‬
‫حادات عمالية‪ ،‬ومثقفين حداثيين‪ .‬وعلى سبيل المثال‪ ،‬تزايد‬ ‫وطبقة عم ٍ‬
‫الية صغي ٍرة‪ ،‬وات‬ ‫ٍ‬ ‫طال ٍ‬
‫بية‪،‬‬
‫عدد الطالب من ‪ 11‬ألف سنة ‪ 0942‬إلى ‪ 111‬ألف سنة ‪ .0911‬وكانت فوزية غرغور أول‬
‫ليبي ٍة تتخرج في الجامعة الليبية سنة ‪ .0946‬ثم تلتها فتحية مازق‪ ،‬ابنة رئيس الوزراء حسين‬
‫مازق‪ ،‬سنة ‪ .0980‬وفي سنة ‪0984‬؛ أُسس االتحاد النسائي الليبي‪ ،‬وصدر العدد األول من‬
‫مجلته ذات التأثير "المرأة"(‪.)6‬‬
‫تُحرز ليبيا اليوم مرتبة من بين أعلى معدالت الذين يعرفون القراءة والكتابة في الشرق‬
‫األوسط وأفريقيا‪ .‬كما أن نسبة النساء فيها في صفوف التعليم العالي‪ ،‬هي أعلى من نسبة‬
‫الرجال‪ .‬وفي أقسام اإلنسانيات وعلم االجتماع بالجامعات الليبية؛ تمثل النساء نسبة ‪ %61‬من‬
‫مجمل عدد الطالب‪ .‬وهناك نساء طيارات‪ ،‬وضابطات‪ ،‬وقاضيات‪ ،‬وطبيبات‪ ،‬ومعلمات‪،‬‬

‫‪1‬‬
‫أم العز الفارسي‪" ،‬السياق المجتمعي وأثره على المشاركة السياسية للمرأة في ليبيا"‪ ،‬مجلة عراجين‪ ،‬عدد ‪ ،6‬كانون الثاني ‪ /‬يناير‪،‬‬
‫‪ ،7002‬ص ‪.36-35‬‬

‫‪01‬‬
‫دولة ما بعد االستعمار والتحوالت االجتماعية في ليبيا‬

‫طويال‪.‬‬
‫ً‬ ‫نضاال‬
‫ً‬ ‫ووزيرات‪ .‬لم يكن هذا التقدم هبةً‪ ،‬بل خاضت من أجله القيادات النسائية النشطة‬
‫دعما من السياسات‬
‫وجدن ً‬
‫وبعضهن قد تلقين تعليمهن في المنفى‪ ،‬في لبنان وسورية ومصر‪ ،‬وقد ْ‬
‫التي انتهجها نظاما ما بعد االستقالل منذ سنة ‪ .0940‬وليس من المفاجئ أن ِّ‬
‫تركز الرائدات‬
‫النشطات في مجال حقوق المرأة ‪-‬مثل حميدة العنيزي‪ ،‬وصالحة المدني‪ ،‬وخديجة عبد القادر‪،‬‬
‫وخديجة الجهمي‪ -‬اهتماماتهن على قضية تعليم المرأة‪ ،‬منذ بداية القرن العشرين‪ .‬أما الجيل‬
‫الثاني من الناشطات النسائيات؛ فقد ربطن بين الجنوسة ‪ Gender‬والقومية‪ ،‬وشددن على قضايا‬
‫ٍ‬
‫منتقدات الوضع في األسرة الليبية األبوية‪ .‬لقد عبرن‬ ‫جديدة في المسار المهني ‪ Career‬واألسرة‪،‬‬
‫وخصوصا في القصة والرواية‪.‬‬
‫ً‬ ‫عن آرائهن في الصحافة وفي األجناس األدبية‪،‬‬
‫أجر ثابتًا في طرابلس وبنغازي والحقول النفطية إلى‬
‫أدى توفر الوظائف التي تدر ًا‬

‫شماال إلى هذه المدن‪ .‬وتزايد ‪-‬نتيجةً‬


‫ً‬ ‫اجتذاب العديد من المقيمين في المناطق الزراعية‪ ،‬وانتقالهم‬
‫لذلك‪ -‬تعداد سكان طرابلس من ‪ 011‬ألف نسمةً سنة ‪ 0940‬إلى ‪ 201‬ألف سنة ‪ 0987‬والى‬
‫‪ 711‬ألف سنة ‪ .0911‬وارتفع عدد السكان في بنغازي في السنوات نفسها من ‪ 11‬ألف نسمة‬
‫إلى ‪ 011‬ألف ثم إلى ‪ 111‬ألف على الترتيب‪ .‬غير أنه ينبغي االنتباه إلى أن آالفًا من‬
‫المدينتين؛ مثل باب‬
‫ْ‬ ‫هاتين‬
‫المهاجرين الفقراء من المناطق الريفية‪ ،‬قد سكنوا مدن الصفيح خارج ْ‬
‫عكارة‪ ،‬والب ارريك‪ ،‬والكامبو خارج طرابلس‪ ،‬والصابري في بنغازي(‪ .)9‬واذا ما عاش ثمانون في‬
‫ٍّ‬
‫عكسية بحلول عام‬ ‫المئة من السكان في الريف سنة ‪0940‬؛ فإن هذه النسبة قد تغيرت بصورة‬
‫بأن صار ثمانون في المئة يعيشون في المناطق الحضرية‪ .‬كما برزت طبقة عمالية‬
‫‪ْ ،0981‬‬
‫صغيرة‪ ،‬ولكنها منظمة‪ ،‬في المدن والحقول النفطية‪.‬‬

‫‪ 8‬ياسين الكبير‪ ،‬المهاجرون في طرابلس الغرب (بيروت‪ -‬لبنان‪ :‬معهد اإلنماء العربي‪ ،)8817 ،‬ص ‪861 -873‬؛‬

‫وأيضا‪ :‬محمد زاهي المغيربي‪ ،‬الدولة والمجتمع المدني في ليبيا (القاهرة‪ :‬إصدارات مجلة عراجين‪ ،)7002 ،‬ص ‪.72-76‬‬

‫‪00‬‬
‫دولة ما بعد االستعمار والتحوالت االجتماعية في ليبيا‬

‫لم يتمكن النظام الملكي السنوسي ومستشاروه البريطانيون‪ ،‬من عزل المجتمع الليبي عن تيارات‬
‫خصوصا في مصر؛ وذلك بحكم أن معظم أفراد الجيل‬
‫ً‬ ‫الحركات القومية الجذرية في المنطقة‪،‬‬
‫عاليا‪ ،‬قد تخرجوا في الجامعات المصرية‪ .‬هذا إلى جانب أن الدولة قد‬
‫تعليما ً‬
‫ً‬ ‫األول‪ ،‬الذين تلق ْوا‬
‫اعتمدت في إدارة مؤسساتها الوليدة على األخصائيين المصريين‪ ،‬وكان منهم القضاة والمدرسون‪.‬‬
‫كما أن المدارس الليبية قد اعتمدت تدريس الكتب المدرسية المصرية‪ .‬وكانت الصحف المصرية‬
‫تُوزع في البالد‪ ،‬واذاعة "صوت العرب" ‪-‬ذات التأثير الكبير في الرأي العام العربي‪ -‬تحظى‬
‫ٍ‬
‫بالغة في الشارع الليبي‪ .‬وعلى الرغم من البرامج التحديثية االقتصادية واالجتماعية؛ فإن‬ ‫بشهرٍة‬
‫الملكية الموالية للغرب‪ ،‬كانت معاديةً للمؤسسات القوية والمعارضة العلنية المنظمة‪ .‬فقد واصلت‬
‫ونزعت الجنسية‬
‫حظرها الذي فرضته على جميع األحزاب السياسية عقب انتخابات ‪ُ .0941‬‬
‫الليبية عن بشير السعداوي زعيم حزب المؤتمر الوطني‪ ،‬الحزب األكثر شعبيةً في إقليم طرابلس‪.‬‬
‫وحصل الشيء نفسه مع أخيه وابنه ونائبه أحمد زارم؛ فاضطر السعداوي إلى اللجوء إلى المنفى‬
‫في العربية السعودية مع أخيه وابنه‪ ،‬والتجأ زارم إلى تونس‪.‬‬
‫ولما طالب اتحاد العمال ‪-‬وهو اتحاد صغير‪ ،‬ولكنه حسن التنظيم‪ -‬بمعد ٍل أعلى لألجور‪ ،‬وقع‬
‫ومنعوا من ممارسة نشاطهم في االتحاد مع بداية سنة ‪.)01(0980‬‬ ‫اعتقال أعضائه‪ُ ،‬‬
‫حازم ٍ‬
‫داعم للقومية‬ ‫ٍ‬
‫بموقف ٍ‬ ‫كما أصبحت الحركة الطالبية القوية جماعةً اجتماعيةً قائدةً‪ ،‬وطالبت‬
‫ودعت إلى إجالء القواعد العسكرية األميركية‬
‫ْ‬ ‫العربية والحركة الفلسطينية والجامعة العربية‪.‬‬
‫ات‪ ،‬من ضمنها مظاهرات قام بها تالميذ‬ ‫احتجاجات ومظاهر ٍ‬
‫ٍ‬ ‫والبريطانية‪ .‬وقد نظم الطلبة‬
‫المدارس الثانوية؛ مثل تلك التي قادها معمر القذافي في مدينة سبها بفزان سنة ‪ ،0980‬وكانت‬
‫بغرض تأييد الوحدة العربية‪ .‬وقد جرى اعتقاله وطرده من والية فزان إلى مدينة مصراتة شرق‬
‫طرابلس‪ .‬وفي ‪ 07-01‬كانون الثاني ‪ /‬يناير سنة ‪ ،0987‬حدثت مظاهرة طالبية أكبر في‬

‫‪ 80‬مختار كرفاع‪ ،‬الحركات العمالية في ليبيا‪( 3494-3491 :‬طرابلس‪ :‬مركز الجهاد للدراسات التاريخية‪ ،)7000 ،‬ص ‪.823-866‬‬

‫‪02‬‬
‫دولة ما بعد االستعمار والتحوالت االجتماعية في ليبيا‬

‫تأييدا لمؤتمر قم ٍة عر ٍّ‬


‫بي في القاهرة دعا إليه جمال عبد الناصر‪ .‬وكان الهدف من ذلك‬ ‫بنغازي‪ً ،‬‬
‫لسياسة عربي ٍة في مواجهة خطة إسرائيل الهادفة إلى تحويل مسار نهر األردن‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫اإلعداد‬
‫ُ‬ ‫المؤتمر‬
‫وقد أطلقت الشرطة النار على ثالثة طلبة ُعرفوا في ما بعد بشهداء يناير؛ وهم علي األمين‬
‫البيجو‪ ،‬وصالح مسعود النقاز‪ ،‬ومفتاح بن حريز‪ .‬وأحدث قتل الطلبة الثالثة أزمةً سياسية‪ ،‬أدت‬
‫عيد حرب‬
‫إلى استقالة رئيس الوزراء محي الدين فكيني‪ .‬وحدثت أزمة أخرى في مدينة طرابلس‪ُ ،‬ب ْ‬
‫حزيران ‪ /‬يونيو ‪0981‬؛ حين قامت مظاهرة كبيرة‪ ،‬أحرق فيها المتظاهرون العلم اإليطالي‬
‫والمحالت التجارية اليهودية‪ ،‬وأدانوا ارتباطات النظام القوية بالغرب ووجود القواعد العسكرية‬
‫األميركية والبريطانية‪ .‬وانضم العمال الليبيون إلى حركة االحتجاج االجتماعي؛ فنظم عمال‬
‫الميناء وحقول النفط إض ارًبا‪ ،‬وأوقفوا إنتاج النفط(‪ .)00‬وانخرط كثير من الشباب الليبي في التيارات‬
‫شخصا‬
‫ً‬ ‫نظر إلى أن الملك كان‬
‫وتفاقمت أزمة الملكية‪ً ،‬ا‬
‫ْ‬ ‫السياسية القومية‪ ،‬كالناصرية والبعث‪.‬‬
‫موحيا‬
‫ً‬ ‫معزوًال اجتماعيًّا؛ إذ كان يعيش في طبرق‪ ،‬قرب القاعدة البريطانية الرئيسة في "العدم"؛‬
‫بذلك بأنه يفضل صحبة البريطانيين وحمايتهم‪.‬‬
‫وما زاد حال نظام الملك سو ًءا‪ ،‬هو انتشار الفساد بين أفراد النخبة‪ .‬فعلى الرغم من‬
‫ارتفاع دخل البالد من عائدات النفط؛ ظل الكثير من الليبيين العاديين فقراء في المناطق الريفية‪.‬‬
‫أيضا‪ ،‬ولم ِّ‬
‫تمكن‬ ‫ث نفسها سياسيًّا ً‬ ‫لقد صارت الملكية ضحية برامجها التحديثية؛ بما أنها لم ِّ‬
‫تحد ْ‬
‫طبقتها الوسطى النامية من المشاركة السياسية‪ .‬فكثير من الليبيين المنتمين إلى الطبقة الوسطى‬
‫وشريحتها الدنيا من المتعلمين؛ قد وجدوا أنفسهم مهمشين‪ ،‬وخارج رعاية شيوخ القبائل التقليديين‬
‫وعائالت األعيان ذات النفوذ‪ .‬وكان الجناح العسكري لهذه الطبقة الوسطى حديثة النشوء‪ ،‬هو‬

‫‪11‬‬
‫‪For a well informed analysis of the royal elite see: Salahedin Hasan al-Sury, “ A New System for a‬‬
‫‪New State: Libyan Experiment in Statehood 1951-1969”, In: A. Baldinetti, ed., Modern and‬‬
‫‪Contemporary Libya :Sources and Historiographies (Rome: Instituto Italiano Per L’Africa et Orienete,‬‬
‫‪2003), pp. 179-194.‬‬

‫‪01‬‬
‫دولة ما بعد االستعمار والتحوالت االجتماعية في ليبيا‬

‫تنظيما من بين الجماعات المعادية للملكية‪ .‬وفي غياب األحزاب السياسية؛ كان القوة‬
‫ً‬ ‫األكثر‬
‫ال‪ .‬إثر حرب حزيران ‪ /‬يونيو ‪ ،0981‬التي هزم‬‫بشكل فع ٍ‬
‫ٍ‬ ‫الوحيدة المؤهلة إلزاحة النخبة القديمة‬
‫فيها الجيش اإلسرائيلي الجيش المصري؛ وقعت مظاهرات جماهيرية في طرابلس وبنغازي‪،‬‬
‫احتجاجا على ما عد موقفًا رجعيًّا للنظام الموالي للغرب‪ .‬فاعتقل النظام أعضاء من األحزاب‬
‫ً‬
‫يائسا في مواجهة حركات‬
‫المتهمين بعالقتهم بهذه النشاطات‪ .‬وبدا الملك العجوز المنعزل ً‬
‫السرية ُ‬
‫االحتجاج االجتماعي‪ ،‬وفساد النخبة‪ ،‬واعتماده على أسرة الشلحي المتحكمة في الديوان الملكي‪.‬‬
‫وفي ما بين ‪ 0940‬و‪ ،0989‬تعاقبت إحدى عشرة حكومة‪ .‬وقد أفسحت الملكية المجال في‬
‫سلمها لبعض االختصاصيين الحضريين‪ ،‬مثل رئيس الوزراء عبد الحميد البكوش سنة ‪.0986‬‬
‫عت الجماعات الشابة ‪-‬التي‬
‫ولكن في المجمل‪ ،‬كانت المستويات العليا من التعليم مغلقةً‪ .‬وقد شر ْ‬
‫ت بالتعليم في ظل الملكية‪ -‬في المطالبة بالتغيير‪ ،‬في الوقت الذي لم يسمح النظام بقيام أي‬‫حظي ْ‬
‫متجاهال ألي مشاعر م اررٍة تعبِّر عنها الطبقة الوسطى وشريحتها الدنيا‬
‫ً‬ ‫معارضة منظ ٍ‬
‫مة‪ ،‬وبدا‬ ‫ٍ‬

‫إصالحات سياسي ٍة تُرضي القوى االجتماعية الجديدة‬


‫ٍ‬ ‫الجديدة(‪ .)02‬وقد فشلت الملكية في إجراء‬
‫المنبثقة عن التحديث االقتصادي واالجتماعي‪ .‬لم تكن أزمة الملكية ناشئةً عن نقص التحديث؛‬
‫وانما عن األسلوب الذي طُبِّق به ذلك التحديث‪.‬‬
‫في الوقت الذي ُحظرت فيه األحزاب السياسية وقُمعت؛ ظل الجيش أكثر مؤسسات‬
‫تنظيما‪ .‬وجرى تدريبه باالستعانة بالضباط العراقيين والليبيين‪ ،‬أو أُرسل بعض أفراده‬‫ً‬ ‫الدولة‬
‫للتدرب والتخرج ضباطًا في األكاديميات العسكرية البريطانية واألميركية‪ .‬وعلى الرغم من االفتقار‬
‫إلى اإلصالح السياسي والمؤسسات القوية؛ ورث النظام الجديد في سنة ‪ 0989‬البالد وهي على‬

‫‪12‬‬
‫‪This period has not been research yet. See: J. Wright, Libya A Modern History (London: Croom‬‬
‫‪Helm, 1983), pp. 102-107. for Libyan Jewish Israeli view see: M. Romani “The Final Exodus of‬‬
‫‪Libyan Jews in 1967”, Jewish Political Studies Review, Vol. 19, N: 3-4 (Fall 2007), pp. 1-15.‬‬

‫‪07‬‬
‫دولة ما بعد االستعمار والتحوالت االجتماعية في ليبيا‬

‫ٍ‬
‫قدر من التطور‪ .‬إذ كان لها قانون نفطي مبتكر‪ ،‬ونظامان جيِّدان في التعليم والصحة العامة‪،‬‬
‫وجمعيات مدنية نشطة؛ كاألندية الرياضية‪ ،‬واالتحادات العمالية‪ ،‬والكشافة‪ ،‬والمنظمات الشبابية‪،‬‬
‫والحركات األدبية والنسائية‪ .‬وفي الستينيات؛ كان في سبها دار مسرٍح وعرض سينمائي‪ ،‬وأربعة‬
‫ٍ‬
‫مكتبات‪ ،‬وصحيفة‪ ،‬وفرقة موسيقية لطالب المدرسة الثانوية‪ .‬وكان إقليم‬ ‫ٍ‬
‫أندية لكرة القدم‪ ،‬وثالث‬
‫تعا للحركة القومية العربية الجذرية المعادية لالستعمار‪ ،‬تلك التي أذكتها ثورة‬
‫فزان في مجمله مر ً‬
‫‪ 0942‬في مصر واعالمها القوي‪ .‬وتبعا لذلك‪ ،‬بدت الملكية وقد تجاوزها الزمن‪ ،‬وأصبحت تواجه‬
‫تهديدا من مصر ومن الداخل‪.‬‬
‫ً‬

‫الملكية السنوسية والنظام الثوري‬

‫كانت القاعدة االجتماعية لمجلس قيادة الثورة‪ ،‬المنبثق عن حركة الضباط الوحدويين‬
‫أساسا من الشريحة الدنيا للطبقة الوسطى التي نشأت نتيجة لبرامج التحديث التي‬
‫ً‬ ‫األحرار‪ ،‬تتكون‬
‫قام بها النظام الملكي بعد سنة ‪ .0940‬فمعظم أعضاء مجلس قيادة الثورة االثني عشر يتحدرون‬
‫من قبائل فقيرة وصغيرة من قبائل الداخل أو من الشرائح االجتماعية الفقيرة في المدن الساحلية‪.‬‬
‫وعضوان منهم فقط يتحدران من قبيلتين كبيرتين (المغاربة والعواقير)‪ ،‬وعضو آخر يتحدر من‬
‫عائلة بارزة في مدينة ساحلية‪ .‬وباختصار‪ ،‬يمكن القول إن الثورة كانت تحت قيادة الشريحة الدنيا‬
‫من الطبقة الوسطى المنتمية إلى مدن المناطق الحضرية والبلدات الريفية والواحات الصحراوية‬
‫في الداخل‪ ،‬في مواجهة سيطرة شيوخ القبائل والعائالت البارزة في المدن الكبرى‪ .‬كان النظام‬
‫الملكي يعتمد في ضمان أمنه على قوة الشرطة جيدة التجهيز‪ ،‬أكثر من اعتماده على الجيش‪،‬‬
‫مفتوحا‬
‫ً‬ ‫وكان أفراد الشرطة يجندون من بين القبائل الموالية‪ .‬مقابل ذلك‪ ،‬كان الجيش الليبي‬
‫للطلبة غير المتحدرين من عائالت النخبة‪ ،‬وكان من بينهم أعضاء حركة الضباط الوحدويين‬
‫األحرار ولجنتها المركزية‪.‬‬

‫‪04‬‬
‫دولة ما بعد االستعمار والتحوالت االجتماعية في ليبيا‬

‫ومثله مثل النظام الملكي قبله‪ ،‬حظر مجلس قيادة الثورة األحزاب السياسية واالتحادات‬
‫العمالية المستقلة سنة ‪ ،0911‬متبنًيا نظام الحزب الواحد على غرار مصر سنة ‪ ،0910‬وسمي‬
‫هذا التنظيم االتحاد االشتراكي العربي‪ .‬إال أن هذه الصيغة جرى التخلي عنها بعد ذلك بسنتين‪،‬‬
‫بسبب فشلها في تحميس وتعبئة غالبية الشعب الليبي‪ .‬وفي مواجهة معارضة النخبة التقليدية‬
‫وفشل االتحاد االشتراكي العربي‪ ،‬أعلن القذافي ثورته الشعبية ضد البيروقراطية القديمة في‬
‫خطابه الشهير في زوارة ‪ 04‬نيسان ‪ /‬أبريل ‪ .0911‬وطلب من الشعب إحالل اللجان الشعبية‬
‫بدال من البيروقراطية العاجزة‪.‬‬
‫المتكونة من الموظفين في مواقع العمل ً‬
‫ٍ‬
‫انقسام داخل مجلس قيادة الثورة بشأن دور اللجان الشعبية‬ ‫أدى ابتكار القذافي إلى‬
‫الجديدة وصالحياتها‪ .‬وقد عكس االنقسام داخل مجلس قيادة الثورة بسبب هذه القضايا خالفات‬
‫أيديولوجية كبرى بين جناحين بشأن االتجاه الذي تتخذه الثورة‪ .‬واعترض الجناح التكنوقراطي‬
‫الذي كان يقوده عمر المحيشي‪ ،‬وزير التخطيط‪ ،‬بأن األولوية ينبغي أن تعطى للكفاءة المتمثلة‬
‫في الخبراء والمختصين‪ .‬في المقابل‪ ،‬أصر القذافي على التعبئة األيديولوجية والوالء السياسي‪.‬‬
‫وقاد عجز أعضاء المجلس عن حل النزاع الداخلي إلى محاولة أعضاء مجلس قيادة الثورة بقيادة‬
‫المحيشي االنقالب على القذافي‪ .‬فاستخدم القذافي تنظيمه المدني القديم ‪-‬من سنواته األولى في‬
‫سبها‪ -‬لتعبئة مؤيديه ضد خصومه‪ .‬وحين وقف عبد السالم جلود‪ ،‬العضو الرئيس في مجلس‬
‫قيادة الثورة‪ ،‬في صف القذافي‪ ،‬فشل االنقالب‪ .‬وفر عمر المحيشي إلى تونس وظل في المنفى‬
‫في ما بعد في مصر‪ .‬بعدها رسخ القذافي سلطته‪ .‬ولم يبق من أعضاء مجلس قيادة الثورة سوى‬
‫ٍ‬
‫أعضاء في السلطة إلى جانب القذافي‪ ،‬وجرى حل مجلس قيادة الثورة‪.‬‬ ‫أربعة‬

‫‪08‬‬
‫دولة ما بعد االستعمار والتحوالت االجتماعية في ليبيا‬

‫األسطورة وسياسة إعادة إنتاج القبلية‬

‫تندرج التقارير والتعليقات الحالية المتعلقة باالنتفاضة الليبية ضمن إطار ثالث أساطير‪:‬‬
‫تسليط الضوء على القذافي‪ ،‬وأن التجربة الليبية مع االستعمار الهمجي مماثلة للتجربتين المصرية‬
‫والتونسية‪ ،‬والنظر إلى المجتمع الليبي من خالل أيديولوجيا القبلية ‪ .Tribalism‬لقد عانى الشعب‬
‫الليبي من إحدى أكثر التجارب االستعمارية وحشيةً في أفريقيا‪ .‬فقد توفي نصف مليون ليبي‬
‫خالل الحقبة االستعمارية بين سنتي ‪ 0922‬و‪ ،0971‬بمن فيهم ‪ 81‬ألف أسير في المعتقالت‬
‫الجماعية‪ .‬وجرى إسكات صدمة االستعمار هذه وما خلفته من ندوب خالل فترة الملكية السنوسية‬
‫ما بين ‪ 0940‬و‪ .0989‬وعليه يمكن للمرء أن يحاج بأن شعبوية القذافي المعادية لالستعمار‬
‫ليست هاجسا استحو ًّ‬
‫اذيا (‪ ،)Obsession‬وانما هي متأصلة في التجربة االستعمارية الحديثة‬
‫التي عاناها الشعب الليبي الذي كان يحس بأن عذاباته جرى تجاهلها‪.‬‬
‫يعيش ‪ %61‬من الليبيين في المناطق الحضرية‪ ،‬أي المدن والبلدات‪ ،‬وقادة االنتفاضة‬
‫الديمقراطية الحالية محامون وقضاة وصحفيون وكتاب وأساتذة جامعيون وناشطات نسائيات‬
‫وضباط جيش منشقون‪ .‬وصار معنى القبيلة في الريف مختلفًا عن الماضي‪ ،‬فالليبيون جميعهم‬
‫فاعلون في االقتصاد‪ ،‬ومعدل القراءة والكتابة في ليبيا هو بين األعلى في أفريقيا‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإن‬
‫الكالم عن القبيلة بالمعنى العضوي ‪ Generic‬هو محض تضليل‪ .‬مع ذلك‪ ،‬فإن نقص البحوث‬
‫المتخصصة والمعرفة عن المجتمع الليبي الحديث ينبغي عزوهما إلى واقع أن ليبيا قد ُعزلت‬
‫وأصبحت غير متاحة للباحثين طوال العقود الثالثة األخيرة‪ .‬إن قراءةً بديلةً ستعيد المجتمع إلى‬
‫دائرة الضوء بغرض اإلجابة عن األسئلة الرئيسة المتعلقة بجذور النظام ولماذا استطاع البقاء‪ ،‬ثم‬
‫تجمد‪ ،‬وفي النهاية فشل في المضي في عملية اإلصالح السياسي‪.‬‬

‫‪01‬‬
‫دولة ما بعد االستعمار والتحوالت االجتماعية في ليبيا‬

‫وصل اإلصالح إلى ذروة نجاحه بعد سنة ‪ 0996‬عند حل أزمة لوكربي ورفع العقوبات‬
‫المفروضة على ليبيا منذ سنة ‪ ،0992‬وما أسفر عنه من تطبيع للعالقات مع أوروبا الغربية‬
‫والواليات المتحدة األميركية في ما بين ‪ 2111‬و‪ .2119‬المفارقة‪ ،‬هي أن النظام كان يمكنه‬
‫تجنب االنتفاضة لو أن هذه اإلصالحات تمت بجدية وتوجهت نحو معالجة المطالب الشعبية‬
‫المتعلقة بالقضايا االجتماعية والسياسية وانتهاكات حقوق اإلنسان‪ .‬وبدال من ذلك‪ ،‬وبإطالق النار‬
‫على المحتجين السلميين في بنغازي والبيضاء في ‪ 04‬شباط ‪ /‬فبراير ‪ ،2100‬وقيام سيف‬
‫اإلسالم القذافي وأبيه بتوجيه ثالثة خطابات يعلنان فيها الحرب على المحتجين واصفين إياهم‬
‫بأنهم "جرذان" و"مدمنو مخدرات" وأنهم تعرضوا إلى غسل دماغ على يد بن الدن‪ ،‬نظر غالبية‬
‫الليبيين إلى النظام على أنه ميؤوس منه وأنه قد حان وقت زواله‪.‬‬
‫ننظر إلى األصول االجتماعية للنظام‪ .‬لماذا تمكن من البقاء‪ ،‬ثم تحول من كونه‬
‫دعونا ْ‬
‫دولة شعبوية من دول العالم الثالث إلى ديكتاتورية‪.‬‬
‫الجماهيرية العربية الليبية الشعبية االشتراكية هي دولة تُعرف نفسها على أنها دولة ثورية‬
‫تكز على اقتصاد غني يمثل‬
‫تُحكم من خالل اللجان الشعبية المنظمة والمؤتمرات الشعبية‪ .‬ومر ًا‬
‫النفط مصدره شبه الوحيد‪ُ ،‬ولد النظام مع ما يسميه معظم الليبيين "ثورة الفاتح من سبتمبر" التي‬
‫حدثت في ‪ 0‬أيلول ‪ /‬سبتمبر ‪ .0989‬في ذلك التاريخ‪ ،‬أطاحت مجموعة مكونة من اثني عشر‬
‫ضابطًا شابًّا في الجيش الليبي ‪-‬ينتمون إلى فكرة الوحدة العربية الشاملة الناصرية‪ ،‬ويقودهم‬
‫ضابط ذو شخصية نافذة يدعى معمر أبو منيار القذافي يبلغ من العمر ‪ 21‬سنة‪ -‬بملكية الملك‬
‫مسافر خارج البالد‪ .‬كانت هذه‬
‫ًا‬ ‫ٍ‬
‫انقالب غير دموي‪ ،‬حين كان الملك‬ ‫محمد إدريس السنوسي في‬
‫ٍ‬
‫لتنظيم سري داخل الجيش الليبي يسمى "حركة الضباط الوحدويين‬ ‫المجموعة تمثل لجنةً مركزية‬
‫األحرار"‪ .‬الضباط الشباب االثنا عشر الذين كانوا يتحدرون من أقاليم البالد الثالثة‪ ،‬أعادوا تسمية‬
‫أنفسهم "مجلس قيادة الثورة"‪ ،‬وأعلنوا قيام الجمهورية العربية الليبية‪ ،‬وألفوا قيادة جماعية حتى سنة‬
‫‪.0918‬‬

‫‪06‬‬
‫دولة ما بعد االستعمار والتحوالت االجتماعية في ليبيا‬

‫سيطر مجلس قيادة الثورة على كل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية‪ ،‬وشرع في اإلشارة‬
‫إلى إجراءاته االجتماعية والسياسية على أنها "ثورة"‪ .‬وعلى الرغم من مناهضته لالستعمار‬
‫والشيوعية والفساد ودفاعه عن القومية العربية واإلسالم‪ ،‬فإن مجلس قيادة الثورة لم تكن له‬
‫سياسات محددة الخطوط‪ ،‬وكان دليله المرشد ثورة ‪ 0942‬المصرية‪ .‬لقد مر المجتمع الليبي‬
‫بتحوالت اقتصادية وسياسية واجتماعية بعد سنة ‪ ،0989‬إال أن الحكومة الجديدة نفذت سياساتها‬
‫من دون مشاركة شعبية تُذكر‪ .‬وركز جناح القذافي في مجلس قيادة الثورة السلطات في يده في‬
‫‪Indigenous pastoralist‬‬ ‫‪ ،0918‬وأخذ يجرب خلق "مجتمع اشتراكي فطري أصيل‬
‫مستفيدا من عائدات النفط الوفيرة وتوظيف العمالة غير الليبية التي كانت‬
‫ً‬ ‫‪،"socialist society‬‬
‫تضم ‪-‬من بين من تضم‪ -‬العديد من التونسيين والمصريين‪ .‬إال أنه على المرء أن يتذكر أن‬
‫المجتمع الليبي في عمومه ٍ‬
‫معاد لالستعمار ومؤيد لحركات التحرر الوطني ومؤمن إيمانا ًّ‬
‫قويا‬
‫بالعروبة واإلسالم‪.‬‬
‫البد من تذكر بعض النقاط هنا‪ ،‬أولها أن ثورة ‪ 0989‬بقيادة معمر القذافي لم تكن شذوًذا‪ ،‬مثلما‬
‫يعتقد الكثير من الصحفيين والباحثين الغربيين‪ ،‬ولكنها متجذرة بقوة في مجتمع الداخل الليبي من‬
‫خالل الحركة السنوسية والجمهورية الطرابلسية‪ ،‬ضمن اإلطار العام للثقافة اإلسالمية والمؤسسات‬
‫بناء على‬ ‫استقالال ًّ‬
‫ذاتيا‪ ،‬والخشية من الدولة المركزية‪ ،‬وانعدام الثقة في الغرب ً‬ ‫ً‬ ‫القرابية المستقلة‬
‫قادر على التعبير عن مقاومة االستعمار‬
‫التجربة المرة تحت الحكم اإليطالي‪ .‬كان القذافي ًا‬
‫مستخدما‬
‫ً‬ ‫والحس الوطني لدى الليبيين وايصاله للناس وترجمة هذه التركة إلى أيديولوجيا ثورية‬
‫لغة بسيطة يفهمها الليبيون العاديون بسهولة‪ .‬لقد استخدم القذافي نبوغه الكارزمي لتعبئة الشعب‬
‫ٍ‬
‫كرجل بدوي من‬ ‫ومهاجمة معارضيه وخصومه داخل البالد وخارجها‪ .‬كان يتحدث ويأكل ويلبس‬
‫أمير للمؤمنين‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫كإمام أو ٍ‬ ‫الدواخل‪ ،‬ويؤم المصلين‬
‫ولغرض إضعاف المعارضة الحضرية بين الطلبة والمثقفين والطبقة الوسطى الحضرية في المدن‬
‫"البدونة ‪ "Bedwanization‬التي تعتمد الهجوم‬
‫الكبرى‪ ،‬اتبع النظام الجديد سياسة ثقافية قوامها ْ‬
‫‪09‬‬
‫دولة ما بعد االستعمار والتحوالت االجتماعية في ليبيا‬

‫على الثقافة الحضرية وتشجيع الطقوس البدوية والريفية المرتكزة إلى القيم القبلية المتعلقة باللباس‬
‫والموسيقى واألعياد‪ ،‬وهذا ‪-‬دون شك‪ -‬عودة إلى الماضي القديم‪ .‬ونتيجة لسياسة تصفية‬
‫التحضر ‪ De-Urbanization‬الممنهجة‪ ،‬فقدت مدينة طرابلس (أكثر مدن البالد تحض ًار‬
‫وكوزموبوليتية) طابعها السابق‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ظلت الجماهيرية دولةً شعبوية حديثة‪ .‬ونالت حكومة‬
‫ًّ‬
‫شعبيا واسعا في الطبقات الدنيا والوسطى‪ ،‬مكن الحكومة من االنخراط في‬ ‫تأييدا‬
‫ً‬ ‫الجماهيرية‬
‫تغييرات اقتصادية كبرى وكذلك في البنى السياسية واالجتماعية‪ .‬وقد قادت المعارضة الداخلية‬
‫والخارجية للحكومة إلى مزيد من أفعال القمع ضد المعارضين في عقد الثمانينيات‪.‬‬
‫قوضت المركزية ‪ Centralization‬المفرطة واالعتماد على األجهزة غير الرسمية‬
‫واألمنية ‪-‬على حساب المؤسسات الرسمية وحكم القانون‪ -‬اإلصالحات المبكرة‪ ،‬وأدت إلى أفول‬
‫هذه التجربة المتعلقة بالشعبوية السياسية األصيلة‪ .‬وتضافر المناخ العدائي العالمي وانخفاض‬
‫عائدات النفط منذ أواخر السبعينيات من القرن العشرين لخلق أزمة النظام‪ .‬وأكثر من ذلك‪،‬‬
‫أُضعفت أو ُشوهت المؤسسات العامة مثل المحاكم والجامعات واالتحادات والمستشفيات‬
‫والمصارف‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإن ترافد الحراكين الداخلي والخارجي حول األيديولوجيا من نمطها الشعبوي‬
‫اختُزل في عبادة شخصية القذافي‪ .‬بدأ هذا التغير في فترة مبكرة بعد‬ ‫ٍ‬
‫لنظام ْ‬ ‫إلى ٍ‬
‫نمط تسلطي‬
‫دخول القوات الليبية في حرب مباشرة مع نظام حسين حبري في التشاد في حزيران ‪ /‬يونيو‬
‫‪ ،0961‬والمواجهة مع الواليات المتحدة األميركية سنة ‪ 0968‬التي توجت بالقصف الجوي‬
‫وضوحا شديدا بعد سنة ‪ ،0966‬خصوصا مع‬
‫ً‬ ‫اضحا‬
‫األميركي لطرابلس وبنغازي‪ ،‬وأصبح و ً‬
‫موافقة مجلس األمن الدولي سنة ‪( 0992‬القرار ‪ 176‬في ‪ 10‬آذار ‪ /‬مارس ‪ )0992‬على توقيع‬
‫عقوبات على ليبيا إثر اكتشاف ما قيل إنه دليل يربط عمالء ليبيين بحادثة تفجير طائرة "بان آم"‬
‫األميركية في رحلتها رقم ‪ 011‬فوق بلدة لوكربي في سكوتالندا‪.‬‬
‫النظام الليبي مناظر لألنظمة األخرى المسماة األنظمة الريعية التسلطية في الشرق‬
‫األوسط وأفريقيا‪ .‬فالدول المنتجة للنفط كالجزائر والعراق وسورية (آنذاك)‪ ،‬على سبيل المثال‬

‫‪21‬‬
‫دولة ما بعد االستعمار والتحوالت االجتماعية في ليبيا‬

‫وليس الحصر‪ ،‬حاولت توزيع مؤسسات رسمية وغير رسمية لتلبية مطالب بعض المواطنين‬
‫أيضا‬
‫المادية والمعنوية مقابل قليل من الوالء والطاعة الجمة‪ .‬بعد سنة ‪ ،0968‬استخدم النظام ً‬
‫العقوبات الجسدية والحبس والنفي اإلجباري ضد اآلالف من المنشقين بهدف الحفاظ على‬
‫سلطته‪ ،‬ومأل القوى األمنية باألقارب الموثوقين والحلفاء التقليديين‪ ،‬أولئك الذين ارتبطت‬
‫مصالحهم المادية بديمومة حكم القذافي‪ .‬واستخدم النظام كذلك إستراتيجيات الشرعنة‬
‫‪ Legitimizing strategies‬بهدف التحكم في ما يعده بعض علماء االجتماع البعد "المعياري"‬
‫للخضوع ‪.The normative dimension of compliance‬‬
‫في الواقع‪ ،‬تألف النظام الجديد من مؤسسات وقوى مثل الدائرة الداخلية المتكونة من رجال‬
‫الخيمة‪ ،‬واللجان الثورية‪ ،‬والصفوف القبلية‪ ،‬وتنظيم الرفاق الذي يضم معظم زمالء القذافي في‬
‫الدراسة وأصدقائه قبل الثورة‪ .‬ابتكر القذافي "إعادة البناء القبلي ‪ "Retribalization‬واستراتيجية‬
‫فرق تسد المنتمية إلى المؤسسات البدوية والريفية التقليدية مثل "الميعاد" و"جبر الخواطر"‬
‫ِّ‬
‫و"الصفوف"‪ .‬فمؤسسة "الميعاد" هي التقاء شيوخ القبائل من أجل تدارس قضية ما‪ ،‬و"جبر‬
‫الخواطر" هي لقاء قبلي لتسوية الخالفات وجلب الوئام(‪ .)01‬كان في العادة يرسل –بصفة غير‬
‫رسمية‪ -‬قريبه ومستشاره لشؤون القبائل العقيد خليفة حنيش إلى هذه المؤسسات للحصول على‬
‫تأييد القبائل أو إبرام المصالحات مع الخصوم‪ .‬وقد كان الداخل الليبي ‪-‬وبسبب ضعف الدولتين‬
‫العثمانية واالستعمارية اإليطالية‪ -‬قد شهد قيام التحالفات الفالحية والبدوية‪ ،‬المسماة بـ"الصفوف"‬
‫مقام إستراتيجي ٍة دفاعية ضد الدولة المركزية والتحالفات األخرى‪ .‬وأحيى النظام مؤسسة الصفوف‬
‫القديمة هذه في مواجهة المعارضة الداخلية في الجيش وفي اإلقليمين الشرقي والجنوبي من ليبيا‪.‬‬
‫فعلى سبيل المثال‪ ،‬اعتمد النظام في ما بين ‪ 0914‬و‪ 0991‬لتجنيد الضباط على ثالث قبائل‪:‬‬

‫‪13‬‬
‫‪Salahedin Hasan al-Sury, “A New System for a New State: Libyan Experiment in Statehood”, Op.‬‬
‫‪Cit.‬‬

‫‪20‬‬
‫دولة ما بعد االستعمار والتحوالت االجتماعية في ليبيا‬

‫القذاذفة‪ ،‬والمقارحة‪ ،‬وورفلة‪ .‬وأُسقطت ورفلة من هذا االعتبار حين اكتُشف سنة ‪،0991‬‬
‫ٍ‬
‫لمحاولة انقالبية قوامها األساسي ضباط من ورفلة‪ .‬وتنتمي زوجة القائد الثانية‪ ،‬صفية‬ ‫التحضير‬
‫فركاش‪ ،‬إلى قبيلة قوية هي قبيلة البراعصة المنتمية إلى قبائل السعادي‪ ،‬وهذه القبيلة قدمت له‬
‫قدر من الدعم في موطن الملكية السنوسية‪ .‬ومع نهاية التسعينيات‪ ،‬أخذ القذافي يعتمد على‬
‫ًا‬
‫عائلته وأبناء عمومته على رأس األجهزة األمنية‪.‬‬
‫قام النظام بتطهير الجامعات مما سمي الثورة المضادة سنة ‪ .0918‬وشمل االستهداف‬
‫ًّ‬
‫مستقال بعد‬ ‫الناشطين اإلسالميين والليبراليين واليساريين الذين أرادوا الحفاظ على اتحاد الطلبة‬
‫ابتداء‬
‫ً‬ ‫سنة ‪ 0987‬مثلما كان تحت الملكية‪ .‬وقد قام أعوان النظام بالمهام القذرة ضد المعارضين‪،‬‬
‫مرور بالتخويف‪ .‬وقد كافأ القذافي العديد من هؤالء األعوان‬
‫ًا‬ ‫انتهاء بالقتل‬
‫بالتجنيد واإلغراء و ً‬
‫بضمهم إلى النخبة الحاكمة في النظام في مناصب مثل الوزراء‪ ،‬والمديرين الرئيسين والسفراء‬
‫ورؤساء الجامعات ورؤساء األجهزة األمنية‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬حين واجه النظام غضب الرأي العام ضد االنتهاكات سنة ‪ ،0966‬دان القذافي اللجان‬
‫الثورية على انحراف مسؤوليها عن الخط الثوري الصحيح‪ ،‬وتبين أن انتقاده هذه اللجان لم يكن‬
‫سوى لفترة قصيرة‪ .‬فقد ظلت هذه اللجان تحافظ على ٍ‬
‫دور في "تحريض" مؤتمر الشعب وتأطير‬
‫جدول األعمال الذي يحتوي القضايا المطروحة للنقاش‪ .‬لقد أصبحت اللجان الثورية‪ ،‬بمقتضى‬
‫ًّ‬
‫سياسيا‪ ،‬وهذا مناقض للفكرة المثالية عن ديمقراطية المشاركة المبنية على‬ ‫األمر الواقع‪ ،‬حزًبا‬
‫مؤتمر الشعب واللجان الشعبية ‪-‬كما وردت في الكتاب األخضر‪ ،-‬خصوصا في الوقت الذي‬
‫ٍ‬
‫تهديد لبقائه‪.‬‬ ‫كان فيه النظام يخشى من االنشقاق لما يعنيه من‬
‫مع نهاية الثمانينيات‪ ،‬سادت االهتمامات غير الرسمية واألمنية النظام السياسي واستخدمت‬
‫طقوس عبادة البطل بخصوص القذافي كلغة للسيطرة االجتماعية‪ .‬وأصبحت فيما بعد راسخة في‬
‫بأسا‪ ،‬مخافة خسارة السلطة والمساءلة المحتملة عن‬
‫النظام‪ .‬وكانت أشد قوى معارضة اإلصالح ً‬

‫‪22‬‬
‫دولة ما بعد االستعمار والتحوالت االجتماعية في ليبيا‬

‫انتهاكاتها لحقوق اإلنسان بما في ذلك التعذيب والقتل ضد جماعات المعارضة وأفراد من النظام‬
‫في العقود الثالثة األخيرة‪.‬‬
‫وفي مواجهة التململ السياسي والعزلة‪ ،‬قرر النظام تغيير أيديولوجيته باالتجاه نحو أفريقيا‪،‬‬
‫ورضي بالتصالح مع المجتمع الدولي من خالل قبوله بشروط األمم المتحدة‪ ،‬وفي ما بعد التخلي‬
‫عن برنامج أسلحة الدمار الشامل من أجل بقائه(‪ .)07‬وكإشارة على النزعة البراغماتية واإلصالح‪،‬‬
‫خصوصا في ما‬
‫ً‬ ‫أصبحت السياسة في طرابلس مدفوعة باعتبارات المصالح الشخصية والوطنية‪،‬‬
‫يتعلق بالقيام بدور موازن للمنافسين في مصر واسرائيل وتونس والسودان والجزائر والمغرب‪.‬‬
‫وينجم تغيير السياسة الليبية بين مرحلة وأخرى عن تغير في عالقات القوى في المنطقة‬
‫والمواجهات مع الواليات المتحدة األميركية وفرنسا في أفريقيا‪ .‬هذه العوامل مجتمعة‪ ،‬أجبرت‬
‫النظام على تغيير سياساته أو إبرام معاهدات تحالف أو وحدة مع دول صحراوية مختلفة في‬
‫أفريقيا‪ .‬وقادت هذه السياسة الليبية الجديدة ‪-‬التي استهدفت التصالح مع المجتمع الدولي‪ -‬إلى‬
‫رفع العقوبات‪ ،‬إال أنها قوت الصراع السياسي في الداخل‪ .‬وباختصار‪ ،‬فإن السلوك الليبي إزاء‬
‫الدول األفريقية األخرى تغير استجابةً لتغيرات سياسية داخلية واقليمية ودولية‪.‬‬
‫جلبت العملية الثورية في ليبيا في العقدين األولين من عمرها عدة فوائد لليبيين العاديين‪ ،‬من قبيل‬
‫العناية الصحية المجانية والتطوير الكبير للبنية التحتية للبالد والتعليم المجاني تتجاوز بكثير تلك‬
‫خصوصا بالنسبة إلى المرأة الليبية التي أصبحت متعلمة‬
‫ً‬ ‫اإلنجازات التي حققها النظام الملكي‪،‬‬
‫وفاعلة؛ وكان من النساء الوزيرات والسفيرات والطيارات والقاضيات‪ ،‬في مجتمع محافظ كان‬
‫معدل األمية فيه ‪ %94‬سنة ‪ .0940‬ومنذ سنة ‪ 0991‬أسهمت الزراعة بـ‪ %2‬فقط من الميزانية‬
‫الوطنية‪ ،‬وارتفع معدل البطالة إلى ‪ .%11‬وأُضعفت مؤسسات المجتمع المدني في ليبيا التي‬
‫بدت أكثر ديمقراطية من عدة دول خليجية في سبعينيات القرن الماضي‪ ،‬أو تم اإلجهاز عليها‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫‪See J. Wright, Libya A Modern History, Op. Cit.‬‬

‫‪21‬‬
‫دولة ما بعد االستعمار والتحوالت االجتماعية في ليبيا‬

‫أين كان الخلل؟ ثمة على األقل ثالث خطايا أصلية‪ :‬سيادة المؤسسات األمنية وغير الرسمية‬
‫على حساب المؤسسات الرسمية‪ ،‬وغياب دستور وطني‪ ،‬ومعاداة المأسسة‬
‫‪ .Institutionalization‬كما أسهمت عبادة الشخصية والفساد؛ واجهاض اإلصالحات السياسية؛‬
‫وتسليط األجهزة األمنية على البناء المؤسسي؛ في اغتراب الطبقتين الوسطى والدنيا‪ ،‬إضافةً إلى‬
‫انشقاق العديد من اإلصالحيين وضباط الجيش والدبلوماسيين الذين منهم من أصبح من بين قادة‬
‫االنتفاضة الديمقراطية اآلن‪ .‬وهكذا انتهت تجربة الجماهيرية‪ .‬فلنأمل أن القادة الشبان الشجعان‬
‫الذين يقودون انتفاضة ليبيا الديمقراطية سيتعلمون من األخطاء التي ارتكبها النظام الملكي ونظام‬
‫وخصوصا إذا أُجل‬
‫ً‬ ‫القذافي‪ .‬إن تحدي بناء ديمقراطية تعددية ومدنية مستقرة‪ ،‬هو ٍّ‬
‫تحد هائل‪،‬‬
‫إلحاحا‪ ،‬أال وهو التسوية السياسية وانشاء هيئة إنصاف ومصالحة حقيقية‪.‬‬
‫ً‬ ‫الموضوع األكثر‬

‫‪27‬‬
‫دولة ما بعد االستعمار والتحوالت االجتماعية في ليبيا‬

‫المصادر والمراجع‬
‫باللغة العربية‪:‬‬
‫‪ .0‬زارم‪ .‬أحمد‪ ،‬مذكراتك صراع الشعب الليبي مع االستعمار‪( 0986-1591 :‬ليبيا‪-‬‬
‫تونس‪ :‬الدار العربية للكتاب‪.)0966 ،‬‬
‫‪ .2‬التير‪ .‬مصطفى عمر‪ ،‬مسيرة التحديث للمجتمع الليبي (بيروت‪ :‬معهد اإلنماء العربي‪،‬‬
‫‪.)0990‬‬
‫‪ .1‬المغيربي‪ .‬محمد زاهي‪ ،‬الدولة والمجتمع المدني في ليبيا (القاهرة‪ :‬إصدارات مجلة‬
‫عراجين‪.)2117 ،‬‬
‫‪ .7‬كرفاع‪ .‬مختار‪ ،‬الحركات العمالية في ليبيا‪( 1595-1591 :‬طرابلس‪ :‬مركز الجهاد‬
‫للدراسات التاريخية‪.)2111 ،‬‬
‫‪ .4‬الكبير‪ .‬ياسين‪ ،‬المهاجرون في طرابلس الغرب (بيروت‪ :‬معهد اإلنماء العربي‪.)0962 ،‬‬
‫‪ .8‬البشتي‪ .‬فوزي الطاهر‪ ،‬حلم الثورة في الشعر الليبي الحديث (طرابلس‪ :‬المنشأة العامة‬
‫للنشر والتوزيع‪.)0960 ،‬‬
‫‪ .1‬الفارسي‪ .‬أم العز‪ ،‬السياق المجتمعي وأثره على المشاركة السياسية للمرأة في ليبيا‬
‫(القاهرة‪ :‬إصدارات مجلة عراجين‪.)2111 ،‬‬

‫باللغات األجنبية‬
‫‪1. Anderson, L. The State and Social Transformation in Tunisia and Libya:‬‬
‫‪1830-1980, (Princeton: Princeton University Press, 1986).‬‬
‫‪2. Anderson, L. “States, Peasants and Tribes: Colonialism and Rural Politics in‬‬
‫‪Tunisia and Libya”. Ph.D. diss. In political science, Columbia University, New‬‬
‫‪York, 1980.‬‬

‫‪24‬‬
‫دولة ما بعد االستعمار والتحوالت االجتماعية في ليبيا‬

3. Ahmida, A. The Making of Modern Libya: State Formation, Colonization, and


Resistance (Albany: State University of New York Press, 2009).
4. Ahmida, A. Forgotten Voices: Power and Agency in Colonial and
Postcolonial Libya (New York: Routledge Taylor & Francis Group, 2005).
5. Ahmida, A. “Colonialism, State Formation and Civil Society in North Africa:
Theoretical and Analytical Problems”, International Journal of Islamic and
Arabic Studies, Vol. XI, N:1, (1994).
6. Baldinetti, A. “Libya’s Refugees, their Places of Exile, and the Shaping of
their National Idea”, The Journal of North African Studies, Vol. 8, N:1,
(2003).
7. Khadourim, M. Modern Libya: A Study in Political Development (Baltimore:
The John Hopkins Press, 1963).
8. Khalidi, I.R. Constitutional Development in Libya (Beirut: Khayyat’s College,
1963).
9. Romani, M. “The Final Exodus of Libyan Jews in 1967”, Jewish Political
Studies Review, Vol. 19, N:3-4, (2007).
10. Pelt, A. Libyan Independence and the United Nations (New Haven: Yale
University Press, 1970).
11. Al-Sury, S.H. “A New System for a New State: Libyan Experiment in
Statehood, 1951-1969”, In: A. Baldinetti, (ed.), Modern and Contemporary
Libya: Sources and Historiographies (Rome: Instituto Italiano Per L’Africa et
Orienete, 2003).
12. Vandewalle, D. A History of Modern Libya (Cambridge: Cambridge University
Press, 2006).

13. Wright, J. Libya A Modern History (London: Croom Helm, 1983).

28

You might also like