Professional Documents
Culture Documents
Arabic Debate
Arabic Debate
املناقشة العلمية
ع قد ابن القيم مقارنة بني العلم واملال مبينا فضل العلم على املال فقال يف مفتاح دار السعادة «وفضل العلم
على املال يعلم من وجوه:
أحدها :أن العلم مرياث األنبياء ،واملال مرياث امللوك واألغنياء.
والثاين :أن العلم حيرس صاحبه ،وصاحب املال حيرس ماله.
والثالث :أن املال تذهبه النفقات ،والعلم يزكو على النفقة.
الرابع :أن صاحب املال إذا مات فارقه ماله ،والعلم يدخل معه قربه.
اخلامس :أن العلم حاكم على املال ،واملال ال حيكم على العلم.
السادس :أن املال حيصل للمؤمن والكافر والرب والفاجر ،والعلم النافع ال حيصل إال للمؤمن.
السابع :أن العامل حيتاج إليه امللوك فمن دوهنم ،وصاحب املال إمنا حيتاج إليه أهل العدم والفاقة.
الثامن :أن النفس تشرف وتزكو جبمع العلم وحتصيله ،وذلك من كماهلا وشرفها ،واملال يزكيها وال يكملها وال
يزيدها صفة كمال ،بل النفس تنقص وتشح وتبخل جبمعه واحلرص عليه ،فحرصها على العلم عني كماهلا،
وحرصها على املال عني نقصها.
التاسع :أن املال يدعوها إىل الطغيان والفخر واخليالء ،والعلم يدعوها إىل التواضع والقيام ابلعبودية ،فاملال
يدعوها إىل صفات امللوك ،والعلم يدعوها إىل صفات العبيد.
العاشر :أن العلم جاذب موصل هلا إىل سعادهتا اليت خلقت هلا ،واملال حجاب بينها وبينها.
احلادي عشر :أن غىن العلم أجل من غىن املال ،فإن غين املال غين أبمر خارجي عن حقيقة اإلنسان ،لو
ذهب يف ليلة أصبح فقريا معدما ،وغين العلم ال خيشى عليه الفقر ،بل هو يف زايدة أبدا ،فهو الغين العايل
حقيقة كما قيل:
غنيت بال مال عن الناس كلهم ...وإن الغين العايل عن الشيء ال به.
الثاين عشر :أن املال يستعبد حمبه وصاحبه فيجعله عبدا له ،كما قال النيب صلى هللا عليه وسلم« :تعس
عبد الدينار والدرهم »...احلديث ،والعلم يستعبده لربه وخالقه ،فهو ال يدعوه إال إىل عبودية هللا وحده.
الثالث عشر :أن حب العلم وطلبه أصل كل طاعة ،وحب الدنيا واملال وطلبه أصل كل سيئة.
الرابع عشر :أن قيمة الغين ماله ،وقيمة العامل علمه ،فهذا متقوم مباله ،فإذا عدم ماله عدمت قيمته وبقي بال
قيمة ،والعامل ال تزول قيمته ،بل هي يف تضاعف وزايدة دائما.
اخلامس عشر :أن جوهر املال من جنس جوهر البدن ،وجوهر العلم من جنس جوهر الروح ،كما قال
يونس بن حبيب :علمك من روحك ،ومالك من بدنك .والفرق بني األمرين كالفرق بني الروح والبدن.
السادس عشر :أن العامل لو عرض عليه حبظه من العلم الدنيا مبا فيها مل يرضها عوضا من علمه ،والغين
العاقل إذا رأى شرف العلم وفضله وابتهاجه ابلعلم وكماله به يود لو أن له علمه بغناه أمجع.
السابع عشر :أنه ما أطاع هللا أحد قط إال ابلعلم ،وعامة من يعصيه إمنا يعصيه ابملال.
الثامن عشر :أن العامل يدعو الناس إىل هللا بعلمه وحاله ،وجامع املال يدعوهم إىل الدنيا حباله وماله.
التاسع عشر :أن غىن املال قد يكون سبب هالك صاحبه كثريا ،فإنه معشوق النفوس ،فإذا رأت من يستأثر
مبعشوقها عليها سعت يف هالكه ،كما هو الواقع ،وأما غىن العلم فسبب حياة الرجل وحياة غريه به ،والناس
إذا رأوا من يستأثر عليهم به ويطلبه أحبوه وخدموه وأكرموه.
العشرون :أن اللذة احلاصلة من غىن ،إما لذة ومهية وإما لذة هبيمية ،فإن صاحبه التذ بنفس مجعه وحتصيله
فتلك لذة ومهية خيالية ،وإن التذ إبنفاقه يف شهواته فهي لذة هبيمية ،وأما لذة العلم فلذة عقلية روحانية،
وهي تشبه لذة املالئكة وهبجتها ،وفرق ما بني اللذتني.
احلادي والعشرون :أن عقالء األمم مطبقون على ذم الشره يف مجع املال احلريص عليه ،وتنقصه واإلزراء به،
ومطبقون على تعظيم الشره يف مجع العلم وحتصيله ،ومدحه وحمبته ،ورؤيته بعني الكمال.
الثاين والعشرون :أهنم مطبقون على تعظيم الزاهد يف املال املعرض عن مجعه ،الذي ال يلتفت إليه ،وال جيعل
قلبه عبدا له ،ومطبقون على ذم الزاهد يف العلم ،الذي ال يلتفت إليه وال حيرص عليه.
الثالث والعشرون :أن املال ميدح صاحبه بتخليه منه وإخراجه ،والعلم إمنا ميدح بتخليه به واتصافه به.
الرابع والعشرون :أن غىن املال مقرون ابخلوف واحلزن ،فهو حزين قبل حصوله ،خائف بعد حصوله ،وكلما
كان أكثر كان اخلوف أقوى ،وغىن العلم مقرون ابألمن والفرح والس ــرور.
اخلامس والعشرون :أن الغين مباله البد أن يفارقه غ ــناه ،ويتعذب ويتأمل مبفارقته ،والغين ابلعلم ال يزول ،وال
يتعذب صاحبه ،وال يتأمل ،فلذة الغىن ابملال لذة زائلة منقطعة ،يعقبها األمل ،ولذة الغىن ابلعلم لذة ابقية
مستمرة ،ال يلحقها أمل.
السادس والعشرون :أن استلذاذ النفس وكماهلا ابلغىن استكمال بعارية مؤداة ،فتجملها ابملال جتمل بثوب
مستعار ،البد أن يرجع إىل مالكه يوما ما ،وأما جتملها ابلعلم وكماهلا به فتجمل بصفة اثبتة هلا ،راسخة فيها
ال تفارقها.
السابع والعشرون :أن الغىن ابملال هو عني فقر النفس ،والغىن ابلعلم هو غناها احلقيقي ،فغناها بعلمها هو
الغىن ،وغناها مباهلا هو الفقر.
الثامن والعشرون :أن من قدم وأكرم ملاله إذا زال ماله زال تقدميه وإكرامه ،ومن قدم وأكرم لعلمه ال يزداد
إال تقدميا وإكراما.
التاسع والعشرون :أن تقدمي الرجل ملاله هو عني ذمه ،فإنه نداء عليه بنقصه ،وأنه لوال ماله لكان مستحقا
للتأخر واإلهانة ،وأما تقدميه وإكرامه لعلمه فإنه عني كماله ،إذ هو تقدمي له بنفسه وبصفته القائمة به ال أبمر
خارج عن ذاته.