Professional Documents
Culture Documents
06
06
المقدمــــــــة
تشكـ ـ ـ ـ ــل د ارسـ ـ ـ ــة الشخصية في الواقع العربي تحدياً سوسيولوجيا كبي اًر أمام الباحـ ـ ـ ـ ــثين
العرب وبصورة خاصة الباحثين في علم االجتماع.
ومهما يكـ ــن من أم ـ ـ ــر ،فإن دراسات علمية كثيرة اهتمت باستكشاف حقيقـ ــة وطبيعـ ــة ومعــال ـ ــم
الشخصية العربية في أكثر من مكان في المجتمع العربي غير أن ه ــذه الدراسات العربية في المجمل
كانت والزالت تنطلق على المستويين النظري والمنهجي من التراث النظري الغربي حول الشخصية ،
فضالً عن أن هذه الد ارسـ ــات حرصت تماماً على محاكاة المناهـج واألساليب المنهجية الغربيـ ــة التي
ارتبطت في األساس بد ارـس ـ ــة وبحث ديناميات الشخصية الغربية دون غيرها وفي واقع غربي يختلف
تماماً عن الواقع العربي تاريخاً وحضارة وثقافة .ومن ثم ،وفي ضوء هذه المحاكاة والتقليد للمناهج
واألساليب النظرية والمنهجيـ ــة الغربية من قبل الدراسات العربي ـ ـ ــة جاءت نتائ ـ ــج وأحكام واستنتاجات
الدراسات العربية حول الشخصية العربية بعي ـ ــدة عن الواقع ،ومشوهـ ــة المنطلقات ،وفقيرة للدالالت
والمعاني االنثروبولوجية والسوسيولوجية السليمـ ــة والموضوعية .عـ ـ ـ ــالوة عن أنها تشكل صورة من
األعمال اإلنطباعية والذاتية والتاملية.
ومن بين األعمال البحثية التي تنتمي لمثل هذه الدراسات العربية حول الشخصية القاعدية
أو القوميـ ـ ــة عمل الباحث التونسي المنصف وناس حول الشخصية الليبي ـ ـ ــة :ثالوث القبيلة والغنيمة
والغلبة انطالقا من تحديد تصوري للشخصية القاعدية الليبيـ ـ ــة وفي شكل مجموعة تراكم ـ ــات عديدة ،
ومختلفـ ـ ــة على المستويات التاريخي ــة واالجتماعية والسياسية ،وفي ظل مؤثرات عديدة ساهمت في
نحت وهندسة الشخصية القاعدية الليبية تمثلت في األساس في :الهجرات ،واالستعمار ،والغزوات
135
العدد السابع (ديسمبر )2021 السنة الثانية مجلة اإلعالم والفنون
التاريخية ( الرومان ،والوندال ،والبيزنطيين ،واألسبان واألتراك . )...لقد أرتكز عمل الشخصية
الليبية هذا في تكوين تصوراته واستنتاجاته في ضوء مفهوم البداوة كبنية ذهنية وثقافة متحكمة في
أنماط السلوك في الواقع الليبي.
وقـ ـ ـ ــد تشكلت خصائص وصفات هـ ـ ــذه الشخصية القاع ـ ــدية التي تعك ـ ــس المخزون النفس ـ ـ ــي
والذهني الجماعي في ظل بدونة مفروضة فرضاً بفعل السلطة السائدة أو النظام السياسـي الحاكم
وهي سلطة عملت على تغليب البدو على الحضر ،وترسيـ ــخ مفاهيـ ــم وأحوال البدونة السياسية ،
وتكريس روح الغلبـ ـ ــة لدى الناس ،وتأكيـ ـ ــد الحرص على الهيمنـ ــة وهزيمة اآلخر .غير أن هذا العمل
البحثي متمثالً في موضوع الشخصية الليبيـ ـ ــة قــد توصل إلى استنتاجات وأحكام نهائية وقطعية
كشفت عن قائمة من الخصائص والصفات التي وسمت بها الشخصي ــة القاعدية الليبية ومن بينها :
السيطرة واالستفـ ـ ـ ـراد ورفض االختالف ومحـ ــاورة األخر .وحب التسلط على اآلخرين ،وعدم الميل
إلى ال جهد ،وتدنى مست ـ ـ ـ ـ ـ ــوى الحماس لإلنتاج ،والعمل واالفتقار لتوظ ـ ـ ــيف وتثم ـ ــير التجارب
والخـ ـ ــبرات ،فض ـ ـ ـالً عن عـ ـ ـ ــدم تحمل التزامات القوان ـ ــين وضوابط الحياة العصرية ،وتغليب روح
الغلبة والنهب ،وترسيخ أحوال الهيمنة وهزيمة األخر .والتشيع للقبيلة والعصيبة القبلية ،ومعارضة
ومقاطعة التحديث والعصرنة.
وبين هذا وذاك ،تظل الحاجة ماسة إلى قراءة ومراجعة عمل كهذا يدور حول موضوع معقد وصعب
يدعى الشخصية القاعدية ،طالما أن العمل نفسه موضوع المراجعة ،وصلب اهتمام هذه الورقة
البحثية قد است ــند أساس ـ ـ ـاً على منطلقات نظرية قاص ـ ـ ـرة وخاطئة من جهة ،وعلى أساليب واجراءات
منهجية مشوهـة من جهة أخرى .
لذلك واستناداً لكل ما سبق عرضه ،فإن هـ ـ ــذه الورقـ ـ ــة البحثيـ ــة سوفت تناقـ ـ ـ ـ ـ ــش وتجيب عن
التساؤالت الرئيسية التالية :-
-1كيف تعامل عمل الشخصية الليبية مع مفهوم الشخصية القاعدية كمنطلق رئيسي ؟.
-2ما المنطلقات النظرية التي وظفت في قراءة وفهم الشخصية القاعدية الليبية ؟.
136
العدد السابع (ديسمبر )2021 السنة الثانية مجلة اإلعالم والفنون
-3كيف يفهم عمل الشخصية الليبية مفهوم الشخصية القاعدية في ضوء المنظور التاريخي
والتغير االجتماعي ؟.
-4ما األساليب المنهجية التي استخدمت في فهم الشخصية القاعدية الليبية ؟.
-5ما خصائص الشخصية الليبية الكبرى التي وردت في عمل الشخصية الليبية ؟.
-6كيف ينظر عمل الشخصية الليبية للعالقة بين القبيلة والتحديث المادي في ليبيا ؟.
**القراءة النظرية:
* أوالً :سؤال المنطلق :مفهوم الشخصية القاعدية :يعترف المؤلف منذ الوهلة األولى في التقديم
العام بأن الشخصية القاعدية هي مبحث أو اهتمام بحثي ينطوي على حيرة عملية (ص ، )5فضالً
عن أنه موضوع تباين واخت ـ ـ ــالف على مستوى الدالالت وعلى مستوى االستعمال ،ومن المؤكد أنه
ثمة اختالفات بين الباحث ـ ــين حول تعريفـ ــه ،ومن المؤكد أيضاً وفقاً للمؤلف أنه يوجد من يشكك في
جدواه العلمية والعملية (ص )5 .
ويعترف المؤلف في موضع أخر بغموض وصعوبة وتعقيد المفهوم حينما يقول " ليس مبحثاً سهالً
في القراءة والفهم ،وانما هو على النقيض من ذلك مرهق وصعب المراس علمياً " (ص )13وأن
الصعوبة فيه تكمن أساساً في كيفية تطبيقه ميدانياً واجرائيا .ويطرح المؤلف من جانب أخر ،مشكلة
توظيف المفهوم كمفهوم غربي في بيئة مغايرة وهي البيئة العربية ،عـ ــالوة على آن اإلنتـ ــاج العلمي
حوله هـ ــو باألساس – انجل ـ ــوسكسوني وال تكاد توجد أدبيات فرنسية حوله ! ...األمر الذى يط ـ ـ ــرح
مشكلة توطين المفهوم في بيئة غير غربية ،وخاصة إذا ما تعلق األمر بالمجتمع الليبي الذي يتمتع
بثقل تاريخي وقبلي معين يتسم بالفرادة والخصوصية (ص . )13وعلى الرغم من كل ذلك ،فالكتاب
يهدف أساساً إلى تشجيع الحوار واثارة الحيرة الفكرية بقصد مزيداً من الفهم (ص . )14وفي تقديري،
أن المؤلف وفقاً لما تم عرض ـ ـ ــه قد انح ــاز متعمـ ـ ــداً لتوظيف مفهوم معقـ ـ ــد وموضع جدل واخت ـ ـ ــالف
بين الباحثـ ـ ـ ـ ـ ــين ،ناهي ـ ـ ــك عن حالة التشكيـ ـ ـ ـك في جدواه العلمية والعملية إلى المستوى الذي ال يتيح
( قليالً أو كثي اًر ) إمكاني ـ ــة توظيفه على المستوى النظري والمنهجي في بيئة اجتماعية مغاي ـ ـ ـرة تماماً
للبيئة التي ظهر فيها المفهوم .ويشكل هذا الوضع في المحصلة النهائيـ ــة معالم – انطالقة مفهومية
غامضـ ـ ــة – ما كان للمؤلف أن ينطلق منها نظرياً ومنهجي ـ ـ ـاً ،األم ـ ـ ــر الذي يشكل – بداية متعث ـ ـ ـ ـرة
137
العدد السابع (ديسمبر )2021 السنة الثانية مجلة اإلعالم والفنون
وقاصرة – في فهم ديناميات المجتمع الليبـ ــي بشكل عام ،والشخصية القاعدية فيه بشكل خاص على
الرغم من تصريح المؤلف بأهمية المفهوم باعتباره مدخالً من المداخل العلمية الممكنة لفهم الواقع
الليبي بما في ذلك الخصائص البارزة والمميزة للشخصية القاعدية (ص)14 .
مهما يك ـ ــن األم ـ ــر ،فإنه من المهم ،بل من الضـ ــرورة – منهجيـ ـ ـ ـاً ونظري ـ ـاً – ولكل عمل
بحثي ،اإلنطالق من تحديدات وصياغات واضحة ودقيق ـ ـ ــة تستغ ـ ــرق معاني ودالالت المفهوم أو
المفاهي ـ ـ ــم الرئيسية التي تعبر عن موضوع البحث أو الدراسة ،وباعتبار أن المفاهيم تمثل الدعامات
الرئيسية لكل بحث أو دراسة ،وما إذا كان المؤلف تبعاً لذلك يقصد بمفهومه الرئيسي الشخصية
القاعدية ،أو الشخصيـ ـ ــة القومي ـ ـة ،أم البنـ ـ ــاء األساسي للشخصي ـ ــة ،أم الطابـ ــع االجتماعي
للشخصي ـ ــة ،أو الشخصية المنوالية ....الخ .والغاية من هذه التحديــدات والصياغات الدقيقة
للمفهوم هو تح ــديـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد وتقييم البيانات ،أو المعطيات التي يعتمـ ــد عليها المؤل ــف ،فضالً عن
صدقية تفسيره لتلك البيانات والمعطيات ،على أنه من الضرورة أيضاً ،على المؤلف تحديد متغيراته
الرئيسية التي استندت عليها مناقشاته وتفسيراته حول موضوع الشخصية الليبية.
ومن جانب أخر ،يظل المؤلف في حاجة إلى تحديدات دقيقـ ـ ــة لنطاق استخـ ـ ــدام وتوظيـ ـ ــف مفهومه
الرئيسي ،وهل يبسط نطاقه أو مجاله على كل فئات المجتمع الليبي ؟ أم يقتصر األمر على بعض
شرائح المجتمع دون غيرها .فضالً عن التصريح الواضح عن النطاق الزمني لتطبيق مفهومه !.
ومن المناسب القول ،وتوخياً للدقة والوضوح ،أنه من المهم على المؤلف التحدث عن الشخصية
القومية الليبية في أطار عقد مقارنات لبياناته ومعطياته حولها ،ومعطيات أخرى عن مجتمعات
أخرى ،فما الذي يدرينا أن ما يعتبره المؤل ـ ـ ــف خصائص مميزة لمجتمع معين ال تشترك فيها
مجتمعات أخرى .غير أنه من المناسب القول أيضاً ،أن المؤلف تحدث عن شخصي ـ ـ ــة قاعدية في
المجمل مع إغفال وجود أنماط فرعية لهذه الشخصية في المجتمع العام كالشخصية الريفية والحضرية
رغم – التداخل – بين هذه األنماط ،فضالً عن تفردها بسمات نفسية وثقافية واجتماعية واقتصادية
محددة ،ناهيك عن أن الشخصية الحضرية تتعرض دون غيرها لمؤثرات ومتغيرات خارجية مختلفة .
138
العدد السابع (ديسمبر )2021 السنة الثانية مجلة اإلعالم والفنون
ومهما يك ــن من أمر ،تظل أهمية االنطالق بحثاً عن تحديدات وصياغات دقيقة وواضحة للمفهوم
الرئيسي الذي ي ـ ــدور حوله كتاب الشخصية الليبية متمثالً في مفهوم الشخصية القاعدية أو القوميـ ــة
أم اًر ضرورياً ال تستقيم التفس ـ ـ ــيرات والتحليالت بدونه ،وفي هذا ال ـ ــسياق ،كان من الضـ ـ ــرورة على
المؤلف التحاور أو مناقشة العديد من التعريفات أو التحديدات التي تصدت لمفهوم الشخصية العربية
أو القومية أو القاعدية في بعض أعمال الباحثـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــين العرب ،وبصورة خاصة تـ ـ ـلك األعمال التي
انطلقت من خصوصي ـ ــة الواقع العربي ،والشخصي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة القومية العربية .ومن بين هـ ــذه األعمـ ــال
البحثـي ـ ـ ــة عمل عالـ ـ ـ ـ ـ ــم االجتماع العراقي علي الوردي الـ ـ ـ ـ ــذي كشـ ـ ــف عن أن تحديـ ـ ــد الشخصية أو
تعريفهـ ـ ـ ـ ـ ــا بشكل جامع مانـ ــع هو من الصع ـ ـ ــوبة بمكان فهي كالكهرباء أو األثـ ـ ـ ـ ـ ـ ــير أو المغناط ـ ــيس
ال تُع ـ ـ ـ ـ ـ ــرف اإل بآثارها (الوردي (12:2001 ،ومن جانب أخـ ـ ـ ـ ـ ــر قـ ـ ـ ـ ـ ــدم عالم االجتماع التونس ـ ــي
محمود الذوادي عمالً بحثياً استعرض فيه دالالت ومعاني الشخصية القاعدية في أنها " الشخصيـ ـ ــة
الجماعية العامة لمجتمع وذات بعض السمات الخاصة ويشترك فيها أفراد المجتمع ،وهي محصلة
لعوامل اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية في المجتمع ومنه (الذوادي )2006 . ،
*ثانياً :تحديد موضوع الكتاب في ضوء المنطلق النظري :تثار مشكلة البحث ،أو موضوع البحث –
نظرياً ومنهجياً – في ضوء ،ومن خالل التفاعل الجدلي بين الفكر متمثالً في النظرية ،والواق ـ ــع
االجتماعي والثقافي .فالفكر أساساً بما ينطوي عليه من تصورات ومفاهيم ومقوالت نظرية نابعة من
الواقع المعين يظل يتفاعل مع هذا الواقع بصورة دائمة ،فضالً عن أنه جزءاً ال يتج أز من ذلك الواقع
(زايد . )98 :2002 ،لذلك تشكل النظرية االجتماعية " االنطـ ـ ــالقة الضرورية والحاسمة في إجـراء
أي بحث علمي .فال علم بدون نظرية يستنـ ـ ـ ـ ـ ــد عليها في البرهنـ ـ ــة والرفض ،وال صلة بين الواقع
االجتماعي المعقد ،والعلم اإل من خالل النظرية العلمية ( الترهوني .)1:2016 ،فض ـ ـ ـالً عن أن
التصورات النظرية المقترحة لتوجيه العمل البحثي المعين تنطوي على إسهامات هامة تساعـ ـ ـ ــد في
تنقية وتحديد وصياغة المفاهيم الرئيسية التي ينطوي عليها موضوع البحث أو الدراسة إلى المستوى
الذي تضفى فيه تلك التصورات النظرية دالالت ومعاني ومضامين دقيقة وواضحة على تلك المفاهيم
الرئيسية ،وبشكل يتيح إمكانية انتقاء تلك المعطيات والحقائق العلمية المناسبة التي تـ ـ ـ ـ ــدور حول تلك
المفاهيم تحديداً .وتساهم في هذا الصدد ،البحوث السابقة ذات الصلة بموضوع البحث في الوصول
139
العدد السابع (ديسمبر )2021 السنة الثانية مجلة اإلعالم والفنون
إلى شروح وتفسيرات علمية رصينة ال يكتمل العمل البحثي بدونها ،عالوة على أن البحوث السابقة
تظل – مسألة ال مفر منها – ألي باحث باعتبارها تعكس – فائدة نفيسة وثمينة في تدشين نقطة
اإلنطالق األساسية والجوهرية ألية دراسة علمية ،فضالً عن أنها تمثل – الحجر األساسي –
للـ ـ ــد ارس ـ ـ ــات والبح ـ ــوث الالحقـ ــة بشـ ـ ــأن تخطيـ ـ ـ ــط وتقييـ ـ ــم دينامياتها وخطواتهـ ـ ــا النظرية والمنهجـ ـيـ ـ ـ ــة
( الترهوني (2017: 1 ،
وما يمكن قوله في هذا الصدد ،أن مؤلف الشخصية الليبية ،قد تناول موضوعه البحثي في غياب
تصورات نظرية ذات خصوصية عربية تلقى الضوء بكفاية على مفهومه الرئيسي متمثالً في مفهوم
الشخصية القاعدية ،واعتمـ ــد كبديل عن ذلك بتصورات نظرية مستوردة ال تنتمي للواقع الليبي او
العربي بصلة أو عالقة ،فضالً عن آن محاوالت بحثية كثيرة حذرت من أن معظم التراث النظري
حول الطابع القومي للشخصيـ ـ ــة العربية تشكل في صورة انطباعات عام ـ ــة وافتراضات صيغت أو
اعتمدت على أطروحات غربية مستوردة من جانب ،وغياب بحوث ميدانية رصينة تتيح الحصول
على مادة صادقة ودقيقة عن الشخصية العربية من جانب أخر ( .زايد ( 2002: 98 ،
وفي ضوء هذا الوضع ،وفي ظل هذه المحاذير النظرية التي اشرنا إليها جاء عمل الشخصية الليبية
موضوع هذه الورقة – مفتق ـ ـ ـ ـ اًر – لتحديد وصياغة دقيقة لموضوعه البحثي .ومن ثم ،افتقد العمل
البحثي حول الشخصية الليبية للجوانب التالية :
*غياب أطار نظري واضح ومتماسك.
*غياب التركيز على المتغيرات البنائية التي تحمل تأثي اًر في تحديد معالم الشخصية الليبية.
*غياب أعمال بحثية سابقة تنطوي على تفسيرات بنائية واسعة النطاق.
*االعتماد على جهود بحثية ذات طابع تأملي وانطباعي تختفي فيها التفسيرات األمبريقية.
*توظيف تعميماته عن الشخصية الليبية في فترات تاريخية مختلفة دون اكتراث لدور التأثيرات التي
تحملها التغ ـ ـ ــيرات التي يتع ـ ـ ـ ــرض اليها المجتمع الليبي في كل مرحلة ،ودون اهتمام أو م ارعـ ـ ـ ـ ـ ــاة
لخصوصية كل مرحلة ،حتى ال نشعر وكأن الشخصية الليبية اليوم هي الشخصية التي عاشت
في العهد الروماني والفينيقي والتركي...
*غياب كامل للتحديد الدقيق والواضح للمتغيرات الرئيسية التي تستند عليها المناقشات والتفسيرات
140
العدد السابع (ديسمبر )2021 السنة الثانية مجلة اإلعالم والفنون
النظرية.
*اإلفتقار لتصريح واضح يحدد بدقة كيفية تطبيق مفهوم الشخصية القاعدية من حيث :نطاقه أو
مجاله على كل فئات المجتمع ،أم أن األمر يقتصر على بعض الفئات دون غيرها .
*عدم اإلثارة للمجال الزمني لتطبيق المفهوم الرئيسي متمثالً في الشخصية القاعدية.
*غياب المواجهة الموضوعية مع قضية القيم الثقافية وتوجيهاتها ،وآثار ذلك على الشخصية في
حالة التماس ـ ـ ـ ــك والتناغ ـ ــم المجتمعي من جانب ،وفي حالة التناق ـ ــض وااله ـ ــتزاز من جانب أخر
(عمار (1981: 98-99،
*غياب تصور واضح يعبر عن الموضوع البحثي في شكل عناصر أو أقسام.
* غياب تعريفات إجرائية حول الشخصية الليبية تعكس جملة من األبعاد والمؤشرات تدور حول
جملة من السمات والخصائص للشخصية تنعكس في مجموعة من المشاعر والسلوك في مواقف
معينة.
*إفتقار عملية تحديـ ـ ــد الموضوع البحثي – الصياغة المبكرة – للخصائص أو السمات التي سـ ـ ـ ـ ــوف
يهتم بدراستها في الشخصية الليبية ،وما إذا كان المؤلف ينـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوي دراسة سمة معينة أو مجموعة
محـ ـ ـ ـ ــددة من الس ـ ـ ـ ـ ـ ــمات تتمـ ـ ـ ــيز بها الشخصية الليبي ـ ـ ـ ـ ــة عن غـ ـ ـ ـ ـ ــيرها من الشخص ـ ـ ـ ـ ــيات القومية
(البيومي وآخرون (1992: 332 .،
*ومن بين ما ينبغي على المؤلف عمله ،أو االنتباه إليه منهجياً تصنيف السمات والخصائص إلى
سمات إيجابية أو سمات سلبية ثم تقسيم تلك السمات إلى مشاعر نفسية أو أفعال أو أنماط سلوك
إلي المستوى الذي يتيح للمؤلف اتخاذ ق اررات تكشف بوضوح عن ما سـ ـ ــوف يل ـ ـ ـ ــتزم به في دراسته
لهذه السمات والخصائص ،وهو ما تحتاجه عملية صياغة وتحديد المشكلة البحثية أو الموضوع
يصرح المؤلف مبك ار عن مجاله المكاني والزماني لبحثه أو
البحثي .ومن جانب أخر ،أهمية أن ّ
كـ ــتابه ،ونوعي ـ ــة الشخصيات التي ينوي مقابلتها ،وما إذا كانت تقطن المدن أو القرى أو مناطق
بدوية بعينها ،فضالً عن التصريح عن الفترة التاريخية التي سوف يدرس فيها الشخصية الليبية ،
ناهيك عن اإلشارة إلى مصادر بياناته ،وما إذا كانت وثائـ ــق أو تقـ ـ ــارير أو سجالت متاحة ،أو
141
العدد السابع (ديسمبر )2021 السنة الثانية مجلة اإلعالم والفنون
كتب أدبية ،أو سجالت إحصائية ،ومجالت وصحف ،باإلضافة إلى الكتب التاريخية عن التاريخ
الليبي مع مراعاة تأثير أيديولوجيات محددة على أفكار بعض المؤرخين وتحليالتهم ،مع مراعاة
ظروف كل عصر ،ونوع نظام الحكم وااليديولوجية السائدة في تلك الفترة .
وبين هذا وذاك ،ينبغي على المؤلف إثارة بعض التساؤالت العلمية ،أو تبنى بعض الفروض القادرة
على تفسير نشأة ووظيفة بعض الخصائص والسمات ،وعالقتها بسمات وخصائص أخرى ،وما أثر
بعض السمات في توجي ـ ـ ــه الفعل االجتماعي ؟ وما ن ـ ـ ــوع الظروف واألح ـ ـوال االجتماعية والسياسية
والفكرية التي أدت إلى بروز سمـ ـ ـ ــة دون غيرها في ضوء األدلة التاريخية والوثائق والكتابات ذات
الصلة بالمسألة التاريخية للواقع الليبي .
ثالث ًا /الشخصية القاعدية بين المنظور التاريخي االجتماعي والتغير االجتماعي :تبنى المؤلف
العوامل التاريخية واالجتماعية وحدها لتحليل المتغيرات التي تحمل تأث ـ ــيرات قوية وعميقـ ـ ــة في نحث
وهندسة الشخصية القاعدية الليبية .واستند في ذلك على تأثير الفينيقيون والرومان والوندال واإلغريق
والبيزنطيون والعرب والمسلمون والهالليون واإلغالبة والعثمانيون واإلنجليز واإليطاليون والقره مانيليون
(ص ، ) 7بعد أن طبعت جميعها اإلنسان الليبي بطابع خاص ،واكسبته صفات محددة تحكمت في
تمثالته للحياة وسلوكياته بما في ذلك عالقاته االجتماعيـ ـ ــة (ص . )6وما يمكن قوله في هذا الصدد
أن المؤلف أغف ـ ـ ــل تماما ،أهمية المتغيـ ـ ـرات الثقافيـ ـ ــة التي تحمل ال ـ ـ ــدور األكثر تأثي اًر في تشكيل
وصياغـ ـ ـ ــة مكون ـ ـ ــات الشخصيـ ـ ــة القاع ـ ـ ــدية ( الذوادي ، )160: 2012 ،بعـ ـ ــد أن صارت تأثيرات
الحضارات المشار إليها أعـ ـ ــاله منعدمة تماما بالمعنى الثقافي ،وبصورة خاصة فيما يخص عاملي
اللغ ة والدين بعد زوال لغة وتقاليد والمكونات الثقافية والحضارية لتلك الحضارات ،ويظل تأثـ ـ ـ ـ ـ ـ ــير
عاملي اللغة والدين يرتبط أساساً بتأثيرات الحضارة اإلسالمية وحدها ومتمثالً في نشر اللغة العربية
والدين اإلسالمي في ليبيا بشكل خاص ،والمغرب العربي بشكل عام ،فالشخصية القاعدية الليبية
كما هو حال الشخصية القاعدية التونسية انصهرت وال زالت بالكامل في " بوتقة الحضارة العربية
اإلسالمية من لغة وعقيدة وثقافة وتاريخ ( الذوادي ) 2012: 160 .،
142
العدد السابع (ديسمبر )2021 السنة الثانية مجلة اإلعالم والفنون
ومن ثم ،فإن ربط المؤلف معالم البنية االجتماعية والثقافية والذهنية للمجتمع الليبي بمؤثرات تاريخية
ومصمته تشكل قصو اًر في الفهم
لحضارات ترجع إلى اآلف السنين بعد أن صارت حضارات متجمدة ُ
والتحليل لظاهرة مهمة ومعقدة وهي الشخصية الليبيـ ـ ــة .ع ـ ـ ـ ــالوة على إنتف ـ ــاء الضرورة واألهمي ـ ــة في
التركـ ـ ــم .الثقافي والحض ـ ــاري في فهم واستيعاب خصائص الواقع الليبي ال ارهـ ـ ــن على
إستحضار هذا ا
الرغم ،من تشديد المؤلف على استحضار هذا التراكم لذلك يبدو لنا ضروريا من الناحية النظرية
والعلمية أن نستحضر هذا التراكم التاريخي والثقافي والحضاري وخاصة األثنى كي يكون أداة معرفية
مساعدة في فهم خصائص الواقع الراهن ....وطبيعة الصيرورة التاريخية التي تحكمت في مسار
المجتمع الليبي في العقود الستة األخيرة " (ص )7-8
ومهما يكن من أمر ،فإن الشخصية العربية في المجمل ووفقاً للباحث العربي السيد ياسين " تتعايش
فيها سمات بعضها يرتبط بالماضي وبعضه ـ ــا يرتبط بالحاضر (زايد ، )102 :2002،ومن ثم فإن
فهم الشخصية القوميـ ـ ـ ــة ال يكتمل إال في ضوء – سيـ ـ ـ ـ ــاقها التاريخي – من خالل مجموع ـ ـ ــة اآلثار
والتراكمات التاريخيـ ـ ـ ـ ـ ــة التي شكلت ظروف ـ ـ ـ ـاً بنائي ـ ـ ـ ـ ــة معينـ ـ ــة تطبـ ـ ــع بدورها الشخصية بطابع معين
(زايد ( 104:2002.،
لذلك فإن توظيف السياق التاريخي في فهم طبيعة ومعالم الشخصية القومية أو القاعدية يتيح مايلي:
*إستيعاب البنية االجتماعية التي تنتمي إليها الشخصية من المنظور السوسيولوجي يتشكل في
ضوء خصوصية تطور هذه البنية االجتماعية.
*فهم وضعية البنية االجتماعية وهي في حالة تطور بفعل عوامل داخلية وخارجية تاريخية واجتماعية
. يجعل هذا التطور يفتقد ألحوال االستقرار ،وينسحب األمر على الشخصية داخل البنية
*تطور البنية االجتماعية يتضمن إضافات متداخلة ومتشابكة يتفوق البعض منها على حساب
إضافات أخرى في التأثير على الشخصية .
*وضع الشخصية في سياقات تاريخية محددة يتيح إمكانية فهمها واستيعابها.
واستناداً لكل ذلك ،فإن الشخصية الليبية ،والعربية إجماال هي في حالة مد وجزر وتغير يصعب
معه الحديث عن خصائص،أو سمات ثابتة حولها ( وهو ما وقع فيه المؤلف ) وفي كل المراحل
143
العدد السابع (ديسمبر )2021 السنة الثانية مجلة اإلعالم والفنون
التاريخية ،على الرغم من أن لكل مجتمع سمات أنثروبولوجية ونفسية واجتماعية وثقافية تشكل في
مجموعها – قاسماً مشتركاً – بين أكثر المواطنين وفي وحدة متكاملة (الحيدري ) 2103 .،
ومما ينبغي تأكيده في هذا السياق ،أن عمل الشخصية الليبية على أهميته والحاجة إليه أغفل بتعمد
أو بدونه ،بوعي أو بغيره ،أهمية ودور التغيرات التاريخية التي شهدها والزال يشهدها الواقع الليبي
في عمومه باعتبارها تشكل للباحث االجتماعي –خياالً سوسيولوجياً – يسهم فكريا في فهم الصورة
التاريخية العامة والكلي ـ ــة لإلنسان والمجتمع على السـ ـ ـواء ،وما ينطوي عليه هذا الفهم من دالالت
وظروف داخلية وخارجية تحمل تأثيرات عميقة على سلوك اإلفراد في المجتمع ،فضالً عن أهمية
وقيمة هذا الفهم في تسليط الضوء حول العالقة بين الشخصية والمجتمع العام .على أنه من المفيد
التأكيد على قاعـ ــدة منهجية ارئـ ـ ــدة لعالم االجتماع األمريكي " رايت ميلز" حينما أكد على " أنه من
العسير دراسة اتجاهات اإلف ـ ـ ـراد ،أو أية ظاهرة اجتماعي ــة إذا عزلت عن سياقه ـ ـ ــا التاريخي ،واذا
درست منفصلة عن العنصر الذي تنتمي إليه "( محمد .)310 :1983،ومن ثم ووفقاً لهذا السياق،
يظل اإلطار التاريخي يلعب الدور الهام في تزوي ـ ـ ـ ـ ــد الباحث ببصيرة سوسيولوجية ثاقبـ ـ ـ ـ ــة يستوعب
بواسطتها ،ومن خاللها البنية االجتماعية ككل ،وعناصر هذه البنية الرئيسية ،فضالً عن الصالت
بينها والمعاني والدالالت السوسيولوجية التي تنطوي عليها المعالم البنائية لتلك البنيـ ـ ــة االجتماعي ـ ـ ــة
وموقع تلك البنية على خط التاريخ البشري ( محمد (1983: 310 ،
لذلك ،فإنه من الموضوعية أن يتصور الباحث العلمي الشخصية العربية ال في ف ـ ـ ـ ـراغ ،وانما في
سياقهـ ـ ــا التاريخي وفي ظروفهـ ـ ـ ـ ـ ــا االجتماعية واالقتصادية والحضارية مع تعمي ـ ـ ــق الفهم للشخصية
القاعدية في ض ـ ــوء تعاظم التغيرات والتبدالت التي تعصف بالواق ـ ـ ــع االجتماعي وبني ـ ـ ـ ـ ــة الشخصية
(عمار (1981: 99 ،مع ضرورة الوضع في الحسبان أن البناءات االجتماعية التي تنتمي إليها
الشخصية المعنية هي في حالة تغير واختالف دائمة كما هو حال سمات الشخصية التي ال تخضع
لثبات أو استقرار ،في الوقت الذي تستدمج فيه هذه الشخصية مكونات جديدة تؤدي إلى عدم الثبات
.وهـ ـ ــذا الوضع المتغ ـ ـ ــير للشخصية يف ـ ـ ــرض ضرورة التعامل الموضـ ـ ــوعي مع الشخصي ـ ــة في ضوء
التبدالت والتحوالت التي تصيب كل مرحلة تاريخية وأخرى ،فضالً عن أن الشخصية القاعدية خالل
تغـ ــيرها بفعل تلك التبدالت والتحوالت ستكشف عن سمات متناقضة ومختلفة قديمة وجديدة ،ناهيك
144
العدد السابع (ديسمبر )2021 السنة الثانية مجلة اإلعالم والفنون
عن أن البنية االجتماعية التي تنتمي إليها الشخصية تتعرض هي األخرى – دائما – لحالة مستمرة
من التشكل والتكوين واعادة التشكيل والتكوين بفعل تحوالت عديدة ) زايد (2002 : 107 ،وتتيح
هذه التحوالت والتبدالت – تباينات وتناقضات – بنيوية تكشف عن بروز اختالفات وتباينات تطال
الشخصية ( ريفية /حضرية(.
خالصة األمر ،فإن الشخصية القاعدية أو القومية ليست – بني ـ ــة صامتة – تعيش خارج التاري ـ ـ ـ ــخ
اإلنساني ( ياسين . )5 :1993 ،بل أن الشخصية هي إفراز طبيعي لظ ـ ـ ــروف اجتماعية وثقافيـ ـ ــة
وحضارية تشكلت في سياقات تاريخية كثيرة ،في صورة عالقة جدلية مع البنية االجتماعية وعناصر
الثقافة السائدة .وهذا الفهم الموضوعي ال يكتم ــل نظرياً إال في ضـ ـ ـ ـ ــوء دراسة البنيات االجتماعي ـ ــة
واالقتصادية والثقافية والسياسية ،وفي سي ـ ـ ــاقاتها التاريخي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة األمر الذي يتيح الكشـ ـ ــف عن أفضل
العوامل التي أثرت وتؤثر في بنية الشخصية وثوابتها (الحيدري . )11- 7 :2013 ،على أنه ووفقاً
لعال ـ ــم االجتم ـ ـ ــاع العراقي إبراهيم الحي ـ ــدري من األهمي ـ ـ ــة لد ارسـ ــة الشخصي ـ ـ ــة وفهـ ـ ــم حاض ـ ـ ــرها ،
واستشـ ـ ـ ـراف مستقبله ـ ــا فال بـ ـ ــد من فه ـ ــم الماضي وتتبـ ــع مسـ ـ ـ ـ ــيرته وما حـ ـ ـ ــدث في ـ ـ ــه من قطيعـ ـ ـ ـ ــات
حضارية ،وتحوالت بنيوية ،وتغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية ،وذلك أن الظواهر االجتماعية
هي امت ـ ــداداً تاريخيـ ـ ـ ـاً مثلمـ ـ ــا لها امتـ ـ ــدادات اجتماعي ـ ــة واقتصادية وانثروبولوجي ـ ــة ونفسية .وان فهم
خصائـ ــص الشخصية كما هو حال الظـ ـواهـ ـ ـ ــر االجتماعية كبني ـ ــة تبلورت وتشكلت عبر الزمن وفقاً
لظروف اجتماعية معين ــة ليست معزولة عن مجمل حركة المجتمع والثقافـ ـ ــة التي أفرزتها س ـ ـ ـ ـ ــيرورة
العالقات االجتماعي ـ ـ ــة التاريخية والراهن ـ ـ ــة والتأث ـ ــيرات المتبادلة بينها ومحاولة تلمس السمات الثابتة
والمتغيرة في الشخصية ( ...الحيدري)2013: 27،
ومن بين ما وقع فيه المؤلـ ــف من قص ـ ــور أن عمله ( الشخصي ـ ـ ــة الليبي ـ ــة) موضـ ــوع هذه الورقة ق ـ ــد
افتقد – تماما -لتوظـ ــيف كتابات عربية كثيرة وعديدة تخصصت في الحديث عن الشخصية العربية
في أكثر من مكان في الوطن العربي ،ول ــو حاول المؤلف استثمار البعض منها الستطاع صياغة
أطا اًر نظرياً متماسكاً وخصبـ ـ ـاً وأكثر اثراء ومنفع ـ ــة ،والغريب أن المؤلف غاب عنه اإلطـ ــالع على
كتابات عربيـ ـ ــة ارئــدة تدور حول الشخصية القاعدية أو القومية ،ومن بين هذه األعمال أو الكتابات:
145
العدد السابع (ديسمبر )2021 السنة الثانية مجلة اإلعالم والفنون
السيد ياسين حـ ـ ــول الشخصية العربية ،والبشير بن سالمة حول مقومات الشخصية التونسية ،
وجمال حمدان حول شخصية مصر وعبقرية المكان ،محمد عزت حجازي حول الشخصية العربية :
وحدة أم تنوع ،جابر عبدالحميد حول الشخصية المصرية والشخصية العراقية ،وعبدالعزيز الرفاعي
للشخصي ـ ــة العراقيـ ـ ــة ،ومحمود الذوادي في كتابـ ـ ـ ــه :الوجـ ــه اآلخر ح ـ ـ ــول الطابـ ــع الق ــومي
للمجتمع التونسي الحديث ،والشخصية التونسيـ ــة " المستنفرة " واحمد ازيـ ــد حــول المصري المعاصر:
مقاربة لبعض ابعاد الشخصية القومية المصرية ،وعبدالوهاب المسيري حول الشخصية اإلسرائيلية..
ثالثا :القراءة المنهجيــة :كش ـ ــف المؤلف عن توظيفـ ـ ــه ألساليب واجـ ـ ـ ـراءات منهجية بطريقة غيـر
سليمة في بحث موضوع يتسم بالتعقيد والصعوبة متمثال في الشخصية الليبية (ص . )14-13فضال
عن أن نجاح أية محاولة بحثية تقتضي – أساساً – االعتماد على منه ـ ــج علمي مناسب ينطوي على
إجراءات وأدوات وأساليب وقواع ـ ـ ــد تتناسب مع موضوع البحث .ومن بين اإلجراءات المنهجية التي
استخدمت في دراسة موضوع الشخصية القاعدية الليبية اإلجراءات التالية :
1-المالحظة االنثروبولوجية :أعتمد المؤلف على المالحظة كأسلوب لجمع البيانات في رص ـ ـ ـ ـ ــد
ديناميكية المجتمع الليبي وسلوكيات الفاعلين فيه حيث يقول المؤلف " اعتمدنا في هذه المحاولة
البحثية على المالحظة االنثروبولوجية التي سمحت لنا على امتداد خمس وعشرين سن ــة أن نتأمل
دنياميكية المجتمع ،ونالحظ سـ ـ ــوكيات مختلف الفاعلين االجتماعين داخله " (ص ، )16بيد أن
المؤلف استخ ـ ـ ــدم هـ ـ ــذه األداة دون أن ُيلقي باال إلى أهمية ضبط وتخطيط وتقنيـن هـ ــذه األداة قب ــل
استخدامها في الواقع الميداني بهدف الوصول إلى بيانات ومعطيات وحقائق ينوي الوصول إليها .
وفي هذا السياق يقول الباحثان :محمد الجوهري ،وعبداهلل الخريجي " فألن عالم االجتماع يجب أن
ينظم بياناته ،ويحللها في ضوء النظريات والمفهومات السوسيولوجية ....ولهذا السبب ولغيره ،فإن
عالـ ــم االجتماع يضطر إلى التفكير في األساليب المنهجية المنظمة ألجراء مالحظاته ولتسجيل ما
يحدث كما يقع بالفعل ...ويعد هذا التخطيط جزءاً من األسلوب الفني في المالحظة " (الجوهري ،
الخرجي . )126 :1980 ،ويضيف الباحثان " إن مالحظة وتسجيل مشهد معين مالحظة دقيقة
تحليال واعيا يحتـ ــاج إلى تخطيط واعي " ( المرجع السابق )126 ،
ً وتحليل ما يرت ـ ــبط به من داللة
146
العدد السابع (ديسمبر )2021 السنة الثانية مجلة اإلعالم والفنون
وما يمكن قوله في هذا الصـ ـ ــدد ،أن المؤلف باستخدامـ ـ ــه له ـ ـ ــذه األداة لجمع بياناته لم يكشف عن
خطواتـ ـ ـ ــه المنهجيــة المرتبطة باستخدامها ( وحدة اهتمامه إن كانت صفات أو خصائص أو ادوار
اجتماعية أو أنماط سلوكية ( ) ...التير ( 2015: 118 ،
عـ ـ ــالوة على عدم تصريح المؤلف عن أبعاد الفعل االجتماعي الذي ستدور حوله المالحظة ،ونوع
العالقة كموضوع للمالحظة ،إضافة إلى شكل اندماجه في الموقف المراد مالحظاته (مشارك تام
أو كامل ،أم مشارك مالحظ ،أم مالحظ مشارك ،أم مالحظ كامل) .
فضـ ـ ـالً عن تصن ـ ــيف المالحظة ما إذا كانت بسيطة أم مقنن ـ ــه ،مع تحديـ ـ ــد األسلوب أو الوسيلـ ـ ــة
المستخدمة في تسجيل المالحظات االنثروبولوجية حول الوقائع واألفعــال ،وكذلك أساليب تنظيم
المادة العلمية .ومن بين ما يجب عمله قبل تنفيذ عمليات المالحظة ( وهو مالم يقم به المؤلف)
التصري ـ ـ ــح عن " الثقاة " الذين سيعرض عليهم بياناته لمراجعتها وشرح دالالت ومعاني ومقاصـ ـ ـ ــد
العناصر الغامض ـ ـ ــة فيهـ ــا .يقول الباحث مصطفى الت ـ ــير في هذا السياق " كثي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ اًر ما يعتم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد
األنثروبولوجيون الذين يدرسون جماعات ...غريبة عنهم إلى اختيار عدد من أفراد الجماعـ ـ ـ ـ ـ ــة أو
المجتمع الذين يتوسمون فيهم المعرفة واإللمام بجوانب الظاهرة التي تحت الدرس ويراجع هؤالء من
حين إلى آخر ليستفسروا منهم عن مدى دقة وصدق مالحظاتهم ....وعن المعاني الثقافي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة أو
االجتماعية للوقائع التي تم تسجيلها "( .التير ( 2015: 119 ،
ومن جانب آخر ،كان من الض ـ ـ ـ ـ ـ ــروري على المؤلـ ــف أن يلتمس مستوى عال من تحسين أساليب
الصدق والثقـ ـ ــة من خالل قيامه كباحث بمالحظات انثروبولوجية على فترات متعددة ومتعاقبة ،أو
بقيـ ـ ــام ع ـ ــدد من المالحظـ ــين بتسجيـ ـ ــل مالحظاتـ ـ ـ ـ ــهم بشكــل مست ـ ـ ـ ــقل عن عمل باقي المالحظ ـ ـ ـ ـ ــين
( بدر . )355 : 1986 ،ومن الغرابة أن المؤلف ص ـ ـ ـ ــرح بوضــوح عن صعوبة أجراء بحثه جراء
المراقب ـ ــة العتبـ ـ ـ ــارات سياسية وأمني ـ ـ ـ ــة في مجتمعات ذات تركيب ـ ــة خاصة يتعـ ـ ـ ــذر فيها الوصول إلى
معلومـ ـ ـ ـ ـ ــات بواسطة االستمـ ــارة ،وقد أضطـ ـ ـره ه ـ ـ ــذا الوض ـ ـ ـ ـ ـ ــع إلى االستعاض ـ ــة عن ذلك بأسلـ ـ ــوب
المالحظـ ـ ـ ــة االنثروبولوجية (ص )17وهو بهذه االستعاضة أو باستخدام وتوظيف هذا البديل سيواجه
نفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـس العوائـ ـ ــق السياس ـ ـي ـ ـ ـ ـ ــة واألمنية التي أشار إليها .وق ـ ـ ــد كان بإمكان المؤل ـ ـ ـ ـ ـ ــف توظي ـ ــف بدائل
147
العدد السابع (ديسمبر )2021 السنة الثانية مجلة اإلعالم والفنون
منهجية وأساليب أخرى ،وبأسلوب أكثر انضباطاً ودقـ ـ ــة وموضوعيـ ـ ــة يتي ـ ـ ــح له جمع ومراكم ـ ــة مادة
علمية يرغب في جمعها .لق ـ ـ ـ ـ ــد استعاضت الكثير من الد ارس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات العلمية عن المالحظة
بالمشاركة على أهميتها بأدوات ووسائل أخرى آبان الحروب ،أو خالل دراسة جماعات مغلقة ،أو
عصابات إجرامية خطيرة ،أو تتبع وبحث موضوعات أو قضايا تصطدم بعوائق أمنية أو مخابراتية.
ومن بين األسالي ـ ــب البديلة للمالح ـ ــظ بالمشاركـ ــة عمل عملي شهـ ـ ــير و ارئـ ـ ــد أملته الحاج ـ ــة العملي ـ ــة
والمصالح السياسية ألمريكا أثناء الحرب مع اليابان في الحرب الكونية الثاني ــة ،وهـ ـ ــدف هذا العمل
العلمي أساسا إلى سيطرة أمريكا في الحرب فضال عن ،الوصول إلى سلم دائم في وقت يستحيل فيه
تماما توظيف المالحظة بالمشاركة ،فعوضاً عن ذلك كلفـ ــت أجهزة المخابرات األمريكية بعض
الباحث ـ ـ ــين في علم النفـ ـ ــس واالنثروبولوجيا بقيادة االنثروبولوجية الشهيرة " روث بندكت" رئيس قسم
التحليل األساسي بمكتب المخابرات األمريكية ألعالي البحار.
انطلقت هذه الدراسة من هدف يكمن في ضرورة أن يفهم األمريكيون اليابانيون لالنتصار في الحرب
،وصياغة السلم الدائم من خالل اتوصل إلى تحديد خصائص الشخصية القومية لليابانيين بواسطـ ـ ـ ـ ــة
الستحالة المالحظة المباشرة في مثل هذه الظروف In Absentiaدراسة الشعب الياباني عن بعد
الحربية مما جعل فري ـ ـ ــق البحث يج ـ ـ ــرى استبارات ( مقابالت) مع مئات الياباني ــين الذين يعيش ـ ـ ــون
خارج اليابان كالمهاجرين وأسرى الحرب ،وطبقت عليهـ ـ ـ ـ ـ ـ ــم اختبارات نفسية ،وكتابة سير ذاتية عن
تواريـ ــخ حياتهم ومثلهم األمريكيون الذين سبق وأن عاشوا في اليابان (ياسين (1993: 55) .،
وفي ضوء هذه البدائل المنهجية ،واستنادا للمثال الساب ـ ــق ،كان من المم ـ ــكن على مؤلف هذا الكتاب
تالفـ ـ ــى ه ـ ـ ــذا القص ـ ـ ــور المنهجي ( توظي ـ ــف المالحظة بالمشاركة ) بواسط ـ ــة مقابل ـ ــة الليبي ـ ــين الذين
نزح ـ ـوا بسبب الحرب إلى تون ـ ـ ـ ـ ــس في موجات كبـ ـ ــيرة بحيث يتاح له كباحث إمكاني ــة استخدام أسلوب
المالحظة االنثروبولوجي ـ ـ ـ ــة بكل سهـ ـ ــولة ويسـ ـ ــر وبدون تكالي ـ ـ ـ ـ ــف ،وبعيداً عن أية محاذيـ ــر أمنيـ ـ ـ ــة
أو سياسية أو مخابراتية .
لذلك ،فإن المؤل ـ ــف أفتق ـ ـ ـ ــد باستخدامه المالحظة عن بعد معتمـ ــداً على الذاكرة وحدها ،واالتصاالت
الهاتفية أحيانا مع بعض األصدقاء رصد المعاني التي يضيفها األفراد على سلوكهم ،وأساليب
148
العدد السابع (ديسمبر )2021 السنة الثانية مجلة اإلعالم والفنون
حياتهم ،وكيف يستشعرون وجود ثقافـ ــة تربطهم في ضـ ـ ــوء بعض الفـ ـ ــروض السوسيولوجية ،أو
التصورات النظرية التي تدور حول طبيعة التفاعل االجتماعي (الجوهري ،الخريجي-184:1980 ،
)185
-2المقابالت :صرح المؤلف في عمله (الشخصية الليبية) أنه اعتمد على المقابالت في جمع
بياناته باإلضافة إلى المالحظة ،اإل أن المؤلف لم يوضح في استعراضه لألساليب المنهجية التي
وظفهـ ـ ـ ــا في بحثه مع من أجريت ه ــذه المقابالت ؟ اإل في نطاق ضيق داخل الكتاب .يقول المؤلف
"كما اعتمدنا ...على المقابالت التي يظه ـ ــر بعضها بشكل مباشـ ـ ـر في حين يتخفـ ـ ــى بعضها األخر
في صلب النص " (ص . )17وما يمكن قوله في هذا السياق أن المــؤلف لم يذك ـ ــر ولو تلميحاً ،
أين أجريت مقابالته هذه ؟ وكيف أجريت ؟ ولماذا اختيرت كأداة جمع بيانات ؟ ومانوعها ؟ وهل هي
من النوع المقنن أو غير المقنن ؟ فضالً عن كيفية تسجيلها ! واجراءات إختبار وقياس صدقها
وثباتها ؟ في وقت صرح فيه المؤلف عن صعوبات عديدة ارتبطت بتنفـ ــيذها ك ـ ـ ــأداة جمع بي ـ ـ ـ ــانات
في الواقـ ـ ــع الميداني حيث يقول " بعض المستجوبين أصروا تماماً على ذكر أسمائهم مختصرة
العتبارات سياسية وشخصية في مثل هذه المرحلة الصعبة " (ص ، )17علماً بإنه من األهمية
يصرح منذ البداية عن مستوى ثقته في صدقية وتعاون
بمكان في هذا السياق على المؤلف أن َ
مبحوثيه الن نجاح المقابلة وفقا للباحث أحم ــد ب ـ ــدر يعتمد على رغبة المستجوب في الحديث ،
وقدرته على التعبير بدقة عما يريـ ـ ــد تقري ـ ـ ـره ...وأن معظ ـ ــم المستجوبـ ـ ــين يحاولـ ـ ــون تلوي ـ ــن أو تشويه
الحقائـ ـ ـ ــق بما يرضيهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــم (بدر . )354-353-35 :1986 ،على أن ـ ـ ــه من الضرورة أن تجرى
المقابالت ،وتسجل وقائعها بوع ـ ــي في ضـ ــوء المفاهيم والنظريات الشائعة في العلم خاصة إذا ارتبط
األمر بدراسة ظواهر ،أو موضوعات ذات بعد تاريخي نلتمس من خاللها وبواسطتها كشف طبيعة
وحقيقة الذكريات المتعلقة بالحوادث الماضية ،أو مايعرف بالبيانات االسترجاعية الممتدة عبر الزمن
-3أسلوب تحليل المضمون:
أك ـ ـ ــد المؤلف من أجل مزيدا من التدقيق اعتماد منهجية هذه الدراسة على تقنية تحليل
المضم ـ ـ ـ ـ ـ ــون لعينة بسيطـ ـ ــة من الشع ـ ــر الشعبي الليبي (ص . )18ويضيف المؤلف ليؤك ـ ــد على أن
" الشعر الشعبي أقرب المتون اإلبداعيـ ـ ـ ــة إلى الذهنية الليبية ،ومدخال مهماً لفه ـ ـ ـ ــم تركيبـ ـ ـ ــة التاريخ
149
العدد السابع (ديسمبر )2021 السنة الثانية مجلة اإلعالم والفنون
االجتماعي والقبلي في ليبيا (ص . )18والشك أن تحليل المضمون أو المحتوى للمادة الثقافية يش ّكل
في األساس طموحاً منهجي ـ ـ ـ ـ ـاً يكشف بكفاءة وكفاية عن معاني ودالالت ومقاصـ ــد الفعل االجتماعي
بصفـ ـ ـ ـ ـ ــة خاصة ،والواقـ ـ ــع االجتماعي بصفة عامـ ـ ــة ،فضالً عن أن استخ ـ ـ ـ ــدام ه ـ ــذه التقنية يتيح
اإلجابة عن أسئلـ ـ ـ ــة مثل :من يق ـ ـ ــول ماذا ؟ والى من يق ـ ـ ــول ؟ وكي ـ ـ ــف يقول ؟ وما هو األثـ ـ ـ ـ ــر ؟
(بدر ، )359:1986 ،عالوة على ،أن ه ـ ــذه التقني ـ ــة تمثل الطريق السليم واألمثل لمالحظة سلوك
األفراد بطريق غي ـ ــر مباشـ ـ ـ ــر بواسطة تحليل األشياء ،أو الرمـ ــوز اللفظية التي يكتبها أولئك األفراد
(الجوهري ،الخريجي( 1980: 287) . ،
وما ينبغ ـ ــي قوله في هذا الص ــدد ،أن توظيف المؤلف بهدف المزيد من التدقيـ ـ ـ ــق حسب قوله لتقنية
تحليل المضمـ ـ ــون اعتماداً على عينة بسيطة من الشعر الشعبي الليبي من أجل فهم حقيقة وطبيعة
الشخصية الليبية يشكل بكل وضوح – قصـ ـ ــو اًر وفشالً – في توظيف هذه التقنية الثمينة والفاعلة ،
وبصورة خاصة حينما يرتبط ا المر بتحليل البيانات الكيفية التي تدور حول معاني ودالالت ومقاصد
الفعل االجتماعي أكثر من أى شئ آخر ،فضالً عن أن غياب االستخدام األمثل من قبل المؤلف
لهـ ـ ـ ــذه التقنية – تحليل المضمون – يتيح تماماً – الوصول إلى استنتاجات واحكام أقل ما يقال حولها
أنها استنتاجات واحكام مشوهة وموضع شك وريبة ،عالوة على أن المؤلف ووفقاً لذلك االستخدام
المشوه ق ـ ــد غاب عنه أن معتـ ـ ــقدات واتجاهات وقيـ ـ ــم وأنماط سلوك الجماعـ ــة تتكشف ،أو تكشف
عن نفسها في المجالت والصحف واألدب واإلعالنـ ــات واإلعمال الدرامية والفـ ـ ــن والرمـ ـ ــوز غير
اللفظي ـ ــة التي من خاللها تنكشف أيضا السمات الثقافية واالجتماعية ألنماط الحياة في المجتمع
المعين .
فضالً عن أن ،البيانات والحقائـ ـ ـ ــق والمعطيات التي تجمع بواسطة هذه الم ـ ـواد الثقافيـ ـ ــة واالجتماعيـ ــة
واألنثروبولوجية تتيح لألعمال البحثية المتخصصة عقد مقارنات هامة بين اتجاهات ومعتقدات وقي ـ ـ ــم
الجماعات المختلف ـ ــة التي يفصل بينـ ـ ــها الزمان أو المكان أو في المجتمـ ـ ـ ــع الواحـ ـ ــد ،أو المجتمعات
المختلفة .فضالً عن ،أن التنقيب عن المنتج ـ ــات الرمزية لإلنسان من خالل الوثائ ـ ـ ــق والسجـ ـ ـ ــالت
الماضية والسير الذاتية والمذكرات الشخصية يتحقق بواسطة تقنية تحليل المضمون أو المحتوى دون
غيرها من تقنيات (الجوهري ،الخريجي، )292-287 :1980 ،على أنه من األهمية بمكان القول ،
150
العدد السابع (ديسمبر )2021 السنة الثانية مجلة اإلعالم والفنون
أن الكشف عن سمات وخصائص الشخصية القاعدية في ضوء ما تحويه ،أو تنطوي عليه األعمال
التاريخية والتربوية والثقافية والسياسية والفكرية من دالالت ومقاصد ومعاني تحتاج باإلضافة إلى ذلك
إلى التنقيب الموضوعي في – األعمال األدبي ـ ـ ــة – باعتبارهـ ــا تستطي ـ ــع تقديـ ــم أكثر األوصاف دق ـ ـ ـ ــة
لخصائص وسمـ ـ ـ ـ ــات الشخصية المعين ـ ـ ـ ــة وبشكل أكثر قبـ ـ ـوالً لالستيعاب ،فضـ ـ ـ ـ ـالً عن ،استنب ـ ـ ــاط
سم ـ ــات ومالمح إنسانية عامة ،ناهيك عن أهميـ ـ ـ ـ ــة ذلك في التعرف على جوانب الشخصي ـ ـ ـ ـ ـ ــة ،أو
صياغـ ـ ــة نظرية حولها ( عبدالرحيم ( 1990: 10). ،
خصائ ــص الشخصية الليبية الكبـرى :إنطلـ ـ ــق المؤلـ ـ ـ ــف – أساساً – قبل أن يتحدث عن س ـ ـ ــمات
وخصائص الشخصية القاعدية الليبية من مبدأ عام ،أو فكرة رئيسية قادت كل مراحل بحثه تمثلت
تلون عمله البحثي هذا منذ اللحظة األولى بدالالت
في مفاهيم البدو والبداوة والذهنية البدوية ،وقد ّ
ومعاني كل هذه المفاهيم الرئيسية .
يقول المؤلف في هذا الصدد " أن البدو هم أكثر قابلية للثورة وأكثر ثورية قياساً بالحضر (ص. )27
وكأن المؤلف يتحدث عن انقالب 1969م في ليبيا ،بعد أن ربـ ـ ــط هذا الحدث بالعقلية الب ـ ــدويـ ــة ،
فضالً عن تصويره كغ ـ ــزوة هاللية ثانية على مستوى النتائج المجتمعية والثقافية (ص . )27فضالً
عن أن المؤلف أعاد إنتاج بعض التهم التي ال تستقيم مع الموضوعية العلمية ،تلك التهم التي
ألصقت بأهل الحضر في ليبيا متمثلة في برودهم الثوري ووالئهم اليطاليا ودعمها عسكريا (ص.)28
عالوة على رسمه لصورة بائسة ورجعية ألهل الحضر الليبي خالل انقالب 1969م وما قبله ،وفي
تقديري أن المؤلف قد وقع تماماً في تقديم أحكام ذاتية مستعجلة وغير واقعية بعد أن أستهل بها عمله
البحثي هذا – موضوع هذه الورقة – عالوة على أن المؤلف كباحث في علم االجتماع اقتحم ميدانا
معرفياً اليجيده ،وال يجيد الحديث فيه ،ومناقشة قضاياه واحداثه وهو التاريخ .
ويؤكد المؤلف على سيطرة أشخاص من أصول بدوية على مختلف مفاصل الدولة الليبية (ص)28
دون أن يحدد بدقة الفترة الزمنية التي سيطر فيها هؤالء الذين ينتمون ألصول بدوية ،ومن هم هؤالء
تحديداً ؟ أولئك الذين تعاملوا مع اإلدارة على أنها غنيمة مع اإلرتجال في المواقف واألداء متحججاً
بأن الشخصية القاعدية البدوية هي ميالة إلى اإلرتجال (ص . )28وبقراءة هذا المدخل للمؤلف يتبين
151
العدد السابع (ديسمبر )2021 السنة الثانية مجلة اإلعالم والفنون
أنه يتحدث عن الشخصية الليبية في ضوء سلوكيات الصفوة الحاكمة النقالب 1969م .تلك الصفوة
التي تحمل خلفية بدوية فك اًر وسلوكاً وفقاً للمؤلف.
ينتقـ ــل المؤلف في موضع آخر من كتابه ليناقش مبدأ الثورة اإلدارية الذي ورد ضم ـ ـ ــن مبادئ الثـ ـ ـ ــورة
الثقافية الخمسة في خطاب زواره 1973م حيث تم تأويله على أنه يعني البدونة والغنيمة لتملك
الغلبة الضرورية (ص . )29وعلى الرغم من االتفاق مع الفكرة إلى حد ما ،إال أن ما حصل في
زوارة في الغرب الليبي 1973م هو انقالب فردي قام به معمر القذافي لإلنفراد بالحكم ،واستبعاد
مجلس قيادة الثورة من الساحة السياسية ،والتأثير السياسي بعد خالفات سياسي ـ ـ ــة حادة بين الطرفين
حول تسليم السلطة إلى الشعب ،أو إلى سلطة مدنية دعى إليها المجلس منذ التغيير في 1969م .
وقد تزامن مع هذا الحدث ظهور تجربة المؤتمرات واللجان الشعبية التي دعى إليها معمر القذافي بعد
إن إنفرد بالسلطة .وهي تجربة غريبة استهدفت نشر الفوضى على كل المستويات ،وخلط األوراق ،
وتغييب النظام واإلدارة والمؤسسات بالمعنى العصري الحديث إلى المستوى الذي تطابق فيه اإلرتجال
والغنيمة مع السلطة والغلبة وفقـ ـ ـ ـاً للمؤلف (ص . )30وقـ ـ ــد تشكلت في ض ـ ــوء ذلك معال ـ ـ ــم فوضى
انتشرت في الواقع الليبي بفعل النظام السياسي لم يعرفها مجتمع من المجتمعات خالل جميع حقب
التاريخ ( التير )2014: 119) .،
ينتقل المؤلف بعد ذلك ليؤكد على أن " الغلبة تداوي الجروح ،وتسمح بالذهاب إلى أقصى مدى من
الثمار وتصفي ـ ـ ـ ــة الحساب ...مع ما تتميز به الشخصية القبلي ـ ــة من تمركز حول الذات ونرجسيـ ـ ــة "
(ص ، )31 -30وفي تقديري أن المؤلف ال زال يتحدث عن سمات وسلوكيات النظام السياسي بعد
1969م ،وكأن المؤلف يخلط بين أشـ ـ ــياء كث ـ ـ ــيرة وكأنها شئياً واحداً ( النظام السياسي ،الشخصية
القبلية ،الغلبة ،الثأر) ،ويستنبط المؤلف في ضوء هذا الخلط سمات وخصائص يسم بها الشخصية
الليبية في المجمل دون مراعاة ألنماطها (حضرية ،ريفية ،بدوية).
تحدث المؤلف فيما بعد عن مفهوم " البدونة المفروضة " أو القسرية التي أفضت إلى نتائج مجتمعية
يتوجب فهمها وفهم أبعادها ونتائجها غير اإليجابية (ص . )32ومن بين هذه النتائ ـ ــج وفقـ ـ ـاً للمؤلف
تنصل النظام من مسؤوليــة تحديث المجتمع الليبي – اقتصاديا واجتماعياً ،ومع أن المؤلـ ـ ـ ــف ق ـ ـ ـ ـ ــد
152
العدد السابع (ديسمبر )2021 السنة الثانية مجلة اإلعالم والفنون
أصاب كب ـ ـ ــد الحقيقة في التعبير عن حقيقة أهداف النظام ،وغاياته الغريبة والمأزومة ضـد التنميــة
والتحديث ،إال أن ربط المؤلف لما يحصل بفعل النظـ ـ ــام السياسي بالشخصية القاعدية الليبية
كمسبب لهذا الوضع يعد أم اًر غريباً ،ويش ّكل معالم تحليل قاصر ومتجنى يطال الشخصية الليبية ،
ومما الشك فيه أن النظام السياسي متمثالً في نظام القذافي قـد وفر مظلة مناسبة للمحافظة على
الحالة البدوية ...والتنصل من مسؤولية تحديث المجتمع ،فضالً عن أن الوالءات القبلية في ليبيا
قـد ساهمت في عرقلة وتخريب بعض برامج تحديث المجتمع (العربي ،7:2015،التير :2014 ،
. )114وفي موضع آخر من الكتاب طرح المؤلف حالة تغليب البـ ــدو على الحضـ ــر والريف على
المدينة ،وجعل المجتمع يعيش على إيقاع الصحراء والتغني بالخيمة بحجة الوفاء للقيم األصيلة " قيم
األجداد " (ص . )33وما يمكن قوله في هذا السيـ ـ ــاق ،أن ماجاء به المؤلف يوافق الواقع إلى حد
فرق تسد ،واإلقص ــاء والتهميش
بعيد ،وهو واقع يعكس سلوكيات نظام دكتاتوري يعتمد على سياسة ّ
واإلستبعاد واالحتـ ـ ـواء والتوظيف لألفراد والجماعات بعيداً عن الوفاء للق ــيم األصيلة كما نوه المؤلف
على ذلك .وتأتي القبيلة كواحـ ـ ــدة من المؤسسـ ـ ــات الغ ـ ـ ــير رسميـ ـ ـ ــة التي استعملها النظام السياسي
ألغراض كثيرة مرة بالتهميش ،وتارة باإلستبعـ ــاد أو التوظيف .ينتق ـ ــل المؤلف في موضع أخر من
كتابه ليضرب مثاالً يدلل به عن تكثيف وشدة حرص الشخصية القاعدية الليبية على تأكيد المرجعية
البدوية ،والتمسك بالبداوة بعد أن اعتبرها هوية وانتماء ونمط حياة (ص . )34وقد أستعرض المؤلف
في هذا الصدد بيتاً من الشعر العامي يردده الموالون للنظام السياسي السابق " :ابوادي لباسين جرود
ايهبوا الياصار البارود" .وعلى الرغم من أن المؤلف قد ربط مضمون بيت الشعر بالحرص على
التالزم بين الهوية البدوية من جهة ،وامتالك البارود من جهة أخرى (ص، )35غير أن ما يمكن
قوله في هذا السياق أن األمر في مجمله ال يعدو أن يشكل تقرباً وتزلفاً لبعض الموالين للنظام
السابق بهدف الحصول على منافع ومصالح شخصية والتمتع السهل بموارد الدولة.
وفي قراءة أخرى للمؤلف تناول فيها مايعرف بالبدونة السياسية بواسطة النظام السياسي السابق،
والتي تقوم على تدمير الدولة ،والدعوة إلى التدمير بحجة الوصول إلى الديمقراطية المباشرة التي
ترف ـ ــض تماماً التمثيل باعتباره تدجيالً (ص .)37عالوة على تهديم المؤسسات وطمس الوثائق .
وعلى الرغم من حقيقة ما تناوله المؤلف في هذا الصدد ،اإل أن ربط األمر أو المسؤولية بسلوكيات
153
العدد السابع (ديسمبر )2021 السنة الثانية مجلة اإلعالم والفنون
الشخصيـ ـ ـ ـ ـ ــة القاعدية الليبية ي ّشكل تجنياً على الشخصية نفسها ألن الشخصية الليبية ليست نمطاً
واحداً ،فضالً عن أنها،ال تعكس سلوكيات ثابتة يقوم بها كل أفراد المجتمع ،بل أن سلوكيات الهدم
هذه قد انغمس فيها النظام السياسي وحـ ـ ــده منهجاً وتخطيطاً وتعم ـ ـ ــدا ،غير أن األمر في مجمله هو
لعبة ميكافيلية يديرها ويجيدها النظام من أجل االستمرار في السلطة والسيطرة على األوضاع .
ومن بين ماتعرض له المؤلف موضوع " البدونة السياسية " حيث يقول " تم العمل على استمالة قادة
القبائل والشيوخ واألشخاص الذين من شأنهم التأثير في قبائلهم وعشائرهم ،كما تمت االستعانة بعدد
تكون
من الضباط الكبار المتقاعـ ـ ــدين الذين يتمتعون بسطـ ـ ـ ـ ــوة رمزي ـ ــة وفعلي ـ ــة على قبائلهم لمن ـ ـ ــع ّ
المعارضات " (ص . )39واألمر هذا ال يعدو أن يكون تكثيفاً واسلوباً مارسته السلطة وقت الحاجة :
مرة بالتوظيف ،ومرة باالستبعاد ،ومرات بالتهميش ولدواعي أمنية خالصة ،وبهدف المحافظة على
استقرار األوضاع ،واستمرار النظام في الحكم.
إن الحديث عن البدونة السياسية ،ومسائل استمالة شيوخ وقادة القبائل وكبار الضباط المتقاعدين هو
إنعكاساً لحالة صمـ ــود وقه ـ ـ ـ ــر واستب ـ ـ ــداد النظام السياسي ،ونجاح آلياته في استقطاب هـ ـ ـ ـؤالء بشكل
استطاع فيه النظام السياسي تعطيل ظهور المعارضات داخل القبيلة الليبي ـ ـ ــة رغـ ـ ــم البط ـ ـ ــش والتنكيل
الذي انزله النظام السياسي بالنخب المعارضة داخل القبائل ،عـ ـ ـ ــالوة على استقطاب النظـ ـ ـ ــام لبعض
نخب القبيلة المتعلمة واغرائها بمراكز النفوذ واغداق النعم التي ال تخضع للمحاسب ـ ــة في عالقـ ـ ــة بين
حاكـم ومحكومــين أقل ما يقال حولها أنه حكم الساحر في الشعب المسحور(بعلبكي )2014: 144 .
إن وضعاً كهذا ،وعالقة كه ّذه بين حاكم وقبيلة ال يتي ـ ـ ـ ـ ـ ــح مطلقاً تمكين القبيلة في ليبيا أن تخطى
بمرتبة الشريك السياسي على الرغم من مشاركتها في الرقابة اإلدارية واألمنية كما تمت اإلشارة إلى
ذلك منذ حين.
*البداوة بنية ذهنية وثقافة متحكمة في السلوك :ينطلق المؤلف من مفهوم البداوة باعتبارها ثقافة في
حديثه عن خصائص الشخصية القاعدية الليبية حيث يقول " فمن الواضح أن البـ ـ ــداوة باعتبارها ثقافة
وتمثالً ال تزال مؤثـ ـ ـرة في الشخصية القاعدية ،ومتحكمة في جـ ـ ــزء من السلوكيـ ـ ــات و العالقات
االجتماعية " (ص . )42ومع أننا نتفق تماماً مع هذا الطرح النظري ،اإل أن الحديث عن موضوع
154
العدد السابع (ديسمبر )2021 السنة الثانية مجلة اإلعالم والفنون
غاية في األهمية متمثالً في الشخصية الليبية يظل مبتو ار أو مشوهاً من خالل هذا الطرح ،فاألمر
في مجمله ينصب حول شخصية قومية منها البدوي ،ومنها الحضري ،ومنها الريفي ،األمر الذي
يجعل تأثيرات البداوة كثقافة محدوداً وربما غائباً عن بعض هذه األنماط من الشخصية رغم التداخل
بين هذ ه األنماط في أكثر من مناسبة ،ناهيك عن دور التغيرات االجتماعية والتحديثية التي عصفت
بالمجتمع الليبي في العقود األخيرة.
كما أن المؤلف حاول من جانب آخر ،ربط حالة الثورة .أو اإلنتفاض كما سماها في 2011م في
ليبيا بعامل الشخصية القاعدية (وحده ) (ص ، )44لتعكس تحليالته هذه تبسيطاً وتسطيحـ ـ ـ ـاً لحالة
الثورة كظاهرة معقدة تتداخل مجموعة من المتغيرات في احداثها ،األمر الذي اليتيح إمكانية تفسير
الثورة كظاهرة سياسية واجتماعية باالستناد إلى عامل أو متغير واحـ ــد حتمي .وربما يمكن القول ،
استنادا لهذه التحليالت ،أن المؤلـ ـ ــف بوعي أو بدونه يقصـ ـ ــد بتحليالته هـ ـ ـ ــذه عقلية وذهنية النظام
السياسي السابق أكثر من أي شئ أخر ،وربما أيضاً يمكننا اإلتفاق مع هذا الطرح إلى حد بعيد .
لذلك ،فإن وسم الشخصية الليبية بطابع اإلرتجال ،ونبذ االستقرار ،وفي ض ـ ــوء الذهنية البدوية
وح ـ ـ ــدها ،يظل يشكل قصو اًر في الفهم ،وابتعاداً عن الموضوعيـ ـ ـ ـ ــة العلمية تماماً .فضـ ـ ـ ـالً عن أن
ميالة لالستقرار (ص ، )45وفي ضوء التفكير البدوي
وصف الشخصية القاعدية الليبية بأنها غير ّ
وحده يظل كوصف بعيداً عن الواقع ،ويعبر من جانب آخر ،عن تعميمات قاصرة ال تتناسب مع
منهجية توظ ـ ـ ــيف أساليب التع ـ ـ ــميم في البحث العلمي .غير أن المؤلف لم يقف عند هـ ــذا الحد في
التعميم بعد أن ذهب بعيداً في ذلك ،حينما أكد على أن " البـ ـ ـ ــداوة قـ ــد تحولت إلى أسلوب حياتي،
ونمط معيشي تم العمل على إعادة إنتاجها مجتمعياً اعتماداً على قوة السياسة " (ص )46 .
وفي رأينا أن األمر ال يعكس الحياة االجتماعية والثقافية في المجتمع الليبي كما ورد عن المؤلف ،
بل أن المسألة ارتبطت – أساساً – بسلوكيات بعض األفراد أو الجماعات التي تنتمي جذورها إلى
قبائل بدوية لي بية في الواقع الحضري ،ناهيك عن تعمد النظام السياسي الظهور بمظهر الب ـ ـ ــداوة في
الكثـ ـ ـ ــير من المناس ـ ـ ـ ــبات والمواقف كمظهر لألصالة والع ارقـ ـ ـ ـ ـ ــة الزائفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة .فض ـالً عن أن النظام
السياسي تعمد وبمنهج إلغاء كافة التعبيرات الثقافية غير البدوية متمثلة في :المسرح والسينما والرسم
155
العدد السابع (ديسمبر )2021 السنة الثانية مجلة اإلعالم والفنون
والنحت ،واخضاعها لالدلجة المفرطة (ص ، )47التي ال ينتظر منها ترسيخ قيم البداوة وذهنية
البدو ،بل يسعى في ذلك لطمس كل آليات التعبير السياسي والثقافي والفني باعتبارها أدوات تغيير
اجتماعي وسياسي رائدة ،وقادرة على قلب األوضاع وتوعية المجتمع ،وكشف سفالة ونفـ ـ ــاق و
رياء النظام من جهة ،وكذب النظام على الشعب من جهة أخرى (التير )2014: 46-47 ،
فضالً عن أن البدونة المفروضة فرضـ ـ ـاً أو قسـ ـ اًر من قبل النظام السياسي عكست دالالت ومعاني
االرتجال واالنفعالية والتقلب واالنقالب (ص )48وهذه األحوال التي تخلقت في ضوئها وبواسطتها
محنة شعب محكوم بنظام استبدادي – أبوي ذكوري -تمتزج تماماً بمحنة وطن ممزق ومنقسم على
ذاته بعد أن تجاوز وضعه كل معقول وممكن ،واألحداث األخيرة في ليبيا تعكس هذا الوضع تماماً.
لق ـ ــد صارت البدونة المفروضـ ـ ــة ف ـ ــرضاً في الواقـ ـ ـ ــع الليبي ،وفي ظل عـ ـ ـ ـ ــدم االستق ـ ـ ـ ـ ـرار السياسي
واالجتماعي والمؤسساتي عامل تهرية مجتمعية ،وفوضى غير مسبوقة ،وضعف بني ـ ـ ـ ــوي وانكسـ ـ ــار
وهشاشة وتشردم أصاب المجتمع والمؤسسات على السواء ،فضال عن التراكم الغريب للظلم والقهـ ــر
واالستبعاد من جانب ،واالنتشار الواسع لهاجس الخوف والرعب المركب من السلطة واألخر ومن
القريب والبعيد دون أن نغفل األثر الكبير لما خلفه حكم القذافي من خراب وعنف في المؤسسات
والنفوس " (متري )2015: 16،
ومن بين ما وسم به المؤلف الشخصية الليبية ( كشخصية بدوية ) أنها تتسم بالواقعية والبراجماتيـ ـ ـ ــة
واجادة استعمال الربح والخسارة وعدم االستقرار (ص. )50وما يمكن قوله أن سمات وخصائص من
هذا النوع هي هدف لكل فـ ــرد ،وغاية كل شخصية ،وأن حصلت اختالفات وتباينات في هذا الشأن
فهي اختالفات في الدرجة فقط ،وربما من المناسب القول أن الشخصيـ ـ ــة الحضرية هي أقـ ـ ــرب إلى
مثل هذه الخصائص النفعية والبراجماتية من غيرها من أنماط الشخصية األخرى كالريفية والبدوية .
مع األخذ في الحسبان طبيعة المجتمع الحضري الذي يتأسس تماماً على العالقات الرسمية والنفعية
والمصلحية .
أما فيمـ ــا يخص المنطـ ــق القبلي الذي ينحـ ــاز للغالب وال يغامـ ــر باالنحيـ ـ ــاز للمغل ـ ـ ـ ــوب ،وال يغامر
لمناصرته (ص ، )50فإنه من األجدر القول ،أنه واقـ ـ ـ ــع ال يرتبط بالطموح القبلي وحـ ـ ــده ،بل أن
156
العدد السابع (ديسمبر )2021 السنة الثانية مجلة اإلعالم والفنون
األمر ربما يطال كل فرد أو جماعـ ـ ـ ـ ـ ــة أو نظ ـ ــام أو كيان ،طالما أن األمر ُيحسب في ضوء
المصلحة والمنفعة كأهداف وغايات لكل سلوك أو فعل اجتماعي.
غير أن المؤلف ينتقل في موضع أخر من كتابه ليصف الشخصية الليبية ووفقاً للفهم الب ـ ـ ــدوي بأنها
تتسم بروح الغلبة والحرص على الهيمنة ،وهزيمة اآلخر (ص. )54-53وفي تقديري أن المؤلف لم
يقدم جديداً ،فضالً عن أن المسألة في األساس هي تحصيالً لحاصل ،وغاية كل قبيلة أو كيان أو
نظام سياسي في الواقع العربي بشكل عام ،والواقع الليبي بشكل خاص ،هذه المجتمعات التي الزالت
تعكس حالة المجتمعات القبلية التي تشهد حضور القبيلة في ذهن كل فرد (التير . )107 :2014،
عالوة على ووفقاً للباحث أياد الزعالن ،أن " معالـ ـ ــم القبلية العربية حاضرة وبقوة في العقلية العربي ــة
منذ القدم وحتى العصر الحالي ،وان تغيرت المسميات عبر الزمن (محمود . )51 :2016 ،بيد أن
المؤلف في موضع آخر وسـ ــم الشخصية الليبية بأنها شخصي ـ ــة " نهابة " تمارس الغـ ـ ـ ــزوات من أجل
استمرار الغلبة ميدانيا وفعليا ،وضمان الوالء والسطوة الذهنية والمعنوية على اآلخرين (ص .)57إن
المؤلف بوصفه ه ـ ــذا يتحدث عن الشخصية الليبية اليوم في ضـ ـ ـ ـ ـ ــوء عقلية بدوية وذهنية بدوية عفي
عليها الزمن ،الزمن الذي سادت فيه غزوات النهب كأسلوب للعيش والغلبة وهزيمة اآلخر .لذلك فإن
تعميم عقلية وذهنية وسلوكيات الشخصية البدوية على جميع الليبيين ،وفي كل وقت هو تعميم تعوزه
الدقة ،وال يعكس الواقع ،فضالً عن أن األسانيد النظرية التي استعان بها المؤلف لتدعيم تحليالته
قد استندت لتحلي ـ ـ ــالت عالم االجتماع العراقي على الوردي ح ـ ـ ــول طبيعـ ـة المجتمع العراقي التي
ترجع أساساً إلى حقبات زمني ـ ـ ـ ـ ــة بعيدة رغم أهميتها في تسلي ـ ــط الض ـ ـ ــوء حـ ــول بعض ج ـ ـ ـوانب
المجتمعات البدوية في المجتمع العربي علماً بأنه من المناسب القول أن الصراعات البدوية غالباً ما
ارتبطت بالنزاعات حول األرض والمرعى ومنابع الماء والحرث ،والعرض أحياناً وداخل المحيط
البدوي وحده.
ومن بين السمات والخصائص التي وسم بها المؤلف الشخصية الليبية ،خاصي ـ ـ ــة الشمول متمثلة في
السيطرة واالستفراد ورفض المناقشة وازاحة المنافس وع ـ ـ ـ ـ ــدم قبول االختـ ـ ــالف والمحاورة وحب التسلط
والحرص على الغلبة (ص . )60 -59وما ينبغي اإلشارة إليه وتأكيده في هذا الصدد ،أن خاصي ــة
الشمول هذه ال تقتصر على الشخصية البدوية وحدها ،بل أن األمر يطال الواقع العربي بشكل عام،
157
العدد السابع (ديسمبر )2021 السنة الثانية مجلة اإلعالم والفنون
والثقافة العربية بشكل خاص ،هذه الثقافة التي التتيح مجاالً للحوار وال أري المخالف والتعبير الحر،
واستقاللية التفكـ ـ ــير بالتوازي مع سيادة نوع من القيم االجتماعية يعرف بالقيم العمودية " الهرمي ـ ـ ـ ـ ــة "
التي تنتظم العالقات اإلنسانية بمقتضاها على أساس التفاوت في السلطة والنفوذ والوجاهة واألسبقي ــة
والنوع والعمر (بركات .)356-355 :1986،ومن جانب آخر ،تظل األنظمة السياسية العربية من
خالل األنظمة التعليمية واإلعالمية والتربوية والثقافية تعمل على إعادة إنتاج التخلف ومصالح الطبقة
المسيطرة ،وفلسف ـ ـ ــة النظام وايديولوجيته الواحـ ـ ـ ــدة الوحي ـ ـ ــدة ،مع تروي ـ ــج خطاب فكـ ـ ـ ــري ذي
االتجـ ــاه الواحـ ـ ــد واللـ ـ ـ ـ ــون الواحد ،ع ـ ـ ــالوة على صد األبواب أمام التفكـ ـ ــير الحر والناق ـ ـ ــد والرأى
والرأى اآلخر والحوار الديمقراطي وتبادل األفكار والمعارف .
*الشخصية الليبية وذهنية الغلبة :إنطلق المؤلف في هذا السياق من حاله ترادف بين البدون ـ ـ ــة
المفروضة أو القسرية بفعل النظام السياسي في المعيش اليومي ،وبين سلوكيات الغلبة والسطوة ،وقد
تحدث المؤلف حول هذه الحالة على مستوى الفرد والعائلة والقبيلة (ص ، )61وأستعرض المؤلف من
جانب آخر تحليالً واقعيا حينما ّحمل صفـ ـ ــوة السلطة دون غيرها إعادة إنت ـ ـ ــاج أدوات وآليات الغلب ـ ـ ـ ــة
اعتمادا على ثالوث الريع البترولي والخوف والزبونية (ص ، )62واستنادا على المفاخ ـ ـرة بمرجعية
هذه الصفوة متمثلة في قبيلة قوية ومؤثرة ومتنفذة .وهى في الحالتين – أي صفوة السلطة – تنشـ ــد
وتلتم ـ ـ ـ ــس وبكل شغـ ـ ــف ضمان الغلبة الريعية والمالية والخدماتية للقبيلة التي ينتمى إليها أكثر من
اإلنتماء للوطـ ـ ــن ولو على المستوى النفسي .
ومن ثم ،ظل هذا الطموح الهدف األسمى والغالي لرجال السلطة الذين تمكنوا من مفاصل السلطة
لعقود ،أولئك الذين ساهموا بقوة في ترسيخ وتكريس أحوال اإلنسداد واالستبعاد والتهميش والقهر
واالستبداد من جهة ،واعادة إنتاج القبيلة والعصبية القبلية ،ومنع تدفق الثروة لصالح الشعب من
جهة أخرى ،والحيلولة دون إستمتاع القطاعات المعارضة بهذا الريع البترولي من جهة ثالثة ،األمر
الذي ساهم في إقصاء السواد األعظم من المدن والقرى الليبية من االستفادة من برامج التنمية
والتحديث والخدمات لعقود طويلة ،وفي ظل سابقة إقصاء واستبعاد وتهميش لم يشهدها تاريخ وال
حضارة .
158
العدد السابع (ديسمبر )2021 السنة الثانية مجلة اإلعالم والفنون
ومما زاد األمر سوءاً ،أن رأس النظام السياسي قد تالعب عنوة بأصحاب السلطة الذين ينتمون
لقبائل قوية ومؤثرة بهدف تثبيت حكمه ،وترسيخ سلطته بعد أن لعب هذا النظام بورقة التناقضات
الجهوية والقبلية (متري ، )16-15 :2015،في مقابل أن يتمكن هؤالء ( أصحاب السلطة ) من
االستئثار بالموارد المادية والرمزية باعتبارها تؤمن أحوال الغلبة والسطوة والسيطرة والوجاهة والمفاخرة
على حساب شعب زج به عمداً وقس اًر وقه اًر في أحوال وظروف أقل ما يقال حولها أنها أحوال خارج
العصر والتاريخ ومن بين الخصائص التي وسم بها المؤلف الشخصية القاعدية الليبية ،إنها عديمة
الميل إلى الجهد وضعيفة الحماس لإلنتاج والعمل (ص . )67وقد ربط المؤلف المسألة بمسؤولية
المجتمع الريعي الذى وصفه بالفج ،غير أن المؤلف في موضع ما في هذا السياق تحدث عن
الشخصية البدوية ،وكأنه يخلط خلطا غريباً بين الحديث عن شخصية قاعدية أو قومية ليبية،
وأخرى بدوية ال تميل بطبعها للجهد والعمل كنتيجة لحالة الترحل الدائم التي تعيشها في الزمان
والمكان ،فضالً عن احتقارها للمهن الحرفية والصناعية لصالح مهنتي الرعي والتجارة (ص ، )67وقد
نتفق مع المؤلف في تحميله المجتمع الريعي النفطي ( كثي اًر أو قليالً ) بعض المسؤولية في انتشار
وسيادة نمط من الشخصية يدخل في قطيعة مع بذل الجهد واعتزال اإلنتاج والعمل ،وهو ما يحصل
فعالً في الواقع الليبي ،ولعقود طويلة في ظل نظام سياسي أدار ظهره للتنمية والتحديث وتوطين
الصناعة واالستثمار ،ناهيك عن عدم االستثمار في الرأسمال البشري ،بيد أن ،تحميل المؤلف
الشخصية الليبية مسؤولية ما يحصل من تخلف في العمل واإلنتاج والخدمات وتفسير ذلك من
منطلق بدوي خالص يشكل تماماً قصو اًر وفشالً في تحليل الواقع االجتماعي الليبي بشكل عام،
والشخصية القاعدية بشكل خاص .
ومن بين ما ينبغي الوقوف عنده ،أن المؤلف استخلص تحليالً استنادا إلى العقلية البدوية في فه ـ ـ ـ ـ ــم
البنية الذهنية والثقافية والنفسية التي أنتجت فكرة إضعاف الدولة ،والغاء المؤسسات ،ونبـ ـ ـ ـ ــذ اشك ــال
الوساطة السياسية (ص ، )72وبذلك صارت القبيلة الوسيط االجتماعي والسياسي الفعلي والوحيد بين
مركز الحكم واألفراد ،ومن ثم حلت محل النادي والمنبر والحزب وما ينبغي قوله في ه ـ ـ ــذا الصدد ،
أن إضعاف الدولة والغاء المؤسسات لم يكن وليداً لسطوة وقوة القبيلة كما ورد عن المؤلف ،بل أن
كل المسؤولية تقع على النظام السياسي وحده كنظام استبدادي دكتاتوري راهن بهـ ــدف تبثيت حكم ـ ــه،
159
العدد السابع (ديسمبر )2021 السنة الثانية مجلة اإلعالم والفنون
واستمرار سطوته على التضامـ ـن القبلي والعادات القبلية في شكل استقطاب وتخويف وتوظيف لنخب
القبيلة الليبي ــة ومتعلميها ،بالتوازي مع آليات اإلغ ـ ـ ـ ـ ـ ـراء بالمناصب ومراكز النفوذ ،واغ ــداق النعم في
ظل انتشار غريب لثقافـ ـ ــة النفاق والمنافقين الذين دخلوا في منافسة شرسة بهدف التقرب من السلطـ ــة
(التير )272 :2013 ،ومن ثم يفسر االمر في ظل هذا التكتيك الميكافيلي الـ ـ ـ ــذي مارس ـ ــه النظام
السياسـ ـ ــي فيما يخص استعمال القبيلة بين الحين والحين كجسر انطلقت منه فلسفة توهين واضعاف
الدولة بالمعنى المدني الحديث ،والغاء المؤسسات وتهميش السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية،
وفتح الباب واسعاً أمام ظواهر فوضى وانفالت غير مسبوقة .
غير أن المؤلف في موضع آخر من كتاب ـ ـ ــه كش ـ ـ ـ ــف عن سمة أخرى للشخصية القاعدية الليبية
كشخصية بدوية فك اًر وسلوكاً ،وتتجلى هذه السمة أو الخاصية في أنها شخصية غير مراكمة وغير
حريصة على حسن توظيف التجارب ،وتثمير الخبرات ،وعدم تحمل إكراهات المجتمع ،وضغوط
المدن والتزامات القوانين ،وضوابط الحياة العصرية (ص . )77ويضيف المؤلف ليؤكد على أن "
بنية هذه الشخصية القاعدية من الناحية النفسية والذهنية تشجع القطيعة بين األجيال ،وعدم تراكم
الخبرات في صلب المجتمع (ص .)78وفي تقديري أن المؤلف وظف بوعي أو بدونه مقدمات نظرية
أو مفهومية غير مناسبة وغير قادرة على تفسير قضاياً أو ظواهر في الواقع الراهن ،وربما تصلح
هذه المقدمات النظرية و المفهومية في تسليط الضوء حول واقع آخر ،أو ثقافة آخرى ،على الرغم
من أهمية هذه المقدمات في إلقاء الضوء حول بعض جوانب الواقع االجتماعي والثقافي الليبي
األخرى .ومن ثم ،فإن توظيف مفهوم البداوة أو الذهنية البدوية في كشف حقيقة وطبيعة الشخصية
الليبية اليوم ال يستقيم مع الشروح والتفسيرات السوسيولوجية الموضوعية ،ومهما يكن من آمر ،فإن
خصائص وسمات المراكمة والحرص على توظيف التجارب ،واستثمار الخبرات ،وتحمل ضغوط
المدن والزامات القوانين تظل مسائل نسبية تختلف من مجتمع إلى أخر ،ومن ثقافة إلى أخرى ،
وتفهم هذه المسالة في ضوء درجة تطور المجتمع المعين أو الثقافة المحددة .فضالً عن أن الواقع
الليبي كان وال زال ضحية منظومة سياسية قررت أن تدخل في قطيعة ال رجعه فيها مع كل تغير أو
تطور أو تحديث .
160
العدد السابع (ديسمبر )2021 السنة الثانية مجلة اإلعالم والفنون
ومن جانب آخر ،تظل مسائل غياب المحاورة وتبادل اآلراء والرأي المخالف واإلنتقال السلس
لألفكار تعكس تحديات يعاني منها الواقع الثقافي واالجتماعي والسياسي العربي ،عالوة على أن
المؤسسات االجتماعية الرسمية والغير رسمية :المدرسة ،األسرة ،الجامعة ،اإلعالم ،المجتمع
المدني ال زالت تعيد إنتاج الكثير من العوائق التي تقف أمام سيادة ،وانتشار قيم التفكير الحر
والناقد ،والرأي المخالف والمحاورة والنقاش ،والتفكير المستقل والديمقراطي في ظل سلطنة دكتاتورية
ألغت جميع أشكال التعبير الحر ،وحصر التعبير في خطاب اللون الواحد ،وهو خطاب السلطة
الرسمية الذي ُيوسـ ـ ـ ـ ـ ــم بأنه خطاب خشبي ممل وسمج خبره الليبيون خالل السن ـ ـ ـ ـوات األربعين
األخـ ـ ـ ـ ــيرة (التير . )272 :2013 ،
ويؤكد المؤلف في موضع آخر ،على ربط الشخصية القاعدية الليبية بظاهرة إدارية خطيرة وغريبة
تعصف بالواقع الرسمي الليبي ،وهي ظاهرة امتدت أربعة عقود دون تراكم وثائقي ،ودون أرشيفات
منظمة ...بل أن جزءاً مهما من األرشيفات التاريخية تعرض للتلف ،فضالً عن إحراق السجل
العقاري في ثمانينيات القرن العشرين (ص . )81 -79ومن جانب آخر ،وسم المؤلف الشخصية
الليبية ومن منظور بدوي خالص بتفضيلها للرواية الشفوية وكراهية التوثيق المكتوب ،وما يمكن قوله
فى هذا الصدد ،أن المؤلف حاد تماماً عن حقيقة األشياء والوقائع ،وغابت عن تفسيراته
الموضوعية والمصداقية والدقة ،ناهيك عن أن تعميماته كباحث تفتقر للموضوعية – غير أنه من
المناسب القول ،أن تهديم المؤسسات وطمس الوثائق ،وتدمير الذاكرة المكتوبة والتاريخية ،واحراق
السجالت العقارية هي سلوكيات تعمد النظام السياسي القيام بها بتخطيط ومنهج ،وعن سبق
إصرار ،انطالقاً من مبدأ – ميكافيلي -يؤكد على أن حكم البشر سياسياً قد يمر من بوابة – نشر
الفوضى وحدها – خالل عقود من الزمن .مجمل القول ،أن النظام السياسي وحده ،وبسببه ،ومن
خالله ،وبواسطة مايسمي بالثورة الثقافية في 1973م هو من صاغ معالم هذه الفوضى اإلدارية
والثقافية الغير مسبوقة .
161
العدد السابع (ديسمبر )2021 السنة الثانية مجلة اإلعالم والفنون
ومما الشك فيه ،أن القبيلة الليبية والعربية تتعايش إلى حد بعيد مع التحديث المادي والس ـ ـريع بهدف
الحصول على منافع ووجاهة ،وتأثير سياسي وفقاً لمبدأ الوالء مقابل الهبة مع استعداد القبيلة –
دائما -لتقديم تنازالت لصالح النظام السياسي في ظل عمليات إستقطاب بائسة ومـ ـ ــؤبـ ـ ــوة يمارسها
ا لنظام نفسه .وفي ظل هذه العالقة المشوهة بين التحديث والقبيلة في الواقع الليبي كما هو الحال في
الواقع العربي غابت عن المشهد التبدالت والتحوالت العميقة التي تصنع التحديث على المستوى
االجتماعي والثقافي والقيمي .
ومهما يكن األمر ،فإن حالة التحديث الليبي تكمن أساساً في صورة التحديث المضطرب والهجين
والمشوه والمختلط بفعل سيادة ممارسات وسلوكيات تجمع بين هذا وذاك ،وبين القديم الجديد ،
والتراث والمعاصرة ،والماضي والحاضر ،ويشكل كل هذا في المجمل تحديثاً ال ينتمي للقديم بصلة،
وال للحديث بعالقة ،بالت ـ ـ ـوازي مع تشوه النسخة األصلية للتحديث من جانب ،ونسخة التقاليد والتراث
من جانب آخر .وفي الحالتين من التشويـه ُنبذ العقل التي تشكلت في ضوئه الحداثة والتراث (زايد ،
. )113 :2005
ومن المناسب القول ،أن استمرار الصراع بين الحداثة والتراث ،ناهيك عن غياب لحظة حسم هذا
الصراع في الواقع العربي قد سد األفق تماماً أمام الحداثة بالمعنى الثقافي ،أو الكونية التي انتشرت
162
العدد السابع (ديسمبر )2021 السنة الثانية مجلة اإلعالم والفنون
وسادت – عالميا -على حساب الثقافات األخرى من بينها العربية التي صارت ضحية التهميش
الحضاري الذي ال يرحم ،بعد أن صارت الثقافة العربية بعيدة عن المبادرة والفعالية والتأثير .
مجمل القول ،وخالصة األمر ،أن تعثر تجربة التحديث الليبي رغم توفر كل الظروف واإلمكانيات
المادية ،تفسر أساساً في ضوء – تعمد – النظام السياسي متمثالً في نظام القذافي في التنصل من
مسؤولية تحديث المجتمع الليبي اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً ،بما في ذلك تأجيل حالة اإلندراج في
الحداثة ،وعدم اإلنقطاع عن العصر .وعوضا عن ذلك ،فإن النظام السياسي السابق ،قد وفّر
مظلة مناسبة للمحافظة على التفكير البدوي والذهنية البدوية ،بدال من العمل على تغيير الخصائص
السلوكية لشعب تش ّكل غالبيته نسبة %95من سكان الحضر .فضالً عن أن هذه الغالبية من
السكان تقطن الساحل الليبي الذي يمتد طوله ألف وتسعمائة كيلو متر تقريباً (العربي . )7:2015،
يختتم المؤلف كتابه حول الشخصية الليبية بالحديث عن قدرة الشخصية الليبية إذا ازدهرت األوضاع
االقتصادية على فرز – عقلية التاجر – الذى ال يجيد المحاورة السياسية ،وانما يجيد المقايضة وفن
التفاوض من أجل الكسب والفوز بالصفقة (ص . )97وما يمكن قوله في هذا الصدد ،أن األمر
ليس بهذا التبسيط والتسطيح لحالة الشخصية القاعدية الليبية .فالتاجر وهو يمارس فن الكسب ،
واصطياد الصفقة ،والبحث عن الربح ،يعكس في األساس مهارة سياسية ،ويكشف عن عبقرية
تفاوضية توظف فن إدارة الممكن ،وتحقيق المصلحة .ومن جانب أخر ،فإن إختزال الشخصية
الليبية في شخصية تاجر ناجح فقط ربما يمثل – قصو اًر – في فهم الشخصية الليبية والواقع الليبي ،
فضالً عن ،أن الحديث عن الشخصية في ضوء مهارات التاجر والتجارة يظل ي ّشكل وجهاً واحداً من
الحقيقة أو الواقع ،عالوة على ،أن الواقع االجتماعي يتسم بداهة بالتعقيد والتغير ،وتداخل وتشارك
الكثير من المتغيرات في إحداثه ،وهو ما ينطبق على الحديث حول الشخصية القاعدية أينما كانت
وحيثما وجدت .ناهيك عن استحالة تفسير الواقع االجتماعي بشكل عام ،والشخصية القاعدية بشكل
خاص من خالل متغير واحد حتمي .
163
العدد السابع (ديسمبر )2021 السنة الثانية مجلة اإلعالم والفنون
ومختلفة وتتميز بخصوصية حضارية وثقافية مميزة تشكلت في ظل روافد عديدة عربياً واسالمياً
وأفريقياً .
164
العدد السابع (ديسمبر )2021 السنة الثانية مجلة اإلعالم والفنون
وبين هذا وذاك ،جاء عمل الشخصية الليبية ليقدم لنا جردا لصفات وخصائص الشخصية القاعدية
الليبي ـ ـ ـ ــة التي تمارس أحوال النهب والغلبـ ـ ـ ـ ـ ــة والبـ ـ ـ ـ ـ ـ ــداوة والقبيلة والغنيمة والثأر ونبذ التغـ ـ ـ ـ ــير
والحضارة والتحديث ....إلخ .
ومهما يكن من أمر ،فإن جرداً لخصائ ـ ـ ـ ـ ــص الشخصية القاعدية الليبية بهذا الشكل ،وبهذا التجنى
ال يمكن أن يعك ـ ـ ـ ـ ـ ــس أو يعبر عن صفات ترقى إلى حالة المفاه ـ ـ ـ ـ ـ ــيم التي يتوصـ ـ ـ ـ ــل إليها أهل
البحث العلمي تلك المفاهي ـ ـ ـ ـ ـ ــم التى تٌعرف على أنها أقوال ال توصف ال بالصدق وال بالبطالن .
ومن ثم ،فإن صفات وخصائص الباحث وناس التي أطلقها على أنها خصائص حقيقية للشخصية
القاعدية الليبية ال يمكن اعتبارها كذلك ومن ثم ،ال يمكن بأي شكل وتحت أي ظرف استنباط
تصور نظري ذو مصداقية ي ـ ــدور حول الشخصية الليبية من خالل استعراض جرداً ،أو قائمة
بصفات أو خصائص يسم بها كتاب وناس الشخصية القاعدية الليبية .وربما كان من الممكن على
الباحث وغيره من الباحثين في المجتمع العربي تحقيق هذه الغاية بصياغة مفاهيم جديدة تنتمي –
جملة وتفصيالً – ل ـ ـواقـ ــع الشخصية الليبية والمجتمع الليبي بشكل خاص ،وواقع الشخصية في
المجتمع العربي بشكل عام بالتوازي مع ضرورة إعالن الباحثين العرب لقطيعة ال رجعة فيها مع
التبعية الفكرية واألكاديمية للعلوم االجتماعية الغربية .
وفي ضوء هذا اإلخفاق العربي في الوصول إلى نحت نظرية عربية حول خصائص وسمات
الشخصية العربية ،فإنه من المهم دع ـ ـ ـ ــوة الباحثين كال من ميدانه وتخصصه البحثي إلى إجراء
بحوث ودراسات ارئ ــدة تنطلق من خصوصية وطبيعة الشخصية العربية والواقع العربي وحده .
165
العدد السابع (ديسمبر )2021 السنة الثانية مجلة اإلعالم والفنون
الهوامش والمراجع
-محمد الجوهري ،عبداهلل الخريجي ،مناهج البحث العلمي :الجزء الثاني :طرق البحث االجتماعي ،جدة :
دار الشروق 1980 ،م.
-أحمد زايد ،تصميم البحث االجتماعي :أسس منهجية وتطبيقات عملية ،القاهرة :االنجلو المصرية 2002 ،م.
-على حسين الوردي ،شخصية الفرد العراقي :بحث في نفسية الشعب العراقي على ضوء علم االجتماع الحديث
،لندن :منشورات دار ليلى 2001 ،م.
-عبدالرحيم محمد عبدالرحيم ،الشخصية المصرية في أدب يوسف أدريس ،القاهرة :مطبعة األمانة 1990 ،م.
-إبراهيم الحيدري ،الشخصية العراقية ( )1البحث عن الهوية ،بيروت ،القاهرة ،تونس :التنوير للطباعة
والنشر والتوزيع 2013 ،م.
-مديحة فخري محمود ،العقلية العربية في زمن العولمة :مشكالت وقضايا ،عمان :دار دجلة 2016م.
-حامد عمار " ،حوار منهجي حول التنمية االجتماعية ومقدمات الشخصية العربية" ،المستقبل العربي ،العدد
،23:كانون الثاني /يناير 1981 ،م ،بيروت :مركز دراسات الوحدة العربية ،ص.106 – 93
-مصطفى عمر التير ،أسئلة الحداثة واالنتقال الديمقراطي في ليبيا :المهمة العصية ،بيروت :منتدى المعارف
2013،م.
-مصطفى عمر التير ،مسيرة تحديث المجتمع الليبي :مواءمة بين القديم والجديد ،بيروت :معهد اإلنماء
العربي 1992،م .
-حليم بركات :المجتمع العربي المعاصر :بحث استطالعي اجتماعي ،بيروت :مركز دراسات الوحدة العربية
1986 ،م .
-السيد ياسين ،الشخصية العربية :بين صورة الذات ومفهوم األخر ،القاهرة :مكتبة مدبولي1993 ،م .
-مصطفى عمر التير ،صراع الخيمة والقصر :رؤية نقدية للمشروع الحداثي الليبي ،بيروت :منتدى المعارف
2014 ،م.
-أحمد بعلبكي ،قراءة ومراجعة لكتاب مصطفى عمر التير ،صراع الخيمة والقصر :رؤية نقدية للمشروع
الحداثي الليبي ،المستقبل العربي ،العدد ،426 :آب /أغسطس ،بيروت :مركز دراسات الوحدة العربية ،
2014م ،ص .147-143
-محمد أحمد بيومي وآخرون ،تصميم البحث االجتماعي :األسس واالستراتيجيات ،اإلسكندرية :دار المعرفة
الجامعية 1992 ،م .
-محمد على محمد ،مقدمة في البحث االجتماعي ،بيروت :دار النهضة العربية 1983 ،م .
-محمود الذوادي ،الوجه اآلخر للمجتمع التونسي الحديث ،تونس :تبر الزمان 2006 ،م .
166
العدد السابع (ديسمبر )2021 السنة الثانية مجلة اإلعالم والفنون
-محمود الذوادي ،قراءة ومراجعة كتاب المنصف وناس :الشخصية التونسية :محاولة في فهم الشخصية
العربية ،المستقبل العربي ،العدد ،396:بيروت :مركز دراسات الوحدة العربية 2012 ،م ،ص.163-159
-مصطفى عمر التير ،مقدمة في مبادئ وأسس البحث االجتماعي ،طرابلس :مركز الدراسات االجتماعية
2015،م .
-ضوء خليفة الترهوني " ،دور النظرية في تحديد وصياغة المشكلة البحثية :التساؤالت والفروض والمفاهيم
الرئيسية " مجلة كلية اآلداب ،العدد ،28 :طرابلس :كلية اآلداب ،جامعة طرابلس 2016 ،م ،ص ص
.202-183
-ضوء خليفة الترهوني " ،دور الدراسات السابقة في تحديد المكونات الرئيسية للمشكلة البحثية :التساؤالت
والفروض والمفاهيم الرئيسية" ،مجلة العلوم االجتماعية ،العدد11:طرابلس ،كلية اآلداب ،جامعة طرابلس يونيو
2017م ،ص.150- 123
-أحمد بدر ،أصول البحث العلمي ومناهجه ،الكويت :وكالة المطبوعات 1986،م.
-طارق متري ،مسالك وعرة :سنتان في ليبيا ومن أجلها ،بيروت :رياض الريس للكتب والنشر2015 ،م .
-ماجدة العربي ،اآلثار االجتماعية لالنقسام السياسي في ليبيا ،طرابلس :المنظمة الليبية للسياسات
واالستراتيجيات 2015 ،م.
خلدون حسن النقيب ،المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية :من منظور مختلف ،بيروت مركز دراسات -
الوحدة العربية 1989،م.
167