Professional Documents
Culture Documents
الدولة الزنكية 3
الدولة الزنكية 3
1
موسوعة احلروب الصليبية
()2
أتليف
الدكتور علي حممد حممد الصاليب
2
3
اإلهـداء
إىل كل مسلم حريص على إعزاز دين هللا ونصرته أهدي هذا الكتاب سائالً املوىل عز وجل
قال تعاىل:
َ َ ََۡۡ َۡ َ َٗ َ ٗ ََ ُۡ ۡ ﴿ َف َمن ََك َن يَ ۡر ُجوا ْ ل َِقا ٓ َء َ
ۡشك بِعِ َبادة ِ َربِهِۦٓ أ َح َ َۢدا ﴾ ١١٠
ِ ي َلو اِٗ لَٰ ل م ع ل م ع ي لف ِۦ هِ ب ر
[الكهف]110 :
4
املقدمة
إن احلمد هلل حنمده ونستعينهُ ونستغفرهُ ،ونعوذُ ابهلل من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ،من يهده هللا ضم مَ هل له
َ
أشهد أن حممداً عبدهُ ورسوله ﴿يََٰٓأ ُّي َها
أشهد أن ال إله إال هللا وحده ال شريك له ،و ُ
،ومن يَل ضم هادي له ،و ُ
ذ َ َ َُ ْ ذُ ْ ذَ َُ ُ ْ َۡٗ َ ٗ ُ ۡ ۡ َ ُ ۡ َ ۡ َ َ ُ ۡ ََۡ ۡ َ ُ ۡ ُُ َ ُ
وبك ۡمۗۡ َو َمن يُ ِطعِ ٱَّلِين ءامنوا ٱتقوا ٱَّلل وقولوا قوَل َدِيدا ٧٠يصل ِح لكم أعملكم ويغفِر لكم ذن
از فَ ۡو ًزا َع ِ ً
ظيما [ ﴾ ٧١األحزاب ] 71-71 :
ٱَّلل َو َر َُ َ ُ
وَلۥ َف َق ۡد فَ َ ذَ
ولك
رضيت َ ، َ احلمد إذا
احلمد حىت ترضى ،ولك ُ وجهك وعظيم سلطانك ،ولك ُ َ احلمد كما ينبغي جلضمل
اي رب لك ُ
اجملد كما تستدعيه عظمتهيليق بكماله ،وله ُ احلمد كما ينبغي جلضمله ،وله الثناءُ كما ُ
بعد الرضا ،لله تعاىل ُ احلمد َ
ُ
وكربايؤه.
أما بعد:
الكتاب امتداد ملا سبقهُ من كتب درست عهد النبوة ،وعهد اخلضم ة الراشدة ،وعهد الدولة األموية ،وعهد ُ هذا
السضمجقة ،وقد صدر منها :السرية النبوية ،وأبو بكر ،وعمر بن اخلطاب ،وعثمان بن عفان ،وعلي بن أيب طالب
،واحلسن بن علي رضي هللاُ عنهم ،والدولة األموية ،ومعاوية بن أيب سفيان ،رضي هللاُ َعنه ،وعمر بن عبد العزيز ،
رمحه هللا ،ودولة السضمجقة وبروز املشروع اإلسضممي ملقاومة التغلغ الباطين والغزو الصلييب ،والدولة العثمانية عوام
النهوض وأسباب السقوط ،ودولتا املرابطني واملوحدين ،والدولة الفاطمية العبيدية ،والثمار الزكية للحركة السنوسيهلة ،
و قه النصر والتمكني يف القرآن الكرمي.
وقد مسيت هذا الكتاب« :عصر الدولة الزنكية وجناح املشروع اإلسضممي بقيادة نور الدين حممود الشهيد يف مقاومة
نسأل هللاَ تعاىل أبمسائه
التغلغ الباطين والغزو الصلييب» وتعترب حلقة مهمة من ضمن سلسلة احلروب الصليبية ،واليت ُ
العلى أن تكون لوجهه خالصة ،ولعباده ان عة ،ويطرح يها القبول والربكة ،ويرزقنا حسن القصد احلسىن وصفاته ُ
وإخضمص النية لوجهه العلي الكبري ،ويو قنا إلكمال املوسوعة التارخيية املستهد ة.
وهذا الكتاب يتحدث عن الزنكيني من حيث أصول أسرهتم ،وعن جدهم آق سنقر ،ومكانته لدى السلطان ملكشاه
،وسياسته الداخلية واخلارجية يف حلب وتويل إمارهتا ،وعن نشأة عماد الدين زنكي ،وبزوغ جنمه السياسي ،ودور
هباء الدين الشهرزوري يف تعيينه أمرياً على املوص ،وعن أهم صفاته ،كالشجاعة ،واهليبة ،والدهاء ،واملكر ،واحليلة
،واليقظة ،واحلذر ،والذكاء ،وقدرته على إختيار األكفاء من الرجال ،وو ائه ألصحابه ،وغريته على حمارمهم ،
وعدله ،وعبادته ،وهواايته.
ويتحدث عن سياسته الداخلية ،والنظم اإلدارية والعسكرية ،وعضمقة عماد الدين زنكي ابخلضم ة العباسية ،والسلطنة
السلجوقية ،وتوسع عماد الدين يف مشال بضمد الشام وإقليم اجلزيرة ،وعضمقته ابألكراد كبين أيوب حكام تكريت ،
واألكراد احلميدية ،والعكارية ،واملهرانية ،والبشنوية ،وعضمقته ابإلمارات احمللية يف داير بكر ،وحماوالته يف ضم دمشق
وتطرقت حلال املسلمني قب جميئه
ُ سواء ابلتفاهم ،أم ابحلصار ،أم ابلسياسة ،وتكلمت عن جهاده ضد الصليبيني ،
لإلمارة ،وسياسته مع الصليبيني ،و تحه للحصون والقضمع ،وسعيه احلثيث لتوحيد اجلبهة اإلسضممية وقيادهتا ملقاومة
5
االحتضمل الصلييب ،وذكرت مناصرة عماد الدين لبين منقذ عندما تعرضت إمارة شيزر حملاصرة اجليش البيزنطي ،والصلييب
،ومواقفه البطولية يف مقارعة الغزاة ،وأساليبه اليت استخدمها ضدهم سواء نفسية أو تعبوية من طلب النجدة من خمتلف
املناطق ،واستخدام سهام احليلة والدهاء لتعميق اخلضمف بني أ رنج الشام ،وملك الروم البيزنطي ،وقد حقق جناحاً
منقطع النظري يف هذا امليدان ،ويف هناية املطاف اضطر اإلمرباطور البيزنطي إىل ك حصاره عن شيزر بفَ هللا ،مث
جهود عماد الدين العسكرية.
وكانت من أهم النتائج اليت أسفرت عنها هذه احلملة تدهور العضمقات بني البيزنطيني ،والصليبيني ،وعدم استطاعتهم
ذلك يف إمتام خطته هنمك عماد الدين بعد َ القيام بعم سريع ضد نشاط زنكي يف املنطقة يف السنني التالية ،وقد ا َ
بتوحيد اجلبهة اإلسضممية ،كي يكون أكثر قدرًة على جماهبة الصليبيني ،وأشاد الشعراء بد اع عماد الدين زنكي عن
شيزر ،قال ابن قسيم احلموي يف مدحه:
تَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـذ ُّل لـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك الـصعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاب وتستقيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم بعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـزم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك أيـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا امللـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك العظيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم
تبي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــَ َن أنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه امللـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك الرجي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم أل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم تـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر أن كلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب الـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـُّروم مل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا
كـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـأن اجلَ ْح َف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ البهي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم جـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاء يطب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـق الفلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوات خيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمً
إىل أن قال:
ت بقطـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـع دابرهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم زعي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم وأنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ ك عفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـواً
أيلتمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـس الفرن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُج لدي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلأول م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا تفارقهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا اجلس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوم ك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي نف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوس إذا خط ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرت سيو ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ
الرها؛ اليت أتسست يف الشرق اإلسضممي ع من الصليبيني إمارة ُّ واستطاع عماد الدين بفَ هللا مث جبهوده امليمونة أن ينتز َ
سنة 491هـ 1097م بزعامة بدوين األول ،وكان حتريرها يف عام 539هـ وقد ساعد عماد الدين زنكي عوام
ذلك اجملال ، الرها ،ومن أمهها :تنامي حركة اجلهاد اإلسضممي حىت عصره ،وحصاد جتربة املسلمني يف َ عديدة يف تح ُّ
الرها مرشحة أكثر من غريها لكي تكون أوىل اإلمارات الصليبية يب يف أن التجارب السابقة أثبتت أن إمارة ُّ ضم ر َ
املعرضة للسقوط يف أيدي قادة اجلهاد اإلسضممي حينذاك ،وقد أجهدها أمر اإلغارات املستمرة يف جانب أمراء املوص
موت بطيء هلا إىل أن متهل اإلجهاز عليها يف العام املذكور. ٍ خضمل رتة تزيد على أربعة عقود من الزمان على حن ٍو مث
تلك اإلمارة الصليبية ابهلجوم بعد أن اطمأن الصليبيون إليه ذلك براعة عماد الدين العسكرية؛ الذي اجأ َ ويَاف إىل َ ُ
،وتصوروا أنه لن يهاجم ،استغ رصة غياب أمريها جوسلني الثاين عنها ،ووجه إليها ضربته القاضية اليت انتهت
لذلك العم العسكري العظيم. ذلك القائد الكبري :أنه اختار التوقيت املضمئم َ إبسقاطها ،وهكذا أثبت َ
قام هبا ضد الصليبيني طوال مدة حكمه ،وكان هلذا النصر الرها أهم إجنازاته اليت َ لقد حقق عماد الدين زنكي بفتح ُّ
تلك النتائج على اإلمجال: نتائج هامة يف العاملني اإلسضممي والنصراين ،ومن أهم َ
أن حركة اجلهاد اإلسضممي وصلت سن الرشد ،وجتاوزت املراهقة السياسية والعسكرية ؛ دون أن 1ـ أتكد للمسلمني :هل
ذلك إجحا اً إبجنازات القادة السابقني على زنكي ال سيما األمري مودود بن التونتكني ،وإذا كانت أوىل اإلمارات يكون َ
الرها ،وغداً إسقا ُط ابقي الكيان الغازي الدخي ،وهذا ما الصليبية هتاوت حتت أيديهم؛ إهنا البداية ،واليوم إسقاط ُّ
حدث عضمً ،ومن اآلن صاعداً لن تعود عقارب الساعة إىل الوراء ،ب التقدم إىل األمام بك ثقة ،وإابء. َ
6
تلك الكياانت الصليبية الغري شرعية لن تستمر على األرض املسلمة؛ ألن أبناء أن مث َ منطق التاريخ من :هل أتكد ُ 2ـ َ
بذلك الوضع السياسي والعسكري الدخي ،وابلتايل عاد التجانس املنطقة أصحاب اهلوية الدينية املوحدة لن يقبلوا َ
الرها متث دور الفص والكيان الصلييب احلاجز املانع من االتصال بني ك ٍ من سضمجقة ملنطقة مشال العراق ،ومل تعد ُّ
كذلك بضمد ارس. آسيا الصغرى ،وسضمجقة الروم ،و َ
الرها مبث هذه الصورة إىل حترك احللف الد اعي االسرتاتيجي القائم بني الكيان الصلييب يف الشرق 3ـ كما أدى سقوط ُّ
ذلك الغرب يسمح المتداده السياسي ،والتارخيي يف الشرق أن ينهار قطعة قطعة ،ب ال بد الرحم األم ،لم يكن َ و هل
من التدخ من أج إعادة األمور إىل نصاهبا ،وإجهاز عاليات إمارة املوص ،ومن مث كان قيام احلملة الصليبية الثانية
جبضمء كيف أن قادة اجلهاد اإلسضممي حاربوا الرها ،وهو أمر يوضح لنا ٍ عام 542هـ .وهي من النتائج املباشرة إلسقاط ُّ
عاملي على قاري ،أو ٍ قوى عاملية ،ومل تكن جمرد قوى حملية حمدودة التأثري والفعالية ،وإهنم ابلفع كانوا جزءاً من صر ٍاع ٍ
قام به عماد الدين لفتحه إمارة حنو جيع هلم مكانةً ابرزة يف اتريخ املسلمني .وقد مدح الشعراء اإلجناز الكبري الذي َ
الرها ،قال: الرها ،قد وصف ابن األثري جيش عماد الدين يف خروجه لفتح ُّ ُّ
ظنن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت البـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهلر حبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراً مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمح جبيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـش ج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاش ابلفرس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـان حـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـىت
ختاطبن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا أب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـواه الري ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاح وألسن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن العذب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـات محُْ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر
و ُغهلرتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه عمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـود للصبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاح وأروع جيش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ هبيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم
قليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــتـ ـ ـ الصف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـح م ـ ـ ـ ـ ـا بيـ ـ ـ ـ ـ ـن الصفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاح صفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوح عن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد قدرت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ولكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن
وهيبت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ جناح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً للجن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاح كـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـان ثباتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ للقلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب قلب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـــ اً
وهنهلأ الشاعر ابن القيسراين القاضي كمال الدين الشهرزوري هبذا الفتح ،قال:
عطفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت عليهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا كـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ أشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوس انكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب الره ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـــ ـ ـ ـ ـ ـا
إن الصفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـائح ي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوم صا حـ ـ ـ ـ ـت ُّ
كالفج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدر النهله ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـار االي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب ت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـح الفتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوح مبشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراً بتمامـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه
نُص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرت صحابتهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا أبميـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن صاحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب للـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه أيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة وقف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة بدريـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة
ض ابحلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرب غيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر حم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـارب ك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم انه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ ظف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـٌر كمـ ـ ـ ـ ـ ـال الدي ـ ـ ـ ـ ـ ـن كنـ ـتـ ـ ـ ـ ـت لقاح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه
ب حمفو ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍة بكتائ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب بكتائـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ ش املضمئـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك نُص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرةً وأمدك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم جي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ
ُجن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد النبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوة ه ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن غال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب؟! جبنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوا الدهلب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـور وقُ ْدتُـ ـ ـ ـ ْم ريـ ـ ـ ـ ـ َح الصب ـــ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا
إىل أن قال:
دون الفريس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة ه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـو عيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن الواثـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب نفس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُوإذا رأيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت اللي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـث جيم ـ ـ ـ ـ ـ ـع َ
الرها بداية ملا بعدها ،وإذا مل يكن من الصعب على عماد الدين زنكي أن يستكم َ مهمته بفتح ابقي وكان تح ُّ
املعاق الصليبية التابعة هلذه اإلمارة ،استغ رصةَ تَعَع أحوال الصليبيني يف املنطقة ،واستطاع أن حيقق قسطاً
كبرياً من برانجمه ،وأن ي َكو َن لنفسه مكانة خاصة يف التاريخ اإلسضممي كسياسي ابرع ،وعسكري متمكن ،ومسلم
و ٍاع .وأدرك اخلطر الذي حاق ابلعامل اإلسضممي من قب الصليبيني ،قد استطاع أن يوجه الظروف التارخيية القائمة
وذلك بتجميعه القوى اإلسضممية بعد القَاء على عوام التجزئة واالنقسام ،وتوحيد املدن ، لصاحل املسلمني َ ،
7
واإلمارات املنفصلة ،يف نطاق دولة واحدة استطاع حبنكته أن يستغ هل أقصى ما ميكن أن تقدمه دولته من إمكاانت يف
سبي حتقيق برانجمه املزدوج ،أي :تشكي اجلبهة اإلسضممية ،وضرب الصليبيني ،ويعترب عماد الدين زنكي أول قائد
سلجوقي قام بتجميع القوى اإلسضممية و ق برانمج معني؛ ليجابه هبا تزايد اخلطر الصلييب الذي مل توق ْفهُ احملاوالت اجلدية
اليت سبقت زنكي وخباصة تلك اليت متت على أيدي ك من مودود بن التونتكني 502هـ 507هـ وإيلغازي وبلك
األرتقيني 518هـ 520هـ.
وقد مهد عماد الدين زنكي الطريق لقادة التحرير من بعده ،لم تكن جهود ابنه نور الدين حممود ،ومن بعده صضمح
الدين األيويب سوى إمتام العم الذي بدأه عماد الدين زنكي ويف نفس الطريق ،وبعد استشهاد عماد الدين توىل
القيادة ابنه البط الفذ واجملاهد الشهري نور الدين حممود الشهيد امللك العادل ،ذكرت يف هذا الكتاب سريتهُ ،وترتيبهُ
أوضاع البيت الزنكي مع أخيه سيف الدين غازي ،واتفاقهم على توحيد الكلمة ،ومناصرة بعَهم البعض ضد األعداء
وتوسعت يف ذكر مفتاح شخصية نور ُ أمري املوص ،ونور الدين حممود أمرياً على حلب ،أصبح سيف الدين غازي َ ،و َ
الدين زنكي ،وشعوره ابملسؤولية ،وحرصه على حترير البضمد من الصليبيني ،وخو ه من حماسبة هللا له ،وشدة إميانه ابهلل
واليوم االخر .وقد كان هذا اإلميان سبباً يف التوازن املدهش واخلضمب يف شخصيته ،قد كان على هم صحيح حلقيقة
اإلسضمم وتعبد هللا بتعاليمه ،ومتيزت شخصيتهُ مبجموعة من الصفات الر يعة ،واألخضمق احلميدة اليت ساعدتهُ على
حتقيق إجنازاته العظيمة واليت من أمهها :اجلدية ،والذكاء املتوقد ،والشعور ابملسؤولية ،والقدرة على مواجهة املشاك
وجتردهُ ، واألحداث ،ونزعتهُ للبناء واإلعمار ،وقوة الشخصية ،وحمبتهُ هلل ،وحمبة الناس لهُ ،واللياقةُ البدنية العالية ُّ ،
وزهدهُ الكبري ،حىت قال الشاعر يه:
وم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـال هبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن األمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوال زه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدا ثنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى يـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـده عـ ـ ـ ـ ـ ـن الدني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا عفا ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـــ ـ ـاً
وقال يه آخر:
ك األب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر ُارهل ـُ ـ ـ ـ ـ ـ ـم وتَطْلُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُع خلف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ ت تقفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـو الصاحلـيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن مسابقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً ال زل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ
رب ونـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـز ُار نف ـ ـ ـ ـ ـ ـس السي ـ ـ ـ ـ ـ ـادة زه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُد ملـ ـ ـ ـ ـ ٍ
يـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه تفان ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت يَعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ ك ـ ـ ـي ال ـ ـ ـ ـ ـذي
وحتدثت عن شجاعته اليت قال الشاعر يها: ُ
دل علـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى القسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاوة لْيـنُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ كا ُّلرم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـح هل تب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدو الشجاعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةُ م ـ ـن طضمق ـ ـ ـة وجهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه
وس ُكونـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه! ووراء يقظت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه أنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاةُ ُجم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـــ ـ ـ ـ ـر ٍ
لل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه سط ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوةُ أبسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ُ ب َ
وقال آخر:
ب خوُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه وعقابـُ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ رج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى ويـُْرَه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ
يُ َ وت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي نرباتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه متهل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ واملـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ
8
أرغب يها .وعندما دخ املوص ،وغادرها بعد عشرين يوماً سألهُ أصحابه: الدين :إمنا حب اجلهاد يسليين عنها ،ما ُ
املقام هبا ،ونر َاك أسرعت العودة؟! نك حتب املوص ،و َ إ َ
يجيب :قد تغري قليب يها إن مل أ ارقها ظلمت ،ومينعين أيَاً أنين ها هنا ال أكون مرابطاً للعدو ،ومضمزماً للجهاد. ُ
يسأل هللا أن حيشرهُ من بطون السباع وحواص الطري!! يتعرض للشهادة ،وكان ُ ُ وكان رمحه هللا
نت لوحات رائعة من عبادته ،قد كان يصلي أكثر الليايل ،ويناجي ربه مقبضمً بوجهه عليه ،ويؤدي الصلوات وبيهل ُ
عز
ظ على اجلماعة ،وكا َن كثري االبتهال إىل هللا ـ هل اخلمس يف أوقاهتا بتمام شرائطها وأركاهنا وركوعها وسجودها وحيا ُ
أوقاف يف كا ة جماالت احلياة االجتماعية وج هل ـ يف أموره كلها ،وقد اشتهر ابإلنفاق الواسع الكرمي العظيم ،وكانت لهُ ٌ
على املساجد ،واملدارس ،واملستشفيات ،واألرام ،واأليتام ...إخل .وقد مدح الشعراء نور الدين على كرمه وجوده قد
قال أحدهم:
ـ ـ ـ ـت ـي سائ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر اآل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاق ه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن معسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر ك املن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـادي ج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوده اي أيهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا امللـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ
ابسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم ابـ ـ ـ ـ ـن أوس واستخصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــُوا البحت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـري اس نَـ هلوه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوات أكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُرم م ـ ـ ـ ـ ـ ـن أنـ ـ ـ ـ ـ ٍ وألن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ
إن تغـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُز تغنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْم أو تقات ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْ تظفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر اب وال ت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـزل
ك الرق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ ت لدولت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ ذل ـ ـ ـ ـ ْ
ومدحه أسامة بن منقذ بقوله:
ب النـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُار ابإليقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاد يهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا تَ ُش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُّ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ عـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـام للربيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة ليلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةٌ
رى ونـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـار جه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاد نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاران :ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُار قـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ً لك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْن لن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـور الدي ـ ـ ـ ـ ـن مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن دون الـ ـ ـ ـ ـ ـ ـورى
الع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُام أمجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُع ليلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةَ املي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمد أبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـداً يصر هـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـداه أبس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه
أهب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن األط ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـواق يف األجيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاد ك لـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ـ ـ ـ ـ ـ ـي كـ ـ ـ ـ ـ جي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍد من ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةٌ َمل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ
وأمدهله ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم كف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً ب ـبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـذل ت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمد وك يـ ـ ـ ـ ـداً وأمنعهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم محـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ًى أعلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى املـ ـ ـ ـ َ
مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن غي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر مسألـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍة وال ميعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاد تربع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً يُعطـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي اجلزيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن الهلن ـ ـ ـ ـــ ـوال ُّ
كيف هلاختذ من عمر بن عبد العزيز منوذجاً يقتدي أشرت إىل أهم معامل التجديد واإلصضمح يف دولة نور الدين حممود ،و َ و ُ
به يف دولته ،قد اقتنع أبمهية التجارب اإلصضمحية يف تقوية وإثراء املشروع النهَوي ،ودورها يف إجياد وصياغة الرؤية
الضمزمة يف هنوض األمة ،وتسلمها القيادة ،للتجارب التارخيية إسهام كبري يف تطوير الدول ،وجتديد معاين اإلميان يف
حرص على معر ة هذه السرية املباركة كي يقتدي هبا يف إدارته للدولة ،ولقد اتت معامل التجديد َ ولذلك
َ األمة ،
مثارها يف الدولة الزنكية ،وكانت أهم معامل التجديد يف دولة نور الدين: واإلصضمح الراشدي يف عهد عمر بن عبد العزيز َ
1ـ احلرص على تطبيق الشريعة :قد جع من مقاليد احلكم يف الدولة أداة مسخرة خلدمة الشريعة ،وتطبيق أحكامها
حبماس منقطع النظري .وقال يف هذا الصدد :وحنن ٍ وقيمها ومبادئها يف واقع احلياة ،ودعا إىل حتكيم الشريعة
مننع عنه ما يناقَهُ وهو األص ؟! حنفظ الطرق من لص وقاطع طريق واألذى احلاص منها قريب أ ضم حنفظ الدين ،و ُ
حنن شحن للشريعة منَي أوامرها! قد جدد امللوك اتباع سنة العدل واإلنصاف ،وترك احملرمات من املأك ، وقالُ :
إن كثرياً من احلكام قبله كانوا كاجلاهلية ،مههلة أحدهم بطنه ،و رجهُ ،ال يعرف واملشرب ،وامللبس ،وغري ذلك ،هل
وقف ضح مع أوامر الشرع ونواهيه وألزم أتباعهُ وذويه ،اقتدى به معرو اً ،وال ينكر منكراً؛ حىت جاءَ هللاُ بدولته َ ،
9
غريه منهم ،واستحيوا أن يظهر عنهم ما كانوا يفعلونه ،قد أصدر أوامرهُ إىل كا ة موظهلفيه على االلتزام أبحكام الشرع
حتت شبه احلرام ،وأز َال ،ومنع ارتكاب الفواحش ،وشرب اخلمور ،أو بيعها يف مجيع بضمده ،وأسق َط ك ما يدخ ُ َ
خالف
َ يند عن حمجة الشريعة البيَاء ،وينحرف إىل بؤر الظضمم .وكا َن يُنزل العقاب السريع العادل بك من ك ما ُّ
أمره ،وك الناس عنده يه سواء .وقد مدحهُ الشعراء ،قال يه ابن منري:
ت هل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي اخلا قـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـ ـن من ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُار ُر عـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْ ك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم سيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرٍة أحييته ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا عمريـهل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍة
أبقلهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا تستعبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد األحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر ُار ونوا ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ صريهت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن لوازم ـ ـ ـ ـ ـ ـــ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً
واللي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ط ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـول القي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـام هنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُار ارك ه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـو ليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ جماه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍد هلأمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا هن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ
أيها األخوة الكرام! اي أبناء اإلسضمم! اي من مهمهم النهوض احلَاري هلذه األمة اجلرحية! علينا ابلسعي الدؤوب يف
جمتمعاتنا ودولنا حىت أتخذ الشريعةُ الغراء مكانتها وحقها من االحرتام والتقدير والتطبيق ،أاثر حتكيم شرع هللا يف
التمكني يف األرض ،واألمن ، ُ تلك االاثر: الشعوب اليت نفذت أوامر هللا ونواهيه ظاهرةٌ بينةٌ لدارس التاريخ ،ومن َ
العز ،والشرف ،وانزواء الرذائ قد رأيناها يف دراستنا لدولة اخللفاء الراشدين ، الفتح املبني ،و ُّ واالستقرار ،والنصر ،و ُ
ودولة عمر بن عبد العزيز ،ودولة يوسف بن اتشفني ،ودولة حممد الفاتح ،وهي من سنن هللا اجلارية يف األرض واليت
أي قيادة مسلمة تسعى هلذا املطلب اجللي ،والعم العظيم خملصة هلل يف قصدها ،مستوعبة ال تتبدل ،وال تتغري ُّ ،
لسنن هللا يف األرض؛ إهنا تص إليه ولو بعد حني ،وترى ااثر التحكيم على أ رادها ،وجمتمعاهتا ،ودوهلا ،وحكامها
ذلك يف سرية نور الدين حممود وعصره إبذن هللا تعاىل.
،كما سنرى َ
إن التو يقات الرابنية العظيمة يف اتريخ أمتنا جيريها هللا تعاىل على يدي من أخلص لربه ودينه ،وأقام شرعهُ ،وقصد
ُ َ ِيما َش َ ََ ََ َ َ ُۡ ُ َ
ون َح ذَّت ُُيَك ُِم َ
ج َر بَيۡ َن ُه ۡم ث ذم َل وك ف َ رضاهُ ،وجعلهُ وق ك اعتبار قال تعاىل ﴿:فل وربِك َل يؤمِن
ََي ُدوا ْ ٓ َ ُ ۡ َ َ ٗ ذ َ َ ۡ َ َ ُ َ ُ ْ َ ۡ ٗ
ِف أنفسِ ِهم حرجا مِما قضيت ويسل ِموا تسل ِيما [ ﴾ ٦٥النساء . ]65 : ِ ِ
وقال الشاعر أمحد ر يق املهدوي اللييب:
ب الفتهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاح
ظهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرـ ـ ـت عليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه مواهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ ب الل ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ ابطـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َن عبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـده ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـإذا أحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هل
اد عليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاألرواح
م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َال العبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ ت للـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةُ مصل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍحوإذا صفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْ
2ـ ومن معامل التجديد بناء دولة العقيدة على منهج أه السنة اجلماعة :قد جع من العقيدة اإلسضممية الصحيحة
العمود الفقري لدولته ،وكان رمحه هللا ميلك رؤية هنوض قائمة على إحياء السنة ،وقمع البدعة ،قال عنه ابن كثري:
حي على الفضمح ،ومل يكن يؤذن حبي على الصضمة ،هل «أظهر نور الدين ببضمده السنة ،وأمات البدعة ،وأمر ابلتأذين هل
حبي على خري العم ؛ ألن شعار الر ض كان ظاهراً»((.))1 هبما يف دوليت أبيه وجده ،وإمنا كان يؤذن هل
يتحرى سنة النيب يف أموره كلها ،ومن أعظم إجنازات دولته إسقاط الدولة الفاطمية مبصر ،وكان وكان نور الدين هل
الفَ ُ هلل مث للحمضمت املتوالية اليت أرسلها نور الدين حممود حىت خلهلص املسلمني من شرورها ،وأعلن تبعية مصر
أي نور الدين يف الدولة الفاطمية العبيدية يتلخص يف رسالته للخليفة العباسي ،وهو للخضم ة العباسية السنيهلة ،وكان ر ُ
10
يبشره بفتح مصر ،وسقوط دولة اإلحلاد ،والر ض ،والبدع(( ))1ويقول يها« :وطاملا بقيت مئتني ومثانني سنة مملوءة
اجتمع يها داءان :الكفر ،والبدعة ،ومتكنهلا من إزالة اإلحلاد
حبزب الشياطني ...حىت أذن هللا لغمتها ابالنفراج ،و َ
والر ض ،ومن إقامة الفرض»(( .))2وسريى القارئ الكرمي إبذن هللا قه نور الدين يف إزالة الدولة الفاطمية يف هذا
الكتاب.
هلاه ْم يف مدارس الدولة النورية ،و تح هلم األبواب لدعم املذهباستفاد نور الدين من خرجيي املدارس النظامية ،وتبن ُ
السين ،ومناهَة الفكر الشيعي الرا َي ،وصبغ الدولة ابلكتاب والسنة ،ووضع مشروعاً كرايً ثقا ياً عقائدايً تربوايً
تعليمياً ،استهدف به رعااي دولته ،ومل يفرق بني علماء الشا عية ،واألحناف ،واحلنابلة واملالكية ،وأه احلديث،
وحترك هبم من خضمل جبهة عريَة تنَوي حتت راية أه السنة التصوف السين ،وغريهم من أبناء األمةَ ، وشيوخ ُّ
حترك نور الدين يف مشروعه االنف الذكر من خضمل مؤسسات واجلماعة يف مقاومة األخطار الشيعية الرا َية .وقد َ
الربُط ،وأخذ بكا ة األسباب املادية واملعنوية املعينة على حتقيق اهلدف
اجملتمع املدين ،كالكتاتيب ،واملدارس ،واملساجد ،و ُّ
املنشود من صبغ الدولة النورية ورعااي الدولة من املسلمني ابلكتاب والسنة ،وقد أمثرت جهوده يف بضمد الشام ،وعلى
تسابق أمراؤه ،وأعيان دولته ،وخلفاؤه من بعده على إنشاء املؤسسات العلمية؛ حىت غدت سبي املثال يف حلب قد َ
السنيهلة بعد أن كانت وكراً من أوكار الشيعة اإلمامية ،واإلمساعيلية. حلب بعد رتة يسرية نسبياً مركزاً من مراكز الثقا ة ُّ
ومخسني مدرسةً موزعة بني َ وقد أحصى املؤرخ عز الدين بن شداد ت 684هـ مدارس حلب يف أايمه ،وجدها أربعاً
املذاهب الفقهية األربعة ،منها :إحدى وعشرون للشا عية ،واثنتان وعشرون للحنفية ،وثضمث للمالكية واحلنابلة ،
وثضمثني مقراً للصو ية .وقد أتت هذه املؤسسات العلمية مثارها املرجوة؛ َ ومثاين دور للحديث الشريف ابإلضا ة إىل إحدى
إذ انقرض املذهب اإلمساعيلي الباطين يف حلب يف حدود عام 600هـ ،وأخفى الشيعة اإلمامية معتقداهتم
حىت انتهى هبم األمر إىل أن أخذوا يتنكرون ،وأب عال السنة يتظاهرون ،وهذا بفَ هللا مث جهود املصلح الكبري نور
الدين وخلفائه الذين اقتدوا به يف اإلكثار من املدارس السنية ،وتعيني األساتذة األكفاء هلا ،واإلنفاق عليها بسخاء
يدل على أمهية الرتبية العقيدية ، اجع التشيع يف هذه املدينة وأصبحت السيادة يها ملذهب أه السنة ،وهذا ُّ حىت تر َ
والفكرية ،والثقا ية يف التمكني لإلسضمم الصحيح يف نفوس الناس.
انتفع
َ أن جهودهُ جاءت اتلية جلهود املدارس النظامية ، ومما ساعد نور الدين حممود على حتقيق برانجمه اإلصضمحي :هل
السين ،واالنتصار له. مبا حققته من نتائج ،ويف مقدمتها ختريج جي حيم على عاتقه مهمة الدعوة للمذهب ُّ
3ـ ومن معامل التجديد يف دولة نور الدين حرصه على إقامة العدل :قد كان قدوة يف عدله ،أسر القلوب ،وهبر
ذلك على صعيد الواقع والتطبيق جناحاً العقول ،قد كانت سياستهُ تقوم على العدل الشام بني الناس ،وقد جنح يف َ
ذلك قد قال العماد األصفهاين يف عدله: ق هل نظريهُ حىت اقرتن امسهُ ابلعدل ومسي ابمللك العادل ،ومدحه الشعراء على َ
ود م ـ ـ ـ ـ ـع املهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـامـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن عدلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه رعـ ـ ـ ـ ـ ـت األسـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ اي حميـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي الع ـ ـ ـ ـ ـ ـدل ال ـ ـ ـ ـ ـذي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ظلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه
َ
الزمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـــ ـا ُن وقَـ ْه َقه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا
ك هل لبهائه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ضح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ ود م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن أايمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه
ود احملمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ
حممـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ
11
4ـ ومن معامل التجديد يف دولة نور الدين اهتمامهُ ابلعلماء :قد تح مؤسسات الدولة لضمستفادة منهم ،قدهلمهم
شارك العلماء معه يف اجلهاد ضد وشجع املتميزين منهم إىل اهلجرة لدولته وقد َ وبذل هلم العطاء ،هل على األمراء َ ،
الصليبيني ابلكلمة والسيف والتأليف والوعظ ،كما سنرى يف هذا الكتاب إبذن هللا.
طور نور الدين النظام اإلداري لدولته ،وحرص على صبغته لدولته ،وحرص على صبغته ابلصبغة اإلسضممية، هذا وقد هل
اعتمد يف إدارته للشورى ،وابتعد عن االنفراد ابلقرار بشك كبري ،وقدم املصلحة العامة على االنفعاالت ،وكان و َ
مثاالً رائعاً يف الزهد ،والتعفف ،وبذل املال يف الصاحل العام ،وحرص على تو ري األمن للرعية ،وضمن هلم احلرايت العامة
ردت مبحثاً عن النظام االقتصادي ،واخلدمات االجتماعية ،بينت ،كحرية الرأي ،واحملا ظة على كرامة الفرد .وأ ُ
مصادر دخ دولة نور الدين ،كنظام اإلقطاع احلريب ،والزكاة ،واخلراج ،واجلزية ،والغنائم ،و داء األسرى ،واألموال
العظيمة اليت خلفها أبوه عماد الدين ،وأثر األمانة الكبرية اليت متيهلز هبا نور الدين ،وحكومته الرشيدة على خزانة الدولة
،وأثر األمن واالستقرار على انتعاش احلركة التجارية ،ومسامهة األثرايء ،واملعاهدات ،واالتفاقات اليت ألزم هبا اخلصوم
لد ع أمو ٍال للدولة الزنكية .وحتدثت عن دعم اخلليفة العباسي للدولة الزنكية .وأثر السياسة الزراعية ،والصناعية ،والتجارية
اهتم نور الدين ابلشرائح املنتجة كالفضمحني ،وأصحاب األموال كالتُّجار ،قد حرص على يف تقوية اقتصاد الدولة ،و هل
إرضاء كبار التجار من أج أن يستمر استثمارهم ألمواهلم يف عمليات جتارية على أرض دولته على حنو يدعم اقتصادايت
الدولة ،ويدر األموال الطائلة على ميزانيتها من عوائد املكوس الشرعية ال أن تذهب إىل خارجها ،يف وقت تصارعت
يه مع القوى اإلسضممية والصليبية اجملاورة .وقد وجد كبار التجار من نور الدين قوة مهيئة لنشاطهم التجاري أكثر من
ذي قب .وعندما دخ نور الدين مدينة دمشق حرص أشد احلرص على االجتماع مع كبار التجار الدماشقة من أج
بعث الطمأنينة يف نفوسهم ،ولتوضيح معامل سياسته االقتصادية املرتقبة ،وقد استفاد التجار من ُه َدن الدولة النورية مع
مملكة بيت املقدس الصليبية يف صفقاهتم التجارية.
وكان من سياسة نور الدين ا القتصادية واملؤيدة ابلشرع اإلسضممي إلغاء الَرائب ،وأخذ نور الدين يف تنفيذ هذه
يصدر األوامر ويعمم الكتب ،واملناشري إبسقاط حشود الَرائب ُ السياسة من ُذ رتة مبكرة ،وكان حيناً بعد حني
«الضمشرعية» اليت كانت أتخذ خبناق املواطنني من جراء سياسات االبتزاز اليت اعتمدها احلكام واألمراء الذين عاصروه،
ذلك
أيمر إبلغائها ،وهدد من ال يطبق َ ٍ
وكانت شعبيته تزداد ابطراد عجيب يف خط متواز مع مقادير الَرائب اليت كان ُ
من املسؤولني :ومن أزاهلا زلهلت قدمه ،ومن أحلهلها ح هل دمه ،ومن قرأه ،أو قرأ عليه ليمتث ما أمران به ،وليمَه مرضياً
لذلك أن نشط الناس للعم ،أخرج التجار أمواهلم ،ومَوا يتاجرون ، لربه ممَياً ملا أمر به .وكانت النتيجةُ الطبيعيةُ َ
وجاءت اجلباايت الشرعية أبضعاف ما كان جييءُ من وجوه احلرام .وسعى نور الدين حممود إىل تقدمي أوسع اخلدمات
ت لتغطية شىت احلاجات ابتداءً من االجتماعية لشعبه ،وجع مؤسسات الدولة أدوات صاحلة يف خدمة اجلماهري َوس َع ْ
قَااي املسكن ،وامللبس ،واملأك ،وانتهاء بقَااي الروح ،ومروراً ابحلاجات الفكرية ،والصحية ،والعمرانية ،
واإلنتاجية ،وقد أخذت هذه اخلدمات أساليب وأشكاالً خمتلفة ،هي حيناً أتيت عن طريق التوزيع املباشر للمال ،
وحيناً عن طريق (اإلعانة) على تلبية حاجة معينة والفكاك من األسر ،وحيناً اثلثاً عن طريق إنشاء مؤسسات ومرا ق
الربُط ،واجلسور ،والقناطر ،كاملستشفيات ،واملضمجىء ،ودور األيتام ،واملدارس ،ودور احلديث ،واخلاانت ،و ُّ
12
والقنوات ،واألسواق ،واحلمامات ،والطرق العامة ،واملخا ر ،واخلنادق ،واألسوار ،وحيناً رابعاً جتيء عن طريق نظم
(الوقف) اليت شهدت يف عصر نور الدين قمة نَجها وتنظيمها وازدهارها ،وحيناً مخساً عن طريق عدد من اإلجراءات
لقطاع ما من قطاعات األمة.
التنظيمية اليت استهد ت حتقيق الَمان االجتماعي ٍ
أن انتصارات نور الدين ،وصضمح الدين سامهت يها عوام متعددة؛ وقد الحظت يف دراسيت لفرتة احلروب الصليبية :هل
منها على مستوى اخلضم ة نفسها ،ومنها على املستوى الشعيب ،ومنها على مستوى الوزارة ،قد أخذت مؤسسة
كذلك الوزارة العباسية يف عهد حيىي
اخلضم ة تسرتد صضمحياهتا وتقوى على ما كانت عليه يف العهد السلجوقي األول ،و َ
بن هبرية الوزير الصاحل ،والعامل الرابين .وكان الشيخ عبد القادر اجليضمين من زعماء الدعوة الشعبية واإلصضمح العام يف
عامة اجلماهري متعطشة إىل شخصية روحية ر يعة ،تكو ُن على تواص ابلشعب عاصمة اخلضم ة العباسية ،قد كانت هل
وطبقاته ومجاهريه ،وتؤثر يف اجملتمع بدعوهتا ومواعظها وتزكيتها ،وتوقظ يف النفوس اإلميان ،وحتيي قه القدوم على هللا،
اهلمة ،وبذل اجلهد يف احلصول على علم هللا الصحيح
وعلو هلوحترك يف القلوب احلب هلل واحلنني إليه ،وحتث على الطموح ُ
وعبادته وني رضوانه واملسابقة إىل سبيله وتدعو إىل التوحيد الكام والدين اخلالص .ولقد كان هذا املصلح الكبري يف
شخص الشيخ عبد القادر اجليضمين ،واستطاع أن يؤسس مدرسة سامهت مع الزنكيني يف حتم املسؤولية ،ومواجهة
التحدايت العقائدية ،والفكرية ،واالقتصادية ،واالجتماعية ،وسامهت يف إعداد جي املواجهة للخطر الصلييب يف
البضمد الشامية .وقد استفاد عبد القادر اجليضمين من جهود من سبقوه وتعاليمهم وخصوصاً اإلمام الغزايل الذي قام بدور
وحول تلك التعاليم إىل مناهج مبسطة يفهمها العامة وطضمب العلم والعلماء ، عظيم يف اتريخ اإلصضمح والتجديد ،هل
قد وضع الشيخ عبد القادر منهجاً متكامضمً يستهدف إعداد
الطلبة واملريدين روحياً واجتماعياً ،ويؤهلهم حلم رسالة األمر ابملعروف والنهي عن املنكر ،وتو ر هلذا املنهج رص
التطبيق العملي يف الرابط املعروف ابسم الشيخ عبد القادر حيث كانت جتري التطبيقات الرتبوية ،والدروس واملمارسات
الصو ية ويقيم الطلبة واملريدون ،التحلي الدقيق للنظام الرتبوي الذي طبقه الشيخ عبد القادر اجليضمين يكشف عن
أتثري كبري ابملنهاج الذي اقرتحه الغزايل((.))1
وتعترب تعاليم الشيخ عبد القادر ومدرستهُ ذات أثر ملموس ساهم يف هنوض األمة يف عهد الزنكيني ،واأليوبيني ،كان
الشيخ عبد القادر على أصول منهج أه السنة يف األصول والفروع ،وكانت له جهود مشكورة يف التصدي للمذهب
الشيعي الرا َي ،وإعداد األمة للجهاد ضد الصليبيني الغزاة .وقد أثىن ابن تيمية على الشيخ عبد القادر ،واعتربه من
أئمة الصو ية واملشايخ املشهورين الذين كانوا على الصراط املستقيم ،وإنهُ من أعظم الناس لزوماً لألمر والنهي وشهد
لهُ أبنهُ من الشيوخ الكبار(( ،))2مث شهد لهُ أنه من أعظم مشايخ زمانه يف األمر ابلتمسك ابلشريعة الغراء ابلتزام الشرع
واألمر والنهي وتقدميه على الذوق ،ومن أعظم املشايخ أمراً برتك اهلوى واإلرادة النفسية((.))3
13
حتدثت عن سياسة نور الدين اخلارجية وعضمقته مع اخلليفة املقتفي ألمر هللا والوزير حيىي
ُ ويف الفص األخري من الكتاب
تكلمت عن جهود نور الدين وأخيه سيف الدين يف التصدي ُ بن هبرية واخلليفة املستنجد ابهلل مث املستَيء ابهلل ،و
للحملة الصليبية الثانية ومحايته لدمشق من الغزاة وأهم نتائج تلك احلملة ،وعن سياسته يف ضم دمشق ،وكيف تعام
مع القوى اإلسضممية واألسر احلاكمة يف بضمد الشام واجلزيرة واألانضول ،وعن سياسته جتاه القوى املسيحية ،وعضمقته
الرها ،وأنطاكية ،وطرابلس ،وعن املعارك اليت خاضها ،واحلصون اليت تحها ،وعن مع مملكة بيت املقدس ،وإمارة ُّ
عضمقته ابإلمرباطورية البيزنطية ،واستخدامه لفقه السياسة الشرعية يف زعزعة احللف البيزنطي مع مملكة بيت املقدس ،
وأنطاكية ضده ،وحىت ال جيع دولتهُ بني عدوين :الصليبيني يف اجلنوب ،والبيزنطيني يف الشمال ،واستطاعت
دبلوماسية الدولة النورية أن تص إىل صلح مع الدولة البيزنطية ،ومعلوم :أن البيزنطيني كان هلم ابعهم الطوي يف شأن
احلال ابلنسبة للدولة النورية اليت اتصلت دبلوماسياً ابلعباسيني ،والفاطميني ،ومملكة بيت املقدس
كذلك ُ
الدبلوماسية ،و َ
الصليبية؛ أي :بكا ة القوى الكربى يف املنطقة سواء اإلسضممية أو املسيحية .واملضمحظة املهمة يف قه نور الدين جهده
الكبري يف املفاوضات مع االستعداد العظيم حلشد اجليوش واستنفار األمة للتصدي ،ولقد استطاعت املهارة السياسية
الزنكية أن تدق أسفيناً بني التحالف البيزنطي والصليبيني ،وهذا مل أيت بدون د ع مثن ،وإمنا لتنازالت غري عادية ،
قد اختذ نور الدين خطوة يصعب تقييمها إال بوصفها من قبي القرارات الصعبة املصريية ،إنهُ واز َن بني اإلطاحة
مبشروعه الكبري على يد احلملة الصليبية البيزنطية ،وبني الوقوف ضد سضمجقة الروم ،اختار اخليار األخري ،علماً أبن
سضمجقة الروم يف تلك املرحلة كانوا كالدولة املستقلة ،ومل
تندمج يف مشروع نور الدين ،ب كانت تعتدي على حلفاء الدولة الزنكية وأمضمكهم ،واستطاع نور الدين إيقاف احلملة
بعد عقد معاهدة بني الدولة النورية واإلمرباطورية البيزنطية ،وكان من أعظم النتائج اليت ترتبت على هذه اخلطوة حفظ
املشروع اإلسضممي النوري من التصدع ،أو الَعف ،أو الزوال ،وما كان للدبلوماسية النورية أن تنجح لوال هللا مث
مساندهتا بقوة عسكرية ضاربة استطاعت مواجهة التحالف العسكري البيزنطي ،الصلييب ومعه األرمن يف معركة حارم
عام 559هـ1164/م.
إن مقاومة الغزاة حتتاج ملشروع هنَوي على أصول اإلسضمم الصحيح :من عقيدة سليمة ،ومرجعية واضحة تعتمد هل
على كتاب هللا وسنة رسوله صلى هللا عليه وسلم وهدي اخللفاء الراشدين ،وهلا القدرة على استيعاب طاقات األمة ،
ذلك املشروع قيادة رابنية واعية تستطيع أن تستفيد من إمكانيات األمة ،وتستوعب قه املبادرة كي تفجر وعلى رأس َ
طاقاهتا وتوجهها حنو التكام لتحقيق اخلري والغاايت املنشودة ،يأيت دور القيادة لرتبط بني اخليوط ،واخلطوط ،
والتنسيق بني املواهب والطاقات ،وتتجه هبا حنو خري األمة ور عتها و ق رؤية هنوض شاملة تتحدى ك العوائق ،وتسد
ك الثغرات اليت حتتاجها األمة يف النهوض ،وتبث روح األم والتفاؤل بني الناس ،وحتَهم على التمسك بعقيدهتم
وقيمهم ومبادئهم ،والرت ع عن حطام الدنيا وإحياء معاين التَحية وشحذ اهلمم ،وتقوية العزائم ،يف نفوس النخب
واجلمهور العريض يف األمة ،وأتخذ هبا رويداً حنو األهداف املرسومة ملشروع النهوض ،وعلينا أن نتذكر قول هللا تعاىل:
14
َ ُ ُ ْ ََُۡ َ َ ذ ُ ۡ ََُۡ َ َ َ ََُۡ َ َ َۡ ُ َ َ ذ َ َ َۡ ُ َ
ونۗۡ َو َ َن ذ ُ
ٱَّلل َعل ِيماً ﴿ إِن تكونوا تألمون فإِنهم يألمون كما تألمونَۖ وترجون مِن ٱَّللِ ما َل يرج
َحك ً
ِيما [ ﴾١٠٤النساء . ]104 :
هذا وقد حتدثت عن التفكري االسرتاتيجي عند نور الدين ،وأمهية صضمح أُويل األمر يف جناح املشروع املقاوم للتغلغ
الباطين ،والغزو الصلييب ،وعن االسرتاتيجية العسكرية لنور الدين ،كالرتكيز على النوعية والفاعلية ،والتعبئة العامة لألمة
،وإهناك العدو ،واستنزاف قواته ،وتطبيق نور الدين ملبادىء احلرب األساسية ،كتحديد اهلدف ،والعم التعرضي ،
التقرب غري املباشر ،
والقدرة على احلشد واملناورة ،ووحدة القيادة ،وعنصر املفاجأة ،ودور االستخبارات ،ومبدأ ُّ
واستخدامه للحرب النفسية يف ر ع معنوايت األمة ،وإضعاف مهم العدو.
ردت املبحث األخري عن قه نور الدين يف التعام مع الدولة الفاطمية ،وضحت جذور الشيعة اإلمساعيلية ،ونشأة وأ ُ
الدولة الفاطمية ،وتكلمت عن جرائمها يف الشمال اإل ريقي ،كغلو بعض دعاهتم كعبيد هللا املهدي ،وتسلطهم
وظلمهم وحترميهم اإل تاء على مذهب اإلمام مالك ،وإبطال بعض السنن املتواترة واملشهورة ،ومنع التجمعات ،وإتضمف
مصنفات أه السنة ،ومنع علماء أه السنة من التدريس ،وتعطي الشرائع ،وإسقاط الفرائض ،وإزالة ااثر خلفاء
السن ة ،ودخول خيوهلم املساجد .وحتدثت عن أساليب أهايل الشمال اإل ريقي يف مقاومة الفكر البدعي الشيعي
الرا َي املنحرف عن الكتاب والسنة ،كاملقاومة السلبية ،واملقاومة اجلدلية ،واملقاومة املسلحة ،واملقاومة عرب التأليف
أشرت إىل انتقال املعز لدين هللا الفاطمي من الشمال
،ومقاومة شعراء أه السنة ،و ُ
اإل ريقي ،ودخوله مصر لكي يتخلص من املقاومة ،والثورات العنيفة اليت قادها علماء أه السنة يف الشمال اإل ريقي
ملدة مخس عقود متتالية را َني املذهب الشيعي الرا َي اإلمساعيلي الباطين ،معلنني عقائد اإلسضمم الصحيح ،
استفاد املعز لدين هللا الفاطمي من ضعف احلكم األخشيدي التابع للدولة العباسية ،رمى بسهامه املسمومة ،ود ع
أي عناء يف ضمها ألمضمك العبيديني.
إليها جيوشهُ احملمومة بقيادة جوهر الصقلي سنة 358هـ الذي مل جيد هل
وجوهر الصقلي هذا هو الذي بىن األزهر الذي مت بناؤه سنة 361هـ ليكون حمَناً إلعداد دعاة املذهب الشيعي
الرا َي اإلمساعيلي ،وبعد االنتقال إىل مصر بدأت املقاومة السنية يف الشمال اإل ريقي تقوى مع مرور الزمن؛ حىت
استطاع املعز بن ابديس الصنهاجي يف 435هـ عندما توىل احلكم أن يطهر الشمال اإل ريقي من الشيعة الرا َة ،
وبدأ يف محضمت تطهري للمعتقدات الباطنيهلة ،وملن يطعن ،ويسب أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وأوعز
للعامة وجنوده بقت من يظهر الشتم ،والسب أليب بكر ،وعمر ـ رضي هللا عنهما ـ سارع أه السنة يف الشمال
اإل ريقي للتخلص من الشيعة الرا َة اإلمساعيلية ،وتصفيته من املعتقدات الفاسدة يف ملحمة من مضمحم الصراع بني
احلق والباط ،واهلدى والَضمل.
أشرت إىل جهود السضمجقة يف محاية العراق ،وبضمد الشام من التشيع الرا َي ،ودور املدارس النظامية يف اإلحياء
و ُ
بينت
السين ،وتقليص املد الشيعي الرا َي ،وإعداد الكوادر الضمزمة لقيادة حركة املقاومة ضد الغزاة الصليبيني .و ُ
ذلك على يدي صضمح الدين جهود نور الدين السياسية ،والعسكرية ،والفكرية للقَاء على الدولة الفاطمية ،وقد متهل َ
15
تدر َج يف إلغاء اخلضم ة الفاطمية و ق رؤية اسرتاتيجية وضعها القاضي الفاض ابلتعاون مع القيادة النورية وقد متهل
الذي هل
بياهنا يف هذا الكتاب.
إن من الدروس املهمة يف هذا الكتاب معر ة املشاريع املتصارعة يف عهد الزنكيني ،قد كانت ثضمثة تتطاحن على قدم
وساق؛ وهي املشروع الصلييب الذي تتزعمه الكنيسة من عهد أورابن الثاين ،واملشروع الشيعي الرا َي بقيادة الدولة
الفاطمية مبصر ،واملشروع اإلسضممي الصحيح وحام لوائه نور الدين زنكي.
احملاور اليت سار عليها أه السنة دولة وشعباً ،تعمق اهلوية العقائدية السنية ،واإلحياء اإلسضممي الصحيح يف
كانت ُ
نفوس األمة ،والتصدي لشبهات املذهب الشيعي ،وإعداد األمة ملقاومة الصليبيني ،وكانت احملاور متداخلة من حيث
أن حترير بيت املقدس ،والقَاء على الصليبيني يف معركة حطني مل يتم إال بعد القَاء على الدولة الفاطمية السري إال هل
سياسياً ،وعسكرايً ،وقد سبقها االنتصارات العقائدية والفكرية والثقا ية والتارخيية واحلَارية للمذهب السين.
إن الذين استط اعوا حترير بيت املقدس ،وانتزاع املدن والقضمع واحلصون من الصليبيني هم الذين متيزوا مبشروعهم
اإلسضممي الصحيح ،وعر وا خطر املشاريع الباطنية الدخيلة تصدوا هلا بك حزم وعزم.
وعلى ك من يتصدى لقيادة األمة يف املواقف السياسية والتصرحيات اإلعضممية عليه أن يدرس كتاب ربه ،وسنة نبيه،
وهدى اخلضم ة الراشدة ،وحركة التاريخ اإلسضممي ،وحقيقة الصراع بني هذه املشاريع املتباينة؛ كي يسامهوا يف توعية
األمة ،وإزالة اجله عنها ،ومعر ة أعدائها.
بد أن حترك ذاكرهتا التارخيية لتستخلص منها الدروس والعرب والسنن يف حاضرها إن أية أمة تريد أن تنهض من كبوهتا ال هل
وتستشرف مستقبلها ،وتوجد الكتب النا عة يف هذا اجملال وهذا من الَرورات يف عامل الصراع واحلوار واجلدال والدعوة
مع اليهود والنصارى واملضمحدة والعلمانيني واملبتدعة...إخل وهذا يدخ ضمن سنة التدا ع يف األ كار ،والعقائد ،
والثقا ات ،واملناهج ،وهي تسبق التدا ع السياسي والعسكري ،أي برانمج سياسي توسعي طموح حيتاج لعقائد ،
وأ كار وثقا ة تد عه ،احلرف هو الذي يلد السيف ،واللسان هو الذي يلد السنان ،والكتب هي تلد الكتائب.
إن جتربة نور الدين حممود ثرية ،وهي جتيب عن الكثري من األسئلة املطروحة على الساحة القطرية واإلقليمية والعاملية ،
وهذه التجربة أتيت شاهداً اترخيياً مقنعاً ،متاماً كما كانت جتربة عمر بن عبد العزيز من قبله على أن اإلسضمم قدير يف
أية حلظة تتو ر يها النية املخلصة ،واإلميان الصادق ،وااللتزام املسؤول والذكاء الواعي على إعادة دوره احلَاري
والقيادي وإخراج الناس من ضيق الدنيا إىل سعتها ،ومن جور األداين إىل عدل اإلسضمم.
كنت ممن تتلمذ على كنت طالباً ابملدينة املنورة ،حيث إنين ُ
هذا وقد كانت عضمقيت الروحية مع نور الدين حممود من ُذ ُ
أشرطة الشيخ الدكتور سفر احلوايل شفاه هللا من ك سوء ،ومن ضمنها كان احلديث عن نور الدين حممود الشهيد يف
شريطني ،تعلقت بسرية هذا القائد الفذ ،وقد حث الشيخ يف حماضرته طضمب العلم والعلماء على كتابة سريته والبحث
يها ومن هناك كانت نقطة البداية ،ويف إحدى زايرايت للمدينة النبوية بعد خترجي زرت أستاذان وشيخنا الدكتور حيىي
إبراهيم اليحىي ،وحدثين عن نور الدين حممود ،وطلب مين أن أحبث يف سريته ،إهنا تستحق الدراسة على حد قوله
ازدت قناعةً ابملوضوع إال أن انشغايل ابلسرية ،واتريخ صدر اإلسضمم ،ومرحلة الدراسات العليا منعين من حتقيق ،و ُ
16
هذا اهلدف النبي الذي مل يغب عن ذاكريت ،ووجداين ،وأصبح من ضمن أهدايف الرئيسية يف احلياة ،ودخ يف أورادي
،ودعوايت أبن يو قين هللا لتحقيقه.
وعندما أقمت ابليمن السعيد احلبيب ،كان من ضمن شيوخي الذين طلبوا مين الكتابة يف مرحلة احلروب الصليبية
استفدت منهُ كثرياً يف عهد اخلضم ة الراشدة ،وال أنسى أبداً شيخي ،وأستاذي
ُ الشيخ الدكتور عبد الكرمي زيدان ،الذي
ايسني عبد العزيز اليماين الذي تح يل بيته للحوار والنقاش ،وأعطاين من وقته الثمني الساعات الطوال ،ويف زايريت
ط حقها للشيخ الدكتور القرضاوي حثين على الكتابة يف سرية نور الدين حممود ،واعتربها من الشخصيات اليت مل تُـ ْع َ
يف التاريخ.
وأما شيخي وأستاذي الدكتور سلمان العودة قد قال يل« :اندراً ما تتاح الفرصة للبحث يف القَااي التارخيية مث ما
عليك ابإلخضمص هلل ،وأن تتقيه يما تكتب» وعندما قرأ خطيت يف إعادة كتابة التاريخ ،شجعين على لك َ ، أتيحت َ
استفدت من حوارايت ومناقشيت معه يف األمور التارخيية والفكرية ،وكان يستقبلها بسعة صدر وبك
ُ املَي يها ،وقد
أرحيية كعادة الشيخ مع طضمبه وتضمميذه .كما أن ألحداث العراق أتثرياً مباشراً على هذه الكتاابت ،وهذا جهد مق ٌّ
أساهم به مع إخواين يف معركة املصري ،مع االعرتاف ابلتقصري يف حقهم وهلم مين الدعاءُ يف ظهر الغيب ابلسداد
والتو يق ،وحترير بضمد الرا دين من الغزاة احملتلني ومن األخطار الداخلية واخلارجية ،وعلينا أن نستلهم من سرية نور
الدين حممود الشهيد الدروس والعرب يف حياتنا املعاصرة وكيف خنطط لتحرير بيت املقدس من أيدي اليهود الغاصبني.
انتهيت من هذا الكتاب يوم األربعاء الساعة الثانية عشرة ،ومثاين دقائق من اتريخ 20شعبان 1427هـ ُ هذا وقد
املوا ق 2006/9/13والفَ هلل من قب ومن بعد ،وأسألهُ سبحانهُ وتعاىل أبمسائه احلسىن وصفاته العلى أن جيع
عملي لوجهه خالصاً ،ولعباده ان عاً ،ويشرح صدور العباد لضمنتفاع به ويبارك يه مبنه ،وكرمه ،وأن يثيبين على ك
حرف كتبته ،وجيعلهُ يف ميزان حسنايت ،وأن يثيب إخواين الذين أعانوين بك ما ميلكون من أج إمتام هذا اجلهد
املتواضع ،ونرجو من ك مسلم يصله هذا الكتاب أن ال ينسى العبد الفقري إىل عفو ربه ومغفرته ورمحته ورضوانه من
َ َ ۡ ۡ ٓ َ ۡ َ ۡ ُ َ ۡ َ َ َ ذ ٓ َ ۡ َ ۡ َ َ َذ َ َ َ َ َ ذ َ َ ۡ َ ۡ َ َ َ ٗ َ ۡ َ ُ َ َ ۡ ۡ
خل ِن ب أوزِع ِن أن أشكر ن ِعمتك ٱل َِّت أنعمت لَع ولَع و ِِلي وأن أعمل َٰل ِٗا ترضىه وأد ِ دعائه ﴿ر ِ
ٱلصل َك ِف ع َِباد َِك ذ َۡ َ
ِٗني ﴾[ ١النساء ]19: ِ ب ِ َرۡحت ِ ِ
َ َ ۡ ََ َ َ ذَۡ ََ وقال تعاىل ﴿ :ذما َي ۡف َتحِ ذ ُ
ۡح ٖة فل ُم ۡمسِ ك ل َها َۖ َو َما ُي ۡمسِ ك فل ُم ۡرَِل َُلۥ ِم َۢن َب ۡع ِدِه ِۦاس مِن ر ٱَّلل ل ذِلن ِ
يز ۡ َ ُ
ٱۡلكِيم [ ﴾ ٢اطر ]2 :
َو ُه َو ٱلۡ َعز ُ
ِ
أنت أستغفرك وحبمدك أشهد أن ال إله إال َ
َ سبحانك اللهم
َ وصلى هللاُ على سيدان حممد ،وعلى آله وصحبه وسلم ،
وأتوب إليك.
وآخر دعواان أن احلم ُد هلل رب العاملني
الفقري إىل عفو ربه ومغفرته
ورمحته ورضوانه
الصالَّيب
علي حممد حممد َّ
17
اإلخوة الكرام يسرين أن تص مضمحظاتكم وانطباعاتكم حول هذا الكتاب وغريه من كتيب من خضمل دور النشر ،
وأطلب من إخواين الدعاء يف ظهر الغيب ابإلخضمص هلل رب العاملني والصواب للوصول للحقائق ،ومواصلة املسرية يف
خدمة اتريخ أمتنا.
http://www.alsallabi.com
يف هناية الكتاب أضفت اخلضمصة اليت وصلت إليها من دراسيت لعهد السضمجقة والزنكيني.
18
األول
الفصل َّ
ظهور عماد ِّ
الدين زنكي
على مسرح األحداث
19
الزنكيَّـة
املبحث األول :أصـول األسـرة َّ
ينتمي عماد الدين آق سنقر بن عبد هللا آل ترغان إىل قبائ (السبايو) الرتكمانية وقد حظي والدهُ أبو سعيد اق سنقرـ
امللقب بقسيم الدولة ،واملعروف ابحلاجب(( ))1ـ ابهتمام املؤرخني بسبب الدور الذي لعبه على مسرح األحداث السياسية
،والعسكرية للدولة السلجوقية(( ،))2وكان آق سنقر من أصحاب السلطان ملكشاه األول وأترابه(( ، ))3وقي :إنه كان
لصيقه ،ومن أخص أصدقائه(( ، ))4قد نشأ الرجضمن وترعرعا معاً ،وملا تسلهلم ملكشاه احلكم عينه حاجباً له ،وحظي
هل
(())5
أبرز قادته .
اعتمد عليه يف مهماته ،كان َ املقربني ،وأنس إليه ،ووثق به؛ حىت أ َى إليه أبسراره ،و َ
عندهُ كان من هل
أوالً :مكانة آق سنقر عند السلطان ملكشاه:
من أقوى الدالئ على احلظوة اليت حازها آق ُسْنـ ُقر عند السلطان منحهُ لقب «قسيم الدولة» ،وهذا يعين :الشريك
األلقاب يف تلك اآلونة مصونة ال تُعطى إال ملستحقيها(( ، ))6ويبدو :أنه قاسم ملكشاه شؤون احلكم واإلدارة،
ُ وكانت
ذلك أيَاً لعقبه من
ذلك؛ إن آق ُسْنـ ُقر كان يقف على ميني سدهلة السلطنة ،وال يتقدمه أحد ،وصار َ
وابإلضا ة إىل َ
بعده((.))7
والراجحَّ :
أن منح آق سنقر هذا اللقب يعود إىل ثالثة أسباب:
1ـ حمبة السلطان ملكشاه له ودعمه إايه.
2ـ انتسابه إىل قبيلة تركية هلا مكانتها وأمهيتها بني القبائ السلجوقية احلاكمة ،وأنهلـهُ كان ذا مكانة ر يعة منها.
3ـ أنه هلأدى خدمات جليلة مللكشاه استحقت منحه هذا اللقب((.))8
واشرتك آ ق سنقر إىل جانب السضمجقة يف معارك عديدة ،قد سريه ملكشاه عام 477هـ مع عميد الدولة بن خر
الدولة يف حماولة لضمستيضمء على املوص ،وطرد العقيليني منها ،وقد متكنا من إجناز هذه املهمة(( ، ))9وبعد مرور سنتني
اشرتك مع السلطان ملكشاه يف انتزاع حلب من نواب العقيليني ،والهله هلإايها تقديراً جلهوده(( ،))10وقد تسلم آق سنقر َ
منصبه يف حلب وأعماهلا ،كمنبج ،والضمذقية ،وكفر طاب(( .))11واستطاع أن يوس َع نطاق واليته ابالستيضمء على محص
(( ))1و يات األعيان ( ، )218 ، 217/1عماد الدين زنكي ،د .عماد الدين.
(( ))2عماد الدين زنكي ،د .عماد الدين خلي ص .31
(( ))3التاريخ الباهر يف الدول األاتبكية ابملوص ص .4
(( ))4اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ،د .حممد طقوش.
(( ))5التاريخ الباهر ص .4
(( ))6املصدر نفسه نقضمً عن اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص .43
(( ))7اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص .43
(( ))8إمارة حلب ،حممد ضامن ص .136
(( ))9مفرج الكروب يف أخبار بين أيوب ( 19/1ـ .)22 ، 21
(( ))10الكام يف التاريخ نقضمً عن عماد الدين زنكي ص .32
(( ))11الباهر ص ، 8عماد الدين زنكي ص 32
20
عام 483هـ ،وحصن أ اميه عام 484هـ كما رض طاعته على صاحب شريز عام 481هـ ،ويف عام 485هـ
اشرتك مع ملكشاه يف مهامجة العقيليني واالنتصار عليهم قرب املوص ،وظلت عضمقة آق سنقر ابلسلطان ملكشاه َ
قائمة على الطاعة والتفاهم املشرتك ،ومل يسع يوماً إىل اخلروج على أوامره ،ور ض السلطان بدوره االستجابة لشكاوى
معارضي آق سنقر ،أو إقرار مساعيهم للتخلص منه((.))1
اثنياً :سياسة آق سنقر يف حلب الداخلية:
بدأت مع تويل آق سنقر احلكم يف حلب مرحلة جديدة من حكم السضمجقة املباشر هلذه املدينة ،وانتهى حكم القبائ
عد ُسْنـ ُقر أول حاكم سلجوقي إلمارة حلب العربية هلذه اإلمارة ،وأزحيت عن مسرح األحداث يف مشايل بضمد الشام ،ويُ ُّ
بعدما كانت سنوات طويلة من التمزق واحلروب بني القبائ العربية يما بينها ،مث بينها وبني الرتكمان القادمني من
ودام حكمه مثاين سنوات تقريباً كانت مرحلة هامة يفالشرق َ ،
اتريخ اإلمارة واملنطقة بفع :أهنا أحدثت تغيريات أساسية مشلت ك جوانب احلياة (( ، ))2لقد تسلم آق ُسنقر احلكم
يف ظ حالة من الفوضى التامة بفع عاملني :داخلي ،وخارجي ،يتمث األول بصراع هل
احلكام ،وتدبريهم املؤامرات ،
واستعانتهم ابلقوى الكربى يف املنطقة كاخلضم ة العباسية يف بغداد ،والدولة الفاطمية يف مصر ابإلضا ة إىل الدولة
السلجوقية اجلديدة الطامعة يف التوسع يف املنطقة هي:
1ـ قوة القبائ العربية البدوية وخباصة الكضمبيني العقيليني واملرداسيني الستعادة نفوذها املسلوب.
2ـ قوة الرتكمان املدمرة اليت كانت تغري على املنطقة.
3ـ قوة الدولة البيزنطية اليت كانت تستغ ُّ الصراعات الداخلية الستعادة نفوذها املفقود.
انعكس سلباً على األوضاع االقتصادية ،واالجتماعية
َ ذلك أوضاعاً من عدم االستقرار السياسي ،
شهدت حلب نتيجة َ
،واألمنية يها يف خَم هذه الصراعات ،وتغا احلكام عن االهتمام ابلشؤون الداخلية للسكان ،كما أمهلوا تطوير
احلياة االقتصادية ،مما هلأدى إىل تراجع واردات البضمد ،وعمدوا إىل استنزاف السكان بفرض ضرائب أخرى وأاتوات
ابهظة كلما أعوزهم املال ،حىت أثقلوا كاهلهم ،تذمروا من سوء األوضاع ،وكثر انتشار اللصوص وقطاع الطرق ،مما
هلأدى إىل انعدام األمن على الطرق ،تعطلت احلركة التجارية ،وقلهلت ُ
السلع يف األسواق ،وتراجعت موارد الزراعة لعدم
متكن الفضمحني من القيام ابحلرث والزرع وجين احملصول ،ربزت يف هذه الظروف الصعبة منظمة األحداث اليت أخذت ُّ
(())3
اح يعم على على عاتقها رعاية مصاحل أ رادها ومقاومة التعدايت اخلارجية ،ووضع اق سنقر نصب عينيه هد اً ر َ
ع يف:
ولذلك شر َ
َ حتقيقه ،متث يف إعادة األمور إىل نصاهبا ،
21
1ـ إقامة احلدود الشرعية ،وطارد اللصوص وقطاع الطرق ،وقَى عليهم ،وختلص من املتطر ني يف الفساد ،كما
قَى على الفوضى اليت كانت متفشية يف البضمد ،وعام أه حلب ابحلسىن؛ حىت توارثوا الرمحة عليه إىل اخر
الدهر»((.))1
كتب إىل عمال األطراف؛ حيث ومل يكتف اق سنقر حبصر تدابريه اإلصضمحية يف حلب ب كتب إىل عمال 2ـ َ
األطراف اليت خَعت حلكمه أن حيذوا حذوه ،واتبع أعماله بنفسه.
أقر قسيم ال دولة مبدأ املسؤولية اجلماعية ،إذا تعرض أحد التجار للسرقة يف قرية ما ،أو إذا هومجت قا لة أو 3ـ و هل
هنبت؛ إن أه القرية اليت جرت احلادثة يها يكونون مسؤولني مجاعياً عن د ع قيمة الَرر الضمحق هبؤالء(( ، ))2ونتيجة
هب سكان القرى ملساعدة احلكام يف رض األمن ،إذا وص اتجر إىل قرية أو مدينة ،وضع أمتعته هلذا املبدأ هل
وبَاعته إىل جانبه وانم وهو مطمئن حبراسة أهلها ،وهكذا شارك السكان بتحم املسؤولية يف حفظ األمن حىت أمنت
الطرق ،وحتدث التجار واملسا رون حبسن تدبريه وسريته((.))3
ونتيجة الستتباب األمن يف كا ة أرجاء إمارة حلب نشطت التجارة ،وامتألت األسواق ابلبَائع الواردة إليها من ك
الوضع االقتصادي ،وتداعى الناس إليها للكسب يها والعيش برغد(( .))4وقد اعرتف املؤرخون حبسن ُ اجلهات ،واستقر
سياسة اق سنقر الداخلية ،واألمنية ،وأمجعوا على مدحه:
قال ابن القضمنسي« :وأحسن يهم السرية ،وبسط العدل يف أهلها ،ومحى السابلة للمرتددين يها ،وأقام اهليبة ،
بذلك من الصيت ،وحسن وأنصف الرعية ،وتتبع املفسدين ،أابدهم ،وقصد أه الشر ،أبعدهم ،وحص له َ
الذكر ،وتَاعف الثناء والشكر ..عمرت السابلة للمرتددين من السفار ،وزاد انتفاع البلد ابلواردين ابلبَائع من
مجيع اجلهات واألقطار»((.))5
وقال ابن واص « :ورخصت األسعار يف أايم األمري قسيم الدولة وأقيمت احلدود الشرعية ،وعمرت الطرقات ،وأمنت
السب ،وقُت َ املفسدون بك ج ،وكان كلما مسع مبفسد أو بقاطع طريق؛ أمر بصلبه على أبواب املدينة»((.))6
وقال ابن األثري« :وكان قسيم الدولة أحسن األمراء سياس ًة لرعيته ،وحفظاً هلم ،وكانت بضمدهُ بني رخص عام ،وعدل
شام ،وأمن واسع»((.))7
وقال عنهُ ابن كثري« :أبنه كان من أحسن امللوك سرية ،وأجودهم سريرة ،وكان الرعية يف أم ٍن وعدل ورخص((.))8
22
وأما من حيث إجنازاته العمرانية؛ قد جدهلد عمارة منارة حلب ابجلامع عام ( 482هـ 1089/م) وامسه منقوش عليها
ذلك قصة لطيفة ذكرها ابن واص مفادها :يف سنة اثنتني ومثانني وأربعمئة أسس القاضي أبو احلسن بن إىل اليوم ،ويف َ
ذلك أتون محهلام ،أخذ ابن اخلشاب اخلشاب منارة حلب ،وكان حبلب بيت معبد انر ،قدمي العمارة ،صار بعد َ
حجارته ،وبىن هبا املنارة ،أهنى بعض ُح هلساده إىل األمري قسيم الدولة خربه ،غَب على القاضي ابن اخلشاب ،
أخذت حجارتهُ
ُ وقال« :هدمت معبداً هو يل وملكي» قال« :أيها األمري ،هذا معبد للنار ،وقد صار أتوانً((، ))1
اب لك ،إن رمست وجعلت الثو َ
ُ امسك عليه ،
كتبت َ يك لهُ ،و ُ ألعمر هبا معبداً لإلسضمم ،يُذكر يه هللا وحده ال شر َ
علت أعجب األمري كضممه ،واستصوب رأيهُ ،وقال :ب الثواب يل ،وا ع ما غرمت مثنه لك ،ويكون الثواب يل؛ ُ
تريد ،شرع يف عمارة املنارة يف سنة ثضمث ومثانني وأربعمئة((.))2
اثلثاً :سياستهُ اخلارجية:
ساد االطمئنان ،وأمنت الطرق ،وانتشر العمران ،انتعشت عادت سياسة آق سنقر بنتائج هامة على املنطقة َ ،
بلغ من سيطرة آق سنقر على األمن يف قرى حلب وضياعها أن أرس من ينادي يها أن ال يغلق أح ٌد التجارة ،وقد َ
(())4
اببه ،وأن يرتكوا االهتم الزراعية يف أماكنها ليضمً وهناراً(( .))3ومن مث جاءت شهرتهُ بناءً على ما أجنزه يف هذا اجملال
هلق األمن واالستقرار أراد أن يقوم بدوٍر خارجي ،وكانت ُ
بضمد الشام وبعد أن نظم قسيم الدولة إمارته الداخلية ،وحق َ
عرب اترخيها عرضة للصراعات من أج السيطرة بني الشمال واجلنوب .وقد مثلت دمشق ُ ،منذ القرن السابع امليضمدي،
اجلنوب ،يف حني مثهللت حلب الشهلمال ،وكانت املفارقات بني الشمال واجلنوب يف بعض األحيان اجتماعية ،واقتصادية
،ولكن غالباً ما كانت سياسية ،حيث حاول حكام دمشق من جهتهم ،وحكام حلب أيَاً َم هلد سيطرهتم كلياً على
بضمد الشام ،وتبعاً هلذه القاعدة حدث صراعٌ بني تُـتُش ،وآق ُسنقر(( ،))5قد وقف يف وجه تُتش الطامع يف بضمده ،
يتوسع على حساب جريانه ،وبدا لهُ قب اإلقدام على تنفيذ هذا املشروع أن ينشىء جيشاً منظماً يعتمد عليه يف
وأن هل
ذلك ،وكانت نواة هذا اجليش تتمث ابلقوة اليت تركها ملكشاه معه عندما رح عن حلب ،وتعدادها ع يف َحروبه ،وشر َ
أربعة االف مقات ،مث تعدهلت الستة االف(( .))6وقد اعتمد آق ُسنقر على نوعني من القوات العسكرية.
* النوع األول :القوات االحتياطية اليت كان ُ
يزداد عددها ابستمرار ،وهي تنتمي إىل العنصر الرتكي.
* النوع الثاين :القوات االحتياطية اليت كان جيمعها حني حيتاج إليها ،وكانت خليطاً من العرب ،والرتكمان ،وغريهم
،وقد وص عددها يف املعركة اليت خاضها ضد تُتش إىل عشرين ألفاً ،وكان تتش قد جهد من ُذ أن أصبح حاكماً على
دمشق يف عام 470هـ 1077/م يف العم على:
23
* بسط سلطانه على كام بضمد الشام ،وخباصة املدن الساحلية اليت كانت تدين ابلطاعة للدولة الفاطمية ،أو ُحتكم
من قبلها.
* إنشاء دولة أخرى للسضمجقة يف هذه البضمد يتوىل حكمها مبعزل عن السضمجقة العظام يف خراسان ،إال أنه ش يف
وجنح يف حتقيق الثاين إمنا بعد و اة ملكشاه األول ،على أن األوضاع اليت آلت إليها البضمد مل
حتقيق اهلدف األولَ ،
ترض تتش ،لجأ إىل السياسة ،وطلب من أخيه عام ( 480هـ 1087/م) تزويده بقوات ومعدات متكنـهُ من طرد
أن ملكشاه األول الفاطميني من بـضمد الشام ،وإخَاعها كلها لسلطان السضمجقة مبا يها املدن الساحلية ،والواقع :هل
لذلك هللَّب طلب أخيه ،وأمر كضمًّ من
كان خيشى متدداً اطمياً ابجتاه األمضمك السلجوقية يف بضمد الشام ،والعراق َ ،
(())1
الرها ،أبن يقدما له ك ما حيتاجهُ يف مهمته من عساكر وجتهيزات قسيم الدولة صاحب حلب ،وبوزان صاحب ُّ
أن احلاكمني مل ينفذا األوامر السلطانية ،لم يذهب اق سنقر بعيداً يف مساعدة تُتش وهو يعلم مدى خطورة ويبدو :هل
كذلك ع بوزان.
أطماعـه ،و َ
تبدلت يف عام (482 ومن جهته ،إن تُتش مل يقم أبي عم عسكري جدي ضد مدن الساح (( ، ))2ولكن األوضاع هل
هـ 1089/م) حني استوىل الفاطميون على عكا ،وصور ،وصيدا ،وجبي ،كما أنه وص إىل املعسكر الفاطمي ،
اجتمع ابلقائد الفاطمي ،واعرتف لهُ رمسياًَ يف غَون ذلك ،خلف بن مضمعب صاحب محص ،وأ امية((، ))3
بسلطان الفاطميني ،وسيادهتم عليه(( ،))4مما شك حتدايً مباشراً لسلطان السضمجقة يف بضمد الشام ،ونتيجة ملا اتفق
اض اتبعة لتتشعليه الطر ان من بسط السيادة الفاطمية على كام بضمد الشام قام خلف بن مضمعب ابالعتداء على أر ٍ
أن احلكام السضمجقة يف هذه البضمد شكوا إىل السلطان اعتداءات أمري محص مما د عه إىل االستنجاد جمدداً أبخيه .كما هل
كذلك ع السكان بفع أنه اتصف ابلظلم ،ونظراً لألوضاع اخلطرية اليت ابتت عليها بضمد الشام؛ أمر السلطان ،و َ
وضمها إىل األمضمك السلجوقية ،وطلب يف الوقت نفسه، أخاه تـُتُش بتأديب ابن مضمعب ،وطرد الفاطميني من البضمد ،هل
من والته يها ابلتحرك السريع ملساعدته(( ))5انزعج ك ٌّ من آق ُسنقر ،وبوزان من قيادة تُـتُش هلذه احلملة ،وأدركا :أنه
(())6
ات املتحالفة إىل محص سوف ينفرد حبكم ما سيتوىل عليه ،خرجا مكرهني غري مقتنعني مبساعدته ،وصلت القو ُ َ
عام 483هـ 1090/م وحاصرهتا ،وضيهلقت عليها؛ حىت استسلمت ،وقبض على ابن مضمعب ،وأُرس إىل السلطان
(())7
ذلك أطماع األطراف املتحالفة ،قد طلب ك ٌّ من األمراء محص لنفسه ، ملكشاه األول ،وانكشفت يف غَون َ
أنعم هبا على أخيه((.))8
بذلك َ ،كتب إىل السلطان َ و َ
24
1ـ موقف آق سنقر من تتش :يف عام 484هـ نزل تتش جبيوشه على طرابلس ،وكان هبا قاضيها وهو صاحبها وامسه
جضمل امللك بن عمار ،ونصبوا اجملانيق ،احتج عليهم ابن عمار ،وأظهر هلم منشور السلطان ملكشاه إبقراره على
ذلك ،وتوقف آق سنقر عن قتاله ،قال لهُ تتش :أنت تتبع يل؛ كيف ختالفين؟! قال :أان طرابلس ،لم يقب تتش َ
تبع لك إال يف عصيان السلطان ،غَب اتج الدولة تتش ورجع إىل دمشق واق سنقر إىل حلب((.))1
لذلك جهد أثناء
أن سياسته العدائية جتاه تُـتُش تفرض عليه منعه من ضم أي مدينة إىل أمضمكه َ ، أدرك آق سنقر :هلو َ
عودته إىل حلب يف ضم املواقع التابعة خللف بن مضمعب ،ومنها أ امية اليت سلهلمها إىل منقذ صاحب شيزر(( ،))2وقد
ذلك إىل أموٍر منها:
هدف من َ
أ ـ إقامة منطقة حاجزة بني أمضمكه يف مشال الشام ،وأمضمك تتش يف اجلنوب واعتقد :هل
أن إمارة بين منقذ يف شريز إبمكاهنا
أن تقوم هبذا الدور.
ب ـ حرما ُن تُـتُش من ضم إمارة بين منقذ ،وابلتايل إبعاده عن منطقة حلب.
ت ـ إجياد حليف قوي يعتمد عليه يف صراعه مع تُـتُش.
ث ـ إبعاد بين منقذ عن التحالف مع تُـتُش((.))3
حد لهُ ،استدعى يف شهر أن ملكشاه وقف على هذا الصراع على النفوذ يف بضمد الشام ،عمد إىل وضع ٍ والواقع :هل
رمَان عام 484هـ شهر تشرين األول عام 1091م ،مجيع والته يف بضمد الشام ،واجلزيرة ابإلضا ة إىل أخيه تُتش،
(())4
عند أخيه ،وعرض خضم ه مع آق ُسنقر ،واهتمهُ ليبحث معهم مشاك وقَااي مناطقهم ،واستغ تُـتُش وجودهُ َ
بعدم اإلخضمص للقَية السلجوقية ،وقام آق سنقر يدا ع عن نفسه متهماً تُـتُش ابلكذب ،واستطاع إقناع السلطان
اهتام أخيه له كما ر ض مساعيه للتخلص منه((.))5
بوجهة نظره ،ر ض َ
بني آق ُسنقر وملكشاه طيلة حياة هذا األخري .وملا 2ـ دعم آق سنقر للسلطان بركيارق :ظلت العضمقة الطيبة قائمة َ
وجتهز
تويف عام 485هـ 1092/م طلب تُـتُش السلطنة لنفسه يف ظ صراع على السلطة بني أوالد السلطان املتوىف ،هل
(())6
لذلك
للزحف شرقاً إلخَاع البضمد لسلطانه ،وكاتب كضمً من آق ُسن ُقر ،وبوزان يطلب مساعدهتما ،واستجابوا َ
حرب مع إبراهيم بن قريش صاحب املوص ؛ ألنه ر ض اخلطبةَ يف املوص لتتش ،ور ض أن يعطيه طريقاً ،واشرتكوا يف ٍ
إىل بغداد ُ ،هزَم صاحب املوص وأخذت منه ،ساروا إىل ميا ارقني َ َملَك تـُتُش سائر داير بكر(( ، ))7مث سار تـُتُش
ليمنع عمه(( ، ))8وملا
سار َ قوي أمره ،وصارت بيده الري ،ومهذان َ ، إىل أذربيجان ،وكان بركيارق بن ملكشاه قد َ
25
بذلك قرر اإلسراع يف زحفه ابجتاه خراسان حملاربة ابن أخيه ،وعندما وص إىل مدينة تربيز(())1؛ حدثت علم تُـتُش ََ
(())2 هل
املفاجأة إذ ختلى عنهُ آق ُسنُقر ،وبوزان وانَما إىل بركيارق عند مدينة الري قوي موقفه هبما ،وكان هذا اإلنسحاب
هناك عدة أسباب د عت آق سنقر إىل هذا التصرف ،ولع أمهها: حمطماً خلطة تـُتُش ،ويبدو أن َ
أ ـ كان تُـتُش منا ساً خطرياً آلق سنقر ،هل
وإن أتييده له حتهلمه واقع الظروف السياسية اليت كان مير هبا.
ب ـ رأى آق سنقر أن تبقى السلطنة حمصورة يف أبناء سيده ملكشاه األول و اء منه له.
يعتمد عليه يف حكم بضمد الشام
ج ـ شعر قسيم الدولة أبن تُـتُش يـُ َقرب ايغي سيان صاحب أنطاكية ،وميي إليه وقد ُ
يف املستقب ((.))3
أدرك تـُتُش حرج موقفه ،وضعف قواته بعد االنسحاابت اليت حصلت يف صفو ه ،اضطر ومهما يكن من أمر ،قد َ
إىل التوقف عن الزحف وعن قتال بركيارق ،واثر االنسحاب إىل الشام ،عاد أدراجه حنو داير بكر ،وتوقف يف الرحبة
،مث حدث أن أقنع ك ٌّ من آق سنقر ،وبوزان السلطان بركيارق أبالهل يرتك تُـتُش وشأنه هل
وحذراه من أطماعه ،وأشارا عليه
بذلك تركها ،واجتاز الفرات قاصداً أنطاكية اليت بقياجلميع ابجتاه الرحبة ،لما علم تُـتُش َ
ُ مبطاردته(( ))4و عضمً َ
حترك
ضم السلطان بركيارق ،وآق سنقر ،وبوزان ،وعلي (())5
مد ًة مث عاد إىل دمشق ،ويف الرحبة عقد اجتماعاً رابعياً هل يها هل
ض عن عقد حتالف بني احلاكمني السلجوقيني من جهة واألمري العقيلي من جهة اثنية متخ َ
بن مسلم بن قريش العقيلي هل
،حتت إشراف السلطان ،هد ه الوقوف يف وجه تُـتُش ،وعاد السلطان إىل بغداد بعد أن ترك قوة عسكرية بتصرف
الرها ،واق سنقر إىل حلب ،وص إليها يف شهر ذي القعدة عام 486هـ شهر آق سنقر ،يف حني عاد بوزان إىل ُّ
تشرين عام 1093م ،وهكذا قام آق سنقر بدور ابرز يف إ شال خمططات تتش ومنعه من احلصول على السلطنة ،
وساعد بركيارق على االحتفاظ هبا ،مدركاً يف الوقت نفسه :أن صاحب دمشق سوف ينتقم للَربة اليت وجهت إليه
،أخذ يستعد للتصدي له ،وانتزاع دمشق منه هذه املرة ،طلب املساعدة من السلطان بركيارق أمدهله بـ« :كربوغا»
الرها ،ويوسف بن ابق حاكم الرحبة ،كما انَم إليه مجاعة من
،واستنجد مبن جاوره من احلكام أمثال بوزان حاكم ُّ
بين كضمب ،وأحداث حلب((.))6
3ـ مقت آق سنقر :وكان أول ما كر يه تُتش عند عودته إىل دمشق هو االنتقام من آق سنقر وبوزان بعد أن ختليا
عنه يف وقت الشدهلة(( ، ))7أخذ يستعد لقتاهلما ،وحتالف مع ايغي سيان صاحب أنطاكية بعد أن هلزوج ابنه رضوان
من ابنته(())8كما جنهلد قوات إضا ية من بين كضمب ،والتقى اجليشان يوم السبت يف التاسع من شهر مجادى األول/شهر
26
أن آق سنقر مل يثق مبن كان معهُ من العرب ،نقلهم من ااير) عند ت السلطان(( ، ))1القريب من حلب ،ويبدو :هل
امليمنة إىل امليسرة مث إىل القلب والراجح أن هذا التبدي يف املواقع العسكرية أثر على قدراته القتالية ،دارت الدائرةُ
(())2
قتلك! قال :أان
كنت أرى َ صنعت يب؟ قالُ :َ كنت
ووقع أسرياً يف يد تـُتُش ،سألهُ تـُتُش« :لو ظفرت يب ما َعليه َ ،
وتسلم قلعة حلب اإلثنني 11مجادى األوىل(( ،))3ود ن آق سنقر َ كنت حتكم علي!» قتلهُ صرباً ،
عليك مبا َ
أحكم َ ُ
(())4
خارج حلب مث ملا ملك عماد الدين نق بقااي أبيه د نها جبانب املدرسة الرجاحية يف حلب .
رابعاً :نشأة عماد الدين زنكي وأسرته:
1ـ نشأته :ولد عماد الدين زنكي سنة 477هـ وكان أبوه من كبار قادة ملكشاه حىت لقب بقسيم الدولة ،وكان
االبن الوحيد هلذا القائد العظيم يف الدولة السلجوقية ،وتوىل والده آق سنقر حلب سنة 479هـ أي :بعد سنتني من
مولده ،كانت حلب مهد طفولته وقَى هبا أايمه األوىل((.))5
وتشرب
َ 2ـ تربية والده له :عاش زنكي يف كنف والده مدة عشر سنوات تكونت خضمهلا اخلطوط العريَة لشخصيته ،
دربه على الفروسية من ُذ نعومة أظفاره ،ليكون نعم الوارث ملركزه ،وقد من أبيه أخضمقهُ وصفاتهُ ،وال شك :هل
أن والدهُ هل
وعوده الصرب على املشاق يف احلرب وممارستها ،وقد أثبتت األحداث الضمحقة دربه على ركوب اخلي ،ورمي السهام ،هل
حسن تربية والده له ،قد متيز ابلشجاعة اليت تبلغ حد الذروة ،هو يهاجم مع مودود طربية ،وينهزم الصليبيون ،
ويلحقهم املسلمون وعماد الدين يف املقدمة ،وال يلتفت إىل الوراء ،ليتأكد من حلاق أصحابه به ،ويص إىل ابب
طربية ،وحيارب اإل رنج عليه ،ويبدي شجاعة ائقة ،وينسحب وحيسن االنسحاب عندما ال يرى حوله أحداً ،
(())6
القوة اليت ال تعرف العطف
يعجب الناس من رجوعه ساملاً ،كما عجبوا من شجاعته ،وورث عن أبيه آق سنقر هل
عدو خطر ،وورث عنه التخطيط الذي يؤدي إىل حتف اخلصم الذي رمسه له زنكي((.))7 واليت ال تبقي على ٍ
وقرت
3ـ والدتهُ :تويف والده وعمره عشر سنوات ،ولكن أمه عاشت حىت رأت ابنها يرث أابه ،وحيكم املوص ،هل
عينها إذ رأتهُ يف السنة اليت تو يت يها حياصر دمشق اليت قت صاحبها تتش زوجها آق سنقر ،قد تو يت سنة 529
هـ ابملوص .
هناك أسطورة أوربيهلة سورية :أن أاتبك املوص من أص رجني ويفرتض أن أمه كانت األمرية اجلميلة النمساوية
وكانت َ
اليت أسرت ،وقَت بقية أايمها يف حرمي اق سنقر ،وأن امرأة عظيمة أوربية تستطيع أن تلد مث هذا البط .ولكن
هذه القصة غري صحيحة؛ ألن أابه آق سنقر مات قب سنوات من حدوث الكارثة ـ الغزو الصلييب ـ ،وال يذكر لنا
(( ))1ت السلطان :موضع بينه وبني حلب مرحلة حنو دمشق.
(( ))2الكام يف التاريخ (.)368/8
(( ))3احلروب الصليبية واألسرة الزنكية ص .55
(( ))4املصدر نفسه ص .55
(( ))5احلروب الصليبية واألسرة الزنكية ص .57
(( ))6الروضتني (.)68/1
(( ))7احلروب الصليبية واألسرة الزنكية ص .58
27
املؤرخون امساً لوالدته ،وال أصلها حىت نستطيع أن نتعرف على أسباب اكتسابه اللون األمسر مع أن املشهور عن األتراك
اللو ُن األبيض ،لعله ورث هذه الصفات عن والدته((.))1
4ـ زوجات عماد الدين :أ ـ تزوج زنكي أكثر من واحدة ،من زوجاته اليت ذكرها املؤرخون؛ زوجة األمري كندغدي.
زوجتك امرأة األمري كندغدي من أكابر أمراء السلطان حممد ،والسلطان حممود ،واتفق أنه
َ وقال السلطان حممود :قد
مات وترك ولداً صغرياً وزوجة ومن املال والربك (املتاع اخلاص من ثياب وقماش وسضمح) ما ال يقدر عليه إال السلطان،
طلب من عماد الدين أن يتزوجها وأرس إليها ،يقول هلا :إنين زوجتك بعماد الدين زنكي ،امتنعت ،مث أجابت ،
غد بعد دخوله هبا ومعهُ ولد كندغدي وهو يف موكب عظيم من أصحابه وأصحاب كندغدي ، ركب زنكي من ٍ
وأخرجت له زوجته من اخليام والربك ما ليس ٍ
ألحد من العسكر مثله((.))2
ب ـ الزوجة الثانية :خاتون ابنة امللك رضوان ،كان زواجه هبا زواجاً سياسياً ،قد تزوجها ليصبح له احلق والشرعية يف
حكم حلب(( ،))3ولكنه هجرها بعد أن رأى ثياب أبيه آق سنقر الذي قتلهُ جدها تتش ،وطلقها بتدخ القاضي أيب
غامن قاضي حلب(( ، ))4وكان زواجهُ هبا سنة 522هـ على رأي حسن حبشي وسنة 523هـ على رأي ابن العدمي
((.))5
ج ـ الزوجة الثالثة :صاحبة خضمط ابنة سقمان القطيب؛ تزوج صاحبة خضمط ابنة سقمان القطيب سنة 529هـ والظاهر:
أن زواجه منها كان ليمكن نفوذه يف تلك املنطقة ،قد كان زنكي يف السنة السابقة هلذا الزواج يف حرب ،وكان هل
حسان الدين متراتش معهُ يف حربه ضد داود بن سكمان بن أرتق ،ورمبا أراد ابملصاهرة أن يَم خضمطاً إليه ،ويقوي
جبهته يف تلك املنطقة ،وال سيما أنه يف سنة زواجه كان يف حرب يف تلك اجلبهة ،استوىل على الصقر وشوش.
د ـ الزوجة الرابعة :ابنة متراتش.
هـ ـ الزوجة اخلامسة :خاتون بنت جناح الدولة حسني ،وكان زواجه منها سنة 531هـ ويف هذه السنة كانت رتة
نشاطه يف محص ،قد حاصرها حصاراً شديداً وال يستبعد أن يكون زواجه هبا ليكتسب شرعية أخذه محص من
دمشق؛ ألهنا الوارثة هلا بعد والدها ،وليَم إليه أنصار والدها ،ويساعدوه على أخذ املدينة((.))6
و ـ الزوجة السادسة :تزوجها سنة 532هـ وهي صفوة امللك ابنة األمري جاويل أم مشس امللوك إمساعي وإخوته بين اتج
(())7
ميتلك دمشق ،لما مل حيص له ملك امللوك ،وهي أخت امللك دقاق ألمه ،وقد كا َن زواجهُ منها يف أم أن َ
دمشق؛ أعرض عنها((.))8
28
ذلك يعود إىل
أن سبب َ أن موضوع زوجات زنكي قد حظي ابهتمام عدد من املؤرخني ،وأغلب الظن :هل ونضمحظ :هل
العضمقة الوثيقة بني معظم عقود الزواج اليت قام هبا وبني مشاريعه السياسية والعسكرية ،وكان زنكي يعتمد رابطة الزواج
لتحقيق بعض أهدا ه السياسية ،والعسكرية ،وإنه متكن هبذا األسلوب من توثيق عضمقاته بعدد من احلكام واألمراء ،
األمر الذي ساعده إىل ٍ
حد كبري يف تنفيذ خططه الرامية إىل توحيد القوى اإلسضممية ملواجهة اخلطر الصلييب((.))1 ُ
5ـ أبناؤه :هم س يف الدين غازي وهو األكرب ،ونور الدين حممود ،وقطب الدين مودود ،ونصرة الدين أمري أ ريان.
ومجيع أوالده ظهرت عليهم النجابة مما ورثوه من والدهم وكانوا ذوي أخضمق محيدة ،وشجاعة ائقة ،وخاصة نور الدين
حممود ،وسيف الدين غازي ،وقطب الدين مودود ،أخبار شجاعتهم مشهورة ،ونضمحظ من أمساء أوالد زنكي اسم
مودود قد يدل على إعجاب زنكي ابألمري مودود ،وهناك غازي ،وامسه يدل عليه ،أما حممود ،إنه يطابق اسم
أحد السضمطني السضمجقة ممن خدمه زنكي((.))2
وقد خصص زنكي لرتبية أوالده علياً بن منصور السروجي ،وكان أديباً شاعراً خطاطاً ،وعندما كرب سيف الدين غازي؛
أرسله أبوه خلدمة السلطان مسعود ،تلقاه ابحلفاوة والتقدير ،ورتب يف خدمته عشرة من احلراس(( ، ))3وقد بقي سيف
هناك حىت قبي مقت أبيه بوقت قصري ،وأما نور الدين حممود قد نشأ حتت رعاية والده ،وتعلم القران الكرمي الدين َ
،والفروسية ،والرمي(( ، ))4وملا جاوز صباه لزم خدمة أبيه حىت مقتله(( ، ))5وهكذا كان زنكي يُع ُّد أوالده لتحم
املسؤوليات اإلدارية والعسكرية يف املستقب ،وما يقال عن غازي ،وحممود ميكن أن يقال عن ابنيه االخرين :أ ريان ،
ومودود((.))6
29
العناية واالهتمام حنو ابنه الوحيد عماد الدين زنكي الذي كان آنذاك يف العاشرة من عمره ،وكان يقيم يف حلب حتت
رعاية مماليك أبيه ،وأصحابه الذين كانوا يكنون احلب العميق آلق سنقر(.)1
1ـ مكانة زنكي عند أمري املوص كربوقا :ملا توىل املوص قوام الدولة كربوقا سنة 489هـ ،ابسم السلطان بركيارق
وطلب من بعض مماليك والده املقيمني يف حلب إحَار عماد الدين إليه ،وقال هلم: َ أوىل زنكي اهتماماً خاصاً ،
«هو ابن أخي ،وأان أوىل الناس برتبيته» أحَروه عنده( ، )2ويبدو أن كربوقا َ
أدرك مكانة آق سنقر والد عماد الدين
يَم إليه ابنهُ عماد الدين
حرص على أن هل
َ يف نفوس كثري من الرتكمان ،وعرف ما يكنُّو َن له من الوالء والطاعة ،
أدرك جنابة
ليحص على الوالء نفسه الذي حيملهُ الرتكمان لوالده ،إضا ة إىل أن كربوقا أثناء مضمزمته آلق سنقر قد َ
ضد خصومه بني مماليك والده ،أراد أن يَمه إىل جانبه لضمستعانة به ،ومبماليك والده يف حروبه هل
عماد الدين ،ومكانتهُ َ
،ورمبا ليَمن عدم منا سته له مستقبضمً ،وقد حظي عماد الدين مبكانة مرموقة عند قوام الدولة كربوقا ،وظ عماد
الدين زنكي مضمزماً له ابملوص إىل أن تويف كربوقا سنة 495هـ 1101/م(.)3
2ـ مكانته عند األمري جكرمش وايل املوص :بقيت العضمقة طيبة بني زنكي ومشس الدولة جكرمش الذي أعقب كربوقا
على والية املوص ( 495ـ 500هـ) والذي كان أحد مماليك السلطان السلجوقي ملكشاه وعلى معر ة ابخلدمات
اليت أداها والد زنكي للسضمجقة ،ومن مث توثقت العضمقة بينهُ وبني زنكي؛ حيث هلقربهُ ،وأحبه ،واختذه ولداً ،وظ
األخري مضمزماً له؛ حىت و اته عام 500هـ(.)4
3ـ يف عهد والية جاويل سقاو على املوص :بعد و اة جكرمش توىل جاويل سقاو ( 500هـ 502هـ) على والية
املوص وكان زنكي قد بلغ مرحلة الشباب (وبدت عليه عضمئم الشهامة) وساد الصفاء عضمقاته ابلوايل اجلديد .إال أن
عصيان األخري للسلطان حممد عام 502هـ وهروبه إىل الشام ،د ع زنكي إىل االنفصال عنهُ ومجاعة من كبار األمراء
يف نفس الوقت الذي عني يه السلطان والياً جديداً على املوص هو األمري مودود بن التونتكني ( 502ـ 507هـ) ،
انَم زنكي ور اقه إليه .مما كان له أبلغ األثر يف نفس السلطان والوايل اجلديد على السواء ،األمر الذي رشحه ألن
يكون من كبار أمراء هذا الوايل ،وأن حيص على مزيد من اإلقطاعات(.)5
4ـ مضمزمته لألمري مودود يف حرب الصليبيني :ملا استقر األمري مودود ابملوص ،واتص به عماد الدين؛ عرف له مكانته
ابإلضا ة إىل منزلة أبيه ،وملا رأى منهُ العق والشجاعة؛ زاد يف إقطاعه ،وشهد زنكي حروبه كلها وخاصة مع الصليبيني
يف طربية ،وقب جميء مودود كان زنكي قد متيز بشجاعته ومقدرته وقد شارك يف الغزوات اليت قام هبا ضد الضمتني ،
ويذكر املؤرخون بك اعتزاز :أن عبقريته كرست للجهاد من السنوات األوىل من عمره( ، )6وقد أظهر يف عهد مودود
30
من البطوالت يف جهاده ضد الصليبيني ما أكسبهُ شهرة واسعة لدى املسلمني ،وظ مضمزماً ملودود حىت مقتله عام
507هـ على أيدي الباطنية يف جامع دمشق(.)1
5ـ يف خدمة األمري آق سنقر الربسقي :عاد زنكي بعد استشهاد مودود إىل املوص ليلتحق خبدمة الوايل اجلديد «جيوش
بك» مث ما لبث أن انَم إىل األمري آ ق سنقر الربسقي الذي وجهه السلطان السلجوقي لقتال الصليبيني ،يف نفس
()2
ذلك ما زاد من شهرته لدى املسلمني
الرها ،ومسيساط وسروج ،وأظهر من الشجاعة واملقدرة خضمل َ العام ،قات يف ُّ
،ود ع السلطان حممد إىل أن يطلب من واليه على املوص تقدمي زنكي ،والرجوع إىل مشورته تقديراً إلخضمصه
وقدراته(.)3
6ـ بعد و اة السلطان السلجوقي حممد 511هـ :عندما تويف السلطان حممد سنة 511هـ ،سعى «جيوش» إىل
استغضمل وجود ابنه مسعود ـ إذ كان أاتبكاً له ـ ود عه إىل التوجه إىل بغداد لكي ينصب نفسه سلطاانً على سضمجقة
ذلك التحكم الفعلي يف شؤون الدولة السلجوقية ابسم السلطان اجلديد ،وقد أيد زنكيالعراق ،مستهد اً من وراء َ
هذه احملاولة ،وسار الوايل ومسعود متوجهني إىل بغداد على رأس حشد من قوات املوص إال أن احملاولة أخفقت بعد
سلسلة من احلروب واملناوشات شهدهتا منطقة بغداد ،واستتب األمر للسلطان حممود الذي أعقب أابه احلكم( .)4وبعد
ثضمثة أعوام حاول جيوش بك أن يثور اثنية ضد السلطان حممود ،غري أن زنكي ر ض أتييده ،وأشار على املتمردين
بطاعة السلطان ،وترك خمالفته ،وحذرهم عاقبة العصيان ،لكنهم مل يلتفتوا إىل قوله ،وأقدموا على تنفيذ حماولتهم اليت
انتهت هي األخرى ابلفش بعد هزمية جيوش بك ،ومسعود على يد السلطان حممود الذي بلغهُ موقف زنكي منهُ
حق قدره ،وأوصى الربسقي وايل املوص اجلديد ابلعناية به وتقدميه على سائر األمراء(.)5قدهلره هل
7ـ تويل عماد الدين زنكي إمارة واسط ،والبصرة :وعندما عني الربسقي عام 516هـ شحنة العراق را قه زنكي واشرتك
إىل جانبه يف املعركة اليت دارت ضد دبيس
أمري احللة ،وانتهت هبزمية الربسقي( )6الذي رأى أن يزيد من اعتماده على زنكي يف صراعه ضد دبيس ،واله واسط ـ
ذات املوقع اهلام ـ وكلهلفه مهمة الد اع عنها ضد هجمات أمري احللة ،وقد استطاع زنكي أن يسحق يف طريقه إىل واسط
()7
القوات اليت حشدها دبيس للد اع عن النعمانية ،وأن يستويل على هذا املوقع ،وأظهر زنكي يف منصبه اجلديد حزماً
وكفاءة ،وأابن عن مقدرة إدارية ذة( ، )8األمر الذي د ع الربسقي ،حاكم العراق إىل إضا ة البصرة إىل واليته ،لكي
يصد هجمات األعراب الدائمة عليها ،وينشر األمن يف ربوعها( ، )9انتق زنكي إليها لكي حيقق يها ما أجنزهُ يف هل
31
واسط من نشر األمن والقَاء على الفوضى .وقد متكن يف وقت قصري أن يوقف هجمات األعراب ،وغاراهتم املتتابعة
عند حدها ،وأن جيليهم إىل أعماق الصحراء ،كما قَى على الفنت اليت عمت البصرة ،وأظهر مقدرة عسكرية وإدارية
كاليت أظهرها يف واسط من قب ،مما زاد من مكانته يف نظر رجاالت الدولة السلجوقية ،ومن رهبته لألعداء ،حىت
أدرك أن ليس يف طاقته جماهبتهُ والتغلب عليه ، إن دبيس بن صدقة ـ أقوى أمراء اجلنوب ـ جتنب االصطدام معهُ؛ ألنه َ
َ توحيد جهوده ضد اخلليفة العباسي يف بغداد بدالً من مقارعة هذا األمري القدير(.)1 و هل
8ـ د اع زنكي والربسقي عن اخلليفة املسرتشد :مل يرتك الربسقي وزنكي اخلليفة جيابه مبفرده حشود دبيس ،جمعوا
قواهتم والتقوا به يف مطلع عام 517هـ قريباً من احللة ،واستطاعوا ـ بفَ هللا ،مث اخلطة البارعة اليت اتبعها زنكي ـ أن
يلحقوا به هزمية نكراء ،وأن يقتلوا ،وأيسروا الكثري من جنده ،واضطر هو ومن سلم من قواته إىل الفرار ،بينما عاد
املسرتشد ،وحلفاؤه إىل بغداد يستقبلهم األهايل هناك استقباالً حا ضمً بعد خضمصهم من خطر حمقق كاد حييق ببغداد
،ويعرضها للنهب والتخريب( ،)2وكان زنكي ـ لدى مغادرته البصرة ـ قد وض شؤوهنا ملقدم حاميتها األمري «سخت
كمان» استغ دبيس بُعد زنكي عنها وهامجها على حني غرة ،ومتكن من قت مقدم حاميتها وهنب أهاليها ،ولكن
انسحب دبيس من املنطقة و هلاجته إىل الشام للعم
َ زنكي ما لبث أن عاد إىل البصرة ليقر األوضاع يها من جديد ،
مع الصليبيني(.)3
9ـ عماد الدين يف خدمة السلطان حممود :أقي الربسقي من شحنكية العراق يف عام 517هـ وأعيد إىل املوص لقيادة
حركة اجلهاد ضد الصليبيني ،وعني يرنقش الزكوي شحنة بعده( ، )4أرس الربسقي إىل زنكي يستدعيه إىل البصرة
ليتجه معه إىل املوص ،غري أن األخري َ أن يربط مصريه ابلسلطان حممود ،يصحبهُ عدد من كبار األمراء ،وقرر
()5
ذلك يف احتفال شهدهُ السلطان وعدد كبري من القادة واملسؤولني
السلطان حممود تزوجيه أبرملة أحد أمرائه الكبار ،ومت َ
،األمر الذي هيأ لزنكي رصة الظهور يف حميط كبار األمراء وتعريف رجاالت الدولة السلجوقية مبكانته(.)6
10ـ تكليف السلطان حممود عماد الدين بتوطيد األمن يف البصرة :غدت البصرة بعد مغادرة زنكي هلا ،مسرحاً
ذلك أمر زنكي ابلعودة إليها ،بعد أن للفوضى ،وهد اً للنهب والتخريب ،وهجمات األعراب ،وبلغ السلطان َ
أقطعهُ إايها عام 518هـ وطلب منهُ اختاذ كا ة اإلجراءات الضمزمة لتوطيد األمن يف املنطقة ،كما كلفه مهمة اإلشراف
()7
على واسط ،والسعي للد اع عنها إذا ما كر اخلليفة إبرسال جيش لضمستيضمء عليها؛ إذ كانت هد اً حملاوالته التوسعية
،غادر زنكي أصفهان إىل البصرة ،وابشر مهام منصبه ،أحسن معاملة أهلها ،واستطاع أن خيلصهم من هجمات
وذلك عن طريق تنظيم دورايت عسكرية دائمة للقيام هبجمات مَادة على األعراب ونصب الكمائن هلم األعراب َ ،
32
،كما اهتم ـ ابلوقت ذاته ـ أبمور واسط ،وأخذ ميد السلطان أبخبار العراق حبيث مل خيف على األخري شيئاً من أموره
،األمر الذي زاد من تقديره لزنكي ومن ارتفاع منزلته عنده ،ورشحهُ ملنصب شحنكية العراق(.)1
11ـ الصراع بني اخلليفة املسرتشد والسلطان السلجوقي :يف عام 519هـ تدهورت العضمقات بني اخلليفة املسرتشد
والسلطان حممود الذي رأى نفسهُ مَطراً للتوجه إىل بغداد للحد من مطامح اخلليفة ،و رض سيطرته املباشرة على
العراق .وكان اخلليفة قد أرس بعض جيوشه بقيادة عفيف اخلادم لضمستيضمء على واسط ،إال أن زنكي متكن من صده
،واالنتصار عليه يف املعركة اليت دارت بني الطر ني عند مشارف واسط .ويف العشرين من ذي احلجة وص السلطان
إىل بغداد وأرس إىل اخلليفة يطلب منهُ إقرار الصلح ،ر ض األخري طلبه ،األمر الذي أدى إىل نشوب القتال بني
الطر ني ،وقد رأى السلطان أن يعتمد على زنكي يف صراعه هذا ،أرس إليه أيمرهُ ابحلَور إىل بغداد على رأس قواته
ومجع عدداً كبرياً منها ،إثر جولة قام هبا يف
،وأن جيلب معهُ ما يستطيع من زوارق حربية وسفن ،نفهلذ زنكي األمر َ ،
مناطق العراق اجلنويب هلذا الغرض ،وبعد أن مألها ابملقالة اختذ طريقه إىل بغداد ،وما أن بلغ اخلليفة نبأ تقدم زنكي
أن بغداد مقبلة علىأدرك أن ليس يف طاقته الصمود طويضمً إزاء شروط السلطان ،و هل بقواته احلاشدة براً وهنراً ،حىت َ
حصار شديد يف الرب والنهر ،أرس إليه يعلن موا قته على الصلح ،ومن مث دخ السلطان بغداد حيث متت املصاحلة
حد للصراع بني السلطان واخلليفة ،والذي كان من احملتم أنوساد الوائم( ،)2وهكذا لعب زنكي دوراً حامساً يف وضع ٍ
يؤدي إىل نتائج ال حتمد عقباها(.)3
12ـ تويل عماد الدين شحنكية العراق :وملا أراد السلطان حممود الرحي نظر يمن يصلح أن يلي شحنكية العراق ،
وبغداد ،وأيمن معهم من اخلليفة ،ويَبط األمور ،لم َير يف أمرائه وأصحابه من يصلح لسد هذا الباب العظيم ،
ويرقع هذا اخلرق من االتساع ،ويقوى على ركوب هذا اخلطر غري عماد الدين زنكي ،واله شحنكية العراق مَا اً
إىل ما بيده من اإلقطاع وسار السلطان عن بغداد( ، )4وقد اطمأن إىل نفوذه يف العراق ،بعد أن أانب عنه الرج الذي
يصرف األمور ال يف بغداد وحدها ،
ُ ذلك التاريخ
يستطيع أن يقوم مبهام منصبه خري قيام ،وأصبح عماد الدين من ُذ َ
ب يف سائر جهات العراق(.)5
اثنياً :دور الفقهاء يف تعيني عماد الدين على املوصل:
عندما تويف أمري املوص عز الدين الربسقي عام 521هـ 1127م توىل أمرها أخ صغري له حتت وصاية مملوك تركي
أدرك الفقهاء أن ضعف املوص ال بد وأن يؤثر على حلب وبضمد الشام يف هذه املرحلة احلامسة يف اتريخ
يدعى جاويل َ ،
ذلك الفراغ السياسي ،وعدم وجود قيادة عسكرية قوية يف املوص ال بد وأن يلقي انعكاساً على الصراع
الصراع؛ إذ إن َ
33
ولذلك قامت عائلة الشهرزوري املعرو ة ابلعلم والصضمح بدور كبري يف تنصيب عماد الدين َ الصلييب اإلسضممي(، )1
زنكي يف املوص لكونه قائداً عسكرايً قوايً.
وقام جاويل إبرسال القاضي هباء الدين بن القاسم الشهرزوري ،وانئب عز الدين الربسقي صضمح الدين حممد الياغيسياين
إىل بغداد ،اليت كان هبا السلطان حممود السلجوقي ،وتركا الوالية يف املوص ألخ عز الدين الصغري حىت يظ يسيطر
ذلك اهلدف وأهنما ليس يف نيتهما حتقيقابمسه على احلكم يها بصفة الوصاية عليه ،إال أن القاضي ور يقه أدركا َ
لذلك يف الظرف الصعب؛ حيث كاان على معر ة بطباعه ،و تصر اته اليت الهدف جاويل ،العتقادمها بعدم كفاءته َ
يرضيان عنها ،ويبدو يف الوقت نفسه :أهنما كاان على عضمقة متينة بعماد الدين زنكي؛ حيث خططا معاً ليتمكنا من
ذلك السلطان لتولية املوص وحلب ،حرصاً منهما على عدم ضياع البضمد اإلسضممية ـ وخاصةً املوص ـ يف أيدي إقناع َ
الصليبيني( ، )2وبوصول القاضي ور يقه إىل بغداد اتص صضمح الدين حممد أبحد أقرابئه يف بغداد نصر الدين جقروا
حيث كان بينهما مصاهرة( ، )3واجتمعوا به ،وقرروا أن جاويل ال يصلح حلفظ البضمد ألنه كان سيأى السرية( ،)4وأخذ
القاضي الشهرزوري على عاتقه مح األمانة ،وقول احلق ،اجتمع هو وصضمح الدين الياغيسياين بوزير السلطان
السلجوقي( ، )5وقاال له :قد علمت أنت والسلطان السلجوقي أن داير اجلزيرة والشام قد متكن الفرنج منها ،وقويت
شوكتهم هبا ،واستولوا على أكثرها ،وقد أصبحت واليتهم من حدود ماردين إىل عريش مصر ما عدا البضمد الباقية بيد
املسلمني(.)6
ويتَح من خضمل حديث القاضي هباء الدين الشهرزوري مبلغ ختو ه من سيطرة الصليبيني على أراضي اإلسضمم ،
وخ شيته من اتساع الرتق ابستيضمئهم على املزيد منها ،وحاجة البضمد إىل الرج املناسب لوقف التوسع الصلييب ،
()7
والتصدي له .استطرد قائضمً« :وال بد للبضمد من رج شهم شجاع ذي رأي ،وجتربة يذب عنها وحيمي حوزهتا»
ومن عمق إحساسه ابملسؤولية أمام هللا والعباد نراه يقول« :وقد أهنينا احلال إليك لئضم جيري خل ،أو وهن على اإلسضمم
واملسلمني ،نحص حنن ابإلمث من هللا واللوم من السلطان»( .)8وهذا يعطينا درساً مهماً يف دور الفقيه الذي وضع
مصلحة األمة وق ك اعتبار ،ومل يتأثر برتغيب ،وال ترهيب من حاكم املوص الذي أرسله للسلطان السلجوقي ،
ذلك العهد .وقام وزيركما أن يف اختيار كمال الدين الشهرزوري لعماد الدين زنكي تزكية له من بني بقية األمراء يف َ
ذلك
السلطان شرف الدين أنوشروان بن خالد بتوصي مطلبهما ،وحال بضمد الشام إىل السلطان حممود .وبواسطة َ
الوزير اقتنع السلطان برأيهما وحاهلما .وحتقق هد هما عندما استشارمها يمن يفَلون لوالية املوص ،ويبدو :هل
أن
34
القاضي الشهرزوري ،ور يقه أشارا عليه مبجموعة من القادة املسلمني من بينهم عماد الدين زنكي حىت ال يشك يف
أمرمها ،وإصرارمها عليه ،إال أنه اختار عماد الدين إبيعاز من وزيره أنوشروان ،وعينه والياً على املوص ( ،)1وهنا يظهر
دور العامل القاضي هباء الدين بن القاسم الشهرزوري يف اختيار القائد األ َ لقيادة القوى اإلسضممية حنو مواجهة الغزو
الصلييب ،حىت كا َن هلذا االختيار أثره يف إرساء حجر اجلهاد يف املشرق اإلسضممي؛ حيث متكن خضمله من غرس نواة
الوحدة مع حلب عندما أخذها ،ورحب به أهلها عام 521هـ 1127/م ،ألن موقع حلب االسرتاتيجي بني بضمد
أدرك
ذلك األمري ـ عماد الدين ـ قد َ
الشام ،ومناطق أعايل الفرات هو الذي جعلها يف قلب األحداث آنذاك؛ حىت إن َ
ذلك املوقع ابلنسبة لبضمد الشام ،واملوص ،واجلزيرة الفراتية ،ومتىن لو أخذها املسلمون قب أن يدخلها أمهية َ
الصليبيون(:)2
طمع يف البضمد ،وإن أخذ حلب؛ مل يبق ابلشام إسضمم ،املسلمون أوىل من الكفار هبا(.)3
إن هذا العدو قد َ
1ـ مكانة القاضي هباء الدين الشهرزوري عند عماد الدين :واعرتا اً من عماد الدين زنكي مبا بذله القاضي هباء الدين
كذلك زادهُ أمضمكاً
الشهرزوري يف تعيينه ،ورداً جلميله حنوه عينه قاضي قَاة بضمده مجيعها ،وما يفتحه من البضمد ،و َ
لذلك كانت منزلتهُ عظيمةً عنده ،وكان عماد الدين يستشريه يف معظم يثق به وابرئه َ ،
،وإقطاعاً ،واحرتاماً ،وكان ُ
بذلك قائضمً« :وكان ال يصدر إال عن رأيه»( .)4إن احرتام العلماء ،وتقدير األمور اهلامة يف دولته؛ حىت صرح ابن األثري َ
ارائهم ،واستشارهتم ،من عوام وأسباب جناح القادة السياسيني ،والعسكريني.
2ـ أاتبكيهلة املوص :مال السلطان السلجوقي إىل تولية عماد الدين زنكي إمارة املوص ملا علم من شهامته ،ومتكنه
اقتنع السلطان جبدارة زنكي يف القيام
من إجناز املهام اليت أنيطت به من قب ،وأمره ابحلَور ،وبعد مناقشات قصرية َ
أبعباء املنصب اجلديد ،ومن مث أصدر منشوراً بتوليته املوص ،واجلزيرة وما يفتتحهُ من بضمد الشام ،وسلهلمهُ ولديه:
ذلك الوقت
ألب أرسضمن ،واخلفاجي ليكون أاتبكاً هلما (أي :أابً مربياً) و قاً للتقاليد السلجوقية السائدة آنذاك ،ومن ُذ َ
مسي زنكي أاتبكاً ،وأصبح ك ٌّ من ولدي السلطان حممود حتت إشرا ه املباشر .ويف الثالث من رمَان عام 521هـ
وص بغداد األمري جماهد الدين هبروز قادماً من بضمد ارس ،ليتوىل شحنكية العراق ،غادر زنكي ورجاله عاصمة
العراق حنو املوص لتسلم مهام منصبه اجلديد( ، )5وتعترب أاتبكيهلة املوص نوا ًة للدولة الزنكية(.)6
اثلثاً :أهم صفاته:
35
كان عماد الدين زنكي حسن الصورة ،أمسر اللون ،مليح العينني( ، )1معتدل الطول( ، )2وخط الشيب رأسهُ يف سين
حكمه األخرية( ، )3وكان ذا شخصية قوية ،شديدة اهليبة على رعيته وجنده( ،)4جاداً يف معظم األحيان ،وكان جدُّه
الصارم مينعه من االستسضمم للراحة ،أو الرتف ،ويد عهُ إىل مواصلة كفاحه من أج أهدا ه ،وجيع أصوات السضمح
()5
وإليك تفصي أهم صفاته.
ألذ يف مسعه من غناء القينات َ ،
مر معنا شيءٌ من سريته وقوله لتتش 1ـ شجاعته :قد ورث الشجاعة عن أبيه الذي تقدم يف جيش ملكشاه ،وقد هل
املنتصر وهو األسري بني يديه :لو ظفرت بك لقتلتك ،ويلقى نتيجة جرأته ،يقتله تتش صرباً( ،)6وقد تقدم عماد الدين
ضد اإل رنج ،عند أمراء املوص بشجاعته ،وظهرت شجاعته يف القتال يف زمن مبكر ،قد سار مع مودود يف غزوته هل
وخرج إ رنج طربية للد اع عنها ،حم عليهم ،واهنزم اإل رنج من أمامه ،وطعن بباب سور طربية طعنة أثرت يه
الناس من شجاعته وجناته(.)7
ذلك قات مرتاجعاً ،عجب ُ وكان أصحابهُ قد أتخروا عنه ،ملا قرب من األسوار ومع َ
وقال أبو شامة يف شجاعته« :وأما شجاعتهُ وإقدامهُ إليه النهايةُ يهما ،وبه كانت تَرب األمثال ،ويكفي يف معر ة
ذلك مجلةً :أن واليته أحدق هبا األعداء واملنازعون من ك جانب :اخلليفة املسرتشد ،والسلطان مسعود ،وأصحاب َ
أرمينية وأعماهلا ،وبيت ُسكمان ،وركن الدولة داود صاحب صحن كيفا ،وابن عمه صاحب ماردين ،مث الفرنج ،مث
صاحب دمشق ،و كان ينتصف منهم ،ويغزو ُكضمًّ منهم يف عقر داره ،ويفتح بضمدهم ،ما عدا السلطان مسعود إنه
كان ال يباشر قصده ،ب كان حيم أصحاب األطراف على اخلروج عليه ،إذا علوا عاد السلطان حمتاجاً إليه ،وطلب
منه أن جيمعهم على طاعته ،يصري كاحلاكم على اجلميع ،وك ٌّ يداريه ،وخيَع له ،ويطلب منهُ ما تستقر القواعد على
يديه»( )8ومح على قلعة عقر احلميدية يف جبال املوص ،وأهلها أكراد ،وهي على جبال عالية ،وصلت طعنتهُ إىل
الرها ،مجع أمراءهُ عنده ،ومد السماط ،وقال :ال أيك ْ معي على مائديت هذه إال من يطعن معي سورها ،ويف حصار ُّ
الرها ،لم يتقدم إليه غري أمري واحد ،وصيب واحد ال يعر ه ،ملا يعر ون من إقدامه وشجاعته وأن أحداً ال
غداً يف ابب ُّ
لذلك الصيب :ما أنت وهذا املقام ،قال عماد الدين :دعه ،إين أرى وهللا
يقدر على مساواته يف احلرب .قال األمري َ ُ
()10 ()9
وجهاً ال يتخلف عين ،وكان يقدر الشجعان ،وكان ال يَطرب أمام أي خطر .
هيبة شديدة يف نفوس أصحابه ،ال جيرؤون على اجللوس بني يديه ،واشرتك معه يف 2ـ هيبته :كان عماد الدين ذا ٍ
ُ
احلروب أجناس خمتلفة ،وحيتاج ضبطها لكثري من الدراية واملهارة واهليئة ،استطاع بشخصيته القوية رض النظام على
36
مجيع جنده ،وكان ذا هيبة وسطوة ،وكان إذا مشى يسري العسكر خلفه يف صفني ،كأهنم اخليط خو اً أن يدوس
أحدهم الزرع ،وال جيسر أحد أن يدوس عرقاً منه ،وال ميشي رسه يه ،وال جيسر أن أيخذ من ضمح تبناً إال بثمنه ،
خبط من الديوان إىل رئيس القرية ،وإن تعدهلى أح ٌد؛ صلبه( )1وهيبتهُ كانت يف نفوس قادته ،قال علي كوجك انئبه أو ٍ
الرها مع الشهيد ،وقع بيدي من النهب جارية رائعة أعجبين حسنها ،ومال قليب إليها ،لم يكن ابملوص « :ملا تحنا ُّ
أبسرع من أن أمر الشهيد برد السيب ،واملال املنهوب ،وكان مهيباً خميفاً رددهتا وقليب معلق هبا»( .)2وخرج يوماً من
ابب السر يف قلعة اجلزيرة خطوة ،ومضمهلح له انئم ،أيقظهُ بعض اجلنادرية من مماليك السلطان ،حني رأى الشهيد
سقط على األرض ،حركه وجده ميتاً(.)3
وركب يوماً عثرت دابتهُ ،وكاد يسقط عنها ،استدعى أمرياً وكان معه ،قال لهُ كضمماً مل يفهمه ،ومل يتجاسر على
ذنبك ،وما محلك على اهلرب؟ أن يستفهمه منه ،عاد إىل بيته ،وودع أهله عازماً على اهلرب ،قالت لهُ زوجته :ما َ
أيمرك به .قال :أخاف أن قصتك ،وا ع ما َ
َ إن نصري الدين له بك عناية ،اذكر له ذكر هلا احلال ،قالت له :هل
َحك منهُ ،
َ مينعين من اهلرب ،وأهلك .لم تزل به زوجته تراجعهُ ،وتقوي عزمه إىل أن عرف نصري الدين حاله ،
وقال له :خذ هذه الصرة ـ الداننري ـ وامحلها إليه ،هي اليت أراد .قال :هللاُ هللاُ يف دمي ونفسي ،قال :ال أبس عليك
يتصدق به ،لما رغ
َ أمعك شيء؟ قال :نعم ،أمرهُ أن
،إنه ما أراد غري هذه الصرة ،حملها إليه حني راه قالَ :
الصهلرة؟ قال :إنه يتصدق مبث هذا القدر ك
علمت :أنه أراد ُّ
َ من الصدقة قصد نصري الدين ،وشكره ،وقال :من أين
أن دابته عثرت به؛ حىت كاد يسقط إىل األرض إيل أيخذه من اللي ،ويف يومنا هذا مل أيخذه ،مث بلغين :هل
يوم ،يرس هل
علمت :أنهُ ذكر الصدقة(.)4
ُ إيل ،
أرسلك هل
َ ،
اجتمع حوله العرب ،والرتك ،والرتكمان ،واألكر ُاد ،والبدو ،وكان جيتهد أن تَبط أمور هذه اجلموع حبكمة القائد
و َ
الرها ،وكادوا أيتون على ما يها ،كف أيديهم ،وحا ظ املاهر ،ويَبطهم يف أحرج األوقات ،عندما اقتحم جندهُ ُّ
على البلد؛ ألن ختريب مثله ال جيوز يف السياسة كما قال( .)5وخاف خصومه قصد واليته لعلمهم :أهنم ال ينالون منها
عرضاً(.)6
وبلغ من خوف الفرجنة منه :أنه ر ع احلصار عن قلعة البرية لقت انئبه يف املوص ،سلهلمها أهلها إىل حسام الدين َ
()7
متراتش خو اً من عودة الشهيد إليهم ،وكان خيشاه سضمطني السضمجقة ،وال يقدرون على قصد بضمده ،يقول ابن
37
األثري« :أر َاد السلطان مسعود زنكي إاثرة األطراف عليه ،ومنع السلطان مسعود قصده ،حلصانة بضمده ،وكثرة عساكره
وأمواله»( )1واخلليفة املسرتشد نفسه حاصر املوص لم ين منها شيئاً مدة ثضمثة شهور(.)2
3ـ ذو دهاء ومكر وحيلة :كان ذا ٍ
دهاء ،ومك ٍر ،وحيلة ،وذكاء ان ذ يف جماهبة املشاك احلربية ،والسياسية ،وقد
ذلك من اجتياز كثري من الصعوابت ،وحتقيق مزيد من االنتصارات ،من مناوراته البارعة هل
ضد التحالف البيزنطي مكنهُ َهل
الصلييب عام 532هـ أن أرس إىل قادته ،يقول :إنكم قد حتصنتم هبذه اجلبال ،اخرجوا عنها إىل الصحراء حىت
نلتقي ،وتكون الغلبة ألحد الطر ني ،ظن الروم والصليبيون أن وراءه قوات ضخمة أاتحت لهُ أن يطرح حتديه ،تجنبوا
ذلك يراس إمرباطور الروم ،ويومههُ :أن الصليبيني متفقون مع املسلمني اح بعد َ لقاءهُ وهو ما كان زنكي يرجوه ،مث ر َ
بذلك أن يبذر بذور االنشقاق يف اجلبهة املسيحية مما اضطر قواهتا إىل االنسحاب( )3هذا سراً وابلعكس ،واستطاع َ
الرها وهو أكرب نصر حققه يف حياته ،معتمداً على احليلة واملكر؛ إذ اجته إىل امد مومهاً الصليبيني :أنه إىل أنه تح ُّ
انقض األخريُ
الرها عن حاضرته مطمئناً إىل اهنماك زنكي مبشاكله يف داير بكر حىت هل يسعى حلصارها ،وما إن رح أمري ُّ
عليها ،ومتكن من اجتياحها(.)4
4ـ ذكاؤه :من ذكائه :أنه مل يظهر أنه مستق عن السضمطني السضمجقة ،ب أظهر :أنه حيكم أبمرهم ،قد كان معهُ
ولدان من أوالد السلطان حممود بن حممد السلجوقي ،ومها :ألب أرسضمن ،و رخ شاه ويعرف ابخلفاجي ،وكان يظهر:
هل
أن احلكم له يف بضمده ،وأنه انئب عنه ،وكان إذا أرس َ رسوالً أو أجاب عن رسالة يقول :قال امللك كذا وكذا ،وكان
ينتظر موت السلطان مسعود ،ليجمع العساكر ابسم ألب أرسضمن ،وخيرج األموال ،ويطلب السلطنة ،عاجلته املنية
قب ذلك( ، )5وكان ابنه سيف الدين غازي عند السلطان مسعود ليثق بطاعته( )6وكان يثري األطراف على السلطان
مسعود حىت حيتاجه وجيمعهم عليه مرة اثنية ليشتغ هبم عنه(.)7
5ـ يقظته وحذره :كان عماد الدين زنكي شجاعاً غري هيهلاب ،إال أنه كان حذراً حيتاط لألمور ،قد كان شديد
ذلك املال
العناية أبخبار األطراف ،وما جيري ألصحاهبا حىت يف خلواهتم ،وال سيما بضمط السلطان ،وكان يد ع يف َ
اجلزي ،كان يطالع ويكتب إليه بك ما يفعله السلطان يف ليله وهناره من حرب وسلم وهزل وجد ،كان يص ُ إليه
ك يوم من عيونه عدة كتب ،وكان مع اشتغاله ابألمور الكبار من أمور الدولة ال يهم االطضمع على الصغرية ،وكان
يقول :إذا مل يعرف الصغري ليمنع؛ صار كبرياً ،وكان ال ميكن أي ملك أن يعرب بضمده بغري إذنه ،وإذا استأذنه رسول
يف العبور؛ أذن له ،وأرس إليه من يسريه ،وال يرتكه جيتمع ٍ
أبحد من الرعية ،وال غريهم ،كان الرسول يدخ ُ بضمده ُ ُ ُ
يعلم من أحواهلا شيئاً.
،وخيرج منها ،وال ُ
38
أودع بعَها بسنجار ،وبعَها ابملوص ،وبعَها حبلب ،وقال :إن اجتمع له األموال الكثرية؛ َ
َ ومن آرائه :أنه ملا
استعنت على سد اخلرق ابملال يف غريه( ، )1وكان الرج طوي
ُ علي بعض هذه اجلهات تق ،أو حي بيين وبينهُ؛ جرى هل
عما ينويه إال بعد أن يتخذ األهبة الكاملة ،وكان يفرض أسوأ االحتماالت ،ويُع ُّد نفسه هلا ، يعلن هل
الفكر كتوماً ال ُ
لما سار من بغداد قاصداً املوص ؛ أخذ البوازيج ،وهي قرية قرب تكريت()2؛ ليملكها ،ويتقوى هبا ،وجيعلها يف
ظهره إن منعهُ جاويل عن البضمد( ، )3ومن حذره تردده يف دخول دمشق بعد أن وعده مجاعة من أهلها بفتح أبواهبا له
خو اً من أن يتفرق جيشهُ ،ولَيق املسالك وإلمكان مهامجتهم من ظهور البيوت( ،)4وملا وص الروم الفرنج إىل الشام؛
انزلوا حلب ،ومل يرد عماد الدين أن خياطر ابملسلمني ويلقاهم؛ ألهنم كانوا يف مجع عظيم ،احناز عنهم ونزل قريباً منهم
مينع عنهم املرية(.)5
6ـ قدرته على اختيار األكفاء من الرجال :وكان خيتار الرجال األكفاء ،الذين أخلصوا له ،وكانوا دعائم دولته ،ودولة
أبنائه من بعده ،قد كانت له مههلةٌ عالية ،ورغبة يف الرجال ذوي الرأي والعق ،ويرغبهم وخيطبهم ،ويو ر لـهم العطاء.
إن هذا كمال الدين ،وحيص له يف ك سنة ما يزيد على عشرة وقـال ابن األثري« :حكى يل والدي :قي للشهيد :هل
إن كمال الدين االف دينار أمريية ،وغريه يقنع منه خبمسمئة دينار .قال هلم :هبذا العق ،والرأي تدبرون دوليت؟! هل
يق له هذا القدر ،وغريه يكثر له مخسمئة دينار ،إن شغضمً واحداً يقوم به كمال الدين خري من مئة ألف دينار ،
وكان كما قال ـ رمحه هللا ـ»(.)6
وكان يتعهد أصحابه ،وميتحنهم ،قد أعطى يوماً ُخش ُكنانكه( )7إىل طشت دار له وقال :احفظ هذه .بقي حنو سنة
ال يفارقه خو اً أن يطلبها منه ،لما كان بعد سنة سأله عنها ،أخرجها من مندي كان ال يفارقه خو اً من أن يطلب
منه ،استحسن ذلك ،وجعله داراً لقلعة كواشي( )8ـ وهي قلعة حصينة يف اجلبال الواقعة شرقي املوص ( ، )9وكان
خيطب الرجال ذوي اهلمم واآلراء الصائبة ،واألنفس األبية ويوسع يف األرزاق ،يسه عليهم ع اجلمي ،واصطناع
الرجال ،ومن أسباب تو يقه :أنه كان نقاداً للرجال ،يعرف كيف خيتار األكفاء الصاحلني منهم ،ويوليهم ثقته(،)10
من هؤالء:
أ ـ هباء الدين الشهرزوري الذي يقول عنه ابن القضمنسي :وكان صاحب عزمية ومهة ان ذة ويقظة اثبتة.
39
ب ـ ومنهم وزيره ضياء الدين أبو سعيد ابن الكفرتوثي ،وكان على ما حكي عنه :حسن الطريقة مجي العق كرمي
النفس مرضي السياسة مشهوراً للنفاسة والرائسة.
ج ـ ومنهم نصري الدين جقر ،وقد كان لنصري الدين أخبار يف العدل واإلنصاف وجتنب اجلور واالعتساف ،أخباره
متداولة بني التجار واملسا رين ،ومتناقلة بني الواردين ،والصادرين من السفار ،وقد كان رأيه مجع األموال من غري
جهة حرام ،لكنه يتناوهلا أبلطف مقال ،وأحسن عال ،وأر ق توص واحتيال ،هذا حممود من والة األمور وقصد
سديد يف سياسة اجلمهور ،وهذه هي الغاية يف مرضي السياسة ،والنهاية يف قوانني الرايسة(.)1
7ـ تقديره للرجال :ويظهر تقديره للرجال من تولية انئبه ابملوص ،بعد مقت نصري الدين اراتب يف من يقيمه يف
موضعه ،وخيلفه يف منصبه ،وقع اختياره على األمري علي كوجك ،لعلمه بشهامته ومَائه يف األمور وبسالته ،واله
مكانه ،وعهد إليه أن يقتفي ااثره يف االحتياط والتحفظ ،وتتبع أ عاله يف التحرز واليقظة ،وإن كان ال يغين غناءه وال
يَاهي كفاءته ومَاءه ،توجه حنوها ،وحص هبا وساس أمورها سياسة سكتت معها نفوس أهلها ،وبذل جهده
يف محاية املسالك وأمن السواب ،وقَاء حوائج ذوي احلاجات ،ونصرة املظلومني ،استقام األمر ،وحسنت بتدبريه
األحوال ،وحتققت بيقظته يف أعماله األمان(.)2
8ـ قلي التلون والتنق :وكان عماد الدين الزنكي رمحه هللا قلي التلون والتنق ،بطيء املل والتغري ،شديد العزم ،مل
التغري ،واألمراء ،واملقدهلمون الذين كانوا معه هلأوالً
يتغري على أحد من أصحابه ُم ْذ َملَك إىل أن قت إال بذنب يوجب ُّهل
هم الذين بقوا أخرياً من َسل َم منهم من املوت ؛ لهذا كانوا ينصحونه ،ويبذلون نفوسهم له ،وكان اإلنسان إذا قدم
عسكره؛ مل يكن غريباً ،إن كان جندايً؛ اشتم عليه األجناد ،وأضا وه ،وإن كان صاحب ديوان؛ قصد أه الديوان
،وإن كان عاملاً؛ قصد القَاة بين الشهلهرزوري ،يحسنون إليه ،ويؤنسون غربته ،يشعر وكأنه يف أهله ،وسبب ذلك
مجيعه :أنه كان خيطب الرجال ذوي اهلمم العليهلة واآلراء الصائبة واألنفس األبية ،ويوسع عليهم يف األرزاق ،يسه
عليهم ع اجلمي ،واصطناع املعروف(.)3
إليهن كان من الذنوب 9ـ غريته :اتصف عماد الدين زنكي ابلغرية الشديدة وال سيما على نساء األجناد ،إن التعرض هل
اليت ال يغفرها ،وكان يقول«:إن جندي ال يفارقوين يف أسفاري ،وقلهلما يقيمون عند أهليهم ،إن حنن مل مننع من
التعرض إىل ُحرمهم؛ هلكن وَ َسد َن( ، »)4وكان قد أقام بقلعة اجلزيرة ُد ْزداراً امسه نور الدين حسن الرببطي ،وكان من
للحرم ،أمر حاجبه صضمح الدين خواصه وأقرب الناس إليه ،وكان غري مرضي السرية ،بلغه عنه :أنه يتعرض ُ
الرببطي ،وقطع ذكره ،وقلع عينيه ،عقوبة لنظره هبما هل الياغسيساين أن يسري ُجمداً ،ويدخ اجلزيرة ،إذا دخلها أخذ
الصضمح ُجمداً ،لم يشعر الرببطي إال وقد وص إىل البلد ،خرج إىل لقائه ،أكرمه إىل احلَُرم ،مث يصلبه ،سار هل
الصضمح ،ودخ معه البلد ،وقال له:هل
40
ويوليك مجيع البضمد الشامية
َ املوىل أاتبك يُسلم عليك ،ويريد أن يُعل َي قدرك ،وير ع منزلتك ويسل َم إليك قلعة حلب ،
تجهز وحتدر مالك يف املاء إىل املوص ،وتسري إىل خدمته ،فرح ذلك املسكني لم لتكون هناك مث نصري الدين ،هل
الصضمح ،
يرتك له قليضمً وال كثرياً إال نقله إىل السفن ليحدرها إىل املوص يف د ْجلة ،حني رغ من مجيع ذلك أخذه هل
وأمَى يه ما أمر به ،وأخذ مجيع ماله ،لم يتجاسر بعده أحد على سلوك ٍ
شيء من أ عاله(.)1
10ـ عدله :حرص عماد الدين زنكي على نشر العدل بني رعيته ،قد أوصى ُع هلماله أبه حران ،وهنى عن الكلف
والسخر والتثقي على الرعية ،هذا ما حكاه أه حران ،وأما ضمهلحو حلب إهنم يذكرون ضد ذلك؛ ألنه كان يلزم
الناس وجيمع الرجال للقتال واحلصار( ، )2وكان من أحسن امللوك سرية وأكثرها حزماً وضبطاً لألمور ،وكانت رعيته يف
أم ٍن شام ،يعجز القوي من ظلم الَعيف.
ومما رواه أبو شامة :أن الشهيد كان جبزيرة يف الشتاء ،دخ األمري عز الدين أبو بكر الدبيسي وهو من أكابر أمرائه،
ومن ذوي الرأي عنده ،ونزل بدار يهودي ،وأخرجه منها ،اشتكى اليهودي ،والشهيد راكب ،وجبانبه عز الدين
أبو بكر الدبيسي ،ليس وقه أحد ،لما مسع أاتبك اخلرب ،نظر إىل أيب بكر الدبيسي نظرة غَب ،ومل يكلمه كلمة
واحدة ،تأخر القهقرى ،ودخ البلد ،أخرج خيامه ،وأمر بنصبها خارج البلد ،ومل تكن األرض حتتم نصب
اخليام ،وضعوا عليها التنب ،وخرج إليها من ساعته(.)3
وكان ينهى أصحابه عن اقتناء األراضي ،واالكتفاء ابإلقطاعات؛ ألن األمضمك مىت صارت ألصحاب السلطان ،ظلموا
الرعية ،وتعدوا عليهم ،وغصبوهم أمضمكهم ،وحلسن سريته قصده الناس يتخذون بضمده داراً لإلقامة( .)4ومن عدله:
املعرة وأخذها من الفرنج جاءه الناس يطلبون أمضمكهم ،وكان عماد الدين حنفي املذهب ومن َمذهب أيب أنه ملا تح هل
حنيفة ـ أن الكفار إذا استولوا على بلد؛ و يه أمضمك املسلمني خرجت تلك األموال عن أصحاهبا لصريورة البلد دار
حرب ،إذا عاد البلد بعد ذلك إىل املسلمني كانت تلك األمضمك لبيت املال ـ وملا طلب الناس منه أمضمكهم استفىت
حظ ألصحاهبا يها ،قال: عماد الدين الفقهاء ،أ توه مبا يقتَيه مذهبهم ،وهو أن األمضمك لبيت املال ،وال هل
أي رق بيننا وبني الفرنج؟! ك ُّ من أتى بكتاب «رمحه هللا :إذا كان الفرنج أيخذون أمضمكهم ،وحنن أنخذ أمضمكهم؛ ُّ
يتعرض لشيء منها»(.)5 يدل على أنه مالك ألرض؛ ليأخذها .رد إىل الناس مجيع أمضمكهم ،ومل هل
11ـ عبادته :كان عماد الدين زنكي يشعر مبسؤوليته كمسلم سواء يف سياسته وعضمقاته العامة أم يف سلوكه الشخصي
قد كرس حياته وطاقاته يف سبي (اجلهاد) ضد الصليبيني ،واجلهاد من أ َ أركان العبادة( ، )6واعترب نفسه قائد
املسلمني األول يف الوقوف بوجه اخلطر الصلييب معتقداً أن مركزه ـ كأقوى أمري يف املنطقة ـ حيتم عليه ذلك ،ولع هل موقفه
من التحالف البيزنطي الصلييب ضد املسلمني 532هـ يوضح طبيعة نظرته يف هذا اجملال.
41
عندما قرر االستنجاد ابلسلطان السلجوقي ،واعرتض قاضيه أبن ذلك رمبا أدى إىل متهيد الطريق أمام سيطرة السضمجقة
رد قائضمً « :إن هذا العدو قد طمع يف البضمد ،وإن أخذ حلب مل يبق ابلشام إسضمم ،وعلى ك حال على بضمده؛ هل
املسلمون أوىل هبا من الكفار»(.)1
وكان كلما قرر التوجه لقتال الصليبيني استثار يف املسلمني تعشقهم للجهاد في عام 524هـ على سبي املثال ـ اجته
إىل الشام وصمم العزم على اجلهاد ...وإعضمء كلمة هللا( .)2ويف عام 532هـ سار إىل بعرين اخلاضعة للصليبيني ،ومجع
()3
الرها عام 539هـ تبعته العساكر ...عازمني على أن يؤدوا ريَةعساكره وحثهم على اجلهاد ،وعندما عزم على تح ُّ
للرها استبشاراً عاماً لدى املسلمني يف ك مكان :امتألت به احملا يف اآل اق( ، )5واعتربوه ()4
اجلهاد .وقد القى تحه ُّ
نصراً حامساً لإلسضمم ضد الصليبية( ، )6ومن مث إن مفهوم اجلهاد خلع على عماد الدين زنكي صفة إسضممية يف نظر
املسلمني إىل احلد الذي د ع العماد األصفهاين إىل القول« :أبنه كان قطباً يدور عليه لك اإلسضمم»( ، )7كما ذكر
رنسيمان أن زنكي اعترب نفسه «حامي اإلسضمم» ضد الصليبيني( ، )8وتتَح نزعة زنكي الدينية يف سياسته الداخلية
احلس الديين لدى هذا األمري
مدى بلغ هلويف سلوكه الشخصي كذلك ،وهناك العديد من األمثلة اليت تبني إىل أي ً
املسؤول ،عندما قام عام 534هـ على سبي املثال ـ بتولية هبة هللا بن أيب جرادة قَاء حلب قال له :هذا األمر قد
نزعته من عنقي وقلدتك هلإايه ،ينبغي أن تتقي هللا( .)9وكان يتصدق ك مجعة مبئة دينار جهراً ،ويتصدق مبا عداها
سراً( .)10كما كان يستفيت الفقهاء والقَاة قب إقدامه على كثري من األعمال( ،)11وقد أقام احلدود الشرعية
من األايم هل
يف أحناء بضمده(.)12
* شبهات حول شخصية عماد الدين :هل
إن عدداً من املؤرخني أيخذون على زنكي جلوءه إىل الغدر والظلم إزاء أعدائه
يف بعض األحيان ،يصفه األصفهاين أبنه كان يبلغ يف ذلك هل
حد الظلم( )13ويصفه الذهيب ابلظلم ،والزعارة(، )14
ويذكر أسامه بن منقذ كيف كان زنكي أحياانً يسكت عن األساليب القاسية اليت اتبعها أحياانً بعض كبار موظفيه
42
أمثال الياغسياين حاجبه( ، )1ونصري الدين جقر انئبه يف املوص ( ،)2وحيم ابن واص عليه لدى استعراضه أحداث
اهلجوم على محاة عام 524هـ .
قائضمً :وارتكب أمراً قبيحاً أنكره الناس عليه ،وال شيء أقبح من الغدر .وملا عزم على تلك الفعلة الشنعاء؛ استفىت
هل
وجوز له ما ال حي ُّ ،وال حيسن شرعاً ،وعر اً(.)3
الفقهاء يف ذلك ،أ تاه من ال دين له ،هل
وقد انق ش الدكتور عماد الدين خلي تلك التهم ،وقال.. :ولع ما يربر لزنكي موقفه هذا إزاء أمراء الشام حماولته
اجلادة لكسب الوقت ،وتوحيد العدد األكرب من املدن ذات احلكم الذايت هناك من أج اإلسراع بتشكي اجلبهة
اإلسضممية املوحدة للوقوف بوجه اخلطر الصلييب ،بعد أن أدرك عدم إمكان حتقيق نصر حاسم ضدهلهم يف حالة متزق
بضمد الشام إىل إمارات عديدة متطاحنة ،كان ال بد من اخلدعة سيهلما و هلأهنا يف حالة كهذه تو ر على املسلمني كثرياً
من اجلهود والدماء ،لذا جند زنكي يستفيت الفقهاء قب أن يقدم على علته هذه ،وشبيه هبذا :احليلة الطريفة اليت
مكنته عام 529هـ من االستيضمء على الرقهلة ،دون سفك قطرة من الدم واحدة(.)4 هل
ضد األمراء الذين سبَوا وحدة األمة ،ومصاحلها احليوية إالهل خداعهم والكيد هلم ،هلأما إعدامه بعض أمراء
وه احلرب هل
بعلبك إثر استيضمئه عليها بعد قتال عنيف عام 534هـ قد جاء نتيجة نقَهم بعض الشروط اليت متهل االتفاق عليها
قبي مغادرهتم القلعة( )5ولع هل هذه احلادثة هي أبرز ما د ع املؤرخني إىل وصف زنكي ابلقسوة ،والغدر .وقد أشار ابن
األثريـ يف الكام ـ إىل ذلك بقوله :واستقبح الناس ذلك من عله ،واستعظموه ،وخا ه غريهم( .)6ولكن زنكي سرعان
ما سعى إىل التعويض عن خطئه هذا ،وذلك إبصدار العفو عن العدد األكرب من احملكوم عليهم ابإلعدام ،وتولية
بعلبك لنجم الدين أيوب ،وهو الذي بذل جهوداً مشكورة يف التوسط هلؤالء األمراء والد اع عنهم(.)7
ويف حصار زنكي لقلعة جعرب 541هـ جرت مفاوضات بني الطر ني وا ق يها على تسلم مبلغ ثضمثني ألف دينار مقاب
رده من حيث جاء ،بعد أن وردته أنباء ك احلصار عن القلعة وما أن وصله الرسول حامضمً املبلغ املتفق عليه ،حىت هل
تشري إىل أن القلعة قد أوشكت على السقوط( ، )8وهو موقف يربره متاماً حرصه على وحدة اجلبهة اإلسضممية إزاء
أاننيات األمراء الصغار وأطماعهم الذاتية( .)9و هلأما ما أورده ابن العدمي من أن زنكي
43
كان يقول :ما يتفق أن يكون أكثر من ظامل واحد ،قاصداً نفسه( ، )1إنهله ال يعين سوى عزمه على اتباع نظام املركزية
يف اإلدارة ،وتركيز السلطة بيد املسؤول األعلى(.)2
* هواايته :كان طبع زنكي جاداً ،وعمله املتواص من أج حتقيق أهدا ه السياسية ،والعسكرية يستنفذان الكثري من
التحرر من قيوم العم
وقته ،وال يتيحان له من الفراغ للراحة والتمتع إال القلي القلي ،ويف هذه الفرتات املتباعدة من ُّ
واملسؤولية كان زنكي يسعى للرت يه عن نفسه وممارسة هواايته املفَلة اليت كان الصيد والطراد أبرزها ،وأقرهبا إىل طبيعته
احلادة(.)3
وحيدثنا ابن منقذ عن اجلوالت اليت قام هبا مع أمري املوص وعن أنواع الصيد ووسائله وحيله ،ولنستمع إليه :شاهدت
زنكي يوماً ،وكانت له اجلوارح الكثرية ،وحنن نسري على األهنار ،يتقدم البازدارية( )4ابلبزاة ،ويطلقوهنا على طيور
املاء ،وتدق الطبول كجاري العادة ،تصيد ـ من طيور املاء ـ ما تصيد ،وختطىء ما ختطىء ،ووراءهم الشواهيق اجلبلية
على أيدي البازدارية ،إذا أخطأت البزاة؛ أرسلوا الشواهيق على الطيور .ويستطرد ابن منقذ قائضمً :وشاهدته يوماً وحنن
ذكر دراج( ، )5أرسله عليه ،أخذه ونزل .لما صار بظاهر املوص ....وبني يديه ابزدار وعلى يده ابشق ،طار ُ
يف األرض ـ متكن من اإل ضمت ـ لما ارتفع حلقه الباز وأخذه ونزل به وقد ثبهلته(.)6
يقص علينا وجوهاً أخرى من الصيد ،الذي كان أيلفه زنكي ويهواه
مث ميَي ابن منقذ ُّ
يقول :ورأيت زنكي وهو يف صيد الوحش مراراً عديدة ،إذا ما نصبت احللقة واجتمعت الوحوش داخلها ـ مث حاولت
اخلروج ـ رموها وكان زنكي من أرمى الناس ،كان إذا دان منه الغزال؛ رماه نراه كأنهله قد عثر يقع ويذبح .وشاهدته
وقد ضربوا اخليام ،وص الوحش إىل اخليام ،خرج الغلمان ابلعصي والعمد َربوا منها شيئاً كثرياً....وشاهدته يوماً؛
وحنن بسنجار؛ وقد جاءه ارس من أصحابه قال :ها هنا ضبعة انئمة ،سار زنكي ،وحنن معه إىل و ٍاد هناك والَبعة
رتج ومشى حىت وقف مقابلها وضرهبا بنشابه ،وقعت أسف الوادي ،نزلوا وجاؤوا انئمة على صخرة يف سفحه ،هل
هبا بني يديه؛ وهي ميتة(.)7
وكان امللوك واألمراء إذا أرادوا التقرب إىل زنكي وكسب وده؛ قدموا له هدااي مما اصطادوه من طيوٍر ،وحيواانت ش هلىت،
وكان يرد عليهم ـ بدوره ـ هبدااي مما جنته يداه يف جوالت الصيد والطراد :هوداً وبزاة وصقوراً( .)8ومل يكن تعشُّق زنكي
لسباق اخلي ومهارات الفروسية أبق من تعشُّقه للصيد والطراد ،هذه هواية تصدر هي األخرى عن الطبع اجلاد والرغبة
جمد يف عصر كانت الفروسية يه شارته األوىل( .)9ويف رتات أخرى من رتات الفراغ يف قَاء أوقات الفراغ مبا هو ٍ
44
املتباعدة كان زنكي يروح عن نفسه ابلقيام منفرداً برحضمت هادئة على هنر دجلة ،متخففاً من أعباء ومهام إمارة شاسعة
األطراف يرتبهلص هبا األعداء من ك جانب(.)1
رابعاً :سياسته الداخلية:
صلناه يف كتابنا عن
اهتم عماد الدين زنكي بَبط إمارته ،وكانت النظم اليت سار عليها تعترب امتداداً طبيعياً ل َما هل
السضمجقة ،وحتول املوص من عهد والة السضمجقة ( 489ـ 521هـ) إىل عهد األاتبكة ـ مل يؤد إىل ظهور مؤسسات
ابملرة على املنطقة .ب إن معظم هذه املؤسسات ظ هل موجوداً يف العهد اجلديد مع إجراء بعض التعديضمت إدارية جديدة هل
،واستحداث عدد قلي من املناصب اليت اقتَتها الظروف السياسية ،والعسكرية اجلديدة ،وأقام زنكي تنظيماته
اإلدارية ،على أكتاف جمموعة املوظفني منحهم نوعاً من االستقضمل الذايت يف ممارسة شؤوهنم اإلدارية ،ولكن حتت
إشرا ه التام ومراقبته الدقيقة ،وكان هؤالء املوظفون يعملون يف أربعة جماالت رئيسية ،هي:
حما ظة قلعة املوص وسائر قضمع اإلمارة .وكانت تسمى يف كثري من األحيان :النيابة ،ويدعى متوليها (النائب).
والية املدن واألعمال.
الوزارة.
الدواوين.
1ـ نيابة املوص أو حما ظة القلعة :أنشأ زنكي هذا املنصب حال دخوله املوص يف رمَان عام 521هـ وقد أطلقت
املصادر عليه لقب النيابة أحياانً(، )2ودزدارية قضمع اإلمارة أحياانً أخرى( .)3وملا كانت كلمة دزدار األعجمية تعين حا ظ
هل
القلعة من املمكن تسمية هذا املنصب ابحملا ظة ،وكان من مهام انئب املوص أن يدير شؤوهنا وبقية أجزاء اإلمارة
نيابة عن زنكي ،وأن يكاتب السلطان السلجوقي ،واخلليفة العباسي عن أحوال اإلمارة خضمل تغيب األمري( ،)4ومن
مهامه مجع الَرائب وجباية األموال ،واإلشراف املستمر على إحكام حتصينات املوص وتعميق خنادقها َ ،ضمً عن
األعمال العسكرية احملصنة كالد اع عن املدينة( ،)5والقيام حبمضمت توسعية بناء على أوامر زنكي(.)6
وكان انئب زنكي ابملوص يشرف على إقامة احلدود ،وتعقب املفسدين ومثريي الفنت ،ومدمين اخلمر ،ومعاقبة ك ٍ
منهم حسب جرميته َ ،ضمً عن مراقبة أبواب العاصمة والطواف يف أحياء التجارة واملال وغري ذلك من األعمال(.)7
أن السلطات اإلدارية الواسعة اليت كان انئب زنكي ميارسها كانت تتطلب جهازاً إدارايً واسعاً لتنفيذ ويف أغلب الظن :هل
األوامر والقرارات( ،)8ومن أشهر نواب زنكي يف املوص :
45
أ ـ نصري الدين جقر بن يعقوب 521ـ 539هـ :هو أبو سعيد جقر بن يعقوب اهلمذاين امللقب( :نصري الدين) وكان
جقر أعظم أصحاب زنكي منزلة ،وقد لعب دوراً هاماً يف توليته على املوص عام 521هـ ()1واتبع جقر سياسة إدارية
تَاربت املصادر يف حتديد مساهتا ،ب إن املصدر الواحد مل يستطع جتنب هذا التناقض ،ابن خلكان يصفه أبنه
عرف ابلعدل ،واإلنصا ف ،وجتنب اجلور والظلم ،مث يشري إىل أن الطابع العام لسياسته ،وما اشتهر عنه هو الظلم
()2
لقي الناس منه من شدة اجلور والظلموأنه كان :جبهلاراً عسو اً سفاكاً للدماء مستحضمً لألموال .ويشري الفارقي إىل ما َ
والقت واملصادرات واألقساط( )3وكان ظلم جقر ـ كما يشري ابن خلكان ـ أحد أسباب املؤامرة اليت دبرها أحد األمراء
ضده(.)4
وكان زنكي يقول عنه :إنه خيا ين ،وما خياف هللا( .)5ووضهلح عماد الدين خلي هذه التناقَات بقوله..:أبن جقر اتبع
سياسة شديدة قاسية ممتزجة أبسلوب من الر ق و اللباقة أضفى على سياسته مسات العدل ،ود ع بعض املؤرخني على
حد كبري بتجميع األموال حلسابه وحساب أهله وأقاربهأي من اجلانبني .ويظهر أنه كان قد اهتم إىل ٍعدم التأكيد على ٍ
حىت إن زنكي لدى عودته إىل املوص بعد مقت جقر ،استخرج ذخائره ،وصادر معظم ما ألولئك األقارب(.)6
إن أهم األعمال اليت أجنزها جق ر خضمل رتة نيابته هي إحكامه ألسوار املوص ،وحفره خلنادقها ،ود اعه عنها ضد هل
حصار اخلليفة املسرتشد العباسي عام 527هـ الذي اضطر أخرياً إىل االنسحاب بسبب صمود جقر( )7لقيادة جيوش
زنكي لدى مهامجة حصون األكراد يف اجلهات اجلبلية مشايل املوص ،حيث متكن من االستيضمء على معظمها(، )8
كان يساعد جقر يف حكم املوص و ٍال يعينه هو(.)9
ب ـ زين الدين علي كجك بن بكتكني 539ـ 541هـ :يعترب زين الدين علي كجك من أبرز رجال عماد الدين ،
وأحد قادته الكبار وقد اشرتك معه يف معظم حروبه يف بغداد والشام ومناطق األكراد ،وكـان زين الدين رجضمً صاحلاً ذا
أص تركماين ،لـقب بكجك أي( :القصري اللطيف) وكان معرو اً ابلقوة والشجاعة واإلقدام ،رؤو اً ابلفقراء مو ٍ
اس
للمرضى( ، )10اشتهر ابحملا ظة على حسن العهد ،وأداء األمانة ،ومل ميارس غدراً قط( ، )11وبلغ من تقواه أن قال عنه
46
زنكي :إنهله خياف هللا ،وال خيا ين( ، )1وقد رأى عنه أه املوص ك هل خري( ،)2واستقام له األمر ،وحسنت بتدبريه
األحوال( ،)3وانتشر األمن يف املنطقة ،وازداد عمران البضمد( ،)4وحتققت هبذا امال السكان(.)5
ت ـ انئب زنكي يف حلب :أدرك زنكي أمهية حلب ابلنسبة ألعماله العسكرية والسياسية يف الشام ،اختذها قاعدة له
يف املنطقة ،واعتربها عاصمته اإلدارية هناك ،وأقام يها جهازاً إدارايً يشابه إىل ٍ
حد ما ذاك الذي أقامه يف املوص ،
وجع على رأس هذا اجلهاز انئبه يف حلب ليقوم يف منطقة الشام مبا يقوم به انئبه يف املوص يف اجلهات الشرقية من
إمارته(.)6
وقد جع عماد الدين زنكي انئبه يف حلب املسؤول األعلى عن اجلهاز اإلداري هناك ،وكان انئبه من كبار القادة
العسكريني ،وكان يطلق عليه أحياانً اسم «مقدم زنكي يف حلب» ومن أشهر نواب عماد زنكي يف حلب سوار بن
إبتكني قدم إىل حلب عام 524هـ األمري سوار امللقب مبسعود هارابً من دمشق إثر تدهور عضمقته أبمريها ،وتقدم
لعرض خدماته على زنكي :أكرمه هذا وشر ه وخلع عليه ،وأجرى له اإلقطاعات الكثرية وأعطاه والية حلب وأعماهلا
،واعتمد عليه يف قتال الصليبيني ،وكان له بصرية ابحلرب وتدبري األمور( ،)7وكانت أعماله العسكرية هي اليت أكسبته
شهرة واستنفذت معظم أوقاته وجهوده بسبب قربه من املواقع الصليبية ،وهكذا كان األمري سوار يقوم بشن هجمات
جبند من عنده يقودهم بنفسه إنميد قوات زنكي ٍ سريعة خاطفة على قوات الصليبيني وقوا لهم وكان ـ أحياانً أخرى ُّ
دعت الَرورة ،كما كان يقوم ابلد اع عن مدينة حلب وأعماهلا ضد هجمات الصليبيني ،و َضمً عن اجلنود النظاميني
()8
استمر سوار يف
الذين اعتمدهم كان ينَم إليه أحياانً كثرية تركمان املنطقة ،طمعاً يف الغنيمة ،أو حباً ابجلهاد .وقد هل
منصبه حىت مقت زنكي عام 541هـ(.)9
ث ـ والة نواب زنكي على املدن والقضمع :يتَح مما سبق :أنه كان لزنكي انئبان مركزاين مها :انئبه يف املوص الذي
يشرف على اجلهات الشرقية من اإلمارة ،وانئبه على حلب الذي يشرف على اجلهات الغربية «أي :القسم الشامي».
و َضمً عن هذين عني زنكي على املدن و األقاليم اليت تحها جمموعة من الوالة يطلق عليها اسم النواب أو العمال(.)10
2ـ الوزارة :إن الوزارة يف عهد زنكي ليست سوى جزء من التطور العام هلذا املنصب طيلة عصور التاريخ اإلسضممي
تبلور منصب الوزير ُمنذ العصر العباسي األول ،وكان عمله يف البداية يقتصر على تنفيذ أوامر اخلليفة العباسي ؛ لذا
مسي هذا النوع من االستيزار بـ «وزارة التنفيذ» وبعد مرور رتة قصرية ظهر نوع اخر ،عندما وض اخلليفة وزيره إلدارة
47
شؤون مملكته؛ أطلق عليه« :وزارة التفويض»( )1واستمر هذا املنصب يتأرجح بني التنفيذ والتفويض حسب مركز اخلليفة
،أو السلطان احلاكم( )2ومن أشهر وزراء عماد الدين زنكي:
أ ـ الكفرتوثي 528ـ 536هـ :جتمع املصادر على أن أول من استوزره زنكي هو :ضياء الدين أبو سعد هبرام بن اخلَر
الكفرتوثي( )3عام 528هـ ،ويتَح من هذا أن السنوات السبع األوىل من حكم زنكي مل يكن اختذ خضمهلا وزيراً ،ورمبهلا
كان انئبه يف املوص هذا الذي يقوم مبهام الوزير ،مما جع زنكي يستغين عن هذا املنصب طيلة تلك املدة ،وتذكر
املصادر ابلقول أبن الكفرتوثي كان مشهوراً ،حبسن الطريقة ،والكفاية ،وحب اخلري ،واملذهب احلميد( ، )4وقد قدم
مع زنكي إىل حلب ،مما يشري إىل أنهله مل يكن مستقراً يف املوص بشك دائم(.)5
ب ـ أبو الرضا بن صدقة 536ـ 538هـ :بقي الكفرتوثي يف منصبه كوزير طيلة اثين عشر عاماً ،وتويف يف شعبان عام
536هـ( ، )6استوزر زنكي بعده جضمل الدين أاب الرضا حممد بن صدقة( ، )7ولكنه مل يستمر يف منصبه طويضمً؛ حيث
عزل عام 538هـ ألسباب أوجبت ذلك ودعت إليه(.)8
أن زنكي ألقى القبض عام 531هـ على وزيره أيب احملاسن علي بن أيب ج ـ أبو احملاسن العجمي :يذكر ابن القضمنسي :هل
طالب العجمي ،واعتقله يف قلعة حلب ،حيث بقي هناك بسبب مصادرته لألموال ،وانكسار املعامضمت اليت عجز
عن القيام هبا ،وأتدية ما عليه من التزامات مالية( ، )9ومل تقدم املصادر عن ترمجة العجمي شيئاً يستحق الذكر(.)10
س ـ مجال الدين األصفهاين :أطنبت املصادر يف وصف أخضمق مجال الدين ،مركزة األضواء على كرمه العجيب ،تلك
األخضمق اليت قربته من زنكي ،وجعلته حمبوابً ومشتهراً يف أحناء واسعة من العامل اإلسضممي ،ومنحته لقب اجلود لكثرة
جوده ،كما د عت أبناء زنكي ـ يما بعد ـ إىل االعتماد عليه يف إدارة إمارهتم(.)11
وقد أطلقت بعض املصادر عن مجال الدين األصبهاين :وزير صاحب املوص ( ، )12وذكرت بعض املصادر :أن زنكي
وحكمه حتكيماً ال مزيد عليه( .)13ويقول ابن األثري :قال والدي :كنت أرى جع مجال الدين مشرف مملكته كلها ،هل
من مجال الدين الوزير يف أايم زنكي من الكفاية والنظر يف صغري األمور وكبريها واحملا ظة ـ أي التحقيق ـ يها ،ما يدل
عول على مجال الدين يف الفرتة األخرية من حكمه يف اإلشراف أن زنكي هلعلى متكنه من الكفاية ،وتشري املصادر إىل هل
48
ومكنه يف منصبه( ، )2ومل حياول مجال الدين أن يستغ منصبه جلمع املال حلسابه اخلاص ، على ديوانه ،وزاد راتبه( ، )1هل
ب كان أيخذ ما يكفي ملعيشته وير ع مجيع ما حيص له إىل خزانة زنكي( ، )3مما زاد من اعتماد األخري عليه وثقته به
،مكنه من أصحاب( )4ديوانه وهكذا كان مجال الدين يتمتع بسلطان عملية واسعة ،وخاصة يف مسائ اإلشراف
على الديوان واملسائ املالية ،قد شغ مجال الدين منصباً خطرياً ،وقد أطلقت معظم املصادر على مجال الدين لقب
«وزير»(.)5
ش ـ الوزير مروان بن علي بن سضممة :كان وزير عماد الدين زنكي يف املوص مروان بن علي بن سضممة الطرتي نسبة
إىل «طرتة» من داير بكر ،وكان مروان هذا قد ورد بغداد ،وتفقهله على يد الغزايل ،والشاشي ،مث عاد إىل بلده ليدبر
حىت و اته عام 540هـ (. )6أمور الوزارة هل
3ـ املوظفون ونظام التوظيف :اهتم عماد الدين زنكي أبمر الوظائف واملوظفني اهتماماً كبرياً كي يستطيع أن يسري أمور
دولته بشك منظهلم ،وكي جينب جهازه اإلداري اهلزات اليت كثرياً ما تعرق سري األمور ،وقد طبهلق زنكي مبادأى إدارية،
منها:
أ ـ مبدأ تكا ؤ الفرص يف اجملال اإلداري :كي يتحقق هد ه انف الذكر ،ويَع يديه على املوظفني األكفاء كان:
يتعهد أصحابه ،وميتحنهم ضم ير ع أحداً وق قدره الذي يستحقه ،وال يَعه دونه( ،)7كما كان جيع كفاءة الشخص
أساساً لتقدير راتبه.
ب ـ الثقة على قدر املعر ة :كان يويل موظفيه على قدر ما يعلم منهم كي يشعرهم ابألمن واالستقرار ،وهو أمر ضروري
لتقدمي خدماهتم اإلدارية على أحسن وجه.
ج ـ مبدأ كفاءة الشخص :قد جع من كفاءة الشخص أساساً لتقدير راتبه(.)8
يتغري على أحد من أصحابه التغري ،شديد العزم ،مل هلس ـ ثقته يف موظفيه :كان :قلي التلون والتنق ،بطيء املل و ُّ
ُم ْذ ملك إىل أن قت إالهل بذنب يوجب ُّ
التغري ،واألمراء واملقدمون الذين كانوا معه هلأوالً هم الذين بقوا معه أخرياً ،لهذا
كانوا ينصحونه ،ويبذلون نفوسهم له( ، )9وهذا هو الذي دعا مجال الدين الوزير إىل وصف زنكي أبنهله كان متمكناً ،
قوي العزم ،ال يتجاسر أحد على االعرتاض عليه ،وال يتلون أبقوال أصحابه ،ممهلا د ع أصحابه إىل حفظه(.)10
49
ش ـ انتقاء املوظفني :كان زنكي ينتقي موظهلفيه من الرجال ذوي اهلمم العالية ،واآلراء الصائبة ،واألنفس األبيهلة( )1إذا
ما أضيف إىل ذلك توسيعه يف رواتب موظفيه()2؛ أدركنا مدى إخضمص هؤالء له ،ولعملهم ،ومدى سري األمور اإلدارية
يف واليته سرياً طبيعياً .وخري َمثَ على ذلك :موظفه الكبري مجال الدين األصفهاين الذي أظهر يف هلأايمه من الكفاية
لما وزر مجال الدين نفسه لقطب والنظر يف صغري األمور وكبريها ،والتحقيق يها ما يدل على متكنه من الكفاية ،هل
الدين مودود بن زنكي؛ قلهلت كفايته وصار يهم بعض األمور ،وعندما سأله أحد املوظفني عن السبب يف ذلك
أجاب :ليست الكفاية عبارة عن ع واحد يف ك زمان ،إمنا هي أن يسلك اإلنسان يف ك زمان ما يناسبه(.)3
ع ـ املركزية يف احلكم :يقول بعض الباحثني كان زنكي يؤمن مبا يُ َس هلمى اليوم (الدكتاتور العادل) ويسعى إىل تطبيق هذا
املبدأ يف جمال اإلدارة ،كان يقول :ما يتفق أن يكون أكثر من ظامل واحد ـ يعين نفسه( .)4ويقول عماد الدين خلي :
كلمة (ظامل) تعين :السيطرة الفردية املركزيهلة يف احلكم ،وعدم السماح للموظفني االخرين ابالرتفاع إىل مستوى مسؤوليته
يف اإلدارة ،ومشاركته يف احل كم ؛ وهلذا السبب ـ نفسه ـ مل يكن زنكي يسمح ملوظفيه وعماله بظلم أحد من أ راد الرعية
أذى .وقد عاقب عز الدين الدبيسي ـ وهو من أكابر أمرائه ـ ألنهله سلب أحد يهود جزيرة ابن عمر أو التعرض هلم أبي ً
بيته( ،)5وعاقب أحد والته بسم عينيه لتعرضه المرأة( ، )6خاف الوالة ،وانزجروا( )7وعجز القوي عن ظلم الَعيف(.)8
ك ـ هنيه أصحابه وموظفيه عن اقتناء األمضمك :كان ينهي أصحابه وموظفيه عن اقتناء األمضمك قائضمً هلم :ما دامت البضمد
أي حاجة بكم إىل األمضمك ،إن اإلقطاعات تغين عنها ،إن خرجت البضمد من أيدينا ،إن األمضمك تذهب أبيدينا؛ ُّ
معها ،ومىت صارت األمضمك ألصحاب السلطان ظلموا الرعية ،وتعدوا عليهم ،وغصبوهم أمضمكهم(.)9
وقد خلص زنكي هبذا التصريح سياسته العادلة إزاء الرعية ،وموقفه من موظفيه كما أوضح مفهومه عن احلكم املستبد
العادل ،وهذا هو الذي د ع عدداً من املؤرخني إىل التأكيد على سياسته العادلة لدى استعراضهم لسريته( ، )10وأنه
أن زنكي كان ميارس الظلم يف بدء أمره ،سمع يف إحدى كان يتقب آراء الرعية ،وانتقاداهتم .ويروي ابن واص :هل
الليايل شخصاً يغين بيتني من الشعر عن العدل ،بكى وتبدهللت نيته يف الظلم ،وألزم نفسه ابلعدل ُمنذ ذلك اليوم(،)11
كما يشري ابن العدمي إىل أن أه حران امتدحوا سياسة زنكي العادلة معهم ،مث يقول :وبلغين :أنهله ال يتجاسر أحد من
50
رعيته ،كائناً من كان أن يظلم أحداً من خلق هللا( .)1ويف العموم كانت سياسته إىل العدل أمي ،وخالطها شيء من
الظلم ،وحرص على التخلص منه.
4ـ الدواوين :كان ديوان زنكي يقاس بدواوين السضمطني السضمجقة لكثرة التجمي ،ونفاذ األمر ،وعظم احلاشية
واخلرج( .)2وهذا يؤكد أمهية ذلك الديوان وبلوغه مرحلة متقدمة من االتساع والنمو وكثرة املوظفني وضخامة املصرو ات؛
أي مراجع كان يقصده كان جيد من تو ر موظفيه عليه ونظرهم يف مصاحله ما جيعله كأنه يف أهله(.)3 حبيث هل
إن هل
5ـ األمن الداخلي واإلعمار :استطاع زنكي ،إبدارته احلازمة وضبطه لألمور( )4وعدالته ومبساعدة أجهزة اجليش والربيد
أن حيقق نتائج هامة يف إمارته يف جمال إقرار األمن والقَاء على املفسدين ،ونشر العمران يف البضمد ،حيث يشري ابن
()5
العدمي إىل أن البضمد عمرت يف أايم زنكي بعد خراهبا ،وسادها األمن بعد اخلوف ،وكان زنكي ال يبقي على مفسد
،وقد كان األمن مَطرابً يف املوص نفسها خضمل الفرتة اليت سبقت حكم زنكي ،ويورد ابن األثري نصاً يلقي ضوءاً
على املوضوع ،رغ م ما يه من مبالغة ،يقول يه :كان الناس ال يقدرون على املشي إىل اجلامع غري يوم اجلمعة لبعده
عن( )6العمارة ،وكانت معظم املناطق البعيدة عن املركز خربة ال عمران يها ،وال أمن ،وسرعان ما ساد العمران هذه
املناطق لدى جميء زنكي( ، )7بفَ محايته للبضمد ومنعه املفسدين ،وكفه أيدي األقوايء(.)8
وكان النتشار األمن يف املنطقة أثر واضح يف زايدة عدد السكان يف إمارة زنكي( ، )9كما غدت املوص ملجأ للمهاجرين
من بغداد بسبب قدان األمن هناك واشتداد الَوائق االقتصادية( .)10وابإلمكان معر ة الدهلور الذي لعبه زنكي يف جمال
األمن بتتبع ذلك يف األايم اليت أعقبت اغتياله حيث اضطربت األعمال ،واختلهلت املسالك ،وانطلقت أيدي احلراميهلة
يف إ ساد األطراف ،والعبث يف سائر النواحي(.)11
وعندما كان زنكي يسيطر على املدن؛ مل يكن يرتك جنوده يتحكمون هل
مبقدراهتا ويسيئون إىل أهاليها ،وينشرون الرعب
والفوضى يف ربوعها ،ب كان سرعان ما يعني عليها والياً من قبله؛ كي تكون الكلمة والسلطة أبيدي رجال مدنيني ،
من أج إحضمل األمن يف املدينة وإعمارها( ، )12وكان ال يسمح ـ أبداً ـ جلنده ـ خضمل التحركات والعمليات احلربية أبن
يعتدوا على الفضمحني بنهب أو ختريب مزارعهم ،كان العسكر ميشي خلفه كأهنم بني خيطني ،خما ة أن يدوس
51
العسكر شيئاً من الزرع ،وال جيسر أحد من أجناده أن أيخذ ـ ولو مقداراً ضئيضمً من التنب ـ من ضمح إالهل بثمنه ،أو خبط
من الديوان إىل رئيس القرية وإن تعدهلى أحد؛ صلبه(.)1
في عام 528هـ مثضمً ـ قام ابلقَا ء على أعمال النهب والفوضى اليت كان يقوم هبا بعض أكراد شرقي املوص ضد
الفضمحني( )2ويف عام 533هـ استوىل على منطقة شهرزور الرتكمانية :أصلح أحوال أهلها وخفف عنهم ما كانوا يلقونه
من الرتكمان( .)3ويف عام 537هـ استطاع أن يستويل على عدد من حصون األكراد مشايل املوص وأن يقَي على
أعمال الفساد يف املنطقة(.)4
الرها من الصليبيني ـ ابستباحة املدينة خضمل األايم األوىل من الفتح ،لما ويف عام 539هـ قام عسكره ـ إثر اسرتجاع ُّ
دخ زنكي البلد أعجبه منظره ،أسف ملثله من اخلراب ،ورأى أن ختريبه وإخضمءه من أهله غري مستحسن من مثله
أمر إبعادة ما أخذ من سيب وأموال ،ردوا عن اخرهم ،وعاد البلد عامراً آهضمً آمناً( ، )5مث أصدر أوامره إبعادة إعمار
الرها( ، )6أصلح أحوال أهلها ،وخفف عنهم ما كانوا يلقونه من الرتكمان( . )7ويف عام 537هـ استطاع أن يستويل ُّ
أدل على حب عماد على عدد من حصون األكراد مشايل املوص وأن يقَي على أعمال الفساد يف املنطقة( .)8وال هل
الدين زنكي لإلعمار ور قه أبهايل املناطق املفتوحة من تعيينه جنم الدين أيوب والياً على بعلبك عام 534هـ ،وهو
توسط لدى زنكي يف العفو عن أمراء بعلبك الذين حكم عليهم ابإلعدام ،أجابه زنكي إىل طلبه وواله على الذي هل
بعلبك وأقطعه ثلثها(.)9
6ـ سياسة الرتحي :اتبع زنكي ما ميكن تسميته (سياسة الرتحي ) أي :نق مجاعة من مكان إىل مكان اخر لتحقيق
غرضني ،أوهلما :التمكني حلكمه يف بعض املناطق اليت استوىل عليها ،واثنيهما :اختاذ بعض هذه اجلماعات كقوات
حاجزة بني ممتلكاته وبني مناطق األعداء ،في عام 536هـ استوىل على مدينة احلديثة الواقعة على الفرات ،ونق من
كان هبا من آل مهراش إىل املوص ورتب أصحابه يها( ، )10وأغلب الظن أن آل مهراش هم حكام «احلديثة» الذين
كانوا يهددون سيطرة زنكي على املدينة مما اضطره إىل إبعادهم.
الرها العصيان ضد زنكي واستطاع انئبه زين الدين كجك أن يقَي على احملاولة، ويف عام 540هـ وعندما أعلن أرمن ُّ
أمره زنكي إبعدام قادة املؤامرة مث قام برتحي بعض األرمن من املدينة ،وأح حملهم ثضممثئة عائلة يهودية ختلصاً من
52
خطر وجودهم( )1وخضمل رتة مبكرة من حكم زنكي قام بنق طائفة من الرتكمان تدعى «اإليوانية» مع أمريهم ايروق
أرسضمن إىل الشام ،وأسكنهم يف والية حلب ،وأمرهم جبهاد الصليبيني ،ومنحهم احلق يف متلك ك هل ما استولوا عليه
من البضمد العائدة هلؤالء.
وقد استطاعت هذه الطائفة ـ عضمً ـ أن تسرتد من الصليبيني الكثري من األراضي احمليطة حبلب؛ حيث بقيت أبيديهم
إىل سنة 600هـ( .)2وكان ايروق مقدماً كبرياً وإليه نسبت الطائفة الياروقية من الرتكمان .وقد حققت هذه الطائفة ـ
َضمً عن أعماهلا احلربية ـ نتائج عمرانية؛ إذ بىن ايروق وأتباعه على شاطىء هنر قويق املار حبلب عمائر كثرية عر ت
()4
ابلياروقية واشتهرت هناك( ، )3وقد استفاد زنكي يف توطيد األمن الداخلي إىل حد كبري من جهاز استخباراته الدقيق
ومن الربيد ،وميكن القول أبن جند زنكي وحرسه وحاميات املدن قاموا ـ كذلك ـ بدور تنفيذي هام يف هذا اجملال(.)5
53
أعطي الديوان مئة ألف ،وأعطي األمري حاجب أكثر من ذلك ،إذا كنت أان أتوىل األمور صغريها وكبريها! ..كان
إيل حىت
عليكم أن تشكوا حالكم إىل الديوان ،إن أمهلوا أمركم قلتم لـ (أمري حاجب) ،إن أمه أمركم شكومت اجلميع هل
أعاقبهم على إمهاهلم ،وأما االن الذنب عليكم ،مث أمر بتأديبهم ،وقطع رواتبهم ،حىت شفع يهم بعض األمراء عفا
عنهم ،مث أحَر موظفي الديوان ،وأمري حاجب وقال هلم :إذا كنتم هتملون أمر جندي الذين حتت ركايب ،ومن هو
مضمزمي يف سفري وإقاميت ،وهبم من احلاجة إىل النفقات يف أسفارهم ما تعلمونه ،كيف يكون حال من بعد عين؟
وأنكر عليهم ذلك ،خرجوا من عنده ،و رقوا يف األجناد من أمواهلم إىل حني وصول «رواتبهم» أخذوا عوض ما
أخرجوه( ، )1ويعلق ابن األثري على هذه احلادثة قائضمً أبن زنكي هبذا اإلجراء :أصلح اجلند لطاعة الديوان ،وأصلح
الديوان للنظر يف مصاحل اجلند ،وعظم نفسه عن أن خياطب يف هذا األمر احلقري ،وسه عليه بذل املبلغ الكثري ملن
يقوم أبموره(.)2
ب ـ أمري حاجب زنكي :توىل صضمح الدين بن أيوب الياغسياين منصب أمري حاجب لدى زنكي ،ويرجع ذلك يف
تولية األخري على املوص ؛ إذ كان أحد عَوين يف الو د الذي توجه إىل بغداد عام 521هـ ملفاوضة املسؤولني حول
إقرار الوضع يف املنطقة ،وقد وعده زنكي بتوليته منصب أمري حاجب حاملاً يستقر يف املوص ،لما دخلها عام
521هـ والهله هذا املنصب اهلام( ، )3وقد ظ هل الياغسياين يضمزم زنكي يف حله وترحاله ،واعتمد عليه هذا يف مهامه
العسكرية( ، )4وجعله أحد قواده الكبار ،وكلفه بقيادة جيشه يف عدد من املهام واملعارك العسكرية ،وتقدم لدى زنكي
ابملناصحة ،وسداد التدبري ،وحسن السفارة ،وصواب الرأي( ، )5ولذلك مل يعرتضه أو يقيله من منصبه طيلة رتة
حكمه(. )6
ج ـ تنظيم اجليش وعناصره :تعترب نظم عماد الدين زنكي امتداداً لنظم السضمجقة من جهة ،وأساساً للنظم األيوبية
واململوكية من جهة أخرى ،ومن العناصر اليت كانت تشك جيش زنكي :اخلراسانيون ،والرتكمان الذين كانوا يشكلون
الرها عام 539هـ كاتب طوائف الرتكمان ابالستدعاء أعداداً كبرية؛ إذ يشري ابن القضمنسي إىل أن زنكي عندما حاصر ُّ
الرها) وأداء ريَة اجلهاد ،وص إليه منهم اخللق الكثري حبيث أحاطوا هبا من مجيع هلم للمعونة عليه (أي :على ُّ
اجلهات ،وحالوا بينها وبني ما يص إليها من املرية واألقوات(.)7
وقد استفاد زنكي من الرتكمان جلهاد الصليبيني ابلدرجة األوىل ،وقام بنق طائفة من الرتكمان األيوانية مع أمريهم
«الياروق» إىل الشام ،وأسكنهم بوالية حلب ،وأمرهم جبهاد الفرنج ،وملكهم ك ما استنقذوه من البضمد اليت هلم..
كانوا يغادرون الفرنج ابلقتال ،ويراوحوهنم ،ومل يزل مجيع ما تحوه أبيديهم إىل سنة 600هـ .وقد استفاد األمري سوار
54
بن إيتكني الرتكماين انئب زنكي يف حلب من الرتكمان يف غارته ضد الصليبيني يف مشايل الشام ،واستطاع أن حيقق
بواسطتهم انتصارات عديدة( ، )1وكان الرتكمان ينتشرون يف معظم أحناء الشام وخباصة مناطق الفرات ،وكانوا طوائف
كثرية ومجاعة كبرية(.)2
وكان زنكي ميَي إىل الفرات جلمع الرتكمان قب القيام مبعاركه املهمة؛ إذ كان هؤالء أبعدادهم الَخمة ،ومراهنم يف
احلرب ،وشجاعتهم ،يشكلون أهم عنصر يف جيشه( ،)3وجاءت إشارات متعددة عن(احللبيني) كقوة عسكرية اشرتكت
يف معارك عديدة ضد الصليبيني يف مشايل الشام بقيادة األمري سوار ،وقامت بدور أساسي يف الد اع عن حلب وبعض
املدن األخرى القريبة عند هجوم االمرباطور البيزنطي املتحالف مع الصليبيني على هذه املنطقة عام 532هـ( ، )4كما
الرها عام 539هـ جنباً إىل جنب مع اخلراسانيني؛ إذ كان يف (احللبيني) أيَاً من هو قام احللبيون بدور هام يف تح ُّ
«عارف مبواضع النقوب» ،نقبوا عدة مواضع مع اخلراسانيني ،وأشعلوا يها النار مما أدى إىل اهنيار بعض أجزاء السور
الرها(.)5
ودخول املسلمني إىل ُّ
وقد كان هؤالء احللبيون من سكان حلب األصليني ،أي من العرب ،بدلي ما أورده ابن العدمي من أن زنكي كان
جيرب ضمحي حلب على االلتحاق جبيشه يف أوقات القتال( ،)6ويظهر أن هؤالء كانوا يرتكون اجليش ،ويعودون إىل
أعماهلم الزراعية بعد انتهاء القتال ،وال ريب :أهنم كانوا يتقاضون أجوراً على اشرتاكهم يف املعارك ،سواء كانت أرزاقاً
معينة ،أم ما حيصلون عليه من الغنائم ،وقد ذكر ابن واص أن زنكي رح إىل أرض محاة عام 533هـ واستصحب
من أهلها تسعة االف راج خيدمون الركاب( .)7أي :للقيام مبهمة احلشم يف خدمة اجليش وأمرائه يف حلهم وترحاهلم،
َضمً عن حراسة زنكي اخلاصة ،مما يشري إىل أن هذا اعتمد على أهايل الشام يف كثري من األمور احلربية( )8واعتمد
جيشه على عناصر أخرى كالبدو واألكراد(.)9
أن عدد جيش زنكي مل يكن اثبتاً ،ب كان عرضة للزايدة والنقصان مبا ينَم إليه ـ عدد جيش زنكي :ويظهر مما سبق :هل
من املتطوعني من حني آلخر .وقد حاول زنكي أن يَمن وجود مورد عسكري بشري اثبت ،فرض التجنيد اإلجباري
على بعض املناطق القريبة من مواطن اخلطر ،ولذلك كان يلزم أه حلب جبمع الرجالة للقتال واحلصار ،إن كان
ذلك يف جهـاد الكفار؛ قـد كان جيب عليهـم ذلك ،وله إلزامهم به(.)10
55
ـ معسكرات عماد الدين زنكي :هنالك إشارات حمدودة عن معسكرات اجلنود ،في شتاء إحدى السنني قدم زنكي
إىل جزيرة ابن عمر ،نزل ابلقلعة ،وعسكر جنده يف اخليام خارج املدينة( ، )1األمر الذي يشري إىل وجود معسكرات
غري اثبتة يف احلاالت الطارئة ،و هلأما يف احلاالت الدائمة ،قد كان زنكي يقيم حامية عسكرية يف ك مدينة ،أو حصن
يفتحه بعد أن يقطع أراضيها ألمراء احلامية وجنودها( )2وهذا يؤكد وجود معسكرات اثبتة يف خمتلف املناطق التابعة
لزنكي ،ومل حتدد املصادر يما إذا كانت سكىن اجلند داخ القضمع أم خارجها()3؟
ـ استخدام اخلي يف جيش عماد الدين :وردت إشارات عديدة عن اهتمام قوات عماد الدين زنكي ابخلي واستخدامها
يف خمتلف احلروب ،ويف اهلجمات السريعة ،وقد ذكر أسامة بن منقذ بعض اللمحات عن اخليول يف عهد زنكي ،
كان الفارس يلبس الزردية ،أو الكزاغند (أي :الدرع) .واخلوذة ،ويقات ابلسيف أحياانً ،وابلدبوس أحياانً أخرى(.)4
()6
وقد جرى التنا س بني قوات زنكي القتناء اخليول احلسنة( )5وكان لألمراء ركائبيون ،وإصطبضمت خاصة خليوهلم
ويشري ابن العدمي إىل استخدام اخلي يف معارك عام 532هـ هل
ضد الروم والصليبيني.
وقد اعتمد األمري سوار انئب زنكي يف حلب على اخليول يف غاراته اليت شنهلها ضد الصليبيني( .)7وهنالك إشارات
خمتصرة عن تنظيم النق يف جيش زنكي؛ إذ يشري ابن منقذ إىل استخدام زنكي للبغال( .)8ويظهر :أن حروبه اجلبلية
د عته إىل ذلك ،كما استُخدمت اإلب يف مناطق اجلزيرة املستوية يف الظروف اليت تطلبت السرعة(.)9
س ـ استدعاء اجليوش وأساليب احلرب :قبي إعضمن احلرب كان زنكي يستدعي قوات من املتطوعني لتنَم إىل جيوشه
()10
الرها عام 539هـ كاتب طوائف الرتكمان ابالستدعاء هلم للمعونة عليها ، النظامية اجملهزة .عندما عزم على تح ُّ
وأداء ريَة اجلهاد وص إليه منهم اخللق الكثري( .)11كما كان مير ـ يف طريقه إىل احلرب ببعض مدن إمارته ،وجيمع
منها اجلند ليَيفهم إىل قواته كما ع مع أهايل حلب( ، )12ومحاة( )13وكان اجلهاد هل
ضد الصليبيني أحد الدوا ع املهمة
()14
يف اشرتاك املتطوعني يف حروب زنكي وخصوصاً الرتكمان ،كما كانت الرغبة يف الغنائم واخلوف من سلطة زنكي
من الدوا ع األخرى لذلك ،وكانت معظم املعارك اليت خاضها زنكي عبارة عن هجمات وحماصرة للحصون الكثرية
56
املنتشرة يف منطقة اجلزيرة والشام ،وأما املعارك املفتوحة هلإهنا كانت أق هل من حروب األسوار بشك ملحوظ ،ولذلك
قلت اإلشارات عن األساليب اليت اتبعت يها(.)1
وكان للجواسيس أمهية كبرية يف املعارك اليت خاضها زنكي ،وكانوا ينتشرون يف مناطق العدو ،ويطلعون أمريهم على
حتركاته ،وإمكانياته لكي يكون على بينة من األمر ،وكان زنكي حيدد موقفه احلريب أحياانً بناء على ما يقدمه هؤالء
من معلومات( ، )2ومن مث يتجه هو أو أحد قواده على رأس اجليش لفرض احلصار ،إذا ما استدعت الظروف السرعة
يف السري؛ اختذ من الوسائ ما يكف ذلك ،في عام 528هـ على سبي املثال توجه إىل (خضمط) وأراد الوصول إليها
بسرعة ،سلك طريقاً عرب اجلبال عرب الطريق املسلوك ،وكان جنده يسرتحيون ،ك واحد يف موضعه دون خيام(.)3
الرها عام 539هـ استعان على السرعة بركوب النجائب (أي :اإلب صغرية العمر)(.)4وعندما توجه حلصار ُّ
الرها تقدم زنكي ـ أوالً ـ إىل أه
حروب األسوار :قدمت بعض املصادر تفصيضمت عن أساليب األسوار ،في حصار ُّ
احلصن بتسليمه له دون أن يَطر إىل ختريبه ،لما ر َوا؛ أمر املنجنيقات ابلَرب ،وقاد الشجعان لنزاله على شك
زحوف مستمرة لقتال احلامية ،ويف الوقت نفسه كان النقابون العار ون مبواضع النقوب يعملون على نقب بعض املناطق
الواقعة حتت األبراج ،وبعد ذلك وضعوا يها األخشاب ،وأحرقوها ،سقطت األبراج ،واحرتق السور ،واند ع جند
زنكي إىل داخ احلصن(.)5
أسلوب االشتباك :اتبع زنكي أسلوب االشتباك مع حامية احلصن حاملاً يفسح اجملال بذلك؛ إذ تبدأ املنجنيقات أوالً
بَرب األسوار ،وما أن حتدث بعض الفتحات؛ حىت يقوم عدد من جنده هبجوم سريع على تلك املناطق واالشتباك
مع احلامية ،إذا ما قَوا على املدا عني؛ تحوا الطريق أمام اجليش للدخول إىل احلصن واالستيضمء عليه(.)6
الناحية التموينية :كان عماد الدين زنكي يؤكد يف حصاره للحصون على الناحية التموينية ،يفرض حصاراً اقتصادايً
على احلصن َ ،ضمً عن احلصار العسكري( ، )7كما كان يؤكد على إاثرة محاسة اجلند أبن يشرتك هو نفسه يف اهلجوم
الرها عام 539هـ(.)9 ()8
على األسوار كما حدث يف معركيت عقر احلميدية عام 528هـ و ُّ
احلروب املفتوحة :قد اتبع زنكي أسلوب احلرب املفتوحة ،حيث تقسم القوات إىل عدة جمموعات على رأس ك ٍ منها
أمري :ميمنة ،قلب ،ميسرة ،مقدمة ،مؤخرة .وقد ظهرت براعة زنكي وقواده يف استخدام األساليب املختلفة يف
القتال ،كنصب الكمائن( )10ويف احلاالت اليت كانوا يرون يها :أن من اخلطورة الدخول مبعارك مفتوحة مع العدو ،إما
57
لقلهلة عددهم ،أو لعدم مضمءمة الظروف العسكرية هلذا النوع من القتال ،يف هذه احلاالت كان زنكي وقواده يلجؤون
إىل شن الغارات على معسكرات العدو ،واالنسحاب بسرعة ،وكانوا يستهد ون من ذلك إقضمق تلك املعسكرات ،
ونشر اخلوف ،والفوضى يف صفو ها ؛ وذلك مبا حيدثونه يف أطرا ها من قت ،واختطاف ،وهنب ،وختريب ،ممهلا يؤدي
هام إلضعا ه.أيَاً إىل اضطراب يف متوين العدو ،وهو عام ٌّ
وقد حققت هذه األساليب انتصارات عديدة لزنكي ورجاله( .)1وكان زنكي ـ أحياانً أخرى ـ ميارس ضغطه االقتصادي
ضد أعدائه عن طريق القيام بعمليات النهب والتخريب يف املناطق اليت مت ُّد حصون هؤالء ابلتموين ،كما حدث يف
منطقة محص يف السنوات اليت سبقت االستيضمء عليها عام 532هـ( )2ويف حصاره لدمشق عام 534هـ حيث أحرق
وشن الغارات على حوران ،وأعمال دمشق للنهلهب ،والتخريب(.)3 عدة قرى من املرج ،والغوطة ،هل
بعض منها كالدبوس وهو آلة من حديد ذات ع ـ األسلحة اليت استخدمها عماد الدين زنكي يف جهاده :قد ورد ذكر ٍ
أضضمع ،والرماح ،والسيوف ،والقوس ،والسهم ،والنشهلاب ،واملنجنيقات ،والداببة ،والكبش ،والقلعة املتحركة واليت كانت
تستخدم لنق اجلند ،واملعدات احلربية إىل األسوار لكي حتميهم من سهام األعداء ونرياهنم( ، )4كما استعم جند
زنكي النار العادية حلرق األسوار بعد نقبها ،وملئها ابخلشب( )5وبلغت أسلحة زنكي من الكثرة يف إحدى املعارك
حبيث قال عنها الشاعر:
()6
ظننـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا الب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهلر حب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراً م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن سـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمح ................. .........................
ائحي لعضمج مصايب احلرب( ، )7ورمبا كان ذلك دليضمً على وجود جمموعة ،أو هيئة ترا ق وكان مع جيوش زنكي جر ٌّ
جند زنكي إلسعاف اجلرحى(.)8
سلوك األمراء واجلند جتاه سكان وحاميات املدن املفتوحة :كانت االعتبارات السياسية والعسكرية هي اليت جتدد سلوك
اجلند ،وأمرائهم جتاه سكان وحاميات املدن املفتوحة ،في عام 533هـ على سبي املثال ،تح زنكي حصن بزاعة
انتقامي على سلوك الروم والصليبيني جتاه املسلمني لدى استيضمئهم ٍ ابلسيف :وقت ك هل من يه من الروم ،والفرنج(ٍ )9
كرد
على هذا احلصن ،ومعاملتهم ألهله بوحشية ابلغة( .)10كما أن هذا احلصن كان يشك مركزاً عسكرايً مهماً لقربه من
حلب ،ومن مث إن وجود أية مجاعة تؤيد الصليبيني يه يشك خطراً على املنطقة كلها.
58
الرها عام 539هـ ،بعد مقاومة شديدة د عته إىل إطضمق احلرية جلنده، وكذلك ميكن القول يف موقف زنكي عند تح ُّ
وأمرائه يف األايم األوىل من الفتح ،ملؤوا أيديهم من الغنائم ،واألسضمب ،واألسرى( ،)1لكنهله لدى اطضمعه على البلد:
أن خرابه وإخضمءه غري مستحسن ،أمر إبعادة ما أخذ من الغنائم ، أعجبه منظره أسف ملثله يف اخلراب ،ورأى :هل
والسيب ردوا ،وعاد البلد عامراً ،اهضمً ابلسكان ،بعد أن كان داثراً(.)2
وهكذا جند :أن موقف زنكي ابلسماح جلنده ابلنهب واألسر كان ذا اعتبار عسكري بسبب املقاومة العنيفة ،تلك
الرها كتلة واحدة يفيد منهااألعمال كانت ذا اعتبار سياسي؛ إذ كان يرمي من وراء ذلك جع املسيحيني الوطنيني يف ُّ
ضد الصليبيني الذين خيالفوهنم يف املذهب ،ولعله أراد أن يستعني ابملسيحيني الوطنيني ابإلضا ة إىل احلامية الرتكية يفهل
()3
الرها ـ ووعدهم إبمجال السرية
الرها بعد طرد القوات الصليبيهلة منها .ولذلك اجتهد يف مصاحل ـ أه ُّ
احملا ظة على ُّ
وبسط العدالة( ، )4وعلى هذا األساس كانت معاملة زنكي أله بعلبك ،وأمرائها بعد أن أعطاهم األمان؛ إذ إن ما
اختذه معهم من شدة ،وقسوة قصد به إاثرة خوف املقاتلني له من املسلمني يف دمشق(.)5
ف ـ عضمقة عماد الدين زنكي جبنوده :قامت عضمقة عماد الدين زنكي جبنده على النظام والطاعة واالنَباط من جهة،
وعلى الود والتعاطف والرأ ة من جهة أخرى ،بسبب ما قدمه للجند من رواتب حسنة ،وما مش به أهليهم من رعاية
واهتمام( ، )6وكان عقابه صارماً للمخالفني من جنده ال سيهلما إذا كانت خمالفتهم على حساب الرعية( ،)7وقد بلغ
زنكي من السطوة والنفوذ لدى جنده :أنهله إذا ركب؛ مشى العسكر خلفه كأهنم بني خيطني ،خما ة أن يدوس العسكر
شيئاً من الزرع ،وال جيسر أحد من هيبته أن يدوس عرقاً منه ،وال ميشي رسه يه ،وال جيسر أحد من أجناده أن
ضمح حفنة من التنب إالهل بثمنها ،أو خبط من الديوان إىل رئيس القرية(.)8
أيخذ من ٍ
وكان زنكي يقدر الدور اهلام الذي يؤديه اجلند يف خدمة اإلمارة ؛ لذلك عين بتو ري الراحة واالستقرار للجندي يف ك
ما يتعلق به ،وخباصة عائلته وزوجته ،كان شديد الغرية على احلرمي ،ال سيما نساء اجلند ،إن التعرض إليهن كان
من الذنوب اليت ال يغفرها ،وقد عل ذلك بقوله :إن جندي ال يفارقوين يف أسفاري وما يقيمون عند أهليهم ،إن
()9
مر معنا
حنن مل مننع من التعرض إىل حرمهم هلكن و سدن ،ولذلك كان يعاقب املتعرضني للنساء أشد العقاب وقد هل
قصة وايل جزيرة ابن عمر التابع لعماد الدين زنكي (حسن الربطي) وكيف جرده من ك أمواله وعاقبه(.)10
59
ص ـ االستخبارات :أقام عماد الدين زنكي جهازاً للمخابرات ،وخصص له املوظفني ،والرواتب ،وقد ورد عنه أنهله:
كان شديد العناية أبخبار األطراف وما جيري ألصحاهبا حىت يف خلواهتم ،وكان له يف بضمد السلطان السلجوقي من
يطالعه ،ويكتب إليه بك ما يفعله السلطان يف ليله وهناره ،وحرب وسلم ،وهزل وجد ،وكان يصرف على ذلك
األموال اجلليلة ،وكان يص إليه يف ك يوم عدة قاصدين ،أو كتب( )1كما كان له يف ك بلد من يطالعه ابألخبار(.)2
وقد اتصف عماد الدين زنكي ابلدراية الواسعة واحلذر يف هذا اجملال ،كان ال ُميكن رسول ملك يعرب يف بضمده بغري
إذنه ،وإذا استأذنه رسول يف العبور إىل بضمده أذن له ،وأرس إليه من يسريه ،وال يرتكه جيتمع أبحد من الرعية وال
غريهم ،كان الرسول يدخ بضمده وخيرج منها ،وال يعلم من أحواهلا شيئاً البتة( ، )3كما كان ال ميكن أحد موظفيه
من مغادرة بضمده ،ويعل ذلك أبن البضمد كبستان عليه سياج من هو خارج السياج يهاب الدخول ،إذا خرج منها
من يدل على عورهتا ويطمع العدو يها؛ زالت اهليبة ،وتطرق اخلصوم إليها( )4وهنالك عدد من الرواايت حول هروب
بعض موظفيه ،و ضمحيه إىل اإلمارات األخرى ،وإحلاحه إبعادهتم إىل إمارته؛ حىت لو اضطره ذلك إىل استخدام
القوة(.)5
شىت ،ولعب دوراً هاماً يف حصار بعرين عام 531هـ( ،)6وحصار وقد قدم جهاز خمابراته خدمات مهمة له يف ظروف هل
الرها عام 539هـ( ، )7كما كان يستخدمه عماد الدين للتعرف على أحوال اجلند لدى حصارهم بعض املواقع ومضمحظة ُّ
ما يص إليهم من رواتب وسضمح( ، )8وكان عماد الدين زنكي مع اشتغاله أبمور الدولة اهلامة ال يهم االطضمع على
القَااي الثانوية ،معلضمً ذلك أبن الصغري إذا مل يعرف؛ ليمنع؛ صار كبرياً( .)9وكان من الطبيعي أن رجال املخابرات يف
الدولة الزنكية ارتبطوا بعماد الدين مباشرة نظراً ألمهية دورهم السياسي والعسكري ،وألهنم كانوا يتسلمون أوامرهم املباشرة
منه(.)10
1ـ كان عماد الدين زنكي رجضمً ذا هدف واضح ،وهذا أول شروط النجاح ،وكان جاداً ومثابراً يف تنفيذ خططه ،
وكان غالباً ال يهادن الصليبيني قاسياً عليهم ،وكان حريصاً على نشر اخلوف يف حصوهنم ،وقضمعهم ،ومدهنم ،وكان
يقدر الظروف احلربية ،قد هادن جوسلني عندما قدم إىل املوص لكي يتفرغ إلصضمح البضمد ،وجتنيد األجناد ،وجتنب
الرها ،وإضعاف مهامجة مملكة بيت املقدس؛ حىت ال يثري أورواب ضدهله ،قد كان هد ه القَاء على األطراف مث ُّ
60
أنطاكية ،والقَاء على إمارة طرابلس ،وله قه كبري يف السياسة احلربية( )1ستُـبَ هلـني إبذن هللا تعاىل عند احلديث عن
جهوده الوحدوية ،وأعماله اجلهادية.
2ـ نظام اإلقطاع العسكري :أدرك زنكي ضرورة توزيع اإلقطاعات على أمرائه وجنده نظراً لطبيعة الظروف احلربية ،
والسياسية اليت جاهبتها إمارته ،حيث انتشرت جمموعة من اإلمارات احمللية املتنا سة يف اجلزيرة ،والشام ،واجلبال ،
وشرقي املوص َضمً عن إمارات الصليبيني ،كان ذلك حيتم عليه اتباع األساليب اليت تَمن له تشكي قوة عسكرية
متمكنة ،خيلص أ رادها ألمريهم ،ومصلحة إمارهتم بناء على وجود مصاحل مشرتكة ،وليس مثة يف تلك الفرتة ما هو
أحسن من األسلوب اإلقطاعي لَمان تكوين اجلندي املخلص ،واجليش القوي املنظم.
لذلك كان أول عم قام به زنكي عند دخوله املوص 521هـ هو «تقرير قواعد اجلنود ،وإقطاع العساكر»( ، )2كما
جع من منهجه قب االصطدام مع الصليبيني ،االستيضمء على ما بقي من البضمد الشامية واجلزرية ،وإصضمح شأهنا ،
والفراغ من إقطاع بضمدها جلند خيتربهم ،ويعرف نصحهم وشجاعتهم( ، )3ويف سبي حتقيق ذلك عقد هدنة مؤقتة مع
الرها(.)4
صليبيي ُّ
ومل تكن معظم مدن املوص ،واجلزيرة ،ومشايل الشام خاضعة لزنكي عند توليته هذه املناطق رمسياً من قب السلجوقي،
لذا غدت معظم عمليات التوزيع اإلقطاعي متوقفة إىل حد كبري على توحاته ،ومتدرجة زمنياً مع أوقات هذه الفتوحات،
كان كلما استوىل على بلد رتب أموره ،وأقطع أعماله األجناد واألمراء( ، )5و َضمً عن قيام املقطع ابلد اع عن املنطقة
،وإمداد جيوش زنكي بقوات من عنده يف حاالت القتال( ، )6قد استخدم األخري اإلقطاع ألغراض أخرى أمهها
الغرض اإلداري ،وهو قيام املقطع إبدارة أمور واليته كوال من قب زنكي على تلك املنطقة( )7أو إلبعاد الشخص الذي
يرى يف وجوده خطراً إبقطاعه منطقة بعيدة( ، )8أو إلكرام بعض أمرائه املقربني اعرتا اً بفَلهم( ،)9أو إلغراء بعض
أعدائه بتسليم حصوهنم مقاب إقطاعهم بعض املناطق( ، )10كما أنه تنازل عن بعض احلصون اليت تحها يف داير بكر
حلسام الدين متراتش أمري بين أرتق ،وذلك ألغراض سياسية تستهدف تقوية حلفه مع حسام الدين هل
ضد أعدائه يف
املنطقة( ، )11وإليك أمساء بعض األمراء والقواد الذي أقطعهم زنكي بعض املدن ،واحلصون:
61
أ ـ األمري جاويل كان وصياً على ابن عز الدين مسعود وايل املوص املتوىف عام 521هـ ،أقطع الرحبة ختلصاً من
خطره(.)1
ب ـ هباء الدين بن القاسم الشهرزوري ،قاضي قَاة املوص ،وهبه زنكي أمضمكاً وإقطاعاً( ، )2مل حتددها املصادر(.)3
ج ـ أبو بكر البكجي أحد كبار أمراء زنكي ،أقطع نصيبني(.)4
حران عام 522هـ أو 523هـ ويف عام 527هـ أعلن العصيان وقد استطاع زنكي القَاء د ـ سوتكني الكرجي ،أقطع هل
وعني نوابه هناك(.)5
عليه عام 533هـ هل
هـ صضمح الدين الياغسياين (أمري حاجب) .أقطع محاة عام 523هـ.
و ـ زين الدين علي كجك بن بكتكني ،أحد كبار قواد زنكي أقطع أرب عام 526هـ( ،)6وعقر احلميدية ،وأعماهلا
عام 528هـ( )7وشهرزور(.)8
ز ـ شهاب الدين أمريك اجلاندار ،أقطع الرقة عام 529هـ(.)9
ح ـ جنم الدين أيوب ،وأسد الدين شريكوه :أقطعهما زنكي يف بلد شهرزور إقطاعاً سنياً ،وقي :إنه أقطع أسد الدين
ابملؤزر( )10وذلك بعد التجائهما إليه يف أواخر عام 532هـ.
ط ـ عز الدين الدبيسي من أكابر أمراء زنكي ،كانت دقوقا من مجلة إقطاعه(.)11
ي ـ انصر الدين كوري بن جكرمش (وايل املوص 495ـ 500هـ) أقطعه زنكي إقطاعاً كثرياً اعرتا اً بفَ والده(.)12
ك ـ األمري سوار بن إيتكني الرتكماين ،ويل حلب عام 524هـ( )13وأجرى عليه زنكي اإلقطاعات الكثرية ،واعتمد
عليه يف قتال الفرنج(.)14
ل ـ جنم الدين أيوب الذي واله زنكي بعلبك عام 534هـ ،بعد أن أقطعه ثلثها ،وقي :نصفها(.)15
62
وكان زنكي ميتلك بعض اإلقطاعات ،خارج حدود إمارته حص عليها يف ظروف استثنائية ،كتلك اليت وهبه اخلليفة
املقتفي هلإايها ،من أمضمكه اخلاصة يف بغداد ،رغبة يف استمالته( )1وقال متحداثً عن ذلك :هذه قاعدة مل يسمح هبا
ألحد من زعماء األطراف ،وهي أن يكون له يف العراق إقطاع( .)2ومن مث اعترب هذا النوع من اإلقطاع شاذاً .هذه
بعض األمساء اليت قدمتها املصادر عن مقطعي زنكي من كبار األمراء والقواد ،والراجح :هل
أن عدداً كبرياً من املقطعني مل
تشر إليهم املصادر ،إما إغفاالً منها ،أو لعدم أمهية األماكن اليت أقطعت هلم من النواحي العسكرية واجلغرا ية ورمبا
لقلة اشتهار املقطعني أنفسهم(.)3
وقد وزعت اإلقطاعات على اجلند َضمً عن األمراء ،وتشري النصوص الواردة يف ذلك إىل أن زنكي كان يقوم بنفسه
أحياانً بتقرير قواعد اجلند ،وإقطاعهم( ،)4وأورد ابن األثري يف الباهر اإلجراء الذي اختذه زنكي بشأن أمرائه املقطعني؛
أي حاجة بكم إىل األمضمك؟ إن اإلقطاعات إذ هنى هؤالء :عن اقتناء األمضمك معلضمً ذلك بقوله :ما دامت البضمد لنا؛ ُّ
تغين عنها ،وإن خرجت البضمد عن أيدينا إن األمضمك تذهب معها ،ومىت صارت األمضمك ألصحاب السلطان ظلموا
النص يؤكد بوضوح عدم وجود ملكية مباشرة لألرض من قب الرعية ،وتعدوا عليهم ،وغصبوا أمضمكهم( .)5وهذا ُّ
املقطعني ب كانت هذه امللكية بيد الفضمحني( ، )6واألهايل( )7مقاب د ع ضريبة سنوية للحكومة ،واملقطعني( ، )8وقد
كان هلذا اإلجراء الذي اختذه زنكي مبنع املقطعني من «التملك» نتائج إجيابية.
إن اقتناء األمضمك من قب هؤالء يؤدي إىل أضرار عديدة قد تلحق ابألهايل ومبصلحة اإلمارة على حد سواء ،أوهلا ما هل
أن األمري يف حالة كهذه سيستخدم ٍ
اغتصاب ألمضمكهم ،ذلك :هل جير إليه املقطعني من ظل ٍم للرعية ،و ٍ
اعتداء عليهم ،و
ما ميتلكه من نفوذ وسلطة للَغط على أصحاب امللك ببيعه ملكهم أبق مثن ،ورمبا د عتهم إىل التنازل عنه ابلقوة(،)9
وقد أدرك ابن األثري مدى عدالة زنكي يف هذه اخلطوة علق عليها قائضمً :ما أحسن هذا اخللق ـ أي :خلق زنكي ـ
أن عمارة البضمد من مثرات العدل ، وأحسن هذا النظر للرعااي ،وأكثر هذه الشفقة عليهم والرمحة هلم .وال خضمف يف هل
وكف األيدي املتطاولة إىل أهلها(.)10
إن من نتائج اقتناء املقطعني لألمضمك جتمع الثروة أبيدي طبقة حمدودة من األمراء ،واحتكار هذه و َضمً عن ذلك ،هل
الطبقة ملوارد الرزق ،بينما تبقى أكثرية السكان يف قر مدقع.
63
هذا إىل أن اقتناء األمراء لألمضمك والعناية هبا قد يؤدي هبم إىل عدم توجيه جهودهم لك ما يتعلق ابجلندية ،والد اع،
وهي األمور اليت أُقطعوا األراضي واألعمال من أجلها(.)1
ويستدل من بعض الرواايت :أنهله مل يكن يشرتط يف املقطع البقاء يف إقطاعه خاصة إذا كان من أصحاب الوظائف
العالية اليت تقتَي مضمزمته لزنكي ،وكان املقطع يف هذه احلالة ينيب عنه من يقوم إبدارة إقطاعيته ،كما حدث ابلنسبة
جلمال الدين حممد بن أيوب الياغسياين ،أمري حاجب زنكي ،الذي أقطع عدة مدن ،أانب يف ك ٍ منها من يعتمد
()4
عليه يف إدارة شؤوهنا( )2كحماة اليت أانب يها ابنه شهاب الدين أمحد( ،)3وحصن اخلربة اليت أانب يه عيسى احلاجب
،وكذلك ابلنسبة لزين الدين علي كجك بن بكتكني قائد زنكي يف املوص ،الذي أقطع أرب ،وعقر احلمدية وأعماهلا
،ومن املرجح :أنهله أانب عنه يهما من يدير شؤوهنما بدلي عدم مغادرته املوص إىل إقطاعه يف أرب إالهل عام 563هـ(.)5
أن نور الدين حممود بن زنكي أدخ نظام التوريث يف اإلقطاع ،إذ كان :من آرائه احلسنة ما كان وتشري الرواايت إىل هل
أقر اإلقطاع عليه .كان األجناد يقولون :هذه
يعتمده يف أمر أجناده ،إنه كان إذا تويف أحدهم ،وخلف ولداً ذكراً؛ هل
أمضمكنا يرثها الولد عن الوالد ،نحن نقات عليها ،وكان ذلك من أعظم األسباب لصرب اجلند يف احلروب بني يديه(.)6
وقد رجح الدكتور عماد الدين خلي أن زنكي سبق ابنه يف إدخال هذا النظام؛ إذ هنالك سابقة من عهده تُشري إىل
هذا االجتاه اجلديد يف نظام اإلقطاع ،وذلك عندما قام بنق طائفة من الرتكمان مع أمريهم الياروق إىل الشام ،وأسكنهم
بوالية ،وأمرهم جبهاد الفرنج ،وملهلكهم ك ما استنقذوه من البضمد اليت للفرنج وجعله ملكاً هلم ،كانوا يغادون الفرنج
ابلقتال ،ويراوحوهنم ،وأخذوا كثرياً من السواد(ُّ ،)7
وسدوا ذلك الثغر العظيم.
أن زنكي ،أدرك ،كما أدرك ولده من بعده مدى ومل يزل مجيع ما تحوه يف أيديهم إىل حنو سنة 600هـ .وال شك :هل
النتائج اإلجيابي ة اليت ميكن أن يؤدي إليها نظام التوريث هذا ،وأمهها إخضمص جنده له ،واستماتتهم يف القَاء على
ما يهدد إمارته من أخطار ملا يف ذلك من مصلحة هلم وألوالدهم الذين سريثون إقطاعهم من بعدهم(.)8
3ـ نظام اإلعداد القيادي (األاتبكية) :وهي كلمة مشتقة من الكلمة الرتكية أاتبك املركبة من املقطعني (أات) مبعىن :أب
و«بك» مبعىن أمري ،وتعين «الوالد األمري» وكان هذا اللقب يطلق على من يتوىل تربية أبناء امللوك والسضمطني ،ويرعى
شؤوهنم .
وكان األاتبك :هو احلاكم األعلى يف األاتبكية ،وكان يلقب ابمللك أيَاً ،وله اإلشراف على مجيع شؤون اململكة ،
األول عن السياسة اخلارجية ،ومن حقه أن يعلن احلرب ،ويقود اجليوش ،ويعني أو األاتبكية ،كما أنهله يـُ َع ُد املسؤول هل
64
القواد ،هو لذلك أشبه ابلسلطان السلجوقي ،كما أن له احلق يف نقش امسه على السكة ،والدعاء له يف الوالة و هل
اخلطبة إىل جانب اسم اخلليفة والسلطان(.)1
وقد ُعرف عماد الدين زنكي بلقب (األاتبك) ُمنذ تعينه حاكماً على املوص عام 521هـ ،واشتهرت اإلمارة اليت
أسسها ابسم(أاتبكية املوص ) والسضملة اليت أعقبته يف احلكم ابسم األاتبكة ،وقد بدأت تسمية زنكي هبذا اللقب يف
شعبان عام 521هـ عندما واله السلطان حممود املوص ،وسلمه ولديه :ألب أرسضمن ،و ُّروخ شاه (املعروف ابخلفاجي)
وجعله أاتبكاً هلما( ،)2وقد ترتبت على «أاتبكية زنكي» نتائج عديدة ،قد كان عليه من الناحية الرمسية أن حيكم ابسم
ألب أرسضمن أكرب األمريين ،وأن خيطب له ،ولذلك أظهر للخلفاء والسضمطني وأصحاب األطراف :هل
أن البضمد اليت
حيكمها إمنا هي للملك ألب أرسضمن( ،)3وأنهله انئب يها :كان إذا أرس رسوالً ،أو أجاب على رسالة ،إمنا يقول:
قال امللك :كذا( )4وكذا ،وكان هذا اإلجراء من قب زنكي ال يعدو أن يكون شكلياً؛ إذ أن السلطة الفعلية كانت
مرتكزة يف يده ،ومل يكن ٍ
ألحد من ابين السلطان حممود أية سلطة عملية ،ب كاان أشبه ابحملتجزين؛ إذ هلرق زنكي
بينهما ،جع أحدمها يف أحد معاق سنجار ،واآلخر حتت إشراف زوجته يف املوص (.)5
وقد استهدف من اخلطبة أللب أرسضمن إلقاء الصفة الرمسية «الشرعية» على سياسته ،وأعماله مستغضمً اسم امللك
السلجوقي ،كما عم زنكي على استغضمل وجود هذين امللكني السلجوقيني ،قام مبحاوالت ثضمث(525هـ 529هـ)
ضد السلطان السلجوقي يف أصفهان لتنصيب ألب أرسضمن على عرش سضمجقة العراق ،ابالتفاق مع اخلليفة العباسي هل
،وقد استهدف من وراء ذلك جع السلطة الفعلية لسضمجقة العراق بيده ابسم السلطان الشرعي املنصب ،ولكن
هذه احملاوالت انتهت مجيعاً ابلفش (.)6
تزعمها امللك اخلفاجي عام 539هـ أثناء غياب ضد عماد الدين زنكي هل أ ـ حماولة انقضمبية يف املوص :قامت مؤامرة هل
زنكي عن املوص ؛ إذ اتفق اخلفاجي وأنصاره على اغتيال نصري الدين جقر انئب زنكي يف املوص ،ومن مث السيطرة
على املدينة ،وإعضمن العصيان ضد زنكي ،في صباح الثامن ،أو التاسع من ذي القعدة عام 539هـ ركب جقر يف
()7
حسن املفسدون
موكبه كعادته ،واخرتق شوارع املدينة متجهاً إىل الدار اليت يقيم يها امللك اخلفاجي للتسليم عليه ،هل
للملك قتله ،وقالوا له :إنهلك إن قتلته؛ ملكت املوص ،وغريها ويعجز أاتبك أن يقيم بني يديك ،وال جيتمع معه
ارسان عليك وقع هذا يف نفسه وظنهله صحيحاً ،لما دخ نصري الدين إليه كعادته وثب عليه مجاعة يف خدمة امللك
تفرقوا ،وميلك امللك البضمد ،وكان األمر
،قتلوه ،وألقوا رأسه إىل أصحابه ،ظنهلاً منهم أن أصحابه إذا رأوا رأسه هل
65
خبضمف ما ظنُّوا ،إن أصحابه ،وأصحاب أاتبك الذين معه ملا رأوا رأسه قاتلوا من ابلدهلار مع امللك ،واجتمع معهم
اخللق الكثري ،وكانت دولة عماد الدين مملوءة ابلرجال األجضمد ذوي الرأي والتجربة ،لم يتغري عليه هبذا الفتق شيءٌ(.)1
ب ـ دور العلماء يف تثبيت عماد الدين :كان عماد الدين زنكي منشغضمً مبحاصرة البرية سنة 539هـ وكانت هذه املدينة
قد أوشكت على السقوط يف يد عماد زنكي ،ورد إليه نبأ مقت انئبه يف املوص نصري الدين جقر ،انزعج كثرياً ،
واضطر عماد الدين إىل الرحي عن البرية ،وأرس انئباً عنه إىل املوص الستطضمع حقيقة األمر ،وهو القاضي اتج
لما وص اتج الدين إىل املوص ؛ علم: الدين بن حيىي بن الشهرزوري كان مضمزماً لعماد الدين أثناء حماصرته للبرية ،هل
أن امللك السلجوقي ابن السلطان حممود بن حممد بن ملكشاه كان وراء مقت نصري الدين جقر؛ ليملك املوص يف
غياب عماد الدين عنها( ، )2ولذلك قام القاضي اتج الدين بن الشهرزوري خبدعة كي يفسد على امللك السلجوقي
زعيم االنقضمب ابملوص خمططه ،دخ يف الدار اليت كان حياصره يها أصحاب جقر ،وأصحاب عماد الدين زنكي
،وظ خيادعه مبعسول الكضمم ،وحيسن له ما عله مع جقر ،ويشجعه على الصعود إىل قلعة املوص حىت ميلكها ،
ويكون يف مأمن ،حيث يوجد هبا األموال ،والسضمح ،يستطيع بعد ذلك متلك املوص ،اقتنع امللك السلجوقي بن
حممود ،وخرج يف صحبة القاضي اتج الدين ،وصعدا معاً إىل القلعة ،وهناك قبض عليه وعلى من معه من أتباعه
الذين قتلوا نصري الدين جقر ،وبعد ذلك توجه القاضي اتج الدين إىل عماد الدين زنكي وبلهلغه بك ما عله ،سكن
جأشه ،واطمأن قلبه(.)3
وممهلا تقدم يتَح لنا مدى ما بلغه القاضي اتج الدين من الفطنة ،وحسن التصرف ،مث ابقي أقاربه من بيت
وعني عماد الدين زنكي قائده زين الدين علي كجك ليح هل الشهرزوري الذين امتألت هبم دولة عماد الدين زنكي( )4هل
حم جقر انئب املوص املقتول ،مث ذهب هو بنفسه بعد ذلك إلقرار األوضاع هناك(.)5
ج ـ سياسة عماد الدين م ع امللك االخر ألب أرسضمن :أبدى زنكي ،بعد مقت اخلفاجي ،عطفه على امللك االخر
حراساً وموظفني
ألب أرسضمن ،ألغى احتجازه يف أحد معاق سنجار وعطف عليه وعين بتفاصي أمره ،وعني له هل
اهتم مبراسيم جلوسه وركوبه ،وطالب رجاله ابالهتمام أبمره ،واحرتامه ،وتلبية مطالبه ،وقد استهدف من
خلدمته ،و هل
هذه اإلجراءات تغطية امللك اخلفاجي( ، )6كي ال يثري السضمجقة ضده وحماولة منه الستغضمل ألب أرسضمن لتحقيق أمله
يف املستقب ،وذلك ابملطالبة بتوليته سلطنة العراق .بعد و اة عمه السلطان مسعود ،ليصبح زنكي املتحكم الفعلي
ابسم السلطان اجلديد(.)7
66
67
املبحث الثالث :عالقـة عمـاد الدين زنكي ابخلالفة العباسيـة والسلطنـة السلجوقية
تسلهلم عماد الدين زنكي املوص من األمري جاويل ،وأقطعه الرحبة وأعماهلا ،مث انصرف إىل تنظيم شؤون إمارته إدارايً
()1
وىل نصري الدين جقر قلعة املوص ، ،وعسكرايً مستنداً يف ذلك إىل ما كان سائداً عند السضمجقة من نظم احلكم ،هل
وعني الياغسياين أمري حاجب ،والقاضي الشهرزوري قاضي بضمده ،وما يفتحه من و هلوض إليه أمر الوالية مجيعها ،هل
بضمده( ، )2مث انصرف إىل العم على حتقيق هد ني وضعهما نصب عينيه ،مها:
ـ أتسيس دولة وراثية وتوسيعها عن طريق ضم املدن واإلمارات احمللية يف اجلزيرة وبضمد الشام ،وتوحيدها مع إمارة املوص .
ـ تكوين جبهة إسضممية متماسكة تستطيع مواجهة الصليبيني ،وتطردهم من الشرق اإلسضممي ،دخ من أج ذلك
يف عضمقات سياسية عسكرية مع األمراء احملليني.
ويبدو :أنهله مل يتمكن من املَي قُ ُدماً يف حتقيق هد يه يف ابدئ األمر بسبب انغماسه يف أحداث العراق ،ممهلا صر ه عن
ُ
ميدان بضمد الشام؛ إذ شهد هذا البلد آنذاك صراعاً بني اخلضم ة العباسية ،والسلطنة السلجوقية من أج االستئثار ابلنفوذ
()3
وقد تدخ يه عماد الدين زنكي ،وانتهى ابنتصار واضح لصاحله وحتديد مستقبله السياسي
أوالً :حماولة عزل عماد الدين زنكي عن املوصل:
تراوحت عضمقة عماد الدين ابخلضم ة العباسية ،والسلطنة السلجوقية بني التعاون املثمرة والعداء الشديد و قاً للمصلحة
العامة والشخصية يف الوقت نفسه ،على هل
أن هذه التقلبات مل تؤثر على مركزه يف والية املوص ،واجلزيرة ،وبضمد الشام
تعرض يف بداية حكمه حملاولة استهد ت عزله عن منصبه ،وإحضمل ُدبَيس بن صدقة أمري احللة مكانه ،ذلك: ،قد هل
أن هذا الرج كان قد التحق خبدمة السلطان سنجر ،سلطان السضمجقة العظام يف خراسان ،وأضحى من أمرائه هل
وجه حممود سلطان سضمجقة العراق إىل خراسان لتصفية املشاك القدمية مع عمه سنجر(، )4 املقربني ،وحدث أن هل
وأثناء املباحثات اليت جرت بينهما طلب سنجر من ابن أخيه حممود:
لدبَيس.
ـ أن يعزل عماد الدين زنكي عن املوص ،واجلزيرة ،وبضمد الشام ،ويوليها ُ
ـ وأن يطلب من اخلليفة حتسني عضمقاته به بعد املشاك اليت أاثرها ضد اخلضم ة(.)5
أن حمموداً استجاب لطلب عمه ،عندما وص إىل بغداد يف مطلع عام 523هـ(/اخر عام 1128م) سعى ويبدو :هل
لدبَيس(.)6
لدى اخلليفة املسرتشد ابهلل لتحقيق ذلك ،كما طلب من عماد الدين زنكي التخلي عن منصبه ،وتسليمه ُ
68
كان هذا الطلب كا ياً للقَاء على آ مال عماد الدين زنكي ،وتطلعاته السياسية ،لذلك حترك على وجه السرعة
إلحباط هذا التدبري ،قدم إىل بغداد ،و هل
متكن بعد مباحثات طويلة من إقناع السلطان بَرورة إبقائه على والية املوص
أكد طاعته ،وإخضمصه له ،خلع عليه ،وجدهلد له واليته ،وكتب له منشوراً جديداً حبكم جملاهبة الصليبيني ،كما هل
املوص ،واجلزيرة ،والشام أتكيداً ملنشور عام 521هـ( )1وقد ساعدت عماد الدين زنكي جمموعة من العوام على
لدبَيس؛ حىت إنهلهبقائه يف منصبه ،منها ما بذله اخلليفة من جهود لتثبيت زنكي على املوص بدا ع من كراهيته العميقة ُ
إن دبيساً أعان الفرجنة ضد املسلمني؛ كيف توليه()2؟! وكان دبيس قد انَم إىل أرس إىل السلطان حممود يقول له :هل
الصليبيني ـ وهو من الطائفة الشيعية االثين عشرية ـ بعد هزمية 517هـ وأسهم معهم يف حصار حلب طمعاً ابالستيضمء
عليها وحكمها نيابة عنهم.
مل يكن أهايل بغداد أق كراهية لدبيس وحقداً عليه من اخلليفة نفسه؛ حىت إهنم تظاهروا ضدهله لدى دخوله العاصمة ،
وراحوا ينددون به ،ويهتفون ابلتأييد والدعاء للخليفة والسلطان( )3بسبب حماوالت ُدبَيس املتكررة لنهب بغداد ،
وختريبها(َ .)4ضمً عن مساعدته للصليبيني(.)5
ومل يكن يف صاحل السلطان حممود نفسه عزل زنكي عن املوص وهو الذي وقف إىل جانبه يف الظروف احلرجة ،ولعلهله
مل يقم مبحاولة العزل ـ أساساًـ إال حتت ضغط عمه سنجر صاحب السلطة العليا على السضمجقة ،هذا َضمً عن أن
تعيني دبيساً يف املوص قد يتيح لسنجر أن يتهلخذ منه صنيعة هل
ضد مصاحل السلطان حممود يف العراق(.)6
اثنياً :صراع البيت السلجوقي على السلطنة بعد وفاة السلطان حممود:
اطمأن زنكي إىل واليته طيلة األعوام األخرية من حكم السلطان حممود ،وعندما تويف هذا يف منتصف عام 525هـ هل
أرس زنكي إىل اخلليفة املسرتشد يطلب منه أن يقيم اخلطبة ببغداد للملك السلجوقي ألب أرسضمن ـ وهو أحد امللكني
اللذين أنيطت بزنكي مهمة اإلشراف على تربيتهما ،إالهل أن اخلليفة اعتذر عن ذلك حمتجاً(:)7
1ـ بصغر سن ألب أرسضمن وبعدم صضمحيته للحكم.
أبن السلطان كان قد عهد ابلسلطنة من بعده وهو أبصفهان إىل ابنه داود. 2ـ هل
3ـ هل
أبن حكام الوالايت قد بدؤوا عضمً إبقامة اخلطبة له ،وأضاف أبنه لن يقدم على اختاذ أي إجراء هبذا الصدد قب
أن تصله رسالة من السلطان سنجر زعيم السضمجقة الكبار يف خراسان(.)8
69
وهكذا هلوت اخللي فة رصة ذهبية على عماد الدين زنكي لضمستفادة من و اة السلطان حممود ،الذي لو جنح يف
اغتنامها؛ ألاتحت له جماالت جديدة يف العم السياسي ،ود عته إىل اخلروج عن الوالء للسضمجقة بتنصيب أحد
أمرائهم املقيم حتت إشرا ه يف املوص سلطاانً على سضمجقة العراق ،يصبح بذلك املتحكم الفعلي يف شؤون العراق
ابسم السلطان اجلديد(.)1
ويف العام التايل استطاع السلطان مسعود بن حممد ـ حاكم أذربيجان ـ استمالة زنكي ملساعدته يف املطالبة بعرش سضمجقة
العراق لقاء منحه مدينة أرب احلصينة شرقي املوص ،ومت االتفاق بينهم على أن يتجها إىل بغداد ملطالبة اخلليفة
أن سلجوق شاه بن حممد ـ أخا مسعود الذي املسرتشد ابخلطبة ملسعود ،واالعرتاف به سلطاانً على العراق( ، )2إالهل هل
كان يطمح هو االخر بعرش السضمجقة يف العراق سبق أخاه إىل بغداد ،وطالب اخلليفة ابخلطبة له امتنع األخري عن
تنفيذ طلبه ،وملا مسع سلجوق شاه ابقرتاب زنكي على رأس قواته املوالية ملسعود؛ أمر قائده (قراجا الساقي) ابإلسراع
يف التوجه مشاالً إليقاف تقدمه ،وص إىل مشارف سامراء أبقـ من يومني ،ودارت املعركـة بني الطر ني عند قصـر
املعشوق على اجلهة املقابلة لسامراء ،وانتهت هبزمية زنكي ،وأسر عدد كبري من قواته ،لجأ مبن معه من لول إىل
تكريت( )3حيث أسرع واليها جنم الدين أيوب إبقامة املعابر هلم ،وإكرام ضيا تهـم حلني عودهتـم إىل املوصـ ( ، )4وهنـاك
استطاع زنكي أن يعيد تنظيم قواته ،بعد أن أنفق عليها أمواالً كثرية ،وجهزه ابملؤن واملعدات(.)5
اثلثاً :موقف السلطان سنجر من األحداث:
كان السلطان سنجر يراقب تطورات األحداث السياسية يف العراق ،هبدف انتهاز رصة للتدخ واهليمنة على هل
مقدرات
األمور ،وإخَاع سضمجقة العراق إلشرا ه املباشر ،وحىت يدعم موقفه؛ رأى أن يستقطب كضمً من عماد الدين زنكي،
ودبَيس بن صدقة ،طلب منهما التوجه إىل بغداد ،واالستيضمء عليها ،وإقامة اخلطبة يها له وخلليفته امللك طغرل بنُ
()6
لدبَيس وا ق عماد الدين حممد بن حممود ،وتعهد إبضا ة شحنكية بغداد إىل عماد الدين زنكي ،وإبقطاع احللة ُ
أبن النصر سيكون حليف سنجر ،وبذا يستطيع أن حيقق مزيداً من مطامعه .أدرك زنكي على هذا العرض العتقاده هل
أن الصراع بينهما سوف يتيح الفرصة لتدخ عمهما سنجر ،ويقَي على مصاحلهما يف ك ٌّ من مسعود وسلجوقشاه :هل
ووحدا قواهتما للوقوف يف وجهه ،لكن سنجر انتصر على جيوشهما ،وأجلس طغرل العراق ،عقدا صلحاً بينهما ،هل
بن حممد على عرش سضمجقة العراق يف شهر مجادى االخرة عام 526هـ /شهر نيسان عام 1132م(.)7
70
ودبَيس قد اقرتاب من بغداد ،واشتبكا مع قوات اخلليفة يف «أواخر شهر رجب/ يف هذه األثناء كان عماد الدين زنكي ُ ،
شهر أاير» وحلهلت هبما اهلزمية ،رتاجع عماد الدين زنكي إىل املوص ،وقام ُدبَيس مبحاولة اشلة الستعادة احللة(، )1
واستطاع مسعود ،بعد سلسلة من احلروب ،أن يقَي على منا سيه وجيلس على عرش سضمجقة العراق مبوا قة سنجر
يف شهر صفر عام 527هـ /شهر كانون األول 1132م.
ـ نتائج تلك احلروب :كان للحروب اليت حدثت بني السضمجقة يما بينهم من جهة ،مث يما بينهم وبني اخلضم ة العباسية
من جهة أخرى ،واشرتاك عماد الدين زنكي يها نتائج هامة على وضعه السياسي والعسكري ،منها:
1ـ أنهله خسر عضمقته الودية ابلسلطنة السلجوقية اليت استفاد منها يف أايم السلطان حممود ،إالهل أنهله حص على مدينة
إرب املهمة عسكرايً.
2ـ اتسعت شهرته كأمري ذي قوة مؤثرة يف الصراع الدائر يف املنطقة.
تعرف على عائلة بين أيوب ،مما سيكون له أثر كبري يف تطور هذه العائلة ،وازدايد 3ـ خرج من تلك احلروب وقد هل
نشاطها.
4ـ تدهورت العضمقات بينه وبني اخلضم ة العباسية(.)2
رابعاً :حماصرة املوصل:
أرس املسرتشد ابهلل إىل عماد الدين اإلمام أاب الفتوح اإلسفراييين ،أغلظ له يف القول ،أهانه عماد الدين ،وعاد
إىل املسرتشد ابهلل ،سار إىل املوص بثضمثني ألفاً سنة 527هـ( ، )3وحاصرها يف 20رمَان نزل ابملوص انئبه نصري
الدين ،وسار هو إىل سنجار ليقطع املسرية عن عسكر اخلليفة ،واستمر احلصار ثضمثة أشهر ،وعاد اخلليفة إىل بغداد
يوم عر ة ،وسبب هذا احلصار سري عماد الدين زنكي السابق إىل بغداد ،واختضمف سضمطني السضمجقة ،وإهانة
زنكي لرسول اخلليفة(.)4
مل يتمكن جيش اخلليفة من اقتحام املوص ،وكان عماد الدين يف غَون ذلك يشن اهلجمات عليه؛ حىت أضحى
حماصراً ،تناقصت أقواته ،وساء وضعه القتايل( .)5وعلى الرغم من هذا املوقف الصعب الذي وجد اخلليفة يه نفسه
إالهل أن عماد الدين زنكي مل يتمكن من الني منه ،وكان تراجع اخلليفة العسكري الذي حص بعد ذلك نتيجة لعوام
خارجية؛ إذ استغ السلطان مسعود رصة اهنماك اخلليفة حبصار املوص توجه إىل بغداد لتعزيز مركزه يها ،واستغاث
فك احلصار عنها ، بدبَيس بن صدقة لضمستيضمء عليها( .)6تلقى اخلليفة هذه األنباء املقلقة؛ وهو حياصر املوص ،هلُ
71
وعاد إىل بغداد؛ ليدا ع عن عاصمته ،وص إليها يف العاشر من شهر ذي احلجة( .)1وبذلك ختلهلص عماد الدين زنكي
من اخلطر الذي كاد أن يقَي على آله(.)2
خامساً :التوتر بني عماد الدين والسلطان مسعود:
وعقد الصلح بني اجلانبني يف مطلع أجرى اخلليفة املسرتشد ابهلل العباسي مفاوضات انجحة مع عماد الدين زنكي ُ ،
عام 528هـ أواخر عام 1133م وتُبودلت اهلدااي ،وأرس عماد الدين زنكي ابنه سيف الدين غازي إىل اخلليفة؛ ليؤكد
طاعته ووالءه له( ، )3واستنجد اخلليفة بزنكي عام 529هـ أثناء صراعه مع السلطان مسعود ،وكان عماد الدين زنكي
آنذاك حياصر دمشق ،فك احلصار عنها ،وعقد صلحاً مع حكومتها حىت ال يُطعن من اخللف ،وعاد مسرعاً إىل
بغداد لنجدة اخلليفة ،إالهل أنهله وص متأخراً؛ إذ انتصر السلطان مسعود على اخلليفة املسرتشد يف املعركة اليت دارت
بينهما يف العاشر من رمَان ووقع يف األسر ،وظ مأسوراً حىت منتصف ذي القعدة ،حني هامجه مجاعة من الباطنية
،وقتلوه(.)4
صلت يف سرية املسرتشد ابهلل العباسي يف كتايب عن دولة السضمجقة واملشروع اإلسضممي ملقاومة التغلغ الباطين ، وقد هل
والغزو الصلييب .هذا وقد أخذت البيعة بعد مقت املسرتشد ابهلل البنه أيب جعفر منصور امللقب ابلراشد ابهلل (529هـ
530هـ) مبوا قة السلطان مسعود( ، )5وهكذا ضاعت رصة أخرى من يد عماد الدين زنكي للسيطرة على العراق(،)6
ونتيجة هلذه التطورات السياسية ازداد التوتر بني عماد الدين زنكي والسلطان ،وقد بلغ حداً د ع الثاين إىل تدبري مؤامرة
هنائي ،استدعاه إىل أصفهان ،لكن ُدبَيساً أخربه بنواايه ،هل
وحذره من الغتيال األول حىت يتخلهلص من خطره بشك ٍ ٍ
التوجه إىل بضمطه ،امتنع عن الذهاب ،وملا علم السلطان مبا عله ُدبيس؛ قتله على الفور(.)7
وكان عماد الدين زنكي قد أحسن لصدقة ،عندما وقع يف يدي اتج امللوك حاكم دمشق طلب عماد الدين من أمري
وخرهبا ،وهنب بلدها ،أجاب اتج دمشق أن يسلمه ُدبيساً وإن امتنع عن تسليمه سار إىل دمشق ،وحاصرها ،هل
امللوك إىل ذلك ،وأرس عماد الدين سونج بن اتج امللوك واألمراء الذين معه ،وأرس اتج امللوك ُدبيساً ،أيقن ُدبيس
ابهلضمك فع زنكي معه خضمف ما ظن ،وأحسن إليه ،ومح له األقوات ،والسضمح ،والدواب ،وسائر أمتعة اخلزائن
،وقدمه على نفسه ،و ع معه ما يفع مع أكابر امللوك(.)8
وملا مسع عماد الدين زنكي مبقت دبيس بن صدقة قال :ديناه ابملال ،و داان ابلروح( ، )9وذكر ابن كثري أبنه داه
خبمسني ألف دينار ،وما لبثت العضمقات أن تدهورت بني اخلليفة اجلديد ،وبني السلطان مسعود واجتمع لدى الراشد
72
عدد من األمراء املناهَني للسلطان ،وجندوا له العم على إسقاطه ،واجمليء بسلطان جديد يرتَونه( .)1ويف مسته
صفر عام 530هـ وص زنكي بغداد قادماً من الشام بعد أن استدعاه الراشد ،واتفق معه على إعضمن اخلطبة أللب
()2
حرضوا اخلليفة على إعضمن العصيان ضد السلطان أرسضمن املقيم يف املوص ،وانَم إىل األمراء الذين كانوا قد هل
وحوهلا لداود بن حممود ،
أن الفرصة قد سنحت للبدء ابلعم ،ألغى اخلطبة ملسعود ،هل مسعود( .)3ووجد اخلليفة :هل
خضم اً ملا متهل االتفاق عليه مع زنكي(.)4
وقام السلطان اجلديد بتعيني شحنة له يف العراق ،ومل ميض على ذلك سوى وقت قصري حىت دبهلت اخلضم ات بني الراشد
وسائر األمراء بسبب املنا سات واألحقاد القدمية( ، )5واتفق املتحالفون على توجيه ضربتهم للسلطان مسعود يف بضمد
ارس نفسها ،إالهل هلأهن م ما أن قطعوا مسا ة قصرية حىت ورد خرب بتوجه مسعود على رأس قواته صوب بغداد ،ارأتوا
أن يعودوا إليها الختاذ اإلجراءات الد اعية الضمزمة لصد اهلجوم( ، )6وما لبث السلطان مسعود أن رض احلصار على
تستقر عن نتيجة حامسة وسعى اخلليفة إىل إحضمل الصلح ،
بغداد ،وجرت مناوشات ،ومعارك جانبية بني الطر ني مل هل
وإهناء اخلضمف ،ولكن دون جدوى.
وأخذت األوضاع داخ بغداد تزداد سوءاً يوماً بعد يوم( ، )7وجنح السلطان مسعود يف دخول بغداد ،وخلعه عن سدة
ووىل املقتفي ألمر هللا مكانه يف شهر ذي احلجة عام 530هـ أيلول عام 1136م( ، )8وغادر الراشد بغداد اخلضم ة ،هل
متوجهاً إىل املوص بصحبة عماد الدين زنكي ،واجلدير ابلذكر :هل
أن اخلطبة للمقتفي اقتصرت على بعض أحناء العراق
بينما استمرت مناطق املوص ،واجلزيرة ،وبضمد الشام ختطب للراشد الذي كان يتمتع حبماية عماد الدين زنكي(.)9
سادساً :مصاحلة عماد الدين زنكي للسلطان مسعود:
مل يدم التحالف طويضمً بني عماد الدين زنكي والراشد ،قد شعر ك ٌّ منهما بَعف موقفه أمام موقف السلطان ،
واخلليفة اجلديد ؛ لذلك أسرعا إبرسال الرس للتوسط لديهما ،وإهناء حالة احلرب( ، )10وأضحى عماد الدين زنكي ـ
على الرغم من ضعف موقفه ـ القوة اليت تتطلع إليها األطراف املتنازعة الستقطاهبا ،وهكذا كانت استمالة أعوان املقتفي
إىل جانبهم ،وكا أه اخلليفة ،أبن أقطعه بعض أمضمكه وزاد يف ألقابه( ، )11واضطر حتت ضغط األحداث السياسية
والعسكرية إىل التخلي عن حليفه الراشد.
73
كانت التقلبات السياسية السريعة بعماد الدين زنكي هتدف إىل ضمان استمرار حكمه ،وحتقيق وحدة الصف
موحدة تقف يف وجه الصليبيني( ، )1وكان من الطبيعي اإلسضممي يف املوص ،واجلزيرة ،والشام لتكوين جبهة إسضممية هل
أن تتحسن العضمقات بينه وبني السلطان مسعود الذي أرس إليه يف شهر ربيع األول عام 532هـ /شهر تشرين الثاين
عام 1137م التشريف الكام ،واخللع(.)2
وأدرك عماد الدين زنكي خطورة األوضاع يف مشال الشام بفع هتديد الصليبيني ملدينة حلب ؛ اليت كانت تعاين من
الفوضى يف ظ الصراع على السلطة بعد و اة حاكمها إيلغازي األرتقي يف شهر رمَان عام 516هـ1122/م ،
()3
أرس قاضيه الشهرزوري ليشرح للسلطان هذا الوضع ،ويطلب منه مساعدة عسكرية إلبعاد الصليبيني عن املنطقة
أن رسالة عاجلة وصلت إىل بغداد وجنح الشهرزوري يف مهمته ،و هل
متكن من إقناع السلطان إبمداده بقوة عسكرية إالهل هل
من عماد الدين زنكي ،أ ادت أبن الصليبيني رحلوا عن حلب ،وأنه مل يعد حباجة إىل املدد العسكري ،وتدليضمً على
العضمقات اجليدة بني السلطنة السلجوقية ،والدولة الزنكية ،قد أرس السلطان مسعود رسالة هتنئة إىل عماد الدين
أن هذه العضمقات زنكي وهو على أبواب محص مبناسبة انتصاره على الصليبيني ،وخلع عليه اخللع السلطانية ،إالهل هل
تبدهللت يف عام 538هـ1143 /م حني حاول السلطان مسعود الذي خشي من طموحات عماد الدين زنكي ،واتساع
رقعة إمارته ،وتنامي قوته العسكرية ،توجيه ضربة حامسة ،معتقداً أبنه وراء القضمق اليت كان يقوم هبا أمراء األطراف
أن عماد الدين زنكي هدف إىل إهلاء السلطان ملنعه ضد حكمه يف العراق ،وأن هؤالء ال يلتزمون بسياسته ،والراجح :هل
من مَايقته ،وبذلك يستطيع وهو مطمئن أن يوطد نفوذه يف املوص ويوسع رقعة أمضمكه على حساب األمراء
املسلمني اجملاورين ،وحيارب الصليبيني( .)4وملا علم بنوااي السلطان؛ أرس إليه يستعطفه ،ويستميله ،و عضمً جرت
مفاوضات بني الطر ني هلأدت إىل إعادة الو اق بينهما ،وكان من أهم بنود الصلح أن:
ـ يد ع عماد الدين للسلطان مبلغ مئة ألف دينار.
ـ يتنازل له عن بعض إقطاعاته.
ـ حيَر شخصياً إىل بضمطه إلعضمن الطاعة(.)5
ـ والواضح أن تراجع السلطان عن موقفه العدائي جتاهه يعود إىل أمرين:
األول :أنهله أدرك خطورة الوضع يف اجلزيرة ،ومشايل الشام؛ حيث غدا الصليبيون يشكلون خطراً مباشراً على املنطقة ،
وأن عماد الدين زنكي هو القوة الوحيدة اليت ميكن أن تقف يف وجههم ،وترغمهم على الرتاجع.
74
الثاين :أنهله ُجوبه مبعارضة شديدة من رجال دولته ومواطنيه من أج إبقاء إمارة املوص كحاجز قوي متماسك أمام
أطماع الصليبيني ،وقد أوضحت هذه املعارضة أن عماد الدين زنكي هو األمري الوحيد يف املنطقة اجلدير ابلتصدي
لتلك األطماع ،و هل
أن القَاء عليه يعين تح الطريق أمام الصليبيني يف العراق(.)1
بعد إقرار الصلح أرس عماد الدين زنكي عشرين ألف دينار كد عة أوىل تنفيذاً للبند األول من االتفاق ،مث تنازل
السلطان عن املبلغ املتبقي هبدف استقطابه ،وكسب وده؛ حىت ال ينَم إىل أمراء األطراف الذين خرجوا عن حكمه،
كما تغاضى عن تنفيذ البند اخلاص حبَوره إىل البضمط السلجوقي ،وعذره بسبب اهنماكه يف جهاد الصليبيني إال أنهله
الرها(.)2وقامت عضمقات عماد الدين زنكي مع اخلليفة العباسي املقتفي ألمر هللا على الود ،والتعاطف اشرتط عليه تح ُّ
الرها يف عام ،واستمرت الصضمت املتبادلة بينهما ،وازدادت هذه العضمقات وثوقاً بعد أن تح عماد الدين زنكي ُّ
(539هـ1144/م) حيث منحه عدداً من األلقاب ،كاألمري الكبري ،العادل ،املؤيد ،املظفر ،املنصور(.)3
أن عماد الدين زنكي اتبع سياسة مستقلة إىل حد كبري ،جتاه عضمقته بك ٍ من اخلليفة العباسي ، وهكذا يتَح :هل
والسلطان السلجوقي ،وأضحى يشك قوة مؤثرة ضاغطة يف األحداث اليت شهدها العراق مستغضمً عضمقات اخلضم ة
أن هذه السياسة مل تؤد إىل استقرار وضعه ب على العكس املتقلبة ابلسلطنة السلجوقية لتحسني وضعه السياسي ،غري هل
هدهلدت حكمه بني الفينة والفينة ،ولوال جناحه يف مقاومة الصليبيني ،وإقامة إمارة حاجزة يف املوص بينهم وبني العراق؛
تتعرض إمارته خلَات سياسية شديدة وخطرية رمبا أودت جبهوده يف بناء دولة(.)4 لكان من احملتم أن هل
املبحث الرابع :توسع عماد الدين يف مشال بالد الشام وإقليم اجلزيرة
75
521هـ 541هـ 1127 /ـ 1146م
بدأ عماد الدين زنكي حماوالته لتوحيد املنطقة بَم املدن اليت حوله والقريبة منه بسبب ضعفها ،وتفرقها ،وضيق
مساحتها ،وكان والة املوص الذين سبقوه قد عجزوا عن اكتساحها ،وابلتايل عن حتوي السلطة الرمسية اليت منحهم
السضمجقة إايها حبكم املوص ،واجلزيرة ،ومشايل الشام إىل سلطة علية ،ولذلك سعى زنكي للقَاء على هذه املواقع
املستقلة؛ كي تغدو سلطته يف هذه املناطق أمراً واقعاً .كانت البوازيج ـ الواقعة على طريق املوص عند مصب الزاب
األسف ـ أوىل املواقع اليت استوىل عليها زنكي وذلك لدى توجهه إىل املوص عام 521هـ لتويل مهام منصبه ،مستهد اً
استمر يف سريه حنو
من وراء ذلك اختاذها خط رجعة له حلماية ظهره يف حالة تصدي وصي حاكم املوص لزحفه ،مث هل
املوص ،وعندما وص جاويل نبأ تقدمه على رأس قوات حاشدة ،حيم معه منشور السلطان حبكم املوص ؛ أدرك أ ْن
ليس يف طاقته التصدي له ،واثر السضممة ،خرج الستقباله ،يصحبه أمراء املوص وقادهتا ،وما أن التقى به حىت
ترج ،وقبهل األرض بني يديه ،وأعلن طاعته له ،أقطعه زنكي مدينة الرحبة ،وأعماهلا ،وسريه إليها(.)1
هل
أوالً :جزيرة ابن عمر 521هـ:
بعد أن رتب عماد الدين زنكي أوضاعه يف املوص ،أراد االنتقال إىل جزيرة ابن عمر ،وسار بقواته إليها ،ومبجرد
وصوله إىل مشار ها علم أعياهنا وسكاهنا بقدومه ،خا وا منه ،وامتنعوا عن استقباله ،وأغلقوا أبواب املدينة يف وجهه
َ ،رب عماد الدين حصاره حوهلا ،وبدأ مبراسلة أعيان املدينة ،ومماليك الربسقي ،وحاول إقناعهم ابملهادنة ،وبذل
هلم الوعود الكثرية إن سلموا املدينة ،غري هلأهنم امتنعوا عن موا قته ،وعند ذلك هلقرر عماد الدين قتاهلم ،وإخَاع املدينة
عنوة .وكان جمرى دجلة يفص بني جيش عماد الدين واملدينة أمر قواته بعبور النهر إىل املدينة ،منهم من عرب ابلسفن
،وبعَهم ابألكضمك(.)2
وملا تكاثر جيش عماد الدين وشدهلد حصاره على املدينة؛ كان السكان قد خرجوا إىل منطقة بني اجلزيرة ودجلة تعرف
ابلزالقة ،وكانوا خبروجهم حياولون منع جيش عماد الدين من إكمال عبوره ،ولكن عساكر عماد الدين متكنوا من
العبور ،وشددوا احلصار على امل دينة ،وجرت مناوشات بني مماليك الربسقي ،واملهامجني ،ظهر يها التباين بني
القوتني ،ومل ميض وقت طوي حىت اهنزم مجاعة الربسقي .وملا رأى أهايل اجلزيرة أن ميزان املعركة ليس يف صاحلهم؛
ضعفوا ،وأيقنوا أن على املدينة أن تستسلم أ َ من دخوهلا عنوة .بعثوا إىل عماد الدين ،يطلبون منه األمان
استجاب لطلبهم ،واستلم املدينة( ،)3ولعله بدأ مبهامجة هذا املوقع قب غريه من املدن والقضمع بسبب قربه من املوص
وأمهيته العسكرية واالقتصادية(.)4
اثنياً :حلب522هـ:
76
تُ َـع ُّد حلب ذات أمهية ابلغة ألية قيادة عسكرية وسياسية تسعى جملاهبة الصليبيني بفَ ما تتمتهلع به من حصانة عسكرية
،ومركز متميز ،وإمكاانت اقتصادية وبشرية وسياسية هامة ،وابإلضا ة إىل موقعها على خطوط املواصضمت بني ارس
الرها ،وأنطاكية ،وغدت والعراق من جهة ،وبني الشام واسيا الصغرى من جهة أخرى ،مث بني إمارتني صليبيتني مهاُّ :
ـ ُمنذ عهد طوي ـ قاعدة ال ميكن بدوهنا السيطرة على اجلهات الشمالية والوسطى من بضمد الشام يف الوقت الذي
ميكنها يه االتصال ابلقوى اإلسضممية املنتشرة يف اجلزيرة ،والفرات ،واألانضول ،ومشايل بضمد الشام ،وأواسطه ،مما
يعد أساساً حيوايً الستمرار حركة اجلهاد ،وحتقيق أهداف حامسة ضد الصليبيني ،لذلك كان ضمها من قب أي قائد
إسضممي مبثابة تح الطريق أمامه لتبوء مركز القيادة يف حركة اجلهاد(.)1
وساعدت الظروف السياسية اليت كانت متر هبا إمارة حلب اليت وجدت نفسها يف حالة شديدة من الفوضى عقب و اة
الربسقي يف عام(521هـ1127/م) وتعدُّد املطالبني ابلسلطة ،وتنازعهم ،قد استأثر األاتبك عز الدين مسعود بن ُ
()2
الرها وبوهيمند الثاين أمري
«قتلغ أبه» انئب األاتبك ،إبدارة شؤوهنا ،يف الوقت الذي طمع يه جوسلني الثاين أمري ُّ
وشن الصليبيون هجمات عنيفة لضمستيضمء عليها أنطاكية الختاذها قاعدة ملد نفوذه ابجتاه الشرق واجلنوب الشرقي .هل
را قها تدهور حاد يف أوضاعها االقتصادية ،وانتشار اخلوف والقلق بني السكان( ، )3مما د ع هؤالء إىل االلتفاف حول
انئب حلب السابق سليمان بن عبد اجلبار األرتقي ،وقد تزعم الثورة ضد «قتلغ أبه» الذي اتصف ابلتعسف(.)4
حد لتدهور األوضاع على الرغم من أنه عقد هدنة مع جوسلني الثاين تنازل له ويبدو :أن سليمان مل يتمكن من وضع ٍ
مبوجبها عن بعض املناطق الزراعية احمليطة ابجلهات الغربية حللب( ، )5لكن يقظة عماد الدين زنكي أ سدت على اجلميع
خططهم ومشاريعهم ،وقد سعى إىل ضم حلب بوصفه ميلك منشوراً من السلطان السلجوقي حبكم املوص ،واجلزيرة،
ومهد خلطواته هذه إبرسال الرس إليها حىت يشرحوا لسكاهنا أحقيته يف تويل أمورها ،كما أرس حاجبه وبضمد الشام ،هل
()6
الياغسياين لتنظيم أمورها اإلدارية ،ومتهيد الطريق له لدخوهلا ،مث غادر املوص يف طريقه إليها ،وض هلم يف طريقه بزاعة
،ومنيح ،وملا وص إىل مشارف املدينة يف شهر مجادى االخرة عام 522هـ شهر حزيران عام 1128م خرج سكاهنا
الستقباله املني ببداية عهد جديد من األمن ،واالستقرار بعدما سئموا من الفوضى اليت سادت مدينتهم ،دخ
القلعة وبدأ بتنظيم أمورها ،وأقطع أعماهلا ألمرائه وأجناده( )7وحىت يثبت أقدامه يف حلب ويقطع الطريق على املفسدين
ضايق عماد الدين زنكي زعماء املدينة املعارضني حلكمه ،وذوي املصاحل القدمية يها ،قَى على بعَهم ،و هلر
77
البعض االخر من وجهه ،قت «قتلغ أبه» و هلر إبراهيم بن رضوان بن تتش إىل نصيبني وغادر سليمان بن عبد اجلبار
إىل املدينة ،والتجأ َائ بن بديع رئيس حلب السابق إىل قلعة جعرب القريبة من حلب(.)1
وبذلك حتققهلت الوحدة بني املوص وحلب ،مرة أخرى ،وحص عماد الدين زنكي على موقع هام ،وأمن جانب
املعارضة ،وهتيهلأت له الفرصة للتدخ يف األوضاع السياسية لبضمد الشام ،لتوحيد صفوف املسلمني ،وجماهبة أخطار
الرها عن بقية اإلمارات الصليبية يف الغرب واجلنوب(.)2
الصليبيني ،كما هلأدى ذلك إىل عزل إمارة ُّ
وحران ،وإربل ،والرقَّة:
اثلثاً :سنجار ،واخلابور َّ ،
1ـ سنجار واخلابور:
مل يتعرض زن كي ـ حني توجه إىل حلب ـ للمدن واحلصون الواقعة على الطريق بينها وبني املوص ؛ إذ كانت الظروف
تستدعي منه أن يَع يده على حلب أوالً ،مث ينطلق لفرض سيطرته على املواقع األخرى من أج أتمني الطريق إىل
أقر األوضاع يف املدينة املذكورة حىت هلاجته يف أواخر عام 522هـ لضمستيضمء على سنجار ،واملناطق
الشام .وما إ ْن هل
اجملاورة( ، )3و رض احلصار عليها ،إال أن أهاليها امتنعوا عليه ،وحني مل يروا من مقاومتهم جدوى إزاء إصرار زنكي
على اقتحام املدينة ،اضطروا إىل مصاحلته ،وتسليم سنجار إليه( .)4مث ما لبث أن أرس من هناك بعض قواته إىل
()6 ()5
اخلابور ؛ حيث متكنت من االستيضمء عليه .وكانت سنجار تقع وسط الطريق بني املوص وحلب ،وتشك منطلقاً
للسيطرة على املناطق األخرى( ، )7ولذا قد حقق زنكي ابستيضمئه عليها نصراً هاماً(.)8
حران:
ضم هل 2ـ ُّ
الرب ُسقي ،وكانت قد تعرضت بعد و اته لتهديدات الصليبيني الذين كانوا قد
حران اتبعة لعز الدين مسعود بن ُ كانت هل
كالرها ،وسروج ،استدعى أهلها عماد الدين زنكي يف عام 523هـ1129/م؛ استولوا على بعض املواقع القريبة منها ُّ
إذ انتهت املشكلة بو اة «سوتكني»(.)9
ضم إرب :
3ـ ُّ
أدرك عماد الدين زنكي أمهية إرب العسكرية ابلنسبة للموص ؛ إذ هي مبثابة الباب الشرقي الذي يصلها ببضمد ارس
يرتدد رغم
واملشرق ،ونقطة الد اع الرئيسية يف الطريق الذاهب غرابً صوب الشام ،وعندما أتيحت له رصة مهامجتها مل هل
كوهنا من ممتلكات مسعود بن حممد السلجوقي سلطان أذربيجان ،هامجها عام 526هـ ،وشدد النكري عليها ،إال
أن حاميتها استطاعت أن تصمد حلني تقدُّم السلطان مسعود لنجدهتا ،اضطر زنكي إىل االنسحاب ،مث رأى مسعود
78
ضد منا سيه من أج احلصول على عرش سضمجقة أن يَحي هبذا املوقع؛ كي يكسب زنكي إىل جانبه يف صراعه هل
العراق ،وا ق األخري على اتفاق كهذا يتيح له ضم موقع هام إىل إمارته قد يساعده يف املستقب على التوغ شرقاً ،
وعني يها انئباً عنه(.)1
وبعد أن أخذ ك ٌّ من احلليفني العهود من صاحبه؛ تسلم زنكي إرب ،هل
الرقـة(:)2
ضم هل
4ـ ُّ
مر عماد الدين زنكي ابلرقة يف عام 529هـ 1135/م ،وهو يف طريقه إىل دمشق ،يف حماولة لَمها ،رأى أن هل
يَمها إىل أمضمكه ،انتهز هذه الفرصة ،ونفهلذ خدعة ذكية ،أعلن رغبته ابالستحمام يف محام البلد ،قام حاجبه
الياغسياين بتدبري هذا األمر ،واتفق مع مسيب بن مالك صاحب الرقة ،الذي مل يشك يف نوااي عماد الدين زنكي
ورجاله ،على السماح للجيش بدخول املدينة ،وما إن أصبح اخر جندي داخ السور حىت أمر عماد الدين زنكي
قواته ابالستيضمء على املدينة ،أبعد املسيب ،وأقطعها أحد أمرائه(.)3
ضم دقوقا( )4وشهرزور(:)5 5ـ ُّ
ضم عماد الدين زنكي دقوقا يف عام 531هـ 1137/م عنوًة( ، )6ودخ بعد ثضمث سنوات قلعة شهرزور ،الواقعة هل
()7
الَم ابملدى الذي وصلت إليه العضمقات وسط سه واسع ميتد من إرب إىل مهذان ويقطنه األكراد ،وقد ارتبط هذا ُّ
بني األمري قفجاق بن أرسضمن اتش الرتكماين حاكم شهرزور ،وبني السلطان السلجوقي مسعود ،خشي عماد الدين
زنكي أن يتنازل األمري الرتكماين عن بعض أمضمكه للسلطان ،ومنها شهرزور ،يغدو جماوراً إلمارة املوص ،يشك
عندئذ خطراً جدايً عليه(.)8
6ـ التوسع ابجتاه اجلنوب:
َم احلديثة
توسع عماد الدين زنكي بني عامي ( 536هـ 538هـ 1141/م ـ 1143م) يف اجلنوب الغريب ،هل
الواقعة على الفرات( ، )9وعانة القريبة منها( ، )10ويف عام 541هـ 1146/م كان قـد بلغ درجة من القوة مما د عه إىل
ضم قلعة جعرب املطلة على الفرات عمضمً خبطته القاضية؛ أبالهل يبقى وسط بضمده ما هو ملك لغريه( .)11وكانت هذه
استمر القتال حىت اليوم
غرة وحاصرها ،وتوغلت قواته يف ربَها ،و هل
القلعة حتت حكم العقيليني ،هامجها على حني هل
79
اخلامس من شهر ربيع االخر ،حيث اغتي عماد الدين زنكي ،ساد االضطراب صفوف جيشه ،اضطر أ راده إىل
ك احلصار( ، )1مما سنبحثه مفصضمً إبذن هللا تعاىل.
رابعاً :عالقة عماد الدين زنكي ابألكراد:
1ـ بنو أيوب حكام تكريت 526هـ 541هـ:
تعترب عضمقة عماد الدين زنكي ابلبيت األيويب الكردي متميزة ،وبدأت هذه العضمقة يف الثاين عشر من ربيع االخر عام
526هـ عندما اهنزم زنكي يف أعقاب املعركة اليت دارت بينه ـ كحليف للسلطان مسعود ـ وبني قوات املل َك ْني :طغرل ،
َ
وداود املنا سني للسلطان املذكور( ، )2وانسحب بفلول جيشه حنو تكريت اليت كان حيكمها جنم الدين أيوب( ، )3أقام
هذه املعابر على دجلة ،وجهز عدداً من السفن لنق قواته إىل الَفة األخرى اليت تقع عليها مدينة تكريت ،وهناك
أحسن جنم الدين إىل زنكي وجنده ،وداوى جراحهم ،وقدهلم إليهم سائر ما حيتاجون إليه ،وبعد أسبوعني غادر زنكي
وأتباعه تكريت مودعني مبث ما استقبلوا به من حفاوة وإكرام( .)4وأخذ يرس اهلدااي إىل جنم الدين تباعاً اعرتا اً منه
بفَله وحسن ضيا ته( .)5وعندما بـُل َغ هبرور ـ شحنة بغداد ـ موقف انئبه يف تكريت من زنكي؛ بعث إليه رسوالً ليعاتبه
على إحسانه لعدو سضمجقة العراق ،وإطضمق سراحه بعد أن كان قد وقع يف يديه( ،)6وازداد حرج هبرور لدى قيام أسد
الدين شريكوه بقت أحد سكان تكريت بسبب تعرضه إلحدى النساء ،واضطر إىل إصدار أمره إىل جنم الدين مبغادرة
تكريت ،ومجيع أ راد عائلته ،ومل يكن ابستطاعة هبرور معاقبة أسد الدين شريكوه ملا بني الطر ني من صداقة قدمية ترجع
إىل زمن أبيه(.)7
ويف هذه الفرتة احلرجة من أواخر عام 532هـ ولد صضمح الدين لنجم الدين أيوب ،واضطرت العائلة ملغادرة تكريت،
ورمبا كان ذلك يف الليلة اليت ولد يها الطف املذكور( ، )8ومل يكن هناك ملجأ أكثر أمناً هلذه العائلة الطريدة من كنف
األمري الذي أحسنوا إليه قب عدة أعوام ،ومل ينس زنكي اإلحسان ،استقب عائلة بين أيوب أحسن استقبال ،وأقطع
رجاالهتا اإلقطاعات الواسعة( ،)9وأاتح لألخوين جنم الدين وأسد الدين االخنراط يف قواته( ،)10واإلشراف على تربية
أبنائه( ، )11واالشرتاك يف احلروب اليت خاضها يف الشام هل
ضد الصليبيني( ، )12وظلت العائلة األيوبية تنعم حبماية عماد
80
عني جنم الدين
الدين زنكي ،وأخذت عضمقاهتا به تزداد وثوقاً يوماً بعد يوم .وعندما استوىل على بعلبك عام 534هـ هل
أيوب والياً عليها ،وأقطعه ثلثها( ، )1استقر هناك هو وأ راد العائلة األيوبية( ، )2وظ ميارس مهام عمله كو ٍال لزنكي
حىت مقت األخري عام 541هـ ،وكان صضمح الدين خضمل تلك الفرتة قد ترعرع يف كنف والده ،وبدت عليه مسات
التمعت عيناه بربيق القوة(.)3
النجابة والذكاء ،و ْ
وهكذا قُد َر لعماد الدين زنكي أن يلعب دوراً هاماً يف إظهار العائلة األيوبية يف اجملاالت السياسية ،والعسكرية ،
واإلدارية ،وأن ميهد هلا الطريق إىل املكانة الكبرية اليت متتعت هبا يف عهد ابنه نور الدين حممود(.)4
2ـ األكراد احلميدية:
َم مناطق األكراد احلميدية بسبب قرب حصوهنم من املوص .وكان احلميديُّون يقومون يف بدأ عماد الدين زنكي يَ ُّ
كثري من األحيان مبهامجة قرى ومزارع املوص الشرقية ،وهنب ضمهلحيها ،مما سبهلب قلقاً وخو اً لفضمهلحي املوص ،وعندما
أقر األمري عيسى احلميدي على واليته ،ومل يتعرضه بشيء مما يف يده(.)5 أسـس عماد الدين زنكي إمارة املوص ،هل
أن األمري املذكور سرعان ما خرج على طاعة زنكي لدى حصار اخلليفة املسرتشد املوص عام 527هـ ،حيث إال هل
انَم إليه جبيوشه ،وأمده ابلقوات ،وحشد له عدداًكبرياً من األكراد ،وما إن ش احلصار وانسحب املسرتشد عائداً
إىل بغداد حىت بدأ زنكي هجومه على قضمع احلميدية ،حاصرها ،وقاتلها قتاالً شديداً ،حىت إنه مح بنفسه على
حامية العقر ،وصعد يف جبلها املرتفع إىل سورها وصلت طعنته إليه( ، )6مث ما لبث أن استوىل عليها عام 527هـ
منهياً بذلك أسباب القلق واخلوف اليت كانت تسببها هجمات احلميديني على ضمحي املوص ( ، )7األمر الذي أدى ـ
وال ريب ـ إىل عودة ازدهار احلياة الزراعية ،والتجارية يف املنطقة( .)8ونتيجة لَم قضمع احلميدية حقق عماد الدين زنكي
هد ني:
األول:
هلأمن املركز العسكري املسيطر على أمن املوص بفع ما كانت تشغله اإلمارة احلميدية من موقع هام.
الثاين:
مهد الطريق أمامه للتوغ يف بضمد األكراد اجلبلية(.)9 ٍ
موطئء قد هل حص على
3ـ األكراد اهلكارية:
81
أدرك أبو اهليجاء اهلكاري ،صاحب قلعة اشب ،مدى قوة عماد الدين زنكي ،وخطورة النصر الذي حققه على وضع
األكراد بعامة ،استعطفه مببلغ من املال ،وتوس إليه أال يتعرض له ،مث ما لبث أن قَد َم إىل املوص إلعضمن والئه(.)1
ب واجلدير ابلذكر :هل
أن طائفة من األكراد اهلكارية تقطن يف املنطقة املعرو ة هبكاراي إىل الشمال يف هنر اخلابور الذي يص ُّ
قرى زراعية ترتبط هبا وتؤمن هلا التموين
يف أعايل دجلة ،وكانت قلعة اشب مركزهم الرئيسي ،وتنتشر حوهلا عدهلة ً
الغذائي .واستمرت العضمقات اجليدة بني عماد الدين زنكي وبني اهلكاريني حىت عام ( 537هـ 1142/م) إذ تويف يف
ذلك العام أبو اهليجاء ،دبت الفوضى يف إمارته بسبب النزاعات األسرية ،وبرز يف هذه الصراعات «ابو أال رجي»
،انئب أيب اهليجاء يف حكم اإلمارة الذي ساند الطف علي بن اهليجاء ليهيمن من خضمله على شؤون اإلمارة ،وحيكم
ابمسه يف حني ساند عماد الدين زنكي أخاه أمحد(.)2
وجنح عماد الدين زنكي يف ضم قلعة اشب بعد أن هزم ابو وأنصاره ،مث غادر املنطقة عائداً إىل املوص بعد أن ترك
يها انئبه «نصر الدين جقر» ليتم ما بدأه بَم منازل اهلكارية ،اجتاح هذا القائد القضمع املتبقية ،وسيطر على
املنطقة( ، )3واستطاع عماد الدين زنكي هبذه االنتصارات أن ينهي أعمال الفوضى والفساد يف املنطقة ،ح هل األمن
أحد على األكراد أنفسهم ،الذين ختلصوا من املنازعات الداخلية على ما يظهر ، ٍ يف ربوعها ،وعاد نفعه قب ك
واجتهوا إىل اإلنتاج ،مث ما لبث عماد الدين زنكي أن أصدر أوامره ببناء قلعة العمادية ـ نسبة إىل امسه( )4ـ على أطضمل
خربوه لعجزهم عن الد اع عنه( ، )5ويبدو :أن زنكي أراد اختاذ هذه القلعة قاعدة عسكرية حصن قدمي كان األكراد قد هل
للد اع ،والتموين يف حاالت التمرد اليت قد يقوم هبا األكراد ضد ممتلكاته هناك ،ونقطة انطضمق لتوسيع نفوذه يف
املنطقة(.)6
4ـ األكراد املهرانية:
بدأ عماد الدين زنكي هجماته على األكراد املهرانية يف عام 537هـ 1142/م ،واجلدير ابلذكر :هل
أن هذه الفئة تَـ ْقطُ ُن
عدداً من القضمع املنتشرة يف املنطقة اجلبلية املتامخة جلزيرة ابن عمر ،وأمهها كواشي الواقعة يف جبال اجلودي ،شرقي هنر
دجلة ،والزعفراين ،والشعبـاء وغريهـا(.)7
والواقـع :هل
أن ض هلـم املنطقـة اخلاصة ابملهرانية يـُ َع ُّد خطوة متممة لَم املنطقة اخلاصة ابهلكارية بفع جتاورمها ،بعد أن
انتهى عماد الدين زنكي من ضم املنطقة الثانية انتق إىل ضم املنطقة األوىل .واستطاع أن يفرض سيطرته على عدهلة
82
الرعب يف قلـوب حاميـات القـضمع األخرى اجملاورة ؛ مما قضمع ،منها املذكورة أعضمه ،وألقت هذه االنتصارات السريعـة ُّ
د عها إىل طلب األمان ،وخَعت حلكم عماد الدين زنكي(.)1
5ـ األكراد البشنوية:
التفت عماد الدين بعد ذلك إىل مناطق األكراد البشنوية يف بضمد الزوزان الواقعة يف األرض املمتدة من جبال أرمينية
مشاالً ،حىت املوص جنوابً ومن أذربيجان شرقاً ،حىت إقليم داير بكر غرابً( ،)2وكان أمراء البشنوية قد أنشؤوا عدداً من
احلصون لع هل أمهها حصن نك املط على هنر دجلة ،واختذوه مركزاً رئيسياً هلم نظراً ملا يتمتهلع به من حصانة طبيعية ،
ومتانة ،وكان أمريهم آنذاك حسام الدين البشنوي قد اشرتك مع عدد من األمراء األكراد القاطنني مشايل املوص يف ٍ
إاثرة الفنت ،واالضطراابت ضد إمارة عماد الدين زنكي ،هامجها هذا األخري وأخَعها لسلطانه ،ابستثناء حصن
نك الذي أوك مهمة إخَاعه إىل قائده زين الدين علي كجك يف حني توجه هو حلصار قلعة جعرب ،و رض كجك
احلصار على احلصن ،وصادف أن اغتي عماد الدين زنكي أثناء حصار قلعة َج ْع َرب ،اضطر كجك إىل ك احلصار
،واالنسحاب إىل املوص (.)3
تلك هي اجلماعات الكردية اليت هاجم زنكي مواقعها ،واستطاع أن يَع يده على معظم ممتلكاهتا ،وقواعدها املهمة،
وخيَعها لسيطرته يف أق من عقد ونصف ،بفَ قدرته العسكرية ،وخططه السياسية البارعة؛ اليت أاتحت له التغلب
على مصاعب القتال يف املناطق اجلبلية الوعرة وسط ئات ال تدين له ابلوالء ،وقد متكن بذلك من أتمني إحدى
اجلهات اهلامة إلمارته بعد أن كانت تشك نقاط خطر عليه ،وأن جيعلها تستند إىل خطوط د اعية يصعب اخرتاقها
،حتقيقاً خلطته يف بناء السياج الذي صمم على بنائه حول إمارته عندما قال يوماً :إن البضمد كبستان عليه
سياج ،من هو خارج السياج يهاب الدخول(.)4
خامساً :عماد الدين واإلمارات احمللية يف داير بكر:
كان هدف زنكي ،بعد أن متهل له االستيضمء على حلب ،واختاذها قاعدة يف بضمد الشام ،والسيطرة على املناطق املمتدة
بينها وبني املوص ،واليت كان حيكمها أمراء مستقلون ،عمضمً خبطته القاضية :أبال يبقى يف بضمده ما هو ملك لغريه
حزماً منه واحتياطاً .ذلك :أنهله كان يستهدف ـ كما ذكران ـ إنشاء إمارة موحدة قوية ،متكنه من حتقيق انتصارات حامسة
ضد الصليبيني .وكان عليه ـ لتحقيق هذا اهلدف ـ اكتساح عدد من اإلمارات احمللية يف منطقة داير بكر ،واليت كانت هل
تشك خطراً على مواصضمته مع الشام ،سيما يف حاالت صدامه مع الصليبيني(.)5
ضم نصيبني:
أ ـ ُّ
83
بدأ عماد الدين زنكي حركته التوسعية اهلاد ة إىل توحيد اإلمارات اإلسضممية ابهلجوم على نصيبني التابعة إلمارة ماردين
،وقد اختارها؛ أوالً بفع كوهنا أقرب املواقع إىل اجلهات التابعة حلكمه َ ،رب عليها حصاراً مركزاً ،استنجد
حاكمها حسام الدين متراتش بداود بن لقمان صاحب حصن كيفا لصده ،وإرغامه على ك احلصار عنها ،وعده
ابملساعدة( ، )1كما بعث إىل أهاليها وحاميتها رسالة مستعجلة على جناح طائر حيثهم يها على الصمود ريثما تصلهم
النجدة األرتقية خضمل رتة ال تتجاوز اخلمسة أايم ،إالهل أن الرسالة وقعت بيد زنكي واطهللع على ما يها ،ورأى أن
ينتهز الفرصة لتدبري حيلة قد تساعده على حتقيق هد ه ،أمر بكتابة رسالة أخرى إىل أه نصيبني بدالً من الرسالة
األوىل ،جاء يها« :من حسام الدين متراتش ،إنين قد قصدت ابن عمي داود ،وقد وعدين ابلنجدة واملسري ابجليوش
،وسوف لن يتأخر قدومه إلينا أبكثر من عشرين يوماً ،لذا أطلب منكم الثبات طيلة هذه املدهلة»( )2وبعث الرسالة
على جناح الطائر نفسه ،ومل يشك النصيبيُّون حلظة واحدة أبهنا وردت إليهم من أمريهم األرتقي .خا وا على نفوسهم
،وأيقنوا أهنم يعجزون عن الد اع عن البلد خضمل هذه املدة الطويلة ،لذا أرسلوا إىل زنكي ،وصاحلوه ،وسلهلموا مدينتهم
إليه ،بط على حسام الدين وداود ما كاان قد عزما عليه( ، )3وبفتح نصيبني انفسح الطريق أمام زنكي لتحقيق أهدا ه
هل
ضد إمارات داير بكر؛ إذ اختذ من هذا املوقع قاعدة عسكرية يف املنطقة للهجوم على املواقع اجملاورة(.)4
ب ـ معركة دارا:
أتكد من عجز هل
احلكام احملليني مهد ض ُّم نصيبني الطريق أمام عماد الدين زنكي لتحقيق أهدا ه يف داير بكر بعد أن هل هل
عن مواجهته؛ إذ غدا هذا املوقع قاعدة انطضمق لضمنتشار يف املنطقة.
ومن جهتهم أدرك أمراء هذا اإلقليم مدى خطورة توسع عماد الدين زنكي على أمضمكهم ،تداعوا يف عام (524
هـ 1130/م) إىل عقد حلف للوقوف يف وجهه ،اشرتك يه األمريان األرتقيان :حسام الدين متراتش ،وابن عمه ركن
انَم سعد الدولة أبو منصور إيكلدي صاحب امد إىل احللف ،ابإلضا ة إىل عدد كبري من أمراء الدولة داود ،و هل
الرتكمان املوالني لداود( ،)5وملا مسع عماد الدين زنكي حبشود األمراء؛ قرر مباغتة القوم قب أن يتهيؤوا للقتال ،انطلق
على رأس أربعة االف مقات ،والتقى هبم ابلقرب من دارا( )6التابعة لتمراتش ،وانتصر عليهم .كانت النتيجة الفورية
للمعركة سيطرة عماد الدين زنكي على عدد من املواقع القريبة كحصن سرجي( )7ودارا( ، )8وحىت يعرق توغله يف املنطقة
،قرر داود مهامجة جزيرة ابن عمر التابعة للموص ،ممهلا د ع عماد الدين زنكي إىل ترك داير بكر ،والتوجه إليه إليقا ه
84
يتمكن من التوغ بعيداً بسبب وعورة املسالك ،وانتشار الرتكمان يف املنطقة ،اكتفى ابستقطاب عند حده ،لكنه مل هل
السكان يف اجلهات اليت بلغها ،مث قف عائداً(.)1
ج ـ أساليب سياسية من عماد الدين زنكي إلحداث انشقاق ،وتنا ر يف صفوف األراتقة:
ضد مطاحمه يف املنطقة ،رأى أدرك زنكي إثر هذه األحداث مدى اخلطر الذي يشكله التحالف بني أمراء داير بكر هل
أن يلجأ إىل األساليب السياسية علهلها تتيح له إحداث انشقاق ،وتنا ر يف صفوف أولئك األمراء كي يسه عليه ـ بعد
أن خري ما يبدأ به خططه السياسية هو إجياد حتالف متني مع أحد هؤالء ذلك ـ اقتطاع أراضيهم ،وممتلكاهتم .واعتقد :هل
األمراء ،واالستعانة به ضد االخرين ،وكان من الصعب عليه حتقيق هذا التحالف مع غرميه اللدود ركن الدولة ،ملا كان
وحتني الفرص لضمنقَاض على ممتلكاته(.)2
حقد ،ورغبة إبنزال الَرابت بعدوه ُّ ،يتميهلز به هذا من ٍ
أن زنكي مل يشأ أن يتخذ من صاحب امد حليفاً له لَعف إمكانياته ،وعدم قدرته على تقدمي مساعدات جمدية كما هل
يف حالة نشوب قتال بني أمري املوص واألراتقة ،ومل يبق أمامه إذاً سوى حسام الدين متراتش الذي كان أكثر مرونة من
الود
أحس األمري األرتقي اجتاه زنكي هل يتقرب إليه ،وأوقف مهامجته ملمتلكاته ،وسرعان ما هل
ابن عمه داود ،لذا أخذ هل
أن التَحية اببن عمه داود ال بد منها يف سبي كسب حليفه اجلديد ،وائتمان جانبه ،والسعي ـ عن منه ،ورأى :هل
طريق هذا التحالف ـ للحصول على مزيد من املكاسب يف املنطقة(.)3
أ ـ مهامجة حصن آمد:
شهد عام 528هـ لقاء وديـاً بني احلليفني ،انطـلقـا بعـده مبـاشرة ملهامجة احلصن املنيع امد ،و رضا احلصار عليه ،
أرس صاحبه سعد الدولة إيكلدي ( 503هـ 536/هـ) يستنجـد بداود األرتقي ،وسرعـان ما مجـع هذا جيوشه
ومتطوعيه من الرتكمان ،و هلاجته لفك احلصار عن امد ،وهنـاك عند أسوار هذا احلصن حدث اللقاء بني الطر ني يف
أواخر مجادى االخرة من ذلك العام ،وانتهى القتال هبزمية داود ،وأسر ولده ،ومقت عدد من جنـده ،بينما استمر
حصار زنكي وحليفه هلد هما املنيع ،وكي يلقيا الفزع ،واليأس يف نفوس أصحابه قاما بتخريب واسع النطاق يف
أن امد صمدت ،وأقنعت املهامجني بعدم جدوى البقاء طويضمً ،ورضـي زنكي من البساتني ،واملزارع اجملـاورة ،إال هل
الص ْور( )5القريبة ،وهي من
صاحبهـا ـ لقاء ك احلصار ـ بتقدمي مقدار من املال( .)4مث اجته احلليفان بعد ذلك إىل قلعة هل
ممتلكات داود ،وحيكمها ابنه قرا أرسضمن ،حاصراها ،وأرغماها على االستسضمم ،وأهداها عماد الدين زنكي حلليفه
تقديراً ملساعداته ،وأتكيداً لتحالفهما(.)6
ب ـ اتساع شقة اخلضمف بني متراتش وبني ابن عمه داود:
85
نتيجة هلذا االنقسام يف الصف األرتقي اتسعت شقة اخلضمف بني متراتش وبني ابن عمه داود ،وبدت يف األ ق السياسي
بوادر نزاع مسلح بينهما يف الوقت الذي ازداد يه التحالف بني متراتش ،وعماد الدين زنكي متانة وصضمبة .وقام
متكنا من ضمهما ،ومنحهما زنكي احلليفان بشن هجوم مشرتك على جب جور( )1والسيوان يف عام ( 530هـ) و هل
حلليفه متاشياً مع خطته يف تقوية التحالف معه( ،)2وأدت هذه االنتصارات السريعة إىل إلقاء الرعب يف روع قرا أرسضمن
بن داود ،الذي أدرك :أنه أمام عدو صلب قوي وابلتايل عدم جدوى املقاومة ،غادر املنطقة إىل قاعدة أبيه يف حصن
كيفا اتركاً مناطق واليته لقمة سائغة يف يد عماد الدين زنكي ،وحاول متراتش اإل ادة من حتالفه مع عماد الدين زنكي
متكن يف عام ( 530هـ 1136/م) من ضم قلعة اهلتهلاخ( ، )3وهي يف توسيع رقعة إمارته بَم بعض املواقع القريبة ،و هل
آخر احلصون املروانية يف داير بكر(.)4
تعرض التحالف الزنكي األرتقي إىل االهتزاز: ج ـ ُّ
تعرض التحالف الزنكي ـ األرتقي إىل االهتزاز يف عام ( 533هـ 1138/م) ،وبدا يف األ ق السياسي ما يشري إىل تور هل
أن مرد ذلك يعود إىل: يف العضمقات بني احلليفني ،ويبدو :هل
ـ التجاء األمري أيب بكر انئب عماد الدين زنكي يف نصيبني إىل حسام الدين متراتش بعد ما خرج عليه ،ر ض األخري
تسليمه إىل عماد الدين زنكي رغم إحلاحه ،وجرت بينهما منازعات طويلة بسبب ذلك ،اضطر متراتش إىل تسليمه
إىل السلطان مسعود الذي سلهلمه بدوره إىل عماد الدين زنكي لينال عقابه(.)5
د ـ عودة الوائم بني متراتش وداود:
أن هذا اخلضمف الذي اشتد بينهما ،واتسع إىل درجة احلرب ،والتخريب لن يفيد أايً أدرك ك ٌّ من متراتش ،وداود :هل
منهما ،بقدر ما يعود ابملكاسب على زنكي الذي قد يستغله بشك دائم لتحقيق مزيد من االنتصارات يف املنطقة ،
وابلتايل إضعاف قوى األراتقة مجيعاً ،كي يصبحوا بعد ذلك هد اً سه املنال ،لذا قام ك ٌّ من األمريين األرتقيني
بتبادل الرس يف مطلع عام 536هـ ،وأسفرت املفاوضات عن عقد صلح بينهما ،وما لبث داود أن اجته إىل ميا ارقني
حيث اجتمع اببن عمه بعد سنني طويلة من العداء(.)6
هـ ـ سعي عماد الدين زنكي يف كسب حليف جديد:
أن الصلح الذي متهل بني األراتقة سيكون على حسابه للحد من مطاحمه يف املنطقة ،سعى إىل اختاذ مل يغب عن زنكي :هل
ضد منا سيه يف املنطقة من جهة أخرى ،وقد إجراءات سياسية تكف عدم انعزاله من جهة ،واكتساب حليف جديد هل
متكن ـ يف أق من عام ـ من حتقيق هذين اهلد ني ،وذلك أبن أرس إىل صاحب آمد( )7يتهدده إن استمر زنكي ،
( )1جب جور :اسم لكورة كبرية متصلة بداير بكر من نواحي إرمينية.
( )2اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص .112
( )3اهلتاخ :قلعة حصني يف داير بكر قرب ميا ارقني.
( )4اتريخ الزنكيني يف املوص ص .112
( )5املصدر نفسه ص .113
( )6عماد الدين زنكي ص .92
( )7املصدر نفسه ص .92
86
واستطاع أن حيص على مركز قوي يف داير بكر ،وأ ْن يستغ هذا املركز ملد نفوذه هناك ،واالستيضمء على ما ميكن
االستيضمء عليه من احلصون الكثرية املنتشرة يف املنطقة ،والتابعة لعدد من األمراء؛ كي يتسىن له بعد ذلك القيام خبطوته
احلامسة ،وهي االنقَاض إلسقاط حكم بين أرتق الذي يقف عائقاً دون حتقيق هد ه الرئيسي يف توحيد بضمد املوص
،واجلزيرة ،ومشايل الشام(.)1
و ـ محلة عسكرية واسعة من عماد الدين زنكي:
وشهدت أواخر عام 537هـ ومطالع العام التايل قيام زنكي حبملة واسعة ضد عدد كبري من احلصون الواقعة يف أقاصي
داير بكر والتابعة ألمري يدعى يعقوب بن السبع األمحر؛ الذي مل تشر املصادر ـ بوضوح ـ إىل اترخيه السياسي ،وهويته
،وطبيعة عضمقاته أبمراء داير بكر( .)2وقد متكن زنكي يف محلته هذه من االستيضمء على مدينة طنزة ،والسعرد،
واملعدن( ، )3وحيزان( ، )4وحصن الزوق( ، )5و طليس( ، )6واباتسا( ، )7وحصن ذي القرنني( ، )8وأنريون( ،)9وقام برتتيب
ضد هجمات األعداء( )10وأسرع زنكي أوضاع هذه املواقع واحلصون ،ووضع يف ك ٍ منها حامية عسكرية لتدا ع عنها هل
ـ بعد إجنازه هذه االنتصارات ـ ابلتوجه إىل ميا ارقني لتنفيذ اخلطة السرية اليت رمسها مع شرف الدين حبشي وزير متراتش
كر بقواته الكبرية ،يف إحدى ضواحيها القريبة املسماة (ت بسمي) أمضمً أن يقوم حبشي ،املقيم يف ميا ارقني وع ْس َ
َ ،
ت، ،بفتح األبواب لدخول قواته ،والسيطرة على املدينة ،والقلعة دون إراقة قطرة من دماء ،إال أن اخلطة ا ْكتُش َف ْ
واتفق رجضمن من كبار أعيان البلد ومسؤوليه على اغتيال حبشي ،وإهناء اخلطر احملدق مبيا ارقني( ، )11تسلضم إىل
خيمته ليضمً ،وضرابه ابلسيوف ،مث محضم رأسه إىل متراتش يف ماردين ،وسرعان ما انتشر نبأ احلادثة ،اضطرب جيش
إن مقت حبشي املفاجئ جع من الصعوبة مبكان وعمته الفوضى ،واضطر قائده إىل االنسحاب ،حيث هل زنكي ،هل
االستيضمء على ميا ارقني ،قف عائداً إىل نصيبني(.)12
ويف مطلع العام التايل ( 539هـ) تويف داود بن سقمان صاحب حصن كيفا ،خلفه ابنه خر الدين قرا أرسضمن ،
أن هذا األخري مل يكن يتمتع كأبيه مبقدرة سياسية ،أو عسكرية ،رأى أن خري وسيلة إليقاف عماد الدين ويبدو :هل
زنكي هي إعادة التحالف القدمي بني إماريت حصن كيفا وماردين ،قام ابخلطوة األوىل يف هذا السبي ،صاهر
87
()1
وضم مناطق واسعة من إمارة احلصن ،وقد متراتش ،واستغ عماد الدين ضعف قرا أرسضمن ،توسع على حسابه ،هل
هلأدت العمليات العسكرية اليت نفهلذها إىل تعميق اخلضمف بينه وبني متراتش وخباصة :أنهله هاجم قلعيت اجلور ،والسيوان ،
أن عماد الدين زنكي مل أيبه هلذا النزاع بعد أن وضمهما إىل أمضمكه بعد أن كان قد منحهما هلذا األخري ،والواقع :هل
قرر استئناف هجماته على األمضمك األرتقية ،اجته إىل امد يف حماولة لَمها ؛ إال أضحى مركزه قوايً يف داير بكر ،هل
الرها الصليبية ،أنقذ متراتش من هجوم جديد هل
ضد أمضمكه(.)2 أنهله اهنمك مبهامجة إمارة ُّ
و ـ موقف عماد الدين من إمارة أرمينية:
بد قب االنتهاء من سرد وحتلي عضمقات زنكي أبمراء أرمينية املتامخة لذلك اإلقليم()3؛ إذ أرس يف عام 528هـ ال هل
يطلب خطبة ابنه مسكان القطيب الذي كانت زوجته قد تولت الوصاية على شؤون اإلمارة ُمنذ و اته عام 505هـ
وصادف يف الوقت نفسه أن تقدم حسام الدولة بن دملاج أمري بدليس اجملاورة خيطب هذه الفتاة البنه ،األمر الذي
حتد لرغبته ،تقدم على رأس قواته إىل خضمط ،سالكاً جبنده الطرق أشد الغَب ،واعترب املوضوع مبثابة ٍ أغَب زنكي هل
اجلبلية الوعرة ،غري املسلوكة من أج أن يبلغ هد ه أبسرع وقت ممكن(.)4
كان اجليش بغري خيام ،وك ُّ جندي يف موضعه من الطريق( .)5وعندما وصلوا خضمط ضربوا خيامهم قريباً منها ،واجته
زنكي مع كبار أ راد حاشيته إىل القلعة لكتابة املهر .وما إن أمت ذلك حىت قام إبرسال حاجبه الياغسياين إىل بدليس
على رأس قسم من قواته لتأديب صاحبها ،إال أن هذا استطاع إقناع قائد زنكي ابلعودة إىل سيده مقاب مبلغ من
املال( .)6وهكذا اعتمد زنكي رابطة الزواج لتعزيز عضمقته إبمارة أرمينية وكسب بذلك صديقاً جديداً ،رمبا حص على
ضم َن حياده على األق ،سيما وأن هذه اإلمارة مساعدته خضمل عملياته العسكرية يف املناطق القريبة من أرمينية ،أو َ
كانت جتاور أعداءه يف داير بكر ،ومناطق اجلبال الكردية ،مما كان حيتم إبعادها عن الدخول يف الصراع إىل جانب
هؤالء األعداء.
يتوسع على حساب هذه اإلمارة ،رمبا لبعدها عن حدود ممتلكاته ،وعدم ومل حياول زنكي ـ من جهة أخرى ـ أن هل
تشكيلها خطراً مباشراً عليه ،حيث يفص بني الطر ني عدد من اإلمارات واملواقع املستقلة يف أقاليم اجلبال ،وداير
بكر ،امتصت معظم جهوده خضمل صراعه الطوي مع أمرائها ،هذا إىل أن املنشور ،الذي منحه السلطان السلجوقي
نص على توليته املوص ،واجلزيرة ،والشام دون أية إشارة إىل أرمينية ،و َضمً عن هذا وذاك كان هدف لزنكي ،هل
زنكي الرئيسي العم على توحيد املواقع اإلسضممية اليت ختدمه يف صراعه ضد الصليبيني ،ومل تكن أرمينية ذات غناء
بد أن نضمحظ بـُ ْع َد نظر زنكي يف سياسته اليت استهد ت عدم إضعاف اإلمارة املذكورة كبري يف هذا اجملال ،وأخرياً ال هل
88
اليت كانت مبثابة حزام و ٍاق ضد هجمات اخلزر ،والقفجاق القاسية على اجلهات الشمالية من اسيا الصغرى وأرمينية ،
أولئك الذين كانوا يشكلون خطراً على املناطق اجملاورة(.)1
سادساً :عماد الدين زنكي وأمراء دمشق:
ضم محاة:
1ـ ُّ
ضم دمشق ،واملدن احمليطة هبا إىل أمضمكه
أدرك عماد الدين زنكي :أنه ال يستطيع مواصلة اجلهاد ضد الصليبيني إال إذا هل
،وأقام حمور املوص ،حلب ،دمشق؛ ألن قطع الشام عن اجلزيرة كان جيعله حمتاجاً إىل البقاع ،وحوران لتموينه ابحلبوب
،ابإلضا ة إىل هدف سياسي يعود إىل وجود مملكة بيت املقدس الضمتينية يف اجلنوب .والواقع :أن ممتلكات املسلمني
يف بضمد الشام كانت تتوزع آنذاك بني ثضمث قوى:
أ ـ حمور بوري بن طغتكني أاتبك دمشق الذي يسيطر على دمشق ومحاة يف الشمال ،وحوران يف اجلنوب .واجلدير
أن آل طغتكني ورثوا حكم هذه املنطقة احليوية من سضمجقة الشام ،وكانت مشكلتا دمشق الرئيستان تتمثضمن ابلذكر :هل
يف جتنُّب قوة الزنكيني يف املوص ،وحلب ،وقوة الصليبيني يف بيت املقدس ،واالحتفاظ ابلسيطرة على السهلني
الزراعيني ،البقاع يف الشمال الغريب ،وحوران يف اجلنوب الشرقي؛ اللذين يؤمنان هلا القمح والعلف.
ب ـ حمور صمصام الدولة خري خان بن قراجا ،أمري محص.
ج ـ حمور سلطان بن منقذ ،األمري العريب الذي يسيطر على شيزر.
يَم محاة ،ومحص أوالً الواقعتني على الطريق املؤدي إىل دمشق ؛ نظراً ملا مينحه
وحىت حيقق هذا اهلدف كان عليه أن هل
ذلك من قواعد عسكرية هامة ،ومراكز للتموين ال ميكن االستغناء عنها عند القيام هبجوم ضد املدينة األخرية ،أو
رض احلصار عليها(.)2
ورأى عماد الدين زنكي أن يستعم األساليب ،واملناورات السياسية لَم محاة ،ومحص ،ويتجنهلب ما أمكن استعمال
القوة ،أرس إىل بوري بن طغتكني يف دمشق خيربه بنيته يف حماربة الصليبيني ،ويلتمس منه املساعدة ،كتب بوري
إىل ابنه سونج يف محاة أيمره ابخلروج من عسكره لنجدة عماد الدين زنكي ،كما أرس من دمشق قوة عسكرية مؤلفة
لتنَم إىل القوات اإلسضممية.
من مخسمئة ارس ،هل
رحب عماد الدين زنكي بقدوم سونج ،وأحسن لقاءه ،لكنه مل يلبث أن قبض عليه ،وعلى عدد من أمرائه ،وقادته
،وأرسلهم إىل حلب ،مث تقدم مسرعاً إىل محاة ،منتهزاً خلوها من الد اعات ،ودخلها يف شهر شوال عام 524
هـ/شهر أيلول عام 1130م ،وسلهلمها حلليفه خري خان صاحب محص الذي كان يرا قه يف عملياته(.)3
2ـ حماولة ضم محص:
89
أن هذه اخلطوة كانت خدعة من عماد الدين زنكي ليطمئن حليفه قب أن يَربه ،و عضمً انقلب عليه بعد ذلك ويبدو هل
،قبض عليه ،وأمره مبراسلة أه محص لتسليمه املدينة قب أن يرسله إىل حلب ،مث أسرع مبهامجتها( .)1إال أن أهايل
()2
محص قاتلوا ببسالة كبرية ،اضطرت زنكي ـ أخرياً ـ إىل ك احلصار والعودة إىل حلب ؛ حيث أرس من هناك كضمً
من خري خان ،وسونج وأمرائه لكي يعتقلوا يف املوص ،مث ما لبث بوري أن أخذ يراس زنكي ُملتمساً إطضمق سراح
ابنه.
وأخرياً متت موا قة أمري املوص على إعادة املعتقلني إىل دمشق مقاب تسليمه دبيساً بن صدقة ـ أمري احللة ـ الذي كان
حمتجزاً آنذاك يف دمشق( .)3أما خري خان قد بقي يف السجن حىت مقتله عام 529هـ( .)4ما لبث زنكي أن قام ـ يف
العام التايل ـ هبجومه الثاين على محص ،لكنه جوبه بنفس املقاومة الشديدة ،اثر االنسحاب انتظاراً لفرصة مواتية
()5
أخرى ،ويف السنة التالية تويف بوري حاكم دمشق ،أعقبه يف احلكم ابنه إمساعي الذي كان أكثر طموحاً ،واند اعاً
من أبيه ،عزم على مهامجة محاة ،ومتكن من اسرتدادها يف شوال عام 527هـ بعد أن أبدت حاميتها مقاومة عنيفة(.)6
3ـ حماولة التفاهم مع حكام دمشق:
حدث يف شهر رجب عام 526هـ/من شهر حزيران عام 1132م أن تويف بوري بن طغتكني ،خلفه ابنه مشس
امللوك إمساعي الذي اتصف ابلطموح واالند اع الزائد ،وجنح هذا احلاكم اجلديد من استعادة محاة يف أول شهر شوال
عام 527هـ/شهر اب عام 1133م( )7مستغضمً اهنماك عماد الدين زنكي مبشاكله مع اخلضم ة العباسية ،والسلطنة
السلجوقية.
غري أن إمساعي مل يلبث أن أساء السرية ،وابلغ يف ظلم األهايل ،ومصادرة أمواهلم ،كما أسرف يف التخلص من
معارضيه؛ حىت أضحى ك شخص خيشى على حياته ،اضطربت أحوال دمشق ،وأتلهلب اجلميع عليه( ، )8وكان قد
أدرك إصرار عماد الدين زنكي على مهامجة دمشق ،وصعوبة الصمود بوجهه ،والنقمة حتيطه من ك مكان ،وقرر القيام
ضد خصومه الدمشقيني ،كاتبه عام 529هـ يطلب منه القدوم مبناورة استهدف من ورائها كسب زنكي إىل جانبه هل
إىل دمشق لتسليمها إايه طوعاً ،وشرط عليه ـ لقاء ذلك ـ أن ميكنه من االنتقام من خصومه ،وأبلغه :أنه إن مل يسرع
بتلبية طلبه؛ قام ابستدعاء الصليبيني ،وسلمهم دمشق ،وكان إمث املسلمني يف عنق زنكي .مث ما لبث إمساعي أن شرع
بنق أمواله ،وممتلكاته إىل صرخد استعداداً لتسليم دمشق ألمري املوص .غري أن كبار أمراء دمشق وقادهتا أوضحوا
90
لوالدته ـ ذات النفوذ الكبري يف اإلمارة ـ العواقب الوخيمة اليت ستجرها عليهم سياسة ابنها الرعناء أسرعت بتدبري قتله
،وأجلست مكانه يف احلكم أخاه شهاب الدين حممود حيث ابيعه الناس(.)1
كان عماد الدين زنكي آ نذاك قد خرج من املوص ،وعرب الفرات يف طريقه إىل دمشق ،وعندما بلغته أنباء التغيريات
اليت حصلت؛ مل يقطع أمله يف إجياد وسيلة التفاهم مع احلكام اجلدد ،لذلك واص سريه حىت بلغ أرابض املدينة ،
وأرس رسوالً إىل حكامها للتفاوض بشأن شروط التسليم اعتقاداً منه بعدم قدرهتم على املقاومة(.)2
4ـ حصار دمشق:
أصر هو من جهته على مهامجة دمشق َ ،رب أن الدمشقيني ر َوا التفاوض معه ،وأصروا على املقاومة .و هل الواقع :هل
احلصار عليها يف أوائ مجادى األوىل ونفهلذ غارات على أطرا ها ،هلرد عليه الدمشقيون بغارات مَادة ،وتز هلعم حركة
املقاومة معني الدين أنر أحد مماليك طغتكني( )3وملا ش يف اقتحام املدينة ،اضطر حتت ضغط الظروف السياسية ،
والعسكرية املستجدهلة إىل عقد صلح مع الدمشقيني يف اخر شهر مجادى األوىل عام 529هـ/شهر اذار عام 1135م،
وقف عائداً إىل حلب( )4والواضح :أن الظروف اليت د عته إىل ك احلصار تكمن يف األحداث التالية:
أ ـ قيام الدمشقيني مبَايقة جيشه يف الوقت الذي أخذت أقواته يف التناقص.
ب ـ تسلُّ ُ بعض جنوده إىل دمشق ،وانَمامهم إىل الدمشقيني.
ث حكام دمشق إىل اخلليفة العباسي املسرتشد ابهلل مبلغاً من املال ،قدره مخسون ألف دينار ،وطلبوا منه د ع ج ـ بَـ َع َ
عماد الدين زنكي عنهم ،وتعهدوا ،إذا جنح يف ذلك ،أبن يرسلوا مبلغاً مماثضمً ك سنة ،قب اخلليفة هذا العرض
وأرس إليه أيمره بفك احلصار عن دمشق ،والتوجه على رأس قواته إىل بغداد ملعونته ضد السلطان مسعود( ،)5وهكذا
شلت اجلهود اليت بذهلا عماد الدين زنكي لَم دمشق ،كما ظلهلت هذه املدينة أمداً طويضمً متث عقبة يف سبي إمتام
الوحدة اإلسضممية يف بضمد الشام(.)6
5ـ جتدُّد الغارات على محص:
ك احلصار عن دمشق من إعادة ضم محاة إىل أمضمكه ،كما هاجم متكن عماد الدين أثناء عودته إىل حلب بعد أن هل هل
محص ،إال أنه ش يف دخوهلا( ،)7ويبدو :أن هذه املدينة ظلت طيلة السنوات الثضمثة التالية ( 530ـ 532هـ1135/
ـ 1137م) عرضة هلجماته؛ إذ شهد عام 530هـ 1135/م حماولة أخرى لَمها ،وجد قريش بن جربخان نفسه
عاجزاً عن صده ،استنجد بشهاب الدين حممود صاحب دمشق يلتمس منه إرسال من يراه كفؤاً لتويل شؤون احلكم
يها على أن يعوضه عنها إبحدى مدن إمارته ،وا ق حاكم دمشق على هذا العرض الذي يتيح له ضم مدينة كبرية
91
وهامة كحمص إىل إمارته ،تسلهلمها يف شهر ربيع أول عام 530هـ/شهر كانون األول عام 1135م وأقطعها معني
أنر(.)1
مل يركن الزنكيُّون إىل اهلدوء ،واتبعوا شن الغارات على محص بقيادة سوار بن أيتكني ،غري أن املدينة صمدت ،
استقر الصلح بني الطر ني على
وانتعشت مبا كان يدخلها من املرية واألقوات ،اضطر سوار إىل طلب التفاوض ،و هل
قاعدة عدم تعرض أي منهما للطرف اآلخر( .)2آمن عماد الدين زنكي دائماً أبن قيام اجلبهة اإلسضممية املتحدة يف
ضد الصليبيني ،ر ض من هذا املنطلق إقرار اهلدنة اليت عقدها بضمد الشام جيب أن يسبق أية خطوة عملية يتخذها هل
انئبه يف حلب ،وجدهلد اهلجوم على محص يف شهر شعبان عام 531هـ/شهر أاير عام 1137م إال أنه ش يف
اقتحامها بسبب املقاومة الشديدة اليت أبداها معني الدين أنر من جهة ،وظهور بوادر حتالف خطري بني الزعماء
الصليبيني من ٍ
جهة أخرى؛ إذ قام ولك أجنو ،ملك بيت املقدس ،بر قة رميوند الثاين ،أمري طرابلس ،بنجدة املدينة(.)3
6ـ اهلدنة مع حكام دمشق:
اضطر عماد الدين زنكي إىل عقد هدنة مع حكام دمشق كي يتفرغ للتصدي للصليبيني الذين احتشدوا يف حصن
()4
مرًة اثنية ملهامجة ممتلكات آل طغتكني ،وتوحيد بضمد الشام ،قام ابرين املنيع ،انتصر عليهم ،وهتيأت له الفرصة هل
يف أوائ عام 532هـ/أواخر عام 1137م مبهامجة بعلبك إال أنه قنع مبا بذله له صاحبها( ، )5واجته إىل حصن اجملدل
،استوىل عليه دون مقاومة تذكر ،وحني شعر إبراهيم بن طرغت صاحب ابنياس بَعف مركزه جتاه زنكي؛ راسله
وأعلن دخوله يف طاعته ،وعندما دخ الشتاء واشتد الربد؛ أوقف زنكي نشاطه يف املنطقة(.)6
7ـ احلصار على محص:
ومع بوادر الربيع انطلق على رأس قواته صوب محص ،و رض احلصار عليها .كان مركزه يف املنطقة قد بلغ درجة كبرية
من القوة أاتح لنفسه معها أن ينقض اهلدنة اليت عقدها مع حكام دمشق يف العام املاضي ،كما أنه ابستيضمئه على
حصن اجملدل ،و رض طاعته على صاحيب بعلبك ،وابنياس متكن من السيطرة على معظم املواقع الغربية إلمارة آل
طغتكني ،ومل يبق أمامه ،الختاذ طريقه صوب دمشق سوى مدينة محص(.)7
شدد عماد الدين زنكي احلصار على محص ،ومجع عليها مجوعاً كبرية من مقاتلي الرتكمان ،واستقدم من حلب رقة
عسكرية متمرسة على أساليب احلصار ،وقام بشن هجماته على أحناء املدينة مستخدماً هذه املرة مزيداً من أساليب
العنف واإلرهاب ،إال أنه اضطر إىل ك احلصار ،وتوجه جملاهبة أخطار التحالف البيزنطي ـ الصلييب ،وقد متكن يف
92
رتة قصرية من القَاء على هذا التحالف الذي انتهى ابنسحاب إمرباطور الروم إىل بضمده( ، )1وعاد زنكي إىل حصار
محص من جديد ،حماوالً هذه املرة استخدام األساليب السلمية لتحقيق هد ه مستغضمً مركزه القوي يف املنطقة إثر
ضد الصليبيني ،والبيزنطيني ،تقدم طالباً يد زمرد خاتون والدة شهاب الدين حمموداالنتصارات احلامسة اليت حققها هل
حاكم دمشق ،لعله يَمن احلصول على محص عن طريق هذا الزواج السياسي ،أجيب إىل طلبه بعد مفاوضات
ص كجزء قصرية ،ومتت إجراءات العقد يف السابع عشر من رمَان ،بعد أن متكن من إقناع آل طغتكني بتسليمه مح َ
من االتفاق ،على أن يعوض انئبها بعدد من احلصون القريبة من دمشق؛ كبعرين ،واللكمة ،واحلصن الشرقي ،كما
اشرتط عليهم تزويج ابنته من شهاب الدين حممود ـ مستهد اً من وراء ذلك ـ إقامة عضمقته هبذه العائلة احلاكمة على
قواعد راسخة قد تفيده يف املستقب القريب(.)2
8ـ جتدُّد هجمات عماد الدين زنكي على دمشق:
ظن عماد الدين زنكي :هل
أن هبذا الرابط العائلي ستصبح دمشق يف متناول يده إال أنه مل يكسب شيئاً ،ابستثناء احلصول هل
ضم دمشق الذي كان هد ه األساسي من هذا الزواج؛ لم يتحقق. على محص قط ،أما ُّ
حتكمها يف دمشق ،ظن أنه ميلك البلد ابالتصال هبا،ويقول ابن األثري يف ذلك« :إمنا محله على الزواج هبا ما رأى من ُّ
لما تزوجها خاب أمله ،ومل حيص على شيء ،أعرض عنها»( )3ما الذي تغري يف األوضاع السياسية يف دمشق،
وحال بني عماد الدين زنكي وبني حتقيق أهدا ه؟ الواقع :أنه ما إن غادرت زمرد خاتون دمشق حىت قدت مكانتها
السياسية العالية اليت كانت تتمتع هبا ،حيث غدت الكلمة األوىل البنها حممود ،وحاشيته(.)4
وشكلت سنة ( 533هـ 1139/م) نقطة حتول هام يف اتريخ دمشق ،قد ُهومجت هذه املدينة من اجتاهني متباعدين هل
،قد هامجها الصليبيون يف بيت املقدس من اجلنوب ،يف حني هامجها عماد الدين زنكي من الشمال ،ومل يدرك
أشد على وضع مدينتهم ،إال أن اجلنوبية ،شهدت هدوءاً يكاد يكون اتماً بعد محلة عام أي اخلطرين كان هل الدمشقيون هل
523هـ 1129/م ،مث حتقق السضمم بني اجلانبني يف عام 528هـ 1134/م والذي كان من املمكن أن يتجدهلد.
أما سياسة عماد الدين زنكي جتاه دمشق ،قد اختلفت كلياً ،إنه بوصفه املدا ع األول عن املسلمني قد رأى توحيد
صفو هم حتت رايته ،ولكن دمشق وقفت عقبة أمام حتقيق ذلك ،كان عليه تذليلها .وشهدت دمشق خضمل (شهر
تطورات سياسية متسارعة هلأدت إىل مقت شهاب الدين حممود على أيدي رجاله ،وتنصيب أخ له شوال/شهر حزيران) ُّ
غري شقيق هو مجال الدين حممد صاحب بعلبك .والراجح أن معني الدين أنر كان وراء هذه األحداث هبدف السيطرة
التفرد ابمسه ابلسلطة الفعلية.
على احلاكم اجلديد ،و ُّ
93
و عضمً حقق أنر هد ه بعد أن هلوض إليه األاتبك أمور املدينة ،وأقطعه بعلبك( .)1وهكذا أدت تلك التطورات السياسية
إىل ازدايد نفوذ أنر مما مح ابن األثري على وصفه أبنه صار هو اجلملة والتفصي ( ، )2ومل تكن هذه التطورات يف صاحل
عز على زمرد خاتون اليت كانت تقيم يف حلب أن يُقت ابنها ،وحي هل حمله يف حكم دمشق عماد الدين زنكي ،كما هل
ابن ضرهتا ،أرسلت إىل عماد الدين زنكي ـ وكان يف املوص ـ تستدعيه طالبة الثأر لولدها والسيطرة على دمشق(.)3
عز عليه أن
أخ يدعى هبرام شاه ،هل أن األمور مل تستتب هل
للحكام اجلدد بسهولة؛ إذ كان لألاتبك مجال الدين حممد ٌ كما هل
يتجاهله أنر بعد مقت شهاب الدين حممود ،لجأ إىل حلب ،ومنها سار إىل املوص ،طالباً مساعدة عماد الدين
أعد جيشاً خرج على رأسه يفزنكي( ،)4وبذلك هتيأت لعماد الدين زنكي رصةٌ أخرى للتدخ يف شؤون دمشق ،هل
(شهر ذي القعدة عام 533هـ/شهر متوز عام 1139م) قاصداً دمشق القتحامها قب أن تستتب األمور يها ،
أن مه امجة دمشق ليس ابألمر اهلني ،هي املدينة اليت أخلص أهلها لبيت بوري؛ إذ مل يكد سكاهناويبدو :أنه أدرك :هل
صمموا على الد اع ،واملقاومة انطضمقاً من هذا الواقع .ووضع خطة يسمعون أبخبار الزحف ابجتاه مدينتهم حىت هل
عسكرية من شقني:
ـ تنفيذ حصار شديد على دمشق وعزهلا عن بقية ممتلكاهتا.
ـ تكوين جبهة مناهَة حلكامها(.)5
وتنفيذاً للشق األول هاجم بعلبك ،اليت كانت إقطاعاً ألنر ،ودخلها يف شهر صفر عام 534هـ/شهر تشرين األول
ضم بعلبك يف هذه اآلونة ،ومحص ،ومحاة ،وابنياس ،واجملدل من أن هلعام 1139م ووضع يده عليها( ، )6والواضح :هل
قب هيهلأ له حتقيق الشق األول من خطته بعزل دمشق ،ومنع حكامها من االتصال ببقية أجزاء اإلمارة لطلب املساعدة
العسكرية واالقتصادية ،األمر الذي سيَعف من مقاومتها إىل ٍ
حد كبري(.)7
وتنفيذاً للشق الثاين قام جبهود سياسية لتقوية موقفه ،راس رضوان بن الوخلشي الوزير الفاطمي ،الذي كان يف طريقه
إىل دمشق هرابً من ثورة اجلند عليه وأغراه ابالنَمام إليه ،و عضمً استجاب الوزير الفاطمي ،ومال إىل مساندته(.)8
ويبدو أن أنر أدرك خطورة هذا التحالف على وضعه الداخلي ،سعى إلحباطه وأرس أسامة بن منقذ إىل رضوان
ليقنعه ابلعدول عن هذا التحالف ،وبذل له من األموال ما أغراه( .)9وظ هل عماد الدين زنكي قابعاً يف بعلبك حىت
(شهر ربيع األول عام 534هـ/شهر تشرين الثاين عام 1139م) أعاد خضمهلا تنظيم أمورها اإلدارية وعني عليها جنم
الدين أيوب ،مث زحف حنو دمشق ،وعسكر يف سه البقاع ،ورأى قب أن يهامجها استقطاب األاتبك مجال الدين
94
لتسليمه املدينة مقاب منحه محص ،وبعلبك ،إال أن هذا األخري ر ض هذا العرض ،وسانده رجال دولته وعلى رأسهم
معني الدين أنر( ، )1عندئذ اضطر إىل التقدم حنو املدينة ،و رض احلصار عليها ،ودارت عدة اشتباكات بني الطر ني
مل تكن حامسة إمنا جاءت ملصلحة عماد الدين زنكي؛ الذي أوقف القتال مدة عشرة أايم إلعطاء احملاصرين رصة أخرى
للتسليم(.)2
ويبدو :أن مجال الدين حممد اقتنع أخرياً بعدم جدوى املقاومة ،وضرورة حقن الدماء ،إال أنه جوبه مبعارضة أنر ،
وجد نفسه مَطراً الستئناف القتال( .)3ويف شهر شعبان عام 534هـ/شهر اذار عام 1140م تويف مجال الدين
حممد ،مما أاتح لعماد الدين زنكي يف ظ النزاع بني الورثة حول الفوز حبكم دمشق رصة مؤاتية لتوجيه ضربة حامسة
ضد املدينة ،إال أن أنر أسرع بتعيني جمري الدين أبق بن حممد أمرياً على دمشق ،اضطر عماد الدين زنكي ،الذي
استمر أمضمً
لكن حصاره هل ضعفت نفسه ،وضاق صدره إىل الرتاجع قليضمً بعدما رأى إصرار الدمشقيني على املقاومة ،هل
يف اهنيار احلالة االقتصادية يف دمشق ،ومن استسضمم املدينة(.)4
9ـ التحالف بني حكام دمشق والصليبيني:
وأمام استمرار احلصار ،واشتداد اخلطر الزنكي رأى أن يستعني ابلصليبيني ،أرس أسامة بن منقذ إىل ولك أجنو
ملك بيت املقدس إلجراء مفاوضات معه تستهدف طلب املساعدة ،وأبدى استعداده أبن:
أ ـ يد ع عشرين ألف دينار ك هل شهر ،وهي نفقات القوات الصليبية اليت ستأيت ملساعدته.
ب ـ يعيد له حصن ابنياس بعد انتزاعه من حاكمه التابع لزنكي.
ج ـ يسلمه عدداً من كبار أمرائه؛ ليكونوا رهائن ضماانً حلسن التنفيذ ،وأوضح له أنه إذا جنح عماد الدين زنكي يف
ضم دمشق إن مقدرات بضمد الشام ستصبح بني يديه ممهلا يشك خطراً كبرياً على الصليبيني.
أن عماد الدين زنكي الذي ابت ميتلك املوص ،وحلب ،ومحاة ،ومحص، و عضمً أدرك امللك ولك وجملسه االستشاري :هل
وبعلبك ال ينبغي أبي حال أن ميتلك دمشق ،وإال إن حتقيق الوحدة اإلسضممية يف بضمد الشام ومشايل العراق ستصبح
واقعاً ،وهذا معناه طردهم من الشرق اإلسضممي ،وأقنعتهم الظروف السياسية والعسكرية بَرورة التعاون املثمر مع أنر
بد من قبول عرضه ،وخباصة :أهنم كانوا يتطلعون إىل استعادة حصن ابنياس(.)5 ،وساد بينهم الشعور أبنه ال هل
وسرعان ما اجته الصليبيون مشاالً بقيادة ولك لنجدة حليفهم .أما عماد الدين زنكي ،ظ هل يراقب الوضع عن كثب،
و ك احلصار عن دمشق حىت ال يقع بني كي الكماشة ،وأسرع للتصدي للصليبيني منفردين قب أن يقرتبوا من دمشق
َ
أن ولك ،الذي كان يتقدم حبذر ،هل وع ْس َكَر يف إقليم حوران يف شهر (رمَان/نيسان) ابنتظار وصوهلم ويبدو :هل َ ،
ك احلصارالتوقف قرب حبرية طربية ،مما د ع عماد الدين زنكي إىل معاودة حصار دمشق ،بيد :أنهله ما لبث أ ْن هل
95
متكن احلليفان من االستيضمء على ابنياس يف شهر عندما مسع بتقدم الصليبيني لنجدة حلفائهم ،وعاد إىل محص ،و هل
(شوال/آاير) وتسلمها ولك و قاً لضمتفاق املربم مع أنر.
ُ
أن التحالف بني دمشق ،وبيت املقدس أنقذ األوىل دون أن ينشب القتال ،وختلهلص أنر من أخطر واخر حماولة والواقع :هل
جدية من عماد الدين زنكي لَمها إىل أمضمكه ،األمر الذي أعاق جهوده بتوحيد املسلمني يف بضمد الشام ،إال أنه
ظ على الرغم من ذلك يفكر طوال سنوات حكمه املتبقية بتحقيق هذا اهلدف(.)1
96
ضد الصليبيِّني
املبحث اخلامس :جهاده َّ
أوالً :حال املسلمني والصليبيني قبل عماد الدين:
كان املسلمون يف الشام متفرقني ،تكاد ك مدينة أن تكون دولة مستقلة ،وأقام الصليبيون يف مشال سورية تسعة شهور
بعد تح أنطاكية قب مسريهم إىل بيت املقدس ،واستفادوا من هذه الفرتة ابإلغارة على املناطق الشمالية يف سورية ،
وأقاموا النفوذ الصلييب حم النفوذ اإلسضممي دون أن حيتكوا ابلبيزنطيني ،أقاموا بذلك سداً يف وجه القوات اإلسضممية
والبيزنطية على السواء إذا كرت يف مهامجة أنطاكية ،أو غريها من اإلمارات الصليبية يف املستقب ،كما جعلت الرتابط
بني اإلمارات الضمتينية متيسراً لتستطيع إحداها أن تنجد األخرى على جناح السرعة إذا جد اجلد ،وتعقدت األمور.
وتقدم الصليبيون حنو اجلنوب ،أسـسوا مملكة بيت املقدس مستغلني ضعف الدولة الفاطمية ودمشق عن محاية املنطقة
واملدن الساحلية ،وإبنشاء إمارة طرابلس حدث توازن بني الصليبيني واملسلمني ،أنطاكية تواجه حلب ،وطرابلس
الرها تقع بني حلب والدولة اإلسضممية يف الشرق والغرب ،والقدس تقع بني دمشق ومصر تواجه مدن وادي العاصي ،و ُّ
،ونقطة التوازن والسؤال املطروح :ه تنَم حلب إىل دمشق ،أو للموص ،أو إىل الصليبيني(.)1
لقد كانت بضمد الفرجنة تقتصر على سواح سورية ،و لسطني وتعتمد على البحر لَمان التموين من اخلارج وعلى
سلسلة من القضمع الَخمة املبتدئة من ذغرية يف الطرف اجلنويب لبحرية طربية ،مث كرك ،وبيت جربي ،والدروم .وكان
خلف هذا اخلط األول توجد القضمع املمتدة من شقيق أرنون إىل صفد والقسط ،ويف الشمال حصون عكا ،والكرك،
وابرين ،ومن ورائها مجيعاً املدن الساحلية الكبرية :أنطاكية ،وطرابلس ،وعكا ،وصور ،واملرقب ،وبريوت ،واي ا،
وعسقضمن ،وهي أطراف القوى الصليبية من انحية البحر .ويقابلها من انحية الرب :مرجعيون ،وجسر يعقوب ،وبيسان،
أن قضمعها مجعت بني خصائص العمارة احلربية الغربية والشرقية ،من حيث وطرباي ،وامتازت هذه احلدود الصليبية :هل
ازدواج األسوار ،وتعدد األبراج ذات الطابقني ،وك مستلزمات احلامية من ذخرية ،ومتوين ،ووسائ دينية ،وصحية(.)2
وأما خصائص الصليبيني االسرتاتيجية امتازت ابتساع رقعتها وطول خطوط مواصضمهتا املتصلة شرقاً وغرابً بقواعد امنة
للتموين يف سرعة ،في الشمال حلب ومحاة ،وإىل الشرق املوص وقضمع اجلزيرة ،ولكنها مدن حصينة ،ويف الغرب
مصر وما وراءها من بضمد املغرب العريب والنوبة واليمن(.)3
وبدأ املسلمون يف مقاومة الصليبيني ُمنذ اللحظات األوىل لقدومهم لكن كانت الكفة الراجحة للصليبيني ،طمعوا يف
حلب ودمشق ،و رضوا عليها اآلاتوات ،ويصف احلال ابن األثري( )4يقول :ملا ملك املوىل الشهيد البضمد كانت الفرنج
قد اتسعت بضمدهم ،وكثرت أجنادهم ،وعظمت هيبتهم ،وامتدت إىل بضمد الشام أيديهم ،وضعف أهلها عن غارهتم.
وكانت مملكة الفرنج حينئذ قد امتدت من انحية ماردين وسجستان إىل عريش مصر ،مل يتخلله من والية املسلمني غري
حلب ومحص ومحاة ودمشق .وكانت سراايهم تبلغ من داير بكر إىل امد ومن اجلزيرة إىل نصيبني ورأس العني ،وأما الرقة
97
وحران قد كان أهلها معهم يف ذل وصغار ،وانقطعت الطرق إىل دمشق إال على الرحبة والرب ،كان التجار واملسا رون
يلقون من املخاوف وركوب املفازة تعباً ومشقة وخياطرون ابلقرب من القبائ العربية أبمواهلم وأنفسهم ،مث زاد األمر
وعظم الشر حىت جعلوا على ك بلد جاورهم خراجاً أيخذونه منهم ليكفوا أيديهم عنهم ،مث مل يقتنعوا بذلك حىت
وخريوهم املقام عند
أرسلوا إىل مدينة دمشق واستعرضوا الرقيق ممن أخذ من الروم واألرمن وسائر البضمد النصارنية ،هل
أرابهبم ،أو العودة إىل أوطاهنم ،والرجوع إىل أهلهم وإخواهنم ،وانهيك هبذه احلالة للمسلمني ذلة وصغاراً ،وللكا رين
الرها على ابب اجلنان وبينها وبني املدينة عشرون خطوة ،قدرًة واقتساراً ...وأما حلب؛ إهنم انصفوها أعماهلا حىت ُّ
وأما ابقي بضمد الشام كانت حاهلا هل
أشد من هذين البلدين(.)1
اثنياً :سياسة عماد الدين زنكي مع الصليبيني:
هلأدت مواقف عماد الدين زنكي من الصراع ضد الصليبيني دوراً ابرزاً يف حتديد مستقبله السياسي؛ إذ د عت السلطان
الرب ُسقي يفحممد السلجوقي إىل توليته املوص ،واجلزيرة وما يفتحه من بضمد الشام إثر و اة واليها عز الدين مسعود ُ
عام 521هـ 1127/م ،ويبدو :أن السلطان اقتنع أبنه الرج الكفء الذي يستطيع أن ميأل الفراغ الذي تركه حكام
املوص من قب ،مما يؤكد حرصه على االستفادة من قدراته لصد اخلطر الصلييب اجلامث على حدود العراق الغربية(.)2
أي نشاط عسكري ضد الصليبيني قب أن يُثبت قدميه يف إمارته مل ميارس عماد الدين زنكي يف بداية حكمه للموص هل
اجلديدة ،ويعزز إمكاانهتا االقتصادية والعسكرية ،ويوحد ما أمكنه من اإلمارات الصغرية املتناثرة حوهلا لتأمني خطوط
حتركاته يف اجلزيرة وبضمد الشام إىل احلد الذي ميكنه من التصدي هلم ،ولع ما يدل على بُعد نظره يف هذا الصدد :أنهله
الرها ملدة سنتني أخذ أثناءها يوحد سلطانه يف بضمد الشام( ،)3ومل تشر املصادر إىلوقهلع هدنة مع جوسلني الثاين أمري ُّ
شروطها ،إال أن ابن األثري يذكر أهنا متت على ما اختاره عماد الدين زنكي ،ويبدو أن املشاك اليت جاهبت صاحب
الرها ،اضطرته إىل قبول هدنة لصاحل عدوه املسلم .كان هدف عماد الدين زنكي من عقد اهلدنة التفرغ لَم حلب ُّ
إىل أمضمكه ،واختاذها نقطة انطضمق له يف بضمد الشام( ، )4وجنح يف حتقيق هذا اهلدف ،وانطلق بعد ذلك الكتساح ما
كان يقف يف طريقه من حصون مستقلة وإمارات حملية ،منتهزاً رصة اهلدنة(.)5
98
وصادف عام 524هـ أن اجتازت أنطاكية الصليبية ظرو اً صعبة كادت تنتهي إىل سقوط هذه اإلمارة يف يد زنكي ،
أو خبَوعها لطاعته على األق .ذلك أن أمريها «بوهيمند الثاين» قُت َ هذا العام على أيدي سضمجقة اسيا الصغرى ،
خلفته يف احلكم زوجته «أليس» ابنة (بلدوين) ملك بيت املقدس.
وعندما استنجد األنطاكيون أببيها ،واجته إلهناء املشاك هناك ،أسرعت ابنته وبعثت رسوالً إىل زنكي تعرض عليه
لكن الرسول ما لبث أن قت على يد بلدوين ،الذي ُعثَر عليه
إعضمن طاعتها له مقاب إقرارها كأمرية على أنطاكية .هل
أثناء توجهه إىل أنطاكية ،إال أن ملك بيت املقدس ما إن وص إىل هناك حىت قامت ابنته إبقفال األبواب يف وجهه،
مث ما لبثت أن أعلنت ـ مَطرة ـ خَوعها له( ،)1وهكذا خسر زنكي رصة مثينة ال تعوض ،كان ستتيح له ـ بضم شك
ـ السيطرة على أهم إمارات الصليبيني يف الشمال.
رابعاً :فتح األاثرب:
كان عماد الدين آنذاك قد أهنى معظم مشاكله وحروبه ضد أمراء داير بكر( ، )2كما كانت هدنته مع جوسلني قد
انتهت ،قرر البدء ابهلجوم على املواقع الصليبية ،مستهد اً أشدهلها قرابً وخطراً على كيانه السياسي يف حلب .ومل يكن
غري حصن األاثرب اجملاور هو ذلك اهل دف ،بسبب ما كان يلحقه من أضرار بفضمحي املنطقة من املسلمني ،وكان
من يه من الصليبيني يقامسون سكان حلب كا ة أعماهلا الغربية ،ويقومون بغارات مستمرة عليهم ،وقد مجعوا يه خرية
رساهنم ،نظراً خلطورة موقعه وأمهيته ابلنسبة ألهدا هم يف املنطقة(.)3
اجته عماد ا لدين زنكي إىل هذا احلصن ،و رض احلصار عليه ،لما علم صليبيو الشام بذلك حشدوا قواهتم من ك
مكان ،وشكلوا جيشاً ضخماً اجتَهوا به لقتال زنكي ،استشار هذا أصحابه وقادته يما يعم ،أمجعوا أمرهم على
االنسحاب ،وترك احلصن ،ألن لقاء الصليبيني يف بضمدهم جماز ة وخيمة العاقبة ،إال أنه أجاهبم« :إن الفرنج مىت رأوان
وخربوا بضمدان ،وال بد من لقائهم على ك حال»(.)4 قد عدان من بني أيديهم ،طمعوا وساروا يف إثران ،هل
ومن مث سار جبيشه للقائهم بعيداً عن األاثرب ،وجرت بني الطر ني معركة قاسية انتهت ابنتصار املسلمني ،وقُت َ ،
عدد كبريٌ من الصليبيني .مث ما لبث زنكي أن اجته إىل احلصن ،و تحه عنوًة ،وقت وأسر معظم أ راد حاميته ، وأُسَر ٌ
مث أمر بتخريبه( .)5كيضم يكون عرضةً لتهديد مستمر من قب الصليبيني ،وتقدهلم من هناك إىل حارم الواقعة على طريق
أنطاكية ،وضرب عليها احلصار ،بذل له أهلها نصف دخ بلدهم والتمسوا مهادنته ،أجاهبم إىل ذلك ،وقف
عائداً إىل حلب(.)6
99
وقد أشار ابن األثري إىل نتيجة من أهم نتائج معركة األاثرب ،وهي أن األحداث يف الشام أخذت تتجه اجتاهاً جديداً
لصاحل املسلمني ،األمر الذي جع الصليبيني يدركون :هل
أن عليهم جماهبة قوة جديدة مل تكن يف حساهبم ،وحيولون
خططهم العسكرية من اهلجوم إىل الد اع ،بعد أن كانوا قد طمعوا يف ملك اجلميع(.)1
خامساً :حصن بعرين أوابرين:
اهنمك عماد الدين زنكي طيلة السنوات بني ( 525ـ 528هـ 1131/ـ 1134م) بتنظيم شؤون إمارته وتوسيعها،
ومل يستطع أن يوجه اهتمامه إىل الصليبيني على الرغم من املنازعات اليت نشبت بينهم إثر و اة امللك بلدوين الثاين(.)2
ويف عام 529هـ أُتيحت له الفرصة اثنية لتحقيق انتصارات جديدة يف بضمد الشام ،حيث قام مبهامجة عدد من املواقع
الصليبية احمليطة حبلب ،واليت كانت هتددها ابستمرار َ ،ضمً عن كوهنا اخلط الد اعي الذي حيمي أنطاكية من هجمات
املسلمني ،ومتكن من االستيضمء على مخسة منها :األاثرب ،زردان ،ت أغدي ،معرة النعمان ،وكفر طاب(.)3
أدت هذه االنتصارات اليت حققها زنكي ضد الصليبيني إىل تنبيههم إىل تزايد خطره على ممتلكاهتم يف الشام ،وإىل
ضرورة توجيه ضربة حامسة إليه ،وراحوا يتحينون الفرصة املواتية إلنزال هذه الَربة ،وبعد عامني وحينما كان منهمكاً
يف حصاره حلمص ،قاموا حبشد جيش كبري تقدموا به مسرعني ملباغتة زنكي والقَاء عليه ،وكسب حكام دمشق إىل
جانبهم .وعندما مسع بذلك سار للقائهم بعيداً عن محص كيضم يوقع نفسه يف شقي الرحى بينهم وبني احلمصيني ،ورأى
أن خري وسيلة يستدرج هبا الصليبيني إليه ،وتتيح له يف نفس الوقت تويل زمام املبادرة بنفسه ،هو أن يظهر عزمه على
مهامجة حصن بعرين الصلييب القريب.
وما إن بدأ زحفه صوب ذلك املوقع حىت تقدم إليه الصليبيون بقيادة ك ٍ من ولك ملك بيت املقدس ،ورميوند كونت
عدد كبريٌ من جند العدو ،وأمرائه
طرابلس ،ودارت بني الطر ني معركة شديدة انتهت ابنتصار املسلمني ،وقُت َ ،وأُسَر ٌ
،وقادته ،كان رميوند من بينهم ،أما ولك قد متكن من اهلروب إىل حصن بعرين(.)4
وما لبث عماد الدين زنكي أن تقدم حنو احلصن ،و رض عليه حصاراً شديداً ،بينما اجته عدد من املنهزمني من املعركة
إىل بضمد البيزنطيني ،وأورواب طالبني النجدة من أبناء العامل املسيحي وأمرائه قائلني هلم :أن زنكي إذا ما متكن من
االستيضمء على بعرين ،سهلت عليه السيطرة على بقية املمتلكات الصليبية يف الشام ،لعدم وجود من يدا ع عنها ،و هل
أن
املسلمني هلم نية يف قصد بيت املقدس .جمع املسيحيون جيشاً كبرياً من الصليبيني ،والبيزنطيني ،وساروا لنجدة
احلصن.
إال أن زنكي كان قد عزله عن العامل اخلارجي ومنع عنه تسل األخبار ،كما أن تشديده احلصار على هذا املوقع اهلام
أدى إىل تناقص املرية والذخرية يه ،األمر الذي اضطر أصحابه إىل طلب الصلح ،أجاهبم زنكي إليه ،بعد أن علم
بتقدم األعداء لنجدته ،واشرتط عليهم َ ،ضمً عن تسليم احلصن ،تقدمي مبلغ قدره مخسون ألف دينار يستعني هبا
100
على نشاطه العسكري ،لم يرتدد أصحاب احلصن يف قبول مطالب زنكي ،بعد أن أيقنوا بعجزهم عن مقاومته ،
والتمسوا منه إطضمق سراح أمرائهم ،وكبار أسراهم ،أطلقهم ،بعد أن عاملهم معاملة حسنة ،وتسلم احلصن(.)1
والواقع :أن ما اشتهر به عماد الدين زنكي من اجللد ،والصرب ساعده يف حتقيق أهدا ه ،وهو على يقني مبا يفعله ،
غري ذات أمهية؛ إذ إن متلكها سوف مينع الصليبيني من أن ينفذوا إىل أعايل وادي هنر العاصي ، لم تكن ابرين قلعةً َ
كما أن موقعها االسرتاتيجي جيعلها تسيطر على محاة ،ومحص ،ويُ ُّ
عد تحها ابلغ األمهية يف مشاريعه املستقبلية(.)2
1ـ الشاعر ابن القيسراين خيلد انتصار عماد الدين يف ابرين:
قال عنه الذهيب يف سريه« :سيد الشعراء ،أبو عبد هللا ،حممد بن نصر بن صغري بن خالد القيسراين ولد بعكا ،ونشأ
بقيسارية ،وسكن دمشق ،وامتدح امللوك ،وقرأ األدب ،وأتقن علم اهليئة واهلندسة» .قال عنه السمعاين« :هو أشعر
من رأيته ابلشام ،ولد سنة ٍ
مثان وسبعني وأربعمئة ،وتويف سنة مثان وأربعني ،ومخسمئة»( )3ويعترب القيسراين من أشهر
شعراء العهد الزنكي ،وقد خلهلد انتصارات عماد الدين يف بضمد الشام ،وشهد أبم عينيه البطولة اإلسضممية وهي حتقق
االنتصارات الرائعة على الصليبيني .وقد قال هذا الشاعر قصيدة مدح يها عماد الدين زنكي وخلد انتصاره على الفرجنة
يف معركة ابرين أمنع حصوهنم سنة 534ه(:)4
وه ـ ـ ـ ـ ـي الص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوارم ال تبق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي وال تَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َذ ُر ح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـذار منهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا وأن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــهلى ينف ـ ـ ـ ـ ـع احلَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َذ ُر
َمـ ـ ـ ْن خيلُـ ـ ـ ـهُ النصـ ـ ـ ـر ال بـ ـ ـ ـ ُجن ـ ـ ـ ـ ــْ ُدهُ ال َق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َد ُر ك وأيـ ـ ـ ـ ـ ـن ينجـ ـ ـ ـ ـو ملـ ـ ـوك الش ـ ـ ـ ـرك م ـ ـ ـن ملـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ
َ
ص ـ ـ ـ ـضمً وال شهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـروا صالـ ـ ـ ـ ـوا مـ ـ ـ ـا َغ َمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُدوا نَ ْ السي ـ ـ ـ ـ ـوف هبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا سلُّ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوا سيو ـ ـ ـ ـ ـاً كأغمـ ـ ـ ـاد ُّ
صـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُر ـ ـ ـ ـي مـ ـ ـ ـأزق مـ ـ ـ ـ ـ ْن َسن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــَاه يَبـ ـ ـ ـ ـ ــُْر ُق البَ َ أره َقه ـُـ ـ ـ ـ ـ ـم حتـ ـ ـ ـ ـ ـى إذا م ـ ـ ـ ـا عمـ ـ ـ ـ ـ ـاد الدي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن َ
وت ال ملج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـأٌ من ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه وال َوَزُر واملـ ـ ـ ـ ُ َولهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْوا تَي ـ ـ ـ ـ ـ ُق هبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم ذَ ْرع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً مسالكهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم
ول وإن ك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـان ـ ـ ـ ـ ـي أقطاره ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا قصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُر طـُ ـ ـ ـ ـ ٌ و ـ ـ ـ ـي املسـ ـ ـ ـ ـ ـا ـ ـ ـ ـ ـ ـة م ـ ـن دون النهلج ـ ـاة هب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم
خي ـ ـ ـ ـ ـ ـاف وال ُك ْف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُر ال عيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن وال أثـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُر وأصبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـح الديـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ال عين ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً والأثـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراً
القـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوم إن نفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـروا أَلْ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوى هبـ ـ ـ ـ ـم نَـ َفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُر ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضم ختـ ـ ـ ـ ـ ـ ـف بعده ـ ـ ـ ـا اإل رن ـ ـ ـ ـ ـج قاطب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـــ ـ ـ ـة
أو طـ ـ ـ ـ ـاردوا طُـ ـ ـ ـردوا أو حاص ـ ـروا ُحص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـروا إن قاتلـ ـ ـ ـ ـوا قُتل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوا أو حارب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوا ُحرب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوا
ك اراؤه غُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـَرُر حتـ ـ ـ ـ ـ ـى أتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى َمل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ ب البهي ـ ـ ـ ـ ُم هبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم وطامل ـ ـ ـ ـ ـا استفحـ ـ ـ ـ اخلط ـ ـ ُ
الذك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُر وم ـ ـ ـ ـ ـ ـن هنالـ ـ ـ ـ ـك قي ـ ـ ـ ـ ـ ـ الص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـارم هل والسيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـف ُم ْفت ـ ـ ـ ـرعٌ أبك ـ ـ ـ ـ ـ َار أنفسه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم
كالصبـ ـ ـ ــْح تطـ ـ ـ ـوي م ـ ـ ـن األعـ ـ ـ ـداء ما نَ َش ـ ـ ـروا ُّ الع ـ ـ ـ ـ ْدل المعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة ت ظ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هل حمي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي َ ال َارقَـ ـ ـ ـ ْ
حبيـ ـ ـ ـ ـث ك ـ ـ ـان وإن كـان ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوا ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه نُصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـروا وال انثـ ـن ـ ـ ـ ـى النهلصـ ـ ـ ـ ُر ع ـ ـ ـن أنص ـ ـ ـ ـ ـار َد ْولتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه
()5
كأن ـ ـ ـ ـ ـ ـما َح ـ ـ ـ ـ هل ـ ـي أكنا هـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا عم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر ور الشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـام ضاحكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة حتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى تعـ ـ ـود ثُغ ـ ـ ـ ُ
( )1عماد الدين زنكي ص .143
( )2الكام يف التاريخ نقضمً عن اتريخ الزنكيني يف املوص ص .137
( )3سري أعضمم النبضمء (.)226/20
( )4األدب العريب من االحندار إىل االزدهار ص .25
( )5كتاب الروضتني يف أخبار الدولتني (.)132/1
101
ويعترب عماد الدين زنكي أول من مدحه ابن القيسراين من الزنكيني .وكان مجال الدين األصفهاين وزير عماد الدين
السبي الذي أوصله إليه ،نظم يف مجال الدين القصائد ومدحه مبدائح كانت ـ كما يقول العماد ـ أجود ما مسع من
منظومة يف األ اض ( .)1ومما قاله يف مدح مجال الدين األصفهاين:
علـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى مج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـال الدي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن و ـ ـ ـ ـ ـد حمام ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدي وإذا الو ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـود إل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى امللـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوك تب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـادرت
وعزميـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة تقف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـو رايضـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة قائ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد ي ـ ـ ـ ـ ـ ـا حبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـذا ه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم إلي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك أص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـارين
أ رائـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدي مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن لـ ـ ـ ـم يَـ ُف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْز بفرائ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدي أنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا روضـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةٌ تُزهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى بك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ غريب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة
ردت مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـواردي ب الع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــُضم لقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد َو ُ ح ـ ـ ـ ـ ـ ُّ ب الغ ـن ـ ـ ـ ـ ـى أو شاقن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي إن ساقن ـ ـ ـ ـ ـ ـي طل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ
ت قصـ ـ ـ ـ ـ ـدي مـ ـ ـ ـ ـن أجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ مقاص ـ ـ ـدي أع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َد ْد ُ
ْ هلدت إىل نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـداك وسائلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ومت ـ ـ ـ ـ ـ ـى ع ـ ـ ـ ـ ــَد ْ
()2
ت بعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـض قضمئـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدي وكأنن ـ ـ ـ ـي قُلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ حت ـ ـ ـى أع ـ ـ ـ ـود م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن امتداح ـ ـ ـ ـ ـك حالي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً
ومما قال يه أيَاً:
ل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوال مجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـال الدي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن عـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهلز أمان ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ت خـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوا ُق أمن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهومـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلروع َس َكنَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْ
ك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـري َ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاق بف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـارس َميدانـُ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ أحممـ ـ ـ ـ ـ ـد ب ـ ـ ـ ـ ـ ـن علـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍي اعتن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـق األس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى
وأخـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـو اهلَُوين ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى روضـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةٌ أعطانـُ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ مـ ـ ـ ـ ـ ـا ب ـ ـ ـ ـ ـال ح ـ ـ ـادي اجملـ ـ ـ ـ ـ ـد مغبـ ـ ـ ـر املـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدى
مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ل ـ ـ ـ ـم يقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْ ه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـذا الزمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـان زمان ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه وأن ـ ـ ـ ـ ـ ـا ال ـ ـ ـ ـ ـ ـذي ال عيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب ي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه لقـائ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
معنـ ـ ـ ـ ـ ـ ًى عل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى ه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـذا البيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـان بيانُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه؟ ك ل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيات عنـ ـ ـ ـ ـ ـ َ ه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ احملامـ ـ ـ ـ ـد ضامنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ
إال وقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـام بفَله ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا برهانُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ وهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي القوا ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي مـ ـ ـا تناظ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر ابلن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدى
()3
إال ومـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن عربيتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي سلمانـُ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ ت َيل ـ ـ ـ ـ ٍة ـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـارس مـ ـ ـ ـ ـا ك ـ ـ ـ ـ ـ ـان بي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ
وقد أورد الذين ترمجوا البن القيسراين طائفة خمتارة من شعره وال سيما العماد الكاتب يف خريدته ،وايقوت يف إرشاده،
وقد درس جمموعة من الناقدين شعره ،ومن أشهرهم من املعاصرين الدكتور عمر موسى ابشا ،وقد أشار إىل أن شعره
متيز ابجتاهات عامة ثضمثة :تصـ ــور األحداث الكربى يف بضمد الشـ ــام ،واالجتاه التقليدي يف املدح ،والتجديد يف معاين
الغزل والنسـ ـ ـ ـ ــيب ،وحنن ندعو شـ ـ ـ ـ ــعراء اليوم للقيام بواجبهم يف بث روح اجلد ،والعم ،واجلهاد يف األمة من خضمل
ملكة الشعر اليت وهبها هللا هلم.
أ ـ أحداث كربى:
صور الشاعر األحداث الكربى يف عصره خري تصوير ،ووصف من خضمل املدح األبطال املسلمني وحروهبم ورمسها بدقة
،كانت لنا صورة حقيقية عن املضمحم املشتجرة بني املسلمني والفرجنة .ونستطيع القول :إن املدح التقليدي املعروف
خرج عن طوقه االسر ،وتطرق إىل وصف هذه األحداث خضمل رتة مديدة من الزمن ،ومل يبق الشاعر كما كان كثريٌ
وحلم ،ب وجد نفسه أمام صراع مرير تسرتخص يه املهج وأبس ٌ ،
جود ٌ ،
من سابقيه أسري املعاين التقليدية املعرو ةٌ :
( )1األدب العريب يف بضمد الشام يف عصور الزنكيني واأليوبيني واملماليك ص .177
( )2اخلريدة ( )106 ، 104/1األدب يف بضمد الشام ص .177
( )3األدب العريب يف بضمد الشام يف عصور الزنكيني واأليوبيني واملماليك ص .178
102
،ويبذل له األرواح يف سب ي العقيدة ،وصون األوطان ،ومحاية األعراض ،وطرد املغتصب ،قد أدى الشاعر مهمته
خري أداء ،صور هذه األحداث اجلسام ونظمها يف شعره ،وخلدها على توايل األايم وتعاقب الدهور ،شأنه يف ذلك
كأي مؤرخ( ، )1وقد تفاع مع األحداث ،ومما قاله يف عماد الدين زنكي وجهاده:
ممالكه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا هل
إن البـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمد ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمده ق ـ ـ ـ ـ ـ ـ مللـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوك الكفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر تُسلـ ـ ـ ـم بعده ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا
ي ـ ـ ـ ـ ـ ـا طامل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا غـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـال الظـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمم امت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـداده الصب ـ ـح لينت ـ ـ ـه الدجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى كـ ـ ـذا عـ ـن طري ـ ـ ـق ُّ
()2
وروضـ ـ ـ ـ ـ ـة قسطنطينـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة مست ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرداه ولل ـ ـ ـ ـه ع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌزم م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاءُ سيح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـان وردهُ
ب ـ التجديد يف معاين الغزل والنسيب:
درج الشعراء يف معظم األحيان عل ى استهضمل قصائدهم ابلنسيب ،وعلى هذه السنهلة جرى ابن القيسراين يف مطالع
بعض القصائد ،وله يف هذه اجملال كضمم يطول( ، )3وقد وصف العماد الكاتب يف وصف إحدى قصائده :أهنا «قطعة
جمنسة يف لطا ة اهلواء ،مالكة رق األهواء ،خلصت من كلفة التكلف ،وصفا مشرهبا عن قذى التعسف ،األشعار
املتكلفة املصنوعة قلما ينفق يها األبيات املطبوعة ،إال أن خيص هللا من يشاء ابخلاطر العاطر ،والفكر احلاضر ،
والقرحية الصا ية ،واآل داب الوا رة الوا ية ،ورمبا يندر للناظر مقطعات يرزق يها القبول ،كهذه القطعة اليت تسلب
العقول»
()4
ومما قاله يف هذا الباب:
مهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً وردت عي ـ ـ ـ ـ ـن احليـ ـ ـ ـ ـاة مـ ـ ـ ـ ـن القل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب سقى هللا ابلزوراء( )5من جانب الغ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرب
ف إال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي مغالب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة الصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب
ضعائ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ عفائ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـف إال ع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن معاق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرة
اهل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوى
كواعـ ـ ـ ـ ـ ـب ال تعطـ ـ ـ ـ ـ ـى الدمـ ـ ـام علـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى كع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب عقائـ ـ ـ ـ ـ ُ ختشاه ـ ـ ـ ـ ـا ُعقيـ ـ ـ ـ ُ بـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن عام ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـــ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر
مـ ـ ـ ـ ـ ـن احلس ـ ـ ـ ـ ـ ـن شبهلهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن الرباق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـع ابلنق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب جاذهبـُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلن البـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوادي مزيهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة
إذا ْ
اد عل ـ ـى ال ُق ـــ ـ ـ ـ ـرب
سفاه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً وهـ ـ ـ ـ يعـ ـ ـ ـ ـدي البعـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ تظلهلم ـ ـ ـ ـ ـ ـت م ـ ـ ـ ـن أجفاهن ـ ـ ـ ـ هلن إل ـ ـ ـى النـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوى
حناني ـ ـ ـ ـ ـك سرب ـ ـ ـي ع ـ ـ ـ ـ ـن مضمحظ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة الس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرب ومل ـ ـ ـا دن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا التوديـ ـ ـ ـع قلـ ـ ـ ـ ـت لصاحب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي
ـ ـضم شـ ـ ـ ـك أن احل ـ ـ ـ ـظ ض ـ ـ ـ ـ ـ ـرب م ـ ـ ـ ـن الَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرب إذا كانـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت األحـ ـداق نوعـ ـ ـاً مـن الظبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا
أصبح ـ ـ ـت ـ ـي شعـ ـ ـب وقلـ ـ ـ ـيب ـ ـ ـي ش ْع ـــ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب هبون ـ ـي تعشق ـ ـ ـ ـ ـت الف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراق ضضمل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة
خذل ـ ـت ،ول ـبـ ـ ـى إن دع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا حرقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةً لبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي م ـ ـ ـ ـا ل ـ ـ ـي إذا انديـ ـ ـت ي ـ ـا صب ـ ـ ُر منج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـداً
ـنت حـ ـ ـ ـ ـب
ادي م ـ ـ ـ ـ ْ
حت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َام ال يصح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـو ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـؤ َ تقَـ ـ ـ ـى زمانـ ـ ـ ـي بيـ ـ ـ ـن بي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍن وهج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرة
هل
( )1األدب العريب يف بضمد الشام يف عصور الزنكيني واأليوبيني واملماليك ص .178
( )2كتاب الروضتني يف أخبار الدولتني (.)38 ، 37/1
( )3األدب يف بضمد الشام ص .189
( )4اخلريدة ( )98/1األدب يف بضمد الشام ص .204
( )5الزوراء :أي مدينة الزوراء ،ومسيت دجلة بغداد الزوراء.
103
تَاع ـ ـ ـف سكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـري كلمـ ـ ـ ـ ـ ـا قلل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت شـ ـ ـربـ ـ ـي وأعجـ ـ ـ ـب مـ ـ ـا ـي مخـ ـ ـر عيني ـ ـ ـ ـ ـ ـه أهن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا
رج ـ ـ ـ ـى مـ ـ ـ ـ ـ ـا َـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ الزيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـارة ع ـ ـ ـن رغ ـ ـ ـ ـب
تُ هل إذا لـ ـ ـم يكـ ـ ـن ـ ـي احلـ ـ ـب عنـ ـ ـدي زي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـادة
()1
أحلـ ـ ـ ـ ـ ـت عذويل يف الغـ ـ ـ ـرام علـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى صحب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي هزن ـ ـي الش ـ ـ ـوق حنوه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم ص ـ ـ ـ ـرت إذا مـ ـ ـا هل
2ـ ابن منري الطرابلسي ميدح عماد الدين يف ابرين:
شاعر الشا م أبو احلسني ،أمحد بن منري بن أمحد بن مفلح الطرابلسي ،صاحب ديوان مشهور ،وله نظم بديع ،وكان
يلقب مبَُه هلذب الدين ،ويقال له« :عني الزمان»( )2قال ابن عساكر« :رأيته مرات ،وكان را َياً ،خبيث اهلجو وال ُفحش
ب ،لما ويل مشس امللوك عاد إىل دمشق ،بُـلغ مشس وهم بقطع لسانه ،مث تَ َس هلح َ ،سجنه بُوري مدة ـ حاكم دمشق ـ هل
امللوك عنه أمراً ،وأراد صلبه ،اختفى ،وهرب ،مث قدم يف صحبة نور الدين ،وتويف يف مجادى االخر سنة مثان
ين َدين»(.)3 وأربعني ومخسمئة حبلب ،وكان هو والقيسراين كفرسي رهان ،ولكن القيسراين ُس ٌّ
صور ابن منري يف مدائحه الزنكية كفاح املسلمني البطويل ضد الغازين الصليبيني ،ومما قاله يف موقعة ابرين: ولقد هل
ودان لنقَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك إبرامه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا دت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك امللـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوك و هلأايمه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا
إقدامه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاوزال لبطش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك ُ أقدامه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا وزلهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت ل َعْينـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك ُ
هواه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ملـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا صـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلح إسضممه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ول ـ ـ ـ ـو لـ ـ ـم تُ ْسل ـ ـ ـم إلي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك القل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوب
أايم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى الرباي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا وأيتامه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا
َ أيـ ـ ـ ـ ـ ـا حمي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي العـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدل لَ هلم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا نع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاه
أزال احملاريـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب أصنامهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا وم ْستنق ـ ـ ـ ـ ـ َذ الدي ـ ـ ـ ـ ـ ـن م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن أُمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــٍَة ُ
السم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر اجامه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا
والبيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـض و ُّ ت هل ـ ـ ـ ـ ـا تقتفي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك األسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـود َدلَ ْف ـ ـ ـ ـ َ
حتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى تشاءمهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا شامه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ت جـزيرهت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ابلسيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوف
َجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـَزْر َ
()4
تامه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا
متـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى شئ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت أرخ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ُم ْس ُ اري أكنا ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه
وص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـارت ع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـو هل
تصور هذه األبيات حب الشاعر لعماد الدين ،وإعجابه به ،ومشاتته أبعدائه الصليبيني ،يفتتحها ابلدعاء أبن جيع
هللا ملوك الصليبيني داء لعماد الدين وأبن يدمي قدرته على نقض ما يربمون ،ويرجو أن تزل أقدامهم أمام ثبات أقدامه
،وأن يزول إقدامهم أمام بطشه ،ويرى أن قلوب املسلمني ال يصح إسضممها إذا مل تسلم إليه زمامها ،وهو الذي أحيا
العدل بعد أن بكت على قده األرام واأليتام ،وأنقذ الدين من الصليبيني الذين أزالوا احملاريب ،وأقاموا مقامها
األصنام ،مث ميدحه لفتحه اجلزيرة بسيو ه حىت تشائم أه الشام ،وتوقعوا أن حي هبم ما ح إبخواهنم أه اجلزيرة(.)5
سادساً :اإلمرباطور البيزنطي يغزو بالد الشام:
1ـ ظروف قيام احلملة:
104
ذكر ابن األثري« :أن الصليبيني ابلشام عندما علموا حبصار امللك ولك يف ابرين؛ أرسلوا طالبني النجدة من اإلمرباطور
البيزنطي ،والغرب األورويب .دخلت القسوس ،والرهبان بضمد الروم والفرنج وما واالها من بضمد النصرانية مستنصرين
أن زنكي إن أخذ حصن ابرين ومن يه من الفرنج ،ملك مجيع بضمدهم يف أسرع وقت على املسلمني ،وأعلموهم :هل
لعدم احلامي عنها ،وأن املسلمني ليس هلم إال قصد البيت املقدس ،حينئذ اجتمعت النصرانية ،وساروا على الصعب
والذلول ،وقصدوا الشام مع ملك الروم»(.)1
والواقع :أنه إذا كانت األمرية األنطاكية أليس مل تنجح يف االتصال بعماد الدين زنكي ملساندهتا يف صراعها مع والدها،
والنبضمء االخرين ،نجدها تلجأ إىل طريقة أخرى هي االتصال ابألمرباطور البيزنطي (يوحنا كومنني) تعرض عليه زواج
ابنتها األمرية كونستانس من ابنه مانوي ( )2وقد صادف هذا العرض قبوالً حسناً من قب األمرباطور ،ألن ذلك يعين
دخول أنطاكية يف تبعي ٍة بيزنطيهل ٍة ،وهي ما تسعى إليه جاهدة من ُذ احلملة الصليبية األوىل ،وهو األمر الذي ال ُّ
يقره بقية
الزعماء الصليبيني ،لذلك سارعوا بتزويج كونستانس من رميوند دي بواتييه ،وقد غَب يوحنا من هذا الزواج الذي متهل
دون استشارته؛ ألن أنطاكية اتبعة له من الناحية االمسية ،وبذلك أضحى الصدام وشيكاً بني يوحنا ،ورميوند(.)3
أن العداء قد اشتد بني البيزنطيني ،والصليبيني من ُذ وصول هؤالء إىل أطراف بضمد الشام ،والعراق ،ور َهم واحلقيقة :هل
التقيد ابلعهد الذي قطعوه على أنفسهم لألمرباطور البيزنطي بتسليمه كا ة املدن والبلدات ؛ اليت كانت يما مَى من
ممتلكات اإلمرباطورية البيزنطية قب أن يفتحها املسلمون ،وقد ترهلكز جزء كبري من العداء بني الطر ني يف العضمقات بني
الرها كانت تشك أمهية دينية ،وعسكرية ، اإلمرباطورية البيزنطية وإمارة أنطاكية ،ألن هذه اإلمارة ابإلضا ة إىل إمارة ُّ
وجتارية يف السياسة البيزنطية ،وعدهلت بيزنطة هذه البلدات جزءاً من ممتلكاهتا ،والواضح :أن هذه البضمد كانت تتيح
لألرمن الذين سكنوها من ُذ أكثر من مئة عام التوغ داخ األراضي البيزنطية ،وهتديدها ،مث إن إقامة الصليبيني يف
بضمد الشام كان يعين :توطيد النفوذ الضمتيين املَر ابملصاحل البيزنطية ،مما يعرض للخطر جتنيد املرتزقة الصليبيني ضمن
إطار النظام العسكري البيزنطي.
إن مدهنا الرئيسية كانت تشك رؤوساً للجسور التجارية البالغة احليوية يف التجارة البيزنطية؛ َضمً ابإلضا ة إىل ذلك هل
عن أهنا كانت أكثر اإلمارات الصليبية يف بضمد الشام تطر اً إىل جهة الشمال ،مما جع حدودها جتاور احلدود البيزنطية
يف كيليكية( ، )4ويذكر :أن األمرباطور يوحنا كومنني حدهلد السياسة البيزنطية يف الشرق األدىن عند اعتضمئه العرش على
الشك التايل:
* إعادة احلدود االسيوية لألمرباطور إىل ما كانت عليه قب الغزو السلجوقي.
* طرد سضمجقة الروم من األانضول.
* طرد األرمن من كيليكية.
105
* إجبار الصليبيني يف أنطاكية على االعرتاف بسيادة األمرباطورية.
* استعادة عدد من املواقع اإلسضممية يف مشايل الشام(.)1
وحىت يؤمن مؤخرة جيشه أثناء زحفه حنو بضمد الشام عقد يوحنا اتفاقيات أمنية مع سضمجقة الروم يف األانضول يف عام
أي خطر جد ٍي على األمرباطورية،
531هـ .أما الدامشند يف سيواس ،قد اهنمكوا يف منازعات أسرية ،لم يشكلوا هل
أضحى بوسعه ذلك التدخ يف أمور بضمد الشام وهو مطمئن(.)2
2ـ السيطرة على كيليكية وأنطاكية:
تقدم األمرباطور البيزنطي للسيطرة على القضمع األرمينية يف كيليكية ،واتبع زحفه حنو اجلنوب ،اجتاز إسكندرونة ،
وعرب الدروب الشامية إىل أنطاكية اليت كانت اهلدف الثاين حلملته بعد كيليكية ،ظهر أمام أسوارها ،وضرب احلصار
عليها ،اضطر صاحبها رميوند بواتيه أمام ضخامة ،وقوة اجليش البيزنطي من جهة ،وعدم
الرها ،وبيت املقدس من جهة أخرى إىل اخلَوع إلرادة األمرباطور بعد حصوله حصوله على مساعدات الصليبيني يف ُّ
صر على الدخول إليها ،غري أن العلمعلى موا قة امللك ولك ،وتسلهلم األمرباطور البيزنطي املدينة ،إال أنه مل يُ هل
األمرباطوري ارتفع أبعلى القلعة(.)3
3ـ زحف احلملة على حلب:
وجرت مباحثات بني الصليبيني ،والبيزنطيني هلأدت إىل ما يلي:
* قيام حتالف بينهم.
* توحيد اجلهود العسكرية ،وتوجيهها للقيام حبملة نصرانية كربى ضد مسلمي بضمد الشام هبدف حتطيم قوة عماد الدين
يف حلب.
* القَاء على إمارة بين منقذ يف شيزر.
* إقامة إمارة صليبية تشم اجلهات الداخلية من بضمد الشام مبا يها حلب ،وشيزر ،ومحاة ،ومحص.
* تعيني رميوند بواتييه أمرياً على تلك اإلمارة.
* ترك رميوند إقليم أنطاكية لألمرباطور البيزنطي.
* إجناز هذا العم التوسعي يف الصيف القادم 1138م(.)4
دلهلت املفاوضات على ما يشعر به الصليبييون من الَيق ،والقلق حنو األمرباطور البيزنطي؛ إذ إن موا قة امللك ولك
أملتها ـ يما يبدو ـ واقعية الظروف السياسية السيئة اليت كان مير هبا الصليبيون؛ حيث كان يُدرك جيداً :أن عماد الدين
زنكي هو العدو األكرب للصليبيني ،ولذا مل يشأ أن يقاوم القوة البيزنطية وينهكها وهي الوحيدة القادرة على وقف تقدمه
،ومن جهته ،إن يوحنا كومنني كان واقعياً يف تفكريه السياسي ،أدرك :أن مصلحة النصارى العامة تقَي بعدم
106
طرد الصليبيني من أنطاكية دون أن يبذل هلم تعويض ،يَاف إىل ذلك :أنه أراد أن يقيم على امتداد احلدود إمارات
اتبعة يتحكم يف سياساهتا العامة ،وتتحم يف الوقت نفسه صدمات ،كما جتلت أطماعه يف أمضمك املسلمني ابلشام.
أن أخبار هذا االتفاق قد تسربت إىل أهايل حلب الذين الذين قاموا أبعمال التحصني ،وحفر اخلنادق ،كما ويبدو :هل
أن األمري سوار قام مبهامجة اجليش البيزنطي أثناء عودته من أنطاكية إىل أرمينية لقَاء ص الشتاء ،وظفر بسري ٍة وا رة
العدد من عسكره ،قت ،وأسر ودخ هبم إىل حلب( ،)1ورغم ما كان يَمره يوحنا من سوء النية ،وما كان يبيته
من هجوم على حلب يف العام التايل ،إال أنه تظاهر ابلود جتاه عماد الدين زنكي ،أرس إليه رسوالً أخربه أبنه ذاهب
لقتال األرمن ،وأن البيزنطيني ليسوا راغبني يف أن يبادروا إىل مهامجته .وهو بذلك ينوي خداعه حىت يطمئن إليه(.)2
مث ما لبث أن أصدر أوامره إبلقاء القبض على مجيع املسا رين القادمني من حلب والقرى اجملاورة صوب الغرب ،كيضم
()3
الرها ،وأنطاكية ،وبدؤوا تص أنباء حتركات قوات املتحالفني إىل زنكي ،ومن مثهل تقدم اإلمرباطور يصحبه أمريا ُّ
مبهامجة حصن «بزاعة» القريب من حلب ،ومتكنوا من االستيضمء عليه( ، )4وقد استطاع بعض أهاليه أن يفروا إىل
حلب ،حيث أنذروا املسؤولني يها عن قرب اخلطر ،قام هؤالء بتعزيز التحصينات الد اعية ،وأرسلوا إىل زنكي
يطلبون جندةً مستعجلةً ،أمدهلهم بقوة من الفرسان ،كان لدخوهلا حلب أتثري كبري على ر ع معنوايت أبنائها.
وما إن وص املتحالفون إىل حلب ،و رضوا احلصار عليها ،حىت أدركوا مدى مناعتها ،وقدرهتا الكبرية على املقاومة،
هذا إىل أن احللبيني أخذوا يقومون هبجمات سريعة على معسكرات األعداء أدخلت الرعب وعدم االستقرار يف نفوسهم
،اثروا االنسحاب ،وملا علم جند األاثرب بذلك ،خا وا من توجه املتحالفني إليهم ،أحرقوا خزائن القعلة ،وانسحبوا
،وقام اإلمرباطور ـ أثر ذلك ـ إبرسال بعض قواته إىل هذا املوقع ،تمكنت من االستيضمء عليه .أما هو قد تقدم على
معرة النعمان ،واستوىل عليها ،وتوجه من هناك إىل شيزر ،و رض احلصار عليها رأس القسم األكرب من جنده إىل هل
ساعياً بذلك إىل وضع يده على موقع هام مينح الغزاة السيطرة على وادي هنر العاصي ،ويقف سداً أمام مطامح
وأهداف زنكي البعيدة يف املنطقة(.)5
107
من استحكامات املدينة ،ويطلب النجدة من عماد الدين زنكي ،الذي أسرع ابلقدوم إىل املنطقة ،ونزل محاة ،
واختذها قاعدة لقواته(.)1
وشرع األمرباطور يف ابدئ األمر مبهامج ة حصن اجلسر ،ومتكن من زحزحة املدا عني الذين انسحبوا عنه إىل داخ
حصن شيزر ،واختذ اإلمرباطور من ذلك احلصن الواقع على اجلهة اليمىن من هنر العاصي مقراً له ،مث اند ع رسانه إىل
اجلزء الذي عليه «البلد» وأظهر بنو منقذ مقاومة عنيفة يف املعركة اليت جرت بني الطر ني وجرح يها أحد أمرائهم ،وهو
أبو املرهف نصر بن منقذ الذي تويف يما بعد متأثراً جبروحه ،ومتكن عدد من املهامجني من النفاذ إىل داخ القلعة من
خضمل إحدى الثغرات اليت أحدثتها قذائف املنجنيقات ،إال أن رجال بين منقذ تصدوا هلم وأجربوهم على االنسحاب
من املدينة( . )2ولكن البيزنطيني ظلوا حيتفظون ببعض املواقع املتقدمة يف ضواحي املدينة ،واستمرت غاراهتم مدة عشرة
أايم ،مث اقتصر القتال يما بعد على ضرب املدينة ابملنجنيقات(.)3
أ ـ توزيع القوات املهامجة:
توزعت القوات املهامجة يف أثناء رتة القتال على النحو التايل :قوات رميوند حاكم أنطاكية الذي كان يتمركز يف مسجد
الرها جوسلني الثاين الذي اختذ موقعه يف الساحة العامة مسُّون الذي يقع ابلقرب من ابب املدينة ،وقوات حاكم ُّ
املخصصة للصضمة ،أما اإلمرباطور يوحنا بعدما عجز عن حتقيق النصر يف غارته على املدينة اختار مرتفعاً مقابضمً لشيزر
يعرف ابسم جب جرجيس ،ونصب عليه مثانية عشر منجنيقاً وأربع لعب كانت تَرب على املدينة بشك مباشر ،
ومتنع املدا عني عنها من الوصول إىل النهر ،والتزود من مائه(.)4
أن مجاعة من الراجلة من أهايل شيزر خرجوا لقتال املهامجني ،ولكنهم وعلى الرغم من ذلك قد ذكر أسامة بن منقذ :هل
قتلوا وأسر البعض منهم( ، )5وقد أاثرت املنجنيقات اليت جلبها البيزنطيون معهم االستغراب ،والذعر لدى أهايل شيزر
نظراً لَخامتها ،وملا أحلقته من خراب ودمار ابملدينة حىت وصفها أسامة أبهنا :جمانيق هائلة جاءت معهم من بضمدهم
ترمي الثق ،وتبلغ حجرها ما تبلغه النشابة ،وترمي احلجر عشرين ومخسة وعشرين رطضمً( ،)6ويذكر أن إحدى القذائف
أصابت منزالً لصديق له يدعى يوسف بن أيب الغريب انقلب رأساً على عقب ،وأن أخرى وقعت على القاعدة
احلديدية اليت أثبتت عليها السارية املر وعة يف دار عمه األمري ،كسرهتا على أحد املارة قتلته(.)7
ب ـ موقف عماد الدين زنكي من هذه اجملاهبة:
وأما عن دور زنكي يف هذه اجملاهبة إنه لدى مساعه استغاثة أيب العساكر هرع بقواته ،واختار موضعاً بني محاة ،وشيزر
على ضفاف هنر العاصي ،ومل يشأ أن يغامر بشن هجوم عام على البيزنطيني وحلفائهم نظراً لتفوقهم عليه هل
عد ًة ،وعدداً.
108
()1
وكان يركب ك يوم ويسري إىل شيزر هو وعساكره ويقفون حبيث يراهم الروم ويرس السرااي تأخذ من ظفرت به منهم
،ويَيف ابن القضمنسي« :إن عماد الدين زنكي كان جيول خبيله على أطرا هم ويفتك مبن يظفر به َضمً عن قيامه
مبساعدة بين منقذ ابلرجال والسضمح ،كما أنه استطاع منع وصول املؤن إىل القوات املهامجة»( ، )2أثر هذا يف زايدة
حراجة املوقف ابلنسبة هلم ،ويؤيد لنا هذا «الرهاوي» بقوله« :وشرعت القوات تشعر ابلنقص يف املؤونة؛ ألن شعباً
قرياً كان معهم ،وكان عماد الدين زنكي مبهارته مينع ابحرتاس وصول شيء إليهم»(.)3
* أساليب احلرب النفسية:
وجلأ عماد الدين زنكي إىل اعتماد أساليب احلرب النفسية جتاه أعدائه ،قد أرس إىل اإلمرباطور البيزنطي يقول له:
« إنكم قد حتصنتم مين هبذه اجلبال ،انزلوا منها إىل الصحراء حىت نلتقي ،إن ظفرت بكم أرحت املسلمني منكم ،
وإن ظفرمت يب اسرتحتم ،وأخذمت شيزر وغريها» .ومل يكن له هبم هلقوة ،وإمنا كان يرهبهم هبذا القول وأشباهه( )4وعندما
أن معه من العساكر من ترون وله أشار الفرجنة على اإلمرباطور ابالستجابة ملنازلة عماد الدين؛ قال هلم« :أتظنون :هل
البضمد الكثرية ،وإمنا هو يريكم قلة من معه لتطمعوا يه ،إمنا يريد أن تلقونه ،يجيئه من جندات املسلمني ما ال هل
حد
له»(.)5
* طلب النجدة من خمتلف املناطق:
أن عماد الدين زنكي قد أرس يف طلب النجدة من خمتلف املناطق ،أرس إىل القاضي كمال ومن اجلدير ابلذكر :هل
الدين أيب الفَ حممد بن عبد هللا بن القاسم الشهرزوري وايل السلطان مسعود بن حممد بن ملكشاه ،يستنجده
ويطلب منه العساكر ،قال القاضي لعماد الدين حني أرسله« :أخاف أن خترج البضمد من أيدينا ،وجيع السلطان
هذا حجة علينا ،وينفذ العساكر ،إذا توسطوا البضمد؛ ملكوها» .قال عماد الدين« :إن هذا العدو قد طمع يف
حال املسلمون أوىل من الكفار هبا»(.)6 البضمد ،وإن أخذ حلب مل يبق ابلشام إسضمماً وعلى ك ٍ
وهذا املوقف درس عملي من عماد الدين للقادة السياسيني ،والعسكريني يف الوالء والرباء قال تعاىل:
ُ
ِنكمۡ ُ ََ َََذ ۡ َ ُ َ َٰٓ َ ُّ َ ذ َ َ َ ُ ْ َ َ ذ ُ ْ ۡ َ ُ َ َ ذ َ َ َٰٓ َ ۡ َ ٓ َ َ ۡ ُ ُ ۡ َ ۡ َ ٓ
خذوا ٱۡلهود وٱنلصرى أو ِۡلاء َۘ بعضهم أو ِۡلاء بع ٖض ومن يتولهم م ﴿يأيها ٱَّلِين ءامنوا َل تت ِ
َۡ َۡ ذ
ٱلظلِم َ َ ذُ ُۡ ۡ ذ ذَ َ
ني [ ﴾ ٥١املائدة .]51:وقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم « :أوثق ِ َّلل َل َي ۡهدِي ٱلقوم فإِنهۥ مِنهمۗۡ إِن ٱ
()7
ضاع من بضمد املسلمني قدمياً ،وحديثاً بسبب
عرا اإلميان املواالة يف هللا ،واملعاداة يف هللا ،والبغض يف هللا» .وكم َ
ت يف السري ،
وج َد ْد ُ
بغداد َ
ضياع هذا املبدأ العقائدي املهم يف حياة األمة! قال القاضي كمال الدين « :سرت طالباً َ
لما وصلت بغداد ،وحَرت قدهلام السلطان ،وأديت الرسالة إبنفاذ العساكر ،وأان أخاطب ،وال أزد على الوعد
109
شيئاً ،لما رأيت قلة اهتمام السلطان هبذا األمر العظيم؛ أحَرت ضمانً وهو قيه كان ينوب عين يف القَاء ،قلت
له :خذ هذه الداننري و رقها يف مجاعة من أوابش بغداد ،واألعاجم ،وإذا كان يوم مجعة وصعد اخلطيب املنرب جبامع
القصر قاموا وأنت معهم واستغاثوا بصوت واحد« :وا إسضمماه؛ وا دين حممداه ،وخيرجون من اجلامع ويقصدون دار
السلطان مستغيثني ،مث وضعت إنساانً اخر ع ذلك يف جامع السلطان ،لما كانت اجلمعة وصعد اخلطيب املنرب
وشق ثوبه ،وألقى عمامته عن رأسه ،وصاح وتبعه ذلك النفر ابلصياح والبكاء ،لم يبق يف اجلامعقام ذلك الفقيه ،هل
إال من قام وبكى ،وبطلت اخلطبة ،وسار الناس كلهم إىل دار السلطان .وقد ع أولئك الذين جبامع السلطان مثلهم
،اجتمع أه بغداد وك ُّ من ابلعسكر عند دار السلطان يبكون ،ويصرخون ،ويستغيثون ،وخرج األمر عن الَبط
،وخاف السلطان يف داره.
وقال :ما اخلرب؟ قي :إن الناس قد اثروا حيث مل ترس العساكر إىل الغزاة قال :أحَروا القاضي ابن الشهرزوري.
قال :حَرت عنده؛ وأان خائف منه ،إال أنين قد عزمت على صدقه ،وقول احلق .لما دخلت قال :اي قاضي ما
هذه الفتنة؟ قلت :إن الناس قد علوا هذا خو اً من الفتنة والشر ،وال شك :هل
أن السلطان مل يعلم كم بينه وبني العدو،
وإمنا بينكم حنو أسبوع ،وإن أخذوا حلب احندروا إليكم يف الفرات ،ويف الرب ،وليس بينكم بلد مينعهم عن بغداد!
وعظم األمر عليه حىت كأنه ينظر إليه.
انتخبت من عسكره
ُ وعر تهم احلال ،وأمرهتم ابلعود عادوا ،وتفرقوا ،و
قال :خرجت إىل العامة ،ومن انَم إليهم ،هل
عشرة االف ارس من خيار العسكر ،وكتبت إىل الشهيد أعر ه اخلرب وأنه مل يبق غري املسري ،وأجدد استئذانه يف ذلك
،أمرين بتسيريهم واحلث على ذل ك ،وعربت ابلعساكر اجلانب الغريب ،بينما حنن نتجهز للحركة ،وإذا قد وص
جنهلاب من الشهيد خيرب أبن الروم والفرنج رحلوا عن حلب خائبني مل ينالوا منها غرضاً ،وأيمرين برتك استصحاب
العساكر.
أصر على إنفاذ العساكر إىل اجلهاد ،وقصد بضمد الفرنج ،وأخذها ،وكان قصده أن لما خاطبت السلطان يف ذلك هل
أعدت العساكر إىل اجلانب الشرقي وسرتُ تطأ عساكره البضمد ،وميلكها ،ومل أزل أتوص مع الوزير وأكابر الدولة حىت
إىل الشهيد»(.)1
ويتَح لنا ممهلا تقدم مدى بعد نظر القاضي كمال الدين الشهرزوري وحكمته و طنته ملا يدور حوله ،حيث استطاع أن
يكشف مكنون نفس السلطان مسعود ،وحبسن تصر ه يف املوقفني يف تو ري اجليش عند االحتياج له ،وصر ه عند
انتفاء احلاجة إليه ،قد أنقذ عماد الدين زنكي من مأزق خطري كان من املمكن أن يقع يه إذا وصلت عساكر
السلطان إىل الشام يف ذلك الوقت بعد رحي البيزنطيني ،والصليبيني عن حلب.
ويكفي هنا أن نوضح أمهية وجود القاضي كمال الدين يف دولة عماد الدين زنكي ،وأن نذكر تعقيب ابن األثري على
ما قام به هذا الفقيه مع السلطان مسعود؛ إذ يقول « :انظر إىل هذا الرج الذي هو خري من عشرة االف ارس ،
110
رحم هللا الشهيد ،لقد كان ذا مه ة عالية ،ورغبة يف الرجال ذوي الرأي والعق ،ويرغبهم وخيطبهم يف البضمد ،ويو ر
هلم العطاء»(.)1
ت هللا ملكه ابلعلماء ،قد جاء إىل حكم املوص بسبب آرائهم ،وأنقذه هللا من انقضمب إن عماد الدين زنكي ثبهل َ
حمقق على أيديهم ،وأبعد هللا عنه أطماع السلطان مسعود بسبب حنكة العلماء وذكائهم من أمثال القاضي كمال
الدين الشهرزوري ؛ وهلذا كانت لكمال الدين مكانة خاصة عند عماد الدين زنكي ،قد قال عن جهوده وأعماله:
«...إن شغضمً واحداً يقوم يه كمال الدين خري من مئة ألف دينار»(.)2
هذا وقد أرس عماد الدين إىل سضمجقة الروم يشري عليهم ابإلغارة على املواضع البيزنطية يف اسيا الصغرى ،حىت
ينصرف البيزنطيون عن القتال هناك( ، )3وصدق حدس اإلمرباطور عندما وردته أخبار مفادها قدوم أرسضمن بن داود
ومعه عساكر بلغ تعدادها عشرين ألف ارس لنجدة شيزر(.)4
* سهام احليلة والدهاء يطلقها عماد الدين زنكي:
أدرك زنكي كنه العضمقة بني اإلمرباطور والفرجنة ،لجأ إىل اعتماد أسلوب احليلة واخلداع لتعميق اخلضمف بينهما ،راح
يراس إ رنج الشام ،وحيذرهم من ملك الروم ،وحيملهم :أنهله إ ْن ملك ابلشام حصناً واحداً أخذ البضمد اليت أبيديهم
هلده ،ويومهه أبن الفرنج معه.
منهم ،وكان يراس ملك الروم يتهد ُ
()5
الرها ،وأنطاكية مل يسعيا إىل التعاون اجلاد مع اإلمرباطور
سادت الشكوك بني الطر ني املسيحيني ال سيما وأن أمريي ُّ
َ ،ضمً عن اشتداد املنا سة بينهم ،وختوف رميوند من انتصار الروم ،وابلتايل تنفيذ االتفاقية اليت وقعها معهم ،واليت
الرها ـ هو اآلخر ـ يف أن يكون منا سهجتعله يقف وجهاً لوجه أمام قوات املسلمني بعيداً عن أنطاكية ،ومل يرغب أمري ُّ
رميوند قريباً منه يف حلب ،يف حالة انتصار املتحالفني وتنفيذ بنود االتفاقية املعقودة بينهم ،وقد عرقلت هذه العوام
مجيعاً توحيد اجلهود لفتح شيزر( . )6ووردت أنباء :أن أمري حصن كيفا األرتقي أرس ابنه على رأس جيش كبري من
الرتكمان( ، )7وأن قوات دمشق حتركت ملساعدة زنكي(.)8
ج ـ ك احلصار عن شيزر:
أن االنسحاب أصبح أمراً حمتماً ،أهنى حصاره لشيزر يف التاسع من رمَان (532 إزاء هذا ،وذاك رأى اإلمرباطور :هل
هـ) ،بعد أن عرض عليه أمريها مبلغاً من املال( .)9وقال له« :أيها امللك إن الفرنج خدعوك؛ إذ د عوك إىل حماصرة هذا
املوضع ،بينما حنن مل نسئ إىل أحد قط ومل نَايق املسيحيني» استجاب اإلمرباطور بسبب الَغوط اخلارجة ،وأعلن
111
االنسحاب ،وابدر بنو منقذ إبرسال هدااي إليه قوامها انية من الذهب والفَة وصلبان من الذهب مرصعة ابلياقوت ،
وهي بقااي الغنائم اليت حص عليها اابؤهم يف أثناء مشاركتهم يف معركة مضمذكرد(.)1
ض عماد الدين زنكي وقاد يوحنا كومنني اإلمرباطور البيزنطي القوات املسيحية يف طريق العودة إىل أنطاكية ،وحينئذ انق هل
على آالهتم احلربية الثقيلة وجمانيقهم العظام استوىل عليها ،ور عها إىل قلعة حلب( ، )2كما أرس بعض جنده يف آاثر
قوات العدو املنسحب ،قتلوا ،وأسروا عدداً كبرياً منهم( ، )3ويف أنطاكية حدث خضمف جديد بني اإلمرباطور ،
والصليبيني ،كاد أن ينتهي بفتنة واسعة بني الطر ني لوال إسراع كومنني ابلرجوع إىل بضمده(.)4
د ـ أسباب ش احلملة :ميكن حتديدها يما يلي:
* عدم قيام الصليبيني بواجباهتم العسكرية ،وانصرا هم عن مساندة اإلمرباطور(.)5
* اشتداد املنا سة بني ك ٍ من رميوند بواتييه ،وجوسلني الثاين ،خشي األول أنه إذا سقطت شيزر بيد النصارى سيُجرب
على أن يقيم هبا ،و قاً لضمتفاقية املربمة بني احللفاء ،وهي تقع على اخلط األمامي للممتلكات النصرانية املواجهة
ُ
يكن يف قرارة نفسه الكراهية لرميوند
ُّ الذي الثاين جوسلني أما ومباهجها. ، أنطاكية للمسلمني وسيبتعد نتيجة ذلك عن
بواتييه؛ إنه مل يود أن يراه مستقراً يف شيزر ،ويف حلب يما بعد ،حاول اإليقاع بينه وبني اإلمرباطور ،وجنح يف
ذلك(.)6
* انتهز مسعود سلطان سضمجقة الروم رصة تواجد اإلمرباطور يوحنا بعيداً عن اإلمرباطورية ،وانشغاله أبمر الصليبيني،
وعماد الدين زنكي ،قام مبهامجة مدينة أدنة ،وال شك أبن مث هذه األنباء قد أزعجت اإلمرباطور؛ ألنه خرج جبيشه
من أج العم على ضم أنطاكية إىل أمضمك بيزنطة ،ال من أج قدان بعض أمضمك اإلمرباطورية ،مما محله على ك
احلصار ،وشرع يف العودة إىل بضمده حلمايتها من السضمجقة(.)7
* اتبع عماد الدين زنكي خطة عسكرية ذكية ميكن أن نطلق عليها احلرب النفسية؛ إذا جازت هذه التسمية يف ذلك
الوقت .ذلك :أنه راس املتحالفني وهم يف مواقعهم احلصينة عند مدينة شيزر يقول هلم« :إنكم قد حتصنتم مين هبذه
اجلبال ،اخرجوا عنها إىل الصحراء حىت نلتقي ،إن ظفرمت أخذمت شيزر ،وإن ظفران بكم أرحت املسلمني من
شركم»(.)8
112
وكادت اخلطة تنجح حني أشار الصليبيون على اإلمرباطور ابلنزول إليه وقتاله .ولكن يوحنا خشي مغبهلة ذلك ،وأجاب:
« أتظنون :أنه ليس من العسكر إال ما ترون؟ وإمنا يريد أنكم تلقونه يجيء إليه من جندات املسلمني ما ال حد له
عليه».
ويف نفس الوقت كان يراس صلييب الشام ،حيذرهم من إمرباطور الروم ،ويعلمهم :أنه إذا استوىل على حصن واحد يف
الشام أخذ البضمد اليت أبيديهم منهم ،ويرس من جهة أخرى إىل اإلمرباطور خيو ه من أن الصليبيني يف بضمد الشام
خائفون منه ،لو ارق مكانه ،لتخلوا عنه.
ضد الطرف االخر ،وسادت الشكوك بينهما ،وكان قد بلغ اإلمرباطور :هل
أن قرا أرسضمن بن داود استنفر ك ُّ طرف هل
األرتقي قد عرب الفرات يف مجوع عظيمة يف طريقه إىل شيزر ،مما كان دا عاً له على ك احلصار ،وعدم قيام الصليبيني
بواجباهتم العسكرية وانصرا هم عن مساندة اإلمرباطور(.)1
هـ ـ النتائج اليت أسفرت عن ش محلة املسيحيني:
أهم النتائج اليت أسفرت عن ش محلة املسيحيني هذه هي تدهور العضمقات بني البيزنطيني ،والصليبيني ،وعدم إن هلهل
استطاعتهم القيام بعم سريع هل
ضد نشاط زنكي يف املنطقة يف السنني التالية.
ويف األايم اليت أعقبت انسحاب املتحالفني استطاع صضمح الدين الياغسياين حاجب زنكي ،أن يستويل على كفر
طاب بعد أن بلغه هروب الصليبيني منها( .)2كما سار زنكي إىل حصن عرقة ،حاصره ،و تحه عنوة ،وأسر من يه
من الصليبيني ،مث أمر بتخريبه( .)3وما لبث أن اجته يف مطلع العام التايل 533هـ إىل حصن بزاعة ،اجتاحه عنوة ،
وقت معظم من يه من قوات الصليبيني والروم ،مث حاصر األاثرب ،ومتكن من تحها ـ يف صفر ـ وقف عائداً إىل
املوص (.)4
واهنمك زنكي يف الفرتة التالية ابلعم على إمتام خطته بتوحيد اجلبهة اإلسضممية؛ كي يكون أكثر قدرة على جماهبة
الصليبيني ،وقام عام 533هـ بعد مناورات وعمليات عسكرية وسياسية يف بعض جهات اجلزيرة مستهد اً ضمها
إلمارته(.)5
مث عاد ليستأنف السعي من أج حتقيق هد ه القدمي ابالستيضمء على دمشق وتوحيد اجلبهة الشامية ،اجته إليها يف
أواخر العام نفسه ،و رض حصاراً شديداً عليها كاد أن يسقطها يف يديه ،لوال استنجاد أمرائها بصليبيي بيت املقدس
،واستجابة هؤالء هلم ،رغبة منهم يف القَاء على اخلطر املشرتك الذي ميثله وجود زنكي يف املنطقة ،األمر الذي
اضطر األخري إىل االنسحاب(.)6
113
ويف عام 538هـ أتيح لزنكي استغضمل مركزه القوي يف داير بكر( ،)1والقيام بفتح عدد من املواقع واحلصون الصليبية
الرها الصليبية ،واملنتشرة يف املناطق القريبة من ماردين ،كجملني ،واملوزر( ، )2وت موزن ،وغريها من العائدة إلمارة ُّ
حصون إقليم شيختان( ، )3وكان هد ه من وراء ذلك قطع االتصال بني «قرا أرسضمن األرتقي» أمري حصن كيفا ،وبني
()4
ابلرها نفسها وحتقيق
الرها ،بسبب حتالفهما ضده .وبذلك متهد الطريق أمامه إلنزال ضربته املباشرة ُّ جوسلني أمري ُّ
حلمه الذي طاملا راود خياله عرب سين صراعه الطوي هل
ضد الصليبيني(.)5
و ـ مبالغات عند الكتهلاب األوروبيني متعلقة بشيزر:
عند احلديث عن حقيقة انسحاب اإلمرباطور عن شيزر يضمحظ عنصر املبالغة الذي اتسمت به الكتاابت األوروبية ،
وانساق وراءها مؤرخوان احملدثون مفيدةً :أن بين منقذ أعلنوا عند مفاوضاهتم مع اإلمرباطور عن قبوهلم ابلتبعية ،والسيادة
له ،ويبدو أن هذه الكتاابت اعتمدت على بعض الرواايت البيزنطية اليت أرادت أن تغطي الفش الذريع الذي واجهه
اإلمرباطور عند أسوار شيزر.
والذي يثبت عدم صحتها ـ كما نرى ـ هو أن اإلمرباطور مل يكن يف وضع يسمح له أبن ميلي شروطه على بين منقذ
لألسباب اآلنفة الذكر؛ حىت إنه مل ميتلك الوقت عند انسحابه حلم معداته احلربية ،أو تدمريها رتكها يف أماكنها ،
أمر زنكي حبملها إىل حلب ،يَاف إىل هذا عجز قواته عن صد اهلجمات اليت كانت تتعرض هلا قواته من قب زنكي
بعد انسحابه عن شيزر( ، )6عضموة على أن املصادر العربية والسراينية اليت عاصرت تلك احلملة مل تتطرق إىل هذ
املسألة(.)7
ز ـ من عجيب ما حيكى:
أن ملك الروم ملا عزم على حصر شيزر؛ مسع من هبا بذلك ،قال األمري مرشد بن علي صاحبها؛ وهو ينسخ مصحفاً: هل
هل
«اللهم حبق من أنزلته عليه إن قَيت مبجيء ملك الروم؛ اقبَين إليك!» .تويف بعد أايم(.)8
ح ـ ابن قسيم احلموي ميدح عماد الدين زنكي:
ولد شرف الدين أبو اجملد ،مسلم بن اخلَر بن مسلم بن قسيم التنوخي احلموي أوائ القرن السادس اهلجري حبماة
500هـ ،وهو أحد شعراء العصر الزنكي الثضمثة املشهورين بعد ابن القيسراين ،وابن منري ،نبغ يف عصر شيخوختهما
114
أديب له عام 532هـ وكان ذلك يف الثضمثينيات من عمره عندما هرع وبلغ إىل درجتهما( )1وأحرز ابن قسيم أول نصر ٍ
ضد األطماع الصليبية يف شيزر ،وقد خلهلد الشعراء هذا احلدث الكبري. عماد الدين للد اع عن املسلمني هل
وكانت قصيدة ابن قسيم الوحيدة اليت اقتبسها املؤرخون يف كتبهم دون سائر القصائد األخرى ،وهي ألعضمم شعراء
عصر عماد الدين زنكي( )2ومما قاله من الشعر:
تَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـذ ُّل لـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك الصع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاب وتستقيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُم بعزم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك أيهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا املل ـ ـ ـك العظيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُم
تبي ـ ـ ـ ـ ـ ــَ َن أن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه املل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك الرجي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُم أل ـ ـم تـ ـ ـ ـر أن كلـ ـ ـ ـ ـ ـب ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـُّروم مل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا
هل
ك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـأن اجلَ ْحف ـَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ اللهلْي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ البهي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُم ج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاء يطب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـق الفلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوات خي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمً
ب اجلسي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُم ك ـ ـ ـ ـ ـ ـان خلَطب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه اخلَطْ ـ ـ ـ ـ ـ ُ وق ـ ـ ـ ـد ن ـ ـ ـ ـزل الزم ـ ـ ـان عل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى رض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاه
تيق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــَن أن ذل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك ال ي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدوم حي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن َرَمْيـتَ ـ ـ ـ ـ ـ ـه بـ ـ ـ ـك ـ ـ ـ ـ ـي مخي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـس
أح ـ ـ ـ ـ ـ ـرن( )4ال يسي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر وال يقي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم ()3
وأبص ـــــــر ـي املفاض ـــــــة من ـــــك جيش ــــــــ ـ ـاً
توقـ ـ ـ ـ ــَ َد وه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـو شيط ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـان رجـي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُم كأن ـ ـ ـ ـ ـ ـك ـ ـي العج ـ ـ ـ ـاج شه ـ ـ ـاب ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـور
()6
ولي ـ ـ ـ ـ ـس س ـ ـوى احلمام( )5ل ـ ـ ـه محي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـــ ُم أراد بق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاء مهجت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ول ـ ــَ ـ ـ ـ ـى
وأن ـ ـ ـ ـت هبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا وابلدنيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا كريـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم يؤم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ أن جت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـود هبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا عليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه
()7
وأن ـ ـ ـ ـت بقطـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـع دابره ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا زعـيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم أَيلتم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـس الفرن ـ ـ ـ ـ ـ ُج لدي ـ ـ ـ ـ ـ ـك عف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـواً
()8
بي ـ ـ ـ ـوم ـي ـ ـ ـ ـه يَكْتَه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ ال َفطي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُم ص املناي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا
صـ ـ ـ ـ ـ ـ َ
وك ـ ـ ـ ـم َجهلر ْعتَه ـ ـ ـ ـا غُ َ
املني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة ُجوسلينَـ ُه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُم( )9اللئي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم طلبته ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم متن ــَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى
وملـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــَا أ ْن ُ
وأن ـ ـ ـ ـ ـ ـت عل ـ ـ ـ ـ ـى معاقل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه مقي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُم أقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـام يطـ ـ ـ ـ ـوف اآل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاق حين ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً
وع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاد وم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا يعادل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه سقي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـار وم ـ ـ ـا يعادل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ملي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك
()10
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلأول م ـ ـ ـ ـ ـ ـا تفارقه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا اجلس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوم إذا خط ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرت سيو ـ ـ ـ ـ ـ ـك ـ ـ ـ ـ ـي نف ـ ـ ـ ـ ـوس
الرها:
سابعاً :فتح ُّ
115
الرها الصليبية أوىل اإلمارات اليت أتسست يف الشرق اإلسضممي سنة 491هـ 1097/م بزعامة بلدوين كانت إمارة ُّ
استمر يف حكم هذه اإلمارة حىت سنة 494هـ 1100/م حني انتق إىل حكم بيت املقدس عقب و اة األول ،الذي هل
(جور رى) ملك بيت املقدس(.)1
الرها عن بقية اإلمارات الصليبية مبوقعها يف احلوض األوسط لنهر الفرات ،حيث حتملت عبء الد اع عن وقد متيزت ُّ
بقية اإلمارات الصليبية يف بضمد الشام ،وذلك لقرهبا من اخلضم ة العباسية ،مث لوقو ها يف وجه الرتكمان الذين تعج هبم
منطقة اجلزيرة عقب التفكك الذي أصاب السضمجقة يف بضمد الشام والعراق ،عقب و اة السلطان ملـكشـاه 485
()2
الرهـا على موقعها االسرتاتيجي وكوهنا خط الد اع األول عن بقية اإلمارات الصليبية
هـ 1092/م ،ومل تـقتصر أمهيـة ُّ
يف بضمد الشام ،ب إهنا شكلت خطراً أساسياً على خطوط املواصضمت اإلسضممية بني الشام واسيا الصغرى والعراق
ومنطقة اجلزيرة(.)3
وممهلا يوضح ذلك :أن احلملة اليت قام هبا كربوقا صاحب املوص سنة 491هـ 1098/م جند ًة للمسلمني أبنطاكية قد
()4
الرها مل تقع يف نطاق
تعطلت بعض الوقت حول الرها يف حماولة النتزاعها من بلدوين األول ،وعلى الرغم من أن ُّ
األراضي املقدسة يف لسطني ،قد عدهلها الصليبيون من أشرف املدن عندهم بعد بيت املقدس ،وأنطاكية،
الرها الواقعة على ضفيت هنر الرها على توسيع رقعتهم ،امتدت إمارة ُّ
والقسطنطينية ،هي و رية الثروات ساعدت أمراء ُّ
الفرات من راوندا وعني اثب غرابً إىل مشارق شرقاً ،ومن هبنسي ،وكيسوم مشاالً إىل منبج جنوابً(.)5
ابلقوة ،والشجاعة ،واستطاعت الصمود يف وجه املقاومة اإلسضممية الرها أمهية مبا هتيأ هلا من حكام اتصفوا هل واكتسبت ُّ
الرها كانت تعاين من نقطيت ضعف واضحتني؛ أحدمها احلدود الطبيعية إذ ال توجد هلا موانع طبيعية ،على الرغم من أن ُّ
حتميها وتكسبها وقاية ومناعة ،واثنيها عدم وجود جتانس بني سكاهنا؛ إذ كانوا خليطاً من املسيحيني الشرقيني «السراين
،واألرمن ،واليعاقبة» ومن الصليبيني الغربيني َ ،ضمً عن املسلمني الذين تركزوا يف مدن بكاملها كسروج ،والبرية اليت
()6
الرها على اجلانب الصلييب ،ب كانت يف نظر املسلمني من أهم املواقع اليت خَعت للصليبيني .ومل تقتصر أمهية ُّ
جيب السيطرة عليها ،قد ذكر ابن األثري مكانتها يف بضمد اجلزيرة بسبب موقعها بني املوص ،وحلب ،وهلذا وصفها
أبهنا من الداير اجلزرية عينها وخصها من البضمد اإلسضممية ،مما جع القوى اإلسضممية سواء يف العراق ،أو الشام ،أو
اجلزيرة ترغب يف السيطرة عليها(.)7
الرها الداخلية:
1ـ أوضاع إمارة ُّ
116
الرها الداخلية مؤاتية لعماد الدين زنكي؛ إذ اتصف أمريها جوسلني الثاين بَعف الشخصية ،وانسياقه كانت ظروف ُّ
وراء العواطف واألهواء وعدم امتضمكه مقدرة سياسية ،وبعد نظر ،والواقع :هل
أن جوسلني الثاين أتثر يف نشأته ابمليول
األرمنية بفع أن والدته كانت منهم ،رتعرع ويف نفسه مي إىل األرمن وغريهم من السكان األصليني من الطوائف
النصرانية الشرقية و َهللهم على النصارى الغربيني.
الرها :أنه كان
األمر الذي أاثر الفرسان الصليبيني ،وأوجد نوعاً من عدم االستقرار داخ اإلمارة ،وعرف عن صاحب ُّ
من ذلك النوع الذي يؤثر الراحة والعا ية ،حىت إنه يف الوقت الذي هاجم يه عماد الدين زنكي إمارته اختار أن يرتك
مدينته ليقيم يف ت ابشر على الَفة الغربية للفرات ،وإذا أضفنا إىل ذلك أن املسلمني أحاطوا هبذه اإلمارة من ك
جانب ،و صلها هنر الفرات عن بقية املمتلكات الصليبية يف بضمد الشام؛ الستطعنا أن نكون كرة عامة عن العوام
اليت ساعدت على سقوطها.
شكلت خطراً كبرياً على املواصضمت اإلسضممية بني حلب ،واملوص ،وبغداد ،وسضمجقة ومن اجلدير ذكره :أن هذه هل
الروم يف اسيا الصغرى ،كما كانت عائقاً حال دون قيام الوحدة اإلسضممية يف بضمد الشام واجلزيرة بسبب تدخلها
املستمر لصاحل خصوم عماد الدين زنكي من األمراء املسلمني يف املنطقة( ، )1كان تحها ضرورةً سياسية ،وعسكرية
،واقتصادية ،ودينية(.)2
2ـ عمليات الفتح:
استغ هل عماد الدين زنكي الظروف السابق ذكرها ،وسعى إىل تدبري خدعة تتيح له حتقيق هد ه من أقصر طريق .وكان
الرها ما دام جوسلني وقواته موجودين هبا ،وهكذا انصب اهتمامه على إجياد يعلم :أنه لن يستطيع أن ينال غرضه من ُّ
وسيلة تد ع غرميه إىل مغادرة مقر إمارته ،اجته إىل امد ،وأظهر أنه يعتزم حصارها ،وأهنا هد ه دون غريها ،وبث
عيونه ـ يف الوقت نفسه ـ ليطلعوه أوالً أبول على حتركات أمريها الذي ما إن رأى اهنماك زنكي حبروبه يف داير بكر ،
وعدم تفرغه للهجوم على املواقع الصليبية؛ حىت غادر مقر إمارته على رأس قواته( ،)3بعد أن اختذ إجراء احتياطياً أبن
عقد هدنة مع قرا أرسضمن صاحب حصن كيفا ،الذي كان قد التجأ إليه بعد هتديد زنكي إلمارته( ، )4ومن مث اجته إىل
الرها
ت ابشر الواقعة على الَفة الغربية للفرات ،كي يتخلص هناك من ك مسؤولية ،ويتفرغ مللذاته اتركاً محاية ُّ
ألهاليها من األرمن ،والسراين ،والنساطرة ،واليعاقبة ،وكان معظمهم من التجار الذين ال خربة هلم بشؤون احلرب
والقتال ،بينما توىل اجلند املرتزقة مهمة الد اع عن القلعة(.)5
الرها مستعيناً على السرعة وجاءت عيون عماد زنكي لتطلعه على النبأ الذي كان يتحرق إليه ،أسرع ابلتوجه إىل ُّ
بركوب جنائب اإلب مستنفراً ك هل قادر على مح السضمح من مسلمي املنطقة للجهاد يف سبي إعضمء كلمة هللا ،وما
الرها من جهاهتا األربع .وحاول يف البدء أن يتوص ابلطرق السلمية لبث أن اهنالت عليه مجوع املتطوعني ،طوق هبم ُّ
117
علهلها حتقق هد ه دون اضطرار إىل ر ع السيف ،راس أهايل ُّ
الرها ابذالً هلم األمان ،طالباً منهم أن يفتحوا له األبواب
قب أن جيد نفسه مَطراً إىل تدمري أسوار بلدهم وإخضمء دايرهم ،إال أهنم أبوا قبول األمان(.)1
وحينئذ اشتد زنكي يف التَييق على احلصن مستخدماً االت احلصار الَخمة اليت جلبها معه لتدمري أسواره ،دون أن ٍ
لتجمع الصليبيني ،والتقدم إلنقاذ هذا املوقع اخلطري ،وأرس جوسلني لدى مساعه نبأ اهلجوم يف طلب تتاح الفرصة ُّ
جندة مستعجلة من كا ة اإلمارات الصليبية يف الشام ،لم يستجب له سوى (ميلزاند) الوصية على بيت املقدس ،اليت
وصلت جندهتا بعد وات األوان( ، )2كما أنه قام مبحاولة للدخول إىل املدينة ،أو إرسال جندة لتعزيز د اعها ،حي
بينه وبني ذلك .ويف السادس والعشرين من مجادى االخرة 539هـ وبعد مرور مثان وعشرين يوماً على بدء احلصار
اهنارت بعض أجزاء احلصن ،إثر الَرب املركز الشديد الذي تعرضت له ،اجتاحت قوات املسلمني املدينة( ، )3مث ما
الرها لزنكي(.)4
لبثت القلعة أن استسلمت بعد يومني ،وقام القس اليعقويب برصوما إبجراءات تسليم ُّ
الرها :أن ذلك البلد ال جيوز يف السياسة الرها :رأى عماد الدين زنكي بعد أن تح ُّ 3ـ سياسة عماد الدين زنكي يف ُّ
ختريب مثله( ، )5وأصدر أوامره إىل جنده إبيقاف أعمال القت واألسر والسلب ،وإعادة ما استولوا عليه من سيب وغنائم
الرها ،
،أُعيدوا ومل يفقد إال الشاذ النادر ،وأعقب ذلك إبصدار أمر اخر ابإلسراع يف تنظيم ما اضطرب من أمور ُّ
وتعمري ما هتدم خضمل أسابيع طويلة من القتال ،ورتب من راه أهضمً لتدبري أمرها وحفظها واالجتهاد يف مصاحلها ،
ووعد أهلها إبمجال السرية وبسط العدالة( )6مستهد اً من وراء ذلك استمالة سكاهنا األصليني من املسيحيني الشرقيني
ضد الصليبيني الكاثوليك ،األمر الذي يؤكده قيامه بتدمري عدد من الكنائس الكاثوليكية ،واحتفاظه بكنائس
الشرقيني(.)7
الرها :هناك العديد من العوام اليت ساعدت عماد الدين على 4ـ العوام اليت ساعدت عماد الدين على استعادة ُّ
الرها ،منها:
حترير ُّ
ـ تنامي حركة اجلهاد اإلسضممية حىت عصره ،وحصاد جتربة املسلمني يف ذلك اجملال ،ضم ريب يف أن التجارب السابقة
الرها مرشحة أكثر من غريها لكي تكون أوىل اإلمارات الصليبية املعرضة للسقوط يف أيدي قادة اجلهادأثبتت أن إمارة ُّ
اإلسضممي حينذاك ،وقد أجهدها أمر اإلغارات املستمرة من جانب أاتبكة املوص على حنو خاص طوال ما يزيد على
موت ٍ
بطيء هلا إىل أن مت اإلجهاز عليها يف العام املذكور. ٍ أربعة عقود من الزمان على حنو مث
ـ ويَاف إىل ذلك براعة عماد الدين زنكي العسكرية الذي اجأ تلك اإلمارة الصليبية ابهلجوم ،بعد أن اطمأن
الصليبيون إليه ،وتصوروا :أنه لن يهاجم ،استغ رصة غياب أمريها جوسلني الثاين عنها ،ووجه هلا ضربته القاضية
118
اليت انتهت إبسقاطها ،وهكذا أثبت ذلك القائد املسلم الكبري :أنه اختار التوقيت املضمئم لذلك العم العسكري
العظيم.
الرها ،وأنطاكية أثهلر بدوره على إمارة ُّ
الرها ،وأدى إىل إجهادها واستهضمكها ـ زد على ذلك :أن اخلضمف الواقع بني إماريت ُّ
سياسياً وعسكرايً( ، )1على حنو أثبت أن اخلضم ات اليت كانت حتدث بني القيادات الصليبية أثرت بدورها على كياانهتم
الرها تد ع الثمن أبن سقطت يف قبَة من استحقها من قادة اجلهاد اإلسضممي السياسية ،وها هي ـ حلسن احلظ ـ إمارة ُّ
يف ذلك احلني.
الرها جوسلني الثاين الذي مل يكن على نفسه القدر من الكفاءة السياسية وال نغف ـ من انحية أخرى ـ شخصية أمري ُّ
والعسكرية اليت اتصف هبا والده جوسلني األول ،وكان أمي إىل حياة اخلضمعة ،واجملون ،والسعي احلثيث إىل امللذات
الرها ذاهتا واجته إىل ت ابشر من أج أن جيد هناك ما يبحث عنه من صور الفساد ، ،ب إنه كثرياً ما غادر مدينة ُّ
الرها وقت أن غاب عنها جوسلني ولذلك أدرك يه املسلمون تلك الزاوية ،أحسن قائدهم اإل ادة منها ،وهاجم ُّ
الثاين ،أصاهبا يف مقت (.)2
أن اجلي الصلييب الذي ح بعد اجلي األول ـ الذي أسس الكيان الصلييب وحا ظ عليه ـ مل يكن قادراً على ويبدو :هل
احلفاظ على ما شيده السابقون ،ب مل يكن يدرك أمهية دوره التارخيي يف ذلك املوقع الشديد احلساسية الذي أحاط به
املسلمون من ك جانب ،وهكذا شارك جوسلني الثاين ـ دون أن يدري ـ يف إجناح حركة اجلهاد اإلسضممية حينذاك
بقيادة قائدها الكبري عماد الدين زنكي(.)3
الرها ،وجعوعلى أية حال :من املمكن أن من املؤرخني الغربيني من حاول إظهار عوام الَعف الداخلي يف إمارة ُّ
تلك العوام وحدها هي اليت أدت إىل إسقاطها ،وهدف من وراء ذلك إضعاف عاليات املسلمني السياسية واحلربية،
غري أن املنطق التارخيي يدعوان إىل تصور العوام الداخلية ،واخلارجية تعاونت معاً من أج صنع انتصار عام
الرها؛ إهنا ما كانت لتسقط دون 539هـ1144/م ومهما كان شأن عوام «النحر واالنتحار» الداخلية ونتائجها يف ُّ
الفعاليات العسكرية لقائد موهوب مث عماد الدين زنكي ،وجنوده من خلفه(.)4
الرها وماذا جرى يف صقلية :ورؤاي لعماد الدين بعد موته:
5ـ موقف الفقيه موسى األرمين يف تح ُّ
الرها :كان للفقيه املؤذن موسى األرمين املدرس إبحدى مدارس املوص موقف أ ـ موقف الفقيه موسى األرمين يف تح ُّ
الرها عامالرها ،حيث استخدم أسلوب احلرب النفسية يف محلة عماد الدين زنكي على ُّ مشكور يف تح ُّ
للرها ،قد 539هـ1144/م قد نزل الفقيه حماصراً ومقاتضمً ،خطرت بذهنه خطة ذكية أثناء حصار عماد الدين ُّ
ويشكون يف أمره( .)5قال:نزل السوق ،واشرتى مضمبس األرمن ،لكي يدخ هبا إىل املدينة حىت ال يعر ه الصليبيون ُّ ،
119
« نزلت السوق ،واشرتيت لباساً من لباس األرمن ،وتزينت يف زيهم( ، )1ووصلت إىل البلد ،ألنظره وأكشف حاله ،
جئت إىل اجلامع ،دخلت ورأيت املنارة قلت يف نفسي :أصعد إىل املنارة أ َُؤذن حىت جيري ما جرى ،صعدت ،
وانديت هللا أكرب ،هللا أكرب ،وأذنت ،والكفار على األسوار ،وقع الصياح يف البلد أبن املسلمني قد هجموا على
البلد من اجلهة األخرى ،رتك الكفار القتال ،ونزلوا عن السور ،صعد املسلمون وهامجوا املدينة»(.)2
الرها ،وكان هبا بعض الصاحلني من املغاربةب ـ ملك جزيرة صقلية :كان ملك جزيرة صقلية من الفرنج ملا تحت ُّ
املسلمني ،وكان امللك ُحيَره ،ويكرمه ويرجع إىل قوله ،ويقدمه على من عنده من الرهبان ،والقسيسني ،لما كان
الرها سري هذا ملك اإل رنج جيشاً يف البحر إىل إ ريقية ،نهبوا ،وأغاروا ،وأسروا ،وجاءت الوقت الذي تحت يه ُّ
األخبار إىل امللك وهو جالس وعنده هذا العامل املغريب ،وقد نعس؛ وهو شبيه النائم ،أيقظه امللك ،وقال :اي قيه،
الرها ـ أي :أتباع
قد ع أصحابنا ابملسلمني كيت وكيت ،أين كان حممد عن نصرهم؟ قال له :كان قد حَر تح ُّ
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ـ تَاحك من عنده من الفرنج ،قال هلم امللك :ال تَحكوا ،و هللا ما قال عن
اشتد هذا على امللك ،لم ميض غري قلي حىت أاتهم اخلرب بفتحها على املسلمني ،أنساهم شدهلة هذا غري علم ،و هل
الرها عند النهلصرانية(.)3
الوهن رخاءَ ذلك اخلرب ،لعلو منزلة ُّ
أن رجضمً من الصاحلني قال :رأيت الشهيد بعد قتله يف املنام يف أحسن حال ، ج ـ رؤاي للشهيد بعد قتله :وحيكى :هل
الرها(.)4
قلت له :ما ع هللا بك؟ قال :غفر يل .قلت :مباذا؟ قال :بفتح ُّ
الرها من األرمن أن دبروا ـ يف العام التايل ـ مؤامرة استهد ت الفتك
الرها :ما لبث سكان ُّد ـ مؤامرة اشلة من سكان ُّ
ابملسلمني ،وإعادة املدي نة إىل السيطرة الصليبية بعد القيام ابستدعاء جوسلني ،إال أن زنكي سرعان ما متكن من
كشف هذه احملاولة اخلطرية ،والقبض على ُمدبريها ،وإعدامهم ،مث أعقب ذلك بنفي عدد من األرمن كيضم يتاح هلم
مرة أخرى أن يسعوا إىل طعن املسلمني من اخللف ،وتسليم أهم مواقعهم لقمة سائغة للغزاة الصليبيني(.)5
الرها أهم إجنازاته اليت قام هبا ضد الصليبيني طوال مدة حكمه ،الرها :حقق عماد الدين زنكي بفتح ُّ 6ـ نتائج تح ُّ
وكانت هلذا النصر نتائج هامة يف العاملني اإلسضممي والنصراين ،ومن أهم تلك النتائج على اإلمجال:
أن حركة اجلهاد اإلسضممية وصلت سن الرشد ،وجتاوزت املراهقة السياسية والعسكرية دون أن أ ـ أتكد للمسلمني :هل
يكون ذلك إجحا اً إبجنازات القادة السابقني على زنكي ،وال سيما مودود ،وإذا كانت أوىل اإلمارات الصليبية هتاوت
الرها ،وغداً إسقاط ابقي الكيان الغازي الدخي ،وهذا ما حدث عضمً ، حتت أيديهم ،إهنا البداية ،واليوم إسقاط ُّ
ومن اآلن صاعداً لن تعود عقارب الساعة إىل الوراء ،ب التقدم إىل األمام بك ثقة ،وإابء ،وإجناز.
ب ـ أتكد منطق التاريخ من أن مث تلك الكياانت الصليبية الغري شرعية لن تستمر على األرض املسلمة؛ ألن أبناء
املنط قة أصحاب اهلوية الدينية املوحدة لن يقبلوا بذلك الوضع السياسي ،والعسكري الدخي ،وابلتايل عاد التجانس
120
الرها متث دور الفص ،والكيان الصلييب احلاجز املانع من االتصال بني ك ٍ من سضمجقة ملنطقة مشال العراق ،ومل تعد ُّ
اسيا الصغرى ،وسضمجقة العراق ،وكذلك بضمد ارس(.)1
ج ـ زاد الَغط على النطاق الصلييب الذي اختذ شكضمً طولياً من أنطاكية يف الشمال إىل أيضمت (الرشراش) جنوابً ،
ومن هنر األردن شرقاً إىل الساح الشامي ابستثناء عسقضمن؛ إذ إن صور سقطت ابلفع عام 1124م518/هـ /مبا
اشتملته من إمارة طرابلس ،ومملكة بيت املقدس الصليبية ،املؤكد :هل
أن رأس احلربة الصليبية يف ا ُّلرها سقطت إىل غري
رجعة ،واآلن أصبح ذراعها قائماً يف ابقي الكيان الصلييب ،ولذلك ازداد الَغط العسكري عليه من قب القوى
اإلسضممية اليت سيطرت على الظهري الشامي املوازي للساح والسه الساحلي ،كأن املعركة صارت ـ على املستوى
اجلغرايف ـ معركة بني الساح ،والظهري ،واعتمد األول على الدعم اخلارجي األوريب يف األساس ،واعتمد الثاين على
إمكاانته احمللية الوا رة اليت تزايد شأهنا مع ظهور قادة الوحدة بني املسلمني.
الرها مبث هذه الصورة إىل حترك احللف الد اعي االسرتاتيجي القائم بني الكيان الصلييب يف الشرق ، د ـ أدى إسقاط ُّ
والرحم األم يف الغرب األورويب ،لم يكن ذلك الغرب ليسمح المتداده السياسي والتارخيي يف الشرق أن ينهار قطعةً
قطعة ،ب ال بد من التدخ من أج إعادة األمور إىل نصاهبا ،وإجهاز عاليات إمارة املوص ،ومن مث كان قيام
حرب صليبية 1147ـ 542/1149هـ 544هـ اليت اشتهرت ابلصليبية الثانية ،وهي من النتائج املباشرة إلسقاط
قوى حملية حمدودة
قوى عاملية ،ومل تكن جمرد ً
الرها ،وهو أمر يوضح لنا جبضمء كيف أن قادة اجلهاد اإلسضممية حاربوا ً ُّ
عاملي على حنو جيع هلم مكانة ابرزة يف اتريخ املسلمنيقاري ،أو ٍالتأثري والفعالية ،وأهنم ابلفع كانوا جزءاً من صراع ٍ
ـ عامة ـ يف عهد احلروب الصليبية.
هـ ـ ومن النتائج العديدة اليت نتجت عن ذلك اإلجناز ارتفاع شأن عماد الدين زنكي إىل حد بعيد ،بعد أن كان جمرد
حاكم حملي حمدود النطاق والفعالية ،تردد امسه سريعاً يف احلوليات الضمتينية ،والسراينية ليعكس :أنه أحدث أتثرياً كبرياً
يف جمرى أحداث الشرق الضمتيين ،وبصورة غري مسبوقة ،أما ابلنسبة للمسلمني ،قد احت مكانة ابرزة( ،)2قد هل
عزز
الرها مركز عماد الدين جتاه السلطان السلجوقي مسعود واخلليفة العباسي املقتفي ألمر هللا الذي أنعم عليه بعدد تح ُّ
كبري من األلقاب اليت حازها عن جدارة ( ،كاألمري املظفر ،ركن اإلسضمم ،عمدة السضمطني ،زعيم جيوش املسلمني
،ملك األمراء ،أمري العراقني والشام)(.)3
وجع هذا النصر عماد الدين زنكي املدا ع األول عن الدين ،واجملاهد يف سبي إعضمء كلمة هللا ،ودارت يف احملا
اإلسضممية أحاديث متحورت حول شخصه ،تصور لنا مدى التقدير ،واإلعجاب اللذين انهلما إثر حتقيقه هذا النصر
الكبري ،ومهد هذا الفتح الطريق أمام عماد الدين زنكي الستكمال تح احلصون اجملاورة ،و رض سيطرته التامة على
121
الرها دوراًكبرياً يف إنقاذ إمارة عماد الدين زنكي من خطر استمرار الغارات الصليبية
أمضمك أعدائه يف املنطقة ،و هلأدى تح ُّ
عليها ،أصبح أهلها بعد اخلوف امنني( )1وهذا إن شاء هللا من عاج بشرى املؤمن.
7ـ رأي املستشرق جون المونت يف عماد الدين :يُ َـع ُّد املستشرق جون المونت من أبرز املؤرخني األمريكيني خضمل
النصف األول من القرن املاضي ،وتعددت مؤلفاته يف جمال الصليبيات ،وال سيما دراسته الوا ية عن امللكية اإلقطاعية
يف مملكة املقدس ،غري أن له دراسة أخرى عنواهنا (احلرب الصليبية واجلهاد) ضمن كتاب الرتاث اإلسضممي الذي نشره
نبيه ارس ،ويف هذه الدراسة اجته المونت إىل تفنيده كرة اجلهاد عند املسلمني حينذاك ،وتصور حترك قادة اجلهاد
اإلسضممي على أنه من خضمل الدوا ع السياسية ،واالقتصادية قط ،وذكر أبن عماد الدين زنكي ال يعترب أبي حال
الرها ُمنذ وقت طوي كما يقول كمال الدين من األحوال بط اجلهاد ،إن عماد الدين وإن كان يطمع يف اسرتجاع ُّ
حران مجال الدين أبو املعايل َ هللا بن العدمي ،مل يقم هبذا العم بوضوح إال متأخراً ،وبعد أن حثه على ذلك أمري هل
ويستمر يف تصوره قائضمً« :الظاهر :أنه هو نفسه كان يعترب احتضمل
ُّ بن ماهان الذي بني له سهولة احتضمل املدينة(،)2
الرها خروجاً عن سياسته ،وعمضمً قام به بناءً على حتريض االخرين»( )3وذكر أيَاً« :أن استيضمء زنكي على محاة ، ُّ
ضد األرتقيني أعظم أمهية عنده من حرب النصارى ،وما كان ليكره التحالف مع الضمتني ومحص ،وحلب ،وحروبه هل
إذا رأى ذلك من مصلحته»( .)4ومن املمكن تفنيد تلك اآلراء على النحو التايل:
الرها متأخراً ،وذلك أمر ال يقل البتة من دوره اجلهادي ،خاصة :أنهلـه كان يرى
* كان اجتاه عماد الدين زنكي ملهامجة ُّ
أن يستهلك طاقات تلك اإلمارة الصليبية يف صراعاته وحروبه معها ضد حصوهنا ومعاقلها ،مث يتجه بعد ذلك إىل
مهامجة اإلمارة نفسها بعد أن يتمكن من سربغور د اعاهتا ،ومعر ة نقاط الَعف يها ،وكذلك نقاط القوة ،ومن
الرها مل تكن لتغري من املوقف شيئاً لو مل يكن
أن نصيحة أمري حران لزنكي إبسقاط ُّ انحية أخرى من الطبيعي تصور :هل
زنكي قد خطط مسبقاً لذلك ،ب أغلب الظن أن سقوط تلك اإلمارة من الصعب تصور حدوثه على النحو الذي
يصوره المونت ،ب إهنا يف األغلب كانت من خمططات الزنكيني ُمنذ أمد بعيد.
أما تعلي عدم تبكري زنكي ابالستيضمء عليها ،ذلك مرجعه إىل عدم رغبته يف إجهاض قوته احلربية يف صدام مبكر
الرها ـ
مع الصليبيني غري مَمون النتائج خضمل مرحلة حكمه املبكرة ،ولذا من املمكن اعتبار توقيت االستيضمء على ُّ
على حنو ما صلته املصادر الضمتينية ،والسراينية ،والعربية ـ يعترب حبق من أبرز دالئ حنكة زنكي السياسية.
يبدو :أن ادعاء «المونت» أبن إسقاط ا ُّلرها كان بعيداً عن سياسية عماد الدين زنكي هو أكرب االدعاءات اليت ال جتد
سنداً اترخيياً يدعمها ،من املعروف :أن زنكي كان مشرتكاً يف جيش مودود ،وبنص عبارة ابن األثري« :شهد معه
()5
الرها ،ب إن ذلك احللم ترسب يف ذهنه ُمنذ زمن بعيد ،واملتصور: حروبه» ،وال ريب يف أنه أدرك أمهية إسقاط ُّ
أنه أراد النجاح يما أخفق يه مودود من قب ،وقد اعتقد أن إسقاطها أمر ضروري على اعتبار أهنا اهلدف الصلييب
122
األقرب إىل املوص ،كما أن حتقيق مث ذلك اهلدف من شأنه تيسري اتصاله بشمال الشام ،وخاصة من خضمل رؤيته
التوحيدية الثاقبة(.)1
* إن ا رتاض «جون المونت» أبن زنكي كان ميكن أن يتحالف مع الضمتني من أج مصلحته السياسية ،ا رتاض
يدعم حنكة عماد الدين زنكي السياسية ،قد جلأ إىل عقد االتفاقيات مع الصليبيني أحياانً من أج التقاط األنفاس،
وعدم الوقوع يف أتون جبهتني جبهة الشرق بصراعه مع قواه السياسية ،وجبهة الصراع مع الصليبيني ،مث إنه أراد أن
الرها ،ولذا
يبعث الطمأنينة يف نفوس االخرين من خضمل مث تلك االتفاقات ،يف حني كان يبطن النية لإلجهاز على ُّ
جاءت عمليات احلصار من جانبه حنوها أمراً مفاجئاً ألهلها(.)2
الرها ،ب إنه كان يسعى أيَاً إىل بناء دولته على حساب جريانه * أما القول أبن زنكي مل يكن هد ه الوحيد إسقاط ُّ
سواء املسلمني ،أو الصليبيني ،ينبغي مضمحظة أن كا ة القيادات اإلسضممية اليت ظهرت خضمل عصر احلروب الصليبية
على امتداد القرنني الثاين عشر ،والثالث عشر امليضمدين/السادس ،والسابع اهلجريني سامهت يف قَية اجلهاد ،وكان
لديها طابع ما من الطموح السياسي ،وكانت تسعى ابلفع إىل توطيد أركان دوهلا على حساب القوى السياسية اجملاورة
هلا ،غري أن العربة هنا أبن الطموح السياسي ـ كما أشرت من قب ـ يتم تفجريه يف قَية األمة أبسرها وهي اجلهاد ،
ألن مث تلك القيادات كان من املمكن أن ترضى ابلعيش يف ذلة وانكسار مع الصليبيني وال تتوسع على حساهبم جتنباً
إلاثرة املشكضمت السياسية معهم ولسقوط القتلى واجلرحى ،ب وتعرض مناطق نفوذها األصلية العتداءات الغزاة ،غري
أهنا ر َت ذلك ،وقبلت التحدي الصلييب ،وأظهرت قدرهتا على تغيري اجلغرا ية السياسية للمنطقة من خضمل تبنيها
ملشاريع اجلهاد(.)3
* من املهم أن تعرف :أنه ال خيفى على دارسي اتريخ العضمقات اإلسضممية مع القوى املسيحية يف مرحلة احلروب الصليبية
كيف أن قطهلاعاً من املستشرقني حرص على سلب املسلمني إجنازاهتم ،وشككوا يف املراح الناصعة من اترخيهم ،كما
أن هناك أثراً مضمزماً لذلك القطهلاع منهم ،وال سيما مع كرة اجلهاد وهو ذروة سنام اإلسضمم ،ولذلك حرصوا احلرص
أمجعه على إنكارها ،والتشكيك يها ،واإلساءة إىل كا ة التجارب اجلهادية املاضية للمسلمني؛ حىت ال يتبنوها يف احلاضر
،واملستقب .
وهكذا من املمكن التقرير ـ مبوضوعية ودون اعتساف يف األحكام ـ أن عصر احلروب الصليبية شهد نقلة نوعية يف تطوير
كرة اجلهاد يف اإلسضمم؛ حيث إن اجلهاد هذه املرة ضد عدو استقر على األرض اإلسضممية ،بعد ضعف املسلمني من
أن هويتهم الدينية كانت يف خطر أمام مشاريع التنصري اليت علقت جراء صراعاهتم مع بعَهم البعض ،إذا ما أدركنا :هل
عليها البابوية آماالً كبريًة أدركنا كم كانت كرة اجلهاد كرة حمورية يف عصر احلروب الصليبية(.)4
123
إن املراجع الغربية حاولت تشويه صورة هذا اجملاهد الكبري قدمياً وحديثاً ،ومن أشهر الكتب املعاصرة ( ،كتاب احلرب
املقدسة ،احلمضمت الصليبية وأثرها على العامل اليوم) قالت صاحبة الكتاب «كارين أرمسرتونغ» عن عماد الدين زنكي
« :مل يكن هذا أبي حال قدوة حتتذى ،ب كان سكرياً عربيداً قلما يفيق من سكره ،كما كان قاسياً بطاشاً مث معظم
رجال احلرب يف عصره»( . )1وسرية الرج تكذب ما يقولون ،ووصفه مؤرخوان ابلشهيد ،وهو وسام عايل الرتبة واملقام
ال يعطى إال ملن هو أه ٌ هلذا الوصف الكبري ،قد قالوا يف سريته :من أحسن سري امللوك وأكثرها
حزماً لألمور ،وكانت رعيته يف أم ٍن شام يعجز القوي عن التعدي على الَعيف ،وكان معظماً للشريعة ،ومقيماً
()2
( )1احلرب املقدسة احلمضمت الصليبية وأثرها على العامل اليوم ص .245
( )2كتاب الروضتني يف أخبار الدولتني (.)157/1
( )3شعر اجلهاد الشامي يف مواجهة الصليبيني ص .10
124
ختاطبنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا أب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـواه الري ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاح وألسن ـ ـ ـ ـ ـة مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن العذبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـات محُْـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر
ود مـ ـ ـ ـن صبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاح وغُهلرتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ عم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ جيشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ لي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ هبيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌم
وأروع َ
قلي ـ ـ ـ ـ ـ الصف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـح مـ ـ ـ ـ ـا بي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن الصف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاح صف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوح عن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد قدرتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه كريـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌم
()1
وهيبتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه جناح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً للجنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاح كـ ـ ـ ـ ـ ـان ثب ـ ـ ـ ـاتـ ـ ـ ـ ـ ـه للقلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب قلبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً
الرها ،قال الشاعر: أ ـ القيسراين ميدح عماد الدين يف تح ُّ
وهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ طَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوق األمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمك إال جن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاده هـ ـ ـ ـو السي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـف ال يغني ـ ـ ـ ـ ـ ـك إالج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمَ ُدهُ
الرها تغريت نظرة الفرنج إىل قوة املسلمني ،وأعادها عماد الدين ولقد كان هذا الفتح رنة رح يف نفوس الناس ،وبفتح ُّ
زنكي إىل داير اإلسضمم بعد أن حكمها الفرنج نصف قرن ،ومما جاء يف القصيدة:
سناه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا وإن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـات العي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـون اتقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـــ ـ ـ ـ ـ ـ ـاده وع ـ ـن ثغـ ـ ـر هـ ـ ـ ـ ـذا الن ـص ـ ـر لتـأخـ ـ ـذ الظُّب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا
ولـ ـم يـ ـ ـ ـ ـك يسمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـو ل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوال عمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاده مسـ ـ ـ ـ ـ ـت قبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة اإلسـ ـ ـ ـضمم خ ـ ـ ـ ـ ـ ـراً بطولـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه
عـن الل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاال يُستط ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاعُ ذيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاده وذاد قسي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُم الدهلولـ ـ ـ ـ ـ ـة اب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُن قسيمهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا
أن مه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاده رواسيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه عـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهلزاً واطم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هل ت ليَـ ْهـ ـ ـن ب ـ ـ ـي اإلميـ ـ ـ ـ ـ ـ ـان أم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌن ترهلـ َع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْ
ادهسه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُّي إل ـ ـى ي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوم املََعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاد ُم َعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ ث ـ ـ ـي السم ـ ـ ـ ـع حديث ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه و ت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌح حديـ ـ ـ ـ ـ ٌ
عليه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا وا ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى ك ـ ـ ـ هل ص ـ ـ ـ ـدر ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـؤ ُادهُ أراح قلوبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً ط ـ ـ ـ ـ ـ ْرن مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ُوُكناهت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا
العلُـ ـ ـ ـ ـ ـوج اعتق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاده علـ ـ ـ ـى غي ـ ـ ـ ـر مـ ـ ـ ـا عن ـ ـ ـ ـد ُ لق ـ ـ ـ ـ ـ ـد كـ ـ ـ ـان ـ ـ ـي تـ ـ ـ ـ ـ ـح الـ ـ ـ ـُّرها داللـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة
ول ـ ـ ـ ـم يـُ ْغـ ـ ـ ـن عنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد الق ـ ـ ـ ـ ـوم عنهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم والده يـَُر ُّجـ ـ ـ ـ ـون ميـ ـ ـ ـ ـضمد اب ـ ـ ـ ـن مري ـ ـ ـ ـم نصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرة
يف ـ ـ ـ ـ ـ ُّ حديـ ـ ـ ـ ـ ـد اهلن ـ ـ ـ ـ ـ ـد عنه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـداده مدين ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة إ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك ُمن ـ ـ ـ ـ ـ ـذ مخسي ـ ـ ـ ـن ح هلجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة
طر ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً سـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوادهترق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت إليـ ـ ـ ـ ـه خ ـ ـ ـ ـان ْ وت مـ ـ ـدى األبص ـ ـار حتـ ـى لـ ـو أهن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا تف ـ ـ ـ ُ
إل ـ ـى أن ثناه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن يعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـُّز قي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاده اده ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا وك قي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ
وجـ ـاحمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةٌ ع ـ ـ ـ ـهلز املل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ
بصيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـٌر بتمري ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن األلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد لـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َداده أوسعهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا حـ ـ ـ ـ ـ ـهلر القـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراع ُمؤيهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌد
ش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر ٌار ولك ـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي يديـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه زنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاده كأن سن ـ ـ ـ ـا لَ ْمـ ـ ـ ـ ـ ـع األسنهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة حول ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه هل
دادهُ
ورهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا واهنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا راع إال س ـ ُ أضرمهـ ـ ـ ـا انريـ ـ ـ ـ ـن :حرب ـ ـ ـ ـاً وخدع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة
()2
وهيه ـات كـ ـان السيـ ـ ـف حتمـ ـ ـاً سفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاده ود الب ْك ـ ـر عنـ ـد ا تَاضهـ ـ ـ ـ ـ ـا ص ـ ـ ُد َ
صـ ـ ـدهلت ُ
مب ـ ـ ـ ـ ـ ـن ك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـان ق ـ ـ ـ ـ ـ ـد ع ـ ـ ـ ـ ـ هلم البل ـ ـ ـ َاد س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاده ي ـ ـ ـا ظََفـ ـ ـ ـراً َعـ ـ ـ ـ ـ هلم البـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمد صضمحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه
إالوح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هل صفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاده
وال ُموثَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌق ُ ـ ـ ـ ـ ـضم ُمطْلـَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌق إال وشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد واثق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه
وال مصحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـف إال أنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـار مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـداده ودهوال منبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـٌر إال ترنهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـح ُع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ
ادهُ
وإال قـ ـ ـ ـ ـ ـ للنجـ ـ ـ ـ ـ ـم كيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـف ُسه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـإن يثك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ اإلبرنـ ـ ـ ـ ـز يه ـ ـا حيـاتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه
كمـ ـ ـا يت ـ ـ هلرتى ع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن حري ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـق جـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراده وابتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت س ـ ـ ـ ـ ـرااي القمـ ـ ـص نقمص دوهنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا
125
لق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد َذ هلل غاويكـ ـ ـ ـ ـ ـم َ
وعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهلز رشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاده الَـ ـ ـضملة بعده ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا إلـ ـى أي ـ ـن يـ ـ ـا أسـ ـ ـ ـرى هل
ادهُ
يعانـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُد أسب ـ ـ ـ ـ ـ ـاب القَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاء عنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ ُرَويْد ُك ـ ـ ـ ـ ـ ُم ال مان ـ ـ ـ ـ ـع م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ُمظَهلفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر
رمـ ـ ـى َسـ ـ ـ ـ ـ ـ هلد ذي القرنيـ ـ ـن أصمـ ـ ـ ـ ـ ـى َسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ
دادهُ ب سه ـ ـ ـ ـام ال ـ ـ ـرأي لو أن َع ْزم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــَهُ ُمصي ـ ـ ـ ـ ـ ُ
ممالكه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا إن الب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمد بـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمده وق ـ ـ ـ ملل ـ ـ ـ ـوك ال ُكف ـ ـ ـ ـ ـ ـر سلـ ـ ـ ـ ـ ـم بعدهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا
دادهُ
يـ ـ ـا طامل ـ ـ ـ ـا غ ـ ـ ـ ـال الظ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمم امتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ الصبـح أيته ـا الدُّجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى كـ ـ ـذا عـن طريـ ـق ُّ
أيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة أرض مل ترضه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا جي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاده السمـ ـ ـوات جن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـده وم ـ ـن ك ـ ـان أمـ ـضمك هل
()1
وروضـ ـ ـ ـ ـ ـة قسطنطينـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة مستـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراده ولل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ع ـ ـ ـ ـ ـزم م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاءُ سيحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـان ورده
الشهرُزْوري أَوُهلا :هي جنة املأوى ه من خاطب .يقول يها: وله قصيدة هنهلأ هبا القاضي كمال الدين بن ُ
عطف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت عليهـ ـ ـا ك ـ ـ ـ ـ ـ أشـ ـ ـ ـ ـ ـوس انكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب الرهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـــ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاالصفائ ـ ـ ـ ـح يـ ـوم صا حـ ـ ـت ُّ إن هل
كالفج ـ ـ ـ ـ ـر ـ ـ ـي ص ـ ـ ـدر النهلهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـار اآلي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـــ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب تـ ـ ـ ـ ـح الفت ـ ـ ـ ـ ـ ـوح مبش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراً بتمام ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـــ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه
نُص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرت صحابتهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا أبمي ـ ـ ـن صاح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب لل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه أيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة وقفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍة بدريـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة
كـ ـ ـ ـم انه ـ ـ ـ ـ ـض ابحل ـ ـ ـ ـ ـرب غي ـ ـ ـ ـ ـ ـر حمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـارب لقاحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ظف ـ ـ ـ ـٌر كمـ ـ ـ ـ ـال الديـ ـ ـ ـن كن ـ ـ ـت َ
بكتائـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب حمفو ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة بكتائ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب ش املضمئ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك نص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـــ ـ ـ ـ ـرةً
وأمدكـ ـ ـ ـم جيـ ـ ـ ـ ُ
جنـ ـ ـ ـ ـ ـ ُد النبـ ـ ـ ـ ـ ـوة هـ ـ ـ ـ ـ ـ هلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا مـ ـ ـ ـن غال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب جنب ـ ـ ـ ـوا الدهلب ـ ـ ـور وق ـ ـ ـد تـ ـ ـم ريـ ـح الص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا
ظنـ ـ ـ ـ ـ ـت وج ـ ـ ـ ـ ـ ـوب السـ ـ ـ ـ ـور سـ ـ ـ ـ ـورة الع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب أتـ ـرى ال ـُّرها (الورهاء)( )2يـ ـ ـ ـوم متنع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت
ضـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاق الفَ ـ ـ ـ ـاء علـ ـ ـ ـ ـى جن ـ ـ ـ ـاة اهل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـارب ال أيـ ـ ـ ـن ي ـ ـا أس ـ ـ ـ ـرى املهالـ ـ ـــ ك بعده ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا
وب علـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى الطـريـ ـ ـ ـق الضمهلحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب ُّر َ
إن الـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد ُ ش ـ ـ ـ ـدا إل ـ ـ ـ ـى أرض الفرجن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة بعده ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا
م ـ ـ ـ ـ ـا ك ـ ـ ـان مـ ـ ـن إط ـ ـ ـراق حل ـ ـ ـ ـظ الطهلالـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب أ غَرك ـ ـ ـ ـ ـ ـم والثـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُأر ره ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُن دمائكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم
()3
دون الفريس ـ ـ ـة ه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـو عي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُن الواث ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب وإذا رأيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت اللي ـ ـ ـ ـ ـ ـث جيمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـع نفسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه
126
يم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ابتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمه وتُ ْدن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ما توخـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاه ختدم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ
ك واأليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُام ُ م ـ ـ ـ ـ ـ ـا زال يَ ْس ُم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ
قـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدراً وجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاوزت اجل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوزاء نع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمه حت ـ ـ ـى تعالـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت ع ـ ـ ـن الش ْعـ ـ ـ ـ ـرى مشاع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـره
وأي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن مم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا رووه م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا رأين ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاه وق ـ ـ ـ ـ ـ ـد روى النـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاس أخب ـ ـ ـ ـار الكرام مَـ ـ ـ ـ ـ ـوا
مقطوب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةٌ بفتي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـق امل ْس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك ريهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاه جعل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى املناب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن أنبائ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه أر ٌ
مبسم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه واهت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـز عطْ َفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاه ا ت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهلر ْ تـ ـ ـ ـ ٌح أعـ ـ ـ ـ ـ ـ َاد عل ـ ـ ـى اإلسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمم َهب َجت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ
َحديثه ـ ـ ـ ـ ـ ـا نَ َس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـخ املاضـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي وأنس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاهُ يـُ ْهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َدى مبعتصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍم ابللـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه تكت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه
َم ـ ـ ـ ـ ـ ْن رامه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـس َم ْغ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـَزاه كمغ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـزاه عموري ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍة وكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـذا
الره ـ ـ ـ ـا غي ـ ـ ـ ـ ـ ـر ُّ إن ُّ
م ـ ـ ـن امللـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوك هل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا َوقْمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً( )1واتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاه ت الكواكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب ع ـ ـهلزاً م ـ ـا بغـى أَح ـ ـ ـ ــٌَد أخ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ
هلج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم مسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراه ت ُـ َويْـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َق الن ْ أي يبي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ رٌ ت هلـ ـ ـ ـ ـا ابلع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـزم يشحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـذه حتـ ـ ـى دلف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ
أمثار عقب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاه عـ ـ ـ ـ ـ ـن بـَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْدء غـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْر ٍس هل ـ ـ ـ ـم ُ مشمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراً وبنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـو اإلس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمم ـي ُشغُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ
وعامـ ـ ـ ـ ـ ـر اجلُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـود مل ـ ـ ـا مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلح ( )2معن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاه الع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْدل إذ قامـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت نَـ َوادبـُ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه يـا ُحميـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي َ
للشاك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرين ويستقنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي صفايـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاه يـا نعمـ ـ ـة الل ـ ـ ـ ـ ـه يستَف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي املزي ـ ـ ـ ـ ـد هبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا
()3
مـ ـ ـ ـ ـ ـن ل ـ ـ ـم يُتو ْج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك هـ ـ ـ ـ ـذا التهل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاج إاله أبقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاك للدي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن والدُّنيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا حتوطُهم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا
والبن منري أيَاً من قصيدة أخرى يقول يها:
أن ـ ـ ـ ـ ـاخ علـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى أ هلُمات ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ك ْل َك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ الثهلكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ أيـ ـ ـا ملكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً ألقـ ـ ـ ـى عل ـ ـ ـ ـى الشـ ـ ـرك كلكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمً
َسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر والقتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ جبمعـ ـ ـ ـك بي ـ ـ ـن النـ ْهله ـ ـ ـ ـ ـب واأل ْ الره ـ ـ ـ ـ ـ ـا س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلد اببـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ت إلـ ـى تـ ـ ـ ـ ـح ُّ مجعـ ـ ـ ـ ـ َ
وتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلو َج مسط ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َور ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـروايـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة والنهلـ ْق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هـ ـ ـ ـ ـو الفـت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُح أنسـ ـى ك ـ ـ هل تـ ـ ـ ـ ٍح حديثُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ
ت ج ـ ـ ـ ـ ـزاءَ الص ـ ـ ـ ـدق عـ ـن خامت الرس ـ ـ ُجزي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ ش اخلواتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم بعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـــ ده ََـ ـ ـ ـ ـت بـ ـ ـ ـ ـ ـه نقـ ـ ـ ـ ـ َ
ك أسب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاب املذلهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة واخلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـذل تُبتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ جت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـردت لإلسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمم دون ملوك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه
يشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوب إبق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدام الفتـ ـ ـ ـى ُحْن َكـ ـ ـة الكهـ ـ ـ ـ ـ أخ ـ ـ ـ ـ ـو احل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرب َغ هلذتْ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ الق ـ ـ ـراع مفطهلمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً
وقال أيَاً:
معص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوابً هب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا الفت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُح املبي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْن بعم ـ ـ ـ ـ ـ ـاد الدي ـ ـ ـ ـ ـ ـن أضح ـ ـت ع ـ ـروة الديـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن
قسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي إدحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاض كي ـ ـ ـ ـ ـ ـد املارقيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْن واست ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـزادت بقسي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم هل
الدولـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة الـ
الراقديـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن
مهُّ َه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا تشدي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد َهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم هل َس َهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـَر عينـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً لـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم يَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـَزْل
كأْمل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ
قـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـأت غيظ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً ُعي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـون احلاسدي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن هلصـ ـ ـ ـ ـ ـر قـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد ال َخ ْل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت م ـ ـ ـ ـ ـن كحـ ـ ـ ـ ـ الن ْ
هـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـو عي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌد عائ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد للمسلميـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْن ُكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ يـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍوم َم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهلر م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن أايم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه
ك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـان أواله ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا أمي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر املؤمني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن اف ـي أوصا ـ ـ ـ ـ ـه لـ ـ ـ ـ ـ ـ ـو جـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرى اإلنص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ
127
ت لـ ـ ـ ـ ـه أيـ ـ ـ ـدي السني ـ ـ ـن مث ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا َخطهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْ مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا روى الـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهلراوون ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ مـ ـ ـ ـ ـا سطهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـروا
ف تضمهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا مبئي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن مبئ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة أل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ إذا أن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاخ الشـ ـ ـ ـ ـ ـرك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي أكن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه
()1
الوتي ـ ـ ـ ـ ـ ْن قطع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه التيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن إل ـ ـى قطـ ـع َ وقع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة طاحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت بكل ـ ـ ـ ـ ـ ـب ال ـ ـ ـ ـ ـروم م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن
أن الصيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن صي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْن واضـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُح الربهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـان هل إن مح ـ ـ ـ ـ ـت مص ـ ـ ـ ـ ـ ـر ق ـ ـ ـ ـ ـ ـد ق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـام هل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا
ت َح ْش َمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً لش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك املمرتي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن لَ َك َف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْ الره ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا الره ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا لـ ـ ـ ـ ـ ـ ـو لـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم تك ـ ـ ـ ـ ـ ـن إال ُّ و ُّ
ُ
لـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم يُدن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـس مبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرام الضمئمي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن درج الدهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر عليهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ُمعصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراً
ط طيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ومَـ ـ ـ ـ ـ ـى ل ـ ـ ـ ـ ـم َْحي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـو منه ـ ـ ـ ـا ق ْس ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ َهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلم قسطنطيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن أن يَـ ْفَر َع َهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا
تحلهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى احليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ومسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلي اجلبيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ك حاوهل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ولك ـ ـ ـ ـ ـم م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ملـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ
َْ
منـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه كالنج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم ل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرأي املبصريـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن هـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي أخ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت النجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم إال أهنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا
بعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـران( )2الـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُّذل اسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاد العريـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ث قائ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍد مني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت منـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه بلي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ
ْ َُ
تب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد ُل األُسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َد ـ ـ ـ ـي الزئ ـ ـ ـ ـ ـ ـر األَني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن زارهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا يـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـز ُأر ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي أس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد وغ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ًى
()4
اهل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـام ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ساحاهت ـ ـ ـ ـا نث ـ ـ ـ ـ ـر ال ُكريْـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ض( )3بَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرب نث ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر صوجل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوا البيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ
مـ ـ ـ ـ ـن بن ـ ـ ـ ـ ـي ال ُق ْلـ ـ ـ ـ ـ ـف( )5ثغ ـ ـ ـ ـ ـور الشهلامـت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـني يـ ـ ـ ـ ـا هلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا مههلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةُ ثـَ ْغـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر أضحكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت
بعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدم ـ ـ ـ ـ ـا جاس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت حواي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا جوسلي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن س ذلهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةًأس برن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ تر َ بَـ ْرنَ َس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْ
ت ُمجهلاعه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا عنهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا عَي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن َـهلرقَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْ اج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُت أسر َ وع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْ
وس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـروج ُمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْذ َ
عزمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه املاضـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي خبي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر الفاحتيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ال رماهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا الل ـ ـ ـ ـ ـه م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن تل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك أقف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ
()6
ف االمني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن
مؤمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُن اخلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوف خمـي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ ودقُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه الش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُام برق ـ ـ ـ ـ ـاً ْ شـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َام منـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه هل
السفي ـ ـ ـ ـن وح يف ظ ـ ـ ـ ـ ـ هل من ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه بع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد الـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـُّر ُ ت ق ـ ـ ـ ـد رامه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا س ُكنسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ ك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم كنيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ
إىل أن قال:
لي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـس حصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌن إ ْن حنَْتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ حبصي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن مهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة متسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي وتَح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي عزم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةً
ستذوقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـو َن شـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـذاهُ بع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َد حيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ لق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍوم َغهلرُهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم إمهالُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه
َـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهلر منـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه َمشح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً للغا ليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن درك َمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن وت ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـذي ي ـ ـ ـ ُ إنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ املـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ
اب متيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن إهنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا حبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ ملـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْن ت ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ وه ـ ـ ـ ـ ـ ـو ُحييـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ُممسكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ُعروتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه
داة عب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرًة لآلخريـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن غ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن يطـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـع يَـْن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُج وم ـ ـن يَع ـص يك ـ ـ ـن
128
()1
تلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك األرض ميينـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً ال ميي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْن َقس ـ ـ ـ ـم اجل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُّد ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـأَن تبق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى ل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـكأ َ
ُمْنسيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً ُمؤلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َم عس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـف اجلائري ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن دل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي أقطارهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا وتُفي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـض الع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ
كعب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةً حمفو ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةً ابلطائفي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن دارك كيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـف انتقلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت ال تـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـزل ُ
م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن نظيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم املـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدح ابلـ ـ ـ ـ ـ ـدُّر الثمي ـ ـن ك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ يـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوم يتحلهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى ُ
جيده ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا
()2
َلس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُن اخل ْل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـق اميـ ـ ـ ـن لـ ـك قال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت أ ُ ص يه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا دعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوًة كلم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا أَخل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ
الرها:
اثمناً :األحداث العسكرية بعد فتح ُّ
كان تح الرها بداية ملا بعدها؛ إذ مل يكن من الصعب على عماد الدين زنكي أن يستكم مهمته بفتح ابقي املعاق
الصليبية التابعة هلذه اإلمارة ،استغ رصة
تَعَع أحوال الصليبيني يف املنطقة( ، )3واجته إىل سروج اليت ختلت حاميتها عنها مولية الفرار واستوىل عليها ،وما
()4
مير بعم من أعماهلا ،وال معق لبثت احلصون اجملاورة أن أخذت تسقط يف يديه واحدة تلو األخرى ،وجع ال ُّ
من معاقلها ،إال سلم إليه يف احلال( ، )5مث ميم وجهه صوب قلعة البرية احلصينة املطلة على الفرات ،وكانت من أهم
احلصون اليت تبقت جلوسلني الثاين ،وأشدها مناعة ،فرض احلصار عليها ،وقطع عنها ما كان يص إليها من القوت
،واملرية واملعونة؛ حىت أشر ت على االستسضمم.
وحينذاك بلغ زنكي نبأ مقت انئبه يف املوص ،اضطر إىل ك احلصار ،واإلسراع ابلتوجه إىل مقر إمارته إلقرار األوضاع
يها ،إال أن صليبيي احلصن خا وا من مهامجته إايهم اثنية ،أرسلوا إىل حسام الدين متراتش األرتقي ،وأعلموه برغبتهم
يف التنازل له عن موقعهم هذا قب أن يسقط بيد عدوهم اللدود .وهكذا قد صليبيو الرها كا ة حصوهنم الواقعة شرقي
الفرات( ،)6كنتيجة مباشرة لسقوط القاعدة األم بيد زنكي ،ومل يتبق جلوسلني من إمارته الواسعة سوى عدد من احلصون
املنتشرة غريب الفرات كت ابشر ،ومرعش ،ودلوك ،ومسيساط ،وعينتاب ،وعزاز( ، )7واستطاع نور الدين حممود ـ يما
بعد ـ اكتساحها مجيعاً ،وحمو هلأول اإلمارات الصليبية من الوجود(.)8
اتسعاً :من أساليب عماد الدين زنكي يف حماربة الصليبيني:
مل يقتصر عماد الدين زنكي يف قتاله للصليبيني على احلروب النظامية حسب؛ إذ كان ذلك يقتَي منه البقاء ابستمرار
يف بضمد الش ام ،واستنفاد قواه يف قتال أعدائه هؤالء ،وعدم متكنه ـ ابلتايل ـ من التفرغ لتصفية مشاكله العديدة يف
129
العراق ،واجلزيرة ،وأدرك أمهية االستفادة من الغارات ،أي :اهلجوم واالنسحاب السريع ،سيما يف رتات غيابه عن
أن هذا النوع من القتال سيتيح له احلصول على نتائج هامة.الشام ،ذلك :هل
أوهلا :إقضمق الصليبيني وعدم إعطائهم اجملال إلعادة تنظيم قواهم ،ورسم اخلطط اهلجومية على مواقع املسلمني يف
املنطقة ،ومن مث متكني هؤالء من الد اع عن مراكزهم ،واالحتفاظ هبا.
واثنيها :إضعاف قوى العدو العسكرية ،واالقتصادية ،مبا حتدثه ـ هذه احلروب ـ من قت ،وأسر ،وهنب ،وختريب.
واثلث تلك النتائج :قطع االتصال بني املراكز الصليبية مشايل الشام ،وعدم إعطائهم الفرصة للتجمع وتوجيه ضربة
ضد املسلمني(.)1موحدة هل
ومهد لذلك بتوثيق عضمقاته بقادهتم ، وقد اعتمد عماد الدين زنكي يف هذا النوع من القتال على حماريب الرتكمان ،هل
وإسناد كربى املناصب احلربية إليهم ،وقد عم زنكي على تو ري القيادة احلاذقة من الرتكمان :إيتكني ،وجلهلة الرتكي ،
والياروق وغريهم ،واحملاربني الشجعان ،للقيام بشن ما يطلق عليه اليوم حروب املقاومة والعصاابت ،وجع من حلب
الرها الصليبيتني
مركزاً هلم نظراً ألمهية موقعها ابلنسبة للحصون الصليبية واإلسضممية على السواء ،هي تتوسط أنطاكية ،و ُّ
،وتسيطر على خطوط املواصضمت بينهما ،كما أهنا تُ َـع ُّـد خري قاعدة عسكرية لتوجيه اهلجمات السريعة ضد مواقع
وحتركات الصليبيني ،وقوا إمدادهم ومتوينهم.
ضد جيوش األعداء ومعسكراهتم ،وقوا لهم ،ومراكز وقد قامت هذه اجلماعات من الرتكمان بشن غارات عديدة هل
جتمعهم ،ومل خت سنة من سين الصراع وحروب العصاابت كان يقوم هبا هؤالء الرتكمان ،ويلحقون ـ بفَلها ـ خسائر
خمتلفة يف صفوف أعدائهم.
في رجب من عام 524هـ على سبي املثال جهز زنكي قوة عسكرية أغارت على عزاز الصليبية ،وعاثت يف بضمد
الرها( ،)2ويف العام التايل حدث اشتباك بني سوار ،وجوسلني مشايل حلب ،أسفر عن انتصار الصليبيني جوسلني أمري ُّ
،ومقت عدد من املسلمني ،مما د ع سوار إىل القيام هبجوم على ربض األاثرب ،واالستيضمء على مقادير من أمواهلم
وحماصيلهم ،مث ما لبث بعد عام واحد 526هـ أن أوقع بصليبيي ت ابشر ،وقت منهم خلقاً كثرياً(.)3
ومل يتوقف سوار وجنده الرتكمان عن شن الغارات ضد الصليبيني كلما أتيحت الفرصة لذلك ،وشهد صفر من عام
527هـ عدة اشتباكات بني الطر ني ،وقع أحدها ابلقرب من قنسرين إثر قيام بلدوين بيت املقدس مبحاولة للهجوم
على أطراف حلب ،حيث تصدهلى له سوار ،ومجاعة من جنده ،وأسفر القتال عن هزمية املسلمني وانسحاهبم إىل
حلب ،إال أن قائدهم الشجاع ما لبث أن خرج هبم اثنية ،ووقع على طائفة منهم ،أوقع هبم وأكثر القت واألسر ،
واهنزم من سلم منهم إىل بضمدهم ،وعاد إىل حلب حامضمً معه رؤوس القتلى ،واألسرى وكان يوماً مشهوداً(.)4
130
الرها مبحاولة جديدة لإلغارة على أعمال حلب ،خرج إليهم سوار يصحبه ومل متض سوى أايم قضمئ حىت قام صليبيو ُّ
غرٍة ،ومتكن من إابدة عدد كبري منهم ،وأسر الباقني ،مث األمري حسان البعلبكي أمري منبج ،وأوقع هبم على حني هل
قف عائداً إىل حلب دون أن يصاب أحد من جنده أبذى(.)1
ويف مجادى االخرة من نفس العام قام سوار على رأس قوة من الفرسان ابإلغارة على ت ابشر ،تصدى له صليبيو
ذلك املوقع ،إال أنه متكن من هزميتهم ،وحصد رؤوس ألف رج ،محلها معه إىل حلب(.)2
ويف ربيع األول من العام التايل سار صاحب موقع القدموس الصلييب إىل قنسرين على رأس قوة من رسان أنطاكية ،
لقيهم عسكر حلب بقيادة سوار ،وأسفر القتال عن انتصار الصليبيني ،واضطر قائد زنكي إىل مصاحلتهم ،إال أنه
سر الناسما لبث أن ابغت إحدى سراايهم هبجوم سريع ،ومتكن من قت معظم أ رادها ،مث قف عائداً إىل حلب ،هل
بذلك بعد مأساهتم.
الرها على أطراف حلب الشمالية يف طريقهم إىل إحدى املعسكرات ومل ميض سوى وقت قصري حىت أغار رسان ُّ
الصليبية ،أوقع هبم سوار وحليفه أمري منبج ،وأابد عدداً كبري منهم ،بينما وقع معظم الباقني يف األسر(.)3
مث ما لبث سوار أن قام ـ يف نفس العام ـ بغارة واسعة على املواقع الصليبية يف منطقة (اجلزر( ،)4وزردان) ،وأوقع أبعدائه
عند حارم ،مث عاد إىل حلب حممضمً ابلغنائم واألسضمب(.)5
وأخذ نطاق الغارات واهلجمات املفاجئة يتسع شيئاً شيئاً ،وشهد رجب من عام 530هـ حماولة واسعة قام هبا سوار؛
إذ سار على رأس ثضمثة آالف ارس من الرتكمان و اجأ بضمد الضمذقية وأعماهلا هبجوم مباغت مل يكن الصليبيون حيسبون
أي حساب ،ومتكن بذلك من أسر سبعة آالف أسري ،واحلصول على مقادير كبرية من الغنائم ،واجتياح عشرات له هل
من القرى ،واملزارع الصليبية مأل املسلمون أيديهم منها ابألسرى والغنائم ،وقد استبشر مسلمو املنطقة أميا استبشار
هلذا النصر الكبري الذي أحرزه سوار ،والذي كان ابلنسبة لصليبيي الشمال نكبةً مل يُ ْـمنَـ ْوا مبثلها(.)6
والواقع أن ما شاهدته أنطاكية خضمل عامي 529هـ 530هـ من نت داخلية بسبب النزاع على احلكم أسهم إىل حد
كبري يف عجز هذه اإلمارة عن الد اع عن نفسها إزاء هجمات املسلمني( ،)7األمر الذي د ع قائدهم إىل استغضمل
الفرصة وحتقيق نصر كبري ضد صليبيي الشمال.
ويف أواخر العام التايل قام سوار هبجوم مباغت ضد سرية بيزنطية كبرية العدد ،كانت تتقدم شرقاً ،ومتكن من قت وأسر
عدد من أ رادها ،مث قف عائداً إىل مقره يف حلب( .)8ومل متض سوى أشهر معدودات على هذا اهلجوم حىت قام
131
الصليبيون ،والبيزنطيون إبرسال قوات مشرتكة الحتضمل قلعة األاثرب القريبة من حلب ،وبعد أن حققت هذه القوات
هد ها ،وأوك إليها حراسة أسرى املسلمني الذين مجعوا يف هذا املوقع .إال أن سواراً ما لبث أن خرج على رأس قواته
وهاجم احلامية الصليبية ،والبيزنطية ،ومتكن من استخضمص معظم أسرى املسلمني من أيديهم ،وعاد هبم إىل حلب
اليت عمها السرور ،وسادهتا األ راح هلذا النصر الذي حققه أمريها(.)1
ويف عام 533هـ هاجم سوار عدداً من املواقع الصليبية واستوىل على بعض الغنائم ،إال أن رسان الصليبيني متكنوا من
اللحاق به ،وإنزال هزمية بقواته أسفرت عن أسر ما يزيد عن ألف ارس منهم ،وانسحب هو إىل حلب مبن سلم من
جنده(.)2
استمرت املناوشات بني الطر ني طيلة السنني التالية ،وأصاهبا بعض الفتور خضمل عامي 534هـ 535هـ .إثر ش و هل
زنكي يف االستيضمء على دمشق ،وحتالف الصليبيون ،والدمشقيون ضده إال أن هذه املناوشات ما لبث أن استعرت
من جديد يف عام 536هـ والسنني اليت تلته ،في األشهر األوىل من هذا العام قام الصليبيون هبجوم سريع ضد بعض
املواقع اإلسضممية غريب حلب ،ولدى تفرقهم أرس سوار قوة من الرتكمان بقيادة ابنه علم الدين ،أغارت على املواقع
الصليبية ،وتوغلت إىل أسوار أنطاكية ،مث عادت حتم معها كثرياً من الغنائم واألسضمب(.)3
وبعد رتة قصرية أغار جلة الرتكي على بعض املناطق الصليبية يف الشمال ،ساق وسَّب وقت ،وذكر :أن عدد القتلى
بلغ سبعمئة رج ( .)4ويف رمَان من العام نفسه هاجم سوار معسكراً صليبياً عند جسر احلديد ،إىل الشمال الشرقي
من أنطاكية ،بعد أن اجتاز بقواته هنر العاصي صوب جتمعات العدو ،ومتكن من قت معظم أ راد املعسكر ،وأسر
الباقني(.)5
وما لبث أمري أنطاكية أن خرج ـ يف العام التايل ـ لإلغارة على وادي بزاعة القريب من حلب ،تصدى له سوار ،وأجربه
على االنسحاب ،ومتكن جوسلني من اغتنام الفرصة قام هبجوم على جتمعات املسلمني عند ضفاف الفرات ،ومتكن
من أسر تسعمئة رج منهم ،مث ارأتى الطر ان عقد هدنة بينهما مل يكن ألمري أنطاكية نصيب يها( ،)6وهكذا ظ
القتال مستمراً بني هذه اإلمارة وقوات حلب ،وعندما خرجت طائفة كبرية من جتار أنطاكية يف مجادى األوىل من عام
538هـ حترسها قوة من الفرسان يف طريقها إىل بعض البضمد الصليبية اجملاورة ومعها مال كثري وأموال ومتاع؛ ابغتها
املسلمون ،وأوقعوا هبا ،ومتكنوا من إابدة كا ة أ راد القوة اليت خرجت حلمايتها ،وغنموا ما كانت حتمله من بَائع
132
قيمة( .)1ويف أواخر ذي القعدة من العام نفسه هامجت جمموعة من رسان حلب قوة من الفرسان الصليبيني اخلارجني
من ابسوطا ،وأابدوهم ،وأسروا صاحب ابسوطا؛ حيث اعتقله سوار يف حلب(.)2
عاشراً :حصيلة الدور السياسي العسكري الذي لعبه عماد الدين على مسرح التاريخ اإلسالمي:
ميكن القول أبن عماد الدين زنكي استطاع أن حيقق قسطاً كبرياً من برانجمه ،وأن يكون لنفسه مكانة خاصة يف التاريخ
ٍ
وعسكري متمكن ،ومسلم و ٍاع ،أدرك اخلطر الذي أحاط ابلعامل اإلسضممي من قب الصليبيني كسياسي ابرع،
ٍ اإلسضممي
،قد استطاع أن يوجه الظروف التارخيية القائمة لصاحل املسلمني ،وذلك بتجميعه القوى اإلسضممية بعد القَاء على
عوام التجزئة واالنقسام وتوحيد املدن واإلمارات املنفصلة يف نطاق دولة واحدة ،استطاع مبقدرته أن يستغ أقصى ما
ميكن أن تقدمه من إمكاانت يف سبي حتقيق برانجمه املزدوج؛ أي :تشكي اجلبهة اإلسضممية ،وضرب الصليبيني.
وقد اتَح لنا م ن خضمل استعراض عضمقة عماد الدين زنكي ابلقوى اإلسضممية كإمارات املدن ،واإلمارات احمللية يف
اجلزيرة والشام ،والقبائ الكردية ،والرتكمانية مدى قدرته السياسية وبراعة خططه العسكرية خضمل عضمقاته السلمية
واحلربية مع هذه القوى املنبثة يف املنطقة ،هو من الناحية الرمسية كان قد تسلم من السلطان السلجوقي «حممود بن
حممد بن ملكشاه» عام 522هـ منشوراً يقر سلطته الشرعية على املوص ،واجلزيرة ،والشام ،وقد أتكد هذا املنشور
خضمل األعوام التالية .إال أنه مل يكن كا ياً لتثبيت سلطته الفعلية يف هذه الفرتة اليت استطاع يها عدد كبري من األمراء
أن يفرضوا سلطتهم على عدد ال حيصى من املدن واألقاليم مستقلني إىل حد كبري عن السلطة السلجوقية ،ومستفيدين
من جمموعة من العوام الشخصية ،والسياسية ،واجلغرا ية ،واالقتصادية ،والبشرية ،كان ال بُ هلـد لزنكي إذاً من
إخَاع هذه العدد الكبري من السلطات املتمركزة يف املنطقة ،ومن اختيار أسلوب اهلجوم ُمنذ البداية ابلرغم مما حييق
هبذا األسلوب من أخطار:
أوهلا :احتمال تشكي حلف د اعي مَاد من األمراء العاديني ،وقد يتحول هذا احللف يما بعد إىل حلف هجومي،
كما حدث ابلنسبة لألراتقة.
واثين تلك األخطار :عدم وجود خط رجعة يف حالة انكساره ،أو انسحابه أمام األمراء احملليني الذين كانوا حييطون به
إحاطة السوار ابملعصم.
إال أنه مل أيبه هلذه األخطار ،وراح يهاجم األمراء احملليني ُمنذ البداية ،د عه إىل ذلك طموحه وشجاعته الشخصية ،
واطمئنانه إىل قاعدة شعبية حتبه وختلص له وملواقفه السابقة جتاه الصليبيني قب أن يتوىل احلكم يف املوص ،كما ساعده
على ذلك منشور السلطان ،آنف الذكر بتسلم املوص ،واجلزيرة ،والشام ،وما كان يتَمنه من اعرتاف حبرية زنكي
يف االشتباك مع التشكيضمت السياسية احمللية واكتساحها ،والتوص أبية وسيلة يراها مناسبة لتحقيق هذا اهلدف(.)3
لكن األهم من ذلك كله ما متتع به زنكي من مقدرة سياسية ،وعسكرية ،وما متيز به من نظر بعيد؛ ذلك :أنه عرف
ـ ُمنذ البدء ـ أنه إذا ما سلك سبي املساملة والتودد جتاه األمراء احملليني؛ إن حصوهنم ومدهنم وإماراهتم ستظ تشك
133
عوام خط ر ضد إمارته لقرهبا منها ،والسرتاتيجية مواقعها؛ إذ تشك نقاط تسلط مرتفعة ،احندارها ابجتاه املوص ،
وخطوطها اخللفية سضمس جبلية ،وأهنار متشابكة ،وحصون منيعة.
كما أن السياسة االنعزالية اليت اتبعها أولئك األمراء جتاه اخلطر الصلييب املتقدم حنو الشرق ،وما تبع ذلك من تشتيت
إلمكاانت املسلمني البشرية والعسكرية واالقتصادية أدت إىل عجز هذه اإلمارات عن الوقوف بوجه هذا اخلطر الصلييب
الزاحف ،هذا يف الوقت الذي كان على زنكي يه أن يعم على إزالة العقبات اليت تقف أمام توحيد اإلمارات املتفرقة
ف الزحف الصلييب ،ومن مث تبدأ ابهلجوم املنظم على قواعد ٍ ٍ ٍ
،املبعثرة ،يف جبهة إسضممية موحدة تستطيع أن تُـ ْوق َ
الصليبيني.
هذه العوام اليت د عت زنكي إىل اتباع سياسة اهلجوم ،واليت ختللتها أحياانً عضمقات سلمية ومعاهدات استدعتها
مير يه ،ويف نفس الوقت عم زنكي على أتمني حدود إمارته ابجتاه الشرق ،والشمال طبيعة الظرف الذي كان ُّ
الشرقي؛ حيث يشك األكراد والرتكمان يف هذه املناطق عناصر خطر ابلغة ضد إمارته ،ال سيما عند أتزم عضمقاته
ابإلمارات الغربية ،أو عند توغله بعيداً عن مقره يف املوص (.)1
ومن مث تبدو لنا واضحة أمهية الدور الذي لعبه زنكي يف التاريخ اإلسضممي؛ إذ يعترب أول قائد قام بتجميع القوى
اإلسضممية و ق برانمج معني ليجابه هبا تزايد اخلطر الصلييب؛ الذي مل توقفه احملاوالت اجلدية اليت سبقت زنكي ،وخباصة
تلك اليت متت على يد ك من مودود بن التونتكني 502ـ 507هـ وإيلغازي ،وبلك األرتقيني 512ـ 518هـ وآق
سنقر الربسقي 518ـ 520هـ(.)2
ومن املرجح :أنه لو متكن زنكي من تح دمشق ،وإجناز حماولته لتوحيد الشام ،ولو مل يقت ـ وهو يف قمة انتصاراته
ضد الصليبيني ـ لكان قد استطاع أن يستكم األجزاء املتبقية من برانجمه ،ولتكاملت أمام الباحث احلديث الصورة هل
الواضحة للدور الذي قام به يف التاريخ اإلسضممي ،وهو دور اص تتَح خطورته إذا عر نا :أن نور الدين حممود ،
ومن بعده صضمح الدين مل تكن جهودمها سوى إمتام العم ،الذي بدأه عماد الدين زنكي ،ويف نفس الطريق(.)3
احلادي عشر :األايم األخرية من حياة عماد الدين زنكي:
1ـ هتنئة عماد الدين ابلشفاء من مرض عرض له :يف عام 540هـ أنشد ابن منري ابلرقة يف عماد الدين زنكي قصيدة
يهنئه ابلعا ية من مرض عرض له يف يده ،ورجله قال يها:
وال يَـ ـ ـ ـ ـر ( ) 5ممش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرق ـ ـ ـ ــك اإلشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراق ـدر ال أَْـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ وال ُحمَـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ
() 4
اق اي ب ـ ـ ـ ـ ـ ُ
134
يـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـت ـ ـ ـ ــز ـ ـ ـ ــرعٌ مل يـُ ـ ـ ـ ـقـ ـ ـ ـ ـم ـ ـ ـ ــه س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاق ابل ـ ــدين وال ـ ــدُّني ـ ــا ال ـ ــذي تش ـ ـ ـ ـ ـ ــكو هول
ـ ـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـ ـ ـه ـ ـ ـ ـ ــا إذا ال ـ ـ ـ ـ ـ ـت ـ ـ ـ ـ ــاث ـ ـ ـ ـ ــت األع ـ ـ ـ ـ ـ ـراق َ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب وجي ــري م ـ ـ ــاؤه ـ ـ ــا
ل ــن تُ ـورق ال ـ ُق ْ
لـ ـ ـ ـ ـلـ ـ ـ ـ ـخـ ـ ـ ـ ـط ـ ـ ـ ــب ع ـ ـ ـ ــن طُـ ـ ـ ـ ـ ُروق ـ ـ ـ ــه إطـ ـ ـ ـ ـراق إن ال ـ هلـرع ـ ـ ــااي م ـ ـ ــا سـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـل ـ ـم ـ ـ ــت يف مح ـ ًـى
داق
تـ ـ ـ ـ ـ ـرت ـ ـ ـ ـ ــع يف ح ـ ـ ـ ـ ــديـ ـ ـ ـ ـ ـقـ ـ ـ ـ ـ ـه ـ ـ ـ ـ ــا احلـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ غ ـ ـ ــرس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــت ابلـ ـ ـ ـع ـ ـ ــدل هل ـ ـ ــم مخ ـ ـ ــائـ ـ ـ ـضمً
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـع ـ ـ ـ ـ ـ ــاد ال بـ ـ ـ ـ ـ ـ ـغ ـ ـ ـ ـ ـ ــت وال إره ـ ـ ـ ـ ـ ــاق اي هَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ــة ال ـ ـ ــدي ـ ــن ال ـ ــيت ع ـ ـ ــاذ هب ـ ـ ــا
أصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ـ ــح ال ش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــام وال ع ـ ـ ـ ـ ـ ـراق لـ ـ ـ ـ ــو مل َحتُ ـ ـ ـ ـ ـطْ ـ ـ ـ ـ ـه راح ـ ـ ـ ـ ـضمً وقـ ـ ـ ـ ــا ـ ـ ـ ـ ـضمً
ـضمق
ملهلـ ـ ـ ـ ـ ـا ن ـ ـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ـ ـ ــا جب ـ ـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ـ ـ ــك اإلق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ يَ ـ ـ ـف ـ ـ ــدي ـ ـ ــك م ـ ـ ــن الن م ـ ـ ـه ـ ـ ــاد ج ـ ـ ـن ـ ـ ـب ـ ـ ــه
() 3
ـاق
ال ـ ـ ـ ـع ـ ـ ـ ـ ْذب وم ـ ـ ـ ــاء ع ـ ـ ـ ــيشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه ُزع ـ ـ ـ ـ ُ من ب َش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـبَـ ـا س ـ ـ ـ ـ ـ ــيف ــك( )1أنبط ــت( )2ل ــه
) (4
حب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــده لـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــزه ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدرايق جت ـ ـ ـ ـ ـ هلـرع ال ُّس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلم ول ـ ـ ـ ـ ــو مل حت ـ ـ ـ ـ ـم ـ ـ ـ ـ ــه
عـ ـ ـ ــزمـ ـ ـ ــك هـ ـ ـ ــذا ال ـ ـ ـ ـضمهلحـ ـ ـ ــق ال هلس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـبهل ـ ـ ـ ـ ُ
اق م ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ــوك أط ـ ـ ـ ـراف مح ـ ـ ـ ــى أط ـ ـ ـ ـرا ـ ـ ـ ـه ـ ـ ـ ــا
() 5
سـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاغـ ـ ـ ـ ــت أب ـ ـ ـ ـ ـواه ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ــم األرايق ل ـ ـ ــو مل ت ـ ـ ــرق م ـ ـ ــاءَ ك ـ ـ ــرى الـ ـ ـ ـع ـ ـ ــني مل ـ ـ ــا
ـاد ُهـ ـ ـ ـ ـ ـ ُم الش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـق ـ ـ ـ ـ ــاق
وشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلـق أكـ ـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ـ ـ َ ـت م ـ ــن دوهن ـ ــم م ـ ــوج ال ـ ـ هلـردى ش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـقـ ـ ـق ـ ـ ـ َ
حـ ـ ـ ـ ـ ــديـ ـ ـ ـ ـ ــث أايمـ ـ ـ ـ ـ ــك مـ ـ ـ ـ ـ ــا أطـ ـ ـ ـ ـ ــاق ـ ـ ـ ـ ـ ـوا أقس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم ل ــو كـ ـلهلـ ـفـ ـتـ ـه ــم أن يس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـمـ ـعـ ـوا
135
س لـ ـ ـ ـ ــل هلس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ـ ــع واس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرتاق
تـ ـ ـ ـ ــو ُّج ـ ـ ـ ـ ـ ٌ دب يف أه ـ ـوائ ـ ـه ـ ــم ملهلـ ـ ـا اش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت ـ ـك ـ ـي ـ ـ ــت هل
قص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراً وال ج ـ ـ ـ ــانـ ـ ـ ـ ـبـ ـ ـ ـ ـه ـ ـ ـ ــا اإلخـ ـ ـ ـ ـف ـ ـ ـ ــاق تـ ـ ـ ـ ـط ـ ـ ـ ــاولـ ـ ـ ـ ـوا ال ع ـ ـ ـ ــدم ـ ـ ـ ــت ام ـ ـ ـ ــا ُهل ـ ـ ـ ـ ـم
() 1
صـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـف ــو م ــن مشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرهب ــم َغ هلس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاق
وال هل تـ ـ ـ ــوهلمهُـ ـ ـ ـوهـ ـ ـ ــا َغ َس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـق ـ ـ ـ ـاً مث اجن ـ ـ ـ ـلـ ـ ـ ــت
َخـ ـ ـ ـ ُّد ال ُّسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ـ ـ ــا
لـ ـ ـ ـنـ ـ ـ ـعـ ـ ـ ـلـ ـ ـ ـه ـ ـ ــا طـ ـ ـ ـراق () 2 ل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـئ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــن أملهل أمل ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ
ـدم ٌ
جت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــري هب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا االج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــال واألرزاق أو ك ـ ـ ـ ـ ـ ــان م ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلـد يَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َدهُ إىل ي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍـد
ح ـ ـ ـ ـ ـ ُّـد حس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــام وسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ـ ــا رقـ ـ ـ ـ ـ ـراق ص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َدأً وحت ـ ـت ـ ـ ــه
ص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ يُـ ـ ْع ـ ـلَـ ـى َـ ـ ــال ـ ـنهل ْ
زوراء ْأوىف ( ) 3نـ ـ ـ ـ ـ ــزع ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ــا اإلغ ـ ـ ـ ـ ـ ـراق الرأي عن ـب بص ـ ـ ـ ـ ـ ــلي ـ ــب هل ص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـلي ـ ـ َ
رمى ال هل
() 4
والـ ـ ـ ـ ـعـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ــش يف ـ ـ ـ ــرجن ـ ـ ـ ـ ٍـة س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ــاق ون ـ ــوم م ـ ـ ْـن خ ـ ـل ـ ــف اخل ـ ـل ـ ـي ـ ــج َس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َه ـ ـٌر
إزه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاق زأره مه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوس خ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوف ـس وال إش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــارة م ـ ـ ـ ــاتـ ـ ـ ـ ـوا ـ ـ ـ ــضم مه ـ ـ ـ ـ ٌ
() 6
جـ ـ ـ ـ ـ هلـدتَـ ـ ـ ـ ـك اإلخـ ـ ـ ـ ــضمق () 5
وال َع ـ ـ ـ ـ ـَرا ت من ــك اللهلي ــايل م ــا كسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــت ال َس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـلَبَـ ـ ْ
2ـ مقتله541 :هـ :جتمع املصادر على أن زنكي اغتي ليلة اخلامس من ربيع االخر عام 541هـ خضمل حصاره لقلعة
املقربني ،الذين كانوا يقومون على حراسته أثناء جعرب ،عندما انقض عليه ـ وهو انئم ـ غضمم أو عدة غلمان من مماليكه هل
نومه ،وإهنم هربوا ـ بعد قتله ـ إىل القلعة ،واندوا أصحاهبا حبقيقة األمر ،فتحوا هلم األبواب ،وإنه ما إن انتشر نبأ
االغتيال يف معسكره حىت اضطرب ،وتشتت ،وسادته الفوضى ،لم َير قادته بُداً من ك احلصار والهلرحي ( ، )7قال
ابن األثري..« :ختم هللا ابلشهادة يف أعماله».
هل
أن احلمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـام َسيُـْتـلَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى حبمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـام الق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى احلمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـام ولـ ـ ـ ـ ـ ـم أك ـ ـ ـن ُمستَيقن ـ ـ ـ ـ ـاً
أي انصر لإلميان رح أي جنم لإلسضمم أ ،و ُّ أضحى وقد خانه األم وأدركه األج ،وختلهلى عنه العبيد واخلول ُّ ،
رس ،كم س ،ومل يـُْنجه قُـلهلةُ( )8حص ٍن ،وال صهوةُ ٍ أي بدر مكارم غرب ،وأ ُّ ٍ
ي أسد اُْ ُرت َ أي حبر ندى نَب ،و ُّ ،و ُّ
أجهد نفسه لتمهيد امللك وسياسته ،وكم هلأدهبا( )9يف حفظه وحراسته.
أاته مبيد األمم ،ومقسيها يف احلَ َدث والقدم ،أصاره بعد القهر للخضمئق مقهوراً ،وبعد وثري املَاجع يف الرتاب
ت صحيفةُ عمله ،هو موثوق يف صورة مستسلم(.)10 ٍ
معفراً مقبوراً ،رهني َج َدث ال ينفعه إال ما قَدهلم ،قد طُويَ ْ
136
وقد اختلفت املصادر يف تفاصي عملية القت ،وهوية القات ،وسبب القت ،من حيث تفاصي عملية القت ؛ يشري
أن عماد الدين زنكي إذا انم ينام حول سريره عدد من خدمه ،يشقون عليه يف حاليت يقظته، العماد األصفهاين إىل هل
ومنامه ،ويذودون عنه ذود اآلساد يف مضممحه ،ويزورونه زور اخليال يف أحضممه ،وهو حيبُّهم أعمق احلب ،ولكنه مع
الو اء منهم جيفو هم أبناء الفحول القروم من الرتك ،واألرمن ،والروم ،وكان من دأبه أنه إذا نقم على كبري؛ أرداه،
وأقصاه ،واستبقى ولده وخصاه.
هم على أهنم من ذوي االختصاص ينتهزون يه رصة االقتصاص ،نام تلك الليلة وحوله مماليكه ،انتبه وهم قد
أسر ذلك يف
شرعوا يف اللعب ،وأخذوا يف الطرب ،زجرهم ،وتوعدهم وهم ساكتون ،لكن كبريهم املدعو «يرنقش» هل
نفسه ،وراح ينتظر الفرصة لألخذ بثأره ،وما إن عاد سيده إىل النوم اثنية حىت أسرع إليه ،وبرك عليه ،وذحبه ،
يشك أحد يه ابعتباره كبري حراس زنكي ،واستطاع ـ بعد ذلك ـ أن يتسل من املعسكر إىل أسوار جعرب ،دون أن هل
وهناك أخرب أه القلعة وحراسها مبا أقدم عليه ،وأراهم األدلة ،والعضممات( ، )1أسرعوا إبشاعة اخلرب يف داخ القلعة
،وبني صفوف قواته؛ كي يشيعوا االضطراب يها ،وجيربوها على االنسحاب ،وقد جنحوا يف ذلك(.)2
ويتفق ك ٌّ من ابن القضمنسي ،وسبط ابن اجلوزي ،مع العماد األصفهاين يف هذه الرواية مع اختصار وحذف بعض
التفاصي (.)3
أن زنكي هتدد يرنقش خضمل النهار ،خاف األخري منه ،وأسرع ابغتياله ليضمً( .)4وأما منوأما ابن العدمي إنه يذكر :هل
حيث هوية القات ؛ يشري ك ٌّ من ابن القضمنسي ،ورنسيمان ،وأليسييف إىل أن القات كان من أص إ رجني.
أما حسن حبشي يقول« :ولع القات كان ابطنياً»( .)5ومن حيث سبب القت يبدو أن صاحب قلعة َج ْع َرب هو
حرض على قتله كي يتخلص من احلصار ،وأنه كان على صلة ابلقات ،بدلي ما أورده ابن العدمي من أن حساانً الذي هل
البعلبكي صاحب منبج تقدم إىل أسوار القلعة ،واندى على ابن مالك ،وقال له« :اي أمري علي! أيش بقى خيلصك
من أاتبك؟».
قال له« :اي عاق ! خيلصين الذي خلهلصك من حبس بلك» .يعين حني قُت بلك على منبج ،وخلص حسان ،
()6
يَاف إىل ذلك أن يرنقش التجأ إىل القلعة بعد حادثة االغتيال ،والراجح أن يرنقش نفهلذ عملية االغتيال مد وعاً
لثضمثة عوام :شخصية ،ونفسية ،وسياسية(.)7
أما العام الشخصي :يتمثهل بتهديد عماد الدين زنكي له ،وخشيته عاقبة هذا التهديد ،أسرع ابغتيال سيده د اعاً
عن نفسه.
137
ويتجلى أتثري العام النفسي يف انزعاج يرنقش من معاملة عماد الدين زنكي القاسية له ،وزجره إايه ،مث شعوره العميق
مبا أصابه من ظلم( ، )1ولعب إحساسه مبرارة اإلهانة دوره ،اند ع حلماية كرامته ،وذبح سيده ،ويصور األصفهاين
حركات يرنقش أثناء االغتيال ابلشك الذي يربز أثر االنفعال النفسي يها « :أسرع إىل زنكي ،وبرك عليه وذحبه يف
نومه»(.)2
وأما الدا ع السياسي لضمغتيال :يقوم على وجهني :أوهلما :اتفاق يرنقش ـ سراً ـ مع أصحاب قلعة جعرب الغتيال عدوهم
،وإهناء أزمتهم بعد أن كاد حصنهم يوشك على االستسضمم ،ويدخ ضمن هذا االحتمال كون يرنقش ذا ميول ابطنية
،ورمبا تسل إىل خدمة زنكي ُمنذ زمن بعيد لتحقيق هد ه هذا ،كعادة الباطنية يف التسرت ،واالنتظار الطوي لتنفيذ
اغتياالهتم ،لكبار الشخصيات السياسية السنية ،اليت كانت تشك خطراً على دعوهتم ،خاصة إذا ما عر نا العطف
،الذي كان يبديه أمراء جعرب جتاه الباطنية .أما اثين االحتماالت السياسية :كون يرنقش ذا أص «إ رجني» .كما
أكد ابن القضمنسي ،وابن واص ،ورنسمان ،وحيتم أن يكون قد أقدم على علته؛ إما ابتفاق سري مع الصليبيني ،
أو بدا ع شخصي مرجت ؛ يعود إىل حرصه على مصاحل قومه ،اليت بدأ زنكي يوجه إليها ضرابت حامسة.
وال نستطيع اجلزم ٍ
أبي من هذه الدوا ع الثضمث الغتيال زنكي ،ذلك أن املصادر ـ كما رأينا ـ مل تعط القول الفص يف
هذا اجملال ،ومن اخلطأ االعتقاد أبن يرنقش ذا األص الفرجني اغتال سيده وهو يف قمة انتصاره على اجلبهتني الصليبية
نفسي حمض ،وال ريب أن وراء هذا االغتيال اخلطري يف هذه املرحلة الصعبة دوا ع شخصي ،أو ٍٍ واإلسضممية بدا ع
سياسية أبعد مد ًى ،وأشد خطورة ،رمبا تعود إىل األص الفرجني للقات ،أو إىل ميوله الباطنية ،ورمبا تعود إىل اتفاقه
سراً مع أمراء قلعة جعرب لقاء ما منهلوه به إذا أمت ختليصهم من عماد الدين زنكي ،الذي غدا قاب قوسني ،أو أدىن من
اجتياح حصنهم.
واجته القات بعد أن اغتال زنكي ،إىل أسوار قلعة جعرب بسكينه امللطخ ابلدم ،وصاح يف احلرس :شيلوين ،قد قتلت
زنكي .لم يصدقوه ،أراهم السكني ،وعضممة أخرى ،كان قد أخذها من سيده ،وعند ذلك أصعدوه إىل القلعة ،
وحتققوا صدق ما كان يقول( .)3وعندما بُشَر صاحب جعرب ابلنبأ؛ مل يصدقه أول األمر ،واوى يرنقش إىل القلعة ،
سر بذلك ،واستبشر مبا أاته من الفرج بعد الشدهلة الشديدة(.)4 وأكرمه ،وعرف حقيقة األمر ،هل
ويشري ابن العدمي إىل رد الفع الذي أحدثه القات يف أه القلعة ،عندما انداهم :إين قتلت زنكي؛ أجابوه :اذهب
إىل لعنة هللا ،قد قتلت املسلمني كلهم بقتله(.)5
138
ومل يقبض القات مثناً خليانته إال املطاردة واخلوف ،ذلك أن حكام جعرب قاموا بطرده بعد وقت قصري من التجائه إليهم
،ومل يكا ئوه على عمله؛ رمبا خو اً من قيام نور الدين حممود زنكي أمري حلب ابالنتقام منهم ألبيه .وأخرياً متهل إلقاء
القبض على القات ،وأرس خمفوراً إىل املوص حيث قت هناك(.)1
وعندما انتشر خرب اغتيال زنكي يف معسكره انقسم إىل قسمني :اجته أحدمها إىل حلب بقيادة نور الدين حممود ،واجته
القسم االخر إىل املوص بقيادة مجال الدين األصفهاين ،حيث قام هو وكبار األمراء بتنصيب سيف الدين غازي أمرياً
على املوص ( .)2ومحلت جثة زنكي إىل الرقهلة حيث د نت هناك ،يف منطقة قبور شهداء صفني(.)3
3ـ ما قي يف مقت عماد الدين زنكي من شعر:
اضطربت األمور بعد مقت عماد الدين ،واختلت املسالك بعد اهليبة املشهورة ،واألمنة املشكورة ،وانطلقت أيدي
الرتكمان ،واحلراميهلة يف اإل ساد يف األطراف والنواحي ،وقال أبو يعلى التميمي يف صفة هذا احلال أبيااتً:
س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـع ـ ـ ــادت ـ ـ ــه عـ ـ ـ ـن ـ ـ ــه وخ ـ ـ ـ هلـرت دع ـ ـ ــائـ ـ ـ ـم ـ ـ ــه ك ـ ـ ــذاك عـم ـ ـ ــاد ال ـ ـ ــديـن زنـكـي تـن ـ ـ ــا ـرت
وأنـ ـ ـ ـ ـ ـواع ديـ ـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ـ ــاج ح ـ ـ ـ ـ ــوهت ـ ـ ـ ـ ــا خم ـ ـ ـ ـ ــامت ـ ـ ـ ـ ــه وكم بي ـ ـ ــت م ـ ـ ــال من نَُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا ٍر وجوهر
حي ـ ـ ــام ـ ـ ــي عـ ـ ـ ـلـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـه ـ ـ ــا جـ ـ ـ ـن ـ ـ ــده وخـ ـ ـ ـوادم ـ ـ ــه وأض ـ ـ ـ ـ ــحت أبعلى ك حص ـ ـ ـ ـ ــن مص ـ ـ ـ ـ ــونةً
ي ـ ـ ـ ــروع األع ـ ـ ـ ــادي َح ـ ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ـ ـيُـ ـ ـ ـ ـه وب ـ ـ ـ ـ ـرامج ـ ـ ـ ــه طهم
ومن صـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا ن ـ ـ ــات اخلي ـ ـ ـ ك ـ ـ ـ ُّ ُم هل
أبق ــضممـ ـه ـ ـ ــا م ـ ـ ــا أدرك ال ــوص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــف انظـ ـم ـ ـ ــه لو رام ــت ال ُكتهلـ ـاب وص ـ ـ ـ ـ ـ ــف ش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ــاهت ــا
وشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــامــخ حص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــن مل ت ـف ـت ـ ـ ــه غ ـن ـ ـ ــائ ـم ـ ـ ــه وك ـ ــم مـ ـ ـعـ ـ ـق ـ ـ ـ ق ـ ـ ــد رام ـ ـ ــه بس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ـ ــو ـ ـ ــه
وق ـ ـ ـ ــد أ هلم ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ـت ـ ـ ـ ـه ـ ـ ـ ــم ُك ـ ـ ـ ـْتـ ـ ـ ـ ـبُ ـ ـ ـ ـه وخ ـ ـ ـ ـوامت ـ ـ ـ ــه ودانـ ـ ـ ــت والة األرض ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ــا ألمـ ـ ـ ــره
يُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراع هب ـ ـ ـ ـ ـ ــا أعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراب ـ ـ ـ ـ ـ ــه وأع ـ ـ ـ ـ ـ ــامج ـ ـ ـ ـ ـ ــه وأ هلمـ ـ ـ ـن م ـ ـ ــن يف كـ ـ ـ ـ قـ ـ ـ ـط ـ ـ ــر هبـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـب ـ ـ ــة
ـق ـ ـ ــد زال ع ـن ـه ــم ظُ ـ ْل ـ ُم ـ ـ ـه وخصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــائ ـم ـ ـ ــه وظـ ـ ـ ــامل قـ ـ ـ ــوم حـ ـ ـ ــني يُـ ـ ـ ـذكـ ـ ـ ــر َع ـ ـ ـ ـ ْدلُـ ـ ـ ـه
ول ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ــس لـ ـ ـ ــه ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ــا ن ـ ـ ـ ـظـ ـ ـ ــري ي ـ ـ ـ ـزامحـ ـ ـ ــه وأص ـ ـ ـ ـ ـ ــبح س ـ ـ ـ ـ ـ ــلط ـ ـ ــان البضمد بس ـ ـ ـ ـ ـ ــيف ـ ـ ــه
ومل ي ـ ـ ـب ـ ـ ــق يف األم ـ ـ ــضمك م ـ ـ ـل ـ ـ ــك ي ـ ـ ـق ـ ـ ــاوم ـ ـ ــه وزاد عـلــى األمــضمك أبس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً وسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـطــوة
وراعـ ـ ـ ـ ـت ُوال َة األرض مـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ــه لـ ـ ـ ـ ـوائـ ـ ـ ـ ـم ـ ـ ـ ــه ـ ـ ـل ـ ـ ـم ـ ـ ــا ت ـ ـ ـن ـ ـ ــاهـ ـ ــى م ـ ـ ـل ـ ـ ـك ـ ـ ــه وجـ ـ ــضمل ـ ـ ــه
ـ ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ــم تُـ ـ ـ ـ ـْنـ ـ ـ ـ ـجـ ـ ـ ـ ـه أمـ ـ ـ ـ ـوال ـ ـ ـ ــه ومـ ـ ـ ـ ـغ ـ ـ ـ ــامن ـ ـ ـ ــه أاته قَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاء ال تُـ ـ ـ ـ ُّرد س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ــامـ ـ ـ ــه
وح ـ ـ ــام ـ ـ ــت عـ ـ ـ ـلـ ـ ـ ـي ـ ـ ــه ابملـ ـ ـ ـن ـ ـ ــون حـ ـ ـ ـوائـ ـ ـ ـم ـ ـ ــه وأدرك ـ ـ ــه ل ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ـح ـ ـ ــني ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـه ـ ـ ــا مح ـ ـ ـ ـام ـ ـ ــهُ
ـوىل ذحب ـ ـ ــه ـ ـ ـي ـ ـ ــه خ ـ ـ ــادم ـ ـ ــه ص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـري ـ ـ ـع ـ ـ ـاً ت ـ ـ ـ هل وأضـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـحــى ع ـلــى ظ ـهــر ال ـف ـراش ُجم ـ ـ ـ هلدالً
ومـ ـ ـ ــن حـ ـ ـ ــولـ ـ ـ ــه أب ـ ـ ـ ـطـ ـ ـ ــالـ ـ ـ ــه وص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوارُم ـ ـ ـ ـه وق ـ ـ ــد ك ـ ـ ــان يف اجليش اللُّه ـ ـ ــام( )4مبيت ـ ـ ــه
139
تـ ـ ـ ــذود الـ ـ ـ ـ هلـردى ع ـ ـ ـ ـنـ ـ ـ ــه وقـ ـ ـ ــد انم انئ ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ــه ومسُْ ـ ـ ـ ـ ُر ال ـ ـ ـ ـع ـ ـ ـ ـوايل َح ـ ـ ـ ـ ْولَـ ـ ـ ـهُ أب ُك ـ ـ ـ ـف ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ــم
أبس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ـم ـه ـ ـ ــا بـُ ـ ْردى مــن ال ـطــري ح ـ ـ ــائ ـم ـ ـ ــه ومن دون هـ ـ ــذا ُعص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـةٌ قـ ـ ــد ترتهلبـ ـ ــت
ومه ـ ـ ـتُ ـ ـ ـه ت ـ ـ ـع ـ ـ ـلـ ـ ــو وت ـ ـ ـقـ ـ ــوى شـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك ـ ـ ــائ ـ ـ ـم ـ ـ ــه وكـ ـ ـ ــم رام مـ ـ ـ ــن األايم راحـ ـ ـ ــة س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــره
ومس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرح َحـ ـ ـ ـ ٍي أن تـ ـ ـ ـراع س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوائـ ـ ـ ـم ـ ـ ــه وكـ ـ ـ ــم مسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـلـ ـ ـ ـ ٍ
ـك أم ـ ـ ـ ـن ُسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـْبـ ـ ـ ـ ـلَ ـ ـ ـ ـه َْ
مـ ـ ـ ـ ــن الـ ـ ـ ـ ــروم ملـ ـ ـ ـ ــا أدرك ـ ـ ـ ـ ـتـ ـ ـ ـ ــه م ـ ـ ـ ـ ـرامحـ ـ ـ ـ ــه وك ــم ثـ ـغ ــر إس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــضمم مح ـ ـ ــاه بسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـف ـ ـ ــه
وتـ ـ ـ ـنـ ـ ـ ـف ـ ـ ــذ يف أقصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــى الـ ـ ـ ـب ـ ـ ــضمد مـ ـ ـ ـرامسُ ـ ـ ـه ـ ـ ـم ـ ــن ذا ال ـ ـ ــذي أييت هبـ ـ ـيـ ـ ـب ـ ـ ــة مـ ـ ـثـ ـ ـل ـ ـ ــه
أراقـ ـ ـ ـ ـم ـ ـ ـ ــه ذلهلـ ـ ـ ـ ـ ْ
() 1
ت هـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ــاك أراقـ ـ ـ ـ ـ ُمـ ـ ـ ـ ـه ـ ـل ــو ُرقـ ـي ـ ـ ــت يف ك ـ ـ ـ مصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــر ب ـ ـ ــذك ــره
إذا م ـ ـ ـ ـ ــا أاته األم ـ ـ ـ ـ ــر وهللا ح ـ ـ ـ ـ ــامتـُـ ـ ـ ـ ـه من ذا الــذي ينجو من الــدهلهر س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاملـاً
ش واحلـ ـ َم ـ ـ ـ ُام حي ـ ـ ــاوم ـ ـ ــه صـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْفـ ـ ُو َعـ ـْيـ ـ ٍ
ل ـ ـ ــه َ ومن رام ص ـ ـ ـ ـ ـ ــفواً يف احلي ـ ــاة م ـ ــا يرى
ودع ــه ــإن ال ــدهر ال ش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــك ق ــاص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم ــه ـإايك ال ت ـ ـغ ـ ـبـ ــط م ـ ـل ـ ـي ـ ـك ـ ـ ـاً مب ـ ـل ـ ـك ـ ـ ــه
ـ ـ ـ هل
ُروي ـ ـ ــدك م ـ ـ ــا تـ ـ ـ ـب ـ ـ ــين ـ ـ ــده ـ ـ ــرك ه ـ ـ ــادم ـ ـ ــه وق ـ ـ ـ لل ـ ـ ــذي يبين احلص ـ ـ ـ ـ ـ ــون حلفظ ـ ـ ــه
( )2
هب ـ ـ ــا يتن ـ ـ ــاس ـ ـ ـ ـ ـ ــى املرء م ـ ـ ــا هو عـ ـ ــازم ـ ـ ــه ويف م ـ ـ ـ ـث ـ ـ ـ ـ هـ ـ ـ ــذا عـ ـ ـ ــربة وم ـ ـ ـ ـواعـ ـ ـ ــظ
وقال احلكيم أبو احلكم املغريب قصيدة يف راثء عماد الدين جاء يها:
واسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـتـ ـهـ ـلـ ـي دم ـ ـ ـاً عـ ـل ــى ـ ـق ـ ـ ــد زنـ ـك ــي ـني ال ت ـ ـ ــدخ ـ ــري ال ـ ـ ــدم ـ ــوع وبَـ ـ ـكـ ـ ـي
عــ ٌ
ك ـ ـ ــان ـ ـ ــت ل ـ ـ ــه ه ـ ـي ـ ـب ـ ـ ــة ع ـ ـل ــى ك ـ ـ ـ تُـ ـرك ــي الردى بع ــد أن مل يَـ َه ـ ـب ش ـ ـ ـ ـ ـ ــخص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه هل
وع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـظ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـ ـ ــم ب ـ ـ ـ ـ ـ ــني األانم بُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُززك ك ذي ه ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـبـ ـ ـ ــة وهبـ ـ ـ ــاء خـ ـ ـ ــري م ـ ـ ـ ـ ْل ـ ـ ـ ـ ٍ
ُ َ
ميـهلـ ـ ـ ـ َمـ ـ ـ ـ ـه م ـ ـ ـ ــادحـ ـ ـ ـ ـاً بـ ـ ـ ـ ـغ ـ ـ ـ ــري تَـ ـ ـ ـ ـلَـ ـ ـ ـ ـكـ ـ ـ ـ ـي ب امل ـ ـ ـ ـ ــال واجلـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ـ ـاد مل ـ ـ ـ ـ ــن يَـ ـ ـ ـ ـ ـ َهـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ
ه ـ ـ ـ ـ ــي عـ ـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ـ ــدي أح ـ ـ ـ ـ ـ ُّـق دار ب ـ ـ ـ ـ ــرتك إن داراً مت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدُّان ابل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلـرزااي هل
وانَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُح ـ ـ ـ ـوهُ بـ ـ ـ ــزع ـ ـ ـ ـف ـ ـ ـ ـران ومس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــك ـ ـ ــا ْسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُك ـ ـ ـب ـ ـ ـوا ـ ـ ــوق قـ ـ ــربه م ـ ـ ــاء َوْرٍد
أي ـت ـ ـ ــك ب ـع ـ ـ ــد م ـ ـ ــا اسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت ـف ـتــح الـ ُّـره ـ ـ ــا هل ـك ج ـ ـ ــرى ل ـ ـ ــه يف األع ـ ـ ــادي أي ـ ـ ـ ـت ـ ـ ـ ٍ
ُّ
الـ ــدهر يس ـ ـ ـ ـ ـ ــريُ يف جنـ ــب مص ـ ـ ـ ـ ـ ــرع زنكي ب ك ـ ـ ـ ـ خ ـ ـ ـ ـط ـ ـ ـ ــب أت ـ ـ ـ ــت ب ـ ـ ـ ــه نـُ ـ ـ ـ ـ َو ُ
الـ ُّـروم وحيــوي الـبــضمد مــن غــري( )3شـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــك ب ـ ـ ـ ـعـ ـ ـ ــد مـ ـ ـ ــا كـ ـ ـ ــاد أن تـ ـ ـ ــديـ ـ ـ ــن لـ ـ ـ ــه
4ـ وائد متنوعة من البداية والنهاية يف عهد إمارة عماد الدين زنكي:
140
1ـ يف سنة 523هـ قال ابن كثري :يف هذه السنة قت صاحب دمشق من الباطنية ستة االف ،وعلهلق رأس كبريهم على
ابب القلعة ،وأراح هللا أه الشام منهم ،و يها حاصرت الفرنج مدينة دمشق ،خرج إليهم أهلها قاتلوهم قتاالً
شديداً ،وبعث أه دمشق عبد الوهاب الواعظ ومعه مجاعة من التجار إىل بغداد يستغيثون ابخلليفة ،
ومهوا بكسر منرب اجلامع ،حىت وعدوا أبهنم سيكتبون إىل السلطان ليبعث جيشاً كثيفاً نصرة أله الشام لم يبعث
إليهم جيش حىت نصرهم هللا من عنده ،هزمهم املسلمون ،وقتلوا منهم عشرة االف ،ومل يفلت منهم سوى أربعني
نفساً وهلل احلمد واملنة ،وقت بَـْيمنَ ْد الفرجني صاحب أنطاكية(.)1
2ـ ويف أحداث عام 524هـ :يها كانت زلزلة عظيمة ابلعراق ،هتدمت بسببها دور كثرية ببغداد ،ووقع أبرض املوص
ور كثرية من ذلك ،وهتارب الناس .و يها وجد ببغداد عقارب طيارة أتج ُج ،احرتقت ُد ٌ
مطر عظيم ،سقط بعَه انراً هل
هلا شوكتان ،خاف الناس منها خو اً شديداً .و يها ملك عماد الدين زنكي بضمداً كثرية من اجلزيرة ،ومن بضمد الفرنج
،وجرت له معهم حروب طويلة ،وخطوب جليلة ،ونُصر عليهم يف تلك املواقف كلها ،وهلل احلمد واملنة ،وقت خلقاً
من جيش الروم حني قدموا إىل الشام ،ومدحه الشعراء على ذلك(.)2
غزة ،وقد جاوز الثمانني من عمره ، يب هو من أه هل 3ـ ويف عام 524هـ تويف إبراهيم بن عثمان ،أبو إسحاق ال َك ْل ُّ
وله شعر جيد .ومن شعره يف األتراك قوله:
ل ـلـ هلـر ْع ـ ـ ـد َك ـهلرا ُهتُـ ْم صـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواتً وال ص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ـت ـ ـ ــا يف تنـ ـ ــة من جيوش الرتك مـ ـ ــا تركـ ـ ــت
() 3
ُحس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـاً وإ ْن قُوتلُوا ك ـ ــانوا عف ـ ــاريت ـ ــا ق ـ ــوم إذا قُـ ـ ـوب ـ ـ ـل ـ ـ ـوا ك ـ ـ ــان ـ ـ ـوا م ـ ــضمئ ـ ـ ـك ـ ـ ــة
وله أيَاً:
ي مــن يصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـط ـف ـي ـه ـ ـ ــا
وال هلسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـف ـي ـ ـ ــهُ ال ـغَـو ُّ إهلمن ـ ـ ـ ـ ـ ـا هـ ـ ـ ـ ـ ــذه احل ـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ـ ــاةُ م ـ ـ ـ ـ ـ ـتـ ـ ـ ـ ـ ــاعٌ
() 4
ول ـ ـ ــك السـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاع ـ ـ ــة اليت أن ـ ـ ــت يه ـ ـ ــا ب
م ـ ـ ــا مَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــى ـ ـ ــات واملــؤهلم ـ ـ ـ ُ َغ ـْي ـ ـ ـ ٌ
ويف سنة 525هـ تويف أمحد بن حممد ،أبو نصر الطوسي ،مسع احلديث وتفقه ابلشيخ أيب إسحاق الشريازي ،وكان
نور ،قال ابن اجلوزي :أنشدين:
شيخاً لطيفاً عليه ٌ
()5
قصَرت عنك اخلطوب عن ُعذر وإن هل إن نلت خرياً ن ْلتهُ بعزمية
قال :أنشدين أيَاً:
ـت أش ـ ـ ـ ـ ـ ــكو إىل موالي مـ ـ ــا أجـ ـ ــد وقمـ ـ ـ ُ الرجــا والنــاس قــد َرقـ ُـدوا
ـت ثوب هل لبس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ
َ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر أعتم ـ ـ ـ ُـد
ومن علي ـ ـ ــه لكش ـ ـ ـ ـ ـ ــف ال ُّ ـت اي ُع ـ ـ ـ ـدهليت يف ك ـ ـ ـ ـ انئ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ــةوق ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ُ
إلـ ـي ـ ـ ــك اي خ ــري م ــن ُم ـ ـ ـدهلت إلـ ـي ـ ـ ــه ي ـ ـ ـ ُـد َ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـُّر ُمش ـ ـ ـ ـ ـ ــتم ـ ٌ
وقــد مــددت يــدي وال ُّ
141
ـ ـ ـ ــضم تَ ـ ـ ـ ـ ـ ُرهلد هلهن ـ ـ ـ ـ ـا اي َرب خ ـ ـ ـ ــائ ـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ـ ـةً
()1
ـ ـبـ ـح ـ ُـر ُجـ ـودك ي ـ ْـروي ك ـ ـ ـ م ــن يَـ ـرد
5ـ ويف سنة 527هـ اقتت الفرنج يما بينهم قتاالً شديداً ،محق هللا منهم خلقاً كثرياً ،وغزاهم يها أيَاً عماد
الدين زنكي ،قت منهم ألف قتي وغنم أمواالً جزيلة ،ويقال هلا :غزاة أسوار( .)2ويف نفس السنة تويف حممد بن أمحد
بن حيىي ،أبو عبد هللا العثماين الديباجي ،وكان ببغداد يُعرف ابملقدسي ،وتفقه ووعظ الناس ببغداد .قال ابن
اجلوزي :مسعته ينشد يف جملسه قوله:
وب قلب ـ ـ ـاً ص ـ ـ ـ ـ ـ ــحيحـ ـ ــا مل تَ ـ ـ ـ َد ْع يل الـ ـ ــذنُ ُ دع ج ـ ـ ـ ـفـ ـ ـ ــوين َحي ـ ـ ـ ـ ُّق يل أن أَنُـ ـ ـ ـو َح ـ ـ ـ ـا
ْ
ونَـع ـ ـ ــاين املشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ــب نـعـي ـ ـ ـاً صـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيـح ـ ـ ــا ت هب ـجــيت أكــف امل ـع ـ ـ ــاص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي أ ْخ ـلَ ـ َق ـ ـ ـ ْ
ع ـ ـ ــاد قـ ـ ـ ـل ـ ـ ــيب م ـ ـ ــن ال ـ ـ ــذن ـ ـ ــوب َجـ ـ ـ ـرحي ـ ـ ــا ـت ق ـ ـ ــد بَـ ـرا ُج ـ ـر ُح ق ـ ـل ــيب
ك ـ ـل ـ ـم ـ ـ ــا قُـ ـل ـ ـ ـ ُ
( )3
ج ـ ـ ــاء يف احلش ـ ـ ـ ـ ـ ــر امن ـ ـ ـاً ُمس ـ ـ ـ ـ ـ ـ َـرتحي ـ ـ ــا إمن ـ ـ ــا ال ـ ـ ـ ـف ـ ـ ــوز وال ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ـع ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ُـم ل ـ ـ ـ ـع ـ ـ ـ ـب ـ ـ ــد
ويف سنة 533هـ تويف علي بن أ لح الكاتب ،وقد خلع عليه اخلليفة العباسي املسرتشد ،ولقهلبه مجال امللك ،وأعطاه
هن ،واختذ مكاهنن داراً هائلة طوهلا ستون ذراعاً يف عرض أربعني، أربعة دور ،وكانت له دار إىل جانبهن هدمهن كلهل هل
اجهلراً ،وذهباً بناها ،وغرم عليه ابن أ لح ماالً جزيضمً ،وكتب على أبواهبا وطرازاهتا أشعاراً وأطلق له اخلليفة أخشاابً و ُ
حسنة من نظمه ،ونظم غريه كان على الطُُّرز مكتوب(:)4
م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا ع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاش دار ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاخ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرة ومـ ـ ــن املـ ـ ــروءة ل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـفـ ـ ــىت
االخ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرة ل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدار واعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاق ـ ـ ـ ـ ـ ـنـ ـ ـ ـ ـ ــع مـ ـ ـ ـ ـ ــن الـ ـ ـ ـ ـ ــدن ـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ـ ــا هبـ ـ ـ ـ ـ ــا
() 5
وع ـ ـ ـ ـ ــدت وه ـ ـ ـ ـ ــذي س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاح ـ ـ ـ ـ ــرة مبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا وا ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة هـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــك
ويف موضع اخر مكتوب:
أع ـ ـ ــادت ـ ـ ــه م ـ ـ ــن ُح ْسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـنـ ـ ـ ـه ـ ـ ــا َرْونَـ ـ ـ ـ َقـ ـ ـ ـا ـأن جـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـنَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا َن اخلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــود ٍ
واند ك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هل
أن ال تُ ـ ـ ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلم ب ـ ـ ـ ـ ـ ــه م ـ ـ ـ ـ ـ ــوت ـ ـ ـ ـ ـ ـق ـ ـ ـ ـ ـ ــا وأع ـ ـ ـ ـ ـط ـ ـ ـ ـ ـت ـ ـ ـ ــه م ـ ـ ـ ــن ح ـ ـ ـ ــاداثت ال ـ ـ ـ ــزم ـ ـ ـ ــان
بـُ ـ ـ ـ ـين مـ ـ ـ ـ ـ ْغـ ـ ـ ـ ـرابً ك ـ ـ ـ ــان أو مشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرق ـ ـ ـ ــا ـ ـ ــأض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـح ـ ـ ــى يـ ـ ـ ـتـ ـ ـ ـي ـ ـ ــه عـ ـ ـ ـل ـ ـ ــى كـ ـ ـ ـ م ـ ـ ــا
وُمتس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي الَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ــوف ب ـ ـ ــه طُـ ـ ـ ـهلرق ـ ـ ــا ت ـ ـ ـ ـ ـ ـظ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُّ ال ـ ـ ـ ـ ــو ـ ـ ـ ـ ــود ب ـ ـ ـ ـ ــه عُ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلك ـ ـ ـ ـ ـ ـف ـ ـ ـ ـ ـ ـاً
وال ـ ـ ــفَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ مـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـم ـ ـ ــا أردت الـ ـ ـ ـبـ ـ ـ ـق ـ ـ ــا ـت ل ـ ـ ـ ـ ــه اي مج ـ ـ ـ ـ ــال املـ ـ ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ـ ــوك بـ ـ ـ ـ ـ ـقـ ـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـ ـ َ
ووقـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ــت مـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ــه ال ـ ـ ـ ــذي يُـ ـ ـ ـ ـتهل ـ ـ ـ ـ ـ َقـ ـ ـ ـ ـى
ُ وسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاملـ ـ ـ ـ ــه ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ــك ريـ ـ ـ ـ ــب الـ ـ ـ ـ ــزمـ ـ ـ ـ ــان
142
ما صدقت هذه األماين ،ب عما قريب ـ بعد نيلها ـ هلاهتم اخلليفة ابن أ لح أبنه يكاتب ُدبَيساً ،أمر بتخريب هذه
ب اللي
يبق يها جدار ،وصارت خرابة بعد ما كان قد َح ُسن منها املقام والقرار ،وهذه حكمة من يقل ُ الدار ،لم َ
والنهار ،وجتري مبشيئة األقدار(.)1
ويف سنة 535هـ تويف حممد بن الباقي بن حممد بن كعب بن مالك األنصاري ،وكان مشاركاً يف علوم كثرية وقد أُسَر
يف صغره يف أيدي الروم ،أرادوه على أن يتكلم بكلمة الكفر ،لم يفع ،وتعلهلم منهم خط الروم ،وكان يقول« :من
خدم احملابر خدمته املنابر» ومن شعره الذي أورده ابن اجلوزي ومسعه عنه قوله:
س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍـن وم ــال م ــا اس ـ ـ ـ ـ ـ ــتطع ــت وم ــذه ــب اح ـ ـ ـف ـ ـ ـ ْظ لسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــان ـ ـ ــك ال تَـ ـ ـ ـبُـ ـ ـ ْح ب ـ ـ ـثـ ـ ــضمث ـ ـ ــة
مبـُـ ـ ـ ـكـ ـ ـ ـ ـفـ ـ ـ ـ ـ ٍر وحب ـ ـ ـ ــاسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد وُمـ ـ ـ ـ ـك ـ ـ ـ ــذب ـ ـ ـع ـ ـ ـل ـ ـ ــى ال ـ ـ ـث ـ ـ ــضمث ـ ـ ــة تـُ ـ ـ ـْبـ ـ ـ ـتَ ـ ـ ـل ـ ـ ــى ب ـ ـ ـث ـ ـ ــضمث ـ ـ ــة
ومن ذلك قوله:
تـ ـ ــإذا ان ــقَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــت وتصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلـرم ـ ـ ــت م ـ ـ ـ ُّ يل ُم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدهلة ال بُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلد أُب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـغ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ـ ـ ـ ـ ـ ــا
( )2
م ـ ـ ــا ض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلـرين م ـ ـ ــا مل َجي ـ ـ ـي الـ ـ ــوق ـ ـ ــت لـ ـ ـ ــو عـ ـ ـ ــانَـ ـ ـ ـ َدتـ ـ ـ ــين األس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُـد ض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــارب ـ ـ ـ ـ ًة
ومن ذلك قوله:
َ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـْن ـ ـ ـك والَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيق
وللمف ـ ـ ــاليس دار ال هل دار أله ـ ـ ـ ـ ال ـ ـ ـ ـع ـ ـ ـ ـلـ ـ ـ ــم ط ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ـةٌ ـداد ٌ
ب ـ ـ ـ ـغـ ـ ـ ـ ُ
( )3
ـحف يف بيـ ـ ــت زنـ ـ ــديق كـ ـ ــأنين مص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ ظ ـ ـ ـل ـ ـ ـل ـ ـ ــت ح ـ ـ ـريان أمش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي يف أزق ـ ـ ـت ـ ـ ـه ـ ـ ــا
غري حواسه ،وال عقله ،وكانت و اته اثين رجب من هذه السنة
العمر ثضماثً وتسعني سنة مل تتَ هل
قال ابن اجلوزي :بلغ من ُ
،وحَر جنازته األعيان ،والناس ،ود ن قريباً من قرب بشر(.)4
143
الفصل الثاين
هو نور الدين زنكي ،صاحب ال شام ،امللك العادل ،انصر أمري املؤمنني ،تقي امللوك ،ليث اإلسضمم ،أبو القاسم
حممود بن األاتبك قسيم الدولة أيب سعيد ـ عماد الدين ـ زنكي بن األمري الكبري آق سنقر الرتكي ،السلطاين امللكشاهي.
144
مولده يف شوال سنة إحدى عشرة ومخسمئة( .)1وهم ينتسبون إىل قبيلة ساب يو الرتكية ،وال تذكر املصادر التارخيية
شيئاً عن نشأة نور الدين وشبابه ،ولكنها مجيعاً تؤكد :أنه ترىب يف طفولته حتت رعاية وإشراف والده ،وأن والده كان
يقدمه على إخوانه ،ويرى يه خماي النجابة(.)2
وملا جاوز الصبا؛ لزم والده حىت مقتله 541هـ1047/م( ،)3وكانت حياة عماد الدين يف رتة حكمه املوص من
521هـ 541هـ مدرسة عليا شاملة جلميع أنواع املعارف اإلنسانية :يف جماالت العلوم السياسية ،واإلدارية ،والعسكرية
،ابإلضا ة إىل العلوم الشرعية الدينية ،وقد مجعت مدرسة احلياة الكربى اليت عاش يها نور الدين بني األسلوب النظري
،والتطبيقي(.)4
وقد تزوج نور الدين عام 541هـ الزواج الذي مل تكن من وراءه جارية ،وال ُسريهلة ،من عصمت الدين خاتون ابنة األاتبك
معني الدين حاكم دمشق ،بعد أن ترددت املراسضمت بني الرجلني ،واستقرت احلال بينهما على أمج صفة ،وأتكدت
األمور على ما اقرتح ك ٌّ منهما ،وكتب كتاب العقد يف دمشق مبحَر من رس نور الدين يف الثالث والعشرين من
شوال .وما إن متهل إعداد اجلهاز؛ حىت قف الو د عائداً وبصحبة ابنة معني الدين( ،)5وخلهلف نور الدين من زوجته هذه
ابنةً واحدة ،وولدين مها الصاحل إمساعي ،الذي توىل احلكم من بعده .وتويف شاابً مل يبلغ العشرين من العمر من جراء
مرض أمل به عام 577هـ ،وأمحد الذي ولد حبمص عام 547هـ مث تويف يف دمشق طفضمً(.)6
وقد ذكر ابن منري يف أشعاره هتنئته لنور الدين مبولوده اجلديد ،قال:
م ـ ـ ـ ـ ـ ـوارد كـ ـ ـ ـ ـ ــان م ـ ـ ـ ـ ـ ـعـ ـ ـ ـ ـ ــدهنـ ـ ـ ـ ـ ــا عـ ـ ـ ـ ـ ــذااب وجـ ـ ـ ـ ـئ ـ ـ ـ ــت أبمح ـ ـ ـ ــد ـ ـ ـ ـ ـم ـ ـ ـ ــألت مح ـ ـ ـ ــداً
قـ ـ ـ ـ ـوابـ ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ــه ل ـ ـ ـ ــك املـ ـ ـ ـ ـلـ ـ ـ ـ ـك الـ ـ ـ ـ ـلـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ــااب هت ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ـ وجـ ـ ـ ــه ُم ـ ـ ـ ـلـ ـ ـ ــك يـ ـ ـ ــوم أهـ ـ ـ ــدت
َ
سـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ــا وح ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـاً وب ـ ـ ــذالً واسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت ـ ـ ــضماب ش ـ ـ ـ ـ ـ ــبيه ـ ـ ــك ال يغ ـ ـ ــادر من ـ ـ ــك ش ـ ـ ـ ـ ـ ــيئ ـ ـ ـاً
مـ ـ ـ ــن امسـ ـ ـ ــك زاد ل ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ـم ـ ـ ـ ـعـ ـ ـ ــين م ـ ـ ـ ـنـ ـ ـ ــااب أن ح ـ ـ ـ ــر ـ ـ ـ ـاً قس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ــم احل ـ ـ ـ ـم ـ ـ ـ ــد إال هل
() 7
ـص ابل ـ ـ ــبش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرى ال ـ ـ ــرك ـ ـ ــااب
ورك ـ ـ ــب ن ـ ـ ـ هل أال هلل يـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوم ُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهلر ع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه
وسرعان ما امتدت تقوى الرج إىل زوجته ،وابنه األكرب ،كانت زوجته تكثر القيام يف اللي ،وانمت ليلة عن
وردها ،أصبحت؛ وهي غََّب ،سأهلا نور الدين عن أمرها ،ذكرت نومها الذي هلوت عليها وردها ،أمر نور
السحر ،لتوقظ النائمني حينذاك للقيام ،ومنح الَاربني أجراً جزيضمً(.)8 الدين عند ذلك بَرب الطبول يف القلعة وقت هل
145
وصفها املؤرخون أبهنا كانت من أحسن النساء ،وأعفهن ،وأكثرهن خدمة ،متمسكة من الدين ابلعروة الوثقى ،
وكانت هلا أوقاف ،وصدقات كثرية ،وبر عظيم( ،)1وقد ذكر ابن كثري يف أحداث عام 563هـ« :ويف شوال وصلت
ت عصمت الدين خاتون بنت معني حتج من هناك ،وهي الس ُّ
امرأة امللك نور الدين حممود زنكي إىل بغداد ،تريد أن هل
الدين أنر ،تلقاها اجليش؛ ومعهم صندل اخلادم ،ومحلت هلا اإلقامات ،وأكرمت غاية اإلكرام»(.)2
وعرف عن الصاحل إمساعي تقواه العميقة ،والتزامه األخضمقي املسؤول ،حىت ر ض األخذ برأي األطباء يف شرب شيء
من اخلمر عندما أحلهلت عليه علة القولنج ،اليت أودت حبياته .وقال :ال .حىت أسأل الفقهاء ،لما أ توه ابجلواز؛ مل
يقب ،وسأل كبريهم :إن هللا تعاىل هلقرب أجلي؛ أيؤخره شرب اخلمر؟ قال :ال .أجابه :وهللا ال لقيت هللا وقد علت
حرم علي(.)3
ما هل
أوالً :انقسام الدولة الزنكية بعد مقتل عماد الدين زنكي:
عندما قت عماد الدين زنكي سنة 541هـ كان ابنه األكرب سيف الدين غازي مقيماً بشهرزور ،وهي إقطاعةٌ من قبي
أبيه .بينما كان نور الدين حممود وهو االبن الثاين لعماد الدين مع أبيه عند قلعة جعرب .وبعد أن شهد مصرع أبيه؛ أخذ
خامته من يده ،وسار ببعض العساكر إىل حلب ،ملكها هي وتوابعها يف ربيع االخر سنة 541هـ1146/م(، )4
وكان عمره ثضمثون سنة .كما كان مع زنكي أيَاً على قلعة جعرب امللك ألب أرسضمن ابن السلطان حممود السلجوقي ،
وكان زنكي يظهر أنه حيكم البضمد ابمسه ُمنذ سنة 521هـ1127/م ،حيث اصطحبه معه إىل املوص أبمر من السلطان
حممود(.)5
وقد ذكر املؤرخون :أن امللك ألب أرسضمن حاول أن حي حم زنكي يف ملك البضمد ،وأن يبعد أوالده عنها ،جمع
العساكر ،و هل
أعد العدة للتوجه إىل املوص ،بقصد االستيضمء عليها ،ولكن الوزير مجال الدين األصفهاين( ، )6قام بدور
كبري يف احلفاظ على الدولة الزنكية ،وإبقائها يف أيدي أوالد صاحبه ،وويل نعمته عماد الدين زنكي.
ما أن شعر بقصد امللك ألب أرسضمن حىت ابدر ابالتصال ابألمري صضمح الدين حممد الياغسياين ،حاجب عماد
الدين متناسياً ما كان بينهما من خضمف ،اتفقا على حفظ الدولة ألوالد زنكي ،وإبعاد امللك ألب أرسضمن
السلجوقي( )7عنها ،حيث أرس الوزير مجال الدين إىل صضمح الدين الياغسياين يقول له« :إن املصلحة أن نرتك ما
كان بيننا وراء ظهوران ،ونسلك طريقاً يبقى يه امللك يف أوالد صاحبنا ،وهنر بيته جزاءً إلحسانه إلينا ،إن امللك
نتضمف هذا األمر يف أوله ،ونتداركه يف بدايته؛
َ (ألب أرسضمن) قد طمع يف البضمد ،واجتمعت عليه العساكر ،ولئن مل
146
اخلرق ،وال ميكن رقعه» ،أجابه صضمح الدين إىل ذلك ،وحلف ك ُّ واحد منهما لصاحبه( ،)1وكان أول ليتسعن ْ
عم قام به مجال الدين ،وصضمح الدين أَ ْن أرسضم رسوالً على وجه السرعة إىل زين الدين علي ُك َجك انئب زنكي يف
املوص ،خيرباه مبا حص لزنكي سارع سيف الدين غازي للحَور من شهرزور إىل املوص لتسلم احلكم يها ،
وتسلمها قب أن يتمكن ألب أرسضمن السلجوقي من الوصول إليها(.)2
تكف الوزير مجال الدين األصفهاين إبهلائه وخمادعته ،ريثما تستتب األمور أما امللك ألب أرسضمن السلجوقي قد هل
لسيف الدين غازي يف املوص ،وظ هل يتنق من مكان إىل اخر يف اجلزيرة ،حىت تفرق معظم أصحابه عنه ،مث اجته
إىل املوص ُقبض عليه ،وأودع السجن ،ومل أيت له ذكر بعد هذا التاريخ(.)3
وهكذا انقسمت الدولة الزنكية بعد مقت مؤسسها عماد الدين ،بني ولديه سيف الدين غازي ،الذي حكم املوص ،
()4
واجلزيرة ،ونور الدين حممود الذي حكم مدينة حلب ،وما جاورها من مدن الشام .أما أخومها نصرة الدين أمري أمريان
حران اتبعاً ألخيه نور الدين حممود ،يف حني كان األخ الرابع قطب الدين مودود ،ال يزال يف رعاية أخيه
،قد حكم هل
سيف الدين غازي ابملوص .وكان هنر اخلابور هو احلد الفاص بني أمضمك األخوين ،و هلأدى الوضع اجلغرايف الشرقي إىل
أن:
ـ يرث غازي األول املشاك الداخلية مع ك ٍ من اخلضم ة العباسية ،والسلطنة السلجوقية يف العراق:
أ ـ حيمي حدود اإلمارة من غارات سضمجقة ارس.
ب ـ حيمي ثغور اإلمارة الشمالية من تعدايت سضمجقة الروم ،والدامشنديني والبيزنطيني يف آسيا الصغرى.
أما يف القسم الغريب؛ قد ورث نور الدين حممود املشكلتني الكبريتني املمثلتني أباتبكية دمشق ،واإلمارات الصليبية
املنتشرة يف خمتلف بضمد الشام.
اثنياً :ترتيب أوضاع البيت الزنكي:
كان من الطبيعي أن تنشأ بني البيتني الزنكيني يف ك ٍ من املوص ،وحلب عضمقات وثيقة ،بفع الروابط األسرية من
جهة ،واشرتاك ال زنكي عامة هبدف واحد ،وهو اجلهاد ضد الصليبيني يف بضمد الشام .وكانت حلب تشك ابلنسبة
ضد أي خطر تتعرض له ،نشأت نتيجة لذلك عضمقات جيدة بني سيف وصمام األمان هل
للموص خط الد اع األول هل
الدين غازي األول ،صاحب املوص ،وأخيه نور الدين حممود ،صاحب حلب ،مث بني األمراء الذين توالوا على
حكم املوص بعد غازي األول.
إال أن هذه العضمقات الودية القائمة على التعاون والد اع املشرتك شهدت يف بعض األوقات توراً عاماً ،كان ال يلبث
أن تتضمشى لتعود احملبة واأللفة( ، )5بعد استقراره يف املوص ،واجلزيرة ،وبعض مناطق بضمد الشام كحمص ،والرحبة،
147
والرقة ،كان على سيف الدين غازي األول أن ينسق مع أخيه نور الدين حممود يف حلب ،ويتعاون معه الستكمال
سياسة والدمها القاضية ابلتصدي للصليبيني ُ ،مدركاً يف الوقت نفسه أمهية هذا التعاون خشية أن يستغ أعداء األسرة
رصة انقسام اإلمارة الزنكية ملهامجتها ،ابإلضا ة إىل الظهور ،مبظهر القوة أمامهم ،لذلك رأى ضرورة االجتماع أبخيه
بني وقت واخر لتسوية ما قد ينشأ بينهما من أزمات داخلية ،بسبب توزيع اإلرث الزنكي.
ويبدو :أن العضمقات بني األخوين تعرضت ألزمة عابرة ،عقب و اة والدمها بدلي أن سيف الدين غازي األول أرس
إىل أخيه نور الدين حممود يدعوه للحَور إليه ،إال أن صاحب حلب أتخر يف تلبية الدعوة معلضمً تصر ه ابهنماكه يف
حماربة الصليبيني( ،)1وقد كانت هناك جمموعة من األسباب سامهت يف الفتور يف العضمقة بني األخوين ،وهي:
أ ـ رأى سيف الدين غازي األول :أنه كان جيب على أخيه الوقوف إىل جانبه ،عندما تعرض احلكم الزنكي يف املوص
خلَة سياسية ،أاثرها امللك ألب أرسضمن السلجوقي هبدف االستيضمء على السلطة ،وذلك حىت تستقر األوضاع هلما
يف البضمد ،مث يستأذنه يف العودة إىل بضمد الشام.
عد سيف الدين غازي األول ،تصرف أخيه نور الدين حممود ،بعد مقت والدمها أمام قلعة َج ْع َرب خروجاً على ب ـ هل
التقاليد األسرية ،عند القبائ الرتكية اليت تقَي أبن تكون السيادة لضمبن األكرب(.)2
تصرف أخيه انفصاالً واضحاً عن الدولة الزنكية؛ ألن استئثار نور الدين حممود
ج ـ رأى سيف الدين غازي األول ،يف ُّ
أبمضمك األسرة يف حلب ،يعين تكوين حكم انفصايل عن دولة األاتبكة يف املوص (.)3
د عت هذه العوام سيف الدين غازي األول إىل اإلحلاح على أخيه نور الدين حممود لضمجتماع به ،وتسوية األمور
الرها ،اليت
تصرف صاحب املوص حبكمة إلزالة أسباب التوتر ،كما أنه مل يعارضه عندما استوىل على ُّ بينهما ،وقد هل
كانت تدخ يف منطقة نفوذه ،بعد حماولة جوسلني الثاين اسرتدادها من أيدي املسلمني يف أواخر عام541هـ/ربيع
الرها املهدهلدة ،لكنها وصلت بعد أن جنح نور الثاين 1147م والواقع :أنه أرس قوة عسكرية ملساندة أخيه إلنقاذ ُّ
الدين حممود يف استعادهتا( .)4وأخرياً حص اللقاء بني األخوين يف اخلابور .ويف هذا االجتماع ،اعتذر نور الدين حممود
ألخيه عن أتخره يف احلَور ،وأظهر له الطاعة واالحرتام من جهته( ، )5ولشدة حذر نور الدين اشرتط أن يكون
االجتماع ومع ك ٍ منهما مخسمئة ارس ،قب سيف الدين ،وخرج نور الدين؛ ومعه مخسمئة ارس ،رأى أخاه
سيف الدين وليس معه إال مخسة رسان تأكد من حسن نيته ،واقرتاب ،وتعانقا ،وبكيا .وقال له سيف الدين من يل
غريك اي نور الدين ،وملن أدخر اخلري إن أسأت إىل أخي ،بعدها كان نور الدين خيرج إىل معسكر سيف الدين
للخدمة ،وصفت األمور بينه وبني أخيه( ، )6وسكن روعه ،وعاد إىل حلب( ، )7حيث مجع عساكره ،هل
وجتهز ،مث عاد
148
لضمستقرار يف كنف أخيه ،ووضع نفسه حتت تصر ه ،إال أن سيف الدين غازي األول أمره ابلعودة إىل بضمده ،وقال
له « :ال غرض يل يف مقامك عندي وإمنا غرضي أن تعلم امللوك والفرنج اتفاقنا ،من يريد السوء بنا يكف عنا» .لم
يرجع نور الدين ولزمه حىت قَيا ما كاان يه ،وعاد ك واحد منهما إىل بلده(.)1
1ـ و اة سيف الدين غازي األول :استطاع سيف الدين ،ونور الدين أن حيضم املشاك ،اليت بينهما ،وتعاوان على
الرب والتقوى ،وكان من مظاهر التعاون بني األخوين اشرتاك عساكر املوص جنباً إىل جنب مع عساكر الشام يف اجلهاد
ضد الصليبيني؛ الذين حاصرت قواهتم املدينة يف احلملة الصليبية الثانيةضد الصليبيني ،وذلك يف الد اع عن دمشق هل
عام 543هـ1148/م ،وجناحهم يف مح الصليبيني على الرحي عن دمشق.
العرمية ،وطرد الصليبيني منه،
ومن مظاهر التعاون أيَاً :اشرتاك عساكر املوص مع عساكر نور الدين يف تح حصن ُ
كما كان من مظاهر التعاون بني األخوين اشرتاك عساكر املوص مع قوات حلب يف هزمية الصليبيني يف إنب ،ويف
تح أ امية سنة 544هـ1149/م(.)2
إال أن العهد مل يط بسيف الدين غازي حيث تويف ابملوص يف مجادى االخرة من سنة 544هـ1149/م بعد أن
حكم املوص ثضمث سنني وشهراً وعشرين يوماً ،ود ن ابملدرسة اليت بناها ابملوص ( ، )3وكان رمحه هللا مجي الصورة ،
وزوجه ابنة أخيه قطب الدين مودود بن وكان عمره حنو أربع وأربعني سنة ،وخلهلف ذكراً رابه عمه نور الدين حممود هل
زنكي ،مث تويف ولد سيف الدين شاابً ،وانقرض عقبه(.)4
وكان سيف الدين غازي جواداً ،كرمياً ،شجاعاً ،وهو الذي بىن املدرسة األاتبكية ابملوص ،وقفها على الفريقني :احلنفية
،والشا عية ،وبىن رابطاً للصو ية ،وكان مقصداً للشعراء ،قصده شهاب الدين احليص ،وامتدحه بقصيدة قال يها:
سـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاب ـق ـ ـ ــة م ـع ـ ـ ــدودة يف ال ــبشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــائ ــر ـك إن مسـ ـ ـ ـي ـ ـ ــت يف املـ ـ ـ ـه ـ ـ ــد غ ـ ـ ــازايً
أاتب ـ ـ ـ ُ
وص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدهلقته ـ ــا والكفر ابدي الش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـع ـ ــائر ـت هب ـ ـ ــا وال ـ ـ ــديــن ق ـ ـ ــد م ـ ـ ــال ْروق ـ ـ ــه َوَـي ـ ـ ـ َ
وعزى أبو وقد أجازه سيف الدين أبلف دينار أمريي ،سوى اإلقامة والتعهد مدة مقامه ،وسوى اخللع والثياب( .)5هل
احلسني أمحد بن منري نور الدين أبخيه سيف الدين بقصيدة ،منها:
مـ ـ ـ ــن أن يـ ـ ـ ــرى لـ ـ ـ ــك ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ــه ن ـ ـ ـ ـظ ـ ـ ـ ـريا وك ـ ـ ـ ـ ــان نـ ـ ـ ـ ـ ـظ ـ ـ ـ ـ ــريك غ ـ ـ ـ ـ ـ َـار ال ـ ـ ـ ـ ــزم ـ ـ ـ ـ ــان
مـ ـ ـ ــن األمـ ـ ـ ــن نـ ـ ـ ــوراً وقـ ـ ـ ــد ُك ـ ـ ـ ـ هلن بـ ـ ـ ــورا ـوس ب ـ ـ ــك اسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت ــوطـ ـن ـ ـ ــت ـ ـ ــدت ـ ـ ــك نـ ـف ـ ٌ
ـوىف األج ـ ـ ـ ـ ــورا ت ـ ـ ـ ـ ــوقهلـ ـ ـ ـ ـ ـى ال ـ ـ ـ ـ ـ هلـرَدى وت ـ ـ ـ ـ ـ هل ب ـ ـ ـ ـق ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ــت ُم ـ ـ ـ ـعـ ـ ـ ـ هلـزاً مـ ـ ـ ــن اهلـ ـ ـ ــال ـ ـ ـ ـكـ ـ ـ ــني
ـف ق ـ ـ ـ ـط ـ ـ ـ ـراً وأب ـ ـ ـ ـقـ ـ ـ ــى حبـ ـ ـ ــورا إذا ش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هل وم ـ ـ ـ ــا نـ ـ ـ ـ ـق ـ ـ ـ ــص ال ـ ـ ـ ـ هلـده ـ ـ ـ ـ ُـر أع ـ ـ ـ ــدادك ـ ـ ـ ــم
ط هل ـ ـ ــم يف ال هلس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم ـ ـ ــاء الـ ـ ـ ـقـ ـ ـ ـب ـ ـ ــورا َخلَـ ـ ـ ـ هل ولـ ـ ـ ـ ــو أنص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــف اجملـ ـ ـ ـ ــد مـ ـ ـ ـ ــواتكـ ـ ـ ـ ــم
149
وأَْم ـ ـطَ ـ ـ ـ ْ
( )1
ت مـ ــن اجلـ ــود ظ ـ ـه ـ ـراً ظ ـ ـه ـ ـريا حـ ـ ـ ـي ـ ـ ــات ـ ـ ــك أحـ ـ ـ ـي ـ ـ ــت رمـ ـ ـ ـي ـ ـ ــم احلـ ـ ـ ـي ـ ـ ــاة
150
سنجار اتبعة هلم ،تجهز قطب الدين ،وخرج بعساكره حنو سنجار ،نزل بت يَع ُفر( ، )1وأرس مجال الدين الوزير،
وزين الدين كجك أمري اجليش إىل نور الدين كتاابً ينكران عليه إقدامه على أخذ سنجار ،واعتداءه على أمضمك أخيه
ورد عليهما
قطب الدين مودود ،وهدداه بقصده؛ إن هو مل يرح عن البلد ،ولكن نور الدين مل يلتفت لتهديدمها هل
بقوله« :إنين أان األكرب ،وإين أحق أن أدبر أمر أخي له منكم ،وما جئت إال ملا تتابعت إيل كتب األمراء يذكرون
هل
كراهيتهم لواليتكما عليهم ،خفت أن حيملهم الغيظ ،واألنفة على إخراج األمر من أيدينا ،وأما هتديدكم إايي
ابحلرب ،والقتال ،أان ال أقاتلكم إال جبندكم»(.)2
أدرك الوزيران مجال الد ين حممد ،وزين الدين علي ما ينطوي عليه هذا الرد من أخطار ،أشارا على قطب الدين
مودود مبصاحلة أخيه ،والتنازل عن بعض املواقع يف الشام ،واليت كانت تتبع للموص مث محص ،والرحبة ،والرقة(،)3
مقاب انسحاب نور الدين من سنجار ،والعودة إىل حلب .وا قهما قطب الدين ،ومتهل االتفاق بني األخوين ،
وانسحب نور الدين من سنجار حممضمً ابلكنوز اليت كانت خبزائن سنجار يف أايم أبيه(.)4
التحسن جعلت نور الدين يقوم يف عام (554هـ1159/م) على اختيار ُّ وقد بلغت العضمقات بني األخوين درجة من
أحس بَعفه ومرضه ،وقد أو د نور الدين إىل أخيه قطب الدين و داً قطب الدين ليخلفه يف حكم بضمده ،عندما هل
خيربه ابملوقف ،وابتفاق األمراء على توليته العهد بعده ،وطلب إليه احلَور بعساكره إىل الشام ،لما خرج قطب
الدين مودود على رأس جيشه من املوص ؛ وصلته األخبار بتحسن صحة أخيه نور الدين ،وقيامه من مرضه ،أقام
قطب الدين حيث هو ،وأرس وزيره مجال الدين حممد ملقابلة نور الدين حممود ،والوقوف على تطورات املوقف هناك
وص الوزير دمشق يف صفر سنة (554هـ1159/م) واجتمع بنور الدين وأبلغه استعداد قطب الدين ،ووضع إمكانياته
وعرب له عن شكره ملشاعر أخيه قطب الدين مودود(.)5 يف خدمته ،شكره نور الدين على ذلك ،هل
وعلى العموم كانت صلة نور الدين إبخوانه وثيقة .يقول ابن األثري يف حقهم« :إن هللا سبحانه مجع يهم من مكارم
األ عال ،وحماسنها ،وحسن السرية وعمارة البضمد ،والر ق ابلرعية إىل غري ذلك من األسباب اليت حيتاج امللك إليها».
أن القائ أرادهم بقوله: ويقول :أظن :هل
اس م ـ ـ ـ ـكـ ـ ـ ــرمـ ـ ـ ـ ٍـة أب ـ ـ ـ ـنـ ـ ـ ــاءُ أيس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــار
ُسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلو ُ ـار بـ ـن ــو يسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍر
هـ ـيـ ـن ــون لَـ ـيـ ـن ــون أيسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ
() 6
وال مي ـ ـ ـ ـ ــارون إن م ـ ـ ـ ـ ــاروا إبكـ ـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ـ ــار ال ي ـ ـن ـ ـط ـ ـق ــون ع ـ ـل ــى ال ـ ـع ــوراء إن ن ـ ـط ـ ـق ـ ـوا
( )1ت يعفر :ويقال أعفر :وهو اسم قلعة وربض بني سنجار واملوص .
( )2الباهر ص ، 96احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص .49
( )3الرقة :مدينة مشهورة على الفرات بينها وبني حران مسرية ثضمثة أايم.
( )4الباهر ص 96ـ ، 97كتاب الروضتني نقضمً عن احلياة العلمية ص .49
( )5كتاب الروضتني نقضمً عن احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص .50
( )6الباهر ص 15نور الدين زنكي يف األدب العريب ص .51
151
املبحث الثاين :أه ُّـم صفات نور الدين زنكي
إن مفتاح شخص ية نور الدين حممود زنكي شعوره ابملسؤولية ،وحرصه على حترير البضمد من الصليبيني ،وخو ه من هل
حماسبة هللا له ،وشدهلة إميانه ابهلل وابليوم االخر ،وكان هذا اإلميان سبباً يف التوازن املدهش واخلضمب يف شخصيته ،قد
كان على هم صحيح حلقيقة اإلسضمم ،وتعبُّد هللا بتعاليمه ،ومتيهلزت شخصيته مبجموعة من الصفات الر يعة ،واألخضمق
احلميدة ،واليت ساعدته على حتقيق إجنازاته العظيمة ،واليت من أمهها:
أوالً :اجلدية والذكاء املتوقد:
ُمنذ البداية ،والتكوين اجلاد لنور الدين يد عه إىل اإلسراع لسد أي ٍتق ،أو اعتداء من قب األعداء.
لما قُت َ عماد الدين زنكي 541هـ يقول ابن األثري« :كان جوسلني الفرجني يف واليته غريب الفرات ( ،ت ابشر وما
الرها ،وكان عامتهم من األرمن ،وواعدهم يوماً يص إليهم يه ،أجابوه إىل ذلك سار يف جاورها) راس أه ُّ
152
عساكره إليها وملكها ،وامتنعت عليه القلعة مبن يها من املسلمني ،وقاتلهم هل
وجد يف قتاهلم .بلغ اخلرب إىل نور الدين،
الرها إىل بلده ،ودخ نور الدين املدينةسار جمداً إليها يف العسكر الذي عنده ،لما مسع جوسلني بوصوله خرج عن ُّ
وهنبها وسَّب أهلها ،لم يبق منهم إال القلي ،وأجلى من كان هبا من الفرنج»(.)1
وكان أبوه زنكي قد اسرتد هذا املوقع اخلطري من الصليبيني عام 539هـ ،وأمر جنده يومها ابلكف وراً عن النهلهب ،
والسلب ،والتخريب ،ومنح النصارى احملليني حرايت واسعة ،ومحى كنائسهم وممتلكاهتم ،يف حماولة منه لفك ارتباطهم
ابلغزاة الصليبيني الذين مارسوا معهم الكثري من أساليب التمييز ،والتفرقة الدينية .أما وقد آتمروا ـ اثنية ـ يف آخر عهد
الرها إىل السيطرة الصليبية منها جييء الرد مبستوى اجلد الذي يقتَيه الوقت إذا ما زنكي ،واثلثة بعد مقتله إلعادة ُّ
أُريد هلذا املوقع أن يبقى جمرداً ،وأالهل يعود اثنية إىل قبَة الغزاة(.)2
ويف عام 567هـ هاجم صليبيو الضمذقية مركبني للمسلمني كاان مملوءين ابألمتعة مكتظني ابلتجار ،وغدروا ابملسلمني،
وكان نور الدين قد هادهنم ،نكثوا ،لما مسع اخلرب؛ استعظمه ،وأرس إىل الصليبيني يطلب إعادة ما أخذوه ،
غالطوه ،لم يقب مغالطتهم ،وكان ال يهم أمراً من أمور رعيته كما يقول ابن األثري؛ إذ ما لبث أن مجع عساكره ،
وبث سراايه يف بضمد الصليبيني بني أنطاكية ،وطرابلس ،وقام حبصار حصن عرقة ،وختريب ربَه ،واالستيضمء على هل
حصين صا يتا ،والعزمية الشمايل ،وإجراء أعمال هنب وختريب واسعة النطاق؛ األمر الذي اضطر الصليبيني إىل مراسلة
نور الدين ،يعرضون عليه استعدادهم إلعادة ما أخذوه من املركبني ،وجتديد اهلدنة بني الطر ني ،أجاهبم نور الدين
املاسة ـ كما يبدو ـ إىل هدنة كهذه(.)3
إىل ذلك حلاجته هل
ويوم بلغه ما عله جوسلني من إرسال السضمح ـ الذي كان قد استوىل عليه يف إحدى معاركه مع نور الدين ـ إىل محيه
السلطان مسعود حاكم سضمجقة الروم .قام نور الدين ،وقعد ،وهجر الراحة لألخذ بثأره ،أذكى العيون على
جوسلني ،وأحَر مجاعة من الرتكمان ،وبذل هلم الرغائب إن هم ظفروا جبوسلني إما قتضمً ،أو أسراً؛ ألنه علم إن هو
وحذ َر ،وامتنع ،أخلد إىل إعمال احليلة(.)4
مجع العساكر اإلسضممية لقصده مجع جوسلني الفرنج َ ،
وكان نور الدين ـ كما يقول ابن األثري« :إذا تح حصناً ال يرح عنه حىت ميأله رجاالً وذخائر تكفيه عشر سنني ،
خو اً من نصرٍة تتجدد للفرنج على املسلمني ،تكون حصوهنم مستعدة غري حمتاجة لشيء»(.)5
وهكذا ترتبط جدية نور الدين بذكائه احلذر ودهائه ،الذي حقق له الكثري من املكاسب ،واملنجزات ،والذي مل يتح
ألحد من األعداء يف الداخ واخلارج أن ينفذ لتوجيه ضربة أو إصابة مقت ،كان كما يقول ابن األثري« :يكثر إعمال
احلي ،واملكر واخلداع مع الفرنج وأكثر ما ملكه من بضمدهم به».
ويَرب على ذلك مثضمً يف سياسته مع مليح بن ليون ملك األرمن يف بضمد األانضول ،إنه ما زال خيدعه ،ويستميله
أن بضمده حصينةحىت جعله يف خدمته سفراً وحَراً ،وكان يقات به الفرنج ،وكان يقول« :إمنا محلين على استمالته :هل
153
وعرة املسالك ،وقضمعه منيعة وليس لنا إليها طريق ،وهو خيرج منها ـ إذا أراد ـ ينال من بضمد اإلسضمم ،إذا طُلب
احنجر يها ضم نقدر عليه ،لما رأيت احلال هكذا؛ بذلت له شيئاً من اإلقطاع على سبي التالف حىت أجاب إىل
طاعتنا وخدمتنا وساعدان على الفرنج» وحني تويف نور الدين وسلك َم ْن بعده غري هذا الطريق؛ ملك زعيم األرمن بعد
مليح كثرياً من بضمد املسلمني وحصوهنم ،وصار منه ضرر عظيم ،وخرق واسع ال ميكن رقعه(.)1
أن اعتماد العنف سيستفز هل
حكامها ويد عهم إىل مراسلة الصليبيني ،واالستعانة هبم ، ويف حماولته تح دمشق أدرك :هل
عمد إىل أعمال احليلة والسياسة ،أخذ يراس صاحبها جمري الدين ،ويستميله ويبعث إليه ابهلدااي املوصولة ،ويظهر
له املودة حىت وثق إليه ،وأخذ نور الدين يكاتبه مشككاً إايه بنوااي عدد من أمرائه ،وإهنم بصدد االتصال به هل
ضد
ملكهم ،األمر الذي د ع جمري الدين إىل إبعاد واعتقال عدد من أبرز أصحابه ،لما خلت دمشق من زهرة أمرائها؛
انتق نور الدين خطوة أخرى ،اتص أبحداث دمشق (أي :حرسها الشعيب) ومجاهريها ،واستماهلم ،أجابوه إىل
تسليم البلد ،وعند ذاك تقدم حلصار دمشق ،ومتكن مبعونة أهلها أنفسهم من دخوهلا بسهولة ابلغة ودومنا إراقة
للدماء( .)2حقق بذلك اهلدف الكبري ،الذي طاملا سعى له أبوه قب ذلك ،وحينما بعث إليه الفاطميون ـ كما سيأيت
بيانه إبذن هللا ـ يطلبون منه القيام هبجوم على املواقع الصليبية جنويب الشام النشغاهلم عن مهامجة مصر ،أجاب نور
الدين أسامة بن منقذ سفريهم يف هذه املهمة« :إن أه دمشق أعداءٌ ،واإل رنج أعداء ،ما امن منهما إذا دخلت
بينهما»(.)3
وحيدثنا أبو شامة عن إحدى خدع نور الدين؛ حيث أغار على طربية ،ومجع بعض أعضمم الصليبيني ،وشيئاً من
مضمبسهم ،وسضمحهم ،وسلهلمها إىل أحد جنده قائضمً« :أريد أن تعم احليلة يف الدخول إىل بلبيس ،وخترب أسد الدين
شريكوه ،احملاصر هناك ،مبا تح هللا على املسلمني يف بضمد الشام ،وتعطيه هذه األعضمم وأتمره بنشرها يف أسواق
إن ذلك مما يفتت يف عَد الكفار ،ويدخ الوهن عليهم» .فع أسد الدين ما أُمر به ،لما رأى الصليبيون بلبيس ،هل
ذلك قلقوا ،وخا وا على بضمدهم ،وسألوا حليفهم شاور ـ الوزير املصريي ـ اإلذن ابالنفصال(.)4
كما حيدثنا ابن األثري عن األسلوب الذي اعتمده نور الدين يف تح حصن املنبطرة ابلشام 561هـ ،هو مل حيشد له،
وال مجع عساكره؛ وإمنا سار إليه يف سرية من الفرسان على حني غرة من الصليبيني ،حيث أدرك :أنه جبمعه العسكر
سيعطي اإلشارة إىل خصومه لكي أيخذوا أهبتهم ،وما لبثت حامية احلصن أن وجئت هبجوم نور الدين املباغت ،
وبعد قتال عنيف سقط احلصن .ومل جيتمع لد عه إالهل وقد ملكه ،ولو علموا :أنه يف ٍ
قلة من العساكر؛ ألسرعوا إليه ،
إمنا ظنوه أنه يف مجع كثري ،لما ملكه تفرقوا ،وأيسوا من رده( ، )5هذه األحداث ،تظهر صفة اجلدية ،والذكاء
املتوقد يف شخصية نور الدين.
154
اثنياً :الشعور ابملسؤولية:
تولهلد عن ورع نور الدين وتقواه إحساس شديد ابملسؤولية ،وظهر يف مجيع أعماله وحاالته ،اخلشية من هللا تعاىل
جتعله دائماً يف موقع احملاسب لنفسه ،املراقب هلا ،حىت ال تتجاوز إىل ما يغَب هللا ،هو يعترب نفسه مسؤوالً أمام
هللا عن ك ما يتعلق برعيته ،وك ما يتعلق ببضمد املسلمني ،ودمائهم ،وحقوقهم ،حىت لو كانوا من غري رعيته ،إذا
قصر يف تقدمي هذه املساعدة.
كان ابستطاعته مساعدهتم هو؛ مسؤول إذا هل
يظهر هذا الفهم الشام للمسؤولية( )1يف رسالة نور الدين حممود إىل إيلدكز أمري أذربيجان ،وأرمينية ،ومهذان ،والري
جواابً على رسالته اليت يطلب يها من نور الدين عدم احتضمل املوص ،ويتهدده أبن ال سبي له إليها .قال نور الدين
للرسول« :ق لصاحبك :أان أرحم ببين أخي (يعين :سيف الدين غازي) منك َ ،لم تدخ نفسك بيننا؟ وعند الفراغ
من إصضمحهم يكون احلديث معك عند ابب مهذان ،إنك قد ملكت نصف بضمد اإلسضمم ،وأمهلت الثغور حىت
غلب احلرج علي ها ،وقد بليت أان وحدي ،أبشجع الناس الفرنج ،أخذت بضمدهم ،وأسرت ملوكهم ،ضم جيوز يل
أن أتركك على ما أنت عليه ،إنه جيب علينا القيام حبفظ ما أمهلت من بضمد اإلسضمم ،وإزالة الظلم عن املسلمني»(.)2
كان نور الدين يشعر ابملسؤولية امللقاة على عاتقه جتاه الوقت أن يَيع هباءً ،والدم املسلم من أن يُهدر ،والكرامة
اإلسضممية من أن هتان ،واألرض اإلسضممية من أن تُغزى ،وتُقتطع( .)3حينما علم يف عام 544هـ1149/م بتحالف
الصليبيني قال« :ال أحنرف عن جهادهم».
يكف أيدي أصحابه عن العبث واإل ساد يف الَياع ،وحيسن الرأي يف الفضمحني ،ويعم على إال أنه مع ذلك كان ُّ
التخفيف عنهم ،األمر الذي أكسبه عطف وأتييد مجاهري دمشق وسائر البضمد التابعة هلا ،راحت تدعو له ابلنصر.
وكتب إىل زعماء دمشق« :إنين ما قصدت بنزويل هذا املنزل طالباً حملاربتكم ،وإمنا دعاين إىل هذا األمر كثرة شكاية
ت نساؤهم وأطفاهلم بيد الفرنج وانعدام الناصر هلم ،ضم يسعين مع ما وسبيَ ْ
ت أمواهلم ُ
املسلمني...أبن الفضمحني أُخ َذ ْ
أعطاين هللا ـ وله احلمد ـ من االقتدار على نصرة املسلمني ،وجهاد املشركني ،وكثرة املال والرجال ،وال حي يل القعود
عنهم واالنتصار هلم؛ مع معر يت بعجزكم عن حفظ أعمالكم ،والذب عنها ،والتقصري الذي دعاكم إىل االستصراخ
ابلفرنج على حماربيت ،وبَ ْذلُ ُك ْم هلم أموال الَعفاء ،واملساكني من الرعبة ظلماً هلم ،وتعدايً عليهم ،وهذا ما ال يرضي
هللا تعاىل ،وال أحداً من املسلمني»(.)4
ويف العام التايل خرج إليه أه دمشق ،وكثري من أجنادها بعد أن قرر عدم مهامجتها عنوة كراهية لسفك دماء املسلمني
،والتقى بعدد من الطضمب ،والفقراء والَعفاء لم خييب أحداً من قاصديه( .)5وقد أصر نور الدين طيلة الفرتة التالية
حترجاً من قت املسلمني ،وقال« :ال حاجة إىل قت املسلمني أبيدي بعَهم بعَاً على عدم القيام هبجوم على البلد ُّ
( )1دور نور الدين حممود يف هنَة األمة ومقاومة غزو الفرجنة ص .132
( )2زبدة حلب ( 332/2ـ )333نور الدين حممود ص .17
( )3اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص .407
( )4دمشق ص 308ـ 309البن القضمنسي نور الدين حممود ص .16
( )5ذي اتريخ دمشق ص 310نقضمً عن نور الدين حممود الرج والتجربة ص .17
155
،وأان أُر ههم ليكون بذل نفوسهم يف جماهدة املشركني»( .)1هو يعلم جيداً :أن األمة إذا قتلت نفسها سهلت على
العدو ،وإذا قدرت على محاية دمها؛ بذلته رخيصاً يف جماهدة هذا العدو.
معادلة واضحة ميكن أن تفسر لنا الكثري من هزائم األمم ،وانتصاراهتا على السواء(.)2
ومن مث كانت عادة نور الدين كما يقول أبو شامة « :إنه ال يقصد والية أحد من املسلمني إال ضرورة ،إما ليستعني
على قتال الفرنج ،أو للخوف عليها منهم ،كما ع بدمشق ،ومصر ،وغريها»( .)3لقد كان الدم عنده عظيماً ،ملا
كان قد جب عليه من الرأ ة والرمحة والعدل(.)4
اثلثاً :قدرته على مواجهة املشاكل واألحداث:
اعتمد نور الدين حممود احللول العقلية ذات الطابع العلمي يف مواجهة املشاك ،واألحداث ،واضعاً عينيه على التعام
مع سنة األخذ ابألسباب .في عام 552هـ شهدت اجلهات الوسطى ،والشمالية من بضمد الشام زالزالً عنيفةً ،
خربت الكثري من القرى واملدن ،وأهلكت حشداً ال حيصى من الناس ،وهتدمت األسوار تتابعت ضرابهتا القاسية ،هل
والدور والقضمع ،ما كان من نور الدين إالهل أن مشهلر عن ساعد اجلد ،وبذل جهوداً عظيمةً يف إعادة إعمار ما هتدم
من على املسلمني بنور الدين ،جمع العساكر ، وتعزيز د اعاته .عادت البضمد كأحسن مما كانت ،ولوال أن هللا هل
وحفظ البضمد؛ لكان دخلها الفرنج بغري قتال وال حصار(.)5
خربت الكثري من املدن ، ت بلدان املنطقة بغارة أخرى من الزالزل ،مل تق هل هوالً عن سابقتها ،هل
ضربَ ْ
ويف عام 565هـ ُ
وهدمت أسوارها وقضمعها ،وسقطت الدور على أهلها ،وهلك منهم ما خيرج عن احلد ،واإلحصاء ،لما بلغ اخلرب
نور الدين سار إىل بعلبك ،إلعادة إعمار ما هتدهلم من أسوارها وقلعتها ،ومل جيأر إىل هللا ابلشكوى ويعلن أن الظلم قد
شا ،وإن هذا عقاب هللا قط ،أو إنه إشارات الساعة ،قد الحت يف األ ق القريب ،وعندما وص بعلبك أاته خرب
دمار ابقي البضمد ،وهضمك كثري من أهليها ،رتهلب يف بعلبك من حيميها ويعمرها ،وانطلق إىل محص فع مث ذلك
،ومنها إىل محاة ،بعرين.
وكان شديد احلذر على سائر البضمد من الفرنج ،ال سيما قلعة بعرين إهنا مع قرهبا منهم مل يبق من سورها شيء ألبتة،
جع يها طائفة صاحلة من العسكر مع أمري كبري ،ووك ابلعمارة من حيث عليها ليضمً وهناراً .مث أتى مدينة حلب ،
لما شاهد ما صنعته الزالزل هبا ،وأبهلها؛ أقام يها وابشر عمارهتا بنفسه ،وكان هو يقف على استعمال الفعلة
والبنائني ،ومل يزل كذلك حىت أحكم أسوار مجيع البضمد ،وجوامعها ،وأخرج من املال ما ال يقدهلر قدره(.)6
هل
إن الكوارث ـ اليت يبتلي هللا هبا عباده ـ أتيت مبثابة حتدايت دائمة ،تستفز اجلماعات البشرية وقياداهتا إىل املزيد من الوعي
واإلجناز ،وإن االستجابة هلذه التحدايت هي اليت تقود األمم والتجارب السياسية واحلَارات خطوات إىل األمام.
156
والعجز عنها هو الذي يربك مسريهتا ،ويصيبها ابلعجز والشل واجلمود ،أما نور الدين قد اختار املوقف األول ،
وأعاد إعمار ما هدمته الكوارث بسرعة مدهشة ،وواص الطريق(.)1
مثة واقعة أخرى ذات داللة واضحة يف هذا اجملال؛ كانت يف املوص خرابة واسعة يف وسط البلد أشيع عنها :أنه ما شرع
أح ٌد يف عمارهتا إالهل من ذهب عمره؛ ومل يتم على مراد أمره .أشار الشيخ عمر املضمء أحد صاحلي املدينة ،وشيوخها
الورعني اببتياعها ،وبناء جامع كبري يها ،تقام يه الصلوات ،وختطب اجلمع ،وتدرس العلوم ،فع نور الدين ،
وأنفق يه أمواالً كثريًة(.)2
وعلهلق الدكتور عماد الدين صاحب كتاب (نور الدين حممود الرج والتجربة) على هذه احلادثة ،قال« :مل يَرب نور
الدين اخلرا ة ،والشائعة ابلكلمة ،ولكنه ضرهبا ابلفع ،وابإلجناز ،وزالت اخلرا ة» ،ولكن املسجد الكبري الذي بناه
على أنقاضها ظ هل حىت اليوم يستقب مئات املتعبدين ،والدارسني(.)3
157
املساجد التسعة يف دمشق وأطرا ها( .)1وجلب للمدرسة احلضموية اليت بناها يف حلب من مدينة أ امية مذحباً من الرخام
()2
الرخام ،وملا دخ قلعة دمشق عام 549هـ أنشأ هبا داراً امللكي الشفاف ،الذي إذا وضع حتته ضوء شف من وراء ُّ
املسرة( ،)3ويف قلعة حلب أنشأ نور الدين أبنية كثرية ،وأقام ميداانً «خَهلره ابحلشيش»
عامة ،يف غاية احلسن مسهلاها دار هل
ومسي امليدان :امليدان األخَر(.)4
ويرتبط هبذه املسألة اجلمالية ما كان نور الدين أيمر به يف املناسبات؛ حيث أمر يف عام 552هـ نور الدين بزينة قلعته،
ودار مملكته حبيث حلهلى أسوارها ابآلالت احلربية ،من اجلواشن ،والدروع ،والرتوس ،والسيوف ،والرماح ،والطوارق ،
واإل رجنية ،واألعضمم ،والطبول ،والبوقات ،وأنواع املضمهي املختلفات ،وهرعت األجناد ،والرعااي ،وغرابء البضمد
ملشاهدة احلال ،شاهدوا ما استحسن منه مدة سبعة أايم(.)5
لقد كان إكسسوار احلف وديكوراته ـ إذا صح التعبري ـ مناسبةً متاماً ملدينة كدمشق ،تتزعم حركة اجلهاد ،وتقف يف
قلب التحدي .وتبدو نزعة نور الدين لإلعمار ،والتحَر أكثر ما تبدو يف سياسته الرامية لتوطني العناصر البدوية ،
وجعلها متارس حياة االستقرار ،قد أقطع ألمراء العرب يف جنوب الشام ،واحلجاز القطائع لئضم يتعرضوا لقوا
احلجاج( ، )6ونق أعراب بين عباد من البلقاء ،واألردن إىل صرخد املضمصقة لبضمد حوران من أعمال دمشق ،ورغم:
أن هذه اخلطوة انصبت على جتمي د نشاط هؤالء يف مساعدة صلييب املنطقة :وإرشادهم على الطرق ،وحتوي هؤالء
األعراب إىل قوة تعم لصاحل املسلمني أنفسهم ،كما أشارت الرواية املذكورة( ، )7إال أهنا حققت من انحية أخرى
هد اً عمرانياً واضحاً(.)8
الرحالة الذي زار دمشق ،وليس مثة رواية حتم داللتها على نزعة نور الدين للبناء واإلعمار تعدل رواية ابن جبري ،هل
ووصف معاملها بعد سنوات ،حسب من و اة نور الدين ،وال شك ،أن وصفه هذا ينسحب على العصر الذي
نتحدث عنه ،ألن تغيريات جغرا ية املدن ،ال تقاس ابلسنني احملدودة ،ب بعقودها على أق تقدير.
يقول الرج ،مشرياً إىل االتساع العمودي لدمشق« :وبناء البلد ثضمث طبقات ،يحتوي من اخللق على ما حتتوي
ثضمث مدن ،ألنه أكثر بضمد الدنيا خلقاً ،وحسنه كله خارج املدينة ال داخلها ،وبدمشق ما يقرب من مئة محهلام يها
ويف أرابضها ،و يها حنو أربعني داراً للوضوء جيري املاء يها كلها ،وليس يف هذه البضمد كلها بلدة أحسن منها للغريب؛
ألن املرا ق هبا كثرية ..وأسواق هذه البلدة من أحف أسواق البضمد وأحسنها انتظاماً وأبدعها صنعاً»(.)9
158
وقد سرت عدوى الرغبة يف البناء واإلعمار إىل رجال نور الدين وكبار موظفيه ـ كما سنرى يف الفصول التالية ـ راحوا
يتسابقون يف بناء املدارس ،واملساجد ،ومؤسسات اخلدمات االجتماعية ،وما أكثر الرواايت اليت قيلت يف هذا الصدد
،ويكفي أن نطلع على تراجم رجال نور الدين حممود ،ب النساء اللوايت اشتهرن يف عصره كذلك(.)1
خامساً :قوة الشخصية:
كان نور الدين حممود قوي الشخصية ،قديراً على الوقوف يف نقطة التوازن بني الصرامة واملرونة ،والشدة واللني ،
والعنف والرمحة( ، )2وقد وصفه ابن األثري أبنه كان« :مهيباً خمو اً مع لينه ورمحته ،وأنه كانت إليه النهاية يف الوقار
واهليبة شديداً يف غري عنف ،رقيقاً يف غري ضعف»( .)3ويصف جملسه ،يقول« :وكان جملسه كما روي يف صفة جملس
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم جملس حلم وحياء ،ال تؤبن يه احلرم ،وال يذكر يه إال العلم والدين ،وأحوال الصاحلني
واملشورة يف أمر اجلهاد ،وقصد بضمد العدو ،وال يتعدهلى هذا».
وقال احلا ظ ابن عساكر الدمشقي« :كنا حنَر جملس نور الدين ،كنا كما قي :
كأن على رؤوسنا الطري ،تعلوان اهليبة والوقار ،وإذا تكلم؛ أنصتنا ،وإذا تكلمنا؛ استمع لنا( .)4وقال ابن كثري« :مل
ٍ
غَب ،وال رضاً ،صمواتً وقوراً»(.)5 يُ ْس َم ْع منه كلمة حش قط يف
وكان نور الدين حممود ميلك هيبة عجيبة على موظفيه ،ويلزمهم بوظائف اخلدمة ،ومل جيلس عنده أمري من غري أن
أيمره ابجللوس ابستثناء جنم الدين أيوب...وكان مع هذه العظمة ،وهذا الناموس القائم إذا دخ عليه الفقيه ،أو
الصويف ،أوالفقري؛ يقوم له ،وميشي بني يديه ،وجيلسه إىل جانبه ،ويُقب عليه حبديثه كأنه أقرب الناس إليه ،وإذا
أعطى أحداً منهم؛ أعطاه شيئاً كثرياً ،وقال« :هؤالء جند هللا ،وبدعائهم ننتصر على األعداء ،وهلم يف بيت هللا ح ٌّق
أضعاف ما أعطيهم ،إذا رضوا منا ببعض حقهم؛ لهم املنهلـةُ علينا»(.)6
سادساً :حمبة املسلمني له:
عندما حتدث ابن كثري يف أحداث سنة 552هـ قال« :و يها مرض نور الدين ،مرض الشام مبرضه ،مث عويف ،فرح
املسلمون بذلك رحاً شديداً»( .)7وقال يف أحداث سنة مثان ومخسني ومخسمئة« :و يها كبست الفرنج نور الدين
()8 ٍ
وجيشه ،اهنزم املسلمون ال يلوي أح ٌد على أحد ،وهنض امللك نور الدين ركب رسه والشبحة يف رجله نزل رج ٌ
الكردي قتلوه(.)9
هل كردي ،قطعها حىت سار السلطان نور الدين نجا ،وأدركت الفرنج
ٌّ
159
احلب العميق ،الذي تكنه األمة لنور الدين ،وهذا احلب الرهلابين كان انبعاً من القلب ، و يما ذكره ابن كثري ،يظهر هل
وإبخضمص ،مل يكن حب نفاق .وما أبلغ تعبري ابن كثري« :مرض نور الدين ،مرض الشام مبرضه» ه هناك تضمحم
بني القيادة والقاعدة مث هذا يف ذلك الزمن ،ومن أسباب ذلك احلب صفات نور الدين القيادية ،هو يسهر؛ ليناموا
،ويتعب؛ ليسرتحيوا ،وكان يفرح لفرح املسلمني ،وحيزن حلزهنم ،وكان عمله لوجه هللا ـ حنسبه كذلك وال نزكي على هللا
أحداً ـ وصدق الشاعر اللييب أمحد ر يق املهدوي عندما قال:
ظـه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرت عليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه مواه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب الفتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـإذا أح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب اللـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ابطـ ـ ـ ـ ـ ـن عب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـده
()1
مـ ـ ـ ـ ـ ـال العب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاد عليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاألرواح وإذا صفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت هلل نيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة مصلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـح
إن القيادة الصحيحة هي اليت تستطيع أن تقود األرواح قب ك ٍ شيء ،وتستطيع أن تتعام مع النفوس قب غريها ،
وعلى قدر إحسان القيادة يكون إحسان اجلنود ،وعلى قدر البذل من القيادة يكون احلب من اجلنود واألمة هلا.
إن نور الدين وضع هللاُ له قبوالً عظيماً بني أمته ،أحبته اجلماهري جلهاده ،وإخضمصه ،وتفانيه يف خدمة اإلسضمم ،
امتد هذا احلب لكي يتجاوز مدن دولته ،وحصوهنا ،وقراها إىل ما وراء احلدود ،وكسب مجاهري خصومه من الداخ و هل
،وهز عروشهم ،وقطع جذور مواقعهم من األعماق ،وأزاحهم من طريق الوحدة اليت اعتزم بناءها ،دومنا قطرة من دم،
الدم املسلم كان عنده عظيماً ،وليست جتربته مع أهايل دمشق ابملث الوحيد ُ ،منذ عام 543هـ حينما تقدم على
رأس قواته ،للمساعدة على ك حصار احلملة الصليبية الثانية عن دمشق :شاهد الدماشقة حرمته حىت متنوه(، )2
وراحوا يدعون له دعاءً متواصضمً( )3وأخذ خيرج إليه خضمل املراح التالية من احلصار ـ عدد كبري من الطضمب ،والفقراء،
والَعفاء ،وهلذا داللته ،هم الذين كانوا يف الواقع أصدقائه احلقيقيني ،كما سيتبني لنا « ما خاب قصده» كما يقول
ابن القضمنسي(.)4
أما ضمحو املنطقة؛ كانت قلوهبم معه؛ ألنه منع أصحابه من العبث يف مزارعهم ،وأعلن :أنه جاء لكي حيمي كدحهم
من ختريب الصليبيني( ، )5ويف عام 547هـ عندما تقدم إىل دمشق لَمها إىل جبهة القتال اجلاد املخلص ضد الصليبيني
،واستنجد حاكمها جمري الدين ابلعسكر ،واألحداث( ، )6للخروج إىل قتاله .مل خيرج إال القلي ،ملا وقر يف نفوسهم
من استنجاد جمري الدين ابلفرنج.
للصضمهليب (.)7/2
( )1احلركة السنوسية هل
( )2البداية والنهاية نقضمً عن نور الدين حممود ص .25
( )3ذي اتريخ دمشق البن القضمنسي ص 308ـ 309نور الدين حممود ص .25
( )4ذي اتريخ دمشق ص 310نور الدين حممود ص .26
( )5زبدة حلب ( 304/2ـ )305نور الدين حممود ص .26
( )6نور الدين حممود الرج والتجربة ص .26
160
عزز بذلك حمبة الدمشقيني له ، وأقام نور الدين على دمشق من غري قتال ،وال زحف خو اً على املسلمني( .)1وقد هل
كانوا يدعون ليضمً وهناراً أن يبدهلم هللا سبحانه ابمللك نور الدين( ،)2وأخذ نور الدين يكاتب أه دمشق ،ويستميلهم.
وكان الناس مييلون إليه ملا هو عليه من العدل ،والداينة ،واإلحسان ،وعدوه ابلتسليم(.)3
وقد دخ نور الدين دمشق عام 549هـ يف تح أبيض مل تُـَر ْق يه دماء ،وما ذلك إال ـ بتو يق هللا ـ مث مبساعدة اجلماهري
اليت كانت تنتظر دخوله ُمنذ سنوات وسنوات .يقال :إن امرأة كانت على السور ،دلت حبضمً ،صعدوا إليه ،وصار
على السور مجاعة ونصبوا السضممل وصعدت مجاعة أخرى ،ونصبوا علماً ،وصاحوا بشعار نور الدين( .)4وبعد أق من
ثضمث سنني ،حينما أعلن يف دمشق عن التطوع يف محلة لقتال العدو ،خرج ك ُّ قادر على مح السضمح من أه
دمشق ،وتَب َع نور الدين يف محلته تلك :تيان البلد من األحداث ،والغرابء ،واملتطوعة ،والفقهاء ،والصو ية ،واملتدينني
العدد الكثري(.)5
وهناك رواية البن األثري تناقلها كثري من املؤرخني ،حتم داللتها العميقة يف هذا املوضوع :طلب نور الدين عام 559هـ
جندات من أمراء األطراف ،لفتح حارم املعرو ة حبصانتها الشديدة ،أما خر الدين قرا أرسضمن األرتقي ،حاكم حصن
كيفا يف داير بكر ،بلغين عنه :أنه قال له ندماؤه ،وخواصه :على أي شيء عزمت؟ قال :على القعود ،إن نور
الدين قد حتشهلف من كثرة الصوم والصضمة ،هو يلقي بنفسه والناس يف املهالك ،كلهم وا قه على ذلك ،لما كان
حال نرى االن ضدها!! قال :إن الغد أمر ابلنداء يف العسكر ،ابلتجهيز للغزاة قال له أولئك :ارقناك ابألمس على ٍ
نور الدين قد سلك معي طريقاً ،إن مل أجنده خرج أه بضمدي على طاعيت ،وأخرجوا البضمد من يدي ،إنه كاتب
ُزهلهادها ،وعبهلادها ،واملنقطعني عن الدنيا ،يذكر هلم ما لقي املسلمون من الفرنج وما انهلم من القت ،واألسر ،
والنهب ،ويستمد منهم الدعاء ،ويطلب منهم أن حيثُّوا املسلمني على الغزاة ،قد قعد ك واحد من أولئك ومعه
علي ،ضم بد من إجابة دعوته ،مث جتهز
أتباعه وأصحابه وهم يقرؤون كتب نور الدين ،ويبكون ،ويلعنوين ،ويدعون هل
هو «أيَاً» وسار إىل نور الدين بنفسه.
إن نور الدين يتعام مع اجلماهري ،وأعياهنا ،ورموزها ،وقد حقق جناحات ابهرة يف كسب قلوهبا ،وأتييدها ،وحمبتها
،كان يطلعها على تفاصي ما جيري على الساحة ،إن تردد احلكام واألمراء ،أو جبنوا ،أو خبلوا؛ إن مبقدور
القواعد األكثر ثقضمً وأتثرياً يومذاك أن ترغمهم على الطاعة ،وإال عصفت هبم ،وأخرجت البضمد من أيديهم ،وذلك
شك يف أن انسجاماً هو الَمان الكبري يف جتنيد القدرات اإلسضممية كا ة ،ود عها إىل ساحات اجلهاد( ، )6وما من ٍ
161
عميقاً ،يتحقق بني القيادة والقواعد ،وحمبة واعية تسود العضمقة بني الرج ،واجلمهور ،وتعاطفاً خملصاً من أج
األهداف الكبرية .وما من ٍ
شك :أن هذا ،وذاك من أسباب النجاح والتو يق يف إدارة دولته(.)1
سابعاً :اللياقة البدنية العالية:
حتم األعباء ،
تطلبت حياة نور الدين حممود احلا لة ابلعم املتواص ،واجلهاد املَين ،جسداً قوايً قادراً على ُّ
واملشقات ،وال يتم بناء اجلسم القوي إال مبمارسة الرايضة ؛ ولذلك كان نور الدين مواظباً على ممارسة األلعاب الرايضية
املعرو ة يف زمانه ،مبا يتعلق ابلفروسية ،وأعمال القتال ،وكان بشك خاص مولعاً بلعبة الكرة أو الصوجلة ،اليت تدعى
يف هذه األايم بلعبة البولو(.)2
جوكانه يعلو رأسه وكان رمبا ضرب الكرة ويصفه ابن األثري بقوله«:من أحسن الناس لعباً ابلكرة وأقدرهم عليها ،ومل يُر َ
،تعلو ،يجري الفرس ،ويتناوهلا بيده من اهلواء ويرميها إىل اخر امليدان ،وكانت يده ال ترى واجلوكان يها ،ب تكون
احتج عليه أحد الزاهدين من أصحابه؛ ألنه يلهو ،ويعذب اخلي لغري ائدة يف كم قبائه استهانة ابللعب»( ،)3وعندما هل
دينية؛ قال« :وهللا ما محلين على اللعب ابلكرة اللهو ،والبطر ،وإمنا حنن يف ثغر ،والعدو قريب منا ،وبينما حنن جلوس؛
إذ يقع صوت نركب يف الطلب ،وال ميكننا أيَاً مضمزمة اجلهاد ليضمً وهناراً ،شتاءً وصيفاً؛ إذ ال بد من الراحة للجند
،ومىت تركنا اخلي على مرابطها صارت مجاماً ال قدرة هلا على إدمان السري يف الطلب ،وال معر ة هلا أيَاً ،بسرعة
االنعطاف يف الكر ،والفر يف املعركة ،نحن نركبها ،ونروضها هبذا اللعب ،يذهب مجامها ،وتتعود سرعة االنعطاف
والطاعة لراكبها يف احلرب ،هذا وهللا الذي يبعثين على اللعب ابلكرة»(.)4
الزهاد عندما
وقد سر نور الدين بكضممه هذا املمارسة الرايضية تفسرياً إسضممياً رائعاً يف جوابه على اعرتاض أحد إخوانه ُّ
()5
وتوضيح لنفسية نور الدين ،هو ال
ٌ كشف ،
كتب له ،في هذا التفسري املنطقي والتحلي التفصيلي للعبة البولو ٌ
يلعب الكرة للعبث ،وإهدار الوقت ،وإمنا لتحقيق العديد من الفوائد اليت هي يف احلقيقة استعداد ،وحتَري للجهاد
،حتَري ألجسام الضمعبني ،وألجسام خيوهلم ،وإشغال :أوقات الفراغ ،مبا هو مفيد إضا ةً إىل ما تقتَيه الرايضة
من راحة نفسية ،واستجمام ،وصفاء التفكري ،وذهاب اهلم للجنود والقادة ،ويف هذا اجلواب لصاحبه الزاهد تظهر
روح نور الدين الرايضية يف أعلى درجاهتا ،هو خياطب الزاهد حسب مستواه من العلم ،واملعر ة ،وأيتيه من الباب
الذي يقنعه ،دون أن جيرح شعوره ابهتامه بقلة املعر ة ،أو التزمت ،أو التعصب(.)6
وهبذا املوقف يبني لنا نور الدين همه لإلسضمم ابملنظور الشمويل الذي كان عليه رسول هللا وأصحابه ،قد روى البخاري
يف صحيحه عن أيب بردة يف قصة بعث أيب موسى ،ومعاذ إىل اليمن ،ويف آخره قال أبو موسى ملعاذ :كيف تقرأ
أنت اي معاذ؟ قال :أانم هلأول اللي ،أقوم وقد قَيت جزئي من النوم ،أقرأ ما كتب هللا يل ،أحتسب نوميت كما
162
أحتسب قوميت( .)1ويف كضمم معاذ ـ رضي هللا عنه ـ دلي على أن املباحات يؤجر عليها ابلقصد والنية .وهذا الفهم جيع
املسلم يقب على شؤون احلياة كلها ،وكلُّه حرص على إتقاهنا لكوهنا عبادة( )2هلل.
إن من أخطر االحنرا ات ،اليت وقعت يها األجيال املتأخرة من املسلمني ،احنرا هم عن تصور مفهوم العبادة ،وحني
يعقد اإلنسان مقابلة بني املفهوم الشام للعبادة الواسع العميق ،الذي كان ميارسه نور الدين ،وانعكاسه على جنوده
وشعبه ودولته ،واملفهوم اهلزي الَئي ،الذي تفهمه األجيال املعاصرة؛ ال يستغرب كيف هوت هذه األمة من عليائها
لتصبح يف هذا احلَيض ،الذي نعيشه اليوم ،وكيف هبطت من مقام الرايدة والقيادة للبشرية كلها؛ لتصبح ذلك
الغثاء الذي تتداعى عليه األمم تنهشه من ك جانب كما تنهش الفريسة الذائب.
إن من شروط النهوض ،اليت نتعلمها من دراستنا لسرية نور الدين الشهيد أن يكون مفهوم العبادة يف حس جيلنا :أن
ََ َ َۡ ُ ۡ
ٱۡل ذن َو ۡٱۡل َ
نس إ ذَل ِۡلَ ۡع ُب ُ
ون
ِ د ِ ِ عبادة هللا هي غاية الوجود اإلنساين كله ،كما نفهم من قول هللا تعاىل ﴿وما خلقت ِ
[ ﴾٥٦الذارايت ]56 :وهبذا الفهم ملفهوم العبادة عند نور الدين وجيله حتققت اجنازات رائعة يف ك اجتاه خاضته الدولة
النورية.
قال ابن األثري« :يف حديثه عن نور الدين حممود :وكان ـ رمحه هللا ـ ال يفع عضمً إال بنية حسنة ،مث ذكر قصة اعرتاض
الزاهد على لعبه ابخلي والكرة اليت ذكرُهتا انفاً ،مث علق ابن األثري بعد هناية القصة ،قال :انظر إىل هذا امللك املعدوم
النظري ،الذي يق ُّ يف أصحاب الزوااي املنقطعني إىل العبادة مثله ،إن من جييء إىل اللعب يفعله بنية صاحلة؛ حىت
يصري من أعظم العبادات ،وأكثر القرابت ،يق ُّ يف العامل مثله ،و يه دلي على أنه كان ال يفع شيئاً إال بنية صاحلة.
وهذه أ عال العلماء الصاحلني العاملني»(.)3
واملضمحظ يف حياة نور الدين صياغة حياته ودولته كلها صياغة إميانية رابنية ملتزمة مبنهج رب العاملني ،وامتثاالً ،وحتقيقاً
ني [ ﴾١٦٢األنعام ]162: اي َو َم َماِت ِ ذَّللِ َرب ٱلۡ َعلَم َ َ َۡ
َم َي َ ُ ُۡ ذ َ
لقول هللا تعاىل﴿ :قل إِن َصل ِِت َون ُس ِِك و
ِ ِ ِ
قدها لشرط مهم من شروط النهوض والتمكني ،أال إن من أسباب ضياع األمة ،وضعفها ،واهنزامها أمام أعدائها َ
وهو حتقيق العبودية مبفهومها الشام الصحيح(.)4
وهكذا كان نور الدين حممود ال يغيب عنه مفهوم العبادة الشام يف هلوه ،ولعبه ،وجده ،وكان ميارس ألعاب أخرى
تشبه يف مغزاها و ائدهتا لعبة البولو كلعبة طعن احللق ،ورمي القبق( )5كانت رحضمت الصيد املمتعة من رايضته األخرى
،حتم من اجلد جنب متعتها الربيئة ما جيعلها من بني املهارات الفروسية ،اليت يتقنها ويتعشقها يومذاك الفارس ،
ُ واجملاهد ،ولقد قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يف تفسري قوله تعاىلَ ﴿ :وأَع ُِّدوا ْ ل َ ُهم ذما ۡ
ٱَ َت َط ۡع ُتم مِن ق ذوة ٖ٦٠
( )1البخاري ،كتاب املغازي ،ابب بعثة أيب موسى األشعري رقم .42
( )2قه النصر والتمكني ص .197
163
إن القوة الرمي» .وقال« :من تعلم الرمي مث تركه ليسإن القوة الرمي( ، )1أال هل
إن القوة الرمي ،أال هل
﴾ [األنفال ]60:أال هل
منا(.»)2
وليس مهارات الصيد ـ يف نظر نور الدين حممود زنكي ـ سوى حماولة من بني عديد من احملاوالت لرتكيز القدرة على
الرمي ،ومحايتها من التبدد والنسيان .وحكى أسامة بن منقذ يف كتابه (االعتبار) عن ممارسة نور الدين لرايضة الصيد:
وظ نور الدين ميارس رايضة الصيد ،ويتعشق لعب الكرة ،والرماية؛ حىت مرضه األخري ،الذي أودى به بعد أايم
قضمئ من ذلك اليوم احلا ،الذي قرر يه ختان ولده امللك الصاحل إمساعي حيث أقيمت االحتفاالت ،ورددت
األانشيد ،وخرج الرج مع بعض أصحابه إىل امليدان األخَر مشايل دمشق ملمارسة العديد من ألعاب الفروسية ،
كطعن احللق ،ورمي القبق ،كما يقول العماد األصفهاين .ما غادر الساحة إال وهو يعاين أملاً حاداً ،وسرعان ما
أودى حبياته بعد قلي (.)3
جتر ُدهُ وزهده الكبري:
اثمناًُّ :
هم نور الدين حممود زنكي ـ رضي هللا عنه ـ من خضمل معايشته للقران الكرمي ،وهدي النيب صلى هللا عليه وسلم ومن
أبن الدنيا دار اختبار ،وابتضمء ،وعليه هلإهنا مزرعة لآلخرة ،ولذلك هل
حترَر من سيطرة الدنيا تفكره يف هذه احلياة؛ هل
بزخار ها ،وزينتها ،وبريقها ،وخَع ،وانقاد ،وأسلم نفسه ظاهراً وابطناً ،ومن هذه احلقائق:
* اليقني التام أبننا يف هذه الدنيا أشبـه ابلغربـاء ،أو عابري سبي ،كمـا قـال النيب صلى هللا عليه وسلم « :كن يف
الدنيا كأنك غريب ،أو عابر سبي »(.)4
العزة إال ما كان منها طاعة هلل ـ تبارك وتعاىل ـ إذ يقول النيب صلى هللا * وأن هذه الدنيا ال وزن هلا ،وال قيمة عند رب هل
عليه وسلم « :لو كانت الدنيا تعدل عند هللا جناح بعوضة ما سقى كا راً منها شربة ماء( ، )5أال هل
إن الدُّنيا ملعونة،
ملعون ما يها إال ذكر هللا ،وما وااله ،أو عاملاً ،أو متعلماً(.»)6
أن عمرها قد قارب على االنتهاء؛ إذ يقول صلى هللا عليه وسلم « :بعثت أان والساعة كهاتني ويقرن بني إصبعيه: * و هل
السبابة ،والوسطى»(.)7
ۡ َ َ ُ ُّ ۡ َ َ َ ذ َ
ٱِلن َيا َمت ٞع * وأن االخرة هي الباقية ،وهي دار القرار ،كما قال مؤمن آل رعون﴿ :يق ۡو ِم إِن َما ه ِذِه ِ ٱۡليوة
َ َ َۡ ُ َ َ َ َ َ ۡ َ َ َ َ ٗ َ َ ُ ۡ َ َٰٓ ذ ۡ َ ََ َ َ َۡ ذ
ى إَِل مِثل َها َۖ َو َم ۡن ع ِمل َٰل ِٗٗا مِن ذك ٍر أو أنث ِه د ُار ٱلق َرارِ ٣٩من ع ِمل َيِئة فل َيز ِإَون ٱٓأۡلخِرة ِ
َ ۡ َ ُ َ ُ ۡ َ ۡ َ ُ ُ ۡ َ َ َٰٓ َ ْ ُ َ ٞذ َ ُ ۡ َ ُ َ َ َ
اب [ ﴾٤٠غا ضم . ]40 – 39 :كانت هذه احلقائق
()8
ۡي حِس ٖوهو مؤمِن فأولئِك يدخلون ٱۡلنة يرزقون فِيها بِغ ِ
( )1مسلم رقم .1917
( )2مسلم رقم .1919
( )3الربق ص 150ـ .154
( )4سنن الرتمذي ،كتاب الزهد رقم 2333وهو حديث صحيح.
( )5املصدر السابق رقم .2320
( )6املصدر السابق نفسه 2322حسن غريب قاله الرتمذي.
( )7مسلم ،كتاب اجلمعة ،ابب ختفيف الصضمة رقم .867
( )8من أخضمق النصر يف جي الصحابة د.السيد حممد نوح ص .49 ، 48
164
قد استقرت يف قلب امللك العادل نور الدين حممود الشهيد ،رتهلع ـ رمحه هللا ـ عن الدنيا وحطامها ،وزهد يهما ،
وإليك شيئاً من مواقفه:
1ـ قال ابن األثري« :وحكى لنا األمري هباء الدين علي بن الشكري ،وكان خصيصاً خبدمة نور الدين ،قد صحبه من
ابلرها؛ والشمس يف ظهوران ،كلما سران تقدمنا الظ الصبا ،وأنس به ،وله معه انبساط ،قال :كنت معه يف امليدان ُّ
شيء أجري رسي ،وألتفت ،لما عدان صار ظلنا وراء ظهوران ،أجرى رسه وهو يتلفت وراءه وقال يل :أتدري ألي ٍ
ورائي؟ قلت :ال ،قال :قد شبهت ما حنن يه ابلدنيا ،هترب ممن يطلبها ،وتطلب من يهرب منها قلت :رضي هللا
عن َملك يفكر يف مث هذا ،وقد أنشدت بيتني يف هذا املعىن ،ومها:
مثـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الظـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـذي ميشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي معـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك مث ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرزق الـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـذي تطلب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه
وإذا ولهليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت عنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه تبعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك(»)1 أنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت ال تدرك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه متبعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً
2ـ تشبهله نور الدين حممود بعمر بن عبد العزيز يف زهده ،وقد كان األخري حاكماً ألقوى دولة على األرض يف زمنه،
لك اشرتاه من سهمه من الغنائم ،وكان ُحيَر الفقهاء كان نور الدين ال ينفق على نفسه ،وال على أهله ،إال من م ٍ
ُ
،ويستفتيهم يما حي ُّ له من تناول األموال املرصدة ملصاحل املسلمني ،يأخذ ما يفتونه حبله ،ومل يتعداه إىل غريه
البتة(.)2
الذمة مبلغ ألفي قرطاس( ، )3يصر ه يف قال العماد األصفهاين« :كان رسم نفقته اخلاص يف ك سنة من جزية أه هل
كسوته ،ونفقته ،ومأكوله ،ومشروبه ،وحوائجه املهمة ،حىت أجرة خياطه ،وطباخه ،ومن ذلك املقرر املعني النزر
،مث يستفَ ما يتصدق به يف آخر الشهر ،ويفَه على املساكني ،وأه الفقر(.»)4
3ـ وأما ما يهدى إليه من الثياب ،واأللطاف ،وهدااي امللوك من املنادي ،والسكاكني ،واملهاميز ،والداببيس ،وك
دقيق وجلي ال يتصرف يف شيء منه ب يعرض نظره عنه ،وإذا اجتمع خيرجه إىل جملس القاضي ليحص أمثاهنا املو ورة
،ويصر ها يف عمارة املساجد املهجورة(.)5
حرمه الشرع من حرير ،أو ذهب ،أو َة( ، )6وحكي يل عنه :أنه مح إليه من مصر عمامة 4ـ ومل يلبس قط ما هل
مذهبةٌ ،لم حيَرها عنده ،وصفت له ،لم يلتفت إليها ،وبينما هم معه يف حديثها؛ إذ قد من القصب الر يع هل
جاءه رج ٌ صويف أمر له هبا ،قي له :إهنا ال تصلح هلذا الرج ،ولو أعطي غريها لكان أنفع له ،قال :أعطوها له
أعوض عنها يف اآلخرة .سلمت إليه سار هبا إىل بغداد باعها بستمئة دينار ،أو سبعمئة ،وأان ،إين أرجو أن هل
أشك :أهنا كانت تساوي أكثر(.)7
165
5ـ قال رضيع اخلاتون «زوجة نور الدين» :إهنا قلهلت عليها النفقة ،ومل يكفها ما كان قد قرره هلا ،أرسلتين إليه ،
امحر وجهه ،مث قال :من أين أعطيها، تنكر ،و هلأطلب منه زايدة يف وظيفتها (أي خمصصاهتا املالية) لما قلت له ذلك؛ هل
أما يكفيها ماهلا؟ وهللا ال أخوض انر جهنم يف هواها ،إن كانت تظن أن الذي بيدي من األموال هي يل؛ بئس الظن؛
لفتق ـ إن كان ـ من عدو اإلسضمم ،وأان خازهنم عليها ،ضم أخوهنم إمنا هي أموال املسلمني ،ومرصدة ملصاحلهم ومعدهلة ٍ
يها! مث قال :يل مبدينة محص ثضمثة دكاكني ُملكاً قد وهبتها إايها لتأخذها .وكان حيص منها قدر قلي حنو عشرين
دينارا(.)1
6ـ قال ابن كثري« :كان نور الدين عفيف البطن ،والفرج ،مقتصداً يف اإلنفاق على أهله ،وعياله يف املطعم ،
وامللبس؛ حىت قي :إنه كان أدىن الفقراء يف زمانه أعلى نفقة منه ،من غري اكتنا ٍز ،وال استئثار ابلدنيا(.)2
وكان عمر املضمء رجضمً من الصاحلني الزاهدين ،وكان نور الدين يستقرض منه يف ك رمَان ما يفطر عليه ،وكان
يرس له بفتيت ،ورقاق يفطر عليه( .)3وكان إذا أقام الوالئم العظيمة ال ميد يده إليها إمنا أيك يف طبق ٍ
خاص يه
طعام بسيط(.)4
مقر سكن حاكم اجلزيرة ،والشام ،ومصر ،واليمن؛ كان داراً متواضعة ،تط ُّ على النهر الداخ إىل القلعة * وأما ُّ
ص هلفةً خيلو يها للعبادة ،لما ضربت الزالزل دمشق ،بىن إبزاء تلك الصفة بيتاً من األخشاب. من الشمال ،أحلق هبا ُ
هو يبيت يه ويصبح ،وخيلو بعبادته ،وال يربح( .)5وملا تويف د ن يف البيت البسيط املقام من األخشاب(.)6
7ـ زهده يف األلقاب :عندما تَـ ْف ُق ُد قيادةٌ ما القدرَة على اإلسهام اجلاد يف حركة التاريخ؛ يتحول مهها إىل منح النياشني
،واأللقاب ملن يقدرون من أج أن تغطي عجزها وانكماشها ،لكن رجضمً اعضمً كنور الدين ير ض هذه املنح خو اً
أن يكون يف طياهتا الكذب ،واملبالغة ،والزيف ،وخو اً أن تقوده إىل نوع من االعتداد ،والغرور ،كثرياً ما انتهى
إليهما القادة العاملون ،أما نور الدين الذي علمه التجرد كيف يكون الر ض؛ إنه يتمنع حىت النهاية عن الذهاب مع
اإلغراء إىل ما يريد الشيطان ال ما يريد هللا.
تلقهلى يوماً من بغداد هدية تشريف عباسية ،ومعها «قائمة» أبلقابه اليت كان يُ ْذ َكر هبا على منابر بغداد...:اللهم أصلح
املوىل ،السلطان ،امللك ،العادل ،العامل ،العام ،الزاهد ،العابد ،الورع ،اجملاهد ،املرابط ،املثاغر نور الدين ،
رضي اإلمامة وأثريها ،خر امللهلة وجمدها
وعدهلته ركن اإلسضمم وسيفه ،قسيم الدولة وعمادها ،اختيار اخلضم ة ومعزها ،هل
،ومشس املعاين وملكها ،سيد ملوك املشرق واملغرب وسلطاهنا ،حميي العدل يف العاملني املظلومني من الظاملني انصر
دولة أمري املؤمنني.
166
لكن نور الدين أسقط مجيع األلقـاب ،وطرح دعاءً واحداً يقول :اللهم وأصلح عبدك الفقري حممود بن زنكي( .)1ومثة
رواية أخرى متنحنا مزيداً من األضواء عن املوضع ،وتتَمن كلمات ومجضمً من إنشـاء نور الدين نفسه..روي أنه كتب
رقعة خبطه إىل وزيره خالد بن القيسراين ـ بعـد أن استفزته كثرة األلقاب ـ أيمره أن يكتب له صـورة ما يدعى لـه بـه على
املنـابـر ،وكـان مقصـوده صيـانة اخلطيب عن الكذب ،ولئضم يقول ما ليس يه ،كتب ابن القيسراين كضمماً ودعا له يه
،مث قال :وأرى أن يقال على املنرب « :اللهم وأصلح عبدك الفقري إىل رمحتك ،اخلاضع هليبتك ،املعتصم بقوتك ،
اجملاهد يف سبيلك ،املرابط ألعداء دينك ،أاب القاسم حممود زنكي».
كان جواب نور الدين :هذا ال يدخله كذب وال تزيُّد .وكتب خبطه يف أعلى الصفحة :مقصودي أالهل يكذب على املنرب
أنـا خبضمف ك ما يـقال .أ رح مبا ال أعم ؟ والتفت إىل وزيره قائضمً :الذي كتبت به جيد ،اكتب به نسخاً إىل البضمد(.)2
مث أضاف مث يبدؤون ابلدعاء :اللهم أَره احلق حقاً اللهم أسعده ،اللهم انصره ،اللهم و قه..من هذا اجلنس(.)3
إن القيادة اليت تريد أن تنهض ابألمة ،ومتارس قه النهوض يف حياهتا عليها أن متنع ك ما من شأنه أن ينمي روح
النفاق ،والتزلف للمسؤولني؛ ألن ذلك يو ر النقد البناء ،وحرية الرأي ،للشعوب حىت يعرف القادة أخطاءهم ،
يصلحوها يف حركته النهَوية ،وعلى القيادة أن تتصف ابلتجرد هلل يف أعماهلا ،وتزهد يف حطام الدنيا الزائ .لقد
كان زهد نور الدين زهد املؤمن الذي ال يرغب يف الدنيا ،وما يها من ملذات ،وشهوات ،ويسعى ويعم لآلخرة
دار النعيم واخلريات ،ولقد مدح ابن القيسراين نور الدين يف زهده ،قال:
()4
و ـ ـ ـ ـي التقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى أزه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد ُزهلهادهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا يغشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى الوغ ـ ـ ـ ـ ـى أ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرس رساهنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا
ويقول أيَاً:
()5
ومـ ـ ـ ـ ـ ـال هبـ ـ ـ ـ ـا عـ ـ ـن األم ـ ـ ـ ـوال زه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدا ثنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى ي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـده عـ ـ ـ ـ ـ ـن الدني ـ ـ ـ ـا عفا ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً
ويصوره ابن منري من الصاحلني األبرار ،الذين يزهدون يما يتنازع عليه الناس من عرض الدنيا ،يقول:
هلـ ـُ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم وتَطل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُع خلف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك األبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرار ال زلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت تقفـ ـ ـ ـ ـو الصاحلي ـ ـن مسابق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً
()6
يـ ـ ـ ـه تفان ـ ـ ـ ـ ـ ـت يَـ ْعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُرب ون ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـزار نف ـ ـ ـ ـس السيـ ـادة زهـ ـ ـد مثل ـك ـ ـي ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـذي
اتسعاً :شجاعته:
ورث نور الدين حممود الشجاعة عن والده ،عماد الدين زنكي ،الذي يَرب بشجاعته املث ،قد شارك نور الدين
يف كا ة املعارك اليت خاضها والده خضمل رتة حكمه ( 521ـ 541هـ) ومن بعد توليه احلكم أمَى معظم أايم حياته
على صهوة جواده ،يشارك جنوده ،ويتقدهلم الصفوف ،ويعرض نفسه للشهادة.
167
وقد ورد أ َ وصف لشجاعته على لسان ابن األثري بقوله« :وأما شجاعته ،وحسن رأيه؛ قد كانت النهاية إليه
يهما ،إنه كان أصرب الناس يف احلرب ،وأحسنهم مكيدة ورأايً ،وأجودهم معر ة أبمور األجناد وأحواهلم ،وبه يَرب
املث يف ذلك ،مسعت مجعاً كثرياً من الناس ال أحصيهم يقولون :إهنم مل يروا على ظهر الفرس أحسن منه ،كأنه خلق
منه ال يتحرك ،وال يتزلزل .وبلغين :أنه يف احلرب رابط اجلأش ،اثبت القدم ،صليب الَرب ،يقدم أصحابه عند
فرة»(.)1
الكرة ،وحيمي منهزمهم عند ال هل
وعندما اجأ الفرجنة معسكره ابلقرب من حصن األكراد عام 558هـ1163/م ،ومل يتمكن هو ومن كان معه من
جتمع عنده من جنا من املعركة ،وأرس يف الثبات ،انسحب ابجتاه محص مسا ة اثنيت عشر كيلو مرتاً ،وتوقف حىت هل
طلب اخليام ،والسضمح ،واملؤن من محص ،وحلب ،وأقام معسكره يف نفس املكان ،نصحه بعض قادته ابختيار
موقع أبعد خو اً من متابعة الفرجنة هلم ،أجابه :إذا كان معي ألف ارس ال أابيل أبعدائي قلوا أم كثروا ،وهللا ال
()2
القوات الكا ية ،توجه هبا حنو
أستظ جبدار؛ حىت اخذ بثأر اإلسضمم وأثري ! ومل يغادر مكانه إال عندما جتمعت له هل
وبر نور الدين بقسمه( .)3وقد حتدهلث الشعراء عن صفة الشجاعة ،وشبهوا حارم؛ حيث وقعت معركة حارم املشهورة هل
نور الدين ابألسد ،ب هو أيسر األسود ،ويتغلب عليها ،يقول ابن القيسراين:
()4
هـ ـ ـ ـ أيسـ ـ ـر الغلـ ـ ـ ـب إال مـ ـ ـ ـن ل ـ ـ ـ ـه الغل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب من ابتـ ـ ـ ـ ـت األُسـ ـ ـ ـد أس ـ ـ ـ ـرى ـ ـي سضمسل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه
ويقول أيَاً:
الـ ـ ـ ـ ـ ـ ـورد وحينـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً تُعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُّد ـ ـ ـ ـ ـي األولي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاء
()5
أن ـ ـ ـ ـ ـت حين ـ ـ ـ ـاً تقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاس ابألس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد
ارس الفرسان ،ويسلب التيجان من امللوك االخرين ، وهو عند األصفهاين يغلب امللوك ،ويصيد األسود ،وهو
وجيوز الفخار لشجاعته وبطولته ،يقول العماد يف مدحه:
الصيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد الليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوث و ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـارس الفرس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـان يـ ـ ـ ـا غال ـ ـ ـ ـب الغل ـ ـ ـ ـب املل ـ ـ ـ ـوك وصائـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد
()6
حـ ـ ـ ـ ـزت الفخـ ـ ـ ـار عل ـ ـ ـ ـى ذوي التيج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـان يـ ـ ـ ـا سال ـ ـ ـ ـب التيج ـ ـ ـ ـ ـ ـان مـ ـ ـن أرابهب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا
وقال ابن قسيم احلموي:
دل علـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى القسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاوة لينــُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ كالرم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـح هل
ُّ تب ـ ـ ـدو الشجـ ـ ـ ـ ـ ـاعة م ـ ـ ـن طضمق ـ ـ ـة وجه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه
()7
وس ُكون ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه
للـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه سطـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوة أبس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ُ ووراء يقظت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه أن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاة ُمـ ـجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرب
وقال ابن منري:
168
()1
حتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى اسرتق ـ ـ ـ ـ ـ ـت آي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة أحراره ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا م ـ ـ ـ ـ ـأل البـ ـ ـ ـ ـضمد مواهب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً ومهاب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة
وقال أيَاً:
()2
يُرجـ ـ ـ ـ ـ ـى ويرهـ ـ ـ ـ ـب خو ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه وعقاب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه متهل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ وامل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوت ـي نربات ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه
عاشراً :مفهومه للتوحيد ،وتضرعه ،ودعاؤه:
()3
كان امللك العادل نور الدين حممود الشهيد من عمق همه للتوحيد ،ومعر ته ابهلل تعاىل ال يفع عضمً إال بنية حسنة
،وحقق يف حياته مفهوم التوحيد الصحيح ،وحقق اإلميان بك معانيه ،والتزم بشروطه ،وابتعد عن نواقَه.
مرةً« :ابهلل ال ختاطر بنفسك،
وهذا املوقف العظيم يدل على ما قلنا :قال له قطب الدين النيسابوري ـ الفقيه الشا عي ـ هل
وابإلسضمم واملسلمني إنك عمادهم»( )4قد نصحه بعدم االشرتاك ابلقتال ،واملخاطرة بنفسه؛ حىت ال يقت ضم يبقى
من املسلمني أحد إال أخذه السيف ،ومن مث تؤخذ البضمد( .)5قال نور الدين :اي قطب الدين اسكت؛ إن قولك هذا
وم ْن حممود؛ حىت يقال له هذا؟! قبلي من حفظ البضمد ،ذلك هللا الذي ال إله إال هو! بكى إساءة أدب على هللا َ ،
من كان حاضراً(.)6
وهذا الذي قاله نور الدين ـ رمحه هللا ـ يدخ يف صميم مفهوم التوحيد ،اهلل هو األول واالخر ،والظاهر والباطن ،
وما الناس ابتداء من أصغر جندي يهم ،حىت أكرب قائد إال أدوات « اعلة» يف يده حيركها و ق مشيئته ،وإرادته
لتحقيق كلمته يف الكون ـ هللا عز وج ـ وكفى( .)7هذا التطبيق العملي ملفهوم اإلميان ابهلل ،وحتقيق توحيده الذي لو
أدركته قياداتنا عرب التاريخ؛ لعر ت كيف تَع هذا التاريخ لصاحلنا حنن ال لصاحل اخلصوم واألعداء(.)8
ويف ساحة احلرب ،حيث املوت على بعد خطوات ،وحيث لقاء هللا آت وراء ك حلظة كان نور الدين يذوب تواضعاً
،وإشفاقاً ،وتصفه تقواه العميقة يف حَور مؤثر أمام هللا ،حيث تتمزق يف أعماق وعيه بقااي الستائر ،واحلجب ،
اليت ظ يكا ح من أج متزيقها؛ لكي يقف نقياً.
عندما التقت قواته يف حارم ابلصليبيني ،الذين كانوا يفوقوهنم عدة وعدداً ،انفرد نور الدين حتت ت حارم ،وسجد
ومرغ وجهه ،وتَرع ،وقال« :اي رب هؤالء عبيدك وهم أولياؤك ،وهؤالء عبيدك وهم أعداؤك ،انصر لربه عز وج هل
أولياءك على أعدائك .وإيش َول حممود يف الوسط؟».
169
يقول أبو شامة :يشري نور الدين هنا إىل أنك اي رب إن نصرت املسلمني دينك نصرت ،ضم متنعهم النصر بسبب
حممود إن كان غري مستحق للنصر .وبلغين :أنه قال :اللهم انصر دينك ،وال تنصر حمموداً َم ْن الكلب حممود؛ حىت
ينصر()1؟!
ويف إحدى املعارك سنة ست ومخسني ومخسمئة ،قَى هللا ابهنزام عسكر املسلمني ،وبقي امللك العادل مع شرذمة
ب عسكر ال ُك هلفار حبيث اختلط هل
رجالة املسلمني ، قليلة ،وطائفة يسرية ،واقفاً على ت ً يقال له :ت حبيش ،وقد قَـ ُر َ
مع رجالة ال ُكفهلار ،وقف امللك العادل حبذائهم موليا وجهه إىل قبلة الدُّعاء ،حاضراً جبميع قلبه مناجياً ربه بسره يقول:
ب العباد ،أان العبد الَعيف ملهلكتين هذه الوالية ،وأعطيتين هذه النيابة ،عمرت بضمدك ،ونصحت عبادك ، «اي َر هل
وأمرهتم مبا أمرتين به ،وهنيتهم عما هنيتين عنه ،ر عت املنكرات من بينهم وال أملك إال نفسي هذه ،وقد َسلهلمتها
إليهم ذاابً عن دينك ،وانصراً لنبيك».
الرعب ،وأرس عليهم اخلذالن ،وقفوا يف مواضعهم ،وما جسروا على استجاب هللا تعاىل دعاءه ،وأوقع يف قلوهبم ُّ
اإلقدام عليه ،وظنوا :أن امللك العادل عم عليهم احليلة ،وأن عسكر املسلمني يف الكمني ،إن أقدموا عليه خترج
عساكر املسلمني يف الكمني ،ضم ينفلت منهم أحد وقفوا ،وما أقدموا عليه(.)2
ومن خضمل املواقف السابقة ال يبدو نور الدين دائياً حسب ،ولكن قيهاً بقدر هللا متبصراً بدور اإلنسان يف حركة
أن إرادة هللا إذا شاءت هتيأت هلا األسباب ،ولن يعجزها شيء؛ ولو مات ،أو قت عشرات القادة التاريخ ،عاملاً :هل
إن اخر رج منهم سيحم املهمة ،ويواص الطريق ،ومن مث يستوي ـ عرب هذه الرؤية ـ هذا القائد ،أو واجملاهدين ،هل
ذاك(.)3
وكان نور الدين حممود يف الليايل يصلي ،ويناجي ربه مقبضمً بوجهه عليه ،ويؤدي الصلوات اخلمس يف أوقاهتا بتمام
شرائطها ،وأركاهنا ،وركوعها ،وسجودها( .)4وبلغنا عن مجاعة من الصو ية الذين يعتمد على أقواهلم ممهلن دخلوا داير
سر ،إنه ما يظهر علينا بكثرة جنده وعسكره القدس للزايرة حكايةً عن الكفار :أهنم يقولون« :ابن القسيم ،له مع هللا ٌّ
،وإمنا يظفر علينا ابلدُّعاء وصضمة اللي ،إنه يصلي ابللي ،وير ع يده إىل هللا ويدعو ،اهلل سبحانه يستجيب دعائه
،ويعطيه ُسؤله ،وما يَـ ُرُّد يده خائبة ،يظفر علينا! هذا كضمم الكفهلار يف حقه»(.)5
ٍ
أسلحة، أعد املسلمون من إن نور الدين حممود اعترب الدعاء من أمَى األسلحة اليت تسهم يف حتقيق النصر ،ومهما هل
وعتاد ،إهنم يظلون عرضة للفش واهلزمية واإلحباط ،إذا امتنعوا عن استخدام هذا السضمح ،أو أساؤوا هلةٍ ، وعد ٍ
170
الزهاد ،والعباد ،والعلماء ،والفقراء ،والفقهاء كذلك ،وكان استخدامه( ، )1ولذلك استخدمه بنفسه ،وطلب من هل
مستوعباً لقول رسول هللا صلى هللا عليه وسلم « :ه تنصرون إال بَعفائكم»(.)2
مخ العبادة( ، )3ال ب هو سيد العبادات، الدعاء هلل ،والتعلُّق به عند قادة النهوض الرابنيني والصادقني من املسلمني ُّ
وأقرهبا ،وأحبُّها إىل هللا تعاىل ،لقوله صلى هللا عليه وسلم :
«الدعاء هو العبادة( ، )4ومفتاح الرمحة ستمطر العباد به مفاتيح رمحة هللا تعاىل بعد أن تنقطع هبم األسباب»(.)5
كنز حقيقي من أيها األخوة الكرام املهتمون بنهَة أمتهم ،والتمكني لدين هللا تعاىل يف األرض عليكم ابلدعاء؛ إنه ٌ
مجلة الكنوز اليت تنطوي عليها الشريعة اإلسضممية ،اهلل تعاىل حيض عباده على اقتناص هذا الكنز يف مث قوله تعاىل:
ُ َ َ
ين [ ﴾٥٥األعراف .]55 :ويف مث قوله تعاىلَ ﴿:وقال َر ُّبك ُم َض ٗع َو ُخ ۡف َي ًة إنذ ُهۥ ََل ُُي ُِّ ُّ ٱل ۡ ُم ۡع َت ِد َ ۡ ُ ْ َذ ُ
ك ۡم تَ َ ُّ ﴿ٱدعوا رب
ِ
ون َج َه ذن َم َداخِر َۡ ُ ٓ َۡ َ ۡ َ ُ ۡ ذ ذ َ َۡ َ ۡ ُ َ َ ۡ َ َ َ َۡ ُ ُ َ
ين [ ﴾ ٦٠اطر ]60 :وغالب ًا ِ ج ُّ لكم إِن ٱَّلِين يستك ِِبون عن عِباد ِِت َيدخل وِن أَت ِٱدع ِ
ما حتدث اإلجابة عاجضمً أم اجضمً:
يبوا ْ ل َو ۡ ُۡل ۡؤم ُِنوا ْ ب لَ َع ذل ُهمۡ
اع إ َذا َد َعن فَلۡ َي ۡس َتج ُ
ِ ي ُّ َد ۡع َوةَ ٱِلذ ُ
ك ع َِبادِي َعن فَإّن قَري َُّۖ أج ُ َ َ ََ َ
ِ ِ ِ ِِۖ ِ ِ ِ ِِ ِ ﴿ِإَوذا َأل
َُۡ ُ َ
يرشدون[ ﴾١٨٦البقرة ]186 :
إن من أسباب جناح نور الدين حممود يف مشروعه النهَوي ،استيعابه العميق لفقه الدعاء ،ومقدرته على استخدامه
كسضمح تهلاك ضد األعداء ،وحسن تَرعه ،وانكساره بني يدي املوىل عز وج .
171
ومرة أخرى نلتقي به ،وهو يغادر املوص بعد عشرين يوماً من دخوله إايها عام 566هـ يسأله أصحابه :إنك حتب
املوص واملقام هبا ،ونراك أسرعت العود؟ يجيب :قد تغري قليب يها إن مل أ ارقها ظلمت ،ومينعين أيَاً أنين ها هنا
ال أكون مرابطاً للعدو ،ومضمزماً للجهاد(.)1
وأما حبه للشهادة ،قد قال عنه أبو شامة :كان يف احلرب اثبت القدم ،حسن الرمي ،صليب الَرب ،يقدم
أصحابه ويتعرض للشهادة ،وكان يسأل هللا تعاىل أن حيشره يف بطون السباع ،وحواص الطري( ، )2كانت عقيدة
الشهادة حتركه ،وهذا اإلميان العميق بعقيدة الشهادة يف سبي هللا هو الذي د ع أجياالً من املسلمني إىل ساحات
اجلهاد طلباً للموت ،أسقطوا الدول ،وغريوا اخلرائط ،وسحقوا العروش ،ومرغوا األنوف ،ومل ميوتوا ،كان نور
الدين إذا حَر احلرب أخذ قوسني وجعبتني ،وابشر القتال بنفسه ،وكان يقول :طاملا تعرضت للشهادة لم أرزقها(.)3
إن امللك العادل نور الدين حممود الشهيد ،ترىب على كتاب هللا ،وهدي النيب صلى هللا عليه وسلم قد خص هللا
ُ ُ َ َٓ َ َۡ ََ ذُ ذ َ َ َُ ْ ََذ َ
خذ مِنك ۡم شهدا َء ۗۡ الشهيد ابلذكر يف القران الكرمي يف مواضع منها؛ قال تعاىل﴿:و ِۡلعلم ٱَّلل ٱَّلِين ءامنوا ويت ِ
َ ذ ُ َ ُ ُّ ذ
ٱلظلِم َ
ني ﴾ ١٤٠ ِ وٱَّلل َل ُيِ ُّ
[آل عمران . ]140 :ويف هذه اآلية إشارة واضحة إىل أن الشهادة إمنا هي اصطفاء وتكرمي من هللا عز وج لبعض عباده
أن الشهادة ال تكون لك أحد من الناس ،اهلل سبحانه وتعاىل يكرم هبا من يشاء من خلقه(.)4 األخيار ،و هل
ني ِين َأ ۡن َع َم ذ ُ
ٱَّلل َعلَ ۡيهم م َِن ٱنلذبي َن َوٱلصدِيق َ ك َم َع ذٱَّل َ ذ َ َ ذ ُ َ َ ُ ْ َ َٰٓ َ ََ ُ
ِ ِ ِِ ِ والثانية قوله تعاىل﴿ :ومن ي ِطعِ ٱَّلل وٱلرَول فأولئ ِ
َ َ َ ُ َ ُ ْ َ َٰٓ َ َ ٗ ذ ُّ َ ٓ
ٗني وحسن أولئِك رفِيقا [ ﴾ ٦٩النساء ]69:يف هذه اآلية يبني هللا سبحانه وتعاىل درجة املصطفني َوٱلش َهداءِ َوٱلصل ِ ِ
األخيار من شهدائه :أهنم مع النبيني والصديقني ،ومن تكون له هذه املنزلة إال من أكرمه هللا ابلشهادة.
مث أتيت الصورة الناصعة للشهداء يوم القيامة يوم يؤتى هبم مع النبيني ،ليشهدوا يوم القيامة ملن ذب عن دين هللا ،وذلك
َۡ ُ ََ ۡ ََ
ت ٱۡلۡرض ب ِ ُنورِ َرب ِ َها ۡشق ِ شرف عظيم ،وموقف عظيم انلوه ابلشهادة ،يقول هللا عز وج يف هذه اآلية﴿ :وأ
َۡ َ ُ ۡ َ ُ ۡ َ ُ َ ِ بَ ۡي َن ُ
َ َ ُ َ ۡ َ ُ َ ْ ٓ َ ذ َ َ ُّ َ َ ٓ َ ُ
ِّ وهم َل يظلمون [ ﴾ ٦الزمر.]69: ِ ِٱۡل ب م ه ِ جايء بِٱنلب ِ ِين وٱلشهداءِ وق ضع ٱلكِت ُّ و ِ وو ِ
لقد أعد هللا للشهداء من الكرامة ،والنعيم األبدي ،ما جيع ك نفس زكية تتوق إىل الشهادة ،وترغب لتفوز ابألجر
العظيم( )5قال تعاىل:
َ َ َٓ َ َ ُ ُ ذ
ٱَّللُ َ َ ۡ ُۡ َُ َ ذ َ ۡ َ َ َۢ َ ۡ َ ۡ َ ٓ َب ذٱَّل َ
ِين قُتِلُوا ْ ِف َ ََ َۡ
َت َس َ ذ
يل ٱَّللِ أموتا بل أحياء عِند رب ِ ِهم يرزقون ١٦٩ف ِرحِني بِما ءاتىهم ِ ِ بَ ِ ﴿وَل
ُ َۡ ُ َ َ ََ َ ذ َ َ ۡ َ َۡ َۡ َ ُ ْ ذ ََۡ َۡ ُ َ َ ۡ
ٗقوا ب ِ ِهم م ِۡن خلفِ ِه ۡم أَل خ ۡوف عل ۡي ِه ۡم َوَل ه ۡم ُي َزنون ﴾١٧٠ ۡشون بِٱَّلِين لم يل مِن فضلِهِۦ ويستب ِ
172
ذ َۡ ُُ َ ذ َ ۡ َ ُ َۢ َ ۡ َ ۡ َ ٓ َ َ ٞ [عمران 169 :ـ . ]170وقال تعاىلَ ﴿ :و ََل َت ُقولُوا ْ ل َِمن ُي ۡق َت ُل ِف َ
كن َل تشعرون
يل ٱَّللِ أموتۚ بل أحياء ول ِ ِ ِ بَ ِ
. ]154 [البقرة : ﴾١٥٤
وورد يف السنة الثابتة عن النيب صلى هللا عليه وسلم « :إن أرواح الشهداء يف جوف طري خَر هلا قنادي معلقة ابلعرش
،تسرح من اجلنة حيث شاءت ،مث أتوي إىل تلك القنادي ،اطهللع إليهم رهبم اطضمعة ،قال :ه تشتهون شيئاً؟
قالوا :أي شيء نشتهي وحنن نسرح من اجلنة حيث شئنا ،ع هبم ذلك ثضمث مرات ،لما رأوا أهنم لن يرتكوا من أن
يسألوا قالوا :اي رب نريد أن تُ هلرد أرواحنا يف أجسادان حىت نقت يف سبيلك مرة أخرى ،لما رأى أن ليس هلم حاجة
تُركوا»(.)1
الشهيد َله عظيم ،ومكانته ر يعة ،إذا كان هللا ـ سبحانه وتعاىل ـ َ اجملاهدين على القاعدين ،الشهداء أكثر
()3 ()2
َضمً ،وأعظم تشريفاً .ولقد قات نور الدين األعداء ،وجاهد يف هللا حق جهاده ،حىت استحق لقب ،تشريفاً
وتكرمياً من األمة هلذا البط اجملاهد الفذ.
الثاين عشر :عبادته:
كان امللك العادل نور الدين حممود الشهيد يصلي أكثر الليايل ،ويناجي ربه مقبضمً بوجهه عليه ،ويؤدي الصضمة يف
أوقاهتا بتمام شرائطها ،وأركاهنا ،وركوعها ،وسجودها( ،)4وحيا ظ على اجلماعة ،وكان كثري االبتهال إىل هللا ـ عز
وج ـ يف أموره كلها( .)5وكان من عادة نور الدين أنه ينزل إىل املسجد بغلس ،وال يزال يركع يه حىت يصلي الصبح(.)6
وقال ابن األثري« :حدثين صديق لنا بدمشق ـ كان رضيع اخلاتون زوجة نور الدين ـ قال :كان نور الدين يصلي يطي
الصضمة ،وله أوراد يف النهار ،إذا جاء اللي ،وصلى العشاء انم ،مث يستيقظ نصف اللي ،ويقوم إىل الوضوء
والصضمة والدعاء إىل بكرة ،مث يظهر للركوب ،ويشتغ مبهام الدولة»(.)7
وقال ابن كثري« :كان نور الدين كثري املطالعة للكتب الدينية ،متبعاً لآلاثر النبوية ،حما ظاً على الصلوات يف اجلماعات
،كثري التضموة ،صمواتً وقوراً( .)8كان نور الدين كثري الصيام ،وله أوراد يف اللي والنهار ،وكان يقدم أشغال املسلمني
عليها مث يتمم أوراده»(.)9
وعبارة « :كان يقدم أشغال املسلمني عليها مث يتمم أوراده» هذا هو املنطق الذي علمنا إايه اإلسضمم والذي جيع
التعبد ،الذي هو غاية اخلضمئق ،ممارسة إجيابية ،تَرب يف أعماق الناس ،تغري نفوسهم ،ومتتد إىل حركة التاريخ ،
173
تصوغ مسريته ،كانت طبيعةُ تعبُّد نور الدين تد عه إىل املسؤولية ،وجتعله يف قلبها ،وهو أعمق وعياً ،وأشد خشية،
وأمَى عزمية ،وأقدح ذَكاء(.)1
لقد مارس نور الدين مفهوم العبادة مبفهومها الشام ،وأعطت تلك املمارسة مثارها على مستواه الشخصي والشعيب،
ََ ُ ْ ذ َ َ َ َ ُ ْ ذ َ َ ََ ُ ْ ذ َ
ٱلر َُول وعلى دولته ،وحتقيق العبادة من شروط التمكني قال تعاىل :وأقِيموا ٱلصلوة وءاتوا ٱلزكوة وأطِيعوا
ُ َ ََ َۡ ُ ُ ذ ُ ََ ۡ َ ۡ َۡ ََ ذ ُ ۡ ُۡ َُ َ َ َۡ َ َذ ذ َ َ
ك َف ُروا ْ ُم ۡعجز َ
صۡي [ ٥٧النور55 ين ِِف ٱۡل ِ
ۡرض ومأوىهم ٱنلار َۖ وَلِئس ٱلم ِ ِ ِ لعلكم ترۡحون َ ٥٦لَتسَب ٱَّلِين
. ]56 -قد أشارت اآلايت الكرمية إىل شروط التمكني وهي :اإلميان بك معانيه وبكا ة أركانه ،وممارسة العم الصاحل
بك أنواعه ،واحلرص على ك أنواع اخلري وصنوف الرب ،وحتقيق العبودية الشاملة ،وحماربة الشرك بكا ة أشكاله
وأنواعه وخفاايه ،وأما لوازم استمرار التمكني هي :إقامة الصضمة ،وإيتاء الزكاة ،وطاعة الرسول صلى هللا عليه وسلم(.)2
الثالث عشر :إنفاقه وكرمه:
اشتهر نور الدين ابإلنفاق الواسع ،والكرم العظيم ،وكانت له أوقاف عظيمة ،قال العماد« :وكلف نور الدين إب ادة
األلطاف ،والزايدة يف األوقاف ،وتكثري الصدقات وتو ري النفقات وكسوة النسوة األايمى ،وإغناء قراء الرعية،
وإجنادها بعد إعدامها ،وصون األيتام واألرام ببذله ،وعون الَعفاء وتقوية املقوين بعدله ،وعمارة املساجد املهجورة
،وتعفية ااثر اآل اثم ،وإسقاط ك ما يدخ يف شبهة احلرام ،ما أبقى اجلزية واخلراج ،وما حتص من قسم الغضمت
على قومي املنهاج قال :وأمر أن يكتب مناشري جلميع أه البضمد كتب أكثر من ألف منشور ،وحسبنا ما تصدهلق به
على الفقراء يف تلك األشهر ،زاد على ثضمثني ألف دينار ،وكانت عادته يف الصدقة :أنهله حيَر مجاعة من أماث البلد
عمن يعر ون يف جوارهم من أه احلاجة ،مث يصرف إليهم صدقاهتم. يف ك حمله ،ويسأهلم هل
وكان يرسم نفقته اخلاصة يف ك شهر من جزية أه الذمة مبلغ ألفي قرطيس يصر ه يف كسوته ،ونفقته ،وحوائجه
ويتفَ منه ما كان يتصدق به يف اخر الشهر ،وأما ما كان يُهدى إليه هل املهمة حىت أجرة خياطه ،وجامكية طباخه ،
هل
من هدااي امللوك وغريهم ،إنه كان ال يتصرف يف شيء منه ال قلي وال كثري ،ب إذا اجتمع خيرجه إىل جملس القاضي
وحيص مثنه ،ويصر ه يف عمارة املساجد املهجورة ،وتقدم إبحصاء ما يف حمال دمشق من ذلك ،أانف على مئة
مسجد ،أمر بعمارة ذلك كله ،وعني له وقو اً»(.)3
قال :ولو اشتغلت بذكر وقو ه ،وصدقاته يف ك بلد لطال الكتاب ،ومل أبلغ إىل أمره ،ومشاهدة أبنيته الدهلالة على
خلوص نيهلته ،تغين عن خريها ابلعيان ،ويكفي أسوار البلدان َضمً عن الربط ،واملدارس ،على اختضمف املذاهب ،
واختضمف املواهب ،ويف شرح طوله طول ،وعمله هلل مربور مقبول»(.)4
أدر على الَعفاء واأليتام الصدقات ،حىت وقف وقو اً على املرضى واجملانني ،وأقام هلم األطباء واملعاجلني ،وكذلك و هل
على مجاعة من العلماء ،ومعلمي اخلط والقران ،وعلى ساكين احلرمني ،وجماوري املسجدين ،وجهز عسكراً حيفظ
174
املدينة ،وأقطع أمري مكة ،ور ع عن احلجاج ما كان يؤخذ منهم من املكس ،وأقطع أمراء العرب لئضم يتعرضوا للحجاج
أبحد ،وكانت قد د نتها كثرة السيول ،وأمر إبكمال سور مدينة الرسول صلى هللا عليه وسلم ،واستخراج العني اليت ُ
،وعمر الربط ،واخلانقاهات ،والبيمارستاانت ،وبىن اجلسور يف الطرق واخلاانت ،ونصب مجاعة من املعلمني لتعليم
وحران ،
يتامى املسلمني ،وأجرى األرزاق على معلميهم وعليهم ،بقدر كفايتهم ،وكذلك صنع ملا ملك سنجار ،هل
والرقة ،ومنبج ،وشيزر ،ومحاة ،ومحص ،وبعلبك ،وصرخد ،وتدمر ،ما من بلد منها إال وله يه ُح ْس ُن أثر ،
وحص الكثري من كتب العلوم ،ووقفها على طضمهبا(.)1
وقد مدح الشعراء نور الدين على كرمه وجوده قد قال ابن منري:
ـ ـ ـ ـ ـي سائـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر اآل ـ ـ ـ ـ ـ ـاق :ه ـ ـ ـ ـ ـ م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ُم ْعسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر ك املن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـادي ج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـودهُ يـ ـ ـ ـا أيهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا امللـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ
استخص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوا البحتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـري
ُّ ابسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم ابـ ـ ـ ـن ٍ
أوس و اس هلنوهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوا وألنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت أك ـ ـ ـ ـ ـ ـرم مـ ـ ـ ـ ـ ـن أنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ
()2
إن تغ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـز تغنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم أو تقات ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ تظفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر ذلهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت لدولت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك الرق ـ ـ ـ ـ ـ ـاب وال تـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـزل
كان نور الدين كما يصفه كثري من املؤرخني قلي االبتهاج ابلشعر( ،)3ال عن نفور من الشعر ذاته ،وعدم توا ق مع
معطياته الوجدانية اليت هتز العقول والقلوب ،وإمنا على نفور من الشعراء أنفسهم ومن مزايداهتم املعرو ة على حساب
احلق ،ومتلقهم الزائف للسلطة على حساب العدل(.)4
بتوجسه من ملق الشعراء ، إن نور الدين هنا يذكران بعمر بن عبد العزيز ،ال يف كراهيته للتجربة الشعرية ،ولكن ُّ
وضعفهم ،ومزايداهتم ،ومن مث إن نور الدين ـ كسلفه ـ مل يكن يُ ْشرعُ األبواب يف وجوههم ،ب مل يكن يعطيهم ،وقد
سئ حيىي بن حممد الوهراين يف بغداد عن نور الدين ،أجاب يف إحدى مقاماته« :وهو سهم للدولة سديد ،وركن
للخضم ة شديد ،وأمري زاهد جماهد ،غري أنه عرف ابملرعى الوبي البن السبي ،وابحمل اجلديب للشاعر األديب ،
ليس لشاعر عنده من نعمة جتزى»(.)5
وعبارة ـ غري أنه ـ ترد بعد عبارات املديح ،تلك توحي أبن موقفه هذا مل يكن مرضيهلاً عنه من اجلميع ،هناك دائماً من
يريد أن أيخذ على حساب أي شيء يف ك عصر ،كانت آذان هؤالء قد اعتادت عبارة «أعطوه ألف دينا ٍر» أو
عبارة :س ما شئت .ومن بني هؤالء الشعراء :أسامة بن منقذ ،الذي ميدحه ببيتني من الشعر يتَمان غمزاً مستوراً
ملوقف نور الدين من عطاء الشعراء:
لـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ك ـ ـ ـ علـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى اخليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرات منكمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـش سلطانن ـ ـ ـ ـ ـا زاهـ ـ ـ ـ ـد والنـ ـ ـ ـ ـاس ق ـ ـ ـ ـ ـد زه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدت
م ـ ـ ـن املعاص ـ ـ ـ ـ ـي و يهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا اجلـ ـ ـ ـ ـوع والعطـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـش أايم ـ ـ ـ ـ ـه مث ـ ـ ـ ـ ـ ـ شه ـ ـ ـ ـ ـ ـر الص ـ ـ ـ ـوم طاهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرة
لكن أاب شامة املؤرخ الدمشقي ،يتصدى بنفسه للرد على الرجلني :صاحب املقامة ،وصاحب القصيدة؛ ولفَح
االزدواجية اليت يعانيها كثري من الشعراء ،ولبيان حقيقة املوقف العظيم ،يقول« :ما كان ـ نور الدين ـ يبذل أموال
175
املسلمني إال يف اجلهاد ،وما يعود نفعه على العباد .وكان كما قي يف حق عبد هللا بن حمرييز ـ وهو من سادات التابعني
حيب هللا ،وخبيضمً حيث حتبُّون ،وأما شعر ابن منقذ ضم اعتبار به ،هو القائ يف يف الشام ـ :أنه كان جواداً حيث ُّ
مدح نور الدين:
ب النـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُار ابإليقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاد
يهـ ـ ـا تَ ُشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُّ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ك ـ ـ ـ ـ ـ ع ـ ـ ـ ـ ٍام للربيـهل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة ليل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةٌ
نـ ـ ـ ـ ـاران :نـ ـ ـ ـ ـ ـ ُار قـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرى ونـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـار جه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاد لكـ ـ ـ ـن لن ـ ـور الديـ ـ ـن مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن دون الـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـورى
الع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـام أمجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـع ليل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة امليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمد أب ـ ـ ـ ـ ـ ـداً يصرُهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـداه وأبسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه
أهب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن األطـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـواق ـ ـ ـ ـ ـ ـي األجيـ ـ ـ ـ ـاد ك ل ـ ـ ـ ـه ـ ـ ـ ـ ـ ـي كـ ـ ـ جيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍد منهل ـ ـ ـ ـ ـ ـةٌ َمل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ
وأمدُّهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم كف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً بب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـذل ت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمد أعلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى املل ـ ـ ـ ـ ـوك ي ـ ـ ـ ـداً وأمنعه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم مح ـ ـ ـ ـ ـ ًى
مـ ـ ـ ـ ـن غي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر مسأل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍة وال ميعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاد تربع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً يعطـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي اجلزي ـ ـ ـ ـ ـ َ م ـ ـ ـ ـن النهل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوال ُّ
()1
م ـ ـ ـ ـا دام ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت الدنيـ ـ ـ ـ ـ ـا بغي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر نفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاد ك دائـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍم ال زال ـ ـ ـي سع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍد ومل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ
وعن دما أسر الفرنج أخا أسامة بن منقذ جنم الدولة حممد؛ طلب من ابن عمه انصر الدين حممد بن سلطان صاحب
شيزر اإلعانة يف كاكه ،لم يفع ،قال أسامة« :وادخر هللا سبحانه أجر خضمصه ،وحسن ذكره للملك العادل نور
الدين ،رمحه هللا تعاىل ،وهبه ارساً من مقدهلمي الدهلاوية يقال له املشطوب ،قد بذل اإل رنج يه عشرة االف دينار ،
استخلص به أخاه من األسر»(.)2
أن نور الدين قد مدح من قب شعراء عصره الكبار كابن القيسراين ،وابن منري ،والعماد األصفهاين ، واملضمحظ :هل
التكسب أو توخي التزلُّف( .)3يقول الدكتور حممود إبراهيم، وغريهم ،ويبدو :أن مدح الشعراء لنور الدين مل يكن بدا ع ُّ
يف حديثه عن عضمقة ابن القيسراين بنور الدين ومدحه له« :ومما يلفت النظر يف متجيد ابن القيسراين لنور الدين :أن
الشعر الذي نظم يف هذا التمجيد قد خضم من االستماحة اليت مل خت منها قصائد أخرى البن القيسراين ،قيلت يف
أبن شعر ابن القيسراين يف نور الدين ميث إعجاابً صادقاً أشخاص اخرين يف مناسبات قدمية .ولع هل هذا مما يعزز االعتقاد هل
أن هذا الشعر ال يَُ ْرتج ُم مشاعر ابن القيسراين وحده ،ب عن مشاعر اجلماعة اإلسضممية كذلك»(.)4 ابلبط اإلسضممي ،و هل
ب الشعر ،ويعجب به؛ ألنه كان يدرك أثر الشعر يف إاثرة الشعور ،وحتريكه ،والسيما شعر اجلهاد وكان نور الدين حي ُّ
،ووصف املعارك ،أما كونه ال يبتهج ابملدح؛ هذا تواضع منه؛ ألنه ال حيب مبالغات الشعراء ،ومزايداهتم ابملدح ،
وألنه كان مقتدايً ابلسلف الصاحل كاخللفاء الراشدين ،ضم أيخذه هبرج القول( ،)5نور الدين مل يكن يف حالة خصام
مع الشعر ،ب كان حيب الشعر امللتزم ،قد طلب من العماد األصفهاين أن يعم مثنوايت شعرية يف معىن اجلهاد
على لسانه ،قال:
ومالـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـي العي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـش غي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـره م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن أرب للغ ـ ـ ـ ـ ـ ـزو نشاط ـ ـ ـي وإليـ ـ ـ ـ ـ ـه طربـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي
( )1كتاب الروضتني نقضمً عن نور الدين زنكي يف األدب العريب ص .197
( )2كتاب أخبار الدولتني (.)358/1
( )3نور الدين يف األدب العريب ص .195
( )4صدى الغزو الصلييب ص 159ـ .160
( )5نور الدين يف األدب العريب ص .197
176
والراح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة مستودع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي التهلع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب ب
ابجل ـ ـ ـ ـ ـ ـد وابجلهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاد جن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـح الطل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ
سيفـ ـ ـ ـ ـ ـي طـربـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً إل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى الع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضم يهت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـُّز ال راح ـ ـ ـ ـ ـ ـة ـ ـي العيـ ـ ـ ـ ـش س ـ ـ ـ ـوى أن أغـ ـ ـزو
()1
والق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدرة ـ ـ ـ ـي غي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر جهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاد عج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُز ـ ـ ـ ـي ذل ذوي الكفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر يكـ ـ ـ ـ ـ ـون العـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـز
ضد الصليبيني عند طربية ويقول األصفهاين يف موضع اخر :كنت راكباً مع نور الدين يف أعقاب إحدى جوالته الظا رة هل
،سألين :كيف تصف ما جرى؟ مدحته بقصيدة مطلعها:
()2
وب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدت لعصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرك آيـ ـ ـ ـ ـ ـةُ اإلحس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـان ُعق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدت بنص ـ ـ ـ ـ ـرك راي ـ ـ ـ ـ ـةُ اإلمي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـان
ولكن ما هو أكثر داللة من هذا كله أن يشهد عصر نور الدين أتلق عدد من كبار الشعراء ،كان يقف يف قمتهم ابن
القيسراين ،والعماد األصفهاين ،وابن منري ،وابن الدهان املوصلي ،أولئك الذين وجدوا يف دولة نور الدين األرضية
الصاحلة الزدهار الشعر؛ الذي طرق أبواابً واسعة ،وخطا إىل آ اق بعيدة املدى ،ما كان هلم أن يرحلوا إليها بقصائدهم
املبدعة ،لوال أن لقوا من نور الدين إعجاابً ،وتوا قاً ،وانسجاماً(.)3
وأما ما تَمنه قول الوهران ،وقول ابن منقذ من إشارة إىل خب نور الدين ،أو حرصه على املال ،هذا أمر مستبع ٌد،
و يه كثري من املبالغة ،ولو كان نور الدين كما يقوالن؛ ملا ازدحم الشعراء على اببه ميدحونه ،ويسجلون انتصاراته ،
اختص مبدحه بعض الشعراء هل وملا أمجع أغلب شعراء عصره على مدحه ابلكرم واجلود ،حىت أسامة بن منقذ نفسه َ ،وملا
َ
،وال زموه رتات طويلة(.)4
أن أابه حمبوس على صيب ،وبكى عند نور الدين ،وذكر :هل ومما له عضمقة ابلكرم واإلنفاق يف سرية نور الدين :حَر ٌّ
أجرة ُحجرة من حجر الوقف ـ يعين وقف اجلامع ـ سأل عن حاله؟ قالوا :هذا الصيب ابن الشيخ أيب سعد الصويف ،
وهو رج زاهد قاعد يف حجرة للوقف ،وليس له قدرة على األجرة ،وقد حبسه وكي الوقف ،ألنه اجتمع عليه أجرة
رق له ،وأنعم عليه ،وقال: سنة ،سأل :كم أجرة السنة؟ قالوا :مئة ومخسون قرطاساً ،وذكروا سريته ،وطريقته ،و قره ،هل
حنن نعطيه ك سنة هذا القدر ليصر ه إىل األجرة ،ويقعد يها ،وتقدم بذلك إبخراجه من احلبس ،وص إىل قلب ك
واحد من احلاضرين الفرح حىت هل
كأن اإلنعام كان يف حقه(.)5
هذه هي أهم صفات نور الدين حممود الشهيد ،رمحه هللا! قال يه ابن عساكر « ...ومع ما ذكرت من هذه املناقب
متأت ملعر ة العلوم ابلفهم والبنيان ،حريص على كلها ،وشرحت من دقها ،وجلها ،هو حسن اخلط ابلبنان ٍ ،
حتصي كتب الصحاح والسنن ،مق ٍ
نت هلا أبو ر األعواض والثمن ،كثري املطالعة للعلوم الدينية ،متتبع لآلاثر النبوية ،
مؤد روضها ومسنوانهتا ،معظم لقدرها يف مجيع مواظب على الصلوات يف اجلماعات ،مر ٍاع آلداهبا يف األوقات ٍ ،
حاالهتا ،عاكف على تضموة القران على مر األايم ،حريص على ع اخلري من الصدقة والصيام ،كثري الدعاء والتسبيح
متح ٍر يف املطاعم ،واملشارب ،واملضمبس ،راغب يف صضمة الرتاويح ،عفيف البطن والفرج ،مقتصد يف اإلنفاق واخلرج َ ،
( )1نور الدين الرج والتجربة ص .138
( )2نور الدين الرج والتجربة ص .138
( )3كتاب الروضتني نقضمً عن نور الدين حممود ص .139
( )4نور الدين حممود يف األدب العريب ص .198
( )5عيون الروضتني (.)357/1
177
التطري ،مع ما مجع هللا
التكرب ،بريء من التنجيم و ُّ
التجرب و ُّ
عري عن ُّ ،متربىءٌ من التمادي ،والتباهي ،والتنا س ٌّ ،
له من العق املتني ،والرأي الثاقب الرصني ،واالقتداء بسرية السلف املاضني ،والتشبه ابلعلماء والصاحلني ،واالقتفاء
بسرية من سلف منهم يف حسن مستهم ،واالتباع هلم يف حفظ حاهلم ووقتهم ،حىت روى حديث املصطفى صلى هللا
عليه وسلم وأمسعه ،وكان قد استجيز له ممن مسعه ومجعه حرصاً منه على اخلري يف نشر السنة ابألداء ،والتحدُّث ،ورجاء
شاهد من جضمل السلطنة وهيبة امللك أن يكون ممن حفظ على األمة أربعني حديثاً كمن جاء يف احلديث ،من رآه َ
حريه ،ولقد حكي يل عنه من صحبه يف حَره وسفره :أنه مل تُسمع ما يبهره ،إذا اوضه رأى من ألطا ه وتواضعه ما هل
حيب الصاحلني
منه كلمة حش يف رضاه وال ضجره ،وإن أشهى ما إليه كلمة حق يسمعها ،أو إرشاد إىل سنة يتبعها ُّ ،
ويؤاخيهم ،ويزور مساكنهم حلسن ظنه هبم ،إذا احتلم مماليكه أعتقهم ،وزوج ذكراهنم إبانثهم ،ورزقهم ،ومىت تكررت
الشكاية إليه من أحد والته؛ أمر ابلكف عن أذى من تكلم بشكاته ،من مل يرجع منهم إىل العدل ،قابله إبسقاط
املرتبة ،والعزل.
وسه على يديه تح احلصون والقضمع، لما مجع هللا له من شريف اخلصال ،تيسر له ما يقصده من مجيع األعمال ،هل
ومكن له يف البلدان والبقاع ،حىت ملك حصن شيزر ،وقلعة دوسر ،ومها من أحصن املعاق واحلصون ،واحتوى هل
على ما يهما من الذخر املصون من غري سفك حمجمة من دم يف طلبهما ،وال قت أحداً من املسلمني بسببهما ،
وأكثر ما أخذه من البلدان بتسليمه من أهله ابألمان ،وويف هلم ابلعهود ،واألميان ،أوصلهم إىل مأمنهم يف ك مكان.
وإذا استشهد أحد من أجناده؛ حفظه يف أهله وأوالده ،وأجرى عليهم اجلراايت ،ووىل من كان أهضمً منهم للوالايت،
وكلما تح هللا عليه تحاً ،وزاده والية؛ أسقط عن رعيته قسطاً ،وزادهم رعاية ،حىت ارتفعت عنهم الظضممات ،
ودرت على رعاايه األرزاق ،ونفقت عندهم األسواق، واملكوس ،واتَعت يف مجيع واليته الغرامات ،والنحوس ،هل
وحص بينهم بيمنه االتفاق ،وزال بربكته العناد ،والشقاق ..إىل أن قال :اهلل حيقن به الدماء ،ويسكن به الدمهاء ،
ويدمي له النعماء ،ويبلغ جمده السماء ،ويرجي الصاحلات على يديه ،وجيع منه واقية عليه ،قد ألقى أ هلزمتنا إليه ،
وأحصى علم حاجتنا إليه ،ومناقبه خطرية ،وممادحه كثرية ،ذكرت منها غيَاً من يض ،وقليضمً من كثري ،وقد
مدحه مجاعة من الشعراء ،أكثروا ،ومل يبلغوا وصف آالئه ،ب قصروا ،وهو قلي االبتهاج ابلشعر ،زايدة يف تواضعه
لعلو القدرة ،اهلل يدمي على الرعية ظله ،وينشر يهم رأ ته وعدله ،ويبلغه يف دينه ودنياه مأموله ،وخيتم ابلسعادة
والتو يق أعماله ،هو ابإلجابة جدير ،وعلى ما يشاء قدير»(.)1
إن ما ذكرته من صفات للملك العادل نور الدين مثرات زكية إلميانه العميق على حتقيق ما عجز عنه غريه ،ممهلن كانت هل
بضمدهم ،وثرواهتم تزيد أضعا اً على ما كان عليه ،قد امتألت نفسه مببادئ اإلسضمم على حنو ال نكاد جند له شبيهاً
حوله من أمري إىل جماهد ،ومن حاكم سياسي إىل إال عند األوائ من أعضمم صدر اإلسضمم ،وهذا اإلميان هو الذي هل
زاهد ،وهو الذي أعانه على مواجهة مشكضمت عصره السياسية ،واالجتماعية ،واالقتصادية ،والتغلب عليها رغم
قلة املوارد ،ومل يعرف عنه تعصب ،وكانت نفسه مسحةً اكتسبها من طبيعة اإلسضمم السمحة ،إنه حارب الصليبيني
178
على أهنم أجانب مغتصبني ،ال على أهنم نصارى ،ومن هنا إنه مل ميس النصارى الوطنيني بسوء ،وكان هلم عنده حق
الرعاية الكاملة ،لم يهدم يف حياته كنيسة ،وال اذى قساً ،أو راهباً ،على عكس الصليبيني الذين إذا دخلوا قرية
قتلوا أهلها املسلمني مجيعاً .وقد أكسبه إميانه هذا احرتام خصومه من الصليبيني ،كانوا على عداوهتم له حيرتمونه،
ويعرت ون له ابالمتياز عليهم ،حىت هل
إن املؤرخ وليم الصوري ـ الذي أ اض يف كتاابته ابحلقد على اإلسضمم واملسلمني ـ مل
يستطع إال أن يعرتف بفَله ،وعدله ،وصدق إميانه(.)1
179
ج امسه ـ أن حيسن معونيت ،ويُيسر ما صر ت إليه عزمييت ،حني شرح هللا صدري لذلك؛ والحت إمارات املعونة ،
ابدرت إىل مجع هذه السرية برسم خزانته املعمورة معاونة على الرب والتقوى(.)1
لقد قدهلم هذا الشيخ اجللي منهاجاً علمياً عملياً لنور الدين زنكي من خضمل سرية عمر بن عبد العزيز ،بىن دولة
وحكم الشريعة ،وقمع البدع ،وأقام العدل ،ور ع الَرائب ،واملكوس عن األمة ،وعم على إحياء السنة العقيدة ،هل
وعمق هوية األمة ،و هلجر روح اجلهاد يها ،ونشر العلم ،وساهم يف حتقيق االزدهار والرخاء ،وكان نسيج وحده ، ،هل
يف زهده وورعه وعبادته وصدقه ،واهتم ابإلدارة واالقتصاد والقوات املسلحة ،واملدارس العلمية ،واملؤسسات االجتماعية
،وكان شديد التقيد أبحكام الشريعة الغراء.
يقول شهاب الدين عبد الرمحن بن إمساعي املقدسي الدمشقي املعروف أبيب شامة عن نور الدين زنكي ...« :أطربين
ما رأيت من ااثره ،ومسعت من أخباره ،مع أتخر زمانه ،وتغري خضمنه ،مث وقفت بعد ذلك يف غري هذا الكتاب على
كالعمرين ـ رضي هللا عنهما ـ يف العدل
سرية َسيد امللوك بعده ،امللك الناصر صضمح الدين ،وجدهتما يف املتأخرين ُ
وسلطاان ُخطهلتنا ،هل
خصنا هللا تعاىل هبما ،وجب ٍ
أي اجتهاد ،ومها َملكا بلدتنا ُ واجلهاد ،واجتهدا يف إعزاز دين هللا هل
ٍ
بتصنيف يتَمن التقريظ هلما والتعريف ،لعلهله يقف عليه علينا القيام بذكر َلهما ،عزمت على إ راد ذكر دولتيهما
من امللوك من يسلك يف واليته ذلك السلوك ،ضم أبعد أهنما حجة من هللا على امللوك املتأخرين ،وذكرى منه سبحانه
،إن الذكرى تنفع املؤمنني ،إهنم قد يستبعدون طريقة اخللفاء الراشدين ،ومن حذا حذوهم من األئمة السابقني ،
احلجة
ويقولون حنن يف الزمن األخري ،وما ألولئك من نظري ،كان يما قدر هللا سبحانه من سرية هذين امللكني إلزام هل
عليهم مبن هو يف عصرهم من بعض ملوك دهرهم ،لن يعجز عن التشبه هبما أحد؛ إن و ق هللا تعاىل الكرمي(...)2
هذان حجة على املتأخرين من امللوك والسضمطني ،لله درمها من ملكني تعاقبا على حسن السرية ،ومجي السريرة ،
ومها حنفي ،وشا عي ،شفى هللا هبما ك هل ع ٍي ،وظهرت من خالقهما العناية ...والفَ للمتقدم ،كأن زايدة مدة
نور الدين كالتنبيه على زايدة َله ،واإلرشاد إىل عظيم حمله ،إنه أص ذلك اخلري كلهَ ،م هلهد األمور بعدله ،وجهاده
،وهيبته يف مجيع بضمده مع شدة الفتق ،واتساع اخلرق ،و تح من البضمد ،ما استعان به على مداومة اجلهاد ،هان
على من بعده على احلقيقة ،سلوك تلك الطريقة( ...)3ما أحقهما بقول الشاعر:
بَليـ ـ ـ ـ ـن حتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت الث ـ ـ ـ ـرى عفـ ـ ـ ـ ـ ـواً وغفران ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا وألب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـس الل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه هاتيـ ـ ـ ـ ـ ـك العظ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َام وإن
مثـ ـ ـ ـ ـوى قبوره ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم روحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً ورحيانـ ـ ـ ـا(»)4 ألت
سق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى ثـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرى أُود ُعـ ـ ـ ـ ـوه رمح ـ ـ ـةً م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْ
وإليك أخي أهم معامل التجديد واإلصضمح اليت قام هبا نور الدين حممود الشهيد يف دولته:
أوالً :احلرص على تطبيق الشريعة:
( )1الكتاب اجلامع لسرية عمر بن عبد العزيز ( )2/1اخلليفة الراشد واملصلح الكبري عمر بن عبد العزيز ص .356ـ[]1073
180
مل تكن مقاليد احلكم يف دولة نور الدين أداة خلدمة أهداف الطبقة احلاكمة ،كما هو احلال يف كثري من الدول ،
واحلكومات ،وال لتحقيق ومحاية مصاحل حفنة من البريوقراطيني ،كما أهنا مل تكن جمرد ذريعة عملية «براغماتية» لتسيري
مدى كان على
الشؤون املادية املنفعية الصر ة للدولة حسب ،ب إن هنالك أهدا اً أكرب بكثري ،وقيماً ومبادئ أبعد ً
أجهزة الدولة أن تسعى إىل حتقيقها يف واقع احلياة ،وأن تبذل ما متتلكه من قدرات وخربات للسري ابألمة قدماً صوب
ا اقها الرحبة الشاملة.
إن تنفيذ شريعة اإلسضمم ،وقيمه ،ومبادئه يف واقع احلياة ،وبعث اجملتمع اإلسضممي كان هو اهلدف املركزي لدولة نور
الدين حممود ،هي إذاً دولة ملتزمة وليست صاحبة أغراض منفعية ،وكسب ،واحرتاف ،وقد أكد نور الدين على
هذه احلقيقة يف أكثر من مناسبة ،وحشد هلا الكثري من األقوال ،والتأكيدات ،والتصرحيات ،ودعا حبماس منقطع
النظري إىل حتقيقها ،وسعى ـ عضمً ـ إىل أن تنتق هذه الدعوة ـ رغم املصاعب ،والعقبات ـ من ميدان الفكر إىل ميدان
لص ،وقاطع طريق ،واألذى احلاص منها قريب ،أ ضم حنفظ الدين ومننع التطبيق( )1قال« :وحنن حنفظ الطرق من ٍ
عنه ما يناقَه ،وهو األص ()2؟!
()4 ()3
أحد والته« :انظر يف العوادي وما جيري يها من وقال« :حنن شحن للشريعة منَي أوامرها» .وقال خماطباً َ
الدعاوي ،وميز بني احملاسن واملساوي ،وأمح األمور يها على الشريعة»(.)5
وقال متحداثً إىل اثنني من كبار موظفيه« :وهللا إين أ كر يف و ٍال وليته أمور املسلمني ،لم يعدل يهم ،أو يمن يظلم
املسلمني من أصحايب ،وأعواين ،وأخاف املطالبة بذلك أمام هللا .باهلل عليكم ...وإال خبزي عليكم حرام ،ال تراين
إيل( .)6وقال يما يلخص موقفه امللتزم بعبارة
إيل ،أو تعلمان مظلمة إال وأعلماين هبا ،وار عاها هل
قصة مظلوم ال تر ع هل
تثري اإلعجاب« :إين جئت ها هنا امتثاالً ألمر الشرع»(.)7
ومثة شهادات املؤرخني تؤكد مجيعاً هذا احلرص على االلتزام ،وعلى جع الدولة أداة لتحقيق كلمة هللا يف األرض(.)8
املطهرة ،ويقف عند أحكامها»( .)9ويقول يف مكان اخر« :وعلى يقول ابن األثري« :كان نور الدين يعظ ُم الشريعة هل
احلقيقة هو الذي جدد للملوك اتباع سنة العدل واإلنصاف ،وترك احملرمات من املأك واملشرب وامللبس وغري ذلك،
إهنم كانوا قبله كاجلاهلية ،مهة أحدهم بطنه و رجه ،ال يعرف معرو اً ،وال ينكر منكراً ،حىت جاء هللا بدولته وقف
181
مع أوامر الشرع ونواهيه ،وألزم بذلك أتباعه وذويه ،اقتدى به غريه منهم ،واستحيوا أن يظهر عنهم ما كانوا
يفعلونه»(.)1
ويقول أبو شامة :مسعت أاب شداد يقول :هلأما كره في إظهار شعائر الناس ،وأتسيس قاعدة الدين»( .)2ويقول يف
إرشاد إىل سنة يتبعها»(.)3
مكان آخر« :كان أشهى ما إليه كلمة حق يسمعها ،أو ٌ
ويقول ابن كثري« :كان يقوم يف أحكامـه ابملعدلة احلسنة ،واتباع الشرع املطهر ...وأظهر ببضمده السنة ،وأمات
()4
البدعة» .ويقول ابن قاضي شهبة :كان نور الدين ـ ملا صارت له املوص ـ قد أمر كمشتكني شحنتها أال يعم شيئاً
إال ابلشرع إذا أمره القـاضي ،وأال يعمـ القاضـي والنواب كلهم شيئاً إال بعد مراجعة الشيخ عمر املضمء ـ أحد شيوخ
املوص الصاحلني ـ وعندما حَر وايل املوص ،وبعض القادة واألمراء يها إىل الشيخ عمر؛ لكي يكتب إىل نور الدين
كتاابً ،يطلب منه أن يسمح بتشديد العقوبة على بعض املخالفات بسبب كثرة مرتكبيها ،وعدم ارتداعهم ـ وكانت
أوامر نور الدين أبن تكون العقوابت مطابق ًة ملا ورد أبحكام الشريعة ،بدون زايدة ونقصان ـ ومل جيرؤ الوايل على الكتابة
لنور الدين هبذا املوضوع خشية التأنيب ،وأعتقد :أن الشيخ عمر مبا له من دالة على نور الدين ،رمبا جنح ابملطلوب
الزعار ،وقطهلاع الطرق ،واملفسدين قد َكثروا ،وحيتاج إىل نوع
،كتب الشيخ عمر كتاابً إىل نور الدين يقول يه« :إن ُّ
()5
وصلب ،وضرب ،وإذا أخذ مال إنسان يف الربية من جييء ليشهد به؟ ٍ سياسة ،ومث هذا ال جييء إال بقت ٍ ،
أجاب نور الدين على ظهر رسالة الشيخ بقوله :إن هللا تعاىل خلق اخللق ،وهو أعلم مبصلحتهم ،وإن مصلحتهم
حتص يما شرعه على وجه الكمال ،ولو علم أن على الشريعة زايدة يف املصلحة؛ لشرعه لنا ،ما لنا من حاجة على
زايدة ما شرعه هللا تعاىل ،من زاد؛ قد زعم :أن ا لشريعة انقصة ،هو يكملها بزايدته ،وهذا من اجلرأة على هللا ،
وعلى شرعه ،والعقول املظلمة ال هتتدي ،اهلل سبحانه يهدينا وإايك إىل الكتاب ،وإىل الصراط املستقيم(.)6
لما وص الـجواب إىل الشيخ عمر مجع الناس وقرأ عليهم كتـابـه ،وجواب نور الدين عليه قائضمً« :انظروا يف كتاب
الزاهد إىل امللك وكتاب امللك ،إىل الزاهد»(.)7
وكان نور الدين معتنياً حبفظ أصول الدايانت ،وال ميك ُن أحداً من إظهار ما خيالف احلق ،ومىت أقدم على ذلك هلأدبه
عام ،أو شخصي إال بعد أن يستفيت الفقهاء ،الذين كانوا أشبه مبا يناسب بدعته( ، )8وكان ال يقدم على إجر ٍاء ما ٍ
مبجلس شيوخ تشريعي ،أو هيئة استشارية تستلهم يف قراراهتا النهائية مؤشرات الشريعة الغراء ،حبيث ال يقدم أحد يف
الدولة على عم ٍ ،أو إجراء إال وجييء ذلك العم منسجماً مع كر الدولة ،وعقيدهتا ،وشريعتها(.)9
182
ومل يدع نور الدين منكراً يسود جانباً من جوانب احلياة االجتماعية إال عم على إزالته ،وحث موظفيه على التنفيذ
الفوري ألوامره هبذا الصدد ..إنه مل يشأ أن يقات العدو يف اخلارج؛ ويف الداخ يعشش اخلراب ،والتفكك ،والعفن،
يدمر اإلنسان املسلم ،ويفتت العضمقات االجتماعية ،ويستنزف القدرات اجلهادية اخلضمقة لألمة املسلمة ،واليت بدوهنا
كانت تنتهي دائماً إىل مواقع الفرار ،والذلة ،واهلزمية .لقد قاهلا يوماً أحد كبار الشيوخ ـ برهان الدين البلخي ـ وجهاً
صروا ويف عسكركم اخلمور ،والطبول ،والزمور؟ ضم وهللا!»(.)1 لوجه أمام نور الدين« :أتريدون أن تُـْن َ
وما كان نور الدين حباجة إىل من يقول له هذا ،ولكنها الذكرى اليت هتز الفؤاد ،وتقود إىل مزيد من اإلجناز ،الذي
يبين اجلبهة الداخلية النظيفة ،املتينة القديرة على مواصلة املهمة القتالية اليت قادها نور الدين .لقد أصدر أوامره إىل كا ة
موظفيه ابلعم على منع ارتكاب الفواحش ،وشرب اخلمور ،أو بيعها يف مجيع بضمده ،أو إدخاهلا إىل بلد ما ،وإسقاط
ميد الظضمم ،وكان ينزل عقابه ك ما يدخ حتت شبه احلرام ،وتصفية آاثر اآلاثم ،وإراقة اخلمور ،وإزالة ك ما ُّ
السريع العادل بك من خالف عن أمره ،وك الناس عنده يه سواء(.)2
لقد بلغ من التزام نور الدين بكتاب هللا ،وسنة رسوله ـ عليه الصضمة والسضمم ـ حداً يف غاية الروعة واجلمال ،وشدة
احملبة لرسول اإلسضمم ،قد حكى الشيخ أبو الربكات أنه حَر مع عمه احلا ظ أيب القاسم جملس نور الدين لسماع
أن النيب صلى هللا عليه وسلم خرج متقلداً سيفاً ،استفاد نور الدين أمراً مل مر أثناء احلديث :هل شيء من احلديث ،هل
يكن يعر ه ،وقال كان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يتقلد السيف!! يشري إىل التعجب من عادة اجلند؛ إذ هم
مر؛ وأان حتت القلعة ،والناس جمتمعون ينتظرون ركوب خضمف ذلك؛ ألهنم يربطونه أبوساطهم ،لما كان من الغد هل
السلطان ،وقفنا ننظر إليه ،خرج من القلعة ،وهو متقلد السيف ،ومجيع عسكره كذلك( .)3رحم هللا امللك العادل
ورد
نور الدين ،الذي مل يفرط يف االقتداء ابلنيب صلى هللا عليه وسلم مبث هذه احلالة ،ب ملا بلغته رجع بنفسه ،هل
جنده عن عوائدهم اتباعاً ملا بلغه عن نبيه صلى هللا عليه وسلم ما الظن بغري ذلك من السنن( .)4وما أحسن ما قال
يه حممد بن نصر القيسراين:
ه ـ ـ ـ ـو ط ـ ـ ـ ـ ـول احليـ ـ ـ ـ ـاة ـ ـ ـ ـ ـي هيجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاء ذو اجلهاديـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن عـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ
دو
سلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوك احملج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة البيَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاء أيهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا املل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك الـ ـ ـ ـ ـ ـ ـذي أل ـ ـ ـزم النـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاس
مل ـ ـ ـا سـ ـ ـ ـ ـرت ـ ـ ـ ـي النـ ـ ـ ـاس سي ـ ـرة اخللف ـــ ـ ـ ـ ـ ـاء قـ ـ ـ ـد َح ـ ـ ـ ـ ـت امللـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوك ابلع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدل
()5
لقسمـ ـ ـ ـت التق ـ ـ ـ ـى علـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى األتقـي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاء قامس ـ ـ ـاً مـ ـا ملكـ ـ ـت ـ ـي الن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاس حـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـىت
وقال يه ابن منري:
وعفـ ـ ـ ـ ـت بصف ـ ـ ـ ـ ـوة عدل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك األك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدار عف ـ ـ ــَى جهـ ـ ـادك كـ ـ ـ هل رسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم خمو ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة
للـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ـ ـ ـ ـ ـ ـي خطرات ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه أس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرار وحمـ ـ ـ ـ ـ ـا املظـ ـ ـ ـاملَ من ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك نظ ـ ـ ـ ـ ـ ـرةُ راح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم
183
لنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوره مم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراه نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوا غَبـ ـ ـ ـ ـان لإلسـ ـ ـ ـ ـضمم مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـال عم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوده
عش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُار
س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍاع ملظلمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة وال هل س مسلـ ـ ـ ـ ـم سـ ـلف ـ ـ ـ ـ ـاً وال لـ ـم يَـبــْ َق م ـا ك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ
دار
خلساره ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم مم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا أتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوه ق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ مه ـ ـ ـ ـدوا كم ـ ـ ـ ـ ـ ـا مهـ ـ ـ ـ ـ ـدت مث ـ ـ ـ ـ ـود وقادهـ ـ ـ ـ ـم
ولباسه ـ ـ ـ ـ ـ ـم ي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوم احلس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاب الن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـار العـ ـ ـ ـ ـار ـ ـ ـ ـي الدني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا شقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوا بلباسـ ـ ـ ـ ـ ـه
()1
ر عـ ـ ـ ـ ـ ـت هل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ـ ـ ـ ـ ـ ـي اخلا قي ـ ـ ـ ـ ـ ـن منـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـار ك ـ ـ ـ ـ ـ ـم سي ـ ـ ـ ـرة أحييته ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا عمريهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة
()2
أبقله ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا تستعب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد األحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرار صريهت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن لوازم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً
ونوا ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هل
()3
واللي ـ ـ ـ ـ ـ ـ م ـن طـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـول القيـ ـ ـ ـام هن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُار أم ـ ـ ـ ـ ـا هنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـارك هـ ـ ـ ـ ـ ـو ليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ جماه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد
ولقد حتققت يف دولة نور الدين حممود ااثر حتكيم شرع هللا تعاىل من التمكني ،واألمن ،واالستقرار ،والنصر ،والفتح
املبني ،والعز ،والشرف ،وبركة العيش ،ورغد احلياة يف عهده ،وانتشار الفَائ ،وانزواء الرذائ ...إخل وسوف
تتَح إبذن هللا تعاىل هذه االاثر يف هذا الكتاب.
وإن تلك االاثر الطيبة إن ااثر حتكيم شرع هللا يف الشعوب اليت نفهلذت أوامر هللا ونواهيه ،ظاهرة بينة لدارس التاريخ ،هل هل
قد رأيناها يف دراستنا لدولة اخللفاء الراشدين ،ودولة عمر بن عبد العزيز ،ودولة نور الدين زنكي ،ودولة يوسف بن
اتشفني ،ودولة حممد الفاتح ،وهي من سنن هللا اجلارية واملاضية ال تتبدل وال تتغري ،أي قيادة مسلمة تسعى هلذا
املطلب اجللي ،والعم العظيم خملصة هلل يف قصدها ،مستوعبة لسنن هللا يف األرض؛ إهنا تص إليه ،ولو بعد حني،
وحكامها. وترى ااثر ذلك التحكيم على أ رادها ،وجمتمعاهتا ،ودوهلا ،هل
إن الغرض من األحباث التارخيية اإلسضممية االستفادة اجلادة من أولئك الذين سبقوان ابإلميان يف جهادهم ،وعلمهم ،
وتربيتهم ،وسعيهم الدؤوب لتحكيم شرع هللا ،وأخذهم بسنن هللا و قهه ومراعاة التدرج واملرحلية ،واالرتقاء ابلشعوب
يدي من أخلص حنو الكماالت اإلسضممية املنشودة .إن التو يقات الرابنية العظيمة يف اتريخ أمتنا جيريها هللا تعاىل على ْ
َ َ َ ۡ ََ
لربه ودينه ،وأقام شرعه ،وقصد رضاه ،وجعله وق ك اعتبار( .)4قال تعاىل﴿ :فل َو َربِك َل يُؤم ُِنون َح ذَّت
ٗ ۡ َُ ُ َ َ َ َ َ ََُۡ ۡ ُ ذ َ َ ُ ْ ٓ َ ُ ۡ َ َ ٗ ذ َ َ ۡ َ َ َُ ُ ْ َ
َيدوا ِِف أنفسِ ِهم حرجا مِما قضيت ويسل ِموا تسل ِيما [ ﴾٦٥النساء]65: ُيكِموك فِيما شجر بينهم ثم َل ِ
َ َ ۡ ۡ ََ َۡ ۡ َ َ َ ُ ْ ذ َ ُ َ َ َ ذُ ذ َ َُ ْ
ٱَ َتخلف ۡرض كما ت ليَ ۡس َتخل ِف ذن ُه ۡم ِِف ٱۡل ِ ِين َءامنوا مِنك ۡم َوع ِملوا ٱلصل ِح ِ قال تعاىل ﴿وعد ٱَّلل ٱَّل
َ ذ
َ َ َ َ َ َۡ َ َ
ٱرتِ ل ُه ۡم َوۡلُ َبدِنلذ ُهم ِم َۢن َب ۡع ِد خ ۡوف ِ ِه ۡم أ ۡم ٗنا َي ۡع ُب ُدون ِن َل َِن ل َ ُه ۡم د َ
ِين ُه ُم ٱَّلِي ِِ ذٱَّل َ
ِين مِن َق ۡبله ۡم َو َۡلُ َمك َ ذ
َ ۡ ُۡ ُ َ
ۡشكون ِب شيا ﴾[النور ]55: ي ِ
اثنياً :بناء دولة العقيدة على أصول أهل السنة:
184
كان نور الدين رج عقيدة ،وكان أظهر ما يف خصائصه هو إميانه اإلسضممي العميق ،قال عنه ابن كثري ...« :كان
جماهداً يف الفرنج ،امراً ابملعروف ،انهياً عن املنكر ،صحيح االعتقاد ،وكان قد قمع املناكر وأهلها ،ور ع العلم
والشرع ،وليست الدنيا عنده بشيء رمحه هللا»(.)1
وكان رمحه هللا ميلك رؤية هنوض قائمة على إحياء السنة ،وقمع البدعة .قال عنه ابن كثري« :أظهر نور الدين ببضمده
السنة ،وأمات البدعة ،وأم ر ابلتأذين حبي على الصضمة حي على الفضمح ،ومل يكن يؤذن هبما يف دوليت أبيه وجده ،
وإمنا كان يؤذن حبي على خري العم ؛ ألن شعار الر ض كان ظاهراً»(.)2
وكان يعاقب املبتدعة أبشد العقوابت :قي :إن رجضمً أظهر شيئاً من التشبيه ،أُركب على محاره ،وأمر بصفعه ،
حران( . )3وكان نور الدين يتحرى السنة يف أموره كلها ،ومن أعظم إجنازات دولته هو وطيف به يف البلد ،ونفاه إىل هل
إسقاط الدولة الفاطمية ،وكان الفَ هلل مث للحمضمت املتوالية ،اليت أرسلها نور الدين حممود()4؛ حىت خلص املسلمني
من شرورها ،وأعلن تبعيتها للخضم ة العباسية السنية ،وكان رأي نور الدين يف الدولة العبيدية الفاطمية ،يتلخص يف
رسالته للخليفة العباسي ،وهو يبشره بفتح مصر ،وسقوط دولة اإلحلاد ،والر ض ،والبدعة(.)5
يقول يها« :وطاملا بقيت 280سنة مملوءة حبزب الشياطني ...حىت أذن هللا لغمتها ابالنفراج ،واجتمع يها داءان:
الكفر ،والبدعة ،ومتكنا من إزالة اإلحلاد والر ض ،ومن إقامة الفرض»( ،)6وسيأيت احلديث عن أساليب ومنهج نور
الدين يف إزالة الدولة الفاطمية يف مصر.
دور نور الدين يف دعم املذهب السين:
مهدت مدارس نظام امللك ـ رمحه هللا ـ السبي ،ويسرته أمام نور الدين ،واأليوبيني ،أضحى الطريق معبداً لتحقيق
اهلدف الذي أنشئت النظاميات من أجله؛ وهو العم على مناهَة الفكر الشيعي ،ودعم املذهب السين ،وقد عقد
نور الدين العزم على صبغ دولته ابلكتاب والسنة ،ومواجهة الفكر الشيعي الرا َي ،والذي كان حمصوراً يف حلب ،
ودمشق ،ومصر ،وبذل جهوداً كبرية ليمكن ملذهب السنة إال أن هذه اجلهود كانت ختتلف يف طبيعتها ابختضمف
هذه البيئات الثضمث .وإليك جهود نور الدين حممود يف األقاليم الثضمثة(:)7
1ـ جهود نور الدين يف حلب :أخذ نفوذ الشيعة يف حلب يظهر بوضوح يف أواخر أايم سيف الدولة احلمداين (333
يسروا لدعاة هذا املذهب الطريق
ـ 356هـ 944 /ـ )967ألن بين محدان كانوا يعتنقون مذهب الشيعة اإلمامية ،هل
لنشر الدعوة يها ،مث عملوا بعد ذلك على إزالة شعائر السنة ،وإحضمل شعائر الشيعة حملها ،وذلك عندما غري سعد
الدولة أبو املعايل ( 356ـ 381هـ 967 /ـ 991م) ابن سيف الدولة األذان هبا يف عام 367هـ 977 /م ،وزاد
185
حي على خري العم حممد وعلي خري البشر( ،)1كان هذا مبدأ ظهور اإلمامية حبلب ،وما زال نفوذهم يزداد يه :هل
نتيجة لتعاقب بعض األسر الشيعية على حكمها :كال مرداس ،والعقيليني ،حىت أصبح شعار الر ض هبا ظاهراً(.)2
إىل جانب الشيعة اإلمامية وجدت قلة من الشيعة اإلمساعيلية ،ازداد نفوذهم يف حلب يف عهد رضوان بن تتش الذي
أم أن ينصروه على أخيه دقاق ،ويساعدوه يف أخذ دمشق منه ،ومن مث بىن هلم حبلب أول دار للدعوة ،ودعا على
منابرها للفاطميني رتة يسرية من الزمن ،ومن هؤالء وأولئك تكون جمتمع الشيعة يف حلب.
ومعظم هؤالء الشيعة كانوا متعصبني ،قد كان املذهب الشيعي متغلغضمً يف حلب( ، )3قام نور الدين حممود ابختاذ
خطوات سياسية ،واكبتها يف الوقت نفسه خطوات كرية هامة؛ في رجب من عام 543هـ 1148 /م أي بعد
عامني تقريباً من استقراره يف حلب ،رأيناه أيمر الشيعة برتك حي على خري العم يف األذان ،وينكر عليهم إنكاراً
شديداً ،ومينعهم من َسب صحابة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،وحيذرهم من مغبة العودة إىل ما ُهنوا عنه َ ،عظُ َم
هذا األمر على اإلمساعيلية ،وأه التشيُّع ،وضاقت به صدورهم ،وهاجوا ،وماجوا ،مث سكنوا وأحجموا للخوف
من السطوة النورية املشهورة ،واهليبة احملذورة(.)4
كما قام نور الدين خبطوة أخرى وهي :إبعاد بعض زعماء الشيعة عن حلب ،ممن كان خيشى خطرهم ،وكان على
رأس املبعدين والد املؤرخ ابن أيب طي( ، )5وواكبت هذه اخلطوة السياسية خطوة كرية هامة؛ وهي إنشاء مدرستني
سنيتني كبريتني :إحدامها للحنفية ،وهي املدرسة احلضموية اليت أنشأها نور الدين يف العام ذاته 543هـ 1148 /م ،
وأسند التدريس يها إىل برهان الدين أيب احلسن علي بن احلسن البلخي ،حيث استدعاه نور الدين من دمشق جاء،
وألقى هبا الدروس على الفقهاء ،وكان هو وتضمميذه خري عون لنور الدين يف تنفيذ سياسته الرامية إىل مناهَة الشيعة
،ونصرة الكتاب والسنة.
يذكر بعض املؤرخني :أن البلخي جلس حتت منارة املسجد ،وأمر بعض الفقهاء ابلصعود إليها وقت األذان ،وقال
هلم« :من مل يؤذن األذان املشروع ألقوه من املنارة على رأسه ،أذنوا األذان املشروع( .)6وكانت املدرسة الثانية اليت
أنشأها نور الدين يف حلب هي املدرسة النفريهلة النورية ،وقد أنشأها سنة ( 544هـ 1149 /م) لتدريس املذهب
الشا عي ،وتوىل التدريس هبا قطب الدين مسعود بن حممد النيسابوري ت 578هـ 1182 ،م ،أحد أساتذة نظامية
نيسابور ،وقد كان حَر إىل دمشق يف عام 540هـ 1145 /م ،وأقام هبا يعظ ويعلم ،أقب عليه الناس استدعاه
نور الدين إىل حلب ،وأسند إليه التدريس هبذه املدرسة( ، )7ومل يكن اختيار النيسابوري لتويل األستاذية هبذه املدرسة
من قبي املصاد ة ،الرج له قدم راسخة يف علوم السنة ،واملنطق ،وعلوم الكضمم ،وميلك من القدرات العقلية
186
والفكرية ما ميكنه من إنزال هزائم ادحة يف جمال الفكر للعقيدة الشيعية الرا َية ،وكان نور الدين حباجة ماسة إىل
العلماء الذين خترجوا ،ودرسوا يف املدارس النظامية ،بيئة حلب قد دخلت يف طور التجديد ملنهج أه السنة ،وحماربة
التشيع الباطين املتسلح ابلفلسفة للد اع عن عقيدته(.)1
أ ـ االهتمام ابملذهب الشا عي يف حلب :كان نور الدين حممود يتبع مذهب اإلمام أيب حنيفة ،إال أنه أنشأ للشا عية يف
حلب ثضمث مدارس هي :النفريهلة ،والعصرونية ،والشعيبية ،وأسند األوىل إىل أستاذ من أساتذة النظاميات ،والثانية إىل
خرجت نظامية بغداد ،وهو شرف الدين بن أيب عصرون ،ويف الوقت الذي مل ينشىء يه أله تلميذ من أنبغ من هل
مذهبه إال مدرسة واحدة ،وهي احلضموية السالفة الذكر .العتقاده أبن علماء املدارس النظامية؛ هلم القدرة على اإلحياء
السين ،وقمع شبهات املبتدعة من الشيعة الرا َة أكثر من غريهم ،وذلك بسبب خربة املدارس النظامية وخرجييها
على مواجهة املد الباطين الشيعي ،وقدرهتا على كشف ابطلها أبسلوب علمي رصني ،إضا ة إىل اهتمام املدارس
النظامية بنشر العلم الشرعي ،واإلحياء السين الكبري ،هل
وألن البيئة احللبية حتتاج إىل ذلك النوع من علماء أه السنة ،
والذي يقوي هذا املذهب أن نور الدين مل يسلك سبيضمً مشاهباً هلذا املسلك يف دمشق ،بعد أن استوىل عليها؛ إذ
كانت حفاوته مبدارس احلنفية أكثر ،أنشأ يها أشهر مدارسه وهي :النورية الكربى ،كما بىن للحنفية مدرسة أخرى
جبامع القلعة عر ت ابلنورية الصغرى.
وأما الشا عية إنه أسس هلم مدرستني أو ثضماثً على خضمف بني املؤرخني( .)2ويبدو :أن مدينة حلب كانت يف حاجة
ماسة إىل جهود أه السنة من املذهب الشا عي املسلحني بدراسة اجلدل ،وعلم الكضمم ليواجهوا الشيعة مواجهة كرية
ُّ ،
تشد من أزر املواجهة السياسية ،لذا رأينا نور الدين يكثر من بناء مدارس الشا عية حللب ،ويستقدم هلا نوعية خاصة
من األساتذة ليتولوا مهمة التدريس هبا ،واإلشراف عليها ،وهذا ما مل حيف به كثرياً يف دمشق؛ حيث النفوذ السين
غالب ،صرف مهته إىل العناية بفقهاء مذهبه ،واالهتمام بدار احلديث الشريف اليت أنشأها(.)3
ب ـ االستفادة من جهود علماء السنة :مل تقف جهود نور الدين يف حلب عند حد العناية إبنشاء املدارس احلنفية،
والشا عية ،ب إنه كان حريصاً على أن يستفيد من جهود علماء السنة على اختضمف مذاهبهم يف حماربة الفكر الشيعي
،والتمكني ملذهب السنة ،ولذلك كان يعتين أيَاً بعلماء املالكية واحلنابلة ،و قهائهم ،أوقف زاويتني ابملسجد
اجلامع يف حلب ،وخصص إحدامها لفقهاء احلنابلة ،واألخرى للمالكية ،وبذلك جنح نور الدين يف التخفيف من
حدة الصراع املذهيب بني املذاهب السنية املختلفة( ،)4وتوحيدها يف جبهة واحدة ،وو قه هللا يف توحيد جهود علماء
السنة حملاربة الفكر الشيعي(.)5
187
ج ـ دعم التصوف السين :اهتم نور الدين إبنشاء خوانق الصو ية ،وكانت يف ذلك العصر مكاانً للعبادة ،وقد أصبح
التصوف السين يف ذلك العصر اجتاهاً له نفوذه ،وسيطرته ،وتقديره على املستوى الرمسي والشعيب ،وسيأيت احلديث ـ
إبذن هللا ـ عن دور املدرسة القادرية يف توعية عوام األمة خصوصاً يف عاصمة اخلضم ة ،وجهود الغزايل وحماولته تنقية
التصوف من كثري من الشوائب ،وأن ميزج بينه وبني الشريعة مزجاً اتماً ،قد كانت الصو ية يف ذلك العصر حم تقدير
احلكام واحرتامهم وخاصة نور الدين ؛ الذي كان يستفيد منهم يف الدعاء ،ومجع املعلومات على األعداء ،ويف اجلهاد
،وكان يرحب هبم يف بضمطه ،ويتواص مع شيوخهم ،ويبين هلم اخلوانق يف أحناء مملكته ،وكان نصيب حلب من
جهوده يف هذا اجملال خوانق :اثنتان منها للرجال ،وواحدة( )1للنساء.
واستطاعت الدولة النورية التأثري على التصوف السين ،وساهم التصوف السين يف حماربة الدولة الفاطمية ،ومد نفوذه
يف أحناء بضمد الشام ،ومصر ،مع توسع الدولة النورية خارجياً ،واليت كانت من وسائلها دعم التصوف السين ،ملقاومة
املذهب اإلمساعيلي ،والتيار الفلسفي ،وقد مدت مقاومتها إىل مصر أيَاً ،ولذا كان اتساع نطاق االجتاه الصويف
على مستوى قطاعات مجاهريية كبرية يما بعد يف عهد األيوبيني ،واملماليك(.)2
اهتم نور الدين حممود بتدريس احلديث الشريف ،وكانت من ضمن مشروعه يف حركة اإلحياء د ـ دور تدريس احلديث :هل
أن الشيعة ال يعرت ون بصحة احلديث إال إذا كان مروايً عن آل البيت ،وكان السين ،ومناهَة الفكر الشيعي ،ذلك هل
من الطبيعي أن ينتهي هبم هذا املوقف ـ اجملانب للحق والعدل والصواب ـ إىل الطعن يف صحاح السنة ،ويَاف إىل
أن العناية ابحلديث الشريف ،وتشييد معاهد دراسيهلة خاصة به كان مسة من مسات هذه الفرتة ،اليت حكم يها ذلك :هل
أن الظروف اليت أحاطت ابلشام ،ومصر يف تلك املرحلة ،عكست ظضمهلا على مناهج نور الدين ،واأليوبيون ،ذلك :هل
الدراسة يف املعاهد العلمية السنية ،ومن أثر ذلك العناية ابحلديث وعلومه استجابة لظرف واقعي ،متثهل يف احتضمل
الصليبيني ألجزاء واسعة من بضمد الشام ،من بينها القدس الشريف.
كان على هذه املدارس أن تعبئ الناس للجهاد ،وحتيي يهم روح البطولة ،واالستشهاد عن طريق تدريس احلديث،
والعناية به ،خاصةً ما يتعلق منه بباب اجلهاد يف سبي هللا ،ولذا رأينا نور الدين يوقف زاوية جبامع حلب على دراسة
احلديث ،كما أوقف داراً أخرى للغرض ذاته.
هذه هي أبرز اجلهود اليت هنض هبا نور الدين لدعم املذهب السين هبا(.)3
هـ ـ موق ف الشيعة يف حلب من حركة اإلحياء السنية :مل يتقب الشيعة اجلهود اليت هنض هبا نور الدين يف حلب لدعم
املذهب السين هبا ،وظلوا ينتهزون الفرصة املواتية ليعودوا حبلب مرة أخرى إىل ما كانت عليه كبيئة شيعية ميارسون يها
شعائرهم حبرية اتمة.
وكانت حماولتهم األوىل يف هذا السبي عام 552هـ 1157 /م ،عندما مرض نور الدين حبلب؛ حىت أرجف مبوته،
ووص أخوه نصرة الدين إىل حلب ليخلفه يف واليته ،منعه وايل القلعة من الدخول إليها ،تجمع حوله أحداث
188
الشيعة ،وأبدوا استعدادهم لنصرته ،شريطة أن يسمح هلم ابلعودة إىل ممارسة شعائرهم اليت أبطلها نور الدين ،وعدهم
بذلك ،واشتعلت نريان الفتنة بني السنة ،والشيعة ،وقام األخريون بنهب بعض املراكز التعليمية السنية كاملدرسة
العصرونية ،وغريها من دور أه السنة ،وملا علم نور الدين ابألمر أرس إىل قاضي املدينـة أيب الفَ هبة هللا بن أيب
جرادة أبن ميَي إىل اجلامع ،ويصلي ابلناس ،ويعاد األذان إىل ما كان عليه ،شرع املؤذنون يف األذان السين ،
وبني هلم أن نور الدين قد عويف ،اجتمع حتت املنارة من عوام الشيعة خلق كثري ،خرج إليهم القاضي ،وحذرهم ،هل
وأنه هو الذي أمر هبذا! انصر وا وسكتت الفتنة(.)1
و ـ وجاءت حماولتهم الثانية يف شوال من عام 564هـ 1169 /م عندما أحرق اإلمساعيلية مسجد حلب اجلامع ،
وكان يـُتهلخذ مكاانً للدرس إىل جانب العبادة ،كان يه الكثري من الزوااي اليت وقفها نور الدين على املالكية ،واحلنابلة
،وعلماء احلديث ،أعاد نور الدين بناء اجلامع ،ووسعه ،وخصص له أوقا اً كثرية(.)2
ولع احلركة من جانب اإلمساعيلية يف حلب كانت رد ع الستيضمء نور الدين على مصر الفاطمية يف ربيع االخر من
ماض يف تَييق اخلناق على الشيعة ،وأنه عازم على استئصال هذا املذهب هذا العام؛ إذ أيقن اإلمساعيلية أن نور الدين ٍ
من مصر ،والشام(.)3
كانت خطوات نور الدين العقائدية يف حلب خطوات مدروسة ،تدل على وعي ،وإدراك كاملني للهدف الذي يريد
حتقيقه من وراء إنشاء هذه املؤسسات السنية اهلاد ة ،وظهر هذا الوعي واضحاً من جانب نور الدين عندما حتدث
جمد الدين بن الداية ،بلسانه إىل الفقهاء يف حلب قائضمً« :حنن ما أردان ببناء املدارس إال نشر العلم ،ودحض البدع
كسضمح ،يواجه به العدو ،كما
ٍ من هذه البلدة ،وإظهار الدين»( )4كما كان نور الدين ـ رمحه هللا ـ يدرك قيمة العلم
شك :أن نور الدين يف هذه النظرة كان يعيش يف عصره بعقلية العصر الذي يعيشه يواجهه ابلقوة العسكرية ،وال هل
اآلن( ، )5التصدي للغزو الباطين احلديث حيتاج لقوة عسكرية ،واقتصادية ،وسياسية ،و كرية ،وإعضممية تتوازن ،
وتتعاون ،وتتكام مع بعَها من أج اإلحياء السين يف األمة ،والوقوف أمام العقائد الباطنية الزاحفة.
وقد أمثرت جهود نور الدين يف حلب ،وتسابق أمراؤه ،وأعيان دولته ،وخلفاؤه من بعده إىل إنشاء املؤسسات العلمية
،حىت غدت حلب بعد رتة يسرية نسبياً ،مركزاً من مراكز الثقا ة السنية ،بعد أن كانت وكراً من أوكار الشيعة ،وقد
أحصى املؤرخ عز الدين شداد ت 684هـ 1285 /م مدارس حلب يف أايمه ،وجدها أربعاً ومخسني مدرسة ،
موزعة بني املذاهب الفقهية األربعة ،منها :إحدى وعشرون للشا عية ،واثنتان وعشرون للحنفية ،وثضمث للمالكية ،
واحلنابلة ،ومثاين دور للحديث الشريف ابإلضا ة إىل إحدى وثضمثني خانقاه للصو ية(.)6
189
وقد اتت هذه املؤسسات الع لمية مثارها املرجوة؛ إذ انقرض املذهب اإلمساعيلي الباطين يف حلب يف حدود عام 600
هـ 1203 /م ،وأخفى الشيعة اإلمامية معتقداهتم؛ حىت انتهى هبم األمر إىل أن أخذوا يتنكرون ،وأب عال السنة
يتظاهرون ،ويذكر أحد املؤرخني املعاصرين من أبناء حلب« :أن الشيعة انقرضوا من املدينة ،وتضمشوا ابملرة ،ومل يبق
()1
منهم غري عدة بيوت يقذ هم بعض الناس ابلر ض ،والتشيع ،مع أن ظاهرهم على كمال االستقامة ،وموا قة السنة
،وذلك بفَ هللا ،مث جهود املصلح الكبري نور الدين وخلفائه ،الذين اقتدوا به يف اإلكثار من املدارس السنية وتعيني
األساتذة األكفاء هلا ،واإلنفاق عليها بسخاء؛ حىت تراجع التشيع من هذه املدينة ،وأصبحت السيادة يها ملذهب
أه السنة( ،)2وهذا يدل على أمهية الرتبية الفكرية ،والثقا ية يف التمكني لإلسضمم الصحيح يف نفوس الناس.
2ـ جهود نور الدين يف اإلحياء السين يف دمشق :استوىل نور الدين على دمشق يف صفر من عام 549هـ 1154 /
م ،ومن مث واص جهوده لتنفيذ خطته يف دعم العقيدة السنية ،وكان منهجه يف دعم املذهب السين يف دمشق قد
خَع لزايدة يف أعبائه العسكريـة ،حيث أصبح جماوراً ململكة بيت املقدس أكرب املراكز الصليبية قوة ،وأخطرها شأنـاً
،ولذا إن املنهـج الذي سلكـه نور الدين يف دعم املذهب السين قصد إىل مواجهة هذه احلالة من انحية ،ومن انحية
بد أن تصبح دمشق مبثابة مركز إشعاع عقائدي ،تنطلق منه جهود علماء السنة ،للقَاء على املذاهب أخرى ال هل
املنحر ة ،ومتهيد الطريق لسيطرة املذهب السين ـ الذي كان عليه رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وأصحابه ـ ولذلك
رأينا خطة نور الدين يف دمشق تسري يف ثضمثة اجتاهات رئيسية(.)3
االجتاه األول :تركز يف العناية إبنشاء املدارس السنية َ ،وُربُط الصو ية ،غري أن مدارسه يف دمشق اهتمت بفقهاء املذهبني
احلنفي ،والشا عي ،وكانت عناية نور الدين مبدارس الفريق األول أكثر ،استجابة ملي طبيعي إىل هذا املذهب ،الذي
درس هبا شيخ احلنفيةكان يعتنقه دون تعصب ،أنشأ املدرسة النورية الكربى ،وجعلها وقفاً على احلنفية ،وأول من هل
بدمشق :هباء الدين بن عسكر املعروف اببن العقادة (ت 1199/596م) ،ووصف ابن حبري هذه املدرسة عندما
زارها يف عام ( 580هـ 1199/م) أبهنا «من أحسن مدارس الدنيا منظراً ...وهي قصر من القصور األنيقة»( ، )4كما
جع هلم مدرسة أخرى جبامع القلعة ،وهي املدرسة النورية الصغرى(.)5
ب إنشاؤها إىل نور الدين آراء مؤرخي املدارس متَاربة حوهلا ،ومع عناية نور الدين وأما املدارس الشا عية ،اليت نُس َ
بتشييد املدارس اليت تعىن برتاث اإلمامني العظيمني ،إنه مل يهم أصحاب املذهبني االخرين إمهاالً اتماً ،ب وقف
على زاوية املغاربة ـ وهم مالكية ـ ابجلامع األموي ،ما يعينهم على حتصي العلم ،ويو ر هلم حياة كرمية( ، )6وواص نور
الدين يف دمشق سياسته اليت اتبعها يف حلب جتاه الصو ية ،شيد هلم خانقاه خارج املدينة ،وصفها ابن جبري بقوله:
موضع يعرف ابلقصر ،وهو صرح عظيم ،مستق يف اهلواء ،يف أعضمه مساكن مل ٌ من أعظم ما شاهدانه هلم (الصو ية)
( )1هنر الذهب يف اتريخ حلب ( 191/1ـ )193التاريخ السياسي والفكري للمذهب السين ص .214
( )2التاريخ السياسي والفكري للمذهب السين ص .214
( )3املصدر نفسه ص .215
( )4رحلة ابن جبري ص .231
( )5الدارس يف اتريخ املدارس (.)648/1
( )6رحلة ابن جبري ص 231ـ 232التاريخ السياسي والفكري ص .216
190
يـَُر أمج إشراقاً منها( ، )1كما عني هلم نور الدين من ينظر يف أمر ُربُطه ْم ،وزواايهم ،وأسند هذه املهمة إىل شيخ
الشيوخ أيب الفتح عمر بن علي بن محويه(.)2
وأما االجتاه الثاين :كان منصباً على العناية ابحلديث الشريف دراسة وتدريساً ،ومن مث بىن أكرب دار للحديث يف دمشق
،ووهلك أمر مشيختها إىل أحد أعضمم عصره ،وهو احلا ظ الكبري :تقي الدين أبو القاسم علي بن احلسني بن هبة هللا
بن عساكر (ت 571هـ 1175 /م) وكان عمدة يف احلديث ،والفقه ،وعلم الكضمم ،وصفه ابن خلكان أبنه« :من
أعيان الفقهاء والشا عية ،ولكن غلب عليه احلديث ،اشتهر به»( )3وهذه العلوم الثضمثة؛ أعين :احلديث ،والفقه ،
وعلم الكضمم كانت تدخ من ضمن الثقا ة السنية يف تلك الفرتة ،ولذلك هلقربه نور الدين منه ،وأدانه من جملسه ،
واستمع إليه ،و وض إليه القيام مبهمة اإلشراف ،والتدريس بدار احلديث النورية.
وعناية نور الدين ابحلديث الشريف ـ على هذا النحو ـ تُعرب عن إدراك اتم لقيمة الدور الذي تؤديه العناية هبذا اجلانب:
من هتيئة الناس ،وإعدادهم للجهاد يف سبي هللا ،وحثهم عليه يف بيئة تواجه ابستمرار خطر العدو ،الذي حيت
مقدسات املسلمني ،ويرتبص هبم الدوائر ،كما أن هذه احلفاوة ابحلديث الشريف؛ تعكس لنا مي نور الدين إىل هذا
الفرع من روع الثقا ة السنية.
قد شارك العلماء يف هذا امليدان ،حدهلث حبلب ،ودمشق عن مجاعة من العلماء أجازوا له رواية احلديث ،منهم :أبو
عبد هللا بن ر اعة بن غدير السعدي املصري(.)4
االجتاه الثالث :كان موجهاً إىل العناية برتبية النشء تربية سنية ،إن نور الدين بىن يف دمشق وغريها من البضمد مكاتب
لأليتام ،وأجرى عليهم وعلى معلميهم النفقات الو رية ،كما خصص لأليتام الذي يقرؤون القران ـ ابملساجد اليت شيدها
ـ أوقا اً معلومة( .)5يذكر ابن كثري« :أن نور الدين وقف وقفاً ،على من يعلم األيتام اخلط والقراءة ،وجع هلم نفقة
وكسوة»( .)6وخصص نور الدين هلذه املؤسسات التعليمية ـ على اختضمف أنواعها ـ األوقاف الكثرية اليت متكن طضمهلهبا
وأساتذهتا من التفرغ لتعلم العلم ،وتعليمه ،حىت إن ابن األثري ذكر :أنه بلغه من خبري أبعمال الشام :أن وقوف نور
الدين كانت تغ يف عام 608هـ 1211/م تسعة االف دينار ك شهر( ، )7لذلك لن نعجب إذا وجدان من يصف
بضمد الشام أبهنا كانت قب نور الدين خالية من العلم وأهله ،ويف زمانه صارت مقراً للعلماء ،والفقهاء ،والصو ية
الربُط وترتيب أمورهم( .)8ويصور أحد الشعراء املعاصرين لنور الدين وهو علي بن منصورلصرف مهته إىل بناء املدارس ،و ُّ
أبو احلسن السروجي 572هـ 1176 /م النهَة الفكرية يف عهده بقوله يف وصف دمشق:
191
قصوره ـ ـ ـ ـ ـا تحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت منه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا املقاصيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُر كان ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت جن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةُ اخلل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد دانيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة
ور
وجامـ ـ ـ ـ ٌع جامـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌع للديـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن معمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ ـ ـ ـي ك ـ ـ ـ قط ـ ـ ـر هب ـ ـ ـ ـ ـا للعل ـ ـ ـ ـ ـ ـم مدرسـ ـ ـ ـــ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةٌ
والعل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم يذكـ ـ ـ ـ ـر يـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه والتفاسيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُر يتل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى الق ـ ـ ـ ـ ـرآن ب ـ ـ ـ ـه ـ ـ ـي ك ـ ـ انحيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍة
أوص ـ ـ ـاف مول ـ ـ ـى بنش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر العـ ـ ـ ـ ـ ـدل مشهـ ـ ـ ـ ـور تكامـ ـ ـ ـ احلس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن يـ ـ ـ ـه مثـ ـ ـ ـ ـ مـا كملـ ـ ـت
()1
وللخليفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة م ـ ـ ـ ـ ـ ـن أنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـواره سـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـور املل ـ ـ ـ ـ ـ ـك والدي ـ ـ ـ ـ ـن والدني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا أبمجعه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا
3ـ دور نور الدين يف إعادة مصر إىل املعسكر السين :مل يُقدهلر لنور الدين أن حيكم مصر حكماً مباشراً ،ومن مث مل
تتهيأ له الفرصة ليقيم يها مؤسسات كرية ،تعم على تغيري االجتاه الشيعي يف هذا اإلقليم ،وتنتشله من مستنقع
بت كلها البدع والَضمل ،وتعيده إىل رجال السنة مرة أخرى ،املؤسسات العقائدية السنية ،اليت قامت يف مصر ُحس ْ
يف رصيد األيوبيني ،حىت ما أنشئ منها يف حياة نور الدين ،وكان له يها أثر غري مباشر .ذلك :أن األيوبيني قُدر هلم
أن يستمروا يف قيادة اإلحياء السين يف مصر بعد و اته ،نسبت معظم اجلهود ـ إن مل يكن كلها ـ إليهم.
ولكنا مع هذا ال يسعنا إال أن نقرر احلقيقة ،وهي أن األيوبيني كانوا تضمميذ نور الدين يف هذا االجتاه ،ما ينسب
بد أن نلمس يه أثره ،ونلمح يه توجيهاته ،وذلك عضموة على الدور الكبري ،الذي قام به يف إعادة مصر إليهم؛ ال هل
إىل املعسكر السين.
والسؤال الذي يطرح نفسه اآلن هو :يف أي اجلوانب إذاً ترهلكز دور نور الدين يف حتوي مصر إىل هذه الوجهة()2؟ يذكر
املقريزي :أن اخلليفة ألمر هللا العباسي انتهز رصة االضطراابت يف مصر ،عقب مقت اخلليفة «الظا ر» يف احملرم سنة
549هـ 1154/م وتولية ابنه« :الفائز» وكان طفضمً صغرياً ،أرس إىل نور الدين يطلب منه أن ينتهز هذه الفرصة،
ويزحف على الساح الشامي ،ومصر ،وأيخذها من أيدي الفاطميني ،وكتب له هبما عهداً .كما ذكر هذه الرواية
بشيء من التفصي السيوطي يف حسن احملاضرة( .)3ويفهم من الروايتني :أن اخلليفة املقتفي هو الذي وجه نظر نور
الدين إىل مصر ،وأنه شجعه على ذلك ،وأن توجيه اخلليفة كان نقطة البداية يف حماولة استعادة مصر إىل املعسكر
السين(.)4
وال نستطيع أن ننكر اجلهود الكبرية ،اليت قام هبا اخلليفة املقتفي ،ووزيره حيىي بن هبرية يف دعم مسرية نور الدين ،إال
اختيار اسرتاتيجي يف خطته لتَييق اخلناق على الصليبيني يف بيت املقدس ،كما أن االهتمام مبصر ابلنسبة لنور الدين ٌ
عرب عنها نور الدين بنفسه يف إحدى عباراته
أدرك من قب أمهية ضم دمشق ابلنسبة هلذا األمر احليوي ،وهذه احلقيقة هل
،عندما أرس إليه صضمح الدين ـ من مصر ـ هدااي وحتفاً ،قال« :وهللا ما قصدان بفتح مصر إال تطهري الساح ،
وقلع الكفار منه»( )5وكلمة ـ تطهري الساح ـ لعلمه أمهية اهليمنة البحرية للمعسكر السين ،لكي يطهر البيت املقدس
،وبضمد الشام من الصليبيني ،حركة اإلمدادات من غرب أورواب ،حتتاج حلشد قوى العامل اإلسضممي ،مع قطع
192
اإلمدادات ،أو مَايقتها عن الصليبيني يف بضمد الشام ،وهذا ال يكون إال بَم مصر ،وختليصها من أيدي الروا ض
سين ،وهو على أي حال كي ٌّالباطنيني ،الذين تقلدوا أمور حكمها من قرون ،كما أن نور الدين حممود زنكي رج تر ٌّ
امتداد للسضمجقة ،الذين متنهلوا تح مصر ،وإعادهتا إىل دائرة النفوذ السين ؛ لذا كان من الطبيعي أن أييت تفكريه يف
تح مصر انبعاً من ذاته ،ومتمشياً مع متطلبات ظرو ه العسكرية من انحية ،وحمققاً ألمانيه الدينية من انحية أخرى.
ومما يشري إىل أن تح مصر كان هد اً من أهداف نور الدين ،اليت سعى لتحقيقها قوله يف الرسالة اليت بعث هبا إىل
اخلليفة املستَيء ،يبشره إبقامة اخلطبة له يف مصر« :ما برحت مهمنا إىل مصر مصرو ة ،وعلى ا تتاحها موقو ة ،
وعزائمنا يف إقامة الدعوة اهلادية هبا ماضية ...حىت ظفران هبا بعد أيس امللوك منها»( .)1كما كشف يف هذه الرسالة عن
موقفه العقائدي من الفاطميني بقوله عن مصر ...« :وبقيت مئتني ومثانني سنة ممنوعة بدعوة املبطلني ،مملوءة حبزب
الشياطني؛ حىت أذن هللا لغمتها ابالنفراج ،وأقدمنا على ما كنا نؤمله من إزالة اإلحلاد والر ض ،وتقدمنا إىل من استنبناه
أن يستفتح ابب السعادة ،ويقيم الدعوة العباسية هنالك ،ويورد األدعياء ودعاة اإلحلاد هبا املهالك»(.)2
وهلذا كله كان من الطبيعي أن ينتهز نور الدين الفرصة ،اليت سنحت له للتدخ يف شؤون مصر عندما اضطربت أحواهلا
الداخلية بسبب التنا س بني الوزراء ،وطمع الصليبيني يها ،ثابر على إرسال جيشه إليها كلما دعت الَرورة إىل
ذلك ،حىت متهل االستقرار هلذا اجليش هبا يف املرة الثالثة ،وذلك يف ربيع االخر سنة 564هـ 1169 /م ووزر قائده
أسد الدين شريكوه للخليفة العاضد يف مصر ،لكنه ما لبث أن تويف ،وخلفه يف منصبه ابن أخيه صضمح الدين الذي
كـان عليه أن يبدأ بتنفيذ خطة نور الدين إلعادة مصر إىل حظرية السنة ،مث يتابع املسرية بعد و ـاة أستاذه العظيم(.)3
خطة نور الدين يف بداية تح مصر:
كانت خطة نور الدين يف بداية تح مصر تركز على أمرين هامني:
األول :تغيري النظام القَائي هبا ،حبيث يعتمد على مذهب السنة بدالً من املذهب الشيعي اإلمساعيلي الباطين ،
وحاول نور الدين أن يك هذا األمر إىل الفقيه الشا عي شرف الدين بن أيب عصرون.
يذكر أبو شامة :أنه وقف على كتاب خبط نور الدين إىل هذا الفقيه ،وكان حبلب يطلب منه الذهاب إىل مصر؛ ليتوىل
قَاءها ،ومما قاله نور الدين للشيخ« :أنت تعلم أن مصر اليوم قد لزمنا النظر يها ،هي من الفتوحات الكبار ،اليت
إسضمم بعد أن كانت دار كفر ،ونفاق...إال أن املقدم على ك شيء أمور الدين اليت هي األص ،وهبا جعلها هللا دار ٍ
أن مصر ما هي قليلة ،وهي خالية من أمور الشرع ..واالن قد تعني عليك وعلي أيَاً أن ننظر النجاة ،وأنت تعلم :هل
إىل مصاحلها ،وما لنا أحد اليوم هلا إال أنت ..يجب أن تشمر عن ساق االجتهاد ،وتتوىل قَاءها ،وتعم ما
تعلم :أنهله يقربك من هللا»(.)4
193
واألمر الثاين :كان يتعلق إبقامة اخلطبة العباسية يف مصر ،ما إن استقرت عساكر نور الدين يها؛ حىت وردت عليه
رسالة من اخلليفة املستنجد يتعج إقامة اخلطبة له يف مصر ،مث ملا ويل «املستَيء» يف عام 566هـ 1170 /م
كرر هذا الطلب ،وكان نور الدين بدوره يطلب من صضمح الدين اإلسراع يف تنفيذ هذه اخلطوة .لكن صضمح الدين
كان يؤثر اختاذ خطوات متدرجة؛ حىت ال يواجه مبا ال حتمد عقباه إىل أن ألزمه نور الدين بذلك إلزاماً ،ال سحة يه
يف رسال ة أرسلها إليه مع والده جنم الدين أيوب ،اعتذر ألبيه أبن هذا األمر إن مل يؤخذ ابلتدرج ،سيؤول أمره إىل
الفساد ،و عضمً كان صضمح الدين يسري حنو رغبة نور الدين خبطوات متأنية ،استطاع بعدها أن يقطع خطبة العاضد
الفاطمي ،وخيطب للخليفة العباسي يف احملرم من عام 567هـ 1171/م ،وما لبث العاضد أن تويف بعد أايم من
الدعاء للعباسيني على منابر مصر ،ومبوته سقطت الدولة الفاطمية( ،)1وأرس نور الدين القاضي ابن أيب عصرون إىل
اخلليفة العباسي حيم رسالة تتَمن البشارة هبذا احلادث الكبري ،وأمره نور الدين أن يقرأ البشارة يف ك مدينة مير هبا،
لم يرتك مدينة يف الطريق إىل بغداد إال دخلها ،وقرأ يها هذه البشارة؛ حىت وص إىل عاصمة اخلضم ة ،خرج املوكب
لتلقيه ،ونثرت عليه الداننري ،ومح معه عند عودته التشريفات واخللع من اخلليفة إىل نور الدين ،وصضمح الدين(.)2
وبذلك قُد َر ملصر أن تعود إىل رحاب السنة يف عهد نور الدين ،الذي تركزت جهوده يف هذا اجملال حول ثضمثة جوانب:
الفتح العسكري الذي مهد الطريق أمام التحول السين ،وتغيري النظام القَائي من املذهب اإلمساعيلي الشيعي إىل
املذهب الشا عي السين ،مث إسقاط اخلضم ة الفاطمية ،وإقامة اخلطبة للخضم ة العباسية السنية(.)3
وإذا كانت معظم جهود نور الدين الفكرية قد وزعت بني حلب ،ودمشق ،ومصر ،إن هذا ال يعين إمهال بقية املناطق
اخلاضعة لنفوذه ،ب إنه أنشأ املدارس السنية يف كثري منها ،وشيد عدداً كبرياً من املساجد اليت كانت مهيأة للعبادة
والدرس ،بىن للفقيه ابن أيب عصرون مدارس يف حلب ،ومحص ،وبعلبك(.)4
ويقول ابن خلكان عن نور الدين :إنه بىن املدارس جبميع بضمد الشام ،مث :دمشق ،وحلب ،ومحاة ،ومحص ،
وبعلبك ،ومنبج ،والرحبة ،وبىن مبدينة املوص اجلامع النُّوري ،ورتب له ما يكفيه ،كما بىن جامع محاة ،وجامع
الرها ،وجامع منبج(.)5
ُّ
إن جهوده جاءت اتلية جلهود املدارس النظامية ،انتفع مبا 4ـ عوام جناح نور الدين يف حتقيق برانجمه اإلصضمحي :هل
حققته من نتائج ،ويف مقدمتها :ختريج جي حيم على عاتقه مهمة الدعوة للمذهب السين ،واالنتصار له .وقد
استفاد نور الدين من عدد كبري خترجوا من النظاميات أييت احلديث عنهم الحقاً إبذن هللا تعاىل ،واستطاع نور الدين
أن يستغ ذكاء مواهب العلماء البارزين يف عصره ،ويستعني هبم يف دعم املذهب السين ،وكانت شخصيته من أهم
العوام اليت ساعدته على النجاح يف املهمة اليت سعى لتحقيقها ،من أبرز صفاته :أنه كان يثق ابلعلماء ثقة مطلقة،
وال يسمح ألحد أن يتناول واحداً منهم مبقالة سوء ،ازدادت منزلة العلماء مسواً ،وأصبحوا حم ثقة مجهور املسلمني،
194
وتقديرهم ،كما كان حيرص على حَور جملس العلم كلما مسحت له ظرو ه هبذا ،ويواظب على عقد جمالس الوعظ ،
ويستمع ـ مع الناس ـ للحا ظ ابن عساكر ،ولقطب الدين النيسابوري ،وغريمها من الوا دين على دمشق من أحناء
العامل اإلسضممي(.)1
كان نور الدين كقائد سياسي وعسكري على قناعة راسخة ابخلطورة العظيمة اليت ميثلها ُّ
املد الشيعي الرا َي يف سبي
هنوض األمة ،واالست مرار يف املقاومة للصليبيني ،ولذلك جع من أهدا ه القَاء على الدولة الفاطمية ،اليت ترعى
الفكر الشيعي الرا َي ،والعم على التصدي لدعاة التشيع الرا َي ابلفكر ،والعلم ،والثقا ة ،والسياسة ،والقوة.
وقد حتدثنا عن شخصية نور الدين وأهم صفاته يف مبحث مستق ،قد كان سلوك نور الدين حممود زنكي من عوام
انتصار املذهب السين ،ألن أبرز ما كان يتبجح به الشيعة يف الدعوة إىل مذهبهم هو التنديد مبسلك حكام السنة
املنغمسني يف تر هم ،الضمهني يف مضمذهم ،وشهواهتم ،الغارقني يف مظاملهم.
أن اإلمام املهدي (القائم أو الغائب) سيمأل األرض عدالً كما ملئت جوراً ، وكانت النغمة السائدة لدى دعاهتم :هل
يستدرجون هبذا احملرومني ،واملسحوقني ،حىت جيذبوهنم إىل صفو هم ،ويدخلوهنم يف دعوهتم ،جاء نور الدين يدعم
املذهب السين أبخضمقه وسلوكه ،وحسن سياسته يف رعيته ،مث جبهوده الفكرية الرائعة(.)2
إن نور الدين حممود أيقن أبن العقيدة اليت تصلح جلمع شتات املسلمني ،هي ما كان منبعها كتاب هللا ،وسنة رسوله،
وميكن التدلي على ك أص من أصوهلا ،أو جزئية من جزئياهتا ،مث إن السلف الصاحل ،الذين استقاموا على عقيدة
دونوا هذه العقيدة تدويناً ميزها عن عقائد أه الفرق والَضمل ،لذلك عم على معر تها ،وتعليمها ، اإلسضمم احلق هل
وتربية الناس عليها من خضمل جهاز العلماء يف الدولة ،الطريق للنهوض البد يه من وحدة الصف ،ووحدة الصف
ليس هلا من سبي إال اإلسضمم الصحيح ،واإلسضمم الصحيح مصدره القران والسنة ،والطريق لفهم القران والسنة هي
طريق رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وأصحابه الكرام ،والتابعني إبحسان ،ومن سار على هنجهم وطريقتهم إىل يوم
الدين.
َ ذ َ ذ ُ َ
ين َو ۡٱۡل َ َ
َ ذ ُ َ ۡ ذُ َ
ۡ َ ذ ِ َ ذُ َ
َّلل ع ۡن ُه ۡم ِين ٱت َب ُعوهم بِإِحس ٖن رِض ٱ نصارِ وٱَّل ون م َِن ٱل ۡ ُم َهجر َقال تعاىل﴿:وٱلسبِقون ٱۡلول
ِِ
ُ ْ َ
َو َرضوا ع ۡن ُه﴾ [التوبة ]100 :وعد من اتبع غري سبيلهم بعذاب جهنم ،ووعد متبعهم ابجلنة والرضوان(.)3
وقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم « :خري الناس قرين مث الذين يلوهنم ،مث الذين يلوهنم ،مث جييء قوم تسبق شهادة
أحدهم ميينه ،وميينه شهادته»(.)4
()5
وعن ابن مسعود ـ رضي هللا عنه ـ قال( :اتبعوا ،وال تبتدعوا ،قد كفيتم) .وعنه ـ رضي هللا عنه ـ( :من كان متأسياً
أبر هذه األمة قلوابً ،وأعمقها علماً ،وأقلها تكلفاً ،وأقومها هدايً ،وأحسنها
ليتأس أبصحاب رسول هللا ،إهنم كانوا هلَ
195
حاالً ،قوم اختارهم هللا لصحبة نبيه ،وإقامة دينه ،اعر وا له َلهم ،واتبعوهم يف ااثرهم ،إهنم كانوا على اهلدى
املستقيم)( .)1ولذلك حرص امللك العادل على بناء دولة العقيدة على أصول منهج أه السنة واجلماعة.
وقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم « :أشد الناس يوم القيامة عذاابً إمام جائر»( .)2والعدل أساس احلكم( ،)3وإقامته
عد من أقدس الواجبات ،وأمهها ،وقد اجتمعت األمة على وجوب العدل( ، )4ولقد بني الناس يف الدين اإلسضممي يُ ُّ
كان نور الدين حممود زنكي قدوة يف عدله ،أسر القلوب ،وهبر العقول ،قد كانت سياسته تقوم على العدل الشام
بني الناس ،وقد جنح يف ذلك على صعيد الواقع والتطبيق جناحاً منقطع النظري ،حىت اقرتن امسه ابلعدل ،ومسي ابمللك
العادل ،وكان من أسباب نصر هللا هلذا امللك العادل على الباطنية ،والصليبيني إقامته للعدل يف الرعية ،وإيصال احلقوق
إىل أهلها ،العدل يف الرعية ،وإنصاف املظلوم يبعث يف األمة العزة والكرامة ،ويولد جيضمً حمارابً ،وأمةً حترر إرادهتا
حكامها ،وتطيعهم؛ ألهنم أقاموا العدل على أنفسهم ،وأقاموا العدل على غريهم. بد ع الظلم عنها ،ورعيةً حتب هل
وأما الظلم هو ظلمات يف الدنيا واالخرة ،وهو يؤذن بزوال الدول ،وقد حرم هللا الظلم على نفسه .قد قال يف
ۡ ُ ُ ْ
احلديث القدسي« :اي عبادي إين حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم حمرماً ضم تظاملوا»( .)5وقال تعاىل﴿ :ٱحۡشوا
َ ۡ َ ُُ ُ
وت ُه ۡم َخاو َيَۢة بماَ ذ َ َ َُ ْ َََۡ َ ُ ۡ َ َ َ ُ ْ َ ُۡ ُ َ
ِ ِ ٱَّلِين ظلموا وأزوجهم وما َكنوا يعبدون [ ﴾٢٢الصافات ]22 :وقال تعاىل﴿ :فتِلك بي
َ َ ْ
ظل ُم ٓوا﴾ [النم . ]52 :
196
سج التاريخ أبن نور الدين حممود ساد العدل يف دولته( ، )1ومتهل إيصال حقوق الناس إليهم ،نشطوا يف اجلهاد، وقد هل
والد اع عن دينهم ،وعقيدهتم ،وأوطاهنم ،وأعراضهم ،ومن أبرز أعماله اإلصضمحية والتجديدية :إقامته للعدل يف
()2
وخول القَاة على دولته .وقد أوىل نور الدين املؤسسة القَائية اهتماماً كبرياً ،وجعلها يف قمة أجهزته اإلدارية ،هل
اختضمف درجاهتم يف سلهلم املناصب القَائية صضمحيات واسعة ـ إن مل نق مطلقة ـ ومنحهم استقضمالً اتماً ،لكوهنم
األداة التنفيذية إلقرار مبادئ احلق والعدل ،وحتوي قيم الشريعة ،ومبادئها إىل واقع ملتزم ،وتوجت جهوده إبنشاء دار
العدل ،اليت كانت مبثابة حمكمة عليا حملاسبة كبار املوظفني ،وإرغامهم على سلوك احملجة البيَاء ،أو طردهم واستبداهلم
بغريهم إن اقتَى األمر(.)3
إيل»(.)4
وكان شعاره ما أكده ألصحابه مراراً« :حر ٌام على ك من صحبين أال ير ع إيل قصة مظلوم ال يستطيع الوصول هل
وحيكي خادمه شاذخبت الطواشي اهلندي ـ الذي كان أحد نوابه يف حلب ـ هذه احلادثة ،ذات الداللة الواضحة يف هذا
اجملال« :كنت يوماً أان ورج ٌ واقفني على رأس نور الدين ،وقد صلى املغرب ،وجلس ،وهو يفك ُر كراً عظيماً ،
وجع ينكش إبصبعه األرض ،عجبنا من كره ،وقلنا :يف أي شيء يفكر؟ يف عائلته؟ أو يف و اء دينه؟ وكأنه َط َن
تردد .قال :وهللا إين أ كر يف و ٍال وليته أمور املسلمني ،لم يعدلبنا ،ر ع رأسه ،وقال :ما تقوالن؟ أجبناه بعد ُّ
يهم ،أو يمن يظلم املسلمني من أصحايب ،وأعواين ،وأخاف املطالبة بذلك أمام هللا ،باهلل عليكم ...وإال خبزي
إيل ،أو تعلمان مظلمةً إال وأعلماين هبا ،وار عاها إيل(.)5عليكم حرام ،ال تراين قصة مظلوم ال تر ع هل
يتحرى العدل ،وينصف املظلوم ،من الظامل كائناً من كان ،القوي وقد وصف ابن األثري نور الدين أبنه« :كان هل
والَعيف عنده يف احلق سواء ،كان يسمع شكوى املظلوم ،ويتوىل كشف ذلك بنفسه ،وال يَـك ذلك إىل حاجب
،وال أمري ،ضم جرم إن سار ذكره يف شرق األرض وغرهبا»(.)6
1ـ دار العدل أو احملكمة العليا :كانت قمة إجراءاته القَائية إنشاءه داراً يف دمشق ،لكشف املظامل مسهلاها (دار العدل)
ت صضمحياهتا ،امتدت أقَيتها إىل سائر أبناء األمة ، ،وكانت أشبه مبحكمة عليا حملاسبة كبار املوظفني ،مث ُعم َم ْ
عدد من كبار األمراء يف دمشق ،وخباصة أسد الدين شريكوه ،ومتاديهم يف اقتناء األمضمك وقد جاء إنشاؤها بسبب تزايد ٍ
،وجتاوز بعَهم حقوق البعض االخر ،كثرت الشكوى إىل قاضي القَاة كمال الدين الشهرزوري ،أنصف بعَهم
ٍ
حينئذ ببناء دار من بعض ،لكنه مل يقدر على اإلنصاف من شريكوه ،أهنى احلال إىل نور الدين ،أصدر أمره
العدل(.)7
197
أن نور الدين ما أمر ببناء هذه الدار يقول ابن األثري :لما مسع شريكوه ذلك؛ أحَر نوابه مجيعهم ،وقال هلم :اعلموا :هل
إال بسبيب وحدي ،وإال من هو الذي ميتنع على كمال الدين؟ وهللا لئن حَرت إىل دار العدل بسبب أحدكم ألصلبنه
ملك ،وا ْصلوا احلال معه ،وأرضوه أبي شيء أمكن ،ولو أتى على مجيع ،امَوا إىل ك من بينكم وبينه منازع يف ٍ
ما بيدي .قالوا له :إن الناس إذا علموا هذا اشتطوا يف الطلب .قال :خروج أمضمكي من يدي أسه عندي من أن
ني أين ظاملٌ ،أو يساوي بيين وبني أحد العامة يف احلكومة (أي :القَاء) ،خرج أصحابه من عنده يراين نور الدين بع ٍ
،و علوا ما أمرهم ،وأرضوا خصماءهم ،وأشهدوا عليهم ،لما ومخسمئة( ، )1وأما النصارى املتواجدون يف دولة نور
ميسوا أبذى ـ رغم ظروف الصراع اإلسضممي الصلييب ـ وعوملوا كمواطنني هلم حق الرعاية الكاملة ،ومل الدين ،إهنم مل ُّ
()2
يـُ ْعَرف عنه :أنه هدم يف حياته كنيسة ،وال اذى قساً ،أو راهباً ،وقد كان الصليبيون إذا دخلوا بلداً ،قتلوا ج هل
أهله املسلمني ولو أنه أتثر بذلك ،وعاملهم ابملث ؛ لقام له يف ذلك عذر ،ولكنه كان إنساانً عظيماً ،ال يقيس نفسه
أبولئك اجلفاة الذين أساؤوا؛ حىت إىل نصارى البضمد ،ظلت الكنائس يف بضمده عامرًة أبهلها ،ب إن الصليبيني كانوا
إذا خرجوا يف بلد تنفهلس نصاراه الصعداء ،وأمنوا إىل عدله وإنصا ه(.)3
ب مرة من قب أحد املدعني ،ما كان من أحد كبار موظفيه إال أن دخ عليه ضاحكاً ، 2ـ استجابته للقَاء :طُل َ
وقال مستهزائً :يقوم املوىل إىل جملس احلكم ،أنكر نور الدين على الرج سخريته ،وقال :تستهزئ لطليب إىل جملس
ذ َ َ َ ََۡ ُۡ ۡ َ َ
ِني إِذا َ ُر رسي؛ حىت نركب إليه ،السمع والطاعة ،قال هللا تعاىل﴿ :إِنما َكن قول ٱلمؤ ِمن احلكم؟ وأردفُْ :حي َ
َ ُ ُ ْ َ ُ ْ َ ذ
ُد ُع ٓوا إِل ٱَّللِ َو َر َُ ِ
وَلِۦ ِۡلَ ۡٗك َم بَيۡ َن ُه ۡم أن َيقولوا ََ ِم ۡع َنا َوأ َط ۡع َنا﴾ [النور. ]51:
مث هنض ،وركب؛ حىت دخ ابب املدينة ،واستدعى أحد أصحابه وقال له :امض إىل القاضي ،وسلم عليه ،وق
له :إين جئت هاهنا امتثاالً ألمر الشرع(.)4
ث اخر ،ويومئ بيده إليه ،أرس ويوماً كان يلعب الكرة ـ هوايته املفَلة ـ يف دمشق ،رأى رجضمً من أتباعه ،حيد ُ
إليه يسأله عن حاله ،أعلمه :أن له على نور الدين خصومة حول بعض األمضمك ،وطلب حَوره إىل جملس القَاء
للفص يف املسألة ،رتدد الغضمم يف عرض املوضوع على نور الدين ،ولكن هذا أحل عليه ،لما تبني له األمر ألقى
العصا من يده ،وخرج من امليدان ،وسار إىل القاضي ،كمال الدين وقال له :إنين قد جئت حما َكماً ،اسلك معي
ما تسلكه مع غريي ،لما حَر املدعي ساوى كمال الدين بينه وبني خصمه ،وحني مل يثبت ضدهله شيء قال للقاضي
ولكا ة احلَور :ه ثبت له عندي حق؟ قالوا :ال .قال :اشهدوا أنين قد وهبت له هذا املال الذي حاكمين عليه ،
يظن أنين ظلمته ،حيثما ظهر هل
أن احلق؛ يل وهبته إايه(.)5 وقد كنت أعلم :أنه ال حق له عندي ،وإمنا حَرت لئضم هل
198
وتلك غاية العدل واإلنصاف ،ب غاية اإلحسان ،وهي درجة وراء العدل ،رحم هللا هذه النفس الذكية الطاهرة املنقادة
إىل احلق ،الواقفة معه ،كما علهلق ابن األثري(.)1
ويف عام 558هـ 1162م هلادعى رج على نور الدين أن أابه (زنكي) أخذ من ماله شيئاً بغري حق ،وأنه يطالب
بذلك .قال نور الدين :أان ال أعلم شيئاً عن ذلك ،إن كان لك بَـيـنَـةٌ تشهد بذلك؛ هاهتا ،وأان أرد إليك ما خيصين
،إين ما ورثت مجيع ماله ،قد كان هناك ورثة غريي ،مَى الرج ليحَر البينة(.)2
3ـ ال عقوبة على الظنة والتهمة :مل يكن نور الدين يصدر العقوبة على الظنة والتهمة ،ب يطلب الشهود على املتهم،
تعد( ، )3د ع هللا هبذا الفع عن الناس من الشر ما يوجد إن قامت عليه البينة الشرعية؛ عاقبه العقوبة العادلة من غري ٍ
يف غري واليته مع شدة السياسة ،واملبالغة يف العقوبة ،واألخذ ابلظنة ،وأمنت بضمده مع سعتها ،وق هل املفسدون بربكة
العدل ،واتباع الشرع املطهر(.)4
أن إنساانً كان بدمشق ،استوطنها، 4ـ من عدله بعد موته :ومن عدله أيَاً بعد موته ،وهو من أعجب ما حيكى « :هل
وأقام هبا ملا رأى من عدل نور الدين ـ رمحه هللا ـ لما تويف تعدهلى بعض اجلنود على هذا الرج شكاه ،لم يُنصف ،
نزل من القلعة وهو يستغيث ،ويبكي ،وقد شق ثوبه وهو يقول :اي نور الدين ،لو رأيتنا وما حنن يه من الظلم؛
لرمحتنا ،أين عدلك؟ وقصد تربة نور الدين ،ومعه من اخللق ماال حيصى وكلهم يبكي ،ويصيح ،وص اخلرب إىل
صضم ح الدين ،وقي له :احفظ البلد والرعية وإال خرج عن يدك ،أرس إىل ذلك ـ وهو عند تربة نور الدين يبكي
والناس معه ـ طيب قلبه ،ووهبه شيئاً ،وأنصفه ،بكى أشد من األول ،قال له صضمح الدين :مل تبكي؟ قال :أبكي
عدل ينا بعد موته ،قال صضمح الدين :هذا هو احلق ،وك ما حنن يه من عدل منه تعلهلمناه»(.)5 على سلطان ٍ
5ـ رقبيت دقيقة ال أطيق محلها واملخاصمة عليها بني يدي هللا تعاىل :قال ابن األثري« :وحكى يل من أثق به :أنهله دخ
يوماً إىل خزانة املال ،رأى يها ماالً أنكره ،سأله عنه :قي :إن القاضي كمال الدين أرسله ،وهو من جهة كذا.
قال :إن هذا املال ليس لنا ،وال لبيت املال يف هذه اجلهة شيء ،وأمر برده وإعادته إىل كمال الدين ،هلرده إىل اخلزانة
،وقال :إذا سألكم امللك العادل عنه؛ قولوا له عين :إنه له .دخ نور الدين اخلزانة مرة أخرى ،رآه ،أنكر على
النُّواب قال :أمل أق لكم يعاد هذا املال إىل أصحابه ،ذكروا له قول كمال الدين ،هلرده إليه وقال للرسول :ق لكمال
الدين :أنت تقدر على مح هذا املال ،وأما أان رقبيت دقيقة ال أطيق محلها ،واملخاصمة عليها بني يدي هللا تعاىل!
يُعاد قوالً واحداً»(.)6
6ـ رجال القَاء يف دولة نور الدين :اعتمد نور الدين يف أجهزته القَائية رجاالً ثقااتً ،عرف كيف ينتقيهم ،بعد أن
رأى يهم من الفقه الواسع ،والتقوى العميقة ما يؤهلهم لتسلم منصب القَاء الذي تربع يف عهده ـ كما رأينا ـ قمة
199
مؤسسات الدولة ،وحظي ابستقضمل اتم ،وأصبح حكمه هو احلكم امللزم للجميع ،مبا يهم السلطان نفسه ،وكبار
أمرائه ،ويربز من بني حشد كبري من القَاة آل الشهرزوري ،وعلى رأسهم كمال الدين أبو الفَ حممد بن الشهرزوري
،أولئك الذين كانوا قد ختصصوا منذ عهد عماد الدين زنكي يف القَاء ،وما قبله ،وبرعوا يها(.)1
أ ـ القاضي كمال الدين الشهرزوري :حدث يف مطلع عام 555هـ1160/م أن تقدم قاضي دمشق ،زكي الدين أبو
احلسن علي بن القرشي ،برقعة إىل نور الدين يطلب يها إعفاءه من القَاء ،أجابه إىل طلبه ،ووىل قَاء دمشق
القاضي اإلمام كمال الدين بن الشهرزوري ،وهو كما يصفه ابن القضمنسي املعاصر له« :املشهور ابلتقدم ،وو ور العلم
،وصفاء الفهم ،واملعر ة بقوانني األحكام ،وشروط استعمال اإلنصاف والعدل ،والنزاهة ،وجتنب اهلوى والظلم ،
وحكم بني الرعااي أبحسن أ عال يف حالة غيابه ،أو اشتغاله مبهمة ما ،إن ولده حميي الدين ينوب عنه يف منصبه(.»)2
()3
خترج من
كان كمال الدين قد ولد عام 491هـ 1097/م ،وتفقهله ببغداد ،ومسع احلديث من كبار احملدثني وقد هل
النظامية( ،)4وكان يرتدد إىل بغداد ،وخراسان رسوالً من عماد الدين زنكي ،مث ما لبت أن و د على نور الدين(،)5
وأصبح بعد أق من عامني (557هـ 1161م) قاضياً لقَاة الدولة كلها ،وأمر نور الدين القَاة ببضمده أن يكتبوا
الكتب نيابة عنه ،وهناك من يقول أن زكي الدين قاضي دمشق مل يتقدم ابإلعفاء عام 555هـ 1160 /م وإمنا أعفاه
نور الدين بسبب امتناعه عن أن يكون أحد نواب كمال الدين ،ومهما يكن من أمر؛ إن كمال الدين ،متكن من
منصبه ،وأصبح يف دمشق كما يقول العماد :احلاكم املطلق( .)6وأصبحت دولته ان ذة األوامر ،منتظمة األمور(.)7
وورد عنه كذلك :أنه ارتقى إىل درجة الوزارة ،كان له احل ،والعقد يف أحكام الشام( .)8وكان له من صفاته الشخصية
،وسياسته القائمة على الرب وحفظ األصدقاء( ، )9ومن ثقا ته الواسعة وخربته الفقهية والقَائية والسياسية ،خري معني
على مواصلة الطريق حىت النهاية ،ومل يكتف كمال الدين مبهامه القَائية ،ب كان ميلك نزعة متأصلة للبناء واإلعمار
،أشرف بنفسه على بناء أسوار دمشق ،ومدارسها ،ومارستاانهتا( .)10وقد هلوضه نور الدين مهمة اإلشراف على دار
الَرب ،وأوقاف الدولة ،وتوجيه مصار ها لبناء األسوار ،وحفظ الثغور ،أجنز مهمته على خري وجه( .)11كما أوىل
عنايةً خاصة إبعمار اجلامع األموي بدمشق ،واإلنفاق عليه بسخاء( .)12وزاد نور الدين على ذلك كله ،اعتمده
200
مبعواثً إىل اخلليفة العباسي يف بغداد( ، )1كما اعتمد ابنه حميي الدين انئباً عنه يف قَاء حلب ،والبلدان التابعة هلا ،
َضمً عن النظر يف أمور ديواهنا ،وكان حميي الدين هذا ـ كما يصفه العماد ـ« :من أه الفَ ،وله نظم ،ونثر ،
وخطب ،وكانت معر ته ابلفقه يف أايم التفقه يف بغداد يف املدرسة النظامية منذ سنة 535هـ 1140م( ، )2كما اعتمد
()3
أقر علىيف محاه ومحص قَاة اخرين من بين الشهرزوري أنفسهم .وعندما دخ املوص عام 566هـ 1170م هل
قَائها حجة الدين بن جنم الدين الشهرزوري»(.)4
وحران ،وغريها من مدن داير بكر ب ـ الشيخ شرف الدين أبو سعد بن أيب عصرون :توىل قَاء سنجار ،ونصيبني ،هل
أشرف على تعيينهم بنفسه( ،)5قد ولد ابملوص
،وأصبح هناك أشبه بقاضي القَاة ،ينوب عنه يف سائر املدن نـُ هلواب َ
سنة 492هـ أو 493هـ 1099م ،وتفقهله على مجاعة من العلماء ،وانتق إىل حلب سنة 545هـ 1150م ،مث
ودرس يف جامع دمشق ،وتوىل أوقاف املساجد ،مث قدم دمشق لدى دخول نور الدين إليها عام 549هـ 1154م هل
عدد كبريٌ من التضمميذ وانتفعوا
س على يديه ٌ ود َر َ
هلف ُكتُباً كثريًة يف الفقه ،واملذاهب َ ،
رجع إىل حلب ،وأقام هبا ،وصن َ
األول ،ووصف أبنه من أ قه أه عصره ،وأنه إمام أصحاب الشا عي يومذاك ،وكان به ،وكان قيهاً من الطراز هل
متوحداً يف العلم والعم ،وسرعان ما تقدم عند نور الدين ،كلفه ابإلشراف على بناء املدارس يف حلب ،ومحص ،
وبعلبك ،وغريها ،مث ما لبث أن والهله قَاء داير بكر ومنحه ـ كما سبق وأن ذكران ـ صضمحيات واسعة( .)6كما اعتمده
عام 566هـ 1170رسوالً إىل اخلليفة املستَيء يف بغداد( .)7وقد تويف عام 585هـ 1189م(.)8
ْساً ،وال ُع ْشراً إال وأطلقها مجيعها يف
7ـ ر ع الَرائب واملكوس :مل يرتك نور الدين يف بلد من بضمده ضريبة ،وال َمك َ
بضمد الشام ،واجلزيرة ،وداير مصر ،وغريها مما كان حتت حكمه ،قد كان املكس يف مصر يؤخذ من ك مئة دينار
مخسة وأربعون ديناراً؛ أي %45وهذا منه إلغاء للمكوس ،مل تتسع له نفس غريه( .)9وكان رمحه هللا اندماً على ما اته
يف أمر املكوس ،قد روى أبو شامة :أن «امللك العادل كان ير ع يديه إىل السماء ،ويبكي ،ويتَرع ،ويقول :اللهم
املكاس ...وكان قد دعا أحد معاونيه ـ مو ق الدين خالد ـ وقال له :اقعد واكتب إبطضمق املؤمن ،واملكوس ارحم العشهلار هل
،واألعشار ،واكتب للمسلمني :أين قد ر عت عنكم ما ر عه هللا تعاىل عنكم ،وأثبت ما أثبته هللا عليكم»(.)10
وقد أمر بقراءة املناشري يف مساجد األقاليم مجيعها على الناس .روى أبو شامة« :أن امللك العادل نور الدين ملا دخ
املوص سنة 566هـ ،أمر إبسقاط مجيع املكوس ،والَرائب ،وأنشأ بذلك منشوراً يقرأ على الناس يه( :وقد قنعنا
201
من األموال ابليسري من احلضمل ،سحقاً للسحت ،وحمقـاً للحرام احلقيق ابملقت ،وبعداً ملا يبعد من رضا الرب ،وقد
استخران هللا ،وتقربنا إليه إبسقاط ك مكس وضريبة ،يف ك والية لنا بعيدة ،أو قريبة ،وحمو ك سنة سيئة شنيعة ،
ونفي ك مظلمة ـظيعة ،وإحيـاء ك سنـة حسنـة ...إيثاراً للثواب االج على احلطـام العاج )(.)1
وقرأ منشور آخر إبسقاط املكوس مبصر على املنرب يف القاهرة عام 567هـ بعد صضمة اجلمعة عند السلطان صضمح الدين
يف أايم نور الدين امراً له ،جاء يه« :وقد رأينا إسقاط املكوس الديوانية مبصر ،والقاهرة ،وأن نتجرد يها لنلبس
أثواب األجر الفاخرة ،ونطهر منها مكاسبنا ،ونكفي الرعية ضرهم ...ونَع املكوس ضم تر عها من بعد يد حاسب
،وال قلم كاتب»(.)2
وهدد من ال يطيق ذلك من املسؤولني :ومن أزاهلا زلهلت قدمه ،ومن أحلهلها ح هل دمه ،ومن قرأه أو قرأ عليه ليتمث ما
أمران به ،وليمَه مرضياً لربه ،ممَياً ملا أمر به(.)3
ومل تَ ُـر ْق هذه اخلطة يف إلغاء الَرائب لرجال الدولة ،احتج أسد الدين شريكوه بقوله :األجناد الذين أتيت أرزاقهم من
أي :رواتبهم ،أجابه نور الدين :إن كنا نغزو من هذه اجلهات أي من هذه هذه اجلهات من أين تعطيهم أرزاقهم؟ ْ
املوارد :نرتكها ،ونقعد ،وال خنرج( !)4ومل يكتف نور الدين بذلك ،ب أمر خطباء املساجد أن يطلبوا من الناس ،أن
يساحموه يما جيب منهم قبضمً من هذه الَرائب ،وكتب إىل اخلليفة كتاابً يعلمه مبا أطلق ،ومبقدار ما أطلق ،ويسأله أن
ُّجار ،ومن مجيع املسلمني له يف ح ما كان قد وص إليه ،يعين من أمواهلم ، الوعاظ أبن يستحلوا من الت هل
يتقدم إىل هل
الوعاظ على املنابر ينادون بذلك(.)5
تقدهلم بذلك ،وجع هل
وعندما خرج ألخذ شيزر؛ خرج أبو غامن بن املنذر يف صحبته ،أمره نور الدين ـ رمحه هللا ـ بكتابة منشور إبطضمق
وحهلران ،وسنجار ،والرحبة .وعزاز ،وت ابشر ،وعداد العرب ،كتب عنه توقيعاً املظامل حبلب ،ودمشق ،ومحص َ ،
نسخته« :بسم هللا الرمحن الرحيم ،هذا ما تقرب به إىل هللا سبحانه وتعاىل صا حاً وأطلقه ساحماً ملن علم ضعفه من
الرعااي عن عمارة ما أخربته أيدي ال ُكفار ـ أابدهم هللا ـ عند استيضمئهم على البضمد ،وظهور كلمتهم يف العباد ،رأ ة
صهم هللا سبحانه بفَيلة اجلهاد ،واستمنحهم مبجاورة ابملسلمني املثاغرين( ، )6ولطفاً ابلَعفاء املرابطني ،الذين َخ هل
ذَ َُ ذ ذ ُ َ
ِبون أه العناد ،اختباراً لصربهم ،وإعظاماً ألجرهم ،صربوا احتساابً ،وأجزل هللا هلم أجراً وثواابً﴿ :إ ِنما يوَّ ٱلص ِ
اب [ ﴾١٠الزمر ]10 :وأعاد عليهم ما اغتصبوا عليه ،من أمضمكهم اليت أ اء هللا عليهم هبا ،من أَ ۡج َر ُهم ب َغ ۡۡي ح َ
ِس
ٖ ِ ِ
الفتوح العمريهلة ،وأقرها من الدولة اإلسضممية بعد ما طرأ عليها من الظلمة املتقدمني ،واسرتجعه بسيفه من الكفرة
املضمعني ،طمس عنهم بذلك معامل اجلور ،وهدم أركان التعدي ،وأقر احلق مقره ،لقوله تعاىلَ ﴿:من َجا ٓ َء ب ۡ َ
ٱۡل َس َنةِ ِ هل هل َْ
202
َ َ ُ َ ذُ ُ َ ُ َ ََ ُٓ َ ذ َ ََُ َ ۡ ُ ََۡ
فلهۥ عۡش أمثال ِها َۖ﴾[األنعام﴿ ]160:وٱَّلل يض ِعف ل ِمن يشاء وٱَّلل وَِع عل ِيم [ ﴾٢٦١البقرة .]262:مث ملا أعانه هللا
بعونه وأيهلده بنصره ،وقمع به عادية الكفر ،وأظهر هبمته شعائر اإلسضمم ،وأظفره ابلفئة الطاعنة ،وأمكنه من ملوكها
َ َ َ ُٓ َ َۡ َ ين ُم َق ذرن َ ََ َ
ِني ِِف ٱۡل ۡصفادِ ٣٨هذا ع َطاؤنا اخر َ
الرقاد»﴿ :وء ِ الباغية ،جعلهم بني قتي غري مقاد ،وهارب ممنوع ُّ
ِإَون َ َُلۥ ع َ
ِندنَا ل َ ُزلۡ ََف َو ُح ۡس َن َ ذ َ ۡ ُۡ َۡ َۡ ۡ
ك ب َغ ۡۡي ح َ
اب [ ﴾٤٠ص 38:ـ ، ]40علم :أن الدنيا انية ٖ م ٣٩ اب
ٖ ِس فٱمَن أو أمسِ ِ ِ
دارة؛ إذا
،استخدمها لآلخرة الباقية ،واستبقى ملكه الزائ أبن قدهلمه أمامه ،وجعله ذُخراً للمعاد ،التقوى مادة هل
ذ ۡ َ ۡ َ َۡ ۡ َ َ ُ َۡ
انقطعت املواد ،وجادة واضحة حني تلتبس اجلود﴿ :يَ ۡو َم َل ت ۡمل ِك نف ٞس ِنلَف ٖس شيا َۖ وٱۡلمر يومئ ِ ٖذ َِّللِ ﴾١٩
َ ۡ َ ُ
وحرمها ع ك ابلَرائب واملكوس ،وأسقطها من دواوينه هل [االنفطار ]19:صفح لكا ة املسا رين ،ومجيع املسلمني هل
متطاول إليها ،ومتها ت عليها ،جتنباً إلمثها ،واكتساابً لثواهبا ،كان مبلغ ما سامح به ،وأطلقه وأنفذ األمر يه ـ
تباعاً لكتاب هللا وسنة نبيه صلى هللا عليه وسلم ـ يف ك سنة من العني مئة ألف وستة ومخسني ألف دينار»(، )1
وكانت النتيجة الطبيعية لذلك :أَ ْن نشط الناس للعم ،أخرج التجار أمواهلم ،ومَوا يتاجرون ،وجاءت اجلباايت
الشرعية أبضعاف ما كان جيَّب من وجوه احلرام ،بينما كان ما ألغاه من املكوس املستحدثة ال يزيد عن ()165000
مئة ومخسة وستني ألف دينار(.)2
نئذ من أن غايتها خلدون :العدوان على الناس يف أمواهلم ذاهب آبماهلم يف حتصيلها ،واكتساهبا ملا يرونه حي ٍ ٍ يقول ابن
ومصريها انتهاهبا من أيديهم ،وإذا ذهبت اماهلم يف اكتساهبا ،وحتصيلها؛ انقبَت أيديهم عن السعي يف ذلك ،وعلى
()3
اق العمران ،وانتقَت األحوال .ويقول: قدر االعتداء ،ونسبته يكون انقباض أيديهم عن املكاسب ،كسدت أسو ُ
العدوان على الناس يف أمواهلم ،وحرمهم ،ودمائهم ،وأسرارهم ،وأعراضهم ...يفَي إىل اخلل ،والفساد د عةً ،وتنتقص
الدولة سريعاً(.)4
وكانت هناك أمور عديدة ساعدت نور الدين على إلغاء املكوس ،وأمهها على اإلطضمق تو يق هللا له ،قد رأى له
وقص ذلك عليه ،فكر ساعة ،مث أمره وزيره مو ق الدين خالد بن القيسراين الشاعر يف منامه :أنه يغس ثيابه ،هل
هتجده يقول :ارحم العشهلار املكاس ،وبعد أن أبط ذلك بكتابة إسقاط املكوس ،وقال :هذا تفسري منامك .وكان يف ُّ
استعج الناس يف ح ما أُخذ منهم ،وقال :وهللا ما أخرجناه إال يف جهاد عدو اإلسضمم! يعتذر بذلك إليهم عن
أخذها منهم(.)5
ومن األسباب اليت كانت حمركة لنور الدين يف إبطال تلك املظامل ،واخلضمص من تلك املآمث موعظة أيب عثمان املنتخب
بن أيب حممد البحرتي الواسطي ،قد قال قصيدة يف نور الدين ،وقدمها له ،جاء يها:
ي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوم القيام ـ ـ ـ ـ ـ ـة والسمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاء مت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـور مث ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْ وقو ـ ـ ـ ـ ـك أيه ـ ـ ـ ـ ـا املغ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرور
203
ـ ـ ـ ـاحـ ـ ـذر ب ـ ـ ـأن تبق ـ ـ ـى ومال ـ ـ ـ ـ ـك ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـور إن قي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ن ـ ـ ـور الدي ـ ـ ـن رح ـ ـ ـت مسلهلم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً
ور
ك ـ ـ ـأس املظـ ـ ـ ـ ـال ـ ـ ـ ـ ـم طا ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌح خممـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ ت ع ـ ـ ـن شـ ـ ـرب اخلم ـ ـور وأنـ ـت م ـ ـ ـن أ ََهنَْيـ ـ ـ ـ ـ ـ َ
دور
ك كاس ـ ـ ـ ـ ـات احل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرام ت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ وعلي ـ ـ ـ َ ت كاسـ ـ ـ ـات امل ـُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدام تعفف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً عطهلْلـ ـ ـ ـ ـ َ
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرداً وجـ ـ ـ ـ ـ ـاءك منك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـٌر ونكيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر مـ ـ ـ ـ ـ ـاذا تقـ ـ ـ ـول إذا نُقلـ ـ ـت إلـ ـى البلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـــ ـ ـ ـى
رور
ب جم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ يـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوم احلسـ ـ ـ ـ ـاب ُم َس هلح ـ ـ ـ ـ ـ ٌ ت ي ـ ـ ـك اخلص ـ ـ ـوم وأن ـ ـ ـ ـت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـــ ـ ـي وتَـ َعلهلق ـ ـ ـ ْ
ـ ـي ضي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـق اللُّحـ ـ ـ ـ ـ ـود ُم َو هلس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌد مقبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ
ور ود وأنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت ت عنـ ـ ـ ـ ـك اجلنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ وتَـ َفرقَـ ـ ـ ـ ـ ْ
َيوم ـ ـ ـ ـاً وال قـ ـ ـ ـال األنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـام أمي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُر ت والي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة ماولْيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ
َوَود ْدت أنـ ـ ـ ـك َ
()1
ـ ـ ـي عال ـ ـ ـ ـم املوتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى وأن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت حقي ـ ـ ـ ـ ـر وبقْي ـ ـ ـ ـ ـت بعـ ـ ـ ـد العـ ـ ـ ـ ـز َرْه ـ ـ ـ ـ ـ ـ َن ُحفي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرة
قَلق ـ ـ ـ ـ ـاً ومالـ ـ ـ ـ ـك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي األن ـ ـ ـ ـ ـ ـام ُجمي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر رت ُعراين ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً حزين ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً ابكيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً َو ُحشـ ـ ـ ـ ـ َ
ور
عا ـ ـ ـ ـ ـ ـي اخل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراب وجسم ـ ـ ـ ـ ـك املعم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ دارس
ت أن حتي ـ ـ ـ ـ ـا وقَـ ْلبُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك ٌ أَرضيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ
أب ـ ـ ـ ـداً وأن ـ ـ ـ ـت ُمبَـ هلعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌد مهجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـور أرضيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت أن حيظ ـ ـ ـ ـ ـى سـ ـ ـ ـ ـواك ب ُقرب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه
ور
يـ ـ ـوم املَع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاد لعل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك املَْع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُذ ُ مه ـ ـ ـ ـ ـ ـد لنفسـ ـ ـ ـ ـك ُح هلج ـ ـ ـ ـ ـةً تنج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـو هب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا
وكان هذا الرج من الصاحلني الكبار ،لما مسعها نور الدين؛ بكى وأمر بوضع املكوسات والَرائب يف سائر
بضمده(.)2
رحم هللا الواعظ واملتعظ ،وو ق من أراد االقتداء هبم!
8ـ وما قي من الشعر يف عدله:
قال ابن منري:
وج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدد ُك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُّ بـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـال م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن الدني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ُ بنـ ـ ـ ـ ـ ـور الديـ ـ ـ ـ ـ ـن ُروض ك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُّ َْحمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ
ع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلوض عاطـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمً منـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه حب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـال وصـ ـ ـ ـ ـ ـ هلوب َع ْدلُـ ـ ـ ـ ـ ـه ـ ـ ـ ـ ـ ـي ُك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ
أوب ََ
ويَـ ْقتُـ ـ ـ ـ ـ ُ خو ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه قب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ القت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـال ويُنك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي رأيُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ رأي احملام ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي
()3
يفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوت َسنامـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه يَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َد ُك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ قـ ـ ـ ـ ـ ـال لق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد أحص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َدت لإلسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمم ع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـزاً
وقال أيَاً:
ٍ
مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن بعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد م ـ ـ ـ ـ ـ ـا َعلَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـق دم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً َع َرباتُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ ودهُوانْتـ ـ ـ ـ ـ ـاش دي ـ ـ ـ ـ ـ َن حمم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد حممـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ
ثبات ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن دونـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه وثباتـُ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ رددت عل ـ ـ ـى اإلسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمم عص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـَر شباب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه َ
ص ُعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـداً وشيهل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َد س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوره سوراتـُ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ ُ ومـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلد عمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َادهُ أرسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى قواع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـده َ
()4
وصضمتـُ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُإصضمتُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ وصضمتُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ َ وأع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاد وجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه احل ـ ـ ـ ـ ـق أبيـ ـ ـ ـ ـض انصع ـ ـ ـ ـ ـ ـاً
204
وقال أيَاً:
لل ـ ـ ـ ـ ـ ـه م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ءُ سري ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـره أس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر ُار ال أتمن ـ ـ ـ ـوا ـ ـ ـ ـي اللـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه بطشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة اثئ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر
()1
إن خـ ـ ـ ـ ـ ـاف ُحكـ ـ ـ ـ ـ ـام املل ـ ـ ـ ـوك وجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاروا اف إذا ُك ـ ـ ـ ـد َر املع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاد ُن عـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاد ٌل صـ ـ ـ ـ ـ ٍ
وقال أيَاً:
ب ابملعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـروف أنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـف املنـ ـكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر اجتَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هل
وْ ت َمـ ـ ْن مـ ـ ـأل البسيطـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة َع ْدلُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ أ ََولَ ْس ـ ـ َ
ُ
األم احلفيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة ابليتي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم األصغـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر دب األب الب ـ ـ ـ ـ ـ ـر الكبي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر ورأ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة حـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ
()2
ول عنه ـ ـ ـ ـ ـ ـا يَ ْك ُف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر أيم ـ ـ ـ ـ ـ ْن ،وَمـ ـ ـ ـ ـ ـ ْن يَـتَ ـ ـ ـ هل َ اي هَبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة اإلسـ ـ ـ ـضمم م ـ ـ ـ ـن يعص ـ ـ ـم هب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا
َ
وقال أيَاً:
هلاخت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َذ الكت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاب مظاه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراً ووزيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرا ك حممـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـود الـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـذي ك إال ُم ْل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُال ُم ْلـ ـ ـ ـ ـ َ
أتْمتَُّه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلن يحكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم التقدي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرا أحكامـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ
ُ متش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي وراء ح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدوده
()3
ج ـ ـ ـ ـاءت ل َمطْ ـ ـ ـ ـ ـ ـوي السم ـ ـ ـ ـ ـ ـاح نشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوزا يقظـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـان ينش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر َع ْدلَـ ـ ـ ـ ـ ـهُ يف دولـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة
وقال أيَاً:
ه ـ ـ ـ ـ غيـ ـ ـ ـ ـ ـر مفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرق هام ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة الفج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر يـ ـ ـ ـا سائل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي عـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن هن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـج سريت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه
()4
أن حييـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي العمريـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ابلذكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر دل حقي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌق مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن أتملُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه
عـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ
وقال أيَاً:
وم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـال هبـ ـ ـ ـ ـ ـا ع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن األمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوال زهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُد ثن ـ ـ ـ ـ ـى ي ـ ـ ـ ـده ع ـ ـ ـ ـ ـن الدني ـ ـ ـ ـا عفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاف
ـ ـ ـأه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدر مـ ـ ـ ـ ـ ـا أنشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاه بعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد ط املكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوس ع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن الرعاي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا رأى ح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ًّ
()5
وقـ ـ ـ ـ ـ ـد طُـ ـ ـ ـ ـ ـوي ال ـ ـ ـ ـرواق ومـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن مي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُّد وم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلد هلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا رواق العـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدل شرع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً
()6
لدولت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه دعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاء ال يـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُّرد وب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـات وعن ـ ـ ـ ـ ـ ـد بـ ـ ـ ـاب العـ ـ ـ ـ ـرش منه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا
وقال العماد األصفهاين يف عدله:
امله ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا
م ـ ـ ـ ـ ـن عدلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه رعـ ـ ـ ـت األسـ ـ ـ ـود م ـ ـ ـ ـ ـع َ اي حميـ ـ ـ ـ ـ َي العـ ـ ـ ـ ـدل ال ـ ـ ـ ـذي ـ ـ ـ ـي ظل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه
()7
لبهائهـ ـ ـ ـ ـ ـا ضح ـ ـ ـ ـك الزمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـان وقهقهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ود م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن أايم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه
ود احملم ـ ـ ـ ـ ُ
حمم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ
205
ص على بناء جمتمع العدل ،والقوة ،وسوف أييت احلديث إبذن هللا عن اهتمام إن امللك العادل نور الدين زنكي َ ،حر َ
شك :أن القوة العسكرية ال ميكن بناؤها يف جمتمع ضعيف ،هي جانب من جوانب نور الدين ابلقوة العسكرية ،وال هل
املدنيهلة املتكاملة ،اجملتمع القوي عسكرايً يلزم أن يكون قوايً يف صناعاته األخرى ،ألن األمن العسكري حيتاج إىل
األمن الثقايف ،واألمن الغذائي ،واألمن الصحي( ، )1وهذه األمور َعم َ نور الدين على تو ريها كما سيأيت بيانه ،إبذن
ۡ ۡ ُ ذ َ ََ ََۡ َ َ ُ ُ ۡ َ َ َ ۡ َ َ َُ َ َ ََ ۡ َۡ َ َۡ ُ ُ ََ ۡ
ت وأنزنلا معهم ٱلكِت ُّ وٱل ِمزيان ِۡلقوم ٱنلاس بِٱلقِس ِ ِۖ
ط هللا .قال تعاىل﴿ :لقد أرَلنا رَلنا بِٱَليِن ِ
ذ ذَ َ ۡ َ َََۡ ذُ َ َ ُ ُُ َ ُ ُ َُ َۡ ذ ُ َ َ َ َۡ ٞ َ ٞ َ َ ََ ََۡ ۡ
ُّ إِن ٱَّلل قوِياس و ِۡلعلم ٱَّلل من ينُصِهۥ ورَلهۥ بِٱلغي ِ وأنزنلا ٱۡلدِيد فِيهِ بأس شدِيد ومنفِع ل ِلن ِ
يز [ ﴾ ٢٥احلجر . ]25 :هذه اآلية الكرمية توضح األسس الضمزمة لبناء جمتمع قوي متحَر ،يقوم على العدل ،والقوة َعز ٞ
ِ
،الكتاب وامليزان إلقامة العدل ،واحلديد إلجياد القوة ،اليت حتمي العدل ،وتكف استمراره ،ولو أردان حتوي هذا
الشرح إىل لغة لقلنا :إن اآلية تشري إىل أن اجملتمع املتحَر ينبغي أن تتو ر له اإليدلوجية الصاحلة ،زائد التكنيك املتقدم
،اإليديولوجية حتفظ البنية االجتماعية متماسكة ،بعيدة عن التجزئة والتشرذم ،ومتنحها األهداف ،ووحدة احلركة ،
والتصميم ،واإلرادة ،ومتنع ذوابهنا يف البىن االجتماعية املغايرة يف العقيدة ،والفكر ،والتنظيم االجتماعي ،واالقتصادي
ص التقدُّم على االخرين ،علمياً وصناعياً ،ليس من أج إذالهلم ،واستعمارهم ،اإليديولوجية ،والتكنيك مينحها ُـَر َ
اإلسضممية ال تسمح بذلك ،ب إلقامة العدل يف األرض ،بعد إقامته يف اجملتمع اإلسضممي ،مث لَمان استمرار العدل
،الذي أرس هللا تعاىل الرس ـ صلوات هللا وسضممه عليهم ـ لبيانه ،ووضع املوازين احلق له ،نزول الكتب السماوية ،
وخامتها القران الكرمي ،يهدف إىل تثبيت موازين العدالة ،وبيان األسباب والوسائ الضمزمة لتحقيقها ،الناس يقومون
ابلعدل ،وحييون ابألم ويسعون ابألمن ،وينتفعون ابلعم واإلنتاج(.)2
هل
إن العدل الشام ال يتحقهلق ،إال بتطبيق شرع هللا تطبيقاً قائماً على الفهم الصحيح ،للكتاب والسنة واملعر ة الدقيقة
ابلواقع من انحية ،ومبقاصد الشريعة اإلسضممية من انحية أخرى ،وهو أمر اليتحقهلق إال بتكوين العدد املناسب من
العلماء اجملتهدين الناهبني(.)3
رابعاً ـ مكانة العلماء يف دولة نور الدين حممود:
أن من أسباب النهوض وجود القيادة الرابنية ،هي اليت تستطيع أن تنتق بفَ هللا هم نور الدين حممود زنكي :هل
وتو يقه ابألمة حنو أهدا ها املرسومة خبطوات اثبتة ،وكان على قناعة اتمة أبمهية وجود العلماء الرابنيني على رأس القيادة
أن حترير األرض ،وتوحيدها ليس عمضمً سياسياً أو الرابنية ،هم قلبُها ،وعقلها املفكر ،نور الدين زنكي يعرف :هل
عسكرايً حسب ،ب إنه أوسع من ذلك بكثري ،إنه مواجهة املذهب الشيعي الرا َي الباطين ،والذي كان ابلفع
خطراً داخلياً يهدد عقيدة األمة وسضممة دينها ،والصراع احلَاري مع الغرب األورويب النصراين ،أي :بني أمة وأمة ،
206
وإنه وبدون أتصي (الذات العقائدية) لألمة املسلمة ،لن تكون انتصاراهتم على اخلصم سوى أعماالً جزئية موقوتةَ
ُم َعهلرضة دوماً للمد واجلزر ،وللتغيري والتبدُّل كما كان حيدث دائماً.
وما يقتَيه هذا املوقف ليس جمرد انتصار خارجي يف معركة أو اسرتداد حصن ،إمنا بناء أمة مقاتلة تعرف كيف حتمي
وجودها العقائدي ،وحتفظ حدود شخصيتها احلَارية من أن تتفتت ،أو تَيع ،وحينذاك سوف يتحول ك عنصر
عسكري ،أو كسب سياسي ،إىل إجناز بنائي يزيد اجملتمع املقات قوة وأصالة ومتاسكاً ،ال جمرد تكديس شيء ال
ت للَربة والَربتني ،ولكن ابلثالثة ،أو الرابعة ينهار ،تذهب مع اهنياره جهود كمي يَـثْـبُ ُ
تكديس ٌّ
ٌ يشدُّه الرابط:
السنني الطوال ،وعرقها ،ودماؤها هدراً(.)1
هادف»
ٌ تصميم
النشاط العلمي يف عصر نور الدين مل يكن أبداً تر اً كرايً ،وال إ رازاً تقليدايً ألجهزة الدولة ،لكنهله « ٌ
ثقايف وتر ٍ
بوي واسع النطاق ،يرتبط به الفكر ابلسلوك ،والعلم يسعى إىل عملية «التأصي العقائدي» من خضمل نشاط ٍ
ابلعم ،وتزول حواجز الفص واالزدواج ،وتنمحي الثنائيات ،ويربز إىل حيز التاريخ «اإلنسان» املتوازن الذي أراده
بد أن يشرف على اإلسضمم ،و(اجلماعة) املؤمنة اليت دعا إليها كتاب هللا وسنة رسوله( ، )2وهذا اإلنسان املتوازن ال هل
إخراجه قيادةٌ رابنية ،على رأسها العلماء الرابنيني.
نفسهُ عاملاً قب أن يكون حاكماً ،وكان هذا نقطة البدء ،وحجر الزاوية( )3قد كان يعشق العلم، وقد كان نور الدين ُ
ف منهم( ،)4وكان العلماء عنده يف ويسعى وهو يف قمة السلطة إىل التشبُّه ابلعلماء والصاحلني ،واالقتداء بسرية َم ْن َسلَ َ
املنزلة األوىل ،واحمل العظيم(ُْ ،)5حيَرهم إىل جملسه ،يدنيهم ،ويتواضع هلم ،وإذا أقب أحدهم إليه يقوم له ُمذ تقع
()6
جملسه ندوًة كبرية جيتمع إليها العلماء
عينه عليه ،وجيلسه معه ،ويقب عليه بكليته تعظيماً ،وتوقرياً ،واحرتاماً ،وكان ُ
،والفقهاء للبحث والنظر( .)7وكان نور الدين عار اً مبذهب أيب حنيفة ،ملتزماً به من غري تعص ٍ
ب منه ،وال حتيُّ ٍز ،
املذاهب عنده ـ كما أمجع املؤرخون كا ةً ـ سواءٌ ،واإلنصاف سجيته يف ك شيء(.)8
مسع احلديث حىت حص على اإلجازة العلمية اليت تتيح له أن يُ ْسم َعه لآلخرين ...ولقد مارس مهمة التحديث هذه
رغم كثا ة عمله السياسي ،والعسكري ،حماولة منه يف تعزيز مكانة (السنهلة) ونشرها ابحلفظ ،واألداء ،والتحديث(،)9
كما ألهلف كتاابً يف اجلهاد ،وأوقف كتباً كثرية يف مدارسه ،وكان حسن اخلط ،كثري املطالعة للكتب الفقهيهلة متميزاً
()10
207
أن هذا التوجه العلمي عند نور الدين أثهلر على سياسته التعليمية ، بعقله املتني ،ورأيه الثاقب الرزين( .)1وال شك :هل
والرتبوية اليت شهدهتا دولته(.)2
إن أمةً يسوسها العلماء ،واملتخصصون ميكن أن تينع ،وتزهر يها شجرة املعر ة ،ويوم نرى هذه الشجرة تذب ، هل
وتنفض عنها أوراقها الصفراء؛ لنا أن حنكم أبن هنالك يف القمة حفن ًة من اجلهضمء.
هل وتذوي ،
إن جهود نور الدين حممود يف دعم ال علماء ،واحرتامهم ،و تح مؤسسات الدولة لضمستفادة منهم تذكران مبنهج عمر هل
بن عبد العزيز ،يمكن أن نطلق على دولة عمر بن عبد العزيز دولة العلماء ،كما هل
أن يف دولة نور الدين مكانة للعلماء
،غري مسبوقة ابلنسبة ملن سبقه من السضمجقة ،أو احلكام الذين حوله.
1ـ تقدميه للعلماء على األمراء :كان أمراء نور الدين حيسدون العلماء ،والفقهاء على مكانتهم عنده ،كان إذا أعطى
أحداً منهم شيئاً مستكثراً يقول ألصحابه« :هؤالء جند هللا ،وبدعائهم ننتصر على األعداء ،وهلم يف بيت املال حق
أضعاف ما أعطيهم ،إذا رضوا منا ببعض حقهم؛ لهم املنة علينا»(.)3
وكان هؤالء األمراء حياولون أحياانً اإليقاع برجال الدين ،والعلماء عند نور الدين ،ينهاهم ،وإذا نقلوا عن إنسان عيباً
رده على بعض أكابر األمراء ،عندما حاول الني من الفقيه يدا ع عنه ،ويقول هلم :من املعصوم؟ ويكفينا هنا أن نذكر هل
قطب الدين النيسابوري( ، )4وكان نور الدين قد استقدمه من خراسان وابلغ يف إكرامه ،واإلحسان إليه ،قال نور
إن ما تقوله له حسنة تغفر له ك ز ٍلة تذكرها ،وهي العلم والدين ،وأما أنت وأصحابك فيك الدين له« :اي هذا! هل
أضعاف ما ذكرت ،وليست لكم حسنة تغفرها ،لو عقلت؛ لشغلك عيبك عن غريك ،وأان أحتم سيئاتكم مع عدم
صحت ـ مع وجود حسناته؟ على أنين وهللا ال أصدقك يما تقول ،وإن عدت حسناتكم ،أ ضم أحتم سيئة هذا ـ إن هل
ذكره ،أو غريه بسوء؛ ألوذينهلك! كف عنه»(.)5
2ـ البذل والعطاء للعلماء :مل يقف نور الدين يف تعامله مع العلماء عند حدود التشجيع األديب ،والعضمقة الودية ،
والكلمة الطيبة ،ولكنه جتاوز هذا ـ على أمهيته ـ إىل البذل والعطاء ،كان مينحهم بسخاء؛ ألن هذه الفئة املمتازة جيب
أن تظ عزيزة اجلانب ،وأال تلجئها الَرورات القاسية إىل أن تنزل درجات إىل أسف ،تحين رأسها ،وتلوي كرها ،
أو تتملق ،وتداهن ،وتغش وتكذب طلباً لألجر وسداً للحاجة ،ويدرك يف الوقت نفسه كم هي عظمة اجلهود اليت
يبذهلا هؤالء الرجال(.)6
يسد حاجتهم الَرورية ،إن أمة تريد من علمائها أن يعطوها مثار قرائحهم صا ية خالصة عليها أال تبخ عليهم مبا ُّ هل
ويفيض عليها لكي ال تشدهلهم إىل أسف ،ولكي تظ رؤوسهم مر وعة إىل وق ،ضم يشغلهم شيء يف حبثهم عن
احلقيقة ،وال تتدىل هبم حاجة عن املواقع اليت بلغوها بعلمهم ،كان نور الدين إذا أعطى أحداً منهم الشيء الكثري
208
يقول« :هؤالء جند هللا ،وبدعائهم ننتصر على األعداء وهلم يف بيت املال أضعاف ما أعطيهم ،إذا رضوا منا ببعض
حقهم؛ لهم املنهلة علينا»( ، )1ومل يبخ عليهم بتخصيص أوقاف ضخمة على املدارس ،وعلمائها حىت حتفظ هلم حياة
كرمية.
وسع نور الدين نطاق (اخلدمات العلمية) للدولة ،ومنح الَماانت الكا ية للمدرسني والدارسني على السواء ، وقد هل
ومك َن العلماء مبا خصصه هلم من أعطيات ،من أن يتفرغوا ملهامهم العلمية( ، )2وهذا املنهج من هدي عمر بن عبد هل
التفرغ للعلماء ،والدعاة ،واملفكرين؛ كي يتيح هلم التفرغ الكام إلجناز مشاريع كريهلة دعويهلة
العزيز ،قد وضع قانون ُّ
،تلك اليت يعكفون عليها ابختيار أو بتوجيه من الدولة ،أجرى األرزاق على العلماء ،ورتهلب هلم الرواتب؛ ليتفرغوا
لنشر العلم ،ويكفوا مؤونة االكتساب( ، )3وهذا الفع من نور الدين حممود ،وعمر بن عبد العزيز من أسباب التمكني
املادية ،األعمال العظيمة حتتاج إىل أوقات كبرية ،وجهود ضخمة ،ومهم عالية ،ولذلك تَطر األمة الواعية إىل مبدأ
كيز على جانب يتَخم بينما هتم اجلوانب التفرغ مع التنوع والتكام ؛ حىت هل
تسد ك الثغرات اليت حتتاجها ،وال يقع تر ٌ
األخرى ،وال بد من تو ري املال الضمزم هلذه املشاريع؛ ألهنا من أعظم القرابت إىل هللا ـ تعاىل ـ كما جيوز أخذ مال الزكاة،
أو الصدقة ،أو الوقف ،أو الوصية ،أو اهلبة ،أو اهلدية لسد هذه الثغرات املهمة ،وينبغي أيَاً تو ري ك ما حيتاجه
املتفرغ وذويه من األجر الكايف؛ حىت يتفرغ للعطاء والبذل مع مراعاة عدم اإلسراف ،والبذخ ،وال بد من اخلوف من
هللا تعاىل عند اختيار املتفرغ ،حبيث يوضع الرج املناسب يف املكان املناسب ،دون حمبة لعم ٍرو ،أو زيد( ، )4قال
ۡٱۡلَمِنيُ َۡ
ٱلقوِ ُّي
ۡ َ َ َ
ج ۡرت ٱَت َم ِن َخ ۡ َ
ۡي
ذ
﴿إِن تعاىل:
[﴾٢٦القصص . ]26 :
يسرت أمام نور الدين سبي النجاح :أنه مل يبدأ من راغ ، 3ـ اهتمامه بعلماء املدارس النظامية :من أهم العوام اليت هل
وإمنا استفاد من جهود املدارس النظامية ،اليت أسسها نظام امللك الوزير السلجوقي الشهري ،وقد حتدهلثت عنها بنوع
من التفصي يف كتايب( :دولة السضمجقة واملشروع اإلسضممي ملقاومة التغلغ الباطين والغزو الصلييب) ،قد انتفع امللك
العادل نور الدين حممود ،مبا حققته املدارس النظامية من نتائج ابهرة ،واليت يف مقدمتها ختريج جي ٍ يعي حقيقة الصراع
،واألخطار احمليطة به من ابطنية ،وصليبية ،وهو مؤه أبن حيم على عاتقه مهمة الدعوة للمذهب السين ،واالنتصار
له والد اع عنه ،وقد استفا د نور الدين من عدد كبري من هؤالء العلماء ،الذين خترجوا من النظاميات ،ومنهم:
«القاضي كمال الدين الشهرزوري ،والذي كان مبثابة وزير له ،والقاضي شرف الدين بن أيب عصرون ،الذي أنشأ له
نور الدين عدهلة مدارس يف أماكن خمتلفة ،والعماد األصفهاين الذي عم مدرساً يف بعض مدارس دمشق ،إىل جانب
قيامه برائسة ديوان اإلنشاء لنور الدين يف رتة من الفرتات ،والقطب النيسابوري الذي كان له دور يف نشر السنة حبلب
عن طريق التدريس ابملدرسة النفرية النورية ،مث أكم رسالته التعليمية يف دمشق عندما انتق نور الدين إليها ،وعبد
209
ودرس ببعض مدارس الرحيم بن رستم أبو الفَائ الزجناين الشا عي (ت 563هـ) الذي واله نور الدين قَاء بعلبك ،هل
دمشق»(.)1
وأصبحت الشام يف عهد نور الدين ،واأليوبيني مركزاً هلجرة كث ٍري من العلماء ،من أحناء شىت من العامل اإلسضممي ،
وشارك كثري منهم يف اجلهود اليت قام هبا نور الدين ،وهو ميكن ملذهب أه السنة(.)2
4ـ هجرة العلماء إىل دولة نور الدين حممود :شهدت بضمد الشام يف عصر نور الدين ،نشاطاً عاملياً مل تشهد له مثيضمً
من قب إال ملاماً ،وتد ق العلماء على حواضر الدولة وخباصة حلب ،ودمشق من أطراف األرض ،وقصدوا الرج من
()3
البضمد الشاسعة ؛ حىت إن بضمد الشام كانت ـ كما يصفها أبو شامة ـ «خالية من العلم وأهله ،ويف زمانه صارت مقراً
للعلماء ،والفقهاء ،والصو ية( ، )4الدولة اليت هتيئ األرضية األكثر صضمحية للعطاء العلمي ،ومتنح املال األكثر
للبحث والدراسة والتفرغ ،وتنشىء املؤسسات الضمزمة إلبداع العلماء والباحثني هي اليت تستقطب العقول الكبرية يف
ك زمان ومكان ،ولقد أدرك نور الدين أمهية هذه اهلجرة العلمية ،عم بنفسه على توسيع نطاقها ،وراح يكاتب
العلماء من شىت البضمد البعيدة والقريبة ،ويستقدمهم إليه ،ويبالغ يف إكرامهم ،واإلحسان إليهم( ، )5وقد استقدم على
سبي املثال:
أ ـ برهان الدين أبو احلسن علي بن حممد البلخي ( 548هـ 1153 /م) وهو من علماء األحناف ،قد اُستُـ ْقد َم من
دمشق حال استكمال بناء املدرسة احلضموية ،يف حلب لغرض التدريس يها ،وكان قد تفقه يما وراء النهر ،وبغداد،
واحلجاز ،مث قدم دمشق عام 519هـ وجلس للوعظ ،وكان يتميز بصدق كلماته لقيت قبوالً حسناً يف قلوب الناس
،وكان حسن االعتقاد زاهداً يف الدنيا ُ ،وقفت عليه األوقاف الكثرية ،وكثرت األعطيات لم يلتفت إليها( ،)6وقد قام
برهان الدين البلخي بدور كبري يف مساعدة نور الدين يف القَاء على مظاهر التشيُّع حبلب(.)7
ب ـ الفقيه أبو العباس السلفي :قد قام برهان الدين البلخي إثر توليه احلضموية ،ابستدعاء الفقيه برهان الدين أيب
العباس أمحد السلفي ـ من دمشق أيَاً ـ ليكون انئباً عنه يها اعتذر عن القدوم َ ،س هلري إليه برهان الدين كتاابً اثنياً
يستدعيه يه ،ويشدد عليه يف الطلب ،قدم الرج ومل يزل انئباً عن برهان الدين يف املدرسة املذكورة حىت و اته ،
حيث حزن عليه برهان الدين حزانً شديداً ومل يزل ـ األخري ـ مدرساً هناك إىل أن غادر حلب إىل دمشق بسبب خضمف
تويف عام 548هـ .وح هل حمله يف التدريس عبد الرمحن بن حممود بن وقع بينه وبني ابن الداية انئب حلب ،وما لبث أن َ
حممد الغزنوي ،حىت و اته سنة 564هـ( ، )8مث تعاقب عليها املدرسون القادمون من جهات شىت(.)9
210
ج ـ عايل بن إبراهيم احلنفي الغزنوي :تعاقب على املدرسة احلضموية مدرسون من جهات شىت ،وكان من بينهم رضي
الدين حممد بن حممد السرخسي صاحب كتاب (احمليط) ،وكان يف لسانه لكنةٌ غري عربية ،كتب نور الدين إىل عايل
بن إبراهيم احلنفي الغزنوي البلقي ـ وكان يف املوص ـ يطلب منه الوصول إىل حلب ليوليه التدريس يف املدرسة املذكورة،
أقر عضمء الدين على التدريس يف احلضموية ،وظ هل
وعني يف املدرسة احلضموية حىت و اته عام 581هـ أو 582هـ بينما هل ُ
هناك ميارس مهمته التدريسية حىت و اته عام 587هـ أي :بعد مثانية عشرة عاماً ،وقد وصفه ابن شداد أبنه« :كان
من ذوي التحصي والتصانيف البديعة يف أحكام الشريعة ،والكتب اليت سارت يف اال اق ذكرها»( )1تفقهله يف بضمد
املشرق على حممد بن أمحد السمرقندي ،وقرأ عليه معظم تصانيفه زوجه شيخه اببنته اطمة ،الفقيهة العاملة ،وقد
برع عضمء الدين يف علمي األصول والفروع ،وصنهلف كتاب البدائع يف شرح (التحفة) اليت ألفها شيخه( .)2وكانت زوجته
اطمة على قدر كبري من العلم والتقوى ،تفقهت على يد أبيها ،وحفظت مصنفه التحفة ،وكانت تنق املذهب نقضمً
يهم ابلفتوى رتده إىل الصواب ،وتعر ه وجهة اخلطأ ،ريجع إىل قوهلا ،وكانت متارس اإل تاء
جيداً ،وكان زوجها رمبا ُّ
،وكان زوجها حيرتمها ،ويكرمها ،وكانت الفتوى خترج خبطها ،وخط أبيها ،وزوجها ،وهي اليت سنهلت تقدمي طعام
اإل طار يف رمَان لفقهاء املدرسة احلضموية يف حلب(.)3
د ـ اإلمام شرف الدين بن أيب عصرون :عندما متهل استكمال املدرسة العصرونية يف حلب عام 550هـ استدعى هلا نور
الدين من إحدى نواحي سنجار ـ غريب املوص ـ الشيخ اإلمام شرف الدين بن أيب عصرون الذي كان ـ حبق ـ من أعيان
عد ًة :يف منبج ،ومحاة ،قهاء عصره ،وأراد نور الدين اإل ادة من كفاءة الرج إىل املدى األقصى ،بىن له مدارس هل
ومحص ،وبعلبك ،ودمشق ،و هلوضه أن يويل التدريس يها من يشاء ،ومل يزل ابن أيب عصرون يتوىل أمر مدرسته يف
حلب إدارة ،وتدريساً إىل أن غادر حلب إىل دمشق سنة 570هـ(.)4
هـ ـ قطب الدين مسعود النيسابوري :ويف عام 544هـ متهل بناء املدرسة النفرية يف حلب لتدريس املذهب الشا عي ،
واستدعى للتدريس يها الفقيه املشهور :قطب الدين مسعود النيسابوري ،مصنف كتاب (اهلادي) يف الفقه( ، )5وكان
النيسابوري قد بدأ ممارسة نشاطه العلمي يف نيسابور ،ومرو ،ومسع احلديث على عدد من الشيوخ ،وقرأ القران،
ودرس ابلنظامية يف نيسابور نيابة عن ابن اجلويين ،مث سا ر إىل بغداد
واألدب على والده ،والتقى أبيب نصر القشريي هل
حيث مارس الوعظ ،والكضمم يف املسائ ،لقي هناك قبوالً حسناً ،وغادرها إىل دمشق عام 540هـ ،درس يف
مدارسها ،ووعظ يف مساجدها ،أقب الناس عليه ،ومن هناك استدعي إىل حلب للتدريس يف املدرسة املذكورة ،
()7
وكان من العلم والدين والصضمح والورع مبكان كبري( .)6ووصفه العماد األصفهاين أبنه ( :قيه عصره ،ونسيج وحده)
درس يف زاوية الشا عية ،وقد أرسله نور الدين اثنية إىل دمشق سنة 568هـ الستئناف نشاطه التدريسي هناك ،هل
211
مبدرسة اجلاروخ مشايل اجلامع األموي ،واجتمعت طلبة العلم عليه ،ومن أج اإل ادة من قهه قرر نور الدين بناء
()1
مدرسة كبرية للشا عية ،يتوىل الرج التدريس يها ،وقد شرع ابلبناء عضمً ،لكن األج أدركه قب استكمال عمارهتا
،وتويف النيسابوري بعده حبوايل عشر سنني 578هـ(.)2
و ـ سعيد بن سه أبو املظفر املعروف الفلكي النيسابوري :املتوىف سنة 560هـ والذي درس احلديث ،وأقام يف خوارزم
وزيراً ألمريها ،ورح إىل بغداد مراراً وحدهلث هبا عند مجاعة من الشيوخ ،مث سا ر إىل دمشق يف طريقه لزايرة القدس ،
قدم يف أايم نور الدين الذي أكرم و ادته ،وملا طلب النيسابوري العودة إىل بضمده؛ مل يسمح له نور الدين ،وأمسك به
،وأنزله اخلانقاه ،والسميساطية ،وجعله شيخها ،أقام هبا حىت و اته .وقد روى عنه احملدث الشهري أبو القاسم بن
عساكر( ، )3ويذكر املؤرخ البغدادي ابن اجلوزي كيف أن نور الدين (كاتبه مراراً)(.)4
ز ـ األديب املؤرخ الشاعر العماد األصفهاين :ويف قمة هؤالء يقف األديب الشاعر املؤرخ العماد األصفهاين؛ الذي قدم
إىل دمشق عام 562هـ ،وقد قدهلمه كمال الدين الشهرزوري قاضي القَاة لنور الدين ،اعتمده األخري يف عديد من
املهام اإلدارية ،والسياسية ،واإلنشائية َضمً عن اإل ادة من قدراته العلمية ،والتدريسية ،حيث ويل املدرسة النورية
اليت مسيت ـ بعدئذ ـ ابملدرسة العمادية نسبة إليه ،وليس مثة من ال يعرف معطيات العماد املتنوعة اخلصبة يف حقول
التاريخ ،واألدب ،والشعر ،واليت مت إجناز الكثري منها يف عصر نور الدين نفسه :اخلريدة ،الربق الشامي ،اتريخ دولة
ال سلجوق ،زبدة النصرة ،الفتح القسي ،مث معطياته الشعرية اليت ال تق مجاالً وإبداعاً عن شعر ٍ
أي من املعاصرين
الكبار كابن القيسراين ،وابن منري(.)5
ح ـ احلسن بن أيب احلسن صايف موىل األرموي البغدادي :ملك النحاة كما يسميه سبط ابن اجلوزي ،ولد ببغداد سنة
489هـ وقرأ النحو ،وأصول الفقه على عدد من األساتذة ،مث دخ الشام ،واستوطن دمشق ،وله ديوان شعر جيد
يَم يده على املئة واملئتني ،وميسي وهو صفر اليدين وقد عاش يفومدائح يف وصف النيب صلى هللا عليه وسلم وكان ُّ
ظ نور الدين إىل أن مات ،وكان يكتب إليه(.)6
ط ـ أبو الفتح بن أيب احلسن األشرتي الفقيه :كان معيداً ابلنظامية ،سا ر إىل دمشق ،ومجع لنور الدين سرية خمتصرة،
أ اد منها عدد من املؤرخني وخباصة أيب شامة يف كتابه (الروضتني)(.)7
ي ـ أبو عثمان املنتخب بن أيب حممد البحرتي الواسطي الواعظ ...ورد أرب ،ووعظ هبا ،وكان له قبول عظيم لدى
وردها عليه(.)8
الناس ،وسا ر إىل نور الدين يف الشام طلباً للجهاد ،وأنفذ له األخري مجلة من املال ،مل يقبلها هل
212
ك ـ شيخ الشيوخ عماد الدين أبو الفتح حممد بن علي بن محويه :و د إىل الشام عام 563هـ ،وكان كبري الشأن يف
التصوف ،مل يكن له يه يومذاك مسا ٍو ،أقب عليه نور الدين هل
ورغبه يف املقام ابلشام ،وأحسن إليه ،وأمر ميدان ُّ
يعني الرج مبوجبه يف مشيخة صو ية الشام(.)1إبصدار منشور هل
وغري ذلك من العلماء والفقهاء الذين استقدمتهم الدولة ،أو جذبتهم الظروف املشجعة يف دولة نور الدين ،والذين
تد قوا على حواضرها ،وملؤوا نشاطهم العلمي واألديب مؤسساهتا التعليمية ،وإدارهتا كذلك ،حىت صارت بضمد الشام
يف عصره مهجراً لكبار عقول األمة.
5ـ ابتعاد نور الدين عن التعصب :مل يكن نور الدين حممود زنكي متحيزاً أو متعصباً إىل مذهب من املذاهب السنية
لكي يسعى ـ من خضمل نشاطه املدرسي هذا ـ إىل حتقيق نـصر جزئي ملذهب دون مذهب ،وإىل تعزيـز مواقع ـقه ما
مبواجهة سائر املعطيات الفقهية ،كما حيدث يف عصور التقليد والتهليبُّس الفكري ،إنه يطمح إىل ما هو أبعد من هذا
بكثري( :العم على مستوى العقيدة اإلسضممية يف آ اقها الرحيبة الواسعة ،ومشوليتها الهليت تتسع لك ك ٍر إسضممي
إن الرج يط ُّ على املسألة الفكرية من وق ،ويسعى إىل أن يكون الصراع الفكري ،ال ُمبدع) ،واجتهاد خضمهلق ،هل
لألمة املسلمة ،ولكنه صراع مبواجهة خصم صلييب كان يتغلغ يف حنااي قتاالً وانشقاقاً يف صميم الذات العقائدية هل
األرض ،ويقف ابملرصاد متحفزاً لتدمري الشخصية اإلسضممية متاماً كما يسعى استعمار اليوم اجلديد ،وصهيونيته
لتحقيقه ،وصراعٌ من جهة أخرى مبواجهة احنرا ات القرون الطويلة يف جمرى التاريخ اإلسضممي نفسه ،وهذا هو األخطر
صوب مواقع التأصي والدميومة جيب أن تتحلى بقدر كبري من جتاوز َ واألهم ،ومن مث إن قيادة الفكر اإلسضممي
مدى .ومثة حادثة من بني عديد من احلوادث تناقلها الصراعات اجلانبية ،والعقد التارخيية صوب ما هو أعم وأمش وأبعد ً
املؤرخون ،حتم داللتها الواضحة يف هذا اجملال(« :)2يف أعقاب و اة أحد كبار الفقهاء املشر ني على التدريس يف
حلب انقسم هؤالء إىل قسمني ،ك ٌّ يريد مذهباً من املذاهب ،ويسعى إىل استدعاء الرج الذي خيلفه يف التدريس ،
وتطور اجلدل إىل تنة كادت تقع بني الفريقني ،لما مسع نور الدين بذلك؛ استدعى مجاعة الفقهاء إىل القلعة حبلب هل
،وخرج إليهم انئبه ـ جمد الدين بن الداية ـ وقال هلم على لسانه :حنن ما أردان ببناء املدارس إال لنشر العلم ،ودحض
البدع من هذه البلدة ،وإظهار الدين ،وهذا الذي جرى بينكم ال حيسن ،وال يليق ،مث أعلمهم :أن نور الدين قرر
اسرتضاء الفريقني ابستدعاء الرجلني ،وتولية ك ٍ منهما إحدى املدارس الشهرية يف حلب»(.)3
ص الصفوف ،ويوحد اجلهود وسع نور الدين حممود جبهة املواجهة حتت راية أه السنة واجلماعة ،واستطاع أن يَ ُـر هل
لقد هل
أمام األخطار الداخلية ،واخلارجية ،وحقق األجواء الصاحلة ،لكي ينجح مشروع أه السنة واجلماعة النهَوي الذي
تبنهلاه.
إن التقليد والتعصب من أعظم أسباب التفرق واالحنراف عن منهج هللا الرابين ،ومها من أهم العوام اليت هلأدت إىل
انتشار البدع ،واألهواء بني الناس ،فشت يف أوساطهم ،وحالت بينهم ،وبني مساع احلق واهلدى ،وتركوا بسببها
213
املطهرة ،والتعصب والتقليد يؤداين إىل مهاوي الردى ،ويقودان صاحبهما إىل مسالك السنهلة هل
طريق الكتاب الكرمي ،و ُّ
الغواية ،والَضمل ،ويصدان عن اتباع النور واهلدى ،تكون النتيجة ختبطاً ،وانتكاساً يف الدنيا ،وهضمكاً ،وخسراانً
يف اآلخرة(.)1
لقد انتشر مرض التعصب ،والتقليد يف شعوب األمة اإلسضممية ،السيما يف العصور املتأخرة ،وأصبح هو األساس ،
واألص ،ونتج عن تفشيه نتائج وخيمة وأمور جسيمة ،وخطرية ،من أشدها :عدم قبول احلق ،ورده إذا جاء من
املخالف( . )2وقد قام نور الدين حممود مبعاجلة وحماربة التعصب ،ويف حقيقة األمر حماربة ألسباب الفرقة ،وابلتايل
التعصب ،
خطوة حنو األخذ أبسباب النهوض ،على املهتمني أبمر هنوض األمة معاجلة هذه األمراض املعَلة ،من ُّ
وغريها ،اليت كانت سبباً يف تفريق األمة شيعاً ،وأحزاابً.
6ـ أثر العلماء يف دولة نور الدين :كان لبعض العلماء املشتغلني ابلتعليم ،والرتبية ،والوعظ ،واإلرشاد دور ابرز يف
دولة نور الدين ،متث يف االيت:
أ ـ اجلهاد ضد الصليبيني :قد كان عماد الدين ،وابنه نور الدين حممود زنكي يعمضمن مبشورة العلماء ومساندهتم؛
حيث كانت هلم الكلمة النا ذة ،واملكانة املرموقة ،واحلظ الوا ر يف ك ٍ من املوص ،وبضمد الشام يف ذلك العهد(، )3
ومن العلماء الذين كان هلم أثر ابرز يف اجلهاد ضد الصليبيني ،احلا ظ احملدث أبو القاسم علي بن احلسن بن عساكر
املتوىف سنة 571هـ 1176 /م ،ومن أعماله اليت قام هبا لينَم إىل العلماء اجملاهدين توجيه احلديث الشريف خلدمة
ضد الصليبيني ،ابعتباره شيخاً ألول دار ختصصية تنشأ لتدريس احلديث يف اإلسضمم ،وهي دار احلديث النورية اجلهاد هل
بدمشق ،قد حرص احلا ظ على تدريس ما يتعلق منه بباب اجلهاد ،واحلث على َائله ،ودراسة األحاديث واآلداب
جزء واحد د عه إىل مجعه رغبته يف حث الناس على املتعلقة به ،وقد مجع لنور الدين أربعني حديثاً يف َائ اجلهاد يف ٍ
َائ اجلهاد ،واالستشهاد يف سبي هللا( ، )4كما كان للعماد األصفهاين األديب الكاتب املتوىف سنة 597هـ /
1201م دور ابرز يف اجلهاد ضد الصليبيني ،قد انتق إىل دمشق 562هـ 1166/م يف أايم امللك نور الدين حممود
مكنته من اإلسهام ابملشورة ،والتدريس ،وكان سنداً لنور الدين؛ حيث توىل لديه العديد من الوظائف اهلامة يف الدولة ،هل
،والتأليف ،كانت أعماله صورة صادقة من جتاوب العلماء مع أحداث اجلهاد يف ذلك العهد(.)5
ب ـ السفارات بني الدولة :شارك بعض العلماء يف العهد الزنكي مبهمة السفارة بني الدولة الزنكية واخلضم ة العباسية ،
أو الدولة املعاصرة إما هبدف االستنجاد ضد الصليبيني ،أو لقَاء مصلحة بني الدولتني ،ومن سفراء االستنجاد ومن
طلب املعونة ضد الصليبيني :القاضي كمال الدين أبو الفَ حممد بن عبد هللا بن القاسم الشهرزوري املتوىف 572هـ
1176/م إذ أرسله امللك عماد الدين زنكي سفرياً من لدنه؛ ليستنجد ابخلليفة العباسي املقتفي ألمر هللا ( 530ـ
214
555هـ 1135 /ـ 1160م) والسلطان السلجوقي مسعود ( 527ـ 547هـ 1133 /ـ 1152م) عام (532هـ /
()1
مر تفصي ذلك. 1137م) أثناء اهلجوم الصلييب البيزنطي املشرتك على حلب وغريها من مدن الشام ،وقد هل
كما واص القاضي كمال الدين القيام هبمة السفارة بني الدولتني الزنكية ،واخلضم ة العباسيـة يف عصر نور الدين حممود؛
إذ اعتمده نـور الدين سفرياً إىل اخلليفـة العباسي املستَيء ( 566ـ 575هـ 1172 /م) يطلب منه تقليداً مبا يف يـده
من ا لبضمد (الشام ،ومصر ،واجلزيرة ،واملوص ) ،ومبا يف طاعته كداير بكر ،وما جياوز ذلك كخضمط ،وبضمد أرسضمن.
يقول ابن األثري ( :أكرم اخلليفة كمال الدين إكراماً مل يُـكرمه رسول قبله ،وأجيب إىل ما التمسه)( .)2كما برزت
شخصيات من العلماء قاموا مبهمة السفارة بني نور الدين حممود يف حلب ،واألاتبك ُجمري الدين أبق بن حممد اخر
احلكام البوريني ( 534ـ 549هـ 1139 /ـ 1154م) وذلك بعد الـهجمات العسكرية املستمرة اليت قام هبا نور الدين
املهمة الفقيه بُرهان الدين البلخي املتوىف سنة (548هـ
حممود على مدينة دمشق سنة (546هـ 1151 /م) وقد توىل هل
1153/م) مبشاركة األمري أسد الدين شريكوه ،وأخوه جنم الدين أيوب ،ومتت بني اجلانبني اتفاقية سضمم على شروط
وقعت بينهما(.)3
ج ـ تويل بعض املناصب املهمة يف الدولة :كالقَاء ،وقد متهل احلديث عن ذلك ،وكتابة اإلنشاء( ،)4وغري ذلك من
املناصب اليت أييت بياهنا إبذن هللا يف هذا الكتاب.
أمور ،منها:
ويضمحظ يف حديثنا عن مكانة العلماء يف دولة نور الدين حممود ٌ
أن نور الدين ـ رمحه هللا ـ قد استفاد من العلماء على اختضمف مذاهبهم ،رغم أنه كان حنفي املذهب ،ارتفع وق * هل
عصبية املذهب ،وكان هلا سطوهتا آنذاك.
أن عصر امللك العادل كان حا ضمً ابحلركة العلمية ،مزدهراً ابلعلماء ،والفقهاء ،والقَاة من ذوي العلم الغزير ، * هل
والعاملني بعلمهم ،ورغم ذلك كانوا يندهشون مما يبديه السلطان من الفهم ملسائ طال اخلضمف حوهلا ،وكان يناقشهم
مكنه من ح مشكضمت عصره ،بينما عجز عنها يها( :)5ويعود ذلك إىل ذكاء ملاح ،ونية حسنة ،وعلم غزير ،مما هل
قبله الفحول.
تغري األوضاع املرتدية ،وجتديد أحوال األمة ،واالرتقاء هبا حنو
أن التعاون بني السلطان والعلماء العاملني قد أدى إىل ُّ * هل
األ َ مع إقامة العدل ،وطرد الغزاة يف أماكن كثرية(.)6
وسيأيت احلديث ـ إبذن هللا ـ يف مبحث قادم عن ُد ْور التعليم ،ووظائفها يف العهد الزنكي ،واملدرسون والطضمب ،ونظم
التعليم ووسائ حتصيله يف العهد الزنكي ،وميادين العلوم ،وأبرز أعضممها ،وأهم املراكز العلمية.
خامساً :الشورى يف دولة نور الدين حممود:
215
اهتم امللك العادل ،نور الدين حممود زنكي ابلشورى ،قد رأى أمهيتها يف حيوية األمة ،وأمنها ،واستقرارها ،واألهم هل
من ذلك كله :أن هللا جع يها سورة من سور القران الكرمي ،محلت امسها وهو مبدأ أرشد إليه القران الكرمي،
وهو ميث أرقى أشكال التعاون قال تعاىل:
َ ذ َ ۡ َ َ ُ ْ َ ۡ َََ ُ ْ ذ َ َ ۡ ُ ُ ۡ ُ َ ََُۡ ۡ َ ذ َ ََۡ ُ ۡ ُ ُ َ َ َ
ٱَّلين ٱَتجابوا ل ِرب ِ ِهم وأقاموا ٱلصلوة وأمرهم شورى بينهم ومِما رزقنهم ينفِقون [ ﴾ ٣٨الشورى]38: ﴿و ِ
َ ُ
.كما أمر هللا تعاىل رسوله صلى هللا عليه وسلم مبشاورة أصحابه بشك ال يقب التأوي يف قوله تعاىلَ ﴿ :وشاوِ ۡره ۡم
َ َ َ ُ ۡ َ ۡ َ َ َ َ ۡ َ َ َ َ ذ ۡ َ َ ذ ذ ذ َ ُ ُّ ۡ
ِِف ٱۡلم ِرِۖ فإِذا عزمت فتوَّك لَع ٱَّللِ إِن ٱَّلل ُيِ ُّ ٱلمتو ِّك ِني[ ﴾ ١٥٩عمران. ]159 :
وقال الشاعر:
ب أو مشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـورة ح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـازم بـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرأي لبي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ أي املشـ ـ ـ ـ ـورة استعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن
إذا بلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َغ ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر ُ
()1
ـ ـ ـ ـإن اخلوا ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوةٌ للق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوادم وال جتع ـ ـ ـ ـ ـ الش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـورى عليـ ـ ـ ـك غَاضـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةً
والشورى واجبة على احلاكم يف الشريعة اإلسضممية ،وإىل هذا القول ذهب كثري من العلماء ،والفقهاء ،ضم حي ُّ
للحاكم أن يرتكها ،وأن ينفرد برأيه دون مشورة املسلمني من أه الشورى ،كما ال حي ُّ لألمة اإلسضممية أن تسكت
على ذلك ،وأن ترتكه ينفرد ابلرأي دوهنا ،ويستبد ابألمر دون أن يشاركها يه( ،)2األمة ال تنهض إال إذا أخذت بفقه
النهوض ،والذي منه ممارسة الشورى يف نطاقها الواسع.
ولقد اعتمدها نور الدين حممود ،ومل ينفرد ابختاذ القرارات ،ب تبادل اآلراء يف ك أمور الدولة ،كان له جملس قهاء
،يتألف من ممثلي سائر املذاهب والصو ية ،يبحث يف أمور اإلدارة ،والنوازل ،وامليزانية.
1ـ الشورى يف القَااي العامة :ومثة وثيقة قيمة يثبتها أبو شامة بنصها عن أحد احملاضر اليت دونت بصدد عدد من
قَااي الوقف واألمضمك ،كانت قد أُدخلت ضمن أوقاف اجلامع األموي ،بدمشق ،وسعى نور الدين إىل صلها ،
بوضوح الرغبة اجلادة لدى
ٍ وإعادهتا إىل قطاع املنا ع العامة ،وخباصة مسائ الد اع واألمن ،وقد متثهللت يف تلك الوثيقة
نور الدين يف األسلوب الشوري احلر ابعتباره الطريق الذي ال طريق غريه للوصول إىل احلق(.)3
في التاسع عشر من صفر سنة أربع ومخسني ومخسمئة أحَر نور الدين أعيان دمشق من القَاة ،ومشايخ العلم ،
والرؤساء( ، )4وسأهلم عن املَاف إىل أوقاف اجلامع بدمشق من املصاحل ليفصلوها منها ،وقال هلم( :ليس العم إال
ما تتفقون عليه ،وتشهدون به ،وعلى هذا كان الصحابة رضوان هللا عليهم ،جيتمعون ،ويتشاورون يف مصاحل املسلمني
،وليس جيوز ألحد منكم أن يعلم من ذلك شيئاً إال ويذكره ،وال ينكر شيئاً مما يقوله غريه إال وينكره ،والساكت
ب له.
منكم مصدق للناطق ،ومصو ٌ
شكروه على ما قال ،ودعوا له ،و صلوا له املصاحل من الوقف ،قال نور الدين :هل
إن أهم املصاحل ُّ
سد ثغور املسلمني
،وبناء السور احمليط بدمشق ،والفَي ،واخلندق لصيانة املسلمني ،وحرميهم ،وأمواهلم ،مث سأهلم عن واض
216
األوقاف ه جيوز صر ها يف عمارة األسوار ،وعم اخلندق للمصلحة املتوجهة للمسلمني( )1أ ىت شرف الدين املالكي
جبواز ذلك ،ومنهم من روى يف مهلة النظر ،وقال الشيخ ابن عصرون الشا عي( :ال جيوز أن يصرف وقف مسجد
بد من ذلك؛ ليس طريقة إال أن يقرتضه من إليه إىل غريه ،وال وقف معني إىل جهة غري تلك اجلهة ،وإذا مل يكن ٌّ
األمر من بيت مال املسلمني ،يصر ه يف املصاحل ،ويكون القَاء واجباً من بيت املال .وا قه األئمة احلاضرون معه
على ذلك) .مث سأل ابن أيب عصرون نور الدين( :ه أُنفق شيء قب اليوم على سور دمشق ،وعلى بناء بعض
العمارات املتعلقة ابجلامع املعمور بغري إذن موالان؟ وه كان إال مبلغاً لألمر يف عم ذلك؟) قال نور الدين( :مل ينفق
ذلك ،وال شيء منه إال إبذين وأان أمرت به)(.)2
جملسه ندوةً كبريةً ،جيتمع إليها العلماء ،والفقهاء للبحث والنظر( ، )3ومل تكن املناظرات 2ـ جمالس متخصصة :كان ُ
اليت شهدهتا جمالسه تزجيةً للوقت ،وخترجياً نظرايً للفروع على األصول ،وتر اً كرايً ...إمنا كانت نشاطاً جاداً من أج
جماهبة املشاك ،والتجارب املتجددة املتغرية ،ابحللول املستمدة من شريعة اإلسضمم و قهه الواسع الكبري ،ما دام الرج
يسعى إىل إعادة صياغة احلياة يف ميادينها كا ةً وعلى مدى مساحاهتا مبا ينسجم وعقيدة اإلسضمم ،ورؤايه ملوقع اإلنسان
إن ندوات كهذه أشبه مبجالس أو (جلان برملانية) متخصصة ،جتتمع بني احلني ،واحلني حل يف العامل ...ومن مث هل
مشكلة ما ،أو استعداد تشري ٍع ،أو إقرار ٍ
قانون. ُ ُ
مر ذكره مع حشد من العلماء ،الذين اختريوا لكي ميثلوا املذاهب الفقهية املوسع الذي هل وحنن نذكر هنا ذلك االجتماع هل
كا ة ،من أج النظر يف عدد من قَااي الوقف واملصاحل العامة( .)4وقد شبهله ابن األثري جملسه مبجلس رسول هللا صلى
هللا عليه وسلم جملس حلم وحياء ،ال تؤبن يه احلرم ،وال يذكر يه إال العلم والدين ،وأحوال الصاحلني ،واملشورة يف
أمر اجلهاد ،وقصد بضمد العدو ،وال يتعدى هذا( ...)5وإىل روايته األخرى اليت يتحدث يها عن قيام نور الدين
ابستحَار عدد من الفقهاء ،واستفتائهم يف أخذ ما حي ُّ له من( :الغنيمة ومن األموال املرصدة لصاحل املسلمني ،
أخذ ما أ توه حبله ،ومل يتعده إىل غريه ألبَـتهلـةَ)(.)6
الغراء يتوجب أن يكون ملزماً لك إنسان ،سواء كان يف القمة أم يف القاعدة ،وقوهلم ما يصدر عن ممثلي الشريعة هل
هو القول الفص ألن نور الدين ـ وقد عر نا مدى صدقه مع ربه ومع نفسه ومع رعيته ـ ما كان يريد أن ميارس
االستشارات القانونية املزدوجة ،ويربز للناس أنه ال يقدم على عم إال بعد االطضمع على رأي قادة كرهم ،ومشرعي
قوانينهم ،ويسعى يف اخلفاء إىل تنفيذ ما كان قد اعتزمه مسبقاً مهما كانت درجة تناقَه مع طروحات اللجان
217
االستشارية ،والتشريعية ،والربملانية ،اليت ستكون مبثابة الرداء اخلارجي الذي حيمي يف داخله مَامني ،وممارسات ال
متتد إىل لون الرداء ونسيجه يف شيء(.)1
وكان يكاتب العلماء لضمستشارة ،قد ذكر ابن اجلوزي :هل
أن نور الدين كاتبه مراراً( .)2وكان نور الدين يسأل العلماء ،
والفقهاء عما يَ ْش ُك عليه من األمور الغامَة وكان يقول ملستشاريه من العلماء ،والفقهاء( :ابهلل انظروا أي شيء
علمتموه من أبواب الرب واخلري دلوان عليه ،وأشركوان يف الثواب .قال له شرف الدين بن أيب عصرون :وهللا ما ترك املوىل
شيئاً من أبواب الرب إال وقد عله ،ومل يرتك ألحد بعده ع خ ٍري ،إال وقد سبقه إليه)(.)3
3ـ راسته يف معر ة العلماء :مل يكن الرج يتعام مع العلماء حبساب اجلملة ،كما يقولون ،حيث خيتلط الفقيه
ابجلاه حتت ستار العلم ،ويَيع اجليد ابلرديء ،وحيث يربز أحياانً من بني العلماء رج ،أو اثنان ،أو أكثر ،
يمتطوا املكانة اليت بلغوها ،وخيتبئوا خلف الرداء الذي لبسوه؛ لكي يزيـفوا حقيقةً ،أو يلبسوا ابطضمً حبق ،أو يشرتوا
آبايت هللا مثناً قليضمً.
إن الرج ير ض الكذب؛ الكذب على هللا ،وعلى الناس ،وعلى احلقيقة ،وابلتايل هو ير ض الغش ،والتزوير ،
والتَلي ،واخلداع ،وهو ـ من اجلهة األخرى ـ ميلك من الذكاء ،وعمق النظر ،وسرعة البديهة ما جيعله يزن الناس
الذين يتعام معهم بدقة عجيبة ،كدقة املوازين ( ،هو كما قال عمر بن اخلطاب ـ رضي هللا عنه ـ متحداثً عن نفسه:
()4
اخلب خيدعين) ،ومن مث يبدو أن ليس مبقدور أي رج أن يعرب على بداهة نور الدين ،وتفحصه لست ابخلب ،وال ُّ
الذكي للرجال؛ حىت لو تدثهلر أبلف رداء علمي ،واختبأ خلف ستار.
هذه احلادثة ،اليت يرويها لنا شاهد عصره العماد األصفهاين حتم داللتها على علميهلة الرج ،ور َه للخرا ة ،و همه
وعول عل هلي يف التدريس ،والنظر يف
إيل نور الدين إحدى مدارسه ،هل
ض هل العميق للرجال( :يف رجب ـ يقول العماد ـ هلو َ
أوقا ها ،وكان الفقيه يها أاب الربكات خَر بن شب الدمشقي ،لما تويف سنة 562هـ خلهلف ولدين ،و هل
استمرا يها
مغريب ،استهوامها بعم الكيمياء( ،)5وهنج هبما سبي اإلغواء ،صاهراه ،وظاهراه
ٌّ على رسم الوالد ،مث خدعهما رج
مسع ،قال يل: ،غاظ نور الدين هذا املعىن ،وأحَرمها ،واستوىف عليهما أنواع التوبيخ ،لم جيد من أحدمها ألمره ٌ
تسلهلم املوضوع ،ورتبين يها مدرساً ،وانظراً)(.)6
واملقصود من كضممي :أن امللك العادل نور الدين حممود زنكي مارس الشورى على أسس صحيحة يف دولته ،وكانت
له جمالس شورية ،يلتقي يها القادة العسكريون ،واإلداريون مع العلماء والفقهاء ،ك ُّ حاكم يريد حلكمه أن يستمر
،ولنظام دولته أن يستقر عليه أن يكون حريصاً على اإلملام حبقيقة األوضاع ببضمده ،والشورى خري سبي لتحقيق هذه
الغاية.
218
ومع تطور أمور احلياة ،ال غىن ألمة تريد أن تنهض عن مبدأ الشورى ،وال مانع من ضبط ممارسة الشورى ،و ق نظام
،أو منشور ،أو قانون يعرف يه ويل األمر حدود ما ينبغي أن يشاور يه ،ومىت؟ وكيف؟ وتعرف األمة حدود ما
تتم به الشورى ليس مصبوابً يف قالب حديدي( ،)1أشكال الشورى، تستشار يه ومىت؟ وكيف؟ ألن الشك الذي ُّ
وأساليب تطبيقها ،ووسائ حتقيقها وإجراءاهتا ليست من قبي العقائد ،وليست من القواعد الشرعية احملكمة اليت جيب
التزامها بنهج واحد يف ك العصور واألزمنة ،وإمنا هي مرتوكة للتحري ،واالجتهاد ،والبحث ،واالختيار ،أما أص
الشورى إنه من قبي احملكم الثابت الذي ال جيوز جتاهله ،أو إمهاله؛ ألن الشورى يف مجيع األمكنة واألزمنة مفيدةٌ ،
وجمدية ،والدكتاتورية ،أو حكم الفرد يف مجيع األمكنة ،واألزمنة كريهةٌ ،وخمربة(.)2
إن شؤون احلياة متعددة ،ولك شأن منها أانس ،هم املختصون يه ،وهم أه معر ته ،ومعر ة ما جيب أن يكون
عليه ،في األمة جانب القوة ،ويف األمة جانب القَاء ،و ض املنازعات ،وحسم اخلصومات ،و يها جانب املال،
واالقتصاد ،و يها جانب السياسة ،وتدبري الشؤون الداخلية واخلارجية ،و يها جانب الفنون اإلدارية ،و يها جانب
التعليم والرتبية ،و يها جانب اهلندسة ،و يها جانب العلوم واملعارف اإلنسانية ،و يها غري ذلك من اجلوانب ،ولك
جانب أانس ُعر وا يه ،بنَج اآلراء ،وعظيم االاثر ،وطول اخلري واملران ،هؤالء هم أه املشورة يف الشؤون املختلفة
،وهم الذين جيب على األمة أن تعر هم آباثرهم ،ومتنحهم ثقتها ،وتنيبهم عنها يف الرأي ،وهم الذين يرجع إليهم
احلاكم ألخذ رأيهم ،واستشارهتم ،وهم الوسيلة الدائمة يف نظر اإلسضمم ،ملعر ة ما تسوس به األمة أمورها ؛ مما مل يرد
يف املصادر الشرعية ،وحيتاج إىل اجتهاد(.)3
ولذلك ينبغي أن يعتمد يف الشورى على أصحاب االختصاص ،واخلربة يف املسائ املعروضة ،اليت حتتاج إىل نوع من
املعر ة :في شؤون الدين واألحكام يستشار علماء الدين ،ويف شؤون العمران واهلندسة يستشار املهندسون ،ويف
شؤون الصناعة يستشار خرباء الصناعة ،ويف شؤون التجارة يستشار خرباء التجارة ،ويف شؤون الزراعة يستشار خرباء
الزراعة وهكذا ....وهنا البد من توجيه األنظار إىل أنه من الَروري ،أن يكون علماء الدين قامساً مشرتكاً يف هذه
()4
الشؤون ،حىت ال خيرج املستشارون يف تقرير السياسات املتنوعة عن حدود الشريعة .لقد كان نور الدين يستشري كثرياً
من كبار رجال دولته ،س واء من اإلداريني ،أو السياسيني ،أو العلماء ،أو الفقهاء ،أو األعيان ،وسنرى ذلك يف
ـ. تعاىل هللا إبذن ـ الكتاب هذا
219
أن الرج كان متخصصاً يف هذا اجملال ،ومتفرغاً إن من يستعرض إجنازات نور الدين حممود يف اجملال اإلداري يعتقد :هل
هل
له طول حياته دون غريه من اجملاالت ،وال يسعه إال اإلعجاب بعقليته القيادية هل
الفذة يف بناء قيادات إدارية ُْ ،حتسن
تنفيذ اخلطط املرسومة ،قد اعتمد نور الدين حممود يف إدارة دولته املتنامية على عدد كبري من الرجال األكفهلاء ،كان
خيتارهم بعناية ائقة ،وكان يَع الرج املناسب يف املكان املناسب ،ومن بعد ذلك يراقبهم ،ويشرف عليهم؛ حىت
وخوهلم الصضمحيات؛ اليت حيتاجوهنا لتنفيذ أعماهلم
يتأكد من حسن أدائهم واستقامتهم ،إذا حتقهلق من ذلك؛ وثق هبم ،هل
،يباشرون وظائفهم؛ وهم يرون يه قدوهتم يف االلتزام ابلشرع ،واإلخضمص ابلعم ،واإلحساس ابملسؤولية ،والعدل
،والبساطة يف العيش ،واحلرص على األموال العامة ،تتحقق اإلدارة الناجحة ،وينعكس ذلك على الشعب ابلرخاء
،واألمن ،واالزدهار .وصدق يه قول املؤرخ «ستيفن رنسيمان» يف هذا اجملال ،عندما وصفه بقوله( :التزم البساطة
يف حياته ،ومح أسرته على أن تسري على هنجه ،واثر أن ينفق موارده على أعمال الرب واإلحسان ،كان إدارايً حازماً
يقظاً ،ودعمت حكومته الرشيدة ما أقامه له سيفه من مملكة)(.)1
أوالً :حسن اختياره للرجال:
اعتمد نور الدين نفس النظم اإلدارية املعمول هبا يف عصره ،واليت كان السضمجقة قد أرسوا قواعدها العريَة ،وجاء
األيوبيون ،واملماليك من بعدهم لكي يسريوا هبا حنو مزيد من النَج ،والتخصص ،والشمول ،لكن نور الدين هل
أكد
على مؤشر أساسي يف ميدان اإلدارة ،ذلك هو أن كفاءة أجهزهتا ،وحصيلة معطياهتا ال تعتمد على بنيان اجلهاز ،
أو تركيب املنصب نفسه بقدر اعتمادها على الرجال أنفسهم؛ الذين يعهد إليهم بتسيريها ،ومن مث إننا جند نور الدين
ميأل بنماذج متنوعة من هؤالء الرجال؛ الذين كانوا يتباينون يف االنتماء اجلنسي ،واجلغرايف ،واالجتماعي ،ولكنهم ـ يف
األغلب ـ جيتمعون على تلك امليزات ،اليت ال تستقيم بدوهنا إدارة ما(:)2
1ـ أسد الدين شريكوه وبنو أيوب :عندما قت عماد الدين زنكي عام 541هـ 1146م والد نور الدين حممود؛ وجد
نور الدين يف بعض رجاالت والده ،املتقدمني يف ميادين اإلدارة املدنية والعسكرية ساعده األمين ،الذي اعتمده يف
الوصول إىل احلكم يف حلب ،وتثبيت أركان إمارته الفتية هناك ،اتص به أسد الدين شريكوه ،عم الناصر صضمح
الدين .وقال له( :اعلم :أن الوزير مجال الدين األصفهاين ـ أكرب وزراء زنكي ـ قد أخذ عسكر املوص ،وعم على
إيل يغريين على اللحاق
تقدمي أخيك سيف الدين غازي ،ومتليكه املوص ،وقد انَوى إليه ج ُّ العسكر ،وقد أنفذ هل
به ،لم أستجب لطلبه ،وقد رأيت أن أصريك إىل حلب ،تجعلها كرسي ملكك ،وجتتمع يف خدمتك عساكر الشام
يصري مجيعه إليك ،ألن من ملك الشام ملك حلب ،ومن ملك حلب استظهر على بضمد الشرق. ،وأان أعلم أن األمر هل
ما كان من نور الدين إال أن أصدر أمره أبن ينادى ليضمً يف عساكر الشام لضمجتماع ،وانطلق من مث إىل حلب ،
دخلها يف السابع من ربيع األول ،واعتمد أسد الدين شريكوه ،الذي أصبح أشبه بوزيره األول( ، )3ومع الوقت
استمرت عضمقة أسد الدين مع نور الدين يف القوة واالنسجام ،وأخذت تزداد مع األايم ،حىت بلغت قمتها يف ترشيح
( )1نور الدين حممود الرج والتجربة ص 170اتريخ احلروب الصليبية (.)614/ 4
( )2كتاب الروضتني نقضمً عن نور الدين حممود ص .54
( )3كتاب الروضتني نقضمً عن نور الدين حممود ص .54
220
أسد الدين لقيادة احلملة النورية على مصر ،يف رحضمهتا الثضمثة ،كما اعتمد نور الدين على أسد الدين ،لضمتصال
تبني استحالة أخذها عنوة.أبخيه جنم الدين يف دمشق ،والتمهيد لدخوهلا س ْلماً بعد أن هل
ت هذه االتصاالت الناجحة بدخول نور الدين دمشق عام 549هـ 1154م مبعونة األخوين :جنم الدين ، وقد تو َج ْ
وأسد الدين ،حيث ازدادت مكانتهما ارتفاعاً ،وبرز إىل دائرة الَوء ابنا جنم الدين ،ومها :الناصر صضمح الدين ،
وتورانشاه ،كأمريين متقدمني يف الدولة .وقد قال أبو شامة( :كان ألسد الدين اليد الطوىل يف تح دمشق ،واله نور
(وتوسط
هل ورد إليه مجيع أحواهلا( ، )1وزاد على ذلك أقطعه الرحبة( .)2ويواص أبو شامة حديثه قال: الدين أمرها ،هل
ورد نظر دمشقوسريه إىل دمشق ،أقام يها ،هلأسد الدين يف أمر أخيه جنم الدين مع نور الدين ،أقطعه إقطاعاً ،هل
إليه ،ووىل ولده تورانشاه شحنكية دمشق ،ساسها أحسن سياسة ،ومل يزل هبا إىل أن اُستبدل أبخيه صضمح الدين(.)3
وكان صضمح الدين قد ارق أابه جنم الدين ُمنذ عام 546هـ 1151م ،وانتق إىل خدمة عمه أسد الدين يف حلب،
استخص صضمح الدين ،وأحلقه خبواصه ،كان ال يفارقههل قدهلمه بني يدي نور الدين ،قبله ،وأقطعه إقطاعاً حسناً .و
أن كضمهل من جنم الدين ،وأسد الدين صارا عند نور الدين بعد تح دمشق يف سفر وال حَر( .)4ويذكر ابن األثري كيف هل
يف أعلى املنازل ،السيما جنم الدين ،إن سائر األمراء كانوا ال يقعدون عند نور الدين ،إال جنم الدين إنه كان إذا
دخ إليه قعد من غري أن يؤمر بذلك ،كما حيدثنا كيف :أن أسد الدين كان قد لزم خدمة نور الدين ُمنذ أايم والده
زنكي ...وبعد أن توىل إمارة حلب راح يقربه ،ويقدمه ،ورأى منه شجاعة يعجز غريه عنها ،زاده حىت صار له محص
،والرحبة ،وغريمها ،وجعله مقدم عسكره(.)5
2ـ جمد الدين ابن الداية وإخوته :مل يشأ نور الدين أن جيع ج اعتماده على العناصر اإلدارية املخَرمة ،ورأى أن
يطعمها بعناصر جديدة أكثر مضمءمة و هماً ألهدا ه أسوة مبا يفعله مؤسسو الدول يف إعادة تنظيم أجهزهتم اإلدارية ،
وترشيح العناصر األكثر تقبضمً للوضع اجلديد ،وجتانساً معه(.)6
وقد كان جمد الدين حممد أبو بكر بن الداية ،شقيق نور الدين يف الرضاعة ،وإخوته :مشس الدين علي ،وسابق الدين
عثمان ،وبدر الدين حسن ،وهباء الدين ُعمر ،الذي مل يربز يف ميدان اإلدارة كما برز إخوته لرمبا لصغر سنه.
ويتحدهلث العماد األصفهاين عن املكانة العالية ،اليت بلغها جمد الدين ،وإخوته يف إمارة نور الدين ،يقول( :كان جمد
ترىب معه ،ولزمه ،وتبعه إىل أن ملك الشام بعد والده ،فوض إليه نور الدين مجيع الدين رضيع نور الدين ،قد هل
مقاصده ،وحكمه يف امللك ،ضم حي ُّ ،وال يعقد إال برأيه .وكان يسكن قلعة حلب .وقد ُسلمت قلعة جعرب ،وت
ابشر ألخيه األصغر سابق الدين عثمان ،وحارم ألخيه الثالث بدر الدين حسن .ومثة مواقع عديدة أخرى مث عزاز،
221
وعني اتب ،وغريمها ،كان جمد الدين يشرف عليها بنفسه عن طريق نوابه( ، )1وعندما هدمت الزالزل شيزر عام 552
ـ 1157م واستوىل عليها نور الدين من بين منقذ سلهلمها إىل جمد الدين(.)2
أعز الناس على نور الدين ،كان قد أسكنهم معه يف قلعة حلب ويؤكد سبط ابن اجلوزي :أن جمد الدين وإخوته( :كانوا هل
،ال يصدر إال عن رأيهم)( .)3ويكاد املؤرخون جيمعون على هل
أن جمد الدين أحسن تدبري املهمة اليت عهدت إليه ،وأنه
كان عند حسن الظن ،وظ طوال مخسة عشر عاماً يتمتع بثقة سيده وحمبهلته ،وتفويَه األمور يف قاعدة ملكه حلب.
وقد امتاز الرج بشجاعته ،وتديُّنه ،وتعشقه لتقدمي اخلدمات االجتماعية .وعندما تويف عام 565هـ 1169م يف
انئب كبري آخر يف دولة نور الدين ،يدعى :العمادي حممد؛ حزن نور الدين حزانً عميقاً ،
نفس السنة اليت تويف يها ٌ
صت جناحاي) وسرعان ما عهد جبميع ما كان له من مناصب وصضمحيات إىل أخيه مشس وقال وهو يبكي( :لقد قُ هل
الدين علي ،الذي غدا مبرور الوقت أكرب األمراء النورية يف حلب.
وأما أخوه اآلخر سابق الدين عثمان؛ قد جعله مقدهلم عساكره ويف عام (569هـ 1173م) السنة اليت تويف يها نور
متكن نفوذهم يف حلب متاماً ،وأصبح أمرها إليهم ،وعساكرها معهم ،يف حياة نور الدين ،الدين ـ كان بنو الداية قد هل
وبعده(.)4
وكان مشس الدين علي قد عهدت إليه أمور اجليش ،والديوان ،وعهدت الشحنكية إىل أخيه بدر الدين حسن ،وكان
بني هؤالء األخوة مجيع املعاق احمليطة حبلب( ،)5وكان هناك أمساء أخرى برزت طيلة العهد النوري ،مل تكن لتق هل عن
بين الداية شهرة وإجنازاً(.)6
3ـ العماد األصفهاين :غادر بغداد ميمماً شطر الشام ،وص إىل دمشق يف شعبان سنة 562هـ 1166م ،وأعانه
قاضي القَاة كمال الدين الشهرزوري ،وأنزله ابملدرسة الشا عية النورية ،وسرعان ما توثهلقت العضمقة بينه وبني بين
أيوب :جنم الدين ،وأسد الدين ،وصضمح الدين ،مث ما لبث كمال الدين الشهرزوري أن قدهلمه يف أواخر السنة إىل نور
ونوه بشأنه ،رتهلبه نور الدين يف ديوانه ،منشئاً يف مطلع عام 563هـ 1167 ،م ،وصار رئيس ديوان اإلنشاء الدين ،هل
مفصلة
ومدبج الواثئق الرمسية ،حىت و اة نور الدين ،وكان يتلقى من بين أيوب يف مصر ،تقارير هل ،وكاتب السر ُ ،
عما يستجد يها من أحداث ،يقرؤها على نور الدين ،ويكتب أجوبتها ،وقد جاء تعيني العماد يف هذا املنصب ـ
كما يذكر هو نفسه ـ بعد استعفاء أيب اليسر بن عبد هللا من اخلدمة يف ديوان اإلنشاء ،واعتكا ه يف بيته.
وهو يذكر أيَاً :أنه وجد من نور الدين ُمنذ ذلك الوقت «اإلعزاز والتمكني على األايم» وقد اعتمده نور الدين َضمً
عدد من السفارات :إىل شاه إرمن صاحب خضمط يف أرمينيا أواخر سنة 564هـ 1168م ،وإىل اخلليفة عن ذلك يف ٍ
222
العباسي يف أوائ سنة 566هـ 1170م ،كما هلوضه اإلشراف على املدرسة النورية يف دمشق ،واليت مسيت بعدئذ
ابملدرسة العمادية نسبة إليه يف رجب سنة 567هـ 1171م ،وأصبح العماد مشر اً على دواوين اململكة كلها ،إضا ة
إىل مهمته يف ديوان اإلنشاء ،واإلشراف ،وهو املراقبة وتفتيش أمور الدواوين ،كان املشرف وهو املفتش العام
وقسمت زماين على النصيبني ،مرة للكتب ،واملناشري ،واترة
جمعت ـ يقول العماد ـ :بني املنصبني ،هل
ُ للحكومة(( .)1
لإلثبات يف الدهلساتري( ، )2ومل أثق بنائب ،وابشرت العم بنفسي(.))3
املوهلق خالد القيسراين إىل مصر قام العماد مقامه ،وصار مستويف اململكة ،وأصبح بذلك الرج األول يف وبعد توجه َ
الدولة ،وأكثر من يعتمدهم نور الدين من الرجال حىت و اته؛ إذ أصبح العماد مبناصبه الثضمثة تلك املسؤول األول عن
الكتابة ،واإلشراف اإلداري ،واملايل(.])4
وحيدثنا العماد عن الثقة املتبادلة بينه وبني نور الدين ،وحرص األخري على جتاوز (الروتني) اإلداري ،يقول ...( :وقد
علي ،وطالعته ك يوم مبرا ق عملي ،ومنا ع شغلي ،ما أحتف بتحفة ،وال وعول يف مناصبه هل إيل نور الدين ،هل
مال هل
أخص من أحد يعطيه ،إال أطالعه به وأطلعه على سببه ،كان يعجبه مين تلك الشيمة ،ويقول :تصرف يه تصر ك
يف مالك( ، ))5وميَي العماد إىل القول( :مث اعتمد علي اعتماداً كلياً ،وجعلين له جنياً ،وإذا أراد أن يكتب إىل ٍ
أحد
أن سعد الدين كمشتكني ـ انئبه يف املوص ـ أخذ من رج ألف منهم يقول :اكتب إليه من عندك ،ومن مجلة ذلك :هل
دينار بعلهل ٍة عللها ،جاء الرج ،وتظلهلم ،أمرين نور الدين أبن أكتب إليه بردها عليه .قال :إنك كاتيب ،وأميين،
ورد
وصاحيب ،وال تكتب إال أبمري ،إن خالف كتابك إليه؛ قلعت عينيه!! مَى إليه بكتايب ،سارع إىل طاعته ،هل
عليه األلف يف ساعته(.))6
ومما ال شك يه :هل
أن العماد األصفهاين قد حقق جناحاً كبرياً يف مهماته اإلدارية ،األمر الذي أكسبه ثقة نور الدين
املتزايدة ،وجعله يظفر سريعاً يف مدى ال يتجاوز السنوات الست أبهم وظائف الدولة ،وأعضمها( :الكتابة ،واإلشراف
صح مايقوله الرج عن نفسه ـ وهو األرجح ،ملا سبق وأن ذكرانه ـ إن نور الدين اإلداري ،واالستيفاء املايل) .وإذا هل
كان قد اعتمده إىل حد تفويَه األمر كامضمً يف مناصبه تلك ،رغم ذلك إن العماد ما كان ليقدم على خطوة إال بعد
أن يُطْل َع سيده عليها ...وقد عمق هذا املوقف الذكي من الرج الثقة بني الطر ني ،تلك اليت استمرت حىت هناية حكم
نور الدين(.)7
223
وتضم هذه األمساء يف م يدان اإلدارة (أي:بنو الداية ،وبنو أيوب ،والعماد األصفهاين) أمساء أخرى أق منها أمهية ،وإن
كان بعَها قد بلغ القمة ،اليت بلغها أولئك الرجال ،رغم أن املصادر مل تشر إليها إال عرضاً ،ومل تقدم لنا الشيء
الكثري(.)1
4ـ خالد بن حممد القيسراين :مستويف اململكة حىت عام 568هـ 1172م ،والذي يصفه العماد أبنه كان عند نور
الدين يف مقام الوزير ،وله انبساط زائد( ، )2ويُ ْذ َك ُر يف اخلريدة :أنه ملا وص الشام؛ وجد القيسراين يف صدر مناصبها،
وبدر مراتبها ،وكان نور الدين قد ر عه ،واصطنعه ،وبلغ منه مبلغاً من األمر كأنه أشركه يف امللك معه ،ولقد كان
حقيقاً بذلك( . )3ويتحدث عنه أحد أحفاده املدعو معني الدين بن حممد ،يقول :كان جدي خالد قريب املنزلة من
نور الدين إىل الغاية ،وإليه استيفاء دواوينه أبسرها ،وكتابة اإلنشاء ،وإمرة جملسه ،وهو املشري والوزير ،واألمور كلها
أن عمله يف كتابه اإلنشاء كان يف الفرتة اليت سبقت توليها من قب العماد األصفهاين(.)5 عائدة إليه( .)4وواضح :هل
5ـ حممد العمادي :صاحب نور الدين ،وأمري حجابه ،وأحد كبار نوابه يف حلب ،وصاحب بعلبك وتدمر(.)6
ويصفه سبط ابن اجلوزي( :كان عزيزاً عند نور الدين) ،ومن أعظم أمرائه(.)7
6ـ الشيخ األمري خملص الدين أبو الربكات :عبد القاهر بن علي بن أيب جرادة احلليب ،األمني على خزائن أموال نور
احملرر
الدين ،كان كاتباً بليغاً ،حسن البضمغة نظماً ونثراً ،مستحسن الفنون من التذهيب البديع ،وحسن اخلط ،هل
على األصول القدمية املستطر ة ،مع صفاء الذهن ،وتوقد الفطنة والذكاء(.)8
يل اإلشراف على الديوان بدمشق ،حىت عام 551هـ 1156م حينما كشف التحقيق 7ـ أبو سامل بن مهام احلليبَ :و َ
معه عن استغضمله املنصب لسرقة أموال الدولة ،ألقي القبض عليه ،واعتق مث أصدر نور الدين أمراً بكشف خيانته
للناس ،وعقابه عقاابً قاسياً ،والطواف به يف األسواق ،حيث كان املنادي يصيح :هذا جزاء ك خائن .وبعد أن أقام
يف املعتق بدمشق أايماً؛ أمر نور الدين بنفيه إىل حلب ،غادر دمشق( :على أقبح صفة من لعن الناس ،ونشر
خمازيه)(.)9
اثنياً :أهم اإلدارات والوظائف يف دولة نور الدين:
224
مقسمة إىل عدة أقاليم :حلب مشال بضمد الشام ،وإقليم دمشق وسط بضمد الشام ،وإقليم املوص كانت دولة نور الدين هل
يف منطقة املوص واجلزيرة الفراتية ،وإقليم مصر ،وإقليم اليمن ،وإقليم احلجاز( ،)1وكان لك إقليم إدارته احمللية ،اليت
تتألف من عدة م وظفني يعينهم نور الدين ،وكانت مجيع هذه األقاليم تتبع السلطة املركزية للدولة يف دمشق ،اليت
يشرف عليها نور الدين وجهازه اإلداري املركزي .أما الوظائف اليت تتألف منها اإلدارة املركزية؛ هي:
1ـ النائب :هو الذي ينوب عن نور الدين يف اإلقليم ،ويكون مسؤوالً عن الشؤون العسكرية واإلدارية يه ،ومن
صضمحياته توقيع املراسيم واملنشورات ،وترشيح أمساء نوابه يف املدن األخرى التابعة لإلقليم ،واإلشراف على تنفيذ قوانني
ضمن منطقة مسؤوليته ،ويرأس اجتماعات ديوان اجليش يف اإلقليم ،وقيادة الفرق العسكرية املوجودة يف اإلقليم.
وكان جمد الدين بن الداية ،من أشهر نواب نور الدين ،قد ظ مخسة عشر عاماً انئباً لنور الدين يف حلب(.)2
2ـ الوزير :هو رئيس اجلهاز اإلداري املركزي ،ويكون مسؤوالً أمام نور الدين عن مجيع الدواوين ،والسجضمت املتعلقة
ابجلند ،والربيد ،واخلزينة( ،)3ويقدم النص ح والرأي يف األمور السياسية ،واإلدارية ،والعسكرية ،وكانت وظيفة الوزير
أهم وظائف الدولة قب استحداث وظيفة النائب( ، )4قد كان الوزير يف بداية عصر السضمجقة ،هو املدبر الوحيد ،
ولكن صضمحياته تقلهلصت بعد استحداث وظيفة النائب ،الذي كان يتمتع جبميع واحلقيقي جلميع شؤون الدولة ،هل
صضمحيات السلطان ،ضمن منطقة مسؤوليته ،ويرتبط ابلسلطان مباشرة ،وقد حص تداخ يف الواجبات
والصضمحيات بني وظيفة الوزير ،ووظيفة الناظر (انظر الديوان) ،الذي كان يعترب مسؤوالً عن الدواوين.
وكان عم الوزير يقتصر ـ يف بعض األحيان ـ على تقدمي املشورة يف األمور اهلامة ،وبسبب التداخ املذكور( ، )5مل يكن
هناك وصف دقيق للوظائف وصضمحياهتا ،كان األمر يف احلقيقة يعتمد على كفاءة من يتوىل املنصب وشخصيته ،
كما حدث مع كمال الدين الشهرزوري ،قد كان قاضي القَاة يف ك مملكة نور الدين ،وكان يكلفه بكثري من
املهام األخرى غري القَاء ،ويستشريه يف األمور اهلامة( ، )6حىت وصفه العماد األصفهاين أبنه أصبح يف دمشق( :احلاكم
املطلق ،وأنه ارتقى إىل درجة الوزارة ،كان له احل ،والعقد يف أمور الشام)( ، )7ومثال ذلك أيَاً ثقة نور الدين يف
مر معنا.
العماد األصفهاين كما هل
3ـ املستويف :هو املسؤول عن موازنة الدولة مجيعها من حيث تقدير األموال املستحقة ،ومجعها من مصادرها ،وحفظها
،وختصيص األموال الضمزمة للجند ،وغريهم من أجهزة الدولة ،ومؤسساهتا ،ويكون له هلنواب يف األقاليم ،يقومون
225
ابلواجبات نفسها ،ويعملون إبمرته ،وكذلك يكون له عدد من الكتبة املساعدين يف اإلدارة املركزية ،يعملون معاً حتت
يسمى ديوان االستيفاء(.)1
إمرته يف ديوان هل
ووظيفة املستويف أهم الوظائف يف اإلدارة املركزية بعد وظيفة الوزير ،ويتبع املستويف موظف اخر ،هو املشرف الذي
يرأس ديوان اإلشراف ،ويعترب عمله مكمضمً لعم املستويف ،ومهمته تدقيق احلساابت ،واملوازنة بني الصادرات والواردات
خلزينة الدولة ،ويشبه عمله إىل حد ما عم املفتش يف هذه األايم(.)2
4ـ األمري احلاجب :هو املسؤول عن ديوان اجليش من حيث حفظ السجضمت؛ اليت حتتوي أمساءهم ،ووظائفهم ،
ورواتبهم ،وإقطاعاهتم ،ويقوم حب مشاكلهم ،وتقدمي صورة واضحة عن أحواهلم إىل السلطان ،أو النائب ،كما يقوم
ابإلشراف على سضمح اجلند ،وخيوهلم ،ويساعده يف ذلك عدد من الكتبة ،واملوظفني ،يشكلون معه ديوان اجلند
الذي يتوىل ـ كما ذكرت ـ ك هل ما يتعلق بشؤون اجلند ،من خي ،وسضمح ،ورواتب ،وإقطاعات ،وسجضمت(.)3
كان حممد العمادي صاحب نور الدين ،وأمري حاجبه ،وأحد كبار نوابه يف حلب وصاحب بعلبك ،وتدمر.
أما احلاجب ،هو الذي يتوىل تنظيم مقابضمت السلطان ،والدخول عليه يف جملسه ،ومع أن بعض املراجع تذكر :أن
وظيفة احلاجب اختلفت عما كانت عليه ،قب عصر السضمجقة ،وأصبحت مهمة احلاجب :إبضمغ السلطان حالة
الشعب ،وكشف مظاملهم أمامه ،وإطضمعه على األمور الرئيسية للدولة ،ومطاردة الظلم و ق توجيهات املسؤول األعلى
،احلاجب ـ إذاً ـ يشبه وزير الداخلية حالياً( ، )4إال أنه ورد يف مراجع أخرى كثرية :أن نور الدين كان أيمر إبزالة
احلاجب ،والبواب ،عندما جيلس يف دار العدل للقَاء ،ليسه دخول الَعفاء من الناس عليه( ،)5مما يدل على أن
وظيفة احلاجب ظلهلت حىت عصر نور الدين تشم واجب تنظيم الدخول على السلطان ومقابلته(.)6
5ـ الوايل :تغري مفهوم وظيفة الوايل عما كان قب دولة السضمجقة ،قد كان الوايل ميث اخلليفة ،أو السلطان يف واليته
،ويعترب مسؤوالً عن مجيع الشؤون اإلدارية ،والعسكرية يها .أما يف عهد السضمجقة ،والدولة الزنكية؛ قد أصبح
النائب هو الذي يتوىل الصضمحيات املذكورة ،بينما يكون الوايل مسؤوالً عن مدينة ،أو بلدة ،أو قلعة يف الوالية ،أو
اإلقليم الذي حيكمه النائب ابسم السلطان ،أي :هل
أن النائب يف عهد السضمجقة ،وعهد الدولة الزنكية ح هل حم الوايل
يف مركزه وصضمحياته(.)7
أما واجبات الوايل يف املدينة؛ هي واجبات إدارية ،تشم تنفيذ األحكام ،ومراقبة األسواق ،وحماسبة املخالفني
للقانون ،وتفقد أبواب املدينة وأسوارها ،وإطضمع النائب أو السلطان على األوضاع العامة يف املدينة( ، )8بينما ختتلف
226
واجبات وايل القلعة ،هو يعترب قائد احلامية ،ويكون مسؤوالً عن أبواب القلعة ،وصيانتها ،وإدارة حاميتها ،هو قائد
عسكري ،وله واجبات إدارية ضمن القلعة نفسها(.)1
6ـ الشحنة :الشحنة ،أو الشحنكية كلمة تركية ،تعين :قائد احلامية ،أو احلاكم اإلداري للمدينة ،املسؤول عن األمن
،والنظام يها ،يعني من قب السلطان ،ويعم إبمرته رجال الشرطة ،أو احلامية ،ويقوم مبضمحقة اللصوص ،
واخلارجني عن القانون ،ويضمحظ :أن هناك تداخضمً بني واجبات الوايل ،والشحنة يف املدينة.
وال تذكر املصادر واملراجع حدوداً اصلة بني واجبات خمتلف الوظائف اإلدارية يف تلك العصور ،ويظهر :أن واجبات
ك وظيفة ،كانت تتحدد يف ضوء قوة شخصية من يشغلها ،إذا كانت شخصيته قوية؛ زادت صضمحياته ،واتسعت
لتشم واجبات لوظائف أخرى ،كما حص مع كمال الدين الشهرزوري ،الذي كان قاضياً يف دمشق ،مث صار قاضياً
للقَاة يف مملكة نور الدين كلها ،وكان نور الدين يكل ُفه أبعمال كثرية ،غري القَاء ،حىت وصفه العماد األصفهاين
أبنه كان يف مقام الوزير ،وتشري بعض املراجع إىل تعيني السلطان السلجوقي حممود املري اق سنقر الربسقي شحنة يف
بغداد عام 516هـ 1122 /م ،كذلك تشري املراجع نفسها إىل تعيني السلطان نفسه لعماد الدين زنكي شحنة يف
أن آق سنقر الربسقي كان يقود اجليش وهو يف الوظيفة املذكورة ،ويدا ع بغداد عام 520هـ 1126/م ،واملعروف :هل
عن بغداد ،ويتصرف كنائب للسلطان ،وكذلك كان من بعده عماد الدين زنكي يف هذه الوظيفة( ،)2وتشري املراجع
ذاهتا إىل تعيني نور الدين حممود توران شاه بن جنم الدين أيوب شحنة يف دمشق ،ومن بعده أخوه صضمح الدين يوسف
أن مفهوم وظيفةيف الوظيفة نفسها ،وكانت واجبات األخوين يف هذه الوظيفة ال تتعدى األمور اإلدارية( ،)3مما يعين :هل
يتغري من ظرف إىل اخر ،ومن مكان إىل مكان(.)4 الشحنة كان هل
7ـ القاضي :حظي القَاء برعاية نور الدين واهتمامه أكثر من أية وظيفة أخرى ،ويرجع السبب يف ذلك إىل تركيزه
على إقرار العدل ،وإشاعته يف دولته ،قد كان خيتار هلذه الوظيفة أشهر العلماء ،والفقهاء املعرو ني ابلتقوى واالستقامة
،ويعطيهم كام الصضمحيات يف تنفيذ أعماهلم وأحكامهم ،كان القَاء يتمتع ابستقضمل اتم( ، )5وكان هو هلأول من
مر معنا ـ للنظر يف القَااي املتعلقة بكبار رجال الدولة ،عندما الحظ هتيُّب أنشأ حمكمة عليا مسهلاها دار العدل ـ كما هل
القاضي طلب بعَهم للمحاكمة ،كان جيلس يها للقَاء ،ومعه الفقهاء ،والعلماء ،والقاضي ،ليستشريهم يما
يعرض عليه من قَااي ،مث جع من نفسه قدوة لرجال دولته ،عندما ذهب إىل جملس القَاء ،وطلب من القاضي
أن يساوي بينه وبني خصمه يف احملاكمة( ،)6لم جيرؤ أحد بعد ذلك من األمراء ،والقادة ،وكبار موظفي الدولة على
خمالفة الشريعة ،أو ظلم أحد من الرعية؛ ألنه علم :أن العقاب هل
البد أن يقع عليه.
( )1عماد الدين زنكي نقضمً عن دور نور الدين حممود ص .175
( )2دور نور الدين يف هنَة األمة ص .175
( )3املصدر نفسه ص .175
( )4دور نور الدين يف هنَة األمة ص .176
( )5الكواكب الدرية ص 147دور نور الدين ص .176
227
وكان كمال الدين الشهرزوري أشهر القَاة يف دولة نور الدين ،الذي كان جيلُّه ويقدره ،جعـله قاضياً للقَـاة يف
الدولة كلها ،حبيث يكون القَاة يف األقاليم نواابً عنه ،وكلهلفه أبعمال مهمة غري القَاء ،كاإلشراف على دار الَرب
،وأوقاف الدولة ،وبناء أسوار دمشـق ،ومدارسها ،ومارستاهنا ،حىت وصفه العماد األصفهاين أبنـه كان احلاكم املطلق
يف دمشق ،وأنـه( :ارتقى إىل درجة الوزارة ،كان له احل والعقد يف أحكام الشام( .)1ومن القَاة اآلخرين؛ الذين
اشتهروا يف دولة نور الدين :شرف الدين بن أيب عصرون ،الذي وصف أبنه من أ قه أه عصره(.)2
اثلثاً :صبغ اإلدارة الزنكية ابلصبغة اإلسالمية وتكامل القيادات السياسية والفكرية:
حرصت القيادات السياسية ،واإلدارية ،والعسكرية ،على العموم ابلتزامها العقائدي يف نشاطاهتا ،وممارساهتا ،
والسبب يف ذلك يعود إىل تربيتها اإلسضممية ،وإىل شخصية نور الدين ،قد كان نور الدين زنكي تقياً ورعاً ،وعده
احلكام ،وكان حيا ظ على صضمة اجلماعة ،ويكثر من بعض املؤرخني أبنه أ َ من جاء بعد عمر بن عبد العزيز من هل
الصضمة يف اللي إىل وقت السحر إىل أن يركب.
بعص ٍ
وكان حمداثً بعلم احلديث ،وأمسعه ،وأمجعه له! وكان حنفي املذهب ،عار اً مبذهب أيب حنيفة ،ولكن دون ت ُّ
على أحد ،املذاهب عنده سواء ،وال تعدو عن كوهنا مدارس يف الفقه(.)3
نور الدين ذو أتثري كبري على رجاله ،ومعاونيه ،وقادة جيشه ،وأصبح بعَهم على مستوى نور الدين يف العلم
واألخضمق والتديُّن ،ومن أمثلة ذلك وزيره أبو الفَ حممد بن عبد هللا بن القاسم الشهرزوري ،الذي قَد َم من بغداد
كالسفارة ،والوزارة ،وانظ ٍر لألوقاف ،وانظ ٍر للمالية ،
إىل دمشق ،قد كان قيهاً أصولياً َ ،شغَ َ مناصب خمتلفة ،هل
استمر على ذلك حىت قيادة صضمح الدين(.)4 والقَاء ،و هل
ومل تكن هذه الشخصيا ت إال مناذج لرجال اإلدارة واحلكم من نور الدين .قد أظهر هذا الرعي من املهارات يف
التخطيط والتنفيذ ،وحشد مقدرات األمة ،وتنظيمها ما هيأها جملاهبة التحدايت يف الداخ ،واخلارج( .)5ومن أمثلة
هذه املهارات ،واملزااي ما يلي:
1ـ تكام القيادات الفكرية والسياسية :قد أدركت هذه القيادات خطورة االرجتال ،أو انفراد ريق من القيادات دون
دوري يلتقي
جملس ٌّ
اآلخر ،واعتمدت يف القرارات اليت تتخذها على آراء العلماء واملختصني ،كان لدى نور الدين ٌ
يه القادة ،والعسكريون مع العلماء املختصني ،حيث حيت هل العلماء املنزلة األوىل يه( .)6وكان نور الدين مينع األمراء من
مر ذلك يف قصة أحد األمراء مع قطب الدين النيسابوري ،ود اع نور الدين عنه. اغتياب العلماء ،وقد هل
228
2ـ اعتماد الشورى وعدم االنفراد ابختاذ القرارات :قد متيهلزت إدارة نور الدين ،ابلشورى ،وتبادل اآلراء يف ك أمور
الدولة ،كان له جملس قهاء ،يتألف من ممثلي سائر املذاهب ،والصو ية ،يبحث يف أمور اإلدارة وامليزانية ،إذا
حبث أمراً خيص األمة مجيعها ،أو كان ذا عضمقة ابألموال املرصودة لصاحل املسلمني؛ مجع أعَاء هذا اجمللس ،وشاورهم
يه ،وسأل ك عَو ما عنده من الفقه ،وال يتعدى الرأي الذي يُتفق عليه( ، )1ما دام حيقق املصلحة العامة .وقد
مر بعض املمارسات الشورية يف حديثنا عن الشورى يف عهد نور الدين زنكي. هل
3ـ غلبة املصلحة العامة على االنفعاالت واملصاحل الشخصية يف معاجلة املشكضمت اليت قد تثور بني األقران ،لقد
كان من الطبيعي أن تقوم مشكضمت وخضم ات بني نور الدين ـ مثضمً ـ ووزرائه وقادته ،لكنهم كانوا يعاجلون هذه
املشكضمت أبسلوب مل خيرج يوماً عن حدود املصلحة العامة ،وما تقتَيه وحدة الكلمة ،وتغليب األخضمق اإلسضممية(.)2
واتخ :ومن طريف ما الحظه الدكتور حسني مؤنس عند هذا الزعيم من القادة 4ـ التفاين يف أداء الواجب بتعاون ٍ
يتخريون أمساءهم على حنو يتفق مع هذه النزعة ،بينما كان واإلداريني والعلماء قوله( :إن تعلُّقهم ابلدين جعلهم هل
البويهيون ينسبون أنفسهم للدولة ،يقولون :عَد الدولة ،هباء الدولة ،صمصام الدولة ،وكان قادة هذه الدولة ،
وأعواهنم والعاملون معهم خيتارون عماد الدين ،وسيف الدين ،ونور الدين ،وصضمح الدين ،وأسد الدين ،وجنم الدين
،وزين الدين ،وهكذا(.)3
ومثة مضمحظة أخرى ،وهي تعلُّق هذا اجلي ابلدين مما جعلهم حيرصون على اجلهاد ،واالستشهاد ،إذا مل يكتب هلم
االستشهاد؛ أوصوا بد نهم يف مدا ن املدينة املنورة ،كما ع الوزير مجال الدين املوصلي ،وأسد الدين شريكوه ،وأخوه
جنم الدين والد صضمح الدين(.)4
5ـ الزهد والتعفف وبذل املال يف الصاحل العام :جتلهلت ااثر الرتبية اإلسضممية يف مواقف رجال الدولة ،واإلدارة واجليش
من الثروات ،والسياسة االقتصادية ،قد زهدوا ابملكاسب ،وعز وا عن االحتكار ،والرتف.
وحذا حذوهم األغنياء يف املدن والقرى ،قد كان نور الدين زنكي مقتصداً يف اإلنفاق على نفسه ،وعلى أسرته ،
وكان ال يكنز ،وال يستأثر الدنيا ،ومل يكن له بيت يسكنه ،وإمنا كان مقامه يف قلعة البلد ،الذي حي يه( ، )5وكانت
نفقته يف الشهر مئة ومخسني درمهاً ،أيخذها من دكاكني كانت له يف مدينة محص ،حيث اشرتاها من حصته من
الغنائم ،ولقد شكت له زوجته يوماً قلة نفقاهتا ،وأرسلت له أخاها يف الرضاع تطلب زايدة ،قال( :من أين أعطيها
أن الذي بيدي من األموال هي يل؛ بئس الظن ، ما يكفيها؟ وهللا ال أخوض يف انر جهنم يف هواها .إن كانت تظن :هل
إمنا هي أموال املسلمني مرصدة لصاحلهم وأان خازهنا ،ضم أخوهنم يها! مث قال :يل مبدينة محص ثضمث دكاكني اشرتيتها
من الغنائم ،قد وهبتها إايها ،لتأخذها).
229
مهنة ،خييط الكوايف ،ويعم سكاكر لألبواب ،ويعطيها لبعض العجائز ،تبيعها وال يدري وكان نور الدين صاحب ٍ
به أحد( )1ومع ذلك قد شهدت دولته تقدُّماً اقتصادايً سيأيت بيانه إبذن هللا.
ض واسعة أنفق مواردها يف بناءوقادة اجليش ،من ذلك أسد الدين شريكوه أكرب قادته العسكريني ،قد كان ميلك أرا ٍ
املدارس ،اليت تنشر الفكر اإلسضممي ،وحني مات مل خيلف إال داننري قليلة(.)2
وكذلك ع وزير نور الدين ،أبو الفَ حممد بن عبد هللا الشهرزوري ،الذي أوقف أوقا اً كثرية ،منها :مدرسة
املوص ،ومدرسة نصيبني ،وراب ٌط يف املدينة املنورة ،وأوقف أوقا اً يف قرية «اهلامة» على املقادسة ،الذين نزحوا من
وجه االحتضمل الصلييب ،وكان كثري التربع ،واهلبات ،وال تق هبته يف املرة الواحدة عن ألف دينار ما وقها(.)3
وكذلك ع عبد هللا بن عصرون؛ حيث بىن مدرستني يف دمشق ،وحلب ،وكذلك ع جنم الدين يوسف والد صضمح
الدين؛ حيث بىن خانقاه تُعرف ابلنجمية(.)4
وعلى هذا املنهاج سار بقية رجال احلكم واإلدارة ،وحذت حذوهم نساؤهم .من ذلك ما علته الست خاتون عصمت
الدين زوجة نور الدين ،حيث أوقفت «اخلاتونية» مبحلة حجر الذهب ،وخانقاه خاتون ابب النصر ،وأوقا اً كثرية
أخرى ،ومثلها زمرد خاتون بنت جاويل(.)5
6ـ تو ر األمن والعدل واحرتام احلرمات العامة :تواترت لدى املؤرخني الـمعـاصرين أخبـار األمن ،والعدل ،واحرتام
احلرمـات العامـة ،كحريـة الـرأي املنَبطة ،واحملا ظة على كرامة الفرد اليت سادت يف ذلك اجملتمع يف الوقت الذي انتفت
مجيعها يف األقطار اإلسضممية اجملاورة ،ولقد علهلق ابن األثري على ذلك ،قال( :قد طالعت تواريخ امللوك املتقدمني من
قب اإلسضمم إىل يومنا هذا ،لم أر يه بعد اخللفاء الراشدين ،وعمر بن عبد العزيز ملكاً أحسن سرية من امللك العادل
يتجهز له ،ومظلمة
وجهاد هلٍ نور الدين ،وال أكثر حترايً للعدل واإلنصاف منه .قد قصر ليله وهناره على ٍ
عدل ينشره ،
يزيلها ،وعبادة يقوم هبا ،وإحسان يوليه ،وإنعام يسديه ،لو كان يف أمة؛ ال تخرت به كيف يف بيت واحد)(.)6
التعرض لألذى ،أو
وإىل جانب ذلك امتازت األجواء العامة حبرية الرأي ،كان ك إنسان يقول رأيه دون خوف من ُّ
االنتقاد ،حىت لو كان النقد موجهاً لنور الدين ،ابلرغم من استعمال البعض ألساليب قاسية حمرجة.
ولقد أورد املؤرخون اإلسضمميون أمثلة عديدة ملواقف نور الدين اليت تكشف عن أنه كان يتقبهل النقد بصدر رحب ،
مر معنا كضمم الواعظمهما بلغت حدته ،وينظر يف كضمم الناقدين ،إذا رأى يه ما ينفع؛ سارع إىل األخذ به ،وقد هل
أيب عثمان املنتخب بن أيب حممد الواسطي ،وكيف تناول موضوع الَرائب واملكوس يف حَور نور الدين نفسه ،
حذ َره ،وخو ه مما هو يه ،وأنشد أمامه أبيات من الشعر( ، )7مر ذكرها.هل
230
إن التخطيط السليم ،واإلدارة الناجحة يف احلركات اإلسضممية ،والدول ،من األسباب األكيدة يف التمكني لدين هللا هل
عرف بعض الباحثني التخطيط أبنه( :جسر احلاضر ،واملستقب )( .)1إن التخطيط يف املفهوم القراين ، تعاىل ،ولقد هل
هو االستعداد يف احلا ضر ،ملا يواجه اإلنسان عمله ،أو حياته يف املستقب ،وعلى هذا إن اإلداري املسلم ،يكون قد
ك ذَُٓ َ َ َ
ٱَّلل ذ
ٱِل َار عرف التخطيط؛ ألن هللا تبارك وتعاىل قد وجه إىل ذلك يف آايت كثرية .قال تعاىلَ ﴿ :و ۡٱب َتغِ فِيما ءاتى
َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ُّ ۡ
ٱِلن َيا َۖ ﴾ [القصص . ]77:إنه توجيه رابين للتخطيط يف هذه الدنيا ملقابلة مصري ٱٓأۡلخِرة َۖ وَل تنس ن ِصيبك مِن
اآلخرة(.)2
إن نور الدين حممود رج عاش مع كتاب هللا ،وعرف من قصة يُوسف وغريها ،أمهية التخطيط واإلدارة ،ولذلك
جنحت إدارته ،قد أدرك امللك العادل :أن اإلسضمم ال يقوم على التخمني ،والتواك ،ولكنه يهتم أبدق األساليب
أن من مثار حسن إدارة يوسف عليه وأعمقها ،سواء يف جوانب االقتصاد ،أو السياسة ،أو غريها ،قد عرف :هل
السضمم ،وختطيطه أن حفظ الشعب من اهلضمك واجلوع ،وخرج من الشدائد ،وعاد إىل الرخاء ،والتخطيط يعترب وظيفة
أساسية من وظائف اإلدارة ،اليت ال ميكن هلا أن تكون عالة بدوهنا ،كما أن التخطيط يف حقيقته يعتمد على دعامتني
،ومخسة عناصر.
أما الدعامتان؛ هما التنبؤ ،واألهداف ،وأما العناصر؛ هي السياسات ،والوسائ واألدوات ،واملوارد البشرية ،
واإلجراءات ،والربامج الزمنية ،واملوازنة التخطيطية التقديرية(.)3
إن كتب علم اإلدارة والتخطيط احلديث تقول( :إنه ال إدارة هلعالة إال بتنظيم وو ق ختطيط سليم مسبق) ،وهذا عني
الذي زاوله امللك العادل نور الدين حممود الشهيد ،لقد جاء إىل احلكم يوم جاء وبرانجمه اإلصضمحي السياسي ،
واجلهادي ،االقتصادي ،واالجتماعي ،والثقايف ،والرتبوي ،واإلعضممي ،ك ُّ ذلك يف ذهنه قد أُع هلد إعداداً كا ياً) ،
إن االهتمام ابلفكر اإلسضممي وأصوله وقواعده و ق التصور اإلسضممي وسيأيت بيان ذلك يف حمله إبذن هللا تعاىل ،هل
الصحيح من األسباب املهمة اليت مارسها نور الدين حممود ،وساعدته على إجناح مشروعه النهَوي الكبري.
231
دون أن يصيبها اخلل ،توقف ـ على األق ـ عن العطاء إن مل نق ترجع اثنية ،تفرض على املواطنني ما ميكنها من
سد الفتق ،واستعادة التوازن ،والقدرة على العم ؟
إن دولة نور الدين لو مل حتظ ابلقدر الكايف من املال ،وبشك دائم؛ ملا واصلت سياستها تلك حىت آخر حلظة ،وملا هل
وصفها العماد أبهنا كانت( :ان ذة األوامر ،منتظمة األمور)( .)1وقد كانت خزائن الدولة حتظى دوماً ابلقدر الكايف من
املال ،وكـانت الدولـة هلا الـقدر على اإلنـفـاق يف الـمجـال العسكري ،واالجتماعي ،والتعليمي ،وغريها ،بسبب
سياسة نور الدين احلكيمة ،وإليك شيء من التفصي :
1ـ نظام القطاع احلريب :اعتمد الزنكيون نظام اإلقطاع احلريب ،للصرف على جيوشهم خضمل جهادهم هل
ضد الصليبيني،
قد نشأ نظام اإلقطاع احلريب يف الشرق اإلسضممي يف الدولة السلجوقية ،اليت كانت تسري على أساس صرف مرتبات
نقدية للجيش النظامي ،حىت منتصف القرن اخلامس اهلجري ،احلادي عشر امليضمدي ،حيث أدى اتساع رقعة الدولة
،وصعوبة السيطرة عليها ،وإرهاق اإلدارة املالية بباهظ املرتهلبات ،اليت تصرف للجيش إىل تفكري الوزير نظام امللك يف
االستعاضة عن املرتبات النقدية ابإلقطاعات من األراضي ملختلف عناصر اجليش( ، )2وقد انتق نظام اإلقطاع احلريب
كامضمً إىل الدولة الزنكية ،اليت نبتت ،وترعرعت يف أحَان السضمجقة ،مث ورثتهم بعد ذلك(.)3
وقد ارتبط اإلقطاع احلريب يف عصر الزنكيني ابخلدمة احلربية؛ إذ كان األمري املقطع يـُْلَزُم بتقدمي العساكر وقت احلرب
جمهزة بكام عتادها وعدهتا ،وكان إقطاعاً وراثياً ،أي :هل
أن إقطاع األمري ،أو اجلندي مينح بعد و اته ألوالده( ، )4ويف
حالة صغر سن االبن كان السلطان يعني من يدير اإلقطاع حىت يبلغ سن الرشد ،ومنح اإلقطاع بواسطة السلطان ،مل
يكن معناه متليك األراضي الزراعية للمقطع ،وليس معناه أيَاً متتع املقطع مبتحصضمت اإلقطاع لفرتة طويلة ،ب كان
يعطي املقطع جمرد احلق يف أن جيمع لنفسه ،وأجناده جمموعة من الَرائب يف مقاب الواجبات املدنية العسكرية ،اليت
كان املقطع ملزماً هبا( ،)5واملضمحظ أن توزيع اإلقطاعات احلربية على األمراء واألجناد يف العهد الزنكي مش ك هل البضمد،
متك َن عماد الدين ،وابنه نور الدين من ضمها إىل مشروع اجلبهة اإلسضممية آنذاك ،واألدلة على ذلك كثرية منها: اليت هل
أنه عندما جلأ جنم الدين وأخوه أسد الدين شريكوه إىل املوص ؛ رحب هبما زنكي وأقطعهما اإلقطاعات يف شهرزور
خص أسد الدين ابملؤزر(.)6
بشمال العراق ،مث هل
وأقطع األمري جاويل الرحبة وأعماهلا( )7وسار نور الدين حممود على هنج والده يف توزيع اإلقطاعات احلربية ،عندما
استوىل على دمشق سنة 1154 / 549م ،أقطع صاحبها جمري الدين ضياعاً حبمص عوضاً عن دمشق ،كما أقطع
232
شهاب الدين علي بن مالك العقيلي سروج ،واملضمحظة ،والباب ،وبزاغة( ،)1وأقطع يف سنة 563هـ 1167 /م جمد
الدين أاب بكر بن الداية حلب ،وحارم ،وقلعة جعرب ،مث أقرها بعد و اته سنة 565هـ 1169 /م يف يد أخيه علي
الرها( ،)2كما ابن الداية ،وأقطع نور الدين مسعود بن الزعفران محص ،ومحاة ،وقلعة بعرين ،وسلمية ،وت خالد ،و ُّ
أقطع أمراء العراق اإلقطاعات حلفظ طريق احلاج بني الشام واحلجاز ،وملث هذا اهلدف أقطع أمري مكة إقطاعاً وا راً(.)3
ومش اإلقطاع احلريب يف عهد نور الدين األراضي املصرية ،من ذلك ما ذكرته بعض املصادر املعاصرة من أن نور الدين
عندما مسع أبن بعض أمرائه يف مصر تردد يف حماربة الفاطميني ،والصليبيني عند البابني يف صعيد مصر؛ هددهم أبخذ
إقطاعاهتم ،وإعادة املوارد اليت أخذوها منها(.)4
واتبع عماد الدين زنكي ،وابنه نور الدين حممود أساليب عدهلة لتوزيع اإلقطاعات احلربية على أمرائهما ،وأجنادمها.
أن عماد الدين عندما منها ما كان الغرض منه استمالة احلكام املسلمني هبدف توحيد اجلبهة اإلسضممية ،ومن ذلك :هل
عزم يف سنة 540هـ 1145/م لضمستيضمء على قلعة جعرب وضمها ملشروع اجلبهة اإلسضممية املتحدة ،وملا رأى حصانتها؛
كتب إىل عز الدين علي بن مالك يف معىن تسليمها ،و وض عماد الدين حسان املنبجي أن يَمن لعلي بن مالك
اإلقطاع الوا ر ،والعطاء الكثري مقاب التسليم(.)5
ومن ذلك أيَاً ما ذُكر :أن نور الدين عندما حاصر دمشق سنة 549هـ 1154 /م وأدرك صاحبها جمري الدين ابق
عدم جدوى املقاومة؛ احتمى بقلعة دمشق ساعات مث استسلم ،أطلق نور الدين سراحه ،وأقطعه عوضاً عن دمشق
محص ،وأعماهلا( . )6كما منح اإلقطاع يف العهد الزنكي لألمراء واألجناد ،كمكا أة هلم على ما قاموا به من أعمال
جليلة ،سواء يف مرحلة تكوين اجلبهة اإلسضممية املتحدة ،أو هلإابن مراح جهادهم ضد الصليبيني ،من ذلك ما ذكره
(أن عماد الدين عندما ملك بعض داير بكر سنة 538هـ 1143 /م رتب أمور اجلميع ،وجع يها من ابن األثري :هل
األجناد من حيفظها)(.)7
ومن خصائص اإلقطاع الزنكي انتقاله من ُمقطع إىل اخر عن طريق الوراثة ،أو غريها ،تشري املصادر إىل هل
أن عماد
الدين زنكي قام بنق طائفة من الرتكمان مع أمريهم الياروق ،وأسكنهم حبلب ،وأعماهلا ،وأمرهم جبهاد الصليبيني ،
وأعطاهم ك ما استنقذوه منهم ،ومل يزل مجيع ما تحوه أبيديهم إىل حنو سنة ستمئة(.)8
وقد سار نور الدين على هنج أبيه ،يدلنا على ذلك قول ابن واص :هل
إن نور الدين كان( :من آرائه احلسنة ما يعتمده
أقر عليه إقطاعه)( .)9ومن ذلك أيَاً ما حدث سنة من أمر أجناده ،إنه كان إذا تويف أحدهم وخلف ولداً ذكراً هل
233
558هـ 1162 /م عندما ُهزم جيش نور الدين يف هذه السنة أمام الصليبيني ابلقرب من حصن األكراد يف املعركة
املعرو ة ابلوقيعة؛ حيث أصدر نور الدين أوامره إبحَار األموال ،والدواب ،واألسلحة ،واخليام من دمشق ،و هلرق
ذلك على من َسلم من عسكره ،ومن قُت أعطى إقطاعه ألوالده(.)1
وأما انتقال اإلقطاع من ُمقطع إىل اخر من غري وراثة ،والذي حيدث غالباً إذا تقاعس املقطع عن أداء واجبه ،أو مىت
بدر منه ما خي ابلتزاماته احلربية ،يدلنا على ذلك ما حدث سنة 562هـ 1117 /م عندما اختري أسد الدين شريكوه
رجاله ملعر ة ما ميكن أن يقدموه إذا اشتبكوا مع الصليبيني ،والفاطميني يف مصر ،أبدى بعَهم ختو ه من ذلك حيث
صاح يهم أحد أمراء نور الدين ،والذي كان مرا قاً لشريكوه قائضمً( :من خياف القت واألسر ضم خيدم امللوك ،ب
هل
ليأخذن مالنا من إقطاع يكون يف بيته مع امرأته ،وهللا لئن عدان إىل نور الدين من غري غلبة ،وال بضمء نُعذر يه؛
وجامكية ،وليعودن علينا جبميع ما أخذانه ُمنذ خدمناه إىل يومنا هذا ،ويقول :أتخذون أموال املسلمني ،وتفرون من
عدوهم ،وتسلمون مث مصر إىل الكفار)(.)2
ويظهر من خضمل هذا العرض :أنه كان على املقطع يف مقاب املوارد املتحصلة من اإلقطاع جمموعة من االلتزامات ،
كان يؤديها للس لطان ،وهي يف املرتبة األوىل التزامات حربية ،أملتها ظروف اجلهاد ،الذي اتصف به عصر األسرة
الزنكية ،مشلت تقدمي العساكر وقت احلرب ،كان املقطع مسؤوالً مسؤولية كاملة عن نفقات عساكره ،حيث كان
مزودين بك مستلزماته من مؤن وعتاد ودواب وغريها َ ،ضمً عما يتبع ذلك عليه أن خيرج هبم إىل ساحات القتال ،هل
من تدريبات عسكرية ردية ومجاعية جليشه من أساليب القتال املعرو ة آنذاك( ،)3وإىل جانب ذلك كان على املقطع
االضطضمع حبماية إقطاعه من أي اعتداء خارجي ،ويف ذات الوقت القيام مبراقبة حتركات األعداء ،وتنفيذ بعض
األعمال احلربية ضد مراكزهم(.)4
قصر يف ٍ
شيء منها كان وصفوة القوة إن نظام اإلقطاع احلريب مبا اشتم عليه من واجبات يعاقب عليها املقطع ،ومىت هل
كفيضمً إبخضمص األمراء واجلند ،واستماتتهم يف أداء واجب اجلهاد يف سبي هللا ،وحتقيق املزيد من االنتصارات ضد
التوسع يف الفتوحات جلع كلمة هللا هي العليا ،خاصة وأن الزنكيني كانوا حريصني على حتري الدقةأعداء اإلسضمم ،و ُّ
يف توزيع اإلقطاعات على أمرائهم وأجنادهم ،خيصون هبا املخلصني منهم ،يدلنا على هذا ما ذكرته( )5بعض املصادر
من أن عماد الدين زنكي كان يقطع بضمده جلند خيتربهم ،ويعرف نصحهم ،وشجاعتهم( .)6وعلى هذا النهج سار
امللك العادل نور الدين حممود الشهيد.
2ـ الزكاة واخلراج واجلزية :تُ َشك الزكاة ،واخلراج ،واجلزية جزءاً مهماً من موارد الدولة ،وتؤخذ حسب أحكام الشريعة
اإلسضممية ،الزكاة ركن من أركان الدين اإلسضممي ،ال يكم إسضمم املسلم وإميانه إال بتأديتها ،ولذلك يقب املسلمون
234
على أتديتها من ابب احلرص على دينهم ،دومنا إكراه من الدولة ،وإن كان من حق الدولة إلزام من مينع من املسمني
بتأديتها؛ ألهنا ركن من أركان الدين ،ومن حقوق املسلمني ،جيب على الدولة مجعها ،وتنظيم صر ها يف مصاحلهم ،
وقد ثبت ابلتجربة من خضمل التاريخ اإلسضممي يف عهد الرسول صلى هللا عليه وسلم واخللفاء الراشدين ،واخلليفة
حد كبري يف سد نفقات الدولة إذا كانت الدولة تطبق اإلسضمم على األموي عمر بن عبد العزيز( :)1أن الزكاة تساهم إىل ٍ
حقيقته ،وكان نور الدين حيكم أرضاً اشتهرت بكثا ة نشاطها الزراعي ،وبكثرة ذمييها ،ويسوس جمتمعاً بلغ من النَج
وااللتزام ما جيع املوجودين يه يهرعون لتقدمي زكاة أمواهلم قب أن ترغمهم الدولة على الد ع ،كانت هذه املوارد
الثضمثة تشك ضماانً اثبتاً ملوازنة مالية الدولة ،ومحاية خزائنها من العجز ،واإل ضمس(.)2
حبق مورداً من أوسع موارد الدولة اليت كانت دوماً يف حالة حرب مع 3ـ الغنائم و داء األسرى :كانت الغنائم متث ٍ
األعداء ،وكانت نتائج احلرب املادية واملعنوية أتيت لصاحلها يف أغلب األحيان ،يقول سبط ابن اجلوزي على سبي
املثال( :عاد نور الدين بعد تح حارم عام 559هـ إىل حلب ابألسرى ،مث اداهم وكان قد استفىت الفقهاء ،قال
قوم :يقت اجلميع ،وقال اخرون :يفادي هبم ،مال نور الدين إىل الفدية ،أخذ منهم ستمئة ألف دينار معجضمً ،
أن مجيع ما بناه من املدارس ،واملارستاانت وغريها منوخيضمً ،وسضمحاً وغري ذلك ،كان نور الدين حيلف ابهلل :هل
درهم واحد(.)3
هذه املفاداة ،ومجيع ما وقفه منها ،وليس يها من بيت املال ٌ
ستمئة ألف دينار حصيلة معركة واحدة ،كيف سائر املعارك اليت انتصر يها نور الدين ،واليت تغطي رتة حكمه من
أقصاها إىل أقصاها؟
مثة رواية أخرى يها إشارة حمدودة إىل مبالغ ابلذات كسبتها الدولة عن طريق املفاداة( :وقع صاحب طرابلس أسرياً بيد
نور الدين ،أطلق سراحه لقاء ثضممثئة ألف دينار ،ومئة ومخسني أسرياً من املسلمني .هذا ما يقوله ابن اجلوزي)(.)4
أما أبو شامة إنه يطرح أرقاماً أخرى( :مئة ومخسون ألف دينار ،و كاك ألف أسري من املسلمني)( ، )5ومهما كان
األمر إن املبالغ النقدية ،والعينية املرتتبة على داء األمري الصلييب كانت كبرية حقاً ،إذا ما أضفنا إىل ذلك ما كان
أيتيه من األقاليم اليت تحها كمصر ،واليمن ،وغريها( )6على شك ضرائب ،وغنائم ،ومعطيات عينية؛ أدركنا كم
كان واسعاً كبرياً هذا املورد الذي كان جييء عن طريق النشاط احلريب(.)7
4ـ األموال العظيمة اليت خلفها أبوه عماد الدين :واليت الت خزائنها العظيمة إىل نور الدين ـ حلسن احلظ ـ بدالً من
أخيه األكرب سيف الدين غازي ،حيث كان زنكي قد احتفظ هبا يف قلعة سنجار على الطريق بني املوص وحلب ،
لما الت هذه املدينة إىل نور الدين عام 544هـ وضع يده عليها ،ونقلها معه إىل حلب ،كانت كما يصفها ك ٌّ
235
من ابن األثري ،وابن العدمي «كثريًة جداً»( ،)1وأهنا نقلت على ستمئة مج ما خضم البغال ،وكان من بني األخرية ستة
وستون محلت عملةً من الذهب(.)2
5ـ األمانة العظيمة اليت متيز هبا نور الدين وحكومته الرشيدة :متيهلز أبمانة عظيمة جتاه أموال األمة ،واليت سعى إىل إلزام
موظفيه هبا ،و رض عليهم رقابته اليقظة الدائمة ،كيضم جينحوا ابجتاه استغضمل مناصبهم حلساهبم اخلاص ،وإن لنا أن
نقدر حجم اخلسائر اليت كانت ستمىن هبا مالية الدولة لو ابتليت حباكم جشع ،وموظفني ال يعر ون غري تنمية جيوهبم
،أسوًة مبا كان يفعله الكثريون من احلكام واملوظفني ،وإن لنا أن نقدر ـ ابملقاب ـ ما كسبته خزانة الدولة من جراء
احلماية الصارمة اليت رضتها تقوى نور الدين ،وإميانه ،والتزامه ،واختياره الدقيق لكبار موظفيه ،وحسابه الشديد
معهم( ،)3قد سار على هنج عمر بن عبد العزيز ،وعين ابحليلولة بني الوالة وبني أن يكون مههلهم األول من مناصبهم
مجع األموال ألنفسهم.
ُ
()4
واألغلب :أن ذلك عوض النفقات اليت اقتَتها إصضمحاته ضعفني .وما قي عن عمر ينسحب ابلَرورة على نور
الدين( ، )5كما أن وجود احلكومة الرشيدة ،اليت كان يقودها نور الدين ساهم على حتقيق ما أراد ،قد اعتمد يف إدارته
لدولته الواسعة على حشد من العلماء ،والفقهاء املشهورين ابألمانة ،واالستقامة ،والكفاية ،وكان أغلبهم قد مارس
العم مع احلكام واألمراء قب العم مع نور الدين ،اكتسب خربة كبرية يف إدارة شؤون الدولة ،كان نور الدين
يستشريهم ،ويعقد هلم االجتماعات لبحث األمور اهلامة( ، )6وكان نور الدين يعترب نفسه خازانً ألموال املسلمني ،
جيب عليه أن يصر ها يف مصاحلهم قط( ، )7وألزم هلنوابه ،ورجال دولته هبذا الفهم ،الذي يرقى إىل أعلى مستوايت
يرتدد يف حماسبة
األمانة واإلحساس ابملسؤولية ،و رض رقابته الصارمة على بيت املال يف مركز الدولة ويف الوالايت ،ومل هل
أحس منهم ميضمً للمحا ظة يف هذا اجملال( ، )8وأنزل عقوبةً شديدةً أبحد موظفيه بعد أن ثبت:نوابه يف األقاليم ،إذا هل
()9
مر ذكرها.أنه استغ مركزه ،وأخذ من األموال العامة وق ما يستحق من راتبه ،قد هل
ويكفي أن نتذكر حادثة املال الذي وجده يف اخلزينة ومل يكن يعلم عنه من قب ،أمر برده إىل القاضي كمال الدين ،
الذي كان قد أرسله لبيت املال لريده إىل أصحابه( .)10لنعلم كم كان الرج صارماً ،ودقيقاً يف مسألة احلضمل واحلرام
يما يتعلق ابألموال العامة ،حفظت ،وانعدم التسُّرب منها ٍ
حلد كبري إىل جيوب الوالة واملوظفني(.)11 َ
236
يتجرد من
لقد انتصر نور الدين على نفسه قب أن يواجه أهله ورعيته بسياسته التقشفية ،استطاع إبميانه القوي أن هل
أهواء الدنيا ،ومغرايت امللك ،ومن مظاهر البذخ والرتف ،اليت كان يعيشها غريه من احلكام غري مبالني مبا تعانيه
خزينة الدولة بسبب ذلك ،وألزم نفسه ابلعيش املتواضع دون أن يفقد شيئاً من هيبة السلطان ،وقوة احلكم ،ب كان
كما قي « :من شاهده شاهد من جضمل السلطنة وهيبة امللك ما يبهره ،إذا اوضه؛ رأى من ألطا ه ،وتواضعه ما
حيريه( ،)1اقتدى به أهله ،وأمراؤه ،وقادته ،والتزموا البساطة يف حياهتم ،مث انتقلت خصائله إىل العامة من الناس،
كان هلذه السياسة أثرها البعيد يف تو ري األموال اليت كانت هتدر يف جماالت اللهو ،والبذخ ،والرتف ،صارت تصرف
يف وجوه اخلري واملصلحة العامة»(.)2
6ـ سيادة األمن واالستقرار الداخلي :كانت النزاعات واحلروب بني اإلمارات اإلسضممية املتعددة يف بضمد الشام قب
توحيدها تستهلك أغلب موارد هذه اإلمارات ،وتقَي على األجواء املناسبة الستغضمل األرض ،ورواج التجارة يما
توحدت بضمد الشام كلها حتت زعامة نور الدين؛ زالت أسباب التوتر بينها ،كانت األوضاع االقتصادية سيئة ،لما هل
والنزاع ،وساد األمن واالستقرار على اجلبهة الداخلية ،وأصبحت اجلهود كلها موجهة حنو اخلطر اخلارجي املتمث
ابلفرجنة ،الذين أصبحوا بفَ جهود نور الدين العسكرية يف وضع د اعي ،ال يشكلون خطراً مباشراً على املدن
اإلسضممية يف بضمد الشام ،كما كانوا من قب ،انصرف الناس إىل أعماهلم الزراعية ،والتجارية وهم مطمئنون ،
تحسنت األحوال االقتصادية ،وكثر العم ،وكان من نتيجة ذلك كله زايدة مقادير الزكاة اليت تشك املورد الرئيسي
خلزينة الدولة(.)3
7ـ مسامهة األثرايء :أثهلرت جهود نور الدين وقيادته احلكيمة ،يف إجياد جمتمع التكا والتَامن يف بضمد الشام ،وصار
التعاون ،والرتاحم ،واملودة ،واملواساة ٍ
مسات ابرزة يف اجملتمع ،وأخذ األثرايء من أبناء األمة يسارعون إىل أعمال اخلري
،أتسياً بسلطاهنم ،وطلباً لألجر والثواب من هللا سبحانه وتعاىل ،تم بناء الكثري من املدارس ،واملساجد ،ودور
األيتام من قب القادة ،واألمراء ،والوالة وغريهم من األثرايء ،حىت صارت هذه األعمال من ظواهر اجملتمع الدائمة ،
وامتدت بعد دولة نور الدين ،واتسعت يف زمن الدولة األيوبية ،ودولة املماليك ،وما يهمنا هنا :أن هذه املسامهات
ساعدت يف تو ري األموال خلزينة الدولة(.)4
8ـ املعاهدات واالتفاقات :قد شكلهلت املعاهدات واالتفاقات مورداً مالياً طيباً للدولة الزنكية ،في سنة 557هـ /
1156م سار نور الدين بقواته حملاصرة حارم التابعة إلمارة أنطاكية ،ومجع الصليبيون قواهتم لصده عنها ،وكان يف هذا
احلصن رج صلييب من دهاة اإل رنج ،يرجعون إىل رأيه ،قد نصحهم مبفاوضة نور الدين ،وا ق على ذلك مقاب
أن يعطوه نصف أعمال حارم( ، )5كما حدث سنة 559هـ 1163 /م أن وا ق نور الدين على إطضمق سراح بوهيمند
وتعهد أن يرس ماالً كثرياً ،وأن يطلق سراح األسرى ( 1163ـ 1201م) أمري أنطاكية بعد أن د ع دية كبرية ،هل
237
املسلمني الذين عنده ،ويف السنة نفسها شاطر الصليبيني يف أعمال طربية ،وقرروا له من املناطق اليت يشاطرهم عليها
ماالً يف ك سنة(.)1
9ـ دعم اخلليفة العباسي :كان نور الدين يدين ابلتبعية السياسية للخضم ة العباسية السنية يف بغداد ،تحص على
إضفاء صفة الشرعية على قيام دولته ،واحلصول على التأييد منها ،يف أعماله اجلهادية حرصاً على ما يبدو يف ذات
ضد الصليبيني ،يدلنا على ذلك ما ذُكر :أن نور الوقت على طلب املساعدة املالية منها أحياانً ،لد ع حركة اجلهاد هل
الدين حممود مل يتحرج يف أن يطلب من اخلليفة العباسي املستنجد ابهلل النفقات واألسلحة لسد الكلمة ،ود ع امللمة
على إثر الزالزل اليت اجتاحت بضمد الشام سنة 565هـ 1169 /م(.)2
10ـ سياسته الزراعية :عهد نور الدين إىل اعتمد سياسة زراعية سليمة ،كانت مبثابة املفتاح الذي أغفله كثري من
الساسة؛ لتنمية الدخ القومي تنميةً طبيعية ،يف عصر كان النشاط الزراعي يه ميث الفاعلية احملورية يف عامل االقتصاد،
هو من جهة سعى إىل محاية املزارعني ،والفضمحني من كا ة صنوف األذى ،والتخريب ،والعدوان ،اليت كان ميكن
أن تلحق هبم من جراء حالة احلرب املستمرة ،وحترك اجليوش الدائم ،وحتول األرض الشامية إىل ساحة قتال ،ال تعرف
طعم السلم إال قليضمً ...وقد مر بنا كيف أن نور الدين خضمل هجماته املستمرة على دمشق طيلة األربعينيات كان يشدد
على أصحابه وجنده أال يفسدوا املزارع ،والَياع ،والقرى ،وأال أيخذوا شيئاً من مزارع بغري حق.
كما أنه أعلن نفسه حامياً للفضمحني ،ونتذكر رواية ابن القضمنسي( :مسع نور الدين نبأ حتالف دمشق مع الصليبيني ،
قال :ال أحنرف عن جهادهم).
كف أيدي أصحابه عن العبث ،واإل ساد يف الَياع ،وإحسان الرأي يف الفضمحني ،والتخفيف عنهم، وهو مع ذلك هل
وكتب إىل زعماء دمشق( :إنين ما قصدت بنزويل هذا املنزل طالباً حملاربتكم ،وإمنا دعاين إىل هذا األمر :كثرة شكاية
أبن الفضمحني الذين أخذت أمواهلم ،وشتت نساؤهم ،وأطفاهلم بيد الفرنج ، املسلمني ،من أه حوران ،والعرابن هل
وعدم الناصر هلم ،وال يسعين مع ما أعطاين هللا من االقتدار على نصرة املسلمني ،وجهاد املشركني ،وكثرة املال ،
والرجال ،إالهل االنتصار هلم)(.)3
وقد جنح نور الدين يف كسب الفضمحني ،ومثهللوا دعماً حربياً متجدداً للجيش النوري ،وساعدهتم الدولة على االستفادة
من إمكاانهتم املتميزة يف جمال الزراعة ،قد امتازت أقاليم الدولة النورية خبصوبة الرتبة بصفة عامة ،وتوا ر مصادر الري
،سواء من األهنار واألمطار ،أو الينابيع واالابر ،وحرصت الدولة على تشييد شبكة حمكمة من القنوات إليصال مياه
األهنار إىل املناطق املزروعة ،وقد أنتج القطاع الفضمحي العديد من احملاصي الزراعية ،اليت دخ بعَها يف نطاق
التصنيع مث القطن ،وقصب السكر ،والسمسم ،والزيتون ،وغريها(.)4
238
11ـ اجملال الصناعي :قد امتازت الدولة النورية بتوُّر املواد الضمزمة للتصنيع ،وكذلك ُ
الع هلمال املهرة ،ووسائ النق ،
وازدهرت حينذاك صناعة املنسوجات القطنية ،والصو ية ،واحلرير ،وخاصة ثياب الدمسك( ، )1واملوسلني ،وكذلك
صناعات الورق ،والزجاج وغريها.
ويضمحظ :أنه من خضمل استعراض عدد من الصناعات يف عهد الدولة النورية ،ميكن استنتاج عدة مضمحظات مهمة
تدور حول معوقات التقدم حينذاك ،وهي أن اآلآلت اليت أمكن استخدامها هلم معقدة ،ومل توجد املعدهلات اليت ميكن
أن تدار على طريق ا ملعادن اليت وجدت يف بضمد الشام واجلزيرة ،وظلت الطاقة األساسية متمثلة يف حركة املاء إلدارة
الطواحني ،كذلك مل يتم استغضمل مناجم احلديد ،والنحاس يف بريوت ،واملوص ،ومناطق أخرى يف صناعات ثقيلة
إن استخدام احلديد احنصر يف صناعة أدوات الطب( )2واجلراحة ،وكذلك األسلحة وأيَاً يف بعض أدوات الصناعة ،ب هل
البسيطة.
حد من منو حركة التصنيع ،ومن جهة أخرى حرصت الطبقة الوسطى التجارية ،على استثمار وهذا الوضع ابلطبع هل
رأس ماهلا يف حركة التجارة الداخلية ،واخلارجية النشطة ،ومل تشأ استثماره يف اجملال الصناعي()3؛ حيث رغبت يف
توظيفه يف اجملال الذي توارثته ،وسربت أغواره ،وهكذا إن عدم حدوث تغري حقيقي يف وسائ اإلنتاج ،وعدم
التوص إىل استخدام الطاقة ،كذلك عدم توا ر وعي صناعي للطبقة الوسطى التجارية أدى إىل أن تكون بضمد الشام
واجلزيرة يف عهد نور الدين حممود معاصرًة لنهَة صناعية ال ثورة صناعية ،حيث استمرت أساليب اإلنتاج التقليدية(.)4
12ـ القطاع التجاري :اتهلبعت الدولة النورية سياسةً انطوت على الرعاية الكاملة للتجارة الداخلية ،وكذلك اخلارجية،
الرها مما جعلها تتحكم يف طرق التجارة ، ُّ
التحكم يف طرق التجارة يف إقليم اجلزيرة ،وخاصة بعد اسرتداد ُّ واستطاعت
اليت تربط بني العراق ،واسيا الصغرى من انحية ،وبضمد الشام من انحية اثنية.
كما أن سيطرة نور الدين بعد ذلك على األراضي املصرية ،وضمها ملشروع اجلبهة اإلسضممية املتحدة بعد القَاء على
ممرين مائيني ،مها:
مكنَه من االتصال بتجارة اهلند والشرق عرب هل الدولة الفاطمية يف القاهرة سنة 567هـ 1171 /م ،هل
اخلليج العريب ،والبحر األمحر(.)5
متر عرب حدود الدولة النورية ،سواء الداخلية ،أو اخلارجية منها ،وهي يتم حتصيلها على التجارة ،اليت ُّ
وكانت العشور ُّ
أشبه ما تكون ابلرسوم اجلمركية يف العصر احلاضر ،ويقوم بتحصيلها موظف يقال له( :العاشر) أي« :الذي أيخذ
()6
األول أيب بكر الصديق ـ رضي العشور» ،ومل يكن هلذه الَريبة وجود يف عهد النهليب صلى هللا عليه وسلم وخليفته هل
لما اتسعت ألن تلك الفرتة كانت رتة دعوة إىل اإلسضمم ،واجلهاد يف سبي نشره ،وبناء الدولة اإلسضمميهلة ،هل هللا عنه ـ هل
الدولة يف عهد اخلليفة عمر ـ رضي هللا عنه ـ وامتدت حدودها شرقاً ،وغرابً ،وصار التبادل التجاري مع الدول اجملاورة
239
الَريبة على الوارد إىل دار اإلسضمم
العامة ،ورأى اخلليفة عمر ـ رضي هللا عنه ـ أن يفرض تلك هل ضرورة متليها املصلحة هل
،كما كان أه احلرب أيخذوهنا من جتهلار املسلمني القادمني إىل بضمدهم ،معاملة ابملث ( .)1وقد أمجع املؤرخون( :)2أن
هلأول من وضع العشر يف اإلسضمم عمر بن اخلطاب( ، )3رضي هللا عنه.
اهتمت الدولة الزنكية ابحلركة التجارية ،وإقامة العدد من املؤسسات التجارية ،مث اخلاانت( ، )4والفنادق(، )5 وقد هل
شجعت التُ هلجار اليهود على املشاركة يف النهَة التجارية ،اليت
وأورد ابن عساكر العديد منها يف مدينة دمشق ،كذلك هل
شهدهتا البضمد ،وقد استقروا يف مناطق خطوط التجارة العاملية املارة من مدن الشام ،واجلزيرة الكربى ،مث :دمشق ،
وحلب ،وشيزر ،ومعرة النعمان ،واملوص ،وغريها.
ت حارة ابمسهم( .)6وقد تزايدت أعدادهم هبا؛ حىت بلغوا اآلآلف ،ووصفوا وعرَ ْ
في دمشق مثضمً ُوج ُدوا أبعداد كبرية ُ ،
أبن منهم «ذوو اليسار»( ، )7أي :أهنم اشتغلوا ابلتجارة؛ حيث كانت أكثر اجملاالت احملققة للثروة ،وكذلك وجدوا
جماالً متسعاً يف أعمال الصيار ة(.)8
وقد اتجرت الدولة النورية مع العديد من الكياانت السياسية يف عامل البحر املتوسط ،هناك اإلمرباطورية البيزنطية ،
متكن اإليطاليون على حنو خاص من زايدة حجم والقوى التجارية اإليطالية مث جنوة ،والبندقية ،وبريزا ،وأمالفي( ،)9و هل
جتارهتم مع بضمد الشام ،واجلزيرة ،وأقام قناصلهم يف املدن الشامية ،واجلزيرة مث :حلب ،ودمشق ،واملوص وغريها
،حيث عملوا على رعاية مصاحل بضمدهم االقتصادية( ، )10وال مراء يف أن ذلك العهد قد شهد صحوة للطبقة الوسطى
يدل على ذلك ما نضمحظه من ختصص التجار يف العمليات التجارية وانقسامهم إىل ئات تقوم جبانب من التجارية ُّ ،
اخلزانون ،مث الركاضون ،واجملهزون(.)11
النشاط التجاري املتخصص ،هناك هل
ويكشف لنا الدمشقي املزيد من التفاصي عن ك نوعية منهم ،كذلك ظهرت عدة أسر جتارية كبرية النفوذ مث أبناء
الرحيب ت 632هـ 1234 /م الذي عاصر نور الدين حممود ،قد ترك أبناء هلم أشغال جيدة يف هذا الفن(، )12
ووجدت يف حلب بيوت قدمية معرو ة ابلثروة( )13يتوارثوهنا ،وطبيعي :أهنا جنمت عن النشاط التجاري يف مدينة اشتهرت
أن جتارة الشرق األدىن خضمل عصر احلروب الصليبية قد شهدت هنَة جتارية مل تكن بذلك الطابع .يَاف إىل ذلك :هل
240
موجودة من قب ( ، )1ود عتها د عة كربى إىل األمام( ، )2وانطبق ذلك على بضمد الشام ،واجلزيرة حينذاك نظراً للموقع
اجلغرايف املتوسط ،ومرور العديد من الطرق التجارية العاملية ،وقد رضت الدولة النوريـة املكوس على النشاط التجاري
،وكانت حلب أحد املراكز الرئيسية جلمع تلك الَرائب التجارية ،حيث جبيت يها أموال الروم ،وداير بكر ،
ومصر ،والعراق(.)3
أن الدولة النورية احتكرت جتارة بعض السلع االسرتاتيجية ،ومل تشأ أن جتعلها يف أيدي بعض كبار التجار ويبدو :هل
األثرايء خو اً من احتكارها ،وتزايد ثروهتا على حساب احتياجاهتا ،واحتياج السوق الشامي ،واستقراره ،ويبدو :أهنا
احتكرت بعَها ،كتجارة احلديد ،واألخشاب ،والقار ،وهكذا عندما توقفت يف إحدى السنوات عن مطالبة أه
الشام ابخلشب أشارت املصادر إىل ذلك كحدث مه ٍم ،وجديد ،ولذا وجدان ابن عساكر ميتدح نور الدين حممود
لذلك ببعض األشعار ،ووقع ذلك يف عام 567هـ قال:
()4
ت مصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـَر يه ـ ـ ـ ـا م ـ ـ ـ ـ ـن النش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب
عوضـ ـ ـ ـ ـ َ
هل ت أله ـ ـ ـ ـ ـ الش ـ ـ ـ ـام ابخلش ـ ـ ـ ـب
مل ـ ـ ـ ـ ـ ـا مسح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ
توسعها اخلارجي أكثر ما غنمت واستفادت بعد الفتوحات ،ونصرة اإلسضمم من نشاطها إن الدولة النورية من خضمل ُّ
التجاري؛ إذ أخَعت جتارة مشال الشمال ،ومرت هبا الطرق التجارية القادمة من شرق ووسط ايسا يف أوربة ،وكذلك
الطرق املارة من مشال العراق إىل مشال الشام ،وأيَاً القادمة من دمشق َ ،ضمً عن تلك املتجهة إىل اإلمرباطورية
ومر هبا طريق احلجاجالبيزنطية عرب مناطق نفوذ سضمجقة الروم ،أما دمشق قد غدت من أهم املراكز التجارية الشامية ،هل
الشاميني ،وكذلك القوا التجارية القادمة من غري أوروبة إىل مشال إ ريقية إىل الشام.
أما املوص قد اشتهر نشاطها التجاري ،ومثهللت حركة اتصال مؤثرة ،وحيوية بني جتارة مشال العراق ،ومشال الشام
بصفة خاصة ،وجتارة اإلقليمني املتجاورين بصفة عامة(.)5
أن الدولة النورية من خضمل توسعها اخلارجي سامهت يف إحكام قبَتها على قسم حيوي من البحر املتوسط ويضمحظ :هل
،ومن املؤكد :هلأهنا قد متكنت من إخَاع الساح املمتد من قرب غزة إىل طرابلس الغرب ،وال نغف أن الدولة النووية
إبحكام قبَتها على برقة ،وجب نفوسة قد أخَعت قسماً مهماً من جتارة الشمال اإل ريقي ،خاصة جتارة الذهب
والرقيق ،ومها عصب جتارة العامل اإلسضممي يف ذلك العهد ،إذا أضفنا إىل تلك احملطهلات ـ التجارة الربيةـ احملطات
البحرية مث عيذاب على البحر األمحر ،ودمياط ،واإلسكندرية على البحر املتوسط ،أدركنا كم كان على كا ة القوا
أن خزينتها رحبت أمواالً طائلة من وراء ذلك على املارة عرب كا ة تلك الطرق واحملطات التجارية املذكورة ،وال مراء يف هل
241
حنو دعم مشاريعها التوسعية( .)1وقد متكنت الدولة النورية من تح أسواق جديدة يف املناطق كا ة ،تلك اليت أخَعتها
لسيطرهتا السياسية(.)2
جراء التوسع اخلارجي ، أ ـ مبدأ التخصص يف التجارة اخلارجية :شهدت التجارة يف عهد الدولة النورية تطوراً مهماً من هل
بعد أن كانت العمليات التجارية مرتبطةً حبلب ـ قلب جتارة مشال الشام ـ صار هناك مبدأ التخصص يف التجارة اخلارجية
منسقة ،وموزعة بني قسم من غريب قارة اسيا ،والشمال الشرقي اإل ريقي ،وميكن مضمحظات ،ويف قطهلاعات إقليمية هل
ذلك من خضمل ثضمثة حماور:
* احملور األول :املتاجرة مع الكيان الصلييب ،قد حتمتها الطبيعة اجلغرا ية للدولـة النورية؛ إذ كانت دولـة داخلية حبيسة
،ليست هلا موانئ على الساح الشامي ،وحيث أن تلك املوانئ خَعت للسيطرة الصليبية ،إهنا مثهللت دور الوسيط
التجاري بني تلك الدول ،واألسواق التجارية الدولية ،اليت استهلكت منتجاهتا التجارية ،مث :اإلمرباطورية البيزنطية
أن ميناء صيدا كان ميناءً جتارايً لدمشق ،وكذلك كان ميناء طرابلس جماالً ،وجنوب أوروبة ،وغرهبا ،ومن املعروف :هل
لتصريف منتجات ك ٍ من محاه ،ومحص ،وال نغف هنا دور القوى التجارية اإليطالية مث مدن جنوة ،والبندقية ،
وبيزا ،وأمالفي ،وأثرها يف دعم النشاط التجاري الصلييب(.)3
* احملور الثاين :جتارة التواب ،قد هنض أبمرها الكارمية ،قد احتلهلت أمهية كبرية يف ميزانية الدولة ،ويضمحظ أن هيمنة
الدولة النووية على جتارة التواب اهلندية قد أتيت هلا بعد أن سيطرت على مصر ،وقَت على النفوذ الفاطمي هبا ،
واحتاج األوربيون ـ على نطاق متسع ـ لتلك التواب ،اليت حددها لوييز ،أبهنا كانت تشم أصنا اً متعددة من السلع
املستخدمة يف الزينة ،والعطور ،والعقاقري ،والصيانة الكيماوية ،والطهلهو(.)4
* احملور الثالث :جتارة الرقيق ،والذهب من بضمد السودان الغريب عرب الصحراء الكربى ،قد مثهللت أمهية ابلغة للدولة
هلت سيطرهتا السياسية إىل مصر ،و هلأمنتها
النورية ،وقد هتيهلأ هلا أن تشارك يف تلك التجارة بصورة متزايدة بعد أن مد ْ
ابلسيطرة على برقة ،وجب نفوسة( )5بطرابلس ،وكذلك إبحكام قبَتها على النوبة ،أما جتارة الرقيق ،كانت هلا
أمهية خاصة( )6وازدهرت جتارة الذهب مع إ ريقية وعرب الصحراء الكربى ،وغنمت من وراء ذلك غنائم عظيمة ،ولكن
ينبغي أن نُدرك أن امتدادها إىل تلك احلدود ،جاء متأخراً ،أي :بعد سقوط الدولة الفاطمية يف مصر عام 567هـ /
1171م وابلتحديد قب ثضمث سنوات من و اة نور الدين حممود نفسه(.)7
ب ـ التجارة بني الدولة النورية ومملكة بيت املقدس :مل تقطع الدولة النورية مملكة بيت املقدس اقتصادايً السيما التجارة،
استمرت ترتدد بني اجلانبني ،لذا إن تلك اململكة أ ادت من وراء املتاجرة مع عدوها الرئيسي ،وذلك هل ب هل
إن القوا
242
أن االزدهار التجاري ،الذي شهده ميناء عكا ابلذات يرجع ـ يف املرجح :هل
من خضمل عائد املكوس املفروضة ،ومن هل
أحد أسبابه ـ إىل املتاجرة مع الدولة النووية؛ إذ اعترب أحد املوانئ الرئيسية اهلامة ،لتصريف تلك الدولة ،وقد أثهلرت
التوسع النورية ،والتداخ الذي جرى بني تلك الدولة والكيان الصلييب على املستوى التجاري ،أثهلرت على سياسة هل
سياسة اململكة الضمتينية؛ إذ إهنا لكي تتاجر مع املسلمني ،كان عليها أن تتبع املوازين ،واملكايي املستعملة يف البضمد
من قب (.)1
كما كان الصليبيون يف حاجة إىل استعمال نوع من العمضمت ،يقبلها التجار املسلمون ،ويف الوقت الذي استعم
الصوري ،ومت استخدامه يف التجارةيه الصليبيون العمضمت النقدية اإلغريقية وغريها عملت عملة خاصة عر ت ابلدينار ُّ
مع املسلمني على أوسع نطاق ،وقد شابه البيزنت البيزنطي ،وقد نقشت عليه عادة بعض اآلايت القرآنية ،وبصورة
تدرجيية صارت الداننري الصورية أكثر العمضمت املتداولة انتشاراً يف كا ة أحناء بضمد الشام(.)2
الفعال على التبادل التجاري
أن اهلدانت ،اليت عقدهتا الدولة النورية مع مملكة بيت املقدس كان هلا أثرها هل ويضمحظ :هل
بني اجلانبني؛ إذ توقهلفت عند ذلك املعارك ،ووجد التجار رصة ساحنة ملرور قوا لهم التجارية دون التعرض ملخاطر
احلروب( ، )3وأما اإلمارات الصليبية؛ قد أ ادت ـ شأهنا يف ذلك شأن اململكة الضمتينية نفسها ـ من املتاجرة مع الدولة
النورية(.)4
أن الدولة النووية حرصت على إرضاء كبار التجار ،من أج ج ـ مكانة التجار عند نور الدين زنكي :جتدر اإلشارة :هل
أن يستمر استثمارهم ألمواهلم يف عمليات جتارية على أرضها ،على حنو يدعم اقتصادايت الدولة ،ويدر األموال الطائلة
على ميزانيتها ،من عوائد املكوس ال أن تذهب إىل خارجها ،يف وقت تصارعت يه مع القوى اإلسضممية والصليبية
أن مصاحلهما التقت مع بعَها ، اجملاورة ،والسيما األخرية ،ومما ساعد على التعاون بني التهلجار ،ودولة نور الدين :هل
عندما سقطت دمشق يف قبَة نور الدين حممود عام 549هـ 1154 /م وبصورة غري دموية ودون جهد عسكري
ضخم ،كان دليضمً واضحاً على أن كبار التجار وجدوا يف سلطان حلب قوة مهيئهلة لنشاطهم التجاري أكثر من ذي
قب ،ومن األمور ذات الداللة ،أن نور الدين عندما دخ املدينة ،حرص أشد احلرص على االجتماع مع كبار التجار
الدماشقة ،من أج بعث الطمأنينة يف نفوسهم ،ولتوضيح معامل سياسته االقتصادية املرتقبة( .)5وقد استفاد الت هل
ُّجار
من هدانت الدولة النورية ،مع مملكة بيت املقدس الصليبية يف صفقاهتم التجارية(.)6
أي تغيري أساسي ،يف واقع احلياة البشرية حنو األحسن ،واألمث لن 13ـ إلغاء الَرائب :أدرك نور الدين حممود :هل
أن هل
يستكم أبعاده إال من خضمل إعادة تشكي األرضية االجتماعية ،ابحلق ،والعدل حبيث ال يبقى هناك ظامل ،أو
الفعال ينطلق من الرؤية اإلسضممية املوضوعية العادلة ،اليت صاغها كتاب هللا ،وسنة رسوله ، مظلوم ،وكان موقفه هل
243
ونفذهتا سياسات اخللفاء الراشدين ،والقيادات اإلسضممية امللتزمة عرب حركة التاريخ ،وكان امللك العادل نور الدين
التصور الذي
حممود زنكي ،يرى يف الدولة مؤسسةً حلماية حقوق مجاهري املواطنني ،وتقدمي أوسع اخلدمات هلم ،وهو ُّ
ير ض ابلكلية صيغ األخذ ،واالستضمب ،واالبتزاز ،والتَييع اليت مارستها الكثري من احلكومات عرب التاريخ اإلسضممي
التوسع الَرائيب السالب ،واالمتناع يف املقاب عن تقدمي
،وغري اإلسضممي ،وكان هذا االبتزاز أيخذ يوم ذاك صيغ ُّ
اخلدمات ،ومن أج جتاوز هذا املنطق اخلاطئ سعى نور الدين إىل التحرك صوب الطرف املقاب متاماً ،عم على
تقليص الَرائب إىل احلد األدىن املتاح ،ونشط من أج تقدمي أوسع اخلدمات جلماهري أمته ،وكان حيوط هذا التحرك
ـ الذي أخذ يتصاعد مبرور الزمن ـ برقابة صارمة على أموال الدولة العامة ،ويقطع اليد اليت تسعى إىل أن متتد إليها
بسوء.
ما حيوطه ابنفتاح عجيب على القطاعات الفقرية املسحوقة من أبناء األمة ،من أج تفهم واقعها املرير ،ود عها إىل
مستوى الكفاية ،يستند يف ذلك كله على قدر من السياسات واملوارد ،كانت قديرة على تغطية متطلبات العطاء
الواسعة اليت نفذهتا دولته الراشدة(.)1
كانت الَرائب يف عصر نور الدين تتزايد مع الزمن ،حىت إن الفاطميني يف مصر كانوا أيخذون على البَائع مكسباً
يص إىل مخسة وأربعني يف املئة من قيمتها ،وابتكر ظلمة هل
احلكام منها أشياء بعد أشياء انء الناس بثقلها ،حىت استغىن
الكثري من التجار عن املتاج رة ،وأخفى الناس أمواهلم وأصبحوا مع حكامها يف بضمء شديد ،وارتفعت نسبة اخلراج
للزراع ما ينفقون به ،وأصبح هل
احلكام يَـكلون جباية الَرائب إىل نفر من الذي كان ُجيَّب على األرض ،حىت مل يبق هل
اجلهابذة التزاماً ،يد ع الواحد منهم مبلغاً ،مث جيين أضعا ه من الناس(.)2
يف عصر كهذا كان إسقاط الَرائب بضم شك يشري إىل استغراب الكثري من أبناء ذلك اجلي ،وهي خطوة إجيابية يف
طريق العدل االجتماعي ،وأخذ نور الدين يف تنفيذ سياسته هذه من ُذ رتة مبكرة ،وكان حيناً بعد حني ،يصدر األوامر
جراء سياسات ،ويعمم الكتب ،واملناشري إبسقاط حشود الَرائب (الضمشرعية) اليت كانت أتخذ خبناق املواطنني من هل
االبتزاز ،اليت اعتمدها احلكام واألمراء الذين سبقوا نور الدين ،واليت كان ال يزال العديد من احلكام واألمراء الذين
عاصروه يعتمدوهنا ،وكان شعبيته تزداد ابطراد عجيب ،يف ٍ
خط متوا ٍز مع مقادير الَرائب اليت كان يطلقها( .)3وهذا
يؤكد ما قاله الدكتور عماد الدين خلي « :أبن إجراءاته الَريبية جاءت تعزيزاً لسياسته الدائبة من أج حتيق العدل
االجتماعي ،وكان ينتهز الفرص املناسبة كفتح من الفتوح ،أو انتصار من االنتصارات ،أو حادث من األحداث ،
التجرد ،والعطاء»(.)4
أو كلمة ذكرى هتز الفكر وتستجيش عواطف ُّ
أ ـ يف دمشق عام 549هـ :عندما دخ دمشق عام 549هـ أصدر منشوراً إبسقاط املكوس ،والَماانت ،والَرائب
،والغرامات املفروضة على عدد من البَائع واألسواق :دور البطيخ ،سوق اخلي ،سوق البق ،ضمان األهنار(،)5
244
سوق الغنم ،الكيالة ...وغريها ،وقرأ املنشور على املنرب ،استبشر الناس بصضمح احلال ،وأعلن للناس ،والفضمحني،
واحلرم ،واملتعيشني بر ع الدعاء إىل هللا سبحانه بدوام أايمه.
حشد كبري من املظامل ،واملكوس ،مش معظم ب ـ يف عام 552هـ عندما دخ شيزر :أصدر منشوره الشهري إبلغاء ٍ
أحناء دولته ،وجاوز املئة واخلمسني ألف دينار وقد جاء يه ...( :هذا ما تقرب به إىل هللا تعاىل صا حاً ،وأطلقه
مساحماً ملن ضعفه من الرعاية ـ رعاهم هللا ـ لَعفهم عن عمارة ما أخربته أيدي الكفار ...ـ أابدهم هللا تعاىل ـ ...إخل ،
مث يعرض من املنشور بعد هذه املقدمة قائمة ابملواقع اليت مشلها اإللغاء ،واملبالغ اليت أعفيت من د عها(.)1
ج ـ يف املوص عام 566هـ :عندما دخ املوص عام 566هـ ،مل يشأ إال أن يسقط عن أهلها ،ما كانوا يرزحون
حتته من الغرامات ،والَرائب ،واملكوس ،ومش ذلك أيَاً عدداً من املدن اجلزرية ،كاخلابور ،ونصيبني ،وغريمها،
وأصدر بذلك منشورات من إنشاء العماد األصفهاين لكي يقرأ على الناس جاء يه( :وقد قنعنا من كنز األموال ابليسري
من احلضمل ،سحقاً للسحت ،وحقاً للحرام احلقيق ابملقت ...وتقدمنا إبسقاط ك مكس وضريبة يف ك والية لنا
بعيدة ،أو قريبة وإزالة ك جهة مشتبهة ،وحمو ك سن ٍهلة سيئة شنيعة ،وإحياء ك سن ٍهلة حسنة ،وانتهاز ك رصة يف
اخلري ممكنة ،وإطضمق ك ما جرت العادة أبخذه من األموال احملظورة خو اً من عواقبها الرديئة احملذورة ،ضم يبقى يف
مجيع واليتنا جور جائر جارايً ...وهذا حق هللا قَيناه ،وواجب علينا هلأديناه)(.)2
د ـ يف مصر عام 566هـ :قد ر ع صضمح الدين يف مصر يف عام 566هـ :مجيع املكوس :صادرها وواردها ،جليلها
وحقريها( .)3ويبني ابن األثري كيف أن املكس يف مصر كان يؤخذ من ك مئة دينار مخسة وأربعون دينار ( :أطلقها نور
أن عام 567هـ شهد محلة شاملة أخرى من محضمت نور الدين ،وهذا مل تتسع له نفس غريه)( )4ويؤكد ابن العدمي :هل
الدين إلسقاط املظامل واملكوس(.)5
هـ ـ ويف عام 569هـ السنة اليت تويف يها نور الدين قام حبملة تطهري أخرى للَرائب ،أسقط ما أطلق عليه « ريَة
األتبان» يف بضمد الشام ،وأصدر بذلك منشوراً من إنشاء العماد األصفهاين .وقد اطهللع أبو شامة على نسخة املنشور،
وعضممته خبط نور الدين «احلمد هلل» ،ومما جاء يه( :وبعد :إن من سنتنا العادلة ،وعوائد دولتنا القاهرة إشاعة
املعروف ،وإغاثة امللهوف ،وإنصاف املظلوم ،وإعفاء رسم ما سنهله الظاملون من جائرات الرسوم ،وما نزال جندد للرعية
رمساً من اإلحسان يرتعون يف رايضه ،ونستقرئ أعمال بضمدان احملروسة ،ونصفيها من الشبهة والشوائب ،ونلحق ما
تقرابً إىل هللا تعاىل(.)6
يعثر عليه من بواقي رسومها الَائرة مبا أسقطناه من املكوس والَرائب ُّ
245
ويلخ ص العماد األصفهاين الوضع الَرائيب يف السنة اليت تويف يها نور الدين ،أبنه مل يبق حينذاك من الَرائب سوى
()1
مر احلديث عن إلغاء املكوس مفصضمً عند اجلزية ،واخلراج ...وما حيص من قسمة الغضمت على قوائم املنهاج وقد هل
إن نور الدين حممود يف سياسته االجتماعية ،واملالية يظهر حرصه العجيب حديثنا عن العدل يف دول نور الدين حممود .هل
على األموال العامة ،وأموال األمة ،اليت حصيلة كدها ،ودمعها ،وعرقها ،سواء كان هذا املال ملكية خاصة يف
أيدي الناس ،أم عامة يف أيدي الدولة.
و ـ محايته للرعية من جشع التجار :كان رمحه هللا حريصاً على محاية الرعية من أي مظامل قد تقع عليهم ،وذات يوم
حَر إليه مجاعة من التجار ،وشكوا إليه أن القراطيس (أجزاء الدينار) كان ك ستني منها بدينار ،صار سبعة وستون
بدينار ،وأهنا تتعرض ابستمرار للزايدة ،والنقصان ،مما يلحق هبم الكثري من اخلسائر ،وأشاروا عليه أن يَرب الدينار
ابمسه ،وتكون املعاملة ابلداننري بدالً من القراطيس ،سكت وقتاً طويضمً ،مث قال( :إذا ضربت الدينار ،وأبطلت املعاملة
ابلقراطيس؛ كأين خربت بيوت الرعية ،إن ك واحد منهم عنده عشرة االف وعشرون ألف قرطاس ،إيش يعم
هبا؟ يكون ذلك سبباً خلراب بيته) ور ض من مثهل االستجابة ملطالب التجار(.)2
ز ـ األموال اليت خلهلفها أمري شيزر :وعندما دخ شيزر عام 552هـ بعد أن هل
خربتها الزالزل ـ مل يكن لينسى :أن هناك
ماالً كثرياً خلفه أمريها السابق ،وأن عليه املطالبة به ،والبحث عنه؛ ألنه أصبح جزءاً من أموال األمة ،ويذكر ابن
العدمي كيف أنه سأل زوجة األمري عن هذا املال ،وهدهلدها ،وكيف أهنا ذكرت له أن الدار سقطت عليها ،وعليهم ،
وأخرجت هي حية من دوهنم ،وأهنا ال تعلم شيئاً ،وإن كان مثة شيء؛ هو حتت األنقاض( ، )3وال ندري إن كان املال
قد عثر عليه أم ال؟ ولكن األهم من هذا هو داللة املوقف نفسه(.)4
معرة النعمان :وحيدثنا أبو طاهر احلمدي الفقيه( :كنت عند نور الدين يف دار العدل بدمشق ،وقد أخرج ح ـ خراج هل
إيل اخلَري من الثقات :أنجريدةً سج َ يها خراج األمضمك ،جع ينظر يها ،لما انتهى إىل أهلها ،قال( :ر ع هل
مجيع أه املعرة يتقاضون الشهادة ،يشهد أحدهم لصاحبه يف دعوى ملك ،ويشهد له هذا يف دعوى أخرى ،وإن
امللك الذي أبيدهم إمنا حص هلم هبذا الطريق) .وكانت معرة النعمان قد سقطت أبيدي الصليبيني حيناً من الدهر ،
مث استعادها املسلمون مما سبب ضياع املستندات اخلاصة ابمللكية ،قلت له :أيُّها امللك إن هللا أوجب عليك العدل
ُّ
تستمد تواطؤهم يف رعيتك ،انظر ،واكشف ،وتوقف يف األمور إذا ر عت إليك ،إن أه املعرة خلق كثري ،كيف
على شهادة الزور ،وانتزاع األمضمك من أرابهبا مبجرد هذا القول؟ ال جيوز!!! أطرق نور الدين وقتاً طويضمً مث قال :إين
أمسكها عليهم مث اكشف عنها بعد ذلك ،والتفت إىل كاتبه قائضمً :اكتب إىل الوايل ابملعرة ليمسك مجيع امللك ريثما
يستجمع البينات يف ذلك(.)5
246
ط ـ اختيار أصحاب األمانة يف اإلشراف على املشاريع :عندما قرر نور الدين بناء اجلامع الكبري يف املوص عام 566هـ
يتسرع يف اختيار الرج الذي سيتوىل أمر اإلشراف ،وليكون مسجداً جامعاً للمصلني ،ومدرسة كبرية للدارسني؛ مل هل
على بنائه ،السيما وأنه عائد إىل حلب ،واملوص بعيدة عن رقابته املباشرة ،وإمنا حبث عن املشرف األمني الذي
يطمئن إليه ،كان عمر املضم الرج الصاحل الكادح ،كما يصفه املؤرخون .وحيدثنا العماد األصفهاين شاهد العيان عن
يتقوى هبا ،وكان يهب ك هل ما يص إليه ،وال يستبقي الرج يقول« :إمنا مسي بذلك ألنه كان ميأل تنانري اجلص أبجرة هل
لنفسه شيئاً ،وكان العلماء ،والفقهاء ،واألمراء يزورونه يف زاويته ،ويتربكون هبمته ،وكان نور الدين من أخص حمبيه
أنفقت على اجلامع الكبري أمو ٌال كثرية ،واشرتى عمر
ْ ،ويستشريه يف حَوره ،ويكاتبه يف مصاحل دولته( .)1هذا وقد
املضم األمضمك احمليطة به من أصحاهبا أبو ر األمثان ،وعندما مت إنشاؤه ،وحَر نور الدين ال تتاحه عام 568هـ؛ تقدهلم
الصرف بدقهل ٍـة ٍ
ابلغة ،ر ض نور الدين تدقيقها لثقته العميقة بنزاهة تَمنت تفاصي هل إليه عمر املضم بد اتر احلساابت اليت هل
الرج الذي عرف كيف ينتقيه هلذه املهمة أول مرة ،اسرتاح إىل النتيجة(.»)2
احملاسبة الدقيقة لعمال الزكاة:
حممد حفيد القيسراين ،ووزير نور الدين الشهيد ،قال: وحكى معني الدين هل
جم ُ ،حبس ،باع ما كان ميلكه من عقار مبا قيمته مثانية االف «انكسر ضامن دار الزكاة ـ املعروف اببن مشهلام ـ مبال ٍ
ذمته»(.)3
دينار ،ومحله إىل اخلزانة ،ولكنهله بقي يف اجلس ُمطالباً مبا بقي يف هل
الرشيدة من نظام القطاع احلريب ،و هل
الزكاة هذه اخلطوط العريَة يف مصادر دخ دولة نور الدين ،وسياسته االقتصادية هل
،واخلراج ،واجلزية ،والغنائم ،و داء األسرى ،واألموال العظيمة اليت خلهلفها أبوه عماد الدين ،واألمانة اليت متيهلز هبا
الرشيدة ،وأمهيهلة سيادة األمن واالستقرار الدهلاخلي يف انتعاش احلركة االقتصادية ،ومسامهة األثرايء ،واملعاهداتوحكومته هل
،واالتفاقات اليت يرتتهلب عليه امتيازات مالية ،ودعم اخلليفة العباسي للدهلولة الزنكية ،وسياسة نور الدين الزراعية ،
والصناعية والتجارية ،وغري ذلك من سياسته االقتصادية احلكيمة اليت سامهت يف دعم دولة اجلهاد ،وحتقيق أهدا ها.
إن من أسباب النهوض اليت أخذ هبا نور الدين :االهتمام ابجلانب االقتصادي؛ ألن القوة االقتصادية هي عصب احلياة هل
الدُّنيا ،وقو ُامها ،والَهلعيف يها يقهر ،وال حيسب له حساب إال يف ظ شرع هللا حني ُحيكم ،ولذلك ينبغي على
مهم من عوام النهوض.
الذات يف موارد اثبتة ،وهذا عام ٌّالقادة املهتمني أبمر هنوض األمة أن يعتمدوا على هل
األمة متعددة ،حتتاج إىل أموال طائلة لتغطيتها ،واملطلوب من احلركات اإلسضممية ،
إن حاجات مشروع هنوض هل هل
واحلكومات أن تُظهر من خضمل سلوك رجاهلا من التجار املسلمني أخضمق اإلسضمم يف التعامضمت التجارية ،وذلك من
خضمل تزويدهم ابخلريات امليدانية حبيث يقتحم التاجر املسلم مع إخوانه جماالت التجارة الدهلولية ،واألسواق العامليهلة،
ُّجار املسلمني إلجياد شبكات للتعاون املثمر ملقارعة الشهلركات اليهوديهلة ،والشيوعيهلة ،
ويعم على توحيد جهود الت هل
247
والنصرانيهلة ،وبذلك ما يف وسعهم من أج هيمنة االقتصاد اإلسضممي على األسواق العامليهلة ،وتوظيفه خلدمة املشروع
اإلسضممي يف حترير شعوب املسلمني من سيطرة الفكر الشيوعي ،الرأمسايل الدهلخي (.)1
صانع لصنهلاع احلياة ،يقول األستاذ حممد أمحد
إن التهلاجر املسلم ـ يف املفهوم اإلسضممي األصي ـ من صنهلاع احلياة ،هو ٌهل
الراشد يف هذا الصدد« :وعلى خطهلة الدهلعوة أن تتوب توبة نصوحة من إسرا ها القدمي يف تعليم الدُّعاة كراهة املال ، هل
وحب الوظائف احلكومية»(.)2
وطلب يف كتابه (صناعة احلياة) من الدُّعاة أن يهتموا جبمع املال وأن ينزل منهم نفر إىل السوق؛ ألن يف ذلك مردود
وذكر ابليهود الذين استحوذوا على األموال واألسواق ،وحنن ال جنيد إال شتمهم ،وسبهلهم ،ونَجر من دعوي ،هل
ٌّ
املارون ،واألقباط ،والبهرة ،والقاداينية ،واملبتدعة ،واألقليات؛ إذ كان منهم السبق إىل املال بتسهي الدوائر ُ
االستعمارية هلم ذلك يف رتة االستعمار جزماً ،ومبساعدة قوى خفية أخرى ،ولكنا مل حنسن غري سبهم ،وشتمهم.
إىل أن قال ...« :والبد أن هتتم احلركات اإلسضممية مبيدان الصناعة ،والزراعة ،والعقار ،واالسترياد ،والتصدير ،
احلرة ،اليت ال ينال أموالنا يها ظلم ،ويف العامل الكبري الفسيح متهلسع لضمستثمار»(.)3
وخباصة يف البضمد هل
اهتم ابلقوة االقتصادية ،وجعلها يف خدمة األمة ،والدهلعوة ،وسياسة الدولة وقادة الفكر ،ودعمإن نور الدين حممود هل هل
هبا مشروعه النهَوي.
اثنياً :سياسة اإلنفاق يف اخلدمات االجتماعية:
سعى نور الدين حممود إىل تقدمي أوسع اخلدمات االجتماعية لشعبه ،وجع مؤسسات الدهلولة أدوات صاحلة يف خدمة
اجلماهري ،سعت بدورها لتغطية شىت احلاجات :ابتداء من قَااي املسكن وامللبس واملأك ،ومروراً ابحلاجات الفكرية
والصحية والعمرانية واإلنتاجية ،وانتهاءً بقَااي الروح.
وقد أخذت هذه اخلدمات أساليب وأشكاالً خمتلفة ،هي حيناً أتيت عن طريق التوزيع املباشر للمال ،وحيناً عن طريق
مؤسسات ،ومرا ق كاملارستاانت ،(اإلعانة) على تلبية حاجة معينة ،أو الفكاك من األسر ،أو من خضمل إنشاء هل
الربط ،واجلسور ،والقناطر ،والقنوات ،واألسواق
واملضمجئ ،ودور األيتام ،واملدارس ،ودور احلديث ،واخلاانت ،و ُّ
،واحلمامات ،والطرق العامة ،واملخا ر ،واخلنادق ،واألسوار ،وقد جتيء عن طريق نظم (الوقف) اليت شهدت يف
قمة نَجها ،وتنظيمها ،وازدهارها ،أو عن طريق عدد من اإلجراءات التنظيمية اليت استهد ت عصر نور الدين هل
حتقيق الَمان االجتماعي لقطاع ما من قطاعات األمة(.)4
كان نور الدين يرى يف الدولة جهاز خدمة وإجناز ،ال أداة قسر واستنزاف( ،)5زمانه ـ كما يقول أبو شامة ـ« :مصروف
إىل مصاحل الناس والنظر يف أمور الرعية والشفقة عليهم»(.)6
248
1ـ اجملال الصحي (املستشفيات) :اهتم نور الدين حممود إبنشاء املستشفيات (البيمارستاانت) ،وجعلها تقدم اخلدمة
الطبية اجملانية للشعب ،وقد انتشرت يف أغلب مدن الدولة الزنكية.
وتعت رب البيمارستاانت من مفاخر احلَارة اإلسضممية اليت سبقت غريها من احلَارات ،وإذا كان اخلليفة األموي الوليد
بن عبد امللك ( 86ـ 96هـ 705/ـ 715م) هو هلأول من بىن البيمارستاانت الثابتة يف اإلسضمم ـ كما بيهلنا يف كتابنا
«الدولة األموية عوام االزدهار وتداعيات االهنيار» ـ إن امللك العادل نور الدين حممود وخلفاءه من البيت األيويب ،
هم أول من استكثر منها من امللوك والسضمطني ،واهتموا بدراسة الطب وممارسته اهتماماً ابلغاً وقايةً لبضمدهم من األوبئة
واألمراض ،وكانت حلب يف عهد امللك نور الدين حممود إحدى مراكز تدريس الطب يف بضمد الشام ،وكان ميدان
ذلك :البيمارستان النوري ،الذي كان يؤدي رسالة علمية هلا يف تدريس الطب ،إضا ة إىل قيامه بوظيفته األساسية يف
عضمج املرضى ومتابعتهم(.)1
إن امللك نور الدين حممود هو الذي بىن هذا البيمارستان داخ ابب أنطاكية أ ـ البيمارستان النوري :قال ابن الشحنة « :هل
()3 ()2
الغزي« :هو لصيق البهرامية من جنوبيها الشرقي ،بناه نور الدين حممود زنكي ابلقرب من ُسوق اهلواء» ،وقال ُّ
،وقد ذكر ابن الشحنة :أن امللك نور الدين حينما أراد بناء هذا البيمارستان؛ طلب من األطباء أن خيتاروا من حلب
أ َ بقعة» صحيحة اهلواء ،صاحلة إلقامة البيمارستان هبا ،وذحبوا خرو اً ،وقطهلعوه أربعة أرابع ،وعلهلقوها أبرابع
الربع الذي كان يف هذا املوقع ،بنوا البيمارستان( )4يه ،وهذه خطة املدينة ليضمً ،لما أصبحوا وجدوا أحسنها رائحة ُّ
حكيمة يف اختيار املكان الصاحل لبناء البيمارستان يف وقت تنعدم يه آالت قياس األبعاد ،ودرجات احلرارة ،واختبارات
األجواء(.)5
ويقع هذا البيمارستان حالياً يف منطقة اجللوم الكربى يف الزقاق املعروف حالياً بزقاق البهراميهلة( ،)6وقد وجد مكتوابً عند
ابب البيمارستان« :بسم هللا الرمحن الرحيم ،أمر بعمله املوىل امللك العادل اجملاهد املرابط األعز الكام ،صضمح الدنيا
والدين ،قسيم الدولة ،رضي اخلضم ة ،اتج امللوك والسضمطني ،انصر احلق ابلرباهني ،حميي العدل يف العاملني ،قامع
امللحدين ،قات الكفرة املشركني ،أبو القاسم حممود بن زنكي بن آق سنقر انصر أمري املؤمنني أدام هللا دولته»(.)7
وكان نور الدين قد أوقف على هذا البيمارستان قرية معراشا ،ونصف مزرعة وادي العس من جب مسعان ،ومخسة
أ دنة من مزرعة كفراناي ،وثلث مزرعة اخلالدي وطاحوهنا من املطخ ،وُمثن طاحون غريب ظاهر ابب اجلنان ،ومثانية
ُ
املعرة،
أ دنة من مزرعة أبو َم َدااي من عزاز ،ومخسة أ دنة مبزرعة احلمرية املطخ ،واثين عشر داانً من مزرعة الغرزل من هل
ُ
بسوق اهلواء ،منها ثضمثة متام والباقي شركة اجلامع الكبري ،وأحكار
وثلث قرية بيت راغ من الغربيات ،وعشرة دكاكني ُ
249
()1
تدره هذه
ظاهر ابب أنطاكية ،وابب الفرج ،وابب اجلنان ،وكثرة هذه األوقاف تدل على مقدار املال الو ري الذي ُّ
األوقاف لتأمني نفقات هذا البيمارستان الكبري( ، )2وقد أشار حممد كرد إىل وجود مكتبة متخصصة داخ البيمارستان
،تشم على كثري من الكتب الطبية اليت أوقفها امللك نور الدين حممود على هذا البيمارستان( ،)3ممهلا يؤكد أثر هذا
البيمارستان يف النشاط العلمي يف هذا العهد ،إىل جانب الوظيفة الطبيهلة اليت كان يقوم هبا(.)4
ب ـ البيمارستان النُّوري يف دمشق :ينسب هذا البيمارستان للملك نور الدين حممود زنكي ،قال عنه ابن األثري«:وبىن
البيمارستاانت يف البضمد ،ومن أعظمها البيمارستان الذي بناه بدمشق ،إنه عظيم كثري اخلرج ،بلغين :أنهله مل جيعله
وقفاً على الفقراء حسب ،ب على كا ة املسلمني من غين و قري»(.)5
أن ألص بنائه قصة عجيبة ،وهي« :إن نور الدين ـ رمحه هللا ـ وقع يف أسره بعض أكابر امللوك من وذكر أبو شامة :هل
الفرنج ،ـ خذهلم هللا تعاىل ـ قطع على نفسه يف دائه ماالً عظيماً ،شاور نور الدين أمراءَه ،أشاروا بعدم إطضمقه؛
ملا كان يه من الَهلرر على املسلمني ،ومال نور الدين إىل الفداء ،بعدما استخار هللا تعاىل ،أطلقه ليضمً لئضم يعلم
أصحابه ،وتسلهلم املال ،لما بلغ الفرجني مأمنه مات ،وبلغ نور الدين خربه ،أعلم أصحابه ،تعجبوا من لطف هللا
تعاىل ابملسلمني؛ حيث مجع احلسنيني ومها :الفداء ،وموت ذلك الهللعني ،بىن نور الدين ـ رمحه هللا ـ بذلك املال هذا
البيمارستان ،ومنع املال عن األمراء؛ ألنه مل يكن عن إرادهتم»(.)6
ويعلق أبو شامة على قول ابن األثري« :بلغين :أنه مل جيعله وقفاً على الفقراء وحسب ،ب على كا ة املسلمني من غين
و قري»( ، )7يقول« :وقد وقفت على كتاب وقفه ،لم أره مشعراً بذلك ،وإمنا هذا كضمم شاع على ألسنة العامة ،
يعز وجوده من األدوية الكبار
صرح أبن ما ُّ
ليقع ما قدهلره هللا تعاىل من مزامحة األغنياء للفقراء يه ،وهللا املستعان ،وإمنا هل
خص ذلك بذلك ،ضم ينبغي أن يتعدى إىل غريه ،ال سيهلما هل وغريها ال مينع منه من احتاج إليه من األغنياء والفقراء ،
صرح قب ذلك أبنه وقف على الفقراء واملنقطعني» ،وقال بعد ذلك« :من جاء إليه مستوصفاً ملرضه أعطي ، وقد هل
وروي :أن نور الدين ـ رمحه هللا ـ شرب من شراب البيمارستان ـ أي :شرب دواءً للعضمج ـ وذلك موا ق لقوله يف كتاب
الوقف« :من جاء إليه مستوصفاً ملرضه أعطي» .وهللا أعلم»(.)8
وهذا الشرط يؤكد اهلدف االجتماعي النبي من إنشاء هذا البيمارستان؛ إذ كان الفقراء موضع عناية كبرية لدى امللك
أن هذا البيمارستان ظ هل عامراً إىل سنة1317هـ1899/م ،وكان أطباؤه نور الدين( )9ـ رمحه هللا ـ ،وذكر كرد علي :هل
وصيادلته ال يقلون عن عشرين رجضمً ،حىت قامت بلدية دمشق إبنشاء مستشفى للغرابء يف اجلانب الغريب من التكية
250
السليمانية املطلهلة على املرج األخَر ،ومجعت له إعاانت ،وأخذ مبلغ من واردات البلدية ،وأوقاف املستشفى النوري
،واحتف يف 15ذي القعدة 1317هـ اب تتاح املستشفى اجلديد( ، )1أما بناية املستشفى النوري قد جعلت مدرسة
للبنات ،مث اختذت سنة 1356هـ1937/م داراً ملدرسة التجار الرمسية( ، )2وحالة البيمارستان النوري احلاضر جيدة ،
وقد ُرممت قبة املدخ حديثاً على الشك الذي كانت عليه ،ويقام يه حالياً :متحف الطب والعلوم عند العرب التابع
للمديرية العامة لآلاثر واملتاحف السورية(.)3
وقد اشتهر البيمارستان النوري يف دمشق يف عهد نور الدين حممود زنكي بتدريس الطب ،وقد أشار إىل ذلك ابن أيب
أصيبعة ،وهو يُرتجم لشيخه الطبيب أيب اجملد بن أيب احلكم ،املتوىف سنة 570هـ1174/م ،ذكر :هل
أن أاب اجملد كان
يدور على املرضى ابلبيمارستان الكبري النوري ،ويتفقد أحواهلم ،ويتدبر أمورهم ،وبني يديه املشر ون والقوام خلدمة
املرضى ،كان مجيع ما يكتبه ال يتأخر عنهم ،وكان مع راغه من ذلك ،وطلوعه على القلعة ،وتفقُّده املرضى من
أعيان الدولة أييت وجيلس يف اإليوان الكبري املوجود يف البيمارستان ،ومجيعه مفروش ،يحَر كتب االشتغال ،وكانت
مجاعة من األطباء ،واملشتغلني أيتون إليه ،ويقعدون بني يديه ،مث جيري مباحث طبية ،ويُقرأ التضمميذ ،وال يزال معهم
يف اشتغال ،ومباحثة ،ونظر يف الكتب مقدار ثضمث ساعات ،مث يركب إىل داره(.)4
وكان نور الدين قد أوقف على هذا البيمارستان مجلةً كبرية من الكتب الطبية ،وكانت يف اخلُرستانَْني( )5الهللذين يف صدر
اإليوان( .)6كما كان بعض مشايخ الطب ومتقدميهم ،جيع له جملساً عاماً لتدريس صناعة الطب للمشتغلني عليه ،
كما كان يفع الطبيب مهذب الدين بن النهلقاش( ،)7املتوىف سنة 574هـ1178/م( ، )8البيمارستان كان يف ذلك
العهد هو املكان الرئيسي ملهنة الطب ،والصيدلة من حيث التدريس ،والتطبيق ،كما شاركه يف ذلك جمالس العلم اليت
كان يعقدها املوصو ون بصناعة الطب ،وتدريسه لطضمهبم ،ومل تُشر املصادر إىل مدارس مستقلة بتدريس الطب يف
العهد الزنكي ،كما هو الشأن يف العهد األيويب بعد ذلك ،عندما أُنشئت أول مدرسة خاصة لتدريس الطب سنة
()9
اهتم نور الدين ابملساجد اهتماماً
621هـ1224/م ،وهي املدرسة قبلي اجلامع األموي بدمشق 2.ـ املساجد :هل
عظيماً ،قد كان هلا دور عظيم عرب التاريخ اإلسضممي ،هي أول ،وأهم أمكنة التعليم على اإلطضمق ،وقد كان
املسجد ابإلضا ة إىل كونه حم عبادة املسلمني املكان الذي جيتمعون يه مخس مرات يف اليوم ألداء الصلوات املفروضة
عليهم ،وظ هل املسجد قاعدة مهمة للرتبية والتعليم(.)10
251
أن نور الدين أمر إبحصاء ما يف حمضمت دمشق من مساجد هجرت ،أو َخربت ،أانف ويروي العماد األصفهاين :هل
وعني له أوقا اً( .)1وأصلح أحوال املسجد األموي ،وأضاف إىل أوقا ه على مئة مسجد ،أمر بعمارة ذلك كله ،هل
املعلومة األوقاف اليت ال تُعرف شروط واقفيها ومسهلاها مال املصاحل( ، )2وأما أشهر املساجد اليت بناها هو املسجد النوري
ابملوص ،الذي يذكره ابن األثري يف قوله « :جامعه يف املوص إليه النهاية يف احلسن ،واإلتقان»( ، )3وبىن جامعاً يف
محاة ،على هنر العاصي ،وصفه ابن األثري أبنه من أحسن اجلوامع ،وأنزهها( ، )4وأمر إبصضمح اجلوامع واملساجد يف
مجيع املدن اليت أتثرت ابلزالزل سنيت (552هـ 566 ،هـ)( ، )5وأصبحت املساجد يف عصره من أهم املراكز العلمية ،
ومن أمهها:
أ ـ يف حلب :كانت املساجد من املؤسسات العلمية اليت استخدمها نور الدين يف اإلحياء السين ،والوقوف أمام املذهب
الشرعية ،واللُّغوية ،واألدبيهلة ،
الشيعي ،ولقد شهدت املساجد يف حلب نشاطاً علمياً واسعاً يف جمال الدراسات هل
واستمرت تلك املساجد يف نشاطها العلمي رغم انتشار املدارس يف هذه املدينة ،حيث أشارت املصادر إىل النشاط
العلمي يف أول جامع أنشئ يف حلب ،وهو:
* املسجد الكبري :وقد ذُكر :أن موضع هذا اجلامع كان بستاانً للكنيسة العظمى يف أايم الرومان ،وهي منسوبة إىل
()6
هيضمنة ،أو قسطنطني امللك ابين القسطنطينية ،وملا تح املسلمون حلب ،صاحلوا أهلها على موضع املسجد اجلامع
أن هذا اجلامع من بناء اخلليفة األموي سليمان بن عبد امللك ( 96ـ 99هـ 705/ـ 715م) ،وقد ذكر ابن شدهلاد :هل
هو الذي قام ببناء هذا املسجد( ، )7ويف شعبان سنة 564هـ (1169م) يف أايم امللك العادل نور الدين حممود قام
اإلمساعيلية إبحراق هذا اجلامع ،كما احرتقت األسواق اجملاورة له ،قام امللك نور الدين ،وأمر ببنائه ،واجتهد يف
عمارته ،ونق إليه ُعمداً من بُعادين ،وقنسرين؛ ألن العمد اليت كانت يه قد تفطرت من النار ،وقام إبضا ة سوق
قبلي اجلامع إليه ،واتسع به املسجد ،وأوقف نور الدين عليه أوقا اً كثرية ،ويقع هذا اجلامع حالياً يف سويقة حامت ،
أشهر حارات حلب ،وأقدمها ،ويبعد اجلامع عن قلعة حلب الكربى مسا ة نصف مي تقريباً من جهة الغرب ،وبناؤه
احلايل يرجع للعهد اململوكي ،ابستثناء منارته اليت يرجع اترخيها إىل سنة 482هـ1089/م(.)8
وأما النشاط العلمي يف هذا اجلامع؛ قد أشارت املصادر إىل وجود حلق عديدة جيتمع حوهلا املشتغلون ابلعلم ،أشهرها:
خمصصةً للدراسات األدبية ،كما كانت حلق األدب واللغة والنحو تُعقد ابستمرار يف هذاالسارية اخلَراء اليت كانت هل
اجلامع إىل جانب قراءة القران الكرمي ،والفقه( .)9وقد أنشأ نور الدين يف هذا اجلامع زاويتان إحدامها لتدريس الفقه
252
علمي ملموس خضمل رتة على املذهب املالكي ،واألخرى لتدريس الفقه احلنبلي ،وقد كان هلاتني الزاويتني نشا ٌط ٌّ
البحث ،وخباصة يف عصر مؤسسها .وابإلضا ة إىل تدريس الفقه يف هذا اجلامع قد حظي علم احلديث ابهتمام امللك
نور الدين حممود ،توجيهاً منه لسياسة التعليم يف عصره حنو الدراسات الشرعية ،ليدعم هبا املذهب السين يف حلب ،
أنشأ زاويةً لتدريس علم احلديث يف هذا اجلامع ،وأوقف عليها األوقاف الكا ية للصرف عليها ،وعلى املشتغلني
هبا(.)1
العديد من املساجد يف دمشق بدور ٍ
هام يف نشاط احلياة العلمية ،ممهلا هلأدى إىل هذا التوسع ُ ب ـ املساجد يف دمشق :قام
الكبري يف إنشاء املدارس ،وازدايد نشاطها يف تلك الفرتة ،وكان من أبرز تلك املساجد ما يلي:
عد اجلامع األموي بدمشق من املساجد املتميزة حبسن عمارهتا ،وأراد اخلليفة األموي الوليد بن عبد* اجلامع األموي :يُ ُّ
امللك ( 86ـ 96هـ 705/ـ 715م) ،عندما عزم على بنائه أن جيع منه مفخرة من مفاخر دمشق ،أنفق عليه
الصنهلاع ،وأه الفن البارعني ،وبقي العم يه تسع سنني ،أنفق عليه أربعمئة صندوق األموال ،وجلب إليه املهرة من ُّ
،يف ك صندوق أربعة عشر ألف دينار ،وبذلك أصبح مفخرة من مفاخر العمارة اإلسضممية على مر العصور(.)2
ٍ
ابهتمام ابل ٍغ ،ورعاية كبرية من اخللفاء ،وامللوك ،واحلكام على مر العصور اإلسضممية ،وذلك وقد حظي هذا اجلامع
يما يتعلق مبتابعة تعمريه وحتسينه ،أو صيانته وزايدة الوقف عليه ،و يما يتعلق بتشجيع حلق التعليم اليت كانت تُقوم
يف جنباته ،والصرف عليها( ،)3قد ظ هل اجلامع ُمنذ بنائه مناراً للعلم واملعر ة ،ومدرسةً جامعة لعلماء دمشق وطضمهبا
،يه تُلقى الدروس العلمية من ك ٍن ،وإليه يفد طضمب العلم من ك صوب للنهله من َمعني الثقا ة ،ولضمجتماع
ابلعلماء الذين وقفوا أنفسهم يف هذا املسجد على نشر املعارف ،وتدريس العلوم ،واستمر هذا اجلامع يف العهد الزنكي
قبلة للعلماء والدارسني ،ومركزاً علمياً ابرزاً ،يه تعقد حلق التعليم اخلاصة والعامة ،ويف جنباته تنشر زوااي تدريس
صنفت ،وأُمليت العديد من املؤلفات املهمة مث اتريخ دمشق للحا ظ ابن عساكر القران ،وإمضمء احلديث ،و يه ُ
ُ
السبع وغريه ،كما تواتر يف املصادر ذكر الزاوية الغزالية ،وجملس ابن عساكر ،وزاوية املقادسة ،والزاوية الكوثرية ،و ُّ
علمي مميهلز خضمل هذا العهد. اجملاهدي ،وغريها من منابر العلم يف هذا املسجد واليت كان هلا نشاط ٌّ
وكان النشاط العلمي يف اجلامع األموي قد ترهلكز على تدريس القران الكرمي ،واحلديث النبوي الشريف ،والفقه ،كما
ُعقدت يف هذا اجلامع العديد من جمالس اإلمضمء والسماع ،اجتمع إليها عدد من العلماء ،وطضمب العلم ،حىت أصبح
هذا اجلامع من أبرز مواطن الثقا ة يف دمشق ،تناوب يه جلهلـةٌ من أعضمم العلماء الذين ال تزال أمساؤهم المعة يف ميادين
العلوم الشرعية ،وال تزال ااثرهم ومؤلفاهتم ابقية حىت اليوم ،ويصور أحد الشعراء املعاصرين للملك نور الدين حممود ـ
علي بن منصور السروجي املتوىف سنة 572هـ ( 1176م) ـ نشاط التعليم يف هذا اجلامع يف قصيدة وصف يها وهو ُّ
النشاط العلمي الذي شهدته دمشق يف العهد الزنكي ،يقول:
ت منهـ ـ ـ ـ ـ ـا املقاصي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُر
صورهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ُتح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْقُ ُ كأنـهل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـها جنهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة ُ
للخل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد دانيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة
253
ور
وجام ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌع جامـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌع للدي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن معم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ
ـ ـ ـي ك ـ ـ ـ ـ ـ قط ـ ـ ـ ـر هب ـ ـ ـ ـ ـا للعل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم مدرسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةٌ
والعل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم يذك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر ي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه والتفاسيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُر
يُتل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى القـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرآن بـ ـه ـي كـ ـ ـ ـ ـ انحي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة
ور
أوصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاف مولـ ـ ـ ـ ـ ًى بنش ـ ـ ـ ـ ـ ـر الع ـ ـ ـدل مشه ـ ـ ـ ـ ُ
تكام ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ احلس ـ ـ ـ ُن يـ ـ ـ ـ ـه مثـ ـ ـ ـ ـ َ م ـ ـ ـا َك ُمل ـ ـ ـت
()1
وروللخليفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن أنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـواره ُس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ امل ْلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك والديْـ ـ ـ ـ ـ ُن و ُّ
الدنْيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا أبمجعه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا
ُ
وكان من أشهر مرا ق التهلعليم يف هذا اجلامع:
الزاوية الغزالية :تقع يف اجلهة الشهلمالية الغربية من اجلامع األموي ،كانت تُنسب إىل الشيخ املقدسي املتوىف سنة * هل
490هـ (1097م) ،مث نسبت إىل الشيخ أيب حامد الغزايل املتوىف سنة 505هـ (1112م)( )2لكونه دخ دمشق،
الصو ية من ذلك لعدم معر تهم به ،عدل عنها ،وأقام هبذه الزاويةوقصد اخلانقاه السميساطية ليخلو إليها ،منعه ُّ
ابجلامع إىل أن ُعلم مكانه ،و ُعر ت منزلته ،حَر الصو ية أبسرهم إليه ،واعتذروا له ،وأدخلوه إىل اخلانقاه ،عر ت
الزاوية بعد الشيخ نص ٍر املقدسي منهم :تلميذه عامل الشام أبو
درس جمموعة من العلماء يف هذه هل ()3
تلك الزاوية به ،وقد هل
الفتح نصر هللا املصيصي املتوىف سنة 542هـ1147/م ،والشيخ أبو النصر حممد بن علي الطوسي املتوىف سنة
561هـ1166/م ( ، ) 4وخطيب دمشق أبو الربكات اخلَر بن شب احلارثي املعروف أبيب عبد املتوىف سنة
562هـ1167/م ،والصائن أبو احلسني هبة هللا بن احلسن بن عساكر املتوىف سنة 563هـ1168/م ،وأبو الفَائ
()5
درس هبا مرتني العضممة قطب الدين النيسابُوري املتوىف
عبد الرحيم بن ُرستم الزجناين املتوىف سنة 563هـ1168/م ،مثهل هل
سنة 578هـ1182/م(.)6
يس مجيع هؤالء العلماء األعضمم يف الفقه الشا عي يف هذه الزاوية ،يؤكد األثر الكبري والنشاط العلمي املتواص هل
إن تدر َ
يف هذا اجلامع ،رغم انتشار املدارس يف دمشق يف هذا العهد ،ورمبهلا أن هذا النشاط يفوق نشاط الكثري من مدارس
دمشق يف تلك الفرتة ،ال سيهلما وأن هذه الزاوية تناوب عليها ُجلةٌ من أقطاب الفقه الشا عي يف بضمد الشام يف ذلك
العصر(.)7
السبُع
ابلسبُع :قراءة سبع من القران ،مث أطلق على املكان الذي كان يقرأ السبع يه ،ويقع ُّالسبُع اجملاهدي :يقصد ُّ* ُّ
ـ على ما ذكر النعيمي ـ داخ اجلامع مبقصورة اخلََر داخ ابب الزايدة ،ويُنسب لألمري جماهد الدين أيب الفوارس بُزان
بن ايمني أحد مقدمي اجليش ابلشام يف دولة نور الدين حممود ،وهو موصوف ابلشجاعة والبسالة ،مواظب على
الصضمة والصدقات ،تُويف يف داره بدمشق يف صفر 555هـ 1160م ،ود ن ابملدرسة املشهورة ابمسه(.)8
254
* احللقة الكوثرية :تقع هذه احللقة جتاه شبهلاك الكضمهلسة ،حتت مئذنة العروس ابجلامع األموي( ،)1وقفها امللك نور الدين
حممود على صبيان صغار ،وأيتام يقرؤون يف ك يوم بعد صضمة العصر «سورة اإلخضمص» ثضمث مرات ،يهدون ثواهبا
السبُع الكبري( )2وقد ذكر النعيمي :أن عدداً من طضمب هذه احللقة هلب يتناولونه من ديوان ُّ
للواقف ،وهلم على ذلك ُمرت ٌ
يف عصر واقفها ،يص إىل ثضممثئة وأربعة ومخسني طالباً(.)3
ورد يف ترمجة املقرئ احلنبلي أبو العباس أمحد بن احلسني العراقي املتوىف سنة* حلقة إلقراء القران الكرمي حتت قبهلة النسرَ :
588هـ1192/م :أنه قدم دمشق سنة 540هـ1145/م ،نزل هبا ،وكان يقعد إلقراء القران يف اجلامع األموي حتت
قبة النسر(.)4
كر ايقوت احلموي :أن احلا ظ أاب القاسم ،علي بن احلسن بن عساكر أكم أربعمئة * جملس احلا ظ ابن عساكر :ذ َ
جملس ومثانية جمالس يف ٍن واحد( ،)5وكان اجلامع الكبري بدمشق ميدان هذه األمايل ،وخباصة قب إنشاء دار احلديث
جمالس السماع
ُ النوريهلة بدمشق ،واليت أملى كثرياً من جمالسه يها( ، )6كما كانت تُعقد ابملنارة الشرقية من هذا اجلامع
ماعات ،ونُشرت يف اجمللدة األوىل من الكتاب الس َ
ملصنهلفه الكبري «اتريخ دمشق» ،وقد حفظت لنا العديد من هذه هل
السماع(.)7
بد من ذكرها عند متام هل السامعني ،وهي األمور اليت ال هل
السماع ،وعدد هل ،و يها ذكر اتريخ هل
* جامع القلعة :هذا اجلامع ،أنشأه امللك العادل نور الدين حممود يف قلعة دمشق ،وأوقَف عليه األوقاف الكا ية
للصرف على املسجد ،وإمامه ،ومؤذنه( ، )8وقد ذكر ابن شداد ضمن مدارس احلنفيهلة ،مدرسةً جبامع القلعة وقفها
الشهيد نور الدين حممود ،كما ذكرها النعيمي ابسم« :املدرسة النوريهلة احلنفية الصغرى» جبامع قلعة دمشق(.)9
ج ـ يف املوص :جامع نور الدين حممود :كان من ضمن أعمال نور الدين أمر ببناء جامع يستوعب عدداً أكرب من
املصلني ،وكان قد هلوض أمر بناء هذا اجلامع للشيخ عمر املضم ،وقد ابشر الشيخ عمر بناء اجلامع سنة
()10
استمر العم يه حنو ثضمث سنوات.
566هـ1171/م ،و هل
وكان نور الدين قد أنفق يف بناء هذا اجلامع أمواالً كثرية ،وأوقف عليه ضيعة من ضياع املوص ،وكان قد قدم املوص
سنة 568هـ1173/م ،وصلى يف جامعه بعد أن رشه ابلبسط واحلصران ،وعني له مؤذنني وخطيباً ،ورتب ما
يلزمه( ، )11وقد بلغ هذا اجلامع درجة عالية من روعة البناء ،وحسن التخطيط ،قال عنه ابن األثري « :جامعه يف
255
أن من األ َ أن املوص إليه النهاية يف احلسن ،واإلتقان»( ، )1وحينما اكتم بناء هذا اجلامع ،رأى نور الدين :هل
ماد ٍ
جيمع يه بني الصضمة وطلب العلم ،أمر ببناء مدرسة بداخله ،ووا ق أ ْن وص املوص يف تلك السنة الفقيهُ ع ُ
أمر التدريس يف هذه املدرسة، فوض إليه َ عي ،تلميذ حممد بن حيىي ،تلميذ اإلمام الغزايل ،هل
الدين أبو بكر النوقاينُّ الشا ُّ
وكتب له منشوراً بذلك(.)2
اثر ملموسة
هذا على سبي املثال ال احلصر يف اهتمام نور الدين ابملساجد ،وتفعي دورها العلمي والرتبوي ،كان هلا آ ٌ
وتطوره يف العهد الزنكي ،رغم وجود املدارس وانتشارها بشك واسع يف ذلك العهد( .)3وتبقى يف االزدهار العلمي ُّ ،
ملحوظة مهمة ،وهي :أنهله ال يكاد خيلو مسج ٌد من هذه املساجد من مكت ٍبة ضخمة تَم عدداً كبرياً من الكتب يف
التخصصات ،وكانت تلك املكتبات أوقفت خصيصاً على املساجد لريجع إليها الطضمب ،والباحثون خمتلف العلوم ،و ُّ
،مث املكتبة الشرقية جلامع حلب ،وهي مكتبةٌ عامرة ،مسبلة للمطالعة ،وتشتم على الكثري من الكتب يف خمتلف
روع املعر ة(.)4
شعة ،اليت هنَت اهلامة يف اجملتمع اإلسضممي ،وهي مبثابة املعاهد العلمية امل هل
وهكذا كانت املساجد من املؤسسات هل
ُ
وخرجت العديد من العلماء األ ذاذ الذين أسهموا السابقة ،هلمبختلف العلوم يف هذا العهد ،أسوة ابلعهود اإلسضممية هل
لغين منهم على قري ، يف تقدم العلم وازدهاره ،وكانت تلك املساجد تتميهلز بتكا ؤ الفرص بني الطضمب ،دون متيي ٍز ٍ
زاد إقبال طلبة العلم عليها ،ومل يعد الفقر حائضمً أمام طلب العلم يها ،ب على العكس ،قد وجدت الكثري من
خصصت ملن يراتد هذه املساجد معلمني ،أو متعلمني ،حىت يتفرغوا لطلب العلم ،دون أن يشغلهم األوقاف اليت هل
طلب العيش عن ذلك.
ومقر اجتماعاهتم
3ـ املدارس :كانت املساجد املراكز األوىل للتعليم يف اإلسضمم ،إىل جانب كوهنا حم هل عبادة املسلمني ،هل
أماكن أخرى ،عر ت ابملدارس ،وقد انقش
،ولكن مع مرور الزمن ،انتق التعليم يف بعض مظاهره عن املساجد إىل َ
شليب هذا األمر ،وعلهلله أبموٍر عديدة من أمهها:
الرواد ،وكان يُسمع من
ـ ازدايد اإلقبال على الدراسات الشرعية ،وابلتايل ازدحام حلق التعليم يف املساجد ابلكثري من هل
ات الطضمب يناقشونه ويسألونَه ،حىت تضمقت األصوات صوت املدرس يُلقي درسه ،وأصو ُ ُ ك حلقة من هذه احللق
لق املتعددة ،أحدثت يف املسجد شيئاً من الَجيج ،مما يتناىف مع مكانة املسجد ،وهذا ما جع املتصاعدة من احل َ
احتمال املسجد للصضمة والتدريس معاً أمراً صعباً(.)5
الكثري من احلوار والنقاش ،ومث
أصبحت هناك مواد تستدعي دراستُها َْ الزمن؛ حيث تطور العلوم واملعارف مع مرور هل
ـ ُ
هذه املواد تتناىف مع ما جيب أن يكون عليه هلرواد املسجد من هدوء وسكينة(.)6
256
ـ انشغال مجاعة من املسلمني ابلتعليم يف حلق املساجد معظم وقتهم ،وحماولتهم االرتزاق عن طريق ممارسة حرف بسيطة
قاموا هبا إىل جانب التدريس ،ولكنهم شلوا يف احلصول على مستوى معيشي مناسب ،ممهلا أدى هبم إىل البحث عن
جهة أخرى( ،)1وعلىمكان مستق تتوا ر يه شروط التدريس من جهة ،ويَمن هلم جراايت وا رة تقوم حباجاهتم من ٍ
هذا األساس بُدأ بتأسيس هذا املكان الذي مح اسم «املدرسة» ،ومن مث بدأت طضمئع احلركة املدرسية الفعلية ابلظهور
والتطور مع الزمن(.)2
وتطورت املدارس ،وازداد انتشارها يف زمن السضمجقة ،على يدي الوزير نظام امللك السلجوقي ،وقد ذكر السبكي يف هل
ترمجته لنظام امللك ما نصه« :وبىن مدرسة ببغداد ،ومدرسةً ببلخ ،ومدرسة هبَراة ،ومدرسة أبصبهان ،ومدرسة ابلبصرة
()3
،ومدرسة مبرو ،ومدرسة ابم طربستان ،ومدرسة ابملوص ،ويقال :إن له يف ك مدينة ابلعراق وخراسان مدرسة»
حتدثت عن املدارس النظامية ابلتفصي يف كتايب« :دولة السضمجقة ،واملشروع اإلسضممي ملقاومة التغلغ الباطين ،
ُ وقد
والغزو الصلييب».
شاهدت حركة بناء املدارس انتشاراً واسعاً ،قد أخذ يف إنشائها ،واستدعى
ْ وملا توىل نور الدين حكم الدولة الزنكية ،
هلا كبار العلماء من خمتلف األقطار اإلسضممية ،وبىن هلم العديد من املدارس يف شىت أرجاء مملكته ،وكان يهدف من
ذلك دعم املذهب السين ،ومقاومة التشيُّع يف املنطقة(.)4
أ ـ املدارس يف حلب :بدأت احلركة العلمية تربز يف حلب منذ بداية حكم نور الدين حممود هلا يف عام 541هـ (1146م)
هلة أمام املذهب الشيعي ،الذي زاد ،والذي رهلكز نشاطه منذ استضممه احلكم على تنفيذ سياسته الرامية إىل الوقوف بشد ٍ
ُ
انتشاره آنذاك يف حلب ،حرص على تقويَه ،وإحضمل املذهب السين مكانه ،مما تطلهلب منه القيام جبهود علمية
السنية ،
ابرزة جتاه ذلك ،كان منها تشجيع العلم والعلماء عن طريق إنشاء العديد من املدارس على خمتلف املذاهب ُّ
وتوجيه التعليم وجهة سنية عن طريق تشجيع تدريس العلوم الشرعية ،وقد جلب عدداً من العلماء األكفاء لتويل املهمة
أتص الفكر الشيعي هبا ،ومتكن من حتويلها إىل مركز من مراكز ،وهبذه السياسة جنح نور الدين يف إنقاذ حلب من ُّ
السنهلة بعد أن كانت قاعد ًة للمذهب الشيعي يف املنطقة(.)5
وقد أمثرت تلك اجلهود يف دعم حركة التعليم يف حلب؛ حىت أصبحت من املراكز العلميهلة املشهورة اليت جلبت أنظار
حيث قامت يها هنَة علمية ابرزة ،بدت واضحة من خضمل إنشاء العديد العلماء من خمتلف األقطار اإلسضممية ُ ،
من دور التعليم على اختضمف ختصصاهتا ،وبذلك وصلت حلب إىل مصاف املراكز العلمية املشهورة يف العامل اإلسضممي
موقع متوسط بني تلك املراكز ،وإمكاانت مادية ،ب رمبهلا تفوقت عليها يف بعض اجملاالت ملا متيهلزت به حلب من ٍ
وبشريهلة تفوق بعض األحيان إمكاانت املراكز األخرى ،إضا ًة إىل استمرار النشاط العلمي هبا يف رتات الحقة للحكم
257
مستمرين طيلة عصر نور الدين ،هل الزنكي يف نفس القوة اليت بدأ هبا نظراً ملا القته تلك اإلمارة من دعم وتشجيع
السضمطني األيوبيني ،واملماليك من بعدهم( .)1وكان من أبرز املدارس اليت أنشئت يف حلب: و هل
ـ املدارس الشا عية:
الزجاجية :تعد هذه املدرسة من املدارس السابقة على احلكم الزنكي ،قد أنشأها حبلب بدر الدولة سليمان املدرسة هل
بن عبد اجلبار األرتقي سنة (517هـ1123/م) ،وهي أول مدرسة سنيهلة يها ،وحينما عزم بدر الدولة على بناء أول
مدرسة حبلب ،مل ميكنه احللبيون من ذلك ،لغلبة نزعة التشيُّع يهم ،كان كلهلما بىن يها شيئاً يف النهار؛ هدموه ليضمً
ليكف عنه الشيعة
يين ،وأوك إليه أمر اإلشراف على بنائها ،هل إىل أن أعياه ذلك ،أحَر الشريف زهرة بن علي احلُ َس هل
،ضمزم الشريف زهرة بناء تلك املدرسة حىت مت االنتهاء منها( ، )2وهذا يدل على مدى تغلغ هذا املذهب يف حلب
يف تلك الفرتة اليت سبقت احلكم الزنكي هلا( ، )3وملا ملك األاتبك عماد الدين زنكي بن قسيم الدولة آق سنقر حلب
يف سنة 522هـ1128/م؛ نق والده ،وكان مد وانً يف قرنْبيا( ،)4د نه يف مشايل هذه املدرسة ،وزاد عماد الدين يف
وقفها للصرف على ال ُقراء واملتفقهني املرتبني هبا( ، )5وكان أبرز املدرسني يف هذه املدرسة يف العهد الزنكي:
احلليب ،املتوىف سنة 561هـ1166/م()6؛ حيث ذكر ابن شداد :أنه ملا اكتم البناء شرف الدين أبو طالب عبد الرمحن ُّ
يف هذه املدرسة؛ هلوض ُمنشئها أمر التدريس والنظر هبا للشيخ شرف الدين أيب طالب املعروف اببن العجمي ،وقد
استمر شرف الدين مدرساً هبا إىل أن تُويف سنة 561هـ1166/م( ،)7هل
وتوىل التدريس هبا بعده حفيداه جمد الدين طاهر
بن نصر بن جهب املتوىف سنة (597هـ1201/م)( ، )8وأخوه زين الدين عبد امللك بن نصر بن جهب املتوىف سنة
590هـ1194/م( ،)9وكاان من العلماء املتميزين ،والفَضمء املربزين(.)10
* املدرسة النَرية (النورية) :أنشأها امللك العادل نور الدين حممود سنة 544هـ1149/م ،وكان الشيخ قطب الدين
جمد الدين
بعده ُيل التدريس يها َ
يل التدريس يف هذه املدرسة ،وكان قدم إليها من دمشق ،مث ُو َ النيسابوري أول من ُو َ
طاهر بن جهب املتوىف سنة (597هـ1201/م)( ، )11ومل يزل مدرساً هبا إىل أن نق إىل القدس الشريف ،درس به
إىل أن تويف(.)12
258
* املدرسة العصرونية :كان موقع هذه املدرسة يف األص داراً أليب احلسن علي بن أيب الثرهلاي ،وزير بين مرداس أصحاب
وحوهلا إىل مدرسة ،وجع يها مساكن للمدرسني حلب ،وملا جاء نور الدين حممود إىل حلب؛ اشرتى هذه الدار ،هل
هبا من الفقهاء ،وذلك سنة (550هـ1155/م) ،حسب ما جاء يف بعض املصادر التارخيية( ،)1وبعد أن أمتهل نور
الدين حممود بناء هذه املدرسة؛ استدعى هلا من نواحي سنجار اإلمام شرف الدين عبد هللا بن أيب عصرون ،املتوىف سنة
(585هـ1183/م)( ، )2و هلوض إليه مهنة التدريس هبا ،والنظر يف أوقا ها ،وهو أول من درس هبا ُعر ت به ،ونسبت
إليه( ، )3ومل يزل اإلمام شرف الدين بن أيب عصرون يُدرس يف هذه املدرسة ،وينظر أوقا ها إىل أن عاد إىل دمشق سنة
570هـ1174/م( ، )4وملا خرج إىل دمشق استخلف (نيابة) يها ولده جنم الدين أبو الربكات عبد الرمحن ،وظ هذا
حىت ويل قَاء محاة غادر حلب(.)5
حجة الدين حممد بن أيب حممد بن حممد بن ظفر الصقل ُّي املتوىف سنة وممهلن أقام يف هذه املدرسة اإلمام احلا ظ هل
565هـ1169/م( ، )6قد ذكر :أنهله ح هل حبلب ،وأقام ابملدرسة العصرونية ،وصنهلف كتباً حسنة ،لما وقعت الفتنة
السنهلة ،ـ وأظنُّها تنة سنة 552هـ1157/م( )7ـ ُهنبت كتبه يما ُهنب ،وخسر جزءاً من مؤلفاته القيمة ،بني الشيعة و ُّ
رح إىل محاة ،وأقام هبا حىت و اته(.)8
* املدرسة الشر ية :أنشأها الشيخ اإلمام شرف الدين أبو طالب عبد الرمحن احلليب ،املعروف اببن العجمي ،املتوىف
سنة (561هـ1166/م) ،وقد صرف شرف الدين على بنائها ما نيف على أربعمئة ألف درهم ،وأوقف عليها أوقا اً
جليلة(.)9
* املدرسة األسديهلة اجلُهلوانية :تُنسب هذه املدرسة لألمري أسد الدين شريكوه بن شاذي بن مروان ،املتوىف سنة
الرحبة حبلب للمذهب الشا عي(.)10 564هـ1168/م ،وقد أنشأها مبحلة هل
ُّعيبيهلة :كان موقع هذه املدرسة مسجداً ،يقال :إنهله هلأول ما اختطه املسلمون عند تح حلب من املساجد،
* املدرسة الش ْ
وعرف هذا املسجد أبيب احلسن الغَائري ،املتوىف سنة 313هـ لما ملك نور الدين حممود حلب ،وأنشأ هبا املدارس ُ
املسجد مدرسة ،وجعله مدرساً هبا ،عر ت به ،
َ صري له نور الدين هذا
،وص الشيخ ُشعيب األندلس إىل حلب ،هل
مكة سنة 596هـ1199/م(.)11 ومل يزل الشيخ شعيب ُمدرساً هبا إىل أن تويف بطَريق هل
259
املدارس احلنفية:
لما حاصر * املدرسة احلضمهلوية (احلَلَوية) :يذكر ابن شدهلاد :أن هذه املدرسة كانت كنيسة من بناء هيضمرين ُّأم قسطنطني ،هل
الصليبيون حلب سنة 518هـ1124/م ،قاموا بقطع األشجار ،ونبشوا قبور املوتى ،وأحرقوا من يها ،عمد القاضي
وصريها مساجد ،وكانت هذه املدرسة تُعرف قدمياً مبسجد أبو الفَ بن خشاب احلليب إىل أربع كنائس داخ حلب ،هل
لما ملك نور الدين حممود مدينة حلب ،جع هذا املسجد مدرسةً ،وأنشأ يه مساكن أيوي إليها الفقهاء السراجني ،هل
هل
،وإيواانً للدروس ،وكان مبدأ عمارهتا يف سنة 544هـ ، )1(1149/وقد جلب نور الدين إىل هذه املدرسة من أ امية
الرخام الشفهلاف الذي إذا وضع حتته ضوء أابن من وجهه ،ووضعه يها( ، )2وكانت هذه املدرسة من أعظم جمموعة من ُّ
املدارس صيتاً ،وأكثرها طلبة ،وأغزرها جامكية.
وكان من شروط الواقفة أن حيم يف ك شهر من رمَان من وقفها ثضمثة االف درهم للمدرس يصنع هبا للفقهاء طعاماً
،ويف ليلة النصف من شعبان من ك سنة حلوى معلومة ،ويف الشتاء مثن بياض ،لك قيه شيء معلوم ،ويف أايم
شرب الدواء من صلي الربيع واخلريف مثن ما حيتاج إليه من دواء و اكهة ،ويف املولد أيَاً احللوى ،ويف األعياد ما
يرتفقون به يها من دراهم معلومة ،ويف أايم الفاكهة ما يشرتون به بطيخاً ،ومشمشاً ،وتُواتً(.)3
* املدرسة املقدمية :ذكر ابن شدهلاد :أن الذي أنشأ املدرسة هو عز الدين عبد امللك املعدم ،وكانت إحدى الكنائس
ُ
صريها القاضي ابن اخلشاب مساجد يف سنة 518هـ1124( /م) ،وأضاف إليها داراً كانت إىل جانبها، األربع اليت هل
()4
درس يف هذه املدرسة الشيخ برهان الدين أبو العباس وأنه ابتُدئ يف عمارهتا سنة 545هـ (1150م) ،وكان هلأول من هل
لشريف اإلمام العامل ا تخار الدين عبد املطلب بعده السيد ا هل
أمحد بن علي األصويل ،مدرس املدرسة احلضموية ،مث َوليها َ
الفَ اهلامشي ،ومل يزل هبا إىل أن تويف يف مجادى االخرة سنة616هـ1219/م(.)5
* املدرسة املجديهلة اجلُهلوانيهلة :ذكر ابن الشحنة :أن هذه املدرسة تنسب إىل انئب حلب يف عصر نور الدين حممود ،وهو
َ
جمد الدين أبو بكر حممد بن الدهلاية ،املتوىف يف رمَان سنة 565هـ1170/م(.)6
اجلوانيهلة(.)7
الربانيهلة :ذكرها ابن الشحنة أيَاً ،ونسبها إىل جمد الدين بن الدهلاية مؤسس هل
املدرسة هل
أن منشئ هذه املدرسة هو حسام الدين حممد بن عمر بن الجني ابن (احلدادين) :ذكر ابن شداد :هل
املدرسة احلدهلادية هل
()8
أخت صضمح الدين ،وأهنا كانت من الكنائس األربع اليت ذكران خرب حتويلها إىل مساجد سنة 518هـ1124/م
260
ب ـ يف دمشق :كانت هلأول مدرسة أشارت املصادر إىل إنشائها يف دمشق سنة 491هـ1097/م ،املدرسة الصادريهلة
احلنفيهلة ،مث تضم ذلك إنشاء العديد من املدارس يف احلكم الزنكي لدمشق (549هـ 569هـ 1154/ـ 1174م) ،
عي مها السائدان على مدارس احلنفي ،والشا هل
هل وقد توزهلعت تلك املدارس على املذاهب السنية األربع ،ولكن املذهب
دمشق يف ذلك العهد ،يليهما املذهب احلنبلي ،وأخرياً املذهب املالكي( .)1املدرسة الصادرية :أنشئت هذه املدرسة
على يد األمري شجاع الدولة صادر بن عبد هللا سنة 491هـ1097/م ،داخ ابب الربيد مما يلي الباب الغريب للجامع
األموي ،وهي أول مدرسة أنشئت يف دمشق(.)2
* املدرسة الطهلرخانيهلة :قال ابن عساكر يف تَعداد مساجد دمشق« :مسجد ابملدرسة املعرو ة بدار طرخان ،وهي كانت
قدمياً للشريف أيب عبد هللا بن أيب احلسن ،وقفها سنقر املوصلي ،وجعلها مدرسة ألصحاب أيب حنيفة»(.)3
املدرسة املعينية :ذكرها ابن عساكر ضمن مساجد دمشق ،قال« :مسجد يف املدرسة املعينية يف قصر الثقفيني»(،)4
()5
ُ ُ
وقال ابن شداد حبصن الثقفيني« :أنشأها معني الدين أنر ،أاتبك األمري جمري الدين آبق ،اخر احلكام البوريني بدمشق
حممد بن أسعد الفقيه احلنفي املعروف اببن احلكيمالصفدي :أن معني الدين بىن هذه املدرسة للشيخ أيب املظفهلر هل
،وذكر هل
العراقي ُمدرس الصادرية ،والطرخانية املتوىف سنة 567هـ1171/م»(.)6
أن الذي بناها* املدرسة النورية الكربى :ذكر ك ٌّ من أيب شامة ،وابن شداد :أن هذه املدرسة تقع خبط اخلواصني( ،)7و هل
() 8
الرحالة األندلسي ابن جبري هذه املدرسة يف زايرته لدمشق سنة هو نور الدين حممود زنكي ،وقد شاهد هل
580هـ1184/م ،ووصفها أبهنا من أحسن مدارس الدنيا منظراً ،و هلأهنا قصر من القصور األنيقة( ،)9ويف هذه املدرسة
يقول الشاعر املشهور عرقلة الدمشقي ،املتوىف سنة 567هـ1171/م(:)10
وتبق ـ ـ ـ ـ ـ ـى ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي مح ـ ـ ـ ـ ـ ـى علـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم ونُس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك ومدرس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة ست ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدرس ُكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هل شـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيء
بن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـور الدي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن حممـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـود ب ـ ـ ـ ـن زنك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي تَـ ـ ـ ـ ـ ـ هلوع ذك ـ ـ ـ ـ ـ ُرهـ ـ ـا شرقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً وغرب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً
بغي ـ ـ ـ ـ ـ ـر كناي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة وبغيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر ش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك دق
يقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـول وقولـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌّق وصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ
()11
وهـ ـ ـ ـذي ـ ـي امل ـ ـدارس بيـ ـ ـ ـ ـت ملك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي دمشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـق ـ ـ ـي املدائ ـ ـ ـن بيـ ـ ـ ـ ـت ُملك ـ ـ ـ ـ ـي
261
وقد انلت هذه املدرسة مكانة علمية كبرية يف ذلك العهد ،حيث كانت يف مقدمة مدارس دمشق ،وخباصة يف عصر
منشئها امللك نور الدين حممود ،والسنوات اليت أعقبتها ،وحينما تذكر حركة التعليم يف بضمد الشام يف تلك العصور؛
يُشار إىل هذه املدرسة يف مقدمة دور التعليم ،وتتهلَح أمهيهلة هذه املدرسة يف األثر العلمي الذي قام به شيوخها،
خترجوا منها ،إضا ة إىل ما قامت به تلك املدرسة من ومعيدوها ،ويف األعداد الوا رة من الطضمب الذين هل ومدرسوها ُ
سياسي ،واجتماعي كبري يف ذلك العهد( ، )1ويف استقراء الكتابة املسجلة على احلجر الذي يكون العتبة العليا ٍ ٍ
نشاط
لباب املدرسة ،يتبني لنا حجم األوقا ف اليت أوقفها نور الدين على هذه املدرسة ،لإلنفاق على الطضمب واملدرسني
والعاملني ابملدرسة إنفاقاً سخياً متواصضمً ،ونص هذه الكتابة كاآليت« :بسم هللا الرمحن الرحيم ،أنشأ هذه املدرسة
املباركة العادل الزاهد نور الدين أبو القاسم حممود بن زنكي آق سنقر ضاعف هللا ثوابه ،ووقفها على أصحاب اإلمام
احلمام املستجد بسوق الفتح سراج األمة أيب حنيفة ،رضي هللا عنه ،ووقف عليها ،وعلى الفقهاء ،واملتفقهة هبا مجيع هل
ُ
ابلوراقة ظاهر ابب السضممة ،والدار اجملاورة ،والريع من بستان اجلوزة ابألرزة ،واإلحدى احلمامني املستجدين هل ،و هل
ص و ُشرط ، الساحة املضمصقة هلا من الشرق ،والستة حقول بدارهلاي على ما نُ هل والعشرين حانواتً خارج ابب اجلابية ،و هل
ََ َ ذ ٓ ۡ كتب الوقف رغبة يف اآلخرة ،وتقدهلمه بني يديه يوم احلسابَ ﴿ )2( :ف َم َۢن بَ ذد َ َُلۥ َب ۡع َد َم َ
اَ ِم َع ُهۥ فإِن َما إِث ُم ُهۥ لَع
ٱَّلل ََ ِ َ ٞ
ميع عل ِيم [ ﴾ ١٨١البقرة .]181:
ذٱَّل َ
ِين ُي َبدِلُونَ ُه ٓۥ إ ذن ذ َ
ِ
الست زمرد خاتون ُّ ،أم مشس امللوك ،أخت امللك ُدقاق الربانيهلة :كانت هذه املدرسة مسجداً أوقفته ُّ * املدرسة اخلاتونية هل
بن تُـتُش ،املتو اة سنة 557هـ1161/م( ،)3واتريخ وقفه سنة 526هـ1132/م ،على الشيخ أيب احلسن علي البلخي
الست ُزُمُّرد خاتون على قدر من الثقا ة والعلم ،واستنسخت أن هل املتوىف سنة 548هـ1153/م( ، )4وقد ذكر الذهيب :هل
تزوجها أاتبك زنكي ،بقيت معه تسع سنني ،لما الكتب ،وحفظت القران ،وبنت اخلاتونية بصنعاء دمشق ،مث هل
ود نت ابلبقيع(.)5حجت ،وجاورت املدينة ُ ، قُت هل
املدارس الشا عية:
أن هذه املدرسة من بناء أمني الدولة ربيع اإلسضمم ،وزاد عليه النعيمي :أهنا أول * املدرسة األمينية :ذكر ابن شدهلاد :هل
مدرسة بُنيت للشا عية بدمشق ،بناها أاتبك العساكر بدمشق ،وكان يقال له أمني الدولة ،وكان مبدأ التدريس هبا
السلمي الدمشقي الشا عي ، سنة 514هـ على ما ذكر الذهيب يف ترمجته جلمال اإلسضمم أيب احلسن علي بن املسلم ُّ
مدرس الغزاليهلة واألمينيهلة ،ومفيت الشام يف عصره ،املتوىف سنة 533هـ1138/م(.)6
262
* املدرسة اجملاهديهلة اجلُهلوانيهلة :وواقف هذه املدرسة :األمري الكبري جماهد الدين أبو الفوارس بُهلـزان بن ايمني بن علي بن
حممد اجلضميل ال ُكردي ،أحد مقدمي اجليش ابلشام يف دولة نور الدين حممود وقبله(.)1
* املدرسة اجملاهدية الربهلانيهلة :تنسب هذه املدرسة لألمري جماهد الدين بـُهلزان ،واقف املدرسة اجملاهدية اجلُهلوانيهلة ،وقد د ن
يها بعد و اته(.)2
* املدرسة العمادية :بناها نور الدين حممود ـ رمحه هللا تعاىل ـ برسم خطيب دمشق أيب الربكات بن عبد احلارثي ،وهو
درس هبا( ، )3ونسبت للعماد األصفهاين لتدريسه هبا بعده ،وقد ذكر العماد خرب تدريسه يف هذه املدرسة سنة أول من هل
علي يف
إيل املدرسة اليت حبَرة محام القصري ،وعول هل 567هـ1172/م قال« :ويف رجب من هذه السنة وض هل
التدريس هبا ،والنظر يف أوقا ها»(.)4
* املدرسة العصرونية :تنسب هذه املدرسة للفقيه العضمهلمة قاضي القَاة ،شرف الدين عبد هللا بن حممد بن أيب عصرون،
املتوىف سنة 585هـ1189/م( ، )5وقد بىن له مدارس عديدة حبلب ،ومحاة ،ومحص ،وبعلبك ،وغريها( ،)6وقد
وردت نصوص تفيـد :أن القـاضي شرف الدين بن أيب عصـرون قد بىن لنفسه بدمشق( .)7يقول عنه ابن خلكان :تويف
ليلة الثضماثء احلادي عشر من شهر رمَان سنة مخس ومثانني ومخسمئة مبدينة دمشق ،ود ن يف مدرسته اليت أنشأها
داخ البلد ،وهي معرو ة به(.)8
املدارس املشرتكة بني احلنفيهلة ،والشا عيهلة:
* املدرسة األسديهلة :تنسب هذه املدرسة لألمري أسد الدين شريكوه ،أحد أمراء نور الدين الكبار ،واملتوىف سنة
564هـ1168/م( ، )9وقد درس يف هذه املدرسة عدد من املدرسني على املذهبني :احلنفي ،والشا عي ،ذكر النعيمي
منهم خضمل العهد الزنكي الواعظ احلنفي املعروف اببن الشاعر نزي القاهرة املتوىف سنة 584هـ1188/م( ،)10وكان
درس ابألسدية(.)11قد قدم دمشق ،ومسع احلا ظ ابن عساكر وغريه ،حدهلث ،وأ اد ،و هل
املدارس احلنبلية:
* املدرسة احلنبليهلة الشريفيهلة :ذكر ابن شداد :هلأهنا من إنشاء سيف اإلسضمم ،أخي صضمح الدين يوسف بن أيوب(.)12
263
* املدرسة العمرية :مسهلاها ابن شداد مدرسة الشيخ أيب عمر ،ابجلب يف وسط دير احلنابلة ،وذكر أن ابنيها وواقفها هو
الشيخ أبو عمر الكبري( ، )1والد قاضي القَاة مشس الدين احلنبلي ،وكان من األولياء املشهورين ،وذكر ابن طولون:
أنه إىل الشهليخ أيب عمر ،وإىل ولده أمحد بن قدامة املتوىف سنة 558هـ1163/م يرجع سبب كثرة اتباع املذهب احلنبلي
بدمشق ،وبضمد الشام ،والد الشيخ أيب عمر ،كان قد هلر بدينه وعياله من انبلس بفلسطني عقب استيضمء الفرجنة
على القدس ،ووصلوا إىل دمشق يف سنة 551هـ1156/م ،ونزلوا يف سفح جب قاسيُون مبسجد أيب صاحل ،وهلذا
وعمرت تلك األراضي ، السفح منزالً كثري احلجرات ُعرف بدير احلنابلة ،مث تتابع البناء ُ
ابلصاحلني ،وأقاموا يف هل
عر وا هل
وصضمح( ، )2وكان آل املقدسي وتقى ، ٍ
ٍ الصاحلني؛ ملا ُعرف منهم من علم ً ، ودعيت ابلصاحلية نسبة إىل بين قدامة هل ُ
استقر نزهلم يف اجلب ،وكان الناس يزورون الشيخ أمحد بن حممد بن قدامة ،وكان السلطان عندما هاجروا إىل الشام هل
نور الدين الشهيد أييت إىل زايرته(.)3
املدارس املالكية:
أن املدرسة النورية ضمن مدارس املذهب املالكي بدمشق ،ولكنهله مل حيدد * املدرسة النوريهلة الصضمحية :ذكر اإلربلي :هل
موقعها( ، )4وأثبت ابن عساكر املدرسة النوريهلة يف حديثه عن مساجد دمشق ،قال« :مسجد يف املدرسة النوريهلة اليت
أوقفها نور الدين على املالكية يف حجر الذهب»(.)5
هذه هي أهم املدارس اليت كانت يف دولة نور الدين ،وهي على سبي املثال ال احلصر.
الرغم من انتشار حركة املدارس يف العهد الزنكي ،وشيوع لفظ «مدرسة» على املكان املخصص دور احلديث :على هل 4ـ ُ
للتعليم ،واإلقامة ،والرعاية؛ قد وجدت جبانبها دور تعليمية تؤدي األغراض نفسها اليت تنهض هبا املدارس ،وإ ْن مل
حتم امسها ،لفظ دار كان مراد اً يف املعىن والوظيفة لكلمة مدرسة ،وقد ورد كثرياً يف ذلك العهد ،نور الدين حممود
مسمى مدرسة ،ومن بعده تكاثرت أنشأ دار احلديث بدمشق ،وهي األوىل من نوعها يف اإلسضمم ،ومل يطلق عليها هل
خمصصة هلذا العلم.
دور احلديث ،كمدارس أحادية هل
وقد عين املسلمون بدراسة احلديث الشريف عنايةً كبرية ،ابعتباره املصدر الثاين من مصادر التشريع اإلسضممي بعد
القران الكرمي ،ومن مظاهر العناية به إنشاء تلك الدور اليت تتوىل مهمة تدريس أقوال النيب صلى هللا عليه وسلم وأ عاله
ابلرسول صلى هللا عليه وسلم من حيث ،وأحواله ،من حيث رواية احلديث ،والبحث عن كيفية اتصال األحاديث هل
أحوال رواهتا ،ضبطاً وعدالة ،ومن حيث كيفية السند اتصاالً وانقطاعاً ،كما تتناول دراسة املعىن املفهوم من ألفاظ
احلديث ،واملراد منها بناءً على قواعد اللغة العربية ،وضوابط الشريعة ،ومطابقتها ألحوال النيب صلى هللا عليه وسلم(.)6
264
وكان االجتاه إىل العناية ابحلديث الشريف دراسةً ،وتدريساً ،وتشييد ُدوٍر خاصة به من أبرز مسات التهلعليم يف العهد
الزنكي؛ إذ ابدر امللك نور الدين حممود إبنشاء أول دار للحديث يف اإلسضمم ،كما ذكران ،وهي دار احلديث النُّورية
وهو احلا ظ الكبري أبو القاسم بدمشق ،واليت أوىل مهمة التدريس يها ،واإلشراف عليها ،إىل أبرز أعضمم عصره ُ ،
ابن عساكر املتوىف سنة 571هـ1176/م( ،)1مث تضم ذلك إنشاء العديد من دور احلديث يف العامل اإلسضممي ،وتُ ُّ
عد
مبادرة نور الدين تلك إدراكاً منه للظروف احمليطة ابملنطقة يف تلك املدة ،سواء ما خيتص منها ابملذهب الشيعي ،
وحتم عبء تقويَه يف املنطقة ،ونشر املذهب السين( ،)2أو ما يتمثهل ابخلطر الصلييب احمليط ابملنطقة؛ إذ كانت مهمة
تلك املعاهد أن تقوم بدورها إىل جانب دور التعليم األخرى يف هتيئة الناس ،وإعدادهم للجهاد ضد العدوان ،كثرت
التخصص ،وكانت دور احلديث ُّ الدراسات والتأليف حول َائ اجلهاد ،واحلث عليه ،وزاد االهتمام بدراسة هذا
مقراً لذلك النشاط(.)3
وليس هناك اختضمف يف نظم التهلعليم بني دور احلديث ،واملدارس األخرى ،سوى يف كون املناهج يف األوىل تُركز على
التخصص الفقهي على مدارس العصر ،وهذه خطوة متيزت هبا حركة ُّ الدراسات املتصلة بعلوم احلديث ،بينما يغلب
تتم يف حلَقالتعليم يف العهد الزنكي لعدم وجود مث هذا النوع من املدارس قب ذلك؛ إذ إن دراسات احلديث كانت ُّ
إن علم احلديث مل تقتصر دراسته يف املساجد ،كما كانت مادة إضا ية يف العديد من املدارس الفقهية ،ومع ذلك هل
العهد الزنكي على تلك الدور حسب ،ب كان يَاف ملناهج الدراسة يف كثري من املدارس إضا ة إىل ختصيص بعض
الزوااي امللحقة ابملساجد لتدريسه(.)4
ولكن تلك
أ ـ يف حلب :وردت يف بعض املصادر إشارات إىل وجود العديد من دور احلديث يف حلب يف هذا العهد ،هل
املصادر مل تورد أية تفصيضمت عن نشأة تلك الدور ،أو نشاطاهتا ،أو مواقعها ،واكتفت بنسبتها إىل مؤسسيها ،ومن
أبرز تلك الدور:
ـ دار للحديث تُنسب للملك العادل نور الدين حممود( ، )5وهي غري الزاوية اليت أوقفها نور الدين داخ جامع حلب
لتدريس هذا العلم ،واليت سبق احلديث عنها(.)6
ـ دار أخرى أنشأها انئب نور الدين يف حلب جمد الدين ابن الداية ،املتوىف سنة 565هـ1170/م(.)7
ـ دار أنشأهتا ُّأم امللك الصاحل إمساعي بن نور الدين حممود ،يف اخلانقاة اليت بنتها(.)8
265
ب ـ يف دمشق :سبقت اإلشارة إىل أن االجتاه إىل العناية ابحلديث الشريف دراسةً وتدريساً ،وإنشاء ُدور خاصة به
كان من أبرز مسات التهلعليم يف هذا العهد؛ إذ ابدر امللك نور الدين حممود إبنشاء هلأول دار للحديث يف اإلسضمم ،وهي
دار احلديث النورية بدمشق ،واليت أوك مهمة التدريس يها واإلشراف عليها ،إىل أبرز أعضمم عصره يف هذا اجملال ،
وهو احلا ظ الكبري ،أبو القاسم بن عساكر املتوىف سنة 571هـ1176/م ،مث تضم ذلك إنشاء العديد من دور احلديث
يف العامل اإلسضممي ،ومل يكن يف دمشق يف هذا العهد سوى هذه الدار(.)1
ـ دار احلديث النورية( :)2أمجعت كثري من املصادر على أن هذه الدار من إنشاء امللك العادل نور الدين حممود زنكي،
وأهنا أول دار من نوعها يف اإلسضمم( ،)3قال ابن األثري« :وبىن بدمشق أيَاً داراً للحديث ،ووقف عليها وعلى من هبا
من املشتغلني بعلم احلديث وقو اً كثرية ،وهو هلأول من بىن داراً للحديث يما علمناه( ، )4وكان نور الدين قد عهد أبمر
التدريس ،والنظر يف هذه الدار للحا ظ الكبري أيب القاسم علي بن احلسن بن عساكر الدمشقي ،املتوىف سنة
السنة /يف ثضمثة أجزاء(،)6 ()5
571هـ1176/م ،وكان من بني أتليف احلا ظ كتاب مسهلاه/:تقوية املنة على إنشاء دار ُّ
ُ
السماعات القدمية اليت قُرئت هبا ،وقد زاد من مكانتها :هل
أن الذين تولوا السنهلة يف هل
حيث كانت هذه الدار تُسمى دار ُّ
التدريس يها يف أول أمرها مها احلا ظ الكبري ،وابنه القاسم هباء الدين املتوىف سنة 600هـ1203/م من بعده ،مث
تناوب يها ُجلهلةٌ من علماء احلديث البارزين ،وكانت هذه الدار مركز إشعاع للدراسات احلديثية يف بضمد الشام خضمل
القرنني السادس ،والسابع اهلجريني (الثاين عشر ،والثالث عشر امليضمديني)(.)7
الربط من أهم مراكز الصو ية يف العهد الزنكي ،حيث ُميارس يها التصوف سلوكاً الربط :تُعد اخلوانق ،و ُّ
5ـ اخلوانق ،و ُّ
بوظائف دينية واجتماعية أخرى ،ولكنهلها مع ذلك كانت دور تعليم شاركت يف تعليم العلوم َ ،ابإلضا ة إىل قيامها
التصوف( .)8وكان التصوف يف تلك املدهلة اجتاهاً له نفوذه وسيطرته ،الشرعية ،ابإلضا ة إىل مهمتها األساسية وهي ُّ
وتقديره على املستوى الرمسي ،والشعيب ،كان الصو ية حم هل تقدير احلكام ،واحرتامهم.
وقد برز نور الدين يف هذا اجملال ،وحظي الصو ية لديه مبكانة عالية ،أكرمهم ،وأدانهم من جملسه ،وبىن هلم اخلوانق،
الربط يف شىت أحناء مملكته( ، )9وكانت مراكز الصو ية تلك ،مكاانً للعبادة والدرس ،قدهلمت مع دور التعليم األخرى و ُّ
خدمات جليلة حلركة التعليم آنذاك(.)10
266
وقد عرف العهد الزنكي اخلوانق ضمن األماكن اليت كان هلا أثر يف التعليم ،وإن كان هذا األثر أق من أثر املساجد،
نب أساساً ألغراض التعليم ،والقيام بوظائفه ،هل
وإمنا بنيت بقصد إيواء الصو ية الذين كانوا واملدارس ،ذلك هل
ألهنا مل تُ َ
خيلون ألنفسهم لعبادة هللا تعاىل ،خصصت هلم تلك الدور إلقامتهم ،حيث كانت تُو ر هلم كا ة أسباب الراحة
والعيش ،حىت يتفرغوا للعبادة وطلب العلم ،بعيداً عن مشاغ احلياة ،وكان منشئوها يوقفون بعض األوقاف للصرف
عليها ،وعلى من ينزل هبا من الصو ية.
أ ـ يف حلب :أشارت املصادر إىل العديد من اخلوانق اليت كانت قائمة حبلب يف العهد الزنكي ،ومن أشهرها:
أن منشئها هو مشس اخلواص لؤلؤ اخلادم عتيق امللك ،رضوان بن اتج الدولة تُـتُش ـ خانقاه البضمط :ذكر ابن شداد :هل
السلجوقي ،وهي أول خانقاه بنيت حبلب ،وذلك سنة 509هـ1115/م(.)1
ـ خانقاه ابن العجمي :تنسب هذه اخلانقاه لشمس الدين أيب بكر بن العجمي ،أخي الشيخ شرف الدين أيب طالب
عبد الرمحن ،املتوىف سنة 561هـ1166/م ،وكان موقع هذه اخلانقاه داراً يسكنها مشس الدين بن العجمي ،لما
يدر عليها(.)2
تُويف سنة 531هـ1136/م ،أوقفها أخوه شرف الدين أبو طالب على الصو ية ،وجع هلا وقفاً ُّ
ـ خانقاه القدمي :أنشأها نور الدين حممود ،هل
وتوىل النظر على عمارهتا مشس الدين أبو القاسم بن الطرسوسي(.)3
ذكرها.
ـ خانقاه ابن املقدهلم :تُنسب هذه اخلانقاه لعز الدين عبد امللك املقدم ،منشئ املدرسة املقدميهلة احلنفيهلة املتقدم ُ
ـ خانقاه النفر :وهي حتت القلعة أنشأها امللك العادل نور الدين حممود بن عماد زنكي ،ومسيت هبذا االسم ألنه كان
يف مكاهنا قصر من بناء شجاع الدين بن اتك ،وكان مبدأ عمارته هلا سنة ثضمث ومخسني ومخسمئة(.)4
ـ خانقاه جمد الدين بن الداية :تُنسب هذه اخلانقاه لنائب حلب يف عصر نور الدين حممود ،وأخيه من الرضاعة جمد
الدين أيب بكر حممد بن الداية ،املتوىف سنة 565هـ1170/م(.)5
خمصصة إلقامة النساء ،يتعبدن ـ خوانق النساء :إىل جانب اخلوانق اخلاصة ابلرجال أنشئت يف العهد الزنكي خوانق هل
يها ،ويتلقني دروساً يف الوعظ الديين ،ومن أشهر هذه اخلانقاهات يف حلب خانقاه نور الدين ،حيث ذكر ابن
شداد :أن امللك نور الدين أنشأ خانقاه للنساء سنة 553هـ1158/م ـ على األرجح()6ـ ولكنه مل ُحيدد
أي أثر يف الوقت احلاضر.
يبق هلا ُّ
موقع هذه اخلانقاه ،كما أنهله مل َ
أهم اخلوانق اليت كانت قائمة يف حلب يف العهد الزنكي ،وقد كان هلذه املؤسسات مشاركة هلعالة يف إثراء احلياة هذه ُّ
العلمية يف ذلك العهد ،نظراً ملا كان يُعقد يها من دروس ،وحلق ،ووعظ إىل جانب قيامها ابلوظيفة األساسية اليت
أُنشئت من أجلها ،وهي إيواء املتصو ة لضمنقطاع يها للعبادة ،وجماهدة النهلفس ،والبعد عن الدنيا(.)7
267
الربط ،وكان هلا مشاركة عالة يف إثراء
ب ـ يف دمشق :وجدت يف دمشق خضمل العهد الزنكي العديد من اخلوانق ،و ُّ
التصوف هبا كنشاط أساسي أنشئت تلك احلياة العلمية يف هذا العهد ،قد كانت ميداانً للتعليم إىل جانب ممارسة ُّ
الدور من أجله ،وكان أبرز هذه املنشئات ما أييت:
السلمي احلُ ْبيشي املتوىف
للسميساطي أيب القاسم علي بن حممد بن حيىي ُّ السميساطية :تُنسب هذه اخلانقاه ُّ ـ اخلانقاه ُّ
سنة 453هـ1061/م ،كان من أكابر الرؤساء يف دمشق( ،)1وكان أول من توىل مشيخة هذه اخلانقاه يف العهد الزنكي
الوزير أبو املظفر الفلكي ،قد قدم دمشق زمن امللك نور الدين حممود ،ارتبطه عنده ،وأنزله هذه اخلانقاه ،وجعله
شيخها ،وساهم أبو املظفر يف زايدة عمارهتا(.)2
ـ خانقاه القصر :ذكر ك من ابن شداد واإلربلي أن هذه اخلانقاه تُنسب لشمس الدين امللوك ،وذكر احلُسيين( :)3أنه
السابق هلما؛ قد نسب هذه اخلانقاه للملك إمساعي بن اتج امللوك بُوري املتوىف سنة 529هـ1135/م ،أما ابن جبري هل
نور الدين حممود حيث شاهدها يف زايرته لدمشق سنة 580هـ1184/م ،ووصفها بقوله« :ومن أعظم ما شاهدانه
هلم (يعين الصو ية) موضع يعرف ابلقصر ،وهو صرح عظيم مستق يف اهلواء ،يف أعضمه مساكن مل ير أمج إشرا اً منها
،وهو من البلد بنصف املي ،له بستان عظيم يتص به ،وكانت متنزهاً ألحد امللوك األتراك ،يقال :إنه كان يف
إحدى الليايل على راحة ،اجتاز به قوم من الصو ية ،هريق عليهم من النبيذ الذي كانوا يشربونه يف ذلك القصر ،
الصو ية مؤيداً هلم ،طال العجب من ر عوا األمر لنور الدين ،لم يزل حىت استوعبه من صاحبه ،ووقفه برسم ُّ
السماحة مبثله ،وبقي أثر الفَ يه خملهلداً لنور الدين ،رمحه هللا»(.)4 هل
نسب هذه اخلانقاه لألمري أسد الدين شريكوه ،املتوىف سنة 564هـ1168/م( ،)5منشأ املدرسة ـ اخلانقاه األسدية :تُ ُ
األسدية املشرتكة بني احلنفية ،والشا عية ،ابلشرف القبلي ظاهر دمشق( ،)6وكانت هذه اخلانقاه داخ ابب اجلابية ،
بدرب اهلامشيني املعروف بباب الوزير(.)7
الطاحون :تُنسب هذه اخلانقاه للملك العادل نور الدين حممود بن زنكي ،وهي خارج البلد ابلوادي(.)8 ـ خانقاه ُ
السبكي :أن
ُّ ـ الرابط البياين :جاء ذكر هذا الرابط عند ابن شداد «رابط أيب البيان بناه حبارة درب احلجارة»( .)9وذكر
هذا الرابط ال ينسب إليه ،إمنا أنشئ بعد موته أبربع سنني ،وقد اجتمع أصحابه على بنائه ،وأعاهنم امللك نور الدين
،أوقف عليه مكاانً حبُرين(.)10
268
ج ـ يف املوص :كان يف املوص يف العهد الزنكي ُربُط عديدة ،شاركت يف نشـاط احليـاة العلميـة يف ذلك العهد ،حيث
التصوف اليت أنشئت من أجلها ،ومن كـانت مراكز للـتعليم ،والـتثقيف ،والتأليف ،إىل جانب قيامها بوظائف ُّ
املضمحظ هنا :أنه مل يفرق بني اخلانقاه والرابط يف املوص كما حص يف بعض مناطق الشام يف ذلك العهد( ،)1وكان
الربط اليت كانت قائمة يف املوص :من أشهر ُّ
ـ رابط امللك سيف الدين غازي :أنشأه ابملوص امللك سيف الدين غازي بن عماد الدين ( 541ـ 1146/544ـ
، )1149وهو الرابط اجملاور لباب املشرعة ،وقد أوقف عليه األوقاف الكثرية لتفي ابحتياجاته(.)2
ـ رابط الوزير مجال الدين األصفهاين :يُنسب هذا الرَابط للوزير املوصلي ،مجال الدين حممد بن علي األصفهاين ،
املعروف ابجلواد ،املتوىف سنة 559هـ1164/م( ، )3وقد ذكر عنه ابن األثري :أنهله :بىن الربط ابملوص ،وسنجار ،
ونصيبني ،وغريها(.)4
الربط
الربُط على امللوك الزنكيني ،ب تبعهم يف ذلك أمراؤهم ووزراؤهم أنشؤوا الكثري من ُّ ـ الرابط الزيين :مل يقتصر بناء ُّ
يف املوص وغريها ،كما أنشؤوا ُدور التعليم األخرى ،وكان ممن أنشأ رابطاً ابملوص :األمري زين الدين علي بن بُكتكني
،املتوىف سنة 563هـ1167/م ،منشئ مسجد زين الدين (املدرسة الكمالية) ،واملدرسة الزينية ،قد ذكر ابن األثري:
وربُطاً ابملوص وغريها(.)5
أنه بىن مدارس ُ ،
ـ رابط ابن الشهرزوري :أشار إليه ابن خلكان يف ترمجته للشيخ عز الدين أيب القاسم بن عقي بن نصر اإلربلي ،املتوىف
وقرر له صاحب املوص راتباً ساكن ظاهر املوص يف رابط ابن الشهرزوري ،هل
سنة 619هـ1222/م ،حيث ذكر :أنهله ٌ
،ومل يزل هناك حىت تويف(.)6
الربط يف عهد نور الدين بدور كبري يف اجلهاد ،ومجع املعلومات ،وحتريك العامة ،والدعاء وقد قامت اخلوانق ،و ُّ
اجلهال أمور دينهم ،وكانت الدولة النورية تشرف على ذلك،للجيوش اإلسضممية ،و مقاومة التشيُّع الرا َي ،وتعليم هل
وتوظف هذه الطاقات خلدمة مشروع النهوض.
وكان للخانقاه عادة شيخ يتوىل نظارهتا ،واإلشراف عليها ،يُسمى شيخ الشيوخ ،وقد اشرتط الفقهاء يمن يتوىل هذه
املناصب شروطاً عدة ،وآداابً تؤهله لذلك ،منها ما ذكره السبكي من أنه ال بد أن يتمتع بقسط وا ر من العلم واحللم
يتحم األذى ،والَهليم على نفسه ،وأن يكون َح َسن التلفُّظ ،حريصاً على الصضمة والذكر ،وتضموة القرآن ،وأن هل
الكرمي ،وأن حيرص على تعليم مريديه العلم النا ع ،متدرجاً هبم ابألهون األهون ،مبتعداً هبم عن األلفاظ اليت يصعب
عليهم معر تها(.)7
269
وكان امللك نور الدين قد عهد هبذا املنصب للفقيه عماد الدين عمر بن علي بن محويه ،املتوىف سنة
()1
فوض إليه سنة 577هـ1181/م ،وكان قد قدم دمشق يف أايمه ،ومل يلبث أن انس منه نور الدين علماً زاهداً ،هل
الربُط يف ك ٍ من دمشق ،ومحص ،ومحاة ،وحلب ،وبعلبك ُ ،
()2
ومنذ أن توىل 563هـ1167/م مشيخة اخلوانق و ُّ
الشيخ عمر بن محويه هذا املنصب ،أُطلق عليه لقب شيخ الشيوخ ،وهو اللقب الذي عرف به شيخ الصو ية ،أو
انظر اخلوانق ُمنذ ذلك الوقت(.)3
6ـ ال َكتَاتيب :ال َكتَاتْيب ،أو ال ُكتهلاب :يطلق على احمل الذي يتعلم يه الصبيان ،وكانت تقوم مقام املدارس االبتدائية
يف وقتنا احلاضر ،وقد هلاختذ املعلمون يف العهد الزنكي زوااي ابملساجد ،وغر اً مضمصقة هلا لتعليم األطفال القران الكرمي،
السبعي ،وكضممها يف اجلامعومبادئ الدين اإلسضممي ،يف شىت املدن الزنكية ،من ذلك احللقة الكوثرية ،واجملتمع ُّ
األموي(.)4
أن الكثري من معلميهم كانوا يعتكفون يف املساجد، أن السبب يف اختاذ املساجد أمكنة لتعليم الصبيان يعود إىل هلويبدو :هل
وكانوا حيرت ون هذه املهنة ليَمنوا منها كسب عيشهم ،وهم مقيمون على عبادهتم يف املساجد ،لزم حَور الصبية
إليهم.
وجبانب هذه الكتاتيب كتاتيب أخرى قامت مستقلةً عنها ،وقد أُنشئت لتعليم األيتام الذين قدوا عائلهم ،أو األطفال
غري القادرين من أبناء املسلمني من الفقراء ،الذين مل يكن يف وسع ذويهم إرساهلم إىل الكتاتيب لتعليمهم أبجر ،أو
اهتم هلرواد التعليم يف العهد الزنكي إبنشاء هذا النوع من الكتاتيب ،وأكثرواإحَار مؤدبني يعلموهنم يف بيوهتم ،وقد هل
منها يف بضمدهم ،وأوقفوا عليها األوقاف الكثرية ،للصرف عليها رغبة يف األجر ،وحرصاً على نشر العلم ،وقد أطلق
خص ابن عساكر هذا النوع من الكتاتيب الس ْبي ،وقد هلعلى هذا النوع من الكتاتيب (مكاتب األيْتام) ،أو مكاتب هل
ونصب مجاعة من املعلمني لتعليم يتامى املسلمني ، يف حديثه عن أعمال امللك نور الدين حممود اخلريية ،قال « :هل
وأجرى األرزاق على معلميهم ،وعليهم ،وبقدر ما يكفيهم»( ،)5كما حتدهلث ابن جبري عن أحد هذه الكتاتيب يف
دمشق ،ووصفه ،بقوله« :ولأليتام من الصبيان حمَرة كبرية ابلبلد ،هلا وقف كبري ،أيخذ منه املعلم هلم ما يقوم به ،
وينفق منه على الصبيان ما يقوم هبم وبكسوهتم»(.)6
كما كان كثري من احملسنني يف العهد الزنكي يبنون املدارس ،وجبانبها مكاتب األيتام ،حىت إذا أمتهل الصيب تعليمه يف
املستمرة ،أو النفقة الواسعة إىل أن يُنهي دراسته،
هل ال ُكتهلاب؛ انتق إىل املدرسة ـ إن رغب يف مواصلة دراسته ـ وله اجلراية
ومن ذلك ما قام به األمري جماهد الدين قَ ْاميَاز ،وايل القلعة يف املوص ،املتوىف سنة (595هـ1199/م) إذ أنشأ مكتباً
270
لأليتام ابملوص جبانب مدرسته اليت بناها على دجلة( ، )1وقد شاع ذلك العم اخلريي يف كثري من املدن الزنكية؛ حيث
وجد العشرات من الكتاتيب تُنشأ مضمصقة للمدارس ،أو قريبة منها( ،)2وقد قامت تلك الكتاتيب أبثر ابرز يف تنشئة
األطفال ،وتربيتهم تربية إسضمميهلة صحيحة ،مع تعليمهم مبادئ القراءة والكتابة ،وجانباً من العلوم اإلسضممية ،املتفقة
ُ
أن لألطفال نصيباً من املشروع اإلسضممي مع قدراهتم ،لتكتم تنشئة الصبية على أسس إسضممية متينة( .)3وهكذا نرى :هل
السري على هنج اإلحياء اإلسضممي النهَوي ،الذي قاده نور الدين للتصدي لألخطار الباطنية ،والغزو اخلارجي ،و هل
السين الكبري.
تعد املكتبات القاعدة اليت تستند عليها خمتلف اجلهود الثقا ية يف أي عصر من العصور ،أو جمتمع من 7ـ املكتباتُّ :
املعيار الذي ُحيكم به على تقدُّم هذا اجملتمع ،أو ذلك العصر.
اجملتمعات لدرجة أنه ميكن اختاذها يف كثري من األحيان َ
شىت العصور اإلسضممية ،وهيئات ينفق عليها امللوك ،واألمراء ،واألثرايء ، وقد كانت املكتبات مبثابة دور التعليم يف هل
اخ
نس ٍ
أي وجود ،وكانت الكتب تُنسخ على أيدي هل والعلماء لنشر العلم بني الناس ،خصوصاً يف وقت مل يكن للطباعة ُّ
متخصصني يف هذا العم ،كان يتعذر على الكثريين من طضمب العلم اقتناء الكتب لقلهلة عدد نسخها ،وارتفاع
أسعارها؛ ألهنا تُنسخ ابليد ،ومن هنا نشأت كرة مجع الكتب يف خمتلف ميادين املعر ة يف مكان واحد؛ كي يسه
على طالب العلم االطضمع عليها ،واالستفادة منها ،وهذا ما ُعرف بـ (خزائن الكتب ،أو املكتبات)(.)4
اهتم الزنكيون ـ كغريهم ـ بتأسيس املكتبات يف املساجد ،واملدارس ،وغريها من دور التعليم القائمة يف ذلك العهد
وقد هل
،وقلما جند داراً تعليمية ،ختلو من مكتبة تتبعها ،مزودة مبجموعة من الكتب اليت يرجع إليها الطضمب ،والباحثون يف
أدل على ذلك االهتمام من سياسة نور خمتلف التخصصات تبعاً حلجم تلك الدار ،واألوقاف اليت أوقفت عليها ،وال هل
الدين حممود؛ الذي أمر بتزويد ك هيئة تعليمية مبكتبة قيمة ،وجع عليها وقفاً كبرياً ،يصرف منه على املكتبة ،
حص الكثري من كتب العلوم ،ووقفها على طضمهبا ، واملشتغلني هبا( ، )5وقد قال ابن عساكر عن نور الدين« :إنه هل
وأقام عليها احلفظة»(.)6
8ـ اإلنفاق على األيتام واألرام :كانت طبيعة اجملتمع تقوم على اجلهاد ،اشتبك املسلمون مع الصليبيني يف معارك
كثرية ،وترتهلب على ذلك تزايد أعداد من الشهداء ،وخرجت للوجود ظاهرة الرتم ،ووجدت النساء املرتمضمت الضميت
قدن أزواجهن يف ساحات الوغى ،وأشر ت الدولة النوريهلة على تزويج األرام ،واالهتمام هبن ،ووجد األطفال
اليتامى؛ الذين قدوا اابءهم يف ساحات اهليجاء العنايـة ،واالهتمام ،وأشارت املصادر التارخيية إىل أن الدولة حرصت
خمصصـات لـهم من مـال وكساء( ، )7في سنة 569هـ1173/م استدعى نور على عضمج أوضـاعهم من خضمل صرف هل
271
الدين حممود بن زنكي رؤساء دمشق ،ومشاخيها ،ومقدهلمي حاراهتا ،ودروهبا ،وقال« :أريد منكم أن تكشفوا عن
أحوال جماوريكم ،عر وين ابليتامى ،واألرام ،ومن انقطع عن التكسب ،ومن اختلت أحواله؛ ألنظر يف حاهلم» ،
فعلوا ذلك ،بعث إليهم ابلغضمهلت ،والكسوات ،ووظهلف هلم الوظائف(.)1
وكان نور الدين حممود يعتين بعائضمت الذين ماتوا يف ميادين املعارك ،أو مواتً طبيعياً ،إن تويف أحد أجناده؛ وله ول ٌد؛
يكرب ،كان األجناد يقولون :هذه أمضمكنا يقره على إقطاع أبيه ،وإن كان الولد صغرياً؛ رتهلب معه رجضمً يوثق به إىل أن َ
يرثها الولد من الوالد ،نحن نقات عليها ،وكان ذلك سبباً عظيماً من األسباب املوجبة للصرب يف املشاهد ،واحلروب(.)2
9ـ اإلنفاق على احلصون اخلاانت و«اجملال العمراين» :كان نور الدين حمباً للبناء والعمران ،ولكن ليس لبناء القصور،
وأماكن اللهلهو ،والرتف ،قد كان أبعد الناس عن هذا املعىن ،إمنا العمران الذي يقَي احلاجة ،وخيدم مصاحل األمة
،كأسوار املدن ،والقضمع ،واحلصون الَرورية حلماية السكان ،وصد هجمات العدو ،وإسكان اجلند ،وحفظ املؤن
،واألسلحة الضمزمة للقتال ،األمر الذي كانت تقتَيه ظروف املواجهة مع الغزاة الفرجنة ،مث املساجد ،واملدارس ،
ودور األيتام والغرابء الَرورية لرتبية األجيال على اخلري والصضمح ،واملستشفيات ،واألسواق ،واخلاانت ،واحلمامات
،والقنوات ،والقناطر ،واجلسور ،لتسهي العم ابلزراعة ،والتجارة من أج حتقيق الكفاية ،وحتسني املعيشة ،وزايدة
موارد الدولة.
هذا هو العمران الذي أحبه نور الدين ،وأنفق القسم األكرب من خزينة الدولة يف سبي حتقيقه( ،)3قد بىن أسوار مدن
بضمد الشام مجيعها ،وأصلح القضمع واحلصون بعد الزالزل اليت حصلت عام 552هـ1157/م ،وكذلك بعد الزالزل
اليت وقعت عام 566هـ1171/م( ، )4وأنفق على ذلك أمواالً طائلة .يقول ابن األثري يف ذلك « :من ذلك :أنه بىن
أسوار مدن الشام مجيعها ،وقضمعها ،منها :حلب ،ومحاة ،ومحص ،ودمشق ،وابرين ،وشيزر ،ومنبج ،وغريها من
وحصنها ،وأحكم بناءها ،وأخرج عليها من األموال ماال تسمح به النفوس( .)5وكنهلا قد حتدثنا بنوع
القضمع واحلصون ،هل
من التفصي عن املدارس ،واملستشفيات ،ودور األيتام ،واملساجد.
ومن مظاهر العمران اليت استحدثها نور الدين :بناء األبراج على الطرق بني اإلمارات الفرجنية ،وما جاورها من بضمد
الشام ،حىت املدن الرئيسية( :دمشق ،حلب ،محاة ،محص) ،ووضع يها حاميات صغرية ،ومعهم الزاج ،لينذروا
من يليهم من بضمد املسلمني عن حركات الفرجنة ،يستعد املسلمون للقائهم ،كانت هذه األبراج تعم كنقاط مراقبة
دائمة ،لتمرير املعلومات عن العدو(.)6
و هلأما ما يتعلق ابملرا ق العامة كاخلاانت ،واحلمامات ،واألسواق ،ودور الوضوء ،قد متيزت مدن الشام بكثرهتا ،
وترتيبها ،ونظامها ،وقد وصف ابن جبري دمشق بقوله« :وهبذه البلدة أيَاً قرب مئة محام يها ،ويف أرابضها ،و يها
272
حنو أربعني داراً للوضوء جيري املاء يها كلها ،وليس يف هذه البضمد كلها بلدة أحسن منها للغريب؛ ألن املرا ق هبا كثرية
،وأسواق هذه البلدة من أ َ أسواق البضمد ،وأحسنها انتظاماً ،وأبدعها وصفاً ،وال سيما قيسارايهتا ،وهي مرتفعة
كأهنا الفنادق ،مثقفة كلها أببواب حديد ،كأهنا أبواب القصور»( .)1ويصف ابن جبري مدينة حلب بقوله« :أما البلد
موضوعه ضخم جداً ،حفي الرتكيب ،بديع احلسن ،واسع األسواق كبريها ،متصلة االنتظام ،مستطيلة خترج من
مساط صنعة أخرى ،إىل أن تفرع من مجيع الصناعات املدنية ،وكلها مثقف ابخلشب ،سكاهنا يف ظضمل وار ة ،
وأكثر حوانيتها من اخلشب البديع الصنعة ،قد اتص السماط خزانة واحدة ،وختلهللتها ُشرف خشبية ،بديعة النقش
املكرم ،وهذا
،وتفتحت كلها حوانيت ،جاء منظرها أمج منظر ،وك مساط منها يتص بباب من أبواب اجلامع هل
اجلامع من أحسن اجلوامع ،وأمجلها ،وحسنه أكثر من أن يوصف ،ويتص به من اجلانب الغريب مدرسة للحنفية ،
تناسب اجلامع حسناً وإتقان صنعة»(.)2
سكاهنا عدهلة مرات خضمل عهد نور الدين( ، )3قد كانت بناايت مدينة واتسعت مدن بضمد الشام ،وتَاعف عدد هل
دمشق أحياانً مؤلفة من ثضمث طبقات ،حتتوي من اخلَْلق ،ما ال حتتويه ثضمث مدن ،وصار على ظاهر حلب من
العمارة واملساكن ،أكثر من املدينة ،وصارت تعاين من كثرة العامل ،وامتدت بساتني دمشق من حوهلا إىل مسا ة مخسة
عشر ميضمً ،ومل تبق مزرعة يف جب ،وال واد ،إال و يها سكان ،وهلا ُمغ ٌّ ،ومع أن نور الدين كان يركز يف البناء
والعمران على البساطة ،واملتانة؛ إال أنه كان ميي إىل جتمي البناء ،وحتسينه ،ليكون البناء متناسقاً ،حسن الصورة ،
مع عدم املبالغة يف الزخر ة ،والتزيني ،قد أحَر للمدرسة احلضموية اليت بناها يف حلب قطعاً من الرخام الشفاف من
عامة ،
مدينة أ اميا ،وأمر بتجمي حمراب املدرسة العمادية يف دمشق بفصوص من الذهب ،وبىن يف قلعة دمشق داراً هل
املسرة ،وأوقف بعض البساتني يف دمشق ،على تطييب جوامعها ،ومدارسها(.)4 مسهلاها دار هل
أن نور لقد هل
شكلت اإلجنازات الباهرة املتعددة اليت حققها نور الدين أركان هنَة األمة ،واجلدير ابملضمحظة واالعتبار :هل
الدين حقق هذه اإلجنازات يف ظ ظروف ابلغة الصعوبة ،قد كان يف حالة حرب مستمرة مع الغزاة الفرجنة(.)5
ك األسرى :ومثة مساحات أخرى امتدت إليها خدمات الدولة ،وضماهنا االجتماعي يف عصر نور الدين ، 10ـ ُّ
يفتكهم أهلوهم ،وجرياهنم ، لقد هلرق الرج اثين عشر ألف دينار يف داء أسرى أه الشام ،كان يقول :هؤالء ُّ
واملغاربة غرابء ال أه هلم(.)6
السنة اليت تويف يها نور الدين شهدت دولته مجلة من * يف عام 569هـ خدمات اجتماعية كبرية :يف عام 569هـ ،هل
خدمات اجتماعية ،مشلت الكثري من القطاعات ،وتطلبت الكثري من النفقات ،زيدت األوقاف ،ووسعت الصدقات
وجيمع عدد من املؤرخني على أن تلك السنة شهدت مناذج من اخلدمات االجتماعية تدعو ،وو رت النفقات ُ ،
273
مدى كان نور الدين ،يسعى جاداً إىل تغطية حاجات أمته بفئاهتا الفقرية احملتاجة لإلعجاب ،وتوضح لنا إىل أي ً
ملبساً ،ونفقة ،وإشباعاً ،وإكساء األيتام ،والنسوة ،وتزويج األرام ،وإغناء الفقراء ،وختان األطفال(.)1
ويعلق العماد األصفهاين على محلة تلك السنة بقوله...« :حسبنا ما تصدهلق به على الفقراء يف تلك األشهر ،قد زاد
مر بصدقة غلهلة ،أو ذهب ،تقدهلم إىل خادمه إبحَار مجاعة من أماث البلد على ثضمثني ألف دينار ذهباً ،وكان إذا هل
،وعدوله ،من أه ك حملة ،يقول لك واحد« :كم تعرف يف جوارك من...وغريهم؟» يقول« :أعرف كذا وكذا»
يسلم إليه صدقات أولئك األعداد ،حىت يستقرئ ابلسؤال مجيع احلاضرين ،مث أيتيه ك منهم يثبت ما هلرقه(.)2
لقد حتقق يف عهد نور الدين حممود ظهور جمتمع العدل ،والتَامن ،والتكا ،واملواساة ،يف احلاجات األساسية.
إن املسألـة ليست مسألة دولة تعطي ،وتَمن ،وختدم حسب ،ولكنهله (اجملتمع) الذي تسعى هذه الدولة إىل تشكيله هل
،اجملتمع الذي ميحى يه االستغضمل ،وتَيق الفوارق ،ويشرتك اجلميع ابحلق والعدل ،يما ميكنهم من إشباع حاجاهتم
التحرك إىل ما وراء تلك اال اق الواسعة الرحيبة؛ اليت جاء اإلسضمم لكي يقوم الناس
األساسية ،لكي يقدر اجلميع على ُّ
إليها.
الفعال بني القيادة ،والقواعد( ،)3نهض اجلميع من كبوهتم ،واستوعب مشروعه احلَاري ،وقام لقد حتقهلق التعاون هل
بدوره الرايدي ،وهذه صورة من بني عشرات الصور ،اليت وصف هبا هذا اجملتمع ،حيدثنا عنها شاهد عيان بعد حوايل
العقد حسب من و ـاة نور الدين..« :إن احلاج الدمشقي مع من انَاف إليهم من املغاربـة عند صدورهم إىل دمشق
اجلم الغفري رجاالً ،ونساءً ،يصا حوهنم..وأخرجوا الدراهم لفقرائهم ، يف هذا العام ( 580هـ) خرج الناس لتلقيهم ُّ ،
يتلقوهنم هبا ،وأخرجوا إليهم األطعمة .. ،وك من و قه هللا هبذه اجلهات من الغرابء لضمنفراد ،يلتزم ـ إن أحب ـ ضيعة
من الَياع ،يكون يها طيب العيش ،انعم البال ،وينثال اخلبز عليه من أه الَيعة ،ويلتزم اإلمامة ،أو التعليم ،
أو ما شاء ،ومىت سئم املقام؛ خرج إىل ضيعة أخرى»(.)4
ويف مكان آخر ،يقول ابن جبري عن شاهد العيان هذا ـ مثمناً أخضمقية اجملتمع هناك ـ..« :ولو مل يكن هبذه اجلهات
املشرقية كلها إالهل مبادرة أهلها إلكرام الغرابء ،وإيثار الفقراء ،وال سيهلما أه ابديتها؛ لكفى هبا َضمً»(.)5
إن من أبرز املعامل يف اترخينا كله اإلميان بكرامة اإلنسان ،و طرة اإلنسان ،وحرمة اإلنسان ،حرمة دمه ،وعرضه ،
وماله ،وحقوق اإلنسان ،حقُّه يف احلياة ،وحقُّه يف احلرية ،وحقُّه يف املساواة ،وحقُّه يف عيش كرمي له وملن يعول ،
وأص ذلك :أن اإلسضمم الذي صنع هذا التاريخ ،يكرم اإلنسان من حيث هو إنسان ،من ذرية ادم ،الذي خلقه
هللا بيده ،ونفخ يه من روحه ،وأسجد له مضمئكته ،وجعله يف األرض خليفة ،قال تعاىلَ ﴿ :ولَ َق ۡد َك ذر ۡم َنا بَ ِ ٓ
ن
َۡ َۡ َ َ ذ ُ َ َ َ َ َ ۡ َ َۢ َ ۡ َ ۡ َ َ
ۡرض َ
ۡي نف ٍس أو فسادٖ ِِف ٱۡل ِ أكد القران مع كتب السماء﴿ :أنهۥ من قتل نفسا بِغ ِ اد َم﴾ [االسراء ، ]70 :و هل ء
274
ٗ َ ََذَ َََ ذ َ َ
فكأنما قتل ٱنلاس َجِيعا﴾[املائدة . ]32:كما أكد اإلسضمم :أن البشر مجيعاً سواسية كأسنان املشط ،ال يفرق بينهم
َ َٰٓ َ ُّ َ ذ ُ ذ
عرق ،وال لون ،وال لغة ،وال إقليم ،وال طبقة ،وإمنا يتفاضلون عند هللا ابلتقوى ،قال تعاىل﴿ :يأيها ٱنلاس إِنا
َ َ َُ َ َ َ َ َۡ ُ ۡ ُ ُ ٗ َ ََٓ َ َ َ َ ُ ْٓ ذ َ ۡ َ َ ُ ۡ َ ذ ََۡ ُ ذ َ َۡ ُ
خلق َنكم مِن ذك ٖر وأنث وجعلنكم شعوبا وقبائِل ِلِ عارفوا إِن أكرمكم ع
ِند ٱَّللِ أتقىك ۡم إِن
َ ذَ َ
ٱَّلل عل ِيم خبِۡي[ ﴾ ١٣ ٞاحلجرات . ]13 :
هلذا كان من أبرز املعاين اإلنسانية املرعية ،واملؤكدة يف اترخينا كله املساواة بني البشر مجيعاً ،بيَاً وسوداً ،عرابً وعجماً
،حكاماً وحمكومني ،أغنياء و قراء ،شر اء ووضعاء ،مسلمني وغري مسلمني( )1يف إقامة العدل.
ومن املعاين اإلنسانية العميقة البارزة يف اترخينا اإلسضممي :الرب ،واإلحسان ابلناس ،وبذل املعروف هلم ،وإعانتهم يف
الَراء ،وخصوصاً الَعفاء واحملرومني منهم ،أايً كان سبب ضعفه ،منهم من ضعفه بسبب قد املال ، السراء ،و هل
هل
كاملسلمني ،ومنهم من ضعفه بسبب قد الوطن ،كابن السبي ،ومنهم من ضعفه بسبب قد احلرية ،كاألسري ،
َُۡ ُ َ ذ َ َ ََ
ام لَع ُحبِهِۦ الرقيق ،وقد أوصى اإلسضمم هبم مجيعاً ،كما قال تعاىل يف وصف عباده األبرار﴿ :ويطعِمون ٱلطع و هل
ك ً ُ ۡ َ َٓٗ َ َ ُ ُ ٱَّللِ ََل نُر ُ
ۡ ٗ ََ ٗ َ ً ذَ ُۡ ُ ُ ۡ َ ۡ ذ َ
ورا [ ﴾٩اإلنسان 8 :ـ،]9 يد مِنكم جزاء وَل ش ِ مِسكِينا ويتِيما وأَِۡيا ٨إِنما نطعِمكم ل ِوجهِ
َ ۡ َ ََ َ ۡ َ َ َٰٓ َ َ ۡ َ وقال تعاىلَ ﴿ :و َل ِ ذ ۡ ذ َ ۡ َ َ َ ذ َ ۡ َ ۡ
ُّ َوٱنلذب ِ ِي َن َو َءاِت ٱل َمال لَع
كن ٱل ِِب من ءامن بِٱَّللِ وٱۡلو ِم ٱٓأۡلخ ِِر وٱلملئِكةِ وٱلكِت ِ
اب﴾ [البقرة ، ]177 :وهؤالء هلم
َ ٱلسب َ ذ ٓ َ َ ُحبهِۦ َذوي ٱلۡ ُق ۡر ََب َو ۡٱۡلَ َت َم َوٱل ۡ َم َسك َ
ِني َو ۡٱب َن ذ
ٱلرق ِيل وٱلسائ ِل ِني و َِّ ِ
ِ ِ ِ ِ
يف اإلسضمم حقوق ،بعَها واجبة ،وبعَها مندوبة ،وبعَها تطالب به الدولة ،وبعَها من الصدقات املعتادة،
وبعَها من الصدقات اجلارية؛ اليت متثلت يف نظام الوقف اخلريي ،الذي رسخت جذوره ،وسبقت روعه ،وامتدت
ظضمله ،وآتى مثاره يف احلياة اإلسضممية ،ومتيز به اتريخ املسلمني أكثر من غريهم من األمم(.)2
* ومن أبرز الدالئ على رسوخ املعاين اإلنسانية يف حَارتنا ،ووضوحها يف اتريخ أمتنا كثرة املؤسسات اليت تعىن خبري
اإلنسان ،والربية( ، )3وإليك هذه الصفحات املشرقة مما كتبها الداعية الكبري ،واجملاهد الشهري ،العضممه الشيخ الدكتور
مصطفى السباعي ،رمحه هللا ،يف كتابه البديع« :من روائع حَارتنا» عن هذه املؤسسات ،قال« :كانت املؤسسات
نوعني :نوعاً تنشئه الدولة ،وتوقف عليه األوقاف الواسعة ،ونوعاً ينشئه األ راد من أمراء ،وقواد ،وأغنياء ،ونساء ،
وال نستطيع يف مث هذا احلديث ،أن نعدد أنواع املؤسسات اخلريية كلها ،ولكن حسناً أن نُل هلم أبمهها:
ـ من أول املؤسسات اخلريية :املساجد ،وكان الناس يتسابقون إىل إقامتها ابتغاء وجه هللا ،ب كان امللوك يتنا سون
يف عظمة املساجد ،ا ليت يؤسسوهنا ،وحسبنا أن نذكر هنا مبلغ ما أنفقه الوليد بن عبد امللك من أموال ابلغة ،على
بناء اجلامع األموي ،ممهلا ال يكاد يصدقه اإلنسان ،لكثرة ما أنفق من مال ،وما استخدم يف إقامته من رجال .ومن
أهم املؤسسات اخلريية :املدارس واملستشفيات.
ـ ومن املؤسسات اخلريية :بناء اخلاانت ،والفنادق للمسا رين املنقطعني ،وغريهم من ذوي الفقر.
275
ـ ومنها :التكااي والزوااي ،اليت ينقطع يها من شاء لعبادة هللا عز وج .
ـ ومنها :بناء بيوت خاصة للفقراء ،يسكنها من ال جيد ما يشرتي به بيتاً ،أو يستأجر داراً.
ـ ومنها :السقاايت ،أي :تسيي املاء يف الطرقات العامة للناس مجيعاً.
(شوربة) ،وحلوى ،ويقول الدكتور يفرق يها الطعام من خبز ،وحلم ،وحساء ُ ـ ومنها :املطاعم الشعبية ،اليت كان هل
السباعي« :وال يزال عهدان قريباً هبذا النوع من ك ٍ من تكية السلطان سليم ،وتكية الشيخ حميي الدين بدمشق».
وعمت أرض مكة للحجاج يف مكة ،ينزلوهنا حني يفدون إىل بيت هللا احلرام ،وقد كثرت البيوت ،هل ـ ومنها :بيوت هل
مكة يف أايم احلج؛ ألهنا كلهلها موقو ة على احلجاج.كلهلها ،وأ ىت بعض الفقهاء ببطضمن إجارة بيوت هل
ـ ومنها :حفر االابر يف الفلوات ،لسقي املاشية ،والزروع ،واملسا رين ،قد كانت كثرية جداً بني بغداد ،ومكة ،
وبني دمشق ،واملدينة ،وبني عواصم املدن اإلسضممية ،ومدهنا ،وقراها ،حىت ق هل أن يتعرض املسا رون ـ يف تلك األايم
ـ خلطر العطش.
ـ ومنها :أمكنة املرابطة على الثغور ،ملواجهة خطر الغزو األجنيب على البضمد ،قد كانت هنالك مؤسسات خاصة
ابملرابطني يف سبي هللا ،جيد يها اجملاهدون ك ما حيتاجون إليه ،من سضمح ،وذخرية ،وطعام ،وشراب ،وكان هلا
أثر كبري يف صد غزوات الروم أايم العباسيني ،وصد غزوات الغربيني يف احلروب الصليبية ،عن بضمد الشام ،ومصر ،
ويتبع ذلك وقف اخليول ،وأدوات اجلهاد ،على املقاتلني يف سبي هللا ،عز وج ،وقد كان لذلك أثر كبري يف رواج
الصناعة احلربية ،وقيام مصانع كبرية هلا يف بضمدان ،حىت كان الغربيون يف احلروب الصليبية ،يفدون إىل بضمدان ـ أايم
اهلدنة ـ ليشرتوا منهلا السضمح ،وكان العلماء يفتون بتحرمي بيعه لألعداء ،انظر كيف انقلب األمر االن ،أصبحنا عالة
أوقاف يُعطى
ٌ على الغربيني يف السضمح ،ال يسمحون لنا به إال بشروط ،تقَي على كرامتنا ،واستقضملنا ويتبع ذلك
َريعها ملن يريد اجلهاد ،وللجيش احملارب حني تعجز الدولة يف اإلنفاق على ك أ راده ،وبذلك كان سبي اجلهاد ميسراً
يود أن يبيع حياته يف سبي هللا ،ليشرتي هبا جنة عرضها السموات واألرض ،انظر كيف عاد بنا األمر لك مناض ُّ ،
إىل أن نقيم أسبوعاً للتسلُّح ،جتمع يه التربعات لتقوية اجليش وتسليحه ،ولو كان عندان وعي اجتماعي ،وإميان
صادق؛ ألقمنا من أموالنا ك يوم ـ ال أسبوعاً للتسلح ،جتمع يه التربعات لتقوية اجليش ،وتسليحه ،و هلملرة واحدة يف
العام ـ مصانع لتزويد جيشنا ابلسضمح والعتاد ،حىت يكون من أقوى اجليوش ،وأكثرها استعداداً لصد العدوان ،ومحاية
الداير.
ـ ومن املؤسسات االجتماعية :ما كانت وقفاً إلصضمح الطرقات ،والقناطر ،واجلسور.
الرج ابألرض الواسعة ،لتكون مقربة عامة.ـ ومنها :ما كانت للمقابر ،يتربع هل
ـ ومنها :ما كان أكفان املوتى الفقراء ،وجتهيزهم ،ود نهم.
ـ ومنها :املؤسسات اخلريية إلقامة التكا االجتماعي ،وإعانة اليتامى ،وختاهنم ،ورعايتهم ،ومؤسسات للمقعدين،
والعميان ،والعجزة ،يعيشون يها مو وري الكرامة ،هلم ك ُّ ما حيتاجون من سكن ،وغذاء ،ولباس ،وتعليم أيَاً،
وإمدادهم مبن يقودهم ،ويعتين هبم.
ـ وهناك مؤسسات لتحسني أحوال املساجني ،ور ع مستوى تغذيتهم ابلغذاء الواجب ،لصيانة صحتهم.
276
الس هلكر ،وهي أسبق يف الوجود من مجعية نقطة احلليب عندان ،مع ـ ومنها :مؤسسات إلمداد األمهات ابحلليب و ُّ
متحصها للخري اخلالص هلل عز وج ،وقد كان من مربات صضمح الدين :أنهله جع يف أحد أبواب القلعة ـ الباقية حىت ُّ
اآلن يف دمشق ـ ميزااب ،يسي منه احلليب ،وميزااب اخر ،يسي منه املاء املذاب يه السكر ،أتيت األمهات يومني يف
ك أسبوع؛ ليأخذن ألطفاهلن ،وأوالدهن ما حيتاجون إليه من احلليب والسكر(.)1
ومن أطرف املؤسسات اخلرييـة وقف الزابدي( )2لألوالد الذين يكسرون الزبـادي ،وهم يف طريقهم إىل البيت ،يأتون
إىل هذه املؤسسة ،ليأخذوا زابدي جديدة ،بدالً من املكسورة ،مث يرجعوا إىل أهليهم ،وكأهنم مل يصنعوا شيئاً ،وآخر
ما نذكره من هذه املؤسسات ،املؤسسات اليت أقيمت لعضمج احليواانت املريَة ،أو إلطعامها ،أو لرعايتها حني
عجزها ،كما هو شأن املرج األخَر يف دمشق ،الذي يقام عليه امللعب البلدي اآلن ،قد كان وقفاً للخيول،
واحليواانت العاجزة املسنهلة ،ترعى يه حىت تضمقي حتفها.
أما بعد هذه ثضمثون نوعاً من املؤسسات اخلريية ،اليت قامت يف ظ حَارتنا ،ه جتد هلا مثيضمً يف أمة من األمم
السابقة؟ ب ه جتد لكثري منها مثيضمً يف ظ احلَارة الراهنة؟ ...اللهلهم إنه سبي اخللود ،تفردان به وحدان يوم كانت
الدنيا كلُّها يف غفلة ،وجه ،وتظامل ،اللهم إنه سبي اخللود ،كشفنا به عن اإلنسانية املعذبة أوصاهبا ،وآالمها ،
ما هو سبيلنا اليوم؟ أين هي تلك األايدي اليت متسح عربة اليتيم ،وأتسو جراح الكليم ،وجتع من جمتمعنا جمتمعاً
مرتاصاً ،ينعم يه الناس مجيعاً ،ابألمن واخلري والكرامة والسضمم؟(.)3
277
الَّتبية والتَّعليم يف النُّهوض احلضاري السادس ِّ :
أهيَّة َّ املبحث َّ
278
التحدي الفاطمي الرا َي الباطين أطيب األثر يف وضع األمة على الطريق الصحيح ،الذي سار عليه من بعدهم رجال
من القادة السياسيني ،والعلماء العاملني املخلصني ،كانت لتلك الشجرة الطيبة الكثري من الغصون والثمار ،اليت
عم خريها اجلميع(.)1
طابت وأينعت ،وامتدت ومنت ،وتفرعت؛ حىت هل
وقد حتدهلثت عن حركة اإلصضمح اليت قام هبا اإلمام الغزايل يف كتايب عن دولة السضمجقة ،وعن جهوده هل
الفذة يف مقارعة
التشيُّع الرا َي الباطين ،وسيأيت احلديث إبذن هللا عن املدرسة القادرية ،وشيخها عبد القادر اجليضمين ،وجهوده يف
اإلحياء السين ،ودوره يف هنَة األمة ،وترشيد التصوف السين ،قد لعبت املدرسة القادرية دوراً مهماً جداً يف حركة
اإلصضمح ،والتجديد ،والتغيري االجتماعي ،وهتيئة األمة للجهاد يف سبي هللا.
وعندما جاء نور الدين للحكم استفاد من اجلهود العلمية ،والرتبوية ،اليت سبقته ،وأدركت دولته :أن التعليم هو
الدعامة األساسية يف بناء الشخصية املتكاملة من مجيع النواحـي العقائدية ،والثقا ية ،والفكرية...إخل ،واعتربت
اإلنسان الكنز الذي ال يقدر أبي مثن ،جعلتـه مدار اهتمامها ،وقطب الرحى يف تفكريها ،عمدت إىل بناء
املؤسسات التعليمية من مدارس ،ودور القران ،واحلديث ،وأحيت رسالة املسجد؛ ليسهم يف عملية البناء ،والتصحيح
اجلديدة ،وتوجيه وتوعية األمة وتعبئتها تعبئة عامة شاملة ملواجهة األخطار ،وجماهبة التحدايت الداخلية الباطنية ،
يَم أه احل والعقد ، كونت جملساً عاماً يشرف على العملية التعليمية ،والصياغة الرتبوية ُّ ، واخلارجية الصليبية ،و هل
وهيئ ة كبار العلماء العاملني املخلصني ،والقادة العسكريني ،والفقهاء ،والشيوخ املستنريين ،وكان نور الدين أحد
أعَاء هذا اجمللس األعلى ،الذي يشرف على التخطيط العام والشام ،وكان جيلس مع العلماء ،والشيوخ ،يتدارسون
األمور إىل ما حيقق املصلحة اإلسضممية( ، )2ورسم هذا اجمللس األعلى للتخطيط والتنسيق بني السياسات العامة الواجب
قرروا
السلف الصاحل ،هل اتباعها حنو إعداد األمة اإلسضممية ،كلها إعداداً جديداً ،وبنائها بناء سليماً ،على طريقة هل
ضرورة أتسيس مئات املدارس ،ونشر التعليم اإلسضممي ،يف مجيع أحناء البضمد ،كما قرروا إقامة مئات املساجد للقيام
بواجب التزكية ،والتحلية ابلفَائ ،والتخلية من الرذائ ،واستقدموا االف العلماء ،واملربني املشهورين ،للقيام
بواجب التدريس يف املدارس ،والتوجيه يف املساجد ،وكانوا من خرجيي املدرستني الغزالية والقادرية(.)3
ومل يكن التعليم لدى دولة نور الدين جمرد نشاط أكادميي ،يستهدف تو ري املوظفني واملهنيني ،هل
وإمنا كان ابلدرجة األوىل
نشاطاً عقائدايً ،استهدف إعادة صياغة اجلماهري املسلمة ،مبا يتفق وأهداف اإلسضمم ،واحلاجات القائمة( ،)4وكانت
الصفة اجلماعية للنشاط التعليمي الذي را ق الدولة الزنكية تبدو واضحة من تباري الوزراء القادة ،واألغنياء ،والرجال
،والنساء يف إنفاق أمواهلم يف بناء املدارس واملؤسسات التعليمية ،وتو ري الفرصة جلميع أ راد األمة ،لدخوهلا
واالستفادة( )5منها.
279
قد أعطت اخلطة الزنكية أمهيهلـةً خاصة لتعليم كا ة املسلمني من عمال و ضمحني ،ومزارعني من الكبار ،والصغار ،
والرجال ،والنساء ،وعملت اخلطة على تعليم اجلميع أصول العقيدة ،وأركان الدين ،والقيم واملبادئ اإلسضممية ،كما
عمدت اخلطة احلكيمة إىل تعرية املذاهب اهلدهلامة ،والفرق الَالة ،من إمساعيلية ابطنية ،وشيعيهلة إماميهلة ،وشعوبية ،
وأابنت عن خطرها ،وضررها على النفس ،واجملتمع ،واألمة ،وأن ال خروج من احملنة ،وال خضمص من الَياع إال
ابلعودة إىل روح الدين النقية الطاهرة ،يف صورهتا األوىل ،اليت كان عليها سلف هذه األمة ،دون زايدة أو نقصان ،
ودون تعقيدات ،لسفية ،وجمادالت كضممية ،ال طائ من ورائها ،وال خري يها ،وال يف مروجيها.
لقد التزمت الدولة الزنكية ابإلسضمم عقيدة ،وعمضمً ،ومنهجاً ،والتزمت ابلدعوة إىل هللا ابحلكمة واملوعظة احلسنة
للجميع ،أصلحت ما ميكن إصضمحه من أصحاب االجتاهات ،والفلسفات ،كالصو ية املنحر ة ،اليت استطاعت
الزوااي ،واألربطة ،وأنفقتالدولة الزنكية أن تنقيها مما علق يها من أتباع الفكر اإلمساعيلي الباطين ،أقامت لشيوخها هل
عليهم األموال ،وأمدهلهتم ابلعطااي واهلبات ،وأخرجت التصوف من أسر الفكر الباطين ،وبذلك أصبحت املؤسسات
الصو ية تؤدي دورها الرتبوي ،ونشر السلوك اإلسضممي و ق منهج أه السنة واجلماعة ،إىل جانب املدارس واملساجد
يف التوجيه ،واإلرشاد ،والتعليم ،والتهذيب حسب اخلطة العامة للدولة ،وحتت إشراف اجمللس التعليمي األعلى.
وجه التعليم اإلسضممي عنايةً خاصة إلعداد األمة كلها للجهاد بكا ة أنواعه من اإلعداد املادي ،واملعنوي ،وتربية لقد هل
النفوس ،وجماهدهتا يف ذات هللا ،وجماهدة الشيطان ،واجلهاد ابملال ،والنفس ،والتعبئة الروحية العالية ،وتربيـة اإلرادة
القتالية عند مجيع أ راد األمة دون أن يقتصر ذلك على طائفة دون أخرى ،ابإلضا ة إىل طائفة خمتصة اعتنت الدولة
إبعدادها إعداداً قتالياً خالصاً،وتدريبها تدريباً عسكراي متميزا جيعلها تتفوق على ماميلكه األعداء (.) 1
أوال :فئات املدرسني يف الدولة الزنكية :
1ـ معلمو الكتاتيب :االسم الشائع الذي كان يطلق على معلم الشبان يف العهد الزنكي ,هو (املعلم) أو (املؤدب),
ومعلم الكتاب يف ذلك الوقت مياث املرحلة االبتدائية يف عهدان احلاضر ,من حيث إنه يتوىل تعليم األطفال العلوم
األساسية ,ويشرف على تربيتهم ,وتوجيههم ,وأتهيلهم إىل املرحلة األعلى ,وقد اهتم حكام العهد الزنكي هبذه املرحلة
من التعليم اهتمام خاصا ,وحظي معلمو هذه املرحلة مبكانة عالية لديهم ,و روا هلم كا ة سب العيش املريح ,للقيام
مبهمتهم على أ َ وجه ,وأداء رسالتهم املهمة يف توجيه اللبنة األوىل يف التعليم على النهج السليم الذي رمسته تلك
الدولة ,وهو إعدادهم منذ صغرهم ,ليتخرجوا صحيحي العقيدة ,سليمي الذهن( , )2متأثرين بذلك التوجه اإلسضممي
,ليتخذوا مواقعهم يف اجملتمع ,وليقوموا ابألعمال املنوطة هبم مستقبضم ,على التوجه السليم ,والسياسة املرسومة (.)3
وكان من أهم ما يتطلبه تعليم الصبيان يف املعلم :أن يكون حا ظا لكتاب هللا ,ملما ببعض علوم اللغة ,وأصول
احلساب واخلط( , )4وكان يشرتط يمن يقوم بتعليم الصبيان شروط خلقية كثرية ,ذلك ألنه كلما زادت اخلصال احملمودة
يف املؤدب ,زاد الصيب به جتمضم ور عة ,ويف هذا الصدد يقول اإلمام الغزايل املتوىف سنة 505ه 1112/م )) إن
280
إن أعينهم إليه انظرة ,وآذاهنم إليه مصغية ,ما استحسنه هو عندهم احلسن ,وما صضمح التلميذ بصضمح معلمه ,هل
استقبحه هو القبيح ))(. )1
كما اشرتط املربون يف املعلم أن يكون عادال بني الصبيان ,وأن يكونوا عنده ابملنزلة سواء ال تفريق بينهم ,ابن الفقري,
وابن الغين على حد سواء يف الرتبية والتعليم( ، )2هذا إىل جانب كونه من أه التقوى ،والورع ،والعفة ،واستحب
املربُّون يف معلم الكتهلاب أن يكون كبري السن(.)3
الس ُروجي املتوىف سنة 572هـ1176/م( ،)4وكان قد وقد اشتهر ابلتأديب يف العهد الزنكي :الشيخ علي بن منصور ُّ
السروجي برباعته يف األدب ،والشعر ،وحسن ندبه امللك عماد الدين زنكي لتلبية أوالده وتعليمهم ،وقد اشتهر ُّ
اخلط(.)5
ولقد متتهلع معلمو الكتاتيب يف ذلك العهد مبركز مايل جيد يف الكتاتيب املوقو ة؛ إذ و ر هلم الواقفون رواتب شهرية ،
تُصرف هلم من إيراد الوقف( ، )6كما ذكر أبو شامة عن نور الدين :أنه بىن يف بضمده الكثري من الكتاتيب ،وأجرى على
املعلمني ،والصبيان رواتب وا رة( ، )7وقد د ع هذا التشجيع املادي واملعنوي ،الكثري من املعلمني إىل اإلقبال على
ٍ
بطمأنينة وراحة ابل(.)8 التعليم
2ـ املدرسون :إن نظام التعليم املتهلبع يف العهد الزنكي ال يق شأانً عن نظام املدارس يف العصر احلاضر ،إن النظام
احد منهم بتدريس مادة أو أكثر ،ويشرف خيتص ك ُّ و ٍ
املتبع آنذاك ،هو أن يكون لك مدرسة عدد من املدرسني ُّ ،
عليهم شيخ ،يسمى انظر املدرسة ،ويشرتط أن يكون الناظر من خيار املدرسني وأشهرهم ،ومن الذين بلغوا درجة
عالية من النَج العلمي ،والقدرة العالية يف جمال التأليف ،والتدريس ،وقد عين الزنكيون ،ومن سار على هنجهم يف
إنشاء املدارس ،ودور التعليم املختلفة ابختيار العلماء األ ذاذ للتدريس يف مراكزهم ،وحرصوا على استجضمب من أثر
العلم الوا ر ،والسمعة احلسنة بني العلماء ،وطضمب العلم ،كما حرصوا أن يكون املدرس سليم العقيدة ،حىت عنه ُ
يتوا ق مع التوجيه الديين الشام للدولة(.)9
وكان املدرسون يف العهد الزنكي يتقاضون رواتب ،أو معاليم ،تصرف هلم من األوقاف اليت كانت توقف على املدرسة
يدره شهرايً ،أو سنوايً ،وكان هناك
،وكانت تلك األجور أو املعاليم ،تتأثر بظروف مقدار الوقف على املدرسة ،وما ُّ
صص هلم من تلك األوقاف ،قد ر ض القاسم بن احلا ظ علي بن احلسن بن من املدرسني من أينفون من أخذ ما ُخي هل
281
()1
عساكر ،املتوىف سنة ( 600هـ1203/م) ـ وكان مدرساً بدار احلديث النورية بدمشق ـ أن يتناول من معلومه شيئاً
يرتدد عليه من الطلبة( ، )2وكان حيق للمدرس أن يستنيب من يقوم ابلتدريس مكانه يف إحدى ،قد تنازل عنه ملن هل
املدارس ،ومن هنا ظهر منصب «انئب املدرس» ،وهو أعلى من رتبة املعيد ،وأق من رتبة املدرس ،ومن ذلك هل
أن
درس ابملدرسة األمينية بدمشق( ، )3وأانب عنه يف بعض وقته الفقيه أاب الفَائ القاضي شرف الدين بن أيب عصرون ،هل
الدمشقي( ، )4املتوىف سنة 561هـ1165/م(.)5
أن نظام اإلعادة ،الذي جنده منتشراً يف جامعاتنا يف الوقت احلاضر ،مل يكن وليد نُظم 3ـ املعيدون :من الواضح :هل
التعليم احلديثة ،قد سبقتها املدارس اإلسضممية األوىل إىل استعمال هذا النظام ،ومل تظهر وظيفة املعيد يف اتريخ التعليم
وتطور وظائفها ،يف منتصف القرن اخلامس اهلجري(.)6 عند املسلمني ،إال مع ظهور املدارس ُّ ،
اثنياً :فئات الطالب:
1ـ طضمهلب املرحلة األوىل :هل
اهتم احلكام الزنكيُّون ،وبعض املوسرين ،يف الدولة الزنكية إبنشاء الكتاتيب لتعليم صغار
املسلمني القران الكرمي ،ومبادئ الدين اإلسضممي ،وطرقاً من العلوم األولية البسيطة مث :الكتابة ،واحلساب ،وما
يُستحسن من األشعار ،وقد ذكر ابن العريب الذي زار بضم د الشام ،يف بداية القرن السادس اهلجري (الثاين عشر
امليضمدي) :هل
أن للقوم يف التعليم سرية بديعة ،وهو أن الصغري منهم إذا عق ؛ بعثوه إىل املكتب( ، )7وقد حدهلد ابن اجلوزي
املتوىف سنة 597هـ1201/م بقوله« :ومىت اعتدل املزاج ،وتكام العق ،أوجب ذلك يقظة الصيب ،إذا بلغ مخس
سنني؛ أخذ حيفظ العلم»(.)8
و هلأما املدهلة اليت كان يقَيها الطف يف ال ُكتهلاب ،هي أيَاً ختتلف ابختضمف استعداد الطف ،ومدى قابليته للتعلُّم ،
أن هناك بعض اإلشارات اليت حتدد مدة الدراسة ابلكتهلاب وإمكانياته يف االنتقال إىل املرحلة التعليمية التالية ،على هل
الصيب إذا بلغ سن البلوغ؛ ترك املكتب ،وهذه ترتاوح ما بني الثانية
بسن البلوغ ،قد أشارت بعض املصادر ،إىل أن هل
عشرة ،واخلامسة عشرة( ، )9وكانت أايم التهلعليم يف الغالب مخسة أايم ونصف اليوم :السبت ،واألحد ،واإلثنني ،
والثضماثء ،واألربعاء ،وصبحة اخلميس ،حيث كان بقية يوم اخلميس ،وطوال اجلمعة عطلة الراحة ،ابإلضا ة إىل أايم
عيد الفطر الثضمثة ،وأايم عيد األضحى اخلمسة ،وبعض املناسبات العامة(.)10
282
إن أقرب املصادر للعهد الزنكي ،اليت توضح منهج التعليم يف هذه و هلأما من حيث منهج الدراسة يف املرحلة األوىل هل
املرحلة ،هو كتاب «هناية الرتبة يف طلب احلسبة» لعبد الرمحن بن نصر الشيزري ،املتوىف سنة 589هـ1193/م ،
الذي وصف حال تعليم الصبيان يف ذلك العهد ،وما ينبغي للمعلم اختاذه جتاه تعليمهم ،وطريقته ،ومن ذلك قوله:
«وأول ما ينبغي للمؤدب أن يعلم الصيب السور القصار من القران بعد حذقه مبعر ة احلروف ،وضبطها ابلشك ،
ويُدرجه يف ذلك ،حىت أيلفه طبعه ،مث يعر ه عقائد أه السنة ،واجلماعة ،مث أصول احلساب ،وما يستحسن من
املراسضمت ،واألشعار ،دون سخيفها ،ومسرتذهلا»(.)1
ومل تقتصر احلياة التعليمية يف الكتاتيب على تعليم الصبية الكتابة والقراءة ،وحتفيظهم القران حسب ،ب تعداه إىل أن
يقوم املعلم بتأديب الصبيان ،وتعويدهم اآلداب احلسنة( ، )2وقد شبهله اإلمام الغزايل املعلم الذي يُريب الصبية ،ويهديهم
األخضمق الفاضلة ابلر ق واللني ،ويبعدهم من السقوط ابملهالك ،والشرور ،ابل َفضمح الذي يقطع الشوك ،وخيرج
النبااتت األجنبية من بني الزرع؛ ليحسن نباته ،ويكم ريعه(.)3
وقد تعدهلدت وسائ التحصي وأساليب التعليم يف الكتاتيب ،على النحو التايل:
يهتم املؤدب بتعليم األطفال السور القصار من القران الكرمي ،وكانت وسيلته يف يف السنوات األوىل من هذه املرحلة ُّ ،
يتم حفظها
أن املعلم كان يقرأ ،وعلى الصيب أن يكرر ما يقرأ معلمه من قرات ،إىل أن هل ذلك أسلوب التلقني ،مبعىن :هل
يستمر معه ،وقد أكد ابن ُجبري اشتهار هذه الطريقة يف البضمد الزنكية اليت زارها بقوله« :وتعليم الصبيان
ُّ ،وهكذا
للقران هبذه البضمد املشرقية كلها إمنا هو تلقني»( ،)4ويذكر ابن جبري عند احلديث عن تعليم الصبيان يف دمشق :هل
أن سور
القران مل تستعم يف تعليم األطفال الكتابة ،هل
وإمنا استعملت أبيات من الشعر هلذا الغرض ،و هل
أن تعليم القران والكتابة
خيصص معلم لك ٍ منهما على حده. ،ال يقوم هبما مدرس واحد ،هل
وإمنا هل
إذا رغ الصيب من التلقني؛ التحق ابل ُكتهلاب اخلاص بتعليم اخلط ،ويستصوب ابن ُجبري هذه الطريقة؛ إذ يرى يها
إتقاانً للخط؛ ألن املعلم له ال ينشغ بغريه ،هو يستفرغ جهده يف تعليم اخلط ،يربع الطف يف ذلك(.)5
أما طريقة تدريس الشعر ،كانت تتلخص يف أن خيتار املعلم لألطفال األشعار السهلة يف العبارة واللُّغة؛ كي يسه
حفظها و همها ،كما يراعي يف اختياره ما قي من األشعار احلسنة ،والنبيلة ،دون السخيف والرذي منها ،وكان
الطف يقوم بتكرار هذه األشعار ،حىت يتم حفظها(.)6
أهم وسائ التحصي ،وأساليب التعليم يف تلك املرحلة املبدئية من التعليم ،وكانت تتميهلز ابلبساطة ،والتدرج
هذه هي ُّ
يف املعلومات ما أمكن ،واحلرص على تربية الصبيَة خلقياً إىل جانب حتصيلهم العلمي(.)7
283
2ـ طضمب املرحلة العليا :يُطلق على هذه الفئة من الطلبة يف بعض األحيان لقب «الفقهاء» ،وقد غلب إطضمق هذا
اللقب يف العهد الزنكي على طضمهلب املدارس( ، )1وميكن تصنيف هذا النوع من الطلبة إىل صنفني :طلبة عارضني ،
وآخرين منتظمني.
العمال ،وغريهم ،ممن حيَرون الدروس بني حني وآخر، الصنف األول يشم أعداداً كبرية من أصحاب احلرف ،و هل
وال سيهلما جمالس الوعظ واإلمضمء ،وحلق التعليم العامة ،غري أهنم ال يواصلون دراستهم ،وال يواظبون على احلَور ،
وهؤالء ميثلون أضعاف أعداد الطضمب املنتظمني.
أما الصنف اآلخر؛ هم الطلبة املنتظمون ،وكانوا يقَون شطراً كبرياً من حياهتم يف طلب العلم وحده ،ولكن ذلك ال
مينع اشتغاهلم بكسب الرزق(.)2
وكانت املساجد تقوم ابلتدريس ،وال يشرتط يمن يريد التعلُّم عدد معني ،وخيتلف الوضع ابلنسبة للمدارس؛ إذ كان
يصح جتاوزه يف الغالب ،مث إن هذا العدد قلي جداً إذا قيس
جيلس أمام املدرس يها عدد معني من الطضمب ،ال ُّ
أبعداد طضمب احللق يف املساجد ،وكان ممهلا جرت عليه العادة يف املدارس ،أن يعني منشئ املدرسة ،أو واقفها مدرساً
وحيدد يف الوقت نفسه عدد الطضمب ،الذين يسمح هلم اباللتحاق هبا ،كما حص يف املدرسة النورية ابملوص ، هلا ُ ،
حيث حدهلد واقفها نور الدين أرسضمن شاه عدد الطضمب بستني طالباً من قهاء الشا عية( ،)3وكذلك يف املدرسة
العصرونية بدمشق ،واليت شرط يها واقفها أال يزيد عدد طلبتها على عشرين طالباً من الشا عية وغريهم(.)4
املخصص للحلقة ،أو املدرسة،
هل وكان طضمب العلم حيصلون على مرتبات ونفقات ،حتص يف الغالب من موارد الوقف
وقد اشتهرت بعض مدارس العهد الزنكي ،بو رة ما يناله منتسبوها من األموال ،واملأكوالت ،واملضمبس ،واهلدااي يف
العزيهلة ابملوص ،واحلضموية حبلب ،والنورية الكربى يف دمشق( ، )5وغالباً ما يزدحماملناسبات ،كما كانت عليه املدرسة ُ
خمصصاهتا( ، )6كما حرص واقفو املدارس يف العهد الزنكي على تو ري كا ة احتياجات الطلبة على مث هذه املدارس لغىن هل
الطلبة الدارسني يها ،وابألخص املسكن املضمئم هلم ،كي جيد الطلبة الغرابء ،والفقراء ،املناخ املناسب لتلقي العلم ،
ختصص لسكىن الطلبة الغرابء والفقراء ،وقد حدهلثنا الرحالة كان من مكمضمت املدارس إنشاء مرا ق تُلحق هبا ،هل
األندلسي ابن ُجبري عما شاهده يف دمشق من التسهيضمت املغرية لطضمب العلم ،ومنها هذه املرا ق ،قال« :ومرا ق
الغرابء هبذه البلدة أكثر من أن أيخذها اإلحصاء؛ وال سيما حلفاظ كتاب هللا ،عز وج ،واملنتمني للطلب...وهذه
لكن االحتفال هبذه البلدة أكثر ،واالتساع أوجد ،من شاء الفضمح من نشأة البضمد املشرقية كلها على هذا الرسم ،هل
284
مغربنا؛ لريح إىل هذه البضمد ،ويتغرب يف طلب العلم ،يجد األمور املعينات كثرية ،هلأوهلا راغ البال من أمر املعيشة
ُ
،وهو أكرب األعوان ،وأمهُّها»(.)1
وقد حرص املربُّون يف العهد الزنكي ،وبعده ،أن يُ ْس ُدوا الوصااي ،والتوجيهات الرتبوية للطلبة أثناء تلقيهم العلم ،وكان
من أهم تلك الوصااي ،والتوجيهات ،ما أييت:
ـ أن ُخيلص الطالب نيته يف طلب العلم ،وذلك أبن يقصد بعلمه وجه هللا تعاىل ،والعم مبا يعلم ،وأن حيذر أن يكون
هد ه األصلي من علمه طلب الرائسة ،واملال ،واجلاه(.)2
ـ أن حيرص الطالب على وقته أبن يبادر ابغتنام رصة الشباب الكتساب العلم ،وأن يعلم أبن ك ساعة متَي من
عمره ال بدل هلا ،وال عوض ،لذلك جيب على طالب العلم أن يقل من االنشغال عن الدراسة قدر اإلمكان(.)3
اب ،حىت ال يرتكه أبرتاً ،وعلى ٍن حىت ال يشتغ ـ كما ينبغي لطالب العلم ،أن يصرب ،ويثبت على أستاذ ،وعلى كتَ ٍ
إن ذلك كله ،يفرق األمور ، بفن اخر قب أن يُتقن األول ،وعلى بلد حىت ال ينتق إىل بلد اخر من غري ضرورة ،هل ٍ
ويشغ القلب ،ويَُيع األوقات ،ويؤذي املتعلم(.)4
يتحرى احلضمل يف طعامه ،وشرابه ،ولباسه ،ومسكنه ،ويف
ابلورع يف مجيع شؤونه ،وأن هل
ـ وعلى الطالب أن يلتزم َ
مجيع ما حيتاج إليه...وذلك ليستنري قلبه ،ويصلح لقبول العلم ،ونوره ،والنفع به(.)5
و يما يتص ابلعضمقة بني الطالب وأستاذه ،إن هناك مجلة آداب ،كفلت للمدرس حق االحرتام والطاعة من طضمبه؛
إذ كان على الطالب أن يُو يه تلك احلقوق كاملة من غري نقص ،وميكن اختصارها يف األمور االتية:
ـ من آداب الطالب مع أستاذه :إذا دخ عليه أن يكون كام اهليئة ،متطهر البدن ،والثياب ،يستأذنه يف الدخول،
وكذلك يف االنصراف ،وأن يكون دخوله لقاعة الدرس قب حَور املدرس(.)6
ـ أن جيلس بني يدي أستاذه أبدب ،مصغياً إليه ابنتباه ،وأال يتشاغ أثناء الدرس ،وال يكثر حركة يديه ،وال رجليه،
وال يعبث بشيء ،أو يكثر الكضمم بغري حاجة إىل غري ذلك ،من األخضمق الذميمة(.)7
ـ كما يلزم على الطالب أن ُحيسن خماطبة شيخه ،وأال يقاطعه ،أو خيالفه ،وأن يتلطف يف سؤاله ،وأن حيذر من تكرار
السؤال ،وأال يسبق الشيخ إىل شرح مسألة ،أو جواب سؤال منه ،أو من غريه(.)8
الشيخ كتاابً ،انوله إايه لفتحه ،والقراءة يه(.)9
َ الشيخ شيئاً؛ انوله ابليمني ،وإذا انول
َ وإذا انول
285
ـ وينبغي للطالب أن يدعو لشيخه مدهلة حياته ،ويرعى ذريهلته ،وأقاربه بعد و اته ،وأن يستغفر له ،ويتصدق عنه(،)1
إىل غري ذلك من الواجبات اليت كفلت لألستاذ حق االحرتام والتقدير من طلبته ،حىت تدوم العضمقة احلسنة بني ركين
التعليم :املدرس ،والطالب على احلب واملودة والتقدير من كضم اجلانبني لتكتم الفائدة(.)2
3ـ تعليم اإلانث :بلغ اهتمام املرأة املسلمة ابلدراسات الشرعية درجةً كبرية؛ لتتعرف على تعاليم الدين اإلسضممي
الصحيح ،لتطبيقه عملياً ،وكانت دراسة احلديث الشريف أتخذ القسط األوىف من هذا االهتمام ،حيث بلغ كثري من
كن مثاالً رائعاً لألمانة والعدالة ،وقد أشارت كتب
النساء هبذا العلم درجة عالية ،وان َ ْس َن يه كبار احلفاظ واحملدثني ،و هل
الرتاجم والطبقات إىل النشاط العلمي امللموس هلذه الفئة يف العهد الزنكي؛ حيث ذكرت تلك املصادر أمساء العديد من
املقرائت ،واحملداثت ،والفقيهات ،واألديبات ،والنحوايت ،إىل غري ذلك من العاملات ابلعلوم األساسية األخرى.
حمارمهن ،طلباً للعلم على أكابر العلماء واحملدثني ،وقد
هل كما دأب الكثري منهن على التنق بني األقاليم اإلسضممية مع
حصلن على إجازات علمية من كبار مشايخ العصر يف خمتلف املدن( ، )3وحسبنا دلي على نشاط املرأة يف هذا امليدان:
أن الذين ترمجوا البن عساكر املتوىف سنة ( 571هـ1176/م) أمجعوا على أنهله أخذ العلم عن بَع ومثانني امرأة(، )4 هل
إن عاملاً واحداً من علماء العصر مسع ماوهذه اإلشارة تدل على كثرة النساء املشتغضمت ابلعلم يف ذلك العهد ،حبيث هل
هلن ابن عساكر يف اترخيه(.)5
يزيد على مثانني امرأة ،هذا َضمً عن كثري من عدد النساء الضميت ترجم هل
ويبدو من خضمل بعض اإلشارات اليت ذكرها ابن عساكر يف اترخيه الكبري :هل
أن املنزل كان املدرسة األوىل ،اليت تتلقى
أهنن
أهنن نشأن يف بيوت العلماء ،و هل يها املرأة علومها ،ويضمحظ على النساء الضميت اشتهرن ابلعلم يف ذلك العهد :هل
يوهتن
كن يستفدن من الدروس ،اليت كانت تعقد يف ب هل أهنن هل
درسن على اابئهن ،أو أحد ذويهن من أويل العلم ،أو هل
كن يستمعن إىل ما كان يُلقى يف منازهلن من دروس ،وهو ما أطلق عليه «التعليم داخ منازل لتعليم الطضمب ،حيث هل
()6
السلميهلة
العلماء» ،ابن عساكر عندما يَُرتجم ألم أوالده ،وابنة خالته ـ عائشة بنت علي بن اخلَر بن عبد هللا هل
املتو اة سنة ( 564هـ1168/م) يقول عنها« :أمسعتها احلديث من اطمة بنت علي بن احلسني بن سه بن بشر بن
أمحد األسفرائيين ،املدعوة ست العجم» واملعرو ة ابلعاملة الصغرية ،يقول ابن عساكر« :مسعت أابها أاب الفرج»(.)7
يرتددن حلَور احللق؛ اليت كما أن أبواب املساجد ،كانت مفتوحة ملن أراد أن يتلقى تعليمه من النساء؛ حيث كن هل
هلن ،ومعزولة عن أماكن الرجال ،ال يكون هناك سبي لضمختضمط(.)8 كانت تعقد يها أماكن خمصصة هل
286
احلق يف نشر التعليم ،وقد شاركت املرأة يف ذلك ،وإن مل تتسلم
احلق يف التعليم قط ،ب كان هلا أيَاً ُّ
ومل يكن للمرأة ُّ
وظيفة التدريس يف املدارس التخصصية ابلشك الذي نراه اليوم ،قد أشار ابن عساكر ملث هذه املشاركة يف ترمجته ،
لفاطمة بنت سه بن بشر املدعوة ست العجم من أهنا« :كانت تعظ النساء يف املساجد»(.)1
وممهلن اشتهر من النساء ابلتدريس يف هذا العهد ،العاملة اطمة الفقيهة( ، )2املعاصرة للملك العادل نور الدين حممود ،
قد تصدهلرت للتدريس يف حلب ،وألهلفت مؤلفات عديدة يف الفقه واحلديث ،كما استشارها امللك نور الدين يف بعض
أموره ،واستفتاها يف بعض املسائ الفقهية ،وكان دائماً يبذل هلا ،ويعينها على مواصلة نشاطها العلمي( ، )3وما
حدث بني امللك نور الدين ،والعاملة اطمة الفقيهة يؤكد حرص املرأة املسلمة يف ذلك العهد ،على االلتزام التهلام
تتم بواسطة امرأة تُندب هلذا األمر ،ويف هذا الصدد ،يورد ابحلجاب اإلسضممي ،حيث هل
أن احملاداثت بينهما كانت ُّ
ال ُقرشي قصةً مفا دها :أن عضمء الدين الكاساين زوج العاملة اطمة الفقيهة ،عزم الرحي من حلب إىل بضمده ،إبيعاز
عر ه عضمء من زوجته اطمة ،استدعى امللك نور الدين اإلمام عضمء الدين الكاساين ،وسأله أن يقيم يف حلب ،هل
الدين دواعي سفره ،وأنه ال ميكن أن خيالف زوجته ابنة شيخه ،أرس امللك إىل زوجته اطمة خادماً خياطبها عن
امللك يف ذلك ،لم أتذن للخادم ،واحتجبت منه ،وأرسلت إىل زوجها من يقول له :بعد عهدك ابلفقه إىل هذا احلد
أي رق بينه ،وبني الرجال يف عدم النظر ،عاد اخلادم ،وذكر ذلك إيل هذا اخلادم ،و ُّ
،أما تعلم أنه ال حي أن ينظر هل
لزوجها حبَرة امللك ،أرسلوا إليها امرأة برسالة امللك ،خاطبتها ،وأجابتها إىل ذلك ،وأقامت حبلب إىل أن تو يت
،وتويف زوجها الكاساين بعدها سنة 587هـ1191/م ود ن عندها حبلب( )4وقد حتدث الدكتور ابن عزوز عن جهود
بنوع من التفصي .
املرأة الدمشقيهلة يف رواية احلديث الشريف ٍ
4ـ أساليب التقومي :مل يُعرف يف العهد الزنكي ما يشري إىل أنهله يطلب من املتعلمني أتدية امتحان بعد االنتهاء من
الدراسة ـ كاالمتحاانت اليت تُعقد يف عصران هذا ـ ولكن األساتذة كانوا مينحون طلبتهم األكفهلاء شهادات ،أو إجازات
معني إبشراف الشيخ الفضمين ،دون أن يؤدي الطالب امتحاانً ، منهج هل ٍ
ينصون يها على أن الطالب قد أمتهل دراسة ٍ ُّ ،
والغرض من اإلجازة اإلقرار بكفاية الطالب ،واجتهاده ،وانكبابه على العلم ،وتفرغه للدراسة والبحث ،وكانت
اإلجازات العلمية شهادات شخصية ،مينحها الشيوخ ملن يرون يه الكفاية ،وال عضمقة هلا مبنظهلمة تعليمية معينة ـ كما
هي عليه احلال يف الوقت احلاضر.
وإذا كانت اإلجازة إقراراً أبن الطالب قد أمتهل دراسة كتب معينة ،أو إقراراً له بصضمحيته للتدريس ،أو الفتوى ،بناءً
على جمهود علمي قام به؛ هي بذلك تُعد أحد أساليب التقومي ،كذلك إذا كانت ألقاب العلماء تعين املكانة العلمية
اليت بلغها العامل ،أو املدرس ابلنسبة لعلماء عصره ،هي أيَاً تُعد من أساليب التقومي ،وقد احنصرت أساليب التقومي
287
يف العهد الزنكي يف هذين املعيارين :اإلجازات العلمية ،واأللقاب العلمية :اإلمام ،واحلا ظ ،والشيخ ،والفقيه ،
واحملدث ،واملقرئ(.)1
اثلثاً :ميادين العلوم يف العهد الزنكي:
مشلت النهَة العلمية يف العهد الزنكي خمتلف العلوم ،لم يقتصر االهتمام ابلعلوم الشرعية ،واللغوية ،واألدبية دون
غريها ،وإ ْن كانت الصيغة العامة ملدارس الزنكيني ،والدراسات اليت قامت هبا هي االهتمام بدراسة مذهب ،أو أكثر
السنية ،لكون هذا جزءاً من األهداف اليت أنشئت من أجلها هذه املدارس ،وتلك الدور ،اليت رهلكزت من املذاهب ُّ
اهتمامها على نشر املذهب السين ،ومقاومة املذهب الشيعي؛ الذي كان منتشراً يف بعض املناطق يف مدة سابقة على
()2
حكم الزنكيني للمنطقة ،وخباصة يف بضمد الشام ،وبعض مناطق اجلزيرة هلإابن رتة خَوعها للدولة الفاطمية الشيعية
يف مصر.
ولكن هذا ال يعين ،بك األحوال اقتصار التعليم يف ذلك العهد على تدريس الفقه ،أو غريه من روع العلوم الشرعية،
درس يها خمتلف التخصصات العلمية إىل وما يتص هبا من العلوم اللغوية واألدبية ،وإمنا كانت هناك مدارس علمية تُ هل
املوجه من الدولة ،والذي يتوا ق مع مصاحل األمة ،وعقيدهتا قد انلت ميادين علمية كثرية جانب ذلك التخصص هل
نصيباً من اهتمامات الدارسني والباحثني ،وقُدمت يها دراسات علمية رائدة ،وصنفت يها كتب مهمة ،اعتمد عليها
كثري ممن جاء بعدهم ،حيث ظهرت دراسات متخصصة يف العلوم التارخيية ،واجلغرا ية ،وعلوم الرايضيات ،والفلك،
إضا ة إىل تدريس الطب يف كثري من البيمارستاانت املنتشرة يف املدن الزنكية ،وظهر من بني املشتغلني هبذه التخصصات
علماءُ كان هلم أثر كبري يف إثراء املكتبة اإلسضممية ابلعديد من املؤلفات املتخصصة؛ اليت ظلت را داً للعلوم اإلسضممية،
()3
وتنوع الدراسات والبحوث اليت قدمت يه وحىت الوقت احلاضر ،واتساع أ ق التفكري اإلسضممي يف هذا الصددُّ ،
نتيجةٌ واضحة للنشاط العلمي الذي شهدته املدن الزنكية خضمل ذلك العهد ،وإليك أهم تلك العلوم:
اءات ،وتفس ٍري ،وحديث، 1ـ العلوم الشرعيهلة :كانت الغَلَبة يف ميادين العلوم يف العهد الزنكي للعلوم الشرعية من قر ٍ
و ٍ
قه ،وأصوله ،مث علوم اللغة العربية ،وآداهبا ،وهذا األمر يتهلفق مع ترتيب العلماء للعلوم حسب أمهيتها ،قد رتهلبوها
إىل علوم شرعية وعلوم أخرى ختدمها وتوضحها ،ويف هذا اجملال ذهب اإلمام املاوردي املتوىف 405هـ1058/م إىل
ب صرف االهتمام إىل أن أ َ العلوم هي علوم الدين؛ إذ قال« :إنه إن مل يكن إىل معر ة مجيع العلوم سبي ٌ؛ َو َج َ
معر ة أمهها ،والعناية أبوهلا ،وأ َلها ،وأُوىل العلوم وأ َلها علم الدين؛ ألن الناس مبعر ته يرشدون ،وجبهله يَلون؛
عبادة جه اعلها صفات أدائها ،ومل يعلم شروط أجزائها»( .)4وهذا رأي ابن مجاعة أيَاً عندما إذ ال يصلح أداء ٍ
األهم ،األهم ،يقدم تفسري القران ،مث احلديث ،مث أصول قال( :إذا تعددت الدروس؛ قُدم األشرف ،األشرف ،و ُّ
288
الدين ،مث أصول الفقه ،مث املذاهب ،مث اخلضمف ،أو النحو أو اجلدل)( .)1وتشتم العلوم الشرعية على روع عديدة
من أمهها:
درس يف دور التعليم املختلفة ،كما
أ ـ علم القران :وقد نشط علم القراءات يف العهد الزنكي ،وكان من العلوم اليت تُ هل
مهمة يف القراءات يف العهد الزنكي ،ومنهم:
ظهر العديد من علماء القراءات؛ الذين كانت هلم مصنهلفات هل
الصحان ،املتوىف
ـ عبد العزيز بن علي بن حممد بن سلمة أبو محيد ،وأبو الصبغ السماين اإلشبيلي ،املعروف أبيب هل
حبلب 560هـ1164/م أستاذ كبري ،وإمام حمقق ابرع ،جمود ثقة ،ولد سنة 498هـ 1104/تنق بني البضمد طلباً
للعلم ،ودخ الشام ،ومات حبلب بعد الستني ومخسمئة( ، )2وكانت له مصنفات مهمة يف القراءات منها كتاب
(الوقف واالبتداء ،وكتاب :مرشد القاري إىل حتقيق معامل القاري) الذي قال عنه ابن اجلزري( :ال يعرف قدره إال من
وقف عليه(.))3
ـ كما برز من ُمقرئي العهد الزنكي :أبو بكر حيىي بن سعدون بن متهلام بن حممد األزدي ،املتوىف ابملوص سنة 567ه(،)4
1172م من أه قرطبة ،سكن دمشق واملوص ،أحد أئمة اللغة والقران ،وله يد قوية يف النحو والقراءة برواايت
مصر والعراق ،تنق بني البضمد يطلب العلم؛ حىت وص املوص ،وأقام هبا إىل أن مات ،وأقرأ الناس القرآن الكرمي
ابلقراءات ،وانتفع به خلق عظيم ،قال عنه ايقوت( :شيخ اض عارف ابلنحو ووجوه القراءات)( .)5وقال الذهيب:
(وبرع يف العربية ،والقراءات ،وتصدر يهما مدة)(.)6
ب ـ علم التفسري :كانت حركة التفسري نشطة يف العهد الزنكي ،حيث كان التفسري مادة أساسية يف بعض دور التعليم
يف هذه العهد ،وبرز يه علماء أجضمء تركوا أثراً زاخراً يف هذا العلم ،كان من أبرزهم:
ـ اإلمام احلا ظ حجة الدين حممد بن أيب ظفر الصقلي ،املتوىف سنة 565هـ1169/م وذكر له ايقوت من التصانيف
يف التفسري (كتاب التفسري الكبري) و(ينبوع احلياة)(.)7
نوي ،املتوىف يف حلب سنة 582هـ (1186م) وكان قد تلقى تعليمه يف ـ ومن املفسرين املربزين علي بن إبراهيم الغز ُّ
بغداد ،على إمام التفسري يف عصره حممود بن عمر بن حممد الزخمشري ،املتوىف سنة 538هـ114/م ،صاحب
(الكشاف يف التفسري) ،لما عاد إىل حلب توىل التدريس يها ،وألف يها مصنفات عديدة ،يف التفسري ،والفقه،
289
واللغة ،واألصول ،وكان أشهر ما ألفه يف التفسري كتاب (تقشري التفسري)( )1وقد رغ من تصنيفه يف حلب سنة 572هـ
1176م(.)2
ج ـ احلديث :ازدهر علم احلديث ،يف العهد الزنكي ،حىت إنه ميكن أن يعد هذا العهد من العصور الذهبية لدراسات
احلديث والتأليف ،فيه أنشئت أول دار للحديث يف اإلسضمم ،وهي دار احلديث النورية ،ولع هل من أبرز عوام
االهتمام بعلم احلديث ،ودراسته ،والتأليف يه يف هذا العهد ،اهتمام امللك العادل نور الدين حممود نفسه هبذا العلم
،قد أُثر عنه :أنه كان مهتماً بدراسة احلديث الشريف و همه(.)3
كما كان له إجازات عديدة يف هذا العلم من عدهلة شيوخ( ،)4وبلغ من حرصه على هذا العلم أن صنهلف كتاابً يف َائ
اجلهاد وأحاديثه وهو بدمشق( ، )5كما كان االهتمام بعلم احلديث لوانً من ألوان التوجيه ،الذي رضه الوجود الصلييب
على الدراسات يف تلك الفرتة ،قد شارك احلا ظ ابن عساكر املتوىف سنة 571هـ 1176م ،يف هذا اجملال جبمع
أربعني حديثاً يف َائ اجلهاد ،ويف جزء واحد وأهداه إىل امللك نور الدين حممود( ، )6كما صنهلف ابن اجلوزي املتوىف
سنة 597هـ1201/م مصنهلفاً مجع يه أحاديث اجلهاد ،و َائله يف كتاب أمساه (البحر النوري)(.)7
وقد زاد االهتمام هبذا العلم ،حيث ظهر يف العهد الزنكي عدد كبري من رجال احلديث ،الذين أ نوا أعمارهم يف مجعه
،وتصنيفه ،وضبطه ،وتنقيحه ،ومنهم علماء مجعوا تراجم ُمستفيَة لرجال احلديث يف مجيع العصور ،وكان هلؤالء
العلماء َ ال ينكر يف الكتابة والتصنيف يف هذا الفرع من العلوم الشرعية( ، )8ومن أبرز علماء احلديث يف العهد
الزنكي:
ـ اإلمام احلا ظ أبو القاسم علي بن هبة هللا بن عبد هللا الشا عي ،املعروف اببن عساكر الدمشقي ،وسيأيت احلديث
عنه إبذن هللا مستقبضمً.
ـ وممن برز يف علم احلديث يف هذا العهد :اإلمام جمد الدين أبو السعادات املبارك ابن األثري اجلزري ،املتوىف
606هـ1209/؛ ،وقد اشتهر جمد الدين بن األثري يف علوم عديدة ،كان منها علم احلديث ،حيث صنهلف يه
مصنفات هامة ،كان من أبرزها (جامع األصول يف أحاديث الرسول)( .)9ذكر ايقوت :أنه مجع يه بني البخاري ،
ومسلم ،واملوطأ ،وسنن أيب داود ،وسنن النسائي ،والرتمذي ،عمله على حروف املعجم ،وشرح غريب احلديث
290
ومعانيها وأحكامها ،وصنف رجاهلا ،ونبهله على مجيع ما ُحيتاج إليه منها ،مث قال( :أقطع قطعاً :أنه مل يُصنف مثله ق ُّ
ط
،وال يصنف)(.)1
وقد طبع هذا الكتاب ألول مرة يف القاهرة سنة 1368هـ1949/م يف اثين عشر جزءاً بعناية عبد اجمليد َسليم ،وحامد
الفقي ،وهي طبعة انقصة ،مث أعيد نشره كامضمً بتحقيق عبد القادر األرانؤوط ،وطبع يف دمشق 1394هـ1974/م
يف أحد عشر جزءاً وهي طبعة جديدة مشتملة على مقدمة و هارس( ،)2وقد قام صاحب كتاب السنة النبوية الشريفة
موسعة عن احلديث يف هذا العهد. يف القرن السادس اهلجري بدراسة هل
ح ـ الفقه وأصوله :عم العلماء يف العهد الزنكي على مجع آاثر من سبقهم ك ٌّ حبسب مذهبه الذي ينتمي إليه من
وخر ُجوا على األحكام ،
املذاهب السنية األربعة :احلنفي ،والشا عي ،واحلنبلي ،واملالكي ،ورجحوا بني الرواايت ،هل
وبنوا تاويهم على شىت املسائ والفروع من أصول أئمتهم وقواعدهم و تاويهم( ، )3وكانت الدولة الزنكية تدعم املذاهب
السنية األربعة ،واستطاعت تلك املذاهب السنية أن تَيق اخلناق على الفكر الشيعي الرا َي يف الدولة الزنكية ،
وأصبح الفكر السين هو املذهب السائد يف بضمد الشام.
وقد برز خضمل العهد الزنكي علماء أجضمء يف الفقه وأصوله ،كان لبعَهم أحباث رائعة ،ودراسات جليلة ،ونظرات
صائبة يف دراسة الفقه اإلسضممي.
املذهب الشا عي :وممن برز يف هذا املذهب :اإلمام القاضي أبو الفَ كمال الدين حممد بن أيب عبد هللا بن أيب املظفر
القاسم الشهرزوري ،املتوىف سنة 572هـ1176/م( ، )4وقد ُوصف أبنه كان ( :قيهاً أديباً شاعراً كاتباً كه اجملالسة،
يتكلم يف اخلضمف واألصول)( .)5هذا ابإلضا ة إىل شهرته يف السياسة ،وأصول احلكم ،والكرم ،كما كان كثري
الصدقات واملعروف ،وأوقف أوقا اًكثرية ابملوص ،ونصيبني ،ودمشق على أعمال اخلري ،وطلب العلم ،وقد اشتهرت
خصصها لتدريس الفقه الشا عي(.)6 مدرسته ابملوص (الكمالية القَوية) ،وكان رأس املدرسني يها؛ حيث هل
ـ ومن علماء الشا عية البارزين يف هذا العهد :اإلمام قطب الدين مسعود بن حممد النيسابوري ،املتوىف سنة
578هـ1182/م( ، )7قال عنه السبكي( :كان إماماً يف املذهب الشا عي ،واخلضمف ،واألصول ،والتفسري ،والوعظ،
أديباً مناظراً)( )8أما أبرز جهوده يف علم الفقه ،تتمث يف مصنفه الكبري (كتاب اهلادي) يف الفقه ،والذي قال عنه
ابن خلكان( :وهو خمتصر ان ع مل أيت يه إال ابلقول الذي عليه الفتوى(.))9
291
ـ وممن برز يف علم الفقه الشا عي أيَاً :اإلمام شرف الدين عبد هللا بن أيب عصرون ،املتوىف سنة 585هـ (1189م)،
وكان من أعيان الفقهاء يف ذلك العهد ،شارك يف تدريس الفقه الشا عي يف العديد من املدارس الزنكية ،وصنف ُكتباً
كثرية منها( :صفوة املذهب من هناية املطلب) وهو يف سبع جملدات ،وكتاب (االنتصار) ملذهب الشا عي يف أربع
جملدات ،و(كتاب املرشد) يف جملدين ،وكتاب (الذريعة يف معر ة الشريعة) يف جملد واحد ،وكتاب (مآخذ النظر)
وكتاب (اإلرشاد املغرب يف نصرة املذهب) ،ومل يكمله ،وذهب يما ذهب له حبلب(.)1
ُ
ـ املذهب احلنفي :وممن برز يف هذا املذهب :الشيخ عبد الغفار بن لقمان بن حممد أبو املفاخر ال ُكردي ،امللقب اتج
الدين املتوىف سنة 562هـ1166/م( ، )2إمام احلنفية يف حلب ،كان على غاية من الزهد والورع ،توىل قَاء حلب
للملك نور الدين حممود بن زنكي ،وخلف ااثراً مجة يف الفقه وأصوله ،في الفقه شرح (اجلامع الصغري يف الفروع)
لإلمام اجملتهد حممد بن احلسن الشيباين احلنفي املتوىف سنة 187هـ (803م) ،وكان يذكر لك ابب أصضمً ،مث خيرج
عليه املسائ ( ، )3ومجع املسائ اليت حيار يف حلها العلماء يف كتاب مسهلاه( :حرية الفقهاء( ، ))4ويف أصول الفقه شرح
كتاب أستاذه ركن الدين عبد الرمحن بن حممد الكرماين احلنفي املتوىف سنة 543هـ1148/م املوسوم ابلتجريد يف كتاب
مسهلاه( :املفيد واملزيد)(.)5
ـ ومن قهاء احلنفية البارزين ،يف العهد الزنكي :اإلمام رضي الدين حممد بن حممد السرخسي امللقب بُرهان اإلسضمم ،
ُ ()6
ودرس ابملدرسة الوردية ،واحلضموية،
املتوىف حبلب عام 571هـ1175/م ،قدم حلب يف عصر نور الدين حممود ،هل
بعد اإلمام عضمء الدين الغزنوي ،املتوىف سنة 564هـ1169/م ،وقد اشتهر اإلمام رضي الدين مبصنفه الكبري (احمليط)
وهو يف أربع مصنفات (احمليط الكبري) وهو حنو من أربعني جملداً ( ،واحمليط الثاين) عشر جملدات ( ،واحمليط الثالث)
أربع جملدات ،والرابع جملدان(.)7
ـ وممن اشتهر ابلفقه احلنفي :اإلمام أبو بكر عضمء الدين بن مسعود بن أمحد الكاساين ،ملك العلماء ،املتوىف حبلب
سنة 587هـ1191/م ،قَدم إىل نور الدين حممود حبلب رسوالً من ملك الروم واله نور الدين التدريس ابملدرسة
احلضمهلوية ،بعد أن ُعزل منها اإلمام رضي الدين السرخسي املتوىف سنة 571هـ1175/م ،وقد استمر عضمء الدين
الكاساين مدرساً يف احلضموية حىت و اته( ، )8تفقه عضمء الدين على أيب منصور حممد بن أمحد بن أيب أمحد السمرقندي
صاحب (حتفة الفقهاء) وزوجه شيخه ابنته اطمة الفقيهة ،وجع مهرها شرح كتاب التحفة يف كتاب أمساه (البدائع)
قال الفقهاء يف عصره «شرح ُحتفته وزوجه ابنته»( ،)9واشتهر عضمء الدين الكاساين ،وزوجته اطمة الفقيهة ،يف
292
مذهب أيب حنيفة يف بضمد الشام ،وكانت حتفظ مصنف والدها (التحفة)( ، )1وكان كتاب (البدائع) أشهر مصنفات
ومسي( :بدائع الصنائع يف ترتيب الشرائع)(.)2
اإلمام عضمء الدين الكاساين ،وهو من الكتب املعتربة يف الفقه احلنفي ُ
عمار بنـ املذهب احلنبلي :وممن برز هبذا املذهب يف العهد الزنكي :الشيخ الزاهد أبو احلسن علي بن عمر أمحد بن هل
أمحد بن علي بن عبدوي احلراين ،الفقيه احلنبلي ،ولد سنة إحدى عشرة ومخسمئة ( 1116ـ 1117م) ،ومسع
حران ،و هلأم الناس جبامعها ،له مصنفات حسنة يف
ببغداد ،وتفقهله ،وبرع يف الفقه ،والتفسري ،والوعظ ،مث قدم هل
التفسري ،والفقه احلنبلي ،أبرزها( :املذهب يف املذهب) وكانت و اته يف اخر هنار يوم عر ة سنة 559هـ1164/م
حبران(.)3
ـ ومنهم :أبو العضمء جنم الدين بن عبد الوهاب بن شرف اإلسضمم عبد الواحد بن حممد بن علي الشريازي ،الدمشقي
درس ،شيخ احلنابلة ابلشام يف وقته ،واملتوىف عام 586هـ1190/م ،ولد سنة 498هـ1104/م ،مسع ،وأ ىت ،و هل
وهو ابن عشرين سنة إىل أن مات( ، )4وغريهم.
عدد كبري من علماء الفقه واألصول ،وخباصة على املذهب الشا عي ،واحلنفي ،واحلنبلي(.)5 لقد ظهر يف هذا العهد ٌ
وال عجب يف ذلك االهتمام الكبري ابلفقه والفقهاء ؛ قد كان الفقه مصدر التشريع ،وعليه يعتمد هل
احلكام يما يصدرونه
من أحكام ،وكان امللك قب أن يصدر حكماً مهماً حيرص أبن يظفر أوالً مبوا قة الفقهاء ،مبختلف مذاهبهم على
هذا احلكم ،كما جرى يف دمشق حينما عقد امللك العادل نور الدين حممود جملساً مع الفقهاء للتشاور يما ينوي
اختاذه يف أمر األوقاف ،واملصاحل املتعلقة ابملساجد ،واملدارس ومصارف األوقاف ،وجواز نقلها إىل مصاحل أخرى أهم
من األوىل ،ومل يتخذ نور الدين حكماً إال بعد أن استمع ملشورة مجيع الفقهاء ،وحظي مبوا قتهم ،وانقشهم يما ينوي
القيام به ،وُكتب يف ذلك حمَر يف صورة ما جرى يف ذلك اجمللس ،ووقهلع عليه مجيع احلاضرين(.)6
وقد اهتم العلماء بفروع أخرى من العلوم ،ورهلكزوا يها دراساهتم ،وكان أشهر هذه الفروع «الفرائض» الذي يُعد ابابً
من أبواب الفقه ،انل اهتماماً خاصاً من العلماء يف هذا العهد ألمهيته ،وكثرة االحتياج إليه؛ حىت أصبح علماً قائماً
بذاته .وموضوعه :البحث عن أحوال قسمة الرتكة بني مستحقيها على روض مقدرة يف كتاب هللا عز وج ،وسنة
نبيه حممد صلى هللا عليه وسلم ،وهذا الباب من أصعب أبواب الفقه( ،)7وممن برز يف علم الفرائض يف العهد الزنكي:
اإلمام احلا ظ حجة هللا أبو عبد هللا حممد بن أيب حممد بن حممد بن ظفر املكي الصقلي املتوىف سنة 565هـ1169/م
،وكان قد صنهلف تصانيف كثرية يف علوم عديدة ،كان منها أرجوزة يف الفرائض(.)8
293
خص كثري من العلماء جهودهم يف العهد الزنكي بعلمي (اخلضمف واجلدل) وصنهلفوا يها املؤلفات احلسنة(.)1 كما هل
جد العلماء ،يف العهد الزنكي ،يف دراسة وحتصي علوم العربية وآداهبا ،ضم يكاد يوجد عامل من املشتغلني ابلعلوموقد هل
الشرعية إال وقد عين بدراسة هذه العلوم ،ابعتبارها أساساً من أهم األسس اليت تقوم عليها العلوم الشرعية ،وقد
حظيت العلوم العربية وآداهبا بعناية ائقة من الزنكيني؛ حيث حرص احلكام ،وأمراء األسرة على اختيار العلماء األ ذاذ
يف هذا اجملال لتويل مناصب الكتابة ،واإلنشاء ،وكانوا يستقدمون هلذه الوظائف َم ْن ذاع صيته وشأنه يف هذه العلوم
،واجتمع يف املدن الزنكية خضمل تلك الفرتة طائفة كبرية من اللغويني ،والنحاة ،واألدابء ،وبرز منهم علماء أجضمء
خلهلفوا ترااثً مهماً يف علوم العربية وآ داهبا على اختضمف روعها ،واليت من أمهها :اللغة ،والنحو ،والصرف ،والبضمغة
،والنقد األديب ،واألدب ،والعروض ،والقا ية ،ومن أراد التوسع لريجع إىل كتاب احلياة العلمية يف العهد الزنكي ،
للدكتور إبراهيم بن حممد احلمد املزين(.)2
أن النهوض عندما حيدث لألمة يكون يف الغالب شامضمً ،وليس عسكرايً ،أو والرسالة اليت نريد أن تص للقارئ :هل
سياسياً ،كما يظن البعض ممن يطلقون األحكام بدون دراسة واعية ،أو حبث عميق ،مث يعممون هذه األحكام
الناقصة يف جلساهتم ،وحما ضراهتم ،ومقاالهتم ،وابلتايل يسامهون يف تسويق ثقا ة مغلوطة عن اتريخ أمتنا ،ظاملة
ألجدادان البواس الذين استوعبوا قه النهوض ،ومارسوه يف دنياهم.
2ـ العلوم التارخيية واجلغرا ية :ازداد االهتمام ابلدراسات االجتماعية يف العهد الزنكي وخباصة يف ميداين الدراسات
التارخيية ،واجلغرا ية ،وحيث برز يف هذا العهد عدد كبري من املؤرخني الذين تنوعت اهتماماهتم يف خمتلف صور
الر هلحالة ،الذين أثروا هذا اجلانب بتأليف جديدة مهمة ،وإذا
الكتاابت التارخيية ،كما اشتهر عدد من علماء اجلغرا يا و هل
كان التأليف يف َائ اجلهاد ،واالهتمام ابلدراسات الشرعية ،واألدبية املتعلقة به جيد تفسريه يف الوجود الصلييب يف
إن االهتمام ابلدراسات التارخيية ،واجلغرا ية يرجع للسبب نفسه ،وقد متثهل هذا األثر يف ظهور دراسات املنطقة؛ هل
ضد العدوان الصلييب يف املنطقة؛ حيث وجد املتخصصون هبذا الفرع من العلوم متخصصة هلا طابع اجلهاد اإلسضممي ،هل
ـ اجلهاد ـ مادة زخرت هبا مؤلفاهتم ،سواء عن طريق الكتاابت التارخيية؛ اليت تؤرخ للمعارك بني املسلمني والصليبيني ،
أو يف الكتابة يف َائ املدن ،وتراجم الشخصيات البارزة يف جمال اجلهاد.
كما ظهر ذلك األثر يف كتاابت الرحالة الذين زاروا املنطقة ،ووصفوا األوضاع العامة اليت كان يعيشها املسلمون إىل
جانب الصليبيني ،كما اهتموا بتحديد البلدان ،وخططها ،وقد أصبحت املنطقة الزنكية بسبب الوجود الصلييب يها
كز االهتمام السياسي ،واالقتصادي ،والفكري يف العامل اإلسضممي ،حيث كانت تلك الدولة متث مركز اليقظة مر َ
اإلسضممية يف مواجهة العدوان الصلييب يف املنطقة ،إضا ة إىل استقطاب قادة هذه الدولة العديد من العلماء األعضمم
من كا ة املناطق اإلسضممية ،مما كان له أثر يف تطوير العلوم ونشاطها( ، )3وكانت أبرز اجلهود اليت بُذلت يف ميداين
الدراسات التارخيية واجلغرا ية يف هذا العهد تتمث يما أييت:
294
ـ الرتاجم والطبقات :يُ َـع ُّـد هذا النوع من أهم أنواع الكتابة التارخيية يف هذا العهد ،قد ُعين به املؤرخون عناية ائقة ،
ما أن يظهر أحد من املتخصصني يف أي رع من روع العلم واملعر ة إال وتناولته كتب الرتاجم ابلكتابة عن تفصيضمت
حياته ،ودراسته ،وتنقضمته ،وشيوخه ،وتضممذته ،وإسهاماته العلمية يف جمال التأليف والتدريس ،وتعد هذه املؤلفات
من املصادر املهمة للتاريخ اإلسضممي؛ إذ إهنا تزو ُد الباحث يف التاريخ مبادة اترخيية خصبة( .)1ويُ َـع ُّد احلا ظ علي بن
احلسن بن هبة هللا الدمشقي املعروف اببن عساكر من أبرز العلماء الذين اهتموا ابلكتابة على هذا املنهج يف هذا العهد
حني كان اهتمامه منصبهلاً على احلديث ،وتراجم العلماء ،وخباصة رجال احلديث طوال حياته ،ومع أن كتابه (اتريخ
دمشق) قد مش التاريخ العلمي ،والثقايف ملدينة دمشق ،إنه يـُ َع ُّد واحداً من أشهر كتب الرتاجم بعد كتاب (اتريخ
بغداد) للحا ظ أيب بكر أمحد بن علي املعروف ابخلطيب البغدادي املتوىف 463هـ1070/م وكان ابن عساكر قد سار
على هنجه(.)2
ـ وممهلن برز يف الكتب التارخيية على هذا املنهج يف العهد الزنكي أبو عبد هللا عماد الدين حممد بن صفي الدين أبو
الفرج ،املعروف ابلعماد األصفهاين الكاتب ،املتوىف سنة 597هـ1201/م ،الذي صنف املوسوعة املشهورة عن أدابء
وشعراء العصر يف كتابه (خريدة القصر وجريدة العصر) والذي هلأرخ يه لشعراء وأدابء زمانه ،يف كا ة األقطار
اإلسضممية(.)3
ـ وممهلن كتب يف الرتاجم :املؤرخ املشهور عز الدين أبو احلسن بن علي بن حممد بن عبد الكرمي الشيباين املعروف اببن
األثري املتوىف سنة 630هـ1233/م( )4قد كان ابن األثري مؤلفاً نشيطاً ابرعاً ،استطاع أن خيلد امسه بني كبار املؤرخني
،عن طريق مصنهلفاته اليت من أشهرها :كتاب (الكام يف التاريخ) ،وكتاب (اللُّباب يف هتذيب األنساب) وكتاب
(التاريخ الباهر يف الدولة الزنكية) وكتاب (أسد الغابة يف معر ة الصحابة)( ، )5الذي أورد يه ما يربو على سبعة آالف
وبني أوهامهم(.)6
ومخسمئة ترمجة ،واستدرك على َم ْن تقدمه من مؤلفي الرتاجم ما اته ،هل
ختصص ريق اخر من املؤرخني ابلتأليف احمللي ،والذي يُعد تعبرياً صادقاً عن ارتباط املؤرخـ التاريخ احمللي (اخلاص) :هل
إبقليمه ،واعتزازه بوطنه .وقد لقي هذا االجتاه إقباالً كبرياً من املؤرخني يف العهد الزنكي( ، )7وقد ظهر يف هذا العهد
عدد من املؤلفات املهمة يف هذا اإلطار ،ومن أبرز َم ْن كتب يف هذا املنهج خضمل العهد الزنكي:
ـ ابن القضمنسي :أبو يعلى محزة بن أسد بن علي بن حممد التيمي ،املتوىف سنة 555هـ1160/م( )8العميد األديب
الشاعر املؤرخ ،كان من أعيان دمشق ،ومن أ اضلها املربزين ،وكانت له عناية ابحلديث ،وكان أديباً له خط حسن،
295
ويل رائسة ديوان اإلنشاء بدمشق مرتني ُ ،عمر بَعاً ومثانني سنة ،وتويف سنة 555هـ1160/م ،وقد ونظم ،ونثرَ ،
استفاد القضمنسي من عمله يف ديوان اإلنشاء بدمشق ،اطهللع على الواثئق الرمسية مبختلف أنواعها ،مما أكسب اترخيه
أمهية خاصة ابلنسبة ألحداث عصره .والبن القضمنسي :كتاب (اتريخ دمشق) بدأ به سنة 360هـ971/م وانتهى إىل
صنف حسب احلوادث واحلوليات ،مث هو املصدر األساسي سنة و اته 1160(555م) ،وهو أول اتريخ لدمشق ُ
لتاريخ الشام أايم الفاطميني ،والسضمجقة ،يه أقدم سرية لدمشق وأهلها من النواحي العمرانية ،واالجتماعية ،والعقيدية،
والسياسية ،وذلك خضمل قرنني حامسني ،ومل يقتصر يف هذا الكتاب على اتريخ دمشق ،ب عاجل يف مؤلفه كثرياً من
احلوادث السياسية اليت وقعت يف الشام ،والعراق ،واجلزيرة ،ومصر ،ولكنها بصورة مقتَبةَ ،ضمً عن اهتمامه
ٍ
مستمر(.)1 أبحوال اإلمارات الصليبية يف بضمد الشام ،وما كان يدور بينها وبني القوى اإلسضممية يف املنطقة من نز ٍاع
ـ ومن املؤرخني يف التاريخ احمللي :عز الدين أبو احلسن علي بن أيب الكضمم بن األثري اجلزري املتوىف سنة 630هـ
(1233م) وقد صنهلف كتاب (اتريخ املوص ) وهو املوسوم (ابلتاريخ الباهر يف الدولة األاتبيكية) وهو اتريخ للدولة
منوعة :اقتصادية ،واجتماعية ،وثقا ية الزنكية ابملوص ،عرض يه ابن األثري ابإلضا ة إىل األخبار السياسية تفاصي هل
عن املوص مطلع عماد الدين زنكي سنة 521هـ1127/م حىت و اة امللك نور الدين أرسضمن شاه سنة
607هـ1210/م(.)2
ـ التاريخ العاملي (العام) :وهو الكتابة التارخيية اليت يتناول يها املؤرخ األحداث ُمنذ بدء اخلليقة حىت عصره دون االرتباط
إبقليم واحد ،وأهم كتاب يف ذلك العصر (الكام يف التاريخ) لعز الدين علي بن حممد اجلزري املتوىف 630هـ 1233م
،لقد انل ابن األثري شهرته بني مؤرخي القرن السادس اهلجري بسبب أتليفه هلذا الكتاب ،وكان قد ألفه على طريقة
حترى ابن األثري احلقيقة والدقة يما
احلوليات ،ابتدأ يه أبول الزمان ،حىت وص به إىل سنة 628هـ 1231م ،وقد هل
كتب ،وحاول االبتعاد عن اإلسهاب وتكرار الرواايت ،مث إنه راعى التوازن يف كتابه لتارخيه بني أقاليم العامل اإلسضممي
،لم تصر ه األحداث اليت أملت ابملشرق ،عما كان جيري ابملغرب من تطورات( ، )3وقد اتبع ابن األثري يف كتابه:
لخصها ،حد بعيد هل الطربي يف اترخيه متابعة دقيقة إىل ٍ
ُّ الكام املعلومات التارخيية ،اليت أوردها اإلمام حممد بن جرير
مث أضاف إليها الكثري من املعلومات ،وخباصة تلك اليت تتعلق ابلفرتة التالية لتوقف الطربي عن الكتابة ،وبذلك احت
ابن األثري مكانة مرموقة بني املؤرخني املسلمني ،و هلاختذ كتابه طابع التاريخ العام أكثر من أي اتريخ عام غريه(.)4
ـ التاريخ املعاصر واملذكرات :وممهلن عاصر األحداث يف عهد الدولة الزنكية ،وكتب عنها أبسلوب املذكرات ،أبو املظفر
مؤيد الدهلولة أسامة بن منقذ بن علي بن مقلد الشيزري ،املتوىف سنة 584هـ1180/م( ، )5وله كتاب (االعتبار) وهذا
الكتاب ق أن يوجد ما يشاهبه من كتب التاريخ يف ذلك العهد؛ إذ يَعنا أسامة بن منقذ يف هذا الكتاب أمام مذكرات
يف األدب التارخيي تتَمن خضمصة جتارب أسامة ،وما صاد ه أسامة يف حياته من حوادث ،وتعكس صور احلياة يف
296
العصر من حروب ،و روسية ،ومضممح من احلياة االجتماعية ،واالقتصادية ،والعلمية على الصعيدين :اإلسضممي ،
والصلييب(.)1
ـ وممهلن كتب أبسلوب املذكرات :العماد األصفهاين ،الكاتب املؤرخ املتوىف سنة 597هـ1201/م وأهم ما كتب يف هذا
اجملال ( ،الربق الشامي) ،وهو أشبه ابملذكرات الشخصية؛ ألنه بدأه بذكر نفسه ،وحياته ،وانتقاله من العراق إىل
الشام ،وأخباره مع نور الدين حممود ،وصضمح الدين األيويب ،واتريخ دولتهما مع ذكر بعض الفتوح ابلشام(.)2
ـ اجلغرا يا والرحضمت :تُ َـع ُّد الرحضمت ،وزايرة األقطار املختلفة من أهم وسائ املعر ة اجلغرا ية ،وقد اشتهر كثري من
اجلغرا يني املسلمني ،مث :ابن حوق ،واملسعودي ،واملقدسي ،واإلدريسي ،وابن ُجبري ،وابن بطوطة برحضمهتم
الطويلة؛ حيث اق املسلمون يف ميدان الرحلة ،والكشف اجلغرايف غريهم من الشعوب.
وساعد على الرحضمت اإلسضممية أمور عديدة ،منها :اتساع رقعة الدولة اإلسضممية بعد الفتوحات ،وانطضمق املسلمني
إىل مراكز العلم املنتشرة يف سائر أقطار العامل اإلسضممي ،كذلك رح الناس للتجارة بني األقطار اإلسضممية يف املشرق
الرحالة سفرياً للخليفة ،أو السلطان(، )3
واملغرب ،أو ألداء ريَة احلج إىل بيت هللا ،أو القيام مبهمة ،كأن يكون هل
وكان معظم الرحالة املسلمني حيرصون على تدوين مشاهداهتم ،وتسجي أخبارهم ،واملسالك والطرق ،اليت ساروا يها
،واملسا ات اليت قطعوها يف تنقضمهتم ،كما كانوا يصفون املدن ،اليت ميرون هبا ،ويذكرون الصعوابت اليت واجهتهم يف
رحضمهتم ،ويصفون ما عاينوه من مظاهر احلَارة يف ك بلد طرقوه ،كاملنتجات الزراعية ،والصناعات ،والتجارة ،
كما أن بعَهم كان يصف بعض مظاهر احلياة االجتماعية يف األقطار املختلفة اليت ميَُُّر هبا(.)4
كانت تلك الرحضمت ،وما تقدمه من معلومات مبنيهل ٍة على املشاهدة واالطضمع من أبرز عوام تقدُّم ُّ ،
وتطور املعارف
اجلغرا ية عند املسلمني( . )5ولقد كان لعدد من علماء العهد الزنكي أثر يف الدراسات اجلغرا ية ،وخباصة ما له صلة
ابلرحضمت اجلغرا ية ،ومن أشهرهم:
ـ أبو احلسن علي بن أيب بكر بن علي اهلروي املوصلي املتوىف سنة 611هـ1215/م( ، )6الذي قَى معظم حياته
ابلتجوال والرحضمت؛ حىت لقب ابلسائح ،وأبو احلسن اهلروي أصله من هراة ،ولكنه ولد ابملوص ،ومنها انطلق
برحضمته إىل الشام ،والعراق ،واليمن ،واحلجاز ،ومصر ،وبضمد الروم ،وبعض جزر البحر املتوسط ،مث صقلية ،وقد
تنق خضمل رحضمته يف أرجاء املدن املختلفة ،وتكلهلم عن مشاهدها ،ومساجدها ،وخالط أهلها ،والتقى ابلعلماء ،
وأخذ عنهم ،ومل يكن يف جتواله مقتصراً على طلب العلم قط ،ب إنه وثهلق عضمقاته مع عدد من اجلغرا يني املعرو ني
()7
أكثر من الزايرات ،وكاد يطبق األرض ابلدوران ،إنه مل يرتك براً يف عصره .قال عنه ابن خلكان( :طاف البضمد ،و َ
297
وال حبراً ،وال سهضمً وال جبضمً من األماكن اليت ميكن قصدها ورؤيتها إال رآه ،ومل يص إىل موضع إال كتب خطه يف
شاهدت ذلك يف البضمد اليت رأيتها مع كثرهتا( ، ))1وقد ألف اهلروي عن رحضمته هذه كتابه( :اإلشاراتُ حائطه ،ولقد
إىل معر ة الزايرات)(.)2
اهتم املسلمون يف ذلك العهد بشىت نون العلوم املختلفة ،ومن ذلك علوم الرايضيات، 3ـ علوم الرايضيات والفلك :هل
والفلك ،حيث انلت تلك التخصصات قدراً كبرياً من اهتماماهتم ،ربعوا يف علم احلساب ،وصنهلفوا يه املصنهلفات ،
وتوصلوا إىل إضا ات ،ونتائج أاثرت إعجاب علماء الغرب ،ودهشتهم، وحبثوا يها األعداد ،وأنواعها ،وخواصها ،هل
اعرت وا بفَلهم ،وأسبقيتهم يف هذا اجملال ،وترمجوا كثرياً من كتب املسلمني ،مما كان له أثر كبري يف تقدم هذا العلم.
كما اشتغ عدد من العلماء بعلم اجلرب ،وأتوا يه ابلعجب العجاب؛ حىت إن (كاجوري) قال( :إن العق ليدهش
عندما يرى ما عمله العرب يف اجلرب)( . )3وقد نبغ يف العهد الزنكي عدد من علماء الرايضيات ،والفلك مما كان
لدراساهتم ومصنفاهتم أثر واضح يف إثراء الدراسات الرايضية والفلكية ،وقد متثلت أبرز اجلهود يف اآليت:
تدرس يف بعض املدارس ٍ
وهندسة من العلوم اليت كانت هل اب ،وج ٍرب ،ـ الرايضيات :كانت العلوم الرايضية :من حس ٍ
أن هناك تنقضمت ،ورحضمت بني املناطق الزنكية لتحصي هذه العلوم من العلماء البارعني يف هذا اجملال، الزنكية ،كما هل
ومما ساعد على تشجيع هذا الفرع من العلوم حاجة الفقهاء املاسة إىل علمي احلساب ،واجلرب يف تقسيم املواريث ،أو
ما يسمى بعلم الفرائض ،وكذلك احلاجة إىل هذه العلوم يف معر ة املواقيت ،واجتاه البلدان إلقامة الصضمة ،كما ظهرت
احلاجة إليها يف حساابت الدواوين ،ويف بعض األمور اإلدارية األخرى.
ومن علماء العهد الزنكي البارزين يف ميدان الرايضيات :ـ كمال الدين أبو الفتح موسى بن أيب الفَ يونس بن حممد
بن منعة املوصلي املتوىف 639هـ1242/م ،وملا ذاع صيته يف علم الرايضيات؛ أخذت الرسائ تنهال عليه من علماء
هل
(كنت بدمشق سنة ثضمث وثضمثني وستمئة ،وهبا رج اض يف علوم ُ الرايضيات املعاصرين له .يقول ابن خلكان:
أشكلت عليه مواضع يف مسائ احلساب ،واجلرب ،واملقابلة ،واملساحة ،وإقليدس ،كتب مجيعها يف درج ْ الرايضة ،
وسريها إىل املوص ،مث بعد أشهر عاد جوابه ،وقد كشف عن خفيها ،وأوضح غامَها ،وذكر ما يعجز اإلنسان هل
عن وصفه)( .)4ولكمال الدين بن منعة مصنفات جليلة يف الرايضيات ،ذكر منها بروكلمان( :شرح األعمال اهلندسية)
،وهو حمفوظ يف مكتبه آاي صو يا إبسطنبول رقم ، 2753وله رسالة يف الربهان على املقدمة اليت أمهلها أرمخيدس يف
كتابه تسبيع الدائرة ،وكيفية اختاذ ذلك ،وهو حمفوظ يف مكتبه بودلياان برقم (.)5()987/8
ـ الفلك :يُعرف قدمياً بعلم اهليئة ،وموضوع األجرام السماوية من النجوم ،والكواكب ،وأحواهلا ،وأبعادها ،وحركاهتا
،وحساب األايم والشهور والسنني والفصول ،على أساس تلك احلركات ،وحتوي السنني من القمرية إىل الشمسية
298
وابلعكس ،وأطوال البضمد ،وعروضها ،والرايح واألمطار ،وكسوف الشمس ،وخسوف القمر ،وما إىل ذلك من
مباحث كثرية منها نظرية ،وأخرى عملية ،وبعض هذه املباحث تدخ االن يف علم الفَاء(.)1
وكانت أبرز اجلهود اليت بذلت يف العهد الزنكي ،وقد ترهلكزت يف املوص ،وكان الشيخ كمال الدين موسى بن يونس
بن منعة يف مقدمة العلماء الذين نشطوا يف هذا امليدان ،قد قام بتدريس أصول هذا العلم لطضمبه يف املدارس اليت
درس هبا ،وصنهلف يف هذا العلم ،ووردت إليه ـ أيَاً ـ مسائ يف مشكضمت هذا العلم ،قام بتفسريها ،وح هل رموزها، هل
ونبهله على براهينها ،بعَها من بغداد ،وأخرى وردت إليه من بعض ملوك أورواب( ، )2ومما ينسب إىل كمال الدين يف
الرقاص( ، )3ويذكر طوقان :أن كمال الدين قد سبق العامل هذا العلم :أنه قد عرف أشياء كثرية يف قوانني تذبذب هل
اإليطايل غاليليو املتوىف سنة 1052هـ1624/؛ يف هذا اجملال( .)4وقد كانت املوص مركزاً له أمهية خاصة يف علوم
الرايضيات ،والفلك يف العهد الزنكي(.)5
4ـ علوم الطب والصيدلة:
ث يه عن بدن اإلنسان من جهة ،وإزالة املرض من جهة أخرى ،و ائدته بينة ال ختفى ، بح ُ الطب :علم الطب؛ يُ َ
ـ ُّ
وكفى هبذا العلم شر اً و خراً قول اإلمام الشا عي ـ رمحه هللا ـ( :العلم علمان :علم الطب لألبدان ،وعلم الفقه لألداين)(.)6
وقد تقدم وارتفع شأن الطب يف العهد الزنكي ،وتقدمت وسائ دراسته ،ولع من انتشار البيمارستاانت يف املدن
الزنكية ،واهتمام هل
احلكام واألمراء إبنشائهما ،ووقف الكتب الطبية يف ذلك العهد ،واليت كانت من نتائجها بروز عدد
كبري من األطباء؛ الذين أثروا املكتبة اإلسضممية ابلكثري من املؤلفات الطبية ،واليت كان هلا مع ما سبقها من دراسات
أثر كبري يف إثراء الدراسات الطبية يف العصور اليت تلتها ،استمراراً حىت العصر احلاضر.
وممهلن برز يف هذا امليدان :ـ الطبيب أ َ الدولة أبو اجملد حممد بن أيب احلكم ،املتوىف سنة 570هـ1174/م( ، )7الذي
اشتهر ابلتدريس ابلبيمارستان النوري بدمشق ،زمن امللك العادل نور الدين حممود ،وكان نور الدين قد أوك إليه مهمة
التطبيب يف ذلك البيمارستان بعد إنشائه ،وقد وصف لنا ابن أيب أصيبعة كيف كان ابن أيب احلكم يتفقد املرضى بنفسه
،وطريقته يف تدريس الطب يف ذلك البيمارستان ،ومناقشاته مع طضمبه ،ولكنه مل ينسب إليه أي كتاب ألهلفه يف
الطب(.)8
وممن اشتهر ابلطب يف هذا العهد :أبو جعفر عمر بن علي بن البذوخ القلعي املغريب املتوىف سنة مخس ،أو ست
وسبعني ومخسمئة ( 1179ـ 1180م)( ، )9وكان اضضمً خبرياً مبعر ة األدوية املفردة واملركبة ،وله حسن نظر يف
299
دكان عطر بدمشق جيلس يها ،ويعاجل من االطضمع على األمراض ومداواهتا ،أقام بدمشق سنني كثرية ،وكانت له هل
أييت إليه ،أو يستوصف منه ،وكان له عناية ابلكتب الطبية ،والنظر يها ،وحتقيق ما ذكره املتقدمون من صفة
وعمراألمراض ومداواهتا ،وكانت له مع ذلك عناية بعلم احلديث ،وله شعر كثري ،إال أن أكثر شعره ضعيف منحولُ .
ابن البذوخ عمراً طويضمً ،وضعف عن احلركة ،حىت إنه كان ال أييت إىل دكانه إال حمموالً ،وعمي يف آخر عمره؛ حىت
()1
تويف ،والبن البذوخ من الكتب الطبية (شرح كتاب الفصول ألبقرط) ،وشرح كتاب (تقدمة املعر ة) ألبقراط أيَاً
اش وضعها على كتاب (القانون البن سينا)(.)2 ،وله كتاب (ذخرية األلباء واملفرد يف التأليف عن األشياء) ،وله حو ٍ
الصيدلة :ويقصد هبا علم األدوية وتركيباهتا ،وهي متصلة بعلم األعشاب «النبات» وبعلمي :احليوان ،واملعادن،
وابلكيمياء ،إن األدوية نباتية ،وحيوانية ،ومعدنية ،مث هي حتتاج إىل معاجلة ،وإىل نسب يف الرتكيب تقتَي املعر ة
ابلكيمياء(.)3
التامة بطرق التحالي الكيميائية يف تلك العصور ،قد نظم املسلمون مهنة الصيدلة ،جعلوا ونظراً لعدم تو ر املعر ة هل
()4
على الصيادلة نقيباً يسمى رئيس العشهلابني ،وأخَعوا تلك املهنة لرقابة عريف احلسبة ،حىت حيولوا دون غش الدواء
بنسب معينة ،وبرز خضمل العهد الزنكي عدد من املتخصصني يف تركيب ،وقد برع األطباء املسلمون يف تركيب األدوية ٍ
األدوية (الصيدلة) ،كانوا يف األص أطباء ،قد ذكر ابن أيب أصيبعة على الطبيب ابن البُذوخ املغريب ،املتوىف سنة
575هـ أو 576هـ ( 1179ـ 1180م)( ، )5كان خبرياً مبعر ة املفردة املركبة ،وكانت له دكان عطر بدمشق جيلس
يها ،ويعاجل من أييت إليه ،أو يستوصف منه ،وأنه كان يهيئ عنده أدوية كثرية مركبة ،يصنعها من سائر املعاجني ،
السفو ات وغري ذلك ،يبيع منها ،وينتفع الناس هبا( ، )6كما ذكر أبو احلسن علي بن أمحد البغدادي واألقراص ،و هل
(املتوىف سنة 610هـ1213/م) يف كتابه «املختارات يف الطب» كثرياً من أنواع املأكوالت وأثرها على الصحة ،وأنواع
العضمجات واألدوية وكيفيهلة استخراجها(.)7
لقد رهلكزت السلطة القائمة يف العهد الزنكي على إحياء العلوم الشرعية ،والعناية هبا ابلدرجة األوىل ألسباب كثرية ،من
اهلامة ـ واليت كانت تستهدف تشكيك أبرزها احلرص على الد اع عن العقيدة اإلسضممية أمام احلركات الفكريهلة والسرية ـ هل
املسلمني يف العقيدة اإلسضممية توطئة للسيطرة عليهم ،وعلى رأس هؤالء رقة الباطنية ؛ لذا تقلهلصت الدراسات الفلسفية
،ودراسة املنطق ،اليت ختدم الفكر الشيعي الباطين ،وحتقق لعلماء الشريعة رصة الوصول إىل مراكز التوجيه الفكري
ب هذا النشاط يف ميدان العلوم الشرعية نشاط اخر يف ميدان الدراسات اللغوية اح َ
ص َوالثقايف يف هذا العهد ،كما َ
واألدبية ،والتارخيية واجلغرا يا ،كما قُدمت دراسات علمية راقية يف ميدان الرايضيات بفروعها املختلفة ،ويف علم الفلك
300
وامليقات إضا ة إىل االهتمام ابلدراسات الطبية والصيدلة ،واليت كان جماهلما داخ البيمارستاانت املنتشرة يف املدن
الزنكية ،وبرز من بني العلماء املشتغلني بتلك العلوم علماء ،كان هلم أثر كبري يف إثراء املكتبة اإلسضممية ابلعديد من
املؤلفات املتخصصة ،واليت ظلهلت مرجعاً للبحوث العلمية؛ حىت الوقت احلاضر(.)1
رابعاً :ابن عساكر ودوره يف اجلهاد َّ
ضد الصليبيني:
قال عنه الذهيب هو« :اإلمام العضمهلمة احلا ظ الكبري اجملود ُ ،حمدث الشام ،ثقة الدين ،أبو القاسم الدمشقي صاحب
اتريخ دمشق( ، )2وهو علي بن الشيخ أيب حممد احلسن بن هبة هللا بن عبد هللا بن احلسني( ، )3صنف الكثري من الكتب
()4
يشق غباره ،وال كان له نظري يف زمانه ،وكان َهماً حا ظاً ،متقناً ذكياً ،بصرياً هبذا الشأن ،ال يـُْل َحق شأوه ،وال ُّ
،كان مواظباً على صضمة اجلماعة ،وتضموة القران ،خيتم ك مجعة ،وخيتم يف رمَان ك يوم ،ويعتكف يف املنارة
الشرقية ،وكان كثري النوا واألذكار ،وحياسب نفسه على حلظة تذهب يف غري طاعة( ،)5وقد لزم طريقة واحدة مدهلة
الصف األول إال من عذر ،واالعتكاف يف رمَان ،وعشر ذي احلجة ، أربعني سنة من لزوم اجلماعة يف اخلمس يف هل
وعدم التطلع إىل حتصي األمضمك ،وبناء الدور ،وقد أسقط ذلك عن نفسه ،وأعرض عن طلب املناصب يف اإلمامة
،واخلطابة ،وأابها بعد أن عرضت عليه ،وقلهلة التفاته إىل األمراء ،وأخذ نفسه ابألمر ابملعروف ،والنهي عن املنكر
ال أتخذه يف هللا لومة الئم(.»)6
وكان له نظم من الشعر منه قوله:
أشرُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ األحاديـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـث العوال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي
و َ إن احلدي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـث أجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُّ عل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍم
أال هل
وأحسنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه الفوائ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُد واألمال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي وأنفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـع ك ـ ـ ـ ـ نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوع من ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه عنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدي
حتق ُقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ كأ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـواه الرجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـال إنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك ل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ت ـ ـ ـ ـ ـ ـرى للعلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم شيئـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً
وخ ـ ـ ـ ـ ـ ـذه عـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن الشيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوخ ب ـ ـ ـ ـضم َم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمل ص علي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه كـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن يـ ـ ـ ـا ص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاح ذا ح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْر ٍ
()7
م ـ ـ ـ ـ ـ ـن التهلصحيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـف ابل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـداء العَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـال ف رتم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى وال َأت ُخ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْذه مـ ـ ـ ـ ـن صح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ
ُُ ُ
ومن شعره أيَاً:
مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ذا التصاب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ومـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ذا الغـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـزل س وحيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك جـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاء املشي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب أيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا نفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ
وجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاء مشيـ ـب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي كـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـأن ل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم ي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـزل تولهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى شباب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ك ـ ـ ـ ـ ـ ـأن لـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم يك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن
ب املنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـون هبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا قـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد نَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـَزْل كأنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي بنفس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي علـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى غـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهلرةٍ
وخط ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ
301
وم ـ ـ ـ ـا ق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلـدر اللـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ل ـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي األزل( )1؟ ي ممهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن أك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـون
ياليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت شع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر َ
قال عنه ر يقه أبو سعد السمعاين :كثري العلم ،حا ظ متقن ،دي ٌن خريٌ ،مجع بني معر ة املتون ،واألسانيد ،صحيح
مثبت ،حمتا ٌط ،رح يف طلب احلديث ،وتعب يف مجعه ،وابلغ يف الطلب(.)2 القراءة ٌ ،
وقال ابن النجار( :إمام احملدثني يف وقته ،ومن انتهت إليه الرائسة يف احلفظ واإلتقان ،وبه ُخت َم هذا الشأن(.))3
وقال السيوطي( :اإلمام الكبري ،حا ظ الشام ،ب حا ظ الدنيا ،الثقة الثبت احلجة ،ثقة الدين .وكان من كبار
احلفهلاظ املتقنني ،ومن أه الدين واخلري ،غزير العلم ،كثري الفَ ،مجع بني معر ة املنت ،واإلسناد)(.)4
ست سنني ،مث طلبه بنفسه ورح يف هذا الـشـأن عشرين سنـة ..وأبـعـد وقال عنه السبكي« :مسع احلديث وعمره ُّ
الرحلـة ،ومجع ،وكتب الـكثري يف العراق ،وخراسان ،وأصفهان ،وغريها ،ومن مجلة شيوخه ألف وثضممثئة شيخ ونيف
،ومثانون امرأة حىت أصبح :إمام أه احلديث يف زمانه ،وحام لوائه(.»)5
1ـ مساندته الفكرية والعقائدية لنور الدين حممود:
ب رزت شخصية ابن عساكر إىل جانب السلطان نور الدين حممود يف معاضدته على الوحدة واجلهاد ،حيث اند ع
أحب أن أمجع له
يطلب منه إىل التطبيق العملي يف أتليف (األربعون حديثاً يف احلث على اجلهاد) قال ابن عساكر« :و هل
أربعني حديثاً يف اجلهاد ،تكون واضحة املنت ،متصلة اإلسناد حتريَاً للمجاهدين األجضمء(.»)6
وكان هدف ابن عساكر :تثقيف اجملتمع اإلسضممي آنذاك للقيام بواجب الوقوف إىل جانب نور الدين حممود ،هل
ضد
اخلطر الصلييب ،وبسبب قناعة ال زنكي أبن األعمال العسكرية والسياسية ال تكن انجحة مؤثرة ،إال بدعم ٍ
كري
وعقائدي وعاطفي وديين ،واستجاب ابن عساكر لطلب نور الدين وقال يف مقدمته « :سارعت إىل امتثال ما التمس
من املراد ،ومجعت له ما يرتَيه أه املعر ة واالنتقاد ،واجتهدت يف مجعها غاية االجتهاد ،رجاء أن حيص يل أجر
التبصري واإلرشاد ،وهللا املو ق للصواب يف اإلصدار واإليراد ،واملسدد يف األقوال يف اإلسهاب واالقتصاد»(.)7
وقد خصص ابن عساكر العشرة األوىل منها يف توضيح منزلة اجلهاد بعد منزلة اإلميان ابهلل مباشرة ،لتحريض املسلمني
ملواجهة اخلطر الصلييب( ، )8ومن هذه األحاديث:
أي اإلميان أ َ ؟ قال « :إميان ابهلل ،عز وج » .قي :مث ماذا؟ قال« :مث ـ سئ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ُّ :
اجلهاد يف سبي هللا ،عز وج » قي :مث ماذا؟ قال« :حج مربور(.»)9
302
وجهاد يف سبيله» .قلت :اي رسول هللا
ٌ أي العم أ َ ؟ قال« :إميا ٌن ابهلل ، ـ قلت :اي رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ُّ
نع
صُ أي الرقاب أ َ ؟ قال« :أنفسها عند أهلها ،وأغضمها مثناً» .قال :إن مل أجد؟ قال« :تُعني ضائعاً ،أو تَ ْ ُّ
هلق هبا عن نفسك(.»)1 صد ُ ص َدقَةٌ تَ َ
ألخرق» .قال :إن مل أستطع قال« :تكف أذاك عن الناس؛ إهنا َ
أحب إىل هللا ـ عز وج ـ قال« :أن تصلي الصلوات ملواقيتها» .قلت :مثهل أي؟ قال: أي األعمال ُّ ـ قلت :اي رسول هللا ُّ
« ُّبر الوالدين» قلت :مثهل أي؟ قال« :اجلهاد يف سبي هللا» .ولو استزدته؛ لزادين(.)2
ويف األحاديث األخرى حاول ابن عساكر ،أن يذكر الناس مبنزلة اجملاهد يف سبي هللا مثضمً يف احلديث احلادي عشر:
(قال الرسول هللا صلى هللا عليه وسلم « :اي أاب سعيد اخلدري! من رضي ابهلل رهلابً ،وابإلسضمم ديناً ،ومبحمد نبياً؛
علي اي رسول هللا! فع ،مث قال :رسول هللا« :وأخرى وجبت له اجلنة» .قال :عجب هلا أبو سعيد ،قال :أعدها هل
العبد مئة درجة يف اجلنة ما بني ك درجتني كما بني السماء واألرض» قال:وما هي اي رسول هللا؟! قال: يُر ع هبا ُ
«اجلهاد يف سبي هللا ،عز وج »(.)3
ـ ويف احلديث الثاين عشر :قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم « :يف اجلنة مئة درجة ما بني ك درجتني كما بني
السماء واألرض أعدهلها هللا للمجاهدين يف سبيله(.»)4
وهناك الكثري من األحاديث ايل ذكرها ابن عساكر ،هي ال تدعو وال تذكر اجلهاد مباشرة ،ولكنها تدعو إىل القتال
يف سبي هللا ،كما هو احلال يف احلديث التاسع عشر :ـ «قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم « :أال أخربكم خبري الناس
إن من خري الناس رجضمً عم يف سبي هللا على ظهر رسه ،أو على ظهر بعريه ،أو على قدميه؛ حىت ،وشر الناس؟! هل
أيتيه املوت؛ وهو على ذلك(.»)5
كما أورد أحاديث يف الرابط يف سبي هللا مثضمً كاحلديث الواحد والعشرين:
ـ قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم « :ك ميت خيتم على عمله إال املرابط يف سبي هللا؛ إنه ينمو له عمله إىل يوم
القيامة(.»)6
ـ ويف احلديث الثالث والعشرين :قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم « :رابط ٍ
يوم يف سبي هللا خري من الدنيا وما
عليها(.»)7
كما ذكر اخلي ،وضرورهتا يف القتال ،مثضمً يف احلديث السابع والعشرين:
303
قال الرسول صلى هللا عليه وسلم « :من احتبس رساً يف سبي هللا إمياانً ابهلل ،وتصديقاً بوعد هللا هل
إن شبعه َ ،وريهلـهُ
وروثه ،وبوله يف ميزانه يوم القيامة(.»)1
ـ ويف احلديث اخلامس والثضمثني :قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم « :طوىب لعبد اخذ بعنان رسه يف سبي هللا(.»)2
وأحاديث أخرى يف صناعة األسلحة كما يف احلديث التاسع والعشرين:
ـ يقول رسول هللا صلى هللا عليه وسلم « :إن هللا يدخ ابلسهم الواحد ثضمثةَ نف ٍر اجلنة :صانعه الذي حيتسب يف صنعته
اخلري ،والذي جيهز به يف سبي هللا ،والذي يرمي به يف سبي هللا» .وقال« :ارموا ،واركبوا ،وأن ترموا خري من أن
تركبوا(.»)3
وليس ذلك قط ،ب ذكر َ أولئك الذين يوجهون أسلحتهم ألعداء اإلسضمم:
ـ قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم « :من تقلهلد سيفاً يف سبي هللا؛ قلهلده هللا ـ عز وج ـ يوم القيامة وشاحني من
اجلنة ال تقوم هلما الدنيا وما يها(.»)4
ويف أحاديث أخرى ساوى بني اإلنفاق يف احلج ،واإلنفاق يف سبي هللا يف احلرب ،مثضمً يف احلديث الثضمثني:
ـ قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم « :النفقة يف احلج مث النفقة يف سبي هللا ،الدرهم بسبعمئة(.»)5
إ ن نظرة سريعة لألحاديث اليت ذكرها ابن عساكر ،نضمحظ :أنه اختارها بدقة كبرية ،من بني األحاديث الكثرية اليت
تطرقت إىل اجلهاد ،وبصورة عامة هو اختار أحاديث تتحدث عن منزلة اجلهاد يف اإلسضمم ،و َ اجملاهد على غريه
من املسلمني ،وعن أولئك املسلمني الذين جيهزون للقتال أدوات احلرب آنذاك ،كاخليول ،والسضمح ،واملرابطة يف
كرس حياته هلا ،وقد
سبي هللا ..إخل .وقد استفاد نور الدين من جهود ابن عساكر يف تعبئته الفكرية ،والدينية ،اليت هل
آتت مثارها يف مواجهة الغزو الصلييب ،قد ساندهتا السلطة السياسية العسكرية ،املتمثلة يف شخص نور الدين حممود
،واليت اعتمد عليها كقاعدة استند عليها يف صراعه الطوي مع الصليبني.
إن حتالف العلماء مع القادة السياسيني العسكريني ـ كتحالف ابن عساكر ونور الدين ـ خري مثال على أمهية وحدة هل
الصف يف مواجهة األخطار الداخلية واخلارجية ضد اإلسضمم واملسلمني(.)6
2ـ أتليف ابن عساكر يف َائ املدن :ووجد ابن عساكر :أن استمرارية الغزو الصلييب للشرق اإلسضممي ال بد أن
تواجهه استمرارية يف اجلهاد ضده ،ولذلك أكد على كرة اجلهاد كما برزت األحاديث ايل ذكرها ،واليت كانت جزءاً
من منهجه اجلهادي احملرض للمسلمني ،وليس ذلك حسب ،وإمنا أيَاً من خضمل أتكيده على َائ املدن
اإلسضممية داعياً املسلمني إىل استعادهتا والد اع عنها ،حيث ألف العديد من الكتب اليت تشيد بذلك ،منهاَ ( :ائ
القدس) و( َائ عسقضمن) و( َائ املدن اإلسضممية) و(الزهادة يف بذل الشهادة).
304
وغريها من الكتب الرتاثية العديدة؛ اليت تشري إىل مدى تركيزه واهتمامه بذكر َائ املدن اإلسضممية ،وتذكري املسلمني
هلشبُّث هبا ،والد اع عنها(.)1 لدور تلك املدن يف التاريخ اإلسضممي ،اليت ال هل
بد من الت َ
ومل يكن ابن عساكر الوحيد الذي ألهلف يف َائ املدن الشامية آنذاك ،ب اجته العديد من الفقهاء للتذكري هبذا
اجلانب ،مث ( َائ الشام) للفقيه احلا ظ عبد الكرمي السمعاين (ت562هـ) و( َائ الشام) للفقيه حممد عبد
الواحد منصور السعدي احلنبلي (ت643هـ) ،وكتاب (ترغيب أه اإلسضمم يف سكىن الشام) للفقيه عز الدين السلمي
(ت )660وغريهم الكثري(.)2
وذلك ألن الغزو الصلييب كما أشار السلمي ،وابن عساكر مل يستهدف اإلسضمم كفرد ،أو عقيدة حسب ،وإمنا أيَاً
كان يستهدف القَاء على حَارته ،وتراثه املتكام ،ووجد أولئك الفقهاء :أنه خري وسيلة حلفظ تراث تلك املدن
اإلسضممية ،ومكانتها التارخيية من خطر زواهلا ،ولرمبا تغيري مضمحمها احلَارية من قب الصليبيني هو التاريخ هلا ،وتدوين
أخبارها( .)3وبتشجيع من امللك العادل نور الدين حممود متهل أتليف أكرب مصنف عن اتريخ دمشق ،وهو (اتريخ مدينة
القمقام ،الكام
دمشق) للحا ظ ابن عساكر ،وقد جاء يف مقدمة هذا الكتاب( :ورقى خرب مجعي إىل حَرة امللك ْ
،العادل ،الزاهد ،اجملاهد ،املرابط ،اهلمام ،أيب القاسم حممود بن زنكي بن اق سنقر انصر اإلمام ..وبلغين تشوقه
ليلم مبطالعة ما تيسر منه بعض اإلملام ،راجعت العم يه راجياً الظفر ابلتمام ،شاكراً ملا إىل االستنجاز واالستتمام؛ هل
ظهر منه من حسن االهتمام)(.)4
ممهلا يوضح للباحث حرص نور الدين حممود على االطضمع على اتريخ عاصمته «دمشق» وتشوقه إىل ذلك ،كما أنه
يؤرخ لنا زمن تصنيف ابن عساكر هلذا الكتاب ،ويعد هذا العم من اآلاثر العلمية اجمليدة ؛ اليت تبناها نور الدين
حممود( .)5وبذلك كان ابن عساكر أحد أولئك الذين استخدموا الرتاث وسيلة لتحريض البضمد اإلسضممية للوقوف يف
وجه اخلطر ،الذي حييق هبا ،قد استخدم التاريخ ،واألدب مع كرة اجلهاد ،كمنهج متكام من أج بعث احلياة
الثقا ية يف بضمد الشام ،اليت أثقلها الَعف والصراع السياسي ،والديين(.)6
3ـ ابن عساكر حيث نور الدين على مواصلة اجلهادُ :عرف عن ابن عساكر تدينه وتعففه واعتكا ه ،وبعده عن
إغراءات الدنيا ،وعزو ه عن املناصب ،ابإلضا ة إىل اعتداده مبكانة العلماء ،ودورهم الثقايف والسياسي ،لم يرتدد
ابن عساكر يف خماطبة نور الدين بعد أن أعفى األخري أه دمشق من املطالبة ابخلشب ،وبعد تح مصر يف أن يوجه
للسلطان قصيدة حيثه يها إىل ما جيب أن يفعله يف املستقب يقول:
عوضـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت مص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر مب ـ ـ ـ ـا يه ـ ـ ـ ـا مـ ـ ـ ـن النش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب ملـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا مسح ـ ـ ـ ـ ـ ـت ألهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الشـ ـ ـ ـ ـ ـام ابخلشـ ـ ـ ـ ـ ـب
305
لألجـ ـ ـ ـ ـ ـر جوزيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت أجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراً غي ـ ـ ـ ـ ـر حمتسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب وإن بذل ـ ـ ـ ـت لفتـ ـ ـ ـح القـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدس حمتسب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً
يم ـ ـ ـ ـ ـا يثيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب عليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه خي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر مرتقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب واألج ـ ـ ـر ـ ـ ـ ـي ذاك عن ـ ـ ـ ـد الل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه مرتقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب
خيـ ـ ـ ـ ـٌر م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن الفَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة البيَـ ـ ـ ـ ـاء والذه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب والذكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر ابخلي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر بيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن النـ ـ ـ ـاس تكسبُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه
وقـ ـ ـ ـ ـد أصبح ـ ـ ـ ـ ـت متل ـ ـ ـ ـك مـ ـ ـن مص ـ ـر إلـى حلـ ـ ـ ـ ـب ولسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت تع ـ ـ ـ ـ ـ ـذر ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي تـ ـ ـ ـ ـرك اجله ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاد
ملـ ـ ـ ـ ـ ـا تري ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد بـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـادر ج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـأة الن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوب وصاحـ ـ ـ ـب املوص ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفيحـ ـ ـ ـاء ممتثـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ
حتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى ين ـ ـ ـ ـ ـ ـال هب ـ ـ ـ ـ ـ ـا العال ـ ـ ـي مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن الرتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب أحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُزم الن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاس مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ق ـ ـ ـ ـ هلوى عزميت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه
عليـ ـ ـ ـ ـ ـةً اقص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد العالـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن القـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرب وقـ ـ ـ ـ ـ ـد بلغ ـ ـ ـ ـت حبمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد اللـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه منزلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة
واحلـ ـ ـ ـ ـزم ـ ـ ـ ـ ـي العـ ـ ـ ـ ـ ـزم واإلدراك ـ ـ ـ ـ ـي الطل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب اجل ـ ـ ـ ـ ـد واجل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد مقرونـ ـ ـ ـ ـ ـان ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي قـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرن
مـ ـ ـ ـ ـ ـن النجاسـ ـ ـ ـ ـ ـات واإلشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراك والصل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب وطهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر املسج ـ ـ ـ ـ ـد األقصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى وحوزت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه
()1
و ـ ـ ـ ـي القيام ـ ـ ـ ـ ـ ـة تلقـ ـ ـ ـ ـ ـى حس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن منقل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب عسـ ـ ـ ـ ـاك تظفـ ـ ـ ـ ـ ـر ـ ـ ـ ـي الدنيـ ـ ـ ـا حبسـ ـن ثن ـ ـ ـ ـ ـ ـا
حتم أعباء وكان نور الدين حممود قائداً متميزاً ،ميلك نظرة قيادية اسرتاتيجية يف بناء الدولة ،قد جعلها قادرة على ُّ
اجلهاد والتحرير ،بمجرد جميئه للحكم بدأ ببناء الدولة من مجيع جوانبها اإلدارية والعمرانية والثقا ية والسياسية ،قد
اهتم ابحلياة الثقا ية ،
كانت مداركه احلَارية واسعة ،أقام صروحاً كبرية ،بىن املستشفيات ،وأقام دار العدل ،و هل
()2
اهتم نور الدين ابلبناء الداخلي ،وكان
وتنشيطها ،ومن هنا كان اللقاء بني احلا ظ ابن عساكر والقائد نور الدين .و هل
العلماء عوانً له على ذلك ،واستطاع أن ينق نور الدين املوقف ابلنسبة للحرب يف مواجهة الصليبيني من موقف الد اع
إىل موقف اهلجوم ،حىت إنه بدأ يعد العدة خلوض املعركة الفاصلة معهم.
توجهوا أبنظارهم
عم أوالً على أن حيول دون سيطرهتم على مصر ،عندما أيقن الصليبيون أن وجودهم أصبح مهدداً؛ هل
صوب مصر وهيأوا له ،أدرك القائد نور الدين ذلك ،تدخ على هذه اجلبهة بنظرة اسرتاتيجية ،وأرس ثضمث
متكنت من إحباط خططهم ،وإهناء الوضع املرتدي يف مصر ،ومن مث إسقاط الدولة الفاطمية ، محضمت متواليات ،هل
وتوحيدها مع الشام ـ كما سيأيت بيانه إبذن هللا تعاىل ـ.
وكان ابن عساكر يف هذه الفرتة مواكباً لنور الدين ،وحمفزاً له ،وداعياً للجهاد والتحرير ،وكان يقول داعياً للوحدة( :مل
ميكن هللا أه رقة على مجاعة أبداً)( ، )3وخطط نور الدين جلولة اصلة مع الصليبيني تستخدم يها طاقات الشام،
واجلزيرة ،ومصر ،واملغرب ،وبضمد إسضممية أخرى ،وابت متيقناً ابلنصر ،وتسامع الناس أخبار ثقته ابلنصر ،قد كان
لنور الدين جنار حبلب يعرف ابألخرتيين من ضيعة قريبة من حلب تعرف «أبخرتين» اشتهر برباعته ودقة صنعه اليت
الصنهلاع يف صناعته سنني
الجتارى ،أمره «أن يصنع منرباً لبيت هللا ابملقدس ،ولَّب الرج ما ندب له ،وبذل النجارون ُّ
،وأبدعوا يف تركيبه اإلحكام والتزيني(.)4
( )1اخلريدة للعماد األصفهاين ( )277/1ابن عساكر ودوره يف اجلهاد ضد الصليبيني ص.53
( )2ابن عساكر ودوره يف اجلهاد ضد الصليبيني ص.46
( )3املصدر نفسه ص.48
( )4كتاب الروضتني نقضمً عن ابن عساكر دوره يف اجلهاد ضد الصليبيني ص.48
306
واستطاع نور الدين من خضمل وسائله وخططه وتواصله مع العلماء أن يقلب موازين الصراع لصاحله ،املعارك قب نور
ومنذ أايم نور الدين بدأ عنصر املتطوعة يكثر ،ويند ع الدين كانت ختوضها قوات حمرت ة اتبعون للحكام املسلمني ُ ،
يف املعارك ،وابتت مع األايم أعداد ا ملتطوعة أكرب من أعداد اجلند احملرت ة ،وكان ذلك كله نتيجة تعبئة مشاعر الناس
،وحتريَهم على اجلهاد ،وندهبم إىل مح السضمح ،وهو ما كان يتواله الوالة والوعاظ.
وأييت ابن عساكر كبري علماء الشام ،وحمدثها األول يف مقدمة هؤالء .ويف هذا اجملال ال بد من مضمحظة هامة وهي
سكان املغرب ،واألندلس ،لقد كان أن املتطوعة مل يقتصروا على سكان العراق وبضمد الشام أو مصر ،ب تعداه إىل هل
املغاربة أيتون للجهاد واحلج يجاهدون وحيجون أو حيجون وجياهدون ،أو جياهدون وتكتب هلم الشهادة ،وكلنا يعلم:
هل
أن أحد أهم أحياء دمشق هو حي (املغاربة) الذي يعود إنشاؤه إىل تلك املرحلة( ، )1ولقد حتدهلث عن املغاربة واألندلسيني
،ومشاركتهم يف اجلهاد ضد الصليبيني ،والعضمقات الثقا ية والفكرية بني املغرب واألندلس ،وبني بضمد الشام والتأثريات
عدد من مؤرخي تلك الفرتة ومن بعدهم ،كياقوت احلموي يف (معجم البلدان) وابن العماد يف الفكرية بني العلماء ٌ
(شذرات الذهب) ،وابن جبري يف رحلته ،واملقري يف (نفح الطيب) وحممد بن عبد امللك املراكشي يف (الذي والتكملة)
،والسبكي يف (الطبقات) ،وكذلك ابن سعيد املغريب يف (املغرب يف حلى املغرب) ،وينق عنه املقري ،كما ترجم ابن
عساكر لعديد من العلماء والقراء والشعراء ،املغاربة ،واألندلسيني الذين قدموا إىل دمشق(.)2
4ـ و اة ابن عساكر :تويف ابن عساكر ـ رمحه هللا ـ يف رجب سنة إحدى وسبعني ومخسمئة ليلة االثنني ،حادي عشر
الشهر ،وصلى عليه القطب النيسابوري ،وحَره السلطان صضمح الدين ،ود ن عند أبيه يف مقربة ابب الصغري(.)3
رحم هللا ابن عساكر ،قد كان له دور هام يف إجياد صحوة إسضممية ،ساعدت بدورها يف تدعيم املواجهة اإليديولوجية
متكن نور الدين بفَ هللا ،مث جهود العلماء واملخلصني من أبناء األمة من إعداد جبهة واحدة مع الصليبيني ،وقد هل
متماسكة عقائدايً على حنو هلأدى يف النهاية إىل تدعيم كرة اجلهاد اإلسضممي يف ذلك العصر ،وال نزاع يف أن الدولة
النورية قد جنحت يف حتقيق أهدا ها بصورة كبرية ،هل
ودل ذلك على إدراكها ألمهية العوام العقائدية والفكرية يف إجياد
كيان داخلي متماسك يف مواجهة الغزو الصلييب(.)4
307
الفهرس :
اإلهـداء 4 ........................................................................
املقدمة5 .........................................................................
األول19 .................................................................
الفصل َّ
الزنكيهلـة 20 ..........................................
املبحث األول :أصـول األسـرة هل
أوالً :مكانة آق سنقر عند السلطان ملكشاه20 ................................ :
اثنياً :سياسة آق سنقر يف حلب الداخلية21 ................................... :
اثلثاً :سياستهُ اخلارجية23 .....................................................:
رابعاً :نشأة عماد الدين زنكي وأسرته27 .......................................:
املبحث الثاين :تطور شخصية عماد الدين القيادية29 ...............................
أوالً :بزوغ جنمه السياسي29 ..................................................:
اثنياً :دور الفقهاء يف تعيني عماد الدين على املوص 33 ......................... :
اثلثاً :أهم صفاته35 ..........................................................:
رابعاً :سياسته الداخلية45 ....................................................:
خامساً :النظم العسكرية عند عماد الدين زنكي53 ............................. :
املبحث الثالث :عضمقـة عمـاد الدين زنكي ابخلضم ة العباسيـة والسلطنـة السلجوقية 68 ....
أوالً :حماولة عزل عماد الدين زنكي عن املوص 68 .............................. :
اثنياً :صراع البيت السلجوقي على السلطنة بعد و اة السلطان حممود69 ........... :
اثلثاً :موقف السلطان سنجر من األحداث70 ..................................:
308
رابعاً :حماصرة املوص 71 ......................................................:
خامساً :التوتر بني عماد الدين والسلطان مسعود72 ............................ :
سادساً :مصاحلة عماد الدين زنكي للسلطان مسعود73 ......................... :
املبحث الرابع :توسع عماد الدين يف مشال بضمد الشام وإقليم اجلزيرة 75 ................
أوالً :جزيرة ابن عمر 521هـ76 ...............................................:
اثنياً :حلب522هـ76 ....................................................... :
وحران ،وإرب ،والرقهلة78 ............................ :
اثلثاً :سنجار ،واخلابور ،هل
رابعاً :عضمقة عماد الدين زنكي ابألكراد80 .....................................:
خامساً :عماد الدين واإلمارات احمللية يف داير بكر83 ........................... :
سادساً :عماد الدين زنكي وأمراء دمشق89 ....................................:
املبحث اخلامس :جهاده هل
ضد الصليبيني97 ........................................
أوالً :حال املسلمني والصليبيني قب عماد الدين97 ..............................:
اثنياً :سياسة عماد الدين زنكي مع الصليبيني98 ................................:
اثلثاً :مشكلة الوراثة األنطاكية98 ..............................................:
رابعاً :تح األاثرب99 ........................................................:
خامساً :حصن بعرين أوابرين100 ............................................ :
سادساً :اإلمرباطور البيزنطي يغزو بضمد الشام104 ...............................:
الرها115 ........................................................:
سابعاً :تح ُّ
الرها129 .................................. :
اثمناً :األحداث العسكرية بعد تح ُّ
اتسعاً :من أساليب عماد الدين زنكي يف حماربة الصليبيني129 ...................:
309
عاشراً :حصيلة الدور السياسي العسكري الذي لعبه عماد الدين على مسرح التاريخ
اإلسضممي133 ..............................................................:
احلادي عشر :األايم األخرية من حياة عماد الدين زنكي134 ....................:
311
كتب صدرت للمؤلف:
2ـ سرية اخلليفة األول أبو بكر الصديق رضي هللا عنه :شخصيته وعصره.
3ـ سرية أمري املؤمنني عمر بن اخلطاب رضي هللا عنه :شخصيته وعصره.
4ـ سرية أمري املؤمنني عثمان بن عفان رضي هللا عنه :شخصيته وعصره.
5ـ سرية أمري املؤمنني علي بن أيب طالب رضي هللا عنه :شخصيته وعصره.
6ـ سرية أمري املؤمنني احلسن بن علي بن أيب طالب :شخصيته وعصره.
312
18ـ عماد الدين زنكي.
35ـ صضمح الدين األيويب وجهوده يف القَاء على الدولة الفاطمية وحترير البيت املقدس.
313
36ـ اسرتاتيجية شاملة ملناصرة الرسول (ﷺ) ،دروس مستفادة من احلروب الصليبية.
38ـ احلمضمت الصليبية (الرابعة واخلامسة والسادسة والسابعة) واأليوبيون بعد صضمح الدين.
314
54ـ احلرايت من القرآن الكرمي ،حرية التفكري وحرية التعبري ،واالعتقاد واحلرايت الشخصية.
60ـ كفاح الشعب اجلزائري ضد االحتضمل الفرنسي ،سرية الزعيم عبد احلميد بن ابديس ،اجلزء الثاين.
62ـ كفاح الشعب اجلزائري ضد االحتضمل الفرنسي ،وسرية اإلمام حممد البشري اإلبراهيمي.
315
مفكر ومؤرخ و قيه
316
صفحات مشرقة من التاريخ اإلسضممي.
317