Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 318

‫عصر الدولة الزنكية‬

‫حقوق الطبع والتصوير حمفوظة‬


‫الطبعة األوىل‬
‫‪1427‬هـ ‪2007‬م‬

‫‪1‬‬
‫موسوعة احلروب الصليبية‬
‫(‪)2‬‬

‫عصر الدولة الزنكية‬


‫وجناح املشروع اإلسالمي بقيادة نور الدين الشهيد‬
‫يف مقاومة التغلغل الباطين والغزو الصلييب‬

‫أتليف‬
‫الدكتور علي حممد حممد الصاليب‬

‫‪2‬‬

3
‫اإلهـداء‬

‫إىل كل مسلم حريص على إعزاز دين هللا ونصرته أهدي هذا الكتاب سائالً املوىل عز وجل‬

‫العال أن يكون خالصاً لوجهه الكرمي‪.‬‬


‫أبمسائه احلسىن وصفاته ُ‬

‫قال تعاىل‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََۡۡ َۡ َ َٗ َ ٗ ََ ُۡ ۡ‬ ‫﴿ َف َمن ََك َن يَ ۡر ُجوا ْ ل َِقا ٓ َء َ‬
‫ۡشك بِعِ َبادة ِ َربِهِۦٓ أ َح َ َۢدا ‪﴾ ١١٠‬‬
‫ِ‬ ‫ي‬ ‫َل‬‫و‬ ‫ا‬‫ِٗ‬ ‫ل‬‫َٰ‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫ع‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫ل‬‫ف‬ ‫ِۦ‬ ‫ه‬‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ر‬

‫[الكهف‪]110 :‬‬

‫‪4‬‬
‫املقدمة‬
‫إن احلمد هلل حنمده ونستعينهُ ونستغفرهُ ‪ ،‬ونعوذُ ابهلل من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ‪ ،‬من يهده هللا ضم مَ هل له‬
‫َ‬
‫أشهد أن حممداً عبدهُ ورسوله ﴿يََٰٓأ ُّي َها‬
‫أشهد أن ال إله إال هللا وحده ال شريك له ‪ ،‬و ُ‬
‫‪ ،‬ومن يَل ضم هادي له ‪ ،‬و ُ‬
‫ذ َ َ َُ ْ ذُ ْ ذَ َُ ُ ْ َۡٗ َ ٗ ُ ۡ ۡ َ ُ ۡ َ ۡ َ َ ُ ۡ ََۡ ۡ َ ُ ۡ ُُ َ ُ‬
‫وبك ۡمۗۡ َو َمن يُ ِطعِ‬ ‫ٱَّلِين ءامنوا ٱتقوا ٱَّلل وقولوا قوَل َدِيدا ‪ ٧٠‬يصل ِح لكم أعملكم ويغفِر لكم ذن‬
‫از فَ ۡو ًزا َع ِ ً‬
‫ظيما ‪[ ﴾ ٧١‬األحزاب ‪] 71-71 :‬‬
‫ٱَّلل َو َر َُ َ ُ‬
‫وَلۥ َف َق ۡد فَ َ‬ ‫ذَ‬

‫ولك‬
‫رضيت ‪َ ،‬‬ ‫َ‬ ‫احلمد إذا‬
‫احلمد حىت ترضى ‪ ،‬ولك ُ‬ ‫وجهك وعظيم سلطانك ‪ ،‬ولك ُ‬ ‫َ‬ ‫احلمد كما ينبغي جلضمل‬
‫اي رب لك ُ‬
‫اجملد كما تستدعيه عظمته‬‫يليق بكماله ‪ ،‬وله ُ‬ ‫احلمد كما ينبغي جلضمله ‪ ،‬وله الثناءُ كما ُ‬
‫بعد الرضا ‪ ،‬لله تعاىل ُ‬ ‫احلمد َ‬
‫ُ‬
‫وكربايؤه‪.‬‬
‫أما بعد‪:‬‬
‫الكتاب امتداد ملا سبقهُ من كتب درست عهد النبوة ‪ ،‬وعهد اخلضم ة الراشدة ‪ ،‬وعهد الدولة األموية ‪ ،‬وعهد‬ ‫ُ‬ ‫هذا‬
‫السضمجقة ‪ ،‬وقد صدر منها‪ :‬السرية النبوية ‪ ،‬وأبو بكر ‪ ،‬وعمر بن اخلطاب ‪ ،‬وعثمان بن عفان ‪ ،‬وعلي بن أيب طالب‬
‫‪ ،‬واحلسن بن علي رضي هللاُ عنهم ‪ ،‬والدولة األموية ‪ ،‬ومعاوية بن أيب سفيان ‪ ،‬رضي هللاُ َعنه ‪ ،‬وعمر بن عبد العزيز ‪،‬‬
‫رمحه هللا ‪ ،‬ودولة السضمجقة وبروز املشروع اإلسضممي ملقاومة التغلغ الباطين والغزو الصلييب ‪ ،‬والدولة العثمانية عوام‬
‫النهوض وأسباب السقوط ‪ ،‬ودولتا املرابطني واملوحدين ‪ ،‬والدولة الفاطمية العبيدية‪ ،‬والثمار الزكية للحركة السنوسيهلة ‪،‬‬
‫و قه النصر والتمكني يف القرآن الكرمي‪.‬‬
‫وقد مسيت هذا الكتاب‪« :‬عصر الدولة الزنكية وجناح املشروع اإلسضممي بقيادة نور الدين حممود الشهيد يف مقاومة‬
‫نسأل هللاَ تعاىل أبمسائه‬
‫التغلغ الباطين والغزو الصلييب» وتعترب حلقة مهمة من ضمن سلسلة احلروب الصليبية ‪ ،‬واليت ُ‬
‫العلى أن تكون لوجهه خالصة ‪ ،‬ولعباده ان عة ‪ ،‬ويطرح يها القبول والربكة ‪ ،‬ويرزقنا حسن القصد‬ ‫احلسىن وصفاته ُ‬
‫وإخضمص النية لوجهه العلي الكبري ‪ ،‬ويو قنا إلكمال املوسوعة التارخيية املستهد ة‪.‬‬
‫وهذا الكتاب يتحدث عن الزنكيني من حيث أصول أسرهتم ‪ ،‬وعن جدهم آق سنقر ‪ ،‬ومكانته لدى السلطان ملكشاه‬
‫‪ ،‬وسياسته الداخلية واخلارجية يف حلب وتويل إمارهتا ‪ ،‬وعن نشأة عماد الدين زنكي ‪ ،‬وبزوغ جنمه السياسي‪ ،‬ودور‬
‫هباء الدين الشهرزوري يف تعيينه أمرياً على املوص ‪ ،‬وعن أهم صفاته ‪ ،‬كالشجاعة ‪ ،‬واهليبة ‪ ،‬والدهاء‪ ،‬واملكر ‪ ،‬واحليلة‬
‫‪ ،‬واليقظة ‪ ،‬واحلذر ‪ ،‬والذكاء ‪ ،‬وقدرته على إختيار األكفاء من الرجال ‪ ،‬وو ائه ألصحابه ‪ ،‬وغريته على حمارمهم ‪،‬‬
‫وعدله ‪ ،‬وعبادته ‪ ،‬وهواايته‪.‬‬
‫ويتحدث عن سياسته الداخلية ‪ ،‬والنظم اإلدارية والعسكرية ‪ ،‬وعضمقة عماد الدين زنكي ابخلضم ة العباسية ‪ ،‬والسلطنة‬
‫السلجوقية ‪ ،‬وتوسع عماد الدين يف مشال بضمد الشام وإقليم اجلزيرة ‪ ،‬وعضمقته ابألكراد كبين أيوب حكام تكريت ‪،‬‬
‫واألكراد احلميدية ‪ ،‬والعكارية ‪ ،‬واملهرانية ‪ ،‬والبشنوية ‪ ،‬وعضمقته ابإلمارات احمللية يف داير بكر ‪ ،‬وحماوالته يف ضم دمشق‬
‫وتطرقت حلال املسلمني قب جميئه‬
‫ُ‬ ‫سواء ابلتفاهم ‪ ،‬أم ابحلصار ‪ ،‬أم ابلسياسة ‪ ،‬وتكلمت عن جهاده ضد الصليبيني ‪،‬‬
‫لإلمارة ‪ ،‬وسياسته مع الصليبيني ‪ ،‬و تحه للحصون والقضمع ‪ ،‬وسعيه احلثيث لتوحيد اجلبهة اإلسضممية وقيادهتا ملقاومة‬

‫‪5‬‬
‫االحتضمل الصلييب ‪ ،‬وذكرت مناصرة عماد الدين لبين منقذ عندما تعرضت إمارة شيزر حملاصرة اجليش البيزنطي ‪ ،‬والصلييب‬
‫‪ ،‬ومواقفه البطولية يف مقارعة الغزاة ‪ ،‬وأساليبه اليت استخدمها ضدهم سواء نفسية أو تعبوية من طلب النجدة من خمتلف‬
‫املناطق ‪ ،‬واستخدام سهام احليلة والدهاء لتعميق اخلضمف بني أ رنج الشام ‪ ،‬وملك الروم البيزنطي ‪ ،‬وقد حقق جناحاً‬
‫منقطع النظري يف هذا امليدان ‪ ،‬ويف هناية املطاف اضطر اإلمرباطور البيزنطي إىل ك حصاره عن شيزر بفَ هللا ‪ ،‬مث‬
‫جهود عماد الدين العسكرية‪.‬‬
‫وكانت من أهم النتائج اليت أسفرت عنها هذه احلملة تدهور العضمقات بني البيزنطيني ‪ ،‬والصليبيني ‪ ،‬وعدم استطاعتهم‬
‫ذلك يف إمتام خطته‬ ‫هنمك عماد الدين بعد َ‬ ‫القيام بعم سريع ضد نشاط زنكي يف املنطقة يف السنني التالية ‪ ،‬وقد ا َ‬
‫بتوحيد اجلبهة اإلسضممية ‪ ،‬كي يكون أكثر قدرًة على جماهبة الصليبيني ‪ ،‬وأشاد الشعراء بد اع عماد الدين زنكي عن‬
‫شيزر ‪ ،‬قال ابن قسيم احلموي يف مدحه‪:‬‬
‫تَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـذ ُّل لـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك الـصعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاب وتستقيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم‬ ‫بعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـزم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك أيـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا امللـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك العظيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم‬
‫تبي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــَ َن أنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه امللـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك الرجي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم‬ ‫أل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم تـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر أن كلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب الـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـُّروم مل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬
‫كـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـأن اجلَ ْح َف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ البهي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم‬ ‫جـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاء يطب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـق الفلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوات خيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمً‬
‫إىل أن قال‪:‬‬
‫ت بقطـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـع دابرهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم زعي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم‬ ‫وأنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ‬ ‫ك عفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـواً‬
‫أيلتمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـس الفرن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُج لدي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ‬
‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلأول م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا تفارقهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا اجلس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوم‬ ‫ك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي نف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوس‬ ‫إذا خط ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرت سيو ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ‬
‫الرها؛ اليت أتسست يف الشرق اإلسضممي‬ ‫ع من الصليبيني إمارة ُّ‬ ‫واستطاع عماد الدين بفَ هللا مث جبهوده امليمونة أن ينتز َ‬
‫سنة ‪ 491‬هـ‪ 1097‬م بزعامة بدوين األول ‪ ،‬وكان حتريرها يف عام ‪ 539‬هـ وقد ساعد عماد الدين زنكي عوام‬
‫ذلك اجملال ‪،‬‬ ‫الرها ‪ ،‬ومن أمهها‪ :‬تنامي حركة اجلهاد اإلسضممي حىت عصره ‪ ،‬وحصاد جتربة املسلمني يف َ‬ ‫عديدة يف تح ُّ‬
‫الرها مرشحة أكثر من غريها لكي تكون أوىل اإلمارات الصليبية‬ ‫يب يف أن التجارب السابقة أثبتت أن إمارة ُّ‬ ‫ضم ر َ‬
‫املعرضة للسقوط يف أيدي قادة اجلهاد اإلسضممي حينذاك ‪ ،‬وقد أجهدها أمر اإلغارات املستمرة يف جانب أمراء املوص‬
‫موت بطيء هلا إىل أن متهل اإلجهاز عليها يف العام املذكور‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫خضمل رتة تزيد على أربعة عقود من الزمان على حن ٍو مث‬
‫تلك اإلمارة الصليبية ابهلجوم بعد أن اطمأن الصليبيون إليه‬ ‫ذلك براعة عماد الدين العسكرية؛ الذي اجأ َ‬ ‫ويَاف إىل َ‬ ‫ُ‬
‫‪ ،‬وتصوروا أنه لن يهاجم ‪ ،‬استغ رصة غياب أمريها جوسلني الثاين عنها ‪ ،‬ووجه إليها ضربته القاضية اليت انتهت‬
‫لذلك العم العسكري العظيم‪.‬‬ ‫ذلك القائد الكبري‪ :‬أنه اختار التوقيت املضمئم َ‬ ‫إبسقاطها ‪ ،‬وهكذا أثبت َ‬
‫قام هبا ضد الصليبيني طوال مدة حكمه ‪ ،‬وكان هلذا النصر‬ ‫الرها أهم إجنازاته اليت َ‬ ‫لقد حقق عماد الدين زنكي بفتح ُّ‬
‫تلك النتائج على اإلمجال‪:‬‬ ‫نتائج هامة يف العاملني اإلسضممي والنصراين ‪ ،‬ومن أهم َ‬
‫أن حركة اجلهاد اإلسضممي وصلت سن الرشد ‪ ،‬وجتاوزت املراهقة السياسية والعسكرية ؛ دون أن‬ ‫‪ 1‬ـ أتكد للمسلمني‪ :‬هل‬
‫ذلك إجحا اً إبجنازات القادة السابقني على زنكي ال سيما األمري مودود بن التونتكني ‪ ،‬وإذا كانت أوىل اإلمارات‬ ‫يكون َ‬
‫الرها ‪ ،‬وغداً إسقا ُط ابقي الكيان الغازي الدخي ‪ ،‬وهذا ما‬ ‫الصليبية هتاوت حتت أيديهم؛ إهنا البداية ‪ ،‬واليوم إسقاط ُّ‬
‫حدث عضمً ‪ ،‬ومن اآلن صاعداً لن تعود عقارب الساعة إىل الوراء ‪ ،‬ب التقدم إىل األمام بك ثقة‪ ،‬وإابء‪.‬‬ ‫َ‬
‫‪6‬‬
‫تلك الكياانت الصليبية الغري شرعية لن تستمر على األرض املسلمة؛ ألن أبناء‬ ‫أن مث َ‬ ‫منطق التاريخ من‪ :‬هل‬ ‫أتكد ُ‬ ‫‪2‬ـ َ‬
‫بذلك الوضع السياسي والعسكري الدخي ‪ ،‬وابلتايل عاد التجانس‬ ‫املنطقة أصحاب اهلوية الدينية املوحدة لن يقبلوا َ‬
‫الرها متث دور الفص والكيان الصلييب احلاجز املانع من االتصال بني ك ٍ من سضمجقة‬ ‫ملنطقة مشال العراق ‪ ،‬ومل تعد ُّ‬
‫كذلك بضمد ارس‪.‬‬ ‫آسيا الصغرى ‪ ،‬وسضمجقة الروم ‪ ،‬و َ‬
‫الرها مبث هذه الصورة إىل حترك احللف الد اعي االسرتاتيجي القائم بني الكيان الصلييب يف الشرق‬ ‫‪ 3‬ـ كما أدى سقوط ُّ‬
‫ذلك الغرب يسمح المتداده السياسي ‪ ،‬والتارخيي يف الشرق أن ينهار قطعة قطعة ‪ ،‬ب ال بد‬ ‫الرحم األم ‪ ،‬لم يكن َ‬ ‫و هل‬
‫من التدخ من أج إعادة األمور إىل نصاهبا ‪ ،‬وإجهاز عاليات إمارة املوص ‪ ،‬ومن مث كان قيام احلملة الصليبية الثانية‬
‫جبضمء كيف أن قادة اجلهاد اإلسضممي حاربوا‬ ‫الرها ‪ ،‬وهو أمر يوضح لنا ٍ‬ ‫عام ‪ 542‬هـ‪ .‬وهي من النتائج املباشرة إلسقاط ُّ‬
‫عاملي على‬ ‫قاري ‪ ،‬أو ٍ‬ ‫قوى عاملية ‪ ،‬ومل تكن جمرد قوى حملية حمدودة التأثري والفعالية ‪ ،‬وإهنم ابلفع كانوا جزءاً من صر ٍاع ٍ‬
‫قام به عماد الدين لفتحه إمارة‬ ‫حنو جيع هلم مكانةً ابرزة يف اتريخ املسلمني‪ .‬وقد مدح الشعراء اإلجناز الكبري الذي َ‬
‫الرها ‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫الرها ‪ ،‬قد وصف ابن األثري جيش عماد الدين يف خروجه لفتح ُّ‬ ‫ُّ‬
‫ظنن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت البـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهلر حبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراً مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمح‬ ‫جبيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـش ج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاش ابلفرس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـان حـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـىت‬
‫ختاطبن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا أب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـواه الري ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاح‬ ‫وألسن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن العذب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـات محُْ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر‬
‫و ُغهلرتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه عمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـود للصبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاح‬ ‫وأروع جيش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ هبيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم‬
‫قليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــتـ ـ ـ الصف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـح م ـ ـ ـ ـ ـا بيـ ـ ـ ـ ـ ـن الصفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاح‬ ‫صفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوح عن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد قدرت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ولكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن‬
‫وهيبت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ جناح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً للجن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاح‬ ‫كـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـان ثباتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ للقلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب قلب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـــ اً‬
‫وهنهلأ الشاعر ابن القيسراين القاضي كمال الدين الشهرزوري هبذا الفتح ‪ ،‬قال‪:‬‬
‫عطفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت عليهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا كـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ أشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوس انكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب‬ ‫الره ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـــ ـ ـ ـ ـ ـا‬
‫إن الصفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـائح ي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوم صا حـ ـ ـ ـ ـت ُّ‬
‫كالفج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدر النهله ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـار االي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب‬ ‫ت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـح الفتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوح مبشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراً بتمامـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬
‫نُص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرت صحابتهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا أبميـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن صاحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب‬ ‫للـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه أيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة وقف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة بدريـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة‬
‫ض ابحلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرب غيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر حم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـارب‬ ‫ك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم انه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ‬ ‫ظف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـٌر كمـ ـ ـ ـ ـ ـال الدي ـ ـ ـ ـ ـ ـن كنـ ـتـ ـ ـ ـ ـت لقاح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬
‫ب حمفو ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍة بكتائ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب‬ ‫بكتائـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ‬ ‫ش املضمئـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك نُص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرةً‬ ‫وأمدك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم جي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫ُجن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد النبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوة ه ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن غال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب؟!‬ ‫جبنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوا الدهلب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـور وقُ ْدتُـ ـ ـ ـ ْم ريـ ـ ـ ـ ـ َح الصب ـــ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬
‫إىل أن قال‪:‬‬
‫دون الفريس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة ه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـو عيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن الواثـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب‬ ‫نفس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ‬‫وإذا رأيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت اللي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـث جيم ـ ـ ـ ـ ـ ـع َ‬
‫الرها بداية ملا بعدها ‪ ،‬وإذا مل يكن من الصعب على عماد الدين زنكي أن يستكم َ مهمته بفتح ابقي‬ ‫وكان تح ُّ‬
‫املعاق الصليبية التابعة هلذه اإلمارة ‪ ،‬استغ رصةَ تَعَع أحوال الصليبيني يف املنطقة ‪ ،‬واستطاع أن حيقق قسطاً‬
‫كبرياً من برانجمه ‪ ،‬وأن ي َكو َن لنفسه مكانة خاصة يف التاريخ اإلسضممي كسياسي ابرع ‪ ،‬وعسكري متمكن ‪ ،‬ومسلم‬
‫و ٍاع‪ .‬وأدرك اخلطر الذي حاق ابلعامل اإلسضممي من قب الصليبيني‪ ،‬قد استطاع أن يوجه الظروف التارخيية القائمة‬
‫وذلك بتجميعه القوى اإلسضممية بعد القَاء على عوام التجزئة واالنقسام ‪ ،‬وتوحيد املدن ‪،‬‬ ‫لصاحل املسلمني ‪َ ،‬‬
‫‪7‬‬
‫واإلمارات املنفصلة ‪ ،‬يف نطاق دولة واحدة استطاع حبنكته أن يستغ هل أقصى ما ميكن أن تقدمه دولته من إمكاانت يف‬
‫سبي حتقيق برانجمه املزدوج ‪ ،‬أي‪ :‬تشكي اجلبهة اإلسضممية ‪ ،‬وضرب الصليبيني ‪ ،‬ويعترب عماد الدين زنكي أول قائد‬
‫سلجوقي قام بتجميع القوى اإلسضممية و ق برانمج معني؛ ليجابه هبا تزايد اخلطر الصلييب الذي مل توق ْفهُ احملاوالت اجلدية‬
‫اليت سبقت زنكي وخباصة تلك اليت متت على أيدي ك من مودود بن التونتكني ‪ 502‬هـ ‪ 507‬هـ وإيلغازي وبلك‬
‫األرتقيني ‪ 518‬هـ ‪ 520‬هـ‪.‬‬
‫وقد مهد عماد الدين زنكي الطريق لقادة التحرير من بعده ‪ ،‬لم تكن جهود ابنه نور الدين حممود ‪ ،‬ومن بعده صضمح‬
‫الدين األيويب سوى إمتام العم الذي بدأه عماد الدين زنكي ويف نفس الطريق ‪ ،‬وبعد استشهاد عماد الدين توىل‬
‫القيادة ابنه البط الفذ واجملاهد الشهري نور الدين حممود الشهيد امللك العادل ‪ ،‬ذكرت يف هذا الكتاب سريتهُ‪ ،‬وترتيبهُ‬
‫أوضاع البيت الزنكي مع أخيه سيف الدين غازي‪ ،‬واتفاقهم على توحيد الكلمة ‪ ،‬ومناصرة بعَهم البعض ضد األعداء‬
‫وتوسعت يف ذكر مفتاح شخصية نور‬ ‫ُ‬ ‫أمري املوص ‪ ،‬ونور الدين حممود أمرياً على حلب ‪،‬‬‫أصبح سيف الدين غازي َ‬ ‫‪،‬و َ‬
‫الدين زنكي ‪ ،‬وشعوره ابملسؤولية ‪ ،‬وحرصه على حترير البضمد من الصليبيني ‪ ،‬وخو ه من حماسبة هللا له‪ ،‬وشدة إميانه ابهلل‬
‫واليوم االخر‪ .‬وقد كان هذا اإلميان سبباً يف التوازن املدهش واخلضمب يف شخصيته ‪ ،‬قد كان على هم صحيح حلقيقة‬
‫اإلسضمم وتعبد هللا بتعاليمه ‪ ،‬ومتيزت شخصيتهُ مبجموعة من الصفات الر يعة ‪ ،‬واألخضمق احلميدة اليت ساعدتهُ على‬
‫حتقيق إجنازاته العظيمة واليت من أمهها‪ :‬اجلدية ‪ ،‬والذكاء املتوقد ‪ ،‬والشعور ابملسؤولية ‪ ،‬والقدرة على مواجهة املشاك‬
‫وجتردهُ ‪،‬‬ ‫واألحداث ‪ ،‬ونزعتهُ للبناء واإلعمار ‪ ،‬وقوة الشخصية ‪ ،‬وحمبتهُ هلل ‪ ،‬وحمبة الناس لهُ ‪ ،‬واللياقةُ البدنية العالية ‪ُّ ،‬‬
‫وزهدهُ الكبري ‪ ،‬حىت قال الشاعر يه‪:‬‬
‫وم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـال هبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن األمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوال زه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدا‬ ‫ثنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى يـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـده عـ ـ ـ ـ ـ ـن الدني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا عفا ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـــ ـ ـاً‬
‫وقال يه آخر‪:‬‬
‫ك األب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر ُار‬‫هل ـُ ـ ـ ـ ـ ـ ـم وتَطْلُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُع خلف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ‬ ‫ت تقفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـو الصاحلـيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن مسابقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً‬ ‫ال زل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ‬
‫رب ونـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـز ُار‬ ‫نف ـ ـ ـ ـ ـ ـس السي ـ ـ ـ ـ ـ ـادة زه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُد ملـ ـ ـ ـ ـ ٍ‬
‫يـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه تفان ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت يَعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ‬ ‫ك ـ ـ ـي ال ـ ـ ـ ـ ـذي‬
‫وحتدثت عن شجاعته اليت قال الشاعر يها‪:‬‬ ‫ُ‬
‫دل علـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى القسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاوة لْيـنُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ‬ ‫كا ُّلرم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـح هل‬ ‫تب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدو الشجاعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةُ م ـ ـن طضمق ـ ـ ـة وجهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬
‫وس ُكونـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه!‬ ‫ووراء يقظت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه أنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاةُ ُجم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـــ ـ ـ ـ ـر ٍ‬
‫لل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه سط ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوةُ أبسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ُ‬ ‫ب‬ ‫َ‬
‫وقال آخر‪:‬‬
‫ب خوُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه وعقابـُ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ‬ ‫رج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى ويـُْرَه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫يُ َ‬ ‫وت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي نرباتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬ ‫متهل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ واملـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬

‫حَرت عند نور الدين بدمشق ـ يف‬


‫ُ‬ ‫وتكلمت عن حمبته للجهاد والشهادة ‪ ،‬قد ذكر العماد األصفهاين ‪ ،‬قال‪« :‬‬
‫ُ‬
‫دمشق ‪ ،‬ورقة هوائها ‪ ،‬وأزهار رايضها ‪ ،‬وك ٌّ منهلا ميدحها ‪ ،‬ويطرهبا قال نور‬
‫َ‬ ‫شهر صفر ـ واحلديث جيري يف طيب‬

‫‪8‬‬
‫أرغب يها‪ .‬وعندما دخ املوص ‪ ،‬وغادرها بعد عشرين يوماً سألهُ أصحابه‪:‬‬ ‫الدين‪ :‬إمنا حب اجلهاد يسليين عنها ‪ ،‬ما ُ‬
‫املقام هبا‪ ،‬ونر َاك أسرعت العودة؟!‬ ‫نك حتب املوص ‪ ،‬و َ‬ ‫إ َ‬
‫يجيب‪ :‬قد تغري قليب يها إن مل أ ارقها ظلمت ‪ ،‬ومينعين أيَاً أنين ها هنا ال أكون مرابطاً للعدو ‪ ،‬ومضمزماً للجهاد‪.‬‬ ‫ُ‬
‫يسأل هللا أن حيشرهُ من بطون السباع وحواص الطري!!‬ ‫يتعرض للشهادة ‪ ،‬وكان ُ‬ ‫ُ‬ ‫وكان رمحه هللا‬
‫نت لوحات رائعة من عبادته ‪ ،‬قد كان يصلي أكثر الليايل ‪ ،‬ويناجي ربه مقبضمً بوجهه عليه ‪ ،‬ويؤدي الصلوات‬ ‫وبيهل ُ‬
‫عز‬
‫ظ على اجلماعة ‪ ،‬وكا َن كثري االبتهال إىل هللا ـ هل‬ ‫اخلمس يف أوقاهتا بتمام شرائطها وأركاهنا وركوعها وسجودها وحيا ُ‬
‫أوقاف يف كا ة جماالت احلياة االجتماعية‬ ‫وج هل ـ يف أموره كلها ‪ ،‬وقد اشتهر ابإلنفاق الواسع الكرمي العظيم ‪ ،‬وكانت لهُ ٌ‬
‫على املساجد‪ ،‬واملدارس‪ ،‬واملستشفيات‪ ،‬واألرام ‪ ،‬واأليتام‪ ...‬إخل‪ .‬وقد مدح الشعراء نور الدين على كرمه وجوده قد‬
‫قال أحدهم‪:‬‬
‫ـ ـ ـ ـت ـي سائ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر اآل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاق ه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن معسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر‬ ‫ك املن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـادي ج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوده‬ ‫اي أيهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا امللـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫ابسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم ابـ ـ ـ ـ ـن أوس واستخصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــُوا البحت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـري‬ ‫اس نَـ هلوه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوا‬‫ت أكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُرم م ـ ـ ـ ـ ـ ـن أنـ ـ ـ ـ ـ ٍ‬ ‫وألن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ‬
‫إن تغـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُز تغنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْم أو تقات ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْ تظفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر‬ ‫اب وال ت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـزل‬
‫ك الرق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫ت لدولت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ‬ ‫ذل ـ ـ ـ ـ ْ‬
‫ومدحه أسامة بن منقذ بقوله‪:‬‬
‫ب النـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُار ابإليقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاد‬ ‫يهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا تَ ُش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُّ‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ عـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـام للربيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة ليلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةٌ‬
‫رى ونـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـار جه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاد‬ ‫نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاران‪ :‬ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُار قـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ً‬ ‫لك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْن لن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـور الدي ـ ـ ـ ـ ـن مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن دون الـ ـ ـ ـ ـ ـ ـورى‬
‫الع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُام أمجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُع ليلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةَ املي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمد‬ ‫أبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـداً يصر هـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـداه أبس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬
‫أهب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن األط ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـواق يف األجيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاد‬ ‫ك لـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ـ ـ ـ ـ ـ ـي كـ ـ ـ ـ ـ جي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍد من ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةٌ‬ ‫َمل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ‬
‫وأمدهله ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم كف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً ب ـبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـذل ت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمد‬ ‫وك يـ ـ ـ ـ ـداً وأمنعهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم محـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ًى‬ ‫أعلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى املـ ـ ـ ـ َ‬
‫مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن غي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر مسألـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍة وال ميعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاد‬ ‫تربع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً‬ ‫يُعطـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي اجلزيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن الهلن ـ ـ ـ ـــ ـوال ُّ‬
‫كيف هلاختذ من عمر بن عبد العزيز منوذجاً يقتدي‬ ‫أشرت إىل أهم معامل التجديد واإلصضمح يف دولة نور الدين حممود ‪ ،‬و َ‬ ‫و ُ‬
‫به يف دولته ‪ ،‬قد اقتنع أبمهية التجارب اإلصضمحية يف تقوية وإثراء املشروع النهَوي ‪ ،‬ودورها يف إجياد وصياغة الرؤية‬
‫الضمزمة يف هنوض األمة ‪ ،‬وتسلمها القيادة ‪ ،‬للتجارب التارخيية إسهام كبري يف تطوير الدول ‪ ،‬وجتديد معاين اإلميان يف‬
‫حرص على معر ة هذه السرية املباركة كي يقتدي هبا يف إدارته للدولة ‪ ،‬ولقد اتت معامل التجديد‬ ‫َ‬ ‫ولذلك‬
‫َ‬ ‫األمة ‪،‬‬
‫مثارها يف الدولة الزنكية ‪ ،‬وكانت أهم معامل التجديد يف دولة نور الدين‪:‬‬ ‫واإلصضمح الراشدي يف عهد عمر بن عبد العزيز َ‬
‫‪ 1‬ـ احلرص على تطبيق الشريعة‪ :‬قد جع من مقاليد احلكم يف الدولة أداة مسخرة خلدمة الشريعة ‪ ،‬وتطبيق أحكامها‬
‫حبماس منقطع النظري‪ .‬وقال يف هذا الصدد‪ :‬وحنن‬ ‫ٍ‬ ‫وقيمها ومبادئها يف واقع احلياة ‪ ،‬ودعا إىل حتكيم الشريعة‬
‫مننع عنه ما يناقَهُ وهو األص ؟!‬ ‫حنفظ الطرق من لص وقاطع طريق واألذى احلاص منها قريب أ ضم حنفظ الدين ‪ ،‬و ُ‬
‫حنن شحن للشريعة منَي أوامرها! قد جدد امللوك اتباع سنة العدل واإلنصاف ‪ ،‬وترك احملرمات من املأك ‪،‬‬ ‫وقال‪ُ :‬‬
‫إن كثرياً من احلكام قبله كانوا كاجلاهلية ‪ ،‬مههلة أحدهم بطنه ‪ ،‬و رجهُ ‪ ،‬ال يعرف‬ ‫واملشرب ‪ ،‬وامللبس‪ ،‬وغري ذلك ‪ ،‬هل‬
‫وقف ضح مع أوامر الشرع ونواهيه وألزم أتباعهُ وذويه ‪ ،‬اقتدى به‬ ‫معرو اً ‪ ،‬وال ينكر منكراً؛ حىت جاءَ هللاُ بدولته ‪َ ،‬‬
‫‪9‬‬
‫غريه منهم ‪ ،‬واستحيوا أن يظهر عنهم ما كانوا يفعلونه ‪ ،‬قد أصدر أوامرهُ إىل كا ة موظهلفيه على االلتزام أبحكام الشرع‬
‫حتت شبه احلرام ‪ ،‬وأز َال‬ ‫‪ ،‬ومنع ارتكاب الفواحش ‪ ،‬وشرب اخلمور ‪ ،‬أو بيعها يف مجيع بضمده ‪ ،‬وأسق َط ك ما يدخ ُ َ‬
‫خالف‬
‫َ‬ ‫يند عن حمجة الشريعة البيَاء ‪ ،‬وينحرف إىل بؤر الظضمم‪ .‬وكا َن يُنزل العقاب السريع العادل بك من‬ ‫ك ما ُّ‬
‫أمره ‪ ،‬وك الناس عنده يه سواء‪ .‬وقد مدحهُ الشعراء ‪ ،‬قال يه ابن منري‪:‬‬
‫ت هل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي اخلا قـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـ ـن من ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُار‬ ‫ُر عـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْ‬ ‫ك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم سيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرٍة أحييته ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا عمريـهل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍة‬
‫أبقلهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا تستعبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد األحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر ُار‬ ‫ونوا ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ صريهت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن لوازم ـ ـ ـ ـ ـ ـــ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً‬
‫واللي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ط ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـول القي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـام هنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُار‬ ‫ارك ه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـو ليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ جماه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍد‬ ‫هلأمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا هن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ‬
‫أيها األخوة الكرام! اي أبناء اإلسضمم! اي من مهمهم النهوض احلَاري هلذه األمة اجلرحية! علينا ابلسعي الدؤوب يف‬
‫جمتمعاتنا ودولنا حىت أتخذ الشريعةُ الغراء مكانتها وحقها من االحرتام والتقدير والتطبيق ‪ ،‬أاثر حتكيم شرع هللا يف‬
‫التمكني يف األرض ‪ ،‬واألمن ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫تلك االاثر‪:‬‬ ‫الشعوب اليت نفذت أوامر هللا ونواهيه ظاهرةٌ بينةٌ لدارس التاريخ ‪ ،‬ومن َ‬
‫العز ‪ ،‬والشرف ‪ ،‬وانزواء الرذائ قد رأيناها يف دراستنا لدولة اخللفاء الراشدين ‪،‬‬ ‫الفتح املبني ‪ ،‬و ُّ‬ ‫واالستقرار ‪ ،‬والنصر ‪ ،‬و ُ‬
‫ودولة عمر بن عبد العزيز ‪ ،‬ودولة يوسف بن اتشفني ‪ ،‬ودولة حممد الفاتح ‪ ،‬وهي من سنن هللا اجلارية يف األرض واليت‬
‫أي قيادة مسلمة تسعى هلذا املطلب اجللي ‪ ،‬والعم العظيم خملصة هلل يف قصدها ‪ ،‬مستوعبة‬ ‫ال تتبدل ‪ ،‬وال تتغري ‪ُّ ،‬‬
‫لسنن هللا يف األرض؛ إهنا تص إليه ولو بعد حني ‪ ،‬وترى ااثر التحكيم على أ رادها ‪ ،‬وجمتمعاهتا ‪ ،‬ودوهلا ‪ ،‬وحكامها‬
‫ذلك يف سرية نور الدين حممود وعصره إبذن هللا تعاىل‪.‬‬
‫‪ ،‬كما سنرى َ‬
‫إن التو يقات الرابنية العظيمة يف اتريخ أمتنا جيريها هللا تعاىل على يدي من أخلص لربه ودينه ‪ ،‬وأقام شرعهُ ‪ ،‬وقصد‬
‫ُ َ‬ ‫ِيما َش َ‬ ‫ََ ََ َ َ ُۡ ُ َ‬
‫ون َح ذَّت ُُيَك ُِم َ‬
‫ج َر بَيۡ َن ُه ۡم ث ذم َل‬ ‫وك ف َ‬ ‫رضاهُ ‪ ،‬وجعلهُ وق ك اعتبار قال تعاىل‪ ﴿:‬فل وربِك َل يؤمِن‬
‫ََي ُدوا ْ ٓ َ ُ ۡ َ َ ٗ ذ َ َ ۡ َ َ ُ َ ُ ْ َ ۡ ٗ‬
‫ِف أنفسِ ِهم حرجا مِما قضيت ويسل ِموا تسل ِيما ‪[ ﴾ ٦٥‬النساء ‪. ]65 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وقال الشاعر أمحد ر يق املهدوي اللييب‪:‬‬
‫ب الفتهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاح‬
‫ظهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرـ ـ ـت عليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه مواهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫ب الل ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ ابطـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َن عبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـده‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـإذا أحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هل‬
‫اد عليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاألرواح‬
‫م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َال العبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫ت للـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةُ مصل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍح‬‫وإذا صفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْ‬
‫‪ 2‬ـ ومن معامل التجديد بناء دولة العقيدة على منهج أه السنة اجلماعة‪ :‬قد جع من العقيدة اإلسضممية الصحيحة‬
‫العمود الفقري لدولته‪ ،‬وكان رمحه هللا ميلك رؤية هنوض قائمة على إحياء السنة ‪ ،‬وقمع البدعة ‪ ،‬قال عنه ابن كثري‪:‬‬
‫حي على الفضمح ‪ ،‬ومل يكن يؤذن‬ ‫حبي على الصضمة ‪ ،‬هل‬ ‫«أظهر نور الدين ببضمده السنة ‪ ،‬وأمات البدعة ‪ ،‬وأمر ابلتأذين هل‬
‫حبي على خري العم ؛ ألن شعار الر ض كان ظاهراً»((‪.))1‬‬ ‫هبما يف دوليت أبيه وجده ‪ ،‬وإمنا كان يؤذن هل‬
‫يتحرى سنة النيب ‪ ‬يف أموره كلها ‪ ،‬ومن أعظم إجنازات دولته إسقاط الدولة الفاطمية مبصر ‪ ،‬وكان‬ ‫وكان نور الدين هل‬
‫الفَ ُ هلل مث للحمضمت املتوالية اليت أرسلها نور الدين حممود حىت خلهلص املسلمني من شرورها ‪ ،‬وأعلن تبعية مصر‬
‫أي نور الدين يف الدولة الفاطمية العبيدية يتلخص يف رسالته للخليفة العباسي ‪ ،‬وهو‬ ‫للخضم ة العباسية السنيهلة ‪ ،‬وكان ر ُ‬

‫((‪ ))1‬البداية والنهاية نقضمً عن اجلهاد والتجديد ص ‪.130‬‬

‫‪10‬‬
‫يبشره بفتح مصر ‪ ،‬وسقوط دولة اإلحلاد ‪ ،‬والر ض ‪ ،‬والبدع((‪ ))1‬ويقول يها‪« :‬وطاملا بقيت مئتني ومثانني سنة مملوءة‬
‫اجتمع يها داءان‪ :‬الكفر‪ ،‬والبدعة ‪ ،‬ومتكنهلا من إزالة اإلحلاد‬
‫حبزب الشياطني‪ ...‬حىت أذن هللا لغمتها ابالنفراج ‪ ،‬و َ‬
‫والر ض ‪ ،‬ومن إقامة الفرض»((‪ .))2‬وسريى القارئ الكرمي إبذن هللا قه نور الدين يف إزالة الدولة الفاطمية يف هذا‬
‫الكتاب‪.‬‬
‫هلاه ْم يف مدارس الدولة النورية ‪ ،‬و تح هلم األبواب لدعم املذهب‬‫استفاد نور الدين من خرجيي املدارس النظامية ‪ ،‬وتبن ُ‬
‫السين ‪ ،‬ومناهَة الفكر الشيعي الرا َي‪ ،‬وصبغ الدولة ابلكتاب والسنة ‪ ،‬ووضع مشروعاً كرايً ثقا ياً عقائدايً تربوايً‬
‫تعليمياً ‪ ،‬استهدف به رعااي دولته ‪ ،‬ومل يفرق بني علماء الشا عية ‪ ،‬واألحناف ‪ ،‬واحلنابلة واملالكية‪ ،‬وأه احلديث‪،‬‬
‫وحترك هبم من خضمل جبهة عريَة تنَوي حتت راية أه السنة‬ ‫التصوف السين‪ ،‬وغريهم من أبناء األمة‪َ ،‬‬ ‫وشيوخ ُّ‬
‫حترك نور الدين يف مشروعه االنف الذكر من خضمل مؤسسات‬ ‫واجلماعة يف مقاومة األخطار الشيعية الرا َية‪ .‬وقد َ‬
‫الربُط‪ ،‬وأخذ بكا ة األسباب املادية واملعنوية املعينة على حتقيق اهلدف‬
‫اجملتمع املدين‪ ،‬كالكتاتيب‪ ،‬واملدارس‪ ،‬واملساجد‪ ،‬و ُّ‬
‫املنشود من صبغ الدولة النورية ورعااي الدولة من املسلمني ابلكتاب والسنة‪ ،‬وقد أمثرت جهوده يف بضمد الشام‪ ،‬وعلى‬
‫تسابق أمراؤه ‪ ،‬وأعيان دولته ‪ ،‬وخلفاؤه من بعده على إنشاء املؤسسات العلمية؛ حىت غدت‬ ‫سبي املثال يف حلب قد َ‬
‫السنيهلة بعد أن كانت وكراً من أوكار الشيعة اإلمامية ‪ ،‬واإلمساعيلية‪.‬‬ ‫حلب بعد رتة يسرية نسبياً مركزاً من مراكز الثقا ة ُّ‬
‫ومخسني مدرسةً موزعة بني‬ ‫َ‬ ‫وقد أحصى املؤرخ عز الدين بن شداد ت ‪ 684‬هـ مدارس حلب يف أايمه ‪ ،‬وجدها أربعاً‬
‫املذاهب الفقهية األربعة ‪ ،‬منها‪ :‬إحدى وعشرون للشا عية ‪ ،‬واثنتان وعشرون للحنفية ‪ ،‬وثضمث للمالكية واحلنابلة ‪،‬‬
‫وثضمثني مقراً للصو ية‪ .‬وقد أتت هذه املؤسسات العلمية مثارها املرجوة؛‬ ‫َ‬ ‫ومثاين دور للحديث الشريف ابإلضا ة إىل إحدى‬
‫إذ انقرض املذهب اإلمساعيلي الباطين يف حلب يف حدود عام ‪ 600‬هـ ‪ ،‬وأخفى الشيعة اإلمامية معتقداهتم‬
‫حىت انتهى هبم األمر إىل أن أخذوا يتنكرون ‪ ،‬وأب عال السنة يتظاهرون ‪ ،‬وهذا بفَ هللا مث جهود املصلح الكبري نور‬
‫الدين وخلفائه الذين اقتدوا به يف اإلكثار من املدارس السنية ‪ ،‬وتعيني األساتذة األكفاء هلا ‪ ،‬واإلنفاق عليها بسخاء‬
‫يدل على أمهية الرتبية العقيدية ‪،‬‬ ‫اجع التشيع يف هذه املدينة وأصبحت السيادة يها ملذهب أه السنة ‪ ،‬وهذا ُّ‬ ‫حىت تر َ‬
‫والفكرية ‪ ،‬والثقا ية يف التمكني لإلسضمم الصحيح يف نفوس الناس‪.‬‬
‫انتفع‬
‫َ‬ ‫أن جهودهُ جاءت اتلية جلهود املدارس النظامية ‪،‬‬ ‫ومما ساعد نور الدين حممود على حتقيق برانجمه اإلصضمحي‪ :‬هل‬
‫السين ‪ ،‬واالنتصار له‪.‬‬ ‫مبا حققته من نتائج ‪ ،‬ويف مقدمتها ختريج جي حيم على عاتقه مهمة الدعوة للمذهب ُّ‬
‫‪ 3‬ـ ومن معامل التجديد يف دولة نور الدين حرصه على إقامة العدل‪ :‬قد كان قدوة يف عدله ‪ ،‬أسر القلوب ‪ ،‬وهبر‬
‫ذلك على صعيد الواقع والتطبيق جناحاً‬ ‫العقول ‪ ،‬قد كانت سياستهُ تقوم على العدل الشام بني الناس ‪ ،‬وقد جنح يف َ‬
‫ذلك قد قال العماد األصفهاين يف عدله‪:‬‬ ‫ق هل نظريهُ حىت اقرتن امسهُ ابلعدل ومسي ابمللك العادل ‪ ،‬ومدحه الشعراء على َ‬
‫ود م ـ ـ ـ ـ ـع املهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬‫مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن عدلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه رعـ ـ ـ ـ ـ ـت األسـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫اي حميـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي الع ـ ـ ـ ـ ـ ـدل ال ـ ـ ـ ـ ـذي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ظلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬
‫َ‬
‫الزمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـــ ـا ُن وقَـ ْه َقه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬
‫ك هل‬ ‫لبهائه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ضح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ‬ ‫ود م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن أايمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬
‫ود احملمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫حممـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ‬

‫((‪ ))1‬املصدر نفسه‪.‬‬


‫((‪ ))2‬كتاب الروضتني نقضمً عن اجلهاد والتجديد ص ‪.331‬‬

‫‪11‬‬
‫‪ 4‬ـ ومن معامل التجديد يف دولة نور الدين اهتمامهُ ابلعلماء‪ :‬قد تح مؤسسات الدولة لضمستفادة منهم ‪ ،‬قدهلمهم‬
‫شارك العلماء معه يف اجلهاد ضد‬ ‫وشجع املتميزين منهم إىل اهلجرة لدولته وقد َ‬ ‫وبذل هلم العطاء ‪ ،‬هل‬ ‫على األمراء ‪َ ،‬‬
‫الصليبيني ابلكلمة والسيف والتأليف والوعظ ‪ ،‬كما سنرى يف هذا الكتاب إبذن هللا‪.‬‬
‫طور نور الدين النظام اإلداري لدولته ‪ ،‬وحرص على صبغته لدولته ‪ ،‬وحرص على صبغته ابلصبغة اإلسضممية‪،‬‬ ‫هذا وقد هل‬
‫اعتمد يف إدارته للشورى ‪ ،‬وابتعد عن االنفراد ابلقرار بشك كبري ‪ ،‬وقدم املصلحة العامة على االنفعاالت ‪ ،‬وكان‬ ‫و َ‬
‫مثاالً رائعاً يف الزهد‪ ،‬والتعفف‪ ،‬وبذل املال يف الصاحل العام‪ ،‬وحرص على تو ري األمن للرعية‪ ،‬وضمن هلم احلرايت العامة‬
‫ردت مبحثاً عن النظام االقتصادي ‪ ،‬واخلدمات االجتماعية ‪ ،‬بينت‬ ‫‪ ،‬كحرية الرأي ‪ ،‬واحملا ظة على كرامة الفرد‪ .‬وأ ُ‬
‫مصادر دخ دولة نور الدين ‪ ،‬كنظام اإلقطاع احلريب ‪ ،‬والزكاة‪ ،‬واخلراج‪ ،‬واجلزية‪ ،‬والغنائم‪ ،‬و داء األسرى‪ ،‬واألموال‬
‫العظيمة اليت خلفها أبوه عماد الدين ‪ ،‬وأثر األمانة الكبرية اليت متيهلز هبا نور الدين ‪ ،‬وحكومته الرشيدة على خزانة الدولة‬
‫‪ ،‬وأثر األمن واالستقرار على انتعاش احلركة التجارية‪ ،‬ومسامهة األثرايء‪ ،‬واملعاهدات‪ ،‬واالتفاقات اليت ألزم هبا اخلصوم‬
‫لد ع أمو ٍال للدولة الزنكية‪ .‬وحتدثت عن دعم اخلليفة العباسي للدولة الزنكية‪ .‬وأثر السياسة الزراعية‪ ،‬والصناعية‪ ،‬والتجارية‬
‫اهتم نور الدين ابلشرائح املنتجة كالفضمحني ‪ ،‬وأصحاب األموال كالتُّجار ‪ ،‬قد حرص على‬ ‫يف تقوية اقتصاد الدولة‪ ،‬و هل‬
‫إرضاء كبار التجار من أج أن يستمر استثمارهم ألمواهلم يف عمليات جتارية على أرض دولته على حنو يدعم اقتصادايت‬
‫الدولة‪ ،‬ويدر األموال الطائلة على ميزانيتها من عوائد املكوس الشرعية ال أن تذهب إىل خارجها ‪ ،‬يف وقت تصارعت‬
‫يه مع القوى اإلسضممية والصليبية اجملاورة‪ .‬وقد وجد كبار التجار من نور الدين قوة مهيئة لنشاطهم التجاري أكثر من‬
‫ذي قب ‪ .‬وعندما دخ نور الدين مدينة دمشق حرص أشد احلرص على االجتماع مع كبار التجار الدماشقة من أج‬
‫بعث الطمأنينة يف نفوسهم ‪ ،‬ولتوضيح معامل سياسته االقتصادية املرتقبة ‪ ،‬وقد استفاد التجار من ُه َدن الدولة النورية مع‬
‫مملكة بيت املقدس الصليبية يف صفقاهتم التجارية‪.‬‬
‫وكان من سياسة نور الدين ا القتصادية واملؤيدة ابلشرع اإلسضممي إلغاء الَرائب ‪ ،‬وأخذ نور الدين يف تنفيذ هذه‬
‫يصدر األوامر ويعمم الكتب‪ ،‬واملناشري إبسقاط حشود الَرائب‬ ‫ُ‬ ‫السياسة من ُذ رتة مبكرة ‪ ،‬وكان حيناً بعد حني‬
‫«الضمشرعية» اليت كانت أتخذ خبناق املواطنني من جراء سياسات االبتزاز اليت اعتمدها احلكام واألمراء الذين عاصروه‪،‬‬
‫ذلك‬
‫أيمر إبلغائها ‪ ،‬وهدد من ال يطبق َ‬ ‫ٍ‬
‫وكانت شعبيته تزداد ابطراد عجيب يف خط متواز مع مقادير الَرائب اليت كان ُ‬
‫من املسؤولني‪ :‬ومن أزاهلا زلهلت قدمه ‪ ،‬ومن أحلهلها ح هل دمه‪ ،‬ومن قرأه‪ ،‬أو قرأ عليه ليمتث ما أمران به‪ ،‬وليمَه مرضياً‬
‫لذلك أن نشط الناس للعم ‪ ،‬أخرج التجار أمواهلم ‪ ،‬ومَوا يتاجرون ‪،‬‬ ‫لربه ممَياً ملا أمر به‪ .‬وكانت النتيجةُ الطبيعيةُ َ‬
‫وجاءت اجلباايت الشرعية أبضعاف ما كان جييءُ من وجوه احلرام‪ .‬وسعى نور الدين حممود إىل تقدمي أوسع اخلدمات‬
‫ت لتغطية شىت احلاجات ابتداءً من‬ ‫االجتماعية لشعبه ‪ ،‬وجع مؤسسات الدولة أدوات صاحلة يف خدمة اجلماهري َوس َع ْ‬
‫قَااي املسكن ‪ ،‬وامللبس ‪ ،‬واملأك ‪ ،‬وانتهاء بقَااي الروح ‪ ،‬ومروراً ابحلاجات الفكرية ‪ ،‬والصحية ‪ ،‬والعمرانية ‪،‬‬
‫واإلنتاجية ‪ ،‬وقد أخذت هذه اخلدمات أساليب وأشكاالً خمتلفة ‪ ،‬هي حيناً أتيت عن طريق التوزيع املباشر للمال ‪،‬‬
‫وحيناً عن طريق (اإلعانة) على تلبية حاجة معينة والفكاك من األسر‪ ،‬وحيناً اثلثاً عن طريق إنشاء مؤسسات ومرا ق‬
‫الربُط ‪ ،‬واجلسور ‪ ،‬والقناطر ‪،‬‬‫كاملستشفيات ‪ ،‬واملضمجىء ‪ ،‬ودور األيتام ‪ ،‬واملدارس ‪ ،‬ودور احلديث ‪ ،‬واخلاانت ‪ ،‬و ُّ‬
‫‪12‬‬
‫والقنوات ‪ ،‬واألسواق ‪ ،‬واحلمامات ‪ ،‬والطرق العامة ‪ ،‬واملخا ر‪ ،‬واخلنادق ‪ ،‬واألسوار ‪ ،‬وحيناً رابعاً جتيء عن طريق نظم‬
‫(الوقف) اليت شهدت يف عصر نور الدين قمة نَجها وتنظيمها وازدهارها ‪ ،‬وحيناً مخساً عن طريق عدد من اإلجراءات‬
‫لقطاع ما من قطاعات األمة‪.‬‬
‫التنظيمية اليت استهد ت حتقيق الَمان االجتماعي ٍ‬
‫أن انتصارات نور الدين ‪ ،‬وصضمح الدين سامهت يها عوام متعددة؛‬ ‫وقد الحظت يف دراسيت لفرتة احلروب الصليبية‪ :‬هل‬
‫منها على مستوى اخلضم ة نفسها ‪ ،‬ومنها على املستوى الشعيب ‪ ،‬ومنها على مستوى الوزارة ‪ ،‬قد أخذت مؤسسة‬
‫كذلك الوزارة العباسية يف عهد حيىي‬
‫اخلضم ة تسرتد صضمحياهتا وتقوى على ما كانت عليه يف العهد السلجوقي األول ‪ ،‬و َ‬
‫بن هبرية الوزير الصاحل ‪ ،‬والعامل الرابين‪ .‬وكان الشيخ عبد القادر اجليضمين من زعماء الدعوة الشعبية واإلصضمح العام يف‬
‫عامة اجلماهري متعطشة إىل شخصية روحية ر يعة‪ ،‬تكو ُن على تواص ابلشعب‬ ‫عاصمة اخلضم ة العباسية‪ ،‬قد كانت هل‬
‫وطبقاته ومجاهريه ‪ ،‬وتؤثر يف اجملتمع بدعوهتا ومواعظها وتزكيتها‪ ،‬وتوقظ يف النفوس اإلميان‪ ،‬وحتيي قه القدوم على هللا‪،‬‬
‫اهلمة‪ ،‬وبذل اجلهد يف احلصول على علم هللا الصحيح‬
‫وعلو هل‬‫وحترك يف القلوب احلب هلل واحلنني إليه‪ ،‬وحتث على الطموح ُ‬
‫وعبادته وني رضوانه واملسابقة إىل سبيله وتدعو إىل التوحيد الكام والدين اخلالص‪ .‬ولقد كان هذا املصلح الكبري يف‬
‫شخص الشيخ عبد القادر اجليضمين ‪ ،‬واستطاع أن يؤسس مدرسة سامهت مع الزنكيني يف حتم املسؤولية ‪ ،‬ومواجهة‬
‫التحدايت العقائدية ‪ ،‬والفكرية ‪ ،‬واالقتصادية ‪ ،‬واالجتماعية ‪ ،‬وسامهت يف إعداد جي املواجهة للخطر الصلييب يف‬
‫البضمد الشامية‪ .‬وقد استفاد عبد القادر اجليضمين من جهود من سبقوه وتعاليمهم وخصوصاً اإلمام الغزايل الذي قام بدور‬
‫وحول تلك التعاليم إىل مناهج مبسطة يفهمها العامة وطضمب العلم والعلماء ‪،‬‬ ‫عظيم يف اتريخ اإلصضمح والتجديد ‪ ،‬هل‬
‫قد وضع الشيخ عبد القادر منهجاً متكامضمً يستهدف إعداد‬
‫الطلبة واملريدين روحياً واجتماعياً ‪ ،‬ويؤهلهم حلم رسالة األمر ابملعروف والنهي عن املنكر ‪ ،‬وتو ر هلذا املنهج رص‬
‫التطبيق العملي يف الرابط املعروف ابسم الشيخ عبد القادر حيث كانت جتري التطبيقات الرتبوية ‪ ،‬والدروس واملمارسات‬
‫الصو ية ويقيم الطلبة واملريدون ‪ ،‬التحلي الدقيق للنظام الرتبوي الذي طبقه الشيخ عبد القادر اجليضمين يكشف عن‬
‫أتثري كبري ابملنهاج الذي اقرتحه الغزايل((‪.))1‬‬
‫وتعترب تعاليم الشيخ عبد القادر ومدرستهُ ذات أثر ملموس ساهم يف هنوض األمة يف عهد الزنكيني ‪ ،‬واأليوبيني ‪ ،‬كان‬
‫الشيخ عبد القادر على أصول منهج أه السنة يف األصول والفروع ‪ ،‬وكانت له جهود مشكورة يف التصدي للمذهب‬
‫الشيعي الرا َي ‪ ،‬وإعداد األمة للجهاد ضد الصليبيني الغزاة‪ .‬وقد أثىن ابن تيمية على الشيخ عبد القادر ‪ ،‬واعتربه من‬
‫أئمة الصو ية واملشايخ املشهورين الذين كانوا على الصراط املستقيم ‪ ،‬وإنهُ من أعظم الناس لزوماً لألمر والنهي وشهد‬
‫لهُ أبنهُ من الشيوخ الكبار((‪ ،))2‬مث شهد لهُ أنه من أعظم مشايخ زمانه يف األمر ابلتمسك ابلشريعة الغراء ابلتزام الشرع‬
‫واألمر والنهي وتقدميه على الذوق ‪ ،‬ومن أعظم املشايخ أمراً برتك اهلوى واإلرادة النفسية((‪.))3‬‬

‫((‪ ))1‬هكذا ظهر جي صضمح الدين نقضمًعن اجلهاد والتجديد ص ‪.339‬‬


‫((‪ ))2‬تاوى ابن تيمية (‪.)463/10‬‬
‫((‪ ))3‬املصدر نفسه (‪.)488/10‬‬

‫‪13‬‬
‫حتدثت عن سياسة نور الدين اخلارجية وعضمقته مع اخلليفة املقتفي ألمر هللا والوزير حيىي‬
‫ُ‬ ‫ويف الفص األخري من الكتاب‬
‫تكلمت عن جهود نور الدين وأخيه سيف الدين يف التصدي‬ ‫ُ‬ ‫بن هبرية واخلليفة املستنجد ابهلل مث املستَيء ابهلل ‪ ،‬و‬
‫للحملة الصليبية الثانية ومحايته لدمشق من الغزاة وأهم نتائج تلك احلملة ‪ ،‬وعن سياسته يف ضم دمشق ‪ ،‬وكيف تعام‬
‫مع القوى اإلسضممية واألسر احلاكمة يف بضمد الشام واجلزيرة واألانضول ‪ ،‬وعن سياسته جتاه القوى املسيحية ‪ ،‬وعضمقته‬
‫الرها ‪ ،‬وأنطاكية ‪ ،‬وطرابلس ‪ ،‬وعن املعارك اليت خاضها ‪ ،‬واحلصون اليت تحها ‪ ،‬وعن‬ ‫مع مملكة بيت املقدس ‪ ،‬وإمارة ُّ‬
‫عضمقته ابإلمرباطورية البيزنطية ‪ ،‬واستخدامه لفقه السياسة الشرعية يف زعزعة احللف البيزنطي مع مملكة بيت املقدس ‪،‬‬
‫وأنطاكية ضده ‪ ،‬وحىت ال جيع دولتهُ بني عدوين‪ :‬الصليبيني يف اجلنوب ‪ ،‬والبيزنطيني يف الشمال ‪ ،‬واستطاعت‬
‫دبلوماسية الدولة النورية أن تص إىل صلح مع الدولة البيزنطية ‪ ،‬ومعلوم‪ :‬أن البيزنطيني كان هلم ابعهم الطوي يف شأن‬
‫احلال ابلنسبة للدولة النورية اليت اتصلت دبلوماسياً ابلعباسيني ‪ ،‬والفاطميني ‪ ،‬ومملكة بيت املقدس‬
‫كذلك ُ‬
‫الدبلوماسية ‪ ،‬و َ‬
‫الصليبية؛ أي‪ :‬بكا ة القوى الكربى يف املنطقة سواء اإلسضممية أو املسيحية‪ .‬واملضمحظة املهمة يف قه نور الدين جهده‬
‫الكبري يف املفاوضات مع االستعداد العظيم حلشد اجليوش واستنفار األمة للتصدي ‪ ،‬ولقد استطاعت املهارة السياسية‬
‫الزنكية أن تدق أسفيناً بني التحالف البيزنطي والصليبيني‪ ،‬وهذا مل أيت بدون د ع مثن ‪ ،‬وإمنا لتنازالت غري عادية ‪،‬‬
‫قد اختذ نور الدين خطوة يصعب تقييمها إال بوصفها من قبي القرارات الصعبة املصريية ‪ ،‬إنهُ واز َن بني اإلطاحة‬
‫مبشروعه الكبري على يد احلملة الصليبية البيزنطية‪ ،‬وبني الوقوف ضد سضمجقة الروم‪ ،‬اختار اخليار األخري‪ ،‬علماً أبن‬
‫سضمجقة الروم يف تلك املرحلة كانوا كالدولة املستقلة‪ ،‬ومل‬
‫تندمج يف مشروع نور الدين‪ ،‬ب كانت تعتدي على حلفاء الدولة الزنكية وأمضمكهم ‪ ،‬واستطاع نور الدين إيقاف احلملة‬
‫بعد عقد معاهدة بني الدولة النورية واإلمرباطورية البيزنطية ‪ ،‬وكان من أعظم النتائج اليت ترتبت على هذه اخلطوة حفظ‬
‫املشروع اإلسضممي النوري من التصدع‪ ،‬أو الَعف ‪ ،‬أو الزوال ‪ ،‬وما كان للدبلوماسية النورية أن تنجح لوال هللا مث‬
‫مساندهتا بقوة عسكرية ضاربة استطاعت مواجهة التحالف العسكري البيزنطي‪ ،‬الصلييب ومعه األرمن يف معركة حارم‬
‫عام ‪ 559‬هـ‪1164/‬م‪.‬‬
‫إن مقاومة الغزاة حتتاج ملشروع هنَوي على أصول اإلسضمم الصحيح‪ :‬من عقيدة سليمة ‪ ،‬ومرجعية واضحة تعتمد‬ ‫هل‬
‫على كتاب هللا وسنة رسوله صلى هللا عليه وسلم وهدي اخللفاء الراشدين ‪ ،‬وهلا القدرة على استيعاب طاقات األمة ‪،‬‬
‫ذلك املشروع قيادة رابنية واعية تستطيع أن تستفيد من إمكانيات األمة ‪ ،‬وتستوعب قه املبادرة كي تفجر‬ ‫وعلى رأس َ‬
‫طاقاهتا وتوجهها حنو التكام لتحقيق اخلري والغاايت املنشودة ‪ ،‬يأيت دور القيادة لرتبط بني اخليوط ‪ ،‬واخلطوط ‪،‬‬
‫والتنسيق بني املواهب والطاقات ‪ ،‬وتتجه هبا حنو خري األمة ور عتها و ق رؤية هنوض شاملة تتحدى ك العوائق ‪ ،‬وتسد‬
‫ك الثغرات اليت حتتاجها األمة يف النهوض ‪ ،‬وتبث روح األم والتفاؤل بني الناس ‪ ،‬وحتَهم على التمسك بعقيدهتم‬
‫وقيمهم ومبادئهم ‪ ،‬والرت ع عن حطام الدنيا وإحياء معاين التَحية وشحذ اهلمم ‪ ،‬وتقوية العزائم ‪ ،‬يف نفوس النخب‬
‫واجلمهور العريض يف األمة ‪ ،‬وأتخذ هبا رويداً حنو األهداف املرسومة ملشروع النهوض ‪ ،‬وعلينا أن نتذكر قول هللا تعاىل‪:‬‬

‫‪14‬‬
‫َ ُ ُ ْ ََُۡ َ َ ذ ُ ۡ ََُۡ َ َ َ ََُۡ َ َ َۡ ُ َ َ ذ َ َ َۡ ُ َ‬
‫ونۗۡ َو َ َن ذ ُ‬
‫ٱَّلل َعل ِيماً‬ ‫﴿ إِن تكونوا تألمون فإِنهم يألمون كما تألمونَۖ وترجون مِن ٱَّللِ ما َل يرج‬
‫َحك ً‬
‫ِيما ‪[ ﴾١٠٤‬النساء ‪. ]104 :‬‬
‫هذا وقد حتدثت عن التفكري االسرتاتيجي عند نور الدين ‪ ،‬وأمهية صضمح أُويل األمر يف جناح املشروع املقاوم للتغلغ‬
‫الباطين‪ ،‬والغزو الصلييب‪ ،‬وعن االسرتاتيجية العسكرية لنور الدين ‪ ،‬كالرتكيز على النوعية والفاعلية ‪ ،‬والتعبئة العامة لألمة‬
‫‪ ،‬وإهناك العدو ‪ ،‬واستنزاف قواته ‪ ،‬وتطبيق نور الدين ملبادىء احلرب األساسية ‪ ،‬كتحديد اهلدف ‪ ،‬والعم التعرضي ‪،‬‬
‫التقرب غري املباشر ‪،‬‬
‫والقدرة على احلشد واملناورة ‪ ،‬ووحدة القيادة ‪ ،‬وعنصر املفاجأة ‪ ،‬ودور االستخبارات ‪ ،‬ومبدأ ُّ‬
‫واستخدامه للحرب النفسية يف ر ع معنوايت األمة ‪ ،‬وإضعاف مهم العدو‪.‬‬
‫ردت املبحث األخري عن قه نور الدين يف التعام مع الدولة الفاطمية ‪ ،‬وضحت جذور الشيعة اإلمساعيلية ‪ ،‬ونشأة‬ ‫وأ ُ‬
‫الدولة الفاطمية ‪ ،‬وتكلمت عن جرائمها يف الشمال اإل ريقي ‪ ،‬كغلو بعض دعاهتم كعبيد هللا املهدي ‪ ،‬وتسلطهم‬
‫وظلمهم وحترميهم اإل تاء على مذهب اإلمام مالك ‪ ،‬وإبطال بعض السنن املتواترة واملشهورة ‪ ،‬ومنع التجمعات ‪ ،‬وإتضمف‬
‫مصنفات أه السنة ‪ ،‬ومنع علماء أه السنة من التدريس ‪ ،‬وتعطي الشرائع ‪ ،‬وإسقاط الفرائض ‪ ،‬وإزالة ااثر خلفاء‬
‫السن ة ‪ ،‬ودخول خيوهلم املساجد‪ .‬وحتدثت عن أساليب أهايل الشمال اإل ريقي يف مقاومة الفكر البدعي الشيعي‬
‫الرا َي املنحرف عن الكتاب والسنة ‪ ،‬كاملقاومة السلبية ‪ ،‬واملقاومة اجلدلية ‪ ،‬واملقاومة املسلحة ‪ ،‬واملقاومة عرب التأليف‬
‫أشرت إىل انتقال املعز لدين هللا الفاطمي من الشمال‬
‫‪ ،‬ومقاومة شعراء أه السنة ‪ ،‬و ُ‬
‫اإل ريقي ‪ ،‬ودخوله مصر لكي يتخلص من املقاومة ‪ ،‬والثورات العنيفة اليت قادها علماء أه السنة يف الشمال اإل ريقي‬
‫ملدة مخس عقود متتالية را َني املذهب الشيعي الرا َي اإلمساعيلي الباطين ‪ ،‬معلنني عقائد اإلسضمم الصحيح ‪،‬‬
‫استفاد املعز لدين هللا الفاطمي من ضعف احلكم األخشيدي التابع للدولة العباسية‪ ،‬رمى بسهامه املسمومة ‪ ،‬ود ع‬
‫أي عناء يف ضمها ألمضمك العبيديني‪.‬‬
‫إليها جيوشهُ احملمومة بقيادة جوهر الصقلي سنة ‪ 358‬هـ الذي مل جيد هل‬
‫وجوهر الصقلي هذا هو الذي بىن األزهر الذي مت بناؤه سنة ‪ 361‬هـ ليكون حمَناً إلعداد دعاة املذهب الشيعي‬
‫الرا َي اإلمساعيلي ‪ ،‬وبعد االنتقال إىل مصر بدأت املقاومة السنية يف الشمال اإل ريقي تقوى مع مرور الزمن؛ حىت‬
‫استطاع املعز بن ابديس الصنهاجي يف ‪ 435‬هـ عندما توىل احلكم أن يطهر الشمال اإل ريقي من الشيعة الرا َة ‪،‬‬
‫وبدأ يف محضمت تطهري للمعتقدات الباطنيهلة ‪ ،‬وملن يطعن ‪ ،‬ويسب أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وأوعز‬
‫للعامة وجنوده بقت من يظهر الشتم ‪ ،‬والسب أليب بكر ‪ ،‬وعمر ـ رضي هللا عنهما ـ سارع أه السنة يف الشمال‬
‫اإل ريقي للتخلص من الشيعة الرا َة اإلمساعيلية ‪ ،‬وتصفيته من املعتقدات الفاسدة يف ملحمة من مضمحم الصراع بني‬
‫احلق والباط ‪ ،‬واهلدى والَضمل‪.‬‬
‫أشرت إىل جهود السضمجقة يف محاية العراق ‪ ،‬وبضمد الشام من التشيع الرا َي ‪ ،‬ودور املدارس النظامية يف اإلحياء‬
‫و ُ‬
‫بينت‬
‫السين ‪ ،‬وتقليص املد الشيعي الرا َي ‪ ،‬وإعداد الكوادر الضمزمة لقيادة حركة املقاومة ضد الغزاة الصليبيني‪ .‬و ُ‬
‫ذلك على يدي صضمح الدين‬ ‫جهود نور الدين السياسية ‪ ،‬والعسكرية ‪ ،‬والفكرية للقَاء على الدولة الفاطمية ‪ ،‬وقد متهل َ‬

‫‪15‬‬
‫تدر َج يف إلغاء اخلضم ة الفاطمية و ق رؤية اسرتاتيجية وضعها القاضي الفاض ابلتعاون مع القيادة النورية وقد متهل‬
‫الذي هل‬
‫بياهنا يف هذا الكتاب‪.‬‬
‫إن من الدروس املهمة يف هذا الكتاب معر ة املشاريع املتصارعة يف عهد الزنكيني ‪ ،‬قد كانت ثضمثة تتطاحن على قدم‬
‫وساق؛ وهي املشروع الصلييب الذي تتزعمه الكنيسة من عهد أورابن الثاين ‪ ،‬واملشروع الشيعي الرا َي بقيادة الدولة‬
‫الفاطمية مبصر ‪ ،‬واملشروع اإلسضممي الصحيح وحام لوائه نور الدين زنكي‪.‬‬
‫احملاور اليت سار عليها أه السنة دولة وشعباً ‪ ،‬تعمق اهلوية العقائدية السنية ‪ ،‬واإلحياء اإلسضممي الصحيح يف‬
‫كانت ُ‬
‫نفوس األمة ‪ ،‬والتصدي لشبهات املذهب الشيعي ‪ ،‬وإعداد األمة ملقاومة الصليبيني ‪ ،‬وكانت احملاور متداخلة من حيث‬
‫أن حترير بيت املقدس ‪ ،‬والقَاء على الصليبيني يف معركة حطني مل يتم إال بعد القَاء على الدولة الفاطمية‬ ‫السري إال هل‬
‫سياسياً ‪ ،‬وعسكرايً ‪ ،‬وقد سبقها االنتصارات العقائدية والفكرية والثقا ية والتارخيية واحلَارية للمذهب السين‪.‬‬
‫إن الذين استط اعوا حترير بيت املقدس ‪ ،‬وانتزاع املدن والقضمع واحلصون من الصليبيني هم الذين متيزوا مبشروعهم‬
‫اإلسضممي الصحيح ‪ ،‬وعر وا خطر املشاريع الباطنية الدخيلة تصدوا هلا بك حزم وعزم‪.‬‬
‫وعلى ك من يتصدى لقيادة األمة يف املواقف السياسية والتصرحيات اإلعضممية عليه أن يدرس كتاب ربه ‪ ،‬وسنة نبيه‪،‬‬
‫وهدى اخلضم ة الراشدة ‪ ،‬وحركة التاريخ اإلسضممي ‪ ،‬وحقيقة الصراع بني هذه املشاريع املتباينة؛ كي يسامهوا يف توعية‬
‫األمة ‪ ،‬وإزالة اجله عنها ‪ ،‬ومعر ة أعدائها‪.‬‬
‫بد أن حترك ذاكرهتا التارخيية لتستخلص منها الدروس والعرب والسنن يف حاضرها‬ ‫إن أية أمة تريد أن تنهض من كبوهتا ال هل‬
‫وتستشرف مستقبلها ‪ ،‬وتوجد الكتب النا عة يف هذا اجملال وهذا من الَرورات يف عامل الصراع واحلوار واجلدال والدعوة‬
‫مع اليهود والنصارى واملضمحدة والعلمانيني واملبتدعة‪...‬إخل وهذا يدخ ضمن سنة التدا ع يف األ كار‪ ،‬والعقائد ‪،‬‬
‫والثقا ات ‪ ،‬واملناهج ‪ ،‬وهي تسبق التدا ع السياسي والعسكري ‪ ،‬أي برانمج سياسي توسعي طموح حيتاج لعقائد ‪،‬‬
‫وأ كار وثقا ة تد عه ‪ ،‬احلرف هو الذي يلد السيف ‪ ،‬واللسان هو الذي يلد السنان ‪ ،‬والكتب هي تلد الكتائب‪.‬‬
‫إن جتربة نور الدين حممود ثرية ‪ ،‬وهي جتيب عن الكثري من األسئلة املطروحة على الساحة القطرية واإلقليمية والعاملية ‪،‬‬
‫وهذه التجربة أتيت شاهداً اترخيياً مقنعاً ‪ ،‬متاماً كما كانت جتربة عمر بن عبد العزيز من قبله على أن اإلسضمم قدير يف‬
‫أية حلظة تتو ر يها النية املخلصة ‪ ،‬واإلميان الصادق ‪ ،‬وااللتزام املسؤول والذكاء الواعي على إعادة دوره احلَاري‬
‫والقيادي وإخراج الناس من ضيق الدنيا إىل سعتها ‪ ،‬ومن جور األداين إىل عدل اإلسضمم‪.‬‬
‫كنت ممن تتلمذ على‬ ‫كنت طالباً ابملدينة املنورة ‪ ،‬حيث إنين ُ‬
‫هذا وقد كانت عضمقيت الروحية مع نور الدين حممود من ُذ ُ‬
‫أشرطة الشيخ الدكتور سفر احلوايل شفاه هللا من ك سوء ‪ ،‬ومن ضمنها كان احلديث عن نور الدين حممود الشهيد يف‬
‫شريطني ‪ ،‬تعلقت بسرية هذا القائد الفذ ‪ ،‬وقد حث الشيخ يف حماضرته طضمب العلم والعلماء على كتابة سريته والبحث‬
‫يها ومن هناك كانت نقطة البداية ‪ ،‬ويف إحدى زايرايت للمدينة النبوية بعد خترجي زرت أستاذان وشيخنا الدكتور حيىي‬
‫إبراهيم اليحىي ‪ ،‬وحدثين عن نور الدين حممود ‪ ،‬وطلب مين أن أحبث يف سريته ‪ ،‬إهنا تستحق الدراسة على حد قوله‬
‫ازدت قناعةً ابملوضوع إال أن انشغايل ابلسرية ‪ ،‬واتريخ صدر اإلسضمم ‪ ،‬ومرحلة الدراسات العليا منعين من حتقيق‬ ‫‪،‬و ُ‬

‫‪16‬‬
‫هذا اهلدف النبي الذي مل يغب عن ذاكريت ‪ ،‬ووجداين ‪ ،‬وأصبح من ضمن أهدايف الرئيسية يف احلياة‪ ،‬ودخ يف أورادي‬
‫‪ ،‬ودعوايت أبن يو قين هللا لتحقيقه‪.‬‬
‫وعندما أقمت ابليمن السعيد احلبيب ‪ ،‬كان من ضمن شيوخي الذين طلبوا مين الكتابة يف مرحلة احلروب الصليبية‬
‫استفدت منهُ كثرياً يف عهد اخلضم ة الراشدة ‪ ،‬وال أنسى أبداً شيخي ‪ ،‬وأستاذي‬
‫ُ‬ ‫الشيخ الدكتور عبد الكرمي زيدان ‪ ،‬الذي‬
‫ايسني عبد العزيز اليماين الذي تح يل بيته للحوار والنقاش ‪ ،‬وأعطاين من وقته الثمني الساعات الطوال ‪ ،‬ويف زايريت‬
‫ط حقها‬ ‫للشيخ الدكتور القرضاوي حثين على الكتابة يف سرية نور الدين حممود ‪ ،‬واعتربها من الشخصيات اليت مل تُـ ْع َ‬
‫يف التاريخ‪.‬‬
‫وأما شيخي وأستاذي الدكتور سلمان العودة قد قال يل‪« :‬اندراً ما تتاح الفرصة للبحث يف القَااي التارخيية مث ما‬
‫عليك ابإلخضمص هلل ‪ ،‬وأن تتقيه يما تكتب» وعندما قرأ خطيت يف إعادة كتابة التاريخ ‪ ،‬شجعين على‬ ‫لك ‪َ ،‬‬ ‫أتيحت َ‬
‫استفدت من حوارايت ومناقشيت معه يف األمور التارخيية والفكرية ‪ ،‬وكان يستقبلها بسعة صدر وبك‬
‫ُ‬ ‫املَي يها ‪ ،‬وقد‬
‫أرحيية كعادة الشيخ مع طضمبه وتضمميذه‪ .‬كما أن ألحداث العراق أتثرياً مباشراً على هذه الكتاابت ‪ ،‬وهذا جهد مق ٌّ‬
‫أساهم به مع إخواين يف معركة املصري ‪ ،‬مع االعرتاف ابلتقصري يف حقهم وهلم مين الدعاءُ يف ظهر الغيب ابلسداد‬
‫والتو يق ‪ ،‬وحترير بضمد الرا دين من الغزاة احملتلني ومن األخطار الداخلية واخلارجية ‪ ،‬وعلينا أن نستلهم من سرية نور‬
‫الدين حممود الشهيد الدروس والعرب يف حياتنا املعاصرة وكيف خنطط لتحرير بيت املقدس من أيدي اليهود الغاصبني‪.‬‬
‫انتهيت من هذا الكتاب يوم األربعاء الساعة الثانية عشرة ‪ ،‬ومثاين دقائق من اتريخ ‪ 20‬شعبان ‪ 1427‬هـ‬ ‫ُ‬ ‫هذا وقد‬
‫املوا ق ‪ 2006/9/13‬والفَ هلل من قب ومن بعد ‪ ،‬وأسألهُ سبحانهُ وتعاىل أبمسائه احلسىن وصفاته العلى أن جيع‬
‫عملي لوجهه خالصاً ‪ ،‬ولعباده ان عاً ‪ ،‬ويشرح صدور العباد لضمنتفاع به ويبارك يه مبنه ‪ ،‬وكرمه ‪ ،‬وأن يثيبين على ك‬
‫حرف كتبته ‪ ،‬وجيعلهُ يف ميزان حسنايت ‪ ،‬وأن يثيب إخواين الذين أعانوين بك ما ميلكون من أج إمتام هذا اجلهد‬
‫املتواضع ‪ ،‬ونرجو من ك مسلم يصله هذا الكتاب أن ال ينسى العبد الفقري إىل عفو ربه ومغفرته ورمحته ورضوانه من‬
‫َ َ ۡ ۡ ٓ َ ۡ َ ۡ ُ َ ۡ َ َ َ ذ ٓ َ ۡ َ ۡ َ َ َذ َ َ َ َ َ ذ َ َ ۡ َ ۡ َ َ َ ٗ َ ۡ َ ُ َ َ ۡ ۡ‬
‫خل ِن‬ ‫ب أوزِع ِن أن أشكر ن ِعمتك ٱل َِّت أنعمت لَع ولَع و ِِلي وأن أعمل َٰل ِٗا ترضىه وأد ِ‬ ‫دعائه ﴿ر ِ‬
‫ٱلصل َ‬‫ك ِف ع َِباد َِك ذ‬ ‫َۡ َ‬
‫ِٗني ﴾‪[ ١‬النساء ‪]19:‬‬ ‫ِ‬ ‫ب ِ َرۡحت ِ ِ‬
‫َ َ‬ ‫ۡ ََ‬ ‫َ َ‬ ‫ذَۡ ََ‬ ‫وقال تعاىل‪ ﴿ :‬ذما َي ۡف َتحِ ذ ُ‬
‫ۡح ٖة فل ُم ۡمسِ ك ل َها َۖ َو َما ُي ۡمسِ ك فل ُم ۡرَِل َُلۥ ِم َۢن َب ۡع ِدِه ِۦ‬‫اس مِن ر‬ ‫ٱَّلل ل ذِلن ِ‬
‫يز ۡ َ ُ‬
‫ٱۡلكِيم ‪ [ ﴾ ٢‬اطر ‪]2 :‬‬
‫َو ُه َو ٱلۡ َعز ُ‬
‫ِ‬
‫أنت أستغفرك‬ ‫وحبمدك أشهد أن ال إله إال َ‬
‫َ‬ ‫سبحانك اللهم‬
‫َ‬ ‫وصلى هللاُ على سيدان حممد ‪ ،‬وعلى آله وصحبه وسلم ‪،‬‬
‫وأتوب إليك‪.‬‬
‫وآخر دعواان أن احلم ُد هلل رب العاملني‬
‫الفقري إىل عفو ربه ومغفرته‬
‫ورمحته ورضوانه‬
‫الصالَّيب‬
‫علي حممد حممد َّ‬

‫‪17‬‬
‫اإلخوة الكرام يسرين أن تص مضمحظاتكم وانطباعاتكم حول هذا الكتاب وغريه من كتيب من خضمل دور النشر ‪،‬‬
‫وأطلب من إخواين الدعاء يف ظهر الغيب ابإلخضمص هلل رب العاملني والصواب للوصول للحقائق ‪ ،‬ومواصلة املسرية يف‬
‫خدمة اتريخ أمتنا‪.‬‬
‫‪http://www.alsallabi.com‬‬
‫يف هناية الكتاب أضفت اخلضمصة اليت وصلت إليها من دراسيت لعهد السضمجقة والزنكيني‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫األول‬
‫الفصل َّ‬
‫ظهور عماد ِّ‬
‫الدين زنكي‬
‫على مسرح األحداث‬

‫‪19‬‬
‫الزنكيَّـة‬
‫املبحث األول ‪ :‬أصـول األسـرة َّ‬

‫ينتمي عماد الدين آق سنقر بن عبد هللا آل ترغان إىل قبائ (السبايو) الرتكمانية وقد حظي والدهُ أبو سعيد اق سنقرـ‬
‫امللقب بقسيم الدولة‪ ،‬واملعروف ابحلاجب((‪ ))1‬ـ ابهتمام املؤرخني بسبب الدور الذي لعبه على مسرح األحداث السياسية‬
‫‪ ،‬والعسكرية للدولة السلجوقية((‪ ،))2‬وكان آق سنقر من أصحاب السلطان ملكشاه األول وأترابه((‪ ، ))3‬وقي ‪ :‬إنه كان‬
‫لصيقه ‪ ،‬ومن أخص أصدقائه((‪ ، ))4‬قد نشأ الرجضمن وترعرعا معاً‪ ،‬وملا تسلهلم ملكشاه احلكم عينه حاجباً له‪ ،‬وحظي‬
‫هل‬
‫((‪))5‬‬
‫أبرز قادته ‪.‬‬
‫اعتمد عليه يف مهماته‪ ،‬كان َ‬ ‫املقربني ‪ ،‬وأنس إليه ‪ ،‬ووثق به؛ حىت أ َى إليه أبسراره ‪ ،‬و َ‬
‫عندهُ كان من هل‬
‫أوالً‪ :‬مكانة آق سنقر عند السلطان ملكشاه‪:‬‬
‫من أقوى الدالئ على احلظوة اليت حازها آق ُسْنـ ُقر عند السلطان منحهُ لقب «قسيم الدولة» ‪ ،‬وهذا يعين‪ :‬الشريك‬
‫األلقاب يف تلك اآلونة مصونة ال تُعطى إال ملستحقيها((‪ ، ))6‬ويبدو‪ :‬أنه قاسم ملكشاه شؤون احلكم واإلدارة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وكانت‬
‫ذلك أيَاً لعقبه من‬
‫ذلك؛ إن آق ُسْنـ ُقر كان يقف على ميني سدهلة السلطنة ‪ ،‬وال يتقدمه أحد ‪ ،‬وصار َ‬
‫وابإلضا ة إىل َ‬
‫بعده((‪.))7‬‬
‫والراجح‪َّ :‬‬
‫أن منح آق سنقر هذا اللقب يعود إىل ثالثة أسباب‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ حمبة السلطان ملكشاه له ودعمه إايه‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ انتسابه إىل قبيلة تركية هلا مكانتها وأمهيتها بني القبائ السلجوقية احلاكمة ‪ ،‬وأنهلـهُ كان ذا مكانة ر يعة منها‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أنه هلأدى خدمات جليلة مللكشاه استحقت منحه هذا اللقب((‪.))8‬‬
‫واشرتك آ ق سنقر إىل جانب السضمجقة يف معارك عديدة ‪ ،‬قد سريه ملكشاه عام ‪ 477‬هـ مع عميد الدولة بن خر‬
‫الدولة يف حماولة لضمستيضمء على املوص ‪ ،‬وطرد العقيليني منها ‪ ،‬وقد متكنا من إجناز هذه املهمة((‪ ، ))9‬وبعد مرور سنتني‬
‫اشرتك مع السلطان ملكشاه يف انتزاع حلب من نواب العقيليني ‪ ،‬والهله هلإايها تقديراً جلهوده((‪ ،))10‬وقد تسلم آق سنقر‬ ‫َ‬
‫منصبه يف حلب وأعماهلا ‪ ،‬كمنبج ‪ ،‬والضمذقية‪ ،‬وكفر طاب((‪ .))11‬واستطاع أن يوس َع نطاق واليته ابالستيضمء على محص‬

‫((‪ ))1‬و يات األعيان (‪ ، )218 ، 217/1‬عماد الدين زنكي ‪ ،‬د‪ .‬عماد الدين‪.‬‬
‫((‪ ))2‬عماد الدين زنكي ‪ ،‬د‪ .‬عماد الدين خلي ص ‪.31‬‬
‫((‪ ))3‬التاريخ الباهر يف الدول األاتبكية ابملوص ص ‪.4‬‬
‫((‪ ))4‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ‪ ،‬د‪ .‬حممد طقوش‪.‬‬
‫((‪ ))5‬التاريخ الباهر ص ‪.4‬‬
‫((‪ ))6‬املصدر نفسه نقضمً عن اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.43‬‬
‫((‪ ))7‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.43‬‬
‫((‪ ))8‬إمارة حلب ‪ ،‬حممد ضامن ص ‪.136‬‬
‫((‪ ))9‬مفرج الكروب يف أخبار بين أيوب (‪ 19/1‬ـ ‪.)22 ، 21‬‬
‫((‪ ))10‬الكام يف التاريخ نقضمً عن عماد الدين زنكي ص ‪.32‬‬
‫((‪ ))11‬الباهر ص ‪ ، 8‬عماد الدين زنكي ص ‪32‬‬

‫‪20‬‬
‫عام ‪ 483‬هـ ‪ ،‬وحصن أ اميه عام ‪ 484‬هـ كما رض طاعته على صاحب شريز عام ‪ 481‬هـ ‪ ،‬ويف عام ‪ 485‬هـ‬
‫اشرتك مع ملكشاه يف مهامجة العقيليني واالنتصار عليهم قرب املوص ‪ ،‬وظلت عضمقة آق سنقر ابلسلطان ملكشاه‬ ‫َ‬
‫قائمة على الطاعة والتفاهم املشرتك ‪ ،‬ومل يسع يوماً إىل اخلروج على أوامره ‪ ،‬ور ض السلطان بدوره االستجابة لشكاوى‬
‫معارضي آق سنقر ‪ ،‬أو إقرار مساعيهم للتخلص منه((‪.))1‬‬
‫اثنياً‪ :‬سياسة آق سنقر يف حلب الداخلية‪:‬‬
‫بدأت مع تويل آق سنقر احلكم يف حلب مرحلة جديدة من حكم السضمجقة املباشر هلذه املدينة ‪ ،‬وانتهى حكم القبائ‬
‫عد ُسْنـ ُقر أول حاكم سلجوقي إلمارة حلب‬ ‫العربية هلذه اإلمارة‪ ،‬وأزحيت عن مسرح األحداث يف مشايل بضمد الشام ‪ ،‬ويُ ُّ‬
‫بعدما كانت سنوات طويلة من التمزق واحلروب بني القبائ العربية يما بينها ‪ ،‬مث بينها وبني الرتكمان القادمني من‬
‫ودام حكمه مثاين سنوات تقريباً كانت مرحلة هامة يف‬‫الشرق ‪َ ،‬‬
‫اتريخ اإلمارة واملنطقة بفع ‪ :‬أهنا أحدثت تغيريات أساسية مشلت ك جوانب احلياة ((‪ ، ))2‬لقد تسلم آق ُسنقر احلكم‬
‫يف ظ حالة من الفوضى التامة بفع عاملني‪ :‬داخلي ‪ ،‬وخارجي ‪ ،‬يتمث األول بصراع هل‬
‫احلكام ‪ ،‬وتدبريهم املؤامرات ‪،‬‬
‫واستعانتهم ابلقوى الكربى يف املنطقة كاخلضم ة العباسية يف بغداد ‪ ،‬والدولة الفاطمية يف مصر ابإلضا ة إىل الدولة‬
‫السلجوقية اجلديدة الطامعة يف التوسع يف املنطقة هي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قوة القبائ العربية البدوية وخباصة الكضمبيني العقيليني واملرداسيني الستعادة نفوذها املسلوب‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ قوة الرتكمان املدمرة اليت كانت تغري على املنطقة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ قوة الدولة البيزنطية اليت كانت تستغ ُّ الصراعات الداخلية الستعادة نفوذها املفقود‪.‬‬
‫انعكس سلباً على األوضاع االقتصادية ‪ ،‬واالجتماعية‬
‫َ‬ ‫ذلك أوضاعاً من عدم االستقرار السياسي ‪،‬‬
‫شهدت حلب نتيجة َ‬
‫‪ ،‬واألمنية يها يف خَم هذه الصراعات ‪ ،‬وتغا احلكام عن االهتمام ابلشؤون الداخلية للسكان ‪ ،‬كما أمهلوا تطوير‬
‫احلياة االقتصادية ‪ ،‬مما هلأدى إىل تراجع واردات البضمد ‪ ،‬وعمدوا إىل استنزاف السكان بفرض ضرائب أخرى وأاتوات‬
‫ابهظة كلما أعوزهم املال ‪ ،‬حىت أثقلوا كاهلهم ‪ ،‬تذمروا من سوء األوضاع ‪ ،‬وكثر انتشار اللصوص وقطاع الطرق ‪ ،‬مما‬
‫هلأدى إىل انعدام األمن على الطرق ‪ ،‬تعطلت احلركة التجارية ‪ ،‬وقلهلت ُ‬
‫السلع يف األسواق ‪ ،‬وتراجعت موارد الزراعة لعدم‬
‫متكن الفضمحني من القيام ابحلرث والزرع وجين احملصول ‪ ،‬ربزت يف هذه الظروف الصعبة منظمة األحداث اليت أخذت‬ ‫ُّ‬
‫((‪))3‬‬
‫اح يعم على‬ ‫على عاتقها رعاية مصاحل أ رادها ومقاومة التعدايت اخلارجية ‪ ،‬ووضع اق سنقر نصب عينيه هد اً ر َ‬
‫ع يف‪:‬‬
‫ولذلك شر َ‬
‫َ‬ ‫حتقيقه ‪ ،‬متث يف إعادة األمور إىل نصاهبا ‪،‬‬

‫((‪ ))1‬عماد الدين زنكي ص ‪33 ، 32‬‬


‫((‪ ))2‬مدخ إىل اتريخ احلروب الصليبية ص ‪ ، 209‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.46‬‬
‫((‪ ))3‬دخول الرتك الغز إىل الشام ‪ ،‬مصطفى شاكر ص ‪ 314 ، 307‬ـ ‪.315‬‬

‫‪21‬‬
‫‪ 1‬ـ إقامة احلدود الشرعية ‪ ،‬وطارد اللصوص وقطاع الطرق ‪ ،‬وقَى عليهم ‪ ،‬وختلص من املتطر ني يف الفساد ‪ ،‬كما‬
‫قَى على الفوضى اليت كانت متفشية يف البضمد ‪ ،‬وعام أه حلب ابحلسىن؛ حىت توارثوا الرمحة عليه إىل اخر‬
‫الدهر»((‪.))1‬‬
‫كتب إىل عمال األطراف؛ حيث ومل يكتف اق سنقر حبصر تدابريه اإلصضمحية يف حلب ب كتب إىل عمال‬ ‫‪2‬ـ َ‬
‫األطراف اليت خَعت حلكمه أن حيذوا حذوه ‪ ،‬واتبع أعماله بنفسه‪.‬‬
‫أقر قسيم ال دولة مبدأ املسؤولية اجلماعية ‪ ،‬إذا تعرض أحد التجار للسرقة يف قرية ما ‪ ،‬أو إذا هومجت قا لة أو‬ ‫‪ 3‬ـ و هل‬
‫هنبت؛ إن أه القرية اليت جرت احلادثة يها يكونون مسؤولني مجاعياً عن د ع قيمة الَرر الضمحق هبؤالء((‪ ، ))2‬ونتيجة‬
‫هب سكان القرى ملساعدة احلكام يف رض األمن ‪ ،‬إذا وص اتجر إىل قرية أو مدينة ‪ ،‬وضع أمتعته‬ ‫هلذا املبدأ هل‬
‫وبَاعته إىل جانبه وانم وهو مطمئن حبراسة أهلها ‪ ،‬وهكذا شارك السكان بتحم املسؤولية يف حفظ األمن حىت أمنت‬
‫الطرق ‪ ،‬وحتدث التجار واملسا رون حبسن تدبريه وسريته((‪.))3‬‬
‫ونتيجة الستتباب األمن يف كا ة أرجاء إمارة حلب نشطت التجارة ‪ ،‬وامتألت األسواق ابلبَائع الواردة إليها من ك‬
‫الوضع االقتصادي ‪ ،‬وتداعى الناس إليها للكسب يها والعيش برغد((‪ .))4‬وقد اعرتف املؤرخون حبسن‬ ‫ُ‬ ‫اجلهات ‪ ،‬واستقر‬
‫سياسة اق سنقر الداخلية ‪ ،‬واألمنية‪ ،‬وأمجعوا على مدحه‪:‬‬
‫قال ابن القضمنسي‪« :‬وأحسن يهم السرية ‪ ،‬وبسط العدل يف أهلها ‪ ،‬ومحى السابلة للمرتددين يها ‪ ،‬وأقام اهليبة ‪،‬‬
‫بذلك من الصيت ‪ ،‬وحسن‬ ‫وأنصف الرعية ‪ ،‬وتتبع املفسدين ‪ ،‬أابدهم ‪ ،‬وقصد أه الشر ‪ ،‬أبعدهم ‪ ،‬وحص له َ‬
‫الذكر ‪ ،‬وتَاعف الثناء والشكر‪ ..‬عمرت السابلة للمرتددين من السفار ‪ ،‬وزاد انتفاع البلد ابلواردين ابلبَائع من‬
‫مجيع اجلهات واألقطار»((‪.))5‬‬
‫وقال ابن واص ‪« :‬ورخصت األسعار يف أايم األمري قسيم الدولة وأقيمت احلدود الشرعية ‪ ،‬وعمرت الطرقات ‪ ،‬وأمنت‬
‫السب ‪ ،‬وقُت َ املفسدون بك ج ‪ ،‬وكان كلما مسع مبفسد أو بقاطع طريق؛ أمر بصلبه على أبواب املدينة»((‪.))6‬‬
‫وقال ابن األثري‪« :‬وكان قسيم الدولة أحسن األمراء سياس ًة لرعيته ‪ ،‬وحفظاً هلم ‪ ،‬وكانت بضمدهُ بني رخص عام ‪ ،‬وعدل‬
‫شام ‪ ،‬وأمن واسع»((‪.))7‬‬
‫وقال عنهُ ابن كثري‪« :‬أبنه كان من أحسن امللوك سرية ‪ ،‬وأجودهم سريرة ‪ ،‬وكان الرعية يف أم ٍن وعدل ورخص((‪.))8‬‬

‫((‪ ))1‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.47‬‬


‫((‪ ))2‬املصدر نفسه‪.‬‬
‫((‪ ))3‬الباهر‪ :‬ص ‪.15‬‬
‫((‪ ))4‬مرآة الزمان (‪.)244/8‬‬
‫((‪ ))5‬ذي اتريخ دمشق ص ‪.196‬‬
‫((‪ ))6‬مفرج الكروب يف أخبار بين أيوب (‪.)19/1‬‬
‫((‪ ))7‬الكام يف التاريخ (‪.)368/8‬‬
‫((‪ ))8‬البداية والنهاية (‪.)143/16‬‬

‫‪22‬‬
‫وأما من حيث إجنازاته العمرانية؛ قد جدهلد عمارة منارة حلب ابجلامع عام (‪ 482‬هـ‪ 1089/‬م) وامسه منقوش عليها‬
‫ذلك قصة لطيفة ذكرها ابن واص مفادها‪ :‬يف سنة اثنتني ومثانني وأربعمئة أسس القاضي أبو احلسن بن‬ ‫إىل اليوم ‪ ،‬ويف َ‬
‫ذلك أتون محهلام ‪ ،‬أخذ ابن اخلشاب‬ ‫اخلشاب منارة حلب ‪ ،‬وكان حبلب بيت معبد انر ‪ ،‬قدمي العمارة ‪ ،‬صار بعد َ‬
‫حجارته ‪ ،‬وبىن هبا املنارة ‪ ،‬أهنى بعض ُح هلساده إىل األمري قسيم الدولة خربه ‪ ،‬غَب على القاضي ابن اخلشاب ‪،‬‬
‫أخذت حجارتهُ‬
‫ُ‬ ‫وقال‪« :‬هدمت معبداً هو يل وملكي» قال‪« :‬أيها األمري ‪ ،‬هذا معبد للنار ‪ ،‬وقد صار أتوانً((‪، ))1‬‬
‫اب لك ‪ ،‬إن رمست‬ ‫وجعلت الثو َ‬
‫ُ‬ ‫امسك عليه ‪،‬‬
‫كتبت َ‬ ‫يك لهُ ‪ ،‬و ُ‬ ‫ألعمر هبا معبداً لإلسضمم ‪ ،‬يُذكر يه هللا وحده ال شر َ‬
‫علت أعجب األمري كضممه ‪ ،‬واستصوب رأيهُ ‪ ،‬وقال‪ :‬ب الثواب يل ‪ ،‬وا ع ما‬ ‫غرمت مثنه لك ‪ ،‬ويكون الثواب يل؛ ُ‬
‫تريد ‪ ،‬شرع يف عمارة املنارة يف سنة ثضمث ومثانني وأربعمئة((‪.))2‬‬
‫اثلثاً‪ :‬سياستهُ اخلارجية‪:‬‬
‫ساد االطمئنان ‪ ،‬وأمنت الطرق ‪ ،‬وانتشر العمران ‪ ،‬انتعشت‬ ‫عادت سياسة آق سنقر بنتائج هامة على املنطقة ‪َ ،‬‬
‫بلغ من سيطرة آق سنقر على األمن يف قرى حلب وضياعها أن أرس من ينادي يها أن ال يغلق أح ٌد‬ ‫التجارة ‪ ،‬وقد َ‬
‫((‪))4‬‬
‫اببه ‪ ،‬وأن يرتكوا االهتم الزراعية يف أماكنها ليضمً وهناراً((‪ .))3‬ومن مث جاءت شهرتهُ بناءً على ما أجنزه يف هذا اجملال‬
‫هلق األمن واالستقرار أراد أن يقوم بدوٍر خارجي ‪ ،‬وكانت ُ‬
‫بضمد الشام‬ ‫وبعد أن نظم قسيم الدولة إمارته الداخلية ‪ ،‬وحق َ‬
‫عرب اترخيها عرضة للصراعات من أج السيطرة بني الشمال واجلنوب‪ .‬وقد مثلت دمشق ‪ُ ،‬منذ القرن السابع امليضمدي‪،‬‬
‫اجلنوب ‪ ،‬يف حني مثهللت حلب الشهلمال ‪ ،‬وكانت املفارقات بني الشمال واجلنوب يف بعض األحيان اجتماعية‪ ،‬واقتصادية‬
‫‪ ،‬ولكن غالباً ما كانت سياسية ‪ ،‬حيث حاول حكام دمشق من جهتهم ‪ ،‬وحكام حلب أيَاً َم هلد سيطرهتم كلياً على‬
‫بضمد الشام‪ ،‬وتبعاً هلذه القاعدة حدث صراعٌ بني تُـتُش ‪ ،‬وآق ُسنقر((‪ ،))5‬قد وقف يف وجه تُتش الطامع يف بضمده ‪،‬‬
‫يتوسع على حساب جريانه ‪ ،‬وبدا لهُ قب اإلقدام على تنفيذ هذا املشروع أن ينشىء جيشاً منظماً يعتمد عليه يف‬
‫وأن هل‬
‫ذلك ‪ ،‬وكانت نواة هذا اجليش تتمث ابلقوة اليت تركها ملكشاه معه عندما رح عن حلب ‪ ،‬وتعدادها‬ ‫ع يف َ‬‫حروبه ‪ ،‬وشر َ‬
‫أربعة االف مقات ‪ ،‬مث تعدهلت الستة االف((‪ .))6‬وقد اعتمد آق ُسنقر على نوعني من القوات العسكرية‪.‬‬
‫* النوع األول‪ :‬القوات االحتياطية اليت كان ُ‬
‫يزداد عددها ابستمرار ‪ ،‬وهي تنتمي إىل العنصر الرتكي‪.‬‬
‫* النوع الثاين‪ :‬القوات االحتياطية اليت كان جيمعها حني حيتاج إليها ‪ ،‬وكانت خليطاً من العرب ‪ ،‬والرتكمان ‪ ،‬وغريهم‬
‫‪ ،‬وقد وص عددها يف املعركة اليت خاضها ضد تُتش إىل عشرين ألفاً ‪ ،‬وكان تتش قد جهد من ُذ أن أصبح حاكماً على‬
‫دمشق يف عام ‪ 470‬هـ‪ 1077/‬م يف العم على‪:‬‬

‫((‪ ))1‬مفرج الكروب يف أخبار بين أيوب (‪.)20/1‬‬


‫((‪ ))2‬املصدر نفسه (‪.)20/1‬‬
‫((‪ ))3‬عماد الدين زنكي ص ‪.35‬‬
‫((‪ ))4‬ذي اتريخ دمشق ص ‪ 119‬ـ ‪ 120‬الباهر ص ‪.15‬‬
‫((‪ ))5‬مدخ إىل اتريخ احلروب الصليبية ص ‪.215‬‬
‫((‪ ))6‬مدخ إىل اتريخ احلروب الصليبية ص ‪.215‬‬

‫‪23‬‬
‫* بسط سلطانه على كام بضمد الشام ‪ ،‬وخباصة املدن الساحلية اليت كانت تدين ابلطاعة للدولة الفاطمية ‪ ،‬أو ُحتكم‬
‫من قبلها‪.‬‬
‫* إنشاء دولة أخرى للسضمجقة يف هذه البضمد يتوىل حكمها مبعزل عن السضمجقة العظام يف خراسان ‪ ،‬إال أنه ش يف‬
‫وجنح يف حتقيق الثاين إمنا بعد و اة ملكشاه األول ‪ ،‬على أن األوضاع اليت آلت إليها البضمد مل‬
‫حتقيق اهلدف األول‪َ ،‬‬
‫ترض تتش ‪ ،‬لجأ إىل السياسة ‪ ،‬وطلب من أخيه عام (‪ 480‬هـ‪ 1087/‬م) تزويده بقوات ومعدات متكنـهُ من طرد‬
‫أن ملكشاه األول‬ ‫الفاطميني من بـضمد الشام ‪ ،‬وإخَاعها كلها لسلطان السضمجقة مبا يها املدن الساحلية ‪ ،‬والواقع‪ :‬هل‬
‫لذلك هللَّب طلب أخيه ‪ ،‬وأمر كضمًّ من‬
‫كان خيشى متدداً اطمياً ابجتاه األمضمك السلجوقية يف بضمد الشام ‪ ،‬والعراق ‪َ ،‬‬
‫((‪))1‬‬
‫الرها ‪ ،‬أبن يقدما له ك ما حيتاجهُ يف مهمته من عساكر وجتهيزات‬ ‫قسيم الدولة صاحب حلب ‪ ،‬وبوزان صاحب ُّ‬
‫أن احلاكمني مل ينفذا األوامر السلطانية ‪ ،‬لم يذهب اق سنقر بعيداً يف مساعدة تُتش وهو يعلم مدى خطورة‬ ‫ويبدو‪ :‬هل‬
‫كذلك ع بوزان‪.‬‬
‫أطماعـه‪ ،‬و َ‬
‫تبدلت يف عام (‪482‬‬ ‫ومن جهته ‪ ،‬إن تُتش مل يقم أبي عم عسكري جدي ضد مدن الساح ((‪ ، ))2‬ولكن األوضاع هل‬
‫هـ‪ 1089/‬م) حني استوىل الفاطميون على عكا ‪ ،‬وصور ‪ ،‬وصيدا ‪ ،‬وجبي ‪ ،‬كما أنه وص إىل املعسكر الفاطمي ‪،‬‬
‫اجتمع ابلقائد الفاطمي ‪ ،‬واعرتف لهُ رمسياً‬‫َ‬ ‫يف غَون ذلك ‪ ،‬خلف بن مضمعب صاحب محص ‪ ،‬وأ امية((‪، ))3‬‬
‫بسلطان الفاطميني ‪ ،‬وسيادهتم عليه((‪ ،))4‬مما شك حتدايً مباشراً لسلطان السضمجقة يف بضمد الشام ‪ ،‬ونتيجة ملا اتفق‬
‫اض اتبعة لتتش‬‫عليه الطر ان من بسط السيادة الفاطمية على كام بضمد الشام قام خلف بن مضمعب ابالعتداء على أر ٍ‬
‫أن احلكام السضمجقة يف هذه البضمد شكوا إىل السلطان اعتداءات أمري محص‬ ‫مما د عه إىل االستنجاد جمدداً أبخيه‪ .‬كما هل‬
‫كذلك ع السكان بفع أنه اتصف ابلظلم ‪ ،‬ونظراً لألوضاع اخلطرية اليت ابتت عليها بضمد الشام؛ أمر السلطان‬ ‫‪،‬و َ‬
‫وضمها إىل األمضمك السلجوقية‪ ،‬وطلب يف الوقت نفسه‪،‬‬ ‫أخاه تـُتُش بتأديب ابن مضمعب ‪ ،‬وطرد الفاطميني من البضمد‪ ،‬هل‬
‫من والته يها ابلتحرك السريع ملساعدته((‪ ))5‬انزعج ك ٌّ من آق ُسنقر ‪ ،‬وبوزان من قيادة تُـتُش هلذه احلملة ‪ ،‬وأدركا‪ :‬أنه‬
‫((‪))6‬‬
‫ات املتحالفة إىل محص‬ ‫سوف ينفرد حبكم ما سيتوىل عليه‪ ،‬خرجا مكرهني غري مقتنعني مبساعدته ‪ ،‬وصلت القو ُ‬ ‫َ‬
‫عام ‪ 483‬هـ‪ 1090/‬م وحاصرهتا ‪ ،‬وضيهلقت عليها؛ حىت استسلمت ‪ ،‬وقبض على ابن مضمعب ‪ ،‬وأُرس إىل السلطان‬
‫((‪))7‬‬
‫ذلك أطماع األطراف املتحالفة ‪ ،‬قد طلب ك ٌّ من األمراء محص لنفسه ‪،‬‬ ‫ملكشاه األول ‪ ،‬وانكشفت يف غَون َ‬
‫أنعم هبا على أخيه((‪.))8‬‬
‫بذلك ‪َ ،‬‬‫كتب إىل السلطان َ‬ ‫و َ‬

‫((‪ ))1‬الكام يف التاريخ نقضمً عن اتريخ الزنكيني يف املوص ص ‪.51‬‬


‫((‪ ))2‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.51‬‬
‫((‪ ))3‬أ امية‪ :‬مدينة حصينة‪.‬‬
‫((‪ ))4‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.51‬‬
‫((‪ ))5‬املصدر نفسه ص ‪.52‬‬
‫((‪ ))6‬املصدر نفسه ص ‪.52‬‬
‫((‪ ))7‬املصدر نفسه ص ‪.52‬‬
‫((‪ ))8‬بغية الطالب (‪.)3354/7‬‬

‫‪24‬‬
‫‪ 1‬ـ موقف آق سنقر من تتش‪ :‬يف عام ‪ 484‬هـ نزل تتش جبيوشه على طرابلس ‪ ،‬وكان هبا قاضيها وهو صاحبها وامسه‬
‫جضمل امللك بن عمار ‪ ،‬ونصبوا اجملانيق ‪ ،‬احتج عليهم ابن عمار ‪ ،‬وأظهر هلم منشور السلطان ملكشاه إبقراره على‬
‫ذلك ‪ ،‬وتوقف آق سنقر عن قتاله ‪ ،‬قال لهُ تتش‪ :‬أنت تتبع يل؛ كيف ختالفين؟! قال‪ :‬أان‬ ‫طرابلس ‪ ،‬لم يقب تتش َ‬
‫تبع لك إال يف عصيان السلطان ‪ ،‬غَب اتج الدولة تتش ورجع إىل دمشق واق سنقر إىل حلب((‪.))1‬‬
‫لذلك جهد أثناء‬
‫أن سياسته العدائية جتاه تُـتُش تفرض عليه منعه من ضم أي مدينة إىل أمضمكه ‪َ ،‬‬ ‫أدرك آق سنقر‪ :‬هل‬‫و َ‬
‫عودته إىل حلب يف ضم املواقع التابعة خللف بن مضمعب ‪ ،‬ومنها أ امية اليت سلهلمها إىل منقذ صاحب شيزر((‪ ،))2‬وقد‬
‫ذلك إىل أموٍر منها‪:‬‬
‫هدف من َ‬
‫أ ـ إقامة منطقة حاجزة بني أمضمكه يف مشال الشام ‪ ،‬وأمضمك تتش يف اجلنوب واعتقد‪ :‬هل‬
‫أن إمارة بين منقذ يف شريز إبمكاهنا‬
‫أن تقوم هبذا الدور‪.‬‬
‫ب ـ حرما ُن تُـتُش من ضم إمارة بين منقذ ‪ ،‬وابلتايل إبعاده عن منطقة حلب‪.‬‬
‫ت ـ إجياد حليف قوي يعتمد عليه يف صراعه مع تُـتُش‪.‬‬
‫ث ـ إبعاد بين منقذ عن التحالف مع تُـتُش((‪.))3‬‬
‫حد لهُ ‪ ،‬استدعى يف شهر‬ ‫أن ملكشاه وقف على هذا الصراع على النفوذ يف بضمد الشام ‪ ،‬عمد إىل وضع ٍ‬ ‫والواقع‪ :‬هل‬
‫رمَان عام ‪ 484‬هـ شهر تشرين األول عام ‪ 1091‬م‪ ،‬مجيع والته يف بضمد الشام ‪ ،‬واجلزيرة ابإلضا ة إىل أخيه تُتش‪،‬‬
‫((‪))4‬‬
‫عند أخيه ‪ ،‬وعرض خضم ه مع آق ُسنقر ‪ ،‬واهتمهُ‬ ‫ليبحث معهم مشاك وقَااي مناطقهم ‪ ،‬واستغ تُـتُش وجودهُ َ‬
‫بعدم اإلخضمص للقَية السلجوقية ‪ ،‬وقام آق سنقر يدا ع عن نفسه متهماً تُـتُش ابلكذب ‪ ،‬واستطاع إقناع السلطان‬
‫اهتام أخيه له كما ر ض مساعيه للتخلص منه((‪.))5‬‬
‫بوجهة نظره ‪ ،‬ر ض َ‬
‫بني آق ُسنقر وملكشاه طيلة حياة هذا األخري‪ .‬وملا‬ ‫‪ 2‬ـ دعم آق سنقر للسلطان بركيارق‪ :‬ظلت العضمقة الطيبة قائمة َ‬
‫وجتهز‬
‫تويف عام ‪ 485‬هـ‪ 1092/‬م طلب تُـتُش السلطنة لنفسه يف ظ صراع على السلطة بني أوالد السلطان املتوىف ‪ ،‬هل‬
‫((‪))6‬‬
‫لذلك‬
‫للزحف شرقاً إلخَاع البضمد لسلطانه ‪ ،‬وكاتب كضمً من آق ُسن ُقر ‪ ،‬وبوزان يطلب مساعدهتما ‪ ،‬واستجابوا َ‬
‫حرب مع إبراهيم بن قريش صاحب املوص ؛ ألنه ر ض اخلطبةَ يف املوص لتتش ‪ ،‬ور ض أن يعطيه طريقاً‬ ‫‪ ،‬واشرتكوا يف ٍ‬
‫إىل بغداد ‪ُ ،‬هزَم صاحب املوص وأخذت منه ‪ ،‬ساروا إىل ميا ارقني َ َملَك تـُتُش سائر داير بكر((‪ ، ))7‬مث سار تـُتُش‬
‫ليمنع عمه((‪ ، ))8‬وملا‬
‫سار َ‬ ‫قوي أمره ‪ ،‬وصارت بيده الري ‪ ،‬ومهذان ‪َ ،‬‬ ‫إىل أذربيجان ‪ ،‬وكان بركيارق بن ملكشاه قد َ‬

‫((‪ ))1‬اتريخ الزنكيني ص ‪.53‬‬


‫((‪ ))2‬املصدر نفسه ص ‪.53‬‬
‫((‪ ))3‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.53‬‬
‫((‪ ))4‬املصدر نفسه ص ‪.53‬‬
‫((‪ ))5‬تربيز‪ :‬أشهر مدن أذربيجان وهي مدينة عامرة ذات أسوار حمكمة‪.‬‬
‫((‪ ))6‬ذي اتريخ دمشق ص ‪.203‬‬
‫((‪ ))7‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.53‬‬
‫((‪ ))8‬احلروب الصليبية واألسرة الزنكية ص ‪.54‬‬

‫‪25‬‬
‫بذلك قرر اإلسراع يف زحفه ابجتاه خراسان حملاربة ابن أخيه ‪ ،‬وعندما وص إىل مدينة تربيز((‪))1‬؛ حدثت‬ ‫علم تُـتُش َ‬‫َ‬
‫((‪))2‬‬ ‫هل‬
‫املفاجأة إذ ختلى عنهُ آق ُسنُقر‪ ،‬وبوزان وانَما إىل بركيارق عند مدينة الري قوي موقفه هبما‪ ،‬وكان هذا اإلنسحاب‬
‫هناك عدة أسباب د عت آق سنقر إىل هذا التصرف ‪ ،‬ولع أمهها‪:‬‬ ‫حمطماً خلطة تـُتُش ‪ ،‬ويبدو أن َ‬
‫أ ـ كان تُـتُش منا ساً خطرياً آلق سنقر ‪ ،‬هل‬
‫وإن أتييده له حتهلمه واقع الظروف السياسية اليت كان مير هبا‪.‬‬
‫ب ـ رأى آق سنقر أن تبقى السلطنة حمصورة يف أبناء سيده ملكشاه األول و اء منه له‪.‬‬
‫يعتمد عليه يف حكم بضمد الشام‬
‫ج ـ شعر قسيم الدولة أبن تُـتُش يـُ َقرب ايغي سيان صاحب أنطاكية ‪ ،‬وميي إليه وقد ُ‬
‫يف املستقب ((‪.))3‬‬
‫أدرك تـُتُش حرج موقفه ‪ ،‬وضعف قواته بعد االنسحاابت اليت حصلت يف صفو ه ‪ ،‬اضطر‬ ‫ومهما يكن من أمر ‪ ،‬قد َ‬
‫إىل التوقف عن الزحف وعن قتال بركيارق ‪ ،‬واثر االنسحاب إىل الشام ‪ ،‬عاد أدراجه حنو داير بكر ‪ ،‬وتوقف يف الرحبة‬
‫‪ ،‬مث حدث أن أقنع ك ٌّ من آق سنقر ‪ ،‬وبوزان السلطان بركيارق أبالهل يرتك تُـتُش وشأنه هل‬
‫وحذراه من أطماعه‪ ،‬وأشارا عليه‬
‫بذلك تركها ‪ ،‬واجتاز الفرات قاصداً أنطاكية اليت بقي‬‫اجلميع ابجتاه الرحبة ‪ ،‬لما علم تُـتُش َ‬
‫ُ‬ ‫مبطاردته((‪ ))4‬و عضمً َ‬
‫حترك‬
‫ضم السلطان بركيارق ‪ ،‬وآق سنقر ‪ ،‬وبوزان ‪ ،‬وعلي‬ ‫((‪))5‬‬
‫مد ًة مث عاد إىل دمشق ‪ ،‬ويف الرحبة عقد اجتماعاً رابعياً هل‬ ‫يها هل‬
‫ض عن عقد حتالف بني احلاكمني السلجوقيني من جهة واألمري العقيلي من جهة اثنية‬ ‫متخ َ‬
‫بن مسلم بن قريش العقيلي هل‬
‫‪ ،‬حتت إشراف السلطان ‪ ،‬هد ه الوقوف يف وجه تُـتُش ‪ ،‬وعاد السلطان إىل بغداد بعد أن ترك قوة عسكرية بتصرف‬
‫الرها ‪ ،‬واق سنقر إىل حلب ‪ ،‬وص إليها يف شهر ذي القعدة عام ‪ 486‬هـ شهر‬ ‫آق سنقر ‪ ،‬يف حني عاد بوزان إىل ُّ‬
‫تشرين عام ‪ 1093‬م ‪ ،‬وهكذا قام آق سنقر بدور ابرز يف إ شال خمططات تتش ومنعه من احلصول على السلطنة ‪،‬‬
‫وساعد بركيارق على االحتفاظ هبا ‪ ،‬مدركاً يف الوقت نفسه‪ :‬أن صاحب دمشق سوف ينتقم للَربة اليت وجهت إليه‬
‫‪ ،‬أخذ يستعد للتصدي له ‪ ،‬وانتزاع دمشق منه هذه املرة ‪ ،‬طلب املساعدة من السلطان بركيارق أمدهله بـ‪« :‬كربوغا»‬
‫الرها ‪ ،‬ويوسف بن ابق حاكم الرحبة ‪ ،‬كما انَم إليه مجاعة من‬
‫‪ ،‬واستنجد مبن جاوره من احلكام أمثال بوزان حاكم ُّ‬
‫بين كضمب ‪ ،‬وأحداث حلب((‪.))6‬‬
‫‪ 3‬ـ مقت آق سنقر‪ :‬وكان أول ما كر يه تُتش عند عودته إىل دمشق هو االنتقام من آق سنقر وبوزان بعد أن ختليا‬
‫عنه يف وقت الشدهلة((‪ ، ))7‬أخذ يستعد لقتاهلما ‪ ،‬وحتالف مع ايغي سيان صاحب أنطاكية بعد أن هلزوج ابنه رضوان‬
‫من ابنته((‪))8‬كما جنهلد قوات إضا ية من بين كضمب ‪ ،‬والتقى اجليشان يوم السبت يف التاسع من شهر مجادى األول‪/‬شهر‬

‫((‪ ))1‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.53‬‬


‫((‪ ))2‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.53‬‬
‫((‪ ))3‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.55‬‬
‫((‪ ))4‬املصدر نفسه ‪.55‬‬
‫((‪ ))5‬املصدر نفسه ‪.55‬‬
‫((‪ ))6‬اتريخ الزنكيني يف املوص ص ‪ 55‬الكام يف التاريخ (‪.)368/8‬‬
‫((‪ ))7‬احلركة الصليبية ‪ ،‬عاشور (‪ )112/1‬اتريخ الزنكيني ص ‪.56‬‬
‫((‪ ))8‬زبدة حلب (‪.)331/1‬‬

‫‪26‬‬
‫أن آق سنقر مل يثق مبن كان معهُ من العرب ‪ ،‬نقلهم من‬ ‫ااير) عند ت السلطان((‪ ، ))1‬القريب من حلب ‪ ،‬ويبدو‪ :‬هل‬
‫امليمنة إىل امليسرة مث إىل القلب والراجح أن هذا التبدي يف املواقع العسكرية أثر على قدراته القتالية ‪ ،‬دارت الدائرةُ‬
‫((‪))2‬‬
‫قتلك! قال‪ :‬أان‬
‫كنت أرى َ‬ ‫صنعت يب؟ قال‪ُ :‬‬‫َ‬ ‫كنت‬
‫ووقع أسرياً يف يد تـُتُش ‪ ،‬سألهُ تـُتُش‪« :‬لو ظفرت يب ما َ‬‫عليه ‪َ ،‬‬
‫وتسلم قلعة حلب اإلثنني ‪ 11‬مجادى األوىل((‪ ،))3‬ود ن آق سنقر‬ ‫َ‬ ‫كنت حتكم علي!» قتلهُ صرباً ‪،‬‬
‫عليك مبا َ‬
‫أحكم َ‬ ‫ُ‬
‫((‪))4‬‬
‫خارج حلب مث ملا ملك عماد الدين نق بقااي أبيه د نها جبانب املدرسة الرجاحية يف حلب ‪.‬‬
‫رابعاً‪ :‬نشأة عماد الدين زنكي وأسرته‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ نشأته ‪ :‬ولد عماد الدين زنكي سنة ‪ 477‬هـ وكان أبوه من كبار قادة ملكشاه حىت لقب بقسيم الدولة‪ ،‬وكان‬
‫االبن الوحيد هلذا القائد العظيم يف الدولة السلجوقية‪ ،‬وتوىل والده آق سنقر حلب سنة ‪ 479‬هـ أي‪ :‬بعد سنتني من‬
‫مولده ‪ ،‬كانت حلب مهد طفولته وقَى هبا أايمه األوىل((‪.))5‬‬
‫وتشرب‬
‫َ‬ ‫‪ 2‬ـ تربية والده له ‪ :‬عاش زنكي يف كنف والده مدة عشر سنوات تكونت خضمهلا اخلطوط العريَة لشخصيته ‪،‬‬
‫دربه على الفروسية من ُذ نعومة أظفاره ‪ ،‬ليكون نعم الوارث ملركزه‪ ،‬وقد‬ ‫من أبيه أخضمقهُ وصفاتهُ ‪ ،‬وال شك‪ :‬هل‬
‫أن والدهُ هل‬
‫وعوده الصرب على املشاق يف احلرب وممارستها ‪ ،‬وقد أثبتت األحداث الضمحقة‬ ‫دربه على ركوب اخلي ‪ ،‬ورمي السهام‪ ،‬هل‬
‫حسن تربية والده له ‪ ،‬قد متيز ابلشجاعة اليت تبلغ حد الذروة ‪ ،‬هو يهاجم مع مودود طربية ‪ ،‬وينهزم الصليبيون ‪،‬‬
‫ويلحقهم املسلمون وعماد الدين يف املقدمة ‪ ،‬وال يلتفت إىل الوراء ‪ ،‬ليتأكد من حلاق أصحابه به‪ ،‬ويص إىل ابب‬
‫طربية ‪ ،‬وحيارب اإل رنج عليه ‪ ،‬ويبدي شجاعة ائقة ‪ ،‬وينسحب وحيسن االنسحاب عندما ال يرى حوله أحداً ‪،‬‬
‫((‪))6‬‬
‫القوة اليت ال تعرف العطف‬
‫يعجب الناس من رجوعه ساملاً ‪ ،‬كما عجبوا من شجاعته ‪ ،‬وورث عن أبيه آق سنقر هل‬
‫عدو خطر ‪ ،‬وورث عنه التخطيط الذي يؤدي إىل حتف اخلصم الذي رمسه له زنكي((‪.))7‬‬ ‫واليت ال تبقي على ٍ‬
‫وقرت‬
‫‪ 3‬ـ والدتهُ‪ :‬تويف والده وعمره عشر سنوات ‪ ،‬ولكن أمه عاشت حىت رأت ابنها يرث أابه ‪ ،‬وحيكم املوص ‪ ،‬هل‬
‫عينها إذ رأتهُ يف السنة اليت تو يت يها حياصر دمشق اليت قت صاحبها تتش زوجها آق سنقر ‪ ،‬قد تو يت سنة ‪529‬‬
‫هـ ابملوص ‪.‬‬
‫هناك أسطورة أوربيهلة سورية‪ :‬أن أاتبك املوص من أص رجني ويفرتض أن أمه كانت األمرية اجلميلة النمساوية‬
‫وكانت َ‬
‫اليت أسرت ‪ ،‬وقَت بقية أايمها يف حرمي اق سنقر ‪ ،‬وأن امرأة عظيمة أوربية تستطيع أن تلد مث هذا البط ‪ .‬ولكن‬
‫هذه القصة غري صحيحة؛ ألن أابه آق سنقر مات قب سنوات من حدوث الكارثة ـ الغزو الصلييب ـ ‪ ،‬وال يذكر لنا‬

‫((‪ ))1‬ت السلطان‪ :‬موضع بينه وبني حلب مرحلة حنو دمشق‪.‬‬
‫((‪ ))2‬الكام يف التاريخ (‪.)368/8‬‬
‫((‪ ))3‬احلروب الصليبية واألسرة الزنكية ص ‪.55‬‬
‫((‪ ))4‬املصدر نفسه ص ‪.55‬‬
‫((‪ ))5‬احلروب الصليبية واألسرة الزنكية ص ‪.57‬‬
‫((‪ ))6‬الروضتني (‪.)68/1‬‬
‫((‪ ))7‬احلروب الصليبية واألسرة الزنكية ص ‪.58‬‬

‫‪27‬‬
‫املؤرخون امساً لوالدته ‪ ،‬وال أصلها حىت نستطيع أن نتعرف على أسباب اكتسابه اللون األمسر مع أن املشهور عن األتراك‬
‫اللو ُن األبيض ‪ ،‬لعله ورث هذه الصفات عن والدته((‪.))1‬‬
‫‪ 4‬ـ زوجات عماد الدين‪ :‬أ ـ تزوج زنكي أكثر من واحدة ‪ ،‬من زوجاته اليت ذكرها املؤرخون؛ زوجة األمري كندغدي‪.‬‬
‫زوجتك امرأة األمري كندغدي من أكابر أمراء السلطان حممد ‪ ،‬والسلطان حممود ‪ ،‬واتفق أنه‬
‫َ‬ ‫وقال السلطان حممود‪ :‬قد‬
‫مات وترك ولداً صغرياً وزوجة ومن املال والربك (املتاع اخلاص من ثياب وقماش وسضمح) ما ال يقدر عليه إال السلطان‪،‬‬
‫طلب من عماد الدين أن يتزوجها وأرس إليها ‪ ،‬يقول هلا‪ :‬إنين زوجتك بعماد الدين زنكي ‪ ،‬امتنعت ‪ ،‬مث أجابت ‪،‬‬
‫غد بعد دخوله هبا ومعهُ ولد كندغدي وهو يف موكب عظيم من أصحابه وأصحاب كندغدي ‪،‬‬ ‫ركب زنكي من ٍ‬
‫وأخرجت له زوجته من اخليام والربك ما ليس ٍ‬
‫ألحد من العسكر مثله((‪.))2‬‬
‫ب ـ الزوجة الثانية‪ :‬خاتون ابنة امللك رضوان ‪ ،‬كان زواجه هبا زواجاً سياسياً ‪ ،‬قد تزوجها ليصبح له احلق والشرعية يف‬
‫حكم حلب((‪ ،))3‬ولكنه هجرها بعد أن رأى ثياب أبيه آق سنقر الذي قتلهُ جدها تتش ‪ ،‬وطلقها بتدخ القاضي أيب‬
‫غامن قاضي حلب((‪ ، ))4‬وكان زواجهُ هبا سنة ‪ 522‬هـ على رأي حسن حبشي وسنة ‪ 523‬هـ على رأي ابن العدمي‬
‫((‪.))5‬‬
‫ج ـ الزوجة الثالثة‪ :‬صاحبة خضمط ابنة سقمان القطيب؛ تزوج صاحبة خضمط ابنة سقمان القطيب سنة ‪ 529‬هـ والظاهر‪:‬‬
‫أن زواجه منها كان ليمكن نفوذه يف تلك املنطقة ‪ ،‬قد كان زنكي يف السنة السابقة هلذا الزواج يف حرب ‪ ،‬وكان‬ ‫هل‬
‫حسان الدين متراتش معهُ يف حربه ضد داود بن سكمان بن أرتق ‪ ،‬ورمبا أراد ابملصاهرة أن يَم خضمطاً إليه ‪ ،‬ويقوي‬
‫جبهته يف تلك املنطقة ‪ ،‬وال سيما أنه يف سنة زواجه كان يف حرب يف تلك اجلبهة ‪ ،‬استوىل على الصقر وشوش‪.‬‬
‫د ـ الزوجة الرابعة‪ :‬ابنة متراتش‪.‬‬
‫هـ ـ الزوجة اخلامسة‪ :‬خاتون بنت جناح الدولة حسني ‪ ،‬وكان زواجه منها سنة ‪ 531‬هـ ويف هذه السنة كانت رتة‬
‫نشاطه يف محص ‪ ،‬قد حاصرها حصاراً شديداً وال يستبعد أن يكون زواجه هبا ليكتسب شرعية أخذه محص من‬
‫دمشق؛ ألهنا الوارثة هلا بعد والدها ‪ ،‬وليَم إليه أنصار والدها ‪ ،‬ويساعدوه على أخذ املدينة((‪.))6‬‬
‫و ـ الزوجة السادسة‪ :‬تزوجها سنة ‪ 532‬هـ وهي صفوة امللك ابنة األمري جاويل أم مشس امللوك إمساعي وإخوته بين اتج‬
‫((‪))7‬‬
‫ميتلك دمشق ‪ ،‬لما مل حيص له ملك‬ ‫امللوك‪ ،‬وهي أخت امللك دقاق ألمه ‪ ،‬وقد كا َن زواجهُ منها يف أم أن َ‬
‫دمشق؛ أعرض عنها((‪.))8‬‬

‫((‪ ))1‬املصدر نفسه ص ‪.59‬‬


‫((‪ ))2‬التاريخ الباهر ص ‪.28‬‬
‫((‪ ))3‬نور الدين زنكي ‪ ،‬حسن حبشي ص ‪.24‬‬
‫((‪ ))4‬زبدة حلب ص ‪ ، 244‬احلروب الصليبية واألسرة الزنكية ص ‪.59‬‬
‫((‪ ))5‬احلروب الصليبية واألسرة الزنكية ص ‪.59‬‬
‫((‪ ))6‬املصدر نفسه ص ‪.60‬‬
‫((‪ ))7‬الروضتني (‪.)80/1‬‬
‫((‪ ))8‬مفرج الكروب نقضمً عن احلروب الصليبية واألسرة الزنكية ‪ ،‬ص ‪.60‬‬

‫‪28‬‬
‫ذلك يعود إىل‬
‫أن سبب َ‬ ‫أن موضوع زوجات زنكي قد حظي ابهتمام عدد من املؤرخني ‪ ،‬وأغلب الظن‪ :‬هل‬ ‫ونضمحظ‪ :‬هل‬
‫العضمقة الوثيقة بني معظم عقود الزواج اليت قام هبا وبني مشاريعه السياسية والعسكرية ‪ ،‬وكان زنكي يعتمد رابطة الزواج‬
‫لتحقيق بعض أهدا ه السياسية ‪ ،‬والعسكرية ‪ ،‬وإنه متكن هبذا األسلوب من توثيق عضمقاته بعدد من احلكام واألمراء ‪،‬‬
‫األمر الذي ساعده إىل ٍ‬
‫حد كبري يف تنفيذ خططه الرامية إىل توحيد القوى اإلسضممية ملواجهة اخلطر الصلييب((‪.))1‬‬ ‫ُ‬
‫‪ 5‬ـ أبناؤه‪ :‬هم س يف الدين غازي وهو األكرب ‪ ،‬ونور الدين حممود ‪ ،‬وقطب الدين مودود ‪ ،‬ونصرة الدين أمري أ ريان‪.‬‬
‫ومجيع أوالده ظهرت عليهم النجابة مما ورثوه من والدهم وكانوا ذوي أخضمق محيدة ‪ ،‬وشجاعة ائقة ‪ ،‬وخاصة نور الدين‬
‫حممود ‪ ،‬وسيف الدين غازي ‪ ،‬وقطب الدين مودود ‪ ،‬أخبار شجاعتهم مشهورة ‪ ،‬ونضمحظ من أمساء أوالد زنكي اسم‬
‫مودود قد يدل على إعجاب زنكي ابألمري مودود ‪ ،‬وهناك غازي ‪ ،‬وامسه يدل عليه ‪ ،‬أما حممود ‪ ،‬إنه يطابق اسم‬
‫أحد السضمطني السضمجقة ممن خدمه زنكي((‪.))2‬‬
‫وقد خصص زنكي لرتبية أوالده علياً بن منصور السروجي ‪ ،‬وكان أديباً شاعراً خطاطاً ‪ ،‬وعندما كرب سيف الدين غازي؛‬
‫أرسله أبوه خلدمة السلطان مسعود ‪ ،‬تلقاه ابحلفاوة والتقدير ‪ ،‬ورتب يف خدمته عشرة من احلراس((‪ ، ))3‬وقد بقي سيف‬
‫هناك حىت قبي مقت أبيه بوقت قصري ‪ ،‬وأما نور الدين حممود قد نشأ حتت رعاية والده ‪ ،‬وتعلم القران الكرمي‬ ‫الدين َ‬
‫‪ ،‬والفروسية ‪ ،‬والرمي((‪ ، ))4‬وملا جاوز صباه لزم خدمة أبيه حىت مقتله((‪ ، ))5‬وهكذا كان زنكي يُع ُّد أوالده لتحم‬
‫املسؤوليات اإلدارية والعسكرية يف املستقب ‪ ،‬وما يقال عن غازي ‪ ،‬وحممود ميكن أن يقال عن ابنيه االخرين‪ :‬أ ريان ‪،‬‬
‫ومودود((‪.))6‬‬

‫املبحث الثاين ‪ :‬تطور شخصية عماد الدين القيادية‬

‫أوالً‪ :‬بزوغ جنمه السياسي‪:‬‬


‫ذلك الدور الذي لعبه أبوه آق‬
‫كان من العوام الرئيسية اليت ساعدت على ظهور عماد الدين زنكي ُمنذ عهد طفولته َ‬
‫سنقر يف شؤون الدولة السلجوقية السياسية ‪ ،‬والعسكرية ‪ ،‬واإلدارية يف األعوام (‪ 465‬هـ ‪ 487‬هـ) ‪ ،‬واملكانة اليت‬
‫حص عليها نتيجة خدماته للسضمطني السضمجقة ‪ ،‬وعمله على تدعيم كياهنم ‪ ،‬حىت إنه ضحى حبياته ـ كما رأينا ـ يف‬
‫سبي الوالء للسلطان السلجوقي بركيارق ‪ ،‬ومل ينس هذا تَحية آق سنقر يف سبي عرشه‪ ،‬جازاه ـ بعد مقتله ـ بتوجيه‬

‫((‪ ))1‬عماد الدين زنكي ص ‪.172‬‬


‫((‪ ))2‬احلرب الصليبية واألسرة الزنكية ص ‪.62‬‬
‫((‪ ))3‬الباهر ص ‪.97‬‬
‫((‪ ))4‬البداية والنهاية نقضمً عن عماد الدين ص ‪.173‬‬
‫((‪ ))5‬الروضتني (‪.)119/1‬‬
‫((‪ ))6‬عماد الدين زنكي ص ‪.173‬‬

‫‪29‬‬
‫العناية واالهتمام حنو ابنه الوحيد عماد الدين زنكي الذي كان آنذاك يف العاشرة من عمره ‪ ،‬وكان يقيم يف حلب حتت‬
‫رعاية مماليك أبيه ‪ ،‬وأصحابه الذين كانوا يكنون احلب العميق آلق سنقر(‪.)1‬‬
‫‪ 1‬ـ مكانة زنكي عند أمري املوص كربوقا‪ :‬ملا توىل املوص قوام الدولة كربوقا سنة ‪ 489‬هـ ‪ ،‬ابسم السلطان بركيارق‬
‫وطلب من بعض مماليك والده املقيمني يف حلب إحَار عماد الدين إليه ‪ ،‬وقال هلم‪:‬‬ ‫َ‬ ‫أوىل زنكي اهتماماً خاصاً ‪،‬‬
‫«هو ابن أخي ‪ ،‬وأان أوىل الناس برتبيته» أحَروه عنده(‪ ، )2‬ويبدو أن كربوقا َ‬
‫أدرك مكانة آق سنقر والد عماد الدين‬
‫يَم إليه ابنهُ عماد الدين‬
‫حرص على أن هل‬
‫َ‬ ‫يف نفوس كثري من الرتكمان ‪ ،‬وعرف ما يكنُّو َن له من الوالء والطاعة ‪،‬‬
‫أدرك جنابة‬
‫ليحص على الوالء نفسه الذي حيملهُ الرتكمان لوالده ‪ ،‬إضا ة إىل أن كربوقا أثناء مضمزمته آلق سنقر قد َ‬
‫ضد خصومه‬ ‫بني مماليك والده‪ ،‬أراد أن يَمه إىل جانبه لضمستعانة به‪ ،‬ومبماليك والده يف حروبه هل‬
‫عماد الدين‪ ،‬ومكانتهُ َ‬
‫‪ ،‬ورمبا ليَمن عدم منا سته له مستقبضمً ‪ ،‬وقد حظي عماد الدين مبكانة مرموقة عند قوام الدولة كربوقا ‪ ،‬وظ عماد‬
‫الدين زنكي مضمزماً له ابملوص إىل أن تويف كربوقا سنة ‪ 495‬هـ‪ 1101/‬م(‪.)3‬‬
‫‪ 2‬ـ مكانته عند األمري جكرمش وايل املوص ‪ :‬بقيت العضمقة طيبة بني زنكي ومشس الدولة جكرمش الذي أعقب كربوقا‬
‫على والية املوص (‪ 495‬ـ ‪ 500‬هـ) والذي كان أحد مماليك السلطان السلجوقي ملكشاه وعلى معر ة ابخلدمات‬
‫اليت أداها والد زنكي للسضمجقة ‪ ،‬ومن مث توثقت العضمقة بينهُ وبني زنكي؛ حيث هلقربهُ ‪ ،‬وأحبه ‪ ،‬واختذه ولداً ‪ ،‬وظ‬
‫األخري مضمزماً له؛ حىت و اته عام ‪ 500‬هـ(‪.)4‬‬
‫‪ 3‬ـ يف عهد والية جاويل سقاو على املوص ‪ :‬بعد و اة جكرمش توىل جاويل سقاو (‪ 500‬هـ ‪ 502‬هـ) على والية‬
‫املوص وكان زنكي قد بلغ مرحلة الشباب (وبدت عليه عضمئم الشهامة) وساد الصفاء عضمقاته ابلوايل اجلديد‪ .‬إال أن‬
‫عصيان األخري للسلطان حممد عام ‪ 502‬هـ وهروبه إىل الشام ‪ ،‬د ع زنكي إىل االنفصال عنهُ ومجاعة من كبار األمراء‬
‫يف نفس الوقت الذي عني يه السلطان والياً جديداً على املوص هو األمري مودود بن التونتكني (‪ 502‬ـ ‪ 507‬هـ) ‪،‬‬
‫انَم زنكي ور اقه إليه‪ .‬مما كان له أبلغ األثر يف نفس السلطان والوايل اجلديد على السواء ‪ ،‬األمر الذي رشحه ألن‬
‫يكون من كبار أمراء هذا الوايل ‪ ،‬وأن حيص على مزيد من اإلقطاعات(‪.)5‬‬
‫‪ 4‬ـ مضمزمته لألمري مودود يف حرب الصليبيني‪ :‬ملا استقر األمري مودود ابملوص ‪ ،‬واتص به عماد الدين؛ عرف له مكانته‬
‫ابإلضا ة إىل منزلة أبيه ‪ ،‬وملا رأى منهُ العق والشجاعة؛ زاد يف إقطاعه ‪ ،‬وشهد زنكي حروبه كلها وخاصة مع الصليبيني‬
‫يف طربية ‪ ،‬وقب جميء مودود كان زنكي قد متيز بشجاعته ومقدرته وقد شارك يف الغزوات اليت قام هبا ضد الضمتني ‪،‬‬
‫ويذكر املؤرخون بك اعتزاز‪ :‬أن عبقريته كرست للجهاد من السنوات األوىل من عمره(‪ ، )6‬وقد أظهر يف عهد مودود‬

‫(‪ )1‬الباهر ص ‪ ، 15‬عماد الدين زنكي ص ‪.36‬‬


‫(‪ )2‬عماد الدين زنكي ص ‪.36‬‬
‫(‪ )3‬الباهر ص ‪ 16‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.31‬‬
‫(‪ )4‬الباهر ص ‪ 16‬عماد الدين زنكي ص ‪.36‬‬
‫(‪ )5‬عماد الدين زنكي ص ‪.37‬‬
‫(‪ )6‬احلروب الصليبية واألسرة الزنكية ص ‪.63‬‬

‫‪30‬‬
‫من البطوالت يف جهاده ضد الصليبيني ما أكسبهُ شهرة واسعة لدى املسلمني ‪ ،‬وظ مضمزماً ملودود حىت مقتله عام‬
‫‪ 507‬هـ على أيدي الباطنية يف جامع دمشق(‪.)1‬‬
‫‪ 5‬ـ يف خدمة األمري آق سنقر الربسقي‪ :‬عاد زنكي بعد استشهاد مودود إىل املوص ليلتحق خبدمة الوايل اجلديد «جيوش‬
‫بك» مث ما لبث أن انَم إىل األمري آ ق سنقر الربسقي الذي وجهه السلطان السلجوقي لقتال الصليبيني ‪ ،‬يف نفس‬
‫(‪)2‬‬
‫ذلك ما زاد من شهرته لدى املسلمني‬
‫الرها ‪ ،‬ومسيساط وسروج ‪ ،‬وأظهر من الشجاعة واملقدرة خضمل َ‬ ‫العام ‪ ،‬قات يف ُّ‬
‫‪ ،‬ود ع السلطان حممد إىل أن يطلب من واليه على املوص تقدمي زنكي ‪ ،‬والرجوع إىل مشورته تقديراً إلخضمصه‬
‫وقدراته(‪.)3‬‬
‫‪ 6‬ـ بعد و اة السلطان السلجوقي حممد ‪ 511‬هـ‪ :‬عندما تويف السلطان حممد سنة ‪ 511‬هـ ‪ ،‬سعى «جيوش» إىل‬
‫استغضمل وجود ابنه مسعود ـ إذ كان أاتبكاً له ـ ود عه إىل التوجه إىل بغداد لكي ينصب نفسه سلطاانً على سضمجقة‬
‫ذلك التحكم الفعلي يف شؤون الدولة السلجوقية ابسم السلطان اجلديد ‪ ،‬وقد أيد زنكي‬‫العراق ‪ ،‬مستهد اً من وراء َ‬
‫هذه احملاولة ‪ ،‬وسار الوايل ومسعود متوجهني إىل بغداد على رأس حشد من قوات املوص إال أن احملاولة أخفقت بعد‬
‫سلسلة من احلروب واملناوشات شهدهتا منطقة بغداد ‪ ،‬واستتب األمر للسلطان حممود الذي أعقب أابه احلكم(‪ .)4‬وبعد‬
‫ثضمثة أعوام حاول جيوش بك أن يثور اثنية ضد السلطان حممود ‪ ،‬غري أن زنكي ر ض أتييده ‪ ،‬وأشار على املتمردين‬
‫بطاعة السلطان ‪ ،‬وترك خمالفته ‪ ،‬وحذرهم عاقبة العصيان ‪ ،‬لكنهم مل يلتفتوا إىل قوله ‪ ،‬وأقدموا على تنفيذ حماولتهم اليت‬
‫انتهت هي األخرى ابلفش بعد هزمية جيوش بك ‪ ،‬ومسعود على يد السلطان حممود الذي بلغهُ موقف زنكي منهُ‬
‫حق قدره ‪ ،‬وأوصى الربسقي وايل املوص اجلديد ابلعناية به وتقدميه على سائر األمراء(‪.)5‬‬‫قدهلره هل‬
‫‪ 7‬ـ تويل عماد الدين زنكي إمارة واسط ‪ ،‬والبصرة‪ :‬وعندما عني الربسقي عام ‪ 516‬هـ شحنة العراق را قه زنكي واشرتك‬
‫إىل جانبه يف املعركة اليت دارت ضد دبيس‬
‫أمري احللة ‪ ،‬وانتهت هبزمية الربسقي(‪ )6‬الذي رأى أن يزيد من اعتماده على زنكي يف صراعه ضد دبيس ‪ ،‬واله واسط ـ‬
‫ذات املوقع اهلام ـ وكلهلفه مهمة الد اع عنها ضد هجمات أمري احللة ‪ ،‬وقد استطاع زنكي أن يسحق يف طريقه إىل واسط‬
‫(‪)7‬‬
‫القوات اليت حشدها دبيس للد اع عن النعمانية ‪ ،‬وأن يستويل على هذا املوقع ‪ ،‬وأظهر زنكي يف منصبه اجلديد حزماً‬
‫وكفاءة ‪ ،‬وأابن عن مقدرة إدارية ذة(‪ ، )8‬األمر الذي د ع الربسقي ‪ ،‬حاكم العراق إىل إضا ة البصرة إىل واليته ‪ ،‬لكي‬
‫يصد هجمات األعراب الدائمة عليها ‪ ،‬وينشر األمن يف ربوعها(‪ ، )9‬انتق زنكي إليها لكي حيقق يها ما أجنزهُ يف‬ ‫هل‬

‫(‪ )1‬الباهر ص ‪ 17‬ـ ‪ 19‬عماد الدين زنكي ص ‪.37‬‬


‫(‪ )2‬الباهر ص ‪ 17‬ـ ‪ 19‬عماد الدين زنكي ص ‪.37‬‬
‫(‪ )3‬الباهر ص ‪ 24‬عماد الدين زنكي ص ‪.38‬‬
‫(‪ )4‬الكام يف التاريخ نقضمً عن عماد الدين زنكي ص ‪.38‬‬
‫(‪ )5‬الباهر ص ‪ 22‬ـ ‪ ، 24‬الروضتني (‪.)73/1‬‬
‫(‪ )6‬املنتظم (‪ 232/9‬ـ ‪ )233‬الباهر ص ‪.24‬‬
‫(‪ )7‬الباهر ص ‪ ، 25‬عماد الدين زنكي ص ‪.38‬‬
‫(‪ )8‬الروضتني (‪ )73/1‬عماد الدين زنكي ص ‪.39‬‬
‫(‪ )9‬البداية والنهاية نقضمً عن عماد الدين زنكي ص ‪.39‬‬

‫‪31‬‬
‫واسط من نشر األمن والقَاء على الفوضى‪ .‬وقد متكن يف وقت قصري أن يوقف هجمات األعراب ‪ ،‬وغاراهتم املتتابعة‬
‫عند حدها ‪ ،‬وأن جيليهم إىل أعماق الصحراء ‪ ،‬كما قَى على الفنت اليت عمت البصرة ‪ ،‬وأظهر مقدرة عسكرية وإدارية‬
‫كاليت أظهرها يف واسط من قب ‪ ،‬مما زاد من مكانته يف نظر رجاالت الدولة السلجوقية ‪ ،‬ومن رهبته لألعداء ‪ ،‬حىت‬
‫أدرك أن ليس يف طاقته جماهبتهُ والتغلب عليه ‪،‬‬ ‫إن دبيس بن صدقة ـ أقوى أمراء اجلنوب ـ جتنب االصطدام معهُ؛ ألنه َ‬
‫َ توحيد جهوده ضد اخلليفة العباسي يف بغداد بدالً من مقارعة هذا األمري القدير(‪.)1‬‬ ‫و هل‬
‫‪ 8‬ـ د اع زنكي والربسقي عن اخلليفة املسرتشد‪ :‬مل يرتك الربسقي وزنكي اخلليفة جيابه مبفرده حشود دبيس‪ ،‬جمعوا‬
‫قواهتم والتقوا به يف مطلع عام ‪ 517‬هـ قريباً من احللة ‪ ،‬واستطاعوا ـ بفَ هللا ‪ ،‬مث اخلطة البارعة اليت اتبعها زنكي ـ أن‬
‫يلحقوا به هزمية نكراء ‪ ،‬وأن يقتلوا ‪ ،‬وأيسروا الكثري من جنده ‪ ،‬واضطر هو ومن سلم من قواته إىل الفرار ‪ ،‬بينما عاد‬
‫املسرتشد ‪ ،‬وحلفاؤه إىل بغداد يستقبلهم األهايل هناك استقباالً حا ضمً بعد خضمصهم من خطر حمقق كاد حييق ببغداد‬
‫‪ ،‬ويعرضها للنهب والتخريب(‪ ،)2‬وكان زنكي ـ لدى مغادرته البصرة ـ قد وض شؤوهنا ملقدم حاميتها األمري «سخت‬
‫كمان» استغ دبيس بُعد زنكي عنها وهامجها على حني غرة ‪ ،‬ومتكن من قت مقدم حاميتها وهنب أهاليها ‪ ،‬ولكن‬
‫انسحب دبيس من املنطقة و هلاجته إىل الشام للعم‬
‫َ‬ ‫زنكي ما لبث أن عاد إىل البصرة ليقر األوضاع يها من جديد ‪،‬‬
‫مع الصليبيني(‪.)3‬‬
‫‪ 9‬ـ عماد الدين يف خدمة السلطان حممود‪ :‬أقي الربسقي من شحنكية العراق يف عام ‪ 517‬هـ وأعيد إىل املوص لقيادة‬
‫حركة اجلهاد ضد الصليبيني ‪ ،‬وعني يرنقش الزكوي شحنة بعده(‪ ، )4‬أرس الربسقي إىل زنكي يستدعيه إىل البصرة‬
‫ليتجه معه إىل املوص ‪ ،‬غري أن األخري َ أن يربط مصريه ابلسلطان حممود ‪ ،‬يصحبهُ عدد من كبار األمراء‪ ،‬وقرر‬
‫(‪)5‬‬
‫ذلك يف احتفال شهدهُ السلطان وعدد كبري من القادة واملسؤولني‬
‫السلطان حممود تزوجيه أبرملة أحد أمرائه الكبار ‪ ،‬ومت َ‬
‫‪ ،‬األمر الذي هيأ لزنكي رصة الظهور يف حميط كبار األمراء وتعريف رجاالت الدولة السلجوقية مبكانته(‪.)6‬‬
‫‪ 10‬ـ تكليف السلطان حممود عماد الدين بتوطيد األمن يف البصرة‪ :‬غدت البصرة بعد مغادرة زنكي هلا ‪ ،‬مسرحاً‬
‫ذلك أمر زنكي ابلعودة إليها ‪ ،‬بعد أن‬ ‫للفوضى ‪ ،‬وهد اً للنهب والتخريب ‪ ،‬وهجمات األعراب ‪ ،‬وبلغ السلطان َ‬
‫أقطعهُ إايها عام ‪ 518‬هـ وطلب منهُ اختاذ كا ة اإلجراءات الضمزمة لتوطيد األمن يف املنطقة ‪ ،‬كما كلفه مهمة اإلشراف‬
‫(‪)7‬‬
‫على واسط ‪ ،‬والسعي للد اع عنها إذا ما كر اخلليفة إبرسال جيش لضمستيضمء عليها؛ إذ كانت هد اً حملاوالته التوسعية‬
‫‪ ،‬غادر زنكي أصفهان إىل البصرة‪ ،‬وابشر مهام منصبه‪ ،‬أحسن معاملة أهلها‪ ،‬واستطاع أن خيلصهم من هجمات‬
‫وذلك عن طريق تنظيم دورايت عسكرية دائمة للقيام هبجمات مَادة على األعراب ونصب الكمائن هلم‬ ‫األعراب ‪َ ،‬‬

‫(‪ )1‬املنتظم (‪ )243 ، 242/9‬عماد الدين زنكي ص ‪.39‬‬


‫(‪ )2‬البداية والنهاية نقضمً عن عماد الدين زنكي ص ‪.39‬‬
‫(‪ )3‬املنتظم (‪.)249/9‬‬
‫(‪ )4‬املنتظم (‪.)249/9‬‬
‫(‪ )5‬الباهر ص ‪ 27‬ـ ‪ 28‬عماد الدين زنكي ص ‪.40‬‬
‫(‪ )6‬عماد الدين زنكي ص ‪.40‬‬
‫(‪ )7‬الباهر ص ‪ 28‬عماد الدين زنكي ص ‪.41‬‬

‫‪32‬‬
‫‪ ،‬كما اهتم ـ ابلوقت ذاته ـ أبمور واسط ‪ ،‬وأخذ ميد السلطان أبخبار العراق حبيث مل خيف على األخري شيئاً من أموره‬
‫‪ ،‬األمر الذي زاد من تقديره لزنكي ومن ارتفاع منزلته عنده ‪ ،‬ورشحهُ ملنصب شحنكية العراق(‪.)1‬‬
‫‪ 11‬ـ الصراع بني اخلليفة املسرتشد والسلطان السلجوقي‪ :‬يف عام ‪ 519‬هـ تدهورت العضمقات بني اخلليفة املسرتشد‬
‫والسلطان حممود الذي رأى نفسهُ مَطراً للتوجه إىل بغداد للحد من مطامح اخلليفة ‪ ،‬و رض سيطرته املباشرة على‬
‫العراق‪ .‬وكان اخلليفة قد أرس بعض جيوشه بقيادة عفيف اخلادم لضمستيضمء على واسط ‪ ،‬إال أن زنكي متكن من صده‬
‫‪ ،‬واالنتصار عليه يف املعركة اليت دارت بني الطر ني عند مشارف واسط‪ .‬ويف العشرين من ذي احلجة وص السلطان‬
‫إىل بغداد وأرس إىل اخلليفة يطلب منهُ إقرار الصلح ‪ ،‬ر ض األخري طلبه ‪ ،‬األمر الذي أدى إىل نشوب القتال بني‬
‫الطر ني ‪ ،‬وقد رأى السلطان أن يعتمد على زنكي يف صراعه هذا ‪ ،‬أرس إليه أيمرهُ ابحلَور إىل بغداد على رأس قواته‬
‫ومجع عدداً كبرياً منها ‪ ،‬إثر جولة قام هبا يف‬
‫‪ ،‬وأن جيلب معهُ ما يستطيع من زوارق حربية وسفن ‪ ،‬نفهلذ زنكي األمر ‪َ ،‬‬
‫مناطق العراق اجلنويب هلذا الغرض ‪ ،‬وبعد أن مألها ابملقالة اختذ طريقه إىل بغداد ‪ ،‬وما أن بلغ اخلليفة نبأ تقدم زنكي‬
‫أن بغداد مقبلة على‬‫أدرك أن ليس يف طاقته الصمود طويضمً إزاء شروط السلطان ‪ ،‬و هل‬ ‫بقواته احلاشدة براً وهنراً ‪ ،‬حىت َ‬
‫حصار شديد يف الرب والنهر ‪ ،‬أرس إليه يعلن موا قته على الصلح ‪ ،‬ومن مث دخ السلطان بغداد حيث متت املصاحلة‬
‫حد للصراع بني السلطان واخلليفة ‪ ،‬والذي كان من احملتم أن‬‫وساد الوائم(‪ ،)2‬وهكذا لعب زنكي دوراً حامساً يف وضع ٍ‬
‫يؤدي إىل نتائج ال حتمد عقباها(‪.)3‬‬
‫‪ 12‬ـ تويل عماد الدين شحنكية العراق‪ :‬وملا أراد السلطان حممود الرحي نظر يمن يصلح أن يلي شحنكية العراق ‪،‬‬
‫وبغداد ‪ ،‬وأيمن معهم من اخلليفة ‪ ،‬ويَبط األمور ‪ ،‬لم َير يف أمرائه وأصحابه من يصلح لسد هذا الباب العظيم ‪،‬‬
‫ويرقع هذا اخلرق من االتساع ‪ ،‬ويقوى على ركوب هذا اخلطر غري عماد الدين زنكي ‪ ،‬واله شحنكية العراق مَا اً‬
‫إىل ما بيده من اإلقطاع وسار السلطان عن بغداد(‪ ، )4‬وقد اطمأن إىل نفوذه يف العراق ‪ ،‬بعد أن أانب عنه الرج الذي‬
‫يصرف األمور ال يف بغداد وحدها ‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ذلك التاريخ‬
‫يستطيع أن يقوم مبهام منصبه خري قيام ‪ ،‬وأصبح عماد الدين من ُذ َ‬
‫ب يف سائر جهات العراق(‪.)5‬‬
‫اثنياً‪ :‬دور الفقهاء يف تعيني عماد الدين على املوصل‪:‬‬
‫عندما تويف أمري املوص عز الدين الربسقي عام ‪ 521‬هـ ‪ 1127‬م توىل أمرها أخ صغري له حتت وصاية مملوك تركي‬
‫أدرك الفقهاء أن ضعف املوص ال بد وأن يؤثر على حلب وبضمد الشام يف هذه املرحلة احلامسة يف اتريخ‬
‫يدعى جاويل ‪َ ،‬‬
‫ذلك الفراغ السياسي ‪ ،‬وعدم وجود قيادة عسكرية قوية يف املوص ال بد وأن يلقي انعكاساً على الصراع‬
‫الصراع؛ إذ إن َ‬

‫(‪ )1‬الباهر ص ‪ 28‬عماد الدين زنكي ص ‪.41‬‬


‫(‪ )2‬املنتظم (‪ 252/9‬ـ ‪ )259‬الباهر ص ‪ 28‬ـ ‪.31‬‬
‫(‪ )3‬عماد الدين زنكي ص ‪.42 ، 41‬‬
‫(‪ )4‬احلروب الصليبية واألسرة الزنكية ص ‪.68‬‬
‫(‪ )5‬الروضتني نقضمً عن احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.32‬‬

‫‪33‬‬
‫ولذلك قامت عائلة الشهرزوري املعرو ة ابلعلم والصضمح بدور كبري يف تنصيب عماد الدين‬ ‫َ‬ ‫الصلييب اإلسضممي(‪، )1‬‬
‫زنكي يف املوص لكونه قائداً عسكرايً قوايً‪.‬‬
‫وقام جاويل إبرسال القاضي هباء الدين بن القاسم الشهرزوري ‪ ،‬وانئب عز الدين الربسقي صضمح الدين حممد الياغيسياين‬
‫إىل بغداد ‪ ،‬اليت كان هبا السلطان حممود السلجوقي ‪ ،‬وتركا الوالية يف املوص ألخ عز الدين الصغري حىت يظ يسيطر‬
‫ذلك اهلدف وأهنما ليس يف نيتهما حتقيق‬‫ابمسه على احلكم يها بصفة الوصاية عليه ‪ ،‬إال أن القاضي ور يقه أدركا َ‬
‫لذلك يف الظرف الصعب؛ حيث كاان على معر ة بطباعه ‪ ،‬و تصر اته اليت ال‬‫هدف جاويل ‪ ،‬العتقادمها بعدم كفاءته َ‬
‫يرضيان عنها ‪ ،‬ويبدو يف الوقت نفسه‪ :‬أهنما كاان على عضمقة متينة بعماد الدين زنكي؛ حيث خططا معاً ليتمكنا من‬
‫ذلك السلطان لتولية املوص وحلب ‪ ،‬حرصاً منهما على عدم ضياع البضمد اإلسضممية ـ وخاصةً املوص ـ يف أيدي‬ ‫إقناع َ‬
‫الصليبيني(‪ ، )2‬وبوصول القاضي ور يقه إىل بغداد اتص صضمح الدين حممد أبحد أقرابئه يف بغداد نصر الدين جقروا‬
‫حيث كان بينهما مصاهرة(‪ ، )3‬واجتمعوا به ‪ ،‬وقرروا أن جاويل ال يصلح حلفظ البضمد ألنه كان سيأى السرية(‪ ،)4‬وأخذ‬
‫القاضي الشهرزوري على عاتقه مح األمانة ‪ ،‬وقول احلق ‪ ،‬اجتمع هو وصضمح الدين الياغيسياين بوزير السلطان‬
‫السلجوقي(‪ ، )5‬وقاال له‪ :‬قد علمت أنت والسلطان السلجوقي أن داير اجلزيرة والشام قد متكن الفرنج منها ‪ ،‬وقويت‬
‫شوكتهم هبا ‪ ،‬واستولوا على أكثرها ‪ ،‬وقد أصبحت واليتهم من حدود ماردين إىل عريش مصر ما عدا البضمد الباقية بيد‬
‫املسلمني(‪.)6‬‬
‫ويتَح من خضمل حديث القاضي هباء الدين الشهرزوري مبلغ ختو ه من سيطرة الصليبيني على أراضي اإلسضمم ‪،‬‬
‫وخ شيته من اتساع الرتق ابستيضمئهم على املزيد منها ‪ ،‬وحاجة البضمد إىل الرج املناسب لوقف التوسع الصلييب ‪،‬‬
‫(‪)7‬‬
‫والتصدي له‪ .‬استطرد قائضمً‪« :‬وال بد للبضمد من رج شهم شجاع ذي رأي ‪ ،‬وجتربة يذب عنها وحيمي حوزهتا»‬
‫ومن عمق إحساسه ابملسؤولية أمام هللا والعباد نراه يقول‪« :‬وقد أهنينا احلال إليك لئضم جيري خل ‪ ،‬أو وهن على اإلسضمم‬
‫واملسلمني ‪ ،‬نحص حنن ابإلمث من هللا واللوم من السلطان»(‪ .)8‬وهذا يعطينا درساً مهماً يف دور الفقيه الذي وضع‬
‫مصلحة األمة وق ك اعتبار ‪ ،‬ومل يتأثر برتغيب ‪ ،‬وال ترهيب من حاكم املوص الذي أرسله للسلطان السلجوقي ‪،‬‬
‫ذلك العهد‪ .‬وقام وزير‬‫كما أن يف اختيار كمال الدين الشهرزوري لعماد الدين زنكي تزكية له من بني بقية األمراء يف َ‬
‫ذلك‬
‫السلطان شرف الدين أنوشروان بن خالد بتوصي مطلبهما ‪ ،‬وحال بضمد الشام إىل السلطان حممود‪ .‬وبواسطة َ‬
‫الوزير اقتنع السلطان برأيهما وحاهلما‪ .‬وحتقق هد هما عندما استشارمها يمن يفَلون لوالية املوص ‪ ،‬ويبدو‪ :‬هل‬
‫أن‬

‫(‪ )1‬موقف قهاء الشام وقَاهتا من الغزو الصلييب ص ‪.84‬‬


‫(‪ )2‬الكام يف التاريخ نقضمً عن موقف قهاء الشام وقَاهتا ص ‪.84‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.84‬‬
‫(‪ )4‬دور الفقهاء والعلماء املسلمني يف الشرق األدىن ص ‪.106‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه ص ‪.106‬‬
‫(‪ )6‬الكام يف التاريخ نقضمً عن دور الفقهاء والعلماء املسلمني يف الشرق األدىن ص ‪.107‬‬
‫(‪ )7‬الكام يف التاريخ نقضمً عن دور الفقهاء ص ‪.107‬‬
‫(‪ )8‬الكام يف التاريخ (‪.)659/8‬‬

‫‪34‬‬
‫القاضي الشهرزوري ‪ ،‬ور يقه أشارا عليه مبجموعة من القادة املسلمني من بينهم عماد الدين زنكي حىت ال يشك يف‬
‫أمرمها ‪ ،‬وإصرارمها عليه‪ ،‬إال أنه اختار عماد الدين إبيعاز من وزيره أنوشروان‪ ،‬وعينه والياً على املوص (‪ ،)1‬وهنا يظهر‬
‫دور العامل القاضي هباء الدين بن القاسم الشهرزوري يف اختيار القائد األ َ لقيادة القوى اإلسضممية حنو مواجهة الغزو‬
‫الصلييب ‪ ،‬حىت كا َن هلذا االختيار أثره يف إرساء حجر اجلهاد يف املشرق اإلسضممي؛ حيث متكن خضمله من غرس نواة‬
‫الوحدة مع حلب عندما أخذها ‪ ،‬ورحب به أهلها عام ‪ 521‬هـ‪ 1127/‬م ‪ ،‬ألن موقع حلب االسرتاتيجي بني بضمد‬
‫أدرك‬
‫ذلك األمري ـ عماد الدين ـ قد َ‬
‫الشام ‪ ،‬ومناطق أعايل الفرات هو الذي جعلها يف قلب األحداث آنذاك؛ حىت إن َ‬
‫ذلك املوقع ابلنسبة لبضمد الشام ‪ ،‬واملوص ‪ ،‬واجلزيرة الفراتية ‪ ،‬ومتىن لو أخذها املسلمون قب أن يدخلها‬ ‫أمهية َ‬
‫الصليبيون(‪:)2‬‬
‫طمع يف البضمد ‪ ،‬وإن أخذ حلب؛ مل يبق ابلشام إسضمم ‪ ،‬املسلمون أوىل من الكفار هبا(‪.)3‬‬
‫إن هذا العدو قد َ‬
‫‪ 1‬ـ مكانة القاضي هباء الدين الشهرزوري عند عماد الدين‪ :‬واعرتا اً من عماد الدين زنكي مبا بذله القاضي هباء الدين‬
‫كذلك زادهُ أمضمكاً‬
‫الشهرزوري يف تعيينه ‪ ،‬ورداً جلميله حنوه عينه قاضي قَاة بضمده مجيعها ‪ ،‬وما يفتحه من البضمد ‪ ،‬و َ‬
‫لذلك كانت منزلتهُ عظيمةً عنده ‪ ،‬وكان عماد الدين يستشريه يف معظم‬ ‫يثق به وابرئه ‪َ ،‬‬
‫‪ ،‬وإقطاعاً ‪ ،‬واحرتاماً ‪ ،‬وكان ُ‬
‫بذلك قائضمً‪« :‬وكان ال يصدر إال عن رأيه»(‪ .)4‬إن احرتام العلماء‪ ،‬وتقدير‬ ‫األمور اهلامة يف دولته؛ حىت صرح ابن األثري َ‬
‫ارائهم ‪ ،‬واستشارهتم ‪ ،‬من عوام وأسباب جناح القادة السياسيني ‪ ،‬والعسكريني‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أاتبكيهلة املوص ‪ :‬مال السلطان السلجوقي إىل تولية عماد الدين زنكي إمارة املوص ملا علم من شهامته ‪ ،‬ومتكنه‬
‫اقتنع السلطان جبدارة زنكي يف القيام‬
‫من إجناز املهام اليت أنيطت به من قب ‪ ،‬وأمره ابحلَور ‪ ،‬وبعد مناقشات قصرية َ‬
‫أبعباء املنصب اجلديد ‪ ،‬ومن مث أصدر منشوراً بتوليته املوص ‪ ،‬واجلزيرة وما يفتتحهُ من بضمد الشام ‪ ،‬وسلهلمهُ ولديه‪:‬‬
‫ذلك الوقت‬
‫ألب أرسضمن ‪ ،‬واخلفاجي ليكون أاتبكاً هلما (أي‪ :‬أابً مربياً) و قاً للتقاليد السلجوقية السائدة آنذاك ‪ ،‬ومن ُذ َ‬
‫مسي زنكي أاتبكاً ‪ ،‬وأصبح ك ٌّ من ولدي السلطان حممود حتت إشرا ه املباشر‪ .‬ويف الثالث من رمَان عام ‪ 521‬هـ‬
‫وص بغداد األمري جماهد الدين هبروز قادماً من بضمد ارس ‪ ،‬ليتوىل شحنكية العراق ‪ ،‬غادر زنكي ورجاله عاصمة‬
‫العراق حنو املوص لتسلم مهام منصبه اجلديد(‪ ، )5‬وتعترب أاتبكيهلة املوص نوا ًة للدولة الزنكية(‪.)6‬‬
‫اثلثاً‪ :‬أهم صفاته‪:‬‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه (‪.)659/8‬‬


‫(‪ )2‬الكام يف التاريخ نقضمً عن موقف قهاء الشام ص ‪.86‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.86‬‬
‫(‪ )4‬الكام يف التاريخ نقضمً عن دور الفقهاء والعلماء ص ‪.108‬‬
‫(‪ )5‬املنتظم (‪ )5/10‬عماد الدين زنكي ص ‪.45‬‬
‫(‪ )6‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.27‬‬

‫‪35‬‬
‫كان عماد الدين زنكي حسن الصورة ‪ ،‬أمسر اللون ‪ ،‬مليح العينني(‪ ، )1‬معتدل الطول(‪ ، )2‬وخط الشيب رأسهُ يف سين‬
‫حكمه األخرية(‪ ، )3‬وكان ذا شخصية قوية ‪ ،‬شديدة اهليبة على رعيته وجنده(‪ ،)4‬جاداً يف معظم األحيان ‪ ،‬وكان جدُّه‬
‫الصارم مينعه من االستسضمم للراحة ‪ ،‬أو الرتف ‪ ،‬ويد عهُ إىل مواصلة كفاحه من أج أهدا ه ‪ ،‬وجيع أصوات السضمح‬
‫(‪)5‬‬
‫وإليك تفصي أهم صفاته‪.‬‬
‫ألذ يف مسعه من غناء القينات ‪َ ،‬‬
‫مر معنا شيءٌ من سريته وقوله لتتش‬‫‪ 1‬ـ شجاعته‪ :‬قد ورث الشجاعة عن أبيه الذي تقدم يف جيش ملكشاه ‪ ،‬وقد هل‬
‫املنتصر وهو األسري بني يديه‪ :‬لو ظفرت بك لقتلتك‪ ،‬ويلقى نتيجة جرأته ‪ ،‬يقتله تتش صرباً(‪ ،)6‬وقد تقدم عماد الدين‬
‫ضد اإل رنج ‪،‬‬‫عند أمراء املوص بشجاعته ‪ ،‬وظهرت شجاعته يف القتال يف زمن مبكر ‪ ،‬قد سار مع مودود يف غزوته هل‬
‫وخرج إ رنج طربية للد اع عنها ‪ ،‬حم عليهم ‪ ،‬واهنزم اإل رنج من أمامه ‪ ،‬وطعن بباب سور طربية طعنة أثرت يه‬
‫الناس من شجاعته وجناته(‪.)7‬‬
‫ذلك قات مرتاجعاً ‪ ،‬عجب ُ‬ ‫وكان أصحابهُ قد أتخروا عنه ‪ ،‬ملا قرب من األسوار ومع َ‬
‫وقال أبو شامة يف شجاعته‪« :‬وأما شجاعتهُ وإقدامهُ إليه النهايةُ يهما‪ ،‬وبه كانت تَرب األمثال‪ ،‬ويكفي يف معر ة‬
‫ذلك مجلةً‪ :‬أن واليته أحدق هبا األعداء واملنازعون من ك جانب‪ :‬اخلليفة املسرتشد‪ ،‬والسلطان مسعود‪ ،‬وأصحاب‬ ‫َ‬
‫أرمينية وأعماهلا ‪ ،‬وبيت ُسكمان ‪ ،‬وركن الدولة داود صاحب صحن كيفا‪ ،‬وابن عمه صاحب ماردين‪ ،‬مث الفرنج‪ ،‬مث‬
‫صاحب دمشق‪ ،‬و كان ينتصف منهم‪ ،‬ويغزو ُكضمًّ منهم يف عقر داره ‪ ،‬ويفتح بضمدهم‪ ،‬ما عدا السلطان مسعود إنه‬
‫كان ال يباشر قصده‪ ،‬ب كان حيم أصحاب األطراف على اخلروج عليه‪ ،‬إذا علوا عاد السلطان حمتاجاً إليه‪ ،‬وطلب‬
‫منه أن جيمعهم على طاعته‪ ،‬يصري كاحلاكم على اجلميع‪ ،‬وك ٌّ يداريه‪ ،‬وخيَع له‪ ،‬ويطلب منهُ ما تستقر القواعد على‬
‫يديه»(‪ )8‬ومح على قلعة عقر احلميدية يف جبال املوص ‪ ،‬وأهلها أكراد‪ ،‬وهي على جبال عالية‪ ،‬وصلت طعنتهُ إىل‬
‫الرها‪ ،‬مجع أمراءهُ عنده‪ ،‬ومد السماط‪ ،‬وقال‪ :‬ال أيك ْ معي على مائديت هذه إال من يطعن معي‬ ‫سورها‪ ،‬ويف حصار ُّ‬
‫الرها‪ ،‬لم يتقدم إليه غري أمري واحد‪ ،‬وصيب واحد ال يعر ه‪ ،‬ملا يعر ون من إقدامه وشجاعته وأن أحداً ال‬
‫غداً يف ابب ُّ‬
‫لذلك الصيب‪ :‬ما أنت وهذا املقام ‪ ،‬قال عماد الدين‪ :‬دعه‪ ،‬إين أرى وهللا‬
‫يقدر على مساواته يف احلرب‪ .‬قال األمري َ‬ ‫ُ‬
‫(‪)10‬‬ ‫(‪)9‬‬
‫وجهاً ال يتخلف عين ‪ ،‬وكان يقدر الشجعان ‪ ،‬وكان ال يَطرب أمام أي خطر ‪.‬‬
‫هيبة شديدة يف نفوس أصحابه ‪ ،‬ال جيرؤون على اجللوس بني يديه ‪ ،‬واشرتك معه يف‬ ‫‪ 2‬ـ هيبته‪ :‬كان عماد الدين ذا ٍ‬
‫ُ‬
‫احلروب أجناس خمتلفة ‪ ،‬وحيتاج ضبطها لكثري من الدراية واملهارة واهليئة ‪ ،‬استطاع بشخصيته القوية رض النظام على‬

‫(‪ )1‬الباهر ص ‪ 76‬عماد الدين زنكي ص ‪.173‬‬


‫(‪ )2‬الروضتني (‪ )108/1‬عماد الدين زنكي ص ‪.173‬‬
‫(‪ )3‬الباهر ص ‪ ، 76‬عماد الدين زنكي ص ‪.173‬‬
‫(‪ )4‬زبدة حلب (‪ 290/2‬ـ ‪ )291‬عماد الدين زنكي ص ‪.173‬‬
‫(‪ )5‬الباهر ‪ 81‬عماد الدين زنكي ص ‪.173‬‬
‫(‪ )6‬مفرج الكروب (‪.)26/1‬‬
‫(‪ )7‬أخبار الروضتني نقضمً عن احلروب الصليبية واألسرة الزنكية ص ‪.160‬‬
‫(‪ )8‬كتاب الروضتني (‪.)160/1‬‬
‫(‪ )9‬مفرج الكروب (‪.)93/1‬‬
‫(‪ )10‬احلروب الصليبية واألسرة الزنكية ص ‪.159‬‬

‫‪36‬‬
‫مجيع جنده ‪ ،‬وكان ذا هيبة وسطوة ‪ ،‬وكان إذا مشى يسري العسكر خلفه يف صفني ‪ ،‬كأهنم اخليط خو اً أن يدوس‬
‫أحدهم الزرع ‪ ،‬وال جيسر أحد أن يدوس عرقاً منه ‪ ،‬وال ميشي رسه يه ‪ ،‬وال جيسر أن أيخذ من ضمح تبناً إال بثمنه ‪،‬‬
‫خبط من الديوان إىل رئيس القرية ‪ ،‬وإن تعدهلى أح ٌد؛ صلبه(‪ )1‬وهيبتهُ كانت يف نفوس قادته ‪ ،‬قال علي كوجك انئبه‬ ‫أو ٍ‬
‫الرها مع الشهيد ‪ ،‬وقع بيدي من النهب جارية رائعة أعجبين حسنها ‪ ،‬ومال قليب إليها ‪ ،‬لم يكن‬ ‫ابملوص ‪« :‬ملا تحنا ُّ‬
‫أبسرع من أن أمر الشهيد برد السيب ‪ ،‬واملال املنهوب ‪ ،‬وكان مهيباً خميفاً رددهتا وقليب معلق هبا»(‪ .)2‬وخرج يوماً من‬
‫ابب السر يف قلعة اجلزيرة خطوة ‪ ،‬ومضمهلح له انئم ‪ ،‬أيقظهُ بعض اجلنادرية من مماليك السلطان ‪ ،‬حني رأى الشهيد‬
‫سقط على األرض ‪ ،‬حركه وجده ميتاً(‪.)3‬‬
‫وركب يوماً عثرت دابتهُ ‪ ،‬وكاد يسقط عنها ‪ ،‬استدعى أمرياً وكان معه ‪ ،‬قال لهُ كضمماً مل يفهمه ‪ ،‬ومل يتجاسر على‬
‫ذنبك ‪ ،‬وما محلك على اهلرب؟‬ ‫أن يستفهمه منه ‪ ،‬عاد إىل بيته ‪ ،‬وودع أهله عازماً على اهلرب ‪ ،‬قالت لهُ زوجته‪ :‬ما َ‬
‫أيمرك به‪ .‬قال‪ :‬أخاف أن‬ ‫قصتك ‪ ،‬وا ع ما َ‬
‫َ‬ ‫إن نصري الدين له بك عناية ‪ ،‬اذكر له‬ ‫ذكر هلا احلال ‪ ،‬قالت له‪ :‬هل‬
‫َحك منهُ ‪،‬‬
‫َ‬ ‫مينعين من اهلرب ‪ ،‬وأهلك‪ .‬لم تزل به زوجته تراجعهُ ‪ ،‬وتقوي عزمه إىل أن عرف نصري الدين حاله ‪،‬‬
‫وقال له‪ :‬خذ هذه الصرة ـ الداننري ـ وامحلها إليه ‪ ،‬هي اليت أراد‪ .‬قال‪ :‬هللاُ هللاُ يف دمي ونفسي ‪ ،‬قال‪ :‬ال أبس عليك‬
‫يتصدق به ‪ ،‬لما رغ‬
‫َ‬ ‫أمعك شيء؟ قال‪ :‬نعم ‪ ،‬أمرهُ أن‬
‫‪ ،‬إنه ما أراد غري هذه الصرة ‪ ،‬حملها إليه حني راه قال‪َ :‬‬
‫الصهلرة؟ قال‪ :‬إنه يتصدق مبث هذا القدر ك‬
‫علمت‪ :‬أنه أراد ُّ‬
‫َ‬ ‫من الصدقة قصد نصري الدين ‪ ،‬وشكره ‪ ،‬وقال‪ :‬من أين‬
‫أن دابته عثرت به؛ حىت كاد يسقط إىل األرض‬ ‫إيل أيخذه من اللي ‪ ،‬ويف يومنا هذا مل أيخذه ‪ ،‬مث بلغين‪ :‬هل‬
‫يوم ‪ ،‬يرس هل‬
‫علمت‪ :‬أنهُ ذكر الصدقة(‪.)4‬‬
‫ُ‬ ‫إيل ‪،‬‬
‫أرسلك هل‬
‫َ‬ ‫‪،‬‬
‫اجتمع حوله العرب ‪ ،‬والرتك ‪ ،‬والرتكمان ‪ ،‬واألكر ُاد ‪ ،‬والبدو ‪ ،‬وكان جيتهد أن تَبط أمور هذه اجلموع حبكمة القائد‬
‫و َ‬
‫الرها ‪ ،‬وكادوا أيتون على ما يها ‪ ،‬كف أيديهم ‪ ،‬وحا ظ‬ ‫املاهر ‪ ،‬ويَبطهم يف أحرج األوقات ‪ ،‬عندما اقتحم جندهُ ُّ‬
‫على البلد؛ ألن ختريب مثله ال جيوز يف السياسة كما قال(‪ .)5‬وخاف خصومه قصد واليته لعلمهم‪ :‬أهنم ال ينالون منها‬
‫عرضاً(‪.)6‬‬
‫وبلغ من خوف الفرجنة منه‪ :‬أنه ر ع احلصار عن قلعة البرية لقت انئبه يف املوص ‪ ،‬سلهلمها أهلها إىل حسام الدين‬ ‫َ‬
‫(‪)7‬‬
‫متراتش خو اً من عودة الشهيد إليهم ‪ ،‬وكان خيشاه سضمطني السضمجقة ‪ ،‬وال يقدرون على قصد بضمده ‪ ،‬يقول ابن‬

‫(‪ )1‬اتريخ حلب ‪ ، 283‬احلروب الصليبية ص ‪.159‬‬


‫(‪ )2‬احلروب الصليبية واألسرة الزنكية نقضمً عن اتريخ حلب ص ‪.159‬‬
‫(‪ )3‬مفرج الكروب (‪.)105/1‬‬
‫(‪ )4‬مفرج الكروب (‪.)105/1‬‬
‫(‪ )5‬احلروب الصليبية واألسرة والزنكية ص ‪.159‬‬
‫(‪ )6‬الباهر ص ‪.25‬‬
‫(‪ )7‬كتاب الروضتني نقضمً عن احلروب الصليبية واألسرة الزنكية ص ‪.160‬‬

‫‪37‬‬
‫األثري‪« :‬أر َاد السلطان مسعود زنكي إاثرة األطراف عليه ‪ ،‬ومنع السلطان مسعود قصده ‪ ،‬حلصانة بضمده ‪ ،‬وكثرة عساكره‬
‫وأمواله»(‪ )1‬واخلليفة املسرتشد نفسه حاصر املوص لم ين منها شيئاً مدة ثضمثة شهور(‪.)2‬‬
‫‪ 3‬ـ ذو دهاء ومكر وحيلة‪ :‬كان ذا ٍ‬
‫دهاء ‪ ،‬ومك ٍر ‪ ،‬وحيلة ‪ ،‬وذكاء ان ذ يف جماهبة املشاك احلربية ‪ ،‬والسياسية ‪ ،‬وقد‬
‫ذلك من اجتياز كثري من الصعوابت ‪ ،‬وحتقيق مزيد من االنتصارات ‪ ،‬من مناوراته البارعة هل‬
‫ضد التحالف البيزنطي‬ ‫مكنهُ َ‬‫هل‬
‫الصلييب عام ‪ 532‬هـ أن أرس إىل قادته ‪ ،‬يقول‪ :‬إنكم قد حتصنتم هبذه اجلبال ‪ ،‬اخرجوا عنها إىل الصحراء حىت‬
‫نلتقي ‪ ،‬وتكون الغلبة ألحد الطر ني ‪ ،‬ظن الروم والصليبيون أن وراءه قوات ضخمة أاتحت لهُ أن يطرح حتديه ‪ ،‬تجنبوا‬
‫ذلك يراس إمرباطور الروم ‪ ،‬ويومههُ‪ :‬أن الصليبيني متفقون مع املسلمني‬ ‫اح بعد َ‬ ‫لقاءهُ وهو ما كان زنكي يرجوه ‪ ،‬مث ر َ‬
‫بذلك أن يبذر بذور االنشقاق يف اجلبهة املسيحية مما اضطر قواهتا إىل االنسحاب(‪ )3‬هذا‬ ‫سراً وابلعكس ‪ ،‬واستطاع َ‬
‫الرها وهو أكرب نصر حققه يف حياته ‪ ،‬معتمداً على احليلة واملكر؛ إذ اجته إىل امد مومهاً الصليبيني‪ :‬أنه‬ ‫إىل أنه تح ُّ‬
‫انقض األخريُ‬
‫الرها عن حاضرته مطمئناً إىل اهنماك زنكي مبشاكله يف داير بكر حىت هل‬ ‫يسعى حلصارها ‪ ،‬وما إن رح أمري ُّ‬
‫عليها ‪ ،‬ومتكن من اجتياحها(‪.)4‬‬
‫‪ 4‬ـ ذكاؤه‪ :‬من ذكائه‪ :‬أنه مل يظهر أنه مستق عن السضمطني السضمجقة ‪ ،‬ب أظهر‪ :‬أنه حيكم أبمرهم ‪ ،‬قد كان معهُ‬
‫ولدان من أوالد السلطان حممود بن حممد السلجوقي‪ ،‬ومها‪ :‬ألب أرسضمن ‪ ،‬و رخ شاه ويعرف ابخلفاجي‪ ،‬وكان يظهر‪:‬‬
‫هل‬
‫أن احلكم له يف بضمده ‪ ،‬وأنه انئب عنه ‪ ،‬وكان إذا أرس َ رسوالً أو أجاب عن رسالة يقول‪ :‬قال امللك كذا وكذا ‪ ،‬وكان‬
‫ينتظر موت السلطان مسعود ‪ ،‬ليجمع العساكر ابسم ألب أرسضمن ‪ ،‬وخيرج األموال ‪ ،‬ويطلب السلطنة ‪ ،‬عاجلته املنية‬
‫قب ذلك(‪ ، )5‬وكان ابنه سيف الدين غازي عند السلطان مسعود ليثق بطاعته(‪ )6‬وكان يثري األطراف على السلطان‬
‫مسعود حىت حيتاجه وجيمعهم عليه مرة اثنية ليشتغ هبم عنه(‪.)7‬‬
‫‪ 5‬ـ يقظته وحذره‪ :‬كان عماد الدين زنكي شجاعاً غري هيهلاب ‪ ،‬إال أنه كان حذراً حيتاط لألمور ‪ ،‬قد كان شديد‬
‫ذلك املال‬
‫العناية أبخبار األطراف ‪ ،‬وما جيري ألصحاهبا حىت يف خلواهتم ‪ ،‬وال سيما بضمط السلطان ‪ ،‬وكان يد ع يف َ‬
‫اجلزي ‪ ،‬كان يطالع ويكتب إليه بك ما يفعله السلطان يف ليله وهناره من حرب وسلم وهزل وجد ‪ ،‬كان يص ُ إليه‬
‫ك يوم من عيونه عدة كتب ‪ ،‬وكان مع اشتغاله ابألمور الكبار من أمور الدولة ال يهم االطضمع على الصغرية ‪ ،‬وكان‬
‫يقول‪ :‬إذا مل يعرف الصغري ليمنع؛ صار كبرياً ‪ ،‬وكان ال ميكن أي ملك أن يعرب بضمده بغري إذنه ‪ ،‬وإذا استأذنه رسول‬
‫يف العبور؛ أذن له ‪ ،‬وأرس إليه من يسريه ‪ ،‬وال يرتكه جيتمع ٍ‬
‫أبحد من الرعية ‪ ،‬وال غريهم ‪ ،‬كان الرسول يدخ ُ بضمده‬ ‫ُ ُ‬ ‫ُ‬
‫يعلم من أحواهلا شيئاً‪.‬‬
‫‪ ،‬وخيرج منها ‪ ،‬وال ُ‬

‫(‪ )1‬الباهر والكام يف التاريخ نقضمً عن احلروب الصليبية ص ‪.160‬‬


‫(‪ )2‬مفرج الكروب نقضمً عن احلروب الصليبية ص ‪.160‬‬
‫(‪ )3‬الباهر ص ‪ 55‬ـ ‪ 56‬نقضمً عن احلروب الصليبية ص ‪.160‬‬
‫(‪ )4‬الباهر ‪ 67‬ـ ‪.68‬‬
‫(‪ )5‬أخبار الروضتني نقضمً عن احلروب الصليبية ص ‪.168‬‬
‫(‪ )6‬الكام يف التاريخ نقضمً عن احلروب الصليبية واألسرة الزنكية ص ‪.168‬‬
‫(‪ )7‬مفرج الكروب نقضمً عن احلروب الصليبية ص ‪.168‬‬

‫‪38‬‬
‫أودع بعَها بسنجار ‪ ،‬وبعَها ابملوص ‪ ،‬وبعَها حبلب ‪ ،‬وقال‪ :‬إن‬ ‫اجتمع له األموال الكثرية؛ َ‬
‫َ‬ ‫ومن آرائه‪ :‬أنه ملا‬
‫استعنت على سد اخلرق ابملال يف غريه(‪ ، )1‬وكان الرج طوي‬
‫ُ‬ ‫علي بعض هذه اجلهات تق ‪ ،‬أو حي بيين وبينهُ؛‬ ‫جرى هل‬
‫عما ينويه إال بعد أن يتخذ األهبة الكاملة ‪ ،‬وكان يفرض أسوأ االحتماالت ‪ ،‬ويُع ُّد نفسه هلا ‪،‬‬ ‫يعلن هل‬
‫الفكر كتوماً ال ُ‬
‫لما سار من بغداد قاصداً املوص ؛ أخذ البوازيج ‪ ،‬وهي قرية قرب تكريت(‪)2‬؛ ليملكها ‪ ،‬ويتقوى هبا ‪ ،‬وجيعلها يف‬
‫ظهره إن منعهُ جاويل عن البضمد(‪ ، )3‬ومن حذره تردده يف دخول دمشق بعد أن وعده مجاعة من أهلها بفتح أبواهبا له‬
‫خو اً من أن يتفرق جيشهُ ‪ ،‬ولَيق املسالك وإلمكان مهامجتهم من ظهور البيوت(‪ ،)4‬وملا وص الروم الفرنج إىل الشام؛‬
‫انزلوا حلب ‪ ،‬ومل يرد عماد الدين أن خياطر ابملسلمني ويلقاهم؛ ألهنم كانوا يف مجع عظيم ‪ ،‬احناز عنهم ونزل قريباً منهم‬
‫مينع عنهم املرية(‪.)5‬‬
‫‪ 6‬ـ قدرته على اختيار األكفاء من الرجال‪ :‬وكان خيتار الرجال األكفاء ‪ ،‬الذين أخلصوا له ‪ ،‬وكانوا دعائم دولته ‪ ،‬ودولة‬
‫أبنائه من بعده ‪ ،‬قد كانت له مههلةٌ عالية ‪ ،‬ورغبة يف الرجال ذوي الرأي والعق ‪ ،‬ويرغبهم وخيطبهم ‪ ،‬ويو ر لـهم العطاء‪.‬‬
‫إن هذا كمال الدين ‪ ،‬وحيص له يف ك سنة ما يزيد على عشرة‬ ‫وقـال ابن األثري‪« :‬حكى يل والدي‪ :‬قي للشهيد‪ :‬هل‬
‫إن كمال الدين‬ ‫االف دينار أمريية ‪ ،‬وغريه يقنع منه خبمسمئة دينار‪ .‬قال هلم‪ :‬هبذا العق ‪ ،‬والرأي تدبرون دوليت؟! هل‬
‫يق له هذا القدر ‪ ،‬وغريه يكثر له مخسمئة دينار ‪ ،‬إن شغضمً واحداً يقوم به كمال الدين خري من مئة ألف دينار ‪،‬‬
‫وكان كما قال ـ رمحه هللا ـ»(‪.)6‬‬
‫وكان يتعهد أصحابه ‪ ،‬وميتحنهم ‪ ،‬قد أعطى يوماً ُخش ُكنانكه(‪ )7‬إىل طشت دار له وقال‪ :‬احفظ هذه‪ .‬بقي حنو سنة‬
‫ال يفارقه خو اً أن يطلبها منه ‪ ،‬لما كان بعد سنة سأله عنها ‪ ،‬أخرجها من مندي كان ال يفارقه خو اً من أن يطلب‬
‫منه ‪ ،‬استحسن ذلك ‪ ،‬وجعله داراً لقلعة كواشي(‪ )8‬ـ وهي قلعة حصينة يف اجلبال الواقعة شرقي املوص (‪ ، )9‬وكان‬
‫خيطب الرجال ذوي اهلمم واآلراء الصائبة ‪ ،‬واألنفس األبية ويوسع يف األرزاق ‪ ،‬يسه عليهم ع اجلمي ‪ ،‬واصطناع‬
‫الرجال ‪ ،‬ومن أسباب تو يقه‪ :‬أنه كان نقاداً للرجال ‪ ،‬يعرف كيف خيتار األكفاء الصاحلني منهم ‪ ،‬ويوليهم ثقته(‪،)10‬‬
‫من هؤالء‪:‬‬
‫أ ـ هباء الدين الشهرزوري الذي يقول عنه ابن القضمنسي‪ :‬وكان صاحب عزمية ومهة ان ذة ويقظة اثبتة‪.‬‬

‫(‪ )1‬كتاب الروضتني نقضمً عن احلروب الصليبية واألسرة الزنكية ص ‪.167‬‬


‫(‪ )2‬احلروب الصليبية واألسرة الزنكية ص ‪.167‬‬
‫(‪ )3‬مفرج الكروب نقضمً عن احلروب الصليبية واألسرة الزنكية ص ‪.168‬‬
‫(‪ )4‬كتاب الروضتني نقضمً عن احلروب الصليبية ص ‪.168‬‬
‫(‪ )5‬احلروب الصليبية واألسرة الزنكية ص ‪.168‬‬
‫(‪ )6‬كتاب الروضتني (‪.)160 ، 159/1‬‬
‫(‪ )7‬معناها‪ :‬كعكه‪.‬‬
‫(‪ )8‬مفرج الكروب (‪.)103/1‬‬
‫(‪ )9‬احلروب الصليبية واألسرة الزنكية ص ‪.166‬‬
‫(‪ )10‬املصدر نفسه ص ‪.166‬‬

‫‪39‬‬
‫ب ـ ومنهم وزيره ضياء الدين أبو سعيد ابن الكفرتوثي ‪ ،‬وكان على ما حكي عنه‪ :‬حسن الطريقة مجي العق كرمي‬
‫النفس مرضي السياسة مشهوراً للنفاسة والرائسة‪.‬‬
‫ج ـ ومنهم نصري الدين جقر ‪ ،‬وقد كان لنصري الدين أخبار يف العدل واإلنصاف وجتنب اجلور واالعتساف ‪ ،‬أخباره‬
‫متداولة بني التجار واملسا رين ‪ ،‬ومتناقلة بني الواردين ‪ ،‬والصادرين من السفار ‪ ،‬وقد كان رأيه مجع األموال من غري‬
‫جهة حرام ‪ ،‬لكنه يتناوهلا أبلطف مقال ‪ ،‬وأحسن عال ‪ ،‬وأر ق توص واحتيال ‪ ،‬هذا حممود من والة األمور وقصد‬
‫سديد يف سياسة اجلمهور ‪ ،‬وهذه هي الغاية يف مرضي السياسة ‪ ،‬والنهاية يف قوانني الرايسة(‪.)1‬‬
‫‪ 7‬ـ تقديره للرجال‪ :‬ويظهر تقديره للرجال من تولية انئبه ابملوص ‪ ،‬بعد مقت نصري الدين اراتب يف من يقيمه يف‬
‫موضعه ‪ ،‬وخيلفه يف منصبه ‪ ،‬وقع اختياره على األمري علي كوجك ‪ ،‬لعلمه بشهامته ومَائه يف األمور وبسالته ‪ ،‬واله‬
‫مكانه ‪ ،‬وعهد إليه أن يقتفي ااثره يف االحتياط والتحفظ ‪ ،‬وتتبع أ عاله يف التحرز واليقظة ‪ ،‬وإن كان ال يغين غناءه وال‬
‫يَاهي كفاءته ومَاءه ‪ ،‬توجه حنوها ‪ ،‬وحص هبا وساس أمورها سياسة سكتت معها نفوس أهلها ‪ ،‬وبذل جهده‬
‫يف محاية املسالك وأمن السواب ‪ ،‬وقَاء حوائج ذوي احلاجات ‪ ،‬ونصرة املظلومني ‪ ،‬استقام األمر ‪ ،‬وحسنت بتدبريه‬
‫األحوال ‪ ،‬وحتققت بيقظته يف أعماله األمان(‪.)2‬‬
‫‪ 8‬ـ قلي التلون والتنق ‪ :‬وكان عماد الدين الزنكي رمحه هللا قلي التلون والتنق ‪ ،‬بطيء املل والتغري ‪ ،‬شديد العزم ‪ ،‬مل‬
‫التغري ‪ ،‬واألمراء ‪ ،‬واملقدهلمون الذين كانوا معه هلأوالً‬
‫يتغري على أحد من أصحابه ُم ْذ َملَك إىل أن قت إال بذنب يوجب ُّ‬‫هل‬
‫هم الذين بقوا أخرياً من َسل َم منهم من املوت ؛ لهذا كانوا ينصحونه ‪ ،‬ويبذلون نفوسهم له ‪ ،‬وكان اإلنسان إذا قدم‬
‫عسكره؛ مل يكن غريباً ‪ ،‬إن كان جندايً؛ اشتم عليه األجناد ‪ ،‬وأضا وه ‪ ،‬وإن كان صاحب ديوان؛ قصد أه الديوان‬
‫‪ ،‬وإن كان عاملاً؛ قصد القَاة بين الشهلهرزوري‪ ،‬يحسنون إليه‪ ،‬ويؤنسون غربته‪ ،‬يشعر وكأنه يف أهله‪ ،‬وسبب ذلك‬
‫مجيعه‪ :‬أنه كان خيطب الرجال ذوي اهلمم العليهلة واآلراء الصائبة واألنفس األبية ‪ ،‬ويوسع عليهم يف األرزاق ‪ ،‬يسه‬
‫عليهم ع اجلمي ‪ ،‬واصطناع املعروف(‪.)3‬‬
‫إليهن كان من الذنوب‬‫‪ 9‬ـ غريته‪ :‬اتصف عماد الدين زنكي ابلغرية الشديدة وال سيما على نساء األجناد ‪ ،‬إن التعرض هل‬
‫اليت ال يغفرها ‪ ،‬وكان يقول‪«:‬إن جندي ال يفارقوين يف أسفاري ‪ ،‬وقلهلما يقيمون عند أهليهم ‪ ،‬إن حنن مل مننع من‬
‫التعرض إىل ُحرمهم؛ هلكن وَ َسد َن(‪ ، »)4‬وكان قد أقام بقلعة اجلزيرة ُد ْزداراً امسه نور الدين حسن الرببطي ‪ ،‬وكان من‬
‫للحرم ‪ ،‬أمر حاجبه صضمح الدين‬ ‫خواصه وأقرب الناس إليه ‪ ،‬وكان غري مرضي السرية ‪ ،‬بلغه عنه‪ :‬أنه يتعرض ُ‬
‫الرببطي ‪ ،‬وقطع ذكره ‪ ،‬وقلع عينيه ‪ ،‬عقوبة لنظره هبما‬ ‫هل‬ ‫الياغسيساين أن يسري ُجمداً ‪ ،‬ويدخ اجلزيرة ‪ ،‬إذا دخلها أخذ‬
‫الصضمح ُجمداً ‪ ،‬لم يشعر الرببطي إال وقد وص إىل البلد ‪ ،‬خرج إىل لقائه ‪ ،‬أكرمه‬ ‫إىل احلَُرم ‪ ،‬مث يصلبه ‪ ،‬سار هل‬
‫الصضمح ‪ ،‬ودخ معه البلد ‪ ،‬وقال له‪:‬‬‫هل‬

‫(‪ )1‬ذي اتريخ دمشق ص ‪ 275‬احلروب الصليبية واألسرة الزنكية ص ‪.166‬‬


‫(‪ )2‬ذي اتريخ دمشق ص ‪.172‬‬
‫(‪ )3‬كتاب الروضتني يف أخبار الدولتني(‪.)163/1‬‬
‫(‪ )4‬الباهر ص ‪.84‬‬

‫‪40‬‬
‫ويوليك مجيع البضمد الشامية‬
‫َ‬ ‫املوىل أاتبك يُسلم عليك ‪ ،‬ويريد أن يُعل َي قدرك ‪ ،‬وير ع منزلتك ويسل َم إليك قلعة حلب ‪،‬‬
‫تجهز وحتدر مالك يف املاء إىل املوص ‪ ،‬وتسري إىل خدمته ‪ ،‬فرح ذلك املسكني لم‬ ‫لتكون هناك مث نصري الدين ‪ ،‬هل‬
‫الصضمح ‪،‬‬
‫يرتك له قليضمً وال كثرياً إال نقله إىل السفن ليحدرها إىل املوص يف د ْجلة ‪ ،‬حني رغ من مجيع ذلك أخذه هل‬
‫وأمَى يه ما أمر به ‪ ،‬وأخذ مجيع ماله ‪ ،‬لم يتجاسر بعده أحد على سلوك ٍ‬
‫شيء من أ عاله(‪.)1‬‬
‫‪ 10‬ـ عدله‪ :‬حرص عماد الدين زنكي على نشر العدل بني رعيته ‪ ،‬قد أوصى ُع هلماله أبه حران ‪ ،‬وهنى عن الكلف‬
‫والسخر والتثقي على الرعية ‪ ،‬هذا ما حكاه أه حران ‪ ،‬وأما ضمهلحو حلب إهنم يذكرون ضد ذلك؛ ألنه كان يلزم‬
‫الناس وجيمع الرجال للقتال واحلصار(‪ ، )2‬وكان من أحسن امللوك سرية وأكثرها حزماً وضبطاً لألمور ‪ ،‬وكانت رعيته يف‬
‫أم ٍن شام ‪ ،‬يعجز القوي من ظلم الَعيف‪.‬‬
‫ومما رواه أبو شامة‪ :‬أن الشهيد كان جبزيرة يف الشتاء ‪ ،‬دخ األمري عز الدين أبو بكر الدبيسي وهو من أكابر أمرائه‪،‬‬
‫ومن ذوي الرأي عنده ‪ ،‬ونزل بدار يهودي ‪ ،‬وأخرجه منها ‪ ،‬اشتكى اليهودي ‪ ،‬والشهيد راكب ‪ ،‬وجبانبه عز الدين‬
‫أبو بكر الدبيسي ‪ ،‬ليس وقه أحد ‪ ،‬لما مسع أاتبك اخلرب ‪ ،‬نظر إىل أيب بكر الدبيسي نظرة غَب ‪ ،‬ومل يكلمه كلمة‬
‫واحدة ‪ ،‬تأخر القهقرى ‪ ،‬ودخ البلد ‪ ،‬أخرج خيامه ‪ ،‬وأمر بنصبها خارج البلد ‪ ،‬ومل تكن األرض حتتم نصب‬
‫اخليام ‪ ،‬وضعوا عليها التنب ‪ ،‬وخرج إليها من ساعته(‪.)3‬‬
‫وكان ينهى أصحابه عن اقتناء األراضي ‪ ،‬واالكتفاء ابإلقطاعات؛ ألن األمضمك مىت صارت ألصحاب السلطان ‪ ،‬ظلموا‬
‫الرعية ‪ ،‬وتعدوا عليهم ‪ ،‬وغصبوهم أمضمكهم ‪ ،‬وحلسن سريته قصده الناس يتخذون بضمده داراً لإلقامة(‪ .)4‬ومن عدله‪:‬‬
‫املعرة وأخذها من الفرنج جاءه الناس يطلبون أمضمكهم ‪ ،‬وكان عماد الدين حنفي املذهب ومن َمذهب أيب‬ ‫أنه ملا تح هل‬
‫حنيفة ـ أن الكفار إذا استولوا على بلد؛ و يه أمضمك املسلمني خرجت تلك األموال عن أصحاهبا لصريورة البلد دار‬
‫حرب ‪ ،‬إذا عاد البلد بعد ذلك إىل املسلمني كانت تلك األمضمك لبيت املال ـ وملا طلب الناس منه أمضمكهم استفىت‬
‫حظ ألصحاهبا يها ‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫عماد الدين الفقهاء ‪ ،‬أ توه مبا يقتَيه مذهبهم ‪ ،‬وهو أن األمضمك لبيت املال ‪ ،‬وال هل‬
‫أي رق بيننا وبني الفرنج؟! ك ُّ من أتى بكتاب‬ ‫«رمحه هللا‪ :‬إذا كان الفرنج أيخذون أمضمكهم ‪ ،‬وحنن أنخذ أمضمكهم؛ ُّ‬
‫يتعرض لشيء منها»(‪.)5‬‬ ‫يدل على أنه مالك ألرض؛ ليأخذها‪ .‬رد إىل الناس مجيع أمضمكهم ‪ ،‬ومل هل‬
‫‪ 11‬ـ عبادته‪ :‬كان عماد الدين زنكي يشعر مبسؤوليته كمسلم سواء يف سياسته وعضمقاته العامة أم يف سلوكه الشخصي‬
‫قد كرس حياته وطاقاته يف سبي (اجلهاد) ضد الصليبيني ‪ ،‬واجلهاد من أ َ أركان العبادة(‪ ، )6‬واعترب نفسه قائد‬
‫املسلمني األول يف الوقوف بوجه اخلطر الصلييب معتقداً أن مركزه ـ كأقوى أمري يف املنطقة ـ حيتم عليه ذلك ‪ ،‬ولع هل موقفه‬
‫من التحالف البيزنطي الصلييب ضد املسلمني ‪532‬هـ يوضح طبيعة نظرته يف هذا اجملال‪.‬‬

‫(‪ )1‬كتاب الروضتني يف أخبار الدولتني(‪.)161/1‬‬


‫(‪ )2‬زبدة حلب ص ‪ 284‬احلروب الصليبية واألسرة الزنكية ص ‪.162‬‬
‫(‪ )3‬كتاب الروضتني يف أخبار الدولتني(‪.)157/1‬‬
‫(‪ )4‬املصدر نفسه(‪.)158/1‬‬
‫(‪ )5‬مفرج الكروب(‪.)75/1‬‬
‫(‪ )6‬اتريخ دولة سلجوق ص ‪ 186‬عماد الدين زنكي ص ‪.186‬‬

‫‪41‬‬
‫عندما قرر االستنجاد ابلسلطان السلجوقي ‪ ،‬واعرتض قاضيه أبن ذلك رمبا أدى إىل متهيد الطريق أمام سيطرة السضمجقة‬
‫رد قائضمً‪ « :‬إن هذا العدو قد طمع يف البضمد ‪ ،‬وإن أخذ حلب مل يبق ابلشام إسضمم ‪ ،‬وعلى ك حال‬ ‫على بضمده؛ هل‬
‫املسلمون أوىل هبا من الكفار»(‪.)1‬‬
‫وكان كلما قرر التوجه لقتال الصليبيني استثار يف املسلمني تعشقهم للجهاد في عام ‪524‬هـ على سبي املثال ـ اجته‬
‫إىل الشام وصمم العزم على اجلهاد‪ ...‬وإعضمء كلمة هللا(‪ .)2‬ويف عام ‪532‬هـ سار إىل بعرين اخلاضعة للصليبيني ‪ ،‬ومجع‬
‫(‪)3‬‬
‫الرها عام ‪539‬هـ تبعته العساكر‪ ...‬عازمني على أن يؤدوا ريَة‬‫عساكره وحثهم على اجلهاد ‪ ،‬وعندما عزم على تح ُّ‬
‫للرها استبشاراً عاماً لدى املسلمني يف ك مكان‪ :‬امتألت به احملا يف اآل اق(‪ ، )5‬واعتربوه‬ ‫(‪)4‬‬
‫اجلهاد ‪.‬وقد القى تحه ُّ‬
‫نصراً حامساً لإلسضمم ضد الصليبية(‪ ، )6‬ومن مث إن مفهوم اجلهاد خلع على عماد الدين زنكي صفة إسضممية يف نظر‬
‫املسلمني إىل احلد الذي د ع العماد األصفهاين إىل القول‪« :‬أبنه كان قطباً يدور عليه لك اإلسضمم»(‪ ، )7‬كما ذكر‬
‫رنسيمان أن زنكي اعترب نفسه «حامي اإلسضمم» ضد الصليبيني(‪ ، )8‬وتتَح نزعة زنكي الدينية يف سياسته الداخلية‬
‫احلس الديين لدى هذا األمري‬
‫مدى بلغ هل‬‫ويف سلوكه الشخصي كذلك ‪ ،‬وهناك العديد من األمثلة اليت تبني إىل أي ً‬
‫املسؤول ‪ ،‬عندما قام عام ‪ 534‬هـ على سبي املثال ـ بتولية هبة هللا بن أيب جرادة قَاء حلب قال له‪ :‬هذا األمر قد‬
‫نزعته من عنقي وقلدتك هلإايه ‪ ،‬ينبغي أن تتقي هللا(‪ .)9‬وكان يتصدق ك مجعة مبئة دينار جهراً ‪ ،‬ويتصدق مبا عداها‬
‫سراً(‪ .)10‬كما كان يستفيت الفقهاء والقَاة قب إقدامه على كثري من األعمال(‪ ،)11‬وقد أقام احلدود الشرعية‬
‫من األايم هل‬
‫يف أحناء بضمده(‪.)12‬‬
‫* شبهات حول شخصية عماد الدين‪ :‬هل‬
‫إن عدداً من املؤرخني أيخذون على زنكي جلوءه إىل الغدر والظلم إزاء أعدائه‬
‫يف بعض األحيان ‪ ،‬يصفه األصفهاين أبنه كان يبلغ يف ذلك هل‬
‫حد الظلم(‪ )13‬ويصفه الذهيب ابلظلم ‪ ،‬والزعارة(‪، )14‬‬
‫ويذكر أسامه بن منقذ كيف كان زنكي أحياانً يسكت عن األساليب القاسية اليت اتبعها أحياانً بعض كبار موظفيه‬

‫(‪ )1‬الباهر ص ‪ 62‬عماد الدين زنكي ص ‪.175‬‬


‫(‪ )2‬الباهر ص ‪ 39‬عماد الدين زنكي ص ‪.175‬‬
‫(‪ )3‬الباهر ص ‪ 39‬عماد الدين زنكي ص ‪.176‬‬
‫(‪ )4‬ذي اتريخ دمشق ص ‪ 279‬عماد الدين ص ‪.176‬‬
‫(‪ )5‬عماد الدين زنكي ص ‪.176‬‬
‫(‪ )6‬املصدر نفسه ص ‪ .176‬الباهر ص ‪ 69‬ـ ‪.70‬‬
‫(‪ )7‬اتريخ دولة ال سلجوق ص ‪.185‬‬
‫(‪ )8‬عماد الدين زنكي ص ‪.176‬‬
‫(‪ )9‬زبدة حلب (‪ 274/2‬ـ ‪.)275‬‬
‫(‪ )10‬الباهر ص ‪ 81‬عماد الدين زنكي ص ‪.176‬‬
‫(‪ )11‬مفرج الكروب نقضمً عن عماد الدين زنكي ص ‪.176‬‬
‫(‪ )12‬زبدة حلب (‪ )284/2‬عماد الدين زنكي ص ‪.176‬‬
‫(‪ )13‬اتريخ ال سلجوق ص ‪.186‬‬
‫(‪ )14‬العرب يف خرب من غري (‪.)112/4‬‬

‫‪42‬‬
‫أمثال الياغسياين حاجبه(‪ ، )1‬ونصري الدين جقر انئبه يف املوص (‪ ،)2‬وحيم ابن واص عليه لدى استعراضه أحداث‬
‫اهلجوم على محاة عام ‪524‬هـ ‪.‬‬
‫قائضمً‪ :‬وارتكب أمراً قبيحاً أنكره الناس عليه ‪ ،‬وال شيء أقبح من الغدر‪ .‬وملا عزم على تلك الفعلة الشنعاء؛ استفىت‬
‫هل‬
‫وجوز له ما ال حي ُّ ‪ ،‬وال حيسن شرعاً ‪ ،‬وعر اً(‪.)3‬‬
‫الفقهاء يف ذلك ‪ ،‬أ تاه من ال دين له ‪ ،‬هل‬
‫وقد انق ش الدكتور عماد الدين خلي تلك التهم ‪ ،‬وقال‪.. :‬ولع ما يربر لزنكي موقفه هذا إزاء أمراء الشام حماولته‬
‫اجلادة لكسب الوقت ‪ ،‬وتوحيد العدد األكرب من املدن ذات احلكم الذايت هناك من أج اإلسراع بتشكي اجلبهة‬
‫اإلسضممية املوحدة للوقوف بوجه اخلطر الصلييب ‪ ،‬بعد أن أدرك عدم إمكان حتقيق نصر حاسم ضدهلهم يف حالة متزق‬
‫بضمد الشام إىل إمارات عديدة متطاحنة ‪ ،‬كان ال بد من اخلدعة سيهلما و هلأهنا يف حالة كهذه تو ر على املسلمني كثرياً‬
‫من اجلهود والدماء ‪ ،‬لذا جند زنكي يستفيت الفقهاء قب أن يقدم على علته هذه ‪ ،‬وشبيه هبذا‪ :‬احليلة الطريفة اليت‬
‫مكنته عام ‪529‬هـ من االستيضمء على الرقهلة ‪ ،‬دون سفك قطرة من الدم واحدة(‪.)4‬‬ ‫هل‬
‫ضد األمراء الذين سبَوا وحدة األمة ‪ ،‬ومصاحلها احليوية إالهل خداعهم والكيد هلم ‪ ،‬هلأما إعدامه بعض أمراء‬
‫وه احلرب هل‬
‫بعلبك إثر استيضمئه عليها بعد قتال عنيف عام ‪534‬هـ قد جاء نتيجة نقَهم بعض الشروط اليت متهل االتفاق عليها‬
‫قبي مغادرهتم القلعة(‪ )5‬ولع هل هذه احلادثة هي أبرز ما د ع املؤرخني إىل وصف زنكي ابلقسوة ‪ ،‬والغدر‪ .‬وقد أشار ابن‬
‫األثريـ يف الكام ـ إىل ذلك بقوله‪ :‬واستقبح الناس ذلك من عله ‪ ،‬واستعظموه ‪ ،‬وخا ه غريهم(‪ .)6‬ولكن زنكي سرعان‬
‫ما سعى إىل التعويض عن خطئه هذا ‪ ،‬وذلك إبصدار العفو عن العدد األكرب من احملكوم عليهم ابإلعدام ‪ ،‬وتولية‬
‫بعلبك لنجم الدين أيوب ‪ ،‬وهو الذي بذل جهوداً مشكورة يف التوسط هلؤالء األمراء والد اع عنهم(‪.)7‬‬
‫ويف حصار زنكي لقلعة جعرب ‪541‬هـ جرت مفاوضات بني الطر ني وا ق يها على تسلم مبلغ ثضمثني ألف دينار مقاب‬
‫رده من حيث جاء ‪ ،‬بعد أن وردته أنباء‬ ‫ك احلصار عن القلعة وما أن وصله الرسول حامضمً املبلغ املتفق عليه ‪ ،‬حىت هل‬
‫تشري إىل أن القلعة قد أوشكت على السقوط(‪ ، )8‬وهو موقف يربره متاماً حرصه على وحدة اجلبهة اإلسضممية إزاء‬
‫أاننيات األمراء الصغار وأطماعهم الذاتية(‪ .)9‬و هلأما ما أورده ابن العدمي من أن زنكي‬

‫(‪ )1‬االعتبار ص ‪ 157‬عماد الدين زنكي ص ‪.177‬‬


‫(‪ )2‬الكام يف التاريخ نقضمً عن عماد الدين زنكي ص ‪.177‬‬
‫(‪ )3‬مفرج الكروب (‪.)42/1‬‬
‫(‪ )4‬عماد الدين زنكي ص ‪.179‬‬
‫(‪ )5‬زبدة حلب (‪ )273/2‬عماد الدين زنكي ص ‪.179‬‬
‫(‪ )6‬الكام يف التاريخ نقضمً عن عماد الدين زنكي ص ‪.179‬‬
‫(‪ )7‬أخبار الروضتني نقضمً عن عماد الدين زنكي ص ‪.179‬‬
‫(‪ )8‬زبدة حلب (‪ 282/2‬ـ ‪.)283‬‬
‫(‪ )9‬عماد الدين زنكي ص ‪.179‬‬

‫‪43‬‬
‫كان يقول‪ :‬ما يتفق أن يكون أكثر من ظامل واحد ‪ ،‬قاصداً نفسه(‪ ، )1‬إنهله ال يعين سوى عزمه على اتباع نظام املركزية‬
‫يف اإلدارة ‪ ،‬وتركيز السلطة بيد املسؤول األعلى(‪.)2‬‬
‫* هواايته‪ :‬كان طبع زنكي جاداً ‪ ،‬وعمله املتواص من أج حتقيق أهدا ه السياسية ‪ ،‬والعسكرية يستنفذان الكثري من‬
‫التحرر من قيوم العم‬
‫وقته ‪ ،‬وال يتيحان له من الفراغ للراحة والتمتع إال القلي القلي ‪ ،‬ويف هذه الفرتات املتباعدة من ُّ‬
‫واملسؤولية كان زنكي يسعى للرت يه عن نفسه وممارسة هواايته املفَلة اليت كان الصيد والطراد أبرزها ‪ ،‬وأقرهبا إىل طبيعته‬
‫احلادة(‪.)3‬‬
‫وحيدثنا ابن منقذ عن اجلوالت اليت قام هبا مع أمري املوص وعن أنواع الصيد ووسائله وحيله ‪ ،‬ولنستمع إليه‪ :‬شاهدت‬
‫زنكي يوماً ‪ ،‬وكانت له اجلوارح الكثرية ‪ ،‬وحنن نسري على األهنار ‪ ،‬يتقدم البازدارية(‪ )4‬ابلبزاة ‪ ،‬ويطلقوهنا على طيور‬
‫املاء ‪ ،‬وتدق الطبول كجاري العادة ‪ ،‬تصيد ـ من طيور املاء ـ ما تصيد ‪ ،‬وختطىء ما ختطىء ‪ ،‬ووراءهم الشواهيق اجلبلية‬
‫على أيدي البازدارية ‪ ،‬إذا أخطأت البزاة؛ أرسلوا الشواهيق على الطيور‪ .‬ويستطرد ابن منقذ قائضمً‪ :‬وشاهدته يوماً وحنن‬
‫ذكر دراج(‪ ، )5‬أرسله عليه ‪ ،‬أخذه ونزل‪ .‬لما صار‬ ‫بظاهر املوص ‪ ....‬وبني يديه ابزدار وعلى يده ابشق ‪ ،‬طار ُ‬
‫يف األرض ـ متكن من اإل ضمت ـ لما ارتفع حلقه الباز وأخذه ونزل به وقد ثبهلته(‪.)6‬‬
‫يقص علينا وجوهاً أخرى من الصيد ‪ ،‬الذي كان أيلفه زنكي ويهواه‬
‫مث ميَي ابن منقذ ُّ‬
‫يقول‪ :‬ورأيت زنكي وهو يف صيد الوحش مراراً عديدة ‪ ،‬إذا ما نصبت احللقة واجتمعت الوحوش داخلها ـ مث حاولت‬
‫اخلروج ـ رموها وكان زنكي من أرمى الناس ‪ ،‬كان إذا دان منه الغزال؛ رماه نراه كأنهله قد عثر يقع ويذبح‪ .‬وشاهدته‬
‫وقد ضربوا اخليام ‪ ،‬وص الوحش إىل اخليام ‪ ،‬خرج الغلمان ابلعصي والعمد َربوا منها شيئاً كثرياً‪....‬وشاهدته يوماً؛‬
‫وحنن بسنجار؛ وقد جاءه ارس من أصحابه قال‪ :‬ها هنا ضبعة انئمة ‪ ،‬سار زنكي ‪ ،‬وحنن معه إىل و ٍاد هناك والَبعة‬
‫رتج ومشى حىت وقف مقابلها وضرهبا بنشابه ‪ ،‬وقعت أسف الوادي ‪ ،‬نزلوا وجاؤوا‬ ‫انئمة على صخرة يف سفحه ‪ ،‬هل‬
‫هبا بني يديه؛ وهي ميتة(‪.)7‬‬
‫وكان امللوك واألمراء إذا أرادوا التقرب إىل زنكي وكسب وده؛ قدموا له هدااي مما اصطادوه من طيوٍر ‪ ،‬وحيواانت ش هلىت‪،‬‬
‫وكان يرد عليهم ـ بدوره ـ هبدااي مما جنته يداه يف جوالت الصيد والطراد‪ :‬هوداً وبزاة وصقوراً(‪ .)8‬ومل يكن تعشُّق زنكي‬
‫لسباق اخلي ومهارات الفروسية أبق من تعشُّقه للصيد والطراد ‪ ،‬هذه هواية تصدر هي األخرى عن الطبع اجلاد والرغبة‬
‫جمد يف عصر كانت الفروسية يه شارته األوىل(‪ .)9‬ويف رتات أخرى من رتات الفراغ‬ ‫يف قَاء أوقات الفراغ مبا هو ٍ‬

‫(‪ )1‬زبدة حلب (‪ )284/2‬عماد الدين زنكي ص ‪.179‬‬


‫(‪ )2‬عماد الدين زنكي ص ‪.180‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.180‬‬
‫(‪ )4‬االعتبار ص ‪ 192‬ـ ‪.193‬‬
‫(‪ )5‬الدراج‪ :‬طري من صيلة الدجاج‪.‬‬
‫(‪ )6‬االعتبار ص ‪ 192‬ـ ‪.193‬‬
‫(‪ )7‬االعتبار ص ‪ 192‬ـ ‪.193‬‬
‫(‪ )8‬زبدة حلب (‪.)263/2‬‬
‫(‪ )9‬عماد الدين زنكي ص ‪.181‬‬

‫‪44‬‬
‫املتباعدة كان زنكي يروح عن نفسه ابلقيام منفرداً برحضمت هادئة على هنر دجلة ‪ ،‬متخففاً من أعباء ومهام إمارة شاسعة‬
‫األطراف يرتبهلص هبا األعداء من ك جانب(‪.)1‬‬
‫رابعاً‪ :‬سياسته الداخلية‪:‬‬
‫صلناه يف كتابنا عن‬
‫اهتم عماد الدين زنكي بَبط إمارته ‪ ،‬وكانت النظم اليت سار عليها تعترب امتداداً طبيعياً ل َما هل‬
‫السضمجقة ‪ ،‬وحتول املوص من عهد والة السضمجقة (‪ 489‬ـ ‪521‬هـ) إىل عهد األاتبكة ـ مل يؤد إىل ظهور مؤسسات‬
‫ابملرة على املنطقة‪ .‬ب إن معظم هذه املؤسسات ظ هل موجوداً يف العهد اجلديد مع إجراء بعض التعديضمت‬ ‫إدارية جديدة هل‬
‫‪ ،‬واستحداث عدد قلي من املناصب اليت اقتَتها الظروف السياسية ‪ ،‬والعسكرية اجلديدة ‪ ،‬وأقام زنكي تنظيماته‬
‫اإلدارية ‪ ،‬على أكتاف جمموعة املوظفني منحهم نوعاً من االستقضمل الذايت يف ممارسة شؤوهنم اإلدارية ‪ ،‬ولكن حتت‬
‫إشرا ه التام ومراقبته الدقيقة ‪ ،‬وكان هؤالء املوظفون يعملون يف أربعة جماالت رئيسية ‪ ،‬هي‪:‬‬
‫حما ظة قلعة املوص وسائر قضمع اإلمارة‪ .‬وكانت تسمى يف كثري من األحيان‪ :‬النيابة ‪ ،‬ويدعى متوليها (النائب)‪.‬‬
‫والية املدن واألعمال‪.‬‬
‫الوزارة‪.‬‬
‫الدواوين‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ نيابة املوص أو حما ظة القلعة‪ :‬أنشأ زنكي هذا املنصب حال دخوله املوص يف رمَان عام ‪521‬هـ وقد أطلقت‬
‫املصادر عليه لقب النيابة أحياانً(‪، )2‬ودزدارية قضمع اإلمارة أحياانً أخرى(‪ .)3‬وملا كانت كلمة دزدار األعجمية تعين حا ظ‬
‫هل‬
‫القلعة من املمكن تسمية هذا املنصب ابحملا ظة ‪ ،‬وكان من مهام انئب املوص أن يدير شؤوهنا وبقية أجزاء اإلمارة‬
‫نيابة عن زنكي‪ ،‬وأن يكاتب السلطان السلجوقي‪ ،‬واخلليفة العباسي عن أحوال اإلمارة خضمل تغيب األمري(‪ ،)4‬ومن‬
‫مهامه مجع الَرائب وجباية األموال ‪ ،‬واإلشراف املستمر على إحكام حتصينات املوص وتعميق خنادقها ‪َ ،‬ضمً عن‬
‫األعمال العسكرية احملصنة كالد اع عن املدينة(‪ ،)5‬والقيام حبمضمت توسعية بناء على أوامر زنكي(‪.)6‬‬
‫وكان انئب زنكي ابملوص يشرف على إقامة احلدود ‪ ،‬وتعقب املفسدين ومثريي الفنت ‪ ،‬ومدمين اخلمر ‪ ،‬ومعاقبة ك ٍ‬
‫منهم حسب جرميته ‪َ ،‬ضمً عن مراقبة أبواب العاصمة والطواف يف أحياء التجارة واملال وغري ذلك من األعمال(‪.)7‬‬
‫أن السلطات اإلدارية الواسعة اليت كان انئب زنكي ميارسها كانت تتطلب جهازاً إدارايً واسعاً لتنفيذ‬ ‫ويف أغلب الظن‪ :‬هل‬
‫األوامر والقرارات(‪ ،)8‬ومن أشهر نواب زنكي يف املوص ‪:‬‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه‪.‬‬


‫(‪ )2‬ذي دمشق ص ‪ 263‬ـ ‪ ، 270‬عماد الدين زنكي ص ‪.234‬‬
‫(‪ )3‬الباهر ص ‪ ، 35‬الروضتني يف أخبار الدولتني (‪.)76/1‬‬
‫(‪ )4‬ذي اتريخ دمشق ص ‪ 263‬عماد الدين زنكي ص ‪.235‬‬
‫(‪ )5‬و يات األعيان (‪.)316 ، 315/1‬‬
‫(‪ )6‬الباهر ص ‪ 64‬عماد الدين زنكي ص ‪.235‬‬
‫(‪ )7‬عماد الدين زنكي ص ‪.237 ، 236 ، 235‬‬
‫(‪ )8‬املصدر نفسه ص ‪.238‬‬

‫‪45‬‬
‫أ ـ نصري الدين جقر بن يعقوب ‪ 521‬ـ ‪539‬هـ‪ :‬هو أبو سعيد جقر بن يعقوب اهلمذاين امللقب‪( :‬نصري الدين) وكان‬
‫جقر أعظم أصحاب زنكي منزلة ‪ ،‬وقد لعب دوراً هاماً يف توليته على املوص عام ‪521‬هـ (‪)1‬واتبع جقر سياسة إدارية‬
‫تَاربت املصادر يف حتديد مساهتا ‪ ،‬ب إن املصدر الواحد مل يستطع جتنب هذا التناقض ‪ ،‬ابن خلكان يصفه أبنه‬
‫عرف ابلعدل ‪ ،‬واإلنصا ف ‪ ،‬وجتنب اجلور والظلم ‪ ،‬مث يشري إىل أن الطابع العام لسياسته ‪ ،‬وما اشتهر عنه هو الظلم‬
‫(‪)2‬‬
‫لقي الناس منه من شدة اجلور والظلم‬‫وأنه كان‪ :‬جبهلاراً عسو اً سفاكاً للدماء مستحضمً لألموال ‪ .‬ويشري الفارقي إىل ما َ‬
‫والقت واملصادرات واألقساط(‪ )3‬وكان ظلم جقر ـ كما يشري ابن خلكان ـ أحد أسباب املؤامرة اليت دبرها أحد األمراء‬
‫ضده(‪.)4‬‬
‫وكان زنكي يقول عنه‪ :‬إنه خيا ين ‪ ،‬وما خياف هللا(‪ .)5‬ووضهلح عماد الدين خلي هذه التناقَات بقوله‪..:‬أبن جقر اتبع‬
‫سياسة شديدة قاسية ممتزجة أبسلوب من الر ق و اللباقة أضفى على سياسته مسات العدل ‪ ،‬ود ع بعض املؤرخني على‬
‫حد كبري بتجميع األموال حلسابه وحساب أهله وأقاربه‬‫أي من اجلانبني‪ .‬ويظهر أنه كان قد اهتم إىل ٍ‬‫عدم التأكيد على ٍ‬
‫حىت إن زنكي لدى عودته إىل املوص بعد مقت جقر ‪ ،‬استخرج ذخائره ‪ ،‬وصادر معظم ما ألولئك األقارب(‪.)6‬‬
‫إن أهم األعمال اليت أجنزها جق ر خضمل رتة نيابته هي إحكامه ألسوار املوص ‪ ،‬وحفره خلنادقها ‪ ،‬ود اعه عنها ضد‬ ‫هل‬
‫حصار اخلليفة املسرتشد العباسي عام ‪527‬هـ الذي اضطر أخرياً إىل االنسحاب بسبب صمود جقر(‪ )7‬لقيادة جيوش‬
‫زنكي لدى مهامجة حصون األكراد يف اجلهات اجلبلية مشايل املوص ‪ ،‬حيث متكن من االستيضمء على معظمها(‪، )8‬‬
‫كان يساعد جقر يف حكم املوص و ٍال يعينه هو(‪.)9‬‬
‫ب ـ زين الدين علي كجك بن بكتكني ‪ 539‬ـ ‪541‬هـ‪ :‬يعترب زين الدين علي كجك من أبرز رجال عماد الدين ‪،‬‬
‫وأحد قادته الكبار وقد اشرتك معه يف معظم حروبه يف بغداد والشام ومناطق األكراد ‪ ،‬وكـان زين الدين رجضمً صاحلاً ذا‬
‫أص تركماين ‪ ،‬لـقب بكجك أي‪( :‬القصري اللطيف) وكان معرو اً ابلقوة والشجاعة واإلقدام ‪ ،‬رؤو اً ابلفقراء مو ٍ‬
‫اس‬
‫للمرضى(‪ ، )10‬اشتهر ابحملا ظة على حسن العهد ‪ ،‬وأداء األمانة ‪ ،‬ومل ميارس غدراً قط(‪ ، )11‬وبلغ من تقواه أن قال عنه‬

‫(‪ )1‬الباهر ص ‪ 34‬ـ ‪.35‬‬


‫(‪ )2‬و يات األعيان (‪ 315/1‬ـ ‪.)316‬‬
‫(‪ )3‬عماد الدين زنكي ص ‪.239‬‬
‫(‪ )4‬و يات األعيان(‪.)316/1‬‬
‫(‪ )5‬االعتبار ص ‪.157‬‬
‫(‪ )6‬و يات األعيان(‪.)316/1‬‬
‫(‪ )7‬املصدر نفسه(‪ 315/1‬ـ ‪.)316‬‬
‫(‪ )8‬الباهر ص ‪ 64‬عماد الدين زنكي ص ‪.240‬‬
‫(‪ )9‬عماد الدين زنكي ص ‪.240‬‬
‫(‪ )10‬االعتبار ص ‪ 177‬ـ ‪.178‬‬
‫(‪ )11‬الباهر ص ‪.135‬‬

‫‪46‬‬
‫زنكي‪ :‬إنهله خياف هللا ‪ ،‬وال خيا ين(‪ ، )1‬وقد رأى عنه أه املوص ك هل خري(‪ ،)2‬واستقام له األمر ‪ ،‬وحسنت بتدبريه‬
‫األحوال(‪ ،)3‬وانتشر األمن يف املنطقة ‪ ،‬وازداد عمران البضمد(‪ ،)4‬وحتققت هبذا امال السكان(‪.)5‬‬
‫ت ـ انئب زنكي يف حلب‪ :‬أدرك زنكي أمهية حلب ابلنسبة ألعماله العسكرية والسياسية يف الشام ‪ ،‬اختذها قاعدة له‬
‫يف املنطقة ‪ ،‬واعتربها عاصمته اإلدارية هناك ‪ ،‬وأقام يها جهازاً إدارايً يشابه إىل ٍ‬
‫حد ما ذاك الذي أقامه يف املوص ‪،‬‬
‫وجع على رأس هذا اجلهاز انئبه يف حلب ليقوم يف منطقة الشام مبا يقوم به انئبه يف املوص يف اجلهات الشرقية من‬
‫إمارته(‪.)6‬‬
‫وقد جع عماد الدين زنكي انئبه يف حلب املسؤول األعلى عن اجلهاز اإلداري هناك ‪ ،‬وكان انئبه من كبار القادة‬
‫العسكريني ‪ ،‬وكان يطلق عليه أحياانً اسم «مقدم زنكي يف حلب» ومن أشهر نواب عماد زنكي يف حلب سوار بن‬
‫إبتكني قدم إىل حلب عام ‪ 524‬هـ األمري سوار امللقب مبسعود هارابً من دمشق إثر تدهور عضمقته أبمريها ‪ ،‬وتقدم‬
‫لعرض خدماته على زنكي‪ :‬أكرمه هذا وشر ه وخلع عليه ‪ ،‬وأجرى له اإلقطاعات الكثرية وأعطاه والية حلب وأعماهلا‬
‫‪ ،‬واعتمد عليه يف قتال الصليبيني ‪ ،‬وكان له بصرية ابحلرب وتدبري األمور(‪ ،)7‬وكانت أعماله العسكرية هي اليت أكسبته‬
‫شهرة واستنفذت معظم أوقاته وجهوده بسبب قربه من املواقع الصليبية ‪ ،‬وهكذا كان األمري سوار يقوم بشن هجمات‬
‫جبند من عنده يقودهم بنفسه إن‬‫ميد قوات زنكي ٍ‬ ‫سريعة خاطفة على قوات الصليبيني وقوا لهم وكان ـ أحياانً أخرى ُّ‬
‫دعت الَرورة ‪ ،‬كما كان يقوم ابلد اع عن مدينة حلب وأعماهلا ضد هجمات الصليبيني ‪ ،‬و َضمً عن اجلنود النظاميني‬
‫(‪)8‬‬
‫استمر سوار يف‬
‫الذين اعتمدهم كان ينَم إليه أحياانً كثرية تركمان املنطقة ‪ ،‬طمعاً يف الغنيمة ‪ ،‬أو حباً ابجلهاد‪ .‬وقد هل‬
‫منصبه حىت مقت زنكي عام ‪ 541‬هـ(‪.)9‬‬
‫ث ـ والة نواب زنكي على املدن والقضمع‪ :‬يتَح مما سبق‪ :‬أنه كان لزنكي انئبان مركزاين مها‪ :‬انئبه يف املوص الذي‬
‫يشرف على اجلهات الشرقية من اإلمارة ‪ ،‬وانئبه على حلب الذي يشرف على اجلهات الغربية «أي‪ :‬القسم الشامي»‪.‬‬
‫و َضمً عن هذين عني زنكي على املدن و األقاليم اليت تحها جمموعة من الوالة يطلق عليها اسم النواب أو العمال(‪.)10‬‬
‫‪ 2‬ـ الوزارة‪ :‬إن الوزارة يف عهد زنكي ليست سوى جزء من التطور العام هلذا املنصب طيلة عصور التاريخ اإلسضممي‬
‫تبلور منصب الوزير ُمنذ العصر العباسي األول ‪ ،‬وكان عمله يف البداية يقتصر على تنفيذ أوامر اخلليفة العباسي ؛ لذا‬
‫مسي هذا النوع من االستيزار بـ «وزارة التنفيذ» وبعد مرور رتة قصرية ظهر نوع اخر ‪ ،‬عندما وض اخلليفة وزيره إلدارة‬

‫(‪ )1‬االعتبار ص ‪ 157‬عماد الدين زنكي ص ‪.241‬‬


‫(‪ )2‬و يات األعيان(‪ )316/1‬عماد الدين زنكي ص ‪.242‬‬
‫(‪ )3‬ذي اتريخ دمشق ص ‪ 281‬ـ ‪.282‬‬
‫(‪ )4‬ذي اتريخ دمشق ص ‪ 281‬ـ ‪.282‬‬
‫(‪ )5‬الباهر ص ‪ 84‬عماد الدين زنكي ص ‪.242‬‬
‫(‪ )6‬زبدة حلب(‪ )245/2‬عماد الدين زنكي ص ‪.245‬‬
‫(‪ )7‬ذي اتريخ دمشق ص ‪ 240‬ـ ‪ 241‬عماد الدين زنكي ص ‪.246‬‬
‫(‪ )8‬عماد الدين زنكي ص ‪.246‬‬
‫(‪ )9‬املصدر نفسه ص ‪.246‬‬
‫(‪ )10‬املصدر نفسه ص ‪.246‬‬

‫‪47‬‬
‫شؤون مملكته؛ أطلق عليه‪« :‬وزارة التفويض»(‪ )1‬واستمر هذا املنصب يتأرجح بني التنفيذ والتفويض حسب مركز اخلليفة‬
‫‪ ،‬أو السلطان احلاكم(‪ )2‬ومن أشهر وزراء عماد الدين زنكي‪:‬‬
‫أ ـ الكفرتوثي ‪ 528‬ـ ‪536‬هـ‪ :‬جتمع املصادر على أن أول من استوزره زنكي هو‪ :‬ضياء الدين أبو سعد هبرام بن اخلَر‬
‫الكفرتوثي(‪ )3‬عام ‪528‬هـ ‪ ،‬ويتَح من هذا أن السنوات السبع األوىل من حكم زنكي مل يكن اختذ خضمهلا وزيراً ‪ ،‬ورمبهلا‬
‫كان انئبه يف املوص هذا الذي يقوم مبهام الوزير ‪ ،‬مما جع زنكي يستغين عن هذا املنصب طيلة تلك املدة ‪ ،‬وتذكر‬
‫املصادر ابلقول أبن الكفرتوثي كان مشهوراً ‪ ،‬حبسن الطريقة ‪ ،‬والكفاية ‪ ،‬وحب اخلري ‪ ،‬واملذهب احلميد(‪ ، )4‬وقد قدم‬
‫مع زنكي إىل حلب ‪ ،‬مما يشري إىل أنهله مل يكن مستقراً يف املوص بشك دائم(‪.)5‬‬
‫ب ـ أبو الرضا بن صدقة ‪ 536‬ـ ‪538‬هـ‪ :‬بقي الكفرتوثي يف منصبه كوزير طيلة اثين عشر عاماً ‪ ،‬وتويف يف شعبان عام‬
‫‪536‬هـ(‪ ، )6‬استوزر زنكي بعده جضمل الدين أاب الرضا حممد بن صدقة(‪ ، )7‬ولكنه مل يستمر يف منصبه طويضمً؛ حيث‬
‫عزل عام ‪538‬هـ ألسباب أوجبت ذلك ودعت إليه(‪.)8‬‬
‫أن زنكي ألقى القبض عام ‪531‬هـ على وزيره أيب احملاسن علي بن أيب‬ ‫ج ـ أبو احملاسن العجمي‪ :‬يذكر ابن القضمنسي‪ :‬هل‬
‫طالب العجمي ‪ ،‬واعتقله يف قلعة حلب ‪ ،‬حيث بقي هناك بسبب مصادرته لألموال ‪ ،‬وانكسار املعامضمت اليت عجز‬
‫عن القيام هبا ‪ ،‬وأتدية ما عليه من التزامات مالية(‪ ، )9‬ومل تقدم املصادر عن ترمجة العجمي شيئاً يستحق الذكر(‪.)10‬‬
‫س ـ مجال الدين األصفهاين‪ :‬أطنبت املصادر يف وصف أخضمق مجال الدين ‪ ،‬مركزة األضواء على كرمه العجيب ‪ ،‬تلك‬
‫األخضمق اليت قربته من زنكي ‪ ،‬وجعلته حمبوابً ومشتهراً يف أحناء واسعة من العامل اإلسضممي ‪ ،‬ومنحته لقب اجلود لكثرة‬
‫جوده ‪ ،‬كما د عت أبناء زنكي ـ يما بعد ـ إىل االعتماد عليه يف إدارة إمارهتم(‪.)11‬‬
‫وقد أطلقت بعض املصادر عن مجال الدين األصبهاين‪ :‬وزير صاحب املوص (‪ ، )12‬وذكرت بعض املصادر‪ :‬أن زنكي‬
‫وحكمه حتكيماً ال مزيد عليه(‪ .)13‬ويقول ابن األثري‪ :‬قال والدي‪ :‬كنت أرى‬ ‫جع مجال الدين مشرف مملكته كلها ‪ ،‬هل‬
‫من مجال الدين الوزير يف أايم زنكي من الكفاية والنظر يف صغري األمور وكبريها واحملا ظة ـ أي التحقيق ـ يها ‪ ،‬ما يدل‬
‫عول على مجال الدين يف الفرتة األخرية من حكمه يف اإلشراف‬ ‫أن زنكي هل‬‫على متكنه من الكفاية ‪ ،‬وتشري املصادر إىل هل‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص ‪.256‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص ‪.256‬‬
‫(‪ )3‬ذي اتريخ دمشق ص ‪ 243‬و يات األعيان(‪.)228/4‬‬
‫(‪ )4‬زبدة حلب(‪ )254/2‬عماد الدين زنكي ص ‪.262‬‬
‫(‪ )5‬عماد الدين زنكي ص ‪.262‬‬
‫(‪ )6‬ذي اتريخ دمشق ص ‪ ، 275‬عماد الدين زنكي ص ‪.262‬‬
‫(‪ )7‬عماد الدين زنكي ص ‪.262‬‬
‫(‪ )8‬ذي اتريخ دمشق ص ‪ ، 277‬عماد الدين زنكي ص ‪.263‬‬
‫(‪ )9‬ذي اتريخ دمشق ص ‪.263‬‬
‫(‪ )10‬عماد الدين زنكي ص ‪.264‬‬
‫(‪ )11‬ذي اتريخ دمشق ص ‪ 356‬عماد الدين زنكي ص ‪.265‬‬
‫(‪ )12‬الباهر ص ‪ 118‬ـ ‪ 119‬عماد الدين زنكي ص ‪.259‬‬
‫(‪ )13‬الباهر ص ‪ 118‬ـ ‪ 119‬و يات األعيان(‪.)228/4‬‬

‫‪48‬‬
‫ومكنه يف منصبه(‪ ، )2‬ومل حياول مجال الدين أن يستغ منصبه جلمع املال حلسابه اخلاص ‪،‬‬ ‫على ديوانه ‪ ،‬وزاد راتبه(‪ ، )1‬هل‬
‫ب كان أيخذ ما يكفي ملعيشته وير ع مجيع ما حيص له إىل خزانة زنكي(‪ ، )3‬مما زاد من اعتماد األخري عليه وثقته به‬
‫‪ ،‬مكنه من أصحاب(‪ )4‬ديوانه وهكذا كان مجال الدين يتمتع بسلطان عملية واسعة ‪ ،‬وخاصة يف مسائ اإلشراف‬
‫على الديوان واملسائ املالية ‪ ،‬قد شغ مجال الدين منصباً خطرياً ‪ ،‬وقد أطلقت معظم املصادر على مجال الدين لقب‬
‫«وزير»(‪.)5‬‬
‫ش ـ الوزير مروان بن علي بن سضممة‪ :‬كان وزير عماد الدين زنكي يف املوص مروان بن علي بن سضممة الطرتي نسبة‬
‫إىل «طرتة» من داير بكر ‪ ،‬وكان مروان هذا قد ورد بغداد ‪ ،‬وتفقهله على يد الغزايل ‪ ،‬والشاشي ‪ ،‬مث عاد إىل بلده ليدبر‬
‫حىت و اته عام ‪540‬هـ (‪. )6‬‬‫أمور الوزارة هل‬
‫‪ 3‬ـ املوظفون ونظام التوظيف‪ :‬اهتم عماد الدين زنكي أبمر الوظائف واملوظفني اهتماماً كبرياً كي يستطيع أن يسري أمور‬
‫دولته بشك منظهلم ‪ ،‬وكي جينب جهازه اإلداري اهلزات اليت كثرياً ما تعرق سري األمور ‪ ،‬وقد طبهلق زنكي مبادأى إدارية‪،‬‬
‫منها‪:‬‬
‫أ ـ مبدأ تكا ؤ الفرص يف اجملال اإلداري‪ :‬كي يتحقق هد ه انف الذكر ‪ ،‬ويَع يديه على املوظفني األكفاء كان‪:‬‬
‫يتعهد أصحابه‪ ،‬وميتحنهم ضم ير ع أحداً وق قدره الذي يستحقه‪ ،‬وال يَعه دونه(‪ ،)7‬كما كان جيع كفاءة الشخص‬
‫أساساً لتقدير راتبه‪.‬‬
‫ب ـ الثقة على قدر املعر ة‪ :‬كان يويل موظفيه على قدر ما يعلم منهم كي يشعرهم ابألمن واالستقرار ‪ ،‬وهو أمر ضروري‬
‫لتقدمي خدماهتم اإلدارية على أحسن وجه‪.‬‬
‫ج ـ مبدأ كفاءة الشخص‪ :‬قد جع من كفاءة الشخص أساساً لتقدير راتبه(‪.)8‬‬
‫يتغري على أحد من أصحابه‬ ‫التغري ‪ ،‬شديد العزم ‪ ،‬مل هل‬‫س ـ ثقته يف موظفيه‪ :‬كان‪ :‬قلي التلون والتنق ‪ ،‬بطيء املل و ُّ‬
‫ُم ْذ ملك إىل أن قت إالهل بذنب يوجب ُّ‬
‫التغري ‪ ،‬واألمراء واملقدمون الذين كانوا معه هلأوالً هم الذين بقوا معه أخرياً ‪ ،‬لهذا‬
‫كانوا ينصحونه ‪ ،‬ويبذلون نفوسهم له(‪ ، )9‬وهذا هو الذي دعا مجال الدين الوزير إىل وصف زنكي أبنهله كان متمكناً ‪،‬‬
‫قوي العزم ‪ ،‬ال يتجاسر أحد على االعرتاض عليه ‪ ،‬وال يتلون أبقوال أصحابه ‪ ،‬ممهلا د ع أصحابه إىل حفظه(‪.)10‬‬

‫(‪ )1‬عماد الدين زنكي ص ‪.260‬‬


‫(‪ )2‬اتريخ ال سلجوق ص ‪ 192‬ـ ‪ 193‬عماد الدين زنكي ص ‪.260‬‬
‫(‪ )3‬عماد الدين زنكي ص ‪.260‬‬
‫(‪ )4‬املصدر نفسه ص ‪.260‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه ص ‪.260‬‬
‫(‪ )6‬طبقات الشا عية(‪ )295/7‬هكذا ظهر جي صضمح الدين ص ‪.255‬‬
‫(‪ )7‬الباهر ص ‪ 79‬عماد الدين زنكي ص ‪.266‬‬
‫(‪ )8‬الباهر ص ‪ 63‬عماد الدين زنكي ص ‪.266‬‬
‫(‪ )9‬عماد الدين زنكي ص ‪.266‬‬
‫(‪ )10‬الباهر ص ‪ 82‬ـ ‪ 83‬عماد الدين زنكي ص ‪.266‬‬

‫‪49‬‬
‫ش ـ انتقاء املوظفني‪ :‬كان زنكي ينتقي موظهلفيه من الرجال ذوي اهلمم العالية ‪ ،‬واآلراء الصائبة ‪ ،‬واألنفس األبيهلة(‪ )1‬إذا‬
‫ما أضيف إىل ذلك توسيعه يف رواتب موظفيه(‪)2‬؛ أدركنا مدى إخضمص هؤالء له ‪ ،‬ولعملهم ‪ ،‬ومدى سري األمور اإلدارية‬
‫يف واليته سرياً طبيعياً‪ .‬وخري َمثَ على ذلك‪ :‬موظفه الكبري مجال الدين األصفهاين الذي أظهر يف هلأايمه من الكفاية‬
‫لما وزر مجال الدين نفسه لقطب‬ ‫والنظر يف صغري األمور وكبريها ‪ ،‬والتحقيق يها ما يدل على متكنه من الكفاية ‪ ،‬هل‬
‫الدين مودود بن زنكي؛ قلهلت كفايته وصار يهم بعض األمور ‪ ،‬وعندما سأله أحد املوظفني عن السبب يف ذلك‬
‫أجاب‪ :‬ليست الكفاية عبارة عن ع واحد يف ك زمان ‪ ،‬إمنا هي أن يسلك اإلنسان يف ك زمان ما يناسبه(‪.)3‬‬
‫ع ـ املركزية يف احلكم‪ :‬يقول بعض الباحثني كان زنكي يؤمن مبا يُ َس هلمى اليوم (الدكتاتور العادل) ويسعى إىل تطبيق هذا‬
‫املبدأ يف جمال اإلدارة ‪ ،‬كان يقول‪ :‬ما يتفق أن يكون أكثر من ظامل واحد ـ يعين نفسه(‪ .)4‬ويقول عماد الدين خلي ‪:‬‬
‫كلمة (ظامل) تعين‪ :‬السيطرة الفردية املركزيهلة يف احلكم ‪ ،‬وعدم السماح للموظفني االخرين ابالرتفاع إىل مستوى مسؤوليته‬
‫يف اإلدارة ‪ ،‬ومشاركته يف احل كم ؛ وهلذا السبب ـ نفسه ـ مل يكن زنكي يسمح ملوظفيه وعماله بظلم أحد من أ راد الرعية‬
‫أذى‪ .‬وقد عاقب عز الدين الدبيسي ـ وهو من أكابر أمرائه ـ ألنهله سلب أحد يهود جزيرة ابن عمر‬ ‫أو التعرض هلم أبي ً‬
‫بيته(‪ ،)5‬وعاقب أحد والته بسم عينيه لتعرضه المرأة(‪ ، )6‬خاف الوالة ‪ ،‬وانزجروا(‪ )7‬وعجز القوي عن ظلم الَعيف(‪.)8‬‬
‫ك ـ هنيه أصحابه وموظفيه عن اقتناء األمضمك‪ :‬كان ينهي أصحابه وموظفيه عن اقتناء األمضمك قائضمً هلم‪ :‬ما دامت البضمد‬
‫أي حاجة بكم إىل األمضمك ‪ ،‬إن اإلقطاعات تغين عنها ‪ ،‬إن خرجت البضمد من أيدينا‪ ،‬إن األمضمك تذهب‬ ‫أبيدينا؛ ُّ‬
‫معها‪ ،‬ومىت صارت األمضمك ألصحاب السلطان ظلموا الرعية ‪ ،‬وتعدوا عليهم ‪ ،‬وغصبوهم أمضمكهم(‪.)9‬‬
‫وقد خلص زنكي هبذا التصريح سياسته العادلة إزاء الرعية ‪ ،‬وموقفه من موظفيه كما أوضح مفهومه عن احلكم املستبد‬
‫العادل ‪ ،‬وهذا هو الذي د ع عدداً من املؤرخني إىل التأكيد على سياسته العادلة لدى استعراضهم لسريته(‪ ، )10‬وأنه‬
‫أن زنكي كان ميارس الظلم يف بدء أمره ‪ ،‬سمع يف إحدى‬ ‫كان يتقب آراء الرعية ‪ ،‬وانتقاداهتم‪ .‬ويروي ابن واص ‪ :‬هل‬
‫الليايل شخصاً يغين بيتني من الشعر عن العدل ‪ ،‬بكى وتبدهللت نيته يف الظلم ‪ ،‬وألزم نفسه ابلعدل ُمنذ ذلك اليوم(‪،)11‬‬
‫كما يشري ابن العدمي إىل أن أه حران امتدحوا سياسة زنكي العادلة معهم ‪ ،‬مث يقول‪ :‬وبلغين‪ :‬أنهله ال يتجاسر أحد من‬

‫(‪ )1‬أخبار الروضتني(‪.)114/1‬‬


‫(‪ )2‬عماد الدين زنكي ص ‪.267‬‬
‫(‪ )3‬الباهر ص ‪ 82‬ـ ‪ 83‬عماد الدين زنكي ص ‪.267‬‬
‫(‪ )4‬زبدة حلب(‪ )284/2‬عماد الدين زنكي ص ‪.266‬‬
‫(‪ )5‬الباهر ص ‪ 77‬عماد الدين زنكي ص ‪.267‬‬
‫(‪ )6‬الباهر ص ‪ 84‬عماد الدين زنكي ص ‪.267‬‬
‫(‪ )7‬مرآة الزمان(‪.)190/8‬‬
‫(‪ )8‬زبدة حلب(‪.)284/2‬‬
‫(‪ )9‬الباهر ص ‪ 77‬عماد الدين زنكي ص ‪.268‬‬
‫(‪ )10‬مفرج الكروب نقضمً عن عماد الدين زنكي ص ‪.268‬‬
‫(‪ )11‬مفرج الكروب نقضمً عن عماد الدين زنكي ص ‪.268‬‬

‫‪50‬‬
‫رعيته ‪ ،‬كائناً من كان أن يظلم أحداً من خلق هللا(‪ .)1‬ويف العموم كانت سياسته إىل العدل أمي ‪ ،‬وخالطها شيء من‬
‫الظلم‪ ،‬وحرص على التخلص منه‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ الدواوين‪ :‬كان ديوان زنكي يقاس بدواوين السضمطني السضمجقة لكثرة التجمي ‪ ،‬ونفاذ األمر ‪ ،‬وعظم احلاشية‬
‫واخلرج(‪ .)2‬وهذا يؤكد أمهية ذلك الديوان وبلوغه مرحلة متقدمة من االتساع والنمو وكثرة املوظفني وضخامة املصرو ات؛‬
‫أي مراجع كان يقصده كان جيد من تو ر موظفيه عليه ونظرهم يف مصاحله ما جيعله كأنه يف أهله(‪.)3‬‬ ‫حبيث هل‬
‫إن هل‬
‫‪ 5‬ـ األمن الداخلي واإلعمار‪ :‬استطاع زنكي ‪ ،‬إبدارته احلازمة وضبطه لألمور(‪ )4‬وعدالته ومبساعدة أجهزة اجليش والربيد‬
‫أن حيقق نتائج هامة يف إمارته يف جمال إقرار األمن والقَاء على املفسدين ‪ ،‬ونشر العمران يف البضمد ‪ ،‬حيث يشري ابن‬
‫(‪)5‬‬
‫العدمي إىل أن البضمد عمرت يف أايم زنكي بعد خراهبا ‪ ،‬وسادها األمن بعد اخلوف ‪ ،‬وكان زنكي ال يبقي على مفسد‬
‫‪ ،‬وقد كان األمن مَطرابً يف املوص نفسها خضمل الفرتة اليت سبقت حكم زنكي ‪ ،‬ويورد ابن األثري نصاً يلقي ضوءاً‬
‫على املوضوع ‪ ،‬رغ م ما يه من مبالغة ‪ ،‬يقول يه‪ :‬كان الناس ال يقدرون على املشي إىل اجلامع غري يوم اجلمعة لبعده‬
‫عن(‪ )6‬العمارة ‪ ،‬وكانت معظم املناطق البعيدة عن املركز خربة ال عمران يها‪ ،‬وال أمن ‪ ،‬وسرعان ما ساد العمران هذه‬
‫املناطق لدى جميء زنكي(‪ ، )7‬بفَ محايته للبضمد ومنعه املفسدين ‪ ،‬وكفه أيدي األقوايء(‪.)8‬‬
‫وكان النتشار األمن يف املنطقة أثر واضح يف زايدة عدد السكان يف إمارة زنكي(‪ ، )9‬كما غدت املوص ملجأ للمهاجرين‬
‫من بغداد بسبب قدان األمن هناك واشتداد الَوائق االقتصادية(‪ .)10‬وابإلمكان معر ة الدهلور الذي لعبه زنكي يف جمال‬
‫األمن بتتبع ذلك يف األايم اليت أعقبت اغتياله حيث اضطربت األعمال ‪ ،‬واختلهلت املسالك‪ ،‬وانطلقت أيدي احلراميهلة‬
‫يف إ ساد األطراف‪ ،‬والعبث يف سائر النواحي(‪.)11‬‬
‫وعندما كان زنكي يسيطر على املدن؛ مل يكن يرتك جنوده يتحكمون هل‬
‫مبقدراهتا ويسيئون إىل أهاليها ‪ ،‬وينشرون الرعب‬
‫والفوضى يف ربوعها ‪ ،‬ب كان سرعان ما يعني عليها والياً من قبله؛ كي تكون الكلمة والسلطة أبيدي رجال مدنيني ‪،‬‬
‫من أج إحضمل األمن يف املدينة وإعمارها(‪ ، )12‬وكان ال يسمح ـ أبداً ـ جلنده ـ خضمل التحركات والعمليات احلربية أبن‬
‫يعتدوا على الفضمحني بنهب أو ختريب مزارعهم ‪ ،‬كان العسكر ميشي خلفه كأهنم بني خيطني ‪ ،‬خما ة أن يدوس‬

‫(‪ )1‬زبدة حلب(‪ )284/2‬عماد الدين زنكي ص ‪.268‬‬


‫(‪ )2‬الباهر ص ‪ 83‬عماد الدين زنكي ص ‪.270‬‬
‫(‪ )3‬عماد الدين زنكي ص ‪.270‬‬
‫(‪ )4‬الباهر ص ‪ 13‬عماد الدين زنكي ص ‪.270‬‬
‫(‪ )5‬زبدة حلب(‪ )284/2‬عماد الدين زنكي ص ‪.270‬‬
‫(‪ )6‬الباهر ص ‪ 77‬عماد الدين زنكي ص ‪.270‬‬
‫(‪ )7‬الباهر ص ‪ 77‬ـ ‪ 78‬عماد الدين زنكي ص ‪.271‬‬
‫(‪ )8‬املصدر نفسه ص ‪.77‬‬
‫(‪ )9‬الكام يف التاريخ نقضمًعن عماد الدين زنكي ص ‪.271‬‬
‫(‪ )10‬الكام يف التاريخ نقضمً عن عماد الدين زنكي ص ‪.271‬‬
‫(‪ )11‬كتاب الروضتني نقضمً عن عماد الدين زنكي ص ‪.271‬‬
‫(‪ )12‬عماد الدين زنكي ص ‪.271‬‬

‫‪51‬‬
‫العسكر شيئاً من الزرع ‪ ،‬وال جيسر أحد من أجناده أن أيخذ ـ ولو مقداراً ضئيضمً من التنب ـ من ضمح إالهل بثمنه‪ ،‬أو خبط‬
‫من الديوان إىل رئيس القرية وإن تعدهلى أحد؛ صلبه(‪.)1‬‬
‫في عام ‪528‬هـ مثضمً ـ قام ابلقَا ء على أعمال النهب والفوضى اليت كان يقوم هبا بعض أكراد شرقي املوص ضد‬
‫الفضمحني(‪ )2‬ويف عام ‪533‬هـ استوىل على منطقة شهرزور الرتكمانية‪ :‬أصلح أحوال أهلها وخفف عنهم ما كانوا يلقونه‬
‫من الرتكمان(‪ .)3‬ويف عام ‪537‬هـ استطاع أن يستويل على عدد من حصون األكراد مشايل املوص وأن يقَي على‬
‫أعمال الفساد يف املنطقة(‪.)4‬‬
‫الرها من الصليبيني ـ ابستباحة املدينة خضمل األايم األوىل من الفتح ‪ ،‬لما‬ ‫ويف عام ‪539‬هـ قام عسكره ـ إثر اسرتجاع ُّ‬
‫دخ زنكي البلد أعجبه منظره ‪ ،‬أسف ملثله من اخلراب ‪ ،‬ورأى أن ختريبه وإخضمءه من أهله غري مستحسن من مثله‬
‫أمر إبعادة ما أخذ من سيب وأموال ‪ ،‬ردوا عن اخرهم ‪ ،‬وعاد البلد عامراً آهضمً آمناً(‪ ، )5‬مث أصدر أوامره إبعادة إعمار‬
‫الرها(‪ ، )6‬أصلح أحوال أهلها ‪ ،‬وخفف عنهم ما كانوا يلقونه من الرتكمان(‪ . )7‬ويف عام ‪537‬هـ استطاع أن يستويل‬ ‫ُّ‬
‫أدل على حب عماد‬ ‫على عدد من حصون األكراد مشايل املوص وأن يقَي على أعمال الفساد يف املنطقة(‪ .)8‬وال هل‬
‫الدين زنكي لإلعمار ور قه أبهايل املناطق املفتوحة من تعيينه جنم الدين أيوب والياً على بعلبك عام ‪ 534‬هـ ‪ ،‬وهو‬
‫توسط لدى زنكي يف العفو عن أمراء بعلبك الذين حكم عليهم ابإلعدام ‪ ،‬أجابه زنكي إىل طلبه وواله على‬ ‫الذي هل‬
‫بعلبك وأقطعه ثلثها(‪.)9‬‬
‫‪ 6‬ـ سياسة الرتحي ‪ :‬اتبع زنكي ما ميكن تسميته (سياسة الرتحي ) أي‪ :‬نق مجاعة من مكان إىل مكان اخر لتحقيق‬
‫غرضني ‪ ،‬أوهلما‪ :‬التمكني حلكمه يف بعض املناطق اليت استوىل عليها ‪ ،‬واثنيهما‪ :‬اختاذ بعض هذه اجلماعات كقوات‬
‫حاجزة بني ممتلكاته وبني مناطق األعداء ‪ ،‬في عام ‪536‬هـ استوىل على مدينة احلديثة الواقعة على الفرات ‪ ،‬ونق من‬
‫كان هبا من آل مهراش إىل املوص ورتب أصحابه يها(‪ ، )10‬وأغلب الظن أن آل مهراش هم حكام «احلديثة» الذين‬
‫كانوا يهددون سيطرة زنكي على املدينة مما اضطره إىل إبعادهم‪.‬‬
‫الرها العصيان ضد زنكي واستطاع انئبه زين الدين كجك أن يقَي على احملاولة‪،‬‬ ‫ويف عام ‪540‬هـ وعندما أعلن أرمن ُّ‬
‫أمره زنكي إبعدام قادة املؤامرة مث قام برتحي بعض األرمن من املدينة ‪ ،‬وأح حملهم ثضممثئة عائلة يهودية ختلصاً من‬

‫(‪ )1‬زبدة حلب(‪ 283/2‬ـ ‪ )284‬عماد الدين زنكي ص ‪.271‬‬


‫(‪ )2‬عماد الدين زنكي ص ‪.271‬‬
‫(‪ )3‬الباهر ص ‪ 57‬ـ ‪ 58‬عماد الدين زنكي ص ‪.272‬‬
‫(‪ )4‬الباهر ص ‪ 64‬مراة الزمان(‪ )190/8‬عماد الدين ص ‪.272‬‬
‫(‪ )5‬الباهر ص ‪ 69‬عماد الدين زنكي ص ‪.272‬‬
‫(‪ )6‬زبدة حلب(‪ 279/2‬ـ ‪.)280‬‬
‫(‪ )7‬الباهر ص ‪ 57‬ـ‪ 58‬عماد الدين زنكي ص ‪.272‬‬
‫(‪ )8‬الباهر ص ‪ 64‬مراة الزمان(‪ )190/8‬عماد الدين زنكي ص ‪.272‬‬
‫(‪ )9‬كتاب الروضتني(‪ 86/1‬ـ ‪.)87‬‬
‫(‪ )10‬املنتظم(‪ )102/10‬عماد الدين زنكي ص ‪.273‬‬

‫‪52‬‬
‫خطر وجودهم(‪ )1‬وخضمل رتة مبكرة من حكم زنكي قام بنق طائفة من الرتكمان تدعى «اإليوانية» مع أمريهم ايروق‬
‫أرسضمن إىل الشام ‪ ،‬وأسكنهم يف والية حلب ‪ ،‬وأمرهم جبهاد الصليبيني ‪ ،‬ومنحهم احلق يف متلك ك هل ما استولوا عليه‬
‫من البضمد العائدة هلؤالء‪.‬‬
‫وقد استطاعت هذه الطائفة ـ عضمً ـ أن تسرتد من الصليبيني الكثري من األراضي احمليطة حبلب؛ حيث بقيت أبيديهم‬
‫إىل سنة ‪600‬هـ(‪ .)2‬وكان ايروق مقدماً كبرياً وإليه نسبت الطائفة الياروقية من الرتكمان‪ .‬وقد حققت هذه الطائفة ـ‬
‫َضمً عن أعماهلا احلربية ـ نتائج عمرانية؛ إذ بىن ايروق وأتباعه على شاطىء هنر قويق املار حبلب عمائر كثرية عر ت‬
‫(‪)4‬‬
‫ابلياروقية واشتهرت هناك(‪ ، )3‬وقد استفاد زنكي يف توطيد األمن الداخلي إىل حد كبري من جهاز استخباراته الدقيق‬
‫ومن الربيد ‪ ،‬وميكن القول أبن جند زنكي وحرسه وحاميات املدن قاموا ـ كذلك ـ بدور تنفيذي هام يف هذا اجملال(‪.)5‬‬

‫خامساً‪ :‬النظم العسكرية عند عماد الدين زنكي‪:‬‬


‫‪ 1‬ـ اجليش‪ :‬كانت مؤسسة اجليش الَاربة قد استخدمها زنكي للقَاء على اإلمارات احمللية لكي يوحدها يف جبهة‬
‫إسضممية متماسكة ليستطيع جماهبة الصليبيني ‪ ،‬وقد اعتىن جبيشه حبيث أصبح قوايً متماسكاً‪ .‬ومن األمور املتعلقة ابجليش‬
‫اليت اهتم هبا زنكي‪:‬‬
‫أ ـ ديوان اجليش‪ :‬نظم زنكي ديوان اجليش؛ ليقوم ابإلشراف على أمور اجلند وتنظيمهم ‪ ،‬وتوزيع رواتبهم ‪ ،‬وأعطياهتم‬
‫ابنتظام(‪ )6‬وجع على رأس هذا الديوان موظفاً أعلى يطلق عليه «أمري حاجب»(‪ ، )7‬وكان عمله أن ينصف بني األمراء‬
‫واجلند ‪ ،‬اترة بنفسه ‪ ،‬واترة مبشاورة السلطان ‪ ،‬واترة مبراجعة النائب ‪ ،‬وإليه تقدمي من يعرض ومن يرد وعرض اجلند ‪،‬‬
‫وما انسب ذلك(‪.)8‬‬
‫كما كان ينظر يف خماصمة األجناد واختضم هم يف أمور اإلقطاعات وحنو ذلك(‪ ، )9‬وذكر ابن األثري‪ :‬أنهله‪ :‬كان لزنكي‬
‫مجاعة كثرية من اخلراسانية يف الركاب أي ما يشبه احلرس اخلاص املرا ق لألمري ‪ ،‬يُقال هلم‪ :‬اجلامكيات(‪ )10‬الوا رة ‪ ،‬وكان‬
‫يف الديوان من جيمعوهنا من جهاهتا ‪ ،‬ويقسموهنا عليهم ك ثضمثة أشهر مرة ‪ ،‬في بعض السنني أتخرت رواتبهم أتخراً‬
‫يسرياً ‪ ،‬اجتمعوا ووقفوا حبيث يراهم زنكي جمتمعني ‪ ،‬علم أهنم يشكون شيئاً‪ ،‬أرس إليهم ‪ ،‬وسأهلم عن حاهلم ذكروه‬
‫له ‪ ،‬قال هلم‪ :‬أشكومت إىل الديوان؟ قالوا‪ :‬ال ‪ ،‬قال‪ :‬ه ذكرمت حالكم لألمري حاجب؟ قالوا‪ :‬ال ‪ ،‬قال‪ :‬ألي شيء‬

‫(‪ )1‬عماد الدين زنكي ص ‪.273‬‬


‫(‪ )2‬الباهر ص ‪ 80‬عماد الدين زنكي ص ‪.273‬‬
‫(‪ )3‬عماد الدين زنكي ص ‪.273‬‬
‫(‪ )4‬املصدر نفسه ص ‪.274‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه ص ‪.274‬‬
‫(‪ )6‬الباهر ص ‪ 83‬عماد الدين زنكي ص ‪.192‬‬
‫(‪ )7‬الباهر ص ‪ 83‬عماد الدين زنكي ص ‪.192‬‬
‫(‪ )8‬صبح األعشى(‪ )19/4‬عماد الدين زنكي ص ‪.192‬‬
‫(‪ )9‬اخلطط(‪ )219/2‬عماد الدين زنكي ص ‪.192‬‬
‫(‪ )10‬اجلامكيات‪ :‬هي الرواتب العامة‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫أعطي الديوان مئة ألف ‪ ،‬وأعطي األمري حاجب أكثر من ذلك‪ ،‬إذا كنت أان أتوىل األمور صغريها وكبريها! ‪ ..‬كان‬
‫إيل حىت‬
‫عليكم أن تشكوا حالكم إىل الديوان ‪ ،‬إن أمهلوا أمركم قلتم لـ (أمري حاجب) ‪ ،‬إن أمه أمركم شكومت اجلميع هل‬
‫أعاقبهم على إمهاهلم ‪ ،‬وأما االن الذنب عليكم ‪ ،‬مث أمر بتأديبهم ‪ ،‬وقطع رواتبهم ‪ ،‬حىت شفع يهم بعض األمراء عفا‬
‫عنهم ‪ ،‬مث أحَر موظفي الديوان ‪ ،‬وأمري حاجب وقال هلم‪ :‬إذا كنتم هتملون أمر جندي الذين حتت ركايب ‪ ،‬ومن هو‬
‫مضمزمي يف سفري وإقاميت ‪ ،‬وهبم من احلاجة إىل النفقات يف أسفارهم ما تعلمونه ‪ ،‬كيف يكون حال من بعد عين؟‬
‫وأنكر عليهم ذلك ‪ ،‬خرجوا من عنده ‪ ،‬و رقوا يف األجناد من أمواهلم إىل حني وصول «رواتبهم» أخذوا عوض ما‬
‫أخرجوه(‪ ، )1‬ويعلق ابن األثري على هذه احلادثة قائضمً أبن زنكي هبذا اإلجراء‪ :‬أصلح اجلند لطاعة الديوان ‪ ،‬وأصلح‬
‫الديوان للنظر يف مصاحل اجلند ‪ ،‬وعظم نفسه عن أن خياطب يف هذا األمر احلقري ‪ ،‬وسه عليه بذل املبلغ الكثري ملن‬
‫يقوم أبموره(‪.)2‬‬
‫ب ـ أمري حاجب زنكي‪ :‬توىل صضمح الدين بن أيوب الياغسياين منصب أمري حاجب لدى زنكي ‪ ،‬ويرجع ذلك يف‬
‫تولية األخري على املوص ؛ إذ كان أحد عَوين يف الو د الذي توجه إىل بغداد عام ‪521‬هـ ملفاوضة املسؤولني حول‬
‫إقرار الوضع يف املنطقة ‪ ،‬وقد وعده زنكي بتوليته منصب أمري حاجب حاملاً يستقر يف املوص ‪ ،‬لما دخلها عام‬
‫‪521‬هـ والهله هذا املنصب اهلام(‪ ، )3‬وقد ظ هل الياغسياين يضمزم زنكي يف حله وترحاله ‪ ،‬واعتمد عليه هذا يف مهامه‬
‫العسكرية(‪ ، )4‬وجعله أحد قواده الكبار ‪ ،‬وكلفه بقيادة جيشه يف عدد من املهام واملعارك العسكرية ‪ ،‬وتقدم لدى زنكي‬
‫ابملناصحة ‪ ،‬وسداد التدبري ‪ ،‬وحسن السفارة ‪ ،‬وصواب الرأي(‪ ، )5‬ولذلك مل يعرتضه أو يقيله من منصبه طيلة رتة‬
‫حكمه(‪. )6‬‬
‫ج ـ تنظيم اجليش وعناصره‪ :‬تعترب نظم عماد الدين زنكي امتداداً لنظم السضمجقة من جهة ‪ ،‬وأساساً للنظم األيوبية‬
‫واململوكية من جهة أخرى ‪ ،‬ومن العناصر اليت كانت تشك جيش زنكي‪ :‬اخلراسانيون ‪ ،‬والرتكمان الذين كانوا يشكلون‬
‫الرها عام ‪539‬هـ كاتب طوائف الرتكمان ابالستدعاء‬ ‫أعداداً كبرية؛ إذ يشري ابن القضمنسي إىل أن زنكي عندما حاصر ُّ‬
‫الرها) وأداء ريَة اجلهاد ‪ ،‬وص إليه منهم اخللق الكثري حبيث أحاطوا هبا من مجيع‬ ‫هلم للمعونة عليه (أي‪ :‬على ُّ‬
‫اجلهات ‪ ،‬وحالوا بينها وبني ما يص إليها من املرية واألقوات(‪.)7‬‬
‫وقد استفاد زنكي من الرتكمان جلهاد الصليبيني ابلدرجة األوىل ‪ ،‬وقام بنق طائفة من الرتكمان األيوانية مع أمريهم‬
‫«الياروق» إىل الشام ‪ ،‬وأسكنهم بوالية حلب ‪ ،‬وأمرهم جبهاد الفرنج‪ ،‬وملكهم ك ما استنقذوه من البضمد اليت هلم‪..‬‬
‫كانوا يغادرون الفرنج ابلقتال ‪ ،‬ويراوحوهنم ‪ ،‬ومل يزل مجيع ما تحوه أبيديهم إىل سنة ‪600‬هـ‪ .‬وقد استفاد األمري سوار‬

‫(‪ )1‬الباهر ص ‪ 83‬عماد الدين زنكي ص ‪.193‬‬


‫(‪ )2‬الباهر ص ‪ 83‬عماد الدين زنكي ص ‪.193‬‬
‫(‪ )3‬الباهر ص ‪ 35‬عماد الدين زنكي ص ‪.195‬‬
‫(‪ )4‬ذي اتريخ دمشق ص ‪.258‬‬
‫(‪ )5‬كتاب الروضتني نقضمً عن عماد الدين زنكي ص ‪.195‬‬
‫(‪ )6‬عماد الدين زنكي ص ‪.195‬‬
‫(‪ )7‬الباهر ص ‪ 279‬عماد الدين زنكي ص ‪.197‬‬

‫‪54‬‬
‫بن إيتكني الرتكماين انئب زنكي يف حلب من الرتكمان يف غارته ضد الصليبيني يف مشايل الشام ‪ ،‬واستطاع أن حيقق‬
‫بواسطتهم انتصارات عديدة(‪ ، )1‬وكان الرتكمان ينتشرون يف معظم أحناء الشام وخباصة مناطق الفرات ‪ ،‬وكانوا طوائف‬
‫كثرية ومجاعة كبرية(‪.)2‬‬
‫وكان زنكي ميَي إىل الفرات جلمع الرتكمان قب القيام مبعاركه املهمة؛ إذ كان هؤالء أبعدادهم الَخمة‪ ،‬ومراهنم يف‬
‫احلرب ‪ ،‬وشجاعتهم ‪ ،‬يشكلون أهم عنصر يف جيشه(‪ ،)3‬وجاءت إشارات متعددة عن(احللبيني) كقوة عسكرية اشرتكت‬
‫يف معارك عديدة ضد الصليبيني يف مشايل الشام بقيادة األمري سوار ‪ ،‬وقامت بدور أساسي يف الد اع عن حلب وبعض‬
‫املدن األخرى القريبة عند هجوم االمرباطور البيزنطي املتحالف مع الصليبيني على هذه املنطقة عام ‪ 532‬هـ(‪ ، )4‬كما‬
‫الرها عام ‪ 539‬هـ جنباً إىل جنب مع اخلراسانيني؛ إذ كان يف (احللبيني) أيَاً من هو‬ ‫قام احللبيون بدور هام يف تح ُّ‬
‫«عارف مبواضع النقوب» ‪ ،‬نقبوا عدة مواضع مع اخلراسانيني ‪ ،‬وأشعلوا يها النار مما أدى إىل اهنيار بعض أجزاء السور‬
‫الرها(‪.)5‬‬
‫ودخول املسلمني إىل ُّ‬
‫وقد كان هؤالء احللبيون من سكان حلب األصليني ‪ ،‬أي من العرب ‪ ،‬بدلي ما أورده ابن العدمي من أن زنكي كان‬
‫جيرب ضمحي حلب على االلتحاق جبيشه يف أوقات القتال(‪ ،)6‬ويظهر أن هؤالء كانوا يرتكون اجليش ‪ ،‬ويعودون إىل‬
‫أعماهلم الزراعية بعد انتهاء القتال ‪ ،‬وال ريب‪ :‬أهنم كانوا يتقاضون أجوراً على اشرتاكهم يف املعارك ‪ ،‬سواء كانت أرزاقاً‬
‫معينة ‪ ،‬أم ما حيصلون عليه من الغنائم ‪ ،‬وقد ذكر ابن واص أن زنكي رح إىل أرض محاة عام ‪533‬هـ واستصحب‬
‫من أهلها تسعة االف راج خيدمون الركاب(‪ .)7‬أي‪ :‬للقيام مبهمة احلشم يف خدمة اجليش وأمرائه يف حلهم وترحاهلم‪،‬‬
‫َضمً عن حراسة زنكي اخلاصة ‪ ،‬مما يشري إىل أن هذا اعتمد على أهايل الشام يف كثري من األمور احلربية(‪ )8‬واعتمد‬
‫جيشه على عناصر أخرى كالبدو واألكراد(‪.)9‬‬
‫أن عدد جيش زنكي مل يكن اثبتاً ‪ ،‬ب كان عرضة للزايدة والنقصان مبا ينَم إليه‬ ‫ـ عدد جيش زنكي‪ :‬ويظهر مما سبق‪ :‬هل‬
‫من املتطوعني من حني آلخر‪ .‬وقد حاول زنكي أن يَمن وجود مورد عسكري بشري اثبت ‪ ،‬فرض التجنيد اإلجباري‬
‫على بعض املناطق القريبة من مواطن اخلطر ‪ ،‬ولذلك كان يلزم أه حلب جبمع الرجالة للقتال واحلصار ‪ ،‬إن كان‬
‫ذلك يف جهـاد الكفار؛ قـد كان جيب عليهـم ذلك ‪ ،‬وله إلزامهم به(‪.)10‬‬

‫(‪ )1‬عماد الدين زنكي ص ‪.197‬‬


‫(‪ )2‬زبدة حلب (‪ 264/2‬ـ ‪.)268‬‬
‫(‪ )3‬ذي اتريخ دمشق ص ‪ 279‬عماد الدين زنكي ص ‪.198‬‬
‫(‪ )4‬عماد الدين زنكي ص ‪.198‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه ص ‪.199‬‬
‫(‪ )6‬املصدر نفسه ص ‪.199‬‬
‫(‪ )7‬املصدر نفسه ص ‪.199‬‬
‫(‪ )8‬املصدر نفسه ص ‪.199‬‬
‫(‪ )9‬املصدر نفسه ص ‪.199‬‬
‫(‪ )10‬عماد الدين زنكي ص ‪.199‬‬

‫‪55‬‬
‫ـ معسكرات عماد الدين زنكي‪ :‬هنالك إشارات حمدودة عن معسكرات اجلنود ‪ ،‬في شتاء إحدى السنني قدم زنكي‬
‫إىل جزيرة ابن عمر ‪ ،‬نزل ابلقلعة ‪ ،‬وعسكر جنده يف اخليام خارج املدينة(‪ ، )1‬األمر الذي يشري إىل وجود معسكرات‬
‫غري اثبتة يف احلاالت الطارئة ‪ ،‬و هلأما يف احلاالت الدائمة ‪ ،‬قد كان زنكي يقيم حامية عسكرية يف ك مدينة ‪ ،‬أو حصن‬
‫يفتحه بعد أن يقطع أراضيها ألمراء احلامية وجنودها(‪ )2‬وهذا يؤكد وجود معسكرات اثبتة يف خمتلف املناطق التابعة‬
‫لزنكي ‪ ،‬ومل حتدد املصادر يما إذا كانت سكىن اجلند داخ القضمع أم خارجها(‪)3‬؟‬
‫ـ استخدام اخلي يف جيش عماد الدين‪ :‬وردت إشارات عديدة عن اهتمام قوات عماد الدين زنكي ابخلي واستخدامها‬
‫يف خمتلف احلروب ‪ ،‬ويف اهلجمات السريعة ‪ ،‬وقد ذكر أسامة بن منقذ بعض اللمحات عن اخليول يف عهد زنكي ‪،‬‬
‫كان الفارس يلبس الزردية ‪ ،‬أو الكزاغند (أي‪ :‬الدرع)‪ .‬واخلوذة ‪ ،‬ويقات ابلسيف أحياانً ‪ ،‬وابلدبوس أحياانً أخرى(‪.)4‬‬
‫(‪)6‬‬
‫وقد جرى التنا س بني قوات زنكي القتناء اخليول احلسنة(‪ )5‬وكان لألمراء ركائبيون ‪ ،‬وإصطبضمت خاصة خليوهلم‬
‫ويشري ابن العدمي إىل استخدام اخلي يف معارك عام ‪532‬هـ هل‬
‫ضد الروم والصليبيني‪.‬‬
‫وقد اعتمد األمري سوار انئب زنكي يف حلب على اخليول يف غاراته اليت شنهلها ضد الصليبيني(‪ .)7‬وهنالك إشارات‬
‫خمتصرة عن تنظيم النق يف جيش زنكي؛ إذ يشري ابن منقذ إىل استخدام زنكي للبغال(‪ .)8‬ويظهر‪ :‬أن حروبه اجلبلية‬
‫د عته إىل ذلك ‪ ،‬كما استُخدمت اإلب يف مناطق اجلزيرة املستوية يف الظروف اليت تطلبت السرعة(‪.)9‬‬
‫س ـ استدعاء اجليوش وأساليب احلرب‪ :‬قبي إعضمن احلرب كان زنكي يستدعي قوات من املتطوعني لتنَم إىل جيوشه‬
‫(‪)10‬‬
‫الرها عام ‪ 539‬هـ كاتب طوائف الرتكمان ابالستدعاء هلم للمعونة عليها ‪،‬‬ ‫النظامية اجملهزة ‪ .‬عندما عزم على تح ُّ‬
‫وأداء ريَة اجلهاد وص إليه منهم اخللق الكثري(‪ .)11‬كما كان مير ـ يف طريقه إىل احلرب ببعض مدن إمارته ‪ ،‬وجيمع‬
‫منها اجلند ليَيفهم إىل قواته كما ع مع أهايل حلب(‪ ، )12‬ومحاة(‪ )13‬وكان اجلهاد هل‬
‫ضد الصليبيني أحد الدوا ع املهمة‬
‫(‪)14‬‬
‫يف اشرتاك املتطوعني يف حروب زنكي وخصوصاً الرتكمان ‪ ،‬كما كانت الرغبة يف الغنائم واخلوف من سلطة زنكي‬
‫من الدوا ع األخرى لذلك ‪ ،‬وكانت معظم املعارك اليت خاضها زنكي عبارة عن هجمات وحماصرة للحصون الكثرية‬

‫(‪ )1‬الباهر ص ‪ 76‬ـ ‪ ، 77‬كتاب الروضتني(‪.)110/1‬‬


‫(‪ )2‬عماد الدين زنكي ص ‪ 200‬الباهر ص ‪ 66‬ـ‪.69‬‬
‫(‪ )3‬عماد الدين زنكي ص ‪.200‬‬
‫(‪ )4‬االعتبار ص ‪ 98‬عماد الدين زنكي ص‪.201‬‬
‫(‪ )5‬عماد الدين زنكي ص ‪.201‬‬
‫(‪ )6‬املصدر نفسه ص ‪.201‬‬
‫(‪ )7‬زبدة حلب(‪ 262‬ـ ‪.)267‬‬
‫(‪ )8‬عماد الدين زنكي ص ‪.201‬‬
‫(‪ )9‬االعتبار ص ‪ 59‬ـ ‪ 60‬عماد الدين زنكي ص ‪.201‬‬
‫(‪ )10‬الباهر ص ‪ 68‬عماد الدين زنكي ص ‪.201‬‬
‫(‪ )11‬عماد الدين زنكي ص ‪.202‬‬
‫(‪ )12‬ذي اتريخ دمشق ص ‪ 279‬عماد الدين زنكي ص ‪.202‬‬
‫(‪ )13‬عماد الدين زنكي ص ‪.202‬‬
‫(‪ )14‬مفرج الكروب(‪ )84/1‬عماد الدين زنكي ص ‪.202‬‬

‫‪56‬‬
‫املنتشرة يف منطقة اجلزيرة والشام ‪ ،‬وأما املعارك املفتوحة هلإهنا كانت أق هل من حروب األسوار بشك ملحوظ ‪ ،‬ولذلك‬
‫قلت اإلشارات عن األساليب اليت اتبعت يها(‪.)1‬‬
‫وكان للجواسيس أمهية كبرية يف املعارك اليت خاضها زنكي ‪ ،‬وكانوا ينتشرون يف مناطق العدو ‪ ،‬ويطلعون أمريهم على‬
‫حتركاته ‪ ،‬وإمكانياته لكي يكون على بينة من األمر ‪ ،‬وكان زنكي حيدد موقفه احلريب أحياانً بناء على ما يقدمه هؤالء‬
‫من معلومات(‪ ، )2‬ومن مث يتجه هو أو أحد قواده على رأس اجليش لفرض احلصار ‪ ،‬إذا ما استدعت الظروف السرعة‬
‫يف السري؛ اختذ من الوسائ ما يكف ذلك ‪ ،‬في عام ‪528‬هـ على سبي املثال توجه إىل (خضمط) وأراد الوصول إليها‬
‫بسرعة ‪ ،‬سلك طريقاً عرب اجلبال عرب الطريق املسلوك ‪ ،‬وكان جنده يسرتحيون ‪ ،‬ك واحد يف موضعه دون خيام(‪.)3‬‬
‫الرها عام ‪539‬هـ استعان على السرعة بركوب النجائب (أي‪ :‬اإلب صغرية العمر)(‪.)4‬‬‫وعندما توجه حلصار ُّ‬
‫الرها تقدم زنكي ـ أوالً ـ إىل أه‬
‫حروب األسوار‪ :‬قدمت بعض املصادر تفصيضمت عن أساليب األسوار ‪ ،‬في حصار ُّ‬
‫احلصن بتسليمه له دون أن يَطر إىل ختريبه ‪ ،‬لما ر َوا؛ أمر املنجنيقات ابلَرب ‪ ،‬وقاد الشجعان لنزاله على شك‬
‫زحوف مستمرة لقتال احلامية ‪ ،‬ويف الوقت نفسه كان النقابون العار ون مبواضع النقوب يعملون على نقب بعض املناطق‬
‫الواقعة حتت األبراج ‪ ،‬وبعد ذلك وضعوا يها األخشاب ‪ ،‬وأحرقوها ‪ ،‬سقطت األبراج ‪ ،‬واحرتق السور‪ ،‬واند ع جند‬
‫زنكي إىل داخ احلصن(‪.)5‬‬
‫أسلوب االشتباك‪ :‬اتبع زنكي أسلوب االشتباك مع حامية احلصن حاملاً يفسح اجملال بذلك؛ إذ تبدأ املنجنيقات أوالً‬
‫بَرب األسوار ‪ ،‬وما أن حتدث بعض الفتحات؛ حىت يقوم عدد من جنده هبجوم سريع على تلك املناطق واالشتباك‬
‫مع احلامية ‪ ،‬إذا ما قَوا على املدا عني؛ تحوا الطريق أمام اجليش للدخول إىل احلصن واالستيضمء عليه(‪.)6‬‬
‫الناحية التموينية‪ :‬كان عماد الدين زنكي يؤكد يف حصاره للحصون على الناحية التموينية ‪ ،‬يفرض حصاراً اقتصادايً‬
‫على احلصن ‪َ ،‬ضمً عن احلصار العسكري(‪ ، )7‬كما كان يؤكد على إاثرة محاسة اجلند أبن يشرتك هو نفسه يف اهلجوم‬
‫الرها عام ‪539‬هـ(‪.)9‬‬ ‫(‪)8‬‬
‫على األسوار كما حدث يف معركيت عقر احلميدية عام ‪528‬هـ و ُّ‬
‫احلروب املفتوحة‪ :‬قد اتبع زنكي أسلوب احلرب املفتوحة ‪ ،‬حيث تقسم القوات إىل عدة جمموعات على رأس ك ٍ منها‬
‫أمري‪ :‬ميمنة ‪ ،‬قلب ‪ ،‬ميسرة ‪ ،‬مقدمة ‪ ،‬مؤخرة‪ .‬وقد ظهرت براعة زنكي وقواده يف استخدام األساليب املختلفة يف‬
‫القتال ‪ ،‬كنصب الكمائن(‪ )10‬ويف احلاالت اليت كانوا يرون يها‪ :‬أن من اخلطورة الدخول مبعارك مفتوحة مع العدو‪ ،‬إما‬

‫(‪ )1‬الباهر ص ‪ 68‬عماد الدين زنكي ص ‪.202‬‬


‫(‪ )2‬عماد الدين زنكي ص ‪.202‬‬
‫(‪ )3‬مفرج الكروب(‪ )93/1‬عماد الدين زنكي ص ‪.202‬‬
‫(‪ )4‬االعتبار ‪ 88‬ـ ‪.89‬‬
‫(‪ )5‬الباهر ص ‪.68‬‬
‫(‪ )6‬ذي اتريخ دمشق ص ‪.279‬‬
‫(‪ )7‬االعتبار ص ‪ 155‬عماد الدين زنكي ص ‪.203‬‬
‫(‪ )8‬ذي اتريخ دمشق ص ‪.279‬‬
‫(‪ )9‬عماد الدين زنكي ص ‪.203‬‬
‫(‪ )10‬مفرج الكروب(‪ 93/1‬ـ ‪.)94‬‬

‫‪57‬‬
‫لقلهلة عددهم ‪ ،‬أو لعدم مضمءمة الظروف العسكرية هلذا النوع من القتال ‪ ،‬يف هذه احلاالت كان زنكي وقواده يلجؤون‬
‫إىل شن الغارات على معسكرات العدو ‪ ،‬واالنسحاب بسرعة ‪ ،‬وكانوا يستهد ون من ذلك إقضمق تلك املعسكرات ‪،‬‬
‫ونشر اخلوف ‪ ،‬والفوضى يف صفو ها ؛ وذلك مبا حيدثونه يف أطرا ها من قت ‪ ،‬واختطاف ‪ ،‬وهنب ‪ ،‬وختريب ‪ ،‬ممهلا يؤدي‬
‫هام إلضعا ه‪.‬‬‫أيَاً إىل اضطراب يف متوين العدو ‪ ،‬وهو عام ٌّ‬
‫وقد حققت هذه األساليب انتصارات عديدة لزنكي ورجاله(‪ .)1‬وكان زنكي ـ أحياانً أخرى ـ ميارس ضغطه االقتصادي‬
‫ضد أعدائه عن طريق القيام بعمليات النهب والتخريب يف املناطق اليت مت ُّد حصون هؤالء ابلتموين ‪ ،‬كما حدث يف‬
‫منطقة محص يف السنوات اليت سبقت االستيضمء عليها عام ‪532‬هـ(‪ )2‬ويف حصاره لدمشق عام ‪534‬هـ حيث أحرق‬
‫وشن الغارات على حوران ‪ ،‬وأعمال دمشق للنهلهب ‪ ،‬والتخريب(‪.)3‬‬ ‫عدة قرى من املرج ‪ ،‬والغوطة ‪ ،‬هل‬
‫بعض منها كالدبوس وهو آلة من حديد ذات‬ ‫ع ـ األسلحة اليت استخدمها عماد الدين زنكي يف جهاده‪ :‬قد ورد ذكر ٍ‬
‫أضضمع‪ ،‬والرماح‪ ،‬والسيوف‪ ،‬والقوس‪ ،‬والسهم‪ ،‬والنشهلاب‪ ،‬واملنجنيقات‪ ،‬والداببة‪ ،‬والكبش‪ ،‬والقلعة املتحركة واليت كانت‬
‫تستخدم لنق اجلند ‪ ،‬واملعدات احلربية إىل األسوار لكي حتميهم من سهام األعداء ونرياهنم(‪ ، )4‬كما استعم جند‬
‫زنكي النار العادية حلرق األسوار بعد نقبها ‪ ،‬وملئها ابخلشب(‪ )5‬وبلغت أسلحة زنكي من الكثرة يف إحدى املعارك‬
‫حبيث قال عنها الشاعر‪:‬‬
‫(‪)6‬‬
‫ظننـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا الب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهلر حب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراً م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن سـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمح‬ ‫‪................. .........................‬‬
‫ائحي لعضمج مصايب احلرب(‪ ، )7‬ورمبا كان ذلك دليضمً على وجود جمموعة ‪ ،‬أو هيئة ترا ق‬ ‫وكان مع جيوش زنكي جر ٌّ‬
‫جند زنكي إلسعاف اجلرحى(‪.)8‬‬
‫سلوك األمراء واجلند جتاه سكان وحاميات املدن املفتوحة‪ :‬كانت االعتبارات السياسية والعسكرية هي اليت جتدد سلوك‬
‫اجلند‪ ،‬وأمرائهم جتاه سكان وحاميات املدن املفتوحة ‪ ،‬في عام ‪ 533‬هـ على سبي املثال ‪ ،‬تح زنكي حصن بزاعة‬
‫انتقامي على سلوك الروم والصليبيني جتاه املسلمني لدى استيضمئهم‬ ‫ٍ‬ ‫ابلسيف‪ :‬وقت ك هل من يه من الروم ‪ ،‬والفرنج(‪ٍ )9‬‬
‫كرد‬
‫على هذا احلصن ‪ ،‬ومعاملتهم ألهله بوحشية ابلغة(‪ .)10‬كما أن هذا احلصن كان يشك مركزاً عسكرايً مهماً لقربه من‬
‫حلب ‪ ،‬ومن مث إن وجود أية مجاعة تؤيد الصليبيني يه يشك خطراً على املنطقة كلها‪.‬‬

‫(‪ )1‬ذي اتريخ دمشق ص ‪ 259‬عماد الدين زنكي ص ‪.204‬‬


‫(‪ )2‬الباهر ‪ 55‬ـ ‪ ، 56‬مفرج الكروب(‪.)79 ، 78/1‬‬
‫(‪ )3‬الكام يف التاريخ نقضمً عن عماد الدين زنكي ص ‪.204‬‬
‫(‪ )4‬مفرج الكروب نقضمً عن عماد الدين زنكي ص ‪.205‬‬
‫(‪ )5‬اتريخ املماليك ص ‪ 276‬عماد الدين زنكي ص ‪.205‬‬
‫(‪ )6‬ذي اتريخ دمشق ‪ ، 282 ، 279‬عماد الدين زنكي ص ‪.205‬‬
‫(‪ )7‬الباهر ص ‪ 68‬عماد الدين زنكي ص ‪.205‬‬
‫(‪ )8‬االعتبار ص ‪ 59‬ـ ‪.60‬‬
‫(‪ )9‬عماد الدين زنكي ص ‪.206‬‬
‫(‪ )10‬مفرج الكروب(‪ ، )83/1‬عماد الدين زنكي ص ‪.206‬‬

‫‪58‬‬
‫الرها عام ‪ 539‬هـ ‪ ،‬بعد مقاومة شديدة د عته إىل إطضمق احلرية جلنده‪،‬‬ ‫وكذلك ميكن القول يف موقف زنكي عند تح ُّ‬
‫وأمرائه يف األايم األوىل من الفتح ‪ ،‬ملؤوا أيديهم من الغنائم ‪ ،‬واألسضمب ‪ ،‬واألسرى(‪ ،)1‬لكنهله لدى اطضمعه على البلد‪:‬‬
‫أن خرابه وإخضمءه غري مستحسن ‪ ،‬أمر إبعادة ما أخذ من الغنائم ‪،‬‬ ‫أعجبه منظره أسف ملثله يف اخلراب ‪ ،‬ورأى‪ :‬هل‬
‫والسيب ردوا ‪ ،‬وعاد البلد عامراً ‪ ،‬اهضمً ابلسكان ‪ ،‬بعد أن كان داثراً(‪.)2‬‬
‫وهكذا جند‪ :‬أن موقف زنكي ابلسماح جلنده ابلنهب واألسر كان ذا اعتبار عسكري بسبب املقاومة العنيفة ‪ ،‬تلك‬
‫الرها كتلة واحدة يفيد منها‬‫األعمال كانت ذا اعتبار سياسي؛ إذ كان يرمي من وراء ذلك جع املسيحيني الوطنيني يف ُّ‬
‫ضد الصليبيني الذين خيالفوهنم يف املذهب ‪ ،‬ولعله أراد أن يستعني ابملسيحيني الوطنيني ابإلضا ة إىل احلامية الرتكية يف‬‫هل‬
‫(‪)3‬‬
‫الرها ـ ووعدهم إبمجال السرية‬
‫الرها بعد طرد القوات الصليبيهلة منها ‪ .‬ولذلك اجتهد يف مصاحل ـ أه ُّ‬
‫احملا ظة على ُّ‬
‫وبسط العدالة(‪ ، )4‬وعلى هذا األساس كانت معاملة زنكي أله بعلبك ‪ ،‬وأمرائها بعد أن أعطاهم األمان؛ إذ إن ما‬
‫اختذه معهم من شدة ‪ ،‬وقسوة قصد به إاثرة خوف املقاتلني له من املسلمني يف دمشق(‪.)5‬‬
‫ف ـ عضمقة عماد الدين زنكي جبنوده‪ :‬قامت عضمقة عماد الدين زنكي جبنده على النظام والطاعة واالنَباط من جهة‪،‬‬
‫وعلى الود والتعاطف والرأ ة من جهة أخرى ‪ ،‬بسبب ما قدمه للجند من رواتب حسنة ‪ ،‬وما مش به أهليهم من رعاية‬
‫واهتمام(‪ ، )6‬وكان عقابه صارماً للمخالفني من جنده ال سيهلما إذا كانت خمالفتهم على حساب الرعية(‪ ،)7‬وقد بلغ‬
‫زنكي من السطوة والنفوذ لدى جنده‪ :‬أنهله إذا ركب؛ مشى العسكر خلفه كأهنم بني خيطني ‪ ،‬خما ة أن يدوس العسكر‬
‫شيئاً من الزرع ‪ ،‬وال جيسر أحد من هيبته أن يدوس عرقاً منه ‪ ،‬وال ميشي رسه يه ‪ ،‬وال جيسر أحد من أجناده أن‬
‫ضمح حفنة من التنب إالهل بثمنها ‪ ،‬أو خبط من الديوان إىل رئيس القرية(‪.)8‬‬
‫أيخذ من ٍ‬
‫وكان زنكي يقدر الدور اهلام الذي يؤديه اجلند يف خدمة اإلمارة ؛ لذلك عين بتو ري الراحة واالستقرار للجندي يف ك‬
‫ما يتعلق به ‪ ،‬وخباصة عائلته وزوجته ‪ ،‬كان شديد الغرية على احلرمي ‪ ،‬ال سيما نساء اجلند ‪ ،‬إن التعرض إليهن كان‬
‫من الذنوب اليت ال يغفرها ‪ ،‬وقد عل ذلك بقوله‪ :‬إن جندي ال يفارقوين يف أسفاري وما يقيمون عند أهليهم ‪ ،‬إن‬
‫(‪)9‬‬
‫مر معنا‬
‫حنن مل مننع من التعرض إىل حرمهم هلكن و سدن ‪ ،‬ولذلك كان يعاقب املتعرضني للنساء أشد العقاب وقد هل‬
‫قصة وايل جزيرة ابن عمر التابع لعماد الدين زنكي (حسن الربطي) وكيف جرده من ك أمواله وعاقبه(‪.)10‬‬

‫(‪ )1‬مفرج الكروب(‪ 77/1‬ـ ‪ ، )78‬عماد الدين زنكي ص ‪.206‬‬


‫(‪ )2‬عماد الدين زنكي ص ‪.206‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.206‬‬
‫(‪ )4‬احلروب الصليبية(‪ )8527/1‬العريين‪.‬‬
‫(‪ )5‬ذي اتريخ دمشق ص ‪.280‬‬
‫(‪ )6‬عماد الدين زنكي ص ‪.207‬‬
‫(‪ )7‬املصدر نفسه ص ‪.209‬‬
‫(‪ )8‬كتاب الروضتني(‪ )110/1‬عماد الدين زنكي ص ‪.208‬‬
‫(‪ )9‬زبدة حلب(‪ 283/2‬ـ ‪.)284‬‬
‫(‪ )10‬الباهر ص ‪ ، 84‬عماد الدين زنكي ص ‪.208‬‬

‫‪59‬‬
‫ص ـ االستخبارات‪ :‬أقام عماد الدين زنكي جهازاً للمخابرات ‪ ،‬وخصص له املوظفني ‪ ،‬والرواتب ‪ ،‬وقد ورد عنه أنهله‪:‬‬
‫كان شديد العناية أبخبار األطراف وما جيري ألصحاهبا حىت يف خلواهتم ‪ ،‬وكان له يف بضمد السلطان السلجوقي من‬
‫يطالعه ‪ ،‬ويكتب إليه بك ما يفعله السلطان يف ليله وهناره ‪ ،‬وحرب وسلم ‪ ،‬وهزل وجد ‪ ،‬وكان يصرف على ذلك‬
‫األموال اجلليلة ‪ ،‬وكان يص إليه يف ك يوم عدة قاصدين ‪ ،‬أو كتب(‪ )1‬كما كان له يف ك بلد من يطالعه ابألخبار(‪.)2‬‬
‫وقد اتصف عماد الدين زنكي ابلدراية الواسعة واحلذر يف هذا اجملال ‪ ،‬كان ال ُميكن رسول ملك يعرب يف بضمده بغري‬
‫إذنه ‪ ،‬وإذا استأذنه رسول يف العبور إىل بضمده أذن له ‪ ،‬وأرس إليه من يسريه ‪ ،‬وال يرتكه جيتمع أبحد من الرعية وال‬
‫غريهم ‪ ،‬كان الرسول يدخ بضمده وخيرج منها ‪ ،‬وال يعلم من أحواهلا شيئاً البتة(‪ ، )3‬كما كان ال ميكن أحد موظفيه‬
‫من مغادرة بضمده ‪ ،‬ويعل ذلك أبن البضمد كبستان عليه سياج من هو خارج السياج يهاب الدخول ‪ ،‬إذا خرج منها‬
‫من يدل على عورهتا ويطمع العدو يها؛ زالت اهليبة ‪ ،‬وتطرق اخلصوم إليها(‪ )4‬وهنالك عدد من الرواايت حول هروب‬
‫بعض موظفيه ‪ ،‬و ضمحيه إىل اإلمارات األخرى ‪ ،‬وإحلاحه إبعادهتم إىل إمارته؛ حىت لو اضطره ذلك إىل استخدام‬
‫القوة(‪.)5‬‬
‫شىت ‪ ،‬ولعب دوراً هاماً يف حصار بعرين عام ‪531‬هـ(‪ ،)6‬وحصار‬ ‫وقد قدم جهاز خمابراته خدمات مهمة له يف ظروف هل‬
‫الرها عام ‪539‬هـ(‪ ، )7‬كما كان يستخدمه عماد الدين للتعرف على أحوال اجلند لدى حصارهم بعض املواقع ومضمحظة‬ ‫ُّ‬
‫ما يص إليهم من رواتب وسضمح(‪ ، )8‬وكان عماد الدين زنكي مع اشتغاله أبمور الدولة اهلامة ال يهم االطضمع على‬
‫القَااي الثانوية ‪ ،‬معلضمً ذلك أبن الصغري إذا مل يعرف؛ ليمنع؛ صار كبرياً(‪ .)9‬وكان من الطبيعي أن رجال املخابرات يف‬
‫الدولة الزنكية ارتبطوا بعماد الدين مباشرة نظراً ألمهية دورهم السياسي والعسكري ‪ ،‬وألهنم كانوا يتسلمون أوامرهم املباشرة‬
‫منه(‪.)10‬‬
‫‪ 1‬ـ كان عماد الدين زنكي رجضمً ذا هدف واضح ‪ ،‬وهذا أول شروط النجاح ‪ ،‬وكان جاداً ومثابراً يف تنفيذ خططه ‪،‬‬
‫وكان غالباً ال يهادن الصليبيني قاسياً عليهم ‪ ،‬وكان حريصاً على نشر اخلوف يف حصوهنم ‪ ،‬وقضمعهم ‪ ،‬ومدهنم ‪ ،‬وكان‬
‫يقدر الظروف احلربية ‪ ،‬قد هادن جوسلني عندما قدم إىل املوص لكي يتفرغ إلصضمح البضمد ‪ ،‬وجتنيد األجناد‪ ،‬وجتنب‬
‫الرها ‪ ،‬وإضعاف‬ ‫مهامجة مملكة بيت املقدس؛ حىت ال يثري أورواب ضدهله ‪ ،‬قد كان هد ه القَاء على األطراف مث ُّ‬

‫(‪ )1‬الباهر ص ‪ ، 84‬عماد الدين زنكي ص ‪.208‬‬


‫(‪ )2‬الباهر ص ‪ ، 78‬كتاب الروضتني (‪ )111/1‬عماد الدين زنكي ص ‪.209‬‬
‫(‪ )3‬مفرج الكروب نقضمً عن عماد الدين زنكي ص ‪.209‬‬
‫(‪ )4‬مفرج الكروب نقضمً عن عماد الدين زنكي ص ‪.210‬‬
‫(‪ )5‬كتاب الروضتني (‪.)283/2‬‬
‫(‪ )6‬الكام يف التاريخ نقضمً عن عماد الدين زنكي ص ‪.210‬‬
‫(‪ )7‬عماد الدين زنكي ص ‪.210‬‬
‫(‪ )8‬الباهر ص ‪ 78‬نقضمً عن عماد الدين زنكي ص ‪.210‬‬
‫(‪ )9‬الباهر ص ‪ ، 78‬عماد الدين زنكي ص ‪.210‬‬
‫(‪ )10‬عماد الدين زنكي ص ‪.210‬‬

‫‪60‬‬
‫أنطاكية ‪ ،‬والقَاء على إمارة طرابلس ‪ ،‬وله قه كبري يف السياسة احلربية(‪ )1‬ستُـبَ هلـني إبذن هللا تعاىل عند احلديث عن‬
‫جهوده الوحدوية ‪ ،‬وأعماله اجلهادية‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ نظام اإلقطاع العسكري‪ :‬أدرك زنكي ضرورة توزيع اإلقطاعات على أمرائه وجنده نظراً لطبيعة الظروف احلربية ‪،‬‬
‫والسياسية اليت جاهبتها إمارته ‪ ،‬حيث انتشرت جمموعة من اإلمارات احمللية املتنا سة يف اجلزيرة ‪ ،‬والشام ‪ ،‬واجلبال ‪،‬‬
‫وشرقي املوص َضمً عن إمارات الصليبيني ‪ ،‬كان ذلك حيتم عليه اتباع األساليب اليت تَمن له تشكي قوة عسكرية‬
‫متمكنة ‪ ،‬خيلص أ رادها ألمريهم ‪ ،‬ومصلحة إمارهتم بناء على وجود مصاحل مشرتكة ‪ ،‬وليس مثة يف تلك الفرتة ما هو‬
‫أحسن من األسلوب اإلقطاعي لَمان تكوين اجلندي املخلص ‪ ،‬واجليش القوي املنظم‪.‬‬
‫لذلك كان أول عم قام به زنكي عند دخوله املوص ‪521‬هـ هو «تقرير قواعد اجلنود ‪ ،‬وإقطاع العساكر»(‪ ، )2‬كما‬
‫جع من منهجه قب االصطدام مع الصليبيني ‪ ،‬االستيضمء على ما بقي من البضمد الشامية واجلزرية ‪ ،‬وإصضمح شأهنا ‪،‬‬
‫والفراغ من إقطاع بضمدها جلند خيتربهم ‪ ،‬ويعرف نصحهم وشجاعتهم(‪ ، )3‬ويف سبي حتقيق ذلك عقد هدنة مؤقتة مع‬
‫الرها(‪.)4‬‬
‫صليبيي ُّ‬
‫ومل تكن معظم مدن املوص ‪ ،‬واجلزيرة ‪ ،‬ومشايل الشام خاضعة لزنكي عند توليته هذه املناطق رمسياً من قب السلجوقي‪،‬‬
‫لذا غدت معظم عمليات التوزيع اإلقطاعي متوقفة إىل حد كبري على توحاته‪ ،‬ومتدرجة زمنياً مع أوقات هذه الفتوحات‪،‬‬
‫كان كلما استوىل على بلد رتب أموره ‪ ،‬وأقطع أعماله األجناد واألمراء(‪ ، )5‬و َضمً عن قيام املقطع ابلد اع عن املنطقة‬
‫‪ ،‬وإمداد جيوش زنكي بقوات من عنده يف حاالت القتال(‪ ، )6‬قد استخدم األخري اإلقطاع ألغراض أخرى أمهها‬
‫الغرض اإلداري ‪ ،‬وهو قيام املقطع إبدارة أمور واليته كوال من قب زنكي على تلك املنطقة(‪ )7‬أو إلبعاد الشخص الذي‬
‫يرى يف وجوده خطراً إبقطاعه منطقة بعيدة(‪ ، )8‬أو إلكرام بعض أمرائه املقربني اعرتا اً بفَلهم(‪ ،)9‬أو إلغراء بعض‬
‫أعدائه بتسليم حصوهنم مقاب إقطاعهم بعض املناطق(‪ ، )10‬كما أنه تنازل عن بعض احلصون اليت تحها يف داير بكر‬
‫حلسام الدين متراتش أمري بين أرتق ‪ ،‬وذلك ألغراض سياسية تستهدف تقوية حلفه مع حسام الدين هل‬
‫ضد أعدائه يف‬
‫املنطقة(‪ ، )11‬وإليك أمساء بعض األمراء والقواد الذي أقطعهم زنكي بعض املدن‪ ،‬واحلصون‪:‬‬

‫(‪ )1‬احلروب الصليبية واألسرة الزنكية ص ‪.171 ، 169‬‬


‫(‪ )2‬الباهر ص ‪ ، 36‬عماد الدين زنكي ص ‪.218‬‬
‫(‪ )3‬الباهر ص ‪ ، 37‬عماد الدين زنكي ص ‪.218‬‬
‫(‪ )4‬الباهر ص ‪ ، 37‬مفرج الكروب (‪.)36/1‬‬
‫(‪ )5‬الكام نقضمً عن عماد الدين زنكي ص ‪.218‬‬
‫(‪ )6‬مفرج الكروب (‪ )103/1‬عماد الدين زنكي ص ‪.218‬‬
‫(‪ )7‬عماد الدين زنكي ص ‪.218‬‬
‫(‪ )8‬الباهر ص ‪ 35‬عماد الدين زنكي ص ‪.218‬‬
‫(‪ )9‬الباهر ص ‪ ، 16‬عماد الدين زنكي ص ‪.218‬‬
‫(‪ )10‬ذي اتريخ دمشق ص ‪ ، 270‬عماد الدين زنكي ص ‪.219‬‬
‫(‪ )11‬عماد الدين زنكي ص ‪.219‬‬

‫‪61‬‬
‫أ ـ األمري جاويل كان وصياً على ابن عز الدين مسعود وايل املوص املتوىف عام ‪521‬هـ ‪ ،‬أقطع الرحبة ختلصاً من‬
‫خطره(‪.)1‬‬
‫ب ـ هباء الدين بن القاسم الشهرزوري ‪ ،‬قاضي قَاة املوص ‪ ،‬وهبه زنكي أمضمكاً وإقطاعاً(‪ ، )2‬مل حتددها املصادر(‪.)3‬‬
‫ج ـ أبو بكر البكجي أحد كبار أمراء زنكي ‪ ،‬أقطع نصيبني(‪.)4‬‬
‫حران عام ‪522‬هـ أو ‪523‬هـ ويف عام ‪527‬هـ أعلن العصيان وقد استطاع زنكي القَاء‬ ‫د ـ سوتكني الكرجي ‪ ،‬أقطع هل‬
‫وعني نوابه هناك(‪.)5‬‬
‫عليه عام ‪533‬هـ هل‬
‫هـ صضمح الدين الياغسياين (أمري حاجب)‪ .‬أقطع محاة عام ‪523‬هـ‪.‬‬
‫و ـ زين الدين علي كجك بن بكتكني ‪ ،‬أحد كبار قواد زنكي أقطع أرب عام ‪526‬هـ(‪ ،)6‬وعقر احلميدية ‪ ،‬وأعماهلا‬
‫عام ‪528‬هـ(‪ )7‬وشهرزور(‪.)8‬‬
‫ز ـ شهاب الدين أمريك اجلاندار ‪ ،‬أقطع الرقة عام ‪529‬هـ(‪.)9‬‬
‫ح ـ جنم الدين أيوب ‪ ،‬وأسد الدين شريكوه‪ :‬أقطعهما زنكي يف بلد شهرزور إقطاعاً سنياً ‪ ،‬وقي ‪ :‬إنه أقطع أسد الدين‬
‫ابملؤزر(‪ )10‬وذلك بعد التجائهما إليه يف أواخر عام ‪532‬هـ‪.‬‬
‫ط ـ عز الدين الدبيسي من أكابر أمراء زنكي ‪ ،‬كانت دقوقا من مجلة إقطاعه(‪.)11‬‬
‫ي ـ انصر الدين كوري بن جكرمش (وايل املوص ‪ 495‬ـ ‪500‬هـ) أقطعه زنكي إقطاعاً كثرياً اعرتا اً بفَ والده(‪.)12‬‬
‫ك ـ األمري سوار بن إيتكني الرتكماين ‪ ،‬ويل حلب عام ‪524‬هـ(‪ )13‬وأجرى عليه زنكي اإلقطاعات الكثرية ‪ ،‬واعتمد‬
‫عليه يف قتال الفرنج(‪.)14‬‬
‫ل ـ جنم الدين أيوب الذي واله زنكي بعلبك عام ‪534‬هـ ‪ ،‬بعد أن أقطعه ثلثها ‪ ،‬وقي ‪ :‬نصفها(‪.)15‬‬

‫(‪ )1‬كتاب الروضتني (‪ )76/1‬عماد الدين زنكي ص ‪.219‬‬


‫(‪ )2‬الكام يف التاريخ نقضمً عن عماد الدين زنكي ص ‪.219‬‬
‫(‪ )3‬عماد الدين زنكي ص ‪.219‬‬
‫(‪ )4‬الباهر ص ‪.79‬‬
‫(‪ )5‬مفرج الكروب(‪.)84/1‬‬
‫(‪ )6‬ذي اتريخ دمشق ص ‪.258‬‬
‫(‪ )7‬عماد الدين زنكي ص ‪.220‬‬
‫(‪ )8‬املصدر نفسه ص ‪.220‬‬
‫(‪ )9‬املصدر نفسه ص ‪.220‬‬
‫(‪ )10‬املصدر نفسه ص ‪.220‬‬
‫(‪ )11‬املصدر نفسه ص ‪.220‬‬
‫(‪ )12‬املصدر نفسه ص ‪.220‬‬
‫(‪ )13‬املصدر نفسه ص ‪.221‬‬
‫(‪ )14‬املصدر نفسه ص ‪.221‬‬
‫(‪ )15‬املصدر نفسه ص ‪.221‬‬

‫‪62‬‬
‫وكان زنكي ميتلك بعض اإلقطاعات ‪ ،‬خارج حدود إمارته حص عليها يف ظروف استثنائية ‪ ،‬كتلك اليت وهبه اخلليفة‬
‫املقتفي هلإايها ‪ ،‬من أمضمكه اخلاصة يف بغداد ‪ ،‬رغبة يف استمالته(‪ )1‬وقال متحداثً عن ذلك‪ :‬هذه قاعدة مل يسمح هبا‬
‫ألحد من زعماء األطراف ‪ ،‬وهي أن يكون له يف العراق إقطاع(‪ .)2‬ومن مث اعترب هذا النوع من اإلقطاع شاذاً‪ .‬هذه‬
‫بعض األمساء اليت قدمتها املصادر عن مقطعي زنكي من كبار األمراء والقواد ‪ ،‬والراجح‪ :‬هل‬
‫أن عدداً كبرياً من املقطعني مل‬
‫تشر إليهم املصادر ‪ ،‬إما إغفاالً منها ‪ ،‬أو لعدم أمهية األماكن اليت أقطعت هلم من النواحي العسكرية واجلغرا ية ورمبا‬
‫لقلة اشتهار املقطعني أنفسهم(‪.)3‬‬
‫وقد وزعت اإلقطاعات على اجلند َضمً عن األمراء ‪ ،‬وتشري النصوص الواردة يف ذلك إىل أن زنكي كان يقوم بنفسه‬
‫أحياانً بتقرير قواعد اجلند ‪ ،‬وإقطاعهم(‪ ،)4‬وأورد ابن األثري يف الباهر اإلجراء الذي اختذه زنكي بشأن أمرائه املقطعني؛‬
‫أي حاجة بكم إىل األمضمك؟ إن اإلقطاعات‬ ‫إذ هنى هؤالء‪ :‬عن اقتناء األمضمك معلضمً ذلك بقوله‪ :‬ما دامت البضمد لنا؛ ُّ‬
‫تغين عنها ‪ ،‬وإن خرجت البضمد عن أيدينا إن األمضمك تذهب معها ‪ ،‬ومىت صارت األمضمك ألصحاب السلطان ظلموا‬
‫النص يؤكد بوضوح عدم وجود ملكية مباشرة لألرض من قب‬ ‫الرعية ‪ ،‬وتعدوا عليهم ‪ ،‬وغصبوا أمضمكهم(‪ .)5‬وهذا ُّ‬
‫املقطعني ب كانت هذه امللكية بيد الفضمحني(‪ ، )6‬واألهايل(‪ )7‬مقاب د ع ضريبة سنوية للحكومة ‪ ،‬واملقطعني(‪ ، )8‬وقد‬
‫كان هلذا اإلجراء الذي اختذه زنكي مبنع املقطعني من «التملك» نتائج إجيابية‪.‬‬
‫إن اقتناء األمضمك من قب هؤالء يؤدي إىل أضرار عديدة قد تلحق ابألهايل ومبصلحة اإلمارة على حد سواء ‪ ،‬أوهلا ما‬ ‫هل‬
‫أن األمري يف حالة كهذه سيستخدم‬ ‫ٍ‬
‫اغتصاب ألمضمكهم ‪ ،‬ذلك‪ :‬هل‬ ‫جير إليه املقطعني من ظل ٍم للرعية ‪ ،‬و ٍ‬
‫اعتداء عليهم ‪ ،‬و‬
‫ما ميتلكه من نفوذ وسلطة للَغط على أصحاب امللك ببيعه ملكهم أبق مثن ‪ ،‬ورمبا د عتهم إىل التنازل عنه ابلقوة(‪،)9‬‬
‫وقد أدرك ابن األثري مدى عدالة زنكي يف هذه اخلطوة علق عليها قائضمً‪ :‬ما أحسن هذا اخللق ـ أي‪ :‬خلق زنكي ـ‬
‫أن عمارة البضمد من مثرات العدل ‪،‬‬ ‫وأحسن هذا النظر للرعااي ‪ ،‬وأكثر هذه الشفقة عليهم والرمحة هلم‪ .‬وال خضمف يف هل‬
‫وكف األيدي املتطاولة إىل أهلها(‪.)10‬‬
‫إن من نتائج اقتناء املقطعني لألمضمك جتمع الثروة أبيدي طبقة حمدودة من األمراء ‪ ،‬واحتكار هذه‬ ‫و َضمً عن ذلك ‪ ،‬هل‬
‫الطبقة ملوارد الرزق ‪ ،‬بينما تبقى أكثرية السكان يف قر مدقع‪.‬‬

‫(‪ )1‬عماد الدين زنكي ص ‪.221‬‬


‫(‪ )2‬الباهر ص ‪ 54‬عماد الدين زنكي‪.‬‬
‫(‪ )3‬عماد الدين زنكي ص ‪.221‬‬
‫(‪ )4‬الباهر ص ‪ 35‬ـ ‪.37 ، 36‬‬
‫(‪ )5‬الكام يف التاريخ نقضمً عن عماد الدين زنكي ص ‪.222‬‬
‫(‪ )6‬زبدة حلب (‪ 283/2‬ـ ‪ )284‬عماد الدين زنكي ص ‪.223‬‬
‫(‪ )7‬مفرج الكروب (‪ 74/1‬ـ ‪.)75‬‬
‫(‪ )8‬الباهر ص ‪ 79‬زبدة حلب(‪.)280/2‬‬
‫(‪ )9‬عماد الدين زنكي ص ‪.22‬‬
‫(‪ )10‬الكام يف التاريخ نقضمً عن عماد الدين زنكي ص ‪.223‬‬

‫‪63‬‬
‫هذا إىل أن اقتناء األمراء لألمضمك والعناية هبا قد يؤدي هبم إىل عدم توجيه جهودهم لك ما يتعلق ابجلندية ‪ ،‬والد اع‪،‬‬
‫وهي األمور اليت أُقطعوا األراضي واألعمال من أجلها(‪.)1‬‬
‫ويستدل من بعض الرواايت‪ :‬أنهله مل يكن يشرتط يف املقطع البقاء يف إقطاعه خاصة إذا كان من أصحاب الوظائف‬
‫العالية اليت تقتَي مضمزمته لزنكي‪ ،‬وكان املقطع يف هذه احلالة ينيب عنه من يقوم إبدارة إقطاعيته ‪ ،‬كما حدث ابلنسبة‬
‫جلمال الدين حممد بن أيوب الياغسياين ‪ ،‬أمري حاجب زنكي ‪ ،‬الذي أقطع عدة مدن ‪ ،‬أانب يف ك ٍ منها من يعتمد‬
‫(‪)4‬‬
‫عليه يف إدارة شؤوهنا(‪ )2‬كحماة اليت أانب يها ابنه شهاب الدين أمحد(‪ ،)3‬وحصن اخلربة اليت أانب يه عيسى احلاجب‬
‫‪ ،‬وكذلك ابلنسبة لزين الدين علي كجك بن بكتكني قائد زنكي يف املوص ‪ ،‬الذي أقطع أرب ‪ ،‬وعقر احلمدية وأعماهلا‬
‫‪ ،‬ومن املرجح‪ :‬أنهله أانب عنه يهما من يدير شؤوهنما بدلي عدم مغادرته املوص إىل إقطاعه يف أرب إالهل عام ‪563‬هـ(‪.)5‬‬
‫أن نور الدين حممود بن زنكي أدخ نظام التوريث يف اإلقطاع ‪ ،‬إذ كان‪ :‬من آرائه احلسنة ما كان‬ ‫وتشري الرواايت إىل هل‬
‫أقر اإلقطاع عليه‪ .‬كان األجناد يقولون‪ :‬هذه‬
‫يعتمده يف أمر أجناده ‪ ،‬إنه كان إذا تويف أحدهم ‪ ،‬وخلف ولداً ذكراً؛ هل‬
‫أمضمكنا يرثها الولد عن الوالد ‪ ،‬نحن نقات عليها ‪ ،‬وكان ذلك من أعظم األسباب لصرب اجلند يف احلروب بني يديه(‪.)6‬‬
‫وقد رجح الدكتور عماد الدين خلي أن زنكي سبق ابنه يف إدخال هذا النظام؛ إذ هنالك سابقة من عهده تُشري إىل‬
‫هذا االجتاه اجلديد يف نظام اإلقطاع ‪ ،‬وذلك عندما قام بنق طائفة من الرتكمان مع أمريهم الياروق إىل الشام ‪ ،‬وأسكنهم‬
‫بوالية ‪ ،‬وأمرهم جبهاد الفرنج ‪ ،‬وملهلكهم ك ما استنقذوه من البضمد اليت للفرنج وجعله ملكاً هلم ‪ ،‬كانوا يغادون الفرنج‬
‫ابلقتال ‪ ،‬ويراوحوهنم ‪ ،‬وأخذوا كثرياً من السواد(‪ُّ ،)7‬‬
‫وسدوا ذلك الثغر العظيم‪.‬‬
‫أن زنكي ‪ ،‬أدرك ‪ ،‬كما أدرك ولده من بعده مدى‬ ‫ومل يزل مجيع ما تحوه يف أيديهم إىل حنو سنة ‪600‬هـ‪ .‬وال شك‪ :‬هل‬
‫النتائج اإلجيابي ة اليت ميكن أن يؤدي إليها نظام التوريث هذا ‪ ،‬وأمهها إخضمص جنده له ‪ ،‬واستماتتهم يف القَاء على‬
‫ما يهدد إمارته من أخطار ملا يف ذلك من مصلحة هلم وألوالدهم الذين سريثون إقطاعهم من بعدهم(‪.)8‬‬
‫‪ 3‬ـ نظام اإلعداد القيادي (األاتبكية)‪ :‬وهي كلمة مشتقة من الكلمة الرتكية أاتبك املركبة من املقطعني (أات) مبعىن‪ :‬أب‬
‫و«بك» مبعىن أمري ‪ ،‬وتعين «الوالد األمري» وكان هذا اللقب يطلق على من يتوىل تربية أبناء امللوك والسضمطني ‪ ،‬ويرعى‬
‫شؤوهنم ‪.‬‬
‫وكان األاتبك‪ :‬هو احلاكم األعلى يف األاتبكية ‪ ،‬وكان يلقب ابمللك أيَاً ‪ ،‬وله اإلشراف على مجيع شؤون اململكة ‪،‬‬
‫األول عن السياسة اخلارجية ‪ ،‬ومن حقه أن يعلن احلرب ‪ ،‬ويقود اجليوش ‪ ،‬ويعني‬ ‫أو األاتبكية ‪ ،‬كما أنهله يـُ َع ُد املسؤول هل‬

‫(‪ )1‬عماد الدين زنكي ص ‪.223‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص ‪.223‬‬
‫(‪ )3‬ذي اتريخ دمشق ص ‪ ، 258‬االعتبار ص ‪ 97‬ـ ‪.98‬‬
‫(‪ )4‬االعتبار ص ‪.78‬‬
‫(‪ )5‬الباهر ص ‪ ، 78‬الكام يف التاريخ نقضمً عن عماد الدين زنكي ص ‪.224‬‬
‫(‪ )6‬مفرج الكروب (‪.)280/1‬‬
‫(‪ )7‬املنطقة الزراعية احمليطة حبلب ‪ ،‬عماد الدين زنكي ص ‪.225‬‬
‫(‪ )8‬كتاب الروضتني (‪ 111/1‬ـ ‪.)112‬‬

‫‪64‬‬
‫القواد ‪ ،‬هو لذلك أشبه ابلسلطان السلجوقي ‪ ،‬كما أن له احلق يف نقش امسه على السكة ‪ ،‬والدعاء له يف‬ ‫الوالة و هل‬
‫اخلطبة إىل جانب اسم اخلليفة والسلطان(‪.)1‬‬
‫وقد ُعرف عماد الدين زنكي بلقب (األاتبك) ُمنذ تعينه حاكماً على املوص عام ‪521‬هـ ‪ ،‬واشتهرت اإلمارة اليت‬
‫أسسها ابسم(أاتبكية املوص ) والسضملة اليت أعقبته يف احلكم ابسم األاتبكة ‪ ،‬وقد بدأت تسمية زنكي هبذا اللقب يف‬
‫شعبان عام ‪521‬هـ عندما واله السلطان حممود املوص ‪ ،‬وسلمه ولديه‪ :‬ألب أرسضمن ‪ ،‬و ُّروخ شاه (املعروف ابخلفاجي)‬
‫وجعله أاتبكاً هلما(‪ ،)2‬وقد ترتبت على «أاتبكية زنكي» نتائج عديدة ‪ ،‬قد كان عليه من الناحية الرمسية أن حيكم ابسم‬
‫ألب أرسضمن أكرب األمريين ‪ ،‬وأن خيطب له ‪ ،‬ولذلك أظهر للخلفاء والسضمطني وأصحاب األطراف‪ :‬هل‬
‫أن البضمد اليت‬
‫حيكمها إمنا هي للملك ألب أرسضمن(‪ ،)3‬وأنهله انئب يها‪ :‬كان إذا أرس رسوالً ‪ ،‬أو أجاب على رسالة ‪ ،‬إمنا يقول‪:‬‬
‫قال امللك‪ :‬كذا(‪ )4‬وكذا ‪ ،‬وكان هذا اإلجراء من قب زنكي ال يعدو أن يكون شكلياً؛ إذ أن السلطة الفعلية كانت‬
‫مرتكزة يف يده ‪ ،‬ومل يكن ٍ‬
‫ألحد من ابين السلطان حممود أية سلطة عملية ‪ ،‬ب كاان أشبه ابحملتجزين؛ إذ هلرق زنكي‬
‫بينهما ‪ ،‬جع أحدمها يف أحد معاق سنجار ‪ ،‬واآلخر حتت إشراف زوجته يف املوص (‪.)5‬‬
‫وقد استهدف من اخلطبة أللب أرسضمن إلقاء الصفة الرمسية «الشرعية» على سياسته‪ ،‬وأعماله مستغضمً اسم امللك‬
‫السلجوقي ‪ ،‬كما عم زنكي على استغضمل وجود هذين امللكني السلجوقيني ‪ ،‬قام مبحاوالت ثضمث(‪525‬هـ ‪529‬هـ)‬
‫ضد السلطان السلجوقي يف أصفهان‬ ‫لتنصيب ألب أرسضمن على عرش سضمجقة العراق ‪ ،‬ابالتفاق مع اخلليفة العباسي هل‬
‫‪ ،‬وقد استهدف من وراء ذلك جع السلطة الفعلية لسضمجقة العراق بيده ابسم السلطان الشرعي املنصب ‪ ،‬ولكن‬
‫هذه احملاوالت انتهت مجيعاً ابلفش (‪.)6‬‬
‫تزعمها امللك اخلفاجي عام ‪539‬هـ أثناء غياب‬ ‫ضد عماد الدين زنكي هل‬ ‫أ ـ حماولة انقضمبية يف املوص ‪ :‬قامت مؤامرة هل‬
‫زنكي عن املوص ؛ إذ اتفق اخلفاجي وأنصاره على اغتيال نصري الدين جقر انئب زنكي يف املوص ‪ ،‬ومن مث السيطرة‬
‫على املدينة ‪ ،‬وإعضمن العصيان ضد زنكي ‪ ،‬في صباح الثامن ‪ ،‬أو التاسع من ذي القعدة عام ‪539‬هـ ركب جقر يف‬
‫(‪)7‬‬
‫حسن املفسدون‬
‫موكبه كعادته ‪ ،‬واخرتق شوارع املدينة متجهاً إىل الدار اليت يقيم يها امللك اخلفاجي للتسليم عليه ‪ ،‬هل‬
‫للملك قتله‪ ،‬وقالوا له‪ :‬إنهلك إن قتلته؛ ملكت املوص ‪ ،‬وغريها ويعجز أاتبك أن يقيم بني يديك ‪ ،‬وال جيتمع معه‬
‫ارسان عليك وقع هذا يف نفسه وظنهله صحيحاً ‪ ،‬لما دخ نصري الدين إليه كعادته وثب عليه مجاعة يف خدمة امللك‬
‫تفرقوا ‪ ،‬وميلك امللك البضمد ‪ ،‬وكان األمر‬
‫‪ ،‬قتلوه ‪ ،‬وألقوا رأسه إىل أصحابه ‪ ،‬ظنهلاً منهم أن أصحابه إذا رأوا رأسه هل‬

‫(‪ )1‬دولة األاتبكة يف املوص بعد عماد الدين زنكي ص ‪.236‬‬


‫(‪ )2‬و يات األعيان(‪ 315/1‬ـ ‪ )316‬عماد الدين زنكي ص ‪.226‬‬
‫(‪ )3‬عماد الدين زنكي ص ‪.227‬‬
‫(‪ )4‬الباهر ص ‪ 71‬عماد الدين زنكي ص‪.227‬‬
‫(‪ )5‬عماد الدين زنكي ص ‪.227‬‬
‫(‪ )6‬املصدر نفسه ص ‪.227‬‬
‫(‪ )7‬املصدر نفسه ص ‪.227‬‬

‫‪65‬‬
‫خبضمف ما ظنُّوا ‪ ،‬إن أصحابه ‪ ،‬وأصحاب أاتبك الذين معه ملا رأوا رأسه قاتلوا من ابلدهلار مع امللك ‪ ،‬واجتمع معهم‬
‫اخللق الكثري ‪ ،‬وكانت دولة عماد الدين مملوءة ابلرجال األجضمد ذوي الرأي والتجربة ‪ ،‬لم يتغري عليه هبذا الفتق شيءٌ(‪.)1‬‬
‫ب ـ دور العلماء يف تثبيت عماد الدين‪ :‬كان عماد الدين زنكي منشغضمً مبحاصرة البرية سنة ‪539‬هـ وكانت هذه املدينة‬
‫قد أوشكت على السقوط يف يد عماد زنكي ‪ ،‬ورد إليه نبأ مقت انئبه يف املوص نصري الدين جقر ‪ ،‬انزعج كثرياً ‪،‬‬
‫واضطر عماد الدين إىل الرحي عن البرية ‪ ،‬وأرس انئباً عنه إىل املوص الستطضمع حقيقة األمر ‪ ،‬وهو القاضي اتج‬
‫لما وص اتج الدين إىل املوص ؛ علم‪:‬‬ ‫الدين بن حيىي بن الشهرزوري كان مضمزماً لعماد الدين أثناء حماصرته للبرية ‪ ،‬هل‬
‫أن امللك السلجوقي ابن السلطان حممود بن حممد بن ملكشاه كان وراء مقت نصري الدين جقر؛ ليملك املوص يف‬
‫غياب عماد الدين عنها(‪ ، )2‬ولذلك قام القاضي اتج الدين بن الشهرزوري خبدعة كي يفسد على امللك السلجوقي‬
‫زعيم االنقضمب ابملوص خمططه ‪ ،‬دخ يف الدار اليت كان حياصره يها أصحاب جقر ‪ ،‬وأصحاب عماد الدين زنكي‬
‫‪ ،‬وظ خيادعه مبعسول الكضمم ‪ ،‬وحيسن له ما عله مع جقر ‪ ،‬ويشجعه على الصعود إىل قلعة املوص حىت ميلكها ‪،‬‬
‫ويكون يف مأمن ‪ ،‬حيث يوجد هبا األموال ‪ ،‬والسضمح ‪ ،‬يستطيع بعد ذلك متلك املوص ‪ ،‬اقتنع امللك السلجوقي بن‬
‫حممود ‪ ،‬وخرج يف صحبة القاضي اتج الدين ‪ ،‬وصعدا معاً إىل القلعة ‪ ،‬وهناك قبض عليه وعلى من معه من أتباعه‬
‫الذين قتلوا نصري الدين جقر ‪ ،‬وبعد ذلك توجه القاضي اتج الدين إىل عماد الدين زنكي وبلهلغه بك ما عله ‪ ،‬سكن‬
‫جأشه ‪ ،‬واطمأن قلبه(‪.)3‬‬
‫وممهلا تقدم يتَح لنا مدى ما بلغه القاضي اتج الدين من الفطنة ‪ ،‬وحسن التصرف ‪ ،‬مث ابقي أقاربه من بيت‬
‫وعني عماد الدين زنكي قائده زين الدين علي كجك ليح هل‬ ‫الشهرزوري الذين امتألت هبم دولة عماد الدين زنكي(‪ )4‬هل‬
‫حم جقر انئب املوص املقتول ‪ ،‬مث ذهب هو بنفسه بعد ذلك إلقرار األوضاع هناك(‪.)5‬‬
‫ج ـ سياسة عماد الدين م ع امللك االخر ألب أرسضمن‪ :‬أبدى زنكي ‪ ،‬بعد مقت اخلفاجي ‪ ،‬عطفه على امللك االخر‬
‫حراساً وموظفني‬
‫ألب أرسضمن ‪ ،‬ألغى احتجازه يف أحد معاق سنجار وعطف عليه وعين بتفاصي أمره ‪ ،‬وعني له هل‬
‫اهتم مبراسيم جلوسه وركوبه ‪ ،‬وطالب رجاله ابالهتمام أبمره ‪ ،‬واحرتامه ‪ ،‬وتلبية مطالبه ‪ ،‬وقد استهدف من‬
‫خلدمته ‪ ،‬و هل‬
‫هذه اإلجراءات تغطية امللك اخلفاجي(‪ ، )6‬كي ال يثري السضمجقة ضده وحماولة منه الستغضمل ألب أرسضمن لتحقيق أمله‬
‫يف املستقب ‪ ،‬وذلك ابملطالبة بتوليته سلطنة العراق‪ .‬بعد و اة عمه السلطان مسعود ‪ ،‬ليصبح زنكي املتحكم الفعلي‬
‫ابسم السلطان اجلديد(‪.)7‬‬

‫(‪ )1‬كتاب الروضتني‪.‬‬


‫(‪ )2‬دور الفقهاء العلماء املسلمني يف الشرق األدىن ص ‪.113‬‬
‫(‪ )3‬الباهر ص ‪ 72‬دور الفقهاء والعلماء ص ‪.113‬‬
‫(‪ )4‬دور الفقهاء والعلماء املسلمني يف الشرق األدىن ص ‪.114‬‬
‫(‪ )5‬عماد الدين زنكي ص ‪.229‬‬
‫(‪ )6‬عماد الدين زنكي ص ‪.229‬‬
‫(‪ )7‬املصدر نفسه ص ‪.230‬‬

‫‪66‬‬
67
‫املبحث الثالث ‪ :‬عالقـة عمـاد الدين زنكي ابخلالفة العباسيـة والسلطنـة السلجوقية‬

‫تسلهلم عماد الدين زنكي املوص من األمري جاويل ‪ ،‬وأقطعه الرحبة وأعماهلا ‪ ،‬مث انصرف إىل تنظيم شؤون إمارته إدارايً‬
‫(‪)1‬‬

‫وىل نصري الدين جقر قلعة املوص ‪،‬‬ ‫‪ ،‬وعسكرايً مستنداً يف ذلك إىل ما كان سائداً عند السضمجقة من نظم احلكم ‪ ،‬هل‬
‫وعني الياغسياين أمري حاجب ‪ ،‬والقاضي الشهرزوري قاضي بضمده ‪ ،‬وما يفتحه من‬ ‫و هلوض إليه أمر الوالية مجيعها ‪ ،‬هل‬
‫بضمده(‪ ، )2‬مث انصرف إىل العم على حتقيق هد ني وضعهما نصب عينيه ‪ ،‬مها‪:‬‬
‫ـ أتسيس دولة وراثية وتوسيعها عن طريق ضم املدن واإلمارات احمللية يف اجلزيرة وبضمد الشام ‪ ،‬وتوحيدها مع إمارة املوص ‪.‬‬
‫ـ تكوين جبهة إسضممية متماسكة تستطيع مواجهة الصليبيني ‪ ،‬وتطردهم من الشرق اإلسضممي ‪ ،‬دخ من أج ذلك‬
‫يف عضمقات سياسية عسكرية مع األمراء احملليني‪.‬‬
‫ويبدو‪ :‬أنهله مل يتمكن من املَي قُ ُدماً يف حتقيق هد يه يف ابدئ األمر بسبب انغماسه يف أحداث العراق ‪ ،‬ممهلا صر ه عن‬
‫ُ‬
‫ميدان بضمد الشام؛ إذ شهد هذا البلد آنذاك صراعاً بني اخلضم ة العباسية‪ ،‬والسلطنة السلجوقية من أج االستئثار ابلنفوذ‬
‫(‪)3‬‬
‫وقد تدخ يه عماد الدين زنكي‪ ،‬وانتهى ابنتصار واضح لصاحله وحتديد مستقبله السياسي‬
‫أوالً‪ :‬حماولة عزل عماد الدين زنكي عن املوصل‪:‬‬
‫تراوحت عضمقة عماد الدين ابخلضم ة العباسية ‪ ،‬والسلطنة السلجوقية بني التعاون املثمرة والعداء الشديد و قاً للمصلحة‬
‫العامة والشخصية يف الوقت نفسه ‪ ،‬على هل‬
‫أن هذه التقلبات مل تؤثر على مركزه يف والية املوص ‪ ،‬واجلزيرة ‪ ،‬وبضمد الشام‬
‫تعرض يف بداية حكمه حملاولة استهد ت عزله عن منصبه ‪ ،‬وإحضمل ُدبَيس بن صدقة أمري احللة مكانه ‪ ،‬ذلك‪:‬‬ ‫‪ ،‬قد هل‬
‫أن هذا الرج كان قد التحق خبدمة السلطان سنجر ‪ ،‬سلطان السضمجقة العظام يف خراسان ‪ ،‬وأضحى من أمرائه‬ ‫هل‬
‫وجه حممود سلطان سضمجقة العراق إىل خراسان لتصفية املشاك القدمية مع عمه سنجر(‪، )4‬‬ ‫املقربني ‪ ،‬وحدث أن هل‬
‫وأثناء املباحثات اليت جرت بينهما طلب سنجر من ابن أخيه حممود‪:‬‬
‫لدبَيس‪.‬‬
‫ـ أن يعزل عماد الدين زنكي عن املوص ‪ ،‬واجلزيرة ‪ ،‬وبضمد الشام ‪ ،‬ويوليها ُ‬
‫ـ وأن يطلب من اخلليفة حتسني عضمقاته به بعد املشاك اليت أاثرها ضد اخلضم ة(‪.)5‬‬
‫أن حمموداً استجاب لطلب عمه ‪ ،‬عندما وص إىل بغداد يف مطلع عام ‪523‬هـ‪(/‬اخر عام ‪1128‬م) سعى‬ ‫ويبدو‪ :‬هل‬
‫لدبَيس(‪.)6‬‬
‫لدى اخلليفة املسرتشد ابهلل لتحقيق ذلك ‪ ،‬كما طلب من عماد الدين زنكي التخلي عن منصبه ‪ ،‬وتسليمه ُ‬

‫(‪ )1‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.88‬‬


‫(‪ )2‬الباهر ص ‪.34‬‬
‫(‪ )3‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.89‬‬
‫(‪ )4‬أخبار الدولة السلجوقية للحسيين ص ‪ 88‬ـ ‪.90‬‬
‫(‪ )5‬املنتظم يف اتريخ امللوك واألمم(‪ 8/10‬ـ ‪.)9‬‬
‫(‪ )6‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.89‬‬

‫‪68‬‬
‫كان هذا الطلب كا ياً للقَاء على آ مال عماد الدين زنكي ‪ ،‬وتطلعاته السياسية ‪ ،‬لذلك حترك على وجه السرعة‬
‫إلحباط هذا التدبري ‪ ،‬قدم إىل بغداد ‪ ،‬و هل‬
‫متكن بعد مباحثات طويلة من إقناع السلطان بَرورة إبقائه على والية املوص‬
‫أكد طاعته ‪ ،‬وإخضمصه له ‪ ،‬خلع عليه ‪ ،‬وجدهلد له واليته ‪ ،‬وكتب له منشوراً جديداً حبكم‬ ‫جملاهبة الصليبيني ‪ ،‬كما هل‬
‫املوص ‪ ،‬واجلزيرة ‪ ،‬والشام أتكيداً ملنشور عام ‪521‬هـ(‪ )1‬وقد ساعدت عماد الدين زنكي جمموعة من العوام على‬
‫لدبَيس؛ حىت إنهله‬‫بقائه يف منصبه ‪ ،‬منها ما بذله اخلليفة من جهود لتثبيت زنكي على املوص بدا ع من كراهيته العميقة ُ‬
‫إن دبيساً أعان الفرجنة ضد املسلمني؛ كيف توليه(‪)2‬؟! وكان دبيس قد انَم إىل‬ ‫أرس إىل السلطان حممود يقول له‪ :‬هل‬
‫الصليبيني ـ وهو من الطائفة الشيعية االثين عشرية ـ بعد هزمية ‪517‬هـ وأسهم معهم يف حصار حلب طمعاً ابالستيضمء‬
‫عليها وحكمها نيابة عنهم‪.‬‬
‫مل يكن أهايل بغداد أق كراهية لدبيس وحقداً عليه من اخلليفة نفسه؛ حىت إهنم تظاهروا ضدهله لدى دخوله العاصمة ‪،‬‬
‫وراحوا ينددون به ‪ ،‬ويهتفون ابلتأييد والدعاء للخليفة والسلطان(‪ )3‬بسبب حماوالت ُدبَيس املتكررة لنهب بغداد ‪،‬‬
‫وختريبها(‪َ .)4‬ضمً عن مساعدته للصليبيني(‪.)5‬‬
‫ومل يكن يف صاحل السلطان حممود نفسه عزل زنكي عن املوص وهو الذي وقف إىل جانبه يف الظروف احلرجة ‪ ،‬ولعلهله‬
‫مل يقم مبحاولة العزل ـ أساساًـ إال حتت ضغط عمه سنجر صاحب السلطة العليا على السضمجقة ‪ ،‬هذا َضمً عن أن‬
‫تعيني دبيساً يف املوص قد يتيح لسنجر أن يتهلخذ منه صنيعة هل‬
‫ضد مصاحل السلطان حممود يف العراق(‪.)6‬‬
‫اثنياً‪ :‬صراع البيت السلجوقي على السلطنة بعد وفاة السلطان حممود‪:‬‬
‫اطمأن زنكي إىل واليته طيلة األعوام األخرية من حكم السلطان حممود ‪ ،‬وعندما تويف هذا يف منتصف عام ‪525‬هـ‬ ‫هل‬
‫أرس زنكي إىل اخلليفة املسرتشد يطلب منه أن يقيم اخلطبة ببغداد للملك السلجوقي ألب أرسضمن ـ وهو أحد امللكني‬
‫اللذين أنيطت بزنكي مهمة اإلشراف على تربيتهما ‪ ،‬إالهل أن اخلليفة اعتذر عن ذلك حمتجاً(‪:)7‬‬
‫‪ 1‬ـ بصغر سن ألب أرسضمن وبعدم صضمحيته للحكم‪.‬‬
‫أبن السلطان كان قد عهد ابلسلطنة من بعده وهو أبصفهان إىل ابنه داود‪.‬‬‫‪ 2‬ـ هل‬
‫‪ 3‬ـ هل‬
‫أبن حكام الوالايت قد بدؤوا عضمً إبقامة اخلطبة له ‪ ،‬وأضاف أبنه لن يقدم على اختاذ أي إجراء هبذا الصدد قب‬
‫أن تصله رسالة من السلطان سنجر زعيم السضمجقة الكبار يف خراسان(‪.)8‬‬

‫(‪ )1‬مفرج الكروب يف أخبار بين أيوب(‪.)40/1‬‬


‫(‪ )2‬زبدة حلب(‪ )244/2‬عماد الدين زنكي ص ‪.50‬‬
‫(‪ )3‬زبدة حلب(‪ 221/2‬ـ ‪.)225‬‬
‫(‪ )4‬املنتظم(‪.)11/10‬‬
‫(‪ )5‬عماد الدين زنكي ص ‪.51‬‬
‫(‪ )6‬املصدر نفسه ص ‪.51‬‬
‫(‪ )7‬املصدر نفسه ص ‪.51‬‬
‫(‪ )8‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.91‬‬

‫‪69‬‬
‫وهكذا هلوت اخللي فة رصة ذهبية على عماد الدين زنكي لضمستفادة من و اة السلطان حممود ‪ ،‬الذي لو جنح يف‬
‫اغتنامها؛ ألاتحت له جماالت جديدة يف العم السياسي ‪ ،‬ود عته إىل اخلروج عن الوالء للسضمجقة بتنصيب أحد‬
‫أمرائهم املقيم حتت إشرا ه يف املوص سلطاانً على سضمجقة العراق ‪ ،‬يصبح بذلك املتحكم الفعلي يف شؤون العراق‬
‫ابسم السلطان اجلديد(‪.)1‬‬
‫ويف العام التايل استطاع السلطان مسعود بن حممد ـ حاكم أذربيجان ـ استمالة زنكي ملساعدته يف املطالبة بعرش سضمجقة‬
‫العراق لقاء منحه مدينة أرب احلصينة شرقي املوص ‪ ،‬ومت االتفاق بينهم على أن يتجها إىل بغداد ملطالبة اخلليفة‬
‫أن سلجوق شاه بن حممد ـ أخا مسعود الذي‬ ‫املسرتشد ابخلطبة ملسعود ‪ ،‬واالعرتاف به سلطاانً على العراق(‪ ، )2‬إالهل هل‬
‫كان يطمح هو االخر بعرش السضمجقة يف العراق سبق أخاه إىل بغداد ‪ ،‬وطالب اخلليفة ابخلطبة له امتنع األخري عن‬
‫تنفيذ طلبه ‪ ،‬وملا مسع سلجوق شاه ابقرتاب زنكي على رأس قواته املوالية ملسعود؛ أمر قائده (قراجا الساقي) ابإلسراع‬
‫يف التوجه مشاالً إليقاف تقدمه ‪ ،‬وص إىل مشارف سامراء أبقـ من يومني ‪ ،‬ودارت املعركـة بني الطر ني عند قصـر‬
‫املعشوق على اجلهة املقابلة لسامراء ‪ ،‬وانتهت هبزمية زنكي ‪ ،‬وأسر عدد كبري من قواته ‪ ،‬لجأ مبن معه من لول إىل‬
‫تكريت(‪ )3‬حيث أسرع واليها جنم الدين أيوب إبقامة املعابر هلم ‪ ،‬وإكرام ضيا تهـم حلني عودهتـم إىل املوصـ (‪ ، )4‬وهنـاك‬
‫استطاع زنكي أن يعيد تنظيم قواته ‪ ،‬بعد أن أنفق عليها أمواالً كثرية ‪ ،‬وجهزه ابملؤن واملعدات(‪.)5‬‬
‫اثلثاً‪ :‬موقف السلطان سنجر من األحداث‪:‬‬
‫كان السلطان سنجر يراقب تطورات األحداث السياسية يف العراق ‪ ،‬هبدف انتهاز رصة للتدخ واهليمنة على هل‬
‫مقدرات‬
‫األمور‪ ،‬وإخَاع سضمجقة العراق إلشرا ه املباشر‪ ،‬وحىت يدعم موقفه؛ رأى أن يستقطب كضمً من عماد الدين زنكي‪،‬‬
‫ودبَيس بن صدقة ‪ ،‬طلب منهما التوجه إىل بغداد ‪ ،‬واالستيضمء عليها ‪ ،‬وإقامة اخلطبة يها له وخلليفته امللك طغرل بن‬‫ُ‬
‫(‪)6‬‬
‫لدبَيس وا ق عماد الدين‬ ‫حممد بن حممود ‪ ،‬وتعهد إبضا ة شحنكية بغداد إىل عماد الدين زنكي ‪ ،‬وإبقطاع احللة ُ‬
‫أبن النصر سيكون حليف سنجر ‪ ،‬وبذا يستطيع أن حيقق مزيداً من مطامعه‪ .‬أدرك‬ ‫زنكي على هذا العرض العتقاده هل‬
‫أن الصراع بينهما سوف يتيح الفرصة لتدخ عمهما سنجر‪ ،‬ويقَي على مصاحلهما يف‬ ‫ك ٌّ من مسعود وسلجوقشاه‪ :‬هل‬
‫ووحدا قواهتما للوقوف يف وجهه ‪ ،‬لكن سنجر انتصر على جيوشهما ‪ ،‬وأجلس طغرل‬ ‫العراق ‪ ،‬عقدا صلحاً بينهما ‪ ،‬هل‬
‫بن حممد على عرش سضمجقة العراق يف شهر مجادى االخرة عام ‪526‬هـ‪ /‬شهر نيسان عام ‪1132‬م(‪.)7‬‬

‫(‪ )1‬عماد الدين زنكي ص ‪.52‬‬


‫(‪ )2‬مفرج الكروب (‪ )97/1‬عماد الدين زنكي ص ‪.52‬‬
‫(‪ )3‬املنتظم (‪ )25/10‬الباهر ص ‪.43‬‬
‫(‪ )4‬الباهر ص ‪ 119‬ـ ‪ 120‬عماد الدين زنكي ص ‪.52‬‬
‫(‪ )5‬الباهر ص ‪ 43‬عماد الدين زنكي ص ‪.52‬‬
‫(‪ )6‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.93‬‬
‫(‪ )7‬املصدر نفسه ص ‪.92‬‬

‫‪70‬‬
‫ودبَيس قد اقرتاب من بغداد ‪ ،‬واشتبكا مع قوات اخلليفة يف «أواخر شهر رجب‪/‬‬ ‫يف هذه األثناء كان عماد الدين زنكي ‪ُ ،‬‬
‫شهر أاير» وحلهلت هبما اهلزمية ‪ ،‬رتاجع عماد الدين زنكي إىل املوص ‪ ،‬وقام ُدبَيس مبحاولة اشلة الستعادة احللة(‪، )1‬‬
‫واستطاع مسعود ‪ ،‬بعد سلسلة من احلروب ‪ ،‬أن يقَي على منا سيه وجيلس على عرش سضمجقة العراق مبوا قة سنجر‬
‫يف شهر صفر عام ‪527‬هـ‪ /‬شهر كانون األول ‪1132‬م‪.‬‬
‫ـ نتائج تلك احلروب‪ :‬كان للحروب اليت حدثت بني السضمجقة يما بينهم من جهة ‪ ،‬مث يما بينهم وبني اخلضم ة العباسية‬
‫من جهة أخرى ‪ ،‬واشرتاك عماد الدين زنكي يها نتائج هامة على وضعه السياسي والعسكري ‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أنهله خسر عضمقته الودية ابلسلطنة السلجوقية اليت استفاد منها يف أايم السلطان حممود ‪ ،‬إالهل أنهله حص على مدينة‬
‫إرب املهمة عسكرايً‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ اتسعت شهرته كأمري ذي قوة مؤثرة يف الصراع الدائر يف املنطقة‪.‬‬
‫تعرف على عائلة بين أيوب ‪ ،‬مما سيكون له أثر كبري يف تطور هذه العائلة ‪ ،‬وازدايد‬ ‫‪ 3‬ـ خرج من تلك احلروب وقد هل‬
‫نشاطها‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ تدهورت العضمقات بينه وبني اخلضم ة العباسية(‪.)2‬‬
‫رابعاً‪ :‬حماصرة املوصل‪:‬‬
‫أرس املسرتشد ابهلل إىل عماد الدين اإلمام أاب الفتوح اإلسفراييين ‪ ،‬أغلظ له يف القول ‪ ،‬أهانه عماد الدين ‪ ،‬وعاد‬
‫إىل املسرتشد ابهلل ‪ ،‬سار إىل املوص بثضمثني ألفاً سنة ‪527‬هـ(‪ ، )3‬وحاصرها يف ‪ 20‬رمَان نزل ابملوص انئبه نصري‬
‫الدين ‪ ،‬وسار هو إىل سنجار ليقطع املسرية عن عسكر اخلليفة ‪ ،‬واستمر احلصار ثضمثة أشهر ‪ ،‬وعاد اخلليفة إىل بغداد‬
‫يوم عر ة ‪ ،‬وسبب هذا احلصار سري عماد الدين زنكي السابق إىل بغداد ‪ ،‬واختضمف سضمطني السضمجقة ‪ ،‬وإهانة‬
‫زنكي لرسول اخلليفة(‪.)4‬‬
‫مل يتمكن جيش اخلليفة من اقتحام املوص ‪ ،‬وكان عماد الدين يف غَون ذلك يشن اهلجمات عليه؛ حىت أضحى‬
‫حماصراً ‪ ،‬تناقصت أقواته ‪ ،‬وساء وضعه القتايل(‪ .)5‬وعلى الرغم من هذا املوقف الصعب الذي وجد اخلليفة يه نفسه‬
‫إالهل أن عماد الدين زنكي مل يتمكن من الني منه ‪ ،‬وكان تراجع اخلليفة العسكري الذي حص بعد ذلك نتيجة لعوام‬
‫خارجية؛ إذ استغ السلطان مسعود رصة اهنماك اخلليفة حبصار املوص توجه إىل بغداد لتعزيز مركزه يها ‪ ،‬واستغاث‬
‫فك احلصار عنها ‪،‬‬ ‫بدبَيس بن صدقة لضمستيضمء عليها(‪ .)6‬تلقى اخلليفة هذه األنباء املقلقة؛ وهو حياصر املوص ‪ ،‬هل‬‫ُ‬

‫(‪ )1‬الباهر ص ‪ ، 46 ، 45‬اتريخ الزنكيني يف املوص ص ‪.93‬‬


‫(‪ )2‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.93‬‬
‫(‪ )3‬زبدة حلب نقضمً عن احلروب الصليبية واألسرة الزنكية ص ‪.75‬‬
‫(‪ )4‬الكام يف التاريخ نقضمً عن احلروب الصليبية ص ‪.75‬‬
‫(‪ )5‬الكام يف التاريخ (‪.)696/8‬‬
‫(‪ )6‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.94‬‬

‫‪71‬‬
‫وعاد إىل بغداد؛ ليدا ع عن عاصمته ‪ ،‬وص إليها يف العاشر من شهر ذي احلجة(‪ .)1‬وبذلك ختلهلص عماد الدين زنكي‬
‫من اخلطر الذي كاد أن يقَي على آله(‪.)2‬‬
‫خامساً‪ :‬التوتر بني عماد الدين والسلطان مسعود‪:‬‬
‫وعقد الصلح بني اجلانبني يف مطلع‬ ‫أجرى اخلليفة املسرتشد ابهلل العباسي مفاوضات انجحة مع عماد الدين زنكي ‪ُ ،‬‬
‫عام ‪528‬هـ أواخر عام ‪1133‬م وتُبودلت اهلدااي ‪ ،‬وأرس عماد الدين زنكي ابنه سيف الدين غازي إىل اخلليفة؛ ليؤكد‬
‫طاعته ووالءه له(‪ ، )3‬واستنجد اخلليفة بزنكي عام ‪529‬هـ أثناء صراعه مع السلطان مسعود ‪ ،‬وكان عماد الدين زنكي‬
‫آنذاك حياصر دمشق ‪ ،‬فك احلصار عنها ‪ ،‬وعقد صلحاً مع حكومتها حىت ال يُطعن من اخللف ‪ ،‬وعاد مسرعاً إىل‬
‫بغداد لنجدة اخلليفة ‪ ،‬إالهل أنهله وص متأخراً؛ إذ انتصر السلطان مسعود على اخلليفة املسرتشد يف املعركة اليت دارت‬
‫بينهما يف العاشر من رمَان ووقع يف األسر ‪ ،‬وظ مأسوراً حىت منتصف ذي القعدة ‪ ،‬حني هامجه مجاعة من الباطنية‬
‫‪ ،‬وقتلوه(‪.)4‬‬
‫صلت يف سرية املسرتشد ابهلل العباسي يف كتايب عن دولة السضمجقة واملشروع اإلسضممي ملقاومة التغلغ الباطين ‪،‬‬ ‫وقد هل‬
‫والغزو الصلييب‪ .‬هذا وقد أخذت البيعة بعد مقت املسرتشد ابهلل البنه أيب جعفر منصور امللقب ابلراشد ابهلل (‪529‬هـ‬
‫‪530‬هـ) مبوا قة السلطان مسعود(‪ ، )5‬وهكذا ضاعت رصة أخرى من يد عماد الدين زنكي للسيطرة على العراق(‪،)6‬‬
‫ونتيجة هلذه التطورات السياسية ازداد التوتر بني عماد الدين زنكي والسلطان ‪ ،‬وقد بلغ حداً د ع الثاين إىل تدبري مؤامرة‬
‫هنائي ‪ ،‬استدعاه إىل أصفهان ‪ ،‬لكن ُدبَيساً أخربه بنواايه ‪ ،‬هل‬
‫وحذره من‬ ‫الغتيال األول حىت يتخلهلص من خطره بشك ٍ ٍ‬
‫التوجه إىل بضمطه ‪ ،‬امتنع عن الذهاب ‪ ،‬وملا علم السلطان مبا عله ُدبيس؛ قتله على الفور(‪.)7‬‬
‫وكان عماد الدين زنكي قد أحسن لصدقة ‪ ،‬عندما وقع يف يدي اتج امللوك حاكم دمشق طلب عماد الدين من أمري‬
‫وخرهبا ‪ ،‬وهنب بلدها ‪ ،‬أجاب اتج‬ ‫دمشق أن يسلمه ُدبيساً وإن امتنع عن تسليمه سار إىل دمشق ‪ ،‬وحاصرها ‪ ،‬هل‬
‫امللوك إىل ذلك ‪ ،‬وأرس عماد الدين سونج بن اتج امللوك واألمراء الذين معه ‪ ،‬وأرس اتج امللوك ُدبيساً ‪ ،‬أيقن ُدبيس‬
‫ابهلضمك فع زنكي معه خضمف ما ظن ‪ ،‬وأحسن إليه ‪ ،‬ومح له األقوات ‪ ،‬والسضمح ‪ ،‬والدواب ‪ ،‬وسائر أمتعة اخلزائن‬
‫‪ ،‬وقدمه على نفسه ‪ ،‬و ع معه ما يفع مع أكابر امللوك(‪.)8‬‬
‫وملا مسع عماد الدين زنكي مبقت دبيس بن صدقة قال‪ :‬ديناه ابملال ‪ ،‬و داان ابلروح(‪ ، )9‬وذكر ابن كثري أبنه داه‬
‫خبمسني ألف دينار ‪ ،‬وما لبثت العضمقات أن تدهورت بني اخلليفة اجلديد ‪ ،‬وبني السلطان مسعود واجتمع لدى الراشد‬

‫(‪ )1‬الكام يف التاريخ نقضمً عن اتريخ الزنكيني يف املوص ص ‪.94‬‬


‫(‪ )2‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.94‬‬
‫(‪ )3‬املنتظم (‪ )34/10‬الباهر ص ‪ 47‬ـ ‪.48‬‬
‫(‪ )4‬عماد الدين زنكي ص ‪.57‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه ص ‪ 57‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.95‬‬
‫(‪ )6‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.95‬‬
‫(‪ )7‬املنتظم(‪ )53/10‬اتريخ الزنكيني ص ‪.95‬‬
‫(‪ )8‬الكام يف التاريخ(‪.)680/8‬‬
‫(‪ )9‬واقع الرتبية اإلسضممية يف عهد نور الدين ص ‪.17‬‬

‫‪72‬‬
‫عدد من األمراء املناهَني للسلطان ‪ ،‬وجندوا له العم على إسقاطه ‪ ،‬واجمليء بسلطان جديد يرتَونه(‪ .)1‬ويف مسته‬
‫صفر عام ‪530‬هـ وص زنكي بغداد قادماً من الشام بعد أن استدعاه الراشد ‪ ،‬واتفق معه على إعضمن اخلطبة أللب‬
‫(‪)2‬‬
‫حرضوا اخلليفة على إعضمن العصيان ضد السلطان‬ ‫أرسضمن املقيم يف املوص ‪ ،‬وانَم إىل األمراء الذين كانوا قد هل‬
‫وحوهلا لداود بن حممود ‪،‬‬
‫أن الفرصة قد سنحت للبدء ابلعم ‪ ،‬ألغى اخلطبة ملسعود ‪ ،‬هل‬ ‫مسعود(‪ .)3‬ووجد اخلليفة‪ :‬هل‬
‫خضم اً ملا متهل االتفاق عليه مع زنكي(‪.)4‬‬
‫وقام السلطان اجلديد بتعيني شحنة له يف العراق ‪ ،‬ومل ميض على ذلك سوى وقت قصري حىت دبهلت اخلضم ات بني الراشد‬
‫وسائر األمراء بسبب املنا سات واألحقاد القدمية(‪ ، )5‬واتفق املتحالفون على توجيه ضربتهم للسلطان مسعود يف بضمد‬
‫ارس نفسها ‪ ،‬إالهل هلأهن م ما أن قطعوا مسا ة قصرية حىت ورد خرب بتوجه مسعود على رأس قواته صوب بغداد ‪ ،‬ارأتوا‬
‫أن يعودوا إليها الختاذ اإلجراءات الد اعية الضمزمة لصد اهلجوم(‪ ، )6‬وما لبث السلطان مسعود أن رض احلصار على‬
‫تستقر عن نتيجة حامسة وسعى اخلليفة إىل إحضمل الصلح ‪،‬‬
‫بغداد ‪ ،‬وجرت مناوشات ‪ ،‬ومعارك جانبية بني الطر ني مل هل‬
‫وإهناء اخلضمف ‪ ،‬ولكن دون جدوى‪.‬‬
‫وأخذت األوضاع داخ بغداد تزداد سوءاً يوماً بعد يوم(‪ ، )7‬وجنح السلطان مسعود يف دخول بغداد ‪ ،‬وخلعه عن سدة‬
‫ووىل املقتفي ألمر هللا مكانه يف شهر ذي احلجة عام ‪530‬هـ أيلول عام ‪1136‬م(‪ ، )8‬وغادر الراشد بغداد‬ ‫اخلضم ة ‪ ،‬هل‬
‫متوجهاً إىل املوص بصحبة عماد الدين زنكي ‪ ،‬واجلدير ابلذكر‪ :‬هل‬
‫أن اخلطبة للمقتفي اقتصرت على بعض أحناء العراق‬
‫بينما استمرت مناطق املوص ‪ ،‬واجلزيرة ‪ ،‬وبضمد الشام ختطب للراشد الذي كان يتمتع حبماية عماد الدين زنكي(‪.)9‬‬
‫سادساً‪ :‬مصاحلة عماد الدين زنكي للسلطان مسعود‪:‬‬
‫مل يدم التحالف طويضمً بني عماد الدين زنكي والراشد ‪ ،‬قد شعر ك ٌّ منهما بَعف موقفه أمام موقف السلطان ‪،‬‬
‫واخلليفة اجلديد ؛ لذلك أسرعا إبرسال الرس للتوسط لديهما ‪ ،‬وإهناء حالة احلرب(‪ ، )10‬وأضحى عماد الدين زنكي ـ‬
‫على الرغم من ضعف موقفه ـ القوة اليت تتطلع إليها األطراف املتنازعة الستقطاهبا ‪ ،‬وهكذا كانت استمالة أعوان املقتفي‬
‫إىل جانبهم ‪ ،‬وكا أه اخلليفة ‪ ،‬أبن أقطعه بعض أمضمكه وزاد يف ألقابه(‪ ، )11‬واضطر حتت ضغط األحداث السياسية‬
‫والعسكرية إىل التخلي عن حليفه الراشد‪.‬‬

‫(‪ )1‬عماد الدين زنكي ص ‪.58‬‬


‫(‪ )2‬النجوم الزاهرة(‪ )358/5‬عماد الدين زنكي ص ‪.58‬‬
‫(‪ )3‬املنتظم (‪ )55/10‬عماد الدين زنكي ص ‪.58‬‬
‫(‪ )4‬مفرج الكروب (‪ )64/1‬عماد الدين زنكي ص ‪.58‬‬
‫(‪ )5‬عماد الدين زنكي ص ‪.59‬‬
‫(‪ )6‬املنتظم (‪ )57/10‬مفرج الكروب (‪.)65/1‬‬
‫(‪ )7‬عماد الدين زنكي ص ‪.60‬‬
‫(‪ )8‬مفرج الكروب (‪ )66 ، 65/1‬اتريخ الزنكيني يف املوص ص ‪.95‬‬
‫(‪ )9‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.96‬‬
‫(‪ )10‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.96‬‬
‫(‪ )11‬الباهر نقضمً عن اتريخ الزنكيني يف املوص ص ‪.96‬‬

‫‪73‬‬
‫كانت التقلبات السياسية السريعة بعماد الدين زنكي هتدف إىل ضمان استمرار حكمه ‪ ،‬وحتقيق وحدة الصف‬
‫موحدة تقف يف وجه الصليبيني(‪ ، )1‬وكان من الطبيعي‬ ‫اإلسضممي يف املوص ‪ ،‬واجلزيرة ‪ ،‬والشام لتكوين جبهة إسضممية هل‬
‫أن تتحسن العضمقات بينه وبني السلطان مسعود الذي أرس إليه يف شهر ربيع األول عام ‪532‬هـ‪ /‬شهر تشرين الثاين‬
‫عام ‪1137‬م التشريف الكام ‪ ،‬واخللع(‪.)2‬‬
‫وأدرك عماد الدين زنكي خطورة األوضاع يف مشال الشام بفع هتديد الصليبيني ملدينة حلب ؛ اليت كانت تعاين من‬
‫الفوضى يف ظ الصراع على السلطة بعد و اة حاكمها إيلغازي األرتقي يف شهر رمَان عام ‪516‬هـ‪1122/‬م ‪،‬‬
‫(‪)3‬‬
‫أرس قاضيه الشهرزوري ليشرح للسلطان هذا الوضع ‪ ،‬ويطلب منه مساعدة عسكرية إلبعاد الصليبيني عن املنطقة‬
‫أن رسالة عاجلة وصلت إىل بغداد‬ ‫وجنح الشهرزوري يف مهمته ‪ ،‬و هل‬
‫متكن من إقناع السلطان إبمداده بقوة عسكرية إالهل هل‬
‫من عماد الدين زنكي ‪ ،‬أ ادت أبن الصليبيني رحلوا عن حلب ‪ ،‬وأنه مل يعد حباجة إىل املدد العسكري ‪ ،‬وتدليضمً على‬
‫العضمقات اجليدة بني السلطنة السلجوقية ‪ ،‬والدولة الزنكية ‪ ،‬قد أرس السلطان مسعود رسالة هتنئة إىل عماد الدين‬
‫أن هذه العضمقات‬ ‫زنكي وهو على أبواب محص مبناسبة انتصاره على الصليبيني ‪ ،‬وخلع عليه اخللع السلطانية ‪ ،‬إالهل هل‬
‫تبدهللت يف عام ‪538‬هـ‪1143 /‬م حني حاول السلطان مسعود الذي خشي من طموحات عماد الدين زنكي ‪ ،‬واتساع‬
‫رقعة إمارته ‪ ،‬وتنامي قوته العسكرية ‪ ،‬توجيه ضربة حامسة ‪ ،‬معتقداً أبنه وراء القضمق اليت كان يقوم هبا أمراء األطراف‬
‫أن عماد الدين زنكي هدف إىل إهلاء السلطان ملنعه‬ ‫ضد حكمه يف العراق ‪ ،‬وأن هؤالء ال يلتزمون بسياسته ‪ ،‬والراجح‪ :‬هل‬
‫من مَايقته ‪ ،‬وبذلك يستطيع وهو مطمئن أن يوطد نفوذه يف املوص ويوسع رقعة أمضمكه على حساب األمراء‬
‫املسلمني اجملاورين ‪ ،‬وحيارب الصليبيني(‪ .)4‬وملا علم بنوااي السلطان؛ أرس إليه يستعطفه ‪ ،‬ويستميله ‪ ،‬و عضمً جرت‬
‫مفاوضات بني الطر ني هلأدت إىل إعادة الو اق بينهما ‪ ،‬وكان من أهم بنود الصلح أن‪:‬‬
‫ـ يد ع عماد الدين للسلطان مبلغ مئة ألف دينار‪.‬‬
‫ـ يتنازل له عن بعض إقطاعاته‪.‬‬
‫ـ حيَر شخصياً إىل بضمطه إلعضمن الطاعة(‪.)5‬‬
‫ـ والواضح أن تراجع السلطان عن موقفه العدائي جتاهه يعود إىل أمرين‪:‬‬
‫األول‪ :‬أنهله أدرك خطورة الوضع يف اجلزيرة‪ ،‬ومشايل الشام؛ حيث غدا الصليبيون يشكلون خطراً مباشراً على املنطقة ‪،‬‬
‫وأن عماد الدين زنكي هو القوة الوحيدة اليت ميكن أن تقف يف وجههم ‪ ،‬وترغمهم على الرتاجع‪.‬‬

‫(‪ )1‬اتريخ الزنكيني يف املوص ص ‪.96‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص ‪.96‬‬
‫(‪ )3‬الكام يف التاريخ نقضمً عن اتريخ الزنكيني ص ‪.96‬‬
‫(‪ )4‬اتريخ الزنكيني ص ‪.97‬‬
‫(‪ )5‬املنتظم (‪ )108/10‬الباهر ص ‪.65‬‬

‫‪74‬‬
‫الثاين‪ :‬أنهله ُجوبه مبعارضة شديدة من رجال دولته ومواطنيه من أج إبقاء إمارة املوص كحاجز قوي متماسك أمام‬
‫أطماع الصليبيني ‪ ،‬وقد أوضحت هذه املعارضة أن عماد الدين زنكي هو األمري الوحيد يف املنطقة اجلدير ابلتصدي‬
‫لتلك األطماع ‪ ،‬و هل‬
‫أن القَاء عليه يعين تح الطريق أمام الصليبيني يف العراق(‪.)1‬‬
‫بعد إقرار الصلح أرس عماد الدين زنكي عشرين ألف دينار كد عة أوىل تنفيذاً للبند األول من االتفاق ‪ ،‬مث تنازل‬
‫السلطان عن املبلغ املتبقي هبدف استقطابه ‪ ،‬وكسب وده؛ حىت ال ينَم إىل أمراء األطراف الذين خرجوا عن حكمه‪،‬‬
‫كما تغاضى عن تنفيذ البند اخلاص حبَوره إىل البضمط السلجوقي ‪ ،‬وعذره بسبب اهنماكه يف جهاد الصليبيني إال أنهله‬
‫الرها(‪.)2‬وقامت عضمقات عماد الدين زنكي مع اخلليفة العباسي املقتفي ألمر هللا على الود ‪ ،‬والتعاطف‬ ‫اشرتط عليه تح ُّ‬
‫الرها يف عام‬ ‫‪ ،‬واستمرت الصضمت املتبادلة بينهما ‪ ،‬وازدادت هذه العضمقات وثوقاً بعد أن تح عماد الدين زنكي ُّ‬
‫(‪539‬هـ‪1144/‬م) حيث منحه عدداً من األلقاب ‪ ،‬كاألمري الكبري ‪ ،‬العادل ‪ ،‬املؤيد ‪ ،‬املظفر ‪ ،‬املنصور(‪.)3‬‬
‫أن عماد الدين زنكي اتبع سياسة مستقلة إىل حد كبري ‪ ،‬جتاه عضمقته بك ٍ من اخلليفة العباسي ‪،‬‬ ‫وهكذا يتَح‪ :‬هل‬
‫والسلطان السلجوقي ‪ ،‬وأضحى يشك قوة مؤثرة ضاغطة يف األحداث اليت شهدها العراق مستغضمً عضمقات اخلضم ة‬
‫أن هذه السياسة مل تؤد إىل استقرار وضعه ب على العكس‬ ‫املتقلبة ابلسلطنة السلجوقية لتحسني وضعه السياسي ‪ ،‬غري هل‬
‫هدهلدت حكمه بني الفينة والفينة ‪ ،‬ولوال جناحه يف مقاومة الصليبيني ‪ ،‬وإقامة إمارة حاجزة يف املوص بينهم وبني العراق؛‬
‫تتعرض إمارته خلَات سياسية شديدة وخطرية رمبا أودت جبهوده يف بناء دولة(‪.)4‬‬ ‫لكان من احملتم أن هل‬

‫املبحث الرابع ‪ :‬توسع عماد الدين يف مشال بالد الشام وإقليم اجلزيرة‬

‫(‪ )1‬اتريخ الزنكيني يف املوص ص ‪.98‬‬


‫(‪ )2‬الباهر ص ‪ 65‬اتريخ الزنكيني يف املوص ص ‪.98‬‬
‫(‪ )3‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.98‬‬
‫(‪ )4‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.98‬‬

‫‪75‬‬
‫‪521‬هـ ‪541‬هـ‪ 1127 /‬ـ ‪1146‬م‬
‫بدأ عماد الدين زنكي حماوالته لتوحيد املنطقة بَم املدن اليت حوله والقريبة منه بسبب ضعفها‪ ،‬وتفرقها‪ ،‬وضيق‬
‫مساحتها ‪ ،‬وكان والة املوص الذين سبقوه قد عجزوا عن اكتساحها ‪ ،‬وابلتايل عن حتوي السلطة الرمسية اليت منحهم‬
‫السضمجقة إايها حبكم املوص ‪ ،‬واجلزيرة ‪ ،‬ومشايل الشام إىل سلطة علية ‪ ،‬ولذلك سعى زنكي للقَاء على هذه املواقع‬
‫املستقلة؛ كي تغدو سلطته يف هذه املناطق أمراً واقعاً‪ .‬كانت البوازيج ـ الواقعة على طريق املوص عند مصب الزاب‬
‫األسف ـ أوىل املواقع اليت استوىل عليها زنكي وذلك لدى توجهه إىل املوص عام ‪521‬هـ لتويل مهام منصبه ‪ ،‬مستهد اً‬
‫استمر يف سريه حنو‬
‫من وراء ذلك اختاذها خط رجعة له حلماية ظهره يف حالة تصدي وصي حاكم املوص لزحفه ‪ ،‬مث هل‬
‫املوص ‪ ،‬وعندما وص جاويل نبأ تقدمه على رأس قوات حاشدة ‪ ،‬حيم معه منشور السلطان حبكم املوص ؛ أدرك أ ْن‬
‫ليس يف طاقته التصدي له ‪ ،‬واثر السضممة ‪ ،‬خرج الستقباله ‪ ،‬يصحبه أمراء املوص وقادهتا ‪ ،‬وما أن التقى به حىت‬
‫ترج ‪ ،‬وقبهل األرض بني يديه ‪ ،‬وأعلن طاعته له ‪ ،‬أقطعه زنكي مدينة الرحبة ‪ ،‬وأعماهلا ‪ ،‬وسريه إليها(‪.)1‬‬
‫هل‬
‫أوالً‪ :‬جزيرة ابن عمر ‪521‬هـ‪:‬‬
‫بعد أن رتب عماد الدين زنكي أوضاعه يف املوص ‪ ،‬أراد االنتقال إىل جزيرة ابن عمر ‪ ،‬وسار بقواته إليها ‪ ،‬ومبجرد‬
‫وصوله إىل مشار ها علم أعياهنا وسكاهنا بقدومه ‪ ،‬خا وا منه ‪ ،‬وامتنعوا عن استقباله ‪ ،‬وأغلقوا أبواب املدينة يف وجهه‬
‫‪َ ،‬رب عماد الدين حصاره حوهلا ‪ ،‬وبدأ مبراسلة أعيان املدينة ‪ ،‬ومماليك الربسقي ‪ ،‬وحاول إقناعهم ابملهادنة‪ ،‬وبذل‬
‫هلم الوعود الكثرية إن سلموا املدينة ‪ ،‬غري هلأهنم امتنعوا عن موا قته ‪ ،‬وعند ذلك هلقرر عماد الدين قتاهلم ‪ ،‬وإخَاع املدينة‬
‫عنوة‪ .‬وكان جمرى دجلة يفص بني جيش عماد الدين واملدينة أمر قواته بعبور النهر إىل املدينة ‪ ،‬منهم من عرب ابلسفن‬
‫‪ ،‬وبعَهم ابألكضمك(‪.)2‬‬
‫وملا تكاثر جيش عماد الدين وشدهلد حصاره على املدينة؛ كان السكان قد خرجوا إىل منطقة بني اجلزيرة ودجلة تعرف‬
‫ابلزالقة ‪ ،‬وكانوا خبروجهم حياولون منع جيش عماد الدين من إكمال عبوره ‪ ،‬ولكن عساكر عماد الدين متكنوا من‬
‫العبور ‪ ،‬وشددوا احلصار على امل دينة ‪ ،‬وجرت مناوشات بني مماليك الربسقي ‪ ،‬واملهامجني ‪ ،‬ظهر يها التباين بني‬
‫القوتني ‪ ،‬ومل ميض وقت طوي حىت اهنزم مجاعة الربسقي‪ .‬وملا رأى أهايل اجلزيرة أن ميزان املعركة ليس يف صاحلهم؛‬
‫ضعفوا ‪ ،‬وأيقنوا أن على املدينة أن تستسلم أ َ من دخوهلا عنوة‪ .‬بعثوا إىل عماد الدين ‪ ،‬يطلبون منه األمان‬
‫استجاب لطلبهم ‪ ،‬واستلم املدينة(‪ ،)3‬ولعله بدأ مبهامجة هذا املوقع قب غريه من املدن والقضمع بسبب قربه من املوص‬
‫وأمهيته العسكرية واالقتصادية(‪.)4‬‬
‫اثنياً‪ :‬حلب‪522‬هـ‪:‬‬

‫(‪ )1‬عماد الدين زنكي ص ‪.70 ، 69‬‬


‫(‪ )2‬اتريخ جزيرة ابن عمر ص ‪.121‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.121‬‬
‫(‪ )4‬عماد الدين زنكي ص ‪.71‬‬

‫‪76‬‬
‫تُ َـع ُّد حلب ذات أمهية ابلغة ألية قيادة عسكرية وسياسية تسعى جملاهبة الصليبيني بفَ ما تتمتهلع به من حصانة عسكرية‬
‫‪ ،‬ومركز متميز ‪ ،‬وإمكاانت اقتصادية وبشرية وسياسية هامة‪ ،‬وابإلضا ة إىل موقعها على خطوط املواصضمت بني ارس‬
‫الرها ‪ ،‬وأنطاكية ‪ ،‬وغدت‬ ‫والعراق من جهة ‪ ،‬وبني الشام واسيا الصغرى من جهة أخرى ‪ ،‬مث بني إمارتني صليبيتني مها‪ُّ :‬‬
‫ـ ُمنذ عهد طوي ـ قاعدة ال ميكن بدوهنا السيطرة على اجلهات الشمالية والوسطى من بضمد الشام يف الوقت الذي‬
‫ميكنها يه االتصال ابلقوى اإلسضممية املنتشرة يف اجلزيرة ‪ ،‬والفرات ‪ ،‬واألانضول ‪ ،‬ومشايل بضمد الشام‪ ،‬وأواسطه ‪ ،‬مما‬
‫يعد أساساً حيوايً الستمرار حركة اجلهاد ‪ ،‬وحتقيق أهداف حامسة ضد الصليبيني ‪ ،‬لذلك كان ضمها من قب أي قائد‬
‫إسضممي مبثابة تح الطريق أمامه لتبوء مركز القيادة يف حركة اجلهاد(‪.)1‬‬
‫وساعدت الظروف السياسية اليت كانت متر هبا إمارة حلب اليت وجدت نفسها يف حالة شديدة من الفوضى عقب و اة‬
‫الربسقي يف عام(‪521‬هـ‪1127/‬م) وتعدُّد املطالبني ابلسلطة ‪ ،‬وتنازعهم ‪ ،‬قد استأثر‬ ‫األاتبك عز الدين مسعود بن ُ‬
‫(‪)2‬‬
‫الرها وبوهيمند الثاين أمري‬
‫«قتلغ أبه» انئب األاتبك ‪ ،‬إبدارة شؤوهنا ‪ ،‬يف الوقت الذي طمع يه جوسلني الثاين أمري ُّ‬
‫وشن الصليبيون هجمات عنيفة لضمستيضمء عليها‬ ‫أنطاكية الختاذها قاعدة ملد نفوذه ابجتاه الشرق واجلنوب الشرقي‪ .‬هل‬
‫را قها تدهور حاد يف أوضاعها االقتصادية ‪ ،‬وانتشار اخلوف والقلق بني السكان(‪ ، )3‬مما د ع هؤالء إىل االلتفاف حول‬
‫انئب حلب السابق سليمان بن عبد اجلبار األرتقي ‪ ،‬وقد تزعم الثورة ضد «قتلغ أبه» الذي اتصف ابلتعسف(‪.)4‬‬
‫حد لتدهور األوضاع على الرغم من أنه عقد هدنة مع جوسلني الثاين تنازل له‬ ‫ويبدو‪ :‬أن سليمان مل يتمكن من وضع ٍ‬
‫مبوجبها عن بعض املناطق الزراعية احمليطة ابجلهات الغربية حللب(‪ ، )5‬لكن يقظة عماد الدين زنكي أ سدت على اجلميع‬
‫خططهم ومشاريعهم ‪ ،‬وقد سعى إىل ضم حلب بوصفه ميلك منشوراً من السلطان السلجوقي حبكم املوص ‪ ،‬واجلزيرة‪،‬‬
‫ومهد خلطواته هذه إبرسال الرس إليها حىت يشرحوا لسكاهنا أحقيته يف تويل أمورها ‪ ،‬كما أرس حاجبه‬ ‫وبضمد الشام‪ ،‬هل‬
‫(‪)6‬‬
‫الياغسياين لتنظيم أمورها اإلدارية‪ ،‬ومتهيد الطريق له لدخوهلا‪ ،‬مث غادر املوص يف طريقه إليها‪ ،‬وض هلم يف طريقه بزاعة‬
‫‪ ،‬ومنيح ‪ ،‬وملا وص إىل مشارف املدينة يف شهر مجادى االخرة عام ‪522‬هـ شهر حزيران عام ‪1128‬م خرج سكاهنا‬
‫الستقباله املني ببداية عهد جديد من األمن ‪ ،‬واالستقرار بعدما سئموا من الفوضى اليت سادت مدينتهم ‪ ،‬دخ‬
‫القلعة وبدأ بتنظيم أمورها ‪ ،‬وأقطع أعماهلا ألمرائه وأجناده(‪ )7‬وحىت يثبت أقدامه يف حلب ويقطع الطريق على املفسدين‬
‫ضايق عماد الدين زنكي زعماء املدينة املعارضني حلكمه ‪ ،‬وذوي املصاحل القدمية يها ‪ ،‬قَى على بعَهم ‪ ،‬و هلر‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه‪.‬‬


‫(‪ )2‬اتريخ الزنكيني يف املوص ص ‪.100‬‬
‫(‪ )3‬الباهر ص ‪ 37 ، 34‬ـ ‪.38‬‬
‫(‪ )4‬زبدة حلب (‪ )431/1‬اتريخ الزنكيني ص ‪.101‬‬
‫(‪ )5‬الكام يف التاريخ نقضمً عن اتريخ الزنكيني ص ‪.101‬‬
‫(‪ )6‬بزاعة‪ :‬بلدة من أعمال حلب يف وادي بطنان بني منبج وحلب‪.‬‬
‫(‪ )7‬احلروب الصليبية د‪ .‬سهي زكار(‪.)678/2‬‬

‫‪77‬‬
‫البعض االخر من وجهه ‪ ،‬قت «قتلغ أبه» و هلر إبراهيم بن رضوان بن تتش إىل نصيبني وغادر سليمان بن عبد اجلبار‬
‫إىل املدينة ‪ ،‬والتجأ َائ بن بديع رئيس حلب السابق إىل قلعة جعرب القريبة من حلب(‪.)1‬‬
‫وبذلك حتققهلت الوحدة بني املوص وحلب ‪ ،‬مرة أخرى ‪ ،‬وحص عماد الدين زنكي على موقع هام ‪ ،‬وأمن جانب‬
‫املعارضة ‪ ،‬وهتيهلأت له الفرصة للتدخ يف األوضاع السياسية لبضمد الشام ‪ ،‬لتوحيد صفوف املسلمني ‪ ،‬وجماهبة أخطار‬
‫الرها عن بقية اإلمارات الصليبية يف الغرب واجلنوب(‪.)2‬‬
‫الصليبيني ‪ ،‬كما هلأدى ذلك إىل عزل إمارة ُّ‬
‫وحران ‪ ،‬وإربل ‪ ،‬والرقَّة‪:‬‬
‫اثلثاً‪ :‬سنجار ‪ ،‬واخلابور ‪َّ ،‬‬
‫‪ 1‬ـ سنجار واخلابور‪:‬‬
‫مل يتعرض زن كي ـ حني توجه إىل حلب ـ للمدن واحلصون الواقعة على الطريق بينها وبني املوص ؛ إذ كانت الظروف‬
‫تستدعي منه أن يَع يده على حلب أوالً ‪ ،‬مث ينطلق لفرض سيطرته على املواقع األخرى من أج أتمني الطريق إىل‬
‫أقر األوضاع يف املدينة املذكورة حىت هلاجته يف أواخر عام ‪ 522‬هـ لضمستيضمء على سنجار ‪ ،‬واملناطق‬
‫الشام‪ .‬وما إ ْن هل‬
‫اجملاورة(‪ ، )3‬و رض احلصار عليها ‪ ،‬إال أن أهاليها امتنعوا عليه ‪ ،‬وحني مل يروا من مقاومتهم جدوى إزاء إصرار زنكي‬
‫على اقتحام املدينة ‪ ،‬اضطروا إىل مصاحلته ‪ ،‬وتسليم سنجار إليه(‪ .)4‬مث ما لبث أن أرس من هناك بعض قواته إىل‬
‫(‪)6‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫اخلابور ؛ حيث متكنت من االستيضمء عليه ‪ .‬وكانت سنجار تقع وسط الطريق بني املوص وحلب ‪ ،‬وتشك منطلقاً‬
‫للسيطرة على املناطق األخرى(‪ ، )7‬ولذا قد حقق زنكي ابستيضمئه عليها نصراً هاماً(‪.)8‬‬
‫حران‪:‬‬
‫ضم هل‬‫‪ 2‬ـ ُّ‬
‫الرب ُسقي ‪ ،‬وكانت قد تعرضت بعد و اته لتهديدات الصليبيني الذين كانوا قد‬
‫حران اتبعة لعز الدين مسعود بن ُ‬ ‫كانت هل‬
‫كالرها ‪ ،‬وسروج ‪ ،‬استدعى أهلها عماد الدين زنكي يف عام ‪523‬هـ‪1129/‬م؛‬ ‫استولوا على بعض املواقع القريبة منها ُّ‬
‫إذ انتهت املشكلة بو اة «سوتكني»(‪.)9‬‬
‫ضم إرب ‪:‬‬
‫‪ 3‬ـ ُّ‬
‫أدرك عماد الدين زنكي أمهية إرب العسكرية ابلنسبة للموص ؛ إذ هي مبثابة الباب الشرقي الذي يصلها ببضمد ارس‬
‫يرتدد رغم‬
‫واملشرق ‪ ،‬ونقطة الد اع الرئيسية يف الطريق الذاهب غرابً صوب الشام ‪ ،‬وعندما أتيحت له رصة مهامجتها مل هل‬
‫كوهنا من ممتلكات مسعود بن حممد السلجوقي سلطان أذربيجان ‪ ،‬هامجها عام ‪ 526‬هـ ‪ ،‬وشدد النكري عليها ‪ ،‬إال‬
‫أن حاميتها استطاعت أن تصمد حلني تقدُّم السلطان مسعود لنجدهتا ‪ ،‬اضطر زنكي إىل االنسحاب ‪ ،‬مث رأى مسعود‬

‫(‪ )1‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪101‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص ‪.101‬‬
‫(‪ )3‬عماد الدين زنكي ص ‪.74‬‬
‫(‪ )4‬الباهر ص ‪ 37‬الكام يف التاريخ (‪.)661/8‬‬
‫(‪ )5‬عماد الدين زنكي ص ‪.74‬‬
‫(‪ )6‬الباهر ص ‪ 37‬الكام يف التاريخ (‪.)661/8‬‬
‫(‪ )7‬عماد الدين زنكي ص ‪.74‬‬
‫(‪ )8‬املصدر نفسه ص ‪.74‬‬
‫(‪ )9‬مفرج الكروب (‪ )84/1‬اتريخ الزنكيني ص ‪.102‬‬

‫‪78‬‬
‫ضد منا سيه من أج احلصول على عرش سضمجقة‬ ‫أن يَحي هبذا املوقع؛ كي يكسب زنكي إىل جانبه يف صراعه هل‬
‫العراق ‪ ،‬وا ق األخري على اتفاق كهذا يتيح له ضم موقع هام إىل إمارته قد يساعده يف املستقب على التوغ شرقاً ‪،‬‬
‫وعني يها انئباً عنه(‪.)1‬‬
‫وبعد أن أخذ ك ٌّ من احلليفني العهود من صاحبه؛ تسلم زنكي إرب ‪ ،‬هل‬
‫الرقـة(‪:)2‬‬
‫ضم هل‬
‫‪ 4‬ـ ُّ‬
‫مر عماد الدين زنكي ابلرقة يف عام ‪ 529‬هـ‪ 1135/‬م ‪ ،‬وهو يف طريقه إىل دمشق ‪ ،‬يف حماولة لَمها ‪ ،‬رأى أن‬ ‫هل‬
‫يَمها إىل أمضمكه ‪ ،‬انتهز هذه الفرصة ‪ ،‬ونفهلذ خدعة ذكية ‪ ،‬أعلن رغبته ابالستحمام يف محام البلد ‪ ،‬قام حاجبه‬
‫الياغسياين بتدبري هذا األمر ‪ ،‬واتفق مع مسيب بن مالك صاحب الرقة ‪ ،‬الذي مل يشك يف نوااي عماد الدين زنكي‬
‫ورجاله ‪ ،‬على السماح للجيش بدخول املدينة ‪ ،‬وما إن أصبح اخر جندي داخ السور حىت أمر عماد الدين زنكي‬
‫قواته ابالستيضمء على املدينة ‪ ،‬أبعد املسيب ‪ ،‬وأقطعها أحد أمرائه(‪.)3‬‬
‫ضم دقوقا(‪ )4‬وشهرزور(‪:)5‬‬ ‫‪ 5‬ـ ُّ‬
‫ضم عماد الدين زنكي دقوقا يف عام ‪ 531‬هـ‪ 1137/‬م عنوًة(‪ ، )6‬ودخ بعد ثضمث سنوات قلعة شهرزور ‪ ،‬الواقعة‬ ‫هل‬
‫(‪)7‬‬
‫الَم ابملدى الذي وصلت إليه العضمقات‬ ‫وسط سه واسع ميتد من إرب إىل مهذان ويقطنه األكراد ‪ ،‬وقد ارتبط هذا ُّ‬
‫بني األمري قفجاق بن أرسضمن اتش الرتكماين حاكم شهرزور ‪ ،‬وبني السلطان السلجوقي مسعود ‪ ،‬خشي عماد الدين‬
‫زنكي أن يتنازل األمري الرتكماين عن بعض أمضمكه للسلطان ‪ ،‬ومنها شهرزور ‪ ،‬يغدو جماوراً إلمارة املوص ‪ ،‬يشك‬
‫عندئذ خطراً جدايً عليه(‪.)8‬‬
‫‪ 6‬ـ التوسع ابجتاه اجلنوب‪:‬‬
‫َم احلديثة‬
‫توسع عماد الدين زنكي بني عامي (‪ 536‬هـ ‪ 538‬هـ‪ 1141/‬م ـ ‪ 1143‬م) يف اجلنوب الغريب ‪ ،‬هل‬
‫الواقعة على الفرات(‪ ، )9‬وعانة القريبة منها(‪ ، )10‬ويف عام ‪ 541‬هـ‪ 1146/‬م كان قـد بلغ درجة من القوة مما د عه إىل‬
‫ضم قلعة جعرب املطلة على الفرات عمضمً خبطته القاضية؛ أبالهل يبقى وسط بضمده ما هو ملك لغريه(‪ .)11‬وكانت هذه‬
‫استمر القتال حىت اليوم‬
‫غرة وحاصرها ‪ ،‬وتوغلت قواته يف ربَها ‪ ،‬و هل‬
‫القلعة حتت حكم العقيليني ‪ ،‬هامجها على حني هل‬

‫(‪ )1‬مفرج الكروب (‪ )97/1‬عماد الدين زنكي ص ‪.76‬‬


‫(‪ )2‬مدينة على الفرات بينها وبني حران ثضمثة أايم معدودة‪.‬‬
‫(‪ )3‬زبدة حلب (‪ )450/2‬اتريخ الزنكيني ص ‪.76‬‬
‫(‪ )4‬دقوقا‪ :‬مدينة بني إرب وبغداد احلموي (‪.)459/8‬‬
‫(‪ )5‬شهرزور‪ :‬كورة واسعة يف اجلبال بني إرب ومهذان‪.‬‬
‫(‪ )6‬الكام يف التاريخ نقضمً عن اتريخ الزنكيني ص ‪.103‬‬
‫(‪ )7‬معجم البلدان‪.‬‬
‫(‪ )8‬الباهر ص ‪ 57‬ـ ‪ 58‬اتريخ الزنكيني ص ‪.104‬‬
‫(‪ )9‬تقع على جزيرة وسط الفرات وهي غري حديثة املوص ‪.‬‬
‫(‪ )10‬عانة‪ :‬بلد مشهور ‪ ،‬بني الرقة وهيت يعد يف أعمال اجلزيرة‪.‬‬
‫(‪ )11‬الكام يف التاريخ نقضمً عن اتريخ الزنكيني ص ‪.104‬‬

‫‪79‬‬
‫اخلامس من شهر ربيع االخر ‪ ،‬حيث اغتي عماد الدين زنكي ‪ ،‬ساد االضطراب صفوف جيشه ‪ ،‬اضطر أ راده إىل‬
‫ك احلصار(‪ ، )1‬مما سنبحثه مفصضمً إبذن هللا تعاىل‪.‬‬
‫رابعاً‪ :‬عالقة عماد الدين زنكي ابألكراد‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ بنو أيوب حكام تكريت ‪ 526‬هـ ‪ 541‬هـ‪:‬‬
‫تعترب عضمقة عماد الدين زنكي ابلبيت األيويب الكردي متميزة ‪ ،‬وبدأت هذه العضمقة يف الثاين عشر من ربيع االخر عام‬
‫‪ 526‬هـ عندما اهنزم زنكي يف أعقاب املعركة اليت دارت بينه ـ كحليف للسلطان مسعود ـ وبني قوات املل َك ْني‪ :‬طغرل ‪،‬‬
‫َ‬
‫وداود املنا سني للسلطان املذكور(‪ ، )2‬وانسحب بفلول جيشه حنو تكريت اليت كان حيكمها جنم الدين أيوب(‪ ، )3‬أقام‬
‫هذه املعابر على دجلة ‪ ،‬وجهز عدداً من السفن لنق قواته إىل الَفة األخرى اليت تقع عليها مدينة تكريت ‪ ،‬وهناك‬
‫أحسن جنم الدين إىل زنكي وجنده ‪ ،‬وداوى جراحهم ‪ ،‬وقدهلم إليهم سائر ما حيتاجون إليه ‪ ،‬وبعد أسبوعني غادر زنكي‬
‫وأتباعه تكريت مودعني مبث ما استقبلوا به من حفاوة وإكرام(‪ .)4‬وأخذ يرس اهلدااي إىل جنم الدين تباعاً اعرتا اً منه‬
‫بفَله وحسن ضيا ته(‪ .)5‬وعندما بـُل َغ هبرور ـ شحنة بغداد ـ موقف انئبه يف تكريت من زنكي؛ بعث إليه رسوالً ليعاتبه‬
‫على إحسانه لعدو سضمجقة العراق ‪ ،‬وإطضمق سراحه بعد أن كان قد وقع يف يديه(‪ ،)6‬وازداد حرج هبرور لدى قيام أسد‬
‫الدين شريكوه بقت أحد سكان تكريت بسبب تعرضه إلحدى النساء ‪ ،‬واضطر إىل إصدار أمره إىل جنم الدين مبغادرة‬
‫تكريت ‪ ،‬ومجيع أ راد عائلته ‪ ،‬ومل يكن ابستطاعة هبرور معاقبة أسد الدين شريكوه ملا بني الطر ني من صداقة قدمية ترجع‬
‫إىل زمن أبيه(‪.)7‬‬
‫ويف هذه الفرتة احلرجة من أواخر عام ‪ 532‬هـ ولد صضمح الدين لنجم الدين أيوب ‪ ،‬واضطرت العائلة ملغادرة تكريت‪،‬‬
‫ورمبا كان ذلك يف الليلة اليت ولد يها الطف املذكور(‪ ، )8‬ومل يكن هناك ملجأ أكثر أمناً هلذه العائلة الطريدة من كنف‬
‫األمري الذي أحسنوا إليه قب عدة أعوام ‪ ،‬ومل ينس زنكي اإلحسان ‪ ،‬استقب عائلة بين أيوب أحسن استقبال ‪ ،‬وأقطع‬
‫رجاالهتا اإلقطاعات الواسعة(‪ ،)9‬وأاتح لألخوين جنم الدين وأسد الدين االخنراط يف قواته(‪ ،)10‬واإلشراف على تربية‬
‫أبنائه(‪ ، )11‬واالشرتاك يف احلروب اليت خاضها يف الشام هل‬
‫ضد الصليبيني(‪ ، )12‬وظلت العائلة األيوبية تنعم حبماية عماد‬

‫(‪ )1‬الكام يف التاريخ نقضمً عن اتريخ الزنكيني ص ‪.104‬‬


‫(‪ )2‬عماد الدين زنكي ص ‪.76‬‬
‫(‪ )3‬عماد الدين زنكي ص ‪.76‬‬
‫(‪ )4‬املصدر نفسه ص ‪.77‬‬
‫(‪ )5‬كتاب الروضتني (‪.)537/2‬‬
‫(‪ )6‬و يات األعيان (‪ )142/6‬عماد الدين زنكي ص ‪.77‬‬
‫(‪ )7‬الباهر ص ‪ 119‬عماد الدين زنكي ص ‪.77‬‬
‫(‪ )8‬و يات األعيان (‪ 143/6‬ـ ‪ )144‬عماد الدين زنكي ص ‪.77‬‬
‫(‪ )9‬كتاب الروضتني (‪.)538/2‬‬
‫(‪ )10‬الباهر ص ‪ 119‬عماد الدين زنكي ص ‪.77‬‬
‫(‪ )11‬عماد الدين زنكي ص ‪.77‬‬
‫(‪ )12‬كتاب الروضتني (‪ )538/2‬عماد الدين زنكي ص ‪.77‬‬

‫‪80‬‬
‫عني جنم الدين‬
‫الدين زنكي ‪ ،‬وأخذت عضمقاهتا به تزداد وثوقاً يوماً بعد يوم‪ .‬وعندما استوىل على بعلبك عام ‪ 534‬هـ هل‬
‫أيوب والياً عليها ‪ ،‬وأقطعه ثلثها(‪ ، )1‬استقر هناك هو وأ راد العائلة األيوبية(‪ ، )2‬وظ ميارس مهام عمله كو ٍال لزنكي‬
‫حىت مقت األخري عام ‪ 541‬هـ ‪ ،‬وكان صضمح الدين خضمل تلك الفرتة قد ترعرع يف كنف والده ‪ ،‬وبدت عليه مسات‬
‫التمعت عيناه بربيق القوة(‪.)3‬‬
‫النجابة والذكاء ‪ ،‬و ْ‬
‫وهكذا قُد َر لعماد الدين زنكي أن يلعب دوراً هاماً يف إظهار العائلة األيوبية يف اجملاالت السياسية ‪ ،‬والعسكرية ‪،‬‬
‫واإلدارية ‪ ،‬وأن ميهد هلا الطريق إىل املكانة الكبرية اليت متتعت هبا يف عهد ابنه نور الدين حممود(‪.)4‬‬
‫‪ 2‬ـ األكراد احلميدية‪:‬‬
‫َم مناطق األكراد احلميدية بسبب قرب حصوهنم من املوص ‪ .‬وكان احلميديُّون يقومون يف‬ ‫بدأ عماد الدين زنكي يَ ُّ‬
‫كثري من األحيان مبهامجة قرى ومزارع املوص الشرقية ‪ ،‬وهنب ضمهلحيها ‪ ،‬مما سبهلب قلقاً وخو اً لفضمهلحي املوص ‪ ،‬وعندما‬
‫أقر األمري عيسى احلميدي على واليته ‪ ،‬ومل يتعرضه بشيء مما يف يده(‪.)5‬‬ ‫أسـس عماد الدين زنكي إمارة املوص ‪ ،‬هل‬
‫أن األمري املذكور سرعان ما خرج على طاعة زنكي لدى حصار اخلليفة املسرتشد املوص عام ‪ 527‬هـ ‪ ،‬حيث‬ ‫إال هل‬
‫انَم إليه جبيوشه ‪ ،‬وأمده ابلقوات ‪ ،‬وحشد له عدداًكبرياً من األكراد ‪ ،‬وما إن ش احلصار وانسحب املسرتشد عائداً‬
‫إىل بغداد حىت بدأ زنكي هجومه على قضمع احلميدية ‪ ،‬حاصرها ‪ ،‬وقاتلها قتاالً شديداً ‪ ،‬حىت إنه مح بنفسه على‬
‫حامية العقر ‪ ،‬وصعد يف جبلها املرتفع إىل سورها وصلت طعنته إليه(‪ ، )6‬مث ما لبث أن استوىل عليها عام ‪ 527‬هـ‬
‫منهياً بذلك أسباب القلق واخلوف اليت كانت تسببها هجمات احلميديني على ضمحي املوص (‪ ، )7‬األمر الذي أدى ـ‬
‫وال ريب ـ إىل عودة ازدهار احلياة الزراعية ‪ ،‬والتجارية يف املنطقة(‪ .)8‬ونتيجة لَم قضمع احلميدية حقق عماد الدين زنكي‬
‫هد ني‪:‬‬
‫األول‪:‬‬
‫هلأمن املركز العسكري املسيطر على أمن املوص بفع ما كانت تشغله اإلمارة احلميدية من موقع هام‪.‬‬
‫الثاين‪:‬‬
‫مهد الطريق أمامه للتوغ يف بضمد األكراد اجلبلية(‪.)9‬‬ ‫ٍ‬
‫موطئء قد هل‬ ‫حص على‬
‫‪ 3‬ـ األكراد اهلكارية‪:‬‬

‫(‪ )1‬الكام يف التاريخ (‪ )750/8‬عماد الدين زنكي ص ‪.78‬‬


‫(‪ )2‬عماد الدين زنكي ص ‪.78‬‬
‫(‪ )3‬عماد الدين زنكي ص ‪.78‬‬
‫(‪ )4‬املصدر نفسه ص ‪.78‬‬
‫(‪ )5‬الكام يف التاريخ نقضمً عن اتريخ الزنكيني يف ص ‪.105‬‬
‫(‪ )6‬مفرج الكروب (‪ )55/1‬عماد الدين زنكي ص ‪.105‬‬
‫(‪ )7‬الباهر ص ‪ ، 48‬عماد الدين زنكي ص ‪.105‬‬
‫(‪ )8‬عماد الدين زنكي ص ‪.105‬‬
‫(‪ )9‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.106‬‬

‫‪81‬‬
‫أدرك أبو اهليجاء اهلكاري ‪ ،‬صاحب قلعة اشب ‪ ،‬مدى قوة عماد الدين زنكي ‪ ،‬وخطورة النصر الذي حققه على وضع‬
‫األكراد بعامة ‪ ،‬استعطفه مببلغ من املال ‪ ،‬وتوس إليه أال يتعرض له ‪ ،‬مث ما لبث أن قَد َم إىل املوص إلعضمن والئه(‪.)1‬‬
‫ب‬ ‫واجلدير ابلذكر‪ :‬هل‬
‫أن طائفة من األكراد اهلكارية تقطن يف املنطقة املعرو ة هبكاراي إىل الشمال يف هنر اخلابور الذي يص ُّ‬
‫قرى زراعية ترتبط هبا وتؤمن هلا التموين‬
‫يف أعايل دجلة ‪ ،‬وكانت قلعة اشب مركزهم الرئيسي ‪ ،‬وتنتشر حوهلا عدهلة ً‬
‫الغذائي‪ .‬واستمرت العضمقات اجليدة بني عماد الدين زنكي وبني اهلكاريني حىت عام (‪ 537‬هـ‪ 1142/‬م) إذ تويف يف‬
‫ذلك العام أبو اهليجاء ‪ ،‬دبت الفوضى يف إمارته بسبب النزاعات األسرية ‪ ،‬وبرز يف هذه الصراعات «ابو أال رجي»‬
‫‪ ،‬انئب أيب اهليجاء يف حكم اإلمارة الذي ساند الطف علي بن اهليجاء ليهيمن من خضمله على شؤون اإلمارة ‪ ،‬وحيكم‬
‫ابمسه يف حني ساند عماد الدين زنكي أخاه أمحد(‪.)2‬‬
‫وجنح عماد الدين زنكي يف ضم قلعة اشب بعد أن هزم ابو وأنصاره ‪ ،‬مث غادر املنطقة عائداً إىل املوص بعد أن ترك‬
‫يها انئبه «نصر الدين جقر» ليتم ما بدأه بَم منازل اهلكارية ‪ ،‬اجتاح هذا القائد القضمع املتبقية ‪ ،‬وسيطر على‬
‫املنطقة(‪ ، )3‬واستطاع عماد الدين زنكي هبذه االنتصارات أن ينهي أعمال الفوضى والفساد يف املنطقة ‪ ،‬ح هل األمن‬
‫أحد على األكراد أنفسهم ‪ ،‬الذين ختلصوا من املنازعات الداخلية على ما يظهر ‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫يف ربوعها ‪ ،‬وعاد نفعه قب ك‬
‫واجتهوا إىل اإلنتاج ‪ ،‬مث ما لبث عماد الدين زنكي أن أصدر أوامره ببناء قلعة العمادية ـ نسبة إىل امسه(‪ )4‬ـ على أطضمل‬
‫خربوه لعجزهم عن الد اع عنه(‪ ، )5‬ويبدو‪ :‬أن زنكي أراد اختاذ هذه القلعة قاعدة عسكرية‬ ‫حصن قدمي كان األكراد قد هل‬
‫للد اع ‪ ،‬والتموين يف حاالت التمرد اليت قد يقوم هبا األكراد ضد ممتلكاته هناك ‪ ،‬ونقطة انطضمق لتوسيع نفوذه يف‬
‫املنطقة(‪.)6‬‬
‫‪ 4‬ـ األكراد املهرانية‪:‬‬
‫بدأ عماد الدين زنكي هجماته على األكراد املهرانية يف عام ‪ 537‬هـ‪ 1142/‬م ‪ ،‬واجلدير ابلذكر‪ :‬هل‬
‫أن هذه الفئة تَـ ْقطُ ُن‬
‫عدداً من القضمع املنتشرة يف املنطقة اجلبلية املتامخة جلزيرة ابن عمر ‪ ،‬وأمهها كواشي الواقعة يف جبال اجلودي ‪ ،‬شرقي هنر‬
‫دجلة ‪ ،‬والزعفراين ‪ ،‬والشعبـاء وغريهـا(‪.)7‬‬
‫والواقـع‪ :‬هل‬
‫أن ض هلـم املنطقـة اخلاصة ابملهرانية يـُ َع ُّد خطوة متممة لَم املنطقة اخلاصة ابهلكارية بفع جتاورمها ‪ ،‬بعد أن‬
‫انتهى عماد الدين زنكي من ضم املنطقة الثانية انتق إىل ضم املنطقة األوىل‪ .‬واستطاع أن يفرض سيطرته على عدهلة‬

‫(‪ )1‬الكام يف التاريخ نقضمً عن اتريخ الزنكيني ص ‪.106‬‬


‫(‪ )2‬الباهر ص ‪ 64‬عماد الدين زنكي ص ‪.106‬‬
‫(‪ )3‬الكام يف التاريخ نقضمً عن اتريخ الزنكيني ص ‪.107‬‬
‫(‪ )4‬الباهر ص ‪ 64‬عماد الدين زنكي ص ‪.109‬‬
‫(‪ )5‬عماد الدين زنكي ص ‪.109‬‬
‫(‪ )6‬املصدر نفسه ص ‪.110‬‬
‫(‪ )7‬اتريخ الزنكيني يف املوص ص ‪ 107‬نقضمً عن الكام يف التاريخ‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫الرعب يف قلـوب حاميـات القـضمع األخرى اجملاورة ؛ مما‬ ‫قضمع ‪ ،‬منها املذكورة أعضمه ‪ ،‬وألقت هذه االنتصارات السريعـة ُّ‬
‫د عها إىل طلب األمان ‪ ،‬وخَعت حلكم عماد الدين زنكي(‪.)1‬‬
‫‪ 5‬ـ األكراد البشنوية‪:‬‬
‫التفت عماد الدين بعد ذلك إىل مناطق األكراد البشنوية يف بضمد الزوزان الواقعة يف األرض املمتدة من جبال أرمينية‬
‫مشاالً ‪ ،‬حىت املوص جنوابً ومن أذربيجان شرقاً ‪ ،‬حىت إقليم داير بكر غرابً(‪ ،)2‬وكان أمراء البشنوية قد أنشؤوا عدداً من‬
‫احلصون لع هل أمهها حصن نك املط على هنر دجلة ‪ ،‬واختذوه مركزاً رئيسياً هلم نظراً ملا يتمتهلع به من حصانة طبيعية ‪،‬‬
‫ومتانة ‪ ،‬وكان أمريهم آنذاك حسام الدين البشنوي قد اشرتك مع عدد من األمراء األكراد القاطنني مشايل املوص يف‬ ‫ٍ‬
‫إاثرة الفنت ‪ ،‬واالضطراابت ضد إمارة عماد الدين زنكي ‪ ،‬هامجها هذا األخري وأخَعها لسلطانه ‪ ،‬ابستثناء حصن‬
‫نك الذي أوك مهمة إخَاعه إىل قائده زين الدين علي كجك يف حني توجه هو حلصار قلعة جعرب‪ ،‬و رض كجك‬
‫احلصار على احلصن ‪ ،‬وصادف أن اغتي عماد الدين زنكي أثناء حصار قلعة َج ْع َرب ‪ ،‬اضطر كجك إىل ك احلصار‬
‫‪ ،‬واالنسحاب إىل املوص (‪.)3‬‬
‫تلك هي اجلماعات الكردية اليت هاجم زنكي مواقعها ‪ ،‬واستطاع أن يَع يده على معظم ممتلكاهتا ‪ ،‬وقواعدها املهمة‪،‬‬
‫وخيَعها لسيطرته يف أق من عقد ونصف ‪ ،‬بفَ قدرته العسكرية ‪ ،‬وخططه السياسية البارعة؛ اليت أاتحت له التغلب‬
‫على مصاعب القتال يف املناطق اجلبلية الوعرة وسط ئات ال تدين له ابلوالء ‪ ،‬وقد متكن بذلك من أتمني إحدى‬
‫اجلهات اهلامة إلمارته بعد أن كانت تشك نقاط خطر عليه ‪ ،‬وأن جيعلها تستند إىل خطوط د اعية يصعب اخرتاقها‬
‫‪ ،‬حتقيقاً خلطته يف بناء السياج الذي صمم على بنائه حول إمارته عندما قال يوماً‪ :‬إن البضمد كبستان عليه‬
‫سياج ‪ ،‬من هو خارج السياج يهاب الدخول(‪.)4‬‬
‫خامساً‪ :‬عماد الدين واإلمارات احمللية يف داير بكر‪:‬‬
‫كان هدف زنكي ‪ ،‬بعد أن متهل له االستيضمء على حلب ‪ ،‬واختاذها قاعدة يف بضمد الشام ‪ ،‬والسيطرة على املناطق املمتدة‬
‫بينها وبني املوص ‪ ،‬واليت كان حيكمها أمراء مستقلون ‪ ،‬عمضمً خبطته القاضية‪ :‬أبال يبقى يف بضمده ما هو ملك لغريه‬
‫حزماً منه واحتياطاً‪ .‬ذلك‪ :‬أنهله كان يستهدف ـ كما ذكران ـ إنشاء إمارة موحدة قوية ‪ ،‬متكنه من حتقيق انتصارات حامسة‬
‫ضد الصليبيني‪ .‬وكان عليه ـ لتحقيق هذا اهلدف ـ اكتساح عدد من اإلمارات احمللية يف منطقة داير بكر ‪ ،‬واليت كانت‬ ‫هل‬
‫تشك خطراً على مواصضمته مع الشام ‪ ،‬سيما يف حاالت صدامه مع الصليبيني(‪.)5‬‬
‫ضم نصيبني‪:‬‬
‫أ ـ ُّ‬

‫(‪ )1‬اتريخ الزنكيني يف املوص ص ‪.107‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص ‪.107‬‬
‫(‪ )3‬الكام يف التاريخ نقضمً عن اتريخ الزنكيني يف املوص ص ‪.108‬‬
‫(‪ )4‬مفرج الكروب (‪ )103/1‬عماد الدين زنكي ص ‪.116‬‬
‫(‪ )5‬عماد الدين زنكي ص ‪.85‬‬

‫‪83‬‬
‫بدأ عماد الدين زنكي حركته التوسعية اهلاد ة إىل توحيد اإلمارات اإلسضممية ابهلجوم على نصيبني التابعة إلمارة ماردين‬
‫‪ ،‬وقد اختارها؛ أوالً بفع كوهنا أقرب املواقع إىل اجلهات التابعة حلكمه ‪َ ،‬رب عليها حصاراً مركزاً ‪ ،‬استنجد‬
‫حاكمها حسام الدين متراتش بداود بن لقمان صاحب حصن كيفا لصده ‪ ،‬وإرغامه على ك احلصار عنها‪ ،‬وعده‬
‫ابملساعدة(‪ ، )1‬كما بعث إىل أهاليها وحاميتها رسالة مستعجلة على جناح طائر حيثهم يها على الصمود ريثما تصلهم‬
‫النجدة األرتقية خضمل رتة ال تتجاوز اخلمسة أايم ‪ ،‬إالهل أن الرسالة وقعت بيد زنكي واطهللع على ما يها ‪ ،‬ورأى أن‬
‫ينتهز الفرصة لتدبري حيلة قد تساعده على حتقيق هد ه ‪ ،‬أمر بكتابة رسالة أخرى إىل أه نصيبني بدالً من الرسالة‬
‫األوىل ‪ ،‬جاء يها‪« :‬من حسام الدين متراتش ‪ ،‬إنين قد قصدت ابن عمي داود ‪ ،‬وقد وعدين ابلنجدة واملسري ابجليوش‬
‫‪ ،‬وسوف لن يتأخر قدومه إلينا أبكثر من عشرين يوماً ‪ ،‬لذا أطلب منكم الثبات طيلة هذه املدهلة»(‪ )2‬وبعث الرسالة‬
‫على جناح الطائر نفسه ‪ ،‬ومل يشك النصيبيُّون حلظة واحدة أبهنا وردت إليهم من أمريهم األرتقي‪ .‬خا وا على نفوسهم‬
‫‪ ،‬وأيقنوا أهنم يعجزون عن الد اع عن البلد خضمل هذه املدة الطويلة ‪ ،‬لذا أرسلوا إىل زنكي ‪ ،‬وصاحلوه ‪ ،‬وسلهلموا مدينتهم‬
‫إليه ‪ ،‬بط على حسام الدين وداود ما كاان قد عزما عليه(‪ ، )3‬وبفتح نصيبني انفسح الطريق أمام زنكي لتحقيق أهدا ه‬
‫هل‬
‫ضد إمارات داير بكر؛ إذ اختذ من هذا املوقع قاعدة عسكرية يف املنطقة للهجوم على املواقع اجملاورة(‪.)4‬‬
‫ب ـ معركة دارا‪:‬‬
‫أتكد من عجز هل‬
‫احلكام احملليني‬ ‫مهد ض ُّم نصيبني الطريق أمام عماد الدين زنكي لتحقيق أهدا ه يف داير بكر بعد أن هل‬ ‫هل‬
‫عن مواجهته؛ إذ غدا هذا املوقع قاعدة انطضمق لضمنتشار يف املنطقة‪.‬‬
‫ومن جهتهم أدرك أمراء هذا اإلقليم مدى خطورة توسع عماد الدين زنكي على أمضمكهم ‪ ،‬تداعوا يف عام (‪524‬‬
‫هـ‪ 1130/‬م) إىل عقد حلف للوقوف يف وجهه ‪ ،‬اشرتك يه األمريان األرتقيان‪ :‬حسام الدين متراتش ‪ ،‬وابن عمه ركن‬
‫انَم سعد الدولة أبو منصور إيكلدي صاحب امد إىل احللف ‪ ،‬ابإلضا ة إىل عدد كبري من أمراء‬ ‫الدولة داود ‪ ،‬و هل‬
‫الرتكمان املوالني لداود(‪ ،)5‬وملا مسع عماد الدين زنكي حبشود األمراء؛ قرر مباغتة القوم قب أن يتهيؤوا للقتال ‪ ،‬انطلق‬
‫على رأس أربعة االف مقات ‪ ،‬والتقى هبم ابلقرب من دارا(‪ )6‬التابعة لتمراتش ‪ ،‬وانتصر عليهم‪ .‬كانت النتيجة الفورية‬
‫للمعركة سيطرة عماد الدين زنكي على عدد من املواقع القريبة كحصن سرجي(‪ )7‬ودارا(‪ ، )8‬وحىت يعرق توغله يف املنطقة‬
‫‪ ،‬قرر داود مهامجة جزيرة ابن عمر التابعة للموص ‪ ،‬ممهلا د ع عماد الدين زنكي إىل ترك داير بكر ‪ ،‬والتوجه إليه إليقا ه‬

‫(‪ )1‬التاريخ الباهر ص ‪.36‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص ‪ 36‬ـ ‪ 37‬عماد الدين زنكي ص ‪.86‬‬
‫(‪ )3‬عماد الدين زنكي ص ‪.87‬‬
‫(‪ )4‬عماد الدين زنكي ص ‪.87‬‬
‫(‪ )5‬الكام يف التاريخ نقضمً عن اتريخ الزنكيني ص ‪.110‬‬
‫(‪ )6‬دارا‪ :‬بلدة يف حلف جب بني نصيبني وماردين‪.‬‬
‫ودنسري ودارا‪.‬‬
‫سرجي أو سرجة‪ :‬حصن بني نصيبني ُ‬
‫(‪)7‬‬

‫(‪ )8‬الكام يف التاريخ نقضمً عن عماد الدين زنكي ص ‪.111‬‬

‫‪84‬‬
‫يتمكن من التوغ بعيداً بسبب وعورة املسالك ‪ ،‬وانتشار الرتكمان يف املنطقة‪ ،‬اكتفى ابستقطاب‬ ‫عند حده ‪ ،‬لكنه مل هل‬
‫السكان يف اجلهات اليت بلغها ‪ ،‬مث قف عائداً(‪.)1‬‬
‫ج ـ أساليب سياسية من عماد الدين زنكي إلحداث انشقاق ‪ ،‬وتنا ر يف صفوف األراتقة‪:‬‬
‫ضد مطاحمه يف املنطقة ‪ ،‬رأى‬ ‫أدرك زنكي إثر هذه األحداث مدى اخلطر الذي يشكله التحالف بني أمراء داير بكر هل‬
‫أن يلجأ إىل األساليب السياسية علهلها تتيح له إحداث انشقاق ‪ ،‬وتنا ر يف صفوف أولئك األمراء كي يسه عليه ـ بعد‬
‫أن خري ما يبدأ به خططه السياسية هو إجياد حتالف متني مع أحد هؤالء‬ ‫ذلك ـ اقتطاع أراضيهم ‪ ،‬وممتلكاهتم‪ .‬واعتقد‪ :‬هل‬
‫األمراء ‪ ،‬واالستعانة به ضد االخرين ‪ ،‬وكان من الصعب عليه حتقيق هذا التحالف مع غرميه اللدود ركن الدولة‪ ،‬ملا كان‬
‫وحتني الفرص لضمنقَاض على ممتلكاته(‪.)2‬‬
‫حقد ‪ ،‬ورغبة إبنزال الَرابت بعدوه ‪ُّ ،‬‬‫يتميهلز به هذا من ٍ‬
‫أن زنكي مل يشأ أن يتخذ من صاحب امد حليفاً له لَعف إمكانياته ‪ ،‬وعدم قدرته على تقدمي مساعدات جمدية‬ ‫كما هل‬
‫يف حالة نشوب قتال بني أمري املوص واألراتقة ‪ ،‬ومل يبق أمامه إذاً سوى حسام الدين متراتش الذي كان أكثر مرونة من‬
‫الود‬
‫أحس األمري األرتقي اجتاه زنكي هل‬ ‫يتقرب إليه ‪ ،‬وأوقف مهامجته ملمتلكاته ‪ ،‬وسرعان ما هل‬
‫ابن عمه داود ‪ ،‬لذا أخذ هل‬
‫أن التَحية اببن عمه داود ال بد منها يف سبي كسب حليفه اجلديد ‪ ،‬وائتمان جانبه ‪ ،‬والسعي ـ عن‬ ‫منه ‪ ،‬ورأى‪ :‬هل‬
‫طريق هذا التحالف ـ للحصول على مزيد من املكاسب يف املنطقة(‪.)3‬‬
‫أ ـ مهامجة حصن آمد‪:‬‬
‫شهد عام ‪ 528‬هـ لقاء وديـاً بني احلليفني ‪ ،‬انطـلقـا بعـده مبـاشرة ملهامجة احلصن املنيع امد ‪ ،‬و رضا احلصار عليه ‪،‬‬
‫أرس صاحبه سعد الدولة إيكلدي (‪ 503‬هـ‪ 536/‬هـ) يستنجـد بداود األرتقي ‪ ،‬وسرعـان ما مجـع هذا جيوشه‬
‫ومتطوعيه من الرتكمان ‪ ،‬و هلاجته لفك احلصار عن امد ‪ ،‬وهنـاك عند أسوار هذا احلصن حدث اللقاء بني الطر ني يف‬
‫أواخر مجادى االخرة من ذلك العام ‪ ،‬وانتهى القتال هبزمية داود ‪ ،‬وأسر ولده ‪ ،‬ومقت عدد من جنـده ‪ ،‬بينما استمر‬
‫حصار زنكي وحليفه هلد هما املنيع ‪ ،‬وكي يلقيا الفزع ‪ ،‬واليأس يف نفوس أصحابه قاما بتخريب واسع النطاق يف‬
‫أن امد صمدت ‪ ،‬وأقنعت املهامجني بعدم جدوى البقاء طويضمً ‪ ،‬ورضـي زنكي من‬ ‫البساتني ‪ ،‬واملزارع اجملـاورة ‪ ،‬إال هل‬
‫الص ْور(‪ )5‬القريبة‪ ،‬وهي من‬
‫صاحبهـا ـ لقاء ك احلصار ـ بتقدمي مقدار من املال(‪ .)4‬مث اجته احلليفان بعد ذلك إىل قلعة هل‬
‫ممتلكات داود‪ ،‬وحيكمها ابنه قرا أرسضمن‪ ،‬حاصراها‪ ،‬وأرغماها على االستسضمم‪ ،‬وأهداها عماد الدين زنكي حلليفه‬
‫تقديراً ملساعداته‪ ،‬وأتكيداً لتحالفهما(‪.)6‬‬
‫ب ـ اتساع شقة اخلضمف بني متراتش وبني ابن عمه داود‪:‬‬

‫(‪ )1‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.111‬‬


‫(‪ )2‬مفرج الكروب (‪.)52/1‬‬
‫(‪ )3‬عماد الدين زنكي ص ‪.88‬‬
‫(‪ )4‬زبدة حلب (‪ )253/2‬عماد الدين زنكي ص ‪.89‬‬
‫الص ْور‪ :‬قلع حصينة عجيبة على رأس جب قرب ماردين بني اجلبال من أعمال ماردين‪.‬‬
‫(‪ )5‬هل‬
‫(‪ )6‬االعتبار البن منقذ ص ‪ 199‬ـ ‪ 201‬اتريخ الزنكيني ص ‪.112‬‬

‫‪85‬‬
‫نتيجة هلذا االنقسام يف الصف األرتقي اتسعت شقة اخلضمف بني متراتش وبني ابن عمه داود ‪ ،‬وبدت يف األ ق السياسي‬
‫بوادر نزاع مسلح بينهما يف الوقت الذي ازداد يه التحالف بني متراتش ‪ ،‬وعماد الدين زنكي متانة وصضمبة‪ .‬وقام‬
‫متكنا من ضمهما ‪ ،‬ومنحهما زنكي‬ ‫احلليفان بشن هجوم مشرتك على جب جور(‪ )1‬والسيوان يف عام (‪ 530‬هـ) و هل‬
‫حلليفه متاشياً مع خطته يف تقوية التحالف معه(‪ ،)2‬وأدت هذه االنتصارات السريعة إىل إلقاء الرعب يف روع قرا أرسضمن‬
‫بن داود ‪ ،‬الذي أدرك‪ :‬أنه أمام عدو صلب قوي وابلتايل عدم جدوى املقاومة ‪ ،‬غادر املنطقة إىل قاعدة أبيه يف حصن‬
‫كيفا اتركاً مناطق واليته لقمة سائغة يف يد عماد الدين زنكي ‪ ،‬وحاول متراتش اإل ادة من حتالفه مع عماد الدين زنكي‬
‫متكن يف عام (‪ 530‬هـ‪ 1136/‬م) من ضم قلعة اهلتهلاخ(‪ ، )3‬وهي‬ ‫يف توسيع رقعة إمارته بَم بعض املواقع القريبة ‪ ،‬و هل‬
‫آخر احلصون املروانية يف داير بكر(‪.)4‬‬
‫تعرض التحالف الزنكي األرتقي إىل االهتزاز‪:‬‬ ‫ج ـ ُّ‬
‫تعرض التحالف الزنكي ـ األرتقي إىل االهتزاز يف عام (‪ 533‬هـ‪ 1138/‬م) ‪ ،‬وبدا يف األ ق السياسي ما يشري إىل تور‬ ‫هل‬
‫أن مرد ذلك يعود إىل‪:‬‬ ‫يف العضمقات بني احلليفني ‪ ،‬ويبدو‪ :‬هل‬
‫ـ التجاء األمري أيب بكر انئب عماد الدين زنكي يف نصيبني إىل حسام الدين متراتش بعد ما خرج عليه ‪ ،‬ر ض األخري‬
‫تسليمه إىل عماد الدين زنكي رغم إحلاحه ‪ ،‬وجرت بينهما منازعات طويلة بسبب ذلك ‪ ،‬اضطر متراتش إىل تسليمه‬
‫إىل السلطان مسعود الذي سلهلمه بدوره إىل عماد الدين زنكي لينال عقابه(‪.)5‬‬
‫د ـ عودة الوائم بني متراتش وداود‪:‬‬
‫أن هذا اخلضمف الذي اشتد بينهما ‪ ،‬واتسع إىل درجة احلرب ‪ ،‬والتخريب لن يفيد أايً‬ ‫أدرك ك ٌّ من متراتش ‪ ،‬وداود‪ :‬هل‬
‫منهما ‪ ،‬بقدر ما يعود ابملكاسب على زنكي الذي قد يستغله بشك دائم لتحقيق مزيد من االنتصارات يف املنطقة ‪،‬‬
‫وابلتايل إضعاف قوى األراتقة مجيعاً ‪ ،‬كي يصبحوا بعد ذلك هد اً سه املنال ‪ ،‬لذا قام ك ٌّ من األمريين األرتقيني‬
‫بتبادل الرس يف مطلع عام ‪ 536‬هـ ‪ ،‬وأسفرت املفاوضات عن عقد صلح بينهما ‪ ،‬وما لبث داود أن اجته إىل ميا ارقني‬
‫حيث اجتمع اببن عمه بعد سنني طويلة من العداء(‪.)6‬‬
‫هـ ـ سعي عماد الدين زنكي يف كسب حليف جديد‪:‬‬
‫أن الصلح الذي متهل بني األراتقة سيكون على حسابه للحد من مطاحمه يف املنطقة ‪ ،‬سعى إىل اختاذ‬ ‫مل يغب عن زنكي‪ :‬هل‬
‫ضد منا سيه يف املنطقة من جهة أخرى‪ ،‬وقد‬ ‫إجراءات سياسية تكف عدم انعزاله من جهة ‪ ،‬واكتساب حليف جديد هل‬
‫متكن ـ يف أق من عام ـ من حتقيق هذين اهلد ني ‪ ،‬وذلك أبن أرس إىل صاحب آمد(‪ )7‬يتهدده إن استمر زنكي ‪،‬‬

‫(‪ )1‬جب جور‪ :‬اسم لكورة كبرية متصلة بداير بكر من نواحي إرمينية‪.‬‬
‫(‪ )2‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.112‬‬
‫(‪ )3‬اهلتاخ‪ :‬قلعة حصني يف داير بكر قرب ميا ارقني‪.‬‬
‫(‪ )4‬اتريخ الزنكيني يف املوص ص ‪.112‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه ص ‪.113‬‬
‫(‪ )6‬عماد الدين زنكي ص ‪.92‬‬
‫(‪ )7‬املصدر نفسه ص ‪.92‬‬

‫‪86‬‬
‫واستطاع أن حيص على مركز قوي يف داير بكر ‪ ،‬وأ ْن يستغ هذا املركز ملد نفوذه هناك ‪ ،‬واالستيضمء على ما ميكن‬
‫االستيضمء عليه من احلصون الكثرية املنتشرة يف املنطقة ‪ ،‬والتابعة لعدد من األمراء؛ كي يتسىن له بعد ذلك القيام خبطوته‬
‫احلامسة ‪ ،‬وهي االنقَاض إلسقاط حكم بين أرتق الذي يقف عائقاً دون حتقيق هد ه الرئيسي يف توحيد بضمد املوص‬
‫‪ ،‬واجلزيرة ‪ ،‬ومشايل الشام(‪.)1‬‬
‫و ـ محلة عسكرية واسعة من عماد الدين زنكي‪:‬‬
‫وشهدت أواخر عام ‪ 537‬هـ ومطالع العام التايل قيام زنكي حبملة واسعة ضد عدد كبري من احلصون الواقعة يف أقاصي‬
‫داير بكر والتابعة ألمري يدعى يعقوب بن السبع األمحر؛ الذي مل تشر املصادر ـ بوضوح ـ إىل اترخيه السياسي‪ ،‬وهويته‬
‫‪ ،‬وطبيعة عضمقاته أبمراء داير بكر(‪ .)2‬وقد متكن زنكي يف محلته هذه من االستيضمء على مدينة طنزة ‪ ،‬والسعرد‪،‬‬
‫واملعدن(‪ ، )3‬وحيزان(‪ ، )4‬وحصن الزوق(‪ ، )5‬و طليس(‪ ، )6‬واباتسا(‪ ، )7‬وحصن ذي القرنني(‪ ، )8‬وأنريون(‪ ،)9‬وقام برتتيب‬
‫ضد هجمات األعداء(‪ )10‬وأسرع زنكي‬ ‫أوضاع هذه املواقع واحلصون ‪ ،‬ووضع يف ك ٍ منها حامية عسكرية لتدا ع عنها هل‬
‫ـ بعد إجنازه هذه االنتصارات ـ ابلتوجه إىل ميا ارقني لتنفيذ اخلطة السرية اليت رمسها مع شرف الدين حبشي وزير متراتش‬
‫كر بقواته الكبرية ‪ ،‬يف إحدى ضواحيها القريبة املسماة (ت بسمي) أمضمً أن يقوم حبشي ‪ ،‬املقيم يف ميا ارقني‬ ‫وع ْس َ‬
‫‪َ ،‬‬
‫ت‪،‬‬ ‫‪ ،‬بفتح األبواب لدخول قواته ‪ ،‬والسيطرة على املدينة ‪ ،‬والقلعة دون إراقة قطرة من دماء ‪ ،‬إال أن اخلطة ا ْكتُش َف ْ‬
‫واتفق رجضمن من كبار أعيان البلد ومسؤوليه على اغتيال حبشي ‪ ،‬وإهناء اخلطر احملدق مبيا ارقني(‪ ، )11‬تسلضم إىل‬
‫خيمته ليضمً ‪ ،‬وضرابه ابلسيوف ‪ ،‬مث محضم رأسه إىل متراتش يف ماردين ‪ ،‬وسرعان ما انتشر نبأ احلادثة ‪ ،‬اضطرب جيش‬
‫إن مقت حبشي املفاجئ جع من الصعوبة مبكان‬ ‫وعمته الفوضى ‪ ،‬واضطر قائده إىل االنسحاب ‪ ،‬حيث هل‬ ‫زنكي ‪ ،‬هل‬
‫االستيضمء على ميا ارقني ‪ ،‬قف عائداً إىل نصيبني(‪.)12‬‬
‫ويف مطلع العام التايل (‪ 539‬هـ) تويف داود بن سقمان صاحب حصن كيفا ‪ ،‬خلفه ابنه خر الدين قرا أرسضمن ‪،‬‬
‫أن هذا األخري مل يكن يتمتع كأبيه مبقدرة سياسية ‪ ،‬أو عسكرية ‪ ،‬رأى أن خري وسيلة إليقاف عماد الدين‬ ‫ويبدو‪ :‬هل‬
‫زنكي هي إعادة التحالف القدمي بني إماريت حصن كيفا وماردين ‪ ،‬قام ابخلطوة األوىل يف هذا السبي ‪ ،‬صاهر‬

‫(‪ )1‬عماد الدين زنكي ص ‪.93‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص ‪.94‬‬
‫(‪ )3‬تقع قريباً من منابع هنر دجلة مسيت بذلك بسبب كثرة معدين احلديد والنحاس‪.‬‬
‫(‪ )4‬بلد كثري األشجار والبساتني‪.‬‬
‫(‪ )5‬عماد الدين زنكي ص ‪.94‬‬
‫(‪ )6‬املصدر نفسه ص ‪.94‬‬
‫(‪ )7‬املصدر نفسه ص ‪.94‬‬
‫(‪ )8‬املصدر نفسه ص ‪.94‬‬
‫(‪ )9‬املصدر نفسه ص ‪.94‬‬
‫(‪ )10‬املصدر نفسه ص ‪.94‬‬
‫(‪ )11‬املصدر نفسه ص ‪.94‬‬
‫(‪ )12‬عماد الدين زنكي ص ‪.95‬‬

‫‪87‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وضم مناطق واسعة من إمارة احلصن ‪ ،‬وقد‬ ‫متراتش ‪ ،‬واستغ عماد الدين ضعف قرا أرسضمن ‪ ،‬توسع على حسابه ‪ ،‬هل‬
‫هلأدت العمليات العسكرية اليت نفهلذها إىل تعميق اخلضمف بينه وبني متراتش وخباصة‪ :‬أنهله هاجم قلعيت اجلور ‪ ،‬والسيوان ‪،‬‬
‫أن عماد الدين زنكي مل أيبه هلذا النزاع بعد أن‬ ‫وضمهما إىل أمضمكه بعد أن كان قد منحهما هلذا األخري ‪ ،‬والواقع‪ :‬هل‬
‫قرر استئناف هجماته على األمضمك األرتقية ‪ ،‬اجته إىل امد يف حماولة لَمها ؛ إال‬ ‫أضحى مركزه قوايً يف داير بكر ‪ ،‬هل‬
‫الرها الصليبية ‪ ،‬أنقذ متراتش من هجوم جديد هل‬
‫ضد أمضمكه(‪.)2‬‬ ‫أنهله اهنمك مبهامجة إمارة ُّ‬
‫و ـ موقف عماد الدين من إمارة أرمينية‪:‬‬
‫بد قب االنتهاء من سرد وحتلي عضمقات زنكي أبمراء أرمينية املتامخة لذلك اإلقليم(‪)3‬؛ إذ أرس يف عام ‪ 528‬هـ‬ ‫ال هل‬
‫يطلب خطبة ابنه مسكان القطيب الذي كانت زوجته قد تولت الوصاية على شؤون اإلمارة ُمنذ و اته عام ‪ 505‬هـ‬
‫وصادف يف الوقت نفسه أن تقدم حسام الدولة بن دملاج أمري بدليس اجملاورة خيطب هذه الفتاة البنه ‪ ،‬األمر الذي‬
‫حتد لرغبته ‪ ،‬تقدم على رأس قواته إىل خضمط ‪ ،‬سالكاً جبنده الطرق‬ ‫أشد الغَب ‪ ،‬واعترب املوضوع مبثابة ٍ‬ ‫أغَب زنكي هل‬
‫اجلبلية الوعرة ‪ ،‬غري املسلوكة من أج أن يبلغ هد ه أبسرع وقت ممكن(‪.)4‬‬
‫كان اجليش بغري خيام ‪ ،‬وك ُّ جندي يف موضعه من الطريق(‪ .)5‬وعندما وصلوا خضمط ضربوا خيامهم قريباً منها ‪ ،‬واجته‬
‫زنكي مع كبار أ راد حاشيته إىل القلعة لكتابة املهر‪ .‬وما إن أمت ذلك حىت قام إبرسال حاجبه الياغسياين إىل بدليس‬
‫على رأس قسم من قواته لتأديب صاحبها ‪ ،‬إال أن هذا استطاع إقناع قائد زنكي ابلعودة إىل سيده مقاب مبلغ من‬
‫املال(‪ .)6‬وهكذا اعتمد زنكي رابطة الزواج لتعزيز عضمقته إبمارة أرمينية وكسب بذلك صديقاً جديداً ‪ ،‬رمبا حص على‬
‫ضم َن حياده على األق ‪ ،‬سيما وأن هذه اإلمارة‬ ‫مساعدته خضمل عملياته العسكرية يف املناطق القريبة من أرمينية ‪ ،‬أو َ‬
‫كانت جتاور أعداءه يف داير بكر ‪ ،‬ومناطق اجلبال الكردية ‪ ،‬مما كان حيتم إبعادها عن الدخول يف الصراع إىل جانب‬
‫هؤالء األعداء‪.‬‬
‫يتوسع على حساب هذه اإلمارة ‪ ،‬رمبا لبعدها عن حدود ممتلكاته ‪ ،‬وعدم‬ ‫ومل حياول زنكي ـ من جهة أخرى ـ أن هل‬
‫تشكيلها خطراً مباشراً عليه ‪ ،‬حيث يفص بني الطر ني عدد من اإلمارات واملواقع املستقلة يف أقاليم اجلبال ‪ ،‬وداير‬
‫بكر ‪ ،‬امتصت معظم جهوده خضمل صراعه الطوي مع أمرائها ‪ ،‬هذا إىل أن املنشور ‪ ،‬الذي منحه السلطان السلجوقي‬
‫نص على توليته املوص ‪ ،‬واجلزيرة ‪ ،‬والشام دون أية إشارة إىل أرمينية ‪ ،‬و َضمً عن هذا وذاك كان هدف‬ ‫لزنكي ‪ ،‬هل‬
‫زنكي الرئيسي العم على توحيد املواقع اإلسضممية اليت ختدمه يف صراعه ضد الصليبيني ‪ ،‬ومل تكن أرمينية ذات غناء‬
‫بد أن نضمحظ بـُ ْع َد نظر زنكي يف سياسته اليت استهد ت عدم إضعاف اإلمارة املذكورة‬ ‫كبري يف هذا اجملال ‪ ،‬وأخرياً ال هل‬

‫(‪ )1‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.115‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص ‪.115‬‬
‫(‪ )3‬عماد الدين زنكي ص ‪.96‬‬
‫(‪ )4‬املصدر نفسه ص ‪.97‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه ص ‪.97‬‬
‫(‪ )6‬املصدر نفسه ص ‪.97‬‬

‫‪88‬‬
‫اليت كانت مبثابة حزام و ٍاق ضد هجمات اخلزر ‪ ،‬والقفجاق القاسية على اجلهات الشمالية من اسيا الصغرى وأرمينية ‪،‬‬
‫أولئك الذين كانوا يشكلون خطراً على املناطق اجملاورة(‪.)1‬‬
‫سادساً‪ :‬عماد الدين زنكي وأمراء دمشق‪:‬‬
‫ضم محاة‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ ُّ‬
‫ضم دمشق ‪ ،‬واملدن احمليطة هبا إىل أمضمكه‬
‫أدرك عماد الدين زنكي‪ :‬أنه ال يستطيع مواصلة اجلهاد ضد الصليبيني إال إذا هل‬
‫‪ ،‬وأقام حمور املوص ‪ ،‬حلب‪ ،‬دمشق؛ ألن قطع الشام عن اجلزيرة كان جيعله حمتاجاً إىل البقاع ‪ ،‬وحوران لتموينه ابحلبوب‬
‫‪ ،‬ابإلضا ة إىل هدف سياسي يعود إىل وجود مملكة بيت املقدس الضمتينية يف اجلنوب‪ .‬والواقع‪ :‬أن ممتلكات املسلمني‬
‫يف بضمد الشام كانت تتوزع آنذاك بني ثضمث قوى‪:‬‬
‫أ ـ حمور بوري بن طغتكني أاتبك دمشق الذي يسيطر على دمشق ومحاة يف الشمال ‪ ،‬وحوران يف اجلنوب‪ .‬واجلدير‬
‫أن آل طغتكني ورثوا حكم هذه املنطقة احليوية من سضمجقة الشام ‪ ،‬وكانت مشكلتا دمشق الرئيستان تتمثضمن‬ ‫ابلذكر‪ :‬هل‬
‫يف جتنُّب قوة الزنكيني يف املوص ‪ ،‬وحلب ‪ ،‬وقوة الصليبيني يف بيت املقدس ‪ ،‬واالحتفاظ ابلسيطرة على السهلني‬
‫الزراعيني ‪ ،‬البقاع يف الشمال الغريب ‪ ،‬وحوران يف اجلنوب الشرقي؛ اللذين يؤمنان هلا القمح والعلف‪.‬‬
‫ب ـ حمور صمصام الدولة خري خان بن قراجا ‪ ،‬أمري محص‪.‬‬
‫ج ـ حمور سلطان بن منقذ ‪ ،‬األمري العريب الذي يسيطر على شيزر‪.‬‬
‫يَم محاة ‪ ،‬ومحص أوالً الواقعتني على الطريق املؤدي إىل دمشق ؛ نظراً ملا مينحه‬
‫وحىت حيقق هذا اهلدف كان عليه أن هل‬
‫ذلك من قواعد عسكرية هامة ‪ ،‬ومراكز للتموين ال ميكن االستغناء عنها عند القيام هبجوم ضد املدينة األخرية ‪ ،‬أو‬
‫رض احلصار عليها(‪.)2‬‬
‫ورأى عماد الدين زنكي أن يستعم األساليب ‪ ،‬واملناورات السياسية لَم محاة ‪ ،‬ومحص ‪ ،‬ويتجنهلب ما أمكن استعمال‬
‫القوة ‪ ،‬أرس إىل بوري بن طغتكني يف دمشق خيربه بنيته يف حماربة الصليبيني ‪ ،‬ويلتمس منه املساعدة ‪ ،‬كتب بوري‬
‫إىل ابنه سونج يف محاة أيمره ابخلروج من عسكره لنجدة عماد الدين زنكي ‪ ،‬كما أرس من دمشق قوة عسكرية مؤلفة‬
‫لتنَم إىل القوات اإلسضممية‪.‬‬
‫من مخسمئة ارس ‪ ،‬هل‬
‫رحب عماد الدين زنكي بقدوم سونج ‪ ،‬وأحسن لقاءه ‪ ،‬لكنه مل يلبث أن قبض عليه ‪ ،‬وعلى عدد من أمرائه ‪ ،‬وقادته‬
‫‪ ،‬وأرسلهم إىل حلب ‪ ،‬مث تقدم مسرعاً إىل محاة ‪ ،‬منتهزاً خلوها من الد اعات ‪ ،‬ودخلها يف شهر شوال عام ‪524‬‬
‫هـ‪/‬شهر أيلول عام ‪ 1130‬م ‪ ،‬وسلهلمها حلليفه خري خان صاحب محص الذي كان يرا قه يف عملياته(‪.)3‬‬
‫‪ 2‬ـ حماولة ضم محص‪:‬‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص ‪.98‬‬


‫(‪ )2‬اتريخ الزنكيني يف املوص ص ‪.116‬‬
‫(‪ )3‬زبدة حلب (‪ )440/2‬اتريخ الزنكيني ص ‪.116‬‬

‫‪89‬‬
‫أن هذه اخلطوة كانت خدعة من عماد الدين زنكي ليطمئن حليفه قب أن يَربه ‪ ،‬و عضمً انقلب عليه بعد ذلك‬ ‫ويبدو هل‬
‫‪ ،‬قبض عليه ‪ ،‬وأمره مبراسلة أه محص لتسليمه املدينة قب أن يرسله إىل حلب ‪ ،‬مث أسرع مبهامجتها(‪ .)1‬إال أن أهايل‬
‫(‪)2‬‬
‫محص قاتلوا ببسالة كبرية ‪ ،‬اضطرت زنكي ـ أخرياً ـ إىل ك احلصار والعودة إىل حلب ؛ حيث أرس من هناك كضمً‬
‫من خري خان ‪ ،‬وسونج وأمرائه لكي يعتقلوا يف املوص ‪ ،‬مث ما لبث بوري أن أخذ يراس زنكي ُملتمساً إطضمق سراح‬
‫ابنه‪.‬‬
‫وأخرياً متت موا قة أمري املوص على إعادة املعتقلني إىل دمشق مقاب تسليمه دبيساً بن صدقة ـ أمري احللة ـ الذي كان‬
‫حمتجزاً آنذاك يف دمشق(‪ .)3‬أما خري خان قد بقي يف السجن حىت مقتله عام ‪ 529‬هـ(‪ .)4‬ما لبث زنكي أن قام ـ يف‬
‫العام التايل ـ هبجومه الثاين على محص ‪ ،‬لكنه جوبه بنفس املقاومة الشديدة ‪ ،‬اثر االنسحاب انتظاراً لفرصة مواتية‬
‫(‪)5‬‬
‫أخرى ‪ ،‬ويف السنة التالية تويف بوري حاكم دمشق ‪ ،‬أعقبه يف احلكم ابنه إمساعي الذي كان أكثر طموحاً ‪ ،‬واند اعاً‬
‫من أبيه ‪ ،‬عزم على مهامجة محاة ‪ ،‬ومتكن من اسرتدادها يف شوال عام ‪ 527‬هـ بعد أن أبدت حاميتها مقاومة عنيفة(‪.)6‬‬
‫‪ 3‬ـ حماولة التفاهم مع حكام دمشق‪:‬‬
‫حدث يف شهر رجب عام ‪ 526‬هـ‪/‬من شهر حزيران عام ‪ 1132‬م أن تويف بوري بن طغتكني ‪ ،‬خلفه ابنه مشس‬
‫امللوك إمساعي الذي اتصف ابلطموح واالند اع الزائد ‪ ،‬وجنح هذا احلاكم اجلديد من استعادة محاة يف أول شهر شوال‬
‫عام ‪ 527‬هـ‪/‬شهر اب عام ‪1133‬م(‪ )7‬مستغضمً اهنماك عماد الدين زنكي مبشاكله مع اخلضم ة العباسية ‪ ،‬والسلطنة‬
‫السلجوقية‪.‬‬
‫غري أن إمساعي مل يلبث أن أساء السرية ‪ ،‬وابلغ يف ظلم األهايل ‪ ،‬ومصادرة أمواهلم ‪ ،‬كما أسرف يف التخلص من‬
‫معارضيه؛ حىت أضحى ك شخص خيشى على حياته ‪ ،‬اضطربت أحوال دمشق ‪ ،‬وأتلهلب اجلميع عليه(‪ ، )8‬وكان قد‬
‫أدرك إصرار عماد الدين زنكي على مهامجة دمشق‪ ،‬وصعوبة الصمود بوجهه‪ ،‬والنقمة حتيطه من ك مكان ‪ ،‬وقرر القيام‬
‫ضد خصومه الدمشقيني ‪ ،‬كاتبه عام ‪ 529‬هـ يطلب منه القدوم‬ ‫مبناورة استهدف من ورائها كسب زنكي إىل جانبه هل‬
‫إىل دمشق لتسليمها إايه طوعاً ‪ ،‬وشرط عليه ـ لقاء ذلك ـ أن ميكنه من االنتقام من خصومه ‪ ،‬وأبلغه‪ :‬أنه إن مل يسرع‬
‫بتلبية طلبه؛ قام ابستدعاء الصليبيني ‪ ،‬وسلمهم دمشق ‪ ،‬وكان إمث املسلمني يف عنق زنكي‪ .‬مث ما لبث إمساعي أن شرع‬
‫بنق أمواله ‪ ،‬وممتلكاته إىل صرخد استعداداً لتسليم دمشق ألمري املوص ‪ .‬غري أن كبار أمراء دمشق وقادهتا أوضحوا‬

‫(‪ )1‬اتريخ الزنكيني يف املوص ص ‪.117‬‬


‫(‪ )2‬عماد الدين زنكي ص ‪.120‬‬
‫(‪ )3‬املنتظم (‪.)20/10‬‬
‫(‪ )4‬مفرج الكروب (‪.)71/1‬‬
‫(‪ )5‬عماد الدين زنكي ص ‪.121‬‬
‫(‪ )6‬االعتبار ص ‪ 97‬ـ ‪ 98‬عماد الدين زنكي ص ‪.121‬‬
‫(‪ )7‬ذي اتريخ دمشق نقضمً عن اتريخ الزنكيني ص ‪.117‬‬
‫(‪ )8‬املصدر نفسه‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫لوالدته ـ ذات النفوذ الكبري يف اإلمارة ـ العواقب الوخيمة اليت ستجرها عليهم سياسة ابنها الرعناء أسرعت بتدبري قتله‬
‫‪ ،‬وأجلست مكانه يف احلكم أخاه شهاب الدين حممود حيث ابيعه الناس(‪.)1‬‬
‫كان عماد الدين زنكي آ نذاك قد خرج من املوص ‪ ،‬وعرب الفرات يف طريقه إىل دمشق ‪ ،‬وعندما بلغته أنباء التغيريات‬
‫اليت حصلت؛ مل يقطع أمله يف إجياد وسيلة التفاهم مع احلكام اجلدد ‪ ،‬لذلك واص سريه حىت بلغ أرابض املدينة ‪،‬‬
‫وأرس رسوالً إىل حكامها للتفاوض بشأن شروط التسليم اعتقاداً منه بعدم قدرهتم على املقاومة(‪.)2‬‬
‫‪ 4‬ـ حصار دمشق‪:‬‬
‫أصر هو من جهته على مهامجة دمشق ‪َ ،‬رب‬ ‫أن الدمشقيني ر َوا التفاوض معه‪ ،‬وأصروا على املقاومة‪ .‬و هل‬ ‫الواقع‪ :‬هل‬
‫احلصار عليها يف أوائ مجادى األوىل ونفهلذ غارات على أطرا ها ‪ ،‬هلرد عليه الدمشقيون بغارات مَادة ‪ ،‬وتز هلعم حركة‬
‫املقاومة معني الدين أنر أحد مماليك طغتكني(‪ )3‬وملا ش يف اقتحام املدينة ‪ ،‬اضطر حتت ضغط الظروف السياسية ‪،‬‬
‫والعسكرية املستجدهلة إىل عقد صلح مع الدمشقيني يف اخر شهر مجادى األوىل عام ‪ 529‬هـ‪/‬شهر اذار عام ‪1135‬م‪،‬‬
‫وقف عائداً إىل حلب(‪ )4‬والواضح‪ :‬أن الظروف اليت د عته إىل ك احلصار تكمن يف األحداث التالية‪:‬‬
‫أ ـ قيام الدمشقيني مبَايقة جيشه يف الوقت الذي أخذت أقواته يف التناقص‪.‬‬
‫ب ـ تسلُّ ُ بعض جنوده إىل دمشق ‪ ،‬وانَمامهم إىل الدمشقيني‪.‬‬
‫ث حكام دمشق إىل اخلليفة العباسي املسرتشد ابهلل مبلغاً من املال ‪ ،‬قدره مخسون ألف دينار ‪ ،‬وطلبوا منه د ع‬ ‫ج ـ بَـ َع َ‬
‫عماد الدين زنكي عنهم ‪ ،‬وتعهدوا ‪ ،‬إذا جنح يف ذلك ‪ ،‬أبن يرسلوا مبلغاً مماثضمً ك سنة ‪ ،‬قب اخلليفة هذا العرض‬
‫وأرس إليه أيمره بفك احلصار عن دمشق ‪ ،‬والتوجه على رأس قواته إىل بغداد ملعونته ضد السلطان مسعود(‪ ،)5‬وهكذا‬
‫شلت اجلهود اليت بذهلا عماد الدين زنكي لَم دمشق ‪ ،‬كما ظلهلت هذه املدينة أمداً طويضمً متث عقبة يف سبي إمتام‬
‫الوحدة اإلسضممية يف بضمد الشام(‪.)6‬‬
‫‪ 5‬ـ جتدُّد الغارات على محص‪:‬‬
‫ك احلصار عن دمشق من إعادة ضم محاة إىل أمضمكه ‪ ،‬كما هاجم‬ ‫متكن عماد الدين أثناء عودته إىل حلب بعد أن هل‬ ‫هل‬
‫محص ‪ ،‬إال أنه ش يف دخوهلا(‪ ،)7‬ويبدو‪ :‬أن هذه املدينة ظلت طيلة السنوات الثضمثة التالية (‪ 530‬ـ ‪ 532‬هـ‪1135/‬‬
‫ـ ‪ 1137‬م) عرضة هلجماته؛ إذ شهد عام ‪ 530‬هـ‪ 1135/‬م حماولة أخرى لَمها ‪ ،‬وجد قريش بن جربخان نفسه‬
‫عاجزاً عن صده ‪ ،‬استنجد بشهاب الدين حممود صاحب دمشق يلتمس منه إرسال من يراه كفؤاً لتويل شؤون احلكم‬
‫يها على أن يعوضه عنها إبحدى مدن إمارته ‪ ،‬وا ق حاكم دمشق على هذا العرض الذي يتيح له ضم مدينة كبرية‬

‫(‪ )1‬الكام يف التاريخ نقضمً عن عماد الدين زنكي ص ‪.121‬‬


‫(‪ )2‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.118‬‬
‫(‪ )3‬الكام يف التاريخ نقضمً عن اتريخ الزنكيني ص ‪.119‬‬
‫(‪ )4‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.119‬‬
‫(‪ )5‬املنتظم (‪ )43/10‬اتريخ الزنكيني ص ‪.119‬‬
‫(‪ )6‬اتريخ الزنكيني يف املوص ص ‪.119‬‬
‫(‪ )7‬زبدة حلب (‪ 451/2‬ـ ‪ )452‬اتريخ الزنكيني ص ‪.119‬‬

‫‪91‬‬
‫وهامة كحمص إىل إمارته ‪ ،‬تسلهلمها يف شهر ربيع أول عام ‪ 530‬هـ‪/‬شهر كانون األول عام ‪ 1135‬م وأقطعها معني‬
‫أنر(‪.)1‬‬
‫مل يركن الزنكيُّون إىل اهلدوء ‪ ،‬واتبعوا شن الغارات على محص بقيادة سوار بن أيتكني ‪ ،‬غري أن املدينة صمدت ‪،‬‬
‫استقر الصلح بني الطر ني على‬
‫وانتعشت مبا كان يدخلها من املرية واألقوات ‪ ،‬اضطر سوار إىل طلب التفاوض ‪ ،‬و هل‬
‫قاعدة عدم تعرض أي منهما للطرف اآلخر(‪ .)2‬آمن عماد الدين زنكي دائماً أبن قيام اجلبهة اإلسضممية املتحدة يف‬
‫ضد الصليبيني ‪ ،‬ر ض من هذا املنطلق إقرار اهلدنة اليت عقدها‬ ‫بضمد الشام جيب أن يسبق أية خطوة عملية يتخذها هل‬
‫انئبه يف حلب ‪ ،‬وجدهلد اهلجوم على محص يف شهر شعبان عام ‪ 531‬هـ‪/‬شهر أاير عام ‪ 1137‬م إال أنه ش يف‬
‫اقتحامها بسبب املقاومة الشديدة اليت أبداها معني الدين أنر من جهة ‪ ،‬وظهور بوادر حتالف خطري بني الزعماء‬
‫الصليبيني من ٍ‬
‫جهة أخرى؛ إذ قام ولك أجنو ‪ ،‬ملك بيت املقدس ‪ ،‬بر قة رميوند الثاين ‪ ،‬أمري طرابلس ‪ ،‬بنجدة املدينة(‪.)3‬‬
‫‪ 6‬ـ اهلدنة مع حكام دمشق‪:‬‬
‫اضطر عماد الدين زنكي إىل عقد هدنة مع حكام دمشق كي يتفرغ للتصدي للصليبيني الذين احتشدوا يف حصن‬
‫(‪)4‬‬
‫مرًة اثنية ملهامجة ممتلكات آل طغتكني ‪ ،‬وتوحيد بضمد الشام ‪ ،‬قام‬ ‫ابرين املنيع ‪ ،‬انتصر عليهم ‪ ،‬وهتيأت له الفرصة هل‬
‫يف أوائ عام ‪ 532‬هـ‪/‬أواخر عام ‪ 1137‬م مبهامجة بعلبك إال أنه قنع مبا بذله له صاحبها(‪ ، )5‬واجته إىل حصن اجملدل‬
‫‪ ،‬استوىل عليه دون مقاومة تذكر ‪ ،‬وحني شعر إبراهيم بن طرغت صاحب ابنياس بَعف مركزه جتاه زنكي؛ راسله‬
‫وأعلن دخوله يف طاعته ‪ ،‬وعندما دخ الشتاء واشتد الربد؛ أوقف زنكي نشاطه يف املنطقة(‪.)6‬‬
‫‪ 7‬ـ احلصار على محص‪:‬‬
‫ومع بوادر الربيع انطلق على رأس قواته صوب محص ‪ ،‬و رض احلصار عليها‪ .‬كان مركزه يف املنطقة قد بلغ درجة كبرية‬
‫من القوة أاتح لنفسه معها أن ينقض اهلدنة اليت عقدها مع حكام دمشق يف العام املاضي ‪ ،‬كما أنه ابستيضمئه على‬
‫حصن اجملدل ‪ ،‬و رض طاعته على صاحيب بعلبك ‪ ،‬وابنياس متكن من السيطرة على معظم املواقع الغربية إلمارة آل‬
‫طغتكني ‪ ،‬ومل يبق أمامه ‪ ،‬الختاذ طريقه صوب دمشق سوى مدينة محص(‪.)7‬‬
‫شدد عماد الدين زنكي احلصار على محص ‪ ،‬ومجع عليها مجوعاً كبرية من مقاتلي الرتكمان ‪ ،‬واستقدم من حلب رقة‬
‫عسكرية متمرسة على أساليب احلصار ‪ ،‬وقام بشن هجماته على أحناء املدينة مستخدماً هذه املرة مزيداً من أساليب‬
‫العنف واإلرهاب ‪ ،‬إال أنه اضطر إىل ك احلصار ‪ ،‬وتوجه جملاهبة أخطار التحالف البيزنطي ـ الصلييب ‪ ،‬وقد متكن يف‬

‫(‪ )1‬اتريخ الزنكيني يف املوص ص ‪.120‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص ‪.120‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.120‬‬
‫(‪ )4‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.120‬‬
‫(‪ )5‬عماد الدين زنكي ص ‪.124‬‬
‫(‪ )6‬عماد الدين زنكي ص ‪.124‬‬
‫(‪ )7‬املصدر نفسه ص ‪.124‬‬

‫‪92‬‬
‫رتة قصرية من القَاء على هذا التحالف الذي انتهى ابنسحاب إمرباطور الروم إىل بضمده(‪ ، )1‬وعاد زنكي إىل حصار‬
‫محص من جديد ‪ ،‬حماوالً هذه املرة استخدام األساليب السلمية لتحقيق هد ه مستغضمً مركزه القوي يف املنطقة إثر‬
‫ضد الصليبيني ‪ ،‬والبيزنطيني‪ ،‬تقدم طالباً يد زمرد خاتون والدة شهاب الدين حممود‬‫االنتصارات احلامسة اليت حققها هل‬
‫حاكم دمشق ‪ ،‬لعله يَمن احلصول على محص عن طريق هذا الزواج السياسي ‪ ،‬أجيب إىل طلبه بعد مفاوضات‬
‫ص كجزء‬ ‫قصرية ‪ ،‬ومتت إجراءات العقد يف السابع عشر من رمَان ‪ ،‬بعد أن متكن من إقناع آل طغتكني بتسليمه مح َ‬
‫من االتفاق ‪ ،‬على أن يعوض انئبها بعدد من احلصون القريبة من دمشق؛ كبعرين ‪ ،‬واللكمة ‪ ،‬واحلصن الشرقي‪ ،‬كما‬
‫اشرتط عليهم تزويج ابنته من شهاب الدين حممود ـ مستهد اً من وراء ذلك ـ إقامة عضمقته هبذه العائلة احلاكمة على‬
‫قواعد راسخة قد تفيده يف املستقب القريب(‪.)2‬‬
‫‪ 8‬ـ جتدُّد هجمات عماد الدين زنكي على دمشق‪:‬‬
‫ظن عماد الدين زنكي‪ :‬هل‬
‫أن هبذا الرابط العائلي ستصبح دمشق يف متناول يده إال أنه مل يكسب شيئاً ‪ ،‬ابستثناء احلصول‬ ‫هل‬
‫ضم دمشق الذي كان هد ه األساسي من هذا الزواج؛ لم يتحقق‪.‬‬ ‫على محص قط ‪ ،‬أما ُّ‬
‫حتكمها يف دمشق‪ ،‬ظن أنه ميلك البلد ابالتصال هبا‪،‬‬‫ويقول ابن األثري يف ذلك‪« :‬إمنا محله على الزواج هبا ما رأى من ُّ‬
‫لما تزوجها خاب أمله‪ ،‬ومل حيص على شيء ‪ ،‬أعرض عنها»(‪ )3‬ما الذي تغري يف األوضاع السياسية يف دمشق‪،‬‬
‫وحال بني عماد الدين زنكي وبني حتقيق أهدا ه؟ الواقع‪ :‬أنه ما إن غادرت زمرد خاتون دمشق حىت قدت مكانتها‬
‫السياسية العالية اليت كانت تتمتع هبا ‪ ،‬حيث غدت الكلمة األوىل البنها حممود ‪ ،‬وحاشيته(‪.)4‬‬
‫وشكلت سنة (‪ 533‬هـ‪ 1139/‬م) نقطة حتول هام يف اتريخ دمشق ‪ ،‬قد ُهومجت هذه املدينة من اجتاهني متباعدين‬ ‫هل‬
‫‪ ،‬قد هامجها الصليبيون يف بيت املقدس من اجلنوب ‪ ،‬يف حني هامجها عماد الدين زنكي من الشمال ‪ ،‬ومل يدرك‬
‫أشد على وضع مدينتهم ‪ ،‬إال أن اجلنوبية ‪ ،‬شهدت هدوءاً يكاد يكون اتماً بعد محلة عام‬ ‫أي اخلطرين كان هل‬ ‫الدمشقيون هل‬
‫‪ 523‬هـ‪ 1129/‬م ‪ ،‬مث حتقق السضمم بني اجلانبني يف عام ‪ 528‬هـ‪ 1134/‬م والذي كان من املمكن أن يتجدهلد‪.‬‬
‫أما سياسة عماد الدين زنكي جتاه دمشق ‪ ،‬قد اختلفت كلياً ‪ ،‬إنه بوصفه املدا ع األول عن املسلمني قد رأى توحيد‬
‫صفو هم حتت رايته ‪ ،‬ولكن دمشق وقفت عقبة أمام حتقيق ذلك ‪ ،‬كان عليه تذليلها‪ .‬وشهدت دمشق خضمل (شهر‬
‫تطورات سياسية متسارعة هلأدت إىل مقت شهاب الدين حممود على أيدي رجاله ‪ ،‬وتنصيب أخ له‬ ‫شوال‪/‬شهر حزيران) ُّ‬
‫غري شقيق هو مجال الدين حممد صاحب بعلبك‪ .‬والراجح أن معني الدين أنر كان وراء هذه األحداث هبدف السيطرة‬
‫التفرد ابمسه ابلسلطة الفعلية‪.‬‬
‫على احلاكم اجلديد ‪ ،‬و ُّ‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه ‪.125‬‬


‫(‪ )2‬مرآة الزمان (‪ )165/08‬عماد الدين زنكي ص ‪.125‬‬
‫(‪ )3‬الكام يف التاريخ نقضمً عن اتريخ الزنكيني يف املوص ص ‪.122‬‬
‫(‪ )4‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.122‬‬

‫‪93‬‬
‫و عضمً حقق أنر هد ه بعد أن هلوض إليه األاتبك أمور املدينة ‪ ،‬وأقطعه بعلبك(‪ .)1‬وهكذا أدت تلك التطورات السياسية‬
‫إىل ازدايد نفوذ أنر مما مح ابن األثري على وصفه أبنه صار هو اجلملة والتفصي (‪ ، )2‬ومل تكن هذه التطورات يف صاحل‬
‫عز على زمرد خاتون اليت كانت تقيم يف حلب أن يُقت ابنها ‪ ،‬وحي هل حمله يف حكم دمشق‬ ‫عماد الدين زنكي ‪ ،‬كما هل‬
‫ابن ضرهتا ‪ ،‬أرسلت إىل عماد الدين زنكي ـ وكان يف املوص ـ تستدعيه طالبة الثأر لولدها والسيطرة على دمشق(‪.)3‬‬
‫عز عليه أن‬
‫أخ يدعى هبرام شاه ‪ ،‬هل‬ ‫أن األمور مل تستتب هل‬
‫للحكام اجلدد بسهولة؛ إذ كان لألاتبك مجال الدين حممد ٌ‬ ‫كما هل‬
‫يتجاهله أنر بعد مقت شهاب الدين حممود ‪ ،‬لجأ إىل حلب ‪ ،‬ومنها سار إىل املوص ‪ ،‬طالباً مساعدة عماد الدين‬
‫أعد جيشاً خرج على رأسه يف‬‫زنكي(‪ ،)4‬وبذلك هتيأت لعماد الدين زنكي رصةٌ أخرى للتدخ يف شؤون دمشق ‪ ،‬هل‬
‫(شهر ذي القعدة عام ‪ 533‬هـ‪/‬شهر متوز عام ‪ 1139‬م) قاصداً دمشق القتحامها قب أن تستتب األمور يها ‪،‬‬
‫أن مه امجة دمشق ليس ابألمر اهلني ‪ ،‬هي املدينة اليت أخلص أهلها لبيت بوري؛ إذ مل يكد سكاهنا‬‫ويبدو‪ :‬أنه أدرك‪ :‬هل‬
‫صمموا على الد اع ‪ ،‬واملقاومة انطضمقاً من هذا الواقع‪ .‬ووضع خطة‬ ‫يسمعون أبخبار الزحف ابجتاه مدينتهم حىت هل‬
‫عسكرية من شقني‪:‬‬
‫ـ تنفيذ حصار شديد على دمشق وعزهلا عن بقية ممتلكاهتا‪.‬‬
‫ـ تكوين جبهة مناهَة حلكامها(‪.)5‬‬
‫وتنفيذاً للشق األول هاجم بعلبك ‪ ،‬اليت كانت إقطاعاً ألنر ‪ ،‬ودخلها يف شهر صفر عام ‪ 534‬هـ‪/‬شهر تشرين األول‬
‫ضم بعلبك يف هذه اآلونة‪ ،‬ومحص‪ ،‬ومحاة‪ ،‬وابنياس‪ ،‬واجملدل من‬ ‫أن هل‬‫عام ‪ 1139‬م ووضع يده عليها(‪ ، )6‬والواضح‪ :‬هل‬
‫قب هيهلأ له حتقيق الشق األول من خطته بعزل دمشق‪ ،‬ومنع حكامها من االتصال ببقية أجزاء اإلمارة لطلب املساعدة‬
‫العسكرية واالقتصادية ‪ ،‬األمر الذي سيَعف من مقاومتها إىل ٍ‬
‫حد كبري(‪.)7‬‬
‫وتنفيذاً للشق الثاين قام جبهود سياسية لتقوية موقفه ‪ ،‬راس رضوان بن الوخلشي الوزير الفاطمي ‪ ،‬الذي كان يف طريقه‬
‫إىل دمشق هرابً من ثورة اجلند عليه وأغراه ابالنَمام إليه ‪ ،‬و عضمً استجاب الوزير الفاطمي ‪ ،‬ومال إىل مساندته(‪.)8‬‬
‫ويبدو أن أنر أدرك خطورة هذا التحالف على وضعه الداخلي ‪ ،‬سعى إلحباطه وأرس أسامة بن منقذ إىل رضوان‬
‫ليقنعه ابلعدول عن هذا التحالف ‪ ،‬وبذل له من األموال ما أغراه(‪ .)9‬وظ هل عماد الدين زنكي قابعاً يف بعلبك حىت‬
‫(شهر ربيع األول عام ‪ 534‬هـ‪/‬شهر تشرين الثاين عام ‪ 1139‬م) أعاد خضمهلا تنظيم أمورها اإلدارية وعني عليها جنم‬
‫الدين أيوب ‪ ،‬مث زحف حنو دمشق ‪ ،‬وعسكر يف سه البقاع ‪ ،‬ورأى قب أن يهامجها استقطاب األاتبك مجال الدين‬

‫(‪ )1‬اتريخ الزنكيني يف املوص ص ‪.123‬‬


‫(‪ )2‬الكام يف التاريخ نقضمً عن اتريخ الزنكيني يف املوص ص ‪.123‬‬
‫(‪ )3‬زبدة حلب (‪ )462/2‬اتريخ الزنكيني ص ‪.123‬‬
‫(‪ )4‬اتريخ الزنكيني يف املوص ص ‪.123‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه ص ‪.124‬‬
‫(‪ )6‬املصدر نفسه ص ‪.124‬‬
‫(‪ )7‬املصدر نفسه ص ‪.124‬‬
‫(‪ )8‬االعتبار ص ‪ 37‬ـ ‪ 40‬اتريخ الزنكيني يف املوص ص ‪.124‬‬
‫(‪ )9‬اتريخ الزنكيني يف املوص ص ‪.124‬‬

‫‪94‬‬
‫لتسليمه املدينة مقاب منحه محص ‪ ،‬وبعلبك ‪ ،‬إال أن هذا األخري ر ض هذا العرض ‪ ،‬وسانده رجال دولته وعلى رأسهم‬
‫معني الدين أنر(‪ ، )1‬عندئذ اضطر إىل التقدم حنو املدينة ‪ ،‬و رض احلصار عليها ‪ ،‬ودارت عدة اشتباكات بني الطر ني‬
‫مل تكن حامسة إمنا جاءت ملصلحة عماد الدين زنكي؛ الذي أوقف القتال مدة عشرة أايم إلعطاء احملاصرين رصة أخرى‬
‫للتسليم(‪.)2‬‬
‫ويبدو‪ :‬أن مجال الدين حممد اقتنع أخرياً بعدم جدوى املقاومة ‪ ،‬وضرورة حقن الدماء ‪ ،‬إال أنه جوبه مبعارضة أنر ‪،‬‬
‫وجد نفسه مَطراً الستئناف القتال(‪ .)3‬ويف شهر شعبان عام ‪ 534‬هـ‪/‬شهر اذار عام ‪ 1140‬م تويف مجال الدين‬
‫حممد ‪ ،‬مما أاتح لعماد الدين زنكي يف ظ النزاع بني الورثة حول الفوز حبكم دمشق رصة مؤاتية لتوجيه ضربة حامسة‬
‫ضد املدينة ‪ ،‬إال أن أنر أسرع بتعيني جمري الدين أبق بن حممد أمرياً على دمشق ‪ ،‬اضطر عماد الدين زنكي ‪ ،‬الذي‬
‫استمر أمضمً‬
‫لكن حصاره هل‬ ‫ضعفت نفسه ‪ ،‬وضاق صدره إىل الرتاجع قليضمً بعدما رأى إصرار الدمشقيني على املقاومة ‪ ،‬هل‬
‫يف اهنيار احلالة االقتصادية يف دمشق ‪ ،‬ومن استسضمم املدينة(‪.)4‬‬
‫‪ 9‬ـ التحالف بني حكام دمشق والصليبيني‪:‬‬
‫وأمام استمرار احلصار ‪ ،‬واشتداد اخلطر الزنكي رأى أن يستعني ابلصليبيني ‪ ،‬أرس أسامة بن منقذ إىل ولك أجنو‬
‫ملك بيت املقدس إلجراء مفاوضات معه تستهدف طلب املساعدة ‪ ،‬وأبدى استعداده أبن‪:‬‬
‫أ ـ يد ع عشرين ألف دينار ك هل شهر ‪ ،‬وهي نفقات القوات الصليبية اليت ستأيت ملساعدته‪.‬‬
‫ب ـ يعيد له حصن ابنياس بعد انتزاعه من حاكمه التابع لزنكي‪.‬‬
‫ج ـ يسلمه عدداً من كبار أمرائه؛ ليكونوا رهائن ضماانً حلسن التنفيذ ‪ ،‬وأوضح له أنه إذا جنح عماد الدين زنكي يف‬
‫ضم دمشق إن مقدرات بضمد الشام ستصبح بني يديه ممهلا يشك خطراً كبرياً على الصليبيني‪.‬‬
‫أن عماد الدين زنكي الذي ابت ميتلك املوص ‪ ،‬وحلب‪ ،‬ومحاة‪ ،‬ومحص‪،‬‬ ‫و عضمً أدرك امللك ولك وجملسه االستشاري‪ :‬هل‬
‫وبعلبك ال ينبغي أبي حال أن ميتلك دمشق ‪ ،‬وإال إن حتقيق الوحدة اإلسضممية يف بضمد الشام ومشايل العراق ستصبح‬
‫واقعاً ‪ ،‬وهذا معناه طردهم من الشرق اإلسضممي ‪ ،‬وأقنعتهم الظروف السياسية والعسكرية بَرورة التعاون املثمر مع أنر‬
‫بد من قبول عرضه ‪ ،‬وخباصة‪ :‬أهنم كانوا يتطلعون إىل استعادة حصن ابنياس(‪.)5‬‬ ‫‪ ،‬وساد بينهم الشعور أبنه ال هل‬
‫وسرعان ما اجته الصليبيون مشاالً بقيادة ولك لنجدة حليفهم‪ .‬أما عماد الدين زنكي ‪ ،‬ظ هل يراقب الوضع عن كثب‪،‬‬
‫و ك احلصار عن دمشق حىت ال يقع بني كي الكماشة ‪ ،‬وأسرع للتصدي للصليبيني منفردين قب أن يقرتبوا من دمشق‬
‫َ‬
‫أن ولك ‪ ،‬الذي كان يتقدم حبذر ‪ ،‬هل‬ ‫وع ْس َكَر يف إقليم حوران يف شهر (رمَان‪/‬نيسان) ابنتظار وصوهلم ويبدو‪ :‬هل‬ ‫‪َ ،‬‬
‫ك احلصار‬‫التوقف قرب حبرية طربية ‪ ،‬مما د ع عماد الدين زنكي إىل معاودة حصار دمشق ‪ ،‬بيد‪ :‬أنهله ما لبث أ ْن هل‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص ‪.125‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص ‪.125‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.125‬‬
‫(‪ )4‬اتريخ الزنكيني يف املوص ص ‪ 125‬نقضمً عن الكام يف التاريخ‪.‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه ص ‪.126‬‬

‫‪95‬‬
‫متكن احلليفان من االستيضمء على ابنياس يف شهر‬ ‫عندما مسع بتقدم الصليبيني لنجدة حلفائهم ‪ ،‬وعاد إىل محص ‪ ،‬و هل‬
‫(شوال‪/‬آاير) وتسلمها ولك و قاً لضمتفاق املربم مع أنر‪.‬‬
‫ُ‬
‫أن التحالف بني دمشق ‪ ،‬وبيت املقدس أنقذ األوىل دون أن ينشب القتال ‪ ،‬وختلهلص أنر من أخطر واخر حماولة‬ ‫والواقع‪ :‬هل‬
‫جدية من عماد الدين زنكي لَمها إىل أمضمكه ‪ ،‬األمر الذي أعاق جهوده بتوحيد املسلمني يف بضمد الشام ‪ ،‬إال أنه‬
‫ظ على الرغم من ذلك يفكر طوال سنوات حكمه املتبقية بتحقيق هذا اهلدف(‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص ‪.126‬‬

‫‪96‬‬
‫ضد الصليبيِّني‬
‫املبحث اخلامس ‪ :‬جهاده َّ‬
‫أوالً‪ :‬حال املسلمني والصليبيني قبل عماد الدين‪:‬‬
‫كان املسلمون يف الشام متفرقني ‪ ،‬تكاد ك مدينة أن تكون دولة مستقلة ‪ ،‬وأقام الصليبيون يف مشال سورية تسعة شهور‬
‫بعد تح أنطاكية قب مسريهم إىل بيت املقدس ‪ ،‬واستفادوا من هذه الفرتة ابإلغارة على املناطق الشمالية يف سورية ‪،‬‬
‫وأقاموا النفوذ الصلييب حم النفوذ اإلسضممي دون أن حيتكوا ابلبيزنطيني ‪ ،‬أقاموا بذلك سداً يف وجه القوات اإلسضممية‬
‫والبيزنطية على السواء إذا كرت يف مهامجة أنطاكية ‪ ،‬أو غريها من اإلمارات الصليبية يف املستقب ‪ ،‬كما جعلت الرتابط‬
‫بني اإلمارات الضمتينية متيسراً لتستطيع إحداها أن تنجد األخرى على جناح السرعة إذا جد اجلد ‪ ،‬وتعقدت األمور‪.‬‬
‫وتقدم الصليبيون حنو اجلنوب ‪ ،‬أسـسوا مملكة بيت املقدس مستغلني ضعف الدولة الفاطمية ودمشق عن محاية املنطقة‬
‫واملدن الساحلية ‪ ،‬وإبنشاء إمارة طرابلس حدث توازن بني الصليبيني واملسلمني ‪ ،‬أنطاكية تواجه حلب ‪ ،‬وطرابلس‬
‫الرها تقع بني حلب والدولة اإلسضممية يف الشرق والغرب ‪ ،‬والقدس تقع بني دمشق ومصر‬ ‫تواجه مدن وادي العاصي ‪ ،‬و ُّ‬
‫‪ ،‬ونقطة التوازن والسؤال املطروح‪ :‬ه تنَم حلب إىل دمشق ‪ ،‬أو للموص ‪ ،‬أو إىل الصليبيني(‪.)1‬‬
‫لقد كانت بضمد الفرجنة تقتصر على سواح سورية ‪ ،‬و لسطني وتعتمد على البحر لَمان التموين من اخلارج وعلى‬
‫سلسلة من القضمع الَخمة املبتدئة من ذغرية يف الطرف اجلنويب لبحرية طربية ‪ ،‬مث كرك ‪ ،‬وبيت جربي ‪ ،‬والدروم‪ .‬وكان‬
‫خلف هذا اخلط األول توجد القضمع املمتدة من شقيق أرنون إىل صفد والقسط ‪ ،‬ويف الشمال حصون عكا‪ ،‬والكرك‪،‬‬
‫وابرين‪ ،‬ومن ورائها مجيعاً املدن الساحلية الكبرية‪ :‬أنطاكية‪ ،‬وطرابلس‪ ،‬وعكا‪ ،‬وصور‪ ،‬واملرقب‪ ،‬وبريوت‪ ،‬واي ا‪،‬‬
‫وعسقضمن‪ ،‬وهي أطراف القوى الصليبية من انحية البحر‪ .‬ويقابلها من انحية الرب‪ :‬مرجعيون‪ ،‬وجسر يعقوب‪ ،‬وبيسان‪،‬‬
‫أن قضمعها مجعت بني خصائص العمارة احلربية الغربية والشرقية ‪ ،‬من حيث‬ ‫وطرباي‪ ،‬وامتازت هذه احلدود الصليبية‪ :‬هل‬
‫ازدواج األسوار‪ ،‬وتعدد األبراج ذات الطابقني ‪ ،‬وك مستلزمات احلامية من ذخرية‪ ،‬ومتوين‪ ،‬ووسائ دينية‪ ،‬وصحية(‪.)2‬‬
‫وأما خصائص الصليبيني االسرتاتيجية امتازت ابتساع رقعتها وطول خطوط مواصضمهتا املتصلة شرقاً وغرابً بقواعد امنة‬
‫للتموين يف سرعة ‪ ،‬في الشمال حلب ومحاة ‪ ،‬وإىل الشرق املوص وقضمع اجلزيرة ‪ ،‬ولكنها مدن حصينة ‪ ،‬ويف الغرب‬
‫مصر وما وراءها من بضمد املغرب العريب والنوبة واليمن(‪.)3‬‬
‫وبدأ املسلمون يف مقاومة الصليبيني ُمنذ اللحظات األوىل لقدومهم لكن كانت الكفة الراجحة للصليبيني ‪ ،‬طمعوا يف‬
‫حلب ودمشق ‪ ،‬و رضوا عليها اآلاتوات ‪ ،‬ويصف احلال ابن األثري(‪ )4‬يقول‪ :‬ملا ملك املوىل الشهيد البضمد كانت الفرنج‬
‫قد اتسعت بضمدهم ‪ ،‬وكثرت أجنادهم ‪ ،‬وعظمت هيبتهم ‪ ،‬وامتدت إىل بضمد الشام أيديهم ‪ ،‬وضعف أهلها عن غارهتم‪.‬‬
‫وكانت مملكة الفرنج حينئذ قد امتدت من انحية ماردين وسجستان إىل عريش مصر ‪ ،‬مل يتخلله من والية املسلمني غري‬
‫حلب ومحص ومحاة ودمشق‪ .‬وكانت سراايهم تبلغ من داير بكر إىل امد ومن اجلزيرة إىل نصيبني ورأس العني‪ ،‬وأما الرقة‬

‫(‪ )1‬احلروب الصليبية واألسرة الزنكية ص ‪.112‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص ‪.112‬‬
‫(‪ )3‬صضمح الدين ص ‪ 310‬قلعجي احلروب الصليبية واألسرة الزنكية ص ‪.113‬‬
‫(‪ )4‬املصدر نفسه ص ‪.113‬‬

‫‪97‬‬
‫وحران قد كان أهلها معهم يف ذل وصغار‪ ،‬وانقطعت الطرق إىل دمشق إال على الرحبة والرب ‪ ،‬كان التجار واملسا رون‬
‫يلقون من املخاوف وركوب املفازة تعباً ومشقة وخياطرون ابلقرب من القبائ العربية أبمواهلم وأنفسهم ‪ ،‬مث زاد األمر‬
‫وعظم الشر حىت جعلوا على ك بلد جاورهم خراجاً أيخذونه منهم ليكفوا أيديهم عنهم ‪ ،‬مث مل يقتنعوا بذلك حىت‬
‫وخريوهم املقام عند‬
‫أرسلوا إىل مدينة دمشق واستعرضوا الرقيق ممن أخذ من الروم واألرمن وسائر البضمد النصارنية ‪ ،‬هل‬
‫أرابهبم‪ ،‬أو العودة إىل أوطاهنم‪ ،‬والرجوع إىل أهلهم وإخواهنم‪ ،‬وانهيك هبذه احلالة للمسلمني ذلة وصغاراً‪ ،‬وللكا رين‬
‫الرها على ابب اجلنان وبينها وبني املدينة عشرون خطوة ‪،‬‬‫قدرًة واقتساراً‪ ...‬وأما حلب؛ إهنم انصفوها أعماهلا حىت ُّ‬
‫وأما ابقي بضمد الشام كانت حاهلا هل‬
‫أشد من هذين البلدين(‪.)1‬‬
‫اثنياً‪ :‬سياسة عماد الدين زنكي مع الصليبيني‪:‬‬
‫هلأدت مواقف عماد الدين زنكي من الصراع ضد الصليبيني دوراً ابرزاً يف حتديد مستقبله السياسي؛ إذ د عت السلطان‬
‫الرب ُسقي يف‬‫حممد السلجوقي إىل توليته املوص ‪ ،‬واجلزيرة وما يفتحه من بضمد الشام إثر و اة واليها عز الدين مسعود ُ‬
‫عام ‪ 521‬هـ‪ 1127/‬م ‪ ،‬ويبدو‪ :‬أن السلطان اقتنع أبنه الرج الكفء الذي يستطيع أن ميأل الفراغ الذي تركه حكام‬
‫املوص من قب ‪ ،‬مما يؤكد حرصه على االستفادة من قدراته لصد اخلطر الصلييب اجلامث على حدود العراق الغربية(‪.)2‬‬
‫أي نشاط عسكري ضد الصليبيني قب أن يُثبت قدميه يف إمارته‬ ‫مل ميارس عماد الدين زنكي يف بداية حكمه للموص هل‬
‫اجلديدة ‪ ،‬ويعزز إمكاانهتا االقتصادية والعسكرية ‪ ،‬ويوحد ما أمكنه من اإلمارات الصغرية املتناثرة حوهلا لتأمني خطوط‬
‫حتركاته يف اجلزيرة وبضمد الشام إىل احلد الذي ميكنه من التصدي هلم ‪ ،‬ولع ما يدل على بُعد نظره يف هذا الصدد‪ :‬أنهله‬
‫الرها ملدة سنتني أخذ أثناءها يوحد سلطانه يف بضمد الشام(‪ ،)3‬ومل تشر املصادر إىل‬‫وقهلع هدنة مع جوسلني الثاين أمري ُّ‬
‫شروطها ‪ ،‬إال أن ابن األثري يذكر أهنا متت على ما اختاره عماد الدين زنكي ‪ ،‬ويبدو أن املشاك اليت جاهبت صاحب‬
‫الرها ‪ ،‬اضطرته إىل قبول هدنة لصاحل عدوه املسلم‪ .‬كان هدف عماد الدين زنكي من عقد اهلدنة التفرغ لَم حلب‬ ‫ُّ‬
‫إىل أمضمكه ‪ ،‬واختاذها نقطة انطضمق له يف بضمد الشام(‪ ، )4‬وجنح يف حتقيق هذا اهلدف ‪ ،‬وانطلق بعد ذلك الكتساح ما‬
‫كان يقف يف طريقه من حصون مستقلة وإمارات حملية ‪ ،‬منتهزاً رصة اهلدنة(‪.)5‬‬

‫اثلثاً‪ :‬مشكلة الوراثة األنطاكية‪:‬‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص ‪.114‬‬


‫(‪ )2‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.129‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.130‬‬
‫(‪ )4‬الكام يف التاريخ نقضمً عن اتريخ الزنكيني يف املوص ص ‪130‬‬
‫(‪ )5‬عماد الدين زنكي ص ‪.140‬‬

‫‪98‬‬
‫وصادف عام ‪ 524‬هـ أن اجتازت أنطاكية الصليبية ظرو اً صعبة كادت تنتهي إىل سقوط هذه اإلمارة يف يد زنكي ‪،‬‬
‫أو خبَوعها لطاعته على األق ‪ .‬ذلك أن أمريها «بوهيمند الثاين» قُت َ هذا العام على أيدي سضمجقة اسيا الصغرى ‪،‬‬
‫خلفته يف احلكم زوجته «أليس» ابنة (بلدوين) ملك بيت املقدس‪.‬‬
‫وعندما استنجد األنطاكيون أببيها ‪ ،‬واجته إلهناء املشاك هناك ‪ ،‬أسرعت ابنته وبعثت رسوالً إىل زنكي تعرض عليه‬
‫لكن الرسول ما لبث أن قت على يد بلدوين ‪ ،‬الذي ُعثَر عليه‬
‫إعضمن طاعتها له مقاب إقرارها كأمرية على أنطاكية‪ .‬هل‬
‫أثناء توجهه إىل أنطاكية ‪ ،‬إال أن ملك بيت املقدس ما إن وص إىل هناك حىت قامت ابنته إبقفال األبواب يف وجهه‪،‬‬
‫مث ما لبثت أن أعلنت ـ مَطرة ـ خَوعها له(‪ ،)1‬وهكذا خسر زنكي رصة مثينة ال تعوض ‪ ،‬كان ستتيح له ـ بضم شك‬
‫ـ السيطرة على أهم إمارات الصليبيني يف الشمال‪.‬‬
‫رابعاً‪ :‬فتح األاثرب‪:‬‬
‫كان عماد الدين آنذاك قد أهنى معظم مشاكله وحروبه ضد أمراء داير بكر(‪ ، )2‬كما كانت هدنته مع جوسلني قد‬
‫انتهت ‪ ،‬قرر البدء ابهلجوم على املواقع الصليبية ‪ ،‬مستهد اً أشدهلها قرابً وخطراً على كيانه السياسي يف حلب‪ .‬ومل يكن‬
‫غري حصن األاثرب اجملاور هو ذلك اهل دف ‪ ،‬بسبب ما كان يلحقه من أضرار بفضمحي املنطقة من املسلمني ‪ ،‬وكان‬
‫من يه من الصليبيني يقامسون سكان حلب كا ة أعماهلا الغربية ‪ ،‬ويقومون بغارات مستمرة عليهم ‪ ،‬وقد مجعوا يه خرية‬
‫رساهنم ‪ ،‬نظراً خلطورة موقعه وأمهيته ابلنسبة ألهدا هم يف املنطقة(‪.)3‬‬
‫اجته عماد ا لدين زنكي إىل هذا احلصن ‪ ،‬و رض احلصار عليه ‪ ،‬لما علم صليبيو الشام بذلك حشدوا قواهتم من ك‬
‫مكان ‪ ،‬وشكلوا جيشاً ضخماً اجتَهوا به لقتال زنكي ‪ ،‬استشار هذا أصحابه وقادته يما يعم ‪ ،‬أمجعوا أمرهم على‬
‫االنسحاب ‪ ،‬وترك احلصن ‪ ،‬ألن لقاء الصليبيني يف بضمدهم جماز ة وخيمة العاقبة ‪ ،‬إال أنه أجاهبم‪« :‬إن الفرنج مىت رأوان‬
‫وخربوا بضمدان ‪ ،‬وال بد من لقائهم على ك حال»(‪.)4‬‬ ‫قد عدان من بني أيديهم ‪ ،‬طمعوا وساروا يف إثران ‪ ،‬هل‬
‫ومن مث سار جبيشه للقائهم بعيداً عن األاثرب ‪ ،‬وجرت بني الطر ني معركة قاسية انتهت ابنتصار املسلمني ‪ ،‬وقُت َ ‪،‬‬
‫عدد كبريٌ من الصليبيني‪ .‬مث ما لبث زنكي أن اجته إىل احلصن ‪ ،‬و تحه عنوًة ‪ ،‬وقت وأسر معظم أ راد حاميته ‪،‬‬ ‫وأُسَر ٌ‬
‫مث أمر بتخريبه(‪ .)5‬كيضم يكون عرضةً لتهديد مستمر من قب الصليبيني ‪ ،‬وتقدهلم من هناك إىل حارم الواقعة على طريق‬
‫أنطاكية ‪ ،‬وضرب عليها احلصار ‪ ،‬بذل له أهلها نصف دخ بلدهم والتمسوا مهادنته ‪ ،‬أجاهبم إىل ذلك ‪ ،‬وقف‬
‫عائداً إىل حلب(‪.)6‬‬

‫(‪ )1‬عماد الدين زنكي ص ‪.140‬‬


‫(‪ )2‬الباهر ص ‪ 39‬عماد الدين زنكي ص ‪.140‬‬
‫(‪ )3‬الكام يف التاريخ نقضمً عن عماد الدين زنكي ص ‪.140‬‬
‫(‪ )4‬عماد الدين زنكي ص ‪.141‬‬
‫(‪ )5‬الكام يف التاريخ نقضمً عن عماد الدين زنكي ص ‪.141‬‬
‫(‪ )6‬عماد الدين زنكي ص ‪.141‬‬

‫‪99‬‬
‫وقد أشار ابن األثري إىل نتيجة من أهم نتائج معركة األاثرب ‪ ،‬وهي أن األحداث يف الشام أخذت تتجه اجتاهاً جديداً‬
‫لصاحل املسلمني ‪ ،‬األمر الذي جع الصليبيني يدركون‪ :‬هل‬
‫أن عليهم جماهبة قوة جديدة مل تكن يف حساهبم ‪ ،‬وحيولون‬
‫خططهم العسكرية من اهلجوم إىل الد اع ‪ ،‬بعد أن كانوا قد طمعوا يف ملك اجلميع(‪.)1‬‬
‫خامساً‪ :‬حصن بعرين أوابرين‪:‬‬
‫اهنمك عماد الدين زنكي طيلة السنوات بني (‪ 525‬ـ ‪ 528‬هـ‪ 1131/‬ـ ‪ 1134‬م) بتنظيم شؤون إمارته وتوسيعها‪،‬‬
‫ومل يستطع أن يوجه اهتمامه إىل الصليبيني على الرغم من املنازعات اليت نشبت بينهم إثر و اة امللك بلدوين الثاين(‪.)2‬‬
‫ويف عام ‪ 529‬هـ أُتيحت له الفرصة اثنية لتحقيق انتصارات جديدة يف بضمد الشام ‪ ،‬حيث قام مبهامجة عدد من املواقع‬
‫الصليبية احمليطة حبلب ‪ ،‬واليت كانت هتددها ابستمرار ‪َ ،‬ضمً عن كوهنا اخلط الد اعي الذي حيمي أنطاكية من هجمات‬
‫املسلمني ‪ ،‬ومتكن من االستيضمء على مخسة منها‪ :‬األاثرب ‪ ،‬زردان ‪ ،‬ت أغدي ‪ ،‬معرة النعمان ‪ ،‬وكفر طاب(‪.)3‬‬
‫أدت هذه االنتصارات اليت حققها زنكي ضد الصليبيني إىل تنبيههم إىل تزايد خطره على ممتلكاهتم يف الشام ‪ ،‬وإىل‬
‫ضرورة توجيه ضربة حامسة إليه ‪ ،‬وراحوا يتحينون الفرصة املواتية إلنزال هذه الَربة ‪ ،‬وبعد عامني وحينما كان منهمكاً‬
‫يف حصاره حلمص ‪ ،‬قاموا حبشد جيش كبري تقدموا به مسرعني ملباغتة زنكي والقَاء عليه ‪ ،‬وكسب حكام دمشق إىل‬
‫جانبهم‪ .‬وعندما مسع بذلك سار للقائهم بعيداً عن محص كيضم يوقع نفسه يف شقي الرحى بينهم وبني احلمصيني ‪ ،‬ورأى‬
‫أن خري وسيلة يستدرج هبا الصليبيني إليه ‪ ،‬وتتيح له يف نفس الوقت تويل زمام املبادرة بنفسه ‪ ،‬هو أن يظهر عزمه على‬
‫مهامجة حصن بعرين الصلييب القريب‪.‬‬
‫وما إن بدأ زحفه صوب ذلك املوقع حىت تقدم إليه الصليبيون بقيادة ك ٍ من ولك ملك بيت املقدس ‪ ،‬ورميوند كونت‬
‫عدد كبريٌ من جند العدو ‪ ،‬وأمرائه‬
‫طرابلس ‪ ،‬ودارت بني الطر ني معركة شديدة انتهت ابنتصار املسلمني ‪ ،‬وقُت َ ‪ ،‬وأُسَر ٌ‬
‫‪ ،‬وقادته ‪ ،‬كان رميوند من بينهم ‪ ،‬أما ولك قد متكن من اهلروب إىل حصن بعرين(‪.)4‬‬
‫وما لبث عماد الدين زنكي أن تقدم حنو احلصن ‪ ،‬و رض عليه حصاراً شديداً ‪ ،‬بينما اجته عدد من املنهزمني من املعركة‬
‫إىل بضمد البيزنطيني ‪ ،‬وأورواب طالبني النجدة من أبناء العامل املسيحي وأمرائه قائلني هلم‪ :‬أن زنكي إذا ما متكن من‬
‫االستيضمء على بعرين ‪ ،‬سهلت عليه السيطرة على بقية املمتلكات الصليبية يف الشام ‪ ،‬لعدم وجود من يدا ع عنها‪ ،‬و هل‬
‫أن‬
‫املسلمني هلم نية يف قصد بيت املقدس‪ .‬جمع املسيحيون جيشاً كبرياً من الصليبيني ‪ ،‬والبيزنطيني ‪ ،‬وساروا لنجدة‬
‫احلصن‪.‬‬
‫إال أن زنكي كان قد عزله عن العامل اخلارجي ومنع عنه تسل األخبار ‪ ،‬كما أن تشديده احلصار على هذا املوقع اهلام‬
‫أدى إىل تناقص املرية والذخرية يه ‪ ،‬األمر الذي اضطر أصحابه إىل طلب الصلح ‪ ،‬أجاهبم زنكي إليه ‪ ،‬بعد أن علم‬
‫بتقدم األعداء لنجدته ‪ ،‬واشرتط عليهم ‪َ ،‬ضمً عن تسليم احلصن ‪ ،‬تقدمي مبلغ قدره مخسون ألف دينار يستعني هبا‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص ‪ 141‬نقضمً عن الكام يف التاريخ‪.‬‬


‫(‪ )2‬اتريخ الزنكيني يف املوص ص ‪.133‬‬
‫(‪ )3‬زبدة حلب (‪ )259/2‬عماد الدين زنكي ص ‪.142‬‬

‫(‪ )4‬ذي اتريخ دمشق ص ‪ 258‬ـ ‪ 259‬عماد الدين زنكي ص ‪.142‬‬

‫‪100‬‬
‫على نشاطه العسكري ‪ ،‬لم يرتدد أصحاب احلصن يف قبول مطالب زنكي ‪ ،‬بعد أن أيقنوا بعجزهم عن مقاومته ‪،‬‬
‫والتمسوا منه إطضمق سراح أمرائهم‪ ،‬وكبار أسراهم‪ ،‬أطلقهم‪ ،‬بعد أن عاملهم معاملة حسنة‪ ،‬وتسلم احلصن(‪.)1‬‬
‫والواقع‪ :‬أن ما اشتهر به عماد الدين زنكي من اجللد ‪ ،‬والصرب ساعده يف حتقيق أهدا ه ‪ ،‬وهو على يقني مبا يفعله ‪،‬‬
‫غري ذات أمهية؛ إذ إن متلكها سوف مينع الصليبيني من أن ينفذوا إىل أعايل وادي هنر العاصي ‪،‬‬ ‫لم تكن ابرين قلعةً َ‬
‫كما أن موقعها االسرتاتيجي جيعلها تسيطر على محاة ‪ ،‬ومحص ‪ ،‬ويُ ُّ‬
‫عد تحها ابلغ األمهية يف مشاريعه املستقبلية(‪.)2‬‬
‫‪ 1‬ـ الشاعر ابن القيسراين خيلد انتصار عماد الدين يف ابرين‪:‬‬
‫قال عنه الذهيب يف سريه‪« :‬سيد الشعراء ‪ ،‬أبو عبد هللا ‪ ،‬حممد بن نصر بن صغري بن خالد القيسراين ولد بعكا ‪ ،‬ونشأ‬
‫بقيسارية ‪ ،‬وسكن دمشق ‪ ،‬وامتدح امللوك ‪ ،‬وقرأ األدب ‪ ،‬وأتقن علم اهليئة واهلندسة»‪ .‬قال عنه السمعاين‪« :‬هو أشعر‬
‫من رأيته ابلشام ‪ ،‬ولد سنة ٍ‬
‫مثان وسبعني وأربعمئة ‪ ،‬وتويف سنة مثان وأربعني ‪ ،‬ومخسمئة»(‪ )3‬ويعترب القيسراين من أشهر‬
‫شعراء العهد الزنكي ‪ ،‬وقد خلهلد انتصارات عماد الدين يف بضمد الشام ‪ ،‬وشهد أبم عينيه البطولة اإلسضممية وهي حتقق‬
‫االنتصارات الرائعة على الصليبيني‪ .‬وقد قال هذا الشاعر قصيدة مدح يها عماد الدين زنكي وخلد انتصاره على الفرجنة‬
‫يف معركة ابرين أمنع حصوهنم سنة ‪ 534‬ه(‪:)4‬‬
‫وه ـ ـ ـ ـ ـي الص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوارم ال تبق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي وال تَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َذ ُر‬ ‫ح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـذار منهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا وأن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــهلى ينف ـ ـ ـ ـ ـع احلَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َذ ُر‬
‫َمـ ـ ـ ْن خيلُـ ـ ـ ـهُ النصـ ـ ـ ـر ال بـ ـ ـ ـ ُجن ـ ـ ـ ـ ــْ ُدهُ ال َق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َد ُر‬ ‫ك‬ ‫وأيـ ـ ـ ـ ـ ـن ينجـ ـ ـ ـ ـو ملـ ـ ـوك الش ـ ـ ـ ـرك م ـ ـ ـن ملـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ‬
‫َ‬
‫ص ـ ـ ـ ـضمً وال شهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـروا‬ ‫صالـ ـ ـ ـ ـوا مـ ـ ـ ـا َغ َمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُدوا نَ ْ‬ ‫السي ـ ـ ـ ـ ـوف هبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬ ‫سلُّ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوا سيو ـ ـ ـ ـ ـاً كأغمـ ـ ـ ـاد ُّ‬
‫صـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُر‬ ‫ـ ـ ـ ـي مـ ـ ـ ـأزق مـ ـ ـ ـ ـ ْن َسن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــَاه يَبـ ـ ـ ـ ـ ــُْر ُق البَ َ‬ ‫أره َقه ـُـ ـ ـ ـ ـ ـم‬ ‫حتـ ـ ـ ـ ـ ـى إذا م ـ ـ ـ ـا عمـ ـ ـ ـ ـ ـاد الدي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن َ‬
‫وت ال ملج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـأٌ من ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه وال َوَزُر‬ ‫واملـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫َولهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْوا تَي ـ ـ ـ ـ ـ ُق هبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم ذَ ْرع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً مسالكهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم‬
‫ول وإن ك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـان ـ ـ ـ ـ ـي أقطاره ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا قصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُر‬ ‫طـُ ـ ـ ـ ـ ٌ‬ ‫و ـ ـ ـ ـي املسـ ـ ـ ـ ـ ـا ـ ـ ـ ـ ـ ـة م ـ ـن دون النهلج ـ ـاة هب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم‬
‫خي ـ ـ ـ ـ ـ ـاف وال ُك ْف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُر ال عيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن وال أثـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُر‬ ‫وأصبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـح الديـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ال عين ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً والأثـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراً‬
‫القـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوم إن نفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـروا أَلْ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوى هبـ ـ ـ ـ ـم نَـ َفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُر‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضم ختـ ـ ـ ـ ـ ـ ـف بعده ـ ـ ـ ـا اإل رن ـ ـ ـ ـ ـج قاطب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـــ ـ ـ ـة‬
‫أو طـ ـ ـ ـ ـاردوا طُـ ـ ـ ـردوا أو حاص ـ ـروا ُحص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـروا‬ ‫إن قاتلـ ـ ـ ـ ـوا قُتل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوا أو حارب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوا ُحرب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوا‬
‫ك اراؤه غُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـَرُر‬ ‫حتـ ـ ـ ـ ـ ـى أتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى َمل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ‬ ‫ب البهي ـ ـ ـ ـ ُم هبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم‬ ‫وطامل ـ ـ ـ ـ ـا استفحـ ـ ـ ـ اخلط ـ ـ ُ‬
‫الذك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُر‬ ‫وم ـ ـ ـ ـ ـ ـن هنالـ ـ ـ ـ ـك قي ـ ـ ـ ـ ـ ـ الص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـارم هل‬ ‫والسيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـف ُم ْفت ـ ـ ـ ـرعٌ أبك ـ ـ ـ ـ ـ َار أنفسه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم‬
‫كالصبـ ـ ـ ــْح تطـ ـ ـ ـوي م ـ ـ ـن األعـ ـ ـ ـداء ما نَ َش ـ ـ ـروا‬ ‫ُّ‬ ‫الع ـ ـ ـ ـ ْدل المعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة‬ ‫ت ظ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هل حمي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي َ‬ ‫ال َارقَـ ـ ـ ـ ْ‬
‫حبيـ ـ ـ ـ ـث ك ـ ـ ـان وإن كـان ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوا ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه نُصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـروا‬ ‫وال انثـ ـن ـ ـ ـ ـى النهلصـ ـ ـ ـ ُر ع ـ ـ ـن أنص ـ ـ ـ ـ ـار َد ْولتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬
‫(‪)5‬‬
‫كأن ـ ـ ـ ـ ـ ـما َح ـ ـ ـ ـ هل ـ ـي أكنا هـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا عم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر‬ ‫ور الشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـام ضاحكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة‬ ‫حتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى تعـ ـ ـود ثُغ ـ ـ ـ ُ‬
‫(‪ )1‬عماد الدين زنكي ص ‪.143‬‬
‫(‪ )2‬الكام يف التاريخ نقضمً عن اتريخ الزنكيني يف املوص ص ‪.137‬‬
‫(‪ )3‬سري أعضمم النبضمء (‪.)226/20‬‬
‫(‪ )4‬األدب العريب من االحندار إىل االزدهار ص ‪.25‬‬
‫(‪ )5‬كتاب الروضتني يف أخبار الدولتني (‪.)132/1‬‬

‫‪101‬‬
‫ويعترب عماد الدين زنكي أول من مدحه ابن القيسراين من الزنكيني‪ .‬وكان مجال الدين األصفهاين وزير عماد الدين‬
‫السبي الذي أوصله إليه ‪ ،‬نظم يف مجال الدين القصائد ومدحه مبدائح كانت ـ كما يقول العماد ـ أجود ما مسع من‬
‫منظومة يف األ اض (‪ .)1‬ومما قاله يف مدح مجال الدين األصفهاين‪:‬‬
‫علـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى مج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـال الدي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن و ـ ـ ـ ـ ـد حمام ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدي‬ ‫وإذا الو ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـود إل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى امللـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوك تب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـادرت‬
‫وعزميـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة تقف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـو رايضـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة قائ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد‬ ‫ي ـ ـ ـ ـ ـ ـا حبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـذا ه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم إلي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك أص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـارين‬
‫أ رائـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدي مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن لـ ـ ـ ـم يَـ ُف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْز بفرائ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدي‬ ‫أنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا روضـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةٌ تُزهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى بك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ غريب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة‬
‫ردت مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـواردي‬ ‫ب الع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــُضم لقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد َو ُ‬ ‫ح ـ ـ ـ ـ ـ ُّ‬ ‫ب الغ ـن ـ ـ ـ ـ ـى أو شاقن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي‬ ‫إن ساقن ـ ـ ـ ـ ـ ـي طل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫ت قصـ ـ ـ ـ ـ ـدي مـ ـ ـ ـ ـن أجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ مقاص ـ ـ ـدي‬ ‫أع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َد ْد ُ‬
‫ْ‬ ‫هلدت إىل نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـداك وسائلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي‬ ‫ومت ـ ـ ـ ـ ـ ـى ع ـ ـ ـ ـ ــَد ْ‬
‫(‪)2‬‬
‫ت بعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـض قضمئـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدي‬ ‫وكأنن ـ ـ ـ ـي قُلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫حت ـ ـ ـى أع ـ ـ ـ ـود م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن امتداح ـ ـ ـ ـ ـك حالي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً‬
‫ومما قال يه أيَاً‪:‬‬
‫ل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوال مجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـال الدي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن عـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهلز أمان ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬ ‫ت خـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوا ُق أمن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬‫ومـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلروع َس َكنَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْ‬
‫ك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـري َ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاق بف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـارس َميدانـُ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ‬ ‫أحممـ ـ ـ ـ ـ ـد ب ـ ـ ـ ـ ـ ـن علـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍي اعتن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـق األس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى‬
‫وأخـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـو اهلَُوين ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى روضـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةٌ أعطانـُ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ‬ ‫مـ ـ ـ ـ ـ ـا ب ـ ـ ـ ـ ـال ح ـ ـ ـادي اجملـ ـ ـ ـ ـ ـد مغبـ ـ ـ ـر املـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدى‬
‫مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ل ـ ـ ـ ـم يقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْ ه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـذا الزمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـان زمان ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬ ‫وأن ـ ـ ـ ـ ـ ـا ال ـ ـ ـ ـ ـ ـذي ال عيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب ي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه لقـائ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬
‫معنـ ـ ـ ـ ـ ـ ًى عل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى ه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـذا البيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـان بيانُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه؟‬ ‫ك ل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي‬‫ات عنـ ـ ـ ـ ـ ـ َ‬ ‫ه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ احملامـ ـ ـ ـ ـد ضامنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ‬
‫إال وقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـام بفَله ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا برهانُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ‬ ‫وهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي القوا ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي مـ ـ ـا تناظ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر ابلن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدى‬
‫(‪)3‬‬
‫إال ومـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن عربيتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي سلمانـُ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ‬ ‫ت َيل ـ ـ ـ ـ ٍة ـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـارس‬ ‫مـ ـ ـ ـ ـا ك ـ ـ ـ ـ ـ ـان بي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫وقد أورد الذين ترمجوا البن القيسراين طائفة خمتارة من شعره وال سيما العماد الكاتب يف خريدته ‪ ،‬وايقوت يف إرشاده‪،‬‬
‫وقد درس جمموعة من الناقدين شعره ‪ ،‬ومن أشهرهم من املعاصرين الدكتور عمر موسى ابشا ‪ ،‬وقد أشار إىل أن شعره‬
‫متيز ابجتاهات عامة ثضمثة‪ :‬تصـ ــور األحداث الكربى يف بضمد الشـ ــام ‪ ،‬واالجتاه التقليدي يف املدح ‪ ،‬والتجديد يف معاين‬
‫الغزل والنسـ ـ ـ ـ ــيب ‪ ،‬وحنن ندعو شـ ـ ـ ـ ــعراء اليوم للقيام بواجبهم يف بث روح اجلد ‪ ،‬والعم ‪ ،‬واجلهاد يف األمة من خضمل‬
‫ملكة الشعر اليت وهبها هللا هلم‪.‬‬
‫أ ـ أحداث كربى‪:‬‬
‫صور الشاعر األحداث الكربى يف عصره خري تصوير ‪ ،‬ووصف من خضمل املدح األبطال املسلمني وحروهبم ورمسها بدقة‬
‫‪ ،‬كانت لنا صورة حقيقية عن املضمحم املشتجرة بني املسلمني والفرجنة‪ .‬ونستطيع القول‪ :‬إن املدح التقليدي املعروف‬
‫خرج عن طوقه االسر ‪ ،‬وتطرق إىل وصف هذه األحداث خضمل رتة مديدة من الزمن ‪ ،‬ومل يبق الشاعر كما كان كثريٌ‬
‫وحلم ‪ ،‬ب وجد نفسه أمام صراع مرير تسرتخص يه املهج‬ ‫وأبس ‪ٌ ،‬‬
‫جود ‪ٌ ،‬‬
‫من سابقيه أسري املعاين التقليدية املعرو ة‪ٌ :‬‬
‫(‪ )1‬األدب العريب يف بضمد الشام يف عصور الزنكيني واأليوبيني واملماليك ص ‪.177‬‬
‫(‪ )2‬اخلريدة (‪ )106 ، 104/1‬األدب يف بضمد الشام ص ‪.177‬‬

‫(‪ )3‬األدب العريب يف بضمد الشام يف عصور الزنكيني واأليوبيني واملماليك ص ‪.178‬‬

‫‪102‬‬
‫‪ ،‬ويبذل له األرواح يف سب ي العقيدة ‪ ،‬وصون األوطان ‪ ،‬ومحاية األعراض ‪ ،‬وطرد املغتصب ‪ ،‬قد أدى الشاعر مهمته‬
‫خري أداء ‪ ،‬صور هذه األحداث اجلسام ونظمها يف شعره ‪ ،‬وخلدها على توايل األايم وتعاقب الدهور‪ ،‬شأنه يف ذلك‬
‫كأي مؤرخ(‪ ، )1‬وقد تفاع مع األحداث ‪ ،‬ومما قاله يف عماد الدين زنكي وجهاده‪:‬‬
‫ممالكه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا هل‬
‫إن البـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمد ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمده‬ ‫ق ـ ـ ـ ـ ـ ـ مللـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوك الكفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر تُسلـ ـ ـ ـم بعده ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬
‫ي ـ ـ ـ ـ ـ ـا طامل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا غـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـال الظـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمم امت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـداده‬ ‫الصب ـ ـح لينت ـ ـ ـه الدجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى‬ ‫كـ ـ ـذا عـ ـن طري ـ ـ ـق ُّ‬
‫(‪)2‬‬
‫وروضـ ـ ـ ـ ـ ـة قسطنطينـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة مست ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرداه‬ ‫ولل ـ ـ ـ ـه ع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌزم م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاءُ سيح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـان وردهُ‬
‫ب ـ التجديد يف معاين الغزل والنسيب‪:‬‬
‫درج الشعراء يف معظم األحيان عل ى استهضمل قصائدهم ابلنسيب ‪ ،‬وعلى هذه السنهلة جرى ابن القيسراين يف مطالع‬
‫بعض القصائد ‪ ،‬وله يف هذه اجملال كضمم يطول(‪ ، )3‬وقد وصف العماد الكاتب يف وصف إحدى قصائده‪ :‬أهنا «قطعة‬
‫جمنسة يف لطا ة اهلواء ‪ ،‬مالكة رق األهواء ‪ ،‬خلصت من كلفة التكلف ‪ ،‬وصفا مشرهبا عن قذى التعسف ‪ ،‬األشعار‬
‫املتكلفة املصنوعة قلما ينفق يها األبيات املطبوعة ‪ ،‬إال أن خيص هللا من يشاء ابخلاطر العاطر ‪ ،‬والفكر احلاضر ‪،‬‬
‫والقرحية الصا ية ‪ ،‬واآل داب الوا رة الوا ية ‪ ،‬ورمبا يندر للناظر مقطعات يرزق يها القبول ‪ ،‬كهذه القطعة اليت تسلب‬
‫العقول»‬
‫(‪)4‬‬
‫ومما قاله يف هذا الباب‪:‬‬
‫مهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً وردت عي ـ ـ ـ ـ ـن احليـ ـ ـ ـ ـاة مـ ـ ـ ـ ـن القل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب‬ ‫سقى هللا ابلزوراء(‪ )5‬من جانب الغ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرب‬
‫ف إال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي مغالب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة الصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب‬
‫ضعائ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫عفائ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـف إال ع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن معاق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرة‬
‫اهل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوى‬
‫كواعـ ـ ـ ـ ـ ـب ال تعطـ ـ ـ ـ ـ ـى الدمـ ـ ـام علـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى كع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب‬ ‫عقائـ ـ ـ ـ ـ ُ ختشاه ـ ـ ـ ـ ـا ُعقيـ ـ ـ ـ ُ بـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن عام ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـــ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر‬
‫مـ ـ ـ ـ ـ ـن احلس ـ ـ ـ ـ ـ ـن شبهلهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن الرباق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـع ابلنق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب‬ ‫جاذهبـُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلن البـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوادي مزيهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة‬
‫إذا ْ‬
‫اد عل ـ ـى ال ُق ـــ ـ ـ ـ ـرب‬
‫سفاه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً وهـ ـ ـ ـ يعـ ـ ـ ـ ـدي البعـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫تظلهلم ـ ـ ـ ـ ـ ـت م ـ ـ ـ ـن أجفاهن ـ ـ ـ ـ هلن إل ـ ـ ـى النـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوى‬
‫حناني ـ ـ ـ ـ ـك سرب ـ ـ ـي ع ـ ـ ـ ـ ـن مضمحظ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة الس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرب‬ ‫ومل ـ ـ ـا دن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا التوديـ ـ ـ ـع قلـ ـ ـ ـ ـت لصاحب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي‬
‫ـ ـضم شـ ـ ـ ـك أن احل ـ ـ ـ ـظ ض ـ ـ ـ ـ ـ ـرب م ـ ـ ـ ـن الَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرب‬ ‫إذا كانـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت األحـ ـداق نوعـ ـ ـاً مـن الظبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬
‫أصبح ـ ـ ـت ـ ـي شعـ ـ ـب وقلـ ـ ـ ـيب ـ ـ ـي ش ْع ـــ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب‬ ‫هبون ـ ـي تعشق ـ ـ ـ ـ ـت الف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراق ضضمل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة‬
‫خذل ـ ـت ‪ ،‬ول ـبـ ـ ـى إن دع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا حرقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةً لبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي‬ ‫م ـ ـ ـ ـا ل ـ ـ ـي إذا انديـ ـ ـت ي ـ ـا صب ـ ـ ُر منج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـداً‬
‫ـنت حـ ـ ـ ـ ـب‬
‫ادي م ـ ـ ـ ـ ْ‬
‫حت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َام ال يصح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـو ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـؤ َ‬ ‫تقَـ ـ ـ ـى زمانـ ـ ـ ـي بيـ ـ ـ ـن بي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍن وهج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرة‬
‫هل‬

‫(‪ )1‬األدب العريب يف بضمد الشام يف عصور الزنكيني واأليوبيني واملماليك ص ‪.178‬‬
‫(‪ )2‬كتاب الروضتني يف أخبار الدولتني (‪.)38 ، 37/1‬‬
‫(‪ )3‬األدب يف بضمد الشام ص ‪.189‬‬
‫(‪ )4‬اخلريدة (‪ )98/1‬األدب يف بضمد الشام ص ‪.204‬‬
‫(‪ )5‬الزوراء‪ :‬أي مدينة الزوراء ‪ ،‬ومسيت دجلة بغداد الزوراء‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫تَاع ـ ـ ـف سكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـري كلمـ ـ ـ ـ ـ ـا قلل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت شـ ـ ـربـ ـ ـي‬ ‫وأعجـ ـ ـ ـب مـ ـ ـا ـي مخـ ـ ـر عيني ـ ـ ـ ـ ـ ـه أهن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬
‫رج ـ ـ ـ ـى مـ ـ ـ ـ ـ ـا َـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ الزيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـارة ع ـ ـ ـن رغ ـ ـ ـ ـب‬
‫تُ هل‬ ‫إذا لـ ـ ـم يكـ ـ ـن ـ ـي احلـ ـ ـب عنـ ـ ـدي زي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـادة‬
‫(‪)1‬‬
‫أحلـ ـ ـ ـ ـ ـت عذويل يف الغـ ـ ـ ـرام علـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى صحب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي‬ ‫هزن ـ ـي الش ـ ـ ـوق حنوه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم‬ ‫ص ـ ـ ـ ـرت إذا مـ ـ ـا هل‬
‫‪ 2‬ـ ابن منري الطرابلسي ميدح عماد الدين يف ابرين‪:‬‬
‫شاعر الشا م أبو احلسني ‪ ،‬أمحد بن منري بن أمحد بن مفلح الطرابلسي ‪ ،‬صاحب ديوان مشهور‪ ،‬وله نظم بديع‪ ،‬وكان‬
‫يلقب مبَُه هلذب الدين‪ ،‬ويقال له‪« :‬عني الزمان»(‪ )2‬قال ابن عساكر‪« :‬رأيته مرات ‪ ،‬وكان را َياً ‪ ،‬خبيث اهلجو وال ُفحش‬
‫ب ‪ ،‬لما ويل مشس امللوك عاد إىل دمشق ‪ ،‬بُـلغ مشس‬ ‫وهم بقطع لسانه ‪ ،‬مث تَ َس هلح َ‬ ‫‪ ،‬سجنه بُوري مدة ـ حاكم دمشق ـ هل‬
‫امللوك عنه أمراً ‪ ،‬وأراد صلبه ‪ ،‬اختفى ‪ ،‬وهرب ‪ ،‬مث قدم يف صحبة نور الدين ‪ ،‬وتويف يف مجادى االخر سنة مثان‬
‫ين َدين»(‪.)3‬‬ ‫وأربعني ومخسمئة حبلب ‪ ،‬وكان هو والقيسراين كفرسي رهان ‪ ،‬ولكن القيسراين ُس ٌّ‬
‫صور ابن منري يف مدائحه الزنكية كفاح املسلمني البطويل ضد الغازين الصليبيني ‪ ،‬ومما قاله يف موقعة ابرين‪:‬‬ ‫ولقد هل‬
‫ودان لنقَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك إبرامه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬ ‫دت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك امللـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوك و هلأايمه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬
‫إقدامه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬‫وزال لبطش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك ُ‬ ‫أقدامه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬ ‫وزلهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت ل َعْينـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك ُ‬
‫هواه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ملـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا صـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلح إسضممه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬ ‫ول ـ ـ ـ ـو لـ ـ ـم تُ ْسل ـ ـ ـم إلي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك القل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوب‬
‫أايم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى الرباي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا وأيتامه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬
‫َ‬ ‫أيـ ـ ـ ـ ـ ـا حمي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي العـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدل لَ هلم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا نع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاه‬
‫أزال احملاريـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب أصنامهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬ ‫وم ْستنق ـ ـ ـ ـ ـ َذ الدي ـ ـ ـ ـ ـ ـن م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن أُمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــٍَة‬ ‫ُ‬
‫السم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر اجامه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬
‫والبيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـض و ُّ‬ ‫ت هل ـ ـ ـ ـ ـا تقتفي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك األسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـود‬ ‫َدلَ ْف ـ ـ ـ ـ َ‬
‫حتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى تشاءمهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا شامه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬ ‫ت جـزيرهت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ابلسيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوف‬
‫َجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـَزْر َ‬
‫(‪)4‬‬
‫تامه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬
‫متـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى شئ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت أرخ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـص ُم ْس ُ‬ ‫اري أكنا ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬
‫وص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـارت ع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـو هل‬
‫تصور هذه األبيات حب الشاعر لعماد الدين ‪ ،‬وإعجابه به ‪ ،‬ومشاتته أبعدائه الصليبيني ‪ ،‬يفتتحها ابلدعاء أبن جيع‬
‫هللا ملوك الصليبيني داء لعماد الدين وأبن يدمي قدرته على نقض ما يربمون ‪ ،‬ويرجو أن تزل أقدامهم أمام ثبات أقدامه‬
‫‪ ،‬وأن يزول إقدامهم أمام بطشه ‪ ،‬ويرى أن قلوب املسلمني ال يصح إسضممها إذا مل تسلم إليه زمامها ‪ ،‬وهو الذي أحيا‬
‫العدل بعد أن بكت على قده األرام واأليتام ‪ ،‬وأنقذ الدين من الصليبيني الذين أزالوا احملاريب ‪ ،‬وأقاموا مقامها‬
‫األصنام ‪ ،‬مث ميدحه لفتحه اجلزيرة بسيو ه حىت تشائم أه الشام ‪ ،‬وتوقعوا أن حي هبم ما ح إبخواهنم أه اجلزيرة(‪.)5‬‬
‫سادساً‪ :‬اإلمرباطور البيزنطي يغزو بالد الشام‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ ظروف قيام احلملة‪:‬‬

‫(‪ )1‬األدب يف بضمد الشام ص ‪.189‬‬


‫(‪ )2‬سري أعضمم النبضمء (‪.)223/20‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه (‪.)224/10‬‬
‫(‪ )4‬كتاب الروضتني يف أخبار الدولتني (‪.)132/1‬‬
‫(‪)5‬األدب العريب من االحندار إىل االزدهار‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫ذكر ابن األثري‪« :‬أن الصليبيني ابلشام عندما علموا حبصار امللك ولك يف ابرين؛ أرسلوا طالبني النجدة من اإلمرباطور‬
‫البيزنطي ‪ ،‬والغرب األورويب‪ .‬دخلت القسوس ‪ ،‬والرهبان بضمد الروم والفرنج وما واالها من بضمد النصرانية مستنصرين‬
‫أن زنكي إن أخذ حصن ابرين ومن يه من الفرنج ‪ ،‬ملك مجيع بضمدهم يف أسرع وقت‬ ‫على املسلمني ‪ ،‬وأعلموهم‪ :‬هل‬
‫لعدم احلامي عنها ‪ ،‬وأن املسلمني ليس هلم إال قصد البيت املقدس ‪ ،‬حينئذ اجتمعت النصرانية ‪ ،‬وساروا على الصعب‬
‫والذلول ‪ ،‬وقصدوا الشام مع ملك الروم»(‪.)1‬‬
‫والواقع‪ :‬أنه إذا كانت األمرية األنطاكية أليس مل تنجح يف االتصال بعماد الدين زنكي ملساندهتا يف صراعها مع والدها‪،‬‬
‫والنبضمء االخرين ‪ ،‬نجدها تلجأ إىل طريقة أخرى هي االتصال ابألمرباطور البيزنطي (يوحنا كومنني) تعرض عليه زواج‬
‫ابنتها األمرية كونستانس من ابنه مانوي (‪ )2‬وقد صادف هذا العرض قبوالً حسناً من قب األمرباطور ‪ ،‬ألن ذلك يعين‬
‫دخول أنطاكية يف تبعي ٍة بيزنطيهل ٍة ‪ ،‬وهي ما تسعى إليه جاهدة من ُذ احلملة الصليبية األوىل ‪ ،‬وهو األمر الذي ال ُّ‬
‫يقره بقية‬
‫الزعماء الصليبيني ‪ ،‬لذلك سارعوا بتزويج كونستانس من رميوند دي بواتييه ‪ ،‬وقد غَب يوحنا من هذا الزواج الذي متهل‬
‫دون استشارته؛ ألن أنطاكية اتبعة له من الناحية االمسية ‪ ،‬وبذلك أضحى الصدام وشيكاً بني يوحنا ‪ ،‬ورميوند(‪.)3‬‬
‫أن العداء قد اشتد بني البيزنطيني ‪ ،‬والصليبيني من ُذ وصول هؤالء إىل أطراف بضمد الشام ‪ ،‬والعراق ‪ ،‬ور َهم‬ ‫واحلقيقة‪ :‬هل‬
‫التقيد ابلعهد الذي قطعوه على أنفسهم لألمرباطور البيزنطي بتسليمه كا ة املدن والبلدات ؛ اليت كانت يما مَى من‬
‫ممتلكات اإلمرباطورية البيزنطية قب أن يفتحها املسلمون ‪ ،‬وقد ترهلكز جزء كبري من العداء بني الطر ني يف العضمقات بني‬
‫الرها كانت تشك أمهية دينية ‪ ،‬وعسكرية ‪،‬‬ ‫اإلمرباطورية البيزنطية وإمارة أنطاكية ‪ ،‬ألن هذه اإلمارة ابإلضا ة إىل إمارة ُّ‬
‫وجتارية يف السياسة البيزنطية ‪ ،‬وعدهلت بيزنطة هذه البلدات جزءاً من ممتلكاهتا ‪ ،‬والواضح‪ :‬أن هذه البضمد كانت تتيح‬
‫لألرمن الذين سكنوها من ُذ أكثر من مئة عام التوغ داخ األراضي البيزنطية ‪ ،‬وهتديدها ‪ ،‬مث إن إقامة الصليبيني يف‬
‫بضمد الشام كان يعين‪ :‬توطيد النفوذ الضمتيين املَر ابملصاحل البيزنطية ‪ ،‬مما يعرض للخطر جتنيد املرتزقة الصليبيني ضمن‬
‫إطار النظام العسكري البيزنطي‪.‬‬
‫إن مدهنا الرئيسية كانت تشك رؤوساً للجسور التجارية البالغة احليوية يف التجارة البيزنطية؛ َضمً‬ ‫ابإلضا ة إىل ذلك هل‬
‫عن أهنا كانت أكثر اإلمارات الصليبية يف بضمد الشام تطر اً إىل جهة الشمال ‪ ،‬مما جع حدودها جتاور احلدود البيزنطية‬
‫يف كيليكية(‪ ، )4‬ويذكر‪ :‬أن األمرباطور يوحنا كومنني حدهلد السياسة البيزنطية يف الشرق األدىن عند اعتضمئه العرش على‬
‫الشك التايل‪:‬‬
‫* إعادة احلدود االسيوية لألمرباطور إىل ما كانت عليه قب الغزو السلجوقي‪.‬‬
‫* طرد سضمجقة الروم من األانضول‪.‬‬
‫* طرد األرمن من كيليكية‪.‬‬

‫(‪ )1‬الكام يف التاريخ نقضمً عن اتريخ الزنكيني ص ‪.138‬‬


‫(‪ )2‬معامل التاريخ اإلسضممي الوسيط ص ‪.205‬‬
‫(‪ )3‬اتريخ الزنكيني يف املوص ص ‪.138‬‬
‫(‪ )4‬اتريخ الزنكيني يف املوص ص ‪.139‬‬

‫‪105‬‬
‫* إجبار الصليبيني يف أنطاكية على االعرتاف بسيادة األمرباطورية‪.‬‬
‫* استعادة عدد من املواقع اإلسضممية يف مشايل الشام(‪.)1‬‬
‫وحىت يؤمن مؤخرة جيشه أثناء زحفه حنو بضمد الشام عقد يوحنا اتفاقيات أمنية مع سضمجقة الروم يف األانضول يف عام‬
‫أي خطر جد ٍي على األمرباطورية‪،‬‬
‫‪ 531‬هـ‪ .‬أما الدامشند يف سيواس ‪ ،‬قد اهنمكوا يف منازعات أسرية ‪ ،‬لم يشكلوا هل‬
‫أضحى بوسعه ذلك التدخ يف أمور بضمد الشام وهو مطمئن(‪.)2‬‬
‫‪ 2‬ـ السيطرة على كيليكية وأنطاكية‪:‬‬
‫تقدم األمرباطور البيزنطي للسيطرة على القضمع األرمينية يف كيليكية ‪ ،‬واتبع زحفه حنو اجلنوب ‪ ،‬اجتاز إسكندرونة ‪،‬‬
‫وعرب الدروب الشامية إىل أنطاكية اليت كانت اهلدف الثاين حلملته بعد كيليكية ‪ ،‬ظهر أمام أسوارها ‪ ،‬وضرب احلصار‬
‫عليها ‪ ،‬اضطر صاحبها رميوند بواتيه أمام ضخامة ‪ ،‬وقوة اجليش البيزنطي من جهة ‪ ،‬وعدم‬
‫الرها ‪ ،‬وبيت املقدس من جهة أخرى إىل اخلَوع إلرادة األمرباطور بعد حصوله‬ ‫حصوله على مساعدات الصليبيني يف ُّ‬
‫صر على الدخول إليها ‪ ،‬غري أن العلم‬‫على موا قة امللك ولك ‪ ،‬وتسلهلم األمرباطور البيزنطي املدينة ‪ ،‬إال أنه مل يُ هل‬
‫األمرباطوري ارتفع أبعلى القلعة(‪.)3‬‬
‫‪ 3‬ـ زحف احلملة على حلب‪:‬‬
‫وجرت مباحثات بني الصليبيني ‪ ،‬والبيزنطيني هلأدت إىل ما يلي‪:‬‬
‫* قيام حتالف بينهم‪.‬‬
‫* توحيد اجلهود العسكرية ‪ ،‬وتوجيهها للقيام حبملة نصرانية كربى ضد مسلمي بضمد الشام هبدف حتطيم قوة عماد الدين‬
‫يف حلب‪.‬‬
‫* القَاء على إمارة بين منقذ يف شيزر‪.‬‬
‫* إقامة إمارة صليبية تشم اجلهات الداخلية من بضمد الشام مبا يها حلب ‪ ،‬وشيزر ‪ ،‬ومحاة ‪ ،‬ومحص‪.‬‬
‫* تعيني رميوند بواتييه أمرياً على تلك اإلمارة‪.‬‬
‫* ترك رميوند إقليم أنطاكية لألمرباطور البيزنطي‪.‬‬
‫* إجناز هذا العم التوسعي يف الصيف القادم ‪ 1138‬م(‪.)4‬‬
‫دلهلت املفاوضات على ما يشعر به الصليبييون من الَيق ‪ ،‬والقلق حنو األمرباطور البيزنطي؛ إذ إن موا قة امللك ولك‬
‫أملتها ـ يما يبدو ـ واقعية الظروف السياسية السيئة اليت كان مير هبا الصليبيون؛ حيث كان يُدرك جيداً‪ :‬أن عماد الدين‬
‫زنكي هو العدو األكرب للصليبيني ‪ ،‬ولذا مل يشأ أن يقاوم القوة البيزنطية وينهكها وهي الوحيدة القادرة على وقف تقدمه‬
‫‪ ،‬ومن جهته ‪ ،‬إن يوحنا كومنني كان واقعياً يف تفكريه السياسي ‪ ،‬أدرك‪ :‬أن مصلحة النصارى العامة تقَي بعدم‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص ‪.139‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص ‪.139‬‬
‫(‪ )3‬احلروب الصليبية ‪ ،‬رنسيمان (‪.)341/2‬‬
‫(‪ )4‬اتريخ الزنكيني يف املوص ص ‪.141‬‬

‫‪106‬‬
‫طرد الصليبيني من أنطاكية دون أن يبذل هلم تعويض ‪ ،‬يَاف إىل ذلك‪ :‬أنه أراد أن يقيم على امتداد احلدود إمارات‬
‫اتبعة يتحكم يف سياساهتا العامة ‪ ،‬وتتحم يف الوقت نفسه صدمات ‪ ،‬كما جتلت أطماعه يف أمضمك املسلمني ابلشام‪.‬‬
‫أن أخبار هذا االتفاق قد تسربت إىل أهايل حلب الذين الذين قاموا أبعمال التحصني ‪ ،‬وحفر اخلنادق ‪ ،‬كما‬ ‫ويبدو‪ :‬هل‬
‫أن األمري سوار قام مبهامجة اجليش البيزنطي أثناء عودته من أنطاكية إىل أرمينية لقَاء ص الشتاء ‪ ،‬وظفر بسري ٍة وا رة‬
‫العدد من عسكره ‪ ،‬قت ‪ ،‬وأسر ودخ هبم إىل حلب(‪ ،)1‬ورغم ما كان يَمره يوحنا من سوء النية ‪ ،‬وما كان يبيته‬
‫من هجوم على حلب يف العام التايل ‪ ،‬إال أنه تظاهر ابلود جتاه عماد الدين زنكي ‪ ،‬أرس إليه رسوالً أخربه أبنه ذاهب‬
‫لقتال األرمن ‪ ،‬وأن البيزنطيني ليسوا راغبني يف أن يبادروا إىل مهامجته‪ .‬وهو بذلك ينوي خداعه حىت يطمئن إليه(‪.)2‬‬
‫مث ما لبث أن أصدر أوامره إبلقاء القبض على مجيع املسا رين القادمني من حلب والقرى اجملاورة صوب الغرب ‪ ،‬كيضم‬
‫(‪)3‬‬
‫الرها ‪ ،‬وأنطاكية ‪ ،‬وبدؤوا‬ ‫تص أنباء حتركات قوات املتحالفني إىل زنكي ‪ ،‬ومن مثهل تقدم اإلمرباطور يصحبه أمريا ُّ‬
‫مبهامجة حصن «بزاعة» القريب من حلب ‪ ،‬ومتكنوا من االستيضمء عليه(‪ ، )4‬وقد استطاع بعض أهاليه أن يفروا إىل‬
‫حلب ‪ ،‬حيث أنذروا املسؤولني يها عن قرب اخلطر ‪ ،‬قام هؤالء بتعزيز التحصينات الد اعية ‪ ،‬وأرسلوا إىل زنكي‬
‫يطلبون جندةً مستعجلةً ‪ ،‬أمدهلهم بقوة من الفرسان ‪ ،‬كان لدخوهلا حلب أتثري كبري على ر ع معنوايت أبنائها‪.‬‬
‫وما إن وص املتحالفون إىل حلب ‪ ،‬و رضوا احلصار عليها ‪ ،‬حىت أدركوا مدى مناعتها ‪ ،‬وقدرهتا الكبرية على املقاومة‪،‬‬
‫هذا إىل أن احللبيني أخذوا يقومون هبجمات سريعة على معسكرات األعداء أدخلت الرعب وعدم االستقرار يف نفوسهم‬
‫‪ ،‬اثروا االنسحاب ‪ ،‬وملا علم جند األاثرب بذلك ‪ ،‬خا وا من توجه املتحالفني إليهم ‪ ،‬أحرقوا خزائن القعلة‪ ،‬وانسحبوا‬
‫‪ ،‬وقام اإلمرباطور ـ أثر ذلك ـ إبرسال بعض قواته إىل هذا املوقع ‪ ،‬تمكنت من االستيضمء عليه‪ .‬أما هو قد تقدم على‬
‫معرة النعمان ‪ ،‬واستوىل عليها ‪ ،‬وتوجه من هناك إىل شيزر ‪ ،‬و رض احلصار عليها‬ ‫رأس القسم األكرب من جنده إىل هل‬
‫ساعياً بذلك إىل وضع يده على موقع هام مينح الغزاة السيطرة على وادي هنر العاصي ‪ ،‬ويقف سداً أمام مطامح‬
‫وأهداف زنكي البعيدة يف املنطقة(‪.)5‬‬

‫‪ 4‬ـ مناصرة عماد الدين زنكي لبين منقذ يف شيزر‪:‬‬


‫أبدى أهايل حلب مقاومة عنيفة للقوات الغازية ‪َ ،‬ضمً عن وصول جندة عماد الدين زنكي ‪ ،‬مما أقنع اإلمرباطور بعدم‬
‫جدوى االستمرار حلصار املدينة ‪ ،‬غادرها واجته إىل حصن األاثرب ‪ ،‬وملكوه ‪ ،‬مث احتلوا بعد ذلك معرة النعمان ‪،‬‬
‫وكفر طاب ‪ ،‬واجتهوا إىل شيزر(‪ )6‬ـ كما ذكران ـ وكانت حجم القوات الغازية مئة ألف راكب ‪ ،‬ومئة ألف راج ‪ ،‬ومعهم‬
‫من الكراع ‪ ،‬وال سضمح ما ال حيصيه إال هللا ‪ ،‬وأمام هذا اخلطر الكبري ما كان من حاكم شيزر أبو العساكر إال أن يعزز‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص ‪.141‬‬


‫(‪ )2‬اتريخ الزنكيني يف املوص ص ‪.141‬‬
‫(‪ )3‬زبدة حلب (‪ )264/2‬عماد الدين زنكي ص ‪.144‬‬
‫(‪ )4‬عماد الدين زنكي ص ‪.144‬‬
‫(‪ )5‬الباهر ص ‪ 55‬عماد الدين زنكي ص ‪.145‬‬
‫(‪ )6‬أسرة بين منقذ ودورها السياسي واحلَاري ص ‪.156‬‬

‫‪107‬‬
‫من استحكامات املدينة ‪ ،‬ويطلب النجدة من عماد الدين زنكي ‪ ،‬الذي أسرع ابلقدوم إىل املنطقة ‪ ،‬ونزل محاة ‪،‬‬
‫واختذها قاعدة لقواته(‪.)1‬‬
‫وشرع األمرباطور يف ابدئ األمر مبهامج ة حصن اجلسر ‪ ،‬ومتكن من زحزحة املدا عني الذين انسحبوا عنه إىل داخ‬
‫حصن شيزر ‪ ،‬واختذ اإلمرباطور من ذلك احلصن الواقع على اجلهة اليمىن من هنر العاصي مقراً له ‪ ،‬مث اند ع رسانه إىل‬
‫اجلزء الذي عليه «البلد» وأظهر بنو منقذ مقاومة عنيفة يف املعركة اليت جرت بني الطر ني وجرح يها أحد أمرائهم‪ ،‬وهو‬
‫أبو املرهف نصر بن منقذ الذي تويف يما بعد متأثراً جبروحه ‪ ،‬ومتكن عدد من املهامجني من النفاذ إىل داخ القلعة من‬
‫خضمل إحدى الثغرات اليت أحدثتها قذائف املنجنيقات ‪ ،‬إال أن رجال بين منقذ تصدوا هلم وأجربوهم على االنسحاب‬
‫من املدينة(‪ . )2‬ولكن البيزنطيني ظلوا حيتفظون ببعض املواقع املتقدمة يف ضواحي املدينة ‪ ،‬واستمرت غاراهتم مدة عشرة‬
‫أايم ‪ ،‬مث اقتصر القتال يما بعد على ضرب املدينة ابملنجنيقات(‪.)3‬‬
‫أ ـ توزيع القوات املهامجة‪:‬‬
‫توزعت القوات املهامجة يف أثناء رتة القتال على النحو التايل‪ :‬قوات رميوند حاكم أنطاكية الذي كان يتمركز يف مسجد‬
‫الرها جوسلني الثاين الذي اختذ موقعه يف الساحة العامة‬ ‫مسُّون الذي يقع ابلقرب من ابب املدينة ‪ ،‬وقوات حاكم ُّ‬
‫املخصصة للصضمة ‪ ،‬أما اإلمرباطور يوحنا بعدما عجز عن حتقيق النصر يف غارته على املدينة اختار مرتفعاً مقابضمً لشيزر‬
‫يعرف ابسم جب جرجيس ‪ ،‬ونصب عليه مثانية عشر منجنيقاً وأربع لعب كانت تَرب على املدينة بشك مباشر ‪،‬‬
‫ومتنع املدا عني عنها من الوصول إىل النهر ‪ ،‬والتزود من مائه(‪.)4‬‬
‫أن مجاعة من الراجلة من أهايل شيزر خرجوا لقتال املهامجني ‪ ،‬ولكنهم‬ ‫وعلى الرغم من ذلك قد ذكر أسامة بن منقذ‪ :‬هل‬
‫قتلوا وأسر البعض منهم(‪ ، )5‬وقد أاثرت املنجنيقات اليت جلبها البيزنطيون معهم االستغراب ‪ ،‬والذعر لدى أهايل شيزر‬
‫نظراً لَخامتها ‪ ،‬وملا أحلقته من خراب ودمار ابملدينة حىت وصفها أسامة أبهنا‪ :‬جمانيق هائلة جاءت معهم من بضمدهم‬
‫ترمي الثق ‪ ،‬وتبلغ حجرها ما تبلغه النشابة ‪ ،‬وترمي احلجر عشرين ومخسة وعشرين رطضمً(‪ ،)6‬ويذكر أن إحدى القذائف‬
‫أصابت منزالً لصديق له يدعى يوسف بن أيب الغريب انقلب رأساً على عقب ‪ ،‬وأن أخرى وقعت على القاعدة‬
‫احلديدية اليت أثبتت عليها السارية املر وعة يف دار عمه األمري ‪ ،‬كسرهتا على أحد املارة قتلته(‪.)7‬‬
‫ب ـ موقف عماد الدين زنكي من هذه اجملاهبة‪:‬‬
‫وأما عن دور زنكي يف هذه اجملاهبة إنه لدى مساعه استغاثة أيب العساكر هرع بقواته ‪ ،‬واختار موضعاً بني محاة ‪ ،‬وشيزر‬
‫على ضفاف هنر العاصي ‪ ،‬ومل يشأ أن يغامر بشن هجوم عام على البيزنطيني وحلفائهم نظراً لتفوقهم عليه هل‬
‫عد ًة‪ ،‬وعدداً‪.‬‬

‫(‪ )1‬الباهر ص ‪ ، 55‬أسرة بين منقذ ودورها السياسي ص ‪.158‬‬


‫(‪ )2‬االعتبار ص ‪.146‬‬
‫(‪ )3‬زبدة حلب (‪ )267/2‬أسرة بين منقذ ص ‪.158‬‬
‫(‪ )4‬أسرة بين منقذ ص ‪.159‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه ص ‪.159‬‬
‫(‪ )6‬الرط ‪ :‬كان يعادل انذاك الكيلو ونصفاً االعتبار ص ‪.145‬‬
‫(‪ )7‬االعتبار ص ‪ 145‬ـ ‪ 146‬أسرة بين منقذ ودورها السياسي ص ‪.160‬‬

‫‪108‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وكان يركب ك يوم ويسري إىل شيزر هو وعساكره ويقفون حبيث يراهم الروم ويرس السرااي تأخذ من ظفرت به منهم‬
‫‪ ،‬ويَيف ابن القضمنسي‪« :‬إن عماد الدين زنكي كان جيول خبيله على أطرا هم ويفتك مبن يظفر به َضمً عن قيامه‬
‫مبساعدة بين منقذ ابلرجال والسضمح ‪ ،‬كما أنه استطاع منع وصول املؤن إىل القوات املهامجة»(‪ ، )2‬أثر هذا يف زايدة‬
‫حراجة املوقف ابلنسبة هلم ‪ ،‬ويؤيد لنا هذا «الرهاوي» بقوله‪« :‬وشرعت القوات تشعر ابلنقص يف املؤونة؛ ألن شعباً‬
‫قرياً كان معهم ‪ ،‬وكان عماد الدين زنكي مبهارته مينع ابحرتاس وصول شيء إليهم»(‪.)3‬‬
‫* أساليب احلرب النفسية‪:‬‬
‫وجلأ عماد الدين زنكي إىل اعتماد أساليب احلرب النفسية جتاه أعدائه ‪ ،‬قد أرس إىل اإلمرباطور البيزنطي يقول له‪:‬‬
‫« إنكم قد حتصنتم مين هبذه اجلبال ‪ ،‬انزلوا منها إىل الصحراء حىت نلتقي ‪ ،‬إن ظفرت بكم أرحت املسلمني منكم ‪،‬‬
‫وإن ظفرمت يب اسرتحتم ‪ ،‬وأخذمت شيزر وغريها»‪ .‬ومل يكن له هبم هلقوة ‪ ،‬وإمنا كان يرهبهم هبذا القول وأشباهه(‪ )4‬وعندما‬
‫أن معه من العساكر من ترون وله‬ ‫أشار الفرجنة على اإلمرباطور ابالستجابة ملنازلة عماد الدين؛ قال هلم‪« :‬أتظنون‪ :‬هل‬
‫البضمد الكثرية ‪ ،‬وإمنا هو يريكم قلة من معه لتطمعوا يه ‪ ،‬إمنا يريد أن تلقونه ‪ ،‬يجيئه من جندات املسلمني ما ال هل‬
‫حد‬
‫له»(‪.)5‬‬
‫* طلب النجدة من خمتلف املناطق‪:‬‬
‫أن عماد الدين زنكي قد أرس يف طلب النجدة من خمتلف املناطق ‪ ،‬أرس إىل القاضي كمال‬ ‫ومن اجلدير ابلذكر‪ :‬هل‬
‫الدين أيب الفَ حممد بن عبد هللا بن القاسم الشهرزوري وايل السلطان مسعود بن حممد بن ملكشاه ‪ ،‬يستنجده‬
‫ويطلب منه العساكر ‪ ،‬قال القاضي لعماد الدين حني أرسله‪« :‬أخاف أن خترج البضمد من أيدينا ‪ ،‬وجيع السلطان‬
‫هذا حجة علينا ‪ ،‬وينفذ العساكر ‪ ،‬إذا توسطوا البضمد؛ ملكوها»‪ .‬قال عماد الدين‪« :‬إن هذا العدو قد طمع يف‬
‫حال املسلمون أوىل من الكفار هبا»(‪.)6‬‬ ‫البضمد ‪ ،‬وإن أخذ حلب مل يبق ابلشام إسضمماً وعلى ك ٍ‬
‫وهذا املوقف درس عملي من عماد الدين للقادة السياسيني‪ ،‬والعسكريني يف الوالء والرباء قال تعاىل‪:‬‬
‫ُ‬
‫ِنكمۡ‬ ‫ُ‬ ‫ََ َََذ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َٰٓ َ ُّ َ ذ َ َ َ ُ ْ َ َ ذ ُ ْ ۡ َ ُ َ َ ذ َ َ َٰٓ َ ۡ َ ٓ َ َ ۡ ُ ُ ۡ َ ۡ َ ٓ‬
‫خذوا ٱۡلهود وٱنلصرى أو ِۡلاء َۘ بعضهم أو ِۡلاء بع ٖض ومن يتولهم م‬ ‫﴿يأيها ٱَّلِين ءامنوا َل تت ِ‬
‫َۡ َۡ ذ‬
‫ٱلظلِم َ‬ ‫َ ذُ ُۡ ۡ ذ ذَ َ‬
‫ني ‪[ ﴾ ٥١‬املائدة ‪ .]51:‬وقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪« :‬أوثق‬ ‫ِ‬ ‫َّلل َل َي ۡهدِي ٱلقوم‬ ‫فإِنهۥ مِنهمۗۡ إِن ٱ‬
‫(‪)7‬‬
‫ضاع من بضمد املسلمني قدمياً ‪ ،‬وحديثاً بسبب‬
‫عرا اإلميان املواالة يف هللا ‪ ،‬واملعاداة يف هللا ‪ ،‬والبغض يف هللا» ‪ .‬وكم َ‬
‫ت يف السري ‪،‬‬
‫وج َد ْد ُ‬
‫بغداد َ‬
‫ضياع هذا املبدأ العقائدي املهم يف حياة األمة! قال القاضي كمال الدين‪ « :‬سرت طالباً َ‬
‫لما وصلت بغداد ‪ ،‬وحَرت قدهلام السلطان ‪ ،‬وأديت الرسالة إبنفاذ العساكر ‪ ،‬وأان أخاطب ‪ ،‬وال أزد على الوعد‬

‫(‪ )1‬الكام يف التاريخ (‪.)7396/87‬‬


‫(‪ )2‬الباهر ص ‪ 55‬أسرة بين منقذ ودورها السياسي ص ‪.160‬‬
‫(‪ )3‬أسرة بين منقذ ودورها السياسي ص ‪.160‬‬
‫(‪ )4‬الكام يف التاريخ (‪.)750/8‬‬
‫(‪ )5‬الكام يف التاريخ (‪.)740/8‬‬
‫(‪ )6‬مفرج الكروب (‪.)79/1‬‬
‫(‪ )7‬صحيح اجلامع الصغري (‪ )343/2‬ج ‪.2536‬‬

‫‪109‬‬
‫شيئاً ‪ ،‬لما رأيت قلة اهتمام السلطان هبذا األمر العظيم؛ أحَرت ضمانً وهو قيه كان ينوب عين يف القَاء ‪ ،‬قلت‬
‫له‪ :‬خذ هذه الداننري و رقها يف مجاعة من أوابش بغداد ‪ ،‬واألعاجم ‪ ،‬وإذا كان يوم مجعة وصعد اخلطيب املنرب جبامع‬
‫القصر قاموا وأنت معهم واستغاثوا بصوت واحد‪« :‬وا إسضمماه؛ وا دين حممداه ‪ ،‬وخيرجون من اجلامع ويقصدون دار‬
‫السلطان مستغيثني ‪ ،‬مث وضعت إنساانً اخر ع ذلك يف جامع السلطان ‪ ،‬لما كانت اجلمعة وصعد اخلطيب املنرب‬
‫وشق ثوبه ‪ ،‬وألقى عمامته عن رأسه ‪ ،‬وصاح وتبعه ذلك النفر ابلصياح والبكاء ‪ ،‬لم يبق يف اجلامع‬‫قام ذلك الفقيه ‪ ،‬هل‬
‫إال من قام وبكى ‪ ،‬وبطلت اخلطبة ‪ ،‬وسار الناس كلهم إىل دار السلطان‪ .‬وقد ع أولئك الذين جبامع السلطان مثلهم‬
‫‪ ،‬اجتمع أه بغداد وك ُّ من ابلعسكر عند دار السلطان يبكون ‪ ،‬ويصرخون ‪ ،‬ويستغيثون ‪ ،‬وخرج األمر عن الَبط‬
‫‪ ،‬وخاف السلطان يف داره‪.‬‬
‫وقال‪ :‬ما اخلرب؟ قي ‪ :‬إن الناس قد اثروا حيث مل ترس العساكر إىل الغزاة قال‪ :‬أحَروا القاضي ابن الشهرزوري‪.‬‬
‫قال‪ :‬حَرت عنده؛ وأان خائف منه ‪ ،‬إال أنين قد عزمت على صدقه ‪ ،‬وقول احلق‪ .‬لما دخلت قال‪ :‬اي قاضي ما‬
‫هذه الفتنة؟ قلت‪ :‬إن الناس قد علوا هذا خو اً من الفتنة والشر ‪ ،‬وال شك‪ :‬هل‬
‫أن السلطان مل يعلم كم بينه وبني العدو‪،‬‬
‫وإمنا بينكم حنو أسبوع ‪ ،‬وإن أخذوا حلب احندروا إليكم يف الفرات ‪ ،‬ويف الرب ‪ ،‬وليس بينكم بلد مينعهم عن بغداد!‬
‫وعظم األمر عليه حىت كأنه ينظر إليه‪.‬‬
‫انتخبت من عسكره‬
‫ُ‬ ‫وعر تهم احلال ‪ ،‬وأمرهتم ابلعود عادوا ‪ ،‬وتفرقوا ‪ ،‬و‬
‫قال‪ :‬خرجت إىل العامة ‪ ،‬ومن انَم إليهم ‪ ،‬هل‬
‫عشرة االف ارس من خيار العسكر ‪ ،‬وكتبت إىل الشهيد أعر ه اخلرب وأنه مل يبق غري املسري ‪ ،‬وأجدد استئذانه يف ذلك‬
‫‪ ،‬أمرين بتسيريهم واحلث على ذل ك ‪ ،‬وعربت ابلعساكر اجلانب الغريب ‪ ،‬بينما حنن نتجهز للحركة ‪ ،‬وإذا قد وص‬
‫جنهلاب من الشهيد خيرب أبن الروم والفرنج رحلوا عن حلب خائبني مل ينالوا منها غرضاً ‪ ،‬وأيمرين برتك استصحاب‬
‫العساكر‪.‬‬
‫أصر على إنفاذ العساكر إىل اجلهاد ‪ ،‬وقصد بضمد الفرنج ‪ ،‬وأخذها ‪ ،‬وكان قصده أن‬ ‫لما خاطبت السلطان يف ذلك هل‬
‫أعدت العساكر إىل اجلانب الشرقي وسرت‬‫ُ‬ ‫تطأ عساكره البضمد ‪ ،‬وميلكها ‪ ،‬ومل أزل أتوص مع الوزير وأكابر الدولة حىت‬
‫إىل الشهيد»(‪.)1‬‬
‫ويتَح لنا ممهلا تقدم مدى بعد نظر القاضي كمال الدين الشهرزوري وحكمته و طنته ملا يدور حوله ‪ ،‬حيث استطاع أن‬
‫يكشف مكنون نفس السلطان مسعود ‪ ،‬وحبسن تصر ه يف املوقفني يف تو ري اجليش عند االحتياج له ‪ ،‬وصر ه عند‬
‫انتفاء احلاجة إليه ‪ ،‬قد أنقذ عماد الدين زنكي من مأزق خطري كان من املمكن أن يقع يه إذا وصلت عساكر‬
‫السلطان إىل الشام يف ذلك الوقت بعد رحي البيزنطيني ‪ ،‬والصليبيني عن حلب‪.‬‬
‫ويكفي هنا أن نوضح أمهية وجود القاضي كمال الدين يف دولة عماد الدين زنكي ‪ ،‬وأن نذكر تعقيب ابن األثري على‬
‫ما قام به هذا الفقيه مع السلطان مسعود؛ إذ يقول‪ « :‬انظر إىل هذا الرج الذي هو خري من عشرة االف ارس ‪،‬‬

‫(‪ )1‬مفرج الكروب (‪.)80 ، 81/1‬‬

‫‪110‬‬
‫رحم هللا الشهيد ‪ ،‬لقد كان ذا مه ة عالية ‪ ،‬ورغبة يف الرجال ذوي الرأي والعق ‪ ،‬ويرغبهم وخيطبهم يف البضمد ‪ ،‬ويو ر‬
‫هلم العطاء»(‪.)1‬‬
‫ت هللا ملكه ابلعلماء ‪ ،‬قد جاء إىل حكم املوص بسبب آرائهم ‪ ،‬وأنقذه هللا من انقضمب‬ ‫إن عماد الدين زنكي ثبهل َ‬
‫حمقق على أيديهم ‪ ،‬وأبعد هللا عنه أطماع السلطان مسعود بسبب حنكة العلماء وذكائهم من أمثال القاضي كمال‬
‫الدين الشهرزوري ؛ وهلذا كانت لكمال الدين مكانة خاصة عند عماد الدين زنكي ‪ ،‬قد قال عن جهوده وأعماله‪:‬‬
‫«‪...‬إن شغضمً واحداً يقوم يه كمال الدين خري من مئة ألف دينار»(‪.)2‬‬
‫هذا وقد أرس عماد الدين إىل سضمجقة الروم يشري عليهم ابإلغارة على املواضع البيزنطية يف اسيا الصغرى ‪ ،‬حىت‬
‫ينصرف البيزنطيون عن القتال هناك(‪ ، )3‬وصدق حدس اإلمرباطور عندما وردته أخبار مفادها قدوم أرسضمن بن داود‬
‫ومعه عساكر بلغ تعدادها عشرين ألف ارس لنجدة شيزر(‪.)4‬‬
‫* سهام احليلة والدهاء يطلقها عماد الدين زنكي‪:‬‬
‫أدرك زنكي كنه العضمقة بني اإلمرباطور والفرجنة ‪ ،‬لجأ إىل اعتماد أسلوب احليلة واخلداع لتعميق اخلضمف بينهما ‪ ،‬راح‬
‫يراس إ رنج الشام ‪ ،‬وحيذرهم من ملك الروم ‪ ،‬وحيملهم‪ :‬أنهله إ ْن ملك ابلشام حصناً واحداً أخذ البضمد اليت أبيديهم‬
‫هلده ‪ ،‬ويومهه أبن الفرنج معه‪.‬‬
‫منهم ‪ ،‬وكان يراس ملك الروم يتهد ُ‬
‫(‪)5‬‬
‫الرها ‪ ،‬وأنطاكية مل يسعيا إىل التعاون اجلاد مع اإلمرباطور‬
‫سادت الشكوك بني الطر ني املسيحيني ال سيما وأن أمريي ُّ‬
‫‪َ ،‬ضمً عن اشتداد املنا سة بينهم ‪ ،‬وختوف رميوند من انتصار الروم ‪ ،‬وابلتايل تنفيذ االتفاقية اليت وقعها معهم ‪ ،‬واليت‬
‫الرها ـ هو اآلخر ـ يف أن يكون منا سه‬‫جتعله يقف وجهاً لوجه أمام قوات املسلمني بعيداً عن أنطاكية ‪ ،‬ومل يرغب أمري ُّ‬
‫رميوند قريباً منه يف حلب ‪ ،‬يف حالة انتصار املتحالفني وتنفيذ بنود االتفاقية املعقودة بينهم ‪ ،‬وقد عرقلت هذه العوام‬
‫مجيعاً توحيد اجلهود لفتح شيزر(‪ . )6‬ووردت أنباء‪ :‬أن أمري حصن كيفا األرتقي أرس ابنه على رأس جيش كبري من‬
‫الرتكمان(‪ ، )7‬وأن قوات دمشق حتركت ملساعدة زنكي(‪.)8‬‬
‫ج ـ ك احلصار عن شيزر‪:‬‬
‫أن االنسحاب أصبح أمراً حمتماً ‪ ،‬أهنى حصاره لشيزر يف التاسع من رمَان (‪532‬‬ ‫إزاء هذا‪ ،‬وذاك رأى اإلمرباطور‪ :‬هل‬
‫هـ) ‪ ،‬بعد أن عرض عليه أمريها مبلغاً من املال(‪ .)9‬وقال له‪« :‬أيها امللك إن الفرنج خدعوك؛ إذ د عوك إىل حماصرة هذا‬
‫املوضع ‪ ،‬بينما حنن مل نسئ إىل أحد قط ومل نَايق املسيحيني» استجاب اإلمرباطور بسبب الَغوط اخلارجة ‪ ،‬وأعلن‬

‫(‪ )1‬دور الفقهاء والعلماء املسلمني يف الشرق األدىن ص ‪.112‬‬


‫(‪ )2‬الباهر ص ‪ 63‬نقضمً عن دور الفقهاء والعلماء املسلمني ص ‪.112‬‬
‫(‪ )3‬اتريخ احلروب الصليبية ‪ ،‬رنسيمان (‪.)346/2‬‬
‫(‪ )4‬أسرة بين منقذ ص ‪.161‬‬
‫(‪ )5‬الباهر ص ‪ 56‬عماد الدين زنكي ص ‪.146‬‬
‫(‪ )6‬حماضرات عن احلروب الصليبية ‪ ،‬صاحل أمحد العلي ص ‪.235‬‬
‫(‪ )7‬زبدة حلب (‪.)8268/2‬‬
‫(‪ )8‬ذي اتريخ دمشق ص ‪ 266‬عماد الدين زنكي ص ‪.147‬‬
‫(‪ )9‬عماد الدين زنكي ص ‪.147‬‬

‫‪111‬‬
‫االنسحاب ‪ ،‬وابدر بنو منقذ إبرسال هدااي إليه قوامها انية من الذهب والفَة وصلبان من الذهب مرصعة ابلياقوت ‪،‬‬
‫وهي بقااي الغنائم اليت حص عليها اابؤهم يف أثناء مشاركتهم يف معركة مضمذكرد(‪.)1‬‬
‫ض عماد الدين زنكي‬ ‫وقاد يوحنا كومنني اإلمرباطور البيزنطي القوات املسيحية يف طريق العودة إىل أنطاكية ‪ ،‬وحينئذ انق هل‬
‫على آالهتم احلربية الثقيلة وجمانيقهم العظام استوىل عليها ‪ ،‬ور عها إىل قلعة حلب(‪ ، )2‬كما أرس بعض جنده يف آاثر‬
‫قوات العدو املنسحب ‪ ،‬قتلوا ‪ ،‬وأسروا عدداً كبرياً منهم(‪ ، )3‬ويف أنطاكية حدث خضمف جديد بني اإلمرباطور ‪،‬‬
‫والصليبيني ‪ ،‬كاد أن ينتهي بفتنة واسعة بني الطر ني لوال إسراع كومنني ابلرجوع إىل بضمده(‪.)4‬‬
‫د ـ أسباب ش احلملة‪ :‬ميكن حتديدها يما يلي‪:‬‬
‫* عدم قيام الصليبيني بواجباهتم العسكرية ‪ ،‬وانصرا هم عن مساندة اإلمرباطور(‪.)5‬‬
‫* اشتداد املنا سة بني ك ٍ من رميوند بواتييه ‪ ،‬وجوسلني الثاين ‪ ،‬خشي األول أنه إذا سقطت شيزر بيد النصارى سيُجرب‬
‫على أن يقيم هبا ‪ ،‬و قاً لضمتفاقية املربمة بني احللفاء ‪ ،‬وهي تقع على اخلط األمامي للممتلكات النصرانية املواجهة‬
‫ُ‬
‫يكن يف قرارة نفسه الكراهية لرميوند‬
‫ُّ‬ ‫الذي‬ ‫الثاين‬ ‫جوسلني‬ ‫أما‬ ‫ومباهجها‪.‬‬ ‫‪،‬‬ ‫أنطاكية‬ ‫للمسلمني وسيبتعد نتيجة ذلك عن‬
‫بواتييه؛ إنه مل يود أن يراه مستقراً يف شيزر ‪ ،‬ويف حلب يما بعد ‪ ،‬حاول اإليقاع بينه وبني اإلمرباطور ‪ ،‬وجنح يف‬
‫ذلك(‪.)6‬‬
‫* انتهز مسعود سلطان سضمجقة الروم رصة تواجد اإلمرباطور يوحنا بعيداً عن اإلمرباطورية ‪ ،‬وانشغاله أبمر الصليبيني‪،‬‬
‫وعماد الدين زنكي ‪ ،‬قام مبهامجة مدينة أدنة ‪ ،‬وال شك أبن مث هذه األنباء قد أزعجت اإلمرباطور؛ ألنه خرج جبيشه‬
‫من أج العم على ضم أنطاكية إىل أمضمك بيزنطة ‪ ،‬ال من أج قدان بعض أمضمك اإلمرباطورية ‪ ،‬مما محله على ك‬
‫احلصار ‪ ،‬وشرع يف العودة إىل بضمده حلمايتها من السضمجقة(‪.)7‬‬
‫* اتبع عماد الدين زنكي خطة عسكرية ذكية ميكن أن نطلق عليها احلرب النفسية؛ إذا جازت هذه التسمية يف ذلك‬
‫الوقت‪ .‬ذلك‪ :‬أنه راس املتحالفني وهم يف مواقعهم احلصينة عند مدينة شيزر يقول هلم‪« :‬إنكم قد حتصنتم مين هبذه‬
‫اجلبال ‪ ،‬اخرجوا عنها إىل الصحراء حىت نلتقي ‪ ،‬إن ظفرمت أخذمت شيزر ‪ ،‬وإن ظفران بكم أرحت املسلمني من‬
‫شركم»(‪.)8‬‬

‫(‪ )1‬أسرة بين منقذ ص ‪.163‬‬


‫(‪ )2‬زبدة حلب (‪ )268/2‬الباهر ص ‪.56‬‬
‫(‪ )3‬الباهر ص ‪ 56‬عماد الدين زنكي ص ‪.147‬‬
‫(‪ )4‬زبدة حلب (‪ )268/2‬عماد الدين زنكي ص ‪.147‬‬
‫(‪ )5‬الباهر ص ‪ 56‬عماد الدين زنكي ص ‪.147‬‬
‫(‪ )6‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.145‬‬
‫(‪ )7‬املصدر نفسه ص ‪.145‬‬
‫(‪ )8‬املصدر نفسه ص ‪.145‬‬

‫‪112‬‬
‫وكادت اخلطة تنجح حني أشار الصليبيون على اإلمرباطور ابلنزول إليه وقتاله‪ .‬ولكن يوحنا خشي مغبهلة ذلك ‪ ،‬وأجاب‪:‬‬
‫« أتظنون‪ :‬أنه ليس من العسكر إال ما ترون؟ وإمنا يريد أنكم تلقونه يجيء إليه من جندات املسلمني ما ال حد له‬
‫عليه»‪.‬‬
‫ويف نفس الوقت كان يراس صلييب الشام ‪ ،‬حيذرهم من إمرباطور الروم ‪ ،‬ويعلمهم‪ :‬أنه إذا استوىل على حصن واحد يف‬
‫الشام أخذ البضمد اليت أبيديهم منهم ‪ ،‬ويرس من جهة أخرى إىل اإلمرباطور خيو ه من أن الصليبيني يف بضمد الشام‬
‫خائفون منه ‪ ،‬لو ارق مكانه ‪ ،‬لتخلوا عنه‪.‬‬
‫ضد الطرف االخر ‪ ،‬وسادت الشكوك بينهما ‪ ،‬وكان قد بلغ اإلمرباطور‪ :‬هل‬
‫أن قرا أرسضمن بن داود‬ ‫استنفر ك ُّ طرف هل‬
‫األرتقي قد عرب الفرات يف مجوع عظيمة يف طريقه إىل شيزر ‪ ،‬مما كان دا عاً له على ك احلصار ‪ ،‬وعدم قيام الصليبيني‬
‫بواجباهتم العسكرية وانصرا هم عن مساندة اإلمرباطور(‪.)1‬‬
‫هـ ـ النتائج اليت أسفرت عن ش محلة املسيحيني‪:‬‬
‫أهم النتائج اليت أسفرت عن ش محلة املسيحيني هذه هي تدهور العضمقات بني البيزنطيني ‪ ،‬والصليبيني ‪ ،‬وعدم‬ ‫إن هل‬‫هل‬
‫استطاعتهم القيام بعم سريع هل‬
‫ضد نشاط زنكي يف املنطقة يف السنني التالية‪.‬‬
‫ويف األايم اليت أعقبت انسحاب املتحالفني استطاع صضمح الدين الياغسياين حاجب زنكي ‪ ،‬أن يستويل على كفر‬
‫طاب بعد أن بلغه هروب الصليبيني منها(‪ .)2‬كما سار زنكي إىل حصن عرقة ‪ ،‬حاصره ‪ ،‬و تحه عنوة ‪ ،‬وأسر من يه‬
‫من الصليبيني ‪ ،‬مث أمر بتخريبه(‪ .)3‬وما لبث أن اجته يف مطلع العام التايل ‪ 533‬هـ إىل حصن بزاعة ‪ ،‬اجتاحه عنوة ‪،‬‬
‫وقت معظم من يه من قوات الصليبيني والروم ‪ ،‬مث حاصر األاثرب ‪ ،‬ومتكن من تحها ـ يف صفر ـ وقف عائداً إىل‬
‫املوص (‪.)4‬‬
‫واهنمك زنكي يف الفرتة التالية ابلعم على إمتام خطته بتوحيد اجلبهة اإلسضممية؛ كي يكون أكثر قدرة على جماهبة‬
‫الصليبيني ‪ ،‬وقام عام ‪ 533‬هـ بعد مناورات وعمليات عسكرية وسياسية يف بعض جهات اجلزيرة مستهد اً ضمها‬
‫إلمارته(‪.)5‬‬
‫مث عاد ليستأنف السعي من أج حتقيق هد ه القدمي ابالستيضمء على دمشق وتوحيد اجلبهة الشامية ‪ ،‬اجته إليها يف‬
‫أواخر العام نفسه ‪ ،‬و رض حصاراً شديداً عليها كاد أن يسقطها يف يديه ‪ ،‬لوال استنجاد أمرائها بصليبيي بيت املقدس‬
‫‪ ،‬واستجابة هؤالء هلم ‪ ،‬رغبة منهم يف القَاء على اخلطر املشرتك الذي ميثله وجود زنكي يف املنطقة ‪ ،‬األمر الذي‬
‫اضطر األخري إىل االنسحاب(‪.)6‬‬

‫(‪ )1‬الباهر ص ‪ 56‬عماد الدين زنكي ص ‪.147‬‬


‫(‪ )2‬زبدة حلب (‪ )268/2‬عماد الدين زنكي ص ‪.148‬‬
‫(‪ )3‬الباهر ص ‪ 57‬عماد الدين زنكي ص ‪.148‬‬
‫(‪ )4‬مفرج الكروب (‪ )83/1‬عماد الدين زنكي ص ‪.148‬‬
‫(‪ )5‬عماد الدين زنكي ص ‪.148‬‬
‫(‪ )6‬عماد الدين زنكي ص ‪.148‬‬

‫‪113‬‬
‫ويف عام ‪ 538‬هـ أتيح لزنكي استغضمل مركزه القوي يف داير بكر(‪ ،)1‬والقيام بفتح عدد من املواقع واحلصون الصليبية‬
‫الرها الصليبية ‪ ،‬واملنتشرة يف املناطق القريبة من ماردين ‪ ،‬كجملني ‪ ،‬واملوزر(‪ ، )2‬وت موزن ‪ ،‬وغريها من‬ ‫العائدة إلمارة ُّ‬
‫حصون إقليم شيختان(‪ ، )3‬وكان هد ه من وراء ذلك قطع االتصال بني «قرا أرسضمن األرتقي» أمري حصن كيفا‪ ،‬وبني‬
‫(‪)4‬‬
‫ابلرها نفسها وحتقيق‬
‫الرها ‪ ،‬بسبب حتالفهما ضده ‪ .‬وبذلك متهد الطريق أمامه إلنزال ضربته املباشرة ُّ‬ ‫جوسلني أمري ُّ‬
‫حلمه الذي طاملا راود خياله عرب سين صراعه الطوي هل‬
‫ضد الصليبيني(‪.)5‬‬
‫و ـ مبالغات عند الكتهلاب األوروبيني متعلقة بشيزر‪:‬‬
‫عند احلديث عن حقيقة انسحاب اإلمرباطور عن شيزر يضمحظ عنصر املبالغة الذي اتسمت به الكتاابت األوروبية ‪،‬‬
‫وانساق وراءها مؤرخوان احملدثون مفيدةً‪ :‬أن بين منقذ أعلنوا عند مفاوضاهتم مع اإلمرباطور عن قبوهلم ابلتبعية ‪ ،‬والسيادة‬
‫له ‪ ،‬ويبدو أن هذه الكتاابت اعتمدت على بعض الرواايت البيزنطية اليت أرادت أن تغطي الفش الذريع الذي واجهه‬
‫اإلمرباطور عند أسوار شيزر‪.‬‬
‫والذي يثبت عدم صحتها ـ كما نرى ـ هو أن اإلمرباطور مل يكن يف وضع يسمح له أبن ميلي شروطه على بين منقذ‬
‫لألسباب اآلنفة الذكر؛ حىت إنه مل ميتلك الوقت عند انسحابه حلم معداته احلربية ‪ ،‬أو تدمريها رتكها يف أماكنها ‪،‬‬
‫أمر زنكي حبملها إىل حلب ‪ ،‬يَاف إىل هذا عجز قواته عن صد اهلجمات اليت كانت تتعرض هلا قواته من قب زنكي‬
‫بعد انسحابه عن شيزر(‪ ، )6‬عضموة على أن املصادر العربية والسراينية اليت عاصرت تلك احلملة مل تتطرق إىل هذ‬
‫املسألة(‪.)7‬‬

‫ز ـ من عجيب ما حيكى‪:‬‬
‫أن ملك الروم ملا عزم على حصر شيزر؛ مسع من هبا بذلك ‪ ،‬قال األمري مرشد بن علي صاحبها؛ وهو ينسخ مصحفاً‪:‬‬ ‫هل‬
‫هل‬
‫«اللهم حبق من أنزلته عليه إن قَيت مبجيء ملك الروم؛ اقبَين إليك!»‪ .‬تويف بعد أايم(‪.)8‬‬
‫ح ـ ابن قسيم احلموي ميدح عماد الدين زنكي‪:‬‬
‫ولد شرف الدين أبو اجملد ‪ ،‬مسلم بن اخلَر بن مسلم بن قسيم التنوخي احلموي أوائ القرن السادس اهلجري حبماة‬
‫‪ 500‬هـ ‪ ،‬وهو أحد شعراء العصر الزنكي الثضمثة املشهورين بعد ابن القيسراين ‪ ،‬وابن منري ‪ ،‬نبغ يف عصر شيخوختهما‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص ‪.148‬‬


‫(‪ )2‬يذكر ابن شداد أهنا ومجلني قلعتان هلما عم متسع بني داير بكر وداير مَر ‪ ،‬على مسرية يوم جران‪.‬‬
‫(‪ )3‬شيختان‪ :‬هو أحد أقاليم داير بكر عند منابع هنر اخلابور‪.‬‬
‫(‪ )4‬عماد الدين زنكي ص ‪.149‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه ص ‪.149‬‬
‫(‪ )6‬أسرة بين منقذ ودورها السياسي واحلَاري ص ‪.164‬‬
‫(‪ )7‬املصدر نفسه ص ‪.164‬‬
‫(‪ )8‬الكام يف التاريخ (‪.)742/8‬‬

‫‪114‬‬
‫أديب له عام ‪ 532‬هـ وكان ذلك يف الثضمثينيات من عمره عندما هرع‬ ‫وبلغ إىل درجتهما(‪ )1‬وأحرز ابن قسيم أول نصر ٍ‬
‫ضد األطماع الصليبية يف شيزر ‪ ،‬وقد خلهلد الشعراء هذا احلدث الكبري‪.‬‬ ‫عماد الدين للد اع عن املسلمني هل‬
‫وكانت قصيدة ابن قسيم الوحيدة اليت اقتبسها املؤرخون يف كتبهم دون سائر القصائد األخرى ‪ ،‬وهي ألعضمم شعراء‬
‫عصر عماد الدين زنكي(‪ )2‬ومما قاله من الشعر‪:‬‬
‫تَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـذ ُّل لـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك الصع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاب وتستقيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُم‬ ‫بعزم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك أيهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا املل ـ ـ ـك العظيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُم‬
‫تبي ـ ـ ـ ـ ـ ــَ َن أن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه املل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك الرجي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُم‬ ‫أل ـ ـم تـ ـ ـ ـر أن كلـ ـ ـ ـ ـ ـب ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـُّروم مل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬
‫هل‬
‫ك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـأن اجلَ ْحف ـَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ اللهلْي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ البهي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُم‬ ‫ج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاء يطب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـق الفلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوات خي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمً‬
‫ب اجلسي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُم‬ ‫ك ـ ـ ـ ـ ـ ـان خلَطب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه اخلَطْ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫وق ـ ـ ـ ـد ن ـ ـ ـ ـزل الزم ـ ـ ـان عل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى رض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاه‬
‫تيق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــَن أن ذل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك ال ي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدوم‬ ‫حي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن َرَمْيـتَ ـ ـ ـ ـ ـ ـه بـ ـ ـ ـك ـ ـ ـ ـ ـي مخي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـس‬
‫أح ـ ـ ـ ـ ـ ـرن(‪ )4‬ال يسي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر وال يقي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم‬ ‫(‪)3‬‬
‫وأبص ـــــــر ـي املفاض ـــــــة من ـــــك جيش ــــــــ ـ ـاً‬
‫توقـ ـ ـ ـ ــَ َد وه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـو شيط ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـان رجـي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُم‬ ‫كأن ـ ـ ـ ـ ـ ـك ـ ـي العج ـ ـ ـ ـاج شه ـ ـ ـاب ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـور‬
‫(‪)6‬‬
‫ولي ـ ـ ـ ـ ـس س ـ ـوى احلمام(‪ )5‬ل ـ ـ ـه محي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـــ ُم‬ ‫أراد بق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاء مهجت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ول ـ ــَ ـ ـ ـ ـى‬
‫وأن ـ ـ ـ ـت هبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا وابلدنيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا كريـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم‬ ‫يؤم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ أن جت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـود هبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا عليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬
‫(‪)7‬‬
‫وأن ـ ـ ـ ـت بقطـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـع دابره ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا زعـيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم‬ ‫أَيلتم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـس الفرن ـ ـ ـ ـ ـ ُج لدي ـ ـ ـ ـ ـ ـك عف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـواً‬
‫(‪)8‬‬
‫بي ـ ـ ـ ـوم ـي ـ ـ ـ ـه يَكْتَه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ ال َفطي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُم‬ ‫ص املناي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬
‫صـ ـ ـ ـ ـ ـ َ‬
‫وك ـ ـ ـ ـم َجهلر ْعتَه ـ ـ ـ ـا غُ َ‬
‫املني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة ُجوسلينَـ ُه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُم(‪ )9‬اللئي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم‬ ‫طلبته ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم متن ــَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى‬
‫وملـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــَا أ ْن ُ‬
‫وأن ـ ـ ـ ـ ـ ـت عل ـ ـ ـ ـ ـى معاقل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه مقي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُم‬ ‫أقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـام يطـ ـ ـ ـ ـوف اآل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاق حين ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً‬
‫وع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاد وم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا يعادل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه سقي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم‬ ‫س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـار وم ـ ـ ـا يعادل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ملي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك‬
‫(‪)10‬‬
‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلأول م ـ ـ ـ ـ ـ ـا تفارقه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا اجلس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوم‬ ‫إذا خط ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرت سيو ـ ـ ـ ـ ـ ـك ـ ـ ـ ـ ـي نف ـ ـ ـ ـ ـوس‬
‫الرها‪:‬‬
‫سابعاً‪ :‬فتح ُّ‬

‫(‪ )1‬األدب يف بضمد الشام يف عصور الزنكيني واأليوبيني ص ‪.228‬‬


‫(‪ )2‬األدب يف بضمد الشام يف عصور الزنكيني واأليوبيني ص ‪.230‬‬
‫(‪ )3‬املفاضة‪ :‬مكان واسع تند ع منه الغارة‪.‬‬
‫(‪ )4‬أحرن‪ :‬يف بعض النسخ أحزن أي مبعىن األرض الغليظة املرتفعة‪.‬‬
‫(‪ )5‬احلمام‪ :‬املوت‪.‬‬
‫(‪ )6‬احلميم‪ :‬صديق‪.‬‬
‫(‪ )7‬زعيم‪ :‬كفي ‪.‬‬
‫(‪ )8‬كتاب الروضتني يف أخبار الدولتني (‪.)174/1‬‬
‫(‪ )9‬صاحب الرها‪.‬‬
‫(‪ )10‬كتاب الروضتني (‪.)125 ، 124/1‬‬

‫‪115‬‬
‫الرها الصليبية أوىل اإلمارات اليت أتسست يف الشرق اإلسضممي سنة ‪ 491‬هـ‪ 1097/‬م بزعامة بلدوين‬ ‫كانت إمارة ُّ‬
‫استمر يف حكم هذه اإلمارة حىت سنة ‪ 494‬هـ‪ 1100/‬م حني انتق إىل حكم بيت املقدس عقب و اة‬ ‫األول ‪ ،‬الذي هل‬
‫(جور رى) ملك بيت املقدس(‪.)1‬‬
‫الرها عن بقية اإلمارات الصليبية مبوقعها يف احلوض األوسط لنهر الفرات ‪ ،‬حيث حتملت عبء الد اع عن‬ ‫وقد متيزت ُّ‬
‫بقية اإلمارات الصليبية يف بضمد الشام ‪ ،‬وذلك لقرهبا من اخلضم ة العباسية ‪ ،‬مث لوقو ها يف وجه الرتكمان الذين تعج هبم‬
‫منطقة اجلزيرة عقب التفكك الذي أصاب السضمجقة يف بضمد الشام والعراق ‪ ،‬عقب و اة السلطان ملـكشـاه ‪485‬‬
‫(‪)2‬‬
‫الرهـا على موقعها االسرتاتيجي وكوهنا خط الد اع األول عن بقية اإلمارات الصليبية‬
‫هـ‪ 1092/‬م ‪ ،‬ومل تـقتصر أمهيـة ُّ‬
‫يف بضمد الشام ‪ ،‬ب إهنا شكلت خطراً أساسياً على خطوط املواصضمت اإلسضممية بني الشام واسيا الصغرى والعراق‬
‫ومنطقة اجلزيرة(‪.)3‬‬
‫وممهلا يوضح ذلك‪ :‬أن احلملة اليت قام هبا كربوقا صاحب املوص سنة ‪ 491‬هـ‪ 1098/‬م جند ًة للمسلمني أبنطاكية قد‬
‫(‪)4‬‬
‫الرها مل تقع يف نطاق‬
‫تعطلت بعض الوقت حول الرها يف حماولة النتزاعها من بلدوين األول ‪ ،‬وعلى الرغم من أن ُّ‬
‫األراضي املقدسة يف لسطني ‪ ،‬قد عدهلها الصليبيون من أشرف املدن عندهم بعد بيت املقدس‪ ،‬وأنطاكية‪،‬‬
‫الرها الواقعة على ضفيت هنر‬ ‫الرها على توسيع رقعتهم ‪ ،‬امتدت إمارة ُّ‬
‫والقسطنطينية‪ ،‬هي و رية الثروات ساعدت أمراء ُّ‬
‫الفرات من راوندا وعني اثب غرابً إىل مشارق شرقاً ‪ ،‬ومن هبنسي ‪ ،‬وكيسوم مشاالً إىل منبج جنوابً(‪.)5‬‬
‫ابلقوة ‪ ،‬والشجاعة ‪ ،‬واستطاعت الصمود يف وجه املقاومة اإلسضممية‬ ‫الرها أمهية مبا هتيأ هلا من حكام اتصفوا هل‬ ‫واكتسبت ُّ‬
‫الرها كانت تعاين من نقطيت ضعف واضحتني؛ أحدمها احلدود الطبيعية إذ ال توجد هلا موانع طبيعية‬ ‫‪ ،‬على الرغم من أن ُّ‬
‫حتميها وتكسبها وقاية ومناعة ‪ ،‬واثنيها عدم وجود جتانس بني سكاهنا؛ إذ كانوا خليطاً من املسيحيني الشرقيني «السراين‬
‫‪ ،‬واألرمن ‪ ،‬واليعاقبة» ومن الصليبيني الغربيني ‪َ ،‬ضمً عن املسلمني الذين تركزوا يف مدن بكاملها كسروج ‪ ،‬والبرية اليت‬
‫(‪)6‬‬
‫الرها على اجلانب الصلييب ‪ ،‬ب كانت يف نظر املسلمني من أهم املواقع اليت‬ ‫خَعت للصليبيني ‪ .‬ومل تقتصر أمهية ُّ‬
‫جيب السيطرة عليها ‪ ،‬قد ذكر ابن األثري مكانتها يف بضمد اجلزيرة بسبب موقعها بني املوص ‪ ،‬وحلب ‪ ،‬وهلذا وصفها‬
‫أبهنا من الداير اجلزرية عينها وخصها من البضمد اإلسضممية ‪ ،‬مما جع القوى اإلسضممية سواء يف العراق ‪ ،‬أو الشام ‪ ،‬أو‬
‫اجلزيرة ترغب يف السيطرة عليها(‪.)7‬‬
‫الرها الداخلية‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أوضاع إمارة ُّ‬

‫(‪ )1‬الكام يف التاريخ نقضمً عن اجلهاد ضد الصليبيني يف الشرق اإلسضممي ص ‪.230‬‬


‫(‪ )2‬سضمجقة إيران والعراق ‪ ،‬عبد املنعم حسني ص ‪.84‬‬
‫(‪ )3‬إمارة الرها ‪ ،‬علية اجلنزوري ص ‪ ، 34‬اجلهاد ضد الصليبيني ص ‪.230‬‬
‫(‪ )4‬اجلهاد ضد الصليبيني يف الشرق اإلسضممي ص ‪.230‬‬
‫(‪ )5‬احلركة الصليبية (‪ )424/1‬سعيد عاشور ‪ ،‬اجلهاد ضد الصليبيني ص ‪.230‬‬
‫(‪ )6‬اجلهاد ضد الصليبيني ص ‪.231‬‬
‫(‪ )7‬التاريخ الباهر ص ‪ ، 67 ، 66‬اجلهاد ضد الصليبيني ص ‪.231‬‬

‫‪116‬‬
‫الرها الداخلية مؤاتية لعماد الدين زنكي؛ إذ اتصف أمريها جوسلني الثاين بَعف الشخصية ‪ ،‬وانسياقه‬ ‫كانت ظروف ُّ‬
‫وراء العواطف واألهواء وعدم امتضمكه مقدرة سياسية ‪ ،‬وبعد نظر ‪ ،‬والواقع‪ :‬هل‬
‫أن جوسلني الثاين أتثر يف نشأته ابمليول‬
‫األرمنية بفع أن والدته كانت منهم ‪ ،‬رتعرع ويف نفسه مي إىل األرمن وغريهم من السكان األصليني من الطوائف‬
‫النصرانية الشرقية و َهللهم على النصارى الغربيني‪.‬‬
‫الرها‪ :‬أنه كان‬
‫األمر الذي أاثر الفرسان الصليبيني‪ ،‬وأوجد نوعاً من عدم االستقرار داخ اإلمارة‪ ،‬وعرف عن صاحب ُّ‬
‫من ذلك النوع الذي يؤثر الراحة والعا ية ‪ ،‬حىت إنه يف الوقت الذي هاجم يه عماد الدين زنكي إمارته اختار أن يرتك‬
‫مدينته ليقيم يف ت ابشر على الَفة الغربية للفرات ‪ ،‬وإذا أضفنا إىل ذلك أن املسلمني أحاطوا هبذه اإلمارة من ك‬
‫جانب ‪ ،‬و صلها هنر الفرات عن بقية املمتلكات الصليبية يف بضمد الشام؛ الستطعنا أن نكون كرة عامة عن العوام‬
‫اليت ساعدت على سقوطها‪.‬‬
‫شكلت خطراً كبرياً على املواصضمت اإلسضممية بني حلب ‪ ،‬واملوص ‪ ،‬وبغداد ‪ ،‬وسضمجقة‬ ‫ومن اجلدير ذكره‪ :‬أن هذه هل‬
‫الروم يف اسيا الصغرى ‪ ،‬كما كانت عائقاً حال دون قيام الوحدة اإلسضممية يف بضمد الشام واجلزيرة بسبب تدخلها‬
‫املستمر لصاحل خصوم عماد الدين زنكي من األمراء املسلمني يف املنطقة(‪ ، )1‬كان تحها ضرورةً سياسية ‪ ،‬وعسكرية‬
‫‪ ،‬واقتصادية ‪ ،‬ودينية(‪.)2‬‬
‫‪ 2‬ـ عمليات الفتح‪:‬‬
‫استغ هل عماد الدين زنكي الظروف السابق ذكرها ‪ ،‬وسعى إىل تدبري خدعة تتيح له حتقيق هد ه من أقصر طريق‪ .‬وكان‬
‫الرها ما دام جوسلني وقواته موجودين هبا ‪ ،‬وهكذا انصب اهتمامه على إجياد‬ ‫يعلم‪ :‬أنه لن يستطيع أن ينال غرضه من ُّ‬
‫وسيلة تد ع غرميه إىل مغادرة مقر إمارته ‪ ،‬اجته إىل امد ‪ ،‬وأظهر أنه يعتزم حصارها ‪ ،‬وأهنا هد ه دون غريها ‪ ،‬وبث‬
‫عيونه ـ يف الوقت نفسه ـ ليطلعوه أوالً أبول على حتركات أمريها الذي ما إن رأى اهنماك زنكي حبروبه يف داير بكر ‪،‬‬
‫وعدم تفرغه للهجوم على املواقع الصليبية؛ حىت غادر مقر إمارته على رأس قواته(‪ ،)3‬بعد أن اختذ إجراء احتياطياً أبن‬
‫عقد هدنة مع قرا أرسضمن صاحب حصن كيفا ‪ ،‬الذي كان قد التجأ إليه بعد هتديد زنكي إلمارته(‪ ، )4‬ومن مث اجته إىل‬
‫الرها‬
‫ت ابشر الواقعة على الَفة الغربية للفرات ‪ ،‬كي يتخلص هناك من ك مسؤولية ‪ ،‬ويتفرغ مللذاته اتركاً محاية ُّ‬
‫ألهاليها من األرمن ‪ ،‬والسراين ‪ ،‬والنساطرة ‪ ،‬واليعاقبة ‪ ،‬وكان معظمهم من التجار الذين ال خربة هلم بشؤون احلرب‬
‫والقتال ‪ ،‬بينما توىل اجلند املرتزقة مهمة الد اع عن القلعة(‪.)5‬‬
‫الرها مستعيناً على السرعة‬ ‫وجاءت عيون عماد زنكي لتطلعه على النبأ الذي كان يتحرق إليه ‪ ،‬أسرع ابلتوجه إىل ُّ‬
‫بركوب جنائب اإلب مستنفراً ك هل قادر على مح السضمح من مسلمي املنطقة للجهاد يف سبي إعضمء كلمة هللا ‪ ،‬وما‬
‫الرها من جهاهتا األربع‪ .‬وحاول يف البدء أن يتوص ابلطرق السلمية‬ ‫لبث أن اهنالت عليه مجوع املتطوعني ‪ ،‬طوق هبم ُّ‬

‫(‪ )1‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.149‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص ‪.149‬‬
‫(‪ )3‬الباهر ص ‪ 67‬عماد الدين زنكي ص ‪.151‬‬
‫(‪ )4‬عماد الدين زنكي ص ‪.151‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه ص ‪.152‬‬

‫‪117‬‬
‫علهلها حتقق هد ه دون اضطرار إىل ر ع السيف ‪ ،‬راس أهايل ُّ‬
‫الرها ابذالً هلم األمان ‪ ،‬طالباً منهم أن يفتحوا له األبواب‬
‫قب أن جيد نفسه مَطراً إىل تدمري أسوار بلدهم وإخضمء دايرهم ‪ ،‬إال أهنم أبوا قبول األمان(‪.)1‬‬
‫وحينئذ اشتد زنكي يف التَييق على احلصن مستخدماً االت احلصار الَخمة اليت جلبها معه لتدمري أسواره ‪ ،‬دون أن‬ ‫ٍ‬
‫لتجمع الصليبيني ‪ ،‬والتقدم إلنقاذ هذا املوقع اخلطري ‪ ،‬وأرس جوسلني لدى مساعه نبأ اهلجوم يف طلب‬ ‫تتاح الفرصة ُّ‬
‫جندة مستعجلة من كا ة اإلمارات الصليبية يف الشام ‪ ،‬لم يستجب له سوى (ميلزاند) الوصية على بيت املقدس ‪ ،‬اليت‬
‫وصلت جندهتا بعد وات األوان(‪ ، )2‬كما أنه قام مبحاولة للدخول إىل املدينة ‪ ،‬أو إرسال جندة لتعزيز د اعها ‪ ،‬حي‬
‫بينه وبني ذلك‪ .‬ويف السادس والعشرين من مجادى االخرة ‪ 539‬هـ وبعد مرور مثان وعشرين يوماً على بدء احلصار‬
‫اهنارت بعض أجزاء احلصن ‪ ،‬إثر الَرب املركز الشديد الذي تعرضت له ‪ ،‬اجتاحت قوات املسلمني املدينة(‪ ، )3‬مث ما‬
‫الرها لزنكي(‪.)4‬‬
‫لبثت القلعة أن استسلمت بعد يومني ‪ ،‬وقام القس اليعقويب برصوما إبجراءات تسليم ُّ‬
‫الرها‪ :‬أن ذلك البلد ال جيوز يف السياسة‬ ‫الرها‪ :‬رأى عماد الدين زنكي بعد أن تح ُّ‬ ‫‪ 3‬ـ سياسة عماد الدين زنكي يف ُّ‬
‫ختريب مثله(‪ ، )5‬وأصدر أوامره إىل جنده إبيقاف أعمال القت واألسر والسلب ‪ ،‬وإعادة ما استولوا عليه من سيب وغنائم‬
‫الرها ‪،‬‬
‫‪ ،‬أُعيدوا ومل يفقد إال الشاذ النادر ‪ ،‬وأعقب ذلك إبصدار أمر اخر ابإلسراع يف تنظيم ما اضطرب من أمور ُّ‬
‫وتعمري ما هتدم خضمل أسابيع طويلة من القتال ‪ ،‬ورتب من راه أهضمً لتدبري أمرها وحفظها واالجتهاد يف مصاحلها ‪،‬‬
‫ووعد أهلها إبمجال السرية وبسط العدالة(‪ )6‬مستهد اً من وراء ذلك استمالة سكاهنا األصليني من املسيحيني الشرقيني‬
‫ضد الصليبيني الكاثوليك ‪ ،‬األمر الذي يؤكده قيامه بتدمري عدد من الكنائس الكاثوليكية ‪ ،‬واحتفاظه بكنائس‬
‫الشرقيني(‪.)7‬‬
‫الرها‪ :‬هناك العديد من العوام اليت ساعدت عماد الدين على‬ ‫‪ 4‬ـ العوام اليت ساعدت عماد الدين على استعادة ُّ‬
‫الرها ‪ ،‬منها‪:‬‬
‫حترير ُّ‬
‫ـ تنامي حركة اجلهاد اإلسضممية حىت عصره ‪ ،‬وحصاد جتربة املسلمني يف ذلك اجملال ‪ ،‬ضم ريب يف أن التجارب السابقة‬
‫الرها مرشحة أكثر من غريها لكي تكون أوىل اإلمارات الصليبية املعرضة للسقوط يف أيدي قادة اجلهاد‬‫أثبتت أن إمارة ُّ‬
‫اإلسضممي حينذاك ‪ ،‬وقد أجهدها أمر اإلغارات املستمرة من جانب أاتبكة املوص على حنو خاص طوال ما يزيد على‬
‫موت ٍ‬
‫بطيء هلا إىل أن مت اإلجهاز عليها يف العام املذكور‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫أربعة عقود من الزمان على حنو مث‬
‫ـ ويَاف إىل ذلك براعة عماد الدين زنكي العسكرية الذي اجأ تلك اإلمارة الصليبية ابهلجوم ‪ ،‬بعد أن اطمأن‬
‫الصليبيون إليه ‪ ،‬وتصوروا‪ :‬أنه لن يهاجم ‪ ،‬استغ رصة غياب أمريها جوسلني الثاين عنها ‪ ،‬ووجه هلا ضربته القاضية‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص ‪.152‬‬


‫(‪ )2‬احلركة الصليبية (‪ )606 ، 605/2‬عاشور ‪ ،‬عماد الدين زنكي ص ‪.152‬‬
‫(‪ )3‬ذي اتريخ دمشق ص ‪ 279‬ـ ‪ 280‬عماد الدين زنكي ص ‪.152‬‬
‫(‪ )4‬عماد الدين زنكي ص ‪.153‬‬
‫(‪ )5‬الكام يف التاريخ نقضمً عن اتريخ الزنكيني يف املوص ‪.153‬‬
‫(‪ )6‬ذي اتريخ دمشق ص ‪ 280‬عماد الدين زنكي ص ‪.153‬‬
‫(‪ )7‬عماد الدين زنكي ص ‪.153‬‬

‫‪118‬‬
‫اليت انتهت إبسقاطها ‪ ،‬وهكذا أثبت ذلك القائد املسلم الكبري‪ :‬أنه اختار التوقيت املضمئم لذلك العم العسكري‬
‫العظيم‪.‬‬
‫الرها ‪ ،‬وأنطاكية أثهلر بدوره على إمارة ُّ‬
‫الرها ‪ ،‬وأدى إىل إجهادها واستهضمكها‬ ‫ـ زد على ذلك‪ :‬أن اخلضمف الواقع بني إماريت ُّ‬
‫سياسياً وعسكرايً(‪ ، )1‬على حنو أثبت أن اخلضم ات اليت كانت حتدث بني القيادات الصليبية أثرت بدورها على كياانهتم‬
‫الرها تد ع الثمن أبن سقطت يف قبَة من استحقها من قادة اجلهاد اإلسضممي‬ ‫السياسية ‪ ،‬وها هي ـ حلسن احلظ ـ إمارة ُّ‬
‫يف ذلك احلني‪.‬‬
‫الرها جوسلني الثاين الذي مل يكن على نفسه القدر من الكفاءة السياسية‬ ‫وال نغف ـ من انحية أخرى ـ شخصية أمري ُّ‬
‫والعسكرية اليت اتصف هبا والده جوسلني األول ‪ ،‬وكان أمي إىل حياة اخلضمعة ‪ ،‬واجملون ‪ ،‬والسعي احلثيث إىل امللذات‬
‫الرها ذاهتا واجته إىل ت ابشر من أج أن جيد هناك ما يبحث عنه من صور الفساد ‪،‬‬ ‫‪ ،‬ب إنه كثرياً ما غادر مدينة ُّ‬
‫الرها وقت أن غاب عنها جوسلني‬ ‫ولذلك أدرك يه املسلمون تلك الزاوية ‪ ،‬أحسن قائدهم اإل ادة منها ‪ ،‬وهاجم ُّ‬
‫الثاين ‪ ،‬أصاهبا يف مقت (‪.)2‬‬
‫أن اجلي الصلييب الذي ح بعد اجلي األول ـ الذي أسس الكيان الصلييب وحا ظ عليه ـ مل يكن قادراً على‬ ‫ويبدو‪ :‬هل‬
‫احلفاظ على ما شيده السابقون ‪ ،‬ب مل يكن يدرك أمهية دوره التارخيي يف ذلك املوقع الشديد احلساسية الذي أحاط به‬
‫املسلمون من ك جانب ‪ ،‬وهكذا شارك جوسلني الثاين ـ دون أن يدري ـ يف إجناح حركة اجلهاد اإلسضممية حينذاك‬
‫بقيادة قائدها الكبري عماد الدين زنكي(‪.)3‬‬
‫الرها ‪ ،‬وجع‬‫وعلى أية حال‪ :‬من املمكن أن من املؤرخني الغربيني من حاول إظهار عوام الَعف الداخلي يف إمارة ُّ‬
‫تلك العوام وحدها هي اليت أدت إىل إسقاطها ‪ ،‬وهدف من وراء ذلك إضعاف عاليات املسلمني السياسية واحلربية‪،‬‬
‫غري أن املنطق التارخيي يدعوان إىل تصور العوام الداخلية ‪ ،‬واخلارجية تعاونت معاً من أج صنع انتصار عام‬
‫الرها؛ إهنا ما كانت لتسقط دون‬ ‫‪539‬هـ‪1144/‬م ومهما كان شأن عوام «النحر واالنتحار» الداخلية ونتائجها يف ُّ‬
‫الفعاليات العسكرية لقائد موهوب مث عماد الدين زنكي ‪ ،‬وجنوده من خلفه(‪.)4‬‬
‫الرها وماذا جرى يف صقلية‪ :‬ورؤاي لعماد الدين بعد موته‪:‬‬
‫‪ 5‬ـ موقف الفقيه موسى األرمين يف تح ُّ‬
‫الرها‪ :‬كان للفقيه املؤذن موسى األرمين املدرس إبحدى مدارس املوص موقف‬ ‫أ ـ موقف الفقيه موسى األرمين يف تح ُّ‬
‫الرها عام‬‫الرها ‪ ،‬حيث استخدم أسلوب احلرب النفسية يف محلة عماد الدين زنكي على ُّ‬ ‫مشكور يف تح ُّ‬
‫للرها ‪ ،‬قد‬ ‫‪539‬هـ‪1144/‬م قد نزل الفقيه حماصراً ومقاتضمً ‪ ،‬خطرت بذهنه خطة ذكية أثناء حصار عماد الدين ُّ‬
‫ويشكون يف أمره(‪ .)5‬قال‪:‬‬‫نزل السوق ‪ ،‬واشرتى مضمبس األرمن ‪ ،‬لكي يدخ هبا إىل املدينة حىت ال يعر ه الصليبيون ‪ُّ ،‬‬

‫(‪ )1‬احلروب الصليبية العضمقات بني الشرق والغرب ص ‪.162‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص ‪.162‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.163‬‬
‫(‪ )4‬احلروب الصليبية العضمقات بني الشرق والغرب ص ‪.163‬‬
‫(‪ )5‬موقف قهاء الشام وقَاهتا من الغزو الصلييب ص ‪.22‬‬

‫‪119‬‬
‫« نزلت السوق ‪ ،‬واشرتيت لباساً من لباس األرمن ‪ ،‬وتزينت يف زيهم(‪ ، )1‬ووصلت إىل البلد ‪ ،‬ألنظره وأكشف حاله ‪،‬‬
‫جئت إىل اجلامع ‪ ،‬دخلت ورأيت املنارة قلت يف نفسي‪ :‬أصعد إىل املنارة أ َُؤذن حىت جيري ما جرى ‪ ،‬صعدت ‪،‬‬
‫وانديت هللا أكرب ‪ ،‬هللا أكرب ‪ ،‬وأذنت ‪ ،‬والكفار على األسوار ‪ ،‬وقع الصياح يف البلد أبن املسلمني قد هجموا على‬
‫البلد من اجلهة األخرى ‪ ،‬رتك الكفار القتال ‪ ،‬ونزلوا عن السور ‪ ،‬صعد املسلمون وهامجوا املدينة»(‪.)2‬‬
‫الرها ‪ ،‬وكان هبا بعض الصاحلني من املغاربة‬‫ب ـ ملك جزيرة صقلية‪ :‬كان ملك جزيرة صقلية من الفرنج ملا تحت ُّ‬
‫املسلمني ‪ ،‬وكان امللك ُحيَره ‪ ،‬ويكرمه ويرجع إىل قوله ‪ ،‬ويقدمه على من عنده من الرهبان ‪ ،‬والقسيسني ‪ ،‬لما كان‬
‫الرها سري هذا ملك اإل رنج جيشاً يف البحر إىل إ ريقية ‪ ،‬نهبوا ‪ ،‬وأغاروا ‪ ،‬وأسروا ‪ ،‬وجاءت‬ ‫الوقت الذي تحت يه ُّ‬
‫األخبار إىل امللك وهو جالس وعنده هذا العامل املغريب ‪ ،‬وقد نعس؛ وهو شبيه النائم ‪ ،‬أيقظه امللك ‪ ،‬وقال‪ :‬اي قيه‪،‬‬
‫الرها ـ أي‪ :‬أتباع‬
‫قد ع أصحابنا ابملسلمني كيت وكيت ‪ ،‬أين كان حممد عن نصرهم؟ قال له‪ :‬كان قد حَر تح ُّ‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ـ تَاحك من عنده من الفرنج ‪ ،‬قال هلم امللك‪ :‬ال تَحكوا ‪ ،‬و هللا ما قال عن‬
‫اشتد هذا على امللك ‪ ،‬لم ميض غري قلي حىت أاتهم اخلرب بفتحها على املسلمني ‪ ،‬أنساهم شدهلة هذا‬ ‫غري علم ‪ ،‬و هل‬
‫الرها عند النهلصرانية(‪.)3‬‬
‫الوهن رخاءَ ذلك اخلرب ‪ ،‬لعلو منزلة ُّ‬
‫أن رجضمً من الصاحلني قال‪ :‬رأيت الشهيد بعد قتله يف املنام يف أحسن حال ‪،‬‬ ‫ج ـ رؤاي للشهيد بعد قتله‪ :‬وحيكى‪ :‬هل‬
‫الرها(‪.)4‬‬
‫قلت له‪ :‬ما ع هللا بك؟ قال‪ :‬غفر يل‪ .‬قلت‪ :‬مباذا؟ قال‪ :‬بفتح ُّ‬
‫الرها من األرمن أن دبروا ـ يف العام التايل ـ مؤامرة استهد ت الفتك‬
‫الرها‪ :‬ما لبث سكان ُّ‬‫د ـ مؤامرة اشلة من سكان ُّ‬
‫ابملسلمني ‪ ،‬وإعادة املدي نة إىل السيطرة الصليبية بعد القيام ابستدعاء جوسلني ‪ ،‬إال أن زنكي سرعان ما متكن من‬
‫كشف هذه احملاولة اخلطرية ‪ ،‬والقبض على ُمدبريها ‪ ،‬وإعدامهم ‪ ،‬مث أعقب ذلك بنفي عدد من األرمن كيضم يتاح هلم‬
‫مرة أخرى أن يسعوا إىل طعن املسلمني من اخللف ‪ ،‬وتسليم أهم مواقعهم لقمة سائغة للغزاة الصليبيني(‪.)5‬‬
‫الرها أهم إجنازاته اليت قام هبا ضد الصليبيني طوال مدة حكمه ‪،‬‬‫الرها‪ :‬حقق عماد الدين زنكي بفتح ُّ‬ ‫‪ 6‬ـ نتائج تح ُّ‬
‫وكانت هلذا النصر نتائج هامة يف العاملني اإلسضممي والنصراين ‪ ،‬ومن أهم تلك النتائج على اإلمجال‪:‬‬
‫أن حركة اجلهاد اإلسضممية وصلت سن الرشد ‪ ،‬وجتاوزت املراهقة السياسية والعسكرية دون أن‬ ‫أ ـ أتكد للمسلمني‪ :‬هل‬
‫يكون ذلك إجحا اً إبجنازات القادة السابقني على زنكي ‪ ،‬وال سيما مودود ‪ ،‬وإذا كانت أوىل اإلمارات الصليبية هتاوت‬
‫الرها ‪ ،‬وغداً إسقاط ابقي الكيان الغازي الدخي ‪ ،‬وهذا ما حدث عضمً ‪،‬‬ ‫حتت أيديهم ‪ ،‬إهنا البداية ‪ ،‬واليوم إسقاط ُّ‬
‫ومن اآلن صاعداً لن تعود عقارب الساعة إىل الوراء ‪ ،‬ب التقدم إىل األمام بك ثقة ‪ ،‬وإابء ‪ ،‬وإجناز‪.‬‬
‫ب ـ أتكد منطق التاريخ من أن مث تلك الكياانت الصليبية الغري شرعية لن تستمر على األرض املسلمة؛ ألن أبناء‬
‫املنط قة أصحاب اهلوية الدينية املوحدة لن يقبلوا بذلك الوضع السياسي ‪ ،‬والعسكري الدخي ‪ ،‬وابلتايل عاد التجانس‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه نقضمً عن بغية الطلب يف اتريخ حلب‪.‬‬


‫(‪ )2‬بغية الطلب يف اتريخ حلب (‪ )3851/9‬موقف قهاء الشام وقَاهتا من الغزو الصلييب ص ‪.122‬‬
‫(‪ )3‬كتاب الروضتني يف أخبار الدولتني (‪.)141/1‬‬
‫(‪ )4‬املصدر نفسه (‪.)141/1‬‬
‫(‪ )5‬عماد الدين زنكي ص ‪.157‬‬

‫‪120‬‬
‫الرها متث دور الفص ‪ ،‬والكيان الصلييب احلاجز املانع من االتصال بني ك ٍ من سضمجقة‬ ‫ملنطقة مشال العراق‪ ،‬ومل تعد ُّ‬
‫اسيا الصغرى ‪ ،‬وسضمجقة العراق ‪ ،‬وكذلك بضمد ارس(‪.)1‬‬
‫ج ـ زاد الَغط على النطاق الصلييب الذي اختذ شكضمً طولياً من أنطاكية يف الشمال إىل أيضمت (الرشراش) جنوابً ‪،‬‬
‫ومن هنر األردن شرقاً إىل الساح الشامي ابستثناء عسقضمن؛ إذ إن صور سقطت ابلفع عام ‪1124‬م‪518/‬هـ‪ /‬مبا‬
‫اشتملته من إمارة طرابلس ‪ ،‬ومملكة بيت املقدس الصليبية ‪ ،‬املؤكد‪ :‬هل‬
‫أن رأس احلربة الصليبية يف ا ُّلرها سقطت إىل غري‬
‫رجعة ‪ ،‬واآلن أصبح ذراعها قائماً يف ابقي الكيان الصلييب ‪ ،‬ولذلك ازداد الَغط العسكري عليه من قب القوى‬
‫اإلسضممية اليت سيطرت على الظهري الشامي املوازي للساح والسه الساحلي ‪ ،‬كأن املعركة صارت ـ على املستوى‬
‫اجلغرايف ـ معركة بني الساح ‪ ،‬والظهري ‪ ،‬واعتمد األول على الدعم اخلارجي األوريب يف األساس ‪ ،‬واعتمد الثاين على‬
‫إمكاانته احمللية الوا رة اليت تزايد شأهنا مع ظهور قادة الوحدة بني املسلمني‪.‬‬
‫الرها مبث هذه الصورة إىل حترك احللف الد اعي االسرتاتيجي القائم بني الكيان الصلييب يف الشرق ‪،‬‬ ‫د ـ أدى إسقاط ُّ‬
‫والرحم األم يف الغرب األورويب ‪ ،‬لم يكن ذلك الغرب ليسمح المتداده السياسي والتارخيي يف الشرق أن ينهار قطعةً‬
‫قطعة ‪ ،‬ب ال بد من التدخ من أج إعادة األمور إىل نصاهبا ‪ ،‬وإجهاز عاليات إمارة املوص ‪ ،‬ومن مث كان قيام‬
‫حرب صليبية ‪ 1147‬ـ ‪542/1149‬هـ ‪ 544‬هـ اليت اشتهرت ابلصليبية الثانية ‪ ،‬وهي من النتائج املباشرة إلسقاط‬
‫قوى حملية حمدودة‬
‫قوى عاملية ‪ ،‬ومل تكن جمرد ً‬
‫الرها ‪ ،‬وهو أمر يوضح لنا جبضمء كيف أن قادة اجلهاد اإلسضممية حاربوا ً‬ ‫ُّ‬
‫عاملي على حنو جيع هلم مكانة ابرزة يف اتريخ املسلمني‬‫قاري ‪ ،‬أو ٍ‬‫التأثري والفعالية ‪ ،‬وأهنم ابلفع كانوا جزءاً من صراع ٍ‬
‫ـ عامة ـ يف عهد احلروب الصليبية‪.‬‬
‫هـ ـ ومن النتائج العديدة اليت نتجت عن ذلك اإلجناز ارتفاع شأن عماد الدين زنكي إىل حد بعيد ‪ ،‬بعد أن كان جمرد‬
‫حاكم حملي حمدود النطاق والفعالية ‪ ،‬تردد امسه سريعاً يف احلوليات الضمتينية ‪ ،‬والسراينية ليعكس‪ :‬أنه أحدث أتثرياً كبرياً‬
‫يف جمرى أحداث الشرق الضمتيين ‪ ،‬وبصورة غري مسبوقة ‪ ،‬أما ابلنسبة للمسلمني ‪ ،‬قد احت مكانة ابرزة(‪ ،)2‬قد هل‬
‫عزز‬
‫الرها مركز عماد الدين جتاه السلطان السلجوقي مسعود واخلليفة العباسي املقتفي ألمر هللا الذي أنعم عليه بعدد‬ ‫تح ُّ‬
‫كبري من األلقاب اليت حازها عن جدارة ‪( ،‬كاألمري املظفر ‪ ،‬ركن اإلسضمم ‪ ،‬عمدة السضمطني ‪ ،‬زعيم جيوش املسلمني‬
‫‪ ،‬ملك األمراء ‪ ،‬أمري العراقني والشام)(‪.)3‬‬
‫وجع هذا النصر عماد الدين زنكي املدا ع األول عن الدين ‪ ،‬واجملاهد يف سبي إعضمء كلمة هللا ‪ ،‬ودارت يف احملا‬
‫اإلسضممية أحاديث متحورت حول شخصه ‪ ،‬تصور لنا مدى التقدير ‪ ،‬واإلعجاب اللذين انهلما إثر حتقيقه هذا النصر‬
‫الكبري ‪ ،‬ومهد هذا الفتح الطريق أمام عماد الدين زنكي الستكمال تح احلصون اجملاورة ‪ ،‬و رض سيطرته التامة على‬

‫(‪ )1‬احلروب الصليبية العضمقات بني الشرق والغرب ص ‪.165 ، 164‬‬


‫(‪ )2‬احلروب الصليبية العضمقات بني الشرق والغرب ص ‪.165‬‬
‫(‪ )3‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.156‬‬

‫‪121‬‬
‫الرها دوراًكبرياً يف إنقاذ إمارة عماد الدين زنكي من خطر استمرار الغارات الصليبية‬
‫أمضمك أعدائه يف املنطقة ‪ ،‬و هلأدى تح ُّ‬
‫عليها ‪ ،‬أصبح أهلها بعد اخلوف امنني(‪ )1‬وهذا إن شاء هللا من عاج بشرى املؤمن‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ رأي املستشرق جون المونت يف عماد الدين‪ :‬يُ َـع ُّد املستشرق جون المونت من أبرز املؤرخني األمريكيني خضمل‬
‫النصف األول من القرن املاضي ‪ ،‬وتعددت مؤلفاته يف جمال الصليبيات ‪ ،‬وال سيما دراسته الوا ية عن امللكية اإلقطاعية‬
‫يف مملكة املقدس ‪ ،‬غري أن له دراسة أخرى عنواهنا (احلرب الصليبية واجلهاد) ضمن كتاب الرتاث اإلسضممي الذي نشره‬
‫نبيه ارس ‪ ،‬ويف هذه الدراسة اجته المونت إىل تفنيده كرة اجلهاد عند املسلمني حينذاك ‪ ،‬وتصور حترك قادة اجلهاد‬
‫اإلسضممي على أنه من خضمل الدوا ع السياسية ‪ ،‬واالقتصادية قط ‪ ،‬وذكر أبن عماد الدين زنكي ال يعترب أبي حال‬
‫الرها ُمنذ وقت طوي كما يقول كمال الدين‬ ‫من األحوال بط اجلهاد ‪ ،‬إن عماد الدين وإن كان يطمع يف اسرتجاع ُّ‬
‫حران مجال الدين أبو املعايل َ هللا‬ ‫بن العدمي ‪ ،‬مل يقم هبذا العم بوضوح إال متأخراً ‪ ،‬وبعد أن حثه على ذلك أمري هل‬
‫ويستمر يف تصوره قائضمً‪« :‬الظاهر‪ :‬أنه هو نفسه كان يعترب احتضمل‬
‫ُّ‬ ‫بن ماهان الذي بني له سهولة احتضمل املدينة(‪،)2‬‬
‫الرها خروجاً عن سياسته ‪ ،‬وعمضمً قام به بناءً على حتريض االخرين»(‪ )3‬وذكر أيَاً‪« :‬أن استيضمء زنكي على محاة ‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫ضد األرتقيني أعظم أمهية عنده من حرب النصارى ‪ ،‬وما كان ليكره التحالف مع الضمتني‬ ‫ومحص ‪ ،‬وحلب ‪ ،‬وحروبه هل‬
‫إذا رأى ذلك من مصلحته»(‪ .)4‬ومن املمكن تفنيد تلك اآلراء على النحو التايل‪:‬‬
‫الرها متأخراً ‪ ،‬وذلك أمر ال يقل البتة من دوره اجلهادي ‪ ،‬خاصة‪ :‬أنهلـه كان يرى‬
‫* كان اجتاه عماد الدين زنكي ملهامجة ُّ‬
‫أن يستهلك طاقات تلك اإلمارة الصليبية يف صراعاته وحروبه معها ضد حصوهنا ومعاقلها ‪ ،‬مث يتجه بعد ذلك إىل‬
‫مهامجة اإلمارة نفسها بعد أن يتمكن من سربغور د اعاهتا ‪ ،‬ومعر ة نقاط الَعف يها ‪ ،‬وكذلك نقاط القوة ‪ ،‬ومن‬
‫الرها مل تكن لتغري من املوقف شيئاً لو مل يكن‬
‫أن نصيحة أمري حران لزنكي إبسقاط ُّ‬ ‫انحية أخرى من الطبيعي تصور‪ :‬هل‬
‫زنكي قد خطط مسبقاً لذلك ‪ ،‬ب أغلب الظن أن سقوط تلك اإلمارة من الصعب تصور حدوثه على النحو الذي‬
‫يصوره المونت ‪ ،‬ب إهنا يف األغلب كانت من خمططات الزنكيني ُمنذ أمد بعيد‪.‬‬
‫أما تعلي عدم تبكري زنكي ابالستيضمء عليها ‪ ،‬ذلك مرجعه إىل عدم رغبته يف إجهاض قوته احلربية يف صدام مبكر‬
‫الرها ـ‬
‫مع الصليبيني غري مَمون النتائج خضمل مرحلة حكمه املبكرة ‪ ،‬ولذا من املمكن اعتبار توقيت االستيضمء على ُّ‬
‫على حنو ما صلته املصادر الضمتينية ‪ ،‬والسراينية ‪ ،‬والعربية ـ يعترب حبق من أبرز دالئ حنكة زنكي السياسية‪.‬‬
‫يبدو‪ :‬أن ادعاء «المونت» أبن إسقاط ا ُّلرها كان بعيداً عن سياسية عماد الدين زنكي هو أكرب االدعاءات اليت ال جتد‬
‫سنداً اترخيياً يدعمها ‪ ،‬من املعروف‪ :‬أن زنكي كان مشرتكاً يف جيش مودود ‪ ،‬وبنص عبارة ابن األثري‪« :‬شهد معه‬
‫(‪)5‬‬
‫الرها ‪ ،‬ب إن ذلك احللم ترسب يف ذهنه ُمنذ زمن بعيد ‪ ،‬واملتصور‪:‬‬ ‫حروبه» ‪ ،‬وال ريب يف أنه أدرك أمهية إسقاط ُّ‬
‫أنه أراد النجاح يما أخفق يه مودود من قب ‪ ،‬وقد اعتقد أن إسقاطها أمر ضروري على اعتبار أهنا اهلدف الصلييب‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص ‪.156‬‬


‫(‪ )2‬احلروب الصليبية ‪ ،‬العضمقات بني الشرق والغرب ص ‪.166‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.166‬‬
‫(‪ )4‬املصدر نفسه ص ‪.166‬‬
‫(‪ )5‬الباهر ص ‪ 17‬احلروب الصليبية العضمقات بني الشرق والغرب ص ‪.167‬‬

‫‪122‬‬
‫األقرب إىل املوص ‪ ،‬كما أن حتقيق مث ذلك اهلدف من شأنه تيسري اتصاله بشمال الشام ‪ ،‬وخاصة من خضمل رؤيته‬
‫التوحيدية الثاقبة(‪.)1‬‬
‫* إن ا رتاض «جون المونت» أبن زنكي كان ميكن أن يتحالف مع الضمتني من أج مصلحته السياسية ‪ ،‬ا رتاض‬
‫يدعم حنكة عماد الدين زنكي السياسية ‪ ،‬قد جلأ إىل عقد االتفاقيات مع الصليبيني أحياانً من أج التقاط األنفاس‪،‬‬
‫وعدم الوقوع يف أتون جبهتني جبهة الشرق بصراعه مع قواه السياسية ‪ ،‬وجبهة الصراع مع الصليبيني ‪ ،‬مث إنه أراد أن‬
‫الرها ‪ ،‬ولذا‬
‫يبعث الطمأنينة يف نفوس االخرين من خضمل مث تلك االتفاقات ‪ ،‬يف حني كان يبطن النية لإلجهاز على ُّ‬
‫جاءت عمليات احلصار من جانبه حنوها أمراً مفاجئاً ألهلها(‪.)2‬‬
‫الرها ‪ ،‬ب إنه كان يسعى أيَاً إىل بناء دولته على حساب جريانه‬ ‫* أما القول أبن زنكي مل يكن هد ه الوحيد إسقاط ُّ‬
‫سواء املسلمني ‪ ،‬أو الصليبيني ‪ ،‬ينبغي مضمحظة أن كا ة القيادات اإلسضممية اليت ظهرت خضمل عصر احلروب الصليبية‬
‫على امتداد القرنني الثاين عشر ‪ ،‬والثالث عشر امليضمدين‪/‬السادس ‪ ،‬والسابع اهلجريني سامهت يف قَية اجلهاد ‪ ،‬وكان‬
‫لديها طابع ما من الطموح السياسي ‪ ،‬وكانت تسعى ابلفع إىل توطيد أركان دوهلا على حساب القوى السياسية اجملاورة‬
‫هلا ‪ ،‬غري أن العربة هنا أبن الطموح السياسي ـ كما أشرت من قب ـ يتم تفجريه يف قَية األمة أبسرها وهي اجلهاد ‪،‬‬
‫ألن مث تلك القيادات كان من املمكن أن ترضى ابلعيش يف ذلة وانكسار مع الصليبيني وال تتوسع على حساهبم جتنباً‬
‫إلاثرة املشكضمت السياسية معهم ولسقوط القتلى واجلرحى ‪ ،‬ب وتعرض مناطق نفوذها األصلية العتداءات الغزاة ‪ ،‬غري‬
‫أهنا ر َت ذلك ‪ ،‬وقبلت التحدي الصلييب ‪ ،‬وأظهرت قدرهتا على تغيري اجلغرا ية السياسية للمنطقة من خضمل تبنيها‬
‫ملشاريع اجلهاد(‪.)3‬‬
‫* من املهم أن تعرف‪ :‬أنه ال خيفى على دارسي اتريخ العضمقات اإلسضممية مع القوى املسيحية يف مرحلة احلروب الصليبية‬
‫كيف أن قطهلاعاً من املستشرقني حرص على سلب املسلمني إجنازاهتم ‪ ،‬وشككوا يف املراح الناصعة من اترخيهم ‪ ،‬كما‬
‫أن هناك أثراً مضمزماً لذلك القطهلاع منهم ‪ ،‬وال سيما مع كرة اجلهاد وهو ذروة سنام اإلسضمم‪ ،‬ولذلك حرصوا احلرص‬
‫أمجعه على إنكارها‪ ،‬والتشكيك يها‪ ،‬واإلساءة إىل كا ة التجارب اجلهادية املاضية للمسلمني؛ حىت ال يتبنوها يف احلاضر‬
‫‪ ،‬واملستقب ‪.‬‬
‫وهكذا من املمكن التقرير ـ مبوضوعية ودون اعتساف يف األحكام ـ أن عصر احلروب الصليبية شهد نقلة نوعية يف تطوير‬
‫كرة اجلهاد يف اإلسضمم؛ حيث إن اجلهاد هذه املرة ضد عدو استقر على األرض اإلسضممية ‪ ،‬بعد ضعف املسلمني من‬
‫أن هويتهم الدينية كانت يف خطر أمام مشاريع التنصري اليت علقت‬ ‫جراء صراعاهتم مع بعَهم البعض ‪ ،‬إذا ما أدركنا‪ :‬هل‬
‫عليها البابوية آماالً كبريًة أدركنا كم كانت كرة اجلهاد كرة حمورية يف عصر احلروب الصليبية(‪.)4‬‬

‫(‪ )1‬احلروب الصليبية العضمقات بني الشرق والغرب ص ‪.167‬‬


‫(‪ )2‬املصدر السابق نفسه ص ‪.167‬‬

‫(‪ )3‬احلروب الصليبية العضمقات بني الشرق والغرب ص ‪.168‬‬


‫(‪ )4‬املصدر نفسه ص ‪.168‬‬

‫‪123‬‬
‫إن املراجع الغربية حاولت تشويه صورة هذا اجملاهد الكبري قدمياً وحديثاً ‪ ،‬ومن أشهر الكتب املعاصرة ‪( ،‬كتاب احلرب‬
‫املقدسة ‪ ،‬احلمضمت الصليبية وأثرها على العامل اليوم) قالت صاحبة الكتاب «كارين أرمسرتونغ» عن عماد الدين زنكي‬
‫‪« :‬مل يكن هذا أبي حال قدوة حتتذى ‪ ،‬ب كان سكرياً عربيداً قلما يفيق من سكره ‪ ،‬كما كان قاسياً بطاشاً مث معظم‬
‫رجال احلرب يف عصره»(‪ . )1‬وسرية الرج تكذب ما يقولون‪ ،‬ووصفه مؤرخوان ابلشهيد‪ ،‬وهو وسام عايل الرتبة واملقام‬
‫ال يعطى إال ملن هو أه ٌ هلذا الوصف الكبري ‪ ،‬قد قالوا يف سريته‪ :‬من أحسن سري امللوك وأكثرها‬
‫حزماً لألمور ‪ ،‬وكانت رعيته يف أم ٍن شام يعجز القوي عن التعدي على الَعيف ‪ ،‬وكان معظماً للشريعة ‪ ،‬ومقيماً‬
‫(‪)2‬‬

‫حلدودها يف دولته وقد كلهلف بذلك القَاة‪.‬‬


‫إن من أهداف بعض املستشرقني‪:‬‬ ‫هل‬
‫* تشويه رموز اجلهاد لكي تبقى أجيالنا بدون قدوات تقوي العزائم ‪ ،‬وتنهض ابهلمم‪.‬‬
‫* إضعاف روح الفداء ‪ ،‬والتَحية ‪ ،‬والشهادة‪ ،‬واجلهاد يف األمة؛ حىت يستطيعوا سوقها كالبهائم‪.‬‬
‫* حماولة ص األمة عن اترخيها ابألكاذيب والتشويه حىت ال ترجع إىل اترخيها احلا ‪ ،‬تستخرج منه الدروس والعرب‪.‬‬
‫* كانت كتابتهم تنبثق من روح صليبية حاقدة على األبطال الذين سامهوا يف إ شال املشروع الصلييب ؛ ولذلك حاول‬
‫املستشرقني تشويه صورة عماد الدين زنكي‪.‬‬
‫* إن سرية عماد الدين ومن حوله من أعوانه املخلصني كالقاضي الشهرزوري تقطع بدون شك بكذب أولئك املستشرقني‬
‫الذين حاولوا طمس احلقائق وإلصاق التهم الباطلة بذلك الرج العظيم ‪ ،‬تجربته اجلهادية تستحق الدراسة ‪ ،‬والتحلي‬
‫العميق مع ربط ما وصلنا إليه من دروس وعرب بواقعنا املعاصر ‪ ،‬لكي نستفيد منها يف السعي اجلاد لنهَة األمة‪.‬‬
‫الرها‪ :‬إن كثرياً من الباحثني والكتاب مل يهتموا ابألدب يف احلروب الصليبية ‪،‬‬ ‫‪ 8‬ـ مدح الشعراء لعماد الدين عند تح ُّ‬
‫ب إن الكثري منهم أطلقوا عليه أدب االحنطاط ‪ ،‬آخذين أبقوال واراء املستشرقني الذين رغبوا يف أن نبتعد عن دراسة‬
‫اتريخ ‪ ،‬وأدب هذه احلروب ألسباب كثرية منها‪ :‬رغبتهم يف عدم إطضمعنا على وحشية الصليبيني ‪ ،‬وقسوهتم ‪ ،‬وحىت ال‬
‫نشعر ابلعزة والفخر وحنن نقرأ عن اتريخ األبطال املسلمني عرابً ‪ ،‬وأتراكاً ‪ ،‬وأكراداً ـ يقودون اجليوش وهم حيملون راية‬
‫اإلسضمم ـ مقاتلني وجماهدين ‪ ،‬ومنتصرين ‪ ،‬يرت عون عن القوميات ‪ ،‬والوطنيات اجلاهلية ‪ ،‬وجيمعهم حب هللا ورسوله‬
‫واجلهاد يف سبي هللا وابتغاء مرضاته‪.‬‬
‫إن أدب هذه الفرتة ما زال حباجة إىل دراسات مستفيَة ‪ ،‬مث إىل إعادة تقييم وحينئذ سنجد أن آراءان قد تغريت تغرياً‬
‫إجيابياً؛ ألننا سنجد يه الكثري مما يستحق الدراسة ‪ ،‬وسنجد الكثري من األشعار اللطيفة الرقيقة يف احلماسة ووصف‬
‫(‪)3‬‬
‫الرها‬
‫املعارك ‪ ،‬ومديح األبطال ‪ ،‬وسنجد الشعر احلزين الباكي يف راثئهم وهذه ابقة طيبة من األشعار متعلقة بفتح ُّ‬
‫الرها قال‪:‬‬ ‫ومدح عماد الدين زنكي ‪ ،‬قد وصف ابن األثري جيش عماد الدين يف خروجه لفتح ُّ‬
‫ظنن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت البـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهلر حب ـ ـ ـ ـ ـراً مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن سـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمح‬ ‫جبي ـ ـ ـ ـ ـش ج ـ ـ ـ ـ ـ ـاش ابل ُفرسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـان حتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى‬

‫(‪ )1‬احلرب املقدسة احلمضمت الصليبية وأثرها على العامل اليوم ص ‪.245‬‬
‫(‪ )2‬كتاب الروضتني يف أخبار الدولتني (‪.)157/1‬‬
‫(‪ )3‬شعر اجلهاد الشامي يف مواجهة الصليبيني ص ‪.10‬‬

‫‪124‬‬
‫ختاطبنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا أب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـواه الري ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاح‬ ‫وألسن ـ ـ ـ ـ ـة مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن العذبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـات محُْـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر‬
‫ود مـ ـ ـ ـن صبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاح‬ ‫وغُهلرتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ عم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ‬ ‫جيشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ لي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ هبيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌم‬
‫وأروع َ‬
‫قلي ـ ـ ـ ـ ـ الصف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـح مـ ـ ـ ـ ـا بي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن الصف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاح‬ ‫صف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوح عن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد قدرتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه كريـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌم‬
‫(‪)1‬‬
‫وهيبتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه جناح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً للجنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاح‬ ‫كـ ـ ـ ـ ـ ـان ثب ـ ـ ـ ـاتـ ـ ـ ـ ـ ـه للقلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب قلبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً‬
‫الرها ‪ ،‬قال الشاعر‪:‬‬ ‫أ ـ القيسراين ميدح عماد الدين يف تح ُّ‬
‫وهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ طَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوق األمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمك إال جن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاده‬ ‫هـ ـ ـ ـو السي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـف ال يغني ـ ـ ـ ـ ـ ـك إالج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمَ ُدهُ‬
‫الرها تغريت نظرة الفرنج إىل قوة املسلمني ‪ ،‬وأعادها عماد الدين‬ ‫ولقد كان هذا الفتح رنة رح يف نفوس الناس ‪ ،‬وبفتح ُّ‬
‫زنكي إىل داير اإلسضمم بعد أن حكمها الفرنج نصف قرن ‪ ،‬ومما جاء يف القصيدة‪:‬‬
‫سناه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا وإن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـات العي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـون اتقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـــ ـ ـ ـ ـ ـ ـاده‬ ‫وع ـ ـن ثغـ ـ ـر هـ ـ ـ ـ ـذا الن ـص ـ ـر لتـأخـ ـ ـذ الظُّب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬
‫ولـ ـم يـ ـ ـ ـ ـك يسمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـو ل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوال عمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاده‬ ‫مسـ ـ ـ ـ ـ ـت قبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة اإلسـ ـ ـ ـضمم خ ـ ـ ـ ـ ـ ـراً بطولـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬
‫عـن الل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاال يُستط ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاعُ ذيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاده‬ ‫وذاد قسي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُم الدهلولـ ـ ـ ـ ـ ـة اب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُن قسيمهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬
‫أن مه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاده‬ ‫رواسيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه عـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهلزاً واطم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هل‬ ‫ت‬ ‫ليَـ ْهـ ـ ـن ب ـ ـ ـي اإلميـ ـ ـ ـ ـ ـ ـان أم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌن ترهلـ َع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْ‬
‫اده‬‫سه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُّي إل ـ ـى ي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوم املََعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاد ُم َعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫ث ـ ـ ـي السم ـ ـ ـ ـع حديث ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬ ‫و ت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌح حديـ ـ ـ ـ ـ ٌ‬
‫عليه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا وا ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى ك ـ ـ ـ هل ص ـ ـ ـ ـدر ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـؤ ُادهُ‬ ‫أراح قلوبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً ط ـ ـ ـ ـ ـ ْرن مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ُوُكناهت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬
‫العلُـ ـ ـ ـ ـ ـوج اعتق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاده‬ ‫علـ ـ ـ ـى غي ـ ـ ـ ـر مـ ـ ـ ـا عن ـ ـ ـ ـد ُ‬ ‫لق ـ ـ ـ ـ ـ ـد كـ ـ ـ ـان ـ ـ ـي تـ ـ ـ ـ ـ ـح الـ ـ ـ ـُّرها داللـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة‬
‫ول ـ ـ ـ ـم يـُ ْغـ ـ ـ ـن عنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد الق ـ ـ ـ ـ ـوم عنهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم والده‬ ‫يـَُر ُّجـ ـ ـ ـ ـون ميـ ـ ـ ـ ـضمد اب ـ ـ ـ ـن مري ـ ـ ـ ـم نصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرة‬
‫يف ـ ـ ـ ـ ـ ُّ حديـ ـ ـ ـ ـ ـد اهلن ـ ـ ـ ـ ـ ـد عنه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـداده‬ ‫مدين ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة إ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك ُمن ـ ـ ـ ـ ـ ـذ مخسي ـ ـ ـ ـن ح هلجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة‬
‫طر ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً سـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـواده‬‫ترق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت إليـ ـ ـ ـ ـه خ ـ ـ ـ ـان ْ‬ ‫وت مـ ـ ـدى األبص ـ ـار حتـ ـى لـ ـو أهن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬ ‫تف ـ ـ ـ ُ‬
‫إل ـ ـى أن ثناه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن يعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـُّز قي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاده‬ ‫اده ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬ ‫وك قي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫وجـ ـاحمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةٌ ع ـ ـ ـ ـهلز املل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ‬
‫بصيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـٌر بتمري ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن األلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد لـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َداده‬ ‫أوسعهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا حـ ـ ـ ـ ـ ـهلر القـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراع ُمؤيهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌد‬
‫ش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر ٌار ولك ـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي يديـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه زنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاده‬ ‫كأن سن ـ ـ ـ ـا لَ ْمـ ـ ـ ـ ـ ـع األسنهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة حول ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬ ‫هل‬
‫دادهُ‬
‫ورهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا واهنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا راع إال س ـ ُ‬ ‫أضرمهـ ـ ـ ـا انريـ ـ ـ ـ ـن‪ :‬حرب ـ ـ ـ ـاً وخدع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة‬
‫(‪)2‬‬
‫وهيه ـات كـ ـان السيـ ـ ـف حتمـ ـ ـاً سفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاده‬ ‫ود الب ْك ـ ـر عنـ ـد ا تَاضهـ ـ ـ ـ ـ ـا‬ ‫ص ـ ـ ُد َ‬
‫صـ ـ ـدهلت ُ‬
‫مب ـ ـ ـ ـ ـ ـن ك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـان ق ـ ـ ـ ـ ـ ـد ع ـ ـ ـ ـ ـ هلم البل ـ ـ ـ َاد س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاده‬ ‫ي ـ ـ ـا ظََفـ ـ ـ ـراً َعـ ـ ـ ـ ـ هلم البـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمد صضمحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬
‫إالوح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هل صفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاده‬
‫وال ُموثَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌق ُ‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـضم ُمطْلـَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌق إال وشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد واثق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬
‫وال مصحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـف إال أنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـار مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـداده‬ ‫وده‬‫وال منبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـٌر إال ترنهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـح ُع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫ادهُ‬
‫وإال قـ ـ ـ ـ ـ ـ للنجـ ـ ـ ـ ـ ـم كيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـف ُسه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـإن يثك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ اإلبرنـ ـ ـ ـ ـز يه ـ ـا حيـاتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬
‫كمـ ـ ـا يت ـ ـ هلرتى ع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن حري ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـق جـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراده‬ ‫وابتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت س ـ ـ ـ ـ ـرااي القمـ ـ ـص نقمص دوهنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬

‫(‪ )1‬كتاب الروضتني يف أخبار الدولتني (‪.)139/1‬‬


‫(‪ )2‬يف رواية‪ :‬نفاده‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫لق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد َذ هلل غاويكـ ـ ـ ـ ـ ـم َ‬
‫وعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهلز رشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاده‬ ‫الَـ ـ ـضملة بعده ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬ ‫إلـ ـى أي ـ ـن يـ ـ ـا أسـ ـ ـ ـرى هل‬
‫ادهُ‬
‫يعانـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُد أسب ـ ـ ـ ـ ـ ـاب القَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاء عنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫ُرَويْد ُك ـ ـ ـ ـ ـ ُم ال مان ـ ـ ـ ـ ـع م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ُمظَهلفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر‬
‫رمـ ـ ـى َسـ ـ ـ ـ ـ ـ هلد ذي القرنيـ ـ ـن أصمـ ـ ـ ـ ـ ـى َسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫دادهُ‬ ‫ب سه ـ ـ ـ ـام ال ـ ـ ـرأي لو أن َع ْزم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــَهُ‬ ‫ُمصي ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫ممالكه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا إن الب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمد بـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمده‬ ‫وق ـ ـ ـ ملل ـ ـ ـ ـوك ال ُكف ـ ـ ـ ـ ـ ـر سلـ ـ ـ ـ ـ ـم بعدهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬
‫دادهُ‬
‫يـ ـ ـا طامل ـ ـ ـ ـا غ ـ ـ ـ ـال الظ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمم امتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫الصبـح أيته ـا الدُّجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى‬ ‫كـ ـ ـذا عـن طريـ ـق ُّ‬
‫أيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة أرض مل ترضه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا جي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاده‬ ‫السمـ ـ ـوات جن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـده‬ ‫وم ـ ـن ك ـ ـان أمـ ـضمك هل‬
‫(‪)1‬‬
‫وروضـ ـ ـ ـ ـ ـة قسطنطينـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة مستـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراده‬ ‫ولل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ع ـ ـ ـ ـ ـزم م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاءُ سيحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـان ورده‬
‫الشهرُزْوري أَوُهلا‪ :‬هي جنة املأوى ه من خاطب‪ .‬يقول يها‪:‬‬ ‫وله قصيدة هنهلأ هبا القاضي كمال الدين بن ُ‬
‫عطف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت عليهـ ـ ـا ك ـ ـ ـ ـ ـ أشـ ـ ـ ـ ـ ـوس انكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب‬ ‫الرهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـــ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬‫الصفائ ـ ـ ـ ـح يـ ـوم صا حـ ـ ـت ُّ‬ ‫إن هل‬
‫كالفج ـ ـ ـ ـ ـر ـ ـ ـي ص ـ ـ ـدر النهلهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـار اآلي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـــ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب‬ ‫تـ ـ ـ ـ ـح الفت ـ ـ ـ ـ ـ ـوح مبش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراً بتمام ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـــ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬
‫نُص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرت صحابتهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا أبمي ـ ـ ـن صاح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب‬ ‫لل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه أيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة وقفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍة بدريـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة‬
‫كـ ـ ـ ـم انه ـ ـ ـ ـ ـض ابحل ـ ـ ـ ـ ـرب غي ـ ـ ـ ـ ـ ـر حمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـارب‬ ‫لقاحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬ ‫ظف ـ ـ ـ ـٌر كمـ ـ ـ ـ ـال الديـ ـ ـ ـن كن ـ ـ ـت َ‬
‫بكتائـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب حمفو ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة بكتائ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب‬ ‫ش املضمئ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك نص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـــ ـ ـ ـ ـرةً‬
‫وأمدكـ ـ ـ ـم جيـ ـ ـ ـ ُ‬
‫جنـ ـ ـ ـ ـ ـ ُد النبـ ـ ـ ـ ـ ـوة هـ ـ ـ ـ ـ ـ هلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا مـ ـ ـ ـن غال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب‬ ‫جنب ـ ـ ـ ـوا الدهلب ـ ـ ـور وق ـ ـ ـد تـ ـ ـم ريـ ـح الص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬
‫ظنـ ـ ـ ـ ـ ـت وج ـ ـ ـ ـ ـ ـوب السـ ـ ـ ـ ـور سـ ـ ـ ـ ـورة الع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب‬ ‫أتـ ـرى ال ـُّرها (الورهاء)(‪ )2‬يـ ـ ـ ـوم متنع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت‬
‫ضـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاق الفَ ـ ـ ـ ـاء علـ ـ ـ ـ ـى جن ـ ـ ـ ـاة اهل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـارب‬ ‫ال أيـ ـ ـ ـن ي ـ ـا أس ـ ـ ـ ـرى املهالـ ـ ـــ ك بعده ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬
‫وب علـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى الطـريـ ـ ـ ـق الضمهلحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب‬ ‫ُّر َ‬
‫إن الـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد ُ‬ ‫ش ـ ـ ـ ـدا إل ـ ـ ـ ـى أرض الفرجن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة بعده ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬
‫م ـ ـ ـ ـ ـا ك ـ ـ ـان مـ ـ ـن إط ـ ـ ـراق حل ـ ـ ـ ـظ الطهلالـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب‬ ‫أ غَرك ـ ـ ـ ـ ـ ـم والثـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُأر ره ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُن دمائكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم‬
‫(‪)3‬‬
‫دون الفريس ـ ـ ـة ه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـو عي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُن الواث ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب‬ ‫وإذا رأيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت اللي ـ ـ ـ ـ ـ ـث جيمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـع نفسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬

‫الرها‪:‬‬ ‫ب ـ ابن منري ميدح عماد الدين يف تح ُّ‬


‫ضم استـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلرد الـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـذي أعطاكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ الل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ‬ ‫ظ ج ـ ـ ـ ـ ـ ـ هل معنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاه‬ ‫ات جمـ ـ ـ ـ ـ ـد َك لفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ‬ ‫صفـ ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫ويف أعـ ـ ـ ـ ـ ـايل أعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـادي اللـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه َحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدهلاهُ‬ ‫قائم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ‬
‫يـ ـ ـ ـ ـ ـا صارمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً بيمي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ُ‬
‫ضمك أشبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاه‬ ‫ب ـ ـ ـ ـ ـ ـضم شبيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍه إذ األم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫ت دون ملـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوك األرض منـف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرداً‬ ‫أصبحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ‬
‫وقص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـَر عـ ـ ـن مسعـ ـ ـاك مسع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاه‬ ‫جهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمً هل‬ ‫اك مههلت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــُهُ‬ ‫ت مسعـ ـ ـ ـ ـ ـ َ‬ ‫حاولَـ ـ ـ ـ ْ‬
‫ـ ـ ـ ـداك مـ ـ ـ ـن َ‬
‫ـ ـالل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ خيهلـبَ ُك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم واللـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ أعط ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاهُ‬ ‫قُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ لألعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـادي أَال موت ـ ـ ـوا ب ـ ـ ـ ـ ـه كمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـداً‬
‫تُقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ًى وتسهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُر للمعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـروف عين ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاهُ‬ ‫ك تنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـام عـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن الفحش ـ ـاء مههلت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ‬ ‫َملـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ‬
‫(‪ )1‬كتاب الروضتني يف أخبار الدولتني (‪.)143/1‬‬

‫(‪ )2‬الورهاء‪ :‬اخلرقاء‪.‬‬


‫(‪ )3‬كتاب الروضتني يف أخبار الدولتني (‪.)144/1‬‬

‫‪126‬‬
‫يم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ابتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمه وتُ ْدن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ما توخـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاه‬ ‫ختدم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ‬
‫ك واأليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُام ُ‬ ‫م ـ ـ ـ ـ ـ ـا زال يَ ْس ُم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫قـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدراً وجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاوزت اجل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوزاء نع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمه‬ ‫حت ـ ـ ـى تعالـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت ع ـ ـ ـن الش ْعـ ـ ـ ـ ـرى مشاع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـره‬
‫وأي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن مم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا رووه م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا رأين ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاه‬ ‫وق ـ ـ ـ ـ ـ ـد روى النـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاس أخب ـ ـ ـ ـار الكرام مَـ ـ ـ ـ ـ ـوا‬
‫مقطوب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةٌ بفتي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـق امل ْس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك ريهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاه‬ ‫ج‬‫عل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى املناب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن أنبائ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه أر ٌ‬
‫مبسم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه واهت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـز عطْ َفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاه‬ ‫ا ت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهلر ْ‬ ‫تـ ـ ـ ـ ٌح أعـ ـ ـ ـ ـ ـ َاد عل ـ ـ ـى اإلسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمم َهب َجت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ‬
‫َحديثه ـ ـ ـ ـ ـ ـا نَ َس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـخ املاضـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي وأنس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاهُ‬ ‫يـُ ْهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َدى مبعتصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍم ابللـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه تكت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬
‫َم ـ ـ ـ ـ ـ ْن رامه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـس َم ْغ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـَزاه كمغ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـزاه‬ ‫عموري ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍة وكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـذا‬
‫الره ـ ـ ـ ـا غي ـ ـ ـ ـ ـ ـر ُّ‬ ‫إن ُّ‬
‫م ـ ـ ـن امللـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوك هل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا َوقْمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً(‪ )1‬واتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاه‬ ‫ت الكواكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب ع ـ ـهلزاً م ـ ـا بغـى أَح ـ ـ ـ ــٌَد‬ ‫أخ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫هلج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم مسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراه‬ ‫ت ُـ َويْـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َق الن ْ‬ ‫أي يبي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫رٌ‬ ‫ت هلـ ـ ـ ـ ـا ابلع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـزم يشحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـذه‬ ‫حتـ ـ ـى دلف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ‬
‫أمثار عقب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاه‬ ‫عـ ـ ـ ـ ـ ـن بـَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْدء غـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْر ٍس هل ـ ـ ـ ـم ُ‬ ‫مشمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراً وبنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـو اإلس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمم ـي ُشغُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ‬
‫وعامـ ـ ـ ـ ـ ـر اجلُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـود مل ـ ـ ـا مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلح (‪ )2‬معن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاه‬ ‫الع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْدل إذ قامـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت نَـ َوادبـُ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬ ‫يـا ُحميـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي َ‬
‫للشاك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرين ويستقنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي صفايـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاه‬ ‫يـا نعمـ ـ ـة الل ـ ـ ـ ـ ـه يستَف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي املزي ـ ـ ـ ـ ـد هبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬
‫(‪)3‬‬
‫مـ ـ ـ ـ ـ ـن ل ـ ـ ـم يُتو ْج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك هـ ـ ـ ـ ـذا التهل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاج إاله‬ ‫أبقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاك للدي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن والدُّنيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا حتوطُهم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬
‫والبن منري أيَاً من قصيدة أخرى يقول يها‪:‬‬
‫أن ـ ـ ـ ـ ـاخ علـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى أ هلُمات ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ك ْل َك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ الثهلكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬ ‫أيـ ـ ـا ملكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً ألقـ ـ ـ ـى عل ـ ـ ـ ـى الشـ ـ ـرك كلكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمً‬
‫َسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر والقتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬ ‫جبمعـ ـ ـ ـك بي ـ ـ ـن النـ ْهله ـ ـ ـ ـ ـب واأل ْ‬ ‫الره ـ ـ ـ ـ ـ ـا س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلد اببـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬ ‫ت إلـ ـى تـ ـ ـ ـ ـح ُّ‬ ‫مجعـ ـ ـ ـ ـ َ‬
‫وتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلو َج مسط ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َور ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـروايـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة والنهلـ ْق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬ ‫هـ ـ ـ ـ ـو الفـت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُح أنسـ ـى ك ـ ـ هل تـ ـ ـ ـ ٍح حديثُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ‬
‫ت ج ـ ـ ـ ـ ـزاءَ الص ـ ـ ـ ـدق عـ ـن خامت الرس ـ ـ‬ ‫ُجزي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ‬ ‫ش اخلواتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم بعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـــ ده‬ ‫ََـ ـ ـ ـ ـت بـ ـ ـ ـ ـ ـه نقـ ـ ـ ـ ـ َ‬
‫ك أسب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاب املذلهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة واخلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـذل‬ ‫تُبتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫جت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـردت لإلسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمم دون ملوك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬
‫يشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوب إبق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدام الفتـ ـ ـ ـى ُحْن َكـ ـ ـة الكهـ ـ ـ ـ ـ‬ ‫أخ ـ ـ ـ ـ ـو احل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرب َغ هلذتْ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ الق ـ ـ ـراع مفطهلمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً‬
‫وقال أيَاً‪:‬‬
‫معص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوابً هب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا الفت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُح املبي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْن‬ ‫بعم ـ ـ ـ ـ ـ ـاد الدي ـ ـ ـ ـ ـ ـن أضح ـ ـت ع ـ ـروة الديـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن‬
‫قسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي إدحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاض كي ـ ـ ـ ـ ـ ـد املارقيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْن‬ ‫واست ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـزادت بقسي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم هل‬
‫الدولـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة الـ‬
‫الراقديـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن‬
‫مهُّ َه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا تشدي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد َهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم هل‬ ‫َس َهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـَر عينـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً لـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم يَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـَزْل‬
‫كأْ‬‫مل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ‬
‫قـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـأت غيظ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً ُعي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـون احلاسدي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن‬ ‫هلصـ ـ ـ ـ ـ ـر قـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد‬ ‫ال َخ ْل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت م ـ ـ ـ ـ ـن كحـ ـ ـ ـ ـ الن ْ‬
‫هـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـو عي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌد عائ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد للمسلميـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْن‬ ‫ُكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ يـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍوم َم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهلر م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن أايم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬
‫ك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـان أواله ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا أمي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر املؤمني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن‬ ‫اف ـي أوصا ـ ـ ـ ـ ـه‬ ‫لـ ـ ـ ـ ـ ـ ـو جـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرى اإلنص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬

‫(‪ )1‬وقماً‪ :‬أي ذالً‪.‬‬


‫(‪ )2‬مح‪ :‬خلق ودرس‪.‬‬
‫(‪ )3‬أماته‪ :‬مفردها أم واجلمع أمات أوأمهات‪.‬‬

‫‪127‬‬
‫ت لـ ـ ـ ـ ـه أيـ ـ ـ ـدي السني ـ ـ ـن‬ ‫مث ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا َخطهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْ‬ ‫مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا روى الـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهلراوون ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ مـ ـ ـ ـ ـا سطهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـروا‬
‫ف تضمهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا مبئي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن‬ ‫مبئ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة أل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ‬ ‫إذا أن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاخ الشـ ـ ـ ـ ـ ـرك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي أكن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬
‫(‪)1‬‬
‫الوتي ـ ـ ـ ـ ـ ْن‬ ‫قطع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه التيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن إل ـ ـى قطـ ـع َ‬ ‫وقع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة طاحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت بكل ـ ـ ـ ـ ـ ـب ال ـ ـ ـ ـ ـروم م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن‬
‫أن الصيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن صي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْن‬ ‫واضـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُح الربهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـان هل‬ ‫إن مح ـ ـ ـ ـ ـت مص ـ ـ ـ ـ ـ ـر ق ـ ـ ـ ـ ـ ـد ق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـام هل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬
‫ت َح ْش َمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً لش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك املمرتي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن‬ ‫لَ َك َف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْ‬ ‫الره ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬ ‫الره ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا لـ ـ ـ ـ ـ ـ ـو لـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم تك ـ ـ ـ ـ ـ ـن إال ُّ‬ ‫و ُّ‬
‫ُ‬
‫لـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم يُدن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـس مبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرام الضمئمي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن‬ ‫درج الدهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر عليهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ُمعصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراً‬
‫ط طيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن‬ ‫ومَـ ـ ـ ـ ـ ـى ل ـ ـ ـ ـ ـم َْحي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـو منه ـ ـ ـ ـا ق ْس ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ‬ ‫َهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلم قسطنطيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن أن يَـ ْفَر َع َهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬
‫تحلهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى احليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ومسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلي اجلبيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن‬ ‫ك حاوهل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬ ‫ولك ـ ـ ـ ـ ـم م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ملـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ‬
‫َْ‬
‫منـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه كالنج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم ل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرأي املبصريـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن‬ ‫هـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي أخ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت النجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم إال أهنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬
‫بعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـران(‪ )2‬الـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُّذل اسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاد العريـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن‬ ‫ث قائ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍد‬ ‫مني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت منـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه بلي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ‬
‫ْ‬ ‫َُ‬
‫تب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد ُل األُسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َد ـ ـ ـ ـي الزئ ـ ـ ـ ـ ـ ـر األَني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن‬ ‫زارهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا يـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـز ُأر ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي أس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد وغ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ًى‬
‫(‪)4‬‬
‫اهل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـام ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ساحاهت ـ ـ ـ ـا نث ـ ـ ـ ـ ـر ال ُكريْـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن‬ ‫ض(‪ )3‬بَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرب نث ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر‬ ‫صوجل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوا البيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ‬
‫مـ ـ ـ ـ ـن بن ـ ـ ـ ـ ـي ال ُق ْلـ ـ ـ ـ ـ ـف(‪ )5‬ثغ ـ ـ ـ ـ ـور الشهلامـت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـني‬ ‫يـ ـ ـ ـ ـا هلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا مههلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةُ ثـَ ْغـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر أضحكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت‬
‫بعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدم ـ ـ ـ ـ ـا جاس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت حواي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا جوسلي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن‬ ‫س ذلهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةً‬‫أس برن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ‬ ‫تر َ‬ ‫بَـ ْرنَ َس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْ‬
‫ت ُمجهلاعه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا عنهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا عَي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن‬ ‫َـهلرقَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْ‬ ‫اج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ‬‫ت أسر َ‬ ‫وع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْ‬
‫وس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـروج ُمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْذ َ‬
‫عزمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه املاضـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي خبي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر الفاحتيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن‬ ‫ال رماهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا الل ـ ـ ـ ـ ـه م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن‬ ‫تل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك أقف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ‬
‫(‪)6‬‬
‫ف االمني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن‬
‫مؤمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُن اخلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوف خمـي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫ودقُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬ ‫الش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُام برق ـ ـ ـ ـ ـاً ْ‬ ‫شـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َام منـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه هل‬
‫السفي ـ ـ ـ ـن‬ ‫وح يف ظ ـ ـ ـ ـ ـ هل‬ ‫من ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه بع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد الـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـُّر ُ‬ ‫ت ق ـ ـ ـ ـد رامه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬ ‫س ُكنسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ‬ ‫ك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم كنيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ‬
‫إىل أن قال‪:‬‬
‫لي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـس حصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌن إ ْن حنَْتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ حبصي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن‬ ‫مهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة متسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي وتَح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي عزم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةً‬
‫ستذوقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـو َن شـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـذاهُ بع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َد حيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن‬ ‫ق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ لق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍوم َغهلرُهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم إمهالُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬
‫َـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهلر منـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه َمشح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً للغا ليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن‬ ‫درك َمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن‬ ‫وت ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـذي ي ـ ـ ـ ُ‬ ‫إنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ املـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫اب متيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن‬ ‫إهنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا حبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ ملـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْن ت ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ‬ ‫وه ـ ـ ـ ـ ـ ـو ُحييـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ُممسكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ُعروتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬
‫داة عب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرًة لآلخريـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن‬ ‫م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن غ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ‬ ‫مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن يطـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـع يَـْن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُج وم ـ ـن يَع ـص يك ـ ـ ـن‬

‫(‪ )1‬الوتني‪ :‬عرق يف القلب إذا انقطع مات صاحبه‪.‬‬


‫(‪ )2‬العران‪ :‬خشبة جتع يف وتر أنف البعري وهو ما بني املنخرين‪.‬‬
‫(‪ )3‬أي جعلوا السيوف صواجلة ‪ ،‬مفردها‪ :‬صوجلان‪.‬‬
‫(‪ )4‬مفردها كرة‪ :‬وهي اليت يلعب هبا ابلصوجلان‪.‬‬
‫(‪ )5‬ال ُقلْف‪ :‬أي الذين مل خيتنوا ‪ ،‬ويعين‪ :‬الصليبيني‪.‬‬
‫(‪ )6‬ودقه‪ :‬مطر‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫(‪)1‬‬
‫تلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك األرض ميينـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً ال ميي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْن‬ ‫َقس ـ ـ ـ ـم اجل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُّد ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـأَن تبق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى ل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك‬‫أ َ‬
‫ُمْنسيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً ُمؤلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َم عس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـف اجلائري ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن‬ ‫دل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي أقطارهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬ ‫وتُفي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـض الع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ‬
‫كعب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةً حمفو ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةً ابلطائفي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن‬ ‫دارك كيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـف انتقلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت‬ ‫ال تـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـزل ُ‬
‫م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن نظيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم املـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدح ابلـ ـ ـ ـ ـ ـدُّر الثمي ـ ـن‬ ‫ك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ يـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوم يتحلهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى ُ‬
‫جيده ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬
‫(‪)2‬‬
‫َلس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُن اخل ْل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـق اميـ ـ ـ ـن‬ ‫لـ ـك قال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت أ ُ‬ ‫ص يه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا دعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوًة‬ ‫كلم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا أَخل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ‬
‫الرها‪:‬‬
‫اثمناً‪ :‬األحداث العسكرية بعد فتح ُّ‬
‫كان تح الرها بداية ملا بعدها؛ إذ مل يكن من الصعب على عماد الدين زنكي أن يستكم مهمته بفتح ابقي املعاق‬
‫الصليبية التابعة هلذه اإلمارة ‪ ،‬استغ رصة‬
‫تَعَع أحوال الصليبيني يف املنطقة(‪ ، )3‬واجته إىل سروج اليت ختلت حاميتها عنها مولية الفرار واستوىل عليها ‪ ،‬وما‬
‫(‪)4‬‬
‫مير بعم من أعماهلا ‪ ،‬وال معق‬ ‫لبثت احلصون اجملاورة أن أخذت تسقط يف يديه واحدة تلو األخرى ‪ ،‬وجع ال ُّ‬
‫من معاقلها ‪ ،‬إال سلم إليه يف احلال(‪ ، )5‬مث ميم وجهه صوب قلعة البرية احلصينة املطلة على الفرات ‪ ،‬وكانت من أهم‬
‫احلصون اليت تبقت جلوسلني الثاين ‪ ،‬وأشدها مناعة ‪ ،‬فرض احلصار عليها ‪ ،‬وقطع عنها ما كان يص إليها من القوت‬
‫‪ ،‬واملرية واملعونة؛ حىت أشر ت على االستسضمم‪.‬‬
‫وحينذاك بلغ زنكي نبأ مقت انئبه يف املوص ‪ ،‬اضطر إىل ك احلصار‪ ،‬واإلسراع ابلتوجه إىل مقر إمارته إلقرار األوضاع‬
‫يها ‪ ،‬إال أن صليبيي احلصن خا وا من مهامجته إايهم اثنية ‪ ،‬أرسلوا إىل حسام الدين متراتش األرتقي‪ ،‬وأعلموه برغبتهم‬
‫يف التنازل له عن موقعهم هذا قب أن يسقط بيد عدوهم اللدود‪ .‬وهكذا قد صليبيو الرها كا ة حصوهنم الواقعة شرقي‬
‫الفرات(‪ ،)6‬كنتيجة مباشرة لسقوط القاعدة األم بيد زنكي‪ ،‬ومل يتبق جلوسلني من إمارته الواسعة سوى عدد من احلصون‬
‫املنتشرة غريب الفرات كت ابشر‪ ،‬ومرعش‪ ،‬ودلوك‪ ،‬ومسيساط‪ ،‬وعينتاب‪ ،‬وعزاز(‪ ، )7‬واستطاع نور الدين حممود ـ يما‬
‫بعد ـ اكتساحها مجيعاً ‪ ،‬وحمو هلأول اإلمارات الصليبية من الوجود(‪.)8‬‬
‫اتسعاً‪ :‬من أساليب عماد الدين زنكي يف حماربة الصليبيني‪:‬‬
‫مل يقتصر عماد الدين زنكي يف قتاله للصليبيني على احلروب النظامية حسب؛ إذ كان ذلك يقتَي منه البقاء ابستمرار‬
‫يف بضمد الش ام ‪ ،‬واستنفاد قواه يف قتال أعدائه هؤالء ‪ ،‬وعدم متكنه ـ ابلتايل ـ من التفرغ لتصفية مشاكله العديدة يف‬

‫(‪ )1‬ال ميني‪ :‬ال يكذب‪.‬‬


‫(‪ )2‬كتاب الروضتني (‪.)149/1‬‬
‫(‪ )3‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.156‬‬
‫(‪ )4‬ذي اتريخ دمشق ص ‪ 280‬عماد الدين زنكي ص ‪.156‬‬
‫(‪ )5‬ذي اتريخ دمشق ص ‪ 280‬عماد الدين زنكي ص ‪.157‬‬
‫(‪ )6‬مفرج الكروب (‪ )96/1‬عماد الدين زنكي ص ‪.157‬‬
‫(‪ )7‬عماد الدين زنكي ص ‪.157‬‬
‫(‪ )8‬عماد الدين زنكي ص ‪.157‬‬

‫‪129‬‬
‫العراق ‪ ،‬واجلزيرة ‪ ،‬وأدرك أمهية االستفادة من الغارات ‪ ،‬أي‪ :‬اهلجوم واالنسحاب السريع ‪ ،‬سيما يف رتات غيابه عن‬
‫أن هذا النوع من القتال سيتيح له احلصول على نتائج هامة‪.‬‬‫الشام ‪ ،‬ذلك‪ :‬هل‬
‫أوهلا‪ :‬إقضمق الصليبيني وعدم إعطائهم اجملال إلعادة تنظيم قواهم ‪ ،‬ورسم اخلطط اهلجومية على مواقع املسلمني يف‬
‫املنطقة ‪ ،‬ومن مث متكني هؤالء من الد اع عن مراكزهم ‪ ،‬واالحتفاظ هبا‪.‬‬
‫واثنيها‪ :‬إضعاف قوى العدو العسكرية ‪ ،‬واالقتصادية ‪ ،‬مبا حتدثه ـ هذه احلروب ـ من قت ‪ ،‬وأسر ‪ ،‬وهنب ‪ ،‬وختريب‪.‬‬
‫واثلث تلك النتائج‪ :‬قطع االتصال بني املراكز الصليبية مشايل الشام ‪ ،‬وعدم إعطائهم الفرصة للتجمع وتوجيه ضربة‬
‫ضد املسلمني(‪.)1‬‬‫موحدة هل‬
‫ومهد لذلك بتوثيق عضمقاته بقادهتم ‪،‬‬ ‫وقد اعتمد عماد الدين زنكي يف هذا النوع من القتال على حماريب الرتكمان ‪ ،‬هل‬
‫وإسناد كربى املناصب احلربية إليهم ‪ ،‬وقد عم زنكي على تو ري القيادة احلاذقة من الرتكمان‪ :‬إيتكني ‪ ،‬وجلهلة الرتكي ‪،‬‬
‫والياروق وغريهم ‪ ،‬واحملاربني الشجعان ‪ ،‬للقيام بشن ما يطلق عليه اليوم حروب املقاومة والعصاابت ‪ ،‬وجع من حلب‬
‫الرها الصليبيتني‬
‫مركزاً هلم نظراً ألمهية موقعها ابلنسبة للحصون الصليبية واإلسضممية على السواء ‪ ،‬هي تتوسط أنطاكية ‪ ،‬و ُّ‬
‫‪ ،‬وتسيطر على خطوط املواصضمت بينهما ‪ ،‬كما أهنا تُ َـع ُّـد خري قاعدة عسكرية لتوجيه اهلجمات السريعة ضد مواقع‬
‫وحتركات الصليبيني ‪ ،‬وقوا إمدادهم ومتوينهم‪.‬‬
‫ضد جيوش األعداء ومعسكراهتم ‪ ،‬وقوا لهم ‪ ،‬ومراكز‬ ‫وقد قامت هذه اجلماعات من الرتكمان بشن غارات عديدة هل‬
‫جتمعهم ‪ ،‬ومل خت سنة من سين الصراع وحروب العصاابت كان يقوم هبا هؤالء الرتكمان ‪ ،‬ويلحقون ـ بفَلها ـ خسائر‬
‫خمتلفة يف صفوف أعدائهم‪.‬‬
‫في رجب من عام ‪524‬هـ على سبي املثال جهز زنكي قوة عسكرية أغارت على عزاز الصليبية‪ ،‬وعاثت يف بضمد‬
‫الرها(‪ ،)2‬ويف العام التايل حدث اشتباك بني سوار ‪ ،‬وجوسلني مشايل حلب ‪ ،‬أسفر عن انتصار الصليبيني‬ ‫جوسلني أمري ُّ‬
‫‪ ،‬ومقت عدد من املسلمني ‪ ،‬مما د ع سوار إىل القيام هبجوم على ربض األاثرب ‪ ،‬واالستيضمء على مقادير من أمواهلم‬
‫وحماصيلهم ‪ ،‬مث ما لبث بعد عام واحد ‪526‬هـ أن أوقع بصليبيي ت ابشر ‪ ،‬وقت منهم خلقاً كثرياً(‪.)3‬‬
‫ومل يتوقف سوار وجنده الرتكمان عن شن الغارات ضد الصليبيني كلما أتيحت الفرصة لذلك ‪ ،‬وشهد صفر من عام‬
‫‪527‬هـ عدة اشتباكات بني الطر ني ‪ ،‬وقع أحدها ابلقرب من قنسرين إثر قيام بلدوين بيت املقدس مبحاولة للهجوم‬
‫على أطراف حلب ‪ ،‬حيث تصدهلى له سوار ‪ ،‬ومجاعة من جنده ‪ ،‬وأسفر القتال عن هزمية املسلمني وانسحاهبم إىل‬
‫حلب ‪ ،‬إال أن قائدهم الشجاع ما لبث أن خرج هبم اثنية ‪ ،‬ووقع على طائفة منهم ‪ ،‬أوقع هبم وأكثر القت واألسر ‪،‬‬
‫واهنزم من سلم منهم إىل بضمدهم ‪ ،‬وعاد إىل حلب حامضمً معه رؤوس القتلى ‪ ،‬واألسرى وكان يوماً مشهوداً(‪.)4‬‬

‫(‪ )1‬عماد الدين زنكي ص ‪.157‬‬


‫(‪ )2‬مفرج الكروب (‪ )4/1‬عماد الدين زنكي ص ‪.159‬‬
‫(‪ )3‬عماد الدين زنكي ص ‪.160‬‬
‫(‪ )4‬ذي اتريخ دمشق ص ‪ 240‬ـ ‪ 241‬عماد الدين زنكي ص ‪.160‬‬

‫‪130‬‬
‫الرها مبحاولة جديدة لإلغارة على أعمال حلب ‪ ،‬خرج إليهم سوار يصحبه‬ ‫ومل متض سوى أايم قضمئ حىت قام صليبيو ُّ‬
‫غرٍة ‪ ،‬ومتكن من إابدة عدد كبري منهم ‪ ،‬وأسر الباقني ‪ ،‬مث‬ ‫األمري حسان البعلبكي أمري منبج ‪ ،‬وأوقع هبم على حني هل‬
‫قف عائداً إىل حلب دون أن يصاب أحد من جنده أبذى(‪.)1‬‬
‫ويف مجادى االخرة من نفس العام قام سوار على رأس قوة من الفرسان ابإلغارة على ت ابشر ‪ ،‬تصدى له صليبيو‬
‫ذلك املوقع ‪ ،‬إال أنه متكن من هزميتهم ‪ ،‬وحصد رؤوس ألف رج ‪ ،‬محلها معه إىل حلب(‪.)2‬‬
‫ويف ربيع األول من العام التايل سار صاحب موقع القدموس الصلييب إىل قنسرين على رأس قوة من رسان أنطاكية ‪،‬‬
‫لقيهم عسكر حلب بقيادة سوار ‪ ،‬وأسفر القتال عن انتصار الصليبيني ‪ ،‬واضطر قائد زنكي إىل مصاحلتهم ‪ ،‬إال أنه‬
‫سر الناس‬‫ما لبث أن ابغت إحدى سراايهم هبجوم سريع ‪ ،‬ومتكن من قت معظم أ رادها ‪ ،‬مث قف عائداً إىل حلب ‪ ،‬هل‬
‫بذلك بعد مأساهتم‪.‬‬
‫الرها على أطراف حلب الشمالية يف طريقهم إىل إحدى املعسكرات‬ ‫ومل ميض سوى وقت قصري حىت أغار رسان ُّ‬
‫الصليبية ‪ ،‬أوقع هبم سوار وحليفه أمري منبج ‪ ،‬وأابد عدداً كبري منهم ‪ ،‬بينما وقع معظم الباقني يف األسر(‪.)3‬‬
‫مث ما لبث سوار أن قام ـ يف نفس العام ـ بغارة واسعة على املواقع الصليبية يف منطقة (اجلزر(‪ ،)4‬وزردان) ‪ ،‬وأوقع أبعدائه‬
‫عند حارم ‪ ،‬مث عاد إىل حلب حممضمً ابلغنائم واألسضمب(‪.)5‬‬
‫وأخذ نطاق الغارات واهلجمات املفاجئة يتسع شيئاً شيئاً ‪ ،‬وشهد رجب من عام ‪530‬هـ حماولة واسعة قام هبا سوار؛‬
‫إذ سار على رأس ثضمثة آالف ارس من الرتكمان و اجأ بضمد الضمذقية وأعماهلا هبجوم مباغت مل يكن الصليبيون حيسبون‬
‫أي حساب ‪ ،‬ومتكن بذلك من أسر سبعة آالف أسري ‪ ،‬واحلصول على مقادير كبرية من الغنائم‪ ،‬واجتياح عشرات‬ ‫له هل‬
‫من القرى ‪ ،‬واملزارع الصليبية مأل املسلمون أيديهم منها ابألسرى والغنائم ‪ ،‬وقد استبشر مسلمو املنطقة أميا استبشار‬
‫هلذا النصر الكبري الذي أحرزه سوار ‪ ،‬والذي كان ابلنسبة لصليبيي الشمال نكبةً مل يُ ْـمنَـ ْوا مبثلها(‪.)6‬‬
‫والواقع أن ما شاهدته أنطاكية خضمل عامي ‪529‬هـ ‪530‬هـ من نت داخلية بسبب النزاع على احلكم أسهم إىل حد‬
‫كبري يف عجز هذه اإلمارة عن الد اع عن نفسها إزاء هجمات املسلمني(‪ ،)7‬األمر الذي د ع قائدهم إىل استغضمل‬
‫الفرصة وحتقيق نصر كبري ضد صليبيي الشمال‪.‬‬
‫ويف أواخر العام التايل قام سوار هبجوم مباغت ضد سرية بيزنطية كبرية العدد ‪ ،‬كانت تتقدم شرقاً ‪ ،‬ومتكن من قت وأسر‬
‫عدد من أ رادها ‪ ،‬مث قف عائداً إىل مقره يف حلب(‪ .)8‬ومل متض سوى أشهر معدودات على هذا اهلجوم حىت قام‬

‫(‪ )1‬عماد الدين زنكي ص ‪.160‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص ‪.161‬‬
‫(‪ )3‬زبدة حلب (‪.)252/2‬‬
‫(‪ )4‬اجلزر‪ :‬إحدى كور حلب ‪ ،‬معجم البلدان (‪.)71/2‬‬
‫(‪ )5‬زبدة حلب (‪ )254/2‬عماد الدين زنكي ص ‪.161‬‬
‫(‪ )6‬ذي اتريخ دمشق ص ‪ 255‬ـ ‪ 256‬عماد الدين زنكي ص ‪.161‬‬
‫(‪ )7‬احلروب الصليبية ‪ ،‬العريين (‪ )510/1‬عماد الدين زنكي ص ‪.161‬‬
‫(‪ )8‬عماد الدين زنكي ص ‪ 162‬زبدة حلب (‪.)263/2‬‬

‫‪131‬‬
‫الصليبيون ‪ ،‬والبيزنطيون إبرسال قوات مشرتكة الحتضمل قلعة األاثرب القريبة من حلب ‪ ،‬وبعد أن حققت هذه القوات‬
‫هد ها ‪ ،‬وأوك إليها حراسة أسرى املسلمني الذين مجعوا يف هذا املوقع‪ .‬إال أن سواراً ما لبث أن خرج على رأس قواته‬
‫وهاجم احلامية الصليبية ‪ ،‬والبيزنطية ‪ ،‬ومتكن من استخضمص معظم أسرى املسلمني من أيديهم ‪ ،‬وعاد هبم إىل حلب‬
‫اليت عمها السرور ‪ ،‬وسادهتا األ راح هلذا النصر الذي حققه أمريها(‪.)1‬‬
‫ويف عام ‪533‬هـ هاجم سوار عدداً من املواقع الصليبية واستوىل على بعض الغنائم ‪ ،‬إال أن رسان الصليبيني متكنوا من‬
‫اللحاق به ‪ ،‬وإنزال هزمية بقواته أسفرت عن أسر ما يزيد عن ألف ارس منهم ‪ ،‬وانسحب هو إىل حلب مبن سلم من‬
‫جنده(‪.)2‬‬
‫استمرت املناوشات بني الطر ني طيلة السنني التالية ‪ ،‬وأصاهبا بعض الفتور خضمل عامي ‪ 534‬هـ ‪ 535‬هـ‪ .‬إثر ش‬ ‫و هل‬
‫زنكي يف االستيضمء على دمشق ‪ ،‬وحتالف الصليبيون ‪ ،‬والدمشقيون ضده إال أن هذه املناوشات ما لبث أن استعرت‬
‫من جديد يف عام ‪536‬هـ والسنني اليت تلته ‪ ،‬في األشهر األوىل من هذا العام قام الصليبيون هبجوم سريع ضد بعض‬
‫املواقع اإلسضممية غريب حلب ‪ ،‬ولدى تفرقهم أرس سوار قوة من الرتكمان بقيادة ابنه علم الدين ‪ ،‬أغارت على املواقع‬
‫الصليبية ‪ ،‬وتوغلت إىل أسوار أنطاكية ‪ ،‬مث عادت حتم معها كثرياً من الغنائم واألسضمب(‪.)3‬‬
‫وبعد رتة قصرية أغار جلة الرتكي على بعض املناطق الصليبية يف الشمال ‪ ،‬ساق وسَّب وقت ‪ ،‬وذكر‪ :‬أن عدد القتلى‬
‫بلغ سبعمئة رج (‪ .)4‬ويف رمَان من العام نفسه هاجم سوار معسكراً صليبياً عند جسر احلديد ‪ ،‬إىل الشمال الشرقي‬
‫من أنطاكية ‪ ،‬بعد أن اجتاز بقواته هنر العاصي صوب جتمعات العدو ‪ ،‬ومتكن من قت معظم أ راد املعسكر ‪ ،‬وأسر‬
‫الباقني(‪.)5‬‬
‫وما لبث أمري أنطاكية أن خرج ـ يف العام التايل ـ لإلغارة على وادي بزاعة القريب من حلب ‪ ،‬تصدى له سوار ‪ ،‬وأجربه‬
‫على االنسحاب ‪ ،‬ومتكن جوسلني من اغتنام الفرصة قام هبجوم على جتمعات املسلمني عند ضفاف الفرات‪ ،‬ومتكن‬
‫من أسر تسعمئة رج منهم ‪ ،‬مث ارأتى الطر ان عقد هدنة بينهما مل يكن ألمري أنطاكية نصيب يها(‪ ،)6‬وهكذا ظ‬
‫القتال مستمراً بني هذه اإلمارة وقوات حلب ‪ ،‬وعندما خرجت طائفة كبرية من جتار أنطاكية يف مجادى األوىل من عام‬
‫‪ 538‬هـ حترسها قوة من الفرسان يف طريقها إىل بعض البضمد الصليبية اجملاورة ومعها مال كثري وأموال ومتاع؛ ابغتها‬
‫املسلمون ‪ ،‬وأوقعوا هبا ‪ ،‬ومتكنوا من إابدة كا ة أ راد القوة اليت خرجت حلمايتها ‪ ،‬وغنموا ما كانت حتمله من بَائع‬

‫(‪ )1‬الكام يف التاريخ نقضمً عن عماد الدين زنكي ص ‪.162‬‬


‫(‪ )2‬زبدة حلب (‪ )271/2‬عماد الدين زنكي ص ‪.162‬‬
‫(‪ )3‬زبدة حلب (‪ )275/2‬عماد الدين زنكي ص ‪.162‬‬
‫(‪ )4‬عماد الدين زنكي ص ‪ 163‬زبدة حلب (‪.)275/2‬‬
‫(‪ )5‬زبدة حلب (‪ )276/2‬عماد الدين زنكي ص ‪.163‬‬
‫(‪ )6‬عماد الدين زنكي‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫قيمة(‪ .)1‬ويف أواخر ذي القعدة من العام نفسه هامجت جمموعة من رسان حلب قوة من الفرسان الصليبيني اخلارجني‬
‫من ابسوطا ‪ ،‬وأابدوهم ‪ ،‬وأسروا صاحب ابسوطا؛ حيث اعتقله سوار يف حلب(‪.)2‬‬
‫عاشراً‪ :‬حصيلة الدور السياسي العسكري الذي لعبه عماد الدين على مسرح التاريخ اإلسالمي‪:‬‬
‫ميكن القول أبن عماد الدين زنكي استطاع أن حيقق قسطاً كبرياً من برانجمه ‪ ،‬وأن يكون لنفسه مكانة خاصة يف التاريخ‬
‫ٍ‬
‫وعسكري متمكن‪ ،‬ومسلم و ٍاع ‪ ،‬أدرك اخلطر الذي أحاط ابلعامل اإلسضممي من قب الصليبيني‬ ‫كسياسي ابرع‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫اإلسضممي‬
‫‪ ،‬قد استطاع أن يوجه الظروف التارخيية القائمة لصاحل املسلمني ‪ ،‬وذلك بتجميعه القوى اإلسضممية بعد القَاء على‬
‫عوام التجزئة واالنقسام وتوحيد املدن واإلمارات املنفصلة يف نطاق دولة واحدة‪ ،‬استطاع مبقدرته أن يستغ أقصى ما‬
‫ميكن أن تقدمه من إمكاانت يف سبي حتقيق برانجمه املزدوج؛ أي‪ :‬تشكي اجلبهة اإلسضممية‪ ،‬وضرب الصليبيني‪.‬‬
‫وقد اتَح لنا م ن خضمل استعراض عضمقة عماد الدين زنكي ابلقوى اإلسضممية كإمارات املدن ‪ ،‬واإلمارات احمللية يف‬
‫اجلزيرة والشام‪ ،‬والقبائ الكردية‪ ،‬والرتكمانية مدى قدرته السياسية وبراعة خططه العسكرية خضمل عضمقاته السلمية‬
‫واحلربية مع هذه القوى املنبثة يف املنطقة ‪ ،‬هو من الناحية الرمسية كان قد تسلم من السلطان السلجوقي «حممود بن‬
‫حممد بن ملكشاه» عام ‪522‬هـ منشوراً يقر سلطته الشرعية على املوص ‪ ،‬واجلزيرة‪ ،‬والشام ‪ ،‬وقد أتكد هذا املنشور‬
‫خضمل األعوام التالية‪ .‬إال أنه مل يكن كا ياً لتثبيت سلطته الفعلية يف هذه الفرتة اليت استطاع يها عدد كبري من األمراء‬
‫أن يفرضوا سلطتهم على عدد ال حيصى من املدن واألقاليم مستقلني إىل حد كبري عن السلطة السلجوقية ‪ ،‬ومستفيدين‬
‫من جمموعة من العوام الشخصية ‪ ،‬والسياسية ‪ ،‬واجلغرا ية ‪ ،‬واالقتصادية ‪ ،‬والبشرية ‪ ،‬كان ال بُ هلـد لزنكي إذاً من‬
‫إخَاع هذه العدد الكبري من السلطات املتمركزة يف املنطقة ‪ ،‬ومن اختيار أسلوب اهلجوم ُمنذ البداية ابلرغم مما حييق‬
‫هبذا األسلوب من أخطار‪:‬‬
‫أوهلا‪ :‬احتمال تشكي حلف د اعي مَاد من األمراء العاديني ‪ ،‬وقد يتحول هذا احللف يما بعد إىل حلف هجومي‪،‬‬
‫كما حدث ابلنسبة لألراتقة‪.‬‬
‫واثين تلك األخطار‪ :‬عدم وجود خط رجعة يف حالة انكساره ‪ ،‬أو انسحابه أمام األمراء احملليني الذين كانوا حييطون به‬
‫إحاطة السوار ابملعصم‪.‬‬
‫إال أنه مل أيبه هلذه األخطار ‪ ،‬وراح يهاجم األمراء احملليني ُمنذ البداية ‪ ،‬د عه إىل ذلك طموحه وشجاعته الشخصية ‪،‬‬
‫واطمئنانه إىل قاعدة شعبية حتبه وختلص له وملواقفه السابقة جتاه الصليبيني قب أن يتوىل احلكم يف املوص ‪ ،‬كما ساعده‬
‫على ذلك منشور السلطان ‪ ،‬آنف الذكر بتسلم املوص ‪ ،‬واجلزيرة ‪ ،‬والشام ‪ ،‬وما كان يتَمنه من اعرتاف حبرية زنكي‬
‫يف االشتباك مع التشكيضمت السياسية احمللية واكتساحها ‪ ،‬والتوص أبية وسيلة يراها مناسبة لتحقيق هذا اهلدف(‪.)3‬‬
‫لكن األهم من ذلك كله ما متتع به زنكي من مقدرة سياسية ‪ ،‬وعسكرية ‪ ،‬وما متيز به من نظر بعيد؛ ذلك‪ :‬أنه عرف‬
‫ـ ُمنذ البدء ـ أنه إذا ما سلك سبي املساملة والتودد جتاه األمراء احملليني؛ إن حصوهنم ومدهنم وإماراهتم ستظ تشك‬

‫(‪ )1‬ذي اتريخ دمشق ص ‪ 278‬زبدة حلب (‪ 277/2‬ـ ‪.)278‬‬


‫(‪ )2‬زبدة حلب (‪ )278/2‬عماد الدين زنكي ص ‪.163‬‬
‫(‪ )3‬عماد الدين زنكي ص ‪.165‬‬

‫‪133‬‬
‫عوام خط ر ضد إمارته لقرهبا منها ‪ ،‬والسرتاتيجية مواقعها؛ إذ تشك نقاط تسلط مرتفعة ‪ ،‬احندارها ابجتاه املوص ‪،‬‬
‫وخطوطها اخللفية سضمس جبلية ‪ ،‬وأهنار متشابكة ‪ ،‬وحصون منيعة‪.‬‬
‫كما أن السياسة االنعزالية اليت اتبعها أولئك األمراء جتاه اخلطر الصلييب املتقدم حنو الشرق ‪ ،‬وما تبع ذلك من تشتيت‬
‫إلمكاانت املسلمني البشرية والعسكرية واالقتصادية أدت إىل عجز هذه اإلمارات عن الوقوف بوجه هذا اخلطر الصلييب‬
‫الزاحف ‪ ،‬هذا يف الوقت الذي كان على زنكي يه أن يعم على إزالة العقبات اليت تقف أمام توحيد اإلمارات املتفرقة‬
‫ف الزحف الصلييب ‪ ،‬ومن مث تبدأ ابهلجوم املنظم على قواعد‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫‪ ،‬املبعثرة ‪ ،‬يف جبهة إسضممية موحدة تستطيع أن تُـ ْوق َ‬
‫الصليبيني‪.‬‬
‫هذه العوام اليت د عت زنكي إىل اتباع سياسة اهلجوم ‪ ،‬واليت ختللتها أحياانً عضمقات سلمية ومعاهدات استدعتها‬
‫مير يه ‪ ،‬ويف نفس الوقت عم زنكي على أتمني حدود إمارته ابجتاه الشرق ‪ ،‬والشمال‬ ‫طبيعة الظرف الذي كان ُّ‬
‫الشرقي؛ حيث يشك األكراد والرتكمان يف هذه املناطق عناصر خطر ابلغة ضد إمارته ‪ ،‬ال سيما عند أتزم عضمقاته‬
‫ابإلمارات الغربية ‪ ،‬أو عند توغله بعيداً عن مقره يف املوص (‪.)1‬‬
‫ومن مث تبدو لنا واضحة أمهية الدور الذي لعبه زنكي يف التاريخ اإلسضممي؛ إذ يعترب أول قائد قام بتجميع القوى‬
‫اإلسضممية و ق برانمج معني ليجابه هبا تزايد اخلطر الصلييب؛ الذي مل توقفه احملاوالت اجلدية اليت سبقت زنكي ‪ ،‬وخباصة‬
‫تلك اليت متت على يد ك من مودود بن التونتكني ‪ 502‬ـ ‪ 507‬هـ وإيلغازي ‪ ،‬وبلك األرتقيني ‪ 512‬ـ ‪518‬هـ وآق‬
‫سنقر الربسقي ‪ 518‬ـ ‪520‬هـ(‪.)2‬‬
‫ومن املرجح‪ :‬أنه لو متكن زنكي من تح دمشق ‪ ،‬وإجناز حماولته لتوحيد الشام ‪ ،‬ولو مل يقت ـ وهو يف قمة انتصاراته‬
‫ضد الصليبيني ـ لكان قد استطاع أن يستكم األجزاء املتبقية من برانجمه ‪ ،‬ولتكاملت أمام الباحث احلديث الصورة‬ ‫هل‬
‫الواضحة للدور الذي قام به يف التاريخ اإلسضممي ‪ ،‬وهو دور اص تتَح خطورته إذا عر نا‪ :‬أن نور الدين حممود ‪،‬‬
‫ومن بعده صضمح الدين مل تكن جهودمها سوى إمتام العم ‪ ،‬الذي بدأه عماد الدين زنكي ‪ ،‬ويف نفس الطريق(‪.)3‬‬
‫احلادي عشر‪ :‬األايم األخرية من حياة عماد الدين زنكي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ هتنئة عماد الدين ابلشفاء من مرض عرض له‪ :‬يف عام ‪540‬هـ أنشد ابن منري ابلرقة يف عماد الدين زنكي قصيدة‬
‫يهنئه ابلعا ية من مرض عرض له يف يده ‪ ،‬ورجله قال يها‪:‬‬
‫وال يَـ ـ ـ ـ ـر (‪ ) 5‬ممش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرق ـ ـ ـ ــك اإلشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراق‬ ‫ـدر ال أَْـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ وال ُحمَـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫(‪) 4‬‬
‫اق‬ ‫اي ب ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص ‪.166‬‬


‫(‪ )2‬عماد الدين زنكي ص ‪.166‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.166‬‬
‫(‪ )4‬ال أ ق وال جمال ‪ ،‬وهو وهم‪.‬‬
‫(‪ )5‬ال يَرم‪ :‬يربح‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫يـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـت ـ ـ ـ ــز ـ ـ ـ ــرعٌ مل يـُ ـ ـ ـ ـقـ ـ ـ ـ ـم ـ ـ ـ ــه س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاق‬ ‫ابل ـ ــدين وال ـ ــدُّني ـ ــا ال ـ ــذي تش ـ ـ ـ ـ ـ ــكو هول‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـ ـ ـه ـ ـ ـ ـ ــا إذا ال ـ ـ ـ ـ ـ ـت ـ ـ ـ ـ ــاث ـ ـ ـ ـ ــت األع ـ ـ ـ ـ ـ ـراق‬ ‫َ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب وجي ــري م ـ ـ ــاؤه ـ ـ ــا‬
‫ل ــن تُ ـورق ال ـ ُق ْ‬

‫لـ ـ ـ ـ ـلـ ـ ـ ـ ـخـ ـ ـ ـ ـط ـ ـ ـ ــب ع ـ ـ ـ ــن طُـ ـ ـ ـ ـ ُروق ـ ـ ـ ــه إطـ ـ ـ ـ ـراق‬ ‫إن ال ـ هلـرع ـ ـ ــااي م ـ ـ ــا سـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـل ـ ـم ـ ـ ــت يف مح ـ ًـى‬

‫داق‬
‫تـ ـ ـ ـ ـ ـرت ـ ـ ـ ـ ــع يف ح ـ ـ ـ ـ ــديـ ـ ـ ـ ـ ـقـ ـ ـ ـ ـ ـه ـ ـ ـ ـ ــا احلـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫غ ـ ـ ــرس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــت ابلـ ـ ـ ـع ـ ـ ــدل هل ـ ـ ــم مخ ـ ـ ــائـ ـ ـ ـضمً‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـع ـ ـ ـ ـ ـ ــاد ال بـ ـ ـ ـ ـ ـ ـغ ـ ـ ـ ـ ـ ــت وال إره ـ ـ ـ ـ ـ ــاق‬ ‫اي هَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ــة ال ـ ـ ــدي ـ ــن ال ـ ــيت ع ـ ـ ــاذ هب ـ ـ ــا‬

‫أصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ـ ــح ال ش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــام وال ع ـ ـ ـ ـ ـ ـراق‬ ‫لـ ـ ـ ـ ــو مل َحتُ ـ ـ ـ ـ ـطْ ـ ـ ـ ـ ـه راح ـ ـ ـ ـ ـضمً وقـ ـ ـ ـ ــا ـ ـ ـ ـ ـضمً‬

‫رك وال ـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ـ ـفـ ـ ـ ـ ــاق‬


‫حـ ـ ـ ـ ـ هلـي ومـ ـ ـ ـ ــات الشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫ع ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ــاد الـ ـ ـ ــديـ ـ ـ ــن ُم ـ ـ ـ ـ ْذ أقـ ـ ـ ــام زي ـ ـ ـ ـغَ ـ ـ ـ ـهُ‬

‫ت زي ـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ـ ـتَ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ــا اآل ـ ـ ـ ـ ــاق‬


‫تس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـربـَ ـ ـ ـ ـ ـلَ ـ ـ ـ ـ ـ ْ‬ ‫اي حمـ ـ ـ ـي ـ ـ ــي الـ ـ ـ ـعـ ـ ـ ـ ْدل ال ـ ـ ــذي يف ظـ ـ ـ ـلـ ـ ـ ـة‬

‫ـضمق‬
‫ملهلـ ـ ـ ـ ـ ـا ن ـ ـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ـ ـ ــا جب ـ ـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ـ ـ ــك اإلق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫يَ ـ ـ ـف ـ ـ ــدي ـ ـ ــك م ـ ـ ــن الن م ـ ـ ـه ـ ـ ــاد ج ـ ـ ـن ـ ـ ـب ـ ـ ــه‬

‫(‪) 3‬‬
‫ـاق‬
‫ال ـ ـ ـ ـع ـ ـ ـ ـ ْذب وم ـ ـ ـ ــاء ع ـ ـ ـ ــيشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه ُزع ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫من ب َش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـبَـ ـا س ـ ـ ـ ـ ـ ــيف ــك(‪ )1‬أنبط ــت(‪ )2‬ل ــه‬

‫)‬ ‫(‪4‬‬
‫حب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــده لـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــزه ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدرايق‬ ‫جت ـ ـ ـ ـ ـ هلـرع ال ُّس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلم ول ـ ـ ـ ـ ــو مل حت ـ ـ ـ ـ ـم ـ ـ ـ ـ ــه‬
‫عـ ـ ـ ــزمـ ـ ـ ــك هـ ـ ـ ــذا ال ـ ـ ـ ـضمهلحـ ـ ـ ــق ال هلس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـبهل ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫اق‬ ‫م ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ــوك أط ـ ـ ـ ـراف مح ـ ـ ـ ــى أط ـ ـ ـ ـرا ـ ـ ـ ـه ـ ـ ـ ــا‬
‫(‪) 5‬‬
‫سـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاغـ ـ ـ ـ ــت أب ـ ـ ـ ـ ـواه ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ــم األرايق‬ ‫ل ـ ـ ــو مل ت ـ ـ ــرق م ـ ـ ــاءَ ك ـ ـ ــرى الـ ـ ـ ـع ـ ـ ــني مل ـ ـ ــا‬
‫ـاد ُهـ ـ ـ ـ ـ ـ ُم الش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـق ـ ـ ـ ـ ــاق‬
‫وشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلـق أكـ ـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ـ ـ َ‬ ‫ـت م ـ ــن دوهن ـ ــم م ـ ــوج ال ـ ـ هلـردى‬ ‫ش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـقـ ـ ـق ـ ـ ـ َ‬
‫حـ ـ ـ ـ ـ ــديـ ـ ـ ـ ـ ــث أايمـ ـ ـ ـ ـ ــك مـ ـ ـ ـ ـ ــا أطـ ـ ـ ـ ـ ــاق ـ ـ ـ ـ ـ ـوا‬ ‫أقس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم ل ــو كـ ـلهلـ ـفـ ـتـ ـه ــم أن يس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـمـ ـعـ ـوا‬

‫(‪ )1‬أي حبد سيفك‪.‬‬


‫(‪ )2‬أنبطت‪ :‬أي استخرجت‪.‬‬
‫(‪ )3‬ماء زعاق‪ :‬مر غليظ ال يطاق شربه من أجوجته‪.‬‬

‫(‪ )4‬الدرايق‪ :‬لغة يف الرتايق ارسي معرب وهو يستعم لد ع السم‪.‬‬


‫(‪ )5‬األرايق‪ :‬مفردها ريق وهو اللعب‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫س لـ ـ ـ ـ ــل هلس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ـ ــع واس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرتاق‬
‫تـ ـ ـ ـ ــو ُّج ـ ـ ـ ـ ـ ٌ‬ ‫دب يف أه ـ ـوائ ـ ـه ـ ــم‬ ‫ملهلـ ـ ـا اش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت ـ ـك ـ ـي ـ ـ ــت هل‬
‫قص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراً وال ج ـ ـ ـ ــانـ ـ ـ ـ ـبـ ـ ـ ـ ـه ـ ـ ـ ــا اإلخـ ـ ـ ـ ـف ـ ـ ـ ــاق‬ ‫تـ ـ ـ ـ ـط ـ ـ ـ ــاولـ ـ ـ ـ ـوا ال ع ـ ـ ـ ــدم ـ ـ ـ ــت ام ـ ـ ـ ــا ُهل ـ ـ ـ ـ ـم‬
‫(‪) 1‬‬
‫صـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـف ــو م ــن مشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرهب ــم َغ هلس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاق‬
‫وال هل‬ ‫تـ ـ ـ ــوهلمهُـ ـ ـ ـوهـ ـ ـ ــا َغ َس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـق ـ ـ ـ ـاً مث اجن ـ ـ ـ ـلـ ـ ـ ــت‬
‫َخـ ـ ـ ـ ُّد ال ُّسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ـ ـ ــا‬
‫لـ ـ ـ ـنـ ـ ـ ـعـ ـ ـ ـلـ ـ ـ ـه ـ ـ ــا طـ ـ ـ ـراق‬ ‫(‪) 2‬‬ ‫ل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـئ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــن أملهل أمل ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ‬
‫ـدم‬ ‫ٌ‬
‫جت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــري هب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا االج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــال واألرزاق‬ ‫أو ك ـ ـ ـ ـ ـ ــان م ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلـد يَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َدهُ إىل ي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍـد‬
‫ح ـ ـ ـ ـ ـ ُّـد حس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــام وسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ـ ــا رقـ ـ ـ ـ ـ ـراق‬ ‫ص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َدأً وحت ـ ـت ـ ـ ــه‬
‫ص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ يُـ ـ ْع ـ ـلَـ ـى َ‬‫ـ ـ ــال ـ ـنهل ْ‬
‫زوراء ْأوىف (‪ ) 3‬نـ ـ ـ ـ ـ ــزع ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـ ـ ــا اإلغ ـ ـ ـ ـ ـ ـراق‬ ‫الرأي عن‬ ‫ـب بص ـ ـ ـ ـ ـ ــلي ـ ــب هل‬ ‫ص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـلي ـ ـ َ‬
‫رمى ال هل‬
‫(‪) 4‬‬
‫والـ ـ ـ ـ ـعـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ــش يف ـ ـ ـ ــرجن ـ ـ ـ ـ ٍـة س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ــاق‬ ‫ون ـ ــوم م ـ ـ ْـن خ ـ ـل ـ ــف اخل ـ ـل ـ ـي ـ ــج َس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َه ـ ـٌر‬
‫إزه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاق‬ ‫زأره‬ ‫مه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوس‬ ‫خ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوف‬ ‫ـس وال إش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــارة‬ ‫م ـ ـ ـ ــاتـ ـ ـ ـ ـوا ـ ـ ـ ــضم مه ـ ـ ـ ـ ٌ‬
‫(‪) 6‬‬
‫جـ ـ ـ ـ ـ هلـدتَـ ـ ـ ـ ـك اإلخـ ـ ـ ـ ــضمق‬ ‫(‪) 5‬‬
‫وال َع ـ ـ ـ ـ ـَرا‬ ‫ت من ــك اللهلي ــايل م ــا كسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــت‬ ‫ال َس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـلَبَـ ـ ْ‬
‫‪ 2‬ـ مقتله‪541 :‬هـ‪ :‬جتمع املصادر على أن زنكي اغتي ليلة اخلامس من ربيع االخر عام ‪541‬هـ خضمل حصاره لقلعة‬
‫املقربني ‪ ،‬الذين كانوا يقومون على حراسته أثناء‬ ‫جعرب ‪ ،‬عندما انقض عليه ـ وهو انئم ـ غضمم أو عدة غلمان من مماليكه هل‬
‫نومه ‪ ،‬وإهنم هربوا ـ بعد قتله ـ إىل القلعة ‪ ،‬واندوا أصحاهبا حبقيقة األمر ‪ ،‬فتحوا هلم األبواب ‪ ،‬وإنه ما إن انتشر نبأ‬
‫االغتيال يف معسكره حىت اضطرب ‪ ،‬وتشتت ‪ ،‬وسادته الفوضى ‪ ،‬لم َير قادته بُداً من ك احلصار والهلرحي (‪ ، )7‬قال‬
‫ابن األثري‪..« :‬ختم هللا ابلشهادة يف أعماله»‪.‬‬
‫هل‬
‫أن احلمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـام َسيُـْتـلَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى حبمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـام‬ ‫الق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى احلمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـام ولـ ـ ـ ـ ـ ـم أك ـ ـ ـن ُمستَيقن ـ ـ ـ ـ ـاً‬
‫أي انصر لإلميان رح‬ ‫أي جنم لإلسضمم أ ‪ ،‬و ُّ‬ ‫أضحى وقد خانه األم وأدركه األج ‪ ،‬وختلهلى عنه العبيد واخلول ‪ُّ ،‬‬
‫رس‪ ،‬كم‬ ‫س ‪ ،‬ومل يـُْنجه قُـلهلةُ(‪ )8‬حص ٍن ‪ ،‬وال صهوةُ ٍ‬ ‫أي بدر مكارم غرب ‪ ،‬وأ ُّ ٍ‬
‫ي أسد اُْ ُرت َ‬ ‫أي حبر ندى نَب ‪ ،‬و ُّ‬ ‫‪ ،‬و ُّ‬
‫أجهد نفسه لتمهيد امللك وسياسته ‪ ،‬وكم هلأدهبا(‪ )9‬يف حفظه وحراسته‪.‬‬
‫أاته مبيد األمم ‪ ،‬ومقسيها يف احلَ َدث والقدم ‪ ،‬أصاره بعد القهر للخضمئق مقهوراً ‪ ،‬وبعد وثري املَاجع يف الرتاب‬
‫ت صحيفةُ عمله ‪ ،‬هو موثوق يف صورة مستسلم(‪.)10‬‬ ‫ٍ‬
‫معفراً مقبوراً ‪ ،‬رهني َج َدث ال ينفعه إال ما قَدهلم ‪ ،‬قد طُويَ ْ‬

‫(‪ )1‬الغساق‪ :‬ما يسي من صديد أه النار وغُسالتهم‪.‬‬


‫(‪ )2‬كويكب صغري خفي الَوء يف بنات نعش الكربى‪.‬‬
‫(‪ )3‬يف النسخ اخلطية‪ :‬أوهى‪.‬‬
‫(‪ )4‬السياق‪ :‬نزع الروح عند املوت‪.‬‬
‫(‪ )5‬يف األص ‪ :‬عرق‪.‬‬
‫(‪ )6‬أخبار الروضتني يف أخبار الدولتني (‪.)153/1‬‬
‫(‪ )7‬ذي اتريخ دمشق ص ‪ 284‬عماد الدين زنكي ص ‪.183‬‬
‫(‪ )8‬القلة‪ :‬أعلى اجلب ‪ ،‬وقلة ك شيء أعضمه‪.‬‬
‫(‪ )9‬كتاب الروضتني أخبار الدولتني (‪.)154/1‬‬
‫(‪ )10‬املصدر نفسه (‪.)155/1‬‬

‫‪136‬‬
‫وقد اختلفت املصادر يف تفاصي عملية القت ‪ ،‬وهوية القات ‪ ،‬وسبب القت ‪ ،‬من حيث تفاصي عملية القت ؛ يشري‬
‫أن عماد الدين زنكي إذا انم ينام حول سريره عدد من خدمه ‪ ،‬يشقون عليه يف حاليت يقظته‪،‬‬ ‫العماد األصفهاين إىل هل‬
‫ومنامه‪ ،‬ويذودون عنه ذود اآلساد يف مضممحه ‪ ،‬ويزورونه زور اخليال يف أحضممه ‪ ،‬وهو حيبُّهم أعمق احلب ‪ ،‬ولكنه مع‬
‫الو اء منهم جيفو هم أبناء الفحول القروم من الرتك‪ ،‬واألرمن‪ ،‬والروم ‪ ،‬وكان من دأبه أنه إذا نقم على كبري؛ أرداه‪،‬‬
‫وأقصاه‪ ،‬واستبقى ولده وخصاه‪.‬‬
‫هم على أهنم من ذوي االختصاص ينتهزون يه رصة االقتصاص ‪ ،‬نام تلك الليلة وحوله مماليكه ‪ ،‬انتبه وهم قد‬
‫أسر ذلك يف‬
‫شرعوا يف اللعب ‪ ،‬وأخذوا يف الطرب ‪ ،‬زجرهم ‪ ،‬وتوعدهم وهم ساكتون ‪ ،‬لكن كبريهم املدعو «يرنقش» هل‬
‫نفسه ‪ ،‬وراح ينتظر الفرصة لألخذ بثأره ‪ ،‬وما إن عاد سيده إىل النوم اثنية حىت أسرع إليه ‪ ،‬وبرك عليه ‪ ،‬وذحبه ‪،‬‬
‫يشك أحد يه ابعتباره كبري حراس زنكي ‪،‬‬‫واستطاع ـ بعد ذلك ـ أن يتسل من املعسكر إىل أسوار جعرب ‪ ،‬دون أن هل‬
‫وهناك أخرب أه القلعة وحراسها مبا أقدم عليه ‪ ،‬وأراهم األدلة ‪ ،‬والعضممات(‪ ، )1‬أسرعوا إبشاعة اخلرب يف داخ القلعة‬
‫‪ ،‬وبني صفوف قواته؛ كي يشيعوا االضطراب يها ‪ ،‬وجيربوها على االنسحاب ‪ ،‬وقد جنحوا يف ذلك(‪.)2‬‬
‫ويتفق ك ٌّ من ابن القضمنسي ‪ ،‬وسبط ابن اجلوزي ‪ ،‬مع العماد األصفهاين يف هذه الرواية مع اختصار وحذف بعض‬
‫التفاصي (‪.)3‬‬
‫أن زنكي هتدد يرنقش خضمل النهار ‪ ،‬خاف األخري منه‪ ،‬وأسرع ابغتياله ليضمً(‪ .)4‬وأما من‬‫وأما ابن العدمي إنه يذكر‪ :‬هل‬
‫حيث هوية القات ؛ يشري ك ٌّ من ابن القضمنسي‪ ،‬ورنسيمان ‪ ،‬وأليسييف إىل أن القات كان من أص إ رجني‪.‬‬
‫أما حسن حبشي يقول‪« :‬ولع القات كان ابطنياً»(‪ .)5‬ومن حيث سبب القت يبدو أن صاحب قلعة َج ْع َرب هو‬
‫حرض على قتله كي يتخلص من احلصار ‪ ،‬وأنه كان على صلة ابلقات ‪ ،‬بدلي ما أورده ابن العدمي من أن حساانً‬ ‫الذي هل‬
‫البعلبكي صاحب منبج تقدم إىل أسوار القلعة ‪ ،‬واندى على ابن مالك ‪ ،‬وقال له‪« :‬اي أمري علي! أيش بقى خيلصك‬
‫من أاتبك؟»‪.‬‬
‫قال له‪« :‬اي عاق ! خيلصين الذي خلهلصك من حبس بلك»‪ .‬يعين حني قُت بلك على منبج ‪ ،‬وخلص حسان ‪،‬‬
‫(‪)6‬‬
‫يَاف إىل ذلك أن يرنقش التجأ إىل القلعة بعد حادثة االغتيال ‪ ،‬والراجح أن يرنقش نفهلذ عملية االغتيال مد وعاً‬
‫لثضمثة عوام ‪ :‬شخصية ‪ ،‬ونفسية ‪ ،‬وسياسية(‪.)7‬‬
‫أما العام الشخصي‪ :‬يتمثهل بتهديد عماد الدين زنكي له ‪ ،‬وخشيته عاقبة هذا التهديد ‪ ،‬أسرع ابغتيال سيده د اعاً‬
‫عن نفسه‪.‬‬

‫(‪ )1‬عماد الدين زنكي ص ‪ 183‬اتريخ دولة ال سلجوق ص ‪.190‬‬


‫(‪ )2‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.160‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.160‬‬
‫(‪ )4‬زبدة حلب (‪ 281/2‬ـ ‪ )282‬عماد الدين زنكي ص ‪.184‬‬
‫(‪ )5‬نور الدين والصليبيون ص ‪ 40‬اتريخ الزنكيني ص ‪.184‬‬
‫(‪ )6‬اتريخ الزنكيني يف املوص ص ‪.160‬‬
‫(‪ )7‬املصدر نفسه ص ‪ 160‬عماد الدين زنكي ص ‪.184‬‬

‫‪137‬‬
‫ويتجلى أتثري العام النفسي يف انزعاج يرنقش من معاملة عماد الدين زنكي القاسية له ‪ ،‬وزجره إايه ‪ ،‬مث شعوره العميق‬
‫مبا أصابه من ظلم(‪ ، )1‬ولعب إحساسه مبرارة اإلهانة دوره ‪ ،‬اند ع حلماية كرامته ‪ ،‬وذبح سيده ‪ ،‬ويصور األصفهاين‬
‫حركات يرنقش أثناء االغتيال ابلشك الذي يربز أثر االنفعال النفسي يها‪ « :‬أسرع إىل زنكي ‪ ،‬وبرك عليه وذحبه يف‬
‫نومه»(‪.)2‬‬
‫وأما الدا ع السياسي لضمغتيال‪ :‬يقوم على وجهني‪ :‬أوهلما‪ :‬اتفاق يرنقش ـ سراً ـ مع أصحاب قلعة جعرب الغتيال عدوهم‬
‫‪ ،‬وإهناء أزمتهم بعد أن كاد حصنهم يوشك على االستسضمم ‪ ،‬ويدخ ضمن هذا االحتمال كون يرنقش ذا ميول ابطنية‬
‫‪ ،‬ورمبا تسل إىل خدمة زنكي ُمنذ زمن بعيد لتحقيق هد ه هذا ‪ ،‬كعادة الباطنية يف التسرت ‪ ،‬واالنتظار الطوي لتنفيذ‬
‫اغتياالهتم ‪ ،‬لكبار الشخصيات السياسية السنية ‪ ،‬اليت كانت تشك خطراً على دعوهتم ‪ ،‬خاصة إذا ما عر نا العطف‬
‫‪ ،‬الذي كان يبديه أمراء جعرب جتاه الباطنية‪ .‬أما اثين االحتماالت السياسية‪ :‬كون يرنقش ذا أص «إ رجني»‪ .‬كما‬
‫أكد ابن القضمنسي ‪ ،‬وابن واص ‪ ،‬ورنسمان ‪ ،‬وحيتم أن يكون قد أقدم على علته؛ إما ابتفاق سري مع الصليبيني ‪،‬‬
‫أو بدا ع شخصي مرجت ؛ يعود إىل حرصه على مصاحل قومه ‪ ،‬اليت بدأ زنكي يوجه إليها ضرابت حامسة‪.‬‬
‫وال نستطيع اجلزم ٍ‬
‫أبي من هذه الدوا ع الثضمث الغتيال زنكي ‪ ،‬ذلك أن املصادر ـ كما رأينا ـ مل تعط القول الفص يف‬
‫هذا اجملال ‪ ،‬ومن اخلطأ االعتقاد أبن يرنقش ذا األص الفرجني اغتال سيده وهو يف قمة انتصاره على اجلبهتني الصليبية‬
‫نفسي حمض ‪ ،‬وال ريب أن وراء هذا االغتيال اخلطري يف هذه املرحلة الصعبة دوا ع‬ ‫شخصي ‪ ،‬أو ٍ‬‫ٍ‬ ‫واإلسضممية بدا ع‬
‫سياسية أبعد مد ًى ‪ ،‬وأشد خطورة ‪ ،‬رمبا تعود إىل األص الفرجني للقات ‪ ،‬أو إىل ميوله الباطنية ‪ ،‬ورمبا تعود إىل اتفاقه‬
‫سراً مع أمراء قلعة جعرب لقاء ما منهلوه به إذا أمت ختليصهم من عماد الدين زنكي ‪ ،‬الذي غدا قاب قوسني ‪ ،‬أو أدىن من‬
‫اجتياح حصنهم‪.‬‬
‫واجته القات بعد أن اغتال زنكي ‪ ،‬إىل أسوار قلعة جعرب بسكينه امللطخ ابلدم ‪ ،‬وصاح يف احلرس‪ :‬شيلوين ‪ ،‬قد قتلت‬
‫زنكي‪ .‬لم يصدقوه ‪ ،‬أراهم السكني ‪ ،‬وعضممة أخرى ‪ ،‬كان قد أخذها من سيده ‪ ،‬وعند ذلك أصعدوه إىل القلعة ‪،‬‬
‫وحتققوا صدق ما كان يقول(‪ .)3‬وعندما بُشَر صاحب جعرب ابلنبأ؛ مل يصدقه أول األمر ‪ ،‬واوى يرنقش إىل القلعة ‪،‬‬
‫سر بذلك ‪ ،‬واستبشر مبا أاته من الفرج بعد الشدهلة الشديدة(‪.)4‬‬ ‫وأكرمه ‪ ،‬وعرف حقيقة األمر ‪ ،‬هل‬
‫ويشري ابن العدمي إىل رد الفع الذي أحدثه القات يف أه القلعة ‪ ،‬عندما انداهم‪ :‬إين قتلت زنكي؛ أجابوه‪ :‬اذهب‬
‫إىل لعنة هللا ‪ ،‬قد قتلت املسلمني كلهم بقتله(‪.)5‬‬

‫(‪ )1‬اتريخ الزنكيني يف املوص ص ‪.161‬‬


‫(‪ )2‬اتريخ دولة ال سلجوق ص ‪ 189‬ـ ‪ 190‬عماد الدين زنكي ص ‪.185‬‬

‫(‪ )3‬عماد الدين زنكي ص ‪.186‬‬


‫(‪ )4‬عماد الدين زنكي ص ‪.186‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه ص ‪.186‬‬

‫‪138‬‬
‫ومل يقبض القات مثناً خليانته إال املطاردة واخلوف ‪ ،‬ذلك أن حكام جعرب قاموا بطرده بعد وقت قصري من التجائه إليهم‬
‫‪ ،‬ومل يكا ئوه على عمله؛ رمبا خو اً من قيام نور الدين حممود زنكي أمري حلب ابالنتقام منهم ألبيه‪ .‬وأخرياً متهل إلقاء‬
‫القبض على القات ‪ ،‬وأرس خمفوراً إىل املوص حيث قت هناك(‪.)1‬‬
‫وعندما انتشر خرب اغتيال زنكي يف معسكره انقسم إىل قسمني‪ :‬اجته أحدمها إىل حلب بقيادة نور الدين حممود‪ ،‬واجته‬
‫القسم االخر إىل املوص بقيادة مجال الدين األصفهاين‪ ،‬حيث قام هو وكبار األمراء بتنصيب سيف الدين غازي أمرياً‬
‫على املوص (‪ .)2‬ومحلت جثة زنكي إىل الرقهلة حيث د نت هناك ‪ ،‬يف منطقة قبور شهداء صفني(‪.)3‬‬
‫‪ 3‬ـ ما قي يف مقت عماد الدين زنكي من شعر‪:‬‬
‫اضطربت األمور بعد مقت عماد الدين ‪ ،‬واختلت املسالك بعد اهليبة املشهورة ‪ ،‬واألمنة املشكورة ‪ ،‬وانطلقت أيدي‬
‫الرتكمان ‪ ،‬واحلراميهلة يف اإل ساد يف األطراف والنواحي ‪ ،‬وقال أبو يعلى التميمي يف صفة هذا احلال أبيااتً‪:‬‬
‫س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـع ـ ـ ــادت ـ ـ ــه عـ ـ ـ ـن ـ ـ ــه وخ ـ ـ ـ هلـرت دع ـ ـ ــائـ ـ ـ ـم ـ ـ ــه‬ ‫ك ـ ـ ــذاك عـم ـ ـ ــاد ال ـ ـ ــديـن زنـكـي تـن ـ ـ ــا ـرت‬
‫وأنـ ـ ـ ـ ـ ـواع ديـ ـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ـ ــاج ح ـ ـ ـ ـ ــوهت ـ ـ ـ ـ ــا خم ـ ـ ـ ـ ــامت ـ ـ ـ ـ ــه‬ ‫وكم بي ـ ـ ــت م ـ ـ ــال من نَُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا ٍر وجوهر‬
‫حي ـ ـ ــام ـ ـ ــي عـ ـ ـ ـلـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـه ـ ـ ــا جـ ـ ـ ـن ـ ـ ــده وخـ ـ ـ ـوادم ـ ـ ــه‬ ‫وأض ـ ـ ـ ـ ــحت أبعلى ك حص ـ ـ ـ ـ ــن مص ـ ـ ـ ـ ــونةً‬
‫ي ـ ـ ـ ــروع األع ـ ـ ـ ــادي َح ـ ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ـ ـيُـ ـ ـ ـ ـه وب ـ ـ ـ ـ ـرامج ـ ـ ـ ــه‬ ‫طهم‬
‫ومن صـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا ن ـ ـ ــات اخلي ـ ـ ـ ك ـ ـ ـ ُّ ُم هل‬
‫أبق ــضممـ ـه ـ ـ ــا م ـ ـ ــا أدرك ال ــوص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــف انظـ ـم ـ ـ ــه‬ ‫لو رام ــت ال ُكتهلـ ـاب وص ـ ـ ـ ـ ـ ــف ش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ــاهت ــا‬
‫وشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــامــخ حص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــن مل ت ـف ـت ـ ـ ــه غ ـن ـ ـ ــائ ـم ـ ـ ــه‬ ‫وك ـ ــم مـ ـ ـعـ ـ ـق ـ ـ ـ ق ـ ـ ــد رام ـ ـ ــه بس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ـ ــو ـ ـ ــه‬
‫وق ـ ـ ـ ــد أ هلم ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ـت ـ ـ ـ ـه ـ ـ ـ ــم ُك ـ ـ ـ ـْتـ ـ ـ ـ ـبُ ـ ـ ـ ـه وخ ـ ـ ـ ـوامت ـ ـ ـ ــه‬ ‫ودانـ ـ ـ ــت والة األرض ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ــا ألمـ ـ ـ ــره‬
‫يُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراع هب ـ ـ ـ ـ ـ ــا أعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراب ـ ـ ـ ـ ـ ــه وأع ـ ـ ـ ـ ـ ــامج ـ ـ ـ ـ ـ ــه‬ ‫وأ هلمـ ـ ـ ـن م ـ ـ ــن يف كـ ـ ـ ـ قـ ـ ـ ـط ـ ـ ــر هبـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـب ـ ـ ــة‬
‫ـق ـ ـ ــد زال ع ـن ـه ــم ظُ ـ ْل ـ ُم ـ ـ ـه وخصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــائ ـم ـ ـ ــه‬ ‫وظـ ـ ـ ــامل قـ ـ ـ ــوم حـ ـ ـ ــني يُـ ـ ـ ـذكـ ـ ـ ــر َع ـ ـ ـ ـ ْدلُـ ـ ـ ـه‬
‫ول ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ــس لـ ـ ـ ــه ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ــا ن ـ ـ ـ ـظـ ـ ـ ــري ي ـ ـ ـ ـزامحـ ـ ـ ــه‬ ‫وأص ـ ـ ـ ـ ـ ــبح س ـ ـ ـ ـ ـ ــلط ـ ـ ــان البضمد بس ـ ـ ـ ـ ـ ــيف ـ ـ ــه‬
‫ومل ي ـ ـ ـب ـ ـ ــق يف األم ـ ـ ــضمك م ـ ـ ـل ـ ـ ــك ي ـ ـ ـق ـ ـ ــاوم ـ ـ ــه‬ ‫وزاد عـلــى األمــضمك أبس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً وسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـطــوة‬
‫وراعـ ـ ـ ـ ـت ُوال َة األرض مـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ــه لـ ـ ـ ـ ـوائـ ـ ـ ـ ـم ـ ـ ـ ــه‬ ‫ـ ـ ـل ـ ـ ـم ـ ـ ــا ت ـ ـ ـن ـ ـ ــاهـ ـ ــى م ـ ـ ـل ـ ـ ـك ـ ـ ــه وجـ ـ ــضمل ـ ـ ــه‬
‫ـ ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ــم تُـ ـ ـ ـ ـْنـ ـ ـ ـ ـجـ ـ ـ ـ ـه أمـ ـ ـ ـ ـوال ـ ـ ـ ــه ومـ ـ ـ ـ ـغ ـ ـ ـ ــامن ـ ـ ـ ــه‬ ‫أاته قَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاء ال تُـ ـ ـ ـ ُّرد س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ــامـ ـ ـ ــه‬
‫وح ـ ـ ــام ـ ـ ــت عـ ـ ـ ـلـ ـ ـ ـي ـ ـ ــه ابملـ ـ ـ ـن ـ ـ ــون حـ ـ ـ ـوائـ ـ ـ ـم ـ ـ ــه‬ ‫وأدرك ـ ـ ــه ل ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ـح ـ ـ ــني ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـه ـ ـ ــا مح ـ ـ ـ ـام ـ ـ ــهُ‬
‫ـوىل ذحب ـ ـ ــه ـ ـ ـي ـ ـ ــه خ ـ ـ ــادم ـ ـ ــه‬ ‫ص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـري ـ ـ ـع ـ ـ ـاً ت ـ ـ ـ هل‬ ‫وأضـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـحــى ع ـلــى ظ ـهــر ال ـف ـراش ُجم ـ ـ ـ هلدالً‬
‫ومـ ـ ـ ــن حـ ـ ـ ــولـ ـ ـ ــه أب ـ ـ ـ ـطـ ـ ـ ــالـ ـ ـ ــه وص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوارُم ـ ـ ـ ـه‬ ‫وق ـ ـ ــد ك ـ ـ ــان يف اجليش اللُّه ـ ـ ــام(‪ )4‬مبيت ـ ـ ــه‬

‫(‪ )1‬عماد الدين زنكي ص ‪.187‬‬


‫(‪ )2‬عماد الدين زنكي ص ‪.187‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.187‬‬
‫(‪ )4‬اللُّهام‪ :‬أي الكثري ‪ ،‬كأنه يلتهم ك شيء‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫تـ ـ ـ ــذود الـ ـ ـ ـ هلـردى ع ـ ـ ـ ـنـ ـ ـ ــه وقـ ـ ـ ــد انم انئ ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ــه‬ ‫ومسُْ ـ ـ ـ ـ ُر ال ـ ـ ـ ـع ـ ـ ـ ـوايل َح ـ ـ ـ ـ ْولَـ ـ ـ ـهُ أب ُك ـ ـ ـ ـف ـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ــم‬
‫أبس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ـم ـه ـ ـ ــا بـُ ـ ْردى مــن ال ـطــري ح ـ ـ ــائ ـم ـ ـ ــه‬ ‫ومن دون هـ ـ ــذا ُعص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـةٌ قـ ـ ــد ترتهلبـ ـ ــت‬
‫ومه ـ ـ ـتُ ـ ـ ـه ت ـ ـ ـع ـ ـ ـلـ ـ ــو وت ـ ـ ـقـ ـ ــوى شـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك ـ ـ ــائ ـ ـ ـم ـ ـ ــه‬ ‫وكـ ـ ـ ــم رام مـ ـ ـ ــن األايم راحـ ـ ـ ــة س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــره‬
‫ومس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرح َحـ ـ ـ ـ ٍي أن تـ ـ ـ ـراع س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوائـ ـ ـ ـم ـ ـ ــه‬ ‫وكـ ـ ـ ــم مسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـلـ ـ ـ ـ ٍ‬
‫ـك أم ـ ـ ـ ـن ُسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـْبـ ـ ـ ـ ـلَ ـ ـ ـ ـه‬ ‫َْ‬
‫مـ ـ ـ ـ ــن الـ ـ ـ ـ ــروم ملـ ـ ـ ـ ــا أدرك ـ ـ ـ ـ ـتـ ـ ـ ـ ــه م ـ ـ ـ ـ ـرامحـ ـ ـ ـ ــه‬ ‫وك ــم ثـ ـغ ــر إس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــضمم مح ـ ـ ــاه بسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـف ـ ـ ــه‬
‫وتـ ـ ـ ـنـ ـ ـ ـف ـ ـ ــذ يف أقصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــى الـ ـ ـ ـب ـ ـ ــضمد مـ ـ ـ ـرامسُ ـ ـ ـه‬ ‫ـ ـ ـم ـ ــن ذا ال ـ ـ ــذي أييت هبـ ـ ـيـ ـ ـب ـ ـ ــة مـ ـ ـثـ ـ ـل ـ ـ ــه‬
‫أراقـ ـ ـ ـ ـم ـ ـ ـ ــه ذلهلـ ـ ـ ـ ـ ْ‬
‫(‪) 1‬‬
‫ت هـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ــاك أراقـ ـ ـ ـ ـ ُمـ ـ ـ ـ ـه‬ ‫ـ ـل ــو ُرقـ ـي ـ ـ ــت يف ك ـ ـ ـ مصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــر ب ـ ـ ــذك ــره‬

‫إذا م ـ ـ ـ ـ ــا أاته األم ـ ـ ـ ـ ــر وهللا ح ـ ـ ـ ـ ــامتـُـ ـ ـ ـ ـه‬ ‫من ذا الــذي ينجو من الــدهلهر س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاملـاً‬
‫ش واحلـ ـ َم ـ ـ ـ ُام حي ـ ـ ــاوم ـ ـ ــه‬ ‫صـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْفـ ـ ُو َعـ ـْيـ ـ ٍ‬
‫ل ـ ـ ــه َ‬ ‫ومن رام ص ـ ـ ـ ـ ـ ــفواً يف احلي ـ ــاة م ـ ــا يرى‬
‫ودع ــه ــإن ال ــدهر ال ش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــك ق ــاص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم ــه‬ ‫ـإايك ال ت ـ ـغ ـ ـبـ ــط م ـ ـل ـ ـي ـ ـك ـ ـ ـاً مب ـ ـل ـ ـك ـ ـ ــه‬
‫ـ ـ ـ هل‬
‫ُروي ـ ـ ــدك م ـ ـ ــا تـ ـ ـ ـب ـ ـ ــين ـ ـ ــده ـ ـ ــرك ه ـ ـ ــادم ـ ـ ــه‬ ‫وق ـ ـ ـ لل ـ ـ ــذي يبين احلص ـ ـ ـ ـ ـ ــون حلفظ ـ ـ ــه‬
‫( ‪)2‬‬
‫هب ـ ـ ــا يتن ـ ـ ــاس ـ ـ ـ ـ ـ ــى املرء م ـ ـ ــا هو عـ ـ ــازم ـ ـ ــه‬ ‫ويف م ـ ـ ـ ـث ـ ـ ـ ـ هـ ـ ـ ــذا عـ ـ ـ ــربة وم ـ ـ ـ ـواعـ ـ ـ ــظ‬
‫وقال احلكيم أبو احلكم املغريب قصيدة يف راثء عماد الدين جاء يها‪:‬‬
‫واسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـتـ ـهـ ـلـ ـي دم ـ ـ ـاً عـ ـل ــى ـ ـق ـ ـ ــد زنـ ـك ــي‬ ‫ـني ال ت ـ ـ ــدخ ـ ــري ال ـ ـ ــدم ـ ــوع وبَـ ـ ـكـ ـ ـي‬
‫عــ ٌ‬
‫ك ـ ـ ــان ـ ـ ــت ل ـ ـ ــه ه ـ ـي ـ ـب ـ ـ ــة ع ـ ـل ــى ك ـ ـ ـ تُـ ـرك ــي‬ ‫الردى بع ــد أن‬ ‫مل يَـ َه ـ ـب ش ـ ـ ـ ـ ـ ــخص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه هل‬
‫وع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـظ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـ ـ ــم ب ـ ـ ـ ـ ـ ــني األانم بُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُززك‬ ‫ك ذي ه ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـبـ ـ ـ ــة وهبـ ـ ـ ــاء‬ ‫خـ ـ ـ ــري م ـ ـ ـ ـ ْل ـ ـ ـ ـ ٍ‬
‫ُ َ‬
‫ميـهلـ ـ ـ ـ َمـ ـ ـ ـ ـه م ـ ـ ـ ــادحـ ـ ـ ـ ـاً بـ ـ ـ ـ ـغ ـ ـ ـ ــري تَـ ـ ـ ـ ـلَـ ـ ـ ـ ـكـ ـ ـ ـ ـي‬ ‫ب امل ـ ـ ـ ـ ــال واجلـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ـ ـاد مل ـ ـ ـ ـ ــن‬ ‫يَـ ـ ـ ـ ـ ـ َهـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫ه ـ ـ ـ ـ ــي عـ ـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ـ ــدي أح ـ ـ ـ ـ ـ ُّـق دار ب ـ ـ ـ ـ ــرتك‬ ‫إن داراً مت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدُّان ابل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلـرزااي‬ ‫هل‬
‫وانَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُح ـ ـ ـ ـوهُ بـ ـ ـ ــزع ـ ـ ـ ـف ـ ـ ـ ـران ومس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــك‬ ‫ـ ـ ــا ْسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُك ـ ـ ـب ـ ـ ـوا ـ ـ ــوق قـ ـ ــربه م ـ ـ ــاء َوْرٍد‬
‫أي ـت ـ ـ ــك‬ ‫ب ـع ـ ـ ــد م ـ ـ ــا اسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت ـف ـتــح الـ ُّـره ـ ـ ــا هل‬ ‫ـك ج ـ ـ ــرى ل ـ ـ ــه يف األع ـ ـ ــادي‬ ‫أي ـ ـ ـ ـت ـ ـ ـ ٍ‬
‫ُّ‬
‫الـ ــدهر يس ـ ـ ـ ـ ـ ــريُ يف جنـ ــب مص ـ ـ ـ ـ ـ ــرع زنكي‬ ‫ب‬ ‫ك ـ ـ ـ ـ خ ـ ـ ـ ـط ـ ـ ـ ــب أت ـ ـ ـ ــت ب ـ ـ ـ ــه نـُ ـ ـ ـ ـ َو ُ‬
‫الـ ُّـروم وحيــوي الـبــضمد مــن غــري(‪ )3‬شـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــك‬ ‫ب ـ ـ ـ ـعـ ـ ـ ــد مـ ـ ـ ــا كـ ـ ـ ــاد أن تـ ـ ـ ــديـ ـ ـ ــن لـ ـ ـ ــه‬
‫‪ 4‬ـ وائد متنوعة من البداية والنهاية يف عهد إمارة عماد الدين زنكي‪:‬‬

‫(‪ )1‬كتاب الروضتني يف أخبار الدولتني (‪.)165/1‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه (‪.)166/1‬‬
‫(‪ )3‬كتاب الروضتني يف أخبار الدولتني (‪.)167/1‬‬

‫‪140‬‬
‫‪ 1‬ـ يف سنة ‪523‬هـ قال ابن كثري‪ :‬يف هذه السنة قت صاحب دمشق من الباطنية ستة االف ‪ ،‬وعلهلق رأس كبريهم على‬
‫ابب القلعة ‪ ،‬وأراح هللا أه الشام منهم ‪ ،‬و يها حاصرت الفرنج مدينة دمشق ‪ ،‬خرج إليهم أهلها قاتلوهم قتاالً‬
‫شديداً ‪ ،‬وبعث أه دمشق عبد الوهاب الواعظ ومعه مجاعة من التجار إىل بغداد يستغيثون ابخلليفة ‪،‬‬
‫ومهوا بكسر منرب اجلامع ‪ ،‬حىت وعدوا أبهنم سيكتبون إىل السلطان ليبعث جيشاً كثيفاً نصرة أله الشام لم يبعث‬
‫إليهم جيش حىت نصرهم هللا من عنده ‪ ،‬هزمهم املسلمون ‪ ،‬وقتلوا منهم عشرة االف ‪ ،‬ومل يفلت منهم سوى أربعني‬
‫نفساً وهلل احلمد واملنة ‪ ،‬وقت بَـْيمنَ ْد الفرجني صاحب أنطاكية(‪.)1‬‬
‫‪ 2‬ـ ويف أحداث عام ‪524‬هـ‪ :‬يها كانت زلزلة عظيمة ابلعراق ‪ ،‬هتدمت بسببها دور كثرية ببغداد ‪ ،‬ووقع أبرض املوص‬
‫ور كثرية من ذلك ‪ ،‬وهتارب الناس‪ .‬و يها وجد ببغداد عقارب طيارة‬ ‫أتج ُج ‪ ،‬احرتقت ُد ٌ‬
‫مطر عظيم ‪ ،‬سقط بعَه انراً هل‬
‫هلا شوكتان ‪ ،‬خاف الناس منها خو اً شديداً‪ .‬و يها ملك عماد الدين زنكي بضمداً كثرية من اجلزيرة ‪ ،‬ومن بضمد الفرنج‬
‫‪ ،‬وجرت له معهم حروب طويلة ‪ ،‬وخطوب جليلة ‪ ،‬ونُصر عليهم يف تلك املواقف كلها ‪ ،‬وهلل احلمد واملنة ‪ ،‬وقت خلقاً‬
‫من جيش الروم حني قدموا إىل الشام ‪ ،‬ومدحه الشعراء على ذلك(‪.)2‬‬
‫غزة ‪ ،‬وقد جاوز الثمانني من عمره ‪،‬‬ ‫يب هو من أه هل‬ ‫‪ 3‬ـ ويف عام ‪524‬هـ تويف إبراهيم بن عثمان ‪ ،‬أبو إسحاق ال َك ْل ُّ‬
‫وله شعر جيد‪ .‬ومن شعره يف األتراك قوله‪:‬‬
‫ل ـلـ هلـر ْع ـ ـ ـد َك ـهلرا ُهتُـ ْم صـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــواتً وال ص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ـت ـ ـ ــا‬ ‫يف تنـ ـ ــة من جيوش الرتك مـ ـ ــا تركـ ـ ــت‬
‫(‪) 3‬‬
‫ُحس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـاً وإ ْن قُوتلُوا ك ـ ــانوا عف ـ ــاريت ـ ــا‬ ‫ق ـ ــوم إذا قُـ ـ ـوب ـ ـ ـل ـ ـ ـوا ك ـ ـ ــان ـ ـ ـوا م ـ ــضمئ ـ ـ ـك ـ ـ ــة‬
‫وله أيَاً‪:‬‬
‫ي مــن يصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـط ـف ـي ـه ـ ـ ــا‬
‫وال هلسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـف ـي ـ ـ ــهُ ال ـغَـو ُّ‬ ‫إهلمن ـ ـ ـ ـ ـ ـا هـ ـ ـ ـ ـ ــذه احل ـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ـ ــاةُ م ـ ـ ـ ـ ـ ـتـ ـ ـ ـ ـ ــاعٌ‬
‫(‪) 4‬‬
‫ول ـ ـ ــك السـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاع ـ ـ ــة اليت أن ـ ـ ــت يه ـ ـ ــا‬ ‫ب‬
‫م ـ ـ ــا مَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــى ـ ـ ــات واملــؤهلم ـ ـ ـ ُ َغ ـْي ـ ـ ـ ٌ‬
‫ويف سنة ‪525‬هـ تويف أمحد بن حممد ‪ ،‬أبو نصر الطوسي ‪ ،‬مسع احلديث وتفقه ابلشيخ أيب إسحاق الشريازي ‪ ،‬وكان‬
‫نور ‪ ،‬قال ابن اجلوزي‪ :‬أنشدين‪:‬‬
‫شيخاً لطيفاً عليه ٌ‬
‫(‪)5‬‬
‫قصَرت عنك اخلطوب عن ُعذر‬ ‫وإن هل‬ ‫إن نلت خرياً ن ْلتهُ بعزمية‬
‫قال‪ :‬أنشدين أيَاً‪:‬‬
‫ـت أش ـ ـ ـ ـ ـ ــكو إىل موالي مـ ـ ــا أجـ ـ ــد‬ ‫وقمـ ـ ـ ُ‬ ‫الرجــا والنــاس قــد َرقـ ُـدوا‬
‫ـت ثوب هل‬ ‫لبس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫َ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر أعتم ـ ـ ـ ُـد‬
‫ومن علي ـ ـ ــه لكش ـ ـ ـ ـ ـ ــف ال ُّ‬ ‫ـت اي ُع ـ ـ ـ ـدهليت يف ك ـ ـ ـ ـ انئ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ــة‬‫وق ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ُ‬
‫إلـ ـي ـ ـ ــك اي خ ــري م ــن ُم ـ ـ ـدهلت إلـ ـي ـ ـ ــه ي ـ ـ ـ ُـد‬ ‫َ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـُّر ُمش ـ ـ ـ ـ ـ ــتم ـ ٌ‬
‫وقــد مــددت يــدي وال ُّ‬

‫(‪ )1‬كتاب الروضتني يف أخبار الدولتني (‪.)167/1‬‬


‫(‪ )2‬البداية والنهاية (‪.)284/16‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه (‪.)285/16‬‬
‫(‪ )4‬املصدر نفسه (‪.)286/16‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه (‪.)286/16‬‬

‫‪141‬‬
‫ـ ـ ـ ــضم تَ ـ ـ ـ ـ ـ ُرهلد هلهن ـ ـ ـ ـ ـا اي َرب خ ـ ـ ـ ــائ ـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ـ ـةً‬
‫(‪)1‬‬
‫ـ ـبـ ـح ـ ُـر ُجـ ـودك ي ـ ْـروي ك ـ ـ ـ م ــن يَـ ـرد‬
‫‪ 5‬ـ ويف سنة ‪ 527‬هـ اقتت الفرنج يما بينهم قتاالً شديداً ‪ ،‬محق هللا منهم خلقاً كثرياً ‪ ،‬وغزاهم يها أيَاً عماد‬
‫الدين زنكي ‪ ،‬قت منهم ألف قتي وغنم أمواالً جزيلة ‪ ،‬ويقال هلا‪ :‬غزاة أسوار(‪ .)2‬ويف نفس السنة تويف حممد بن أمحد‬
‫بن حيىي ‪ ،‬أبو عبد هللا العثماين الديباجي ‪ ،‬وكان ببغداد يُعرف ابملقدسي ‪ ،‬وتفقه ووعظ الناس ببغداد‪ .‬قال ابن‬
‫اجلوزي‪ :‬مسعته ينشد يف جملسه قوله‪:‬‬
‫وب قلب ـ ـ ـاً ص ـ ـ ـ ـ ـ ــحيحـ ـ ــا‬ ‫مل تَ ـ ـ ـ َد ْع يل الـ ـ ــذنُ ُ‬ ‫دع ج ـ ـ ـ ـفـ ـ ـ ــوين َحي ـ ـ ـ ـ ُّق يل أن أَنُـ ـ ـ ـو َح ـ ـ ـ ـا‬
‫ْ‬
‫ونَـع ـ ـ ــاين املشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ــب نـعـي ـ ـ ـاً صـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيـح ـ ـ ــا‬ ‫ت هب ـجــيت أكــف امل ـع ـ ـ ــاص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي‬ ‫أ ْخ ـلَ ـ َق ـ ـ ـ ْ‬
‫ع ـ ـ ــاد قـ ـ ـ ـل ـ ـ ــيب م ـ ـ ــن ال ـ ـ ــذن ـ ـ ــوب َجـ ـ ـ ـرحي ـ ـ ــا‬ ‫ـت ق ـ ـ ــد بَـ ـرا ُج ـ ـر ُح ق ـ ـل ــيب‬
‫ك ـ ـل ـ ـم ـ ـ ــا قُـ ـل ـ ـ ـ ُ‬
‫( ‪)3‬‬
‫ج ـ ـ ــاء يف احلش ـ ـ ـ ـ ـ ــر امن ـ ـ ـاً ُمس ـ ـ ـ ـ ـ ـ َـرتحي ـ ـ ــا‬ ‫إمن ـ ـ ــا ال ـ ـ ـ ـف ـ ـ ــوز وال ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ـع ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ُـم ل ـ ـ ـ ـع ـ ـ ـ ـب ـ ـ ــد‬
‫ويف سنة ‪533‬هـ تويف علي بن أ لح الكاتب ‪ ،‬وقد خلع عليه اخلليفة العباسي املسرتشد ‪ ،‬ولقهلبه مجال امللك ‪ ،‬وأعطاه‬
‫هن‪ ،‬واختذ مكاهنن داراً هائلة طوهلا ستون ذراعاً يف عرض أربعني‪،‬‬ ‫أربعة دور ‪ ،‬وكانت له دار إىل جانبهن هدمهن كلهل هل‬
‫اجهلراً‪ ،‬وذهباً بناها ‪ ،‬وغرم عليه ابن أ لح ماالً جزيضمً‪ ،‬وكتب على أبواهبا وطرازاهتا أشعاراً‬ ‫وأطلق له اخلليفة أخشاابً و ُ‬
‫حسنة من نظمه ‪ ،‬ونظم غريه كان على الطُُّرز مكتوب(‪:)4‬‬
‫م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا ع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاش دار ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاخ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرة‬ ‫ومـ ـ ــن املـ ـ ــروءة ل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـفـ ـ ــىت‬
‫االخ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرة‬ ‫ل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدار‬ ‫واعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ ــاق ـ ـ ـ ـ ـ ـنـ ـ ـ ـ ـ ــع مـ ـ ـ ـ ـ ــن الـ ـ ـ ـ ـ ــدن ـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ـ ــا هبـ ـ ـ ـ ـ ــا‬
‫(‪) 5‬‬
‫وع ـ ـ ـ ـ ــدت وه ـ ـ ـ ـ ــذي س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاح ـ ـ ـ ـ ــرة‬ ‫مبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا‬ ‫وا ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة‬ ‫هـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــك‬
‫ويف موضع اخر مكتوب‪:‬‬
‫أع ـ ـ ــادت ـ ـ ــه م ـ ـ ــن ُح ْسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـنـ ـ ـ ـه ـ ـ ــا َرْونَـ ـ ـ ـ َقـ ـ ـ ـا‬ ‫ـأن جـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـنَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا َن اخلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــود‬ ‫ٍ‬
‫واند ك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هل‬
‫أن ال تُ ـ ـ ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلم ب ـ ـ ـ ـ ـ ــه م ـ ـ ـ ـ ـ ــوت ـ ـ ـ ـ ـ ـق ـ ـ ـ ـ ـ ــا‬ ‫وأع ـ ـ ـ ـ ـط ـ ـ ـ ـ ـت ـ ـ ـ ــه م ـ ـ ـ ــن ح ـ ـ ـ ــاداثت ال ـ ـ ـ ــزم ـ ـ ـ ــان‬
‫بـُ ـ ـ ـ ـين مـ ـ ـ ـ ـ ْغـ ـ ـ ـ ـرابً ك ـ ـ ـ ــان أو مشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرق ـ ـ ـ ــا‬ ‫ـ ـ ــأض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـح ـ ـ ــى يـ ـ ـ ـتـ ـ ـ ـي ـ ـ ــه عـ ـ ـ ـل ـ ـ ــى كـ ـ ـ ـ م ـ ـ ــا‬
‫وُمتس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي الَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ــوف ب ـ ـ ــه طُـ ـ ـ ـهلرق ـ ـ ــا‬ ‫ت ـ ـ ـ ـ ـ ـظ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُّ ال ـ ـ ـ ـ ــو ـ ـ ـ ـ ــود ب ـ ـ ـ ـ ــه عُ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلك ـ ـ ـ ـ ـ ـف ـ ـ ـ ـ ـ ـاً‬
‫وال ـ ـ ــفَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ مـ ـ ـ ـهـ ـ ـ ـم ـ ـ ــا أردت الـ ـ ـ ـبـ ـ ـ ـق ـ ـ ــا‬ ‫ـت ل ـ ـ ـ ـ ــه اي مج ـ ـ ـ ـ ــال املـ ـ ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ـ ــوك‬ ‫بـ ـ ـ ـ ـ ـقـ ـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـ ـ َ‬
‫ووقـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ــت مـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ــه ال ـ ـ ـ ــذي يُـ ـ ـ ـ ـتهل ـ ـ ـ ـ ـ َقـ ـ ـ ـ ـى‬
‫ُ‬ ‫وسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاملـ ـ ـ ـ ــه ـ ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ـ ــك ريـ ـ ـ ـ ــب الـ ـ ـ ـ ــزمـ ـ ـ ـ ــان‬

‫(‪ )1‬البداية والنهاية (‪.)289/16‬‬


‫(‪ )2‬البداية والنهاية (‪.)289/16‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه (‪.)298/16‬‬
‫(‪ )4‬املصدر نفسه (‪.)323/16‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه (‪.)323/16‬‬

‫‪142‬‬
‫ما صدقت هذه األماين ‪ ،‬ب عما قريب ـ بعد نيلها ـ هلاهتم اخلليفة ابن أ لح أبنه يكاتب ُدبَيساً ‪ ،‬أمر بتخريب هذه‬
‫ب اللي‬
‫يبق يها جدار ‪ ،‬وصارت خرابة بعد ما كان قد َح ُسن منها املقام والقرار ‪ ،‬وهذه حكمة من يقل ُ‬ ‫الدار ‪ ،‬لم َ‬
‫والنهار ‪ ،‬وجتري مبشيئة األقدار(‪.)1‬‬
‫ويف سنة ‪535‬هـ تويف حممد بن الباقي بن حممد بن كعب بن مالك األنصاري ‪ ،‬وكان مشاركاً يف علوم كثرية وقد أُسَر‬
‫يف صغره يف أيدي الروم ‪ ،‬أرادوه على أن يتكلم بكلمة الكفر ‪ ،‬لم يفع ‪ ،‬وتعلهلم منهم خط الروم ‪ ،‬وكان يقول‪« :‬من‬
‫خدم احملابر خدمته املنابر» ومن شعره الذي أورده ابن اجلوزي ومسعه عنه قوله‪:‬‬
‫س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍـن وم ــال م ــا اس ـ ـ ـ ـ ـ ــتطع ــت وم ــذه ــب‬ ‫اح ـ ـ ـف ـ ـ ـ ْظ لسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــان ـ ـ ــك ال تَـ ـ ـ ـبُـ ـ ـ ْح ب ـ ـ ـثـ ـ ــضمث ـ ـ ــة‬
‫مبـُـ ـ ـ ـكـ ـ ـ ـ ـفـ ـ ـ ـ ـ ٍر وحب ـ ـ ـ ــاسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد وُمـ ـ ـ ـ ـك ـ ـ ـ ــذب‬ ‫ـ ـ ـع ـ ـ ـل ـ ـ ــى ال ـ ـ ـث ـ ـ ــضمث ـ ـ ــة تـُ ـ ـ ـْبـ ـ ـ ـتَ ـ ـ ـل ـ ـ ــى ب ـ ـ ـث ـ ـ ــضمث ـ ـ ــة‬
‫ومن ذلك قوله‪:‬‬
‫ت‬‫ـ ـ ــإذا ان ــقَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــت وتصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلـرم ـ ـ ــت م ـ ـ ـ ُّ‬ ‫يل ُم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدهلة ال بُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلد أُب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـغ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ـ ـ ـ ـ ـ ــا‬
‫( ‪)2‬‬
‫م ـ ـ ــا ض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلـرين م ـ ـ ــا مل َجي ـ ـ ـي الـ ـ ــوق ـ ـ ــت‬ ‫لـ ـ ـ ــو عـ ـ ـ ــانَـ ـ ـ ـ َدتـ ـ ـ ــين األس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُـد ض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــارب ـ ـ ـ ـ ًة‬
‫ومن ذلك قوله‪:‬‬
‫َ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـْن ـ ـ ـك والَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيق‬
‫وللمف ـ ـ ــاليس دار ال هل‬ ‫دار أله ـ ـ ـ ـ ال ـ ـ ـ ـع ـ ـ ـ ـلـ ـ ـ ــم ط ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ـةٌ‬ ‫ـداد ٌ‬
‫ب ـ ـ ـ ـغـ ـ ـ ـ ُ‬
‫( ‪)3‬‬
‫ـحف يف بيـ ـ ــت زنـ ـ ــديق‬ ‫كـ ـ ــأنين مص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ‬ ‫ظ ـ ـ ـل ـ ـ ـل ـ ـ ــت ح ـ ـ ـريان أمش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي يف أزق ـ ـ ـت ـ ـ ـه ـ ـ ــا‬
‫غري حواسه ‪ ،‬وال عقله ‪ ،‬وكانت و اته اثين رجب من هذه السنة‬
‫العمر ثضماثً وتسعني سنة مل تتَ هل‬
‫قال ابن اجلوزي‪ :‬بلغ من ُ‬
‫‪ ،‬وحَر جنازته األعيان ‪ ،‬والناس ‪ ،‬ود ن قريباً من قرب بشر(‪.)4‬‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه (‪.)324/16‬‬


‫(‪ )2‬البداية والنهاية (‪.)329/16‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص (‪.)330/16‬‬
‫(‪ )4‬املصدر نفسه (‪.)330/16‬‬

‫‪143‬‬
‫الفصل الثاين‬

‫املبحث األول ‪ :‬امسه ونسبه وأسرته وتوليه احلكم‬

‫هو نور الدين زنكي ‪ ،‬صاحب ال شام ‪ ،‬امللك العادل ‪ ،‬انصر أمري املؤمنني ‪ ،‬تقي امللوك ‪ ،‬ليث اإلسضمم ‪ ،‬أبو القاسم‬
‫حممود بن األاتبك قسيم الدولة أيب سعيد ـ عماد الدين ـ زنكي بن األمري الكبري آق سنقر الرتكي ‪ ،‬السلطاين امللكشاهي‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫مولده يف شوال سنة إحدى عشرة ومخسمئة(‪ .)1‬وهم ينتسبون إىل قبيلة ساب يو الرتكية ‪ ،‬وال تذكر املصادر التارخيية‬
‫شيئاً عن نشأة نور الدين وشبابه ‪ ،‬ولكنها مجيعاً تؤكد‪ :‬أنه ترىب يف طفولته حتت رعاية وإشراف والده ‪ ،‬وأن والده كان‬
‫يقدمه على إخوانه ‪ ،‬ويرى يه خماي النجابة(‪.)2‬‬
‫وملا جاوز الصبا؛ لزم والده حىت مقتله ‪541‬هـ‪1047/‬م(‪ ،)3‬وكانت حياة عماد الدين يف رتة حكمه املوص من‬
‫‪521‬هـ ‪541‬هـ مدرسة عليا شاملة جلميع أنواع املعارف اإلنسانية‪ :‬يف جماالت العلوم السياسية ‪ ،‬واإلدارية ‪ ،‬والعسكرية‬
‫‪ ،‬ابإلضا ة إىل العلوم الشرعية الدينية ‪ ،‬وقد مجعت مدرسة احلياة الكربى اليت عاش يها نور الدين بني األسلوب النظري‬
‫‪ ،‬والتطبيقي(‪.)4‬‬
‫وقد تزوج نور الدين عام ‪541‬هـ الزواج الذي مل تكن من وراءه جارية‪ ،‬وال ُسريهلة‪ ،‬من عصمت الدين خاتون ابنة األاتبك‬
‫معني الدين حاكم دمشق ‪ ،‬بعد أن ترددت املراسضمت بني الرجلني ‪ ،‬واستقرت احلال بينهما على أمج صفة‪ ،‬وأتكدت‬
‫األمور على ما اقرتح ك ٌّ منهما ‪ ،‬وكتب كتاب العقد يف دمشق مبحَر من رس نور الدين يف الثالث والعشرين من‬
‫شوال‪ .‬وما إن متهل إعداد اجلهاز؛ حىت قف الو د عائداً وبصحبة ابنة معني الدين(‪ ،)5‬وخلهلف نور الدين من زوجته هذه‬
‫ابنةً واحدة ‪ ،‬وولدين مها الصاحل إمساعي ‪ ،‬الذي توىل احلكم من بعده‪ .‬وتويف شاابً مل يبلغ العشرين من العمر من جراء‬
‫مرض أمل به عام ‪577‬هـ ‪ ،‬وأمحد الذي ولد حبمص عام ‪547‬هـ مث تويف يف دمشق طفضمً(‪.)6‬‬
‫وقد ذكر ابن منري يف أشعاره هتنئته لنور الدين مبولوده اجلديد ‪ ،‬قال‪:‬‬
‫م ـ ـ ـ ـ ـ ـوارد كـ ـ ـ ـ ـ ــان م ـ ـ ـ ـ ـ ـعـ ـ ـ ـ ـ ــدهنـ ـ ـ ـ ـ ــا عـ ـ ـ ـ ـ ــذااب‬ ‫وجـ ـ ـ ـ ـئ ـ ـ ـ ــت أبمح ـ ـ ـ ــد ـ ـ ـ ـ ـم ـ ـ ـ ــألت مح ـ ـ ـ ــداً‬
‫قـ ـ ـ ـ ـوابـ ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ــه ل ـ ـ ـ ــك املـ ـ ـ ـ ـلـ ـ ـ ـ ـك الـ ـ ـ ـ ـلـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ــااب‬ ‫هت ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ـ وجـ ـ ـ ــه ُم ـ ـ ـ ـلـ ـ ـ ــك يـ ـ ـ ــوم أهـ ـ ـ ــدت‬
‫َ‬
‫سـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ــا وح ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـاً وب ـ ـ ــذالً واسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت ـ ـ ــضماب‬ ‫ش ـ ـ ـ ـ ـ ــبيه ـ ـ ــك ال يغ ـ ـ ــادر من ـ ـ ــك ش ـ ـ ـ ـ ـ ــيئ ـ ـ ـاً‬
‫مـ ـ ـ ــن امسـ ـ ـ ــك زاد ل ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ـم ـ ـ ـ ـعـ ـ ـ ــين م ـ ـ ـ ـنـ ـ ـ ــااب‬ ‫أن ح ـ ـ ـ ــر ـ ـ ـ ـاً‬ ‫قس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ــم احل ـ ـ ـ ـم ـ ـ ـ ــد إال هل‬
‫(‪) 7‬‬
‫ـص ابل ـ ـ ــبش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرى ال ـ ـ ــرك ـ ـ ــااب‬
‫ورك ـ ـ ــب ن ـ ـ ـ هل‬ ‫أال هلل يـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوم ُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهلر ع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه‬
‫وسرعان ما امتدت تقوى الرج إىل زوجته ‪ ،‬وابنه األكرب ‪ ،‬كانت زوجته تكثر القيام يف اللي ‪ ،‬وانمت ليلة عن‬
‫وردها ‪ ،‬أصبحت؛ وهي غََّب ‪ ،‬سأهلا نور الدين عن أمرها ‪ ،‬ذكرت نومها الذي هلوت عليها وردها ‪ ،‬أمر نور‬
‫السحر ‪ ،‬لتوقظ النائمني حينذاك للقيام ‪ ،‬ومنح الَاربني أجراً جزيضمً(‪.)8‬‬ ‫الدين عند ذلك بَرب الطبول يف القلعة وقت هل‬

‫(‪ )1‬سري أعضمم النبضمء (‪.)531/20‬‬


‫(‪ )2‬دور نور الدين حممود يف هنَة األمة ومقاومة غزو الفرجنة ص ‪.73‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.73‬‬
‫(‪ )4‬املصدر نفسه ‪ 88‬ـ ‪.89‬‬
‫(‪ )5‬ذي اتريخ دمشق ص ‪ 288‬ـ‪ 289‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.48‬‬
‫(‪ )6‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.418‬‬
‫(‪ )7‬كتاب الروضتني (‪.)221/1‬‬
‫(‪ )8‬البداية والنهاية نقضمً عن نور الدين حممود ص ‪.49‬‬

‫‪145‬‬
‫وصفها املؤرخون أبهنا كانت من أحسن النساء ‪ ،‬وأعفهن ‪ ،‬وأكثرهن خدمة ‪ ،‬متمسكة من الدين ابلعروة الوثقى ‪،‬‬
‫وكانت هلا أوقاف ‪ ،‬وصدقات كثرية‪ ،‬وبر عظيم(‪ ،)1‬وقد ذكر ابن كثري يف أحداث عام ‪563‬هـ‪« :‬ويف شوال وصلت‬
‫ت عصمت الدين خاتون بنت معني‬ ‫حتج من هناك ‪ ،‬وهي الس ُّ‬
‫امرأة امللك نور الدين حممود زنكي إىل بغداد ‪ ،‬تريد أن هل‬
‫الدين أنر ‪ ،‬تلقاها اجليش؛ ومعهم صندل اخلادم ‪ ،‬ومحلت هلا اإلقامات ‪ ،‬وأكرمت غاية اإلكرام»(‪.)2‬‬
‫وعرف عن الصاحل إمساعي تقواه العميقة ‪ ،‬والتزامه األخضمقي املسؤول ‪ ،‬حىت ر ض األخذ برأي األطباء يف شرب شيء‬
‫من اخلمر عندما أحلهلت عليه علة القولنج ‪ ،‬اليت أودت حبياته‪ .‬وقال‪ :‬ال‪ .‬حىت أسأل الفقهاء ‪ ،‬لما أ توه ابجلواز؛ مل‬
‫يقب ‪ ،‬وسأل كبريهم‪ :‬إن هللا تعاىل هلقرب أجلي؛ أيؤخره شرب اخلمر؟ قال‪ :‬ال‪ .‬أجابه‪ :‬وهللا ال لقيت هللا وقد علت‬
‫حرم علي(‪.)3‬‬
‫ما هل‬
‫أوالً‪ :‬انقسام الدولة الزنكية بعد مقتل عماد الدين زنكي‪:‬‬
‫عندما قت عماد الدين زنكي سنة ‪541‬هـ كان ابنه األكرب سيف الدين غازي مقيماً بشهرزور ‪ ،‬وهي إقطاعةٌ من قبي‬
‫أبيه‪ .‬بينما كان نور الدين حممود وهو االبن الثاين لعماد الدين مع أبيه عند قلعة جعرب‪ .‬وبعد أن شهد مصرع أبيه؛ أخذ‬
‫خامته من يده ‪ ،‬وسار ببعض العساكر إىل حلب ‪ ،‬ملكها هي وتوابعها يف ربيع االخر سنة ‪541‬هـ‪1146/‬م(‪، )4‬‬
‫وكان عمره ثضمثون سنة‪ .‬كما كان مع زنكي أيَاً على قلعة جعرب امللك ألب أرسضمن ابن السلطان حممود السلجوقي ‪،‬‬
‫وكان زنكي يظهر أنه حيكم البضمد ابمسه ُمنذ سنة ‪521‬هـ‪1127/‬م ‪ ،‬حيث اصطحبه معه إىل املوص أبمر من السلطان‬
‫حممود(‪.)5‬‬
‫وقد ذكر املؤرخون‪ :‬أن امللك ألب أرسضمن حاول أن حي حم زنكي يف ملك البضمد ‪ ،‬وأن يبعد أوالده عنها ‪ ،‬جمع‬
‫العساكر ‪ ،‬و هل‬
‫أعد العدة للتوجه إىل املوص ‪ ،‬بقصد االستيضمء عليها ‪ ،‬ولكن الوزير مجال الدين األصفهاين(‪ ، )6‬قام بدور‬
‫كبري يف احلفاظ على الدولة الزنكية ‪ ،‬وإبقائها يف أيدي أوالد صاحبه ‪ ،‬وويل نعمته عماد الدين زنكي‪.‬‬
‫ما أن شعر بقصد امللك ألب أرسضمن حىت ابدر ابالتصال ابألمري صضمح الدين حممد الياغسياين ‪ ،‬حاجب عماد‬
‫الدين متناسياً ما كان بينهما من خضمف ‪ ،‬اتفقا على حفظ الدولة ألوالد زنكي ‪ ،‬وإبعاد امللك ألب أرسضمن‬
‫السلجوقي(‪ )7‬عنها ‪ ،‬حيث أرس الوزير مجال الدين إىل صضمح الدين الياغسياين يقول له‪« :‬إن املصلحة أن نرتك ما‬
‫كان بيننا وراء ظهوران ‪ ،‬ونسلك طريقاً يبقى يه امللك يف أوالد صاحبنا ‪ ،‬وهنر بيته جزاءً إلحسانه إلينا ‪ ،‬إن امللك‬
‫نتضمف هذا األمر يف أوله ‪ ،‬ونتداركه يف بدايته؛‬
‫َ‬ ‫(ألب أرسضمن) قد طمع يف البضمد ‪ ،‬واجتمعت عليه العساكر ‪ ،‬ولئن مل‬

‫(‪ )1‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.49‬‬


‫(‪ )2‬البداية والنهاية (‪.)425/16‬‬
‫(‪ )3‬الباهر ص ‪ 182‬نور الدين حممود ص ‪.49‬‬
‫(‪ )4‬زبدة حلب (‪ )285/2‬احلياة يف العهد الزنكي ص ‪.42‬‬
‫(‪ )5‬الباهر ص ‪ 72 ، 71‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.42‬‬
‫(‪ )6‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.42‬‬
‫(‪ )7‬هناية األرب نقضمً عن احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.43‬‬

‫‪146‬‬
‫اخلرق ‪ ،‬وال ميكن رقعه» ‪ ،‬أجابه صضمح الدين إىل ذلك ‪ ،‬وحلف ك ُّ واحد منهما لصاحبه(‪ ،)1‬وكان أول‬ ‫ليتسعن ْ‬
‫عم قام به مجال الدين ‪ ،‬وصضمح الدين أَ ْن أرسضم رسوالً على وجه السرعة إىل زين الدين علي ُك َجك انئب زنكي يف‬
‫املوص ‪ ،‬خيرباه مبا حص لزنكي سارع سيف الدين غازي للحَور من شهرزور إىل املوص لتسلم احلكم يها ‪،‬‬
‫وتسلمها قب أن يتمكن ألب أرسضمن السلجوقي من الوصول إليها(‪.)2‬‬
‫تكف الوزير مجال الدين األصفهاين إبهلائه وخمادعته ‪ ،‬ريثما تستتب األمور‬ ‫أما امللك ألب أرسضمن السلجوقي قد هل‬
‫لسيف الدين غازي يف املوص ‪ ،‬وظ هل يتنق من مكان إىل اخر يف اجلزيرة ‪ ،‬حىت تفرق معظم أصحابه عنه ‪ ،‬مث اجته‬
‫إىل املوص ُقبض عليه ‪ ،‬وأودع السجن ‪ ،‬ومل أيت له ذكر بعد هذا التاريخ(‪.)3‬‬
‫وهكذا انقسمت الدولة الزنكية بعد مقت مؤسسها عماد الدين ‪ ،‬بني ولديه سيف الدين غازي ‪ ،‬الذي حكم املوص ‪،‬‬
‫(‪)4‬‬
‫واجلزيرة ‪ ،‬ونور الدين حممود الذي حكم مدينة حلب ‪ ،‬وما جاورها من مدن الشام‪ .‬أما أخومها نصرة الدين أمري أمريان‬
‫حران اتبعاً ألخيه نور الدين حممود ‪ ،‬يف حني كان األخ الرابع قطب الدين مودود ‪ ،‬ال يزال يف رعاية أخيه‬
‫‪ ،‬قد حكم هل‬
‫سيف الدين غازي ابملوص ‪ .‬وكان هنر اخلابور هو احلد الفاص بني أمضمك األخوين ‪ ،‬و هلأدى الوضع اجلغرايف الشرقي إىل‬
‫أن‪:‬‬
‫ـ يرث غازي األول املشاك الداخلية مع ك ٍ من اخلضم ة العباسية ‪ ،‬والسلطنة السلجوقية يف العراق‪:‬‬
‫أ ـ حيمي حدود اإلمارة من غارات سضمجقة ارس‪.‬‬
‫ب ـ حيمي ثغور اإلمارة الشمالية من تعدايت سضمجقة الروم ‪ ،‬والدامشنديني والبيزنطيني يف آسيا الصغرى‪.‬‬
‫أما يف القسم الغريب؛ قد ورث نور الدين حممود املشكلتني الكبريتني املمثلتني أباتبكية دمشق ‪ ،‬واإلمارات الصليبية‬
‫املنتشرة يف خمتلف بضمد الشام‪.‬‬
‫اثنياً‪ :‬ترتيب أوضاع البيت الزنكي‪:‬‬
‫كان من الطبيعي أن تنشأ بني البيتني الزنكيني يف ك ٍ من املوص ‪ ،‬وحلب عضمقات وثيقة ‪ ،‬بفع الروابط األسرية من‬
‫جهة ‪ ،‬واشرتاك ال زنكي عامة هبدف واحد ‪ ،‬وهو اجلهاد ضد الصليبيني يف بضمد الشام‪ .‬وكانت حلب تشك ابلنسبة‬
‫ضد أي خطر تتعرض له ‪ ،‬نشأت نتيجة لذلك عضمقات جيدة بني سيف‬ ‫وصمام األمان هل‬
‫للموص خط الد اع األول هل‬
‫الدين غازي األول ‪ ،‬صاحب املوص ‪ ،‬وأخيه نور الدين حممود ‪ ،‬صاحب حلب ‪ ،‬مث بني األمراء الذين توالوا على‬
‫حكم املوص بعد غازي األول‪.‬‬
‫إال أن هذه العضمقات الودية القائمة على التعاون والد اع املشرتك شهدت يف بعض األوقات توراً عاماً ‪ ،‬كان ال يلبث‬
‫أن تتضمشى لتعود احملبة واأللفة(‪ ، )5‬بعد استقراره يف املوص ‪ ،‬واجلزيرة ‪ ،‬وبعض مناطق بضمد الشام كحمص ‪ ،‬والرحبة‪،‬‬

‫(‪ )1‬الباهر ص ‪.85 ، 84‬‬


‫(‪ )2‬اتريخ دولة ال سلجوق ص ‪ 191‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.44‬‬
‫(‪ )3‬مفرج الكروب (‪.)109/1‬‬
‫(‪ )4‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.44‬‬
‫(‪ )5‬اتريخ الزنكيني يف املوص ص ‪.169 ، 168‬‬

‫‪147‬‬
‫والرقة ‪ ،‬كان على سيف الدين غازي األول أن ينسق مع أخيه نور الدين حممود يف حلب ‪ ،‬ويتعاون معه الستكمال‬
‫سياسة والدمها القاضية ابلتصدي للصليبيني ‪ُ ،‬مدركاً يف الوقت نفسه أمهية هذا التعاون خشية أن يستغ أعداء األسرة‬
‫رصة انقسام اإلمارة الزنكية ملهامجتها ‪ ،‬ابإلضا ة إىل الظهور ‪ ،‬مبظهر القوة أمامهم ‪ ،‬لذلك رأى ضرورة االجتماع أبخيه‬
‫بني وقت واخر لتسوية ما قد ينشأ بينهما من أزمات داخلية ‪ ،‬بسبب توزيع اإلرث الزنكي‪.‬‬
‫ويبدو‪ :‬أن العضمقات بني األخوين تعرضت ألزمة عابرة ‪ ،‬عقب و اة والدمها بدلي أن سيف الدين غازي األول أرس‬
‫إىل أخيه نور الدين حممود يدعوه للحَور إليه ‪ ،‬إال أن صاحب حلب أتخر يف تلبية الدعوة معلضمً تصر ه ابهنماكه يف‬
‫حماربة الصليبيني(‪ ،)1‬وقد كانت هناك جمموعة من األسباب سامهت يف الفتور يف العضمقة بني األخوين ‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫أ ـ رأى سيف الدين غازي األول‪ :‬أنه كان جيب على أخيه الوقوف إىل جانبه ‪ ،‬عندما تعرض احلكم الزنكي يف املوص‬
‫خلَة سياسية ‪ ،‬أاثرها امللك ألب أرسضمن السلجوقي هبدف االستيضمء على السلطة ‪ ،‬وذلك حىت تستقر األوضاع هلما‬
‫يف البضمد ‪ ،‬مث يستأذنه يف العودة إىل بضمد الشام‪.‬‬
‫عد سيف الدين غازي األول ‪ ،‬تصرف أخيه نور الدين حممود ‪ ،‬بعد مقت والدمها أمام قلعة َج ْع َرب خروجاً على‬ ‫ب ـ هل‬
‫التقاليد األسرية ‪ ،‬عند القبائ الرتكية اليت تقَي أبن تكون السيادة لضمبن األكرب(‪.)2‬‬
‫تصرف أخيه انفصاالً واضحاً عن الدولة الزنكية؛ ألن استئثار نور الدين حممود‬
‫ج ـ رأى سيف الدين غازي األول ‪ ،‬يف ُّ‬
‫أبمضمك األسرة يف حلب ‪ ،‬يعين تكوين حكم انفصايل عن دولة األاتبكة يف املوص (‪.)3‬‬
‫د عت هذه العوام سيف الدين غازي األول إىل اإلحلاح على أخيه نور الدين حممود لضمجتماع به ‪ ،‬وتسوية األمور‬
‫الرها ‪ ،‬اليت‬
‫تصرف صاحب املوص حبكمة إلزالة أسباب التوتر ‪ ،‬كما أنه مل يعارضه عندما استوىل على ُّ‬ ‫بينهما ‪ ،‬وقد هل‬
‫كانت تدخ يف منطقة نفوذه ‪ ،‬بعد حماولة جوسلني الثاين اسرتدادها من أيدي املسلمني يف أواخر عام‪541‬هـ‪/‬ربيع‬
‫الرها املهدهلدة ‪ ،‬لكنها وصلت بعد أن جنح نور‬ ‫الثاين ‪1147‬م والواقع‪ :‬أنه أرس قوة عسكرية ملساندة أخيه إلنقاذ ُّ‬
‫الدين حممود يف استعادهتا(‪ .)4‬وأخرياً حص اللقاء بني األخوين يف اخلابور‪ .‬ويف هذا االجتماع ‪ ،‬اعتذر نور الدين حممود‬
‫ألخيه عن أتخره يف احلَور ‪ ،‬وأظهر له الطاعة واالحرتام من جهته(‪ ، )5‬ولشدة حذر نور الدين اشرتط أن يكون‬
‫االجتماع ومع ك ٍ منهما مخسمئة ارس ‪ ،‬قب سيف الدين ‪ ،‬وخرج نور الدين؛ ومعه مخسمئة ارس ‪ ،‬رأى أخاه‬
‫سيف الدين وليس معه إال مخسة رسان تأكد من حسن نيته ‪ ،‬واقرتاب ‪ ،‬وتعانقا ‪ ،‬وبكيا‪ .‬وقال له سيف الدين من يل‬
‫غريك اي نور الدين ‪ ،‬وملن أدخر اخلري إن أسأت إىل أخي ‪ ،‬بعدها كان نور الدين خيرج إىل معسكر سيف الدين‬
‫للخدمة ‪ ،‬وصفت األمور بينه وبني أخيه(‪ ، )6‬وسكن روعه ‪ ،‬وعاد إىل حلب(‪ ، )7‬حيث مجع عساكره ‪ ،‬هل‬
‫وجتهز‪ ،‬مث عاد‬

‫(‪ )1‬اتريخ الزنكيني يف املوص ص ‪.170‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص ‪.170‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.170‬‬
‫(‪ )4‬الباهر ص ‪ ، 87‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.170‬‬
‫(‪ )5‬اتريخ الزنكيني يف املوص ص ‪.170‬‬
‫(‪ )6‬كتاب الروضتني يف أخبار الدولتني (‪.)172/1‬‬
‫(‪ )7‬الباهر ص ‪ 87‬ـ ‪ 88‬اتريخ الزنكيني يف املوص ص ‪.171‬‬

‫‪148‬‬
‫لضمستقرار يف كنف أخيه ‪ ،‬ووضع نفسه حتت تصر ه ‪ ،‬إال أن سيف الدين غازي األول أمره ابلعودة إىل بضمده ‪ ،‬وقال‬
‫له‪ « :‬ال غرض يل يف مقامك عندي وإمنا غرضي أن تعلم امللوك والفرنج اتفاقنا ‪ ،‬من يريد السوء بنا يكف عنا»‪ .‬لم‬
‫يرجع نور الدين ولزمه حىت قَيا ما كاان يه ‪ ،‬وعاد ك واحد منهما إىل بلده(‪.)1‬‬
‫‪ 1‬ـ و اة سيف الدين غازي األول‪ :‬استطاع سيف الدين ‪ ،‬ونور الدين أن حيضم املشاك ‪ ،‬اليت بينهما ‪ ،‬وتعاوان على‬
‫الرب والتقوى ‪ ،‬وكان من مظاهر التعاون بني األخوين اشرتاك عساكر املوص جنباً إىل جنب مع عساكر الشام يف اجلهاد‬
‫ضد الصليبيني؛ الذين حاصرت قواهتم املدينة يف احلملة الصليبية الثانية‬‫ضد الصليبيني ‪ ،‬وذلك يف الد اع عن دمشق هل‬
‫عام ‪543‬هـ‪1148/‬م ‪ ،‬وجناحهم يف مح الصليبيني على الرحي عن دمشق‪.‬‬
‫العرمية ‪ ،‬وطرد الصليبيني منه‪،‬‬
‫ومن مظاهر التعاون أيَاً‪ :‬اشرتاك عساكر املوص مع عساكر نور الدين يف تح حصن ُ‬
‫كما كان من مظاهر التعاون بني األخوين اشرتاك عساكر املوص مع قوات حلب يف هزمية الصليبيني يف إنب ‪ ،‬ويف‬
‫تح أ امية سنة ‪544‬هـ‪1149/‬م(‪.)2‬‬
‫إال أن العهد مل يط بسيف الدين غازي حيث تويف ابملوص يف مجادى االخرة من سنة ‪544‬هـ‪1149/‬م بعد أن‬
‫حكم املوص ثضمث سنني وشهراً وعشرين يوماً ‪ ،‬ود ن ابملدرسة اليت بناها ابملوص (‪ ، )3‬وكان رمحه هللا مجي الصورة ‪،‬‬
‫وزوجه ابنة أخيه قطب الدين مودود بن‬ ‫وكان عمره حنو أربع وأربعني سنة ‪ ،‬وخلهلف ذكراً رابه عمه نور الدين حممود هل‬
‫زنكي ‪ ،‬مث تويف ولد سيف الدين شاابً ‪ ،‬وانقرض عقبه(‪.)4‬‬
‫وكان سيف الدين غازي جواداً‪ ،‬كرمياً‪ ،‬شجاعاً‪ ،‬وهو الذي بىن املدرسة األاتبكية ابملوص ‪ ،‬وقفها على الفريقني‪ :‬احلنفية‬
‫‪ ،‬والشا عية ‪ ،‬وبىن رابطاً للصو ية ‪ ،‬وكان مقصداً للشعراء ‪ ،‬قصده شهاب الدين احليص ‪ ،‬وامتدحه بقصيدة قال يها‪:‬‬
‫سـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاب ـق ـ ـ ــة م ـع ـ ـ ــدودة يف ال ــبشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــائ ــر‬ ‫ـك إن مسـ ـ ـ ـي ـ ـ ــت يف املـ ـ ـ ـه ـ ـ ــد غ ـ ـ ــازايً‬
‫أاتب ـ ـ ـ ُ‬
‫وص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدهلقته ـ ــا والكفر ابدي الش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـع ـ ــائر‬ ‫ـت هب ـ ـ ــا وال ـ ـ ــديــن ق ـ ـ ــد م ـ ـ ــال ْروق ـ ـ ــه‬ ‫َوَـي ـ ـ ـ َ‬
‫وعزى أبو‬ ‫وقد أجازه سيف الدين أبلف دينار أمريي ‪ ،‬سوى اإلقامة والتعهد مدة مقامه ‪ ،‬وسوى اخللع والثياب(‪ .)5‬هل‬
‫احلسني أمحد بن منري نور الدين أبخيه سيف الدين بقصيدة ‪ ،‬منها‪:‬‬
‫مـ ـ ـ ــن أن يـ ـ ـ ــرى لـ ـ ـ ــك ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ــه ن ـ ـ ـ ـظ ـ ـ ـ ـريا‬ ‫وك ـ ـ ـ ـ ــان نـ ـ ـ ـ ـ ـظ ـ ـ ـ ـ ــريك غ ـ ـ ـ ـ ـ َـار ال ـ ـ ـ ـ ــزم ـ ـ ـ ـ ــان‬
‫مـ ـ ـ ــن األمـ ـ ـ ــن نـ ـ ـ ــوراً وقـ ـ ـ ــد ُك ـ ـ ـ ـ هلن بـ ـ ـ ــورا‬ ‫ـوس ب ـ ـ ــك اسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت ــوطـ ـن ـ ـ ــت‬ ‫ـ ـ ــدت ـ ـ ــك نـ ـف ـ ٌ‬
‫ـوىف األج ـ ـ ـ ـ ــورا‬ ‫ت ـ ـ ـ ـ ــوقهلـ ـ ـ ـ ـ ـى ال ـ ـ ـ ـ ـ هلـرَدى وت ـ ـ ـ ـ ـ هل‬ ‫ب ـ ـ ـ ـق ـ ـ ـ ـيـ ـ ـ ــت ُم ـ ـ ـ ـعـ ـ ـ ـ هلـزاً مـ ـ ـ ــن اهلـ ـ ـ ــال ـ ـ ـ ـكـ ـ ـ ــني‬
‫ـف ق ـ ـ ـ ـط ـ ـ ـ ـراً وأب ـ ـ ـ ـقـ ـ ـ ــى حبـ ـ ـ ــورا‬ ‫إذا ش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هل‬ ‫وم ـ ـ ـ ــا نـ ـ ـ ـ ـق ـ ـ ـ ــص ال ـ ـ ـ ـ هلـده ـ ـ ـ ـ ُـر أع ـ ـ ـ ــدادك ـ ـ ـ ــم‬
‫ط هل ـ ـ ــم يف ال هلس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم ـ ـ ــاء الـ ـ ـ ـقـ ـ ـ ـب ـ ـ ــورا‬ ‫َخلَـ ـ ـ ـ هل‬ ‫ولـ ـ ـ ـ ــو أنص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــف اجملـ ـ ـ ـ ــد مـ ـ ـ ـ ــواتكـ ـ ـ ـ ــم‬

‫(‪ )1‬الباهر ص ‪ ، 92‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.47‬‬


‫(‪ )2‬مفرج الكروب (‪.)116/1‬‬
‫(‪ )3‬مفرج الكروب (‪.)116/1‬‬
‫(‪ )4‬مفرج الكروب (‪.)116/1‬‬
‫(‪ )5‬كتاب الروضتني (‪ 228/1‬ـ ‪.)229‬‬

‫‪149‬‬
‫وأَْم ـ ـطَ ـ ـ ـ ْ‬
‫( ‪)1‬‬
‫ت مـ ــن اجلـ ــود ظ ـ ـه ـ ـراً ظ ـ ـه ـ ـريا‬ ‫حـ ـ ـ ـي ـ ـ ــات ـ ـ ــك أحـ ـ ـ ـي ـ ـ ــت رمـ ـ ـ ـي ـ ـ ــم احلـ ـ ـ ـي ـ ـ ــاة‬

‫وأما القيسراين قد قـال قصيـدة يف تعزية نور الدين‪:‬‬


‫ص ـ ـ ـ ـ ـ ـمص ـ ـ ـ ـ ــام أيتلق‬ ‫إن أُغمد الس ـ ـ ـ ـ ــيف ال هل‬ ‫م ـ ـ ــا أط ــرق اجل ـ ُّـو ح ــىت أش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرق األُُـ ـق‬
‫ُمم ـلهل ـ ـ ـك ي ـن ـج ـلــي عــن وج ـه ـ ـ ــه الــغَ َسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُق‬ ‫دون األس ـ ـ ـ ـ ـ ــى منــك نور الــدين يف حلــب‬
‫األر ُق‬
‫أراق م ـ ـ ــاء ال ـ َك ـَرى م ــن ج ـف ـن ـ ـ ــك َ‬ ‫كنت الشـ ـ ــقيق الشـ ـ ــفيق الغيب حني نوى‬
‫ٍ (‪)2‬‬
‫حص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيـن ـ ـ ــة حتـتـه ـ ـ ــا األحشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاء حتــرتق‬ ‫تلقى األس ـ ـ ــى يف لباس الص ـ ـ ــرب يف ُجنَن‬
‫ـ ـ ـ ـ ـ هل‬
‫إن أايم ـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ــا م ـ ـ ـ ــن دوهن ـ ـ ـ ــا طُـ ـ ـ ـ ـ ُر ُق‬ ‫وم ـ ـ ــدة األج ـ ـ ـ احمل ـ ـ ـتـ ـ ــوم إن خ ـ ـ ـف ـ ـ ـي ـ ـ ــت‬
‫خـي ـ ـ ـ إىل غ ـ ـ ــاي ـ ـ ــة األعـم ـ ـ ــال تس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـتـبــق‬ ‫وإمن ـ ـ ــا حن ــن يف مَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم ـ ـ ــار ح ـ ـل ـ ـي ـ ـت ـ ـه ـ ـ ــا‬
‫إىل أن قال‪:‬‬
‫(‪) 3‬‬
‫ال ـ ـ ــدي ــن مـ ـنـ ـتـ ـظ ــم واملـ ـل ـ ـ ــك ُمـ ـتهلس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُق‬ ‫ـك ـ ـي ـ ـن ـ ـ ــا غ ــري آ ـ ـل ـ ـ ـ ٍـة‬
‫م ـ ـ ــا دام مشسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ‬
‫‪ 2‬ـ تَ َـويل قطب الدين مودود زنكي إمارة املوص ‪ :‬اتفق الوزير مجال الدين األصفهاين ‪ ،‬وزين الدين علي ُكجك أمري‬
‫اجليش على أن خيلف قطب الدين أخاه على املوص ‪ ،‬أحَراه ‪ ،‬وحلهلفا له األمراء ‪ ،‬والعساكر يف املوص ‪ ،‬وتسلهلم‬
‫مجيع ما ألخيه سيف الدين غازي من البضمد التابعة للموص (‪.)4‬‬
‫وقد تعرضت العضمقات بني املوص والشام يف بداية حكم قطب الدين مودود ألزمة خطرية ‪ ،‬كادت تؤدي إىل اندالع‬
‫احلرب بني األخوين ‪ ،‬لوال أن قطب الدين تدارك األمر ‪ ،‬ووضع حداً لنزاعه مع أخيه نور الدين ‪ ،‬وتعود أسباب هذه‬
‫األزمة إىل أن بعض األمراء يف املوص ‪ ،‬وأعماهلا ـ وعلى رأسهم املقدم عبد امللك والد مشس الدين حممد صاحب سنجار‬
‫ـ راسلوا نور الدين ليتسلم البضمد بعد و اة سيف الدين ابعتباره أكرب سناً من أخيه قطب الدين(‪.)5‬‬
‫ويَيف ابن األثري سبباً اخر د ع هؤالء األمراء إىل استدعاء نور الدين هو‪ :‬كراهيتهم ‪ ،‬وحسدهم للوزير مجال الدين ‪،‬‬
‫(‪)6‬‬
‫وألمري اجليش زين الدين علي كجك ‪ ،‬للمكانة اليت كاان يتمتعان هبا يف املوص ‪ .‬وقد لقيت هذه املبادرة قبوالً طيباً‬
‫عند نور الدين ‪ ،‬وطمع يف ضم بضمد اجلزيرة ‪ ،‬واملوص حتت ملكه ليتحقق له توحيد اجلبهة اإلسضممية يف ظ قيادةٍ‬
‫موحدة ‪ ،‬وابعتباره الوريث الشرعي مللك أخيه سيف الدين‪.‬‬
‫جد نور الدين يف السري ‪ ،‬وقطع الفرات متجهاً إىل سنجار استوىل عليها(‪ ،)7‬وكان رد الفع عنيفاً يف املوص بعد‬‫هل‬
‫دخول نور الدين سنجار؛ إذ انزعج قطب الدين وأمراؤه املخلصون ُّ‬
‫وعدوا ذلك اعتداءً مباشراً عليهم على اعتبار أن‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه (‪.)230/1‬‬


‫(‪ )2‬مفردها ُجنهلة‪ :‬وهي الدرع‪.‬‬
‫(‪ )3‬كتاب الروضتني (‪.)230/1‬‬
‫(‪ )4‬الباهر ص ‪ 94‬زبدة حلب (‪.)296/2‬‬
‫(‪ )5‬الباهر ص ‪ 95‬زبدة حلب (‪ )296/2‬احلياة العلمية ص ‪.48‬‬
‫(‪ )6‬الباهر ص ‪ 95‬احلياة العلمية ص ‪.48‬‬
‫(‪ )7‬الباهر ص ‪ 96 ، 95‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.48‬‬

‫‪150‬‬
‫سنجار اتبعة هلم ‪ ،‬تجهز قطب الدين ‪ ،‬وخرج بعساكره حنو سنجار ‪ ،‬نزل بت يَع ُفر(‪ ، )1‬وأرس مجال الدين الوزير‪،‬‬
‫وزين الدين كجك أمري اجليش إىل نور الدين كتاابً ينكران عليه إقدامه على أخذ سنجار ‪ ،‬واعتداءه على أمضمك أخيه‬
‫ورد عليهما‬
‫قطب الدين مودود ‪ ،‬وهدداه بقصده؛ إن هو مل يرح عن البلد ‪ ،‬ولكن نور الدين مل يلتفت لتهديدمها هل‬
‫بقوله‪« :‬إنين أان األكرب ‪ ،‬وإين أحق أن أدبر أمر أخي له منكم ‪ ،‬وما جئت إال ملا تتابعت إيل كتب األمراء يذكرون‬
‫هل‬
‫كراهيتهم لواليتكما عليهم ‪ ،‬خفت أن حيملهم الغيظ ‪ ،‬واألنفة على إخراج األمر من أيدينا ‪ ،‬وأما هتديدكم إايي‬
‫ابحلرب ‪ ،‬والقتال ‪ ،‬أان ال أقاتلكم إال جبندكم»(‪.)2‬‬
‫أدرك الوزيران مجال الد ين حممد ‪ ،‬وزين الدين علي ما ينطوي عليه هذا الرد من أخطار ‪ ،‬أشارا على قطب الدين‬
‫مودود مبصاحلة أخيه ‪ ،‬والتنازل عن بعض املواقع يف الشام ‪ ،‬واليت كانت تتبع للموص مث محص ‪ ،‬والرحبة ‪ ،‬والرقة(‪،)3‬‬
‫مقاب انسحاب نور الدين من سنجار ‪ ،‬والعودة إىل حلب‪ .‬وا قهما قطب الدين ‪ ،‬ومتهل االتفاق بني األخوين ‪،‬‬
‫وانسحب نور الدين من سنجار حممضمً ابلكنوز اليت كانت خبزائن سنجار يف أايم أبيه(‪.)4‬‬
‫التحسن جعلت نور الدين يقوم يف عام (‪554‬هـ‪1159/‬م) على اختيار‬ ‫ُّ‬ ‫وقد بلغت العضمقات بني األخوين درجة من‬
‫أحس بَعفه ومرضه ‪ ،‬وقد أو د نور الدين إىل أخيه قطب الدين و داً‬ ‫قطب الدين ليخلفه يف حكم بضمده ‪ ،‬عندما هل‬
‫خيربه ابملوقف ‪ ،‬وابتفاق األمراء على توليته العهد بعده ‪ ،‬وطلب إليه احلَور بعساكره إىل الشام ‪ ،‬لما خرج قطب‬
‫الدين مودود على رأس جيشه من املوص ؛ وصلته األخبار بتحسن صحة أخيه نور الدين ‪ ،‬وقيامه من مرضه ‪ ،‬أقام‬
‫قطب الدين حيث هو ‪ ،‬وأرس وزيره مجال الدين حممد ملقابلة نور الدين حممود ‪ ،‬والوقوف على تطورات املوقف هناك‬
‫وص الوزير دمشق يف صفر سنة (‪554‬هـ‪1159/‬م) واجتمع بنور الدين وأبلغه استعداد قطب الدين ‪ ،‬ووضع إمكانياته‬
‫وعرب له عن شكره ملشاعر أخيه قطب الدين مودود(‪.)5‬‬ ‫يف خدمته ‪ ،‬شكره نور الدين على ذلك ‪ ،‬هل‬
‫وعلى العموم كانت صلة نور الدين إبخوانه وثيقة‪ .‬يقول ابن األثري يف حقهم‪« :‬إن هللا سبحانه مجع يهم من مكارم‬
‫األ عال ‪ ،‬وحماسنها ‪ ،‬وحسن السرية وعمارة البضمد ‪ ،‬والر ق ابلرعية إىل غري ذلك من األسباب اليت حيتاج امللك إليها»‪.‬‬
‫أن القائ أرادهم بقوله‪:‬‬ ‫ويقول‪ :‬أظن‪ :‬هل‬
‫اس م ـ ـ ـ ـكـ ـ ـ ــرمـ ـ ـ ـ ٍـة أب ـ ـ ـ ـنـ ـ ـ ــاءُ أيس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــار‬
‫ُسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلو ُ‬ ‫ـار بـ ـن ــو يسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍر‬
‫هـ ـيـ ـن ــون لَـ ـيـ ـن ــون أيسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ‬
‫(‪) 6‬‬
‫وال مي ـ ـ ـ ـ ــارون إن م ـ ـ ـ ـ ــاروا إبكـ ـ ـ ـ ـ ـب ـ ـ ـ ـ ــار‬ ‫ال ي ـ ـن ـ ـط ـ ـق ــون ع ـ ـل ــى ال ـ ـع ــوراء إن ن ـ ـط ـ ـق ـ ـوا‬

‫(‪ )1‬ت يعفر‪ :‬ويقال أعفر‪ :‬وهو اسم قلعة وربض بني سنجار واملوص ‪.‬‬
‫(‪ )2‬الباهر ص ‪ ، 96‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.49‬‬
‫(‪ )3‬الرقة‪ :‬مدينة مشهورة على الفرات بينها وبني حران مسرية ثضمثة أايم‪.‬‬
‫(‪ )4‬الباهر ص ‪ 96‬ـ ‪ ، 97‬كتاب الروضتني نقضمً عن احلياة العلمية ص ‪.49‬‬
‫(‪ )5‬كتاب الروضتني نقضمً عن احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.50‬‬
‫(‪ )6‬الباهر ص ‪ 15‬نور الدين زنكي يف األدب العريب ص ‪.51‬‬

‫‪151‬‬
‫املبحث الثاين ‪ :‬أه ُّـم صفات نور الدين زنكي‬
‫إن مفتاح شخص ية نور الدين حممود زنكي شعوره ابملسؤولية ‪ ،‬وحرصه على حترير البضمد من الصليبيني ‪ ،‬وخو ه من‬ ‫هل‬
‫حماسبة هللا له ‪ ،‬وشدهلة إميانه ابهلل وابليوم االخر ‪ ،‬وكان هذا اإلميان سبباً يف التوازن املدهش واخلضمب يف شخصيته ‪ ،‬قد‬
‫كان على هم صحيح حلقيقة اإلسضمم ‪ ،‬وتعبُّد هللا بتعاليمه ‪ ،‬ومتيهلزت شخصيته مبجموعة من الصفات الر يعة ‪ ،‬واألخضمق‬
‫احلميدة ‪ ،‬واليت ساعدته على حتقيق إجنازاته العظيمة ‪ ،‬واليت من أمهها‪:‬‬
‫أوالً‪ :‬اجلدية والذكاء املتوقد‪:‬‬
‫ُمنذ البداية ‪ ،‬والتكوين اجلاد لنور الدين يد عه إىل اإلسراع لسد أي ٍتق ‪ ،‬أو اعتداء من قب األعداء‪.‬‬
‫لما قُت َ عماد الدين زنكي ‪541‬هـ يقول ابن األثري‪« :‬كان جوسلني الفرجني يف واليته غريب الفرات ‪( ،‬ت ابشر وما‬
‫الرها ‪ ،‬وكان عامتهم من األرمن ‪ ،‬وواعدهم يوماً يص إليهم يه ‪ ،‬أجابوه إىل ذلك سار يف‬ ‫جاورها) راس أه ُّ‬
‫‪152‬‬
‫عساكره إليها وملكها ‪ ،‬وامتنعت عليه القلعة مبن يها من املسلمني ‪ ،‬وقاتلهم هل‬
‫وجد يف قتاهلم‪ .‬بلغ اخلرب إىل نور الدين‪،‬‬
‫الرها إىل بلده ‪ ،‬ودخ نور الدين املدينة‬‫سار جمداً إليها يف العسكر الذي عنده ‪ ،‬لما مسع جوسلني بوصوله خرج عن ُّ‬
‫وهنبها وسَّب أهلها ‪ ،‬لم يبق منهم إال القلي ‪ ،‬وأجلى من كان هبا من الفرنج»(‪.)1‬‬
‫وكان أبوه زنكي قد اسرتد هذا املوقع اخلطري من الصليبيني عام ‪539‬هـ ‪ ،‬وأمر جنده يومها ابلكف وراً عن النهلهب ‪،‬‬
‫والسلب ‪ ،‬والتخريب ‪ ،‬ومنح النصارى احملليني حرايت واسعة ‪ ،‬ومحى كنائسهم وممتلكاهتم ‪ ،‬يف حماولة منه لفك ارتباطهم‬
‫ابلغزاة الصليبيني الذين مارسوا معهم الكثري من أساليب التمييز ‪ ،‬والتفرقة الدينية‪ .‬أما وقد آتمروا ـ اثنية ـ يف آخر عهد‬
‫الرها إىل السيطرة الصليبية منها جييء الرد مبستوى اجلد الذي يقتَيه الوقت إذا ما‬ ‫زنكي ‪ ،‬واثلثة بعد مقتله إلعادة ُّ‬
‫أُريد هلذا املوقع أن يبقى جمرداً ‪ ،‬وأالهل يعود اثنية إىل قبَة الغزاة(‪.)2‬‬
‫ويف عام ‪567‬هـ هاجم صليبيو الضمذقية مركبني للمسلمني كاان مملوءين ابألمتعة مكتظني ابلتجار ‪ ،‬وغدروا ابملسلمني‪،‬‬
‫وكان نور الدين قد هادهنم ‪ ،‬نكثوا ‪ ،‬لما مسع اخلرب؛ استعظمه ‪ ،‬وأرس إىل الصليبيني يطلب إعادة ما أخذوه ‪،‬‬
‫غالطوه ‪ ،‬لم يقب مغالطتهم ‪ ،‬وكان ال يهم أمراً من أمور رعيته كما يقول ابن األثري؛ إذ ما لبث أن مجع عساكره ‪،‬‬
‫وبث سراايه يف بضمد الصليبيني بني أنطاكية ‪ ،‬وطرابلس ‪ ،‬وقام حبصار حصن عرقة ‪ ،‬وختريب ربَه ‪ ،‬واالستيضمء على‬ ‫هل‬
‫حصين صا يتا ‪ ،‬والعزمية الشمايل ‪ ،‬وإجراء أعمال هنب وختريب واسعة النطاق؛ األمر الذي اضطر الصليبيني إىل مراسلة‬
‫نور الدين ‪ ،‬يعرضون عليه استعدادهم إلعادة ما أخذوه من املركبني ‪ ،‬وجتديد اهلدنة بني الطر ني ‪ ،‬أجاهبم نور الدين‬
‫املاسة ـ كما يبدو ـ إىل هدنة كهذه(‪.)3‬‬
‫إىل ذلك حلاجته هل‬
‫ويوم بلغه ما عله جوسلني من إرسال السضمح ـ الذي كان قد استوىل عليه يف إحدى معاركه مع نور الدين ـ إىل محيه‬
‫السلطان مسعود حاكم سضمجقة الروم‪ .‬قام نور الدين ‪ ،‬وقعد ‪ ،‬وهجر الراحة لألخذ بثأره ‪ ،‬أذكى العيون على‬
‫جوسلني ‪ ،‬وأحَر مجاعة من الرتكمان ‪ ،‬وبذل هلم الرغائب إن هم ظفروا جبوسلني إما قتضمً ‪ ،‬أو أسراً؛ ألنه علم إن هو‬
‫وحذ َر ‪ ،‬وامتنع ‪ ،‬أخلد إىل إعمال احليلة(‪.)4‬‬
‫مجع العساكر اإلسضممية لقصده مجع جوسلني الفرنج ‪َ ،‬‬
‫وكان نور الدين ـ كما يقول ابن األثري‪« :‬إذا تح حصناً ال يرح عنه حىت ميأله رجاالً وذخائر تكفيه عشر سنني ‪،‬‬
‫خو اً من نصرٍة تتجدد للفرنج على املسلمني ‪ ،‬تكون حصوهنم مستعدة غري حمتاجة لشيء»(‪.)5‬‬
‫وهكذا ترتبط جدية نور الدين بذكائه احلذر ودهائه ‪ ،‬الذي حقق له الكثري من املكاسب ‪ ،‬واملنجزات ‪ ،‬والذي مل يتح‬
‫ألحد من األعداء يف الداخ واخلارج أن ينفذ لتوجيه ضربة أو إصابة مقت ‪ ،‬كان كما يقول ابن األثري‪« :‬يكثر إعمال‬
‫احلي ‪ ،‬واملكر واخلداع مع الفرنج وأكثر ما ملكه من بضمدهم به»‪.‬‬
‫ويَرب على ذلك مثضمً يف سياسته مع مليح بن ليون ملك األرمن يف بضمد األانضول ‪ ،‬إنه ما زال خيدعه ‪ ،‬ويستميله‬
‫أن بضمده حصينة‬‫حىت جعله يف خدمته سفراً وحَراً ‪ ،‬وكان يقات به الفرنج ‪ ،‬وكان يقول‪« :‬إمنا محلين على استمالته‪ :‬هل‬

‫(‪ )1‬الباهر ص ‪ 86‬ـ ‪ 87‬نور الدين حممود زنكي ص ‪.12‬‬


‫(‪ )2‬نور الدين حممود ص ‪.12‬‬
‫(‪ )3‬الباهر ص ‪ 154‬ـ ‪ 155‬نور الدين حممود ص ‪.13‬‬
‫(‪ )4‬زبدة حلب (‪ 301/2‬ـ ‪ )302‬نور الدين حممود ص ‪.13‬‬
‫(‪ )5‬الباهر ص ‪ 103‬نور الدين حممود ص ‪.13‬‬

‫‪153‬‬
‫وعرة املسالك ‪ ،‬وقضمعه منيعة وليس لنا إليها طريق ‪ ،‬وهو خيرج منها ـ إذا أراد ـ ينال من بضمد اإلسضمم ‪ ،‬إذا طُلب‬
‫احنجر يها ضم نقدر عليه ‪ ،‬لما رأيت احلال هكذا؛ بذلت له شيئاً من اإلقطاع على سبي التالف حىت أجاب إىل‬
‫طاعتنا وخدمتنا وساعدان على الفرنج» وحني تويف نور الدين وسلك َم ْن بعده غري هذا الطريق؛ ملك زعيم األرمن بعد‬
‫مليح كثرياً من بضمد املسلمني وحصوهنم ‪ ،‬وصار منه ضرر عظيم ‪ ،‬وخرق واسع ال ميكن رقعه(‪.)1‬‬
‫أن اعتماد العنف سيستفز هل‬
‫حكامها ويد عهم إىل مراسلة الصليبيني ‪ ،‬واالستعانة هبم ‪،‬‬ ‫ويف حماولته تح دمشق أدرك‪ :‬هل‬
‫عمد إىل أعمال احليلة والسياسة ‪ ،‬أخذ يراس صاحبها جمري الدين ‪ ،‬ويستميله ويبعث إليه ابهلدااي املوصولة ‪ ،‬ويظهر‬
‫له املودة حىت وثق إليه ‪ ،‬وأخذ نور الدين يكاتبه مشككاً إايه بنوااي عدد من أمرائه ‪ ،‬وإهنم بصدد االتصال به هل‬
‫ضد‬
‫ملكهم ‪ ،‬األمر الذي د ع جمري الدين إىل إبعاد واعتقال عدد من أبرز أصحابه ‪ ،‬لما خلت دمشق من زهرة أمرائها؛‬
‫انتق نور الدين خطوة أخرى ‪ ،‬اتص أبحداث دمشق (أي‪ :‬حرسها الشعيب) ومجاهريها ‪ ،‬واستماهلم ‪ ،‬أجابوه إىل‬
‫تسليم البلد ‪ ،‬وعند ذاك تقدم حلصار دمشق ‪ ،‬ومتكن مبعونة أهلها أنفسهم من دخوهلا بسهولة ابلغة ودومنا إراقة‬
‫للدماء(‪ .)2‬حقق بذلك اهلدف الكبري ‪ ،‬الذي طاملا سعى له أبوه قب ذلك ‪ ،‬وحينما بعث إليه الفاطميون ـ كما سيأيت‬
‫بيانه إبذن هللا ـ يطلبون منه القيام هبجوم على املواقع الصليبية جنويب الشام النشغاهلم عن مهامجة مصر ‪ ،‬أجاب نور‬
‫الدين أسامة بن منقذ سفريهم يف هذه املهمة‪« :‬إن أه دمشق أعداءٌ ‪ ،‬واإل رنج أعداء ‪ ،‬ما امن منهما إذا دخلت‬
‫بينهما»(‪.)3‬‬
‫وحيدثنا أبو شامة عن إحدى خدع نور الدين؛ حيث أغار على طربية ‪ ،‬ومجع بعض أعضمم الصليبيني ‪ ،‬وشيئاً من‬
‫مضمبسهم ‪ ،‬وسضمحهم ‪ ،‬وسلهلمها إىل أحد جنده قائضمً‪« :‬أريد أن تعم احليلة يف الدخول إىل بلبيس ‪ ،‬وخترب أسد الدين‬
‫شريكوه ‪ ،‬احملاصر هناك ‪ ،‬مبا تح هللا على املسلمني يف بضمد الشام ‪ ،‬وتعطيه هذه األعضمم وأتمره بنشرها يف أسواق‬
‫إن ذلك مما يفتت يف عَد الكفار ‪ ،‬ويدخ الوهن عليهم»‪ .‬فع أسد الدين ما أُمر به ‪ ،‬لما رأى الصليبيون‬ ‫بلبيس ‪ ،‬هل‬
‫ذلك قلقوا ‪ ،‬وخا وا على بضمدهم ‪ ،‬وسألوا حليفهم شاور ـ الوزير املصريي ـ اإلذن ابالنفصال(‪.)4‬‬
‫كما حيدثنا ابن األثري عن األسلوب الذي اعتمده نور الدين يف تح حصن املنبطرة ابلشام ‪561‬هـ ‪ ،‬هو مل حيشد له‪،‬‬
‫وال مجع عساكره؛ وإمنا سار إليه يف سرية من الفرسان على حني غرة من الصليبيني ‪ ،‬حيث أدرك‪ :‬أنه جبمعه العسكر‬
‫سيعطي اإلشارة إىل خصومه لكي أيخذوا أهبتهم ‪ ،‬وما لبثت حامية احلصن أن وجئت هبجوم نور الدين املباغت ‪،‬‬
‫وبعد قتال عنيف سقط احلصن‪ .‬ومل جيتمع لد عه إالهل وقد ملكه ‪ ،‬ولو علموا‪ :‬أنه يف ٍ‬
‫قلة من العساكر؛ ألسرعوا إليه ‪،‬‬
‫إمنا ظنوه أنه يف مجع كثري ‪ ،‬لما ملكه تفرقوا ‪ ،‬وأيسوا من رده(‪ ، )5‬هذه األحداث ‪ ،‬تظهر صفة اجلدية ‪ ،‬والذكاء‬
‫املتوقد يف شخصية نور الدين‪.‬‬

‫(‪ )1‬الباهر ص ‪ 169‬نور الدين حممود ص ‪.13‬‬


‫(‪ )2‬الباهر ص ‪ 107‬ـ ‪ 108‬زبدة حلب (‪ 303/2‬ـ ‪.)305‬‬
‫(‪ )3‬االعتبار ص ‪ 14‬نور الدين حممود ص ‪.14‬‬
‫(‪ )4‬كتاب الروضتني نقضمً عن نور الدين حممود ص ‪.15‬‬
‫(‪ )5‬الكام يف التاريخ نقضمً عن نور الدين ص ‪.15‬‬

‫‪154‬‬
‫اثنياً‪ :‬الشعور ابملسؤولية‪:‬‬
‫تولهلد عن ورع نور الدين وتقواه إحساس شديد ابملسؤولية ‪ ،‬وظهر يف مجيع أعماله وحاالته ‪ ،‬اخلشية من هللا تعاىل‬
‫جتعله دائماً يف موقع احملاسب لنفسه ‪ ،‬املراقب هلا ‪ ،‬حىت ال تتجاوز إىل ما يغَب هللا ‪ ،‬هو يعترب نفسه مسؤوالً أمام‬
‫هللا عن ك ما يتعلق برعيته ‪ ،‬وك ما يتعلق ببضمد املسلمني ‪ ،‬ودمائهم ‪ ،‬وحقوقهم ‪ ،‬حىت لو كانوا من غري رعيته ‪ ،‬إذا‬
‫قصر يف تقدمي هذه املساعدة‪.‬‬
‫كان ابستطاعته مساعدهتم هو؛ مسؤول إذا هل‬
‫يظهر هذا الفهم الشام للمسؤولية(‪ )1‬يف رسالة نور الدين حممود إىل إيلدكز أمري أذربيجان‪ ،‬وأرمينية‪ ،‬ومهذان‪ ،‬والري‬
‫جواابً على رسالته اليت يطلب يها من نور الدين عدم احتضمل املوص ‪ ،‬ويتهدده أبن ال سبي له إليها‪ .‬قال نور الدين‬
‫للرسول‪« :‬ق لصاحبك‪ :‬أان أرحم ببين أخي (يعين‪ :‬سيف الدين غازي) منك ‪َ ،‬لم تدخ نفسك بيننا؟ وعند الفراغ‬
‫من إصضمحهم يكون احلديث معك عند ابب مهذان ‪ ،‬إنك قد ملكت نصف بضمد اإلسضمم ‪ ،‬وأمهلت الثغور حىت‬
‫غلب احلرج علي ها ‪ ،‬وقد بليت أان وحدي ‪ ،‬أبشجع الناس الفرنج ‪ ،‬أخذت بضمدهم ‪ ،‬وأسرت ملوكهم ‪ ،‬ضم جيوز يل‬
‫أن أتركك على ما أنت عليه ‪ ،‬إنه جيب علينا القيام حبفظ ما أمهلت من بضمد اإلسضمم ‪ ،‬وإزالة الظلم عن املسلمني»(‪.)2‬‬
‫كان نور الدين يشعر ابملسؤولية امللقاة على عاتقه جتاه الوقت أن يَيع هباءً ‪ ،‬والدم املسلم من أن يُهدر ‪ ،‬والكرامة‬
‫اإلسضممية من أن هتان ‪ ،‬واألرض اإلسضممية من أن تُغزى ‪ ،‬وتُقتطع(‪ .)3‬حينما علم يف عام ‪544‬هـ‪1149/‬م بتحالف‬
‫الصليبيني قال‪« :‬ال أحنرف عن جهادهم»‪.‬‬
‫يكف أيدي أصحابه عن العبث واإل ساد يف الَياع ‪ ،‬وحيسن الرأي يف الفضمحني ‪ ،‬ويعم على‬ ‫إال أنه مع ذلك كان ُّ‬
‫التخفيف عنهم ‪ ،‬األمر الذي أكسبه عطف وأتييد مجاهري دمشق وسائر البضمد التابعة هلا ‪ ،‬راحت تدعو له ابلنصر‪.‬‬
‫وكتب إىل زعماء دمشق‪« :‬إنين ما قصدت بنزويل هذا املنزل طالباً حملاربتكم ‪ ،‬وإمنا دعاين إىل هذا األمر كثرة شكاية‬
‫ت نساؤهم وأطفاهلم بيد الفرنج وانعدام الناصر هلم ‪ ،‬ضم يسعين مع ما‬ ‫وسبيَ ْ‬
‫ت أمواهلم ُ‬
‫املسلمني‪...‬أبن الفضمحني أُخ َذ ْ‬
‫أعطاين هللا ـ وله احلمد ـ من االقتدار على نصرة املسلمني ‪ ،‬وجهاد املشركني ‪ ،‬وكثرة املال والرجال ‪ ،‬وال حي يل القعود‬
‫عنهم واالنتصار هلم؛ مع معر يت بعجزكم عن حفظ أعمالكم ‪ ،‬والذب عنها ‪ ،‬والتقصري الذي دعاكم إىل االستصراخ‬
‫ابلفرنج على حماربيت ‪ ،‬وبَ ْذلُ ُك ْم هلم أموال الَعفاء ‪ ،‬واملساكني من الرعبة ظلماً هلم ‪ ،‬وتعدايً عليهم ‪ ،‬وهذا ما ال يرضي‬
‫هللا تعاىل ‪ ،‬وال أحداً من املسلمني»(‪.)4‬‬
‫ويف العام التايل خرج إليه أه دمشق ‪ ،‬وكثري من أجنادها بعد أن قرر عدم مهامجتها عنوة كراهية لسفك دماء املسلمني‬
‫‪ ،‬والتقى بعدد من الطضمب ‪ ،‬والفقراء والَعفاء لم خييب أحداً من قاصديه(‪ .)5‬وقد أصر نور الدين طيلة الفرتة التالية‬
‫حترجاً من قت املسلمني ‪ ،‬وقال‪« :‬ال حاجة إىل قت املسلمني أبيدي بعَهم بعَاً‬ ‫على عدم القيام هبجوم على البلد ُّ‬

‫(‪ )1‬دور نور الدين حممود يف هنَة األمة ومقاومة غزو الفرجنة ص ‪.132‬‬
‫(‪ )2‬زبدة حلب (‪ 332/2‬ـ ‪ )333‬نور الدين حممود ص ‪.17‬‬
‫(‪ )3‬اتريخ الزنكيني يف املوص وبضمد الشام ص ‪.407‬‬
‫(‪ )4‬دمشق ص ‪ 308‬ـ ‪ 309‬البن القضمنسي نور الدين حممود ص ‪.16‬‬
‫(‪ )5‬ذي اتريخ دمشق ص ‪ 310‬نقضمً عن نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.17‬‬

‫‪155‬‬
‫‪ ،‬وأان أُر ههم ليكون بذل نفوسهم يف جماهدة املشركني»(‪ .)1‬هو يعلم جيداً‪ :‬أن األمة إذا قتلت نفسها سهلت على‬
‫العدو ‪ ،‬وإذا قدرت على محاية دمها؛ بذلته رخيصاً يف جماهدة هذا العدو‪.‬‬
‫معادلة واضحة ميكن أن تفسر لنا الكثري من هزائم األمم ‪ ،‬وانتصاراهتا على السواء(‪.)2‬‬
‫ومن مث كانت عادة نور الدين كما يقول أبو شامة‪ « :‬إنه ال يقصد والية أحد من املسلمني إال ضرورة ‪ ،‬إما ليستعني‬
‫على قتال الفرنج ‪ ،‬أو للخوف عليها منهم ‪ ،‬كما ع بدمشق ‪ ،‬ومصر ‪ ،‬وغريها»(‪ .)3‬لقد كان الدم عنده عظيماً ‪ ،‬ملا‬
‫كان قد جب عليه من الرأ ة والرمحة والعدل(‪.)4‬‬
‫اثلثاً‪ :‬قدرته على مواجهة املشاكل واألحداث‪:‬‬
‫اعتمد نور الدين حممود احللول العقلية ذات الطابع العلمي يف مواجهة املشاك ‪ ،‬واألحداث ‪ ،‬واضعاً عينيه على التعام‬
‫مع سنة األخذ ابألسباب‪ .‬في عام ‪552‬هـ شهدت اجلهات الوسطى ‪ ،‬والشمالية من بضمد الشام زالزالً عنيفةً ‪،‬‬
‫خربت الكثري من القرى واملدن ‪ ،‬وأهلكت حشداً ال حيصى من الناس ‪ ،‬وهتدمت األسوار‬ ‫تتابعت ضرابهتا القاسية ‪ ،‬هل‬
‫والدور والقضمع ‪ ،‬ما كان من نور الدين إالهل أن مشهلر عن ساعد اجلد ‪ ،‬وبذل جهوداً عظيمةً يف إعادة إعمار ما هتدم‬
‫من على املسلمني بنور الدين ‪ ،‬جمع العساكر ‪،‬‬ ‫وتعزيز د اعاته‪ .‬عادت البضمد كأحسن مما كانت ‪ ،‬ولوال أن هللا هل‬
‫وحفظ البضمد؛ لكان دخلها الفرنج بغري قتال وال حصار(‪.)5‬‬
‫خربت الكثري من املدن ‪،‬‬ ‫ت بلدان املنطقة بغارة أخرى من الزالزل ‪ ،‬مل تق هل هوالً عن سابقتها ‪ ،‬هل‬
‫ضربَ ْ‬
‫ويف عام ‪565‬هـ ُ‬
‫وهدمت أسوارها وقضمعها ‪ ،‬وسقطت الدور على أهلها ‪ ،‬وهلك منهم ما خيرج عن احلد ‪ ،‬واإلحصاء ‪ ،‬لما بلغ اخلرب‬
‫نور الدين سار إىل بعلبك ‪ ،‬إلعادة إعمار ما هتدهلم من أسوارها وقلعتها ‪ ،‬ومل جيأر إىل هللا ابلشكوى ويعلن أن الظلم قد‬
‫شا ‪ ،‬وإن هذا عقاب هللا قط ‪ ،‬أو إنه إشارات الساعة ‪ ،‬قد الحت يف األ ق القريب ‪ ،‬وعندما وص بعلبك أاته خرب‬
‫دمار ابقي البضمد ‪ ،‬وهضمك كثري من أهليها ‪ ،‬رتهلب يف بعلبك من حيميها ويعمرها ‪ ،‬وانطلق إىل محص فع مث ذلك‬
‫‪ ،‬ومنها إىل محاة ‪ ،‬بعرين‪.‬‬
‫وكان شديد احلذر على سائر البضمد من الفرنج ‪ ،‬ال سيما قلعة بعرين إهنا مع قرهبا منهم مل يبق من سورها شيء ألبتة‪،‬‬
‫جع يها طائفة صاحلة من العسكر مع أمري كبري ‪ ،‬ووك ابلعمارة من حيث عليها ليضمً وهناراً‪ .‬مث أتى مدينة حلب ‪،‬‬
‫لما شاهد ما صنعته الزالزل هبا ‪ ،‬وأبهلها؛ أقام يها وابشر عمارهتا بنفسه ‪ ،‬وكان هو يقف على استعمال الفعلة‬
‫والبنائني ‪ ،‬ومل يزل كذلك حىت أحكم أسوار مجيع البضمد ‪ ،‬وجوامعها ‪ ،‬وأخرج من املال ما ال يقدهلر قدره(‪.)6‬‬
‫هل‬
‫إن الكوارث ـ اليت يبتلي هللا هبا عباده ـ أتيت مبثابة حتدايت دائمة ‪ ،‬تستفز اجلماعات البشرية وقياداهتا إىل املزيد من الوعي‬
‫واإلجناز ‪ ،‬وإن االستجابة هلذه التحدايت هي اليت تقود األمم والتجارب السياسية واحلَارات خطوات إىل األمام‪.‬‬

‫(‪ )1‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.17‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص ‪.17‬‬
‫(‪ )3‬كتاب الروضتني نقضمً عن نور الدين حممود ص ‪.17‬‬
‫(‪ )4‬الباهر ص ‪ 107‬نور الدين حممود ص ‪.17‬‬
‫(‪ )5‬الباهر ص ‪ 110‬ـ ‪ 112‬نور الدين حممود ص ‪.18‬‬
‫(‪ )6‬الباهر ص ‪ ، 45‬نور الدين حممود الرج والتجربة‪.‬‬

‫‪156‬‬
‫والعجز عنها هو الذي يربك مسريهتا ‪ ،‬ويصيبها ابلعجز والشل واجلمود ‪ ،‬أما نور الدين قد اختار املوقف األول ‪،‬‬
‫وأعاد إعمار ما هدمته الكوارث بسرعة مدهشة ‪ ،‬وواص الطريق(‪.)1‬‬
‫مثة واقعة أخرى ذات داللة واضحة يف هذا اجملال؛ كانت يف املوص خرابة واسعة يف وسط البلد أشيع عنها‪ :‬أنه ما شرع‬
‫أح ٌد يف عمارهتا إالهل من ذهب عمره؛ ومل يتم على مراد أمره‪ .‬أشار الشيخ عمر املضمء أحد صاحلي املدينة ‪ ،‬وشيوخها‬
‫الورعني اببتياعها ‪ ،‬وبناء جامع كبري يها ‪ ،‬تقام يه الصلوات ‪ ،‬وختطب اجلمع ‪ ،‬وتدرس العلوم ‪ ،‬فع نور الدين ‪،‬‬
‫وأنفق يه أمواالً كثريًة(‪.)2‬‬
‫وعلهلق الدكتور عماد الدين صاحب كتاب (نور الدين حممود الرج والتجربة) على هذه احلادثة ‪ ،‬قال‪« :‬مل يَرب نور‬
‫الدين اخلرا ة ‪ ،‬والشائعة ابلكلمة ‪ ،‬ولكنه ضرهبا ابلفع ‪ ،‬وابإلجناز ‪ ،‬وزالت اخلرا ة» ‪ ،‬ولكن املسجد الكبري الذي بناه‬
‫على أنقاضها ظ هل حىت اليوم يستقب مئات املتعبدين ‪ ،‬والدارسني(‪.)3‬‬

‫رابعاً‪ :‬نزعته للبناء واإلعمار‪:‬‬


‫إن احلاكم الناجح يف نظره هو ذلك يعرف كيف حيقق أكرب قدر من العمران ‪ ،‬والتحَر أبق قدر من الزمن(‪ ، )4‬قد‬ ‫هل‬
‫بىن نور الدين املساجد ‪ ،‬والربط ‪ ،‬والزوااي للتعبد ‪ ،‬وتربية الروح ‪ ،‬كما أنشأ املدارس ‪ ،‬ودور احلديث للتعليم وتربية العق‬
‫‪ ،‬وشجع أعمال الفروسية ‪ ،‬وسائر النشاطات الرايضية ‪ ،‬لكسب املزيد من املهارات القتالية ‪ ،‬وتنمية اجلسد ‪ ،‬وبىن‬
‫أيَاً دوراً لأليتام إليواء أطفال املسلمني ‪ ،‬واملارستان ملعاجلة املرضى ‪ ،‬وأقام اجلسور ‪ ،‬والقناطر ‪ ،‬واحلدائق ‪ ،‬والقنوات‬
‫وشق الطرقات العامة ‪ ،‬حفلت دولته ابلكثري من املؤسسات االجتماعية ‪،‬‬ ‫‪ ،‬واألسواق ‪ ،‬واحلمامات ‪ ،‬واملخا ر ‪ ،‬هل‬
‫والعمرانية(‪.)5‬‬
‫ومل يغف نور الدين ـ وهو بصدد البناء واإلعمار ـ عن اجلانب اجلمايل الذي يرتبط ارتباطاً أساسياً ابإلبداع‪ .‬ورج ٌ كنور‬
‫خرجته مدرسة اإلسضمم الرحيبة الشاملة ال ميكن إال أن يرى يف العم والتزيني يف املَمون والشك يف الوقائع‬ ‫الدين هل‬
‫واجلماليات وجهني لعملة واحدة(‪ ، )6‬قد أوقف بستان امليدان ‪ ،‬والغيَة اليت تليه يف دمشق لتطييب جوامع دمشق ‪،‬‬
‫ومدارسها ‪ ،‬لكي يظ هواؤها معبقاً ابلروائح الطيبة والشذا العبق‪.‬‬
‫وكان على اهتمام كبري هبذه املسألة حبيث إنه حدهلد مصارف وقفه املذكور‪ :‬نصفه على تطييب جامع دمشق ‪ ،‬والنصف‬
‫االخر يقسم عشرة أجزاء ‪ ،‬جزءان على تطييب املدرسة اليت أنشأها للحنفيهلة‪ ،‬والثمانية أجزاء األخرى على تطييب‬

‫(‪ )1‬الباهر ص ‪ ، 45‬نور الدين حممود الرج والتجربة‪.‬‬


‫(‪ )2‬نور الدين حممود ص ‪.19‬‬
‫(‪ )3‬كتاب الروضتني نقضمً عن نور الدين حممود ص ‪.19‬‬

‫(‪ )4‬كتاب الروضتني نقضمً عن نور الدين حممود ص ‪.19‬‬


‫(‪ )5‬نور الدين حممود ص ‪.19‬‬
‫(‪ )6‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.21‬‬

‫‪157‬‬
‫املساجد التسعة يف دمشق وأطرا ها(‪ .)1‬وجلب للمدرسة احلضموية اليت بناها يف حلب من مدينة أ امية مذحباً من الرخام‬
‫(‪)2‬‬
‫الرخام ‪ ،‬وملا دخ قلعة دمشق عام ‪549‬هـ أنشأ هبا داراً‬ ‫امللكي الشفاف ‪ ،‬الذي إذا وضع حتته ضوء شف من وراء ُّ‬
‫املسرة(‪ ،)3‬ويف قلعة حلب أنشأ نور الدين أبنية كثرية ‪ ،‬وأقام ميداانً «خَهلره ابحلشيش»‬
‫عامة ‪ ،‬يف غاية احلسن مسهلاها دار هل‬
‫ومسي امليدان‪ :‬امليدان األخَر(‪.)4‬‬
‫ويرتبط هبذه املسألة اجلمالية ما كان نور الدين أيمر به يف املناسبات؛ حيث أمر يف عام ‪552‬هـ نور الدين بزينة قلعته‪،‬‬
‫ودار مملكته حبيث حلهلى أسوارها ابآلالت احلربية‪ ،‬من اجلواشن‪ ،‬والدروع‪ ،‬والرتوس ‪ ،‬والسيوف ‪ ،‬والرماح ‪ ،‬والطوارق ‪،‬‬
‫واإل رجنية ‪ ،‬واألعضمم ‪ ،‬والطبول ‪ ،‬والبوقات ‪ ،‬وأنواع املضمهي املختلفات ‪ ،‬وهرعت األجناد ‪ ،‬والرعااي ‪ ،‬وغرابء البضمد‬
‫ملشاهدة احلال ‪ ،‬شاهدوا ما استحسن منه مدة سبعة أايم(‪.)5‬‬
‫لقد كان إكسسوار احلف وديكوراته ـ إذا صح التعبري ـ مناسبةً متاماً ملدينة كدمشق ‪ ،‬تتزعم حركة اجلهاد ‪ ،‬وتقف يف‬
‫قلب التحدي‪ .‬وتبدو نزعة نور الدين لإلعمار ‪ ،‬والتحَر أكثر ما تبدو يف سياسته الرامية لتوطني العناصر البدوية ‪،‬‬
‫وجعلها متارس حياة االستقرار ‪ ،‬قد أقطع ألمراء العرب يف جنوب الشام ‪ ،‬واحلجاز القطائع لئضم يتعرضوا لقوا‬
‫احلجاج(‪ ، )6‬ونق أعراب بين عباد من البلقاء ‪ ،‬واألردن إىل صرخد املضمصقة لبضمد حوران من أعمال دمشق ‪ ،‬ورغم‪:‬‬
‫أن هذه اخلطوة انصبت على جتمي د نشاط هؤالء يف مساعدة صلييب املنطقة‪ :‬وإرشادهم على الطرق ‪ ،‬وحتوي هؤالء‬
‫األعراب إىل قوة تعم لصاحل املسلمني أنفسهم ‪ ،‬كما أشارت الرواية املذكورة(‪ ، )7‬إال أهنا حققت من انحية أخرى‬
‫هد اً عمرانياً واضحاً(‪.)8‬‬
‫الرحالة الذي زار دمشق ‪،‬‬‫وليس مثة رواية حتم داللتها على نزعة نور الدين للبناء واإلعمار تعدل رواية ابن جبري ‪ ،‬هل‬
‫ووصف معاملها بعد سنوات ‪ ،‬حسب من و اة نور الدين ‪ ،‬وال شك ‪ ،‬أن وصفه هذا ينسحب على العصر الذي‬
‫نتحدث عنه ‪ ،‬ألن تغيريات جغرا ية املدن ‪ ،‬ال تقاس ابلسنني احملدودة ‪ ،‬ب بعقودها على أق تقدير‪.‬‬
‫يقول الرج ‪ ،‬مشرياً إىل االتساع العمودي لدمشق‪« :‬وبناء البلد ثضمث طبقات ‪ ،‬يحتوي من اخللق على ما حتتوي‬
‫ثضمث مدن ‪ ،‬ألنه أكثر بضمد الدنيا خلقاً ‪ ،‬وحسنه كله خارج املدينة ال داخلها ‪ ،‬وبدمشق ما يقرب من مئة محهلام يها‬
‫ويف أرابضها ‪ ،‬و يها حنو أربعني داراً للوضوء جيري املاء يها كلها ‪ ،‬وليس يف هذه البضمد كلها بلدة أحسن منها للغريب؛‬
‫ألن املرا ق هبا كثرية ‪ ..‬وأسواق هذه البلدة من أحف أسواق البضمد وأحسنها انتظاماً وأبدعها صنعاً»(‪.)9‬‬

‫(‪ )1‬البداية والنهاية نقضمً عن نور الدين حممود ص ‪.21‬‬


‫(‪ )2‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص‪.21‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.21‬‬
‫(‪ )4‬مراة الزمان (‪ )306/8‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.22‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه‪.‬‬
‫(‪ )6‬مراة الزمان(‪ )306/8‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.22‬‬
‫(‪ )7‬الربق ص ‪ 125‬ـ ‪ 126‬نور الدين حممود ص ‪.22‬‬
‫(‪ )8‬املصدر نفسه‪.‬‬
‫(‪ )9‬املصدر نفسه ص ‪.24‬‬

‫‪158‬‬
‫وقد سرت عدوى الرغبة يف البناء واإلعمار إىل رجال نور الدين وكبار موظفيه ـ كما سنرى يف الفصول التالية ـ راحوا‬
‫يتسابقون يف بناء املدارس ‪ ،‬واملساجد ‪ ،‬ومؤسسات اخلدمات االجتماعية ‪ ،‬وما أكثر الرواايت اليت قيلت يف هذا الصدد‬
‫‪ ،‬ويكفي أن نطلع على تراجم رجال نور الدين حممود ‪ ،‬ب النساء اللوايت اشتهرن يف عصره كذلك(‪.)1‬‬
‫خامساً‪ :‬قوة الشخصية‪:‬‬
‫كان نور الدين حممود قوي الشخصية ‪ ،‬قديراً على الوقوف يف نقطة التوازن بني الصرامة واملرونة ‪ ،‬والشدة واللني ‪،‬‬
‫والعنف والرمحة(‪ ، )2‬وقد وصفه ابن األثري أبنه كان‪« :‬مهيباً خمو اً مع لينه ورمحته ‪ ،‬وأنه كانت إليه النهاية يف الوقار‬
‫واهليبة شديداً يف غري عنف ‪ ،‬رقيقاً يف غري ضعف»(‪ .)3‬ويصف جملسه ‪ ،‬يقول‪« :‬وكان جملسه كما روي يف صفة جملس‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم جملس حلم وحياء ‪ ،‬ال تؤبن يه احلرم ‪ ،‬وال يذكر يه إال العلم والدين ‪ ،‬وأحوال الصاحلني‬
‫واملشورة يف أمر اجلهاد ‪ ،‬وقصد بضمد العدو ‪ ،‬وال يتعدهلى هذا»‪.‬‬
‫وقال احلا ظ ابن عساكر الدمشقي‪« :‬كنا حنَر جملس نور الدين ‪ ،‬كنا كما قي ‪:‬‬
‫كأن على رؤوسنا الطري ‪ ،‬تعلوان اهليبة والوقار ‪ ،‬وإذا تكلم؛ أنصتنا ‪ ،‬وإذا تكلمنا؛ استمع لنا(‪ .)4‬وقال ابن كثري‪« :‬مل‬
‫ٍ‬
‫غَب ‪ ،‬وال رضاً ‪ ،‬صمواتً وقوراً»(‪.)5‬‬ ‫يُ ْس َم ْع منه كلمة حش قط يف‬
‫وكان نور الدين حممود ميلك هيبة عجيبة على موظفيه ‪ ،‬ويلزمهم بوظائف اخلدمة ‪ ،‬ومل جيلس عنده أمري من غري أن‬
‫أيمره ابجللوس ابستثناء جنم الدين أيوب‪...‬وكان مع هذه العظمة ‪ ،‬وهذا الناموس القائم إذا دخ عليه الفقيه ‪ ،‬أو‬
‫الصويف ‪ ،‬أوالفقري؛ يقوم له ‪ ،‬وميشي بني يديه ‪ ،‬وجيلسه إىل جانبه ‪ ،‬ويُقب عليه حبديثه كأنه أقرب الناس إليه ‪ ،‬وإذا‬
‫أعطى أحداً منهم؛ أعطاه شيئاً كثرياً ‪ ،‬وقال‪« :‬هؤالء جند هللا ‪ ،‬وبدعائهم ننتصر على األعداء ‪ ،‬وهلم يف بيت هللا ح ٌّق‬
‫أضعاف ما أعطيهم ‪ ،‬إذا رضوا منا ببعض حقهم؛ لهم املنهلـةُ علينا»(‪.)6‬‬
‫سادساً‪ :‬حمبة املسلمني له‪:‬‬
‫عندما حتدث ابن كثري يف أحداث سنة ‪552‬هـ قال‪« :‬و يها مرض نور الدين ‪ ،‬مرض الشام مبرضه ‪ ،‬مث عويف ‪ ،‬فرح‬
‫املسلمون بذلك رحاً شديداً»(‪ .)7‬وقال يف أحداث سنة مثان ومخسني ومخسمئة‪« :‬و يها كبست الفرنج نور الدين‬
‫(‪)8‬‬ ‫ٍ‬
‫وجيشه ‪ ،‬اهنزم املسلمون ال يلوي أح ٌد على أحد ‪ ،‬وهنض امللك نور الدين ركب رسه والشبحة يف رجله نزل رج ٌ‬
‫الكردي قتلوه(‪.)9‬‬
‫هل‬ ‫كردي ‪ ،‬قطعها حىت سار السلطان نور الدين نجا ‪ ،‬وأدركت الفرنج‬
‫ٌّ‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص ‪.24‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص ‪.24‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.24‬‬
‫(‪ )4‬الباهر ص ‪ 173‬نور الدين حممود ص ‪.24‬‬
‫(‪ )5‬البداية والنهاية نقضمً عن نور الدين حممود ص ‪.24‬‬
‫(‪ )6‬الباهر ص ‪ 172‬ـ ‪ 173‬اتريخ الزنكيني ص ‪.409‬‬
‫(‪ )7‬البداية والنهاية (‪.)382/16‬‬
‫(‪ )8‬الشبحة اليت تربط هبا يد الفرس من لباد وحنوه‪.‬‬
‫(‪ )9‬البداية والنهاية (‪.)406/16‬‬

‫‪159‬‬
‫احلب العميق ‪ ،‬الذي تكنه األمة لنور الدين ‪ ،‬وهذا احلب الرهلابين كان انبعاً من القلب ‪،‬‬ ‫و يما ذكره ابن كثري ‪ ،‬يظهر هل‬
‫وإبخضمص ‪ ،‬مل يكن حب نفاق‪ .‬وما أبلغ تعبري ابن كثري‪« :‬مرض نور الدين ‪ ،‬مرض الشام مبرضه» ه هناك تضمحم‬
‫بني القيادة والقاعدة مث هذا يف ذلك الزمن ‪ ،‬ومن أسباب ذلك احلب صفات نور الدين القيادية ‪ ،‬هو يسهر؛ ليناموا‬
‫‪ ،‬ويتعب؛ ليسرتحيوا ‪ ،‬وكان يفرح لفرح املسلمني ‪ ،‬وحيزن حلزهنم ‪ ،‬وكان عمله لوجه هللا ـ حنسبه كذلك وال نزكي على هللا‬
‫أحداً ـ وصدق الشاعر اللييب أمحد ر يق املهدوي عندما قال‪:‬‬
‫ظـه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرت عليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه مواه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب الفتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاح‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـإذا أح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب اللـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ابطـ ـ ـ ـ ـ ـن عب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـده‬
‫(‪)1‬‬
‫مـ ـ ـ ـ ـ ـال العب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاد عليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاألرواح‬ ‫وإذا صفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت هلل نيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة مصلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـح‬
‫إن القيادة الصحيحة هي اليت تستطيع أن تقود األرواح قب ك ٍ شيء ‪ ،‬وتستطيع أن تتعام مع النفوس قب غريها ‪،‬‬
‫وعلى قدر إحسان القيادة يكون إحسان اجلنود ‪ ،‬وعلى قدر البذل من القيادة يكون احلب من اجلنود واألمة هلا‪.‬‬
‫إن نور الدين وضع هللاُ له قبوالً عظيماً بني أمته ‪ ،‬أحبته اجلماهري جلهاده ‪ ،‬وإخضمصه ‪ ،‬وتفانيه يف خدمة اإلسضمم ‪،‬‬
‫امتد هذا احلب لكي يتجاوز مدن دولته ‪ ،‬وحصوهنا ‪ ،‬وقراها إىل ما وراء احلدود ‪ ،‬وكسب مجاهري خصومه من الداخ‬ ‫و هل‬
‫‪ ،‬وهز عروشهم ‪ ،‬وقطع جذور مواقعهم من األعماق ‪ ،‬وأزاحهم من طريق الوحدة اليت اعتزم بناءها‪ ،‬دومنا قطرة من دم‪،‬‬
‫الدم املسلم كان عنده عظيماً ‪ ،‬وليست جتربته مع أهايل دمشق ابملث الوحيد ‪ُ ،‬منذ عام ‪543‬هـ حينما تقدم على‬
‫رأس قواته ‪ ،‬للمساعدة على ك حصار احلملة الصليبية الثانية عن دمشق‪ :‬شاهد الدماشقة حرمته حىت متنوه(‪، )2‬‬
‫وراحوا يدعون له دعاءً متواصضمً(‪ )3‬وأخذ خيرج إليه خضمل املراح التالية من احلصار ـ عدد كبري من الطضمب‪ ،‬والفقراء‪،‬‬
‫والَعفاء‪ ،‬وهلذا داللته‪ ،‬هم الذين كانوا يف الواقع أصدقائه احلقيقيني ‪ ،‬كما سيتبني لنا « ما خاب قصده» كما يقول‬
‫ابن القضمنسي(‪.)4‬‬
‫أما ضمحو املنطقة؛ كانت قلوهبم معه؛ ألنه منع أصحابه من العبث يف مزارعهم ‪ ،‬وأعلن‪ :‬أنه جاء لكي حيمي كدحهم‬
‫من ختريب الصليبيني(‪ ، )5‬ويف عام ‪547‬هـ عندما تقدم إىل دمشق لَمها إىل جبهة القتال اجلاد املخلص ضد الصليبيني‬
‫‪ ،‬واستنجد حاكمها جمري الدين ابلعسكر ‪ ،‬واألحداث(‪ ، )6‬للخروج إىل قتاله‪ .‬مل خيرج إال القلي ‪ ،‬ملا وقر يف نفوسهم‬
‫من استنجاد جمري الدين ابلفرنج‪.‬‬

‫للصضمهليب (‪.)7/2‬‬
‫(‪ )1‬احلركة السنوسية هل‬
‫(‪ )2‬البداية والنهاية نقضمً عن نور الدين حممود ص ‪.25‬‬
‫(‪ )3‬ذي اتريخ دمشق البن القضمنسي ص ‪ 308‬ـ ‪ 309‬نور الدين حممود ص ‪.25‬‬
‫(‪ )4‬ذي اتريخ دمشق ص ‪ 310‬نور الدين حممود ص ‪.26‬‬
‫(‪ )5‬زبدة حلب (‪ 304/2‬ـ ‪)305‬نور الدين حممود ص ‪.26‬‬
‫(‪ )6‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.26‬‬

‫‪160‬‬
‫عزز بذلك حمبة الدمشقيني له ‪،‬‬ ‫وأقام نور الدين على دمشق من غري قتال ‪ ،‬وال زحف خو اً على املسلمني(‪ .)1‬وقد هل‬
‫كانوا يدعون ليضمً وهناراً أن يبدهلم هللا سبحانه ابمللك نور الدين(‪ ،)2‬وأخذ نور الدين يكاتب أه دمشق ‪ ،‬ويستميلهم‪.‬‬
‫وكان الناس مييلون إليه ملا هو عليه من العدل ‪ ،‬والداينة ‪ ،‬واإلحسان ‪ ،‬وعدوه ابلتسليم(‪.)3‬‬
‫وقد دخ نور الدين دمشق عام ‪549‬هـ يف تح أبيض مل تُـَر ْق يه دماء ‪ ،‬وما ذلك إال ـ بتو يق هللا ـ مث مبساعدة اجلماهري‬
‫اليت كانت تنتظر دخوله ُمنذ سنوات وسنوات‪ .‬يقال‪ :‬إن امرأة كانت على السور ‪ ،‬دلت حبضمً ‪ ،‬صعدوا إليه ‪ ،‬وصار‬
‫على السور مجاعة ونصبوا السضممل وصعدت مجاعة أخرى ‪ ،‬ونصبوا علماً ‪ ،‬وصاحوا بشعار نور الدين(‪ .)4‬وبعد أق من‬
‫ثضمث سنني ‪ ،‬حينما أعلن يف دمشق عن التطوع يف محلة لقتال العدو ‪ ،‬خرج ك ُّ قادر على مح السضمح من أه‬
‫دمشق ‪ ،‬وتَب َع نور الدين يف محلته تلك‪ :‬تيان البلد من األحداث ‪ ،‬والغرابء ‪ ،‬واملتطوعة ‪ ،‬والفقهاء‪ ،‬والصو ية ‪ ،‬واملتدينني‬
‫العدد الكثري(‪.)5‬‬
‫وهناك رواية البن األثري تناقلها كثري من املؤرخني ‪ ،‬حتم داللتها العميقة يف هذا املوضوع‪ :‬طلب نور الدين عام ‪559‬هـ‬
‫جندات من أمراء األطراف ‪ ،‬لفتح حارم املعرو ة حبصانتها الشديدة ‪ ،‬أما خر الدين قرا أرسضمن األرتقي ‪ ،‬حاكم حصن‬
‫كيفا يف داير بكر ‪ ،‬بلغين عنه‪ :‬أنه قال له ندماؤه ‪ ،‬وخواصه‪ :‬على أي شيء عزمت؟ قال‪ :‬على القعود ‪ ،‬إن نور‬
‫الدين قد حتشهلف من كثرة الصوم والصضمة ‪ ،‬هو يلقي بنفسه والناس يف املهالك ‪ ،‬كلهم وا قه على ذلك ‪ ،‬لما كان‬
‫حال نرى االن ضدها!! قال‪ :‬إن‬ ‫الغد أمر ابلنداء يف العسكر ‪ ،‬ابلتجهيز للغزاة قال له أولئك‪ :‬ارقناك ابألمس على ٍ‬
‫نور الدين قد سلك معي طريقاً ‪ ،‬إن مل أجنده خرج أه بضمدي على طاعيت ‪ ،‬وأخرجوا البضمد من يدي ‪ ،‬إنه كاتب‬
‫ُزهلهادها ‪ ،‬وعبهلادها ‪ ،‬واملنقطعني عن الدنيا ‪ ،‬يذكر هلم ما لقي املسلمون من الفرنج وما انهلم من القت ‪ ،‬واألسر ‪،‬‬
‫والنهب ‪ ،‬ويستمد منهم الدعاء ‪ ،‬ويطلب منهم أن حيثُّوا املسلمني على الغزاة ‪ ،‬قد قعد ك واحد من أولئك ومعه‬
‫علي ‪ ،‬ضم بد من إجابة دعوته ‪ ،‬مث جتهز‬
‫أتباعه وأصحابه وهم يقرؤون كتب نور الدين ‪ ،‬ويبكون ‪ ،‬ويلعنوين ‪ ،‬ويدعون هل‬
‫هو «أيَاً» وسار إىل نور الدين بنفسه‪.‬‬
‫إن نور الدين يتعام مع اجلماهري ‪ ،‬وأعياهنا ‪ ،‬ورموزها ‪ ،‬وقد حقق جناحات ابهرة يف كسب قلوهبا ‪ ،‬وأتييدها ‪ ،‬وحمبتها‬
‫‪ ،‬كان يطلعها على تفاصي ما جيري على الساحة ‪ ،‬إن تردد احلكام واألمراء ‪ ،‬أو جبنوا ‪ ،‬أو خبلوا؛ إن مبقدور‬
‫القواعد األكثر ثقضمً وأتثرياً يومذاك أن ترغمهم على الطاعة ‪ ،‬وإال عصفت هبم ‪ ،‬وأخرجت البضمد من أيديهم ‪ ،‬وذلك‬
‫شك يف أن انسجاماً‬ ‫هو الَمان الكبري يف جتنيد القدرات اإلسضممية كا ة ‪ ،‬ود عها إىل ساحات اجلهاد(‪ ، )6‬وما من ٍ‬

‫(‪ )1‬مراة الزمان (‪ 209/8‬ـ ‪ )210‬نور الدين حممود ص ‪.26‬‬


‫(‪ )2‬البداية والنهاية نقضمً عن نور الدين حممود ص ‪.26‬‬
‫(‪ )3‬زبدة حلب (‪ 304/2‬ـ ‪.)305‬‬
‫(‪ )4‬كتاب الروضتني نقضمً عن نور الدين حممود ‪.26‬‬
‫(‪ )5‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.27‬‬
‫(‪ )6‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.28‬‬

‫‪161‬‬
‫عميقاً ‪ ،‬يتحقق بني القيادة والقواعد ‪ ،‬وحمبة واعية تسود العضمقة بني الرج ‪ ،‬واجلمهور ‪ ،‬وتعاطفاً خملصاً من أج‬
‫األهداف الكبرية‪ .‬وما من ٍ‬
‫شك‪ :‬أن هذا ‪ ،‬وذاك من أسباب النجاح والتو يق يف إدارة دولته(‪.)1‬‬
‫سابعاً‪ :‬اللياقة البدنية العالية‪:‬‬
‫حتم األعباء ‪،‬‬
‫تطلبت حياة نور الدين حممود احلا لة ابلعم املتواص ‪ ،‬واجلهاد املَين ‪ ،‬جسداً قوايً قادراً على ُّ‬
‫واملشقات ‪ ،‬وال يتم بناء اجلسم القوي إال مبمارسة الرايضة ؛ ولذلك كان نور الدين مواظباً على ممارسة األلعاب الرايضية‬
‫املعرو ة يف زمانه ‪ ،‬مبا يتعلق ابلفروسية ‪ ،‬وأعمال القتال ‪ ،‬وكان بشك خاص مولعاً بلعبة الكرة أو الصوجلة ‪ ،‬اليت تدعى‬
‫يف هذه األايم بلعبة البولو(‪.)2‬‬
‫جوكانه يعلو رأسه وكان رمبا ضرب الكرة‬ ‫ويصفه ابن األثري بقوله‪«:‬من أحسن الناس لعباً ابلكرة وأقدرهم عليها ‪ ،‬ومل يُر َ‬
‫‪ ،‬تعلو ‪ ،‬يجري الفرس ‪ ،‬ويتناوهلا بيده من اهلواء ويرميها إىل اخر امليدان‪ ،‬وكانت يده ال ترى واجلوكان يها‪ ،‬ب تكون‬
‫احتج عليه أحد الزاهدين من أصحابه؛ ألنه يلهو‪ ،‬ويعذب اخلي لغري ائدة‬ ‫يف كم قبائه استهانة ابللعب»(‪ ،)3‬وعندما هل‬
‫دينية؛ قال‪« :‬وهللا ما محلين على اللعب ابلكرة اللهو‪ ،‬والبطر‪ ،‬وإمنا حنن يف ثغر ‪ ،‬والعدو قريب منا ‪ ،‬وبينما حنن جلوس؛‬
‫إذ يقع صوت نركب يف الطلب ‪ ،‬وال ميكننا أيَاً مضمزمة اجلهاد ليضمً وهناراً ‪ ،‬شتاءً وصيفاً؛ إذ ال بد من الراحة للجند‬
‫‪ ،‬ومىت تركنا اخلي على مرابطها صارت مجاماً ال قدرة هلا على إدمان السري يف الطلب ‪ ،‬وال معر ة هلا أيَاً ‪ ،‬بسرعة‬
‫االنعطاف يف الكر ‪ ،‬والفر يف املعركة ‪ ،‬نحن نركبها ‪ ،‬ونروضها هبذا اللعب ‪ ،‬يذهب مجامها ‪ ،‬وتتعود سرعة االنعطاف‬
‫والطاعة لراكبها يف احلرب ‪ ،‬هذا وهللا الذي يبعثين على اللعب ابلكرة»(‪.)4‬‬
‫الزهاد عندما‬
‫وقد سر نور الدين بكضممه هذا املمارسة الرايضية تفسرياً إسضممياً رائعاً يف جوابه على اعرتاض أحد إخوانه ُّ‬
‫(‪)5‬‬
‫وتوضيح لنفسية نور الدين ‪ ،‬هو ال‬
‫ٌ‬ ‫كشف ‪،‬‬
‫كتب له ‪ ،‬في هذا التفسري املنطقي والتحلي التفصيلي للعبة البولو ٌ‬
‫يلعب الكرة للعبث ‪ ،‬وإهدار الوقت ‪ ،‬وإمنا لتحقيق العديد من الفوائد اليت هي يف احلقيقة استعداد ‪ ،‬وحتَري للجهاد‬
‫‪ ،‬حتَري ألجسام الضمعبني ‪ ،‬وألجسام خيوهلم ‪ ،‬وإشغال‪ :‬أوقات الفراغ ‪ ،‬مبا هو مفيد إضا ةً إىل ما تقتَيه الرايضة‬
‫من راحة نفسية ‪ ،‬واستجمام ‪ ،‬وصفاء التفكري ‪ ،‬وذهاب اهلم للجنود والقادة ‪ ،‬ويف هذا اجلواب لصاحبه الزاهد تظهر‬
‫روح نور الدين الرايضية يف أعلى درجاهتا ‪ ،‬هو خياطب الزاهد حسب مستواه من العلم ‪ ،‬واملعر ة ‪ ،‬وأيتيه من الباب‬
‫الذي يقنعه ‪ ،‬دون أن جيرح شعوره ابهتامه بقلة املعر ة ‪ ،‬أو التزمت ‪ ،‬أو التعصب(‪.)6‬‬
‫وهبذا املوقف يبني لنا نور الدين همه لإلسضمم ابملنظور الشمويل الذي كان عليه رسول هللا وأصحابه ‪ ،‬قد روى البخاري‬
‫يف صحيحه عن أيب بردة يف قصة بعث أيب موسى ‪ ،‬ومعاذ إىل اليمن ‪ ،‬ويف آخره قال أبو موسى ملعاذ‪ :‬كيف تقرأ‬
‫أنت اي معاذ؟ قال‪ :‬أانم هلأول اللي ‪ ،‬أقوم وقد قَيت جزئي من النوم ‪ ،‬أقرأ ما كتب هللا يل ‪ ،‬أحتسب نوميت كما‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص ‪.28‬‬


‫(‪ )2‬دور نور الدين حممود يف هنَة األمة ص ‪.134‬‬
‫(‪ )3‬اجلوكان هو العصا اليت تَرب هبا الكرة‪.‬‬
‫(‪ )4‬الباهر ص ‪ 168‬ـ ‪.169‬‬
‫(‪ )5‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.33‬‬
‫(‪ )6‬دور نور الدين حممود يف هنَة األمة ومقاومة غزو الفرجنة ص ‪.134‬‬

‫‪162‬‬
‫أحتسب قوميت(‪ .)1‬ويف كضمم معاذ ـ رضي هللا عنه ـ دلي على أن املباحات يؤجر عليها ابلقصد والنية‪ .‬وهذا الفهم جيع‬
‫املسلم يقب على شؤون احلياة كلها ‪ ،‬وكلُّه حرص على إتقاهنا لكوهنا عبادة(‪ )2‬هلل‪.‬‬
‫إن من أخطر االحنرا ات ‪ ،‬اليت وقعت يها األجيال املتأخرة من املسلمني ‪ ،‬احنرا هم عن تصور مفهوم العبادة ‪ ،‬وحني‬
‫يعقد اإلنسان مقابلة بني املفهوم الشام للعبادة الواسع العميق ‪ ،‬الذي كان ميارسه نور الدين ‪ ،‬وانعكاسه على جنوده‬
‫وشعبه ودولته ‪ ،‬واملفهوم اهلزي الَئي ‪ ،‬الذي تفهمه األجيال املعاصرة؛ ال يستغرب كيف هوت هذه األمة من عليائها‬
‫لتصبح يف هذا احلَيض ‪ ،‬الذي نعيشه اليوم ‪ ،‬وكيف هبطت من مقام الرايدة والقيادة للبشرية كلها؛ لتصبح ذلك‬
‫الغثاء الذي تتداعى عليه األمم تنهشه من ك جانب كما تنهش الفريسة الذائب‪.‬‬
‫إن من شروط النهوض ‪ ،‬اليت نتعلمها من دراستنا لسرية نور الدين الشهيد أن يكون مفهوم العبادة يف حس جيلنا‪ :‬أن‬
‫ََ َ َۡ ُ ۡ‬
‫ٱۡل ذن َو ۡٱۡل َ‬
‫نس إ ذَل ِۡلَ ۡع ُب ُ‬
‫ون‬
‫ِ‬ ‫د‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫عبادة هللا هي غاية الوجود اإلنساين كله ‪ ،‬كما نفهم من قول هللا تعاىل ﴿وما خلقت ِ‬
‫‪[ ﴾٥٦‬الذارايت‪ ]56 :‬وهبذا الفهم ملفهوم العبادة عند نور الدين وجيله حتققت اجنازات رائعة يف ك اجتاه خاضته الدولة‬
‫النورية‪.‬‬
‫قال ابن األثري‪« :‬يف حديثه عن نور الدين حممود‪ :‬وكان ـ رمحه هللا ـ ال يفع عضمً إال بنية حسنة ‪ ،‬مث ذكر قصة اعرتاض‬
‫الزاهد على لعبه ابخلي والكرة اليت ذكرُهتا انفاً ‪ ،‬مث علق ابن األثري بعد هناية القصة ‪ ،‬قال‪ :‬انظر إىل هذا امللك املعدوم‬
‫النظري ‪ ،‬الذي يق ُّ يف أصحاب الزوااي املنقطعني إىل العبادة مثله ‪ ،‬إن من جييء إىل اللعب يفعله بنية صاحلة؛ حىت‬
‫يصري من أعظم العبادات ‪ ،‬وأكثر القرابت ‪ ،‬يق ُّ يف العامل مثله ‪ ،‬و يه دلي على أنه كان ال يفع شيئاً إال بنية صاحلة‪.‬‬
‫وهذه أ عال العلماء الصاحلني العاملني»(‪.)3‬‬
‫واملضمحظ يف حياة نور الدين صياغة حياته ودولته كلها صياغة إميانية رابنية ملتزمة مبنهج رب العاملني ‪ ،‬وامتثاالً ‪ ،‬وحتقيقاً‬
‫ني ‪[ ﴾١٦٢‬األنعام ‪]162:‬‬ ‫اي َو َم َماِت ِ ذَّللِ َرب ٱلۡ َعلَم َ‬ ‫َ َۡ‬
‫َم َي َ‬ ‫ُ‬ ‫ُۡ ذ َ‬
‫لقول هللا تعاىل‪﴿ :‬قل إِن َصل ِِت َون ُس ِِك و‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قدها لشرط مهم من شروط النهوض والتمكني ‪ ،‬أال‬ ‫إن من أسباب ضياع األمة ‪ ،‬وضعفها ‪ ،‬واهنزامها أمام أعدائها َ‬
‫وهو حتقيق العبودية مبفهومها الشام الصحيح(‪.)4‬‬
‫وهكذا كان نور الدين حممود ال يغيب عنه مفهوم العبادة الشام يف هلوه ‪ ،‬ولعبه ‪ ،‬وجده ‪ ،‬وكان ميارس ألعاب أخرى‬
‫تشبه يف مغزاها و ائدهتا لعبة البولو كلعبة طعن احللق ‪ ،‬ورمي القبق(‪ )5‬كانت رحضمت الصيد املمتعة من رايضته األخرى‬
‫‪ ،‬حتم من اجلد جنب متعتها الربيئة ما جيعلها من بني املهارات الفروسية ‪ ،‬اليت يتقنها ويتعشقها يومذاك الفارس ‪،‬‬
‫ُ‬ ‫واجملاهد ‪ ،‬ولقد قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يف تفسري قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وأَع ُِّدوا ْ ل َ ُهم ذما ۡ‬
‫ٱَ َت َط ۡع ُتم مِن ق ذوة ٖ‪٦٠‬‬

‫(‪ )1‬البخاري ‪ ،‬كتاب املغازي ‪ ،‬ابب بعثة أيب موسى األشعري رقم ‪.42‬‬
‫(‪ )2‬قه النصر والتمكني ص ‪.197‬‬

‫(‪ )3‬عيون الروضتني (‪.)360/1‬‬


‫(‪ )4‬قه النصر والتمكني ص ‪.190‬‬
‫(‪ )5‬القبق‪ :‬لعبة القبق عبارة عن خشبة عالية يف أعضمها خشبة مستديرة ‪ ،‬توضع اخلشبة يف أرض مستوية ويتم رمي السهام عليها‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫إن القوة الرمي»‪ .‬وقال‪« :‬من تعلم الرمي مث تركه ليس‬‫إن القوة الرمي(‪ ، )1‬أال هل‬
‫إن القوة الرمي ‪ ،‬أال هل‬
‫﴾ [األنفال ‪ ]60:‬أال هل‬
‫منا(‪.»)2‬‬
‫وليس مهارات الصيد ـ يف نظر نور الدين حممود زنكي ـ سوى حماولة من بني عديد من احملاوالت لرتكيز القدرة على‬
‫الرمي ‪ ،‬ومحايتها من التبدد والنسيان‪ .‬وحكى أسامة بن منقذ يف كتابه (االعتبار) عن ممارسة نور الدين لرايضة الصيد‪:‬‬
‫وظ نور الدين ميارس رايضة الصيد ‪ ،‬ويتعشق لعب الكرة ‪ ،‬والرماية؛ حىت مرضه األخري ‪ ،‬الذي أودى به بعد أايم‬
‫قضمئ من ذلك اليوم احلا ‪ ،‬الذي قرر يه ختان ولده امللك الصاحل إمساعي حيث أقيمت االحتفاالت ‪ ،‬ورددت‬
‫األانشيد ‪ ،‬وخرج الرج مع بعض أصحابه إىل امليدان األخَر مشايل دمشق ملمارسة العديد من ألعاب الفروسية ‪،‬‬
‫كطعن احللق ‪ ،‬ورمي القبق ‪ ،‬كما يقول العماد األصفهاين‪ .‬ما غادر الساحة إال وهو يعاين أملاً حاداً ‪ ،‬وسرعان ما‬
‫أودى حبياته بعد قلي (‪.)3‬‬
‫جتر ُدهُ وزهده الكبري‪:‬‬
‫اثمناً‪ُّ :‬‬
‫هم نور الدين حممود زنكي ـ رضي هللا عنه ـ من خضمل معايشته للقران الكرمي ‪ ،‬وهدي النيب صلى هللا عليه وسلم ومن‬
‫أبن الدنيا دار اختبار ‪ ،‬وابتضمء ‪ ،‬وعليه هلإهنا مزرعة لآلخرة ‪ ،‬ولذلك هل‬
‫حترَر من سيطرة الدنيا‬ ‫تفكره يف هذه احلياة؛ هل‬
‫بزخار ها ‪ ،‬وزينتها ‪ ،‬وبريقها ‪ ،‬وخَع ‪ ،‬وانقاد ‪ ،‬وأسلم نفسه ظاهراً وابطناً ‪ ،‬ومن هذه احلقائق‪:‬‬
‫* اليقني التام أبننا يف هذه الدنيا أشبـه ابلغربـاء ‪ ،‬أو عابري سبي ‪ ،‬كمـا قـال النيب صلى هللا عليه وسلم ‪« :‬كن يف‬
‫الدنيا كأنك غريب ‪ ،‬أو عابر سبي »(‪.)4‬‬
‫العزة إال ما كان منها طاعة هلل ـ تبارك وتعاىل ـ إذ يقول النيب صلى هللا‬ ‫* وأن هذه الدنيا ال وزن هلا ‪ ،‬وال قيمة عند رب هل‬
‫عليه وسلم ‪« :‬لو كانت الدنيا تعدل عند هللا جناح بعوضة ما سقى كا راً منها شربة ماء(‪ ، )5‬أال هل‬
‫إن الدُّنيا ملعونة‪،‬‬
‫ملعون ما يها إال ذكر هللا ‪ ،‬وما وااله ‪ ،‬أو عاملاً ‪ ،‬أو متعلماً(‪.»)6‬‬
‫أن عمرها قد قارب على االنتهاء؛ إذ يقول صلى هللا عليه وسلم ‪« :‬بعثت أان والساعة كهاتني ويقرن بني إصبعيه‪:‬‬ ‫* و هل‬
‫السبابة ‪ ،‬والوسطى»(‪.)7‬‬
‫ۡ َ َ ُ ُّ ۡ َ‬ ‫َ َ ذ َ‬
‫ٱِلن َيا َمت ‪ٞ‬ع‬ ‫* وأن االخرة هي الباقية ‪ ،‬وهي دار القرار ‪ ،‬كما قال مؤمن آل رعون‪﴿ :‬يق ۡو ِم إِن َما ه ِذِه ِ ٱۡليوة‬
‫َ َ َۡ ُ َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ ۡ َ َ َ َ ٗ َ َ ُ ۡ َ َٰٓ ذ ۡ َ‬ ‫ََ َ َ َۡ‬ ‫ذ‬
‫ى إَِل مِثل َها َۖ َو َم ۡن ع ِمل َٰل ِٗٗا مِن ذك ٍر أو أنث‬ ‫ِه د ُار ٱلق َرارِ ‪ ٣٩‬من ع ِمل َيِئة فل َيز‬ ‫ِإَون ٱٓأۡلخِرة ِ‬
‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ ُ َ ُ ۡ ‪ َ ۡ َ ُ ُ ۡ َ َ َٰٓ َ ْ ُ َ ٞ‬ذ َ ُ ۡ َ ُ َ َ َ‬
‫اب ‪[ ﴾٤٠‬غا ضم‪ . ]40 – 39 :‬كانت هذه احلقائق‬
‫(‪)8‬‬
‫ۡي حِس ٖ‬‫وهو مؤمِن فأولئِك يدخلون ٱۡلنة يرزقون فِيها بِغ ِ‬
‫(‪ )1‬مسلم رقم ‪.1917‬‬
‫(‪ )2‬مسلم رقم ‪.1919‬‬
‫(‪ )3‬الربق ص ‪ 150‬ـ ‪.154‬‬
‫(‪ )4‬سنن الرتمذي ‪ ،‬كتاب الزهد رقم ‪ 2333‬وهو حديث صحيح‪.‬‬
‫(‪ )5‬املصدر السابق رقم ‪.2320‬‬
‫(‪ )6‬املصدر السابق نفسه ‪ 2322‬حسن غريب قاله الرتمذي‪.‬‬
‫(‪ )7‬مسلم ‪ ،‬كتاب اجلمعة ‪ ،‬ابب ختفيف الصضمة رقم ‪.867‬‬
‫(‪ )8‬من أخضمق النصر يف جي الصحابة د‪.‬السيد حممد نوح ص ‪.49 ، 48‬‬

‫‪164‬‬
‫قد استقرت يف قلب امللك العادل نور الدين حممود الشهيد ‪ ،‬رتهلع ـ رمحه هللا ـ عن الدنيا وحطامها ‪ ،‬وزهد يهما ‪،‬‬
‫وإليك شيئاً من مواقفه‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قال ابن األثري‪« :‬وحكى لنا األمري هباء الدين علي بن الشكري ‪ ،‬وكان خصيصاً خبدمة نور الدين ‪ ،‬قد صحبه من‬
‫ابلرها؛ والشمس يف ظهوران ‪ ،‬كلما سران تقدمنا الظ‬ ‫الصبا ‪ ،‬وأنس به ‪ ،‬وله معه انبساط ‪ ،‬قال‪ :‬كنت معه يف امليدان ُّ‬
‫شيء أجري رسي ‪ ،‬وألتفت‬ ‫‪ ،‬لما عدان صار ظلنا وراء ظهوران ‪ ،‬أجرى رسه وهو يتلفت وراءه وقال يل‪ :‬أتدري ألي ٍ‬
‫ورائي؟ قلت‪ :‬ال ‪ ،‬قال‪ :‬قد شبهت ما حنن يه ابلدنيا ‪ ،‬هترب ممن يطلبها ‪ ،‬وتطلب من يهرب منها قلت‪ :‬رضي هللا‬
‫عن َملك يفكر يف مث هذا ‪ ،‬وقد أنشدت بيتني يف هذا املعىن ‪ ،‬ومها‪:‬‬
‫مثـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الظـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـذي ميشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي معـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك‬ ‫مث ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرزق الـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـذي تطلب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬
‫وإذا ولهليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت عنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه تبعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك(‪»)1‬‬ ‫أنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت ال تدرك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه متبعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً‬
‫‪ 2‬ـ تشبهله نور الدين حممود بعمر بن عبد العزيز يف زهده ‪ ،‬وقد كان األخري حاكماً ألقوى دولة على األرض يف زمنه‪،‬‬
‫لك اشرتاه من سهمه من الغنائم ‪ ،‬وكان ُحيَر الفقهاء‬ ‫كان نور الدين ال ينفق على نفسه ‪ ،‬وال على أهله ‪ ،‬إال من م ٍ‬
‫ُ‬
‫‪ ،‬ويستفتيهم يما حي ُّ له من تناول األموال املرصدة ملصاحل املسلمني ‪ ،‬يأخذ ما يفتونه حبله ‪ ،‬ومل يتعداه إىل غريه‬
‫البتة(‪.)2‬‬
‫الذمة مبلغ ألفي قرطاس(‪ ، )3‬يصر ه يف‬ ‫قال العماد األصفهاين‪« :‬كان رسم نفقته اخلاص يف ك سنة من جزية أه هل‬
‫كسوته ‪ ،‬ونفقته ‪ ،‬ومأكوله ‪ ،‬ومشروبه ‪ ،‬وحوائجه املهمة ‪ ،‬حىت أجرة خياطه ‪ ،‬وطباخه ‪ ،‬ومن ذلك املقرر املعني النزر‬
‫‪ ،‬مث يستفَ ما يتصدق به يف آخر الشهر ‪ ،‬ويفَه على املساكني ‪ ،‬وأه الفقر(‪.»)4‬‬
‫‪ 3‬ـ وأما ما يهدى إليه من الثياب ‪ ،‬واأللطاف ‪ ،‬وهدااي امللوك من املنادي ‪ ،‬والسكاكني ‪ ،‬واملهاميز ‪ ،‬والداببيس ‪ ،‬وك‬
‫دقيق وجلي ال يتصرف يف شيء منه ب يعرض نظره عنه ‪ ،‬وإذا اجتمع خيرجه إىل جملس القاضي ليحص أمثاهنا املو ورة‬
‫‪ ،‬ويصر ها يف عمارة املساجد املهجورة(‪.)5‬‬
‫حرمه الشرع من حرير ‪ ،‬أو ذهب ‪ ،‬أو َة(‪ ، )6‬وحكي يل عنه‪ :‬أنه مح إليه من مصر عمامة‬ ‫‪ 4‬ـ ومل يلبس قط ما هل‬
‫مذهبةٌ ‪ ،‬لم حيَرها عنده ‪ ،‬وصفت له ‪ ،‬لم يلتفت إليها ‪ ،‬وبينما هم معه يف حديثها؛ إذ قد‬ ‫من القصب الر يع هل‬
‫جاءه رج ٌ صويف أمر له هبا ‪ ،‬قي له‪ :‬إهنا ال تصلح هلذا الرج ‪ ،‬ولو أعطي غريها لكان أنفع له ‪ ،‬قال‪ :‬أعطوها له‬
‫أعوض عنها يف اآلخرة‪ .‬سلمت إليه سار هبا إىل بغداد باعها بستمئة دينار ‪ ،‬أو سبعمئة ‪ ،‬وأان‬ ‫‪ ،‬إين أرجو أن هل‬
‫أشك‪ :‬أهنا كانت تساوي أكثر(‪.)7‬‬

‫(‪ )1‬عيون الروضتني يف أخبار الدولتني (‪.)261/1‬‬


‫(‪ )2‬الباهر ص ‪ 164‬دور نور الدين حممود يف هنَة األمة ‪.128‬‬
‫(‪ )3‬الكواكب ص ‪ 53‬ـ ‪ 54‬نور الدين حممود ص ‪.39‬‬
‫(‪ )4‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.39‬‬
‫(‪ )5‬الربق ص ‪ 143‬ـ ‪ 144‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.40‬‬
‫(‪ )6‬الباهر ص ‪ 164‬نور الدين حممود ‪.40‬‬
‫(‪ )7‬الباهر ص ‪ 165‬نور الدين حممود ص ‪.40‬‬

‫‪165‬‬
‫‪ 5‬ـ قال رضيع اخلاتون «زوجة نور الدين»‪ :‬إهنا قلهلت عليها النفقة ‪ ،‬ومل يكفها ما كان قد قرره هلا ‪ ،‬أرسلتين إليه ‪،‬‬
‫امحر وجهه ‪ ،‬مث قال‪ :‬من أين أعطيها‪،‬‬ ‫تنكر ‪ ،‬و هل‬‫أطلب منه زايدة يف وظيفتها (أي خمصصاهتا املالية) لما قلت له ذلك؛ هل‬
‫أما يكفيها ماهلا؟ وهللا ال أخوض انر جهنم يف هواها ‪ ،‬إن كانت تظن أن الذي بيدي من األموال هي يل؛ بئس الظن؛‬
‫لفتق ـ إن كان ـ من عدو اإلسضمم ‪ ،‬وأان خازهنم عليها ‪ ،‬ضم أخوهنم‬ ‫إمنا هي أموال املسلمني ‪ ،‬ومرصدة ملصاحلهم ومعدهلة ٍ‬
‫يها! مث قال‪ :‬يل مبدينة محص ثضمثة دكاكني ُملكاً قد وهبتها إايها لتأخذها‪ .‬وكان حيص منها قدر قلي حنو عشرين‬
‫دينارا(‪.)1‬‬
‫‪ 6‬ـ قال ابن كثري‪« :‬كان نور الدين عفيف البطن ‪ ،‬والفرج ‪ ،‬مقتصداً يف اإلنفاق على أهله ‪ ،‬وعياله يف املطعم ‪،‬‬
‫وامللبس؛ حىت قي ‪ :‬إنه كان أدىن الفقراء يف زمانه أعلى نفقة منه ‪ ،‬من غري اكتنا ٍز ‪ ،‬وال استئثار ابلدنيا(‪.)2‬‬
‫وكان عمر املضمء رجضمً من الصاحلني الزاهدين ‪ ،‬وكان نور الدين يستقرض منه يف ك رمَان ما يفطر عليه ‪ ،‬وكان‬
‫يرس له بفتيت ‪ ،‬ورقاق يفطر عليه(‪ .)3‬وكان إذا أقام الوالئم العظيمة ال ميد يده إليها إمنا أيك يف طبق ٍ‬
‫خاص يه‬
‫طعام بسيط(‪.)4‬‬
‫مقر سكن حاكم اجلزيرة ‪ ،‬والشام ‪ ،‬ومصر ‪ ،‬واليمن؛ كان داراً متواضعة ‪ ،‬تط ُّ على النهر الداخ إىل القلعة‬ ‫* وأما ُّ‬
‫ص هلفةً خيلو يها للعبادة ‪ ،‬لما ضربت الزالزل دمشق ‪ ،‬بىن إبزاء تلك الصفة بيتاً من األخشاب‪.‬‬ ‫من الشمال ‪ ،‬أحلق هبا ُ‬
‫هو يبيت يه ويصبح ‪ ،‬وخيلو بعبادته ‪ ،‬وال يربح(‪ .)5‬وملا تويف د ن يف البيت البسيط املقام من األخشاب(‪.)6‬‬
‫‪ 7‬ـ زهده يف األلقاب‪ :‬عندما تَـ ْف ُق ُد قيادةٌ ما القدرَة على اإلسهام اجلاد يف حركة التاريخ؛ يتحول مهها إىل منح النياشني‬
‫‪ ،‬واأللقاب ملن يقدرون من أج أن تغطي عجزها وانكماشها ‪ ،‬لكن رجضمً اعضمً كنور الدين ير ض هذه املنح خو اً‬
‫أن يكون يف طياهتا الكذب ‪ ،‬واملبالغة ‪ ،‬والزيف ‪ ،‬وخو اً أن تقوده إىل نوع من االعتداد ‪ ،‬والغرور ‪ ،‬كثرياً ما انتهى‬
‫إليهما القادة العاملون ‪ ،‬أما نور الدين الذي علمه التجرد كيف يكون الر ض؛ إنه يتمنع حىت النهاية عن الذهاب مع‬
‫اإلغراء إىل ما يريد الشيطان ال ما يريد هللا‪.‬‬
‫تلقهلى يوماً من بغداد هدية تشريف عباسية ‪ ،‬ومعها «قائمة» أبلقابه اليت كان يُ ْذ َكر هبا على منابر بغداد‪...:‬اللهم أصلح‬
‫املوىل ‪ ،‬السلطان ‪ ،‬امللك ‪ ،‬العادل ‪ ،‬العامل ‪ ،‬العام ‪ ،‬الزاهد ‪ ،‬العابد ‪ ،‬الورع ‪ ،‬اجملاهد ‪ ،‬املرابط ‪ ،‬املثاغر نور الدين ‪،‬‬
‫رضي اإلمامة وأثريها ‪ ،‬خر امللهلة وجمدها‬
‫وعدهلته ركن اإلسضمم وسيفه ‪ ،‬قسيم الدولة وعمادها ‪ ،‬اختيار اخلضم ة ومعزها ‪ ،‬هل‬
‫‪ ،‬ومشس املعاين وملكها ‪ ،‬سيد ملوك املشرق واملغرب وسلطاهنا ‪ ،‬حميي العدل يف العاملني املظلومني من الظاملني انصر‬
‫دولة أمري املؤمنني‪.‬‬

‫(‪ )1‬الباهر ص ‪ 164‬نور الدين حممود ص ‪.40‬‬


‫(‪ )2‬البداية والنهاية نقضمً عن نور الدين حممود ص ‪.41‬‬
‫(‪ )3‬البداية والنهاية نقضمً عن نور الدين حممود ص ‪.41‬‬
‫(‪ )4‬مراة الزمان (‪ )315/8‬نور الدين حممود ص ‪.41‬‬
‫(‪ )5‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.41‬‬
‫(‪ )6‬الربق ص ‪ 153‬ـ ‪ 154‬كتاب الروضتني نقضمً عن نور الدين ص ‪.410‬‬

‫‪166‬‬
‫لكن نور الدين أسقط مجيع األلقـاب ‪ ،‬وطرح دعاءً واحداً يقول‪ :‬اللهم وأصلح عبدك الفقري حممود بن زنكي(‪ .)1‬ومثة‬
‫رواية أخرى متنحنا مزيداً من األضواء عن املوضع ‪ ،‬وتتَمن كلمات ومجضمً من إنشـاء نور الدين نفسه‪..‬روي أنه كتب‬
‫رقعة خبطه إىل وزيره خالد بن القيسراين ـ بعـد أن استفزته كثرة األلقاب ـ أيمره أن يكتب له صـورة ما يدعى لـه بـه على‬
‫املنـابـر ‪ ،‬وكـان مقصـوده صيـانة اخلطيب عن الكذب ‪ ،‬ولئضم يقول ما ليس يه‪ ،‬كتب ابن القيسراين كضمماً ودعا له يه‬
‫‪ ،‬مث قال‪ :‬وأرى أن يقال على املنرب‪ « :‬اللهم وأصلح عبدك الفقري إىل رمحتك ‪ ،‬اخلاضع هليبتك ‪ ،‬املعتصم بقوتك ‪،‬‬
‫اجملاهد يف سبيلك ‪ ،‬املرابط ألعداء دينك ‪ ،‬أاب القاسم حممود زنكي»‪.‬‬
‫كان جواب نور الدين‪ :‬هذا ال يدخله كذب وال تزيُّد‪ .‬وكتب خبطه يف أعلى الصفحة‪ :‬مقصودي أالهل يكذب على املنرب‬
‫أنـا خبضمف ك ما يـقال‪ .‬أ رح مبا ال أعم ؟ والتفت إىل وزيره قائضمً‪ :‬الذي كتبت به جيد ‪ ،‬اكتب به نسخاً إىل البضمد(‪.)2‬‬
‫مث أضاف مث يبدؤون ابلدعاء‪ :‬اللهم أَره احلق حقاً اللهم أسعده ‪ ،‬اللهم انصره ‪ ،‬اللهم و قه‪..‬من هذا اجلنس(‪.)3‬‬
‫إن القيادة اليت تريد أن تنهض ابألمة ‪ ،‬ومتارس قه النهوض يف حياهتا عليها أن متنع ك ما من شأنه أن ينمي روح‬
‫النفاق ‪ ،‬والتزلف للمسؤولني؛ ألن ذلك يو ر النقد البناء ‪ ،‬وحرية الرأي ‪ ،‬للشعوب حىت يعرف القادة أخطاءهم ‪،‬‬
‫يصلحوها يف حركته النهَوية ‪ ،‬وعلى القيادة أن تتصف ابلتجرد هلل يف أعماهلا ‪ ،‬وتزهد يف حطام الدنيا الزائ ‪ .‬لقد‬
‫كان زهد نور الدين زهد املؤمن الذي ال يرغب يف الدنيا ‪ ،‬وما يها من ملذات ‪ ،‬وشهوات ‪ ،‬ويسعى ويعم لآلخرة‬
‫دار النعيم واخلريات ‪ ،‬ولقد مدح ابن القيسراين نور الدين يف زهده ‪ ،‬قال‪:‬‬
‫(‪)4‬‬
‫و ـ ـ ـ ـي التقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى أزه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد ُزهلهادهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬ ‫يغشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى الوغ ـ ـ ـ ـ ـى أ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرس رساهنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬
‫ويقول أيَاً‪:‬‬
‫(‪)5‬‬
‫ومـ ـ ـ ـ ـ ـال هبـ ـ ـ ـ ـا عـ ـ ـن األم ـ ـ ـ ـوال زه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدا‬ ‫ثنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى ي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـده عـ ـ ـ ـ ـ ـن الدني ـ ـ ـ ـا عفا ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً‬
‫ويصوره ابن منري من الصاحلني األبرار ‪ ،‬الذين يزهدون يما يتنازع عليه الناس من عرض الدنيا ‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫هلـ ـُ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم وتَطل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُع خلف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك األبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرار‬ ‫ال زلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت تقفـ ـ ـ ـ ـو الصاحلي ـ ـن مسابق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً‬
‫(‪)6‬‬
‫يـ ـ ـ ـه تفان ـ ـ ـ ـ ـ ـت يَـ ْعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُرب ون ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـزار‬ ‫نف ـ ـ ـ ـس السيـ ـادة زهـ ـ ـد مثل ـك ـ ـي ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـذي‬
‫اتسعاً‪ :‬شجاعته‪:‬‬
‫ورث نور الدين حممود الشجاعة عن والده ‪ ،‬عماد الدين زنكي ‪ ،‬الذي يَرب بشجاعته املث ‪ ،‬قد شارك نور الدين‬
‫يف كا ة املعارك اليت خاضها والده خضمل رتة حكمه (‪ 521‬ـ ‪541‬هـ) ومن بعد توليه احلكم أمَى معظم أايم حياته‬
‫على صهوة جواده ‪ ،‬يشارك جنوده ‪ ،‬ويتقدهلم الصفوف ‪ ،‬ويعرض نفسه للشهادة‪.‬‬

‫(‪ )1‬الكواكب ص ‪ 68‬ـ ‪ 69‬نور الدين حممود ص ‪.42‬‬


‫(‪ )2‬مراة الزمان (‪ 322/8‬ـ ‪ )323‬نور الدين حممود ص ‪.43‬‬
‫(‪ )3‬هكذا ظهر جي صضمح الدين ص ‪.274‬‬
‫(‪ )4‬كتاب الروضتني نقضمً عن نور الدين يف األدب العريب ص ‪.64‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه ص ‪.64‬‬
‫(‪ )6‬ديوان ابن منري ص ‪ 192‬نور الدين يف األدب العريب ‪.65‬‬

‫‪167‬‬
‫وقد ورد أ َ وصف لشجاعته على لسان ابن األثري بقوله‪« :‬وأما شجاعته‪ ،‬وحسن رأيه؛ قد كانت النهاية إليه‬
‫يهما‪ ،‬إنه كان أصرب الناس يف احلرب‪ ،‬وأحسنهم مكيدة ورأايً‪ ،‬وأجودهم معر ة أبمور األجناد وأحواهلم‪ ،‬وبه يَرب‬
‫املث يف ذلك‪ ،‬مسعت مجعاً كثرياً من الناس ال أحصيهم يقولون‪ :‬إهنم مل يروا على ظهر الفرس أحسن منه ‪ ،‬كأنه خلق‬
‫منه ال يتحرك ‪ ،‬وال يتزلزل‪ .‬وبلغين‪ :‬أنه يف احلرب رابط اجلأش ‪ ،‬اثبت القدم ‪ ،‬صليب الَرب ‪ ،‬يقدم أصحابه عند‬
‫فرة»(‪.)1‬‬
‫الكرة ‪ ،‬وحيمي منهزمهم عند ال هل‬
‫وعندما اجأ الفرجنة معسكره ابلقرب من حصن األكراد عام ‪558‬هـ‪1163/‬م ‪ ،‬ومل يتمكن هو ومن كان معه من‬
‫جتمع عنده من جنا من املعركة ‪ ،‬وأرس يف‬ ‫الثبات ‪ ،‬انسحب ابجتاه محص مسا ة اثنيت عشر كيلو مرتاً ‪ ،‬وتوقف حىت هل‬
‫طلب اخليام ‪ ،‬والسضمح ‪ ،‬واملؤن من محص ‪ ،‬وحلب ‪ ،‬وأقام معسكره يف نفس املكان ‪ ،‬نصحه بعض قادته ابختيار‬
‫موقع أبعد خو اً من متابعة الفرجنة هلم ‪ ،‬أجابه‪ :‬إذا كان معي ألف ارس ال أابيل أبعدائي قلوا أم كثروا ‪ ،‬وهللا ال‬
‫(‪)2‬‬
‫القوات الكا ية ‪ ،‬توجه هبا حنو‬
‫أستظ جبدار؛ حىت اخذ بثأر اإلسضمم وأثري ! ومل يغادر مكانه إال عندما جتمعت له هل‬
‫وبر نور الدين بقسمه(‪ .)3‬وقد حتدهلث الشعراء عن صفة الشجاعة ‪ ،‬وشبهوا‬ ‫حارم؛ حيث وقعت معركة حارم املشهورة هل‬
‫نور الدين ابألسد ‪ ،‬ب هو أيسر األسود ‪ ،‬ويتغلب عليها ‪ ،‬يقول ابن القيسراين‪:‬‬
‫(‪)4‬‬
‫هـ ـ ـ ـ أيسـ ـ ـر الغلـ ـ ـ ـب إال مـ ـ ـ ـن ل ـ ـ ـ ـه الغل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب‬ ‫من ابتـ ـ ـ ـ ـت األُسـ ـ ـ ـد أس ـ ـ ـ ـرى ـ ـي سضمسل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬
‫ويقول أيَاً‪:‬‬
‫الـ ـ ـ ـ ـ ـ ـورد وحينـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً تُعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُّد ـ ـ ـ ـ ـي األولي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاء‬
‫(‪)5‬‬
‫أن ـ ـ ـ ـ ـت حين ـ ـ ـ ـاً تقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاس ابألس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد‬
‫ارس الفرسان ‪ ،‬ويسلب التيجان من امللوك االخرين ‪،‬‬ ‫وهو عند األصفهاين يغلب امللوك ‪ ،‬ويصيد األسود ‪ ،‬وهو‬
‫وجيوز الفخار لشجاعته وبطولته ‪ ،‬يقول العماد يف مدحه‪:‬‬
‫الصيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد الليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوث و ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـارس الفرس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـان‬ ‫يـ ـ ـ ـا غال ـ ـ ـ ـب الغل ـ ـ ـ ـب املل ـ ـ ـ ـوك وصائـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد‬
‫(‪)6‬‬
‫حـ ـ ـ ـ ـزت الفخـ ـ ـ ـار عل ـ ـ ـ ـى ذوي التيج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـان‬ ‫يـ ـ ـ ـا سال ـ ـ ـ ـب التيج ـ ـ ـ ـ ـ ـان مـ ـ ـن أرابهب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬
‫وقال ابن قسيم احلموي‪:‬‬
‫دل علـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى القسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاوة لينــُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ‬ ‫كالرم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـح هل‬
‫ُّ‬ ‫تب ـ ـ ـدو الشجـ ـ ـ ـ ـ ـاعة م ـ ـ ـن طضمق ـ ـ ـة وجه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬
‫(‪)7‬‬
‫وس ُكون ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬
‫للـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه سطـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوة أبس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ُ‬ ‫ووراء يقظت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه أن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاة ُمـ ـجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرب‬
‫وقال ابن منري‪:‬‬

‫(‪ )1‬الباهر ص ‪ 168‬دور نور الدين حممود يف هنَة األمة ص ‪.125‬‬


‫(‪ )2‬دور نور الدين حممود يف هنَة األمة ص ‪.125‬‬
‫(‪ )3‬الباهر ص ‪ 117‬ـ ‪ 118‬دور نور الدين حممود يف هنَة األمة ص ‪.126‬‬
‫(‪ )4‬كتاب الروضتني (‪.)154/1‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه (‪.)245/1‬‬
‫(‪ )6‬ديوان العماد ص ‪ 410‬نور الدين يف األدب العريب ص ‪.69‬‬
‫(‪ )7‬كتاب الروضتني نقضمً عن نور الدين يف األدب العريب ص ‪.70‬‬

‫‪168‬‬
‫(‪)1‬‬
‫حتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى اسرتق ـ ـ ـ ـ ـ ـت آي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة أحراره ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬ ‫م ـ ـ ـ ـ ـأل البـ ـ ـ ـ ـضمد مواهب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً ومهاب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة‬
‫وقال أيَاً‪:‬‬
‫(‪)2‬‬
‫يُرجـ ـ ـ ـ ـ ـى ويرهـ ـ ـ ـ ـب خو ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه وعقاب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬ ‫متهل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ وامل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوت ـي نربات ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬
‫عاشراً‪ :‬مفهومه للتوحيد ‪ ،‬وتضرعه ‪ ،‬ودعاؤه‪:‬‬
‫(‪)3‬‬
‫كان امللك العادل نور الدين حممود الشهيد من عمق همه للتوحيد ‪ ،‬ومعر ته ابهلل تعاىل ال يفع عضمً إال بنية حسنة‬
‫‪ ،‬وحقق يف حياته مفهوم التوحيد الصحيح ‪ ،‬وحقق اإلميان بك معانيه ‪ ،‬والتزم بشروطه ‪ ،‬وابتعد عن نواقَه‪.‬‬
‫مرةً‪« :‬ابهلل ال ختاطر بنفسك‪،‬‬
‫وهذا املوقف العظيم يدل على ما قلنا‪ :‬قال له قطب الدين النيسابوري ـ الفقيه الشا عي ـ هل‬
‫وابإلسضمم واملسلمني إنك عمادهم»(‪ )4‬قد نصحه بعدم االشرتاك ابلقتال ‪ ،‬واملخاطرة بنفسه؛ حىت ال يقت ضم يبقى‬
‫من املسلمني أحد إال أخذه السيف ‪ ،‬ومن مث تؤخذ البضمد(‪ .)5‬قال نور الدين‪ :‬اي قطب الدين اسكت؛ إن قولك هذا‬
‫وم ْن حممود؛ حىت يقال له هذا؟! قبلي من حفظ البضمد ‪ ،‬ذلك هللا الذي ال إله إال هو! بكى‬ ‫إساءة أدب على هللا ‪َ ،‬‬
‫من كان حاضراً(‪.)6‬‬
‫وهذا الذي قاله نور الدين ـ رمحه هللا ـ يدخ يف صميم مفهوم التوحيد ‪ ،‬اهلل هو األول واالخر ‪ ،‬والظاهر والباطن ‪،‬‬
‫وما الناس ابتداء من أصغر جندي يهم ‪ ،‬حىت أكرب قائد إال أدوات « اعلة» يف يده حيركها و ق مشيئته ‪ ،‬وإرادته‬
‫لتحقيق كلمته يف الكون ـ هللا عز وج ـ وكفى(‪ .)7‬هذا التطبيق العملي ملفهوم اإلميان ابهلل ‪ ،‬وحتقيق توحيده الذي لو‬
‫أدركته قياداتنا عرب التاريخ؛ لعر ت كيف تَع هذا التاريخ لصاحلنا حنن ال لصاحل اخلصوم واألعداء(‪.)8‬‬
‫ويف ساحة احلرب ‪ ،‬حيث املوت على بعد خطوات ‪ ،‬وحيث لقاء هللا آت وراء ك حلظة كان نور الدين يذوب تواضعاً‬
‫‪ ،‬وإشفاقاً ‪ ،‬وتصفه تقواه العميقة يف حَور مؤثر أمام هللا ‪ ،‬حيث تتمزق يف أعماق وعيه بقااي الستائر ‪ ،‬واحلجب ‪،‬‬
‫اليت ظ يكا ح من أج متزيقها؛ لكي يقف نقياً‪.‬‬
‫عندما التقت قواته يف حارم ابلصليبيني ‪ ،‬الذين كانوا يفوقوهنم عدة وعدداً ‪ ،‬انفرد نور الدين حتت ت حارم ‪ ،‬وسجد‬
‫ومرغ وجهه ‪ ،‬وتَرع ‪ ،‬وقال‪« :‬اي رب هؤالء عبيدك وهم أولياؤك ‪ ،‬وهؤالء عبيدك وهم أعداؤك ‪ ،‬انصر‬ ‫لربه عز وج هل‬
‫أولياءك على أعدائك‪ .‬وإيش َول حممود يف الوسط؟»‪.‬‬

‫(‪ )1‬ديوان ابن منري ص ‪ 217‬نور الدين يف األدب العريب ص ‪.70‬‬


‫(‪ )2‬نور الدين يف األدب العريب ص ‪.70‬‬
‫(‪ )3‬عيون الروضتني يف أخبار الدولتني (‪.)359/1‬‬
‫(‪ )4‬كتاب الروضتني نقضمً عن اجلهاد والتجديد ص ‪.339‬‬
‫(‪ )5‬دور نور الدين يف هنَة األمة ص ‪.128‬‬
‫(‪ )6‬الباهر ص ‪ ، 169‬الكواكب الدرية ص ‪.30‬‬
‫(‪ )7‬الباهر ص ‪ ، 169‬الكواكب الدرية ص ‪.30‬‬
‫(‪ )8‬الباهر ص ‪ ، 169‬الكواكب الدرية ص ‪.30‬‬

‫‪169‬‬
‫يقول أبو شامة‪ :‬يشري نور الدين هنا إىل أنك اي رب إن نصرت املسلمني دينك نصرت ‪ ،‬ضم متنعهم النصر بسبب‬
‫حممود إن كان غري مستحق للنصر‪ .‬وبلغين‪ :‬أنه قال‪ :‬اللهم انصر دينك ‪ ،‬وال تنصر حمموداً َم ْن الكلب حممود؛ حىت‬
‫ينصر(‪)1‬؟!‬
‫ويف إحدى املعارك سنة ست ومخسني ومخسمئة ‪ ،‬قَى هللا ابهنزام عسكر املسلمني ‪ ،‬وبقي امللك العادل مع شرذمة‬
‫ب عسكر ال ُك هلفار حبيث اختلط هل‬
‫رجالة املسلمني ‪،‬‬ ‫قليلة ‪ ،‬وطائفة يسرية ‪ ،‬واقفاً على ت ً يقال له‪ :‬ت حبيش ‪ ،‬وقد قَـ ُر َ‬
‫مع رجالة ال ُكفهلار ‪ ،‬وقف امللك العادل حبذائهم موليا وجهه إىل قبلة الدُّعاء ‪ ،‬حاضراً جبميع قلبه مناجياً ربه بسره يقول‪:‬‬
‫ب العباد ‪ ،‬أان العبد الَعيف ملهلكتين هذه الوالية ‪ ،‬وأعطيتين هذه النيابة ‪ ،‬عمرت بضمدك ‪ ،‬ونصحت عبادك ‪،‬‬ ‫«اي َر هل‬
‫وأمرهتم مبا أمرتين به ‪ ،‬وهنيتهم عما هنيتين عنه ‪ ،‬ر عت املنكرات من بينهم وال أملك إال نفسي هذه ‪ ،‬وقد َسلهلمتها‬
‫إليهم ذاابً عن دينك ‪ ،‬وانصراً لنبيك»‪.‬‬
‫الرعب ‪ ،‬وأرس عليهم اخلذالن ‪ ،‬وقفوا يف مواضعهم ‪ ،‬وما جسروا على‬ ‫استجاب هللا تعاىل دعاءه ‪ ،‬وأوقع يف قلوهبم ُّ‬
‫اإلقدام عليه ‪ ،‬وظنوا‪ :‬أن امللك العادل عم عليهم احليلة ‪ ،‬وأن عسكر املسلمني يف الكمني ‪ ،‬إن أقدموا عليه خترج‬
‫عساكر املسلمني يف الكمني ‪ ،‬ضم ينفلت منهم أحد وقفوا ‪ ،‬وما أقدموا عليه(‪.)2‬‬
‫ومن خضمل املواقف السابقة ال يبدو نور الدين دائياً حسب ‪ ،‬ولكن قيهاً بقدر هللا متبصراً بدور اإلنسان يف حركة‬
‫أن إرادة هللا إذا شاءت هتيأت هلا األسباب ‪ ،‬ولن يعجزها شيء؛ ولو مات ‪ ،‬أو قت عشرات القادة‬ ‫التاريخ ‪ ،‬عاملاً‪ :‬هل‬
‫إن اخر رج منهم سيحم املهمة ‪ ،‬ويواص الطريق ‪ ،‬ومن مث يستوي ـ عرب هذه الرؤية ـ هذا القائد ‪ ،‬أو‬ ‫واجملاهدين ‪ ،‬هل‬
‫ذاك(‪.)3‬‬
‫وكان نور الدين حممود يف الليايل يصلي ‪ ،‬ويناجي ربه مقبضمً بوجهه عليه ‪ ،‬ويؤدي الصلوات اخلمس يف أوقاهتا بتمام‬
‫شرائطها ‪ ،‬وأركاهنا ‪ ،‬وركوعها ‪ ،‬وسجودها(‪ .)4‬وبلغنا عن مجاعة من الصو ية الذين يعتمد على أقواهلم ممهلن دخلوا داير‬
‫سر ‪ ،‬إنه ما يظهر علينا بكثرة جنده وعسكره‬ ‫القدس للزايرة حكايةً عن الكفار‪ :‬أهنم يقولون‪« :‬ابن القسيم ‪ ،‬له مع هللا ٌّ‬
‫‪ ،‬وإمنا يظفر علينا ابلدُّعاء وصضمة اللي ‪ ،‬إنه يصلي ابللي ‪ ،‬وير ع يده إىل هللا ويدعو ‪ ،‬اهلل سبحانه يستجيب دعائه‬
‫‪ ،‬ويعطيه ُسؤله ‪ ،‬وما يَـ ُرُّد يده خائبة ‪ ،‬يظفر علينا! هذا كضمم الكفهلار يف حقه»(‪.)5‬‬
‫ٍ‬
‫أسلحة‪،‬‬ ‫أعد املسلمون من‬ ‫إن نور الدين حممود اعترب الدعاء من أمَى األسلحة اليت تسهم يف حتقيق النصر ‪ ،‬ومهما هل‬
‫وعتاد‪ ،‬إهنم يظلون عرضة للفش واهلزمية واإلحباط ‪ ،‬إذا امتنعوا عن استخدام هذا السضمح ‪ ،‬أو أساؤوا‬ ‫هلة‪ٍ ،‬‬ ‫وعد ٍ‬

‫(‪ )1‬كتاب الروضتني نقضمً عن احلروب الصليبية واألسرة الزنكية ص ‪.180‬‬


‫(‪ )2‬كتاب الروضتني يف أخبار الدولتني (‪.)378 ، 377/1‬‬
‫(‪ )3‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.44‬‬
‫(‪ )4‬عيون الروضتني (‪.)255/1‬‬
‫(‪ )5‬عيون الروضتني (‪.)255/1‬‬

‫‪170‬‬
‫الزهاد ‪ ،‬والعباد ‪ ،‬والعلماء ‪ ،‬والفقراء ‪ ،‬والفقهاء كذلك ‪ ،‬وكان‬ ‫استخدامه(‪ ، )1‬ولذلك استخدمه بنفسه ‪ ،‬وطلب من هل‬
‫مستوعباً لقول رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪« :‬ه تنصرون إال بَعفائكم»(‪.)2‬‬
‫مخ العبادة(‪ ، )3‬ال ب هو سيد العبادات‪،‬‬ ‫الدعاء هلل ‪ ،‬والتعلُّق به عند قادة النهوض الرابنيني والصادقني من املسلمني ُّ‬
‫وأقرهبا ‪ ،‬وأحبُّها إىل هللا تعاىل ‪ ،‬لقوله صلى هللا عليه وسلم ‪:‬‬
‫«الدعاء هو العبادة(‪ ، )4‬ومفتاح الرمحة ستمطر العباد به مفاتيح رمحة هللا تعاىل بعد أن تنقطع هبم األسباب»(‪.)5‬‬
‫كنز حقيقي من‬ ‫أيها األخوة الكرام املهتمون بنهَة أمتهم ‪ ،‬والتمكني لدين هللا تعاىل يف األرض عليكم ابلدعاء؛ إنه ٌ‬
‫مجلة الكنوز اليت تنطوي عليها الشريعة اإلسضممية ‪ ،‬اهلل تعاىل حيض عباده على اقتناص هذا الكنز يف مث قوله تعاىل‪:‬‬
‫ُ‬ ‫َ َ‬
‫ين ‪[ ﴾٥٥‬األعراف‪ .]55 :‬ويف مث قوله تعاىل‪َ ﴿:‬وقال َر ُّبك ُم‬ ‫َض ٗع َو ُخ ۡف َي ًة إنذ ُهۥ ََل ُُي ُِّ ُّ ٱل ۡ ُم ۡع َت ِد َ‬ ‫ۡ ُ ْ َذ ُ‬
‫ك ۡم تَ َ ُّ‬ ‫﴿ٱدعوا رب‬
‫ِ‬
‫ون َج َه ذن َم َداخِر َ‬‫ۡ ُ ٓ َۡ َ ۡ َ ُ ۡ ذ ذ َ َۡ َ ۡ ُ َ َ ۡ َ َ َ َۡ ُ ُ َ‬
‫ين ‪ [ ﴾ ٦٠‬اطر‪ ]60 :‬وغالب ًا‬ ‫ِ‬ ‫ج ُّ لكم إِن ٱَّلِين يستك ِِبون عن عِباد ِِت َيدخل‬ ‫وِن أَت ِ‬‫ٱدع ِ‬
‫ما حتدث اإلجابة عاجضمً أم اجضمً‪:‬‬
‫يبوا ْ ل َو ۡ ُۡل ۡؤم ُِنوا ْ ب لَ َع ذل ُهمۡ‬
‫اع إ َذا َد َعن فَلۡ َي ۡس َتج ُ‬
‫ِ‬ ‫ي ُّ َد ۡع َوةَ ٱِلذ‬ ‫ُ‬
‫ك ع َِبادِي َعن فَإّن قَري َُّۖ أج ُ‬ ‫َ َ ََ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِۖ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِِ ِ‬ ‫﴿ِإَوذا َأل‬
‫َُۡ ُ َ‬
‫يرشدون‪[ ﴾١٨٦‬البقرة ‪]186 :‬‬

‫إن من أسباب جناح نور الدين حممود يف مشروعه النهَوي ‪ ،‬استيعابه العميق لفقه الدعاء ‪ ،‬ومقدرته على استخدامه‬
‫كسضمح تهلاك ضد األعداء ‪ ،‬وحسن تَرعه ‪ ،‬وانكساره بني يدي املوىل عز وج ‪.‬‬

‫احلادي عشر‪ :‬حمبته للجهاد والشهادة‪:‬‬


‫كان نور الدين حممود الشهيد ‪ ،‬من حميب عبادة اجلهاد يف سبي هللا ‪ ،‬وجيد متعته يف جهاد األعداء واملرابطة يف الثغور‪،‬‬
‫قال العماد األصفهاين‪« :‬حَرت عند نور الدين بدمشق ـ يف شهر صفر ـ واحلديث جيري يف طيب دمشق ‪ ،‬ورقة‬
‫حب اجلهاد يسليين عنها ‪ ،‬ما أرغب‬ ‫هوائها ‪ ،‬وأزهار رايضها ‪ ،‬وك منا ميدحها ‪ ،‬ويطريها ‪ ،‬قال نور الدين‪ :‬إمنا ُّ‬
‫يها»(‪.)6‬‬

‫(‪ )1‬مقومات النصر يف ضوء القران والسنة (‪.)241/1‬‬


‫(‪ )2‬البخاري يف كتاب اجلهاد ‪ ،‬الدواء الكايف ملن سأل عن الدواء الشايف ص ‪.6‬‬
‫(‪ )3‬سنن الرتمذي رقم ‪.3368‬‬
‫(‪ )4‬صححه احلاكم ووا قه الذهيب ‪ ،‬املستدرك (‪.)491/1‬‬
‫(‪ )5‬سنن الرتمذي رقم ‪.3368‬‬
‫(‪ )6‬الربق ص ‪ 126‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.45‬‬

‫‪171‬‬
‫ومرة أخرى نلتقي به ‪ ،‬وهو يغادر املوص بعد عشرين يوماً من دخوله إايها عام ‪ 566‬هـ يسأله أصحابه‪ :‬إنك حتب‬
‫املوص واملقام هبا ‪ ،‬ونراك أسرعت العود؟ يجيب‪ :‬قد تغري قليب يها إن مل أ ارقها ظلمت ‪ ،‬ومينعين أيَاً أنين ها هنا‬
‫ال أكون مرابطاً للعدو ‪ ،‬ومضمزماً للجهاد(‪.)1‬‬
‫وأما حبه للشهادة ‪ ،‬قد قال عنه أبو شامة‪ :‬كان يف احلرب اثبت القدم ‪ ،‬حسن الرمي ‪ ،‬صليب الَرب ‪ ،‬يقدم‬
‫أصحابه ويتعرض للشهادة ‪ ،‬وكان يسأل هللا تعاىل أن حيشره يف بطون السباع ‪ ،‬وحواص الطري(‪ ، )2‬كانت عقيدة‬
‫الشهادة حتركه ‪ ،‬وهذا اإلميان العميق بعقيدة الشهادة يف سبي هللا هو الذي د ع أجياالً من املسلمني إىل ساحات‬
‫اجلهاد طلباً للموت ‪ ،‬أسقطوا الدول ‪ ،‬وغريوا اخلرائط ‪ ،‬وسحقوا العروش ‪ ،‬ومرغوا األنوف ‪ ،‬ومل ميوتوا ‪ ،‬كان نور‬
‫الدين إذا حَر احلرب أخذ قوسني وجعبتني ‪ ،‬وابشر القتال بنفسه ‪ ،‬وكان يقول‪ :‬طاملا تعرضت للشهادة لم أرزقها(‪.)3‬‬
‫إن امللك العادل نور الدين حممود الشهيد ‪ ،‬ترىب على كتاب هللا ‪ ،‬وهدي النيب صلى هللا عليه وسلم قد خص هللا‬
‫ُ ُ َ َٓ‬ ‫َ َۡ ََ ذُ ذ َ َ َُ ْ ََذ َ‬
‫خذ مِنك ۡم شهدا َء ۗۡ‬ ‫الشهيد ابلذكر يف القران الكرمي يف مواضع منها؛ قال تعاىل‪﴿:‬و ِۡلعلم ٱَّلل ٱَّلِين ءامنوا ويت ِ‬
‫َ ذ ُ َ ُ ُّ ذ‬
‫ٱلظلِم َ‬
‫ني ‪﴾ ١٤٠‬‬ ‫ِ‬ ‫وٱَّلل َل ُيِ ُّ‬
‫[آل عمران‪ . ]140 :‬ويف هذه اآلية إشارة واضحة إىل أن الشهادة إمنا هي اصطفاء وتكرمي من هللا عز وج لبعض عباده‬
‫أن الشهادة ال تكون لك أحد من الناس ‪ ،‬اهلل سبحانه وتعاىل يكرم هبا من يشاء من خلقه(‪.)4‬‬ ‫األخيار ‪ ،‬و هل‬
‫ني‬ ‫ِين َأ ۡن َع َم ذ ُ‬
‫ٱَّلل َعلَ ۡيهم م َِن ٱنلذبي َن َوٱلصدِيق َ‬ ‫ك َم َع ذٱَّل َ‬ ‫ذ َ َ ذ ُ َ َ ُ ْ َ َٰٓ َ‬ ‫ََ ُ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫والثانية قوله تعاىل‪﴿ :‬ومن ي ِطعِ ٱَّلل وٱلرَول فأولئ ِ‬
‫َ َ َ ُ َ ُ ْ َ َٰٓ َ َ ٗ‬ ‫ذ‬ ‫ُّ َ ٓ‬
‫ٗني وحسن أولئِك رفِيقا ‪[ ﴾ ٦٩‬النساء‪ ]69:‬يف هذه اآلية يبني هللا سبحانه وتعاىل درجة املصطفني‬ ‫َوٱلش َهداءِ َوٱلصل ِ ِ‬
‫األخيار من شهدائه‪ :‬أهنم مع النبيني والصديقني ‪ ،‬ومن تكون له هذه املنزلة إال من أكرمه هللا ابلشهادة‪.‬‬
‫مث أتيت الصورة الناصعة للشهداء يوم القيامة يوم يؤتى هبم مع النبيني ‪ ،‬ليشهدوا يوم القيامة ملن ذب عن دين هللا ‪ ،‬وذلك‬
‫َۡ ُ‬ ‫ََ ۡ ََ‬
‫ت ٱۡلۡرض ب ِ ُنورِ َرب ِ َها‬ ‫ۡشق ِ‬ ‫شرف عظيم ‪ ،‬وموقف عظيم انلوه ابلشهادة ‪ ،‬يقول هللا عز وج يف هذه اآلية‪﴿ :‬وأ‬
‫َۡ َ ُ ۡ َ ُ ۡ َ ُ َ‬ ‫ِ بَ ۡي َن ُ‬
‫َ‬ ‫َ ُ َ ۡ َ ُ َ ْ ٓ َ ذ َ َ ُّ َ َ ٓ َ ُ‬
‫ ِّ وهم َل يظلمون ‪[ ﴾ ٦‬الزمر‪.]69:‬‬ ‫ِ ِ‬‫ٱۡل‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ِ‬ ‫جايء بِٱنلب ِ ِين وٱلشهداءِ وق‬ ‫ضع ٱلكِت ُّ و ِ‬ ‫وو ِ‬
‫لقد أعد هللا للشهداء من الكرامة ‪ ،‬والنعيم األبدي ‪ ،‬ما جيع ك نفس زكية تتوق إىل الشهادة ‪ ،‬وترغب لتفوز ابألجر‬
‫العظيم(‪ )5‬قال تعاىل‪:‬‬
‫َ َ َٓ َ َ ُ ُ ذ‬
‫ٱَّللُ‬ ‫َ َ ۡ ُۡ َُ َ‬ ‫ذ َ ۡ َ َ َۢ َ ۡ َ ۡ َ ٓ‬ ‫َب ذٱَّل َ‬
‫ِين قُتِلُوا ْ ِف َ‬ ‫ََ َۡ‬
‫َت َس َ ذ‬
‫يل ٱَّللِ أموتا بل أحياء عِند رب ِ ِهم يرزقون ‪ ١٦٩‬ف ِرحِني بِما ءاتىهم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬‫َ‬ ‫ِ‬ ‫﴿وَل‬
‫ُ َۡ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫ذ‬ ‫َ‬ ‫َ ۡ‬ ‫َ َۡ َۡ َ ُ ْ‬ ‫ذ‬ ‫ََۡ َۡ ُ َ‬ ‫َ ۡ‬
‫ٗقوا ب ِ ِهم م ِۡن خلفِ ِه ۡم أَل خ ۡوف عل ۡي ِه ۡم َوَل ه ۡم ُي َزنون ‪﴾١٧٠‬‬ ‫ۡشون بِٱَّلِين لم يل‬ ‫مِن فضلِهِۦ ويستب ِ‬

‫(‪ )1‬الباهر ص ‪ 153‬ـ ‪ 154‬نور الدين حممود ص ‪.45‬‬


‫(‪ )2‬كتاب الروضتني يف أخبار الدولتني (‪.)35/1‬‬
‫(‪ )3‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.31‬‬
‫(‪ )4‬اإلعداد املعنوي واملادي للمعركة يف ضوء القران والسنة ص ‪.95‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه ص ‪.96‬‬

‫‪172‬‬
‫ذ َۡ ُُ َ‬ ‫ذ َ ۡ َ ُ َۢ َ ۡ َ ۡ َ ٓ ‪َ َ ٞ‬‬ ‫[عمران‪ 169 :‬ـ ‪ . ]170‬وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬و ََل َت ُقولُوا ْ ل َِمن ُي ۡق َت ُل ِف َ‬
‫كن َل تشعرون‬
‫يل ٱَّللِ أموتۚ بل أحياء ول ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬‫َ‬ ‫ِ‬
‫‪. ]154‬‬ ‫[البقرة ‪:‬‬ ‫‪﴾١٥٤‬‬
‫وورد يف السنة الثابتة عن النيب صلى هللا عليه وسلم ‪« :‬إن أرواح الشهداء يف جوف طري خَر هلا قنادي معلقة ابلعرش‬
‫‪ ،‬تسرح من اجلنة حيث شاءت ‪ ،‬مث أتوي إىل تلك القنادي ‪ ،‬اطهللع إليهم رهبم اطضمعة ‪ ،‬قال‪ :‬ه تشتهون شيئاً؟‬
‫قالوا‪ :‬أي شيء نشتهي وحنن نسرح من اجلنة حيث شئنا ‪ ،‬ع هبم ذلك ثضمث مرات ‪ ،‬لما رأوا أهنم لن يرتكوا من أن‬
‫يسألوا قالوا‪ :‬اي رب نريد أن تُ هلرد أرواحنا يف أجسادان حىت نقت يف سبيلك مرة أخرى ‪ ،‬لما رأى أن ليس هلم حاجة‬
‫تُركوا»(‪.)1‬‬
‫الشهيد َله عظيم ‪ ،‬ومكانته ر يعة ‪ ،‬إذا كان هللا ـ سبحانه وتعاىل ـ َ اجملاهدين على القاعدين ‪ ،‬الشهداء أكثر‬
‫(‪)3‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫َضمً ‪ ،‬وأعظم تشريفاً ‪ .‬ولقد قات نور الدين األعداء ‪ ،‬وجاهد يف هللا حق جهاده ‪ ،‬حىت استحق لقب ‪ ،‬تشريفاً‬
‫وتكرمياً من األمة هلذا البط اجملاهد الفذ‪.‬‬
‫الثاين عشر‪ :‬عبادته‪:‬‬
‫كان امللك العادل نور الدين حممود الشهيد يصلي أكثر الليايل ‪ ،‬ويناجي ربه مقبضمً بوجهه عليه ‪ ،‬ويؤدي الصضمة يف‬
‫أوقاهتا بتمام شرائطها ‪ ،‬وأركاهنا ‪ ،‬وركوعها ‪ ،‬وسجودها(‪ ،)4‬وحيا ظ على اجلماعة ‪ ،‬وكان كثري االبتهال إىل هللا ـ عز‬
‫وج ـ يف أموره كلها(‪ .)5‬وكان من عادة نور الدين أنه ينزل إىل املسجد بغلس ‪ ،‬وال يزال يركع يه حىت يصلي الصبح(‪.)6‬‬
‫وقال ابن األثري‪« :‬حدثين صديق لنا بدمشق ـ كان رضيع اخلاتون زوجة نور الدين ـ قال‪ :‬كان نور الدين يصلي يطي‬
‫الصضمة ‪ ،‬وله أوراد يف النهار ‪ ،‬إذا جاء اللي ‪ ،‬وصلى العشاء انم ‪ ،‬مث يستيقظ نصف اللي ‪ ،‬ويقوم إىل الوضوء‬
‫والصضمة والدعاء إىل بكرة ‪ ،‬مث يظهر للركوب ‪ ،‬ويشتغ مبهام الدولة»(‪.)7‬‬
‫وقال ابن كثري‪« :‬كان نور الدين كثري املطالعة للكتب الدينية ‪ ،‬متبعاً لآلاثر النبوية ‪ ،‬حما ظاً على الصلوات يف اجلماعات‬
‫‪ ،‬كثري التضموة ‪ ،‬صمواتً وقوراً(‪ .)8‬كان نور الدين كثري الصيام ‪ ،‬وله أوراد يف اللي والنهار ‪ ،‬وكان يقدم أشغال املسلمني‬
‫عليها مث يتمم أوراده»(‪.)9‬‬
‫وعبارة‪ « :‬كان يقدم أشغال املسلمني عليها مث يتمم أوراده» هذا هو املنطق الذي علمنا إايه اإلسضمم والذي جيع‬
‫التعبد ‪ ،‬الذي هو غاية اخلضمئق ‪ ،‬ممارسة إجيابية ‪ ،‬تَرب يف أعماق الناس ‪ ،‬تغري نفوسهم ‪ ،‬ومتتد إىل حركة التاريخ ‪،‬‬

‫(‪ )1‬مسلم ‪ ،‬كتاب اإلمارة (‪.)1502/3‬‬


‫(‪ )2‬اإلعداد املعنوي واملادي للمعركة يف ضوء القران والسنة ص ‪.97‬‬
‫(‪ )3‬نور الدين يف األدب العريب ص ‪.48‬‬
‫(‪ )4‬كتاب الروضتني نقضمً عن نور الدين الرج والتجربة ص ‪.46‬‬
‫(‪ )5‬البداية والنهاية (‪.)490/16‬‬
‫(‪ )6‬كتاب الروضتني نقضمً عن نور الدين حممود ص ‪.46‬‬
‫(‪ )7‬الباهر ص ‪ ، 164‬نور الدين حممود ص ‪.46‬‬
‫(‪ )8‬الكواكب ص ‪ ، 54‬نور الدين حممود ص ‪.46‬‬
‫(‪ )9‬الكواكب ص ‪ 54‬نور الدين حممود ص ‪.54‬‬

‫‪173‬‬
‫تصوغ مسريته ‪ ،‬كانت طبيعةُ تعبُّد نور الدين تد عه إىل املسؤولية ‪ ،‬وجتعله يف قلبها ‪ ،‬وهو أعمق وعياً ‪ ،‬وأشد خشية‪،‬‬
‫وأمَى عزمية ‪ ،‬وأقدح ذَكاء(‪.)1‬‬
‫لقد مارس نور الدين مفهوم العبادة مبفهومها الشام ‪ ،‬وأعطت تلك املمارسة مثارها على مستواه الشخصي والشعيب‪،‬‬
‫ََ ُ ْ ذ َ َ َ َ ُ ْ ذ َ َ ََ ُ ْ ذ َ‬
‫ٱلر َُول‬ ‫وعلى دولته ‪ ،‬وحتقيق العبادة من شروط التمكني قال تعاىل‪ :‬وأقِيموا ٱلصلوة وءاتوا ٱلزكوة وأطِيعوا‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ََ َۡ ُ ُ ذ ُ ََ ۡ َ ۡ‬ ‫َۡ‬ ‫ََ ذ ُ ۡ ُۡ َُ َ َ َۡ َ َذ ذ َ َ‬
‫ك َف ُروا ْ ُم ۡعجز َ‬
‫صۡي ‪[ ٥٧‬النور‪55‬‬ ‫ين ِِف ٱۡل ِ‬
‫ۡرض ومأوىهم ٱنلار َۖ وَلِئس ٱلم ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫لعلكم ترۡحون ‪َ ٥٦‬لَتسَب ٱَّلِين‬
‫‪ . ]56 -‬قد أشارت اآلايت الكرمية إىل شروط التمكني وهي‪ :‬اإلميان بك معانيه وبكا ة أركانه ‪ ،‬وممارسة العم الصاحل‬
‫بك أنواعه ‪ ،‬واحلرص على ك أنواع اخلري وصنوف الرب ‪ ،‬وحتقيق العبودية الشاملة ‪ ،‬وحماربة الشرك بكا ة أشكاله‬
‫وأنواعه وخفاايه ‪ ،‬وأما لوازم استمرار التمكني هي‪ :‬إقامة الصضمة ‪ ،‬وإيتاء الزكاة ‪ ،‬وطاعة الرسول صلى هللا عليه وسلم(‪.)2‬‬
‫الثالث عشر‪ :‬إنفاقه وكرمه‪:‬‬
‫اشتهر نور الدين ابإلنفاق الواسع ‪ ،‬والكرم العظيم ‪ ،‬وكانت له أوقاف عظيمة ‪ ،‬قال العماد‪« :‬وكلف نور الدين إب ادة‬
‫األلطاف ‪ ،‬والزايدة يف األوقاف ‪ ،‬وتكثري الصدقات وتو ري النفقات وكسوة النسوة األايمى ‪ ،‬وإغناء قراء الرعية‪،‬‬
‫وإجنادها بعد إعدامها ‪ ،‬وصون األيتام واألرام ببذله ‪ ،‬وعون الَعفاء وتقوية املقوين بعدله ‪ ،‬وعمارة املساجد املهجورة‬
‫‪ ،‬وتعفية ااثر اآل اثم ‪ ،‬وإسقاط ك ما يدخ يف شبهة احلرام ‪ ،‬ما أبقى اجلزية واخلراج ‪ ،‬وما حتص من قسم الغضمت‬
‫على قومي املنهاج قال‪ :‬وأمر أن يكتب مناشري جلميع أه البضمد كتب أكثر من ألف منشور ‪ ،‬وحسبنا ما تصدهلق به‬
‫على الفقراء يف تلك األشهر ‪ ،‬زاد على ثضمثني ألف دينار ‪ ،‬وكانت عادته يف الصدقة‪ :‬أنهله حيَر مجاعة من أماث البلد‬
‫عمن يعر ون يف جوارهم من أه احلاجة ‪ ،‬مث يصرف إليهم صدقاهتم‪.‬‬ ‫يف ك حمله ‪ ،‬ويسأهلم هل‬
‫وكان يرسم نفقته اخلاصة يف ك شهر من جزية أه الذمة مبلغ ألفي قرطيس يصر ه يف كسوته ‪ ،‬ونفقته ‪ ،‬وحوائجه‬
‫ويتفَ منه ما كان يتصدق به يف اخر الشهر ‪ ،‬وأما ما كان يُهدى إليه‬ ‫هل‬ ‫املهمة حىت أجرة خياطه ‪ ،‬وجامكية طباخه ‪،‬‬
‫هل‬
‫من هدااي امللوك وغريهم ‪ ،‬إنه كان ال يتصرف يف شيء منه ال قلي وال كثري ‪ ،‬ب إذا اجتمع خيرجه إىل جملس القاضي‬
‫وحيص مثنه ‪ ،‬ويصر ه يف عمارة املساجد املهجورة ‪ ،‬وتقدم إبحصاء ما يف حمال دمشق من ذلك ‪ ،‬أانف على مئة‬
‫مسجد ‪ ،‬أمر بعمارة ذلك كله ‪ ،‬وعني له وقو اً»(‪.)3‬‬
‫قال‪ :‬ولو اشتغلت بذكر وقو ه ‪ ،‬وصدقاته يف ك بلد لطال الكتاب ‪ ،‬ومل أبلغ إىل أمره ‪ ،‬ومشاهدة أبنيته الدهلالة على‬
‫خلوص نيهلته ‪ ،‬تغين عن خريها ابلعيان ‪ ،‬ويكفي أسوار البلدان َضمً عن الربط ‪ ،‬واملدارس ‪ ،‬على اختضمف املذاهب ‪،‬‬
‫واختضمف املواهب ‪ ،‬ويف شرح طوله طول ‪ ،‬وعمله هلل مربور مقبول»(‪.)4‬‬
‫أدر على الَعفاء واأليتام الصدقات ‪ ،‬حىت وقف وقو اً على املرضى واجملانني ‪ ،‬وأقام هلم األطباء واملعاجلني ‪ ،‬وكذلك‬ ‫و هل‬
‫على مجاعة من العلماء ‪ ،‬ومعلمي اخلط والقران ‪ ،‬وعلى ساكين احلرمني ‪ ،‬وجماوري املسجدين ‪ ،‬وجهز عسكراً حيفظ‬

‫(‪ )1‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.47 ، 46‬‬


‫(‪ )2‬قه النصر والتمكني يف القران الكرمي ص ‪.161‬‬
‫(‪ )3‬عيون الروضتني (‪.)346/1‬‬
‫(‪ )4‬املصدر نفسه (‪.)346/1‬‬

‫‪174‬‬
‫املدينة ‪ ،‬وأقطع أمري مكة ‪ ،‬ور ع عن احلجاج ما كان يؤخذ منهم من املكس ‪ ،‬وأقطع أمراء العرب لئضم يتعرضوا للحجاج‬
‫أبحد ‪ ،‬وكانت قد د نتها كثرة السيول‬ ‫‪ ،‬وأمر إبكمال سور مدينة الرسول صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬واستخراج العني اليت ُ‬
‫‪ ،‬وعمر الربط ‪ ،‬واخلانقاهات ‪ ،‬والبيمارستاانت ‪ ،‬وبىن اجلسور يف الطرق واخلاانت ‪ ،‬ونصب مجاعة من املعلمني لتعليم‬
‫وحران ‪،‬‬
‫يتامى املسلمني ‪ ،‬وأجرى األرزاق على معلميهم وعليهم ‪ ،‬بقدر كفايتهم ‪ ،‬وكذلك صنع ملا ملك سنجار ‪ ،‬هل‬
‫والرقة ‪ ،‬ومنبج ‪ ،‬وشيزر ‪ ،‬ومحاة ‪ ،‬ومحص ‪ ،‬وبعلبك ‪ ،‬وصرخد ‪ ،‬وتدمر ‪ ،‬ما من بلد منها إال وله يه ُح ْس ُن أثر ‪،‬‬
‫وحص الكثري من كتب العلوم ‪ ،‬ووقفها على طضمهبا(‪.)1‬‬
‫وقد مدح الشعراء نور الدين على كرمه وجوده قد قال ابن منري‪:‬‬
‫ـ ـ ـ ـ ـي سائـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر اآل ـ ـ ـ ـ ـ ـاق‪ :‬ه ـ ـ ـ ـ ـ م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ُم ْعسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر‬ ‫ك املن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـادي ج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـودهُ‬ ‫يـ ـ ـ ـا أيهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا امللـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫استخص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوا البحتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـري‬
‫ُّ‬ ‫ابسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم ابـ ـ ـ ـن ٍ‬
‫أوس و‬ ‫اس هلنوهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوا‬ ‫وألنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت أك ـ ـ ـ ـ ـ ـرم مـ ـ ـ ـ ـ ـن أنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ‬
‫(‪)2‬‬
‫إن تغ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـز تغنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم أو تقات ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ تظفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر‬ ‫ذلهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت لدولت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك الرق ـ ـ ـ ـ ـ ـاب وال تـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـزل‬
‫كان نور الدين كما يصفه كثري من املؤرخني قلي االبتهاج ابلشعر(‪ ،)3‬ال عن نفور من الشعر ذاته ‪ ،‬وعدم توا ق مع‬
‫معطياته الوجدانية اليت هتز العقول والقلوب ‪ ،‬وإمنا على نفور من الشعراء أنفسهم ومن مزايداهتم املعرو ة على حساب‬
‫احلق ‪ ،‬ومتلقهم الزائف للسلطة على حساب العدل(‪.)4‬‬
‫بتوجسه من ملق الشعراء ‪،‬‬ ‫إن نور الدين هنا يذكران بعمر بن عبد العزيز ‪ ،‬ال يف كراهيته للتجربة الشعرية ‪ ،‬ولكن ُّ‬
‫وضعفهم ‪ ،‬ومزايداهتم ‪ ،‬ومن مث إن نور الدين ـ كسلفه ـ مل يكن يُ ْشرعُ األبواب يف وجوههم ‪ ،‬ب مل يكن يعطيهم ‪ ،‬وقد‬
‫سئ حيىي بن حممد الوهراين يف بغداد عن نور الدين ‪ ،‬أجاب يف إحدى مقاماته‪« :‬وهو سهم للدولة سديد ‪ ،‬وركن‬
‫للخضم ة شديد ‪ ،‬وأمري زاهد جماهد ‪ ،‬غري أنه عرف ابملرعى الوبي البن السبي ‪ ،‬وابحمل اجلديب للشاعر األديب ‪،‬‬
‫ليس لشاعر عنده من نعمة جتزى»(‪.)5‬‬
‫وعبارة ـ غري أنه ـ ترد بعد عبارات املديح ‪ ،‬تلك توحي أبن موقفه هذا مل يكن مرضيهلاً عنه من اجلميع ‪ ،‬هناك دائماً من‬
‫يريد أن أيخذ على حساب أي شيء يف ك عصر ‪ ،‬كانت آذان هؤالء قد اعتادت عبارة «أعطوه ألف دينا ٍر» أو‬
‫عبارة‪ :‬س ما شئت‪ .‬ومن بني هؤالء الشعراء‪ :‬أسامة بن منقذ ‪ ،‬الذي ميدحه ببيتني من الشعر يتَمان غمزاً مستوراً‬
‫ملوقف نور الدين من عطاء الشعراء‪:‬‬
‫لـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ك ـ ـ ـ علـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى اخليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرات منكمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـش‬ ‫سلطانن ـ ـ ـ ـ ـا زاهـ ـ ـ ـ ـد والنـ ـ ـ ـ ـاس ق ـ ـ ـ ـ ـد زه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدت‬
‫م ـ ـ ـن املعاص ـ ـ ـ ـ ـي و يهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا اجلـ ـ ـ ـ ـوع والعطـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـش‬ ‫أايم ـ ـ ـ ـ ـه مث ـ ـ ـ ـ ـ ـ شه ـ ـ ـ ـ ـ ـر الص ـ ـ ـ ـوم طاهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرة‬
‫لكن أاب شامة املؤرخ الدمشقي ‪ ،‬يتصدى بنفسه للرد على الرجلني‪ :‬صاحب املقامة ‪ ،‬وصاحب القصيدة؛ ولفَح‬
‫االزدواجية اليت يعانيها كثري من الشعراء ‪ ،‬ولبيان حقيقة املوقف العظيم ‪ ،‬يقول‪« :‬ما كان ـ نور الدين ـ يبذل أموال‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه (‪.)351/1‬‬


‫(‪ )2‬شعر اجلهاد الشامي يف مواجهة الصليبيني ص ‪.170‬‬
‫(‪ )3‬كتاب الروضتني نقضمً عن نور الدين حممود ص ‪.135‬‬
‫(‪ )4‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.136‬‬
‫(‪ )5‬كتاب الروضتني نقضمً عَن نور الدين حممود ص ‪.137‬‬

‫‪175‬‬
‫املسلمني إال يف اجلهاد ‪ ،‬وما يعود نفعه على العباد‪ .‬وكان كما قي يف حق عبد هللا بن حمرييز ـ وهو من سادات التابعني‬
‫حيب هللا ‪ ،‬وخبيضمً حيث حتبُّون ‪ ،‬وأما شعر ابن منقذ ضم اعتبار به ‪ ،‬هو القائ يف‬ ‫يف الشام ـ‪ :‬أنه كان جواداً حيث ُّ‬
‫مدح نور الدين‪:‬‬
‫ب النـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُار ابإليقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاد‬
‫يهـ ـ ـا تَ ُشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُّ‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ك ـ ـ ـ ـ ـ ع ـ ـ ـ ـ ٍام للربيـهل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة ليل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةٌ‬
‫نـ ـ ـ ـ ـاران‪ :‬نـ ـ ـ ـ ـ ـ ُار قـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرى ونـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـار جه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاد‬ ‫لكـ ـ ـ ـن لن ـ ـور الديـ ـ ـن مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن دون الـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـورى‬
‫الع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـام أمجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـع ليل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة امليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمد‬ ‫أب ـ ـ ـ ـ ـ ـداً يصرُهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـداه وأبسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬
‫أهب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن األطـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـواق ـ ـ ـ ـ ـ ـي األجيـ ـ ـ ـ ـاد‬ ‫ك ل ـ ـ ـ ـه ـ ـ ـ ـ ـ ـي كـ ـ ـ جيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍد منهل ـ ـ ـ ـ ـ ـةٌ‬ ‫َمل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ‬
‫وأمدُّهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم كف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً بب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـذل ت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمد‬ ‫أعلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى املل ـ ـ ـ ـ ـوك ي ـ ـ ـ ـداً وأمنعه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم مح ـ ـ ـ ـ ـ ًى‬
‫مـ ـ ـ ـ ـن غي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر مسأل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍة وال ميعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاد‬ ‫تربع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً‬ ‫يعطـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي اجلزي ـ ـ ـ ـ ـ َ م ـ ـ ـ ـن النهل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوال ُّ‬
‫(‪)1‬‬
‫م ـ ـ ـ ـا دام ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت الدنيـ ـ ـ ـ ـ ـا بغي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر نفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاد‬ ‫ك دائـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍم‬ ‫ال زال ـ ـ ـي سع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍد ومل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ‬
‫وعن دما أسر الفرنج أخا أسامة بن منقذ جنم الدولة حممد؛ طلب من ابن عمه انصر الدين حممد بن سلطان صاحب‬
‫شيزر اإلعانة يف كاكه ‪ ،‬لم يفع ‪ ،‬قال أسامة‪« :‬وادخر هللا سبحانه أجر خضمصه ‪ ،‬وحسن ذكره للملك العادل نور‬
‫الدين ‪ ،‬رمحه هللا تعاىل ‪ ،‬وهبه ارساً من مقدهلمي الدهلاوية يقال له املشطوب ‪ ،‬قد بذل اإل رنج يه عشرة االف دينار ‪،‬‬
‫استخلص به أخاه من األسر»(‪.)2‬‬
‫أن نور الدين قد مدح من قب شعراء عصره الكبار كابن القيسراين ‪ ،‬وابن منري ‪ ،‬والعماد األصفهاين ‪،‬‬ ‫واملضمحظ‪ :‬هل‬
‫التكسب أو توخي التزلُّف(‪ .)3‬يقول الدكتور حممود إبراهيم‪،‬‬ ‫وغريهم ‪ ،‬ويبدو‪ :‬أن مدح الشعراء لنور الدين مل يكن بدا ع ُّ‬
‫يف حديثه عن عضمقة ابن القيسراين بنور الدين ومدحه له‪« :‬ومما يلفت النظر يف متجيد ابن القيسراين لنور الدين‪ :‬أن‬
‫الشعر الذي نظم يف هذا التمجيد قد خضم من االستماحة اليت مل خت منها قصائد أخرى البن القيسراين ‪ ،‬قيلت يف‬
‫أبن شعر ابن القيسراين يف نور الدين ميث إعجاابً صادقاً‬ ‫أشخاص اخرين يف مناسبات قدمية‪ .‬ولع هل هذا مما يعزز االعتقاد هل‬
‫أن هذا الشعر ال يَُ ْرتج ُم مشاعر ابن القيسراين وحده ‪ ،‬ب عن مشاعر اجلماعة اإلسضممية كذلك»(‪.)4‬‬ ‫ابلبط اإلسضممي ‪ ،‬و هل‬
‫ب الشعر ‪ ،‬ويعجب به؛ ألنه كان يدرك أثر الشعر يف إاثرة الشعور ‪ ،‬وحتريكه ‪ ،‬والسيما شعر اجلهاد‬ ‫وكان نور الدين حي ُّ‬
‫‪ ،‬ووصف املعارك ‪ ،‬أما كونه ال يبتهج ابملدح؛ هذا تواضع منه؛ ألنه ال حيب مبالغات الشعراء ‪ ،‬ومزايداهتم ابملدح ‪،‬‬
‫وألنه كان مقتدايً ابلسلف الصاحل كاخللفاء الراشدين ‪ ،‬ضم أيخذه هبرج القول(‪ ،)5‬نور الدين مل يكن يف حالة خصام‬
‫مع الشعر ‪ ،‬ب كان حيب الشعر امللتزم ‪ ،‬قد طلب من العماد األصفهاين أن يعم مثنوايت شعرية يف معىن اجلهاد‬
‫على لسانه ‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ومالـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـي العي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـش غي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـره م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن أرب‬ ‫للغ ـ ـ ـ ـ ـ ـزو نشاط ـ ـ ـي وإليـ ـ ـ ـ ـ ـه طربـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي‬

‫(‪ )1‬كتاب الروضتني نقضمً عن نور الدين زنكي يف األدب العريب ص ‪.197‬‬
‫(‪ )2‬كتاب أخبار الدولتني (‪.)358/1‬‬
‫(‪ )3‬نور الدين يف األدب العريب ص ‪.195‬‬
‫(‪ )4‬صدى الغزو الصلييب ص ‪ 159‬ـ ‪.160‬‬
‫(‪ )5‬نور الدين يف األدب العريب ص ‪.197‬‬

‫‪176‬‬
‫والراح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة مستودع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي التهلع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب‬ ‫ب‬
‫ابجل ـ ـ ـ ـ ـ ـد وابجلهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاد جن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـح الطل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫سيفـ ـ ـ ـ ـ ـي طـربـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً إل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى الع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضم يهت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـُّز‬ ‫ال راح ـ ـ ـ ـ ـ ـة ـ ـي العيـ ـ ـ ـ ـش س ـ ـ ـ ـوى أن أغـ ـ ـزو‬
‫(‪)1‬‬
‫والق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدرة ـ ـ ـ ـي غي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر جهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاد عج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُز‬ ‫ـ ـ ـ ـي ذل ذوي الكفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر يكـ ـ ـ ـ ـ ـون العـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـز‬
‫ضد الصليبيني عند طربية‬ ‫ويقول األصفهاين يف موضع اخر‪ :‬كنت راكباً مع نور الدين يف أعقاب إحدى جوالته الظا رة هل‬
‫‪ ،‬سألين‪ :‬كيف تصف ما جرى؟ مدحته بقصيدة مطلعها‪:‬‬
‫(‪)2‬‬
‫وب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدت لعصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرك آيـ ـ ـ ـ ـ ـةُ اإلحس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـان‬ ‫ُعق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدت بنص ـ ـ ـ ـ ـرك راي ـ ـ ـ ـ ـةُ اإلمي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـان‬
‫ولكن ما هو أكثر داللة من هذا كله أن يشهد عصر نور الدين أتلق عدد من كبار الشعراء ‪ ،‬كان يقف يف قمتهم ابن‬
‫القيسراين ‪ ،‬والعماد األصفهاين ‪ ،‬وابن منري ‪ ،‬وابن الدهان املوصلي ‪ ،‬أولئك الذين وجدوا يف دولة نور الدين األرضية‬
‫الصاحلة الزدهار الشعر؛ الذي طرق أبواابً واسعة ‪ ،‬وخطا إىل آ اق بعيدة املدى ‪ ،‬ما كان هلم أن يرحلوا إليها بقصائدهم‬
‫املبدعة ‪ ،‬لوال أن لقوا من نور الدين إعجاابً ‪ ،‬وتوا قاً ‪ ،‬وانسجاماً(‪.)3‬‬
‫وأما ما تَمنه قول الوهران ‪ ،‬وقول ابن منقذ من إشارة إىل خب نور الدين ‪ ،‬أو حرصه على املال ‪ ،‬هذا أمر مستبع ٌد‪،‬‬
‫و يه كثري من املبالغة ‪ ،‬ولو كان نور الدين كما يقوالن؛ ملا ازدحم الشعراء على اببه ميدحونه ‪ ،‬ويسجلون انتصاراته ‪،‬‬
‫اختص مبدحه بعض الشعراء‬ ‫هل‬ ‫وملا أمجع أغلب شعراء عصره على مدحه ابلكرم واجلود ‪ ،‬حىت أسامة بن منقذ نفسه ‪َ ،‬وملا‬
‫َ‬
‫‪ ،‬وال زموه رتات طويلة(‪.)4‬‬
‫أن أابه حمبوس على‬ ‫صيب ‪ ،‬وبكى عند نور الدين ‪ ،‬وذكر‪ :‬هل‬ ‫ومما له عضمقة ابلكرم واإلنفاق يف سرية نور الدين‪ :‬حَر ٌّ‬
‫أجرة ُحجرة من حجر الوقف ـ يعين وقف اجلامع ـ سأل عن حاله؟ قالوا‪ :‬هذا الصيب ابن الشيخ أيب سعد الصويف ‪،‬‬
‫وهو رج زاهد قاعد يف حجرة للوقف ‪ ،‬وليس له قدرة على األجرة ‪ ،‬وقد حبسه وكي الوقف ‪ ،‬ألنه اجتمع عليه أجرة‬
‫رق له ‪ ،‬وأنعم عليه‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫سنة ‪ ،‬سأل‪ :‬كم أجرة السنة؟ قالوا‪ :‬مئة ومخسون قرطاساً‪ ،‬وذكروا سريته‪ ،‬وطريقته‪ ،‬و قره‪ ،‬هل‬
‫حنن نعطيه ك سنة هذا القدر ليصر ه إىل األجرة‪ ،‬ويقعد يها‪ ،‬وتقدم بذلك إبخراجه من احلبس‪ ،‬وص إىل قلب ك‬
‫واحد من احلاضرين الفرح حىت هل‬
‫كأن اإلنعام كان يف حقه(‪.)5‬‬
‫هذه هي أهم صفات نور الدين حممود الشهيد ‪ ،‬رمحه هللا! قال يه ابن عساكر «‪ ...‬ومع ما ذكرت من هذه املناقب‬
‫متأت ملعر ة العلوم ابلفهم والبنيان ‪ ،‬حريص على‬ ‫كلها ‪ ،‬وشرحت من دقها ‪ ،‬وجلها ‪ ،‬هو حسن اخلط ابلبنان ‪ٍ ،‬‬
‫حتصي كتب الصحاح والسنن ‪ ،‬مق ٍ‬
‫نت هلا أبو ر األعواض والثمن ‪ ،‬كثري املطالعة للعلوم الدينية ‪ ،‬متتبع لآلاثر النبوية ‪،‬‬
‫مؤد روضها ومسنوانهتا ‪ ،‬معظم لقدرها يف مجيع‬ ‫مواظب على الصلوات يف اجلماعات ‪ ،‬مر ٍاع آلداهبا يف األوقات ‪ٍ ،‬‬
‫حاالهتا ‪ ،‬عاكف على تضموة القران على مر األايم ‪ ،‬حريص على ع اخلري من الصدقة والصيام ‪ ،‬كثري الدعاء والتسبيح‬
‫متح ٍر يف املطاعم ‪ ،‬واملشارب ‪ ،‬واملضمبس‬‫‪ ،‬راغب يف صضمة الرتاويح ‪ ،‬عفيف البطن والفرج ‪ ،‬مقتصد يف اإلنفاق واخلرج ‪َ ،‬‬
‫(‪ )1‬نور الدين الرج والتجربة ص ‪.138‬‬
‫(‪ )2‬نور الدين الرج والتجربة ص ‪.138‬‬
‫(‪ )3‬كتاب الروضتني نقضمً عن نور الدين حممود ص ‪.139‬‬
‫(‪ )4‬نور الدين حممود يف األدب العريب ص ‪.198‬‬
‫(‪ )5‬عيون الروضتني (‪.)357/1‬‬

‫‪177‬‬
‫التطري ‪ ،‬مع ما مجع هللا‬
‫التكرب ‪ ،‬بريء من التنجيم و ُّ‬
‫التجرب و ُّ‬
‫عري عن ُّ‬ ‫‪ ،‬متربىءٌ من التمادي ‪ ،‬والتباهي ‪ ،‬والتنا س ‪ٌّ ،‬‬
‫له من العق املتني ‪ ،‬والرأي الثاقب الرصني ‪ ،‬واالقتداء بسرية السلف املاضني ‪ ،‬والتشبه ابلعلماء والصاحلني ‪ ،‬واالقتفاء‬
‫بسرية من سلف منهم يف حسن مستهم ‪ ،‬واالتباع هلم يف حفظ حاهلم ووقتهم ‪ ،‬حىت روى حديث املصطفى صلى هللا‬
‫عليه وسلم وأمسعه ‪ ،‬وكان قد استجيز له ممن مسعه ومجعه حرصاً منه على اخلري يف نشر السنة ابألداء‪ ،‬والتحدُّث‪ ،‬ورجاء‬
‫شاهد من جضمل السلطنة وهيبة امللك‬ ‫أن يكون ممن حفظ على األمة أربعني حديثاً كمن جاء يف احلديث ‪ ،‬من رآه َ‬
‫حريه ‪ ،‬ولقد حكي يل عنه من صحبه يف حَره وسفره‪ :‬أنه مل تُسمع‬ ‫ما يبهره ‪ ،‬إذا اوضه رأى من ألطا ه وتواضعه ما هل‬
‫حيب الصاحلني‬
‫منه كلمة حش يف رضاه وال ضجره ‪ ،‬وإن أشهى ما إليه كلمة حق يسمعها ‪ ،‬أو إرشاد إىل سنة يتبعها ‪ُّ ،‬‬
‫ويؤاخيهم ‪ ،‬ويزور مساكنهم حلسن ظنه هبم ‪ ،‬إذا احتلم مماليكه أعتقهم ‪ ،‬وزوج ذكراهنم إبانثهم ‪ ،‬ورزقهم ‪ ،‬ومىت تكررت‬
‫الشكاية إليه من أحد والته؛ أمر ابلكف عن أذى من تكلم بشكاته ‪ ،‬من مل يرجع منهم إىل العدل ‪ ،‬قابله إبسقاط‬
‫املرتبة ‪ ،‬والعزل‪.‬‬
‫وسه على يديه تح احلصون والقضمع‪،‬‬ ‫لما مجع هللا له من شريف اخلصال ‪ ،‬تيسر له ما يقصده من مجيع األعمال ‪ ،‬هل‬
‫ومكن له يف البلدان والبقاع ‪ ،‬حىت ملك حصن شيزر ‪ ،‬وقلعة دوسر ‪ ،‬ومها من أحصن املعاق واحلصون ‪ ،‬واحتوى‬ ‫هل‬
‫على ما يهما من الذخر املصون من غري سفك حمجمة من دم يف طلبهما ‪ ،‬وال قت أحداً من املسلمني بسببهما ‪،‬‬
‫وأكثر ما أخذه من البلدان بتسليمه من أهله ابألمان ‪ ،‬وويف هلم ابلعهود ‪ ،‬واألميان ‪ ،‬أوصلهم إىل مأمنهم يف ك مكان‪.‬‬
‫وإذا استشهد أحد من أجناده؛ حفظه يف أهله وأوالده ‪ ،‬وأجرى عليهم اجلراايت ‪ ،‬ووىل من كان أهضمً منهم للوالايت‪،‬‬
‫وكلما تح هللا عليه تحاً ‪ ،‬وزاده والية؛ أسقط عن رعيته قسطاً ‪ ،‬وزادهم رعاية ‪ ،‬حىت ارتفعت عنهم الظضممات ‪،‬‬
‫ودرت على رعاايه األرزاق ‪ ،‬ونفقت عندهم األسواق‪،‬‬ ‫واملكوس ‪ ،‬واتَعت يف مجيع واليته الغرامات ‪ ،‬والنحوس ‪ ،‬هل‬
‫وحص بينهم بيمنه االتفاق‪ ،‬وزال بربكته العناد‪ ،‬والشقاق‪ ..‬إىل أن قال‪ :‬اهلل حيقن به الدماء ‪ ،‬ويسكن به الدمهاء ‪،‬‬
‫ويدمي له النعماء ‪ ،‬ويبلغ جمده السماء ‪ ،‬ويرجي الصاحلات على يديه ‪ ،‬وجيع منه واقية عليه ‪ ،‬قد ألقى أ هلزمتنا إليه ‪،‬‬
‫وأحصى علم حاجتنا إليه ‪ ،‬ومناقبه خطرية ‪ ،‬وممادحه كثرية ‪ ،‬ذكرت منها غيَاً من يض ‪ ،‬وقليضمً من كثري ‪ ،‬وقد‬
‫مدحه مجاعة من الشعراء ‪ ،‬أكثروا ‪ ،‬ومل يبلغوا وصف آالئه ‪ ،‬ب قصروا ‪ ،‬وهو قلي االبتهاج ابلشعر ‪ ،‬زايدة يف تواضعه‬
‫لعلو القدرة ‪ ،‬اهلل يدمي على الرعية ظله ‪ ،‬وينشر يهم رأ ته وعدله ‪ ،‬ويبلغه يف دينه ودنياه مأموله ‪ ،‬وخيتم ابلسعادة‬
‫والتو يق أعماله ‪ ،‬هو ابإلجابة جدير ‪ ،‬وعلى ما يشاء قدير»(‪.)1‬‬
‫إن ما ذكرته من صفات للملك العادل نور الدين مثرات زكية إلميانه العميق على حتقيق ما عجز عنه غريه ‪ ،‬ممهلن كانت‬ ‫هل‬
‫بضمدهم ‪ ،‬وثرواهتم تزيد أضعا اً على ما كان عليه ‪ ،‬قد امتألت نفسه مببادئ اإلسضمم على حنو ال نكاد جند له شبيهاً‬
‫حوله من أمري إىل جماهد ‪ ،‬ومن حاكم سياسي إىل‬ ‫إال عند األوائ من أعضمم صدر اإلسضمم ‪ ،‬وهذا اإلميان هو الذي هل‬
‫زاهد ‪ ،‬وهو الذي أعانه على مواجهة مشكضمت عصره السياسية ‪ ،‬واالجتماعية ‪ ،‬واالقتصادية ‪ ،‬والتغلب عليها رغم‬
‫قلة املوارد ‪ ،‬ومل يعرف عنه تعصب ‪ ،‬وكانت نفسه مسحةً اكتسبها من طبيعة اإلسضمم السمحة ‪ ،‬إنه حارب الصليبيني‬

‫(‪ )1‬اتريخ دمشق الكبري (‪.)123 ، 122/60‬‬

‫‪178‬‬
‫على أهنم أجانب مغتصبني ‪ ،‬ال على أهنم نصارى ‪ ،‬ومن هنا إنه مل ميس النصارى الوطنيني بسوء ‪ ،‬وكان هلم عنده حق‬
‫الرعاية الكاملة ‪ ،‬لم يهدم يف حياته كنيسة ‪ ،‬وال اذى قساً ‪ ،‬أو راهباً ‪ ،‬على عكس الصليبيني الذين إذا دخلوا قرية‬
‫قتلوا أهلها املسلمني مجيعاً‪ .‬وقد أكسبه إميانه هذا احرتام خصومه من الصليبيني ‪ ،‬كانوا على عداوهتم له حيرتمونه‪،‬‬
‫ويعرت ون له ابالمتياز عليهم ‪ ،‬حىت هل‬
‫إن املؤرخ وليم الصوري ـ الذي أ اض يف كتاابته ابحلقد على اإلسضمم واملسلمني ـ مل‬
‫يستطع إال أن يعرتف بفَله ‪ ،‬وعدله ‪ ،‬وصدق إميانه(‪.)1‬‬

‫املبحث الثالث ‪ :‬أهم معامل التجديد واإلصالح يف دولة نور الدين‬


‫اختذ نور الدين حممود من سرية عمر بن عبد العزيز منوذجاً يقتدى هبا يف دولته ‪ ،‬قد كتب الشيخ العضممة أبو حفص‬
‫معني الدين عمر بن حممود بن خَر اإلربلي ‪ ،‬سرية عمر بن عبد العزيز ‪ ،‬لكي يستفيد منها نور الدين يف إدارة دولته‪،‬‬
‫ولقد اتت معامل اإلصضمح ‪ ،‬والتجديد الراشدي يف عهد عمر بن عبد العزيز مثارها يف الدولة الزنكية ‪ ،‬قد اقتنع نور‬
‫الدين أبمهية التجارب اإلصضمحية يف تقوية وإثراء املشروع النهَوي ‪ ،‬ومتكينه يف إجياد وصياغة الرؤية الضمزمة يف هنوض‬
‫األمة ‪ ،‬وتسلمها القي ادة ‪ ،‬للتجارب التارخيية دور كبري يف تطوير الدول ‪ ،‬وجتديد معاين اإلميان يف األمة ‪ ،‬ولذلك‬
‫حرص على معر ة هذه السري املباركة؛ لكي يقتدي برجاهلا‪.‬‬
‫قال أبو حفص معني الدين اإلربلي يف مقدمة كتابه عن عمر بن عبد العزيز وتقدميه ذلك الكتاب لنور الدين «‪...‬‬
‫علماً منه اال قتداء عن سلف الفَضمء العقضمء ‪ ،‬يكم األجر ‪ ،‬ويبقى الذكر ‪ ،‬واتباع سنن املهديني الراشدين ‪ ،‬يصلح‬
‫السريرة ‪ ،‬وحيسن السرية ‪ ،‬وإن هللا سبحانه وتعاىل أمر نبيه صلى هللا عليه وسلم ابالقتداء بسلفه من األنبياء ‪ ،‬قال عز‬
‫َ ُ ٗ ذ ُ ُّ َ َ ۡ َ ۡ َ َ ٓ‬ ‫ۡ‬ ‫ذُ َ‬ ‫ُ ْ َ َٰٓ َ ذ َ َ‬
‫ۢنباءِ‬ ‫ٱَّللَۖ فب ِ ُه َدى ُه ُم ٱق َتدِِهۡ ۗۡ﴾[األنعام ‪ ]90:‬وقال تعاىل‪﴿:‬وُك نق ُّ عليك مِن أ‬ ‫ِين ه َدى‬ ‫من قائ ‪﴿ :‬أولئِك ٱَّل‬
‫ت بِهِۦ فؤاد َك﴾ [هود‪ ]120:‬لذلك اشتد حرصه ـ أدام هللا سعادته ـ على مجع السري الصاحلة‪ ،‬واالاثر‬
‫َُ َ‬ ‫ٱلر َُل َما نُثَب ُ‬
‫ُّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الواضحة‪ ،‬حينئذ رأيت حقاً على بذل الوس ع يف مساعدته ‪ ،‬واستنفاذ القوة يف معاضدته ‪ ،‬حبكم صدق الوالء وأكيد‬
‫اإلخاء ‪ ،‬صر ت وجه مهيت إىل مجع سرية السعيد الرشيد عمر بن عبد العزيز ـ رضي هللا عنه ـ والتجأت إىل هللا الكرمي ـ‬

‫(‪ )1‬اتريخ األعمال املنجزة يما وراء البحار (‪.)742/2‬‬

‫‪179‬‬
‫ج امسه ـ أن حيسن معونيت ‪ ،‬ويُيسر ما صر ت إليه عزمييت ‪ ،‬حني شرح هللا صدري لذلك؛ والحت إمارات املعونة ‪،‬‬
‫ابدرت إىل مجع هذه السرية برسم خزانته املعمورة معاونة على الرب والتقوى(‪.)1‬‬
‫لقد قدهلم هذا الشيخ اجللي منهاجاً علمياً عملياً لنور الدين زنكي من خضمل سرية عمر بن عبد العزيز ‪ ،‬بىن دولة‬
‫وحكم الشريعة ‪ ،‬وقمع البدع ‪ ،‬وأقام العدل ‪ ،‬ور ع الَرائب ‪ ،‬واملكوس عن األمة ‪ ،‬وعم على إحياء السنة‬ ‫العقيدة ‪ ،‬هل‬
‫وعمق هوية األمة ‪ ،‬و هلجر روح اجلهاد يها ‪ ،‬ونشر العلم ‪ ،‬وساهم يف حتقيق االزدهار والرخاء ‪ ،‬وكان نسيج وحده ‪،‬‬ ‫‪ ،‬هل‬
‫يف زهده وورعه وعبادته وصدقه ‪ ،‬واهتم ابإلدارة واالقتصاد والقوات املسلحة ‪ ،‬واملدارس العلمية ‪ ،‬واملؤسسات االجتماعية‬
‫‪ ،‬وكان شديد التقيد أبحكام الشريعة الغراء‪.‬‬
‫يقول شهاب الدين عبد الرمحن بن إمساعي املقدسي الدمشقي املعروف أبيب شامة عن نور الدين زنكي‪ ...« :‬أطربين‬
‫ما رأيت من ااثره ‪ ،‬ومسعت من أخباره ‪ ،‬مع أتخر زمانه ‪ ،‬وتغري خضمنه ‪ ،‬مث وقفت بعد ذلك يف غري هذا الكتاب على‬
‫كالعمرين ـ رضي هللا عنهما ـ يف العدل‬
‫سرية َسيد امللوك بعده ‪ ،‬امللك الناصر صضمح الدين ‪ ،‬وجدهتما يف املتأخرين ُ‬
‫وسلطاان ُخطهلتنا ‪ ،‬هل‬
‫خصنا هللا تعاىل هبما‪ ،‬وجب‬ ‫ٍ‬
‫أي اجتهاد ‪ ،‬ومها َملكا بلدتنا ُ‬ ‫واجلهاد ‪ ،‬واجتهدا يف إعزاز دين هللا هل‬
‫ٍ‬
‫بتصنيف يتَمن التقريظ هلما والتعريف ‪ ،‬لعلهله يقف عليه‬ ‫علينا القيام بذكر َلهما ‪ ،‬عزمت على إ راد ذكر دولتيهما‬
‫من امللوك من يسلك يف واليته ذلك السلوك ‪ ،‬ضم أبعد أهنما حجة من هللا على امللوك املتأخرين ‪ ،‬وذكرى منه سبحانه‬
‫‪ ،‬إن الذكرى تنفع املؤمنني ‪ ،‬إهنم قد يستبعدون طريقة اخللفاء الراشدين ‪ ،‬ومن حذا حذوهم من األئمة السابقني ‪،‬‬
‫احلجة‬
‫ويقولون حنن يف الزمن األخري ‪ ،‬وما ألولئك من نظري ‪ ،‬كان يما قدر هللا سبحانه من سرية هذين امللكني إلزام هل‬
‫عليهم مبن هو يف عصرهم من بعض ملوك دهرهم ‪ ،‬لن يعجز عن التشبه هبما أحد؛ إن و ق هللا تعاىل الكرمي(‪...)2‬‬
‫هذان حجة على املتأخرين من امللوك والسضمطني ‪ ،‬لله درمها من ملكني تعاقبا على حسن السرية ‪ ،‬ومجي السريرة ‪،‬‬
‫ومها حنفي ‪ ،‬وشا عي ‪ ،‬شفى هللا هبما ك هل ع ٍي ‪ ،‬وظهرت من خالقهما العناية‪ ...‬والفَ للمتقدم ‪ ،‬كأن زايدة مدة‬
‫نور الدين كالتنبيه على زايدة َله ‪ ،‬واإلرشاد إىل عظيم حمله ‪ ،‬إنه أص ذلك اخلري كله‪َ ،‬م هلهد األمور بعدله ‪ ،‬وجهاده‬
‫‪ ،‬وهيبته يف مجيع بضمده مع شدة الفتق ‪ ،‬واتساع اخلرق ‪ ،‬و تح من البضمد ‪ ،‬ما استعان به على مداومة اجلهاد ‪ ،‬هان‬
‫على من بعده على احلقيقة ‪ ،‬سلوك تلك الطريقة(‪ ...)3‬ما أحقهما بقول الشاعر‪:‬‬
‫بَليـ ـ ـ ـ ـن حتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت الث ـ ـ ـ ـرى عفـ ـ ـ ـ ـ ـواً وغفران ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬ ‫وألب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـس الل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه هاتيـ ـ ـ ـ ـ ـك العظ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َام وإن‬
‫مثـ ـ ـ ـ ـوى قبوره ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم روحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً ورحيانـ ـ ـ ـا(‪»)4‬‬ ‫ألت‬
‫سق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى ثـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرى أُود ُعـ ـ ـ ـ ـوه رمح ـ ـ ـةً م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْ‬
‫وإليك أخي أهم معامل التجديد واإلصضمح اليت قام هبا نور الدين حممود الشهيد يف دولته‪:‬‬
‫أوالً‪ :‬احلرص على تطبيق الشريعة‪:‬‬

‫(‪ )1‬الكتاب اجلامع لسرية عمر بن عبد العزيز (‪ )2/1‬اخلليفة الراشد واملصلح الكبري عمر بن عبد العزيز ص ‪ .356‬ـ[‪]1073‬‬

‫(‪ )2‬كتاب الروضتني نقضمً عن نور الدين حممود ص ‪.19‬‬


‫(‪ )3‬املصدر نفسه (‪.)27/1‬‬
‫(‪ )4‬املصدر نفسه (‪.)28/1‬‬

‫‪180‬‬
‫مل تكن مقاليد احلكم يف دولة نور الدين أداة خلدمة أهداف الطبقة احلاكمة ‪ ،‬كما هو احلال يف كثري من الدول ‪،‬‬
‫واحلكومات ‪ ،‬وال لتحقيق ومحاية مصاحل حفنة من البريوقراطيني ‪ ،‬كما أهنا مل تكن جمرد ذريعة عملية «براغماتية» لتسيري‬
‫مدى كان على‬
‫الشؤون املادية املنفعية الصر ة للدولة حسب ‪ ،‬ب إن هنالك أهدا اً أكرب بكثري ‪ ،‬وقيماً ومبادئ أبعد ً‬
‫أجهزة الدولة أن تسعى إىل حتقيقها يف واقع احلياة ‪ ،‬وأن تبذل ما متتلكه من قدرات وخربات للسري ابألمة قدماً صوب‬
‫ا اقها الرحبة الشاملة‪.‬‬
‫إن تنفيذ شريعة اإلسضمم ‪ ،‬وقيمه ‪ ،‬ومبادئه يف واقع احلياة ‪ ،‬وبعث اجملتمع اإلسضممي كان هو اهلدف املركزي لدولة نور‬
‫الدين حممود ‪ ،‬هي إذاً دولة ملتزمة وليست صاحبة أغراض منفعية ‪ ،‬وكسب ‪ ،‬واحرتاف ‪ ،‬وقد أكد نور الدين على‬
‫هذه احلقيقة يف أكثر من مناسبة ‪ ،‬وحشد هلا الكثري من األقوال ‪ ،‬والتأكيدات ‪ ،‬والتصرحيات‪ ،‬ودعا حبماس منقطع‬
‫النظري إىل حتقيقها‪ ،‬وسعى ـ عضمً ـ إىل أن تنتق هذه الدعوة ـ رغم املصاعب‪ ،‬والعقبات ـ من ميدان الفكر إىل ميدان‬
‫لص ‪ ،‬وقاطع طريق ‪ ،‬واألذى احلاص منها قريب ‪ ،‬أ ضم حنفظ الدين ومننع‬ ‫التطبيق(‪ )1‬قال‪« :‬وحنن حنفظ الطرق من ٍ‬
‫عنه ما يناقَه ‪ ،‬وهو األص (‪)2‬؟!‬
‫(‪)4‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫أحد والته‪« :‬انظر يف العوادي وما جيري يها من‬ ‫وقال‪« :‬حنن شحن للشريعة منَي أوامرها» ‪ .‬وقال خماطباً َ‬
‫الدعاوي ‪ ،‬وميز بني احملاسن واملساوي ‪ ،‬وأمح األمور يها على الشريعة»(‪.)5‬‬
‫وقال متحداثً إىل اثنني من كبار موظفيه‪« :‬وهللا إين أ كر يف و ٍال وليته أمور املسلمني‪ ،‬لم يعدل يهم‪ ،‬أو يمن يظلم‬
‫املسلمني من أصحايب‪ ،‬وأعواين‪ ،‬وأخاف املطالبة بذلك أمام هللا‪ .‬باهلل عليكم‪ ...‬وإال خبزي عليكم حرام ‪ ،‬ال تراين‬
‫إيل(‪ .)6‬وقال يما يلخص موقفه امللتزم بعبارة‬
‫إيل ‪ ،‬أو تعلمان مظلمة إال وأعلماين هبا ‪ ،‬وار عاها هل‬
‫قصة مظلوم ال تر ع هل‬
‫تثري اإلعجاب‪« :‬إين جئت ها هنا امتثاالً ألمر الشرع»(‪.)7‬‬
‫ومثة شهادات املؤرخني تؤكد مجيعاً هذا احلرص على االلتزام ‪ ،‬وعلى جع الدولة أداة لتحقيق كلمة هللا يف األرض(‪.)8‬‬
‫املطهرة ‪ ،‬ويقف عند أحكامها»(‪ .)9‬ويقول يف مكان اخر‪« :‬وعلى‬ ‫يقول ابن األثري‪« :‬كان نور الدين يعظ ُم الشريعة هل‬
‫احلقيقة هو الذي جدد للملوك اتباع سنة العدل واإلنصاف ‪ ،‬وترك احملرمات من املأك واملشرب وامللبس وغري ذلك‪،‬‬
‫إهنم كانوا قبله كاجلاهلية ‪ ،‬مهة أحدهم بطنه و رجه ‪ ،‬ال يعرف معرو اً ‪ ،‬وال ينكر منكراً ‪ ،‬حىت جاء هللا بدولته وقف‬

‫(‪ )1‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.86‬‬


‫(‪ )2‬الباهر ص ‪ 173‬ـ ‪.174‬‬
‫(‪ )3‬شحن‪ :‬أي الشرطة‪ :‬أو القوة املشر ة على تنفيذ الشريعة‪.‬‬
‫(‪ )4‬الباهر ص ‪ 166‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.86‬‬
‫(‪ )5‬الربق ص ‪ 146‬ـ ‪.147‬‬
‫(‪ )6‬الكواكب ص ‪ 25‬نقضمً عن نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.86‬‬
‫(‪ )7‬كتاب الروضتني (‪ 36/1‬ـ ‪.)37‬‬
‫(‪ )8‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.86‬‬
‫(‪ )9‬الباهر ص ‪ 166‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.86‬‬

‫‪181‬‬
‫مع أوامر الشرع ونواهيه ‪ ،‬وألزم بذلك أتباعه وذويه ‪ ،‬اقتدى به غريه منهم ‪ ،‬واستحيوا أن يظهر عنهم ما كانوا‬
‫يفعلونه»(‪.)1‬‬
‫ويقول أبو شامة‪ :‬مسعت أاب شداد يقول‪ :‬هلأما كره في إظهار شعائر الناس ‪ ،‬وأتسيس قاعدة الدين»(‪ .)2‬ويقول يف‬
‫إرشاد إىل سنة يتبعها»(‪.)3‬‬
‫مكان آخر‪« :‬كان أشهى ما إليه كلمة حق يسمعها ‪ ،‬أو ٌ‬
‫ويقول ابن كثري‪« :‬كان يقوم يف أحكامـه ابملعدلة احلسنة ‪ ،‬واتباع الشرع املطهر‪ ...‬وأظهر ببضمده السنة ‪ ،‬وأمات‬
‫(‪)4‬‬
‫البدعة» ‪ .‬ويقول ابن قاضي شهبة‪ :‬كان نور الدين ـ ملا صارت له املوص ـ قد أمر كمشتكني شحنتها أال يعم شيئاً‬
‫إال ابلشرع إذا أمره القـاضي ‪ ،‬وأال يعمـ القاضـي والنواب كلهم شيئاً إال بعد مراجعة الشيخ عمر املضمء ـ أحد شيوخ‬
‫املوص الصاحلني ـ وعندما حَر وايل املوص ‪ ،‬وبعض القادة واألمراء يها إىل الشيخ عمر؛ لكي يكتب إىل نور الدين‬
‫كتاابً ‪ ،‬يطلب منه أن يسمح بتشديد العقوبة على بعض املخالفات بسبب كثرة مرتكبيها ‪ ،‬وعدم ارتداعهم ـ وكانت‬
‫أوامر نور الدين أبن تكون العقوابت مطابق ًة ملا ورد أبحكام الشريعة ‪ ،‬بدون زايدة ونقصان ـ ومل جيرؤ الوايل على الكتابة‬
‫لنور الدين هبذا املوضوع خشية التأنيب ‪ ،‬وأعتقد‪ :‬أن الشيخ عمر مبا له من دالة على نور الدين ‪ ،‬رمبا جنح ابملطلوب‬
‫الزعار ‪ ،‬وقطهلاع الطرق ‪ ،‬واملفسدين قد َكثروا‪ ،‬وحيتاج إىل نوع‬
‫‪ ،‬كتب الشيخ عمر كتاابً إىل نور الدين يقول يه‪« :‬إن ُّ‬
‫(‪)5‬‬
‫وصلب ‪ ،‬وضرب ‪ ،‬وإذا أخذ مال إنسان يف الربية من جييء ليشهد به؟‬ ‫ٍ‬ ‫سياسة ‪ ،‬ومث هذا ال جييء إال بقت ٍ ‪،‬‬
‫أجاب نور الدين على ظهر رسالة الشيخ بقوله‪ :‬إن هللا تعاىل خلق اخللق ‪ ،‬وهو أعلم مبصلحتهم ‪ ،‬وإن مصلحتهم‬
‫حتص يما شرعه على وجه الكمال ‪ ،‬ولو علم أن على الشريعة زايدة يف املصلحة؛ لشرعه لنا ‪ ،‬ما لنا من حاجة على‬
‫زايدة ما شرعه هللا تعاىل ‪ ،‬من زاد؛ قد زعم‪ :‬أن ا لشريعة انقصة ‪ ،‬هو يكملها بزايدته ‪ ،‬وهذا من اجلرأة على هللا ‪،‬‬
‫وعلى شرعه ‪ ،‬والعقول املظلمة ال هتتدي ‪ ،‬اهلل سبحانه يهدينا وإايك إىل الكتاب ‪ ،‬وإىل الصراط املستقيم(‪.)6‬‬
‫لما وص الـجواب إىل الشيخ عمر مجع الناس وقرأ عليهم كتـابـه ‪ ،‬وجواب نور الدين عليه قائضمً‪« :‬انظروا يف كتاب‬
‫الزاهد إىل امللك وكتاب امللك ‪ ،‬إىل الزاهد»(‪.)7‬‬
‫وكان نور الدين معتنياً حبفظ أصول الدايانت ‪ ،‬وال ميك ُن أحداً من إظهار ما خيالف احلق ‪ ،‬ومىت أقدم على ذلك هلأدبه‬
‫عام ‪ ،‬أو شخصي إال بعد أن يستفيت الفقهاء ‪ ،‬الذين كانوا أشبه‬ ‫مبا يناسب بدعته(‪ ، )8‬وكان ال يقدم على إجر ٍاء ما ٍ‬
‫مبجلس شيوخ تشريعي ‪ ،‬أو هيئة استشارية تستلهم يف قراراهتا النهائية مؤشرات الشريعة الغراء ‪ ،‬حبيث ال يقدم أحد يف‬
‫الدولة على عم ٍ ‪ ،‬أو إجراء إال وجييء ذلك العم منسجماً مع كر الدولة ‪ ،‬وعقيدهتا ‪ ،‬وشريعتها(‪.)9‬‬

‫(‪ )1‬الباهر ص ‪ 165‬ـ ‪.166‬‬


‫(‪ )2‬كتاب الروضتني نقضمً عن نور الدين حممود ص ‪.87‬‬
‫(‪ )3‬كتاب الروضتني نقضمً عن نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.87‬‬
‫(‪ )4‬البداية والنهاية نقضمً عن نور الدين حممود ص ‪.87‬‬
‫(‪ )5‬عيون الروضتني (‪.)276/1‬‬
‫(‪ )6‬املصدر نفسه (‪.)276/1‬‬
‫(‪ )7‬املصدر نفسه (‪.)276/1‬‬
‫(‪ )8‬الكواكب ص ‪ 32 ، 25‬ـ ‪ 33‬نور الدين حممود ص ‪.87‬‬
‫(‪ )9‬مراة الزمان (‪ )247/8‬نور الدين حممود ص ‪.87‬‬

‫‪182‬‬
‫ومل يدع نور الدين منكراً يسود جانباً من جوانب احلياة االجتماعية إال عم على إزالته ‪ ،‬وحث موظفيه على التنفيذ‬
‫الفوري ألوامره هبذا الصدد‪ ..‬إنه مل يشأ أن يقات العدو يف اخلارج؛ ويف الداخ يعشش اخلراب ‪ ،‬والتفكك ‪ ،‬والعفن‪،‬‬
‫يدمر اإلنسان املسلم ‪ ،‬ويفتت العضمقات االجتماعية ‪ ،‬ويستنزف القدرات اجلهادية اخلضمقة لألمة املسلمة ‪ ،‬واليت بدوهنا‬
‫كانت تنتهي دائماً إىل مواقع الفرار ‪ ،‬والذلة ‪ ،‬واهلزمية‪ .‬لقد قاهلا يوماً أحد كبار الشيوخ ـ برهان الدين البلخي ـ وجهاً‬
‫صروا ويف عسكركم اخلمور ‪ ،‬والطبول ‪ ،‬والزمور؟ ضم وهللا!»(‪.)1‬‬ ‫لوجه أمام نور الدين‪« :‬أتريدون أن تُـْن َ‬
‫وما كان نور الدين حباجة إىل من يقول له هذا ‪ ،‬ولكنها الذكرى اليت هتز الفؤاد ‪ ،‬وتقود إىل مزيد من اإلجناز ‪ ،‬الذي‬
‫يبين اجلبهة الداخلية النظيفة ‪ ،‬املتينة القديرة على مواصلة املهمة القتالية اليت قادها نور الدين‪ .‬لقد أصدر أوامره إىل كا ة‬
‫موظفيه ابلعم على منع ارتكاب الفواحش ‪ ،‬وشرب اخلمور ‪ ،‬أو بيعها يف مجيع بضمده ‪ ،‬أو إدخاهلا إىل بلد ما‪ ،‬وإسقاط‬
‫ميد الظضمم ‪ ،‬وكان ينزل عقابه‬ ‫ك ما يدخ حتت شبه احلرام ‪ ،‬وتصفية آاثر اآلاثم ‪ ،‬وإراقة اخلمور ‪ ،‬وإزالة ك ما ُّ‬
‫السريع العادل بك من خالف عن أمره ‪ ،‬وك الناس عنده يه سواء(‪.)2‬‬
‫لقد بلغ من التزام نور الدين بكتاب هللا ‪ ،‬وسنة رسوله ـ عليه الصضمة والسضمم ـ حداً يف غاية الروعة واجلمال ‪ ،‬وشدة‬
‫احملبة لرسول اإلسضمم ‪ ،‬قد حكى الشيخ أبو الربكات أنه حَر مع عمه احلا ظ أيب القاسم جملس نور الدين لسماع‬
‫أن النيب صلى هللا عليه وسلم خرج متقلداً سيفاً ‪ ،‬استفاد نور الدين أمراً مل‬ ‫مر أثناء احلديث‪ :‬هل‬ ‫شيء من احلديث ‪ ،‬هل‬
‫يكن يعر ه ‪ ،‬وقال كان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يتقلد السيف!! يشري إىل التعجب من عادة اجلند؛ إذ هم‬
‫مر؛ وأان حتت القلعة ‪ ،‬والناس جمتمعون ينتظرون ركوب‬ ‫خضمف ذلك؛ ألهنم يربطونه أبوساطهم ‪ ،‬لما كان من الغد هل‬
‫السلطان ‪ ،‬وقفنا ننظر إليه ‪ ،‬خرج من القلعة ‪ ،‬وهو متقلد السيف ‪ ،‬ومجيع عسكره كذلك(‪ .)3‬رحم هللا امللك العادل‬
‫ورد‬
‫نور الدين ‪ ،‬الذي مل يفرط يف االقتداء ابلنيب صلى هللا عليه وسلم مبث هذه احلالة ‪ ،‬ب ملا بلغته رجع بنفسه ‪ ،‬هل‬
‫جنده عن عوائدهم اتباعاً ملا بلغه عن نبيه صلى هللا عليه وسلم ما الظن بغري ذلك من السنن(‪ .)4‬وما أحسن ما قال‬
‫يه حممد بن نصر القيسراين‪:‬‬
‫ه ـ ـ ـ ـو ط ـ ـ ـ ـ ـول احليـ ـ ـ ـ ـاة ـ ـ ـ ـ ـي هيجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاء‬ ‫ذو اجلهاديـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن عـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ‬
‫دو‬
‫سلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوك احملج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة البيَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاء‬ ‫أيهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا املل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك الـ ـ ـ ـ ـ ـ ـذي أل ـ ـ ـزم النـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاس‬
‫مل ـ ـ ـا سـ ـ ـ ـ ـرت ـ ـ ـ ـي النـ ـ ـ ـاس سي ـ ـرة اخللف ـــ ـ ـ ـ ـ ـاء‬ ‫قـ ـ ـ ـد َح ـ ـ ـ ـ ـت امللـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوك ابلع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدل‬
‫(‪)5‬‬
‫لقسمـ ـ ـ ـت التق ـ ـ ـ ـى علـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى األتقـي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاء‬ ‫قامس ـ ـ ـاً مـ ـا ملكـ ـ ـت ـ ـي الن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاس حـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـىت‬
‫وقال يه ابن منري‪:‬‬
‫وعفـ ـ ـ ـ ـت بصف ـ ـ ـ ـ ـوة عدل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك األك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدار‬ ‫عف ـ ـ ــَى جهـ ـ ـادك كـ ـ ـ هل رسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم خمو ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة‬
‫للـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ـ ـ ـ ـ ـ ـي خطرات ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه أس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرار‬ ‫وحمـ ـ ـ ـ ـ ـا املظـ ـ ـ ـاملَ من ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك نظ ـ ـ ـ ـ ـ ـرةُ راح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم‬

‫(‪ )1‬زبدة حلب (‪ )215/2‬نور الدين حممود ص ‪.88‬‬


‫(‪ )2‬نور الدين حممود الرج التجربة ص ‪.88‬‬
‫(‪ )3‬عيون الروضتني (‪.)385 ، 384/1‬‬
‫(‪ )4‬الكواكب نقضمً عن نور الدين حممود ص ‪.89‬‬
‫(‪ )5‬كتاب الروضتني (‪.)286 ، 285/1‬‬

‫‪183‬‬
‫لنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوره مم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراه نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوا‬ ‫غَبـ ـ ـ ـ ـان لإلسـ ـ ـ ـ ـضمم مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـال عم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوده‬
‫عش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُار‬
‫س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍاع ملظلمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة وال هل‬ ‫س مسلـ ـ ـ ـ ـم سـ ـلف ـ ـ ـ ـ ـاً وال‬ ‫لـ ـم يَـبــْ َق م ـا ك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ‬
‫دار‬
‫خلساره ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم مم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا أتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوه ق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫مه ـ ـ ـ ـدوا كم ـ ـ ـ ـ ـ ـا مهـ ـ ـ ـ ـ ـدت مث ـ ـ ـ ـ ـود وقادهـ ـ ـ ـ ـم‬
‫ولباسه ـ ـ ـ ـ ـ ـم ي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوم احلس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاب الن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـار‬ ‫العـ ـ ـ ـ ـار ـ ـ ـ ـي الدني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا شقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوا بلباسـ ـ ـ ـ ـ ـه‬
‫(‪)1‬‬
‫ر عـ ـ ـ ـ ـ ـت هل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ـ ـ ـ ـ ـ ـي اخلا قي ـ ـ ـ ـ ـ ـن منـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـار‬ ‫ك ـ ـ ـ ـ ـ ـم سي ـ ـ ـ ـرة أحييته ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا عمريهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة‬
‫(‪)2‬‬
‫أبقله ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا تستعب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد األحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرار‬ ‫صريهت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن لوازم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً‬
‫ونوا ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هل‬
‫(‪)3‬‬
‫واللي ـ ـ ـ ـ ـ ـ م ـن طـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـول القيـ ـ ـ ـام هن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُار‬ ‫أم ـ ـ ـ ـ ـا هنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـارك هـ ـ ـ ـ ـ ـو ليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ جماه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد‬
‫ولقد حتققت يف دولة نور الدين حممود ااثر حتكيم شرع هللا تعاىل من التمكني ‪ ،‬واألمن ‪ ،‬واالستقرار ‪ ،‬والنصر ‪ ،‬والفتح‬
‫املبني ‪ ،‬والعز ‪ ،‬والشرف ‪ ،‬وبركة العيش ‪ ،‬ورغد احلياة يف عهده ‪ ،‬وانتشار الفَائ ‪ ،‬وانزواء الرذائ ‪ ...‬إخل وسوف‬
‫تتَح إبذن هللا تعاىل هذه االاثر يف هذا الكتاب‪.‬‬
‫وإن تلك االاثر الطيبة‬ ‫إن ااثر حتكيم شرع هللا يف الشعوب اليت نفهلذت أوامر هللا ونواهيه ‪ ،‬ظاهرة بينة لدارس التاريخ ‪ ،‬هل‬ ‫هل‬
‫قد رأيناها يف دراستنا لدولة اخللفاء الراشدين ‪ ،‬ودولة عمر بن عبد العزيز ‪ ،‬ودولة نور الدين زنكي ‪ ،‬ودولة يوسف بن‬
‫اتشفني ‪ ،‬ودولة حممد الفاتح ‪ ،‬وهي من سنن هللا اجلارية واملاضية ال تتبدل وال تتغري ‪ ،‬أي قيادة مسلمة تسعى هلذا‬
‫املطلب اجللي ‪ ،‬والعم العظيم خملصة هلل يف قصدها ‪ ،‬مستوعبة لسنن هللا يف األرض؛ إهنا تص إليه ‪ ،‬ولو بعد حني‪،‬‬
‫وحكامها‪.‬‬ ‫وترى ااثر ذلك التحكيم على أ رادها ‪ ،‬وجمتمعاهتا ‪ ،‬ودوهلا ‪ ،‬هل‬
‫إن الغرض من األحباث التارخيية اإلسضممية االستفادة اجلادة من أولئك الذين سبقوان ابإلميان يف جهادهم ‪ ،‬وعلمهم ‪،‬‬
‫وتربيتهم ‪ ،‬وسعيهم الدؤوب لتحكيم شرع هللا ‪ ،‬وأخذهم بسنن هللا و قهه ومراعاة التدرج واملرحلية ‪ ،‬واالرتقاء ابلشعوب‬
‫يدي من أخلص‬ ‫حنو الكماالت اإلسضممية املنشودة‪ .‬إن التو يقات الرابنية العظيمة يف اتريخ أمتنا جيريها هللا تعاىل على ْ‬
‫َ‬ ‫َ َ ۡ‬ ‫ََ‬
‫لربه ودينه ‪ ،‬وأقام شرعه ‪ ،‬وقصد رضاه ‪ ،‬وجعله وق ك اعتبار(‪ .)4‬قال تعاىل‪﴿ :‬فل َو َربِك َل يُؤم ُِنون َح ذَّت‬
‫ٗ‬ ‫ۡ‬ ‫َُ ُ َ َ َ َ َ ََُۡ ۡ ُ ذ َ َ ُ ْ ٓ َ ُ ۡ َ َ ٗ ذ َ َ ۡ َ َ َُ ُ ْ َ‬
‫َيدوا ِِف أنفسِ ِهم حرجا مِما قضيت ويسل ِموا تسل ِيما ‪[ ﴾٦٥‬النساء‪]65:‬‬ ‫ُيكِموك فِيما شجر بينهم ثم َل ِ‬
‫َ َ ۡ ۡ ََ‬ ‫َۡ‬ ‫ۡ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ْ ذ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ ذُ ذ َ َُ ْ‬
‫ٱَ َتخلف‬ ‫ۡرض كما‬ ‫ت ليَ ۡس َتخل ِف ذن ُه ۡم ِِف ٱۡل ِ‬ ‫ِين َءامنوا مِنك ۡم َوع ِملوا ٱلصل ِح ِ‬ ‫قال تعاىل ﴿وعد ٱَّلل ٱَّل‬
‫َ‬ ‫ذ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َۡ َ َ‬
‫ٱرتِ ل ُه ۡم َوۡلُ َبدِنلذ ُهم ِم َۢن َب ۡع ِد خ ۡوف ِ ِه ۡم أ ۡم ٗنا َي ۡع ُب ُدون ِن َل‬ ‫َِن ل َ ُه ۡم د َ‬
‫ِين ُه ُم ٱَّلِي‬ ‫ِِ‬ ‫ذٱَّل َ‬
‫ِين مِن َق ۡبله ۡم َو َۡلُ َمك َ ذ‬
‫َ ۡ‬ ‫ُۡ ُ َ‬
‫ۡشكون ِب شيا ﴾[النور ‪]55:‬‬ ‫ي ِ‬
‫اثنياً‪ :‬بناء دولة العقيدة على أصول أهل السنة‪:‬‬

‫(‪ )1‬عمري‪ :‬قصد ابن عمر بن اخلطاب‪.‬‬


‫(‪ )2‬عيون الروضتني (‪.)393/1‬‬
‫(‪ )3‬عيون الروضتني (‪.)393/1‬‬
‫(‪ )4‬اخلليفة الراشد واملصلح الكبري عمر بن عبد العزيز ص ‪357‬‬

‫‪184‬‬
‫كان نور الدين رج عقيدة ‪ ،‬وكان أظهر ما يف خصائصه هو إميانه اإلسضممي العميق ‪ ،‬قال عنه ابن كثري‪ ...« :‬كان‬
‫جماهداً يف الفرنج ‪ ،‬امراً ابملعروف ‪ ،‬انهياً عن املنكر ‪ ،‬صحيح االعتقاد ‪ ،‬وكان قد قمع املناكر وأهلها ‪ ،‬ور ع العلم‬
‫والشرع ‪ ،‬وليست الدنيا عنده بشيء رمحه هللا»(‪.)1‬‬
‫وكان رمحه هللا ميلك رؤية هنوض قائمة على إحياء السنة ‪ ،‬وقمع البدعة‪ .‬قال عنه ابن كثري‪« :‬أظهر نور الدين ببضمده‬
‫السنة ‪ ،‬وأمات البدعة ‪ ،‬وأم ر ابلتأذين حبي على الصضمة حي على الفضمح ‪ ،‬ومل يكن يؤذن هبما يف دوليت أبيه وجده ‪،‬‬
‫وإمنا كان يؤذن حبي على خري العم ؛ ألن شعار الر ض كان ظاهراً»(‪.)2‬‬
‫وكان يعاقب املبتدعة أبشد العقوابت‪ :‬قي ‪ :‬إن رجضمً أظهر شيئاً من التشبيه ‪ ،‬أُركب على محاره ‪ ،‬وأمر بصفعه ‪،‬‬
‫حران(‪ . )3‬وكان نور الدين يتحرى السنة يف أموره كلها ‪ ،‬ومن أعظم إجنازات دولته هو‬ ‫وطيف به يف البلد ‪ ،‬ونفاه إىل هل‬
‫إسقاط الدولة الفاطمية ‪ ،‬وكان الفَ هلل مث للحمضمت املتوالية ‪ ،‬اليت أرسلها نور الدين حممود(‪)4‬؛ حىت خلص املسلمني‬
‫من شرورها ‪ ،‬وأعلن تبعيتها للخضم ة العباسية السنية‪ ،‬وكان رأي نور الدين يف الدولة العبيدية الفاطمية ‪ ،‬يتلخص يف‬
‫رسالته للخليفة العباسي ‪ ،‬وهو يبشره بفتح مصر ‪ ،‬وسقوط دولة اإلحلاد ‪ ،‬والر ض ‪ ،‬والبدعة(‪.)5‬‬
‫يقول يها‪« :‬وطاملا بقيت ‪ 280‬سنة مملوءة حبزب الشياطني‪ ...‬حىت أذن هللا لغمتها ابالنفراج ‪ ،‬واجتمع يها داءان‪:‬‬
‫الكفر ‪ ،‬والبدعة ‪ ،‬ومتكنا من إزالة اإلحلاد والر ض ‪ ،‬ومن إقامة الفرض»(‪ ،)6‬وسيأيت احلديث عن أساليب ومنهج نور‬
‫الدين يف إزالة الدولة الفاطمية يف مصر‪.‬‬
‫دور نور الدين يف دعم املذهب السين‪:‬‬
‫مهدت مدارس نظام امللك ـ رمحه هللا ـ السبي ‪ ،‬ويسرته أمام نور الدين ‪ ،‬واأليوبيني ‪ ،‬أضحى الطريق معبداً لتحقيق‬
‫اهلدف الذي أنشئت النظاميات من أجله؛ وهو العم على مناهَة الفكر الشيعي ‪ ،‬ودعم املذهب السين ‪ ،‬وقد عقد‬
‫نور الدين العزم على صبغ دولته ابلكتاب والسنة ‪ ،‬ومواجهة الفكر الشيعي الرا َي ‪ ،‬والذي كان حمصوراً يف حلب ‪،‬‬
‫ودمشق ‪ ،‬ومصر ‪ ،‬وبذل جهوداً كبرية ليمكن ملذهب السنة إال أن هذه اجلهود كانت ختتلف يف طبيعتها ابختضمف‬
‫هذه البيئات الثضمث‪ .‬وإليك جهود نور الدين حممود يف األقاليم الثضمثة(‪:)7‬‬
‫‪ 1‬ـ جهود نور الدين يف حلب‪ :‬أخذ نفوذ الشيعة يف حلب يظهر بوضوح يف أواخر أايم سيف الدولة احلمداين (‪333‬‬
‫يسروا لدعاة هذا املذهب الطريق‬
‫ـ ‪ 356‬هـ ‪ 944 /‬ـ ‪ )967‬ألن بين محدان كانوا يعتنقون مذهب الشيعة اإلمامية ‪ ،‬هل‬
‫لنشر الدعوة يها ‪ ،‬مث عملوا بعد ذلك على إزالة شعائر السنة ‪ ،‬وإحضمل شعائر الشيعة حملها ‪ ،‬وذلك عندما غري سعد‬
‫الدولة أبو املعايل (‪ 356‬ـ ‪ 381‬هـ ‪ 967 /‬ـ ‪ 991‬م) ابن سيف الدولة األذان هبا يف عام ‪ 367‬هـ ‪ 977 /‬م ‪ ،‬وزاد‬

‫(‪ )1‬البداية والنهاية نقضمً عن اجلهاد والتجديد ص ‪.330‬‬


‫(‪ )2‬املصدر السابق ص ‪.330‬‬
‫(‪ )3‬كتاب الروضتني (‪ )24/1‬اجلهاد والتجديد ص ‪.330‬‬
‫(‪ )4‬اجلهاد والتجديد ص ‪.331‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه ص ‪.331‬‬
‫(‪ )6‬كتاب الروضتني نقضمً عن اجلهاد والتجديد ص ‪.331‬‬
‫(‪ )7‬التاريخ السياسي والفكري للمذهب السين ص ‪.206‬‬

‫‪185‬‬
‫حي على خري العم حممد وعلي خري البشر(‪ ،)1‬كان هذا مبدأ ظهور اإلمامية حبلب‪ ،‬وما زال نفوذهم يزداد‬ ‫يه‪ :‬هل‬
‫نتيجة لتعاقب بعض األسر الشيعية على حكمها‪ :‬كال مرداس ‪ ،‬والعقيليني ‪ ،‬حىت أصبح شعار الر ض هبا ظاهراً(‪.)2‬‬
‫إىل جانب الشيعة اإلمامية وجدت قلة من الشيعة اإلمساعيلية ‪ ،‬ازداد نفوذهم يف حلب يف عهد رضوان بن تتش الذي‬
‫أم أن ينصروه على أخيه دقاق ‪ ،‬ويساعدوه يف أخذ دمشق منه ‪ ،‬ومن مث بىن هلم حبلب أول دار للدعوة ‪ ،‬ودعا على‬
‫منابرها للفاطميني رتة يسرية من الزمن ‪ ،‬ومن هؤالء وأولئك تكون جمتمع الشيعة يف حلب‪.‬‬
‫ومعظم هؤالء الشيعة كانوا متعصبني ‪ ،‬قد كان املذهب الشيعي متغلغضمً يف حلب(‪ ، )3‬قام نور الدين حممود ابختاذ‬
‫خطوات سياسية ‪ ،‬واكبتها يف الوقت نفسه خطوات كرية هامة؛ في رجب من عام ‪ 543‬هـ ‪ 1148 /‬م أي بعد‬
‫عامني تقريباً من استقراره يف حلب ‪ ،‬رأيناه أيمر الشيعة برتك حي على خري العم يف األذان ‪ ،‬وينكر عليهم إنكاراً‬
‫شديداً ‪ ،‬ومينعهم من َسب صحابة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬وحيذرهم من مغبة العودة إىل ما ُهنوا عنه ‪َ ،‬عظُ َم‬
‫هذا األمر على اإلمساعيلية ‪ ،‬وأه التشيُّع ‪ ،‬وضاقت به صدورهم ‪ ،‬وهاجوا ‪ ،‬وماجوا ‪ ،‬مث سكنوا وأحجموا للخوف‬
‫من السطوة النورية املشهورة ‪ ،‬واهليبة احملذورة(‪.)4‬‬
‫كما قام نور الدين خبطوة أخرى وهي‪ :‬إبعاد بعض زعماء الشيعة عن حلب ‪ ،‬ممن كان خيشى خطرهم ‪ ،‬وكان على‬
‫رأس املبعدين والد املؤرخ ابن أيب طي(‪ ، )5‬وواكبت هذه اخلطوة السياسية خطوة كرية هامة؛ وهي إنشاء مدرستني‬
‫سنيتني كبريتني‪ :‬إحدامها للحنفية ‪ ،‬وهي املدرسة احلضموية اليت أنشأها نور الدين يف العام ذاته ‪ 543‬هـ ‪ 1148 /‬م ‪،‬‬
‫وأسند التدريس يها إىل برهان الدين أيب احلسن علي بن احلسن البلخي ‪ ،‬حيث استدعاه نور الدين من دمشق جاء‪،‬‬
‫وألقى هبا الدروس على الفقهاء ‪ ،‬وكان هو وتضمميذه خري عون لنور الدين يف تنفيذ سياسته الرامية إىل مناهَة الشيعة‬
‫‪ ،‬ونصرة الكتاب والسنة‪.‬‬
‫يذكر بعض املؤرخني‪ :‬أن البلخي جلس حتت منارة املسجد ‪ ،‬وأمر بعض الفقهاء ابلصعود إليها وقت األذان ‪ ،‬وقال‬
‫هلم‪« :‬من مل يؤذن األذان املشروع ألقوه من املنارة على رأسه ‪ ،‬أذنوا األذان املشروع(‪ .)6‬وكانت املدرسة الثانية اليت‬
‫أنشأها نور الدين يف حلب هي املدرسة النفريهلة النورية ‪ ،‬وقد أنشأها سنة (‪ 544‬هـ ‪ 1149 /‬م) لتدريس املذهب‬
‫الشا عي ‪ ،‬وتوىل التدريس هبا قطب الدين مسعود بن حممد النيسابوري ت ‪ 578‬هـ ‪ 1182 ،‬م ‪ ،‬أحد أساتذة نظامية‬
‫نيسابور ‪ ،‬وقد كان حَر إىل دمشق يف عام ‪ 540‬هـ ‪ 1145 /‬م ‪ ،‬وأقام هبا يعظ ويعلم ‪ ،‬أقب عليه الناس استدعاه‬
‫نور الدين إىل حلب ‪ ،‬وأسند إليه التدريس هبذه املدرسة(‪ ، )7‬ومل يكن اختيار النيسابوري لتويل األستاذية هبذه املدرسة‬
‫من قبي املصاد ة ‪ ،‬الرج له قدم راسخة يف علوم السنة ‪ ،‬واملنطق ‪ ،‬وعلوم الكضمم ‪ ،‬وميلك من القدرات العقلية‬

‫(‪ )1‬زبدة اتريخ حلب (‪.)172/1‬‬


‫(‪ )2‬البداية والنهاية نقضمً عن التاريخ السياسي والفكري ص ‪.207‬‬
‫(‪ )3‬التاريخ السياسي والفكري للمذهب السين ص ‪.207‬‬
‫(‪ )4‬كتاب الروضتني يف أخبار الدولتني (‪.)202/1‬‬
‫(‪ )5‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.85‬‬
‫(‪ )6‬التاريخ السياسي والفكري للمذهب السين ص ‪ 209‬نقضمً عن زبدة حلب‪.‬‬
‫(‪ )7‬كتاب الروضتني نقضمً عن التاريخ السياسي والفكري ص ‪.209‬‬

‫‪186‬‬
‫والفكرية ما ميكنه من إنزال هزائم ادحة يف جمال الفكر للعقيدة الشيعية الرا َية ‪ ،‬وكان نور الدين حباجة ماسة إىل‬
‫العلماء الذين خترجوا ‪ ،‬ودرسوا يف املدارس النظامية ‪ ،‬بيئة حلب قد دخلت يف طور التجديد ملنهج أه السنة ‪ ،‬وحماربة‬
‫التشيع الباطين املتسلح ابلفلسفة للد اع عن عقيدته(‪.)1‬‬
‫أ ـ االهتمام ابملذهب الشا عي يف حلب‪ :‬كان نور الدين حممود يتبع مذهب اإلمام أيب حنيفة‪ ،‬إال أنه أنشأ للشا عية يف‬
‫حلب ثضمث مدارس هي‪ :‬النفريهلة ‪ ،‬والعصرونية ‪ ،‬والشعيبية‪ ،‬وأسند األوىل إىل أستاذ من أساتذة النظاميات‪ ،‬والثانية إىل‬
‫خرجت نظامية بغداد‪ ،‬وهو شرف الدين بن أيب عصرون‪ ،‬ويف الوقت الذي مل ينشىء يه أله‬ ‫تلميذ من أنبغ من هل‬
‫مذهبه إال مدرسة واحدة ‪ ،‬وهي احلضموية السالفة الذكر‪ .‬العتقاده أبن علماء املدارس النظامية؛ هلم القدرة على اإلحياء‬
‫السين ‪ ،‬وقمع شبهات املبتدعة من الشيعة الرا َة أكثر من غريهم ‪ ،‬وذلك بسبب خربة املدارس النظامية وخرجييها‬
‫على مواجهة املد الباطين الشيعي ‪ ،‬وقدرهتا على كشف ابطلها أبسلوب علمي رصني ‪ ،‬إضا ة إىل اهتمام املدارس‬
‫النظامية بنشر العلم الشرعي ‪ ،‬واإلحياء السين الكبري ‪ ،‬هل‬
‫وألن البيئة احللبية حتتاج إىل ذلك النوع من علماء أه السنة ‪،‬‬
‫والذي يقوي هذا املذهب أن نور الدين مل يسلك سبيضمً مشاهباً هلذا املسلك يف دمشق ‪ ،‬بعد أن استوىل عليها؛ إذ‬
‫كانت حفاوته مبدارس احلنفية أكثر ‪ ،‬أنشأ يها أشهر مدارسه وهي‪ :‬النورية الكربى ‪ ،‬كما بىن للحنفية مدرسة أخرى‬
‫جبامع القلعة عر ت ابلنورية الصغرى‪.‬‬
‫وأما الشا عية إنه أسس هلم مدرستني أو ثضماثً على خضمف بني املؤرخني(‪ .)2‬ويبدو‪ :‬أن مدينة حلب كانت يف حاجة‬
‫ماسة إىل جهود أه السنة من املذهب الشا عي املسلحني بدراسة اجلدل ‪ ،‬وعلم الكضمم ليواجهوا الشيعة مواجهة كرية‬
‫‪ُّ ،‬‬
‫تشد من أزر املواجهة السياسية ‪ ،‬لذا رأينا نور الدين يكثر من بناء مدارس الشا عية حللب ‪ ،‬ويستقدم هلا نوعية خاصة‬
‫من األساتذة ليتولوا مهمة التدريس هبا ‪ ،‬واإلشراف عليها ‪ ،‬وهذا ما مل حيف به كثرياً يف دمشق؛ حيث النفوذ السين‬
‫غالب ‪ ،‬صرف مهته إىل العناية بفقهاء مذهبه ‪ ،‬واالهتمام بدار احلديث الشريف اليت أنشأها(‪.)3‬‬
‫ب ـ االستفادة من جهود علماء السنة‪ :‬مل تقف جهود نور الدين يف حلب عند حد العناية إبنشاء املدارس احلنفية‪،‬‬
‫والشا عية‪ ،‬ب إنه كان حريصاً على أن يستفيد من جهود علماء السنة على اختضمف مذاهبهم يف حماربة الفكر الشيعي‬
‫‪ ،‬والتمكني ملذهب السنة ‪ ،‬ولذلك كان يعتين أيَاً بعلماء املالكية واحلنابلة ‪ ،‬و قهائهم ‪ ،‬أوقف زاويتني ابملسجد‬
‫اجلامع يف حلب ‪ ،‬وخصص إحدامها لفقهاء احلنابلة ‪ ،‬واألخرى للمالكية ‪ ،‬وبذلك جنح نور الدين يف التخفيف من‬
‫حدة الصراع املذهيب بني املذاهب السنية املختلفة(‪ ،)4‬وتوحيدها يف جبهة واحدة ‪ ،‬وو قه هللا يف توحيد جهود علماء‬
‫السنة حملاربة الفكر الشيعي(‪.)5‬‬

‫(‪ )1‬التاريخ السياسي والفكري للمذهب السين ص ‪.209‬‬

‫(‪ )2‬التاريخ السياسي والفكري للمذهب السين يف املشرق ص ‪.210‬‬


‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.211‬‬
‫(‪ )4‬املصدر نفسه ص ‪.211‬‬
‫(‪ )5‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.87‬‬

‫‪187‬‬
‫ج ـ دعم التصوف السين‪ :‬اهتم نور الدين إبنشاء خوانق الصو ية ‪ ،‬وكانت يف ذلك العصر مكاانً للعبادة ‪ ،‬وقد أصبح‬
‫التصوف السين يف ذلك العصر اجتاهاً له نفوذه ‪ ،‬وسيطرته ‪ ،‬وتقديره على املستوى الرمسي والشعيب ‪ ،‬وسيأيت احلديث ـ‬
‫إبذن هللا ـ عن دور املدرسة القادرية يف توعية عوام األمة خصوصاً يف عاصمة اخلضم ة ‪ ،‬وجهود الغزايل وحماولته تنقية‬
‫التصوف من كثري من الشوائب ‪ ،‬وأن ميزج بينه وبني الشريعة مزجاً اتماً ‪ ،‬قد كانت الصو ية يف ذلك العصر حم تقدير‬
‫احلكام واحرتامهم وخاصة نور الدين ؛ الذي كان يستفيد منهم يف الدعاء ‪ ،‬ومجع املعلومات على األعداء ‪ ،‬ويف اجلهاد‬
‫‪ ،‬وكان يرحب هبم يف بضمطه ‪ ،‬ويتواص مع شيوخهم ‪ ،‬ويبين هلم اخلوانق يف أحناء مملكته ‪ ،‬وكان نصيب حلب من‬
‫جهوده يف هذا اجملال خوانق‪ :‬اثنتان منها للرجال ‪ ،‬وواحدة(‪ )1‬للنساء‪.‬‬
‫واستطاعت الدولة النورية التأثري على التصوف السين ‪ ،‬وساهم التصوف السين يف حماربة الدولة الفاطمية ‪ ،‬ومد نفوذه‬
‫يف أحناء بضمد الشام ‪ ،‬ومصر ‪ ،‬مع توسع الدولة النورية خارجياً ‪ ،‬واليت كانت من وسائلها دعم التصوف السين ‪ ،‬ملقاومة‬
‫املذهب اإلمساعيلي ‪ ،‬والتيار الفلسفي ‪ ،‬وقد مدت مقاومتها إىل مصر أيَاً ‪ ،‬ولذا كان اتساع نطاق االجتاه الصويف‬
‫على مستوى قطاعات مجاهريية كبرية يما بعد يف عهد األيوبيني ‪ ،‬واملماليك(‪.)2‬‬
‫اهتم نور الدين حممود بتدريس احلديث الشريف ‪،‬وكانت من ضمن مشروعه يف حركة اإلحياء‬ ‫د ـ دور تدريس احلديث‪ :‬هل‬
‫أن الشيعة ال يعرت ون بصحة احلديث إال إذا كان مروايً عن آل البيت ‪ ،‬وكان‬ ‫السين ‪ ،‬ومناهَة الفكر الشيعي ‪ ،‬ذلك هل‬
‫من الطبيعي أن ينتهي هبم هذا املوقف ـ اجملانب للحق والعدل والصواب ـ إىل الطعن يف صحاح السنة ‪ ،‬ويَاف إىل‬
‫أن العناية ابحلديث الشريف ‪ ،‬وتشييد معاهد دراسيهلة خاصة به كان مسة من مسات هذه الفرتة ‪ ،‬اليت حكم يها‬ ‫ذلك‪ :‬هل‬
‫أن الظروف اليت أحاطت ابلشام ‪ ،‬ومصر يف تلك املرحلة ‪ ،‬عكست ظضمهلا على مناهج‬ ‫نور الدين ‪ ،‬واأليوبيون ‪ ،‬ذلك‪ :‬هل‬
‫الدراسة يف املعاهد العلمية السنية ‪ ،‬ومن أثر ذلك العناية ابحلديث وعلومه استجابة لظرف واقعي‪ ،‬متثهل يف احتضمل‬
‫الصليبيني ألجزاء واسعة من بضمد الشام ‪ ،‬من بينها القدس الشريف‪.‬‬
‫كان على هذه املدارس أن تعبئ الناس للجهاد ‪ ،‬وحتيي يهم روح البطولة ‪ ،‬واالستشهاد عن طريق تدريس احلديث‪،‬‬
‫والعناية به ‪ ،‬خاصةً ما يتعلق منه بباب اجلهاد يف سبي هللا ‪ ،‬ولذا رأينا نور الدين يوقف زاوية جبامع حلب على دراسة‬
‫احلديث ‪ ،‬كما أوقف داراً أخرى للغرض ذاته‪.‬‬
‫هذه هي أبرز اجلهود اليت هنض هبا نور الدين لدعم املذهب السين هبا(‪.)3‬‬
‫هـ ـ موق ف الشيعة يف حلب من حركة اإلحياء السنية‪ :‬مل يتقب الشيعة اجلهود اليت هنض هبا نور الدين يف حلب لدعم‬
‫املذهب السين هبا ‪ ،‬وظلوا ينتهزون الفرصة املواتية ليعودوا حبلب مرة أخرى إىل ما كانت عليه كبيئة شيعية ميارسون يها‬
‫شعائرهم حبرية اتمة‪.‬‬
‫وكانت حماولتهم األوىل يف هذا السبي عام ‪ 552‬هـ ‪ 1157 /‬م ‪ ،‬عندما مرض نور الدين حبلب؛ حىت أرجف مبوته‪،‬‬
‫ووص أخوه نصرة الدين إىل حلب ليخلفه يف واليته ‪ ،‬منعه وايل القلعة من الدخول إليها ‪ ،‬تجمع حوله أحداث‬

‫(‪ )1‬التاريخ السياسي والفكر للمذهب السين ص ‪.212‬‬


‫(‪ )2‬يف الصراع اإلسضممي الصلييب ص ‪.185‬‬
‫(‪ )3‬التاريخ السياسي والفكري للمذهب السين ص ‪.212‬‬

‫‪188‬‬
‫الشيعة ‪ ،‬وأبدوا استعدادهم لنصرته ‪ ،‬شريطة أن يسمح هلم ابلعودة إىل ممارسة شعائرهم اليت أبطلها نور الدين ‪ ،‬وعدهم‬
‫بذلك ‪ ،‬واشتعلت نريان الفتنة بني السنة ‪ ،‬والشيعة ‪ ،‬وقام األخريون بنهب بعض املراكز التعليمية السنية كاملدرسة‬
‫العصرونية ‪ ،‬وغريها من دور أه السنة ‪ ،‬وملا علم نور الدين ابألمر أرس إىل قاضي املدينـة أيب الفَ هبة هللا بن أيب‬
‫جرادة أبن ميَي إىل اجلامع ‪ ،‬ويصلي ابلناس ‪ ،‬ويعاد األذان إىل ما كان عليه ‪ ،‬شرع املؤذنون يف األذان السين ‪،‬‬
‫وبني هلم أن نور الدين قد عويف ‪،‬‬‫اجتمع حتت املنارة من عوام الشيعة خلق كثري ‪ ،‬خرج إليهم القاضي ‪ ،‬وحذرهم ‪ ،‬هل‬
‫وأنه هو الذي أمر هبذا! انصر وا وسكتت الفتنة(‪.)1‬‬
‫و ـ وجاءت حماولتهم الثانية يف شوال من عام ‪ 564‬هـ ‪ 1169 /‬م عندما أحرق اإلمساعيلية مسجد حلب اجلامع ‪،‬‬
‫وكان يـُتهلخذ مكاانً للدرس إىل جانب العبادة ‪ ،‬كان يه الكثري من الزوااي اليت وقفها نور الدين على املالكية ‪ ،‬واحلنابلة‬
‫‪ ،‬وعلماء احلديث ‪ ،‬أعاد نور الدين بناء اجلامع ‪ ،‬ووسعه ‪ ،‬وخصص له أوقا اً كثرية(‪.)2‬‬
‫ولع احلركة من جانب اإلمساعيلية يف حلب كانت رد ع الستيضمء نور الدين على مصر الفاطمية يف ربيع االخر من‬
‫ماض يف تَييق اخلناق على الشيعة ‪ ،‬وأنه عازم على استئصال هذا املذهب‬ ‫هذا العام؛ إذ أيقن اإلمساعيلية أن نور الدين ٍ‬
‫من مصر ‪ ،‬والشام(‪.)3‬‬
‫كانت خطوات نور الدين العقائدية يف حلب خطوات مدروسة ‪ ،‬تدل على وعي ‪ ،‬وإدراك كاملني للهدف الذي يريد‬
‫حتقيقه من وراء إنشاء هذه املؤسسات السنية اهلاد ة ‪ ،‬وظهر هذا الوعي واضحاً من جانب نور الدين عندما حتدث‬
‫جمد الدين بن الداية ‪ ،‬بلسانه إىل الفقهاء يف حلب قائضمً‪« :‬حنن ما أردان ببناء املدارس إال نشر العلم ‪ ،‬ودحض البدع‬
‫كسضمح ‪ ،‬يواجه به العدو ‪ ،‬كما‬
‫ٍ‬ ‫من هذه البلدة ‪ ،‬وإظهار الدين»(‪ )4‬كما كان نور الدين ـ رمحه هللا ـ يدرك قيمة العلم‬
‫شك‪ :‬أن نور الدين يف هذه النظرة كان يعيش يف عصره بعقلية العصر الذي يعيشه‬ ‫يواجهه ابلقوة العسكرية ‪ ،‬وال هل‬
‫اآلن(‪ ، )5‬التصدي للغزو الباطين احلديث حيتاج لقوة عسكرية ‪ ،‬واقتصادية ‪ ،‬وسياسية ‪ ،‬و كرية ‪ ،‬وإعضممية تتوازن ‪،‬‬
‫وتتعاون ‪ ،‬وتتكام مع بعَها من أج اإلحياء السين يف األمة ‪ ،‬والوقوف أمام العقائد الباطنية الزاحفة‪.‬‬
‫وقد أمثرت جهود نور الدين يف حلب ‪ ،‬وتسابق أمراؤه ‪ ،‬وأعيان دولته ‪ ،‬وخلفاؤه من بعده إىل إنشاء املؤسسات العلمية‬
‫‪ ،‬حىت غدت حلب بعد رتة يسرية نسبياً ‪ ،‬مركزاً من مراكز الثقا ة السنية ‪ ،‬بعد أن كانت وكراً من أوكار الشيعة ‪ ،‬وقد‬
‫أحصى املؤرخ عز الدين شداد ت ‪ 684‬هـ ‪ 1285 /‬م مدارس حلب يف أايمه ‪ ،‬وجدها أربعاً ومخسني مدرسة ‪،‬‬
‫موزعة بني املذاهب الفقهية األربعة ‪ ،‬منها‪ :‬إحدى وعشرون للشا عية ‪ ،‬واثنتان وعشرون للحنفية ‪ ،‬وثضمث للمالكية ‪،‬‬
‫واحلنابلة ‪ ،‬ومثاين دور للحديث الشريف ابإلضا ة إىل إحدى وثضمثني خانقاه للصو ية(‪.)6‬‬

‫(‪ )1‬زبدة حلب (‪ 308/2‬ـ ‪ )310‬التاريخ السياسي والفكري ص ‪.213‬‬

‫(‪ )2‬التاريخ السياسي والفكري للمذهب السين ص ‪.213‬‬


‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.213‬‬
‫(‪ )4‬كتاب الروضتني نقضمً عن التاريخ السياسي والفكري ص ‪.213‬‬
‫(‪ )5‬التاريخ السياسي والفكري للمذهب السين ص ‪.213‬‬
‫(‪ )6‬املصدر نفسه ص ‪.214‬‬

‫‪189‬‬
‫وقد اتت هذه املؤسسات الع لمية مثارها املرجوة؛ إذ انقرض املذهب اإلمساعيلي الباطين يف حلب يف حدود عام ‪600‬‬
‫هـ ‪ 1203 /‬م ‪ ،‬وأخفى الشيعة اإلمامية معتقداهتم؛ حىت انتهى هبم األمر إىل أن أخذوا يتنكرون ‪ ،‬وأب عال السنة‬
‫يتظاهرون ‪ ،‬ويذكر أحد املؤرخني املعاصرين من أبناء حلب‪« :‬أن الشيعة انقرضوا من املدينة ‪ ،‬وتضمشوا ابملرة ‪ ،‬ومل يبق‬
‫(‪)1‬‬
‫منهم غري عدة بيوت يقذ هم بعض الناس ابلر ض ‪ ،‬والتشيع ‪ ،‬مع أن ظاهرهم على كمال االستقامة ‪ ،‬وموا قة السنة‬
‫‪ ،‬وذلك بفَ هللا ‪ ،‬مث جهود املصلح الكبري نور الدين وخلفائه ‪ ،‬الذين اقتدوا به يف اإلكثار من املدارس السنية وتعيني‬
‫األساتذة األكفاء هلا ‪ ،‬واإلنفاق عليها بسخاء؛ حىت تراجع التشيع من هذه املدينة ‪ ،‬وأصبحت السيادة يها ملذهب‬
‫أه السنة(‪ ،)2‬وهذا يدل على أمهية الرتبية الفكرية ‪ ،‬والثقا ية يف التمكني لإلسضمم الصحيح يف نفوس الناس‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ جهود نور الدين يف اإلحياء السين يف دمشق‪ :‬استوىل نور الدين على دمشق يف صفر من عام ‪ 549‬هـ ‪1154 /‬‬
‫م ‪ ،‬ومن مث واص جهوده لتنفيذ خطته يف دعم العقيدة السنية ‪ ،‬وكان منهجه يف دعم املذهب السين يف دمشق قد‬
‫خَع لزايدة يف أعبائه العسكريـة ‪ ،‬حيث أصبح جماوراً ململكة بيت املقدس أكرب املراكز الصليبية قوة ‪ ،‬وأخطرها شأنـاً‬
‫‪ ،‬ولذا إن املنهـج الذي سلكـه نور الدين يف دعم املذهب السين قصد إىل مواجهة هذه احلالة من انحية ‪ ،‬ومن انحية‬
‫بد أن تصبح دمشق مبثابة مركز إشعاع عقائدي ‪ ،‬تنطلق منه جهود علماء السنة ‪ ،‬للقَاء على املذاهب‬ ‫أخرى ال هل‬
‫املنحر ة ‪ ،‬ومتهيد الطريق لسيطرة املذهب السين ـ الذي كان عليه رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وأصحابه ـ ولذلك‬
‫رأينا خطة نور الدين يف دمشق تسري يف ثضمثة اجتاهات رئيسية(‪.)3‬‬
‫االجتاه األول‪ :‬تركز يف العناية إبنشاء املدارس السنية ‪َ ،‬وُربُط الصو ية ‪ ،‬غري أن مدارسه يف دمشق اهتمت بفقهاء املذهبني‬
‫احلنفي ‪ ،‬والشا عي ‪ ،‬وكانت عناية نور الدين مبدارس الفريق األول أكثر ‪ ،‬استجابة ملي طبيعي إىل هذا املذهب ‪ ،‬الذي‬
‫درس هبا شيخ احلنفية‬‫كان يعتنقه دون تعصب ‪ ،‬أنشأ املدرسة النورية الكربى ‪ ،‬وجعلها وقفاً على احلنفية ‪ ،‬وأول من هل‬
‫بدمشق‪ :‬هباء الدين بن عسكر املعروف اببن العقادة (ت ‪ 1199/596‬م) ‪ ،‬ووصف ابن حبري هذه املدرسة عندما‬
‫زارها يف عام (‪ 580‬هـ‪ 1199/‬م) أبهنا «من أحسن مدارس الدنيا منظراً‪ ...‬وهي قصر من القصور األنيقة»(‪ ، )4‬كما‬
‫جع هلم مدرسة أخرى جبامع القلعة ‪ ،‬وهي املدرسة النورية الصغرى(‪.)5‬‬
‫ب إنشاؤها إىل نور الدين آراء مؤرخي املدارس متَاربة حوهلا ‪ ،‬ومع عناية نور الدين‬ ‫وأما املدارس الشا عية ‪ ،‬اليت نُس َ‬
‫بتشييد املدارس اليت تعىن برتاث اإلمامني العظيمني ‪ ،‬إنه مل يهم أصحاب املذهبني االخرين إمهاالً اتماً ‪ ،‬ب وقف‬
‫على زاوية املغاربة ـ وهم مالكية ـ ابجلامع األموي ‪ ،‬ما يعينهم على حتصي العلم ‪ ،‬ويو ر هلم حياة كرمية(‪ ، )6‬وواص نور‬
‫الدين يف دمشق سياسته اليت اتبعها يف حلب جتاه الصو ية ‪ ،‬شيد هلم خانقاه خارج املدينة ‪ ،‬وصفها ابن جبري بقوله‪:‬‬
‫موضع يعرف ابلقصر ‪ ،‬وهو صرح عظيم ‪ ،‬مستق يف اهلواء ‪ ،‬يف أعضمه مساكن مل‬ ‫ٌ‬ ‫من أعظم ما شاهدانه هلم (الصو ية)‬

‫(‪ )1‬هنر الذهب يف اتريخ حلب (‪ 191/1‬ـ ‪ )193‬التاريخ السياسي والفكري للمذهب السين ص ‪.214‬‬
‫(‪ )2‬التاريخ السياسي والفكري للمذهب السين ص ‪.214‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.215‬‬
‫(‪ )4‬رحلة ابن جبري ص ‪.231‬‬
‫(‪ )5‬الدارس يف اتريخ املدارس (‪.)648/1‬‬
‫(‪ )6‬رحلة ابن جبري ص ‪ 231‬ـ ‪ 232‬التاريخ السياسي والفكري ص ‪.216‬‬

‫‪190‬‬
‫يـَُر أمج إشراقاً منها(‪ ، )1‬كما عني هلم نور الدين من ينظر يف أمر ُربُطه ْم ‪ ،‬وزواايهم ‪ ،‬وأسند هذه املهمة إىل شيخ‬
‫الشيوخ أيب الفتح عمر بن علي بن محويه(‪.)2‬‬
‫وأما االجتاه الثاين‪ :‬كان منصباً على العناية ابحلديث الشريف دراسة وتدريساً ‪،‬ومن مث بىن أكرب دار للحديث يف دمشق‬
‫‪ ،‬ووهلك أمر مشيختها إىل أحد أعضمم عصره ‪ ،‬وهو احلا ظ الكبري‪ :‬تقي الدين أبو القاسم علي بن احلسني بن هبة هللا‬
‫بن عساكر (ت ‪ 571‬هـ ‪ 1175 /‬م) وكان عمدة يف احلديث‪ ،‬والفقه‪ ،‬وعلم الكضمم‪ ،‬وصفه ابن خلكان أبنه‪« :‬من‬
‫أعيان الفقهاء والشا عية ‪ ،‬ولكن غلب عليه احلديث ‪ ،‬اشتهر به»(‪ )3‬وهذه العلوم الثضمثة؛ أعين‪ :‬احلديث‪ ،‬والفقه ‪،‬‬
‫وعلم الكضمم كانت تدخ من ضمن الثقا ة السنية يف تلك الفرتة ‪ ،‬ولذلك هلقربه نور الدين منه ‪ ،‬وأدانه من جملسه ‪،‬‬
‫واستمع إليه ‪ ،‬و وض إليه القيام مبهمة اإلشراف ‪ ،‬والتدريس بدار احلديث النورية‪.‬‬
‫وعناية نور الدين ابحلديث الشريف ـ على هذا النحو ـ تُعرب عن إدراك اتم لقيمة الدور الذي تؤديه العناية هبذا اجلانب‪:‬‬
‫من هتيئة الناس ‪ ،‬وإعدادهم للجهاد يف سبي هللا ‪ ،‬وحثهم عليه يف بيئة تواجه ابستمرار خطر العدو ‪ ،‬الذي حيت‬
‫مقدسات املسلمني ‪ ،‬ويرتبص هبم الدوائر ‪ ،‬كما أن هذه احلفاوة ابحلديث الشريف؛ تعكس لنا مي نور الدين إىل هذا‬
‫الفرع من روع الثقا ة السنية‪.‬‬
‫قد شارك العلماء يف هذا امليدان‪ ،‬حدهلث حبلب‪ ،‬ودمشق عن مجاعة من العلماء أجازوا له رواية احلديث ‪ ،‬منهم‪ :‬أبو‬
‫عبد هللا بن ر اعة بن غدير السعدي املصري(‪.)4‬‬
‫االجتاه الثالث‪ :‬كان موجهاً إىل العناية برتبية النشء تربية سنية ‪ ،‬إن نور الدين بىن يف دمشق وغريها من البضمد مكاتب‬
‫لأليتام ‪ ،‬وأجرى عليهم وعلى معلميهم النفقات الو رية ‪ ،‬كما خصص لأليتام الذي يقرؤون القران ـ ابملساجد اليت شيدها‬
‫ـ أوقا اً معلومة(‪ .)5‬يذكر ابن كثري‪« :‬أن نور الدين وقف وقفاً ‪ ،‬على من يعلم األيتام اخلط والقراءة ‪ ،‬وجع هلم نفقة‬
‫وكسوة»(‪ .)6‬وخصص نور الدين هلذه املؤسسات التعليمية ـ على اختضمف أنواعها ـ األوقاف الكثرية اليت متكن طضمهلهبا‬
‫وأساتذهتا من التفرغ لتعلم العلم ‪ ،‬وتعليمه ‪ ،‬حىت إن ابن األثري ذكر‪ :‬أنه بلغه من خبري أبعمال الشام‪ :‬أن وقوف نور‬
‫الدين كانت تغ يف عام ‪ 608‬هـ‪ 1211/‬م تسعة االف دينار ك شهر(‪ ، )7‬لذلك لن نعجب إذا وجدان من يصف‬
‫بضمد الشام أبهنا كانت قب نور الدين خالية من العلم وأهله ‪ ،‬ويف زمانه صارت مقراً للعلماء ‪ ،‬والفقهاء ‪ ،‬والصو ية‬
‫الربُط وترتيب أمورهم(‪ .)8‬ويصور أحد الشعراء املعاصرين لنور الدين وهو علي بن منصور‬‫لصرف مهته إىل بناء املدارس ‪ ،‬و ُّ‬
‫أبو احلسن السروجي ‪ 572‬هـ ‪ 1176 /‬م النهَة الفكرية يف عهده بقوله يف وصف دمشق‪:‬‬

‫(‪ )1‬التاريخ السياسي والفكري للمذهب السين ص ‪.216‬‬


‫(‪ )2‬مراة الزمان (‪ )272/8‬التاريخ السياسي والفكري ‪.216‬‬
‫(‪ )3‬و يات األعيان (‪ 471/2‬ـ ‪.)473‬‬
‫(‪ )4‬الباهر ص ‪ ، 165‬كتاب الروضتني نقضمً عن التاريخ السياسي ص ‪.217‬‬
‫(‪ )5‬الباهر ص ‪ 172‬التاريخ السياسي والفكري ص ‪.217‬‬
‫(‪ )6‬البداية والنهاية نقضمً عن التاريخ السياسي والفكري ص ‪.217‬‬
‫(‪ )7‬الباهر ص ‪ 172‬التاريخ السياسي والفكري ص ‪.218‬‬
‫(‪ )8‬كتاب الروضتني نقضمً عن التاريخ السياسي والفكري ‪.218‬‬

‫‪191‬‬
‫قصوره ـ ـ ـ ـ ـا تحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت منه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا املقاصيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُر‬ ‫كان ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت جن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةُ اخلل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد دانيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة‬
‫ور‬
‫وجامـ ـ ـ ـ ٌع جامـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌع للديـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن معمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫ـ ـ ـي ك ـ ـ ـ قط ـ ـ ـر هب ـ ـ ـ ـ ـا للعل ـ ـ ـ ـ ـ ـم مدرسـ ـ ـ ـــ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةٌ‬
‫والعل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم يذكـ ـ ـ ـ ـر يـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه والتفاسيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُر‬ ‫يتل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى الق ـ ـ ـ ـ ـرآن ب ـ ـ ـ ـه ـ ـ ـي ك ـ ـ انحيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍة‬
‫أوص ـ ـ ـاف مول ـ ـ ـى بنش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر العـ ـ ـ ـ ـ ـدل مشهـ ـ ـ ـ ـور‬ ‫تكامـ ـ ـ ـ احلس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن يـ ـ ـ ـه مثـ ـ ـ ـ ـ مـا كملـ ـ ـت‬
‫(‪)1‬‬
‫وللخليفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة م ـ ـ ـ ـ ـ ـن أنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـواره سـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـور‬ ‫املل ـ ـ ـ ـ ـ ـك والدي ـ ـ ـ ـ ـن والدني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا أبمجعه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬
‫‪ 3‬ـ دور نور الدين يف إعادة مصر إىل املعسكر السين‪ :‬مل يُقدهلر لنور الدين أن حيكم مصر حكماً مباشراً ‪ ،‬ومن مث مل‬
‫تتهيأ له الفرصة ليقيم يها مؤسسات كرية ‪ ،‬تعم على تغيري االجتاه الشيعي يف هذا اإلقليم ‪ ،‬وتنتشله من مستنقع‬
‫بت كلها‬ ‫البدع والَضمل ‪ ،‬وتعيده إىل رجال السنة مرة أخرى ‪ ،‬املؤسسات العقائدية السنية ‪ ،‬اليت قامت يف مصر ُحس ْ‬
‫يف رصيد األيوبيني ‪ ،‬حىت ما أنشئ منها يف حياة نور الدين ‪ ،‬وكان له يها أثر غري مباشر‪ .‬ذلك‪ :‬أن األيوبيني قُدر هلم‬
‫أن يستمروا يف قيادة اإلحياء السين يف مصر بعد و اته ‪ ،‬نسبت معظم اجلهود ـ إن مل يكن كلها ـ إليهم‪.‬‬
‫ولكنا مع هذا ال يسعنا إال أن نقرر احلقيقة ‪ ،‬وهي أن األيوبيني كانوا تضمميذ نور الدين يف هذا االجتاه ‪ ،‬ما ينسب‬
‫بد أن نلمس يه أثره ‪ ،‬ونلمح يه توجيهاته ‪ ،‬وذلك عضموة على الدور الكبري ‪ ،‬الذي قام به يف إعادة مصر‬ ‫إليهم؛ ال هل‬
‫إىل املعسكر السين‪.‬‬
‫والسؤال الذي يطرح نفسه اآلن هو‪ :‬يف أي اجلوانب إذاً ترهلكز دور نور الدين يف حتوي مصر إىل هذه الوجهة(‪)2‬؟ يذكر‬
‫املقريزي‪ :‬أن اخلليفة ألمر هللا العباسي انتهز رصة االضطراابت يف مصر ‪ ،‬عقب مقت اخلليفة «الظا ر» يف احملرم سنة‬
‫‪ 549‬هـ‪ 1154/‬م وتولية ابنه‪« :‬الفائز» وكان طفضمً صغرياً ‪ ،‬أرس إىل نور الدين يطلب منه أن ينتهز هذه الفرصة‪،‬‬
‫ويزحف على الساح الشامي ‪ ،‬ومصر ‪ ،‬وأيخذها من أيدي الفاطميني ‪ ،‬وكتب له هبما عهداً‪ .‬كما ذكر هذه الرواية‬
‫بشيء من التفصي السيوطي يف حسن احملاضرة(‪ .)3‬ويفهم من الروايتني‪ :‬أن اخلليفة املقتفي هو الذي وجه نظر نور‬
‫الدين إىل مصر ‪ ،‬وأنه شجعه على ذلك ‪ ،‬وأن توجيه اخلليفة كان نقطة البداية يف حماولة استعادة مصر إىل املعسكر‬
‫السين(‪.)4‬‬
‫وال نستطيع أن ننكر اجلهود الكبرية ‪ ،‬اليت قام هبا اخلليفة املقتفي ‪ ،‬ووزيره حيىي بن هبرية يف دعم مسرية نور الدين ‪ ،‬إال‬
‫اختيار اسرتاتيجي يف خطته لتَييق اخلناق على الصليبيني يف بيت املقدس ‪ ،‬كما‬ ‫أن االهتمام مبصر ابلنسبة لنور الدين ٌ‬
‫عرب عنها نور الدين بنفسه يف إحدى عباراته‬
‫أدرك من قب أمهية ضم دمشق ابلنسبة هلذا األمر احليوي ‪ ،‬وهذه احلقيقة هل‬
‫‪ ،‬عندما أرس إليه صضمح الدين ـ من مصر ـ هدااي وحتفاً ‪ ،‬قال‪« :‬وهللا ما قصدان بفتح مصر إال تطهري الساح ‪،‬‬
‫وقلع الكفار منه»(‪ )5‬وكلمة ـ تطهري الساح ـ لعلمه أمهية اهليمنة البحرية للمعسكر السين ‪ ،‬لكي يطهر البيت املقدس‬
‫‪ ،‬وبضمد الشام من الصليبيني ‪ ،‬حركة اإلمدادات من غرب أورواب ‪ ،‬حتتاج حلشد قوى العامل اإلسضممي ‪ ،‬مع قطع‬

‫(‪ )1‬التاريخ السياسي والفكري ص ‪.218‬‬


‫(‪ )2‬التاريخ السياسي والفكري للمذهب السين ص ‪.218‬‬
‫(‪ )3‬حسن احملاضرة (‪ )3/2‬اتعاظ احلنفا (‪.)223/3‬‬
‫(‪ )4‬التاريخ السياسي والفكري للمذهب السين ص ‪.219‬‬
‫(‪ )5‬مراة الزمان نقضمً عن التاريخ السياسي والفكري ص ‪.219‬‬

‫‪192‬‬
‫اإلمدادات ‪ ،‬أو مَايقتها عن الصليبيني يف بضمد الشام ‪ ،‬وهذا ال يكون إال بَم مصر ‪ ،‬وختليصها من أيدي الروا ض‬
‫سين ‪ ،‬وهو على أي حال‬ ‫كي ٌّ‬‫الباطنيني ‪ ،‬الذين تقلدوا أمور حكمها من قرون ‪ ،‬كما أن نور الدين حممود زنكي رج تر ٌّ‬
‫امتداد للسضمجقة ‪ ،‬الذين متنهلوا تح مصر ‪ ،‬وإعادهتا إىل دائرة النفوذ السين ؛ لذا كان من الطبيعي أن أييت تفكريه يف‬
‫تح مصر انبعاً من ذاته ‪ ،‬ومتمشياً مع متطلبات ظرو ه العسكرية من انحية ‪ ،‬وحمققاً ألمانيه الدينية من انحية أخرى‪.‬‬
‫ومما يشري إىل أن تح مصر كان هد اً من أهداف نور الدين ‪ ،‬اليت سعى لتحقيقها قوله يف الرسالة اليت بعث هبا إىل‬
‫اخلليفة املستَيء ‪ ،‬يبشره إبقامة اخلطبة له يف مصر‪« :‬ما برحت مهمنا إىل مصر مصرو ة ‪ ،‬وعلى ا تتاحها موقو ة ‪،‬‬
‫وعزائمنا يف إقامة الدعوة اهلادية هبا ماضية‪ ...‬حىت ظفران هبا بعد أيس امللوك منها»(‪ .)1‬كما كشف يف هذه الرسالة عن‬
‫موقفه العقائدي من الفاطميني بقوله عن مصر‪ ...« :‬وبقيت مئتني ومثانني سنة ممنوعة بدعوة املبطلني ‪ ،‬مملوءة حبزب‬
‫الشياطني؛ حىت أذن هللا لغمتها ابالنفراج ‪ ،‬وأقدمنا على ما كنا نؤمله من إزالة اإلحلاد والر ض ‪ ،‬وتقدمنا إىل من استنبناه‬
‫أن يستفتح ابب السعادة ‪ ،‬ويقيم الدعوة العباسية هنالك ‪ ،‬ويورد األدعياء ودعاة اإلحلاد هبا املهالك»(‪.)2‬‬
‫وهلذا كله كان من الطبيعي أن ينتهز نور الدين الفرصة ‪ ،‬اليت سنحت له للتدخ يف شؤون مصر عندما اضطربت أحواهلا‬
‫الداخلية بسبب التنا س بني الوزراء ‪ ،‬وطمع الصليبيني يها ‪ ،‬ثابر على إرسال جيشه إليها كلما دعت الَرورة إىل‬
‫ذلك ‪ ،‬حىت متهل االستقرار هلذا اجليش هبا يف املرة الثالثة ‪ ،‬وذلك يف ربيع االخر سنة ‪ 564‬هـ ‪ 1169 /‬م ووزر قائده‬
‫أسد الدين شريكوه للخليفة العاضد يف مصر ‪ ،‬لكنه ما لبث أن تويف ‪ ،‬وخلفه يف منصبه ابن أخيه صضمح الدين الذي‬
‫كـان عليه أن يبدأ بتنفيذ خطة نور الدين إلعادة مصر إىل حظرية السنة ‪ ،‬مث يتابع املسرية بعد و ـاة أستاذه العظيم(‪.)3‬‬
‫خطة نور الدين يف بداية تح مصر‪:‬‬
‫كانت خطة نور الدين يف بداية تح مصر تركز على أمرين هامني‪:‬‬
‫األول‪ :‬تغيري النظام القَائي هبا ‪ ،‬حبيث يعتمد على مذهب السنة بدالً من املذهب الشيعي اإلمساعيلي الباطين ‪،‬‬
‫وحاول نور الدين أن يك هذا األمر إىل الفقيه الشا عي شرف الدين بن أيب عصرون‪.‬‬
‫يذكر أبو شامة‪ :‬أنه وقف على كتاب خبط نور الدين إىل هذا الفقيه ‪ ،‬وكان حبلب يطلب منه الذهاب إىل مصر؛ ليتوىل‬
‫قَاءها ‪ ،‬ومما قاله نور الدين للشيخ‪« :‬أنت تعلم أن مصر اليوم قد لزمنا النظر يها ‪ ،‬هي من الفتوحات الكبار ‪ ،‬اليت‬
‫إسضمم بعد أن كانت دار كفر ‪ ،‬ونفاق‪...‬إال أن املقدم على ك شيء أمور الدين اليت هي األص ‪ ،‬وهبا‬ ‫جعلها هللا دار ٍ‬
‫أن مصر ما هي قليلة ‪ ،‬وهي خالية من أمور الشرع‪ ..‬واالن قد تعني عليك وعلي أيَاً أن ننظر‬ ‫النجاة ‪ ،‬وأنت تعلم‪ :‬هل‬
‫إىل مصاحلها ‪ ،‬وما لنا أحد اليوم هلا إال أنت‪ ..‬يجب أن تشمر عن ساق االجتهاد ‪ ،‬وتتوىل قَاءها ‪ ،‬وتعم ما‬
‫تعلم‪ :‬أنهله يقربك من هللا»(‪.)4‬‬

‫(‪ )1‬كتاب الروضتني نقضمً عن التاريخ السياسي والفكري ص ‪.220‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص ‪.220‬‬
‫(‪ )3‬التاريخ السياسي والفكري للمذهب السين ص ‪.220‬‬
‫(‪ )4‬كتاب الروضتني نقضمً عن التاريخ السياسي والفكري ص ‪.220‬‬

‫‪193‬‬
‫واألمر الثاين‪ :‬كان يتعلق إبقامة اخلطبة العباسية يف مصر ‪ ،‬ما إن استقرت عساكر نور الدين يها؛ حىت وردت عليه‬
‫رسالة من اخلليفة املستنجد يتعج إقامة اخلطبة له يف مصر ‪ ،‬مث ملا ويل «املستَيء» يف عام ‪ 566‬هـ ‪ 1170 /‬م‬
‫كرر هذا الطلب ‪ ،‬وكان نور الدين بدوره يطلب من صضمح الدين اإلسراع يف تنفيذ هذه اخلطوة‪ .‬لكن صضمح الدين‬
‫كان يؤثر اختاذ خطوات متدرجة؛ حىت ال يواجه مبا ال حتمد عقباه إىل أن ألزمه نور الدين بذلك إلزاماً ‪ ،‬ال سحة يه‬
‫يف رسال ة أرسلها إليه مع والده جنم الدين أيوب ‪ ،‬اعتذر ألبيه أبن هذا األمر إن مل يؤخذ ابلتدرج ‪ ،‬سيؤول أمره إىل‬
‫الفساد ‪ ،‬و عضمً كان صضمح الدين يسري حنو رغبة نور الدين خبطوات متأنية ‪ ،‬استطاع بعدها أن يقطع خطبة العاضد‬
‫الفاطمي ‪ ،‬وخيطب للخليفة العباسي يف احملرم من عام ‪ 567‬هـ‪ 1171/‬م ‪ ،‬وما لبث العاضد أن تويف بعد أايم من‬
‫الدعاء للعباسيني على منابر مصر ‪ ،‬ومبوته سقطت الدولة الفاطمية(‪ ،)1‬وأرس نور الدين القاضي ابن أيب عصرون إىل‬
‫اخلليفة العباسي حيم رسالة تتَمن البشارة هبذا احلادث الكبري ‪ ،‬وأمره نور الدين أن يقرأ البشارة يف ك مدينة مير هبا‪،‬‬
‫لم يرتك مدينة يف الطريق إىل بغداد إال دخلها ‪ ،‬وقرأ يها هذه البشارة؛ حىت وص إىل عاصمة اخلضم ة ‪ ،‬خرج املوكب‬
‫لتلقيه ‪ ،‬ونثرت عليه الداننري ‪ ،‬ومح معه عند عودته التشريفات واخللع من اخلليفة إىل نور الدين ‪ ،‬وصضمح الدين(‪.)2‬‬
‫وبذلك قُد َر ملصر أن تعود إىل رحاب السنة يف عهد نور الدين ‪ ،‬الذي تركزت جهوده يف هذا اجملال حول ثضمثة جوانب‪:‬‬
‫الفتح العسكري الذي مهد الطريق أمام التحول السين ‪ ،‬وتغيري النظام القَائي من املذهب اإلمساعيلي الشيعي إىل‬
‫املذهب الشا عي السين ‪ ،‬مث إسقاط اخلضم ة الفاطمية ‪ ،‬وإقامة اخلطبة للخضم ة العباسية السنية(‪.)3‬‬
‫وإذا كانت معظم جهود نور الدين الفكرية قد وزعت بني حلب‪ ،‬ودمشق‪ ،‬ومصر‪ ،‬إن هذا ال يعين إمهال بقية املناطق‬
‫اخلاضعة لنفوذه ‪ ،‬ب إنه أنشأ املدارس السنية يف كثري منها ‪ ،‬وشيد عدداً كبرياً من املساجد اليت كانت مهيأة للعبادة‬
‫والدرس ‪ ،‬بىن للفقيه ابن أيب عصرون مدارس يف حلب ‪ ،‬ومحص ‪ ،‬وبعلبك(‪.)4‬‬
‫ويقول ابن خلكان عن نور الدين‪ :‬إنه بىن املدارس جبميع بضمد الشام ‪ ،‬مث ‪ :‬دمشق ‪ ،‬وحلب ‪ ،‬ومحاة ‪ ،‬ومحص ‪،‬‬
‫وبعلبك ‪ ،‬ومنبج ‪ ،‬والرحبة ‪ ،‬وبىن مبدينة املوص اجلامع النُّوري ‪ ،‬ورتب له ما يكفيه ‪ ،‬كما بىن جامع محاة ‪ ،‬وجامع‬
‫الرها ‪ ،‬وجامع منبج(‪.)5‬‬
‫ُّ‬
‫إن جهوده جاءت اتلية جلهود املدارس النظامية ‪ ،‬انتفع مبا‬ ‫‪ 4‬ـ عوام جناح نور الدين يف حتقيق برانجمه اإلصضمحي‪ :‬هل‬
‫حققته من نتائج ‪ ،‬ويف مقدمتها‪ :‬ختريج جي حيم على عاتقه مهمة الدعوة للمذهب السين ‪ ،‬واالنتصار له‪ .‬وقد‬
‫استفاد نور الدين من عدد كبري خترجوا من النظاميات أييت احلديث عنهم الحقاً إبذن هللا تعاىل ‪ ،‬واستطاع نور الدين‬
‫أن يستغ ذكاء مواهب العلماء البارزين يف عصره ‪ ،‬ويستعني هبم يف دعم املذهب السين ‪ ،‬وكانت شخصيته من أهم‬
‫العوام اليت ساعدته على النجاح يف املهمة اليت سعى لتحقيقها ‪ ،‬من أبرز صفاته‪ :‬أنه كان يثق ابلعلماء ثقة مطلقة‪،‬‬
‫وال يسمح ألحد أن يتناول واحداً منهم مبقالة سوء ‪ ،‬ازدادت منزلة العلماء مسواً ‪ ،‬وأصبحوا حم ثقة مجهور املسلمني‪،‬‬

‫(‪ )1‬التاريخ السياسي والفكري ص ‪.221‬‬


‫(‪ )2‬التاريخ السياسي والفكري ص ‪.221‬‬
‫(‪ )3‬كتاب الروضتني نقضمً عن التاريخ السياسي والفكري ص ‪.221‬‬
‫(‪ )4‬الدارس يف اتريخ املدارس (‪.)401/1‬‬
‫(‪ )5‬و يات األعيان (‪.)272/4‬‬

‫‪194‬‬
‫وتقديرهم ‪ ،‬كما كان حيرص على حَور جملس العلم كلما مسحت له ظرو ه هبذا ‪ ،‬ويواظب على عقد جمالس الوعظ ‪،‬‬
‫ويستمع ـ مع الناس ـ للحا ظ ابن عساكر ‪ ،‬ولقطب الدين النيسابوري ‪ ،‬وغريمها من الوا دين على دمشق من أحناء‬
‫العامل اإلسضممي(‪.)1‬‬
‫كان نور الدين كقائد سياسي وعسكري على قناعة راسخة ابخلطورة العظيمة اليت ميثلها ُّ‬
‫املد الشيعي الرا َي يف سبي‬
‫هنوض األمة ‪ ،‬واالست مرار يف املقاومة للصليبيني ‪ ،‬ولذلك جع من أهدا ه القَاء على الدولة الفاطمية ‪ ،‬اليت ترعى‬
‫الفكر الشيعي الرا َي ‪ ،‬والعم على التصدي لدعاة التشيع الرا َي ابلفكر ‪ ،‬والعلم ‪ ،‬والثقا ة ‪ ،‬والسياسة ‪ ،‬والقوة‪.‬‬
‫وقد حتدثنا عن شخصية نور الدين وأهم صفاته يف مبحث مستق ‪ ،‬قد كان سلوك نور الدين حممود زنكي من عوام‬
‫انتصار املذهب السين ‪ ،‬ألن أبرز ما كان يتبجح به الشيعة يف الدعوة إىل مذهبهم هو التنديد مبسلك حكام السنة‬
‫املنغمسني يف تر هم ‪ ،‬الضمهني يف مضمذهم ‪ ،‬وشهواهتم ‪ ،‬الغارقني يف مظاملهم‪.‬‬
‫أن اإلمام املهدي (القائم أو الغائب) سيمأل األرض عدالً كما ملئت جوراً ‪،‬‬ ‫وكانت النغمة السائدة لدى دعاهتم‪ :‬هل‬
‫يستدرجون هبذا احملرومني ‪ ،‬واملسحوقني ‪ ،‬حىت جيذبوهنم إىل صفو هم ‪ ،‬ويدخلوهنم يف دعوهتم ‪ ،‬جاء نور الدين يدعم‬
‫املذهب السين أبخضمقه وسلوكه ‪ ،‬وحسن سياسته يف رعيته ‪ ،‬مث جبهوده الفكرية الرائعة(‪.)2‬‬
‫إن نور الدين حممود أيقن أبن العقيدة اليت تصلح جلمع شتات املسلمني ‪ ،‬هي ما كان منبعها كتاب هللا ‪ ،‬وسنة رسوله‪،‬‬
‫وميكن التدلي على ك أص من أصوهلا ‪ ،‬أو جزئية من جزئياهتا ‪ ،‬مث إن السلف الصاحل ‪ ،‬الذين استقاموا على عقيدة‬
‫دونوا هذه العقيدة تدويناً ميزها عن عقائد أه الفرق والَضمل ‪ ،‬لذلك عم على معر تها‪ ،‬وتعليمها ‪،‬‬ ‫اإلسضمم احلق هل‬
‫وتربية الناس عليها من خضمل جهاز العلماء يف الدولة ‪ ،‬الطريق للنهوض البد يه من وحدة الصف ‪ ،‬ووحدة الصف‬
‫ليس هلا من سبي إال اإلسضمم الصحيح ‪ ،‬واإلسضمم الصحيح مصدره القران والسنة ‪ ،‬والطريق لفهم القران والسنة هي‬
‫طريق رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وأصحابه الكرام ‪ ،‬والتابعني إبحسان ‪ ،‬ومن سار على هنجهم وطريقتهم إىل يوم‬
‫الدين‪.‬‬
‫َ ذ َ ذ ُ‬ ‫َ‬
‫ين َو ۡٱۡل َ‬ ‫َ‬
‫َ ذ ُ َ ۡ ذُ َ‬
‫ۡ َ ذ ِ َ ذُ َ‬
‫َّلل ع ۡن ُه ۡم‬ ‫ِين ٱت َب ُعوهم بِإِحس ٖن رِض ٱ‬ ‫نصارِ وٱَّل‬ ‫ون م َِن ٱل ۡ ُم َهجر َ‬‫قال تعاىل‪﴿:‬وٱلسبِقون ٱۡلول‬
‫ِِ‬
‫ُ ْ َ‬
‫َو َرضوا ع ۡن ُه﴾ [التوبة‪ ]100 :‬وعد من اتبع غري سبيلهم بعذاب جهنم ‪ ،‬ووعد متبعهم ابجلنة والرضوان(‪.)3‬‬
‫وقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪« :‬خري الناس قرين مث الذين يلوهنم ‪ ،‬مث الذين يلوهنم ‪ ،‬مث جييء قوم تسبق شهادة‬
‫أحدهم ميينه ‪ ،‬وميينه شهادته»(‪.)4‬‬
‫(‪)5‬‬
‫وعن ابن مسعود ـ رضي هللا عنه ـ قال‪( :‬اتبعوا ‪ ،‬وال تبتدعوا ‪ ،‬قد كفيتم) ‪ .‬وعنه ـ رضي هللا عنه ـ‪( :‬من كان متأسياً‬
‫أبر هذه األمة قلوابً ‪ ،‬وأعمقها علماً ‪ ،‬وأقلها تكلفاً ‪ ،‬وأقومها هدايً ‪ ،‬وأحسنها‬
‫ليتأس أبصحاب رسول هللا ‪ ،‬إهنم كانوا هل‬‫َ‬

‫(‪ )1‬كتاب الروضتني نقضمً عن التاريخ السياسي والفكري ص ‪.224‬‬


‫(‪ )2‬التاريخ السياسي والفكري للمذهب السين ص ‪.225‬‬
‫(‪ )3‬قه النصر والتمكني يف القران الكرمي ص ‪.264 ، 263‬‬
‫(‪ )4‬مسلم ‪ ،‬كتاب الصحابة رقم ‪.2533‬‬
‫(‪ )5‬رواه مالك يف املوطأ رقم ‪.1619‬‬

‫‪195‬‬
‫حاالً ‪ ،‬قوم اختارهم هللا لصحبة نبيه ‪ ،‬وإقامة دينه‪ ،‬اعر وا له َلهم‪ ،‬واتبعوهم يف ااثرهم‪ ،‬إهنم كانوا على اهلدى‬
‫املستقيم)(‪ .)1‬ولذلك حرص امللك العادل على بناء دولة العقيدة على أصول منهج أه السنة واجلماعة‪.‬‬

‫اثلثاً‪ :‬العدل يف دولة نور الدين حممود زنكي‪:‬‬


‫احلرص على إقامة قواعد النظام اإلسضممي اليت تساهم يف إقامة اجملتمع املسلم ‪ ،‬ومن‬ ‫َ‬ ‫إن من أهداف احلكم اإلسضممي‬ ‫هل‬
‫ۡ‬
‫ذ ذَ َ ُ ُ َۡ ۡ َ ۡ ۡ َ‬
‫أمر هللا بفع ٍ ـ كما هو‬ ‫و‬ ‫‪.‬‬ ‫ن﴾ [النح ‪]90:‬‬ ‫ٱۡلح ِ‬
‫س‬ ‫أهم هذه القواعد‪ :‬العدل ‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬إِن ٱَّلل يأمر بِٱلعد ِل و ِ‬
‫ُ‬
‫ك ۡم ُتم بَ ۡ َ‬‫َ َٰٓ ۡ َ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ذ ذَ َُۡ ُ ُ‬
‫ك ۡم أَن تُ َؤ ُّدوا ْ ٱۡل َم َ‬
‫ني‬ ‫ت إِل أهل ِها ِإَوذا ح‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫معلوم ـ يقتَي وجوبه ‪ ،‬وقال تعاىل‪۞﴿:‬إ ِن ٱَّلل يأمر‬
‫َ َۡ ُ ْ ۡ‬
‫اس أن َتك ُموا بِٱل َع ۡد ِل﴾ [النساء ‪. ]58:‬‬‫ٱنلذ ِ‬
‫ُ َ ۡ‬ ‫ُ َ َ ٓ َ ذ َ َ ۡ َ َ َٰٓ َ ُ‬ ‫َ َٰٓ َ ُّ َ ذ َ َ َ ُ ْ ُ ُ ْ َ ذ َ ۡ‬
‫لَع أنفسِ ك ۡم أوِ ٱل َو ِ َِليۡ ِن‬ ‫ِني بِٱل ِق ۡس ِط شهداء َِّللِ ولو‬ ‫وقال تعاىل‪ ﴿:‬يأيها ٱَّلِين ءامنوا كونوا قوم‬
‫َُْۡٓ ۡ ُ ۡ ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫َۡ ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ََ َذ ُ ْ ۡ‬ ‫َ ُ ۡ َ ًّ َ ۡ َ ٗ َ ذ ُ َ ۡ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ۡ َۡ‬
‫َٰٓ‬ ‫َ‬
‫وٱۡلقربِني إِن يكن غن ِيا أو فقِۡيا فٱَّلل أوَل ب ِ ِهما َۖ فل تتبِعوا ٱلهوى أن تعدِلوا ِإَون تلوۥا أو تع ِرضوا‬ ‫َ‬
‫َ ذ ذَ َ َ َ َۡ َُ َ َ ٗ‬
‫فإِن ٱَّلل َكن بِما تعملون خبِۡيا ‪[ ﴾١٣٥‬النساء ‪]135:‬‬

‫وقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪« :‬أشد الناس يوم القيامة عذاابً إمام جائر»(‪ .)2‬والعدل أساس احلكم(‪ ،)3‬وإقامته‬
‫عد من أقدس الواجبات ‪ ،‬وأمهها ‪ ،‬وقد اجتمعت األمة على وجوب العدل(‪ ، )4‬ولقد‬ ‫بني الناس يف الدين اإلسضممي يُ ُّ‬
‫كان نور الدين حممود زنكي قدوة يف عدله ‪ ،‬أسر القلوب ‪ ،‬وهبر العقول ‪ ،‬قد كانت سياسته تقوم على العدل الشام‬
‫بني الناس ‪ ،‬وقد جنح يف ذلك على صعيد الواقع والتطبيق جناحاً منقطع النظري ‪ ،‬حىت اقرتن امسه ابلعدل ‪ ،‬ومسي ابمللك‬
‫العادل ‪ ،‬وكان من أسباب نصر هللا هلذا امللك العادل على الباطنية‪ ،‬والصليبيني إقامته للعدل يف الرعية‪ ،‬وإيصال احلقوق‬
‫إىل أهلها ‪ ،‬العدل يف الرعية ‪ ،‬وإنصاف املظلوم يبعث يف األمة العزة والكرامة ‪ ،‬ويولد جيضمً حمارابً ‪ ،‬وأمةً حترر إرادهتا‬
‫حكامها ‪ ،‬وتطيعهم؛ ألهنم أقاموا العدل على أنفسهم ‪ ،‬وأقاموا العدل على غريهم‪.‬‬ ‫بد ع الظلم عنها ‪ ،‬ورعيةً حتب هل‬
‫وأما الظلم هو ظلمات يف الدنيا واالخرة ‪ ،‬وهو يؤذن بزوال الدول ‪ ،‬وقد حرم هللا الظلم على نفسه‪ .‬قد قال يف‬
‫ۡ ُ ُ ْ‬
‫احلديث القدسي‪« :‬اي عبادي إين حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم حمرماً ضم تظاملوا»(‪ .)5‬وقال تعاىل‪﴿ :‬ٱحۡشوا‬
‫َ ۡ َ ُُ ُ‬
‫وت ُه ۡم َخاو َيَۢة بماَ‬ ‫ذ َ َ َُ ْ َََۡ َ ُ ۡ َ َ َ ُ ْ َ ُۡ ُ َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ٱَّلِين ظلموا وأزوجهم وما َكنوا يعبدون ‪[ ﴾٢٢‬الصافات ‪ ]22 :‬وقال تعاىل‪﴿ :‬فتِلك بي‬
‫َ َ ْ‬
‫ظل ُم ٓوا﴾ [النم ‪. ]52 :‬‬

‫(‪ )1‬حلية األولياء (‪.)379/1‬‬


‫(‪ )2‬اجلامع الصغري للسيوطي رقم احلديث ‪.1050‬‬
‫(‪ )3‬معوقات اجلهاد يف العصر احلاضر (‪.)481/1‬‬
‫للصضمهليب ص ‪.455‬‬
‫(‪ )4‬قه التمكني يف القران الكرمي هل‬
‫(‪ )5‬خمتصر صحيح مسلم للمنذري رقم ‪.1828‬‬

‫‪196‬‬
‫سج التاريخ أبن نور الدين حممود ساد العدل يف دولته(‪ ، )1‬ومتهل إيصال حقوق الناس إليهم ‪ ،‬نشطوا يف اجلهاد‪،‬‬ ‫وقد هل‬
‫والد اع عن دينهم ‪ ،‬وعقيدهتم ‪ ،‬وأوطاهنم ‪ ،‬وأعراضهم ‪ ،‬ومن أبرز أعماله اإلصضمحية والتجديدية‪ :‬إقامته للعدل يف‬
‫(‪)2‬‬
‫وخول القَاة على‬ ‫دولته ‪ .‬وقد أوىل نور الدين املؤسسة القَائية اهتماماً كبرياً ‪ ،‬وجعلها يف قمة أجهزته اإلدارية ‪ ،‬هل‬
‫اختضمف درجاهتم يف سلهلم املناصب القَائية صضمحيات واسعة ـ إن مل نق مطلقة ـ ومنحهم استقضمالً اتماً ‪ ،‬لكوهنم‬
‫األداة التنفيذية إلقرار مبادئ احلق والعدل ‪ ،‬وحتوي قيم الشريعة ‪ ،‬ومبادئها إىل واقع ملتزم ‪ ،‬وتوجت جهوده إبنشاء دار‬
‫العدل ‪ ،‬اليت كانت مبثابة حمكمة عليا حملاسبة كبار املوظفني ‪ ،‬وإرغامهم على سلوك احملجة البيَاء‪ ،‬أو طردهم واستبداهلم‬
‫بغريهم إن اقتَى األمر(‪.)3‬‬
‫إيل»(‪.)4‬‬
‫وكان شعاره ما أكده ألصحابه مراراً‪« :‬حر ٌام على ك من صحبين أال ير ع إيل قصة مظلوم ال يستطيع الوصول هل‬
‫وحيكي خادمه شاذخبت الطواشي اهلندي ـ الذي كان أحد نوابه يف حلب ـ هذه احلادثة ‪ ،‬ذات الداللة الواضحة يف هذا‬
‫اجملال‪« :‬كنت يوماً أان ورج ٌ واقفني على رأس نور الدين ‪ ،‬وقد صلى املغرب ‪ ،‬وجلس ‪ ،‬وهو يفك ُر كراً عظيماً ‪،‬‬
‫وجع ينكش إبصبعه األرض ‪ ،‬عجبنا من كره ‪ ،‬وقلنا‪ :‬يف أي شيء يفكر؟ يف عائلته؟ أو يف و اء دينه؟ وكأنه َط َن‬
‫تردد‪ .‬قال‪ :‬وهللا إين أ كر يف و ٍال وليته أمور املسلمني ‪ ،‬لم يعدل‬‫بنا ‪ ،‬ر ع رأسه ‪ ،‬وقال‪ :‬ما تقوالن؟ أجبناه بعد ُّ‬
‫يهم ‪ ،‬أو يمن يظلم املسلمني من أصحايب ‪ ،‬وأعواين ‪ ،‬وأخاف املطالبة بذلك أمام هللا ‪ ،‬باهلل عليكم‪ ...‬وإال خبزي‬
‫إيل ‪ ،‬أو تعلمان مظلمةً إال وأعلماين هبا ‪ ،‬وار عاها إيل(‪.)5‬‬‫عليكم حرام ‪ ،‬ال تراين قصة مظلوم ال تر ع هل‬
‫يتحرى العدل ‪ ،‬وينصف املظلوم ‪ ،‬من الظامل كائناً من كان ‪ ،‬القوي‬ ‫وقد وصف ابن األثري نور الدين أبنه‪« :‬كان هل‬
‫والَعيف عنده يف احلق سواء ‪ ،‬كان يسمع شكوى املظلوم‪ ،‬ويتوىل كشف ذلك بنفسه ‪ ،‬وال يَـك ذلك إىل حاجب‬
‫‪ ،‬وال أمري ‪ ،‬ضم جرم إن سار ذكره يف شرق األرض وغرهبا»(‪.)6‬‬
‫‪ 1‬ـ دار العدل أو احملكمة العليا‪ :‬كانت قمة إجراءاته القَائية إنشاءه داراً يف دمشق‪ ،‬لكشف املظامل مسهلاها (دار العدل)‬
‫ت صضمحياهتا ‪ ،‬امتدت أقَيتها إىل سائر أبناء األمة ‪،‬‬ ‫‪ ،‬وكانت أشبه مبحكمة عليا حملاسبة كبار املوظفني ‪ ،‬مث ُعم َم ْ‬
‫عدد من كبار األمراء يف دمشق ‪ ،‬وخباصة أسد الدين شريكوه ‪ ،‬ومتاديهم يف اقتناء األمضمك‬ ‫وقد جاء إنشاؤها بسبب تزايد ٍ‬
‫‪ ،‬وجتاوز بعَهم حقوق البعض االخر ‪ ،‬كثرت الشكوى إىل قاضي القَاة كمال الدين الشهرزوري ‪ ،‬أنصف بعَهم‬
‫ٍ‬
‫حينئذ ببناء دار‬ ‫من بعض ‪ ،‬لكنه مل يقدر على اإلنصاف من شريكوه ‪ ،‬أهنى احلال إىل نور الدين ‪ ،‬أصدر أمره‬
‫العدل(‪.)7‬‬

‫(‪ )1‬دروس وأتمضمت يف احلروب الصليبية ص ‪.205‬‬


‫(‪ )2‬أيعيد التاريخ نفسه؟ ص ‪.98‬‬
‫(‪ )3‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.75‬‬
‫(‪ )4‬الكواكب البن قاضي شهبة ص ‪ 25‬نور الدين حممود ‪.75‬‬
‫(‪ )5‬الكواكب ص‪ 25‬نور الدين حممود الرج التجربة ص ‪.75‬‬
‫(‪ )6‬الباهر ص ‪.166‬‬
‫(‪ )7‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.76‬‬

‫‪197‬‬
‫أن نور الدين ما أمر ببناء هذه الدار‬ ‫يقول ابن األثري‪ :‬لما مسع شريكوه ذلك؛ أحَر نوابه مجيعهم ‪ ،‬وقال هلم‪ :‬اعلموا‪ :‬هل‬
‫إال بسبيب وحدي ‪ ،‬وإال من هو الذي ميتنع على كمال الدين؟ وهللا لئن حَرت إىل دار العدل بسبب أحدكم ألصلبنه‬
‫ملك ‪ ،‬وا ْصلوا احلال معه ‪ ،‬وأرضوه أبي شيء أمكن ‪ ،‬ولو أتى على مجيع‬ ‫‪ ،‬امَوا إىل ك من بينكم وبينه منازع يف ٍ‬
‫ما بيدي‪ .‬قالوا له‪ :‬إن الناس إذا علموا هذا اشتطوا يف الطلب‪ .‬قال‪ :‬خروج أمضمكي من يدي أسه عندي من أن‬
‫ني أين ظاملٌ ‪ ،‬أو يساوي بيين وبني أحد العامة يف احلكومة (أي‪ :‬القَاء) ‪ ،‬خرج أصحابه من عنده‬ ‫يراين نور الدين بع ٍ‬
‫‪ ،‬و علوا ما أمرهم ‪ ،‬وأرضوا خصماءهم ‪ ،‬وأشهدوا عليهم ‪ ،‬لما ومخسمئة(‪ ، )1‬وأما النصارى املتواجدون يف دولة نور‬
‫ميسوا أبذى ـ رغم ظروف الصراع اإلسضممي الصلييب ـ وعوملوا كمواطنني هلم حق الرعاية الكاملة ‪ ،‬ومل‬ ‫الدين ‪ ،‬إهنم مل ُّ‬
‫(‪)2‬‬
‫يـُ ْعَرف عنه ‪ :‬أنه هدم يف حياته كنيسة ‪ ،‬وال اذى قساً ‪ ،‬أو راهباً ‪ ،‬وقد كان الصليبيون إذا دخلوا بلداً ‪ ،‬قتلوا ج هل‬
‫أهله املسلمني ولو أنه أتثر بذلك ‪ ،‬وعاملهم ابملث ؛ لقام له يف ذلك عذر ‪ ،‬ولكنه كان إنساانً عظيماً ‪ ،‬ال يقيس نفسه‬
‫أبولئك اجلفاة الذين أساؤوا؛ حىت إىل نصارى البضمد ‪ ،‬ظلت الكنائس يف بضمده عامرًة أبهلها‪ ،‬ب إن الصليبيني كانوا‬
‫إذا خرجوا يف بلد تنفهلس نصاراه الصعداء ‪ ،‬وأمنوا إىل عدله وإنصا ه(‪.)3‬‬
‫ب مرة من قب أحد املدعني ‪ ،‬ما كان من أحد كبار موظفيه إال أن دخ عليه ضاحكاً ‪،‬‬ ‫‪ 2‬ـ استجابته للقَاء‪ :‬طُل َ‬
‫وقال مستهزائً‪ :‬يقوم املوىل إىل جملس احلكم ‪ ،‬أنكر نور الدين على الرج سخريته ‪ ،‬وقال‪ :‬تستهزئ لطليب إىل جملس‬
‫ذ َ َ َ ََۡ ُۡ ۡ َ َ‬
‫ِني إِذا‬ ‫َ ُر رسي؛ حىت نركب إليه ‪ ،‬السمع والطاعة ‪ ،‬قال هللا تعاىل‪﴿ :‬إِنما َكن قول ٱلمؤ ِمن‬ ‫احلكم؟ وأردف‪ُْ :‬حي َ‬
‫َ‬ ‫ُ ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ َ ذ‬
‫ُد ُع ٓوا إِل ٱَّللِ َو َر َُ ِ‬
‫وَلِۦ ِۡلَ ۡٗك َم بَيۡ َن ُه ۡم أن َيقولوا ََ ِم ۡع َنا َوأ َط ۡع َنا﴾ [النور‪. ]51:‬‬
‫مث هنض ‪ ،‬وركب؛ حىت دخ ابب املدينة ‪ ،‬واستدعى أحد أصحابه وقال له‪ :‬امض إىل القاضي ‪ ،‬وسلم عليه ‪ ،‬وق‬
‫له‪ :‬إين جئت هاهنا امتثاالً ألمر الشرع(‪.)4‬‬
‫ث اخر ‪ ،‬ويومئ بيده إليه ‪ ،‬أرس‬ ‫ويوماً كان يلعب الكرة ـ هوايته املفَلة ـ يف دمشق ‪ ،‬رأى رجضمً من أتباعه ‪ ،‬حيد ُ‬
‫إليه يسأله عن حاله ‪ ،‬أعلمه‪ :‬أن له على نور الدين خصومة حول بعض األمضمك ‪ ،‬وطلب حَوره إىل جملس القَاء‬
‫للفص يف املسألة ‪ ،‬رتدد الغضمم يف عرض املوضوع على نور الدين ‪ ،‬ولكن هذا أحل عليه‪ ،‬لما تبني له األمر ألقى‬
‫العصا من يده ‪ ،‬وخرج من امليدان ‪ ،‬وسار إىل القاضي ‪ ،‬كمال الدين وقال له‪ :‬إنين قد جئت حما َكماً ‪ ،‬اسلك معي‬
‫ما تسلكه مع غريي ‪ ،‬لما حَر املدعي ساوى كمال الدين بينه وبني خصمه ‪ ،‬وحني مل يثبت ضدهله شيء قال للقاضي‬
‫ولكا ة احلَور‪ :‬ه ثبت له عندي حق؟ قالوا‪ :‬ال‪ .‬قال‪ :‬اشهدوا أنين قد وهبت له هذا املال الذي حاكمين عليه ‪،‬‬
‫يظن أنين ظلمته ‪ ،‬حيثما ظهر هل‬
‫أن احلق؛ يل وهبته إايه(‪.)5‬‬ ‫وقد كنت أعلم‪ :‬أنه ال حق له عندي ‪ ،‬وإمنا حَرت لئضم هل‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص ‪.78‬‬


‫(‪ )2‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.78‬‬
‫(‪ )3‬نور الدين حممود حسني مؤنس ص ‪ 367‬ـ ‪.368‬‬
‫(‪ )4‬الباهر ص ‪ 166‬ـ ‪.167‬‬
‫(‪ )5‬الباهر ص ‪ 166‬ـ ‪.167‬‬

‫‪198‬‬
‫وتلك غاية العدل واإلنصاف ‪ ،‬ب غاية اإلحسان ‪ ،‬وهي درجة وراء العدل‪ ،‬رحم هللا هذه النفس الذكية الطاهرة املنقادة‬
‫إىل احلق ‪ ،‬الواقفة معه ‪ ،‬كما علهلق ابن األثري(‪.)1‬‬
‫ويف عام ‪ 558‬هـ ‪1162‬م هلادعى رج على نور الدين أن أابه (زنكي) أخذ من ماله شيئاً بغري حق ‪ ،‬وأنه يطالب‬
‫بذلك‪ .‬قال نور الدين‪ :‬أان ال أعلم شيئاً عن ذلك ‪ ،‬إن كان لك بَـيـنَـةٌ تشهد بذلك؛ هاهتا ‪ ،‬وأان أرد إليك ما خيصين‬
‫‪ ،‬إين ما ورثت مجيع ماله ‪ ،‬قد كان هناك ورثة غريي ‪ ،‬مَى الرج ليحَر البينة(‪.)2‬‬
‫‪ 3‬ـ ال عقوبة على الظنة والتهمة‪ :‬مل يكن نور الدين يصدر العقوبة على الظنة والتهمة ‪ ،‬ب يطلب الشهود على املتهم‪،‬‬
‫تعد(‪ ، )3‬د ع هللا هبذا الفع عن الناس من الشر ما يوجد‬ ‫إن قامت عليه البينة الشرعية؛ عاقبه العقوبة العادلة من غري ٍ‬
‫يف غري واليته مع شدة السياسة ‪ ،‬واملبالغة يف العقوبة ‪ ،‬واألخذ ابلظنة ‪ ،‬وأمنت بضمده مع سعتها ‪ ،‬وق هل املفسدون بربكة‬
‫العدل ‪ ،‬واتباع الشرع املطهر(‪.)4‬‬
‫أن إنساانً كان بدمشق ‪ ،‬استوطنها‪،‬‬ ‫‪ 4‬ـ من عدله بعد موته‪ :‬ومن عدله أيَاً بعد موته ‪ ،‬وهو من أعجب ما حيكى‪ « :‬هل‬
‫وأقام هبا ملا رأى من عدل نور الدين ـ رمحه هللا ـ لما تويف تعدهلى بعض اجلنود على هذا الرج شكاه ‪ ،‬لم يُنصف ‪،‬‬
‫نزل من القلعة وهو يستغيث ‪ ،‬ويبكي ‪ ،‬وقد شق ثوبه وهو يقول‪ :‬اي نور الدين ‪ ،‬لو رأيتنا وما حنن يه من الظلم؛‬
‫لرمحتنا ‪ ،‬أين عدلك؟ وقصد تربة نور الدين ‪ ،‬ومعه من اخللق ماال حيصى وكلهم يبكي ‪ ،‬ويصيح ‪ ،‬وص اخلرب إىل‬
‫صضم ح الدين ‪ ،‬وقي له‪ :‬احفظ البلد والرعية وإال خرج عن يدك ‪ ،‬أرس إىل ذلك ـ وهو عند تربة نور الدين يبكي‬
‫والناس معه ـ طيب قلبه ‪ ،‬ووهبه شيئاً ‪ ،‬وأنصفه ‪ ،‬بكى أشد من األول ‪ ،‬قال له صضمح الدين‪ :‬مل تبكي؟ قال‪ :‬أبكي‬
‫عدل ينا بعد موته ‪ ،‬قال صضمح الدين‪ :‬هذا هو احلق ‪ ،‬وك ما حنن يه من عدل منه تعلهلمناه»(‪.)5‬‬ ‫على سلطان ٍ‬
‫‪ 5‬ـ رقبيت دقيقة ال أطيق محلها واملخاصمة عليها بني يدي هللا تعاىل‪ :‬قال ابن األثري‪« :‬وحكى يل من أثق به‪ :‬أنهله دخ‬
‫يوماً إىل خزانة املال ‪ ،‬رأى يها ماالً أنكره ‪ ،‬سأله عنه‪ :‬قي ‪ :‬إن القاضي كمال الدين أرسله ‪ ،‬وهو من جهة كذا‪.‬‬
‫قال‪ :‬إن هذا املال ليس لنا ‪ ،‬وال لبيت املال يف هذه اجلهة شيء ‪ ،‬وأمر برده وإعادته إىل كمال الدين ‪ ،‬هلرده إىل اخلزانة‬
‫‪ ،‬وقال‪ :‬إذا سألكم امللك العادل عنه؛ قولوا له عين‪ :‬إنه له‪ .‬دخ نور الدين اخلزانة مرة أخرى ‪ ،‬رآه ‪ ،‬أنكر على‬
‫النُّواب قال‪ :‬أمل أق لكم يعاد هذا املال إىل أصحابه ‪ ،‬ذكروا له قول كمال الدين ‪ ،‬هلرده إليه وقال للرسول‪ :‬ق لكمال‬
‫الدين‪ :‬أنت تقدر على مح هذا املال ‪ ،‬وأما أان رقبيت دقيقة ال أطيق محلها ‪ ،‬واملخاصمة عليها بني يدي هللا تعاىل!‬
‫يُعاد قوالً واحداً»(‪.)6‬‬
‫‪ 6‬ـ رجال القَاء يف دولة نور الدين‪ :‬اعتمد نور الدين يف أجهزته القَائية رجاالً ثقااتً ‪ ،‬عرف كيف ينتقيهم ‪ ،‬بعد أن‬
‫رأى يهم من الفقه الواسع ‪ ،‬والتقوى العميقة ما يؤهلهم لتسلم منصب القَاء الذي تربع يف عهده ـ كما رأينا ـ قمة‬

‫(‪ )1‬الباهر ص ‪ 167‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.79‬‬


‫(‪ )2‬كتاب الروضتني نقضمً عن نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.80‬‬
‫(‪ )3‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.80‬‬
‫(‪ )4‬عيون الروضتني (‪.)364 / 1‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه (‪.)365 / 1‬‬
‫(‪ )6‬عيون الروضتني (‪.)364 / 1‬‬

‫‪199‬‬
‫مؤسسات الدولة ‪ ،‬وحظي ابستقضمل اتم ‪ ،‬وأصبح حكمه هو احلكم امللزم للجميع ‪ ،‬مبا يهم السلطان نفسه ‪ ،‬وكبار‬
‫أمرائه ‪ ،‬ويربز من بني حشد كبري من القَاة آل الشهرزوري ‪ ،‬وعلى رأسهم كمال الدين أبو الفَ حممد بن الشهرزوري‬
‫‪ ،‬أولئك الذين كانوا قد ختصصوا منذ عهد عماد الدين زنكي يف القَاء ‪ ،‬وما قبله ‪ ،‬وبرعوا يها(‪.)1‬‬
‫أ ـ القاضي كمال الدين الشهرزوري‪ :‬حدث يف مطلع عام ‪555‬هـ‪1160/‬م أن تقدم قاضي دمشق ‪ ،‬زكي الدين أبو‬
‫احلسن علي بن القرشي ‪ ،‬برقعة إىل نور الدين يطلب يها إعفاءه من القَاء ‪ ،‬أجابه إىل طلبه ‪ ،‬ووىل قَاء دمشق‬
‫القاضي اإلمام كمال الدين بن الشهرزوري ‪ ،‬وهو كما يصفه ابن القضمنسي املعاصر له‪« :‬املشهور ابلتقدم ‪ ،‬وو ور العلم‬
‫‪ ،‬وصفاء الفهم ‪ ،‬واملعر ة بقوانني األحكام ‪ ،‬وشروط استعمال اإلنصاف والعدل ‪ ،‬والنزاهة ‪ ،‬وجتنب اهلوى والظلم ‪،‬‬
‫وحكم بني الرعااي أبحسن أ عال يف حالة غيابه ‪ ،‬أو اشتغاله مبهمة ما ‪ ،‬إن ولده حميي الدين ينوب عنه يف منصبه(‪.»)2‬‬
‫(‪)3‬‬
‫خترج من‬
‫كان كمال الدين قد ولد عام ‪491‬هـ ‪1097/‬م ‪ ،‬وتفقهله ببغداد ‪ ،‬ومسع احلديث من كبار احملدثني وقد هل‬
‫النظامية(‪ ،)4‬وكان يرتدد إىل بغداد ‪ ،‬وخراسان رسوالً من عماد الدين زنكي ‪ ،‬مث ما لبت أن و د على نور الدين(‪،)5‬‬
‫وأصبح بعد أق من عامني (‪557‬هـ ‪1161‬م) قاضياً لقَاة الدولة كلها ‪ ،‬وأمر نور الدين القَاة ببضمده أن يكتبوا‬
‫الكتب نيابة عنه ‪ ،‬وهناك من يقول أن زكي الدين قاضي دمشق مل يتقدم ابإلعفاء عام ‪555‬هـ ‪1160 /‬م وإمنا أعفاه‬
‫نور الدين بسبب امتناعه عن أن يكون أحد نواب كمال الدين ‪ ،‬ومهما يكن من أمر؛ إن كمال الدين ‪ ،‬متكن من‬
‫منصبه ‪ ،‬وأصبح يف دمشق كما يقول العماد‪ :‬احلاكم املطلق(‪ .)6‬وأصبحت دولته ان ذة األوامر ‪ ،‬منتظمة األمور(‪.)7‬‬
‫وورد عنه كذلك‪ :‬أنه ارتقى إىل درجة الوزارة ‪ ،‬كان له احل ‪ ،‬والعقد يف أحكام الشام(‪ .)8‬وكان له من صفاته الشخصية‬
‫‪ ،‬وسياسته القائمة على الرب وحفظ األصدقاء(‪ ، )9‬ومن ثقا ته الواسعة وخربته الفقهية والقَائية والسياسية‪ ،‬خري معني‬
‫على مواصلة الطريق حىت النهاية ‪ ،‬ومل يكتف كمال الدين مبهامه القَائية ‪ ،‬ب كان ميلك نزعة متأصلة للبناء واإلعمار‬
‫‪ ،‬أشرف بنفسه على بناء أسوار دمشق ‪ ،‬ومدارسها ‪ ،‬ومارستاانهتا(‪ .)10‬وقد هلوضه نور الدين مهمة اإلشراف على دار‬
‫الَرب ‪ ،‬وأوقاف الدولة ‪ ،‬وتوجيه مصار ها لبناء األسوار ‪ ،‬وحفظ الثغور ‪ ،‬أجنز مهمته على خري وجه(‪ .)11‬كما أوىل‬
‫عنايةً خاصة إبعمار اجلامع األموي بدمشق ‪ ،‬واإلنفاق عليه بسخاء(‪ .)12‬وزاد نور الدين على ذلك كله ‪ ،‬اعتمده‬

‫(‪ )1‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.82‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص ‪.82‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.83‬‬
‫(‪ )4‬التاريخ السياسي والفكري للمذهب السين ص ‪.222‬‬
‫(‪ )5‬قَاة دمشق ص ‪ 47‬ـ ‪.48‬‬
‫(‪ )6‬الربق ص ‪ 222‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.83‬‬
‫(‪ )7‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.83‬‬
‫(‪ )8‬اخلريد قسم الشام ص ‪ 246‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.83‬‬
‫(‪ )9‬الربق ص ‪ 222‬ـ ‪.224‬‬
‫(‪ )10‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.83‬‬
‫(‪ )11‬الربق ص ‪ 146‬ـ ‪.147‬‬
‫(‪ )12‬البداية والنهاية نقضمً عن نور الدين حممود ص ‪.84‬‬

‫‪200‬‬
‫مبعواثً إىل اخلليفة العباسي يف بغداد(‪ ، )1‬كما اعتمد ابنه حميي الدين انئباً عنه يف قَاء حلب ‪ ،‬والبلدان التابعة هلا ‪،‬‬
‫َضمً عن النظر يف أمور ديواهنا ‪ ،‬وكان حميي الدين هذا ـ كما يصفه العماد ـ‪« :‬من أه الفَ ‪ ،‬وله نظم ‪ ،‬ونثر ‪،‬‬
‫وخطب ‪ ،‬وكانت معر ته ابلفقه يف أايم التفقه يف بغداد يف املدرسة النظامية منذ سنة ‪535‬هـ ‪1140‬م(‪ ، )2‬كما اعتمد‬
‫(‪)3‬‬
‫أقر على‬‫يف محاه ومحص قَاة اخرين من بين الشهرزوري أنفسهم ‪ .‬وعندما دخ املوص عام ‪566‬هـ ‪1170‬م هل‬
‫قَائها حجة الدين بن جنم الدين الشهرزوري»(‪.)4‬‬
‫وحران ‪ ،‬وغريها من مدن داير بكر‬ ‫ب ـ الشيخ شرف الدين أبو سعد بن أيب عصرون‪ :‬توىل قَاء سنجار ‪ ،‬ونصيبني ‪ ،‬هل‬
‫أشرف على تعيينهم بنفسه(‪ ،)5‬قد ولد ابملوص‬
‫‪ ،‬وأصبح هناك أشبه بقاضي القَاة ‪ ،‬ينوب عنه يف سائر املدن نـُ هلواب َ‬
‫سنة ‪492‬هـ أو ‪493‬هـ ‪1099‬م ‪ ،‬وتفقهله على مجاعة من العلماء ‪ ،‬وانتق إىل حلب سنة ‪545‬هـ ‪1150‬م ‪ ،‬مث‬
‫ودرس يف جامع دمشق ‪ ،‬وتوىل أوقاف املساجد ‪ ،‬مث‬ ‫قدم دمشق لدى دخول نور الدين إليها عام ‪549‬هـ ‪1154‬م هل‬
‫عدد كبريٌ من التضمميذ وانتفعوا‬
‫س على يديه ٌ‬ ‫ود َر َ‬
‫هلف ُكتُباً كثريًة يف الفقه ‪ ،‬واملذاهب ‪َ ،‬‬
‫رجع إىل حلب ‪ ،‬وأقام هبا ‪ ،‬وصن َ‬
‫األول ‪ ،‬ووصف أبنه من أ قه أه عصره ‪ ،‬وأنه إمام أصحاب الشا عي يومذاك ‪ ،‬وكان‬ ‫به ‪ ،‬وكان قيهاً من الطراز هل‬
‫متوحداً يف العلم والعم ‪ ،‬وسرعان ما تقدم عند نور الدين ‪ ،‬كلفه ابإلشراف على بناء املدارس يف حلب ‪ ،‬ومحص ‪،‬‬
‫وبعلبك ‪ ،‬وغريها ‪ ،‬مث ما لبث أن والهله قَاء داير بكر ومنحه ـ كما سبق وأن ذكران ـ صضمحيات واسعة(‪ .)6‬كما اعتمده‬
‫عام ‪566‬هـ ‪ 1170‬رسوالً إىل اخلليفة املستَيء يف بغداد(‪ .)7‬وقد تويف عام ‪ 585‬هـ ‪1189‬م(‪.)8‬‬
‫ْساً ‪ ،‬وال ُع ْشراً إال وأطلقها مجيعها يف‬
‫‪ 7‬ـ ر ع الَرائب واملكوس‪ :‬مل يرتك نور الدين يف بلد من بضمده ضريبة ‪ ،‬وال َمك َ‬
‫بضمد الشام ‪ ،‬واجلزيرة ‪ ،‬وداير مصر ‪ ،‬وغريها مما كان حتت حكمه ‪ ،‬قد كان املكس يف مصر يؤخذ من ك مئة دينار‬
‫مخسة وأربعون ديناراً؛ أي ‪ %45‬وهذا منه إلغاء للمكوس ‪ ،‬مل تتسع له نفس غريه(‪ .)9‬وكان رمحه هللا اندماً على ما اته‬
‫يف أمر املكوس ‪ ،‬قد روى أبو شامة‪ :‬أن «امللك العادل كان ير ع يديه إىل السماء ‪ ،‬ويبكي ‪ ،‬ويتَرع ‪ ،‬ويقول‪ :‬اللهم‬
‫املكاس‪ ...‬وكان قد دعا أحد معاونيه ـ مو ق الدين خالد ـ وقال له‪ :‬اقعد واكتب إبطضمق املؤمن ‪ ،‬واملكوس‬ ‫ارحم العشهلار هل‬
‫‪ ،‬واألعشار ‪ ،‬واكتب للمسلمني‪ :‬أين قد ر عت عنكم ما ر عه هللا تعاىل عنكم ‪ ،‬وأثبت ما أثبته هللا عليكم»(‪.)10‬‬
‫وقد أمر بقراءة املناشري يف مساجد األقاليم مجيعها على الناس‪ .‬روى أبو شامة‪« :‬أن امللك العادل نور الدين ملا دخ‬
‫املوص سنة ‪566‬هـ ‪ ،‬أمر إبسقاط مجيع املكوس ‪ ،‬والَرائب ‪ ،‬وأنشأ بذلك منشوراً يقرأ على الناس يه‪( :‬وقد قنعنا‬

‫(‪ )1‬الكام يف التاريخ نقضمً عن نور الدين حممود ص ‪.84‬‬


‫(‪ )2‬كتاب الروضتني نقضمً عن نور الدين حممود ص ‪.84‬‬
‫(‪ )3‬قَاة دمشق ص ‪ 47‬ـ ‪ 48‬نور الدين حممود ص ‪.84‬‬
‫(‪ )4‬الربق ص ‪ 97‬نور الدين حممود ص ‪.84‬‬
‫(‪ )5‬الربق ص ‪.100‬‬
‫(‪ )6‬و يات األعيان (‪ 53 / 3‬ـ ‪.)56‬‬
‫(‪ )7‬مراة الزمان (‪.)283 / 8‬‬
‫(‪ )8‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.85‬‬
‫(‪ )9‬عيون الروضتني يف أخبار الدولتني (‪.)362 / 1‬‬
‫(‪ )10‬كتاب الروضتني نقضمً عن اجلهاد والتجديد ص ‪.327‬‬

‫‪201‬‬
‫من األموال ابليسري من احلضمل ‪ ،‬سحقاً للسحت ‪ ،‬وحمقـاً للحرام احلقيق ابملقت ‪ ،‬وبعداً ملا يبعد من رضا الرب ‪ ،‬وقد‬
‫استخران هللا ‪ ،‬وتقربنا إليه إبسقاط ك مكس وضريبة ‪ ،‬يف ك والية لنا بعيدة ‪ ،‬أو قريبة ‪ ،‬وحمو ك سنة سيئة شنيعة ‪،‬‬
‫ونفي ك مظلمة ـظيعة ‪ ،‬وإحيـاء ك سنـة حسنـة‪ ...‬إيثاراً للثواب االج على احلطـام العاج )(‪.)1‬‬
‫وقرأ منشور آخر إبسقاط املكوس مبصر على املنرب يف القاهرة عام ‪567‬هـ بعد صضمة اجلمعة عند السلطان صضمح الدين‬
‫يف أايم نور الدين امراً له ‪ ،‬جاء يه‪« :‬وقد رأينا إسقاط املكوس الديوانية مبصر ‪ ،‬والقاهرة ‪ ،‬وأن نتجرد يها لنلبس‬
‫أثواب األجر الفاخرة ‪ ،‬ونطهر منها مكاسبنا ‪ ،‬ونكفي الرعية ضرهم‪ ...‬ونَع املكوس ضم تر عها من بعد يد حاسب‬
‫‪ ،‬وال قلم كاتب»(‪.)2‬‬
‫وهدد من ال يطيق ذلك من املسؤولني‪ :‬ومن أزاهلا زلهلت قدمه ‪ ،‬ومن أحلهلها ح هل دمه ‪ ،‬ومن قرأه أو قرأ عليه ليتمث ما‬
‫أمران به ‪ ،‬وليمَه مرضياً لربه ‪ ،‬ممَياً ملا أمر به(‪.)3‬‬
‫ومل تَ ُـر ْق هذه اخلطة يف إلغاء الَرائب لرجال الدولة ‪ ،‬احتج أسد الدين شريكوه بقوله‪ :‬األجناد الذين أتيت أرزاقهم من‬
‫أي‪ :‬رواتبهم ‪ ،‬أجابه نور الدين‪ :‬إن كنا نغزو من هذه اجلهات أي من هذه‬ ‫هذه اجلهات من أين تعطيهم أرزاقهم؟ ْ‬
‫املوارد‪ :‬نرتكها ‪ ،‬ونقعد ‪ ،‬وال خنرج(‪ !)4‬ومل يكتف نور الدين بذلك ‪ ،‬ب أمر خطباء املساجد أن يطلبوا من الناس‪ ،‬أن‬
‫يساحموه يما جيب منهم قبضمً من هذه الَرائب ‪ ،‬وكتب إىل اخلليفة كتاابً يعلمه مبا أطلق ‪ ،‬ومبقدار ما أطلق‪ ،‬ويسأله أن‬
‫ُّجار ‪ ،‬ومن مجيع املسلمني له يف ح ما كان قد وص إليه ‪ ،‬يعين من أمواهلم ‪،‬‬ ‫الوعاظ أبن يستحلوا من الت هل‬
‫يتقدم إىل هل‬
‫الوعاظ على املنابر ينادون بذلك(‪.)5‬‬
‫تقدهلم بذلك ‪ ،‬وجع هل‬
‫وعندما خرج ألخذ شيزر؛ خرج أبو غامن بن املنذر يف صحبته ‪ ،‬أمره نور الدين ـ رمحه هللا ـ بكتابة منشور إبطضمق‬
‫وحهلران ‪ ،‬وسنجار ‪ ،‬والرحبة‪ .‬وعزاز ‪ ،‬وت ابشر ‪ ،‬وعداد العرب ‪ ،‬كتب عنه توقيعاً‬ ‫املظامل حبلب ‪ ،‬ودمشق ‪ ،‬ومحص ‪َ ،‬‬
‫نسخته‪« :‬بسم هللا الرمحن الرحيم ‪ ،‬هذا ما تقرب به إىل هللا سبحانه وتعاىل صا حاً وأطلقه ساحماً ملن علم ضعفه من‬
‫الرعااي عن عمارة ما أخربته أيدي ال ُكفار ـ أابدهم هللا ـ عند استيضمئهم على البضمد ‪ ،‬وظهور كلمتهم يف العباد ‪ ،‬رأ ة‬
‫صهم هللا سبحانه بفَيلة اجلهاد ‪ ،‬واستمنحهم مبجاورة‬ ‫ابملسلمني املثاغرين(‪ ، )6‬ولطفاً ابلَعفاء املرابطني ‪ ،‬الذين َخ هل‬
‫ذَ َُ ذ ذ ُ َ‬
‫ِبون‬ ‫أه العناد ‪ ،‬اختباراً لصربهم ‪ ،‬وإعظاماً ألجرهم ‪ ،‬صربوا احتساابً ‪ ،‬وأجزل هللا هلم أجراً وثواابً‪﴿ :‬إ ِنما يوَّ ٱلص ِ‬
‫اب ‪[ ﴾١٠‬الزمر ‪ ]10 :‬وأعاد عليهم ما اغتصبوا عليه ‪ ،‬من أمضمكهم اليت أ اء هللا عليهم هبا ‪ ،‬من‬ ‫أَ ۡج َر ُهم ب َغ ۡۡي ح َ‬
‫ِس‬
‫ٖ‬ ‫ِ ِ‬
‫الفتوح العمريهلة ‪ ،‬وأقرها من الدولة اإلسضممية بعد ما طرأ عليها من الظلمة املتقدمني ‪ ،‬واسرتجعه بسيفه من الكفرة‬
‫املضمعني ‪ ،‬طمس عنهم بذلك معامل اجلور ‪ ،‬وهدم أركان التعدي ‪ ،‬وأقر احلق مقره ‪ ،‬لقوله تعاىل‪َ ﴿:‬من َجا ٓ َء ب ۡ َ‬
‫ٱۡل َس َنةِ‬ ‫ِ‬ ‫هل‬ ‫هل‬ ‫َْ‬

‫(‪ )1‬كتاب الروضتني نقضمً عن اجلهاد والتجديد ص ‪.328‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص ‪.328‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.238‬‬
‫(‪ )4‬كتاب الروضتني (‪.)67 / 1‬‬
‫(‪ )5‬كتاب الروضتني (‪.) 69/ 1‬‬
‫(‪ )6‬املثاغرين‪ :‬سكان الثغور‪.‬‬

‫‪202‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ذُ ُ َ ُ َ ََ ُٓ َ ذ‬ ‫َ‬ ‫ََُ َ ۡ ُ ََۡ‬
‫فلهۥ عۡش أمثال ِها َۖ﴾[األنعام‪﴿ ]160:‬وٱَّلل يض ِعف ل ِمن يشاء وٱَّلل وَِع عل ِيم ‪[ ﴾٢٦١‬البقرة‪ .]262:‬مث ملا أعانه هللا‬
‫بعونه وأيهلده بنصره ‪ ،‬وقمع به عادية الكفر ‪ ،‬وأظهر هبمته شعائر اإلسضمم ‪ ،‬وأظفره ابلفئة الطاعنة ‪ ،‬وأمكنه من ملوكها‬
‫َ َ َ ُٓ َ‬ ‫َۡ َ‬ ‫ين ُم َق ذرن َ‬ ‫ََ َ‬
‫ِني ِِف ٱۡل ۡصفادِ ‪ ٣٨‬هذا ع َطاؤنا‬ ‫اخر َ‬
‫الرقاد»‪﴿ :‬وء ِ‬ ‫الباغية ‪ ،‬جعلهم بني قتي غري مقاد ‪ ،‬وهارب ممنوع ُّ‬
‫ِإَون َ َُلۥ ع َ‬
‫ِندنَا ل َ ُزلۡ ََف َو ُح ۡس َن َ‬ ‫ذ‬ ‫َ ۡ ُۡ َۡ َۡ ۡ‬
‫ك ب َغ ۡۡي ح َ‬
‫اب ‪[ ﴾٤٠‬ص ‪ 38:‬ـ ‪ ، ]40‬علم‪ :‬أن الدنيا انية‬ ‫ٖ‬ ‫م‬ ‫‪٣٩‬‬ ‫اب‬
‫ٖ‬ ‫ِس‬ ‫فٱمَن أو أمسِ ِ ِ‬
‫دارة؛ إذا‬
‫‪ ،‬استخدمها لآلخرة الباقية ‪ ،‬واستبقى ملكه الزائ أبن قدهلمه أمامه‪ ،‬وجعله ذُخراً للمعاد ‪ ،‬التقوى مادة هل‬
‫ذ‬ ‫ۡ‬ ‫َ ۡ َ َۡ‬ ‫ۡ‬ ‫َ َ ُ َۡ‬
‫انقطعت املواد ‪ ،‬وجادة واضحة حني تلتبس اجلود‪﴿ :‬يَ ۡو َم َل ت ۡمل ِك نف ‪ٞ‬س ِنلَف ٖس شيا َۖ وٱۡلمر يومئ ِ ٖذ َِّللِ ﴾‪١٩‬‬
‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫وحرمها ع ك‬ ‫ابلَرائب واملكوس ‪ ،‬وأسقطها من دواوينه هل‬ ‫[االنفطار ‪ ]19:‬صفح لكا ة املسا رين ‪ ،‬ومجيع املسلمني هل‬
‫متطاول إليها ‪ ،‬ومتها ت عليها‪ ،‬جتنباً إلمثها ‪ ،‬واكتساابً لثواهبا ‪ ،‬كان مبلغ ما سامح به ‪ ،‬وأطلقه وأنفذ األمر يه ـ‬
‫تباعاً لكتاب هللا وسنة نبيه صلى هللا عليه وسلم ـ يف ك سنة من العني مئة ألف وستة ومخسني ألف دينار»(‪، )1‬‬
‫وكانت النتيجة الطبيعية لذلك‪ :‬أَ ْن نشط الناس للعم ‪ ،‬أخرج التجار أمواهلم ‪ ،‬ومَوا يتاجرون ‪ ،‬وجاءت اجلباايت‬
‫الشرعية أبضعاف ما كان جيَّب من وجوه احلرام ‪ ،‬بينما كان ما ألغاه من املكوس املستحدثة ال يزيد عن (‪)165000‬‬
‫مئة ومخسة وستني ألف دينار(‪.)2‬‬
‫نئذ من أن غايتها‬ ‫خلدون‪ :‬العدوان على الناس يف أمواهلم ذاهب آبماهلم يف حتصيلها ‪ ،‬واكتساهبا ملا يرونه حي ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫يقول ابن‬
‫ومصريها انتهاهبا من أيديهم ‪ ،‬وإذا ذهبت اماهلم يف اكتساهبا ‪ ،‬وحتصيلها؛ انقبَت أيديهم عن السعي يف ذلك ‪ ،‬وعلى‬
‫(‪)3‬‬
‫اق العمران ‪ ،‬وانتقَت األحوال‪ .‬ويقول‪:‬‬ ‫قدر االعتداء ‪ ،‬ونسبته يكون انقباض أيديهم عن املكاسب ‪ ،‬كسدت أسو ُ‬
‫العدوان على الناس يف أمواهلم ‪ ،‬وحرمهم ‪ ،‬ودمائهم ‪ ،‬وأسرارهم‪ ،‬وأعراضهم‪ ...‬يفَي إىل اخلل ‪ ،‬والفساد د عةً‪ ،‬وتنتقص‬
‫الدولة سريعاً(‪.)4‬‬
‫وكانت هناك أمور عديدة ساعدت نور الدين على إلغاء املكوس ‪ ،‬وأمهها على اإلطضمق تو يق هللا له ‪ ،‬قد رأى له‬
‫وقص ذلك عليه ‪ ،‬فكر ساعة ‪ ،‬مث أمره‬ ‫وزيره مو ق الدين خالد بن القيسراين الشاعر يف منامه‪ :‬أنه يغس ثيابه ‪ ،‬هل‬
‫هتجده يقول‪ :‬ارحم العشهلار املكاس ‪ ،‬وبعد أن أبط ذلك‬ ‫بكتابة إسقاط املكوس ‪ ،‬وقال‪ :‬هذا تفسري منامك‪ .‬وكان يف ُّ‬
‫استعج الناس يف ح ما أُخذ منهم ‪ ،‬وقال‪ :‬وهللا ما أخرجناه إال يف جهاد عدو اإلسضمم! يعتذر بذلك إليهم عن‬
‫أخذها منهم(‪.)5‬‬
‫ومن األسباب اليت كانت حمركة لنور الدين يف إبطال تلك املظامل ‪ ،‬واخلضمص من تلك املآمث موعظة أيب عثمان املنتخب‬
‫بن أيب حممد البحرتي الواسطي ‪ ،‬قد قال قصيدة يف نور الدين ‪ ،‬وقدمها له ‪ ،‬جاء يها‪:‬‬
‫ي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوم القيام ـ ـ ـ ـ ـ ـة والسمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاء مت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـور‬ ‫مث ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْ وقو ـ ـ ـ ـ ـك أيه ـ ـ ـ ـ ـا املغ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرور‬

‫(‪ )1‬كتاب الروضتني يف أخبار الدولتني (‪.)70 / 1‬‬


‫(‪ )2‬اجلهاد والتجديد ص ‪.329‬‬
‫(‪ )3‬املقدمة ص ‪ 286‬معوقات اجلهاد (‪.)422 / 1‬‬
‫(‪ )4‬املقدمة ص ‪.290‬‬
‫(‪ )5‬كتاب الروضتني يف أخبار الدولتني (‪.)54 / 1‬‬

‫‪203‬‬
‫ـ ـ ـ ـاحـ ـ ـذر ب ـ ـ ـأن تبق ـ ـ ـى ومال ـ ـ ـ ـ ـك ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـور‬ ‫إن قي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ن ـ ـ ـور الدي ـ ـ ـن رح ـ ـ ـت مسلهلم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً‬
‫ور‬
‫ك ـ ـ ـأس املظـ ـ ـ ـ ـال ـ ـ ـ ـ ـم طا ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌح خممـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫ت ع ـ ـ ـن شـ ـ ـرب اخلم ـ ـور وأنـ ـت م ـ ـ ـن‬ ‫أ ََهنَْيـ ـ ـ ـ ـ ـ َ‬
‫دور‬
‫ك كاس ـ ـ ـ ـ ـات احل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرام ت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫وعلي ـ ـ ـ َ‬ ‫ت كاسـ ـ ـ ـات امل ـُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدام تعفف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً‬ ‫عطهلْلـ ـ ـ ـ ـ َ‬
‫ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرداً وجـ ـ ـ ـ ـ ـاءك منك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـٌر ونكيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر‬ ‫مـ ـ ـ ـ ـ ـاذا تقـ ـ ـ ـول إذا نُقلـ ـ ـت إلـ ـى البلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـــ ـ ـ ـى‬
‫رور‬
‫ب جم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫يـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوم احلسـ ـ ـ ـ ـاب ُم َس هلح ـ ـ ـ ـ ـ ٌ‬ ‫ت ي ـ ـ ـك اخلص ـ ـ ـوم وأن ـ ـ ـ ـت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـــ ـ ـي‬ ‫وتَـ َعلهلق ـ ـ ـ ْ‬
‫ـ ـي ضي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـق اللُّحـ ـ ـ ـ ـ ـود ُم َو هلس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌد مقبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫ور‬ ‫ود وأنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت‬ ‫ت عنـ ـ ـ ـ ـك اجلنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫وتَـ َفرقَـ ـ ـ ـ ـ ْ‬
‫َيوم ـ ـ ـ ـاً وال قـ ـ ـ ـال األنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـام أمي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُر‬ ‫ت والي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة‬ ‫ماولْيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ‬
‫َوَود ْدت أنـ ـ ـ ـك َ‬
‫(‪)1‬‬
‫ـ ـ ـي عال ـ ـ ـ ـم املوتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى وأن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت حقي ـ ـ ـ ـ ـر‬ ‫وبقْي ـ ـ ـ ـ ـت بعـ ـ ـ ـد العـ ـ ـ ـ ـز َرْه ـ ـ ـ ـ ـ ـ َن ُحفي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرة‬
‫قَلق ـ ـ ـ ـ ـاً ومالـ ـ ـ ـ ـك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي األن ـ ـ ـ ـ ـ ـام ُجمي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر‬ ‫رت ُعراين ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً حزين ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً ابكيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً‬ ‫َو ُحشـ ـ ـ ـ ـ َ‬
‫ور‬
‫عا ـ ـ ـ ـ ـ ـي اخل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراب وجسم ـ ـ ـ ـ ـك املعم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫دارس‬
‫ت أن حتي ـ ـ ـ ـ ـا وقَـ ْلبُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك ٌ‬ ‫أَرضيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ‬
‫أب ـ ـ ـ ـداً وأن ـ ـ ـ ـت ُمبَـ هلعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌد مهجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـور‬ ‫أرضيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت أن حيظ ـ ـ ـ ـ ـى سـ ـ ـ ـ ـواك ب ُقرب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬
‫ور‬
‫يـ ـ ـوم املَع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاد لعل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك املَْع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُذ ُ‬ ‫مه ـ ـ ـ ـ ـ ـد لنفسـ ـ ـ ـ ـك ُح هلج ـ ـ ـ ـ ـةً تنج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـو هب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬
‫وكان هذا الرج من الصاحلني الكبار ‪ ،‬لما مسعها نور الدين؛ بكى وأمر بوضع املكوسات والَرائب يف سائر‬
‫بضمده(‪.)2‬‬
‫رحم هللا الواعظ واملتعظ ‪ ،‬وو ق من أراد االقتداء هبم!‬
‫‪ 8‬ـ وما قي من الشعر يف عدله‪:‬‬
‫قال ابن منري‪:‬‬
‫وج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدد ُك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُّ بـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـال‬ ‫م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن الدني ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ُ‬ ‫بنـ ـ ـ ـ ـ ـور الديـ ـ ـ ـ ـ ـن ُروض ك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُّ َْحمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ‬
‫ع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلوض عاطـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمً منـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه حب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـال‬ ‫وصـ ـ ـ ـ ـ ـ هلوب َع ْدلُـ ـ ـ ـ ـ ـه ـ ـ ـ ـ ـ ـي ُك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ‬
‫أوب‬ ‫ََ‬
‫ويَـ ْقتُـ ـ ـ ـ ـ ُ خو ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه قب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ القت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـال‬ ‫ويُنك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي رأيُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ رأي احملام ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي‬
‫(‪)3‬‬
‫يفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوت َسنامـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه يَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َد ُك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ قـ ـ ـ ـ ـ ـال‬ ‫لق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد أحص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َدت لإلسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمم ع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـزاً‬
‫وقال أيَاً‪:‬‬
‫ٍ‬
‫مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن بعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد م ـ ـ ـ ـ ـ ـا َعلَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـق دم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً َع َرباتُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ‬ ‫ودهُ‬‫وانْتـ ـ ـ ـ ـ ـاش دي ـ ـ ـ ـ ـ َن حمم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد حممـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫ثبات ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن دونـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه وثباتـُ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ‬ ‫رددت عل ـ ـ ـى اإلسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمم عص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـَر شباب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬ ‫َ‬
‫ص ُعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـداً وشيهل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َد س ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوره سوراتـُ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ‬ ‫ُ‬ ‫ومـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلد عمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َادهُ‬ ‫أرسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى قواع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـده َ‬
‫(‪)4‬‬
‫وصضمتـُ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ‬‫إصضمتُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ وصضمتُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ َ‬ ‫وأع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاد وجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه احل ـ ـ ـ ـ ـق أبيـ ـ ـ ـ ـض انصع ـ ـ ـ ـ ـ ـاً‬

‫(‪ )1‬أخبار الروضتني (‪.)56 / 1‬‬


‫(‪ )2‬البداية والنهاية (‪.)489 / 16‬‬
‫(‪ )3‬كتاب الروضتني نقضمً عن شعر اجلهاد الشامي ص ‪.167‬‬
‫(‪ )4‬شعر اجلهاد الشامي ص ‪.168‬‬

‫‪204‬‬
‫وقال أيَاً‪:‬‬
‫لل ـ ـ ـ ـ ـ ـه م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ءُ سري ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـره أس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر ُار‬ ‫ال أتمن ـ ـ ـ ـوا ـ ـ ـ ـي اللـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه بطشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة اثئ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر‬
‫(‪)1‬‬
‫إن خـ ـ ـ ـ ـ ـاف ُحكـ ـ ـ ـ ـ ـام املل ـ ـ ـ ـوك وجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاروا‬ ‫اف إذا ُك ـ ـ ـ ـد َر املع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاد ُن عـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاد ٌل‬ ‫صـ ـ ـ ـ ـ ٍ‬
‫وقال أيَاً‪:‬‬
‫ب ابملعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـروف أنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـف املنـ ـكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر‬ ‫اجتَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هل‬
‫وْ‬ ‫ت َمـ ـ ْن مـ ـ ـأل البسيطـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة َع ْدلُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ‬ ‫أ ََولَ ْس ـ ـ َ‬
‫ُ‬
‫األم احلفيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة ابليتي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم األصغـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر‬ ‫دب األب الب ـ ـ ـ ـ ـ ـر الكبي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر ورأ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة‬ ‫حـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫(‪)2‬‬
‫ول عنه ـ ـ ـ ـ ـ ـا يَ ْك ُف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر‬ ‫أيم ـ ـ ـ ـ ـ ْن ‪ ،‬وَمـ ـ ـ ـ ـ ـ ْن يَـتَ ـ ـ ـ هل‬ ‫َ‬ ‫اي هَبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة اإلسـ ـ ـ ـضمم م ـ ـ ـ ـن يعص ـ ـ ـم هب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬
‫َ‬
‫وقال أيَاً‪:‬‬
‫هلاخت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َذ الكت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاب مظاه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراً ووزيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرا‬ ‫ك حممـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـود الـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـذي‬ ‫ك إال ُم ْل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬‫ال ُم ْلـ ـ ـ ـ ـ َ‬
‫أتْمتَُّه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلن يحكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم التقدي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرا‬ ‫أحكامـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ‬
‫ُ‬ ‫متش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي وراء ح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدوده‬
‫(‪)3‬‬
‫ج ـ ـ ـ ـاءت ل َمطْ ـ ـ ـ ـ ـ ـوي السم ـ ـ ـ ـ ـ ـاح نشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوزا‬ ‫يقظـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـان ينش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر َع ْدلَـ ـ ـ ـ ـ ـهُ يف دولـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة‬
‫وقال أيَاً‪:‬‬
‫ه ـ ـ ـ ـ غيـ ـ ـ ـ ـ ـر مفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرق هام ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة الفج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر‬ ‫يـ ـ ـ ـا سائل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي عـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن هن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـج سريت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬
‫(‪)4‬‬
‫أن حييـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي العمريـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ابلذكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر‬ ‫دل حقي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌق مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن أتملُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬
‫عـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ‬

‫وقال أيَاً‪:‬‬
‫وم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـال هبـ ـ ـ ـ ـ ـا ع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن األمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوال زهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُد‬ ‫ثن ـ ـ ـ ـ ـى ي ـ ـ ـ ـده ع ـ ـ ـ ـ ـن الدني ـ ـ ـ ـا عفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاف‬
‫ـ ـ ـأه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدر مـ ـ ـ ـ ـ ـا أنشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاه بعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد‬ ‫ط املكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوس ع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن الرعاي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬ ‫رأى ح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ًّ‬
‫(‪)5‬‬
‫وقـ ـ ـ ـ ـ ـد طُـ ـ ـ ـ ـ ـوي ال ـ ـ ـ ـرواق ومـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن مي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُّد‬ ‫وم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلد هلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا رواق العـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدل شرع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً‬
‫(‪)6‬‬
‫لدولت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه دعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاء ال يـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُّرد‬ ‫وب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـات وعن ـ ـ ـ ـ ـ ـد بـ ـ ـ ـاب العـ ـ ـ ـ ـرش منه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬
‫وقال العماد األصفهاين يف عدله‪:‬‬
‫امله ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬
‫م ـ ـ ـ ـ ـن عدلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه رعـ ـ ـ ـت األسـ ـ ـ ـود م ـ ـ ـ ـ ـع َ‬ ‫اي حميـ ـ ـ ـ ـ َي العـ ـ ـ ـ ـدل ال ـ ـ ـ ـذي ـ ـ ـ ـي ظل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬
‫(‪)7‬‬
‫لبهائهـ ـ ـ ـ ـ ـا ضح ـ ـ ـ ـك الزمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـان وقهقهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬ ‫ود م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن أايم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬
‫ود احملم ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫حمم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ‬

‫(‪ )1‬شعر اجلهاد الشامي يف مواجهة الصليبيني ص ‪.170‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص ‪.170‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.171‬‬
‫(‪ )4‬عيون الروضتني (‪.)287 ، 386 / 1‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه (‪.)388 / 1‬‬
‫(‪ )6‬عيون الروضتني (‪.)388 / 1‬‬
‫(‪ )7‬شعر اجلهاد الشامي يف مواجهة الصليبيني ص ‪.174‬‬

‫‪205‬‬
‫ص على بناء جمتمع العدل ‪ ،‬والقوة ‪ ،‬وسوف أييت احلديث إبذن هللا عن اهتمام‬ ‫إن امللك العادل نور الدين زنكي ‪َ ،‬حر َ‬
‫شك‪ :‬أن القوة العسكرية ال ميكن بناؤها يف جمتمع ضعيف ‪ ،‬هي جانب من جوانب‬ ‫نور الدين ابلقوة العسكرية ‪ ،‬وال هل‬
‫املدنيهلة املتكاملة ‪ ،‬اجملتمع القوي عسكرايً يلزم أن يكون قوايً يف صناعاته األخرى ‪ ،‬ألن األمن العسكري حيتاج إىل‬
‫األمن الثقايف ‪ ،‬واألمن الغذائي ‪ ،‬واألمن الصحي(‪ ، )1‬وهذه األمور َعم َ نور الدين على تو ريها كما سيأيت بيانه ‪ ،‬إبذن‬
‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ُ‬ ‫ذ‬ ‫َ‬ ‫ََ ََۡ َ َ ُ ُ ۡ َ َ َ ۡ َ َ َُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ ۡ َۡ َ َۡ ُ ُ ََ ۡ‬
‫ت وأنزنلا معهم ٱلكِت ُّ وٱل ِمزيان ِۡلقوم ٱنلاس بِٱلقِس ِ ِۖ‬
‫ط‬ ‫هللا‪ .‬قال تعاىل‪﴿ :‬لقد أرَلنا رَلنا بِٱَليِن ِ‬
‫ذ ذَ َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ َََۡ ذُ َ َ ُ ُُ َ ُ ُ َُ َۡ‬ ‫ذ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َۡ ‪ٞ َ ٞ‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ ََۡ ۡ‬
‫ ُّ إِن ٱَّلل قوِي‬‫اس و ِۡلعلم ٱَّلل من ينُصِهۥ ورَلهۥ بِٱلغي ِ‬ ‫وأنزنلا ٱۡلدِيد فِيهِ بأس شدِيد ومنفِع ل ِلن ِ‬
‫يز ‪[ ﴾ ٢٥‬احلجر‪ . ]25 :‬هذه اآلية الكرمية توضح األسس الضمزمة لبناء جمتمع قوي متحَر‪ ،‬يقوم على العدل ‪ ،‬والقوة‬ ‫َعز ‪ٞ‬‬
‫ِ‬
‫‪ ،‬الكتاب وامليزان إلقامة العدل ‪ ،‬واحلديد إلجياد القوة ‪ ،‬اليت حتمي العدل ‪ ،‬وتكف استمراره ‪ ،‬ولو أردان حتوي هذا‬
‫الشرح إىل لغة لقلنا‪ :‬إن اآلية تشري إىل أن اجملتمع املتحَر ينبغي أن تتو ر له اإليدلوجية الصاحلة ‪ ،‬زائد التكنيك املتقدم‬
‫‪ ،‬اإليديولوجية حتفظ البنية االجتماعية متماسكة ‪ ،‬بعيدة عن التجزئة والتشرذم ‪ ،‬ومتنحها األهداف ‪ ،‬ووحدة احلركة ‪،‬‬
‫والتصميم ‪ ،‬واإلرادة ‪ ،‬ومتنع ذوابهنا يف البىن االجتماعية املغايرة يف العقيدة ‪ ،‬والفكر ‪ ،‬والتنظيم االجتماعي ‪ ،‬واالقتصادي‬
‫ص التقدُّم على االخرين ‪ ،‬علمياً وصناعياً ‪ ،‬ليس من أج إذالهلم ‪ ،‬واستعمارهم ‪ ،‬اإليديولوجية‬ ‫‪ ،‬والتكنيك مينحها ُـَر َ‬
‫اإلسضممية ال تسمح بذلك ‪ ،‬ب إلقامة العدل يف األرض ‪ ،‬بعد إقامته يف اجملتمع اإلسضممي ‪ ،‬مث لَمان استمرار العدل‬
‫‪ ،‬الذي أرس هللا تعاىل الرس ـ صلوات هللا وسضممه عليهم ـ لبيانه ‪ ،‬ووضع املوازين احلق له ‪ ،‬نزول الكتب السماوية ‪،‬‬
‫وخامتها القران الكرمي ‪ ،‬يهدف إىل تثبيت موازين العدالة ‪ ،‬وبيان األسباب والوسائ الضمزمة لتحقيقها ‪ ،‬الناس يقومون‬
‫ابلعدل ‪ ،‬وحييون ابألم ويسعون ابألمن‪ ،‬وينتفعون ابلعم واإلنتاج(‪.)2‬‬
‫هل‬
‫إن العدل الشام ال يتحقهلق ‪ ،‬إال بتطبيق شرع هللا تطبيقاً قائماً على الفهم الصحيح ‪ ،‬للكتاب والسنة واملعر ة الدقيقة‬
‫ابلواقع من انحية ‪ ،‬ومبقاصد الشريعة اإلسضممية من انحية أخرى ‪ ،‬وهو أمر اليتحقهلق إال بتكوين العدد املناسب من‬
‫العلماء اجملتهدين الناهبني(‪.)3‬‬
‫رابعاً ـ مكانة العلماء يف دولة نور الدين حممود‪:‬‬
‫أن من أسباب النهوض وجود القيادة الرابنية ‪ ،‬هي اليت تستطيع أن تنتق بفَ هللا‬ ‫هم نور الدين حممود زنكي‪ :‬هل‬
‫وتو يقه ابألمة حنو أهدا ها املرسومة خبطوات اثبتة ‪ ،‬وكان على قناعة اتمة أبمهية وجود العلماء الرابنيني على رأس القيادة‬
‫أن حترير األرض ‪ ،‬وتوحيدها ليس عمضمً سياسياً أو‬ ‫الرابنية ‪ ،‬هم قلبُها ‪ ،‬وعقلها املفكر ‪ ،‬نور الدين زنكي يعرف‪ :‬هل‬
‫عسكرايً حسب ‪ ،‬ب إنه أوسع من ذلك بكثري ‪ ،‬إنه مواجهة املذهب الشيعي الرا َي الباطين ‪ ،‬والذي كان ابلفع‬
‫خطراً داخلياً يهدد عقيدة األمة وسضممة دينها ‪ ،‬والصراع احلَاري مع الغرب األورويب النصراين ‪ ،‬أي‪ :‬بني أمة وأمة ‪،‬‬

‫(‪ )1‬اإلسضمم والوعي احلَاري د‪ .‬أكرم العمري ص ‪.115‬‬


‫(‪ )2‬اإلسضمم والوعي احلَاري ص ‪.117‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.117‬‬

‫‪206‬‬
‫وإنه وبدون أتصي (الذات العقائدية) لألمة املسلمة ‪ ،‬لن تكون انتصاراهتم على اخلصم سوى أعماالً جزئية موقوتةَ‬
‫ُم َعهلرضة دوماً للمد واجلزر ‪ ،‬وللتغيري والتبدُّل كما كان حيدث دائماً‪.‬‬
‫وما يقتَيه هذا املوقف ليس جمرد انتصار خارجي يف معركة أو اسرتداد حصن ‪ ،‬إمنا بناء أمة مقاتلة تعرف كيف حتمي‬
‫وجودها العقائدي ‪ ،‬وحتفظ حدود شخصيتها احلَارية من أن تتفتت ‪ ،‬أو تَيع ‪ ،‬وحينذاك سوف يتحول ك عنصر‬
‫عسكري ‪ ،‬أو كسب سياسي ‪ ،‬إىل إجناز بنائي يزيد اجملتمع املقات قوة وأصالة ومتاسكاً ‪ ،‬ال جمرد تكديس شيء ال‬
‫ت للَربة والَربتني ‪ ،‬ولكن ابلثالثة ‪ ،‬أو الرابعة ينهار ‪ ،‬تذهب مع اهنياره جهود‬ ‫كمي يَـثْـبُ ُ‬
‫تكديس ٌّ‬
‫ٌ‬ ‫يشدُّه الرابط‪:‬‬
‫السنني الطوال ‪ ،‬وعرقها ‪ ،‬ودماؤها هدراً(‪.)1‬‬
‫هادف»‬
‫ٌ‬ ‫تصميم‬
‫النشاط العلمي يف عصر نور الدين مل يكن أبداً تر اً كرايً ‪ ،‬وال إ رازاً تقليدايً ألجهزة الدولة ‪ ،‬لكنهله « ٌ‬
‫ثقايف وتر ٍ‬
‫بوي واسع النطاق ‪ ،‬يرتبط به الفكر ابلسلوك ‪ ،‬والعلم‬ ‫يسعى إىل عملية «التأصي العقائدي» من خضمل نشاط ٍ‬
‫ابلعم ‪ ،‬وتزول حواجز الفص واالزدواج ‪ ،‬وتنمحي الثنائيات ‪ ،‬ويربز إىل حيز التاريخ «اإلنسان» املتوازن الذي أراده‬
‫بد أن يشرف على‬ ‫اإلسضمم ‪ ،‬و(اجلماعة) املؤمنة اليت دعا إليها كتاب هللا وسنة رسوله(‪ ، )2‬وهذا اإلنسان املتوازن ال هل‬
‫إخراجه قيادةٌ رابنية ‪ ،‬على رأسها العلماء الرابنيني‪.‬‬
‫نفسهُ عاملاً قب أن يكون حاكماً ‪ ،‬وكان هذا نقطة البدء ‪ ،‬وحجر الزاوية(‪ )3‬قد كان يعشق العلم‪،‬‬ ‫وقد كان نور الدين ُ‬
‫ف منهم(‪ ،)4‬وكان العلماء عنده يف‬ ‫ويسعى وهو يف قمة السلطة إىل التشبُّه ابلعلماء والصاحلني ‪ ،‬واالقتداء بسرية َم ْن َسلَ َ‬
‫املنزلة األوىل ‪ ،‬واحمل العظيم(‪ُْ ،)5‬حيَرهم إىل جملسه ‪ ،‬يدنيهم ‪ ،‬ويتواضع هلم ‪ ،‬وإذا أقب أحدهم إليه يقوم له ُمذ تقع‬
‫(‪)6‬‬
‫جملسه ندوًة كبرية جيتمع إليها العلماء‬
‫عينه عليه ‪ ،‬وجيلسه معه ‪ ،‬ويقب عليه بكليته تعظيماً ‪ ،‬وتوقرياً ‪ ،‬واحرتاماً ‪ ،‬وكان ُ‬
‫‪ ،‬والفقهاء للبحث والنظر(‪ .)7‬وكان نور الدين عار اً مبذهب أيب حنيفة ‪ ،‬ملتزماً به من غري تعص ٍ‬
‫ب منه ‪ ،‬وال حتيُّ ٍز ‪،‬‬
‫املذاهب عنده ـ كما أمجع املؤرخون كا ةً ـ سواءٌ ‪ ،‬واإلنصاف سجيته يف ك شيء(‪.)8‬‬
‫مسع احلديث حىت حص على اإلجازة العلمية اليت تتيح له أن يُ ْسم َعه لآلخرين‪ ...‬ولقد مارس مهمة التحديث هذه‬
‫رغم كثا ة عمله السياسي ‪ ،‬والعسكري‪ ،‬حماولة منه يف تعزيز مكانة (السنهلة) ونشرها ابحلفظ ‪ ،‬واألداء ‪ ،‬والتحديث(‪،)9‬‬
‫كما ألهلف كتاابً يف اجلهاد ‪ ،‬وأوقف كتباً كثرية يف مدارسه ‪ ،‬وكان حسن اخلط ‪ ،‬كثري املطالعة للكتب الفقهيهلة متميزاً‬
‫(‪)10‬‬

‫(‪ )1‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.139‬‬


‫(‪ )2‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.130‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.131‬‬
‫(‪ )4‬كتاب الروضتني نقضمً عن نور الدين حممود ص ‪.35‬‬
‫(‪ )5‬مفرج الكروب (‪ )283 / 1‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.35‬‬
‫(‪ )6‬الباهر ص ‪ 171‬ـ ‪ 171‬نور الدين حممود ص ‪.36‬‬
‫(‪ )7‬الباهر ص ‪ 171‬ـ ‪ 173‬نور الدين حممود ص ‪.36‬‬
‫(‪ )8‬الباهر ص ‪.165‬‬
‫(‪ )9‬الكواكب ص ‪ 56‬ـ ‪ 57‬الباهر ص ‪ 165‬ـ ‪.166‬‬
‫(‪ )10‬مراة الزمان (‪ )313/ 8‬نور الدين حممود ص ‪.36‬‬

‫‪207‬‬
‫أن هذا التوجه العلمي عند نور الدين أثهلر على سياسته التعليمية ‪،‬‬ ‫بعقله املتني ‪ ،‬ورأيه الثاقب الرزين(‪ .)1‬وال شك‪ :‬هل‬
‫والرتبوية اليت شهدهتا دولته(‪.)2‬‬
‫إن أمةً يسوسها العلماء ‪ ،‬واملتخصصون ميكن أن تينع ‪ ،‬وتزهر يها شجرة املعر ة ‪ ،‬ويوم نرى هذه الشجرة تذب ‪،‬‬ ‫هل‬
‫وتنفض عنها أوراقها الصفراء؛ لنا أن حنكم أبن هنالك يف القمة حفن ًة من اجلهضمء‪.‬‬
‫هل‬ ‫وتذوي ‪،‬‬
‫إن جهود نور الدين حممود يف دعم ال علماء ‪ ،‬واحرتامهم ‪ ،‬و تح مؤسسات الدولة لضمستفادة منهم تذكران مبنهج عمر‬ ‫هل‬
‫بن عبد العزيز ‪ ،‬يمكن أن نطلق على دولة عمر بن عبد العزيز دولة العلماء ‪ ،‬كما هل‬
‫أن يف دولة نور الدين مكانة للعلماء‬
‫‪ ،‬غري مسبوقة ابلنسبة ملن سبقه من السضمجقة ‪ ،‬أو احلكام الذين حوله‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ تقدميه للعلماء على األمراء‪ :‬كان أمراء نور الدين حيسدون العلماء ‪ ،‬والفقهاء على مكانتهم عنده ‪ ،‬كان إذا أعطى‬
‫أحداً منهم شيئاً مستكثراً يقول ألصحابه‪« :‬هؤالء جند هللا ‪ ،‬وبدعائهم ننتصر على األعداء ‪ ،‬وهلم يف بيت املال حق‬
‫أضعاف ما أعطيهم ‪ ،‬إذا رضوا منا ببعض حقهم؛ لهم املنة علينا»(‪.)3‬‬
‫وكان هؤالء األمراء حياولون أحياانً اإليقاع برجال الدين‪ ،‬والعلماء عند نور الدين‪ ،‬ينهاهم ‪ ،‬وإذا نقلوا عن إنسان عيباً‬
‫رده على بعض أكابر األمراء ‪ ،‬عندما حاول الني من الفقيه‬ ‫يدا ع عنه ‪ ،‬ويقول هلم‪ :‬من املعصوم؟ ويكفينا هنا أن نذكر هل‬
‫قطب الدين النيسابوري(‪ ، )4‬وكان نور الدين قد استقدمه من خراسان وابلغ يف إكرامه ‪ ،‬واإلحسان إليه ‪ ،‬قال نور‬
‫إن ما تقوله له حسنة تغفر له ك ز ٍلة تذكرها ‪ ،‬وهي العلم والدين ‪ ،‬وأما أنت وأصحابك فيك‬ ‫الدين له‪« :‬اي هذا! هل‬
‫أضعاف ما ذكرت ‪ ،‬وليست لكم حسنة تغفرها ‪ ،‬لو عقلت؛ لشغلك عيبك عن غريك ‪ ،‬وأان أحتم سيئاتكم مع عدم‬
‫صحت ـ مع وجود حسناته؟ على أنين وهللا ال أصدقك يما تقول ‪ ،‬وإن عدت‬ ‫حسناتكم ‪ ،‬أ ضم أحتم سيئة هذا ـ إن هل‬
‫ذكره ‪ ،‬أو غريه بسوء؛ ألوذينهلك! كف عنه»(‪.)5‬‬
‫‪ 2‬ـ البذل والعطاء للعلماء‪ :‬مل يقف نور الدين يف تعامله مع العلماء عند حدود التشجيع األديب ‪ ،‬والعضمقة الودية ‪،‬‬
‫والكلمة الطيبة ‪ ،‬ولكنه جتاوز هذا ـ على أمهيته ـ إىل البذل والعطاء ‪ ،‬كان مينحهم بسخاء؛ ألن هذه الفئة املمتازة جيب‬
‫أن تظ عزيزة اجلانب‪ ،‬وأال تلجئها الَرورات القاسية إىل أن تنزل درجات إىل أسف ‪ ،‬تحين رأسها ‪ ،‬وتلوي كرها ‪،‬‬
‫أو تتملق ‪ ،‬وتداهن ‪ ،‬وتغش وتكذب طلباً لألجر وسداً للحاجة ‪ ،‬ويدرك يف الوقت نفسه كم هي عظمة اجلهود اليت‬
‫يبذهلا هؤالء الرجال(‪.)6‬‬
‫يسد حاجتهم الَرورية ‪،‬‬‫إن أمة تريد من علمائها أن يعطوها مثار قرائحهم صا ية خالصة عليها أال تبخ عليهم مبا ُّ‬ ‫هل‬
‫ويفيض عليها لكي ال تشدهلهم إىل أسف ‪ ،‬ولكي تظ رؤوسهم مر وعة إىل وق ‪ ،‬ضم يشغلهم شيء يف حبثهم عن‬
‫احلقيقة ‪ ،‬وال تتدىل هبم حاجة عن املواقع اليت بلغوها بعلمهم ‪ ،‬كان نور الدين إذا أعطى أحداً منهم الشيء الكثري‬

‫(‪ )1‬كتاب الروضتني نقضمً عن نور الدين حممود ص ‪.36‬‬


‫(‪ )2‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.39‬‬
‫(‪ )3‬البداية والنهاية نقضمً عن دور الفقهاء والعلماء يف الشرق األدىن ص ‪.122‬‬
‫(‪ )4‬دور الفقهاء والعلماء يف الشرق األدىن ص ‪.123‬‬
‫(‪ )5‬الباهر نقضمً عن نور الدين حممود ص ‪.134‬‬
‫(‪ )6‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.140‬‬

‫‪208‬‬
‫يقول‪« :‬هؤالء جند هللا ‪ ،‬وبدعائهم ننتصر على األعداء وهلم يف بيت املال أضعاف ما أعطيهم ‪ ،‬إذا رضوا منا ببعض‬
‫حقهم؛ لهم املنهلة علينا»(‪ ، )1‬ومل يبخ عليهم بتخصيص أوقاف ضخمة على املدارس ‪ ،‬وعلمائها حىت حتفظ هلم حياة‬
‫كرمية‪.‬‬
‫وسع نور الدين نطاق (اخلدمات العلمية) للدولة ‪ ،‬ومنح الَماانت الكا ية للمدرسني والدارسني على السواء ‪،‬‬ ‫وقد هل‬
‫ومك َن العلماء مبا خصصه هلم من أعطيات ‪ ،‬من أن يتفرغوا ملهامهم العلمية(‪ ، )2‬وهذا املنهج من هدي عمر بن عبد‬ ‫هل‬
‫التفرغ للعلماء ‪ ،‬والدعاة ‪ ،‬واملفكرين؛ كي يتيح هلم التفرغ الكام إلجناز مشاريع كريهلة دعويهلة‬
‫العزيز ‪ ،‬قد وضع قانون ُّ‬
‫‪ ،‬تلك اليت يعكفون عليها ابختيار أو بتوجيه من الدولة ‪ ،‬أجرى األرزاق على العلماء ‪ ،‬ورتهلب هلم الرواتب؛ ليتفرغوا‬
‫لنشر العلم ‪ ،‬ويكفوا مؤونة االكتساب(‪ ، )3‬وهذا الفع من نور الدين حممود ‪ ،‬وعمر بن عبد العزيز من أسباب التمكني‬
‫املادية ‪ ،‬األعمال العظيمة حتتاج إىل أوقات كبرية ‪ ،‬وجهود ضخمة ‪ ،‬ومهم عالية ‪ ،‬ولذلك تَطر األمة الواعية إىل مبدأ‬
‫كيز على جانب يتَخم بينما هتم اجلوانب‬ ‫التفرغ مع التنوع والتكام ؛ حىت هل‬
‫تسد ك الثغرات اليت حتتاجها ‪ ،‬وال يقع تر ٌ‬
‫األخرى ‪ ،‬وال بد من تو ري املال الضمزم هلذه املشاريع؛ ألهنا من أعظم القرابت إىل هللا ـ تعاىل ـ كما جيوز أخذ مال الزكاة‪،‬‬
‫أو الصدقة‪ ،‬أو الوقف‪ ،‬أو الوصية‪ ،‬أو اهلبة‪ ،‬أو اهلدية لسد هذه الثغرات املهمة ‪ ،‬وينبغي أيَاً تو ري ك ما حيتاجه‬
‫املتفرغ وذويه من األجر الكايف؛ حىت يتفرغ للعطاء والبذل مع مراعاة عدم اإلسراف‪ ،‬والبذخ ‪ ،‬وال بد من اخلوف من‬
‫هللا تعاىل عند اختيار املتفرغ ‪ ،‬حبيث يوضع الرج املناسب يف املكان املناسب ‪ ،‬دون حمبة لعم ٍرو ‪ ،‬أو زيد(‪ ، )4‬قال‬
‫ۡٱۡلَمِنيُ‬ ‫َۡ‬
‫ٱلقوِ ُّي‬
‫ۡ َ َ َ‬
‫ج ۡرت‬ ‫ٱَت‬ ‫َم ِن‬ ‫َخ ۡ َ‬
‫ۡي‬
‫ذ‬
‫﴿إِن‬ ‫تعاىل‪:‬‬
‫‪[﴾٢٦‬القصص ‪. ]26 :‬‬
‫يسرت أمام نور الدين سبي النجاح‪ :‬أنه مل يبدأ من راغ ‪،‬‬ ‫‪ 3‬ـ اهتمامه بعلماء املدارس النظامية‪ :‬من أهم العوام اليت هل‬
‫وإمنا استفاد من جهود املدارس النظامية ‪ ،‬اليت أسسها نظام امللك الوزير السلجوقي الشهري ‪ ،‬وقد حتدهلثت عنها بنوع‬
‫من التفصي يف كتايب‪( :‬دولة السضمجقة واملشروع اإلسضممي ملقاومة التغلغ الباطين والغزو الصلييب) ‪ ،‬قد انتفع امللك‬
‫العادل نور الدين حممود ‪ ،‬مبا حققته املدارس النظامية من نتائج ابهرة ‪ ،‬واليت يف مقدمتها ختريج جي ٍ يعي حقيقة الصراع‬
‫‪ ،‬واألخطار احمليطة به من ابطنية ‪ ،‬وصليبية ‪ ،‬وهو مؤه أبن حيم على عاتقه مهمة الدعوة للمذهب السين‪ ،‬واالنتصار‬
‫له والد اع عنه ‪ ،‬وقد استفا د نور الدين من عدد كبري من هؤالء العلماء ‪ ،‬الذين خترجوا من النظاميات ‪ ،‬ومنهم‪:‬‬
‫«القاضي كمال الدين الشهرزوري ‪ ،‬والذي كان مبثابة وزير له ‪ ،‬والقاضي شرف الدين بن أيب عصرون ‪ ،‬الذي أنشأ له‬
‫نور الدين عدهلة مدارس يف أماكن خمتلفة ‪ ،‬والعماد األصفهاين الذي عم مدرساً يف بعض مدارس دمشق ‪ ،‬إىل جانب‬
‫قيامه برائسة ديوان اإلنشاء لنور الدين يف رتة من الفرتات ‪ ،‬والقطب النيسابوري الذي كان له دور يف نشر السنة حبلب‬
‫عن طريق التدريس ابملدرسة النفرية النورية ‪ ،‬مث أكم رسالته التعليمية يف دمشق عندما انتق نور الدين إليها ‪ ،‬وعبد‬

‫(‪ )1‬الباهر ص ‪ 173‬البداية والنهاية نقضمً عن نور الدين حممود ص ‪.141‬‬


‫(‪ )2‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.141‬‬
‫(‪ )3‬اخلليفة الراشد واملصلح الكبري عمر بن عبد العزيز ص ‪.265‬‬
‫(‪ )4‬أولوايت احلركة اإلسضممية ص ‪ 193‬قه النصر والتمكني ص ‪.272‬‬

‫‪209‬‬
‫ودرس ببعض مدارس‬ ‫الرحيم بن رستم أبو الفَائ الزجناين الشا عي (ت ‪ 563‬هـ) الذي واله نور الدين قَاء بعلبك ‪ ،‬هل‬
‫دمشق»(‪.)1‬‬
‫وأصبحت الشام يف عهد نور الدين ‪ ،‬واأليوبيني مركزاً هلجرة كث ٍري من العلماء ‪ ،‬من أحناء شىت من العامل اإلسضممي ‪،‬‬
‫وشارك كثري منهم يف اجلهود اليت قام هبا نور الدين ‪ ،‬وهو ميكن ملذهب أه السنة(‪.)2‬‬
‫‪ 4‬ـ هجرة العلماء إىل دولة نور الدين حممود‪ :‬شهدت بضمد الشام يف عصر نور الدين ‪ ،‬نشاطاً عاملياً مل تشهد له مثيضمً‬
‫من قب إال ملاماً ‪ ،‬وتد ق العلماء على حواضر الدولة وخباصة حلب ‪ ،‬ودمشق من أطراف األرض ‪ ،‬وقصدوا الرج من‬
‫(‪)3‬‬
‫البضمد الشاسعة ؛ حىت إن بضمد الشام كانت ـ كما يصفها أبو شامة ـ «خالية من العلم وأهله ‪ ،‬ويف زمانه صارت مقراً‬
‫للعلماء ‪ ،‬والفقهاء ‪ ،‬والصو ية(‪ ، )4‬الدولة اليت هتيئ األرضية األكثر صضمحية للعطاء العلمي ‪ ،‬ومتنح املال األكثر‬
‫للبحث والدراسة والتفرغ ‪ ،‬وتنشىء املؤسسات الضمزمة إلبداع العلماء والباحثني هي اليت تستقطب العقول الكبرية يف‬
‫ك زمان ومكان ‪ ،‬ولقد أدرك نور الدين أمهية هذه اهلجرة العلمية ‪ ،‬عم بنفسه على توسيع نطاقها ‪ ،‬وراح يكاتب‬
‫العلماء من شىت البضمد البعيدة والقريبة ‪ ،‬ويستقدمهم إليه ‪ ،‬ويبالغ يف إكرامهم ‪ ،‬واإلحسان إليهم(‪ ، )5‬وقد استقدم على‬
‫سبي املثال‪:‬‬
‫أ ـ برهان الدين أبو احلسن علي بن حممد البلخي (‪ 548‬هـ ‪1153 /‬م) وهو من علماء األحناف ‪ ،‬قد اُستُـ ْقد َم من‬
‫دمشق حال استكمال بناء املدرسة احلضموية ‪ ،‬يف حلب لغرض التدريس يها ‪ ،‬وكان قد تفقه يما وراء النهر ‪ ،‬وبغداد‪،‬‬
‫واحلجاز ‪ ،‬مث قدم دمشق عام ‪519‬هـ وجلس للوعظ ‪ ،‬وكان يتميز بصدق كلماته لقيت قبوالً حسناً يف قلوب الناس‬
‫‪ ،‬وكان حسن االعتقاد زاهداً يف الدنيا ‪ُ ،‬وقفت عليه األوقاف الكثرية ‪ ،‬وكثرت األعطيات لم يلتفت إليها(‪ ،)6‬وقد قام‬
‫برهان الدين البلخي بدور كبري يف مساعدة نور الدين يف القَاء على مظاهر التشيُّع حبلب(‪.)7‬‬
‫ب ـ الفقيه أبو العباس السلفي‪ :‬قد قام برهان الدين البلخي إثر توليه احلضموية ‪ ،‬ابستدعاء الفقيه برهان الدين أيب‬
‫العباس أمحد السلفي ـ من دمشق أيَاً ـ ليكون انئباً عنه يها اعتذر عن القدوم ‪َ ،‬س هلري إليه برهان الدين كتاابً اثنياً‬
‫يستدعيه يه ‪ ،‬ويشدد عليه يف الطلب ‪ ،‬قدم الرج ومل يزل انئباً عن برهان الدين يف املدرسة املذكورة حىت و اته ‪،‬‬
‫حيث حزن عليه برهان الدين حزانً شديداً ومل يزل ـ األخري ـ مدرساً هناك إىل أن غادر حلب إىل دمشق بسبب خضمف‬
‫تويف عام ‪548‬هـ‪ .‬وح هل حمله يف التدريس عبد الرمحن بن حممود بن‬ ‫وقع بينه وبني ابن الداية انئب حلب ‪ ،‬وما لبث أن َ‬
‫حممد الغزنوي ‪ ،‬حىت و اته سنة ‪564‬هـ(‪ ، )8‬مث تعاقب عليها املدرسون القادمون من جهات شىت(‪.)9‬‬

‫(‪ )1‬التاريخ السياسي والفكري للمذهب السين ص ‪.222‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص ‪.223‬‬
‫(‪ )3‬الباهر ص ‪ 171‬ـ ‪ 172‬نور الدين حممود الزنكي ص ‪.144‬‬
‫(‪ )4‬كتاب الروضتني نقضمً عن نور الدين حممود زنكي ص ‪.144‬‬
‫(‪ )5‬زبدة حلب (‪ 293/ 2‬ـ ‪ )294‬مفرج الكروب (‪.)283/ 1‬‬
‫(‪ )6‬زبدة حلب (‪ 293 / 2‬ـ ‪ )294‬مفرج الكروب (‪.)283 / 1‬‬
‫(‪ )7‬مراة الزمان (‪ 219 / 8‬ـ ‪ )220‬نور الدين حممود ص ‪.145‬‬
‫(‪ )8‬نور الدين حممود ص ‪.145‬‬
‫(‪ )9‬املصدر نفسه ص ‪.145‬‬

‫‪210‬‬
‫ج ـ عايل بن إبراهيم احلنفي الغزنوي‪ :‬تعاقب على املدرسة احلضموية مدرسون من جهات شىت ‪ ،‬وكان من بينهم رضي‬
‫الدين حممد بن حممد السرخسي صاحب كتاب (احمليط) ‪ ،‬وكان يف لسانه لكنةٌ غري عربية ‪ ،‬كتب نور الدين إىل عايل‬
‫بن إبراهيم احلنفي الغزنوي البلقي ـ وكان يف املوص ـ يطلب منه الوصول إىل حلب ليوليه التدريس يف املدرسة املذكورة‪،‬‬
‫أقر عضمء الدين على التدريس يف احلضموية ‪ ،‬وظ هل‬
‫وعني يف املدرسة احلضموية حىت و اته عام ‪581‬هـ أو ‪582‬هـ بينما هل‬ ‫ُ‬
‫هناك ميارس مهمته التدريسية حىت و اته عام ‪587‬هـ أي‪ :‬بعد مثانية عشرة عاماً ‪ ،‬وقد وصفه ابن شداد أبنه‪« :‬كان‬
‫من ذوي التحصي والتصانيف البديعة يف أحكام الشريعة ‪ ،‬والكتب اليت سارت يف اال اق ذكرها»(‪ )1‬تفقهله يف بضمد‬
‫املشرق على حممد بن أمحد السمرقندي ‪ ،‬وقرأ عليه معظم تصانيفه زوجه شيخه اببنته اطمة ‪ ،‬الفقيهة العاملة ‪ ،‬وقد‬
‫برع عضمء الدين يف علمي األصول والفروع ‪ ،‬وصنهلف كتاب البدائع يف شرح (التحفة) اليت ألفها شيخه(‪ .)2‬وكانت زوجته‬
‫اطمة على قدر كبري من العلم والتقوى ‪ ،‬تفقهت على يد أبيها ‪ ،‬وحفظت مصنفه التحفة ‪ ،‬وكانت تنق املذهب نقضمً‬
‫يهم ابلفتوى رتده إىل الصواب ‪ ،‬وتعر ه وجهة اخلطأ ‪ ،‬ريجع إىل قوهلا ‪ ،‬وكانت متارس اإل تاء‬
‫جيداً ‪ ،‬وكان زوجها رمبا ُّ‬
‫‪ ،‬وكان زوجها حيرتمها ‪ ،‬ويكرمها ‪ ،‬وكانت الفتوى خترج خبطها ‪ ،‬وخط أبيها ‪ ،‬وزوجها ‪ ،‬وهي اليت سنهلت تقدمي طعام‬
‫اإل طار يف رمَان لفقهاء املدرسة احلضموية يف حلب(‪.)3‬‬
‫د ـ اإلمام شرف الدين بن أيب عصرون‪ :‬عندما متهل استكمال املدرسة العصرونية يف حلب عام ‪550‬هـ استدعى هلا نور‬
‫الدين من إحدى نواحي سنجار ـ غريب املوص ـ الشيخ اإلمام شرف الدين بن أيب عصرون الذي كان ـ حبق ـ من أعيان‬
‫عد ًة‪ :‬يف منبج ‪ ،‬ومحاة ‪،‬‬‫قهاء عصره ‪ ،‬وأراد نور الدين اإل ادة من كفاءة الرج إىل املدى األقصى ‪ ،‬بىن له مدارس هل‬
‫ومحص ‪ ،‬وبعلبك ‪ ،‬ودمشق ‪ ،‬و هلوضه أن يويل التدريس يها من يشاء ‪ ،‬ومل يزل ابن أيب عصرون يتوىل أمر مدرسته يف‬
‫حلب إدارة ‪ ،‬وتدريساً إىل أن غادر حلب إىل دمشق سنة ‪570‬هـ(‪.)4‬‬
‫هـ ـ قطب الدين مسعود النيسابوري‪ :‬ويف عام ‪544‬هـ متهل بناء املدرسة النفرية يف حلب لتدريس املذهب الشا عي ‪،‬‬
‫واستدعى للتدريس يها الفقيه املشهور‪ :‬قطب الدين مسعود النيسابوري ‪ ،‬مصنف كتاب (اهلادي) يف الفقه(‪ ، )5‬وكان‬
‫النيسابوري قد بدأ ممارسة نشاطه العلمي يف نيسابور ‪ ،‬ومرو ‪ ،‬ومسع احلديث على عدد من الشيوخ ‪ ،‬وقرأ القران‪،‬‬
‫ودرس ابلنظامية يف نيسابور نيابة عن ابن اجلويين ‪ ،‬مث سا ر إىل بغداد‬
‫واألدب على والده ‪ ،‬والتقى أبيب نصر القشريي هل‬
‫حيث مارس الوعظ ‪ ،‬والكضمم يف املسائ ‪ ،‬لقي هناك قبوالً حسناً ‪ ،‬وغادرها إىل دمشق عام ‪540‬هـ ‪ ،‬درس يف‬
‫مدارسها ‪ ،‬ووعظ يف مساجدها ‪ ،‬أقب الناس عليه ‪ ،‬ومن هناك استدعي إىل حلب للتدريس يف املدرسة املذكورة ‪،‬‬
‫(‪)7‬‬
‫وكان من العلم والدين والصضمح والورع مبكان كبري(‪ .)6‬ووصفه العماد األصفهاين أبنه‪ ( :‬قيه عصره ‪ ،‬ونسيج وحده)‬
‫درس يف زاوية الشا عية‬‫‪ ،‬وقد أرسله نور الدين اثنية إىل دمشق سنة ‪568‬هـ الستئناف نشاطه التدريسي هناك ‪ ،‬هل‬

‫(‪ )1‬نور الدين ص ‪.146‬‬


‫(‪ )2‬اتريخ حلب (‪ 4‬ـ ‪ 305‬ـ ‪ )308‬نور الدين حممود ص ‪.146‬‬
‫(‪ )3‬نور الدين حممود ص ‪.146‬‬
‫(‪ )4‬زبدة حلب (‪ 293 / 2‬ـ ‪ )294‬نور الدين حممود ص ‪.147‬‬
‫(‪ )5‬زبدة حلب (‪ 293 / 2‬ـ ‪ )294‬نور الدين حممود ص ‪.147‬‬
‫(‪ )6‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.147‬‬
‫(‪ )7‬الربق ص ‪ 134‬ـ ‪ 135‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.147‬‬

‫‪211‬‬
‫مبدرسة اجلاروخ مشايل اجلامع األموي ‪ ،‬واجتمعت طلبة العلم عليه ‪ ،‬ومن أج اإل ادة من قهه قرر نور الدين بناء‬
‫(‪)1‬‬
‫مدرسة كبرية للشا عية ‪ ،‬يتوىل الرج التدريس يها ‪ ،‬وقد شرع ابلبناء عضمً ‪ ،‬لكن األج أدركه قب استكمال عمارهتا‬
‫‪ ،‬وتويف النيسابوري بعده حبوايل عشر سنني ‪578‬هـ(‪.)2‬‬
‫و ـ سعيد بن سه أبو املظفر املعروف الفلكي النيسابوري‪ :‬املتوىف سنة ‪560‬هـ والذي درس احلديث ‪ ،‬وأقام يف خوارزم‬
‫وزيراً ألمريها ‪ ،‬ورح إىل بغداد مراراً وحدهلث هبا عند مجاعة من الشيوخ ‪ ،‬مث سا ر إىل دمشق يف طريقه لزايرة القدس ‪،‬‬
‫قدم يف أايم نور الدين الذي أكرم و ادته ‪ ،‬وملا طلب النيسابوري العودة إىل بضمده؛ مل يسمح له نور الدين‪ ،‬وأمسك به‬
‫‪ ،‬وأنزله اخلانقاه ‪ ،‬والسميساطية ‪ ،‬وجعله شيخها ‪ ،‬أقام هبا حىت و اته‪ .‬وقد روى عنه احملدث الشهري أبو القاسم بن‬
‫عساكر(‪ ، )3‬ويذكر املؤرخ البغدادي ابن اجلوزي كيف أن نور الدين (كاتبه مراراً)(‪.)4‬‬
‫ز ـ األديب املؤرخ الشاعر العماد األصفهاين‪ :‬ويف قمة هؤالء يقف األديب الشاعر املؤرخ العماد األصفهاين؛ الذي قدم‬
‫إىل دمشق عام ‪562‬هـ ‪ ،‬وقد قدهلمه كمال الدين الشهرزوري قاضي القَاة لنور الدين ‪ ،‬اعتمده األخري يف عديد من‬
‫املهام اإلدارية ‪ ،‬والسياسية ‪ ،‬واإلنشائية َضمً عن اإل ادة من قدراته العلمية ‪ ،‬والتدريسية ‪ ،‬حيث ويل املدرسة النورية‬
‫اليت مسيت ـ بعدئذ ـ ابملدرسة العمادية نسبة إليه ‪ ،‬وليس مثة من ال يعرف معطيات العماد املتنوعة اخلصبة يف حقول‬
‫التاريخ ‪ ،‬واألدب ‪ ،‬والشعر ‪ ،‬واليت مت إجناز الكثري منها يف عصر نور الدين نفسه‪ :‬اخلريدة ‪ ،‬الربق الشامي ‪ ،‬اتريخ دولة‬
‫ال سلجوق ‪ ،‬زبدة النصرة ‪ ،‬الفتح القسي ‪ ،‬مث معطياته الشعرية اليت ال تق مجاالً وإبداعاً عن شعر ٍ‬
‫أي من املعاصرين‬
‫الكبار كابن القيسراين ‪ ،‬وابن منري(‪.)5‬‬
‫ح ـ احلسن بن أيب احلسن صايف موىل األرموي البغدادي‪ :‬ملك النحاة كما يسميه سبط ابن اجلوزي ‪ ،‬ولد ببغداد سنة‬
‫‪489‬هـ وقرأ النحو ‪ ،‬وأصول الفقه على عدد من األساتذة ‪ ،‬مث دخ الشام ‪ ،‬واستوطن دمشق ‪ ،‬وله ديوان شعر جيد‬
‫يَم يده على املئة واملئتني ‪ ،‬وميسي وهو صفر اليدين وقد عاش يف‬‫ومدائح يف وصف النيب صلى هللا عليه وسلم وكان ُّ‬
‫ظ نور الدين إىل أن مات ‪،‬وكان يكتب إليه(‪.)6‬‬
‫ط ـ أبو الفتح بن أيب احلسن األشرتي الفقيه‪ :‬كان معيداً ابلنظامية ‪ ،‬سا ر إىل دمشق ‪ ،‬ومجع لنور الدين سرية خمتصرة‪،‬‬
‫أ اد منها عدد من املؤرخني وخباصة أيب شامة يف كتابه (الروضتني)(‪.)7‬‬
‫ي ـ أبو عثمان املنتخب بن أيب حممد البحرتي الواسطي الواعظ‪ ...‬ورد أرب ‪ ،‬ووعظ هبا ‪ ،‬وكان له قبول عظيم لدى‬
‫وردها عليه(‪.)8‬‬
‫الناس ‪ ،‬وسا ر إىل نور الدين يف الشام طلباً للجهاد ‪ ،‬وأنفذ له األخري مجلة من املال ‪ ،‬مل يقبلها هل‬

‫(‪ )1‬مراة الزمان (‪.)294 / 8‬‬


‫(‪ )2‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.147‬‬
‫(‪ )3‬الدارس يف اتريخ املدارس (‪.)153 / 2‬‬
‫(‪ )4‬املنتظم (‪ )249 / 10‬نور الدين حممود ص ‪.148‬‬
‫(‪ )5‬الدارس يف اتريخ املدارس (‪ 408/ 1‬ـ ‪.)411‬‬
‫(‪ )6‬مراة الزمان (‪ 295 / 8‬ـ ‪.)297‬‬
‫(‪ )7‬كتاب الروضتني نقضمً عن نور الدين حممود ص‪.149‬‬
‫(‪ )8‬كتاب الروضتني نقضمً عن نور الدين حممود ص‪.150‬‬

‫‪212‬‬
‫ك ـ شيخ الشيوخ عماد الدين أبو الفتح حممد بن علي بن محويه‪ :‬و د إىل الشام عام ‪563‬هـ ‪ ،‬وكان كبري الشأن يف‬
‫التصوف ‪ ،‬مل يكن له يه يومذاك مسا ٍو ‪ ،‬أقب عليه نور الدين هل‬
‫ورغبه يف املقام ابلشام ‪ ،‬وأحسن إليه ‪ ،‬وأمر‬ ‫ميدان ُّ‬
‫يعني الرج مبوجبه يف مشيخة صو ية الشام(‪.)1‬‬‫إبصدار منشور هل‬
‫وغري ذلك من العلماء والفقهاء الذين استقدمتهم الدولة ‪ ،‬أو جذبتهم الظروف املشجعة يف دولة نور الدين ‪ ،‬والذين‬
‫تد قوا على حواضرها ‪ ،‬وملؤوا نشاطهم العلمي واألديب مؤسساهتا التعليمية ‪ ،‬وإدارهتا كذلك ‪ ،‬حىت صارت بضمد الشام‬
‫يف عصره مهجراً لكبار عقول األمة‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ ابتعاد نور الدين عن التعصب‪ :‬مل يكن نور الدين حممود زنكي متحيزاً أو متعصباً إىل مذهب من املذاهب السنية‬
‫لكي يسعى ـ من خضمل نشاطه املدرسي هذا ـ إىل حتقيق نـصر جزئي ملذهب دون مذهب ‪ ،‬وإىل تعزيـز مواقع ـقه ما‬
‫مبواجهة سائر املعطيات الفقهية ‪ ،‬كما حيدث يف عصور التقليد والتهليبُّس الفكري ‪ ،‬إنه يطمح إىل ما هو أبعد من هذا‬
‫بكثري‪( :‬العم على مستوى العقيدة اإلسضممية يف آ اقها الرحيبة الواسعة ‪ ،‬ومشوليتها الهليت تتسع لك ك ٍر إسضممي‬
‫إن الرج يط ُّ على املسألة الفكرية من وق ‪ ،‬ويسعى إىل أن يكون الصراع الفكري ‪ ،‬ال‬ ‫ُمبدع) ‪ ،‬واجتهاد خضمهلق ‪ ،‬هل‬
‫لألمة املسلمة ‪ ،‬ولكنه صراع مبواجهة خصم صلييب كان يتغلغ يف حنااي‬ ‫قتاالً وانشقاقاً يف صميم الذات العقائدية هل‬
‫األرض ‪ ،‬ويقف ابملرصاد متحفزاً لتدمري الشخصية اإلسضممية متاماً كما يسعى استعمار اليوم اجلديد ‪ ،‬وصهيونيته‬
‫لتحقيقه ‪ ،‬وصراعٌ من جهة أخرى مبواجهة احنرا ات القرون الطويلة يف جمرى التاريخ اإلسضممي نفسه ‪ ،‬وهذا هو األخطر‬
‫صوب مواقع التأصي والدميومة جيب أن تتحلى بقدر كبري من جتاوز‬ ‫َ‬ ‫واألهم ‪ ،‬ومن مث إن قيادة الفكر اإلسضممي‬
‫مدى‪ .‬ومثة حادثة من بني عديد من احلوادث تناقلها‬ ‫الصراعات اجلانبية ‪ ،‬والعقد التارخيية صوب ما هو أعم وأمش وأبعد ً‬
‫املؤرخون ‪ ،‬حتم داللتها الواضحة يف هذا اجملال(‪« :)2‬يف أعقاب و اة أحد كبار الفقهاء املشر ني على التدريس يف‬
‫حلب انقسم هؤالء إىل قسمني ‪ ،‬ك ٌّ يريد مذهباً من املذاهب ‪ ،‬ويسعى إىل استدعاء الرج الذي خيلفه يف التدريس ‪،‬‬
‫وتطور اجلدل إىل تنة كادت تقع بني الفريقني ‪ ،‬لما مسع نور الدين بذلك؛ استدعى مجاعة الفقهاء إىل القلعة حبلب‬ ‫هل‬
‫‪ ،‬وخرج إليهم انئبه ـ جمد الدين بن الداية ـ وقال هلم على لسانه‪ :‬حنن ما أردان ببناء املدارس إال لنشر العلم ‪ ،‬ودحض‬
‫البدع من هذه البلدة ‪ ،‬وإظهار الدين ‪ ،‬وهذا الذي جرى بينكم ال حيسن ‪ ،‬وال يليق ‪ ،‬مث أعلمهم‪ :‬أن نور الدين قرر‬
‫اسرتضاء الفريقني ابستدعاء الرجلني ‪ ،‬وتولية ك ٍ منهما إحدى املدارس الشهرية يف حلب»(‪.)3‬‬
‫ص الصفوف ‪ ،‬ويوحد اجلهود‬ ‫وسع نور الدين حممود جبهة املواجهة حتت راية أه السنة واجلماعة ‪ ،‬واستطاع أن يَ ُـر هل‬
‫لقد هل‬
‫أمام األخطار الداخلية ‪ ،‬واخلارجية ‪ ،‬وحقق األجواء الصاحلة ‪ ،‬لكي ينجح مشروع أه السنة واجلماعة النهَوي الذي‬
‫تبنهلاه‪.‬‬
‫إن التقليد والتعصب من أعظم أسباب التفرق واالحنراف عن منهج هللا الرابين ‪ ،‬ومها من أهم العوام اليت هلأدت إىل‬
‫انتشار البدع ‪ ،‬واألهواء بني الناس ‪ ،‬فشت يف أوساطهم ‪ ،‬وحالت بينهم ‪ ،‬وبني مساع احلق واهلدى ‪ ،‬وتركوا بسببها‬

‫(‪ )1‬الربق ص ‪ 135‬نور الدين حممود ص‪.150‬‬


‫(‪ )2‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.165‬‬
‫(‪ )3‬اتريخ حلب (‪ )68 / 2‬نور الدين حممود ص ‪.165‬‬

‫‪213‬‬
‫املطهرة ‪ ،‬والتعصب والتقليد يؤداين إىل مهاوي الردى ‪ ،‬ويقودان صاحبهما إىل مسالك‬ ‫السنهلة هل‬
‫طريق الكتاب الكرمي ‪ ،‬و ُّ‬
‫الغواية ‪ ،‬والَضمل ‪ ،‬ويصدان عن اتباع النور واهلدى ‪ ،‬تكون النتيجة ختبطاً ‪ ،‬وانتكاساً يف الدنيا ‪ ،‬وهضمكاً ‪ ،‬وخسراانً‬
‫يف اآلخرة(‪.)1‬‬
‫لقد انتشر مرض التعصب ‪ ،‬والتقليد يف شعوب األمة اإلسضممية ‪ ،‬السيما يف العصور املتأخرة ‪ ،‬وأصبح هو األساس ‪،‬‬
‫واألص ‪ ،‬ونتج عن تفشيه نتائج وخيمة وأمور جسيمة ‪ ،‬وخطرية ‪ ،‬من أشدها‪ :‬عدم قبول احلق ‪ ،‬ورده إذا جاء من‬
‫املخالف(‪ . )2‬وقد قام نور الدين حممود مبعاجلة وحماربة التعصب ‪ ،‬ويف حقيقة األمر حماربة ألسباب الفرقة ‪ ،‬وابلتايل‬
‫التعصب ‪،‬‬
‫خطوة حنو األخذ أبسباب النهوض ‪ ،‬على املهتمني أبمر هنوض األمة معاجلة هذه األمراض املعَلة ‪ ،‬من ُّ‬
‫وغريها ‪ ،‬اليت كانت سبباً يف تفريق األمة شيعاً ‪ ،‬وأحزاابً‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ أثر العلماء يف دولة نور الدين‪ :‬كان لبعض العلماء املشتغلني ابلتعليم ‪ ،‬والرتبية ‪ ،‬والوعظ ‪ ،‬واإلرشاد دور ابرز يف‬
‫دولة نور الدين ‪ ،‬متث يف االيت‪:‬‬
‫أ ـ اجلهاد ضد الصليبيني‪ :‬قد كان عماد الدين ‪ ،‬وابنه نور الدين حممود زنكي يعمضمن مبشورة العلماء ومساندهتم؛‬
‫حيث كانت هلم الكلمة النا ذة‪ ،‬واملكانة املرموقة‪ ،‬واحلظ الوا ر يف ك ٍ من املوص ‪ ،‬وبضمد الشام يف ذلك العهد(‪، )3‬‬
‫ومن العلماء الذين كان هلم أثر ابرز يف اجلهاد ضد الصليبيني ‪ ،‬احلا ظ احملدث أبو القاسم علي بن احلسن بن عساكر‬
‫املتوىف سنة ‪571‬هـ ‪ 1176 /‬م ‪ ،‬ومن أعماله اليت قام هبا لينَم إىل العلماء اجملاهدين توجيه احلديث الشريف خلدمة‬
‫ضد الصليبيني ‪ ،‬ابعتباره شيخاً ألول دار ختصصية تنشأ لتدريس احلديث يف اإلسضمم‪ ،‬وهي دار احلديث النورية‬ ‫اجلهاد هل‬
‫بدمشق ‪ ،‬قد حرص احلا ظ على تدريس ما يتعلق منه بباب اجلهاد ‪ ،‬واحلث على َائله ‪ ،‬ودراسة األحاديث واآلداب‬
‫جزء واحد د عه إىل مجعه رغبته يف حث الناس على‬ ‫املتعلقة به ‪ ،‬وقد مجع لنور الدين أربعني حديثاً يف َائ اجلهاد يف ٍ‬
‫َائ اجلهاد ‪ ،‬واالستشهاد يف سبي هللا(‪ ، )4‬كما كان للعماد األصفهاين األديب الكاتب املتوىف سنة ‪597‬هـ ‪/‬‬
‫‪1201‬م دور ابرز يف اجلهاد ضد الصليبيني ‪ ،‬قد انتق إىل دمشق ‪562‬هـ ‪1166/‬م يف أايم امللك نور الدين حممود‬
‫مكنته من اإلسهام ابملشورة ‪ ،‬والتدريس‬‫‪ ،‬وكان سنداً لنور الدين؛ حيث توىل لديه العديد من الوظائف اهلامة يف الدولة ‪ ،‬هل‬
‫‪ ،‬والتأليف ‪ ،‬كانت أعماله صورة صادقة من جتاوب العلماء مع أحداث اجلهاد يف ذلك العهد(‪.)5‬‬
‫ب ـ السفارات بني الدولة‪ :‬شارك بعض العلماء يف العهد الزنكي مبهمة السفارة بني الدولة الزنكية واخلضم ة العباسية ‪،‬‬
‫أو الدولة املعاصرة إما هبدف االستنجاد ضد الصليبيني ‪ ،‬أو لقَاء مصلحة بني الدولتني ‪ ،‬ومن سفراء االستنجاد ومن‬
‫طلب املعونة ضد الصليبيني‪ :‬القاضي كمال الدين أبو الفَ حممد بن عبد هللا بن القاسم الشهرزوري املتوىف ‪572‬هـ‬
‫‪1176/‬م إذ أرسله امللك عماد الدين زنكي سفرياً من لدنه؛ ليستنجد ابخلليفة العباسي املقتفي ألمر هللا (‪ 530‬ـ‬

‫(‪ )1‬يف ظضمل القران (‪ )991/ 2‬قه النصر والتمكني ص ‪.259‬‬


‫(‪ )2‬قه النصر والتمكني ص ‪.260‬‬
‫(‪ )3‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.183‬‬
‫(‪ )4‬معجم البلدان (‪.)78/ 13‬‬
‫(‪ )5‬معجم البلدان (‪ )14/ 19‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.184‬‬

‫‪214‬‬
‫‪555‬هـ ‪ 1135 /‬ـ ‪1160‬م) والسلطان السلجوقي مسعود (‪ 527‬ـ ‪547‬هـ ‪ 1133 /‬ـ ‪1152‬م) عام (‪532‬هـ ‪/‬‬
‫(‪)1‬‬
‫مر تفصي ذلك‪.‬‬ ‫‪1137‬م) أثناء اهلجوم الصلييب البيزنطي املشرتك على حلب وغريها من مدن الشام ‪ ،‬وقد هل‬
‫كما واص القاضي كمال الدين القيام هبمة السفارة بني الدولتني الزنكية ‪ ،‬واخلضم ة العباسيـة يف عصر نور الدين حممود؛‬
‫إذ اعتمده نـور الدين سفرياً إىل اخلليفـة العباسي املستَيء (‪ 566‬ـ ‪575‬هـ ‪1172 /‬م) يطلب منه تقليداً مبا يف يـده‬
‫من ا لبضمد (الشام ‪ ،‬ومصر ‪ ،‬واجلزيرة ‪ ،‬واملوص ) ‪ ،‬ومبا يف طاعته كداير بكر ‪ ،‬وما جياوز ذلك كخضمط ‪ ،‬وبضمد أرسضمن‪.‬‬
‫يقول ابن األثري‪ ( :‬أكرم اخلليفة كمال الدين إكراماً مل يُـكرمه رسول قبله ‪ ،‬وأجيب إىل ما التمسه)(‪ .)2‬كما برزت‬
‫شخصيات من العلماء قاموا مبهمة السفارة بني نور الدين حممود يف حلب ‪ ،‬واألاتبك ُجمري الدين أبق بن حممد اخر‬
‫احلكام البوريني (‪ 534‬ـ ‪549‬هـ ‪ 1139 /‬ـ ‪1154‬م) وذلك بعد الـهجمات العسكرية املستمرة اليت قام هبا نور الدين‬
‫املهمة الفقيه بُرهان الدين البلخي املتوىف سنة (‪548‬هـ‬
‫حممود على مدينة دمشق سنة (‪546‬هـ ‪1151 /‬م) وقد توىل هل‬
‫‪ 1153/‬م) مبشاركة األمري أسد الدين شريكوه ‪ ،‬وأخوه جنم الدين أيوب ‪ ،‬ومتت بني اجلانبني اتفاقية سضمم على شروط‬
‫وقعت بينهما(‪.)3‬‬
‫ج ـ تويل بعض املناصب املهمة يف الدولة‪ :‬كالقَاء‪ ،‬وقد متهل احلديث عن ذلك‪ ،‬وكتابة اإلنشاء(‪ ،)4‬وغري ذلك من‬
‫املناصب اليت أييت بياهنا إبذن هللا يف هذا الكتاب‪.‬‬
‫أمور ‪ ،‬منها‪:‬‬
‫ويضمحظ يف حديثنا عن مكانة العلماء يف دولة نور الدين حممود ٌ‬
‫أن نور الدين ـ رمحه هللا ـ قد استفاد من العلماء على اختضمف مذاهبهم ‪ ،‬رغم أنه كان حنفي املذهب ‪ ،‬ارتفع وق‬ ‫* هل‬
‫عصبية املذهب ‪ ،‬وكان هلا سطوهتا آنذاك‪.‬‬
‫أن عصر امللك العادل كان حا ضمً ابحلركة العلمية‪ ،‬مزدهراً ابلعلماء‪ ،‬والفقهاء‪ ،‬والقَاة من ذوي العلم الغزير ‪،‬‬ ‫* هل‬
‫والعاملني بعلمهم ‪ ،‬ورغم ذلك كانوا يندهشون مما يبديه السلطان من الفهم ملسائ طال اخلضمف حوهلا ‪ ،‬وكان يناقشهم‬
‫مكنه من ح مشكضمت عصره ‪ ،‬بينما عجز عنها‬ ‫يها(‪ :)5‬ويعود ذلك إىل ذكاء ملاح ‪ ،‬ونية حسنة ‪ ،‬وعلم غزير ‪ ،‬مما هل‬
‫قبله الفحول‪.‬‬
‫تغري األوضاع املرتدية ‪ ،‬وجتديد أحوال األمة ‪ ،‬واالرتقاء هبا حنو‬
‫أن التعاون بني السلطان والعلماء العاملني قد أدى إىل ُّ‬ ‫* هل‬
‫األ َ مع إقامة العدل ‪ ،‬وطرد الغزاة يف أماكن كثرية(‪.)6‬‬
‫وسيأيت احلديث ـ إبذن هللا ـ يف مبحث قادم عن ُد ْور التعليم ‪ ،‬ووظائفها يف العهد الزنكي ‪ ،‬واملدرسون والطضمب ‪ ،‬ونظم‬
‫التعليم ووسائ حتصيله يف العهد الزنكي ‪ ،‬وميادين العلوم ‪ ،‬وأبرز أعضممها ‪ ،‬وأهم املراكز العلمية‪.‬‬
‫خامساً‪ :‬الشورى يف دولة نور الدين حممود‪:‬‬

‫(‪ )1‬الكام يف التاريخ نقضمً عن احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.185‬‬


‫(‪ )2‬الكام يف التاريخ نقضمً عن احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.185‬‬
‫(‪ )3‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.186‬‬
‫(‪ )4‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.189 ، 178‬‬
‫(‪ )5‬اجلهاد والتجديد يف القرن السادس اهلجري ص ‪.313‬‬
‫(‪ )6‬املصدر نفسه ص ‪.313‬‬

‫‪215‬‬
‫اهتم امللك العادل ‪ ،‬نور الدين حممود زنكي ابلشورى ‪ ،‬قد رأى أمهيتها يف حيوية األمة ‪ ،‬وأمنها ‪ ،‬واستقرارها ‪ ،‬واألهم‬ ‫هل‬
‫من ذلك كله‪ :‬أن هللا جع يها سورة من سور القران الكرمي ‪ ،‬محلت امسها وهو مبدأ أرشد إليه القران الكرمي‪،‬‬
‫وهو ميث أرقى أشكال التعاون قال تعاىل‪:‬‬
‫َ ذ َ ۡ َ َ ُ ْ َ ۡ َََ ُ ْ ذ َ َ ۡ ُ ُ ۡ ُ َ ََُۡ ۡ َ ذ َ ََۡ ُ ۡ ُ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ٱَّلين ٱَتجابوا ل ِرب ِ ِهم وأقاموا ٱلصلوة وأمرهم شورى بينهم ومِما رزقنهم ينفِقون ‪[ ﴾ ٣٨‬الشورى‪]38:‬‬ ‫﴿و ِ‬
‫َ ُ‬
‫‪ .‬كما أمر هللا تعاىل رسوله صلى هللا عليه وسلم مبشاورة أصحابه بشك ال يقب التأوي يف قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وشاوِ ۡره ۡم‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ َ ۡ َ َ َ َ ۡ َ َ َ َ ذ ۡ َ َ ذ ذ ذ َ ُ ُّ ۡ‬
‫ِِف ٱۡلم ِرِۖ فإِذا عزمت فتوَّك لَع ٱَّللِ إِن ٱَّلل ُيِ ُّ ٱلمتو ِّك ِني‪[ ﴾ ١٥٩‬عمران‪. ]159 :‬‬
‫وقال الشاعر‪:‬‬
‫ب أو مشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـورة ح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـازم‬ ‫بـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرأي لبي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ‬ ‫أي املشـ ـ ـ ـ ـورة استعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن‬
‫إذا بلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َغ ال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر ُ‬
‫(‪)1‬‬
‫ـ ـ ـ ـإن اخلوا ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوةٌ للق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوادم‬ ‫وال جتع ـ ـ ـ ـ ـ الش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـورى عليـ ـ ـ ـك غَاضـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةً‬
‫والشورى واجبة على احلاكم يف الشريعة اإلسضممية ‪ ،‬وإىل هذا القول ذهب كثري من العلماء ‪ ،‬والفقهاء ‪ ،‬ضم حي ُّ‬
‫للحاكم أن يرتكها ‪ ،‬وأن ينفرد برأيه دون مشورة املسلمني من أه الشورى ‪ ،‬كما ال حي ُّ لألمة اإلسضممية أن تسكت‬
‫على ذلك ‪ ،‬وأن ترتكه ينفرد ابلرأي دوهنا ‪ ،‬ويستبد ابألمر دون أن يشاركها يه(‪ ،)2‬األمة ال تنهض إال إذا أخذت بفقه‬
‫النهوض ‪ ،‬والذي منه ممارسة الشورى يف نطاقها الواسع‪.‬‬
‫ولقد اعتمدها نور الدين حممود ‪ ،‬ومل ينفرد ابختاذ القرارات ‪ ،‬ب تبادل اآلراء يف ك أمور الدولة ‪ ،‬كان له جملس قهاء‬
‫‪ ،‬يتألف من ممثلي سائر املذاهب والصو ية ‪ ،‬يبحث يف أمور اإلدارة ‪ ،‬والنوازل ‪ ،‬وامليزانية‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ الشورى يف القَااي العامة‪ :‬ومثة وثيقة قيمة يثبتها أبو شامة بنصها عن أحد احملاضر اليت دونت بصدد عدد من‬
‫قَااي الوقف واألمضمك ‪ ،‬كانت قد أُدخلت ضمن أوقاف اجلامع األموي ‪ ،‬بدمشق ‪ ،‬وسعى نور الدين إىل صلها ‪،‬‬
‫بوضوح الرغبة اجلادة لدى‬
‫ٍ‬ ‫وإعادهتا إىل قطاع املنا ع العامة ‪ ،‬وخباصة مسائ الد اع واألمن ‪ ،‬وقد متثهللت يف تلك الوثيقة‬
‫نور الدين يف األسلوب الشوري احلر ابعتباره الطريق الذي ال طريق غريه للوصول إىل احلق(‪.)3‬‬
‫في التاسع عشر من صفر سنة أربع ومخسني ومخسمئة أحَر نور الدين أعيان دمشق من القَاة ‪ ،‬ومشايخ العلم ‪،‬‬
‫والرؤساء(‪ ، )4‬وسأهلم عن املَاف إىل أوقاف اجلامع بدمشق من املصاحل ليفصلوها منها ‪ ،‬وقال هلم‪( :‬ليس العم إال‬
‫ما تتفقون عليه ‪ ،‬وتشهدون به ‪ ،‬وعلى هذا كان الصحابة رضوان هللا عليهم ‪ ،‬جيتمعون ‪ ،‬ويتشاورون يف مصاحل املسلمني‬
‫‪ ،‬وليس جيوز ألحد منكم أن يعلم من ذلك شيئاً إال ويذكره ‪ ،‬وال ينكر شيئاً مما يقوله غريه إال وينكره ‪ ،‬والساكت‬
‫ب له‪.‬‬
‫منكم مصدق للناطق ‪ ،‬ومصو ٌ‬
‫شكروه على ما قال ‪ ،‬ودعوا له ‪ ،‬و صلوا له املصاحل من الوقف ‪ ،‬قال نور الدين‪ :‬هل‬
‫إن أهم املصاحل ُّ‬
‫سد ثغور املسلمني‬
‫‪ ،‬وبناء السور احمليط بدمشق ‪ ،‬والفَي ‪ ،‬واخلندق لصيانة املسلمني ‪ ،‬وحرميهم ‪ ،‬وأمواهلم ‪ ،‬مث سأهلم عن واض‬

‫(‪ )1‬مقومات النصر يف ضوء القران والسنة (‪.)422/ 1‬‬


‫(‪ )2‬قه النصر والتمكني يف القران الكرمي ص ‪.454‬‬
‫(‪ )3‬قه النصر والتمكني يف القران الكرمي ص ‪.454‬‬
‫(‪ )4‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.80‬‬

‫‪216‬‬
‫األوقاف ه جيوز صر ها يف عمارة األسوار ‪ ،‬وعم اخلندق للمصلحة املتوجهة للمسلمني(‪ )1‬أ ىت شرف الدين املالكي‬
‫جبواز ذلك ‪ ،‬ومنهم من روى يف مهلة النظر ‪ ،‬وقال الشيخ ابن عصرون الشا عي‪( :‬ال جيوز أن يصرف وقف مسجد‬
‫بد من ذلك؛ ليس طريقة إال أن يقرتضه من إليه‬ ‫إىل غريه ‪ ،‬وال وقف معني إىل جهة غري تلك اجلهة ‪ ،‬وإذا مل يكن ٌّ‬
‫األمر من بيت مال املسلمني ‪ ،‬يصر ه يف املصاحل ‪ ،‬ويكون القَاء واجباً من بيت املال‪ .‬وا قه األئمة احلاضرون معه‬
‫على ذلك)‪ .‬مث سأل ابن أيب عصرون نور الدين‪( :‬ه أُنفق شيء قب اليوم على سور دمشق ‪ ،‬وعلى بناء بعض‬
‫العمارات املتعلقة ابجلامع املعمور بغري إذن موالان؟ وه كان إال مبلغاً لألمر يف عم ذلك؟) قال نور الدين‪( :‬مل ينفق‬
‫ذلك ‪ ،‬وال شيء منه إال إبذين وأان أمرت به)(‪.)2‬‬
‫جملسه ندوةً كبريةً ‪ ،‬جيتمع إليها العلماء ‪ ،‬والفقهاء للبحث والنظر(‪ ، )3‬ومل تكن املناظرات‬ ‫‪ 2‬ـ جمالس متخصصة‪ :‬كان ُ‬
‫اليت شهدهتا جمالسه تزجيةً للوقت ‪ ،‬وخترجياً نظرايً للفروع على األصول ‪ ،‬وتر اً كرايً‪ ...‬إمنا كانت نشاطاً جاداً من أج‬
‫جماهبة املشاك ‪ ،‬والتجارب املتجددة املتغرية ‪ ،‬ابحللول املستمدة من شريعة اإلسضمم و قهه الواسع الكبري ‪ ،‬ما دام الرج‬
‫يسعى إىل إعادة صياغة احلياة يف ميادينها كا ةً وعلى مدى مساحاهتا مبا ينسجم وعقيدة اإلسضمم ‪ ،‬ورؤايه ملوقع اإلنسان‬
‫إن ندوات كهذه أشبه مبجالس أو (جلان برملانية) متخصصة ‪ ،‬جتتمع بني احلني ‪ ،‬واحلني حل‬ ‫يف العامل‪ ...‬ومن مث هل‬
‫مشكلة ما ‪ ،‬أو استعداد تشري ٍع ‪ ،‬أو إقرار ٍ‬
‫قانون‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫مر ذكره مع حشد من العلماء ‪ ،‬الذين اختريوا لكي ميثلوا املذاهب الفقهية‬ ‫املوسع الذي هل‬ ‫وحنن نذكر هنا ذلك االجتماع هل‬
‫كا ة ‪ ،‬من أج النظر يف عدد من قَااي الوقف واملصاحل العامة(‪ .)4‬وقد شبهله ابن األثري جملسه مبجلس رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم جملس حلم وحياء ‪ ،‬ال تؤبن يه احلرم ‪ ،‬وال يذكر يه إال العلم والدين ‪ ،‬وأحوال الصاحلني ‪ ،‬واملشورة يف‬
‫أمر اجلهاد ‪ ،‬وقصد بضمد العدو ‪ ،‬وال يتعدى هذا(‪ ...)5‬وإىل روايته األخرى اليت يتحدث يها عن قيام نور الدين‬
‫ابستحَار عدد من الفقهاء ‪ ،‬واستفتائهم يف أخذ ما حي ُّ له من‪( :‬الغنيمة ومن األموال املرصدة لصاحل املسلمني ‪،‬‬
‫أخذ ما أ توه حبله ‪ ،‬ومل يتعده إىل غريه ألبَـتهلـةَ)(‪.)6‬‬
‫الغراء يتوجب أن يكون ملزماً لك إنسان ‪ ،‬سواء كان يف القمة أم يف القاعدة ‪ ،‬وقوهلم‬ ‫ما يصدر عن ممثلي الشريعة هل‬
‫هو القول الفص ألن نور الدين ـ وقد عر نا مدى صدقه مع ربه ومع نفسه ومع رعيته ـ ما كان يريد أن ميارس‬
‫االستشارات القانونية املزدوجة ‪ ،‬ويربز للناس أنه ال يقدم على عم إال بعد االطضمع على رأي قادة كرهم ‪ ،‬ومشرعي‬
‫قوانينهم ‪ ،‬ويسعى يف اخلفاء إىل تنفيذ ما كان قد اعتزمه مسبقاً مهما كانت درجة تناقَه مع طروحات اللجان‬

‫(‪ )1‬كتاب الروضتني (نقضمً عن نور الدين حممود ص ‪.)81‬‬


‫املصدر نفسه ص‪.82‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫(‪ )3‬الباهر ص ‪ 171‬ـ ‪ ، 173‬نور الدين حممود ص ‪.133‬‬


‫(‪ )4‬نور الدين حممود ص ‪.133‬‬
‫(‪ )5‬الباهر ص ‪ 173‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.133‬‬
‫(‪ )6‬الباهر ص ‪.164‬‬

‫‪217‬‬
‫االستشارية ‪ ،‬والتشريعية ‪ ،‬والربملانية ‪ ،‬اليت ستكون مبثابة الرداء اخلارجي الذي حيمي يف داخله مَامني ‪ ،‬وممارسات ال‬
‫متتد إىل لون الرداء ونسيجه يف شيء(‪.)1‬‬
‫وكان يكاتب العلماء لضمستشارة ‪ ،‬قد ذكر ابن اجلوزي‪ :‬هل‬
‫أن نور الدين كاتبه مراراً(‪ .)2‬وكان نور الدين يسأل العلماء ‪،‬‬
‫والفقهاء عما يَ ْش ُك عليه من األمور الغامَة وكان يقول ملستشاريه من العلماء ‪ ،‬والفقهاء‪( :‬ابهلل انظروا أي شيء‬
‫علمتموه من أبواب الرب واخلري دلوان عليه ‪ ،‬وأشركوان يف الثواب‪ .‬قال له شرف الدين بن أيب عصرون‪ :‬وهللا ما ترك املوىل‬
‫شيئاً من أبواب الرب إال وقد عله ‪ ،‬ومل يرتك ألحد بعده ع خ ٍري ‪ ،‬إال وقد سبقه إليه)(‪.)3‬‬
‫‪ 3‬ـ راسته يف معر ة العلماء‪ :‬مل يكن الرج يتعام مع العلماء حبساب اجلملة ‪ ،‬كما يقولون ‪ ،‬حيث خيتلط الفقيه‬
‫ابجلاه حتت ستار العلم ‪ ،‬ويَيع اجليد ابلرديء ‪ ،‬وحيث يربز أحياانً من بني العلماء رج ‪ ،‬أو اثنان ‪ ،‬أو أكثر ‪،‬‬
‫يمتطوا املكانة اليت بلغوها ‪ ،‬وخيتبئوا خلف الرداء الذي لبسوه؛ لكي يزيـفوا حقيقةً ‪ ،‬أو يلبسوا ابطضمً حبق ‪ ،‬أو يشرتوا‬
‫آبايت هللا مثناً قليضمً‪.‬‬
‫إن الرج ير ض الكذب؛ الكذب على هللا ‪ ،‬وعلى الناس ‪ ،‬وعلى احلقيقة ‪ ،‬وابلتايل هو ير ض الغش ‪ ،‬والتزوير ‪،‬‬
‫والتَلي ‪ ،‬واخلداع ‪ ،‬وهو ـ من اجلهة األخرى ـ ميلك من الذكاء ‪ ،‬وعمق النظر ‪ ،‬وسرعة البديهة ما جيعله يزن الناس‬
‫الذين يتعام معهم بدقة عجيبة ‪ ،‬كدقة املوازين ‪ ( ،‬هو كما قال عمر بن اخلطاب ـ رضي هللا عنه ـ متحداثً عن نفسه‪:‬‬
‫(‪)4‬‬
‫اخلب خيدعين) ‪ ،‬ومن مث يبدو أن ليس مبقدور أي رج أن يعرب على بداهة نور الدين ‪ ،‬وتفحصه‬ ‫لست ابخلب ‪ ،‬وال ُّ‬
‫الذكي للرجال؛ حىت لو تدثهلر أبلف رداء علمي ‪ ،‬واختبأ خلف ستار‪.‬‬
‫هذه احلادثة ‪ ،‬اليت يرويها لنا شاهد عصره العماد األصفهاين حتم داللتها على علميهلة الرج ‪ ،‬ور َه للخرا ة ‪ ،‬و همه‬
‫وعول عل هلي يف التدريس ‪ ،‬والنظر يف‬
‫إيل نور الدين إحدى مدارسه ‪ ،‬هل‬
‫ض هل‬ ‫العميق للرجال‪( :‬يف رجب ـ يقول العماد ـ هلو َ‬
‫أوقا ها ‪ ،‬وكان الفقيه يها أاب الربكات خَر بن شب الدمشقي ‪ ،‬لما تويف سنة ‪562‬هـ خلهلف ولدين ‪ ،‬و هل‬
‫استمرا يها‬
‫مغريب ‪ ،‬استهوامها بعم الكيمياء(‪ ،)5‬وهنج هبما سبي اإلغواء ‪ ،‬صاهراه ‪ ،‬وظاهراه‬
‫ٌّ‬ ‫على رسم الوالد ‪ ،‬مث خدعهما رج‬
‫مسع ‪ ،‬قال يل‪:‬‬‫‪ ،‬غاظ نور الدين هذا املعىن ‪ ،‬وأحَرمها ‪ ،‬واستوىف عليهما أنواع التوبيخ ‪ ،‬لم جيد من أحدمها ألمره ٌ‬
‫تسلهلم املوضوع ‪ ،‬ورتبين يها مدرساً ‪ ،‬وانظراً)(‪.)6‬‬
‫واملقصود من كضممي‪ :‬أن امللك العادل نور الدين حممود زنكي مارس الشورى على أسس صحيحة يف دولته ‪ ،‬وكانت‬
‫له جمالس شورية ‪ ،‬يلتقي يها القادة العسكريون ‪ ،‬واإلداريون مع العلماء والفقهاء ‪ ،‬ك ُّ حاكم يريد حلكمه أن يستمر‬
‫‪ ،‬ولنظام دولته أن يستقر عليه أن يكون حريصاً على اإلملام حبقيقة األوضاع ببضمده ‪ ،‬والشورى خري سبي لتحقيق هذه‬
‫الغاية‪.‬‬

‫(‪ )1‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.134‬‬


‫(‪ )2‬املنتظم (‪.)249 / 10‬‬
‫(‪ )3‬عيون الروضتني (‪.)374 / 1‬‬
‫(‪ )4‬اخلب‪ :‬اخلادع‪.‬‬
‫(‪ )5‬يوم كان الكيمياء دجضمً وشعوذة وسحراً وحماولة الستخراج الذهب من الرتاب مبعونة اجلن والشياطني‪.‬‬
‫(‪ )6‬الربق ص ‪ 119‬ـ ‪.120‬‬

‫‪218‬‬
‫ومع تطور أمور احلياة ‪ ،‬ال غىن ألمة تريد أن تنهض عن مبدأ الشورى ‪ ،‬وال مانع من ضبط ممارسة الشورى ‪ ،‬و ق نظام‬
‫‪ ،‬أو منشور ‪ ،‬أو قانون يعرف يه ويل األمر حدود ما ينبغي أن يشاور يه ‪ ،‬ومىت؟ وكيف؟ وتعرف األمة حدود ما‬
‫تتم به الشورى ليس مصبوابً يف قالب حديدي(‪ ،)1‬أشكال الشورى‪،‬‬ ‫تستشار يه ومىت؟ وكيف؟ ألن الشك الذي ُّ‬
‫وأساليب تطبيقها ‪ ،‬ووسائ حتقيقها وإجراءاهتا ليست من قبي العقائد ‪ ،‬وليست من القواعد الشرعية احملكمة اليت جيب‬
‫التزامها بنهج واحد يف ك العصور واألزمنة ‪ ،‬وإمنا هي مرتوكة للتحري ‪ ،‬واالجتهاد ‪ ،‬والبحث ‪ ،‬واالختيار ‪ ،‬أما أص‬
‫الشورى إنه من قبي احملكم الثابت الذي ال جيوز جتاهله ‪ ،‬أو إمهاله؛ ألن الشورى يف مجيع األمكنة واألزمنة مفيدةٌ ‪،‬‬
‫وجمدية ‪ ،‬والدكتاتورية ‪ ،‬أو حكم الفرد يف مجيع األمكنة ‪ ،‬واألزمنة كريهةٌ ‪ ،‬وخمربة(‪.)2‬‬
‫إن شؤون احلياة متعددة ‪ ،‬ولك شأن منها أانس ‪ ،‬هم املختصون يه ‪ ،‬وهم أه معر ته ‪ ،‬ومعر ة ما جيب أن يكون‬
‫عليه ‪ ،‬في األمة جانب القوة ‪ ،‬ويف األمة جانب القَاء ‪ ،‬و ض املنازعات ‪ ،‬وحسم اخلصومات ‪ ،‬و يها جانب املال‪،‬‬
‫واالقتصاد ‪ ،‬و يها جانب السياسة ‪ ،‬وتدبري الشؤون الداخلية واخلارجية ‪ ،‬و يها جانب الفنون اإلدارية ‪ ،‬و يها جانب‬
‫التعليم والرتبية ‪ ،‬و يها جانب اهلندسة ‪ ،‬و يها جانب العلوم واملعارف اإلنسانية ‪ ،‬و يها غري ذلك من اجلوانب‪ ،‬ولك‬
‫جانب أانس ُعر وا يه ‪ ،‬بنَج اآلراء ‪ ،‬وعظيم االاثر ‪ ،‬وطول اخلري واملران ‪ ،‬هؤالء هم أه املشورة يف الشؤون املختلفة‬
‫‪ ،‬وهم الذين جيب على األمة أن تعر هم آباثرهم ‪ ،‬ومتنحهم ثقتها ‪ ،‬وتنيبهم عنها يف الرأي ‪ ،‬وهم الذين يرجع إليهم‬
‫احلاكم ألخذ رأيهم ‪ ،‬واستشارهتم ‪ ،‬وهم الوسيلة الدائمة يف نظر اإلسضمم ‪ ،‬ملعر ة ما تسوس به األمة أمورها ؛ مما مل يرد‬
‫يف املصادر الشرعية ‪ ،‬وحيتاج إىل اجتهاد(‪.)3‬‬
‫ولذلك ينبغي أن يعتمد يف الشورى على أصحاب االختصاص ‪ ،‬واخلربة يف املسائ املعروضة ‪ ،‬اليت حتتاج إىل نوع من‬
‫املعر ة‪ :‬في شؤون الدين واألحكام يستشار علماء الدين ‪ ،‬ويف شؤون العمران واهلندسة يستشار املهندسون ‪ ،‬ويف‬
‫شؤون الصناعة يستشار خرباء الصناعة ‪ ،‬ويف شؤون التجارة يستشار خرباء التجارة ‪ ،‬ويف شؤون الزراعة يستشار خرباء‬
‫الزراعة وهكذا‪ ....‬وهنا البد من توجيه األنظار إىل أنه من الَروري ‪ ،‬أن يكون علماء الدين قامساً مشرتكاً يف هذه‬
‫(‪)4‬‬
‫الشؤون ‪ ،‬حىت ال خيرج املستشارون يف تقرير السياسات املتنوعة عن حدود الشريعة ‪ .‬لقد كان نور الدين يستشري كثرياً‬
‫من كبار رجال دولته ‪ ،‬س واء من اإلداريني ‪ ،‬أو السياسيني ‪ ،‬أو العلماء ‪ ،‬أو الفقهاء ‪ ،‬أو األعيان ‪ ،‬وسنرى ذلك يف‬
‫ـ‪.‬‬ ‫تعاىل‬ ‫هللا‬ ‫إبذن‬ ‫ـ‬ ‫الكتاب‬ ‫هذا‬

‫املبحث الرابع ‪ :‬النظام اإلداري عند نور الدين‬

‫(‪ )1‬قه النصر والتمكني يف القران الكرمي ص ‪.464‬‬


‫(‪ )2‬قه النصر والتمكني يف القران الكرمي ص ‪.465‬‬
‫(‪ )3‬الشورى بني األصالة واملعاصرة ص ‪.57‬‬
‫(‪ )4‬الشورى بني األصالة واملعاصرة ص ‪.59 ، 58‬‬

‫‪219‬‬
‫أن الرج كان متخصصاً يف هذا اجملال ‪ ،‬ومتفرغاً‬ ‫إن من يستعرض إجنازات نور الدين حممود يف اجملال اإلداري يعتقد‪ :‬هل‬
‫هل‬
‫له طول حياته دون غريه من اجملاالت ‪ ،‬وال يسعه إال اإلعجاب بعقليته القيادية هل‬
‫الفذة يف بناء قيادات إدارية ‪ُْ ،‬حتسن‬
‫تنفيذ اخلطط املرسومة ‪ ،‬قد اعتمد نور الدين حممود يف إدارة دولته املتنامية على عدد كبري من الرجال األكفهلاء ‪ ،‬كان‬
‫خيتارهم بعناية ائقة ‪ ،‬وكان يَع الرج املناسب يف املكان املناسب ‪ ،‬ومن بعد ذلك يراقبهم ‪ ،‬ويشرف عليهم؛ حىت‬
‫وخوهلم الصضمحيات؛ اليت حيتاجوهنا لتنفيذ أعماهلم‬
‫يتأكد من حسن أدائهم واستقامتهم ‪ ،‬إذا حتقهلق من ذلك؛ وثق هبم ‪ ،‬هل‬
‫‪ ،‬يباشرون وظائفهم؛ وهم يرون يه قدوهتم يف االلتزام ابلشرع ‪ ،‬واإلخضمص ابلعم ‪ ،‬واإلحساس ابملسؤولية ‪ ،‬والعدل‬
‫‪ ،‬والبساطة يف العيش ‪ ،‬واحلرص على األموال العامة ‪ ،‬تتحقق اإلدارة الناجحة ‪ ،‬وينعكس ذلك على الشعب ابلرخاء‬
‫‪ ،‬واألمن ‪ ،‬واالزدهار‪ .‬وصدق يه قول املؤرخ «ستيفن رنسيمان» يف هذا اجملال ‪ ،‬عندما وصفه بقوله‪( :‬التزم البساطة‬
‫يف حياته ‪ ،‬ومح أسرته على أن تسري على هنجه ‪ ،‬واثر أن ينفق موارده على أعمال الرب واإلحسان ‪ ،‬كان إدارايً حازماً‬
‫يقظاً ‪ ،‬ودعمت حكومته الرشيدة ما أقامه له سيفه من مملكة)(‪.)1‬‬
‫أوالً‪ :‬حسن اختياره للرجال‪:‬‬
‫اعتمد نور الدين نفس النظم اإلدارية املعمول هبا يف عصره‪ ،‬واليت كان السضمجقة قد أرسوا قواعدها العريَة‪ ،‬وجاء‬
‫األيوبيون‪ ،‬واملماليك من بعدهم لكي يسريوا هبا حنو مزيد من النَج ‪ ،‬والتخصص ‪ ،‬والشمول ‪ ،‬لكن نور الدين هل‬
‫أكد‬
‫على مؤشر أساسي يف ميدان اإلدارة ‪ ،‬ذلك هو أن كفاءة أجهزهتا ‪ ،‬وحصيلة معطياهتا ال تعتمد على بنيان اجلهاز ‪،‬‬
‫أو تركيب املنصب نفسه بقدر اعتمادها على الرجال أنفسهم؛ الذين يعهد إليهم بتسيريها ‪ ،‬ومن مث إننا جند نور الدين‬
‫ميأل بنماذج متنوعة من هؤالء الرجال؛ الذين كانوا يتباينون يف االنتماء اجلنسي ‪ ،‬واجلغرايف ‪ ،‬واالجتماعي ‪ ،‬ولكنهم ـ يف‬
‫األغلب ـ جيتمعون على تلك امليزات ‪ ،‬اليت ال تستقيم بدوهنا إدارة ما(‪:)2‬‬
‫‪ 1‬ـ أسد الدين شريكوه وبنو أيوب‪ :‬عندما قت عماد الدين زنكي عام ‪541‬هـ ‪1146‬م والد نور الدين حممود؛ وجد‬
‫نور الدين يف بعض رجاالت والده ‪ ،‬املتقدمني يف ميادين اإلدارة املدنية والعسكرية ساعده األمين ‪ ،‬الذي اعتمده يف‬
‫الوصول إىل احلكم يف حلب ‪ ،‬وتثبيت أركان إمارته الفتية هناك ‪ ،‬اتص به أسد الدين شريكوه ‪ ،‬عم الناصر صضمح‬
‫الدين‪ .‬وقال له‪( :‬اعلم‪ :‬أن الوزير مجال الدين األصفهاين ـ أكرب وزراء زنكي ـ قد أخذ عسكر املوص ‪ ،‬وعم على‬
‫إيل يغريين على اللحاق‬
‫تقدمي أخيك سيف الدين غازي ‪ ،‬ومتليكه املوص ‪ ،‬وقد انَوى إليه ج ُّ العسكر ‪ ،‬وقد أنفذ هل‬
‫به ‪ ،‬لم أستجب لطلبه ‪ ،‬وقد رأيت أن أصريك إىل حلب ‪ ،‬تجعلها كرسي ملكك ‪ ،‬وجتتمع يف خدمتك عساكر الشام‬
‫يصري مجيعه إليك ‪ ،‬ألن من ملك الشام ملك حلب ‪ ،‬ومن ملك حلب استظهر على بضمد الشرق‪.‬‬ ‫‪ ،‬وأان أعلم أن األمر هل‬
‫ما كان من نور الدين إال أن أصدر أمره أبن ينادى ليضمً يف عساكر الشام لضمجتماع ‪ ،‬وانطلق من مث إىل حلب ‪،‬‬
‫دخلها يف السابع من ربيع األول ‪ ،‬واعتمد أسد الدين شريكوه ‪ ،‬الذي أصبح أشبه بوزيره األول(‪ ، )3‬ومع الوقت‬
‫استمرت عضمقة أسد الدين مع نور الدين يف القوة واالنسجام ‪ ،‬وأخذت تزداد مع األايم ‪ ،‬حىت بلغت قمتها يف ترشيح‬

‫(‪ )1‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪ 170‬اتريخ احلروب الصليبية (‪.)614/ 4‬‬
‫(‪ )2‬كتاب الروضتني نقضمً عن نور الدين حممود ص ‪.54‬‬
‫(‪ )3‬كتاب الروضتني نقضمً عن نور الدين حممود ص ‪.54‬‬

‫‪220‬‬
‫أسد الدين لقيادة احلملة النورية على مصر ‪ ،‬يف رحضمهتا الثضمثة ‪ ،‬كما اعتمد نور الدين على أسد الدين ‪ ،‬لضمتصال‬
‫تبني استحالة أخذها عنوة‪.‬‬‫أبخيه جنم الدين يف دمشق ‪ ،‬والتمهيد لدخوهلا س ْلماً بعد أن هل‬
‫ت هذه االتصاالت الناجحة بدخول نور الدين دمشق عام ‪549‬هـ ‪1154‬م مبعونة األخوين‪ :‬جنم الدين ‪،‬‬ ‫وقد تو َج ْ‬
‫وأسد الدين ‪ ،‬حيث ازدادت مكانتهما ارتفاعاً‪ ،‬وبرز إىل دائرة الَوء ابنا جنم الدين ‪ ،‬ومها‪ :‬الناصر صضمح الدين ‪،‬‬
‫وتورانشاه ‪ ،‬كأمريين متقدمني يف الدولة‪ .‬وقد قال أبو شامة‪( :‬كان ألسد الدين اليد الطوىل يف تح دمشق ‪ ،‬واله نور‬
‫(وتوسط‬
‫هل‬ ‫ورد إليه مجيع أحواهلا(‪ ، )1‬وزاد على ذلك أقطعه الرحبة(‪ .)2‬ويواص أبو شامة حديثه قال‪:‬‬ ‫الدين أمرها ‪ ،‬هل‬
‫ورد نظر دمشق‬‫وسريه إىل دمشق ‪ ،‬أقام يها ‪ ،‬هل‬‫أسد الدين يف أمر أخيه جنم الدين مع نور الدين ‪ ،‬أقطعه إقطاعاً ‪ ،‬هل‬
‫إليه ‪ ،‬ووىل ولده تورانشاه شحنكية دمشق ‪ ،‬ساسها أحسن سياسة ‪ ،‬ومل يزل هبا إىل أن اُستبدل أبخيه صضمح الدين(‪.)3‬‬
‫وكان صضمح الدين قد ارق أابه جنم الدين ُمنذ عام ‪546‬هـ ‪1151‬م‪ ،‬وانتق إىل خدمة عمه أسد الدين يف حلب‪،‬‬
‫استخص صضمح الدين‪ ،‬وأحلقه خبواصه‪ ،‬كان ال يفارقه‬‫هل‬ ‫قدهلمه بني يدي نور الدين ‪ ،‬قبله ‪ ،‬وأقطعه إقطاعاً حسناً‪ .‬و‬
‫أن كضمهل من جنم الدين ‪ ،‬وأسد الدين صارا عند نور الدين بعد تح دمشق‬ ‫يف سفر وال حَر(‪ .)4‬ويذكر ابن األثري كيف هل‬
‫يف أعلى املنازل ‪ ،‬السيما جنم الدين ‪ ،‬إن سائر األمراء كانوا ال يقعدون عند نور الدين ‪ ،‬إال جنم الدين إنه كان إذا‬
‫دخ إليه قعد من غري أن يؤمر بذلك ‪ ،‬كما حيدثنا كيف‪ :‬أن أسد الدين كان قد لزم خدمة نور الدين ُمنذ أايم والده‬
‫زنكي‪ ...‬وبعد أن توىل إمارة حلب راح يقربه ‪ ،‬ويقدمه ‪ ،‬ورأى منه شجاعة يعجز غريه عنها ‪ ،‬زاده حىت صار له محص‬
‫‪ ،‬والرحبة ‪ ،‬وغريمها ‪ ،‬وجعله مقدم عسكره(‪.)5‬‬
‫‪ 2‬ـ جمد الدين ابن الداية وإخوته‪ :‬مل يشأ نور الدين أن جيع ج اعتماده على العناصر اإلدارية املخَرمة ‪ ،‬ورأى أن‬
‫يطعمها بعناصر جديدة أكثر مضمءمة و هماً ألهدا ه أسوة مبا يفعله مؤسسو الدول يف إعادة تنظيم أجهزهتم اإلدارية ‪،‬‬
‫وترشيح العناصر األكثر تقبضمً للوضع اجلديد ‪ ،‬وجتانساً معه(‪.)6‬‬
‫وقد كان جمد الدين حممد أبو بكر بن الداية ‪ ،‬شقيق نور الدين يف الرضاعة ‪ ،‬وإخوته‪ :‬مشس الدين علي ‪ ،‬وسابق الدين‬
‫عثمان ‪ ،‬وبدر الدين حسن ‪ ،‬وهباء الدين ُعمر ‪ ،‬الذي مل يربز يف ميدان اإلدارة كما برز إخوته لرمبا لصغر سنه‪.‬‬
‫ويتحدهلث العماد األصفهاين عن املكانة العالية ‪ ،‬اليت بلغها جمد الدين ‪ ،‬وإخوته يف إمارة نور الدين‪ ،‬يقول‪( :‬كان جمد‬
‫ترىب معه ‪ ،‬ولزمه ‪ ،‬وتبعه إىل أن ملك الشام بعد والده ‪ ،‬فوض إليه نور الدين مجيع‬ ‫الدين رضيع نور الدين ‪ ،‬قد هل‬
‫مقاصده ‪ ،‬وحكمه يف امللك ‪ ،‬ضم حي ُّ ‪ ،‬وال يعقد إال برأيه‪ .‬وكان يسكن قلعة حلب‪ .‬وقد ُسلمت قلعة جعرب ‪ ،‬وت‬
‫ابشر ألخيه األصغر سابق الدين عثمان ‪ ،‬وحارم ألخيه الثالث بدر الدين حسن‪ .‬ومثة مواقع عديدة أخرى مث عزاز‪،‬‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص ‪.58‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص ‪.58‬‬
‫(‪ )3‬كتاب الروضتني نقضمً عن نور الدين حممود ص ‪.58‬‬
‫(‪ )4‬املصدر نفسه ص ‪.59‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه ص ‪.59‬‬
‫(‪ )6‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.55‬‬

‫‪221‬‬
‫وعني اتب ‪ ،‬وغريمها ‪ ،‬كان جمد الدين يشرف عليها بنفسه عن طريق نوابه(‪ ، )1‬وعندما هدمت الزالزل شيزر عام ‪552‬‬
‫ـ ‪1157‬م واستوىل عليها نور الدين من بين منقذ سلهلمها إىل جمد الدين(‪.)2‬‬
‫أعز الناس على نور الدين‪ ،‬كان قد أسكنهم معه يف قلعة حلب‬ ‫ويؤكد سبط ابن اجلوزي‪ :‬أن جمد الدين وإخوته‪( :‬كانوا هل‬
‫‪ ،‬ال يصدر إال عن رأيهم)(‪ .)3‬ويكاد املؤرخون جيمعون على هل‬
‫أن جمد الدين أحسن تدبري املهمة اليت عهدت إليه‪ ،‬وأنه‬
‫كان عند حسن الظن ‪ ،‬وظ طوال مخسة عشر عاماً يتمتع بثقة سيده وحمبهلته ‪ ،‬وتفويَه األمور يف قاعدة ملكه حلب‪.‬‬
‫وقد امتاز الرج بشجاعته ‪ ،‬وتديُّنه ‪ ،‬وتعشقه لتقدمي اخلدمات االجتماعية‪ .‬وعندما تويف عام ‪565‬هـ ‪1169‬م يف‬
‫انئب كبري آخر يف دولة نور الدين‪ ،‬يدعى‪ :‬العمادي حممد؛ حزن نور الدين حزانً عميقاً ‪،‬‬
‫نفس السنة اليت تويف يها ٌ‬
‫صت جناحاي) وسرعان ما عهد جبميع ما كان له من مناصب وصضمحيات إىل أخيه مشس‬ ‫وقال وهو يبكي‪( :‬لقد قُ هل‬
‫الدين علي ‪ ،‬الذي غدا مبرور الوقت أكرب األمراء النورية يف حلب‪.‬‬
‫وأما أخوه اآلخر سابق الدين عثمان؛ قد جعله مقدهلم عساكره ويف عام (‪569‬هـ ‪1173‬م) السنة اليت تويف يها نور‬
‫متكن نفوذهم يف حلب متاماً ‪ ،‬وأصبح أمرها إليهم ‪ ،‬وعساكرها معهم ‪ ،‬يف حياة نور الدين ‪،‬‬‫الدين ـ كان بنو الداية قد هل‬
‫وبعده(‪.)4‬‬
‫وكان مشس الدين علي قد عهدت إليه أمور اجليش‪ ،‬والديوان‪ ،‬وعهدت الشحنكية إىل أخيه بدر الدين حسن‪ ،‬وكان‬
‫بني هؤالء األخوة مجيع املعاق احمليطة حبلب(‪ ،)5‬وكان هناك أمساء أخرى برزت طيلة العهد النوري ‪ ،‬مل تكن لتق هل عن‬
‫بين الداية شهرة وإجنازاً(‪.)6‬‬
‫‪ 3‬ـ العماد األصفهاين‪ :‬غادر بغداد ميمماً شطر الشام ‪ ،‬وص إىل دمشق يف شعبان سنة ‪562‬هـ ‪1166‬م ‪ ،‬وأعانه‬
‫قاضي القَاة كمال الدين الشهرزوري ‪ ،‬وأنزله ابملدرسة الشا عية النورية ‪ ،‬وسرعان ما توثهلقت العضمقة بينه وبني بين‬
‫أيوب‪ :‬جنم الدين ‪ ،‬وأسد الدين ‪ ،‬وصضمح الدين ‪ ،‬مث ما لبث كمال الدين الشهرزوري أن قدهلمه يف أواخر السنة إىل نور‬
‫ونوه بشأنه ‪ ،‬رتهلبه نور الدين يف ديوانه ‪ ،‬منشئاً يف مطلع عام ‪563‬هـ ‪1167 ،‬م ‪ ،‬وصار رئيس ديوان اإلنشاء‬ ‫الدين ‪ ،‬هل‬
‫مفصلة‬
‫ومدبج الواثئق الرمسية ‪ ،‬حىت و اة نور الدين ‪ ،‬وكان يتلقى من بين أيوب يف مصر ‪ ،‬تقارير هل‬ ‫‪ ،‬وكاتب السر ‪ُ ،‬‬
‫عما يستجد يها من أحداث ‪ ،‬يقرؤها على نور الدين ‪ ،‬ويكتب أجوبتها ‪ ،‬وقد جاء تعيني العماد يف هذا املنصب ـ‬
‫كما يذكر هو نفسه ـ بعد استعفاء أيب اليسر بن عبد هللا من اخلدمة يف ديوان اإلنشاء ‪ ،‬واعتكا ه يف بيته‪.‬‬
‫وهو يذكر أيَاً‪ :‬أنه وجد من نور الدين ُمنذ ذلك الوقت «اإلعزاز والتمكني على األايم» وقد اعتمده نور الدين َضمً‬
‫عدد من السفارات‪ :‬إىل شاه إرمن صاحب خضمط يف أرمينيا أواخر سنة ‪564‬هـ ‪1168‬م ‪ ،‬وإىل اخلليفة‬ ‫عن ذلك يف ٍ‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص ‪.56‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص ‪.56‬‬
‫(‪ )3‬كتاب الروضتني نقضمً عن نور الدين حممود ص ‪.56‬‬
‫(‪ )4‬مراة الزمان (‪ 324/ 8‬ـ ‪.)325‬‬
‫(‪ )5‬الباهر ص ‪ 163‬نور الدين حممود ص ‪.57‬‬
‫(‪ )6‬كتاب الروضتني نقضمً عن نور الدين حممود ص ‪.57‬‬

‫‪222‬‬
‫العباسي يف أوائ سنة ‪566‬هـ ‪1170‬م ‪ ،‬كما هلوضه اإلشراف على املدرسة النورية يف دمشق ‪ ،‬واليت مسيت بعدئذ‬
‫ابملدرسة العمادية نسبة إليه يف رجب سنة ‪567‬هـ ‪1171‬م ‪ ،‬وأصبح العماد مشر اً على دواوين اململكة كلها‪ ،‬إضا ة‬
‫إىل مهمته يف ديوان اإلنشاء ‪ ،‬واإلشراف ‪ ،‬وهو املراقبة وتفتيش أمور الدواوين ‪ ،‬كان املشرف وهو املفتش العام‬
‫وقسمت زماين على النصيبني ‪ ،‬مرة للكتب ‪ ،‬واملناشري ‪ ،‬واترة‬
‫جمعت ـ يقول العماد ـ‪ :‬بني املنصبني ‪ ،‬هل‬
‫ُ‬ ‫للحكومة(‪( .)1‬‬
‫لإلثبات يف الدهلساتري(‪ ، )2‬ومل أثق بنائب ‪ ،‬وابشرت العم بنفسي(‪.))3‬‬
‫املوهلق خالد القيسراين إىل مصر قام العماد مقامه ‪ ،‬وصار مستويف اململكة ‪ ،‬وأصبح بذلك الرج األول يف‬ ‫وبعد توجه َ‬
‫الدولة ‪ ،‬وأكثر من يعتمدهم نور الدين من الرجال حىت و اته؛ إذ أصبح العماد مبناصبه الثضمثة تلك املسؤول األول عن‬
‫الكتابة ‪ ،‬واإلشراف اإلداري ‪ ،‬واملايل(‪.])4‬‬
‫وحيدثنا العماد عن الثقة املتبادلة بينه وبني نور الدين‪ ،‬وحرص األخري على جتاوز (الروتني) اإلداري ‪ ،‬يقول‪ ...( :‬وقد‬
‫علي ‪ ،‬وطالعته ك يوم مبرا ق عملي ‪ ،‬ومنا ع شغلي ‪ ،‬ما أحتف بتحفة ‪ ،‬وال‬ ‫وعول يف مناصبه هل‬ ‫إيل نور الدين ‪ ،‬هل‬
‫مال هل‬
‫أخص من أحد يعطيه ‪ ،‬إال أطالعه به وأطلعه على سببه ‪ ،‬كان يعجبه مين تلك الشيمة‪ ،‬ويقول‪ :‬تصرف يه تصر ك‬
‫يف مالك(‪ ، ))5‬وميَي العماد إىل القول‪( :‬مث اعتمد علي اعتماداً كلياً‪ ،‬وجعلين له جنياً‪ ،‬وإذا أراد أن يكتب إىل ٍ‬
‫أحد‬
‫أن سعد الدين كمشتكني ـ انئبه يف املوص ـ أخذ من رج ألف‬ ‫منهم يقول‪ :‬اكتب إليه من عندك‪ ،‬ومن مجلة ذلك‪ :‬هل‬
‫دينار بعلهل ٍة عللها‪ ،‬جاء الرج ‪ ،‬وتظلهلم‪ ،‬أمرين نور الدين أبن أكتب إليه بردها عليه‪ .‬قال‪ :‬إنك كاتيب‪ ،‬وأميين‪،‬‬
‫ورد‬
‫وصاحيب‪ ،‬وال تكتب إال أبمري‪ ،‬إن خالف كتابك إليه؛ قلعت عينيه!! مَى إليه بكتايب‪ ،‬سارع إىل طاعته‪ ،‬هل‬
‫عليه األلف يف ساعته(‪.))6‬‬
‫ومما ال شك يه‪ :‬هل‬
‫أن العماد األصفهاين قد حقق جناحاً كبرياً يف مهماته اإلدارية ‪ ،‬األمر الذي أكسبه ثقة نور الدين‬
‫املتزايدة ‪ ،‬وجعله يظفر سريعاً يف مدى ال يتجاوز السنوات الست أبهم وظائف الدولة ‪ ،‬وأعضمها‪( :‬الكتابة ‪ ،‬واإلشراف‬
‫صح مايقوله الرج عن نفسه ـ وهو األرجح ‪ ،‬ملا سبق وأن ذكرانه ـ إن نور الدين‬ ‫اإلداري ‪ ،‬واالستيفاء املايل)‪ .‬وإذا هل‬
‫كان قد اعتمده إىل حد تفويَه األمر كامضمً يف مناصبه تلك ‪ ،‬رغم ذلك إن العماد ما كان ليقدم على خطوة إال بعد‬
‫أن يُطْل َع سيده عليها‪ ...‬وقد عمق هذا املوقف الذكي من الرج الثقة بني الطر ني ‪ ،‬تلك اليت استمرت حىت هناية حكم‬
‫نور الدين(‪.)7‬‬

‫(‪ )1‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.57‬‬


‫(‪ )2‬نور الدين حممود الرج والتجربة ‪.60‬‬
‫(‪ )3‬الدستور‪ :‬هو الد رت الذي تكتب يه أمساء اجلند ومرتباهتم‪.‬‬
‫(‪ )4‬الربق ص ‪ 120‬ـ ‪ 122‬نور الدين حممود ص ‪.60‬‬
‫(‪ )5‬الربق املقدمة ص ‪ 10‬ـ ‪ 11‬نور الدين حممود ص ‪.60‬‬
‫(‪ )6‬الربق ص ‪ 61‬نور الدين حممود ص ‪.61‬‬
‫(‪ )7‬الربق ص ‪ 132‬ـ ‪ 133‬نور الدين حممود ص ‪.61‬‬

‫‪223‬‬
‫وتضم هذه األمساء يف م يدان اإلدارة (أي‪:‬بنو الداية‪ ،‬وبنو أيوب‪ ،‬والعماد األصفهاين) أمساء أخرى أق منها أمهية ‪ ،‬وإن‬
‫كان بعَها قد بلغ القمة ‪ ،‬اليت بلغها أولئك الرجال ‪ ،‬رغم أن املصادر مل تشر إليها إال عرضاً ‪ ،‬ومل تقدم لنا الشيء‬
‫الكثري(‪.)1‬‬
‫‪ 4‬ـ خالد بن حممد القيسراين‪ :‬مستويف اململكة حىت عام ‪568‬هـ ‪1172‬م ‪ ،‬والذي يصفه العماد أبنه كان عند نور‬
‫الدين يف مقام الوزير ‪ ،‬وله انبساط زائد(‪ ، )2‬ويُ ْذ َك ُر يف اخلريدة‪ :‬أنه ملا وص الشام؛ وجد القيسراين يف صدر مناصبها‪،‬‬
‫وبدر مراتبها ‪ ،‬وكان نور الدين قد ر عه ‪ ،‬واصطنعه ‪ ،‬وبلغ منه مبلغاً من األمر كأنه أشركه يف امللك معه ‪ ،‬ولقد كان‬
‫حقيقاً بذلك(‪ . )3‬ويتحدث عنه أحد أحفاده املدعو معني الدين بن حممد ‪ ،‬يقول‪ :‬كان جدي خالد قريب املنزلة من‬
‫نور الدين إىل الغاية ‪ ،‬وإليه استيفاء دواوينه أبسرها ‪ ،‬وكتابة اإلنشاء ‪ ،‬وإمرة جملسه ‪ ،‬وهو املشري والوزير ‪ ،‬واألمور كلها‬
‫أن عمله يف كتابه اإلنشاء كان يف الفرتة اليت سبقت توليها من قب العماد األصفهاين(‪.)5‬‬ ‫عائدة إليه(‪ .)4‬وواضح‪ :‬هل‬
‫‪ 5‬ـ حممد العمادي‪ :‬صاحب نور الدين ‪ ،‬وأمري حجابه ‪ ،‬وأحد كبار نوابه يف حلب ‪ ،‬وصاحب بعلبك وتدمر(‪.)6‬‬
‫ويصفه سبط ابن اجلوزي‪( :‬كان عزيزاً عند نور الدين) ‪ ،‬ومن أعظم أمرائه(‪.)7‬‬
‫‪ 6‬ـ الشيخ األمري خملص الدين أبو الربكات‪ :‬عبد القاهر بن علي بن أيب جرادة احلليب ‪ ،‬األمني على خزائن أموال نور‬
‫احملرر‬
‫الدين ‪ ،‬كان كاتباً بليغاً ‪ ،‬حسن البضمغة نظماً ونثراً ‪ ،‬مستحسن الفنون من التذهيب البديع ‪ ،‬وحسن اخلط ‪ ،‬هل‬
‫على األصول القدمية املستطر ة ‪ ،‬مع صفاء الذهن ‪ ،‬وتوقد الفطنة والذكاء(‪.)8‬‬
‫يل اإلشراف على الديوان بدمشق ‪ ،‬حىت عام ‪551‬هـ ‪1156‬م حينما كشف التحقيق‬ ‫‪ 7‬ـ أبو سامل بن مهام احلليب‪َ :‬و َ‬
‫معه عن استغضمله املنصب لسرقة أموال الدولة ‪ ،‬ألقي القبض عليه ‪ ،‬واعتق مث أصدر نور الدين أمراً بكشف خيانته‬
‫للناس ‪ ،‬وعقابه عقاابً قاسياً ‪ ،‬والطواف به يف األسواق ‪ ،‬حيث كان املنادي يصيح‪ :‬هذا جزاء ك خائن‪ .‬وبعد أن أقام‬
‫يف املعتق بدمشق أايماً؛ أمر نور الدين بنفيه إىل حلب ‪ ،‬غادر دمشق‪( :‬على أقبح صفة من لعن الناس ‪ ،‬ونشر‬
‫خمازيه)(‪.)9‬‬
‫اثنياً‪ :‬أهم اإلدارات والوظائف يف دولة نور الدين‪:‬‬

‫(‪ )1‬نور الدين حممود ص ‪.61‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص ‪.61‬‬
‫(‪ )3‬الربق ص ‪ 116‬نور الدين حممود ص ‪.62‬‬
‫(‪ )4‬نور الدين حممود ص ‪.62‬‬
‫(‪ )5‬مفرج الكروب (‪ )270 / 1‬نور الدين حممود ص ‪.62‬‬
‫(‪ )6‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.62‬‬
‫(‪ )7‬مراة الزمان (‪ )280 / 8‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.62‬‬
‫(‪ )8‬كتاب الروضتني يف أخبار الدولتني (‪.)360 / 1‬‬
‫(‪ )9‬نور الدين حممود ص ‪.63‬‬

‫‪224‬‬
‫مقسمة إىل عدة أقاليم‪ :‬حلب مشال بضمد الشام ‪ ،‬وإقليم دمشق وسط بضمد الشام ‪ ،‬وإقليم املوص‬ ‫كانت دولة نور الدين هل‬
‫يف منطقة املوص واجلزيرة الفراتية ‪ ،‬وإقليم مصر ‪ ،‬وإقليم اليمن ‪ ،‬وإقليم احلجاز(‪ ،)1‬وكان لك إقليم إدارته احمللية ‪ ،‬اليت‬
‫تتألف من عدة م وظفني يعينهم نور الدين ‪ ،‬وكانت مجيع هذه األقاليم تتبع السلطة املركزية للدولة يف دمشق ‪ ،‬اليت‬
‫يشرف عليها نور الدين وجهازه اإلداري املركزي‪ .‬أما الوظائف اليت تتألف منها اإلدارة املركزية؛ هي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ النائب‪ :‬هو الذي ينوب عن نور الدين يف اإلقليم ‪ ،‬ويكون مسؤوالً عن الشؤون العسكرية واإلدارية يه ‪ ،‬ومن‬
‫صضمحياته توقيع املراسيم واملنشورات ‪ ،‬وترشيح أمساء نوابه يف املدن األخرى التابعة لإلقليم ‪ ،‬واإلشراف على تنفيذ قوانني‬
‫ضمن منطقة مسؤوليته ‪ ،‬ويرأس اجتماعات ديوان اجليش يف اإلقليم ‪ ،‬وقيادة الفرق العسكرية املوجودة يف اإلقليم‪.‬‬
‫وكان جمد الدين بن الداية ‪ ،‬من أشهر نواب نور الدين ‪ ،‬قد ظ مخسة عشر عاماً انئباً لنور الدين يف حلب(‪.)2‬‬
‫‪ 2‬ـ الوزير‪ :‬هو رئيس اجلهاز اإلداري املركزي ‪ ،‬ويكون مسؤوالً أمام نور الدين عن مجيع الدواوين ‪ ،‬والسجضمت املتعلقة‬
‫ابجلند ‪ ،‬والربيد ‪ ،‬واخلزينة(‪ ،)3‬ويقدم النص ح والرأي يف األمور السياسية ‪ ،‬واإلدارية ‪ ،‬والعسكرية ‪ ،‬وكانت وظيفة الوزير‬
‫أهم وظائف الدولة قب استحداث وظيفة النائب(‪ ، )4‬قد كان الوزير يف بداية عصر السضمجقة ‪ ،‬هو املدبر الوحيد ‪،‬‬
‫ولكن صضمحياته تقلهلصت بعد استحداث وظيفة النائب ‪ ،‬الذي كان يتمتع جبميع‬ ‫واحلقيقي جلميع شؤون الدولة ‪ ،‬هل‬
‫صضمحيات السلطان ‪ ،‬ضمن منطقة مسؤوليته ‪ ،‬ويرتبط ابلسلطان مباشرة ‪ ،‬وقد حص تداخ يف الواجبات‬
‫والصضمحيات بني وظيفة الوزير ‪ ،‬ووظيفة الناظر (انظر الديوان) ‪ ،‬الذي كان يعترب مسؤوالً عن الدواوين‪.‬‬
‫وكان عم الوزير يقتصر ـ يف بعض األحيان ـ على تقدمي املشورة يف األمور اهلامة ‪ ،‬وبسبب التداخ املذكور(‪ ، )5‬مل يكن‬
‫هناك وصف دقيق للوظائف وصضمحياهتا ‪ ،‬كان األمر يف احلقيقة يعتمد على كفاءة من يتوىل املنصب وشخصيته ‪،‬‬
‫كما حدث مع كمال الدين الشهرزوري ‪ ،‬قد كان قاضي القَاة يف ك مملكة نور الدين ‪ ،‬وكان يكلفه بكثري من‬
‫املهام األخرى غري القَاء ‪ ،‬ويستشريه يف األمور اهلامة(‪ ، )6‬حىت وصفه العماد األصفهاين أبنه أصبح يف دمشق‪( :‬احلاكم‬
‫املطلق ‪ ،‬وأنه ارتقى إىل درجة الوزارة ‪ ،‬كان له احل ‪ ،‬والعقد يف أمور الشام)(‪ ، )7‬ومثال ذلك أيَاً ثقة نور الدين يف‬
‫مر معنا‪.‬‬
‫العماد األصفهاين كما هل‬
‫‪ 3‬ـ املستويف‪ :‬هو املسؤول عن موازنة الدولة مجيعها من حيث تقدير األموال املستحقة ‪ ،‬ومجعها من مصادرها ‪ ،‬وحفظها‬
‫‪ ،‬وختصيص األموال الضمزمة للجند ‪ ،‬وغريهم من أجهزة الدولة ‪ ،‬ومؤسساهتا ‪ ،‬ويكون له هلنواب يف األقاليم ‪ ،‬يقومون‬

‫(‪ )1‬دور نور الدين يف هنَة األمة ص ‪.170‬‬


‫(‪ )2‬دور نور الدين يف هنَة األمة ص ‪.171‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.171‬‬
‫(‪ )4‬املصدر نفسه ص ‪.172‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه ص ‪.172‬‬
‫(‪ )6‬املصدر نفسه ص ‪.172‬‬
‫(‪ )7‬املصدر نفسه ‪.‬‬

‫‪225‬‬
‫ابلواجبات نفسها ‪ ،‬ويعملون إبمرته ‪ ،‬وكذلك يكون له عدد من الكتبة املساعدين يف اإلدارة املركزية ‪ ،‬يعملون معاً حتت‬
‫يسمى ديوان االستيفاء(‪.)1‬‬
‫إمرته يف ديوان هل‬
‫ووظيفة املستويف أهم الوظائف يف اإلدارة املركزية بعد وظيفة الوزير ‪ ،‬ويتبع املستويف موظف اخر ‪ ،‬هو املشرف الذي‬
‫يرأس ديوان اإلشراف ‪ ،‬ويعترب عمله مكمضمً لعم املستويف ‪ ،‬ومهمته تدقيق احلساابت ‪ ،‬واملوازنة بني الصادرات والواردات‬
‫خلزينة الدولة ‪ ،‬ويشبه عمله إىل حد ما عم املفتش يف هذه األايم(‪.)2‬‬
‫‪ 4‬ـ األمري احلاجب‪ :‬هو املسؤول عن ديوان اجليش من حيث حفظ السجضمت؛ اليت حتتوي أمساءهم ‪ ،‬ووظائفهم ‪،‬‬
‫ورواتبهم ‪ ،‬وإقطاعاهتم ‪ ،‬ويقوم حب مشاكلهم ‪ ،‬وتقدمي صورة واضحة عن أحواهلم إىل السلطان ‪ ،‬أو النائب ‪ ،‬كما يقوم‬
‫ابإلشراف على سضمح اجلند ‪ ،‬وخيوهلم ‪ ،‬ويساعده يف ذلك عدد من الكتبة ‪ ،‬واملوظفني ‪ ،‬يشكلون معه ديوان اجلند‬
‫الذي يتوىل ـ كما ذكرت ـ ك هل ما يتعلق بشؤون اجلند ‪ ،‬من خي ‪ ،‬وسضمح ‪ ،‬ورواتب ‪ ،‬وإقطاعات ‪ ،‬وسجضمت(‪.)3‬‬
‫كان حممد العمادي صاحب نور الدين ‪ ،‬وأمري حاجبه ‪ ،‬وأحد كبار نوابه يف حلب وصاحب بعلبك ‪ ،‬وتدمر‪.‬‬
‫أما احلاجب ‪ ،‬هو الذي يتوىل تنظيم مقابضمت السلطان ‪ ،‬والدخول عليه يف جملسه ‪ ،‬ومع أن بعض املراجع تذكر‪ :‬أن‬
‫وظيفة احلاجب اختلفت عما كانت عليه ‪ ،‬قب عصر السضمجقة ‪ ،‬وأصبحت مهمة احلاجب‪ :‬إبضمغ السلطان حالة‬
‫الشعب ‪ ،‬وكشف مظاملهم أمامه ‪ ،‬وإطضمعه على األمور الرئيسية للدولة ‪ ،‬ومطاردة الظلم و ق توجيهات املسؤول األعلى‬
‫‪ ،‬احلاجب ـ إذاً ـ يشبه وزير الداخلية حالياً(‪ ، )4‬إال أنه ورد يف مراجع أخرى كثرية‪ :‬أن نور الدين كان أيمر إبزالة‬
‫احلاجب ‪ ،‬والبواب ‪ ،‬عندما جيلس يف دار العدل للقَاء ‪ ،‬ليسه دخول الَعفاء من الناس عليه(‪ ،)5‬مما يدل على أن‬
‫وظيفة احلاجب ظلهلت حىت عصر نور الدين تشم واجب تنظيم الدخول على السلطان ومقابلته(‪.)6‬‬
‫‪ 5‬ـ الوايل‪ :‬تغري مفهوم وظيفة الوايل عما كان قب دولة السضمجقة ‪ ،‬قد كان الوايل ميث اخلليفة ‪ ،‬أو السلطان يف واليته‬
‫‪ ،‬ويعترب مسؤوالً عن مجيع الشؤون اإلدارية ‪ ،‬والعسكرية يها‪ .‬أما يف عهد السضمجقة ‪ ،‬والدولة الزنكية؛ قد أصبح‬
‫النائب هو الذي يتوىل الصضمحيات املذكورة‪ ،‬بينما يكون الوايل مسؤوالً عن مدينة‪ ،‬أو بلدة‪ ،‬أو قلعة يف الوالية‪ ،‬أو‬
‫اإلقليم الذي حيكمه النائب ابسم السلطان ‪ ،‬أي‪ :‬هل‬
‫أن النائب يف عهد السضمجقة ‪ ،‬وعهد الدولة الزنكية ح هل حم الوايل‬
‫يف مركزه وصضمحياته(‪.)7‬‬
‫أما واجبات الوايل يف املدينة؛ هي واجبات إدارية ‪ ،‬تشم تنفيذ األحكام ‪ ،‬ومراقبة األسواق ‪ ،‬وحماسبة املخالفني‬
‫للقانون ‪ ،‬وتفقد أبواب املدينة وأسوارها ‪ ،‬وإطضمع النائب أو السلطان على األوضاع العامة يف املدينة(‪ ، )8‬بينما ختتلف‬

‫(‪ )1‬نور الدين حممود وجتربته اإلسضممية ص ‪.83 ، 82‬‬


‫(‪ )2‬دور نور الدين حممود يف هنَة األمة ص ‪.174‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.174‬‬
‫(‪ )4‬املصدر نفسه ص ‪.174‬‬
‫(‪ )5‬عيون الروضتني نقضمً عن دور نور الدين حممود ص ‪.174‬‬
‫(‪ )6‬دور نور الدين يف هنَة األمة ص ‪.174‬‬
‫(‪ )7‬الباهر ص ‪ 168‬عيون الروضتني نقضمً عن دور نور الدين حممود يف هنَة األمة ص ‪.174‬‬
‫(‪ )8‬دور نور الدين يف هنَة األمة ص ‪.175‬‬

‫‪226‬‬
‫واجبات وايل القلعة ‪ ،‬هو يعترب قائد احلامية ‪ ،‬ويكون مسؤوالً عن أبواب القلعة ‪ ،‬وصيانتها ‪ ،‬وإدارة حاميتها‪ ،‬هو قائد‬
‫عسكري ‪ ،‬وله واجبات إدارية ضمن القلعة نفسها(‪.)1‬‬
‫‪ 6‬ـ الشحنة‪ :‬الشحنة ‪ ،‬أو الشحنكية كلمة تركية ‪ ،‬تعين‪ :‬قائد احلامية ‪ ،‬أو احلاكم اإلداري للمدينة ‪ ،‬املسؤول عن األمن‬
‫‪ ،‬والنظام يها ‪ ،‬يعني من قب السلطان ‪ ،‬ويعم إبمرته رجال الشرطة ‪ ،‬أو احلامية ‪ ،‬ويقوم مبضمحقة اللصوص ‪،‬‬
‫واخلارجني عن القانون ‪ ،‬ويضمحظ‪ :‬أن هناك تداخضمً بني واجبات الوايل ‪ ،‬والشحنة يف املدينة‪.‬‬
‫وال تذكر املصادر واملراجع حدوداً اصلة بني واجبات خمتلف الوظائف اإلدارية يف تلك العصور‪ ،‬ويظهر‪ :‬أن واجبات‬
‫ك وظيفة‪ ،‬كانت تتحدد يف ضوء قوة شخصية من يشغلها ‪ ،‬إذا كانت شخصيته قوية؛ زادت صضمحياته ‪ ،‬واتسعت‬
‫لتشم واجبات لوظائف أخرى‪ ،‬كما حص مع كمال الدين الشهرزوري ‪ ،‬الذي كان قاضياً يف دمشق‪ ،‬مث صار قاضياً‬
‫للقَاة يف مملكة نور الدين كلها ‪ ،‬وكان نور الدين يكل ُفه أبعمال كثرية ‪ ،‬غري القَاء ‪ ،‬حىت وصفه العماد األصفهاين‬
‫أبنه كان يف مقام الوزير ‪ ،‬وتشري بعض املراجع إىل تعيني السلطان السلجوقي حممود املري اق سنقر الربسقي شحنة يف‬
‫بغداد عام ‪516‬هـ ‪ 1122 /‬م ‪ ،‬كذلك تشري املراجع نفسها إىل تعيني السلطان نفسه لعماد الدين زنكي شحنة يف‬
‫أن آق سنقر الربسقي كان يقود اجليش وهو يف الوظيفة املذكورة ‪ ،‬ويدا ع‬ ‫بغداد عام ‪520‬هـ ‪1126/‬م ‪ ،‬واملعروف‪ :‬هل‬
‫عن بغداد ‪ ،‬ويتصرف كنائب للسلطان ‪ ،‬وكذلك كان من بعده عماد الدين زنكي يف هذه الوظيفة(‪ ،)2‬وتشري املراجع‬
‫ذاهتا إىل تعيني نور الدين حممود توران شاه بن جنم الدين أيوب شحنة يف دمشق ‪ ،‬ومن بعده أخوه صضمح الدين يوسف‬
‫أن مفهوم وظيفة‬‫يف الوظيفة نفسها ‪ ،‬وكانت واجبات األخوين يف هذه الوظيفة ال تتعدى األمور اإلدارية(‪ ،)3‬مما يعين‪ :‬هل‬
‫يتغري من ظرف إىل اخر ‪ ،‬ومن مكان إىل مكان(‪.)4‬‬ ‫الشحنة كان هل‬
‫‪ 7‬ـ القاضي‪ :‬حظي القَاء برعاية نور الدين واهتمامه أكثر من أية وظيفة أخرى ‪ ،‬ويرجع السبب يف ذلك إىل تركيزه‬
‫على إقرار العدل ‪ ،‬وإشاعته يف دولته ‪ ،‬قد كان خيتار هلذه الوظيفة أشهر العلماء ‪ ،‬والفقهاء املعرو ني ابلتقوى واالستقامة‬
‫‪ ،‬ويعطيهم كام الصضمحيات يف تنفيذ أعماهلم وأحكامهم ‪ ،‬كان القَاء يتمتع ابستقضمل اتم(‪ ، )5‬وكان هو هلأول من‬
‫مر معنا ـ للنظر يف القَااي املتعلقة بكبار رجال الدولة ‪ ،‬عندما الحظ هتيُّب‬ ‫أنشأ حمكمة عليا مسهلاها دار العدل ـ كما هل‬
‫القاضي طلب بعَهم للمحاكمة ‪ ،‬كان جيلس يها للقَاء ‪ ،‬ومعه الفقهاء ‪ ،‬والعلماء ‪ ،‬والقاضي ‪ ،‬ليستشريهم يما‬
‫يعرض عليه من قَااي ‪ ،‬مث جع من نفسه قدوة لرجال دولته ‪ ،‬عندما ذهب إىل جملس القَاء ‪ ،‬وطلب من القاضي‬
‫أن يساوي بينه وبني خصمه يف احملاكمة(‪ ،)6‬لم جيرؤ أحد بعد ذلك من األمراء ‪ ،‬والقادة ‪ ،‬وكبار موظفي الدولة على‬
‫خمالفة الشريعة ‪ ،‬أو ظلم أحد من الرعية؛ ألنه علم‪ :‬أن العقاب هل‬
‫البد أن يقع عليه‪.‬‬

‫(‪ )1‬عماد الدين زنكي نقضمً عن دور نور الدين حممود ص ‪.175‬‬
‫(‪ )2‬دور نور الدين يف هنَة األمة ص ‪.175‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.175‬‬
‫(‪ )4‬دور نور الدين يف هنَة األمة ص ‪.176‬‬
‫(‪ )5‬الكواكب الدرية ص ‪ 147‬دور نور الدين ص ‪.176‬‬

‫(‪ )6‬دور نور الدين يف هنَة األمة ص ‪.176‬‬

‫‪227‬‬
‫وكان كمال الدين الشهرزوري أشهر القَاة يف دولة نور الدين ‪ ،‬الذي كان جيلُّه ويقدره ‪ ،‬جعـله قاضياً للقَـاة يف‬
‫الدولة كلها ‪ ،‬حبيث يكون القَاة يف األقاليم نواابً عنه ‪ ،‬وكلهلفه أبعمال مهمة غري القَاء ‪ ،‬كاإلشراف على دار الَرب‬
‫‪ ،‬وأوقاف الدولة‪ ،‬وبناء أسوار دمشـق ‪ ،‬ومدارسها ‪ ،‬ومارستاهنا ‪ ،‬حىت وصفه العماد األصفهاين أبنـه كان احلاكم املطلق‬
‫يف دمشق ‪ ،‬وأنـه‪( :‬ارتقى إىل درجة الوزارة ‪ ،‬كان له احل والعقد يف أحكام الشام(‪ .)1‬ومن القَاة اآلخرين؛ الذين‬
‫اشتهروا يف دولة نور الدين‪ :‬شرف الدين بن أيب عصرون ‪ ،‬الذي وصف أبنه من أ قه أه عصره(‪.)2‬‬
‫اثلثاً‪ :‬صبغ اإلدارة الزنكية ابلصبغة اإلسالمية وتكامل القيادات السياسية والفكرية‪:‬‬
‫حرصت القيادات السياسية ‪ ،‬واإلدارية ‪ ،‬والعسكرية ‪ ،‬على العموم ابلتزامها العقائدي يف نشاطاهتا ‪ ،‬وممارساهتا ‪،‬‬
‫والسبب يف ذلك يعود إىل تربيتها اإلسضممية ‪ ،‬وإىل شخصية نور الدين ‪ ،‬قد كان نور الدين زنكي تقياً ورعاً ‪ ،‬وعده‬
‫احلكام ‪ ،‬وكان حيا ظ على صضمة اجلماعة ‪ ،‬ويكثر من‬ ‫بعض املؤرخني أبنه أ َ من جاء بعد عمر بن عبد العزيز من هل‬
‫الصضمة يف اللي إىل وقت السحر إىل أن يركب‪.‬‬
‫ب‬‫عص ٍ‬
‫وكان حمداثً بعلم احلديث ‪ ،‬وأمسعه ‪ ،‬وأمجعه له! وكان حنفي املذهب ‪ ،‬عار اً مبذهب أيب حنيفة ‪ ،‬ولكن دون ت ُّ‬
‫على أحد ‪ ،‬املذاهب عنده سواء ‪ ،‬وال تعدو عن كوهنا مدارس يف الفقه(‪.)3‬‬
‫نور الدين ذو أتثري كبري على رجاله ‪ ،‬ومعاونيه ‪ ،‬وقادة جيشه ‪ ،‬وأصبح بعَهم على مستوى نور الدين يف العلم‬
‫واألخضمق والتديُّن ‪ ،‬ومن أمثلة ذلك وزيره أبو الفَ حممد بن عبد هللا بن القاسم الشهرزوري ‪ ،‬الذي قَد َم من بغداد‬
‫كالسفارة ‪ ،‬والوزارة ‪ ،‬وانظ ٍر لألوقاف ‪ ،‬وانظ ٍر للمالية ‪،‬‬
‫إىل دمشق ‪ ،‬قد كان قيهاً أصولياً ‪َ ،‬شغَ َ مناصب خمتلفة ‪ ،‬هل‬
‫استمر على ذلك حىت قيادة صضمح الدين(‪.)4‬‬ ‫والقَاء ‪ ،‬و هل‬
‫ومل تكن هذه الشخصيا ت إال مناذج لرجال اإلدارة واحلكم من نور الدين‪ .‬قد أظهر هذا الرعي من املهارات يف‬
‫التخطيط والتنفيذ ‪ ،‬وحشد مقدرات األمة ‪ ،‬وتنظيمها ما هيأها جملاهبة التحدايت يف الداخ ‪ ،‬واخلارج(‪ .)5‬ومن أمثلة‬
‫هذه املهارات ‪ ،‬واملزااي ما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ تكام القيادات الفكرية والسياسية‪ :‬قد أدركت هذه القيادات خطورة االرجتال ‪ ،‬أو انفراد ريق من القيادات دون‬
‫دوري يلتقي‬
‫جملس ٌّ‬
‫اآلخر ‪ ،‬واعتمدت يف القرارات اليت تتخذها على آراء العلماء واملختصني ‪ ،‬كان لدى نور الدين ٌ‬
‫يه القادة‪ ،‬والعسكريون مع العلماء املختصني‪ ،‬حيث حيت هل العلماء املنزلة األوىل يه(‪ .)6‬وكان نور الدين مينع األمراء من‬
‫مر ذلك يف قصة أحد األمراء مع قطب الدين النيسابوري ‪ ،‬ود اع نور الدين عنه‪.‬‬ ‫اغتياب العلماء ‪ ،‬وقد هل‬

‫(‪ )1‬دور نور الدين يف هنَة األمة ص ‪.176‬‬


‫(‪ )2‬دور نور الدين يف هنَة األمة ص ‪.176‬‬
‫(‪ )3‬هكذا ظهر جي صضمح الدين ص ‪.362‬‬
‫(‪ )4‬املصدر نفسه ص ‪.164‬‬
‫(‪ )5‬الكواكب الذرية ص ‪ 38‬هكذا ظهر جي صضمح الدين ص ‪.264‬‬

‫(‪ )6‬الكواكب الذرية ص ‪ 38‬هكذا ظهر جي صضمح الدين ص ‪.264‬‬

‫‪228‬‬
‫‪ 2‬ـ اعتماد الشورى وعدم االنفراد ابختاذ القرارات‪ :‬قد متيهلزت إدارة نور الدين ‪ ،‬ابلشورى ‪ ،‬وتبادل اآلراء يف ك أمور‬
‫الدولة ‪ ،‬كان له جملس قهاء ‪ ،‬يتألف من ممثلي سائر املذاهب ‪ ،‬والصو ية ‪ ،‬يبحث يف أمور اإلدارة وامليزانية ‪ ،‬إذا‬
‫حبث أمراً خيص األمة مجيعها ‪ ،‬أو كان ذا عضمقة ابألموال املرصودة لصاحل املسلمني؛ مجع أعَاء هذا اجمللس ‪ ،‬وشاورهم‬
‫يه ‪ ،‬وسأل ك عَو ما عنده من الفقه ‪ ،‬وال يتعدى الرأي الذي يُتفق عليه(‪ ، )1‬ما دام حيقق املصلحة العامة‪ .‬وقد‬
‫مر بعض املمارسات الشورية يف حديثنا عن الشورى يف عهد نور الدين زنكي‪.‬‬ ‫هل‬
‫‪ 3‬ـ غلبة املصلحة العامة على االنفعاالت واملصاحل الشخصية يف معاجلة املشكضمت اليت قد تثور بني األقران ‪ ،‬لقد‬
‫كان من الطبيعي أن تقوم مشكضمت وخضم ات بني نور الدين ـ مثضمً ـ ووزرائه وقادته ‪ ،‬لكنهم كانوا يعاجلون هذه‬
‫املشكضمت أبسلوب مل خيرج يوماً عن حدود املصلحة العامة ‪ ،‬وما تقتَيه وحدة الكلمة ‪ ،‬وتغليب األخضمق اإلسضممية(‪.)2‬‬
‫واتخ‪ :‬ومن طريف ما الحظه الدكتور حسني مؤنس عند هذا الزعيم من القادة‬ ‫‪ 4‬ـ التفاين يف أداء الواجب بتعاون ٍ‬
‫يتخريون أمساءهم على حنو يتفق مع هذه النزعة ‪ ،‬بينما كان‬ ‫واإلداريني والعلماء قوله‪( :‬إن تعلُّقهم ابلدين جعلهم هل‬
‫البويهيون ينسبون أنفسهم للدولة ‪ ،‬يقولون‪ :‬عَد الدولة ‪ ،‬هباء الدولة ‪ ،‬صمصام الدولة ‪ ،‬وكان قادة هذه الدولة ‪،‬‬
‫وأعواهنم والعاملون معهم خيتارون عماد الدين ‪ ،‬وسيف الدين ‪ ،‬ونور الدين ‪ ،‬وصضمح الدين ‪ ،‬وأسد الدين ‪ ،‬وجنم الدين‬
‫‪ ،‬وزين الدين ‪ ،‬وهكذا(‪.)3‬‬
‫ومثة مضمحظة أخرى ‪ ،‬وهي تعلُّق هذا اجلي ابلدين مما جعلهم حيرصون على اجلهاد ‪ ،‬واالستشهاد ‪ ،‬إذا مل يكتب هلم‬
‫االستشهاد؛ أوصوا بد نهم يف مدا ن املدينة املنورة ‪ ،‬كما ع الوزير مجال الدين املوصلي ‪ ،‬وأسد الدين شريكوه ‪ ،‬وأخوه‬
‫جنم الدين والد صضمح الدين(‪.)4‬‬
‫‪ 5‬ـ الزهد والتعفف وبذل املال يف الصاحل العام‪ :‬جتلهلت ااثر الرتبية اإلسضممية يف مواقف رجال الدولة ‪ ،‬واإلدارة واجليش‬
‫من الثروات ‪ ،‬والسياسة االقتصادية ‪ ،‬قد زهدوا ابملكاسب ‪ ،‬وعز وا عن االحتكار ‪ ،‬والرتف‪.‬‬
‫وحذا حذوهم األغنياء يف املدن والقرى ‪ ،‬قد كان نور الدين زنكي مقتصداً يف اإلنفاق على نفسه ‪ ،‬وعلى أسرته ‪،‬‬
‫وكان ال يكنز ‪ ،‬وال يستأثر الدنيا ‪ ،‬ومل يكن له بيت يسكنه ‪ ،‬وإمنا كان مقامه يف قلعة البلد ‪ ،‬الذي حي يه(‪ ، )5‬وكانت‬
‫نفقته يف الشهر مئة ومخسني درمهاً ‪ ،‬أيخذها من دكاكني كانت له يف مدينة محص ‪ ،‬حيث اشرتاها من حصته من‬
‫الغنائم ‪ ،‬ولقد شكت له زوجته يوماً قلة نفقاهتا ‪ ،‬وأرسلت له أخاها يف الرضاع تطلب زايدة ‪ ،‬قال‪( :‬من أين أعطيها‬
‫أن الذي بيدي من األموال هي يل؛ بئس الظن ‪،‬‬ ‫ما يكفيها؟ وهللا ال أخوض يف انر جهنم يف هواها‪ .‬إن كانت تظن‪ :‬هل‬
‫إمنا هي أموال املسلمني مرصدة لصاحلهم وأان خازهنا ‪ ،‬ضم أخوهنم يها! مث قال‪ :‬يل مبدينة محص ثضمث دكاكني اشرتيتها‬
‫من الغنائم ‪ ،‬قد وهبتها إايها ‪ ،‬لتأخذها)‪.‬‬

‫(‪ )1‬هكذا ظهر جي صضمح الدين ص ‪.265‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص ‪.266‬‬
‫(‪ )3‬نور الدين حممود ص ‪ ، 407‬هكذا ظهر جي صضمح الدين ص ‪.266‬‬
‫(‪ )4‬البداية والنهاية نقضمً عن هكذا ظهر جي صضمح الدين ص ‪.266‬‬
‫(‪ )5‬نور الدين حممود ص ‪ 369‬د‪.‬حسني مؤنس‪.‬‬

‫‪229‬‬
‫مهنة ‪ ،‬خييط الكوايف ‪ ،‬ويعم سكاكر لألبواب ‪ ،‬ويعطيها لبعض العجائز ‪ ،‬تبيعها وال يدري‬ ‫وكان نور الدين صاحب ٍ‬
‫به أحد(‪ )1‬ومع ذلك قد شهدت دولته تقدُّماً اقتصادايً سيأيت بيانه إبذن هللا‪.‬‬
‫ض واسعة أنفق مواردها يف بناء‬‫وقادة اجليش ‪ ،‬من ذلك أسد الدين شريكوه أكرب قادته العسكريني ‪ ،‬قد كان ميلك أرا ٍ‬
‫املدارس ‪ ،‬اليت تنشر الفكر اإلسضممي ‪ ،‬وحني مات مل خيلف إال داننري قليلة(‪.)2‬‬
‫وكذلك ع وزير نور الدين ‪ ،‬أبو الفَ حممد بن عبد هللا الشهرزوري ‪ ،‬الذي أوقف أوقا اً كثرية ‪ ،‬منها‪ :‬مدرسة‬
‫املوص ‪ ،‬ومدرسة نصيبني ‪ ،‬وراب ٌط يف املدينة املنورة ‪ ،‬وأوقف أوقا اً يف قرية «اهلامة» على املقادسة ‪ ،‬الذين نزحوا من‬
‫وجه االحتضمل الصلييب ‪ ،‬وكان كثري التربع ‪ ،‬واهلبات ‪ ،‬وال تق هبته يف املرة الواحدة عن ألف دينار ما وقها(‪.)3‬‬
‫وكذلك ع عبد هللا بن عصرون؛ حيث بىن مدرستني يف دمشق‪ ،‬وحلب‪ ،‬وكذلك ع جنم الدين يوسف والد صضمح‬
‫الدين؛ حيث بىن خانقاه تُعرف ابلنجمية(‪.)4‬‬
‫وعلى هذا املنهاج سار بقية رجال احلكم واإلدارة ‪ ،‬وحذت حذوهم نساؤهم‪ .‬من ذلك ما علته الست خاتون عصمت‬
‫الدين زوجة نور الدين ‪ ،‬حيث أوقفت «اخلاتونية» مبحلة حجر الذهب ‪ ،‬وخانقاه خاتون ابب النصر ‪ ،‬وأوقا اً كثرية‬
‫أخرى ‪ ،‬ومثلها زمرد خاتون بنت جاويل(‪.)5‬‬
‫‪ 6‬ـ تو ر األمن والعدل واحرتام احلرمات العامة‪ :‬تواترت لدى املؤرخني الـمعـاصرين أخبـار األمن ‪ ،‬والعدل ‪ ،‬واحرتام‬
‫احلرمـات العامـة ‪ ،‬كحريـة الـرأي املنَبطة ‪ ،‬واحملا ظة على كرامة الفرد اليت سادت يف ذلك اجملتمع يف الوقت الذي انتفت‬
‫مجيعها يف األقطار اإلسضممية اجملاورة ‪ ،‬ولقد علهلق ابن األثري على ذلك ‪ ،‬قال‪( :‬قد طالعت تواريخ امللوك املتقدمني من‬
‫قب اإلسضمم إىل يومنا هذا ‪ ،‬لم أر يه بعد اخللفاء الراشدين ‪ ،‬وعمر بن عبد العزيز ملكاً أحسن سرية من امللك العادل‬
‫يتجهز له ‪ ،‬ومظلمة‬
‫وجهاد هل‬‫ٍ‬ ‫نور الدين ‪ ،‬وال أكثر حترايً للعدل واإلنصاف منه‪ .‬قد قصر ليله وهناره على ٍ‬
‫عدل ينشره ‪،‬‬
‫يزيلها ‪ ،‬وعبادة يقوم هبا ‪ ،‬وإحسان يوليه ‪ ،‬وإنعام يسديه ‪ ،‬لو كان يف أمة؛ ال تخرت به كيف يف بيت واحد)(‪.)6‬‬
‫التعرض لألذى ‪ ،‬أو‬
‫وإىل جانب ذلك امتازت األجواء العامة حبرية الرأي ‪ ،‬كان ك إنسان يقول رأيه دون خوف من ُّ‬
‫االنتقاد ‪ ،‬حىت لو كان النقد موجهاً لنور الدين ‪ ،‬ابلرغم من استعمال البعض ألساليب قاسية حمرجة‪.‬‬
‫ولقد أورد املؤرخون اإلسضمميون أمثلة عديدة ملواقف نور الدين اليت تكشف عن أنه كان يتقبهل النقد بصدر رحب ‪،‬‬
‫مر معنا كضمم الواعظ‬‫مهما بلغت حدته ‪ ،‬وينظر يف كضمم الناقدين ‪ ،‬إذا رأى يه ما ينفع؛ سارع إىل األخذ به ‪ ،‬وقد هل‬
‫أيب عثمان املنتخب بن أيب حممد الواسطي ‪ ،‬وكيف تناول موضوع الَرائب واملكوس يف حَور نور الدين نفسه ‪،‬‬
‫حذ َره ‪ ،‬وخو ه مما هو يه ‪ ،‬وأنشد أمامه أبيات من الشعر(‪ ، )7‬مر ذكرها‪.‬‬‫هل‬

‫(‪ )1‬الكواكب الدرية نقضمً عن هكذا ظهر جي صضمح الدين ص ‪.267‬‬


‫(‪ )2‬نور الدين حممود ‪ ،‬حسني مؤنس ص ‪.391‬‬
‫(‪ )3‬طبقات الشا عية (‪ 117/ 6‬ـ ‪.)119‬‬
‫(‪ )4‬هكذا ظهر جي صضمح الدين ص ‪.268‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه ص ‪.269‬‬
‫(‪ )6‬التاريخ الباهر نقضمً عن هكذا ظهر جي صضمح الدين ص ‪.270‬‬

‫(‪ )7‬هكذا ظهر جي صضمح الدين ص ‪.273‬‬

‫‪230‬‬
‫إن التخطيط السليم ‪ ،‬واإلدارة الناجحة يف احلركات اإلسضممية ‪ ،‬والدول ‪ ،‬من األسباب األكيدة يف التمكني لدين هللا‬ ‫هل‬
‫عرف بعض الباحثني التخطيط أبنه‪( :‬جسر احلاضر ‪ ،‬واملستقب )(‪ .)1‬إن التخطيط يف املفهوم القراين ‪،‬‬ ‫تعاىل ‪ ،‬ولقد هل‬
‫هو االستعداد يف احلا ضر‪ ،‬ملا يواجه اإلنسان عمله‪ ،‬أو حياته يف املستقب ‪ ،‬وعلى هذا إن اإلداري املسلم ‪ ،‬يكون قد‬
‫ك ذُ‬‫َٓ َ َ َ‬
‫ٱَّلل ذ‬
‫ٱِل َار‬ ‫عرف التخطيط؛ ألن هللا تبارك وتعاىل قد وجه إىل ذلك يف آايت كثرية‪ .‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬و ۡٱب َتغِ فِيما ءاتى‬
‫َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ُّ ۡ‬
‫ٱِلن َيا َۖ ﴾ [القصص‪ . ]77:‬إنه توجيه رابين للتخطيط يف هذه الدنيا ملقابلة مصري‬ ‫ٱٓأۡلخِرة َۖ وَل تنس ن ِصيبك مِن‬
‫اآلخرة(‪.)2‬‬
‫إن نور الدين حممود رج عاش مع كتاب هللا ‪ ،‬وعرف من قصة يُوسف وغريها ‪ ،‬أمهية التخطيط واإلدارة‪ ،‬ولذلك‬
‫جنحت إدارته‪ ،‬قد أدرك امللك العادل‪ :‬أن اإلسضمم ال يقوم على التخمني ‪ ،‬والتواك ‪ ،‬ولكنه يهتم أبدق األساليب‬
‫أن من مثار حسن إدارة يوسف عليه‬ ‫وأعمقها ‪ ،‬سواء يف جوانب االقتصاد ‪ ،‬أو السياسة ‪ ،‬أو غريها ‪ ،‬قد عرف‪ :‬هل‬
‫السضمم ‪ ،‬وختطيطه أن حفظ الشعب من اهلضمك واجلوع ‪ ،‬وخرج من الشدائد ‪ ،‬وعاد إىل الرخاء ‪ ،‬والتخطيط يعترب وظيفة‬
‫أساسية من وظائف اإلدارة ‪ ،‬اليت ال ميكن هلا أن تكون عالة بدوهنا ‪ ،‬كما أن التخطيط يف حقيقته يعتمد على دعامتني‬
‫‪ ،‬ومخسة عناصر‪.‬‬
‫أما الدعامتان؛ هما التنبؤ‪ ،‬واألهداف‪ ،‬وأما العناصر؛ هي السياسات‪ ،‬والوسائ واألدوات ‪ ،‬واملوارد البشرية ‪،‬‬
‫واإلجراءات ‪ ،‬والربامج الزمنية ‪ ،‬واملوازنة التخطيطية التقديرية(‪.)3‬‬
‫إن كتب علم اإلدارة والتخطيط احلديث تقول‪( :‬إنه ال إدارة هلعالة إال بتنظيم وو ق ختطيط سليم مسبق) ‪ ،‬وهذا عني‬
‫الذي زاوله امللك العادل نور الدين حممود الشهيد ‪ ،‬لقد جاء إىل احلكم يوم جاء وبرانجمه اإلصضمحي السياسي ‪،‬‬
‫واجلهادي ‪ ،‬االقتصادي ‪ ،‬واالجتماعي ‪ ،‬والثقايف ‪ ،‬والرتبوي ‪ ،‬واإلعضممي ‪ ،‬ك ُّ ذلك يف ذهنه قد أُع هلد إعداداً كا ياً) ‪،‬‬
‫إن االهتمام ابلفكر اإلسضممي وأصوله وقواعده و ق التصور اإلسضممي‬ ‫وسيأيت بيان ذلك يف حمله إبذن هللا تعاىل ‪ ،‬هل‬
‫الصحيح من األسباب املهمة اليت مارسها نور الدين حممود ‪ ،‬وساعدته على إجناح مشروعه النهَوي الكبري‪.‬‬

‫املبحث اخلامس ‪ :‬النظام االقتصادي واخلدمات االجتماعية‬


‫أوالً‪ :‬مصادر دخل دولة نور الدين وسياسته االقتصادية‪:‬‬
‫مثة سؤال يفرض نفسه قب احلديث عن هذا املوضوع ‪ ،‬نور الدين حممود أنفق مقادير كبرية من املال يف تغطية اخلدمات‬
‫تنصب يف خزائن الدولة‬
‫ُّ‬ ‫االجتماعية املتشعبة الواسعة ‪ ،‬وأسقط يف الوقت نفسه مبالغ نقدية أكرب منها حجماً كانت‬
‫ائب ‪ ،‬ومؤانً ‪ ،‬ورسوماً ‪ ،‬ومكوساً ‪ ،‬من أين كانت دولة نور الدين حتظى مبوردها الدائم ‪ ،‬الذي حيميها من العجز؟‬
‫ضر َ‬
‫وكيف مَت حىت النهاية تصدر املناشري إبسقاط املكوس ‪ ،‬والَرائب ‪ ،‬وتنفق عن سعة يف ميادين اخلدمات االجتماعية‬

‫(‪ )1‬قه النصر والتمكني يف القران الكرمي ص ‪.277‬‬


‫(‪ )2‬قه النصر والتمكني يف القران الكرمي ص ‪.277‬‬
‫(‪ )3‬سورة يوسف دراسة حتليلية ص ‪.416 ، 415‬‬

‫‪231‬‬
‫دون أن يصيبها اخلل ‪ ،‬توقف ـ على األق ـ عن العطاء إن مل نق ترجع اثنية ‪ ،‬تفرض على املواطنني ما ميكنها من‬
‫سد الفتق ‪ ،‬واستعادة التوازن ‪ ،‬والقدرة على العم ؟‬
‫إن دولة نور الدين لو مل حتظ ابلقدر الكايف من املال‪ ،‬وبشك دائم؛ ملا واصلت سياستها تلك حىت آخر حلظة ‪ ،‬وملا‬ ‫هل‬
‫وصفها العماد أبهنا كانت‪( :‬ان ذة األوامر ‪ ،‬منتظمة األمور)(‪ .)1‬وقد كانت خزائن الدولة حتظى دوماً ابلقدر الكايف من‬
‫املال ‪ ،‬وكـانت الدولـة هلا الـقدر على اإلنـفـاق يف الـمجـال العسكري ‪ ،‬واالجتماعي ‪ ،‬والتعليمي ‪ ،‬وغريها ‪ ،‬بسبب‬
‫سياسة نور الدين احلكيمة ‪ ،‬وإليك شيء من التفصي ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ نظام القطاع احلريب‪ :‬اعتمد الزنكيون نظام اإلقطاع احلريب ‪ ،‬للصرف على جيوشهم خضمل جهادهم هل‬
‫ضد الصليبيني‪،‬‬
‫قد نشأ نظام اإلقطاع احلريب يف الشرق اإلسضممي يف الدولة السلجوقية ‪ ،‬اليت كانت تسري على أساس صرف مرتبات‬
‫نقدية للجيش النظامي ‪ ،‬حىت منتصف القرن اخلامس اهلجري ‪ ،‬احلادي عشر امليضمدي ‪ ،‬حيث أدى اتساع رقعة الدولة‬
‫‪ ،‬وصعوبة السيطرة عليها ‪ ،‬وإرهاق اإلدارة املالية بباهظ املرتهلبات ‪ ،‬اليت تصرف للجيش إىل تفكري الوزير نظام امللك يف‬
‫االستعاضة عن املرتبات النقدية ابإلقطاعات من األراضي ملختلف عناصر اجليش(‪ ، )2‬وقد انتق نظام اإلقطاع احلريب‬
‫كامضمً إىل الدولة الزنكية ‪ ،‬اليت نبتت ‪ ،‬وترعرعت يف أحَان السضمجقة ‪ ،‬مث ورثتهم بعد ذلك(‪.)3‬‬
‫وقد ارتبط اإلقطاع احلريب يف عصر الزنكيني ابخلدمة احلربية؛ إذ كان األمري املقطع يـُْلَزُم بتقدمي العساكر وقت احلرب‬
‫جمهزة بكام عتادها وعدهتا ‪ ،‬وكان إقطاعاً وراثياً‪ ،‬أي‪ :‬هل‬
‫أن إقطاع األمري ‪ ،‬أو اجلندي مينح بعد و اته ألوالده(‪ ، )4‬ويف‬
‫حالة صغر سن االبن كان السلطان يعني من يدير اإلقطاع حىت يبلغ سن الرشد‪ ،‬ومنح اإلقطاع بواسطة السلطان ‪ ،‬مل‬
‫يكن معناه متليك األراضي الزراعية للمقطع ‪ ،‬وليس معناه أيَاً متتع املقطع مبتحصضمت اإلقطاع لفرتة طويلة ‪ ،‬ب كان‬
‫يعطي املقطع جمرد احلق يف أن جيمع لنفسه‪ ،‬وأجناده جمموعة من الَرائب يف مقاب الواجبات املدنية العسكرية‪ ،‬اليت‬
‫كان املقطع ملزماً هبا(‪ ،)5‬واملضمحظ أن توزيع اإلقطاعات احلربية على األمراء واألجناد يف العهد الزنكي مش ك هل البضمد‪،‬‬
‫متك َن عماد الدين‪ ،‬وابنه نور الدين من ضمها إىل مشروع اجلبهة اإلسضممية آنذاك ‪ ،‬واألدلة على ذلك كثرية منها‪:‬‬ ‫اليت هل‬
‫أنه عندما جلأ جنم الدين وأخوه أسد الدين شريكوه إىل املوص ؛ رحب هبما زنكي وأقطعهما اإلقطاعات يف شهرزور‬
‫خص أسد الدين ابملؤزر(‪.)6‬‬
‫بشمال العراق ‪ ،‬مث هل‬
‫وأقطع األمري جاويل الرحبة وأعماهلا(‪ )7‬وسار نور الدين حممود على هنج والده يف توزيع اإلقطاعات احلربية ‪ ،‬عندما‬
‫استوىل على دمشق سنة ‪1154 / 549‬م ‪ ،‬أقطع صاحبها جمري الدين ضياعاً حبمص عوضاً عن دمشق ‪ ،‬كما أقطع‬

‫(‪ )1‬نور الدين حممود ص ‪ 120 ، 119‬الربق ص ‪.147‬‬


‫(‪ )2‬مقومات حركة اجلهاد ضد الصليبيني زمن عماد الدين وابنه ص ‪ 26‬نقضمً عن جيش مصر ‪ ،‬حسان سعداوي ص ‪.2 ، 1‬‬
‫(‪ )3‬مقومات حركة اجلهاد ضد الصليبيني وعماد الدين وابنه ص ‪.26‬‬
‫(‪ )4‬الكام يف التاريخ نقضمً عن مقومات حركة اجلهاد ضد الصليبيني ص ‪.27‬‬
‫(‪ )5‬مقومات حركة اجلهاد ضد الصليبيني ص ‪.27‬‬
‫(‪ )6‬مفرج الكروب (‪ 3 / 1‬ـ ‪ .)6‬النجوم الزاهرة (‪.)277 / 5‬‬
‫(‪ )7‬مقومات حركة اجلهاد ضد الصليبيني ص ‪.27‬‬

‫‪232‬‬
‫شهاب الدين علي بن مالك العقيلي سروج ‪ ،‬واملضمحظة ‪ ،‬والباب ‪ ،‬وبزاغة(‪ ،)1‬وأقطع يف سنة ‪563‬هـ ‪1167 /‬م جمد‬
‫الدين أاب بكر بن الداية حلب ‪ ،‬وحارم ‪ ،‬وقلعة جعرب ‪ ،‬مث أقرها بعد و اته سنة ‪565‬هـ ‪1169 /‬م يف يد أخيه علي‬
‫الرها(‪ ،)2‬كما‬ ‫ابن الداية ‪ ،‬وأقطع نور الدين مسعود بن الزعفران محص ‪ ،‬ومحاة ‪ ،‬وقلعة بعرين ‪ ،‬وسلمية ‪ ،‬وت خالد‪ ،‬و ُّ‬
‫أقطع أمراء العراق اإلقطاعات حلفظ طريق احلاج بني الشام واحلجاز ‪ ،‬وملث هذا اهلدف أقطع أمري مكة إقطاعاً وا راً(‪.)3‬‬
‫ومش اإلقطاع احلريب يف عهد نور الدين األراضي املصرية ‪ ،‬من ذلك ما ذكرته بعض املصادر املعاصرة من أن نور الدين‬
‫عندما مسع أبن بعض أمرائه يف مصر تردد يف حماربة الفاطميني ‪ ،‬والصليبيني عند البابني يف صعيد مصر؛ هددهم أبخذ‬
‫إقطاعاهتم ‪ ،‬وإعادة املوارد اليت أخذوها منها(‪.)4‬‬
‫واتبع عماد الدين زنكي ‪ ،‬وابنه نور الدين حممود أساليب عدهلة لتوزيع اإلقطاعات احلربية على أمرائهما ‪ ،‬وأجنادمها‪.‬‬
‫أن عماد الدين عندما‬ ‫منها ما كان الغرض منه استمالة احلكام املسلمني هبدف توحيد اجلبهة اإلسضممية‪ ،‬ومن ذلك‪ :‬هل‬
‫عزم يف سنة ‪540‬هـ ‪1145/‬م لضمستيضمء على قلعة جعرب وضمها ملشروع اجلبهة اإلسضممية املتحدة ‪ ،‬وملا رأى حصانتها؛‬
‫كتب إىل عز الدين علي بن مالك يف معىن تسليمها ‪ ،‬و وض عماد الدين حسان املنبجي أن يَمن لعلي بن مالك‬
‫اإلقطاع الوا ر ‪ ،‬والعطاء الكثري مقاب التسليم(‪.)5‬‬
‫ومن ذلك أيَاً ما ذُكر‪ :‬أن نور الدين عندما حاصر دمشق سنة ‪549‬هـ ‪1154 /‬م وأدرك صاحبها جمري الدين ابق‬
‫عدم جدوى املقاومة؛ احتمى بقلعة دمشق ساعات مث استسلم ‪ ،‬أطلق نور الدين سراحه ‪ ،‬وأقطعه عوضاً عن دمشق‬
‫محص ‪ ،‬وأعماهلا(‪ . )6‬كما منح اإلقطاع يف العهد الزنكي لألمراء واألجناد ‪ ،‬كمكا أة هلم على ما قاموا به من أعمال‬
‫جليلة ‪ ،‬سواء يف مرحلة تكوين اجلبهة اإلسضممية املتحدة ‪ ،‬أو هلإابن مراح جهادهم ضد الصليبيني ‪ ،‬من ذلك ما ذكره‬
‫(أن عماد الدين عندما ملك بعض داير بكر سنة ‪538‬هـ ‪1143 /‬م رتب أمور اجلميع ‪ ،‬وجع يها من‬ ‫ابن األثري‪ :‬هل‬
‫األجناد من حيفظها)(‪.)7‬‬
‫ومن خصائص اإلقطاع الزنكي انتقاله من ُمقطع إىل اخر عن طريق الوراثة ‪ ،‬أو غريها ‪ ،‬تشري املصادر إىل هل‬
‫أن عماد‬
‫الدين زنكي قام بنق طائفة من الرتكمان مع أمريهم الياروق ‪ ،‬وأسكنهم حبلب ‪ ،‬وأعماهلا ‪ ،‬وأمرهم جبهاد الصليبيني ‪،‬‬
‫وأعطاهم ك ما استنقذوه منهم ‪ ،‬ومل يزل مجيع ما تحوه أبيديهم إىل حنو سنة ستمئة(‪.)8‬‬
‫وقد سار نور الدين على هنج أبيه ‪ ،‬يدلنا على ذلك قول ابن واص ‪ :‬هل‬
‫إن نور الدين كان‪( :‬من آرائه احلسنة ما يعتمده‬
‫أقر عليه إقطاعه)(‪ .)9‬ومن ذلك أيَاً ما حدث سنة‬ ‫من أمر أجناده ‪ ،‬إنه كان إذا تويف أحدهم وخلف ولداً ذكراً هل‬

‫(‪ )1‬مفرج الكروب (‪ 3/ 1‬ـ ‪ )6‬النجوم الزاهرة (‪.)277 / 5‬‬


‫(‪ )2‬كتاب الروضتني نقضمً عن مقومات حركة اجلهاد ص ‪.28‬‬
‫(‪ )3‬مقومات حركة اجلهاد ص ‪.28‬‬
‫(‪ )4‬الكام يف التاريخ نقضمً عن مقومات حركة اجلهاد ص ‪.29‬‬
‫(‪ )5‬ذي اتريخ دمشق ص ‪ 285 ، 282‬الباهر ص ‪ 74‬ـ ‪.75‬‬
‫(‪ )6‬مقومات حركة اجلهاد ضد الصليبيني ص ‪.30‬‬
‫(‪ )7‬الباهر ص ‪ ، 66‬مقومات حركة اجلهاد ص ‪.30‬‬
‫(‪ )8‬الباهر ص ‪ 80‬مقومات حركة اجلهاد ص ‪.31‬‬
‫(‪ )9‬مفرج الكروب نقضمً عن مقومات حركة اجلهاد ضد الصليبيني ص ‪.31‬‬

‫‪233‬‬
‫‪558‬هـ ‪1162 /‬م عندما ُهزم جيش نور الدين يف هذه السنة أمام الصليبيني ابلقرب من حصن األكراد يف املعركة‬
‫املعرو ة ابلوقيعة؛ حيث أصدر نور الدين أوامره إبحَار األموال ‪ ،‬والدواب‪ ،‬واألسلحة ‪ ،‬واخليام من دمشق ‪ ،‬و هلرق‬
‫ذلك على من َسلم من عسكره ‪ ،‬ومن قُت أعطى إقطاعه ألوالده(‪.)1‬‬
‫وأما انتقال اإلقطاع من ُمقطع إىل اخر من غري وراثة ‪ ،‬والذي حيدث غالباً إذا تقاعس املقطع عن أداء واجبه ‪ ،‬أو مىت‬
‫بدر منه ما خي ابلتزاماته احلربية ‪ ،‬يدلنا على ذلك ما حدث سنة ‪562‬هـ ‪1117 /‬م عندما اختري أسد الدين شريكوه‬
‫رجاله ملعر ة ما ميكن أن يقدموه إذا اشتبكوا مع الصليبيني ‪ ،‬والفاطميني يف مصر ‪ ،‬أبدى بعَهم ختو ه من ذلك حيث‬
‫صاح يهم أحد أمراء نور الدين ‪ ،‬والذي كان مرا قاً لشريكوه قائضمً‪( :‬من خياف القت واألسر ضم خيدم امللوك ‪ ،‬ب‬
‫هل‬
‫ليأخذن مالنا من إقطاع‬ ‫يكون يف بيته مع امرأته ‪ ،‬وهللا لئن عدان إىل نور الدين من غري غلبة ‪ ،‬وال بضمء نُعذر يه؛‬
‫وجامكية ‪ ،‬وليعودن علينا جبميع ما أخذانه ُمنذ خدمناه إىل يومنا هذا ‪ ،‬ويقول‪ :‬أتخذون أموال املسلمني ‪ ،‬وتفرون من‬
‫عدوهم ‪ ،‬وتسلمون مث مصر إىل الكفار)(‪.)2‬‬
‫ويظهر من خضمل هذا العرض‪ :‬أنه كان على املقطع يف مقاب املوارد املتحصلة من اإلقطاع جمموعة من االلتزامات ‪،‬‬
‫كان يؤديها للس لطان ‪ ،‬وهي يف املرتبة األوىل التزامات حربية ‪ ،‬أملتها ظروف اجلهاد ‪ ،‬الذي اتصف به عصر األسرة‬
‫الزنكية ‪ ،‬مشلت تقدمي العساكر وقت احلرب ‪ ،‬كان املقطع مسؤوالً مسؤولية كاملة عن نفقات عساكره ‪ ،‬حيث كان‬
‫مزودين بك مستلزماته من مؤن وعتاد ودواب وغريها ‪َ ،‬ضمً عما يتبع ذلك‬ ‫عليه أن خيرج هبم إىل ساحات القتال ‪ ،‬هل‬
‫من تدريبات عسكرية ردية ومجاعية جليشه من أساليب القتال املعرو ة آنذاك(‪ ،)3‬وإىل جانب ذلك كان على املقطع‬
‫االضطضمع حبماية إقطاعه من أي اعتداء خارجي ‪ ،‬ويف ذات الوقت القيام مبراقبة حتركات األعداء ‪ ،‬وتنفيذ بعض‬
‫األعمال احلربية ضد مراكزهم(‪.)4‬‬
‫قصر يف ٍ‬
‫شيء منها كان‬ ‫وصفوة القوة إن نظام اإلقطاع احلريب مبا اشتم عليه من واجبات يعاقب عليها املقطع ‪ ،‬ومىت هل‬
‫كفيضمً إبخضمص األمراء واجلند ‪ ،‬واستماتتهم يف أداء واجب اجلهاد يف سبي هللا ‪ ،‬وحتقيق املزيد من االنتصارات ضد‬
‫التوسع يف الفتوحات جلع كلمة هللا هي العليا ‪ ،‬خاصة وأن الزنكيني كانوا حريصني على حتري الدقة‬‫أعداء اإلسضمم ‪ ،‬و ُّ‬
‫يف توزيع اإلقطاعات على أمرائهم وأجنادهم ‪ ،‬خيصون هبا املخلصني منهم ‪ ،‬يدلنا على هذا ما ذكرته(‪ )5‬بعض املصادر‬
‫من أن عماد الدين زنكي كان يقطع بضمده جلند خيتربهم ‪ ،‬ويعرف نصحهم ‪ ،‬وشجاعتهم(‪ .)6‬وعلى هذا النهج سار‬
‫امللك العادل نور الدين حممود الشهيد‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ الزكاة واخلراج واجلزية‪ :‬تُ َشك الزكاة ‪ ،‬واخلراج ‪ ،‬واجلزية جزءاً مهماً من موارد الدولة ‪ ،‬وتؤخذ حسب أحكام الشريعة‬
‫اإلسضممية ‪ ،‬الزكاة ركن من أركان الدين اإلسضممي ‪ ،‬ال يكم إسضمم املسلم وإميانه إال بتأديتها ‪ ،‬ولذلك يقب املسلمون‬

‫(‪ )1‬الكام يف التاريخ نقضمً عن مقومات حركة اجلهاد ص ‪.31‬‬


‫(‪ )2‬كتاب الروضتني نقضمً عن مقومات حركة اجلهاد ص ‪.32‬‬
‫(‪ )3‬مقومات حركة اجلهاد ص ‪.32‬‬
‫(‪ )4‬مقومات حركة اجلهاد ضد الصليبيني ص ‪.33‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه ص ‪.34‬‬
‫(‪ )6‬الباهر ص ‪.37‬‬

‫‪234‬‬
‫على أتديتها من ابب احلرص على دينهم ‪ ،‬دومنا إكراه من الدولة ‪ ،‬وإن كان من حق الدولة إلزام من مينع من املسمني‬
‫بتأديتها؛ ألهنا ركن من أركان الدين ‪ ،‬ومن حقوق املسلمني ‪ ،‬جيب على الدولة مجعها ‪ ،‬وتنظيم صر ها يف مصاحلهم ‪،‬‬
‫وقد ثبت ابلتجربة من خضمل التاريخ اإلسضممي يف عهد الرسول صلى هللا عليه وسلم واخللفاء الراشدين ‪ ،‬واخلليفة‬
‫حد كبري يف سد نفقات الدولة إذا كانت الدولة تطبق اإلسضمم على‬ ‫األموي عمر بن عبد العزيز(‪ :)1‬أن الزكاة تساهم إىل ٍ‬
‫حقيقته ‪ ،‬وكان نور الدين حيكم أرضاً اشتهرت بكثا ة نشاطها الزراعي ‪ ،‬وبكثرة ذمييها ‪ ،‬ويسوس جمتمعاً بلغ من النَج‬
‫وااللتزام ما جيع املوجودين يه يهرعون لتقدمي زكاة أمواهلم قب أن ترغمهم الدولة على الد ع ‪ ،‬كانت هذه املوارد‬
‫الثضمثة تشك ضماانً اثبتاً ملوازنة مالية الدولة ‪ ،‬ومحاية خزائنها من العجز ‪ ،‬واإل ضمس(‪.)2‬‬
‫حبق مورداً من أوسع موارد الدولة اليت كانت دوماً يف حالة حرب مع‬ ‫‪ 3‬ـ الغنائم و داء األسرى‪ :‬كانت الغنائم متث ٍ‬
‫األعداء ‪ ،‬وكانت نتائج احلرب املادية واملعنوية أتيت لصاحلها يف أغلب األحيان ‪ ،‬يقول سبط ابن اجلوزي على سبي‬
‫املثال‪( :‬عاد نور الدين بعد تح حارم عام ‪ 559‬هـ إىل حلب ابألسرى ‪ ،‬مث اداهم وكان قد استفىت الفقهاء ‪ ،‬قال‬
‫قوم‪ :‬يقت اجلميع ‪ ،‬وقال اخرون‪ :‬يفادي هبم ‪ ،‬مال نور الدين إىل الفدية ‪ ،‬أخذ منهم ستمئة ألف دينار معجضمً ‪،‬‬
‫أن مجيع ما بناه من املدارس ‪ ،‬واملارستاانت وغريها من‬‫وخيضمً ‪ ،‬وسضمحاً وغري ذلك ‪ ،‬كان نور الدين حيلف ابهلل‪ :‬هل‬
‫درهم واحد(‪.)3‬‬
‫هذه املفاداة ‪ ،‬ومجيع ما وقفه منها ‪ ،‬وليس يها من بيت املال ٌ‬
‫ستمئة ألف دينار حصيلة معركة واحدة ‪ ،‬كيف سائر املعارك اليت انتصر يها نور الدين ‪ ،‬واليت تغطي رتة حكمه من‬
‫أقصاها إىل أقصاها؟‬
‫مثة رواية أخرى يها إشارة حمدودة إىل مبالغ ابلذات كسبتها الدولة عن طريق املفاداة‪( :‬وقع صاحب طرابلس أسرياً بيد‬
‫نور الدين ‪ ،‬أطلق سراحه لقاء ثضممثئة ألف دينار ‪ ،‬ومئة ومخسني أسرياً من املسلمني‪ .‬هذا ما يقوله ابن اجلوزي)(‪.)4‬‬
‫أما أبو شامة إنه يطرح أرقاماً أخرى‪( :‬مئة ومخسون ألف دينار ‪ ،‬و كاك ألف أسري من املسلمني)(‪ ، )5‬ومهما كان‬
‫األمر إن املبالغ النقدية ‪ ،‬والعينية املرتتبة على داء األمري الصلييب كانت كبرية حقاً ‪ ،‬إذا ما أضفنا إىل ذلك ما كان‬
‫أيتيه من األقاليم اليت تحها كمصر ‪ ،‬واليمن ‪ ،‬وغريها(‪ )6‬على شك ضرائب ‪ ،‬وغنائم ‪ ،‬ومعطيات عينية؛ أدركنا كم‬
‫كان واسعاً كبرياً هذا املورد الذي كان جييء عن طريق النشاط احلريب(‪.)7‬‬
‫‪ 4‬ـ األموال العظيمة اليت خلفها أبوه عماد الدين‪ :‬واليت الت خزائنها العظيمة إىل نور الدين ـ حلسن احلظ ـ بدالً من‬
‫أخيه األكرب سيف الدين غازي ‪ ،‬حيث كان زنكي قد احتفظ هبا يف قلعة سنجار على الطريق بني املوص وحلب ‪،‬‬
‫لما الت هذه املدينة إىل نور الدين عام ‪544‬هـ وضع يده عليها ‪ ،‬ونقلها معه إىل حلب ‪ ،‬كانت كما يصفها ك ٌّ‬

‫(‪ )1‬دور نور الدين يف هنَة األمة ص ‪.190‬‬


‫(‪ )2‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.121‬‬
‫(‪ )3‬مراة الزمان (‪ 247 / 8‬ـ ‪ )248‬نور الدين حممود ص ‪.124‬‬
‫(‪ )4‬املنتظم (‪ )249/ 10‬نور الدين حممود ص ‪.124‬‬
‫(‪ )5‬كتاب الروضتني نقضمً عن نور الدين حممود ص ‪.124‬‬
‫(‪ )6‬الربق ص ‪ 123‬ـ ‪ 124‬نور الدين حممود ص ‪.124‬‬
‫(‪ )7‬نور الدين حممود ص ‪.124‬‬

‫‪235‬‬
‫من ابن األثري ‪ ،‬وابن العدمي «كثريًة جداً»(‪ ،)1‬وأهنا نقلت على ستمئة مج ما خضم البغال ‪ ،‬وكان من بني األخرية ستة‬
‫وستون محلت عملةً من الذهب(‪.)2‬‬
‫‪ 5‬ـ األمانة العظيمة اليت متيز هبا نور الدين وحكومته الرشيدة‪ :‬متيهلز أبمانة عظيمة جتاه أموال األمة ‪ ،‬واليت سعى إىل إلزام‬
‫موظفيه هبا ‪ ،‬و رض عليهم رقابته اليقظة الدائمة ‪ ،‬كيضم جينحوا ابجتاه استغضمل مناصبهم حلساهبم اخلاص ‪ ،‬وإن لنا أن‬
‫نقدر حجم اخلسائر اليت كانت ستمىن هبا مالية الدولة لو ابتليت حباكم جشع ‪ ،‬وموظفني ال يعر ون غري تنمية جيوهبم‬
‫‪ ،‬أسوًة مبا كان يفعله الكثريون من احلكام واملوظفني ‪ ،‬وإن لنا أن نقدر ـ ابملقاب ـ ما كسبته خزانة الدولة من جراء‬
‫احلماية الصارمة اليت رضتها تقوى نور الدين ‪ ،‬وإميانه ‪ ،‬والتزامه ‪ ،‬واختياره الدقيق لكبار موظفيه ‪ ،‬وحسابه الشديد‬
‫معهم(‪ ،)3‬قد سار على هنج عمر بن عبد العزيز ‪ ،‬وعين ابحليلولة بني الوالة وبني أن يكون مههلهم األول من مناصبهم‬
‫مجع األموال ألنفسهم‪.‬‬
‫ُ‬
‫(‪)4‬‬
‫واألغلب‪ :‬أن ذلك عوض النفقات اليت اقتَتها إصضمحاته ضعفني ‪ .‬وما قي عن عمر ينسحب ابلَرورة على نور‬
‫الدين(‪ ، )5‬كما أن وجود احلكومة الرشيدة ‪ ،‬اليت كان يقودها نور الدين ساهم على حتقيق ما أراد ‪ ،‬قد اعتمد يف إدارته‬
‫لدولته الواسعة على حشد من العلماء ‪ ،‬والفقهاء املشهورين ابألمانة ‪ ،‬واالستقامة ‪ ،‬والكفاية ‪ ،‬وكان أغلبهم قد مارس‬
‫العم مع احلكام واألمراء قب العم مع نور الدين ‪ ،‬اكتسب خربة كبرية يف إدارة شؤون الدولة ‪ ،‬كان نور الدين‬
‫يستشريهم ‪ ،‬ويعقد هلم االجتماعات لبحث األمور اهلامة(‪ ، )6‬وكان نور الدين يعترب نفسه خازانً ألموال املسلمني ‪،‬‬
‫جيب عليه أن يصر ها يف مصاحلهم قط(‪ ، )7‬وألزم هلنوابه ‪ ،‬ورجال دولته هبذا الفهم ‪ ،‬الذي يرقى إىل أعلى مستوايت‬
‫يرتدد يف حماسبة‬
‫األمانة واإلحساس ابملسؤولية ‪ ،‬و رض رقابته الصارمة على بيت املال يف مركز الدولة ويف الوالايت ‪ ،‬ومل هل‬
‫أحس منهم ميضمً للمحا ظة يف هذا اجملال(‪ ، )8‬وأنزل عقوبةً شديدةً أبحد موظفيه بعد أن ثبت‪:‬‬‫نوابه يف األقاليم ‪ ،‬إذا هل‬
‫(‪)9‬‬
‫مر ذكرها‪.‬‬‫أنه استغ مركزه ‪ ،‬وأخذ من األموال العامة وق ما يستحق من راتبه ‪ ،‬قد هل‬
‫ويكفي أن نتذكر حادثة املال الذي وجده يف اخلزينة ومل يكن يعلم عنه من قب ‪ ،‬أمر برده إىل القاضي كمال الدين ‪،‬‬
‫الذي كان قد أرسله لبيت املال لريده إىل أصحابه(‪ .)10‬لنعلم كم كان الرج صارماً ‪ ،‬ودقيقاً يف مسألة احلضمل واحلرام‬
‫يما يتعلق ابألموال العامة ‪ ،‬حفظت ‪ ،‬وانعدم التسُّرب منها ٍ‬
‫حلد كبري إىل جيوب الوالة واملوظفني(‪.)11‬‬ ‫َ‬

‫(‪ )1‬زبدة حلب (‪ )298 / 2‬نور الدين حممود ص ‪.124‬‬


‫(‪ )2‬الباهر ص ‪ 98‬نور الدين حممود ص ‪.125‬‬
‫(‪ )3‬نور الدين حممود ص ‪.125‬‬
‫(‪ )4‬الدولة العربية وسقوطها ص ‪ 296‬ترمجة عبد اهلادي أيب ريدة‪.‬‬
‫(‪ )5‬نور الدين حممود ص ‪.125‬‬
‫(‪ )6‬دور نور الدين يف هنَة األمة ص ‪.190‬‬
‫(‪ )7‬املصدر نفسه ص ‪.190‬‬
‫(‪ )8‬املصدر نفسه ص ‪.190‬‬
‫(‪ )9‬املصدر نفسه ص ‪.190‬‬
‫(‪ )10‬دور نور الدين حممود يف هنَة األمة ص ‪، 189‬‬
‫(‪ )11‬املصدر نفسه ص ‪.189‬‬

‫‪236‬‬
‫يتجرد من‬
‫لقد انتصر نور الدين على نفسه قب أن يواجه أهله ورعيته بسياسته التقشفية ‪ ،‬استطاع إبميانه القوي أن هل‬
‫أهواء الدنيا ‪ ،‬ومغرايت امللك ‪ ،‬ومن مظاهر البذخ والرتف ‪ ،‬اليت كان يعيشها غريه من احلكام غري مبالني مبا تعانيه‬
‫خزينة الدولة بسبب ذلك ‪ ،‬وألزم نفسه ابلعيش املتواضع دون أن يفقد شيئاً من هيبة السلطان‪ ،‬وقوة احلكم‪ ،‬ب كان‬
‫كما قي ‪ « :‬من شاهده شاهد من جضمل السلطنة وهيبة امللك ما يبهره‪ ،‬إذا اوضه؛ رأى من ألطا ه ‪ ،‬وتواضعه ما‬
‫حيريه(‪ ،)1‬اقتدى به أهله ‪ ،‬وأمراؤه ‪ ،‬وقادته ‪ ،‬والتزموا البساطة يف حياهتم ‪ ،‬مث انتقلت خصائله إىل العامة من الناس‪،‬‬
‫كان هلذه السياسة أثرها البعيد يف تو ري األموال اليت كانت هتدر يف جماالت اللهو ‪ ،‬والبذخ ‪ ،‬والرتف ‪ ،‬صارت تصرف‬
‫يف وجوه اخلري واملصلحة العامة»(‪.)2‬‬
‫‪ 6‬ـ سيادة األمن واالستقرار الداخلي‪ :‬كانت النزاعات واحلروب بني اإلمارات اإلسضممية املتعددة يف بضمد الشام قب‬
‫توحيدها تستهلك أغلب موارد هذه اإلمارات ‪ ،‬وتقَي على األجواء املناسبة الستغضمل األرض ‪ ،‬ورواج التجارة يما‬
‫توحدت بضمد الشام كلها حتت زعامة نور الدين؛ زالت أسباب التوتر‬ ‫بينها ‪ ،‬كانت األوضاع االقتصادية سيئة ‪ ،‬لما هل‬
‫والنزاع ‪ ،‬وساد األمن واالستقرار على اجلبهة الداخلية ‪ ،‬وأصبحت اجلهود كلها موجهة حنو اخلطر اخلارجي املتمث‬
‫ابلفرجنة ‪ ،‬الذين أصبحوا بفَ جهود نور الدين العسكرية يف وضع د اعي ‪ ،‬ال يشكلون خطراً مباشراً على املدن‬
‫اإلسضممية يف بضمد الشام ‪ ،‬كما كانوا من قب ‪ ،‬انصرف الناس إىل أعماهلم الزراعية ‪ ،‬والتجارية وهم مطمئنون ‪،‬‬
‫تحسنت األحوال االقتصادية ‪ ،‬وكثر العم ‪ ،‬وكان من نتيجة ذلك كله زايدة مقادير الزكاة اليت تشك املورد الرئيسي‬
‫خلزينة الدولة(‪.)3‬‬
‫‪ 7‬ـ مسامهة األثرايء‪ :‬أثهلرت جهود نور الدين وقيادته احلكيمة ‪ ،‬يف إجياد جمتمع التكا والتَامن يف بضمد الشام ‪ ،‬وصار‬
‫التعاون ‪ ،‬والرتاحم ‪ ،‬واملودة ‪ ،‬واملواساة ٍ‬
‫مسات ابرزة يف اجملتمع ‪ ،‬وأخذ األثرايء من أبناء األمة يسارعون إىل أعمال اخلري‬
‫‪ ،‬أتسياً بسلطاهنم ‪ ،‬وطلباً لألجر والثواب من هللا سبحانه وتعاىل ‪ ،‬تم بناء الكثري من املدارس ‪ ،‬واملساجد ‪ ،‬ودور‬
‫األيتام من قب القادة ‪ ،‬واألمراء ‪ ،‬والوالة وغريهم من األثرايء ‪ ،‬حىت صارت هذه األعمال من ظواهر اجملتمع الدائمة ‪،‬‬
‫وامتدت بعد دولة نور الدين ‪ ،‬واتسعت يف زمن الدولة األيوبية ‪ ،‬ودولة املماليك ‪ ،‬وما يهمنا هنا‪ :‬أن هذه املسامهات‬
‫ساعدت يف تو ري األموال خلزينة الدولة(‪.)4‬‬
‫‪ 8‬ـ املعاهدات واالتفاقات‪ :‬قد شكلهلت املعاهدات واالتفاقات مورداً مالياً طيباً للدولة الزنكية ‪ ،‬في سنة ‪557‬هـ ‪/‬‬
‫‪1156‬م سار نور الدين بقواته حملاصرة حارم التابعة إلمارة أنطاكية ‪ ،‬ومجع الصليبيون قواهتم لصده عنها ‪ ،‬وكان يف هذا‬
‫احلصن رج صلييب من دهاة اإل رنج ‪ ،‬يرجعون إىل رأيه ‪ ،‬قد نصحهم مبفاوضة نور الدين ‪ ،‬وا ق على ذلك مقاب‬
‫أن يعطوه نصف أعمال حارم(‪ ، )5‬كما حدث سنة ‪559‬هـ ‪1163 /‬م أن وا ق نور الدين على إطضمق سراح بوهيمند‬
‫وتعهد أن يرس ماالً كثرياً ‪ ،‬وأن يطلق سراح األسرى‬ ‫(‪ 1163‬ـ ‪1201‬م) أمري أنطاكية بعد أن د ع دية كبرية ‪ ،‬هل‬

‫(‪ )1‬عيون الروضتني نقضمً عن دور نور الدين حممود ص ‪.189‬‬


‫(‪ )2‬دور نور الدين يف هنَة األمة ص ‪.189‬‬
‫(‪ )3‬دور نور الدين حممود يف هنَة األمة ‪.191‬‬
‫(‪ )4‬املصدر نفسه ص ‪.191‬‬
‫(‪ )5‬مفرج الكروب (‪ )128 / 1‬مقومات حركة اجلهاد ص ‪.35‬‬

‫‪237‬‬
‫املسلمني الذين عنده ‪ ،‬ويف السنة نفسها شاطر الصليبيني يف أعمال طربية ‪ ،‬وقرروا له من املناطق اليت يشاطرهم عليها‬
‫ماالً يف ك سنة(‪.)1‬‬
‫‪ 9‬ـ دعم اخلليفة العباسي‪ :‬كان نور الدين يدين ابلتبعية السياسية للخضم ة العباسية السنية يف بغداد ‪ ،‬تحص على‬
‫إضفاء صفة الشرعية على قيام دولته ‪ ،‬واحلصول على التأييد منها ‪ ،‬يف أعماله اجلهادية حرصاً على ما يبدو يف ذات‬
‫ضد الصليبيني ‪ ،‬يدلنا على ذلك ما ذُكر‪ :‬أن نور‬ ‫الوقت على طلب املساعدة املالية منها أحياانً ‪ ،‬لد ع حركة اجلهاد هل‬
‫الدين حممود مل يتحرج يف أن يطلب من اخلليفة العباسي املستنجد ابهلل النفقات واألسلحة لسد الكلمة ‪ ،‬ود ع امللمة‬
‫على إثر الزالزل اليت اجتاحت بضمد الشام سنة ‪565‬هـ ‪1169 /‬م(‪.)2‬‬
‫‪ 10‬ـ سياسته الزراعية‪ :‬عهد نور الدين إىل اعتمد سياسة زراعية سليمة ‪ ،‬كانت مبثابة املفتاح الذي أغفله كثري من‬
‫الساسة؛ لتنمية الدخ القومي تنميةً طبيعية ‪ ،‬يف عصر كان النشاط الزراعي يه ميث الفاعلية احملورية يف عامل االقتصاد‪،‬‬
‫هو من جهة سعى إىل محاية املزارعني ‪ ،‬والفضمحني من كا ة صنوف األذى ‪ ،‬والتخريب ‪ ،‬والعدوان ‪ ،‬اليت كان ميكن‬
‫أن تلحق هبم من جراء حالة احلرب املستمرة ‪ ،‬وحترك اجليوش الدائم ‪ ،‬وحتول األرض الشامية إىل ساحة قتال ‪ ،‬ال تعرف‬
‫طعم السلم إال قليضمً‪ ...‬وقد مر بنا كيف أن نور الدين خضمل هجماته املستمرة على دمشق طيلة األربعينيات كان يشدد‬
‫على أصحابه وجنده أال يفسدوا املزارع ‪ ،‬والَياع ‪ ،‬والقرى ‪ ،‬وأال أيخذوا شيئاً من مزارع بغري حق‪.‬‬
‫كما أنه أعلن نفسه حامياً للفضمحني ‪ ،‬ونتذكر رواية ابن القضمنسي‪( :‬مسع نور الدين نبأ حتالف دمشق مع الصليبيني ‪،‬‬
‫قال‪ :‬ال أحنرف عن جهادهم)‪.‬‬
‫كف أيدي أصحابه عن العبث ‪ ،‬واإل ساد يف الَياع ‪ ،‬وإحسان الرأي يف الفضمحني ‪ ،‬والتخفيف عنهم‪،‬‬ ‫وهو مع ذلك هل‬
‫وكتب إىل زعماء دمشق‪( :‬إنين ما قصدت بنزويل هذا املنزل طالباً حملاربتكم ‪ ،‬وإمنا دعاين إىل هذا األمر‪ :‬كثرة شكاية‬
‫أبن الفضمحني الذين أخذت أمواهلم ‪ ،‬وشتت نساؤهم ‪ ،‬وأطفاهلم بيد الفرنج ‪،‬‬ ‫املسلمني ‪ ،‬من أه حوران ‪ ،‬والعرابن هل‬
‫وعدم الناصر هلم ‪ ،‬وال يسعين مع ما أعطاين هللا من االقتدار على نصرة املسلمني ‪ ،‬وجهاد املشركني ‪ ،‬وكثرة املال ‪،‬‬
‫والرجال ‪ ،‬إالهل االنتصار هلم)(‪.)3‬‬
‫وقد جنح نور الدين يف كسب الفضمحني ‪ ،‬ومثهللوا دعماً حربياً متجدداً للجيش النوري ‪ ،‬وساعدهتم الدولة على االستفادة‬
‫من إمكاانهتم املتميزة يف جمال الزراعة ‪ ،‬قد امتازت أقاليم الدولة النورية خبصوبة الرتبة بصفة عامة ‪ ،‬وتوا ر مصادر الري‬
‫‪ ،‬سواء من األهنار واألمطار ‪ ،‬أو الينابيع واالابر ‪ ،‬وحرصت الدولة على تشييد شبكة حمكمة من القنوات إليصال مياه‬
‫األهنار إىل املناطق املزروعة ‪ ،‬وقد أنتج القطاع الفضمحي العديد من احملاصي الزراعية ‪ ،‬اليت دخ بعَها يف نطاق‬
‫التصنيع مث القطن ‪ ،‬وقصب السكر ‪ ،‬والسمسم ‪ ،‬والزيتون ‪ ،‬وغريها(‪.)4‬‬

‫(‪ )1‬الكام يف التاريخ نقضمً عن مقومات حركة اجلهاد ص ‪.35‬‬

‫(‪ )2‬مقومات حركة اجلهاد ضد الصليبيني ص ‪.35‬‬


‫(‪ )3‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪، 122‬‬
‫(‪ )4‬الصراع اإلسضممي الصلييب‪ :‬السياسة اخلارجية للدولة النووية ص ‪.42‬‬

‫‪238‬‬
‫‪ 11‬ـ اجملال الصناعي‪ :‬قد امتازت الدولة النورية بتوُّر املواد الضمزمة للتصنيع ‪ ،‬وكذلك ُ‬
‫الع هلمال املهرة ‪ ،‬ووسائ النق ‪،‬‬
‫وازدهرت حينذاك صناعة املنسوجات القطنية ‪ ،‬والصو ية ‪ ،‬واحلرير ‪ ،‬وخاصة ثياب الدمسك(‪ ، )1‬واملوسلني ‪ ،‬وكذلك‬
‫صناعات الورق ‪ ،‬والزجاج وغريها‪.‬‬
‫ويضمحظ‪ :‬أنه من خضمل استعراض عدد من الصناعات يف عهد الدولة النورية ‪ ،‬ميكن استنتاج عدة مضمحظات مهمة‬
‫تدور حول معوقات التقدم حينذاك ‪ ،‬وهي أن اآلآلت اليت أمكن استخدامها هلم معقدة ‪ ،‬ومل توجد املعدهلات اليت ميكن‬
‫أن تدار على طريق ا ملعادن اليت وجدت يف بضمد الشام واجلزيرة ‪ ،‬وظلت الطاقة األساسية متمثلة يف حركة املاء إلدارة‬
‫الطواحني ‪ ،‬كذلك مل يتم استغضمل مناجم احلديد ‪ ،‬والنحاس يف بريوت ‪ ،‬واملوص ‪ ،‬ومناطق أخرى يف صناعات ثقيلة‬
‫إن استخدام احلديد احنصر يف صناعة أدوات الطب(‪ )2‬واجلراحة ‪ ،‬وكذلك األسلحة وأيَاً يف بعض أدوات الصناعة‬ ‫‪ ،‬ب هل‬
‫البسيطة‪.‬‬
‫حد من منو حركة التصنيع ‪ ،‬ومن جهة أخرى حرصت الطبقة الوسطى التجارية ‪ ،‬على استثمار‬ ‫وهذا الوضع ابلطبع هل‬
‫رأس ماهلا يف حركة التجارة الداخلية ‪ ،‬واخلارجية النشطة ‪ ،‬ومل تشأ استثماره يف اجملال الصناعي(‪)3‬؛ حيث رغبت يف‬
‫توظيفه يف اجملال الذي توارثته ‪ ،‬وسربت أغواره ‪ ،‬وهكذا إن عدم حدوث تغري حقيقي يف وسائ اإلنتاج ‪ ،‬وعدم‬
‫التوص إىل استخدام الطاقة ‪ ،‬كذلك عدم توا ر وعي صناعي للطبقة الوسطى التجارية أدى إىل أن تكون بضمد الشام‬
‫واجلزيرة يف عهد نور الدين حممود معاصرًة لنهَة صناعية ال ثورة صناعية ‪ ،‬حيث استمرت أساليب اإلنتاج التقليدية(‪.)4‬‬
‫‪ 12‬ـ القطاع التجاري‪ :‬اتهلبعت الدولة النورية سياسةً انطوت على الرعاية الكاملة للتجارة الداخلية ‪ ،‬وكذلك اخلارجية‪،‬‬
‫الرها مما جعلها تتحكم يف طرق التجارة ‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫التحكم يف طرق التجارة يف إقليم اجلزيرة ‪ ،‬وخاصة بعد اسرتداد ُّ‬ ‫واستطاعت‬
‫اليت تربط بني العراق ‪ ،‬واسيا الصغرى من انحية ‪ ،‬وبضمد الشام من انحية اثنية‪.‬‬
‫كما أن سيطرة نور الدين بعد ذلك على األراضي املصرية ‪ ،‬وضمها ملشروع اجلبهة اإلسضممية املتحدة بعد القَاء على‬
‫ممرين مائيني ‪ ،‬مها‪:‬‬
‫مكنَه من االتصال بتجارة اهلند والشرق عرب هل‬ ‫الدولة الفاطمية يف القاهرة سنة ‪567‬هـ ‪1171 /‬م ‪ ،‬هل‬
‫اخلليج العريب ‪ ،‬والبحر األمحر(‪.)5‬‬
‫متر عرب حدود الدولة النورية ‪ ،‬سواء الداخلية ‪ ،‬أو اخلارجية منها ‪ ،‬وهي‬ ‫يتم حتصيلها على التجارة ‪ ،‬اليت ُّ‬
‫وكانت العشور ُّ‬
‫أشبه ما تكون ابلرسوم اجلمركية يف العصر احلاضر ‪ ،‬ويقوم بتحصيلها موظف يقال له‪( :‬العاشر) أي‪« :‬الذي أيخذ‬
‫(‪)6‬‬
‫األول أيب بكر الصديق ـ رضي‬ ‫العشور» ‪ ،‬ومل يكن هلذه الَريبة وجود يف عهد النهليب صلى هللا عليه وسلم وخليفته هل‬
‫لما اتسعت‬ ‫ألن تلك الفرتة كانت رتة دعوة إىل اإلسضمم ‪ ،‬واجلهاد يف سبي نشره ‪ ،‬وبناء الدولة اإلسضمميهلة ‪ ،‬هل‬ ‫هللا عنه ـ هل‬
‫الدولة يف عهد اخلليفة عمر ـ رضي هللا عنه ـ وامتدت حدودها شرقاً ‪ ،‬وغرابً ‪ ،‬وصار التبادل التجاري مع الدول اجملاورة‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص ‪.43‬‬


‫(‪ )2‬سوسيولوجيا الفكر اإلسضممي ص ‪.159‬‬
‫(‪ )3‬الصراع اإلسضممي الصلييب السياسة اخلارجية ص ‪.43‬‬
‫(‪ )4‬املصدر نفسه ص ‪.43‬‬
‫(‪ )5‬مقومات حركة اجلهاد ضد الصليبيني ص ‪.37‬‬
‫(‪ )6‬مقومات حركة اجلهاد ضد الصليبيني ص ‪.37‬‬

‫‪239‬‬
‫الَريبة على الوارد إىل دار اإلسضمم‬
‫العامة ‪ ،‬ورأى اخلليفة عمر ـ رضي هللا عنه ـ أن يفرض تلك هل‬ ‫ضرورة متليها املصلحة هل‬
‫‪ ،‬كما كان أه احلرب أيخذوهنا من جتهلار املسلمني القادمني إىل بضمدهم ‪ ،‬معاملة ابملث (‪ .)1‬وقد أمجع املؤرخون(‪ :)2‬أن‬
‫هلأول من وضع العشر يف اإلسضمم عمر بن اخلطاب(‪ ، )3‬رضي هللا عنه‪.‬‬
‫اهتمت الدولة الزنكية ابحلركة التجارية ‪ ،‬وإقامة العدد من املؤسسات التجارية ‪ ،‬مث اخلاانت(‪ ، )4‬والفنادق(‪، )5‬‬ ‫وقد هل‬
‫شجعت التُ هلجار اليهود على املشاركة يف النهَة التجارية ‪ ،‬اليت‬
‫وأورد ابن عساكر العديد منها يف مدينة دمشق ‪ ،‬كذلك هل‬
‫شهدهتا البضمد ‪ ،‬وقد استقروا يف مناطق خطوط التجارة العاملية املارة من مدن الشام ‪ ،‬واجلزيرة الكربى ‪ ،‬مث ‪ :‬دمشق ‪،‬‬
‫وحلب ‪ ،‬وشيزر ‪ ،‬ومعرة النعمان ‪ ،‬واملوص ‪ ،‬وغريها‪.‬‬
‫ت حارة ابمسهم(‪ .)6‬وقد تزايدت أعدادهم هبا؛ حىت بلغوا اآلآلف ‪ ،‬ووصفوا‬ ‫وعرَ ْ‬
‫في دمشق مثضمً ُوج ُدوا أبعداد كبرية ‪ُ ،‬‬
‫أبن منهم «ذوو اليسار»(‪ ، )7‬أي‪ :‬أهنم اشتغلوا ابلتجارة؛ حيث كانت أكثر اجملاالت احملققة للثروة ‪ ،‬وكذلك وجدوا‬
‫جماالً متسعاً يف أعمال الصيار ة(‪.)8‬‬
‫وقد اتجرت الدولة النورية مع العديد من الكياانت السياسية يف عامل البحر املتوسط ‪ ،‬هناك اإلمرباطورية البيزنطية ‪،‬‬
‫متكن اإليطاليون على حنو خاص من زايدة حجم‬ ‫والقوى التجارية اإليطالية مث جنوة ‪ ،‬والبندقية ‪ ،‬وبريزا ‪ ،‬وأمالفي(‪ ،)9‬و هل‬
‫جتارهتم مع بضمد الشام ‪ ،‬واجلزيرة ‪ ،‬وأقام قناصلهم يف املدن الشامية ‪ ،‬واجلزيرة مث ‪ :‬حلب ‪ ،‬ودمشق ‪ ،‬واملوص وغريها‬
‫‪ ،‬حيث عملوا على رعاية مصاحل بضمدهم االقتصادية(‪ ، )10‬وال مراء يف أن ذلك العهد قد شهد صحوة للطبقة الوسطى‬
‫يدل على ذلك ما نضمحظه من ختصص التجار يف العمليات التجارية وانقسامهم إىل ئات تقوم جبانب من‬ ‫التجارية ‪ُّ ،‬‬
‫اخلزانون ‪ ،‬مث الركاضون ‪ ،‬واجملهزون(‪.)11‬‬
‫النشاط التجاري املتخصص ‪ ،‬هناك هل‬
‫ويكشف لنا الدمشقي املزيد من التفاصي عن ك نوعية منهم ‪ ،‬كذلك ظهرت عدة أسر جتارية كبرية النفوذ مث أبناء‬
‫الرحيب ت ‪632‬هـ ‪ 1234 /‬م الذي عاصر نور الدين حممود ‪ ،‬قد ترك أبناء هلم أشغال جيدة يف هذا الفن(‪، )12‬‬
‫ووجدت يف حلب بيوت قدمية معرو ة ابلثروة(‪ )13‬يتوارثوهنا ‪ ،‬وطبيعي‪ :‬أهنا جنمت عن النشاط التجاري يف مدينة اشتهرت‬
‫أن جتارة الشرق األدىن خضمل عصر احلروب الصليبية قد شهدت هنَة جتارية مل تكن‬ ‫بذلك الطابع‪ .‬يَاف إىل ذلك‪ :‬هل‬

‫للصضميب ص ‪.327‬‬ ‫(‪ )1‬عمر بن اخلطاب هل‬


‫(‪ )2‬سياسة املال يف اإلسضمم ص ‪.128‬‬
‫للصضميب ص ‪.327‬‬ ‫(‪ )3‬عمر بن اخلطاب هل‬
‫(‪ )4‬احلدود اإلسضممية البيزنطية ‪ ،‬تحي عثمان (‪.)234 / 1‬‬
‫(‪ )5‬الصراع اإلسضممي الصلييب ‪ ،‬السياسة اخلارجية النووية ص للدولة ‪.44‬‬
‫(‪ )6‬خطط مدينة دمشق ضمن كتاب ابن عساكر ص ‪ 109‬عبد القادر رحياين‪.‬‬
‫(‪ )7‬الصراع اإلسضممي الصلييب ‪ ،‬السياسة اخلارجية للدولة النووية ص ‪.45‬‬
‫(‪ )8‬املصدر نفسه ص ‪.45‬‬
‫(‪ )9‬املصدر نفسه ص ‪.45‬‬
‫(‪ )10‬املصدر نفسه ص ‪.45‬‬
‫(‪ )11‬اإلشارة إىل حماسن التجارة للدمشقي ‪ ،‬حتقيق الشورجبي ص ‪.75 ، 74‬‬
‫(‪ )12‬اتريخ خمتصر الدول البن العربي ص ‪.217‬‬
‫(‪ )13‬الصراع اإلسضممي الصلييب ص ‪.46‬‬

‫‪240‬‬
‫موجودة من قب (‪ ، )1‬ود عتها د عة كربى إىل األمام(‪ ، )2‬وانطبق ذلك على بضمد الشام ‪ ،‬واجلزيرة حينذاك نظراً للموقع‬
‫اجلغرايف املتوسط ‪ ،‬ومرور العديد من الطرق التجارية العاملية ‪ ،‬وقد رضت الدولة النوريـة املكوس على النشاط التجاري‬
‫‪ ،‬وكانت حلب أحد املراكز الرئيسية جلمع تلك الَرائب التجارية ‪ ،‬حيث جبيت يها أموال الروم ‪ ،‬وداير بكر ‪،‬‬
‫ومصر ‪ ،‬والعراق(‪.)3‬‬
‫أن الدولة النورية احتكرت جتارة بعض السلع االسرتاتيجية ‪ ،‬ومل تشأ أن جتعلها يف أيدي بعض كبار التجار‬ ‫ويبدو‪ :‬هل‬
‫األثرايء خو اً من احتكارها ‪ ،‬وتزايد ثروهتا على حساب احتياجاهتا ‪ ،‬واحتياج السوق الشامي ‪ ،‬واستقراره ‪ ،‬ويبدو‪ :‬أهنا‬
‫احتكرت بعَها ‪ ،‬كتجارة احلديد ‪ ،‬واألخشاب ‪ ،‬والقار ‪ ،‬وهكذا عندما توقفت يف إحدى السنوات عن مطالبة أه‬
‫الشام ابخلشب أشارت املصادر إىل ذلك كحدث مه ٍم ‪ ،‬وجديد ‪ ،‬ولذا وجدان ابن عساكر ميتدح نور الدين حممود‬
‫لذلك ببعض األشعار ‪ ،‬ووقع ذلك يف عام ‪567‬هـ قال‪:‬‬
‫(‪)4‬‬
‫ت مصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـَر يه ـ ـ ـ ـا م ـ ـ ـ ـ ـن النش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب‬
‫عوضـ ـ ـ ـ ـ َ‬
‫هل‬ ‫ت أله ـ ـ ـ ـ ـ الش ـ ـ ـ ـام ابخلش ـ ـ ـ ـب‬
‫مل ـ ـ ـ ـ ـ ـا مسح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ‬
‫توسعها اخلارجي أكثر ما غنمت واستفادت بعد الفتوحات ‪ ،‬ونصرة اإلسضمم من نشاطها‬ ‫إن الدولة النورية من خضمل ُّ‬
‫التجاري؛ إذ أخَعت جتارة مشال الشمال ‪ ،‬ومرت هبا الطرق التجارية القادمة من شرق ووسط ايسا يف أوربة ‪ ،‬وكذلك‬
‫الطرق املارة من مشال العراق إىل مشال الشام ‪ ،‬وأيَاً القادمة من دمشق ‪َ ،‬ضمً عن تلك املتجهة إىل اإلمرباطورية‬
‫ومر هبا طريق احلجاج‬‫البيزنطية عرب مناطق نفوذ سضمجقة الروم ‪ ،‬أما دمشق قد غدت من أهم املراكز التجارية الشامية ‪ ،‬هل‬
‫الشاميني ‪ ،‬وكذلك القوا التجارية القادمة من غري أوروبة إىل مشال إ ريقية إىل الشام‪.‬‬
‫أما املوص قد اشتهر نشاطها التجاري ‪ ،‬ومثهللت حركة اتصال مؤثرة ‪ ،‬وحيوية بني جتارة مشال العراق ‪ ،‬ومشال الشام‬
‫بصفة خاصة ‪ ،‬وجتارة اإلقليمني املتجاورين بصفة عامة(‪.)5‬‬
‫أن الدولة النورية من خضمل توسعها اخلارجي سامهت يف إحكام قبَتها على قسم حيوي من البحر املتوسط‬ ‫ويضمحظ‪ :‬هل‬
‫‪ ،‬ومن املؤكد‪ :‬هلأهنا قد متكنت من إخَاع الساح املمتد من قرب غزة إىل طرابلس الغرب ‪ ،‬وال نغف أن الدولة النووية‬
‫إبحكام قبَتها على برقة ‪ ،‬وجب نفوسة قد أخَعت قسماً مهماً من جتارة الشمال اإل ريقي ‪ ،‬خاصة جتارة الذهب‬
‫والرقيق ‪ ،‬ومها عصب جتارة العامل اإلسضممي يف ذلك العهد ‪ ،‬إذا أضفنا إىل تلك احملطهلات ـ التجارة الربيةـ احملطات‬
‫البحرية مث عيذاب على البحر األمحر ‪ ،‬ودمياط ‪ ،‬واإلسكندرية على البحر املتوسط ‪ ،‬أدركنا كم كان على كا ة القوا‬
‫أن خزينتها رحبت أمواالً طائلة من وراء ذلك على‬ ‫املارة عرب كا ة تلك الطرق واحملطات التجارية املذكورة ‪ ،‬وال مراء يف هل‬

‫(‪ )1‬اتريخ التجارة ص ‪.191‬‬


‫(‪ )2‬عامل العصور الوسطى يف النظم واحلَارات ص ‪.202‬‬
‫(‪ )3‬الصراع اإلسضممي الصلييب ‪ ،‬السياسة اخلارجية للدولة النورية ص ‪.46‬‬
‫(‪ )4‬اخلريدة نقضمً عن الصراع اإلسضممي الصلييب ص ‪.47‬‬
‫(‪ )5‬الصراع اإلسضممي الصلييب ص ‪.238‬‬

‫‪241‬‬
‫حنو دعم مشاريعها التوسعية(‪ .)1‬وقد متكنت الدولة النورية من تح أسواق جديدة يف املناطق كا ة ‪ ،‬تلك اليت أخَعتها‬
‫لسيطرهتا السياسية(‪.)2‬‬
‫جراء التوسع اخلارجي ‪،‬‬ ‫أ ـ مبدأ التخصص يف التجارة اخلارجية‪ :‬شهدت التجارة يف عهد الدولة النورية تطوراً مهماً من هل‬
‫بعد أن كانت العمليات التجارية مرتبطةً حبلب ـ قلب جتارة مشال الشام ـ صار هناك مبدأ التخصص يف التجارة اخلارجية‬
‫منسقة ‪ ،‬وموزعة بني قسم من غريب قارة اسيا ‪ ،‬والشمال الشرقي اإل ريقي ‪ ،‬وميكن مضمحظات‬ ‫‪ ،‬ويف قطهلاعات إقليمية هل‬
‫ذلك من خضمل ثضمثة حماور‪:‬‬
‫* احملور األول‪ :‬املتاجرة مع الكيان الصلييب ‪ ،‬قد حتمتها الطبيعة اجلغرا ية للدولـة النورية؛ إذ كانت دولـة داخلية حبيسة‬
‫‪ ،‬ليست هلا موانئ على الساح الشامي ‪ ،‬وحيث أن تلك املوانئ خَعت للسيطرة الصليبية ‪ ،‬إهنا مثهللت دور الوسيط‬
‫التجاري بني تلك الدول ‪ ،‬واألسواق التجارية الدولية ‪ ،‬اليت استهلكت منتجاهتا التجارية ‪ ،‬مث ‪ :‬اإلمرباطورية البيزنطية‬
‫أن ميناء صيدا كان ميناءً جتارايً لدمشق ‪ ،‬وكذلك كان ميناء طرابلس جماالً‬ ‫‪ ،‬وجنوب أوروبة ‪ ،‬وغرهبا ‪ ،‬ومن املعروف‪ :‬هل‬
‫لتصريف منتجات ك ٍ من محاه ‪ ،‬ومحص ‪ ،‬وال نغف هنا دور القوى التجارية اإليطالية مث مدن جنوة ‪ ،‬والبندقية ‪،‬‬
‫وبيزا ‪ ،‬وأمالفي ‪ ،‬وأثرها يف دعم النشاط التجاري الصلييب(‪.)3‬‬
‫* احملور الثاين‪ :‬جتارة التواب ‪ ،‬قد هنض أبمرها الكارمية ‪ ،‬قد احتلهلت أمهية كبرية يف ميزانية الدولة ‪ ،‬ويضمحظ أن هيمنة‬
‫الدولة النووية على جتارة التواب اهلندية قد أتيت هلا بعد أن سيطرت على مصر ‪ ،‬وقَت على النفوذ الفاطمي هبا ‪،‬‬
‫واحتاج األوربيون ـ على نطاق متسع ـ لتلك التواب ‪ ،‬اليت حددها لوييز ‪ ،‬أبهنا كانت تشم أصنا اً متعددة من السلع‬
‫املستخدمة يف الزينة ‪ ،‬والعطور ‪ ،‬والعقاقري ‪ ،‬والصيانة الكيماوية ‪ ،‬والطهلهو(‪.)4‬‬
‫* احملور الثالث‪ :‬جتارة الرقيق ‪ ،‬والذهب من بضمد السودان الغريب عرب الصحراء الكربى ‪ ،‬قد مثهللت أمهية ابلغة للدولة‬
‫هلت سيطرهتا السياسية إىل مصر ‪ ،‬و هلأمنتها‬
‫النورية ‪ ،‬وقد هتيهلأ هلا أن تشارك يف تلك التجارة بصورة متزايدة بعد أن مد ْ‬
‫ابلسيطرة على برقة ‪ ،‬وجب نفوسة(‪ )5‬بطرابلس ‪ ،‬وكذلك إبحكام قبَتها على النوبة ‪ ،‬أما جتارة الرقيق ‪ ،‬كانت هلا‬
‫أمهية خاصة(‪ )6‬وازدهرت جتارة الذهب مع إ ريقية وعرب الصحراء الكربى ‪ ،‬وغنمت من وراء ذلك غنائم عظيمة ‪ ،‬ولكن‬
‫ينبغي أن نُدرك أن امتدادها إىل تلك احلدود ‪ ،‬جاء متأخراً ‪ ،‬أي‪ :‬بعد سقوط الدولة الفاطمية يف مصر عام ‪567‬هـ ‪/‬‬
‫‪1171‬م وابلتحديد قب ثضمث سنوات من و اة نور الدين حممود نفسه(‪.)7‬‬
‫ب ـ التجارة بني الدولة النورية ومملكة بيت املقدس‪ :‬مل تقطع الدولة النورية مملكة بيت املقدس اقتصادايً السيما التجارة‪،‬‬
‫استمرت ترتدد بني اجلانبني ‪ ،‬لذا إن تلك اململكة أ ادت من وراء املتاجرة مع عدوها الرئيسي‪ ،‬وذلك‬ ‫هل‬ ‫ب هل‬
‫إن القوا‬

‫(‪ )1‬الصراع اإلسضممي الصلييب ص ‪.238‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص ‪.239‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.240‬‬
‫(‪ )4‬الصراع اإلسضممي الصلييب ص ‪.241‬‬
‫(‪ )5‬اتريخ املغرب العريب ‪ ،‬سعد زغلول عبد احلميد ص ‪.69‬‬
‫(‪ )6‬الصراع اإلسضممي الصلييب ص ‪.241‬‬
‫(‪ )7‬املصدر نفسه ص ‪.244‬‬

‫‪242‬‬
‫أن االزدهار التجاري ‪ ،‬الذي شهده ميناء عكا ابلذات يرجع ـ يف‬ ‫املرجح‪ :‬هل‬
‫من خضمل عائد املكوس املفروضة ‪ ،‬ومن هل‬
‫أحد أسبابه ـ إىل املتاجرة مع الدولة النووية؛ إذ اعترب أحد املوانئ الرئيسية اهلامة ‪ ،‬لتصريف تلك الدولة ‪ ،‬وقد أثهلرت‬
‫التوسع النورية ‪ ،‬والتداخ الذي جرى بني تلك الدولة والكيان الصلييب على املستوى التجاري ‪ ،‬أثهلرت على‬ ‫سياسة هل‬
‫سياسة اململكة الضمتينية؛ إذ إهنا لكي تتاجر مع املسلمني ‪ ،‬كان عليها أن تتبع املوازين ‪ ،‬واملكايي املستعملة يف البضمد‬
‫من قب (‪.)1‬‬
‫كما كان الصليبيون يف حاجة إىل استعمال نوع من العمضمت ‪ ،‬يقبلها التجار املسلمون ‪ ،‬ويف الوقت الذي استعم‬
‫الصوري ‪ ،‬ومت استخدامه يف التجارة‬‫يه الصليبيون العمضمت النقدية اإلغريقية وغريها عملت عملة خاصة عر ت ابلدينار ُّ‬
‫مع املسلمني على أوسع نطاق ‪ ،‬وقد شابه البيزنت البيزنطي ‪ ،‬وقد نقشت عليه عادة بعض اآلايت القرآنية ‪ ،‬وبصورة‬
‫تدرجيية صارت الداننري الصورية أكثر العمضمت املتداولة انتشاراً يف كا ة أحناء بضمد الشام(‪.)2‬‬
‫الفعال على التبادل التجاري‬
‫أن اهلدانت ‪ ،‬اليت عقدهتا الدولة النورية مع مملكة بيت املقدس كان هلا أثرها هل‬ ‫ويضمحظ‪ :‬هل‬
‫بني اجلانبني؛ إذ توقهلفت عند ذلك املعارك ‪ ،‬ووجد التجار رصة ساحنة ملرور قوا لهم التجارية دون التعرض ملخاطر‬
‫احلروب(‪ ، )3‬وأما اإلمارات الصليبية؛ قد أ ادت ـ شأهنا يف ذلك شأن اململكة الضمتينية نفسها ـ من املتاجرة مع الدولة‬
‫النورية(‪.)4‬‬
‫أن الدولة النووية حرصت على إرضاء كبار التجار ‪ ،‬من أج‬ ‫ج ـ مكانة التجار عند نور الدين زنكي‪ :‬جتدر اإلشارة‪ :‬هل‬
‫أن يستمر استثمارهم ألمواهلم يف عمليات جتارية على أرضها ‪ ،‬على حنو يدعم اقتصادايت الدولة ‪ ،‬ويدر األموال الطائلة‬
‫على ميزانيتها ‪ ،‬من عوائد املكوس ال أن تذهب إىل خارجها ‪ ،‬يف وقت تصارعت يه مع القوى اإلسضممية والصليبية‬
‫أن مصاحلهما التقت مع بعَها ‪،‬‬ ‫اجملاورة ‪ ،‬والسيما األخرية ‪ ،‬ومما ساعد على التعاون بني التهلجار ‪ ،‬ودولة نور الدين‪ :‬هل‬
‫عندما سقطت دمشق يف قبَة نور الدين حممود عام ‪549‬هـ ‪1154 /‬م وبصورة غري دموية ودون جهد عسكري‬
‫ضخم ‪ ،‬كان دليضمً واضحاً على أن كبار التجار وجدوا يف سلطان حلب قوة مهيئهلة لنشاطهم التجاري أكثر من ذي‬
‫قب ‪ ،‬ومن األمور ذات الداللة ‪ ،‬أن نور الدين عندما دخ املدينة ‪ ،‬حرص أشد احلرص على االجتماع مع كبار التجار‬
‫الدماشقة ‪ ،‬من أج بعث الطمأنينة يف نفوسهم ‪ ،‬ولتوضيح معامل سياسته االقتصادية املرتقبة(‪ .)5‬وقد استفاد الت هل‬
‫ُّجار‬
‫من هدانت الدولة النورية ‪ ،‬مع مملكة بيت املقدس الصليبية يف صفقاهتم التجارية(‪.)6‬‬
‫أي تغيري أساسي ‪ ،‬يف واقع احلياة البشرية حنو األحسن ‪ ،‬واألمث لن‬ ‫‪ 13‬ـ إلغاء الَرائب‪ :‬أدرك نور الدين حممود‪ :‬هل‬
‫أن هل‬
‫يستكم أبعاده إال من خضمل إعادة تشكي األرضية االجتماعية ‪ ،‬ابحلق ‪ ،‬والعدل حبيث ال يبقى هناك ظامل ‪ ،‬أو‬
‫الفعال ينطلق من الرؤية اإلسضممية املوضوعية العادلة ‪ ،‬اليت صاغها كتاب هللا ‪ ،‬وسنة رسوله ‪،‬‬ ‫مظلوم ‪ ،‬وكان موقفه هل‬

‫(‪ )1‬مملكة بيت املقدس ‪ ،‬عمر كمال تو يق ص ‪.124‬‬


‫(‪ )2‬الصراع اإلسضممي الصلييب ص ‪.247‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.247‬‬
‫(‪ )4‬املصدر نفسه ص ‪.248‬‬
‫(‪ )5‬ذي اتريخ دمشق ص ‪ 328‬ـ ‪.329‬‬
‫(‪ )6‬الصراع اإلسضممي الصلييب ص ‪.255‬‬

‫‪243‬‬
‫ونفذهتا سياسات اخللفاء الراشدين ‪ ،‬والقيادات اإلسضممية امللتزمة عرب حركة التاريخ ‪ ،‬وكان امللك العادل نور الدين‬
‫التصور الذي‬
‫حممود زنكي ‪ ،‬يرى يف الدولة مؤسسةً حلماية حقوق مجاهري املواطنني ‪ ،‬وتقدمي أوسع اخلدمات هلم ‪ ،‬وهو ُّ‬
‫ير ض ابلكلية صيغ األخذ ‪ ،‬واالستضمب ‪ ،‬واالبتزاز ‪ ،‬والتَييع اليت مارستها الكثري من احلكومات عرب التاريخ اإلسضممي‬
‫التوسع الَرائيب السالب ‪ ،‬واالمتناع يف املقاب عن تقدمي‬
‫‪ ،‬وغري اإلسضممي ‪ ،‬وكان هذا االبتزاز أيخذ يوم ذاك صيغ ُّ‬
‫اخلدمات ‪ ،‬ومن أج جتاوز هذا املنطق اخلاطئ سعى نور الدين إىل التحرك صوب الطرف املقاب متاماً ‪ ،‬عم على‬
‫تقليص الَرائب إىل احلد األدىن املتاح ‪ ،‬ونشط من أج تقدمي أوسع اخلدمات جلماهري أمته ‪ ،‬وكان حيوط هذا التحرك‬
‫ـ الذي أخذ يتصاعد مبرور الزمن ـ برقابة صارمة على أموال الدولة العامة ‪ ،‬ويقطع اليد اليت تسعى إىل أن متتد إليها‬
‫بسوء‪.‬‬
‫ما حيوطه ابنفتاح عجيب على القطاعات الفقرية املسحوقة من أبناء األمة ‪ ،‬من أج تفهم واقعها املرير ‪ ،‬ود عها إىل‬
‫مستوى الكفاية ‪ ،‬يستند يف ذلك كله على قدر من السياسات واملوارد ‪ ،‬كانت قديرة على تغطية متطلبات العطاء‬
‫الواسعة اليت نفذهتا دولته الراشدة(‪.)1‬‬
‫كانت الَرائب يف عصر نور الدين تتزايد مع الزمن ‪ ،‬حىت إن الفاطميني يف مصر كانوا أيخذون على البَائع مكسباً‬
‫يص إىل مخسة وأربعني يف املئة من قيمتها ‪ ،‬وابتكر ظلمة هل‬
‫احلكام منها أشياء بعد أشياء انء الناس بثقلها ‪ ،‬حىت استغىن‬
‫الكثري من التجار عن املتاج رة ‪ ،‬وأخفى الناس أمواهلم وأصبحوا مع حكامها يف بضمء شديد ‪ ،‬وارتفعت نسبة اخلراج‬
‫للزراع ما ينفقون به ‪ ،‬وأصبح هل‬
‫احلكام يَـكلون جباية الَرائب إىل نفر من‬ ‫الذي كان ُجيَّب على األرض ‪ ،‬حىت مل يبق هل‬
‫اجلهابذة التزاماً ‪ ،‬يد ع الواحد منهم مبلغاً ‪ ،‬مث جيين أضعا ه من الناس(‪.)2‬‬
‫يف عصر كهذا كان إسقاط الَرائب بضم شك يشري إىل استغراب الكثري من أبناء ذلك اجلي ‪ ،‬وهي خطوة إجيابية يف‬
‫طريق العدل االجتماعي ‪ ،‬وأخذ نور الدين يف تنفيذ سياسته هذه من ُذ رتة مبكرة ‪ ،‬وكان حيناً بعد حني ‪ ،‬يصدر األوامر‬
‫جراء سياسات‬ ‫‪ ،‬ويعمم الكتب ‪ ،‬واملناشري إبسقاط حشود الَرائب (الضمشرعية) اليت كانت أتخذ خبناق املواطنني من هل‬
‫االبتزاز ‪ ،‬اليت اعتمدها احلكام واألمراء الذين سبقوا نور الدين ‪ ،‬واليت كان ال يزال العديد من احلكام واألمراء الذين‬
‫عاصروه يعتمدوهنا ‪ ،‬وكان شعبيته تزداد ابطراد عجيب ‪ ،‬يف ٍ‬
‫خط متوا ٍز مع مقادير الَرائب اليت كان يطلقها(‪ .)3‬وهذا‬
‫يؤكد ما قاله الدكتور عماد الدين خلي ‪« :‬أبن إجراءاته الَريبية جاءت تعزيزاً لسياسته الدائبة من أج حتيق العدل‬
‫االجتماعي ‪ ،‬وكان ينتهز الفرص املناسبة كفتح من الفتوح ‪ ،‬أو انتصار من االنتصارات ‪ ،‬أو حادث من األحداث ‪،‬‬
‫التجرد ‪ ،‬والعطاء»(‪.)4‬‬
‫أو كلمة ذكرى هتز الفكر وتستجيش عواطف ُّ‬
‫أ ـ يف دمشق عام ‪549‬هـ‪ :‬عندما دخ دمشق عام ‪549‬هـ أصدر منشوراً إبسقاط املكوس ‪ ،‬والَماانت ‪ ،‬والَرائب‬
‫‪ ،‬والغرامات املفروضة على عدد من البَائع واألسواق‪ :‬دور البطيخ ‪ ،‬سوق اخلي ‪ ،‬سوق البق ‪ ،‬ضمان األهنار(‪،)5‬‬

‫(‪ )1‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.94‬‬


‫(‪ )2‬نور الدين حممود ‪ ،‬حسني مؤنس ص ‪.402‬‬
‫(‪ )3‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.95‬‬
‫(‪ )4‬املصدر نفسه ص ‪.95‬‬
‫(‪ )5‬أي احتكار توزيع املاء للري والشرب‪.‬‬

‫‪244‬‬
‫سوق الغنم‪ ،‬الكيالة‪ ...‬وغريها‪ ،‬وقرأ املنشور على املنرب‪ ،‬استبشر الناس بصضمح احلال‪ ،‬وأعلن للناس‪ ،‬والفضمحني‪،‬‬
‫واحلرم‪ ،‬واملتعيشني بر ع الدعاء إىل هللا سبحانه بدوام أايمه‪.‬‬
‫حشد كبري من املظامل ‪ ،‬واملكوس ‪ ،‬مش معظم‬ ‫ب ـ يف عام ‪552‬هـ عندما دخ شيزر‪ :‬أصدر منشوره الشهري إبلغاء ٍ‬
‫أحناء دولته ‪ ،‬وجاوز املئة واخلمسني ألف دينار وقد جاء يه‪ ...( :‬هذا ما تقرب به إىل هللا تعاىل صا حاً ‪ ،‬وأطلقه‬
‫مساحماً ملن ضعفه من الرعاية ـ رعاهم هللا ـ لَعفهم عن عمارة ما أخربته أيدي الكفار‪ ...‬ـ أابدهم هللا تعاىل ـ‪ ...‬إخل ‪،‬‬
‫مث يعرض من املنشور بعد هذه املقدمة قائمة ابملواقع اليت مشلها اإللغاء ‪ ،‬واملبالغ اليت أعفيت من د عها(‪.)1‬‬
‫ج ـ يف املوص عام ‪566‬هـ‪ :‬عندما دخ املوص عام ‪566‬هـ ‪ ،‬مل يشأ إال أن يسقط عن أهلها ‪ ،‬ما كانوا يرزحون‬
‫حتته من الغرامات ‪ ،‬والَرائب ‪ ،‬واملكوس ‪ ،‬ومش ذلك أيَاً عدداً من املدن اجلزرية ‪ ،‬كاخلابور ‪ ،‬ونصيبني ‪ ،‬وغريمها‪،‬‬
‫وأصدر بذلك منشورات من إنشاء العماد األصفهاين لكي يقرأ على الناس جاء يه‪( :‬وقد قنعنا من كنز األموال ابليسري‬
‫من احلضمل ‪ ،‬سحقاً للسحت ‪ ،‬وحقاً للحرام احلقيق ابملقت‪ ...‬وتقدمنا إبسقاط ك مكس وضريبة يف ك والية لنا‬
‫بعيدة ‪ ،‬أو قريبة وإزالة ك جهة مشتبهة ‪ ،‬وحمو ك سن ٍهلة سيئة شنيعة ‪ ،‬وإحياء ك سن ٍهلة حسنة ‪ ،‬وانتهاز ك رصة يف‬
‫اخلري ممكنة ‪ ،‬وإطضمق ك ما جرت العادة أبخذه من األموال احملظورة خو اً من عواقبها الرديئة احملذورة ‪ ،‬ضم يبقى يف‬
‫مجيع واليتنا جور جائر جارايً‪ ...‬وهذا حق هللا قَيناه ‪ ،‬وواجب علينا هلأديناه)(‪.)2‬‬
‫د ـ يف مصر عام ‪566‬هـ‪ :‬قد ر ع صضمح الدين يف مصر يف عام ‪566‬هـ‪ :‬مجيع املكوس‪ :‬صادرها وواردها ‪ ،‬جليلها‬
‫وحقريها(‪ .)3‬ويبني ابن األثري كيف أن املكس يف مصر كان يؤخذ من ك مئة دينار مخسة وأربعون دينار‪ ( :‬أطلقها نور‬
‫أن عام ‪567‬هـ شهد محلة شاملة أخرى من محضمت نور‬ ‫الدين ‪ ،‬وهذا مل تتسع له نفس غريه)(‪ )4‬ويؤكد ابن العدمي‪ :‬هل‬
‫الدين إلسقاط املظامل واملكوس(‪.)5‬‬
‫هـ ـ ويف عام ‪569‬هـ السنة اليت تويف يها نور الدين قام حبملة تطهري أخرى للَرائب ‪ ،‬أسقط ما أطلق عليه « ريَة‬
‫األتبان» يف بضمد الشام ‪ ،‬وأصدر بذلك منشوراً من إنشاء العماد األصفهاين‪ .‬وقد اطهللع أبو شامة على نسخة املنشور‪،‬‬
‫وعضممته خبط نور الدين «احلمد هلل» ‪ ،‬ومما جاء يه‪( :‬وبعد‪ :‬إن من سنتنا العادلة ‪ ،‬وعوائد دولتنا القاهرة إشاعة‬
‫املعروف ‪ ،‬وإغاثة امللهوف ‪ ،‬وإنصاف املظلوم ‪ ،‬وإعفاء رسم ما سنهله الظاملون من جائرات الرسوم ‪ ،‬وما نزال جندد للرعية‬
‫رمساً من اإلحسان يرتعون يف رايضه ‪ ،‬ونستقرئ أعمال بضمدان احملروسة ‪ ،‬ونصفيها من الشبهة والشوائب‪ ،‬ونلحق ما‬
‫تقرابً إىل هللا تعاىل(‪.)6‬‬
‫يعثر عليه من بواقي رسومها الَائرة مبا أسقطناه من املكوس والَرائب ُّ‬

‫(‪ )1‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪ 96‬نقضمً عن كتاب الروضتني‪.‬‬


‫(‪ )2‬كتاب الروضتني نقضمً عن نور الدين حممود ص ‪.98‬‬
‫(‪ )3‬الباهر ص ‪ 166‬نور الدين حممود ص ‪.98‬‬
‫(‪ )4‬نور الدين حممود ص ‪.99‬‬
‫(‪ )5‬الربق ص ‪ 143‬نور الدين حممود ص ‪.102‬‬
‫(‪ )6‬الربق ص ‪ 143‬نور الدين حممود ص ‪.102‬‬

‫‪245‬‬
‫ويلخ ص العماد األصفهاين الوضع الَرائيب يف السنة اليت تويف يها نور الدين ‪ ،‬أبنه مل يبق حينذاك من الَرائب سوى‬
‫(‪)1‬‬
‫مر احلديث عن إلغاء املكوس مفصضمً عند‬ ‫اجلزية ‪ ،‬واخلراج‪ ...‬وما حيص من قسمة الغضمت على قوائم املنهاج وقد هل‬
‫إن نور الدين حممود يف سياسته االجتماعية ‪ ،‬واملالية يظهر حرصه العجيب‬ ‫حديثنا عن العدل يف دول نور الدين حممود‪ .‬هل‬
‫على األموال العامة ‪ ،‬وأموال األمة ‪ ،‬اليت حصيلة كدها ‪ ،‬ودمعها ‪ ،‬وعرقها ‪ ،‬سواء كان هذا املال ملكية خاصة يف‬
‫أيدي الناس ‪ ،‬أم عامة يف أيدي الدولة‪.‬‬
‫و ـ محايته للرعية من جشع التجار‪ :‬كان رمحه هللا حريصاً على محاية الرعية من أي مظامل قد تقع عليهم ‪ ،‬وذات يوم‬
‫حَر إليه مجاعة من التجار ‪ ،‬وشكوا إليه أن القراطيس (أجزاء الدينار) كان ك ستني منها بدينار ‪ ،‬صار سبعة وستون‬
‫بدينار ‪ ،‬وأهنا تتعرض ابستمرار للزايدة‪ ،‬والنقصان‪ ،‬مما يلحق هبم الكثري من اخلسائر‪ ،‬وأشاروا عليه أن يَرب الدينار‬
‫ابمسه ‪ ،‬وتكون املعاملة ابلداننري بدالً من القراطيس ‪ ،‬سكت وقتاً طويضمً‪ ،‬مث قال‪( :‬إذا ضربت الدينار‪ ،‬وأبطلت املعاملة‬
‫ابلقراطيس؛ كأين خربت بيوت الرعية ‪ ،‬إن ك واحد منهم عنده عشرة االف وعشرون ألف قرطاس ‪ ،‬إيش يعم‬
‫هبا؟ يكون ذلك سبباً خلراب بيته) ور ض من مثهل االستجابة ملطالب التجار(‪.)2‬‬
‫ز ـ األموال اليت خلهلفها أمري شيزر‪ :‬وعندما دخ شيزر عام ‪552‬هـ بعد أن هل‬
‫خربتها الزالزل ـ مل يكن لينسى‪ :‬أن هناك‬
‫ماالً كثرياً خلفه أمريها السابق ‪ ،‬وأن عليه املطالبة به ‪ ،‬والبحث عنه؛ ألنه أصبح جزءاً من أموال األمة ‪ ،‬ويذكر ابن‬
‫العدمي كيف أنه سأل زوجة األمري عن هذا املال ‪ ،‬وهدهلدها ‪ ،‬وكيف أهنا ذكرت له أن الدار سقطت عليها ‪ ،‬وعليهم ‪،‬‬
‫وأخرجت هي حية من دوهنم ‪ ،‬وأهنا ال تعلم شيئاً ‪ ،‬وإن كان مثة شيء؛ هو حتت األنقاض(‪ ، )3‬وال ندري إن كان املال‬
‫قد عثر عليه أم ال؟ ولكن األهم من هذا هو داللة املوقف نفسه(‪.)4‬‬
‫معرة النعمان‪ :‬وحيدثنا أبو طاهر احلمدي الفقيه‪( :‬كنت عند نور الدين يف دار العدل بدمشق ‪ ،‬وقد أخرج‬ ‫ح ـ خراج هل‬
‫إيل اخلَري من الثقات‪ :‬أن‬‫جريدةً سج َ يها خراج األمضمك ‪ ،‬جع ينظر يها ‪ ،‬لما انتهى إىل أهلها‪ ،‬قال‪( :‬ر ع هل‬
‫مجيع أه املعرة يتقاضون الشهادة ‪ ،‬يشهد أحدهم لصاحبه يف دعوى ملك ‪ ،‬ويشهد له هذا يف دعوى أخرى ‪ ،‬وإن‬
‫امللك الذي أبيدهم إمنا حص هلم هبذا الطريق)‪ .‬وكانت معرة النعمان قد سقطت أبيدي الصليبيني حيناً من الدهر ‪،‬‬
‫مث استعادها املسلمون مما سبب ضياع املستندات اخلاصة ابمللكية ‪ ،‬قلت له‪ :‬أيُّها امللك إن هللا أوجب عليك العدل‬
‫ُّ‬
‫تستمد تواطؤهم‬ ‫يف رعيتك ‪ ،‬انظر ‪ ،‬واكشف ‪ ،‬وتوقف يف األمور إذا ر عت إليك ‪ ،‬إن أه املعرة خلق كثري ‪ ،‬كيف‬
‫على شهادة الزور ‪ ،‬وانتزاع األمضمك من أرابهبا مبجرد هذا القول؟ ال جيوز!!! أطرق نور الدين وقتاً طويضمً مث قال‪ :‬إين‬
‫أمسكها عليهم مث اكشف عنها بعد ذلك ‪ ،‬والتفت إىل كاتبه قائضمً‪ :‬اكتب إىل الوايل ابملعرة ليمسك مجيع امللك ريثما‬
‫يستجمع البينات يف ذلك(‪.)5‬‬

‫(‪ )1‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.103‬‬


‫(‪ )2‬الكواكب ص ‪ 24‬نور الدين حممود ص ‪.105‬‬
‫(‪ )3‬زبدة حلب (‪ )307 / 2‬نور الدين حممود ص ‪.105‬‬
‫(‪ )4‬نور الدين حممود ص ‪.105‬‬
‫(‪ )5‬الكواكب ص ‪ 71‬نور الدين حممود ص ‪.106‬‬

‫‪246‬‬
‫ط ـ اختيار أصحاب األمانة يف اإلشراف على املشاريع‪ :‬عندما قرر نور الدين بناء اجلامع الكبري يف املوص عام ‪566‬هـ‬
‫يتسرع يف اختيار الرج الذي سيتوىل أمر اإلشراف‬ ‫‪ ،‬وليكون مسجداً جامعاً للمصلني ‪ ،‬ومدرسة كبرية للدارسني؛ مل هل‬
‫على بنائه ‪ ،‬السيما وأنه عائد إىل حلب ‪ ،‬واملوص بعيدة عن رقابته املباشرة ‪ ،‬وإمنا حبث عن املشرف األمني الذي‬
‫يطمئن إليه ‪ ،‬كان عمر املضم الرج الصاحل الكادح ‪ ،‬كما يصفه املؤرخون‪ .‬وحيدثنا العماد األصفهاين شاهد العيان عن‬
‫يتقوى هبا ‪ ،‬وكان يهب ك هل ما يص إليه‪ ،‬وال يستبقي‬ ‫الرج يقول‪« :‬إمنا مسي بذلك ألنه كان ميأل تنانري اجلص أبجرة هل‬
‫لنفسه شيئاً ‪ ،‬وكان العلماء ‪ ،‬والفقهاء ‪ ،‬واألمراء يزورونه يف زاويته ‪ ،‬ويتربكون هبمته ‪ ،‬وكان نور الدين من أخص حمبيه‬
‫أنفقت على اجلامع الكبري أمو ٌال كثرية ‪ ،‬واشرتى عمر‬
‫ْ‬ ‫‪ ،‬ويستشريه يف حَوره ‪ ،‬ويكاتبه يف مصاحل دولته(‪ .)1‬هذا وقد‬
‫املضم األمضمك احمليطة به من أصحاهبا أبو ر األمثان ‪ ،‬وعندما مت إنشاؤه ‪ ،‬وحَر نور الدين ال تتاحه عام ‪568‬هـ؛ تقدهلم‬
‫الصرف بدقهل ٍـة ٍ‬
‫ابلغة ‪ ،‬ر ض نور الدين تدقيقها لثقته العميقة بنزاهة‬ ‫تَمنت تفاصي هل‬ ‫إليه عمر املضم بد اتر احلساابت اليت هل‬
‫الرج الذي عرف كيف ينتقيه هلذه املهمة أول مرة ‪ ،‬اسرتاح إىل النتيجة(‪.»)2‬‬
‫احملاسبة الدقيقة لعمال الزكاة‪:‬‬
‫حممد حفيد القيسراين ‪ ،‬ووزير نور الدين الشهيد ‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫وحكى معني الدين هل‬
‫جم ‪ُ ،‬حبس ‪ ،‬باع ما كان ميلكه من عقار مبا قيمته مثانية االف‬ ‫«انكسر ضامن دار الزكاة ـ املعروف اببن مشهلام ـ مبال ٍ‬
‫ذمته»(‪.)3‬‬
‫دينار ‪ ،‬ومحله إىل اخلزانة ‪ ،‬ولكنهله بقي يف اجلس ُمطالباً مبا بقي يف هل‬
‫الرشيدة من نظام القطاع احلريب ‪ ،‬و هل‬
‫الزكاة‬ ‫هذه اخلطوط العريَة يف مصادر دخ دولة نور الدين ‪ ،‬وسياسته االقتصادية هل‬
‫‪ ،‬واخلراج ‪ ،‬واجلزية ‪ ،‬والغنائم ‪ ،‬و داء األسرى ‪ ،‬واألموال العظيمة اليت خلهلفها أبوه عماد الدين ‪ ،‬واألمانة اليت متيهلز هبا‬
‫الرشيدة ‪ ،‬وأمهيهلة سيادة األمن واالستقرار الدهلاخلي يف انتعاش احلركة االقتصادية ‪ ،‬ومسامهة األثرايء ‪ ،‬واملعاهدات‬‫وحكومته هل‬
‫‪ ،‬واالتفاقات اليت يرتتهلب عليه امتيازات مالية ‪ ،‬ودعم اخلليفة العباسي للدهلولة الزنكية ‪ ،‬وسياسة نور الدين الزراعية ‪،‬‬
‫والصناعية والتجارية ‪ ،‬وغري ذلك من سياسته االقتصادية احلكيمة اليت سامهت يف دعم دولة اجلهاد ‪ ،‬وحتقيق أهدا ها‪.‬‬
‫إن من أسباب النهوض اليت أخذ هبا نور الدين‪ :‬االهتمام ابجلانب االقتصادي؛ ألن القوة االقتصادية هي عصب احلياة‬ ‫هل‬
‫الدُّنيا ‪ ،‬وقو ُامها ‪ ،‬والَهلعيف يها يقهر ‪ ،‬وال حيسب له حساب إال يف ظ شرع هللا حني ُحيكم ‪ ،‬ولذلك ينبغي على‬
‫مهم من عوام النهوض‪.‬‬
‫الذات يف موارد اثبتة ‪ ،‬وهذا عام ٌّ‬‫القادة املهتمني أبمر هنوض األمة أن يعتمدوا على هل‬
‫األمة متعددة ‪ ،‬حتتاج إىل أموال طائلة لتغطيتها ‪ ،‬واملطلوب من احلركات اإلسضممية ‪،‬‬
‫إن حاجات مشروع هنوض هل‬ ‫هل‬
‫واحلكومات أن تُظهر من خضمل سلوك رجاهلا من التجار املسلمني أخضمق اإلسضمم يف التعامضمت التجارية ‪ ،‬وذلك من‬
‫خضمل تزويدهم ابخلريات امليدانية حبيث يقتحم التاجر املسلم مع إخوانه جماالت التجارة الدهلولية ‪ ،‬واألسواق العامليهلة‪،‬‬
‫ُّجار املسلمني إلجياد شبكات للتعاون املثمر ملقارعة الشهلركات اليهوديهلة ‪ ،‬والشيوعيهلة ‪،‬‬
‫ويعم على توحيد جهود الت هل‬

‫(‪ )1‬كتاب الروضتني نقضمً عن نور الدين حممود ص ‪.106‬‬


‫(‪ )2‬الكام يف التاريخ نقضمً عن نور الدين حممود ص ‪.106‬‬
‫(‪ )3‬مفرج الكروب (‪ )19 / 1‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.106‬‬

‫‪247‬‬
‫والنصرانيهلة ‪ ،‬وبذلك ما يف وسعهم من أج هيمنة االقتصاد اإلسضممي على األسواق العامليهلة ‪ ،‬وتوظيفه خلدمة املشروع‬
‫اإلسضممي يف حترير شعوب املسلمني من سيطرة الفكر الشيوعي ‪ ،‬الرأمسايل الدهلخي (‪.)1‬‬
‫صانع لصنهلاع احلياة ‪ ،‬يقول األستاذ حممد أمحد‬
‫إن التهلاجر املسلم ـ يف املفهوم اإلسضممي األصي ـ من صنهلاع احلياة ‪ ،‬هو ٌ‬‫هل‬
‫الراشد يف هذا الصدد‪« :‬وعلى خطهلة الدهلعوة أن تتوب توبة نصوحة من إسرا ها القدمي يف تعليم الدُّعاة كراهة املال ‪،‬‬ ‫هل‬
‫وحب الوظائف احلكومية»(‪.)2‬‬
‫وطلب يف كتابه (صناعة احلياة) من الدُّعاة أن يهتموا جبمع املال وأن ينزل منهم نفر إىل السوق؛ ألن يف ذلك مردود‬
‫وذكر ابليهود الذين استحوذوا على األموال واألسواق ‪ ،‬وحنن ال جنيد إال شتمهم ‪ ،‬وسبهلهم ‪ ،‬ونَجر من‬ ‫دعوي ‪ ،‬هل‬
‫ٌّ‬
‫املارون ‪ ،‬واألقباط ‪ ،‬والبهرة ‪ ،‬والقاداينية ‪ ،‬واملبتدعة ‪ ،‬واألقليات؛ إذ كان منهم السبق إىل املال بتسهي الدوائر‬ ‫ُ‬
‫االستعمارية هلم ذلك يف رتة االستعمار جزماً ‪ ،‬ومبساعدة قوى خفية أخرى ‪ ،‬ولكنا مل حنسن غري سبهم ‪ ،‬وشتمهم‪.‬‬
‫إىل أن قال‪ ...« :‬والبد أن هتتم احلركات اإلسضممية مبيدان الصناعة ‪ ،‬والزراعة ‪ ،‬والعقار ‪ ،‬واالسترياد ‪ ،‬والتصدير ‪،‬‬
‫احلرة ‪ ،‬اليت ال ينال أموالنا يها ظلم ‪ ،‬ويف العامل الكبري الفسيح متهلسع لضمستثمار»(‪.)3‬‬
‫وخباصة يف البضمد هل‬
‫اهتم ابلقوة االقتصادية ‪ ،‬وجعلها يف خدمة األمة ‪ ،‬والدهلعوة ‪ ،‬وسياسة الدولة وقادة الفكر ‪ ،‬ودعم‬‫إن نور الدين حممود هل‬ ‫هل‬
‫هبا مشروعه النهَوي‪.‬‬
‫اثنياً‪ :‬سياسة اإلنفاق يف اخلدمات االجتماعية‪:‬‬
‫سعى نور الدين حممود إىل تقدمي أوسع اخلدمات االجتماعية لشعبه ‪ ،‬وجع مؤسسات الدهلولة أدوات صاحلة يف خدمة‬
‫اجلماهري ‪ ،‬سعت بدورها لتغطية شىت احلاجات‪ :‬ابتداء من قَااي املسكن وامللبس واملأك ‪ ،‬ومروراً ابحلاجات الفكرية‬
‫والصحية والعمرانية واإلنتاجية ‪ ،‬وانتهاءً بقَااي الروح‪.‬‬
‫وقد أخذت هذه اخلدمات أساليب وأشكاالً خمتلفة ‪ ،‬هي حيناً أتيت عن طريق التوزيع املباشر للمال ‪ ،‬وحيناً عن طريق‬
‫مؤسسات ‪ ،‬ومرا ق كاملارستاانت ‪،‬‬‫(اإلعانة) على تلبية حاجة معينة ‪ ،‬أو الفكاك من األسر ‪ ،‬أو من خضمل إنشاء هل‬
‫الربط ‪ ،‬واجلسور ‪ ،‬والقناطر ‪ ،‬والقنوات ‪ ،‬واألسواق‬
‫واملضمجئ ‪ ،‬ودور األيتام ‪ ،‬واملدارس ‪ ،‬ودور احلديث ‪ ،‬واخلاانت ‪ ،‬و ُّ‬
‫‪ ،‬واحلمامات ‪ ،‬والطرق العامة ‪ ،‬واملخا ر ‪ ،‬واخلنادق ‪ ،‬واألسوار ‪ ،‬وقد جتيء عن طريق نظم (الوقف) اليت شهدت يف‬
‫قمة نَجها ‪ ،‬وتنظيمها ‪ ،‬وازدهارها ‪ ،‬أو عن طريق عدد من اإلجراءات التنظيمية اليت استهد ت‬ ‫عصر نور الدين هل‬
‫حتقيق الَمان االجتماعي لقطاع ما من قطاعات األمة(‪.)4‬‬
‫كان نور الدين يرى يف الدولة جهاز خدمة وإجناز ‪ ،‬ال أداة قسر واستنزاف(‪ ،)5‬زمانه ـ كما يقول أبو شامة ـ‪« :‬مصروف‬
‫إىل مصاحل الناس والنظر يف أمور الرعية والشفقة عليهم»(‪.)6‬‬

‫(‪ )1‬قه النصر والتمكني يف القران الكرمي ص ‪.288‬‬


‫(‪ )2‬صناعة احلياة ص ‪46‬‬
‫(‪ )3‬صناعة احلياة ص ‪.47 ، 46‬‬
‫(‪ )4‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.111‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه ص ‪.112‬‬
‫(‪ )6‬كتاب الروضتني نقضمً عن نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.112‬‬

‫‪248‬‬
‫‪ 1‬ـ اجملال الصحي (املستشفيات)‪ :‬اهتم نور الدين حممود إبنشاء املستشفيات (البيمارستاانت) ‪ ،‬وجعلها تقدم اخلدمة‬
‫الطبية اجملانية للشعب ‪ ،‬وقد انتشرت يف أغلب مدن الدولة الزنكية‪.‬‬
‫وتعت رب البيمارستاانت من مفاخر احلَارة اإلسضممية اليت سبقت غريها من احلَارات ‪ ،‬وإذا كان اخلليفة األموي الوليد‬
‫بن عبد امللك (‪ 86‬ـ ‪96‬هـ‪ 705/‬ـ ‪715‬م) هو هلأول من بىن البيمارستاانت الثابتة يف اإلسضمم ـ كما بيهلنا يف كتابنا‬
‫«الدولة األموية عوام االزدهار وتداعيات االهنيار» ـ إن امللك العادل نور الدين حممود وخلفاءه من البيت األيويب ‪،‬‬
‫هم أول من استكثر منها من امللوك والسضمطني ‪ ،‬واهتموا بدراسة الطب وممارسته اهتماماً ابلغاً وقايةً لبضمدهم من األوبئة‬
‫واألمراض ‪ ،‬وكانت حلب يف عهد امللك نور الدين حممود إحدى مراكز تدريس الطب يف بضمد الشام ‪ ،‬وكان ميدان‬
‫ذلك‪ :‬البيمارستان النوري ‪ ،‬الذي كان يؤدي رسالة علمية هلا يف تدريس الطب ‪ ،‬إضا ة إىل قيامه بوظيفته األساسية يف‬
‫عضمج املرضى ومتابعتهم(‪.)1‬‬
‫إن امللك نور الدين حممود هو الذي بىن هذا البيمارستان داخ ابب أنطاكية‬ ‫أ ـ البيمارستان النوري‪ :‬قال ابن الشحنة‪ « :‬هل‬
‫(‪)3‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫الغزي‪« :‬هو لصيق البهرامية من جنوبيها الشرقي ‪ ،‬بناه نور الدين حممود زنكي‬ ‫ابلقرب من ُسوق اهلواء» ‪ ،‬وقال ُّ‬
‫‪ ،‬وقد ذكر ابن الشحنة‪ :‬أن امللك نور الدين حينما أراد بناء هذا البيمارستان؛ طلب من األطباء أن خيتاروا من حلب‬
‫أ َ بقعة» صحيحة اهلواء ‪ ،‬صاحلة إلقامة البيمارستان هبا ‪ ،‬وذحبوا خرو اً ‪ ،‬وقطهلعوه أربعة أرابع ‪ ،‬وعلهلقوها أبرابع‬
‫الربع الذي كان يف هذا املوقع ‪ ،‬بنوا البيمارستان(‪ )4‬يه ‪ ،‬وهذه خطة‬ ‫املدينة ليضمً ‪ ،‬لما أصبحوا وجدوا أحسنها رائحة ُّ‬
‫حكيمة يف اختيار املكان الصاحل لبناء البيمارستان يف وقت تنعدم يه آالت قياس األبعاد ‪ ،‬ودرجات احلرارة ‪ ،‬واختبارات‬
‫األجواء(‪.)5‬‬
‫ويقع هذا البيمارستان حالياً يف منطقة اجللوم الكربى يف الزقاق املعروف حالياً بزقاق البهراميهلة(‪ ،)6‬وقد وجد مكتوابً عند‬
‫ابب البيمارستان‪« :‬بسم هللا الرمحن الرحيم ‪ ،‬أمر بعمله املوىل امللك العادل اجملاهد املرابط األعز الكام ‪ ،‬صضمح الدنيا‬
‫والدين ‪ ،‬قسيم الدولة ‪ ،‬رضي اخلضم ة ‪ ،‬اتج امللوك والسضمطني ‪ ،‬انصر احلق ابلرباهني ‪ ،‬حميي العدل يف العاملني‪ ،‬قامع‬
‫امللحدين ‪ ،‬قات الكفرة املشركني ‪ ،‬أبو القاسم حممود بن زنكي بن آق سنقر انصر أمري املؤمنني أدام هللا دولته»(‪.)7‬‬
‫وكان نور الدين قد أوقف على هذا البيمارستان قرية معراشا ‪ ،‬ونصف مزرعة وادي العس من جب مسعان ‪ ،‬ومخسة‬
‫أ دنة من مزرعة كفراناي ‪ ،‬وثلث مزرعة اخلالدي وطاحوهنا من املطخ ‪ ،‬وُمثن طاحون غريب ظاهر ابب اجلنان ‪ ،‬ومثانية‬
‫ُ‬
‫املعرة‪،‬‬
‫أ دنة من مزرعة أبو َم َدااي من عزاز ‪ ،‬ومخسة أ دنة مبزرعة احلمرية املطخ ‪ ،‬واثين عشر داانً من مزرعة الغرزل من هل‬
‫ُ‬
‫بسوق اهلواء ‪ ،‬منها ثضمثة متام والباقي شركة اجلامع الكبري ‪ ،‬وأحكار‬
‫وثلث قرية بيت راغ من الغربيات ‪ ،‬وعشرة دكاكني ُ‬

‫(‪ )1‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.412‬‬


‫(‪ )2‬الدر املنتخب ص ‪ 230‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.412‬‬
‫(‪ )3‬هنر الذهب (‪ )64/2‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.412‬‬
‫(‪ )4‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.413‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه ص ‪.413‬‬
‫(‪ )6‬أخبار حلب وأسواقها ‪ ،‬خري الدين األسدي ص ‪.167‬‬
‫(‪ )7‬هنر الذهب (‪ )66 ، 65/2‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.413‬‬

‫‪249‬‬
‫(‪)1‬‬
‫تدره هذه‬
‫ظاهر ابب أنطاكية ‪ ،‬وابب الفرج ‪ ،‬وابب اجلنان ‪ ،‬وكثرة هذه األوقاف تدل على مقدار املال الو ري الذي ُّ‬
‫األوقاف لتأمني نفقات هذا البيمارستان الكبري(‪ ، )2‬وقد أشار حممد كرد إىل وجود مكتبة متخصصة داخ البيمارستان‬
‫‪ ،‬تشم على كثري من الكتب الطبية اليت أوقفها امللك نور الدين حممود على هذا البيمارستان(‪ ،)3‬ممهلا يؤكد أثر هذا‬
‫البيمارستان يف النشاط العلمي يف هذا العهد ‪ ،‬إىل جانب الوظيفة الطبيهلة اليت كان يقوم هبا(‪.)4‬‬
‫ب ـ البيمارستان النُّوري يف دمشق‪ :‬ينسب هذا البيمارستان للملك نور الدين حممود زنكي ‪ ،‬قال عنه ابن األثري‪«:‬وبىن‬
‫البيمارستاانت يف البضمد ‪ ،‬ومن أعظمها البيمارستان الذي بناه بدمشق ‪ ،‬إنه عظيم كثري اخلرج ‪ ،‬بلغين‪ :‬أنهله مل جيعله‬
‫وقفاً على الفقراء حسب ‪ ،‬ب على كا ة املسلمني من غين و قري»(‪.)5‬‬
‫أن ألص بنائه قصة عجيبة ‪ ،‬وهي‪« :‬إن نور الدين ـ رمحه هللا ـ وقع يف أسره بعض أكابر امللوك من‬ ‫وذكر أبو شامة‪ :‬هل‬
‫الفرنج ‪ ،‬ـ خذهلم هللا تعاىل ـ قطع على نفسه يف دائه ماالً عظيماً ‪ ،‬شاور نور الدين أمراءَه ‪ ،‬أشاروا بعدم إطضمقه؛‬
‫ملا كان يه من الَهلرر على املسلمني ‪ ،‬ومال نور الدين إىل الفداء ‪ ،‬بعدما استخار هللا تعاىل ‪ ،‬أطلقه ليضمً لئضم يعلم‬
‫أصحابه ‪ ،‬وتسلهلم املال ‪ ،‬لما بلغ الفرجني مأمنه مات ‪ ،‬وبلغ نور الدين خربه ‪ ،‬أعلم أصحابه ‪ ،‬تعجبوا من لطف هللا‬
‫تعاىل ابملسلمني؛ حيث مجع احلسنيني ومها‪ :‬الفداء ‪ ،‬وموت ذلك الهللعني ‪ ،‬بىن نور الدين ـ رمحه هللا ـ بذلك املال هذا‬
‫البيمارستان ‪ ،‬ومنع املال عن األمراء؛ ألنه مل يكن عن إرادهتم»(‪.)6‬‬
‫ويعلق أبو شامة على قول ابن األثري‪« :‬بلغين‪ :‬أنه مل جيعله وقفاً على الفقراء وحسب ‪ ،‬ب على كا ة املسلمني من غين‬
‫و قري»(‪ ، )7‬يقول‪« :‬وقد وقفت على كتاب وقفه ‪ ،‬لم أره مشعراً بذلك ‪ ،‬وإمنا هذا كضمم شاع على ألسنة العامة ‪،‬‬
‫يعز وجوده من األدوية الكبار‬
‫صرح أبن ما ُّ‬
‫ليقع ما قدهلره هللا تعاىل من مزامحة األغنياء للفقراء يه ‪ ،‬وهللا املستعان ‪ ،‬وإمنا هل‬
‫خص ذلك بذلك ‪ ،‬ضم ينبغي أن يتعدى إىل غريه ‪ ،‬ال سيهلما‬ ‫هل‬ ‫وغريها ال مينع منه من احتاج إليه من األغنياء والفقراء ‪،‬‬
‫صرح قب ذلك أبنه وقف على الفقراء واملنقطعني» ‪ ،‬وقال بعد ذلك‪« :‬من جاء إليه مستوصفاً ملرضه أعطي ‪،‬‬ ‫وقد هل‬
‫وروي‪ :‬أن نور الدين ـ رمحه هللا ـ شرب من شراب البيمارستان ـ أي‪ :‬شرب دواءً للعضمج ـ وذلك موا ق لقوله يف كتاب‬
‫الوقف‪« :‬من جاء إليه مستوصفاً ملرضه أعطي»‪ .‬وهللا أعلم»(‪.)8‬‬
‫وهذا الشرط يؤكد اهلدف االجتماعي النبي من إنشاء هذا البيمارستان؛ إذ كان الفقراء موضع عناية كبرية لدى امللك‬
‫أن هذا البيمارستان ظ هل عامراً إىل سنة‪1317‬هـ‪1899/‬م ‪ ،‬وكان أطباؤه‬ ‫نور الدين(‪ )9‬ـ رمحه هللا ـ ‪ ،‬وذكر كرد علي‪ :‬هل‬
‫وصيادلته ال يقلون عن عشرين رجضمً ‪ ،‬حىت قامت بلدية دمشق إبنشاء مستشفى للغرابء يف اجلانب الغريب من التكية‬

‫(‪ )1‬الدر املنتخب ص ‪ 231‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.413‬‬


‫(‪ )2‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.414‬‬
‫(‪ )3‬خطط الشام (‪ )187/6‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.414‬‬
‫(‪ )4‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.414‬‬
‫(‪ )5‬التاريخ الباهر ص ‪ 170‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.456‬‬
‫(‪ )6‬كتاب الروضتني نقضمً عن العهد الزنكي ص ‪.456‬‬
‫(‪ )7‬املصدر نفسه ص ‪.457‬‬
‫(‪ )8‬املصدر نفسه ص ‪.457‬‬
‫(‪ )9‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.457‬‬

‫‪250‬‬
‫السليمانية املطلهلة على املرج األخَر ‪ ،‬ومجعت له إعاانت ‪ ،‬وأخذ مبلغ من واردات البلدية ‪ ،‬وأوقاف املستشفى النوري‬
‫‪ ،‬واحتف يف ‪ 15‬ذي القعدة ‪1317‬هـ اب تتاح املستشفى اجلديد(‪ ، )1‬أما بناية املستشفى النوري قد جعلت مدرسة‬
‫للبنات ‪ ،‬مث اختذت سنة ‪1356‬هـ‪1937/‬م داراً ملدرسة التجار الرمسية(‪ ، )2‬وحالة البيمارستان النوري احلاضر جيدة ‪،‬‬
‫وقد ُرممت قبة املدخ حديثاً على الشك الذي كانت عليه ‪ ،‬ويقام يه حالياً‪ :‬متحف الطب والعلوم عند العرب التابع‬
‫للمديرية العامة لآلاثر واملتاحف السورية(‪.)3‬‬
‫وقد اشتهر البيمارستان النوري يف دمشق يف عهد نور الدين حممود زنكي بتدريس الطب ‪ ،‬وقد أشار إىل ذلك ابن أيب‬
‫أصيبعة ‪ ،‬وهو يُرتجم لشيخه الطبيب أيب اجملد بن أيب احلكم ‪ ،‬املتوىف سنة ‪570‬هـ‪1174/‬م ‪ ،‬ذكر‪ :‬هل‬
‫أن أاب اجملد كان‬
‫يدور على املرضى ابلبيمارستان الكبري النوري ‪ ،‬ويتفقد أحواهلم ‪ ،‬ويتدبر أمورهم ‪ ،‬وبني يديه املشر ون والقوام خلدمة‬
‫املرضى ‪ ،‬كان مجيع ما يكتبه ال يتأخر عنهم ‪ ،‬وكان مع راغه من ذلك ‪ ،‬وطلوعه على القلعة ‪ ،‬وتفقُّده املرضى من‬
‫أعيان الدولة أييت وجيلس يف اإليوان الكبري املوجود يف البيمارستان ‪ ،‬ومجيعه مفروش ‪ ،‬يحَر كتب االشتغال ‪ ،‬وكانت‬
‫مجاعة من األطباء ‪ ،‬واملشتغلني أيتون إليه ‪ ،‬ويقعدون بني يديه ‪ ،‬مث جيري مباحث طبية ‪ ،‬ويُقرأ التضمميذ ‪ ،‬وال يزال معهم‬
‫يف اشتغال ‪ ،‬ومباحثة ‪ ،‬ونظر يف الكتب مقدار ثضمث ساعات ‪ ،‬مث يركب إىل داره(‪.)4‬‬
‫وكان نور الدين قد أوقف على هذا البيمارستان مجلةً كبرية من الكتب الطبية ‪ ،‬وكانت يف اخلُرستانَْني(‪ )5‬الهللذين يف صدر‬
‫اإليوان(‪ .)6‬كما كان بعض مشايخ الطب ومتقدميهم ‪ ،‬جيع له جملساً عاماً لتدريس صناعة الطب للمشتغلني عليه ‪،‬‬
‫كما كان يفع الطبيب مهذب الدين بن النهلقاش(‪ ،)7‬املتوىف سنة ‪574‬هـ‪1178/‬م(‪ ، )8‬البيمارستان كان يف ذلك‬
‫العهد هو املكان الرئيسي ملهنة الطب ‪ ،‬والصيدلة من حيث التدريس ‪ ،‬والتطبيق ‪ ،‬كما شاركه يف ذلك جمالس العلم اليت‬
‫كان يعقدها املوصو ون بصناعة الطب ‪ ،‬وتدريسه لطضمهبم ‪ ،‬ومل تُشر املصادر إىل مدارس مستقلة بتدريس الطب يف‬
‫العهد الزنكي ‪ ،‬كما هو الشأن يف العهد األيويب بعد ذلك ‪ ،‬عندما أُنشئت أول مدرسة خاصة لتدريس الطب سنة‬
‫(‪)9‬‬
‫اهتم نور الدين ابملساجد اهتماماً‬
‫‪621‬هـ‪1224/‬م ‪ ،‬وهي املدرسة قبلي اجلامع األموي بدمشق ‪ 2.‬ـ املساجد‪ :‬هل‬
‫عظيماً ‪ ،‬قد كان هلا دور عظيم عرب التاريخ اإلسضممي ‪ ،‬هي أول ‪ ،‬وأهم أمكنة التعليم على اإلطضمق ‪ ،‬وقد كان‬
‫املسجد ابإلضا ة إىل كونه حم عبادة املسلمني املكان الذي جيتمعون يه مخس مرات يف اليوم ألداء الصلوات املفروضة‬
‫عليهم ‪ ،‬وظ هل املسجد قاعدة مهمة للرتبية والتعليم(‪.)10‬‬

‫(‪ )1‬خطط الشام (‪ )159/6‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪408‬‬


‫(‪ )2‬اتريخ البيمارستاانت ص ‪ 213‬أمحد عيسى‪.‬‬
‫(‪ )3‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.458‬‬
‫(‪ )4‬املصدر نفسه ص ‪.146‬‬
‫(‪ )5‬تعين املكان الضمئق أو املخزن أو اخلزانة‪.‬‬
‫(‪ )6‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.146‬‬
‫(‪ )7‬املصدر نفسه ص ‪.147‬‬
‫(‪ )8‬املصدر نفسه ص ‪.147‬‬
‫(‪ )9‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.147‬‬
‫(‪ )10‬املصدر نفسه ص ‪.110‬‬

‫‪251‬‬
‫أن نور الدين أمر إبحصاء ما يف حمضمت دمشق من مساجد هجرت ‪ ،‬أو َخربت ‪ ،‬أانف‬ ‫ويروي العماد األصفهاين‪ :‬هل‬
‫وعني له أوقا اً(‪ .)1‬وأصلح أحوال املسجد األموي ‪ ،‬وأضاف إىل أوقا ه‬ ‫على مئة مسجد ‪ ،‬أمر بعمارة ذلك كله ‪ ،‬هل‬
‫املعلومة األوقاف اليت ال تُعرف شروط واقفيها ومسهلاها مال املصاحل(‪ ، )2‬وأما أشهر املساجد اليت بناها هو املسجد النوري‬
‫ابملوص ‪ ،‬الذي يذكره ابن األثري يف قوله‪ « :‬جامعه يف املوص إليه النهاية يف احلسن ‪ ،‬واإلتقان»(‪ ، )3‬وبىن جامعاً يف‬
‫محاة ‪ ،‬على هنر العاصي ‪ ،‬وصفه ابن األثري أبنه من أحسن اجلوامع ‪ ،‬وأنزهها(‪ ، )4‬وأمر إبصضمح اجلوامع واملساجد يف‬
‫مجيع املدن اليت أتثرت ابلزالزل سنيت (‪552‬هـ ‪566 ،‬هـ)(‪ ، )5‬وأصبحت املساجد يف عصره من أهم املراكز العلمية ‪،‬‬
‫ومن أمهها‪:‬‬
‫أ ـ يف حلب‪ :‬كانت املساجد من املؤسسات العلمية اليت استخدمها نور الدين يف اإلحياء السين ‪ ،‬والوقوف أمام املذهب‬
‫الشرعية ‪ ،‬واللُّغوية ‪ ،‬واألدبيهلة ‪،‬‬
‫الشيعي ‪ ،‬ولقد شهدت املساجد يف حلب نشاطاً علمياً واسعاً يف جمال الدراسات هل‬
‫واستمرت تلك املساجد يف نشاطها العلمي رغم انتشار املدارس يف هذه املدينة ‪ ،‬حيث أشارت املصادر إىل النشاط‬
‫العلمي يف أول جامع أنشئ يف حلب ‪ ،‬وهو‪:‬‬
‫* املسجد الكبري‪ :‬وقد ذُكر‪ :‬أن موضع هذا اجلامع كان بستاانً للكنيسة العظمى يف أايم الرومان ‪ ،‬وهي منسوبة إىل‬
‫(‪)6‬‬
‫هيضمنة ‪ ،‬أو قسطنطني امللك ابين القسطنطينية ‪ ،‬وملا تح املسلمون حلب ‪ ،‬صاحلوا أهلها على موضع املسجد اجلامع‬
‫أن هذا اجلامع من بناء اخلليفة األموي سليمان بن عبد امللك (‪ 96‬ـ ‪99‬هـ‪ 705/‬ـ ‪715‬م)‬ ‫‪ ،‬وقد ذكر ابن شدهلاد‪ :‬هل‬
‫هو الذي قام ببناء هذا املسجد(‪ ، )7‬ويف شعبان سنة ‪564‬هـ (‪1169‬م) يف أايم امللك العادل نور الدين حممود قام‬
‫اإلمساعيلية إبحراق هذا اجلامع ‪ ،‬كما احرتقت األسواق اجملاورة له ‪ ،‬قام امللك نور الدين ‪ ،‬وأمر ببنائه ‪ ،‬واجتهد يف‬
‫عمارته ‪ ،‬ونق إليه ُعمداً من بُعادين ‪ ،‬وقنسرين؛ ألن العمد اليت كانت يه قد تفطرت من النار ‪ ،‬وقام إبضا ة سوق‬
‫قبلي اجلامع إليه ‪ ،‬واتسع به املسجد ‪ ،‬وأوقف نور الدين عليه أوقا اً كثرية ‪ ،‬ويقع هذا اجلامع حالياً يف سويقة حامت ‪،‬‬
‫أشهر حارات حلب ‪ ،‬وأقدمها ‪ ،‬ويبعد اجلامع عن قلعة حلب الكربى مسا ة نصف مي تقريباً من جهة الغرب ‪ ،‬وبناؤه‬
‫احلايل يرجع للعهد اململوكي ‪ ،‬ابستثناء منارته اليت يرجع اترخيها إىل سنة ‪482‬هـ‪1089/‬م(‪.)8‬‬
‫وأما النشاط العلمي يف هذا اجلامع؛ قد أشارت املصادر إىل وجود حلق عديدة جيتمع حوهلا املشتغلون ابلعلم ‪ ،‬أشهرها‪:‬‬
‫خمصصةً للدراسات األدبية ‪ ،‬كما كانت حلق األدب واللغة والنحو تُعقد ابستمرار يف هذا‬‫السارية اخلَراء اليت كانت هل‬
‫اجلامع إىل جانب قراءة القران الكرمي ‪ ،‬والفقه(‪ .)9‬وقد أنشأ نور الدين يف هذا اجلامع زاويتان إحدامها لتدريس الفقه‬

‫(‪ )1‬نور الدين حممود الرج والتجربة ص ‪.116‬‬


‫(‪ )2‬دور نور الدين يف هنَة األمة ص ‪ ، 188‬الكواكب ص ‪.17‬‬
‫(‪ )3‬الباهر ص ‪ 170‬دور نور الدين يف هنَة األمة ص ‪.187‬‬
‫(‪ )4‬الباهر ص ‪ 170‬دور نور الدين يف هنَة األمة ص ‪.187‬‬
‫(‪ )5‬الدر املنتخب ص ‪ 61‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.389‬‬
‫(‪ )6‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.390‬‬
‫(‪ )7‬زبدة حلب (‪ )105/2‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.390‬‬
‫(‪ )8‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.390‬‬
‫(‪ )9‬املصدر نفسه ص ‪.391 ، 390‬‬

‫‪252‬‬
‫علمي ملموس خضمل رتة‬ ‫على املذهب املالكي ‪ ،‬واألخرى لتدريس الفقه احلنبلي ‪ ،‬وقد كان هلاتني الزاويتني نشا ٌط ٌّ‬
‫البحث ‪ ،‬وخباصة يف عصر مؤسسها‪ .‬وابإلضا ة إىل تدريس الفقه يف هذا اجلامع قد حظي علم احلديث ابهتمام امللك‬
‫نور الدين حممود ‪ ،‬توجيهاً منه لسياسة التعليم يف عصره حنو الدراسات الشرعية ‪ ،‬ليدعم هبا املذهب السين يف حلب ‪،‬‬
‫أنشأ زاويةً لتدريس علم احلديث يف هذا اجلامع ‪ ،‬وأوقف عليها األوقاف الكا ية للصرف عليها ‪ ،‬وعلى املشتغلني‬
‫هبا(‪.)1‬‬
‫العديد من املساجد يف دمشق بدور ٍ‬
‫هام يف نشاط احلياة العلمية ‪ ،‬ممهلا هلأدى إىل هذا التوسع‬ ‫ُ‬ ‫ب ـ املساجد يف دمشق‪ :‬قام‬
‫الكبري يف إنشاء املدارس ‪ ،‬وازدايد نشاطها يف تلك الفرتة ‪ ،‬وكان من أبرز تلك املساجد ما يلي‪:‬‬
‫عد اجلامع األموي بدمشق من املساجد املتميزة حبسن عمارهتا ‪ ،‬وأراد اخلليفة األموي الوليد بن عبد‬‫* اجلامع األموي‪ :‬يُ ُّ‬
‫امللك (‪ 86‬ـ ‪96‬هـ‪ 705/‬ـ ‪ 715‬م) ‪ ،‬عندما عزم على بنائه أن جيع منه مفخرة من مفاخر دمشق ‪ ،‬أنفق عليه‬
‫الصنهلاع ‪ ،‬وأه الفن البارعني ‪ ،‬وبقي العم يه تسع سنني ‪ ،‬أنفق عليه أربعمئة صندوق‬ ‫األموال ‪ ،‬وجلب إليه املهرة من ُّ‬
‫‪ ،‬يف ك صندوق أربعة عشر ألف دينار ‪ ،‬وبذلك أصبح مفخرة من مفاخر العمارة اإلسضممية على مر العصور(‪.)2‬‬
‫ٍ‬
‫ابهتمام ابل ٍغ ‪ ،‬ورعاية كبرية من اخللفاء ‪ ،‬وامللوك ‪ ،‬واحلكام على مر العصور اإلسضممية ‪ ،‬وذلك‬ ‫وقد حظي هذا اجلامع‬
‫يما يتعلق مبتابعة تعمريه وحتسينه ‪ ،‬أو صيانته وزايدة الوقف عليه ‪ ،‬و يما يتعلق بتشجيع حلق التعليم اليت كانت تُقوم‬
‫يف جنباته ‪ ،‬والصرف عليها(‪ ،)3‬قد ظ هل اجلامع ُمنذ بنائه مناراً للعلم واملعر ة ‪ ،‬ومدرسةً جامعة لعلماء دمشق وطضمهبا‬
‫‪ ،‬يه تُلقى الدروس العلمية من ك ٍن ‪ ،‬وإليه يفد طضمب العلم من ك صوب للنهله من َمعني الثقا ة‪ ،‬ولضمجتماع‬
‫ابلعلماء الذين وقفوا أنفسهم يف هذا املسجد على نشر املعارف ‪ ،‬وتدريس العلوم ‪ ،‬واستمر هذا اجلامع يف العهد الزنكي‬
‫قبلة للعلماء والدارسني ‪ ،‬ومركزاً علمياً ابرزاً ‪ ،‬يه تعقد حلق التعليم اخلاصة والعامة ‪ ،‬ويف جنباته تنشر زوااي تدريس‬
‫صنفت ‪ ،‬وأُمليت العديد من املؤلفات املهمة مث اتريخ دمشق للحا ظ ابن عساكر‬ ‫القران ‪ ،‬وإمضمء احلديث ‪ ،‬و يه ُ‬
‫ُ‬
‫السبع‬ ‫وغريه ‪ ،‬كما تواتر يف املصادر ذكر الزاوية الغزالية ‪ ،‬وجملس ابن عساكر ‪ ،‬وزاوية املقادسة ‪ ،‬والزاوية الكوثرية ‪ ،‬و ُّ‬
‫علمي مميهلز خضمل هذا العهد‪.‬‬ ‫اجملاهدي ‪ ،‬وغريها من منابر العلم يف هذا املسجد واليت كان هلا نشاط ٌّ‬
‫وكان النشاط العلمي يف اجلامع األموي قد ترهلكز على تدريس القران الكرمي ‪ ،‬واحلديث النبوي الشريف ‪ ،‬والفقه ‪ ،‬كما‬
‫ُعقدت يف هذا اجلامع العديد من جمالس اإلمضمء والسماع ‪ ،‬اجتمع إليها عدد من العلماء ‪ ،‬وطضمب العلم ‪ ،‬حىت أصبح‬
‫هذا اجلامع من أبرز مواطن الثقا ة يف دمشق ‪ ،‬تناوب يه جلهلـةٌ من أعضمم العلماء الذين ال تزال أمساؤهم المعة يف ميادين‬
‫العلوم الشرعية ‪ ،‬وال تزال ااثرهم ومؤلفاهتم ابقية حىت اليوم ‪ ،‬ويصور أحد الشعراء املعاصرين للملك نور الدين حممود ـ‬
‫علي بن منصور السروجي املتوىف سنة ‪572‬هـ (‪ 1176‬م) ـ نشاط التعليم يف هذا اجلامع يف قصيدة وصف يها‬ ‫وهو ُّ‬
‫النشاط العلمي الذي شهدته دمشق يف العهد الزنكي ‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫ت منهـ ـ ـ ـ ـ ـا املقاصي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُر‬
‫صورهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ُتح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْ‬‫قُ ُ‬ ‫كأنـهل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـها جنهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة ُ‬
‫للخل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد دانيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص ‪.391 ، 390‬‬


‫(‪ )2‬احلياة العلمية يف عهد الدولة الزنكية ص ‪.416‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.417‬‬

‫‪253‬‬
‫ور‬
‫وجام ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌع جامـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌع للدي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن معم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫ـ ـ ـي ك ـ ـ ـ ـ ـ قط ـ ـ ـ ـر هب ـ ـ ـ ـ ـا للعل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم مدرسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـةٌ‬
‫والعل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم يذك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر ي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه والتفاسيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُر‬
‫يُتل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى القـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرآن بـ ـه ـي كـ ـ ـ ـ ـ انحي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة‬
‫ور‬
‫أوصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاف مولـ ـ ـ ـ ـ ًى بنش ـ ـ ـ ـ ـ ـر الع ـ ـ ـدل مشه ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫تكام ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ احلس ـ ـ ـ ُن يـ ـ ـ ـ ـه مثـ ـ ـ ـ ـ َ م ـ ـ ـا َك ُمل ـ ـ ـت‬
‫(‪)1‬‬
‫ور‬‫وللخليفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن أنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـواره ُس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬ ‫امل ْلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك والديْـ ـ ـ ـ ـ ُن و ُّ‬
‫الدنْيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا أبمجعه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬
‫ُ‬
‫وكان من أشهر مرا ق التهلعليم يف هذا اجلامع‪:‬‬
‫الزاوية الغزالية‪ :‬تقع يف اجلهة الشهلمالية الغربية من اجلامع األموي ‪ ،‬كانت تُنسب إىل الشيخ املقدسي املتوىف سنة‬ ‫* هل‬
‫‪490‬هـ (‪1097‬م) ‪ ،‬مث نسبت إىل الشيخ أيب حامد الغزايل املتوىف سنة ‪505‬هـ (‪1112‬م)(‪ )2‬لكونه دخ دمشق‪،‬‬
‫الصو ية من ذلك لعدم معر تهم به ‪ ،‬عدل عنها ‪ ،‬وأقام هبذه الزاوية‬‫وقصد اخلانقاه السميساطية ليخلو إليها ‪ ،‬منعه ُّ‬
‫ابجلامع إىل أن ُعلم مكانه ‪ ،‬و ُعر ت منزلته ‪ ،‬حَر الصو ية أبسرهم إليه ‪ ،‬واعتذروا له ‪ ،‬وأدخلوه إىل اخلانقاه ‪ ،‬عر ت‬
‫الزاوية بعد الشيخ نص ٍر املقدسي منهم‪ :‬تلميذه عامل الشام أبو‬
‫درس جمموعة من العلماء يف هذه هل‬ ‫(‪)3‬‬
‫تلك الزاوية به ‪ ،‬وقد هل‬
‫الفتح نصر هللا املصيصي املتوىف سنة ‪542‬هـ‪1147/‬م ‪ ،‬والشيخ أبو النصر حممد بن علي الطوسي املتوىف سنة‬
‫‪561‬هـ‪1166/‬م (‪ ، ) 4‬وخطيب دمشق أبو الربكات اخلَر بن شب احلارثي املعروف أبيب عبد املتوىف سنة‬
‫‪562‬هـ‪1167/‬م ‪ ،‬والصائن أبو احلسني هبة هللا بن احلسن بن عساكر املتوىف سنة ‪563‬هـ‪1168/‬م ‪ ،‬وأبو الفَائ‬
‫(‪)5‬‬
‫درس هبا مرتني العضممة قطب الدين النيسابُوري املتوىف‬
‫عبد الرحيم بن ُرستم الزجناين املتوىف سنة ‪563‬هـ‪1168/‬م ‪ ،‬مثهل هل‬
‫سنة ‪578‬هـ‪1182/‬م(‪.)6‬‬
‫يس مجيع هؤالء العلماء األعضمم يف الفقه الشا عي يف هذه الزاوية ‪ ،‬يؤكد األثر الكبري والنشاط العلمي املتواص‬ ‫هل‬
‫إن تدر َ‬
‫يف هذا اجلامع ‪ ،‬رغم انتشار املدارس يف دمشق يف هذا العهد ‪ ،‬ورمبهلا أن هذا النشاط يفوق نشاط الكثري من مدارس‬
‫دمشق يف تلك الفرتة ‪ ،‬ال سيهلما وأن هذه الزاوية تناوب عليها ُجلةٌ من أقطاب الفقه الشا عي يف بضمد الشام يف ذلك‬
‫العصر(‪.)7‬‬
‫السبُع‬
‫ابلسبُع‪ :‬قراءة سبع من القران ‪ ،‬مث أطلق على املكان الذي كان يقرأ السبع يه ‪ ،‬ويقع ُّ‬‫السبُع اجملاهدي‪ :‬يقصد ُّ‬‫* ُّ‬
‫ـ على ما ذكر النعيمي ـ داخ اجلامع مبقصورة اخلََر داخ ابب الزايدة ‪ ،‬ويُنسب لألمري جماهد الدين أيب الفوارس بُزان‬
‫بن ايمني أحد مقدمي اجليش ابلشام يف دولة نور الدين حممود ‪ ،‬وهو موصوف ابلشجاعة والبسالة ‪ ،‬مواظب على‬
‫الصضمة والصدقات ‪ ،‬تُويف يف داره بدمشق يف صفر ‪555‬هـ ‪1160‬م ‪ ،‬ود ن ابملدرسة املشهورة ابمسه(‪.)8‬‬

‫(‪ )1‬مراة الزمان نقضمً عن احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.418‬‬


‫(‪ )2‬سري أعضمم النبضمء (‪ 322/19‬ـ ‪.)346‬‬
‫(‪ )3‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.416‬‬
‫(‪ )4‬املصدر نفسه ص ‪.419‬‬
‫(‪ )5‬طبقات الشا عية (‪ )159/4‬الدارس يف اتريخ املدارس (‪.)418/1‬‬
‫(‪ )6‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.420‬‬
‫(‪ )7‬املصدر نفسه ص ‪.420‬‬
‫(‪ )8‬كتاب الروضتني نقضمً عن احلياة العلمية ص ‪.420‬‬

‫‪254‬‬
‫* احللقة الكوثرية‪ :‬تقع هذه احللقة جتاه شبهلاك الكضمهلسة ‪ ،‬حتت مئذنة العروس ابجلامع األموي(‪ ،)1‬وقفها امللك نور الدين‬
‫حممود على صبيان صغار ‪ ،‬وأيتام يقرؤون يف ك يوم بعد صضمة العصر «سورة اإلخضمص» ثضمث مرات ‪ ،‬يهدون ثواهبا‬
‫السبُع الكبري(‪ )2‬وقد ذكر النعيمي‪ :‬أن عدداً من طضمب هذه احللقة‬ ‫هلب يتناولونه من ديوان ُّ‬
‫للواقف ‪ ،‬وهلم على ذلك ُمرت ٌ‬
‫يف عصر واقفها ‪ ،‬يص إىل ثضممثئة وأربعة ومخسني طالباً(‪.)3‬‬
‫ورد يف ترمجة املقرئ احلنبلي أبو العباس أمحد بن احلسني العراقي املتوىف سنة‬‫* حلقة إلقراء القران الكرمي حتت قبهلة النسر‪َ :‬‬
‫‪588‬هـ‪1192/‬م‪ :‬أنه قدم دمشق سنة ‪540‬هـ‪1145/‬م ‪ ،‬نزل هبا ‪ ،‬وكان يقعد إلقراء القران يف اجلامع األموي حتت‬
‫قبة النسر(‪.)4‬‬
‫كر ايقوت احلموي‪ :‬أن احلا ظ أاب القاسم ‪ ،‬علي بن احلسن بن عساكر أكم أربعمئة‬ ‫* جملس احلا ظ ابن عساكر‪ :‬ذ َ‬
‫جملس ومثانية جمالس يف ٍن واحد(‪ ،)5‬وكان اجلامع الكبري بدمشق ميدان هذه األمايل ‪ ،‬وخباصة قب إنشاء دار احلديث‬
‫جمالس السماع‬
‫ُ‬ ‫النوريهلة بدمشق ‪ ،‬واليت أملى كثرياً من جمالسه يها(‪ ، )6‬كما كانت تُعقد ابملنارة الشرقية من هذا اجلامع‬
‫ماعات ‪ ،‬ونُشرت يف اجمللدة األوىل من الكتاب‬ ‫الس َ‬
‫ملصنهلفه الكبري «اتريخ دمشق» ‪ ،‬وقد حفظت لنا العديد من هذه هل‬
‫السماع(‪.)7‬‬
‫بد من ذكرها عند متام هل‬ ‫السامعني ‪ ،‬وهي األمور اليت ال هل‬
‫السماع ‪ ،‬وعدد هل‬ ‫‪ ،‬و يها ذكر اتريخ هل‬
‫* جامع القلعة‪ :‬هذا اجلامع ‪ ،‬أنشأه امللك العادل نور الدين حممود يف قلعة دمشق ‪ ،‬وأوقَف عليه األوقاف الكا ية‬
‫للصرف على املسجد ‪ ،‬وإمامه ‪ ،‬ومؤذنه(‪ ، )8‬وقد ذكر ابن شداد ضمن مدارس احلنفيهلة ‪ ،‬مدرسةً جبامع القلعة وقفها‬
‫الشهيد نور الدين حممود ‪ ،‬كما ذكرها النعيمي ابسم‪« :‬املدرسة النوريهلة احلنفية الصغرى» جبامع قلعة دمشق(‪.)9‬‬
‫ج ـ يف املوص ‪ :‬جامع نور الدين حممود‪ :‬كان من ضمن أعمال نور الدين أمر ببناء جامع يستوعب عدداً أكرب من‬
‫املصلني ‪ ،‬وكان قد هلوض أمر بناء هذا اجلامع للشيخ عمر املضم ‪ ،‬وقد ابشر الشيخ عمر بناء اجلامع سنة‬
‫(‪)10‬‬
‫استمر العم يه حنو ثضمث سنوات‪.‬‬
‫‪566‬هـ‪1171/‬م ‪ ،‬و هل‬
‫وكان نور الدين قد أنفق يف بناء هذا اجلامع أمواالً كثرية ‪ ،‬وأوقف عليه ضيعة من ضياع املوص ‪ ،‬وكان قد قدم املوص‬
‫سنة ‪568‬هـ‪1173/‬م ‪ ،‬وصلى يف جامعه بعد أن رشه ابلبسط واحلصران ‪ ،‬وعني له مؤذنني وخطيباً ‪ ،‬ورتب ما‬
‫يلزمه(‪ ، )11‬وقد بلغ هذا اجلامع درجة عالية من روعة البناء ‪ ،‬وحسن التخطيط ‪ ،‬قال عنه ابن األثري‪ « :‬جامعه يف‬

‫(‪ )1‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.421‬‬


‫(‪ )2‬الدارس يف اتريخ املدارس (‪.)451/1‬‬
‫(‪ )3‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.421‬‬
‫(‪ )4‬شذرات الذهب (‪ )292/4‬احلياة العلمية ص ‪.421‬‬
‫(‪ )5‬معجم األدابء (‪.)81/13‬‬
‫(‪ )6‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.422‬‬
‫(‪ )7‬املصدر نفسه ص ‪.422‬‬
‫(‪ )8‬املصدر نفسه ص ‪.422‬‬
‫(‪ )9‬الدارس يف اتريخ املدارس (‪.)648/1‬‬
‫(‪ )10‬كتاب الروضتني نقضمً عن احلياة العلمية ص ‪.356‬‬
‫(‪ )11‬مراة الزمان نقضمً عن احلياة العلمية ص ‪.356‬‬

‫‪255‬‬
‫أن من األ َ أن‬ ‫املوص إليه النهاية يف احلسن ‪ ،‬واإلتقان»(‪ ، )1‬وحينما اكتم بناء هذا اجلامع ‪ ،‬رأى نور الدين‪ :‬هل‬
‫ماد‬ ‫ٍ‬
‫جيمع يه بني الصضمة وطلب العلم ‪ ،‬أمر ببناء مدرسة بداخله ‪ ،‬ووا ق أ ْن وص املوص يف تلك السنة الفقيهُ ع ُ‬
‫أمر التدريس يف هذه املدرسة‪،‬‬ ‫فوض إليه َ‬ ‫عي ‪ ،‬تلميذ حممد بن حيىي ‪ ،‬تلميذ اإلمام الغزايل ‪ ،‬هل‬
‫الدين أبو بكر النوقاينُّ الشا ُّ‬
‫وكتب له منشوراً بذلك(‪.)2‬‬
‫اثر ملموسة‬
‫هذا على سبي املثال ال احلصر يف اهتمام نور الدين ابملساجد ‪ ،‬وتفعي دورها العلمي والرتبوي ‪ ،‬كان هلا آ ٌ‬
‫وتطوره يف العهد الزنكي ‪ ،‬رغم وجود املدارس وانتشارها بشك واسع يف ذلك العهد(‪ .)3‬وتبقى‬ ‫يف االزدهار العلمي ‪ُّ ،‬‬
‫ملحوظة مهمة ‪ ،‬وهي‪ :‬أنهله ال يكاد خيلو مسج ٌد من هذه املساجد من مكت ٍبة ضخمة تَم عدداً كبرياً من الكتب يف‬
‫التخصصات ‪ ،‬وكانت تلك املكتبات أوقفت خصيصاً على املساجد لريجع إليها الطضمب ‪ ،‬والباحثون‬ ‫خمتلف العلوم ‪ ،‬و ُّ‬
‫‪ ،‬مث املكتبة الشرقية جلامع حلب ‪ ،‬وهي مكتبةٌ عامرة ‪ ،‬مسبلة للمطالعة ‪ ،‬وتشتم على الكثري من الكتب يف خمتلف‬
‫روع املعر ة(‪.)4‬‬
‫شعة ‪ ،‬اليت هنَت‬ ‫اهلامة يف اجملتمع اإلسضممي ‪ ،‬وهي مبثابة املعاهد العلمية امل هل‬
‫وهكذا كانت املساجد من املؤسسات هل‬
‫ُ‬
‫وخرجت العديد من العلماء األ ذاذ الذين أسهموا‬ ‫السابقة ‪ ،‬هل‬‫مبختلف العلوم يف هذا العهد ‪ ،‬أسوة ابلعهود اإلسضممية هل‬
‫لغين منهم على قري ‪،‬‬ ‫يف تقدم العلم وازدهاره ‪ ،‬وكانت تلك املساجد تتميهلز بتكا ؤ الفرص بني الطضمب ‪ ،‬دون متيي ٍز ٍ‬
‫زاد إقبال طلبة العلم عليها ‪ ،‬ومل يعد الفقر حائضمً أمام طلب العلم يها ‪ ،‬ب على العكس ‪ ،‬قد وجدت الكثري من‬
‫خصصت ملن يراتد هذه املساجد معلمني ‪ ،‬أو متعلمني ‪ ،‬حىت يتفرغوا لطلب العلم ‪ ،‬دون أن يشغلهم‬ ‫األوقاف اليت هل‬
‫طلب العيش عن ذلك‪.‬‬
‫ومقر اجتماعاهتم‬
‫‪ 3‬ـ املدارس‪ :‬كانت املساجد املراكز األوىل للتعليم يف اإلسضمم ‪ ،‬إىل جانب كوهنا حم هل عبادة املسلمني ‪ ،‬هل‬
‫أماكن أخرى ‪ ،‬عر ت ابملدارس‪ ،‬وقد انقش‬
‫‪ ،‬ولكن مع مرور الزمن ‪ ،‬انتق التعليم يف بعض مظاهره عن املساجد إىل َ‬
‫شليب هذا األمر ‪ ،‬وعلهلله أبموٍر عديدة من أمهها‪:‬‬
‫الرواد ‪ ،‬وكان يُسمع من‬
‫ـ ازدايد اإلقبال على الدراسات الشرعية ‪ ،‬وابلتايل ازدحام حلق التعليم يف املساجد ابلكثري من هل‬
‫ات الطضمب يناقشونه ويسألونَه ‪ ،‬حىت تضمقت األصوات‬ ‫صوت املدرس يُلقي درسه ‪ ،‬وأصو ُ‬ ‫ُ‬ ‫ك حلقة من هذه احللق‬
‫لق املتعددة ‪ ،‬أحدثت يف املسجد شيئاً من الَجيج ‪ ،‬مما يتناىف مع مكانة املسجد ‪ ،‬وهذا ما جع‬ ‫املتصاعدة من احل َ‬
‫احتمال املسجد للصضمة والتدريس معاً أمراً صعباً(‪.)5‬‬
‫الكثري من احلوار والنقاش ‪ ،‬ومث‬
‫أصبحت هناك مواد تستدعي دراستُها َ‬‫ْ‬ ‫الزمن؛ حيث‬ ‫تطور العلوم واملعارف مع مرور هل‬
‫ـ ُ‬
‫هذه املواد تتناىف مع ما جيب أن يكون عليه هلرواد املسجد من هدوء وسكينة(‪.)6‬‬

‫(‪ )1‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.357‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص ‪.357‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.114‬‬
‫(‪ )4‬املصدر نفسه ص ‪.115‬‬
‫(‪ )5‬اتريخ الرتبية اإلسضممية ص ‪.113‬‬
‫(‪ )6‬املصدر نفسه ص ‪.113‬‬

‫‪256‬‬
‫ـ انشغال مجاعة من املسلمني ابلتعليم يف حلق املساجد معظم وقتهم ‪ ،‬وحماولتهم االرتزاق عن طريق ممارسة حرف بسيطة‬
‫قاموا هبا إىل جانب التدريس ‪ ،‬ولكنهم شلوا يف احلصول على مستوى معيشي مناسب ‪ ،‬ممهلا أدى هبم إىل البحث عن‬
‫جهة أخرى(‪ ،)1‬وعلى‬‫مكان مستق تتوا ر يه شروط التدريس من جهة ‪ ،‬ويَمن هلم جراايت وا رة تقوم حباجاهتم من ٍ‬
‫هذا األساس بُدأ بتأسيس هذا املكان الذي مح اسم «املدرسة» ‪ ،‬ومن مث بدأت طضمئع احلركة املدرسية الفعلية ابلظهور‬
‫والتطور مع الزمن(‪.)2‬‬
‫وتطورت املدارس ‪ ،‬وازداد انتشارها يف زمن السضمجقة ‪ ،‬على يدي الوزير نظام امللك السلجوقي ‪ ،‬وقد ذكر السبكي يف‬ ‫هل‬
‫ترمجته لنظام امللك ما نصه‪« :‬وبىن مدرسة ببغداد ‪ ،‬ومدرسةً ببلخ ‪ ،‬ومدرسة هبَراة ‪ ،‬ومدرسة أبصبهان ‪ ،‬ومدرسة ابلبصرة‬
‫(‪)3‬‬
‫‪ ،‬ومدرسة مبرو ‪ ،‬ومدرسة ابم طربستان ‪ ،‬ومدرسة ابملوص ‪ ،‬ويقال‪ :‬إن له يف ك مدينة ابلعراق وخراسان مدرسة»‬
‫حتدثت عن املدارس النظامية ابلتفصي يف كتايب‪« :‬دولة السضمجقة ‪ ،‬واملشروع اإلسضممي ملقاومة التغلغ الباطين ‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وقد‬
‫والغزو الصلييب»‪.‬‬
‫شاهدت حركة بناء املدارس انتشاراً واسعاً ‪ ،‬قد أخذ يف إنشائها ‪ ،‬واستدعى‬
‫ْ‬ ‫وملا توىل نور الدين حكم الدولة الزنكية ‪،‬‬
‫هلا كبار العلماء من خمتلف األقطار اإلسضممية ‪ ،‬وبىن هلم العديد من املدارس يف شىت أرجاء مملكته ‪ ،‬وكان يهدف من‬
‫ذلك دعم املذهب السين ‪ ،‬ومقاومة التشيُّع يف املنطقة(‪.)4‬‬
‫أ ـ املدارس يف حلب‪ :‬بدأت احلركة العلمية تربز يف حلب منذ بداية حكم نور الدين حممود هلا يف عام ‪541‬هـ (‪1146‬م)‬
‫هلة أمام املذهب الشيعي ‪ ،‬الذي زاد‬ ‫‪ ،‬والذي رهلكز نشاطه منذ استضممه احلكم على تنفيذ سياسته الرامية إىل الوقوف بشد ٍ‬
‫ُ‬
‫انتشاره آنذاك يف حلب ‪ ،‬حرص على تقويَه ‪ ،‬وإحضمل املذهب السين مكانه ‪ ،‬مما تطلهلب منه القيام جبهود علمية‬
‫السنية ‪،‬‬
‫ابرزة جتاه ذلك ‪ ،‬كان منها تشجيع العلم والعلماء عن طريق إنشاء العديد من املدارس على خمتلف املذاهب ُّ‬
‫وتوجيه التعليم وجهة سنية عن طريق تشجيع تدريس العلوم الشرعية ‪ ،‬وقد جلب عدداً من العلماء األكفاء لتويل املهمة‬
‫أتص الفكر الشيعي هبا ‪ ،‬ومتكن من حتويلها إىل مركز من مراكز‬ ‫‪ ،‬وهبذه السياسة جنح نور الدين يف إنقاذ حلب من ُّ‬
‫السنهلة بعد أن كانت قاعد ًة للمذهب الشيعي يف املنطقة(‪.)5‬‬
‫وقد أمثرت تلك اجلهود يف دعم حركة التعليم يف حلب؛ حىت أصبحت من املراكز العلميهلة املشهورة اليت جلبت أنظار‬
‫حيث قامت يها هنَة علمية ابرزة ‪ ،‬بدت واضحة من خضمل إنشاء العديد‬ ‫العلماء من خمتلف األقطار اإلسضممية ‪ُ ،‬‬
‫من دور التعليم على اختضمف ختصصاهتا ‪ ،‬وبذلك وصلت حلب إىل مصاف املراكز العلمية املشهورة يف العامل اإلسضممي‬
‫موقع متوسط بني تلك املراكز ‪ ،‬وإمكاانت مادية‬ ‫‪ ،‬ب رمبهلا تفوقت عليها يف بعض اجملاالت ملا متيهلزت به حلب من ٍ‬
‫وبشريهلة تفوق بعض األحيان إمكاانت املراكز األخرى ‪ ،‬إضا ًة إىل استمرار النشاط العلمي هبا يف رتات الحقة للحكم‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص ‪ 114‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.122‬‬


‫(‪ )2‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.122‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪ 22‬طبقات الشا عية (‪.)313/4‬‬
‫(‪ )4‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.125‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه ص ‪.389‬‬

‫‪257‬‬
‫مستمرين طيلة عصر نور الدين ‪،‬‬‫هل‬ ‫الزنكي يف نفس القوة اليت بدأ هبا نظراً ملا القته تلك اإلمارة من دعم وتشجيع‬
‫السضمطني األيوبيني ‪ ،‬واملماليك من بعدهم(‪ .)1‬وكان من أبرز املدارس اليت أنشئت يف حلب‪:‬‬ ‫و هل‬
‫ـ املدارس الشا عية‪:‬‬
‫الزجاجية‪ :‬تعد هذه املدرسة من املدارس السابقة على احلكم الزنكي ‪ ،‬قد أنشأها حبلب بدر الدولة سليمان‬ ‫املدرسة هل‬
‫بن عبد اجلبار األرتقي سنة (‪517‬هـ‪1123/‬م) ‪ ،‬وهي أول مدرسة سنيهلة يها ‪ ،‬وحينما عزم بدر الدولة على بناء أول‬
‫مدرسة حبلب ‪ ،‬مل ميكنه احللبيون من ذلك ‪ ،‬لغلبة نزعة التشيُّع يهم ‪ ،‬كان كلهلما بىن يها شيئاً يف النهار؛ هدموه ليضمً‬
‫ليكف عنه الشيعة‬
‫يين ‪ ،‬وأوك إليه أمر اإلشراف على بنائها ‪ ،‬هل‬ ‫إىل أن أعياه ذلك ‪ ،‬أحَر الشريف زهرة بن علي احلُ َس هل‬
‫‪ ،‬ضمزم الشريف زهرة بناء تلك املدرسة حىت مت االنتهاء منها(‪ ، )2‬وهذا يدل على مدى تغلغ هذا املذهب يف حلب‬
‫يف تلك الفرتة اليت سبقت احلكم الزنكي هلا(‪ ، )3‬وملا ملك األاتبك عماد الدين زنكي بن قسيم الدولة آق سنقر حلب‬
‫يف سنة ‪522‬هـ‪1128/‬م؛ نق والده ‪ ،‬وكان مد وانً يف قرنْبيا(‪ ،)4‬د نه يف مشايل هذه املدرسة ‪ ،‬وزاد عماد الدين يف‬
‫وقفها للصرف على ال ُقراء واملتفقهني املرتبني هبا(‪ ، )5‬وكان أبرز املدرسني يف هذه املدرسة يف العهد الزنكي‪:‬‬
‫احلليب ‪ ،‬املتوىف سنة ‪561‬هـ‪1166/‬م(‪)6‬؛ حيث ذكر ابن شداد‪ :‬أنه ملا اكتم البناء‬ ‫شرف الدين أبو طالب عبد الرمحن ُّ‬
‫يف هذه املدرسة؛ هلوض ُمنشئها أمر التدريس والنظر هبا للشيخ شرف الدين أيب طالب املعروف اببن العجمي ‪ ،‬وقد‬
‫استمر شرف الدين مدرساً هبا إىل أن تُويف سنة ‪561‬هـ‪1166/‬م(‪ ،)7‬هل‬
‫وتوىل التدريس هبا بعده حفيداه جمد الدين طاهر‬
‫بن نصر بن جهب املتوىف سنة (‪597‬هـ‪1201/‬م)(‪ ، )8‬وأخوه زين الدين عبد امللك بن نصر بن جهب املتوىف سنة‬
‫‪590‬هـ‪1194/‬م(‪ ،)9‬وكاان من العلماء املتميزين ‪ ،‬والفَضمء املربزين(‪.)10‬‬
‫* املدرسة النَرية (النورية)‪ :‬أنشأها امللك العادل نور الدين حممود سنة ‪544‬هـ‪1149/‬م ‪ ،‬وكان الشيخ قطب الدين‬
‫جمد الدين‬
‫بعده ُ‬‫يل التدريس يها َ‬
‫يل التدريس يف هذه املدرسة ‪ ،‬وكان قدم إليها من دمشق ‪ ،‬مث ُو َ‬ ‫النيسابوري أول من ُو َ‬
‫طاهر بن جهب املتوىف سنة (‪597‬هـ‪1201/‬م)(‪ ، )11‬ومل يزل مدرساً هبا إىل أن نق إىل القدس الشريف ‪ ،‬درس به‬
‫إىل أن تويف(‪.)12‬‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص ‪.389‬‬


‫(‪ )2‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.85 ، 84‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.85‬‬
‫(‪ )4‬قرنبيا‪ :‬موضع يقع شرقي حلب‪.‬‬
‫(‪ )5‬الدر املنتخب ص ‪ 110‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.392‬‬
‫(‪ )6‬طبقات الشا عية (‪ )147/7‬احلياة العلمية ص ‪.392‬‬
‫(‪ )7‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.393‬‬
‫(‪ )8‬شذرات الذهب (‪ )324/4‬احلياة العلمية ص ‪.393‬‬
‫(‪ )9‬احلياة العلمية ص ‪.393‬‬
‫(‪ )10‬احلياة العلمية ص ‪.393‬‬
‫(‪ )11‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.394‬‬
‫(‪ )12‬طبقات الشا عية لألسنوي (‪.)372/1‬‬

‫‪258‬‬
‫* املدرسة العصرونية‪ :‬كان موقع هذه املدرسة يف األص داراً أليب احلسن علي بن أيب الثرهلاي ‪ ،‬وزير بين مرداس أصحاب‬
‫وحوهلا إىل مدرسة ‪ ،‬وجع يها مساكن للمدرسني‬ ‫حلب ‪ ،‬وملا جاء نور الدين حممود إىل حلب؛ اشرتى هذه الدار ‪ ،‬هل‬
‫هبا من الفقهاء ‪ ،‬وذلك سنة (‪550‬هـ‪1155/‬م) ‪ ،‬حسب ما جاء يف بعض املصادر التارخيية(‪ ،)1‬وبعد أن أمتهل نور‬
‫الدين حممود بناء هذه املدرسة؛ استدعى هلا من نواحي سنجار اإلمام شرف الدين عبد هللا بن أيب عصرون‪ ،‬املتوىف سنة‬
‫(‪585‬هـ‪1183/‬م)(‪ ، )2‬و هلوض إليه مهنة التدريس هبا ‪ ،‬والنظر يف أوقا ها ‪ ،‬وهو أول من درس هبا ُعر ت به ‪ ،‬ونسبت‬
‫إليه(‪ ، )3‬ومل يزل اإلمام شرف الدين بن أيب عصرون يُدرس يف هذه املدرسة ‪ ،‬وينظر أوقا ها إىل أن عاد إىل دمشق سنة‬
‫‪570‬هـ‪1174/‬م(‪ ، )4‬وملا خرج إىل دمشق استخلف (نيابة) يها ولده جنم الدين أبو الربكات عبد الرمحن ‪ ،‬وظ هذا‬
‫حىت ويل قَاء محاة غادر حلب(‪.)5‬‬
‫حجة الدين حممد بن أيب حممد بن حممد بن ظفر الصقل ُّي املتوىف سنة‬ ‫وممهلن أقام يف هذه املدرسة اإلمام احلا ظ هل‬
‫‪565‬هـ‪1169/‬م(‪ ، )6‬قد ذكر‪ :‬أنهله ح هل حبلب ‪ ،‬وأقام ابملدرسة العصرونية ‪ ،‬وصنهلف كتباً حسنة ‪ ،‬لما وقعت الفتنة‬
‫السنهلة ‪ ،‬ـ وأظنُّها تنة سنة ‪552‬هـ‪1157/‬م(‪ )7‬ـ ُهنبت كتبه يما ُهنب ‪ ،‬وخسر جزءاً من مؤلفاته القيمة ‪،‬‬‫بني الشيعة و ُّ‬
‫رح إىل محاة ‪ ،‬وأقام هبا حىت و اته(‪.)8‬‬
‫* املدرسة الشر ية‪ :‬أنشأها الشيخ اإلمام شرف الدين أبو طالب عبد الرمحن احلليب ‪ ،‬املعروف اببن العجمي ‪ ،‬املتوىف‬
‫سنة (‪561‬هـ‪1166/‬م) ‪ ،‬وقد صرف شرف الدين على بنائها ما نيف على أربعمئة ألف درهم‪ ،‬وأوقف عليها أوقا اً‬
‫جليلة(‪.)9‬‬
‫* املدرسة األسديهلة اجلُهلوانية‪ :‬تُنسب هذه املدرسة لألمري أسد الدين شريكوه بن شاذي بن مروان ‪ ،‬املتوىف سنة‬
‫الرحبة حبلب للمذهب الشا عي(‪.)10‬‬ ‫‪564‬هـ‪1168/‬م ‪ ،‬وقد أنشأها مبحلة هل‬
‫ُّعيبيهلة‪ :‬كان موقع هذه املدرسة مسجداً ‪ ،‬يقال‪ :‬إنهله هلأول ما اختطه املسلمون عند تح حلب من املساجد‪،‬‬
‫* املدرسة الش ْ‬
‫وعرف هذا املسجد أبيب احلسن الغَائري ‪ ،‬املتوىف سنة ‪313‬هـ لما ملك نور الدين حممود حلب ‪ ،‬وأنشأ هبا املدارس‬ ‫ُ‬
‫املسجد مدرسة ‪ ،‬وجعله مدرساً هبا ‪ ،‬عر ت به ‪،‬‬
‫َ‬ ‫صري له نور الدين هذا‬
‫‪ ،‬وص الشيخ ُشعيب األندلس إىل حلب ‪ ،‬هل‬
‫مكة سنة ‪596‬هـ‪1199/‬م(‪.)11‬‬ ‫ومل يزل الشيخ شعيب ُمدرساً هبا إىل أن تويف بطَريق هل‬

‫(‪ )1‬الدر املنتخب ص ‪ ، 110‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.395‬‬


‫(‪ )2‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.394‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.395‬‬
‫(‪ )4‬و يات األعيان (‪ )54/3‬احلياة العلمية ص ‪.397‬‬
‫(‪ )5‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.397‬‬
‫(‪ )6‬املصدر نفسه ص ‪.397‬‬
‫(‪ )7‬املصدر نفسه ص ‪.397‬‬
‫(‪ )8‬معجم األدابء (‪ )48/19‬بغية الوعاة (‪.)143 ، 142/1‬‬
‫(‪ )9‬الدر املنتخب ص ‪ 112‬احلياة العلمية ص ‪.398‬‬
‫(‪ )10‬احلياة العلمية ص ‪.399‬‬
‫(‪ )11‬املصدر نفسه ص ‪.400‬‬

‫‪259‬‬
‫املدارس احلنفية‪:‬‬
‫لما حاصر‬ ‫* املدرسة احلضمهلوية (احلَلَوية)‪ :‬يذكر ابن شدهلاد‪ :‬أن هذه املدرسة كانت كنيسة من بناء هيضمرين ُّأم قسطنطني‪ ،‬هل‬
‫الصليبيون حلب سنة ‪518‬هـ‪1124/‬م‪ ،‬قاموا بقطع األشجار ‪ ،‬ونبشوا قبور املوتى‪ ،‬وأحرقوا من يها‪ ،‬عمد القاضي‬
‫وصريها مساجد‪ ،‬وكانت هذه املدرسة تُعرف قدمياً مبسجد‬ ‫أبو الفَ بن خشاب احلليب إىل أربع كنائس داخ حلب‪ ،‬هل‬
‫لما ملك نور الدين حممود مدينة حلب‪ ،‬جع هذا املسجد مدرسةً‪ ،‬وأنشأ يه مساكن أيوي إليها الفقهاء‬ ‫السراجني‪ ،‬هل‬
‫هل‬
‫‪ ،‬وإيواانً للدروس ‪ ،‬وكان مبدأ عمارهتا يف سنة ‪544‬هـ‪ ، )1(1149/‬وقد جلب نور الدين إىل هذه املدرسة من أ امية‬
‫الرخام الشفهلاف الذي إذا وضع حتته ضوء أابن من وجهه ‪ ،‬ووضعه يها(‪ ، )2‬وكانت هذه املدرسة من أعظم‬ ‫جمموعة من ُّ‬
‫املدارس صيتاً ‪ ،‬وأكثرها طلبة ‪ ،‬وأغزرها جامكية‪.‬‬
‫وكان من شروط الواقفة أن حيم يف ك شهر من رمَان من وقفها ثضمثة االف درهم للمدرس يصنع هبا للفقهاء طعاماً‬
‫‪ ،‬ويف ليلة النصف من شعبان من ك سنة حلوى معلومة ‪ ،‬ويف الشتاء مثن بياض ‪ ،‬لك قيه شيء معلوم ‪ ،‬ويف أايم‬
‫شرب الدواء من صلي الربيع واخلريف مثن ما حيتاج إليه من دواء و اكهة ‪ ،‬ويف املولد أيَاً احللوى ‪ ،‬ويف األعياد ما‬
‫يرتفقون به يها من دراهم معلومة ‪ ،‬ويف أايم الفاكهة ما يشرتون به بطيخاً ‪ ،‬ومشمشاً ‪ ،‬وتُواتً(‪.)3‬‬
‫* املدرسة املقدمية‪ :‬ذكر ابن شدهلاد‪ :‬أن الذي أنشأ املدرسة هو عز الدين عبد امللك املعدم ‪ ،‬وكانت إحدى الكنائس‬
‫ُ‬
‫صريها القاضي ابن اخلشاب مساجد يف سنة ‪518‬هـ‪1124( /‬م) ‪ ،‬وأضاف إليها داراً كانت إىل جانبها‪،‬‬ ‫األربع اليت هل‬
‫(‪)4‬‬
‫درس يف هذه املدرسة الشيخ برهان الدين أبو العباس‬ ‫وأنه ابتُدئ يف عمارهتا سنة ‪545‬هـ (‪1150‬م) ‪ ،‬وكان هلأول من هل‬
‫لشريف اإلمام العامل ا تخار الدين عبد املطلب‬ ‫بعده السيد ا هل‬
‫أمحد بن علي األصويل ‪ ،‬مدرس املدرسة احلضموية ‪ ،‬مث َوليها َ‬
‫الفَ اهلامشي ‪ ،‬ومل يزل هبا إىل أن تويف يف مجادى االخرة سنة‪616‬هـ‪1219/‬م(‪.)5‬‬
‫* املدرسة املجديهلة اجلُهلوانيهلة‪ :‬ذكر ابن الشحنة‪ :‬أن هذه املدرسة تنسب إىل انئب حلب يف عصر نور الدين حممود ‪ ،‬وهو‬
‫َ‬
‫جمد الدين أبو بكر حممد بن الدهلاية ‪ ،‬املتوىف يف رمَان سنة ‪565‬هـ‪1170/‬م(‪.)6‬‬
‫اجلوانيهلة(‪.)7‬‬
‫الربانيهلة‪ :‬ذكرها ابن الشحنة أيَاً ‪ ،‬ونسبها إىل جمد الدين بن الدهلاية مؤسس هل‬
‫املدرسة هل‬
‫أن منشئ هذه املدرسة هو حسام الدين حممد بن عمر بن الجني ابن‬ ‫(احلدادين)‪ :‬ذكر ابن شداد‪ :‬هل‬
‫املدرسة احلدهلادية هل‬
‫(‪)8‬‬
‫أخت صضمح الدين ‪ ،‬وأهنا كانت من الكنائس األربع اليت ذكران خرب حتويلها إىل مساجد سنة ‪518‬هـ‪1124/‬م‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص ‪.400‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص ‪.400‬‬
‫(‪ )3‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.401‬‬
‫(‪ )4‬املصدر نفسه ص ‪.404‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه ص ‪.405‬‬
‫(‪ )6‬كتاب الروضتني نقضمً عن احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.406‬‬
‫(‪ )7‬أحياء حلب وأسواقها ص ‪.142‬‬
‫(‪ )8‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.406‬‬

‫‪260‬‬
‫ب ـ يف دمشق‪ :‬كانت هلأول مدرسة أشارت املصادر إىل إنشائها يف دمشق سنة ‪491‬هـ‪1097/‬م ‪ ،‬املدرسة الصادريهلة‬
‫احلنفيهلة ‪ ،‬مث تضم ذلك إنشاء العديد من املدارس يف احلكم الزنكي لدمشق (‪549‬هـ ‪569‬هـ‪ 1154/‬ـ ‪1174‬م) ‪،‬‬
‫عي مها السائدان على مدارس‬ ‫احلنفي ‪ ،‬والشا هل‬
‫هل‬ ‫وقد توزهلعت تلك املدارس على املذاهب السنية األربع ‪ ،‬ولكن املذهب‬
‫دمشق يف ذلك العهد ‪ ،‬يليهما املذهب احلنبلي ‪ ،‬وأخرياً املذهب املالكي(‪ .)1‬املدرسة الصادرية‪ :‬أنشئت هذه املدرسة‬
‫على يد األمري شجاع الدولة صادر بن عبد هللا سنة ‪491‬هـ‪1097/‬م ‪ ،‬داخ ابب الربيد مما يلي الباب الغريب للجامع‬
‫األموي ‪ ،‬وهي أول مدرسة أنشئت يف دمشق(‪.)2‬‬
‫* املدرسة الطهلرخانيهلة‪ :‬قال ابن عساكر يف تَعداد مساجد دمشق‪« :‬مسجد ابملدرسة املعرو ة بدار طرخان ‪ ،‬وهي كانت‬
‫قدمياً للشريف أيب عبد هللا بن أيب احلسن ‪ ،‬وقفها سنقر املوصلي ‪ ،‬وجعلها مدرسة ألصحاب أيب حنيفة»(‪.)3‬‬
‫املدرسة املعينية‪ :‬ذكرها ابن عساكر ضمن مساجد دمشق ‪ ،‬قال‪« :‬مسجد يف املدرسة املعينية يف قصر الثقفيني»(‪،)4‬‬
‫(‪)5‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وقال ابن شداد حبصن الثقفيني‪« :‬أنشأها معني الدين أنر ‪ ،‬أاتبك األمري جمري الدين آبق ‪ ،‬اخر احلكام البوريني بدمشق‬
‫حممد بن أسعد الفقيه احلنفي املعروف اببن احلكيم‬‫الصفدي‪ :‬أن معني الدين بىن هذه املدرسة للشيخ أيب املظفهلر هل‬
‫‪ ،‬وذكر هل‬
‫العراقي ُمدرس الصادرية ‪ ،‬والطرخانية املتوىف سنة ‪567‬هـ‪1171/‬م»(‪.)6‬‬
‫أن الذي بناها‬‫* املدرسة النورية الكربى‪ :‬ذكر ك ٌّ من أيب شامة ‪ ،‬وابن شداد‪ :‬أن هذه املدرسة تقع خبط اخلواصني(‪ ،)7‬و هل‬
‫(‪) 8‬‬
‫الرحالة األندلسي ابن جبري هذه املدرسة يف زايرته لدمشق سنة‬ ‫هو نور الدين حممود زنكي ‪ ،‬وقد شاهد هل‬
‫‪580‬هـ‪1184/‬م ‪ ،‬ووصفها أبهنا من أحسن مدارس الدنيا منظراً ‪ ،‬و هلأهنا قصر من القصور األنيقة(‪ ،)9‬ويف هذه املدرسة‬
‫يقول الشاعر املشهور عرقلة الدمشقي ‪ ،‬املتوىف سنة ‪567‬هـ‪1171/‬م(‪:)10‬‬
‫وتبق ـ ـ ـ ـ ـ ـى ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي مح ـ ـ ـ ـ ـ ـى علـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم ونُس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك‬ ‫ومدرس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة ست ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدرس ُكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هل شـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيء‬
‫بن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـور الدي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن حممـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـود ب ـ ـ ـ ـن زنك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي‬ ‫تَـ ـ ـ ـ ـ ـ هلوع ذك ـ ـ ـ ـ ـ ُرهـ ـ ـا شرقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً وغرب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً‬
‫بغي ـ ـ ـ ـ ـ ـر كناي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة وبغيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر ش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك‬ ‫دق‬
‫يقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـول وقولـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌّق وصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ‬
‫(‪)11‬‬
‫وهـ ـ ـ ـذي ـ ـي امل ـ ـدارس بيـ ـ ـ ـ ـت ملك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي‬ ‫دمشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـق ـ ـ ـي املدائ ـ ـ ـن بيـ ـ ـ ـ ـت ُملك ـ ـ ـ ـ ـي‬

‫(‪ )1‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.423‬‬


‫(‪ )2‬الدارس يف اتريخ املدارس (‪.)537/1‬‬
‫(‪ )3‬اتريخ دمشق نقضمً عن احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.425‬‬
‫(‪ )4‬اتريخ دمشق نقضمً عن احلياة العلمية ص ‪.426‬‬
‫(‪ )5‬احلياة العلمية ص ‪.426‬‬
‫(‪ )6‬الدارس يف اتريخ املدارس (‪.)203/2‬‬
‫(‪ )7‬يسميه أهايل دمشق حالياً‪ :‬سوق اخلياطني‪.‬‬
‫(‪ )8‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.427‬‬
‫(‪ )9‬الرحلة ص ‪ 256‬احلياة العلمية ص ‪.428‬‬
‫(‪ )10‬مراة الزمان نقضمً عن احلياة العلمية ص ‪.429‬‬
‫(‪ )11‬كتاب الروضتني نقضمً عن احلياة العلمية ص ‪ .429‬ـ[‪]1606‬‬

‫‪261‬‬
‫وقد انلت هذه املدرسة مكانة علمية كبرية يف ذلك العهد ‪ ،‬حيث كانت يف مقدمة مدارس دمشق ‪ ،‬وخباصة يف عصر‬
‫منشئها امللك نور الدين حممود ‪ ،‬والسنوات اليت أعقبتها ‪ ،‬وحينما تذكر حركة التعليم يف بضمد الشام يف تلك العصور؛‬
‫يُشار إىل هذه املدرسة يف مقدمة دور التعليم ‪ ،‬وتتهلَح أمهيهلة هذه املدرسة يف األثر العلمي الذي قام به شيوخها‪،‬‬
‫خترجوا منها‪ ،‬إضا ة إىل ما قامت به تلك املدرسة من‬ ‫ومعيدوها‪ ،‬ويف األعداد الوا رة من الطضمب الذين هل‬ ‫ومدرسوها ُ‬
‫سياسي‪ ،‬واجتماعي كبري يف ذلك العهد(‪ ، )1‬ويف استقراء الكتابة املسجلة على احلجر الذي يكون العتبة العليا‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫نشاط‬
‫لباب املدرسة ‪ ،‬يتبني لنا حجم األوقا ف اليت أوقفها نور الدين على هذه املدرسة ‪ ،‬لإلنفاق على الطضمب واملدرسني‬
‫والعاملني ابملدرسة إنفاقاً سخياً متواصضمً ‪ ،‬ونص هذه الكتابة كاآليت‪« :‬بسم هللا الرمحن الرحيم ‪ ،‬أنشأ هذه املدرسة‬
‫املباركة العادل الزاهد نور الدين أبو القاسم حممود بن زنكي آق سنقر ضاعف هللا ثوابه ‪ ،‬ووقفها على أصحاب اإلمام‬
‫احلمام املستجد بسوق الفتح‬ ‫سراج األمة أيب حنيفة ‪ ،‬رضي هللا عنه ‪ ،‬ووقف عليها ‪ ،‬وعلى الفقهاء ‪ ،‬واملتفقهة هبا مجيع هل‬
‫ُ‬
‫ابلوراقة ظاهر ابب السضممة ‪ ،‬والدار اجملاورة ‪ ،‬والريع من بستان اجلوزة ابألرزة ‪ ،‬واإلحدى‬ ‫احلمامني املستجدين هل‬ ‫‪ ،‬و هل‬
‫ص و ُشرط ‪،‬‬ ‫الساحة املضمصقة هلا من الشرق ‪ ،‬والستة حقول بدارهلاي على ما نُ هل‬ ‫والعشرين حانواتً خارج ابب اجلابية ‪ ،‬و هل‬
‫ََ‬ ‫َ ذ ٓ ۡ‬ ‫كتب الوقف رغبة يف اآلخرة ‪ ،‬وتقدهلمه بني يديه يوم احلساب‪َ ﴿ )2( :‬ف َم َۢن بَ ذد َ َُلۥ َب ۡع َد َم َ‬
‫اَ ِم َع ُهۥ فإِن َما إِث ُم ُهۥ لَع‬
‫ٱَّلل ََ ِ َ ‪ٞ‬‬
‫ميع عل ِيم ‪[ ﴾ ١٨١‬البقرة ‪.]181:‬‬
‫ذٱَّل َ‬
‫ِين ُي َبدِلُونَ ُه ٓۥ إ ذن ذ َ‬
‫ِ‬
‫الست زمرد خاتون ‪ُّ ،‬أم مشس امللوك ‪ ،‬أخت امللك ُدقاق‬ ‫الربانيهلة‪ :‬كانت هذه املدرسة مسجداً أوقفته ُّ‬ ‫* املدرسة اخلاتونية هل‬
‫بن تُـتُش ‪ ،‬املتو اة سنة ‪557‬هـ‪1161/‬م(‪ ،)3‬واتريخ وقفه سنة ‪526‬هـ‪1132/‬م ‪ ،‬على الشيخ أيب احلسن علي البلخي‬
‫الست ُزُمُّرد خاتون على قدر من الثقا ة والعلم‪ ،‬واستنسخت‬ ‫أن هل‬ ‫املتوىف سنة ‪548‬هـ‪1153/‬م(‪ ، )4‬وقد ذكر الذهيب‪ :‬هل‬
‫تزوجها أاتبك زنكي ‪ ،‬بقيت معه تسع سنني ‪ ،‬لما‬ ‫الكتب ‪ ،‬وحفظت القران ‪ ،‬وبنت اخلاتونية بصنعاء دمشق ‪ ،‬مث هل‬
‫ود نت ابلبقيع(‪.)5‬‬‫حجت ‪ ،‬وجاورت املدينة ‪ُ ،‬‬ ‫قُت هل‬
‫املدارس الشا عية‪:‬‬
‫أن هذه املدرسة من بناء أمني الدولة ربيع اإلسضمم ‪ ،‬وزاد عليه النعيمي‪ :‬أهنا أول‬ ‫* املدرسة األمينية‪ :‬ذكر ابن شدهلاد‪ :‬هل‬
‫مدرسة بُنيت للشا عية بدمشق ‪ ،‬بناها أاتبك العساكر بدمشق ‪ ،‬وكان يقال له أمني الدولة ‪ ،‬وكان مبدأ التدريس هبا‬
‫السلمي الدمشقي الشا عي ‪،‬‬ ‫سنة ‪514‬هـ على ما ذكر الذهيب يف ترمجته جلمال اإلسضمم أيب احلسن علي بن املسلم ُّ‬
‫مدرس الغزاليهلة واألمينيهلة ‪ ،‬ومفيت الشام يف عصره ‪ ،‬املتوىف سنة ‪533‬هـ‪1138/‬م(‪.)6‬‬

‫(‪ )1‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.429‬‬


‫(‪ )2‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.430‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.430‬‬
‫(‪ )4‬الدارس يف اتريخ املدارس (‪.)503 ، 502/1‬‬
‫(‪ )5‬العرب (‪ )27/3‬احلياة العلمية ص ‪.431‬‬
‫(‪ )6‬احلياة العلمية ص ‪.432‬‬

‫‪262‬‬
‫* املدرسة اجملاهديهلة اجلُهلوانيهلة‪ :‬وواقف هذه املدرسة‪ :‬األمري الكبري جماهد الدين أبو الفوارس بُهلـزان بن ايمني بن علي بن‬
‫حممد اجلضميل ال ُكردي ‪ ،‬أحد مقدمي اجليش ابلشام يف دولة نور الدين حممود وقبله(‪.)1‬‬
‫* املدرسة اجملاهدية الربهلانيهلة‪ :‬تنسب هذه املدرسة لألمري جماهد الدين بـُهلزان ‪ ،‬واقف املدرسة اجملاهدية اجلُهلوانيهلة ‪ ،‬وقد د ن‬
‫يها بعد و اته(‪.)2‬‬
‫* املدرسة العمادية‪ :‬بناها نور الدين حممود ـ رمحه هللا تعاىل ـ برسم خطيب دمشق أيب الربكات بن عبد احلارثي ‪ ،‬وهو‬
‫درس هبا(‪ ، )3‬ونسبت للعماد األصفهاين لتدريسه هبا بعده ‪ ،‬وقد ذكر العماد خرب تدريسه يف هذه املدرسة سنة‬ ‫أول من هل‬
‫علي يف‬
‫إيل املدرسة اليت حبَرة محام القصري ‪ ،‬وعول هل‬ ‫‪567‬هـ‪1172/‬م قال‪« :‬ويف رجب من هذه السنة وض هل‬
‫التدريس هبا ‪ ،‬والنظر يف أوقا ها»(‪.)4‬‬
‫* املدرسة العصرونية‪ :‬تنسب هذه املدرسة للفقيه العضمهلمة قاضي القَاة ‪ ،‬شرف الدين عبد هللا بن حممد بن أيب عصرون‪،‬‬
‫املتوىف سنة ‪585‬هـ‪1189/‬م(‪ ، )5‬وقد بىن له مدارس عديدة حبلب ‪ ،‬ومحاة ‪ ،‬ومحص ‪ ،‬وبعلبك ‪ ،‬وغريها(‪ ،)6‬وقد‬
‫وردت نصوص تفيـد‪ :‬أن القـاضي شرف الدين بن أيب عصـرون قد بىن لنفسه بدمشق(‪ .)7‬يقول عنه ابن خلكان‪ :‬تويف‬
‫ليلة الثضماثء احلادي عشر من شهر رمَان سنة مخس ومثانني ومخسمئة مبدينة دمشق ‪ ،‬ود ن يف مدرسته اليت أنشأها‬
‫داخ البلد ‪ ،‬وهي معرو ة به(‪.)8‬‬
‫املدارس املشرتكة بني احلنفيهلة ‪ ،‬والشا عيهلة‪:‬‬
‫* املدرسة األسديهلة‪ :‬تنسب هذه املدرسة لألمري أسد الدين شريكوه ‪ ،‬أحد أمراء نور الدين الكبار ‪ ،‬واملتوىف سنة‬
‫‪564‬هـ‪1168/‬م(‪ ، )9‬وقد درس يف هذه املدرسة عدد من املدرسني على املذهبني‪ :‬احلنفي ‪ ،‬والشا عي ‪ ،‬ذكر النعيمي‬
‫منهم خضمل العهد الزنكي الواعظ احلنفي املعروف اببن الشاعر نزي القاهرة املتوىف سنة ‪584‬هـ‪1188/‬م(‪ ،)10‬وكان‬
‫درس ابألسدية(‪.)11‬‬‫قد قدم دمشق ‪ ،‬ومسع احلا ظ ابن عساكر وغريه ‪ ،‬حدهلث ‪ ،‬وأ اد ‪ ،‬و هل‬
‫املدارس احلنبلية‪:‬‬
‫* املدرسة احلنبليهلة الشريفيهلة‪ :‬ذكر ابن شداد‪ :‬هلأهنا من إنشاء سيف اإلسضمم ‪ ،‬أخي صضمح الدين يوسف بن أيوب(‪.)12‬‬

‫(‪ )1‬الدارس (‪ )451/1‬احلياة العلمية ص ‪.435‬‬


‫(‪ )2‬الدارس (‪ )453 ، 454/1‬احلياة العلمية ص ‪.437‬‬
‫(‪ )3‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.438‬‬
‫(‪ )4‬املصدر نفسه ص ‪.439‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه ص ‪.440‬‬
‫(‪ )6‬و يات األعيان (‪.)54/3‬‬
‫(‪ )7‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.441‬‬
‫(‪ )8‬و يات األعيان (‪.)55/3‬‬
‫(‪ )9‬الدارس يف اتريخ املدارس (‪.)152/1‬‬
‫(‪ )10‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.444‬‬
‫(‪ )11‬الدارس (‪ )473/1‬احلياة العلمية ص ‪.444‬‬
‫(‪ )12‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.444‬‬

‫‪263‬‬
‫* املدرسة العمرية‪ :‬مسهلاها ابن شداد مدرسة الشيخ أيب عمر ‪ ،‬ابجلب يف وسط دير احلنابلة ‪ ،‬وذكر أن ابنيها وواقفها هو‬
‫الشيخ أبو عمر الكبري(‪ ، )1‬والد قاضي القَاة مشس الدين احلنبلي ‪ ،‬وكان من األولياء املشهورين ‪ ،‬وذكر ابن طولون‪:‬‬
‫أنه إىل الشهليخ أيب عمر ‪ ،‬وإىل ولده أمحد بن قدامة املتوىف سنة ‪558‬هـ‪1163/‬م يرجع سبب كثرة اتباع املذهب احلنبلي‬
‫بدمشق ‪ ،‬وبضمد الشام ‪ ،‬والد الشيخ أيب عمر ‪ ،‬كان قد هلر بدينه وعياله من انبلس بفلسطني عقب استيضمء الفرجنة‬
‫على القدس ‪ ،‬ووصلوا إىل دمشق يف سنة ‪551‬هـ‪1156/‬م ‪ ،‬ونزلوا يف سفح جب قاسيُون مبسجد أيب صاحل ‪ ،‬وهلذا‬
‫وعمرت تلك األراضي ‪،‬‬ ‫السفح منزالً كثري احلجرات ُعرف بدير احلنابلة ‪ ،‬مث تتابع البناء ُ‬
‫ابلصاحلني ‪ ،‬وأقاموا يف هل‬
‫عر وا هل‬
‫وصضمح(‪ ، )2‬وكان آل املقدسي‬ ‫وتقى ‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫ٍ‬ ‫الصاحلني؛ ملا ُعرف منهم من علم ‪ً ،‬‬ ‫ودعيت ابلصاحلية نسبة إىل بين قدامة هل‬ ‫ُ‬
‫استقر نزهلم يف اجلب ‪ ،‬وكان الناس يزورون الشيخ أمحد بن حممد بن قدامة ‪ ،‬وكان السلطان‬ ‫عندما هاجروا إىل الشام هل‬
‫نور الدين الشهيد أييت إىل زايرته(‪.)3‬‬
‫املدارس املالكية‪:‬‬
‫أن املدرسة النورية ضمن مدارس املذهب املالكي بدمشق ‪ ،‬ولكنهله مل حيدد‬ ‫* املدرسة النوريهلة الصضمحية‪ :‬ذكر اإلربلي‪ :‬هل‬
‫موقعها(‪ ، )4‬وأثبت ابن عساكر املدرسة النوريهلة يف حديثه عن مساجد دمشق ‪ ،‬قال‪« :‬مسجد يف املدرسة النوريهلة اليت‬
‫أوقفها نور الدين على املالكية يف حجر الذهب»(‪.)5‬‬
‫هذه هي أهم املدارس اليت كانت يف دولة نور الدين ‪ ،‬وهي على سبي املثال ال احلصر‪.‬‬
‫الرغم من انتشار حركة املدارس يف العهد الزنكي ‪ ،‬وشيوع لفظ «مدرسة» على املكان املخصص‬ ‫دور احلديث‪ :‬على هل‬ ‫‪4‬ـ ُ‬
‫للتعليم ‪ ،‬واإلقامة ‪ ،‬والرعاية؛ قد وجدت جبانبها دور تعليمية تؤدي األغراض نفسها اليت تنهض هبا املدارس ‪ ،‬وإ ْن مل‬
‫حتم امسها ‪ ،‬لفظ دار كان مراد اً يف املعىن والوظيفة لكلمة مدرسة ‪ ،‬وقد ورد كثرياً يف ذلك العهد‪ ،‬نور الدين حممود‬
‫مسمى مدرسة ‪ ،‬ومن بعده تكاثرت‬ ‫أنشأ دار احلديث بدمشق ‪ ،‬وهي األوىل من نوعها يف اإلسضمم ‪ ،‬ومل يطلق عليها هل‬
‫خمصصة هلذا العلم‪.‬‬
‫دور احلديث ‪ ،‬كمدارس أحادية هل‬
‫وقد عين املسلمون بدراسة احلديث الشريف عنايةً كبرية ‪ ،‬ابعتباره املصدر الثاين من مصادر التشريع اإلسضممي بعد‬
‫القران الكرمي ‪ ،‬ومن مظاهر العناية به إنشاء تلك الدور اليت تتوىل مهمة تدريس أقوال النيب صلى هللا عليه وسلم وأ عاله‬
‫ابلرسول صلى هللا عليه وسلم من حيث‬ ‫‪ ،‬وأحواله ‪ ،‬من حيث رواية احلديث ‪ ،‬والبحث عن كيفية اتصال األحاديث هل‬
‫أحوال رواهتا ‪ ،‬ضبطاً وعدالة‪ ،‬ومن حيث كيفية السند اتصاالً وانقطاعاً ‪ ،‬كما تتناول دراسة املعىن املفهوم من ألفاظ‬
‫احلديث ‪ ،‬واملراد منها بناءً على قواعد اللغة العربية ‪ ،‬وضوابط الشريعة ‪ ،‬ومطابقتها ألحوال النيب صلى هللا عليه وسلم(‪.)6‬‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص ‪.446‬‬


‫(‪ )2‬القضمئد اجلوهرية يف اتريخ الصضمحية (‪.)125/1‬‬
‫(‪ )3‬املدرسة العمرية بدمشق و َائ مؤسسها ص ‪.39‬‬
‫(‪ )4‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.448‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه‪.‬‬
‫(‪ )6‬كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون ‪ ،‬حاجي خليقة ص ‪.132‬‬

‫‪264‬‬
‫وكان االجتاه إىل العناية ابحلديث الشريف دراسةً ‪ ،‬وتدريساً ‪ ،‬وتشييد ُدوٍر خاصة به من أبرز مسات التهلعليم يف العهد‬
‫الزنكي؛ إذ ابدر امللك نور الدين حممود إبنشاء أول دار للحديث يف اإلسضمم ‪ ،‬كما ذكران ‪ ،‬وهي دار احلديث النُّورية‬
‫وهو احلا ظ الكبري أبو القاسم‬ ‫بدمشق ‪ ،‬واليت أوىل مهمة التدريس يها ‪ ،‬واإلشراف عليها ‪ ،‬إىل أبرز أعضمم عصره ‪ُ ،‬‬
‫ابن عساكر املتوىف سنة ‪571‬هـ‪1176/‬م(‪ ،)1‬مث تضم ذلك إنشاء العديد من دور احلديث يف العامل اإلسضممي ‪ ،‬وتُ ُّ‬
‫عد‬
‫مبادرة نور الدين تلك إدراكاً منه للظروف احمليطة ابملنطقة يف تلك املدة ‪ ،‬سواء ما خيتص منها ابملذهب الشيعي ‪،‬‬
‫وحتم عبء تقويَه يف املنطقة ‪ ،‬ونشر املذهب السين(‪ ،)2‬أو ما يتمثهل ابخلطر الصلييب احمليط ابملنطقة؛ إذ كانت مهمة‬
‫تلك املعاهد أن تقوم بدورها إىل جانب دور التعليم األخرى يف هتيئة الناس ‪ ،‬وإعدادهم للجهاد ضد العدوان ‪ ،‬كثرت‬
‫التخصص ‪ ،‬وكانت دور احلديث‬ ‫ُّ‬ ‫الدراسات والتأليف حول َائ اجلهاد ‪ ،‬واحلث عليه ‪ ،‬وزاد االهتمام بدراسة هذا‬
‫مقراً لذلك النشاط(‪.)3‬‬
‫وليس هناك اختضمف يف نظم التهلعليم بني دور احلديث ‪ ،‬واملدارس األخرى ‪ ،‬سوى يف كون املناهج يف األوىل تُركز على‬
‫التخصص الفقهي على مدارس العصر ‪ ،‬وهذه خطوة متيزت هبا حركة‬ ‫ُّ‬ ‫الدراسات املتصلة بعلوم احلديث ‪ ،‬بينما يغلب‬
‫تتم يف حلَق‬‫التعليم يف العهد الزنكي لعدم وجود مث هذا النوع من املدارس قب ذلك؛ إذ إن دراسات احلديث كانت ُّ‬
‫إن علم احلديث مل تقتصر دراسته يف‬ ‫املساجد ‪ ،‬كما كانت مادة إضا ية يف العديد من املدارس الفقهية ‪ ،‬ومع ذلك هل‬
‫العهد الزنكي على تلك الدور حسب ‪ ،‬ب كان يَاف ملناهج الدراسة يف كثري من املدارس إضا ة إىل ختصيص بعض‬
‫الزوااي امللحقة ابملساجد لتدريسه(‪.)4‬‬
‫ولكن تلك‬
‫أ ـ يف حلب‪ :‬وردت يف بعض املصادر إشارات إىل وجود العديد من دور احلديث يف حلب يف هذا العهد ‪ ،‬هل‬
‫املصادر مل تورد أية تفصيضمت عن نشأة تلك الدور ‪ ،‬أو نشاطاهتا ‪ ،‬أو مواقعها ‪ ،‬واكتفت بنسبتها إىل مؤسسيها‪ ،‬ومن‬
‫أبرز تلك الدور‪:‬‬
‫ـ دار للحديث تُنسب للملك العادل نور الدين حممود(‪ ، )5‬وهي غري الزاوية اليت أوقفها نور الدين داخ جامع حلب‬
‫لتدريس هذا العلم ‪ ،‬واليت سبق احلديث عنها(‪.)6‬‬
‫ـ دار أخرى أنشأها انئب نور الدين يف حلب جمد الدين ابن الداية ‪ ،‬املتوىف سنة ‪565‬هـ‪1170/‬م(‪.)7‬‬
‫ـ دار أنشأهتا ُّأم امللك الصاحل إمساعي بن نور الدين حممود ‪ ،‬يف اخلانقاة اليت بنتها(‪.)8‬‬

‫(‪ )1‬التاريخ الباهر ص ‪ 172‬احلياة العلمية ص ‪.133‬‬


‫(‪ )2‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.133‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.133‬‬
‫(‪ )4‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.134‬‬
‫(‪ )5‬الدر املنتخب ص ‪.123‬‬
‫(‪ )6‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.408‬‬
‫(‪ )7‬املصدز نفسه ص ‪.408‬‬
‫(‪ )8‬املصدز نفسه ص ‪.408‬‬

‫‪265‬‬
‫ب ـ يف دمشق‪ :‬سبقت اإلشارة إىل أن االجتاه إىل العناية ابحلديث الشريف دراسةً وتدريساً ‪ ،‬وإنشاء ُدور خاصة به‬
‫كان من أبرز مسات التهلعليم يف هذا العهد؛ إذ ابدر امللك نور الدين حممود إبنشاء هلأول دار للحديث يف اإلسضمم ‪ ،‬وهي‬
‫دار احلديث النورية بدمشق ‪ ،‬واليت أوك مهمة التدريس يها واإلشراف عليها ‪ ،‬إىل أبرز أعضمم عصره يف هذا اجملال ‪،‬‬
‫وهو احلا ظ الكبري ‪ ،‬أبو القاسم بن عساكر املتوىف سنة ‪571‬هـ‪1176/‬م ‪ ،‬مث تضم ذلك إنشاء العديد من دور احلديث‬
‫يف العامل اإلسضممي ‪ ،‬ومل يكن يف دمشق يف هذا العهد سوى هذه الدار(‪.)1‬‬
‫ـ دار احلديث النورية(‪ :)2‬أمجعت كثري من املصادر على أن هذه الدار من إنشاء امللك العادل نور الدين حممود زنكي‪،‬‬
‫وأهنا أول دار من نوعها يف اإلسضمم(‪ ،)3‬قال ابن األثري‪« :‬وبىن بدمشق أيَاً داراً للحديث ‪ ،‬ووقف عليها وعلى من هبا‬
‫من املشتغلني بعلم احلديث وقو اً كثرية ‪ ،‬وهو هلأول من بىن داراً للحديث يما علمناه(‪ ، )4‬وكان نور الدين قد عهد أبمر‬
‫التدريس ‪ ،‬والنظر يف هذه الدار للحا ظ الكبري أيب القاسم علي بن احلسن بن عساكر الدمشقي‪ ،‬املتوىف سنة‬
‫السنة‪ /‬يف ثضمثة أجزاء(‪،)6‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫‪571‬هـ‪1176/‬م ‪ ،‬وكان من بني أتليف احلا ظ كتاب مسهلاه‪/:‬تقوية املنة على إنشاء دار ُّ‬
‫ُ‬
‫السماعات القدمية اليت قُرئت هبا ‪ ،‬وقد زاد من مكانتها‪ :‬هل‬
‫أن الذين تولوا‬ ‫السنهلة يف هل‬
‫حيث كانت هذه الدار تُسمى دار ُّ‬
‫التدريس يها يف أول أمرها مها احلا ظ الكبري‪ ،‬وابنه القاسم هباء الدين املتوىف سنة ‪600‬هـ‪1203/‬م من بعده ‪ ،‬مث‬
‫تناوب يها ُجلهلةٌ من علماء احلديث البارزين ‪ ،‬وكانت هذه الدار مركز إشعاع للدراسات احلديثية يف بضمد الشام خضمل‬
‫القرنني السادس ‪ ،‬والسابع اهلجريني (الثاين عشر ‪ ،‬والثالث عشر امليضمديني)(‪.)7‬‬
‫الربط من أهم مراكز الصو ية يف العهد الزنكي ‪ ،‬حيث ُميارس يها التصوف سلوكاً‬ ‫الربط‪ :‬تُعد اخلوانق ‪ ،‬و ُّ‬
‫‪ 5‬ـ اخلوانق ‪ ،‬و ُّ‬
‫بوظائف دينية واجتماعية أخرى ‪ ،‬ولكنهلها مع ذلك كانت دور تعليم شاركت يف تعليم العلوم‬ ‫َ‬ ‫‪ ،‬ابإلضا ة إىل قيامها‬
‫التصوف(‪ .)8‬وكان التصوف يف تلك املدهلة اجتاهاً له نفوذه وسيطرته ‪،‬‬‫الشرعية ‪ ،‬ابإلضا ة إىل مهمتها األساسية وهي ُّ‬
‫وتقديره على املستوى الرمسي ‪ ،‬والشعيب ‪ ،‬كان الصو ية حم هل تقدير احلكام ‪ ،‬واحرتامهم‪.‬‬
‫وقد برز نور الدين يف هذا اجملال‪ ،‬وحظي الصو ية لديه مبكانة عالية‪ ،‬أكرمهم‪ ،‬وأدانهم من جملسه ‪ ،‬وبىن هلم اخلوانق‪،‬‬
‫الربط يف شىت أحناء مملكته(‪ ، )9‬وكانت مراكز الصو ية تلك ‪ ،‬مكاانً للعبادة والدرس ‪ ،‬قدهلمت مع دور التعليم األخرى‬ ‫و ُّ‬
‫خدمات جليلة حلركة التعليم آنذاك(‪.)10‬‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص ‪.450‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص ‪.450‬‬
‫(‪ )3‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.450‬‬
‫(‪ )4‬التاريخ الباهر ص ‪ ، 172‬كتاب الروضتني نقضمً عن احلياة العلمية ص ‪.450‬‬
‫(‪ )5‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.405‬‬
‫(‪ )6‬معجم األدابء (‪ )78/13‬احلياة العلمية ص ‪.450‬‬
‫(‪ )7‬احلياة العلمية ص ‪.451‬‬
‫(‪ )8‬املصدر نفسه ص ‪.135‬‬
‫(‪ )9‬الباهر ص ‪ 171‬احلياة العلمية ص ‪.135‬‬
‫(‪ )10‬احلياة العلمية ص ‪.135‬‬

‫‪266‬‬
‫وقد عرف العهد الزنكي اخلوانق ضمن األماكن اليت كان هلا أثر يف التعليم ‪ ،‬وإن كان هذا األثر أق من أثر املساجد‪،‬‬
‫نب أساساً ألغراض التعليم ‪ ،‬والقيام بوظائفه ‪ ،‬هل‬
‫وإمنا بنيت بقصد إيواء الصو ية الذين كانوا‬ ‫واملدارس ‪ ،‬ذلك هل‬
‫ألهنا مل تُ َ‬
‫خيلون ألنفسهم لعبادة هللا تعاىل ‪ ،‬خصصت هلم تلك الدور إلقامتهم ‪ ،‬حيث كانت تُو ر هلم كا ة أسباب الراحة‬
‫والعيش ‪ ،‬حىت يتفرغوا للعبادة وطلب العلم ‪ ،‬بعيداً عن مشاغ احلياة ‪ ،‬وكان منشئوها يوقفون بعض األوقاف للصرف‬
‫عليها ‪ ،‬وعلى من ينزل هبا من الصو ية‪.‬‬
‫أ ـ يف حلب‪ :‬أشارت املصادر إىل العديد من اخلوانق اليت كانت قائمة حبلب يف العهد الزنكي ‪ ،‬ومن أشهرها‪:‬‬
‫أن منشئها هو مشس اخلواص لؤلؤ اخلادم عتيق امللك ‪ ،‬رضوان بن اتج الدولة تُـتُش‬ ‫ـ خانقاه البضمط‪ :‬ذكر ابن شداد‪ :‬هل‬
‫السلجوقي ‪ ،‬وهي أول خانقاه بنيت حبلب ‪ ،‬وذلك سنة ‪509‬هـ‪1115/‬م(‪.)1‬‬
‫ـ خانقاه ابن العجمي‪ :‬تنسب هذه اخلانقاه لشمس الدين أيب بكر بن العجمي ‪ ،‬أخي الشيخ شرف الدين أيب طالب‬
‫عبد الرمحن ‪ ،‬املتوىف سنة ‪561‬هـ‪1166/‬م ‪ ،‬وكان موقع هذه اخلانقاه داراً يسكنها مشس الدين بن العجمي ‪ ،‬لما‬
‫يدر عليها(‪.)2‬‬
‫تُويف سنة ‪531‬هـ‪1136/‬م ‪ ،‬أوقفها أخوه شرف الدين أبو طالب على الصو ية ‪ ،‬وجع هلا وقفاً ُّ‬
‫ـ خانقاه القدمي‪ :‬أنشأها نور الدين حممود ‪ ،‬هل‬
‫وتوىل النظر على عمارهتا مشس الدين أبو القاسم بن الطرسوسي(‪.)3‬‬
‫ذكرها‪.‬‬
‫ـ خانقاه ابن املقدهلم‪ :‬تُنسب هذه اخلانقاه لعز الدين عبد امللك املقدم ‪ ،‬منشئ املدرسة املقدميهلة احلنفيهلة املتقدم ُ‬
‫ـ خانقاه النفر‪ :‬وهي حتت القلعة أنشأها امللك العادل نور الدين حممود بن عماد زنكي ‪ ،‬ومسيت هبذا االسم ألنه كان‬
‫يف مكاهنا قصر من بناء شجاع الدين بن اتك ‪ ،‬وكان مبدأ عمارته هلا سنة ثضمث ومخسني ومخسمئة(‪.)4‬‬
‫ـ خانقاه جمد الدين بن الداية‪ :‬تُنسب هذه اخلانقاه لنائب حلب يف عصر نور الدين حممود ‪ ،‬وأخيه من الرضاعة جمد‬
‫الدين أيب بكر حممد بن الداية ‪ ،‬املتوىف سنة ‪565‬هـ‪1170/‬م(‪.)5‬‬
‫خمصصة إلقامة النساء ‪ ،‬يتعبدن‬ ‫ـ خوانق النساء‪ :‬إىل جانب اخلوانق اخلاصة ابلرجال أنشئت يف العهد الزنكي خوانق هل‬
‫يها ‪ ،‬ويتلقني دروساً يف الوعظ الديين ‪ ،‬ومن أشهر هذه اخلانقاهات يف حلب خانقاه نور الدين ‪ ،‬حيث ذكر ابن‬
‫شداد‪ :‬أن امللك نور الدين أنشأ خانقاه للنساء سنة ‪553‬هـ‪1158/‬م ـ على األرجح(‪)6‬ـ ولكنه مل ُحيدد‬
‫أي أثر يف الوقت احلاضر‪.‬‬
‫يبق هلا ُّ‬
‫موقع هذه اخلانقاه ‪ ،‬كما أنهله مل َ‬
‫أهم اخلوانق اليت كانت قائمة يف حلب يف العهد الزنكي ‪ ،‬وقد كان هلذه املؤسسات مشاركة هلعالة يف إثراء احلياة‬ ‫هذه ُّ‬
‫العلمية يف ذلك العهد ‪ ،‬نظراً ملا كان يُعقد يها من دروس ‪ ،‬وحلق ‪ ،‬ووعظ إىل جانب قيامها ابلوظيفة األساسية اليت‬
‫أُنشئت من أجلها ‪ ،‬وهي إيواء املتصو ة لضمنقطاع يها للعبادة ‪ ،‬وجماهدة النهلفس ‪ ،‬والبعد عن الدنيا(‪.)7‬‬

‫(‪ )1‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.409‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص ‪.409‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.410‬‬
‫(‪ )4‬املصدر نفسه ص ‪.411‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه ص ‪.411‬‬
‫(‪ )6‬املصدر نفسه ص ‪.411‬‬
‫(‪ )7‬املصدر نفسه ص ‪.412‬‬

‫‪267‬‬
‫الربط ‪ ،‬وكان هلا مشاركة عالة يف إثراء‬
‫ب ـ يف دمشق‪ :‬وجدت يف دمشق خضمل العهد الزنكي العديد من اخلوانق ‪ ،‬و ُّ‬
‫التصوف هبا كنشاط أساسي أنشئت تلك‬ ‫احلياة العلمية يف هذا العهد ‪ ،‬قد كانت ميداانً للتعليم إىل جانب ممارسة ُّ‬
‫الدور من أجله ‪ ،‬وكان أبرز هذه املنشئات ما أييت‪:‬‬
‫السلمي احلُ ْبيشي املتوىف‬
‫للسميساطي أيب القاسم علي بن حممد بن حيىي ُّ‬ ‫السميساطية‪ :‬تُنسب هذه اخلانقاه ُّ‬ ‫ـ اخلانقاه ُّ‬
‫سنة ‪453‬هـ‪1061/‬م ‪ ،‬كان من أكابر الرؤساء يف دمشق(‪ ،)1‬وكان أول من توىل مشيخة هذه اخلانقاه يف العهد الزنكي‬
‫الوزير أبو املظفر الفلكي ‪ ،‬قد قدم دمشق زمن امللك نور الدين حممود ‪ ،‬ارتبطه عنده ‪ ،‬وأنزله هذه اخلانقاه ‪ ،‬وجعله‬
‫شيخها ‪ ،‬وساهم أبو املظفر يف زايدة عمارهتا(‪.)2‬‬
‫ـ خانقاه القصر‪ :‬ذكر ك من ابن شداد واإلربلي أن هذه اخلانقاه تُنسب لشمس الدين امللوك ‪ ،‬وذكر احلُسيين(‪ :)3‬أنه‬
‫السابق هلما؛ قد نسب هذه اخلانقاه للملك‬ ‫إمساعي بن اتج امللوك بُوري املتوىف سنة ‪529‬هـ‪1135/‬م ‪ ،‬أما ابن جبري هل‬
‫نور الدين حممود حيث شاهدها يف زايرته لدمشق سنة ‪580‬هـ‪1184/‬م ‪ ،‬ووصفها بقوله‪« :‬ومن أعظم ما شاهدانه‬
‫هلم (يعين الصو ية) موضع يعرف ابلقصر ‪ ،‬وهو صرح عظيم مستق يف اهلواء ‪ ،‬يف أعضمه مساكن مل ير أمج إشرا اً منها‬
‫‪ ،‬وهو من البلد بنصف املي ‪ ،‬له بستان عظيم يتص به ‪ ،‬وكانت متنزهاً ألحد امللوك األتراك ‪ ،‬يقال‪ :‬إنه كان يف‬
‫إحدى الليايل على راحة ‪ ،‬اجتاز به قوم من الصو ية ‪ ،‬هريق عليهم من النبيذ الذي كانوا يشربونه يف ذلك القصر ‪،‬‬
‫الصو ية مؤيداً هلم ‪ ،‬طال العجب من‬ ‫ر عوا األمر لنور الدين ‪ ،‬لم يزل حىت استوعبه من صاحبه ‪ ،‬ووقفه برسم ُّ‬
‫السماحة مبثله ‪ ،‬وبقي أثر الفَ يه خملهلداً لنور الدين ‪ ،‬رمحه هللا»(‪.)4‬‬ ‫هل‬
‫نسب هذه اخلانقاه لألمري أسد الدين شريكوه ‪ ،‬املتوىف سنة ‪564‬هـ‪1168/‬م(‪ ،)5‬منشأ املدرسة‬ ‫ـ اخلانقاه األسدية‪ :‬تُ ُ‬
‫األسدية املشرتكة بني احلنفية ‪ ،‬والشا عية ‪ ،‬ابلشرف القبلي ظاهر دمشق(‪ ،)6‬وكانت هذه اخلانقاه داخ ابب اجلابية ‪،‬‬
‫بدرب اهلامشيني املعروف بباب الوزير(‪.)7‬‬
‫الطاحون‪ :‬تُنسب هذه اخلانقاه للملك العادل نور الدين حممود بن زنكي ‪ ،‬وهي خارج البلد ابلوادي(‪.)8‬‬ ‫ـ خانقاه ُ‬
‫السبكي‪ :‬أن‬
‫ُّ‬ ‫ـ الرابط البياين‪ :‬جاء ذكر هذا الرابط عند ابن شداد «رابط أيب البيان بناه حبارة درب احلجارة»(‪ .)9‬وذكر‬
‫هذا الرابط ال ينسب إليه ‪ ،‬إمنا أنشئ بعد موته أبربع سنني ‪ ،‬وقد اجتمع أصحابه على بنائه ‪ ،‬وأعاهنم امللك نور الدين‬
‫‪ ،‬أوقف عليه مكاانً حبُرين(‪.)10‬‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص ‪.451‬‬


‫(‪ )2‬الوايف ابلو يات (‪ )224/15‬احلياة العلمية ص ‪.453‬‬
‫(‪ )3‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.454‬‬
‫(‪ )4‬الرحلة ص ‪ 257‬احلياة العلمية ‪.454‬‬
‫(‪ )5‬احلياة العلمية ص ‪.455‬‬
‫(‪ )6‬املصدر نفسه ص ‪.455‬‬
‫(‪ )7‬املصدر نفسه ص ‪.455‬‬
‫(‪ )8‬املصدر نفسه ص ‪.455‬‬
‫(‪ )9‬املصدر نفسه ص ‪.456‬‬
‫(‪ )10‬طبقات الشا عية (‪ )319/7‬احلياة العلمية ص ‪.456‬‬

‫‪268‬‬
‫ج ـ يف املوص ‪ :‬كان يف املوص يف العهد الزنكي ُربُط عديدة ‪ ،‬شاركت يف نشـاط احليـاة العلميـة يف ذلك العهد ‪ ،‬حيث‬
‫التصوف اليت أنشئت من أجلها ‪ ،‬ومن‬ ‫كـانت مراكز للـتعليم ‪ ،‬والـتثقيف ‪ ،‬والتأليف ‪ ،‬إىل جانب قيامها بوظائف ُّ‬
‫املضمحظ هنا‪ :‬أنه مل يفرق بني اخلانقاه والرابط يف املوص كما حص يف بعض مناطق الشام يف ذلك العهد(‪ ،)1‬وكان‬
‫الربط اليت كانت قائمة يف املوص ‪:‬‬‫من أشهر ُّ‬
‫ـ رابط امللك سيف الدين غازي‪ :‬أنشأه ابملوص امللك سيف الدين غازي بن عماد الدين (‪ 541‬ـ ‪ 1146/544‬ـ‬
‫‪ ، )1149‬وهو الرابط اجملاور لباب املشرعة ‪ ،‬وقد أوقف عليه األوقاف الكثرية لتفي ابحتياجاته(‪.)2‬‬
‫ـ رابط الوزير مجال الدين األصفهاين‪ :‬يُنسب هذا الرَابط للوزير املوصلي ‪ ،‬مجال الدين حممد بن علي األصفهاين ‪،‬‬
‫املعروف ابجلواد ‪ ،‬املتوىف سنة ‪559‬هـ‪1164/‬م(‪ ، )3‬وقد ذكر عنه ابن األثري‪ :‬أنهله‪ :‬بىن الربط ابملوص ‪ ،‬وسنجار ‪،‬‬
‫ونصيبني ‪ ،‬وغريها(‪.)4‬‬
‫الربط‬
‫الربُط على امللوك الزنكيني ‪ ،‬ب تبعهم يف ذلك أمراؤهم ووزراؤهم أنشؤوا الكثري من ُّ‬ ‫ـ الرابط الزيين‪ :‬مل يقتصر بناء ُّ‬
‫يف املوص وغريها ‪ ،‬كما أنشؤوا ُدور التعليم األخرى ‪ ،‬وكان ممن أنشأ رابطاً ابملوص ‪ :‬األمري زين الدين علي بن بُكتكني‬
‫‪ ،‬املتوىف سنة ‪563‬هـ‪1167/‬م ‪ ،‬منشئ مسجد زين الدين (املدرسة الكمالية) ‪ ،‬واملدرسة الزينية ‪ ،‬قد ذكر ابن األثري‪:‬‬
‫وربُطاً ابملوص وغريها(‪.)5‬‬
‫أنه بىن مدارس ‪ُ ،‬‬
‫ـ رابط ابن الشهرزوري‪ :‬أشار إليه ابن خلكان يف ترمجته للشيخ عز الدين أيب القاسم بن عقي بن نصر اإلربلي ‪ ،‬املتوىف‬
‫وقرر له صاحب املوص راتباً‬ ‫ساكن ظاهر املوص يف رابط ابن الشهرزوري ‪ ،‬هل‬
‫سنة ‪619‬هـ‪1222/‬م ‪ ،‬حيث ذكر‪ :‬أنهله ٌ‬
‫‪ ،‬ومل يزل هناك حىت تويف(‪.)6‬‬
‫الربط يف عهد نور الدين بدور كبري يف اجلهاد ‪ ،‬ومجع املعلومات ‪ ،‬وحتريك العامة ‪ ،‬والدعاء‬ ‫وقد قامت اخلوانق ‪ ،‬و ُّ‬
‫اجلهال أمور دينهم ‪ ،‬وكانت الدولة النورية تشرف على ذلك‪،‬‬‫للجيوش اإلسضممية ‪ ،‬و مقاومة التشيُّع الرا َي ‪ ،‬وتعليم هل‬
‫وتوظف هذه الطاقات خلدمة مشروع النهوض‪.‬‬
‫وكان للخانقاه عادة شيخ يتوىل نظارهتا ‪ ،‬واإلشراف عليها ‪ ،‬يُسمى شيخ الشيوخ ‪ ،‬وقد اشرتط الفقهاء يمن يتوىل هذه‬
‫املناصب شروطاً عدة ‪ ،‬وآداابً تؤهله لذلك ‪ ،‬منها ما ذكره السبكي من أنه ال بد أن يتمتع بقسط وا ر من العلم واحللم‬
‫يتحم األذى ‪ ،‬والَهليم على نفسه ‪ ،‬وأن يكون َح َسن التلفُّظ ‪ ،‬حريصاً على الصضمة والذكر ‪ ،‬وتضموة القرآن‬ ‫‪ ،‬وأن هل‬
‫الكرمي ‪ ،‬وأن حيرص على تعليم مريديه العلم النا ع ‪ ،‬متدرجاً هبم ابألهون األهون ‪ ،‬مبتعداً هبم عن األلفاظ اليت يصعب‬
‫عليهم معر تها(‪.)7‬‬

‫(‪ )1‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.384‬‬


‫(‪ )2‬الباهر ص ‪ 63‬مراة الزمان نقضمً عن احلياة العلمية ص ‪.384‬‬
‫(‪ )3‬احلياة العلمية ص ‪.384‬‬
‫(‪ )4‬التاريخ الباهر ص ‪ 129‬احلياة العلمية ص ‪.385‬‬
‫(‪ )5‬احلياة العلمية ص ‪.385‬‬
‫(‪ )6‬معيد النعم ص ‪ 97‬احلياة العلمية ص ‪.137‬‬
‫(‪ )7‬العرب الذهيب (‪ )74/3‬احلياة العلمية ص ‪.137‬‬

‫‪269‬‬
‫وكان امللك نور الدين قد عهد هبذا املنصب للفقيه عماد الدين عمر بن علي بن محويه ‪ ،‬املتوىف سنة‬
‫(‪)1‬‬
‫فوض إليه سنة‬ ‫‪577‬هـ‪1181/‬م ‪ ،‬وكان قد قدم دمشق يف أايمه ‪ ،‬ومل يلبث أن انس منه نور الدين علماً زاهداً ‪ ،‬هل‬
‫الربُط يف ك ٍ من دمشق ‪ ،‬ومحص ‪ ،‬ومحاة ‪ ،‬وحلب ‪ ،‬وبعلبك ‪ُ ،‬‬
‫(‪)2‬‬
‫ومنذ أن توىل‬ ‫‪563‬هـ‪1167/‬م مشيخة اخلوانق و ُّ‬
‫الشيخ عمر بن محويه هذا املنصب ‪ ،‬أُطلق عليه لقب شيخ الشيوخ ‪ ،‬وهو اللقب الذي عرف به شيخ الصو ية ‪ ،‬أو‬
‫انظر اخلوانق ُمنذ ذلك الوقت(‪.)3‬‬
‫‪ 6‬ـ ال َكتَاتيب‪ :‬ال َكتَاتْيب ‪ ،‬أو ال ُكتهلاب‪ :‬يطلق على احمل الذي يتعلم يه الصبيان‪ ،‬وكانت تقوم مقام املدارس االبتدائية‬
‫يف وقتنا احلاضر ‪ ،‬وقد هلاختذ املعلمون يف العهد الزنكي زوااي ابملساجد ‪ ،‬وغر اً مضمصقة هلا لتعليم األطفال القران الكرمي‪،‬‬
‫السبعي ‪ ،‬وكضممها يف اجلامع‬‫ومبادئ الدين اإلسضممي ‪ ،‬يف شىت املدن الزنكية ‪ ،‬من ذلك احللقة الكوثرية ‪ ،‬واجملتمع ُّ‬
‫األموي(‪.)4‬‬
‫أن الكثري من معلميهم كانوا يعتكفون يف املساجد‪،‬‬ ‫أن السبب يف اختاذ املساجد أمكنة لتعليم الصبيان يعود إىل هل‬‫ويبدو‪ :‬هل‬
‫وكانوا حيرت ون هذه املهنة ليَمنوا منها كسب عيشهم ‪ ،‬وهم مقيمون على عبادهتم يف املساجد ‪ ،‬لزم حَور الصبية‬
‫إليهم‪.‬‬
‫وجبانب هذه الكتاتيب كتاتيب أخرى قامت مستقلةً عنها ‪ ،‬وقد أُنشئت لتعليم األيتام الذين قدوا عائلهم ‪ ،‬أو األطفال‬
‫غري القادرين من أبناء املسلمني من الفقراء ‪ ،‬الذين مل يكن يف وسع ذويهم إرساهلم إىل الكتاتيب لتعليمهم أبجر ‪ ،‬أو‬
‫اهتم هلرواد التعليم يف العهد الزنكي إبنشاء هذا النوع من الكتاتيب‪ ،‬وأكثروا‬‫إحَار مؤدبني يعلموهنم يف بيوهتم ‪ ،‬وقد هل‬
‫منها يف بضمدهم ‪ ،‬وأوقفوا عليها األوقاف الكثرية ‪ ،‬للصرف عليها رغبة يف األجر ‪ ،‬وحرصاً على نشر العلم ‪ ،‬وقد أطلق‬
‫خص ابن عساكر هذا النوع من الكتاتيب‬ ‫الس ْبي ‪ ،‬وقد هل‬‫على هذا النوع من الكتاتيب (مكاتب األيْتام) ‪ ،‬أو مكاتب هل‬
‫ونصب مجاعة من املعلمني لتعليم يتامى املسلمني ‪،‬‬ ‫يف حديثه عن أعمال امللك نور الدين حممود اخلريية ‪ ،‬قال‪ « :‬هل‬
‫وأجرى األرزاق على معلميهم ‪ ،‬وعليهم ‪ ،‬وبقدر ما يكفيهم»(‪ ،)5‬كما حتدهلث ابن جبري عن أحد هذه الكتاتيب يف‬
‫دمشق ‪ ،‬ووصفه ‪ ،‬بقوله‪« :‬ولأليتام من الصبيان حمَرة كبرية ابلبلد ‪ ،‬هلا وقف كبري ‪ ،‬أيخذ منه املعلم هلم ما يقوم به ‪،‬‬
‫وينفق منه على الصبيان ما يقوم هبم وبكسوهتم»(‪.)6‬‬
‫كما كان كثري من احملسنني يف العهد الزنكي يبنون املدارس ‪ ،‬وجبانبها مكاتب األيتام ‪ ،‬حىت إذا أمتهل الصيب تعليمه يف‬
‫املستمرة ‪ ،‬أو النفقة الواسعة إىل أن يُنهي دراسته‪،‬‬
‫هل‬ ‫ال ُكتهلاب؛ انتق إىل املدرسة ـ إن رغب يف مواصلة دراسته ـ وله اجلراية‬
‫ومن ذلك ما قام به األمري جماهد الدين قَ ْاميَاز ‪ ،‬وايل القلعة يف املوص ‪ ،‬املتوىف سنة (‪595‬هـ‪1199/‬م) إذ أنشأ مكتباً‬

‫(‪ )1‬الدارس (‪ )154 ، 153/2‬احلياة العلمية ص ‪.137‬‬


‫(‪ )2‬احلياة العلمية ص ‪.138‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.119‬‬
‫(‪ )4‬اتريخ دمشق نقضمً عن احلياة العلمية ص ‪.120‬‬
‫(‪ )5‬الرحلة ص ‪.245‬‬
‫(‪ )6‬و يات األعيان (‪ )83 ، 82/4‬احلياة العلمية ص ‪.121‬‬

‫‪270‬‬
‫لأليتام ابملوص جبانب مدرسته اليت بناها على دجلة(‪ ، )1‬وقد شاع ذلك العم اخلريي يف كثري من املدن الزنكية؛ حيث‬
‫وجد العشرات من الكتاتيب تُنشأ مضمصقة للمدارس ‪ ،‬أو قريبة منها(‪ ،)2‬وقد قامت تلك الكتاتيب أبثر ابرز يف تنشئة‬
‫األطفال ‪ ،‬وتربيتهم تربية إسضمميهلة صحيحة ‪ ،‬مع تعليمهم مبادئ القراءة والكتابة ‪ ،‬وجانباً من العلوم اإلسضممية ‪ ،‬املتفقة‬
‫ُ‬
‫أن لألطفال نصيباً من املشروع اإلسضممي‬ ‫مع قدراهتم ‪ ،‬لتكتم تنشئة الصبية على أسس إسضممية متينة(‪ .)3‬وهكذا نرى‪ :‬هل‬
‫السري على هنج اإلحياء اإلسضممي‬ ‫النهَوي ‪ ،‬الذي قاده نور الدين للتصدي لألخطار الباطنية ‪ ،‬والغزو اخلارجي ‪ ،‬و هل‬
‫السين الكبري‪.‬‬
‫تعد املكتبات القاعدة اليت تستند عليها خمتلف اجلهود الثقا ية يف أي عصر من العصور‪ ،‬أو جمتمع من‬ ‫‪ 7‬ـ املكتبات‪ُّ :‬‬
‫املعيار الذي ُحيكم به على تقدُّم هذا اجملتمع ‪ ،‬أو ذلك العصر‪.‬‬
‫اجملتمعات لدرجة أنه ميكن اختاذها يف كثري من األحيان َ‬
‫شىت العصور اإلسضممية ‪ ،‬وهيئات ينفق عليها امللوك ‪ ،‬واألمراء ‪ ،‬واألثرايء ‪،‬‬ ‫وقد كانت املكتبات مبثابة دور التعليم يف هل‬
‫اخ‬
‫نس ٍ‬
‫أي وجود ‪ ،‬وكانت الكتب تُنسخ على أيدي هل‬ ‫والعلماء لنشر العلم بني الناس ‪ ،‬خصوصاً يف وقت مل يكن للطباعة ُّ‬
‫متخصصني يف هذا العم ‪ ،‬كان يتعذر على الكثريين من طضمب العلم اقتناء الكتب لقلهلة عدد نسخها ‪ ،‬وارتفاع‬
‫أسعارها؛ ألهنا تُنسخ ابليد ‪ ،‬ومن هنا نشأت كرة مجع الكتب يف خمتلف ميادين املعر ة يف مكان واحد؛ كي يسه‬
‫على طالب العلم االطضمع عليها ‪ ،‬واالستفادة منها ‪ ،‬وهذا ما ُعرف بـ (خزائن الكتب ‪ ،‬أو املكتبات)(‪.)4‬‬
‫اهتم الزنكيون ـ كغريهم ـ بتأسيس املكتبات يف املساجد ‪ ،‬واملدارس ‪ ،‬وغريها من دور التعليم القائمة يف ذلك العهد‬
‫وقد هل‬
‫‪ ،‬وقلما جند داراً تعليمية ‪ ،‬ختلو من مكتبة تتبعها ‪ ،‬مزودة مبجموعة من الكتب اليت يرجع إليها الطضمب ‪ ،‬والباحثون يف‬
‫أدل على ذلك االهتمام من سياسة نور‬ ‫خمتلف التخصصات تبعاً حلجم تلك الدار ‪ ،‬واألوقاف اليت أوقفت عليها ‪ ،‬وال هل‬
‫الدين حممود؛ الذي أمر بتزويد ك هيئة تعليمية مبكتبة قيمة ‪ ،‬وجع عليها وقفاً كبرياً ‪ ،‬يصرف منه على املكتبة ‪،‬‬
‫حص الكثري من كتب العلوم ‪ ،‬ووقفها على طضمهبا ‪،‬‬ ‫واملشتغلني هبا(‪ ، )5‬وقد قال ابن عساكر عن نور الدين‪« :‬إنه هل‬
‫وأقام عليها احلفظة»(‪.)6‬‬
‫‪ 8‬ـ اإلنفاق على األيتام واألرام ‪ :‬كانت طبيعة اجملتمع تقوم على اجلهاد ‪ ،‬اشتبك املسلمون مع الصليبيني يف معارك‬
‫كثرية ‪ ،‬وترتهلب على ذلك تزايد أعداد من الشهداء ‪ ،‬وخرجت للوجود ظاهرة الرتم ‪ ،‬ووجدت النساء املرتمضمت الضميت‬
‫قدن أزواجهن يف ساحات الوغى ‪ ،‬وأشر ت الدولة النوريهلة على تزويج األرام ‪ ،‬واالهتمام هبن ‪ ،‬ووجد األطفال‬
‫اليتامى؛ الذين قدوا اابءهم يف ساحات اهليجاء العنايـة ‪ ،‬واالهتمام ‪ ،‬وأشارت املصادر التارخيية إىل أن الدولة حرصت‬
‫خمصصـات لـهم من مـال وكساء(‪ ، )7‬في سنة ‪569‬هـ‪1173/‬م استدعى نور‬ ‫على عضمج أوضـاعهم من خضمل صرف هل‬

‫(‪ )1‬احلياة العلمية ص ‪.121‬‬


‫(‪ )2‬احلياة العلمية ص ‪.121‬‬
‫(‪ )3‬احلياة العلمية ص ‪.121‬‬
‫(‪ )4‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.154‬‬
‫(‪ )5‬مراة الزمان نقضمً عن احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.154‬‬
‫(‪ )6‬اتريخ دمشق نقضمً عن احلياة العلمية ص ‪.154‬‬
‫(‪ )7‬زبدة حلب (‪ )39/2‬الصراع اإلسضممي الصلييب ص ‪.261‬‬

‫‪271‬‬
‫الدين حممود بن زنكي رؤساء دمشق ‪ ،‬ومشاخيها ‪ ،‬ومقدهلمي حاراهتا ‪ ،‬ودروهبا ‪ ،‬وقال‪« :‬أريد منكم أن تكشفوا عن‬
‫أحوال جماوريكم ‪ ،‬عر وين ابليتامى ‪ ،‬واألرام ‪ ،‬ومن انقطع عن التكسب ‪ ،‬ومن اختلت أحواله؛ ألنظر يف حاهلم» ‪،‬‬
‫فعلوا ذلك ‪ ،‬بعث إليهم ابلغضمهلت ‪ ،‬والكسوات ‪ ،‬ووظهلف هلم الوظائف(‪.)1‬‬
‫وكان نور الدين حممود يعتين بعائضمت الذين ماتوا يف ميادين املعارك ‪ ،‬أو مواتً طبيعياً ‪ ،‬إن تويف أحد أجناده؛ وله ول ٌد؛‬
‫يكرب ‪ ،‬كان األجناد يقولون‪ :‬هذه أمضمكنا‬ ‫يقره على إقطاع أبيه ‪ ،‬وإن كان الولد صغرياً؛ رتهلب معه رجضمً يوثق به إىل أن َ‬
‫يرثها الولد من الوالد ‪ ،‬نحن نقات عليها ‪ ،‬وكان ذلك سبباً عظيماً من األسباب املوجبة للصرب يف املشاهد ‪ ،‬واحلروب(‪.)2‬‬
‫‪ 9‬ـ اإلنفاق على احلصون اخلاانت و«اجملال العمراين»‪ :‬كان نور الدين حمباً للبناء والعمران ‪ ،‬ولكن ليس لبناء القصور‪،‬‬
‫وأماكن اللهلهو ‪ ،‬والرتف ‪ ،‬قد كان أبعد الناس عن هذا املعىن ‪ ،‬إمنا العمران الذي يقَي احلاجة ‪ ،‬وخيدم مصاحل األمة‬
‫‪ ،‬كأسوار املدن ‪ ،‬والقضمع ‪ ،‬واحلصون الَرورية حلماية السكان ‪ ،‬وصد هجمات العدو ‪ ،‬وإسكان اجلند‪ ،‬وحفظ املؤن‬
‫‪ ،‬واألسلحة الضمزمة للقتال ‪ ،‬األمر الذي كانت تقتَيه ظروف املواجهة مع الغزاة الفرجنة ‪ ،‬مث املساجد ‪ ،‬واملدارس ‪،‬‬
‫ودور األيتام والغرابء الَرورية لرتبية األجيال على اخلري والصضمح ‪ ،‬واملستشفيات ‪ ،‬واألسواق ‪ ،‬واخلاانت ‪ ،‬واحلمامات‬
‫‪ ،‬والقنوات ‪ ،‬والقناطر ‪ ،‬واجلسور ‪ ،‬لتسهي العم ابلزراعة ‪ ،‬والتجارة من أج حتقيق الكفاية‪ ،‬وحتسني املعيشة ‪ ،‬وزايدة‬
‫موارد الدولة‪.‬‬
‫هذا هو العمران الذي أحبه نور الدين ‪ ،‬وأنفق القسم األكرب من خزينة الدولة يف سبي حتقيقه(‪ ،)3‬قد بىن أسوار مدن‬
‫بضمد الشام مجيعها ‪ ،‬وأصلح القضمع واحلصون بعد الزالزل اليت حصلت عام ‪552‬هـ‪1157/‬م ‪ ،‬وكذلك بعد الزالزل‬
‫اليت وقعت عام ‪566‬هـ‪1171/‬م(‪ ، )4‬وأنفق على ذلك أمواالً طائلة‪ .‬يقول ابن األثري يف ذلك‪ « :‬من ذلك‪ :‬أنه بىن‬
‫أسوار مدن الشام مجيعها ‪ ،‬وقضمعها ‪ ،‬منها‪ :‬حلب ‪ ،‬ومحاة‪ ،‬ومحص‪ ،‬ودمشق‪ ،‬وابرين‪ ،‬وشيزر‪ ،‬ومنبج‪ ،‬وغريها من‬
‫وحصنها ‪ ،‬وأحكم بناءها ‪ ،‬وأخرج عليها من األموال ماال تسمح به النفوس(‪ .)5‬وكنهلا قد حتدثنا بنوع‬
‫القضمع واحلصون‪ ،‬هل‬
‫من التفصي عن املدارس‪ ،‬واملستشفيات‪ ،‬ودور األيتام‪ ،‬واملساجد‪.‬‬
‫ومن مظاهر العمران اليت استحدثها نور الدين‪ :‬بناء األبراج على الطرق بني اإلمارات الفرجنية ‪ ،‬وما جاورها من بضمد‬
‫الشام ‪ ،‬حىت املدن الرئيسية‪( :‬دمشق ‪ ،‬حلب ‪ ،‬محاة ‪ ،‬محص) ‪ ،‬ووضع يها حاميات صغرية ‪ ،‬ومعهم الزاج ‪ ،‬لينذروا‬
‫من يليهم من بضمد املسلمني عن حركات الفرجنة ‪ ،‬يستعد املسلمون للقائهم ‪ ،‬كانت هذه األبراج تعم كنقاط مراقبة‬
‫دائمة ‪ ،‬لتمرير املعلومات عن العدو(‪.)6‬‬
‫و هلأما ما يتعلق ابملرا ق العامة كاخلاانت ‪ ،‬واحلمامات ‪ ،‬واألسواق ‪ ،‬ودور الوضوء ‪ ،‬قد متيزت مدن الشام بكثرهتا ‪،‬‬
‫وترتيبها ‪ ،‬ونظامها ‪ ،‬وقد وصف ابن جبري دمشق بقوله‪« :‬وهبذه البلدة أيَاً قرب مئة محام يها ‪ ،‬ويف أرابضها ‪ ،‬و يها‬

‫(‪ )1‬الكام يف التاريخ نقضمً عن اخلدمات العامة يف بغداد ص ‪.80‬‬


‫(‪ )2‬احلروب الصليبية واألسرة الزنكية ص ‪.191‬‬
‫(‪ )3‬سنا الربق الشامي ص ‪.27‬‬
‫(‪ )4‬عيون الروضتني نقضمً عن دور نور الدين حممود يف هنَة األمة‪.‬‬
‫(‪ )5‬الباهر ص ‪ 170‬دور نور الدين يف هنَة األمة ص ‪.187‬‬
‫(‪ )6‬الباهر ص ‪ 171‬دور نور الدين يف هنَة األمة ص ‪.187‬‬

‫‪272‬‬
‫حنو أربعني داراً للوضوء جيري املاء يها كلها ‪ ،‬وليس يف هذه البضمد كلها بلدة أحسن منها للغريب؛ ألن املرا ق هبا كثرية‬
‫‪ ،‬وأسواق هذه البلدة من أ َ أسواق البضمد ‪ ،‬وأحسنها انتظاماً ‪ ،‬وأبدعها وصفاً ‪ ،‬وال سيما قيسارايهتا ‪ ،‬وهي مرتفعة‬
‫كأهنا الفنادق ‪ ،‬مثقفة كلها أببواب حديد ‪ ،‬كأهنا أبواب القصور»(‪ .)1‬ويصف ابن جبري مدينة حلب بقوله‪« :‬أما البلد‬
‫موضوعه ضخم جداً ‪ ،‬حفي الرتكيب ‪ ،‬بديع احلسن ‪ ،‬واسع األسواق كبريها ‪ ،‬متصلة االنتظام ‪ ،‬مستطيلة خترج من‬
‫مساط صنعة أخرى ‪ ،‬إىل أن تفرع من مجيع الصناعات املدنية ‪ ،‬وكلها مثقف ابخلشب ‪ ،‬سكاهنا يف ظضمل وار ة ‪،‬‬
‫وأكثر حوانيتها من اخلشب البديع الصنعة ‪ ،‬قد اتص السماط خزانة واحدة ‪ ،‬وختلهللتها ُشرف خشبية ‪ ،‬بديعة النقش‬
‫املكرم ‪ ،‬وهذا‬
‫‪ ،‬وتفتحت كلها حوانيت ‪ ،‬جاء منظرها أمج منظر ‪ ،‬وك مساط منها يتص بباب من أبواب اجلامع هل‬
‫اجلامع من أحسن اجلوامع ‪ ،‬وأمجلها ‪ ،‬وحسنه أكثر من أن يوصف ‪ ،‬ويتص به من اجلانب الغريب مدرسة للحنفية ‪،‬‬
‫تناسب اجلامع حسناً وإتقان صنعة»(‪.)2‬‬
‫سكاهنا عدهلة مرات خضمل عهد نور الدين(‪ ، )3‬قد كانت بناايت مدينة‬ ‫واتسعت مدن بضمد الشام ‪ ،‬وتَاعف عدد هل‬
‫دمشق أحياانً مؤلفة من ثضمث طبقات ‪ ،‬حتتوي من اخلَْلق ‪ ،‬ما ال حتتويه ثضمث مدن ‪ ،‬وصار على ظاهر حلب من‬
‫العمارة واملساكن ‪ ،‬أكثر من املدينة ‪ ،‬وصارت تعاين من كثرة العامل ‪ ،‬وامتدت بساتني دمشق من حوهلا إىل مسا ة مخسة‬
‫عشر ميضمً ‪ ،‬ومل تبق مزرعة يف جب ‪ ،‬وال واد ‪ ،‬إال و يها سكان ‪ ،‬وهلا ُمغ ٌّ ‪ ،‬ومع أن نور الدين كان يركز يف البناء‬
‫والعمران على البساطة ‪ ،‬واملتانة؛ إال أنه كان ميي إىل جتمي البناء ‪ ،‬وحتسينه ‪ ،‬ليكون البناء متناسقاً ‪ ،‬حسن الصورة ‪،‬‬
‫مع عدم املبالغة يف الزخر ة ‪ ،‬والتزيني ‪ ،‬قد أحَر للمدرسة احلضموية اليت بناها يف حلب قطعاً من الرخام الشفاف من‬
‫عامة ‪،‬‬
‫مدينة أ اميا ‪ ،‬وأمر بتجمي حمراب املدرسة العمادية يف دمشق بفصوص من الذهب ‪ ،‬وبىن يف قلعة دمشق داراً هل‬
‫املسرة ‪ ،‬وأوقف بعض البساتني يف دمشق ‪ ،‬على تطييب جوامعها ‪ ،‬ومدارسها(‪.)4‬‬ ‫مسهلاها دار هل‬
‫أن نور‬ ‫لقد هل‬
‫شكلت اإلجنازات الباهرة املتعددة اليت حققها نور الدين أركان هنَة األمة ‪ ،‬واجلدير ابملضمحظة واالعتبار‪ :‬هل‬
‫الدين حقق هذه اإلجنازات يف ظ ظروف ابلغة الصعوبة ‪ ،‬قد كان يف حالة حرب مستمرة مع الغزاة الفرجنة(‪.)5‬‬
‫ك األسرى‪ :‬ومثة مساحات أخرى امتدت إليها خدمات الدولة ‪ ،‬وضماهنا االجتماعي يف عصر نور الدين ‪،‬‬ ‫‪ 10‬ـ ُّ‬
‫يفتكهم أهلوهم ‪ ،‬وجرياهنم ‪،‬‬ ‫لقد هلرق الرج اثين عشر ألف دينار يف داء أسرى أه الشام ‪ ،‬كان يقول‪ :‬هؤالء ُّ‬
‫واملغاربة غرابء ال أه هلم(‪.)6‬‬
‫السنة اليت تويف يها نور الدين شهدت دولته مجلة من‬ ‫* يف عام ‪569‬هـ خدمات اجتماعية كبرية‪ :‬يف عام ‪569‬هـ ‪ ،‬هل‬
‫خدمات اجتماعية ‪ ،‬مشلت الكثري من القطاعات ‪ ،‬وتطلبت الكثري من النفقات ‪ ،‬زيدت األوقاف ‪ ،‬ووسعت الصدقات‬
‫وجيمع عدد من املؤرخني على أن تلك السنة شهدت مناذج من اخلدمات االجتماعية تدعو‬ ‫‪ ،‬وو رت النفقات ‪ُ ،‬‬

‫(‪ )1‬رحلة ابن جبري ص ‪.236 ، 235‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص ‪ ، 204 ، 203‬دور نور الدين يف هنَة األمة ص ‪.187‬‬
‫(‪ )3‬رحلة ابن جبري ص ‪ 230‬دور نور الدين يف هنَة األمة ص ‪.188‬‬
‫(‪ )4‬الكواكب الدرية ص ‪.47‬‬
‫(‪ )5‬دور نور الدين يف هنَة األمة ص ‪.188‬‬
‫(‪ )6‬رحلة ابن جبري ص ‪ 280‬نور الدين حممود ‪.118‬‬

‫‪273‬‬
‫مدى كان نور الدين ‪ ،‬يسعى جاداً إىل تغطية حاجات أمته بفئاهتا الفقرية احملتاجة‬ ‫لإلعجاب ‪ ،‬وتوضح لنا إىل أي ً‬
‫ملبساً ‪ ،‬ونفقة ‪ ،‬وإشباعاً ‪ ،‬وإكساء األيتام ‪ ،‬والنسوة ‪ ،‬وتزويج األرام ‪ ،‬وإغناء الفقراء ‪ ،‬وختان األطفال(‪.)1‬‬
‫ويعلق العماد األصفهاين على محلة تلك السنة بقوله‪...« :‬حسبنا ما تصدهلق به على الفقراء يف تلك األشهر ‪ ،‬قد زاد‬
‫مر بصدقة غلهلة ‪ ،‬أو ذهب ‪ ،‬تقدهلم إىل خادمه إبحَار مجاعة من أماث البلد‬ ‫على ثضمثني ألف دينار ذهباً ‪ ،‬وكان إذا هل‬
‫‪ ،‬وعدوله ‪ ،‬من أه ك حملة ‪ ،‬يقول لك واحد‪« :‬كم تعرف يف جوارك من‪...‬وغريهم؟» يقول‪« :‬أعرف كذا وكذا»‬
‫يسلم إليه صدقات أولئك األعداد ‪ ،‬حىت يستقرئ ابلسؤال مجيع احلاضرين ‪ ،‬مث أيتيه ك منهم يثبت ما هلرقه(‪.)2‬‬
‫لقد حتقق يف عهد نور الدين حممود ظهور جمتمع العدل ‪ ،‬والتَامن ‪ ،‬والتكا ‪ ،‬واملواساة ‪ ،‬يف احلاجات األساسية‪.‬‬
‫إن املسألـة ليست مسألة دولة تعطي ‪ ،‬وتَمن ‪ ،‬وختدم حسب ‪ ،‬ولكنهله (اجملتمع) الذي تسعى هذه الدولة إىل تشكيله‬ ‫هل‬
‫‪ ،‬اجملتمع الذي ميحى يه االستغضمل ‪ ،‬وتَيق الفوارق ‪ ،‬ويشرتك اجلميع ابحلق والعدل ‪ ،‬يما ميكنهم من إشباع حاجاهتم‬
‫التحرك إىل ما وراء تلك اال اق الواسعة الرحيبة؛ اليت جاء اإلسضمم لكي يقوم الناس‬
‫األساسية ‪ ،‬لكي يقدر اجلميع على ُّ‬
‫إليها‪.‬‬
‫الفعال بني القيادة ‪ ،‬والقواعد(‪ ،)3‬نهض اجلميع من كبوهتم ‪ ،‬واستوعب مشروعه احلَاري ‪ ،‬وقام‬ ‫لقد حتقهلق التعاون هل‬
‫بدوره الرايدي ‪ ،‬وهذه صورة من بني عشرات الصور ‪ ،‬اليت وصف هبا هذا اجملتمع ‪ ،‬حيدثنا عنها شاهد عيان بعد حوايل‬
‫العقد حسب من و ـاة نور الدين‪..« :‬إن احلاج الدمشقي مع من انَاف إليهم من املغاربـة عند صدورهم إىل دمشق‬
‫اجلم الغفري رجاالً ‪ ،‬ونساءً ‪ ،‬يصا حوهنم‪..‬وأخرجوا الدراهم لفقرائهم ‪،‬‬ ‫يف هذا العام (‪ 580‬هـ) خرج الناس لتلقيهم ‪ُّ ،‬‬
‫يتلقوهنم هبا ‪ ،‬وأخرجوا إليهم األطعمة ‪.. ،‬وك من و قه هللا هبذه اجلهات من الغرابء لضمنفراد ‪ ،‬يلتزم ـ إن أحب ـ ضيعة‬
‫من الَياع ‪ ،‬يكون يها طيب العيش ‪ ،‬انعم البال ‪ ،‬وينثال اخلبز عليه من أه الَيعة ‪ ،‬ويلتزم اإلمامة ‪ ،‬أو التعليم ‪،‬‬
‫أو ما شاء ‪ ،‬ومىت سئم املقام؛ خرج إىل ضيعة أخرى»(‪.)4‬‬
‫ويف مكان آخر ‪ ،‬يقول ابن جبري عن شاهد العيان هذا ـ مثمناً أخضمقية اجملتمع هناك ـ‪..« :‬ولو مل يكن هبذه اجلهات‬
‫املشرقية كلها إالهل مبادرة أهلها إلكرام الغرابء ‪ ،‬وإيثار الفقراء ‪ ،‬وال سيهلما أه ابديتها؛ لكفى هبا َضمً»(‪.)5‬‬
‫إن من أبرز املعامل يف اترخينا كله اإلميان بكرامة اإلنسان ‪ ،‬و طرة اإلنسان ‪ ،‬وحرمة اإلنسان ‪ ،‬حرمة دمه ‪ ،‬وعرضه ‪،‬‬
‫وماله ‪ ،‬وحقوق اإلنسان ‪ ،‬حقُّه يف احلياة ‪ ،‬وحقُّه يف احلرية ‪ ،‬وحقُّه يف املساواة ‪ ،‬وحقُّه يف عيش كرمي له وملن يعول ‪،‬‬
‫وأص ذلك‪ :‬أن اإلسضمم الذي صنع هذا التاريخ ‪ ،‬يكرم اإلنسان من حيث هو إنسان ‪ ،‬من ذرية ادم ‪ ،‬الذي خلقه‬
‫هللا بيده ‪ ،‬ونفخ يه من روحه ‪ ،‬وأسجد له مضمئكته ‪ ،‬وجعله يف األرض خليفة ‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ولَ َق ۡد َك ذر ۡم َنا بَ ِ ٓ‬
‫ن‬
‫َۡ‬ ‫َۡ َ‬ ‫َ ذ ُ َ َ َ َ َ ۡ َ َۢ َ ۡ َ ۡ‬ ‫َ َ‬
‫ۡرض‬ ‫َ‬
‫ۡي نف ٍس أو فسادٖ ِِف ٱۡل ِ‬ ‫أكد القران مع كتب السماء‪﴿ :‬أنهۥ من قتل نفسا بِغ ِ‬ ‫اد َم﴾ [االسراء ‪ ، ]70 :‬و هل‬ ‫ء‬

‫(‪ )1‬زبدة دمشق (‪ )240/2‬نور الدين حممود ‪.117‬‬


‫(‪ )2‬الربق ص ‪ 143‬نور الدين حممود ص ‪.117‬‬
‫(‪ )3‬نور الدين حممود ص ‪.119‬‬
‫(‪ )4‬رحلة ابن جبري ص ‪ ، 259‬نور الدين حممود ‪.119‬‬
‫(‪ )5‬نور الدين حممود ص ‪.119‬‬

‫‪274‬‬
‫ٗ‬ ‫َ ََذَ َََ ذ َ َ‬
‫فكأنما قتل ٱنلاس َجِيعا﴾[املائدة ‪ . ]32:‬كما أكد اإلسضمم‪ :‬أن البشر مجيعاً سواسية كأسنان املشط ‪ ،‬ال يفرق بينهم‬
‫َ َٰٓ َ ُّ َ ذ ُ ذ‬
‫عرق ‪ ،‬وال لون ‪ ،‬وال لغة ‪ ،‬وال إقليم ‪ ،‬وال طبقة ‪ ،‬وإمنا يتفاضلون عند هللا ابلتقوى ‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬يأيها ٱنلاس إِنا‬
‫َ َ َُ َ َ َ َ َۡ ُ ۡ ُ ُ ٗ َ ََٓ َ َ َ َ ُ ْٓ ذ َ ۡ َ َ ُ ۡ َ ذ ََۡ ُ ذ‬ ‫َ َۡ ُ‬
‫خلق َنكم مِن ذك ٖر وأنث وجعلنكم شعوبا وقبائِل ِلِ عارفوا إِن أكرمكم ع‬
‫ِند ٱَّللِ أتقىك ۡم إِن‬
‫َ‬ ‫ذَ َ‬
‫ٱَّلل عل ِيم خبِۡي‪[ ﴾ ١٣ ٞ‬احلجرات ‪. ]13 :‬‬
‫هلذا كان من أبرز املعاين اإلنسانية املرعية ‪ ،‬واملؤكدة يف اترخينا كله املساواة بني البشر مجيعاً ‪ ،‬بيَاً وسوداً ‪ ،‬عرابً وعجماً‬
‫‪ ،‬حكاماً وحمكومني ‪ ،‬أغنياء و قراء ‪ ،‬شر اء ووضعاء ‪ ،‬مسلمني وغري مسلمني(‪ )1‬يف إقامة العدل‪.‬‬
‫ومن املعاين اإلنسانية العميقة البارزة يف اترخينا اإلسضممي‪ :‬الرب ‪ ،‬واإلحسان ابلناس ‪ ،‬وبذل املعروف هلم ‪ ،‬وإعانتهم يف‬
‫الَراء ‪ ،‬وخصوصاً الَعفاء واحملرومني منهم ‪ ،‬أايً كان سبب ضعفه ‪ ،‬منهم من ضعفه بسبب قد املال ‪،‬‬ ‫السراء ‪ ،‬و هل‬
‫هل‬
‫كاملسلمني ‪ ،‬ومنهم من ضعفه بسبب قد الوطن ‪ ،‬كابن السبي ‪ ،‬ومنهم من ضعفه بسبب قد احلرية ‪ ،‬كاألسري ‪،‬‬
‫َُۡ ُ َ ذ َ َ ََ‬
‫ام لَع ُحبِهِۦ‬ ‫الرقيق ‪ ،‬وقد أوصى اإلسضمم هبم مجيعاً ‪ ،‬كما قال تعاىل يف وصف عباده األبرار‪﴿ :‬ويطعِمون ٱلطع‬ ‫و هل‬
‫ك ً‬ ‫ُ ۡ َ َٓٗ َ َ ُ ُ‬ ‫ٱَّللِ ََل نُر ُ‬
‫ۡ ٗ ََ ٗ َ ً ذَ ُۡ ُ ُ ۡ َ ۡ ذ‬ ‫َ‬
‫ورا ‪[ ﴾٩‬اإلنسان ‪ 8 :‬ـ‪،]9‬‬ ‫يد مِنكم جزاء وَل ش‬ ‫ِ‬ ‫مِسكِينا ويتِيما وأَِۡيا ‪ ٨‬إِنما نطعِمكم ل ِوجهِ‬
‫َ ۡ َ ََ‬ ‫َ ۡ َ َ َٰٓ َ َ ۡ َ‬ ‫وقال تعاىل‪َ ﴿ :‬و َل ِ ذ ۡ ذ َ ۡ َ َ َ ذ َ ۡ َ ۡ‬
‫ ُّ َوٱنلذب ِ ِي َن َو َءاِت ٱل َمال لَع‬
‫كن ٱل ِِب من ءامن بِٱَّللِ وٱۡلو ِم ٱٓأۡلخ ِِر وٱلملئِكةِ وٱلكِت ِ‬
‫اب﴾ [البقرة ‪ ، ]177 :‬وهؤالء هلم‬
‫َ‬ ‫ٱلسب َ ذ ٓ َ َ‬ ‫ُحبهِۦ َذوي ٱلۡ ُق ۡر ََب َو ۡٱۡلَ َت َم َوٱل ۡ َم َسك َ‬
‫ِني َو ۡٱب َن ذ‬
‫ٱلرق ِ‬‫يل وٱلسائ ِل ِني و َِّ ِ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يف اإلسضمم حقوق ‪ ،‬بعَها واجبة ‪ ،‬وبعَها مندوبة ‪ ،‬وبعَها تطالب به الدولة ‪ ،‬وبعَها من الصدقات املعتادة‪،‬‬
‫وبعَها من الصدقات اجلارية؛ اليت متثلت يف نظام الوقف اخلريي ‪ ،‬الذي رسخت جذوره ‪ ،‬وسبقت روعه ‪ ،‬وامتدت‬
‫ظضمله ‪ ،‬وآتى مثاره يف احلياة اإلسضممية ‪ ،‬ومتيز به اتريخ املسلمني أكثر من غريهم من األمم(‪.)2‬‬
‫* ومن أبرز الدالئ على رسوخ املعاين اإلنسانية يف حَارتنا ‪ ،‬ووضوحها يف اتريخ أمتنا كثرة املؤسسات اليت تعىن خبري‬
‫اإلنسان ‪ ،‬والربية(‪ ، )3‬وإليك هذه الصفحات املشرقة مما كتبها الداعية الكبري ‪ ،‬واجملاهد الشهري ‪ ،‬العضممه الشيخ الدكتور‬
‫مصطفى السباعي ‪ ،‬رمحه هللا ‪ ،‬يف كتابه البديع‪« :‬من روائع حَارتنا» عن هذه املؤسسات ‪ ،‬قال‪« :‬كانت املؤسسات‬
‫نوعني‪ :‬نوعاً تنشئه الدولة ‪ ،‬وتوقف عليه األوقاف الواسعة ‪ ،‬ونوعاً ينشئه األ راد من أمراء ‪ ،‬وقواد ‪ ،‬وأغنياء ‪ ،‬ونساء ‪،‬‬
‫وال نستطيع يف مث هذا احلديث ‪ ،‬أن نعدد أنواع املؤسسات اخلريية كلها ‪ ،‬ولكن حسناً أن نُل هلم أبمهها‪:‬‬
‫ـ من أول املؤسسات اخلريية‪ :‬املساجد ‪ ،‬وكان الناس يتسابقون إىل إقامتها ابتغاء وجه هللا ‪ ،‬ب كان امللوك يتنا سون‬
‫يف عظمة املساجد ‪ ،‬ا ليت يؤسسوهنا ‪ ،‬وحسبنا أن نذكر هنا مبلغ ما أنفقه الوليد بن عبد امللك من أموال ابلغة ‪ ،‬على‬
‫بناء اجلامع األموي ‪ ،‬ممهلا ال يكاد يصدقه اإلنسان ‪ ،‬لكثرة ما أنفق من مال ‪ ،‬وما استخدم يف إقامته من رجال‪ .‬ومن‬
‫أهم املؤسسات اخلريية‪ :‬املدارس واملستشفيات‪.‬‬
‫ـ ومن املؤسسات اخلريية‪ :‬بناء اخلاانت ‪ ،‬والفنادق للمسا رين املنقطعني ‪ ،‬وغريهم من ذوي الفقر‪.‬‬

‫(‪ )1‬اترخينا املفرتى عليه ‪ ،‬للقرضاوي ص ‪.138‬‬


‫(‪ )2‬اترخينا املفرتى عليه ص ‪.141‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.144‬‬

‫‪275‬‬
‫ـ ومنها‪ :‬التكااي والزوااي ‪ ،‬اليت ينقطع يها من شاء لعبادة هللا عز وج ‪.‬‬
‫ـ ومنها‪ :‬بناء بيوت خاصة للفقراء ‪ ،‬يسكنها من ال جيد ما يشرتي به بيتاً ‪ ،‬أو يستأجر داراً‪.‬‬
‫ـ ومنها‪ :‬السقاايت ‪ ،‬أي‪ :‬تسيي املاء يف الطرقات العامة للناس مجيعاً‪.‬‬
‫(شوربة) ‪ ،‬وحلوى ‪ ،‬ويقول الدكتور‬ ‫يفرق يها الطعام من خبز ‪ ،‬وحلم ‪ ،‬وحساء ُ‬ ‫ـ ومنها‪ :‬املطاعم الشعبية ‪ ،‬اليت كان هل‬
‫السباعي‪« :‬وال يزال عهدان قريباً هبذا النوع من ك ٍ من تكية السلطان سليم ‪ ،‬وتكية الشيخ حميي الدين بدمشق»‪.‬‬
‫وعمت أرض مكة‬ ‫للحجاج يف مكة ‪ ،‬ينزلوهنا حني يفدون إىل بيت هللا احلرام ‪ ،‬وقد كثرت البيوت ‪ ،‬هل‬ ‫ـ ومنها‪ :‬بيوت هل‬
‫مكة يف أايم احلج؛ ألهنا كلهلها موقو ة على احلجاج‪.‬‬‫كلهلها ‪ ،‬وأ ىت بعض الفقهاء ببطضمن إجارة بيوت هل‬
‫ـ ومنها‪ :‬حفر االابر يف الفلوات ‪ ،‬لسقي املاشية ‪ ،‬والزروع ‪ ،‬واملسا رين ‪ ،‬قد كانت كثرية جداً بني بغداد ‪ ،‬ومكة ‪،‬‬
‫وبني دمشق ‪ ،‬واملدينة ‪ ،‬وبني عواصم املدن اإلسضممية ‪ ،‬ومدهنا ‪ ،‬وقراها ‪ ،‬حىت ق هل أن يتعرض املسا رون ـ يف تلك األايم‬
‫ـ خلطر العطش‪.‬‬
‫ـ ومنها‪ :‬أمكنة املرابطة على الثغور ‪ ،‬ملواجهة خطر الغزو األجنيب على البضمد ‪ ،‬قد كانت هنالك مؤسسات خاصة‬
‫ابملرابطني يف سبي هللا ‪ ،‬جيد يها اجملاهدون ك ما حيتاجون إليه ‪ ،‬من سضمح ‪ ،‬وذخرية ‪ ،‬وطعام ‪ ،‬وشراب ‪ ،‬وكان هلا‬
‫أثر كبري يف صد غزوات الروم أايم العباسيني ‪ ،‬وصد غزوات الغربيني يف احلروب الصليبية ‪ ،‬عن بضمد الشام ‪ ،‬ومصر ‪،‬‬
‫ويتبع ذلك وقف اخليول ‪ ،‬وأدوات اجلهاد ‪ ،‬على املقاتلني يف سبي هللا ‪ ،‬عز وج ‪ ،‬وقد كان لذلك أثر كبري يف رواج‬
‫الصناعة احلربية ‪ ،‬وقيام مصانع كبرية هلا يف بضمدان ‪ ،‬حىت كان الغربيون يف احلروب الصليبية ‪ ،‬يفدون إىل بضمدان ـ أايم‬
‫اهلدنة ـ ليشرتوا منهلا السضمح ‪ ،‬وكان العلماء يفتون بتحرمي بيعه لألعداء ‪ ،‬انظر كيف انقلب األمر االن ‪ ،‬أصبحنا عالة‬
‫أوقاف يُعطى‬
‫ٌ‬ ‫على الغربيني يف السضمح ‪ ،‬ال يسمحون لنا به إال بشروط ‪ ،‬تقَي على كرامتنا ‪ ،‬واستقضملنا ويتبع ذلك‬
‫َريعها ملن يريد اجلهاد ‪ ،‬وللجيش احملارب حني تعجز الدولة يف اإلنفاق على ك أ راده ‪ ،‬وبذلك كان سبي اجلهاد ميسراً‬
‫يود أن يبيع حياته يف سبي هللا ‪ ،‬ليشرتي هبا جنة عرضها السموات واألرض ‪ ،‬انظر كيف عاد بنا األمر‬ ‫لك مناض ‪ُّ ،‬‬
‫إىل أن نقيم أسبوعاً للتسلُّح ‪ ،‬جتمع يه التربعات لتقوية اجليش وتسليحه ‪ ،‬ولو كان عندان وعي اجتماعي ‪ ،‬وإميان‬
‫صادق؛ ألقمنا من أموالنا ك يوم ـ ال أسبوعاً للتسلح ‪ ،‬جتمع يه التربعات لتقوية اجليش ‪ ،‬وتسليحه ‪ ،‬و هلملرة واحدة يف‬
‫العام ـ مصانع لتزويد جيشنا ابلسضمح والعتاد ‪ ،‬حىت يكون من أقوى اجليوش ‪ ،‬وأكثرها استعداداً لصد العدوان ‪ ،‬ومحاية‬
‫الداير‪.‬‬
‫ـ ومن املؤسسات االجتماعية‪ :‬ما كانت وقفاً إلصضمح الطرقات ‪ ،‬والقناطر ‪ ،‬واجلسور‪.‬‬
‫الرج ابألرض الواسعة ‪ ،‬لتكون مقربة عامة‪.‬‬‫ـ ومنها‪ :‬ما كانت للمقابر ‪ ،‬يتربع هل‬
‫ـ ومنها‪ :‬ما كان أكفان املوتى الفقراء ‪ ،‬وجتهيزهم ‪ ،‬ود نهم‪.‬‬
‫ـ ومنها‪ :‬املؤسسات اخلريية إلقامة التكا االجتماعي ‪ ،‬وإعانة اليتامى ‪ ،‬وختاهنم ‪ ،‬ورعايتهم ‪ ،‬ومؤسسات للمقعدين‪،‬‬
‫والعميان ‪ ،‬والعجزة ‪ ،‬يعيشون يها مو وري الكرامة ‪ ،‬هلم ك ُّ ما حيتاجون من سكن ‪ ،‬وغذاء ‪ ،‬ولباس ‪ ،‬وتعليم أيَاً‪،‬‬
‫وإمدادهم مبن يقودهم ‪ ،‬ويعتين هبم‪.‬‬
‫ـ وهناك مؤسسات لتحسني أحوال املساجني ‪ ،‬ور ع مستوى تغذيتهم ابلغذاء الواجب ‪ ،‬لصيانة صحتهم‪.‬‬

‫‪276‬‬
‫الس هلكر ‪ ،‬وهي أسبق يف الوجود من مجعية نقطة احلليب عندان ‪ ،‬مع‬ ‫ـ ومنها‪ :‬مؤسسات إلمداد األمهات ابحلليب و ُّ‬
‫متحصها للخري اخلالص هلل عز وج ‪ ،‬وقد كان من مربات صضمح الدين‪ :‬أنهله جع يف أحد أبواب القلعة ـ الباقية حىت‬ ‫ُّ‬
‫اآلن يف دمشق ـ ميزااب ‪ ،‬يسي منه احلليب ‪ ،‬وميزااب اخر ‪ ،‬يسي منه املاء املذاب يه السكر ‪ ،‬أتيت األمهات يومني يف‬
‫ك أسبوع؛ ليأخذن ألطفاهلن ‪ ،‬وأوالدهن ما حيتاجون إليه من احلليب والسكر(‪.)1‬‬
‫ومن أطرف املؤسسات اخلرييـة وقف الزابدي(‪ )2‬لألوالد الذين يكسرون الزبـادي ‪ ،‬وهم يف طريقهم إىل البيت ‪ ،‬يأتون‬
‫إىل هذه املؤسسة ‪ ،‬ليأخذوا زابدي جديدة ‪ ،‬بدالً من املكسورة ‪ ،‬مث يرجعوا إىل أهليهم ‪ ،‬وكأهنم مل يصنعوا شيئاً‪ ،‬وآخر‬
‫ما نذكره من هذه املؤسسات ‪ ،‬املؤسسات اليت أقيمت لعضمج احليواانت املريَة ‪ ،‬أو إلطعامها ‪ ،‬أو لرعايتها حني‬
‫عجزها ‪ ،‬كما هو شأن املرج األخَر يف دمشق ‪ ،‬الذي يقام عليه امللعب البلدي اآلن ‪ ،‬قد كان وقفاً للخيول‪،‬‬
‫واحليواانت العاجزة املسنهلة ‪ ،‬ترعى يه حىت تضمقي حتفها‪.‬‬
‫أما بعد هذه ثضمثون نوعاً من املؤسسات اخلريية ‪ ،‬اليت قامت يف ظ حَارتنا ‪ ،‬ه جتد هلا مثيضمً يف أمة من األمم‬
‫السابقة؟ ب ه جتد لكثري منها مثيضمً يف ظ احلَارة الراهنة؟‪ ...‬اللهلهم إنه سبي اخللود ‪ ،‬تفردان به وحدان يوم كانت‬
‫الدنيا كلُّها يف غفلة ‪ ،‬وجه ‪ ،‬وتظامل ‪ ،‬اللهم إنه سبي اخللود ‪ ،‬كشفنا به عن اإلنسانية املعذبة أوصاهبا ‪ ،‬وآالمها ‪،‬‬
‫ما هو سبيلنا اليوم؟ أين هي تلك األايدي اليت متسح عربة اليتيم ‪ ،‬وأتسو جراح الكليم ‪ ،‬وجتع من جمتمعنا جمتمعاً‬
‫مرتاصاً ‪ ،‬ينعم يه الناس مجيعاً ‪ ،‬ابألمن واخلري والكرامة والسضمم؟(‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬من روائع حَارتنا ‪ ،‬مصطفى السباعي ص ‪.178‬‬


‫(‪ )2‬الزابدي‪ :‬مجع زبدية وهي إانء من الفخار يوضع يه اللنب حىت يتخمر‪.‬‬
‫(‪ )3‬من روائع حَارتنا ص ‪ 178‬ـ ‪ 182‬اترخينا املفرتى عليه ص ‪.148‬‬

‫‪277‬‬
‫الَّتبية والتَّعليم يف النُّهوض احلضاري‬ ‫السادس ‪ِّ :‬‬
‫أهيَّة َّ‬ ‫املبحث َّ‬

‫متسكها بدينها ‪ ،‬وعملها بكتاب‬ ‫وقوهتا ‪ ،‬يف ُّ‬


‫عز هذه األمة ‪ ،‬هل‬ ‫أدرك املشر ون على عملية التغيري ‪ ،‬و قه النهوض‪ :‬هل‬
‫أن هل‬
‫أن اجلي األول من سلف هذه األمة مل ينتصر على عدوه إال بقوة العقيدة ‪ ،‬وأن النهلصر والتأييد‬ ‫رهبا ‪ ،‬وسنة نبيها ‪ ،‬و هل‬
‫أن هذه األمة تكون هد اً للسهام‪،‬‬ ‫والتمكني هلذه األمة مقرون اباللتزام بعقيدة التوحيد اخلالصة ‪ ،‬والعم مبقتَاها ‪ ،‬و هل‬
‫أن اهلزائم اليت حلهلت ابملسلمني‬
‫وطعمةً لسيوف األعداء مبجرد الزيغ عن هذه العقيدة ‪ ،‬واالحنراف عن هذا املنهج ‪ ،‬و هل‬
‫أمام محضمت الصليبيني كانت مثرة طبيعية ‪ ،‬ونتيجة حتمية لضمحنراف العقائدي ‪ ،‬والفساد الفكري ‪ ،‬الذي أصاب‬
‫األمة(‪.)1‬‬
‫هل‬
‫وقد أهلم هللا قادة األمة ‪ ،‬من أمثال نور الدين حممود إىل إدراك دور العقيدة الصحيحة ‪ ،‬يف صناعة النصر ‪ ،‬و هل‬
‫أن األمة‬
‫بدوهنا تتحول إىل قطيع من األغنام ‪ ،‬ال تقوى على شيء ‪ ،‬ولذلك إن هلأول ما بدأت به عملية التغيري ‪ ،‬واإلصضمح ‪،‬‬
‫والتجديد هو إعادة بناء العقيدة يف النفوس ‪ ،‬وإعادة صياغة اإلنسان املسلم على التوحيد اخلالص بتجديد العقيدة يف‬
‫نفوس الناس ‪ ،‬وإزالة ك ما علق ابلنفوس ‪ ،‬من بدع ‪ ،‬وعقائد اسدة ‪ ،‬ولذلك راحوا يواجهون التحدايت الباطنية يف‬
‫إ ساد العقائد اإلسضممية بنشر العقيدة الصحيحة ‪ ،‬عن طريق مؤسسات جتسد العقيدة يف النفوس ‪ ،‬وواقع احلياة اليومية‬
‫عن طريق التعليم اإلسضممي النهلقي يف عدد من املدارس واملساجد ‪ ،‬مت إنشاؤها وإعدادها هلذا الغرض ‪ ،‬قام ابلتدريس‬
‫يها صفوة من علماء األمة ‪ ،‬وخرية مفكريها(‪.)2‬‬
‫وقد كانت بداية حركة اإلصضمح والتجديد على يد السضمجقة السنهلة ‪ ،‬الذين زحفوا على بغداد ‪ ،‬واستنقذوا اخلليفة‬
‫العباسي من األسر والذل الفاطمي الرا َي الشيعي بعد االنقضمب الذي دبهلرته الدولة الفاطمية ‪ ،‬على يد القائد‬
‫العسكري البساسريي ‪ ،‬الذي تشيهلع ‪ ،‬وترهلض ‪ ،‬واعتنق املذهب اإلمساعيلي ‪ ،‬وقد هدى هللا قادة تلك الدولة السلجوقية‬
‫بد من غرسها عن‬ ‫ابحلجة ‪ ،‬وأن األ كار والعقائد ‪ ،‬ال هل‬
‫احلجة ال تقرع إال هل‬
‫أن السيوف تف ُّ السيوف ‪ ،‬وأن هل‬ ‫السنية إىل هل‬
‫السنة واجلماعة هو مذهب احلق‬ ‫طريق التعليم ‪ ،‬والرتبية ‪ ،‬والتهذيب ‪ ،‬ال ابلسيف والسنان ‪ ،‬خصوصاً وأن مذهب أه ُّ‬
‫‪ ،‬ودين هللا تعاىل الذي بعث به رسوله ‪ ،‬أنشؤوا هلذا الغرض ما عرف ابسم املدارس النظامية ‪ ،‬نسبة إىل الوزير العظيم‬
‫هلثت عن سرية نظام امللك ‪ ،‬واملدارس والنظامية ‪ ،‬يف كتايب‪« :‬دولة السضمجقة واملشروع اإلسضممي‬ ‫نظام امللك ‪ ،‬وقد حتد ُ‬
‫ملقاومة التغلغ الباطين والغزو الصلييب»‪.‬‬
‫وإىل جانب نظام امللك كان هناك العشرات من الذين تولوا اإلدارة ‪ ،‬واجليش ‪ ،‬والقَاء ‪ ،‬واحلسبة ‪ ،‬واخرون تولهلوا القيام‬
‫على املدارس النظامية ‪ ،‬كاإلمام اجلويين ‪ ،‬وأيب إسحاق الشريازي ‪ ،‬وأيب القاسم القشريي ‪ ،‬واإلمام الغزايل ‪ ،‬وغريهم ‪،‬‬
‫ولقد واجهت الدولة السلجوقية ورجاهلا العظام اخلطر الفاطمي الباطين ‪ ،‬الذي انتشر يف خمتلف البقاع اإلسضممية ‪ ،‬لقد‬
‫كانت املدارس النظامية واحلركة املباركة اليت قادها السضمطني السضمجقة ـ من أمثال ألب أرسضمن ـ مع العلماء ‪ ،‬ملواجهة‬

‫(‪ )1‬ال طريق غري اجلهاد لتحرير القدس ص ‪.320‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص ‪.321‬‬

‫‪278‬‬
‫التحدي الفاطمي الرا َي الباطين أطيب األثر يف وضع األمة على الطريق الصحيح ‪ ،‬الذي سار عليه من بعدهم رجال‬
‫من القادة السياسيني ‪ ،‬والعلماء العاملني املخلصني ‪ ،‬كانت لتلك الشجرة الطيبة الكثري من الغصون والثمار ‪ ،‬اليت‬
‫عم خريها اجلميع(‪.)1‬‬
‫طابت وأينعت ‪ ،‬وامتدت ومنت ‪ ،‬وتفرعت؛ حىت هل‬
‫وقد حتدهلثت عن حركة اإلصضمح اليت قام هبا اإلمام الغزايل يف كتايب عن دولة السضمجقة ‪ ،‬وعن جهوده هل‬
‫الفذة يف مقارعة‬
‫التشيُّع الرا َي الباطين ‪ ،‬وسيأيت احلديث إبذن هللا عن املدرسة القادرية ‪ ،‬وشيخها عبد القادر اجليضمين ‪ ،‬وجهوده يف‬
‫اإلحياء السين ‪ ،‬ودوره يف هنَة األمة ‪ ،‬وترشيد التصوف السين ‪ ،‬قد لعبت املدرسة القادرية دوراً مهماً جداً يف حركة‬
‫اإلصضمح ‪ ،‬والتجديد ‪ ،‬والتغيري االجتماعي ‪ ،‬وهتيئة األمة للجهاد يف سبي هللا‪.‬‬
‫وعندما جاء نور الدين للحكم استفاد من اجلهود العلمية ‪ ،‬والرتبوية ‪ ،‬اليت سبقته ‪ ،‬وأدركت دولته‪ :‬أن التعليم هو‬
‫الدعامة األساسية يف بناء الشخصية املتكاملة من مجيع النواحـي العقائدية ‪ ،‬والثقا ية ‪ ،‬والفكرية‪...‬إخل ‪ ،‬واعتربت‬
‫اإلنسان الكنز الذي ال يقدر أبي مثن ‪ ،‬جعلتـه مدار اهتمامها ‪ ،‬وقطب الرحى يف تفكريها ‪ ،‬عمدت إىل بناء‬
‫املؤسسات التعليمية من مدارس ‪ ،‬ودور القران ‪ ،‬واحلديث ‪ ،‬وأحيت رسالة املسجد؛ ليسهم يف عملية البناء ‪ ،‬والتصحيح‬
‫اجلديدة ‪ ،‬وتوجيه وتوعية األمة وتعبئتها تعبئة عامة شاملة ملواجهة األخطار ‪ ،‬وجماهبة التحدايت الداخلية الباطنية ‪،‬‬
‫يَم أه احل والعقد ‪،‬‬ ‫كونت جملساً عاماً يشرف على العملية التعليمية ‪ ،‬والصياغة الرتبوية ‪ُّ ،‬‬ ‫واخلارجية الصليبية ‪ ،‬و هل‬
‫وهيئ ة كبار العلماء العاملني املخلصني ‪ ،‬والقادة العسكريني ‪ ،‬والفقهاء ‪ ،‬والشيوخ املستنريين ‪ ،‬وكان نور الدين أحد‬
‫أعَاء هذا اجمللس األعلى ‪ ،‬الذي يشرف على التخطيط العام والشام ‪ ،‬وكان جيلس مع العلماء ‪ ،‬والشيوخ ‪ ،‬يتدارسون‬
‫األمور إىل ما حيقق املصلحة اإلسضممية(‪ ، )2‬ورسم هذا اجمللس األعلى للتخطيط والتنسيق بني السياسات العامة الواجب‬
‫قرروا‬
‫السلف الصاحل ‪ ،‬هل‬ ‫اتباعها حنو إعداد األمة اإلسضممية ‪ ،‬كلها إعداداً جديداً ‪ ،‬وبنائها بناء سليماً ‪ ،‬على طريقة هل‬
‫ضرورة أتسيس مئات املدارس ‪ ،‬ونشر التعليم اإلسضممي ‪ ،‬يف مجيع أحناء البضمد ‪ ،‬كما قرروا إقامة مئات املساجد للقيام‬
‫بواجب التزكية ‪ ،‬والتحلية ابلفَائ ‪ ،‬والتخلية من الرذائ ‪ ،‬واستقدموا االف العلماء ‪ ،‬واملربني املشهورين ‪ ،‬للقيام‬
‫بواجب التدريس يف املدارس ‪ ،‬والتوجيه يف املساجد ‪ ،‬وكانوا من خرجيي املدرستني الغزالية والقادرية(‪.)3‬‬
‫ومل يكن التعليم لدى دولة نور الدين جمرد نشاط أكادميي ‪ ،‬يستهدف تو ري املوظفني واملهنيني ‪ ،‬هل‬
‫وإمنا كان ابلدرجة األوىل‬
‫نشاطاً عقائدايً ‪ ،‬استهدف إعادة صياغة اجلماهري املسلمة ‪ ،‬مبا يتفق وأهداف اإلسضمم ‪ ،‬واحلاجات القائمة(‪ ،)4‬وكانت‬
‫الصفة اجلماعية للنشاط التعليمي الذي را ق الدولة الزنكية تبدو واضحة من تباري الوزراء القادة‪ ،‬واألغنياء ‪ ،‬والرجال‬
‫‪ ،‬والنساء يف إنفاق أمواهلم يف بناء املدارس واملؤسسات التعليمية ‪ ،‬وتو ري الفرصة جلميع أ راد األمة ‪ ،‬لدخوهلا‬
‫واالستفادة(‪ )5‬منها‪.‬‬

‫(‪ )1‬ال طريق إال اجلهاد ص ‪.322‬‬


‫(‪ )2‬ال طريق إال اجلهاد ص ‪.334‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.334‬‬
‫(‪ )4‬هكذا ظهر جي صضمح الدين ص ‪.257‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه ص ‪.259 ، 258‬‬

‫‪279‬‬
‫قد أعطت اخلطة الزنكية أمهيهلـةً خاصة لتعليم كا ة املسلمني من عمال و ضمحني‪ ،‬ومزارعني من الكبار ‪ ،‬والصغار ‪،‬‬
‫والرجال ‪ ،‬والنساء ‪ ،‬وعملت اخلطة على تعليم اجلميع أصول العقيدة ‪ ،‬وأركان الدين ‪ ،‬والقيم واملبادئ اإلسضممية ‪ ،‬كما‬
‫عمدت اخلطة احلكيمة إىل تعرية املذاهب اهلدهلامة ‪ ،‬والفرق الَالة ‪ ،‬من إمساعيلية ابطنية ‪ ،‬وشيعيهلة إماميهلة ‪ ،‬وشعوبية ‪،‬‬
‫وأابنت عن خطرها ‪ ،‬وضررها على النفس ‪ ،‬واجملتمع ‪ ،‬واألمة ‪ ،‬وأن ال خروج من احملنة ‪ ،‬وال خضمص من الَياع إال‬
‫ابلعودة إىل روح الدين النقية الطاهرة ‪ ،‬يف صورهتا األوىل ‪ ،‬اليت كان عليها سلف هذه األمة ‪ ،‬دون زايدة أو نقصان ‪،‬‬
‫ودون تعقيدات ‪ ،‬لسفية ‪ ،‬وجمادالت كضممية ‪ ،‬ال طائ من ورائها ‪ ،‬وال خري يها ‪ ،‬وال يف مروجيها‪.‬‬
‫لقد التزمت الدولة الزنكية ابإلسضمم عقيدة ‪ ،‬وعمضمً ‪ ،‬ومنهجاً ‪ ،‬والتزمت ابلدعوة إىل هللا ابحلكمة واملوعظة احلسنة‬
‫للجميع ‪ ،‬أصلحت ما ميكن إصضمحه من أصحاب االجتاهات ‪ ،‬والفلسفات ‪ ،‬كالصو ية املنحر ة ‪ ،‬اليت استطاعت‬
‫الزوااي ‪ ،‬واألربطة ‪ ،‬وأنفقت‬‫الدولة الزنكية أن تنقيها مما علق يها من أتباع الفكر اإلمساعيلي الباطين ‪ ،‬أقامت لشيوخها هل‬
‫عليهم األموال ‪ ،‬وأمدهلهتم ابلعطااي واهلبات ‪ ،‬وأخرجت التصوف من أسر الفكر الباطين ‪ ،‬وبذلك أصبحت املؤسسات‬
‫الصو ية تؤدي دورها الرتبوي ‪ ،‬ونشر السلوك اإلسضممي و ق منهج أه السنة واجلماعة ‪ ،‬إىل جانب املدارس واملساجد‬
‫يف التوجيه ‪ ،‬واإلرشاد ‪ ،‬والتعليم ‪ ،‬والتهذيب حسب اخلطة العامة للدولة ‪ ،‬وحتت إشراف اجمللس التعليمي األعلى‪.‬‬
‫وجه التعليم اإلسضممي عنايةً خاصة إلعداد األمة كلها للجهاد بكا ة أنواعه من اإلعداد املادي ‪ ،‬واملعنوي ‪ ،‬وتربية‬ ‫لقد هل‬
‫النفوس ‪ ،‬وجماهدهتا يف ذات هللا ‪ ،‬وجماهدة الشيطان ‪ ،‬واجلهاد ابملال ‪ ،‬والنفس ‪ ،‬والتعبئة الروحية العالية ‪ ،‬وتربيـة اإلرادة‬
‫القتالية عند مجيع أ راد األمة دون أن يقتصر ذلك على طائفة دون أخرى ‪ ،‬ابإلضا ة إىل طائفة خمتصة اعتنت الدولة‬
‫إبعدادها إعداداً قتالياً خالصاً‪،‬وتدريبها تدريباً عسكراي متميزا جيعلها تتفوق على ماميلكه األعداء (‪.) 1‬‬
‫أوال ‪ :‬فئات املدرسني يف الدولة الزنكية ‪:‬‬
‫‪1‬ـ معلمو الكتاتيب ‪ :‬االسم الشائع الذي كان يطلق على معلم الشبان يف العهد الزنكي ‪ ,‬هو (املعلم) أو (املؤدب)‪,‬‬
‫ومعلم الكتاب يف ذلك الوقت مياث املرحلة االبتدائية يف عهدان احلاضر ‪ ,‬من حيث إنه يتوىل تعليم األطفال العلوم‬
‫األساسية‪ ,‬ويشرف على تربيتهم ‪ ,‬وتوجيههم ‪ ,‬وأتهيلهم إىل املرحلة األعلى ‪ ,‬وقد اهتم حكام العهد الزنكي هبذه املرحلة‬
‫من التعليم اهتمام خاصا ‪ ,‬وحظي معلمو هذه املرحلة مبكانة عالية لديهم ‪ ,‬و روا هلم كا ة سب العيش املريح‪ ,‬للقيام‬
‫مبهمتهم على أ َ وجه ‪ ,‬وأداء رسالتهم املهمة يف توجيه اللبنة األوىل يف التعليم على النهج السليم الذي رمسته تلك‬
‫الدولة ‪ ,‬وهو إعدادهم منذ صغرهم ‪ ,‬ليتخرجوا صحيحي العقيدة ‪ ,‬سليمي الذهن(‪ , )2‬متأثرين بذلك التوجه اإلسضممي‬
‫‪ ,‬ليتخذوا مواقعهم يف اجملتمع ‪ ,‬وليقوموا ابألعمال املنوطة هبم مستقبضم ‪ ,‬على التوجه السليم ‪ ,‬والسياسة املرسومة (‪.)3‬‬
‫وكان من أهم ما يتطلبه تعليم الصبيان يف املعلم ‪ :‬أن يكون حا ظا لكتاب هللا ‪ ,‬ملما ببعض علوم اللغة ‪ ,‬وأصول‬
‫احلساب واخلط(‪ , )4‬وكان يشرتط يمن يقوم بتعليم الصبيان شروط خلقية كثرية ‪ ,‬ذلك ألنه كلما زادت اخلصال احملمودة‬
‫يف املؤدب ‪ ,‬زاد الصيب به جتمضم ور عة ‪ ,‬ويف هذا الصدد يقول اإلمام الغزايل املتوىف سنة ‪505‬ه ‪1112/‬م )) إن‬

‫(‪ )1‬ال طريق غير الجهاد ص ‪. 335‬‬


‫(‪ )2‬الحياة العلمية في العهد الزنكي ص ‪. 166‬‬
‫(‪ )3‬الحياة العلمية في العهد الزنكي ص ‪. 166‬‬
‫(‪ )4‬مدخل الشرع الشريف على المذاهب األربعة (‪.)317/2‬‬

‫‪280‬‬
‫إن أعينهم إليه انظرة ‪ ,‬وآذاهنم إليه مصغية ‪ ,‬ما استحسنه هو عندهم احلسن ‪ ,‬وما‬ ‫صضمح التلميذ بصضمح معلمه ‪ ,‬هل‬
‫استقبحه هو القبيح ))(‪. )1‬‬
‫كما اشرتط املربون يف املعلم أن يكون عادال بني الصبيان ‪ ,‬وأن يكونوا عنده ابملنزلة سواء ال تفريق بينهم ‪ ,‬ابن الفقري‪,‬‬
‫وابن الغين على حد سواء يف الرتبية والتعليم(‪ ، )2‬هذا إىل جانب كونه من أه التقوى ‪ ،‬والورع ‪ ،‬والعفة ‪ ،‬واستحب‬
‫املربُّون يف معلم الكتهلاب أن يكون كبري السن(‪.)3‬‬
‫الس ُروجي املتوىف سنة ‪ 572‬هـ‪1176/‬م(‪ ،)4‬وكان قد‬ ‫وقد اشتهر ابلتأديب يف العهد الزنكي‪ :‬الشيخ علي بن منصور ُّ‬
‫السروجي برباعته يف األدب ‪ ،‬والشعر ‪ ،‬وحسن‬ ‫ندبه امللك عماد الدين زنكي لتلبية أوالده وتعليمهم ‪ ،‬وقد اشتهر ُّ‬
‫اخلط(‪.)5‬‬
‫ولقد متتهلع معلمو الكتاتيب يف ذلك العهد مبركز مايل جيد يف الكتاتيب املوقو ة؛ إذ و ر هلم الواقفون رواتب شهرية ‪،‬‬
‫تُصرف هلم من إيراد الوقف(‪ ، )6‬كما ذكر أبو شامة عن نور الدين‪ :‬أنه بىن يف بضمده الكثري من الكتاتيب ‪ ،‬وأجرى على‬
‫املعلمني ‪ ،‬والصبيان رواتب وا رة(‪ ، )7‬وقد د ع هذا التشجيع املادي واملعنوي ‪ ،‬الكثري من املعلمني إىل اإلقبال على‬
‫ٍ‬
‫بطمأنينة وراحة ابل(‪.)8‬‬ ‫التعليم‬
‫‪ 2‬ـ املدرسون‪ :‬إن نظام التعليم املتهلبع يف العهد الزنكي ال يق شأانً عن نظام املدارس يف العصر احلاضر ‪ ،‬إن النظام‬
‫احد منهم بتدريس مادة أو أكثر ‪ ،‬ويشرف‬ ‫خيتص ك ُّ و ٍ‬
‫املتبع آنذاك ‪ ،‬هو أن يكون لك مدرسة عدد من املدرسني ‪ُّ ،‬‬
‫عليهم شيخ ‪ ،‬يسمى انظر املدرسة ‪ ،‬ويشرتط أن يكون الناظر من خيار املدرسني وأشهرهم ‪ ،‬ومن الذين بلغوا درجة‬
‫عالية من النَج العلمي ‪ ،‬والقدرة العالية يف جمال التأليف ‪ ،‬والتدريس ‪ ،‬وقد عين الزنكيون ‪ ،‬ومن سار على هنجهم يف‬
‫إنشاء املدارس ‪ ،‬ودور التعليم املختلفة ابختيار العلماء األ ذاذ للتدريس يف مراكزهم ‪ ،‬وحرصوا على استجضمب من أثر‬
‫العلم الوا ر ‪ ،‬والسمعة احلسنة بني العلماء ‪ ،‬وطضمب العلم ‪ ،‬كما حرصوا أن يكون املدرس سليم العقيدة ‪ ،‬حىت‬ ‫عنه ُ‬
‫يتوا ق مع التوجيه الديين الشام للدولة(‪.)9‬‬
‫وكان املدرسون يف العهد الزنكي يتقاضون رواتب ‪ ،‬أو معاليم ‪ ،‬تصرف هلم من األوقاف اليت كانت توقف على املدرسة‬
‫يدره شهرايً ‪ ،‬أو سنوايً ‪ ،‬وكان هناك‬
‫‪ ،‬وكانت تلك األجور أو املعاليم ‪ ،‬تتأثر بظروف مقدار الوقف على املدرسة ‪ ،‬وما ُّ‬
‫صص هلم من تلك األوقاف ‪ ،‬قد ر ض القاسم بن احلا ظ علي بن احلسن بن‬ ‫من املدرسني من أينفون من أخذ ما ُخي هل‬

‫(‪ )1‬إحياء علوم الدين (‪. ) 64 , 63/1‬‬


‫(‪ )2‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.167‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.167‬‬
‫(‪ )4‬مراة الزمان نقضمً عن احلياة العلمية ص ‪.168‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه ص ‪.168‬‬
‫(‪ )6‬املصدر نفسه ص ‪.169‬‬
‫(‪ )7‬كتاب الروضتني نقضمً عن احلياة العلمية ص ‪.169‬‬
‫(‪ )8‬احلياة العلمية ص ‪.169‬‬
‫(‪ )9‬احلياة العلمية ص ‪.170‬‬

‫‪281‬‬
‫(‪)1‬‬
‫عساكر ‪ ،‬املتوىف سنة (‪ 600‬هـ‪1203/‬م) ـ وكان مدرساً بدار احلديث النورية بدمشق ـ أن يتناول من معلومه شيئاً‬
‫يرتدد عليه من الطلبة(‪ ، )2‬وكان حيق للمدرس أن يستنيب من يقوم ابلتدريس مكانه يف إحدى‬ ‫‪ ،‬قد تنازل عنه ملن هل‬
‫املدارس ‪ ،‬ومن هنا ظهر منصب «انئب املدرس» ‪ ،‬وهو أعلى من رتبة املعيد ‪ ،‬وأق من رتبة املدرس ‪ ،‬ومن ذلك هل‬
‫أن‬
‫درس ابملدرسة األمينية بدمشق(‪ ، )3‬وأانب عنه يف بعض وقته الفقيه أاب الفَائ‬ ‫القاضي شرف الدين بن أيب عصرون ‪ ،‬هل‬
‫الدمشقي(‪ ، )4‬املتوىف سنة ‪ 561‬هـ‪1165/‬م(‪.)5‬‬
‫أن نظام اإلعادة ‪ ،‬الذي جنده منتشراً يف جامعاتنا يف الوقت احلاضر ‪ ،‬مل يكن وليد نُظم‬ ‫‪ 3‬ـ املعيدون‪ :‬من الواضح‪ :‬هل‬
‫التعليم احلديثة ‪ ،‬قد سبقتها املدارس اإلسضممية األوىل إىل استعمال هذا النظام ‪ ،‬ومل تظهر وظيفة املعيد يف اتريخ التعليم‬
‫وتطور وظائفها ‪ ،‬يف منتصف القرن اخلامس اهلجري(‪.)6‬‬ ‫عند املسلمني ‪ ،‬إال مع ظهور املدارس ‪ُّ ،‬‬
‫اثنياً‪ :‬فئات الطالب‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ طضمهلب املرحلة األوىل‪ :‬هل‬
‫اهتم احلكام الزنكيُّون ‪ ،‬وبعض املوسرين ‪ ،‬يف الدولة الزنكية إبنشاء الكتاتيب لتعليم صغار‬
‫املسلمني القران الكرمي ‪ ،‬ومبادئ الدين اإلسضممي ‪ ،‬وطرقاً من العلوم األولية البسيطة مث ‪ :‬الكتابة ‪ ،‬واحلساب ‪ ،‬وما‬
‫يُستحسن من األشعار ‪ ،‬وقد ذكر ابن العريب الذي زار بضم د الشام ‪ ،‬يف بداية القرن السادس اهلجري (الثاين عشر‬
‫امليضمدي)‪ :‬هل‬
‫أن للقوم يف التعليم سرية بديعة ‪ ،‬وهو أن الصغري منهم إذا عق ؛ بعثوه إىل املكتب(‪ ، )7‬وقد حدهلد ابن اجلوزي‬
‫املتوىف سنة ‪ 597‬هـ‪1201/‬م بقوله‪« :‬ومىت اعتدل املزاج ‪ ،‬وتكام العق ‪ ،‬أوجب ذلك يقظة الصيب ‪ ،‬إذا بلغ مخس‬
‫سنني؛ أخذ حيفظ العلم»(‪.)8‬‬
‫و هلأما املدهلة اليت كان يقَيها الطف يف ال ُكتهلاب ‪ ،‬هي أيَاً ختتلف ابختضمف استعداد الطف ‪ ،‬ومدى قابليته للتعلُّم ‪،‬‬
‫أن هناك بعض اإلشارات اليت حتدد مدة الدراسة ابلكتهلاب‬ ‫وإمكانياته يف االنتقال إىل املرحلة التعليمية التالية ‪ ،‬على هل‬
‫الصيب إذا بلغ سن البلوغ؛ ترك املكتب ‪ ،‬وهذه ترتاوح ما بني الثانية‬
‫بسن البلوغ ‪ ،‬قد أشارت بعض املصادر ‪ ،‬إىل أن هل‬
‫عشرة ‪ ،‬واخلامسة عشرة(‪ ، )9‬وكانت أايم التهلعليم يف الغالب مخسة أايم ونصف اليوم‪ :‬السبت ‪ ،‬واألحد ‪ ،‬واإلثنني ‪،‬‬
‫والثضماثء ‪ ،‬واألربعاء ‪ ،‬وصبحة اخلميس ‪ ،‬حيث كان بقية يوم اخلميس ‪ ،‬وطوال اجلمعة عطلة الراحة ‪ ،‬ابإلضا ة إىل أايم‬
‫عيد الفطر الثضمثة ‪ ،‬وأايم عيد األضحى اخلمسة ‪ ،‬وبعض املناسبات العامة(‪.)10‬‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص ‪.176‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص ‪.176‬‬
‫(‪ )3‬الدارس (‪ )178/1‬احلياة العلمية ص ‪.178‬‬
‫(‪ )4‬طبقات الشا عية (‪ )186/7‬احلياة العلمية ص ‪.178‬‬
‫(‪ )5‬احلياة العلمية ص ‪.178‬‬
‫(‪ )6‬املصدر نفسه ص ‪.179‬‬
‫(‪ )7‬أحكام القران (‪)1895/4‬احلياة الزنكية ص ‪.193‬‬
‫(‪ )8‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.193‬‬
‫(‪ )9‬املصدر نفسه ص ‪.195‬‬
‫(‪ )10‬الرتبية والتعليم يف اإلسضمم ص ‪ 78‬حممد أسعد طلس‪.‬‬

‫‪282‬‬
‫إن أقرب املصادر للعهد الزنكي ‪ ،‬اليت توضح منهج التعليم يف هذه‬ ‫و هلأما من حيث منهج الدراسة يف املرحلة األوىل هل‬
‫املرحلة ‪ ،‬هو كتاب «هناية الرتبة يف طلب احلسبة» لعبد الرمحن بن نصر الشيزري ‪ ،‬املتوىف سنة ‪ 589‬هـ‪1193/‬م ‪،‬‬
‫الذي وصف حال تعليم الصبيان يف ذلك العهد ‪ ،‬وما ينبغي للمعلم اختاذه جتاه تعليمهم ‪ ،‬وطريقته ‪ ،‬ومن ذلك قوله‪:‬‬
‫«وأول ما ينبغي للمؤدب أن يعلم الصيب السور القصار من القران بعد حذقه مبعر ة احلروف ‪ ،‬وضبطها ابلشك ‪،‬‬
‫ويُدرجه يف ذلك ‪ ،‬حىت أيلفه طبعه ‪ ،‬مث يعر ه عقائد أه السنة ‪ ،‬واجلماعة ‪ ،‬مث أصول احلساب ‪ ،‬وما يستحسن من‬
‫املراسضمت ‪ ،‬واألشعار ‪ ،‬دون سخيفها ‪ ،‬ومسرتذهلا»(‪.)1‬‬
‫ومل تقتصر احلياة التعليمية يف الكتاتيب على تعليم الصبية الكتابة والقراءة ‪ ،‬وحتفيظهم القران حسب ‪ ،‬ب تعداه إىل أن‬
‫يقوم املعلم بتأديب الصبيان ‪ ،‬وتعويدهم اآلداب احلسنة(‪ ، )2‬وقد شبهله اإلمام الغزايل املعلم الذي يُريب الصبية ‪ ،‬ويهديهم‬
‫األخضمق الفاضلة ابلر ق واللني ‪ ،‬ويبعدهم من السقوط ابملهالك ‪ ،‬والشرور ‪ ،‬ابل َفضمح الذي يقطع الشوك ‪ ،‬وخيرج‬
‫النبااتت األجنبية من بني الزرع؛ ليحسن نباته ‪ ،‬ويكم ريعه(‪.)3‬‬
‫وقد تعدهلدت وسائ التحصي وأساليب التعليم يف الكتاتيب ‪ ،‬على النحو التايل‪:‬‬
‫يهتم املؤدب بتعليم األطفال السور القصار من القران الكرمي ‪ ،‬وكانت وسيلته يف‬ ‫يف السنوات األوىل من هذه املرحلة ‪ُّ ،‬‬
‫يتم حفظها‬
‫أن املعلم كان يقرأ ‪ ،‬وعلى الصيب أن يكرر ما يقرأ معلمه من قرات ‪ ،‬إىل أن هل‬ ‫ذلك أسلوب التلقني ‪ ،‬مبعىن‪ :‬هل‬
‫يستمر معه ‪ ،‬وقد أكد ابن ُجبري اشتهار هذه الطريقة يف البضمد الزنكية اليت زارها بقوله‪« :‬وتعليم الصبيان‬
‫ُّ‬ ‫‪ ،‬وهكذا‬
‫للقران هبذه البضمد املشرقية كلها إمنا هو تلقني»(‪ ،)4‬ويذكر ابن جبري عند احلديث عن تعليم الصبيان يف دمشق‪ :‬هل‬
‫أن سور‬
‫القران مل تستعم يف تعليم األطفال الكتابة ‪ ،‬هل‬
‫وإمنا استعملت أبيات من الشعر هلذا الغرض ‪ ،‬و هل‬
‫أن تعليم القران والكتابة‬
‫خيصص معلم لك ٍ منهما على حده‪.‬‬ ‫‪ ،‬ال يقوم هبما مدرس واحد ‪ ،‬هل‬
‫وإمنا هل‬
‫إذا رغ الصيب من التلقني؛ التحق ابل ُكتهلاب اخلاص بتعليم اخلط ‪ ،‬ويستصوب ابن ُجبري هذه الطريقة؛ إذ يرى يها‬
‫إتقاانً للخط؛ ألن املعلم له ال ينشغ بغريه ‪ ،‬هو يستفرغ جهده يف تعليم اخلط ‪ ،‬يربع الطف يف ذلك(‪.)5‬‬
‫أما طريقة تدريس الشعر ‪ ،‬كانت تتلخص يف أن خيتار املعلم لألطفال األشعار السهلة يف العبارة واللُّغة؛ كي يسه‬
‫حفظها و همها ‪ ،‬كما يراعي يف اختياره ما قي من األشعار احلسنة ‪ ،‬والنبيلة ‪ ،‬دون السخيف والرذي منها ‪ ،‬وكان‬
‫الطف يقوم بتكرار هذه األشعار ‪ ،‬حىت يتم حفظها(‪.)6‬‬
‫أهم وسائ التحصي ‪ ،‬وأساليب التعليم يف تلك املرحلة املبدئية من التعليم ‪ ،‬وكانت تتميهلز ابلبساطة ‪ ،‬والتدرج‬
‫هذه هي ُّ‬
‫يف املعلومات ما أمكن ‪ ،‬واحلرص على تربية الصبيَة خلقياً إىل جانب حتصيلهم العلمي(‪.)7‬‬

‫(‪ )1‬هناية الرتبة يف طلب احلسبة ص ‪.103‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه‪.‬‬
‫(‪ )3‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص ‪.197‬‬
‫(‪ )4‬كتاب أدب املعلمني ص ‪.76‬‬
‫(‪ )5‬الرحلة ص ‪ 245‬احلياة العلمية ص ‪.199‬‬
‫(‪ )6‬احلياة العلمية ص ‪.200‬‬
‫(‪ )7‬املصدر نفسه ص ‪.200‬‬

‫‪283‬‬
‫‪ 2‬ـ طضمب املرحلة العليا‪ :‬يُطلق على هذه الفئة من الطلبة يف بعض األحيان لقب «الفقهاء» ‪ ،‬وقد غلب إطضمق هذا‬
‫اللقب يف العهد الزنكي على طضمهلب املدارس(‪ ، )1‬وميكن تصنيف هذا النوع من الطلبة إىل صنفني‪ :‬طلبة عارضني ‪،‬‬
‫وآخرين منتظمني‪.‬‬
‫العمال ‪ ،‬وغريهم ‪ ،‬ممن حيَرون الدروس بني حني وآخر‪،‬‬ ‫الصنف األول يشم أعداداً كبرية من أصحاب احلرف ‪ ،‬و هل‬
‫وال سيهلما جمالس الوعظ واإلمضمء ‪ ،‬وحلق التعليم العامة ‪ ،‬غري أهنم ال يواصلون دراستهم ‪ ،‬وال يواظبون على احلَور ‪،‬‬
‫وهؤالء ميثلون أضعاف أعداد الطضمب املنتظمني‪.‬‬
‫أما الصنف اآلخر؛ هم الطلبة املنتظمون ‪ ،‬وكانوا يقَون شطراً كبرياً من حياهتم يف طلب العلم وحده ‪ ،‬ولكن ذلك ال‬
‫مينع اشتغاهلم بكسب الرزق(‪.)2‬‬
‫وكانت املساجد تقوم ابلتدريس ‪ ،‬وال يشرتط يمن يريد التعلُّم عدد معني ‪ ،‬وخيتلف الوضع ابلنسبة للمدارس؛ إذ كان‬
‫يصح جتاوزه يف الغالب ‪ ،‬مث إن هذا العدد قلي جداً إذا قيس‬
‫جيلس أمام املدرس يها عدد معني من الطضمب ‪ ،‬ال ُّ‬
‫أبعداد طضمب احللق يف املساجد ‪ ،‬وكان ممهلا جرت عليه العادة يف املدارس ‪ ،‬أن يعني منشئ املدرسة ‪ ،‬أو واقفها مدرساً‬
‫وحيدد يف الوقت نفسه عدد الطضمب ‪ ،‬الذين يسمح هلم اباللتحاق هبا ‪ ،‬كما حص يف املدرسة النورية ابملوص ‪،‬‬ ‫هلا ‪ُ ،‬‬
‫حيث حدهلد واقفها نور الدين أرسضمن شاه عدد الطضمب بستني طالباً من قهاء الشا عية(‪ ،)3‬وكذلك يف املدرسة‬
‫العصرونية بدمشق ‪ ،‬واليت شرط يها واقفها أال يزيد عدد طلبتها على عشرين طالباً من الشا عية وغريهم(‪.)4‬‬
‫املخصص للحلقة ‪ ،‬أو املدرسة‪،‬‬
‫هل‬ ‫وكان طضمب العلم حيصلون على مرتبات ونفقات ‪ ،‬حتص يف الغالب من موارد الوقف‬
‫وقد اشتهرت بعض مدارس العهد الزنكي ‪ ،‬بو رة ما يناله منتسبوها من األموال ‪ ،‬واملأكوالت ‪ ،‬واملضمبس ‪ ،‬واهلدااي يف‬
‫العزيهلة ابملوص ‪ ،‬واحلضموية حبلب ‪ ،‬والنورية الكربى يف دمشق(‪ ، )5‬وغالباً ما يزدحم‬‫املناسبات ‪ ،‬كما كانت عليه املدرسة ُ‬
‫خمصصاهتا(‪ ، )6‬كما حرص واقفو املدارس يف العهد الزنكي على تو ري كا ة احتياجات‬ ‫الطلبة على مث هذه املدارس لغىن هل‬
‫الطلبة الدارسني يها ‪ ،‬وابألخص املسكن املضمئم هلم ‪ ،‬كي جيد الطلبة الغرابء ‪ ،‬والفقراء ‪ ،‬املناخ املناسب لتلقي العلم ‪،‬‬
‫ختصص لسكىن الطلبة الغرابء والفقراء ‪ ،‬وقد حدهلثنا الرحالة‬ ‫كان من مكمضمت املدارس إنشاء مرا ق تُلحق هبا ‪ ،‬هل‬
‫األندلسي ابن ُجبري عما شاهده يف دمشق من التسهيضمت املغرية لطضمب العلم ‪ ،‬ومنها هذه املرا ق‪ ،‬قال‪« :‬ومرا ق‬
‫الغرابء هبذه البلدة أكثر من أن أيخذها اإلحصاء؛ وال سيما حلفاظ كتاب هللا ‪ ،‬عز وج ‪ ،‬واملنتمني للطلب‪...‬وهذه‬
‫لكن االحتفال هبذه البلدة أكثر ‪ ،‬واالتساع أوجد ‪ ،‬من شاء الفضمح من نشأة‬ ‫البضمد املشرقية كلها على هذا الرسم ‪ ،‬هل‬

‫(‪ )1‬احلياة العلمية ص ‪.201‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص ‪.201‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.202‬‬
‫(‪ )4‬املصدر نفسه ص ‪.202‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه ص ‪.204‬‬
‫(‪ )6‬املصدر نفسه ص ‪.204‬‬

‫‪284‬‬
‫مغربنا؛ لريح إىل هذه البضمد‪ ،‬ويتغرب يف طلب العلم‪ ،‬يجد األمور املعينات كثرية ‪ ،‬هلأوهلا راغ البال من أمر املعيشة‬
‫ُ‬
‫‪ ،‬وهو أكرب األعوان ‪ ،‬وأمهُّها»(‪.)1‬‬
‫وقد حرص املربُّون يف العهد الزنكي ‪ ،‬وبعده ‪ ،‬أن يُ ْس ُدوا الوصااي ‪ ،‬والتوجيهات الرتبوية للطلبة أثناء تلقيهم العلم ‪ ،‬وكان‬
‫من أهم تلك الوصااي ‪ ،‬والتوجيهات ‪ ،‬ما أييت‪:‬‬
‫ـ أن ُخيلص الطالب نيته يف طلب العلم ‪ ،‬وذلك أبن يقصد بعلمه وجه هللا تعاىل ‪ ،‬والعم مبا يعلم ‪ ،‬وأن حيذر أن يكون‬
‫هد ه األصلي من علمه طلب الرائسة ‪ ،‬واملال ‪ ،‬واجلاه(‪.)2‬‬
‫ـ أن حيرص الطالب على وقته أبن يبادر ابغتنام رصة الشباب الكتساب العلم ‪ ،‬وأن يعلم أبن ك ساعة متَي من‬
‫عمره ال بدل هلا ‪ ،‬وال عوض ‪ ،‬لذلك جيب على طالب العلم أن يقل من االنشغال عن الدراسة قدر اإلمكان(‪.)3‬‬
‫اب ‪ ،‬حىت ال يرتكه أبرتاً ‪ ،‬وعلى ٍن حىت ال يشتغ‬ ‫ـ كما ينبغي لطالب العلم ‪ ،‬أن يصرب ‪ ،‬ويثبت على أستاذ ‪ ،‬وعلى كتَ ٍ‬
‫إن ذلك كله ‪ ،‬يفرق األمور ‪،‬‬ ‫بفن اخر قب أن يُتقن األول ‪ ،‬وعلى بلد حىت ال ينتق إىل بلد اخر من غري ضرورة ‪ ،‬هل‬ ‫ٍ‬
‫ويشغ القلب ‪ ،‬ويَُيع األوقات ‪ ،‬ويؤذي املتعلم(‪.)4‬‬
‫يتحرى احلضمل يف طعامه ‪ ،‬وشرابه ‪ ،‬ولباسه ‪ ،‬ومسكنه ‪ ،‬ويف‬
‫ابلورع يف مجيع شؤونه ‪ ،‬وأن هل‬
‫ـ وعلى الطالب أن يلتزم َ‬
‫مجيع ما حيتاج إليه‪...‬وذلك ليستنري قلبه ‪ ،‬ويصلح لقبول العلم ‪ ،‬ونوره ‪ ،‬والنفع به(‪.)5‬‬
‫و يما يتص ابلعضمقة بني الطالب وأستاذه ‪ ،‬إن هناك مجلة آداب ‪ ،‬كفلت للمدرس حق االحرتام والطاعة من طضمبه؛‬
‫إذ كان على الطالب أن يُو يه تلك احلقوق كاملة من غري نقص ‪ ،‬وميكن اختصارها يف األمور االتية‪:‬‬
‫ـ من آداب الطالب مع أستاذه‪ :‬إذا دخ عليه أن يكون كام اهليئة ‪ ،‬متطهر البدن ‪ ،‬والثياب ‪ ،‬يستأذنه يف الدخول‪،‬‬
‫وكذلك يف االنصراف ‪ ،‬وأن يكون دخوله لقاعة الدرس قب حَور املدرس(‪.)6‬‬
‫ـ أن جيلس بني يدي أستاذه أبدب ‪ ،‬مصغياً إليه ابنتباه ‪ ،‬وأال يتشاغ أثناء الدرس ‪ ،‬وال يكثر حركة يديه ‪ ،‬وال رجليه‪،‬‬
‫وال يعبث بشيء ‪ ،‬أو يكثر الكضمم بغري حاجة إىل غري ذلك ‪ ،‬من األخضمق الذميمة(‪.)7‬‬
‫ـ كما يلزم على الطالب أن ُحيسن خماطبة شيخه ‪ ،‬وأال يقاطعه ‪ ،‬أو خيالفه ‪ ،‬وأن يتلطف يف سؤاله ‪ ،‬وأن حيذر من تكرار‬
‫السؤال ‪ ،‬وأال يسبق الشيخ إىل شرح مسألة ‪ ،‬أو جواب سؤال منه ‪ ،‬أو من غريه(‪.)8‬‬
‫الشيخ كتاابً ‪ ،‬انوله إايه لفتحه ‪ ،‬والقراءة يه(‪.)9‬‬
‫َ‬ ‫الشيخ شيئاً؛ انوله ابليمني ‪ ،‬وإذا انول‬
‫َ‬ ‫وإذا انول‬

‫(‪ )1‬الرحلة ص ‪ 227‬ـ ‪ 228‬احلياة العلمية ص ‪.205‬‬


‫(‪ )2‬تذكرة السامع واملتكلم ص ‪ 68‬ابن مجاعة‪.‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪ 70‬احلياة العلمية ص ‪.205‬‬
‫(‪ )4‬تعليم املتعلم ص ‪ 49‬احلياة العلمية ص ‪.206‬‬
‫(‪ )5‬تعليم املتعلم ص ‪ 75‬احلياة العلمية ص ‪.206‬‬
‫(‪ )6‬تذكرة السامع واملتكلم ص ‪.95‬‬
‫(‪ )7‬احلياة العلمية ص ‪.207‬‬
‫(‪ )8‬تذكرة السامع واملتكلم ص ‪.102 ، 101‬‬
‫(‪ )9‬تذكرة السامع واملتكلم ص ‪.108‬‬

‫‪285‬‬
‫ـ وينبغي للطالب أن يدعو لشيخه مدهلة حياته ‪ ،‬ويرعى ذريهلته ‪ ،‬وأقاربه بعد و اته ‪ ،‬وأن يستغفر له‪ ،‬ويتصدق عنه(‪،)1‬‬
‫إىل غري ذلك من الواجبات اليت كفلت لألستاذ حق االحرتام والتقدير من طلبته ‪ ،‬حىت تدوم العضمقة احلسنة بني ركين‬
‫التعليم‪ :‬املدرس ‪ ،‬والطالب على احلب واملودة والتقدير من كضم اجلانبني لتكتم الفائدة(‪.)2‬‬
‫‪ 3‬ـ تعليم اإلانث‪ :‬بلغ اهتمام املرأة املسلمة ابلدراسات الشرعية درجةً كبرية؛ لتتعرف على تعاليم الدين اإلسضممي‬
‫الصحيح ‪ ،‬لتطبيقه عملياً ‪ ،‬وكانت دراسة احلديث الشريف أتخذ القسط األوىف من هذا االهتمام ‪ ،‬حيث بلغ كثري من‬
‫كن مثاالً رائعاً لألمانة والعدالة ‪ ،‬وقد أشارت كتب‬
‫النساء هبذا العلم درجة عالية ‪ ،‬وان َ ْس َن يه كبار احلفاظ واحملدثني ‪ ،‬و هل‬
‫الرتاجم والطبقات إىل النشاط العلمي امللموس هلذه الفئة يف العهد الزنكي؛ حيث ذكرت تلك املصادر أمساء العديد من‬
‫املقرائت ‪ ،‬واحملداثت ‪ ،‬والفقيهات ‪ ،‬واألديبات ‪ ،‬والنحوايت ‪ ،‬إىل غري ذلك من العاملات ابلعلوم األساسية األخرى‪.‬‬
‫حمارمهن ‪ ،‬طلباً للعلم على أكابر العلماء واحملدثني ‪ ،‬وقد‬
‫هل‬ ‫كما دأب الكثري منهن على التنق بني األقاليم اإلسضممية مع‬
‫حصلن على إجازات علمية من كبار مشايخ العصر يف خمتلف املدن(‪ ، )3‬وحسبنا دلي على نشاط املرأة يف هذا امليدان‪:‬‬
‫أن الذين ترمجوا البن عساكر املتوىف سنة (‪ 571‬هـ‪1176/‬م) أمجعوا على أنهله أخذ العلم عن بَع ومثانني امرأة(‪، )4‬‬ ‫هل‬
‫إن عاملاً واحداً من علماء العصر مسع ما‬‫وهذه اإلشارة تدل على كثرة النساء املشتغضمت ابلعلم يف ذلك العهد ‪ ،‬حبيث هل‬
‫هلن ابن عساكر يف اترخيه(‪.)5‬‬
‫يزيد على مثانني امرأة ‪ ،‬هذا َضمً عن كثري من عدد النساء الضميت ترجم هل‬
‫ويبدو من خضمل بعض اإلشارات اليت ذكرها ابن عساكر يف اترخيه الكبري‪ :‬هل‬
‫أن املنزل كان املدرسة األوىل ‪ ،‬اليت تتلقى‬
‫أهنن‬
‫أهنن نشأن يف بيوت العلماء ‪ ،‬و هل‬ ‫يها املرأة علومها ‪ ،‬ويضمحظ على النساء الضميت اشتهرن ابلعلم يف ذلك العهد‪ :‬هل‬
‫يوهتن‬
‫كن يستفدن من الدروس ‪ ،‬اليت كانت تعقد يف ب هل‬ ‫أهنن هل‬
‫درسن على اابئهن ‪ ،‬أو أحد ذويهن من أويل العلم ‪ ،‬أو هل‬
‫كن يستمعن إىل ما كان يُلقى يف منازهلن من دروس ‪ ،‬وهو ما أطلق عليه «التعليم داخ منازل‬ ‫لتعليم الطضمب ‪ ،‬حيث هل‬
‫(‪)6‬‬
‫السلميهلة‬
‫العلماء» ‪ ،‬ابن عساكر عندما يَُرتجم ألم أوالده ‪ ،‬وابنة خالته ـ عائشة بنت علي بن اخلَر بن عبد هللا هل‬
‫املتو اة سنة (‪ 564‬هـ‪1168/‬م) يقول عنها‪« :‬أمسعتها احلديث من اطمة بنت علي بن احلسني بن سه بن بشر بن‬
‫أمحد األسفرائيين ‪ ،‬املدعوة ست العجم» واملعرو ة ابلعاملة الصغرية ‪ ،‬يقول ابن عساكر‪« :‬مسعت أابها أاب الفرج»(‪.)7‬‬
‫يرتددن حلَور احللق؛ اليت‬ ‫كما أن أبواب املساجد ‪ ،‬كانت مفتوحة ملن أراد أن يتلقى تعليمه من النساء؛ حيث كن هل‬
‫هلن ‪ ،‬ومعزولة عن أماكن الرجال ‪ ،‬ال يكون هناك سبي لضمختضمط(‪.)8‬‬ ‫كانت تعقد يها أماكن خمصصة هل‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص ‪.90‬‬


‫(‪ )2‬احلياة العلمية ص ‪.207‬‬
‫(‪ )3‬احلياة العلمية ص ‪.212‬‬
‫(‪ )4‬معجم الدابء (‪ )76/13‬سري أعضمم النبضمء (‪.)556/2‬‬
‫(‪ )5‬ترجم ابن عساكر يف اترخيه ملئة وست وتسعني امرأة من النساء‪.‬‬
‫(‪ )6‬احلياة العلمية ص ‪.214‬‬
‫(‪ )7‬اتريخ دمشق نقضمً عن احلياة العلمية ص ‪.214‬‬
‫(‪ )8‬احلياة العلمية ص ‪.215‬‬

‫‪286‬‬
‫احلق يف نشر التعليم ‪ ،‬وقد شاركت املرأة يف ذلك ‪ ،‬وإن مل تتسلم‬
‫احلق يف التعليم قط ‪ ،‬ب كان هلا أيَاً ُّ‬
‫ومل يكن للمرأة ُّ‬
‫وظيفة التدريس يف املدارس التخصصية ابلشك الذي نراه اليوم ‪ ،‬قد أشار ابن عساكر ملث هذه املشاركة يف ترمجته ‪،‬‬
‫لفاطمة بنت سه بن بشر املدعوة ست العجم من أهنا‪« :‬كانت تعظ النساء يف املساجد»(‪.)1‬‬
‫وممهلن اشتهر من النساء ابلتدريس يف هذا العهد ‪ ،‬العاملة اطمة الفقيهة(‪ ، )2‬املعاصرة للملك العادل نور الدين حممود ‪،‬‬
‫قد تصدهلرت للتدريس يف حلب ‪ ،‬وألهلفت مؤلفات عديدة يف الفقه واحلديث ‪ ،‬كما استشارها امللك نور الدين يف بعض‬
‫أموره ‪ ،‬واستفتاها يف بعض املسائ الفقهية ‪ ،‬وكان دائماً يبذل هلا ‪ ،‬ويعينها على مواصلة نشاطها العلمي(‪ ، )3‬وما‬
‫حدث بني امللك نور الدين ‪ ،‬والعاملة اطمة الفقيهة يؤكد حرص املرأة املسلمة يف ذلك العهد ‪ ،‬على االلتزام التهلام‬
‫تتم بواسطة امرأة تُندب هلذا األمر ‪ ،‬ويف هذا الصدد ‪ ،‬يورد‬ ‫ابحلجاب اإلسضممي ‪ ،‬حيث هل‬
‫أن احملاداثت بينهما كانت ُّ‬
‫ال ُقرشي قصةً مفا دها‪ :‬أن عضمء الدين الكاساين زوج العاملة اطمة الفقيهة ‪ ،‬عزم الرحي من حلب إىل بضمده ‪ ،‬إبيعاز‬
‫عر ه عضمء‬ ‫من زوجته اطمة ‪ ،‬استدعى امللك نور الدين اإلمام عضمء الدين الكاساين ‪ ،‬وسأله أن يقيم يف حلب ‪ ،‬هل‬
‫الدين دواعي سفره ‪ ،‬وأنه ال ميكن أن خيالف زوجته ابنة شيخه ‪ ،‬أرس امللك إىل زوجته اطمة خادماً خياطبها عن‬
‫امللك يف ذلك ‪ ،‬لم أتذن للخادم ‪ ،‬واحتجبت منه ‪ ،‬وأرسلت إىل زوجها من يقول له‪ :‬بعد عهدك ابلفقه إىل هذا احلد‬
‫أي رق بينه ‪ ،‬وبني الرجال يف عدم النظر ‪ ،‬عاد اخلادم ‪ ،‬وذكر ذلك‬ ‫إيل هذا اخلادم ‪ ،‬و ُّ‬
‫‪ ،‬أما تعلم أنه ال حي أن ينظر هل‬
‫لزوجها حبَرة امللك ‪ ،‬أرسلوا إليها امرأة برسالة امللك ‪ ،‬خاطبتها ‪ ،‬وأجابتها إىل ذلك ‪ ،‬وأقامت حبلب إىل أن تو يت‬
‫‪ ،‬وتويف زوجها الكاساين بعدها سنة ‪587‬هـ‪1191/‬م ود ن عندها حبلب(‪ )4‬وقد حتدث الدكتور ابن عزوز عن جهود‬
‫بنوع من التفصي ‪.‬‬
‫املرأة الدمشقيهلة يف رواية احلديث الشريف ٍ‬
‫‪ 4‬ـ أساليب التقومي‪ :‬مل يُعرف يف العهد الزنكي ما يشري إىل أنهله يطلب من املتعلمني أتدية امتحان بعد االنتهاء من‬
‫الدراسة ـ كاالمتحاانت اليت تُعقد يف عصران هذا ـ ولكن األساتذة كانوا مينحون طلبتهم األكفهلاء شهادات ‪ ،‬أو إجازات‬
‫معني إبشراف الشيخ الفضمين ‪ ،‬دون أن يؤدي الطالب امتحاانً ‪،‬‬ ‫منهج هل ٍ‬
‫ينصون يها على أن الطالب قد أمتهل دراسة ٍ‬ ‫‪ُّ ،‬‬
‫والغرض من اإلجازة اإلقرار بكفاية الطالب ‪ ،‬واجتهاده ‪ ،‬وانكبابه على العلم ‪ ،‬وتفرغه للدراسة والبحث ‪ ،‬وكانت‬
‫اإلجازات العلمية شهادات شخصية ‪ ،‬مينحها الشيوخ ملن يرون يه الكفاية ‪ ،‬وال عضمقة هلا مبنظهلمة تعليمية معينة ـ كما‬
‫هي عليه احلال يف الوقت احلاضر‪.‬‬
‫وإذا كانت اإلجازة إقراراً أبن الطالب قد أمتهل دراسة كتب معينة ‪ ،‬أو إقراراً له بصضمحيته للتدريس ‪ ،‬أو الفتوى ‪ ،‬بناءً‬
‫على جمهود علمي قام به؛ هي بذلك تُعد أحد أساليب التقومي ‪ ،‬كذلك إذا كانت ألقاب العلماء تعين املكانة العلمية‬
‫اليت بلغها العامل ‪ ،‬أو املدرس ابلنسبة لعلماء عصره ‪ ،‬هي أيَاً تُعد من أساليب التقومي ‪ ،‬وقد احنصرت أساليب التقومي‬

‫(‪ )1‬اتريخ ابن عساكر تراجم النساء ص ‪ ، 288‬احلياة العلمية ص ‪.215‬‬


‫(‪ )2‬احلياة العلمية ص ‪.215‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص ‪.216‬‬
‫(‪ )4‬اجلواهر املَيئة (‪ )124 ، 123/4‬احلياة العلمية ص‪.216‬‬

‫‪287‬‬
‫يف العهد الزنكي يف هذين املعيارين‪ :‬اإلجازات العلمية ‪ ،‬واأللقاب العلمية‪ :‬اإلمام ‪ ،‬واحلا ظ ‪ ،‬والشيخ ‪ ،‬والفقيه ‪،‬‬
‫واحملدث ‪ ،‬واملقرئ(‪.)1‬‬
‫اثلثاً‪ :‬ميادين العلوم يف العهد الزنكي‪:‬‬
‫مشلت النهَة العلمية يف العهد الزنكي خمتلف العلوم‪ ،‬لم يقتصر االهتمام ابلعلوم الشرعية‪ ،‬واللغوية‪ ،‬واألدبية دون‬
‫غريها ‪ ،‬وإ ْن كانت الصيغة العامة ملدارس الزنكيني ‪ ،‬والدراسات اليت قامت هبا هي االهتمام بدراسة مذهب ‪ ،‬أو أكثر‬
‫السنية‪ ،‬لكون هذا جزءاً من األهداف اليت أنشئت من أجلها هذه املدارس‪ ،‬وتلك الدور‪ ،‬اليت رهلكزت‬ ‫من املذاهب ُّ‬
‫اهتمامها على نشر املذهب السين‪ ،‬ومقاومة املذهب الشيعي؛ الذي كان منتشراً يف بعض املناطق يف مدة سابقة على‬
‫(‪)2‬‬
‫حكم الزنكيني للمنطقة‪ ،‬وخباصة يف بضمد الشام‪ ،‬وبعض مناطق اجلزيرة هلإابن رتة خَوعها للدولة الفاطمية الشيعية‬
‫يف مصر‪.‬‬
‫ولكن هذا ال يعين‪ ،‬بك األحوال اقتصار التعليم يف ذلك العهد على تدريس الفقه‪ ،‬أو غريه من روع العلوم الشرعية‪،‬‬
‫درس يها خمتلف التخصصات العلمية إىل‬ ‫وما يتص هبا من العلوم اللغوية واألدبية‪ ،‬وإمنا كانت هناك مدارس علمية تُ هل‬
‫املوجه من الدولة‪ ،‬والذي يتوا ق مع مصاحل األمة ‪ ،‬وعقيدهتا قد انلت ميادين علمية كثرية‬ ‫جانب ذلك التخصص هل‬
‫نصيباً من اهتمامات الدارسني والباحثني‪ ،‬وقُدمت يها دراسات علمية رائدة‪ ،‬وصنفت يها كتب مهمة‪ ،‬اعتمد عليها‬
‫كثري ممن جاء بعدهم‪ ،‬حيث ظهرت دراسات متخصصة يف العلوم التارخيية ‪ ،‬واجلغرا ية ‪ ،‬وعلوم الرايضيات ‪ ،‬والفلك‪،‬‬
‫إضا ة إىل تدريس الطب يف كثري من البيمارستاانت املنتشرة يف املدن الزنكية‪ ،‬وظهر من بني املشتغلني هبذه التخصصات‬
‫علماءُ كان هلم أثر كبري يف إثراء املكتبة اإلسضممية ابلعديد من املؤلفات املتخصصة؛ اليت ظلت را داً للعلوم اإلسضممية‪،‬‬
‫(‪)3‬‬
‫وتنوع الدراسات والبحوث اليت قدمت يه‬ ‫وحىت الوقت احلاضر ‪ ،‬واتساع أ ق التفكري اإلسضممي يف هذا الصدد‪ُّ ،‬‬
‫نتيجةٌ واضحة للنشاط العلمي الذي شهدته املدن الزنكية خضمل ذلك العهد‪ ،‬وإليك أهم تلك العلوم‪:‬‬
‫اءات‪ ،‬وتفس ٍري‪ ،‬وحديث‪،‬‬ ‫‪ 1‬ـ العلوم الشرعيهلة‪ :‬كانت الغَلَبة يف ميادين العلوم يف العهد الزنكي للعلوم الشرعية من قر ٍ‬
‫و ٍ‬
‫قه‪ ،‬وأصوله‪ ،‬مث علوم اللغة العربية‪ ،‬وآداهبا ‪ ،‬وهذا األمر يتهلفق مع ترتيب العلماء للعلوم حسب أمهيتها ‪ ،‬قد رتهلبوها‬
‫إىل علوم شرعية وعلوم أخرى ختدمها وتوضحها ‪ ،‬ويف هذا اجملال ذهب اإلمام املاوردي املتوىف ‪405‬هـ‪1058/‬م إىل‬
‫ب صرف االهتمام إىل‬ ‫أن أ َ العلوم هي علوم الدين؛ إذ قال‪« :‬إنه إن مل يكن إىل معر ة مجيع العلوم سبي ٌ؛ َو َج َ‬
‫معر ة أمهها ‪ ،‬والعناية أبوهلا ‪ ،‬وأ َلها ‪ ،‬وأُوىل العلوم وأ َلها علم الدين؛ ألن الناس مبعر ته يرشدون ‪ ،‬وجبهله يَلون؛‬
‫عبادة جه اعلها صفات أدائها ‪ ،‬ومل يعلم شروط أجزائها»(‪ .)4‬وهذا رأي ابن مجاعة أيَاً عندما‬ ‫إذ ال يصلح أداء ٍ‬
‫األهم ‪ ،‬األهم ‪ ،‬يقدم تفسري القران ‪ ،‬مث احلديث ‪ ،‬مث أصول‬ ‫قال‪( :‬إذا تعددت الدروس؛ قُدم األشرف ‪ ،‬األشرف ‪ ،‬و ُّ‬

‫(‪ )1‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص‪ 220‬إىل ‪.331‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص‪.237‬‬
‫(‪ )3‬احلياة العلمية ص‪.237‬‬
‫(‪ )4‬أدب الدنيا والدين ص‪.44‬‬

‫‪288‬‬
‫الدين ‪ ،‬مث أصول الفقه ‪ ،‬مث املذاهب ‪ ،‬مث اخلضمف ‪ ،‬أو النحو أو اجلدل)(‪ .)1‬وتشتم العلوم الشرعية على روع عديدة‬
‫من أمهها‪:‬‬
‫درس يف دور التعليم املختلفة ‪ ،‬كما‬
‫أ ـ علم القران‪ :‬وقد نشط علم القراءات يف العهد الزنكي ‪ ،‬وكان من العلوم اليت تُ هل‬
‫مهمة يف القراءات يف العهد الزنكي ‪ ،‬ومنهم‪:‬‬
‫ظهر العديد من علماء القراءات؛ الذين كانت هلم مصنهلفات هل‬
‫الصحان ‪ ،‬املتوىف‬
‫ـ عبد العزيز بن علي بن حممد بن سلمة أبو محيد ‪ ،‬وأبو الصبغ السماين اإلشبيلي ‪ ،‬املعروف أبيب هل‬
‫حبلب ‪560‬هـ‪1164/‬م أستاذ كبري ‪ ،‬وإمام حمقق ابرع ‪ ،‬جمود ثقة ‪ ،‬ولد سنة ‪498‬هـ ‪ 1104/‬تنق بني البضمد طلباً‬
‫للعلم ‪ ،‬ودخ الشام ‪ ،‬ومات حبلب بعد الستني ومخسمئة(‪ ، )2‬وكانت له مصنفات مهمة يف القراءات منها كتاب‬
‫(الوقف واالبتداء ‪ ،‬وكتاب‪ :‬مرشد القاري إىل حتقيق معامل القاري) الذي قال عنه ابن اجلزري‪( :‬ال يعرف قدره إال من‬
‫وقف عليه(‪.))3‬‬
‫ـ كما برز من ُمقرئي العهد الزنكي‪ :‬أبو بكر حيىي بن سعدون بن متهلام بن حممد األزدي ‪ ،‬املتوىف ابملوص سنة ‪567‬ه(‪،)4‬‬
‫‪ 1172‬م من أه قرطبة ‪ ،‬سكن دمشق واملوص ‪ ،‬أحد أئمة اللغة والقران ‪ ،‬وله يد قوية يف النحو والقراءة برواايت‬
‫مصر والعراق ‪ ،‬تنق بني البضمد يطلب العلم؛ حىت وص املوص ‪ ،‬وأقام هبا إىل أن مات ‪ ،‬وأقرأ الناس القرآن الكرمي‬
‫ابلقراءات ‪ ،‬وانتفع به خلق عظيم ‪ ،‬قال عنه ايقوت‪( :‬شيخ اض عارف ابلنحو ووجوه القراءات)(‪ .)5‬وقال الذهيب‪:‬‬
‫(وبرع يف العربية ‪ ،‬والقراءات ‪ ،‬وتصدر يهما مدة)(‪.)6‬‬
‫ب ـ علم التفسري‪ :‬كانت حركة التفسري نشطة يف العهد الزنكي ‪ ،‬حيث كان التفسري مادة أساسية يف بعض دور التعليم‬
‫يف هذه العهد ‪ ،‬وبرز يه علماء أجضمء تركوا أثراً زاخراً يف هذا العلم ‪ ،‬كان من أبرزهم‪:‬‬
‫ـ اإلمام احلا ظ حجة الدين حممد بن أيب ظفر الصقلي ‪ ،‬املتوىف سنة ‪565‬هـ‪1169/‬م وذكر له ايقوت من التصانيف‬
‫يف التفسري (كتاب التفسري الكبري) و(ينبوع احلياة)(‪.)7‬‬
‫نوي ‪ ،‬املتوىف يف حلب سنة ‪582‬هـ (‪1186‬م) وكان قد تلقى تعليمه يف‬ ‫ـ ومن املفسرين املربزين علي بن إبراهيم الغز ُّ‬
‫بغداد ‪ ،‬على إمام التفسري يف عصره حممود بن عمر بن حممد الزخمشري ‪ ،‬املتوىف سنة ‪538‬هـ‪114/‬م ‪ ،‬صاحب‬
‫(الكشاف يف التفسري) ‪ ،‬لما عاد إىل حلب توىل التدريس يها ‪ ،‬وألف يها مصنفات عديدة ‪ ،‬يف التفسري ‪ ،‬والفقه‪،‬‬

‫(‪ )1‬تذكرة السامع واملتكلم ص‪.36 ، 35‬‬

‫(‪ )2‬احلياة العلمية ص‪.240‬‬


‫(‪ )3‬غاية النهاية يف طبقات القراء (‪.)395/1‬‬
‫(‪ )4‬املصدر نفسه (‪.)395/1‬‬
‫(‪ )5‬معجم البلدان (‪.)14 ، 15/20‬‬
‫(‪ )6‬املصدر نفسه (‪.)14/20‬‬
‫(‪ )7‬العرب (‪.)53/3‬‬

‫‪289‬‬
‫واللغة ‪ ،‬واألصول ‪ ،‬وكان أشهر ما ألفه يف التفسري كتاب (تقشري التفسري)(‪ )1‬وقد رغ من تصنيفه يف حلب سنة ‪572‬هـ‬
‫‪1176‬م(‪.)2‬‬
‫ج ـ احلديث‪ :‬ازدهر علم احلديث ‪ ،‬يف العهد الزنكي ‪ ،‬حىت إنه ميكن أن يعد هذا العهد من العصور الذهبية لدراسات‬
‫احلديث والتأليف ‪ ،‬فيه أنشئت أول دار للحديث يف اإلسضمم ‪ ،‬وهي دار احلديث النورية ‪ ،‬ولع هل من أبرز عوام‬
‫االهتمام بعلم احلديث ‪ ،‬ودراسته ‪ ،‬والتأليف يه يف هذا العهد ‪ ،‬اهتمام امللك العادل نور الدين حممود نفسه هبذا العلم‬
‫‪ ،‬قد أُثر عنه‪ :‬أنه كان مهتماً بدراسة احلديث الشريف و همه(‪.)3‬‬
‫كما كان له إجازات عديدة يف هذا العلم من عدهلة شيوخ(‪ ،)4‬وبلغ من حرصه على هذا العلم أن صنهلف كتاابً يف َائ‬
‫اجلهاد وأحاديثه وهو بدمشق(‪ ، )5‬كما كان االهتمام بعلم احلديث لوانً من ألوان التوجيه ‪ ،‬الذي رضه الوجود الصلييب‬
‫على الدراسات يف تلك الفرتة ‪ ،‬قد شارك احلا ظ ابن عساكر املتوىف سنة ‪571‬هـ ‪1176‬م ‪ ،‬يف هذا اجملال جبمع‬
‫أربعني حديثاً يف َائ اجلهاد ‪ ،‬ويف جزء واحد وأهداه إىل امللك نور الدين حممود(‪ ، )6‬كما صنهلف ابن اجلوزي املتوىف‬
‫سنة ‪597‬هـ‪1201/‬م مصنهلفاً مجع يه أحاديث اجلهاد ‪ ،‬و َائله يف كتاب أمساه (البحر النوري)(‪.)7‬‬
‫وقد زاد االهتمام هبذا العلم ‪ ،‬حيث ظهر يف العهد الزنكي عدد كبري من رجال احلديث ‪ ،‬الذين أ نوا أعمارهم يف مجعه‬
‫‪ ،‬وتصنيفه ‪ ،‬وضبطه ‪ ،‬وتنقيحه ‪ ،‬ومنهم علماء مجعوا تراجم ُمستفيَة لرجال احلديث يف مجيع العصور ‪ ،‬وكان هلؤالء‬
‫العلماء َ ال ينكر يف الكتابة والتصنيف يف هذا الفرع من العلوم الشرعية(‪ ، )8‬ومن أبرز علماء احلديث يف العهد‬
‫الزنكي‪:‬‬
‫ـ اإلمام احلا ظ أبو القاسم علي بن هبة هللا بن عبد هللا الشا عي ‪ ،‬املعروف اببن عساكر الدمشقي ‪ ،‬وسيأيت احلديث‬
‫عنه إبذن هللا مستقبضمً‪.‬‬
‫ـ وممن برز يف علم احلديث يف هذا العهد‪ :‬اإلمام جمد الدين أبو السعادات املبارك ابن األثري اجلزري ‪ ،‬املتوىف‬
‫‪606‬هـ‪1209/‬؛ ‪ ،‬وقد اشتهر جمد الدين بن األثري يف علوم عديدة ‪ ،‬كان منها علم احلديث ‪ ،‬حيث صنهلف يه‬
‫مصنفات هامة ‪ ،‬كان من أبرزها (جامع األصول يف أحاديث الرسول)(‪ .)9‬ذكر ايقوت‪ :‬أنه مجع يه بني البخاري ‪،‬‬
‫ومسلم ‪ ،‬واملوطأ ‪ ،‬وسنن أيب داود ‪ ،‬وسنن النسائي ‪ ،‬والرتمذي ‪ ،‬عمله على حروف املعجم ‪ ،‬وشرح غريب احلديث‬

‫(‪ )1‬كشف الظنون (‪ )466/1‬احلياة العلمية ص‪.245‬‬


‫(‪ )2‬بغية الوعاة (‪ )140/2‬احلياة العلمية ص‪.245‬‬
‫(‪ )3‬التاريخ الباهر ص‪ 165‬احلياة العلمية ص‪.248‬‬
‫(‪ )4‬اتريخ مشق نقضمً عن احلياة العلمية ص‪.248‬‬
‫(‪ )5‬مراة الزمان نقضمً عن احلياة العلمية ص‪.248‬‬
‫(‪ )6‬معجم البلدان (‪ )78/13‬احلياة العلمية ص‪.249‬‬
‫(‪ )7‬مراة الزمان نقضمً عن احلياة العلمية ص‪.249‬‬
‫(‪ )8‬احلياة العلمية ص‪.249‬‬
‫(‪ )9‬معجم األدابء (‪ )76/17‬احلياة العلمية ص‪.252‬‬

‫‪290‬‬
‫ومعانيها وأحكامها ‪ ،‬وصنف رجاهلا ‪ ،‬ونبهله على مجيع ما ُحيتاج إليه منها ‪ ،‬مث قال‪( :‬أقطع قطعاً‪ :‬أنه مل يُصنف مثله ق ُّ‬
‫ط‬
‫‪ ،‬وال يصنف)(‪.)1‬‬
‫وقد طبع هذا الكتاب ألول مرة يف القاهرة سنة ‪1368‬هـ‪1949/‬م يف اثين عشر جزءاً بعناية عبد اجمليد َسليم ‪ ،‬وحامد‬
‫الفقي ‪ ،‬وهي طبعة انقصة ‪ ،‬مث أعيد نشره كامضمً بتحقيق عبد القادر األرانؤوط ‪ ،‬وطبع يف دمشق ‪1394‬هـ‪1974/‬م‬
‫يف أحد عشر جزءاً وهي طبعة جديدة مشتملة على مقدمة و هارس(‪ ،)2‬وقد قام صاحب كتاب السنة النبوية الشريفة‬
‫موسعة عن احلديث يف هذا العهد‪.‬‬ ‫يف القرن السادس اهلجري بدراسة هل‬
‫ح ـ الفقه وأصوله‪ :‬عم العلماء يف العهد الزنكي على مجع آاثر من سبقهم ك ٌّ حبسب مذهبه الذي ينتمي إليه من‬
‫وخر ُجوا على األحكام ‪،‬‬
‫املذاهب السنية األربعة‪ :‬احلنفي ‪ ،‬والشا عي ‪ ،‬واحلنبلي ‪ ،‬واملالكي ‪ ،‬ورجحوا بني الرواايت ‪ ،‬هل‬
‫وبنوا تاويهم على شىت املسائ والفروع من أصول أئمتهم وقواعدهم و تاويهم(‪ ، )3‬وكانت الدولة الزنكية تدعم املذاهب‬
‫السنية األربعة ‪ ،‬واستطاعت تلك املذاهب السنية أن تَيق اخلناق على الفكر الشيعي الرا َي يف الدولة الزنكية ‪،‬‬
‫وأصبح الفكر السين هو املذهب السائد يف بضمد الشام‪.‬‬
‫وقد برز خضمل العهد الزنكي علماء أجضمء يف الفقه وأصوله ‪ ،‬كان لبعَهم أحباث رائعة ‪ ،‬ودراسات جليلة ‪ ،‬ونظرات‬
‫صائبة يف دراسة الفقه اإلسضممي‪.‬‬
‫املذهب الشا عي‪ :‬وممن برز يف هذا املذهب‪ :‬اإلمام القاضي أبو الفَ كمال الدين حممد بن أيب عبد هللا بن أيب املظفر‬
‫القاسم الشهرزوري ‪ ،‬املتوىف سنة ‪572‬هـ‪1176/‬م(‪ ، )4‬وقد ُوصف أبنه كان‪ ( :‬قيهاً أديباً شاعراً كاتباً كه اجملالسة‪،‬‬
‫يتكلم يف اخلضمف واألصول)(‪ .)5‬هذا ابإلضا ة إىل شهرته يف السياسة ‪ ،‬وأصول احلكم ‪ ،‬والكرم ‪ ،‬كما كان كثري‬
‫الصدقات واملعروف ‪ ،‬وأوقف أوقا اًكثرية ابملوص ‪ ،‬ونصيبني ‪ ،‬ودمشق على أعمال اخلري ‪ ،‬وطلب العلم ‪ ،‬وقد اشتهرت‬
‫خصصها لتدريس الفقه الشا عي(‪.)6‬‬ ‫مدرسته ابملوص (الكمالية القَوية) ‪ ،‬وكان رأس املدرسني يها؛ حيث هل‬
‫ـ ومن علماء الشا عية البارزين يف هذا العهد‪ :‬اإلمام قطب الدين مسعود بن حممد النيسابوري ‪ ،‬املتوىف سنة‬
‫‪578‬هـ‪1182/‬م(‪ ، )7‬قال عنه السبكي‪( :‬كان إماماً يف املذهب الشا عي‪ ،‬واخلضمف‪ ،‬واألصول‪ ،‬والتفسري‪ ،‬والوعظ‪،‬‬
‫أديباً مناظراً)(‪ )8‬أما أبرز جهوده يف علم الفقه ‪ ،‬تتمث يف مصنفه الكبري (كتاب اهلادي) يف الفقه ‪ ،‬والذي قال عنه‬
‫ابن خلكان‪( :‬وهو خمتصر ان ع مل أيت يه إال ابلقول الذي عليه الفتوى(‪.))9‬‬

‫(‪ )1‬معجم األدابء (‪ )76/17‬احلياة العلمية ص‪.252‬‬


‫(‪ )2‬احلياة العلمية ص‪.252‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص‪.452‬‬
‫(‪ )4‬املصدر نفسه ص‪.255‬‬
‫(‪ )5‬و يات األعيان (‪.)242/4‬‬
‫(‪ )6‬طبقات الشا عية (‪ 117/6‬ـ ‪ )121‬احلياة العلمية ص‪.256‬‬
‫(‪ )7‬احلياة العلمية ص‪.256‬‬
‫(‪ )8‬املصدر نفسه ص‪.256‬‬
‫(‪ )9‬و يات األعيان (‪.)196/5‬‬

‫‪291‬‬
‫ـ وممن برز يف علم الفقه الشا عي أيَاً‪ :‬اإلمام شرف الدين عبد هللا بن أيب عصرون ‪ ،‬املتوىف سنة ‪585‬هـ (‪1189‬م)‪،‬‬
‫وكان من أعيان الفقهاء يف ذلك العهد ‪ ،‬شارك يف تدريس الفقه الشا عي يف العديد من املدارس الزنكية‪ ،‬وصنف ُكتباً‬
‫كثرية منها‪( :‬صفوة املذهب من هناية املطلب) وهو يف سبع جملدات ‪ ،‬وكتاب (االنتصار) ملذهب الشا عي يف أربع‬
‫جملدات ‪ ،‬و(كتاب املرشد) يف جملدين ‪ ،‬وكتاب (الذريعة يف معر ة الشريعة) يف جملد واحد ‪ ،‬وكتاب (مآخذ النظر)‬
‫وكتاب (اإلرشاد املغرب يف نصرة املذهب) ‪ ،‬ومل يكمله ‪ ،‬وذهب يما ذهب له حبلب(‪.)1‬‬
‫ُ‬
‫ـ املذهب احلنفي‪ :‬وممن برز يف هذا املذهب‪ :‬الشيخ عبد الغفار بن لقمان بن حممد أبو املفاخر ال ُكردي ‪ ،‬امللقب اتج‬
‫الدين املتوىف سنة ‪562‬هـ‪1166/‬م(‪ ، )2‬إمام احلنفية يف حلب ‪ ،‬كان على غاية من الزهد والورع ‪ ،‬توىل قَاء حلب‬
‫للملك نور الدين حممود بن زنكي ‪ ،‬وخلف ااثراً مجة يف الفقه وأصوله ‪ ،‬في الفقه شرح (اجلامع الصغري يف الفروع)‬
‫لإلمام اجملتهد حممد بن احلسن الشيباين احلنفي املتوىف سنة ‪ 187‬هـ (‪803‬م) ‪ ،‬وكان يذكر لك ابب أصضمً ‪ ،‬مث خيرج‬
‫عليه املسائ (‪ ، )3‬ومجع املسائ اليت حيار يف حلها العلماء يف كتاب مسهلاه‪( :‬حرية الفقهاء(‪ ، ))4‬ويف أصول الفقه شرح‬
‫كتاب أستاذه ركن الدين عبد الرمحن بن حممد الكرماين احلنفي املتوىف سنة ‪543‬هـ‪1148/‬م املوسوم ابلتجريد يف كتاب‬
‫مسهلاه‪( :‬املفيد واملزيد)(‪.)5‬‬
‫ـ ومن قهاء احلنفية البارزين ‪ ،‬يف العهد الزنكي‪ :‬اإلمام رضي الدين حممد بن حممد السرخسي امللقب بُرهان اإلسضمم ‪،‬‬
‫ُ‬ ‫(‪)6‬‬
‫ودرس ابملدرسة الوردية ‪ ،‬واحلضموية‪،‬‬
‫املتوىف حبلب عام ‪571‬هـ‪1175/‬م ‪ ،‬قدم حلب يف عصر نور الدين حممود ‪ ،‬هل‬
‫بعد اإلمام عضمء الدين الغزنوي ‪ ،‬املتوىف سنة ‪564‬هـ‪1169/‬م ‪ ،‬وقد اشتهر اإلمام رضي الدين مبصنفه الكبري (احمليط)‬
‫وهو يف أربع مصنفات (احمليط الكبري) وهو حنو من أربعني جملداً ‪( ،‬واحمليط الثاين) عشر جملدات ‪( ،‬واحمليط الثالث)‬
‫أربع جملدات ‪ ،‬والرابع جملدان(‪.)7‬‬
‫ـ وممن اشتهر ابلفقه احلنفي‪ :‬اإلمام أبو بكر عضمء الدين بن مسعود بن أمحد الكاساين ‪ ،‬ملك العلماء ‪ ،‬املتوىف حبلب‬
‫سنة ‪587‬هـ‪1191/‬م ‪ ،‬قَدم إىل نور الدين حممود حبلب رسوالً من ملك الروم واله نور الدين التدريس ابملدرسة‬
‫احلضمهلوية ‪ ،‬بعد أن ُعزل منها اإلمام رضي الدين السرخسي املتوىف سنة ‪571‬هـ‪1175/‬م ‪ ،‬وقد استمر عضمء الدين‬
‫الكاساين مدرساً يف احلضموية حىت و اته(‪ ، )8‬تفقه عضمء الدين على أيب منصور حممد بن أمحد بن أيب أمحد السمرقندي‬
‫صاحب (حتفة الفقهاء) وزوجه شيخه ابنته اطمة الفقيهة ‪ ،‬وجع مهرها شرح كتاب التحفة يف كتاب أمساه (البدائع)‬
‫قال الفقهاء يف عصره «شرح ُحتفته وزوجه ابنته»(‪ ،)9‬واشتهر عضمء الدين الكاساين ‪ ،‬وزوجته اطمة الفقيهة ‪ ،‬يف‬

‫(‪ )1‬احلياة العلمية ص‪.257‬‬


‫(‪ )2‬اجلواهر املَيئة (‪ )444 ، 443/2‬احلياة العلمية ص‪.258‬‬
‫(‪ )3‬كشف الظنون (‪ )561/1‬احلياة العلمية ص‪.258‬‬
‫(‪ )4‬احلياة العلمية ص‪.258‬‬
‫(‪ )5‬طبقات الفقهاء ص‪ ، 101‬احلياة العلمية ص‪.258‬‬
‫(‪ )6‬احلياة العلمية ص‪.259‬‬
‫(‪ )7‬اجلواهر املَيئة (‪ 25/4‬ـ ‪.)28‬‬
‫(‪ )8‬احلياة العلمية ص‪.260‬‬
‫(‪ )9‬املصدر نفسه ص‪.260‬‬

‫‪292‬‬
‫مذهب أيب حنيفة يف بضمد الشام ‪ ،‬وكانت حتفظ مصنف والدها (التحفة)(‪ ، )1‬وكان كتاب (البدائع) أشهر مصنفات‬
‫ومسي‪( :‬بدائع الصنائع يف ترتيب الشرائع)(‪.)2‬‬
‫اإلمام عضمء الدين الكاساين ‪ ،‬وهو من الكتب املعتربة يف الفقه احلنفي ُ‬
‫عمار بن‬‫ـ املذهب احلنبلي‪ :‬وممن برز هبذا املذهب يف العهد الزنكي‪ :‬الشيخ الزاهد أبو احلسن علي بن عمر أمحد بن هل‬
‫أمحد بن علي بن عبدوي احلراين ‪ ،‬الفقيه احلنبلي ‪ ،‬ولد سنة إحدى عشرة ومخسمئة (‪ 1116‬ـ ‪1117‬م) ‪ ،‬ومسع‬
‫حران ‪ ،‬و هلأم الناس جبامعها ‪ ،‬له مصنفات حسنة يف‬
‫ببغداد ‪ ،‬وتفقهله ‪ ،‬وبرع يف الفقه ‪ ،‬والتفسري ‪ ،‬والوعظ ‪ ،‬مث قدم هل‬
‫التفسري ‪ ،‬والفقه احلنبلي ‪ ،‬أبرزها‪( :‬املذهب يف املذهب) وكانت و اته يف اخر هنار يوم عر ة سنة ‪559‬هـ‪1164/‬م‬
‫حبران(‪.)3‬‬
‫ـ ومنهم‪ :‬أبو العضمء جنم الدين بن عبد الوهاب بن شرف اإلسضمم عبد الواحد بن حممد بن علي الشريازي ‪ ،‬الدمشقي‬
‫درس‬‫‪ ،‬شيخ احلنابلة ابلشام يف وقته ‪ ،‬واملتوىف عام ‪586‬هـ‪1190/‬م ‪ ،‬ولد سنة ‪498‬هـ‪1104/‬م ‪ ،‬مسع ‪ ،‬وأ ىت ‪ ،‬و هل‬
‫وهو ابن عشرين سنة إىل أن مات(‪ ، )4‬وغريهم‪.‬‬
‫عدد كبري من علماء الفقه واألصول ‪ ،‬وخباصة على املذهب الشا عي ‪ ،‬واحلنفي ‪ ،‬واحلنبلي(‪.)5‬‬ ‫لقد ظهر يف هذا العهد ٌ‬
‫وال عجب يف ذلك االهتمام الكبري ابلفقه والفقهاء ؛ قد كان الفقه مصدر التشريع ‪ ،‬وعليه يعتمد هل‬
‫احلكام يما يصدرونه‬
‫من أحكام ‪ ،‬وكان امللك قب أن يصدر حكماً مهماً حيرص أبن يظفر أوالً مبوا قة الفقهاء ‪ ،‬مبختلف مذاهبهم على‬
‫هذا احلكم ‪ ،‬كما جرى يف دمشق حينما عقد امللك العادل نور الدين حممود جملساً مع الفقهاء للتشاور يما ينوي‬
‫اختاذه يف أمر األوقاف‪ ،‬واملصاحل املتعلقة ابملساجد ‪ ،‬واملدارس ومصارف األوقاف ‪ ،‬وجواز نقلها إىل مصاحل أخرى أهم‬
‫من األوىل ‪ ،‬ومل يتخذ نور الدين حكماً إال بعد أن استمع ملشورة مجيع الفقهاء ‪ ،‬وحظي مبوا قتهم‪ ،‬وانقشهم يما ينوي‬
‫القيام به ‪ ،‬وُكتب يف ذلك حمَر يف صورة ما جرى يف ذلك اجمللس ‪ ،‬ووقهلع عليه مجيع احلاضرين(‪.)6‬‬
‫وقد اهتم العلماء بفروع أخرى من العلوم ‪ ،‬ورهلكزوا يها دراساهتم ‪ ،‬وكان أشهر هذه الفروع «الفرائض» الذي يُعد ابابً‬
‫من أبواب الفقه ‪ ،‬انل اهتماماً خاصاً من العلماء يف هذا العهد ألمهيته ‪ ،‬وكثرة االحتياج إليه؛ حىت أصبح علماً قائماً‬
‫بذاته‪ .‬وموضوعه‪ :‬البحث عن أحوال قسمة الرتكة بني مستحقيها على روض مقدرة يف كتاب هللا عز وج ‪ ،‬وسنة‬
‫نبيه حممد صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬وهذا الباب من أصعب أبواب الفقه(‪ ،)7‬وممن برز يف علم الفرائض يف العهد الزنكي‪:‬‬
‫اإلمام احلا ظ حجة هللا أبو عبد هللا حممد بن أيب حممد بن حممد بن ظفر املكي الصقلي املتوىف سنة ‪565‬هـ‪1169/‬م‬
‫‪ ،‬وكان قد صنهلف تصانيف كثرية يف علوم عديدة ‪ ،‬كان منها أرجوزة يف الفرائض(‪.)8‬‬

‫(‪ )1‬كشف الظنون (‪.)371/1‬‬


‫(‪ )2‬شذرات الذهب (‪ 183/4‬ـ ‪.)184‬‬

‫(‪ )3‬احلياة العلمية ص‪.261‬‬


‫(‪ )4‬املصدر نفسه ص‪.263‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه‪.‬‬
‫(‪ )6‬كتاب الروضتني نقضمً عن احلياة العلمية ص‪.263‬‬
‫(‪ )7‬احلياة العلمية ص‪.264‬‬
‫(‪ )8‬معجم األدابء (‪ )49/19‬احلياة العلمية ص‪.264‬‬

‫‪293‬‬
‫خص كثري من العلماء جهودهم يف العهد الزنكي بعلمي (اخلضمف واجلدل) وصنهلفوا يها املؤلفات احلسنة(‪.)1‬‬ ‫كما هل‬
‫جد العلماء ‪ ،‬يف العهد الزنكي ‪ ،‬يف دراسة وحتصي علوم العربية وآداهبا ‪ ،‬ضم يكاد يوجد عامل من املشتغلني ابلعلوم‬‫وقد هل‬
‫الشرعية إال وقد عين بدراسة هذه العلوم ‪ ،‬ابعتبارها أساساً من أهم األسس اليت تقوم عليها العلوم الشرعية ‪ ،‬وقد‬
‫حظيت العلوم العربية وآداهبا بعناية ائقة من الزنكيني؛ حيث حرص احلكام ‪ ،‬وأمراء األسرة على اختيار العلماء األ ذاذ‬
‫يف هذا اجملال لتويل مناصب الكتابة ‪ ،‬واإلنشاء ‪ ،‬وكانوا يستقدمون هلذه الوظائف َم ْن ذاع صيته وشأنه يف هذه العلوم‬
‫‪ ،‬واجتمع يف املدن الزنكية خضمل تلك الفرتة طائفة كبرية من اللغويني ‪ ،‬والنحاة ‪ ،‬واألدابء ‪ ،‬وبرز منهم علماء أجضمء‬
‫خلهلفوا ترااثً مهماً يف علوم العربية وآ داهبا على اختضمف روعها ‪ ،‬واليت من أمهها‪ :‬اللغة ‪ ،‬والنحو ‪ ،‬والصرف ‪ ،‬والبضمغة‬
‫‪ ،‬والنقد األديب ‪ ،‬واألدب ‪ ،‬والعروض ‪ ،‬والقا ية ‪ ،‬ومن أراد التوسع لريجع إىل كتاب احلياة العلمية يف العهد الزنكي ‪،‬‬
‫للدكتور إبراهيم بن حممد احلمد املزين(‪.)2‬‬
‫أن النهوض عندما حيدث لألمة يكون يف الغالب شامضمً ‪ ،‬وليس عسكرايً ‪ ،‬أو‬ ‫والرسالة اليت نريد أن تص للقارئ‪ :‬هل‬
‫سياسياً ‪ ،‬كما يظن البعض ممن يطلقون األحكام بدون دراسة واعية ‪ ،‬أو حبث عميق ‪ ،‬مث يعممون هذه األحكام‬
‫الناقصة يف جلساهتم ‪ ،‬وحما ضراهتم ‪ ،‬ومقاالهتم ‪ ،‬وابلتايل يسامهون يف تسويق ثقا ة مغلوطة عن اتريخ أمتنا ‪ ،‬ظاملة‬
‫ألجدادان البواس الذين استوعبوا قه النهوض ‪ ،‬ومارسوه يف دنياهم‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ العلوم التارخيية واجلغرا ية‪ :‬ازداد االهتمام ابلدراسات االجتماعية يف العهد الزنكي وخباصة يف ميداين الدراسات‬
‫التارخيية ‪ ،‬واجلغرا ية ‪ ،‬وحيث برز يف هذا العهد عدد كبري من املؤرخني الذين تنوعت اهتماماهتم يف خمتلف صور‬
‫الر هلحالة ‪ ،‬الذين أثروا هذا اجلانب بتأليف جديدة مهمة ‪ ،‬وإذا‬
‫الكتاابت التارخيية ‪ ،‬كما اشتهر عدد من علماء اجلغرا يا و هل‬
‫كان التأليف يف َائ اجلهاد ‪ ،‬واالهتمام ابلدراسات الشرعية ‪ ،‬واألدبية املتعلقة به جيد تفسريه يف الوجود الصلييب يف‬
‫إن االهتمام ابلدراسات التارخيية ‪ ،‬واجلغرا ية يرجع للسبب نفسه ‪ ،‬وقد متثهل هذا األثر يف ظهور دراسات‬ ‫املنطقة؛ هل‬
‫ضد العدوان الصلييب يف املنطقة؛ حيث وجد املتخصصون هبذا الفرع من العلوم‬ ‫متخصصة هلا طابع اجلهاد اإلسضممي ‪ ،‬هل‬
‫ـ اجلهاد ـ مادة زخرت هبا مؤلفاهتم ‪ ،‬سواء عن طريق الكتاابت التارخيية؛ اليت تؤرخ للمعارك بني املسلمني والصليبيني ‪،‬‬
‫أو يف الكتابة يف َائ املدن ‪ ،‬وتراجم الشخصيات البارزة يف جمال اجلهاد‪.‬‬
‫كما ظهر ذلك األثر يف كتاابت الرحالة الذين زاروا املنطقة ‪ ،‬ووصفوا األوضاع العامة اليت كان يعيشها املسلمون إىل‬
‫جانب الصليبيني ‪ ،‬كما اهتموا بتحديد البلدان ‪ ،‬وخططها ‪ ،‬وقد أصبحت املنطقة الزنكية بسبب الوجود الصلييب يها‬
‫كز االهتمام السياسي ‪ ،‬واالقتصادي ‪ ،‬والفكري يف العامل اإلسضممي ‪ ،‬حيث كانت تلك الدولة متث مركز اليقظة‬ ‫مر َ‬
‫اإلسضممية يف مواجهة العدوان الصلييب يف املنطقة ‪ ،‬إضا ة إىل استقطاب قادة هذه الدولة العديد من العلماء األعضمم‬
‫من كا ة املناطق اإلسضممية ‪ ،‬مما كان له أثر يف تطوير العلوم ونشاطها(‪ ، )3‬وكانت أبرز اجلهود اليت بُذلت يف ميداين‬
‫الدراسات التارخيية واجلغرا ية يف هذا العهد تتمث يما أييت‪:‬‬

‫(‪ )1‬احلياة العلمية ص‪.265‬‬

‫(‪ )2‬احلياة العلمية ص‪ 268‬إىل ‪.316‬‬


‫(‪ )3‬احلياة العلمية ص‪.317‬‬

‫‪294‬‬
‫ـ الرتاجم والطبقات‪ :‬يُ َـع ُّـد هذا النوع من أهم أنواع الكتابة التارخيية يف هذا العهد ‪ ،‬قد ُعين به املؤرخون عناية ائقة ‪،‬‬
‫ما أن يظهر أحد من املتخصصني يف أي رع من روع العلم واملعر ة إال وتناولته كتب الرتاجم ابلكتابة عن تفصيضمت‬
‫حياته ‪ ،‬ودراسته ‪ ،‬وتنقضمته ‪ ،‬وشيوخه ‪ ،‬وتضممذته ‪ ،‬وإسهاماته العلمية يف جمال التأليف والتدريس ‪ ،‬وتعد هذه املؤلفات‬
‫من املصادر املهمة للتاريخ اإلسضممي؛ إذ إهنا تزو ُد الباحث يف التاريخ مبادة اترخيية خصبة(‪ .)1‬ويُ َـع ُّد احلا ظ علي بن‬
‫احلسن بن هبة هللا الدمشقي املعروف اببن عساكر من أبرز العلماء الذين اهتموا ابلكتابة على هذا املنهج يف هذا العهد‬
‫حني كان اهتمامه منصبهلاً على احلديث ‪ ،‬وتراجم العلماء ‪ ،‬وخباصة رجال احلديث طوال حياته ‪ ،‬ومع أن كتابه (اتريخ‬
‫دمشق) قد مش التاريخ العلمي ‪ ،‬والثقايف ملدينة دمشق ‪ ،‬إنه يـُ َع ُّد واحداً من أشهر كتب الرتاجم بعد كتاب (اتريخ‬
‫بغداد) للحا ظ أيب بكر أمحد بن علي املعروف ابخلطيب البغدادي املتوىف ‪463‬هـ‪1070/‬م وكان ابن عساكر قد سار‬
‫على هنجه(‪.)2‬‬
‫ـ وممهلن برز يف الكتب التارخيية على هذا املنهج يف العهد الزنكي أبو عبد هللا عماد الدين حممد بن صفي الدين أبو‬
‫الفرج‪ ،‬املعروف ابلعماد األصفهاين الكاتب ‪ ،‬املتوىف سنة ‪597‬هـ‪1201/‬م ‪ ،‬الذي صنف املوسوعة املشهورة عن أدابء‬
‫وشعراء العصر يف كتابه (خريدة القصر وجريدة العصر) والذي هلأرخ يه لشعراء وأدابء زمانه ‪ ،‬يف كا ة األقطار‬
‫اإلسضممية(‪.)3‬‬
‫ـ وممهلن كتب يف الرتاجم‪ :‬املؤرخ املشهور عز الدين أبو احلسن بن علي بن حممد بن عبد الكرمي الشيباين املعروف اببن‬
‫األثري املتوىف سنة ‪630‬هـ‪1233/‬م(‪ )4‬قد كان ابن األثري مؤلفاً نشيطاً ابرعاً ‪ ،‬استطاع أن خيلد امسه بني كبار املؤرخني‬
‫‪ ،‬عن طريق مصنهلفاته اليت من أشهرها‪ :‬كتاب (الكام يف التاريخ) ‪ ،‬وكتاب (اللُّباب يف هتذيب األنساب) وكتاب‬
‫(التاريخ الباهر يف الدولة الزنكية) وكتاب (أسد الغابة يف معر ة الصحابة)(‪ ، )5‬الذي أورد يه ما يربو على سبعة آالف‬
‫وبني أوهامهم(‪.)6‬‬
‫ومخسمئة ترمجة ‪ ،‬واستدرك على َم ْن تقدمه من مؤلفي الرتاجم ما اته ‪ ،‬هل‬
‫ختصص ريق اخر من املؤرخني ابلتأليف احمللي ‪ ،‬والذي يُعد تعبرياً صادقاً عن ارتباط املؤرخ‬‫ـ التاريخ احمللي (اخلاص)‪ :‬هل‬
‫إبقليمه ‪ ،‬واعتزازه بوطنه‪ .‬وقد لقي هذا االجتاه إقباالً كبرياً من املؤرخني يف العهد الزنكي(‪ ، )7‬وقد ظهر يف هذا العهد‬
‫عدد من املؤلفات املهمة يف هذا اإلطار ‪ ،‬ومن أبرز َم ْن كتب يف هذا املنهج خضمل العهد الزنكي‪:‬‬
‫ـ ابن القضمنسي‪ :‬أبو يعلى محزة بن أسد بن علي بن حممد التيمي ‪ ،‬املتوىف سنة ‪ 555‬هـ‪1160/‬م(‪ )8‬العميد األديب‬
‫الشاعر املؤرخ ‪ ،‬كان من أعيان دمشق ‪ ،‬ومن أ اضلها املربزين‪ ،‬وكانت له عناية ابحلديث‪ ،‬وكان أديباً له خط حسن‪،‬‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص‪.319‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص‪.320‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص‪.322‬‬
‫(‪ )4‬سري أعضمم النبضمء (‪ 353/22‬ـ ‪.)356‬‬
‫(‪ )5‬و يات األعيان (‪.)349/03‬‬
‫(‪ )6‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص‪.324‬‬
‫(‪ )7‬املصدر نفسه ص‪.325‬‬
‫(‪ )8‬سري أعضمم النبضمء (‪ 388/20‬ـ ‪ )389‬احلياة العلمية ص‪.325‬‬

‫‪295‬‬
‫ويل رائسة ديوان اإلنشاء بدمشق مرتني ‪ُ ،‬عمر بَعاً ومثانني سنة ‪ ،‬وتويف سنة ‪ 555‬هـ‪1160/‬م ‪ ،‬وقد‬ ‫ونظم‪ ،‬ونثر‪َ ،‬‬
‫استفاد القضمنسي من عمله يف ديوان اإلنشاء بدمشق ‪ ،‬اطهللع على الواثئق الرمسية مبختلف أنواعها ‪ ،‬مما أكسب اترخيه‬
‫أمهية خاصة ابلنسبة ألحداث عصره‪ .‬والبن القضمنسي‪ :‬كتاب (اتريخ دمشق) بدأ به سنة ‪360‬هـ‪971/‬م وانتهى إىل‬
‫صنف حسب احلوادث واحلوليات ‪ ،‬مث هو املصدر األساسي‬ ‫سنة و اته ‪1160(555‬م) ‪ ،‬وهو أول اتريخ لدمشق ُ‬
‫لتاريخ الشام أايم الفاطميني ‪ ،‬والسضمجقة ‪ ،‬يه أقدم سرية لدمشق وأهلها من النواحي العمرانية‪ ،‬واالجتماعية‪ ،‬والعقيدية‪،‬‬
‫والسياسية‪ ،‬وذلك خضمل قرنني حامسني‪ ،‬ومل يقتصر يف هذا الكتاب على اتريخ دمشق ‪ ،‬ب عاجل يف مؤلفه كثرياً من‬
‫احلوادث السياسية اليت وقعت يف الشام ‪ ،‬والعراق ‪ ،‬واجلزيرة ‪ ،‬ومصر ‪ ،‬ولكنها بصورة مقتَبة‪َ ،‬ضمً عن اهتمامه‬
‫ٍ‬
‫مستمر(‪.)1‬‬ ‫أبحوال اإلمارات الصليبية يف بضمد الشام ‪ ،‬وما كان يدور بينها وبني القوى اإلسضممية يف املنطقة من نز ٍاع‬
‫ـ ومن املؤرخني يف التاريخ احمللي‪ :‬عز الدين أبو احلسن علي بن أيب الكضمم بن األثري اجلزري املتوىف سنة ‪630‬هـ‬
‫(‪1233‬م) وقد صنهلف كتاب (اتريخ املوص ) وهو املوسوم (ابلتاريخ الباهر يف الدولة األاتبيكية) وهو اتريخ للدولة‬
‫منوعة‪ :‬اقتصادية ‪ ،‬واجتماعية ‪ ،‬وثقا ية‬ ‫الزنكية ابملوص ‪ ،‬عرض يه ابن األثري ابإلضا ة إىل األخبار السياسية تفاصي هل‬
‫عن املوص مطلع عماد الدين زنكي سنة ‪521‬هـ‪1127/‬م حىت و اة امللك نور الدين أرسضمن شاه سنة‬
‫‪607‬هـ‪1210/‬م(‪.)2‬‬
‫ـ التاريخ العاملي (العام)‪ :‬وهو الكتابة التارخيية اليت يتناول يها املؤرخ األحداث ُمنذ بدء اخلليقة حىت عصره دون االرتباط‬
‫إبقليم واحد ‪ ،‬وأهم كتاب يف ذلك العصر (الكام يف التاريخ) لعز الدين علي بن حممد اجلزري املتوىف ‪630‬هـ ‪1233‬م‬
‫‪ ،‬لقد انل ابن األثري شهرته بني مؤرخي القرن السادس اهلجري بسبب أتليفه هلذا الكتاب ‪ ،‬وكان قد ألفه على طريقة‬
‫حترى ابن األثري احلقيقة والدقة يما‬
‫احلوليات ‪ ،‬ابتدأ يه أبول الزمان ‪ ،‬حىت وص به إىل سنة ‪ 628‬هـ ‪1231‬م ‪ ،‬وقد هل‬
‫كتب ‪ ،‬وحاول االبتعاد عن اإلسهاب وتكرار الرواايت ‪ ،‬مث إنه راعى التوازن يف كتابه لتارخيه بني أقاليم العامل اإلسضممي‬
‫‪ ،‬لم تصر ه األحداث اليت أملت ابملشرق ‪ ،‬عما كان جيري ابملغرب من تطورات(‪ ، )3‬وقد اتبع ابن األثري يف كتابه‪:‬‬
‫لخصها ‪،‬‬‫حد بعيد هل‬ ‫الطربي يف اترخيه متابعة دقيقة إىل ٍ‬
‫ُّ‬ ‫الكام املعلومات التارخيية ‪ ،‬اليت أوردها اإلمام حممد بن جرير‬
‫مث أضاف إليها الكثري من املعلومات ‪ ،‬وخباصة تلك اليت تتعلق ابلفرتة التالية لتوقف الطربي عن الكتابة ‪ ،‬وبذلك احت‬
‫ابن األثري مكانة مرموقة بني املؤرخني املسلمني ‪ ،‬و هلاختذ كتابه طابع التاريخ العام أكثر من أي اتريخ عام غريه(‪.)4‬‬
‫ـ التاريخ املعاصر واملذكرات‪ :‬وممهلن عاصر األحداث يف عهد الدولة الزنكية ‪ ،‬وكتب عنها أبسلوب املذكرات ‪ ،‬أبو املظفر‬
‫مؤيد الدهلولة أسامة بن منقذ بن علي بن مقلد الشيزري ‪ ،‬املتوىف سنة ‪584‬هـ‪1180/‬م(‪ ، )5‬وله كتاب (االعتبار) وهذا‬
‫الكتاب ق أن يوجد ما يشاهبه من كتب التاريخ يف ذلك العهد؛ إذ يَعنا أسامة بن منقذ يف هذا الكتاب أمام مذكرات‬
‫يف األدب التارخيي تتَمن خضمصة جتارب أسامة ‪ ،‬وما صاد ه أسامة يف حياته من حوادث ‪ ،‬وتعكس صور احلياة يف‬

‫(‪ )1‬احلياة العلمية ص‪.326‬‬


‫(‪ )2‬احلياة العلمية ص‪.328‬‬
‫(‪ )3‬احلياة العلمية ص‪.328‬‬
‫(‪ )4‬احلياة العلمية ص‪.328‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه ص‪.329‬‬

‫‪296‬‬
‫العصر من حروب ‪ ،‬و روسية ‪ ،‬ومضممح من احلياة االجتماعية ‪ ،‬واالقتصادية ‪ ،‬والعلمية على الصعيدين‪ :‬اإلسضممي ‪،‬‬
‫والصلييب(‪.)1‬‬
‫ـ وممهلن كتب أبسلوب املذكرات‪ :‬العماد األصفهاين ‪ ،‬الكاتب املؤرخ املتوىف سنة ‪597‬هـ‪1201/‬م وأهم ما كتب يف هذا‬
‫اجملال ‪( ،‬الربق الشامي) ‪ ،‬وهو أشبه ابملذكرات الشخصية؛ ألنه بدأه بذكر نفسه ‪ ،‬وحياته ‪ ،‬وانتقاله من العراق إىل‬
‫الشام ‪ ،‬وأخباره مع نور الدين حممود ‪ ،‬وصضمح الدين األيويب ‪ ،‬واتريخ دولتهما مع ذكر بعض الفتوح ابلشام(‪.)2‬‬
‫ـ اجلغرا يا والرحضمت‪ :‬تُ َـع ُّد الرحضمت ‪ ،‬وزايرة األقطار املختلفة من أهم وسائ املعر ة اجلغرا ية ‪ ،‬وقد اشتهر كثري من‬
‫اجلغرا يني املسلمني ‪ ،‬مث ‪ :‬ابن حوق ‪ ،‬واملسعودي ‪ ،‬واملقدسي ‪ ،‬واإلدريسي ‪ ،‬وابن ُجبري ‪ ،‬وابن بطوطة برحضمهتم‬
‫الطويلة؛ حيث اق املسلمون يف ميدان الرحلة ‪ ،‬والكشف اجلغرايف غريهم من الشعوب‪.‬‬
‫وساعد على الرحضمت اإلسضممية أمور عديدة ‪ ،‬منها‪ :‬اتساع رقعة الدولة اإلسضممية بعد الفتوحات ‪ ،‬وانطضمق املسلمني‬
‫إىل مراكز العلم املنتشرة يف سائر أقطار العامل اإلسضممي ‪ ،‬كذلك رح الناس للتجارة بني األقطار اإلسضممية يف املشرق‬
‫الرحالة سفرياً للخليفة ‪ ،‬أو السلطان(‪، )3‬‬
‫واملغرب ‪ ،‬أو ألداء ريَة احلج إىل بيت هللا ‪ ،‬أو القيام مبهمة ‪ ،‬كأن يكون هل‬
‫وكان معظم الرحالة املسلمني حيرصون على تدوين مشاهداهتم ‪ ،‬وتسجي أخبارهم ‪ ،‬واملسالك والطرق ‪ ،‬اليت ساروا يها‬
‫‪ ،‬واملسا ات اليت قطعوها يف تنقضمهتم ‪ ،‬كما كانوا يصفون املدن ‪ ،‬اليت ميرون هبا ‪ ،‬ويذكرون الصعوابت اليت واجهتهم يف‬
‫رحضمهتم ‪ ،‬ويصفون ما عاينوه من مظاهر احلَارة يف ك بلد طرقوه ‪ ،‬كاملنتجات الزراعية ‪ ،‬والصناعات ‪ ،‬والتجارة ‪،‬‬
‫كما أن بعَهم كان يصف بعض مظاهر احلياة االجتماعية يف األقطار املختلفة اليت ميَُُّر هبا(‪.)4‬‬
‫كانت تلك الرحضمت ‪ ،‬وما تقدمه من معلومات مبنيهل ٍة على املشاهدة واالطضمع من أبرز عوام تقدُّم ‪ُّ ،‬‬
‫وتطور املعارف‬
‫اجلغرا ية عند املسلمني(‪ . )5‬ولقد كان لعدد من علماء العهد الزنكي أثر يف الدراسات اجلغرا ية ‪ ،‬وخباصة ما له صلة‬
‫ابلرحضمت اجلغرا ية ‪ ،‬ومن أشهرهم‪:‬‬
‫ـ أبو احلسن علي بن أيب بكر بن علي اهلروي املوصلي املتوىف سنة ‪611‬هـ‪1215/‬م(‪ ، )6‬الذي قَى معظم حياته‬
‫ابلتجوال والرحضمت؛ حىت لقب ابلسائح ‪ ،‬وأبو احلسن اهلروي أصله من هراة ‪ ،‬ولكنه ولد ابملوص ‪ ،‬ومنها انطلق‬
‫برحضمته إىل الشام‪ ،‬والعراق‪ ،‬واليمن‪ ،‬واحلجاز‪ ،‬ومصر‪ ،‬وبضمد الروم‪ ،‬وبعض جزر البحر املتوسط ‪ ،‬مث صقلية ‪ ،‬وقد‬
‫تنق خضمل رحضمته يف أرجاء املدن املختلفة ‪ ،‬وتكلهلم عن مشاهدها ‪ ،‬ومساجدها ‪ ،‬وخالط أهلها ‪ ،‬والتقى ابلعلماء ‪،‬‬
‫وأخذ عنهم ‪ ،‬ومل يكن يف جتواله مقتصراً على طلب العلم قط ‪ ،‬ب إنه وثهلق عضمقاته مع عدد من اجلغرا يني املعرو ني‬
‫(‪)7‬‬
‫أكثر من الزايرات ‪ ،‬وكاد يطبق األرض ابلدوران ‪ ،‬إنه مل يرتك براً‬ ‫يف عصره ‪ .‬قال عنه ابن خلكان‪( :‬طاف البضمد ‪ ،‬و َ‬

‫(‪ )1‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص‪.330‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص‪.330‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص‪.330‬‬
‫(‪ )4‬التاريخ واملؤرخون العرب ص‪ 211‬احلياة العلمية ص‪.331‬‬
‫(‪ )5‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص‪.332‬‬
‫(‪ )6‬و يات األعيان (‪ 346/3‬ـ ‪ )348‬احلياة العلمية ص‪.332‬‬
‫(‪ )7‬اتريخ األدب اجلغرايف العريب ‪ ،‬ترمجة صضمح الدين هاشم ص‪.333‬‬

‫‪297‬‬
‫وال حبراً ‪ ،‬وال سهضمً وال جبضمً من األماكن اليت ميكن قصدها ورؤيتها إال رآه ‪ ،‬ومل يص إىل موضع إال كتب خطه يف‬
‫شاهدت ذلك يف البضمد اليت رأيتها مع كثرهتا(‪ ، ))1‬وقد ألف اهلروي عن رحضمته هذه كتابه‪( :‬اإلشارات‬‫ُ‬ ‫حائطه ‪ ،‬ولقد‬
‫إىل معر ة الزايرات)(‪.)2‬‬
‫اهتم املسلمون يف ذلك العهد بشىت نون العلوم املختلفة ‪ ،‬ومن ذلك علوم الرايضيات‪،‬‬ ‫‪ 3‬ـ علوم الرايضيات والفلك‪ :‬هل‬
‫والفلك ‪ ،‬حيث انلت تلك التخصصات قدراً كبرياً من اهتماماهتم ‪ ،‬ربعوا يف علم احلساب ‪ ،‬وصنهلفوا يه املصنهلفات ‪،‬‬
‫وتوصلوا إىل إضا ات ‪ ،‬ونتائج أاثرت إعجاب علماء الغرب ‪ ،‬ودهشتهم‪،‬‬ ‫وحبثوا يها األعداد ‪ ،‬وأنواعها ‪ ،‬وخواصها ‪ ،‬هل‬
‫اعرت وا بفَلهم ‪ ،‬وأسبقيتهم يف هذا اجملال ‪ ،‬وترمجوا كثرياً من كتب املسلمني ‪ ،‬مما كان له أثر كبري يف تقدم هذا العلم‪.‬‬
‫كما اشتغ عدد من العلماء بعلم اجلرب ‪ ،‬وأتوا يه ابلعجب العجاب؛ حىت إن (كاجوري) قال‪( :‬إن العق ليدهش‬
‫عندما يرى ما عمله العرب يف اجلرب)(‪ . )3‬وقد نبغ يف العهد الزنكي عدد من علماء الرايضيات ‪ ،‬والفلك مما كان‬
‫لدراساهتم ومصنفاهتم أثر واضح يف إثراء الدراسات الرايضية والفلكية ‪ ،‬وقد متثلت أبرز اجلهود يف اآليت‪:‬‬
‫تدرس يف بعض املدارس‬ ‫ٍ‬
‫وهندسة من العلوم اليت كانت هل‬ ‫اب ‪ ،‬وج ٍرب ‪،‬‬‫ـ الرايضيات‪ :‬كانت العلوم الرايضية‪ :‬من حس ٍ‬
‫أن هناك تنقضمت ‪ ،‬ورحضمت بني املناطق الزنكية لتحصي هذه العلوم من العلماء البارعني يف هذا اجملال‪،‬‬ ‫الزنكية ‪ ،‬كما هل‬
‫ومما ساعد على تشجيع هذا الفرع من العلوم حاجة الفقهاء املاسة إىل علمي احلساب ‪ ،‬واجلرب يف تقسيم املواريث ‪ ،‬أو‬
‫ما يسمى بعلم الفرائض ‪ ،‬وكذلك احلاجة إىل هذه العلوم يف معر ة املواقيت ‪ ،‬واجتاه البلدان إلقامة الصضمة ‪ ،‬كما ظهرت‬
‫احلاجة إليها يف حساابت الدواوين ‪ ،‬ويف بعض األمور اإلدارية األخرى‪.‬‬
‫ومن علماء العهد الزنكي البارزين يف ميدان الرايضيات‪ :‬ـ كمال الدين أبو الفتح موسى بن أيب الفَ يونس بن حممد‬
‫بن منعة املوصلي املتوىف ‪639‬هـ‪1242/‬م ‪ ،‬وملا ذاع صيته يف علم الرايضيات؛ أخذت الرسائ تنهال عليه من علماء‬
‫هل‬
‫(كنت بدمشق سنة ثضمث وثضمثني وستمئة ‪ ،‬وهبا رج اض يف علوم‬ ‫ُ‬ ‫الرايضيات املعاصرين له‪ .‬يقول ابن خلكان‪:‬‬
‫أشكلت عليه مواضع يف مسائ احلساب ‪ ،‬واجلرب ‪ ،‬واملقابلة ‪ ،‬واملساحة ‪ ،‬وإقليدس ‪ ،‬كتب مجيعها يف درج‬ ‫ْ‬ ‫الرايضة ‪،‬‬
‫وسريها إىل املوص ‪ ،‬مث بعد أشهر عاد جوابه ‪ ،‬وقد كشف عن خفيها ‪ ،‬وأوضح غامَها ‪ ،‬وذكر ما يعجز اإلنسان‬ ‫هل‬
‫عن وصفه)(‪ .)4‬ولكمال الدين بن منعة مصنفات جليلة يف الرايضيات ‪ ،‬ذكر منها بروكلمان‪( :‬شرح األعمال اهلندسية)‬
‫‪ ،‬وهو حمفوظ يف مكتبه آاي صو يا إبسطنبول رقم ‪ ، 2753‬وله رسالة يف الربهان على املقدمة اليت أمهلها أرمخيدس يف‬
‫كتابه تسبيع الدائرة ‪ ،‬وكيفية اختاذ ذلك ‪ ،‬وهو حمفوظ يف مكتبه بودلياان برقم (‪.)5()987/8‬‬
‫ـ الفلك‪ :‬يُعرف قدمياً بعلم اهليئة ‪ ،‬وموضوع األجرام السماوية من النجوم ‪ ،‬والكواكب ‪ ،‬وأحواهلا ‪ ،‬وأبعادها ‪ ،‬وحركاهتا‬
‫‪ ،‬وحساب األايم والشهور والسنني والفصول ‪ ،‬على أساس تلك احلركات ‪ ،‬وحتوي السنني من القمرية إىل الشمسية‬

‫(‪ )1‬و يات األعيان (‪ )346/3‬احلياة العلمية ص‪.333‬‬


‫(‪ )2‬احلياة العلمية ص‪.333‬‬
‫(‪ )3‬تراث العرب العلمي يف الرايضيات والفلك ص‪.61‬‬
‫(‪ )4‬و يات األعيان (‪ )315/5‬احلياة العلمية ص‪.236‬‬
‫(‪ )5‬اتريخ األدب العريب (‪ 222/4‬ـ ‪ )223‬احلياة العلمية ص‪.337‬‬

‫‪298‬‬
‫وابلعكس ‪ ،‬وأطوال البضمد ‪ ،‬وعروضها ‪ ،‬والرايح واألمطار ‪ ،‬وكسوف الشمس ‪ ،‬وخسوف القمر ‪ ،‬وما إىل ذلك من‬
‫مباحث كثرية منها نظرية ‪ ،‬وأخرى عملية ‪ ،‬وبعض هذه املباحث تدخ االن يف علم الفَاء(‪.)1‬‬
‫وكانت أبرز اجلهود اليت بذلت يف العهد الزنكي ‪ ،‬وقد ترهلكزت يف املوص ‪ ،‬وكان الشيخ كمال الدين موسى بن يونس‬
‫بن منعة يف مقدمة العلماء الذين نشطوا يف هذا امليدان ‪ ،‬قد قام بتدريس أصول هذا العلم لطضمبه يف املدارس اليت‬
‫درس هبا ‪ ،‬وصنهلف يف هذا العلم ‪ ،‬ووردت إليه ـ أيَاً ـ مسائ يف مشكضمت هذا العلم ‪ ،‬قام بتفسريها ‪ ،‬وح هل رموزها‪،‬‬ ‫هل‬
‫ونبهله على براهينها ‪ ،‬بعَها من بغداد ‪ ،‬وأخرى وردت إليه من بعض ملوك أورواب(‪ ، )2‬ومما ينسب إىل كمال الدين يف‬
‫الرقاص(‪ ، )3‬ويذكر طوقان‪ :‬أن كمال الدين قد سبق العامل‬ ‫هذا العلم‪ :‬أنه قد عرف أشياء كثرية يف قوانني تذبذب هل‬
‫اإليطايل غاليليو املتوىف سنة ‪1052‬هـ‪1624/‬؛ يف هذا اجملال(‪ .)4‬وقد كانت املوص مركزاً له أمهية خاصة يف علوم‬
‫الرايضيات ‪ ،‬والفلك يف العهد الزنكي(‪.)5‬‬
‫‪ 4‬ـ علوم الطب والصيدلة‪:‬‬
‫ث يه عن بدن اإلنسان من جهة ‪ ،‬وإزالة املرض من جهة أخرى ‪ ،‬و ائدته بينة ال ختفى ‪،‬‬ ‫بح ُ‬ ‫الطب‪ :‬علم الطب؛ يُ َ‬
‫ـ ُّ‬
‫وكفى هبذا العلم شر اً و خراً قول اإلمام الشا عي ـ رمحه هللا ـ‪( :‬العلم علمان‪ :‬علم الطب لألبدان ‪ ،‬وعلم الفقه لألداين)(‪.)6‬‬
‫وقد تقدم وارتفع شأن الطب يف العهد الزنكي ‪ ،‬وتقدمت وسائ دراسته ‪ ،‬ولع من انتشار البيمارستاانت يف املدن‬
‫الزنكية ‪ ،‬واهتمام هل‬
‫احلكام واألمراء إبنشائهما ‪ ،‬ووقف الكتب الطبية يف ذلك العهد ‪ ،‬واليت كانت من نتائجها بروز عدد‬
‫كبري من األطباء؛ الذين أثروا املكتبة اإلسضممية ابلكثري من املؤلفات الطبية ‪ ،‬واليت كان هلا مع ما سبقها من دراسات‬
‫أثر كبري يف إثراء الدراسات الطبية يف العصور اليت تلتها ‪ ،‬استمراراً حىت العصر احلاضر‪.‬‬
‫وممهلن برز يف هذا امليدان‪ :‬ـ الطبيب أ َ الدولة أبو اجملد حممد بن أيب احلكم ‪ ،‬املتوىف سنة ‪570‬هـ‪1174/‬م(‪ ، )7‬الذي‬
‫اشتهر ابلتدريس ابلبيمارستان النوري بدمشق ‪ ،‬زمن امللك العادل نور الدين حممود ‪ ،‬وكان نور الدين قد أوك إليه مهمة‬
‫التطبيب يف ذلك البيمارستان بعد إنشائه ‪ ،‬وقد وصف لنا ابن أيب أصيبعة كيف كان ابن أيب احلكم يتفقد املرضى بنفسه‬
‫‪ ،‬وطريقته يف تدريس الطب يف ذلك البيمارستان ‪ ،‬ومناقشاته مع طضمبه ‪ ،‬ولكنه مل ينسب إليه أي كتاب ألهلفه يف‬
‫الطب(‪.)8‬‬
‫وممن اشتهر ابلطب يف هذا العهد‪ :‬أبو جعفر عمر بن علي بن البذوخ القلعي املغريب املتوىف سنة مخس ‪ ،‬أو ست‬
‫وسبعني ومخسمئة (‪ 1179‬ـ ‪1180‬م)(‪ ، )9‬وكان اضضمً خبرياً مبعر ة األدوية املفردة واملركبة ‪ ،‬وله حسن نظر يف‬

‫(‪ )1‬احلياة العلمية ص‪.339‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص‪.339‬‬
‫(‪ )3‬الرقاص‪ :‬أو رقاص الساعة ‪ ،‬يسمى ابسم البندول‪.‬‬
‫(‪ )4‬تراث العرب العلمي ص‪.398‬‬
‫(‪ )5‬احلياة العلمية ص‪.341‬‬
‫(‪ )6‬مفتاح السعادة (‪ )303/1‬احلياة العلمية ص‪.342‬‬
‫(‪ )7‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص‪.343‬‬
‫(‪ )8‬املصدر نفسه ص‪.242‬‬
‫(‪ )9‬املصدر نفسه ص‪.343‬‬

‫‪299‬‬
‫دكان عطر بدمشق جيلس يها ‪ ،‬ويعاجل من‬ ‫االطضمع على األمراض ومداواهتا ‪ ،‬أقام بدمشق سنني كثرية ‪ ،‬وكانت له هل‬
‫أييت إليه ‪ ،‬أو يستوصف منه ‪ ،‬وكان له عناية ابلكتب الطبية ‪ ،‬والنظر يها ‪ ،‬وحتقيق ما ذكره املتقدمون من صفة‬
‫وعمر‬‫األمراض ومداواهتا ‪ ،‬وكانت له مع ذلك عناية بعلم احلديث ‪ ،‬وله شعر كثري ‪ ،‬إال أن أكثر شعره ضعيف منحول‪ُ .‬‬
‫ابن البذوخ عمراً طويضمً ‪ ،‬وضعف عن احلركة ‪ ،‬حىت إنه كان ال أييت إىل دكانه إال حمموالً ‪ ،‬وعمي يف آخر عمره؛ حىت‬
‫(‪)1‬‬
‫تويف ‪ ،‬والبن البذوخ من الكتب الطبية (شرح كتاب الفصول ألبقرط) ‪ ،‬وشرح كتاب (تقدمة املعر ة) ألبقراط أيَاً‬
‫اش وضعها على كتاب (القانون البن سينا)(‪.)2‬‬‫‪ ،‬وله كتاب (ذخرية األلباء واملفرد يف التأليف عن األشياء) ‪ ،‬وله حو ٍ‬
‫الصيدلة‪ :‬ويقصد هبا علم األدوية وتركيباهتا‪ ،‬وهي متصلة بعلم األعشاب «النبات» وبعلمي‪ :‬احليوان‪ ،‬واملعادن‪،‬‬
‫وابلكيمياء‪ ،‬إن األدوية نباتية‪ ،‬وحيوانية‪ ،‬ومعدنية‪ ،‬مث هي حتتاج إىل معاجلة ‪ ،‬وإىل نسب يف الرتكيب تقتَي املعر ة‬
‫ابلكيمياء(‪.)3‬‬
‫التامة بطرق التحالي الكيميائية يف تلك العصور ‪ ،‬قد نظم املسلمون مهنة الصيدلة ‪ ،‬جعلوا‬ ‫ونظراً لعدم تو ر املعر ة هل‬
‫(‪)4‬‬
‫على الصيادلة نقيباً يسمى رئيس العشهلابني ‪ ،‬وأخَعوا تلك املهنة لرقابة عريف احلسبة ‪ ،‬حىت حيولوا دون غش الدواء‬
‫بنسب معينة ‪ ،‬وبرز خضمل العهد الزنكي عدد من املتخصصني يف تركيب‬ ‫‪ ،‬وقد برع األطباء املسلمون يف تركيب األدوية ٍ‬
‫األدوية (الصيدلة) ‪ ،‬كانوا يف األص أطباء ‪ ،‬قد ذكر ابن أيب أصيبعة على الطبيب ابن البُذوخ املغريب ‪ ،‬املتوىف سنة‬
‫‪575‬هـ أو ‪576‬هـ (‪ 1179‬ـ ‪1180‬م)(‪ ، )5‬كان خبرياً مبعر ة املفردة املركبة ‪ ،‬وكانت له دكان عطر بدمشق جيلس‬
‫يها ‪ ،‬ويعاجل من أييت إليه ‪ ،‬أو يستوصف منه ‪ ،‬وأنه كان يهيئ عنده أدوية كثرية مركبة ‪ ،‬يصنعها من سائر املعاجني ‪،‬‬
‫السفو ات وغري ذلك ‪ ،‬يبيع منها ‪ ،‬وينتفع الناس هبا(‪ ، )6‬كما ذكر أبو احلسن علي بن أمحد البغدادي‬ ‫واألقراص ‪ ،‬و هل‬
‫(املتوىف سنة ‪610‬هـ‪1213/‬م) يف كتابه «املختارات يف الطب» كثرياً من أنواع املأكوالت وأثرها على الصحة ‪ ،‬وأنواع‬
‫العضمجات واألدوية وكيفيهلة استخراجها(‪.)7‬‬
‫لقد رهلكزت السلطة القائمة يف العهد الزنكي على إحياء العلوم الشرعية ‪ ،‬والعناية هبا ابلدرجة األوىل ألسباب كثرية ‪ ،‬من‬
‫اهلامة ـ واليت كانت تستهدف تشكيك‬ ‫أبرزها احلرص على الد اع عن العقيدة اإلسضممية أمام احلركات الفكريهلة والسرية ـ هل‬
‫املسلمني يف العقيدة اإلسضممية توطئة للسيطرة عليهم ‪ ،‬وعلى رأس هؤالء رقة الباطنية ؛ لذا تقلهلصت الدراسات الفلسفية‬
‫‪ ،‬ودراسة املنطق ‪ ،‬اليت ختدم الفكر الشيعي الباطين ‪ ،‬وحتقق لعلماء الشريعة رصة الوصول إىل مراكز التوجيه الفكري‬
‫ب هذا النشاط يف ميدان العلوم الشرعية نشاط اخر يف ميدان الدراسات اللغوية‬ ‫اح َ‬
‫ص َ‬‫والثقايف يف هذا العهد ‪ ،‬كما َ‬
‫واألدبية ‪ ،‬والتارخيية واجلغرا يا ‪ ،‬كما قُدمت دراسات علمية راقية يف ميدان الرايضيات بفروعها املختلفة ‪ ،‬ويف علم الفلك‬

‫(‪ )1‬املصدر نفسه ص‪.343‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص‪.343‬‬
‫(‪ )3‬اتريخ العلوم عند العرب ص‪ 294‬احلياة العلمية ص‪.345‬‬
‫(‪ )4‬هناية الرتبة ص‪ 42‬للشريزي احلياة العلمية ص‪.345‬‬
‫(‪ )5‬احلياة العلمية ص‪.346‬‬
‫(‪ )6‬عيون األنباء ص‪ 628‬احلياة العلمية ص‪.346‬‬
‫(‪ )7‬املختارات (‪ 210/2‬ـ ‪.)336‬‬

‫‪300‬‬
‫وامليقات إضا ة إىل االهتمام ابلدراسات الطبية والصيدلة ‪ ،‬واليت كان جماهلما داخ البيمارستاانت املنتشرة يف املدن‬
‫الزنكية ‪ ،‬وبرز من بني العلماء املشتغلني بتلك العلوم علماء ‪ ،‬كان هلم أثر كبري يف إثراء املكتبة اإلسضممية ابلعديد من‬
‫املؤلفات املتخصصة ‪ ،‬واليت ظلهلت مرجعاً للبحوث العلمية؛ حىت الوقت احلاضر(‪.)1‬‬
‫رابعاً‪ :‬ابن عساكر ودوره يف اجلهاد َّ‬
‫ضد الصليبيني‪:‬‬
‫قال عنه الذهيب هو‪« :‬اإلمام العضمهلمة احلا ظ الكبري اجملود ‪ُ ،‬حمدث الشام ‪ ،‬ثقة الدين ‪ ،‬أبو القاسم الدمشقي صاحب‬
‫اتريخ دمشق(‪ ، )2‬وهو علي بن الشيخ أيب حممد احلسن بن هبة هللا بن عبد هللا بن احلسني(‪ ، )3‬صنف الكثري من الكتب‬
‫(‪)4‬‬
‫يشق غباره ‪ ،‬وال كان له نظري يف زمانه‬ ‫‪ ،‬وكان َهماً حا ظاً ‪ ،‬متقناً ذكياً ‪ ،‬بصرياً هبذا الشأن ‪ ،‬ال يـُْل َحق شأوه ‪ ،‬وال ُّ‬
‫‪ ،‬كان مواظباً على صضمة اجلماعة ‪ ،‬وتضموة القران ‪ ،‬خيتم ك مجعة ‪ ،‬وخيتم يف رمَان ك يوم ‪ ،‬ويعتكف يف املنارة‬
‫الشرقية ‪ ،‬وكان كثري النوا واألذكار ‪ ،‬وحياسب نفسه على حلظة تذهب يف غري طاعة(‪ ،)5‬وقد لزم طريقة واحدة مدهلة‬
‫الصف األول إال من عذر ‪ ،‬واالعتكاف يف رمَان‪ ،‬وعشر ذي احلجة ‪،‬‬ ‫أربعني سنة من لزوم اجلماعة يف اخلمس يف هل‬
‫وعدم التطلع إىل حتصي األمضمك ‪ ،‬وبناء الدور ‪ ،‬وقد أسقط ذلك عن نفسه ‪ ،‬وأعرض عن طلب املناصب يف اإلمامة‬
‫‪ ،‬واخلطابة ‪ ،‬وأابها بعد أن عرضت عليه ‪ ،‬وقلهلة التفاته إىل األمراء ‪ ،‬وأخذ نفسه ابألمر ابملعروف ‪ ،‬والنهي عن املنكر‬
‫ال أتخذه يف هللا لومة الئم(‪.»)6‬‬
‫وكان له نظم من الشعر منه قوله‪:‬‬
‫أشرُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ األحاديـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـث العوال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي‬
‫و َ‬ ‫إن احلدي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـث أجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُّ عل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍم‬
‫أال هل‬
‫وأحسنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه الفوائ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُد واألمال ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي‬ ‫وأنفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـع ك ـ ـ ـ ـ نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوع من ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه عنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدي‬
‫حتق ُقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهُ كأ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـواه الرجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـال‬ ‫إنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك ل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ت ـ ـ ـ ـ ـ ـرى للعلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم شيئـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً‬
‫وخ ـ ـ ـ ـ ـ ـذه عـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن الشيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوخ ب ـ ـ ـ ـضم َم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـضمل‬ ‫ص علي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬ ‫كـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن يـ ـ ـ ـا ص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاح ذا ح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْر ٍ‬
‫(‪)7‬‬
‫م ـ ـ ـ ـ ـ ـن التهلصحيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـف ابل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـداء العَ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـال‬ ‫ف رتم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى‬ ‫وال َأت ُخ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْذه مـ ـ ـ ـ ـن صح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٍ‬
‫ُُ‬ ‫ُ‬
‫ومن شعره أيَاً‪:‬‬
‫مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ذا التصاب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ومـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا ذا الغـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـزل‬ ‫س وحيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـك جـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاء املشي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب‬ ‫أيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا نفـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫وجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاء مشيـ ـب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي كـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـأن ل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم ي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـزل‬ ‫تولهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى شباب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي ك ـ ـ ـ ـ ـ ـأن لـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم يك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن‬
‫ب املنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـون هبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا قـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد نَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـَزْل‬ ‫كأنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي بنفس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي علـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى غـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـهلرةٍ‬
‫وخط ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬

‫(‪ )1‬احلياة العلمية ص‪.346‬‬


‫(‪ )2‬سري أعضمم النبضمء (‪.)554/20‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه (‪.)555/20‬‬
‫(‪ )4‬املصدر نفسه (‪.)556/20‬‬
‫(‪ )5‬املصدر نفسه (‪.)562/20‬‬
‫(‪ )6‬املصدر نفسه (‪.)565/20‬‬
‫(‪ )7‬املصدر نفسه (‪.)569/20‬‬

‫‪301‬‬
‫وم ـ ـ ـ ـا ق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ هلـدر اللـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه ل ـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي األزل(‪ )1‬؟‬ ‫ي ممهلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن أك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـون‬
‫ياليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت شع ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر َ‬
‫قال عنه ر يقه أبو سعد السمعاين‪ :‬كثري العلم ‪ ،‬حا ظ متقن ‪ ،‬دي ٌن خريٌ ‪ ،‬مجع بني معر ة املتون ‪ ،‬واألسانيد ‪ ،‬صحيح‬
‫مثبت ‪ ،‬حمتا ٌط ‪ ،‬رح يف طلب احلديث ‪ ،‬وتعب يف مجعه ‪ ،‬وابلغ يف الطلب(‪.)2‬‬ ‫القراءة ‪ٌ ،‬‬
‫وقال ابن النجار‪( :‬إمام احملدثني يف وقته ‪ ،‬ومن انتهت إليه الرائسة يف احلفظ واإلتقان ‪ ،‬وبه ُخت َم هذا الشأن(‪.))3‬‬
‫وقال السيوطي‪( :‬اإلمام الكبري ‪ ،‬حا ظ الشام ‪ ،‬ب حا ظ الدنيا ‪ ،‬الثقة الثبت احلجة ‪ ،‬ثقة الدين‪ .‬وكان من كبار‬
‫احلفهلاظ املتقنني ‪ ،‬ومن أه الدين واخلري ‪ ،‬غزير العلم ‪ ،‬كثري الفَ ‪ ،‬مجع بني معر ة املنت ‪ ،‬واإلسناد)(‪.)4‬‬
‫ست سنني ‪ ،‬مث طلبه بنفسه ورح يف هذا الـشـأن عشرين سنـة‪ ..‬وأبـعـد‬ ‫وقال عنه السبكي‪« :‬مسع احلديث وعمره ُّ‬
‫الرحلـة ‪ ،‬ومجع ‪ ،‬وكتب الـكثري يف العراق ‪ ،‬وخراسان ‪ ،‬وأصفهان ‪ ،‬وغريها ‪ ،‬ومن مجلة شيوخه ألف وثضممثئة شيخ ونيف‬
‫‪ ،‬ومثانون امرأة حىت أصبح‪ :‬إمام أه احلديث يف زمانه ‪ ،‬وحام لوائه(‪.»)5‬‬
‫‪ 1‬ـ مساندته الفكرية والعقائدية لنور الدين حممود‪:‬‬
‫ب رزت شخصية ابن عساكر إىل جانب السلطان نور الدين حممود يف معاضدته على الوحدة واجلهاد ‪ ،‬حيث اند ع‬
‫أحب أن أمجع له‬
‫يطلب منه إىل التطبيق العملي يف أتليف (األربعون حديثاً يف احلث على اجلهاد) قال ابن عساكر‪« :‬و هل‬
‫أربعني حديثاً يف اجلهاد ‪ ،‬تكون واضحة املنت ‪ ،‬متصلة اإلسناد حتريَاً للمجاهدين األجضمء(‪.»)6‬‬
‫وكان هدف ابن عساكر‪ :‬تثقيف اجملتمع اإلسضممي آنذاك للقيام بواجب الوقوف إىل جانب نور الدين حممود ‪ ،‬هل‬
‫ضد‬
‫اخلطر الصلييب ‪ ،‬وبسبب قناعة ال زنكي أبن األعمال العسكرية والسياسية ال تكن انجحة مؤثرة ‪ ،‬إال بدعم ٍ‬
‫كري‬
‫وعقائدي وعاطفي وديين ‪ ،‬واستجاب ابن عساكر لطلب نور الدين وقال يف مقدمته‪ « :‬سارعت إىل امتثال ما التمس‬
‫من املراد ‪ ،‬ومجعت له ما يرتَيه أه املعر ة واالنتقاد ‪ ،‬واجتهدت يف مجعها غاية االجتهاد ‪ ،‬رجاء أن حيص يل أجر‬
‫التبصري واإلرشاد ‪ ،‬وهللا املو ق للصواب يف اإلصدار واإليراد ‪ ،‬واملسدد يف األقوال يف اإلسهاب واالقتصاد»(‪.)7‬‬
‫وقد خصص ابن عساكر العشرة األوىل منها يف توضيح منزلة اجلهاد بعد منزلة اإلميان ابهلل مباشرة ‪ ،‬لتحريض املسلمني‬
‫ملواجهة اخلطر الصلييب(‪ ، )8‬ومن هذه األحاديث‪:‬‬
‫أي اإلميان أ َ ؟ قال‪ « :‬إميان ابهلل‪ ،‬عز وج »‪ .‬قي ‪ :‬مث ماذا؟ قال‪« :‬مث‬ ‫ـ سئ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ُّ :‬‬
‫اجلهاد يف سبي هللا‪ ،‬عز وج » قي ‪ :‬مث ماذا؟ قال‪« :‬حج مربور(‪.»)9‬‬

‫(‪ )1‬سري أعضمم النبضمء (‪.)570/20‬‬


‫(‪ )2‬موارد ابن عساكر يف اتريخ دمشق (‪.)59/1‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه (‪.)59/1‬‬
‫(‪ )4‬املصدر نفسه (‪.)60/1‬‬
‫(‪ )5‬طبقات السبكي (‪.)273/4‬‬
‫(‪ )6‬موقف قهاء الشام وقَاهتا ص‪.102‬‬
‫(‪ )7‬ابن عساكر ودوره يف اجلهاد ضد الصليبيني ص‪.108‬‬
‫(‪ )8‬موقف قهاء الشام وقَاهتا من الغزو الصلييب ص‪.103‬‬
‫(‪ )9‬مسلم رقم ‪.83‬‬

‫‪302‬‬
‫وجهاد يف سبيله»‪ .‬قلت‪ :‬اي رسول هللا‬
‫ٌ‬ ‫أي العم أ َ ؟ قال‪« :‬إميا ٌن ابهلل ‪،‬‬ ‫ـ قلت‪ :‬اي رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ُّ‬
‫نع‬
‫صُ‬ ‫أي الرقاب أ َ ؟ قال‪« :‬أنفسها عند أهلها ‪ ،‬وأغضمها مثناً»‪ .‬قال‪ :‬إن مل أجد؟ قال‪« :‬تُعني ضائعاً ‪ ،‬أو تَ ْ‬ ‫ُّ‬
‫هلق هبا عن نفسك(‪.»)1‬‬ ‫صد ُ‬ ‫ص َدقَةٌ تَ َ‬
‫ألخرق»‪ .‬قال‪ :‬إن مل أستطع قال‪« :‬تكف أذاك عن الناس؛ إهنا َ‬
‫أحب إىل هللا ـ عز وج ـ قال‪« :‬أن تصلي الصلوات ملواقيتها»‪ .‬قلت‪ :‬مثهل أي؟ قال‪:‬‬ ‫أي األعمال ُّ‬ ‫ـ قلت‪ :‬اي رسول هللا ُّ‬
‫« ُّبر الوالدين» قلت‪ :‬مثهل أي؟ قال‪« :‬اجلهاد يف سبي هللا»‪ .‬ولو استزدته؛ لزادين(‪.)2‬‬
‫ويف األحاديث األخرى حاول ابن عساكر ‪ ،‬أن يذكر الناس مبنزلة اجملاهد يف سبي هللا مثضمً يف احلديث احلادي عشر‪:‬‬
‫(قال الرسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪« :‬اي أاب سعيد اخلدري! من رضي ابهلل رهلابً ‪ ،‬وابإلسضمم ديناً ‪ ،‬ومبحمد نبياً؛‬
‫علي اي رسول هللا! فع ‪ ،‬مث قال‪ :‬رسول هللا‪« :‬وأخرى‬ ‫وجبت له اجلنة»‪ .‬قال‪ :‬عجب هلا أبو سعيد ‪ ،‬قال‪ :‬أعدها هل‬
‫العبد مئة درجة يف اجلنة ما بني ك درجتني كما بني السماء واألرض» قال‪:‬وما هي اي رسول هللا؟! قال‪:‬‬ ‫يُر ع هبا ُ‬
‫«اجلهاد يف سبي هللا ‪ ،‬عز وج »(‪.)3‬‬
‫ـ ويف احلديث الثاين عشر‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪« :‬يف اجلنة مئة درجة ما بني ك درجتني كما بني‬
‫السماء واألرض أعدهلها هللا للمجاهدين يف سبيله(‪.»)4‬‬
‫وهناك الكثري من األحاديث ايل ذكرها ابن عساكر ‪ ،‬هي ال تدعو وال تذكر اجلهاد مباشرة‪ ،‬ولكنها تدعو إىل القتال‬
‫يف سبي هللا‪ ،‬كما هو احلال يف احلديث التاسع عشر‪ :‬ـ «قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪« :‬أال أخربكم خبري الناس‬
‫إن من خري الناس رجضمً عم يف سبي هللا على ظهر رسه ‪ ،‬أو على ظهر بعريه ‪ ،‬أو على قدميه؛ حىت‬ ‫‪ ،‬وشر الناس؟! هل‬
‫أيتيه املوت؛ وهو على ذلك(‪.»)5‬‬
‫كما أورد أحاديث يف الرابط يف سبي هللا مثضمً كاحلديث الواحد والعشرين‪:‬‬
‫ـ قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪« :‬ك ميت خيتم على عمله إال املرابط يف سبي هللا؛ إنه ينمو له عمله إىل يوم‬
‫القيامة(‪.»)6‬‬
‫ـ ويف احلديث الثالث والعشرين‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪« :‬رابط ٍ‬
‫يوم يف سبي هللا خري من الدنيا وما‬
‫عليها(‪.»)7‬‬
‫كما ذكر اخلي ‪ ،‬وضرورهتا يف القتال ‪ ،‬مثضمً يف احلديث السابع والعشرين‪:‬‬

‫(‪ )1‬البخاري رقم ‪.2518‬‬


‫(‪ )2‬صحيح ابن حبان رقم‪ ، 1476‬ابن عساكر ودوره يف اجلهاد ضد الصليبيني ص‪.111‬‬
‫(‪ )3‬مسلم يف اإلمارة رقم ‪.1884‬‬
‫(‪ )4‬البخاري ‪.2790‬‬
‫(‪ )5‬سنن النسائي ‪ ،‬كتاب اجلهاد َ من عم يف سبي هللا (‪.)11 ، 12/6‬‬
‫(‪ )6‬سنن سعيد بن منصور رقم ‪ 2414‬قال الرتمذي‪ :‬حسن صحيح‪.‬‬
‫(‪ )7‬البخاري رقم ‪.2892‬‬

‫‪303‬‬
‫قال الرسول صلى هللا عليه وسلم ‪« :‬من احتبس رساً يف سبي هللا إمياانً ابهلل ‪ ،‬وتصديقاً بوعد هللا هل‬
‫إن شبعه ‪َ ،‬وريهلـهُ‬
‫وروثه ‪ ،‬وبوله يف ميزانه يوم القيامة(‪.»)1‬‬
‫ـ ويف احلديث اخلامس والثضمثني‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪« :‬طوىب لعبد اخذ بعنان رسه يف سبي هللا(‪.»)2‬‬
‫وأحاديث أخرى يف صناعة األسلحة كما يف احلديث التاسع والعشرين‪:‬‬
‫ـ يقول رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪« :‬إن هللا يدخ ابلسهم الواحد ثضمثةَ نف ٍر اجلنة‪ :‬صانعه الذي حيتسب يف صنعته‬
‫اخلري ‪ ،‬والذي جيهز به يف سبي هللا ‪ ،‬والذي يرمي به يف سبي هللا»‪ .‬وقال‪« :‬ارموا ‪ ،‬واركبوا ‪ ،‬وأن ترموا خري من أن‬
‫تركبوا(‪.»)3‬‬
‫وليس ذلك قط ‪ ،‬ب ذكر َ أولئك الذين يوجهون أسلحتهم ألعداء اإلسضمم‪:‬‬
‫ـ قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪« :‬من تقلهلد سيفاً يف سبي هللا؛ قلهلده هللا ـ عز وج ـ يوم القيامة وشاحني من‬
‫اجلنة ال تقوم هلما الدنيا وما يها(‪.»)4‬‬
‫ويف أحاديث أخرى ساوى بني اإلنفاق يف احلج ‪ ،‬واإلنفاق يف سبي هللا يف احلرب ‪ ،‬مثضمً يف احلديث الثضمثني‪:‬‬
‫ـ قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪« :‬النفقة يف احلج مث النفقة يف سبي هللا ‪ ،‬الدرهم بسبعمئة(‪.»)5‬‬
‫إ ن نظرة سريعة لألحاديث اليت ذكرها ابن عساكر‪ ،‬نضمحظ‪ :‬أنه اختارها بدقة كبرية‪ ،‬من بني األحاديث الكثرية اليت‬
‫تطرقت إىل اجلهاد ‪ ،‬وبصورة عامة هو اختار أحاديث تتحدث عن منزلة اجلهاد يف اإلسضمم ‪ ،‬و َ اجملاهد على غريه‬
‫من املسلمني ‪ ،‬وعن أولئك املسلمني الذين جيهزون للقتال أدوات احلرب آنذاك ‪ ،‬كاخليول ‪ ،‬والسضمح ‪ ،‬واملرابطة يف‬
‫كرس حياته هلا ‪ ،‬وقد‬
‫سبي هللا‪ ..‬إخل‪ .‬وقد استفاد نور الدين من جهود ابن عساكر يف تعبئته الفكرية‪ ،‬والدينية‪ ،‬اليت هل‬
‫آتت مثارها يف مواجهة الغزو الصلييب ‪ ،‬قد ساندهتا السلطة السياسية العسكرية ‪ ،‬املتمثلة يف شخص نور الدين حممود‬
‫‪ ،‬واليت اعتمد عليها كقاعدة استند عليها يف صراعه الطوي مع الصليبني‪.‬‬
‫إن حتالف العلماء مع القادة السياسيني العسكريني ـ كتحالف ابن عساكر ونور الدين ـ خري مثال على أمهية وحدة‬ ‫هل‬
‫الصف يف مواجهة األخطار الداخلية واخلارجية ضد اإلسضمم واملسلمني(‪.)6‬‬
‫‪ 2‬ـ أتليف ابن عساكر يف َائ املدن‪ :‬ووجد ابن عساكر‪ :‬أن استمرارية الغزو الصلييب للشرق اإلسضممي ال بد أن‬
‫تواجهه استمرارية يف اجلهاد ضده ‪ ،‬ولذلك أكد على كرة اجلهاد كما برزت األحاديث ايل ذكرها ‪ ،‬واليت كانت جزءاً‬
‫من منهجه اجلهادي احملرض للمسلمني ‪ ،‬وليس ذلك حسب ‪ ،‬وإمنا أيَاً من خضمل أتكيده على َائ املدن‬
‫اإلسضممية داعياً املسلمني إىل استعادهتا والد اع عنها ‪ ،‬حيث ألف العديد من الكتب اليت تشيد بذلك ‪ ،‬منها‪َ ( :‬ائ‬
‫القدس) و( َائ عسقضمن) و( َائ املدن اإلسضممية) و(الزهادة يف بذل الشهادة)‪.‬‬

‫(‪ )1‬البخاري رقم ‪.2853‬‬


‫(‪ )2‬البخاري رقم ‪.2887‬‬
‫(‪ )3‬صححه احلاكم (‪ )86/2‬ووا قه الذهيب‪.‬‬
‫(‪ )4‬حديث موضوع يه عبد العزيز بن عبد الرمحن البالسي ‪ ،‬اجملروحني (‪.)139/2‬‬
‫(‪ )5‬إسناد ضعيف ‪ ،‬عطاء بن السائب اختلط ‪ ،‬التاريخ الكبري(‪.)63/3‬‬
‫(‪ )6‬موقف قهاء الشام وقَاهتا ص‪.108‬‬

‫‪304‬‬
‫وغريها من الكتب الرتاثية العديدة؛ اليت تشري إىل مدى تركيزه واهتمامه بذكر َائ املدن اإلسضممية ‪ ،‬وتذكري املسلمني‬
‫هلشبُّث هبا ‪ ،‬والد اع عنها(‪.)1‬‬ ‫لدور تلك املدن يف التاريخ اإلسضممي ‪ ،‬اليت ال هل‬
‫بد من الت َ‬
‫ومل يكن ابن عساكر الوحيد الذي ألهلف يف َائ املدن الشامية آنذاك ‪ ،‬ب اجته العديد من الفقهاء للتذكري هبذا‬
‫اجلانب ‪ ،‬مث ( َائ الشام) للفقيه احلا ظ عبد الكرمي السمعاين (ت‪562‬هـ) و( َائ الشام) للفقيه حممد عبد‬
‫الواحد منصور السعدي احلنبلي (ت‪643‬هـ) ‪ ،‬وكتاب (ترغيب أه اإلسضمم يف سكىن الشام) للفقيه عز الدين السلمي‬
‫(ت‪ )660‬وغريهم الكثري(‪.)2‬‬
‫وذلك ألن الغزو الصلييب كما أشار السلمي ‪ ،‬وابن عساكر مل يستهدف اإلسضمم كفرد ‪ ،‬أو عقيدة حسب ‪ ،‬وإمنا أيَاً‬
‫كان يستهدف القَاء على حَارته ‪ ،‬وتراثه املتكام ‪ ،‬ووجد أولئك الفقهاء‪ :‬أنه خري وسيلة حلفظ تراث تلك املدن‬
‫اإلسضممية ‪ ،‬ومكانتها التارخيية من خطر زواهلا ‪ ،‬ولرمبا تغيري مضمحمها احلَارية من قب الصليبيني هو التاريخ هلا‪ ،‬وتدوين‬
‫أخبارها(‪ .)3‬وبتشجيع من امللك العادل نور الدين حممود متهل أتليف أكرب مصنف عن اتريخ دمشق ‪ ،‬وهو (اتريخ مدينة‬
‫القمقام ‪ ،‬الكام‬
‫دمشق) للحا ظ ابن عساكر ‪ ،‬وقد جاء يف مقدمة هذا الكتاب‪( :‬ورقى خرب مجعي إىل حَرة امللك ْ‬
‫‪ ،‬العادل ‪ ،‬الزاهد ‪ ،‬اجملاهد ‪ ،‬املرابط ‪ ،‬اهلمام ‪ ،‬أيب القاسم حممود بن زنكي بن اق سنقر انصر اإلمام‪ ..‬وبلغين تشوقه‬
‫ليلم مبطالعة ما تيسر منه بعض اإلملام ‪ ،‬راجعت العم يه راجياً الظفر ابلتمام ‪ ،‬شاكراً ملا‬ ‫إىل االستنجاز واالستتمام؛ هل‬
‫ظهر منه من حسن االهتمام)(‪.)4‬‬
‫ممهلا يوضح للباحث حرص نور الدين حممود على االطضمع على اتريخ عاصمته «دمشق» وتشوقه إىل ذلك ‪ ،‬كما أنه‬
‫يؤرخ لنا زمن تصنيف ابن عساكر هلذا الكتاب ‪ ،‬ويعد هذا العم من اآلاثر العلمية اجمليدة ؛ اليت تبناها نور الدين‬
‫حممود(‪ .)5‬وبذلك كان ابن عساكر أحد أولئك الذين استخدموا الرتاث وسيلة لتحريض البضمد اإلسضممية للوقوف يف‬
‫وجه اخلطر ‪ ،‬الذي حييق هبا ‪ ،‬قد استخدم التاريخ ‪ ،‬واألدب مع كرة اجلهاد ‪ ،‬كمنهج متكام من أج بعث احلياة‬
‫الثقا ية يف بضمد الشام ‪ ،‬اليت أثقلها الَعف والصراع السياسي ‪ ،‬والديين(‪.)6‬‬
‫‪ 3‬ـ ابن عساكر حيث نور الدين على مواصلة اجلهاد‪ُ :‬عرف عن ابن عساكر تدينه وتعففه واعتكا ه ‪ ،‬وبعده عن‬
‫إغراءات الدنيا ‪ ،‬وعزو ه عن املناصب ‪ ،‬ابإلضا ة إىل اعتداده مبكانة العلماء ‪ ،‬ودورهم الثقايف والسياسي ‪ ،‬لم يرتدد‬
‫ابن عساكر يف خماطبة نور الدين بعد أن أعفى األخري أه دمشق من املطالبة ابخلشب ‪ ،‬وبعد تح مصر يف أن يوجه‬
‫للسلطان قصيدة حيثه يها إىل ما جيب أن يفعله يف املستقب يقول‪:‬‬
‫عوضـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت مص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر مب ـ ـ ـ ـا يه ـ ـ ـ ـا مـ ـ ـ ـن النش ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب‬ ‫ملـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا مسح ـ ـ ـ ـ ـ ـت ألهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ الشـ ـ ـ ـ ـ ـام ابخلشـ ـ ـ ـ ـ ـب‬

‫(‪ )1‬موقف قهاء الشام وقَاهتا ص‪.108‬‬


‫(‪ )2‬كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون (‪.)399/2‬‬
‫(‪ )3‬موقف قهاء الشام وقَاهتا من الغزو الصلييب ص‪.108‬‬
‫(‪ )4‬اتريخ مدينة دمشق يف املقدمة ص‪.4‬‬
‫(‪ )5‬احلياة العلمية يف العهد الزنكي ص‪.79‬‬
‫(‪ )6‬موقف قهاء الشام وقَاهتا ص‪.109‬‬

‫‪305‬‬
‫لألجـ ـ ـ ـ ـ ـر جوزيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت أجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراً غي ـ ـ ـ ـ ـر حمتسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب‬ ‫وإن بذل ـ ـ ـ ـت لفتـ ـ ـ ـح القـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدس حمتسب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاً‬
‫يم ـ ـ ـ ـ ـا يثيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب عليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه خي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر مرتقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب‬ ‫واألج ـ ـ ـر ـ ـ ـ ـي ذاك عن ـ ـ ـ ـد الل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه مرتقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب‬
‫خيـ ـ ـ ـ ـٌر م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن الفَـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة البيَـ ـ ـ ـ ـاء والذه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب‬ ‫والذكـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر ابخلي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر بيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن النـ ـ ـ ـاس تكسبُـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬
‫وقـ ـ ـ ـ ـد أصبح ـ ـ ـ ـ ـت متل ـ ـ ـ ـك مـ ـ ـن مص ـ ـر إلـى حلـ ـ ـ ـ ـب‬ ‫ولسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت تع ـ ـ ـ ـ ـ ـذر ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي تـ ـ ـ ـ ـرك اجله ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاد‬
‫ملـ ـ ـ ـ ـ ـا تري ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد بـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـادر ج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـأة الن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوب‬ ‫وصاحـ ـ ـ ـب املوص ـ ـ ـ ـ ـ ـ الفيحـ ـ ـ ـاء ممتثـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌ‬
‫حتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى ين ـ ـ ـ ـ ـ ـال هب ـ ـ ـ ـ ـ ـا العال ـ ـ ـي مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن الرتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب‬ ‫أحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُزم الن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاس مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن ق ـ ـ ـ ـ هلوى عزميت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬
‫عليـ ـ ـ ـ ـ ـةً اقص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد العالـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي مـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن القـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرب‬ ‫وقـ ـ ـ ـ ـ ـد بلغ ـ ـ ـ ـت حبمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد اللـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه منزلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة‬
‫واحلـ ـ ـ ـ ـزم ـ ـ ـ ـ ـي العـ ـ ـ ـ ـ ـزم واإلدراك ـ ـ ـ ـ ـي الطل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب‬ ‫اجل ـ ـ ـ ـ ـد واجل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـد مقرونـ ـ ـ ـ ـ ـان ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـي قـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرن‬
‫مـ ـ ـ ـ ـ ـن النجاسـ ـ ـ ـ ـ ـات واإلشـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـراك والصل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب‬ ‫وطهـ ـ ـ ـ ـ ـ ـر املسج ـ ـ ـ ـ ـد األقصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـى وحوزت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬
‫(‪)1‬‬
‫و ـ ـ ـ ـي القيام ـ ـ ـ ـ ـ ـة تلقـ ـ ـ ـ ـ ـى حس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـن منقل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـب‬ ‫عسـ ـ ـ ـ ـاك تظفـ ـ ـ ـ ـ ـر ـ ـ ـ ـي الدنيـ ـ ـ ـا حبسـ ـن ثن ـ ـ ـ ـ ـ ـا‬
‫حتم أعباء‬ ‫وكان نور الدين حممود قائداً متميزاً ‪ ،‬ميلك نظرة قيادية اسرتاتيجية يف بناء الدولة ‪ ،‬قد جعلها قادرة على ُّ‬
‫اجلهاد والتحرير ‪ ،‬بمجرد جميئه للحكم بدأ ببناء الدولة من مجيع جوانبها اإلدارية والعمرانية والثقا ية والسياسية ‪ ،‬قد‬
‫اهتم ابحلياة الثقا ية ‪،‬‬
‫كانت مداركه احلَارية واسعة ‪ ،‬أقام صروحاً كبرية ‪ ،‬بىن املستشفيات ‪ ،‬وأقام دار العدل ‪ ،‬و هل‬
‫(‪)2‬‬
‫اهتم نور الدين ابلبناء الداخلي ‪ ،‬وكان‬
‫وتنشيطها ‪ ،‬ومن هنا كان اللقاء بني احلا ظ ابن عساكر والقائد نور الدين ‪ .‬و هل‬
‫العلماء عوانً له على ذلك ‪ ،‬واستطاع أن ينق نور الدين املوقف ابلنسبة للحرب يف مواجهة الصليبيني من موقف الد اع‬
‫إىل موقف اهلجوم ‪ ،‬حىت إنه بدأ يعد العدة خلوض املعركة الفاصلة معهم‪.‬‬
‫توجهوا أبنظارهم‬
‫عم أوالً على أن حيول دون سيطرهتم على مصر ‪ ،‬عندما أيقن الصليبيون أن وجودهم أصبح مهدداً؛ هل‬
‫صوب مصر وهيأوا له ‪ ،‬أدرك القائد نور الدين ذلك ‪ ،‬تدخ على هذه اجلبهة بنظرة اسرتاتيجية ‪ ،‬وأرس ثضمث‬
‫متكنت من إحباط خططهم ‪ ،‬وإهناء الوضع املرتدي يف مصر ‪ ،‬ومن مث إسقاط الدولة الفاطمية ‪،‬‬ ‫محضمت متواليات ‪ ،‬هل‬
‫وتوحيدها مع الشام ـ كما سيأيت بيانه إبذن هللا تعاىل ـ‪.‬‬
‫وكان ابن عساكر يف هذه الفرتة مواكباً لنور الدين ‪ ،‬وحمفزاً له ‪ ،‬وداعياً للجهاد والتحرير ‪ ،‬وكان يقول داعياً للوحدة‪( :‬مل‬
‫ميكن هللا أه رقة على مجاعة أبداً)(‪ ، )3‬وخطط نور الدين جلولة اصلة مع الصليبيني تستخدم يها طاقات الشام‪،‬‬
‫واجلزيرة ‪ ،‬ومصر ‪ ،‬واملغرب ‪ ،‬وبضمد إسضممية أخرى ‪ ،‬وابت متيقناً ابلنصر ‪ ،‬وتسامع الناس أخبار ثقته ابلنصر‪ ،‬قد كان‬
‫لنور الدين جنار حبلب يعرف ابألخرتيين من ضيعة قريبة من حلب تعرف «أبخرتين» اشتهر برباعته ودقة صنعه اليت‬
‫الصنهلاع يف صناعته سنني‬
‫الجتارى ‪ ،‬أمره «أن يصنع منرباً لبيت هللا ابملقدس ‪ ،‬ولَّب الرج ما ندب له ‪ ،‬وبذل النجارون ُّ‬
‫‪ ،‬وأبدعوا يف تركيبه اإلحكام والتزيني(‪.)4‬‬

‫(‪ )1‬اخلريدة للعماد األصفهاين (‪ )277/1‬ابن عساكر ودوره يف اجلهاد ضد الصليبيني ص‪.53‬‬
‫(‪ )2‬ابن عساكر ودوره يف اجلهاد ضد الصليبيني ص‪.46‬‬
‫(‪ )3‬املصدر نفسه ص‪.48‬‬
‫(‪ )4‬كتاب الروضتني نقضمً عن ابن عساكر دوره يف اجلهاد ضد الصليبيني ص‪.48‬‬

‫‪306‬‬
‫واستطاع نور الدين من خضمل وسائله وخططه وتواصله مع العلماء أن يقلب موازين الصراع لصاحله ‪ ،‬املعارك قب نور‬
‫ومنذ أايم نور الدين بدأ عنصر املتطوعة يكثر ‪ ،‬ويند ع‬ ‫الدين كانت ختوضها قوات حمرت ة اتبعون للحكام املسلمني ‪ُ ،‬‬
‫يف املعارك ‪ ،‬وابتت مع األايم أعداد ا ملتطوعة أكرب من أعداد اجلند احملرت ة ‪ ،‬وكان ذلك كله نتيجة تعبئة مشاعر الناس‬
‫‪ ،‬وحتريَهم على اجلهاد ‪ ،‬وندهبم إىل مح السضمح ‪ ،‬وهو ما كان يتواله الوالة والوعاظ‪.‬‬
‫وأييت ابن عساكر كبري علماء الشام ‪ ،‬وحمدثها األول يف مقدمة هؤالء‪ .‬ويف هذا اجملال ال بد من مضمحظة هامة وهي‬
‫سكان املغرب ‪ ،‬واألندلس ‪ ،‬لقد كان‬ ‫أن املتطوعة مل يقتصروا على سكان العراق وبضمد الشام أو مصر ‪ ،‬ب تعداه إىل هل‬
‫املغاربة أيتون للجهاد واحلج يجاهدون وحيجون أو حيجون وجياهدون ‪ ،‬أو جياهدون وتكتب هلم الشهادة ‪ ،‬وكلنا يعلم‪:‬‬
‫هل‬
‫أن أحد أهم أحياء دمشق هو حي (املغاربة) الذي يعود إنشاؤه إىل تلك املرحلة(‪ ، )1‬ولقد حتدهلث عن املغاربة واألندلسيني‬
‫‪ ،‬ومشاركتهم يف اجلهاد ضد الصليبيني ‪ ،‬والعضمقات الثقا ية والفكرية بني املغرب واألندلس ‪ ،‬وبني بضمد الشام والتأثريات‬
‫عدد من مؤرخي تلك الفرتة ومن بعدهم ‪ ،‬كياقوت احلموي يف (معجم البلدان) وابن العماد يف‬ ‫الفكرية بني العلماء ٌ‬
‫(شذرات الذهب) ‪ ،‬وابن جبري يف رحلته ‪ ،‬واملقري يف (نفح الطيب) وحممد بن عبد امللك املراكشي يف (الذي والتكملة)‬
‫‪ ،‬والسبكي يف (الطبقات) ‪ ،‬وكذلك ابن سعيد املغريب يف (املغرب يف حلى املغرب) ‪ ،‬وينق عنه املقري ‪ ،‬كما ترجم ابن‬
‫عساكر لعديد من العلماء والقراء والشعراء ‪ ،‬املغاربة ‪ ،‬واألندلسيني الذين قدموا إىل دمشق(‪.)2‬‬
‫‪ 4‬ـ و اة ابن عساكر‪ :‬تويف ابن عساكر ـ رمحه هللا ـ يف رجب سنة إحدى وسبعني ومخسمئة ليلة االثنني ‪ ،‬حادي عشر‬
‫الشهر ‪ ،‬وصلى عليه القطب النيسابوري ‪ ،‬وحَره السلطان صضمح الدين ‪ ،‬ود ن عند أبيه يف مقربة ابب الصغري(‪.)3‬‬
‫رحم هللا ابن عساكر ‪ ،‬قد كان له دور هام يف إجياد صحوة إسضممية ‪ ،‬ساعدت بدورها يف تدعيم املواجهة اإليديولوجية‬
‫متكن نور الدين بفَ هللا ‪ ،‬مث جهود العلماء واملخلصني من أبناء األمة من إعداد جبهة واحدة‬ ‫مع الصليبيني ‪ ،‬وقد هل‬
‫متماسكة عقائدايً على حنو هلأدى يف النهاية إىل تدعيم كرة اجلهاد اإلسضممي يف ذلك العصر ‪ ،‬وال نزاع يف أن الدولة‬
‫النورية قد جنحت يف حتقيق أهدا ها بصورة كبرية ‪ ،‬هل‬
‫ودل ذلك على إدراكها ألمهية العوام العقائدية والفكرية يف إجياد‬
‫كيان داخلي متماسك يف مواجهة الغزو الصلييب(‪.)4‬‬

‫(‪ )1‬ابن عساكر ودوره يف اجلهاد ضد الصليبيني ص‪48‬‬


‫(‪ )2‬املصدر نفسه ص‪.48‬‬
‫(‪ )3‬موارد ابن عساكر يف اتريخ دمشق ص‪.70‬‬
‫(‪)4‬‬

‫‪307‬‬
‫الفهرس ‪:‬‬
‫اإلهـداء ‪4 ........................................................................‬‬

‫املقدمة‪5 .........................................................................‬‬

‫األول‪19 .................................................................‬‬
‫الفصل َّ‬
‫الزنكيهلـة ‪20 ..........................................‬‬
‫املبحث األول ‪ :‬أصـول األسـرة هل‬
‫أوالً‪ :‬مكانة آق سنقر عند السلطان ملكشاه‪20 ................................ :‬‬
‫اثنياً‪ :‬سياسة آق سنقر يف حلب الداخلية‪21 ................................... :‬‬
‫اثلثاً‪ :‬سياستهُ اخلارجية‪23 .....................................................:‬‬
‫رابعاً‪ :‬نشأة عماد الدين زنكي وأسرته‪27 .......................................:‬‬
‫املبحث الثاين ‪ :‬تطور شخصية عماد الدين القيادية‪29 ...............................‬‬
‫أوالً‪ :‬بزوغ جنمه السياسي‪29 ..................................................:‬‬
‫اثنياً‪ :‬دور الفقهاء يف تعيني عماد الدين على املوص ‪33 ......................... :‬‬
‫اثلثاً‪ :‬أهم صفاته‪35 ..........................................................:‬‬
‫رابعاً‪ :‬سياسته الداخلية‪45 ....................................................:‬‬
‫خامساً‪ :‬النظم العسكرية عند عماد الدين زنكي‪53 ............................. :‬‬
‫املبحث الثالث ‪ :‬عضمقـة عمـاد الدين زنكي ابخلضم ة العباسيـة والسلطنـة السلجوقية ‪68 ....‬‬
‫أوالً‪ :‬حماولة عزل عماد الدين زنكي عن املوص ‪68 .............................. :‬‬
‫اثنياً‪ :‬صراع البيت السلجوقي على السلطنة بعد و اة السلطان حممود‪69 ........... :‬‬
‫اثلثاً‪ :‬موقف السلطان سنجر من األحداث‪70 ..................................:‬‬

‫‪308‬‬
‫رابعاً‪ :‬حماصرة املوص ‪71 ......................................................:‬‬
‫خامساً‪ :‬التوتر بني عماد الدين والسلطان مسعود‪72 ............................ :‬‬
‫سادساً‪ :‬مصاحلة عماد الدين زنكي للسلطان مسعود‪73 ......................... :‬‬
‫املبحث الرابع ‪ :‬توسع عماد الدين يف مشال بضمد الشام وإقليم اجلزيرة ‪75 ................‬‬
‫أوالً‪ :‬جزيرة ابن عمر ‪521‬هـ‪76 ...............................................:‬‬
‫اثنياً‪ :‬حلب‪522‬هـ‪76 ....................................................... :‬‬
‫وحران ‪ ،‬وإرب ‪ ،‬والرقهلة‪78 ............................ :‬‬
‫اثلثاً‪ :‬سنجار ‪ ،‬واخلابور ‪ ،‬هل‬
‫رابعاً‪ :‬عضمقة عماد الدين زنكي ابألكراد‪80 .....................................:‬‬
‫خامساً‪ :‬عماد الدين واإلمارات احمللية يف داير بكر‪83 ........................... :‬‬
‫سادساً‪ :‬عماد الدين زنكي وأمراء دمشق‪89 ....................................:‬‬
‫املبحث اخلامس ‪ :‬جهاده هل‬
‫ضد الصليبيني‪97 ........................................‬‬
‫أوالً‪ :‬حال املسلمني والصليبيني قب عماد الدين‪97 ..............................:‬‬
‫اثنياً‪ :‬سياسة عماد الدين زنكي مع الصليبيني‪98 ................................:‬‬
‫اثلثاً‪ :‬مشكلة الوراثة األنطاكية‪98 ..............................................:‬‬
‫رابعاً‪ :‬تح األاثرب‪99 ........................................................:‬‬
‫خامساً‪ :‬حصن بعرين أوابرين‪100 ............................................ :‬‬
‫سادساً‪ :‬اإلمرباطور البيزنطي يغزو بضمد الشام‪104 ...............................:‬‬
‫الرها‪115 ........................................................:‬‬
‫سابعاً‪ :‬تح ُّ‬
‫الرها‪129 .................................. :‬‬
‫اثمناً‪ :‬األحداث العسكرية بعد تح ُّ‬
‫اتسعاً‪ :‬من أساليب عماد الدين زنكي يف حماربة الصليبيني‪129 ...................:‬‬

‫‪309‬‬
‫عاشراً‪ :‬حصيلة الدور السياسي العسكري الذي لعبه عماد الدين على مسرح التاريخ‬
‫اإلسضممي‪133 ..............................................................:‬‬
‫احلادي عشر‪ :‬األايم األخرية من حياة عماد الدين زنكي‪134 ....................:‬‬

‫الفصل الثاين‪144 ................................................................‬‬

‫املبحث األول ‪ :‬امسه ونسبه وأسرته وتوليه احلكم‪144 ................................‬‬


‫أوالً‪ :‬انقسام الدولة الزنكية بعد مقت عماد الدين زنكي‪146 .................... :‬‬
‫اثنياً‪ :‬ترتيب أوضاع البيت الزنكي‪147 ........................................ :‬‬
‫املبحث الثاين ‪ :‬أه ُّـم صفات نور الدين زنكي ‪152 ..................................‬‬
‫أوالً‪ :‬اجلدية والذكاء املتوقد‪152 ...............................................:‬‬
‫اثنياً‪ :‬الشعور ابملسؤولية‪155 ..................................................:‬‬
‫اثلثاً‪ :‬قدرته على مواجهة املشاك واألحداث‪156 .............................. :‬‬
‫رابعاً‪ :‬نزعته للبناء واإلعمار‪157 .............................................. :‬‬
‫خامساً‪ :‬قوة الشخصية‪159 ..................................................:‬‬
‫سادساً‪ :‬حمبة املسلمني له‪159 ................................................ :‬‬
‫سابعاً‪ :‬اللياقة البدنية العالية‪162 ..............................................:‬‬
‫جترُدهُ وزهده الكبري‪164 ................................................:‬‬
‫اثمناً‪ُّ :‬‬
‫اتسعاً‪ :‬شجاعته‪167 ........................................................ :‬‬
‫عاشراً‪ :‬مفهومه للتوحيد ‪ ،‬وتَرعه ‪ ،‬ودعاؤه‪169 ...............................:‬‬
‫احلادي عشر‪ :‬حمبته للجهاد والشهادة‪171 .....................................:‬‬
‫الثالث عشر‪ :‬إنفاقه وكرمه‪174 ............................................... :‬‬
‫‪310‬‬
‫املبحث الثالث ‪ :‬أهم معامل التجديد واإلصضمح يف دولة نور الدين ‪179 ................‬‬
‫أوالً‪ :‬احلرص على تطبيق الشريعة‪180 ......................................... :‬‬
‫اثنياً‪ :‬بناء دولة العقيدة على أصول أه السنة‪184 ............................. :‬‬
‫اثلثاً‪ :‬العدل يف دولة نور الدين حممود زنكي‪196 ............................... :‬‬
‫رابعاً ـ مكانة العلماء يف دولة نور الدين حممود‪206 ..............................:‬‬
‫خامساً‪ :‬الشورى يف دولة نور الدين حممود‪215 .................................:‬‬
‫املبحث الرابع ‪ :‬النظام اإلداري عند نور الدين‪219 ..................................‬‬
‫أوالً‪ :‬حسن اختياره للرجال‪220 .............................................. :‬‬
‫اثنياً‪ :‬أهم اإلدارات والوظائف يف دولة نور الدين‪224 ...........................:‬‬
‫اثلثاً‪ :‬صبغ اإلدارة الزنكية ابلصبغة اإلسضممية وتكام القيادات السياسية والفكرية‪228 ..... :‬‬
‫املبحث اخلامس ‪ :‬النظام االقتصادي واخلدمات االجتماعية ‪231 .....................‬‬
‫أوالً‪ :‬مصادر دخ دولة نور الدين وسياسته االقتصادية‪231 ..................... :‬‬
‫اثنياً‪ :‬سياسة اإلنفاق يف اخلدمات االجتماعية‪248 ............................. :‬‬
‫الرتبية والتهلعليم يف النُّهوض احلَاري‪278 .....................‬‬
‫السادس ‪ :‬أمهيهلة هل‬
‫املبحث هل‬
‫اثنياً‪ :‬ئات الطضمب‪282 .................................................... :‬‬
‫اثلثاً‪ :‬ميادين العلوم يف العهد الزنكي‪288 ......................................:‬‬
‫رابعاً‪ :‬ابن عساكر ودوره يف اجلهاد هل‬
‫ضد الصليبيني‪301 .......................... :‬‬

‫الفهرس ‪308 .................................................................. :‬‬

‫كتب صدرت للمؤلف‪312 ..................................................... :‬‬

‫‪311‬‬
‫كتب صدرت للمؤلف‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ السرية النبوية‪ :‬عرض وقائع وحتلي أحداث‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ سرية اخلليفة األول أبو بكر الصديق رضي هللا عنه‪ :‬شخصيته وعصره‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ سرية أمري املؤمنني عمر بن اخلطاب رضي هللا عنه‪ :‬شخصيته وعصره‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ سرية أمري املؤمنني عثمان بن عفان رضي هللا عنه‪ :‬شخصيته وعصره‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ سرية أمري املؤمنني علي بن أيب طالب رضي هللا عنه‪ :‬شخصيته وعصره‪.‬‬

‫‪ 6‬ـ سرية أمري املؤمنني احلسن بن علي بن أيب طالب‪ :‬شخصيته وعصره‪.‬‬

‫‪ 7‬ـ الدولة العثمانية‪ :‬عوام النهوض والسقوط‪.‬‬

‫‪ 8‬ـ قه النصر والتمكني يف القران الكرمي‪.‬‬

‫‪ 9‬ـ اتريخ احلركة السنوسية يف إ ريقيا‪.‬‬

‫‪ 10‬ـ اتريخ دوليت املرابطني واملوحدين يف الشمال اإل ريقي‪.‬‬

‫‪ 11‬ـ عقيدة املسلمني يف صفات رب العاملني‪.‬‬

‫‪ 12‬ـ الوسطية يف القران الكرمي‪.‬‬

‫‪ 13‬ـ الدولة األموية‪ ،‬عوام االزدهار وتداعيات االهنيار‪.‬‬

‫‪ 14‬ـ معاوية بن أيب سفيان‪ ،‬شخصيته وعصره‪.‬‬

‫‪ 15‬ـ عمر بن عبد العزيز‪ ،‬شخصيته وعصره‪.‬‬

‫‪ 16‬ـ خضم ة عبد هللا بن الزبري‪.‬‬

‫‪ 17‬ـ عصر الدولة الزنكية‪.‬‬

‫‪312‬‬
‫‪ 18‬ـ عماد الدين زنكي‪.‬‬

‫‪ 19‬ـ نور الدين زنكي‪.‬‬

‫‪ 20‬ـ دولة السضمجقة‪.‬‬

‫‪ 21‬ـ اإلمام الغزايل وجهوده يف اإلصضمح والتجديد‪.‬‬

‫‪ 22‬ـ الشيخ عبد القادر اجليضمين‪.‬‬

‫‪ 23‬ـ الشيخ عمر املختار‪.‬‬

‫‪ 24‬ـ عبد امللك بن مروان وبنوه‪.‬‬

‫‪ 25‬ـ كر اخلوارج والشيعة يف ميزان أه السنة واجلماعة‪.‬‬

‫‪ 26‬ـ حقيقة اخلضمف بني الصحابة‪.‬‬

‫‪ 27‬ـ وسطية القران يف العقائد‪.‬‬

‫‪ 28‬ـ تنة مقت عثمان‪.‬‬

‫‪ 29‬ـ السلطان عبد احلميد الثاين‪.‬‬

‫‪ 30‬ـ دولة املرابطني‪.‬‬

‫‪ 31‬ـ دولة املوحدين‪.‬‬

‫‪ 32‬ـ عصر الدولتني األموية والعباسية وظهور كر اخلوارج‪.‬‬

‫‪ 33‬ـ الدولة الفاطمية‪.‬‬

‫‪ 34‬ـ حركة الفتح اإلسضممي يف الشمال األ ريقي‪.‬‬

‫‪ 35‬ـ صضمح الدين األيويب وجهوده يف القَاء على الدولة الفاطمية وحترير البيت املقدس‪.‬‬

‫‪313‬‬
‫‪ 36‬ـ اسرتاتيجية شاملة ملناصرة الرسول (ﷺ)‪ ،‬دروس مستفادة من احلروب الصليبية‪.‬‬

‫‪ 37‬ـ الشيخ عز الدين بن عبد السضمم سلطان العلماء‪.‬‬

‫‪ 38‬ـ احلمضمت الصليبية (الرابعة واخلامسة والسادسة والسابعة) واأليوبيون بعد صضمح الدين‪.‬‬

‫‪ 39‬ـ املشروع املغويل عوام االنتشار وتداعيات االنكسار‪.‬‬

‫‪ 40‬ـ سيف الدين قطز ومعركة عني جالوت يف عهد املماليك‪.‬‬

‫‪ 41‬ـ الشورى يف اإلسضمم‪.‬‬

‫‪ 42‬ـ اإلميان ابهلل ج جضمله‪.‬‬

‫‪ 43‬ـ اإلميان ابليوم اآلخر‪.‬‬

‫‪ 44‬ـ اإلميان ابلقدر‪.‬‬

‫‪ 45‬ـ اإلميان ابلرس والرساالت‪.‬‬

‫‪ 46‬ـ اإلميان ابملضمئكة‪.‬‬

‫‪ 47‬ـ اإلميان ابلقران والكتب السماوية‪.‬‬

‫‪ 48‬ـ السلطان حممد الفاتح‪.‬‬

‫‪ 49‬ـ املعجزة اخلالدة‪.‬‬

‫‪ 50‬ـ الدولة احلديثة املسلمة‪ ،‬دعائمها ووظائفها‪.‬‬

‫‪ 51‬ـ الربملان يف الدولة احلديثة املسلمة‪.‬‬

‫‪ 52‬ـ التداول على السلطة التنفيذية‪.‬‬

‫‪ 53‬ـ الشورى ريَة إسضممية‪.‬‬

‫‪314‬‬
‫‪ 54‬ـ احلرايت من القرآن الكرمي‪ ،‬حرية التفكري وحرية التعبري‪ ،‬واالعتقاد واحلرايت الشخصية‪.‬‬

‫‪ 55‬ـ العدالة واملصاحلة الوطنية ضرورة دينية وإنسانية‪.‬‬

‫‪ 56‬ـ املواطنة والوطن يف الدولة احلديثة‪.‬‬

‫‪ 57‬ـ العدل يف التصور اإلسضممي‪.‬‬

‫‪ 58‬ـ كفاح الشعب اجلزائري ضد االحتضمل الفرنسي‪.‬‬

‫‪ 59‬ـ األمري عبد القادر اجلزائري‪.‬‬

‫‪ 60‬ـ كفاح الشعب اجلزائري ضد االحتضمل الفرنسي‪ ،‬سرية الزعيم عبد احلميد بن ابديس‪ ،‬اجلزء الثاين‪.‬‬

‫‪ 61‬ـ ُسنة هللا يف األخذ ابألسباب‪.‬‬

‫‪ 62‬ـ كفاح الشعب اجلزائري ضد االحتضمل الفرنسي‪ ،‬وسرية اإلمام حممد البشري اإلبراهيمي‪.‬‬

‫السين "مثانية أجزاء"‪.‬‬


‫‪ .63‬أعضمم التصوف ُ‬
‫‪ .64‬اإلابضية‪ :‬مدرسة إسضممية بعيدة عن اخلوارج‪.‬‬

‫‪315‬‬
‫مفكر ومؤرخ و قيه‬

‫‪ -‬ولد يف مدينة بنغازي بليبيا عام ‪ 1383‬هـ‪1963 /‬م‬

‫‪ -‬انل درجة اإلجازة العاملية (الليسانس) من كلية الدعوة‬


‫وأصول الدين من جامعة املدينة املنورة عام ‪1993‬م‪ ،‬وابلرتتيب‬
‫األول‪.‬‬

‫‪ -‬حص على درجة املاجستري من كلية أصول الدين يف جامعة‬


‫أم درمان اإلسضممية عام ‪1996‬م‪.‬‬

‫‪ -‬انل درجة الدكتوراه يف الدراسات اإلسضممية أبطروحته قه‬


‫التمكني يف القرآن الكرمي من جامعة أم درمان اإلسضممية‬
‫ابلسودان عام ‪1999‬م‪.‬‬

‫‪ -‬اشتهر مبؤلفاته واهتماماته يف علوم القرآن الكرمي والفقه‬


‫والتاريخ والفكر اإلسضممي‪.‬‬

‫‪ -‬زادت مؤلفات الدكتور الصضميب عن ستني مؤل ًفا أبرزها‪:‬‬

‫‪ ‬السرية النبوية عرض وقائع وحتلي أحداث‬

‫‪ ‬سري اخللفاء الراشدين‬

‫‪ ‬الدولة احلديثة املسلمة‬

‫‪ ‬الدولة العثمانية عوام النهوض والسقوط‬

‫‪ ‬اتح القسطنطينية السلطان حممد الفاتح‬

‫‪ ‬وسطية القرآن الكرمي يف العقائد‪.‬‬

‫‪316‬‬
‫‪ ‬صفحات مشرقة من التاريخ اإلسضممي‪.‬‬

‫‪ ‬اتريخ كفاح الشعب اجلزائري‬

‫‪ ‬العدالة واملصاحلة الوطنية‬

‫‪ ‬وآخر مؤلفاته "اإلابضية‪ .‬مدرسة إسضممية بعيدة عن‬


‫اخلوارج"‪.‬‬

‫‪317‬‬

You might also like