Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 152

‫‪1‬‬

‫مختصر‬
‫مدخل إلى القرآن الكريم‬
‫عرض تاريخي وتحليل مقارن‬
2


‫‪3‬‬

‫َّ‬
‫د‪ .‬محمد عبد للا دراز‬

‫َ‬
‫مدخل إلى‬
‫ُ‬
‫القرآن الكريم‬
‫عرض تاريخي وتحليل مقارن‬

‫ترجمة وتلخيص‬
‫محمد عبد العظيم علي‬
‫‪4‬‬

‫حقوق الطبع حمفوظة‬

‫الطبعة الثانية‬

‫‪1440‬هـ ‪2019 -‬م‬

‫رقم اإليداع بدار الكتب املرصية‬

‫‪2019 -‬م‬
‫‪5‬‬

‫مقدمة المختصر‬

‫عىل الرغم من مرور ما يقرب من نصف قرن عىل هذا البحث‬


‫العظيم‪ ،‬فإن نتائجه ال تزال غري معروفة وغري متداولة ىف أوساط املسلمني‬
‫رغم أمهيتها ورضورهتا‪ ،‬وال سيام ىف هذه األيام العصيبة وهذا اجلو‬
‫العاملى املشحون ضد اإلسالم‪ ،‬مما استدعى إعداد تلخيص هلذا البحث‬
‫العظيم‪ ،‬لتعريف اكرب قطاع من قراء العربية باجلهود العلمية ألحد اكرب‬
‫علامء املسلمني األجالء ىف هذا العرص‪ ،‬وتقديم هذا «املخترص» للقارىء‬
‫الكريم ىف حجم صغري‪ ،‬وأسلوب سهل‪ ،‬وعرض مبسط‪ ،‬تقريب ًا لالفهام‪،‬‬
‫وتعمي ًام للفائدة‪ ،‬وإسهام ًا ىف صد ما يواجه العامل اإلسالمي من حتديات‪،‬‬
‫ولكى يرى الناس مجيع ًا الوجه احلقيقي للقرآن الكريم الذى ما أنزله اهلل‬
‫إال رمحة للعاملني‪.‬‬

‫ورحم اهلل فقيدنا األستاذ الدكتور حممد عبد اهلل دراز‪ ،‬وأجزل له‬
‫الثواب عىل ما بذله ىف خدمة اإلسالم واملسلمني‪..‬‬

‫واهلل ويل التوفيق‬ ‫ ‬


‫اإلسكندرية يف‪ 10 :‬نوفمرب ‪2017‬‬ ‫ ‬
‫املوافق ‪ 6‬ربيع األول ‪1439‬‬ ‫ ‬
‫عيل‬
‫حممد عبد العظيم ّ‬ ‫ ‬
‫‪7‬‬

‫ملخص مقدمة المؤلف‬

‫نستطيع دراسة القرآن الكريم من زوايا متعددة‪ ،‬ولكنها تنتهي إىل‬


‫قطبني أساسيني‪..‬اللغة والفكر‪ .‬فالقرآن الكريم كتاب أديب وعقيدي‬
‫يف نفس الوقت وبنفس الدرجة‪ .‬أما اجلانب الثاين فهو هذا الكنز من‬
‫األفكار الذي يتكشف من خالل أسلوبه األديب الرفيع والذي سنعرض‬
‫هنا لثالث جمموعات منه‪ .‬األوىل‪ :‬طبيعة دعوته أي جمموعة احللول التي‬
‫يقدمها للمشكلتني اخلالدتني‪ ،‬أال ومها املعرفة والسلوك‪ .‬والثانية هي‬
‫أساليب اإلقناع التي يستخدمها إلثبات صدق دعوته‪ .‬وأخريا الرباهني‬
‫التي يدلل هبا عىل الطابع الرباين املقدس لرسالته‪.‬‬

‫ويف احلقيقة كان الغرض املبدئي من هذه الدراسة هو استخالص‬


‫قانون األخالق القرآين بعيد ًا عن كل ما يربطه بباقي القرآن الكريم‪ ،‬وهو‬
‫العمل الذي خصصنا له كتاب ًا آخر (ترجم إىل العربية بعنوان ‪ :‬دستور‬
‫األخالق يف القرآن)‪ .‬غري أننا رأينا من املفيد عرض اخلطوط الرئيسة هلذا‬
‫البناء الفكري الشامخ‪ ،‬وتوضيح مكان العنرص األخالقي داخل اإلطار‬
‫الكيل‪ ،‬فض ً‬
‫ال عن استخراج األفكار الرئيسة املوجودة يف كل جزء من‬
‫أجزاء كتاب اإلسالم‪.‬‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪8‬‬

‫وبعد تقديم عدة نقاط تارخيية بناء عىل اقرتاح «مسيو موريس‬
‫باترونييه دي جاندياك» األستاذ بالسوربون‪.‬‬

‫فإن املوضوع اجلوهري لبحثنا هو عرض رسالة القرآن الكريم يف‬


‫مجلتها كام يعرضها القرآن نفسه‪ ،‬ال كام وردت من خالل األحكام أو‬
‫التفسريات أو التطبيقات التي اختلفت نسبة إخالصها عرب التاريخ‪.‬‬
‫وسنقابل يف طريقنا بشأن القرآن إما بعض األحكام القاسية فنصححها‬
‫أو بعض االستنتاجات العاجلة فنقومها‪ .‬ويف كل هذا سنرتك القرآن‬
‫ليتوىل الدفاع بنفسه عن نفسه ويقدم احلجة تلو احلجة‪ ..‬تاركني للقارئ‬
‫الفرصة ليقدر بنفسه قيمة هذه احلجج تارخيي ًا وفلسفي ًا‪.‬‬

‫وجدير بالذكر أن استخالص فكرة القرآن من غالفها وإخراجها عىل‬


‫هذا النحو من إطارها املحيل لتقريبها إىل الفكر األورويب البعيد عن اللغة‬
‫العربية‪ ،‬هو حتقيق جلزء من رسالة القرآن احلقيقية‪ .‬ألن القرآن يقصد اإلنسان‬
‫حيث يكون وإىل أي جنس ينتمي‪ .‬وذلك حني يوجه نداءه إىل العقل والذوق‬
‫السليم والشعور النبيل يف اإلنسان‪ .‬إن القرآن دعوة عاملية هتدف إىل تطهري‬
‫العادات وتوضيح العقائد والتقريب بينها‪ ،‬وإسقاط احلواجز العنرصية‬
‫والوطنية‪ ،‬وإحالل قانون احلق والعدل حمل قانون القوة الغاشمة‪.‬‬
‫باريس يف ‪ 21‬فرباير ‪1947‬‬
‫حممد عبد اهلل دراز‬
‫‪9‬‬

‫الباب األول‬
‫حقائق تاريخية أولية‬
‫‪11‬‬

‫متهيد‬

‫قبل أن نرشع يف دراسة منهجية لكتاب اإلسالم نذكّر بالظروف‬


‫التي ُأنزل فيها واملراحل التي ّ‬
‫مر هبا حتى وصل إىل أيدينا‪.‬‬

‫وأيا كان االعتقاد يف مصدر القرآن الكريم فمن الثابت تارخييا‬


‫أنه يرجع إىل حممد بن عبد اهلل ﷺ سواء استقاه من أعامق نفسه‪ ،‬ومن‬
‫معارف بيئته ‪ -‬كام يقول الكافرون ‪ -‬أو أنه تلقاه حرفيا بإمالء رسول‬
‫ساموي وسيط بينه وبني اهلل ‪ -‬كام يؤكد القرآن ذلك ﴿ﮘ ﮙ ﮚ‬
‫ﮛ﴾ [الشعراء‪ ﴿،]193:‬ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ‬
‫ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ﴾ [البقرة‪.]97:‬‬

‫وبام أن علمنا املحدود ال يستطيع أن يصعد إىل هذا املصدر البعيد‬


‫عن الطاقة البرشية‪ ،‬فإننا عىل أي حال تلقيناه من حممد ﷺ سواء أكان‬
‫مؤلفه أو مبلغه الوحيد إىل البرشية مجعاء‪.‬‬
‫‪13‬‬

‫الفصل األول‬
‫حياة الرسول ﷺ قبل البعثة‬
‫نظر ًا لالرتباط الوثيق بني الرسول ورسالته‪ ،‬فسنبدأ بتقديم صورة‬
‫مصغرة لشخصية حممد ﷺ منذ طفولته حتى الوقت الذي كُلف فيه‬
‫ببعثته للبرش كافة‪.‬‬

‫ما هي إذن هذه الشخصية؟‬

‫ينتمي حممد ﷺ إىل أرسة عريقة بمكة من قبيلة قريش من فرع‬


‫بني هاشم التي غلب ورعها وتقواها عىل قوهتا السياسية‪ .‬وينسبه األثر‬
‫إىل نسل إسامعيل بن إبراهيم بعدد من األجيال مل يتأكد لنا من عددها‬
‫وأسامئها سوى واحد وعرشين جيال حتى عدنان‪ .‬وولد الرسول ﷺ‬
‫يوم اإلثنني من األسبوع الثاين من شهر ربيع األول من عام الفيل أي‬
‫من تاريخ غزو احلجاز (الفاشل) الذي قام به « أبرهه » أمري اليمن يف ظل‬
‫حكم الدولة البيزنطية بقوة من جيشه اشرتك فيه أكرب أفيال مملكة احلبشة‪.‬‬

‫لقد ولد حممد ﷺ يتي ًام‪ ،‬فقد مات أبوه عبد اهلل قبل مولده بسبعة‬
‫شهور‪ .‬وعهد به إىل مرضعة بدوية هي حليمة من قبيلة بني سعد حتى‬
‫بلغ الرابعة‪ ،‬كام كان يقيض العرف عند أرشاف مكة بإرسال أوالدهم‬
‫لينشئوا يف جو الصحراء النقي‪ .‬ثم تولت أمه تربيته بمعاونة مربية هي‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪14‬‬

‫أم أيمن‪ ،‬لكنه مل يستمتع بحنان األمومة طوي ً‬


‫ال ؤ إذ ماتت أمه وهو يف‬
‫السادسة من عمره‪ ،‬واستقبله جده عبد املطلب‪ ،‬وآثره بحنانه وعطفه‪،‬‬
‫وتنبأ له بمستقبل عظيم‪ .‬ومل يكد حممد ﷺ يبلغ الثامنة حتى فقد جده‪،‬‬
‫فتوىل رعايته عمه عبد مناف امللقب بأيب طالب الذي أواله حب ًا أبوي ًا‬
‫خالص ًا رغم أنه مل يكن ميسور احلال لكثرة عياله‪ .‬وقد الحظ رخاء نسبي ًا‬
‫يف داره يوم أن دخله هذا الصبي فكان حيرص عىل أن يكون حممد ﷺ‬
‫بجواره دائ ًام وبشعور متبادل كان الصبي ال يصرب عىل البعد عن عمه‪.‬‬
‫وهلذا نرى حممد ًا ﷺ (وهو يف الثانية عرش من عمره) يصحب عمه يف‬
‫رحلته لسوريا عام ‪582‬م طلب ًا للتجارة‪.‬‬

‫وترجع إىل هذه الرحلة القصة املشهورة ألول اتصال ملحمد ﷺ‬


‫باألوساط الدينية يف شخص الناسك املسيحي بحريا يف ُبرصة (بسوريا)‬
‫فيحكي لنا األثر أن هذا العابد الحظ بعض العالمات املنصوص عنها‬
‫يف الكتب املقدسة تصاحب القافلة فدعاها إىل طعامه‪ ،‬ورشع يف فحص‬
‫وجوه القوم ومضاهاة عالماهتا بام لديه من وثائق‪ .‬فلم يستدل عىل شئ‬
‫وأخري ًا عندما حتدث إىل حممد ﷺ الشاب الذي وصل متأخر ًا اقرتب من‬
‫أيب طالب وقال له‪ «:‬هذا الشاب سيقوم بدور عظيم يف العامل فأرجعه إىل‬
‫بالده عىل عجل واسهر عليه واحذر عليه من اليهود الذين قد يؤذونه لو‬
‫علموا منه ما أعلم »((( ‪.‬‬

‫((( سيرة ابن هشام‪ ،‬مجلد ‪ ،1‬ص ‪.115‬‬


‫‪15‬‬ ‫الباب األول ‪ :‬حقائق تاريخية أولية‬

‫وال نعرف سوى تفاصيل قليلة عن حياته منذ ذلك التاريخ حتى‬
‫تاريخ زواجه‪ .‬وعموم ًا فقد قىض شبابه يف حالة قريبة من الفقر‪ .‬ويؤيد‬
‫القرآن((( ذلك والسنة توضحه‪ ،‬فبعد أن مات أبوه وعاش يف كنف جده‬
‫مل يرث من أمه سوى َأمة سوداء وقطيع َا من الغنم ومخسة مجال‪ .‬والعمل‬
‫الذي زاوله يف تلك احلقبة كان يف الغالب رعي األغنام الذي يقول‬
‫الرسول ﷺ عنه أنه عمل األنبياء من قبله موسى وداود وغريمها‪.‬‬

‫وكان يتميز من بني أترابه الفتيان ُ‬


‫بخلقه الرفيع وبصفه خاصة‬
‫بحيائه الشديد وبعده عن اللهو الرخيص وبعفته املطلقة‪ .‬وكان جيذب‬
‫اهتامم كل من تعامل معه فأكسبه ذلك ثقة كبرية يف قلوب الناس مما برر‬
‫تسميته بـ « األمني » ‪.‬‬

‫ومثل هذه اخلصال تنبئ عن صاحبها يف املجتمع فنراه وهو يف ريعان‬


‫شبابه ﷺ ُيدعى ملجالسة رؤساء القبائل املوقرين يف حلف الفضول(((‪.‬‬

‫وبقدر ما كان زواجه يف سن اخلامسة والعرشين فرصة لرفع مستواه‬


‫املادي فقد كشف أيضا عن صفات محيدة أخرى‪ .‬فقد كلفته خدجية‬
‫األرملة الثرية الرشيفة النبيلة وهي يف احللقة الرابعة من عمرها بمهمة‬

‫((( ﴿ﮒ ﮓ ﮔ﴾ [سورة الضحى‪]8 :‬‬


‫((( كلمة الفضول معناها‪ :‬التوسط للمساعي الحميدة‪ .‬وكان هذا الحلف المكي يستهدف‬
‫مساندة الضعفاء ورد الظلم عن المظلومين وإقرار السالم بين القبائل والتصدي لمن‬
‫يحاول العبث به‪.‬‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪16‬‬

‫جتارية إىل الشام فأنجزها بذكاء ونزاهة مما أكد عندها أحقيته باسم‬
‫األمني‪ .‬ورغم الفارق املادي الشاسع بينهام فقد فاحتته يف أمر الزواج‬
‫الذي قبله رغم تباين السن؛ وظلت بعد ذلك زوجته الوحيدة طوال‬
‫ربع قرن مل يفرق بينهام سوى املوت‪ ،‬وظل الوفاء لذكراها يثري غرية‬
‫زوجاته فيام بعد‪.‬‬

‫لقد كان زواجهام من أوفق الزجيات وأثمرها فقد أنجبت له ولدين‬


‫مها القاسم وعبد اهلل اللذين توفيا يف سن الطفولة((( وأربعة بنات اعتنقن‬
‫اإلسالم ُه َّن زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة‪ .‬وستكون األخرية زوجة‬
‫عىل بن أيب طالب (رابع اخللفاء الراشدين) وتزوجت االثنتان السابقتان‬
‫عىل التوايل عثامن بن عفان (ثالث اخللفاء الراشدين)‪.‬‬

‫أما زينب فقد تزوجت قبل اإلسالم بابن عمها أيب العاص الذي‬
‫اعتنق اإلسالم فيام بعد‪ ،‬وماتت قبل وفاة النبي بعامني عن أبنتها ( ُأمامة)‬
‫التي تزوجت (علي ًا) بعد موت فاطمة‪.‬‬

‫وكان حممد أب ًا حنون ًا وزوج ًا وفي ًا أبدي عاطفة متدفقة نحو أوالده‬
‫وأحفاده‪ .‬إذ كان يسري عدة كيلومرتات عىل أقدامه ملجرد أن يراهم‬
‫ويضمهم إليه ويقبلهم عند املراضع‪ .‬وكان يرتكهم يعتلون ظهره أثناء‬
‫الصالة كام كان يقطع خطبته لكي يستقبلهم وجيلسهم إىل جواره عىل‬
‫((( ولقد رزق الرسول فيما بعد بالمدينة بولد هو ابراهيم من مريم القبطية الذي مات قبل‬
‫وفاة أبيه بشهور (أنظر محمود باشا الفلكي‪ ،‬الكتاب السابق ص ‪.)7‬‬
‫‪17‬‬ ‫الباب األول ‪ :‬حقائق تاريخية أولية‬

‫املنرب‪ .‬ونقاشه مع رجلني من بني متيم عن العاطفة األبوية((( معلوم يف‬


‫السرية‪ .‬وبعد أن حتقق له الثراء ظل عىل بساطته وزهده يف األكل ومل‬
‫يستفد من سعة رزقه إال ليوسع دائرة السعادة ملن حوله‪ .‬فوفا ًء لدين عمه‬
‫عليه واعرتاف ًا بجميله نحوه عندما رعاه يف طفولته أخذ عىل عاتقه تربية‬
‫ابن عمه األصغر عىل الذي زوجه ابنته فاطمة أصغر بناته‪.‬‬

‫وكان أهم األحداث التي وقعت بني تاريخ زواجه وتاريخ بعثته وهو‬
‫يف اخلامسة والثالثني وقت ترميم الكعبة‪ .‬فألمهية هذا الرصح الذي كان‬
‫بمثابة املعبد الوطني للجزيرة العربية كانت كل القبائل العربية تبدي له كل‬
‫تقديس رغم اختالف عقائدها‪ .‬هلذا نراها مجيع ًا حترص كل احلرص عىل‬
‫أن تنال رشف املشاركة يف أعامل إعادة بناء الكعبة‪ .‬ولقد توصلت بفضل‬
‫تقسيم العمل بينها عىل حتقيق مطالب اجلميع حتى وجد املتنافسون أنفسهم‬
‫أمام العمل الذي ال يتجزأ وهو إعادة وضع احلجر األسود يف مكانه‪ .‬فلم‬
‫يرض أحد التنازل عن حقه يف رفع احلجر ومل يستطع أحد أن يمنع تفاقم‬
‫النزاع‪ .‬ومع ذلك وقبل االلتجاء إىل السالح ُعقد اجتامع أخري تقرر فيه‬
‫االحتكام يف هذا املوضوع إىل أول شخص يدخل الرحاب املقدسة للكعبة‬
‫من باب بني شيبة‪ .‬ولقد شاءت األقدار أن يكون هذا الشخص هو حممد‬

‫((( البخاري كتاب األدب باب ‪ -18‬ورد ذكر مناقشتين يف هذا الموضوع‪ :‬األولى مع‬
‫األقرع بن حابس التميمي عندما رأى الرسول يقبل حفيده الحسن فقال األقرع‪ :‬إن‬
‫لي عشرة من الولد وما قبلت منهم أحد ًا فنظر إليه رسول اهلل ﷺ ثم قال‪ :‬من ال يرحم‬
‫ال ُيرحم‪ ،‬والثانية‪ :‬عندما جاء أعرابي إلى النبي فقال تقبلون الصبيان فما نقبلهم فقال‬
‫النبي‪ :‬أو أملك لك أن نزع اهلل من قلبك الرحمة‪.‬‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪18‬‬

‫ﷺ‪ .‬فلام رآه الناس يدخل صاحوا ‪-‬األمني ‪..‬األمني‪ -‬ومل خيب أملهم يف‬
‫انتظار احلل العادل فقد أرسع حممد ﷺ ‪ -‬يف بدهيته اليقظة ونزاهته املعهودة‬
‫‪ -‬بأن بسط رداءه عىل األرض ووضع بيديه احلجر األسود وسط الثياب‬
‫ثم طلب إىل رؤساء القبائل أن يمسك كل منهم بطرف الثوب وأن يرفعوه‬
‫مع ًا إىل املستوى املطلوب وعندما وصلوا باحلجر إىل املكان املخصص له‬
‫أخذ حممد احلجر بنفسه ووضعه مكانه‪ .‬فساد الرضا بني مجوع احلارضين‬
‫واستتب السالم بني القبائل‪.‬‬

‫السن كان حممد ﷺ قد اكتمل جسمه وعقله وخلقه وظل‬


‫ويف هذه ِّ‬
‫هذا الكامل مالزم ًا له حتى هناية حياته‪ .‬لقد كانت قامته أكثر قلي ً‬
‫ال من‬
‫املتوسط وكان قوي البنية عريض الصدر واألكتاف كبري الرأس عريض‬
‫السكينة؛ فمه واسع وأسنانه بيضاء منفصلة قلي ً‬
‫ال‬ ‫اجلبني الذي تعلوه َّ‬
‫وحليته غزيرة وشعره أسود جمعد يسقط إىل ما حتت أذنيه؛ كان أسود‬
‫العينني وبالقرنية شعريات محراء وبرشته بيضاء متيل إىل اللون الوردي؛‬
‫كانت مشيته خفيفة مهيبة كأنه ينحدر من جبل؛ ملبسه بسيط ونظيف‬
‫ومرتب‪ ،‬زهده نادر ولكنه ال يرفض الطعام الطيب إذا ما سنحت لذلك‬
‫فرصة تلقائية؛ صبور يف احتامل اآلالم والتعب من غري أن يقصدها؛ قليل‬
‫احلديث ولكن هذا اإلقالل ال ينقص من حالوة حديثه وال من إحساسه‬
‫باملرح الربئ‪ .‬وعندما صار رئيس ًا وحيد ًا للدولة مل تغره خريات الدنيا‬
‫ومتعها؛ فقد أبعد عن أهله وعن نفسه عن اقتناع كل أنواع الرتف مهام‬
‫‪19‬‬ ‫الباب األول ‪ :‬حقائق تاريخية أولية‬

‫كانت وعارضته زوجاته معارضة رصحية عندما رفض إجابة مطالبهن‬


‫أما القليل الباقي يف حوزته‬ ‫(((‬
‫املادية راغبات يف احلياة الدنيا وزينتها‬
‫بعد وفاته فلم ُي َّ‬
‫ورث ألهله وإنام وزع عىل الفقراء‪ .‬ولقد تفوق الرسول‬
‫بصفة خاصة يف الفضيلة االجتامعية إذ ُوهب لين ًا ورق ًة مل تغادراه حتى‬
‫وهو يف أوج سلطانه‪ .‬فال يعنف حمدثه مهام كان؛ و اليعجل إهناء حديثه؛‬
‫واليكون البادئ بسحب يده من يد من يصافحه‪ .‬ومع حزمه ونزاهته‬
‫يف إقامة العدل بني الناس كان متساحم ًا فيام يتعلق بحقوقه الشخصية‪.‬‬
‫يقول أنس بن مالك أحد خدمه إنه طوال عرش سنوات خدمه فيها مل‬
‫يعاقبه مرة ومل يسأله عن سبب ما فعل أو مل يفعل‪ .‬وإن كان قد نجح يف‬
‫أن يعيش يف سالم مع سائر الناس حتى ذلك الوقت ألنه عرف كيف‬
‫يستحوذ عىل حب وإعجاب كل من عارشه‪ ،‬فإنه لن يلبث أن يثري ضده‬
‫عداوة ومعارضة من ظلوا يكنون له احلب‪ .‬فقد اقرتب اآلن من احللقة‬
‫الرابعة من عمره وأصبح مقب ً‬
‫ال عىل حدث جليل سوف يعطي لسلوكه‬
‫اجتاها جديد ًا ويعترب بحق تغيري ًا حقيقي ًا ملجرى التاريخ‪.‬‬

‫وأول أعراض بعثته النبوية كام جاء يف رواية عائشة أن كل ما كان‬


‫يراه يف منامه كان يتحقق بدقة وبوضوح مثل فلق الصبح يف اليوم الثاين‪.‬‬

‫(((﴿ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ‬
‫ﯘ ﯙ ﯚ *ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ‬
‫ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ﴾ [األحزاب‪.]29-28 :‬‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪20‬‬

‫وبعد ذلك بدأ يميل إىل اخللوة والوحدة‪ .‬فاختار مكان ًا خللوته يف جبل‬
‫حراء أو جبل النور يف شامل مكة‪ .‬وهناك بعيد ًا عن جمتمع مكة الوثني‬
‫الفاسد وبعيد ًا عن املشاغل الدنيوية كان حيب أن خيلو إىل نفسه((( يف غار‬
‫يطل عىل الكعبة وعىل األفق املرتامي خلفها عىل مدى البرص‪.‬‬

‫ويف إحدى الليايل ووسط السكون املطبق من يوم ‪ 17‬من شهر رمضان‬
‫كام يقول ابن سعد (فرباير ‪ 610‬من التقويم امليالدي) دخل حممد ﷺ يف‬
‫أول اتصال له مع ما وراء الكون‪ .‬فمر بأول جتربة له مع الوحي احلقيقي‪.‬‬
‫لقد نقل إلينا بنفسه أطوار ما حدث عىل شكل حوار بينه وبني جربيل‪ ،‬بني‬
‫التابع واملريب‪ .‬قال جربيل‪ :‬إقرأ‪ ،‬قال حممد مندهش ًا‪ :‬ما أنا بقارئ‪ ،‬فكرر‬
‫جربيل قوله‪ ﴿ :‬ﭻ﴾ بعد أن ضمه إليه ضمة شديدة ‪ ،‬قال حممد‪ :‬ماذا أقرأ!‬
‫ولقد تكرر نفس األمر مع ضمة أشد من الضمة األوىل‪ ،‬كام لو كان املقصود‬
‫منها إثارة انتباهه والتمكني يف نفسه ملعاين اجلدية التي تتطلبها التبعة الثقيلة‬
‫التي سيكلف هبا‪ .‬ولكن صاحبنا املتبتل يتساءل يف هلع‪( :‬كيف أقرأ) ‪،‬‬
‫امللك‪ ﴿ :‬ﭻﭼﭽﭾﭿ* ﮁﮂﮃﮄ* ﮆﮇ‬
‫وهنا يقرأ عليه ْ‬
‫ﮈ* ﮊﮋﮌ * ﮎﮏﮐﮑ ﮒ﴾ [العلق‪.]5-1 :‬‬

‫وثبتت هذه الكلامت الكريمة يف ذاكرته‪ ،‬وأخذ يرددها لنفسه بينام‬

‫((( ال تحدد رواية البخاري مدة هذه الخلوة وإنما أوضحت أن محمد ًا يف وحدته كان‬
‫يتحنث الليالي ذات العدد وكلما نفذ طعامه يرجع إلى أهله يتزود ؛ أما ابن اسحاق‬
‫فيذكر أن مدة الخالء المتقطعة كانت شهر ًا‪.‬‬
‫‪21‬‬ ‫الباب األول ‪ :‬حقائق تاريخية أولية‬

‫اختفى امللك‪ .‬وعندما خرج حممد من الغار عائد ًا إىل داره سمع صوت ًا‬
‫يناديه‪ .‬فرفع رأسه إىل السامء وإذا بامللك ذاته يغطي األفق ويقول‪( :‬يا‬
‫حممد أنت رسول اهلل وأنا جربيل) ومل يستطع أن حيول نظره‪ ،‬أو يتقدم‬
‫أو يتأخر‪ ،‬فلم يكن حيدق يف أي نقطة يف السامء إال ويراه أمامه‪ .‬واستمر‬
‫ذلك ملدة من الزمن ثم مل يعد يرى شيئ ًا‪.‬‬

‫قد يكون االضطراب الذي أصاب حممد ًا من هذه التجربة السمعية‬


‫والبرصية اجلديدة قد أوجد عنده بعض الشك حين ًا يف حقيقة صوت‬
‫امللك أو بعض اخلوف من أن يكون قد أصابته مسة شيطانية وهو الذي‬
‫مل يمقت شيئ ًا كمقته للسحرة والكهنة فكان خيشى أن يكون قد أصبح‬
‫واحد ًا منهم‪ .‬وقد ال يبعد عن احلقيقة أن اآلالم البدنية التي نتجت عن‬
‫هذه املقابلة تشبه آالمل املوت وقد يكون قد تصور أنه مات من شدهتا‪.‬‬
‫وهبذا االضطراب املعنوي والبدين عاد حممد فور ًا إىل بيته هتزه محى باردة‬
‫وطلب من أهله أن يدثروه بغطاء ثقيل حتى يذهب عنه اخلوف‪ .‬وعندما‬
‫أهنى إىل خدجية ما حدث وأبدى هلا خماوفه واضطرابه بذلت وسعها يف‬
‫تطييب خاطره يف أطيب حديث وأمجل مواساة‪ « :‬كال واهلل ما خيزيك اهلل‬
‫أبد ًا‪ .‬إنك لتصل الرحم وحتمل الكل وتكسب املعدوم وتقري الضعيف‬
‫وتعني عىل نوائب الدهر » ‪.‬‬

‫وملا مل تستطع أن تعطي له تفسري ًا موضوعي ًا وأكيد ًا عن طبيعة هذه‬


‫الظاهرة جلأت إىل من هو خمتص يف املوضوع الستشارته‪ .‬وقررت أن‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪22‬‬

‫تذهب معه إىل ابن عمها ‪-‬ورقة بن نوفل‪ -‬وهو عجوز كفيف قد تنرص‬
‫بعد أن أمىض حياته يف املطالعات العربية ويف علوم الكتب الساموية‬
‫ِ‬
‫وسى ﷺ َيا‬ ‫وس ا َّلذي ن ََّز َل اللَُّ َع َل ُم َ‬ ‫السابقة‪ .‬فقال هلام‪َ « :‬ه َذا النَّا ُم ُ‬
‫ول اللَِّ‬‫ك ‏‪َ .‬ف َق َال َر ُس ُ‬ ‫َل ْيتَنِي فِ َيها َج َذ ًعا‪َ ،‬ل ْيتَنِي َأك ُ‬
‫ُون َح ًّيا إِ ْذ ُي ِْر ُج َك َق ْو ُم َ ‏‬
‫ت َر ُج ٌل َق ُّط بِ ِم ْث ِل َما ِج ْئ َت بِ ِه إِالَّ‬ ‫ﷺ ‏« َأو ُم ْ ِر ِجي هم » ‪.‬‏ َق َال َنعم‪َ ،‬ل ي ْأ ِ‬
‫َ ْ َْ‬ ‫َّ ُ ْ‬ ‫َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َصا ُم َؤ َّز ًرا » ‪.‬‬ ‫ْص َك ن ْ ً‬‫ُعود َي‪َ ،‬وإ ْن ُيدْ ركْني َي ْو ُم َك َأن ُ ْ‬
‫ولكن حياة ورقة مل تدم طوي ً‬
‫ال وإن كانت هذه الكلامت املطمئنة قد‬
‫ألقت ضوء األمل يف هذه النفس القلقة هلذا اإلنسان الشغوف بالعلم‬
‫والباحث عن الوضوح واليقني‪ ،‬أي هذه العقلية املوضوعية‪ ،‬وسوف‬
‫نرى أن هذا األمل مل يكن قوي ًا ومل يدم طويالً‪ .‬إذ كان طبيعيا أن يتصور‬
‫حممد حتقق هذا العلم املوعود‪ ،‬الذي أعلنه صوت احلق‪ ،‬يف األيام التالية‪.‬‬
‫فكان يعود دائ ًام يف طلب الدرس الثاين يف ذات املكان الذي تلقى فيه‬
‫الدرس األول‪ .‬وكان جيلس جملسه األول وجيوب اجلبل ويدور بنظره‬
‫يف كل اجتاه واأليام تتلو األيام واألسابيع تتواىل والشهور تتبع الشهور‬
‫ومىض العام وبدأ العام الثاين‪.‬‬

‫وكام يقول الشعبي ثم الثالث أيضا وهو يف انتظار جمئ امللك‪ .‬ويف كل‬
‫مرة يصل فيها إىل حافة اليأس كان يرى ويسمع «يا حممد أنت رسول اهلل‬
‫وأنا جربيل » كانت هذه الكلامت تلقى يف نفسه شيئ ًا من السكينة إال أن‬
‫الوحي احلقيقي كان يطول انتظاره فيغمره احلزن والضيق من جديد‪ .‬فقال‬
‫‪23‬‬ ‫الباب األول ‪ :‬حقائق تاريخية أولية‬

‫بعض الناس‪ :‬مل يكن ذلك إال لوثة من اجلنون‪ .‬وافرتض آخرون فيام بعد‬
‫أن األمر كان يتعلق فعال بمنحة ساموية عظيمة‪ ،‬إال أن ما أظهره حممد من‬
‫ضعف االحتامل جعله يبدو كام لو كان غري جدير هبذا النداء الرباين‪ .‬فنزلت‬
‫آيتان((( ((( لرتدا عنه هذه املخاوف ولكنهام مل متنحاه التعاليم املنتظرة‪.‬‬

‫ولقد شارف حممد ﷺ عامه الرابع واألربعني‪ .‬وكان يسهر شطر ًا‬
‫ال من الليل انتظار ًا هلذا القول «الثقيل املرتقب »‪ ،‬بل لقد تعود منذ‬
‫طوي ً‬
‫مقابلة الوحي األوىل أن ينعزل يف جبل حراء يف نفس الفرتة أي شهر‬
‫رمضان‪ .‬وأخري ًا عندما أتم عزلته ورشع يف نزول اجلبل من اجلانب املطل‬
‫عىل مكة سمع صوت ًا يناديه فالتفت يمينه ويساره وخلفه فلم ير شيئ ًا‪،‬‬
‫فرفع برصه إىل السامء فرأى امللك الذي رآه من قبل عىل جبل حراء ولكن‬
‫مفاجأة ظهور امللك والضخامة العظيمة هلذا املخلوق الساموي أذهلته‬
‫حتى مل تقو رجاله عىل محله‪ .‬فارتعد من اخلوف (وقد يكون أيض ًا من‬
‫برد شهر يناير) وأرسع عائدا إىل خدجية يطلب منها الرعاية السابقة‪ .‬إال‬
‫أن زائره الكريم حلق به إىل البيت حام ً‬
‫ال إليه احلكم الذي يكلفه بمهمته‬
‫الثانية‪ ﴿ :‬ﮬ ﮭ * ﮯ ﮰ ﴾ [املدثر‪ .]2-1 :‬منذ ذلك الوقت مل يقترص‬
‫دور حممد عىل أن يتلقى تعاليم ربه فحسب وإنام عليه أيض ًا أن يبلغها إىل‬

‫((( ﴿ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ﴾ [القلم‪﴿ ،]2:‬ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ﴾[الضحى‪]3:‬‬


‫((( )﴿ﭑ ﭒ * ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ * ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ * ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ * ﭦ‬
‫ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ﴾ [المزمل‪. ]5-1 :‬‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪24‬‬

‫الناس ‪ ،‬فدور الرسول ﷺ قد أضيف إىل دور النبوة‪.‬‬

‫لقد رأينا كيف أنه من خالل هذين التكليفني كان الوحي منقطع ًا‬
‫وبطيئ ًا بل وقليالً‪ ،‬ولكن ما أن بدأ التكليف بالرسالة‪ ،‬حتى أصبح‬
‫الوحي ينزل عىل الرسول ال أقول بصفة منتظمة ويف فرتات متقاربة وإنام‬
‫بنوع من االتصال ومن غري أن ينقطع مثل اإلنقطاع السابق‪.‬‬

‫فعام ‪ 612‬امليالدي هو نقطة إنطالق رسالة اإلسالم‪ ،‬وجيئ تاريخ‬


‫اهلجرة((( ليقسم فرتة الرسالة إىل قسمني متساويني تقريب ًا منها عرش‬
‫سنوات يف مكة مسقط رأس الرسول‪ ،‬وعرش سنوات يف املدينة حيث‬
‫توىف يف ‪ 12‬أو ‪ 13‬من ربيع األول عام ‪ 11‬هجرية (‪ 7‬أو ‪ 8‬يونيو ‪632‬‬
‫ميالدية) بعد أن بلغ من العمر ثالثة وستني عام ًا قمري ًا بالكامل أي أكثر‬
‫قليال من واحد وستني عام ًا شمسي ًا‪.‬‬

‫((( الهجرة معناها قطع العالقات واالبتعاد عن االختيار‪ ،‬وإن كانت أسباب ذلك غير اختيارية‪.‬‬
‫فمن المعلوم أن محمد ًا وهو يبلغ رسالته ‪ -‬اضطر إلى أن يرحل عن وطنه يف اليوم السابق‬
‫لمؤامرة كانت هتدف القضاء عليه واستقر به المقام بالمدينة‪ ،‬حيث وصل يف بداية شهر ربيع‬
‫األول (يوم ‪ 2‬أو ‪ 8‬أو ‪12‬الختالف المؤرخين) ولقد حدد الفلكي المصري السابق ذكره إعتماد ًا‬
‫على وثائق عديدة ‪ -‬يوم الهجرة بيوم األثنين ‪ 8‬من ربيع األول الموافق ‪ 20‬سبتمرب عام ‪622‬‬
‫بعد الميالد إال أنه يجب أن ال يغيب عن بالنا أن التقويم اإلسالمي بدأ من السنة القمرية التي‬
‫تمت فيها الهجرة وليس يوم هجرة الرسول أي أنه بدأ قبل ذلك بشهرين وعدة أيام أي يف‬
‫يوم أول محرم الموافق الموافق ‪ 15‬أو ‪ 16‬يوليو عام ‪ 622‬ميالدية ولما كانت السنة القمرية‬
‫الكبيسة تساوي ‪ 355‬يوما فقط وأن مجموع ‪ 33‬سنة قمرية يعادل ‪ 32‬سنة شمسية تقريبًا‬
‫فيمكن تحويل التاريخ الهجري (هـ) إلى تاريخ ميالدي (م) أو العكس باستخدام إحدى‬
‫المعادلتين التاليتين‪ :‬م= هـ ‪ – 622 +‬هـ‪ ، 32/‬هـ= م – ‪.32/32 622‬‬
‫‪25‬‬ ‫الباب األول ‪ :‬حقائق تاريخية أولية‬

‫والشك أن من األمور الطريفة حق ًا متابعة الرسول يف نشاطه‬


‫الدؤوب ويف رسالته اهلادية طوال العرشين سنة والتي نتج عنها ثورة‬
‫من أكرب الثورات احلضارية التي عرفتها البرشية‪ .‬ولكن ملا كان اهلدف‬
‫الرئييس من هذا الكتاب هو دراسة حتليلية للبناء القرآين ذاته‪ ،‬ونظر ًا‬
‫ألننا قد تناولنا بالدراسة حياة حممد ﷺ حتى بلغنا نقطة إلتقاء الرسول‬
‫برسالته‪ ،‬نستطيع اآلن أن نتناول بالبحث الكتاب الذي تركه لنا‪.‬‬

‫وسوف نتناول يف الفصل التايل كيفية تكوين الكتاب الكريم‬


‫وتنظيمه وحفظه وتناقله عرب التاريخ‪.‬‬
‫‪27‬‬

‫الفصل الثاين‬
‫كيف مجع نص التنزيل احلكيم‬
‫وإذا كان نص القرآن الكريم الذي بني أيدينا اليوم مطابق ًا متام ًا‬
‫ملا أماله الرسول ﷺ لكتبة الوحي‪ ،‬فإن الشكل اخلارجي قد طرأ عليه‬
‫تغيري كبري‪ .‬إذ مل يكن هناك ما يطلق عليه كتاب ًا أو جملد ًا‪ .‬فقد نزل القرآن‬
‫أجزاء متفرقة تتباين أطواهلا من سورة كاملة إىل آية واحدة وأحيان ًا جزء‬
‫من اآلية‪ .‬وكان الرسول ﷺ يتلو كل جزء ينزل عليه ويعلمه للسامعني‬
‫ليصل عن طريقهم إىل من مل يسمعه من فم الرسول ﷺ مبارشة‪ .‬وكان‬
‫الناس مجيع ًا ينتظرون الوحي يشغف ويتمنون أن يتلقوه فور نزوله‪.‬‬

‫غري أن النص املنزل مل يقترص عىل كونه (قرآن ًا) أي جمموعة من اآليات‬
‫تتىل وتقرأ وحتفظ يف الصدور‪ ،‬وإنام كان أيض ًا (كتاب ًا) مدونا باملداد‪ .‬فهاتان‬
‫الصورتان تتضافران وتصحح كل منهام األخرى‪ .‬وهلذا كان الرسول ﷺ‬
‫كلام جاءه الوحي وتاله عىل احلارضين أماله من فوره عىل كتبة الوحي‬
‫ليدونوه عىل أي يشء كان يف متناول أيدهيم مثل الورق أو اخلشب أو قطع‬
‫اجللد أو صفائح احلجارة أو كرس األكتاف‪ ...‬الخ‪ .‬ويذكر العلامء الثقات‬
‫أن عدد كتّاب الوحي بلغ تسعة وعرشين كاتب ًا أشهرهم اخللفاء اخلمسة‬
‫األوائل‪ .‬ولكن معاوية وزيد بن ثابت كانا أكثر ارتباط ًا بمهمة الكتابة التي‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪28‬‬

‫مل تأخذ الطابع الرسمي إال يف املدينة‪ .‬إال أن املسلمني بمكة مل يتوانوا يف‬
‫تسجيل اآليات يف خمطوطات شخصية الستعامهلم اخلاص‪ .‬ولقد لوحظ‬
‫منذ وقت مبكر أن جمموعات اآليات مل تكن لتبقى منعزلة بعضها عن‬
‫بعض‪ ،‬وال أن تتواىل بعضها تلو األخرى حسب نزول الوحي‪ .‬وقد كانت‬
‫جمموعات تتزايد بمعزل عن جمموعات أخرى‪ .‬وتكون تدرجيي ًا وحدات‬
‫مستقلة بعد أن تنضم إليها آيات أخرى نزلت بعدها‪ .‬وأن آيات كانت‬
‫تضاف هنا واألخرى تتداخل مع غريها هناك بحسب أمر الرسول ﷺ‬
‫الرصيح الذي كان يتلقاه بدوره من روح القدس‪ .‬وحتى تتاح الفرصة‬
‫لسور القرآن لكي يتم بناؤها تدرجييا كان ينبغي االنتظار إىل أن يكتمل‬
‫الوحي كله إلخراج القرآن يف شكل وحدة كاملة‪.‬‬

‫ومل حيل هذا بني املؤمنني وبني املعرفة الشفوية ملوضع كل آية جديدة‬
‫من كل سورة عىل وجه التحديد‪ ،‬يف كل مرحلة من مراحل نزول الوحي‪.‬‬
‫وكان يف حياة الرسول ﷺ مئات من الصحابة يطلق عليهم (حفظة‬
‫القرآن) ختصصوا يف تالوة القرآن وحفظه عن ظهر قلب‪ ،‬ويف معرفة‬
‫كل سورة يف هيئتها املؤقتة أو النهائية‪ .‬وكان الرسول يذكر أنه يف شهر‬
‫رمضان من كل عام كان يقوم بمراجعة عامة وتالوة اآليات التي نزل هبا‬
‫الوحي يف حضور جربيل وأنه يف العام األخري راجع عليه جربيل القرآن‬
‫مرتني مما جعل الرسول ﷺ يتنبأ بقرب أجله‪.‬‬
‫‪29‬‬ ‫الباب األول ‪ :‬حقائق تاريخية أولية‬

‫ومل يمض عام واحد بعد أن قبض الرسول ﷺ إال وبدت احلاجة‬
‫ملحة جلمع وثائق القرآن يف جمموعة مدونة‪ ،‬سهلة االستعامل حيث‬
‫تتتابع آيات كل سورة‪ ،‬كام هو ثابت يف حافظة املسلمني‪ .‬ولقد تقدم عمر‬
‫بن اخلطاب بالفكرة إىل اخلليفة األول عقب معركة الياممة التي قتل فيها‬
‫مئات من املسلمني منهم «سبعون من حفظة القرآن»‪.‬‬

‫وكان عمر هيدف ليس فقط إىل حفظ املدون من القرآن يف مأمن‬
‫من األخطار‪ ،‬وإنام أيضا إىل إقرار الشكل النهائي هلذا الكتاب املقدس‬
‫وتوثيقه عن طريق حفظته الباقني عىل قيد احلياة‪ ،‬واعتامده من الصحابة‬
‫احلافظني‪ .‬ولقد عهد أبو بكر هبذه املهمة إىل زيد بن ثابت وقال له‪« :‬إنك‬
‫رجل ذكي ال نتهمك‪ .‬وكنت تكتب الوحي يف عهد الرسول ﷺ‪ .‬فقم‬
‫بجمع القرآن»(((‪.‬‬

‫وكان زيد قد حرض بنفسه آخر تالوة للقرآن قام هبا الرسول‬
‫ﷺ‪ .‬ووضعت قاعدة للعمل‪ ،‬تقىض بأال يؤخذ بأي خمطوط ال يشهد‬
‫شخصان عىل أنه مكتوب ليس من الذاكرة‪ ،‬وإنام بإمالء الرسول ﷺ‬
‫ذاته‪ ،‬وأنه جزء من التنزيل يف صورته النهائية‪ .‬وبعد مجع القرآن بكل هذه‬
‫االحتياطات‪ ،‬سلمه زيد إىل أيب بكر الذي احتفظ به طوال خالفته‪ ،‬وعهد‬

‫((( بعد أن ْأو َر َد لوبلوا هذه الرواية أردف قائال‪ «:‬من ذا الذي لم يتمن لو أن أحد ًا من‬
‫تالميذ عيسى الذين عاصروه قام بتدوين تعاليمه بعد وفاته مباشرة » ‪ .‬القرآن والتوراة‬
‫العربية ‪ -‬ص ‪ 47‬مذكرة ‪.5‬‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪30‬‬

‫به قبل موته إىل عمر‪ ،‬ثم قام عمر بتسليمه إىل ابنته حفصة أم املؤمنني‬
‫يف آخر حلظة من حياته‪ .‬ويتميز أول مصحف رسمي (الذي يمكن أن‬
‫نشبهه بملف جيمع صحفا مرتبة وغري جملدة) بكامله املطلق وبمطابقته‬
‫املطلقة للنص املنزل‪.‬‬

‫وخيتلف عن النسخ األخرى الكاملة أو الناقصة التي كانت عند‬


‫األفراد بأنه استبعد منه كل ما مل يتضمنه النص األصيل طبقا للعرضة‬
‫األخرية‪ .‬كام كان خيلو من أسامء السور‪ .‬ولكن رغم قيمة هذا املصحف‬
‫العظيمة ورغم ما استحقه وناله من العناية التي بذلت يف مجعه‪ ،‬وبقائه‬
‫حمفوظ ًا بعناية عند اخلليفتني األولني‪ .‬فإنه مل تتح فرصة نرشه إال يف خالفة‬
‫عثامن بعد معارك أرمينية وأذربيجان‪.‬‬

‫فحني جتمعت جيوش املسلمني الوافدة من سوريا ومن العراق‪،‬‬


‫الحظوا بعض االختالف يف القراءات‪ .‬إذ كان السوريون يتبعون قراءة‬
‫« ُأ َ ّ‬
‫ب» والعراقيون يتبعون قراءة«ابن مسعود»‪ .‬فقال بعضهم لبعض‬
‫«قراءتنا خري من قراءتكم » ففزع حذيفة بن اليامن إىل عثامن وطلب‬
‫إليه أن يضع حد ًا هلذا اللجاج الذي قد يؤدي إىل مثل ما وقع فيه اليهود‬
‫والنصارى من فرقة بشأن كتبهم‪ .‬فشكل عثامن جلنة من أربعة نساخ من‬
‫الصحابة منهم زيد بن ثابت نفسه ‪ -‬من األنصار ‪ -‬وعبد اهلل بن الزبري‬
‫وسعيد بن العاص وعبد الرمحن بن احلارث بن هشام ‪ -‬من املهاجرين‪.‬‬
‫‪31‬‬ ‫الباب األول ‪ :‬حقائق تاريخية أولية‬

‫وكلفهم بنسخ مصحف حفصة بعدد من النسخ تعادل عدد األمصار‬


‫(((‬

‫الرئيسة يف الدولة اإلسالمية‪.‬‬

‫وبانتهاء هذا العمل بام يتفق متام ًا مع النص األصيل‪ ،‬أعيد مصحف‬
‫ووزعــت عىل األمصار‪،‬‬
‫حفصة إليها بينام ُجلدت النسخ األخرى ُ‬
‫باعتبارها نامذج ال بديل هلا وتبطل كل ما خيالفها من قريب أو بعيد‪.‬‬

‫ولقد ظن بعض الشيعة أن عثامن قد بدل يف نص القرآن أو أنه‬


‫عىل وجه التحديد أسقط شيئ ًا يتعلق بعيل بن أيب طالب‪ .‬فلو صح‬
‫ذلك لراجعه محلة القرآن وما أكثرهم يف وقت نرش مصحف عثامن عند‬
‫مضاهاته عىل ما حيفظونه يف صدورهم‪ .‬إال أنه حتى ابن مسعود نفسه قد‬
‫أقر بصحة مصحف عثامن برغم عدم رضائه عن السياسة لعدة أسباب‪.‬‬
‫ونظر ًا لغرية املسلمني األوائل ‪ -‬وهم بطبيعة احلال أكثر حتمس ًا لكالم‬
‫اهلل من خلفائهم ‪ -‬يستحيل علينا أن نعلل قبول الكافة ملصحف عثامن‬
‫دون منازعة أو معارضة‪ ،‬بأنه راجع إىل انقياد غري متبرص من جانبهم‪.‬‬
‫ولقد قرر «نولدكه» أن ذلك يعد أقوى دليل عىل أن النص القرآين « عىل‬
‫أحسن صورة من الكامل واملطابقة »‪.‬‬

‫ومهام يكن من أمر‪ ،‬فإن هذا املصحف هو الوحيد املتداول يف العامل‬


‫((( يتفق أغلب الرواة على أهنا كانت خمس نسخ خطية (فيما عدا نسخة عثمان الشخصية)‬
‫أرسلت إلى مكة والمدينة والبصرة والكوفة ودمشق‪ .‬ويذكر حاتم السجستاين نسختين‬
‫لليمن والبحرين (كتاب المصاحف البن أبي داود ص ‪.)74‬‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪32‬‬

‫اإلسالمي ‪ -‬بام فيه فرقة الشيعة ‪ -‬منذ ثالثة عرش قرن ًا من الزمان‪ .‬ونذكر‬
‫هنا رأي الشيعة اإلمامية (أهم فرق الشيعة) كام ورد بكتاب أيب جعفر‬
‫األم « إن اعتقادنا يف مجلة القرآن الذي أوحى به اهلل تعاىل إىل نبيه حممد‬
‫ﷺ هو كل ما حتتويه دفتا املصحف املتداول بني الناس ال أكثر‪ .‬وعدد‬
‫السور املتعارف عليه بني املسلمني هو ‪ 114‬سورة‪ .‬أما عندنا فسورتا‬
‫الضحى والرشح تكونان سورة واحدة‪ ،‬وكذلك سورتا الفيل وقريش‪،‬‬
‫وأيضا سورتا األنفال والتوبة‪ .‬أما من ينسب إلينا االعتقاد يف أن القرآن‬
‫أكثر من هذا فهو كاذب » ‪( .‬وهذا الفرق الشكيل ال يوجد إال نظري ًا؛ ألن‬
‫نسخهم ال ختتلف عن نسخ أهل السنة يف يشء)(((‪.‬‬

‫وبناء عىل ذلك أكد «لوبلوا»‪« :‬أن القرآن هو اليوم الكتاب الرباين‬
‫الوحيد الذي ليس فيه أي تغيري يذكر»‪.‬‬

‫وكان «و‪ .‬موير» قد أعلن ذلك قبله إذ قال ‪ « :‬إن املصحف الذي‬
‫مجعه عثامن قد تواتر انتقاله من يد ليد حتى وصل إلينا بدون أي حتريف‪.‬‬

‫((( أما «سورة النورين » الموضوعة والتي نشرها «جارسين دي تاسي » تحت عنوان‪:‬‬
‫«سورة مجهولة من القرآن» فقد أثبت العالم الجليل ‪ -‬ميرزا اسكندر كاظم ‪ -‬أن السورة‬
‫المزعومة اليوجد لها أثر يف مصحف الشيعة‪ ،‬ولم يرد ذكرها ىف مؤلفاهتم الخاصة‬
‫وعلي لم‬
‫ّ‬ ‫بمجادالهتم التقليدية‪ .‬بل إن عنواهنا «النورين» والذي يشير إلى محمد ﷺ‬
‫يظهر ألول مرة عند الشيعة إال يف القرن السابع الهجري طبقًا لما جاء عند الطوسي‪.‬‬
‫وهي التعدو أن تكون تراكمًا ركيكًا من العبارات والكلمات المسروقة من القرآن‪،‬‬
‫وهذا يتعارض تعارضًا شديد ًا مع أناقة األسلوب القرآين وتناسقه‪.‬‬
‫‪33‬‬ ‫الباب األول ‪ :‬حقائق تاريخية أولية‬

‫ولقد ُحفظ بعناية شديدة بحيث مل يطرأ عليه أي تغيري يذكر‪ .‬بل نستطيع‬
‫القول إنه مل يطرأ عليه أي تغيري عىل اإلطالق يف النسخ التي ال حرص‬
‫هلا‪ ،‬واملتداولة يف البالد اإلسالمية الواسعة‪ ...‬فلم يوجد إال قرآن واحد‬
‫جلميع الفرق اإلسالمية املتنازعة‪ ،‬وهذا االستعامل اإلمجاعي لنفس‬
‫النص املقبول من اجلميع حتى اليوم يعد أكرب حجة ودليل عىل صحة‬
‫النص املنزل املوجود معنا‪ ،‬والذي يرجع إىل اخلليفة املنكوب عثامن الذي‬
‫مات مقتوال»‪.‬‬

‫وهذا احلكم الذي يمتاز بنزاهة تارخيية ال مثيل هلا حيتاج إىل تصحيح‬
‫ىف نقطتني؛ ألنه أرجع النص القرآين إىل عثامن يف حني أن عثامن مل يقم‬
‫إال بنرش املخطوط املجموع يف عهد أيب بكر والذي مل يكن إال التدوين‬
‫الكامل حسب ترتيب العرضة األخرية للرسول ﷺ بإمالء الرسول نفسه‪،‬‬
‫ويتضمن احلكم أيض ًا زيادة بأن أكد بأن النسخ املتداولة ال تتضمن أي‬
‫اختالف يف القراءة‪ .‬ونعلم عكس ذلك‪ .‬فإن احلروف املتحركة الطويلة‬
‫تكتب دائ ًام يف جسم كل كلمة بينام احلروف املتحركة القصرية واملتوسطة‬
‫ال تكتب أبد ًا‪ .‬كام أن جمموعة كبرية من احلروف العربية ال ختتلف عن‬
‫بعضها إال ببعض نقط التشكيل مثل الياء والنون والباء والتاء‪ ..‬ومل تكن‬
‫هذه النقط تستخدم يف عهد النبي ﷺ وال يف عهد اخللفاء الراشدين‬
‫الثالثة من بعده‪ .‬ويف الغالب كان النطق ال يتضح إال بإرشاد شفوي‪ .‬غري‬
‫أن السنة توضح لنا أن الرسول ﷺ مل يتبع نطق ًا واحد ًا عند تعليمه القرآن‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪34‬‬

‫للمسلمني‪ .‬فلم يكن نادر ًا أن يعطي للكلمة الواحدة (أو أصلها) أكثر من‬
‫قراءة‪ ،‬كلها صحيحة وهلا مدلوهلا مثل «ملك » قد تُقرأ «مالك»أو «ملك»‬
‫وكذلك «فتبينوا» يمكن قراءهتا «فتثبتوا » طبق ًا للقراءات املختلفة الواردة‬
‫يف السنة‪ .‬فقد قال الرسول ﷺ‪« :‬إن هذا القرآن نزل عىل سبعة أحرف‪،‬‬
‫فاقرءوا ما تيرس منها»‪ .‬ويروي البخاري أن عمر ثار عىل هشام بن حكيم‬
‫يب بن كعب ُصدم من‬
‫بن حزام لقراءته سورة الفرقان‪ ،‬ويذكر الطربي أن أ ّ‬
‫قراءة سورة النحل‪ .‬وعندما احتكموا إىل الرسول ﷺ أقر القراءتني‪ .‬وىف‬
‫رأينا أن نرش القرآن بعناية عثامن كان هلدفني‪:‬‬

‫أوهلام ‪ :‬أن إضفاء صفة الرشعية عىل القراءات املختلفة ‪ -‬التي كانت‬
‫تدخل يف إطار النص املدون وهلا أصل نبوي جممع عليه ‪ -‬ومحايتها‪ ،‬فيه‬
‫منع لوقوع أي شجار بني املسلمني بشأهنا‪.‬‬

‫وثانيهام ‪ :‬استبعاد ما ال يتطابق تطابق ًا مطلق ًا مع النص األصيل‪،‬‬


‫وقاية للمسلمني من الوقوع يف انشقاق خطري فيام بينهم‪ ،‬ومحاية للنص‬
‫ذاته من أي حتريف نتيجة إدخال بعض العبارات املختلف عليها نوع ًا ما‪،‬‬
‫أو أي رشوح يكون األفراد قد أضافوها ملصاحفهم بحسن نية‪.‬‬

‫وليس معنى ذلك أن الطبعة العثامنية‪ -‬فض ً‬


‫ال عن املصحف العثامين‬
‫األصيل ‪ -‬تتضمن مجيع القراءات التي قد يكون الرسول ﷺ قد علمها‬
‫للناس باسم السبعة أحرف؛ ألهنا إذا كانت قد اشتملت بالفعل عىل‬
‫‪35‬‬ ‫الباب األول ‪ :‬حقائق تاريخية أولية‬

‫القراءات التي اتفق عىل أن النص األصيل كان يتضمنها يف صورته‬


‫األخرية‪ ،‬فقد استبعدت هذه الطبعة كل قراءة واردة عن طريق اآلحاد‪،‬‬
‫وال يتوافر فيها الضامن املطلوب‪ .‬ولقد وفق هذا املبدأ منذ البداية بني‬
‫آراء آالف الصحابة احلارضين وارتضوه عن طيب خاطر‪ .‬ونضيف أن‬
‫هذا االستبعاد عن النص املدون مل يكن الغرض منه وال من نتائجه إلغاء‬
‫القراءات الشفوية‪ .‬بل إنه ترك الباب مفتوح ًا لكل من كان يؤكد إنه‬
‫سمع الرسول ﷺ يقرأ بقراءة معينة لكي يقرأ بقراءته اخلاصة بحرية تامة‬
‫وحتت كامل مسئوليته األدبية ومن غري أن يلزم مجاعة املسلمني بام يؤكد‬
‫سامعه‪ .‬وهذا ما أكده عثامن حني قال‪ :‬أما القرآن فلم أمنعكم إال ألين‬
‫خشيت عليكم الفرقة‪ .‬ويمكنكم أن تقرءوا باحلرف الذي يتيرس لكم‪..‬‬
‫ومل يتوقف املتفقهون يف علوم الدين يف كل زمان عن االهتامم بدراسة هذه‬
‫القراءات الفردية‪ .‬والزالت حتى اليوم يكسوها طابع التقديس وتستخدم‬
‫يف مدارس أهل السنة – ال عىل أهنا نص قرآين ‪ -‬ولكن كأحاديث آحاد‪.‬‬
‫والسبب الذي أدى إىل استبعادها عن النص الصحيح وقت مجع القرآن‬
‫أهنا مل تتوفر فيها الرشوط اجلوهرية إلثبات صحة النص وهو الضامن بأن‬
‫النص عىل شكله املدون تتوفر فيه املراجعة الكافية والتصديق الوايف عىل‬
‫صحته من ذات الرسول ﷺ أو ممن يمثله‪ .‬فض ً‬
‫ال عن أن هذه القراءات‬
‫غري الرسمية ال تتعلق بكل سور القرآن والحتى بسورة واحدة بأكملها‪.‬‬

‫وكل ما عنى به الصحابة إذن إلثبات صحة النص القرآين هو‬


‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪36‬‬

‫املطابقة احلرفية لكل جزء منه طبق ًا ملا نزل و ُد ِّون بإمالء الرسول ﷺ‪،‬‬
‫ُل فيام بعد أمامه ومحل تصديقه النهائي قبل وفاته‪ .‬وهذه املوضوعية‬ ‫ِ‬
‫ثم ت َ‬
‫املطلقة هي الباقية واخلالدة عىل مدى الدهر تشهد هلم ال عليهم‪.‬‬

‫وإذا كان إعدام((( املخطوطات الفردية يبدو فيه يشء من القسوة يف‬
‫الوقت الذي مل حيدث بالفعل أي حتريف عىل اإلطالق‪ ،‬فإنه يدل عىل أن‬
‫عثامن كان بعيد النظر وعميق ًا يف إدراك حقيقة األمور‪.‬‬

‫ويرجع فضل متتع املسلمني اليوم بوحدة كتاهبم واستقراره إىل هذا‬
‫العمل املجيد من جانب عثامن‪ .‬وما أضيف إىل املصحف العثامين من‬
‫عالمات خارجية‪ ،‬ووجود بعض احلروف الزائدة أو الكلامت املدغمة‬
‫أو الكتابات القديمة التي اقترصت عىل كتابة املصاحف وحدها يف مجيع‬
‫نسخ القرآن اليوم املطبوع منها واملخطوط‪ ،‬يعد شهادة بليغة عىل األمانة‬
‫التي انتقل هبا البناء القرآين من جيل إىل جيل حتى وصل إلينا هبذا الكامل‬
‫املنقطع النظري‪ ،‬وأن النص باق كام هو عىل الدوام يتحدى الزمن‪.‬‬

‫((( الواقع أنه لم يقم هبذا اإلجراء من تلقاء نفسه ومن غير استشارة الناس‪ ،‬فقد قرر علي‬
‫بن أبي طالب يف إحدى خطبه أن هذا اإلجراء لم يتخذ إال باتفاق جميع الصحابة‬
‫علي نفسه (ابن أبي داود ص ‪.)22-12‬‬‫الحاضرين‪ ،‬وأنه لو أن عثمان لم يقم به لقام به ّ‬
‫‪37‬‬

‫الفصل الثالث‬
‫كيف تم تبليغ املبدأ القرآين إىل العامل‬
‫كل الدنيا تعرف بصفة عامة ما هو املبدأ القرآين الذي نسميه اإلسالم‪.‬‬
‫وغالب ًا ما تقترص هذه املعرفة عىل السامت اخلارجية‪ .‬فيقال‪ :‬إن اإلسالم‬
‫هو ذلك اإلصالح الديني واالجتامعي واألخالقي الذي بمجرد أن ظهر‬
‫عىل ساحل البحـر األمحر يف بداية القرن السابع امليالدي‪ ،‬سار بخطوات‬
‫منترصة نحو الشامل واجلنوب ونحو الرشق والغرب حتى إنه انترش يف‬
‫نصف العامل املعروف يف ذلك احلني يف فرته قصرية نسبي ًا‪.‬‬

‫هذا احلدث التارخيي اجلليل الذي ال مثيل له عىل مر الزمان‪ ،‬قد‬


‫أثار اهتامم اإلنسانية مجعاء‪ ،‬كام أثار فضول مؤرخي األخالق واألديان‪،‬‬
‫فحاولوا أن جيدوا له شبيها يف القديم دون جدوى‪ .‬وقارنوه أحيان ًا‬
‫بفتوحات اإلسكندر املقدوين إذ كانت واسعة ورسيعة ولكنها مل تأت‬
‫بأي تغيري سواء يف أفكار الشعوب أو عاداهتا‪ ،‬وما لبثت هذه الفتوحات‬
‫أن زال أثرها عند أول بواكري اإلسالم‪ .‬فلم تتجاوز أعامل اإلسكندر‬
‫األكرب جمال التعمري احلضاري بإقامة مدن عظيمة يف الرشق حيث‬
‫ساد الرخاء االقتصادي وقت ًا طويالً‪ ،‬أما جمموعة الشعوب والفالحون‬
‫فقد احتفظوا بطباعهم من حيث اللغة واألخالق والنظم السياسية‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪38‬‬

‫واالقتصادية‪ .‬وحتى يف املدن مل تتأصل األفكار والعادات اليونانية إال‬


‫يف أقلية من التجار الرأسامليني‪ .‬ثم أن املستعمرين اإلغريق أنفسهم قد‬
‫خضعوا فيام بعد لفاحتني آخرين‪ .‬وإن هذه املدن دمرت تدرجيي ًا يف ظل‬
‫حكم األمرباطورية الرومانية‪ .‬أما يف املجال الفكري فإن اإلسكندر مل‬
‫ينقل معه الفكر اليوناين وإنام تبنى بدون قيد وال رشط األفكار التي‬
‫كانت سائدة يف البالد املغلوبة يف ذلك الوقت واعتنق عقائدها‪ .‬ومل يكن‬
‫حلفاؤه خري ًا منه إذ مل يغريوا شيئ ًا عىل اإلطالق‪.‬‬

‫وخالل احلكم اليوناين والروماين وجدت األفكار الفلسفية‬


‫والدينية ‪ -‬وهي مذاهب رشقية بحتة ‪ -‬الفرصة مواتية لكي تنتقل عن‬
‫طريق اليونانيني إىل أوروبا باسم األفالطونية اجلديدة أو املسيحية‪ .‬وهلذا‬
‫حيق لنا أن نقول إن الرشق يف احلقيقة هو الذي غلب فاحتيه‪.‬‬

‫ثم جاء اإلسالم فتغري كل يشء بني يوم وليلة‪ .‬ومل يقترص عىل‬
‫الواجهة السياسية واالقتصادية فقط‪ ،‬وإنام تغلغل يف أعامق هذه الشعوب‬
‫النفسية‪ :‬فاللغات واألفكار والقانون واآلمال والعادات وتصور العامل‬
‫وفكرة اهلل‪ .‬كل ذلك قد طرأ عليه تغيري جذري رسيع‪.‬‬

‫ومل يقترص هذا التأثري عىل النفوس التي آمنت به‪ ،‬بل إنه كان ينزع‬
‫دائام إىل االنتشار وكسب األتباع اجلدد كلام أتيحت لإلسالم الفرصة‬
‫لكي يظهر يف بساطته ونقائه‪.‬‬
‫‪39‬‬ ‫الباب األول ‪ :‬حقائق تاريخية أولية‬

‫ولكن هذه احلقيقة تتعارض مع رأي ذائع االنتشار وتلوكه األلسنة‬


‫يف الغرب من أن اإلسالم مل ينترش إال بحد السيف‪ .‬بينام التأثري الذي‬
‫يامرسه اإلسالم عىل النفوس يف الوقت احلارض هو خري دليل عىل أن له‬
‫قوة ذاتية وتوافق ًا فريد ًا مع الطبيعة البرشية وحقيقة األشياء‪.‬‬

‫ولقد حدث يف السنوات العرش األوىل من الدعوة اإلسالمية أن‬


‫قامت القوى املعادية تصب أحقادها وتستخدم كل عنفها الضطهاد‬
‫الدعوة الناشئة وتعذيب أتباعها‪ ،‬يف حني أن العرض البسيط ملبادئ‬
‫اإلسالم كان جيذب كل يوم مسلمني جدد رغم كل العقبات‪ .‬وتشهد هذه‬
‫السنوات بمدى البطولة والتسامح اللذين كان الرسول ﷺ واملسلمون‬
‫يتحملون هبام سخرية قومهم وسبهم‪ ،‬فضال عن العزلة واملقاطعة التي‬
‫فرضت عليهم مع استخدام أقسى أنواع التعذيب والتنكيل‪ ،‬مما أجرب‬
‫مئات املسلمني ومنهم أرشاف قريش عىل أن يبحثوا عن ملجأ أمني‬
‫بالقرب من ملك احلبشة‪.‬‬

‫ولكن املثل األخاذ يف هذه احلقبة الذي يدل عىل األثر العجيب هلذا‬
‫النداء السلمي رضبه لنا سكان يثرب‪ .‬فمن قبل أن يروا وجه الرسول‬
‫الكريم ﷺ‪ ،‬ومن قبل أن يسمعوا صوته الندي‪ ،‬وبمجرد أن سمعوا‬
‫التنزيل القرآين عىل لسان حجيجهم‪ ،‬أقبل عرب املدينة عىل اإلسالم‪،‬‬
‫وتلقوا القرآن بشغف حتى مل تبق أرسة واحدة إال وكان من بني أفرادها‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪40‬‬

‫عدد من املؤمنني‪ .‬وأكثر من ذلك أن العداوات واخلصومات التي ظلت‬


‫مشتعلة بينهم ما يقرب من ربع قرن‪ ،‬قد انطفأت فجأة بنفحة ربانية‪،‬‬
‫وأصبحوا بنعمة اهلل إخوانا‪ .‬وكانت العبادات اإلسالمية التي مل متارس‬
‫بمكة بسبب االضطهاد ‪ -‬تقام مجاع ًة عىل مسمع وعىل مرأى من الناس‬
‫مجيع ًا يف املدينة‪ .‬وىف هذا الوسط الكريم استُقبل مجيع املهاجرين بحفاوة‪،‬‬
‫بعد أن تركوا ديارهم وأمواهلم‪ ،‬وبعد أن أوذوا بمكة أشد اإليذاء‪.‬‬

‫وحتى ذلك الوقت كان كل يشء يمر بسالم عىل األقل من جانب‬
‫املسلمني‪ ،‬ومل يكن هناك ما ينبئ عن إمكان االلتجاء إىل القوة‪ .‬بعد أن‬
‫اطمأن الرسول ﷺ عىل مصري أتباعه ووصوهلم إىل بر األمان‪ ،‬حتى‬
‫اعتقد أن املطلوب منه البقاء بمكة واالستمرار يف دعوته‪ ،‬إال أنه تلقى‬
‫األمر اإلهلي باهلجرة يف اللحظة التي بدأ فيها تنفيذ مؤامرة عىل حياته‪.‬‬
‫وبعد أن نجا من هذا اخلطر بمعجزة‪ ،‬أمل يكن ينبغي عليه أن يفكر يف‬
‫االنتقام من أعدائه؟ كال‪ .‬وإذا تتبعنا نشاطه بعد اهلجرة نجد أنه كان‬
‫يوجهه ألعامل سلمية نبيلة وبناءة‪ :‬منها تشييد مسجده‪ ،‬وتنظيم املجتمع‬
‫داخلي ًا وسلمي ًا‪ ،‬وتنفيذ فريضة الصيام‪ ،‬ووضع نظام اآلذان‪ .‬وكل يشء‬
‫كان يبدو وكأن املسلمني قد أداروا ظهورهم عن مكة هنائيا‪ ،‬حتى يف قبلة‬
‫الصالة‪ ،‬إىل أن حان منتصف العام الثاين للهجرة‪ ،‬حيث بدأوا يعرتضون‬
‫قوافل قريش متهيد ًا ملنازلتهم‪..‬‬
‫‪41‬‬ ‫الباب األول ‪ :‬حقائق تاريخية أولية‬

‫من أين جاء هذا التغيري املفاجئ؟‬

‫ال يمكن تفسري هذا التحول إىل نفسية الرسول ﷺ فقد اتفق‬
‫املسترشقون عىل أن اإلجراءات احلربية ليست من طبعه‪ .‬بل إن تساحمه‬
‫وعفوه عن املرشكني كثري ًا ما جلب عليه لوم ًا من القرآن‪.‬‬

‫﴿ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ‬
‫ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ﴾ [األنفال‪]67:‬‬

‫وقوله تعاىل‪ ﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ‬


‫ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ﴾[التوبة‪]80:‬‬

‫وقــولــه تــعــاىل‪﴿:‬ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ‬
‫ﭪﭫ ﭬﭭﭮﭯﭰ ﭱﭲﭳﭴﭵ‬
‫ﭶ﴾ [التوبة‪.]113:‬‬

‫كام أن األثر نقل إلينا كثريا من عفوه جتاه جرائم ارتكبت ضد‬
‫شخصه أو ضد ذويه(((‪.‬‬

‫وال يعزى كذلك إىل نفسية الشعب العريب الذى يتميز بالروح احلربية‬
‫كطبع أصيل فيه‪ .‬إذ أن العلامء ال يؤيدون مثل هذا االفرتاض‪ .‬فقد أثبتوا‬

‫((( منها عفوه عن مبعوث قريش الذي جاء بعد بدر الغتياله‪ ،‬وعن اليهودية التى دست له‬
‫السم‪ .‬واألخرى التي دفعت ابنته زينب‪ ،‬فأجهضتها‪ .‬وعفوه عن الذين جاءوا باإلفك‪،‬‬
‫وعن أهل مكة وقت الفتح (انظر «محمد والقرآن» سان هيلير ص ‪.)130-125‬‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪42‬‬

‫أن الدماء تثري الفزع يف نفوس العرب وال سيام أعراب الصحراء‪ .‬أما‬
‫احلرب عندما تفرض عليهم فإهنم يقبلوهنا بدالً من حتمل الذل والعار‪.‬‬

‫فال بد أن شيئ ًا ما قد حدث ىف تلك الفرتة أدى إىل املوقف اجلديد‪.‬‬


‫والواقع أن القرآن جيسد أمامنا مشهد ًا مثري ًا للغاية‪ ،‬إذ ينقل إىل أسامعنا‬
‫صوت استغاثة من «الرجال والنساء والوالدان» الذين أسلموا وهم‬
‫بمكة وال سند هلم يعينهم عىل اهلجرة أو عىل دفع الظلم عنهم‪ ،‬ويتعذبون‬
‫بإيامهنم ويطلبون العون اإلهلي لنجدهتم‪ .‬فلقد كان الغرس القديم ‪-‬‬
‫الدرس والقدوة ‪ -‬مثمر ًا وهو بعيد عن أية دعاية جديدة‪ .‬وكلام خفق‬
‫اإليامن حتركت العداوة والقسوة إلمخاده بدون رمحة‪ ..‬ماذا يكون احلال‬
‫إذن‪..‬؟ أحيق للمهاجرين واألنصار وهم يف مأمنهم أن ال يعريوا ملصري‬
‫إخواهنم بمكة أي اهتامم؟ هل جيوز منطقي ًا أن حترم «احلقيقة» و«الفضيلة»‬
‫من حقهام يف تلقي العون‪ ،‬وأن يرتك االستبداد يشهر سالحه ضدمها؟‬

‫ومع ذلك فإن هذا العون مل يقدمه املسلمون يف املدينة بسهولة عىل‬
‫األقل يف صورته احلربية‪ .‬ويكفي أن نرجع إىل القرآن لكي نرى مدى‬
‫الرتدد والرتاجع من جانبهم ‪ ..‬ولكن فريضة التضحية العظمى كان قد‬
‫حان وقتها‪ ،‬وأراد اهلل أن يفصل ىف الرصاع القائم بني احلق والباطل‪.‬‬
‫فبقدر ما ظلت االضطهادات ذات طابع فردي وخاص‪ ،‬التزم املسلمون‬
‫مدة إقامتهم بمكة‪ ،‬باالمتناع عن أي رد فعل عنيف‪ ،‬وحتملوا جراحهم‬
‫ببسالة‪ .‬أما وقد اصطبغت كراهية املرشكني بصبغة العمومية وحتولت‬
‫‪43‬‬ ‫الباب األول ‪ :‬حقائق تاريخية أولية‬

‫إىل حرب ضارية‪ ،‬فقد أذن للمسلمني ‪ -‬بعد عرش سنوات من الصرب‬
‫اجلميل ‪ -‬أن هيبوا للدفاع اجلامعي((( عن كياهنم وللذود عن إخواهنم‬
‫الذين ال سند هلم‪ .‬وال شك أن احلكم املوضوعي يقر بأنه ال لوم عىل مثل‬
‫هذا املوقف الدفاعي البحت املتفاين يف السمو‪ .‬تلك هي الظروف التي‬
‫انطلقت فيها رشارة احلرب املسلحة األوىل‪.‬‬

‫قال تعاىل‪﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ‬


‫ﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭤﭥﭦ‬
‫ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭯ * ﭱﭲﭳﭴﭵ‬
‫ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ‬
‫ﮄ ﮅ ﮆ﴾ [النساء‪]77-75:‬‬

‫وقوله تعاىل‪﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ﴾ [البقرة‪.]216 :‬‬

‫وقوله تعاىل‪ ﴿ :‬ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ‬


‫ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ﴾ [النساء‪. ]77:‬‬

‫وقوله تعاىل‪ ﴿ :‬ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ﴾ [النساء‪. ]78:‬‬

‫((( كان صدور األمر العام بالقتال يف ظروف غير مواتية‪ ،‬بحيث اليمكننا أن نوافق الدكتور‬
‫سنكلير بأن القانون القرآين كان يتعدل حسب انتصارات محمد (ص ‪ .)279‬كما قلب‬
‫معنى اآلية [البقرة‪ )217 :‬التي تدين العدوان يف األشهر الحرم (ص ‪ )276‬واعترب‬
‫وسائل قمع اإلرهابيين (المائدة‪ )33 :‬صورة جديدة للحرب تعد مرحلة ثالثة يف هذا‬
‫التطور (ص ‪.)277‬‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪44‬‬

‫وقوله تعاىل‪ ﴿ :‬ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ﴾ [آل‬

‫عمران ‪. ]13:‬‬

‫وقوله تعاىل‪﴿ :‬ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ‬


‫ﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯕﯖﯗﯘﯙﯚ‬
‫ﯛ ﯜ ﯝ * ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥَ ﴾‬
‫[األنفال‪. ]8-7 :‬‬

‫وقوله تعاىل‪ ﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ‬


‫ﭚ ﭛ * ﭝﭞﭟﭠﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ‬
‫ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ‬
‫ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ‬
‫ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﴾ [احلج‪. ]40- 39 :‬‬

‫ولكن السؤال يرتكز أساسا فيام إذا كان الترشيع القرآين قد تطور فيام‬
‫فوسع حق الدفاع عن النفس بحيث شمل كل عدوان‪.‬‬
‫بعد‪ّ ،‬‬
‫يبدو أن معلومات العامل الغريب غري وافية يف هذه النقطة‪ ،‬إذ يسود‬
‫االعتقاد أنه حيق للشعوب اإلسالمية ‪ -‬بل وحتى طبقا لكتاهبم املقدس‬
‫‪ -‬أن يستخدموا السالح سواء لفرض دينهم عىل الناس أو للقضاء عىل‬
‫كل من ال يعتنقه‪ ،‬ويطلقون عىل ذلك «احلرب املقدسة » وهي عبارة‬
‫جيعلوهنا تتوافق مع كلمة «جهاد » يف حني أن هذا التعبري الذي يقصد به‬
‫‪45‬‬ ‫الباب األول ‪ :‬حقائق تاريخية أولية‬

‫«بذل اجلهد » ليست له أية عالقة بالناحية العسكرية‪ ،‬ألنه ورد يف السور‬
‫املكية إما لبذل اجلهد ىف الوعظ والدعوة واجلدل باحلسنى ﴿ َفال تُطِ ِع‬
‫اهدْ ُهم بِ ِه ِج َها ًدا كَبِ ًريا﴾ [الفرقان ‪ ، ]52:‬وإما لبذل اجلهد‬
‫ا ْلكَافِ ِرين وج ِ‬
‫َ َ َ‬
‫الشخىص ذي الطابع األخالقي البحت ﴿ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ‬
‫ﮤ ﴾ [العنكبوت‪ :‬آخر آية]‪ .‬أما ما يعرب عن احلرب احلقيقية فهي كلمة‬
‫«قتال »‪.‬‬

‫والرجوع إىل النص القرآين يوضح لنا املوضوع واهلدف واحلدود‬


‫التى يقصدها الترشيع القرآين من وراء القتال‪ .‬فيقول تعاىل‪ ﴿:‬ﯯ ﯰ‬
‫ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ﴾‬
‫[البقرة‪. ]190:‬‬

‫وقوله تعاىل‪﴿ :‬ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ‪ ...‬ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ‬


‫ﮅ ﴾ [البقرة‪،]193-192:‬‬

‫وقوله تعاىل‪ ﴿ :‬ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ‬


‫ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ‪ -‬ﯧ ﯨ ‪ ...‬ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ‬
‫ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁﰂ ﰃ‬
‫ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ﴾ [النساء‪.]91-90:‬‬

‫وىف موضع آخر نجد نفس التفرقة قوله تعاىل‪ ﴿ :‬ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ‬


‫ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪46‬‬

‫ﮍﮎ ﮏﮐﮑ ﮒﮓﮔﮕ ﮖﮗﮘ ﮙ‬


‫ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ‪[ ﴾...‬املمتحنة‪ ،]9-8:‬وىف سورة التوبة‬
‫نرى العناية التي أوالها القرآن يف استثناء املرشكني الذين مل ينقضوا‬
‫عهودهم فيرصح ويقول تعاىل‪﴿ :‬ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ‬
‫ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ﴾ [التوبة‪.]4 :‬‬

‫أما املوضوع الذي حيرض القرآن املؤمنني من أجله فيتضح أكثر‬


‫من اآلية‪﴿ :‬ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ‬
‫ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯩﯪ ﯫ ﯬ ﯭ‬
‫ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ﴾ [التوبة‪ ،]13 :‬وترتب عىل ذلك بطبيعة احلال‬
‫أن يأمر اهلل املؤمنني يف قوله تعاىل‪ ﴿ :‬ﯡ ﯢ ﯣ‬
‫ﯤ ﯥ ﯦ﴾ [التوبة‪ ،]36:‬ولكن هذا القتال يتوقف‬
‫بمجرد حفظهم للعهد فيقول تعاىل‪ ﴿ :‬ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ‬
‫ﭤ ﴾ [التوبة‪.]7 :‬‬

‫فال جتد يف أي مكان إذنا بالبدء بالقتال‪ .‬وإنام األمر هنا حمدد بموقف‬
‫اخلصم العدواين واألكثر من ذلك أنه حتى بالنسبة للمرشكني الذين ال‬
‫يرتبطون مع املسلمني بعهود ومواثيق ويطلبون محايتهم‪ ،‬نجد القرآن‬
‫يطالب الرسول ﷺ بأن يبلغهم مقصدهم يف أمان فيقول تعاىل‪ ﴿ :‬ﯦ‬
‫ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ﴾‬
‫‪47‬‬ ‫الباب األول ‪ :‬حقائق تاريخية أولية‬

‫[التوبة‪ .]6:‬فكل مسئوليات احلرب إذن تقع عىل عاتق البادئ هبا‪ .‬وعندما‬
‫يقول القرآن‪ ﴿ :‬ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﴾ [البقرة‪ ،]190:‬إنام‬
‫يقصد بذلك الذين يقاتلون قتاالً فعلي ُا وحيملون السالح‪ .‬وقد أوضحت‬
‫السنة هذا الرشط بعناية فائقة وأبعدت عنه أى لبس‪ :‬فالنساء واألوالد‬
‫والشيوخ والعميان والعجزة واملجانني واملزارعون يف حقوهلم واملتعبدون‬
‫يف صوامعهم(((‪ ،‬ال يتعرضون لألعامل احلربية أي ألي عمل يؤدي إىل‬
‫التدمري بوجه العام مثل الفيضان واحلريق‪ ...‬وعند تطبيق احلكم القرآين‬
‫بالعفو عن الذين يوقفون القتال‪ ،‬أوىص النبي ﷺ بتحريم مالحقة العدو‬
‫اهلارب من ساحة القتال‪.‬‬

‫إذن لقد وضح اهلدف من هذا الترشيع‪ ..‬أال وهو «إبعاد اخلطر »‪.‬‬
‫فاإلسالم يدين روح التدمري وروح السيطرة يف قوله تعاىل‪﴿ :‬ﯧ ﯨ‬
‫ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ﴾‬
‫[القصص‪ ،]83:‬وال يريد فرض «أيديولوجية عاملية»‪ ﴿ ،‬ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ‬
‫ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ﴾‬
‫[يونس‪ ،]99:‬فاخلالف سيظل قائام بني الناس‪ ﴿ ،‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ‬
‫ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ﴾ [هود‪]118 :‬‬

‫واإليامن سيقترص عىل قلة منهم‪﴿ ،‬ﰇﰈﰉﰊ ﰋ‬

‫((( إذا كان يقصد بالحرب محاربة الدين‪ ،‬ألم يكن من األولى أن يكون هدفها هم رجال‬
‫الدين أنفسهم‪.‬‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪48‬‬

‫ﰌ﴾ [يوسف‪ .]103:‬واإلسالم إنام يقف ىف وجه من يعرتض طريق‬


‫احلرية ويعرض الناس للفتنة ال العكس‪.‬‬

‫﴿ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ‬
‫ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ‬
‫ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ‬
‫ﮖ﴾ [البقرة‪.]217:‬‬

‫هل معنى ذلك أن «هداية» الناس أو «غوايتهم» ال هتم املسلمني؟‬


‫هذا هو التفسري الذى حياولون تقديمه أحيانا عن سامحة املسلمني إزاء‬
‫األديان األخرى‪ .‬إهنا طريقة أخرى إلنكار الطابع احلقيقي للقرآن‪..‬‬
‫إهنم ينسبون إليه إما التشدد واملبالغة يف الرغبة يف استاملة الناس نحو‬
‫مبادئه‪ ،‬وإما فتور هذه الرغبة والالمباالة‪ .‬غري أن موقف القرآن احلقيقي‬
‫ال يتمثل يف أي من هذين الطرفني‪ .‬إنه يقرر وجوب الدعوة إىل احلق‬
‫وإىل الفضيلة‪﴿ ،‬ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ‬
‫ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ﴾ [آل عمران‪ ،]104 :‬هبمة‪﴿ ،‬ﯓ ﯔ‬
‫ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ﴾[الفرقان‪ ،]52:‬وبأسلوب‬
‫يتسم باحلكمة وباإلقناع وباللني‪ ،‬وللغري أن يؤمن بام يسمع أو ال يؤمن‪،‬‬
‫وعليه بعد ذلك أال يضيق بحرية املؤمنني ىف إقامة شعائرهم‪ .‬عىل أن‬
‫يتحمل كل فرد مسئولياته كاملة‪.‬‬
‫‪49‬‬ ‫الباب األول ‪ :‬حقائق تاريخية أولية‬

‫﴿ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ‬
‫ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ‬
‫ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ﴾ [البقرة‪.]272 :‬‬

‫﴿ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ‬
‫ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﴾ [املائدة‪.]105 :‬‬

‫فاملبدأ القرآين هو مبدأ التسامح‪ .‬وقد تكون هذه التسمية أقل من‬
‫احلقيقة يف بعض النواحي‪ ،‬إذ نالحظ‪:‬‬

‫أوال‪ :‬أن الشعوب التي ال تقبل العقيدة اإلسالمية‪ ،‬وإنام ختضع‬


‫سلميا لترشيعها املدين فإهنم يكونون عىل قدم املساواة مع املسلمني‬
‫أنفسهم «هلم ما لنا وعليهم ما علينا»‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬أما الذين ال يقبلون العقيدة اإلسالمية وال الترشيع اإلسالمي‬


‫فإن القرآن يطالبهم بموقف مسامل من جانبهم لكي يوفر هلم معاملة أساسها‬
‫العدل والرب فيقول تعاىل‪ ﴿:‬ﮆﮇﮈﮉ﴾ [املمتحنة‪.]8 :‬‬

‫وأما إذا صوب الكفر رضباته إىل العقيدة ليخمد نورها‪ ،‬فهل من‬
‫املعقول أن يقف الدين مكتوف األيدي أمام ما يفنيه فناء تام ًا؟ لقد عاش‬
‫املسلمون التجربتني يف وقت مبكر وفطنوا إىل أنه ال يوجد ما يعادل تبادل‬
‫األفكار يف حرية وسالم‪ .‬حتى قيل‪ :‬إن عدد الذين اعتنقوا اإلسالم ‪-‬‬
‫أثناء صلح احلديبية ‪ -‬حيث كانت حدود املعسكرين مفتوحة‪ .‬بلغ ما‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪50‬‬

‫يزيد عىل عددهم يف السنوات السابقة جمتمعة‪ .‬وعىل أي حال‪ ،‬عىل كل‬
‫من يدعي أنه اكتشف غرض ًا آخر لنظام القتال يف الترشيع اإلسالمي‬
‫أن يذكر لنا الرقم التقريبي لألتباع الذين دخلوا اإلسالم بفضل هذه‬
‫اإلجراءات القاسية‪.‬‬

‫ويمكنا أن نفرتض وقوع أخطاء يف فرتات االضطرابات‪ ،‬كام قد‬


‫يشتبه يف بعض االنحرافات يف األجيال التالية‪ .‬ولكن لنسمع اعرتاف‬
‫أحد النقاد املعارصين ممن ال يعلنون تأييدهم للنظام اإلسالمي «رغم‬
‫العقبات الرسمية التى كانت حتول دون اعتناق اإلسالم فقد كان‬
‫الناس يدخلون يف هذا الدين أفواج ًا ‪ ...‬ومل حيدث قط أن عربي ًا ‪ -‬وهو‬
‫يف أوج محاسه لدينه اجلديد ‪ -‬فكر يف أن يطفئ يف الدم املسفوك عقيدة‬
‫دينية أخرى‪ ..‬مل حيدث قط أن زاول اخلليفة أي اضطهاد جتاه النصارى‬
‫أو جتاه الزنادقة »(((‪.‬‬

‫وعىل أى حال‪ ،‬فإن البؤس واآلالم التي يمكن أن ننعيها يف املعارك‬


‫اإلسالمية كانت طفيفة واحلروب كانت رسيعة‪ ،‬مما حيملنا عىل االعتقاد‬
‫بأن األبواب كانت مواربة أمام الفاحتني املسلمني‪ ،‬وما كان عليهم إال دفعها‬
‫لتفتح عىل مرصاعيها‪ ..‬ولنتذكر أن حركة اإلصالح الربوتستانتي التي مل‬
‫تتناول بالتعديل إال عدة مبادئ فقط من املسيحية ‪ -‬قد كلفت أوروبا خالل‬

‫((( جوتييه « أخالق وعادات المسلمين» ‪ ،‬ص ‪.217 ،208-207‬‬


‫‪51‬‬ ‫الباب األول ‪ :‬حقائق تاريخية أولية‬

‫قرن ونصف القرن من اآلالم والضحايا ما يربو عىل ذلك بكثري‪.‬‬

‫إن كل بنيان مزيف إذا عاش برهة من الزمان بفضل القوة التي‬
‫تسانده‪ ،‬ال بد وأن ينهار حني ختتفي من حوله العنارص الغريبة عليه‬
‫والتي ساعدت عىل بقائه‪ .‬فامذا نرى اليوم بعد أربعة عرش قرن ًا‪ ،‬وبعد‬
‫توقف التوسعات اإلسالمية؟ فإن البناء االجتامعي الذي تعرض طوال‬
‫التاريخ املديد لعنارص التدمري الداخلية واخلارجية فض ً‬
‫ال عن البناء‬
‫الديني واألخالقي ال يزال قائ ًام وثابت ًا يف صالبة بحيث قيل بحق «إنه‬
‫مل حيدث منذ بداية اهلجرة أن مسلام قد حتول عن دينه إىل دين آخر »(((‪.‬‬

‫وعىل أي حال نستطيع أن نؤكد أن املسلمني اليوم أقل استعداد ًا ألن‬


‫يتخلوا عن عقيدهتم من أتباع أية ديانة أخرى‪.‬‬

‫أليس مما يناقض القوانني النفسية أن ينسب هذا التمسك إىل نوع من‬
‫االستسالم الوراثي يرجع أصله إىل إكراه وقع عىل آباء املسلمني األولني‬
‫وأهنم حيتفظون بذكراه منقوشة يف أعامق أذهاهنم؟‪ ..‬ال جدال يف أنه‬
‫يتحتم علينا أن نسلم بوجود بعض الصفات الذاتية التي مكنت لإلسالم‬
‫من هذا االنتشار ومن هذا الثبات رغم البعد التارخيي ملولده‪.‬‬

‫((( «خطاب افتتاحي» ‪ ،‬مرتجم إلى اللغة الفرنسية ومؤلفه «بورتر» ىف مقدمة «القرآن»‬
‫تأليف «دي راير» ‪.‬‬
‫‪53‬‬

‫الباب الثانى‬
‫القرآن من خالل مظاهره الثالثة‪:‬‬
‫الدينى واألخالقى واألدبى‬
‫‪55‬‬

‫متهيد‬
‫إذا كان القرآن قد أثر دائ ًام عىل عقول جد خمتلفة‪ ،‬فال بد أن تكون له‬
‫جاذبية خاصة‪.‬‬

‫بتوافقه الكامل مع طريقة الناس يف التفكري والشعور‪.‬‬

‫وباستجابته ملا تتطلع إليه النفوس يف شئون العقيدة والسلوك‪.‬‬

‫وبوضعه احللول الناجعة للمشكالت الكربى التي تقلق باهلم‪.‬‬

‫وبمعنى آخر ال بد أنه ينطوي عىل ما يشبع حاجة الناس إىل‬


‫احلق واخلري واجلامل‪ ،‬بام جيمع من صفات العمل الديني واألخالقي‬
‫واألديب يف آن واحد‪.‬‬
‫‪57‬‬

‫الفصل األول‬
‫احلق أو العنرص الدينى‬
‫إن أهم مالمح القوة اجلارفة التي تتميز هبا الدعوة اإلسالمية‬
‫تكمن ‪ -‬يف رأينا ‪ -‬يف الطريقة التي قدمت هبا احلقيقة الدينية هبدف‬
‫وضع هناية للخالفات املثارة حوهلا‪.‬‬

‫فبعد أن أجابت الديانات عىل السؤالني العقدين الرئيسني اللذين‬


‫اختلف وتنازع بصددمها الفكر الفلسفى‪ « :‬ما مصدر الكون؟‪ ..‬وما‬
‫مصريه؟ » ‪ ،‬أسست هذه الديانات عىل اإلجابة نظام ًا كام ً‬
‫ال للعقيدة‬
‫والعبادة اختلف باختالف األزمنة واملجتمعات‪ .‬حتى أن الصورة التي‬
‫وصلت إلينا عنه قد تغلغل فيها التباين واإلختالف يف أشكاله وحتى يف‬
‫مبادئه اجلوهرية‪.‬‬

‫ولقد ركز القرآن عىل فكرة أن رسل اهلل مجيع ًا يعزز بعضهم‬
‫بعضا‪ ،‬ويتضامنون يف تبليغ حقيقة واحدة‪ ،‬وأن األنبياء أمة واحدة‬
‫حتت لواء اهلل الواحد‪ .‬وأن هذه الوحدة كانت جتمع سائر الناس فيام‬
‫مىض‪ ،‬وإنام األجيال الالحقة هي التي بذرت اخلالف والفرقة‪.‬‬

‫والقرآن وهو يعرض دعوة اإلسالم بطريقته املنطقية ال يعرضها عىل‬


‫أهنا دعوة حممدية جديدة ومستقلة تنافس املوسوية واملسيحية وتنازعهام‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪58‬‬

‫احلقيقة الدينية‪ ،‬وإنام يقرر القرآن أن املسلم هو الذي يؤمن يف آن واحد‬


‫بموسى وعيسى ومجيع رسل اهلل‪ ،‬ويوقرهم بال متييز بينهم‪ ،‬ويؤمن‬
‫كذلك بكتبهم ومبادئهم مجيعا‪ .‬أي أن املسلم يستسلم هلل وإلرادته التي‬
‫أعلنت متتابعة عىل ألسنة األنبياء واملرسلني‪ .‬وهبذا يسمو الناس فوق‬
‫االنشقاق والتنافس‪ ،‬وجيدون يف هذا اإلمجاع التوازن الذي ال غنى عنه‬
‫لراحة الضامئر‪ ،‬ألنه طاملا كان عقيديت مطابقة للعقيدة التي يعلنها هؤالء‬
‫الرسل فقد انتفت األسباب التي تربر َصدِّ ي هلذه العقيدة‪...‬‬

‫القرآن إذن يدعو إىل العودة إىل الوحدة الدينية األصلية التي‬
‫يستجيب هلا ويعتز هبا ذوو النفوس السامية‪ ،‬وتتفتح هلا قلوهبم املتلهفة‪.‬‬
‫وال شك أن هذه خطوة أوىل رضورية ثم تأيت بعد ذلك أمهية النظام‬
‫واملنهج يف اإلسالم‪.‬‬

‫ونرى أن نقطة االنطالق والنواة التي يدور حوهلا نظام اإلقناع‬


‫القرآنى ترتكز يف هذه الفكرة الرئيسة‪ :‬وهي أن صانع ًا يتصف بالكامل‬
‫املطلق‪ ،‬والقوة املطلقة‪ ،‬واخلري املطلق‪ ،‬خلق كل يشء يف هذا الوجود‪،‬‬
‫وأخضعه إلرادته خضوعا مطلق ًا‪ .‬ورس نجاح هذه الفكرة أهنا تنسجم‬
‫متام ًا مع الوحدة الدينية التي يستهدف اإلسالم إعادهتا من جديد إىل‬
‫واقع احلياة‪ ،‬حيث إن الفرقة ال تنشأ إال يف التعدد‪ .‬فض ً‬
‫ال عن أن سمو‬
‫هذه الفكرة فوق كل االعتبارات الضيقة يف الديانات املختلفة‪ ،‬تذكر‬
‫الناس باحلقيقة اخلالدة التي عرفوها أو التي يسهل عليهم معرفتها‪.‬‬
‫‪59‬‬ ‫الباب الثاين ‪ :‬القرآن من خالل مظاهره الثالثة‪ :‬الدينى واألخالقى واألدبى‬

‫غري أن هذا التوحيد األوىل أو هذه الديانة النظرية ‪-‬كام يسميها‬


‫القرآن ‪ -‬كانت حمجوبة ومغمورة حتت ركام من معتقدات وعبادات‬
‫كانت تؤدي إىل عدد الحيىص من اآلهلة عند العرب‪ ..‬كام أن أهل الكتاب‬
‫نجحوا هم أيضا يف اجلمع بني توحيد اهلل اخلالق وبني عدد من اآلهلة‬
‫األخرى املعبودة‪ .‬مما جعل يف نظر العرب القول بأن اآلهلة إله واحد‬
‫قوالً عجيب ًا وكاذب ًا لدرجة أهنم زعموا أهنم مل يسمعوا به يف جمتمعهم‪،‬‬
‫وال يف الديانات الساموية السابقة‪ .‬ولقد استخرج القرآن هذه الفكرة‬
‫املغمورة وأعاد إليها صفاءها ونقاءها من كل شائبة‪ .‬وهو هبذا مل خيرتعها‬
‫ومل يكتشفها‪ ،‬وإنام اقترصت طريقته عىل حذف الشوائب ال عىل إضافة‬
‫اجلديد‪ .‬وهكذا نرى ‪ -‬كام أملحنا ‪ -‬أن قوه الفكرة الدينية ترتكز يف طابعها‬
‫املتأصل‪ ،‬إهنا تدفعنا إىل اإليامن هبا بنفس القوة التي تغوص هبا جذورها‬
‫يف أعامق معتقدات آبائنا األولني املوغلة يف القدم‪ .‬وهلذا نرى القرآن ‪-‬‬
‫فض ً‬
‫ال عن استخدامه للتدليل املنطقي ‪ -‬يؤسس دعوته إىل التوحيد عىل‬
‫تاريخ األنبياء يف كل األزمنة السابقة‪ ،‬فيثبت بوضوح أن العقل والنقل‬
‫يشاركان القرآن يف إثبات عقيدة التوحيد‪ ،‬ورفض الوثنية واإلرشاك باهلل‬
‫عىل اختالف صورمها‪.‬‬

‫ولكن كيف يمكن أن نفرس أن قضية خطرية كهذه تستند إىل املنطق‬
‫ورسوخ األصل وتتجدد عىل الدوام بتعاليم الرسل اإلجيابية ‪ -‬يمكن‬
‫أن ختتفي هبذه السهولة من األذهان لتحتل مكاهنا أفكار مناقضة هلا؟‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪60‬‬

‫السبب هو أن اإلنسان بطبيعته يشعر أنه مدفوع إىل اإلعجاب بالقوة‬


‫اخلالقة أينام وجدها‪ .‬ومن اإلعجاب إىل العبادة‪ ،‬املرحلة متصلة وليس‬
‫فيها إال اختالف يف الدرجة‪ ،‬فالقوى الطبيعية كالشمس والشجر والنبع‪،‬‬
‫عجائب تأخذ بألباب املتأملني‪ ،‬فام بالك باخلوارق التي تتم عىل يد ساحر‬
‫أو صانع للمعجزات؟ فبإرشاد من احلواس اخلارجية‪ ،‬يميل اإلدراك‬
‫بسهولة إىل أن ينسب أصل أية ظاهرة إىل مصدرها املبارش أي إىل اليشء‬
‫الذي انطلقت منه كأثر لسبب حقيقي فعال ومستقل‪.‬‬

‫وال يرتفع اإلدراك من تأثري الظاهرة إىل مصدرها‪ ،‬ومن امللموس‬


‫إىل املعقول‪ ،‬إال بجهد فكري إرادى ولكن من النادر أن يبذل هذا‬
‫اجلهد‪ .‬بينام من أهم أهداف القرآن تزكية هذا اجلهد ودعمه بقوة‬
‫كبرية‪ .‬فهو يذكرنا دائ ًام باستحالة خروج أي خملوق من العدم من‬
‫غري قوة اخلالق‪ ،‬وباستحالة أن خيلق اليشء نفسه‪ ،‬أو أن خيلق أي يشء‬
‫عىل اإلطالق يف الساموات أو األرض‪ ،‬وال حتى أية حرشة عىل فرض‬
‫تضافر كل القوى واجلهود من أجل هذا الغرض‪ ،‬بل إذا استولت‬
‫ذبابة عىل يشء يملكه أقوى إنسان يف الدنيا فلن يستطيع أن يستعيده‬
‫منها‪ ،‬فاجلميع ‪ -‬ما عدا اهلل ‪ -‬ال يملكون مثقال ذرة يف الساموات وال‬
‫يف األرض ال باملشاركة وال بالتبعية‪.‬‬

‫وال أحد سوى اهلل يستطيع أن يغري نظام الطبيعة وال اإلبقاء عليه‪.‬‬
‫والقوانني األزلية التي ال نستطيع بتدخلنا أن نعدل منها شيئا‪ ،‬فإن ثباهتا‬
‫‪61‬‬ ‫الباب الثاين ‪ :‬القرآن من خالل مظاهره الثالثة‪ :‬الدينى واألخالقى واألدبى‬

‫بالنسبة للخالق ‪ -‬شأن كل قوانني السببية ‪ -‬متوقف عىل كلمة واحدة من‬
‫إرادة اهلل سبحانه‪.‬‬

‫فلو شاء جلعل ماء املطر ِملح َا ُأجاج ًا‪ .‬وألسقط السامء فوق األرض‪،‬‬
‫وألذهب اجلنس البرشي كله‪ ،‬وجلاء إىل األرض بمخلوقات أخرى‬
‫مكانه‪ ،‬فلله القوة مجيع ًا‪ .‬إذ أن األسباب القريبة والبعيدة‪ ،‬ومقاليد األمور‬
‫كلها بيد هذا اخلالق العظيم وإليه مصريها ومنتهاها‪.‬‬

‫بسامع هذا احلديث الكريم قد نميل إىل االعتقاد يف أن هناك قدر ًا‬
‫حمتوم ًا ال جيدي معه أي تدخل برشي‪ ،‬وإنام هي سلبية كاملة مفروضة‬
‫عىل العامل‪ ..‬حيث ختتفي متام ًا أية رابطة سببية بني األشياء‪.‬‬

‫هذا االعتقاد ‪ -‬فض ً‬


‫ال عن جمافاته للعقل ومناقضته للعلم ‪ -‬يتعارض‬
‫مع جمموعتني من اآليات القرآنية فاألوىل تدعو إىل بذل جهد أخالقي‬
‫دائم‪ ،‬والثانية تفرس الظواهر الطبيعية والتارخيية بعضها ببعض‪ .‬واحلل‬
‫السوي هو الذي حيدد لكل حقيقة من احلقائق املسلم هبا مداها ومرماها‪.‬‬
‫فال نمنح اإلنسان والعامل قدرة ذاتية مستقلة متام االستقالل‪ ،‬وال نصف‬
‫اإلنسان بالعجز املطلق‪ .‬وهذا هو الوسط املعقول الذى يدعونا القرآن إىل‬
‫الوقوف عنده‪ .‬وهناك سوء فهم لرفض الرسول أن يكون بمثابة صانع‬
‫للمعجزات‪ ،‬كام قد يكون هناك تلميح من هذه النقطة عىل أن الرسول ﷺ‬
‫مل يقدم املعجزات أو الرباهني الكافية إلثبات ربانية دعوته‪ .‬واحلقيقة أنه‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪62‬‬

‫يف كل الظروف غري العادية التي تصاحب ظهور الرسل واألنبياء لتبليغ‬
‫ال برشي ًا‪.‬‬
‫رسالتهم وتأمني نجاحها ‪ -‬ال يرى القرآن يف ذلك كله عم ً‬
‫إذ بقدرة اهلل تتم هذه املعجزة أو تلك‪ ،‬عىل أيدي هؤالء الرسل أو عىل‬
‫لساهنم‪ ..‬ففي رسالة اإلسالم يف أول األمر كانت تالوة بعض اآليات‬
‫القرآنية حتول الكفار املعاندين من املوت الوجداين إىل احلياة الروحية‪.‬‬

‫فليس حممد ﷺ هو الذي فتح قلوهبم‪ ،‬وال هو الذي جعل املسلمني‬


‫إخوة متحابني يف اهلل‪ ،‬وال هو الذي حقق نرص اإليامن عىل الكفر والرشك‪.‬‬

‫إنام هذه األعامل تتم بإذن اهلل وإرادته‪ .‬وكذلك املعجزات التى متت‬
‫عىل أيدى الرسل واألنبياء ومنهم حممد ﷺ‪ ..‬فال فضل فيها لفرط ذكاء‬
‫الرسول وال لسعة علمه‪ ،‬إنام الفضل أوالً وأخري ًا لتدخل كريم ورحيم‬
‫من جانب اهلل تعاىل‪ ،‬املصدر احلقيقي لكل خلق ولكل علم ولكل خري‪.‬‬

‫وهكذا بفكرة كامل اهلل املطلق وصفاته املطلقة‪ ،‬أسس القرآن الشطر‬
‫األول من احلقيقة الدينية العامة‪ .‬وتتلخص يف أنه ال يشء يف هذا الوجود‬
‫يستحق العبادة واخلضوع سوى اهلل الواحد القهار‪.‬‬

‫وبنفس الفكرة أسس القرآن الشطر الثاين من احلقيقة الدينية العامة‪:‬‬


‫وهي اإليامن باحلياة األخروية‪ ،‬حيث نقدم هلل أعاملنا ونتلقى منه اجلزاء‬
‫الذي نستحق‪ .‬وهنا نميز بني نقطتني‪ :‬خلود الروح وبعث اجلسد‪ .‬ومل‬
‫تقابل الدعوة اإلسالمية معارضة تذكر بشأن النقطة األوىل‪ ،‬سوى خرافة‬
‫‪63‬‬ ‫الباب الثاين ‪ :‬القرآن من خالل مظاهره الثالثة‪ :‬الدينى واألخالقى واألدبى‬

‫«اهلامة » التي كانت سائدة عند العرب عىل أهنا ظل الروح التي كانت‬
‫حتوم لي ً‬
‫ال فوق قرب القتيل قائلة «اسقوين »‪ .‬فإذا اقتُص من القاتل امتنعت‬
‫عن الظهور‪ .‬ولقد نفت السنة هذا االعتقاد اجلاهىل «ال هامة » وحكمت‬
‫ببطالنه‪ .‬وأما النقطة الثانية فقد ركز عليها املرشكون معارضتهم‬
‫وسخريتهم‪.‬‬

‫وقدم القرآن حجته الفاصلة من كتاب الطبيعة املفتوح‪...‬‬


‫فطالب العقول أن تتدارس األطوار التي يمر هبا اإلنسان يف دورة‬
‫احلياة منذ أن كان علقة إىل أن أصبح خلق ًا جديد ًا يف أكمل صورة عند‬
‫ميالده‪ .‬هل يصعب عىل الذي بدأ اخللق كله أول مرة عىل غري مثال‬
‫سابق أن يعيده مرة أخرى‪..‬؟ ويوجه القرآن األنظار إىل األحداث‬
‫املوسمية‪ :‬األرض وهي جافة وجرداء تتحول إىل أرض خصبة‪..‬‬
‫ويؤسس عقيدة البعث ليس فقط عىل قرار رباين ألزم اهلل تعاىل به‬
‫نفسه ﴿ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ﴾ [النحل‪ ،]38:‬وإنام عىل أحد مستلزمات‬
‫العدل اإلهلي واحلكمة السامية ﴿ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ﴾‬
‫[النحل‪ ﴿ ،]39:‬ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ﴾ [اجلاثية‪ ،]22:‬وإال‬
‫لكانت حياة اإلنسان بال غاية وبال جدوى‪.‬‬

‫وهكذا تأسست الديانة املوحدة التي يدعو إليها القرآن‪ .‬وإذا‬


‫كانت الفكرة الدينية قد بقيت يف جوهرها كام كانت دائ ًام‪ ،‬فال شك أهنا‬
‫حققت تقدم ًا حقيقي ًا بالطريقة التي قدمها هبا القرآن‪ ،‬ليس فقط ألنه‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪64‬‬

‫ساق الرباهني واألدلة القادرة عىل إقناع أصعب العقول وعىل حتريك‬
‫أقسى القلوب‪ ،‬وليس فقط ألنه قدم نظراته الواسعة والثاقبة عن الكون‬
‫الساموي واألريض واستخلص مواعظ ودروسـ ًا من كل مظهر من‬
‫مظاهر اخللق الداخلية والظاهرية‪ ،‬وإنام بدت مادة الدين ذاهتا املتعلقة‬
‫باختصاصات اهلل تعاىل ومآل الروح فض ً‬
‫ال عن معنى األلوهية الذى‬
‫أصبح يمتاز بصفاء ونقاء وقدسية خاصة تبعد به عن أي جتسيم فظ وله‬
‫قوة جارفة ّ‬
‫أخاذة حتلق باإلنسان إىل عامل الروح السامي ‪ -‬بدا كل هذا‬
‫وكأنه قد اكتسب روح ًا جديدة مل تكن معهودة من قبل‪.‬‬
‫‪65‬‬

‫الفصل الثاين‬
‫اخلري أو العنرص األخالقي يف القرآن‬
‫ولكن النفس اإلنسانية بجانب حاجتها إىل املعرفة واالعتقاد‪ ،‬حتتاج‬
‫يف إحلاح إىل القاعدة العملية القادرة عىل توجيه نشاط اإلنسان سواء يف‬
‫ترصفاته مع نفسه أو يف عالقاته مع غريه أو مع خالقه‪ .‬ولقد قدم القرآن‬
‫هذا النظام بأوىف وأدق طريقة ممكنة‪ ،‬وخط يف هذه املجاالت خط ًا‬
‫واضح ًا يسلكه اإلنسان يف أمان واطمئنان‪ .‬وبلغت أمهية اجلانب العميل‬
‫يف القرآن‪ ،‬أن يتكرر ذكره كثري ًا وبرصاحة كرشط ال غنى عنه للفالح‬
‫يف الدنيا والسعادة اخلالدة يف اآلخرة‪ .‬وسوف نوضح بعض اجلوانب‬
‫التى أثرت هبا الدعوة القرآنية عىل الناس بفضل مادهتا وحمتواها النفيس‪،‬‬
‫وبفضل أسلوهبا يف عرض احلقائق‪.‬‬

‫لقد غرس اهلل داخل كل منا بصرية أخالقية غريزية‪ ،‬جتعلنا نقدر‬
‫ونحب الفضيلة يف ذاهتا ويف غرينا ‪-‬حتى وإن عجزنا عن االرتفاع إىل‬
‫مستواها‪ .‬كام جتعلنا ننفر من مشهد أي سلوك هابط‪ ..‬إننا نكره يف أنفسنا‬
‫عيوبنا الذاتية‪ ،‬ونلتمس ألنفسنا املعاذير لتربئة أنفسنا منها؛ ألننا ال نقبل‬
‫أن نوصم بأية رذيلة‪.‬‬

‫فعىل هذا الشعور العام القادر عىل التمييز بني العدل والظلم وبني‬
‫اخلري والرش‪ ،‬يستند القرآن يف أغلب األحيان ليؤسس نظامه األخالقي‪،‬‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪66‬‬

‫ويعتمد عليه كذلك يف تعريف فكرته العملية فالرسول‪﴿ :‬ﮀ‬


‫ﮁﮂ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ‬
‫ﮊ﴾ [األعراف‪( ]157 :‬بمعناها احلقيقي واملجازي) ﴿ ﯗ ﯘ ﯙ‬
‫ﯚ ﯛ ﯜ﴾ [األعراف‪ ،]28 :‬ويكفي أن نذكر أن استناد القرآن عىل‬
‫الضمري األخالقي ‪ -‬يف عمومه ‪ -‬يف التمييز بني اخلري والرش قد ذكر يف‬
‫أكثر من مخسة وأربعني موضع ًا منه((( ‪.‬‬

‫ونظر ًا ألن هذه احلاسة الفطرية ليست دائ ًام بنفس القوة والفاعلية‬
‫عند كل الناس لكي تلزمهم باخلضوع لقاعدة السلوك‪ ،‬فقد اقتىض األمر‬
‫وضع منهج كامل يف الرتبية يستند إىل الذكاء والعقل بجانب احلاسة‬
‫اخللقية حتى إذا غابت هذه احلاسة تبقى فكرة الواجب العام‪ .‬وأفضل‬
‫طريقة إليقاظ هذه الفكرة وجلعلها تسمو بمشاعرنا‪ ،‬هي أن نستعني‬
‫بتأييد ذوي االختصاص هلا من احلكامء واألنبياء يف كل زمان‪ .‬فليس‬
‫بمحض الصدفة أن حممد ًا ﷺ يدعو إىل ما سبق أن دعا إليه الرسل‬
‫السابقون ﴿ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ‬
‫ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ﴾ [النساء‪ ،]26:‬ويقول القرآن للرسول‬
‫بعد أن عدد من سبقه من الرسل ﴿ أﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ‬
‫ﯲ﴾[األنعام‪ ،]90:‬والواقع أننا ال نجد مبدأ أخالقي ًا ينقله لنا القرآن‬

‫((( انظر على سبيل المثال كتابنا «دستور األخالق يف القرآن » الفصل الثالث – الفقرة‬
‫الثالثة‪.‬‬
‫‪67‬‬ ‫الباب الثاين ‪ :‬القرآن من خالل مظاهره الثالثة‪ :‬الدينى واألخالقى واألدبى‬

‫عىل أنه كان ضمن تعاليم هذا الرسول أو ذاك احلكيم‪ ،‬إال وأورده القرآن‬
‫يف موضع آخر كواجب تلتزم به مجاعة املسلمني‪.‬‬

‫وسنوضح فيام ييل القانون األخالقي كام جاء به موسى وجاء به‬
‫عيسى عليهام السالم‪ ،‬كام ورد ذكره بالتوراة وباإلنجيل‪ ،‬وسنجده‬
‫حمفوظ ًا بعناية فائقة يف آيات القرآن ولكن ‪ -‬ال عىل شكل كتلة واحدة‬
‫‪ -‬كام ورد بالوصايا العرش وبميقات اجلبل ‪ -‬وإنام كآيات متفرقة يف عدد‬
‫من السور املكية واملدنية‪ .‬ويف أغلب األحيان عىل شكل آيات نزلت يف‬
‫مناسبة معينة بذاهتا‪.‬‬

‫وفيام ييل الوصايا العرش‪:‬‬

‫التوراة (سفر اخلروج ‪ -‬الفصل ‪)20‬‬ ‫القرآن الكريم‬

‫‪ -1‬ال يكن لك آهلة أخرى أمامى‪.‬‬ ‫﴿ َو َق َض َر ُّب َك َأالَّ َت ْع ُبدُ و ْا إِالَّ إِ َّيا ُه﴾ [اإلرساء‪]23 :‬‬

‫‪ -2‬ال تضع لنفسك آهلة مسبوكة‪.‬‬ ‫﴿ َفاجتَنِبوا الرجس ِمن األَو َث ِ‬


‫ان﴾ [احلج‪]30:‬‬ ‫ْ ُ ِّ َ َ ْ‬

‫﴿والَ َ ْت َع ُلو ْا اللََّ ع ُْر َض ًة ِّلَ ْي َمنِك ُِْم﴾ [البقرة‪]224 :‬‬


‫َ‬
‫‪ -3‬ال تنطق باسم الرب إهلك باطالً‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫﴿ال ُيؤَ اخ ُذك ُُم اللَُّ بال َّلغْو ف أ ْي َمنك ُْم﴾ [املائدة‪)89:‬‬

‫‪ -4‬أكرم أباك وأمك‪.‬‬ ‫﴿وبِا ْل َوالِدَ ْي ِن إِ ْح َسانًا﴾ [اإلرساء‪)23 :‬‬


‫َ‬

‫‪ -5‬ال تقتل‪.‬‬ ‫﴿والَ َت ْق ُت ُلو ْا َأن ُف َسك ُْم﴾ [النساء‪)29 :‬‬


‫َ‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪68‬‬

‫ي َف ُظوا‬ ‫﴿ ُقل ِّل ْلمؤْ ِمنِنيَ يغ ُُّضوا ِمن َأبص ِ ِ‬


‫اره ْم َو َ ْ‬ ‫ْ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وج ُه ْم‪َ ...‬و ُقل ِّل ْل ُمؤْ منَات َيغ ُْض ْض َن م ْن َأ ْب َصاره َّن‬
‫‪ -6‬التزن‪.‬‬ ‫ُف ُر َ‬
‫ي َف ْظ َن ُف ُر َ‬
‫وج ُه َّن﴾ [النور‪]31-30:‬‬ ‫َو َ ْ‬

‫ار َق ُة َفا ْق َط ُعو ْا َأ ْي ِد َ ُي َم﴾ [املائدة‪]38:‬‬


‫الس ِ‬ ‫الس ِ‬
‫ار ُق َو َّ‬ ‫﴿و َّ‬
‫َ‬
‫‪ -7‬ال ترسق‪.‬‬
‫﴿ َوال َي ْ ِ‬
‫س ْق َن‪[ ﴾...‬املمتحنة‪)12 :‬‬

‫‪ -8‬ال تشهد عىل قريبك شهادة الزور‪.‬‬ ‫اجتَنِ ُبوا َق ْو َل الزُّ ِ‬


‫ور﴾ [ احلج‪]30 :‬‬ ‫﴿و ْ‬
‫َ‬

‫‪ -9‬ال تشبه بيتقريبك‪..‬وال شىء مما‬ ‫﴿والَ َتت ََمن َّْوا َما َف َّض َل اللَُّ بِ ِه َب ْع َضك ُْم ع ََل َب ْع ٍ‬
‫ض﴾‬ ‫َ‬
‫لقريبك‪.‬‬ ‫[النساء‪)32:‬‬

‫هذه هي أسس القانون األخالقي الذي يقول عنه عيسى عليه‬


‫السالم‪ « :‬فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وع ّلم الناس هكذا‪،‬‬
‫يدعى أصغر يف ملكوت الساموات‪ .‬وأما من عمل وع ّلم‪ ،‬فهذا يدعى‬
‫عظي ًام يف ملكوت الساموات »‪.‬‬

‫ولكن حماولة قرص دعوة موسى عىل هذه الواجبات األولية بعد‬
‫إقالالً من شأهنا‪ ،‬ألننا إذا واصلنا بحثنا سنقابل يف أماكن متفرقة منها‬
‫(اخلروج ‪ ،23- 22‬الالويون ‪ ،25- 19‬التثنية ‪ )6‬أحكاما أخرى تتعلق بعمل‬
‫القلب وعمل اجلوارح‪ ،‬ومتهد بذلك ألحكام اإلنجيل‪:‬‬
‫‪69‬‬ ‫الباب الثاين ‪ :‬القرآن من خالل مظاهره الثالثة‪ :‬الدينى واألخالقى واألدبى‬

‫التوراة‬ ‫القرآن الكريم‬


‫اح َش ُة ِف ا َّل ِذي َن آ َمنُوا َل ُ ْم‬
‫ون َأن ت َِشيع ا ْل َف ِ‬
‫َ‬
‫﴿إِ َّن ا َّل ِذين ُ ِ‬
‫ي ُّب َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم ِف الدُّ ْن َيا َواآلخ َرة﴾ [النور‪]19:‬‬ ‫ِ‬
‫ال تقبل خبزا كاذبا‪( .‬خروج ‪)1 :23‬‬ ‫اب َأل ٌ‬ ‫ع ََذ ٌ‬
‫﴿وال َي ْغتَب َّب ْع ُضكُم َب ْع ًضا﴾ [احلجرات‪]12:‬‬
‫َ‬
‫‪-‬ال تتبع الكثريين إىل فعل الرش‪.‬‬ ‫اإل ْث ِم وا ْلعدْ و ِ‬
‫ان﴾ [املائدة‪]2 :‬‬ ‫اونُو ْا ع ََل ِ َ ُ َ‬
‫﴿والَ َت َع َ‬
‫َ‬
‫(خروج ‪)2 :23‬‬
‫ط ُش َهدَ اء لَِِّ‪ ...‬إِن َي ُك ْن غَنِ ًّيا َأ ْو‬
‫﴿كُونُو ْا َقو ِامنيَ بِا ْل ِقس ِ‬
‫ْ‬ ‫َّ‬
‫‪ -‬الحتارب مع املسكني ىف دعواه‪.‬‬
‫َف ِق ًريا َفاللَُّ َأ ْو َل ِ ِب َم﴾ [النساء‪]135:‬‬

‫‪ -‬ساعد غريك‪( .‬اخلروج ‪)5:23‬‬ ‫اونُو ْا ع ََل ا ْل ِ ِّ‬


‫ب َوال َّت ْق َوى﴾ [املائدة‪]2 :‬‬ ‫﴿ َو َت َع َ‬
‫﴿وبِا ْلوالِدَ ي ِن إِحسانًا وبِ ِذي ا ْل ُقربى وا ْليتَامى وا َْلس ِ‬
‫اك ِ‬
‫ني‬ ‫َْ َ َ َ َ َ‬ ‫َ َ ْ ْ َ َ‬
‫‪ -‬كالوطني منكم يكون لكم الغريب‪.‬‬ ‫ُب والص ِ‬
‫ب بِاجلَ ِ‬
‫نب‬ ‫اح ِ‬ ‫الُن ِ َ َّ‬ ‫ار ْ‬ ‫ار ِذي ا ْل ُق ْر َبى َو ْ‬
‫الَ ِ‬ ‫الَ ِ‬
‫َو ْ‬
‫النازل عندكم (الويني‪)34:19 :‬‬
‫َت َأ ْي َم ُنك ُْم﴾ [النساء‪]36 :‬‬ ‫السبِ ِ‬
‫يل َو َما َم َلك ْ‬ ‫َوا ْب ِن َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪ -‬افتح يدك ألخيك املسكني والفقري‬ ‫لسائ ِل َوا َْل ْح ُرومِ﴾‬‫﴿وا َّلذي َن ِف َأ ْم َوال ْم َح ٌّق َّم ْع ُلو ٌم‪ِّ .‬ل َّ‬‫َ‬
‫يف أرضك (تثنية ‪)11:15‬‬ ‫[املعارج‪]25-24:‬‬
‫﴿وبِا ْل َوالِدَ ْي ِن إِ ْح َسانًا َوبِذي ا ْل ُق ْر َبى َوا ْل َيتَا َمى َوا َْل َساك ِ‬
‫ني‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫‪-‬ال تضطهد الغريب وتضايقه‬ ‫ُب والص ِ‬ ‫ِ‬
‫ب بِاجلَنبِ‬ ‫اح ِ‬ ‫الُن َ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الَار ْ‬ ‫الَار ذي ا ْل ُق ْر َبى َو ْ‬‫ِ‬ ‫َو ْ‬
‫(خروج ‪)21:22‬‬
‫َت َأ ْي َم ُنك ُْم﴾ [النساء‪]36 :‬‬ ‫يل َو َما َم َلك ْ‬‫السبِ ِ‬
‫َوا ْب ِن َّ‬
‫ِ‬
‫َاب ف َيتَا َمى الن َِّساء ا َّلالت الَ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫﴿و َما ُيت َْل َع َل ْيك ُْم ف ا ْلكت ِ‬ ‫َ‬
‫‪ -‬التسئ إىل أرملة ما وال يتيم‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب َل ُ َّن﴾ [النساء‪َ ﴿ )127 :‬ف َأ َّما ا ْل َيت َ‬
‫يم َفال‬ ‫ُونُ َّن َما كُت َ‬
‫تُؤْ ت َ‬
‫(خروج ‪.)22:22‬‬
‫َت ْق َه ْر﴾ [الضحى‪]9 :‬‬
‫‪ -‬الترتكبوا جورا يف القضاء (الويني‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫﴿وإِ َذا َحك َْمتُم َب ْ َ‬
‫ي النَّاس أن ْتك ُُموا بال َعدْ ل﴾‬ ‫َ‬
‫‪)15 :19‬‬ ‫[النساء‪]58:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫﴿والَ ُ َت ِ‬
‫ب‬‫ُون أن ُف َس ُه ْم إ َّن اللََّ الَ ُي ُّ‬
‫يتَان َ‬‫اد ْل عَن ا َّلذي َن َ ْ‬ ‫َ‬
‫‪-‬ابتعد عن كالم الكذب‪( .‬خروج ‪23‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َخ ُف َ‬
‫ون‬ ‫ون م َن الن ِ‬
‫َّاس َوالَ َي ْست ْ‬ ‫َخ ُف َ‬‫َان َخ َّوانًا َأث ًيم‪َ .‬ي ْست ْ‬‫َمن ك َ‬
‫‪.) 7 :‬‬
‫ِم َن اللَِّ َو ُه َو َم َع ُه ْم﴾ [النساء‪]108 - 107 :‬‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪70‬‬

‫التوراة‬ ‫القرآن الكريم‬


‫َّاس﴾ [آل عمران‪:‬‬ ‫﴿وا ْلكَاظِ ِمنيَ ا ْل َغ ْي َظ َوا ْل َعافِنيَ ع ِ‬
‫َن الن ِ‬ ‫َ‬
‫‪ -‬ال تنتقم (الويني ‪.)18 :19‬‬
‫‪)134‬‬
‫‪ -‬الترتكبوا‪ ..‬ال يف القياس وال يف‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫﴿و ْيـ ٌـل ِّل ْل ُم َط ِّففنيَ ‪ .‬ا َّلذي َن إِ َذا ا ْكتَا ُلو ْا ع ََل الن ِ‬
‫َّاس‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫الــوزن وال يف الكيل (الويــن ‪:19‬‬ ‫ـر َ‬
‫ون﴾‬ ‫يـ ُ‬ ‫ُوه ْم ُ ْ‬
‫وه ْم أو َّوزَ ن ُ‬ ‫ون‪َ .‬وإ َذا كَا ُل ُ‬ ‫َي ْست َْو ُف َ‬
‫‪.)35‬‬ ‫[املطففني‪]3- 1 :‬‬

‫‪ -‬ال حتقد عىل أبناء شعبك (الويني‬


‫﴿وال َ ْت َع ْل ِف ُق ُلوبِنَا ِغ ًّل ِّل َّل ِذي َن آ َمنُوا﴾ [احلرش‪]10:‬‬
‫َ‬
‫‪.)18 :19‬‬

‫﴿و َل ِكن كُونُو ْا َر َّبانِ ِّينيَ ﴾ [آل عمران‪﴿ ،)79 :‬فِ ِيه ِر َج ٌال‬ ‫َ‬
‫تكونون قديسني (الوبني ‪)1:19‬‬ ‫ِ‬ ‫ُِ‬
‫ِ‬
‫ب ا ُْل َّط ِّهري َن﴾ [التوبة‪]108 :‬‬ ‫َ‬
‫ون أن َي َت َط َّه ُرو ْا َواللَُّ ُي ُّ‬
‫ي ُّب َ‬

‫‪-‬حتب قريبك كنفسك‬ ‫اج ًة ِّمَّا ُأوتُوا َو ُيؤْ ثِ ُر َ‬


‫ون‬ ‫ون ِف صدُ ِ ِ‬
‫وره ْم َح َ‬ ‫ُ‬ ‫﴿و َ ِ‬
‫ال‪ ‬يدُ َ‬ ‫َ‬
‫اص ٌة﴾ [احلرش‪]9:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ع ََل َأن ُفسه ْم َو َل ْو ك َ‬
‫(الويني ‪.)18 :19‬‬ ‫َان ب ْم َخ َص َ‬

‫‪ -‬فتحب الرب إهلك من كل قلبك‬


‫﴿وا َّل ِذي َن آ َمنُو ْا َأ َشدُّ ُح ًّبا لَِِّّ﴾ [البقرة‪]165 :‬‬
‫َ‬
‫(تثنية ‪) 5 :9‬‬

‫وهكذا نجد القرآن يضطلع بواجبه املبدئي وهو حفظ وتبليغ‬


‫ِ‬
‫مضمون الكتب الساموية السابقة ﴿ َو َأ َنز ْلنَا إِ َل ْي َك ا ْلكت َ‬
‫َاب بِ ْ َ‬
‫ال ِّق ُم َصدِّ ًقا‬
‫َاب َو ُم َه ْي ِمنًا َع َل ْي ِه ﴾ [املائدة‪ .]48 :‬إال أنه وفاء لطريقته‬ ‫ي َيدَ ْي ِه ِم َن ا ْل ِكت ِ‬
‫َِّلا َب ْ َ‬
‫يف العرض يفضل تقديم كل درس يف مناسبته‪ .‬فلنتتبع الوعظ اإلنجييل‬
‫إذن وننظر كيف أن كتاب اإلسالم يعززه‪:‬‬
‫‪71‬‬ ‫الباب الثاين ‪ :‬القرآن من خالل مظاهره الثالثة‪ :‬الدينى واألخالقى واألدبى‬

‫اإلنجيـــل‬ ‫القرآن الكريم ( ضمن آيات كثرية آخرى)‬

‫ون ِم َن ا َّل ِذي َن‬ ‫ِ ِ‬


‫﴿زُ ِّي َن ل َّلذي َن َك َف ُرو ْا ْ َ‬
‫ال َيا ُة الدُّ ْن َيا َو َي ْس َخ ُر َ‬
‫‪ -‬طوبى للمساكني بالروح ألن‬
‫آ َمنُو ْا َوا َّل ِذي َن ا َّت َقو ْا َف ْو َق ُه ْم َي ْو َم ا ْل ِق َيا َم ِة﴾[البقرة‪]212 :‬‬
‫هلم ملكوت الساموات (متى‬
‫آب﴾ [آل‬ ‫ال َي ِاة الدُّ ْن َيا َواللَُّ ِعندَ ُه ُح ْس ُن ا َْل ِ‬‫َاع ْ َ‬
‫﴿ َذل َك َمت ُ‬
‫ِ‬
‫‪)3:5‬‬
‫عمران‪]14:‬‬

‫ص م َن األَم َو ِ‬ ‫﴿و َلنَب ُلو َّنكُم بِ َش ٍء من ْ ِ‬


‫‪ -‬طوبى للحزانى ألهنم يتعزون‪.‬‬ ‫ال‬ ‫ْ‬ ‫الو ِع َو َن ْق ٍ ِّ‬
‫الَ ْوف َو ْ ُ‬ ‫َ ْ َ ْ ْ ِّ َ‬
‫الصابِ ِري َن﴾[البقرة‪]155:‬‬ ‫ِ‬
‫(متى ‪)4:5‬‬ ‫س َوال َّث َم َرات َو َبشِّ ِ َّ‬
‫َواألن ُف ِ‬

‫ٍ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫﴿و َس ِ‬
‫‪-‬طوبى للودعاء ألهنم يرثون‬ ‫ات‬ ‫ارعُو ْا إىل َمغْف َرة ِّمن َّر ِّبك ُْم َو َجنَّة ع َْر ُض َها َّ‬
‫الس َم َو ُ‬ ‫َ‬
‫األرض‪( .‬متى ‪)5:5‬‬ ‫َواألَ ْر ُض ُأ ِعدَّ ْت لِ ْل ُمت َِّقنيَ ﴾ [آل عمران‪]133 :‬‬

‫َات َّأن ن َّْج َع َل ُه ْم كَا َّل ِذي َن‬‫﴿ َأم ح ِسب ا َّل ِذين اج َتحوا السيئ ِ‬
‫َّ ِّ‬ ‫َ ْ َ ُ‬ ‫ْ َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ات ْم َساء َما‬ ‫اهم َو َم َ ُ ُ‬ ‫الات َس َواء َّم ْ َي ُ‬ ‫آ َمنُوا َوعَم ُلوا َّ‬
‫الص َ‬
‫‪ -‬طوبى للجياع والعطاش إىل‬
‫ون﴾ [اجلاثية‪.]21:‬‬ ‫يك ُُم َ‬ ‫َْ‬
‫الرب ألهنم يشبعون (متى ‪) 6 :5‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫﴿ا َّلذي َن َأ ْج َر ُموا كَانُو ْا م َن ا َّلذي َن آ َمنُوا َي ْض َحك َ‬
‫ُون‪َ ...‬فا ْل َي ْو َم‬
‫ُون﴾ [املطففني‪]34 - 29 :‬‬ ‫ار َي ْض َحك َ‬ ‫ا َّل ِذي َن آ َمنُو ْا ِم َن ا ْل ُك َّف ِ‬

‫‪ -‬طوبى لألنقياء القلب (متى‬ ‫ب َس ِلي ٍم﴾ [الشعراء‪َ ﴿ ،)89 :‬م ْن‬ ‫﴿إِالَّ َم ْن َأتَى اللََّ بِ َق ْل ٍ‬
‫‪.)8 :5‬‬ ‫يب﴾ [ق‪]33 :‬‬‫ب ُّمنِ ٍ‬
‫ب َو َجا َء بِ َق ْل ٍ‬ ‫الر ْحَن بِا ْل َغ ْي ِ‬
‫ش َّ‬
‫ِ‬
‫َخ َ‬

‫‪ -‬طوبى لصانعي السالم (متى‬ ‫﴿الَّ َخ ْ َي ِف كَثِ ٍري ِّمن ن َّْج َو ُاه ْم إِالَّ َم ْن َأ َم َر بِ َصدَ َق ٍة َأ ْو‬
‫‪)9:5‬‬ ‫َّاس﴾ [النساء‪]114 :‬‬ ‫ي الن ِ‬ ‫الح َب ْ َ‬ ‫معر ٍ‬
‫وف َأ ْو إِ ْص ٍ‬ ‫َ ُْ‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪72‬‬

‫اإلنجيـــل‬ ‫القرآن الكريم ( ضمن آيات كثرية آخرى)‬

‫النَّ َة َو ََّلا َي ْأتِكُم َّم َث ُل ا َّل ِذي َن َخ َل ْوا ِمن‬ ‫ِ‬


‫﴿ َأ ْم َحس ْبت ُْم َأن تَدْ ُخ ُلو ْا ْ َ‬
‫الضاء َوزُ ْل ِز ُلو ْا﴾ [البقرة‪.)214:‬‬ ‫ِ‬
‫َق ْبلكُم َّم َّست ُْه ُم ا ْل َب ْأ َساء َو َّ َّ‬
‫‪ -‬طوبى للمطرودين من أجل‬ ‫﴿ َل ُت ْب َل ُو َّن ِف َأ ْم َوالِك ُْم َو َأن ُف ِسك ُْم َو َلت َْس َم ُع َّن ِم َن ا َّل ِذي َن ُأوتُو ْا‬
‫الرب‪( .‬متى ‪)10:5‬‬ ‫شكُو ْا َأ ًذى كَثِ ًريا َوإِن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َاب من َق ْبلك ُْم َوم َن ا َّلذي َن َأ ْ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ا ْلكت َ‬
‫ور﴾ [آل عمران‪:‬‬ ‫بو ْا َو َت َّت ُقو ْا َفإِ َّن َذلِ َك ِم ْن عَزْ ِم األُ ُم ِ‬‫ت َْص ِ ُ‬
‫‪)185‬‬
‫ِ‬ ‫﴿ ُثم ك َ ِ‬
‫‪ -‬طوبى للرمحاء ألهنم يرمحون‪.‬‬ ‫الص ْ ِب َوت ََو َ‬
‫اص ْوا‬ ‫اص ْوا بِ َّ‬
‫َان م َن ا َّلذي َن آ َمنُوا َوت ََو َ‬ ‫َّ‬
‫(متى ‪)7 :5‬‬ ‫ِ‬
‫بِا َْل ْر َحَة﴾ [البلد‪.)17 :‬‬

‫ولقد قال عيسى احلق كل احلق عندما أكد أنه مل يأت ليلغي‬
‫وينسخ وإنام ليتم ويكمل‪.‬‬

‫أى أنه كان يوايل من بعدهم مهمة التطهري األخالقي التي بدأها‬
‫املرسلون من قبله والتي كانت تتيح جماال للتقدم والرقي‪.‬‬
‫اإلنجيـل‬ ‫القرآن الكريم‬
‫‪ -‬ليس فحسب (ال تقتل) وإنام ال تغضب‬ ‫﴿وا ْلكَاظِ ِمنيَ ا ْل َغ ْي َظ﴾ [آل عمران‪،)134:‬‬
‫َ‬
‫من أخيك وتقول له (رقا) أو (يا أمحق)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫﴿وإِ َذا َما غَض ُبوا ُه ْم َيغْف ُر َ‬
‫ون﴾ [الشورى‪:‬‬ ‫َ‬
‫(متى ‪)22- 21:5‬‬ ‫‪)37‬‬
‫‪73‬‬ ‫الباب الثاين ‪ :‬القرآن من خالل مظاهره الثالثة‪ :‬الدينى واألخالقى واألدبى‬

‫اإلنجيـل‬ ‫القرآن الكريم‬


‫‪ -‬فإن قدمت قربانك إىل املذبح‪ .‬وهناك‬ ‫ي َأ َخ َو ْيك ُْم﴾‬ ‫﴿إِن ََّم ا ُْلؤْ ِمن َ‬
‫ُون إِ ْخ َو ٌة َف َأ ْص ِل ُحوا َب ْ َ‬
‫تذكرت أن ألخيك شيئا عليك‪ .‬فأترك هناك‬ ‫[احلجرات‪َ ﴿ ،)10:‬فا َّت ُقو ْا اللََّ َو َأ ْص ِل ُحو ْا‬
‫قربانك وأذهب أوال اصطلح مع أخيك (‬ ‫﴿وات ُْل َع َل ْي ِه ْم َن َب َأ‬ ‫َذ َ ِ‬
‫ات َب ْينك ُْم﴾ [األنفال‪َ ،)1:‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫متى ‪.)24- 22 :5‬‬ ‫ها‬ ‫ال ِّق إِ ْذ َق َّر َبا ُق ْر َبانًا َف ُت ُق ِّب َل من َأ َحد َ‬
‫ا ْبن َْي آ َد َم بِ ْ َ‬
‫َو َل ْ ُي َت َق َّب ْل ِم َن َ‬
‫اآلخ ِر﴾ [املائدة‪)27 :‬‬

‫‪ -‬لقد سمعتم أنه قيل للقدماء ال تزن وأما أنا‬ ‫ي َف ُظوا‬ ‫﴿ ُقل ِّل ْلمؤْ ِمنِنيَ يغ ُُّضوا ِمن َأبص ِ ِ‬
‫اره ْم َو َ ْ‬ ‫ْ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪...‬و ُقل ِّل ْل ُمؤْ منَات َيغ ُْض ْض َن م ْن‬
‫فأقول لكم إن كل من ينظر إىل امرأة ليشتهيها‬ ‫وج ُه ْم َ‬ ‫ُف ُر َ‬
‫َأبص ِ ِ‬
‫فقد زنى هبا يف قلبه‪( .‬متى‪.)29 - 27 :5‬‬ ‫وج ُه َّن﴾ [النور‪30:‬‬ ‫ي َف ْظ َن ُف ُر َ‬
‫اره َّن َو َ ْ‬ ‫ْ َ‬
‫‪)31-‬‬

‫‪ -‬قد سمعتم‪ ...‬ال حتنث‪ .‬وأما أنا فأقول لكم‬ ‫﴿والَ َ ْت َع ُلو ْا اللََّ ع ُْر َض ًة ِّلَ ْي َمنِك ُْم﴾ [البقرة‪:‬‬
‫َ‬
‫ال حتلفوا البتة (متى ‪.)34- 33 :5‬‬ ‫‪)224‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪ -‬سمعتم أنه قيل حتب قريبك وتبغض‬ ‫﴿ها َأنت ُْم ُأوالء ُت ُّب َ‬
‫ونُ ْم َوالَ ُي ُّبو َنك ُْم﴾ [آل‬ ‫َ‬
‫عدوك‪ .‬أما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم‬ ‫عمران‪)119 :‬‬
‫(متى ‪)44 - 43 :5‬‬
‫الس ِّي َئ َة﴾ [الرعد‪،)22 :‬‬ ‫ون بِ ْ ِ‬
‫‪ -‬أحسنوا إىل مبغضيكم (متى ‪.)44 :5‬‬ ‫﴿و َيدْ َرؤُ َ َ‬
‫ال َسنَة َّ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫﴿ا ْد َف ْع با َّلتي ه َي أ ْح َس ُن﴾ [فصلت‪)34 :‬‬

‫‪ -‬وصلوا ألجــل الذين يسيئون إليكم‬ ‫يص َع َل ْيكُم بِا ُْلؤْ ِمنِنيَ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫﴿ع َِزيزٌ َع َل ْيه َما عَنت ُّْم َح ِر ٌ‬
‫ويطردونكم‪( .‬متى ‪)44 :5‬‬ ‫يم﴾ [التوبة‪)128:‬‬ ‫رؤُ ٌ ِ‬
‫وف َّرح ٌ‬ ‫َ‬
‫ال ِ‬
‫‪ -‬إن سلمتم عىل إخوانكم فقط فأي فضل‬ ‫ون َقا ُلوا َسال ًما﴾‬ ‫اه ُل َ‬ ‫﴿وإِ َذا َخا َط َب ُه ُم ْ َ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تصنعون‪( .‬متى‪)47 :5‬‬ ‫[الفرقان‪﴿ ،)63 :‬ال َين َْهاك ُُم اللَُّ عَن ا َّلذي َن َل ْ‬
‫ين َو َل ُي ِْر ُجوكُم ِّمن ِد َي ِ‬
‫ارك ُْم‬ ‫ُي َقاتِ ُلوك ُْم ِف الدِّ ِ‬
‫ْ‬
‫وه ْم َو ُت ْق ِس ُطوا إِ َل ْي ِه ْم﴾ [املمتحنة‪)8 :‬‬ ‫َأن ت َ ُّ‬
‫َب ُ‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪74‬‬

‫اإلنجيـل‬ ‫القرآن الكريم‬


‫‪ -‬أعط الذي يطلب منكم‪ ،‬وال تول ظهرك‬ ‫ش ِق‬ ‫وهك ُْم ِق َب َل ا َْل ْ ِ‬ ‫﴿ َّل ْي َس ا ْل ِ َّ‬
‫ب َأن ت َُو ُّلو ْا ُو ُج َ‬
‫ِ‬ ‫َوا َْلغ ِْر ِ‬
‫ملن يريد أن يقرتض منك‪( .‬متى ‪)42 :5‬‬ ‫ـال ع ََل‬ ‫ــر‪َ ...‬وآ َتــى ا َْلـ َ‬ ‫ب َو َلك َّن ا ْل ِ َّ‬
‫ُون﴾‬‫ون ا َْلاع َ‬ ‫ُح ِّب ِه﴾ [البقرة‪َ ،)177 :‬‬
‫﴿ َي ْمنَ ُع َ‬
‫[املاعون‪) 7:‬‬

‫‪ -‬احرتزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدام‬ ‫﴿ا َّل ِذي َن ُه ْم ُي َراؤُ َ‬


‫ون﴾ [املاعون‪)6:‬‬
‫الناس‪( .‬متى ‪.)1 :6‬‬

‫ت ُفوه َأو َتع ُفو ْا عَن س ٍ‬


‫‪ -‬إن غفرتم للناس زالهتم يغفر لكم أيضا‬ ‫وء﴾‬ ‫ُ‬ ‫﴿إِن ُت ْبدُ و ْا َخ ْ ًيا َأ ْو ُ ْ ُ ْ ْ‬
‫أبوكم الساموي‪( .‬متى ‪.)14 :6‬‬ ‫﴿و ْل َي ْع ُفوا َو ْل َي ْص َف ُحوا﴾‬
‫َ‬ ‫[النساء‪)149:‬‬
‫[النور‪)22:‬‬
‫‪ -‬ال تكنزوا لكم كنوزا عىل األرض‪( .‬متى‬ ‫ون ا َْل َال ُح ًّبا‬ ‫ِ‬
‫اث َأكْال ًَّّلا‪َ .‬و ُت ُّب َ‬
‫الت َ‬ ‫﴿وت َْأ ُك ُل َ‬
‫ون ُّ َ‬ ‫َ‬
‫‪)19:6‬‬ ‫َجًّا﴾ [الفجر‪)20-19 :‬‬

‫‪ -‬بل اكنزوا لكم كنوزا يف السامء‪( .‬متى ‪- 6‬‬ ‫اآلخـ َـر ِة ن َِز ْد َل ُه ِف‬
‫ِ‬ ‫ث‬‫َان ُي ِريدُ َح ْر َ‬
‫﴿ َمن ك َ‬
‫‪) 20‬‬ ‫َح ْرثِ ِه﴾ [الشورى‪)20 :‬‬
‫ال رجــ ً ِ ِ‬
‫‪ -‬ال يقدر أحد أن خيدم سيدين‪( .‬متى ‪- 6‬‬ ‫شكَــا ُء‬‫ا فيه ُ َ‬ ‫﴿ض َب اللَُّ َم َث ً َّ ُ‬ ‫َ َ‬
‫ال س َلم ِّلرج ٍل َه ْل يست َِويانِ‬ ‫ِ‬
‫ُمت ََشاك ُس َ‬
‫‪)24‬‬ ‫َْ َ‬ ‫ون َو َر ُج ً َ ً َ ُ‬
‫َم َثالً﴾ [الزمر‪)29 :‬‬
‫‪ -‬ال هتتموا حلياتكم‪ ...‬انظروا إىل طيور‬ ‫﴿وك ََأ ِّين ِمن َدا َّب ٍة ال َت ِْم ُل ِرزْ َق َها اللَُّ َي ْرزُ ُق َها‬
‫َ‬
‫السامء‪ ...‬وأبوكم الساموي يقوهتا‪( .‬متى ‪:6‬‬ ‫َوإِ َّياك ُْم﴾ [العنكبوت‪)60 :‬‬
‫‪)26-25‬‬

‫‪ -‬ال تدينوا‪ ...‬وملاذا تنظر إىل القذى الذي يف‬ ‫﴿ال َي ْس َخ ْر َق ْو ٌم ِّمن َق ْو ٍم ع ََسى َأن َيكُونُوا َخ ْ ًيا‬
‫عني أخيك‪ .‬وأما اخلشية التي يف عينك فال‬ ‫ِّمن ُْه ْم َوال نِ َساء ِّمن ن َِّساء ع ََسى َأن َي ُك َّن َخ ْ ًيا‬
‫تفطن هلا (متى ‪)3-1 :7‬‬ ‫ِّمن ُْه َّن﴾ [احلجرات‪)11:‬‬
‫‪75‬‬ ‫الباب الثاين ‪ :‬القرآن من خالل مظاهره الثالثة‪ :‬الدينى واألخالقى واألدبى‬

‫اإلنجيـل‬ ‫القرآن الكريم‬


‫‪ -‬ال تعط القدس للكالب (متى ‪)6 :7‬‬ ‫ت ِّ‬
‫الذك َْرى﴾ [األعىل‪)9:‬‬ ‫﴿ َف َذكِّر إِن َّن َفع ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬

‫ِ ِ‬
‫‪ -‬اسألوا تعطوا (متى ‪)7 :7‬‬ ‫يب ُأ ِج ُ‬
‫يب‬ ‫﴿وإِ َذا َس َأ َل َك ع َبادي َعنِّي َفإِ ِّن َق ِر ٌ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫ـو َة الدَّ ا ِع إِ َذا َد َعــان﴾ [البقرة‪،)186 :‬‬ ‫َد ْعـ َ‬
‫ُــون َأست ِ‬
‫ب َلك ُْم﴾‬
‫َج ْ‬ ‫ــال َر ُّبك ُُم ا ْدع ِ ْ‬
‫﴿و َق َ‬
‫َ‬
‫(غافر‪)60:‬‬

‫‪ -‬فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا‬ ‫ون َو َل ْستُم‬ ‫يث ِمنْه ت ِ‬
‫ُنف ُق َ‬ ‫الَبِ َ‬
‫﴿والَ َت َي َّم ُمو ْا ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫هكذا أنتم أيضا هبم (متى ‪)12 :7‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آخذيه إِالَّ َأن ُتغْم ُضو ْا فيه﴾ [البقرة‪،)267 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫بِ ِ‬

‫﴿و ْل َي ْخ َش ا َّل ِذي َن َل ْو ت ََركُو ْا ِم ْن َخ ْل ِف ِه ْم ُذ ِّر َّي ًة‬


‫َ‬
‫ِض َعا ًفا َخا ُفو ْا َع َل ْي ِه ْم﴾ [النساء‪.)9 :‬‬

‫‪ -‬ادخلوا من الباب الضيق‬ ‫﴿ َفال ا ْقت ََح َم ا ْل َع َق َب َة﴾ [البلد‪)11 :‬‬


‫(متى ‪)13 :7‬‬
‫‪ -‬احرتزوا من األنبياء الكذبة الذين يأتونكم‬ ‫ال َي ِاة الدُّ ْن َيا‬ ‫ِ‬
‫َّاس َمن ُي ْعج ُب َك َق ْو ُل ُه ِف ْ َ‬ ‫﴿و ِم َن الن ِ‬ ‫َ‬
‫بثياب احلمالن ولكنهم من داخل ذئاب‬ ‫ال َصامِ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َو ُي ْشهدُ اللََّ ع ََل َما ف َق ْلبه َو ُه َو أ َلدُّ ْ‬ ‫ِ‬

‫خاطفة‪.‬‬ ‫ض لِ ُي ْف ِسدَ فِ َيها َو ُ ْيل َك‬


‫ِ‬ ‫َوإِ َذا ت ََو َّل َس َعى ِف األَ ْر ِ‬
‫(متى ‪)15 :17‬‬ ‫ب ا ْل َف َسا َد‪َ .‬وإِ َذا ِق َيل‬ ‫ِ‬
‫ث َوالن َّْس َل َواللَُّ الَ ُي ُّ‬ ‫ال ْر َ‬ ‫َْ‬
‫اإل ْث ِم﴾‬ ‫ِ‬
‫َل ُه ات َِّق اللََّ َأ َخ َذ ْت ُه ا ْلعزَّ ُة بِ ِ‬

‫[البقرة‪)206 -204 :‬‬

‫***‬

‫مل نورد يف العرض السابق موضوعني من العهد اجلديد مها الطالق‬


‫والقصاص اللذين يبدوان وكأهنام يتعارضان مع رشيعة موسى‪.‬‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪76‬‬

‫ففي الطالق نجد «حرية بال قيد » منحتها التوراة للزوج يف أن يطلق‬
‫زوجته إذا رأى فيها ما يثري «اخلجل »‪ ،‬أو عندما يشعر نحوها «بالكراهية‬
‫»‪ ،‬بينام اإلنجيل كأنه يعارض الطالق إال يف حالة اخليانة‪ .‬أما يف القصاص‪،‬‬
‫فمقابل اإلرصار عىل املطالبة بدم القاتل والرد عىل كل سيئة بمثلها يف‬
‫التوراة‪ ،‬علم عيسى واجب عدم مقاومة الرشير والعفو عنه‪.‬‬

‫فإذا نظرنا إىل حرفية هذه املبادئ يتبني لنا أن املسيحية كأهنا ألغت‬
‫قوانني سابقة‪ ،‬وإذا أمعنا النظر أكثر‪ ،‬سنرى وجهني أو درجتني من‬
‫قانون خالد واحد‪ ،‬أحدمها العدل والثاين املحبة‪ .‬فالعدل يلزم من يرغب‬
‫يف استخدام حقه أال يتعدى حدودا إنسانية معينة‪ .‬وأما من يرغب يف‬
‫التنازل عن حقه بدافع من الكرم واألرحيية فال غبار عليه‪.‬‬

‫وهلذا نرى أن كال من منهج العهد القديم ومنهج العهد اجلديد‪،‬‬


‫إما أهنام متكامالن أو أهنام متبادالن‪ ..‬أو أنه ال مفر من االعرتاف بأنه ال‬
‫ينبغي أن حيكم كل منهج منهام مستق ً‬
‫ال عن اآلخر إال جمموعة حمدودة‬
‫من البرش‪ ،‬أو خالل مرحلة معينة من التاريخ‪ ،‬والقاعدة األخالقية‬
‫الصحيحة إذن هي التي يضمها الكتابان املقدسان مع ًا بحيث احتوى كل‬
‫منهام جزء منها‪ ،‬وترك اجلزء اآلخر مسترتا إىل حد ما‪ .‬ولقد توىل القرآن‬
‫الكريم إعالن هذه القاعدة الكاملة واعتنى كل العناية بتوضيح عنرصهيا‬
‫وإبراز قيمة كل عنرص يف ذاته‪ .‬فيقول‪ ﴿:‬ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ‬
‫‪77‬‬ ‫الباب الثاين ‪ :‬القرآن من خالل مظاهره الثالثة‪ :‬الدينى واألخالقى واألدبى‬

‫ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ‪.‬ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ‬
‫ﯳ﴾ [النحل‪ ]127: 126 :‬هذا ما يتعلق بالقصاص والعفو‪.‬‬

‫أما فيام خيتص بالطالق فينبغي أن نتصفح القرآن الكريم لكي يتبني‬
‫لنا احلواجز التي جيب اجتيازها قبل التفكري يف إيقاعه‪ ﴿ ،‬ﯢ‬
‫ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ‬
‫ﯯ﴾[النساء‪﴿،]19:‬ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ‬
‫ﮅﮆﮇﮈﮉ ﮊﮋ ﮌﮍﮎﮏﮐ ﮑﮒ ﮓ‬
‫ﮔ ﴾ [النساء‪ ﴿ ،]35:‬ﭜﭝﭞﭟ ﴾ [النساء‪]128:‬واملحاوالت‬
‫التي جيب بذهلا للتوفيق‪﴿ ،‬ﭸﭹ ﭺﭻﭼﭽﭾ‬
‫ﭿﮀﮁﮂﮃﮄ ﮅﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊﮋﮌ ﮍﮎﮏ‬
‫ﮐﮑ ﮒﮓﮔ ﮕﮖﮗﮘﮙﮚ ﮛﮜﮝ ﮞﮟ‬
‫ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ*ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ‬
‫ﮰﮱﯓ ﯔﯕ ﯖﯗﯘ ﯙﯚﯛﯜﯝ ﯞﯟﯠ‬
‫ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ‬
‫ﯳﯴ ﯵﯶﯷ ﯸﯹ﴾ [البقرة ‪.]230-228‬‬

‫﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ‬
‫ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ‬
‫ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪78‬‬

‫ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ * ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ‬
‫ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ‬
‫ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ‬
‫ﮟ﴾ [الطالق‪ ، ]2- 1:‬ومن يرجع عن قراره جيلب له عمله املغفرة‪،‬‬
‫﴿ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ﴾‬
‫[البقرة‪ ، ]226:‬باعتبار الطالق « أبغض احلالل إىل اهلل » ‪ .‬فالطالق ليس‬
‫عمال مباحا بغري حدود أو ُيؤ َدى بغري اكرتاث‪.‬‬

‫وهكذا يوضح القرآن أعامل الرسل ويؤيد رشائعهم باجلمع‬


‫والتوفيق بينها‪ .‬ونعتقد أن يف هذا التوحيد الذي يقبل يف إطار قانون‬
‫واحد درجات متفاوتة من أعامل اخلري ‪ -‬عامال عىل جانب كبري من‬
‫األمهية‪ ،‬استطاعت بمقتضاه الدعوة اإلسالمية أن تنترش يف قطاع‬
‫شاسع من البرشية‪ ،‬وأن تضم يف رحابه أفكارا واجتاهات وطبائع جد‬
‫خمتلفة‪ ،‬ال جيدي معها تشدد جتريدي غري متسامح‪ ،‬وال تساهل بغري‬
‫حدود‪ .‬وبتوضيحنا ملنهج القرآن التوفيقي هذا نكون قد أبرزنا يف نفس‬
‫الوقت مادة القرآن يف الدعوة والترشيع‪.‬‬

‫ولكن القرآن ال يقف عند هذا احلد‪ ،‬إذ أن له رسالة أخرى أال وهي‬
‫إمتام وإهناء الرصح اإلهلي الذي بناه الرسل واألنبياء عىل مر العصور‪.‬‬
‫يقول الرسول ﷺ « إنام بعثت ألمتم صالح األخالق » و « مثيل ومثل‬
‫‪79‬‬ ‫الباب الثاين ‪ :‬القرآن من خالل مظاهره الثالثة‪ :‬الدينى واألخالقى واألدبى‬

‫األنبياء كرجل بنى بيتا » ويقول القرآن ‪﴿ :‬ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ‬


‫ﭤ ﭥ﴾ [اإلرساء‪.]9:‬‬

‫فام هو اجلديد والتقدمي يف تعاليم القرآن األخالقية؟‪..‬‬

‫‪ -1‬ىف جمال الفضيلة الشخصية‪:‬‬

‫نجد قاعدة جديدة ومبدأ جديدا‪ .‬فالقاعدة اجلديدة هي حتريم اخلمر‬


‫والقضاء عىل مصادرها‪ ،‬بمنع تناول أي مرشوب مسكر‪.‬‬

‫وأما املبدأ اجلديد فهو «النية » باعتبارها لب العمل األخالقي‪.‬‬


‫فقد كان موسى يغري قومه بأرض امليعاد والنرص عىل األعداء والربكة‬
‫والرخاء يف كل شئون الدنيا‪ ،‬وجاء املسيح ليفتح عهد ًا جديد ًا ويقرر أن‬
‫النعيم والسعادة املوعودة ليست يف هذه الدنيا‪ ،‬وإنام يف ملكوت السامء‪.‬‬
‫وأخري ًا إذا بالقرآن الكريم جيمع بمنهجية البناء هذين الوعدين ويوفق‬
‫بينهام‪ ،‬باعتبار أن اهلدف ليس يف ملكوت السامء وال يف ملك الدنيا‪ ،‬وإنام‬
‫هو أعىل من هذا كله‪ ،‬إنه يف اخلري املطلق‪ ،‬أي يف ابتغاء وجه اهلل تعاىل‬
‫الذي جيب استحضاره يف القلب عند أداء العمل اإلنساين بطاعة أوامره‪:‬‬

‫﴿ﮄﮅﮆ ﮇ ﮈﮉﮊﮋﮌ ﮍﮎ‬


‫[البقرة‪]272 :‬‬ ‫ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ﴾‬
‫و﴿ﭢﭣﭤﭥ ﭦ ﭧ * ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ﴾ [الليل‪.]20-19 :‬‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪80‬‬

‫‪ -2‬الفضيلة ىف العالقات بني األفراد‪.‬‬

‫بأحكام التوراة وأحكام اإلنجيل استقامت شجرة الفضيلة وبزغت‬


‫فروعها وأوراقها‪ .‬أما بأحكام القرآن فستزهر هذه الشجرة وتؤيت ثامرها‪،‬‬
‫ال رائع ًا فيام يمكن تسميته باحلضارة األخالقية‪ :‬أنه تقنني‬
‫فقد أوجد فص ً‬
‫حقيقي يف األدب والذوق االجتامعي والتحشم يف املظهر(((‪.‬‬

‫‪ - 4،3‬الفضائل اجلامعية والفضائل العامة‪.‬‬

‫يف القانون األخالقي يف الديانة املوسوية يوجد احلاجز العايل بني‬


‫اإلرسائييل وغري اإلرسائييل‪ ،‬فأي خري يسديه اإلرسائييل إذا مل يكن‬
‫مقترصا عىل شعبه‪ ،‬فإنه ينبغي أال يتعدى وطنه وال يشمل الغريب‬
‫املقيم معه‪ .‬كالقرض بربا ( تثنية ‪ )20 :22‬مطالبة األجنبي باحلق (تثنية ‪:15‬‬

‫(الويني ‪43 :25‬‬ ‫‪ )3‬عدم استعباد أخيه (الويني ‪ )39 :25‬عدم التسلط عليه‬
‫‪ )45-‬إىل جانب االلتحام االجتامعي والشعور باملسئولية اجلامعية‪(.‬تثنية‬

‫‪ 5 :13 ،7 :6‬والويني ‪.)22 :20‬‬

‫أما القانون األخالقي املسيحي فله الفضل يف إسقاط هذا احلاجز‬

‫((( التحية (النساء‪ ،)86:‬دخول البيت (النور‪ ،)28-27:‬االستئذان (النور‪،)59-58‬‬


‫األكل عند األقارب (النور‪ ،)62-61:‬خفض الصوت(الحجرات ‪ ،)5-2‬التناجي‬
‫(المجادلة ‪ ،)11-8‬الظن (الحجرات ‪ ،)12‬غض البصر (النور ‪ ،)31‬وضع الثياب‬
‫(النور ‪ ،)60‬طريقة الحديث (األحزاب ‪ ،)33-32‬دخول بيوت النبي (األحزاب ‪،)53‬‬
‫التحشم (األحزاب ‪.)59‬‬
‫‪81‬‬ ‫الباب الثاين ‪ :‬القرآن من خالل مظاهره الثالثة‪ :‬الدينى واألخالقى واألدبى‬

‫«ألنه إذا أحببتم الذين حيبونكم فأي أجر لكم‪ ...،‬وإن سلمتم عىل‬
‫إخوتكم فقط فأي فضل تصنعون ﴾ [متى ‪ )47- 46 :5‬غري أن الفضيلة‬
‫االجتامعية املسيحية كام تقدمها األناجيل تتعلق بالعالقات بني األفراد‬
‫أكثر من داللتها عىل الروح اجلامعية بصفة أساسية‪ .‬ولكن املحبة املسيحية‬
‫بامتدادها خارج احلدود اإلقليمية وبرغبتها يف احتواء اإلنسانية كلها‪ ،‬قد‬
‫أحسنت صنع ًا بإبطال الطابع العنرصي واستبداله بأخوة عاملية‪.‬‬

‫ولكن القرآن الكريم هو الذي أبرم هذا اجلمع بني الفضيلة العامة‬
‫األخوة يف اهلل توجد ُ‬
‫األخوة يف‬ ‫والفضيلة اجلامعية‪ ،‬إذ يقرر أنه خارج ُ‬
‫آدم‪﴿ ،‬ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ *‬
‫ﯨﯩﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﯷ‬
‫ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄﰅ ﰆ ﰇ‬
‫ﰈ ﰉ ﰊﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﴾ [احلجرات‪]11-10:‬وأن‬
‫تسود املحبة واإلحسان مع اختالف املشاعر الدينية‪﴿ ،‬ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ‬
‫ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ‬
‫﴾ [املمتحنة‪]8 :‬‬ ‫ﮍﮎ‬

‫وإقامة العدل مع األعداء‪ ﴿ ،‬ﯡﯢﯣﯤﯥﯦ‬


‫ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ‬
‫ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ﴾ [املائدة‪ ، ]2:‬وحتريم الربا‬
‫مع اجلميع‪ ،‬وأن الت ّقى يكون كذلك داخل مجاعته وخارجها‪ ﴿،‬ﮜ ﮝ‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪82‬‬

‫ﮞﮟﮠﮡ ﮢ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮪﮫ‬


‫ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ‬
‫ﯜﯝﯞﯟﯠﯡ* ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ‬
‫ﯪ ﯫ﴾ [آل عمران‪. ]67- 57:‬‬

‫واالهتامم بفك أرسى املسلمني‪ ﴿ ،‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ‬


‫ﭘﭙ ﭚ ﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢ‬
‫ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ﴾‬
‫[النساء‪. ]75 :‬‬

‫والعبيد بوجه عام‪ ﴿ ،‬ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ‬


‫ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ‬
‫ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ﴾ [التوبة‪. ]60 :‬‬

‫﴿ ﭒﭓ ﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ ﭛﭜﭝ‬
‫ﭞﭟﭠﭡﭢ ﭣﭤﭥﭦﭧ‬
‫ﭨﭩﭪ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰ‬
‫ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ‬
‫ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ﴾‬
‫﴾ [البلد‪.]31:‬‬ ‫[البقرة ‪ ﴿،]177:‬ﮬ ﮭ‬

‫وهكذا تتطور فكرة الفضيلة العامة التي أعلنها اإلنجيل‪ ،‬وتتحدد‬


‫‪83‬‬ ‫الباب الثاين ‪ :‬القرآن من خالل مظاهره الثالثة‪ :‬الدينى واألخالقى واألدبى‬

‫أكثر فأكثر عندما تتسع لتشمل جماالت احلياة املختلفة‪ .‬ولكن هل معنى‬
‫ذلك أن اجلامعة اإلسالمية ترتاخى يف روابطها الداخلية لتضيع يف حميط‬
‫البرشية الواسع؟ عىل العكس إذ هناك مبدآن يؤكدان دورها كجامعة‬
‫متميزة ومتامسكة‪.‬‬

‫األول‪ :‬يدعو املؤمنني بأن يكونوا مجاعة واحدة ال تنقسم – بدون‬


‫فرقة أو انشقاق ‪ -‬تلتف حول مثل أعىل وحول رئيسها‪﴿ ،‬ﭱ‬
‫ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ‬
‫ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ﴾ [آل عمران‪.]301 :‬‬

‫﴿ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﰁ ﰂ‬
‫ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ‬
‫ﰒ﴾ [النساء‪. ]59 :‬‬

‫﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚﭛ ﭜ‬
‫ﭝ ﭞ ﭟ﴾ [األنفال‪]46 :‬‬

‫والثانى‪ :‬هو التزام مجيع املسلمني بأال يرتكوا املنكر يسود يف‬
‫جمتمعهم‪﴿ :‬ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ‬
‫ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ﴾ [األنفال‪ ،]25:‬ورضورة أن يتواصوا باحلق‬
‫والفضيلة‪﴿ ،‬ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ‬
‫‪﴿ ،]3‬ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ‬ ‫[العرص‪:‬‬ ‫ﭟ ﭠ﴾‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪84‬‬

‫ﯧ ﯨ﴾ [البلد‪ ،]17 :‬والتعاون عىل الرب والتقوى‪﴿ ،‬ﯭ‬


‫﴾ [املائدة‪.]2 :‬‬ ‫ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ‬

‫والتضامن هو مقياس مجاعة املسلمني األوىل التي سميت بخري‬


‫أمة أخرجت للناس‪﴿ ،‬ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ‬
‫ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ﴾ [آل عمران‪.]110 :‬‬

‫ومع ذلك بدا لبعض املسترشقني أن يصوروا املسلم عىل أنه ذو نزعة‬
‫«فردية ال تقاوم » مل يعرف معنى «رباط التضامن » يف يوم من األيام‪ ،‬حتى‬
‫إهنم يرون األعامل اجلامعية مثل صالة اجلامعة‪ ،‬ووقفة عرفات‪ ،‬وصالة العيد‪،‬‬
‫أعامالً فردية تؤدى يف وقت واحد دون أن يكون هلا طابع االحتفاالت املوجهة‬
‫أو املنظمة‪ .‬وهذا القول ال أساس له من الصحة بدليل ما سبق توضيحه‪...‬‬
‫وأما يف الصالة فنرى املؤمنني مصطفني‪ ،‬كل منهم يدعو للجميع ﴿ﭢﭣ‬
‫ﭤ ﭥ * ﭧ ﭨ ﭩ﴾[الفاحتة‪ » ]5،6 :‬وجلميع عباد اهلل‬
‫الصاحلني‪ .‬فالصالة والزكاة واجبان توءمان ينهضان كدليل بليغ عىل روح‬
‫التضامن يف اإلسالم‪.‬‬

‫‪ -5‬الفضيلة ىف املعامالت الدولية وبني األديان‪.‬‬

‫هذا فصل جديد كل اجلدة يف األخــاق اإلسالمية‪ ،‬إذ مل تتح‬


‫لليهودية واملسيحية وقت تأسيسهام فرصة أن يكون هلام عالقات مع‬
‫دول معادية‪ .‬بينام الرسول ﷺ كان عىل عالقات دائمة مع أمم وديانات‬
‫‪85‬‬ ‫الباب الثاين ‪ :‬القرآن من خالل مظاهره الثالثة‪ :‬الدينى واألخالقى واألدبى‬

‫خمتلفة‪ ،‬تارة مساملة وتارة معادية‪ ،‬خالل عرش سنوات‪ ،‬بصفته سياسي ًا‬
‫وقائد ًا إىل جانب صفة املرشد الروحي واألخالقي‪ .‬ومن هذه املبادئ أن‬
‫احلرب الرشعية ال تقوم إال من أجل دفع العدوان‪ ﴿ ،‬ﯯ ﯰ ﯱ‬
‫ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ﴾ [البقرة ‪ ،]190‬وجيب أن تتوقف بمجرد‬
‫انتهائه‪ ﴿ ،‬ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﴾ [األنفال‪.]61:‬‬

‫هناك مبدأ احرتام املواثيق املربمة مع العدو‪ ﴿ ،‬ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ‬


‫ﮑﮒﮓﮔ ﮕﮖﮗﮘﮙﮚ‬
‫ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ * ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ‬
‫ﮩﮪﮫﮬﮭﮮ ﮯﮰﮱﯓﯔﯕ‬
‫﴾ [النحل ‪]29 - 19‬‬ ‫ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ‬

‫ولو بدأ العدو يف نقض اتفاقه فال جيوز مهامجته عىل غرة‪ ،‬وإنام جيب‬
‫أوال إعالنه بإلغاء عهده معنا بطريقة واضحة‪﴿ ،‬ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ‬
‫ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﴾ [األنفال‪.]58 :‬‬

‫السنَّة‪.‬‬
‫هذا بخالف القواعد التي حددهتا ُّ‬
‫‪87‬‬

‫الفصل الثـالث‬
‫اجلامل واجلانب األدبى‬
‫توجد يف أعامق النفس اإلنسانية ‪ -‬كام قلنا ‪ -‬بصرية داخلية متيز‬
‫بني احلق والباطل‪ ،‬واخلري والرش‪ ،‬مهام اختلفت صورمها برشط أن يرى‬
‫اإلنسان بجالء وبذهن صاف‪ .‬فالعقول الثاقبة والنفوس املهيأة‪ ،‬الحتتاج‬
‫ألكثر من ذلك لكي تعتنق دعوة جديدة طاملا وجدت فيها هذا الرشط‬
‫املزدوج أال وهو تعليم احلقيقة والدعوة إىل الفضيلة‪ .‬وهكذا استطاع‬
‫هرقل ‪ -‬اإلمرباطور((( الروماين رغم جهله باللغة العربية ‪ -‬أن حيكم‬
‫عىل صدق الرسالة املحمدية استناد ًا إىل بعض الرشوط األخالقية التي‬
‫اعتقد أهنا رضورية وكافية إلثبات ربانية هذه الرسالة‪.‬‬

‫ولكن األمر ليس كذلك بالنسبة لعامة الناس‪ .‬فام جيذب اهتاممهم‬
‫فيام يقدم إليهم هو سحر الشكل اخلارجي أكثر من متانة املحتوى‪ .‬وأي‬
‫جديد يكتيس بمظهر حقري وغري جذاب جيعلهم ينفرون منه وينرصفون‬
‫عنه؛ ألهنم يترسعون يف احلكم عىل األشياء بحسب املظهر قبل اختبار‬
‫اجلوهر واللباب‪ .‬ومن هنا ندرك قيمة العون احلقيقي الذي يمكن أن‬
‫يقدمه األدب إىل العلم واحلكمة عندما ينترصان للحقيقة والفضيلة‪.‬‬

‫((( انظر البخاري كتاب الجهاد باب ‪ ،101‬وانظر أيضًا ب‪ .‬سان هيلير يف كتابه « محمد‬
‫والقرآن » ‪ ،‬ص ‪.156-150‬‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪88‬‬

‫والدعوة اإلسالمية تتمتع يف الناحية األدبية بالكامل الذي ال تشوبه‬


‫شائبة‪ ،‬فبمظهرها وجوهرها تشبع حاجة من يفهم العربية‪ .‬والقرآن ‪-‬‬
‫حامل هذه الرسالة ‪ -‬كان وسيظل النموذج الذي ال يبارى يف األدب‬
‫العريب‪ .‬وإذا نظرنا نظرة جمردة إىل صفاته األدبية نستطيع أن نقول إنه‬
‫يعترب املثل األعىل ملا يمكن أن يسمى أدب ًا بوجه عام‪ .‬ففي العرص الذهبي‬
‫للغة العربية‪ ،‬ما أن ظهر حمكم التنزيل حتى اكتسح احلامس للشعر والنثر‪.‬‬
‫وأنزلت املعلقات السبع من باب الكعبة واجتهت كل األسامع إىل هذا‬
‫اإلعجاز اجلديد يف اللغة العربية‪.‬‬

‫فلغة القرآن مادة صوتية‪ ،‬تبعد عن طراوة لغة أهل احلرض‪ ،‬وخشونة‬
‫لغة أهل البادية‪ ،‬وجتمع ‪ -‬يف تناسق حكيم ‪ -‬بني رقة األوىل وجزالة‬
‫الثانية‪ ،‬وحتقق السحر املنشود‪ ،‬بفضل التوفيق املوسيقي البديع بينهام‪.‬‬
‫إهنا ترتيب يف مقاطع الكلامت يف نظام أكثر متاسك ًا من النثر‪ ،‬وأقل‬
‫نظ ًام من الشعر‪ ،‬يتنوع يف خالل اآلية الواحدة ليجذب نشاط السامع‪،‬‬
‫ويتجانس يف آخر اآليات سجع ًا‪ ،‬لكي ال خيتل اجلرس العام للوقفات‬
‫يف كل سورة‪ .‬أما كلامته فمنتقاة من بني الكلامت املشهورة‪ ،‬دون أن هتبط‬
‫إىل مستوى الدارج‪ ،‬وخمتارة من بني الكلامت السامية‪ ،‬التي ال توصف‬
‫بالغريب إال نادر ًا‪ .‬ومتتاز باإلجياز العجيب يف الكالم والرتكيز الشديد يف‬
‫املعنى والوضوح األخاذ‪ ،‬مع العمق واملرونة واإلحياء واإلشعاع يف كل‬
‫جانب مثل أوجه قطعة املاس الرباقة‪ .‬وإهنا حلقيقة مقررة أن مجيع الناس‬
‫‪89‬‬ ‫الباب الثاين ‪ :‬القرآن من خالل مظاهره الثالثة‪ :‬الدينى واألخالقى واألدبى‬

‫عىل اختالف مستوياهتم العلمية والفكرية يلتقون عىل فهم القرآن‪ ،‬كأن‬
‫كل عبارة فيه مفصلة تفصي ً‬
‫ال بام يناسب عقلية كل منهم‪ ...‬وكل هذا‬
‫يف موضوعات غري مطروقة يف األدب اجلاهيل‪ ،‬بحيث أنه حيق لنا أن‬
‫نؤكد من الناحية اللغوية البحتة‪ ،‬كان ظهور القرآن خلق ًا للغة جديدة‬
‫وألسلوب جديد‪.‬‬

‫أما ما يبدو أنه فوق طاقة البرش حق ًا يف األسلوب القرآين‪ ،‬فهو أنه ال‬
‫خيضع للقوانني النفسية التى بمقتضاها نرى العقل والعاطفة ال يعمالن‬
‫إال بالتبادل وبنسب عكسية‪ .‬بينام يف القرآن ال نرى إال تعاون ًا دائ ًام بينهام‬
‫يف كل املوضوعات‪ ،‬ونرى الكلامت تسعى بقوة وجتمع يف نفس الوقت‬
‫بني التعليم واإلقناع والتأثري‪ ،‬ومتنح القلب والعقل نصيبهام املنشود‪،‬‬
‫عالوة عىل احتفاظ الكالم دائ ًام هبيبة مدهشة‪ ،‬وبجاللة قوية ال تتأرجح‬
‫وال تضطرب‪.‬‬

‫والعريب األصيل الذي ترسي يف دمه غزيرة اللغة‪ ،‬كان يدرك بفطنته‬
‫وفطرته ويشعر أن القرآن آت من السامء ينفذ إىل القلوب ويبهر األبصار‪.‬‬
‫حتى إن الكفار أدركوا هذا التأثري يف عهد الرسول‪ ،‬واختلفوا يف التامس‬
‫التفسري والتعليل له إىل درجة أن أطلقوا عليه (سحرا)‪ .‬إذ نالحظ يف‬
‫القرآن يف احلال هلجة فريدة ال تنبعث عن قلب رجل وليست سوى نفحة‬
‫ربانية‪ .‬أما أحاديث الرسول ﷺ فإهنا معروفة ببالغتها الرفيعة‪ ،‬ويتميز‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪90‬‬

‫عنها النص القرآين متيز ًا صارخ ًا‪.‬‬

‫وينبغى أن نركز بعض اجلهد يف هذا الفصل عىل نقطة غفل عنها‬
‫مجيع املسترشقني فض ً‬
‫ال عن بعض املسلمني‪ ،‬وهي طريقة القرآن الكريم‬
‫يف معاجلة أكثر من موضوع يف السورة الواحدة‪.‬‬

‫فقد رأى بعض املسترشقني بنظرة سطحية ذلك وزعم عدم توافر‬
‫التجانس والربط الطبيعي بني املواد التي تتناوهلا السورة بل وأكثر من‬
‫ذلك ‪ -‬مل ير القرآن يف مجلته إال أشتات ًا من األفكار املتنوعة عوجلت‬
‫بطريقة غري منظمة وبدون أي ربط منطقي بينها‪ .‬بينام رأى البعض اآلخر‬
‫أن علة هذا التشتيت املزعوم ترجع إىل احلاجة إىل ختفيف امللل الناتج من‬
‫رتابة األسلوب‪ ،‬واحلزن املرتتب عىل تكرار النغمة مما يتناىف مع املثالية يف‬
‫األسلوب العريب‪.‬‬

‫وهناك فريق ثالث رأى يف الوحدة األدبية لكل سورة نوع ًا من‬
‫التعويض هلذا النقص اجلوهري يف وحدة املعنى‪ ،‬بينام فريق آخر يضم‬
‫غالبية املسترشقني رأى ‪ -‬وهو حياول تربئة الرسول ‪ -‬أن هذا العيب‬
‫يرجع إىل الصحابة الذين مجعوا القرآن وقاموا هبذا اخللط عندما مجعوا‬
‫أجزاءه ورتبوها عىل شكل سور‪.‬‬

‫واحلق أن هذه التفسريات مجيع ًا ال تصلح لألخذ هبا‪ .‬إذ أن السنة‬


‫املطهرة واألثر الصحيح متفقان عىل أن السور كانت بالشكل والرتتيب‬
‫‪91‬‬ ‫الباب الثاين ‪ :‬القرآن من خالل مظاهره الثالثة‪ :‬الدينى واألخالقى واألدبى‬

‫والرتكيب الذى نقرأها هبا اليوم منذ حياة الرسول ﷺ‪.‬‬

‫فعندما نريد أن نقدر مجال لوحة مرسومة ال ينبغي أن نحرص نظرنا‬


‫يف جزء ضيق منها‪ ،‬بل جيب أن نرجع قلي ً‬
‫ال إىل الوراء‪ ،‬ليتسع جمال الرؤية‬
‫فنحيط بالكل يف نظرة شاملة‪ .‬بمثل هذه النظرة ينبغي أن ندرس كل‬
‫سورة لنقدر أبعادها احلقيقية‪ .‬ولقد قمنا يف املاىض أثناء تدريسنا باألزهر‬
‫بتطبيق هذه القاعدة يف دراسة إلحدى السور املدنية (وهي سورة البقرة)‬
‫ولسورتني مكيتني (مها سورتا يونس وهود) وقد كانت مقررة يف‬
‫الربنامج الدرايس‪.‬‬

‫والواقع أننا وجدنا أكثر مما كنا نتطلب من بحثنا‪ .‬فقد وضح لنا بام‬
‫أثار دهشتنا أن هلذه السور ختطيط ًا حقيقي ًا واضح ًا‪ ،‬وحمدد ًا يتكون من‬
‫ديباجة وموضوع وخامتة‪.‬‬

‫فإذا أخذنا يف اعتبارنا التواريخ التي ال حرص هلا‪ ،‬والتفتيت املتناهي‬


‫يف نزول اآليات‪ ،‬والحظنا أن نزول الوحي بوجه عام كان مرتبطا‬
‫بظروف ومناسبات خاصة‪ .‬فإن ذلك يدعونا إىل التساؤل عن الوقت‬
‫الذي متت فيه عملية تنظيم كل سورة عىل شكل وحدة مستقلة‪ .‬وهذا‬
‫التساؤل يضعنا أمام نقطة حمرية‪.‬‬

‫فسواء افرتضنا أن هذا الرتتيب كان قبل اكتامل نزول القرآن أو بعد‬
‫اكتامله‪ ،‬فقد كان املتوقع أن يتم إتباع إما الرتتيب التارخيي لنزول اآليات‪،‬‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪92‬‬

‫وإما الرتتيب املنطقي البسيط بحسب جتانس املوضوعات‪ .‬إال أنه من‬
‫املالحظ أن السور القرآنية تتنوع موضوعاهتا وال ختضع ألي فرض من‬
‫الفرضني أو ألي ترتيب من الرتتيبني السابقني‪.‬‬

‫مما يدعونا إىل ترجيح وجود تصميم أو ختطيط معقد يكون‬


‫قد وضع يف وقت سابق عىل نزول القرآن‪ .‬ولكن رسعان ما نميل‬
‫إىل االنرصاف عن هذا االفرتاض برسعة بسبب مدى االستحالة‬
‫التي ينطوي عليها تصور أن يوضع نظام سابق كهذا يتم به ترتيب‬
‫حتكمي بني فقرات حديث سيطلب إلقاؤه أو إظهاره عىل مدار ثالثة‬
‫وعرشين عاما‪ ،‬وبام يتفق ويتناسب مع عديد من املالبسات والظروف‬
‫واألحداث التى تستدعي إظهار هذا احلديث‪ ،‬والتي ال يمكن توقعها‬
‫أو التنبؤ بوقوعها أو بتوقيت وقوعها‪ .‬غري أن السنة النبوية تؤكد لنا‬
‫هذا االفرتاض الغريب وتؤيده فإن الرسول ﷺ فور نزول الوحي‬
‫عليه ‪ -‬كان يأمر بوضع كل جزء منه صغري ًا أو كبري ًا يف سورة مل تكن‬
‫قد اكتملت بعد‪ ،‬ويف مكان حمدد منها‪ ،‬ويف موضع رقمي من آياهتا‪،‬‬
‫ويف ترتيب مل يكن دائ ًام هو الرتتيب التارخيي‪ .‬وبمجرد وضع اآلية أو‬
‫اآليات يف هذا املوضع أو ذاك‪ ،‬بقيت فيه إىل األبد‪ ،‬دون أن يطرأ عليها‬
‫أي حتويل أو تصحيح أو تعديل أو وصالت‪.‬‬

‫من هذا نقول إنه ال بد أنه كان هناك تصميم لكل سورة‪ ،‬فض ً‬
‫ال‬
‫‪93‬‬ ‫الباب الثاين ‪ :‬القرآن من خالل مظاهره الثالثة‪ :‬الدينى واألخالقى واألدبى‬

‫عن وجود تصميم أو خطة عامة للقرآن يف مجلته‪ ،‬بمقتضاها كان كل‬
‫وحي جديد يوضع يف مكانه تو ًا بني آيات هذه السورة أو تلك من السور‬
‫املفتوحة‪.‬‬

‫وكأن آيات القرآن كانت قطع ًا مستقلة ومرقمة يف بناء قائم يف‬
‫مكان‪ ،‬وكان يراد إعادة بنائه يف مكان آخر عىل نفس هيئته السابقة‪ .‬وإال‬
‫فكيف يمكن تفسري هذا الرتتيب الفوري واملنهجي يف آن واحد‪ ،‬فيام‬
‫يتعلق بكثري من السور إذا مل تكن الصحائف اخلالية والصحائف التامة‬
‫متثل وحدة كاملة يف نظر املؤلف؟ وهناك ختطيط آخر ذو طابع أسلويب‪،‬‬
‫وبمقتضاه نالحظ أن األجزاء التي ستتجاور جمهزة مقدما بطريقة معينة‬
‫بحيث يتزاوج بعضها مع بعض بدون ثغرات أو تصادم‪.‬‬

‫وال شك أن طريقة القرآن هذه ليست هلا مثيل عىل اإلطالق‪ ،‬وال‬
‫يمكن ألي كتاب من الكتب يف األدب أو يف أي جمال ‪ -‬أن يكون قد تم‬
‫تأليفه عىل هذا النحو الفريد أو يف مثل هذه الظروف العجيبة‪.‬‬

‫وبمعنى آخر إذا كان االضطراب يف النظام املنطقي أو اخللل اللغوي‬


‫والبالغي مها نتيجة حتمية ملثل هذا املرشوع لو حاول أن يضطلع به‬
‫إنسان بسبب ما يشتمل عليه من تعقيد حمري ومن صعوبات مجة‪ ،‬أال‬
‫ينبغي أن نستنتج أن اكتامل هذه اخلطة وحتقيقها بالصورة املطلوبة‪ ،‬ال‬
‫بد وأن يستلزم تدخ ً‬
‫ال من قوة عظمى تتوفر فيها هذه القدرة الفائقة عىل‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪94‬‬

‫إقامة مثل هذا التوافق املعجز؟ وإال فمن هذا املخلوق الذي يستطيع‬
‫أن يوجه األحداث بام يتوافق متام ًا مع هذا التصميم املرسوم؟ أو كيف‬
‫يمكن أن نخرج من جمموعة مصادفات بمثل هذا البناء األديب الرفيع‬
‫وهو القرآن الكريم؟‬

‫فإذا كانت السورة القرآنية من نتائج هذه الظروف تكون وحدهتا‬


‫املنطقية واللغوية يف نظرنا هي معجزة املعجزات‪ .‬ولقد رصح بوجود‬
‫هذه الوحدة املزدوجة كثري من ذوي االختصاص ىف هذا املوضوع من‬
‫بينهم أبو بكر النيسابوري‪ ،‬وفخر الدين الرازي‪ ،‬وأبو بكر ابن العريب‪،‬‬
‫وبرهان الدين البقاعي‪ ،‬وأبو إسحاق الشاطبي‪ .‬وملراجعة هذا عىل بعض‬
‫املختارات من القرآن‪ ،‬نشري إىل كتابنا « النبأ العظيم » ‪.‬‬

‫إال أن إعجابنا يصل إىل ذروته إذا أدركنا أن هذه األجزاء املتفرقة‬
‫من اآليات القرآنية قد اتبعت يف نزوهلا ختطيط ًا آخر خمتلف ًا متام االختالف‬
‫عن التخطيط الذي حتدثنا عنه يف الفقرات السابقة‪ ،‬وما علينا إال أن‬
‫نستعرض من أوهلا إىل آخرها ‪ -‬املراحل التدرجيية هلذا التخطيط الثاين‬
‫خالل الثالث والعرشين سنة‪:‬من النبوة إىل الرسالة (من ﴿ ﭻ ﴾ بسورة‬
‫العلق إىل ﴿ﮯ ﮰ﴾ يف سورة املدثر) ‪.‬‬

‫ومن الدعوة الرسية إىل الدعوة اجلهرية‪﴿ ،‬ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ‬


‫ﭣ﴾ [احلجر‪ ،]94:‬ومن دعوة الرسول ألقاربه‪﴿،‬ﭿ ﮀ‬
‫‪95‬‬ ‫الباب الثاين ‪ :‬القرآن من خالل مظاهره الثالثة‪ :‬الدينى واألخالقى واألدبى‬

‫ﮁ﴾ [الشعراء‪ ،]214 :‬إىل دعوة مكة بأرسها‪﴿،‬ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ‬


‫ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ﴾ [القصص‪ ،]59:‬ثم‬
‫القرى املجاورة‪ ﴿ ،‬ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ﴾ [األنعام‪ ]92 :‬ثم البرشية‬
‫مجعاء‪﴿ ،‬ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ﴾ [األنبياء‪ ،]107 :‬ومن إرساء‬
‫القواعد األساسية لإلسالم (يف السور املكية)‪ ،‬إىل التطبيق العميل (يف‬
‫السور املدنية)‪ ،‬ومن التبغيض يف رشب اخلمر‪﴿ ،‬ﯣ ﯤ ﯥ‬
‫ﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ‬
‫﴾ [البقرة‪ ]219 :‬إىل حتريمها رصاحة‪ ﴿ ،‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ‬
‫ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ﴾ [املائدة‪]90 :‬‬

‫ومن الدعوة إىل الصرب واحتامل األذى‪﴿ ،‬ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ‬


‫ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ﴾ [النساء‪ ]77 :‬إىل املقاومة املسلحة‪ ﴿ ،‬ﯰ‬
‫ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ﴾ [البقرة‪. ]190 :‬‬

‫ويكفى أن نسجل هنا تارخيني عىل جانب من األمهية‪:‬‬

‫األول‪ :‬تاريخ انطالق الدعوة‪ :‬يوم غار حراء وتلقى النبي ﷺ‬


‫الوحي ألول مرة‪﴿ ،‬ﮊ ﮋ ﮌ * ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ﴾ [العلق‪،]5 - 4 :‬‬
‫﴾ [املزمل‪]5 :‬‬ ‫وأنه سيكلف بمهمة شاقة‪ ﴿ ،‬ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ‬

‫والتاريخ الثاين‪ :‬وهو حجة الوداع حني أعلن الرسول أن رسالته‬


‫قد متت‪ ،‬وأن مهمته عىل األرض قد انتهت‪ ﴿ ،‬ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪96‬‬

‫ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ﴾ [ املائدة‪ ، ] 3 :‬وبعد ذلك مل‬


‫يلبث الرسول ﷺ أن حلق بالرفيق األعىل‪.‬‬

‫إن هذا التطور إذن كان متفق ًا مع خطة تربوية ترشيعية موضوعة‬
‫يف وقت سابق‪ ،‬يف إمجاهلا ويف تفصيلها‪ ،‬بمعرفة منزل الوحي سبحانه‬
‫وتعاىل‪ ،‬فإذا كانت هذه اآليات ذاهتا التي كانت تتبع يف نزوهلا ختطيط ًا‬
‫تربوي ًا ممتاز ًا‪ ،‬قد حتولت بمجرد نزوهلا يف ترتيبها التارخيي لكي تتوزع‬
‫وتتجمع يف شكل آخر عىل هيئة إطارات حمددة‪ ،‬وخمتلفة األطوال‪ ،‬بحيث‬
‫يظهر يف النهاية من هذا التوزيع املقصود‪ ،‬كتاب يقرأ‪ ،‬مكون من وحدات‬
‫كاملة‪ ،‬لكل منها نظامها األديب واملنطقي‪ ،‬ال يقل روعة عن النظام‬
‫الرتبوي العام‪ ،‬فهذا هو التخطيط املزدوج الذي ال يمكن أن يصدر عن‬
‫قلب برش‪..‬‬
‫‪97‬‬

‫الباب الثـالث‬
‫المصدر الحقيقي للقرآن‬
‫‪99‬‬

‫متهيد‬
‫دراسة مصدر أي كتاب ينبغي أن تسبق دراسة حمتواه‪ ،‬أما القرآن‬
‫فإن دراسة مصدره تستوجب خمالفة هذه القاعدة‪ ،‬ألن فكرة مصدره‬
‫اإلهلي ليست فقط جزء ًا من دعوته وإنام اجلزء األسايس منها‪ .‬ألن القرآن‬
‫من أوله إىل آخره‪ ،‬يتحدث إىل الرسول ﷺ أو يتحدث عنه واليرتكه أبد ًا‬
‫يعرب عن فكره الشخيص‪..‬‬

‫لكن كيف الننسب كالم القرآن واألفكار التي يتضمنها إىل‬


‫الشخص الذي جاء به؟‬

‫وكيف يمكن أن نجعل من هذا الشخص جمرد أداة استقبال يقدم‬


‫كتابه جاهز ًا وكام ً‬
‫ال كام تلقاه من مصدر خارجي وغري برشي؟‬

‫مما الشك فيه أن حممد ًا ﷺ وهو يؤكد هذا‪ ،‬مل يكن أول من أثار‬
‫قضية الوحي‪ ،‬بل إنه كان أكثر تواضع ًا من موسى الذي تلقى التوراة ‪-‬‬
‫كام يقول القرآن ‪ -‬يف لقاء مبارش بينه وبني اهلل تبارك وتعاىل حيث سمع‬
‫كالم اهلل ذاته أما بالنسبة إىل حممد ﷺ‪ ،‬فإن القرآن قول رسول ساموي‪،‬‬
‫وسيط بينه وبني اهلل‪ ،‬وفيام عدا هذا االختالف‪ ،‬فإهنام متفقان يف نسبه‬
‫ما تلقياه إىل اهلل‪.‬‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪100‬‬

‫فأما الذين الينكرون الوحي من حيث املبدأ العام‪ ،‬فمن حقهم أال‬
‫يطبقوه عىل ظاهرة معينة إال بعد استنفاد مجيع فرص التفسري الطبيعي‬
‫هلذه الظاهرة‪ .‬وإذا ما اعرتفوا يف النهاية بمنشئها اإلهلي املبارش يكون هذا‬
‫االعرتاف آخر مطاف البحث‪ ،‬وقرار العلم‪ ،‬بعد استنفاد مجيع الوسائل‬
‫املمكنة‪.‬‬

‫فلنبعد من بحثنا إذن احلجة التي تستند إىل اإلعجاز اللغوي يف‬
‫القرآن والتي تؤكد مصدره اإلهلي‪ ،‬ولنتساءل عن إمكان تفسري األفكار‬
‫التي يتضمنها القرآن بسبب آخر غري الوحي‪.‬‬

‫والواقع أن هناك بحوث ًا ودراسات كثرية قد سلكت هذه السبيل يف‬


‫املاىض مما جيعل البحوث احلديثة يف هذا املجال جمرد تكرار لنفس الكالم‬
‫القديم‪ ،‬وإن اختلفت يف الشكل واألسلوب‪.‬‬

‫وسنتبع يف هذا الباب الرتتيب الزمني‪ ،‬فنقسم البحث إىل فصلني‬


‫عن املرحلة املكية واملرحلة املدنية عىل التوايل‪.‬‬
‫‪101‬‬

‫الفصـل األول‬
‫البحث عن مصدر القرآن يف الفرتة املكية‬
‫الوسط الوثني ‪ -‬احلنفاء ‪ -‬الصابئون ‪ -‬العنارص املسيحية واليهودية ‪-‬‬

‫رحالت الرسول ﷺ ومشاهداته ‪ -‬اطالعاته ‪ -‬األدب واألساطري الشعبية ‪-‬‬

‫تأمالته الفكرية الشخصية‪.‬‬

‫حتاول أبسط االفرتاضات أن جتد يف بيئة احلجاز املحدودة ‪ -‬إن مل‬


‫يكن يف مكة ‪ -‬مجيع العنارص الرضورية لبناء الدعوة القرآنية ومن هذه‬
‫النظرة قدم لنا «أرنست رنان » يف مقال له عن «حممد ومصادر اإلسالم»‬
‫نموذجا فريدا حلياة العرب قبل اإلسالم يف القرن السادس بعد امليالد‪.‬‬
‫وبدالً من هذا الشعب املرشك الذي تعرفه الدنيا‪ ،‬وضع لنا شعب ًا آخر مل‬
‫يعرف سوى إهل ًا واحد ًا (ص ‪ )1071 -1070‬ورسم لنا جمتمع ًا يف أوج‬
‫محاسه الديني التقت فيه مجيع الديانات‪ ،‬ومجيع احلضارات باإلضافة إىل‬
‫أن الدين كان شغله الشاغل (ص ‪ .)1089‬وعىل هذا املنوال ال تعدو‬
‫رسالة حممد ﷺ إال أن تكون امتداد ًا للحركة الدينية التي سادت يف‬
‫عرصه من غري أن يسبقها يف أي جديد (ص ‪ .)1089‬ولقد أبرز «رنان »‬
‫الذوق األديب الرفيع هلذا الشعب‪ ،‬ونظرته الواقعية وأغفل سائر الصفات‬
‫األخرى التي ال ترشفه‪.‬‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪102‬‬

‫ولكن الصورة احلقيقية حلياة العرب يف هذه احلقبة نجدها يف‬


‫القرآن ذاته‪ ،‬وختتلف عن ذلك كل االختالف كام سبق أن رأينا‪.‬‬
‫فقد كانت حياهتم حياة «الضالل املبني »‪ ﴿ ،‬ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ‬
‫عمران‪ ،]164:‬وزمنهم زمن ﴿ ﭼ ﭽ﴾‬ ‫[آل‬ ‫ﯺ ﯻ﴾‬
‫[األحــــزاب‪ ﴿ ،]33:‬ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ﴾ [الفتح‪،]26:‬‬
‫ولقد كانوا حيتفظون يف عاداهتم ببعض اآلثار من ديانة إبراهيم‬
‫وإسامعيل عليهام السالم مثل احلج‪ ،‬ولكن هذه اآلثار كانت ختتلط‬
‫بأخطاء وأوهام كثرية‪﴿ :‬ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ﴾‬
‫‪ ﴿ ،]189‬ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ‬ ‫[البقرة‪:‬‬

‫ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﴾ [البقرة ‪.]200:‬‬

‫كام كان احلارضون يف سوق عكاظ ال يتناظرون يف الدين وإنام يف‬


‫املفاخر الدنيوية‪ ،‬وال نكاد نجد أثر ًا للدين يف أشهر القصائد املعروفة‬
‫باملعلقات الذهبية‪.‬‬

‫ويف وسط هذه اجلموع من الناس ذات اجلهل املفضوح‪ ،‬كانت تتميز‬
‫صفوة قليلة تعد عىل األصابع وتعرف باسم «احلنفاء » ‪ -‬أي الثائرين عىل‬
‫الرأي العام ‪ -‬وهي الفئة التي اعتمد عليها «رنان » لتصوير خصائص‬
‫جمتمع العرب يف هذا العرص‪ .‬فامذا كانت دعوة هؤالء «احلنفاء»؟‪ ..‬يقينا‪:‬‬
‫اليشء! سوى متردهم عىل عرصهم وتطلعهم إىل دين صحيح حاولوا‬
‫‪103‬‬ ‫الباب الثالث ‪ :‬المصدر الحقيقي للقرآن‬

‫التامسه خارج حميطهم ومل يكن عندهم عنه أية فكرة دقيقة قادرة عىل‬
‫أن تنبئ عن دعوة القرآن ولو من بعيد‪ ..‬وكل ما يمكن استخالصه من‬
‫وجودهم هو ما رصح به «رنان» ذاته عن حق‪ ،‬هو وجود «نوع من القلق‬
‫واالنتظار املبهم (ص ‪ .)1090‬وعموم ًا مهام ردد الناس من عبارات‪ :‬اهلل‬
‫والدين واألنبياء والكتب‪ ،‬واجلنة يف هذه الفرتة‪ ،‬فلم يكن هلذه الكلامت‬
‫مدلول يف نفوسهم عن أية فكرة واضحة ومتميزة‪.‬‬

‫وأوىل من هؤالء‪ ،‬احلديث عن الصابئني الوارد ذكرهم بالقرآن‪:‬‬


‫﴿ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ﴾[البقرة‪]62:‬و[املائدة‪:‬‬

‫‪ ]69‬و [احلج‪.]17 :‬‬

‫ويقصد هبم طائفة وثنية متميزة (صابئي حران الذين ينسبون‬


‫أنفسهم إىل صايب بن سث‪ ،‬الذي كان يدعي نرش تعاليم ديانة أبيه‪ ،‬وأنه‬
‫كان عنده كتاهبا باللغة الرسيانية)‪ ،‬أو أهنا طائفة هيودية مسيحية تسمى‬
‫﴿الصابئة﴾ [من مسيحيي يوحنا املعمداين)‪ ،‬أو أهنا الطائفة األوىل التى‬
‫كانت تنتحل هذا االسم‪ .‬املسألة حمل خالف‪.‬‬

‫وكانت أفكار الصابئني اجلوهرية وشعائرهم األساسية معروفة‬


‫وقد فندها القرآن والسنة‪ .‬وكانت بعض عادات هذه الفرقة قد انترشت‬
‫ىف قريش إىل درجة يصعب عزهلا عن الوثنية التي كانت سائدة‪ .‬مثل‬
‫تأليه املالئكة والكواكب وتأثريها عىل األحداث األرضية‪ .‬ونصيب‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪104‬‬

‫األسد الذي كان يؤخذ من القرابني ليقدم إىل اآلهلة األقل درجة بدالً‬
‫من تقديمها إىل اهلل‪ ،‬وعبارة االبتهال يف احلج التي كانت تتضمن الرشك‬
‫باهلل‪...‬وهلم شعائر أخرى وعادات تبعد متام ًا عن العادات الوثنية‬
‫واإلسالمية‪ .‬فقد كان احلج عندهم يتم بحران بالعراق‪ ،‬وكانت قرابينهم‬
‫حترق متاما‪ ،‬وكانوا حيرمون تعدد الزوجات‪ ،‬وال يزاولون اخلتان‪ ،‬وكانت‬
‫عبادهتم طقوس ًا يقصد هبا الكواكب تؤدى ثالث مرات يومي ًا وقت‬
‫الرشوق والزوال والغروب‪ .‬وهكذا نرى أن الوثنية التي كانت سائدة‬
‫باحلجاز التقدم لنا تفسري ًا سلي ًام عن مصدر القرآن‪.‬‬

‫لعل البيئة اليهودية واملسيحية وقتئذ تلقي لنا بعض الضوء عىل‬
‫هذا املوضوع‪ .‬ولن نعول كثري ًا عىل قصة الراهب بحريى‪ ،‬والتي تذكر‬
‫أن حممدا ﷺ قابله وهو يف الثانية عرشة من عمره عندما صاحب عمه‬
‫أبا طالب يف سفره إىل الشام‪ .‬فاحلادثة إما أهنا أسطورية‪ .‬وإما أنه يتعني‬
‫أخذ كل الوقائع املذكورة يف احلسبان فقد كانت املقابلة يف حضور مجيع‬
‫أفراد القبيلة‪ ،‬وكان دوره ﷺ دور «املسئول» ال املستمع‪.‬‬

‫وبانتهاء استجواب الراهب له خلص إىل نبوءة توقع بعثة هذا‬


‫الشاب نبي ًا يف املستقبل‪ .‬فالصواب يمنعنا من اعتبار هذه املقابلة‬
‫العارضة مصدر ًا لتعليم حممد ﷺ‪.‬‬

‫ويقال أن بعض أفراد من املغامرين الرومان أو الزنوج األحباش‬


‫‪105‬‬ ‫الباب الثالث ‪ :‬المصدر الحقيقي للقرآن‬

‫«بائعون للنبيذ أو كادحون» كانوا يعيشون يف ضواحي مكة املنزوية‪.‬‬


‫ويقال أيض ًا‪« :‬إن اإلنجيل كان قد ُد ِّرس يف احلانات لعقول خام»‪.‬‬
‫فهل كان إلتقاء حممد ﷺ باألفكار الدينية يف هذه األماكن؟ ومع ذلك‬
‫فإهنم يرتكوننا يف الغموض واإلهبام‪ ،‬وال يقدمون لنا وثيقة واحدة عن‬
‫عالقات فعلية من هذا النوع‪ .‬عل ًام بأن شواغل الرسول ﷺ قبل بعثته‬
‫كانت معروفة وحمددة‪ :‬يف اخلالء يرعى الغنم‪ ..‬يف التجارة مسافر ًا‪ ..‬أو يف‬
‫املجتمع العام مع رؤساء القبائل‪.‬‬

‫فض ً‬
‫ال عن أن هؤالء املطمورين كانوا جيهلون دينهم وكانت لغتهم‬
‫ال مصدر ًا صاحل ًا لألخذ عنه‪،‬‬
‫ال طبيع ًيا‪ .‬فإذا كان هؤالء فع ً‬
‫األجنبية حائ ً‬
‫أمل يكن يف متناول املعارضني أن يلجأوا إليهم وحيطموا طموح النبي ﷺ؟‬

‫واألفضل هو أن نتكلم عن بيئة أوسع دائرة وأغنى ثقافة‪ .‬فمن‬


‫املعلوم أن الغساسنة بالشام وبني احلارث بنجران باليمن كانوا قد اعتنقوا‬
‫املسيحية‪ ..‬وأن حممد ًا ﷺ يف شبابه كان من وقت آلخر يسافر يف جتارة‬
‫إىل الشام وإىل اليمن‪ .‬فلامذا ال يكون هذا املسافر العريب ‪ -‬بام عرف عنه‬
‫من مالحظة ذكية واهتامم فطري باملسائل األخالقية ‪ -‬قد تأثر بأخالق‬
‫وأفكار هذه املجتمعات؟ كان هذا رأي «جولدسيهر» وآخرين‪ ..‬اعتقدوا‬
‫أن حممد ًا ﷺ قد وجد هنا الدفعة األوىل لنظامه اإلصالحي‪ ..‬فهل دخل‬
‫حممد فع ً‬
‫ال يف األراىض املسيحية احلقيقية؟ بعض الكتّاب يشكون يف هذا‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪106‬‬

‫لعدم وجود أية إشارة يف القرآن عن مظاهر املسيحية اخلارجية‪ ،‬بينام يتوسع‬
‫القرآن يف الكالم عن أعامق روح املسيحية الرشقية بام خيالف مسلك‬
‫الشعراء العرب الذين زاروا هذه البالد يف حني هناك كتّاب آخرون أكثر‬
‫اقرتاب ًا من احلقيقة يؤكدون أن رحالت القوافل التي صاحبها الرسول‬
‫ﷺ مل تبعد عن سوق «حباشة» بتهامة‪ ،‬و«غراش» باليمن‪.‬‬

‫وحتى لو اتصل باملسيحية بالفعل فامذا كان سيجد؟ يقول «ج‪ .‬سال»‪:‬‬
‫كان العامل املسيحي قد تعرض منذ القرن الثالث ملسخ لصورته‪ ،‬بسبب‬
‫أطامع رجال الدين واالنشقاق بينهم واخلالفات عىل أتفه املسائل‪ ..‬وكان‬
‫املسيحيون يف حتفزهم إلرضاء شهواهتم‪ ،‬واستخدام كل أنواع اخلبث‬
‫واحلقد والقسوة‪ ..‬قد انتهوا تقريب ًا إىل طرد املسيحية من الوجود‪ .‬ويف‬
‫هذه العصور ظهرت وثبتت أغلب أنواع اخلرافات والفساد‪ ،‬ووجدت‬
‫الكنيسة نفسها ممزقة بعد جممع «نيقية » بسبب اخلالفات‪.‬‬

‫أما بالنسبة للكنيسة الغربية‪ .‬فقد بلغ اخلالف عىل كريس األسقفية‬
‫بروما بني «دماز» و «أرزيسيان» إىل حد اللجوء إىل العنف والقتل‪ .‬وساد‬
‫الفساد يف األخالق والعقيدة بني األمراء وبني رجال الدين‪ ،‬واستتبع‬
‫ذلك فساد الشعب حتى صار شغل الناس الشاغل هو مجع املال بأية‬
‫وسيلة إلنفاقه بعد ذلك عىل الرتف والرذيلة‪.‬‬

‫القديمة» (املجلد ‪ 1‬ص ‪)266‬‬ ‫ولقد كتب تايلور يف كتابه «املسيحية‬


‫‪107‬‬ ‫الباب الثالث ‪ :‬المصدر الحقيقي للقرآن‬

‫«إن ما قابله حممد وأتباعه يف كل اجتاه‪ ..‬مل يكن سوى خرافات منفرة‪،‬‬
‫ووثنية منحطة وخمجلة‪ ،‬ومذاهب كنسية مغرورة‪ ،‬وطقوس دينية‬
‫منحلة وصبيانية‪ ،‬بحيث شعر العرب ذوو العقول النرية‪ ،‬بأهنم رسل‬
‫من قبل اهلل‪ ،‬مكلفني بإصالح ما أمل بالعامل من فساد‪ .»...‬وعندما أراد‬
‫«موشايم»وصف هذا العرص‪ ،‬أبرز التعارض بني املسيحيني األوائل‬
‫واألواخر‪ ،‬وخرج بأن الديانة احلقيقية يف القرن السابع كانت مدفونة‬
‫حتت أكوام من اخلرافات واألوهام السخيفة‪ ،‬حتى إنه مل يكن يف مقدورها‬
‫أن ترفع رأسها‪ .‬وكأن هذه الصفحات قد كتبت لتفسري اآلية‪﴿ :‬ﭑ‬
‫ﭒﭓﭔ ﭕﭖﭗ ﭘﭙﭚﭛ‬
‫ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ﴾ [املائدة‪.]14 :‬‬

‫فهل كان مسلك العرب الذين تنرصوا أحسن حاالً؟ ال‪ ..‬ألهنم‬
‫احتفظوا بعاداهتم وتقاليدهم الوثنية القديمة‪ ،‬وقال عيل بن أيب طالب‬
‫إن ما أخذه التغالبة من املسيحية مل يكن سوى رشب اخلمر‪ ،‬ويقول‬
‫«هوارت » «مهام يكن مدى إغراء فكرة تأثر حممد بام شاهده من تطبيق‬
‫املسيحية بسوريا‪ ،‬فإنه يتحتم استبعادها‪ ،‬لضعف الوثائق واألسس‬
‫التارخيية الصحيحة» ‪.‬‬

‫فال شك أن املواد التي صادفها حممد ﷺ حتى اآلن جتمعت يف بناء‬


‫يصلح للهدم‪ .‬ومل يكن فيها ما يصلح ليقيم عليه بناءه اجلديد‪..‬‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪108‬‬

‫ولنوسع حقل البحث قليالً‪ ،‬إىل عامل املسموع‪ ،‬وبيئة الكتب واإلطالع‪.‬‬
‫فقد يتبادر إىل الذهن أن حممدا ﷺ قد استخلص دروسه من مطالعاته‬
‫املبارشة للكتب املقدسة سواء كانت مسيحية أو هيودية أو غريها(((‪.‬‬

‫ولكن هل كان حممد ﷺ يعرف القراءة والكتابة؟ جييب القرآن‬


‫بالنفي ويربهن بأمية الرسول الكريم عىل ربانية تعليمه‪ .‬فهو أمي من‬
‫شعب أمي((( ومل يسبق له أن قرأ كتابا أو كتب بيده‪﴿ ،‬ﮄ ﮅ ﮆ‬

‫((( ذهب الدكتور «س‪ .‬تسدال» إلى حد االدعاء بأن بعض مبادئ اإلسالم مستقاة من‬
‫الزرادشتية‪.‬‬
‫((( حاول «لوبلوا» اقتداء بغيره من الكتّاب أن يثبت العكس‪ .‬استناد ًا إلى رواية مضموهنا‬
‫أن الرسول وهو يف فراش الموت طلب أن يؤتى بما يكتب عليه وصيته بشأن الخالفة‪.‬‬
‫وهي حجة غير كافية ألن الرواية لم تقل أنه كتب بالفعل‪ ..‬ومن جهة أخرى فإن‬
‫فعل «يكتب» بالنسبة للرؤساء والعظماء بوجه عام – معناه «يملي أو يضع خاتمه»‪،‬‬
‫ولهذا قيل يف صلح الحديبية « بينما يكتب هو وسهيل إذ طلع‪ »...‬يف حين أن الذي‬
‫علي بإمالء الرسول‪ .‬وهناك تعليل آخر حاولوا استنتاجه من حادث‬ ‫كان يكتب هو ّ‬
‫عرضي وقع أثناء الصلح‪ .‬وذلك أن الرسول عندما أمر عليًا بإلغاء اسم الرسول‬
‫علي على الشطب‪ ،‬وعندئذ سأله الرسول عن مكان‬ ‫«محمد رسول اهلل‪ »..‬هل يجرؤ ّ‬
‫الكلمة المطلوب إلغاؤها وشطبها بيده‪ ..‬إلى هنا وليست هناك خالفات‪ ،‬إال أن هناك‬
‫رواية صحيحة تضيف أن الرسول كتب محل الكلمة المشطوبة «محمد بن عبد اهلل»‬
‫وهي بذلك تنسب يف ظاهرها الكتابة إلى الرسول ﷺ‪ .‬إن محاولة اإلفادة من هذه‬
‫النقطة الضيقة إلثبات معرفة الرسول للكتابة يعترب نسيانًا للواقعة ذاهتا التي تقول‬
‫إنه لم يستدل على الكلمة المطلوب شطبها إال بإرشاد الكاتب‪ .‬وأيضًا إغفا ً‬
‫ال لما‬
‫هو موضح يف نفس المكان بأن الرسول «اليحسن الكتابة»‪ .‬إن أي محاولة إلثبات‬
‫العكس هي أضعف من أن تزعزع هذه الحقيقة‪ ..‬ألن حياة محمد ﷺ معروفة يف أدق‬
‫تفاصيلها وقومه لم يكونوا هبذه السذاجة‪.‬‬
‫‪109‬‬ ‫الباب الثالث ‪ :‬المصدر الحقيقي للقرآن‬

‫﴾ [العنكبوت‪:‬‬ ‫ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ‬
‫‪ ،]48‬وال شك أن معارىض الرسول كانوا يعرفون هذه األمية جيد ًا‪ .‬ألهنم‬
‫قالوا عنه‪ ﴿ :‬ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ‬
‫ﮂ﴾[الفرقان‪ ،]5 :‬أي كتبها له غريه‪ ،‬ومل يقولوا‪« :‬كتبها»‪ .‬وهذا‬
‫املعنى التبس عىل بعض املسترشقني‪ .‬وحتى عىل فرض أنه كان يعرف‬
‫القراءة‪ ،‬فقد كانت هناك عقبة يستحيل تذليلها إذ مل تكن يف هذا الوقت‬
‫قد وجدت بعد توراة وال إنجيل باللغة العربية(((‪.‬‬

‫ووجود هذه الوثائق بلغات أجنبية جعلها حكر ًا لبعض العلامء‬


‫املتحدثني بأكثر من لغة‪ ..‬الذين وصفهم القرآن بالبخل بام عندهم من‬
‫العلم‪﴿ :‬ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ﴾ [األنعام‪..]91 :‬‬

‫وعىل كل حال مل ينبئنا التاريخ عن أي اتصال حمدد‪ .‬فطاملا أن الكالم‬


‫يدور ىف العموميات فإنه يصعب التحكم فيه وعندما نطالب بالتحديد‬
‫حيدث التناقض والتخبط‪.‬‬

‫ولكن إذا كان حممد ﷺ مل حيصل عىل أفكاره الدينية ال من نصوص‬


‫التوراة واإلنجيل مبارشة‪ ،‬والمن العلامء ذوي االختصاص‪ ،‬أليس من‬
‫املحتمل أن يكون قد مجعها من بعض الشعراء العرب اليهود والنصارى‬

‫((( يؤكد الدكتور «جراف» أنه لم تكن هناك حاجة إلى إنجيل باللغة العربية إال يف القرن‬
‫التاسع والعاشر‪ ..‬ويقول القس «شيدياك» بأنه لم يتمكن من الرجوع بتاريخ أقدم‬
‫ترجمات العهد الجديد باللغة العربية إلى أبعد من القرن الحادي عشر‪.‬‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪110‬‬

‫أو ما شاهبهم؟‬

‫يوضح القرآن أن الرسول ﷺ مل يكن يألف الشعر بوجه عام‪ ،‬بل‬


‫اعتربه القرآن بالنسبة له هلو ًا ال يليق بشخصه‪.‬‬

‫ثم نتساءل عن التعليم الذي يمكن أن خيرج من هذا النوع من‬


‫األدب؟‬

‫وهنا نجد اجتاهني يف األدب اجلاهىل‪:‬‬

‫األول أن بعض الشعراء مثل األعشى كان هيتم بوصف التقاليد‬


‫والطقوس الكنسية ‪ -‬وهو ما ال نجد له أثر ًا يف القرآن‪ ،‬بل لقد كان‬
‫اهتاممهم ينصب أكثر عىل اخلمر‪ -‬التي وجه إليها القرآن رضبته القاضية‪.‬‬

‫أما النوع الثاين من الشعر فقد كان يكاد يتخصص متاما ىف األفكار‬
‫الدينية‪ ،‬وقصائد أمية بن أيب الصلت أصلح نموذج هلذا النوع‪ .‬والسيام يف‬
‫وصف احلياة األخروية وقصص الديانات القديمة‪ ،‬ويف بعض املواضع‬
‫بنفس عبارات القرآن‪.‬‬

‫إال أن أصالة شعر أمية غري مقطوع بصحتها‪ ،‬وأمية مل يدع األصالة‬
‫واإلهلام‪ ،‬وإن حممد ًا ﷺ وأمية قد عارص كل منهام اآلخر ومها من نفس‬
‫العمر تقريب ًا‪ ،‬فض ً‬
‫ال عن أن أمية عاش واستمر يف قرض الشعر إىل ما‬
‫يقرب من ثامين سنوات بعد نزول آخر آية مكية‪ .‬فمن التعسف إذن أن‬
‫‪111‬‬ ‫الباب الثالث ‪ :‬المصدر الحقيقي للقرآن‬

‫نقول‪ :‬إن هذا الشعر كان سابق ًا للقرآن من حيث التاريخ‪ .‬ولنأخذ يف‬
‫اعتبارنا موقف خصوم النبي ﷺ الذين كانوا دائام عىل يقظة ألقل ثغرة‬
‫ليوجهوا إليها رضبتهم‪ ،‬وإذن لكان من السهل عليهم أن يضعوا يدهم‬
‫عىل املرسوقات من شعر أمية الذي مل يكن قد جف مداده بدالً من‬
‫أن يوجهوا اهتاماهتم يف كل اجتاه حتى وصلت إىل وصم الرسول ﷺ‬
‫باجلنون لتفسري ظاهرة القرآن العجيبة‪.‬‬

‫ومن هذا نخلص ‪ -‬إن مل يكن بتأكيد‪ ،‬فعىل األقل باحتامل كبري ‪-‬‬
‫بأن القرآن هو الذي كان أساس اإلنتاج األديب يف عرص نزوله‪ ،‬كام كان‬
‫يقين ًا أساسه يف العصور التالية‪ .‬وقد أثبت نقد شعر أمية بصفة خاصة أنه‬
‫يرجع إىل عدة مصادر خمتلفة وهذا ما الحظه «هوارت » فعندما يتكلم‬
‫هذا الشاعر عن وصف النار كان يقلد التوراة‪ ،‬ويف وصف اجلنة يستخدم‬
‫عبارات القرآن‪ ،‬ويف قصص التاريخ الديني يلجأ إىل األسطورة الشعبية‪.‬‬

‫وتبقى أمامنا مرحلة أخرية يف جمال التنقيب عن املصادر الطبيعية‬


‫اخلارجية للقرآن‪ .‬أال وهي األفكار الشعبية‪.‬‬

‫ال االدعاء بأن حممد ًا ﷺ كان يعيش يف عزلة تامة‬


‫من غري املقبول عق ً‬
‫جتعله أجهل من شعبه يف هذه النقطة‪ .‬ويبدو من خالل القرآن أن هذا‬
‫الشعب قد توفرت عنده بعض املعلومات عن األديان السابقة‪ ،‬مما جعله‬
‫يطلب من الرسول ﷺ أن يأيت‪ ﴿ :‬ﮍ ﮎﮏﮐ ﴾ [األنبياء‪،]5:‬‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪112‬‬

‫ويستند يف معارضته عىل ما سمعه‪ ﴿ :‬ﮍﮎﮏﮐﮑﮒ﴾ [ص‪،]7:‬‬


‫ويقارن ملة عيسى بعقيدة الوثنية‪ ...‬الخ‪ .‬ولكن هناك أسباب ًا كثرية حتول‬
‫بيننا وبني أن نوسع من خيالنا يف هذا الشأن‪ ..‬إذ من املالحظ أن االهتامم ‪-‬‬
‫حتى من جانب الذين سافروا وتعلموا ‪ -‬كان ينحرص يف أشياء أخرى غري‬
‫األمور الدينية‪ ..‬فض ً‬
‫ال عن سكوت التاريخ عن الدرجة الفعلية للمعارف‬
‫املدونة التي كانت عند هذا الشعب األمي الغافل‪.‬‬

‫والواقع أن تصور هذا الشعب عىل درجة من العلم تؤهله للمشاركة‬


‫يف العلوم التي اقترصت معارفها عىل بعض العلامء املعدودين يف ذلك‬
‫الوقت‪ ،‬تعد فكرة غريبة ال تستقيم مع احلقائق املقررة‪ ،‬فلم يسبق يف‬
‫أي عرص من عصور التاريخ ‪ -‬وعند أكثر الشعوب حترض ًا وعل ًام ‪ -‬أن‬
‫وجدنا مثل هذا الربط بني اجلاهل وبني العامل املتخصص‪ ..‬والقرآن مل‬
‫يلتزم الصمت عن جدة تعاليمه بالنسبة للعرب بام فيهم النبي ﷺ‪ ،‬فض ً‬
‫ال‬
‫عن عدم علمهم هبا قبل نزول الوحي عىل الرسول‪ ﴿ :‬ﯘ ﯙ ﯚ‬
‫ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ‬
‫ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ﴾ [آل عمران‪ ،]44 :‬و ﴿ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ‬
‫ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ﴾ [هود‪ ]49 :‬و ﴿ﮰ‬
‫ﮱﯓﯔﯕ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ‬
‫ﯞ ﯟ ﯠ﴾ [يوسف‪ ﴿ ،]3 :‬ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ‬
‫ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﴾ [يوسف‪ ،]102:‬فإذا كان األمر‬
‫‪113‬‬ ‫الباب الثالث ‪ :‬المصدر الحقيقي للقرآن‬

‫عىل خالف ذلك ماذا كان ينتظر من أعداء اإلسالم؟‬

‫ونظر ًا ألن األفكار التي كانت رائجة يف هذا املجتمع مل يكن‬


‫هلا اجتاه واحد‪ ،‬بل كان لكل من املرشكني والصابئني ورجال الدين‬
‫والفرس واليهود والنصارى أسلوهبم اخلاص يف عرض احلقيقة‪ ،‬ففي‬
‫أي فريق كان الرسول ﷺ يستطيع أن يضع ثقته؟ وعىل أي دعوة من‬
‫هذه املتناقضات يعتمد؟ وهل كان حممد ﷺ يستطيع أن يثق بكل بساطة‬
‫يف علم اجلامهري وهو الذي كان يقف مما يرويه العلامء موقف التحدي؟‬
‫وهب أنه حرص عىل أن يقص علينا عقيدة كل طائفة وكل مذهب وكل‬
‫فرع من تلك املذاهب املعارصة‪ ،‬فأي خليط خميف كنا سنجده يف القرآن‪:‬‬
‫﴿ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ﴾ [النساء‪.]82 :‬‬

‫وهنا يتعني علينا إدخال عامل جديد أال وهو العامل الشخيص‪.‬‬

‫فقد ُي َظن أن الرسول ﷺ وهو يف تعبده يف حراء قبل نزول الوحي‪،‬‬


‫أو وهو يف خلوته أثناء رعي الغنم ‪ -‬كان ينطلق يف تأمالته العميقة‬
‫باحث ًا عن احلقيقة يف هذا املوضوع أو ذاك‪ ،‬وبعد البحث يقوم باالختيار‬
‫والتحديد‪..‬‬

‫وهنا جيب التمييز بني جمالني من جماالت املعرفة اإلنسانية أال‬


‫ومها معرفة األحداث الواقعية (األمبرييقية) واملعرفة العقلية‪ .‬فالتاريخ‬
‫اإلنساين ال خيضع ملنطقنا؛ ألنه قد يشتمل عىل أحداث تتعارض مع ما‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪114‬‬

‫يقبله العقل‪ .‬فال يستطيع حممد ﷺ بانطوائه عىل نفسه أن يكتشف حادث ًا‬
‫ما وقع يف تاريخ ما من الزمان الغابر‪ ،‬وهلذا ترتكز اجلهود عىل املقارنة بني‬
‫القصص الديني يف القرآن‪ ،‬وبينه يف الكتب املنزلة السابقة للتوصل إىل‬
‫السبب الذي نتج عنه هذا التوافق العجيب‪.‬‬

‫وقد تكون التأمالت العقلية ذات قيمة عظيمة يف جمال الكشف‬


‫عن احلقائق اخلالدة‪ ..‬فام هى حدود العقل الصايف يف مادة الدين؟ إهنا‬
‫ضيقة بال شك‪ ..‬ألن العقل يستطيع أن يثبت ضالل الوثنية واخلرافات‬
‫وفراغها وعدم جدواها‪ ،‬ولكن متى أزاح ذلك عن طريقه فامذا يبني‬
‫مكانه؟ فليست هناك دعوة أو مذهب أو نظرية تنبني عىل حقائق سلبية‪.‬‬
‫ومن األرجح أن حممد ًا ﷺ قد وجد نفسه يف مثل احلال الذي يرسمه‬
‫لنا القرآن حزين ًا وكأنه يئن حتت محل ثقيل‪﴿ :‬ﮪ ﮫ ﮬ * ﮮ‬
‫ﮯ ﮰ ﴾ [الرشح‪﴿ ،]3-2:‬ﮎ ﮏ ﮐ﴾ [الضحى‪.]7 :‬‬

‫وهب أن اجتياز املرحلة األوىل كان رسيع ًا‪ ،‬فإن معرفة اهلل سبحانه‬
‫وتعاىل ليست هي كل العلم الديني املوجود يف القرآن‪ .‬والطريق املوصل‬
‫إىل علوم القرآن طويل ومتعثر إن مل يكن مسدود ًا أمام عقل اإلنسان‬
‫الذي يعتمد عىل إمكانياته املحدودة‪ .‬فبأي إهلام استطاع حممد ﷺ أن‬
‫يكتشف صفات اهلل العديدة‪ ،‬وأسامء اهلل احلسنى‪ ،‬وعالقة اهلل بالكون‬
‫املنظور وغري املنظور‪ ،‬ومصري اإلنسان بعد املوت‪ ...‬ومن غري أن يرتاجع‬
‫‪115‬‬ ‫الباب الثالث ‪ :‬المصدر الحقيقي للقرآن‬

‫يف حقيقة واحدة سبق أن أعلنها‪ ،‬ومع احتفاظه يف نفس الوقت بتوافقه‬
‫العجيب مع حقائق الكتب الساموية السابقة واملحفوظة بعناية حتت يد‬
‫العلامء؟ ال شك أن العقل مهام بلغ ال يستطيع أن خيطو خطوة واحدة يف‬
‫هذا السبيل بمثل هذه الثقة وهذا الوضوح ما مل يكن له عون ومدد من‬
‫تعاليم إجيابية خارج نطاق البرش‪ .‬والقرآن يؤكد هذا‪ ،‬ويقرر أن حممدا‬
‫ﷺ مل يكن يدري قبل نزول الوحي عليه‪﴿ :‬ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ‬
‫ﭞ﴾ [الشورى‪ .]52 :‬هذا فضال عن البناء الترشيعي بمظاهره املختلفة‪،‬‬
‫األخالقي منها واالجتامعي والتعبدي‪ .‬فهل كان قادرا عىل هداية غريه‬
‫وهو جيهل كل ذلك؟‬
‫‪117‬‬

‫الفصـل الثـانى‬
‫البحث عن مصدر القرآن ىف الفرتة املدنية‬
‫هل أثر انتقال الرسول ﷺ إىل بيئــة جديـدة‪ ،‬واتصاله بأهل‬
‫الكتاب عىل سلوكه ومصدر علمه؟‬

‫بعد أن جبنا اآلفاق املكية يف عجل وتوصلنا إىل نتيجة سلبية أينام‬
‫بحثنا‪ ،‬كان يتعني علينا أن نصدر حكمنا اآلن‪ ،‬لو مل يطرأ أي تغري عىل‬
‫مسرية النبوة املباركة‪ .‬هذا التغيري الذي حدث باهلجرة عىل وجه التحديد‬
‫إذ انتقل الرسول ﷺ إىل جو مرحب ودود‪ ،‬حيوطه فيه أتباعه األقوياء‬
‫املخلصون‪ ،‬وأصبح عىل اتصال بطائفة منظمة دينيا‪ ،‬وهلا كتاهبا املقدس‪،‬‬
‫هم هيود املدينة‪.‬‬

‫فإذا استعرضنا بصفة عامة موقف القرآن من اليهود‪ ..‬فهل نجد‬


‫ال صادق ًا للفضيلة املنزلة من عند اهلل‬
‫القرآن يعترب هذا املجتمع اجلديد مث ً‬
‫وبالتاىل جديرا باالتباع والتأيس؟‬

‫نالحظ أن موقف القرآن من اليهود متباين عن موقفه من املجتمع‬


‫املسيحي‪ .‬فإذا تكلم عن املسيحيني بصفة خاصة نجده ‪ -‬إذا مل يثن‬
‫عليهم‪ ﴿ ،‬ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ‬
‫ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪118‬‬

‫ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ﴾‬
‫[املائدة‪ ]82 :‬فعىل األقل يوجه إليهم بعض اللوم يف هلجة خمففة نسبيا‪،‬‬
‫﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ‬
‫ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ‬
‫ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ﴾ [املائدة‪.]14 :‬‬

‫أما إذا حتدث إىل اليهود يف ذلك العرص أو إىل أهل الكتاب عموم ًا‪،‬‬
‫فإن موقف القرآن خيتلف‪ .‬فهم يف نظره ال يتبعون ما أنزل إليهم‪ ،‬وإنام‬
‫يتبعون إهلام الشياطني‪﴿ ،‬ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ‬
‫ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ﴾ [النحل‪،]63:‬‬

‫وعندما أملح إىل ما أوقعه هيود اليمن باملسيحيني بنار األخدود اعترب‬
‫هذه اجلريمة تآمر ًا مع سبق اإلرصار عىل اإليامن احلق‪﴿ ،‬ﭛ ﭜ‬
‫ﭝ﴾ [الربوج‪ ،]4:‬وعندما انتقل القرآن إىل املدينة احتفظ بموقفه وعدد‬
‫إدانتهم‪ ،‬فالذين تلقوا التوراة وحفظوا نصوصها ال يراعوهنا بإخالص‪،‬‬
‫﴿ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ‬
‫ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﴾ [اجلمعة‪ ،]5 :‬وهم يتعاملون بالربا‪،‬‬
‫ويلجأون إىل حيل خمتلفة ألكل أموال الناس بالباطل‪﴿ ،‬ﯠ ﯡ‬
‫ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ﴾ [النساء‪ ،]161:‬واعتامد ًا عىل بعض‬
‫األوهام واألماين يستبيحون الرشوة والكذب‪﴿ ،‬ﭧ ﭨ ﭩ‬
‫‪119‬‬ ‫الباب الثالث ‪ :‬المصدر الحقيقي للقرآن‬

‫ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ‬
‫ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ﴾[البقرة‪]79 :‬‬

‫ويعتقدون أنه ليس عليهم حساب بشأن الطوائف األخرى‪ ،‬وال‬


‫التزام بالعدل يف معامالهتم معهم‪﴿ ،‬ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ‬
‫ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ‬
‫ﯔﯕ ﯖﯗﯘﯙﯚ ﯛﯜﯝﯞﯟﯠ‬
‫﴾ [آل عمران ‪.] 75‬‬ ‫ﯡ‬

‫أليس من الغريب أن نفرتض أن الشعب الذي يقف منه القرآن هذا‬


‫املوقف يمكن أن يكون نموذج ًا حيتذي به حممد ﷺ ومصدرا لتعاليمه؟‬
‫مهام بلغ هذا االفرتاض من تعارض مع املنطق فإن هذا اليمنع من بحثه‬
‫ودراسته‪ ،‬فقد تكذب الوقائع أي حكم جزايف مسبق ‪ -‬فامذا يفيد بناء‬
‫اإليامن عىل رمال متحركة؟‬

‫لقد حاول بعض املسترشقني أن يثبت أن ما أنزل عىل حممد ﷺ‬


‫يتطور ويتعدل ويرتاجع بحسب اتصاله مع املجتمع املدين املزود بالعلم‪.‬‬
‫وتأثر أغلبهم بمظهرين عامني وجدومها متعارضني مع ربانية الرسالة‪،‬‬
‫وترتكز أكرب حججهم يف موقف الرسول ﷺ املعادى الذى اختذه يف‬
‫املدينة والذي اعتربوه تغيري ًا مفاجئ ًا بالنسبة ملوقفه يف مكة‪ .‬وعندما‬
‫نضيف إىل ذلك تعدد زجيات الرسول ىف أواخر أيام حياته‪ ،‬يكون ذلك‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪120‬‬

‫يف نظرهم بمثابة هدم للنظام األخالقي اإلسالمي يف مرحلته األخرية‪.‬‬


‫وحتى املسترشقون الذين يقدرون اإلسالم وهو يف نشأته مضطهدا‬
‫ومثخنا باجلراح‪ ،‬ويقدرون الرسول املسامل واملتزوج بامرأة واحدة‪،‬‬
‫ينتاهبم اهلول عندما يرونه فيام بعد «ملطخ اليدين بالدماء»‪« ،‬وحماط ًا‬
‫بموكب من زوجاته» ‪.‬‬

‫لقد كان هؤالء يف موقفهم هذا مدفوعني بشعورهم حتى ال هيدموا‬


‫جزء ًا من أيامهنم بتعاليم التوراة قبل جميء املسيح‪ ،‬أكثر من اعتامدهم عىل‬
‫التدليل املنطقي البحت‪ .‬وعىل أي حال لقد أثبتنا فيام تقدم موقف القانون‬
‫القرآين إزاء النقطة األوىل بام يغنيننا عن التكرار‪ .‬أما النقطة الثانية فإهنا‬
‫وإن كانت متس موضوع دراستنا من بعيد وهو القرآن وليس شخصية‬
‫الرسول ﷺ إال أننا سنرى كيف تبدو حياة الرسول من خالل القرآن‪.‬‬

‫تبدو شخصية الرسول ﷺ يف القرآن حمددة بخطوط ثالثة‪ :‬الشعور‬


‫واإلرادة واإليامن‪ .‬فهو بطبيعته برش كمن سبق من املرسلني‪﴿ :‬ﮜﮝ‬
‫ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ * ﮬ‬
‫ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ﴾[األنبياء ‪ ،]8 - 7‬وهو‬
‫يأكل الطعام ويسعى لكسب رزقه‪ ﴿ ،‬ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ‬
‫ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ﴾ [الفرقان‪ ،]20 :‬وله‬
‫مثل بعض الرسل زوجات وذرية‪﴿ ،‬ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ‬
‫‪121‬‬ ‫الباب الثالث ‪ :‬المصدر الحقيقي للقرآن‬

‫وأنه يقدر اجلامل اإلنساين‪﴿ ،‬ﭺ ﭻ‬ ‫[الرعد‪،]38 :‬‬ ‫ﮢ ﮣ ﮤ﴾‬


‫ﭼ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ ﮄﮅﮆ ﮇ ﮈ ﴾‬
‫[األحزاب‪.]52 :‬‬

‫أما عامل اإلرادة‪ ،‬فهنا نراه ﷺ يتمتع بقدرة عىل االمتناع فيحرم‬
‫عىل نفسه املباح من الطعام‪ ﴿ ،‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ‬
‫ﭜ﴾ [التحريم‪ ،]1 :‬ولقد قالت عائشة عنه إنه مل يوجد مثله يف التحكم‬
‫يف حواسه‪.‬‬

‫ثم يأيت موضوع خضوعه املطلق لتعاليم اهلل تبارك وتعاىل التي تعلو‬
‫عىل نظرته وميوله‪ ،‬فنذكر القاعدة القرآنية التي حتدد له فئات النساء‬
‫الاليت يستطيع الزواج منهن‪:‬‬

‫﴿ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ‬
‫ﮣ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ ﮭﮮ‬
‫ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ﴾‬
‫[األحزاب‪ ]50 :‬والقاعدة األخرى التي حترم عليه أي زواج جديد مهام‬
‫كانت قوة رغبته فيه أو أن يبدل زوجاته‪﴿ ،‬ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ‬
‫ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﴾ [األحزاب‪ ،]52 :‬ثم‬
‫القاعدة اخلاصة بحالة مطلقة زيد (ابنه بالتبني)‪ ،‬وهي الزجية الوحيدة‬
‫املنصوص عنها يف القرآن‪﴿ ،‬ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪122‬‬

‫ﭲ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ ﭽ‬
‫ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ‬
‫ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ‬
‫ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ﴾ [األحزاب ‪.]37:‬‬

‫فرتاه حياول بكل جهده أن يمنع إمتام هذا الزواج‪ ،‬ولكن قانون‬
‫القرآن يفرضه عليه فرض ًا ليضع هناية (بالنص والتطبيق العميل) لنظام‬
‫تبني األطفال يف الوثنية‪ .‬وهو ما يمكن تسميته الزواج بدافع الواجب‬
‫رغم أي شعور معارض‪ .‬وإذا بحثنا الظروف التي عقدت فيها زجياته‬
‫األخرى‪ ،‬نجد أغلبها ُفرضت عليه العتبارات إنسانية سامية مثل مواساة‬
‫وترشيف زوجة شهيد‪ ،‬أو مهاجر مات بني أصحابه يف هجرته‪ ،‬أو توثيق‬
‫بعض الروابط القبلية التي تعاهد معها‪ ،‬أو إجياد جو مناسب لعتق أرسي‬
‫قبيلة بأكملها‪ ...‬إلخ‪ ،‬وليس من الصعب احلكم عىل الطابع األخالقي‬
‫لرجل عاش شبابه يف العفاف املطلق‪ ،‬وبعد زواجه عاش مع زوجته‬
‫الوحيدة بإخالص ما يقرب من ثالثني عام ًا‪ ،‬ورشع يف زواجه الثاين وهو‬
‫يف اخلامسة واخلمسني‪.‬‬

‫وإذا أخذنا يف اعتبارنا مشاغله وأعباءه ومهومه العامة واخلاصة‬


‫مثل إقامة الصلوات اخلمس وتعليم القرآن وتوزيع الصدقات العامة‪،‬‬
‫والفصل يف املنازعات‪ ،‬ومقابلة الوفود ومراسلة امللوك واحلكام‪ ،‬وقيادة‬
‫‪123‬‬ ‫الباب الثالث ‪ :‬المصدر الحقيقي للقرآن‬

‫املعارك العسكرية‪ ،‬وسن الترشيع‪ ،‬وتأسيس الدولة‪ ...‬إلخ‪ ،‬وباختصار‬


‫العناية بكل يشء وبكل الناس‪ .‬ثم بعد ذلك قيام الليل (حتى تتورم‬
‫قدماه‪ ،‬وساجد ًا حتى يظن أنه قبض‪ )..‬كل هذا يدعونا إىل االعتقاد بأن‬
‫الباعث احلقيقي عىل الزواج مل يكن إرضا ًء للغريزة البهيمية‪.‬‬

‫وأراد بعض املسترشقني أن يتوغلوا أكثر فاعتقدوا أهنم وجدوا‬


‫اختالف ًا جذري ًا بني تعاليم القرآن يف الفرتة املكية وتعاليمه يف الفرتة‬
‫املدنية‪ .‬فقالوا إن القصص اليهودي واملسيحي يف مكة كان يف حالة‬
‫ختطيط أوىل‪ .‬وملا اتصل حممد ﷺ يف املدينة باليهود استطاع أن «يألف‬
‫قصص إبراهيم وعالقات األنساب بني إسامعيل والشعب العريب» ولقد‬
‫وهم مجيل بأن دعوته ‪ -‬أي القرآن‬
‫« عاش يف البداية وهو يسيطر عليه ٌ‬
‫‪ -‬تتفق متام ًا مع كتب اليهود واملسيحيني املقدسة ولكن معارضة اليهود‬
‫املريرة أثبتت له العكس»‪.‬‬

‫وكانت الصالة يف البداية مرتني يف اليوم والليلة‪ .‬أما يف املدينة فقد‬


‫أضيفت إليها صالة ثالثة هي صالة العرص «بقصد حماكاة هيود»‪ .‬ولنفس‬
‫السبب رشع يوم عاشوراء‪ ،‬وحتولت القبلة إىل بيت املقدس‪ .‬ومها‬
‫إجراءان تم نسخهام فيام بعد بسبب موقف اليهود العدائي من اإلسالم‪.‬‬
‫وهكذا يتأثر يف رأهيم الترشيع التعبدي بالتقلبات السياسية‪ .‬وحتى فكرة‬
‫القرآن عن اهلل طرأ عليها يف نظرهم تغيري من تأثري املواقف احلربية يف‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪124‬‬

‫الفرتة املدنية «فانضمت صفة القوة واجلربوت ضد الكفار املعاندين إىل‬


‫صفة الرمحة »‪ .‬لنعد أدراجنا كي نرى مدى صحة هذه املالحظات‪.‬‬

‫فيام خيتص بالقصص املسيحي واليهودي بوجه عام يؤسفنا أال‬


‫نجد ما يؤيد هذه املالحظة من قريب أو بعيد‪ .‬والرجوع إىل النص‬
‫القرآين يثبت عكس ذلك متام ًا‪ .‬فالسور املكية هي التي تعرض أطوار‬
‫هذا القصص بتفاصيله الدقيقة‪ ،‬ومل ترتك للسور املدنية سوى فرصة‬
‫استخالص الدروس منه وغالب ًا يف تلميحات موجزة‪.‬‬

‫وأما موضوع إبراهيم فقد سبق للسور املكية أن أشارت إليه‪﴿ ،‬ﮃ‬
‫ﮄ ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍ ﮎﮏﮐ‬
‫ﮑﮒﮓﮔﮕ ﮖﮗ ﮘﮙﮚ‬
‫ﮛ ﮜ﴾ [إبراهيم‪ ،]37 :‬بل إهنا دعت الرسول إىل إتباع ملة‬
‫إبراهيم احلنيف‪ ﴿،‬ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ‬
‫ﮐ ﮑ﴾ [النحل‪.]123 :‬‬

‫كام أننا ال نعرف شعب ًا له مثل ما للعرب من شغف بعلم األنساب‬


‫التي حفظوها حتى اجليل العرشين‪ .‬وتذكرهم الكعبة وهبا أماكن حتمل‬
‫اسم إبراهيم وإسامعيل‪ .‬أما موقف اإلسالم من األديان السابقة فلم يطرأ‬
‫عليه أي تطور فالسور املكية تطالب أهل الكتاب باإلدالء بشهادهتم عن‬
‫الكتب املقدسة‪ ﴿ ،‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ‬
‫‪125‬‬ ‫الباب الثالث ‪ :‬المصدر الحقيقي للقرآن‬

‫ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ﴾ [الرعد‪.]43 :‬‬

‫يف نفس الوقت الكتابيني الذين اتبعوا الشيطان وحتالفوا معه‪﴿،‬ﯮ‬


‫ﯯﯰﯱﯲﯳ ﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ‬
‫ﯼ ﯽﯾ﴾ [النحل‪.]63:‬‬

‫واحتفظ القرآن بموقفه يف املدينة من العلامء الذين يستشهد هبم‬


‫وهو يؤكد أن عدد ًا منهم ال يرغب يف اإلدالء بالشهادة‪ ﴿ ،‬ﭑ ﭒ‬
‫ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ‬
‫ﭟ ﴾ [البقرة‪. ]146 :‬‬

‫وهكذا يفرق القرآن بني الكتب املقدسة ذاهتا‪ ،‬والعلامء الذين‬


‫يتبعوهنا بإخالص‪ ،‬وبني هؤالء الذين يسمون أنفسهم هيود ًا أو نصارى‪،‬‬
‫وهم يتبعون أهواءهم‪.‬‬

‫أما عدد صلوات املسلمني فنقرر أنه ال يوجد يف مجيع املراجع‬


‫واملؤلفات اإلسالمية التي اطلعنا عليها أية إشارة إىل مثل هذا التطور‪،‬‬
‫ومن املؤسف حق ًا أن النقاد الغربيني ال يدلوننا عىل الوثائق التى استقوا‬
‫منها هذه الفكرة الغريبة‪.‬‬

‫مل يرد بالقرآن ذكر يوم عاشوراء‪ ،‬لكن علامء احلديث يقررون أن‬
‫قريش ًا قبل اإلسالم كانت حترص عىل صوم هذا اليوم‪ .‬وأن الرسول‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪126‬‬

‫ذاته كان يصومه قبل اهلجرة واألحاديث تويص بذلك‪ .‬أما القول بأن‬
‫الرسول اختذ قراره يف البداية ملحاكاة اليهود وأنه رجع بعد ذلك بسبب‬
‫تغري املوقف السيايس‪ ،‬فإنه قول ال يتفق مع الوقائع املقررة‪.‬‬

‫أما بشان القبلة فإن االدعاء بأن تغيري القبلة من بيت املقدس إىل‬
‫الكعبة (وله ما يربره ىف القرآن) كان نتيجة معاداة اليهود لإلسالم‪ ،‬فهو‬
‫إدعاء به تداخل يف التواريخ‪ .‬فقد بدأت عداوة اليهود عام ‪625‬م بينام‬
‫كان حتويل القبلة ىف عام ‪623‬م‪.‬‬

‫تبقى املالحظة األخرية التي تتعلق بفكرة القرآن عن اهلل‪ .‬فإن ما‬
‫يستحق التأكيد حق ًا هو عكس مالحظة الناقدين‪ .‬إذ إن الواقع يكذب‬
‫املالحظة‪ .‬فام أكثر ظهور «إله احلرب » يف السور املكية حيث يكثر قصص‬
‫التاريخ القديم برشه وفساده‪ ،‬والعقاب األليم الذي نزل بأممه والتهديد‬
‫فيها ضمني ‪ -‬ولكنه دائم ‪ -‬للقرى التي تسلك نفس املسلك‪ .‬بل إن‬
‫احلروب التي صدر هبا األمر من املدينة ضد املعتدين مل تكن إال تنفيذ ًا‬
‫إلنذار عام ورصيح وتكرر ذكره قبل ذلك بمكة‪﴿ ،‬ﮘ ﮙ ﮚ‬
‫ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮢﮣﮤ ﮥﮦﮧ﴾‬
‫[يونس‪ ،]102 :‬و ﴿ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ‬
‫ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ﴾ [هود‪ ،]122 -121:‬و ﴿ﯹ ﯺ‬
‫ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅﰆ‬
‫‪127‬‬ ‫الباب الثالث ‪ :‬المصدر الحقيقي للقرآن‬

‫ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﴾[اإلرساء‪.]58 :‬‬

‫ويوجد يف أساس االعرتاض األخري ويف منشأ كثري غريه‪ ،‬خطأ‬


‫أو «اإللغاء» يف‬ ‫يتصل بالفكرة الشائعة عن مصطلح «النسخ»‬
‫(((‬

‫اإلسالم‪ .‬فالباحثون من غري املسلمني يفهمونه إما بمعنى الرجوع يف أمر‬


‫صادر‪ ،‬أو اكتشاف حقيقة كانت جمهولة فيام مىض‪ ،‬وكال املعنيني خيالفان‬
‫املدلول الصحيح‪ .‬فإذا طبقنا النسخ بمعنى «احلصول عىل علم جديد»‬
‫عىل علم اهلل سبحانه ‪ -‬أي يف جمال املعرفة النظرية ‪ -‬يكون ذلك عني‬
‫الكفر والالمعقول‪.‬‬

‫وعىل العكس يف املجال العميل فقد وجد النسخ بالفعل يف تعاليم‬


‫الدين الواحد‪ ،‬ويف التعاليم من دين إىل آخر «لقد قالوا لكم كذا وأنا‬
‫أقول لكم شيئ ًا آخر »‪ .‬فهل ينسخ القانون اإلهلي ألن التجارب أثبتت‬
‫((( وهو ينطوي على اللبس منذ قديم‪ ،‬ويعني عمل نسخة خطية كما يعني اإللغاء‪،‬‬
‫ويستخدم يف القانون أو الفقه بمعنى «وقف تطبيق قانون مؤقت»‪ .‬ولكن مع توسيع‬
‫المعنى قصد به بعض المفسرين كل توضيح أو تحديد لمدلول أية عبارة‪ .‬ولقد أسرف‬
‫ابن حزم يف استخدامه هبذا المعنى فاعترب عبارة «إال» «ولكن» نسخًا للمدلول العام أو‬
‫المشار إليـه مثال لهذا االستخـدام الغريب‪ :‬ىف أول سورة المزمل يقول «إال قليال» نسخ‬
‫«لليل» و«نصفه» نسخ «إال قليال» و«انقص» نسخ «نصفه»‪ .‬ويعد ثالث مواضع للنسخ‬
‫يف هذه اآلية‪ .‬فهل تندهش إذا ذكر أن يف القرآن ‪ 224‬نسخًا‪ .‬ولقد التقط المستشرقون‬
‫هذا العدد دون أخذ طريقة ابن حزم يف الحسبان وأضافوا إليه مزيد ًا‪ ..‬وقالوا بأن هذا‬
‫هو عدد المتناقضات الموجودة يف القرآن التي اعرتف هبا المسلمون أنفسهم باعتبارها‬
‫ناتجة عن التقلبات السياسية (الكتاب السابق رنان ص ‪( )1079‬وس‪ .‬تسدال يف‬
‫«مصادر القرآن» باإلنجليزية ص ‪)278‬‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪128‬‬

‫أنه كان جمافي ًا للعدل أو كان خطأ؟ ال جدال يف أن ذلك غري مقبول‬
‫عىل اإلطالق يف أمر الترشيع اإلهلي املنزل؛ ألن اهلل سبحانه ال يراجع‬
‫نفسه وال يرجع يف قراره والقاعدة السابقة والقاعدة الالحقة هلام نفس‬
‫القدسية‪ ،‬وكل منهام وضعت يف زماهنا وكانت متثل احلكمة الوحيدة‪.‬‬
‫فالتغيري إذن يكمن يف األحداث التارخيية واحللول املتنوعة التي تستلزمها‪،‬‬
‫﴿ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ‬
‫ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ‬
‫ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ‬
‫ﮓﮔ﴾ [البقرة‪.]143 :‬‬

‫وأحيان ًا تنص الصيغة األوىل عىل أنه مؤقت‪ ﴿ ،‬ﮤ ﮥ‬


‫ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﴾[البقرة ‪ ،]109‬و﴿ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ‬
‫ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﴾ [النساء‪ ،]15 :‬ويف الغالب يكون‬
‫ذلك مسترت ًا‪ .‬فاملرشع الناجح يغري من نظم الناس حسب تقدم كفاءهتم‬
‫وقدرهتم عىل الفهم واإلدراك لتكوين النفوس املستنرية واخللق املتني‬
‫واألمم املنظمة‪.‬‬

‫كان الغرض من املالحظات التي أبداها املسترشقون والتي فندناها‬


‫هنا‪ ،‬هو أن يثبتوا ‪ -‬بناء عىل نقد من داخل التعاليم القرآنية ‪ -‬وجود‬
‫بعض االقتباسات من الوثائق الدينية باملدينة‪ .‬إلثبات وجود عالقة بني‬
‫الرسول ﷺ وبني أهل الكتاب تلقى عن طريقها العلم منهم‪ .‬فلامذا مل‬
‫‪129‬‬ ‫الباب الثالث ‪ :‬المصدر الحقيقي للقرآن‬

‫يتجهوا من أول األمر ليضعوا أيدينا عىل الشخص أو األشخاص الذين‬


‫تلقى حممد ﷺ منهم العلم؟ مل جيرس أي مؤرخ يقدر مسئوليته العلمية‬
‫أن يفعل ذلك‪.‬‬

‫ولكن كيف ال يكون للرسول اتصال بحكامء اليهود وهو يعيش‬


‫وسطهم؟ ومــاذا كان موقفهم منه؟ القرآن يرشدنا يف هذا الشأن‬
‫ويقسمهم إىل قسمني‪ :‬الغالبية العظمى وكانت تعادي اإلسالم حتى قبل‬
‫اهلجرة‪ ،‬وكانت ختفي علمها عن الرسول‪ ،‬وحاولت خداعه وبث املكائد‬
‫يف طريقه‪ ،‬وكانوا أحيان ًا يلقون عليه عن طريق إخواهنم أسئلة حمرجة‬
‫عن الروح‪﴿ ،‬ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ﴾ [اإلرساء ‪،]85‬‬
‫وعن بعض األلغاز التارخيية‪﴿ ،‬ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ‬
‫ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ﴾ [الكهف‪ ،]9 :‬ويطالبونه بأن ينزل كتابا من السامء‪،‬‬
‫﴿ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ‬
‫ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﴾ [النساء‪. ]153 :‬‬

‫وأحيان ًا ينكرون نصوص ًا أكد الرسول وجودها يف كتبهم وال‬


‫يعرتفون إال بعد حتدهيم وإثبات غشهم‪ ﴿،‬ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ‬
‫ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶ‬
‫[آل عمران ‪]95-93‬‬ ‫ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ‪..‬ﮉ ﮊ﴾‬
‫و﴿ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪130‬‬

‫﴾ [املائدة‪. ]43 :‬‬ ‫ﭻ‬

‫وهكذا نرى أن هؤالء كانوا بعيدين عن موقف امللقن املرحب‪،‬‬


‫وبالعكس كان هناك فريق آخر من علامء اليهود الذين ضاقوا ذرع ًا‬
‫بادعاءات اليهود العنرصية وبغرورهم‪ ،‬وحرضوا ليستمعوا إليه‬
‫ويتفحصوا وجهه‪ ،‬وعندما تعرفوا عليه يف احلال ‪ -‬بناء عىل بعض‬
‫العامالت املوجودة ىف كتبهم ‪ -‬شهدوا له بصدق رسالته‪ ﴿ ،‬ﭴ‬
‫ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﴾ [البقرة‪. ]121 :‬‬

‫وأشهرهم عبد اهلل بن سالم الذي كان اليهود يعتربونه أوسعهم عل ًام‬
‫وأحسنهم خلق ًا وذلك قبل إعالن إسالمه مبارشة‪ ،‬وما أن أعلن إسالمه‬
‫حتى أنكروا عليه كل ذلك يف نفس اجللسة‪ .‬وبني هاتني الفئتني مل يرتك‬
‫التاريخ مكان ًا «ألصدقاء معلمني» ‪.‬‬

‫أما اإلدعاء بأن الرسول ﷺ تلقى علمه من عبد اهلل بن سالم نفسه‪،‬‬
‫فإن ذلك ينطوي عىل حتريف للحقائق التارخيية((( باخللط بني دور التابع‬
‫واملتبوع‪ ،‬وينطوي قلب ترتيب األحداث التارخيية املعروفة ألن جوهر‬
‫حقائق التوراة كان قد أعلن كله بمكة‪ ،‬وأن القليل من اآليات التي‬

‫((( وخلط تاريخي مشابه مع فاصل زمني أكرب عن الدور المزعوم لسلمان الفارسي‬
‫ومريم القبطية‪ .‬والواقع أن سلمان أسلم بعد الهجرة بقليل ولم يصاحب الرسول‬
‫ﷺ إال يف العام الخامس ىف معركة الخندق‪ .‬أما مريم القبطية فقد وصلت يف العام‬
‫السابع الهجري‪.‬‬
‫‪131‬‬ ‫الباب الثالث ‪ :‬المصدر الحقيقي للقرآن‬

‫نزلت باملدينة كانت تتعلق أغلبها باحلقائق الدينية املسيحية التي ينكرها‬
‫اليهود‪ .‬فمهام بذل املغرضون من حماوالت لتجميع نقاط التشابه بني‬
‫احلقائق القرآنية واحلقائق اليهودية واملسيحية(((‪ ..‬فلن يعدو أن يكون‬
‫ذلك اصطناع أسلحة تفيد منها حقائق القرآن الذي يؤكد وجودها يف‬
‫الكتب املنزلة السابقة‪﴿ ،‬ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ﴾ [الشعراء‪﴿،]196 :‬ﭚ ﭛ‬
‫ﭜ ﭝ ﭞ * ﭠ ﭡ ﭢ ﴾ [األعىل‪ ]19 - 18 :‬وأن شهادة‬
‫علامء بني إرسائيل دليل قاطع عىل صدقها‪ ﴿،‬ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ‬
‫ﯔ ﯕ﴾ [الشعراء‪.]197 :‬‬

‫ولكن االتفاق يشء واالقتباس يشء آخر‪ ،‬وبينهام فراغ شاسع مل‬
‫حيظ بأن جيد من يمأله حتى وقتنا احلارض عىل األقل‪.‬‬

‫ً‬
‫محاوال أن يثبت أن القرآن يرتبط‬ ‫((( وهو ما تركزت عليه جهود الدكتور (س‪ .‬تسدال)‬
‫باألساطير التاريخية (ص ‪ )62 – 61‬فأغفل عن عمد ذكر أي تشابه بين القرآن وبين‬
‫العهد القديم والعهد الجديد‪ .‬واهنمك ىف الكشف عن ارتباط بعض التفاصيل ىف القرآن‬
‫بما ورد يف التلمود واآلثار اليهودية والمسيحية البعيدة عن التوراة واإلنجيل‪.‬‬
‫‪133‬‬

‫خامتة‬
‫الباب الثالث‬
‫لقد بحثنا افرتاض وجود مصدر برشي لتعاليم القرآن‪ ،‬فتتبعنا‬
‫الرسول ﷺ يف حياته العادية وحياة الرسالة‪ ،‬يف مكة ويف املدينة‪ ،‬يف رحالته‬
‫واتصاالته‪ ،‬وتعرضنا لقدرته عىل القراءة‪ ،‬وملدى توفر الوثائق حتت يده‪،‬‬
‫فجميع سبل البحث ثبت ضعفها وعدم قدرهتا عىل تقديم أي احتامل‬
‫لطريق طبيعي كمصدر للقرآن‪ .‬هذا البناء الشامخ من العلوم الواسعة‬
‫واملفصلة يف جمال الدين والتاريخ واألخالق والقانون والكون‪ ..‬إلخ‪.‬‬

‫فهل حاول أن يسأل الطبيعة أو يسأل نفسه؟ من املحتمل ذلك‪.‬‬


‫ولكن الرد الذي يمكن أن يتلقاه مل يكن يتعدى احلقائق املبهمة والدارجة‬
‫ملا جرى العرف عىل تسميته «بالديانة الطبيعية » التي ختتلف عن العلم‬
‫الصحيح واحلقائق املفصلة يف كل جمال‪.‬‬

‫من أين ينبع إذن هذا الوحي؟ أليس من أعامق نفسه؟ إن الوقائع‬
‫تثبت لنا عكس ذلك‪ .‬فطابع األفكار التي تبلغ إليه عن طريق الوحي إما‬
‫جتريبي وإما فوق مستوى العقل‪ ،‬أي أهنا بعيدة عن جمال العقل الصايف‪،‬‬
‫وبعيدة كذلك عن الشعور املحصور يف منابعه العادية مثل إهلام الشعراء‬
‫والفالسفة‪ ،‬إذ املالحظ أن الوحي ليس أفكار ًا تتبع من داخل نفسه‪ ،‬وإنام‬
‫‪134‬‬
‫هو سامع صويت صايف أي أن األفكار التالزم احلديث والتسبقه‪.‬‬

‫ولقد انزعج الرسول ﷺ ذاته من هذه الظاهرة السمعية يف بداية‬


‫األمر‪ ..‬وعندما أراد أن يلتقط آيات الوحي وجد نفسه مضطر ًا؛ ألن‬
‫يكرر النص لنفسه كلمة كلمة أثناء تلقي الوحي‪ ،‬ومل يتوقف عن ذلك إال‬
‫عندما تلقى أمر ًا رصحي ًا مع ضامن بأن اهلل سيعلمه إياه ويرشحه له ﴿ﰄ‬
‫ﰅ ﰆ ﰇ * ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﴾ [القيامة‪ ]19 -18 :‬هذه كلمة تستحق‬
‫أن تسرتعي االنتباه وتضعنا أمام وحي نيص بدون قيد وال رشط‪.‬‬

‫إن الوحي جتربة عاشها الرسول ﷺ وكان معارصو الرسول كثري ًا‬
‫ماحيرضون نزول الوحي كشهود عيان‪ ،‬وشاهدوا بأنفسهم األعراض‬
‫اخلارجية لظاهرة الوحي‪ ،‬التي كانت بالنسبة للرسول ﷺ جتربة عاشها‬
‫ومل يصنعها‪ .‬إهنا حادث يتلقاه بكل سلبية‪ ،‬وليس يف قدرته اهلروب منه‬
‫عند جميئه‪ ،‬وال يف استطاعته أن يتهيأ له إذا احتاج إليه(((‪ً .‬‬
‫فضال عن أن كل‬
‫ال جديد ًا يضاف إىل ذخريته العلمية‪ .‬وبعيد ًا‬
‫درس من الوحي كان فص ً‬
‫عن ضوء هذا العلم الرباين‪ ،‬يعود النبي إىل حدود قدرته البرشية‪ ،‬فأمام‬
‫املايض واملستقبل‪ ،‬وأمام ما يصعب عىل الذكاء اإلنساين السليم اخرتاق‬
‫حجبه‪ ،‬كان ال يسعه إال أن يضع عالمة استفهام كغريه من الناس بكل‬

‫((( لقد تأخر الوحي يف حادث اإلفك شهر ًا ً‬


‫كامال ‪ ,‬ولم يكن يف مقدور الرسول ﷺ أن‬
‫يتعجله‪ ,‬أو يتقول بشيء أو يؤكد أو ينفي الشائعات‪ .‬وإذا كان األمر بيد الرسول ﷺ‬
‫ويتوقف عليه‪ .‬ألم يكن يستطيع أن يفض الموضوع بلباقة ثم ينسب قوله إلى الوحي؟‬
‫‪135‬‬ ‫الباب الثالث ‪ :‬المصدر الحقيقي للقرآن‬

‫أمانة وبكل تواضع‪.‬‬

‫ومعلوم موقف الرسول امليلء باخلشية والتقديس نحو القرآن املنزل‬


‫عليه‪ ،‬وإيامنه بأنه كالم اهلل ذاته‪ ،‬وعند تفسريه كان موقفه كأي مفرس‬
‫أمام نص ليس له‪ ﴿ ،‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ‬
‫ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ﴾ [التوبة‪،]80 :‬‬
‫﴿ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ﴾‬
‫[املنافقون‪ ،]6 :‬وكان يرتعد لفكرة أن ينسب إىل اهلل قوالً مل يقله مهام كان‬
‫القول بسيط ًا‪﴿ ،‬ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ * ﮌ ﮍ ﮎ * ﮐ ﮑ‬
‫ﮒ ﮓ * ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﴾ [احلاقة‪ ،]47 -44 :‬كام كان يشعر‬
‫بحرس من السامء وبمراقبني حييطون به‪ ﴿ ،‬ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ‬
‫ﰃﰄﰅﰆ ﰇﰈﰉ*ﰋ ﰌﰍﰎ ﰏﰐﰑ‬
‫ﰒ ﰓ﴾ [اجلن‪.]28 - 27 :‬‬

‫وليس صحيح ًا أن القرآن يعكس شخصية الرسول ﷺ ففي‬


‫أغلب األحيان ال يذكر شيئ ًا عنه وال جتد أقل صدى ألحزانه‪ ،‬وإذا ذكر‬
‫شيئ ًا فلكي حيكم عليه أو يضبط سلوكه طاملا أن األمر يتعلق بالسلوك‬
‫األخالقي‪ .‬وهنا نجد التعارض جلي ًا بني السلطة الترشيعية والنفس‬
‫اخلاضعة املستسلمة‪ ..‬وليس من النادر أن يتضمن الدرس اللوم((( ألقل‬
‫((( عن األسرى (األنفال‪ )67 :‬اإلذن للمنافقين (التوبة‪ )112-43 :‬عدم العناية باألعمى‬
‫(عبس‪.)10-1:‬‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪136‬‬

‫خمالفة منه للمثل األعىل املنشود(((‪.‬‬

‫وطاملا أنه ليس لديه تعاليم رصحية من الوحي يف أمر ما‪ ،‬فهو ذو‬
‫طبيعة خجولة حيية‪ ﴿ ،‬ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ‬
‫ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﴾ [األحزاب‪. ]53 :‬‬

‫حساس ًا ملا قد يقال عنه‪﴿ ،‬وﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ‬


‫ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ‬
‫ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ﴾ [األحزاب‪. ]37 :‬‬

‫ال يقطع دون أصحابه برأي‪﴿ ،‬ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ‬


‫ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ‬
‫ﭯ﴾ [آل عمران‪ ،]159:‬معرتف بعدم علمه بمصريه الشخيص ومصري‬
‫غريه‪﴿ ،‬ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ‬
‫ﮚ ﮛ﴾ [األحقاف‪.]9 :‬‬

‫((( وإذا بحثنا الوقائع التي اعرتض القرآن بشأهنا على الرسول‪ ,‬نندهش أن نجد أهنا تتصف‬
‫بخصائص مشرتكة‪ ,‬وهو أنا أمام حلين كل منهما مباح ( ىف الغالب يوجد نص صريح)‬
‫(محمد‪( )4 :‬النور‪( )62 :‬التوبة‪( )80 :‬األحزاب‪( )4 :‬األحزاب‪ )48 :‬اختار الرسول‬
‫ﷺ الحل الذي رآه أنسب للصالح العام‪ ،‬وكان أوفق الحلين ىف ذلته أمام أي عقل‬
‫إنساين (التوبة‪ .)47 :‬أما يف نظر الحكمة اإللهية‪ .‬فقد كان االختيار ذا معنى أقل ىف‬
‫الدرجة‪ ,‬مبكر ًا قليالً (يف الحالتين األوليين) متسامحًا قليالً (الحالة الثالثة) أقل جرأة‬
‫(الحالة الرابعة)‪ .‬أو مستهدفًا غرض غير ممكن التنفيذ (الحالة الخامسة)‪.‬‬
‫‪137‬‬ ‫الباب الثالث ‪ :‬المصدر الحقيقي للقرآن‬

‫ولكن بمجرد أن يتلقى علمه من الوحي نراه يبلغ رسالته يف ثقة‬


‫وقوة‪ ،‬ويقف موقف املعلم واملريب جلميع الناس‪﴿ ،‬ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ‬
‫ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ‬
‫ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﴾ [آل عمران‪.]20 :‬‬

‫ومنذ قبل اهلجرة يعلن أن من جوهر رسالته هداية بني إرسائيل‪،‬‬


‫وبوجه عام مجيع األمم التى تلقت دين ًا ساموي ًا‪ ،‬وأن يوضح هلم احلقيقة‬
‫يف منازعاهتم وخالفاهتم‪﴿ ،‬ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ‬
‫ﰈ ﰉﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ﴾ [النحل‪ ،]64 :‬و﴿ﮍ‬
‫ﮎﮏﮐ ﮑﮒﮓﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ‬
‫ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ‬
‫ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ﴾ [النحل‪.]76 :‬‬

‫وعندما يصدر حك ًام ال جيامل أحد ًا‪﴿ ،‬ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ‬


‫ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﴾ [الشورى‪. ]15 :‬‬

‫فوراء هذه الدفعة الصلبة قوة عظيمة ليست قوة هذا اإلنسان وهلذا‬
‫نراه يتمتع بروح ال تضطرب‪ ،‬وبإيامن ال يتزعزع يف معية اهلل وعونه‪﴿،‬ﮥ‬
‫ﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮬﮭﮮﮯ‬
‫ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ‬
‫ﯞ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﯦ‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪138‬‬

‫ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﴾‬
‫[التوبة‪ ،]40 :‬ويعرض نفسه وأهله ألخطار املباهلة‪﴿ ،‬ﯠﯡﯢﯣﯤ‬
‫ﯥﯦﯧﯨ ﯩﯪﯫ ﯬﯭﯮﯯﯰ‬
‫ﯱ ﯲ ﯳﯴﯵﯶﯷﯸ﴾ [آل عمران‪،]61 :‬‬
‫بينام يرتاجع املرتددون املتشككون‪.‬‬

‫وأمام هذه األدلة الكثرية القاطعة اتفق كثري من الكتاب املسيحيني‬


‫(((‬

‫‪ -‬الذين يبحثون عن احلقيقة يف نزاهة ‪ -‬عىل أن النبي العريب ﷺ يتمتع‬


‫بإخالص وصدق نفيس جيعالنه ذا قوة بالغة يف التأثري واإلقناع‪.‬‬

‫إال انه ال يرتتب عىل تقرير هذا اإلخالص النفيس اعتبار الوحي‬
‫من مصدر رباين‪ .‬فقد يكون الشخص ضحية أوهام ال شعورية‪،‬‬
‫فتظهر فجأة ىف ذهنه أفكار وتعبريات يظن أهنا جديدة متام ًا‪ ،‬بينام هو يف‬
‫الواقع جيتز املعارف القديمة واملدفونة يف أعامق نفسه‪ .‬بل من املحتمل‬
‫أن يعتقد أن متحصالته العلمية احلديثة أتت إليه من طريق الوحي‬
‫واإلهلام‪ ،‬طاملا أهنا تؤكد يف نفسه إيامنه بإهلامه الشخيص‪ ،‬وهو ال يدري‬
‫عن مصدرها احلقيقي شيئ ًا‪.‬‬

‫غري أن هذه األوهام‪ ،‬وهذا الضعف يف الذاكرة‪ ،‬أعراض حالة ذهنية‬

‫(((ومنهم «اندرا» و«ج‪ .‬سان هيلير» و«كارليل» و«جولد سيهر» و«ماسينيون» و«نولديك‬
‫تربين»‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫‪139‬‬ ‫الباب الثالث ‪ :‬المصدر الحقيقي للقرآن‬

‫غري سوية‪ ،‬وليست هلا صلة عىل اإلطالق باحلالة التي نحن بصددها ال‬
‫من حيث املوضوع وال من حيث الشخص‪ :‬فمن حيث املوضوع نرى إما‬
‫انعدام املصادر الشعبية‪ ،‬وإما شائعات غامضة ومتناقضة‪ ،‬ال تنهض لتفسري‬
‫استقامة اخلط الذي اتبعه القرآن‪ ،‬وتفسري خطواته الثابتة الفاصلة‪ .‬وأما من‬
‫حيث الشخص ذاته‪ ،‬فليس هناك أدنى عالمة تشري من قريب أو بعيد إىل‬
‫خلل عقيل‪ ،‬بل العكس هو الصحيح‪ ،‬وشهادة «رنان» هى خري دليل« مل‬
‫خيلق عقل قط بمثل صفائه‪ ،‬ومل يوجد إنسان قط حتكم مثله يف فكره» [املرجع‬

‫السابق ص ‪ .)1080‬ومضاهاة احلقائق النابعة من احلالتني‪ ،‬يمكن أن ترشدنا‬


‫يف حكمنا بمدى إجيابيتها حسب درجة توافقها أو اختالفها‪.‬‬

‫فبعد أن مر حممد ﷺ بالتجربتني يتكلم بذهن واع عن اتصاله بالعامل‬


‫املنظور وعامل الغيب‪ ،‬باملادة وبالروح‪ .‬إهنا جتربة عاشها وحتقق منها‬
‫وتكررت معه آالف املرات‪ .‬فقد استمع بكل وضوح إىل الرسول املتحدث‬
‫إليه باسم اهلل‪ ،‬ورآه بعينيه بوضوح كامل يف شكله العظيم‪﴿ ،‬ﮙ ﮚﮛ‬
‫ﮜ * ﮞﮟﮠﮡﮢﮣ﴾ [التكوير‪]20 - 9 :‬‬

‫ورآه عدة مرات‪﴿ ،‬ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ * ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ * ﮍ‬


‫ﮎ ﮏﮐ*ﮒﮓﮔ*ﮖﮗﮘ* ﮚ ﮛﮜ ﮝﮞ‬
‫* ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ﴾ [النجم‪ ،]17 -11:‬وهل جيوز أن ننكر عىل إنسان‬
‫سليم البدن والعقل ما رأى‪﴿ ،‬ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ﴾ [النجم‪.]12 :‬‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪140‬‬

‫إال أننا ‪ -‬نحن املستمعني ‪ -‬ال نستطيع أن نمر بنفس التجربة‪ ،‬وال‬
‫أن نعيشها كام عاشها هو‪ .‬هذا صحيح‪ ،‬ولكن لدينا من وسائل املراجعة‬
‫ما يساعدنا عىل أن نتحقق مما إذا كان هذا جمرد هلوسة أو ظاهرة مرضية‬
‫«تنتاب ذوي القدرات اخلارقة وحدهم» أو أن صوت احلق ذاته هو الذي‬
‫يلهمه‪ .‬فعلينا إذن مراجعة حمتوى تعاليمه ومضموهنا‪ ،‬وليس تأكيده‬
‫واقتناعه هبا‪ .‬وإليك ثالث عينات‪:‬‬

‫‪ -1‬حقائق دينية وأخالقية وتارخيية‪.‬‬

‫رأينا من أمثلة املبادئ األخالقية‪ ،‬أن أي محاس أو أية معارف‬


‫مبهمة عن الكتب املقدسة ال تستطيع أن تضمن للنبي العريب ﷺ هذا‬
‫التوافق والتطابق العجيب بينها وبني تعاليمه‪ ،‬وقد يكون من املفيد أن‬
‫نعقد مقارنة بني التوراة والقرآن عن صفات اهلل واملالئكة واألنبياء وما‬
‫وراء الكون‪ ...‬ولكن ذلك سيكون خروج ًا عن دائرة هذا «املدخل»‪،‬‬
‫ويكفى أن نقول إنه عندما يشرتك هذان الكتابان ىف احلديث عن موضوع‬
‫واحد‪ ،‬فإن جوهر املعنى يتشابه بينهام بشكل يستلفت األنظار‪ ،‬بحيث‬
‫يكاد ينحرص االختالف يف فروق طفيفة وثانوية‪ ،‬وكأن التوراة كانت‬
‫حتت برصه دائ ًام‪ ،‬مع متيز القرآن باستقالل يف هلجته واتزانه‪ ،‬وطريقته يف‬
‫عرض الدروس‪ ،‬واجتاهه نحو استخالص العرب من كل عرض‪ .‬ولقد‬
‫كتب «جول دافيد» ىف مقال بعنوان «توافقات واختالفات بني القصص‬
‫‪141‬‬ ‫الباب الثالث ‪ :‬المصدر الحقيقي للقرآن‬

‫الديني يف التوراة والقرآن » يقول إن اجلوهر واحد‪ ،‬واالختالف ليس إال‬


‫يف الشكل‪ ،‬ويف تفاصيل طفيفة للغاية»‪.‬‬

‫عل ًام بأن «االختالف» يكون يف «التعارض والتناقض» وهو نادر‬


‫جد ًا بني هذين الكتابني وقابل للتأويل‪ .‬أما احلذف والزيادة فال يسميان‬
‫اختالف ًا‪ .‬ويعتمد املتشككون عىل اختالفات تافهة لريفضوا اإلسالم‬
‫ككل‪ .‬بينام املنطق يتطلب أن يكون موقفهم مغاير ًا‪ .‬فعند اختالف‬
‫الرواة املوثوق هبم‪ ،‬نتوقف أمام نقط االختالف وحدها‪ ،‬إما لكي‬
‫نعلق إصدار حكمنا‪ ،‬وإما ملحاولة البحث عن نوع من الربط يسمح لنا‬
‫بتصحيح بعض الروايات بغريها‪ .‬والطريقة التي تتبع للتوفيق والتدرج‬
‫بني األناجيل األربعة‪ ،‬جيب أن تتبع يف دراسة املواعظ والوصايا الدينية‬
‫التي تركها لنا مجيع رسل اهلل‪ .‬فهم مجيع ًا مقدسون ومنزهون‪ ،‬وقد مروا‬
‫بتجربة االتصال بعامل الغيب‪ ،‬وأن تطابق أقواهلم يف جوهر تعاليمهم‪،‬‬
‫ينبغي أن يفتح أعني الغافلني عىل صدقهم وصحة مبادئهم التي تناولت‬
‫احلقائق العليا من زوايا خمتلفة‪.‬‬

‫‪ -2‬حقائق علمية‪.‬‬

‫والقرآن يف دعوته إىل اإليامن والفضيلة يستخدم احلقائق الكونية‬


‫الدائمة ويدعو عقولنا إىل تأمل قوانينها الثابتة ‪ -‬ال بغرض دراستها‬
‫وفهمها فحسب ‪ -‬وإنام ألهنا تذكر باخلالق احلكيم القدير‪ .‬ونالحظ‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪142‬‬

‫أن احلقائق التي يقدمها تتفق متام ًا مع آخر ما توصل إليه العلم‬
‫احلديث‪ .‬مثل منبع العنرص اجلنيس لإلنسان‪ ﴿ ،‬ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ * ﭭ‬
‫ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ﴾ [الطارق‪.]7 - 6 :‬‬

‫ومراحل اإلنسان يف بطن أمه‪ ..﴿ ،‬ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ‬


‫ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ‬
‫ﮨﮩ ﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰ ﮱﯓﯔ‬
‫﴾ [احلج‪. ]5:‬‬ ‫ﯕ‬

‫وعدد التجويفات املظلمة التي يتم اخللق بداخلها‪﴿ ،‬ﭑ ﭒ‬


‫ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ‬
‫ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ‬
‫ﭯ ﭰ ﴾ [الزمر‪ ،]6 :‬ومنشأ املخلوقات املائي‪﴿ ،‬ﮞ ﮟ ﮠ‬
‫ﮡ ﮢ ﮣ ﴾ [األنبياء‪ ،]30 :‬وتكوين املطر‪﴿ ،‬ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ‬
‫ﯖ ﯗﯘ ﯙﯚﯛ ﯜﯝﯞ ﯟﯠﯡ‬
‫ﯢ ﯣ﴾[الروم‪ ،]48:‬ودائرية السامء‪ ..﴿ ،‬ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ‬
‫ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ‪[ ﴾...‬الزمر‪ ،]5 :‬وكروية‬
‫األرض غري املكتملة عند األقطاب‪ ﴿ ،‬ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ‬
‫ﯭ ﯮ ﯯ﴾ [األنبياء‪ ،]44 :‬ومسرية الشمس إىل نقطة‬
‫﴾ [يس‪]38 :‬‬ ‫معلومة‪﴿ ،‬ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ‬
‫‪143‬‬ ‫الباب الثالث ‪ :‬المصدر الحقيقي للقرآن‬

‫وتعايش احليوانات يف مجاعات تشبه املجتمعات اإلنسانية‪﴿ ،‬ﭳ‬


‫ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﴾ [األنعام‪،]38 :‬‬
‫ووصف حياة النحل‪﴿ ،‬ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ‬
‫ﮑ ﮒ ﮓ * ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ‬
‫‪[ ﴾..‬النحل‪]69 -68 :‬‬ ‫ﮠﮡ ﮢﮣﮤﮥﮦﮧ‬

‫وثنائية النباتات واملخلوقات‪﴿ ،‬ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ‬


‫ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ﴾ [يــس‪ ،]36:‬والتلقيح‬
‫بواسطة الرياح‪ ﴿ ،‬ﮈ ﮉ ﮊ﴾ [احلجر‪.]22 :‬‬

‫ولكن متيز القرآن وتفرده ال يقف عند ما يرصح به‪ ،‬بل إن إعجازه‬
‫يمتد إىل ما يمتنع عن قوله أو يسقطه عن قصد‪( ..‬مثل الروح‪.) ..‬‬

‫واألمثلة السابقة تتضمن تطابق ًا عجيب ًا بني التوضيح القرآين ذاته‬


‫وبني التوضيح العلمي الذي ثبت بعد بحوث طويلة خالل العصور‬
‫واألجيال التي انتهت إىل النتائج املقطوع بصحتها‪ ،‬بفضل إسهام رجال‬
‫متخصصني كل يف فرعه املحدود‪ .‬هل يف هذا جمرد صدفة؟ هل يمكن‬
‫يف عرص اجلاهلية أن يتعرض رجل جمرد من أية معدات فنية‪ ،‬لعلوم‬
‫الترشيح واألرصاد اجلوية والكونية والنفسية للحيوان واإلنسان وفروع‬
‫أخرى كثرية (فض ً‬
‫ال عام اشتمل عليه كتابه من حلول يف األخالق والدين‬
‫واالجتامع)‪ ،‬وأن يعطينا يف كل موضوع حقائق عاملية خالدة ال تتزعزع‬
‫« مدخل إلى القرآن الكريم ‪ :‬ترجمة وتلخيص »‬ ‫‪144‬‬

‫من غري أن يرتك يف أي جمال أثرا ولو طفيف ًا ينم عن عرصه أو بيئته أو حتى‬
‫خياله الشخيص؟‬

‫‪ -3‬تنبؤات املستقبل‪.‬‬

‫ولقد أعلن القرآن عن أحداث ستتم مستقبالً‪ ،‬رأيناها تقع كام أعلن‪:‬‬
‫مثل مواقف معارضيه الثالثة (املخالفة‪ ،‬وامليل للتوفيق‪ ،‬واملعاداة)‪،‬‬
‫وتتابع مصائرهم بحسب كل موقف (جماعة ورخاء وهزيمة)‪.‬‬

‫﴿ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ * ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ‬
‫ﮟ*ﮡﮢﮣﮤ ﮥ ﮦ*ﮨﮩﮪ ﮫﮬﮭ‬
‫ﮮ * ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ * ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ *‬
‫ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ﴾[الدخان‪. ]16-10 :‬‬

‫وأعلن قبل اهلجرة بسنوات عن هزيمة قريش ببدر (التي وقعت يف‬
‫العام الثاين اهلجري) يف نفس الوقت الذي ينهزم فيه الفرس من الروم‪،‬‬
‫﴿ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ * ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ‬
‫ﯡ ﯢ ﯣ ﴾ [الروم‪ ،]5-3 :‬ورضبة السيف التي تلقاها الوليد بن‬
‫املغرية عىل أنفه‪﴿ ،‬ﭑ ﭒ ﭓ﴾ [القلم‪. ]16 :‬‬

‫وخلود دعوة القرآن عىل مر الزمان‪ ﴿ ،‬ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ‬


‫ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ﴾ [الرعد‪. ]17:‬‬
‫‪145‬‬
‫وقيام دولة اإلسالم الفتية عىل األرض‪﴿ ،‬ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ‬
‫ﭰ ﭱ ﭲﭳﭴﭵ ﭶﭷ ﭸ‬
‫ﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﭿﮀ ﮁﮂﮃﮄ‬
‫ﮅ ﴾ [النور‪. ]55 :‬‬

‫وعجز كل قوى األرض عن القضاء عليها‪﴿ ،‬ﭷ ﭸ ﭹ‬


‫ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ‬
‫﴾ [األنفال‪]36:‬‬ ‫ﮅﮆﮇ‬

‫وعن مستقبل املسيحية (االنشقاق واخلالف إىل يوم القيامة)‪،‬‬


‫﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ‬
‫ﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﭠﭡﭢ‬
‫ﭣ ﴾ [املائدة‪. ]14 :‬‬

‫وتشتت بني إرسائيل ىف أقطار األرض واضطهادهم وحاجتهم‬


‫الدائمة إىل احلليف‪﴿ ،‬ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ‬
‫ﮐ ﮑ ﴾ [آل عمران‪. ]112 :‬‬

‫وتفوق املسيحيني عىل اليهود إىل يوم القيامة‪﴿ ،‬ﭯ ﭰ ﭱ‬


‫ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﴾ [آل عمران‪. ]55 :‬‬

‫وهكذا تتضافر أحداث املايض واحلارض واملستقبل ىف جمال الواقع‬


‫‪146‬‬
‫لكي تتوافق مع عامل األفكار وتؤيدها‪ .‬بامذا نخلص من هذا كله؟‪..‬‬

‫إما أن اهلل خيدعنا يرتك مجيع األدلة القاطعة تنحاز إىل كذاب خمادع‬
‫وال يرتك لنا بصيص ًا من الضوء يعاوننا عىل كشف أمره‪ .‬وإما أن يكون‬
‫هناك ميثاق معقود مع العناية اإلهلية تولت بمقتضاه السهر عىل هذه‬
‫الدعوة لعصمتها من كل زلل‪.‬‬

‫إن القرآن ليس إنتاج ًا حملي ًا‪ ،‬ألن احلقائق التي يقدمها هي من النوع‬
‫الذي يسهل عىل مجيع العقول إدراكه واستخالص الفائدة األخالقية‬
‫منه‪ .‬وهلذا نرى مكانه عالي ًا فوق كل االعتبارات اجلغرافية والعنرصية‪..‬‬
‫وهلذا ال يذكر عموم ًا أسامء األشخاص واألماكن التي يتحدث عنها‪،‬‬
‫وإنام يركز عىل العرب والدروس التي تفيد ىف تربية اإلنسانية‪.‬‬

‫إن هذا املنهج الكامل املتكامل الذي ينفرد به القرآن وحده هو‬
‫يف ذاته برهان وأي برهان‪ .‬ولقد انترشت الدعوة القرآنية ىف البداية يف‬
‫اجلزيرة العربية بني العرب ولكن غايتها هي أفراد البرشية أمجعني‪.‬‬
‫‪147‬‬
‫املراجع‬
‫أ – املراجع العربية ‪:‬‬
‫املطبعة الرمحانية‬
‫‪1936‬م‬ ‫كتاب املصاحف‬ ‫ابن أيب داود‬
‫بالقاهرة‬

‫‪ 1335‬هـ‬ ‫‪ 8‬أجزاء طبع ليدن‬ ‫الطبقات‬ ‫ابن سعد‬

‫‪ 1872‬م‬ ‫طبع ليبزيج‬ ‫الفهرست‬ ‫ابن النديم‬

‫جزءان طبع صبيح‬


‫‪ 1929‬م‬ ‫سرية الرسول‬ ‫ابن هشام‬
‫بالقاهرة‬

‫‪ 4‬أجزاء طبع اخلشاب‬ ‫السنن‬ ‫أبو داود‬


‫بالقاهرة عىل هامش‬
‫‪ 1310‬هـ‬
‫الزرقاين عىل املوطأ‬
‫‪ 9‬أجزاء طبع بوالق‬
‫‪ 1289‬هـ‬ ‫اجلامع الصحيح‬ ‫البخاري‬
‫بالقاهرة‬

‫جزءان طبع بوالق‬


‫‪ 1292‬هـ‬ ‫اجلامع (أو السنن)‬ ‫الرتمذي‬
‫بالقاهرة‬

‫‪ 1352‬هـ‬ ‫طبع املليجي بالقاهرة‬ ‫النبأ العظيم‬ ‫دراز‬

‫‪ 6‬أجزاء طبع بوالق‬ ‫مفاتيح الغيب (املعروف‬ ‫الرازي‬


‫‪ 1278‬هـ‬
‫بالقاهرة‬ ‫بالتفسري الكبري)‬

‫‪ 1323‬هـ‬ ‫طبع بطرسبورج‬ ‫تاريخ القرآن واملصاحف‬ ‫راستدوفاين‬

‫طبع جلنة التأليف‬ ‫تاريخ القرآن‬ ‫الزنجاين‬


‫‪ 1935‬م‬ ‫والرتمجة والنرش‬
‫بالقاهرة‬
‫‪148‬‬

‫جزءان املطبعة األزهرية‬ ‫االتقان ىف علوم القرآن‬ ‫السيوطي‬


‫‪1344‬هـ‬ ‫بالقاهرة (عىل هامش‬
‫تفسري اجلاللني)‬
‫‪ 3‬أجزاء طبع احللبي‬ ‫اجلامع الصغري (مع‬ ‫السيوطي‬
‫بالقاهرة‬ ‫زيادته التي ضمها إليه‬
‫‪1350‬هـ‬ ‫النبهاين ومجعهام حتت‬
‫اسم الفتح الكبري)‬

‫‪ 6‬أجزاء طبع احللبي‬ ‫الدر املنثور‬ ‫السيوطي‬


‫‪1314‬هـ‬
‫بالقاهرة‬

‫التبيان لبعض املباحث‬ ‫طاهر اجلزائري‬


‫‪1934‬م‬ ‫طبع املنار بالقاهرة‬ ‫املتعلقة بالقرآن‬

‫طبع دار املعارف‬ ‫اهلل‬ ‫العقاد‬


‫‪1947‬م‬
‫بالقاهرة‬

‫جزءان برشح السيوطى‬ ‫املوطأ‬ ‫مالك‬


‫‪ 1349‬هـ‬
‫‪ -‬طبع احللبى بالقاهرة‬

‫الصحيح (أو اجلامع‬ ‫مسلم‬


‫‪ 1334‬هـ‬ ‫‪ 8‬أجزاء طبع استانبول‬
‫الصحيح)‬

‫‪ 1312‬هـ‬ ‫طبع بريوت‬ ‫األنوار املحمدية‬ ‫النبهاين‬

‫طبع لندن (مجعية نرش‬ ‫هتذيب األسامء واللغات‬ ‫النووي‬


‫‪ 1847‬م‬
‫النصوص الرشقية)‬

‫***‬
149
‫ املراجع األجنبية‬-‫ب‬

Imprim. Univ. De Cam-


La Bible trad fr. par Louis Segond
bridge, 1932

L'Encyclopédie
Par les principaux Orientalistes Leide 1908-1938
de l'Islam

Ed. Paris, Maisonneuve,


Andrae Mahomet, sa Vie et sa Doctrine
1945

Barthélemy-St-
Mahomet et le Koran Paris، Didier، 1865
Hilaire

Essai sur l'histoire des Arabes


avant l'Islamisme, pendant l'épo-
Caussin de
que de Ma-homet et jusqu'à la 3 vol. Paris, 1847.
Perceval
ré-duction de toutes les tribus
sous la loi muslumane

Voir Al-Ghazali "Réfutattion Ex-


cellente de la divinité de Jésus-
Chidiac Christ d'après les Evangiles Paris، Leroux 1933
traduit et commenté par Robert
Chidiac

Analogies et Divergences entre Revue Socio. Et Hist.


David les Légendes de la Bible et du IVe série. T. Il., Mars
Koran 1884.

Le Caire, Al-Ma'aref
Draz La Morale du Koran
1949.
150
Mémoire sur le Calendrier Ar-
Al-Falaki abe avant l’Islamisme et sur la
Asiatique، Paris, 1858
(Mahmoud) Naissance et l'Age du Prophète
Mohammed
Gaudefroy-De-
Institutions Musulmanes Paris, Flammarion, 1946
mombynes

Paris, Alcan. Extrait de:


Gaudefroy De- Histoire et Historiens,
L’Islam
mombynes depuis cinquante ans
(1876 - 1926).

Moeurs et Coutumes des Mus-


Gautier Paris Payot, 1931
lumans
Le Dogme et la Loi de l'Islam.
Goldziher Paris، Geuthner, 1920.
Trad. Fr. Par Félix Arin.
Jour. As. Jullet-Août
Huart Une Nouvelle Source du Koran
1904.

Materials for the History of the


Jeoffery (Dr). Leiden 1937.
Text of the Qur‘an

L'Impérialiasme Macédonien et Paris, Renaissance du


Jouguet
l'Héllénisation de l'Orient Livre, 1926.

Kazem (dit Mirza Observation sur le Chapitre In-


Jour. As. Mai 1843.
Alexandre). connu du Koran
Jour. As. Mars-Avril
Lammens (Père) Age de Mohammad
1911

Lammmens Berceau de l'Islam à la Veille de


Rome, 1914.
(Père) l'Hégire
Lammmens Beyrouth, éd Catholique,
L'Islam, Croyance et Institutions
(Père) 1926

Leblois Le Koran et la Bible Hébraique Paris, Fishbacher, 1887.


151

Massé L'Islam Paris، Colin, 1937.

Paris, Imp Admini-stra-


Massignon La mubâhala
tive, 1944
Leipzig, 2e éd. 1909-
Noeldeke Geschichte des Quràns
1938

Al-Ghazali and the Arabic Gos- Rev. The Moslem


Padwik
pels World.1939.
Discours Préliminaire sur la Reli-
gion des Mahométants (trad. Fr.,
Porter Amsterdam, 1775.
mise à la tête de l'Al-Coran de Du
Ryer)

Mahomet et les Origines de L'Is- Revue des Deux Mondes


Renan
lamisme. Décembre 1851.

London, Society for Pro-


The Original Sources of the
Sinclair Tisdall moting Christian Knowl-
Qur‘an
edge, 1905.

Enseignment Islamique en Le Caire, Imp. Nation-


Salâma (Dr).
Egypte ale, 1939.

Observation Historiques et Cri-


tiques sur le Maho-métisme (trad.
Sale (Georges). Amsterdam, 1775
Fr, mise à la tête de l'Al-Coran de
Du Ryer).

See Noeldeke, Geschichte des Leipzig, 2e éd, 1909-


Schwally
Qur'ans. 1938.

***
‫‪152‬‬
‫املحتويات‬

‫املوضوع‬ ‫الصفحة‬

‫مقدمة املخترص‪5.........................................................‬‬ ‫‪3‬‬

‫ملخص مقدمة املؤلف‪7..................................................‬‬ ‫‪4‬‬


‫الباب األول‪ :‬حقائق تارخيية أولية ‪9 ......................................‬‬ ‫‪7‬‬
‫الفصل األول‪ :‬حياة الرسول ﷺ قبل البعثة ‪13 .................‬‬ ‫‪8‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬كيف مجع نص التنزيل احلكيم ‪27.................‬‬ ‫‪20‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬كيف تم تبليغ املبدأ القرآين إىل العامل ‪37..........‬‬ ‫‪29‬‬

‫الباب الثاين‪ :‬القرآن من خالل مظاهره الثالث الديني واخللقي واألديب ‪53...‬‬ ‫‪43‬‬

‫الفصل األول‪ :‬احلق أو العنرص الديني ‪57........................‬‬ ‫‪44‬‬


‫الفصل الثاين‪ :‬اخلري أو العنرص األخالقي يف القرآن ‪65............‬‬ ‫‪51‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬اجلامل أو اجلانب األديب ‪87.......................‬‬ ‫‪76‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬املصـدر احلقيقي للقرآن ‪97 .................................‬‬ ‫‪84‬‬
‫الفصل األول‪:‬البحث عن مصدر القرآن يف الفرتة املكية ‪101......‬‬ ‫‪87‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬البحث عن مصدر القرآن يف الفرتة املدنية ‪117......‬‬ ‫‪100‬‬
‫خامتة الباب الثالث ‪133.........................................‬‬ ‫‪113‬‬
‫املراجع ‪147..............................................................‬‬
‫أ ‪ -‬املراجع العربية ‪147.........................................‬‬ ‫‪125‬‬
‫ب ‪ -‬املراجع األجنبية ‪149......................................‬‬ ‫‪126‬‬
‫املحتويات ‪152..........................................................‬‬ ‫‪128‬‬

You might also like