Professional Documents
Culture Documents
مدخل إلى القرآن الكريم نهائي
مدخل إلى القرآن الكريم نهائي
مختصر
مدخل إلى القرآن الكريم
عرض تاريخي وتحليل مقارن
2
3
َّ
د .محمد عبد للا دراز
َ
مدخل إلى
ُ
القرآن الكريم
عرض تاريخي وتحليل مقارن
ترجمة وتلخيص
محمد عبد العظيم علي
4
الطبعة الثانية
2019 -م
5
مقدمة المختصر
ورحم اهلل فقيدنا األستاذ الدكتور حممد عبد اهلل دراز ،وأجزل له
الثواب عىل ما بذله ىف خدمة اإلسالم واملسلمني..
وبعد تقديم عدة نقاط تارخيية بناء عىل اقرتاح «مسيو موريس
باترونييه دي جاندياك» األستاذ بالسوربون.
الباب األول
حقائق تاريخية أولية
11
متهيد
الفصل األول
حياة الرسول ﷺ قبل البعثة
نظر ًا لالرتباط الوثيق بني الرسول ورسالته ،فسنبدأ بتقديم صورة
مصغرة لشخصية حممد ﷺ منذ طفولته حتى الوقت الذي كُلف فيه
ببعثته للبرش كافة.
لقد ولد حممد ﷺ يتي ًام ،فقد مات أبوه عبد اهلل قبل مولده بسبعة
شهور .وعهد به إىل مرضعة بدوية هي حليمة من قبيلة بني سعد حتى
بلغ الرابعة ،كام كان يقيض العرف عند أرشاف مكة بإرسال أوالدهم
لينشئوا يف جو الصحراء النقي .ثم تولت أمه تربيته بمعاونة مربية هي
« مدخل إلى القرآن الكريم :ترجمة وتلخيص » 14
وال نعرف سوى تفاصيل قليلة عن حياته منذ ذلك التاريخ حتى
تاريخ زواجه .وعموم ًا فقد قىض شبابه يف حالة قريبة من الفقر .ويؤيد
القرآن((( ذلك والسنة توضحه ،فبعد أن مات أبوه وعاش يف كنف جده
مل يرث من أمه سوى َأمة سوداء وقطيع َا من الغنم ومخسة مجال .والعمل
الذي زاوله يف تلك احلقبة كان يف الغالب رعي األغنام الذي يقول
الرسول ﷺ عنه أنه عمل األنبياء من قبله موسى وداود وغريمها.
جتارية إىل الشام فأنجزها بذكاء ونزاهة مما أكد عندها أحقيته باسم
األمني .ورغم الفارق املادي الشاسع بينهام فقد فاحتته يف أمر الزواج
الذي قبله رغم تباين السن؛ وظلت بعد ذلك زوجته الوحيدة طوال
ربع قرن مل يفرق بينهام سوى املوت ،وظل الوفاء لذكراها يثري غرية
زوجاته فيام بعد.
أما زينب فقد تزوجت قبل اإلسالم بابن عمها أيب العاص الذي
اعتنق اإلسالم فيام بعد ،وماتت قبل وفاة النبي بعامني عن أبنتها ( ُأمامة)
التي تزوجت (علي ًا) بعد موت فاطمة.
وكان حممد أب ًا حنون ًا وزوج ًا وفي ًا أبدي عاطفة متدفقة نحو أوالده
وأحفاده .إذ كان يسري عدة كيلومرتات عىل أقدامه ملجرد أن يراهم
ويضمهم إليه ويقبلهم عند املراضع .وكان يرتكهم يعتلون ظهره أثناء
الصالة كام كان يقطع خطبته لكي يستقبلهم وجيلسهم إىل جواره عىل
((( ولقد رزق الرسول فيما بعد بالمدينة بولد هو ابراهيم من مريم القبطية الذي مات قبل
وفاة أبيه بشهور (أنظر محمود باشا الفلكي ،الكتاب السابق ص .)7
17 الباب األول :حقائق تاريخية أولية
وكان أهم األحداث التي وقعت بني تاريخ زواجه وتاريخ بعثته وهو
يف اخلامسة والثالثني وقت ترميم الكعبة .فألمهية هذا الرصح الذي كان
بمثابة املعبد الوطني للجزيرة العربية كانت كل القبائل العربية تبدي له كل
تقديس رغم اختالف عقائدها .هلذا نراها مجيع ًا حترص كل احلرص عىل
أن تنال رشف املشاركة يف أعامل إعادة بناء الكعبة .ولقد توصلت بفضل
تقسيم العمل بينها عىل حتقيق مطالب اجلميع حتى وجد املتنافسون أنفسهم
أمام العمل الذي ال يتجزأ وهو إعادة وضع احلجر األسود يف مكانه .فلم
يرض أحد التنازل عن حقه يف رفع احلجر ومل يستطع أحد أن يمنع تفاقم
النزاع .ومع ذلك وقبل االلتجاء إىل السالح ُعقد اجتامع أخري تقرر فيه
االحتكام يف هذا املوضوع إىل أول شخص يدخل الرحاب املقدسة للكعبة
من باب بني شيبة .ولقد شاءت األقدار أن يكون هذا الشخص هو حممد
((( البخاري كتاب األدب باب -18ورد ذكر مناقشتين يف هذا الموضوع :األولى مع
األقرع بن حابس التميمي عندما رأى الرسول يقبل حفيده الحسن فقال األقرع :إن
لي عشرة من الولد وما قبلت منهم أحد ًا فنظر إليه رسول اهلل ﷺ ثم قال :من ال يرحم
ال ُيرحم ،والثانية :عندما جاء أعرابي إلى النبي فقال تقبلون الصبيان فما نقبلهم فقال
النبي :أو أملك لك أن نزع اهلل من قلبك الرحمة.
« مدخل إلى القرآن الكريم :ترجمة وتلخيص » 18
ﷺ .فلام رآه الناس يدخل صاحوا -األمني ..األمني -ومل خيب أملهم يف
انتظار احلل العادل فقد أرسع حممد ﷺ -يف بدهيته اليقظة ونزاهته املعهودة
-بأن بسط رداءه عىل األرض ووضع بيديه احلجر األسود وسط الثياب
ثم طلب إىل رؤساء القبائل أن يمسك كل منهم بطرف الثوب وأن يرفعوه
مع ًا إىل املستوى املطلوب وعندما وصلوا باحلجر إىل املكان املخصص له
أخذ حممد احلجر بنفسه ووضعه مكانه .فساد الرضا بني مجوع احلارضين
واستتب السالم بني القبائل.
(((﴿ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ
ﯘ ﯙ ﯚ *ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ
ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ﴾ [األحزاب.]29-28 :
« مدخل إلى القرآن الكريم :ترجمة وتلخيص » 20
وبعد ذلك بدأ يميل إىل اخللوة والوحدة .فاختار مكان ًا خللوته يف جبل
حراء أو جبل النور يف شامل مكة .وهناك بعيد ًا عن جمتمع مكة الوثني
الفاسد وبعيد ًا عن املشاغل الدنيوية كان حيب أن خيلو إىل نفسه((( يف غار
يطل عىل الكعبة وعىل األفق املرتامي خلفها عىل مدى البرص.
ويف إحدى الليايل ووسط السكون املطبق من يوم 17من شهر رمضان
كام يقول ابن سعد (فرباير 610من التقويم امليالدي) دخل حممد ﷺ يف
أول اتصال له مع ما وراء الكون .فمر بأول جتربة له مع الوحي احلقيقي.
لقد نقل إلينا بنفسه أطوار ما حدث عىل شكل حوار بينه وبني جربيل ،بني
التابع واملريب .قال جربيل :إقرأ ،قال حممد مندهش ًا :ما أنا بقارئ ،فكرر
جربيل قوله ﴿ :ﭻ﴾ بعد أن ضمه إليه ضمة شديدة ،قال حممد :ماذا أقرأ!
ولقد تكرر نفس األمر مع ضمة أشد من الضمة األوىل ،كام لو كان املقصود
منها إثارة انتباهه والتمكني يف نفسه ملعاين اجلدية التي تتطلبها التبعة الثقيلة
التي سيكلف هبا .ولكن صاحبنا املتبتل يتساءل يف هلع( :كيف أقرأ) ،
امللك ﴿ :ﭻﭼﭽﭾﭿ* ﮁﮂﮃﮄ* ﮆﮇ
وهنا يقرأ عليه ْ
ﮈ* ﮊﮋﮌ * ﮎﮏﮐﮑ ﮒ﴾ [العلق.]5-1 :
((( ال تحدد رواية البخاري مدة هذه الخلوة وإنما أوضحت أن محمد ًا يف وحدته كان
يتحنث الليالي ذات العدد وكلما نفذ طعامه يرجع إلى أهله يتزود ؛ أما ابن اسحاق
فيذكر أن مدة الخالء المتقطعة كانت شهر ًا.
21 الباب األول :حقائق تاريخية أولية
اختفى امللك .وعندما خرج حممد من الغار عائد ًا إىل داره سمع صوت ًا
يناديه .فرفع رأسه إىل السامء وإذا بامللك ذاته يغطي األفق ويقول( :يا
حممد أنت رسول اهلل وأنا جربيل) ومل يستطع أن حيول نظره ،أو يتقدم
أو يتأخر ،فلم يكن حيدق يف أي نقطة يف السامء إال ويراه أمامه .واستمر
ذلك ملدة من الزمن ثم مل يعد يرى شيئ ًا.
تذهب معه إىل ابن عمها -ورقة بن نوفل -وهو عجوز كفيف قد تنرص
بعد أن أمىض حياته يف املطالعات العربية ويف علوم الكتب الساموية
ِ
وسى ﷺ َيا وس ا َّلذي ن ََّز َل اللَُّ َع َل ُم َ السابقة .فقال هلامَ « :ه َذا النَّا ُم ُ
ول اللَِّك َ .ف َق َال َر ُس ُ َل ْيتَنِي فِ َيها َج َذ ًعاَ ،ل ْيتَنِي َأك ُ
ُون َح ًّيا إِ ْذ ُي ِْر ُج َك َق ْو ُم َ
ت َر ُج ٌل َق ُّط بِ ِم ْث ِل َما ِج ْئ َت بِ ِه إِالَّ ﷺ « َأو ُم ْ ِر ِجي هم » . َق َال َنعمَ ،ل ي ْأ ِ
َ ْ َْ َّ ُ ْ َ
ِ ِ ِ ِ
َصا ُم َؤ َّز ًرا » . ْص َك ن ْ ًُعود َيَ ،وإ ْن ُيدْ ركْني َي ْو ُم َك َأن ُ ْ
ولكن حياة ورقة مل تدم طوي ً
ال وإن كانت هذه الكلامت املطمئنة قد
ألقت ضوء األمل يف هذه النفس القلقة هلذا اإلنسان الشغوف بالعلم
والباحث عن الوضوح واليقني ،أي هذه العقلية املوضوعية ،وسوف
نرى أن هذا األمل مل يكن قوي ًا ومل يدم طويالً .إذ كان طبيعيا أن يتصور
حممد حتقق هذا العلم املوعود ،الذي أعلنه صوت احلق ،يف األيام التالية.
فكان يعود دائ ًام يف طلب الدرس الثاين يف ذات املكان الذي تلقى فيه
الدرس األول .وكان جيلس جملسه األول وجيوب اجلبل ويدور بنظره
يف كل اجتاه واأليام تتلو األيام واألسابيع تتواىل والشهور تتبع الشهور
ومىض العام وبدأ العام الثاين.
وكام يقول الشعبي ثم الثالث أيضا وهو يف انتظار جمئ امللك .ويف كل
مرة يصل فيها إىل حافة اليأس كان يرى ويسمع «يا حممد أنت رسول اهلل
وأنا جربيل » كانت هذه الكلامت تلقى يف نفسه شيئ ًا من السكينة إال أن
الوحي احلقيقي كان يطول انتظاره فيغمره احلزن والضيق من جديد .فقال
23 الباب األول :حقائق تاريخية أولية
بعض الناس :مل يكن ذلك إال لوثة من اجلنون .وافرتض آخرون فيام بعد
أن األمر كان يتعلق فعال بمنحة ساموية عظيمة ،إال أن ما أظهره حممد من
ضعف االحتامل جعله يبدو كام لو كان غري جدير هبذا النداء الرباين .فنزلت
آيتان((( ((( لرتدا عنه هذه املخاوف ولكنهام مل متنحاه التعاليم املنتظرة.
ولقد شارف حممد ﷺ عامه الرابع واألربعني .وكان يسهر شطر ًا
ال من الليل انتظار ًا هلذا القول «الثقيل املرتقب » ،بل لقد تعود منذ
طوي ً
مقابلة الوحي األوىل أن ينعزل يف جبل حراء يف نفس الفرتة أي شهر
رمضان .وأخري ًا عندما أتم عزلته ورشع يف نزول اجلبل من اجلانب املطل
عىل مكة سمع صوت ًا يناديه فالتفت يمينه ويساره وخلفه فلم ير شيئ ًا،
فرفع برصه إىل السامء فرأى امللك الذي رآه من قبل عىل جبل حراء ولكن
مفاجأة ظهور امللك والضخامة العظيمة هلذا املخلوق الساموي أذهلته
حتى مل تقو رجاله عىل محله .فارتعد من اخلوف (وقد يكون أيض ًا من
برد شهر يناير) وأرسع عائدا إىل خدجية يطلب منها الرعاية السابقة .إال
أن زائره الكريم حلق به إىل البيت حام ً
ال إليه احلكم الذي يكلفه بمهمته
الثانية ﴿ :ﮬ ﮭ * ﮯ ﮰ ﴾ [املدثر .]2-1 :منذ ذلك الوقت مل يقترص
دور حممد عىل أن يتلقى تعاليم ربه فحسب وإنام عليه أيض ًا أن يبلغها إىل
لقد رأينا كيف أنه من خالل هذين التكليفني كان الوحي منقطع ًا
وبطيئ ًا بل وقليالً ،ولكن ما أن بدأ التكليف بالرسالة ،حتى أصبح
الوحي ينزل عىل الرسول ال أقول بصفة منتظمة ويف فرتات متقاربة وإنام
بنوع من االتصال ومن غري أن ينقطع مثل اإلنقطاع السابق.
((( الهجرة معناها قطع العالقات واالبتعاد عن االختيار ،وإن كانت أسباب ذلك غير اختيارية.
فمن المعلوم أن محمد ًا وهو يبلغ رسالته -اضطر إلى أن يرحل عن وطنه يف اليوم السابق
لمؤامرة كانت هتدف القضاء عليه واستقر به المقام بالمدينة ،حيث وصل يف بداية شهر ربيع
األول (يوم 2أو 8أو 12الختالف المؤرخين) ولقد حدد الفلكي المصري السابق ذكره إعتماد ًا
على وثائق عديدة -يوم الهجرة بيوم األثنين 8من ربيع األول الموافق 20سبتمرب عام 622
بعد الميالد إال أنه يجب أن ال يغيب عن بالنا أن التقويم اإلسالمي بدأ من السنة القمرية التي
تمت فيها الهجرة وليس يوم هجرة الرسول أي أنه بدأ قبل ذلك بشهرين وعدة أيام أي يف
يوم أول محرم الموافق الموافق 15أو 16يوليو عام 622ميالدية ولما كانت السنة القمرية
الكبيسة تساوي 355يوما فقط وأن مجموع 33سنة قمرية يعادل 32سنة شمسية تقريبًا
فيمكن تحويل التاريخ الهجري (هـ) إلى تاريخ ميالدي (م) أو العكس باستخدام إحدى
المعادلتين التاليتين :م= هـ – 622 +هـ ، 32/هـ= م – .32/32 622
25 الباب األول :حقائق تاريخية أولية
الفصل الثاين
كيف مجع نص التنزيل احلكيم
وإذا كان نص القرآن الكريم الذي بني أيدينا اليوم مطابق ًا متام ًا
ملا أماله الرسول ﷺ لكتبة الوحي ،فإن الشكل اخلارجي قد طرأ عليه
تغيري كبري .إذ مل يكن هناك ما يطلق عليه كتاب ًا أو جملد ًا .فقد نزل القرآن
أجزاء متفرقة تتباين أطواهلا من سورة كاملة إىل آية واحدة وأحيان ًا جزء
من اآلية .وكان الرسول ﷺ يتلو كل جزء ينزل عليه ويعلمه للسامعني
ليصل عن طريقهم إىل من مل يسمعه من فم الرسول ﷺ مبارشة .وكان
الناس مجيع ًا ينتظرون الوحي يشغف ويتمنون أن يتلقوه فور نزوله.
غري أن النص املنزل مل يقترص عىل كونه (قرآن ًا) أي جمموعة من اآليات
تتىل وتقرأ وحتفظ يف الصدور ،وإنام كان أيض ًا (كتاب ًا) مدونا باملداد .فهاتان
الصورتان تتضافران وتصحح كل منهام األخرى .وهلذا كان الرسول ﷺ
كلام جاءه الوحي وتاله عىل احلارضين أماله من فوره عىل كتبة الوحي
ليدونوه عىل أي يشء كان يف متناول أيدهيم مثل الورق أو اخلشب أو قطع
اجللد أو صفائح احلجارة أو كرس األكتاف ...الخ .ويذكر العلامء الثقات
أن عدد كتّاب الوحي بلغ تسعة وعرشين كاتب ًا أشهرهم اخللفاء اخلمسة
األوائل .ولكن معاوية وزيد بن ثابت كانا أكثر ارتباط ًا بمهمة الكتابة التي
« مدخل إلى القرآن الكريم :ترجمة وتلخيص » 28
مل تأخذ الطابع الرسمي إال يف املدينة .إال أن املسلمني بمكة مل يتوانوا يف
تسجيل اآليات يف خمطوطات شخصية الستعامهلم اخلاص .ولقد لوحظ
منذ وقت مبكر أن جمموعات اآليات مل تكن لتبقى منعزلة بعضها عن
بعض ،وال أن تتواىل بعضها تلو األخرى حسب نزول الوحي .وقد كانت
جمموعات تتزايد بمعزل عن جمموعات أخرى .وتكون تدرجيي ًا وحدات
مستقلة بعد أن تنضم إليها آيات أخرى نزلت بعدها .وأن آيات كانت
تضاف هنا واألخرى تتداخل مع غريها هناك بحسب أمر الرسول ﷺ
الرصيح الذي كان يتلقاه بدوره من روح القدس .وحتى تتاح الفرصة
لسور القرآن لكي يتم بناؤها تدرجييا كان ينبغي االنتظار إىل أن يكتمل
الوحي كله إلخراج القرآن يف شكل وحدة كاملة.
ومل حيل هذا بني املؤمنني وبني املعرفة الشفوية ملوضع كل آية جديدة
من كل سورة عىل وجه التحديد ،يف كل مرحلة من مراحل نزول الوحي.
وكان يف حياة الرسول ﷺ مئات من الصحابة يطلق عليهم (حفظة
القرآن) ختصصوا يف تالوة القرآن وحفظه عن ظهر قلب ،ويف معرفة
كل سورة يف هيئتها املؤقتة أو النهائية .وكان الرسول يذكر أنه يف شهر
رمضان من كل عام كان يقوم بمراجعة عامة وتالوة اآليات التي نزل هبا
الوحي يف حضور جربيل وأنه يف العام األخري راجع عليه جربيل القرآن
مرتني مما جعل الرسول ﷺ يتنبأ بقرب أجله.
29 الباب األول :حقائق تاريخية أولية
ومل يمض عام واحد بعد أن قبض الرسول ﷺ إال وبدت احلاجة
ملحة جلمع وثائق القرآن يف جمموعة مدونة ،سهلة االستعامل حيث
تتتابع آيات كل سورة ،كام هو ثابت يف حافظة املسلمني .ولقد تقدم عمر
بن اخلطاب بالفكرة إىل اخلليفة األول عقب معركة الياممة التي قتل فيها
مئات من املسلمني منهم «سبعون من حفظة القرآن».
وكان عمر هيدف ليس فقط إىل حفظ املدون من القرآن يف مأمن
من األخطار ،وإنام أيضا إىل إقرار الشكل النهائي هلذا الكتاب املقدس
وتوثيقه عن طريق حفظته الباقني عىل قيد احلياة ،واعتامده من الصحابة
احلافظني .ولقد عهد أبو بكر هبذه املهمة إىل زيد بن ثابت وقال له« :إنك
رجل ذكي ال نتهمك .وكنت تكتب الوحي يف عهد الرسول ﷺ .فقم
بجمع القرآن»(((.
وكان زيد قد حرض بنفسه آخر تالوة للقرآن قام هبا الرسول
ﷺ .ووضعت قاعدة للعمل ،تقىض بأال يؤخذ بأي خمطوط ال يشهد
شخصان عىل أنه مكتوب ليس من الذاكرة ،وإنام بإمالء الرسول ﷺ
ذاته ،وأنه جزء من التنزيل يف صورته النهائية .وبعد مجع القرآن بكل هذه
االحتياطات ،سلمه زيد إىل أيب بكر الذي احتفظ به طوال خالفته ،وعهد
((( بعد أن ْأو َر َد لوبلوا هذه الرواية أردف قائال «:من ذا الذي لم يتمن لو أن أحد ًا من
تالميذ عيسى الذين عاصروه قام بتدوين تعاليمه بعد وفاته مباشرة » .القرآن والتوراة
العربية -ص 47مذكرة .5
« مدخل إلى القرآن الكريم :ترجمة وتلخيص » 30
به قبل موته إىل عمر ،ثم قام عمر بتسليمه إىل ابنته حفصة أم املؤمنني
يف آخر حلظة من حياته .ويتميز أول مصحف رسمي (الذي يمكن أن
نشبهه بملف جيمع صحفا مرتبة وغري جملدة) بكامله املطلق وبمطابقته
املطلقة للنص املنزل.
وبانتهاء هذا العمل بام يتفق متام ًا مع النص األصيل ،أعيد مصحف
ووزعــت عىل األمصار،
حفصة إليها بينام ُجلدت النسخ األخرى ُ
باعتبارها نامذج ال بديل هلا وتبطل كل ما خيالفها من قريب أو بعيد.
اإلسالمي -بام فيه فرقة الشيعة -منذ ثالثة عرش قرن ًا من الزمان .ونذكر
هنا رأي الشيعة اإلمامية (أهم فرق الشيعة) كام ورد بكتاب أيب جعفر
األم « إن اعتقادنا يف مجلة القرآن الذي أوحى به اهلل تعاىل إىل نبيه حممد
ﷺ هو كل ما حتتويه دفتا املصحف املتداول بني الناس ال أكثر .وعدد
السور املتعارف عليه بني املسلمني هو 114سورة .أما عندنا فسورتا
الضحى والرشح تكونان سورة واحدة ،وكذلك سورتا الفيل وقريش،
وأيضا سورتا األنفال والتوبة .أما من ينسب إلينا االعتقاد يف أن القرآن
أكثر من هذا فهو كاذب » ( .وهذا الفرق الشكيل ال يوجد إال نظري ًا؛ ألن
نسخهم ال ختتلف عن نسخ أهل السنة يف يشء)(((.
وبناء عىل ذلك أكد «لوبلوا»« :أن القرآن هو اليوم الكتاب الرباين
الوحيد الذي ليس فيه أي تغيري يذكر».
وكان «و .موير» قد أعلن ذلك قبله إذ قال « :إن املصحف الذي
مجعه عثامن قد تواتر انتقاله من يد ليد حتى وصل إلينا بدون أي حتريف.
((( أما «سورة النورين » الموضوعة والتي نشرها «جارسين دي تاسي » تحت عنوان:
«سورة مجهولة من القرآن» فقد أثبت العالم الجليل -ميرزا اسكندر كاظم -أن السورة
المزعومة اليوجد لها أثر يف مصحف الشيعة ،ولم يرد ذكرها ىف مؤلفاهتم الخاصة
وعلي لم
ّ بمجادالهتم التقليدية .بل إن عنواهنا «النورين» والذي يشير إلى محمد ﷺ
يظهر ألول مرة عند الشيعة إال يف القرن السابع الهجري طبقًا لما جاء عند الطوسي.
وهي التعدو أن تكون تراكمًا ركيكًا من العبارات والكلمات المسروقة من القرآن،
وهذا يتعارض تعارضًا شديد ًا مع أناقة األسلوب القرآين وتناسقه.
33 الباب األول :حقائق تاريخية أولية
ولقد ُحفظ بعناية شديدة بحيث مل يطرأ عليه أي تغيري يذكر .بل نستطيع
القول إنه مل يطرأ عليه أي تغيري عىل اإلطالق يف النسخ التي ال حرص
هلا ،واملتداولة يف البالد اإلسالمية الواسعة ...فلم يوجد إال قرآن واحد
جلميع الفرق اإلسالمية املتنازعة ،وهذا االستعامل اإلمجاعي لنفس
النص املقبول من اجلميع حتى اليوم يعد أكرب حجة ودليل عىل صحة
النص املنزل املوجود معنا ،والذي يرجع إىل اخلليفة املنكوب عثامن الذي
مات مقتوال».
وهذا احلكم الذي يمتاز بنزاهة تارخيية ال مثيل هلا حيتاج إىل تصحيح
ىف نقطتني؛ ألنه أرجع النص القرآين إىل عثامن يف حني أن عثامن مل يقم
إال بنرش املخطوط املجموع يف عهد أيب بكر والذي مل يكن إال التدوين
الكامل حسب ترتيب العرضة األخرية للرسول ﷺ بإمالء الرسول نفسه،
ويتضمن احلكم أيض ًا زيادة بأن أكد بأن النسخ املتداولة ال تتضمن أي
اختالف يف القراءة .ونعلم عكس ذلك .فإن احلروف املتحركة الطويلة
تكتب دائ ًام يف جسم كل كلمة بينام احلروف املتحركة القصرية واملتوسطة
ال تكتب أبد ًا .كام أن جمموعة كبرية من احلروف العربية ال ختتلف عن
بعضها إال ببعض نقط التشكيل مثل الياء والنون والباء والتاء ..ومل تكن
هذه النقط تستخدم يف عهد النبي ﷺ وال يف عهد اخللفاء الراشدين
الثالثة من بعده .ويف الغالب كان النطق ال يتضح إال بإرشاد شفوي .غري
أن السنة توضح لنا أن الرسول ﷺ مل يتبع نطق ًا واحد ًا عند تعليمه القرآن
« مدخل إلى القرآن الكريم :ترجمة وتلخيص » 34
للمسلمني .فلم يكن نادر ًا أن يعطي للكلمة الواحدة (أو أصلها) أكثر من
قراءة ،كلها صحيحة وهلا مدلوهلا مثل «ملك » قد تُقرأ «مالك»أو «ملك»
وكذلك «فتبينوا» يمكن قراءهتا «فتثبتوا » طبق ًا للقراءات املختلفة الواردة
يف السنة .فقد قال الرسول ﷺ« :إن هذا القرآن نزل عىل سبعة أحرف،
فاقرءوا ما تيرس منها» .ويروي البخاري أن عمر ثار عىل هشام بن حكيم
يب بن كعب ُصدم من
بن حزام لقراءته سورة الفرقان ،ويذكر الطربي أن أ ّ
قراءة سورة النحل .وعندما احتكموا إىل الرسول ﷺ أقر القراءتني .وىف
رأينا أن نرش القرآن بعناية عثامن كان هلدفني:
أوهلام :أن إضفاء صفة الرشعية عىل القراءات املختلفة -التي كانت
تدخل يف إطار النص املدون وهلا أصل نبوي جممع عليه -ومحايتها ،فيه
منع لوقوع أي شجار بني املسلمني بشأهنا.
املطابقة احلرفية لكل جزء منه طبق ًا ملا نزل و ُد ِّون بإمالء الرسول ﷺ،
ُل فيام بعد أمامه ومحل تصديقه النهائي قبل وفاته .وهذه املوضوعية ِ
ثم ت َ
املطلقة هي الباقية واخلالدة عىل مدى الدهر تشهد هلم ال عليهم.
وإذا كان إعدام((( املخطوطات الفردية يبدو فيه يشء من القسوة يف
الوقت الذي مل حيدث بالفعل أي حتريف عىل اإلطالق ،فإنه يدل عىل أن
عثامن كان بعيد النظر وعميق ًا يف إدراك حقيقة األمور.
ويرجع فضل متتع املسلمني اليوم بوحدة كتاهبم واستقراره إىل هذا
العمل املجيد من جانب عثامن .وما أضيف إىل املصحف العثامين من
عالمات خارجية ،ووجود بعض احلروف الزائدة أو الكلامت املدغمة
أو الكتابات القديمة التي اقترصت عىل كتابة املصاحف وحدها يف مجيع
نسخ القرآن اليوم املطبوع منها واملخطوط ،يعد شهادة بليغة عىل األمانة
التي انتقل هبا البناء القرآين من جيل إىل جيل حتى وصل إلينا هبذا الكامل
املنقطع النظري ،وأن النص باق كام هو عىل الدوام يتحدى الزمن.
((( الواقع أنه لم يقم هبذا اإلجراء من تلقاء نفسه ومن غير استشارة الناس ،فقد قرر علي
بن أبي طالب يف إحدى خطبه أن هذا اإلجراء لم يتخذ إال باتفاق جميع الصحابة
علي نفسه (ابن أبي داود ص .)22-12الحاضرين ،وأنه لو أن عثمان لم يقم به لقام به ّ
37
الفصل الثالث
كيف تم تبليغ املبدأ القرآين إىل العامل
كل الدنيا تعرف بصفة عامة ما هو املبدأ القرآين الذي نسميه اإلسالم.
وغالب ًا ما تقترص هذه املعرفة عىل السامت اخلارجية .فيقال :إن اإلسالم
هو ذلك اإلصالح الديني واالجتامعي واألخالقي الذي بمجرد أن ظهر
عىل ساحل البحـر األمحر يف بداية القرن السابع امليالدي ،سار بخطوات
منترصة نحو الشامل واجلنوب ونحو الرشق والغرب حتى إنه انترش يف
نصف العامل املعروف يف ذلك احلني يف فرته قصرية نسبي ًا.
ثم جاء اإلسالم فتغري كل يشء بني يوم وليلة .ومل يقترص عىل
الواجهة السياسية واالقتصادية فقط ،وإنام تغلغل يف أعامق هذه الشعوب
النفسية :فاللغات واألفكار والقانون واآلمال والعادات وتصور العامل
وفكرة اهلل .كل ذلك قد طرأ عليه تغيري جذري رسيع.
ومل يقترص هذا التأثري عىل النفوس التي آمنت به ،بل إنه كان ينزع
دائام إىل االنتشار وكسب األتباع اجلدد كلام أتيحت لإلسالم الفرصة
لكي يظهر يف بساطته ونقائه.
39 الباب األول :حقائق تاريخية أولية
ولكن املثل األخاذ يف هذه احلقبة الذي يدل عىل األثر العجيب هلذا
النداء السلمي رضبه لنا سكان يثرب .فمن قبل أن يروا وجه الرسول
الكريم ﷺ ،ومن قبل أن يسمعوا صوته الندي ،وبمجرد أن سمعوا
التنزيل القرآين عىل لسان حجيجهم ،أقبل عرب املدينة عىل اإلسالم،
وتلقوا القرآن بشغف حتى مل تبق أرسة واحدة إال وكان من بني أفرادها
« مدخل إلى القرآن الكريم :ترجمة وتلخيص » 40
وحتى ذلك الوقت كان كل يشء يمر بسالم عىل األقل من جانب
املسلمني ،ومل يكن هناك ما ينبئ عن إمكان االلتجاء إىل القوة .بعد أن
اطمأن الرسول ﷺ عىل مصري أتباعه ووصوهلم إىل بر األمان ،حتى
اعتقد أن املطلوب منه البقاء بمكة واالستمرار يف دعوته ،إال أنه تلقى
األمر اإلهلي باهلجرة يف اللحظة التي بدأ فيها تنفيذ مؤامرة عىل حياته.
وبعد أن نجا من هذا اخلطر بمعجزة ،أمل يكن ينبغي عليه أن يفكر يف
االنتقام من أعدائه؟ كال .وإذا تتبعنا نشاطه بعد اهلجرة نجد أنه كان
يوجهه ألعامل سلمية نبيلة وبناءة :منها تشييد مسجده ،وتنظيم املجتمع
داخلي ًا وسلمي ًا ،وتنفيذ فريضة الصيام ،ووضع نظام اآلذان .وكل يشء
كان يبدو وكأن املسلمني قد أداروا ظهورهم عن مكة هنائيا ،حتى يف قبلة
الصالة ،إىل أن حان منتصف العام الثاين للهجرة ،حيث بدأوا يعرتضون
قوافل قريش متهيد ًا ملنازلتهم..
41 الباب األول :حقائق تاريخية أولية
ال يمكن تفسري هذا التحول إىل نفسية الرسول ﷺ فقد اتفق
املسترشقون عىل أن اإلجراءات احلربية ليست من طبعه .بل إن تساحمه
وعفوه عن املرشكني كثري ًا ما جلب عليه لوم ًا من القرآن.
﴿ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ
ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ﴾ [األنفال]67:
وقــولــه تــعــاىل﴿:ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ
ﭪﭫ ﭬﭭﭮﭯﭰ ﭱﭲﭳﭴﭵ
ﭶ﴾ [التوبة.]113:
كام أن األثر نقل إلينا كثريا من عفوه جتاه جرائم ارتكبت ضد
شخصه أو ضد ذويه(((.
وال يعزى كذلك إىل نفسية الشعب العريب الذى يتميز بالروح احلربية
كطبع أصيل فيه .إذ أن العلامء ال يؤيدون مثل هذا االفرتاض .فقد أثبتوا
((( منها عفوه عن مبعوث قريش الذي جاء بعد بدر الغتياله ،وعن اليهودية التى دست له
السم .واألخرى التي دفعت ابنته زينب ،فأجهضتها .وعفوه عن الذين جاءوا باإلفك،
وعن أهل مكة وقت الفتح (انظر «محمد والقرآن» سان هيلير ص .)130-125
« مدخل إلى القرآن الكريم :ترجمة وتلخيص » 42
أن الدماء تثري الفزع يف نفوس العرب وال سيام أعراب الصحراء .أما
احلرب عندما تفرض عليهم فإهنم يقبلوهنا بدالً من حتمل الذل والعار.
ومع ذلك فإن هذا العون مل يقدمه املسلمون يف املدينة بسهولة عىل
األقل يف صورته احلربية .ويكفي أن نرجع إىل القرآن لكي نرى مدى
الرتدد والرتاجع من جانبهم ..ولكن فريضة التضحية العظمى كان قد
حان وقتها ،وأراد اهلل أن يفصل ىف الرصاع القائم بني احلق والباطل.
فبقدر ما ظلت االضطهادات ذات طابع فردي وخاص ،التزم املسلمون
مدة إقامتهم بمكة ،باالمتناع عن أي رد فعل عنيف ،وحتملوا جراحهم
ببسالة .أما وقد اصطبغت كراهية املرشكني بصبغة العمومية وحتولت
43 الباب األول :حقائق تاريخية أولية
إىل حرب ضارية ،فقد أذن للمسلمني -بعد عرش سنوات من الصرب
اجلميل -أن هيبوا للدفاع اجلامعي((( عن كياهنم وللذود عن إخواهنم
الذين ال سند هلم .وال شك أن احلكم املوضوعي يقر بأنه ال لوم عىل مثل
هذا املوقف الدفاعي البحت املتفاين يف السمو .تلك هي الظروف التي
انطلقت فيها رشارة احلرب املسلحة األوىل.
((( كان صدور األمر العام بالقتال يف ظروف غير مواتية ،بحيث اليمكننا أن نوافق الدكتور
سنكلير بأن القانون القرآين كان يتعدل حسب انتصارات محمد (ص .)279كما قلب
معنى اآلية [البقرة )217 :التي تدين العدوان يف األشهر الحرم (ص )276واعترب
وسائل قمع اإلرهابيين (المائدة )33 :صورة جديدة للحرب تعد مرحلة ثالثة يف هذا
التطور (ص .)277
« مدخل إلى القرآن الكريم :ترجمة وتلخيص » 44
عمران . ]13:
ولكن السؤال يرتكز أساسا فيام إذا كان الترشيع القرآين قد تطور فيام
فوسع حق الدفاع عن النفس بحيث شمل كل عدوان.
بعدّ ،
يبدو أن معلومات العامل الغريب غري وافية يف هذه النقطة ،إذ يسود
االعتقاد أنه حيق للشعوب اإلسالمية -بل وحتى طبقا لكتاهبم املقدس
-أن يستخدموا السالح سواء لفرض دينهم عىل الناس أو للقضاء عىل
كل من ال يعتنقه ،ويطلقون عىل ذلك «احلرب املقدسة » وهي عبارة
جيعلوهنا تتوافق مع كلمة «جهاد » يف حني أن هذا التعبري الذي يقصد به
45 الباب األول :حقائق تاريخية أولية
«بذل اجلهد » ليست له أية عالقة بالناحية العسكرية ،ألنه ورد يف السور
املكية إما لبذل اجلهد ىف الوعظ والدعوة واجلدل باحلسنى ﴿ َفال تُطِ ِع
اهدْ ُهم بِ ِه ِج َها ًدا كَبِ ًريا﴾ [الفرقان ، ]52:وإما لبذل اجلهد
ا ْلكَافِ ِرين وج ِ
َ َ َ
الشخىص ذي الطابع األخالقي البحت ﴿ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ
ﮤ ﴾ [العنكبوت :آخر آية] .أما ما يعرب عن احلرب احلقيقية فهي كلمة
«قتال ».
فال جتد يف أي مكان إذنا بالبدء بالقتال .وإنام األمر هنا حمدد بموقف
اخلصم العدواين واألكثر من ذلك أنه حتى بالنسبة للمرشكني الذين ال
يرتبطون مع املسلمني بعهود ومواثيق ويطلبون محايتهم ،نجد القرآن
يطالب الرسول ﷺ بأن يبلغهم مقصدهم يف أمان فيقول تعاىل ﴿ :ﯦ
ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ﴾
47 الباب األول :حقائق تاريخية أولية
[التوبة .]6:فكل مسئوليات احلرب إذن تقع عىل عاتق البادئ هبا .وعندما
يقول القرآن ﴿ :ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﴾ [البقرة ،]190:إنام
يقصد بذلك الذين يقاتلون قتاالً فعلي ُا وحيملون السالح .وقد أوضحت
السنة هذا الرشط بعناية فائقة وأبعدت عنه أى لبس :فالنساء واألوالد
والشيوخ والعميان والعجزة واملجانني واملزارعون يف حقوهلم واملتعبدون
يف صوامعهم((( ،ال يتعرضون لألعامل احلربية أي ألي عمل يؤدي إىل
التدمري بوجه العام مثل الفيضان واحلريق ...وعند تطبيق احلكم القرآين
بالعفو عن الذين يوقفون القتال ،أوىص النبي ﷺ بتحريم مالحقة العدو
اهلارب من ساحة القتال.
إذن لقد وضح اهلدف من هذا الترشيع ..أال وهو «إبعاد اخلطر ».
فاإلسالم يدين روح التدمري وروح السيطرة يف قوله تعاىل﴿ :ﯧ ﯨ
ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ﴾
[القصص ،]83:وال يريد فرض «أيديولوجية عاملية» ﴿ ،ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ
ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ﴾
[يونس ،]99:فاخلالف سيظل قائام بني الناس ﴿ ،ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ
ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ﴾ [هود]118 :
((( إذا كان يقصد بالحرب محاربة الدين ،ألم يكن من األولى أن يكون هدفها هم رجال
الدين أنفسهم.
« مدخل إلى القرآن الكريم :ترجمة وتلخيص » 48
﴿ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ
ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ
ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ
ﮖ﴾ [البقرة.]217:
﴿ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ
ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ
ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ﴾ [البقرة.]272 :
﴿ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ
ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﴾ [املائدة.]105 :
فاملبدأ القرآين هو مبدأ التسامح .وقد تكون هذه التسمية أقل من
احلقيقة يف بعض النواحي ،إذ نالحظ:
وأما إذا صوب الكفر رضباته إىل العقيدة ليخمد نورها ،فهل من
املعقول أن يقف الدين مكتوف األيدي أمام ما يفنيه فناء تام ًا؟ لقد عاش
املسلمون التجربتني يف وقت مبكر وفطنوا إىل أنه ال يوجد ما يعادل تبادل
األفكار يف حرية وسالم .حتى قيل :إن عدد الذين اعتنقوا اإلسالم -
أثناء صلح احلديبية -حيث كانت حدود املعسكرين مفتوحة .بلغ ما
« مدخل إلى القرآن الكريم :ترجمة وتلخيص » 50
يزيد عىل عددهم يف السنوات السابقة جمتمعة .وعىل أي حال ،عىل كل
من يدعي أنه اكتشف غرض ًا آخر لنظام القتال يف الترشيع اإلسالمي
أن يذكر لنا الرقم التقريبي لألتباع الذين دخلوا اإلسالم بفضل هذه
اإلجراءات القاسية.
إن كل بنيان مزيف إذا عاش برهة من الزمان بفضل القوة التي
تسانده ،ال بد وأن ينهار حني ختتفي من حوله العنارص الغريبة عليه
والتي ساعدت عىل بقائه .فامذا نرى اليوم بعد أربعة عرش قرن ًا ،وبعد
توقف التوسعات اإلسالمية؟ فإن البناء االجتامعي الذي تعرض طوال
التاريخ املديد لعنارص التدمري الداخلية واخلارجية فض ً
ال عن البناء
الديني واألخالقي ال يزال قائ ًام وثابت ًا يف صالبة بحيث قيل بحق «إنه
مل حيدث منذ بداية اهلجرة أن مسلام قد حتول عن دينه إىل دين آخر »(((.
أليس مما يناقض القوانني النفسية أن ينسب هذا التمسك إىل نوع من
االستسالم الوراثي يرجع أصله إىل إكراه وقع عىل آباء املسلمني األولني
وأهنم حيتفظون بذكراه منقوشة يف أعامق أذهاهنم؟ ..ال جدال يف أنه
يتحتم علينا أن نسلم بوجود بعض الصفات الذاتية التي مكنت لإلسالم
من هذا االنتشار ومن هذا الثبات رغم البعد التارخيي ملولده.
((( «خطاب افتتاحي» ،مرتجم إلى اللغة الفرنسية ومؤلفه «بورتر» ىف مقدمة «القرآن»
تأليف «دي راير» .
53
الباب الثانى
القرآن من خالل مظاهره الثالثة:
الدينى واألخالقى واألدبى
55
متهيد
إذا كان القرآن قد أثر دائ ًام عىل عقول جد خمتلفة ،فال بد أن تكون له
جاذبية خاصة.
الفصل األول
احلق أو العنرص الدينى
إن أهم مالمح القوة اجلارفة التي تتميز هبا الدعوة اإلسالمية
تكمن -يف رأينا -يف الطريقة التي قدمت هبا احلقيقة الدينية هبدف
وضع هناية للخالفات املثارة حوهلا.
ولقد ركز القرآن عىل فكرة أن رسل اهلل مجيع ًا يعزز بعضهم
بعضا ،ويتضامنون يف تبليغ حقيقة واحدة ،وأن األنبياء أمة واحدة
حتت لواء اهلل الواحد .وأن هذه الوحدة كانت جتمع سائر الناس فيام
مىض ،وإنام األجيال الالحقة هي التي بذرت اخلالف والفرقة.
القرآن إذن يدعو إىل العودة إىل الوحدة الدينية األصلية التي
يستجيب هلا ويعتز هبا ذوو النفوس السامية ،وتتفتح هلا قلوهبم املتلهفة.
وال شك أن هذه خطوة أوىل رضورية ثم تأيت بعد ذلك أمهية النظام
واملنهج يف اإلسالم.
ولكن كيف يمكن أن نفرس أن قضية خطرية كهذه تستند إىل املنطق
ورسوخ األصل وتتجدد عىل الدوام بتعاليم الرسل اإلجيابية -يمكن
أن ختتفي هبذه السهولة من األذهان لتحتل مكاهنا أفكار مناقضة هلا؟
« مدخل إلى القرآن الكريم :ترجمة وتلخيص » 60
وال أحد سوى اهلل يستطيع أن يغري نظام الطبيعة وال اإلبقاء عليه.
والقوانني األزلية التي ال نستطيع بتدخلنا أن نعدل منها شيئا ،فإن ثباهتا
61 الباب الثاين :القرآن من خالل مظاهره الثالثة :الدينى واألخالقى واألدبى
بالنسبة للخالق -شأن كل قوانني السببية -متوقف عىل كلمة واحدة من
إرادة اهلل سبحانه.
فلو شاء جلعل ماء املطر ِملح َا ُأجاج ًا .وألسقط السامء فوق األرض،
وألذهب اجلنس البرشي كله ،وجلاء إىل األرض بمخلوقات أخرى
مكانه ،فلله القوة مجيع ًا .إذ أن األسباب القريبة والبعيدة ،ومقاليد األمور
كلها بيد هذا اخلالق العظيم وإليه مصريها ومنتهاها.
بسامع هذا احلديث الكريم قد نميل إىل االعتقاد يف أن هناك قدر ًا
حمتوم ًا ال جيدي معه أي تدخل برشي ،وإنام هي سلبية كاملة مفروضة
عىل العامل ..حيث ختتفي متام ًا أية رابطة سببية بني األشياء.
يف كل الظروف غري العادية التي تصاحب ظهور الرسل واألنبياء لتبليغ
ال برشي ًا.
رسالتهم وتأمني نجاحها -ال يرى القرآن يف ذلك كله عم ً
إذ بقدرة اهلل تتم هذه املعجزة أو تلك ،عىل أيدي هؤالء الرسل أو عىل
لساهنم ..ففي رسالة اإلسالم يف أول األمر كانت تالوة بعض اآليات
القرآنية حتول الكفار املعاندين من املوت الوجداين إىل احلياة الروحية.
إنام هذه األعامل تتم بإذن اهلل وإرادته .وكذلك املعجزات التى متت
عىل أيدى الرسل واألنبياء ومنهم حممد ﷺ ..فال فضل فيها لفرط ذكاء
الرسول وال لسعة علمه ،إنام الفضل أوالً وأخري ًا لتدخل كريم ورحيم
من جانب اهلل تعاىل ،املصدر احلقيقي لكل خلق ولكل علم ولكل خري.
وهكذا بفكرة كامل اهلل املطلق وصفاته املطلقة ،أسس القرآن الشطر
األول من احلقيقة الدينية العامة .وتتلخص يف أنه ال يشء يف هذا الوجود
يستحق العبادة واخلضوع سوى اهلل الواحد القهار.
«اهلامة » التي كانت سائدة عند العرب عىل أهنا ظل الروح التي كانت
حتوم لي ً
ال فوق قرب القتيل قائلة «اسقوين » .فإذا اقتُص من القاتل امتنعت
عن الظهور .ولقد نفت السنة هذا االعتقاد اجلاهىل «ال هامة » وحكمت
ببطالنه .وأما النقطة الثانية فقد ركز عليها املرشكون معارضتهم
وسخريتهم.
ساق الرباهني واألدلة القادرة عىل إقناع أصعب العقول وعىل حتريك
أقسى القلوب ،وليس فقط ألنه قدم نظراته الواسعة والثاقبة عن الكون
الساموي واألريض واستخلص مواعظ ودروسـ ًا من كل مظهر من
مظاهر اخللق الداخلية والظاهرية ،وإنام بدت مادة الدين ذاهتا املتعلقة
باختصاصات اهلل تعاىل ومآل الروح فض ً
ال عن معنى األلوهية الذى
أصبح يمتاز بصفاء ونقاء وقدسية خاصة تبعد به عن أي جتسيم فظ وله
قوة جارفة ّ
أخاذة حتلق باإلنسان إىل عامل الروح السامي -بدا كل هذا
وكأنه قد اكتسب روح ًا جديدة مل تكن معهودة من قبل.
65
الفصل الثاين
اخلري أو العنرص األخالقي يف القرآن
ولكن النفس اإلنسانية بجانب حاجتها إىل املعرفة واالعتقاد ،حتتاج
يف إحلاح إىل القاعدة العملية القادرة عىل توجيه نشاط اإلنسان سواء يف
ترصفاته مع نفسه أو يف عالقاته مع غريه أو مع خالقه .ولقد قدم القرآن
هذا النظام بأوىف وأدق طريقة ممكنة ،وخط يف هذه املجاالت خط ًا
واضح ًا يسلكه اإلنسان يف أمان واطمئنان .وبلغت أمهية اجلانب العميل
يف القرآن ،أن يتكرر ذكره كثري ًا وبرصاحة كرشط ال غنى عنه للفالح
يف الدنيا والسعادة اخلالدة يف اآلخرة .وسوف نوضح بعض اجلوانب
التى أثرت هبا الدعوة القرآنية عىل الناس بفضل مادهتا وحمتواها النفيس،
وبفضل أسلوهبا يف عرض احلقائق.
لقد غرس اهلل داخل كل منا بصرية أخالقية غريزية ،جتعلنا نقدر
ونحب الفضيلة يف ذاهتا ويف غرينا -حتى وإن عجزنا عن االرتفاع إىل
مستواها .كام جتعلنا ننفر من مشهد أي سلوك هابط ..إننا نكره يف أنفسنا
عيوبنا الذاتية ،ونلتمس ألنفسنا املعاذير لتربئة أنفسنا منها؛ ألننا ال نقبل
أن نوصم بأية رذيلة.
فعىل هذا الشعور العام القادر عىل التمييز بني العدل والظلم وبني
اخلري والرش ،يستند القرآن يف أغلب األحيان ليؤسس نظامه األخالقي،
« مدخل إلى القرآن الكريم :ترجمة وتلخيص » 66
ونظر ًا ألن هذه احلاسة الفطرية ليست دائ ًام بنفس القوة والفاعلية
عند كل الناس لكي تلزمهم باخلضوع لقاعدة السلوك ،فقد اقتىض األمر
وضع منهج كامل يف الرتبية يستند إىل الذكاء والعقل بجانب احلاسة
اخللقية حتى إذا غابت هذه احلاسة تبقى فكرة الواجب العام .وأفضل
طريقة إليقاظ هذه الفكرة وجلعلها تسمو بمشاعرنا ،هي أن نستعني
بتأييد ذوي االختصاص هلا من احلكامء واألنبياء يف كل زمان .فليس
بمحض الصدفة أن حممد ًا ﷺ يدعو إىل ما سبق أن دعا إليه الرسل
السابقون ﴿ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ
ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ﴾ [النساء ،]26:ويقول القرآن للرسول
بعد أن عدد من سبقه من الرسل ﴿ أﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ
ﯲ﴾[األنعام ،]90:والواقع أننا ال نجد مبدأ أخالقي ًا ينقله لنا القرآن
((( انظر على سبيل المثال كتابنا «دستور األخالق يف القرآن » الفصل الثالث – الفقرة
الثالثة.
67 الباب الثاين :القرآن من خالل مظاهره الثالثة :الدينى واألخالقى واألدبى
عىل أنه كان ضمن تعاليم هذا الرسول أو ذاك احلكيم ،إال وأورده القرآن
يف موضع آخر كواجب تلتزم به مجاعة املسلمني.
وسنوضح فيام ييل القانون األخالقي كام جاء به موسى وجاء به
عيسى عليهام السالم ،كام ورد ذكره بالتوراة وباإلنجيل ،وسنجده
حمفوظ ًا بعناية فائقة يف آيات القرآن ولكن -ال عىل شكل كتلة واحدة
-كام ورد بالوصايا العرش وبميقات اجلبل -وإنام كآيات متفرقة يف عدد
من السور املكية واملدنية .ويف أغلب األحيان عىل شكل آيات نزلت يف
مناسبة معينة بذاهتا.
-1ال يكن لك آهلة أخرى أمامى. ﴿ َو َق َض َر ُّب َك َأالَّ َت ْع ُبدُ و ْا إِالَّ إِ َّيا ُه﴾ [اإلرساء]23 :
-9ال تشبه بيتقريبك..وال شىء مما ﴿والَ َتت ََمن َّْوا َما َف َّض َل اللَُّ بِ ِه َب ْع َضك ُْم ع ََل َب ْع ٍ
ض﴾ َ
لقريبك. [النساء)32:
ولكن حماولة قرص دعوة موسى عىل هذه الواجبات األولية بعد
إقالالً من شأهنا ،ألننا إذا واصلنا بحثنا سنقابل يف أماكن متفرقة منها
(اخلروج ،23- 22الالويون ،25- 19التثنية )6أحكاما أخرى تتعلق بعمل
القلب وعمل اجلوارح ،ومتهد بذلك ألحكام اإلنجيل:
69 الباب الثاين :القرآن من خالل مظاهره الثالثة :الدينى واألخالقى واألدبى
﴿و َل ِكن كُونُو ْا َر َّبانِ ِّينيَ ﴾ [آل عمران﴿ ،)79 :فِ ِيه ِر َج ٌال َ
تكونون قديسني (الوبني )1:19 ِ ُِ
ِ
ب ا ُْل َّط ِّهري َن﴾ [التوبة]108 : َ
ون أن َي َت َط َّه ُرو ْا َواللَُّ ُي ُّ
ي ُّب َ
ٍ ِ ٍ ﴿و َس ِ
-طوبى للودعاء ألهنم يرثون ات ارعُو ْا إىل َمغْف َرة ِّمن َّر ِّبك ُْم َو َجنَّة ع َْر ُض َها َّ
الس َم َو ُ َ
األرض( .متى )5:5 َواألَ ْر ُض ُأ ِعدَّ ْت لِ ْل ُمت َِّقنيَ ﴾ [آل عمران]133 :
َات َّأن ن َّْج َع َل ُه ْم كَا َّل ِذي َن﴿ َأم ح ِسب ا َّل ِذين اج َتحوا السيئ ِ
َّ ِّ َ ْ َ ُ ْ َ َ
ِ ِ ِ
ات ْم َساء َما اهم َو َم َ ُ ُ الات َس َواء َّم ْ َي ُ آ َمنُوا َوعَم ُلوا َّ
الص َ
-طوبى للجياع والعطاش إىل
ون﴾ [اجلاثية.]21: يك ُُم َ َْ
الرب ألهنم يشبعون (متى ) 6 :5 ِ ِ ِ
﴿ا َّلذي َن َأ ْج َر ُموا كَانُو ْا م َن ا َّلذي َن آ َمنُوا َي ْض َحك َ
ُونَ ...فا ْل َي ْو َم
ُون﴾ [املطففني]34 - 29 : ار َي ْض َحك َ ا َّل ِذي َن آ َمنُو ْا ِم َن ا ْل ُك َّف ِ
-طوبى لألنقياء القلب (متى ب َس ِلي ٍم﴾ [الشعراءَ ﴿ ،)89 :م ْن ﴿إِالَّ َم ْن َأتَى اللََّ بِ َق ْل ٍ
.)8 :5 يب﴾ [ق]33 :ب ُّمنِ ٍ
ب َو َجا َء بِ َق ْل ٍ الر ْحَن بِا ْل َغ ْي ِ
ش َّ
ِ
َخ َ
-طوبى لصانعي السالم (متى ﴿الَّ َخ ْ َي ِف كَثِ ٍري ِّمن ن َّْج َو ُاه ْم إِالَّ َم ْن َأ َم َر بِ َصدَ َق ٍة َأ ْو
)9:5 َّاس﴾ [النساء]114 : ي الن ِ الح َب ْ َ معر ٍ
وف َأ ْو إِ ْص ٍ َ ُْ
« مدخل إلى القرآن الكريم :ترجمة وتلخيص » 72
ولقد قال عيسى احلق كل احلق عندما أكد أنه مل يأت ليلغي
وينسخ وإنام ليتم ويكمل.
أى أنه كان يوايل من بعدهم مهمة التطهري األخالقي التي بدأها
املرسلون من قبله والتي كانت تتيح جماال للتقدم والرقي.
اإلنجيـل القرآن الكريم
-ليس فحسب (ال تقتل) وإنام ال تغضب ﴿وا ْلكَاظِ ِمنيَ ا ْل َغ ْي َظ﴾ [آل عمران،)134:
َ
من أخيك وتقول له (رقا) أو (يا أمحق). ِ ِ
﴿وإِ َذا َما غَض ُبوا ُه ْم َيغْف ُر َ
ون﴾ [الشورى: َ
(متى )22- 21:5 )37
73 الباب الثاين :القرآن من خالل مظاهره الثالثة :الدينى واألخالقى واألدبى
-لقد سمعتم أنه قيل للقدماء ال تزن وأما أنا ي َف ُظوا ﴿ ُقل ِّل ْلمؤْ ِمنِنيَ يغ ُُّضوا ِمن َأبص ِ ِ
اره ْم َو َ ْ ْ ْ َ َ ُ
ِ ِ ِ
...و ُقل ِّل ْل ُمؤْ منَات َيغ ُْض ْض َن م ْن
فأقول لكم إن كل من ينظر إىل امرأة ليشتهيها وج ُه ْم َ ُف ُر َ
َأبص ِ ِ
فقد زنى هبا يف قلبه( .متى.)29 - 27 :5 وج ُه َّن﴾ [النور30: ي َف ْظ َن ُف ُر َ
اره َّن َو َ ْ ْ َ
)31-
-قد سمعتم ...ال حتنث .وأما أنا فأقول لكم ﴿والَ َ ْت َع ُلو ْا اللََّ ع ُْر َض ًة ِّلَ ْي َمنِك ُْم﴾ [البقرة:
َ
ال حتلفوا البتة (متى .)34- 33 :5 )224
ِ ِ
-سمعتم أنه قيل حتب قريبك وتبغض ﴿ها َأنت ُْم ُأوالء ُت ُّب َ
ونُ ْم َوالَ ُي ُّبو َنك ُْم﴾ [آل َ
عدوك .أما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم عمران)119 :
(متى )44 - 43 :5
الس ِّي َئ َة﴾ [الرعد،)22 : ون بِ ْ ِ
-أحسنوا إىل مبغضيكم (متى .)44 :5 ﴿و َيدْ َرؤُ َ َ
ال َسنَة َّ َ
َ ِ ِ ِ
﴿ا ْد َف ْع با َّلتي ه َي أ ْح َس ُن﴾ [فصلت)34 :
-وصلوا ألجــل الذين يسيئون إليكم يص َع َل ْيكُم بِا ُْلؤْ ِمنِنيَ ِ ِ
﴿ع َِزيزٌ َع َل ْيه َما عَنت ُّْم َح ِر ٌ
ويطردونكم( .متى )44 :5 يم﴾ [التوبة)128: رؤُ ٌ ِ
وف َّرح ٌ َ
ال ِ
-إن سلمتم عىل إخوانكم فقط فأي فضل ون َقا ُلوا َسال ًما﴾ اه ُل َ ﴿وإِ َذا َخا َط َب ُه ُم ْ َ
َ
ِ ِ
تصنعون( .متى)47 :5 [الفرقان﴿ ،)63 :ال َين َْهاك ُُم اللَُّ عَن ا َّلذي َن َل ْ
ين َو َل ُي ِْر ُجوكُم ِّمن ِد َي ِ
ارك ُْم ُي َقاتِ ُلوك ُْم ِف الدِّ ِ
ْ
وه ْم َو ُت ْق ِس ُطوا إِ َل ْي ِه ْم﴾ [املمتحنة)8 : َأن ت َ ُّ
َب ُ
« مدخل إلى القرآن الكريم :ترجمة وتلخيص » 74
-بل اكنزوا لكم كنوزا يف السامء( .متى - 6 اآلخـ َـر ِة ن َِز ْد َل ُه ِف
ِ ثَان ُي ِريدُ َح ْر َ
﴿ َمن ك َ
) 20 َح ْرثِ ِه﴾ [الشورى)20 :
ال رجــ ً ِ ِ
-ال يقدر أحد أن خيدم سيدين( .متى - 6 شكَــا ُءا فيه ُ َ ﴿ض َب اللَُّ َم َث ً َّ ُ َ َ
ال س َلم ِّلرج ٍل َه ْل يست َِويانِ ِ
ُمت ََشاك ُس َ
)24 َْ َ ون َو َر ُج ً َ ً َ ُ
َم َثالً﴾ [الزمر)29 :
-ال هتتموا حلياتكم ...انظروا إىل طيور ﴿وك ََأ ِّين ِمن َدا َّب ٍة ال َت ِْم ُل ِرزْ َق َها اللَُّ َي ْرزُ ُق َها
َ
السامء ...وأبوكم الساموي يقوهتا( .متى :6 َوإِ َّياك ُْم﴾ [العنكبوت)60 :
)26-25
-ال تدينوا ...وملاذا تنظر إىل القذى الذي يف ﴿ال َي ْس َخ ْر َق ْو ٌم ِّمن َق ْو ٍم ع ََسى َأن َيكُونُوا َخ ْ ًيا
عني أخيك .وأما اخلشية التي يف عينك فال ِّمن ُْه ْم َوال نِ َساء ِّمن ن َِّساء ع ََسى َأن َي ُك َّن َخ ْ ًيا
تفطن هلا (متى )3-1 :7 ِّمن ُْه َّن﴾ [احلجرات)11:
75 الباب الثاين :القرآن من خالل مظاهره الثالثة :الدينى واألخالقى واألدبى
ِ ِ
-اسألوا تعطوا (متى )7 :7 يب ُأ ِج ُ
يب ﴿وإِ َذا َس َأ َل َك ع َبادي َعنِّي َفإِ ِّن َق ِر ٌ
َ
ِ
ـو َة الدَّ ا ِع إِ َذا َد َعــان﴾ [البقرة،)186 : َد ْعـ َ
ُــون َأست ِ
ب َلك ُْم﴾
َج ْ ــال َر ُّبك ُُم ا ْدع ِ ْ
﴿و َق َ
َ
(غافر)60:
-فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا ون َو َل ْستُم يث ِمنْه ت ِ
ُنف ُق َ الَبِ َ
﴿والَ َت َي َّم ُمو ْا ْ
ُ َ
هكذا أنتم أيضا هبم (متى )12 :7 ِ ِ
آخذيه إِالَّ َأن ُتغْم ُضو ْا فيه﴾ [البقرة،)267 : ِ ِ بِ ِ
***
ففي الطالق نجد «حرية بال قيد » منحتها التوراة للزوج يف أن يطلق
زوجته إذا رأى فيها ما يثري «اخلجل » ،أو عندما يشعر نحوها «بالكراهية
» ،بينام اإلنجيل كأنه يعارض الطالق إال يف حالة اخليانة .أما يف القصاص،
فمقابل اإلرصار عىل املطالبة بدم القاتل والرد عىل كل سيئة بمثلها يف
التوراة ،علم عيسى واجب عدم مقاومة الرشير والعفو عنه.
فإذا نظرنا إىل حرفية هذه املبادئ يتبني لنا أن املسيحية كأهنا ألغت
قوانني سابقة ،وإذا أمعنا النظر أكثر ،سنرى وجهني أو درجتني من
قانون خالد واحد ،أحدمها العدل والثاين املحبة .فالعدل يلزم من يرغب
يف استخدام حقه أال يتعدى حدودا إنسانية معينة .وأما من يرغب يف
التنازل عن حقه بدافع من الكرم واألرحيية فال غبار عليه.
ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ.ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ
ﯳ﴾ [النحل ]127: 126 :هذا ما يتعلق بالقصاص والعفو.
أما فيام خيتص بالطالق فينبغي أن نتصفح القرآن الكريم لكي يتبني
لنا احلواجز التي جيب اجتيازها قبل التفكري يف إيقاعه ﴿ ،ﯢ
ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ
ﯯ﴾[النساء﴿،]19:ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ
ﮅﮆﮇﮈﮉ ﮊﮋ ﮌﮍﮎﮏﮐ ﮑﮒ ﮓ
ﮔ ﴾ [النساء ﴿ ،]35:ﭜﭝﭞﭟ ﴾ [النساء]128:واملحاوالت
التي جيب بذهلا للتوفيق﴿ ،ﭸﭹ ﭺﭻﭼﭽﭾ
ﭿﮀﮁﮂﮃﮄ ﮅﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊﮋﮌ ﮍﮎﮏ
ﮐﮑ ﮒﮓﮔ ﮕﮖﮗﮘﮙﮚ ﮛﮜﮝ ﮞﮟ
ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ*ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ
ﮰﮱﯓ ﯔﯕ ﯖﯗﯘ ﯙﯚﯛﯜﯝ ﯞﯟﯠ
ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱﯲ
ﯳﯴ ﯵﯶﯷ ﯸﯹ﴾ [البقرة .]230-228
﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ
ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ
ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ
« مدخل إلى القرآن الكريم :ترجمة وتلخيص » 78
ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ * ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ
ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ
ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ
ﮟ﴾ [الطالق ، ]2- 1:ومن يرجع عن قراره جيلب له عمله املغفرة،
﴿ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ﴾
[البقرة ، ]226:باعتبار الطالق « أبغض احلالل إىل اهلل » .فالطالق ليس
عمال مباحا بغري حدود أو ُيؤ َدى بغري اكرتاث.
ولكن القرآن ال يقف عند هذا احلد ،إذ أن له رسالة أخرى أال وهي
إمتام وإهناء الرصح اإلهلي الذي بناه الرسل واألنبياء عىل مر العصور.
يقول الرسول ﷺ « إنام بعثت ألمتم صالح األخالق » و « مثيل ومثل
79 الباب الثاين :القرآن من خالل مظاهره الثالثة :الدينى واألخالقى واألدبى
(الويني 43 :25 )3عدم استعباد أخيه (الويني )39 :25عدم التسلط عليه
)45-إىل جانب االلتحام االجتامعي والشعور باملسئولية اجلامعية(.تثنية
«ألنه إذا أحببتم الذين حيبونكم فأي أجر لكم ...،وإن سلمتم عىل
إخوتكم فقط فأي فضل تصنعون ﴾ [متى )47- 46 :5غري أن الفضيلة
االجتامعية املسيحية كام تقدمها األناجيل تتعلق بالعالقات بني األفراد
أكثر من داللتها عىل الروح اجلامعية بصفة أساسية .ولكن املحبة املسيحية
بامتدادها خارج احلدود اإلقليمية وبرغبتها يف احتواء اإلنسانية كلها ،قد
أحسنت صنع ًا بإبطال الطابع العنرصي واستبداله بأخوة عاملية.
ولكن القرآن الكريم هو الذي أبرم هذا اجلمع بني الفضيلة العامة
األخوة يف اهلل توجد ُ
األخوة يف والفضيلة اجلامعية ،إذ يقرر أنه خارج ُ
آدم﴿ ،ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ *
ﯨﯩﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﯷ
ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄﰅ ﰆ ﰇ
ﰈ ﰉ ﰊﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﴾ [احلجرات]11-10:وأن
تسود املحبة واإلحسان مع اختالف املشاعر الدينية﴿ ،ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ
ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ
﴾ [املمتحنة]8 : ﮍﮎ
﴿ ﭒﭓ ﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ ﭛﭜﭝ
ﭞﭟﭠﭡﭢ ﭣﭤﭥﭦﭧ
ﭨﭩﭪ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰ
ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ
ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ﴾
﴾ [البلد.]31: [البقرة ﴿،]177:ﮬ ﮭ
أكثر فأكثر عندما تتسع لتشمل جماالت احلياة املختلفة .ولكن هل معنى
ذلك أن اجلامعة اإلسالمية ترتاخى يف روابطها الداخلية لتضيع يف حميط
البرشية الواسع؟ عىل العكس إذ هناك مبدآن يؤكدان دورها كجامعة
متميزة ومتامسكة.
﴿ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﰁ ﰂ
ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ
ﰒ﴾ [النساء. ]59 :
﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚﭛ ﭜ
ﭝ ﭞ ﭟ﴾ [األنفال]46 :
والثانى :هو التزام مجيع املسلمني بأال يرتكوا املنكر يسود يف
جمتمعهم﴿ :ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ
ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ﴾ [األنفال ،]25:ورضورة أن يتواصوا باحلق
والفضيلة﴿ ،ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ
﴿ ،]3ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ [العرص: ﭟ ﭠ﴾
« مدخل إلى القرآن الكريم :ترجمة وتلخيص » 84
ومع ذلك بدا لبعض املسترشقني أن يصوروا املسلم عىل أنه ذو نزعة
«فردية ال تقاوم » مل يعرف معنى «رباط التضامن » يف يوم من األيام ،حتى
إهنم يرون األعامل اجلامعية مثل صالة اجلامعة ،ووقفة عرفات ،وصالة العيد،
أعامالً فردية تؤدى يف وقت واحد دون أن يكون هلا طابع االحتفاالت املوجهة
أو املنظمة .وهذا القول ال أساس له من الصحة بدليل ما سبق توضيحه...
وأما يف الصالة فنرى املؤمنني مصطفني ،كل منهم يدعو للجميع ﴿ﭢﭣ
ﭤ ﭥ * ﭧ ﭨ ﭩ﴾[الفاحتة » ]5،6 :وجلميع عباد اهلل
الصاحلني .فالصالة والزكاة واجبان توءمان ينهضان كدليل بليغ عىل روح
التضامن يف اإلسالم.
خمتلفة ،تارة مساملة وتارة معادية ،خالل عرش سنوات ،بصفته سياسي ًا
وقائد ًا إىل جانب صفة املرشد الروحي واألخالقي .ومن هذه املبادئ أن
احلرب الرشعية ال تقوم إال من أجل دفع العدوان ﴿ ،ﯯ ﯰ ﯱ
ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ﴾ [البقرة ،]190وجيب أن تتوقف بمجرد
انتهائه ﴿ ،ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﴾ [األنفال.]61:
ولو بدأ العدو يف نقض اتفاقه فال جيوز مهامجته عىل غرة ،وإنام جيب
أوال إعالنه بإلغاء عهده معنا بطريقة واضحة﴿ ،ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ
ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﴾ [األنفال.]58 :
السنَّة.
هذا بخالف القواعد التي حددهتا ُّ
87
الفصل الثـالث
اجلامل واجلانب األدبى
توجد يف أعامق النفس اإلنسانية -كام قلنا -بصرية داخلية متيز
بني احلق والباطل ،واخلري والرش ،مهام اختلفت صورمها برشط أن يرى
اإلنسان بجالء وبذهن صاف .فالعقول الثاقبة والنفوس املهيأة ،الحتتاج
ألكثر من ذلك لكي تعتنق دعوة جديدة طاملا وجدت فيها هذا الرشط
املزدوج أال وهو تعليم احلقيقة والدعوة إىل الفضيلة .وهكذا استطاع
هرقل -اإلمرباطور((( الروماين رغم جهله باللغة العربية -أن حيكم
عىل صدق الرسالة املحمدية استناد ًا إىل بعض الرشوط األخالقية التي
اعتقد أهنا رضورية وكافية إلثبات ربانية هذه الرسالة.
ولكن األمر ليس كذلك بالنسبة لعامة الناس .فام جيذب اهتاممهم
فيام يقدم إليهم هو سحر الشكل اخلارجي أكثر من متانة املحتوى .وأي
جديد يكتيس بمظهر حقري وغري جذاب جيعلهم ينفرون منه وينرصفون
عنه؛ ألهنم يترسعون يف احلكم عىل األشياء بحسب املظهر قبل اختبار
اجلوهر واللباب .ومن هنا ندرك قيمة العون احلقيقي الذي يمكن أن
يقدمه األدب إىل العلم واحلكمة عندما ينترصان للحقيقة والفضيلة.
((( انظر البخاري كتاب الجهاد باب ،101وانظر أيضًا ب .سان هيلير يف كتابه « محمد
والقرآن » ،ص .156-150
« مدخل إلى القرآن الكريم :ترجمة وتلخيص » 88
فلغة القرآن مادة صوتية ،تبعد عن طراوة لغة أهل احلرض ،وخشونة
لغة أهل البادية ،وجتمع -يف تناسق حكيم -بني رقة األوىل وجزالة
الثانية ،وحتقق السحر املنشود ،بفضل التوفيق املوسيقي البديع بينهام.
إهنا ترتيب يف مقاطع الكلامت يف نظام أكثر متاسك ًا من النثر ،وأقل
نظ ًام من الشعر ،يتنوع يف خالل اآلية الواحدة ليجذب نشاط السامع،
ويتجانس يف آخر اآليات سجع ًا ،لكي ال خيتل اجلرس العام للوقفات
يف كل سورة .أما كلامته فمنتقاة من بني الكلامت املشهورة ،دون أن هتبط
إىل مستوى الدارج ،وخمتارة من بني الكلامت السامية ،التي ال توصف
بالغريب إال نادر ًا .ومتتاز باإلجياز العجيب يف الكالم والرتكيز الشديد يف
املعنى والوضوح األخاذ ،مع العمق واملرونة واإلحياء واإلشعاع يف كل
جانب مثل أوجه قطعة املاس الرباقة .وإهنا حلقيقة مقررة أن مجيع الناس
89 الباب الثاين :القرآن من خالل مظاهره الثالثة :الدينى واألخالقى واألدبى
عىل اختالف مستوياهتم العلمية والفكرية يلتقون عىل فهم القرآن ،كأن
كل عبارة فيه مفصلة تفصي ً
ال بام يناسب عقلية كل منهم ...وكل هذا
يف موضوعات غري مطروقة يف األدب اجلاهيل ،بحيث أنه حيق لنا أن
نؤكد من الناحية اللغوية البحتة ،كان ظهور القرآن خلق ًا للغة جديدة
وألسلوب جديد.
أما ما يبدو أنه فوق طاقة البرش حق ًا يف األسلوب القرآين ،فهو أنه ال
خيضع للقوانني النفسية التى بمقتضاها نرى العقل والعاطفة ال يعمالن
إال بالتبادل وبنسب عكسية .بينام يف القرآن ال نرى إال تعاون ًا دائ ًام بينهام
يف كل املوضوعات ،ونرى الكلامت تسعى بقوة وجتمع يف نفس الوقت
بني التعليم واإلقناع والتأثري ،ومتنح القلب والعقل نصيبهام املنشود،
عالوة عىل احتفاظ الكالم دائ ًام هبيبة مدهشة ،وبجاللة قوية ال تتأرجح
وال تضطرب.
والعريب األصيل الذي ترسي يف دمه غزيرة اللغة ،كان يدرك بفطنته
وفطرته ويشعر أن القرآن آت من السامء ينفذ إىل القلوب ويبهر األبصار.
حتى إن الكفار أدركوا هذا التأثري يف عهد الرسول ،واختلفوا يف التامس
التفسري والتعليل له إىل درجة أن أطلقوا عليه (سحرا) .إذ نالحظ يف
القرآن يف احلال هلجة فريدة ال تنبعث عن قلب رجل وليست سوى نفحة
ربانية .أما أحاديث الرسول ﷺ فإهنا معروفة ببالغتها الرفيعة ،ويتميز
« مدخل إلى القرآن الكريم :ترجمة وتلخيص » 90
وينبغى أن نركز بعض اجلهد يف هذا الفصل عىل نقطة غفل عنها
مجيع املسترشقني فض ً
ال عن بعض املسلمني ،وهي طريقة القرآن الكريم
يف معاجلة أكثر من موضوع يف السورة الواحدة.
فقد رأى بعض املسترشقني بنظرة سطحية ذلك وزعم عدم توافر
التجانس والربط الطبيعي بني املواد التي تتناوهلا السورة بل وأكثر من
ذلك -مل ير القرآن يف مجلته إال أشتات ًا من األفكار املتنوعة عوجلت
بطريقة غري منظمة وبدون أي ربط منطقي بينها .بينام رأى البعض اآلخر
أن علة هذا التشتيت املزعوم ترجع إىل احلاجة إىل ختفيف امللل الناتج من
رتابة األسلوب ،واحلزن املرتتب عىل تكرار النغمة مما يتناىف مع املثالية يف
األسلوب العريب.
وهناك فريق ثالث رأى يف الوحدة األدبية لكل سورة نوع ًا من
التعويض هلذا النقص اجلوهري يف وحدة املعنى ،بينام فريق آخر يضم
غالبية املسترشقني رأى -وهو حياول تربئة الرسول -أن هذا العيب
يرجع إىل الصحابة الذين مجعوا القرآن وقاموا هبذا اخللط عندما مجعوا
أجزاءه ورتبوها عىل شكل سور.
والواقع أننا وجدنا أكثر مما كنا نتطلب من بحثنا .فقد وضح لنا بام
أثار دهشتنا أن هلذه السور ختطيط ًا حقيقي ًا واضح ًا ،وحمدد ًا يتكون من
ديباجة وموضوع وخامتة.
فسواء افرتضنا أن هذا الرتتيب كان قبل اكتامل نزول القرآن أو بعد
اكتامله ،فقد كان املتوقع أن يتم إتباع إما الرتتيب التارخيي لنزول اآليات،
« مدخل إلى القرآن الكريم :ترجمة وتلخيص » 92
وإما الرتتيب املنطقي البسيط بحسب جتانس املوضوعات .إال أنه من
املالحظ أن السور القرآنية تتنوع موضوعاهتا وال ختضع ألي فرض من
الفرضني أو ألي ترتيب من الرتتيبني السابقني.
من هذا نقول إنه ال بد أنه كان هناك تصميم لكل سورة ،فض ً
ال
93 الباب الثاين :القرآن من خالل مظاهره الثالثة :الدينى واألخالقى واألدبى
عن وجود تصميم أو خطة عامة للقرآن يف مجلته ،بمقتضاها كان كل
وحي جديد يوضع يف مكانه تو ًا بني آيات هذه السورة أو تلك من السور
املفتوحة.
وكأن آيات القرآن كانت قطع ًا مستقلة ومرقمة يف بناء قائم يف
مكان ،وكان يراد إعادة بنائه يف مكان آخر عىل نفس هيئته السابقة .وإال
فكيف يمكن تفسري هذا الرتتيب الفوري واملنهجي يف آن واحد ،فيام
يتعلق بكثري من السور إذا مل تكن الصحائف اخلالية والصحائف التامة
متثل وحدة كاملة يف نظر املؤلف؟ وهناك ختطيط آخر ذو طابع أسلويب،
وبمقتضاه نالحظ أن األجزاء التي ستتجاور جمهزة مقدما بطريقة معينة
بحيث يتزاوج بعضها مع بعض بدون ثغرات أو تصادم.
وال شك أن طريقة القرآن هذه ليست هلا مثيل عىل اإلطالق ،وال
يمكن ألي كتاب من الكتب يف األدب أو يف أي جمال -أن يكون قد تم
تأليفه عىل هذا النحو الفريد أو يف مثل هذه الظروف العجيبة.
إقامة مثل هذا التوافق املعجز؟ وإال فمن هذا املخلوق الذي يستطيع
أن يوجه األحداث بام يتوافق متام ًا مع هذا التصميم املرسوم؟ أو كيف
يمكن أن نخرج من جمموعة مصادفات بمثل هذا البناء األديب الرفيع
وهو القرآن الكريم؟
إال أن إعجابنا يصل إىل ذروته إذا أدركنا أن هذه األجزاء املتفرقة
من اآليات القرآنية قد اتبعت يف نزوهلا ختطيط ًا آخر خمتلف ًا متام االختالف
عن التخطيط الذي حتدثنا عنه يف الفقرات السابقة ،وما علينا إال أن
نستعرض من أوهلا إىل آخرها -املراحل التدرجيية هلذا التخطيط الثاين
خالل الثالث والعرشين سنة:من النبوة إىل الرسالة (من ﴿ ﭻ ﴾ بسورة
العلق إىل ﴿ﮯ ﮰ﴾ يف سورة املدثر) .
إن هذا التطور إذن كان متفق ًا مع خطة تربوية ترشيعية موضوعة
يف وقت سابق ،يف إمجاهلا ويف تفصيلها ،بمعرفة منزل الوحي سبحانه
وتعاىل ،فإذا كانت هذه اآليات ذاهتا التي كانت تتبع يف نزوهلا ختطيط ًا
تربوي ًا ممتاز ًا ،قد حتولت بمجرد نزوهلا يف ترتيبها التارخيي لكي تتوزع
وتتجمع يف شكل آخر عىل هيئة إطارات حمددة ،وخمتلفة األطوال ،بحيث
يظهر يف النهاية من هذا التوزيع املقصود ،كتاب يقرأ ،مكون من وحدات
كاملة ،لكل منها نظامها األديب واملنطقي ،ال يقل روعة عن النظام
الرتبوي العام ،فهذا هو التخطيط املزدوج الذي ال يمكن أن يصدر عن
قلب برش..
97
الباب الثـالث
المصدر الحقيقي للقرآن
99
متهيد
دراسة مصدر أي كتاب ينبغي أن تسبق دراسة حمتواه ،أما القرآن
فإن دراسة مصدره تستوجب خمالفة هذه القاعدة ،ألن فكرة مصدره
اإلهلي ليست فقط جزء ًا من دعوته وإنام اجلزء األسايس منها .ألن القرآن
من أوله إىل آخره ،يتحدث إىل الرسول ﷺ أو يتحدث عنه واليرتكه أبد ًا
يعرب عن فكره الشخيص..
مما الشك فيه أن حممد ًا ﷺ وهو يؤكد هذا ،مل يكن أول من أثار
قضية الوحي ،بل إنه كان أكثر تواضع ًا من موسى الذي تلقى التوراة -
كام يقول القرآن -يف لقاء مبارش بينه وبني اهلل تبارك وتعاىل حيث سمع
كالم اهلل ذاته أما بالنسبة إىل حممد ﷺ ،فإن القرآن قول رسول ساموي،
وسيط بينه وبني اهلل ،وفيام عدا هذا االختالف ،فإهنام متفقان يف نسبه
ما تلقياه إىل اهلل.
« مدخل إلى القرآن الكريم :ترجمة وتلخيص » 100
فأما الذين الينكرون الوحي من حيث املبدأ العام ،فمن حقهم أال
يطبقوه عىل ظاهرة معينة إال بعد استنفاد مجيع فرص التفسري الطبيعي
هلذه الظاهرة .وإذا ما اعرتفوا يف النهاية بمنشئها اإلهلي املبارش يكون هذا
االعرتاف آخر مطاف البحث ،وقرار العلم ،بعد استنفاد مجيع الوسائل
املمكنة.
فلنبعد من بحثنا إذن احلجة التي تستند إىل اإلعجاز اللغوي يف
القرآن والتي تؤكد مصدره اإلهلي ،ولنتساءل عن إمكان تفسري األفكار
التي يتضمنها القرآن بسبب آخر غري الوحي.
الفصـل األول
البحث عن مصدر القرآن يف الفرتة املكية
الوسط الوثني -احلنفاء -الصابئون -العنارص املسيحية واليهودية -
ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﴾ [البقرة .]200:
ويف وسط هذه اجلموع من الناس ذات اجلهل املفضوح ،كانت تتميز
صفوة قليلة تعد عىل األصابع وتعرف باسم «احلنفاء » -أي الثائرين عىل
الرأي العام -وهي الفئة التي اعتمد عليها «رنان » لتصوير خصائص
جمتمع العرب يف هذا العرص .فامذا كانت دعوة هؤالء «احلنفاء»؟ ..يقينا:
اليشء! سوى متردهم عىل عرصهم وتطلعهم إىل دين صحيح حاولوا
103 الباب الثالث :المصدر الحقيقي للقرآن
التامسه خارج حميطهم ومل يكن عندهم عنه أية فكرة دقيقة قادرة عىل
أن تنبئ عن دعوة القرآن ولو من بعيد ..وكل ما يمكن استخالصه من
وجودهم هو ما رصح به «رنان» ذاته عن حق ،هو وجود «نوع من القلق
واالنتظار املبهم (ص .)1090وعموم ًا مهام ردد الناس من عبارات :اهلل
والدين واألنبياء والكتب ،واجلنة يف هذه الفرتة ،فلم يكن هلذه الكلامت
مدلول يف نفوسهم عن أية فكرة واضحة ومتميزة.
األسد الذي كان يؤخذ من القرابني ليقدم إىل اآلهلة األقل درجة بدالً
من تقديمها إىل اهلل ،وعبارة االبتهال يف احلج التي كانت تتضمن الرشك
باهلل...وهلم شعائر أخرى وعادات تبعد متام ًا عن العادات الوثنية
واإلسالمية .فقد كان احلج عندهم يتم بحران بالعراق ،وكانت قرابينهم
حترق متاما ،وكانوا حيرمون تعدد الزوجات ،وال يزاولون اخلتان ،وكانت
عبادهتم طقوس ًا يقصد هبا الكواكب تؤدى ثالث مرات يومي ًا وقت
الرشوق والزوال والغروب .وهكذا نرى أن الوثنية التي كانت سائدة
باحلجاز التقدم لنا تفسري ًا سلي ًام عن مصدر القرآن.
لعل البيئة اليهودية واملسيحية وقتئذ تلقي لنا بعض الضوء عىل
هذا املوضوع .ولن نعول كثري ًا عىل قصة الراهب بحريى ،والتي تذكر
أن حممدا ﷺ قابله وهو يف الثانية عرشة من عمره عندما صاحب عمه
أبا طالب يف سفره إىل الشام .فاحلادثة إما أهنا أسطورية .وإما أنه يتعني
أخذ كل الوقائع املذكورة يف احلسبان فقد كانت املقابلة يف حضور مجيع
أفراد القبيلة ،وكان دوره ﷺ دور «املسئول» ال املستمع.
فض ً
ال عن أن هؤالء املطمورين كانوا جيهلون دينهم وكانت لغتهم
ال مصدر ًا صاحل ًا لألخذ عنه،
ال طبيع ًيا .فإذا كان هؤالء فع ً
األجنبية حائ ً
أمل يكن يف متناول املعارضني أن يلجأوا إليهم وحيطموا طموح النبي ﷺ؟
لعدم وجود أية إشارة يف القرآن عن مظاهر املسيحية اخلارجية ،بينام يتوسع
القرآن يف الكالم عن أعامق روح املسيحية الرشقية بام خيالف مسلك
الشعراء العرب الذين زاروا هذه البالد يف حني هناك كتّاب آخرون أكثر
اقرتاب ًا من احلقيقة يؤكدون أن رحالت القوافل التي صاحبها الرسول
ﷺ مل تبعد عن سوق «حباشة» بتهامة ،و«غراش» باليمن.
وحتى لو اتصل باملسيحية بالفعل فامذا كان سيجد؟ يقول «ج .سال»:
كان العامل املسيحي قد تعرض منذ القرن الثالث ملسخ لصورته ،بسبب
أطامع رجال الدين واالنشقاق بينهم واخلالفات عىل أتفه املسائل ..وكان
املسيحيون يف حتفزهم إلرضاء شهواهتم ،واستخدام كل أنواع اخلبث
واحلقد والقسوة ..قد انتهوا تقريب ًا إىل طرد املسيحية من الوجود .ويف
هذه العصور ظهرت وثبتت أغلب أنواع اخلرافات والفساد ،ووجدت
الكنيسة نفسها ممزقة بعد جممع «نيقية » بسبب اخلالفات.
أما بالنسبة للكنيسة الغربية .فقد بلغ اخلالف عىل كريس األسقفية
بروما بني «دماز» و «أرزيسيان» إىل حد اللجوء إىل العنف والقتل .وساد
الفساد يف األخالق والعقيدة بني األمراء وبني رجال الدين ،واستتبع
ذلك فساد الشعب حتى صار شغل الناس الشاغل هو مجع املال بأية
وسيلة إلنفاقه بعد ذلك عىل الرتف والرذيلة.
«إن ما قابله حممد وأتباعه يف كل اجتاه ..مل يكن سوى خرافات منفرة،
ووثنية منحطة وخمجلة ،ومذاهب كنسية مغرورة ،وطقوس دينية
منحلة وصبيانية ،بحيث شعر العرب ذوو العقول النرية ،بأهنم رسل
من قبل اهلل ،مكلفني بإصالح ما أمل بالعامل من فساد .»...وعندما أراد
«موشايم»وصف هذا العرص ،أبرز التعارض بني املسيحيني األوائل
واألواخر ،وخرج بأن الديانة احلقيقية يف القرن السابع كانت مدفونة
حتت أكوام من اخلرافات واألوهام السخيفة ،حتى إنه مل يكن يف مقدورها
أن ترفع رأسها .وكأن هذه الصفحات قد كتبت لتفسري اآلية﴿ :ﭑ
ﭒﭓﭔ ﭕﭖﭗ ﭘﭙﭚﭛ
ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ﴾ [املائدة.]14 :
فهل كان مسلك العرب الذين تنرصوا أحسن حاالً؟ ال ..ألهنم
احتفظوا بعاداهتم وتقاليدهم الوثنية القديمة ،وقال عيل بن أيب طالب
إن ما أخذه التغالبة من املسيحية مل يكن سوى رشب اخلمر ،ويقول
«هوارت » «مهام يكن مدى إغراء فكرة تأثر حممد بام شاهده من تطبيق
املسيحية بسوريا ،فإنه يتحتم استبعادها ،لضعف الوثائق واألسس
التارخيية الصحيحة» .
ولنوسع حقل البحث قليالً ،إىل عامل املسموع ،وبيئة الكتب واإلطالع.
فقد يتبادر إىل الذهن أن حممدا ﷺ قد استخلص دروسه من مطالعاته
املبارشة للكتب املقدسة سواء كانت مسيحية أو هيودية أو غريها(((.
((( ذهب الدكتور «س .تسدال» إلى حد االدعاء بأن بعض مبادئ اإلسالم مستقاة من
الزرادشتية.
((( حاول «لوبلوا» اقتداء بغيره من الكتّاب أن يثبت العكس .استناد ًا إلى رواية مضموهنا
أن الرسول وهو يف فراش الموت طلب أن يؤتى بما يكتب عليه وصيته بشأن الخالفة.
وهي حجة غير كافية ألن الرواية لم تقل أنه كتب بالفعل ..ومن جهة أخرى فإن
فعل «يكتب» بالنسبة للرؤساء والعظماء بوجه عام – معناه «يملي أو يضع خاتمه»،
ولهذا قيل يف صلح الحديبية « بينما يكتب هو وسهيل إذ طلع »...يف حين أن الذي
علي بإمالء الرسول .وهناك تعليل آخر حاولوا استنتاجه من حادث كان يكتب هو ّ
عرضي وقع أثناء الصلح .وذلك أن الرسول عندما أمر عليًا بإلغاء اسم الرسول
علي على الشطب ،وعندئذ سأله الرسول عن مكان «محمد رسول اهلل »..هل يجرؤ ّ
الكلمة المطلوب إلغاؤها وشطبها بيده ..إلى هنا وليست هناك خالفات ،إال أن هناك
رواية صحيحة تضيف أن الرسول كتب محل الكلمة المشطوبة «محمد بن عبد اهلل»
وهي بذلك تنسب يف ظاهرها الكتابة إلى الرسول ﷺ .إن محاولة اإلفادة من هذه
النقطة الضيقة إلثبات معرفة الرسول للكتابة يعترب نسيانًا للواقعة ذاهتا التي تقول
إنه لم يستدل على الكلمة المطلوب شطبها إال بإرشاد الكاتب .وأيضًا إغفا ً
ال لما
هو موضح يف نفس المكان بأن الرسول «اليحسن الكتابة» .إن أي محاولة إلثبات
العكس هي أضعف من أن تزعزع هذه الحقيقة ..ألن حياة محمد ﷺ معروفة يف أدق
تفاصيلها وقومه لم يكونوا هبذه السذاجة.
109 الباب الثالث :المصدر الحقيقي للقرآن
﴾ [العنكبوت: ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ
،]48وال شك أن معارىض الرسول كانوا يعرفون هذه األمية جيد ًا .ألهنم
قالوا عنه ﴿ :ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ
ﮂ﴾[الفرقان ،]5 :أي كتبها له غريه ،ومل يقولوا« :كتبها» .وهذا
املعنى التبس عىل بعض املسترشقني .وحتى عىل فرض أنه كان يعرف
القراءة ،فقد كانت هناك عقبة يستحيل تذليلها إذ مل تكن يف هذا الوقت
قد وجدت بعد توراة وال إنجيل باللغة العربية(((.
((( يؤكد الدكتور «جراف» أنه لم تكن هناك حاجة إلى إنجيل باللغة العربية إال يف القرن
التاسع والعاشر ..ويقول القس «شيدياك» بأنه لم يتمكن من الرجوع بتاريخ أقدم
ترجمات العهد الجديد باللغة العربية إلى أبعد من القرن الحادي عشر.
« مدخل إلى القرآن الكريم :ترجمة وتلخيص » 110
أو ما شاهبهم؟
أما النوع الثاين من الشعر فقد كان يكاد يتخصص متاما ىف األفكار
الدينية ،وقصائد أمية بن أيب الصلت أصلح نموذج هلذا النوع .والسيام يف
وصف احلياة األخروية وقصص الديانات القديمة ،ويف بعض املواضع
بنفس عبارات القرآن.
إال أن أصالة شعر أمية غري مقطوع بصحتها ،وأمية مل يدع األصالة
واإلهلام ،وإن حممد ًا ﷺ وأمية قد عارص كل منهام اآلخر ومها من نفس
العمر تقريب ًا ،فض ً
ال عن أن أمية عاش واستمر يف قرض الشعر إىل ما
يقرب من ثامين سنوات بعد نزول آخر آية مكية .فمن التعسف إذن أن
111 الباب الثالث :المصدر الحقيقي للقرآن
نقول :إن هذا الشعر كان سابق ًا للقرآن من حيث التاريخ .ولنأخذ يف
اعتبارنا موقف خصوم النبي ﷺ الذين كانوا دائام عىل يقظة ألقل ثغرة
ليوجهوا إليها رضبتهم ،وإذن لكان من السهل عليهم أن يضعوا يدهم
عىل املرسوقات من شعر أمية الذي مل يكن قد جف مداده بدالً من
أن يوجهوا اهتاماهتم يف كل اجتاه حتى وصلت إىل وصم الرسول ﷺ
باجلنون لتفسري ظاهرة القرآن العجيبة.
ومن هذا نخلص -إن مل يكن بتأكيد ،فعىل األقل باحتامل كبري -
بأن القرآن هو الذي كان أساس اإلنتاج األديب يف عرص نزوله ،كام كان
يقين ًا أساسه يف العصور التالية .وقد أثبت نقد شعر أمية بصفة خاصة أنه
يرجع إىل عدة مصادر خمتلفة وهذا ما الحظه «هوارت » فعندما يتكلم
هذا الشاعر عن وصف النار كان يقلد التوراة ،ويف وصف اجلنة يستخدم
عبارات القرآن ،ويف قصص التاريخ الديني يلجأ إىل األسطورة الشعبية.
وهنا يتعني علينا إدخال عامل جديد أال وهو العامل الشخيص.
يقبله العقل .فال يستطيع حممد ﷺ بانطوائه عىل نفسه أن يكتشف حادث ًا
ما وقع يف تاريخ ما من الزمان الغابر ،وهلذا ترتكز اجلهود عىل املقارنة بني
القصص الديني يف القرآن ،وبينه يف الكتب املنزلة السابقة للتوصل إىل
السبب الذي نتج عنه هذا التوافق العجيب.
وهب أن اجتياز املرحلة األوىل كان رسيع ًا ،فإن معرفة اهلل سبحانه
وتعاىل ليست هي كل العلم الديني املوجود يف القرآن .والطريق املوصل
إىل علوم القرآن طويل ومتعثر إن مل يكن مسدود ًا أمام عقل اإلنسان
الذي يعتمد عىل إمكانياته املحدودة .فبأي إهلام استطاع حممد ﷺ أن
يكتشف صفات اهلل العديدة ،وأسامء اهلل احلسنى ،وعالقة اهلل بالكون
املنظور وغري املنظور ،ومصري اإلنسان بعد املوت ...ومن غري أن يرتاجع
115 الباب الثالث :المصدر الحقيقي للقرآن
يف حقيقة واحدة سبق أن أعلنها ،ومع احتفاظه يف نفس الوقت بتوافقه
العجيب مع حقائق الكتب الساموية السابقة واملحفوظة بعناية حتت يد
العلامء؟ ال شك أن العقل مهام بلغ ال يستطيع أن خيطو خطوة واحدة يف
هذا السبيل بمثل هذه الثقة وهذا الوضوح ما مل يكن له عون ومدد من
تعاليم إجيابية خارج نطاق البرش .والقرآن يؤكد هذا ،ويقرر أن حممدا
ﷺ مل يكن يدري قبل نزول الوحي عليه﴿ :ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ
ﭞ﴾ [الشورى .]52 :هذا فضال عن البناء الترشيعي بمظاهره املختلفة،
األخالقي منها واالجتامعي والتعبدي .فهل كان قادرا عىل هداية غريه
وهو جيهل كل ذلك؟
117
الفصـل الثـانى
البحث عن مصدر القرآن ىف الفرتة املدنية
هل أثر انتقال الرسول ﷺ إىل بيئــة جديـدة ،واتصاله بأهل
الكتاب عىل سلوكه ومصدر علمه؟
بعد أن جبنا اآلفاق املكية يف عجل وتوصلنا إىل نتيجة سلبية أينام
بحثنا ،كان يتعني علينا أن نصدر حكمنا اآلن ،لو مل يطرأ أي تغري عىل
مسرية النبوة املباركة .هذا التغيري الذي حدث باهلجرة عىل وجه التحديد
إذ انتقل الرسول ﷺ إىل جو مرحب ودود ،حيوطه فيه أتباعه األقوياء
املخلصون ،وأصبح عىل اتصال بطائفة منظمة دينيا ،وهلا كتاهبا املقدس،
هم هيود املدينة.
ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ﴾
[املائدة ]82 :فعىل األقل يوجه إليهم بعض اللوم يف هلجة خمففة نسبيا،
﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ
ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ
ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ﴾ [املائدة.]14 :
أما إذا حتدث إىل اليهود يف ذلك العرص أو إىل أهل الكتاب عموم ًا،
فإن موقف القرآن خيتلف .فهم يف نظره ال يتبعون ما أنزل إليهم ،وإنام
يتبعون إهلام الشياطني﴿ ،ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ
ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ﴾ [النحل،]63:
وعندما أملح إىل ما أوقعه هيود اليمن باملسيحيني بنار األخدود اعترب
هذه اجلريمة تآمر ًا مع سبق اإلرصار عىل اإليامن احلق﴿ ،ﭛ ﭜ
ﭝ﴾ [الربوج ،]4:وعندما انتقل القرآن إىل املدينة احتفظ بموقفه وعدد
إدانتهم ،فالذين تلقوا التوراة وحفظوا نصوصها ال يراعوهنا بإخالص،
﴿ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ
ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﴾ [اجلمعة ،]5 :وهم يتعاملون بالربا،
ويلجأون إىل حيل خمتلفة ألكل أموال الناس بالباطل﴿ ،ﯠ ﯡ
ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ﴾ [النساء ،]161:واعتامد ًا عىل بعض
األوهام واألماين يستبيحون الرشوة والكذب﴿ ،ﭧ ﭨ ﭩ
119 الباب الثالث :المصدر الحقيقي للقرآن
ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ
ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ﴾[البقرة]79 :
أما عامل اإلرادة ،فهنا نراه ﷺ يتمتع بقدرة عىل االمتناع فيحرم
عىل نفسه املباح من الطعام ﴿ ،ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ
ﭜ﴾ [التحريم ،]1 :ولقد قالت عائشة عنه إنه مل يوجد مثله يف التحكم
يف حواسه.
ثم يأيت موضوع خضوعه املطلق لتعاليم اهلل تبارك وتعاىل التي تعلو
عىل نظرته وميوله ،فنذكر القاعدة القرآنية التي حتدد له فئات النساء
الاليت يستطيع الزواج منهن:
﴿ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ
ﮣ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ ﮭﮮ
ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ﴾
[األحزاب ]50 :والقاعدة األخرى التي حترم عليه أي زواج جديد مهام
كانت قوة رغبته فيه أو أن يبدل زوجاته﴿ ،ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ
ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﴾ [األحزاب ،]52 :ثم
القاعدة اخلاصة بحالة مطلقة زيد (ابنه بالتبني) ،وهي الزجية الوحيدة
املنصوص عنها يف القرآن﴿ ،ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ
« مدخل إلى القرآن الكريم :ترجمة وتلخيص » 122
ﭲ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ ﭽ
ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ
ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ
ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ﴾ [األحزاب .]37:
فرتاه حياول بكل جهده أن يمنع إمتام هذا الزواج ،ولكن قانون
القرآن يفرضه عليه فرض ًا ليضع هناية (بالنص والتطبيق العميل) لنظام
تبني األطفال يف الوثنية .وهو ما يمكن تسميته الزواج بدافع الواجب
رغم أي شعور معارض .وإذا بحثنا الظروف التي عقدت فيها زجياته
األخرى ،نجد أغلبها ُفرضت عليه العتبارات إنسانية سامية مثل مواساة
وترشيف زوجة شهيد ،أو مهاجر مات بني أصحابه يف هجرته ،أو توثيق
بعض الروابط القبلية التي تعاهد معها ،أو إجياد جو مناسب لعتق أرسي
قبيلة بأكملها ...إلخ ،وليس من الصعب احلكم عىل الطابع األخالقي
لرجل عاش شبابه يف العفاف املطلق ،وبعد زواجه عاش مع زوجته
الوحيدة بإخالص ما يقرب من ثالثني عام ًا ،ورشع يف زواجه الثاين وهو
يف اخلامسة واخلمسني.
وأما موضوع إبراهيم فقد سبق للسور املكية أن أشارت إليه﴿ ،ﮃ
ﮄ ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍ ﮎﮏﮐ
ﮑﮒﮓﮔﮕ ﮖﮗ ﮘﮙﮚ
ﮛ ﮜ﴾ [إبراهيم ،]37 :بل إهنا دعت الرسول إىل إتباع ملة
إبراهيم احلنيف ﴿،ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ
ﮐ ﮑ﴾ [النحل.]123 :
ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ﴾ [الرعد.]43 :
مل يرد بالقرآن ذكر يوم عاشوراء ،لكن علامء احلديث يقررون أن
قريش ًا قبل اإلسالم كانت حترص عىل صوم هذا اليوم .وأن الرسول
« مدخل إلى القرآن الكريم :ترجمة وتلخيص » 126
ذاته كان يصومه قبل اهلجرة واألحاديث تويص بذلك .أما القول بأن
الرسول اختذ قراره يف البداية ملحاكاة اليهود وأنه رجع بعد ذلك بسبب
تغري املوقف السيايس ،فإنه قول ال يتفق مع الوقائع املقررة.
أما بشان القبلة فإن االدعاء بأن تغيري القبلة من بيت املقدس إىل
الكعبة (وله ما يربره ىف القرآن) كان نتيجة معاداة اليهود لإلسالم ،فهو
إدعاء به تداخل يف التواريخ .فقد بدأت عداوة اليهود عام 625م بينام
كان حتويل القبلة ىف عام 623م.
تبقى املالحظة األخرية التي تتعلق بفكرة القرآن عن اهلل .فإن ما
يستحق التأكيد حق ًا هو عكس مالحظة الناقدين .إذ إن الواقع يكذب
املالحظة .فام أكثر ظهور «إله احلرب » يف السور املكية حيث يكثر قصص
التاريخ القديم برشه وفساده ،والعقاب األليم الذي نزل بأممه والتهديد
فيها ضمني -ولكنه دائم -للقرى التي تسلك نفس املسلك .بل إن
احلروب التي صدر هبا األمر من املدينة ضد املعتدين مل تكن إال تنفيذ ًا
إلنذار عام ورصيح وتكرر ذكره قبل ذلك بمكة﴿ ،ﮘ ﮙ ﮚ
ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮢﮣﮤ ﮥﮦﮧ﴾
[يونس ،]102 :و ﴿ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ
ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ﴾ [هود ،]122 -121:و ﴿ﯹ ﯺ
ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅﰆ
127 الباب الثالث :المصدر الحقيقي للقرآن
ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﴾[اإلرساء.]58 :
أنه كان جمافي ًا للعدل أو كان خطأ؟ ال جدال يف أن ذلك غري مقبول
عىل اإلطالق يف أمر الترشيع اإلهلي املنزل؛ ألن اهلل سبحانه ال يراجع
نفسه وال يرجع يف قراره والقاعدة السابقة والقاعدة الالحقة هلام نفس
القدسية ،وكل منهام وضعت يف زماهنا وكانت متثل احلكمة الوحيدة.
فالتغيري إذن يكمن يف األحداث التارخيية واحللول املتنوعة التي تستلزمها،
﴿ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ
ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ
ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ
ﮓﮔ﴾ [البقرة.]143 :
وأشهرهم عبد اهلل بن سالم الذي كان اليهود يعتربونه أوسعهم عل ًام
وأحسنهم خلق ًا وذلك قبل إعالن إسالمه مبارشة ،وما أن أعلن إسالمه
حتى أنكروا عليه كل ذلك يف نفس اجللسة .وبني هاتني الفئتني مل يرتك
التاريخ مكان ًا «ألصدقاء معلمني» .
أما اإلدعاء بأن الرسول ﷺ تلقى علمه من عبد اهلل بن سالم نفسه،
فإن ذلك ينطوي عىل حتريف للحقائق التارخيية((( باخللط بني دور التابع
واملتبوع ،وينطوي قلب ترتيب األحداث التارخيية املعروفة ألن جوهر
حقائق التوراة كان قد أعلن كله بمكة ،وأن القليل من اآليات التي
((( وخلط تاريخي مشابه مع فاصل زمني أكرب عن الدور المزعوم لسلمان الفارسي
ومريم القبطية .والواقع أن سلمان أسلم بعد الهجرة بقليل ولم يصاحب الرسول
ﷺ إال يف العام الخامس ىف معركة الخندق .أما مريم القبطية فقد وصلت يف العام
السابع الهجري.
131 الباب الثالث :المصدر الحقيقي للقرآن
نزلت باملدينة كانت تتعلق أغلبها باحلقائق الدينية املسيحية التي ينكرها
اليهود .فمهام بذل املغرضون من حماوالت لتجميع نقاط التشابه بني
احلقائق القرآنية واحلقائق اليهودية واملسيحية((( ..فلن يعدو أن يكون
ذلك اصطناع أسلحة تفيد منها حقائق القرآن الذي يؤكد وجودها يف
الكتب املنزلة السابقة﴿ ،ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ﴾ [الشعراء﴿،]196 :ﭚ ﭛ
ﭜ ﭝ ﭞ * ﭠ ﭡ ﭢ ﴾ [األعىل ]19 - 18 :وأن شهادة
علامء بني إرسائيل دليل قاطع عىل صدقها ﴿،ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ
ﯔ ﯕ﴾ [الشعراء.]197 :
ولكن االتفاق يشء واالقتباس يشء آخر ،وبينهام فراغ شاسع مل
حيظ بأن جيد من يمأله حتى وقتنا احلارض عىل األقل.
ً
محاوال أن يثبت أن القرآن يرتبط ((( وهو ما تركزت عليه جهود الدكتور (س .تسدال)
باألساطير التاريخية (ص )62 – 61فأغفل عن عمد ذكر أي تشابه بين القرآن وبين
العهد القديم والعهد الجديد .واهنمك ىف الكشف عن ارتباط بعض التفاصيل ىف القرآن
بما ورد يف التلمود واآلثار اليهودية والمسيحية البعيدة عن التوراة واإلنجيل.
133
خامتة
الباب الثالث
لقد بحثنا افرتاض وجود مصدر برشي لتعاليم القرآن ،فتتبعنا
الرسول ﷺ يف حياته العادية وحياة الرسالة ،يف مكة ويف املدينة ،يف رحالته
واتصاالته ،وتعرضنا لقدرته عىل القراءة ،وملدى توفر الوثائق حتت يده،
فجميع سبل البحث ثبت ضعفها وعدم قدرهتا عىل تقديم أي احتامل
لطريق طبيعي كمصدر للقرآن .هذا البناء الشامخ من العلوم الواسعة
واملفصلة يف جمال الدين والتاريخ واألخالق والقانون والكون ..إلخ.
من أين ينبع إذن هذا الوحي؟ أليس من أعامق نفسه؟ إن الوقائع
تثبت لنا عكس ذلك .فطابع األفكار التي تبلغ إليه عن طريق الوحي إما
جتريبي وإما فوق مستوى العقل ،أي أهنا بعيدة عن جمال العقل الصايف،
وبعيدة كذلك عن الشعور املحصور يف منابعه العادية مثل إهلام الشعراء
والفالسفة ،إذ املالحظ أن الوحي ليس أفكار ًا تتبع من داخل نفسه ،وإنام
134
هو سامع صويت صايف أي أن األفكار التالزم احلديث والتسبقه.
إن الوحي جتربة عاشها الرسول ﷺ وكان معارصو الرسول كثري ًا
ماحيرضون نزول الوحي كشهود عيان ،وشاهدوا بأنفسهم األعراض
اخلارجية لظاهرة الوحي ،التي كانت بالنسبة للرسول ﷺ جتربة عاشها
ومل يصنعها .إهنا حادث يتلقاه بكل سلبية ،وليس يف قدرته اهلروب منه
عند جميئه ،وال يف استطاعته أن يتهيأ له إذا احتاج إليه(((ً .
فضال عن أن كل
ال جديد ًا يضاف إىل ذخريته العلمية .وبعيد ًا
درس من الوحي كان فص ً
عن ضوء هذا العلم الرباين ،يعود النبي إىل حدود قدرته البرشية ،فأمام
املايض واملستقبل ،وأمام ما يصعب عىل الذكاء اإلنساين السليم اخرتاق
حجبه ،كان ال يسعه إال أن يضع عالمة استفهام كغريه من الناس بكل
وطاملا أنه ليس لديه تعاليم رصحية من الوحي يف أمر ما ،فهو ذو
طبيعة خجولة حيية ﴿ ،ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ
ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﴾ [األحزاب. ]53 :
((( وإذا بحثنا الوقائع التي اعرتض القرآن بشأهنا على الرسول ,نندهش أن نجد أهنا تتصف
بخصائص مشرتكة ,وهو أنا أمام حلين كل منهما مباح ( ىف الغالب يوجد نص صريح)
(محمد( )4 :النور( )62 :التوبة( )80 :األحزاب( )4 :األحزاب )48 :اختار الرسول
ﷺ الحل الذي رآه أنسب للصالح العام ،وكان أوفق الحلين ىف ذلته أمام أي عقل
إنساين (التوبة .)47 :أما يف نظر الحكمة اإللهية .فقد كان االختيار ذا معنى أقل ىف
الدرجة ,مبكر ًا قليالً (يف الحالتين األوليين) متسامحًا قليالً (الحالة الثالثة) أقل جرأة
(الحالة الرابعة) .أو مستهدفًا غرض غير ممكن التنفيذ (الحالة الخامسة).
137 الباب الثالث :المصدر الحقيقي للقرآن
فوراء هذه الدفعة الصلبة قوة عظيمة ليست قوة هذا اإلنسان وهلذا
نراه يتمتع بروح ال تضطرب ،وبإيامن ال يتزعزع يف معية اهلل وعونه﴿،ﮥ
ﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮬﮭﮮﮯ
ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ
ﯞ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﯦ
« مدخل إلى القرآن الكريم :ترجمة وتلخيص » 138
ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﴾
[التوبة ،]40 :ويعرض نفسه وأهله ألخطار املباهلة﴿ ،ﯠﯡﯢﯣﯤ
ﯥﯦﯧﯨ ﯩﯪﯫ ﯬﯭﯮﯯﯰ
ﯱ ﯲ ﯳﯴﯵﯶﯷﯸ﴾ [آل عمران،]61 :
بينام يرتاجع املرتددون املتشككون.
إال انه ال يرتتب عىل تقرير هذا اإلخالص النفيس اعتبار الوحي
من مصدر رباين .فقد يكون الشخص ضحية أوهام ال شعورية،
فتظهر فجأة ىف ذهنه أفكار وتعبريات يظن أهنا جديدة متام ًا ،بينام هو يف
الواقع جيتز املعارف القديمة واملدفونة يف أعامق نفسه .بل من املحتمل
أن يعتقد أن متحصالته العلمية احلديثة أتت إليه من طريق الوحي
واإلهلام ،طاملا أهنا تؤكد يف نفسه إيامنه بإهلامه الشخيص ،وهو ال يدري
عن مصدرها احلقيقي شيئ ًا.
(((ومنهم «اندرا» و«ج .سان هيلير» و«كارليل» و«جولد سيهر» و«ماسينيون» و«نولديك
تربين» ..إلخ.
139 الباب الثالث :المصدر الحقيقي للقرآن
غري سوية ،وليست هلا صلة عىل اإلطالق باحلالة التي نحن بصددها ال
من حيث املوضوع وال من حيث الشخص :فمن حيث املوضوع نرى إما
انعدام املصادر الشعبية ،وإما شائعات غامضة ومتناقضة ،ال تنهض لتفسري
استقامة اخلط الذي اتبعه القرآن ،وتفسري خطواته الثابتة الفاصلة .وأما من
حيث الشخص ذاته ،فليس هناك أدنى عالمة تشري من قريب أو بعيد إىل
خلل عقيل ،بل العكس هو الصحيح ،وشهادة «رنان» هى خري دليل« مل
خيلق عقل قط بمثل صفائه ،ومل يوجد إنسان قط حتكم مثله يف فكره» [املرجع
إال أننا -نحن املستمعني -ال نستطيع أن نمر بنفس التجربة ،وال
أن نعيشها كام عاشها هو .هذا صحيح ،ولكن لدينا من وسائل املراجعة
ما يساعدنا عىل أن نتحقق مما إذا كان هذا جمرد هلوسة أو ظاهرة مرضية
«تنتاب ذوي القدرات اخلارقة وحدهم» أو أن صوت احلق ذاته هو الذي
يلهمه .فعلينا إذن مراجعة حمتوى تعاليمه ومضموهنا ،وليس تأكيده
واقتناعه هبا .وإليك ثالث عينات:
-2حقائق علمية.
أن احلقائق التي يقدمها تتفق متام ًا مع آخر ما توصل إليه العلم
احلديث .مثل منبع العنرص اجلنيس لإلنسان ﴿ ،ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ * ﭭ
ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ﴾ [الطارق.]7 - 6 :
ولكن متيز القرآن وتفرده ال يقف عند ما يرصح به ،بل إن إعجازه
يمتد إىل ما يمتنع عن قوله أو يسقطه عن قصد( ..مثل الروح.) ..
من غري أن يرتك يف أي جمال أثرا ولو طفيف ًا ينم عن عرصه أو بيئته أو حتى
خياله الشخيص؟
-3تنبؤات املستقبل.
ولقد أعلن القرآن عن أحداث ستتم مستقبالً ،رأيناها تقع كام أعلن:
مثل مواقف معارضيه الثالثة (املخالفة ،وامليل للتوفيق ،واملعاداة)،
وتتابع مصائرهم بحسب كل موقف (جماعة ورخاء وهزيمة).
﴿ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ * ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ
ﮟ*ﮡﮢﮣﮤ ﮥ ﮦ*ﮨﮩﮪ ﮫﮬﮭ
ﮮ * ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ * ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ *
ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ﴾[الدخان. ]16-10 :
وأعلن قبل اهلجرة بسنوات عن هزيمة قريش ببدر (التي وقعت يف
العام الثاين اهلجري) يف نفس الوقت الذي ينهزم فيه الفرس من الروم،
﴿ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ * ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ
ﯡ ﯢ ﯣ ﴾ [الروم ،]5-3 :ورضبة السيف التي تلقاها الوليد بن
املغرية عىل أنفه﴿ ،ﭑ ﭒ ﭓ﴾ [القلم. ]16 :
إما أن اهلل خيدعنا يرتك مجيع األدلة القاطعة تنحاز إىل كذاب خمادع
وال يرتك لنا بصيص ًا من الضوء يعاوننا عىل كشف أمره .وإما أن يكون
هناك ميثاق معقود مع العناية اإلهلية تولت بمقتضاه السهر عىل هذه
الدعوة لعصمتها من كل زلل.
إن القرآن ليس إنتاج ًا حملي ًا ،ألن احلقائق التي يقدمها هي من النوع
الذي يسهل عىل مجيع العقول إدراكه واستخالص الفائدة األخالقية
منه .وهلذا نرى مكانه عالي ًا فوق كل االعتبارات اجلغرافية والعنرصية..
وهلذا ال يذكر عموم ًا أسامء األشخاص واألماكن التي يتحدث عنها،
وإنام يركز عىل العرب والدروس التي تفيد ىف تربية اإلنسانية.
إن هذا املنهج الكامل املتكامل الذي ينفرد به القرآن وحده هو
يف ذاته برهان وأي برهان .ولقد انترشت الدعوة القرآنية ىف البداية يف
اجلزيرة العربية بني العرب ولكن غايتها هي أفراد البرشية أمجعني.
147
املراجع
أ – املراجع العربية :
املطبعة الرمحانية
1936م كتاب املصاحف ابن أيب داود
بالقاهرة
***
149
املراجع األجنبية-ب
L'Encyclopédie
Par les principaux Orientalistes Leide 1908-1938
de l'Islam
Barthélemy-St-
Mahomet et le Koran Paris، Didier، 1865
Hilaire
Le Caire, Al-Ma'aref
Draz La Morale du Koran
1949.
150
Mémoire sur le Calendrier Ar-
Al-Falaki abe avant l’Islamisme et sur la
Asiatique، Paris, 1858
(Mahmoud) Naissance et l'Age du Prophète
Mohammed
Gaudefroy-De-
Institutions Musulmanes Paris, Flammarion, 1946
mombynes
***
152
املحتويات
املوضوع الصفحة
الباب الثاين :القرآن من خالل مظاهره الثالث الديني واخللقي واألديب 53... 43