لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 153

‫لماذا َّ‬

‫تأخر َ المسلمون؟‬
‫م غيرهم؟‬
‫ولماذا تق َّد َ‬

‫األمير شكيب أرسالن‬


‫‪44‬‬
‫يوزع مجانا ً مع العدد ‪ 87‬من مجلة الدوحة يناير ‪2015‬‬

‫لماذا َّ‬
‫تأخر َ المسلمون؟‬
‫م غيرهم؟‬
‫ولماذا تق َّد َ‬

‫األمير شكيب أرسالن‬

‫تمت مراجعة الكتاب بالعودة إلى النسخة المحققة من قبل الشيخ حسن تميم ومصادر أخرى‬

‫الناشر ‪:‬‬
‫وزارة الثقافة والفنون والتراث ‪ -‬دولة قطر‬
‫رقم اإليداع بدار الكتب القطرية ‪:‬‬
‫الترقيم الدولي (ردمك) ‪:‬‬

‫التصميم واإلخراج ‪ :‬عالء األلفي ‪ -‬مجلة الدوحة‬


‫العمل الفني للغالف‪ :‬مير سيد علي‪ ،‬باحث إسالمي‪،‬عاصر عهد االمبراطور المغولي شاه جاهان‪.‬‬

‫المواد المنشورة في الكتاب ُتعبِّر عن آراء كتّابها وال ُتعبِّر بالضرورة عن رأي الوزارة أو المجلة‪.‬‬
‫الفهرس‬

‫‪5 .........................................................................‬‬ ‫المقدمــة‬


‫حمَّ ــد بســيوني عمــران ‪8 ........................................‬‬
‫كتــاب الشــيخ مُ َ‬
‫جــواب األميــر شــكيب أرســان ‪11 ...............................................‬‬

‫تأخــر المســلمين‪51 ...................................................‬‬


‫أهــم أســباب ُّ‬
‫ال مــن اليابــان وأوروبــا «رجعيــة» بتديُّنهمــا‪72 .............‬‬
‫لمــاذا ال نســمّ ي ك ً‬
‫غوائــل الجامديــن فــي اإلســام والمســلمين ‪77 .................................‬‬

‫وحجــة عليــه ‪88 ............‬‬


‫ّ‬ ‫كــون المســلمين الجامديــن فتنــة ألعداء اإلســام‬
‫مدنيّــة اإلســام ‪92 ................................................................‬‬

‫الــردّ علــى حسّ ــاد المدنية اإلســامية المكابريــن ‪97 .............................‬‬

‫ـث القرآن علــى العلــم ‪109 .......................................................‬‬


‫حـ ّ‬
‫أســباب انحطــاط المســلمين في العصــر األخيــر ‪116 ............................‬‬

‫توجهــت الهمــم ‪130 ....................................................‬‬


‫هكــذا إذا ّ‬
‫خالصــة الجــواب ‪142 .............................................................‬‬
6
‫المقدمة‬

‫ح َّمد رشيد رضا‬


‫بقلم ُم َ‬

‫بسم الله الرحمن الرحيم‬

‫ال ي َُغ ِ ّي ُر مَا بِ قَ ْو ٍم َح َّتى ي َُغ ِ ّي ُروا مَا بِ َأ ُ‬


‫نفسِ ِه ْم» (((‪.‬‬ ‫«إ َِّن ال ّل َه َ‬
‫َــك مُ َغ ِ ّيــر ًا ِ ّن ْع َمــ ًة َأ ْن َع َم َهــا علــى قَــ ْو ٍم َح َّتــى‬
‫ــم ي ُ‬ ‫«ذل َ‬
‫ِــك بِ ــ َأ َّن اللّــ َه َل ْ‬ ‫َ‬
‫ي َُغ ِ ّيــ ُروا مَــا بِ َأ ُ‬
‫نفسِ ِ‬
‫ــه ْم» (((‪.‬‬
‫الد ْن َيــا َو َي ـ ْو َم ي َُقـ ُ‬
‫ـوم‬ ‫الح َيــا ِة ُّ‬
‫ـن آ َم ُنــوا ِفــي َ‬ ‫نص ـ ُر ر ُُس ـ َل َنا و ِ‬
‫َالذيـ َ‬ ‫« ِإ َّنــا َل َن ُ‬
‫اد» (((‪.‬‬ ‫ــه ُ‬‫أل ْش َ‬ ‫ا َ‬

‫ُــم َل ْ‬
‫ــم َي ْر َتابُــوا‬ ‫يــن آ َم ُنــوا بِ ال َّلــ ِه َور َُســو ِل ِه ث َّ‬
‫الذ َ‬‫ــون ِ‬
‫المؤْمِ ُن َ‬
‫« ِإن ََّمــا ُ‬
‫ــم‬ ‫يل ال َّلــ ِه ُأ ْو َلئ َ‬
‫ِــك ُه ُ‬ ‫ــدوا بِ َأ ْم َوال ِِه ْ‬
‫ــم َو َأ ُ‬
‫نفسِ ِ‬
‫ــه ْم فِــي َســبِ ِ‬ ‫اه ُ‬‫َج َ‬ ‫و َ‬
‫ــون» ( ((‪.‬‬ ‫الص ِاد ُق َ‬
‫َّ‬
‫‪ -1‬الرعد‪11 :‬‬
‫‪ -2‬األنفال‪53 :‬‬
‫‪ -3‬غافر‪51 :‬‬
‫‪ -4‬الحجرات‪15 :‬‬

‫‪7‬‬
‫ـي تلميــذي المرشــد الشــيخ مُ َح َّمــد بســيوني عمــران إمــام‬
‫كتــب إلـ َّ‬
‫مهراجــا جزيــرة ســمبس برنيــو (جــاوة) كتابــ ًا يقتــرح فيــه علــى‬
‫أخينــا المجاهــد أميــر البيــان أن يكتــب لـ«المنــار» مقــا ً‬
‫ال بقلمــه‬
‫السـ َّـيال فــي أســباب ضعــف المســلمين فــي هــذا العصــر وأســباب‬
‫َّ‬
‫بالملــك والســيادة والقـ ّوة والثــروة‪،‬‬
‫قـ ّوة اإلفرنــج واليابــان وعزتهــم ُ‬
‫وقــال فــي كتــاب آخــر إنــه قــرأ مــا كتبنــاه فــي «المنــار» وتفســيره‬
‫مــن بيــان األســباب فــي األمريــن‪ ،‬ومــا كتبــه األســتاذ اإلمــام‬
‫فــي مقــاالت (اإلســام والنصرانيــة مــع العلــم والمدنيــة) فــي‬
‫الموضــوع‪ ،‬وإنمــا غرضــه أن يكتــب فــي ذلــك أميــر البيــان بقلمــه‬
‫ِّ‬
‫المعبــر عــن معارفــه الواســعة‪ ،‬وآرائــه الناضجــة؛ لتجديــد‬ ‫المؤ ِ ّثــر‬
‫التأثيــر فــي أنفــس المســلمين بمــا يناســب حالهــم اآلن‪ ،‬لتنبيــه‬
‫غافلهــم‪ ،‬وتعليــم جاهلهــم‪ ،‬وكبــت خاملهــم‪ ،‬وتنشــيط عاملهــم‪،‬‬
‫وبنــى االقتــراح علــى األســئلة اآلتيــة التــي صــارت مثــار شــبهة‬
‫علــى الديــن عنــد غيــر علمائــه‪ ،‬فهــو يعلــم ‪-‬ممــا ســمعه مــن‬
‫دروســنا فــي مدرســة الدعــوة واإلرشــاد‪ ،‬وممــا كتبنــاه مــرار ًا فــي‬
‫حجــة علــى أدعيــاء‬
‫«المنــار» والتفســير‪ -‬أن كتــاب اللــه تعالــى ّ‬
‫حجــة عليــه‪.‬‬
‫اإلســام واإليمــان‪ ،‬وليســوا هــم ّ‬
‫ووليــي األميــر شــكيب علــى‬
‫ّ‬ ‫اقترحــت هــذا االقتــراح لحمــل أخــي‬
‫ْ‬
‫كتابــة شــيء مثــل هــذا لـ«المنــار»‪ ،‬وأنــا الــذي أنصــح لــه دائم ـ ًا‬
‫بتخفيــف أحمــال الكتابــة عــن عاتقــه؛ لكثــرة مــا يكتــب لصحــف‬
‫الشــرق والغــرب ولألصدقــاء وغيرهــم‪ ،‬فأرســلت إليــه كتــاب الشــيخ‬

‫‪8‬‬
‫ـي‪ ،‬فأرجــأ الجــواب عنــه لكثــرة‬
‫مُ َح َّمــد بســيوني عقــب وصولــه إلـ ّ‬
‫الشــواغل إلــى أن عــاد مــن رحلتــه األخيــرة إلــى إســبانية وقــد أثّرت‬
‫فــي نفســه مشــاهد حضــارة قومنــا العــرب فــي األندلــس والمغــرب‬
‫األقصــى‪ ،‬وشــاهد تأثيــر محاولــة فرنســا (تنصيــر) شــعب البربــر فــي‬
‫المغــرب؛ تمهيــد ًا لتنصيــر عــرب إفريقيــة المرزوئيــن باســتعبادها‬
‫لهــم كمــا فعلــت إســبانية بســلفهم فــي األندلــس‪ ،‬فكتــب الجــواب‬
‫وحجــة‬
‫ّ‬ ‫ا بهــذه المؤ ِ ّثــرات‪ ،‬فــكان آيــة مــن آيــات بالغتــه‪،‬‬
‫منفع ـ ً‬

‫مــن حجــج حكمتــه‪ ،‬لع ّلهــا أنفــع مــا َّ‬


‫تفجــر مــن ينبــوع غيرتــه‪،‬‬
‫وانبجــس مــن معيــن خبرتــه‪ ،‬فســال مــن أنبــوب براعتــه‪ ،‬جــزاه اللــه‬
‫خيــر مــا جــزى المجاهديــن الصادقيــن‪.‬‬
‫محمد رشيد رضا‬

‫‪9‬‬
‫كتاب الشيخ ُم َحمَّد بسيوين عمران‬

‫حضــرة مــوالي األســتاذ المصلــح الكبيــر الســيد مُ َح َّمــد رشــيد‬


‫رضــا صاحــب «المنــار»‪ ،‬نفعنــي اللــه والمســلمين بوجــوده العزيــز‪،‬‬
‫آميــن‪.‬‬
‫الســام عليكــم ورحمــة اللــه وبركاتــه‪ ،‬أ ّمــا بعــد‪ :‬فــإن َمــن قــرأ مــا‬
‫كتبــه‪ ،‬فــي «المنــار» وفــي الجرائــد العربيــة‪ ،‬العلّامــة السياســي‬
‫الكبيــر أميــر البيــان‪ ،‬األميــر شــكيب أرســان‪ ،‬مــن مقاالتــه الر ّنانــة‬
‫المختلفــة المواضيــع‪ ،‬عــرف أنــه مــن أ كبــر ُك ّتــاب المســلمين‬
‫المدافعيــن عــن اإلســام‪ ،‬وأنــه أقــوى ضلــع لـ«المنــار» وصاحبــه‬
‫فــي خدمــة اإلســام والمســلمين‪ ،‬وإنــي أرجــو مــن اللــه تعالــى أن‬
‫يطيــل بقاءهمــا الشــريف فــي خيــر وعافيــة‪ ،‬كمــا أرجــو مــن مــوالي‬
‫األســتاذ صاحــب «المنــار» أن يطلــب مــن هــذا األميــر الكاتــب‬

‫‪10‬‬
‫ـي بالجــواب عــن أســئلتي اآلتيــة وهــي‪:‬‬ ‫َّ‬
‫يتفضــل علـ َّ‬ ‫الكبيــر أن‬
‫(‪ )1‬مــا أســباب مــا صــار إليــه المســلمون (ال سـ ّـيما نحن ‪ -‬مســلمي‬
‫جــاوة وماليــو) مــن الضعــف واالنحطــاط فــي األمــور الدنيويــة‬
‫والدينيــة مع ـ ًا‪ ،‬وصرنــا أذ ّلاء ال حــول لنــا وال ق ـ ّوة‪ ،‬وقــد قــال اللــه‬
‫تعالــى فــي كتابــه العزيز‪َ «:‬و ِل َّل ـ ِه ال ِع ـ َّز ُة َو ِل َر ُســو ِل ِه َو ِلل ُْمؤْمِ نِيـ َ‬
‫ـن» (((؟‬
‫يدعــي أنــه‬
‫يصــح لمؤمــن أن ّ‬
‫ّ‬ ‫فأيــن عــ ّزة المؤمنيــن اآلن؟ وهــل‬
‫عزيــز‪ ،‬وإن كان ذليـ ً‬
‫ا مهانـ ًا ليــس عنــده شــيء مــن أســباب العــزة‬
‫إال ألن اللــه تعالــى قــال‪َ « :‬و ِل َّل ـ ِه ال ِع ـ َّز ُة َو ِل َر ُســو ِل ِه َو ِلل ُْمؤْمِ نِيـ َ‬
‫ـن»؟‪.‬‬
‫(‪ )2‬مــا األســباب التــي ارتقــى بهــا األوروبيــون واألميركانيــون‬
‫واليابانيــون ارتقــا ًء هائــ ً‬
‫ا؟ وهــل يمكــن أن يصيــر المســلمون‬
‫أمثالهــم فــي هــذا االرتقــاء إذا ا َّتبعوهــم فــي أســبابه مــع المحافظــة‬
‫علــى دينهــم «اإلســام» أم ال؟‬
‫هــذا‪ ،‬والمرجـ ّو مــن فضــل األمير أن يبســط الجــواب فــي «المنار»‬
‫عــن هــذه األســئلة‪ ،‬ولــه ولألســتاذ صاحــب «المنــار» ‪ -‬مــن اللــه‬
‫‪ -‬األجــر الجزيــل‪.‬‬
‫ح َّمد بسيوني عمران‬
‫ُم َ‬
‫سنبس ‪ -‬بورنيو الغربية‬
‫في ‪ 21‬ربيع اآلخر سنة ‪1348‬‬

‫هــذا نــص كتــاب الســائل‪ ،‬ويتلــوه جــواب األميــر‪ ،‬وقــد وضعنــا‬


‫‪ 1‬المنافقون‪8 :‬‬

‫‪11‬‬
‫لــه بعــض العناويــن؛ ألنهــا كمحطّ ــات الطريــق للســالكين‪ ،‬وع َّلقنــا‬
‫عليــه قليــ ً‬
‫ا مــن الحواشــي المفيــدة للقارئيــن‪ ،‬كمــا فعلنــا ذلــك‬
‫فــي كتــاب «اإلســام والنصرانيــة» لشــيخنا األســتاذ اإلمــام رحمــه‬
‫اللــه‪.‬‬

‫مالحظة‪:‬‬

‫الحواشــي التــي مــن قلــم العلّامــة الســيد محمــد رشــيد رضــا ‪ -‬رحمــه اللــه ‪-‬‬
‫عليهــا التوقيــع بحــرف (ر)‪ ،‬والحواشــي المضافــة إلــى هــذه الطبعــة مــن قلــم‬
‫المؤلــف عليهــا التوقيــع بحــرف (ش)‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫جواب األمري شكيب أرسالن‬

‫عــام‬
‫ّ‬ ‫إن االنحطــاط والضعــف اللذ ْيــن عليهمــا المســلمون شــيء‬
‫لهــم فــي المشــارق والمغــارب‪ ،‬لــم ينحصــر فــي جــاوة وماليــو‪،‬‬
‫وال فــي مــكان آخــر‪ ،‬وإنمــا هــو متفــاوت فــي دركاتــه‪ ،‬فمنــه مــا‬
‫هــو شــديد العمــق‪ ،‬ومنــه مــا هــو قريــب للغــور‪ ،‬ومنــه مــا هــو عظيــم‬
‫الخطــر‪ ،‬ومنــه مــا هــو أقـ ّ‬
‫ـل خطــر ًا‪.‬‬
‫ســيما فــي القــرن‬
‫وباإلجمــال‪ ،‬حالــة المســلمين الحاضــرة ‪ -‬وال ّ‬
‫ـد النــاس‬
‫الرابــع عشــر للهجــرة أو العشــرين للمســيح ‪ -‬ال ُترضــي أشـ ّ‬
‫تحمسـ ًا باإلســام وفرحـ ًا بحزبــه‪ ،‬فضـ ً‬
‫ا عــن غيــر األحمســي مــن‬ ‫ُّ‬
‫أهلــه‪.‬‬
‫إن حالتهــم الحاضــرة ال ترضــي؛ ال مــن جهــة الديــن وال مــن‬
‫جهــة الدنيــا‪ ،‬وال مــن جهــة المــادة وال مــن المعنــى‪ .‬وإنــك لتجــد‬

‫‪13‬‬
‫ِّ‬
‫متأخريــن عــن‬ ‫المســلمين فــي البــاد التــي يســاكنهم فيهــا غيرهــم‬
‫هــؤالء األغيــار ال يســامتونهم فــي شــيء إال مــا نــزر‪ ،‬ولــم أعلــم‬
‫مــن المســلمين ممــن ســاكنهم أمــم أخــرى فــي هــذا العصــر ولــم‬
‫ِّ‬
‫متأخريــن عنهــم إال بعــض أقــوام منهــم‪ ،‬وذلــك كمســلمي‬ ‫يكونــوا‬
‫ـادي وال معنــوي أدنــى مــن‬
‫ـوي مـ ّ‬ ‫بوســنة مثـ ً‬
‫ا فإنهــم ليســوا فــي سـ ّ‬
‫سـ ّ‬
‫ـوي النصــارى الكاثوليكييــن‪ ،‬أو النصــارى األرثوذكســيين الذيــن‬
‫يحيطــون بهــم‪ ،‬بــل هــم أعلــى مســتوى مــن الفريقيــن (((‪ ،‬وككثيــر‬
‫مــن مســلمي الروســية الذيــن ليــس المســيحيون الذيــن يحاورونهــم‬
‫أرقــى منهــم‪.‬‬
‫ولقــد كان المســلمون فــي أذربيجــان قبــل الحــرب أرقــى مــن‬
‫الطوائــف المســيحية التــي تســاكنهم‪ ،‬وال خــاف فــي أن مســلمي‬
‫تأخرهــم‪ -‬هــم أرقــى مــن الصينييــن‬ ‫الصيــن إجمــا ً‬
‫ال ‪-‬علــى ُّ‬
‫البوذييــن‪ ،‬هــذا إذا كانــت النســبة بيــن الفريقيــن باقيــة كمــا كانــت‬
‫تأخــر‬
‫قبــل الحــرب العامــة‪ ،‬وفيمــا عــدا هــذه األماكــن نجــد ُّ‬
‫المســلمين عــن مســايرة جيرانهــم عامّــ ًا مــع تفــاوت فــي دركات‬
‫التأخــر‪.‬‬
‫ُّ‬
‫ويقــال‪ :‬إن العــرب فــي جزيــرة ســنغافورة هــم أعظــم ثــروة مــن‬
‫‪ 1‬كانوا أعلى مستوى من الكاثوليكيين واألرثوذكسيين من الجهة المادية بسبب أن ‪ 80‬في المئة من أراضي‬
‫بوسنة كانت ملك ًا للمسلمين‪ ،‬وكان الفالحون فيها جميع ًا من السربيين‪ ،‬فمنذ بضع عشرة سنة َسنَّت‬
‫نوابها نزعت بموجبه هذه األمالك من أيدي مالكيها المسلمين وسلّمتها‬‫حكومة بلغراد قانون ًا صّدقه مجلس ّ‬
‫معوضة على المسلمين إال ببدل بخس‪ ،‬فأصبحوا ال يملكون في بوسنة إال‬ ‫إلى الفالحيين السربيين غير ّ‬
‫فمْرضية؛ إلى اليوم‬
‫أهميتهم المادية من ذلك الوقت‪ ،‬أما حالتهم األدبية ُ‬
‫‪ 25‬في المئة من األراضي‪ ،‬فسقطت ّ‬
‫ال يقال‪ :‬إنها دنيا بالقياس إلى جيرانهم‪( .‬ش)‬

‫‪14‬‬
‫جميــع األجنــاس التــي تســاكنهم حتــى مــن اإلنكليــز أنفســهم‬
‫الصحــة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بالنســبة إلــى العــدد‪ ،‬وال أعلــم مبلــغ هــذا الخبــر مــن‬
‫ـدم أو ِ ّ‬
‫يؤخــر فــي‬ ‫صحتــه‪ -‬ليــس بشــيء‪ ،‬يقـ ِ ّ‬
‫ولكنــه ‪-‬علــى فــرض ّ‬
‫ميزانيــة المســلمين العامــة‪.‬‬
‫وال إنــكار أن فــي العالــم اإلســامي حركة شــديدة‪ ،‬ومخاض ًا عظيم ًا‬
‫شــام ً‬
‫ال لألمــور الماديــة والمعنويــة‪ ،‬ويقظــة جديــرة باإلعجــاب‪ ،‬قــد‬
‫ِّ‬
‫متوجــس‬ ‫ـن هــو‬
‫وقدروهــا قدرهــا‪ ،‬ومنهــم َمـ ْ‬
‫انتبــه إليهــا األوروبيــون ّ‬
‫مغبتهــا‪ ،‬ال يخفــى هــذا الخــوف مــن تضاعيــف كتاباتهــم‪،‬‬
‫خيفــة َّ‬
‫إال أن هــذه الحركــة إلــى األمــام لــم تصــل بالمســلمين حتــى اليــوم‬
‫إلــى درجــة يســاوون بهــا أ ّمــة مــن األمــم األوروبيــة أو األميركيــة أو‬
‫اليابان‪.‬‬
‫فبعــد أن تقـ َّرر هــذا وجــب أن نبحــث فــي األســباب التــي أوجــدت‬
‫هــذا التقهقــر فــي العالــم اإلســامي بعــد أن كان‪ ،‬منــذ ألــف ســنة‪،‬‬
‫ـدم‪ ،‬وهــو الســيد المرهــوب المطــاع بيــن األمــم‬
‫هــو الصــدر المقـ ّ‬
‫شــرق ًا وغربـ ًا‪ ،‬فقبــل أن نبحــث فــي أســباب االرتقــاء نقــول‪:‬‬

‫أسباب ارتقاء المسلمين الماضي‬

‫إن أســباب االرتقــاء كانــت عائــدة‪ ،‬فــي مجملهــا‪ ،‬إلــى الديانــة‬


‫فدان‬
‫َ‬ ‫اإلســامية التــي كانــت ظهــرت جديــد ًا فــي الجزيــرة العربيــة‪،‬‬
‫بهــا قبائــل العــرب‪ ،‬وتح ّولــوا‪ ،‬بهدايتهــا‪ ،‬مــن الفرقــة إلــى الوحــدة‪،‬‬

‫‪15‬‬
‫ومــن الجاهليــة إلــى المدنيــة‪ ،‬ومــن القســوة إلــى الرحمــة‪ ،‬ومــن‬
‫وتبدلــوا بأرواحهــم‬
‫ّ‬ ‫عبــادة األصنــام إلــى عبــادة الواحــد األحــد‪،‬‬
‫األولــى أرواحــ ًا جديــدة‪َّ ،‬‬
‫صيرتهــم إلــى مــا صــاروا إليــه مــن عــ ّز‬
‫ومنعــة‪ ،‬ومجــد وعرفــان وثــروة‪ ،‬وفتحــوا نصــف كــرة األرض فــي‬
‫ب بينهــم منــذ أواخــر‬
‫ـد َّ‬
‫نصــف قــرن‪ ،‬ولــوال الخــاف الــذي عــاد فـ َ‬
‫خالفــة عثمــان وفــي خالفــة علــي ‪-‬رضــي اللــه عنهمــا‪ -‬لكانــوا‬
‫أ كملــوا فتــح العالــم‪ ،‬ولــم يقــف فــي وجههــم واقــف‪.‬‬
‫علــى أن تلــك الفتوحــات التــي فتحوهــا فــي نصــف قــرن أو ثلثــي‬
‫تســببت بهــا مشــاقّ ة معاويــة لعلــي‬
‫َّ‬ ‫قــرن ‪-‬برغــم الحــروب التــي‬
‫والحــروب التــي وقعــت بيــن بنــي أميــة وابــن الزبيــر ‪ -‬قــد أدهشــت‬
‫وحيــرت الفاتحيــن‬
‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫والمفكريــن‪،‬‬ ‫عقــول العقــاء والمؤ ِ ّرخيــن‬
‫الكبــار‪ ،‬وأذهلــت نابليــون بونابــرت أعظمهــم‪ ،‬ولــه تصريــح فــي‬
‫ذلــك نقلــه عنــه «الكاس» الــذي رافقــه إلــى جزيــرة «ســانت‬
‫المقيديــن لحــوادث نابليــون الم َّتبعيــن‬‫ِّ‬ ‫هيالنــة»‪ ،‬وغيــره مــن‬
‫ألقوالــه؛ فقــد ثبــت ثبوتـ ًا قطعيـ ًا مــن أقــوال ذلــك الفاتــح العظيــم‬
‫وســيرته أيــام كان بمصــر أنــه كان معجب ـ ًا ُ‬
‫بم َح َّمــد وعمــر وبكثيــر‬
‫لمــا كان بمصــر أن ي َّتخــذ‬
‫حدثتــه ّ‬
‫مــن أبطــال اإلســام‪ ،‬وإن نفســه َّ‬
‫اإلســام دين ـ ًا لــه‪.‬‬
‫نشــأ ‪-‬إذ ًا‪ -‬العــرب تنشــئة مســتأنفة‪ ،‬وخلقهــم خلق ـ ًا‬
‫فالقــرآن قــد ّ‬
‫جديــد ًا‪ ،‬وأخرجهــم مــن جزيرتهــم والســيف فــي إحــدى اليديــن‬
‫َّ‬
‫ويتمكنــون فــي‬ ‫والكتــاب فــي األخــرى يفتحــون ويســودون‪،‬‬

‫‪16‬‬
‫األرض بطولهــا وعرضهــا‪.‬‬
‫وال عبــرة بمــا يقــال فــي شــأن العــرب قبــل اإلســام‪ ،‬ومــا ُيــروَى‬
‫مــن فتوحــات لهــم‪ ،‬ومــا ينـ ّوه بــه مــن أخــاق عظــام فــي الجاهليــة‪،‬‬
‫مدنيــة‬
‫ّ‬ ‫فهــذه قــد كانــت آثارهــا ظاهــرة وال تــزال‪ ،‬وال يكفــي‬
‫العــرب القديمــة وأنهــا مــن أقــدم مدنيــات العالــم علــى اإلطــاق‪،‬‬
‫وممــا ِ ّ‬
‫يرجــح أن الكتابــة قــد بــدأت عندهــم‪ ،‬وأنــه لــو فــرض أن‬
‫الفينيقييــن الذيــن اخترعــوا الكتابــة فــي العالــم‪ ،‬فالفينيقيــون ‪-‬فــي‬
‫الحقيقــة‪ -‬أ ّمــة ســامية عربيــة‪ ،‬ولكــن دائــرة تلــك المدنيــة كانــت‬
‫محــدودة مقصــورة علــى الجزيــرة ومــا جاورها‪.‬وقــد أتــى علــى‬
‫العــرب حيــن مــن الدهــر ســادهم الغربــاء فــي أرضهــم‪ ،‬وأذ ّلهــم‬
‫األجانــب فــي عقــر دارهــم‪ ،‬كالفــرس فــي اليمــن وفــي ُع َمــان وفــي‬
‫الحيــرة‪ ،‬وكاألحبــاش فــي اليمــن‪ ،‬وكالــروم فــي أطــراف الحجــاز‬
‫ومشــارف الشــام‪.‬‬
‫حقيقيـ ًا إال باإلســام‪ ،‬ولــم‬
‫ّ‬ ‫والحقيقــة أنهــم لــم يســتق ّلوا اســتقال ً‬
‫ال‬
‫تعرفهــم األمــم البعيــدة وتخنــع لهــم الممالــك العظــام والقياصــرة‬
‫ـدث بصولتهــم النــاس‪ ،‬ولــم يقعــدوا مــن التاريخ‬
‫واأل كاســرة‪ ،‬وتتحـ َّ‬
‫المقعــد الــذي أح َّلهــم فــي الصــف األول مــن األمــم الفاتحــة إال‬
‫بم َح َّمــد ص َّلــى ال َّلــه عليــه وس ـ َّلم‪.‬‬
‫ُ‬
‫فالســبب الــذي بــه نهضــوا وفتحــوا‪ ،‬وســادوا وشــادوا‪ ،‬وبلغــوا‬
‫هــذه المبالــغ كلهــا مــن المجــد والرقــي يجــب علينــا أن نبحــث‬
‫عنــه وننشــده‪ ،‬ونُحفــي المســألة‪ ،‬ونمعــن فــي النشــدان‪ :‬هــل هــو‬

‫‪17‬‬
‫وتأخــر معهــم‬
‫َّ‬ ‫تأخــروا برغــم وجــوده‪،‬‬ ‫بـ ٍ‬
‫ـاق فــي العــرب وهــم قــد ّ‬
‫تالميذهــم الذيــن هــم ســائر المســلمين؟ أم قــد ارتفــع هــذا الســبب‬
‫مــن بينهــم‪ ،‬ولــم يبــق مــن اإليمــان إال اســمه‪ ،‬ومــن اإلســام‬
‫إال رســمه‪ ،‬ومــن القــرآن إال التر ّنــم بــه مــن دون العمــل بأوامــره‬
‫ونواهيــه‪ ،‬إلــى غيــر ذلــك ممــا كان فــي صــدر الم ّلــة‪ ،‬وعنجهيــة‬
‫الشــريعة؟‪.‬‬

‫فَ قْ ُد المسلمين السبب الذي سار به سلفهم‬

‫إذا فحصنــا ذلــك وجدنــا أن الســبب الــذي بــه اســتقام هــذا األمــر‬
‫قــد أصبــح مفقــود ًا بــا نــزاع‪ ،‬وإن كان بقــي منــه شــيء فكباقــي‬
‫الوشــم فــي ظاهــر اليــد؛ فلــو كان اللــه تعالــى وعــد المؤمنيــن‬
‫بالعــ ّزة بمجــ َّرد االســم دون الفعــل لــكان يحــقّ لنــا أن نقــول‪:‬‬
‫أيــن عــ ّزة المؤمنيــن‪ ،‬مــن قولــه تعالــى‪َ « :‬و ِل َّلــ ِه العِــ َّز ُة َو ِل َر ُســو ِل ِه‬
‫ِيــن» ( ((؟‬
‫َو ِلل ُْمؤْمِ ن َ‬
‫ـن» (((‪.‬‬
‫المؤْمِ نِيـ َ‬
‫َص ـ ُر ُ‬ ‫ولــو كان اللــه قــد قــال‪« :‬و ََك َ‬
‫ان َحقّ ـ ًا َع َل ْي َنــا ن ْ‬
‫بمعنــى أنــه ينصرهــم بــدون أدنــى مز ّيــة فيهــم ســوى أنهــم يعلنــون‬
‫للتعجــب مــن هــذا الخــذالن‬
‫ُّ‬ ‫ثمــة محـ ّ‬
‫ـل‬ ‫كونهــم مســلمين‪ ،‬لــكان ّ‬
‫بعــد ذلــك الوعــد الصريــح بالنصــر‪.‬‬
‫‪ 1‬المنافقون‪ :‬من اآلية ‪.8‬‬
‫‪ 2‬الروم‪ :‬من اآلية ‪.47‬‬

‫‪18‬‬
‫ولكــن النصــوص التــي فــي القــرآن هــي غيــر هــذا‪ ،‬فاللــه غيــر‬
‫يتغيــر‪ ،‬وإنمــا المســلمون هــم الذيــن‬
‫َّ‬ ‫مخلــف وعــده‪ ،‬والقــرآن لــم‬
‫تغيــروا‪ ،‬واللــه تعالــى أنــذر بهــذا فقــال‪« :‬إ َِّن ال ّلـ َه َ‬
‫ال ي َُغ ِ ّيـ ُر َمــا بِ قَ ـ ْو ٍم‬ ‫ّ‬
‫َح َّتــى ي َُغ ِ ّي ـ ُروا َمــا بِ َأ ُ‬
‫نفسِ ـ ِـه ْم» (((‪.‬‬
‫غيــروا مــا بأنفســهم كان مــن العجــب أن‬
‫فلمــا كان المســلمون قــد َّ‬
‫ّ‬
‫ِّ‬
‫والضعــة مــن ذلــك العـ ّز‬ ‫يبدلهــم الـ ّ‬
‫ـذل‬ ‫ال ِ ّ‬
‫يغيــر اللــه مــا بهــم‪ ،‬وأن ال ّ‬
‫وتلــك الرفعــة‪ ،‬بــل كان ذلــك منافي ـ ًا للعــدل اإللهــي‪ ،‬واللــه َ‬
‫‪-‬ع ـ َّز‬
‫وجـ َّ‬
‫ـل‪ -‬هــو العــدل المحــض‪.‬‬ ‫َ‬
‫كيــف تــرى فــي أ ّمــة ينصرهــا اللــه بــدون عمــل‪ ،‬ويفيــض عليهــا‬
‫الخيــرات التــي كان يفيضهــا علــى آبائهــا‪ ،‬وهــي قــد قعــدت عــن‬
‫جميــع العزائــم التــي قــد كان يقــوم بهــا آباؤهــا؟! وذلــك يكــون‬
‫أيضــ ًا مخالفــ ًا للحكمــة اإللهيــة‪ ،‬واللــه هــو العزيــز الحكيــم‪ ،‬مــا‬
‫قولــك فــي عــ ّزة بــدون اســتحقاق‪ ،‬وفــي غ ّلــة بــدون حــرث وال‬
‫زرع‪ ،‬وفــي فــوز دون ســعي وال كســب‪ ،‬وفــي تأييــد دون أدنــى‬
‫ســبب يوجــب التأييــد؟!‬
‫ال جــرم أن هــذا ممــا يغــري النــاس بالكســل‪ ،‬وي َُحــول بينهــم وبيــن‬
‫العمــل‪ ،‬بــل ممــا يخالــف النواميــس التــي أقــام اللــه الكــون عليهــا‪،‬‬
‫وممــا يســتوي بــه الحــقّ والباطــل‪ ،‬والضــا ّر والنافــع‪ ،‬وحاشــا اللــه‬
‫أن يفعــل ذلــك‪ .‬ولــو أ َّيــد اللــه مخلوق ـ ًا بــدون عمــل أل َّيــد ‪-‬مــن‬
‫‪ 1‬الرعد‪ :‬من اآلية ‪.12‬‬

‫‪19‬‬
‫دون عمــل‪ -‬مُ َح َّمــد ًا رســوله‪ ،‬ولــم يُحوجــه إلــى القتــال والنــزال‬
‫والنضــال‪ ،‬وا ِ ّتبــاع ســنن الكــون الطبيعيــة للوصــول إلــى الغايــة‪.‬‬
‫تــؤدي مــن المئــة خمســة‬
‫ّ‬ ‫وتصــ َّو ْر أمّــة اللــه عندهــا مئــة‪ ،‬وهــي‬
‫أدت مــا عليهــا‪ ،‬وتطمــع فــي أن يكافئهــا‬
‫ـد نفســها قــد ّ‬
‫فقــط‪ ،‬أتعـ ّ‬
‫ـؤدون المئــة مئــة‪،‬‬
‫اللــه كمــا كان يكافــئ أجدادهــا الذيــن كانــوا يـ ّ‬
‫ّ‬
‫‪-‬باألقل‪-‬تســعين أو ثمانيــن منهــا؟‬ ‫أدوا‬
‫وإن قصــروا عــن المئــة ّ‬
‫كل هــذا مخالــف لمــا وعــد اللــه علــى رســله‪ ،‬ومخالــف للعقــل‬
‫والمنطــق‪ ،‬ومخالــف لحكمــة التشــريع‪ ،‬وليــس هــذا هــو الشــرط‬
‫الــذي شــرطه اللــه علــى المؤمنيــن‪ ،‬وليــس هــذا هــو البيــع الــذي‬
‫يستبشــر بــه المؤمنــون‪.‬‬
‫ـه ْم َو َأ ْم َوا َل ُهم‬ ‫ـن َأ ُ‬
‫نف َسـ ُ‬ ‫المؤْمِ نِيـ َ‬
‫ـن ُ‬ ‫قــال اللــه تعالــى‪« :‬إ َِّن ال ّلـ َه ْ‬
‫اشـ َت َرى مِ ـ َ‬
‫ـون َويُقْ َت ُلـ َ‬
‫ـون و َْعــد ًا‬ ‫يل ال َّل ـ ِه ف ََيقْ ُت ُلـ َ‬ ‫الج َّن ـ َة ُيقَ ا ِت ُلـ َ‬
‫ـون ِفــي َســبِ ِ‬ ‫ـم َ‬‫بِ ـ َأ َّن َل ُهـ ُ‬
‫َــن َأ ْوفَــى بِ َع ْه ِ‬
‫ــد ِه‬ ‫يــل وَال ُْقــ ْر ِ‬
‫آن َوم ْ‬ ‫نج ِ‬ ‫إل ِ‬
‫َع َل ْيــ ِه َحقًّ ــا فِــي ال َّتــ ْورَا ِة وَا ِ‬
‫ـك ُه ـ َو الفَ ـوْزُ‬ ‫َاس َت ْبشِ ـ ُروا بِ َب ْيع ُِكـ ُ‬
‫ـم ا َّلـ ِـذي بَاي َْع ُتــم بِ ـ ِه و ََذ ِلـ َ‬ ‫ـن ال َّل ـ ِه ف ْ‬
‫مِ ـ َ‬
‫العظِ يــم» (((‪.‬‬
‫َ‬

‫فأيــن حالــة المســلمين اليــوم مــن هــذا الوصــف الــذي فــي كتــاب‬
‫اللــه؟ وأيــن حالتهــم مــن ســلفهم الذيــن كانــوا يتهافتــون علــى‬
‫المــوت إلحــراز الشــهادة‪ ،‬وكثيــر ًا مــا كانــوا ينشــدون المــوت وال‬
‫‪1‬التوبة‪.111 :‬‬

‫‪20‬‬
‫ـم ريــح الج ّنــة‪،‬‬
‫يجدونــه؟ وكان فارســهم يكـ ّر وهــو يقــول‪ :‬إنــي ألشـ ّ‬
‫ثــم ال يــزال يكــ ّر ويخــوض غمــرات الحــرب حتــى إذا استشــهد‬
‫قــال‪ :‬هــذا يــوم الفــرح‪ ،‬وإذا فاتتــه الشــهادة برغــم حرصــه عليهــا‬
‫عــاد إلــى قومــه حزين ـ ًا كئيب ـ ًا‪.‬‬

‫المقابلة بين حا َلي المسلمين واإلفرنج اليوم‬

‫اليــوم فَقَ َ‬
‫ــد المســلمون أو أ كثرهــم هــذه الحماســة التــي كانــت‬
‫عنــد آبائهــم‪ ،‬وإنمــا تخ َّلــق بهــا أعــداء اإلســام الذيــن لــم يوصهــم‬
‫كتابهــم بهــا‪ ،‬فتجــد أجنادهــم تتــوارد علــى حيــاض المنايــا ســباق ًا‪،‬‬
‫وتتلقّ ــى األســ ّنة والحــراب عناقــ ًا‪ ،‬ولقــد كان مبلــغ مفاداتهــم‬
‫بالنفائــس وتضحيتهــم للنفــوس فــي الحــرب العامــة فــوق تص ـ ُّور‬
‫عقــول البشــر‪ ،‬كمــا يعلــم ذلــك لــك أحــد؛ فاأللمــان فقــدوا نحــو‬
‫ـي قتيــل‪ ،‬والفرنســيون فقــدوا مليونـ ًا وأربــع مئــة ألــف قتيــل‪،‬‬
‫مليو َنـ ْ‬
‫واإلنجليــز فقــدوا ســت مئــة ألــف قتيــل‪ ،‬والطليــان فقــدوا أربــع مئة‬
‫وســتين ألــف قتيــل‪ ،‬والــروس هلــك منهــم مــا يفــوق اإلحصــاء‪،‬‬
‫وهلــم جــ ّرا‪ ،‬هــذا مــن جهــة النفــوس‪ ،‬وإنجلتــرا بذلــت ســبعة‬
‫ّ‬
‫مليــارات مــن الذهــب (أي ســبعة آالف مليــون جنيــه)‪ ،‬وفرنســا‬
‫كذلــك نحــو ملياريــن‪ ،‬وألمانيــا أنفقــت ثالثــة‪ ،‬وإيطاليــا أنفقــت‬
‫خمــس مئــة مليــون‪ ،‬وروســية أنفقــت مــا أوقــع فيهــا المجاعــة التــي‬
‫ـم ج ـ ّرا‪.‬‬
‫آلــت إلــى الثــورة ثــم إلــى البلشــفة‪ ،‬وهلـ ّ‬

‫‪21‬‬
‫فيلقــل لــي قائــل‪ :‬أيّــة أمّــة مســلمة اليــوم ُت ِ‬
‫قــدم علــى مــا أقــدم‬
‫عليــه هــؤالء النصــارى مــن بيــع النفــوس‪ ،‬وإنفــاق األمــوال بــدون‬
‫حســاب فــي ســبيل أوطانهــم ودولهــم‪ ،‬حتــى نعجــب نحــن لمــاذا‬
‫آتاهــم اللــه هــذه النعمــة والعظمــة والثــروة‪ ،‬وحــرم المســلمين اليــوم‬
‫أقـ ّ‬
‫ـل جــزء منهــا؟‬
‫وقــد يقــال‪ :‬إن المســلمين فقــراء ليــس عندهــم هــذه األمــوال‬
‫نــوزع هــذه النفقــات‬
‫ّ‬ ‫لينفقــوا هــذا اإلنفــاق كلــه‪ ،‬فنجيــب بأننــا‬
‫علــى األوروبييــن بنســبة رأس المــال‪ ،‬ال نك ِ ّلــف المســلمين إال‬
‫اإلنفــاق مثــل األوروبييــن فــي هــذه النســبة‪ ،‬فهــل تســخو األمــم‬
‫اإلســامية الحاضــرة بمــا تســخو األمــم األوروبيــة التــي منهــا مــن‬
‫قــد أنفقــت فــي الحــرب العامــة أ كثــر مــن نصــف ثروتهــا؟‬
‫الجــواب‪ :‬ال‪ ،‬ليــس فــي المســلمين اليــوم مــن يفعــل ذلــك ال أفراد ًا‬
‫وال أقوامـ ًا‪ ،‬ونــدر فــي المســلمين مــن ينفــق الزكاة الشــرعية‪.‬‬
‫وقــد يقــال‪ :‬إن األ ّمــة التركيــة وهــي أ ّمــة مســلمة قــد أنفقــت كل مــا‬
‫تقــدر عليــه فــي حــرب اليونــان‪ ،‬ولــم تقصــر عــن شــأو األوروبييــن‬
‫فــي المفــاداة باألنفــس والنفائــس‪.‬‬
‫والجواب‪ :‬نعم‪.‬‬
‫ـن بــذل ثلــث ثروتــه‪ ،‬ومنهــم مــن‬
‫وقــد كان ذلــك‪ ،‬ومــن التــرك َمـ ْ‬
‫لمــا فعلــوا ذلــك‬
‫بــذل نصــف ثروتــه فــي هــذه الحــرب‪ ،‬ولكنهــم ّ‬
‫انقلبــوا بنعمــة مــن اللــه وفــازوا‪ ،‬وحــ ّرروا أنفســهم واســتق ّلوا‪،‬‬
‫وارتفعــوا بعــد أن كانــوا ه ـ َووا‪ ،‬وع ـ ّزوا بعــد أن كانــوا ذ ّلــوا؛ إذ ًا‪،‬‬

‫‪22‬‬
‫األمــم اإلســامية إذا ائتمــرت فــي المفــاداة بمــا أمرهــا بــه كتابهــا‬
‫كمــا كان يفعــل آباؤهــا‪ ،‬أو افتــدت ‪-‬علــى األقـ ّ‬
‫ـل‪ -‬بمــا هــو دأب‬
‫األوروبييــن اليــوم مــن بــذل النفــوس والنفائــس فــي ســبيل حفــظ‬
‫بيضتهــا‪ ،‬وذود المعتديــن عنهــا لــم تقطــف مــن ثمــرات التضحيــة‬
‫إال مثــل مــا قطفــه غيرهــا‪ ،‬وانقلبــت بنعمــة مــن اللــه وفضــل لــم‬
‫يمسســها ســوء‪.‬‬
‫ولكــن األمــم اإلســامية تريــد حفــظ اســتقاللها بــدون مفــاداة وال‬
‫تضحيــة‪ ،‬وال بيــع أنفــس وال مســابقة إلــي المــوت‪ ،‬وال مجاهــدة‬
‫بالمــال‪ ،‬وتطالــب اللــه بالنصــر علــى غيــر الشــرط الــذي اشــترطه‬
‫فــي النصــر (((‪ ،‬فــإن اللــه ‪ -‬ســبحانه ‪ -‬يقول‪َ «:‬و َل َي ُ‬
‫نصــ َر َّن ال َّلــ ُه‬

‫َنص ْر ُك ْ‬
‫ــم َو ُي َث ِ ّب ْ‬
‫ــت‬ ‫َنصــ ُرهُ» (((‪ ،‬ويقــول‪«:‬إِن َت ُ‬
‫نصــ ُروا اللّــ َه ي ُ‬ ‫مَــن ي ُ‬
‫ــم» (((‪.‬‬ ‫أَقْ َدام َُك ْ‬
‫ومــن المعلــوم أن اللــه تعالــى غيــر محتــاج إلــى نصــر أحــد‪ ،‬وإنمــا‬
‫يريــد بنصرتــه تعالــى إطاعــة أوامــره واجتنــاب نواهيــه‪ ،‬ولكــن‬
‫المســلمين أهملــوا جميــع مــا أمرهــم بــه كتابهــم فــي (ذلــك) أو‬
‫أ كثــره‪ ،‬واعتمــدوا فــي اســتحقاق النصــرة علــى كونهــم مســلمين‬
‫موحديــن‪ ،‬وظنــوا أن هــذا يغنيهــم عــن الجهــاد باألنفــس واألموال‪،‬‬
‫ّ‬
‫‪« 1‬المنار»‪ :‬يراجع تفاصيل هذه المسألة في أجزاء «تفسير المنار» تجده بداللة الفهارس في مواضع من‬
‫أكثرها‪ ،‬منها ‪ 13‬موضع ًا في الجزء الرابع منه‪ ،‬و‪ 7‬مواضع في الجزء الثاني‪ ،‬وآخرها في آخر الجزء‬
‫التاسع‪ ،‬ولها مزيد في بضعة مواضع من الجزء العاشر‪( .‬ر)‬
‫‪ 2‬الحج‪.40 :‬‬
‫‪ُ 3‬م َح َّمد‪ :‬من اآلية ‪.7‬‬

‫‪23‬‬
‫ـرب الع ّزة؛ ألنــه يجده‬
‫ومنهــم مــن اعتمــد علــى الدعــاء واالبتهــال لـ ّ‬
‫أيســر عليــه مــن القتــل والبــذل‪ ،‬ولــو كان مجـ ّرد الدعــاء يغنــي عــن‬
‫الجهــاد الســتغنى بــه النبــي ص َّلــى ال َّلــه عليــه وســ َّلم وصحابتــه‪،‬‬
‫وســلف هــذه األ ّمــة‪ ،‬فإنهــم الطبقــة التــي هــي أولــى بــأن يســمع‬
‫اللــه دعاءهــا‪ ،‬ولــو كانــت اآلمــال ُتب َلــغ باألدعيــة واألذكار‪ ،‬دون‬
‫األعمــال واآلثــار‪ ،‬النتقضــت ســنن الكــون‪ ،‬وب َُطــل التشــريع‪ ،‬ولــم‬
‫ــعى» ((( ولــم‬ ‫ال مَــا َس َ‬ ‫ــان ِإ َّ‬‫نس ِ‬ ‫إل َ‬‫ــس ِل ِ‬‫لي َ‬‫يقــل اللــه تعالــى‪َ «:‬و َأن ْ‬
‫ـم َور َُســو ُل ُه» ((( ‪.‬‬ ‫اع َم ُلــوا ف ََسـ َـي َرى ال َّل ـ ُه َع َم َل ُكـ ْ‬‫ـل ْ‬ ‫يقــل‪« :‬و َُقـ ِ‬
‫ـن َل ُكـ ْ‬
‫ـم‬ ‫ولــم يقــل للمعتذريــن عــن القتــال‪« :‬ال َت ْع َتـ ِـذرُوا َلــن ُّنؤْمِ ـ َ‬
‫َسـ َـي َرى ال َّل ـ ُه َع َم َل ُكـ ْ‬
‫ـم َور َُســو ُل ُه»‬ ‫ـن َأ ْخ َب ِار ُكـ ْ‬
‫ـم و َ‬ ‫ـد ن ََّب َأ َنــا ال َّل ـ ُه مِ ـ ْ‬
‫َقـ ْ‬
‫(((‬

‫(((‬
‫نكم»‬ ‫يع َع َم َل َعامِ ٍل ِ ّم ُ‬ ‫ض ُ‬ ‫ولم يقل‪َ « :‬أ ِ ّني َ‬
‫ال ُأ ِ‬
‫الصــاة‬
‫لقــد ظــن كثيــر مــن المســلمين أنهــم مســلمون بمجــ ِ ّرد َّ‬
‫ِ‬
‫يكلفّ هــم بــذل دم ومــال‪ ،‬وانتظــروا علــى‬ ‫والصيــام وكل مــا ال‬
‫ذلــك النصــر مــن اللــه‪ ،‬وليــس األمــر كذلــك‪ ،‬فــإن عزائــم اإلســام‬
‫الصــاة والصيــام‪ ،‬وال فــي الدعــاء واالســتغفار‪،‬‬
‫ال تنحصــر فــي َّ‬
‫وكيــف يقبــل اللــه الدعــاء ممــن قعــدوا وتخ ّلفــوا‪ ،‬وقــد كان فــي‬
‫(((‬
‫وســعهم أن ينهضــوا ويبذلــوا؟!‬
‫‪ 1‬النجم‪.39 :‬‬
‫‪ 2‬التوبة‪ :‬من اآلية ‪.105‬‬
‫‪ 3‬التوبة‪ :‬من اآلية ‪.94‬‬
‫‪ 4‬آل عمران‪ :‬من اآلية ‪.195‬‬
‫بالصالة والصيام لعلمه بأن أكثرهم تركها وهي ركن اإلسالم الدنيوي‬‫َّ‬ ‫‪ 5‬يظهر أن األمير لم يقرن الزكاة‬
‫الة ركنه الروحي‪ ،‬وهم يطلبون الدنيا ويتركون من اإلسالم أهم أركانها ‪ -‬الزكاة‪ ،‬والجهاد‬
‫والص ُ‬
‫َّ‬ ‫المادي‪،‬‬

‫‪24‬‬
‫اعتذار المسلمين عن أنفسهم وردّ ه‬

‫يقولــون‪ :‬ليــس عنــد المســلمين مــا عنــد اإلفرنــج مــن الثــروة‬


‫والســعة لينفقــوا فــي أعمــال الخيــر وفــي مســاعدة بعضهــم بعض ـ ًا‬
‫الحجــة‪ :‬إننــا نرضــى منهــم أن ينفقــوا‬
‫ّ‬ ‫ـج بهــذه‬
‫‪ .‬فنقــول لمــن يحتـ ّ‬
‫ـدم الــكالم عنــد ذكــر الجهــاد‬
‫علــى نســبة رؤوس أموالهــم كمــا تقـ َّ‬
‫بالمــال‪ ،‬فهــل المســلمون فاعلــون؟! إننــا نراهــم قــد محــوا رســوم‬
‫والمؤسســات الخيريــة التــي تركهــا آباؤهــم‪ ،‬فض ـ ً‬
‫ا عــن‬ ‫َّ‬ ‫األوقــاف‬
‫الخاصــة‪ ،‬وال يجــرون مــع األوروبييــن‬
‫ّ‬ ‫كونهــم ال يتب َّرعــون بأموالهــم‬
‫فــي ميــدان مــن جهــة التبـ ُّرع ألجــل المشــروعات العا ّمــة‪ ،‬فكيــف‬
‫يطمــع المســلمون أن تكــون لهــم منزلــة األوروبييــن فــي البســطة‬
‫ِّ‬
‫مقصــرون عنهــم بمراحــل فــي اإليثــار‬ ‫والقــ ّوة والســلطان‪ ،‬وهــم‬
‫والتضحيــة؟! فــإن العمــل ألجــل الســلطان فــي األرض أشــبه‬
‫بالحــرث فــي األرض‪ ،‬فبقــدر مــا تشــتغل فيهــا هــي تعطيــك‪ ،‬وإن‬
‫قصــرت هــي فــي الثمــر ‪،‬والمســلمون يريــدون‬
‫قصــرت فــي العمــل ّ‬
‫ّ‬
‫ســلطان ًا يشــبه ســلطان األوروبييــن بــدون إيثــار وال بــذل‪ ،‬وال فقــد‬
‫شــيء مــن لذائذهــم‪ ،‬وينســون أن اللــه تعالــى يقــول‪َ « :‬و َل َن ْب ُل َون َُّكــم‬
‫نف ِ‬
‫ــس‬ ‫أل ُ‬ ‫ال وَا َ‬ ‫ألمْــ َو ِ‬ ‫ــص ِ ّم َ‬
‫ــن ا َ‬ ‫الخــ ْو ِف وَال ُْج ِ‬
‫ــوع َو َنقْ ٍ‬ ‫ــي ٍء ِ ّم َ‬
‫ــن َ‬ ‫بِ شَ ْ‬
‫ات َوب ِ َّشــرِ َّ‬
‫الصابِ رِ َ‬
‫يــن» ((( ‪.‬‬ ‫وَال َّث َمــ َر ِ‬

‫بالمال والنفس في سبيل اهلل ‪ -‬وقد وصف اهلل المؤمنون الصادقين بالجهاد بأموالهم وأنفسهم‪ ،‬فقدم ذكر‬
‫َّهُل َكِة) أي بعد اإلنفاق‪،‬‬ ‫ْقوْا ِبَأْيد ُ‬
‫ِيكْم ِإَلى التْ‬ ‫يل َِّ‬
‫الل َو َال ُتلُ‬ ‫(وَأنفُ‬
‫ِقوْا فِي َسِب ِ‬ ‫المال‪ ،‬وقال في سياق آيات القتال‪َ :‬‬
‫وقد قاتل الصحابة (رضي اهلل عنهم) من منع الزكاة ولم يعتدوا بإسالمهم بدونها‪(.‬ر)‬
‫‪ 1‬البقرة‪.155 :‬‬

‫‪25‬‬
‫وقــد يقولــون‪ :‬إننــا ج َّربنــا البــذل والتضحيــة‪ ،‬واب ُتلينــا بالنقــص مــن‬
‫األمــوال واألنفــس والثمــرات‪ ،‬وصبرنــا‪ ،‬ولــم ُيفِدنــا ذلــك شــيئ ًا‪،‬‬
‫وبقــي األوروبيــون مســ َّلطين علينــا‪ ،‬إنــي أنقــل هــذا القــول عــن‬
‫بعضهــم؛ ألنــي قــد ســمعته كثيــر ًا‪.‬‬
‫يدعونــه مــن البــذل‬
‫والجــواب‪ :‬هــل يقــدرون أن يقولــوا لنــا أن مــا َّ‬
‫والتضحيــة يشــبه شــيئ ًا ممــا يقــوم بــه النصــارى واليهــود مــن هــذا‬
‫القبيــل؟ أو إنــه إذا نســب إليــه تكــون نســبته نســبة الواحــد إلــى‬
‫المئــة؟‬
‫عندنــا مثــال حديــث العهــد هــو مســألة فلســطين‪ :‬حدثــت وقائــع‬
‫دمويــة بيــن العــرب واليهــود فــي فلســطين فأصيــب بهــا أنــاس‬
‫مــن الفريقيــن‪ ،‬فأخــذ اليهــود فــي جميــع أقطــار الدنيــا يســاعدون‬
‫المصابيــن مــن يهــود فلســطين‪ ،‬وأراد العالــم اإلســامي أن يســاعد‬
‫عــرب فلســطين كمــا هــو طبيعــي‪ ،‬فبلغــت تب ُّرعــات اليهــود ألبنــاء‬
‫م ّلتهــم مــن فلســطين مليــون جنيــه‪ ،‬وبلغــت تب ُّرعــات المســلمين‬
‫كلهــا ‪ 13‬ألــف جنيــه‪ ،‬أي نحــو جــزء مــن مئــة (((‪.‬‬
‫عنيت بهذه الواقعة الفتنة التي جرت سنة ‪ 1929‬ميالدية‪ ،‬وكان مجموع ما أعان به العرب إخوانهم في‬ ‫ُ‬ ‫‪1‬‬
‫فلسطين ثالثة عشر ألف جنيه ال غير‪ ،‬إال أن حوادث الدهر علَّمت المسلمين وأيقظتهم‪ ،‬ونيران المصائب‬
‫والخطوب أحسنت سبكهم‪ ،‬ففي هذه السنوات العشر األخيرة بدأوا يقتدون باليهود واألوروبيين في البذل‪،‬‬
‫وساروا فيه على أثرهم‪ ،‬وإن كانوا ال يزالون في أول الطريق‪ ،‬ولقد أحصيت إعانات العرب إلخوانهم‬
‫في فلسطين بين سنَت ْي ‪ 1937‬و‪ 1938‬فزادت على ما كان يحصل من قبل‪ ،‬ولكن هذه اإلعانات أثمرت‬
‫وثبتت أقدام العرب في وجه اإلنجليز واليهود‪ ،‬حتى اضطر اإلنجليز إلى سوق ‪ 30‬ألف جندي هم‬ ‫ثمرها‪َّ ،‬‬
‫مستمر من سنتين إلى اآلن مع العرب ووراءهم قوى عظيمة من البوليس واليهود والمسلّحين‬ ‫ّ‬ ‫في نضال‬
‫قوة شرقي األردن‪ ،‬ولم يتمكنوا من إخماد الثورة وال حصلوا على‬ ‫والخائنين من العرب أنفسهم ومن ّ‬
‫طائل‪ ،‬وعادت اإلنجليز فنكصت على أعقابها‪ ،‬ورضيت بعقد مؤتمر في لندرة تحضره وفود الدول العربية‬
‫حل المعضلة الفلسطينية‪ ،‬ورجعت عن برنامجها األول؛ وهو إعطاء فلسطين لليهود راضية بأن‬ ‫لمساعدتها ّ‬
‫التحول نتيجة المقاومة‪ ،‬وهذه المقاومة إنما كانت‬
‫ُّ‬ ‫يكون هؤالء ثلث عدد السكان ال يزيدون على الثلث‪ ،‬فهذا‬

‫‪26‬‬
‫فســيقولون‪ :‬إن المســلمين ال يملكــون مثــل ثــروة اليهــود‪ ،‬ونعــود‬
‫فنجيبهــم‪ :‬نرضــى منهــم بــأن ينفقــوا فــي مســاعدة م َّلتهــم علــى قــدر‬
‫اليهــود واإلفرنــج بالنســبة إلــى رؤوس أموالهــم‪ ،‬وال نطالــب منهــم‬
‫الفقــراء الذيــن ال يملكــون مــا يزيــد علــى كفايــة عائالتهــم‪.‬‬
‫ال علــى ال َْم ْر َضــى َو َ‬
‫ال‬ ‫ــس علــى ُّ‬
‫الض َعفَ ــاء َو َ‬ ‫«لي َ‬
‫قــال اللــه تعالــى‪ْ :‬‬
‫ـون َحـ َر ٌج إ َِذا ن َ‬
‫َص ُحــو ْا ِل َّلـ ِه َور َُســو ِل ِه‬ ‫ون َمــا يُنف ُِقـ َ‬ ‫ال ي َِجـ ُ‬
‫ـد َ‬ ‫ـن َ‬ ‫علــى ِ‬
‫الذيـ َ‬
‫ِين مِ ــن َســبيل» (((‪.‬‬
‫َمــا علــى ال ُْم ْحسِ ـن َ‬
‫ــم‬ ‫يــن ي َْســ َتأ ِْذنُون َ‬
‫َك و َُه ْ‬ ‫الذ َ‬‫يل علــى ِ‬ ‫الســبِ ُ‬
‫ثــم قــال تعالــى‪« :‬إنَّمــا َّ‬
‫ِــف» (((‪.‬‬ ‫الخ َوال ِ‬ ‫َضــوا بِ ــ َأن ي َُكونُــوا م َ‬
‫َــع َ‬ ‫َأغْ ن َِيــا ُء ر ُ‬
‫ونجيــب أيضــ ًا‪ :‬إنــه‪ ،‬وإن كان اليهــود أغنــى باألمــوال مــن‬
‫ـد ًا بالعــدد؛ ألن اليهــود عشــرون‬
‫المســلمين‪ ،‬فالمســلمون أ كثــر جـ ّ‬
‫مليونـ ًا‪ ،‬والمســلمين نحــو مــن أربــع مئــة مليــون (((‪ ،‬فلــو أن كلّاً مــن‬
‫المســلمين تب ـ َّرع لفلســطين بقــرش واحــد ‪ -‬وهــو الــذي ال يعجــز‬
‫ـتد فقــره ‪ -‬الجتمــع مــن ذلــك ثالثــة‬
‫عنــه أحــد فــي العالــم مهمــا اشـ ّ‬
‫مالييــن جنيــه ونصــف‪.‬‬
‫فلنتــرك تســعة أعشــار المســلمين‪ ،‬ونفــرض هــذه اإلعانــة لفلســطين‬
‫نتيجة البذل والسماح واستصغار الدنيا‪ ،‬ومن استصغر الدنيا كبرت لديه‪ ،‬ومن هانت عليه الحياة جاءته‬
‫الحياة تسعى على رجليها‪ ،‬سنّة اهلل في خلقه‪ ،‬ولن تجد لسنّة اهلل تبديالً‪(.‬ش)‬
‫‪ 1‬التوبة‪ :‬من اآلية ‪.91‬‬
‫‪ 2‬التوبة‪ :‬من اآلية ‪.93‬‬
‫‪ 3‬بعد أن ثبت باإلحصاء الرسمي أن مسلمي الصين خمسون مليون نسمة‪ ،‬تحقَّق أن مسلمي المعمور كله‬
‫ال يقلّون عن أربعمئة مليون؛ منهم ‪ 24‬مليون ًا من العرب في آسيا‪ ،‬و‪ 17‬مليون ًا من الترك في األناضول‪،‬‬
‫و‪ 16‬مليون ًا في إيران‪ ،‬و‪ 10‬ماليين في أفغانستان‪ ،‬و‪ 85‬مليون ًا في الهند‪ ،‬و‪ 56‬مليون ًا في الجاوى‪ ،‬و‪25‬‬
‫مليون ًا في الروسية‪ ،‬وثالثة ماليين في أوروبا‪ ،‬و‪ 50‬مليون ًا في الصين‪ ،‬ومئة مليون في إفريقية‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫علــى عشــر واحــد منهــم‪ ،‬أي علــى ‪ 35‬مليــون نســمة ال غيــر‪،‬‬
‫وهــؤالء الخمســة والثالثــون مليــون نســمة نجدهــم حــول فلســطين‬
‫فــي لمحــة بصــر‪ ،‬فــإن مســلمي مصــر وســوريا وفلســطين والعــراق‬
‫َ‬
‫ولنتقــاض مــن‬ ‫ونجــد الحجــاز واليمــن وعمــان هــم ‪ 35‬مليونــ ًا‪،‬‬
‫هــؤالء أداة قــرش واحــد عــن كل جمجمــة‪ ،‬فمــاذا يجتمــع لنــا مــن‬
‫ذلــك؟‬
‫الجواب‪ :‬يجتمع ثالثمئة وخمسون ألف جنيه‪.‬‬
‫فالمســلمون قــد تب َّرعــوا عــن هــذه األعــداد ك ّلهــا بثالثــة عشــر ألــف‬
‫جنيــه أي بمــا يســاوي نحــو ثلثــي عشــر القــرش عــن كل نســمة مــن‬
‫عشــر عددهم‪.‬‬
‫تسموه «تضحية»؟‬
‫ّ‬ ‫أهذا ما تريدون أن‬
‫َأ َو بمثل هذه تجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم؟‬
‫َأ َو هــذه درجــة نجدتكــم إلخوانكــم فــي الديــن وجيرانكــم فــي‬
‫الوطــن والقائميــن عنكــم بالدفــاع عــن المســجد األقصــى الــذي‬
‫هــو ثالــث الحرميــن وأوّل القِبلتيــن؟ أفلــم يقــل اللــه تعالــى‪ِ « :‬إن ََّمــا‬
‫ـون إ ِْخ ـ َوةٌ» (((؟‬
‫المؤْمِ ُنـ َ‬
‫ُ‬
‫أفهذه نجدة األخ ألخيه؟!‬
‫يقولــون‪ :‬لمــاذا ســادت األ ّمــة اإلنجليزيــة هــذه الســيادة ك ّلهــا فــي‬
‫العالــم؟ نجيبهــم‪ :‬إنهــا ســادت باألخــاق والمبــادئ الوطنيــة‬
‫‪ 1‬الحجرات‪ :‬من اآلية ‪.10‬‬

‫‪28‬‬
‫حدثنــي رجــل ثقــة أنــه يعــرف إنجليزي ـ ًا ذا منصــب فــي‬
‫العاليــة‪َّ ،‬‬
‫الشــرق كان خادمــه يشــتري لــه الحوائــج الالزمــة لبيتــه يومي ـ ًا مــن‬
‫ّ‬
‫دكان رجــل إنجليــزي فــي البلــدة التــي هــم فيهــا‪ ،‬فجــاءه الخــادم‬
‫م ـ ّرة بجــدول حســاب و َّفــر عليــه بــه ‪ 20‬جنيه ـ ًا فــي شــهر‪ ،‬فســأله‬
‫اإلنجليــزي‪ :‬كيــف أمكنــك هــذا التوفيــر؟ فقــال الخــادم‪ :‬تركنــا‬
‫ّ‬
‫دكان اإلنجليــزي الــذي كنــا نشــترى منــه‪ ،‬وصرنــا نشــتري مــن‬
‫ّ‬
‫دكان أحــد األهالــي مــن العــرب‪ ،‬فقــال لــه اإلنجليــزي‪ :‬ارجــع إلــى‬
‫ّ‬
‫دكان اإلنجليــزي الــذي كنــا نشــتري منــه‪ ،‬فقــال الخــادم‪ :‬ولــو كان‬
‫ذلــك يســتلزم إنفــاق ‪ 20‬جنيه ـ ًا زيــادة؟!‪ ،‬فقــال اإلنجليــزي‪ :‬ولــو‬
‫كان ذلــك يســتلزم إنفــاق ‪ 20‬جنيه ـ ًا زيــادة‪.‬‬
‫وســمعت أن كثيريــن مــن اإلنجليــز الذيــن فــي األقطــار ال يشــترون‬
‫شــيئ ًا ذا قيمــة إال مــن بالدهــم‪ ،‬ويرســلون إلــى لنــدرة فيوصــون‬
‫علــى كل مــا يحتاجــون إليــه؛ حتــى ال يذهــب مالهــم إلــى الخــارج‪.‬‬
‫أفنقيــس هــذا بأعمــال المســلمين الذيــن مهمــا أوصيتهــم‬
‫بالشــراء مــن أبنــاء جلدتهــم أو أوطانهــم‪ ،‬وعلمــوا أنهــم يقــدرون‬
‫أن ِ‬
‫يوفّ ــروا فــي الســلعة الواحــدة نصــف قــرش إذا أخذوهــا مــن‬
‫ورجحــوا اإلفرنجــي؟‬
‫ّ‬ ‫اإلفرنجــي‪ ،‬تركــوا ابــن جلدتهــم أو م َّلتهــم‬
‫أفلــم يكــن ســبب حبــوط مقاطعــة العــرب لليهــود فــي فلســطين‬
‫أشــياء كهــذه؟ ((( حرمــوا أنفســهم أمضــى ســاح فــي يدهــم وهــو‬
‫‪ 1‬أما اآلن فقد أصبح السواد األعظم منهم يبذلون النفوس والنفائس في الدفاع عن وطنهم فلسطين‪ ،‬وأتوا‬
‫في هذه السبيل بما ارتفعت له رؤوس العرب جميعاً‪ ،‬ولو أن هذه المناداة ظهرت منهم من أول األمر لما‬
‫وصلت المصيبة إلى هذا الحد‪( .‬ش)‬

‫‪29‬‬
‫المقاطعــة فــي األخــذ والعطــاء مــع اليهــود مــن أجــل فــروق تافهــة‬
‫مؤقَّتــة‪ ،‬ونســوا أن الضــرر الــذي يصيبهــم مــن األخــذ والعطــاء مــع‬
‫اليهــود هــو أعظــم ألــف مــرة مــن ضــرر هاتيــك الفــروق الزهيــدة‪.‬‬

‫نتائج إعانة مصر لمجاهدي طرابلس وبرقة‬

‫وكنــت مــ ّرة أشــكو إلــى أحــد كبــار المصرييــن إهمــال إخواننــا‬
‫المصرييــن لمجاهــدي طرابلــس وبرقــة الذيــن إن لــم تجــب عليهــم‬
‫نجدتهــم قيامــ ًا بواجــب األخــوة اإلســامية والجــوار‪ ،‬وجبــت‬
‫عليهــم احتياطــ ًا مــن وراء اســتقالل مصــر واســتقبال مصــر؛ ألنــه‬
‫كمــا أن وجــود اإلنجليــز فــي الســودان هــو تهديــد دائــم لمصــر‪،‬‬
‫فوجــود الطليــان فــي برقــة هــو تهديــد دائــم لهــا أيضــ ًا‪ ،‬فــكان‬
‫جــواب ذلــك السـ ّـيد لــي‪ :‬لقــد بــذل المصريــون مبالــغ وفيــرة يــوم‬
‫َش ـ َّنت إيطاليــا الغــارة علــى طرابلــس‪ ،‬ولــم يســتفيدوا شــيئ ًا‪ ،‬فــإن‬
‫إيطاليــا لــم تلبــث أن أخذتهــا‪.‬‬
‫فقلــت لــه‪ :‬إن المصرييــن قــد نهضــوا فــي الحــرب الطرابلســية‬
‫نهضــة هــي ‪-‬دون شــك‪ -‬ترضــي كل مســلم‪ ،‬بــل ترضي كل إنســان‬
‫الحمِ ّيــة‪ ،‬ولكــن المبلــغ الــذي تب َّرعــوا بــه يومئــذ معلــوم‬
‫ـدر قــدر َ‬
‫يقـ ّ‬
‫وهــو ‪ 150‬ألــف جنيــه‪.‬‬
‫فهــل يطمــع المســلمون فــي أنحــاء المعمــور أن ينقــذوا طرابلس من‬
‫براثــن إيطاليــا بمئــة وخمســين ألــف جنيــه؟ وهــل هــذه التضحيــة‬
‫تقــاس ‪-‬فــي كثيــر أو قليــل‪ -‬إلــى التضحيــات التــي قامــت بهــا‬

‫‪30‬‬
‫إيطاليــا بالمــال والرجــال؟!‬
‫كانــت إعانــة مصــر فــي الحــرب الطرابلســية ‪ 150‬ألــف جنيــه‪،‬‬
‫وأنفقــت الدولــة العثمانيــة علــى تلــك الحــرب نحــو مليــون جنيــه‪.‬‬
‫فانظر إلى ما كان لذلك من النتائج‪:‬‬
‫أهــم شــيء‪ :‬حفــظ شــرف اإلســام‪،‬‬
‫ّ‬ ‫(النتيجــة األولــى)‪ :‬وهــي‬
‫وإفهــام األوروبييــن أن اإلســام لــم يمــت‪ ،‬وأن المســلمين ال‬
‫يســ ِ ّلمون بلدانهــم بــا حــرب‪ ،‬وفــي ذلــك مــن الفائــدة الماديــة‬
‫والمعنويــة لإلســام مــا ال ينكــره إال ّ‬
‫كل مكابــر‪.‬‬
‫(النتيجــة الثانيــة)‪ :‬أن هــذا المبلــغ الضئيــل بالنســبة إلــى نفقــات‬
‫الــدول الحربيــة قــد كان الســبب فــي توطيــن الطرابلســيين أنفســهم‬
‫علــى المقاومــة والمجاهــدة بمــا رأوا مــن نجــدة إخوانهــم لهــم‪،‬‬
‫لتجشــم إيطاليــا المعتديــة من المشــاق‬
‫ُّ‬ ‫فكانــت هــذه المقاومــة ســبب ًا‬
‫والخســائر مــا هــو فــوق الوصــف‪ ،‬إلــى أن صــار كثيــر مــن ساســة‬
‫الطليــان يص ِ ّرحــون بندمهــم علــى هــذه الغــارة الطرابلســية‪.‬‬
‫(النتيجــة الثالثــة)‪ :‬مهمــا يكــن مــن عــدد القتلــى الذيــن فقدهــم‬
‫العــرب فــي هــذه الحــرب فــإن مجمــوع قتلــى الطليــان إلــى اليــوم‬
‫يفــوق مجمــوع قتلــى العــرب أضعاف ـ ًا مضاعفــة‪.‬‬
‫فلقــد َلقِــي الطليــان فــي هــذه الحــرب مــن األهــوال مــا ال‬
‫ي َّتســع لوصفــه مقالــة أو رســالة‪ ،‬وفــي واقعــة واحــدة هــي واقعــة‬
‫«الفويهــات» علــى بــاب بنغــازي‪ ،‬ثبــت فيهــا ‪ 150‬مجاهــد ًا عربيـ ًا‬
‫لثالثــة آالف جنــدي طليانــي مــن الفجــر إلــى غــروب الشــمس‬

‫‪31‬‬
‫إلــى أن انقرضــوا جميعــ ًا‪ ،‬إال أفــذاذ ًا أتــى عليهــم الليــل‪ ،‬ورجــع‬
‫ولمــا يموتــوا‪ ،‬وبينمــا كان العــرب فــي حــزن عظيــم علــى‬
‫العــد ّو ّ‬
‫مــن فقدوهــم فــي تلــك المعركــة؛ إذ جاءهــم الخبــر البرقــي مــن‬
‫األســتانة عــن برقيــة وردت ســ ّر ًا مــن برليــن جــاءت مــن ســفارة‬
‫األلمــان فــي روميــة بأنــه ســقط فــي هــذه المعركــة ألــف وخمــس‬
‫ضباطهــم‪.‬‬
‫مئــة جنــدي مــن الطليــان‪ ،‬وأصــاب الجنــون ســبعة مــن ّ‬
‫وهــذه وقعــة مــن خمســين وقعــة ‪-‬باألقـ ّ‬
‫ـل‪ -‬تضاهيهــا‪ ،‬فالمســلمون‬
‫قــد قاتلــوا فــي هــذه المعركــة جيش ـ ًا يفوقهــم فــي العــدد عشــرين‬
‫ضعفـ ًا‪ ،‬وقتلــوا نصفــه أي قتلــوا عشــرة أضعافهــم‪ ،‬واللــه تعالــى قــد‬
‫ـدر لهــم فــي حــال القــوة أن يغلبــوا عشــرة أضعافهــم‪ ،‬وفــي حــال‬
‫قـ َّ‬
‫الضعــف أن يغلبــوا ضعفيهــم فقــط كمــا قــال فــي ســورة األنفــال‪:‬‬
‫ــم‬
‫نك ْ‬ ‫ــال إِن ي َُكــن ِ ّم ُ‬
‫ِيــن علــى ال ِق َت ِ‬‫المؤْمِ ن َ‬ ‫ض ُ‬ ‫«يَــا َأي َُّهــا ال َّنبِ ُّ‬
‫ــي َحــ ِ ّر ِ‬
‫ــن َوإِن ي َُكــن ِ ّم ُ‬
‫نكــم ِ ّمائَــ ٌة ي َْغل ُِبــوا‬ ‫ون ي َْغل ُِبــوا مِ ا َئ َت ْي ِ‬ ‫ون َصابِ ــ ُر َ‬ ‫عِ ْشــ ُر َ‬
‫ـف ال َّلـ ُه‬ ‫اآلن َخفَّ ـ َ‬
‫َ‬ ‫ـون •‬ ‫ـم َقـ ْو ٌم َّ‬
‫ال َيفْ قَ ُهـ َ‬ ‫ـن َكفَ ـ ُروا بِ َأن َُّهـ ْ‬ ‫الذيـ َ‬ ‫ـن ِ‬ ‫َألْفـ ًا ِ ّمـ َ‬
‫ـم َض ْعفـ ًا َفـإِن ي َُكــن ِ ّم ُ‬
‫نكــم ِ ّما َئـ ٌة َصابِ ـ َر ٌة ي َْغل ُِبــوا‬ ‫ـم َأ َّن ف ُ‬
‫ِيكـ ْ‬ ‫ـم و ََع ِلـ َ‬ ‫َع ُ‬
‫نكـ ْ‬
‫ـن بِ ـإ ِْذ ِن ال َّل ـ ِه وَال َّل ـ ُه َمـ َ‬
‫ـع‬ ‫ـم َأ ْلـ ٌ‬
‫ـف ي َْغل ُِبــوا َألْفَ ْيـ ِ‬ ‫ـن َوإِن ي َُكــن ِ ّم ُ‬
‫نكـ ْ‬ ‫مِ ا َئ َت ْيـ ِ‬
‫الصابِ رِ يـ َ‬
‫ـن» (((‪.‬‬ ‫َّ‬
‫(النتيجــة الرابعــة)‪ :‬أنــه قــد كانــت نفقــات إيطاليــا فــي الحــرب‬
‫الطرابلســية فــي الســنة األولــى منهــا أي مــن ســنة ‪ 1911‬إلــى ســنة‬
‫‪ 1‬اآلية ‪.66‬‬

‫‪32‬‬
‫‪ 1912‬نحــو مئــة مليــون جنيــه‪ ،‬ويظــن أنهــا مــن عشــرين ســنة إلــى‬
‫اليــوم ‪ -‬إذ المقاومــة لــم تنقطــع حتــى هــذه الســاعة ‪ -‬قــد بلغــت‬
‫ثــاث مئــة مليــون جنيــه (((‪.‬‬
‫فهــذا كان كلــه نتيجــة تلــك اإلعانــات القليلــة والنفقــات الضئيلــة‬
‫التــي قــام بهــا المســلمون فــي تلــك الحــرب‪ ،‬ولكــن المســلمين‬
‫ينتظــرون أن تنهــزم إيطاليــا‪ ،‬الدولــة الكبيــرة التــي أهلهــا ‪ 44‬مليــون‬
‫نســمة‪ ،‬ودخلهــا الســنوي ‪ 200‬مليــون جنيــه فــي صدمــة واحــدة‪،‬‬
‫أو فــي الســنة األولــى مــن الحــرب ((( وإن لــم يتحقَّ ــق أملهــم هــذا‬
‫‪ 1‬أما في هذا العهد فقد انقطعت المقاومة بالسالح‪ ،‬وكان آخر من قاوم الطليان بالسالح الشهيد والمجاهد‬
‫الكبير عمر المختار (رحمه اهلل) إال أن الطرابلسيين ال يزالون يقاومون االستعمار الطلياني كما يقاوم‬
‫التونسيون وسائر المغاربة االستعمار الفرنسي‪ ،‬ومن العبث أن تظن دول االستعمار إخماد الحركات‬
‫الوطنية بالعسف والقهر والقتل والنفي والحبس‪ ،‬فكل هذا ال يزيد المسلمين إال عداء‪ ،‬وما استصلح عدو‬
‫بمثل العدل‪( .‬ش)‬
‫‪ 2‬أي هذا عددها‪ ،‬وهذا دخلها‪ ،‬وهذا إنفاقها على الحرب‪ ،‬وأما عصبيتها وضراوتها في سفك دماء‬
‫المسلمين‪ ،‬فحسب المسلم الذي لم يفسده التفرنج واإللحاد أن يقرأ النشيد الطلياني الذي ننقل ترجمته عن‬
‫ال عن جريدة الشرق عدد ‪ 543‬وهو‪:‬‬ ‫جريدة الفتح نق ً‬
‫النشيد الطلياني في التحريض على قتال المسلمين ومحو القرآن‬
‫إن من أعظم اآلالم لشاب في العشرين من عمره أن ال يحارب في سبيل وطنه مع دوام القتال في طرابلس‪،‬‬
‫والراية المثلثة األلوان والموسيقى الحربية تنبهان النفس المقدامة‪ ،‬يا أماه أتمي صالتك وال تبكي‪ ،‬بل‬
‫وتأملي‪ ،‬أال تعلمين أن إيطاليا تدعوني وأنا ذاهب إلى (طرابلس) فرح ًا مسروراً‪ :‬ألبذل دمي في‬ ‫اضحكي ّ‬
‫األمة الملعونة (كذا) وألحارب الديانة اإلسالمية التي تجيز البنات األبكار للسلطان‪)*(.‬‬ ‫سبيل سحق ّ‬
‫سأقاتل بكل قوتي نحو القرآن (كذا)‪.‬‬
‫ليس بأهل للمجد من لم يمت إيطالّي ًا حّقاً‪.‬‬
‫تحمسي أيتها الوالدة‪ ،‬تذكري (كاروني) التي جادت بأوالدها في سبيل وطنها‪:‬‬
‫يا أماه أنا مسافر‪ ،‬أال تعلمين أن على األمواج الزرقاء الصافية من بحرنا ستلقي سفائننا المراسي؟‬
‫القطر تحت ظلها‪.‬‬ ‫أنا ذاهب إلى طرابلس مسروراً؛ ألن رايتنا المثلثة األلوان تدعوني‪ ،‬وذلك ُ‬
‫ال تموتي ألننا في طريق الحياة‪ ،‬وإن لم أرجع فال تبكي على ولدك‪ ،‬ولكن اذهبي في كل مساء‪ ،‬وزوري‬
‫المقبرة ونسائم األصيل تحمل إلى طرابلس وداعك الذي ال يأبى الحداد على قبره فلذة كبدك‪ ،‬وإن سألك‬
‫أحد عن عدم حدادك علي فأجيبيه‪ :‬إنه مات في محاربة اإلسالم‪.‬‬
‫الطبل يقرع يا أماه‪ ،‬أنا ذاهب أيضاً‪ ،‬أال تسمعين هزج الحرب؟ دعيني أعانقك وأذهب!‪( .‬ر)‬
‫والثيب‪ ،‬ولكن‬
‫ِّ‬ ‫تزوج البكر‬
‫(*)الديانة اإلسالمية ال تجيز للسلطان إال ما تجيزه لغيره من المسلمين‪ ،‬وهو ّ‬
‫اإلفرنج تبيح لهم نصرانيتهم االفتراء على اإلسالم‪ ،‬وتبيح لهم مدنيتهم الزنا‪ ،‬حتى أفسدوا كل ُقطر دخلوه‬
‫ببغاياهم ال سيما الطليان منهم‪( .‬ر)‬

‫‪33‬‬
‫انقطــع منهــم كل رجــاء‪ ،‬وبطلــت كل حركــة‪ ،‬وأصــاب بعضهــم‬
‫اليــأس الــذي هــو مــرادف الكفــر بصريــح الذكــر الحكيــم « ِإ َّنـ ُه َ‬
‫ال‬
‫ون» (((‪.‬‬ ‫ال القَ ـ ْو ُم َ‬
‫الكا ِف ـ ُر َ‬ ‫ْح ال َّل ـ ِه ِإ َّ‬ ‫ي َْي ـ َأ ُ‬
‫س مِ ــن َّرو ِ‬
‫ولنضــرب مث ـ ً‬
‫ا ثالث ـ ًا‪ ،‬ونمســك بعــده عــن ضــرب األمثــال؛ ألنهــا‬
‫ـد وال ُتحصــى‪ :‬قــام أهــل الريــف المغربــي فــي وجــه الدولــة‬
‫ال ُت َعـ ّ‬
‫ـدة بضــع ســنين إلــى أن تغ َّلبــوا عليهــا وطــردوا جيوشــها‬
‫اإلســبانية مـ ّ‬
‫بعــد أن أبــادوا منهــم فــي واقعــة واحــدة ‪ 26‬ألــف جنــدي‪ ،‬وغنمــوا‬
‫‪ 170‬مدفعــ ًا‪ ،‬مــع أن جميــع أهــل الريــف بق َّ‬
‫ِضهــم وقضيضهــم‬
‫ثمــان مئــة ألــف نســمة‪ ،‬وعــدد أهالــي إســبانية ‪ 22‬مليــون نســمة‪،‬‬
‫وأراضــي الريــف أ كثرهــا قاحــل‪ ،‬واألهالــي فيــه فقــراء يعيشــون مــن‬
‫كســب أيديهــم‪ ،‬ولقــد قامــوا بعمــل أدهــش أهــل األرض بالطــول‬
‫والعــرض‪.‬‬
‫فلــو كان أهــل الريــف نصــارى النثالــت عليهــم المالييــن مــن‬
‫الجنيهــات مــن كل الجهــات؛ إمــا بطريقــة خفيــة‪ ،‬وإمــا بواســطة‬
‫جمعيــة الصليــب األحمــر فــي ســبيل مــداواة جرحاهــم‪.‬‬
‫فليقل لنا المسلمون كم جنيه ًا َّ‬
‫قدموا للريف في ذلك الوقت؟!‬
‫ثــم تأ ّلــب الفرنســيس مــع اإلســبانيين وحشــدوا لحــرب الريفييــن‬
‫البــ ّر‬
‫‪ 300‬ألــف مقاتــل‪ ،‬وحصــروا الريــف مــن كل جانــب مــن َ‬
‫طياراتهــم القاذفــة بالديناميــت علــى قــرى‬
‫والبحــر‪ ،‬وكانــت ّ‬
‫‪ 1‬يوسف‪ :‬من اآلية ‪.87‬‬

‫‪34‬‬
‫ِ‬
‫تكــف طيــارات‬ ‫الريفييــن ُتحصــى بالمئــات ال بالعشــرات‪ ،‬ولــم‬
‫الفرنســيس واإلســبانويل حتــى جــاء ســرب طيــارات أميركيــة مــن‬
‫نيويــورك نجــدة لفرنســا وإســبانيا النصرانيتيــن علــى المســلمين؛‬
‫ألنهــم مســلمون‪.‬‬
‫هــذا ك ّلــه والمســلمون ينظــرون إلى حــرب الريف مكتوفــي األيدي‪،‬‬
‫مــدة ســنة‪ ،‬وأخيــر ًا نهــض منهــم أفــراد‬
‫ولبثــوا مكتوفــي األيــدي ّ‬
‫الحميــة فــي‬
‫ّ‬ ‫لجمــع شــيء مــن أجــل جرحــى الريــف‪ ،‬وألجــل بعــث‬
‫النــاس لــم يكتـ ِ‬
‫ـف محـ ِ ّرر هــذه الســطور بالكتابــة‪ ،‬بــل تبـ َّرع بأربعــة‬
‫جنيهــات ألجــل القــدوة‪ ،‬فمــاذا كان مجمــوع تلــك اإلعانــات مــن‬
‫كل العالــم اإلســامي؟ الجــواب ‪ 1500‬جنيــه ال غيــر‪ ،‬فهــل مــن‬
‫خــذالن بيــن المســلمين يفــوق هــذا الخــذالن؟!‬

‫خيانة بعض المسلمين لدينهم ووطنهم واعتذارهم الباطل‬

‫ـد فــي خــذالن الريفييــن‪،‬‬


‫ويــا ليــت المســلمين وقفــوا عنــد هــذا الحـ ّ‬
‫ـد ممــا يقاتلــون بــه‬
‫بــل قامــت منهــم فئــات يقاتلــون الريفييــن بأشـ ّ‬
‫محمــد بــن عبدالكريــم قبائــل وافــرة‬
‫َّ‬ ‫األجانــب‪ ،‬وتأ ّلبــت علــى‬
‫العــدد شــديدة البــأس؛ مــا َلأوا الفرنســيس واإلســبانيول علــى‬
‫أبنــاء م ّلتهــم ووطنهــم تز ّلف ـ ًا إلــى الفرنســيس واإلســبانيول وابتغــاء‬
‫الحظــوة لديهــم‪ ،‬وقــد جــرى مثــل ذلــك عندنــا فــي ســورية يــوم‬
‫الثــورة علــى فرنســا‪ ،‬وجــرى فــي بــاد إســامية كثيــرة (((‪ ،‬أفبمثــل‬

‫‪ 1‬واآلن عساكر شرقي األردن ‪ -‬وهم من العرب ‪ -‬يقاتلون بكل شّدة مجاهدي فلسطين الذين هم إخوانهم في‬
‫تابع‬

‫‪35‬‬
‫هــذه األعمــال يطالــب أخونــا الشــيخ بســيوني عمــران ربَّــه بمــا‬
‫وعــد تعالــى بــه مــن جعــل الع ـ ّزة للمؤمنيــن؟!‬
‫وإذا ســألت هــؤالء المســلمين الممالئيــن للعــدو علــى إخوانهــم‪:‬‬
‫كيــف تفعلــون مثــل هــذا وأنتــم تعلمــون أنــه مخالــف للديــن‬
‫وللشــرف وللفتــوة وللمــروءة وللمصلحــة وللسياســة؟ أجابــوك‪:‬‬
‫كيــف نصنــع؟ فــإن األجانــب انتدبونــا‪ ،‬ولــو لــم نفعــل لبطشــوا‬
‫بنــاء فاضطررنــا إلــى القتــال فــي صفوفهــم خوفــ ًا منهــم‪ ،‬ونســوا‬
‫قولــه تعالــى‪َ « :‬أ َت ْخشَ ــ ْون َُه ْم فَال َّلــ ُه َأ َحــقُّ َأن َت ْخشَ ــ ْو ُه إِن ُكن ُتــم‬
‫ــون إِن ُكن ُتــم‬
‫اف ِ‬ ‫َخ ُ‬‫ــم و َ‬
‫وه ْ‬
‫اف ُ‬ ‫ِيــن» (((‪،‬وقولــه تعالــى‪« :‬ف َ‬
‫َــا َت َخ ُ‬ ‫مُّ ؤْمِ ن َ‬
‫ِيــن» ( ((‪.‬‬
‫مُّ ؤْمِ ن َ‬
‫وكالم مثــل هــؤالء فــي االعتــذار غيــر صحيــح‪ ،‬فــإن األجانــب قــد‬
‫ندبــوا كثيــر ًا مــن المســلمين إلــى خيانــات كهــذه فلــم يجيبوهــم‪،‬‬
‫ولــم تنقـ ّ‬
‫ـض عليهــم الســماء مــن فوقهــم‪ ،‬وال خســفت بهــم األرض‬
‫مــن تحتهــم‪ ،‬ثــم إنــه كان األجانــب المحت ّلــون لبــاد المســلمين قــد‬
‫يلبــون دعوتهــم إلــى‬
‫أصبحــوا يغضبــون علــى المســلمين الذيــن ال ّ‬
‫خيانــة قومهــم‪ ،‬فإنمــا كان ذلــك مــن أجــل كثيريــن مــن المســلمين‬
‫النسب والمذهب‪ ،‬وهم يعلمون أن هؤالء المجاهدين إنما يذودون عن حياض العروبة واإلسالم‪ ،‬ويجودون‬
‫َّم اليهود جميع‬
‫بنفوسهم ألجل استحياء قومهم واستبقاء وطنهم للعرب‪ ،‬وأنه لوال هؤالء المجاهدون َلَتسل َ‬
‫فلسطين من زمن طويل تحت ظل حراب اإلنجليز‪ ،‬فبينما دماء المجاهدين تسيل ألجل حفظ فلسطين‬
‫للعرب‪ ،‬نجد دماء عساكر عربية في شرق األردن تسيل ألجل إخراج بالد فلسطين وشرق األردن نفسها بعد‬
‫فلسطين من أيدي العرب‪.‬‬
‫عدوه أكثر مما يبلغ العرب من أنفسهم؟ ال واهلل‪(.‬ش)‬
‫العدو من ّ‬
‫ّ‬ ‫فهل يبلغ‬
‫‪ 1‬التوبة‪ :‬من اآلية ‪.13‬‬
‫‪ 2‬آل عمران‪ :‬من اآلية ‪.175‬‬

‫‪36‬‬
‫كانــوا يعرضــون عليهــم خدمتهــم فــي مقاومــة إخوانهــم‪ ،‬ويقومــون‬
‫ّ‬
‫بــكل نشــاط ومناصحــة‪ ،‬ويبــدون كل أمانــة لهــم فــي أثنــاء‬ ‫بهــا‬
‫تلــك الخيانــة‪ ،‬ولــوال هــذا التبـ ُّرع بالخيانــة والتسـ ُّرع إلــى مظاهــرة‬
‫ّ‬
‫يتحكــم‬ ‫األجنبــي علــى ابــن الم ّلــة‪ ،‬لمــا استأســد األجنبــي وصــار‬
‫َّ‬
‫التحكــم الفاحــش‪ ،‬ويتقاضاهــم أن يخالفــوا‬ ‫فــي المســلمين هــذا‬
‫قواعــد دينهــم ومقتضــى مصلحــة دنياهــم مــن أجــل مصلحتــه‪ ،‬بــل‬
‫قــام يحملهــم علــى المــوت ألجــل المــوت‪.‬‬
‫فــإن المــوت موتــان‪ :‬أحدهمــا المــوت ألجــل الحيــاة؛ وهــو المــوت‬
‫َــد العــدو يــده‬ ‫َّ‬
‫حــث عليــه القــرآن الكريــم المؤمنيــن إذا م َّ‬ ‫الــذي‬
‫إليهــم‪ ،‬وهــو المــوت الــذي قــال عنــه الشــاعر العربــي‪:‬‬
‫ِل َنفْ سِ ي َح َيا ًة مِ ْث َل ْ‬
‫أن َأ َتقَ َّدما‬ ‫الحيا َة َف َل ْم َأ ِج ْد‬
‫َ‬ ‫َت َأ َّخ ْر ُت َأ ْس َت ْبقي‬
‫وهــو المــوت الــذي يموتــه اإلفرنســي ألجــل حيــاة فرنســا‪،‬‬
‫واأللمانــي ألجــل حيــاة ألمانيــة‪ ،‬واإلنجليــزي فــي ســبيل بريطانيــا‬
‫يتأخــر عــن‬
‫ّ‬ ‫ـم ج ـ ّرا‪ ،‬ويجــده علــى نفســه واجب ـ ًا ال‬
‫العظمــى‪ ،‬وهلـ ّ‬
‫أدائــه طرفــة عيــن‪.‬‬
‫وأمــا المــوت الثانــي فهــو المــوت ألجــل اســتمرار المــوت‪ ،‬وهــو‬
‫المــوت الــذي يموتــه المســلمون فــي خدمــة الــدول التــي اســتولت‬
‫علــى بالدهــم؛ وذلــك أنهــم يموتــون حتــى ينصروها علــى أعدائها‪،‬‬
‫كمــا يمــوت المغربــي مثــ ً‬
‫ا حتــى تنتصــر فرنســا علــى ألمانيــا‬
‫مثـ ً‬
‫ا‪ ،‬ويمــوت الهنــدي حتــى تتغ َّلــب إنجلتــرا علــى أي عــد ّو لهــا‪،‬‬
‫ويمــوت التتــري فــي ســبيل ظفــر الروســية‪ ،‬والحــال أنــه بانتصــار‬

‫‪37‬‬
‫فرنســا علــى أعدائهــا تــزداد فــي المغــرب غطرســة وظلمـ ًا وابتــزاز ًا‬
‫ألمــاك المســلمين وهضم ـ ًا لحقوقهــم؛ وذلــك كمــا حصــل بعــد‬
‫الحــرب العامــة؛ إذا ازداد طمــع الفرنســيين فــي أهــل المغــرب‪،‬‬
‫وحدثــوا أنفســهم بتنصيــر البربــر ليدمجوهــم فــي الشــعب الفرنســي‪،‬‬
‫َّ‬
‫ويأمنــوا علــى مســتقبل المغــرب الــذي صــاروا يطلقــون عليــه لقــب‬
‫«إفريقيــا اإلفرنســية»‪.‬‬
‫وباالختصــار يمــوت المغربــي علــى ضفــاف الريــن أو فــي ســوريا‬
‫حتــى يــزداد موت ـ ًا فــي المغــرب؛ ألن كل طائفــة تفــوز بهــا فرنســا‬
‫فــي الخــارج هــي زيــادة فــي قهــر المغربــي وإهانتــه وإذاللــه ممــا ال‬
‫وممــا ثبــت بالتجربــة‪ ،‬وكذلــك مــوت الهنــدي‬
‫ســبيل للمناكــرة فيــه‪ّ ،‬‬
‫فــي نصــرة إنجلتــرا هــو تطويــل فــي أجــل عبوديــة الهنــد‪ ،‬وكذلــك‬
‫مــوت التتــري فــي خدمــة الروســية ال عاقبــة لــه ســوى ازديــاد قهــر‬
‫ـم جـ ّرا‪.‬‬
‫الــروس للتتــر‪ ،‬وهلـ َّ‬
‫ـن كمــا يقــال‪:‬‬ ‫وهــذا المــوت ألجــل المــوت هــو مــا كان بخـ ّ‬
‫ـط منحـ ٍ‬
‫أي باعتبــار النتيجــة‪ ،‬ولكنــه هنــاك مــوت ألجــل المــوت مباشــرة‬
‫بــدون واســطة‪ ،‬وهــو عندمــا يمــوت المغربــي فــي قتــال أخيــه‬
‫المغربــي الــذي قــام يحــاول أن يزحــزح شــيئ ًا مــن النيــر اإلفرنســي‬
‫ـدق عنقــه‪ ،‬وإن لــم يـ ّ‬
‫ـدق عنقــه بتات ـ ًا اســتحياه حيــاة‬ ‫الــذي كاد يـ ّ‬
‫هــي أشــبه بالمــوت منهــا بالحيــاة‪.‬‬
‫ولــو انحصــرت هــذه األمــور فــي العــوام والجهــاء لعذرناهــم‬
‫بجهلهــم‪ ،‬وقلنــا‪ :‬إنهــم ال يــدرون الكتــاب وال الســنة وال السياســة‬

‫‪38‬‬
‫الدنيويــة‪ ،‬وال األحــوال العصريــة‪ ،‬وإنهــم إنمــا يُســاقون كمــا تســاق‬
‫بهيمــة األنعــام إلــى الذبــح‪.‬‬
‫ولكــن األنكــى هــو خيانــة الخــواص‪ ،‬مثــال ذلــك الوزيــر المقّ ــري‬
‫تعصب ـ ًا لقضيــة رفــع الشــريعة اإلســامية مــن بيــن‬
‫الــذي هــو أشــد ُّ‬
‫البربــر مــن الفرنســيس أنفســهم (((‪ ،‬ومثلــه البغــدادي‪ ،‬باشــا فــاس‬
‫الــذي طــرح نحــو مئــة شــخص مــن شـ ّـبان فــاس وجلدهم بالســياط؛‬
‫لكونهــم اجتمعــوا فــي جامــع القروييــن وأخــذوا يـ ِ ّ‬
‫ـرددون دعــاء‪:‬‬
‫«يــا لطيــف‪ُ ،‬‬
‫الطــف بنــا فيمــا جــرت بــه المقاديــر‪ ،‬وال تفـ ِ ّرق بيننــا‬
‫وبيــن إخواننــا البربــر» ومفتــي فــاس الــذي أفتــى بــأن إلغاء الشــرع‬
‫اإلســامي مــن بيــن البربــر ليــس بإخــراج للبربــر مــن اإلســام‪،‬‬
‫ـم ج ـ ّرا‪.‬‬
‫وهلـ ّ‬
‫وكل مــن هــؤالء الخونــة المارقيــن ‪-‬أخزاهــم اللــه‪ -‬قــد بلــغ مــن‬
‫عتي ـ ًا‪ ،‬وانتهــى مــن أمــوال األ ّمــة شــبع ًا ور ّي ـ ًا‪ ،‬وهــو ال يــزال‬
‫الكبــر ّ‬
‫حريصــ ًا علــى الزلفــى إلــى فرنســا‪ ،‬وإثبــات صداقتــه لهــا ولــو‬
‫بضيــاع دينــه ودنيــاه؛ حتــى تبقــي عليــه منصبــه وحظوظــه فــي‬
‫هــذه البقيــة الباقيــة مــن حياتــه التاعســة (((‪.‬‬
‫‪ 1‬ويؤكِّدون أنه كلما أرادت فرنسا ‪ -‬تحت تأثير سخط العالم اإلسالمي‪ -‬أن تعدل عن الظهير البربري‬
‫المقصود به إخراج البربر من اإلسالم بتات ًا جاء هذا المقّري يحذّرها عاقبة الرجوع إلى الصواب‪ ،‬ويقول لها‬
‫يعدون هذا منها نكوص ًا وضعفاً‪ ،‬وبعد ذلك ال يمكنها أن ِّ‬
‫تثبت أقدامها في شمالي إفريقيا؛‬ ‫إن أهالي المغرب ِّ‬
‫مشجع للحكومة اإلفرنسية على المضي في سياستها البربرية التي ترمي إلى تنصير‬ ‫فالمقّري إذًا هو أكبر ّ‬
‫األمة اإلفرنسية‪( .‬ش)‬ ‫البربر‪ ،‬وإدماجهم في ّ‬
‫‪ 2‬الغريب في هذا أن أمثال هؤالء الخونة يبيعون بالدهم كلها لألجنبي بثمن خسيس؛ هو جزء منها‪ ،‬ال من‬
‫مال األجنبي‪ ،‬ولو أخلصوا في صده عنها لكان لهم منها أكثر مما يعطيهم األجنبي منها‪ ،‬ثم يكون باقيها‬
‫العز والشرف‪( .‬ر)‬
‫ألوالدهم وأهليهم وإخوانهم في الدين مع ّ‬

‫‪39‬‬
‫وليــس واحــد ًا مــن هــؤالء وال مــن فــي ضربهــم فــي المغــرب إال‬
‫وهــو مطّ لــع علــى نيــات فرنســا وعلــى مراميهــا مــن جهــة هــذا‬
‫النظــام الجديــد ألمّــة البربــر‪ ،‬وليــس فيهــم إال مــن هــو عــارف‬
‫بوجــود جيــش مــن القســوس والرهبــان والراهبــات يجــوس خــال‬
‫بــاد البربــر‪ ،‬ويبنــي الكنائــس‪ ،‬ويصيــد اللقطــاء والفقــراء وضعفــاء‬
‫اإليمــان (((‪ ،‬وليــس فيهــم إال مــن هــو عالــم بمنــع فرنســا فقهــاء‬
‫والوعــاظ مــن التجــوال بيــن البربــر؛ حتــى ترتفــع الحواجز‬
‫ّ‬ ‫اإلســام‬
‫المبشــرين إلــى النصرانيــة ((( وقــد يكــون المقّ ــري هــذا‬
‫ّ‬ ‫أمــام دعــوة‬
‫خصــص المبلــغ مــن مــال المخــزن لجريــدة «مراكــش‬
‫هــو الــذي َّ‬
‫الكاثوليكيــة» التــي تطعــن فــي اإلســام ‪ ،‬وتقــذف مُ َح َّمــد ًا ‪ -‬عليه‬
‫تتضمــن هــذه‬
‫َّ‬ ‫الصــا ُة والســام ‪ ،-‬ولدينــا كثيــر مــن أعدادهــا التــي‬
‫َّ‬
‫المطاعــن‪.‬‬
‫وبعــد هــذا‪ ،‬فمــن يــدري؟ فقــد يكــون المقّ ــري مص ِ ّلي ـ ًا وصائم ـ ًا‪،‬‬
‫وبيــده ســبحة يقــرأ عليهــا أوراد ًا‪ ،‬ومــن يــدري؟ فقــد يكــون‬
‫يتمســحون بالقبــور‪ ،‬ويســتغيثون‬
‫ّ‬ ‫ممــن‬
‫الســيئ الذكــر ّ‬
‫ّ‬ ‫البغــدادي‬
‫باألوليــاء‪ ،‬ويتظاهــرون بهــذا الــورع الــكاذب‪ ،‬وأمــا المفتــي فهــو‬
‫المفتــي فــا حاجــة إلــى تثبيــت كونــه يص ّلــي الخمــس‪ ،‬ويصــوم‬
‫‪ 1‬ومما هو جار في المغرب أن األذان لصالة الفجر ممنوع في كثير من القرى التي يقطنها مستعمرو‬
‫الفرنسيس؛ وذلك ألنه قد يعكِّر عليهم صفو رقادهم صباحاً‪( .‬ش)‬
‫الوعاظ في شهر رمضان من الذهاب إلى بالد البربر‪ ،‬وكانوا يحبسون من يخالف هذا األمر‪،‬‬ ‫‪ 2‬وقد منعوا ّ‬
‫وقد أقفلوا مئات من الكتاتيب القرآنية في المغرب‪ ،‬ومئات من مثلها في الجزائر‪ ،‬وأغلقوا دار الحديث في‬
‫وأصر بعض رجال‬
‫َّ‬ ‫تلمسان‪ ،‬واحتجت على ذلك جمعية علماء المسلمين في الجزائر فما سمعوا لها كالمَاً‪،‬‬
‫الدين اإلسالمي في الجزائر على تعليم القرآن لألحداث فحاكموهم وحكموا عليهم (بالسجن أربعة أشهر؛‬
‫جرا‪( .‬ش)‬
‫وهلم ّ‬
‫ّ‬ ‫بحجة أنهم خالفوا األوامر الصادرة)‬

‫‪40‬‬
‫ويتهجــد‪ ،‬ويوتــر ويتنقَّ ــل‪ ..‬إلــخ‪.‬‬
‫ّ‬
‫وقــد مضــى علينــا نحــن‪ ،‬فــي ســوريا‪ ،‬شــيء مــن هــذا إلــى أوائــل‬
‫عهــد االحتــال‪ ،‬لكــن لــم تكــن خيانــة هــؤالء المع ِ ّلميــن فــي‬
‫قضيــة دينيــة مباشــرة؛ فقــد اقترحــت عليهــم فرنســا أن يُمضــوا‬
‫برقيــة إلــى جمعيــة األمــم ينكــرون بهــا عمــل المؤتمــر الســوري‬
‫الفلســطيني المطالــب باســتقالل ســوريا وفلســطين‪ ،‬فأمضــاه منهــم‬
‫عمائــم مك ـ َّورة وطيالــس مح ـ َّررة مج ـ َّررة ورقــاب غليظــة وبطــون‬
‫عظيمــة‪ ،‬وإن لــم أقــل اآلن‪ :‬أخزاهــم اللــه‪ ،‬أخشــى عتــاب إخواننــا‬
‫خصصــت بهــذا الدعــاء صدرهــم األعظم‪،‬‬
‫المغاربــة الذيــن يروننــي َّ‬
‫معممــي ســوريا‪ ،‬فلذلــك يقضــي العــدل‬
‫ومفتيهــم األكبــر‪ ،‬وأعفيــت َّ‬
‫بــأن نقــول‪ :‬أخزاهــم اللــه أجمعيــن‪ ،‬أخــزى اللــه الذيــن منهــم‬
‫فــي المشــرق‪ ،‬والذيــن منهــم فــي المغــرب ممــن ِ ّ‬
‫يوقعــون علــى‬
‫اقتراحــات األجانــب المضــ ّرة بالديــن والوطــن (((‪.‬‬
‫ّ‬
‫ولعل األخ الشيخ بسيوني عمران يقول‪ :‬إن هؤالء أفراد قالئل‪ ،‬فال‬
‫يجوز أن نجعل األمّة اإلسالمية مسؤولة عن مخازيهم وموبقاتهم‪.‬‬

‫يعم كما ال يخفى‪،‬‬


‫يخص‪ ،‬والبالء ّ‬ ‫ّ‬ ‫والجواب على ذلك أن الظلم‬
‫ولكني ال أس ِ ّلم أن هؤالء أفراد قائل‪ ،‬وأن األمّة غير مسؤولة! إذ لو‬
‫كان وراء هؤالء أمّة يخشونها لما تجاسروا على اال ّتجار بدينها بعد‬
‫واحتجوا لدى الفرنسيس‬
‫ّ‬ ‫‪ .1‬على أنهم في السنة التالية أرادوا منهم إمضاء بيانات خبيثة كهذه فامتنعوا‬
‫عرضهم لإلهانة‪ ،‬واستوجب مقت الشعب السوري لهم‪ ،‬فهم لن يكرروا تلك الخيانة‪،‬‬ ‫بأن عملهم ذاك قد َّ‬
‫تقوم أود هؤالء المشايخ‪ ،‬وأن الخائنين الخادمين لدول‬
‫األمة تقدر متى شاءت أن ِّ‬ ‫وهذا دليل على أن ّ‬
‫االستعمار ليس لهم عالج إال الخوف على جلودهم‪( .‬ش)‬

‫‪41‬‬
‫االتجار بدنياها‪ ،‬بل كانوا لو اقترح عليهم الفرنسيس اقتراح ًا مض ّر ًا‬
‫بم ّلتهم وأمتهم‪ ،‬ولم يقدروا على ِ ّ‬
‫رده اعتزلوا مناصبهم‪ ،‬ولزموا‬
‫بيوتهم‪.‬‬

‫وكان الفرنسيس ك َّلفوا بالعمل غيرهم‪ ،‬فإذا أبى الخلف ما أباه‬


‫السلف مرة بعد مرة علم الفرنسيس أن ال فائدة في اإلصرار‪ ،‬فعدلوا‬
‫على دسيستهم البربرية وما أشبهها‪ ،‬ولكنهم مص ّرون عليها بسبب‬
‫استظهارهم بأناس ممن يزعمون أنهم «مسلمون» فهم يهدمون‬
‫اإلسالم بمعاول في أيدي أبنائه‪ ،‬ويقولون‪ :‬لسنا من هذا األمر في‬
‫(((‬
‫قبيل وال دبير‪.‬‬

‫أفال ترى كيف قالوا عن الظهير البريري إنه قد أصدره السلطات‬


‫(((‬
‫وحكومة المخزن؟‬

‫أفهذا هو اإلسالم الذي يناشد الله الشيخ بسيوني عمران بتأييد‬


‫أهله؟‬
‫‪ -1‬وجميع الدول المستعمرة المتسلِّطة على ممالك اإلسالم طريقتها االستظهار على المسلمين بالمسلمين‪،‬‬
‫وقضية شرقي األردن والخونة من عرب فلسطين من أنصع الشواهد على هذه الحالة‪.‬‬
‫‪ -2‬أفال ترى كيف أنهم قتلوا في مكناسة الزيتون ‪ 35‬مسلماً‪ ،‬وجرحوا ‪ 60‬من أجل مظاهرة غير مسلَّحة‬
‫قام بها األهالي؛ احتجاج ًا على سلب السلطة مياه بساتينهم من أجل إعطائها إلى مستعمرة الفرنسيس‪،‬‬
‫وزعموا أن فعلهم هذا باسم السلطان‪.‬‬
‫تر أنهم ألغوا الحزب الوطني المغربي‪ ،‬وحكموا على ألفين وخمسمئة شاب منهم بالحبس سنة‬ ‫ألم َ‬
‫وسنتين‪ ،‬ونفوا عال ًال الفاسي إلى بالد خط االستواء‪ ،‬ونفوا نخبة رجاالت المغرب إلى الصحراء‪،‬‬
‫مبرح ًا عشرات من األدباء؛ منهم األستاذ ُم َح َّمد المقّري الذي مات تحت الضرب‪ ،‬وكل هذا‬
‫وضربوا ضرب ًا ِّ‬
‫باسم السلطان‪ ،‬والسلطان ال يبدي وال يعيد‪ ،‬وال يقدر أن يدفع عن رعيته التي مرجعها إلى الجنرال‬
‫نوغيس واضع أساس المشروع البربري األثيم‪( .‬ش)‬

‫‪42‬‬
‫ِك ال ُْق َرى بِ ُظل ٍْم َو َأ ْه ُل َها‬
‫ُّك ل ُِي ْهل َ‬ ‫قال الله تعالى‪َ ( :‬ومَا َك َ‬
‫ان َرب َ‬
‫(((‬
‫ون)‪.‬‬
‫مُ ْصل ُِح َ‬
‫ّ‬
‫شك أن «المسلمين» الذين يبلغون هذه الدرجات من‬ ‫وال‬
‫االنحطاط وتتركهم األمّة اإلسالمية وشأنهم يلعبون بحقوقها‪،‬‬
‫يستحقّ ون لإلسالم التمحيص الذي هو فيه (((‪ ،‬فإنما سمح الله بأن‬
‫يستولي األجانب على ديار المسلمين ويجعلوهم خو ً‬
‫ال‪ ،‬ويغتصبوا‬
‫جميع حقوقهم تعليم ًا لهم وتهذيب ًا‪ ،‬وتصفية وتطهير ًا‪ ،‬كما يصفّ ى‬
‫الذهب اإلبريز بالنار‪.‬‬
‫ت َأ ْي ِدي ال َّن ِ‬
‫اس‬ ‫اد فِي ال َْب ِ ّر وَال َْب ْحرِ بِ َما َك َس َب ْ‬ ‫قال الله تعالى‪َ :‬‬
‫(ظ َه َر الْفَ َس ُ‬
‫(((‬ ‫ض ِ‬
‫الذي َعمِ ُلوا َل َع َّل ُه ْم َي ْر ِج ُع َ‬
‫ون)‪.‬‬ ‫ل ُِي ِذيقَ ُهم ب َْع َ‬

‫لقد أصبح الفساد إلى َح ّد أن أ كبر أعداء المسلمين هم المسلمون‪،‬‬


‫وإن المسلم إذا أراد أن يخدم م ّلته أو وطنه وقد يخشى أن يبوح بالس ّر‬
‫من ذلك ألخيه؛ إذ يحتمل أن يذهب هذا إلى األجانب المحت ّلين‬
‫فيقدم لهم بحق أخيه الوشاية التي يرجو بها بعض الزلفى‪ ،‬وقد‬
‫ّ‬
‫(((‬
‫يكون أمله بها فارغ ًا‪.‬‬
‫‪ -1‬هود‪.١١٧ :‬‬
‫‪ -2‬هكذا في األصل‪ .‬ومعنى يستحقون هنا‪ :‬يستوجبون‪ ،‬على قول الفارابي‪ ،‬والالم في اإلسالم للتقوية‪،‬‬
‫والمراد به المسلمون‪ ،‬والمعنى‪ :‬يستوجبون بجرائمهم تمحيص المسلمين في جملتهم‪ ،‬ليميز اهلل الخبيث من‬
‫آمُنوْا‬
‫ِين َ‬ ‫ص َُّ‬
‫الل الذ َ‬ ‫ِيَم ِّح َ‬
‫(ولُ‬
‫ويفسره ما بعده‪ ،‬وهو مستنبط من قوله تعالى في سياق غزوة أحد‪َ :‬‬
‫ّ‬ ‫الطيب‪،‬‬
‫ين)‪.‬‬
‫ِر َ‬
‫ْكافِ‬
‫َوَيْم َح َق ال َ‬
‫فليراجع السياق من سورة آل عمران وتفسيره المؤثر في الجزء الرابع من«تفسير المنار»‪( .‬ر)‬
‫‪ -3‬الروم‪.٤١ :‬‬
‫يخل بلد من بلدان اإلسالم من هؤالء الخائنين الذين تجعلهم دول االستعمار مطايا لها في االستيالء‬
‫‪ -4‬لم ُ‬
‫على تلك البلدان وهم يسعون بين أيديها في كل دسيسة‪ ،‬ويدلّونها على عورات المسلمين‪ ،‬وما ينكرون‬

‫‪43‬‬
‫كلمة الملك ابن سعود في تخاذل المسلمين وتعاديهم‬

‫ولله َد ّر الملك ابن سعود حيث يقول‪ :‬ما أخشى على المسلمين إال‬
‫(((‬
‫من المسلمين‪ ،‬ما أخشى من األجانب كما أخشى من المسلمين‪.‬‬

‫وهو كالم أصاب كبد الصواب‪ ،‬فإنه ما من فتح فتحه األجانب‬


‫من بالد المسلمين إال كان نصفه أو قسم منه على أيدي أناس من‬
‫تجسس لألجانب على قومه‪ ،‬ومنهم من َّ‬
‫بث لهم‬ ‫َّ‬ ‫المسلمين منهم من‬
‫الدعاية بين قومه‪ ،‬ومنهم من َس َّل لهم السيف في وجه قومه‪ ،‬وأسال‬
‫في خدمتهم دم قومه‪.‬‬

‫ون إ ِْخ َوةٌ) (((‪.‬‬ ‫فأين إسالمهم وإيمانهم من قوله تعالى‪ِ ( :‬إن ََّما ال ُْمؤْمِ ُن َ‬
‫اك ُم ال َّل ُه‬ ‫لهم ِ ّم ُ‬
‫نك ْم َف ِإ َّن ُه مِ ْن ُه ْم) ((( وقوله‪ِ ( :‬إن ََّما َي ْن َه ُ‬ ‫وقوله‪َ ( :‬ومَن َي َت َو ُ‬
‫وكم ِ ّمن ِدي َِار ُك ْم و ََظ َ‬
‫اه ُروا على‬ ‫ين َو َأ ْخ َر ُج ُ‬ ‫وك ْم فِي ِ ّ‬
‫الد ِ‬ ‫ين قَا َت ُل ُ‬ ‫َع ِن ِ‬
‫الذ َ‬
‫ون) ((( وقوله‪:‬‬ ‫ِك ُه ُم الظال ُِم َ‬ ‫اج ُك ْم َأن َت َول ْو ُه ْم َومَن َي َت َو ُ‬
‫له ْم َف ُأو َلئ َ‬ ‫إ ِْخ َر ِ‬
‫ات ب َْين ُِك ْم َو َأطِ ُ‬
‫يعو ْا ال ّل َه َور َُسو َل ُه إِن ُكن ُتم‬ ‫( فَا َّت ُقو ْا ال ّل َه َو َأ ْصل ُِحو ْا َذ َ‬
‫أنهم بهذا العمل يخونون أنفسهم‪ ،‬وما يشعرون أنهم أشبه بمن يصعد على الشجرة ويشرع بقطع جذعها‬
‫ِك َج َعْلَنا فِي ُك ِّل َقْرَيٍة َأ َكاِبَر ُم ْجِرِم َ‬
‫يها‬ ‫(و َكَذل َ‬
‫من تحته فيسقط هو عنها بما كسبت يداه‪ ،‬قال اهلل تعالى‪َ :‬‬
‫ون)‪( .‬ش)‬ ‫ال ِبَأ ُ‬
‫نف ِسِهْم َو َما َي ْش ُعُر َ‬ ‫ون ِإ َّ‬ ‫ِيْمُكُروْا ف َ‬
‫ِيها َو َما َيْمُكُر َ‬ ‫لَ‬
‫بحجاج األقطار‪ ،‬وقد طالبه مصري أزهري بمحاربة اإلنكليز والفرنسيس المعتدين‬
‫‪ -1‬وقال في محفل حافل ّ‬
‫على المسلمين ذاكرًا عداوتهم لهم‪ :‬اإلنجليز والفرنسيس معذورون إذا عادونا؛ ألنه ال يجمعنا بهم جنس‬
‫وال دين وال لغة وال مصلحة‪ ،‬ولكن المصيبة التي ال عذر ألحد فيها أن المسلمين أصبحوا أعداء أنفسهم‪،‬‬
‫وأنا ‪-‬واهلل‪ -‬ال أخاف األجانب‪ ،‬وإنما أخاف المسلمين‪ ،‬فلو حاربت اإلنجليز لما حاربوني إال بجيش من‬
‫المسلمين‪( .‬ر)‬
‫‪ -2‬الحجرات‪ :‬من اآلية ‪.10‬‬
‫‪ -3‬المائدة‪ :‬من اآلية ‪.51‬‬
‫‪-4‬الممتحنة‪.9 :‬‬

‫‪44‬‬
‫ِين) (((‪.‬‬
‫مُّ ؤْمِ ن َ‬

‫أفبمثل هذا تكون طاعة الله ورسوله؟ أم بمثله تكون أخ ّوة اإليمان‬
‫وواليته ووالية أهله؟‬

‫َأ َو لمثل هؤالء ّ‬


‫يعد الله الع ّز والنصر والتمكين في األرض‪ ،‬وهم‬
‫سعاة بين أيدي األجانب على م ّلتهم ووطنهم وقومهم؟! كلما‬
‫عاتبهم اإلنسان على خيانة اعتذروا بعدم إمكان المقاومة‪ ،‬أو با ّتقاء‬
‫ّ‬
‫أخف الضررين؟ وجميع أعذارهم ال‬ ‫ظلم األجنبي‪ ،‬أو بارتكاب‬
‫ت ّتكئ على شيء من الحق‪ ،‬ولقد كانوا قادرين أن يخدموا م ّلتهم‬
‫بسيوفهم‪ ،‬فإن لم يستطيعوا فبأقالمهم‪ ،‬فإن لم يستطيعوا فبألسنتهم‪،‬‬
‫فإن لم يستطيعوا فبقلوبهم‪ ((( ،‬فأبوا إال أن يكونوا بطانة لألجانب‬
‫على قومهم‪ ،‬وأبوا إال أن يكونوا روّاد ًا لهم على بالدهم‪ ،‬وأبوا‬
‫إال أن يكونوا مطايا لألجانب على أوطانهم‪ ،‬وتراهم ‪-‬مع ذلك‪-‬‬
‫وافرين ناعمي البال متم ِ ّتعين بالهناء وصفاء العيش‪ ،‬وهم يأ كلون‬
‫مما باعوا من تراث المسلمين‪ ،‬وينامون مستريحين‪ ،‬مثل هؤالء‬
‫ليس لهم وجدان ّ‬
‫يعذبهم من الداخل‪ ،‬وال نجد من المسلمين من‬
‫(((‬ ‫يجرؤ أن ِ ّ‬
‫يعذبهم من الخارج‪.‬‬
‫‪ -1‬األنفال‪ :‬من اآلية ‪.١‬‬
‫‪ -2‬إشارة إلى حديث‪« :‬من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده‪ ،‬فإن لم يستطع فبلسانه‪ ،‬فإن لم يستطع فبقلبه‪،‬‬
‫وذلك أضعف اإليمان» رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن كلهم‪ ،‬وهذا في وجوب تغيير المنكرات يفعلها‬
‫المسلم؛ فماذا يقال في مقاومة هدم اإلسالم من أساسه؟ (ر)‬
‫تجرأ المجاهدون أخيرًا على تعذيب الخائنين‪ ،‬ولقي كثير من هؤالء جزاءهم‬ ‫‪ -3‬أما في فلسطين فقد ّ‬
‫األوفى‪ ،‬وجاء الوقت الذي عرف فيه خائن قومه أنه (ال عاصم اليوم من أمر اهلل إال من رحم) فعسى أن‬
‫يكون في ذلك عظة وعبرة لسائر العالم اإلسالمي‪( .‬ش)‬

‫‪45‬‬
‫لم نكن لنطلق الكالم إطالق ًا على العالم اإلسالمي في هذا‬
‫الموضوع‪ ،‬فإن األمّة األفغانية ‪-‬مث ً‬
‫ال‪ -‬ال يمكن أحد أن يخطب‬
‫حي ًا‪ ،‬والنجديون ال يوجد فيهم‬
‫حب األجانب علن ًا ويبقى ّ‬
‫فيها في ّ‬
‫من يجرؤ أن يمالئ األجانب على قومه‪ ،‬والمصريون قد ارتقت‬
‫تربيتهم السياسية كثير ًا عن ذي قبل؛ فأصبحت مجاهرة أحدهم‬
‫بالميل لألجنبي أو تفضيل حكم األجنبي خطر ًا عليه‪ ،‬فأمّا في‬
‫سائر بالد اإلسالم فمن شاء من المسلمين أن يخلع الرسن ويجاهر‬
‫بالعصيان لعد ّو دينه وبلده فال يخشى ش ّر ًا‪ ،‬وال يحاذر قلق ًا وال أرق ًا‪.‬‬

‫ين آ َم ُنوا مِ ُ‬
‫نك ْم و ََعمِ ُلوا‬ ‫َأ َفلِم ْثل هؤالء يقول الله تعالى‪( :‬و ََع َد ال َّل ُه ِ‬
‫الذ َ‬
‫ين مِ ن ق َْبل ِِه ْم‬ ‫ف ِ‬
‫الذ َ‬ ‫اس َت ْخ َل َ‬ ‫ض َك َما ْ‬ ‫الصال َِح ِ‬
‫ات َل َي ْس َت ْخ ِلفَ َّن ُهم فِي ا َ‬
‫أل ْر ِ‬ ‫َّ‬
‫الذي ا ْر َت َضى َل ُه ْم َو َل ُي َب ِ ّد َل َّن ُهم ِ ّمن ب َْع ِد َخ ْوف ِِه ْم‬
‫َو َل ُي َم ِّك َن َّن َل ُه ْم ِدي َن ُه ُم ِ‬
‫(((‬
‫َأ ْم ًنا ي َْع ُب ُدو َننِي ال ي ُْشرِ ُك َ‬
‫ون بِ ي َش ْي ًئا)‪.‬‬

‫حاشا الله تعالى أن يكون عنى بهؤالء «المسلمين» الذين يخونون‬


‫م ّلتهم‪ ،‬ويسعون بين يدي أعدائها‪ ،‬ويناصبون إخوانهم العداوة‪،‬‬
‫ابتغاء مرضاة األجانب والحصول على دنيا زائلة وحطام ٍ‬
‫فان‪،‬‬
‫كيف وقد قرن اإليمان بالزمة؛ وهو عمل الصالحات؟ بئسما َش َروا‬
‫به أنفسهم‪ ،‬وكذلك ال يعني الله بهؤالء المسلمين الذين إن لم‬
‫يكونوا خامروا على قومهم‪ ،‬وسعوا بين أيدي األجانب في خراب‬
‫أمّتهم‪ ،‬وأوطأوا مناكبهم لركوب الغريب الطامح‪ ،‬فإنهم اكتفوا من‬
‫‪ -1‬النور‪.55 :‬‬

‫‪46‬‬
‫اإلسالم بالركوع والسجود‪ ،‬واألوراد واألذكار‪ ،‬وإطالة السبحة‬
‫والتل ّوم في السجدة‪ ،‬وظنوا أن هذا هو اإلسالم‪ ،‬ولو كان هذا كافي ًا‬
‫في إسالم المرء وفوزه في الدنيا واآلخرة لما كان القرآن مآلن‬
‫بالتحريض على الجهاد‪ ،‬واإليثار على النفس والصدق والصبر‬
‫ونجدة المؤمن ألخيه والعدل واإلحسان‪ ،‬وجميع مكارم األخالق‪،‬‬
‫(ق ْل‬
‫ولو كان هذا كافي ًا ألجل التحقُّ ق باإلسالم لما قال الله تعالى‪ُ :‬‬
‫ال‬‫َاج ُك ْم و ََعشِ ي َر ُت ُك ْم َو َأ ْم َو ٌ‬
‫ان آبَاؤُ ُك ْم َو َأ ْب َناؤُ ُك ْم َوإ ِْخ َوان ُُك ْم َو َأ ْزو ُ‬
‫إِن َك َ‬
‫ب ِإ َل ْي ُكم‬ ‫اد َها َوم ََساكِ ُن َت ْر َض ْون ََها َأ َح َّ‬ ‫وها َوت َِجا َر ٌة َت ْخشَ ْو َن َك َس َ‬ ‫اقْ َت َرفْ ُت ُم َ‬
‫ِي ال َّل ُه بِ َأمْرِ ِه وَال َّل ُه‬ ‫ِ ّم َن ال َّل ِه َور َُسو ِل ِه و َِج َه ٍاد فِي َسبِ ي ِل ِه َف َت َرب ُ‬
‫َّصو ْا َح َّتى َي ْأت َ‬
‫(((‬
‫ال ي َْه ِدي الْقَ ْو َم الْفَ ِ‬
‫اسقِين)‪.‬‬ ‫َ‬

‫َأفَيقدر أخونا الشيخ بسيوني عمران أو غيره أن يقول‪ :‬إن المسلمين‬


‫ّ‬
‫يفضلون الله ورسوله‬ ‫اليوم ‪ -‬إال النادر األندر والكبريت األحمر‪-‬‬
‫على آبائهم وإخوانهم وأزواجهم وتجارتهم وأموالهم ومساكنهم‪ ،‬أو‬
‫حب اللّه ورسوله إقامة اإلسالم)‬
‫ّ‬ ‫حب الله ورسوله (وإنما‬
‫ّ‬ ‫يؤثرون‬
‫على الجزء اليسير من أموال اقترفوها وتجارة يخشون كسادها؟‬

‫فبضدها تتبين األشياء‪.‬‬


‫ّ‬ ‫لنعمل هذه التجربة‪،‬‬

‫الموازنة بين المسلمين والنصارى في البذل لنشر الدين‬

‫ولنفرض أن مسألة تنصير البربر دخلت في طور النجاح‪ ،‬وانتدب‬

‫‪ -1‬راجع تفسير اآلية‪ -‬وهي في سورة التوبة ‪ - 24‬وما قبلها في ص ‪ 242 :224‬ج‪ 10‬من«تفسير المنار»‪(.‬ر)‬

‫‪47‬‬
‫البابا الكاثوليكيين الذين في العالم لبذل األموال الالزمة لهذا‬
‫تتوخاه فرنسا في البربر من دين اإلسالم إلى دين‬
‫ّ‬ ‫التحويل الذي‬
‫المبشرين‬
‫ّ‬ ‫تظن من الجنيهات يد ّر على‬
‫ّ‬ ‫النصرانية‪ ،‬فكم مليون ًا‬
‫والرهبان والراهبات لبناء الكنائس والمدارس والمالجئ‬
‫والمستشفيات ومراكز األسقفيات وما أشبه ذلك إلتمام هذا العمل‬
‫تضم به الكثلكة ثمانية ماليين من البرابر إلى األربعمئة مليون‬
‫ّ‬ ‫الذي‬
‫كاثوليكي الذين في العالم؟‬
‫ال ّ‬
‫شك أن الجواب يكون‪ :‬عدة ماليين تجمع في بضعة أشهر‪ ،‬فإن‬
‫قيل للبروتستانتيين‪ :‬تعالوا فقد أذ ّنا لكم في تنصير البرابرة فابذلوا‬
‫في هذه السبيل ما أمكنكم‪ ،‬فإنها تد ّر حينئذ الماليين بقدر ضعفَ ْي‬
‫مدة أقصر من المدة التي يجمع فيها‬
‫ما يد ّر من الكاثوليكيين‪ ،‬وفي ّ‬
‫المال الذي يجود به هؤالء‪.‬‬

‫فلنقل للمسلمين‪ :‬إن البرابر صاروا على شفا الخروج من اإلسالم‪،‬‬


‫وإن األس في هذا الصبوء عن دين اإلسالم هو الجهل‪ ،‬فعلينا‬
‫ووعاظ ًا ليتفقّ هوا في الدين‪ ،‬وأن نبني لهم‬
‫ّ‬ ‫أن نرسل إليهم علماء‬
‫المساجد والمدارس والكتاتيب والمالجئ‪ ...‬إلى غير ذلك من‬
‫الوسائل التي تمسك بحجزاتهم عن مفارقة اإلسالم والمسلمين‪.‬‬

‫تظن المبلغ الذي يجود به المسلمون بعد اللتيا والتي لهذا‬


‫ّ‬ ‫فكم‬

‫أظن أنهم يجودون بما يتجاوز جزء ًا من مئة ّ‬


‫مما يبذله‬ ‫ّ‬ ‫العمل؟ ال‬

‫‪48‬‬
‫(((‬
‫الكاثوليك أو البروتستانت‪.‬‬

‫حمية المسلمين‪.‬‬
‫ّ‬ ‫حمية المسيحيين على دينهم‪ ،‬وهذه هي‬
‫ّ‬ ‫فهذه هي‬

‫ومن الناس من يسأل عن أسباب انحطاط المسلمين وقصورهم عن‬


‫والحمية لوجد‬
‫ّ‬ ‫مباراة سواهم‪ ،‬فلو تأمَّل في هذه الفروق في النهضة‬
‫عندها الجواب الكافي‪.‬‬

‫ومن أغرب األمور أن نرى األوروبيين ودعاتهم وتالميذهم‬


‫بالتعصب الديني‬
‫ُّ‬ ‫من الشرقيين بعد هذا كله ي ّتهمون المسلمين‬
‫وينبزونهم بلقبه‪ ،‬وينتحلون ألنفسهم التساهل في الدين! إن هذا‬
‫‪-‬والله‪ -‬لعجب عجاب‪.‬‬

‫وها أنذا اآلن في كتابتي هذه التي معناها الدفاع ال التجاوز‪،‬‬


‫واألستاذ األكبر صاحب «المنار»‪ ،‬وعبدالحميد بك سعيد رئيس‬
‫الشبان المسلمين‪ ،‬وغيرنا من المدافعين عن حقّ اإلسالم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫جمعية‬
‫والرجال الذين يبغون منع االعتداء على اإلسالم وينادون المسلمين‬
‫بالتعصب الديني ومنبوزون‬
‫ُّ‬ ‫لينتبهوا للخطر المحدق بهم‪ -‬مُ َّت َهمون‬
‫بهذه الكلمة‪ ،‬ال بين غير المسلمين فقط‪ ،‬بل بين المسلمين‬
‫‪ -1‬شاع أن المنبوذين من الهنود يريدون فراق مذهب الهنادك‪ ،‬وأن منهم من شرح اهلل صدره لإلسالم‪،‬‬
‫فأرسل األستاذ األكبر شيخ األزهر وفدًا من علماء الشريعة إلى الهند؛ ليتحقق هل ثمة أمل في هداية‬
‫المنبوذين هؤالء‪ ،‬أم ذاك نفخ في غير ضرم‪ ،‬وعلم المسلمون في مشارق األرض ومغاربها خبر إرسال‬
‫همة واحد منهم إلى تخصيص ما يوازي القطمير ألجل هداية‬ ‫هذه البعثة األزهرية إلى الهند‪ ،‬ولم تتحرك ّ‬
‫هؤالء المنبوذين الذين يزيد عددهم على ستين مليوناً‪ ،‬هذا بينما المبالغ التي يجمعها المسيحيون في كل‬
‫قدر بعشرين إلى ثالثين مليون جنيه‪ ،‬فهل تطمع‬ ‫عام ألجل تغذية التبشير المسيحي في آسيا وإفريقية ُت َّ‬
‫األمة وبينهما كل هذا الفرق؟!‪(.‬ش)‬
‫األمة أن تجاري تلك ّ‬‫هذه ّ‬

‫‪49‬‬
‫الجغرافيين أيض ًا‪ -‬أعني الذين يتباهون بأن سياستهم «الدينية»‬
‫وطالما ص َّرحوا بأنهم ال يقيمون للدين وزن ًا‪ ،‬وطالما تز ّلفوا إلى‬
‫المسيحيين بكونهم هم ال يدافعون عن الدين اإلسالمي كما يدافع‬
‫زيد وعمرو‪ ...‬وهؤالء فئة معروفة يعرفهم الناس‪ ،‬وهم يعرفون‬
‫أنفسهم‪ ،‬ولو َّ‬
‫فكر المسيحيون في شأنهم لعلموا أنهم ليسوا على‬
‫شيء‪ ،‬وأنهم ال يستحقّ ون االحترام منهم؛ ألن الذي يتز ّلف إلى‬
‫حري بأن ال يكون أه ً‬
‫ال للثقة وال للكرامة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الناس بمثل هذه الطرق‬
‫وما يزين المر َء شيء مثل االستقامة واستواء الباطن والظاهر‪.‬‬

‫ِّ‬
‫«متعصب» إال إذا سمع أن‬ ‫فالمسلم ‪-‬إذ ًا‪ -‬ال يخلص من لقب‬
‫فم َّر بذلك كأن لم يسمع شيئ ًا‪،‬‬
‫الفرنسيس يحاولون تنصير البربر‪َ ،‬‬
‫نصروا مئة ألف ‪ -‬وقد زعم أحد‬
‫وإال إذا سمع أن الهوالنديين ّ‬
‫نواب البرلمان الهوالندي أنهم فازوا بتنصير مليون مسلم من‬
‫يهمني أ كان الجاوي‬ ‫ّ‬ ‫مسلمي الجاوى ‪ -‬وه ّز كتفه قائ ً‬
‫ال‪ :‬أنا ال‬
‫مسيحي ًا‪ ...‬هنالك «المسلم» يصير «راقي ًا» وي َُع ّد «عصر ّي ًا»‪،‬‬
‫ّ‬ ‫مسلم ًا‬
‫ويصير محبوب ًا‪ ،‬ويقال فيه كل خير!‬

‫وأما األوروبي فله أن يبذل القناطير المقنطرة على ّ‬


‫بث الدعاية‬
‫المسيحية بين المسلمين‪ ،‬وله أن يحميها بالمدافع والطيارات‬
‫والدبابات‪ ،‬وله أن يحول بين المسلمين ودينهم بالذات وبالواسطة‪،‬‬
‫يدس كل دسيسة ممكنة لهدم اإلسالم في بالد اإلسالم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وله أن‬
‫وليس عليه حرج في ذلك‪ ،‬وال يسلبه هذا العمل صفة «راق»‬

‫‪50‬‬
‫ِّ‬
‫و«متمدن» و«عصري»‪ ،‬وأغرب من هذا أنه ال يسلبه نعت‬
‫«مدني» و«الديني» و«متساهل»‪.‬‬

‫وهؤالء «المسلمون الجغرافيون» برغم هذه الشواهد الباهرة‬


‫لألعين‪ ،‬وبرغم ما عملته جمهورية فرنسا «الالدينية» في قضية‬
‫ِّ‬
‫لمبشري‬ ‫البربر لمآرب دينية كاثوليكية‪ ،‬وبرغم حماية هوالندا‬
‫رسمي ًا‬
‫ّ‬ ‫اإلنجيل في الجاوى‪ ،‬وبرغم قرار الحكومة البلجيكية‬
‫وبرغم منع اإلنجليز في األوغاندا‬ ‫(((‬
‫إكمال تنصير أهل الكونغو‪،‬‬
‫وفي دار السالم ‪ -‬وكذا السودان‪ -‬من ّ‬
‫بث الدعاية اإلسالمية بين‬
‫الزنوج‪ ،‬وبرغم أمور كثيرة ال يسعنا اآلن شرحها‪ ،‬ال يزالون يخدعون‬
‫المسلمين قائلين لهم‪ :‬إن أوروبا قد رفست الدين برجلها‪ ،‬وصارت‬
‫الرقي ونجحت‪ ،‬ونحن لن‬
‫ّ‬ ‫على خطّ ة ال دينية؛ وبذلك قد اتسق لها‬
‫(((‬
‫نفلح ما دمنا سائرين على خطّ ة إسالمية‪.‬‬

‫قد قام ّ‬
‫ببث هذه السفسطة أناس في تركيا‪ ،‬ووجدوا ممن تلقّ اها‬
‫بالقبول عدد ًا كبير ًا‪ ،‬وترى أناس ًا في مصر والشام والعراق وفارس‬
‫يقولون بها ويكابرون في المحسوس وال يبالون؛ ألنهم يجدون‬
‫‪ -1‬أهل الكونغو ‪ 12‬مليون ًا من النفوس‪ ،‬كانوا جمعيهم فتيشيين‪ ،‬فلما استولى البلجيكيون على الكونغو‬
‫قرروا تنصيرهم‪ ،‬ورأيت من عدة سنوات برنامج حكومة بلجيكا‪ ،‬فإذا من جملة أركانه تنصير أهل‬ ‫ّ‬
‫تنصَر من زنوج الكونغو نحو من مليون ونصف إلى اآلن‪ ،‬ولما كان المسلمون قد‬ ‫الكونغو‪ ،‬وبالفعل َّ‬
‫دخلوا إلى الكونغو من مدة طويلة فأقبل األهالي هناك على اإلسالم حتى بلغ عدد المسلمين ‪ 150‬ألف‬
‫نسمة‪ ،‬خشيت بلجيكا انتشار اإلسالم في تلك المستعمرة‪ ،‬وصارت تعارض نموه فيها؛ وتطرد المسلمين‪،‬‬
‫تبال بما في ذلك من الخلل بمبدأ الحرية الدينية‪ ،‬وال سمعت لومة الئم‪( .‬ش)‬
‫وتضيق عليهم‪ ،‬ولم ِ‬
‫ِّ‬
‫‪ -2‬وقد صدقوا لكن بمعنى‪ :‬إننا لن نفلح ما دمنا على هذه الخطة التي نكذب بتسميتها إسالمية‪ ،‬وإننا إنما‬
‫نفلح إذا قمنا بحقوق إسالمنا كما يقومون بحقوق دينهم أو أشد (ر)‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫‪-‬على كل األحوال‪ -‬من األغرار من يصدقهم‪.‬‬

‫(((‬
‫الص ُد ِ‬
‫ور)‪.‬‬ ‫أل ْب َصا ُر َو َل ِكن َت ْع َمى ال ُْق ُل ُ‬
‫وب التِي فِي ُّ‬ ‫( َف ِإن ََّها ال َت ْع َمى ا َ‬

‫‪ -1‬الحج‪ :‬من اآلية ‪.٤٦‬‬

‫‪52‬‬
‫أهم أسباب تأخُّ ر املسلمني‬
‫ّ‬

‫تأخــر المســلمين الجهــل‪ ،‬الــذي يجعــل فيهــم‬


‫فمــن أعظــم أســباب ُّ‬
‫فيتقبــل السفســطة قضيــة مسـ َّلمة‪،‬‬
‫َّ‬ ‫والخـ ّ‬
‫ـل‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َمــن ال ِ ّ‬
‫يميــز بيــن الخمــر‬
‫ـرد عليهــا‪.‬‬
‫وال يعــرف أن يـ ّ‬
‫تأخــر المســلمين العلــم الناقــص‪ ،‬الــذي هــو‬
‫ومــن أعظــم أســباب ُّ‬
‫أشــد خطــر ًا مــن الجهــل البســيط؛ ألن الجاهــل إذا َّ‬
‫قيــض اللــه لــه‬
‫مرشــد ًا عالمــ ًا أطاعــه ولــم يتفلســف عليــه‪ ،‬فأمــا صاحــب العلــم‬
‫الناقــص فهــو ال يــدري وال يقتنــع بأنــه ال يــدري‪ ،‬وكمــا قيــل‪:‬‬
‫ابتالؤكــم بمجنــون خيــر مــن ابتالئكــم بنصــف مجنــون‪ ،‬أقــول‪:‬‬
‫ابتالؤكــم بجاهــل خيــر مــن ابتالئكــم بشــبه عالــم‪.‬‬
‫تأخــر المســلمين فســاد األخــاق بفقــد‬
‫ومــن أعظــم أســباب ُّ‬
‫َّ‬
‫حــث عليهــا القــرآن‪ ،‬والعزائــم التــي حمــل‬ ‫الفضائــل التــي‬
‫عليهــا ســلف هــذه األ ّمــة‪ ،‬وبهــا أدركــوا مــا أدركــوه مــن الفــاح‪،‬‬

‫‪53‬‬
‫واألخــاق فــي تكويــن األمــم فــوق المعــارف‪ .‬وللــه د ّر شــوقي إذ‬
‫قــال‪:‬‬
‫الق ُه ْم َذ َه ُبوا‬
‫َفإِن ُه ُم َذ َه َب ْت َأ ْخ ُ‬ ‫أل ْخ ُ‬
‫الق مَا َبق َِي ْت‬ ‫األم َُم ا َ‬
‫وإن ََّما ُ‬

‫ومــن أ كبــر عوامــل تقهقــر المســلمين فســاد أخــاق أمرائهــم بنــوع‬


‫وظــن هــؤالء ‪ -‬إال مَــن رحــم ربــك ‪ -‬أن األمّــة ُخلقــت‬
‫ُّ‬ ‫خــاص‪،‬‬
‫لهــم أن يفعلــوا بهــا مــا يشــاؤون‪ ،‬وقــد رســخ فيهــم هــذا الفكــر‬
‫ـادة بطشــوا بــه عبــر ًة‬
‫حتــى إذا حــاول محــاول أن يقيمهــم علــى الجـ ّ‬
‫لغيــره‪.‬‬
‫وجــاء العلمــاء المتز ِ ّلفــون ألولئــك األمــراء المتق ِ ّلبــون فــي نعمائهم‪،‬‬
‫الضاربــون بالمالعــق فــي حلوائهــم‪ ،‬وأفتــوا لهــم بجــواز قتــل ذلــك‬
‫بحجــة أنــه شــقَّ عصــا الطاعــة‪ ،‬وخــرج عــن الجماعــة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الناصــح‬
‫ولقــد عهــد اإلســام إلــى العلمــاء بتقويــم َأوَد األمــراء‪ .‬وكانــوا‬
‫فــي الــدول اإلســامية الفاضلــة بمثابــة المجالــس النيابيــة فــي‬
‫هــذا العصــر‪ ،‬يســيطرون علــى األ ّمــة‪ ،‬ويسـ ِ ّ‬
‫ـددون خطــوات الملــك‪،‬‬
‫ويرفعــون أصواتهــم عنــد طغيــان الدولــة‪ ،‬ويهيبــون بالخليفــة فمــن‬
‫بعــده إلــى الصــواب‪.‬‬
‫وهكــذا كانــت تســتقيم األمــور؛ ألن أ كثــر أولئــك العلمــاء كانــوا‬
‫متحقّ قيــن بالزهــد‪ ،‬متح ِ ّليــن بالــورع‪ ،‬متخ ّليــن عــن حظــوظ‬
‫ِ‬
‫َضــي‪،‬‬‫الجبــار أم ر ِ‬
‫ّ‬ ‫ــب الملــك الظالــم‬
‫ض َ‬ ‫يهمهــم أَغَ ِ‬
‫الدنيــا‪ ،‬ال ّ‬
‫فــكان الخالئــف والملــوك يرهبونهــم ويخشــون مخالفتهــم؛ لمــا‬

‫‪54‬‬
‫يعلمــون مــن انقيــاد العامــة لهــم‪ ،‬واعتقــاد األمّــة إمامتهــم‪ ،‬إال‬
‫أنــه‪ ،‬بمــرور األيــام‪ ،‬خلــف مــن بعــد هــؤالء َخلـ ٌ‬
‫ـف ا ّتخــذوا العلــم‬
‫مهنــة للعيــش‪ ،‬وجعلــوا الديــن مصيــدة للدنيــا‪ ،‬فسـ ّوغوا للفاســقين‬
‫مــن األمــراء أشــنع موبقاتهــم‪ ،‬وأباحــوا لهــم ‪-‬باســم الديــن‪-‬‬
‫خــرق حــدود الديــن‪ ،‬هــذا والعا ّمــة المســاكين مخدوعــون بعظمــة‬
‫عمائــم هــؤالء العلمــاء‪ ،‬وعلـ ّو مناصبهــم‪ ،‬يظنــون ُفتياهــم صحيحــة‪،‬‬
‫وآراءهــم موافقــة للشــريعة‪ ،‬والفســاد بذلــك يعظــم‪ ،‬ومصالــح األ ّمــة‬
‫ويتنمــر‪ ،‬وكل هــذا إثمــه‬
‫َّ‬ ‫تذهــب‪ ،‬واإلســام يتقهقــر‪ ،‬والعــد ّو يعلــو‬
‫(((‬
‫فــي رقــاب هــؤالء العلمــاء‪.‬‬
‫ومــن أعظــم عوامــل تقهقــر المســلمين الجبــن والهلــع‪ ،‬بعــد أن‬
‫كانــوا أشــهر األمــم فــي الشــجاعة واحتقــار المــوت‪ ،‬يقــوم واحدهم‬
‫للعشــرة وربمــا للمئــة مــن غيرهــم‪.‬‬
‫فــاآلن أصبحــوا ‪ -‬إال بعــض قبائــل منهــم ‪ -‬يهابــون المــوت الــذي‬
‫ال يجتمــع خوفــه مــع اإلســام فــي قلــب واحــد‪.‬‬
‫ومــن الغريــب أن اإلفرنــج المعتديــن ال يهابــون المــوت‪ ،‬فــي‬
‫اعتدائهــم‪ ،‬هيبــة المســلمين إيــاه فــي دفاعهــم‪ .‬وأن المســلمين‬
‫يــرون الغايــات البعيــدة التــي يبلغهــا اإلفرنــج فــي اســتحقار الحيــاة‬
‫اله َل َكــة فــي ســبيل قوميتهــم ووطنهــم‪ ،‬وال تأخذهم‬
‫والتهافــت علــى َ‬
‫وأهمه مقالة في المجلد التاسع (ص ‪ )357‬عنوانها «حال المسلمين‬‫‪ 1‬وفَّينا هذه المسألة حقها في «المنار»‪ّ ،‬‬
‫في العالمين‪ ،‬ودعوة العلماء إلى نصيحة الملوك واألمراء والسالطين» أنحينا فيها بالالئمة على علماء هذا‬
‫العصر؛ لتقصيرهم في نصيحة الملوك واألمراء‪ ،‬ويليها آثار عن السلف في ذلك نشرت في عدة أجزاء من‬
‫هذا المجلد‪( .‬ر)‬

‫‪55‬‬
‫مــن ذلــك الغيــرة‪ ،‬وال يقولــون‪ :‬نحــن أولــى مــن هــؤالء باســتحقار‬
‫الحيــاة‪.‬‬
‫ال َت ِه ُنــوا فِــي ا ْبت َِغــا ِء القَ ــ ْو ِم إِن َت ُكونُــوا‬
‫وقــد قــال اللــه تعالــى‪َ «:‬و َ‬
‫ــن ال َّلــ ِه مَــا َ‬
‫ال‬ ‫ــون مِ َ‬ ‫ــون َك َمــا َت ْأ َل ُم َ‬
‫ــون َو َت ْر ُج َ‬ ‫ــم َي ْأ َل ُم َ‬ ‫َت ْأ َل ُم َ‬
‫ــون َف ِإن َُّه ْ‬
‫ــون» ( ((‪.‬‬
‫َي ْر ُج َ‬
‫ـم إلــى الجبــن والهلــع اللذيــن أصابــا المســلمين اليــأس‬
‫وقــد انضـ َّ‬
‫والقنــوط مــن رحمــة اللــه‪ ،‬فمنهــم فئــات قــد وقــر فــي أنفســهم أن‬
‫اإلفرنــج هــم األع َلـ ْون علــى كل حــال (((‪ ،‬وأنــه ال ســبيل لمغالبتهــم‬
‫بوجــه مــن الوجــوه‪ ،‬وأن كل مقاومــة عبــث‪ ،‬وأن كل مناهضــة خــرق‬
‫فــي الــرأي‪.‬‬
‫ويتخمــر فــي صــدور المســلمين أمــام‬
‫َّ‬ ‫التهيــب يــزداد‬
‫ُّ‬ ‫ولــم يــزل هــذا‬
‫ُنصــرون بالرعــب‪ ،‬وصــار األقـ ّ‬
‫ـل‬ ‫األوروبييــن إلــى أن صــار هــؤالء ي َ‬
‫منهــم يقومــون لأل كثــر مــن المســلمين‪ .‬وهــذا بعكــس مــا كان فــي‬
‫العصــر األول‪:‬‬
‫ِيم‬ ‫ْك َخ ِد َ‬
‫يع ُة الطّ ْبع ال َّلئ ِ‬ ‫َو ِتل َ‬ ‫الج َب َناء َأ َّن ُ‬
‫الج ْب َن َح َزم‬ ‫َي َرى ُ‬
‫نســي المســلمون األيــام الســالفة التــي كان فيهــا العشــرون مســلم ًا ال‬
‫غيــر يأتــون مــن (برشــلونة) إلــى (فراكســية) مــن ســواحل فرنســا‪،‬‬
‫ويســتولون علــى جبــل هنــاك‪ ،‬ويبنــون بــه حصنـ ًا‪ ،‬ويتزايــد عددهــم‬
‫ِّ‬
‫فيؤسســون هنــاك‪ ،‬إمــارة تعصــف ريحهــا‬ ‫حتــى يصيــروا مئــة رجــل‬
‫‪ 1‬النساء‪ :‬من اآلية ‪.104‬‬
‫ِين»‪.‬‬ ‫ْ‬
‫نتم ُّمؤِمن َ‬ ‫َ‬
‫نت ُم األ ْعَل ْو َن ِإن ُك ُ‬ ‫َ‬
‫«و َال َتِهُنوا َو َال َت ْحَزُنوا َوأ ُ‬
‫‪ 2‬واهلل يقول‪َ :‬‬

‫‪56‬‬
‫بجنوبــي فرنســا وشــمالي إيطاليــا‪ ،‬وتهادنهــا ملــوك تلــك النواحــي‬
‫وتخطــب والءهــا‪ ،‬وتســتولي علــى رؤوس جبــال األلــب‪ ،‬وعلــى‬
‫المعابــر التــي عليهــا الطــرق الشــهيرة بيــن فرنســا وإيطاليــا‪ ،‬وتضطـ ّر‬
‫ـؤدي للعــرب المكــوس ألجــل المــرور‪،‬‬
‫جميــع قوافــل اإلفرنــج أن تـ ّ‬
‫تتقــدم هــذه الدولــة العربيــة الصغيــرة فــي بــاد (البيامــون)‬
‫ّ‬ ‫ثــم‬
‫مســافات بعيــدة إلــى أن تبلــغ سويســرا وبحيــرة كونســتانزا فــي قلــب‬
‫ـم القســم العالــي مــن سويســرا إلــى أمالكهــا‪ ،‬وتبقــى‬
‫أوربــا‪ ،‬وتضـ ّ‬
‫خمس ـ ًا وتســعين ســنة مســتولية علــى هــذه الديــار إلــى أن تتأ ّلــب‬
‫األمــم اإلفرنجيــة عليهــا‪ ،‬وال تــزال تناجزهــا إلــى أن اســتأصلتها‪،‬‬
‫وكانــت تلــك العصابــة العربيــة يــوم انقرضــت ال تزيــد علــى ألــف‬
‫وخمســمئة رجــل ((( (وقــد نشــرنا تفصيــل خبرهــا فــي المجلــد ‪24‬‬
‫مــن «المنــار»)‪.‬‬

‫شبهات الجهالء الجبناء وردُّ ها‬

‫مــن الســخفاء مــن يقــول‪ :‬نعــم‪ ،‬قــد كان ذلــك‪ ،‬لكــن قبــل أن‬
‫يختــرع اإلفرنــج آالت القتــال الحديثــة‪ ،‬وقبــل المدافــع والدبابات‬
‫والطيــارات‪ ،‬وقبــل أن يصيــر اإلفرنــج إلــى مــا صــاروا إليه مــن القوة‬
‫المبنيــة علــى العلــم‪ .‬وهــذا القــول هــو بمنتهــى الســخف والســفه‬
‫‪ 1‬يجد القارئ تفاصيل هذه الغزوات في كتابنا «غزوات العرب في سويسرا وجنوبي فرنسا وشمالي‬
‫إيطاليا وجزائر البحر المتوسط» المطبوع من خمس سنوات‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫والحماقــة‪ ،‬فــإن لــكل عصــر علمـ ًا وصناعــة ومدنيــة تشــاكله‪ ،‬وقــد‬
‫كانــت فــي القــرون الوســطى علــوم تشــاكلها‪ ،‬كمــا هــي العلــوم‬
‫والصناعــات والمدنيــة الحاضــرة فــي هــذا العصــر‪ ،‬وأمــور الخلــق‬
‫كلهــا نســبية‪.‬‬
‫ولقــد كانــت فــي العصر الــذي نتك ّلم عليــه آالت قتــال ومنجنيقات‬
‫ودبابــات ونيــران َّ‬
‫مرك َبــة تركيبـ ًا مجهــو ً‬
‫ال اليــوم‪ ،‬وكانــت فــي ذلــك‬
‫الوقــت كمــا هــي المدافــع والرشاشــات وقنابــر الديناميــت ومــا‬
‫أشــبه ذلــك فــي هــذه األيــام‪.‬‬
‫علــى أنــه ليســت الدبابــات والطيــارات والرشاشــات هــى التــي‬
‫الحمِ ّيــة فــي صــدور البشــر‪ ،‬بــل‬
‫تبعــث العزائــم‪ ،‬وتوقــد نيــران َ‬
‫الحمِ ّيــة والعزيمــة والنجــدة هــي التــي تأتــي بالطيــارات والدبابــات‬
‫َ‬
‫والقنابــر‪.‬‬
‫صمــاء ال فــرق بينهــا وبيــن أي حجــر‪ ،‬فالمــادة‬
‫ومــا هــذه إال مــواد ّ‬
‫ال تقــدر أن تعمــل شــيئ ًا مــن نفســها‪ ،‬وإنمــا الــذي يعمــل هــو الــروح‬
‫هبــت أرواح البشــر‪ ،‬وتح ّركــت عزائمهــم فعنــد ذلــك تجــد‬
‫فــإذا ّ‬
‫الدبابــات والطيــارات والرشاشــات والغواصــات‪ ،‬وكل أداة قتــال‬
‫ونــزال علــى طــرف التمــام‪.‬‬
‫ويقولــون‪ :‬إال أن هــذا ينبغــي لــه العلــم الحديــث‪ ،‬وهــذا العلــم‬
‫مفقــود عنــد المســلمين؛ فلذلــك أمكــن اإلفرنــج مــا لــم يمكنهــم‪.‬‬
‫(والجــواب) أن العلــم الحديــث أيضــ ًا يتوقَّــف علــى الفكــرة‬
‫ـد العلــم الحديــث‪ ،‬وو ُِجــدت‬
‫ت هاتــان و ُِجـ َ‬ ‫والعزيمــة‪ ،‬ومتــى و ُِجـ َ‬
‫ـد ْ‬

‫‪58‬‬
‫ــد ســنة ‪1868‬‬
‫الصناعــة الحديثــة‪ ،‬أفــا تــرى أن اليابــان إلــى َح ّ‬
‫كانــوا أ ّمــة كســائر األمــم الشــرقية الباقيــة علــى حالتهــا القديمــة‪،‬‬
‫فلمــا أرادوا اللحــاق باألمــم العزيــزة تع َّلمــوا علــوم األوروبييــن‪،‬‬
‫وصنعــوا صناعاتهــم‪ ،‬وا َّتســق لهــم ذلــك فــي خمســين ســنة‪.‬‬
‫وكل أمّــة مــن أمــم اإلســام تريــد أن تنهــض وتلحــق باألمــم‬

‫ِّ‬
‫ومتمســكة بدينهــا‪ ،‬كمــا‬ ‫العزيــزة يمكنهــا ذلــك‪ ،‬وتبقــى مســلمة‬
‫أن اليابانييــن تع َّلمــوا علــوم األوروبييــن ك ّلهــا وضارعوهــم‪ ،‬ولــم‬

‫ِّ‬
‫متمســكين‬ ‫يقصــروا فــي شــيء عنهــم ولبثــوا يابانييــن ولبثــوا‬‫ّ‬
‫بدينهــم وأوضاعهــم‪ ،‬وأيض ـ ًا فمتــى أرادت أ ّمــة مســلمة أدوات أو‬
‫أســلحة حديثــة ولــم تجدهــا؟ إن َم ـلّاك األمــر هــو اإلرادة؛ فمتــى‬
‫وجــدت اإلرادة وجــد الشــي المــراد‪.‬‬
‫فلــو أن أ ّمــة مــن أمــم اإلســام أرادت أن تتسـ ّلح لوجــدت الســاح‬
‫الحديــث الــازم بأنواعــه وأشــكاله مــن ثانــي يــوم‪ ،‬ولكــن اقتنــاء‬
‫الســاح ينبغــي لــه ســخاء باألمــوال‪ ،‬وهــم ال يريــدون أن يبذلــوا‪،‬‬
‫وال أن يقتــدوا باإلفرنــج واليابــان فــي البــذل‪ ،‬بــل يريــدون النصــرة‬
‫بــدون ســاح وعتــاد‪ ،‬أو الســاح والعتــاد بــدون بــذل أمــوال‪،‬‬
‫وإذا تغ َّلــب العــدو عليهــم مــن بعــد ذلــك صاحــوا قائليــن‪ :‬أيــن‬
‫وع َدنــا إياهــا القــرآن فــي قولــه‪« :‬و ََك َ‬
‫ان َحقًّ ــا َع َل ْي َنــا‬ ‫المواعيــد التــي َ‬
‫ـن» (((‪.‬‬
‫المؤْمِ نِيـ َ‬
‫َص ـ ُر ُ‬
‫ن ْ‬
‫‪ 1‬الروم‪47 :‬‬

‫‪59‬‬
‫كأن القــرآن َضمِ ـ َ‬
‫ـن للمؤمنيــن النصــر بــدون عمــل وبــا كســب وال‬
‫جهــاد باألمــوال واألنفــس‪ ،‬بــل بمج ـ َّرد قولنــا‪ :‬إننــا مســلمون‪ ،‬أو‬
‫بمج ـ َّرد الدعــاء والتســبيح! وأغــرب مــن ذلــك بمج ـ َّرد االســتغاثة‬
‫باألوليــاء‪ ،‬فأصبــح الكثيــر مــن المســلمين‪ ،‬وهــم ُعـ َّزل مــن الســاح‬
‫مجهزيــن بالعلــم الــازم الســتعماله ال‬
‫ّ‬ ‫الحديــث‪ ،‬وهــم غيــر‬
‫يقومــون للقليــل مــن اإلفرنــج المس ـ َّلحين المجهزيــن‪ ،‬وصــاروا إذا‬
‫التقــى الجمعــان تــدور الدائــرة ‪ -‬فــي أغلــب األحيــان ‪ -‬علــى‬
‫ـدة طويلــة إلــى أن فقــدوا‬
‫المســلمين‪ ،‬فتوالــى هــذا األمــر عليهــم مـ ّ‬
‫ب فيهــم الرعــب‪،‬‬
‫ود ّ‬
‫كل ثقــة بنفوســهم‪ ،‬واســتولى عليهــم القنــوط‪َ ،‬‬
‫وألقــوا بأنفســهم إلــى العــدوّ‪ ،‬وبعــد أن كانــوا مســلمين صــاروا‬
‫ال َت ْح َز ُنــوا‬‫ال َت ِه ُنــوا َو َ‬
‫مستســلمين‪ ،‬وقــد ذهلــوا عــن قولــه تعالــى‪َ « :‬و َ‬
‫ـس‬
‫ـد َمـ َّ‬ ‫ـن • إِن ي َْم َسسـ ُ‬
‫ـك ْم َق ـ ْر ٌح فَقَ ـ ْ‬ ‫أل ْع َل ـ ْو َن إِن ُكن ُتــم مُّ ؤْمِ نِيـ َ‬ ‫ـم ا َ‬ ‫َو َأن ُتـ ُ‬
‫ْ‬
‫ـاس» (((‪.‬‬ ‫ـن ال َّنـ ِ‬ ‫ـام ن َُد ِاو ُل َهــا ب َْيـ َ‬ ‫ـك ا َ‬
‫أل َّيـ ُ‬ ‫القَ ـ ْو َم َق ـ ْر ٌح ِ ّم ْث ُل ـ ُه َو ِت ْلـ َ‬
‫ونســوا أنــه ال يجــوز أن يتط ـ ّرق اليــأس إلــى قلــب أحــد؛ ال عق ـ ً‬
‫ا‬
‫وال شــرع ًا‪ ،‬وال سـ َّـيما المســلم الــذي يخبــره دينــه بــأن اليــأس هــو‬
‫ـال‬‫ـن َقـ َ‬ ‫ِ‬
‫«الذيـ َ‬ ‫الكفــر بعينــه‪ ،‬وغفلــوا عــن قولــه تعالــى فــي ســلفهم‪:‬‬
‫ِيمانـ ًا‬
‫ـم إ َ‬ ‫َاخشَ ـ ْو ُه ْم َف َز َ‬
‫اد ُهـ ْ‬ ‫ـد َج َم ُعــوا َل ُكـ ْ‬
‫ـم ف ْ‬ ‫ـاس َقـ ْ‬
‫ـاس إ َِّن ال َّنـ َ‬ ‫َل ُهـ ُ‬
‫ـم ال َّنـ ُ‬
‫ـل * فَانقَ َل ُبــوا بِ ن ِْع َمـ ٍة ِ ّمـ َ‬
‫ـن ال َّلـ ِه َوف ْ‬
‫َض ٍل‬ ‫ـم الوَكِ يـ ُ‬
‫َوقَا ُلــوا َح ْسـ ُـب َنا ال َّلـ ُه َون ِْعـ َ‬
‫ـه ْم ُســو ٌء» (((‪.‬‬
‫ـم ي َْم َس ْسـ ُ‬
‫لـ ْ‬
‫‪ -1‬آل عمران‪ 139 :‬ومن اآلية ‪.140‬‬
‫‪ -2‬آل عمران‪ :‬اآليتان ‪ 173‬و‪.174‬‬

‫‪60‬‬
‫فنجدهــم إذا اســتنهضتهم لمعاونــة قــوم منهــم يقاتلــون دولــة‬
‫أجنبيــة تريــد لتمحوهــم كان أوّل جــواب لهــم‪ّ :‬‬
‫أي فائــدة مــن‬
‫بــذل أموالنــا فــي هــذا الســبيل‪ ،‬وتلــك الدولــة غالبــة ال محالــة؟!‬
‫ولــو تأمَّلــوا لوجــدوا أن االستســام ال يزيدهــم إال ويـ ً‬
‫ا‪ ،‬وال يزيــد‬
‫العــدو إال اســتبداد ًا وجبروت ـ ًا؛ س ـ ّنة اللــه فــي خلقــه‪ ،‬ولــو َّ‬
‫فكــروا‬
‫الشــح بالمــال علــى إخوانهــم الذيــن فــي‬
‫ّ‬ ‫قليــ ً‬
‫ا لــرأوا أن هــذا‬
‫مواطــن الجهــاد لــم يكــن توفيــر ًا‪ ،‬وإنمــا كان هــو الفقــر بعينــه؛‬
‫ألن األ ّمــة المســتضعفة ال تعــود حـ ّرة فــي تجارتهــا واقتصادياتهــا‪،‬‬
‫ـص العــد ّو الغالــب عليهــا كل مــا فيــه عاللــة رطوبــة فــي‬
‫بــل يمتـ ّ‬
‫يتمششــونها‪ ،‬مــن‬
‫ّ‬ ‫أرضهــا‪ ،‬وال يتــرك لأل ّمــة المســتضعفة إال عظامـ ًا‬
‫قبيــل «قــوت ال يمــوت»‪ ،‬وكثيــر ًا مــا تحصــل مســاغب ويموتــون‬
‫جوع ـ ًا‪ ،‬كمــا يقــع‪ ،‬كثيــر ًا‪ ،‬فــي جزائــر الغــرب والهنــد وغيرهمــا‪،‬‬
‫تــرى المجاعــات واقعــة فــي الهنــد وال يمــوت منهــا وال إنجليــزي‪،‬‬
‫تشــتد فــي الجزائــر وال يمــوت بهــا إال المســلم (((‪ ،‬ومــا‬
‫ّ‬ ‫وتراهــا‬
‫وف ّت في عضد قوميتهم‬ ‫ضن المسلمين باألموال على القضايا العامة هو الذي َش َّل حركتهم السياسية‪َ ،‬‬ ‫‪ُّ 1‬‬
‫إلى أن صارت األمم الغالبة على أمرهم ال تحسب لهم أدنى حساب‪ ،‬ولو كانت تحسب لهم حساب ًا ما كان‬
‫الفرنسيس انتزعوا منهم أمالكهم في الجزائر حتى صار ‪ 75‬في المئة منها ملك ًا للفرنسيس‪ ،‬وصارت ثلث‬
‫أراضي تونس ملك ًا لخمسين ألف فرنسي مع أن األهالي هم مليونان ونصف مليون مسلم يملكون الثلثين‬
‫ابتزت أهالي المغرب األقصى بثمان مئة ألف هكتار وسلّمتها للمستعمرين‬ ‫ال أكثر‪ ،‬وأيض ًا لما كانت فرنسا ّ‬
‫الفرنسيين‪ ،‬ولما كانت فرنسا تنفق ثالثة أرباع ميزانية المغرب المالية على ‪ 190‬ألف فرنسي‪ ،‬وتنفق‬
‫الربع الباقي على مسلمي المغرب مع أنهم سبعة ماليين نسمة ومع أن ‪ 80‬في المئة في ميزانية المغرب‬
‫ال عن جريدة الحماية الرسمية التي ال يقدر الفرنسيس أن‬ ‫هي من أموال المسلمين كما أثبتنا ذلك باألرقام نق ً‬
‫يكابروا فيها‪ ،‬وهي ميزانية عّدة سنين ال سنة واحدة‪ ،‬وقد نقلنا تلك الميزانيات كلها عن جريدة الحماية‬
‫تأمل هذا الحيف الفظيع‬ ‫الرسمية المطبوعة في الرباط إلى مجلتنا «التاسيون آراب»‪ ،‬ودعونا الناس إلى ُّ‬
‫الواقع على المسلمين‪ ،‬الذين يتمتّع الفرنسي الواحد من ميزانيتهم أكثر مما يتمتع به ستون مسلماً‪.‬‬
‫ال عن الفرنسيس‪ ،‬يستفيد من الميزانية المغربية أكثر من‬ ‫وأغرب من ذلك أن الواحد من يهود المغرب‪ ،‬فض ً‬
‫ِّ‬
‫المبشرون‬ ‫أربعين مسلماً‪ ،‬وأغرب منه أنه من هذه الميزانية التي أربعة أخماسها من جيوب المسلمين يأخذ‬
‫بث المسيحية بين البربر المسلمين‪ ،‬وهذا على‬ ‫والقسوس دعاة النصرانية مئات ألوف من الفرنكات ألجل ّ‬
‫تابع‬

‫‪61‬‬
‫الســبب فــي ذلــك إال أن األجانــب قــد اســتأثروا بخيــرات البــاد‪،‬‬
‫ولــم يتركــوا للمســلمين إال الفقــر‪ ،‬فقــام المســلمون اليــوم يعتــذرون‬
‫عــن عــدم بــذل األمــوال لمســاعدة إخوانهــم بعــدم وجودهــا‪ ،‬وهــذا‬
‫ــد محــدود؛ وذلــك أنهــم بخلــوا بهــا فــي األوّل‬
‫صحيــح إلــى َح ّ‬
‫والخنــوع أو ً‬
‫ال‪ ،‬والفقــ َر‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫الــذل‬ ‫فجنــوا مــن بخلهــم علــى الجهــاد‬
‫ّ‬
‫الــذل يردفــه‬ ‫والجــوع ثانيــ ًا‪ ،‬فــإن مــن ســنن اللــه فــي أرضــه أن‬
‫الفقــر‪ ،‬وأن الع ـ ّز يردفــه الثــراء‪ ،‬والمثــل العربــي يقــول‪« :‬مــن َع ـ ّز‬
‫َب ـ ّز»‪ ،‬والشــاعر العربــي اإليــادي يقــول‪:‬‬

‫ْخذوكم وال ِ ّت َ‬
‫الد مَعا‬ ‫إ ِْن َيظْ ه ُروا يأ ُ‬ ‫ْأَعــ َدا ِء ِإ ّن َـ ُه ُم‬ ‫ال َت ْذ ِخ ُروا َ َ‬
‫المال لل ْ‬
‫فك ْم ُج ِدعا‬‫إن َأ ْن ُ‬
‫بها ْ‬‫اح َتفَ ظْ ُت ْم َ‬
‫قد ْ‬ ‫َال َوفِي ن َِعم‬ ‫َه ْي َهات ال َخ ْي َر في م ٍ‬

‫والمتنبي يقول‪:‬‬

‫الد ْن َيا ل َِم ْن ق ََّل م َْج ُد ُه‬ ‫وَال م َ‬


‫َال فِي ُّ‬ ‫الد ْن َيا ل َِم ْن ق ََّل مَا ُل ُه‬
‫فَال م َْج َد فِي ُّ‬
‫وعــ ّزت عليهــم الحيــاة‬
‫فالمســلمون َعــ َّز عليهــم المــال ففقــدوه‪َ ،‬‬
‫ففقدوهــا‪ ،‬وأبــى اللــه إال تصديــق كالم النبــي الموصــى إليــه حيــث‬
‫يقــول‪« :‬يوشــك أن تداعــى عليكــم األمــم كمــا تداعــى األكلــة‬
‫علــى القصــاع»‪ ،‬قالــوا أ َو مــن ق ّلــة فينــا‪ ،‬يومئــذ‪ ،‬يــا رســول اللــه؟‬
‫نسق إعطاء مبشري النصرانية في السودان المصري إعانات من أموال المسلمين‪ ،‬فلوال هوان المسلمين‬
‫على دول االستعمار‪ ،‬وكون هذه ال تقيم وزن ًا ما كانوا يستخفّون بهم إلى هذا َ‬
‫الحّد األقصى‪ ،‬وال كان عند‬
‫الفرنسيس األربعون مسلم ًا بيهودي واحد‪ ،‬وال الستون مسلم ًا بفرنسي واحد‪ ،‬ولقد تحّديناهم مرارًا أن‬
‫يجيبونا عن هذا الظلم الفاحش فما أجابونا بغير الطعن والقذف والتهمة لنا بعداوة فرنسا‪ ،‬كأن اإلنسان ال‬
‫يمكن أن يكون صديق ًا لفرنسا إال إذا أهدر في سبيلها جميع حقوق قومه‪ ،‬وهذا من أغرب الغرائب‪.‬‬
‫ال لعلموا أن نصحنا لهم بإنصاف المسلمين هو نصح عائد إلى مصلحتهم‪ ،‬وأن العدو ال‬ ‫تأملوا قلي ً‬
‫ولو ّ‬
‫يشير عليهم باستجالب قلوب المسلمين أبداً‪ ،‬وإنما يريدها حامية بين الفريقين إلى ما شاء اهلل‪( .‬ش)‬

‫‪62‬‬
‫قــال‪« :‬ال‪ ،‬ولكنكــم ُغثــاء كغثــاء الســيل ي َ‬
‫ُجعــل الوهــن فــي قلوبكم‬
‫حبكــم الدنيــا‪ ،‬وكراهيتكــم‬
‫وُينــ َزع مــن قلــوب أعدائكــم‪ ،‬مــن ّ‬
‫الموت»‪.‬هــذا الحديــث رواه لــي الشــيخ مُ َح َّمــد بــن جعفــر‬
‫الكنانــي الفاســي ‪ -‬رحمــه اللــه ‪ -‬يــوم لقيتــه فــي المدينــة المنــورة‬
‫منــذ خمــس وعشــرين ســنة‪ ،‬ثــم قرأتــه فــي الكتــب‪ ،‬واستشــهدت‬
‫بــه فــي ِ ّ‬
‫مقدمــة «حاضــر العالــم اإلســامي»‪ ،‬وألفاظــه تختلــف فــي‬
‫روايــة عــن روايــة‪ ،‬فاألســتاذ صاحــب «المنــار»‪ -‬أمتــع اللــه بطــول‬
‫بأصــح رواياتــه (((‪ ،‬ومعنــاه ظاهــر وهــو أن‬
‫ّ‬ ‫حياتــه‪ -‬هــو األدرى‬
‫ـد إليهــم‬
‫المســلمين يأتــي عليهــم يــوم يصيــرون فيــه مأ كلــة‪ ،‬وتمتـ ّ‬
‫األيــدي مــن كل جهــة‪ ،‬فهــذا العصــر الــذي نحــن فيــه هــو ذلــك‬
‫‪ 1‬الحديث رواه أبو داود في سننه‪ ،‬والبيهقي في دالئل النبوة عن ثوبان مرفوع ًا بلفظ‪« :‬يوشك أن تداعى‬
‫الل عليه وسلَّم‪ :‬بل أنتم‬ ‫عليكم كما تداعى األكلة إلى قصعتها» فقال قائل‪ :‬ومن قلة نحن يومئذ؟ قال صلَّى َّ‬
‫يومئذ كثير‪ ،‬لكنكم غثاء كغثاء السيل‪ ،‬وسينزعين اهلل من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم‬
‫الوهن»‪ ،‬قال قائل‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬وما الوهن؟ قال‪« :‬حب الدنيا وكراهية الموت»‪.‬‬
‫الل عليه وسلَّم «تداعى» أصله تتداعي أي تجتمع ويدعو بعضها بعض ًا لسلب ملككم كما تتداعى‬ ‫قوله صلَّى َّ‬
‫والغثاء‪ ،‬بالضم‪ ،‬ما يحمله السيل ويلقيه‬ ‫األكلة وهي جمع آكل ‪-‬كالفعلة جمع فاعل‪ -‬إلى قصعة الطعام‪ُ ،‬‬
‫ال لما ال قيمة له وال فائدة‪ ،‬والوهن بالنون‪ :‬الضعف‪ ،‬وإنما سأله‬ ‫من الزبد والعيدان ونحوها؛ ويضرب مث ً‬
‫الل عليه وسلَّم‪ ،‬بأن سببه حب الحياة الدنيا ولذّاتها الخسيسة‪ ،‬وإيثارها‬ ‫السائل عن سببه‪ ،‬فأجابه صلَّى َّ‬
‫على الجهاد في الدفاع عن الحقيقة وإعالء كلمة اهلل‪ ،‬وكراهية الموت ولو في سبيل الحق؛ حرص ًا على هذه‬
‫الحياة الخسيسة‪.‬‬
‫اد ُر على َأن َيْب َع َث َعَلْيُكْم َعَذاب ًا‬ ‫«ق ْل ُه َو الَ‬
‫ْق ِ‬ ‫وقد أوردت هذا الحديث في تفسير قوله تعالى (األنعام‪ :‬آية ‪ُ :)٦٥‬‬
‫ض»‪.‬‬ ‫س َب ْع ٍ‬ ‫ْ‬ ‫ِكْم َأ ْو َيْلِب َسُكْم ِشَيع ًا َوُيذ َ‬
‫ِكْم َأ ْو ِمن َت ْح ِت َأْر ُجلُ‬
‫ِيق َب ْع َضُكم َبأ َ‬ ‫ِّمن َف ْوقُ‬
‫الل عليه وسلَّم‪« :‬إن‬ ‫وأوردت قبله حديث ثوبان اآلخر الذي رواه مسلم في صحيحه‪ ،‬قال رسول اهلل صلَّى َّ‬
‫اهلل زوى لي األرض فرأيت مشارقها ومغاربها‪ ،‬وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها‪ ،‬وأعطيت الكنزين‪:‬‬
‫عدوًا من سوى‬ ‫األحمر‪ ،‬واألبيض‪ ،‬وإني سألت ربي ألمتي أن ال يهلكها بسنة عامة‪ ،‬وأن ال يسلط عليها ّ‬
‫قضاء‬
‫ً‬ ‫أنفسهم فيستبيح بيضتهم (أي ملكهم وسلطانهم ومقر قوتهم) وإن ربي قال لي‪ :‬يا ُم َح َّمد إذا قضيت‬
‫رد‪ ،‬وإني أعطيتك ألمتك أن ال أهلكهم بسنة عامة (أي قحط) وأن ال أسلّط عليهم عدوًا من سوى‬ ‫فإنه ال ُي ّ‬
‫أنفسهم فيستبيح بيضتهم‪ ،‬ولو اجتمع عليهم من بأقطارها ‪ -‬أو قال من بين أقطارها ‪ -‬حتى يكون بعضهم‬
‫يهلك بعض ًا ويسبي بعضهم بعضاً» ورواه أحمد وأصحاب السنن إال النسائي بزيادة على رواية مسلم‬
‫الل عليه وسلَّم بعد قرون من وفاته ورفع‬ ‫هذه‪ ،‬وكال الحديثين في أعالم النبوة التي ظهر بها صدقه صلَّى َّ‬
‫روحه إلى الرفيق األعلى‪ ،‬فما ذهب شيء من ملك المسلمين إلى أيدي األجانب إال بخذالن بعضهم لبعض‪،‬‬
‫ومساعدتهم لألجانب على أنفسهم‪ ،‬وفي هذه الرسالة لألمير شكيب بعض الشواهد من مسلمي هذا العصر‬
‫على ذلك‪ ،‬وراجع الموضوع بتفصيله في تفسير اآلية المشار إليها من ص ‪ 501 - 490‬ج‪ 7‬تفسير‪( .‬ر)‬

‫‪63‬‬
‫اليــوم‪ ،‬وأن المســلمين ال يكــون عيبهــم‪ ،‬يومئــذ‪ ،‬ق ّلــة عددهــم؛‬
‫الكثــرة بنفســها ال تفيــد أن لــم تقتــرن بجــودة النــوع والكميــة التــي‬
‫ال تغنــي عــن الكيفيــة (((‪ ،‬وع ّلــة العلــل فــي ضعــف المســلمين ذلك‬
‫اليــوم هــو الجبــن والبخــل‪ ،‬صريــح ذلــك فــي قولــه ص َّلــى ال َّلــه عليــه‬

‫وس ـ َّلم‪« :‬مــن ّ‬


‫حبكــم الدنيــا وكراهيتكــم المــوت» (((‪.‬‬
‫‪ 1‬عدد المسلمين اليوم ما ينيف عن ستمئة مليون‪ ،‬فيا لها من قوة ولو كان جميعهم رجا ًال كالرجال‬
‫المتغلبين عليهم‪( .‬ش)‬
‫وأعز الناس لديهم وأغلى‬ ‫ّ‬ ‫‪ 2‬نعم يخشى المسلمون دول االستعمار فيطيعونها حتى على آبائهم وأبنائهم‬
‫األمور عليهم وعلى دينهم ووطنهم وقوميتهم وثقافتهم‪ ،‬وإن سألتهم عن أسباب هذه الطاعة العمياء قالوا‬
‫ِبل لنا بمقاومتهم‪ ،‬ونسوا أنهم عندما تقذف بهم دول االستعمار‬ ‫لك‪ :‬إننا إن لم نطعهم أهلكونا ونحن ال قَ‬
‫في حروبها يالقون فيها الموت الذي لم يكونوا ليالقوا أعظم منه لو كانوا عصوها‪.‬‬
‫ِيكْم»‪.‬‬ ‫ون ِمْن ُه َفِإن ُ‬
‫َّه ُمالق ُ‬ ‫ِر َ‬ ‫«ق ْل ِإ َّن الَ‬
‫ْم ْو َت الذِي َتف ُّ‬ ‫ُ‬
‫ولعمري إن تعليل هذه الحالة الروحية التي نجدها عند المسلمين الخاضعين لدول أوروبة المستعمرة‬
‫مر المذاق ال‬ ‫ليتعذّر على نطس أطباء االجتماع جميعاً؛ إذ ال يمكن أن يعقل صنفان من الموت‪ :‬أحدهما ّ‬
‫تقوى على مواجهته النفس‪ ،‬وهو الموت في مقاومة األجنبي المتغلب‪ ،‬والثاني مقبول الطعم سهل‬
‫تفسر وال تعلَّل‬‫عدو ذلك المتغلب‪ ،‬ال جرم أن هذه حالة روحية شاذة ال َّ‬ ‫االقتحام وهو الموت في مقاتلة ّ‬
‫إال بالمرض وعدم اعتدال المزاج وكون الرعب المستمر الذي أوقعه في قلوبهم األجنبي المتغلب انتهى بأن‬
‫أوجد في نفوسهم هذه الحالة الغريبة التي لم أجد لها شبيه ًا في التاريخ إال ما كان منهم يوم زحف التتار‬
‫المغوليون إلى بالد اإلسالم ونسفوا تلك الحضارات الزاهرة التي كانت في تركستان وإيران والعراق‪،‬‬
‫ودمروا بغداد دار الخالفة‪ ،‬وأهلكوا الخليفة المستعصم‬ ‫ّ‬ ‫وذبحوا الماليين من أهلها‪ ،‬ذبحوا الشياه‪،‬‬
‫العباسي تحت أرجل الفيلة‪ ،‬وجعلوا من جماجم القتلة آكام ًا عالية فوصل الرعب بقلوب المسلمين إلى‬
‫تحدثهم نفوسهم‬ ‫أن صار المغولي الواحد يدخل على المئة منهم فيقتلهم جميع ًا وأسلحتهم في أيديهم‪ ،‬وال ِّ‬
‫مجرد انكسار قوى معنوية‪ ،‬بل هو أبعد مدى من هذا بكثير؛ فإن‬ ‫بأدنى مقاومة‪ ،‬وال يقال لمثل هذا‪ :‬إنه ّ‬
‫انكسار القوى المعنوية ال يسلب المغلوب كل آثار النشاط للمقاومة‪ ،‬وإنما كان ذاك مرض ًا زاغت به‬
‫وجردها من خواص اإلدراك‪ ،‬وقد َح َّد َث أحد‬ ‫َّ‬ ‫الطبائع البشرية عن مركزها‪ ،‬وعته ًا استولى على العقول‬
‫المؤرخين برواية غريبة عن رجل شهد تلك الوقائع بعينه فقال ما معناه‪ :‬فررت من التتار فساقني القدر‬
‫ال كلهم تخّبأوا فيه لعلهم ينجون من الموت‪ ،‬فبينما نحن جالسون؛ إذ‬ ‫إلى بيت وجدت فيه ثمانية عشر رج ً‬
‫دخل علينا أحد التتار فرآنا جميع ًا وعلى وجوهنا غبرة الموت‪ ،‬ولم يكن معه سالح يقتلنا به فقال لنا‪:‬‬
‫ابقوا هنا حتى آتى بسكين وأذبحكم‪ .‬ومضى ليأتي بالسكين‪ ،‬فلما ذهب قلت للجماعة‪ :‬ماذا تنتظرون؟!‬
‫قالوا‪ :‬ال ننتظر شيئ ًا سوى الموت‪ .‬فقلت لهم‪ :‬كيف ننتظر الموت من يد رجل واحد ونحن عصبة ‪ 19‬رجالً؟!‬
‫قالوا‪ :‬ماذا تريد أن نصنع؟ قلت‪ :‬نقتله‪ .‬قالوا‪ :‬ال تمتد أيدينا إليه؛ ألننا نخاف‪ .‬قلت‪ِ :‬م َّم تخافون؟! إن كان‬
‫خوفكم من الموت فهو قاتلكم على كل حال‪ .‬قال‪ :‬وما زلت أشجعهم إلى أن اقتنع بكالمي اثنان منهم ال غير‪.‬‬
‫فلما رجع المغولي وبيده السكين الذي يريد أن يقتلنا به هجمنا عليه نحن الثالثة ونزعنا السكين من يده‬ ‫ّ‬
‫وقتلناه به‪ ،‬وخرجنا ونجونا‪ .‬هذا‪ ،‬وبقي المسلمون في رعب من التتار غير ممكن التعليل إلى أن خرجت‬
‫إليهم العساكر المصرية في زمن الملك قطز‪ ،‬فتالقى الجمعان في عين جالوت في فلسطين وانهزم التتار‬
‫هزيمة شنعاء‪ ،‬ثابت بعدها عزائم المسلمين إليهم‪ ،‬وأخذوا يفتكون بالتتار‪ ،‬وصار هؤالء عندهم كسائر‬
‫الناس‪ ،‬ولو لم يدخل التتار في اإلسالم لكان المسلمون أبادوهم‪.‬‬
‫وخالصة القول‪ :‬إن المسلمين كلما آثروا السالمة ازدادوا موتاً‪ ،‬وكلما احتقروا الحياة ازدادوا حياة‪ ،‬وإلى‬

‫‪64‬‬
‫ـب الدنيــا يحــرم اإلنســان التم ُّتــع‬
‫ومــن المعلــوم أن اإلفــراط فــي حـ ّ‬
‫بهــا‪ ،‬وأن الغل ـ ّو فــي المحافظــة علــى الحيــاة تكــون عاقبتــه زيــادة‬
‫التع ـ ُّرض للهــاك ((( هــذه هــي مــن ســنن اللــه فــي خلقــه أو مــن‬
‫النواميــس الطبيعيــة كمــا يقــال فــي هــذا العصــر‪ ،‬فالقــرآن يأمــر‬
‫المســلم بــأن يحتقــر الحيــاة والمــال وكل عزيــز فــي ســبيل اللــه‪،‬‬
‫ويأمــر المســلم أن يثبــت وال ييــأس‪ ،‬وأن يصبــر وال يتزلــزل مهمــا‬
‫ـون َكثِيـ ٌر ف ََمــا‬ ‫ـي قَا َتـ َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫ـل م ََعـ ُه ِر ِ ّب ُّيـ َ‬ ‫أصيــب‪ ،‬وتــراه يقول«وَك َأ ِ ّيــن ّمــن نَّبِ ـ ٍ ّ‬
‫اســ َت َكانُوا‬ ‫يل ال َّلــ ِه َومَــا َض ُع ُفــوا َومَــا ْ‬ ‫ــم فِــي َســبِ ِ‬ ‫و ََه ُنــوا ل َِمــا َأ َصاب َُه ْ‬
‫الصابِ رِ يـ َ‬
‫ـن» (((‪.‬‬ ‫وَال َّل ـ ُه ي ُِحـ ُّ‬
‫ـب َّ‬
‫هكــذا يريــد اللــه ليكــون المســلمون‪ ،‬فــإن لــم يكونــوا هكــذا‬
‫نــص القــرآن‪ ،‬فكيــف يســتنجزون اللــه عداتــه بالنصــر‬
‫ّ‬ ‫بصريــح‬
‫والتمكيــن‪ ،‬والســعادة والتأميــن؟!‬

‫ضياع اإلسالم بين الجامدين والجاحدين‬

‫ومــن أ كبــر عوامــل انحطــاط المســلمين الجمــود علــى القديــم‪،‬‬


‫فكمــا أن آفــة اإلســام هــي الفئــة التــي تريــد أن تلغــي كل شــيء‬
‫قديــم‪ ،‬بــدون نظــر فيمــا هــو ضــا ّر منــه أو نافــع‪ ،‬كذلــك آفــة‬
‫يل َِّ‬
‫الل‬ ‫ِروْا فِي َسِب ِ‬ ‫آمُنوْا َما َلُكْم ِإ َذا ق َ‬
‫ِيل َلُك ُم انفُ‬ ‫ِين َ‬‫هذا أشار اهلل تعالى في كتابه الكريم حين يقول‪َ :‬يا َأ ُّيَها الذ َ‬
‫ِروْا‬‫ُ‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫ال‬ ‫إ‬
‫ِ‬ ‫ٌ‬
‫ِيل‬‫ل‬‫ق‬‫َ‬ ‫َّ‬
‫ال‬ ‫إ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ة‬ ‫ر‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫اآلخ‬ ‫ِي‬‫ف‬ ‫ا‬ ‫ي‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن‬ ‫الد‬
‫ُّ‬ ‫ِ‬
‫اة‬ ‫اآلخَرِة َفَما َمَت ُ َ َ‬
‫ي‬ ‫ْح‬‫ل‬ ‫ا‬ ‫اع‬ ‫الدْنَيا ِم َن ِ‬ ‫اة ُّ‬ ‫ْحَي ِ‬‫يتم ِبال َ‬‫ضُ‬ ‫ض َأ َر ِ‬ ‫ْتْم ِإَلى ا َألْر ِ‬ ‫َّاقلُ‬
‫اث َ‬
‫الل على ُك ِّل َش ْيٍء َقد ٌ‬
‫ِير»‬ ‫وه َشْيئ ًا َو َُّ‬ ‫ُي َعذِّْبُكْم َعَذاب ًا َألِيم ًا َوَي ْسَتْبد ْ‬
‫ِل َق ْوم ًا َغْيَر ُكْم َو َال َت ُض ُّر ُ‬
‫َّهُل َكِة»‪ .‬أي إن عدم إنفاقكم في سبيل‬ ‫ِيكْم ِإَلى التْ‬‫ْقوْا ِبَأْيد ُ‬ ‫يل َِّ‬
‫الل َو َال ُتلُ‬ ‫ِقوْا فِي َسِب ِ‬ ‫«وَأنفُ‬
‫‪ 1‬إن اهلل تعالى يقول‪َ :‬‬
‫اهلل هو التهلكة بعينها‪ ،‬وقد أصابت المسلمين تهلكة عدم اإلنفاق‪ ،‬وصدق فيهم ما َحذَّرهم اهلل منه‪.‬‬
‫‪ 2‬آل عمران‪146 :‬‬

‫‪65‬‬
‫تغيــر شــيئ ًا‪ ،‬وال‬
‫اإلســام هــي الفئــة الجامــدة التــي ال تريــد أن ِ ّ‬
‫ترضــى بإدخــال أقـ ّ‬
‫ـل تعديــل علــى أصــول التعليــم اإلســامي؛ ظنـ ًا‬
‫منهــم بــأن االقتــداء بالكفّ ــار كفــر‪ ،‬وأن نظــام التعليــم الحديــث مــن‬
‫وضــع الكفــار‪ .‬فقــد أضــاع اإلســام جاحــد وجامــد‪.‬‬
‫أمــا الجاحــد فهــو الــذي يأبــى إال أن يفرنــج المســلمين وســائر‬
‫ومشــخصاتهم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الشــرقيين ويخرجهــم عــن جميــع مق ّوماتهــم‬
‫ويحملهــم علــى إنــكار ماضيهــم‪ ،‬ويجعلهم أشــبه بالجــزء الكيماوي‬
‫الــذي يدخــل فــي تركيــب جســم آخــر كان بعيــد ًا فيــذوب فيــه‬
‫ويفقــد هويّتــه‪ ،‬وهــذا الميــل فــي النفــس إلــى إنــكار اإلنســان‬
‫لماضيــه واعترافــه بــأن آبــاءه كانــوا ســافلين‪ ،‬وأنــه هــو يريــد أن‬
‫يبــرأ منهــم ال يصــدر إال عــن الفســل الخســيس‪ ،‬الوضيــع النفــس‪،‬‬
‫أو عنــد الــذي يشــعر أنــه فــي وســط قومــه دنــيء األصــل‪ ،‬فيســعى‬
‫هــو فــي إنــكار أصــل أمّتــه بأســرها؛ ألنــه يعلــم نفســه منهــا بمــكان‬
‫خســيس ليــس لــه نصيــب مــن تلــك األصالــة‪ ،‬وهــو مخالــف لســنن‬
‫الكــون الطبيعيــة التــي جعلــت فــي كل أ ّمــة ميـ ً‬
‫ا طبيعيـ ًا لالحتفــاظ‬
‫ـخصاتها؛ مــن لغــة وعقيــدة وعــادة وطعــام وشــراب‬
‫بمق ّوماتهــا ومشـ ّ‬
‫وســكن وغيــر ذلــك إال مــا ثبــت ضــرره (((‪.‬‬

‫‪ 1‬قال المستر شمبرلين ناظر خارجية إنجلترا سابقاً‪ :‬نحن ‪ -‬اإلنجليز ‪ -‬أمة تقليدية محافظة على القديم ال‬
‫يبق مناص من تغييره‪.‬‬ ‫ترضى بتبديل شيء من أوضاعنا إال إذا ثبت ضرورة ولم َ‬

‫‪66‬‬
‫محافظة الشعوب اإلفرنجية على قوم َّيتها‬

‫فلننظــر إلــى أوروبــة ‪ -‬ألنهــا هــي اليــوم المثــل األعلــى فــي ذلــك‬
‫‪ -‬نجــد كل أ ّمــة فيهــا تأبــى أن تندمــج فــي أ ّمــة أخــرى؛ فاإلنجليــز‬
‫يريــدون أن يبقــوا إنجليــز ًا‪ ،‬واإلفرنســيس يريــدون أن يبقــوا‬
‫إفرنسيسـ ًا‪ ،‬واأللمــان ال يريــدون أن يكونــوا إال ألمانـ ًا‪ ،‬والطليــان ال‬
‫يرضــون أن يكونــوا إال طليانـ ًا‪ ،‬والــروس قصــارى ّ‬
‫همهــم أن يكونــوا‬
‫روس ـ ًا‪ ،‬وهلـ ّ‬
‫ـم ج ـ ّرا‪.‬‬
‫وممــا يزيــد هــذا المثــال تأثيــر ًا فــي النفــس أن األيرلندييــن‪ ،‬مثـ ً‬
‫ا‪،‬‬
‫أ ّمــة صغيــرة مجــاورة لإلنجليــز‪ ،‬وقــد بــذل هــؤالء جميع مــا يتص ّوره‬
‫ـدة تزيــد علــى ســبع‬
‫العقــل مــن الجهــود ليدمجوهــم فــي ســواهم مـ ّ‬
‫مئــة ســنة‪ ،‬فأبــوا أن يصيــروا إنجليــز ًا‪ ،‬ولبثــوا أيرلندييــن بلســانهم‬
‫وعقيدتهــم وأذواقهــم وعاداتهــم‪.‬‬
‫وفــي فرنســا نفســها تأبــى أمّــة «البريتــون» إال أن تحافــظ علــى‬
‫أصلهــا‪ ،‬وفــي جنوبــي فرنســا جيــل يقــال لهــم «الباشــكنس»‬
‫احتفظــوا بقوميتهــم تجــاه القــوط‪ ،‬ثــم تجــاه العــرب‪ ،‬ثــم تجــاه‬
‫اإلســبان‪ ،‬ثــم تجــاه الفرنســيس‪ ،‬وجميعهــم مليــون نســمة‪ ،‬وهــم ال‬
‫يزالــون علــى لغتهــم وزيّهــم وعاداتهــم وجميــع أوضاعهــم‪.‬‬
‫والفلمنــك يأبــون أن يجعلــوا اللغــة اإلفرنســية لغتهــم‪ ،‬والثقافــة‬
‫اإلفرنســية ثقافتهــم‪ ،‬ولــم يزالــوا يصيحــون فــي بلجيــكا حتــى‬
‫اضطــ ّرت دولــة بلجيــكا إلــى االعتــراف بلغتهــم لغــة رســمية‪.‬‬
‫وفــي سويســرا ثالثــة أقســام‪ :‬القســم األلمانــي وهــو مليونــان وثمــان‬

‫‪67‬‬
‫مئــة ألــف‪ ،‬والقســم المتك ِ ّلــم بالطليانيــة وهــو أكثــر قليـ ً‬
‫ا مــن مئتــي‬
‫ألــف‪ ،‬والقســم المتك ِ ّلــم باللغــة الفرنســية‪ ،‬وكل قســم منهــا يحافــظ‬
‫علــى لغتــه وقوانينــه ومنازعــه مــع أنهــم كلهــم م َّتحــدون فــي‬
‫مصالحهــم السياســية وهــم يعيشــون فــي مملكــة واحــدة‪.‬‬
‫وإن الدانمــارك وبــاد اإلســكنديناف وهوالنــدا فــروع مــن‬
‫الشــجرة األلمانيــة ال مــراء فــي ذلــك‪ ،‬لكنهــم ال يريــدون االندمــاج‬
‫قومياتهــم‪ ،‬وبقــي «التشــيك» مئتيــن‬
‫ّ‬ ‫فــي األلمــان وال العــدول عــن‬
‫مــن الســنين تحــت حكــم األلمــان‪ ،‬وبقــوا تشــيك ًا‪ ،‬واســتأنفوا بعــد‬
‫الحــرب العامــة اســتقاللهم السياســي‪ ،‬بعــد أن حفظــوا لســانهم‬
‫ـدة خمســة قــرون‪.‬‬
‫واســتقاللهم الجنســي مـ َّ‬
‫وقــد هـ َّ‬
‫ـذب األلمــان أ ّمــة المجــر وعلموهــم ورقّ وهــم‪ ،‬ولكنهــم لــم‬
‫يتمكنــوا مــن إدماجهــم فــي األلمانيــة‪ ،‬فتجدهــم أحــرص األمــم‬ ‫َّ‬
‫قوميتهــم المجريــة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫علــى لغتهــم المغوليــة األصليــة‪ ،‬وعلــى‬
‫ولبثــت الروســية العظيمــة مــن مئتيــن إلــى ثــاث مئــة ســنة تحــاول‬
‫وح ْمــل البولونييــن علــى‬
‫إدخــال بولونيــا فــي الجنــس الروســي َ‬
‫نســيان قوميتهــم الخاصــة؛ بحجــة أن العــرق الســافي يجمــع‬
‫بيــن البولونييــن والــروس‪ ،‬ففشــلت جميــع مســاعيها فــي إدمــاج‬
‫البولونييــن فيهــا‪ ،‬وعــاد هــؤالء بعــد الحــرب العامــة أ ّمــة مســتقلة‬
‫قوميتهــم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫فــي كل شــيء؛ وذلــك ألنهــم لــم يتخ ّلــوا طرفــة عيــن عــن‬
‫وليــس مــن العجيــب أن ال تريــد أ ّمــة عددهــا ‪ 30‬مليونـ ًا االندمــاج‬
‫فــي غيرهــا‪ ،‬ولكــن اإلســتوانيين‪ ،‬وهــم مليونــان فقــط‪ ،‬انفصلــوا‬

‫‪68‬‬
‫عــن الروســية‪ ،‬ولــم يقبلــوا االندمــاج فيهــا‪ ،‬وأحيــوا اســتقاللهم‪،‬‬
‫ولســانهم المغولــي األصــل جعلــوا لــه حروفــ ًا هجائيــة‪ ،‬ومثلهــم‬
‫أهالــي فنالنــدة المنفصلــون عــن الروســية أيض ـ ًا‪.‬‬
‫وقــد خابــت مســاعي الــروس فــي إدمــاج الليتوانييــن ‪ -‬مــن هــذه‬
‫األمــم البلطيكيــة ‪ -‬فــي الجنــس الروســي‪ ،‬وانتفضــوا بعــد الحــرب‬
‫قومي ـ ًا‪ ،‬وجميعهــم أربعــة‬
‫ّ‬ ‫العا ّمــة أ ّمــة مســتق ّلة كمــا كانــوا مســتق ّلين‬
‫ـل منهــم جيرانهــم الليتونيــون (((‪ ،‬الذيــن هــم مليونــان‬ ‫مالييــن‪ ،‬وأقـ ّ‬
‫وأسســوا جمهوريــة‬
‫ال غيــر‪ ،‬ومــع هــذا قــد انفصلــوا بعــد الحــرب‪َّ ،‬‬
‫كســائر الجمهوريــات البلطيكيــة؛ ألنهــم ‪-‬مــن األصــل‪ -‬لبثــوا‬
‫محافظيــن علــى لغتهــم وجنســهم‪.‬‬
‫وقــد عجــز الــروس مــن جهــة‪ ،‬كمــا عجــز األلمــان مــن جهــة أخــرى‬
‫عــن إدخــال هــذه األقــوام فــي تراكيبهــم القوميــة العظيمــة؛ ألن كل‬
‫شــعب ‪-‬مهمــا كان صغيــر ًا‪ -‬اليرضــى بإنــكار أصلــه وال بالنــزول‬
‫عــن اســتقالله الجنســي‪.‬‬
‫وقــد حفــظ الكرواتيــون اســتقاللهم الجنســي مــع إحاطــة أمّتيــن‬
‫كبيرتيــن بهــم‪ ،‬همــا‪ :‬الالتيــن‪ ،‬والجرمــان‪.‬‬
‫وحفــظ الصربيــون اســتقاللهم الجنســي مــع ســيادة التــرك عليهــم‬
‫منــذ قــرون‪ .‬ولــم يــزل األرنــاؤوط أرناؤوط ـ ًا منــذ عهــد ال يعــرف‬
‫بــدؤه‪ ،‬وهــم بيــن أمّتيــن كبيرتيــن‪ :‬اليونــان‪ ،‬والصقالبــة؛ أي‬
‫الســاف!‬
‫‪ 1‬ليتونيا هي غير ليتوانيا‪ ،‬وكلتاهما من األمم التي انفصلت عن الروسية بعد الحرب العامة؛ الختالف‬
‫جنسها عن جنس الروس‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫وكذلــك البلغــار أ َبــوا إال أن يبقــوا بلغــار ًا فيمابيــن الــروم والســاف‬
‫والالتيــن‪ ،‬ثــم جاءهــم التــرك فتع ّلمــوا التركيــة‪ ،‬لكنهــم بقــوا بلغار ًا‪.‬‬
‫والأريــد أن أخــرج فــي االستشــهاد عــن أوروبــا‪ ،‬ألنــي إن خرجــت‬
‫عــن أوروبــا قالــت تلــك الفئــة الجاحــدة‪ :‬نحــن ال نريــد أن نجعــل‬
‫متأخــرة مثلنــا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫قــدوة لنــا أممـ ًا‬
‫فاألمــم التــي استشــهدنا اآلن بهــا ك ّلهــا أوروبيــة‪ ،‬وك ّلهــا متع ِ ّلمــة‬
‫ممدنــة منظّ مــة‪ ،‬وكلهــا عندهــا‬
‫َّ‬ ‫راقيــة‪ ،‬وك ّلهــا ذوات بلــدان‬
‫الجامعــات واأل كاديميــات العلميــة والجيــوش واألســاطيل‪ ..‬إلــخ‪.‬‬

‫برقي اليابانيين‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫العبرة للعرب وسائر المسلمين‬

‫رقي اليابان يضارع‬


‫ولكني أخرج من أوروبا إلى اليابان فقط؛ ألن ّ‬
‫رقي أوروبا لألوروبيين؛‬
‫ّ‬ ‫تم‬
‫تم لليابان كما ّ‬
‫الرقي األوروبي‪ ،‬وقد ّ‬
‫ّ‬
‫قوميتهم ولسانهم وآدابهم وح ّريتهم ودينهم‬
‫ّ‬ ‫أي في ضمن دائرة‬
‫وشعائرهم ومشاعرهم وكل شيء لهم‪.‬‬

‫فأنقل إلى الق ّراء العرب فقرة من رسالة طويلة جاءت من مراسل‬
‫أوروبي سائح في اليابان‪ ،‬وظهرت في جريدة «جرنال دوجنيف»‬
‫بتاريخ ‪ 20‬أ كتوبر (‪ )1931‬فإنه يقول‪:‬‬

‫يحب الفن قبل كل شيء‪ ،‬وإن رأيته ساعي ًا في‬


‫ّ‬ ‫«إن اليابان‬
‫كسب المال فألجل إن ّ‬
‫يلذذ بالمال أهواءه المنصرفة إلى الحسن‬
‫والجمال‪ ،‬وقد انتقش في صفحة نفسه الشعور القومي الشديد عدا‬

‫‪70‬‬
‫مدة ستين سنة‬
‫الميل إلى الجمال؛ ألنه يفتخر بكون اليابان‪ ،‬في ّ‬
‫فقط‪ ،‬صارت من طور أمّة في القرون الوسطى إقطاعية الحكم إلى‬
‫أمّة عظيمة من أعظم األمم‪ ،‬ومما ال ريب فيه أن الديانة اليابانية‬
‫هي ذات دور عظيم في سياسة اليابان (ليتأمّل القارئ)‪ ،‬وهي‬
‫‪-‬في الحقيقة‪ -‬فلسفة مبنية على االعتراف بكل ما تركه القدماء‬
‫لسالئلهم‪ ،‬فالياباني العصري قد ائتلف مع جميع احتياجات الحياة‬
‫العصرية‪ ،‬لكن مع حفظ الميل الدائم إلى الرجوع إلى ماضيه ومع‬
‫بقوميته‪ ،‬غير مجيب نداء التفرنج‪ ،‬وفي األصل‬
‫ّ‬ ‫التمسك الشديد‬
‫ُّ‬
‫(التغرب ‪ )Occidentalisme -‬الذي ال يريد اليابان أن يأخذ منه‬
‫إال ما هو ضروري له ألجل مصارعة سائر األمم بنجاح‪ ،‬وال ّ‬
‫شك أن‬
‫هذا مثال فريد في تاريخ أمم الشرق األقصى‪.‬‬
‫ثم يقول‪:‬‬
‫كان اليابانيون يكرهون األسفار إلى البلدان البعيدة‪ ،‬ويحظرون‬
‫دخول األجانب إلى بالدهم‪ ،‬ولكن هذا المنع قد ارتفع بعد‬
‫النهضة العصرية‪ ،‬وتالفت اليابان ما فات بشكل مدهش‪ ،‬والنتائج‬
‫مقدس ًا معظّ م ًا‬
‫َّ‬ ‫هي أمامنا‪ ،‬إال أن الماضي ال يزال عند اليابانيين‬
‫المقدس يجد اليابانيون‬
‫ّ‬ ‫في جميع طبقاتهم؛ ألنه في هذا الماضي‬
‫جميع شعورهم بقيمتهم الحاضرة‪ ،‬فتراهم يكافحون بوسائل المدنية‬
‫الحديثة التامة التي ال سبيل إلى الحياة بدونها في أيامنا هذه‪،‬‬
‫بمج َّرد ما يجدون أنفسهم في غنى عنه‪،‬‬
‫لكن ينبذون كل «تغ ُّرب» ُ‬

‫‪71‬‬
‫ويعودون مع اللذة إلى شعورهم القومي الخالص الذي به يعتقدون‬
‫أنهم األعلون‪.‬‬
‫وهناك هياكل «شنتو» ومعابد «زن» والهياكل البوذية‪ ،‬وهي‬
‫بأشد ما يمكن من الحماسة الدينية واإليمان‬
‫ّ‬ ‫مك َّرمة معظّ مة مخدومة‬
‫الثابت كما كانت منذ قرون‪ .‬والحق أن هذا االحترام الشديد الذي‬
‫يشعر به اليابانيون لقديمهم ولمعبوداتهم هو الذي قام عندهم حصن ًا‬
‫منيع ًا دون المبادئ الشعوبية واألفكار الشيوعية المض ّرة‪.‬‬

‫ومنذ بضع سنوات ظهر في فرنسا تأليف جديد عن اليابان للمركيز‬


‫(المازليير ‪ )La Mazelierd‬قد أطنبت الجرائد في وصفه‪ ،‬ونشرت‬
‫عنه جريدة «الديبا» مقا ً‬
‫ال ر ّنان ًا‪ ،‬فنحن نوصي الق ّراء الذين ُّ‬
‫يهمهم‬
‫أن يعرفوا كيفية ارتقاء اليابان ‪ -‬وهو موضوع في غاية الجاللة؛‬
‫لما فيه من االستنتاج لسائر بالد الشرق ‪ -‬بمطالعة هذا الكتاب‬
‫التعصب لليابان‪ ،‬على أنني‬
‫ُّ‬ ‫الذي ال يمكن أن ينسب إلى مؤ ِ ّلفه‬
‫ِّ‬
‫متخصصون‬ ‫رأيته‪ ،‬في الجملة‪ ،‬مطابق ًا لتواريخ أ ّلفها علماء يابانيون‬
‫في التاريخ‪ ،‬وهذه التواريخ مترجمة من اليابانية إلى الفرنسية‪،‬‬
‫والبد لي‪ ،‬في هذه العجالة‪ ،‬من نقل بعض ِفقَ ر من تاريخ ال مازليير‬
‫َّ‬
‫تمدن اليابان وخروج هذه األمّة‬
‫المذكور‪ ،‬قال في أثناء الكالم على ُّ‬
‫من عزلتها القديمة ما يلي‪:‬‬
‫مدنيتهما‬
‫ّ‬ ‫فبدأت اليابان تستعير من أوروبا وأميركا قسم ًا من‬
‫المادية‪ ،‬ومن نظامهما العسكري‪ ،‬ومن مباحث تعليمهما العام‪ ،‬ومن‬

‫‪72‬‬
‫ِّ‬
‫المجددون يجتهدون في أن يقتبسوا من‬ ‫سياستهما المالية‪ ،‬فكان‬
‫كل شعب ما يرونه األحسن عنده‪ ،‬فكان ذلك مشروع تجديد وهدم‬
‫وإعادة بناء‪ ،‬وظهرت آثار ذلك في جميع مناحي الحياة اليابانية‪.‬‬

‫ثم تك َّلم على الحرب اليابانية الصينية‪ ،‬وانتهى إلى قوله الذي‬
‫نترجمه ترجمة حرفية‪ :‬إن ظفر اليابان بالصين لم يثبت عل ّو األفكار‬
‫والمبادئ العلمية التي أخذتها اليابان عن الغرب وكفى‪ ،‬بل أثبت‬
‫أمر ًا آخر وهو أن شعب ًا آسيوي ًا ‪-‬بمج َّرد إرادته وعزيمته‪ -‬عرف أن‬
‫يختار ما رآه األصلح له من مدنية الغرب (تأمَّل جيد ًا) مع االحتفاظ‬
‫وعقليته وآدابه وثقافته‪.‬أهـ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫باستقالله‬
‫وقب ً‬
‫ال كنت نشرت في الجرائد ‪ -‬وما نشرته لم يكن إال نقطة من‬
‫غدير ‪ -‬خالصة الحفالت التي أقامها اليابانيون لتتويج عاهلهم منذ‬
‫مدة شهر‪ ،‬وكانت‬
‫سنتين‪ ،‬وكيف استم َّرت مراسم هذا االحتفال ّ‬
‫بأجمعها دينية‪ ،‬وكيف أن الميكادر هو كاهن األمّة األعظم‪ ،‬وكيف‬
‫المقدس‬
‫َّ‬ ‫الحمام‬
‫ّ‬ ‫أنه من ساللة اآللهة (الشمس)‪ ،‬وكيف اغتسل في‬
‫المقدس الذي‬
‫ّ‬ ‫المحفوظ من ألفي سنة‪ ،‬وكيف أ كل مع اآللهة األرز‬
‫زرعته الدولة تحت إشراف الكهنة؛ حتى يكون تام القدسية ال‬
‫شبهة فيه‪ ،‬وكيف كان ثمة‪ ،‬في الحفل‪ ،‬ستمئة ألف ياباني وك ّلهم‬
‫ليحي الميكادو عشرة آالف سنة‪ ..‬إلى غير ذلك‪.‬‬
‫َ‬ ‫يهتفون‪:‬‬

‫‪73‬‬
‫نسمي ّ‬
‫كل من اليابان وأوروبا‬ ‫ملاذا ال ّ‬
‫«رجعية» بتديُّنهما‬
‫ّ‬

‫التقدم السريع المدهش‪،‬‬


‫ُّ‬ ‫تتقدم اليابان هذا‬
‫َّ‬ ‫فلماذا ‪-‬يا ليت شعري‪-‬‬
‫برقيها المثل وهي تضرب‬‫ِّ‬ ‫وتصير هذه األمّة أمّة عصرية يضرب‬
‫بأعراقها إلى عقائد وعادات ومنازع مضى عليها ألفا سنة‪ ،‬ويكون‬
‫إمبراطورها هو كاهنها األعظم‪ ،‬وال يقال عنها‪( :‬رجعية) و(مرتجعة)‬
‫ِّ‬
‫ومتأخرة ومتقهقرة (فإن كانت اليابان رجعية‪ ،‬فمرحى‬ ‫و(ارتجاعية)‬
‫بالرجعية)؟‪.‬‬

‫ِّ‬
‫السيد على ‪ 450‬مليون‬ ‫ولماذا كان ملك إنجلترا وامبراطور الهند‪،‬‬
‫آدمي في األرض‪ ،‬من البيض والسمر والصفر والحمر والسود‪ ،‬هو‬
‫رئيس الكنيسة اإلنكليكانية‪ ،‬ومجالسه النيابية تبحث في جلسات‬
‫عديدة في قضية الخبز والخمر؟ هل يستحيالن بمج ّرد تقديس‬

‫‪74‬‬
‫القسيس إلى جسد المسيح ودمه فع ً‬
‫ال دون أدنى شك‪ ،‬أم ذلك قبيل‬
‫الرمز والتمثيل؟ ((( وال يقال عنه‪ :‬إنه (رجعي)‪ ،‬وال يقال عن دولته‬
‫يحدث التاريخ عن مسألة من مسائل إنجلترا الداخلية أخذت في األهمية الدور الذي أخذته قضية‬ ‫‪ 1‬لم ِّ‬
‫تحول الخبز والخمر إلى جسد المسيح‪ ،‬وأصل هذه العقيدة ما رواه اإلنجيل من‬ ‫َّ‬ ‫«األفخاويستا» قضية‬
‫وودعهم‪ ،‬وبينما هو على‬ ‫تعشى مع تالميذه َّ‬ ‫أن السيد المسيح ‪ -‬عليه السالم ‪ -‬قبل صعوده إلى السماء ّ‬
‫المائدة تناول لقمة من الخبز وقال‪ :‬كلوا؛ هذا هو جسدي‪ .‬وشرب جرعة من الخمر وقال‪ :‬اشربوا؛ هو ذا‬
‫دمي‪.‬‬
‫الرب تماماً‪،‬‬
‫فتكونت من هذه الكلمات في النصرانية عقيدة معناها أن الخبز والخمر يستحيالن إلى جسد ّ‬
‫القسيس عندهم هو خليفة المسيح كان البد له كل يوم عند التقديس في‬ ‫وحقيقة ال مجازاً‪ ،‬ولما كان ّ‬
‫تفوه بها‬
‫الكنيسة أن يتناول لقمة من الخبز‪ ،‬ويشرب رشفة من الخمر‪ ،‬وهو يتلفّظ بالكلمات نفسها التي َّ‬
‫تحول هذا الخبز وهذا الخمر‬‫السيد المسيح ‪ -‬عليه السالم ‪ -‬في أثناء عشائه مع الحواريين‪ ،‬فمتى فعل ذلك َّ‬
‫‪-‬ويسمونه القربان‪ -‬في ُح ّق ثمين فوق المذبح في‬
‫ّ‬ ‫الرب حقيقة ال مجازاً‪ ،‬ولذلك يوضع هذا الخبز‬ ‫إلى جسد ّ‬
‫ويسمون وجود اإلله فيه «الحضور‬ ‫ّ‬ ‫الكنيسة ويسجدون له؛ وذلك اعتقادًا أن هذا القربان هو اإلله نفسه‪،‬‬
‫الحقيقي» وباإلفرنسية ‪ ،Presence reelle‬وهذا من أعظم األسرار المقدسة عندهم‪ ،‬وإذا أشرف المريض‬
‫القسيس وتلقّى منه االعتراف بذنوبه وناوله هذا القربان فقيل‪ :‬إنه ذهب إلى اآلخرة‬ ‫على الموت جاء ّ‬
‫متزودًا األسرار اإللهية‪ .‬وقد كانت هذه العقيدة هي عقيدة المسيحيين جميعاً‪ ،‬وال تزال عقيدة أكثرهم إلى‬
‫تغير االعتقاد عند أتباعه بقضية الحضور الحقيقي وباستحالة‬ ‫اليوم‪ ،‬إال أنه جرى اإلصالح البروتستانتي َّ‬
‫الرب ودمه حقيقة ال مجازاً‪ ،‬وقال البروتستانتيون‪:‬‬ ‫الخبز والخمر اللذين يقّدس عليهما القسيس إلى جسد ّ‬
‫مجرد رمز وتذكار‪ ،‬وعدلوا عن وضع القربان فوق المذبح والسجود له‬ ‫إن هذا مجاز ال حقيقة‪ ،‬وإنه ّ‬
‫اعتقادًا أنه هو اإلله بذاته‪ ،‬وصاروا في كنائس البروتستانت يجعلون هذا القربان في تجويف خاص به‬
‫يتفق رأيها في قضية القربان‬ ‫من الحائط‪ ،‬ولكن الكنيسة اإلنكليكانية ‪ -‬أي الكنيسة العليا في إنجلترا ‪ -‬لم َ‬
‫فحزب اليمين منها كان باقي ًا على عقيدته األصلية وهي أن الخبز والخمر يستحيالن بتقديس الكاهن إلى‬
‫الرب حقيقة ال مجازاً‪ ،‬وحزب الوسط مع حزب اليسار كانا يقوالن‪ :‬إن كلمات السيد المسيح هذه لم‬ ‫جسد ّ‬
‫الرب ودمه‪ ،‬واعتمدوا‬‫يتحول الخبز والخمر تحت تقديس الكاهن إلى جسد ّ‬ ‫ّ‬ ‫تكن إال رمزاً‪ ،‬وإنه ال يمكن أن‬
‫الصالة) الذي هو دستور الكنيسة اإلنكليكانية وهو كتاب وضعه‬ ‫في رفض العقيدة الكاثوليكية على (كتاب َّ‬
‫بروتستانتيو اإلنجليز لمذهبهم يوم انشقّوا عن الكنيسة الرومانية‪.‬‬
‫ولما كانت هذه المسألة مسألة خالفية بين أتباع الكنيسة اإلنكليكانية وقد عمل فيها كل فريق برأيه‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وخيف فيها من انشقاق عام أمرت الحكومة البريطانية بتأليف مجمع من األساقفة تحت رئاسة إمامهم‬
‫األكبر رئيس أساقفة كنتربري؛ ألجل التدقيق في هذه المشكلة وحلّها على أحد الوجهين‪ ،‬فانعقد المجمع؛‬
‫ألحت الحكومة على هؤالء األساقفة‬ ‫حل يرضي الفريقين‪ ،‬وأخيرًا ّ‬ ‫وذلك منذ أربعين سنة‪ ،‬ولم يوفق إلى ّ‬
‫بأن يبتّوا في القضية إن لم يكن باإلجماع فبأكثرية اآلراء فحكموا باألكثرية‪ ،‬وخالف في الحكم ستة من‬
‫المطارين؛ وذلك بأن الخبز والخمر يستحيالن في قّداس الكاهن إلى جسد المسيح ودمه‪ ،‬وعليه تجب‬
‫عبادتهما والسجود لهما ووضعهما في أعلى المذبح ال في كوة حائط الكنيسة‪ ،‬وباالختصار رجع أكثر‬
‫المطارين في هذه المسألة إلى العقيدة البابوية‪ ،‬ولما كان القانون األساسي لبريطانيا العظمى يوجب أن‬
‫الصالة‬
‫ال بكتاب َّ‬‫يكون القول الفصل في جميع هذه القضايا الدينية لمجلس اللوردات ولمجلس العموم؛ عم ً‬
‫األمة اإلنجليزية‪ ،‬أحيل حكم المطارين هذا إلى مجلس اللوردات‪ ،‬وكانت للمناقشات فيه‬ ‫الذي هو مرجع ّ‬
‫جلسات متعددة بلغت من اهتمام المأل ما لم تبلغه المناقشات في أية مسألة‪.‬‬
‫وقيل إن بعض اللوردات ممن بلغ بهم الكبر عتّي ًا قد ُحملوا إلى المجلس على األكف؛ حتى ال يفوتهم سماع‬
‫أيَد مجلس اللوردات ‪-‬باألكثرية‪ -‬قرار مجمع األساقفة‪ ،‬ولم يكن ذلك كافياً؛ إذ كان‬ ‫هذه المناقشات‪ ،‬وأخيرًا َّ‬
‫األمة الذي يقال له مجلس العموم‪.‬‬
‫البد ‪-‬إلمضاء الحكم‪ -‬من قرار مجلس ّ‬
‫األمة نزع بأكثرية أعضائه عرق العصبية البروتستانتية‪ ،‬وكان في مقدمتهم‬ ‫فلما جاءت القضية إلى مجلس ّ‬
‫ناظر الداخلية البريطانية‪ ،‬فنقضوا قرار مجلس اللوردات وحكم مجمع األساقفة‪ .‬وقرروا أن الخبز والخمر‬
‫تابع‬

‫‪75‬‬
‫ِّ‬
‫(متأخرة) أو (متقهقرة)‪ ،‬فإن كانت إنجلترا بعد هذا‬ ‫العظمى‪ :‬إنها‬
‫متقهقرة فيا حبذا (التقهقر)‪.‬‬

‫بمسيحيتها‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ولماذا كانت القارة األوروبية كلها مسيحية مفتخرة‬
‫تتباهى بذلك في كل فرصة‪ ،‬م ّتحدة في هذا األمر‪ ،‬على ما‬
‫بينها من عداوات ومنافسات‪ ،‬وال ننبذها حتى بقولنا‪( :‬رجعية)‬
‫و(ارتجاعية)‪ ،‬والحال أن الديانة التي تدين بها أوروبا عمرها ‪19‬‬
‫قرن ًا‪.‬‬

‫يصح أن يقال عنه قديم و(قديم جد ًا)‪ ،‬وهؤالء اليهود ‪،‬مهما‬


‫ّ‬ ‫وهذا عهد‬
‫ننكر عليهم من الفضائل‪ ،‬فال نقدر أن ننكر عليهم المقدرة والذكاء‬
‫والجد الهائل‪ ،‬ال يزالون يفخرون بتوراة وجدت‬
‫ّ‬ ‫والحس العملي‬
‫ّ‬
‫منذ آالف السنين ويشاركهم فيها المسيحيون‪.‬‬

‫رقي ًا عصري ًا يجاهدون في إحياء‬


‫شبان اليهود ّ‬
‫ولماذا نرى أعظم ّ‬
‫الصالة»‬
‫ال يستحيالن بالبداهة إلى جسد السيد المسيح ‪ -‬عليه السالم ‪ -‬ودمه وتوكأوا في ذلك على «كتاب َّ‬
‫الذي هو دستور الكنيسة اإلنكليكانية الوحيد‪ ،‬ولم يوافقوا مجمع األساقفة إال على زيادة العبارات التي‬
‫استعفِي رئيس أساقفة كنتربري‬ ‫زادها في الدعاء لملك إنجلترا‪ ،‬وعلى أثر هذا القرار من مجلس العموم ُ‬
‫من منصبه‪.‬‬
‫وإنما أتينا على ذكر هذه الحادثة التي ليست موضوعنا مباشرة؛ إثبات ًا ألمرين‪ :‬أولهما‪ :‬استمساك ّ‬
‫األمة‬
‫اإلنجليزية بمبادئها الدنيوية وشّدة اهتمامها بهذه المباحث مع أنها في طليعة األمم الراقية بال نزاع‪،‬‬
‫تشدق من يقول‪ :‬إن أوروبة نبذت الدين ظهرياً‪ ،‬ومن يقول‪ :‬إن أوروبا فصلت الدين عن السياسة‪،‬‬ ‫والثاني‪ُّ :‬‬
‫حري بالمسلمين أن ينهجوا نهجها إن كانوا يريدون ألنفسهم رقّي ًا كرقي‬
‫وإن هذا الفصل كان نجاحها‪ ،‬وإنه ّ‬
‫األوروبيين‪ ،‬وسلطان ًا في األرض كسلطانهم‪ ،‬فأين فصل الدين عن السياسة هنا؟!‬
‫الصالة» هو الذي اعتمد عليه مجلس العموم في نقض قرار مجلس اللوردات‪ ،‬وأين فصل الدين‬ ‫وهذا «كتاب َّ‬
‫طرح في مجلس اللوردات ومجلس النواب‪ ،‬ويفصالن فيها؟‬ ‫عن السياسة وأنت ترى أن مسألة دينية بحتة ُت َ‬
‫مختصْين بالسياسة‬
‫َّ‬ ‫فإن لم تكن هذه المسألة دينية فما الديني إذاً؟! وإن لم يكن مجلسا الشيوخ والنواب‬
‫فليتأمل القارئ المنصف مدى التضليل الذي يقوم به‬ ‫ّ‬ ‫فما المجالس التي تختص بالسياسة‪ ،‬بعدهما؟!‬
‫ال وتعامي ًا عن الحقيقة‪ ،‬وإما خدمة لالستعمار األوروبي الذي‬ ‫المضلِّلون من المسلمين الجغرافيين؛ إما جه ً‬
‫أعز عليه من أن يأتي على بنيان اإلسالم من القواعد‪(.‬ش)‬
‫ليس له غرض ّ‬

‫‪76‬‬
‫اللغة العبرية التي ال يعرف مبدأ تاريخها؛ لتوغُّ لها في القدم‪ ،‬وال‬
‫ِّ‬
‫ومتأخرون وقهقريون؟!‬ ‫يقال عنهم إنهم رجعيون‬

‫وقد نشر وايزمان رئيس الجمعية الصهيونية حديث ًا في جريدة‬


‫«الماتن» كان من أهم ما فخر به وأدلى به كمأثرة ينبغي أن تذكرها‬
‫لهم اإلنسانية هو «أن فلسطين الحديثة تتك َّلم اليوم ‪-‬بأجمعها‪-‬‬
‫بلغة األنبياء» يريد بفلسطين الحديثة فلسطين اليهودية التي قد نشر‬
‫الصهيونية فيها اللغة العبرانية القديمة‪ ،‬وأجبروا ن َْش َأهم الجديد على‬
‫يتحدثوا بها لتكون اللغة الجامعة لليهود‪ ،‬ومن الذي فعل هذا؟‬
‫ّ‬ ‫أن‬
‫أشد الناس أخذ ًا بمبادئ‬
‫الجواب هو‪ :‬اليهود العصريون الذين هم ّ‬
‫العلم الحديث والحضارة العصرية‪.‬‬

‫اب» (((‪.‬‬
‫ألل َْب ِ‬ ‫« َومَا ي ََّذ َّك ُر ِإ َّ‬
‫ال ُأ ْو ُلو ْا ا َ‬

‫وماذا عساني أحصي من هذه األماثيل والع َِبر في رسالة وجيزة‬


‫كهذه؟!‬

‫ومشخصات قومهم‬
‫ّ‬ ‫كل قوم يعتصمون بدينهم ومق ِ ّومات م ّلتهم‬
‫الموروثة وال ينبزون بهذه األلقاب إال المسلمين!‬

‫داع إلى االستمساك بقرآنهم وعقديتهم ومق ّوماتهم‬


‫فإنه إذا دعاهم ٍ‬
‫ومشخصاتهم وباللسان العربي وآدابه والحياة الشرقية ومناحيها‬
‫ّ‬
‫‪ 1‬البقرة‪ :‬من اآلية ‪.269‬‬

‫‪77‬‬
‫قامت قيامة الذين في قلوبهم مرض‪ ،‬وصاحوا‪ :‬لتسقط الرجعية‪.‬‬
‫ِّ‬
‫متمسكون بأوضاع بالية باقية من‬ ‫الرقي وأنتم‬
‫ّ‬ ‫وقالوا‪ :‬كيف تريدون‬
‫القرون الوسطى‪ ،‬ونحن في عصر جديد؟‬

‫وتقدموا وترقّ وا وعلوا وطاروا في‬


‫ّ‬ ‫جميع هؤالء الخالئق تع ّلموا‬
‫السماء‪ ،‬والمسيحي منهم ٍ‬
‫باق على إنجيله وتقاليده الكنسية‪،‬‬
‫المقدس‪ ،‬وكل حزب منهم فَرِ ٌح‬
‫ّ‬ ‫واليهودي ٍ‬
‫باق على وثنه وأرزه‬
‫بما لديه‪ ،‬وهذا المسلم المسكين يستحيل أن يترقّ ى إال إذا رمى‬
‫بقرآنه وعقيدته ومآخذه ومتاركه ومنازعه ومشاربه ولباسه وفراشه‬
‫وطعامه وشرابه وأدبه وطربه وغير ذلك‪ ،‬وانفصل من كل تاريخه‪،‬‬
‫الرقي؟! فهذا ما كان من ضرر‬
‫ّ‬ ‫فإن لم يفعل ذلك فال َح ّظ له من‬
‫الجاحد الذي يقصد السوء باإلسالم‪ ،‬وبالشرق أجمع‪ ،‬ويخدع‬
‫الس َّذج بأقاويله‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪78‬‬
‫غوائل اجلامدين يف اإلسالم واملسلمني‬

‫ّ‬
‫بأخف ضرر ًا من الجاحد‪،‬‬ ‫وبقي علينا المسلم الجامد‪ ،‬الذي ليس‬
‫وإن كان ال يشركه في الخبث وسوء النية‪ ،‬وإنما يعمل ما يعمله عن‬
‫وتعصب‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫جهل‬

‫فالجامد هو الذي م ََّه َد ألعداء المدنية اإلسالمية الطريق لمحاربة‬


‫التأخر الذي عليه العالم اإلسالمي إنما‬
‫ُّ‬ ‫محتجين بأن‬
‫ّ‬ ‫هذه المدنية‬
‫هو ثمرة تعاليمه‪.‬‬

‫والجامد هو سبب الفقر الذي اب ُتلي به المسلمون؛ ألنه جعل‬


‫اإلسالم دين آخرة فقط‪ ،‬والحال أن اإلسالم هو دين دنيا وآخرة‪،‬‬
‫وإن هذه مزية له على سائر األديان‪ ،‬فال َحصر كسب اإلنسان فيما‬

‫‪79‬‬
‫يعود للحياة التي وراء هذه كما هي ديانات أهل الهند والصين‪،‬‬
‫زه َده في مال الدنيا وملكها ومجدها كتعاليم اإلنجيل‪ ،‬وال‬
‫وال َّ‬
‫مدنية أوروبا‬
‫ّ‬ ‫حصر سعيه في أمور هذه المعيشة الدنيوية كما هي‬
‫الحاضرة‪.‬‬

‫والجامد هو الذي شهر الحرب على العلوم الطبيعية والرياضية‬


‫بحجة أنها من علوم الكفّ ار‪ ،‬فحرم‬
‫ّ‬ ‫والفلسفية وفنونها وصناعاتها‬
‫اإلسالم ثمرات هذه العلوم‪ ،‬وأورث أبناءه الفقر الذي هم فيه‪،‬‬
‫وقص أجنحتهم‪ ،‬فإن العلوم الطبيعية هي العلوم الباحثة في األرض‪،‬‬
‫َّ‬
‫فإن كن ّا طول‬ ‫(((‬
‫واألرض ال تخرج أفالذها إال لمن يبحث فيها‬
‫العمر ال نتك ّلم إال فيما هو عائد لآلخرة قالت لنا األرض‪ :‬اذهبوا‬
‫ت ّو ًا إلى اآلخرة؛ فليس لكم نصيب مني‪.‬‬

‫ثم إننا ‪-‬بحصر كل مجهوداتنا في هذه العلوم الدينية والمحاضرات‬


‫األخروية‪ -‬جعلنا أنفسنا في مركز ضعيف بإزاء سائر األمم التي‬
‫توجهت إلى األرض‪ ،‬وهؤالء لم يزالوا يعلون في األرض ونحن‬ ‫َّ‬
‫ننحط في األرض‪ ،‬إلى أن صار األمر ك ّله في يدهم‪ ،‬وصاروا يقدرون‬
‫ّ‬
‫أن يأفكونا عن نفس ديننا فض ً‬
‫ال عن أن يملكوا علينا دنيانا‪ ،‬ومن‬
‫ليست له دنيا فليس له دين‪ ،‬وليس هذا هو الذي يريده الله بنا‬
‫ات‬‫الصال َِح ِ‬ ‫ين آ َم ُنوا مِ ُ‬
‫نك ْم و ََعمِ ُلوا َّ‬ ‫وهو الذي قال‪« :‬و ََع َد ال َّل ُه ِ‬
‫الذ َ‬

‫تلح‬
‫‪ 1‬كان جّدي األدبي ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬يقول‪ :‬إن جار عليك الزمان فعليك أن تجور على األرض‪ ،‬أي ّ‬
‫وتجتهد في استخراج خيراتها‪(.‬ر)‬

‫‪80‬‬
‫َل َي ْس َت ْخ ِلفَ َّن ُهم فِي ا َ‬
‫أل ْر ِ‬
‫ض» اآلية (((‪.‬‬

‫ض َجمِ يع ًا» (((‪.‬‬ ‫«ه َو ا ّل ِذي َخ َلقَ َل ُكم مَّا فِي ا َ‬


‫أل ْر ِ‬ ‫وقال‪ُ :‬‬

‫ات مِ َن ال ِ ّر ْز ِق‬ ‫«ق ْل م َْن َح َّر َم زي َن َة ال َّل ِه الت َِي َأ ْخ َر َج ِلع َِب ِاد ِه و ِ ّ‬
‫َالطي َب ِ‬ ‫وقال‪ُ :‬‬
‫ِص ًة َي ْو َم ا ْلق َِيامَة» (((‪.‬‬
‫الد ْن َيا َخال َ‬ ‫ُق ْل هِ ي ِل َّل ِذ َ‬
‫ين آ َم ُنو ْا فِي َ‬
‫الح َيا ِة ُّ‬

‫يب َك مِ َن ُّ‬
‫الد ْن َيا» (((‪.‬‬ ‫َص َ‬
‫نس ن ِ‬
‫وقال فيما حكاه وأق ّره‪« :‬وَال َت َ‬

‫اآلخ َر ِة‬
‫ِ‬ ‫الد ْن َيا َح َس َن ًة َوفِي‬
‫وقال فيما حكاه وأق ّره‪َ « :‬ر َّب َنا آ ِت َنا فِي ُّ‬
‫َح َس َنةً» (((‪ ...‬إلخ‪.‬‬

‫والمسلم الجامد ال يدري أنه‪ ،‬بهذا المشرب‪ ،‬يسعى في بوار م َّلته‬


‫وحطّ ها عن درجة األمم األخرى‪ ،‬وال ينتبه لشيء من المصائب‬
‫التي ج َّرها على قومه إهمالهم العلوم الكونية حتى أصبحوا بهذا‬
‫الفقر الذي هم فيه‪ ،‬وصاروا عيا ً‬
‫ال على أعدائهم الذين ال يرقبون‬
‫فيهم إ ّل ًا وال ذمّة‪ ،‬فهو إذا نظر إلى هذه الحالة ع َّللها بالقضاء والقدر‬
‫بادئ الرأي‪ ،‬وهذا شأن جميع الكسالى في الدنيا‪ ،‬يحيلون على‬
‫األقدار‪.‬‬

‫‪ 1‬النور‪ :‬من اآلية ‪.55‬‬


‫‪ 2‬البقرة‪ :‬من اآلية ‪.29‬‬
‫‪ 3‬األعراف‪ :‬من اآلية ‪.32‬‬
‫‪ 4‬القصص‪ :‬من اآلية ‪.77‬‬
‫‪ 5‬البقرة‪ :‬من اآلية‪.201 :‬‬

‫‪81‬‬
‫ب الكسل إلى كثير من المسلمين فنجمت‬
‫هذا الخلق هو الذي َح َّب َ‬
‫فيهم فئة ُيلَقَّ بون «بالدراويش» ليس لهم شغل وال عمل‪ ،‬وليسوا‬
‫في الواقع إال أعضاء مشلولة في جسم المجتمع اإلسالمي‪.‬‬

‫وهذا الخلق بعينه هو الذي جعل اإلفرنج يقولون‪ :‬إن اإلسالم‬


‫جبري ال يأمر بالعمل؛ ألن ما هو كائن هو كائن‪َ ،‬عمِ َل المخلوق‬
‫أم لم يعمل‪.‬‬

‫آيات العمل المبطلة لتفسير القَ َدر بالجبر والكسل‬

‫ّ‬
‫بالحث‬ ‫وال شيء ّ‬
‫أدل على فساد هذا الزعم من القرآن المآلن‬
‫على العمل‪ ،‬وباستنهاض الهمم‪ ،‬وابتعاث العزائم‪ ،‬ونوط الثواب‬
‫والعقاب والفوز والفشل بالعمل الذي يعمله المك َّلف‪ ،‬قال الله‬
‫اع َم ُلو ْا ف ََس َي َرى ال َّل ُه َع َم َل ُك ْم َور َُسو ُل ُه» (((‪.‬‬
‫تعالى‪« :‬و َُق ِل ْ‬

‫ُوك ف َُقل ِ ّلي َع َملِي َو َل ُك ْم َع َم ُل ُك ْم» (((‪.‬‬


‫وقال تعالى‪َ « :‬وإِن َك َّذب َ‬

‫«وس َي َرى ال َّل ُه َع َم َل ُك ْم» (((‪.‬‬


‫َ‬ ‫وقال تعالى‪:‬‬

‫وقال تعالى‪َ « :‬ل َنا َأ ْع َما ُل َنا َو َل ُك ْم َأ ْع َما ُل ُك ْم» (((‪.‬‬


‫يعوا ال َّر ُس َ‬
‫ول وَال‬ ‫يعوا ال ّل َه َو َأطِ ُ‬
‫ين آ َم ُنوا َأطِ ُ‬ ‫وقال تعالى‪« :‬يَا َأي َُّها ِ‬
‫الذ َ‬

‫‪ 1‬التوبة‪ :‬من اآلية ‪.105‬‬


‫‪ 2‬يونس‪ :‬من اآلية ‪.41‬‬
‫‪ 3‬التوبة‪ :‬من اآلية ‪.93‬‬
‫‪ 4‬البقرة‪ :‬من اآلية ‪.139‬‬

‫‪82‬‬
‫ُت ْبطِ ُلوا َأ ْع َما َل ُك ْم» (((‪.‬‬

‫وقال تعالى‪« :‬وَال َّل ُه م ََع ُك ْم َو َلن َي ِت َر ُك ْم َأ ْع َما َل ُك ْم» (((‪ .‬أي ال ينقصكم‬
‫أعمالكم‪.‬‬

‫يعوا ال ّل َه َور َُسو َل ُه ال َي ِل ْت ُكم ِ ّم ْن َأ ْع َمال ُِك ْم‬


‫وقال تعالى‪َ « :‬وإِن تُطِ ُ‬
‫َش ْيئ ًا» (((‪.‬‬

‫«ال َي ِل ْت ُكم » من ال َت ُه يَلي ُته‪ ،‬أو‪َ :‬و ِل َته َي ِل ُته بمعنى نقصه‪ ،‬أي ال‬
‫يبخسكم من أعمالكم شيئ ًا‪ ،‬وقال تعالى « ُن َو ِ ّ‬
‫ف ِإ َل ْي ِه ْم َأ ْع َما َل ُه ْم ف َ‬
‫ِيها‬
‫ون» (((‪.‬‬ ‫ِيها َ‬
‫ال ي ُْب َخ ُس َ‬ ‫و َُه ْم ف َ‬

‫لما َل ُي َو ِفّ َي َّن ُه ْم َرب َ‬


‫ُّك َأ ْع َما َل ُه ْم» (((‪.‬‬ ‫ال َّ‬ ‫َّ‬
‫وجل‪َ « :‬وإ َِّن ُك ًّ‬ ‫وقال ع َّز‬

‫وجل‪َ « :‬ول ُِي َو ِ ّف َي ُه ْم َأ ْع َما َل ُه ْم و َُه ْم ال ُيظْ َل ُم َ‬


‫ون» (((‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫وقال ع َّز‬

‫يع َع َم َل َعامِ ٍل ِ ّم ُ‬
‫نكم» (((‪.‬‬ ‫ض ُ‬ ‫وجل‪َ « :‬أ ِ ّني َ‬
‫ال ُأ ِ‬ ‫َّ‬ ‫وقال ع َّز‬

‫ِين» (((‪.‬‬ ‫َّ‬


‫وجل‪َ « :‬فن ِْع َم َأ ْج ُر ال َْعامِ ل َ‬ ‫وقال ع َّز‬

‫مح َّمد‪ :‬من اآلية ‪.33‬‬


‫‪َ 1‬‬
‫‪ُ 2‬م َح َّمد‪ :‬من اآلية ‪.35‬‬
‫‪ 3‬الحجرات‪ :‬من اآلية ‪.14‬‬
‫‪ 4‬هود‪ :‬من اآلية ‪.15‬‬
‫‪ 5‬هود‪ :‬من اآلية ‪.111‬‬
‫‪ 6‬األحقاف‪ :‬من اآلية ‪.19‬‬
‫‪ 7‬آل عمران‪ :‬من اآلية ‪195‬‬
‫‪ 8‬الزمر‪ :‬من اآلية ‪.74‬‬

‫‪83‬‬
‫ون» (((‪.‬‬ ‫َّ‬
‫وجل‪« :‬لِمِ ْث ِل َه َذا َفل َْي ْع َم ْل ال َْعامِ ُل َ‬ ‫وقال ع َّز‬

‫الصال ُِح‬
‫َّ‬ ‫الطي ُب وَال َْع َم ُل‬
‫ِّ‬ ‫َص َع ُد ال َْكل ُِم‬ ‫َّ‬
‫وجل‪ِ « :‬إ َل ْي ِه ي ْ‬ ‫وقال ع َّز‬
‫َي ْرف َُع ُه» (((‪.‬‬

‫س مَّا َعمِ َل ْ‬
‫ت» (((‪.‬‬ ‫َّ‬
‫وجل‪َ « :‬و ُت َوفَّى ُك ُّل َنفْ ٍ‬ ‫وقال ع َّز‬

‫وجل‪« :‬م َْن َعمِ َل َصالِح ًا ِ ّمن َذ َكرٍ َأ ْو ُأن َثى و َُه َو مُ ؤْمِ ٌن‬
‫َّ‬ ‫وقال ع َّز‬
‫َف َل ُن ْحيِ َي َّن ُه َح َيا ًة َط ِ ّي َب ًة َو َل َن ْجزِ َي َّن ُه ْم َأ ْج َر ُهم بِ َأ ْح َس ِن مَا َكانُو ْا ي َْع َم ُلون» (((‪.‬‬

‫ت مِ ْن َخ ْيرٍ مُّ ْح َضر ًا َومَا‬


‫س مَّا َعمِ َل ْ‬ ‫وجل‪َ « :‬ي ْو َم َت ِج ُد ُك ُّل َنفْ ٍ‬ ‫َّ‬ ‫وقال ع َّز‬
‫ت مِ ن ُسو ٍء َت َو ُّد َل ْو َأ َّن ب َْي َن َها َوب َْي َن ُه َأمَد ًا َبعِيد ًا» (((‪.‬‬ ‫َعمِ َل ْ‬

‫ت و َُه َو َأ ْع َل ُم بِ َما‬
‫س مَّا َعمِ َل ْ‬ ‫وجل‪َ « :‬وو ُِفّ َي ْ‬
‫ت ُك ُّل َنفْ ٍ‬ ‫َّ‬ ‫وقال ع َّز‬
‫َيفْ َع ُلون» (((‪.‬‬

‫ئات مَا َعمِ ُلوا» (((‪.‬‬ ‫َّ‬


‫وجل‪َ « :‬ف َأ َصاب َُه ْم َس ِ ّي ُ‬ ‫وقال ع َّز‬

‫َج ُدوا مَا َعمِ ُلوا َح ِ‬


‫اضر ًا» (((‪.‬‬ ‫وقال َت َبار َ‬
‫َك وَتعالى‪َ « :‬وو َ‬
‫‪ 1‬الصافات‪ :‬من اآلية ‪.61‬‬
‫‪ 2‬فاطر‪ :‬من اآلية ‪.10‬‬
‫‪ 3‬النحل‪ :‬من اآلية ‪.111‬‬
‫‪ 4‬النحل‪.97 :‬‬
‫‪ 5‬آل عمران‪.30 :‬‬
‫‪ 6‬الزمر‪.70 :‬‬
‫‪ 7‬النحل‪ :‬من اآلية ‪.34‬‬
‫‪ 8‬الكهف‪ :‬من اآلية ‪.50‬‬

‫‪84‬‬
‫ض ِ‬
‫الذي َعمِ ُلوا» (((‪.‬‬ ‫َك وَتعالى‪« :‬ل ُِي ِذيقَ ُهم ب َْع َ‬
‫وقال َت َبار َ‬

‫الض ْع ِف‬ ‫ال م َْن آم ََن و ََعمِ َل َصالِح ًا َف ُأو َلئ َ‬


‫ِك َل ُه ْم َج َزاء ِ ّ‬ ‫وقال تعالى‪ِ « :‬إ َّ‬
‫بِ َما َعمِ ُلوا» (((‪.‬‬

‫ات ِ ّم َّما َعمِ ُلوا َول ُِي َو ِفّ َي ُه ْم َأ ْع َما َل ُه ْم و َُه ْم ال‬ ‫وقال تعالى‪َ « :‬ول ُِك ٍ ّل َدر َ‬
‫َج ٌ‬
‫ُيظْ َل ُمون» (((‪.‬‬

‫ال َذ َّر ٍة َخ ْير ًا َي َر ُه َومَن ي َْع َم ْل مِ ْثقَ َ‬


‫ال‬ ‫وقال تعالى‪« :‬ف ََمن ي َْع َم ْل مِ ْثقَ َ‬
‫*‬
‫َذ َّر ٍة َش ّر ًا َي َرهُ» (((‪.‬‬

‫«س ُي ْج َزو َْن مَا َكانُو ْا ي َْع َم ُل َ‬


‫ون» (((‪.‬‬ ‫وقال تعالى‪َ :‬‬

‫«ج َزاء بِ َما َكانُوا ي َْع َم ُل َ‬


‫ون» (((‪.‬‬ ‫وقال تعالى‪َ :‬‬

‫وقوا مَا ُكن ُت ْم َت ْع َم ُل َ‬


‫ون» (((‪.‬‬ ‫وقال تعالى‪َ « :‬وي َُق ُ‬
‫ول ُذ ُ‬

‫إلى غير ذلك مما ال يكاد يحصى من اآليات التي امتأل بها القرآن‪،‬‬
‫نص في مسألتنا هذه كقوله تعالى‪َ « :‬ومَا َأ َصاب َُكم ِ ّمن‬
‫ومنها ما هو ّ‬
‫‪ 1‬الروم‪ :‬من اآلية ‪.41‬‬
‫‪ 2‬سبأ‪ :‬من اآلية ‪.37‬‬
‫‪ 3‬األحقاف‪.19 :‬‬
‫‪ 4‬الزلزال‪ :‬اآليتان ‪.8 ، 7‬‬
‫‪ 5‬األعراف‪ :‬من اآلية ‪.179‬‬
‫‪ 6‬السجدة‪ :‬من اآلية ‪ ،17‬واألحقاف‪ :‬من اآلية ‪ ،14‬والواقعة من اآلية ‪.24‬‬
‫‪ 7‬العنكبوت‪ :‬من اآلية ‪.55‬‬

‫‪85‬‬
‫ت َأ ْي ِد ُ‬
‫يك ْم» (((‪.‬‬ ‫يب ٍة فَبِ َما َك َس َب ْ‬
‫ص َ‬‫مُّ ِ‬

‫يب ٌة ق َْد َأ َص ْب ُتم ِ ّم ْث َل ْي َها ُق ْل ُت ْم َأنَّى َه َذا‬ ‫وقال تعالى‪َ « :‬أ َو َل َّما َأ َصا َب ْت ُكم ِ‬
‫مُّص َ‬
‫نفسِ ُك ْم» (((‪.‬‬ ‫ُق ْل ُه َو مِ ْن عِ ِند َأ ُ‬

‫إن صاحب السؤال يعلم‪ ،‬وأكثر المسلمين ال يعلمون‪ ،‬أن هذه اآلية‬
‫خاطب الله تعالى بها أكمل هذه األمّة إيمان ًا وإسالم ًا وهم أصحاب‬
‫تعجبوا من ظهور المشركين‬
‫ّ‬ ‫رسول الله ص َّلى ال َّله عليه وس َّلم؛ إذ‬
‫فرد الله عليهم ببيان السبب؛ وهو مخالفتهم‬
‫عليهم في غزوة أحد َّ‬
‫أمره‪ ،‬ص َّلى ال َّله عليه وس َّلم‪ ،‬للرماة الذين يحمون ظهور المقاتلة بأال‬
‫فلما‬‫يبرحوا أماكنهم سواء أ كان الغلب للمسلمين أم كان عليهم‪ّ ،‬‬
‫انهزم المشركون خالفوا األمر لمشاركة المقاتلين في الغنيمة‪ ،‬ف َ‬
‫َك َّر‬
‫عليهم المشركون حتى ُش َّج رأس النبي ص َّلى ال َّله عليه وس َّلم‪ ..‬إلخ‪.‬‬

‫وك ّلها ناطقة بأن اإلسالم هو دين العمل‪ ،‬ال دين الكسل‪ ،‬وال هو دين‬
‫اال ّتكال على القدر المجهول للبشر‪ ،‬كما يقول الدراويش البطّ الون‪:‬‬
‫رزقنا على الله؛ عملنا أم لن نعمل‪ ،‬وكما يز ِ ّين للناس بعض مؤ ِ ّلفي‬
‫اإلفرنج من أن دين اإلسالم دين جمود وتفويض وتسليم وأن‬
‫تأخر المسلمين إنما نشأ عن ذلك‪ .‬ولو كان في هذه الدعوى ذ ّرة‬
‫ُّ‬
‫الصحة لما نهض الصحابة أخبر الناس باإلسالم‪ ،‬وفتحوا‬
‫ّ‬ ‫ما من‬

‫‪ 1‬الشورى‪ :‬من اآلية ‪.30‬‬


‫‪ 2‬آل عمران‪ :‬من اآلية ‪.165‬‬

‫‪86‬‬
‫نصف كرة األرض في خمسين سنة‪ ،‬ولكن التسليم الذي يتك َّلمون‬
‫عليه‪ ،‬ويهرفون فيه بما ال يعرفون‪ ،‬إنما هو مقرون بالعمل وبالكدح‬
‫يسمى جمود ًا‪ ،‬وي َُع ّد بطالة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يسمى تسليم ًا بل‬
‫ّ‬ ‫وبالسعي‪ ،‬وإال فال‬
‫وهو مخالف للقرآن والس ّنة‪.‬‬

‫وأما إذا كان التسليم لله مقرون ًا بالعمل فإنه أنفع في الدنيا واآلخرة؛‬
‫ألن إفراط المرء في االعتماد على نفسه يو ِ ّرطه في البطر إذا نجح‪،‬‬
‫(((‬
‫وفي الجزع إذا فشل‪ ،‬والذي يريده اإلسالم إنما هو أن يعقل‬
‫َّ‬
‫ويتوكل‪ ،‬وأن يد ِ ّبر لنفسه بهداية عقله الذي جعله الله‬ ‫اإلنسان‬
‫مرشد ًا‪ ،‬ويعلم مع ذلك أن ليس كل األمر بيده‪ ،‬وإن من األقدار‬
‫ولما َذ َكر النبي ص َّلى ال َّله عليه‬
‫ما ال تدركه األفكار‪ ،‬وهذا صحيح‪ّ ،‬‬
‫وس َّلم القدر سأله بعض أصحابه أال ن َّتكل؟ فقال‪ :‬اعملوا فكل مُ َي َّسر‬
‫لما ُخلِق له‪( .‬رواه البخاري ومسلم)‪.‬‬

‫ومن أغرب الغرائب أن هؤالء اإلفرنج الذين ال يفتأون ينعتون‬


‫تأخر المسلمين إلى هذه العقيدة ‪-‬التي‬
‫اإلسالم بالجبرية‪ ،‬وينسبون ُّ‬
‫كان يقول بها فئة قليلة من المسلمين ‪ -‬يذهلون عما هو وارد في‬
‫اإلنجيل من آيات القضاء والقدر التي تماثل ما في القرآن‪ ،‬وقد‬
‫تزيد عليه مثل قوله‪« :‬ال تسقط شعرة من رؤوسكم إال بإذن أبيكم‬

‫‪ 1‬في قوله (يعقل) هنا تورية؛ الحتماله معنيين‪ :‬ظاهرهما تحكيم إدراك العقل في األمور مع التوكُّل على‬
‫اهلل‪ ،‬والثاني عقل الناقة المراد به األخذ باألسباب مع التوكُّل على اهلل؛ إذ فيه إشارة إلى حديث األعرابي‬
‫«قيدها وتوكَّل»؛ يعني‪ :‬ناقته‪ ،‬فلم يأذن‬
‫المشهور بين الناس حتى صار مثالً‪« :‬اعقلها وتوكَّل» وفي رواية‪ِّ :‬‬
‫توك ً‬
‫ال على اهلل تعالى‪( .‬ر)‬ ‫له صلَّى اهلل عليه وسلَّم أن يتركها؛ ُّ‬

‫‪87‬‬
‫السماوي»‪ .‬ومثل آي كثير لو أردت استقصاءها لطال المقال‪.‬‬

‫وال نجد في اإلفرنج الذين هم مغرمون بالعمل وهائمون وراء‬


‫الكسب ومنكرون للقضاء والقدر في الجملة‪ ،‬إال من يقرأ اإلنجيل‬
‫ِّ‬
‫ويقدسه ويعجب بمبادئه السامية كما نعجب بها نحن‪ .‬فما‬ ‫الشريف‬
‫بالهم نسوا ما فيه من آيات القضاء والقدر؟ وما بالهم لم يصفوا‬
‫أقوال المسيح ‪-‬صلوات الله عليه‪ -‬بالجبرية؟!‬

‫«ي ُِح ُّلو َن ُه َعام ًا َوي َُح ِ ّرمُ و َن ُه َعام ًا» (((‪.‬‬

‫وحقيقة األمر أن كل ما هو وارد في اإلنجيل وكل ما هو وارد في‬


‫القرآن من آيات القضاء والقدر إنما كان مقصود ًا به سبق علم الله‬
‫بكل ما يقع (((‪ ،‬ولم يكن مقصود ًا به نفي االختيار والتزهيد في‬
‫الكسب‪.‬‬

‫وفي حديث الوزنتين والوزنات وغير ذلك من مواعظ اإلنجيل‬


‫راهيم‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫يدل على ما عزاه القرآن الكريم إلى صحف ِإ ْب‬ ‫الشريف ما‬
‫وموسى؛ وغيرهما من رسل الله‪.‬‬

‫‪ 1‬التوبة‪ :‬من اآلية ‪.37‬‬


‫‪ 2‬هذا التفسير قول لبعض المتكلِّمين وهو أن نعلُّق علم اهلل بوجود المخلوقات في األزل هو القضاء‪،‬‬
‫ووجودها على وفق العلم هو القدر‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬إنه تعلُّق اإلرادة‪ ...‬إلخ والتحقيق أن القدر والمقدار‬
‫فهم من نصوص‬ ‫هو النظام الذي جرت به سنن اهلل تعالى في التكوين والتدبير واألسباب والمسببات كما ُي َ‬
‫«وَأ َ‬
‫نزْلَنا ِم َن‬ ‫وم»‪ ،‬وقوله‪َ :‬‬ ‫ال ِبَقَدٍر َّم ْعُل ٍ‬‫ِن ُه َو َما ُنَن ِّزُل ُه ِإ َّ‬ ‫«وِإن ِّمن َش ْيٍء ِإ َّ‬
‫ال ِع َ‬
‫ندَنا َخَزائُ‬ ‫اآليات كقوله تعالى‪َ :‬‬
‫«ث َّم ِجْئ َت على َقَدٍر َيا‬
‫وم» وقوله‪ُ :‬‬ ‫ٍ‬ ‫ل‬‫ُ‬‫ع‬‫ْ‬ ‫م‬
‫َّ‬ ‫ر‬‫ٍ‬‫د‬‫َ‬‫ق‬‫َ‬ ‫ى‬ ‫ل‬‫َ‬‫إ‬‫ِ‬‫«‬ ‫الرحم‪:‬‬ ‫في‬ ‫النطفة‬ ‫السَماء َماء ِبَقَدٍر»‪ ،‬وقوله في نظام جعل‬
‫َّ‬
‫وسى»‪ ،‬وقد حقّقنا المسألة في «المنار» و «تفسير المنار» مراراً‪(.‬ر)‬ ‫ُم َ‬

‫‪88‬‬
‫نس ِان ِإ َّ‬
‫ال مَا َس َعى • َو َأ َّن‬ ‫إل َ‬
‫س ِل ِ‬ ‫َاز َر ٌة ِو ْز َر ُأ ْخ َرى • َو َأن ْ‬
‫لي َ‬ ‫« َأ ّلا َتزِ ُر و ِ‬
‫ف ُي َرى • ث َُّم ي ُْج َزا ُه ال َْج َزاء ا َ‬
‫أل ْوفَى» (((‪.‬‬ ‫َس ْع َي ُه َس ْو َ‬

‫‪ 1‬النجم‪ :‬اآليات‪.41 ،40 ،39 ،38 :‬‬

‫‪89‬‬
‫كون املسلمني اجلامدين فتنة‬
‫وحجة عليه‬
‫ألعداء اإلسالم ّ‬

‫ونعود إلى المسلم الجامد فنقول‪ :‬إنه هو الذي ط ّرق ألعداء اإلسالم‬
‫على اإلسالم‪ ،‬وأوجد لهم السبيل إلى القالة بحقّ ه؛ حتى قالوا‪ :‬إنه‬
‫الرقي العصري‪ ،‬وإنه دين حائل دون المدنية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫دين ال يأتلف مع‬

‫والحقيقة أن هؤالء الجامدين هم الذين ال تأتلف عقائدهم مع‬


‫الرقي العصري‪ ،‬واإلسالم براء‬
‫ّ‬ ‫المدنية‪ ،‬وهم الذين يحولون دون‬
‫من جماداتهم هذه‪.‬‬

‫وجب للماضي‬
‫ٌّ‬ ‫إن اإلسالم هو من أصله ثورة على القديم الفاسد‪،‬‬
‫القبيح‪ ،‬وقطع لكل العالئق مع غير الحقائق‪ ،‬فكيف يكون اإلسالم‬
‫م ّلة الجمود؟ والقرآن هو الذي جاء فيه من قصة ِإ ْب َراهِ َ‬
‫يم عليه‬
‫السالم‪:‬‬

‫ون • قَا ُلوا‬ ‫َال ل َِأبِ ي ِه َو َق ْومِ ِه مَا َه ِذ ِه ال َّت َماث ُ‬


‫ِيل التِي َأن ُت ْم َل َها َعاكِ ُف َ‬ ‫«إ ِْذ ق َ‬

‫‪90‬‬
‫َال لَقَ ْد ُكن ُت ْم َأن ُت ْم وَآبَاؤُ ُك ْم فِي َض ٍ‬
‫الل‬ ‫َج ْدنَا آبَا َءنَا َل َها َعابِ ِد َ‬
‫ين • ق َ‬ ‫و َ‬
‫(((‬
‫ين»‪.‬‬ ‫مُّ بِ ٍ‬

‫َال َه ْل ي َْس َم ُعون َُك ْم‬


‫ِين • ق َ‬
‫وجاء فيه‪« :‬قَا ُلوا ن َْع ُب ُد َأ ْص َنام ًا َف َن َظ ُّل َل َها َعاكِ ف َ‬
‫ِك‬ ‫ون • قَا ُلوا ب َْل و َ‬
‫َج ْدنَا آبَا َءنَا َك َذل َ‬ ‫َض ُّر َ‬ ‫ون • َأ ْو َينفَ ُعون َُك ْم َأ ْو ي ُ‬ ‫إ ِْذ َت ْد ُع َ‬
‫ون • َأن ُت ْم وَآبَاؤُ ُك ُم ا َ‬
‫ألقْ َدمُ َ‬
‫ون •‬ ‫ون • ق َ‬
‫َال َأ َف َر َأ ْي ُتم مَّا ُكن ُت ْم َت ْع ُب ُد َ‬ ‫َيفْ َع ُل َ‬
‫َب ال َْعا َلمِ ين» ((( ‪.‬‬ ‫ال ر َّ‬ ‫َف ِإن َُّه ْم َع ُد ٌّو ِ ّلي ِإ َّ‬

‫َج ْدنَا آبَا َءنَا على ُأ َّم ٍة َو ِإنَّا على آث َِارهِ م مُّ قْ َت ُد َ‬
‫ون •‬ ‫وجاء فيه‪ِ « :‬إنَّا و َ‬
‫َال َأ َو َل ْو ِج ْئ ُت ُكم بِ َأ ْه َدى مِ َّما و َ‬
‫َجد ُّت ْم َع َل ْي ِه آبَا َء ُك ْم» (((‪.‬‬ ‫ق َ‬

‫ِيل َل ُه ُم ا َّتبِ ُعوا مَا َأن َز َل ال َّل ُه قَا ُلو ْا ب َْل َن َّتبِ ُع مَا َألْفَ ْي َنا‬
‫وجاء فيه‪َ « :‬وإ َِذا ق َ‬
‫ون» (((‪.‬‬
‫ال ي َْه َت ُد َ‬ ‫ال ي َْع ِق ُل َ‬
‫ون َش ْيئ ًا َو َ‬ ‫َع َل ْي ِه آبَا َءنَا َأ َو َل ْو َك َ‬
‫ان آبَاؤُ ُه ْم َ‬

‫اس مَا َو َّ‬


‫ال ُه ْم َعن ق ِْب َلت ِِه ُم التِي‬ ‫السفَ َهاء مِ َن ال َّن ِ‬ ‫ول ُّ‬ ‫«س َي ُق ُ‬ ‫وجاء فيه‪َ :‬‬
‫اط‬ ‫ب ي َْه ِدي مَن يَشَ اء ِإ َلى ِ‬
‫ص َر ٍ‬ ‫َكانُو ْا َع َل ْي َها ُقل ِل َّل ِه ال َْم ْشرِ ُق وَال َْم ْغرِ ُ‬
‫مُّ ْس َتقِيم» (((‪.‬‬

‫وغير ذلك من اآليات الداعية إلى الثورة على القديم إذا لم يكن‬
‫صحيح ًا‪ ،‬ولم يكن صالح ًا‪.‬‬
‫‪ 1‬األنبياء‪ :‬اآليات من ‪ 52‬إلى ‪.54‬‬
‫‪ 2‬الشعراء‪ :‬اآليات من ‪ 71‬إلى ‪.77‬‬
‫‪ 3‬الزخرف‪ :‬من اآليتين ‪ 32‬و‪.24‬‬
‫‪ 4‬البقرة‪.170 :‬‬
‫‪ 5‬البقرة‪.142 :‬‬

‫‪91‬‬
‫على أن الذين يفهمون اإلسالم حقّ الفهم ِ ّ‬
‫يرحبون بكل جديد‬
‫ال يعارض العقيدة‪ ،‬وال ُتخشى منه مفسدة‪ ،‬وال أظن شيئ ًا يفيد‬
‫المجتمع اإلسالمي يكون مخالف ًا للدين المبني على إسعاد العباد‪،‬‬
‫أفال ترى علماء ن َْجد وهم أبعد المسلمين عن اإلفرنج والتفرنج‪،‬‬
‫وأنآهم عن مراكز االختراعات العصرية‪ ،‬كيف كان جوابهم‬
‫عندما استفتاهم الملك عبدالعزيز بن سعود ‪-‬أيَّده الله‪ -‬في قضية‬
‫الالسلكي والتليفون والسيارة الكهربائية؟ أجابوه‪ :‬إنها محدثات‬
‫نافعة مفيدة‪ ،‬وإنه ليس في كتاب الله وال في س ّنة الله ال بالمنطوق‬
‫وال بالمفهوم ما يمنعها‪.‬‬

‫أفليس األدنى لمصلحة األمّة أن تقدر الدولة على معرفة أي حادث‬


‫يحدث بمج ّرد وقوعه حتى تتالفى أمره؟ أفليس األنفع للمسلمين‬
‫الحاج ببضع ساعات من اجتياز المسافات التي كانت‬
‫ّ‬ ‫َّ‬
‫يتمكن‬ ‫أن‬
‫تأخذ أيام ًا وليالي‪ ،‬لقد سألت الشيخ مُ َح َّمد بن علي بن تركي من‬
‫العلماء النجديين الذين بمكة عن رأيه في التليفون والالسلكي‬
‫فقال لي‪ :‬هذه مسألة مفروغ منها‪ ،‬وأمر جوازها شرع ًا هو من‬
‫والرد‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الوضوح بحيث ال يستحقّ األخذ‬

‫خاصة بجامدي اإلسالم‪ ،‬فقد قاومت‬ ‫ّ‬ ‫ولم تكن مقاومة الجديد‬
‫الكنيسة في النصرانية كل جديد تقريب ًا من قول أو عمل‪ ،‬ثم عادت‬
‫فيما بعد فأجازته‪ ،‬ولما قال «غاليله» بدوران األرض كفَّ َرته‪ ،‬وال‬
‫يزال يوجد إلى اليوم من أخبار النصارى من ِ‬
‫يكفّ ر كل مخالف لما‬

‫‪92‬‬
‫جاء في التوراة من كيفية التكوين‪ ،‬ومن سنتين ُحوكِ م أحد المع ِ ّلمين‬
‫في محاكم إحدى الواليات المتحدة لقوله بنظرية داروين‪ ،‬ومُ نِع‬
‫من التدريس‪ ،‬ولكن هذا ال يمنع سير العلم في طريقه (((‪.‬‬

‫فالنصارى عندهم جامدون كما عندنا جامدون‪ ،‬والمسلم الجامد‬


‫يحارب كل علم غير العلم الديني التقليدي الذي ألفه‪ ،‬حتى إنه‬
‫يعتد في دينه إال بالكتاب والس ّنة‪ ،‬وينسى أن العلوم‬
‫ّ‬ ‫ليحارب من ال‬
‫والطب والكيمياء‬
‫ّ‬ ‫وج ّر األثقال والفلك‬
‫الطبيعية والرياضية والهندسة َ‬
‫وطبقاء األرض وكل علم يفيد االجتماع البشري هي علوم دينية‬
‫إن لم تكن مباشرة فمن حيث النتيجة (((‪ .‬وكم جرى تدريس هذه‬
‫العلوم في األزهر األموي والزيتونة والقرويين وقرطبة وبغداد‬
‫وسمرقند وغيرها عندما كان لإلسالم دول كبار وأعاظم رجال‪ ،‬وكم‬
‫نبغ في اإلسالم من عظماء جمعوا بين الحكمة والشريعة‪ ،‬ونظموا‬
‫بين الحديث والرياضة‪ ،‬وإن أ كبر فيلسوف عربي اشتهر اسمه في‬
‫أوروبة هو القاضي ابن رشد‪ ،‬وقد كان من أ كابر الفقهاء‪.‬‬

‫‪ 1‬وقد تألّف في إنجلترا وأميركا حزب ديني جديد أو جمعية للدعوة إلى اإليمان بظواهر التوراة في الخلق‬
‫والتكوين‪ ،‬وكل شيء من غير تأويل (راجع ص‪ 723‬م‪« 30‬المنار»)‪(.‬ر)‬
‫«وَأ ِع ُّدوْا َلُهم‬
‫َ‬ ‫تفسير‪:‬‬ ‫في‬ ‫ّا‬
‫ن‬ ‫بي‬
‫َّ‬ ‫واجب‪.‬وقد‬ ‫يتم الواجب المطلق إال به فهو‬
‫‪ 2‬أي من باب قول العلماء‪ :‬ما لم ّ‬
‫ص هذه اآلية؛ ألنها من القوة‬ ‫اسَت َط ْعُتم ِّمن ُق َّوٍة» أن آالت القتال البرية والبحرية والجوية واجبة بَن ّ‬
‫َّما ْ‬
‫المستطاعة للمسلمين كما هي مستطاعة لغيرهم‪ ،‬فليس وجوبها بقاعدة (ما لم يتم الواجب إال به فهو‬
‫بنص القرآن وداللة المنطوق منه براجع تفسيرها في ص‪ 61‬ج‪ 10‬من «تفسير المنار»‪( .‬ر)‬ ‫واجب)‪ ،‬بل ّ‬

‫‪93‬‬
‫َم َد ّنية اإلسالم‬

‫خاصة‬
‫ّ‬ ‫مدنية‬ ‫َّ‬
‫يتمكن من تأسيس‬ ‫أما َز ْعم من َز َعم أن اإلسالم لم‬
‫ّ‬
‫واالستدالل على ذلك بحالته الحاضرة‪ ،‬فهو خرافة يم ِ ّوه بها بعض‬
‫أعداء اإلسالم من الخارج‪ ،‬وبعض جاحديه من الداخل‪ ،‬أما القسم‬
‫األول فألجل أن يصبغوا المسلمين بالصبغة األوروبية‪ ،‬وأما القسم‬
‫الثاني فألجل أن يزرعوا في العالم اإلسالمي بذور اإللحاد‪ ،‬ونحن‬
‫يصح أن‬
‫ّ‬ ‫المدنية‪ ،‬ولكننا ال نس ِ ّلم بأنه‬
‫ّ‬ ‫ال ننكر تأثير الدين في‬
‫يكون لها ميزان ًا؛ وذلك ألنه كثير ًا ما يضعف تأثير الدين في األمم‬
‫فتفلت من قيوده‪ ،‬وتفسد أخالقها‪ ،‬وتنهار أوضاعها‪ ،‬فيكون فساد‬
‫األخالق هو ع ّلة السقوط‪ ،‬وال يكون الدين هو المسؤول‪ ،‬وكثير ًا‬
‫ما تطرأ عوامل خارجية غير منتظرة فتتغ َّلب على أن أثلته الشرائع‬
‫من حضارة‪ ،‬و ُتزلزِ ل أركانها‪ ،‬وقد تهدمها من بوانيها‪ ،‬وال يكون‬
‫فتأخر المسلمين في القرون األخيرة لم‬
‫ُّ‬ ‫القصور من الشريعة نفسها؛‬

‫‪94‬‬
‫يكن من الشريعة‪ ،‬بل من الجهل بالشريعة‪ ،‬أو كان من عدم إجراء‬
‫ولما كانت الشريعة جارية على حقّ ها كان‬
‫أحكامها كما ينبغي‪ّ ،‬‬
‫اإلسالم عظيم ًا عزيز ًا‪.‬‬

‫وأي عظمة أعظم مما كان اإلسالم في أيام عمر بن الخطاب مث ً‬


‫ال!‬

‫ومدنية اإلسالم قضية ال تقبل المماحكة؛ إذ ليس من أمّة في‬


‫ّ‬
‫أوروبة سواء األلمان أو الفرنسيس أو اإلنجليز أو الطليان‪ ..‬إلخ‪،‬‬
‫(مدنية اإلسالم)‪ ،‬فلو لم تكن‬
‫ّ‬ ‫إال وعندهم تآليف ال تحصى في‬
‫مبنية على كتابه‬
‫مدنية حقيقية سامية راقية مطبوعة بطابعه‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫لإلسالم‬
‫وس ّنته‪ ،‬ما كان علماء أوروبا‪ ،‬حتى الذين عرفوا منهم بالتحامل‬
‫المدنية اإلسالمية‪ ،‬ومن سرد‬
‫ّ‬ ‫على اإلسالم‪ ،‬يكثرون من ذكر‬
‫المدنيات‪ ،‬ومن‬
‫ّ‬ ‫تواريخها (((‪ ،‬ومن المقابلة بينها وبين غيرها من‬
‫تبيين الخصائص التي انفردت بها‪.‬‬

‫المدنيات الشهيرة التي يزدان بها التارخ‬


‫ّ‬ ‫فالمدنية اإلسالمية هي من‬
‫ّ‬
‫تغص سجلّاته الخالدة بمآثرها الباهرة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫العام‪ ،‬والتي‬

‫وقد بلغت بغداد في دور المنصور والرشيد والمأمون من احتفال‬


‫العمارة‪ ،‬واستبحار الحضارة‪،‬وتناهي الترف والثروة‪ ،‬ما لم تبلغه‬
‫مدينة قبلها وال بعدها إلى هذا العصر‪ ،‬حتى كان أهلها يبلغون‬

‫‪ 1‬وقد ألّف عصبة من األوروبيين المستشرقين معلمة اسمها «إنسيكلوبيديا اإلسالم» وتحامل فيها بعضهم‬
‫خاصة به‪.‬‬
‫على اإلسالم وبخسوه من أشيائه‪ ،‬ولكنهم لم يقدروا أن يجحدوا انفراده بمدنّية ّ‬

‫‪95‬‬
‫مليونين ونصف مليون من السكان‪ ،‬وكانت البصرة في الدرجة‬
‫الثانية عنها‪ ،‬وكان أهلها نحو نصف مليون‪.‬‬

‫وكانت دمشق والقاهرة وحلب وسمرقند وأصفهان وحواضر‬


‫أخرى كثيرة من بالد اإلسالم أمثله تامة وأَقْ يِ سة بعيدة في استبحار‬
‫العمران‪ ،‬وتطاول البنيان ورفاهة السكان وانتشار العلم والعرفان‪،‬‬
‫ِّ‬
‫المتهدلة األفنان‪.‬‬ ‫وتأثّل الفنون‬

‫وكانت القيروان وفاس وتلمسان ومراكش في المغرب أعظم وأعلى‬


‫من أن يطاولها مطاول‪ ،‬أو يناظرها مناظر‪ ،‬أو أن يكاثرها مكاثر في‬
‫ممالك أوروبا حتى هذه القرون األخيرة‪.‬‬

‫ٍ‬
‫مدان‪ ،‬وكان عدد‬ ‫وكانت قرطبة مدينة ف َّذة في أوروبا ال يدانيها‬
‫سكانها نحو مليون ونصف مليون نسمة‪ ،‬وكان فيها نحو سبع مئة‬ ‫ّ‬
‫لما زرته في هذا الصيف‪ ،‬قال‬
‫جامع‪ ،‬عدا المسجد األعظم الذي‪ّ ،‬‬
‫لي المهندس الذي كان معي من ق َِبل الحكومة اإلسبانيولية إنه‬
‫مصل في الداخل و‪ 30‬ألف‬ ‫ٍّ‬ ‫يس ُع‪ ،‬بحسب مساحته‪ ،‬خمسين ألف‬
‫َ‬
‫ٍّ‬
‫مصل في الصحن‪ ،‬فجملة من يسعهم هذا المسجد العجيب ثمانون‬
‫ألف ًا من المص ّلين‪.‬‬

‫ولما ذهبنا إلى آثار قصر الزهراء رأينا آثار مدينة ال آثار قصر واحد‪،‬‬
‫ّ‬
‫تمتد على مسافة تسع مئة متر طو ً‬
‫ال في ثمان مئة متر‬ ‫ّ‬ ‫وعلمنا أنها‬
‫عرض ًا‪ ،‬واإلسبانيون يقولون‪ :‬مدينة الزهراء‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫وقال لي المهندسون الموكلون بالحفر على آثارها إنهم يرجون‬
‫اإلتيان على كشفها ك ّلها‪ ،‬من اآلن إلى خمسين سنة‪.‬‬

‫وحسبك أن غرناطة التي كانت حاضرة كانت مملكة صغيرة في آخر‬


‫أمر المسلمين باألندلس‪ ،‬لم يكن في أوروبا في القرن الخامس عشر‬
‫المسيحي بلدة تضاهيها وال تدانيها‪ ،‬وكان فيها‪ ،‬عندما سقطت في‬
‫أيدي اإلسبانيول‪ ،‬نصف مليون نسمة‪ ،‬ولم تكن‪ ،‬وقتئذ‪ ،‬عاصمة‬
‫من عواصم أوروبا تحتوي نصف هذا العدد‪ ،‬وحمراء غرناطة ال‬
‫تزال يتيمة الدهر إلى اليوم‪.‬‬

‫هذه لمحة دا ّلة من مآثر حضارة اإلسالم وغرر أيامه‪ ،‬وإال فلو‬
‫استقصينا كل ما أثر المسلمون في األرض من رائع وبديع لم تسع‬
‫ذلك الجلود الكثيرة المرصوفة طبق ًا فوق طبق‪.‬‬

‫(مدنية اإلسالم)‬
‫ّ‬ ‫وكم ح َّرر المؤ ِ ّرخون األوروبيون تحت عنوان‬
‫أشد مؤ ِ ّرخي اإلفرنج‬
‫قيمة ومجاميع صور تأخذ باألبصار‪ ،‬وإن ّ‬ ‫كتب ًا ِ ّ‬
‫مدنيته‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يتعدى أن يحاول التصغير من شأن‬
‫ّ‬ ‫تحام ً‬
‫ال على اإلسالم ال‬
‫وأن ينكر كونه أبا عذرتها‪ ،‬فقصارى هذه الفئة أن ينكروا كون‬
‫المسلمين قد ابتكروا علوم ًا‪ ،‬وسبقوا إلى نظريات صارت خاصة‬
‫بهم‪ ،‬وغايتهم أن يقولوا إن المسلمين لم يزيدوا على أن نقلوا‬
‫وأذاعوا وكانوا واسطة بين المشرق والمغرب‪.‬‬

‫ِ‬
‫المحقّ قين الذين يعرفون للمسلمين علوم ًا‬ ‫وهذا القول مردود عند‬

‫‪97‬‬
‫ابتكروها وحقائق كشفوها‪ ،‬وآراء سبقوا إليها‪ ،‬فض ً‬
‫ال عما زادوا‬
‫َ‬
‫استرق شيئ ًا وقد استرقَّه‪،‬‬ ‫عليه وأكملوه‪ ،‬وما نشروه ونقلوه‪ ،‬ومن‬
‫فقد استحقّ ه‪.‬‬

‫مدنيات األرض إال وهي رشح‬


‫ّ‬ ‫مدنية واحدة من‬
‫ّ‬ ‫وبعد؛ فلم نعلم‬
‫مدنيات سابقة‪ ،‬وآثار آراء اشتركت بها سالئل البشرية‪ ،‬ومجموع‬
‫ّ‬
‫نتائج عقول مختلفة األصول‪ ،‬ومحصول ثمرات ألباب متباينة‬
‫األجناس‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫اإلسالمية املكابرين‬
‫ّ‬ ‫املدنية‬
‫ّ‬ ‫حساد‬
‫الر ّد على ّ‬

‫أينسى ُح َّساد اإلسالم والمكابرون في عظمة فضله‪ ،‬الزاعمون أنه‬


‫نقل وتع ّلم وق َّلد واقتدى‪ ،‬وأنه إنما ص ّلى وراء غيره‪ ،‬أن الغرب‬
‫المدنية الشرقية يوم ظهر اإلسالم كان‬
‫ّ‬ ‫كان غلب على الشرق‪ ،‬وأن‬
‫جددها وأحيا‬
‫أخنى عليها الذي أخنى على لبد‪ ،‬وأنه هو الذي َّ‬
‫آثارها‪ ،‬وأقال عثارها؟! وأنها بعد أن كانت قد امَّحت ولحقت‬
‫وجالها من بعد أن كانت ملفوفة‬
‫بالغابرين‪ ،‬أبر َزها من أصدافها‪َ ،‬‬
‫بغالفها‪ ،‬ونشَ َرها إلى الخافقين‪ ،‬وب َّلجها كفَ َلق الصبح لكل ذي‬
‫عينين‪ ،‬وأضفى عليها لباس اإلسالم الخاص‪ ،‬ودبَّجها بديباجة‬
‫القرآن‪ ،‬التي لم تفارقها في شرق وال غرب‪ ،‬وال سهل وال غ ّر‪ ،‬حتى‬
‫حمل ذلك كثير ًا من علماء اإلفرنج ممن لم يعمِ ِه الهوى‪ ،‬ولم ِ‬
‫يح ْد‬
‫مدنية اإلسالم‬
‫ّ‬ ‫في التحقيق عن مهيع الهدى‪ ،‬على أن اعترفوا بأن‬
‫وتفجرت‬
‫َّ‬ ‫لم تكن نسخ ًا وال نق ً‬
‫ال‪ ،‬وإنما هي قد نبعت من القرآن‪،‬‬

‫‪99‬‬
‫من عقيدة التوحيد؟!‬

‫فأما ما ترجمته حضارة اإلسالم من كتب‪ ،‬وما أخذته عن غيرها من‬


‫علوم‪ ،‬وما أفادته في فتوحاتها من منازع جميلة وطرائف سديدة‪،‬‬
‫أخذتها عن غيرها فال يقدح ذلك في بكارتها اإلسالمية ومسحتها‬
‫العربية؛ ألن هذا شأن الحضارة البشرية بأجمعها‪ :‬أن يأخذ بعضها‬

‫ِّ‬
‫ويكمل بعضها بعض ًا‪ ،‬فالحلم الحقيقي ينحصر في هذا‬ ‫عن بعض‪،‬‬
‫وهذه‬ ‫(((‬
‫القول‪« :‬الحكمة ضا ّلة المؤمن ينشدها ولو في الصين»‬
‫من أقدس قواعد اإلسالم‪.‬‬

‫وعلى كل حال ال يقدر مكاب ٌر أن يكاب َر أن اإلسالم كان له دور‬


‫عظيم في الدنيا سواء في الفتوحات الروحية أو العقلية أو المادية‪،‬‬
‫وأن هذه الفتوحات قد ا َّت َسقت له في دور ال يزيد على ثمانين سنة‬
‫مما أجمع الناس على أنه لم ي َّتسق ألمّة قبله أص ً‬
‫ال‪.‬‬

‫لشدة دهشته من تاريخ اإلسالم يقول في جزيرة‬


‫وكان نابليون األول ّ‬
‫سنت هيالنة‪ :‬إن العرب فتحوا الدنيا في نصف قرن ال غير‪.‬‬

‫وتأمَّل ‪-‬أيّها القارئ‪ -‬في أن قائل هذا القول هو بونابرت الذي لم‬
‫تكن تمأل عينيه الفتوحات مهما كانت عظيمة‪.‬‬
‫‪ 1‬هذا مضمون حديثين‪ :‬أحدهما «الحكمة ضالّة المؤمن؛ فحيث وجدها فهو ّ‬
‫أحق بها» رواه الترمذي من‬
‫حديث أبي هريرة‪ ،‬ورواه غيره بمعناه مع اختالف في اللفظ‪ .‬والثاني‪« :‬اطلبوا العلم ولو في الصين»‬
‫وذكره الكاتب في موضع آخر‪ ،‬وهناك نذكر من أخرجه (راجع ص ‪(.)111‬ر)‬

‫‪100‬‬
‫يم ال َع َظائ ُِم‬
‫َو َت ْصغ ُر في َع ْي ِن ال َعظِ ِ‬ ‫ظم في َع ْي ِن َّ‬
‫الصغِيرِ ِص َغار َُها‬ ‫َو َت ْع ُ‬
‫جد َا استعظم حادث العرب الذي لم يسبق نظيره‬
‫فهذا رجل عظيم ّ‬
‫في التاريخ‪ ،‬وقد بقي دور العرب هو األول في وقته‪ ،‬ولبثوا وهم‬
‫المسيطرون في األرض‪ ،‬ال يضارعهم مضارع‪ ،‬وال يغالبهم مغالب‬
‫مدة ثالثة قرون أو أربعة‪ ،‬ثم أخذوا باالنحطاط‪ ،‬وجعلت ظاللهم‬
‫ّ‬
‫تتق َّلص عن البلدان التي كانوا غلبوا عليها شيئ ًا فشيئ ًا؛ وذلك بفتور‬
‫الهمم‪ ،‬ودبيب الفساد إلى األخالق‪ ،‬ونبذ عزائم الدين‪ ،‬وا ّتباع‬
‫وأشد ما اب ُتليوا به التنافس على اإلمارات‬
‫ّ‬ ‫شهوات األنفس‪،‬‬
‫والرئاسات‪ -‬وال سيما بين القيسية واليمانية‪ -‬مما لواله لدانت لهم‬
‫القارة األوروبية بأجمعها‪ ،‬وكانت اآلن عربية كما هو المغرب‪.‬‬

‫ومما‬
‫مما صنعته أيديهم‪ّ ،‬‬ ‫فالمصائب التي َح َّل ْ‬
‫ت بالمسلمين إنما هي ّ‬
‫لما كانوا‬ ‫ّ‬
‫السوي الذي أوضحه لهم القرآن الذي ّ‬ ‫حادوا به عن النهج‬
‫عاملين بمحكم آيِ ِه علوا وظهروا وكانت لهم الدول والطوائل‪ ،‬فلما‬
‫ضعف عملهم به وصاروا يقرءؤونه بدون عمل‪ ،‬وانقادوا إلى أهواء‬
‫أنفسهم من دونه‪ ،‬ذهبت ريحهم‪ ،‬وو ّلى السلطان األكبر الذي كان‬
‫لهم‪ ،‬وانتقصت األعداء أطراف بالدهم‪ ،‬ثم قصدوا إلى أوساطها‪،‬‬
‫وما زال األعداء يفتحون من بلدان اإلسالم حتى أصبحوا ثالث مئة‬
‫مليون مسلم تحت والية األجانب‪ ،‬ولم يبقَ في العالم سوى ‪ 70‬أو‬
‫‪ 80‬مليون مسلم نقدر أن نقول إنهم تحت والية أنفسهم‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫ولنضرب اآلن بعض أمثلة عن األمم األخرى ألجل المقابلة بيننا‬
‫تتبين األشياء»‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫«بضدها َّ‬ ‫وبينهم؛ إذ كانت‬

‫اليونان والرومان قبل النصرانية وبعدها‬

‫كان اليونانيون قبل النصرانية أرقى أمم األرض أو من أرقى أمم‬


‫األرض‪ ،‬وكانوا واضعي أسس الفلسفة وحاملي ألوية اآلداب‬
‫والمعارف‪ ،‬ونبغ منهم من ال يزالون مصابيح البشرية في العلم‬
‫والفلسفة إلى يوم الناس هذا‪.‬‬
‫وكان اإلسكندر المقدوني أعظم فاتح عرفه التاريخ أو من أعظم‬
‫الفاتحين الذين عرفهم التاريخ‪ ،‬حام ً‬
‫ال لألدب اليوناني‪ ،‬ناشر ًا‬
‫لثقافة اليونان بين األمم التي غلب عليها‪ ،‬وما كانت دولة البطالسة‬
‫التي لمعت في اإلسكندرية بعلومها وفلسفتها إال من بقايا فتوح‬
‫تنصرت اليونان بعد ظهور‬
‫اإلسكندر‪ ،‬ثم لم تزل هذه الحالة إلى أن َّ‬
‫الدين المسيحي بقليل‪ ،‬فمذ دانت هذه األمّة بالدين الجديد بدأت‬
‫تنحط قرن ًا عن‬
‫ّ‬ ‫بالتردي واالنحطاط وفقد مزاياها القديمة‪ ،‬ولم تزل‬
‫ّ‬
‫قرن‪ ،‬وتتدهور بطن ًا عن بطن‪ ،‬إلى أن صارت بالد اليونان والية من‬
‫جملة واليات السلطنة العثمانية‪ ،‬ولم تعد إلى شيء من النهوض‬
‫والرقي إال في القرن الماضي‪ ،‬وأين هي مع ذلك اآلن مما كانت‬
‫ّ‬
‫قبل النصرانية؟‬

‫أفيجب أن نقول‪ :‬إن النصرانية كانت المسؤولة عن انحطاط اليونان‬


‫هذا؟!‬

‫‪102‬‬
‫إن القائلين إن اإلسالم قد كان سبب انحطاط األمم الدائنة به ال‬
‫أدت ‪-‬أيض ًا‪ -‬إلى انحطاط‬
‫مف ّر لهم من القول إن النصرانية قد َّ‬
‫الرقي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اليونان التي كانت من قبلها عنوان‬

‫ثم كانت رومية في عصرها الدولة العظمى التي ال يذكر معها دولة‪،‬‬
‫وال يؤبه في جانب صولتها لصولة‪ ،‬ولم تزل هكذا هي المسيطرة‬
‫تنصرت لعهد قسطنطين‪ ،‬فمنذ ذلك العهد‬
‫على المعمور إلى أن ّ‬
‫بدأت باالنحطاط مادة ومعنى‪ ،‬إلى أن انقرضت أو ً‬
‫ال من الغرب‪،‬‬
‫وثاني ًا من الشرق‪ ،‬ولم تسترجع رومية بعد انقراض الدولة الرومانية‬
‫شيئ ًا من مكانتها األولى‪ ،‬وبقيت على ذلك مدة ‪ 15‬قرن ًا حتى‬
‫استأنفت شيئ ًا من مجدها الغابر‪.‬‬

‫وما هي إلى هذه الساعة ببالغة ذلك الشأو الذي بلغته أيام الوثنية‪.‬‬

‫تنصر الرومان هو العامل في انحطاط رومة وتدحرجها عن‬


‫أفنجعل ُّ‬
‫قمة تلك العظمة الشاهقة؟! لقد قال بهذا علماء كثيرون‪ ،‬كما قال‬
‫ّ‬
‫آخرون مثل هذه المقالة في اإلسالم‪ ،‬وكال الفريقين جائر حائد‬
‫عن الصواب‪.‬‬

‫فإن لسقوط الرومان بعد فشو الدين المسيحي فيهم‪ ،‬ولسقوط‬


‫تقبلوا دعوة بولس إلى النصرانية‪ ،‬أسباب ًا‬
‫اليونان م َْن قب َلهم‪ ،‬بعد أن َّ‬
‫وعوامل كثيرة من فساد األخالق‪ ،‬وانحطاط الهمم‪ ،‬وانتشار الخنا‬
‫والخالعة‪ ،‬وشيوع اإللحاد واإلباحة‪ ،‬ومن َه َرم الدول الذي يتك َّلم‬

‫‪103‬‬
‫منضمة‬
‫ّ‬ ‫عنه ابن خلدون‪ ،‬وغير ذلك من أسباب السقوط الداخلية؛‬
‫ثمة أسباب قاسرة ِ ّ‬
‫مؤدية‬ ‫إليها غارات البرابرة من الخارج‪ ،‬فكانت ّ‬
‫البد منه‪ ،‬فلو فرضنا أن النصرانية لم تكن‬
‫ّ‬ ‫إلى السقوط الذي كان‬
‫جاءت وقتئذ لم يكن الرومان وال اليونان نجوا من عواقب تلك‬
‫الحوادث‪ ،‬وال تخطّ تهم نتائج تلك األسباب‪.‬‬

‫فدعوى بعض المؤ ِ ّرخين األوروبيين أن تغ ُّلب المسيحية على‬


‫بمدنيتها‪ ،‬ليس فيه‬
‫َّ‬ ‫اليونان والرومان أخنى على عظمتها‪ ،‬وذهب‬
‫من الصحيح إال كون األوضاع الجديدة تذهب باألوضاع القديمة؛‬
‫البد من اضطراب‬
‫ّ‬ ‫س ّنة الله في خلقه‪ ،‬وأنه في هيعة هذا التح ُّول‬
‫األحوال وانحالل القواعد واستحكام الفوضى‪ ،‬وإال فال أحد يقدر‬
‫(((‬
‫أن يقول إن الوثنية أصلح للعمران من النصرانية‪.‬‬

‫وهذا الدعوى كادت تكون أشبه بدعوى أعداء اإلسالم الذين‬


‫يزعمون أن الشرق كان رائع ًا في بحابح العمران‪ ،‬فجاء اإلسالم‬
‫المدنيات الشرقية القديمة! لوال أن الحقيقة هي ‪-‬كما‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫وط َمس‬

‫‪ 1‬علماء المسلمين يعتقدون أن النصرانية على ما طرأ عليها من الوثنية بالتثليث الوثني القديم أصلح‬
‫ألنفس البشر من الوثنية الخالصة‪ ،‬ولكنها ليست أصلح وال أقبل للعمران المدني الذي تتنافس فيه أوروبا‬
‫يتم وال يسمو‬
‫وغيرها؛ ألنها ديانة مبنّية على المبالغة في الزهد والخضوع لكل حكم دنيوي‪ ،‬والعمران ال ّ‬
‫إال بالسيادة والملك والغنى‪ ،‬ومن قواعد اإلنجيل‪ :‬أن الجمل إذا دخل في ثقب اإلبرة فالغني ال يدخل ملكوت‬
‫السموات‪ ،‬ونعتقد أيض ًا أن جميع ما جاء به المسيح ‪ -‬عليه السالم‪ -‬من الدين فهو حق‪ ،‬وكان البشر في‬
‫وحكامهم الروم‬
‫أشّد الحاجة إلى ما فيه من المبالغة في الزهد والتواضع؛ لمقاومة ما كان عليه اليهود ّ‬
‫والعتو‪ ،‬وأن هذا كان تمهيدًا لإلسالم الدين الوسط المعتدل الجامع بين‬ ‫ّ‬ ‫(الرومان) من الطمع والكبرياء‬
‫يتضمن اعترافنا بحقّية دين المسيح في نفسه‪ ،‬وبكونه من‬ ‫ّ‬ ‫مصالح الدنيا واآلخرة‪ ،‬فما ذكرناه من اعتقادنا‬
‫عند اهلل تعالى مع التعارض بينه وبين ديننا الناسخ له‪.‬‬
‫أبين هذا في حاشية مقال ُكتِب لـ«المنار» باقتراح من أحد تالميذ «المنار» على أمير البيان‪.‬‬
‫ومن وظيفتي أن ِّ‬

‫‪104‬‬
‫ق ََّدمنا‪ -‬أن المدنيات الشرقية كانت كلها قد انقرضت أو انحطّ ت‬
‫جدد‬
‫قبل ظهور اإلسالم بكثير‪ ،‬وأن اإلسالم وحده ال غيره هو الذي َّ‬
‫مدنية الشرق الدارسة‪ ،‬واستأنف صولته الذاهبة الطامسة‪ ،‬وبعث‬
‫تلك الحواضر العظمى الزاخرة بالبشر كبغداد والبصرة وسمرقند‬
‫وهلم ج ّرا‪ ،‬فإن كانت‬
‫ّ‬ ‫وبخارى ودمشق والقاهرة والقيروان وقرطبة‪..‬‬
‫قد بقيت للشرق آثار مدنيات قديمة فإن اإلسالم هو الذي وطّ د‬
‫بوانيها‪ ،‬وط َّرز حواشيها‪ ،‬وحمل السيف بيد والقلم بيد إلى أبعد‬
‫لشرقي أن وطئها‬
‫ّ‬ ‫ما تص َّوره العقل من حدود األقطار التي لم يسبق‬
‫بقدمه‪.‬‬

‫فإذا كان اإلفرنج الصليبيون من الغرب‪ ،‬وكان المغول أولئك‬


‫الجراد المنتشر من الشرق‪ ،‬قد دمروا ما بنى اإلسالم في تلك‬
‫الممالك‪ ،‬ونسفوا عمران هاتيك الحواضر‪ ،‬وكانت منافسات ملوك‬
‫اإلسالم الداخلية للشهوات وإمعانهم في الضالالت‪ ،‬ومحيدهم عن‬
‫جادة القرآن القويمة‪ ،‬وفقدهم ما يزرعه في الصدور من األخالق‬
‫العظيمة‪ ،‬وقد قضت في الداخل‪ ،‬على ما عجز عن تعفيته العدو من‬
‫الخارج‪ ،‬فليس الذي في هذا التق ُّلص ذنب اإلسالم‪ ،‬وال التبعة في‬
‫هذا االنقالب عائدة على القرآن‪ ،‬وإنما الذنب هو ذنب الهمج من‬
‫اإلفرنج‪ ،‬وجناية ذلك الجراد الزحاف من المغول‪ ،‬وإنما هي تبعة‬
‫المسلمين الذين رغبوا عن أوامر كتابهم واشتروا بآياته ثمن ًا قلي ً‬
‫ال‪،‬‬
‫إال النادر منهم‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫تنصرت األمم األوروبية في القرن الثالث والرابع‬
‫َّ‬ ‫وأيض ًا فقد‬
‫والخامس والسادس من ميالد المسيح‪ ،‬وبقيت أمم في شرقي‬
‫تنصرت‪ ،‬ولم تنهض أوروبا نهضتها‬ ‫أوروبا إلى القرن العاشر حتى َّ‬
‫الحالية التي َّ‬
‫مكنتها ‪-‬تدريج ًا‪ -‬من هذه السيادة العظمى بق ّوة العلم‬
‫والفن إال من نحو أربع مئة سنة‪ ،‬أي من بعد أن دانت باإلنجيل‬
‫بألف سنة‪ ،‬ومنها بعد أن دانت به بسبعمئة سنة‪ ،‬ومنها بثمان مئة‬
‫سنة‪ ...،‬إلخ‪.‬‬

‫المسماة في التاريخ بالقرون الوسطى‪ ،‬وال نقول‬


‫ّ‬ ‫وهذه هي القرون‬
‫إن األوروبيين كانوا في هذه القرون‪ ،‬بأجمعهم‪ ،‬هائمين في ظلمات‬
‫بعضهم فوق بعض‪ ،‬بل نقول إن العرب كانوا أعلى كعب ًا منهم بكثير‬
‫المدنية بإقرار مؤ ِ ّرخيهم‪ ،‬وبرغم أنف لويس برتران وأضرابه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫في‬

‫ومن الكتب المخرجة حديث ًا الشاهدة بذلك‪« :‬التاريخ العام»‬


‫للكاتب الفيلسوف اإلنجليزي «ولز» و«تاريخ مدنيات الشرق»‬
‫ِّ‬
‫متخصص في التواريخ الشرقية اسمه «غروسه»‪،‬‬ ‫لمؤ ِ ّلف إفرنسي‬
‫فالحقيقة التاريخية المجمع عليها هي واحدة في هذا الموضوع‪،‬‬
‫لم يظهر ما ينقضها ولن يظهر؛ وهي أن العرب في القرون الوسطى‬
‫كانوا أساتيذ األوروبيين‪ ،‬وكان الواحد من هؤالء إذا تخ َّرج على‬
‫العرب تباهى بذلك بين قومه‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫سبب ُّ‬
‫تأخر أوروبا الماضي ونهضتها الحاضرة‬

‫التأخر الذي كان عليه األوروبيون في القرون الوسطى‬


‫ُّ‬ ‫أفنجعل هذا‬
‫ّ‬
‫يعضون‬ ‫مدة ألف سنة ناشئ ًا عن النصرانية التي كانت دينهم الذين‬
‫ّ‬
‫عليه بالنواجذ؟!‬

‫التأخر الكنيسة‬
‫ُّ‬ ‫نعم؛ إن األمم البروتستانتية منهم تجعل مصدر هذا‬
‫البابوية ال النصرانية من حيث هي‪ ،‬وتزعم أن نهضة أوروبا لم تبدأ‬
‫إال بخروج (لوثير‪ ،‬وكلفين) على الكنيسة الرومانية‪.‬‬

‫وأما فولتير وم َْن في حزبه من أقطاب المالحدة فال يف ِ ّرقون كثير ًا بين‬
‫الكاثوليك والبروتستانت‪ ،‬وعندهم أن جميع هذه العقائد واحدة‪،‬‬
‫والرقي‪ ،‬ولهذا قال فولتير تلك الكلمة عندما‬
‫ّ‬ ‫وأنها عائقة عن العمل‬
‫ُذكر لديه لوثير‪ ،‬وكلفين‪ ،‬قال‪« :‬كالهما ال يصلح أن يكون حذا ًء‬
‫مح َّمد ًا ص َّلى ال َّله عليه وس َّلم بلغ من اإلصالح‬
‫لمح َّمد (((» يرى أن َ‬
‫َ‬
‫ما لم يبلغا أدناه‪ ،‬مع اعتقادهم الكثير أن مذهبهما كان فجر أنوار‬
‫(((‬
‫أوروبا‪.‬‬

‫‪ -1‬ذكر فولتير هذه الجملة أمام البرنس سيندورف النمسوي الذي صار‪ ،‬فيما بعد‪ ،‬رئيس ًا لوزراء سلطنة‬
‫النمسا‪ ،‬وعندما دخل بونابرت فيينا كان هذا البرنس هو رئيس الحكومة فيها‪ ،‬وكان نقله هذه الجملة عن‬
‫مذكراته المحفوظة في خزانة كتب فيينا‪،‬‬
‫فولتير في أيام شبابه عندما اجتمع به في سويسرا فقّيدها في ّ‬
‫وعنها نقلتها جريدة الطان‪ ،‬ونحن نقلناها عنها‪(.‬ش)‬
‫‪ -2‬ونحن نعتقد هذا‪ ،‬وكان شيخنا األستاذ اإلمام وأذكياء مريديه كسعد باشا زغلول يعتقدونه‪ ،‬ولكن‬
‫أضعف َح ْجر الكنيسة على العقول البشرية وتقييدها بتعاليمها وفهمها‬
‫َ‬ ‫بمعنى سلبي؛ وهو أن المذهب‬
‫للدين ورأيها في الدنيا‪ ،‬وكان سبب هذا المذهب ما سرى إلى أوروبا عقب الحروب الصليبية بمعاشرة‬
‫بينه شيخنا في كتاب‬ ‫المسلمين من استغالل العقل في فهم الدين وعدم سيطرة أحد عليهم فيه‪ ،‬كما َّ‬
‫«اإلسالم والنصرانية»‪( .‬ر)‬

‫‪107‬‬
‫والحقّ الذي ال يُرتاب فيه أن النصرانية نفسها لم تكن هي المسؤولة‬
‫مدة ألف سنة في القرون الوسطى‪،‬‬
‫عن جهالة اإلفرنج المسيحيين ّ‬
‫بل للمسيحية الفضل في تهذيب برابرة أوروبا‪.‬‬

‫وهؤالء اليابانيون هم وثنيون‪ ،‬ومنهم من هم على مذهب بوذا‪،‬‬


‫ومنهم من يقال لهم‪( :‬طاويّون) وكثيرون منهم يتبعون الحكيم‬
‫الصيني كنفوشيوس‪ ،‬ولقد مضى عليهم نحو ألفي سنة‪ ،‬ولم تكن‬
‫لهم هذه المدنية الباهرة وال هذه القوة والمكانة بين األمم‪ ،‬ثم‬
‫نهض اليابان من نحو ستين سنة وترقّ وا وع ّزوا‪ ،‬وغلظ أمرهم‪ ،‬وعال‬
‫قدرهم‪ ،‬وصاروا إلى ما صاروا إليه‪ ،‬ولم يبرحوا وثنيين‪.‬‬

‫فال كانت الوثنية ‪-‬إذ ًا‪ -‬سبب ُّ‬


‫تأخرهم الماضي‪ ،‬وال هي سبب‬
‫تقدمهم الحاضر‪ ،‬وقد تفاوت اليابان والروسيا وتحاربتا فتغ َّلبت‬
‫ّ‬
‫اليابان على روسيا؛ مع أن اليابانيين في العدد هم نصف الروس‪،‬‬
‫ولكن مما ال شك فيه أن اليابانيين أرقى من الروس‪ ،‬والحال أن‬
‫روسيا عريقة في النصرانية‪ ،‬واليابان عريقة في الوثنية‪.‬‬

‫للتأخر‬
‫ُّ‬ ‫فليترك ‪-‬إذ ًا‪ -‬بعض الناس جعل األديان هي المعيار‬
‫(((‬
‫والتقدم‪.‬‬
‫ُّ‬

‫أخر روسيا عن‬


‫أفنقول من أجل هذا المثال‪ :‬إن اإلنجيل هو الذي َّ‬

‫تقدم أهله حين اهتدوا‬


‫‪ -1‬هذا صحيح في جملة األديان إال اإلسالم؛ فقرآنه وتاريخه يثبتان أنه هو سبب ُّ‬
‫جعل‬
‫تأخرهم حين أعرضوا عنه‪ ،‬كما َب َّين هذا أمير الكتاب في رسالته هذه‪ ،‬فأظلم الظلم أن ُي َ‬
‫به‪ ،‬وسبب ُّ‬
‫سبب تأخيرهم‪(.‬ر)‬

‫‪108‬‬
‫درجة اليابان‪ ،‬وإن عبادة اآللهة ابنة الشمس هي التي جذبت بضبع‬
‫اليابان حتى سبقت روسيا؟!‬

‫إن لهذه الحوادث أسباب ًا وعوامل متراكمة ترجع إلى أصول شتى‪،‬‬
‫فإذا تراكمت هذه العوامل في خير أو ش ّر تغ ّلبت على تأثير األديان‬
‫والعقائد‪ ،‬وأصبحت فضائل أقوم األديان عاجزة بإزاء ش ّرها‪ ،‬كما‬
‫أصبحت معايب أسخفها غير مؤ ِ ّثرة في جانب خيرها‪.‬‬

‫تقدم اليابان السريع حتى ِ ّ‬


‫نبين أن اعتقاد‬ ‫ولسنا هنا في صدد أسباب ُّ‬
‫مقدس يركبه اإلله فالن) لم يقف حائ ً‬
‫ال‬ ‫َّ‬ ‫عامّتهم (وجود حصان‬
‫تقدمهم المبني على ما ر ِ ُّكب في فطرتهم من الحماسة‪ ،‬وما‬
‫دون ّ‬
‫أوتوا من الذكاء‪ ،‬وما أورثهم نظام اإلقطاع القديم من التنافس في‬
‫المجد والق ّوة‪.‬‬
‫وعندنا أمثلة كثيرة تكاد ال تحصى في هذا الباب اجتزأنا منها‬
‫بما ذكرناه‪ ،‬ولم نكن لنتع َّرض لهذا المقام لوال حمالت القسوس‬
‫ِّ‬
‫والمبشرين وكثير من األوروبيين على اإلسالم‪ ،‬وزعمهم أنه عنوان‬
‫وتحدثهم بذلك في األندية والمجامع‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫التأخر‪ ،‬وأنه رمز الجمود‪،‬‬
‫ُّ‬
‫ونشرهم هذه االفتراءات في المجلّات والجرائد‪ ،‬وقولهم إن‬
‫الشجرة ُتع َرف من ثمارها‪ ،‬وإن حالة العالم اإلسالمي الحاضرة هي‬
‫وتحجر القرآن‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫نتيجة جمود اإلسالم‪،‬‬
‫(((‬
‫ال َك ِذب ًا)‪.‬‬ ‫ت َكل َِم ًة َت ْخ ُر ُج مِ ْن أَفْ وَاهِ ِه ْم إِن ي َُقو ُل َ‬
‫ون ِإ َّ‬ ‫َ‬
‫(ك ُب َر ْ‬
‫‪ -1‬الكهف‪ :‬من اآلية ‪. ٥‬‬

‫‪109‬‬
‫وحسبك أن المسيو سان (المقيم اإلفرنسي السامي) في المغرب‬
‫ينشر في العدد األخير من «مجلة األحياء» اإلفرنسية مقالة يتك َّلم‬
‫فيها على يقظة المغرب بعد (ليل اإلسالم)! هكذا تعبيره‪.‬‬

‫تأخر إحدى الممالك اإلسالمية حقبة من الدهر يجب‬


‫فإن كان ُّ‬
‫أن يقال فيه (ليل اإلسالم) فكم كان ليل النصرانية طوي ً‬
‫ال عندما‬
‫بقيت أوروبا المسيحية زهاء ألف سنة وهي في حالة الهمجية‪ ،‬أو‬
‫ما يقرب من الهمجية!‬

‫إن إدخال األديان في هذا المعترك وجعلها هي وحدها معيار‬


‫والتردي ليس من النصفة في شيء‪ ،‬أما اإلسالم فال جدال‬
‫ّ‬ ‫الترقّ ي‬
‫في كونه هو سبب نهضة العرب وفتوحاتهم المدهشة مما أجمع‬
‫على االعتراف به المؤ ِ ّرخون شرق ًا وغرب ًا‪ ،‬ولكنه لم يكن سبب‬
‫انحطاطهم فيما بعد كما يزعم المفترون الذين ال غرض لهم سوى‬
‫نشر الثقافة األوروبية بين المسلمين دون ثقافة اإلسالم‪ ،‬وبسط‬
‫تردي المسلمين هو‬
‫سيادة أوروبا على بلدانهم‪ ،‬بل كان السبب في ّ‬
‫أنهم اكتفوا في آخر األمر من اإلسالم بمج َّرد االسم‪ ،‬والحال أن‬
‫اإلسالم اسم وفعل‪.‬‬

‫‪110‬‬
‫حثّ القرآن على العلم‬
‫باعث للمسلمين على سبق األمم في الرقي‬

‫والرقي واللحاق باألمم العزيزة‬


‫ّ‬ ‫العالم اإلسالمي يمكنه النهوض‬
‫الغالبة إذا أراد ذلك المسلمون ووطّ نوا أنفسهم عليه‪ ،‬وال يزيدهم‬
‫اإلسالم إال بصيرة فيه وعزم ًا‪ ،‬ولن يجدوا ألنفسهم حافز ًا على‬
‫ين ي َْع َل ُم َ‬
‫ون‬ ‫«ه ْل ي َْس َتوِ ي ِ‬
‫الذ َ‬ ‫العلم والفن خير ًا من القرآن الذي فيه‪َ :‬‬
‫(((‬
‫ين ال ي َْع َل ُم َ‬
‫ون»‪.‬‬ ‫و ِ‬
‫َالذ َ‬

‫(((‬
‫اد ُه ب َْس َط ًة فِي ا ْل ِعل ِْم»‪.‬‬
‫والذي فيه‪َ « :‬و َز َ‬

‫(((‬
‫ون فِي ا ْل ِعل ِْم»‪.‬‬
‫اس ُخ َ‬ ‫والذي فيه‪َ « :‬ومَا ي َْع َل ُم َتأ ِْوي َل ُه ِإ َّ‬
‫ال ال َّل ُه وَال َّر ِ‬

‫ال ُه َو وَال َْمالئ َِك ُة َو ُأ ْو ُلو ْا ا ْل ِعل ِْم قَائِم ًا‬


‫ال ِإ َل َه ِإ َّ‬
‫«ش ِه َد ال َّل ُه َأ َّن ُه َ‬
‫والذي فيه‪َ :‬‬

‫‪ -1‬الزمر‪.٩ :‬‬
‫‪ -2‬البقرة‪ :‬من اآلية ‪.٢٤٧‬‬
‫‪-3‬آل عمران‪ :‬من اآلية ‪.٧‬‬

‫‪111‬‬
‫(((‬
‫بِ ا ْلق ِْس ِط»‪.‬‬

‫(((‬
‫ور ا ّل ِذ َ‬
‫ين ُأو ُتوا ا ْل ِعل َْم»‪.‬‬ ‫ات فِي ُص ُد ِ‬ ‫والذي فيه‪« :‬ب َْل ُه َو آي ٌ‬
‫َات ب ِ َّي َن ٌ‬

‫ين ُأو ُتوا ا ْل ِعل َْم‬ ‫ين آ َم ُنوا مِ ُ‬


‫نك ْم وَا ّل ِذ َ‬ ‫والذي فيه‪َ « :‬ي ْرف َِع ال َّل ُه ا ّل ِذ َ‬
‫(((‬ ‫َج ٍ‬
‫ات»‪.‬‬ ‫َدر َ‬

‫(((‬
‫اب وَال ِْح ْك َمةَ»‪.‬‬
‫والذي فيه‪َ « :‬وي َُع ِ ّل ُم ُه ُم ال ِْك َت َ‬

‫ت ال ِْح ْك َم َة فَقَ ْد ُأوت َ‬


‫ِي‬ ‫والذي فيه‪ُ « :‬ي ْؤتِي ال ِْح ْك َم َة مَن يَشَ اء َومَن ُي ْؤ َ‬
‫(((‬
‫َخ ْير ًا َكثِير ًا»‪.‬‬

‫اب وَال ِْح ْك َم َة وَآ َت ْي َن ُ‬


‫اهم مُّ لْك ًا‬ ‫يم ال ِْك َت َ‬ ‫والذي فيه‪« :‬فَقَ ْد آ َت ْي َنا َ‬
‫آل ِإ ْب َراهِ َ‬
‫(((‬
‫َعظِ يم ًا»‪.‬‬

‫وغير ذلك من اآليات الكريمة‪ ،‬وفيه ما هو خاص باألمّة العربية‪:‬‬


‫ين ر َُسوال ِ ّم ْن ُه ْم َي ْت ُلو َع َل ْي ِه ْم آيَا ِت ِه َو ُي َز ِ ّك ِيه ْم‬
‫األ ِ ّم ِ ّي َ‬
‫ث فِي ُ‬‫«ه َو ا ّل ِذي ب ََع َ‬ ‫ُ‬
‫(((‬
‫ين»‪.‬‬ ‫الل مُّ بِ ٍ‬‫اب وَال ِْح ْك َم َة َوإِن َكانُوا مِ ن ق َْب ُل َلفِي َض ٍ‬ ‫َوي َُع ِ ّل ُم ُه ُم ال ِْك َت َ‬

‫وقد زعم بعضهم ‪ -‬ومن جملتهم (سيكار) هذا الذي في المغرب‬


‫‪ -1‬آل عمران‪ :‬من اآلية ‪.١٨‬‬
‫‪ -2‬العنكبوت‪ :‬من اآلية ‪.٤٩‬‬
‫‪ -3‬المجادلة‪ :‬من اآلية ‪.١١‬‬
‫‪ -4‬البقرة‪ :‬من اآلية ‪ ،١٢٩‬وآل عمران‪ :‬من اآلية ‪ ،١٦٤‬والجمعة‪ :‬من اآلية ‪.٢‬‬
‫‪ -5‬البقرة‪.٢٦٩ :‬‬
‫‪ -6‬النساء‪ :‬من اآلية ‪.٥٤‬‬
‫‪ -7‬الجمعة‪.2 :‬‬

‫‪112‬‬
‫قد َأ ّل َ‬
‫ف كتاب ًا في الطعن على اإلسالم‪ ،‬وهو الذي يكتب في مجلة‬
‫«مراكش الكاثوليكية»‪ -‬أن المراد بلفظة «العلم» في القرآن هو‬
‫العلم الديني‪ ،‬ولم يكن المقصود به العلم مطلق ًا لنستظهر به على‬
‫قضية تعظيم القرآن للعلم وإيجابه للتعليم‪.‬‬

‫يرد‬
‫وقد أتى (سيكار) من المغالطة في هذا الباب ما ال يستحقّ أن ّ‬
‫عليه؛ لما فيه من المكابرة في المحسوس‪ .‬وكل من تأمَّل مواقع‬
‫ّ‬
‫يحث على السير‬ ‫هذه اآليات المتع ِ ّلقة بالعلم وبالحكمة وغيرها مما‬
‫في األرض والنظر والتفكير يعلم أن المراد هنا بالعلم هو العلم على‬
‫إطالقه متناو ً‬
‫ال كل شيء‪ ،‬وأن المراد بالحكمة هي الحكمة العليا‬
‫المعروفة عند الناس‪ ،‬وهي غير اآليات المن َّزلة والكتاب كما ّ‬
‫يدل‬
‫عليه العطف‪ ،‬وهو يقتضي المغايرة‪ ،‬ويع ِ ّزز ذلك الحديث النبوي‬
‫(((‬
‫الشهير‪« :‬اطلبوا العلم ولو في الصين»‪.‬‬

‫فلو كان المراد بالعلم هو العلم الديني ‪ -‬كما زعم سيكار‪ -‬ما كان‬
‫ّ‬
‫يحث على طلبه ولو بالصين؛ إذ أهل‬ ‫النبي ص َّلى ال َّله عليه وس َّلم‬
‫الصين وثنيون؛ ال يجعلهم النبي مرجع ًا للعلم الديني كما ال يخفى‪.‬‬

‫وفي بعض اآليات من القرائن اللفظية والمعنوية ما يقتضي أن‬


‫المراد بالعلم علم الكون؛ ألنه في سياق آيات الخلق والتكوين‪،‬‬
‫كالصالة‬
‫َّ‬ ‫وهي في القرآن أضعاف اآليات في العبادات العملية‬
‫‪ -1‬تتمته‪« :‬فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم» رواه العقيلي وابن عدي والبيهقي وابن عبدالبر عن‬
‫يقوي بعضها بعضاً‪(.‬ر)‬
‫أنس‪ ،‬وفيه عند األخير زيادة أخرى في فضل العلم‪ ،‬وله طرق ّ‬

‫‪113‬‬
‫والصيام‪ ،‬كقوله تعالى‪َ ( :‬أ َل ْم َت َر َأ َّن ال ّل َه َأن َز َل مِ َن َّ‬
‫الس َماء مَاء َف َأ ْخ َر ْج َنا‬
‫َح ْم ٌر مُّ ْخ َتل ٌ‬
‫ِف‬ ‫يض و ُ‬ ‫ال ُج َد ٌد بِ ٌ‬ ‫ات مُّ ْخ َتلِف ًا َأ ْل َوان َُها وَمِ َن ال ِْج َب ِ‬ ‫بِ ِه ث ََم َر ٍ‬
‫ام مُ ْخ َتل ٌ‬
‫ِف‬ ‫َاب وَا َ‬
‫أل ْن َع ِ‬ ‫َالدو ِ ّ‬
‫ود * وَمِ َن ال َّناس و َّ‬ ‫يب ُس ٌ‬ ‫َأ ْل َوان َُها وَغَ َرابِ ُ‬
‫لماء)‪.‬‬‫ِك ِإن ََّما ي َْخشَ ى ال ّل َه مِ ْن عِ َب ِاد ِه ال ُْع َ‬ ‫َأ ْل َوا ُن ُه َك َذل َ‬
‫(((‬

‫أي العلماء بما ُذ كِ ر في اآلية من الماء والنبات والجبال وسائر‬


‫المواليد المختلفة األلوان وما فيها من أسرار الخلق‪ ،‬ال العلماء‬
‫بالصالة والصيام والقيام‪.‬‬
‫َّ‬

‫حب الحقيقة‪ ،‬فلما أنكر‬


‫ّ‬ ‫وقد كنا ظن ّنا هذا الرجل على شيء من‬
‫المدنية اإلسالمية رددنا عليه من «المنار»‪ ،‬وجادلناه بالتي هي‬
‫أحسن‪ ،‬وعظّ منا من قدر المدنية المسيحية‪ ،‬ووقَّرنا منها‪ ،‬ورددنا‬
‫على القائلين من األوروبيين إن النصرانية كانت وقف ًا لسير المدنية‪،‬‬
‫وسبب ًا لسقوط اليونان والرومان‪ ،‬إلى غير ذلك‪.‬‬

‫تتضمن من الطعن‬
‫ّ‬ ‫فكان من (سيكار) هذا أن نشر سلسلة مقاالت‬
‫ِ‬
‫نستغن عن إيراد شبه واعتراضات‬ ‫نرده لم‬
‫على اإلسالم ما لو جئنا ّ‬
‫تتعلق بالدين المسيحي مما نأبى أن نتعرض له؛ ألنه ليس من‬
‫العدل‪ ،‬وال من الكياسة‪ ،‬وال من حسن الذوق أن نغيظ إخواننا‬
‫المسيحيين من أجل رجل اسمه (سيكار) أو غيره من هذه الطبقة‬
‫ِّ‬
‫والمبشرين‪ ،‬هذا زائد ًا إلى ما رأيناه في كالمه من الخلط‬ ‫من الدعاة‬
‫‪ -1‬فاطر‪ :‬اآليتان ‪ 27‬و‪.28‬‬

‫‪114‬‬
‫والخبط والمغالطة من قبيل قوله إن العلم المقصود في القرآن ليس‬
‫هو العلم المعروف عند الناس بمفهومه المطلق‪ ،‬وإنما هو العلم‬
‫يهمه شيء من علوم الدنيا! فمكابر‬
‫الديني فقط؛ ألن القرآن ال ّ‬
‫كهذا ال يستحقّ الجواب‪.‬‬

‫ثم علمنا أن المسيو سيكار هذا هو من مستخدمي فرنسا في الرباط‬


‫بإدارة األمور اإلسالمية‪ ،‬وأنه هو والمسيو لويس برينو مدير التعليم‬
‫اإلسالمي هناك‪ ،‬والقومندان ماركو مدير قلم المراقبة على الجرائد‬
‫والمطبوعات‪ ،‬والقومندان مارتي مستشار العدلية اإلسالمية‪،‬‬
‫باإلضافة إلى رهط هم الذين لعبوا الدور األهم في قضية العمل‬
‫لتنصير البربر‪.‬‬

‫مهمات كلها عائدة لإلسالم إال‬


‫ّ‬ ‫وما كان استخدام فرنسا لهم في‬
‫نية نقض كل ما يقدرون عليه من بناء اإلسالم بالمغرب‪،‬‬ ‫على ّ‬
‫وستذوق فرنسا ‪-‬ولو بعد حين‪ -‬وبال ما عملته وتعمله من التع ُّرض‬
‫تعهدت في معاهداتها باحترامه‪.‬‬
‫للدين اإلسالمي الذي َّ‬

‫إنا ال نريد لفرنسا إال خير ًا‪ ،‬ولكننا ننصح لها بالعدول عن هذه‬
‫ضد المبادئ التي تعلنها عن‬ ‫السياسة التي هي على ّ‬
‫خط مستقيم ّ‬
‫نفسها من أن األديان في نظرها على َح ّد سواء فإن كانت األديان‬
‫عند الدولة اإلفرنسية على َح ّد سواء؛ فلماذا هذا االجتهاد في‬
‫تنصير البربر وهم مسلمون؟! ولماذا هذه المساعي الحثيثة في‬

‫‪115‬‬
‫تنصير العلويين ّ‬
‫سكان جبال الالذقية‪ ،‬وفي فصلهم عن الوحدة‬
‫السورية‪ ،‬والحال أن العلويين هم فرقة من الفرق اإلسالمية كما‬
‫ال يخفى؟! وكذلك ننصح اإلنجليز بالعدول عن دعايتهم الدينية‬
‫في السودان وأوغاندا‪ ،‬وننصح لهوالندا بترك دعايتها الدينية بين‬
‫مسلمي إندونيسيا‪.‬‬

‫كلمة لط ّلاب النهضة القومية دون الدينية‬

‫يقول بعض الناس (((ما لنا وللرجوع إلى القرآن في ابتعاث همم‬
‫المسلمين إلى التعليم‪ ،‬فإن النهضة ال ينبغي أن تكون دينية‪ ،‬بل‬
‫وطنية قومية كما هي نهضة أهل أوروبا؟! ونجيبهم أن المقصود هو‬
‫على شرط أن تتوطّ ن بها‬ ‫(((‬
‫النهضة؛ سواء أ كانت وطنية أم دينية‬
‫الخب في حلبة العلم‪ ،‬ولكننا نخشى ‪-‬إن ج َّردناها من‬
‫ّ‬ ‫النفوس على‬
‫دعوة القرآن‪ -‬أن تفضي بنا إلى اإللحاد واإلباحة وعبادة األبدان‬
‫فالبد لنا من تربية علمية‬
‫َّ‬ ‫وا ِ ّتباع الشهوات‪ ،‬مما ضرره يفوت نفعه‪،‬‬
‫سائرة جنب ًا إلى جنب مع تربية دينية‪ ،‬وهل يظن الناس عندنا في‬
‫الشرق أن نهضة من نهضات أوروبا جرت دون تربية دينية؟! وهل‬
‫جرت نهضة اليابان دون تربية دينية؟!‬

‫أفلم يقل رئيس نظّ ار ألمانيا في الرايستاغ منذ ثالث سنوات إن‬

‫‪ -1‬أي من مالحدة المسلمين الجاهلين أو المتجاهلين لحال أوروبا في عصبيتها الدينية‪( .‬ر)‬
‫‪ -2‬ولكن المسؤول عنه هو نهضة المسلمين من حيث هم مسلمون‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫مبنية على الدين المسيحي؟ وهذا هو إعالن ألمانيا التي‬
‫ّ‬ ‫ثقافتنا‬
‫هي المثل األعلى في العلم والصناعة وإتقان اآلالت واألدوات‪ ،‬ال‬
‫ينازع في ذلك أحد‪ ،‬وال أعداؤها‪.‬‬

‫أفتوجد جامعة في ألمانيا أو إنجلترا أو غيرهما من هذه الممالك‬


‫(((‬
‫الراقية من دون أن يكون فيها علم الالهوت المسيحي؟!‬

‫ثم إنهم عندما يقولون‪ :‬في أوروبا (نهضة وطنية) أو (نهضة قومية)‬
‫أو جامعة وطنية أو قومية‪ ،‬ال يكون مرادهم بالوطن التراب والماء‬
‫والشجر والحجر‪ ،‬وال بالقوم الساللة التي تنحدر كلها من دم واحد‪،‬‬
‫وإنما الوطن والقوم عندهم لفظتان تد ّلان على وطن وأمّة بما فيهما‬
‫من جغرافيا وتاريخ وثقافة وحرث وعقيدة ودين وخلق وعادة‪،‬‬
‫مجموع ًا ذلك مع ًا وهذا الذي يناضلون عنه‪ ،‬ويستبسلون كل هذا‬
‫االستبسال من أجله‪.‬‬

‫‪ -1‬وهذا بعد التربية المنزلية الدينية المحضة‪ ،‬والتربية المدرسية االبتدائية‪ ،‬وجلّها دينية‪(.‬ر)‬

‫‪117‬‬
‫أسباب احنطاط املسلمني يف العصر األخري‬

‫من أعظم أسباب انحطاط المسلمين في العصر األخير فقدهم كل ثقة‬


‫أشد األمراض االجتماعية‪ ،‬وأخبث اآلفات الروحية‪،‬‬
‫بأنفسهم؛ وهو من ّ‬
‫ال يتس َّلط هذا الداء على إنسان إال أودى به‪ ،‬وال على أمّة إال ساقها‬
‫ٌ‬
‫عليل يعتقد ‪-‬بحقّ أو بباطل‪ -‬أن ع ّلته‬ ‫إلى الفناء‪ .‬وكيف يرجو الشفاء‬
‫قاتلته؟! وقد أجمع األطباء في األمراض البدنية أن الق ّوة المعنوية هي‬
‫رأس األدوية‪ ،‬وأن أعظم عوامل الشفاء إرادة الشفاء‪ ،‬فكيف يصلح‬
‫المجتمع اإلسالمي ومعظم أهله يعتقدون أنهم ال يصلحون لشيء‪ ،‬وال‬
‫يمكن أن يصلح على أيديهم شيء‪ ،‬وأنهم‪ ،‬إن اجتهدوا أو قعدوا‪ ،‬ال‬
‫يقدرون أن يضارعوا األوروبيين في شيء؟!‬

‫وكيف يمكنهم أن يناهضوا األوروبيين في معترك وهم موقنون أن‬

‫‪118‬‬
‫الطائلة األخيرة ستكون لألوروبيين ال محالة؟! فصار مثلهم مع هؤالء‬
‫علي‪ -‬رضي الله عنه‬
‫ّ‬ ‫سيدنا‬
‫مثل أولئك األقران الذين كان يبطش بهم ّ‬
‫حدثوا أنه ُسمِ عت له في «صفين» أربع مئة تكبيرة‪،‬‬
‫‪ -‬في وقائعه؛ فقد َّ‬
‫يكبر ك ّلما صرع قرن ًا‪ ،‬فقيل له في‬
‫وكان من عادته ‪-‬ك َّرم الله وجهه‪ -‬أنه ِ ّ‬
‫ذلك‪ ،‬فأجاب‪ :‬كنت إذا حملت على الفارس ظننت أني قاتله؛ فكنت‬
‫أنا ونفسه عليه‪.‬‬

‫وهكذا أصبح المسلمون في األعصر األخيرة يعتقدون أنه ما من صراع‬


‫بين المسلم واألوروبي إال سينتهي بمصرع المسلم ولو طال كفاحه‪،‬‬
‫سيما هذه الطبقة‬
‫وتخمر في رؤوسهم‪ ،‬ال َّ‬ ‫َّ‬ ‫و َق َّر ذلك في نفوسهم‪،‬‬
‫ِّ‬
‫المفكرة العاقلة المولعة بالحقائق الصادفة عن‬ ‫التي تزعم أنها الطبقة‬
‫الخياالت‪ -‬بزعمها‪ -‬فإنها صارت تق ِ ّرر هذه القاعدة المشؤومة في كل‬
‫وس َعة‬ ‫ٍ‬
‫ناد‪ ،‬وتجعل التشاؤم المستم ّر والنعاب الدائم من دالئل العقل ِ‬
‫اإلدراك‪ ،‬وتحسب اليأس من صالح حال المسلمين من مقتضيات‬
‫ّ‬
‫وتبث في سواد األمّة‬ ‫العلم والحكمة ومازالت تنفخ في بوق التثبيط‪،‬‬
‫دعاية العجز‪ ،‬إلى أن صار االستخذاء ديدن الجميع إال من رحم ربك‪،‬‬
‫وكانت روحه من أصل فطرتها قوية عزيزة‪.‬‬

‫متردية‬
‫ّ‬ ‫ولم تقتصر هذه الفئة على القول إن حالة المسلمين الحاضرة هي‬
‫متد ّنية ال ُتقاس بحالة اإلفرنج في قليل وال كثير‪ ،‬بل زعمت أن التعب‬
‫في مجاراة المسلمين لإلفرنج في علم أو صناعة أو كسب أو تجارة‬
‫أو زراعة أو حرب أو سلم أو أي منحى من مناحي العمران هو ضرب‬

‫‪119‬‬
‫من المحال‪ ،‬وشغل بالعبث ال يليق بالعاقل إتيانه‪ ،‬وكأن المسلمين‬
‫من طينة‪ ،‬واإلفرنج من طينة أخرى‪ ،‬فعل ُّو اإلفرنج على المسلمين أمر‬
‫َّ‬
‫وجف به القلم‪ ،‬ولم يبقَ‬ ‫البد منه؛ وكأنه ُكتِب في اللوح المحفوظ‪،‬‬
‫ّ‬
‫أمام المسلمين إال أن يعلموا كونهم طبقة منحطّ ة عن طبقة اإلفرنجة‪،‬‬
‫ويعملوا بمقتضى هذه العقيدة‪.‬‬

‫وكثير ًا ما وقعت لي مجادالت مع هؤالء المفلسفين بالفارغ صغار‬


‫النفوس‪ ،‬ولم يكن يدخل في عقولهم المنطق‪ ،‬وال يعظهم التاريخ‪ ،‬وال‬
‫ينفع في إقناعهم علم الطبيعة وال التشريح‪ ،‬وال يحيك بهم استنتاج وال‬
‫ّ‬
‫الذل‪ ،‬ومرض االستخذاء‪ ،‬وقد‬ ‫قياس؛ وذلك لما غلب عليهم من آفة‬
‫أحس األوروبيون بما عند المسلمين من هذه الحالة الروحية الموافقة‬ ‫ّ‬
‫لمصالحهم االستعمارية‪ ،‬فصاروا ير ِ ّوجونها فيهم‪ ،‬ويق ّوون عندهم هذه‬
‫العقيدة‪ ،‬فانطبق على هؤالء الناعقين بالبين اآلية الشريفة‪« :‬فِي ُق ُلوبِ ِهم‬
‫(((‬
‫اد ُه ُم ال َّل ُه َم َرض ًا»‪.‬‬ ‫م َر ٌ‬
‫ض َف َز َ‬

‫ولم يكن اإلفرنجة وسعاتهم ودعاتهم بملومين على ترويج هذه‬


‫ِّ‬
‫ويمهد‬ ‫النظريات التاعسة بين المسلمين؛ ألنها مما ِ ّ‬
‫يسهل االستعمار‬
‫ِّ‬
‫ويوفر عليهم المزاحمات‬ ‫طرقه ويكفيهم المقاتالت والمنازالت‪،‬‬
‫والسابقات‪ ،‬ويجعل لهم التف ُّوق بال نزاع والتس ُّلط دون جدال‪ ،‬ولكن‬
‫العجب كل العجب من هؤالء المسلمين الذين أمرهم الله لي َّتصفوا‬
‫بالعزة وي َّتسموا باألنفة‪ ،‬ويستوفوا تمام الرجولة كيف كانوا ينقادون‬
‫‪ -1‬البقرة‪ :‬من اآلية ‪.١٠‬‬

‫‪120‬‬
‫لهذه األضاليل التي مآلها عبوديتهم لألجانب‪ ،‬لقد صدق فيهم كالم‬
‫(((‬
‫ين»‪.‬‬ ‫ون َل ُه ْم وَال َّل ُه َعل ٌ‬
‫ِيم بِ الظالِمِ َ‬ ‫اع َ‬ ‫الله تعالى‪َ « :‬وف ُ‬
‫ِيك ْم َس َّم ُ‬

‫وأكثر ما كانوا ِ ّ‬
‫يؤكدونه للناس من عدم قابلية المسلمين هو استحالة‬
‫المادية وكل ما يتع َّلق به‬
‫ّ‬ ‫قيامهم بالمشروعات العمرانية واألعمال‬
‫حساب ورقم أو مساحة وقياس‪ ،‬فإذا قلت لهم‪ :‬إن كان المسلمون ال‬
‫يحسنون هذه العلوم كما تزعمون‪ ،‬فكيف استطاعوا أن يؤثروا هذه‬
‫اآلثار الباهرة التي يؤمّها السياح من أقاصي الدنيا؟ وكيف مألوا‬
‫مصر والشام والعراق والمغرب وإيران والهند والقسطنطينية وغيرها‬
‫وتحير األفكار‪ ،‬وكانت لهم معامل‬‫ِّ‬ ‫ومؤسسات تبهر األبصار‬‫َّ‬ ‫مباني‬
‫ومناسج ودور صناعات متن ِ ّوعة وغير ذلك مما ي َُع ّد في الصناعة من‬
‫الرقي‬
‫ّ‬ ‫الطراز األول؟ أجابوك‪ :‬قد كان هذا قبل أن يرقى اإلفرنج هذا‬
‫الحديث‪ ،‬وقبل أن يكشفوا أسرار الكون التي كشفوها‪ ..‬وغير ذلك مما‬
‫ليس بجواب عن هذا الخطاب والموضوع‪ ،‬هو في ٍ‬
‫واد‪ ،‬وهذا في واد‪.‬‬

‫فنحن نريد أن نقول‪ :‬إن كل من سار على الدرب وصل‪ ،‬وإن المسلمين‬
‫إذا تع َّلموا العلوم العصرية استطاعوا أن يعملوا األعمال العمرانية التي‬
‫يقوم بها اإلفرنج‪ ،‬وإنه ليس هناك فرق في القابلية البشرية‪ ،‬ولكن‬
‫على شرط أن ينفض المسلمون عن أنفسهم غبار الخمول‪ ،‬ويلغوا هذه‬
‫القاعدة التي قد كانت من أسباب شقائهم زمن ًا طوي ً‬
‫ال؛ وهي أن كل‬
‫البد من أن يستعار له شركة أوروبية لتقوم به‪،‬‬
‫َّ‬ ‫عمل عمراني في الشرق‬
‫‪ -1‬التوبة‪ :‬من اآلية ‪.٤٧‬‬

‫‪121‬‬
‫وإال فال يستطاع عمله‪ ،‬ولقد أتت التجارب بعد ذلك بما يثبت فساد‬
‫َّ‬
‫وتمكن المسلمون‪ ،‬في كثير من البالد‪ ،‬من إنشاء‬ ‫هذه النظرية بتمامها‪،‬‬
‫شركات صناعية وتجارية وتأسيس معامل ومناسج ودور صناعة نجحت‬
‫وصيرها موضوع ًا للهزء‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ب مزاعم تلك الفئة المثبطة‪،‬‬ ‫نجاح ًا باهر ًا َّ‬
‫كذ َ‬

‫ولما عزم السلطان عبدالحميد الثاني العثماني على م َّد ّ‬


‫سكة حديدية‬ ‫ّ‬
‫من دمشق إلى الحرمين الشريفين قوبل هذا المشروع أوانئذ بمزيد‬
‫االستغراب تبع ًا للعادة‪ ،‬ومن الناس من ضحكوا به وقالوا‪ :‬نحن نرى‬
‫أنفسنا عاجزين عن إنشاء طريق عجالت‪ ،‬فكيف نستطيع أن ننشئ‬
‫ّ‬
‫سكة حديدية طولها يزيد عن ألفي كيلومتر؟ وأنَّى لنا المال والعلم‬
‫الالزمان لمشروع عظيم كهذا؟! وأغرب من تشاؤم المسلمين وشعورهم‬
‫بالعجز عن القيام بهذا العمل أن المهندس األلماني الكبير مايستر باشا‬
‫الذي انتدبه السلطان لرئاسة مهندسي هذا الخط هو نفسه كان ال يعتقد‬
‫إمكان إنشاء هذا الخط‪ ،‬وكان هذا الرجل صديقي‪ ،‬فسألته مرة عن رأيه‬
‫فيه‪ ،‬فقال لي إنه يرجو إيصاله إلى معان‪ ،‬وهي مسافة أربع مئة كيلومتر‬
‫من دمشق‪ ،‬فأما م َّده من معان إلى المدينة فيكاد يكون من المستحيل‪.‬‬
‫فسألته‪ :‬هل ذلك من عدم وجود المال؟ قال‪ :‬على َف َرض و ُِجد المال‪،‬‬
‫َّ‬
‫يتعذر التغ ُّلب عليها‪ ،‬فإن السكة‬ ‫فإنه دون إنشاء الخط موانع طبيعية‬
‫يلزم لها ماء في كل محطّ ة‪ ،‬والماء ال يوجد إال في محطّ ات معدودة‪،‬‬
‫وإن أنشأنا صهاريج ُتم َلأ بماء المطر لم يؤمن أن الحرارة في الصيف‬
‫ّ‬
‫الخط‬ ‫بشدتها‪ ،‬مياه الصهاريج‪ ،‬وهناك صعوبة أخرى وهي أن‬
‫ّ‬ ‫ِّ‬
‫تنشف‪،‬‬

‫‪122‬‬
‫السافياب فتأتي برمال‬
‫َ‬ ‫تهب الرياح‬
‫ّ‬ ‫سيمتد في أمكنة ك ّلها رمال‪ ،‬وقد‬
‫ّ‬
‫الحلفاء والقصب والطرفاء‪،‬‬ ‫ّ‬
‫الخط‪ ،‬وال يمكن منع ذلك إال بزرع َ‬ ‫تغطّ ي‬
‫وكل هذا يلزمه ماء حتى ينمو؛ وأين الماء من تلك األراضي؟! هذا كان‬
‫كالم المهندس الكبير لي من جهة الطبيعة‪ ،‬ثم ذكر الخطر الواقع على‬
‫ّ‬
‫الخط من أعراب البادية‪.‬‬

‫فأمّا أنا فكنت معتقد ًا خالف اعتقاد اآلخرين قائ ً‬


‫ال إنه ليس ثمة‬
‫ِّ‬
‫ينددون بالمتشائمين‬ ‫صعوبات ال يستطاع تذليلها‪ ،‬وكنت من الذين‬
‫ّ‬
‫أحث بها األمّة على‬ ‫ِّ‬
‫والمتهكمين‪ ،‬ونظمت في هذا المشروع قصيدة‬
‫التب ُّرع ألجله‪ ،‬وتب َّرعت أنا من جيبي بخمسة عشر جنيه ًا‪ ،‬وذكرت ما‬
‫سيكون لهذا الخط من الفوائد العمرانية واالقتصادية والعسكرية‪،‬‬
‫الحج الذي هو هدفه األسمى‪ ،‬وكان مطلع قصيدتي‪:‬‬
‫ّ‬ ‫فض ً‬
‫ال عن تسهيل‬

‫اوي المثوبة م ِ‬
‫َاجد؟‬ ‫ِلفِعل َس َم ّ‬ ‫أال يَا بَني اإلسالم َه ْل مِ ْن مُ َساعِ د‬

‫فلما طبعت القصيدة ونشرتها سلقني الكثيرون من أولئك الغربان‬


‫بألسنة ِح ٍ‬
‫داد؛ وكأني كفرت في تنويهي بمشروع يربط الشام بالحجاز‬
‫ويختصر المسافة بينهما على الحجاج من ‪ 40‬يوم ًا إلى أربعة أيام‬
‫وهزِ ئوا ما شاءوا‪ ،‬وتمنطقوا بقدر ما أرادوا‪ ،‬ولكن كل تلك الفلسفة لم‬
‫ُت ْج ِدهم فتي ً‬
‫ال وأنجز الخط الحديدي من دمشق إلى المدينة المنورة؛‬
‫وهي مسافة ألف وأربع مئة كيلو متر‪ ،‬ولوال خلع السلطان عبدالحميد‬
‫الهمة بإكماله‪،‬‬
‫ّ‬ ‫لكان قد َت َّم إلى البلد الحرام‪ ،‬ولكن‪ ،‬من بعده فترت‬

‫‪123‬‬
‫وجاءت الحرب وعواقبها فقضت بإهماله‪.‬‬

‫ُ‬
‫صادفت‬ ‫ّ‬
‫الخط جاء من أبدع الخطوط الحديدية في العالم‪،‬‬ ‫ثم إن هذا‬
‫ممن‬
‫م ّرة فيه أحد كبراء مسلمين الهند من أعضاء مجلسها األعلى‪ ،‬وهو ّ‬
‫تثقّ فوا إنجليزية محضة‪ ،‬وتخ َّرج في جامعة أ كسفورد‪ ،‬فقال لي‪ :‬ال‬
‫يوجد في إنجلترا نفسها ّ‬
‫سكة حديدية تضاهي في اإلتقان هذه السكة‪،‬‬
‫ِّ‬
‫يصدق كثير‬ ‫صدقت بوجودها‪ .‬وبالفعل لم‬
‫ولو لم أشاهدها بعيوني لما ّ‬
‫من المسلمين أخبارها فأرسلوا وفود ًا يشاهدونها بأعينهم‪ ،‬فكان المسافر‬
‫يصل من دمشق إلى المدينة في ليلتين‪ ،‬وكانت دمشق تستفيد كل سنة‬
‫ّ‬
‫الخط ما يقارب ‪ 200‬ألف جنيه‪ ،‬وعمرت القرى التي َم ّر بها‬ ‫من هذا‬
‫الخط‪ ،‬وارتفعت أثمان األراضي ارتفاع ًا مدهش ًا‪ ،‬وتضاعف عمران‬
‫عما ِ‬
‫توفّ ر من المشاق واألخطار على‬ ‫المدينة المنورة أضعاف ًا‪ ،‬هذا فض ً‬
‫ال ّ‬
‫والتجار والمسافرين‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الحجاج والزائرين‪،‬‬
‫ّ‬

‫يصح منها شيء‪،‬‬


‫ّ‬ ‫وأمّا الصعوبات الطبيعية التي كانوا ِ ّ‬
‫يقدرونها فلم‬
‫وأمّا األعراب فلم يقع منهم على الخط أدنى اعتداء‪ ،‬وكان عند كل‬
‫ّ‬
‫محاط الخط قلعة فيها جند للمحافظة‪ ،‬وكل تلك المحطّ ات‬ ‫محطّ ة من‬
‫ولما كان ال يتاح لغير المسلمين دخول‬
‫مبنية أمتن بناء‪ّ ،‬‬
‫والقالع كانت ّ‬
‫أرض الحجاز فكان إنشاء الخط؛ أي القسم الداخل منه في الحجاز‪،‬‬
‫كله على أيدي مهندسين مسلمين‪ ،‬حتى إن مايستر باشا األلماني نفسه‬
‫لم يتجاوز في إشرافه بلدة تبوك‪.‬‬

‫‪124‬‬
‫ولما ذهبت إلى المدينة المنورة زائر ًا للنبي ص َّلى ال َّله عليه وس َّلم‪ ،‬وذلك‬
‫ّ‬
‫الخط الحديدي من المدينة‬ ‫سنة ‪1330‬هـ‪ ،‬كنت أسمع أن عدم م َّد‬
‫إلى مكة نشأ عن اعتراض قبائل العرب من حرب وغيرها‪ ،‬وأنهم ال‬
‫ّ‬
‫الخط في أراضيهم‪ ،‬ففحصت هذه القضية فوجدت‬ ‫يسمحون بمرور‬
‫أ كثرها هرا ًء وافتراءً‪ ،‬وسألت شيوخ القبائل عما يقال من معارضتهم في‬
‫ّ‬
‫السكة‪ ،‬فقالوا‪ :‬لو كنا معارضين إلنشائها لعارضنا ذلك من أوّل‬ ‫إنشاء‬
‫دخولها في أرض الحجاز‪ ،‬والحال أننا كنا مساعدين للحكومة على‬
‫هذا المشروع بكل قوانا‪ ،‬فسألتهم التوقيع على عريضة للدولة يطلبون‬
‫جم من أولئك‬ ‫ّ‬
‫الخط من المدينة إلى مكة فوقَّع عليها ّ‬ ‫فيها تمديد هذا‬
‫المهمة‪ ،‬وإنما قمت بها‬
‫ّ‬ ‫إلي بهذه‬
‫المشايخ‪ ،‬ولم تكن الدولة عهدت َّ‬
‫خدمة للوطن وللم ّلة‪.‬‬

‫بمد الخط‬
‫ّ‬ ‫ولوال طروء الحرب العامة بعد ذلك بقليل لكان بوشر‬
‫الحديدي من المدينة إلى مكة‪ ،‬فلما انتهت الحرب العامة‪ ،‬واحت ّلت‬
‫توجهت إليه همم اإلنجليز‬
‫إنجلترا فلسطين‪ ،‬وفرنسا سورية كان أوّل ما َّ‬
‫ّ‬
‫الخط الحديدي الذي يربط القطر الشامي‬ ‫والفرنسيس هو تعطيل هذا‬
‫بجزيرة العرب‪ ،‬ويق ِ ّرب صالت المسلمين بعضهم ببعض‪.‬‬

‫ّ‬
‫الخط الحيوي‬ ‫احتج المسلمون على تعطيل هاتين الدولتين لهذا‬
‫ّ‬ ‫وكم‬
‫للشام والحجاز! وكم أبدوا وأعادوا في أن هذه السكة الحديدية‬
‫الحجازية كانت تركيا قد جعلتها من جملة أوقاف المسلمين‪ ،‬فال يحقّ‬
‫لدولة أجنبية أن تبعث بأوقافهم! فلم يكن ذلك ليقنع تينك الدولتين‬

‫‪125‬‬
‫باالعتدال ورفع االعتداء‪ ،‬وال تزال هذه المؤامرة الفظيعة على هذا‬
‫المقدس من حقوق المسلمين نافذة إلى يوم الناس هذا‪ ،‬فإذا‬
‫ّ‬ ‫الحقّ‬
‫قام شخص مثلنا ِ ّ‬
‫يذكرهم بهذا االعتداء القبيح ضاقت صدورهم به‪،‬‬
‫ودس عليه اإلنجليز في الس ّر‪ ،‬وطعن عليه الفرنسيس في الجهر‪ ،‬ونعتوه‬
‫َّ‬
‫بـ«عد ّو فرنسا» وما أشبه ذلك‪.‬‬

‫والحال أننا إنما نريد صالح أحوال بالدنا‪ ،‬وال نضمر ألحد سوء ًا‪،‬‬
‫سكة الحجاز من تشاؤم‬‫والشاهد الذي نقصده هنا هو ما سبق إنشاء ّ‬
‫كثير من المسلمين‪ ،‬واستهزائهم واستنكارهم وتأ كيدهم أنه ّ‬
‫خط محال‬
‫إنشاؤه‪ ،‬ومشروع يكون من ق ّلة العقل تعليق األمل به‪ ،‬وهذا مثال من‬
‫أمثلة كثيرة ال يمكن استقصاؤها من كثرتها؛ فق َّلما تدخل بلد ًا من بلدان‬
‫اإلسالم‪ ،‬وال يوردون لك من هذه األمثال‪.‬‬

‫ظن المسلمون أنهم ال يحسنون شيئ ًا من المشروعات العمرانية‪،‬‬


‫وكما ّ‬
‫البد لهم من األوروبي حتى يدخلوا اإلصالح في بالدهم‪ ،‬وأنه‬
‫ّ‬ ‫وأنه‬
‫من دون اإلفرنجي ال يقدرون على أية عمارة وال مرفق ذي بال‪،‬‬
‫الح ّظ لهم في األعمال االقتصادية أص ً‬
‫ال‪ ،‬وأن‬ ‫كذلك ذهبوا إلى أنه َ‬
‫كل مشروع اقتصادي إسالمي صائر إلى الحبوط إن لم تكن له أركان‬
‫إفرنجية‪ ،‬وقد طال نومهم على هذه العقيدة الفاسدة حتى لم يبق في‬
‫بالدهم شيء اسمه اقتصاد إال كانت إدارته بأيدي اإلفرنج أو اليهود‪،‬‬
‫داع إلى تأليف شركة تجارية أو صناعية أو زراعية‬
‫وحتى لو دعا منهم ٍ‬
‫لم يدخلها صاحب رأس مال من المسلمين إال إذا كانت إدارتها بيد‬

‫‪126‬‬
‫إفرنجي أو يهودي‪ ،‬وكلمة الجميع عندهم‪ :‬نحن ال يخرج من أيدينا‬
‫عمل‪ ،‬وال نصلح لشيء‪.‬‬

‫وقد بقي اليهود واإلفرنجة يتم ّتعون بخيرات بالد اإلسالم قرون ًا وحقب ًا‬
‫طوا ً‬
‫ال دون مزاحم وال مراغِ م‪ ،‬ويستد ّرون فيها أخالف كل صنعة‪،‬‬
‫قدر ما ضاع‬
‫ويس َت ْورون زناد كل مرفق إال ما ليس له بال حتى‪ ،‬ولو ّ‬
‫على المسلمين في ظل هذا الوهم بالمليارات وعشرات المليارات ما‬
‫كانت فيه مبالغة‪ ،‬وكأن المسلمن لم يوجدوا في الدنيا إال َع َمل ًة أو َأ َكرة‬
‫يشتغلون بأيديهم‪ ،‬وال يشتغلون بعقولهم‪.‬‬

‫وبهذا السبب خال الميدان في بالد اإلسالم ألصناف األجانب‬


‫يُركِ ضون فيه جياد قرائحهم وعزائمهم‪ ،‬ويجمعون الثروات التي ليس‬
‫وراءها متط ِ ّلع إلى مزيد‪ ،‬وذلك على ظهور المسلمين ومن أ كياسهم‪،‬‬
‫التحدث بما يصيب األجانب من هذه المكاسب الطائلة التي‬
‫ُّ‬ ‫وقد يكثر‬
‫همة‪ ،‬وال‬ ‫ِّ‬
‫تحفزهم ّ‬ ‫كان أهل اإلسالم أولى بها؛ ألنها من بالدهم وال‬
‫الخب في الحلبات االقتصادية إلى أن نبغ في‬
‫ّ‬ ‫تأخذهم غيرة فيجربون‬
‫محمد طلعت باشا حرب‪ ،‬فكان في هذا الباب أمَّة وحده‪ ،‬وأدرك‬
‫َّ‬ ‫مصر‬
‫بواسع عقله وثاقب فكره أن ليس في هذا الموضوع شيء يفوق طاقة‬
‫ّ‬
‫يتعذر وجود أدواته عندهم‪ ،‬وأن قصورهم فيه عن‬ ‫المسلمين‪ ،‬وال مما‬
‫التوهم القديم الذي هو أنهم‬
‫ُّ‬ ‫مباراة األجانب لم يكن إال من آثار ذلك‬
‫ال يحسنون الجري في أي ميدان من ميادين االقتصاد‪ ،‬وقد وجدت‬
‫همة بعيدة‬
‫عند هذا الرجل في جانب رجاحة العقل وسداد الحكم ّ‬

‫‪127‬‬
‫قعساء‪ ،‬ونزعة وطنية صافية من األقذاء‪ ،‬سالمة من األهواء‪ ،‬فاجتمعت‬
‫فيه جميع الشروط الالزمة لمن شاء أن يبدأ بالشرق بنهضة اقتصادية‬
‫تزاحم بالمناكب َوثْبات األجانب‪ ،‬ومما يندر في الرجال الجمع بين‬
‫الحساب الدقيق والخيال الواسع‪ ،‬وهما قد انتظما جنب ًا إلى جنب في‬
‫دماغ طلعت باشا حرب‪ ،‬فكانت سعة خياله مساعدة له على اإلقدام‬
‫نحو المشروعات التي هي مظان األرباح‪ ،‬وكانت دقّ ة حسابه مساعدة‬
‫له على نجاحها وضمان أرباحها‪ ،‬وباالختصار اقتحم طلعت حرب‬
‫معركة هي األولى من نوعها في المجتمع الشرقي‪.‬‬

‫حدده إلنشاء بنك مصر وهو‬


‫وعندما باشر جمع رأس المال الذي كان َّ‬
‫ت جبا ً‬
‫ال؛ وذلك لما ران على‬ ‫ونح َ‬ ‫‪ 80‬ألف جنيه عانى في ذلك أهوا ً‬
‫ال‪َ ،‬‬
‫عقول المسلمين من أنهم ال يقدرون على االستقالل بعمل اقتصادي‪،‬‬
‫أم‬ ‫ٌ‬
‫هابط على ّ‬ ‫ٌ‬
‫حابط من نفسه‪،‬‬ ‫وأن كل عمل منهم في هذا السبيل‬
‫رأسه‪ ،‬فلما أخذ طلعت باشا حرب يتقاضى أغنياء مصر المشاطرة في‬
‫لبوا نداءه؛ حيا ًء منه‪ ،‬ال اعتقاد ًا بأنه سيأتي بثمرة‪ ،‬وبقيت‬
‫هذا المشروع ّ‬
‫ثقتهم بأجمعها في بنوك األجانب‪ ،‬ومازال مُ َع َّو ُلهم عليها إلى أن شاهدوا‬
‫بأعينهم النجاح الذي كاد يكون معجزة في نظرهم‪ ،‬وارتفع رأس مال‬
‫بنك مصر من ‪ 80‬ألف جنيه إلى مليون جنيه‪ ،‬واحتوت خزائنه من‬
‫عدة ماليين من الجنيهات‪ ،‬واشتمل على أمالك وملفّ ات‬
‫الودائع على ّ‬
‫ِّ‬
‫متعددة متن ِ ّوعة ُتقَ َّدر بماليين أخرى من الجنيهات؛ بحيث‬ ‫وشركات‬
‫زادت األموال التي تحت تص ُّرف البنك على عشرين مليون جنيه‪ ،‬وكل‬

‫‪128‬‬
‫هذا في ثماني عشرة سنة أنشأ فيها طلعت باشا حرب ومدحت باشا‬
‫يكن ورفاقهما على حساب بنك مصر «شركة مصر للغزل والنسج»‬
‫التي معملها في المح ّلة هو من أ كمل وأعظم معامل الغزل والنسيج‬
‫ويسد من‬
‫ّ‬ ‫في العالم يعمل فيه ‪ 18‬ألف عامل يندر فيهم غير المصري‪،‬‬
‫المنسوجات القطنية ثلث حاجة القطر المصري بأجمعه‪ ،‬فيكون قد َوفَّر‬
‫على المملكة المصرية ثالثة ماليين جنيه سنو ّي ًا‪ ،‬كانت من قبل تخرج‬
‫من جيوب المصريين لتدخل في جيوب األوروبيين‪.‬‬

‫وهناك من توابع بنك مصر «شركة مصر لنسج الحرير»‪ ،‬و«شركة‬


‫مصر للتمثيل والسينما»‪ ،‬وكل هذه نالت معروضاتها الجوائز الكبرى‬
‫في المعرض الدولي الباريزي سنة ‪ ،1937‬ثم «شركة مصر لمصايد‬
‫األسماك»‪ ،‬و«شركة مطبعة مصر»‪ ،‬و«شركة مصر للطيران»‪ ،‬و«شركة‬
‫مصر للسياحة»‪ ،‬وناهيك بـ«شركة مصر للمالحة البحرية» وما أنشأته‬
‫من المنشآت الجواري كاألعالم؛ مثل‪ :‬زمزم‪ ،‬والكوثر‪ ،‬والنيل‪،‬‬
‫الحجاج يبلغون الحجاز على‬
‫ّ‬ ‫وغيرها؛ مما كاد يكون كاألحالم‪ ،‬فصار‬
‫بواخر يرون بها أنفسهم في مثل قصور الملوك فراهة‪ ،‬ورفاهة‪ ،‬وراحة‪،‬‬

‫ونعيم ًا‪ ،‬ومقام ًا كريم ًا‪ ،‬وصار ّ‬


‫سياح مصر الكثيرون إلى أوروبا في فصل‬
‫الصيف يركبون‪ ،‬تحت العلم المصري الشريف‪ ،‬بواخر لو قرنت ببواخر‬
‫األمم األوروبية لح َّلت بينها في الصف األول‪ ،‬هذا بعد أن قضينا كل‬
‫ونؤدي إليها أموالنا بال سبب‬
‫ّ‬ ‫الدهر نسير ونسري في البواخر األجنبية‬
‫خاصة بأوطاننا‪ ،‬بها ركوبنا وعليها‬
‫ّ‬ ‫سوى قصور هممنا عن إنشاء بواخر‬

‫‪129‬‬
‫ّ‬
‫محل تفصيل مشروعات طلعت باشا حرب‬ ‫نقل بضائعنا‪ ،‬وليس هنا‬
‫باعث النهضة االقتصادية في الشرق لنخوض في هذا العباب‪ ،‬وال‬
‫مقصدنا تمجيده واإلشادة بمآثره ولو بالحقيقة‪ ،‬وإنما كان إيرادنا‬
‫هذه القصة على سبيل المثال لما كان عليه المسلمون من الجبن في‬
‫ب هذا الرجل مدير بنك مصر فأيقظهم‬
‫المواطن االقتصادية إلى أن َه َّ‬
‫من سباتهم‪ ،‬وأعلمهم أنهم رجال كما األوروبيون رجال‪ ،‬وأنهم إذا‬
‫شحذوا غرار عزائمهم‪ ،‬وأعملوا أس َّنة قرائحهم قدروا على ما يقدر عليه‬
‫األجانب من األعمال االقتصادية الكبيرة‪.‬‬

‫وها نحن أوالء اآلن نرى العاملين في بنك مصر وفي الشركات المضافة‬
‫إليه ثالثين ألف مستخدم وعامل ك ّلهم مصريون إال النادر األندر‪،‬‬
‫وهكذا بدأ المسلمون يقتحمون معارك الحياة االقتصادية في كل‬
‫فن من فنونها‪ ،‬وتو ّلدت عندهم في أنفسهم ثقة كانت محجوبة عنهم‬
‫من قبل؛ بحيث إن أحمد حلمي باشا والسيد عبدالحميد شومان من‬
‫أسسا في القدس بنك ًا كل رأس ماله خمسة عشر ألف جنيه‪،‬‬
‫فلسطين َّ‬
‫وتوفّ قا‪ -‬بحسن إدارتهما‪ -‬إلى أن َص َّيرا هذا البنك العربي الوحيد في‬
‫القطر الشامي من البنوك المعدودة ذوي الفروع الكثيرة صار يشتمل‬
‫على خمسمئة ألف جنيه‪.‬‬

‫زراعي ًا شاطر في تأسيسه أ كثر من خمسة آالف‬


‫ّ‬ ‫أسسا بنك ًا‬
‫وكذلك َّ‬
‫فسدت‬
‫َّ‬ ‫نيف ًا ومئة ألف جنيه‪،‬‬
‫مساهم من عرب فلسطين‪ ،‬وبلغ رأسماله ّ‬
‫الحمية‬
‫ّ‬ ‫بهذين البنكين األمّة العربية في فلسطين حاجتها‪ ،‬واستغنى ذوو‬

‫‪130‬‬
‫منها عن االلتجاء إلى بنوك األجانب‪ ،‬وفهم الناس أن هؤالء ليسوا فوق‬
‫الشرقيين‪ ،‬وأنهم ال يعجزون‪.‬‬

‫إنما جئنا بهاتين المسألتين لالستدالل على األضرار الفظيعة التي كان‬
‫عدم ثقتهم بأنفسهم‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫يحدثها بالمسلمين‬

‫ولعلهم بدأوا يتعافون اآلن من هذا المرض االجتماعي المهلك‪ ،‬والله‬


‫غالب على أمره‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫هكذا إذا تو َّجهت اهلمم‬
‫المقدسة‬
‫َّ‬ ‫اإلصالحات المعنوية واإلصالحات المادية في البالد‬

‫أشد‬
‫ّ‬ ‫المقدسة قرون وأحقاب كانت فيها‬
‫َّ‬ ‫توالت على بالد اإلسالم‬
‫البالد افتقار ًا إلى اإلصالح‪ ،‬وأقربها إلى الفوضى‪ ،‬وأق ّلها أمنة ُس ُبل‬
‫جد ًا‬
‫وراحة سكان‪ ،‬وأكثرها عيث ًا وفساد ًا‪ ،‬وكانت هذه الحالة فظيعة ّ‬
‫حجة ناصعة لألجانب على‬
‫مخجلة لكل مسلم‪ ،‬مرمضة لكل مؤمن‪ّ ،‬‬
‫المسلمين الذين ال يقدرون أن ينكروا ما في الحجاز من اختالل السبل‪،‬‬
‫واضطراب الحبل؛ مع كونه هو مهد اإلسالم‪ ،‬ومركز الحجيج العام في‬
‫يتأجج‬
‫ّ‬ ‫كل عام إلى بيت الله الحرام والمشاعر العظام‪ ،‬ومهوى قلوب‬
‫الصالة والسالم‪.‬‬
‫بها الغرام لزيارة مرقد الرسول عليه َّ‬

‫كل األجانب يستظهرون بهذه الحالة على دعوى أن اإلسالم ال يلتئم‬


‫عمراني ًا لما‬
‫ّ‬ ‫مع العمران‪ ،‬وأنه هو والفوضى توأمان‪ ،‬وأنه لو كان دين ًا‬

‫‪132‬‬
‫كانت تكون هذه الحالة السيئة في مركزه‪ ،‬ولما عجز عن إقامة العدل‬
‫واألمن في مأزره‪.‬‬

‫وحقيقة الحال هي أن تلك الفوضى لم تنشأ إال عن إهمال العمل‬


‫بقواعد الشرع اإلسالمي‪ ،‬وعن إرخاء العنان لبعض األمراء الذين كانوا‬
‫يلون أمر الحجاز مد ّلين على الناس بما لهم من النسب النبوي الشريف‬
‫الذي كان يحول بين سالطين اإلسالم وبين تشديد الوطأة عليهم‪ ،‬أو‬
‫الح ّد فيهم‪ ،‬وقد كان هذا من خطل الرأي ومن التقصير في‬
‫إرهاف َ‬
‫جانب الشرع فإن الشريعة اإلسالمية ال تعرف نسب ًا وال حسب ًا‪.‬‬

‫(((‬
‫اب ب َْي َن ُه ْم َي ْو َمئ ٍِذ وَال َي َت َسا َء ُل َ‬
‫ون)‪.‬‬ ‫ور فَال َأ َ‬
‫نس َ‬ ‫( َفإ َِذا ُنف َِخ فِي ُّ‬
‫الص ِ‬

‫وإن الله تعالى قد جعل التقوى فوق كل المناقب والمحامد‪ ،‬وق َّرر أن‬
‫المروي عن النبي ‪-‬ص َّلى‬
‫ّ‬ ‫قصر به عمله لم ينهض به نسبه»‪ ،‬ومن‬
‫«م َْن َّ‬
‫ال َّله عليه وس َّلم‪« :-‬أال إن بعض آل بيتي يرون أنفسهم أولى الناس بي؛‬
‫وليس األمر كذلك‪ ،‬إنما أوليائي الم ّتقون؛ من كانوا وحيث كانوا‪ ،‬أال‬
‫إني ال أجيز ألهل بيتي أن يفسدوا ما أصلحت»‪.‬‬

‫ِّ‬
‫المحدثين المرحوم السيد بدر الدين الحسني‬ ‫هذا حديث نقله لنا خاتمة‬
‫المغربي الدمشقي‪ ،‬وكيفما كانت درجة ثبوته فهو مطابق لروح الشرع‪،‬‬
‫تتفجر معانيه من كل ناحية من الكتاب‪.‬‬
‫َّ‬
‫‪ -1‬المؤمنون‪.101 :‬‬

‫‪133‬‬
‫ولهذا كان سالطين اإلسالم ‪-‬من وقت إلى آخر‪ -‬ينذرون من أمراء‬
‫الحرمين من كانوا يظلمون الناس‪ ،‬ويبغون في األرض بغير الحق‪ ،‬ولقد‬
‫ذهب مث ً‬
‫ال ذلك الكتاب الذي كتبه أحد سالطين مصر من المماليك‬
‫إلى أحد أمراء مكة المكرمة؛ وهو الذي يقول فيه‪:‬‬

‫والسيئة‬
‫ّ‬ ‫«اعلم أن الحسنة في نفسها حسنة‪ ،‬وهي من بيت النبوة أحسن‪،‬‬
‫بدلت حرم‬
‫سيئة‪ ،‬وهي من بيت النب ّوة أسوأ‪ ،‬وقد بلغنا أنك ّ‬
‫في نفسها ّ‬
‫وتسود الصحيفة‪ ،‬فإن وقفت‬
‫ُّ‬ ‫األمن بالخيفة‪ ،‬وأتيت ما تحم ُّر له الوجوه‬
‫حدك‪ ،‬وإال أغمدنا فيك سيف ِ ّ‬
‫جدك‪.».‬‬ ‫عند ِ ّ‬

‫ُفهم من هنا أن هؤالء األمراء لم يكن فيهم إال من‬


‫وال ينبغي أن ي َ‬
‫استحقّ هذا الوصف‪ ،‬كال؛ فقد و ُِجد فيهم األمراء العادلون‪ ،‬إال أنه‬
‫قد بقيت ‪-‬مع األسف‪ -‬أحوال الحجاز غير مستوية‪ ،‬وأعراب البادية‬
‫الحجاج‪ ،‬وليس لداء مع ّرتهم عالج‪ ،‬وكانت كل من الدولة‬
‫ّ‬ ‫يسطون على‬
‫العثمانية والدولة المصرية ترسل طوابير من الجند النظامي مصحوبة‬
‫وتؤدي إلى‬
‫ّ‬ ‫الحج‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بالمدافع وسائر آالت القتال ألجل خفارة قوافل‬
‫زعماء القبائل الرواتب الوافرة‪ ،‬وكل هذا لم يكن يمنع األعراب ومن‬
‫الحجاج في كل فرصة تلوح لهم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ال يخاف الله من الدعار من تخطّ ف‬

‫الحج أو‬
‫ّ‬ ‫الحج تضط ّر إلى الرجوع وقد فاتها‬ ‫ّ‬ ‫وكثير ًا ما كانت قافلة‬
‫الزيارة بعد أن قصدوا ذلك من مكان سحيق‪ ،‬وتك ّلفوا ب َْذ َل األموال‪،‬‬
‫وتجشموا مشاق األسفار في الب ّر والبحر‪ ،‬فكانوا يذوبون من الشوق‬
‫ّ‬

‫‪134‬‬
‫على ما فاتهم‪ ،‬ويتح َّرقون من الوجد‪ ،‬ويبكون بصيب الدمع‪ ،‬والناس‬
‫بأجمعهم يحوقلون ويقولون‪( :‬ليس لها من دون الله كاشفة) ذاهبين‬
‫إلى أن سطو األعراب هؤالء داء عضال ال تنفع فيه حيلة وال وسيلة‪،‬‬
‫وقد َع َّمت بهم البلوى‪ ،‬وإلى الله المشتكى‪.‬‬

‫وهكذا توالت القرون والحقب والناس على هذا االعتقاد ال يتزحزحون‬


‫عنه إلى أن َ‬
‫آل أمر الحجاز إلى الملك عبدالعزيز بن سعود منذ بضع‬
‫عشرة سنة‪ ،‬فلم تمض سنة واحدة حتى انقلب الحجاز من مسبعة تزأر‬
‫فيها الضواري في كل يوم بل في كل ساعة إلى مهد أمان‪ ،‬وقرارة‬
‫اطمئنان‪ ،‬ينام فيها األنام بملء األجفان‪ ،‬وال يخشون سطوة عاد‪ ،‬وال‬
‫غارة حاضر وال باد‪ ،‬وكأن أولئك األعراب الذين روَّعوا الحجيج مدة‬
‫قرون وأحقاب لم يكونوا في الدنيا‪ ،‬وكأن هاتيك الذئاب الطلس‬
‫تح َّولت إلى حمالن؛ فال نهب وال سلب وال قتل وال ضرب‪ ،‬ولو‬
‫شاءت الفتاة البكر اآلن أن تذهب من مكة إلى المدينة‪ ،‬أو من المدينة‬
‫إلى مكة‪ ،‬أو إلى أية جهة من المملكة السعودية وهي حاملة الذهب‬
‫عما معها‪.‬‬
‫واأللماس والياقوت والزمرد‪ ،‬ما تج َّرأ أحد أن يسألها ّ‬

‫ّ‬
‫بضوال‬ ‫ِّ‬
‫متعددة‪ ،‬ويؤتى‬ ‫ما من يوم إال و ُتحمل فيه إلى دوائر الشرطة لقَ ط‬
‫فقَ َدها أصحابها في الطرق‪ ،‬وأكثر من يأتي بها األعراب أنفسهم خدمة‬
‫لألمن العام وإبعاد ًا للشبهة عنهم وعن ذويهم‪ ،‬فسبحان مح ِ ّول ومق ِ ّلب‬
‫القلوب‪ .‬ووالله‪ ،‬ال يوجد في هذا العصر أمن يفوق أمن الحجاز ال في‬
‫الشرق وال في الغرب‪ ،‬وال في أوروبا وال في أميركا‪ ،‬وقد تم َّنى المستر‬

‫‪135‬‬
‫كراين األميركي‪ ،‬صديق العرب الشهير‪ ،‬في إحدى خطبه أن يكون في‬
‫وطنه أميركا األمن الذي رآه في الحجاز واليمن‪.‬‬

‫وكل من سكن أوروبا وعرف الحجاز في هذه األيام يحكم بأن األمنة‬
‫المقدسة هي أ كمل وأشمل‬
‫َّ‬ ‫على األرواح واألعراض واألموال في البقاع‬
‫وأشد أطناب ًا منها في الممالك األوروبية واألميركية‪ ،‬فأين‬
‫ّ‬ ‫وأوثق أوتاد ًا‬
‫أولئك الذين كانوا يقولون إن األعراب ال يقدر على ضبطها إنسان‪ ،‬وإن‬
‫سكان الفيافي هم غير سائر البلدان؟! فها هو ذا ابن سعود قد ضبطها‬
‫بأجمعها في مملكته الواسعة‪ ،‬ومحا أثر الغارات والثارات بين القبائل‪،‬‬
‫وأصبح كل إنسان يقدر أن يجوب الصحاري وهو أعزل‪ ،‬ويدخل أرض‬
‫كل قبيلة دون أن يعترضه معترض‪ ،‬أو يسأله سائل إلى أين هو ٍ‬
‫غاد أو‬
‫رائح‪ ،‬ولو قيل لبشر‪ :‬إن بالد ًا كان ذلك شأنها من الفزع والهول وسفك‬
‫الدماء وقطع الطرق قد مرد أهلها على هذا البغي وهذا العدوان من‬
‫سالف األزمان‪ ،‬وإنه يليها ابن سعود فال تمضي على واليته لها سنة‬
‫واحدة حتى يطهرها تطهير ًا ويمألها أمن ًا وطمأنينة‪َ ،‬‬
‫لظ َّن السامع أنه‬
‫صحة عقله‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫خرافات‪ ،‬أو ا ّتهم القائل في ّ‬ ‫يسمع أحالم ًا أو‬

‫ولكن هذا قد صار حقيقة ك ّل ّية‪ ،‬وقضية واقعية في وقت قصير‪ ،‬وما‬
‫همة عالية‪ ،‬وعزمة صادقة‪ ،‬وإيمان بالله‪ ،‬وثقة بالنفس‪،‬‬ ‫أوجده إال ّ‬
‫ّ‬
‫يحث على العمل‬ ‫َصره‪،‬‬
‫وعلم بأن الله تعالى مؤي ٌّد م َْن أيَّده‪ ،‬ناص ٌر من ن َ‬
‫ويكافئ العامل‪ ،‬ويكره اليأس‪ ،‬ويقول لعباده‪َ ( :‬ومَن َيقْ َن ُط مِ ن ر َّْح َم ِة‬

‫‪136‬‬
‫(((‬ ‫ال َّ‬
‫الضا ُّل َ‬
‫ون)‪.‬‬ ‫َر ِ ّب ِه ِإ َّ‬
‫المقدسة الحجازية‬
‫ّ‬ ‫وقد سرت بشرى األمان الذي شمل البالد‬
‫فعمت أقطار اإلسالم‪ ،‬وأثلجت صدور أبنائه‪ ،‬وارتفعت عن الحجاز‬
‫َّ‬
‫تلك المع َّرة التي طالما وجم لها المسلمون؛ وذلك بق ّوة إرادة الملك‬
‫عبدالعزيز بن سعود‪ ،‬والتزامه حدود الشرع‪ ،‬ولكن ليس هذا كل شيء‪،‬‬
‫وقد بقيت حاجات في الصدور‪ ،‬فلم يزل يعوز الحجاز وسائل كثيرة‬
‫للراحة والهناء‪ ،‬من قبيل اإلصالحات المادية العمرانية التي يتوق إليها‬
‫الح ّجاج وال يجدونها‪ ،‬وهي إصالحات عصرية ال طاقة للحجاز بها‬ ‫ُ‬
‫مع ق ّلة الوارد إلى بيت المال‪ ،‬وازدياد الخرج على الدخل‪ ،‬وأيض ًا‬
‫مع استئثار أ كثر بالد المسلمين بأوقاف الحرمين الشريفين‪ ،‬وعدم‬
‫استعمالها فيما وقفت عليه‪.‬‬

‫وقد كان يتح َّتم على العالم اإلسالمي أن يشاطر‪ ،‬منذ زمن طويل‪ ،‬في‬
‫إزاحة هذه العلل المادية التي يعتذر الحجاز ‪-‬بحقّ ‪ -‬عن أن يقوم بها‬
‫سيما أن الحرمين الشريفين ليسا للعرب وحدهم بل لجميع‬
‫وحده؛ ال َّ‬
‫المسلمين‪.‬‬

‫فلم تزل هذه المسألة موضوع األماني ومُ َّت َجه اآلمال‪ ،‬والناس ينتظرون‬
‫فيها االبتداء بعمل من األعمال‪ ،‬إلى أن عقدت مصر عزيمتها على هذا‬
‫السباقة‬
‫ّ‬ ‫جد أمينة بأن تضطلع به‪ ،‬وبأن تكون فيه‬
‫األمر الذي ُت َع ّد مصر ّ‬
‫والقدوة لغيرها‪.‬‬
‫‪ -1‬الحجر‪ :‬من اآلية ‪.٥٦‬‬

‫‪137‬‬
‫ولم يُط َلق على مصر لقب «كنانة الله في أرضه» عبث ًا‪ ،‬بل هي ‪-‬من‬
‫المسنِتين من أهله‪ ،‬وحسبك ما قامت‬
‫قديم الدهر‪ -‬موئل الحجاز وأنبار ُ‬
‫سيدنا‬
‫سيدنا عمر إلى ّ‬
‫به مصر عام الرمادة من ميرة الحجاز بطلب ّ‬
‫تشتد بأهل الحرمين‬
‫ّ‬ ‫عمرو ‪ -‬رضي الله عنهما‪ -‬ومن بعد ذلك لم‬
‫ألواء‪ ،‬وال َّ‬
‫عضتهم مسغبة بنابها إال أسرعت إليهم مصر باإلغاثة وتفريج‬
‫الكربة‪ ،‬لم تختلف مصر عن هذا الواجب في وقت من األوقات‪ .‬وفي‬
‫اشتد الشعور بوجوب إصالح الحجاز من الناحية‬
‫ّ‬ ‫هذه األيام عندما‬
‫العمرانية بعد أن أزيحت ع ّلته من جهة تأمين السوابل كانت مصر هي‬
‫لم ّد يد المساعدة إليه في هذا الشأن‪ ،‬وكأنما ُكتِب في اللوح‬
‫الناهضة َ‬
‫محمد طلعت باشا حرب هو الطالع حرب ًا على‬
‫َّ‬ ‫المحفوظ أن يكون‬
‫فوجه شطر ًا من ّ‬
‫همته‬ ‫َّ‬ ‫الخلل والفوضى واإلهمال في عمران الشرق‪،‬‬
‫العلياء شطر البيت الحرام الذي قد أمرنا الله بأننا حيث ما ك ّنا نو ّلي‬
‫حجة‪ ،‬فكان طلعت باشا حرب‬
‫وجوهنا شطره؛ لئلّا يكون للناس علينا ّ‬
‫في هذه الحلبة أيض ًا هو المج ّلي‪ ،‬وكان قد بدأ من بضع سنين بتأسيس‬
‫الح ّد‬
‫شركة المالحة البحرية‪ ،‬وأنشأ البواخر الجواري كاألعالم البالغة َ‬
‫األقصى من أسباب الراحة واالنتظام؛ مثل‪ :‬زمزم‪ ،‬والكوثر‪ ،‬وغيرهما‬
‫لحجاج بيت الله‬
‫ّ‬ ‫مما قد سبق الكالم عليه‪ ،‬وحصل بذلك من الفرج‬
‫تحدثت به الركبان‪ ،‬وشاع ذكره في البلدان‪ ،‬ولكن‪ ،‬لم يكن‬
‫َّ‬ ‫الحرام ما‬
‫مادي‬
‫همة هذا الرجل من إصالح عمراني وتنظيم ّ‬
‫هذا كل ما تسمو إليه ّ‬
‫المقدسة‪ ،‬ونظر في مختلف العلل‬
‫َّ‬ ‫في الحجاز‪ ،‬فقصد إلى األرض‬
‫التي تجب معالجتها‪ ،‬وعرض نتيجة مشاهداته على الحكومة المصرية‬

‫‪138‬‬
‫التي أسرعت في إجابته إلى تقرير الالزم من هذه اإلصالحات الحيوية‬
‫باال ّتفاق مع الحكومة السعودية التي بذلت كل ما في وسعها ألجل‬
‫تسهيل اال ّتفاق وتيسير االرتفاق‪ ،‬فكان ما ستنفقه الحكومة المصرية‬
‫والحكومة السعودية في هذه النوبة من إصالحات الحجاز إلنشاء‬
‫طرق وإنارة كهربائية وتوزيع مياه وتطهيرها وغير ذلك نحو ًا من مئتين‬
‫وأربعين ألف جنيه‪.‬‬

‫وهكذا تكون الدولة المصرية قد نهجت السبيل لجميع الحكومات‬


‫اإلسالمية في العالم أن تشاطر في القيام على قدر إمكانها بما يستلزمه‬
‫الحجاز من اإلصالحات العصرية التي ال مندوحة عنها في قطر يؤمُّ ه‬
‫والج ّو وهو‬
‫َ‬ ‫الب ّر والبحر‬
‫المسلمون من المشارق والمغارب سالكين إليه َ‬
‫مرشح حتم ًا بواسطة طرق االنتقال الحديثة لزيادة العمران وتكاثف‬
‫َّ‬
‫ّ‬
‫السكان‪ ،‬وليكون أنموذج ًا للجمال الصوري والمعنوي‪ ،‬ومثا ً‬
‫ال لطيب‬
‫النجعة في الشتاء وفي الصيف‪ ،‬فإن الذي يشتمل عليه الحجاز من‬
‫لية وجبال‬
‫المصايف البديعة كالطائف والهدى ووادي محرم ووادي ّ‬
‫الشفا العالية ‪-‬ثالثة آالف متر عن سطح البحر‪ -‬يندر وجود أشباهه في‬
‫فصلنا ذلك في رحلتنا الحجازية الموسومة بـ«االرتسامات‬
‫المعمور كما َّ‬
‫اللطاف»‪ ،‬ال يعوز هذه األمكنة الممتازة بطيب هوائها وجودة مناخها‬
‫المعبدة للسيارات حتى تق ِ ّرب المسافات‪.‬‬
‫َّ‬ ‫وجمال إقليمها سوى الطرق‬

‫وقد نشرت «شركة بنك مصر» عن اإلصالحات الالزمة للحجاز تقارير‬


‫وافية ِ ّ‬
‫قيمة من أقالم المهندسين البارعين الذين أنفذتهم شركة البنك إلى‬

‫‪139‬‬
‫مح َّمد الجمال بك نائب المدير العام لمعامل‬
‫المقدسة؛ مثل َ‬
‫َّ‬ ‫األراضي‬
‫الغزل والنسيج المصرية‪ ،‬الذي تك َّلم على حالة الحجاز العمومية وقابلية‬
‫أرضها وما يلزم لهذه البالد من األسباب الفنية والمدارس الصناعية‪،‬‬
‫وألم بمشروع المياه الذي يلزم له بناء خزان في مرتفع تعلو عنه عين‬
‫َّ‬
‫يسد كل عوز في مكة ومن جهة المياه‪ ،‬وبمشروع إضاءة‬ ‫زبيدة؛ بحيث ّ‬
‫مكة بالكهرباء‪ ،‬وبمشروع إنشاء طريق صالحة للسيارات من جدة إلى‬
‫البلد الحرام‪ ،‬أو ّ‬
‫سكة حديدية تصل بينهما‪.‬‬

‫تضمنها هذا التقرير الواضح المفيد الذي ليس فيه‬


‫َّ‬ ‫ومشروعات أخرى‬
‫ّ‬
‫محل نظر سوى تخمينه عدد مسلمي المعمور بمئتين وخمسين مليون ًا‪،‬‬
‫فهذا خطأ فاحش ناشئ عن متابعة إحصاءات قديمة أوروبية غير‬
‫نزيهة‪ ،‬أو ثمة خطأ مطبعي تصحيحه ‪ 350‬مليون ًا (ثالثمئة وخمسون‬
‫مليون ًا) وهذا أيض ًا دون الواقع كما أوضحنا ذلك باإلحصاءات الرسمية‬
‫رد ًا على الزاعمين‬
‫والبراهين الساطعة في مج ّلتنا «ال ناسيون أراب»؛ ّ‬
‫أن عدد المسلمين ‪ 260‬مليون ًا‪ ،‬مع أن مسلمي آسيا وحدها ينيفون‬
‫على ‪ 260‬مليون ًا‪ ،‬وقد بقي غير داخل في هذا اإلحصاء مسلمو إفريقيا‬
‫الذين يناهزون مئة مليون‪ ،‬ومسلمو أوروبا الذين هم من خمسة إلى ستة‬
‫ماليين‪.‬‬

‫نحسه من تح ُّرج صدور‬


‫ُّ‬ ‫ولقد اهتممنا بهذا الموضوع عمد ًا لما‬
‫األوروبيين بكثرة عدد المسلمين‪ ،‬واجتهاد الدول االستعمارية‬
‫فمح ْصنا هذا‬
‫َّ‬ ‫‪-‬بخاصة‪ -‬أن ينقصوا من عددهم‪ ،‬ويُخسِ روا من وزنهم‪،‬‬

‫‪140‬‬
‫نيتهم هذه‪.‬‬
‫عدة مرات لما نشعر من ّ‬
‫البحث ّ‬

‫ثم نعود إلى قضية إصالحات الحجاز فنقول‪ :‬إن من جملة التقارير‬
‫ِّ‬
‫المحقق السيد‬ ‫الوافية في هذا الموضوع تقرير ًا مح َّرر ًا بقلم المهندس‬
‫حسن البهتيمي الذي يتك َّلم على تحويل مجرى السيل عن مكة‪ ،‬وعلى‬
‫تحسين طريق المسعى بين الصفا والمروة‪ ،‬وتحسين طريقة ورود المياه‬
‫بعرفات من عين زبيدة‪ ،‬وإنارة البلد األمين بالكهرباء‪ ،‬وتقرير ًا آخر في‬
‫هذه المسائل نفسها من قلم السيد مصطفى ماهر رئيس مهندسي مياه‬
‫يتم إصالح توزيع عين‬
‫الجيزة والجزيرة بمصر‪ ،‬ذهب فيه إلى أنه بعد أن ّ‬
‫زبيدة وعين حنين التي يتفرغ منها المجرى المسمى عين الزعفران‬
‫يباشر الحفر في سائر اآلبار واألودية التي هي مظان مياه‬
‫َ‬ ‫يجب أن‬
‫غزيرة تفيض عن حاجة مكة من جهة شرب الشفة‪ ،‬وتكفي للزراعة‬
‫والبساتين‪ ،‬قال‪ :‬ومشروع المياه سيكون مفتاح ًا للبحث عن هذه الكنوز‬
‫األرضية‪.‬‬

‫وتك َّلم المهندس المشار إليه على بئر زمزم وقال‪ :‬إن في مائها أمالح ًا‬
‫نافعة كأمالح المياه التي يستشفى بها في أوروبا؛ فهي من هذه‬
‫الوجهة صالحة لتوضع في زجاجات معقَّ مة مقفلة و ُت َ‬
‫حمل إلى الخارج‬
‫وتباع فيكون منها ربح جزيل‪ ،‬ثم أشار بالوسائل الالزمة لصيانتها من‬
‫الجراثيم الضا ّرة‪ ،‬وأن يتو ّلى عالم بكتريولوجي دوام تحليلها‪ ،‬ليكون‬
‫تعقيمها تا ّم ًا‪ ،‬وتك َّلم على عملية مياه عين زبيدة وبناء الخزانات الالزمة‬
‫بتفاصيل ليس هنا مكانها‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫ب التقرير بالرسوم التي ِ ّ‬
‫توضح كل شيء‪ ،‬وأشار إلى إنارة مكة‬ ‫وأصح َ‬
‫َ‬
‫وفوائد؛ وذلك كما ق َّرره المهندسون‬
‫َ‬ ‫أرباح‬
‫ٍ‬ ‫بالق ّوة الكهربائية وما فيها من‬
‫اآلخرون‪ ،‬ولكل وجهة هو مو ّليها‪.‬‬

‫وفي تقرير المهندس الكبير السيد مصطفى ماهر كالم خاص بالمدينة‬
‫المنورة التي هي ج ّنة من جنان األرض‪ ،‬وفيه وصف مياهها العذبة‬
‫الغزيرة‪ ،‬وحدائقها الغناء‪ ،‬وقد ختم تقريره الشائق بقوله‪:‬‬

‫وإني أسأل الله أن ِ‬


‫يوفّ ق عباده المؤمنين إلى م َّد يد المعونة إلى األراضي‬
‫المقدسة قِبلة المسلمين‪ّ ،‬‬
‫كل فيما يقدر عليه للتيسير على أهلها‪،‬‬ ‫َّ‬
‫واالحتفاظ لهذه البقاع الطاهرة بما يليق بها من الجالل والوقار‪ .‬اهـ ‪.‬‬

‫وتنتهي مجموعة هذه المباحث‪ ،‬التي أعظم اليد في إجرائها لطلعت‬


‫ِّ‬
‫المتخصصين‬ ‫باشا حرب‪ ،‬بالتقارير الصحية الجلية الوافية من قلم العلماء‬
‫مح َّمد حسن العبد‪ ،‬ومصطفى ماهر‪ ،‬وحسن حسني راشد‬
‫السادة‪َ :‬‬
‫الكيميائي بوزارة الصحة المصرية‪ ،‬وحسن البهتيمي وكيل القلم الفني‬
‫ببنك مصر‪.‬‬

‫المفصلة الدقيقة لمياه بئر زمزم‪ ،‬ومياه‬


‫َّ‬ ‫وفي هذه التقارير التحليالت‬
‫عين زبيدة‪ ،‬ومياه عين الزعفران في مكة‪ ،‬وعين الزرقاء في المدينة‬
‫المنورة‪ ،‬مع التواصي الفنية الالزمة لالستفادة منها‪.‬‬

‫ولما كانت هذه المجموعة قد نشرت وتو َّزعت اكتفينا منها بلمحة‬

‫‪142‬‬
‫دا ّلة في هذه الرسالة سائلين الله أن يوفق كلّاً من الدولتين العزيزتين‪:‬‬
‫المصرية‪ ،‬والسعودية إلى إتمام هذه اإلصالحات الجليلة بحذافيرها‪،‬‬
‫فإن اإلصالح واجب في كل مكان‪ ،‬فكيف في البقاع المقدسة؟!‬

‫‪143‬‬
‫خالصة اجلواب‬
‫إن المسلمين ينهضون بمثل ما نهض غيرهم‬

‫بقلم شكيب أرسالن‬


‫لوزان ‪ 11‬نوفمبر سنة ‪1930‬‬

‫ويتقدموا ويتع َّرجوا في مصاعد‬


‫َّ‬ ‫إن الواجب على المسلمين‪ ،‬لينهضوا‬
‫المجد‪ ،‬ويترقّ وا كما ترقّ ى غيرهم من األمم‪ ،‬هو الجهاد بالمال والنفس‬

‫الذي أمر به الله في قرآنه مرار ًا عديدة‪ ،‬وهو ما ّ‬


‫يسمونه اليوم (التضحية)‪.‬‬

‫رقي إال بالتضحية‪،‬‬


‫ّ‬ ‫يتم للمسلمين وال ألمة من األمم نجاح وال‬
‫فلن ّ‬
‫حمد بسيوني عمران أو غيره من السائلين عن رأينا‬
‫وربَّما كان الشيخ مُ َّ‬
‫الرقي هو قراءة نظريات‬
‫ّ‬ ‫في هذا الموضوع قد ظن أني سأجيبه أن مفتاح‬
‫(أينشتاين) في النسبية مث ً‬
‫ال‪ ،‬أو درس أشعة (رونتجين)‪ ،‬أو ميكروبات‬

‫‪144‬‬
‫(باستور)‪ ،‬أو التعويل في الالسلكي على التم ُّوجات الصغيرة أ كثر‬
‫من الكبيرة‪ ،‬أو درس اختراعات (أديسون)‪ ،‬وأن سبب حادثة المنطاد‬
‫اإلنجليزي الذي سقط أخير ًا واحترق هو كونه لم ينفخ بالهليوم وإنما‬
‫ّ‬
‫أخف في الوزن‪-‬‬ ‫بالهيدروجين‪ ،‬والحال في الهيدروجين ‪ -‬وإن كان‬
‫أنه قابل لالشتعال‪ ،‬وأنه ال خوف من اشتعال الهليوم‪ ،‬وإن كان أثقل‬
‫شيئ ًا من الهيدروجين‪ ،‬وما أشبه ذلك‪.‬‬

‫والحقيقة أن هذه األمور إنما هي فروع ال أصول‪ ،‬وأنها نتائج ال‬


‫ِّ‬
‫مقدمات‪ ،‬وأن (التضحية) أو الجهاد بالمال والنفس هو العلم األعلى‬
‫الذي يهتف بالعلوم كلها‪ ،‬فإذا تع َّلمت األمّة هذا العلم وعملت به دانت‬
‫لها سائر العلوم والمعارف‪ ،‬ودنت منها جميع القطوف والمجاني‪.‬‬

‫وليس بضروري أن يكون صاحب الحاجة عالم ًا بعملها حتى يكون‬


‫عالم ًا باالحتياج إليها‪.‬‬

‫قال لي مرة حكيم الشرق السيد جمال الدين األفغاني‪:‬‬

‫«إن الوالد الشفيق يكون من أجهل الجهالء‪ ،‬فإذا مرض ابنه اختار له‬
‫أحذق األطباء‪ ،‬وعلم أن هناك شيئا نافع ًا هو العلم‪ ،‬ال يعلم هو شيئ ًا‬
‫منه‪ ،‬ولكنه يعلم بسائق حرصه على حياة ابنه أنه ضروري‪.».‬‬

‫أمي ًا‪ ،‬ولكنه بعث مصر من‬


‫حمد علي عالم ًا‪ ،‬وربّما كان ّ‬
‫ولم يكن مُ َّ‬
‫وصي َرها ‪-‬في زمانه‪ -‬من الدول‬
‫َّ‬ ‫العدم إلى الوجود في زمن قصير‪،‬‬

‫‪145‬‬
‫العظام بسائق هذا العلم األعلى الذي هو العقل السليم واإلرادة‪ ،‬وهو‬
‫الذي يبعث صاحبه إلى التفتيش عن العلوم وحمل األمّة عليها‪.‬‬

‫فالمسلمون يمكنهم ‪-‬إذا أرادوا بعث العزائم وعملوا بما ح َّرضهم عليه‬
‫كتابهم‪ -‬أن يبلغوا مبالغ األوروبيين واألميركيين واليابانيين من العلم‬
‫واالرتقاء‪ ،‬وأن يبقوا على إسالمهم كما بقي أولئك على أديانهم‪ ،‬بل هم‬
‫َأوْلى بذلك وأحرى‪ ،‬فإن أولئك رجال ونحن رجال‪ ،‬وإنما الذي ي ُْعوِ زنا‬
‫األعمال‪ ،‬وإنما الذي يض ّرنا هو التشاؤم واالستخذاء وانقطاع اآلمال‪،‬‬
‫ولنتقدم إلى األمام‪ ،‬ولنعلم أننا بالغو كل أمنية‬
‫َّ‬ ‫فلننفض غبار اليأس‪،‬‬
‫بالعمل والدأب واإلقدام‪ ،‬وتحقيق شروط اإليمان التي في القرآن‪:‬‬
‫(((‬
‫اه ُدوا فِي َنا َل َن ْه ِد َي َّن ُه ْم ُس ُب َل َنا َوإ َِّن ال ّل َه َل َم َع ال ُْم ْحسِ نِين)‪.‬‬ ‫(وَا ّل ِذ َ‬
‫ين َج َ‬

‫‪ -1‬العنكبوت‪.٦٩ :‬‬

‫‪146‬‬
‫صدر يف سلسلة كتاب الدوحة‬

‫عبد الرحمن الكواكبي‬ ‫طبائع االستبداد‬ ‫‪1‬‬


‫غسان كنفاين‬ ‫برقوق نيسان‬ ‫‪2‬‬
‫سليامن فياض‬ ‫األمئة األربعة‬ ‫‪3‬‬
‫عمر فاخوري‬ ‫الفصول األربعة‬ ‫‪4‬‬
‫عيل عبدالرازق‬ ‫اإلسالم وأصول الحكم ‪ -‬بحث يف الخالفة والحكومة يف اإلسالم‬ ‫‪5‬‬
‫نبي‬
‫مالك بن ّ‬ ‫رشوط النهضة‬ ‫‪6‬‬
‫محمد بغدادي‬ ‫صالح جاهني ‪ -‬أمري شعراء العامية‬ ‫‪7‬‬
‫أبو القاسم الشايب‬ ‫نداء الحياة ‪ -‬مختارات شعرية ‪ -‬الخيال الشعري عند العرب‬ ‫‪8‬‬
‫سالمة موىس‬ ‫حرية الفكر وأبطالها يف التاريخ‬ ‫‪9‬‬
‫ميخائيل نعيمة‬ ‫الغربال‬ ‫‪10‬‬
‫الشيخ محمد عبده‬ ‫اإلسالم بني العلم واملدنية‬ ‫‪11‬‬
‫بدر شاكر السياب‬ ‫أصوات الشاعر املرتجم ‪ -‬مختارات من قصائده وترجامته‬ ‫‪12‬‬
‫ترجمة‪ :‬غادة حلواين‬ ‫• فتنة الحكاية جون أيديك ‪ -‬سينثيا أوزيك ‪ -‬جيل ماكوركل ‪ -‬باتريشيا هامبل‬
‫الطاهر حداد‬ ‫امرأتنا يف الرشيعة واملجتمع‬ ‫‪13‬‬
‫طه حسني‬ ‫الشيخان‬ ‫‪14‬‬
‫محمود درويش‬ ‫ورد أكرث ‪ -‬مختارات شعرية ونرثية‬ ‫‪15‬‬
‫توفيق الحكيم‬ ‫يوميات نائب يف األرياف‬ ‫‪16‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية عمر‬ ‫‪17‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية الصدّيق‬ ‫‪18‬‬
‫عيل أحمد الجرجاوي‪/‬صربي حافظ‬ ‫رحلتان إىل اليابان‬ ‫‪19‬‬
‫ميخائيل الصقال‬ ‫لطائف السمر يف سكان ال ُّزهرة والقمر أو (الغاية يف البداءة والنهاية)‬ ‫‪20‬‬
‫د‪ .‬محمد حسني هيكل‬ ‫ثورة األدب‬ ‫‪21‬‬
‫ريجيس دوبريه‬ ‫يف مديح الحدود‬ ‫‪22‬‬
‫اإلمام محمد عبده‬ ‫الكتابات السياسية‬ ‫‪23‬‬
‫عبد الكبري الخطيبي‬ ‫نحو فكر مغاير‬ ‫‪24‬‬
‫روحي الخالدي‬ ‫تاريخ علم األدب‬ ‫‪25‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية خالد‬ ‫‪26‬‬
‫خمسون قصيدة من الشعر العاملي‬ ‫أصوات الضمري‬ ‫‪27‬‬

‫‪148‬‬
‫يحيى حقي‬ ‫مرايا يحيى حقي‬ ‫‪28‬‬
‫عباس محمود العقاد‬ ‫عبقرية محمد‬ ‫‪29‬‬
‫حوار أجراه محمد الداهي‬ ‫عبدالله العروي من التاريخ إىل الحب‬ ‫‪30‬‬
‫فتاوى كبار الكتّاب واألدباء يف مستقبل اللغة العربية‬ ‫‪31‬‬
‫ترجمة‪ :‬رشف الدين شكري‬ ‫عام جديد بلون الكرز (مختارات من أشعار ونصوص مالك حداد)‬ ‫‪32‬‬
‫خالد النجار‬ ‫ِساج ال ُّرعاة (حوارات مع ُكتاب عامل ّيني)‬ ‫‪33‬‬
‫ترجمة‪ :‬مصطفى صفوان‬ ‫مقالة يف العبودية املختارة (إيتيان دي البويسيه)‬ ‫‪34‬‬
‫د‪.‬بنسامل حِ ّميش‬ ‫سريت ابن بطوطة وابن خلدون‬ ‫عن َ‬ ‫‪35‬‬
‫ابن طفيل‬ ‫حي بن يقظان ‪ -‬تحقيق‪ :‬أحمد أمني‬ ‫‪36‬‬
‫ميشال سار‬ ‫اإلصبع الصغرية ‪ -‬ترجمة‪ :‬د‪.‬عبدالرحمن بوعيل‬ ‫‪37‬‬
‫محمد إقبال‬ ‫محمد إقبال ‪ -‬مختارات شعرية‬ ‫‪38‬‬
‫ترجمة‪ :‬محمد الجرطي‬ ‫تزفيتان تودوروف (تأ ُّمالت يف الحضارة‪ ،‬والدميوقراطية‪ ،‬والغريية)‬ ‫‪39‬‬
‫أحمد رضا حوحو‬ ‫مناذج برشية‬ ‫‪40‬‬
‫د‪.‬زيك نجيب محمود‬ ‫الرشق الفنان‬ ‫‪41‬‬
‫ترجمة‪ :‬يارس شعبان‬ ‫تشيخوف ‪ -‬رسائل إيل العائلة‬ ‫‪42‬‬
‫إلياس أبو شبكة “العصفور الصغري” ‪ -‬مختارات شعرية‬ ‫‪43‬‬

‫‪149‬‬

You might also like