Professional Documents
Culture Documents
الطاهر الخميري
الطاهر الخميري
الطاهر الخميري
المثقف األنثروبولوجي
الجمهورية التونسية
وزارة الشؤون الثقافية
المؤسسة الوطنية لتنمية المهرجانات
والتــظاهرات الثـــقافـية والفـنية
منتدى الفكر التنويري التونسي
المثقف األنثروبولوجي عنوان الكتاب
* محمد المي المؤلفون
* سليمة لوكام
* مراد الضويوي
* رشيد الزواوي
* عبد الجليل بوقرة
* فوزية المزي
* زهير الذوادي
* خديجة التومي
* أشواق عوي
أعالم الثقافة التونسية ـ عدد 29 السلسلة
978-9938-9689-1-0 ر.د.م.ك
2
الدكتور الطاهر الخميري
المثقف األنثروبولوجي
محمد المي
3
أحاديثه اإلذاعية ومحاضراته التي كان يقدّ مها في مختلف
المناسبات ويمكن تقسيم اهتماماته إلى أربعة محاور كبرى :
* الثقافة الشعبية
* الترجمة من األنقليزية إلى العربية
* المسائل اللغوية
* النقد االجتماعي
وقد خ ّلف عدة كتب مطبوعة مقارنة بأعالم عصره وما هو
يكون كتبا عديدة قد شرعنا فيمتناثر في الصحف والمجالت ّ
جمعها فأصدرنا بعضها بالتعاون مع دار سحر للنشر فضال
خاصة أطروحته ّ عن كتبه باللغتين اإلنقليزية واأللمانية -
عن ابن خلدون -فإننا نرى في هذا المث ّقف التونسي مثقفا
السرب وخرج عن المألوف استثنائيا بأتم معنى الكلمة خالف ّ
فأفرد إفراد البعير المع ّبد واتهم عدّ ة اتهامات منهم من قال انه
جاسوس انقليزي وقع تجنيده أو قام بعرض خدماته ولذلك
نفهم اهتمامه بالجوانب األنثروبولوجية على غرار العادات
والتقاليد واالهتمام بنمط العيش ..الخ وقد فعل من قبله محمد
بن عثمان الحشايشي صاحب كتاب العادات والتقاليد التونسية
في نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين .
إذا صدّ قنا هذه الدعاوى فهل نعتبر أحمد أمين الذي كتب
معجم العادات والتقاليد التونسية جاسوسا ؟ وهل نعتبر
محمود تيمور الذي اهتم باألمثال العامية جاسوسا ؟ وها قد
4
عرفنا أن الصادق الرزقي اهتم باألغاني التونسية وجمع األمثال
العامية ؟ فماذا يمكن أن نقول عنه ؟
خمسينية الدكتور الطاهر الخميري تدعونا إلى التفكير من
جديد في هذا الرجل الظاهرة وتأمل منجزه من جديد وهذا دور
هذه الذكريات التي نحييها من زمن إلى آخر لتجعلنا نفكّر في
واقع ثقافتنا وما حصل لدينا منها .
�م �ل
حمد ا م ي�
منتدى الفكر التنويري التونسي
5
إسهام األثروبولوجيا وهواجس
التنوير في أعمال الطاهر الخميري
سليمة لوكام
تقديم:
من مرحلة الطفولة ما زلت أذكر مقولة للوالد -رحمه
لما يستمع
تونسي الهوى ،كان ّ
ّ باديسي التّكوين
ّ الله ، -وكان
إلى اإلذاعة التونسية أو يشاهد التلفزة التونسية يقول« ،الطاهر
الخميري وعبد العزيز العروي و ّعاوا التوانسة»ِ ،
وعلق ذلك
لما كنت أتابع معه أحيانا مشاهدة بعض حكايات في ذهني ّ
العروي على شاشة التلفزة ،ولكن السؤال ّ
ظل يراودني ،هذا
ثم نسيته.هو العروي ،فمن هو الخميري؟ ّ
العلمي ،بحكم
ّ ثم في مرحلة أخرى ،وفي غمرة البحث ّ
االختصاص (السرديات والنقد المغاربي) طفا هذا االسم
مرة على السطح ،لكنّني لم أتو ّقف عنده كثير ًا مدفوعة
أكثر من ّ
بفكرة براغمات ّية ،كان مجال البحث أولى.
و ُأتيحت لي الفرصة ّ
لما أهداني األستاذ محمد الصالح
الرصاع متفضال مشكورا مجموعة أعمال الدكتور الطاهر
ّ
7
وتقصيت أنحاء النّظر في
ّ الخميري ،فانكببت على قراءتها،
تجربة بدت لي خاصة بعض ّ
الشيء باعتبار ثرائها المعرفي
والثقافي والفكري ،وتم ّيز سياقها -أو سياقاتها االجتماعية
الرسمية
وبتنوع مناحيها األدبية ّّ والثقافية والسياسية، -
والشعبية ،وانفتاحها على الحداثة وعلى التراث على حدّ
السواء.
ّ
وقد آثرت في هذا الموضع أن أختار للدراسة متنا محدّ د
المجال نسب ّي ًا من مجموع األعمال ،فوضعت الترجمات
جانب ًا ،واتخذت من كتاب «مكافحة الثقافة» و« مرآة المجتمع»
مدونة أروم من خاللها الوقوف على خصوصية الخطاب ّ
واستراتيجيات الكتابة عند الطاهر الخميري بوصفه مصلح ًا
تنوير ّي ًا ومثقف ًا عضو ّي ًا بالمفهوم الغرامشي.
اإلسهام األنثروبولوجي:
أ ّما الملمح االنثربولوجي الذي وسم جانب ًا من أعمال
بقوة في عمليه «قاموس العادات والتقاليد الخميري فحضر ّ
التونس ّية» و«مختارات من األمثال العام ّية التونس ّية» ،وهما
يقعان على مسافة غير بعيدة من األدب الشعبي ،وبهما ُيعدّ
الخميري رائد ًا في هذا المجال بالنّظر إلى د ّقة المرحلة التي
ظهرا فيها ،وغياب المحضن األكاديمي الذي يمكن أن يحتوي
التوجه.
ّ مثل هذا
8
أن ما دعا الخميري وحري بنا في هذا المقام أن نشير إلى ّ ّ
إلى سلوك هذا النهج في التعاطي مع ثقافة المجتمع يرتدّ
فيما يبدو إلى احتكاكه المباشر بطبقات الشعب على تباين
بالصحافة التي كانت مشاربها ،وتفاوت مستوياتها ،واشتغاله ّ
عمايشذ ّبالنسبة إليه رافد ًا ها ّم ًا ومح ّفز ًا ،وهو في ذلك لم ّ
كان يتعاطاه أمثاله من رواد النّهضة والتنويريين في المشرق
العربي من الكتاب والمثقفين الذين قال عنهم جرجي زيدان:
«المشتغلون في الصحافة في هذه النّهضة كثيرون ،إذ لم
قانوني ّإاّل كتب في
ّ مؤرخ أو
ينبغ أديب أو شاعر أو عالم أو ّ
بأن ثقافة شعب كل ذلك يقينه ّ جريدة أو مج ّلة 1».وأعمق من ّ
تتجزأ ،وأنّه ليس من شيء أولى بالدّ رس والتّمحيص في ما ال ّ
تمر بها المنطقة المغارب ّية
مرحلة ما بعد الكولونيالية التي كانت ّ
مقوماتها ،كاللغة سليمة ب ّينة
من تثبيت الهو ّية ،والمحافظة على ّ
سواء أكانت رسم ّية فصيحة أم عام ّية دارجة ،وكالدّ ين صحيحا
نق ّي ًا من الترهات واألباطيل ،فالتفكير في قاموس العادات
والتقاليد ،والعناية بجمع األمثال ،وما تناقلته أفواه التونسيين
بكل مناشط حياتهم ،وطرائق تفكيرهم. من أقوال مأثورة ترتبط ّ
الرغم من اإلعراض الذي لقيه الخميري بسبب وعلى ّ
تك ّلس بعض ّ
الذهن ّيات فيما هو موصول بالثقافة الشعب ّية آنذاك،
تشجع على مثل هذه ظل غياب منظومة ثقاف ّية أكاديم ّية ّ وفي ّ
فإن ما قدّ مه الباحث في هذا السياق يعدّ إسهام ًا الدّ راساتّ ،
مؤسسا ،ومنجز ًا كان له أثره البالغ في التعريف انثروبولوج ّي ًا ِّ
ّونسي ،وليس بخاف ّ بالتّطورات التي طرأت على المجتمع الت
9
توصلت إليه عند الغربيين ،الدّ راسات اإلنسان ّية على أحد ما ّ
رسمي
ّ األنثروبولوجية التي ال تم ّي ُز وال تُفاضل بين ما هو
شعبي في ثقافات شعوبها ،و«يستطيع المتت ّبع للحياة ّ وما هو
خاصة أن يشهد عدّ ة ّ الثقاف ّية عا ّمة ،وللدّ راسات اإلنسان ّية
أهميتها التي ال يمكن إغفالها ،أو تجاهلها ،فالذي تطورات لها ّ ّ
ال في تطورا مذه ً
أن الثالثين سنة الماضية قد شهدت ّ شك فيه ّ
ال ّ
الدّ راسات التي تتناول المجتمع بالوصف والتّحليل ،وتحاول
والتطور ،واالتّفاق
ّ أن ترصد مظاهر ال ّثبات والتغ ّير ،والجمود
والسلب في الظواهر االجتماع ّية ّ واالختالف ،واإليجاب
2
وال ّثقافية المختلفة».
ولن كانت هذه الجهود قد سبقت زمنها ،ولم تته ّيأ لها
شروط وجودها في حينها ،ولم تنتظم ضمن رؤية علم ّية
منهجية ،ولم تتأ ّطر داخل «عمل الفريق» الذي تقتضيه مثل
توصل إليه الخميري كان كافي ًا ألن ّ هذه البحوثّ ،
فإن ما
السبيل لمن جاء بعده ،ويكسر حاجز ًا سمح لمن بعده يمهد ّ
ّ
تطور المجتمع ،وآليات تشكّل بنياته المهتمين الباحثين في ّ
ّ من
الثقافية واالجتماع ّية بأن يخوض تجربة البحث باالتّكاء على
فردي كاد أن يل ّفه التعتيم والنسيان.
ّ منجز جهد
ّ
مبادىء التنوير:
في تقديمه الدقيق لكتاب «مرآة المجتمع» للطاهر الخميري،
يرى «محمد المي» أنّه يذكّره بسالمة موسى فيما له عالقة
«بتربية المجتمع وتوجيهه ومحاولة إصالح بعض مظاهر عيشه
10
يبرره تحديد ًا فيما
وكيف ّية إقامته على األرض» ،وهذا رأي له ما ّ
بالصحافة ،وحرصه على إصالح له آصرة باشتغال الخميري ّ
حال الشعب ،وتعليمه ،وإيقاظه ،وتنبيهه إلى ما يمكن أن يع ّطل
تطوره أو يعيق دورانها.
عجلة ّ
إن ما ع ّن لنا من خالل قراءة بعض لكن في الحقيقةّ ،
المتون المشرق ّية أظهر قرب ًا للخميري من «طه حسين» أكثر
من «سالمة موسى» ،وال أرى أنه يشبه أحدا بقدر ما يشبه طه
حسين في بعض أعماله ( بين بين ،نقد وإصالح ،من لغو
الصيف ،خصام ونقد ،أحاديث ،مرآة الضمير الحديث)...،
التي عالج فيها مشكالت المجتمع وثقافته ،والشعب وشؤونه،
فكما هجس هذا بأحوال المصريين وطرائق عيشهم ،وانتقد
أساليب تفكيرهم في دقائقها وتفاصيلها ،في نوع من الكتابة
تم فيها استدعاء صنوف من األدب والتاريخ والفكر التي ّ
والنادرة والخاطرة ،مع االستعانة في ذلك كله بثراء عدة
معرفية ،وأدوات تحليل ونقد اجتهد طه حسين في تعقيلها،
وأمعن في صياغة شعر ّيتها ،وتشكيل جمال ّيتها على النّحو
الذي يص ّيرها لصيقة به ،مالزمة له ،ومباينة في اآلن لما ارتضاه
الخميري أسلوب كتابة ،وسمت ًا في بناء نصوصه ،وإنّه من نافل
القول أن نسهب فيما انعقد حوله إجماع النقاد والدّ ارسين عن
خصائص الكتابة عند طه حسين ،أ ّما فيما يتع ّلق بالخميري في
فسنفصل الحديث فيها الحقا.
ّ هذا الجانب
11
وههنا ينبغي أن نشرع باب ًا وسيع ًا ندلف من خالله إلى
يتأسس عليها الفكر التنويري عند
معرفة المبادىء العا ّمة التي ّ
الخميري ،وتتقاطع إلى حدّ كبير مع تلك التي يتبنّاها «طه
ثم عن مسار «سالمة موسى» ومن انضوى حسين» ،وتبعده من ّ
معه تحت مظ ّلة واحدة .ومن أظهر ما استصفيناه من مبادىء:
ارتكاز الخميري على جانب الحداثة دون أن يناصب التراث
األعم األغلب يضرب المثل بالنموذج ّ العداء ،فكما أنّه في
االجتماعي والمستوى
ّ الحضاري ،والوعي
ّ الغربي في السلوك
ّ
قافي ،فإنّنا نلفيه في كثير من المواضع مشدودا إلى مقومات ال ّث ّ
مصوبا بعض
ّ الهو ّية العرب ّية اإلسالم ّية ،مدافعا عن اللغة العرب ّية
استعماالتها ،وهو في هذا يتطلع إلى غرض أساسي واحد:
إعادة إعطاء المدينة العربية -اإلسالمية أصالة وحركية تتيحان
3
لها أن تحتل بكرامة منزلتها في جوقة األمم الحديثة».
خط سير «سالمة موسى» وشبلي ثم يختلف تمام ًا عن ّ ومن ّ
ّ
المبشرين شميل» و«لطفي الس ّيد» من دعاة العلمان ّية والعقالن ّية
بمبادىء الثورة الفرنس ّية .
-هدوء الخطاب التنويري الخميري ،بالموازنة مع خطاب
الليبرانيين المشارقة ،ومنهم سالمة موسى الذي كان
التنويري حيث يقول:
ّ جريئا بل صدام ّيا في بث مشروعه
سر ًا وجهرة،
« هذا هو مذهبي الذي أعمل له طول حياتي ّ
بالشرق ،مؤمن بالغرب ،وفي ّ
كل ما أكتب أحاول فأنا كافر ّ
أن أغرس في ذهن القارئء تلك النزعات التي اتّسمت
12
بها أور ّبا في العصر الحديث ،وأن أجعل ّقرائي يو ّلون
4
ويتنصلون من ّ
الشرق»... ّ وجوههم نحو الغرب،
وفي المقابل ،يطالعنا «الخميري» بنبرة فيها كثير من التع ّقل
والوعي بطبيعة المرحلة ،وصالبة األرض التي يقف عليها حتّى
تزل به قدم ،ولنضرب مثاال على ذلك ما ورد في مفتتح مقال ال ّ
«اللغة الفرنس ّية في تونس» ،وهو بالمناسبة مقال دقيق خطير
على إيجازه ،يقول « :هذه كلمة البدّ لها من مقدّ مة ،وذلك
اجتناب ًا لسوء التّفاهم ، 5».وفي هذا ما يشي بحرص الخميري
على أن ُيفهم خطابه على الوجه الصحيح دون أن يحدث
ضباب ّية ،أو يخ ّلف جدالً.
وما يحسن الوقوف عنده في هذا الموضع تحديدا ،هو ّ
أن
هاجس التنوير في ذهن الخميري يعني تونس ّأوال وأخير ًا .لم
يكن الخميري ،معن ّي ًا بالشرق أو بالغرب بقدر ما كان معن ّيا بما
ومرات على الغرب ،ال الشرقّ ،مرة على ّ في تونس ،يعرضه ّ
بحس وطني ٍ
عال، ّ انتقاصي وال باستعالء تغريبي ،بل بتعريض
ّ ّ
وغيرة ظاهرة على أبنائه .
وإن كنّا ال نشكّك في ما كان يهدف إليه «سالمة موسى»
خاصّ ،
فإن ّ الشرق ،ونهضة مصر ،بوجه الرغبة في نهضة ّ من ّ
بالسطح ّية وعدم
أن اتهام «سالمة موسى ّ بعض الدارسين يرى ّ
ّعمق في التّحليل عند تناوله القضايا الفكر ّية ... ،يعود أساس ًا
الت ّ
... ،إلى اعتماده المقالة البسيطة واألسلوب البعيد عن التّعقيد،
أن األفكار التي كان ينشرها لم تكن سهلة الهضم آنذاك، ذلك ّ
13
كما كان مبدأ ممارسته الفكر ّية ،يقول « :يجب رفع ّ
الشعب إلى
الرفيع ».وعمال بهذا المبدأ اشتغل طوال حياته
مستوى األدب ّ
بالصحافة ،بدأها سنة 1909بالمقتطف ،وتخ ّلى عنها سنة ّ
6
1952باألخبار».
مما قرأ في -يختار «الخميري» نماذج نقده وإصالحه ّ
ومما عاشه من تجارب ّ
والمجاّلتّ ، والصحف ّ الكتب
ومما سمع من أخبار مع النّاس ،من النّخب ،ومن الع ّامةّ ،
ويمحصها،ّ نقلها له بعض األصدقاء والمعارف ،فيح ّللها
ويتّخذها تُكأة يش ّيد عليها رؤيته في التوعية ،بل في
استنهاض الهمم ،وإيقاظ الضمائر ،وترشيد سلوكات
الشعب ،وهو في هذا يتقاطع إلى حدّ كبير مع «طه حسين»
حدّ التطابق ،فلو أخذنا على سبيل المثال ال الحصر،
تهم المصريين كتاب «بين بين» وما طرحه من مسائل ّ
جراء التحوالت في تلك اآلونة ،وما طرأ على حياتهم ّ
االجتماعية ،والتيارات الثقاف ّية ،واألحداث السياس ّية،
أن الموضوعات المطروحة فيه بعناوين من مثل: لتب ّين ّا ّ
«األدب والسياسة (جد وهزل)» ،و«عيد» و« طيف»
الذوق» و«خوف» و«النفوس و«الضمائر القلقة» و«في ّ
القلقة» و«شياطين اإلنس والج ّن» و«جوع وأحاديث»...
تقترب في كثير مع ما طرحه «ال ّطاهر الخميري» في
أحاديثه ومقاالته.
14
يقول طه حسين في مقال بعنوان «خوف»« :لست أدري أين
قرأت ،بل لع ّلي أعلم أنّي قرأت في فصل طويل أراد به صاحبه
تعريف مصر إلى أعضاء المؤتمر البرلماني الدولي 7»...وفي «
أن في الضمير المصري شيئا من الضمائر القلقة» يقول « :يظهر ّ
قلق يحتاج أن يعنى بها الذين يهمهم أن يكون الضمير المصري
راضيا مطمئنّا وآمنا ومستريحا 7».وفي «جوع وأحاديث» يقول:
نشق عليهم في القول،األعزاء أن ّ
ّ « ال يغضب المواطنون
الحق ،وإن لم يبلغ
ونعنّف بهم في الحديث .فقد يجب أن ُيقال ّ
9
الرضى».
من نفوسهم موضع ّ
و نكاد نقع على ما يشبه هذا وأكثر عند الخميري في كتابه
ضم بين دفتيه عناوين من مثل « :المشية «مرآة المجتمع» الذي ّ
والخلق» و« توضيح فكرة» واالستقالل االقتصادي» و«
بمناسبة المولد» و« النساء في األسواق» و« مجهودات ضائعة»
وعرج فيها على الواقع التونسي ،ون ّبه إلى وقليل من السياسة»ّ ،
وحذر من مكامن الخلل التي تكاد تعصف مواطن الضعف فيهّ ،
بمقدّ راته ،وتنسف بنياته االجتماعية والثقافية واإلنسان ّية ،مؤكّدا
صدوره عن رغبة جامحة وأمل طافح في أن تنصلح أحوال
الوطن بالنقد والتصويب ،ويستقيم أمر شعبه تقدّ م ًا وازدهار ًا،
يوضح بشكل ب ّين وصارم أنّه : لذلك نجده في مقدّ مة الكتاب ّ
« في مرآة المجتمع» هذه ،ال أكتب بلغة (أنا) و(أنتم) أو بلغة
(نحن) و(أنتم) ،وإنّما أكتب بلغة (نحن) فقط .هذا الوطن هو
بيتنا األكبر ،ونحن مث ّقفون على أنّه بحاجة شديدة إلى التنظيم
10
والتّنظيف ،فيجب أن نتعاون على تنظيفه وتنظيمه».
15
والتد ّبر في دالالت هذه الرؤية يص ّير أمر اختالف
الخميري عن سالمة موسى وطه حسين وغيرهما من
اإلصالحيين والتنويريين المشارقة فارق ًا وجوهر ّيا ،ويتم ّثل في
تشاركي ال من زاوية
ّ بمهمة المثقف من منظور
ّ ذلك الوعي
مما اقترحه «علي حرب» في سياق نخبو ّية ،وهو هنا يقترب ّ
آخر ( من ضمن ما اقترحه الستدراك ما فات ،والستباق الزمن
وفتح آفاق المستقبل) من ّ «كسر عقلية النخبة واالنتقال إلى
المجتمع التداولي حيث كل الناس هم فاعلون ومشاركون
كل في موقعه وبأدوات اختصاصه في أعمال البناء واإلنماءّ ،
11
وإبداعاته في مجال عمله».
ّحضر خليق ًا بأن ُيقتدى
-اتخاذ الخميري اآلخر مثاال للت ّ
به ،ونموذجا للمدن ّية ينبغي أن ُيحتذى ،ولم يكن له بدّ من
ذلك ،فليس لمن عاش في الغرب آنذاك ،ورأى عن كثب
ما ينعم به القوم من راحة ،وما يجدونه من رغد العيش،
تطور علومهم ،وضخامة عمرانهم ،وصدق ليس بسبب ّ
ساساتهم وقادتهم ،بل بوعيهم بذواتهم ،وبالتزامهم
بقواعد األخالق التي تواضعوا عليها ،واعتقادهم الجازم
بأن القوانين التي تحكمهم تسري عليهم بوصفهم ّ
مواطنين كاملي الحقوق.
و قد ُيقرأ هذا النمط من التفكير على أنّه نوع من االستالب،
الغربي فنحن بالتّأكيد
ّ على اعتبار أنّنا حين نعجب بالمثال
«نفتّش رغم ذلك على أنفسنا في مرآة الغرب المتصدّ عة،
16
ونبحث عن حداثة شبيهة بحداثة الغرب ،وعن مدن ّية مماثلة
للمدن ّية الغرب ّية ،ونضغط واقعنا وفق النّماذج الغرب ّية تائهين عن
السعي ّ
وأن ّ
ً 12
مما أحدث ارتجاجا ور ّدة أكثر خطرا « أنفسنا ّ
إلى التقليد والمحاكاة بدافع المضاهاة والمماثلة ،والواقع
أن ما أنجزه الخميري ال يستقيم وهذا المنظور ،وليس فيه ما ّ
صحته في الكتابين كليهما ،فهو ،وإن كان ُيقيم الدّ ليل على ّ
قد أعلنها صراحة في مقدّ مة كتاب مرآة المجتمع قائالًْ « :
سل
الذين قضوا فصل الصيف الماضي في شمال فرنسا أو شمال
ألمانيا ،أو في أنقلترا وبق ّية شمال أور ّبا ،سلهم ُيخبروك أنّهم
ثم ابحث عن السبب تجد ّ
أن رأوا هناك حياة أفضل وأجملّ ،
هؤالء كتبوا كثيرا في انتقاد أنفسهم ،وانتقاد بعضهم البعض،
فتع ّلموا كيف يضحكون على ما فيهم من ألوان الضعف
البشري وتمكّنوا من التغ ّلب عليها ،أعرف عشرات من كتب ّ
مطولة
وضعها األلمان في محاسن األنجليز...و أعرف فهارس ّ
13
تحتوي على ما كتبه األلمان»...
أن الخميري ُأثنى على أورباِ ،
وأشاد فإن ذلك ال يعني ّ ّ
بجمالها هيام ًا فيها ،وفناء في أوطانها ،وإنّما ليع ّلم أبناء بلده
الذات ،وأثرها في توعية الشعوب بواقعها ،وإدراكها فضيلة نقد ّ
لمقدراتها.
سماه هو «قتل القيم» في
و مثل ذلك عندما ن ّبه إلى خطورة ما ّ
كتابه « مكافحة الثقافة» حينما عقد مقارنة بين ما فعله األنجليز
مع شكسبير الذين أكثروا من الكتابة عنه حتى سئمه النّاس،
17
وبين ما يمكن أن يفعله التونسيون مع أبي القاسم الشابي ،وهو
إذ يفعل ذلك ،فإنّه ينشىء خطاب مشابهة بين الطرفين ،وينتقد
يشهر ليخلص في آخر المقال إلى القول:ليبني ال لينتقص أو ّ
« هذه هي نقائصنا ،وهي -بالنّسبة إلينا -من نقص القادرين
14
على التّمام».
وفي موضع آخر ،يشرعن «الخميري» فكرة استعارة النظام
القوي الدقيق
ّ الفرنسي ،وينعته بكونه « ذلك الجهاز
ّ اإلداري
ويبرر بكون تونس لم تخرج عن سرب الشعوب ّ المحكم»
لما استعارت ذلك النظام اإلداري ،فيقول « :أخذنا عن األخرى ّ
فرنسا الكثير من نظامها اإلداري كما أخذ غيرنا من الشعوب
المعاصرة ،واستفدنا من ذلك كما استفادواّ ،إاّل أنّنا لم نحسن
ً 15
األخذ دائما».
و غاية ما نخلص إليه من تعاطي الخميري مع الغرب ،ذلك
يعب من منابعه ال ّث ّرة ،ويتق ّلب
اآلخر الذي قضى زمنا غير قصير ّ
في محاضنه المعرف ّية والثقافية ،ليعود بها إلى أبناء مجتمعه،
ومتنور ًا
ّ يجوس في مساربه ،ويتخ ّلل مغاوره مصلحا غيور ًا،
أثقل كاهله ما يعانيه شعبه من تخ ّلف ،وما ينطوي عليه مجتمعه
من مظاهر التفكّك والتدهور.
خاتمة:
لم يتّسع المقام في هذا الموضع لتفصيل القول في جوانب
أخرى م ّثلت عالمات مضيئة في منجز «الخميري» ّ
خاصة فيما
18
بالصحافة عالقة وثيقة ،أو ما
له باألدب نسب صريح ،وأو ما له ّ
ربطته بالترجمة صلة وطيدةّ ،
لعل سانحة أخرى تتيح لنا إمكان
اإلفاضة في هذا الجانب أو ذاك.
فإن ما قدّ مه الخميري في مجاالت الشأنّ ،وأ ّيا كان ّ
الثقافة والسياسة واألدب والفكر خليق بأن ُيثمن وما أسداه
لمجتمعه من خدمات جليلة ،وإرشادات ق ّيمة ،وتصويبات ما
زلنا إلى اليوم في حاجة إليها في تربية شبابنا ،وتوعية نسائنا،
الرجل ما زال بحاجة إلى إن كثير ًا ّ
مما كتبه ّ وتوعية مثقفينا ،بل ّ
أن ُيتدارس ،وتنشر عليه بقعة ضوء تُجلي الكثير من العتمة،
وتنفتح على عديد الدّ الالت.
19
الهوامش:
-1جرجي زيدان ،تاريخ آداب اللغة العرب ّية ،ج ،4موفم
للنّشر ،تقديم إبراهيم صحراوي ،1993 ،ص .439
عبي وثقافة المجتمع ،دار مصر -2أحمد مرسي ،األدب ّ
الش ّ
المحروسة ،القاهرة ،2008 ،ص .9
». -3محمد أركون ،الفكر العربي ،مع مقدمة من المؤلف
العوا ،منشورات
ّ خاصة بالطبعة العربية ،تر د عادل
عويدات ،لبنان -باريس ،ط ،1985 ،3ص )150
-4سالمة موسى ،ماهي النّهضة ومختارات أخرى ،موفم
للنشر ،2000 ،الجزائر ،ص .12 -11
-5الدكتور الطاهر الخميري ،مكافحة الثقافة ،جمع وتقديم:
محمد المي ،سلسلة كتاب الشهر رقم ،62دار سحر ّ
للنشر ،تونس ،2023 ،ص.27
-6مصطفى ماضي ،تقديم كتاب «ماهي النّهضة لسالمة
موسى ،موفم للنشر ،2000 ،الجزائر ،ص .15
-7طه حسين ،بين بين ،دار العلم للماليين ،ط،12القاهرة،
،1983ص .89
-8طه حسين ،بين بين ،ص .96
-9المصدر نفسه ،ص .142
20
محمد
ّ -10الطاهر الخميري ،مرآة المجتمع ،جمع وتقديم:
المي ،سلسلة كتاب الضهر رقم ،62دار سحر للنشر،
تونس ،2023 ،ص .11
-11علي حرب ،ثورات القوة الناعمة في العالم العربي ،نحو
تفكيك الدكتاتوريات واألصوليات ،الدّ ار العربية للعلوم
ناشرون ،منشورات ضفاف ،لبنان ،2011 ،ص .13
محمد الجبابلي ،المقدّ س وغربة اإلنسان ،الدّ ار التونس ّية
ّ -12
للكتاب ،تونس ،2012 ،ص .118
-13الطاهر الخميري ،مرآة المجتمع ،ص .12
-14الطاهر الخميري ،مكافحة الثقافة ،ص .48
-15الطاهر الخميري ،مرآة المجتمع ،ص .97
21
الدكتور ّ
الطاهر الخميري
أنتروبولوج ّيا
مراد الضويوي
جامعة جندوبة
المعهد العالي للعلوم اإلنسان ّية بجندوبة
لم يكن الخميري ع َلما من أعالم الجامعة التونس ّية شأنه في
ومحمد اليعالوي
ّ ذلك شأن أعالم كبار مثل الشاذلي بويحيى
ومحمد مختار العبيدي ...وآخرين.
ّ
لقد لفظته الجامعة التونس ّية لفظ النواة بل أغلقت األبواب
ممن هم دونه
دونه وفتحتها مشرعة على مصراعيها آلخرين ّ
تخصصه العلمي الدّ قيق. وال يمارونه في ّ
لقد كانت أبحاثه من أوائل األبحاث ا ّلتي قدّ مت في
مهما في البرامج العلم ّية في مختلفتخصص يشغل اآلن ح ّيزا ّ ّ
الجامعات العالم ّية نعني به علم« :األنتروبولجيا الثقاف ّية» .
لقد ولد الدكتور ال ّطاهر الخميري سنة 1899بمدينة تونس
الزيتونة والخلدون ّية وأتم
ثم جامع ّ
ابتدأ تعليمه في كتّاب البنّاني ّ
تعليمه في أنقلترا وتعليمه العالي في ألمانيا وحصل على شهادة
الدكتوراه من جامعة هامبورغ األلمان ّية سنة 1936وعلى إجازة
23
في تدريس الح ّية من الجامعة نفسها سنة 1937م ،درس من
ال ّلغات العبر ّية والسريان ّية واليونان ّية والالتين ّية والفارس ّية
والترك ّية واإلنقليز ّية واأللمان ّية وله من المؤلفات :
ـ زعماء األدب العربي المعاصر طبع في اليبزيغ سنة 1930
باإلنقليز ّية
1937 ـ مفهوم العصب ّية عند ابن خلدون في هامبورغ
باأللمان ّية
ـ وقد ح ّقق له الباحث ّ
محمد المي ستّة كتب نشرها تباعا في
سلسلة كتاب ّ
الشهر عن دار سحر للنشر :
ـ هاملت تعريب الدّ كتور ال ّطاهر الخميري جمع وتقديم
المي
محمد ّّ
ـ يوليوس قيصر
ـ عطيل
ـ مكافحة الثقافة
ـ قاموس العادات والتقاليد التونس ّية
(((
ـ مرآة المجتمع
24
- 1أنتروبولوجيا الثقافة:
أفرد الخميري في الثقافة كتابا وسمه بمكافحة الثقافة وتم
نشره في شهر مارس 1957هذا الكتاب صدر في شكل مقاالت
يوم ّية كتبت بين سنتي 1954و 1955في جريدة الصباح
الذي يعنيه مصطلح الثقافة وجمع بينها موضوع الثقافة فما ّ
فضال عن مكافحة الثقافة عنده لقد رأى محقق هذا الكتاب عن
أن الخميري « كان كمن يقاوم مدّ ا جديدا بدأ يستفحل في حق ّ
ّ
للتحرر وهو بذلك كمن كان يدعو ّ جسم مجتمع ناهض وتائق
المث ّقفين إلى اإلطالل على ثقافة مختلفة وعدم التل ّبس بالثقافة
الفرنس ّية لغة وعادة وتقليدا» ((( ،لقد عمد الدكتور الخميري
في هذا الكتاب إلى تحديد عالقة األدب بالحياة االجتماع ّية
وكيف يمكن لألدب أن يقوم بدور في بناء المجتمع الجديد
التحرر وبناء شخصيته ونحت كيانه على حدّ ّ مجتمع يتوق إلى
تعبير محمود المسعدي ،لقد كثر استعمال كلمة «ثقافة» كما
يقول الدكتور ال ّطاهر الخميري وكثر سوء استعمالها حتى
تدل على تدل على أشياء كثيرة وال ّارتخت واتسعت فصارت ّ
سياسي أو
ّ خاصة عندما يتع ّلق األمر بتوظيف
ّ شيء مع ّين،
إيديولوجي لهذا المصطلح على نحو ما نقرأ في إعالن نشر
ّ
ودونته
في إحدى الجرائد التونس ّية بتاريخ ّ ،1952/ 03/22
يقول الدكتور الخميري يومئذ لطرافة القالب ا ّلذي وضع فيه،
«انعقد اجتماع رهيب تحت إشراف شعبة المكان الدستور ّية
25
تجار ودستوريين وعملة وفالحة ضم جميع طبقات األهالي من ّّ
ونقابيين» فعدّ الدستوريين طبقة من طبقات األهالي ال تشمل
التجار والعملة والفالحين ،والنقابيين كما عدّ المثقفين طبقة
تختلف عن ممثلي المنظمات القوم ّية األطباء والمحامين
واألدباء» ((( ،لقد انخرط الخميري في الشأن العا ّم شأنه في
الشعب عبر الجرائد ذلك شأن النخب المثقفة ا ّلتي تعاملت مع ّ
واإلذاعة فال يختلف خطاب الدكتور الخميري عن خطب
الرئيس» أو حكايات الزعيم الحبيب بورقيبة «توجيهات الس ّيد ّ ّ
تحولت إلى سلطة اجتماع ّية مثلما ال عبد العزيز العروي ا ّلتي ّ
يختلف كتاباته عن جيل االستقالل ،لقد نشر الدكتور الخميري
األول في تونس أبحاثه في سلسلة كتاب البعث الكتاب الشهري ّ
ومحمد الحليوي ّ كرو
محمد ّ
ّ شأنه في ذلك شأن أبي القاسم
ومحمد المرزوقي ّ ومحمد مزالي،
ّ ومحمد العروسي المطوي
ّ
وعثمان الك ّعاك وناجية ثامر ...كانت هناك طبقة من المثقفين
الجدد األنتلجنسيا التونس ّية الجديدة اآلخذة في التشكّل في
الحرة المستق ّلة اتّجذت من الصحافة المكتوبة واإلذاعة تونس ّ
من منبرا جديدا لحوار مباشر تصل به جسور التواصل مع
الشعب .إنّها ثقافة الجماهير أو الثقافة الشعب ّية مدخال جماهير ّ
لفهم المجتمع وتحليل بنياته النفس ّية واالجتماع ّية والدّ ين ّية فئة
الذين آمنوا بالفعل الثقافي والسياسي واالجتماعي من المثقفين ّ
في مجتمع يعيش حراكا سياس ّيا واجتماع ّيا وثقاف ّيا مع صعود
26
التحرر العالمي في األربعينيات والخمسينيات في
ّ حركات
القرن العشرين.
من هنا لم يستنكف الخميري من االهتمام باألدب
الشعب ّية والعادات والتقاليد التونس ّية ألن الشعبي والثقافة ّّ
ولعل هذا ما جعله يطلق هذه ّ الثقافة ّ
الشعب ّية مرآة المجتمع
التسمية على عناوين كتبه (((،ولهذا سيأخذ الدكتور الخميري
منحى سوسيولوج ّيا أو أنتروبولوجيا في محاولته لتعريف
مصطلح الثقافة ،مستشهدا بابن خلدون تارة وبرواد المدرسة
التوجه األنقلوسكسوني، ّ خاصة ذاتّ االجتماع ّية طورا آخر،
فالثقافة من منظور اجتماعي أنتروبولوجي هي « القيم الماد ّية
متوحشا ،والثقافة
ّ ألي شعب سواء أكان متمدّ نا أو واالجتماع ّية ّ
وتتكون من
ّ الخاص لشعب من ّ
الشعوب ّ هي أسلوب الحياة
مجموعتين من العناصر عناصر ماد ّية كالصنائع والفنون
وعناصر غير ماد ّية كالعادات والمعتقدات ،إنّه يمتاح من
كل نماذج قاموس علم االجتماع فيطلق مصطلح الثقافة على ّ
السلوك االجتماعي ويشمل اللغة والصناعات والفنون والعلوم
والقوانين ونظام الحكم واألخالق والعادات والتقاليد والدّ ين
والمؤسسات ،فالثقافة إذن بهذا المعنى ّ والبناء والمواصالت
هي أسلوب حياة المجتمع بصرف النّظر عن درجة الحضارة
الخاصة وهي تتمثل فيّ والتقدّ م في العلوم ّ
فلكل شعب ثقافته
جانبها الما ّدي في اآلالت واألدوات والسالح واللباس وتتمثل
27
في جانبها غير المادي في القيم والمعتقدات ((( ،الثقافة بالمعنى
كل المفاهيم والقيم ا ّلتي يقول بها أعضاءالعلمي للكلمة هي ّ
مجتمع من المجتمعات فتؤثر في أنماط سلوكهم.
ّ
②- 2أنتروبولوجيا العادات والتقاليد التونسية :
مجرد قاموس لم يكن قاموس العادات والتقاليد التونس ّية ّ
تعرف لغة واصطالحا تعريفا معجمي يحتوي مداخل معجم ّية ّّ
مشتقا من سياقه الثقافي واالجتماعي ،بل إنّه قاموس في
األنتروبولوجيا الثقاف ّية ،تمتاح من سوسيولوجيا اللغة والدّ ين
والتّاريخ والثقافة الشعب ّية ودونك شواهد عديدة مثل
تعريف الوحدات المعجم ّية التّالية:
ـ خبز :يسمى الخبز نعمة ونعمة ر ّبي ويتأثم من أسقط فتاته
على األرض ووطئه باألرجل وإذا وقع الخبز على األرض
ثم يرفع إلىيقرب من الشفتين ّ ويشرف أي ّ ّ فإنّه يرفع ويباس
الصغار عن اللعب بالخبز ويخوفونه بالعبارة « الجبين وينهى ّ
اللي يلعب بالخبز ربي يحرقه بالنّار ...يقال عند االنفصال بين
يحس بقرب أجله الزوجين وفات الخبزة ...والمريض ا ّلذي ّ
خبزتي تع ّلقت ...ومن األمثال الواردة في الخبز :خبز السميد
البراني ...وخبز
ير ّد الخدّ حديد وخبز السوق ما ياكله كان ّ
(((
وماء والهناء وال الدّ ويدة والبالء »...
28
مجرد رصف المفاهيم لوحدات ّ يتجاوز األمر
معجم ّية مشت ّقة من الثقافة الشعب ّية إلى إحالتها على سياقها
السوسيوأنتروبولوجي أي صورة الخبز في المخيال الشعبي
وقس على ذلك مداخل معجم ّية أخرى دين ّية واجتماع ّية
وسياس ّية يمكن أن تكون مفتاحا لتحليل بنى المخيال
االجتماعي والدّ يني والسياسي من ذلك الما ّدة المعجم ّية « دار
أجواد « هو بيت تسجن فيه المرأة ا ّلتي تسيء معاشرة زوجها
أو تستعصي على أبيها أو ول ّيها ويكون سجنها بأمر من القاضي
(((
الشرعي
(((
ـ خاتم الرحمان :عبارة يكنّى بها عن البكارة
أن الج ّن يسكنون تحت األرض وفي حن :يعتقد ّ
ـ مدخل ّ
ذلك يقال فوقنا ناس وتحتنا ناس إنّهم يخرجون في الظالم
وإنّهم يأكلون ويشربون ويشتهون بعض أطعمة اإلنس ،لذلك
يوضع لهم بعض من األطعمة على عتبة باب المطبخ ويقال
إنّهم يشتهون طعامنا وفيهم البكر واليتيمة والحبلى المتوحمة،
إنّهم يساكنون اإلنس في البيوت ،ويشار إليهم بعبارات ممالي
أن بعض الج ّن يعشقون الجنس الدّ ار والناس األخرى .ويعتقد ّ
الزواج
الرجل إنّه ملكاته جن ّية وهذا يمنعه من ّ
المقابل فيقال في ّ
(((
...
29
مجرد محاولة معجم ّية لوضع قاموس يتجاوز األمر إذن ّ
للعادات والتقاليد التونس ّية فنحن إزاء دراسة سوسيولوج ّية
خاصة بإحالتها على
لألمثال التونس ّية الواردة في هذا القاموس ّ
سياقها التاريخي واالجتماعي ا ّلذي أنتجها واستنطاقها على
لسان أصحابها في لغتهم العام ّية.
أو رؤية مث ّقف أنقلوسكسوني تش ّبع بالثقافة األنجليز ّية نقد
فيها التأثير السلبي للفرنس ّية على التونسيين وتغييب الهو ّية
الثقافية الوطن ّية والقوم ّية والدّ ين ّية ،فكان كمن يقاوم مدّ ا جديدا
أن فرنسا قد خرجت جسدا ولم استفحل منذ الخمسينيات ،إذ ّ
تخرج روحا .
من هنا كان كتابه «مكافحة الثقافة» رصدا لعالقة األدب
الشعب ،فكيف يمكن لألدب أن بالحياة االجتماع ّية وهموم ّ
يقوم بدور في بناء المجتمع الجديد؟ ،إنّه أدب جديد ال يراوغ
الشعبوال يكذب وال يخذل وال يخون ،إنّه ينبع من هموم ّ
القراء :جمعت
بل إنّه ينطق على لسانهم يقول الخميري «إلى ّ
هذه النّصوص من أفواه العديد من النّساء بمدينة تونس بين سنة
1953و 1962فهل تعرفونها برواية أخرى أو تجدون فيها ما
التفضل بإرسال الجواب
ّ يحتاج إلى التصويب والتكميل ،نرجو
إلى قاموس العادات والتقاليد التونس ّية شارع باريس تونس(((»
إن وجود مثل هذه المعتقدات القديمة ا ّلتي هي جزء ال ّ
يتجزأ من الثقافة الشعب ّية ـ يقول الخميري ـ «مع انتشار التعليم
ّ
30
يجعل فهم الحياة الدّ ين ّية في تونس اليوم صعبا ويجعل وصفها
مضطربا غير دقيق األمثال تدخل اليوم في حديث النّاس
من مختلف ال ّطبقات بعضها يفهم على غير وجهه وبعضها
يدل عليه لفظه... يستعمل في غير موضعه وبعضها ال يراد به ما ّ
عامة وهي في جملتها تم ّثل ّ
الشعور الدّ يني والقيم الدّ ين ّية عند ّ
الصلةالشعب»((( ،هذا فيما يتع ّلق بالمواد المعجم ّية ذات ّ ّ
يخص األمثال المتع ّلقة ّ بالعادات والتقاليد الدّ ين ّية أ ّما فيما
فيخصها الخميري بتحليل ّ بالحياة االجتماع ّية والفلكلور
سوسيولوجي عميق يربط الحياة الثقاف ّية بمختلف األشكال
السائدة في فترة زمن ّية مخصوصة على نحو ما نقرأ في الفن ّية ّ
الرقص أن ّمما ال مراء فيه ّ الما ّدة المعجم ّية « :رقص» ّ :
(((
31
اللغوي واالجتماعي بل يعدوها إلى اإلحالة
ّ ور ّدها إلى سياقها
المرجع ّية والتوثيق العلمي الدّ قيق:
الساكنة
الزاي وفتح العين وتشديد الالّم ّ ـ زعلقي بسكون ّ
الشرير الخبيث الفتّاك « فدخل بعض الزعالقة من الغوغاء ...
ّ
وولج على الحاجب رضوان في داره فقتله»((( .
نجد في اللهجة التونس ّية زعلقي وزعلوك وعزلوك ك ّلها
محرفة عن صعلوك لشبهها بصفات صفات مستقبحة فكأنّها ّ
«ذؤبان العرب» أي صعاليكها وفتّاكيها ومنه «زميم» بسكون
الزاي وكسر الميم مقدّ م جماعة ال ّلصوص ومنه ّ
قصة «األربعين ّ
(((
سارق وزميمهم»
فكري متكامل كانت له دوافعه المعرف ّية
ّ نحن إذن إزاء مشروع
والذات ّية يرويها الخميري بنفسه «في سنة 1955دعيت إلى
جامعة دجونز هوبكنز بواشنطن للمشاركة في مشروع دراسات
عن شمال إفريقيا كنّا شرقيين ومستشرقين وكانت ترد في بعض
الخاصة بتونس ألفاظ عرب ّية ال نجدها في القواميس ّ النصوص
العرب ّية بمعناها المعروف في تونس ...هناك شعرت بالحاجة
إلى معجم للعام ّية التونس ّية وقاموس للعادات والتقاليد التونس ّية
وبدأت بجمع المواد الالّزمة لذلك»(((.
ثم قام بنشرها تباعا في صحف تونس ّية وفي مج ّلة اإلذاعة
ّ
خاصة تحت عناوين : ّ
((( تاريخ ابن خلدون 375 4بيروت ( + 1958قاموس العادات ص ) 161
((( قاموس العادات والتقاليد التونس ّية ص 164
((( قاموس العادات والتقاليد التونس ّية ص 171
32
ـ أمثال وعبارات عام ّية تونس ّية
ـ شواهد معجم األلفاظ العام ّية في ال ّلهجة التونس ّية
ـ ألفاظ الحضارة في العام ّية التونس ّية
ـ فقه العام ّية التونس ّية
المعرب والدّ خيل في العام ّية التونس ّية
ّ ـ
وفي مج ّلة اإلذاعة :
ـ من قاموس العادات والتقاليد التونس ّية
محمد الميّ حتّى اكتمل صرح هذا المشروع مع الباحث
كل أعماله بمناسبة ا ّلذي أقدم على جمع وتقديم وتحقيق ّ
ّ
الذكرى الخمسين لوفاته تكريما له في ندوة علم ّية دول ّية .
خاتمة:
من قاموس العادات والتقاليد التونس ّية إلى مرآة المجتمع
إلى مكافحة الثقافة إلى ترجمة هاملت وعطيل ويوليوس قيصر
إلى العرب ّية الفصحى ،كان هاجس الدكتور ال ّطاهر الخميري
مكافة ثقافة سائدة بائدة أنتجها االستعمار على امتداد قرن
الزمان وتواصلت بعد االستقالل من خالل تشجيع الثقافة من ّ
الشعب،الفرنكفون ّية ،وإنتاج ثقافة جديدة أشدّ التصاقا بهموم ّ
إنّها ثقافة الجماهير ال جمهور ّية الثقافة ،فالثقافة بالمعنى
كل المفاهيم والقيم ا ّلتي يقول بها أعضاء
العلمي للكلمة هي ّ
مجتمع من المجتمعات فتؤثر في أنماط سلوكهم.
33
جدل الثقافة بين الخصوصية
والكونية في فكر الدكتور الطاهر
الخميري:
رشيد الزواوي
مقدمة :
يثير هذا العنوان في تركيبه العديد من المحاذير واالسئلة
وينطوي على جملة من اإلشارات اإلشكالية علينا البدء
بالكشف عنها والبحث عن المدخل المناسب اللتقاطها
فصياغة مقالة حول جدل الثقافة في فكر الطاهر الخميري
ليست من المسلمات أو الموضعيات سهلة التعامل معها ،وإنما
35
المهمة تقتضي دوما فهما مفهوميا لفكر الخميري والسياقيات
التاريخية والظروف الموضوعية التي حفت بهذا الفكر.
لم يعد مريحا ألحد اليوم االطمئنان لمفاهيم مثل الجدل
أو الثقافة أو الهوية والتي مثلت في السابق محاور للنقاش
وبحث عن حدودها ،فهي في النهاية موضوعيات للنقاش في
األدبيات والفلسفات وعلم االجتماع الخ ...فإن نكتب اليوم
حول الطاهر الخميري هي محاولة إلحياء هذا الفكر والذي
جمع بين اإلبعاد األكاديمية والثقافة الشعبية كتابة وترجمة وان
تعددت االنتقادات لفكر الرجل من جهة سوء الفهم تعتبر في
حد ذاتها اعترافا ضمنيا للقيمة العلمية للطاهر الخميري .
إنا مقاربتنا لفكر الطاهر الخميري هو اعتراف بالمكانة
الفكرية والثقافية التي ساهمت في إرساء الهوية الوطنية
وتكريس لمفهوم الخصوصية الثقافية .
36
ماذا سيكون أو من سيكون لئن الكتابة تبقى تمرينا يوميا .ان
الطاهر الخميري ليس كغيره من مفكري عصره ألنه ال يفكر
وحيدا متفردا ثابتا في أشياء توقظ رغبته منعزال هناك عن آالم
شعبه ،وإنما يعتبر من جيل أخذ على عاتقه مشاغل وهموم
مجتمعه السياسي والثقافي والفكري .
يستحيل على المرء في شخص الخميري أن يخرج عن
عصره إال متوحدا متأمال ويتعذر عليه االبتعاد عن مجتمعه
إال مهاجرا مغتربا تائها في دروب ال يؤدي إلى أي مكان ،لكن
يستحيل عليه أيضا البقاء واالستمرار في تكرار نفسه .
في الحقيقة ال يمكن قراءة أثر الطاهر الخميري بمعزل
عن جملة النصوص التي جمعها وقدمها األستاذ محمد المي
والصادرة عن دار سحر للنشر سلسلة كتاب الشهر بمناسبة
خمسينية الدكتور الطاهر الخميري لسنة ( 2023/2022مرأة
المجتمع /مكافحة الثقافة +هملت وغيرها من المؤثورات.
ما يمكن مالحظته منذ البداية أن الفهم العميق لفكر الطاهر
الخميري قد يتطلب منا قراءة دقيقة ومتأنية لجملة اإلنتاج
الفكري سواء كانت مقاالت أو كتب أو منشورات وقد حذرنا
بدءا األستاذ محمد المي من ضرورة عدم اعتماد القراءات
االسقاطية يقول «إننا ال يمكن فهم هذا الكتاب (مرأة المجتمع)
إذا أخرجناه من سياقه التاريخي الذي كتب ونشر فيه»((( ونجد
((( الطاهر الخميري :مرآة المجتمع ،جمع وتقديم محمد المي ،دار سحر
للنشر 2022 ،ص 5
37
نفس الصياغة في معرض تقديمه لكتاب « مكافحة الثقافة»
إننا « ال نفهم خطورة هذا الكتاب إال بوضعه في ظرفه ألزماني
والنظر إليه بمالبسات وظروف تلك المرحلة»(((بمعنى أن
الحكم المسبق على أعمال الطاهر الخميري بعيون معاصرة
أو إسقاط اإلحكام أو إعادة التصنيف قد تؤدي إلى سوء الفهم
أو عدم الفهم .وعليه ال يمكن تصنيف هذه الكتابات علي أنها
مجرد إنتاج ثقافي يدخل في دائرة المستهلك واليومي وإنما
هي رؤية ثاقبة النشغاالت العصر يتنوع فيها النقد بجميع أبعاده
سواء كان أدبي انتربولوجي اجتماعي عقدي وحتي السياسي.
ليس من السهل علينا اليوم تصنيف الرجل على انه مجرد مفكر
أو مثقف عضوي أو مترجم وإنما هو جماع هذا وذاكا قد جعل
من فعل الكتابة تمرين يومي للتعبير عن انشغاالت المجتمع
ويعالج بها ثقافة أمة خرجت للتو من االستعمار .
أن يكون الطاهر الخميري مفكرا معناه أن يكون قادرا
على صياغة السؤال من خالل اللغة واالزدحام المفاهيم
المخصوص الذي يراه مناسبا لثقافة عصره وذهنية مجتمعه.
إن تجربة الطاهر الخميري من الفرادة بمكان من جهة
تجربته على احتمال وجود آخر في عالقته المركبة باإلرث
الثقافي الهووي وتجربته الفردية خارج حدود ذاته ووطنه وبلده
قد يبدوا لنا أن الطاهر الخميري الشخص والطاهر الخميري
المفكر ليس واحدا من جهة اللغة واالنتماء والهوية فأن يكون
38
مفكرا هذا ال يعني أنه امتهن حرفته الكتابة وإنما هي قدرة على
التحمل وجهد متواصل ،أن يكون مفكرا معناه أن يكون بال
هوية فهو هويات متعددة حيث تنزلق هذه النفس المتعبة في
أنفاس اآلخرين.
كتب الطاهر الخميري في الثقافة واألدب والسياسة حاول
من خالل أسلوبه اللغوي تأصيل معنى الخصوصية في الثقافة
التونسية التي أصابها بعض التحير في زمنه وحاول االرتقاء
باللغة ونمط العادات والتقاليد إلى الكونية .وهذا ما قد نلحظه
في كتاباته من خالل (مرآة المجتمع ،أو مكافحة الثقافة أو حتى
قاموس العادات والتقاليد التونسية).لم يكن الطاهر الخميري
مثل مثقفي عصره من جهة االهتمام حيث كتب في الثقافة
والحياة األدبية في اللغة واألدب في الفلكلور ،كتب لإلذاعة
واخرج برامج إذاعية وتلفزية وترجم العديد من المسرحيات،
هذا الحضور المتميز للرجل ليس كغيره من أدباء عصره مثل أبا
القاسم محمد كرو أو الدكتور فريد غازي وان كانت أعمالهم
وشحت نبض الحياة االجتماعية والثقافية فإنها بقيت بال
روح ،الطاهر الخميري بين االهتمام بالحياة اليومية وإفرازاتها
التعبيرية وجملة السلوكيات ورصد االتجاهات الفكرية في
البالد النائية كتناوله النقد األدبي في أمريكا والثقافة في الهند
وتعليقه على ترجمة روزنتال لمقدمة ابن خلدون إلى االنقليزية
مع اإلشارة إلى مواطن الضعف فيها.
39
إن جميع المقاالت المنشورة بالدوريات التونسية
والمجالت «النبوة» الفكر اللغات «اإلذاعة» أو في الصحف
اليومية «العمل» «الصباح» اعتنت كلها بالنقد االجتماعي
وبالثقافة والقضايا اللغوية مع الحرص دوما على تعريف الثقافة
الشعبية التونسية اقتناعا راسخ لديه بان هناك واجبات علمية ال
يمكن أداءها اال في تونس ومن قبل تونسيين .
مالحظة :عندما كان الطاهر الخميري رئيس قسم التأليف
والترجمة والنشر بكتابة الدولة للمعارف اقترح برنامج يتضمن
-1معجم كبير للهجة التونسية
-2معاجم خاصة لمؤلفات ابن خلدون وابن أبي دينار وابن
أبي الضياف وخير الدين وحسين خوجة وغيرهم من المؤلفين
التونسية المتأخرين
مصور
ّ -3قاموس للعادات والتقاليد التونسية به ملحق
-4مجموعة من األمثال التونسية مرتبة حسب المواضيع
مفسرة من ّ
الشعر الملحون -5نصوص ّ
يفسر
كل هذه مواضيع ّ أن ّ :
ويختم مقترحات مؤكدا على ّ
بعضها البعض وال يحسن القيام بها إال تونسيون وفي توني.
وذلك التصالها بعادات وتقاليد ال يزال العمل جاريا بها عند
مختلف طبقات المجتمع.
40
الطاهر الخميري المترجم :جدل الثقافة والبناء
II
العقلي
41
فكل عملية ترجمة هي تعبير ضمني على محاولة تجربة
احتمال آخر للوجود في هذا العالم تجمع بين احتمالين إما
الخصوصية (بما يعينه اللفظ من فرادة وأصالة االنتماء رمزا
ولغة ودين وعادات) وإما الكونية ( االنخراط في عالمية ما
سواء كانت ثقافية أو غير ذلك) فال أحد يغترب خارج حدود
لغته إال لماما وقد تنزلق هذه ألنفس في أنفاس اآلخرين بفعل
الترجمة لدهر .لكن هناك دوما نوعا خاص من الوجود ورثناه
ليقول عنا ما عجزت اللغة عن قوله.
إن محاورة اللغة من داخل اللغة قد دفع الطاهر الخميري
إلى ابتداع نوع مخصوص من الكتابة السترجاع سردية مهددة
من قبل االستعمار .فالقراءة المتأنية لكتب الطاهر الخميري
خصوصا الترجمات (هملت /عطيل يولوس القيصر) والتي
جمعها وقدمها األستاذ محمد المي وصدرت عن دار سحر
للنشر تعتبر مغامرة وتحدي خطير أقدم عليه الكاتب في
تلك الفترة من جهتين أوال اختبار اإلعمال المسرحية لكبير
األدباء االنكليز شكسبير وما يتمتع به هذا الكاتب من الحبكة
األدبية وتمثل الوقائع والروح القصصية ومن جهة ثانية عملية
الترجمة مباشرة من النص األصلي الي اللغة العربية دون
توقف حتي انك كما يقول محمد المي في معرض تقديمه
لكتاب يولوس القيصر لقد أحسن تعريب بعضها إلى درجة
42
انك تحسب ان العربية هي لغتها األصلية فال تشعر بغريب
لفظ وال بحوشي كالم»(((.
ويعتبر الطاهر الخميري أول من قام بترجمة هملت إلى
العربية دون توقف عند نصوص أخرى بل انه قام كذلك
بإدخال تعديالت على النص وإضافة بعض المصطلحات
العامية حتى يصفي على النص دفقا جديدا يتالءم وروح
العصر والمجتمع .فلم يكن مفكرا خصما عنيدا متورطا في
جدال االنتماء يحمل في أعماقه أنين السابقين وعنف الهوية
النمطية بل أن أنفاسه قد انزلقت في أنفاس اآلخرين من خالل
فعل ومفعول الترجمة .كل ترجمة هي انفتاح على إمكانات
أخرى للوجود
ما يمكن أن نلخص إليه أن الطاهر الخميري لم يكن من
فئة المثقفين المتعصبين لثقافة بعينها كنوع منفرد مخصوص،
فالسياق التاريخي واإلحداث والوقائع االجتماعية قبل
االستعمار وبعده عجلت باستحداث أسلوب جديد يجمع
بين التثاقف وبناء الشخصية الوطنية وهذا بين من خالل
أخراطه في العمل التحريري لشمال إفريقيا بالرغم عدم انتمائه
السياسي واالستماع بالثقافة الوطنية بإشكالها المختلفة.
43
الطاهر الخميري المثقف :الثقافة والتثاقف :
III
سرديات الهوية
قال هيقل ذات مرة «أن الثقافة هي شكل الفكر وهكذا يعرف
اإلنسان كيف يتمالك ،فال يتصرف وفق ميوالته ورغباته إنما
يستغرق في التأمل»((( وكتب أو سيغالد سبنغلر «تنشاء ثقافة ما
لحظة ما تستيقظ روح نبيلة فتنفصل عن الحالة النفسية البدائية
للطفولة اإلنسانية األبدية ،انها شكل ينبثق من الالشكل»((( إلى
أي مدى يستجيب فكر الطاهر الخميري لروح الثقافة والمبادئ
المؤسسة للثقافة ؟
إن مفهوم الثقافة قد اثأر جدال واسعا في األدبيات
والدراسات االجتماعية والفلسفية واالنتروبولوجية من جهة
االشتقاق والتعريف إلى جهة االستعمال والمعاني التابعه
له وطرق التوظيف من جهة الخصوصية (انتماء /هوية /
عادات) أو الكونية ( الشاركية /العولمة /التثاقف).
مفهوم الثقافة كغيره من المفاهيم شهد ازدحام لغوي
وخلطا دالليا متقاطعا مع مفهوم الحضارة /التعليم/الدراسة
/العادات /التراث إلى غير ذلك من المفاهيم الجنيسة .وإن
عملية الفهم تقتضي دائما وضعه في سياقه الداللي والتاريخي
44
حتى يستجيب للمقاصد .كيف وظف الطاهر الخميري هذا
المفهوم ؟
كتب الطاهر الخميري ذات مرة عنوانا رشيقا « مكافحة
الثقافة « منذ الخمسينات من القرن الماضي 1954وهو جملة
مقاالت موزعة بين 1956/54اعتمدت جميعها بموضوع
الثقافة ذات بعد نقدي تأسيسي ‹انظر الصفحة 6-5من تقديم
محمد المي للكتاب) حاول من خالله الطاهر الخميري إرساء
تقنيات جديدة لمفهوم ثقافة عندنا
يقال مفهوم الثقافة وبقطع النظر على انتماءاته الغربية أو
الشرقية أو حتى االيديولوجية على معان متعددة يمكن إجمالها
على كل شيء مخالف لما هو بالطبيعة فهو المكتسب اإلنساني
والبناء الفكري والعقدي والسلوك الفردي واالجتماعي بما
فيه من تقاليد وأعراف وعادات .
و قد نجد في معرض قراءتنا لكتاب مكافحة الثقافة العديد
من التعريفات لمفهوم الثقافة في األدب واالنتربولوجيا
والفلسفة الخ ...أفردها الخميري تحت عنوان ال يعكس
المضمون «محاوالت» لتقريب جملة التصورات الذهينة
القارئ وخصوصا القارئ التونسي كلمة ثقافة كما قلنا بقطع
النظر عن األصول اللغوية أو الدقة االيتمولوجية لها سياقات
تاريخية في الغرب كما الشرق .وما يمكن مالحظته أن القارئ
المتعجل لكتاب مكافحة الثقافة يقع في حيرة من جهة أن
المضمون وعناوين المقالة ال تترجم المضمون ما عدا « عنوان
45
مكافحة الثقافة « محاوالت ثمن الثقافة « بعض المثقفات
أو األدب والمجتمع .ونجد معنى لثقافة استعراضا مطوال
لمفهوم ومعنى الثقافة في العديد من األدبيات والثقافات.ما
يمكن أن نلخص إليه من خالل كتابه «مرآة المجتمع» ومكافحة
الثقافة أن الطاهر الخميري أراد أن يرسي مالمح الثقافة الوطنية
التونسية منطلقا مما هو فردي من جهه تمثله لمضمون الثقافة
التونسية وما أصابها من تحير لذلك سعي إلى تمثل ثقافة وطنية
مقارنة بالثقافة اإلنسانية والتي تعكس روح العيش المشترك فال
معنى لثقافة ال تغير مالمح المجتمع
خاتمة :
إن الكتابة حول الطاهر الخميري المفكر ،المترجم
والمثقف تعتبر في حدّ ذاتها مجازفة ،قد تتطلب منا الدقة
المفهومية تفاديا لسوء الفهم .فان يكون الواحد منا قارئ
جيدا لفكر الطاهر الخميري معناه أن يكون مدركا للسياقات
التاريخية واالجتماعية والثقافية التي عاشها الرجل قبل
االستغالل وبعده.
ان إحياء روح الطاهر الخميري من خالل الندوات أو األيام
الدراسية هو من جهة اعتراف لهذا الجيل بخدمات الرجل
العلمية والثقافية ومن جهة ثانية إحياء للذاكرة الوطنية والثقافية
الوطنية برمتها.
46
الطاهر الخميري
بوقرة
ّ عبدالجليل
47
من مشروع متكامل مثلما حصل مع ال ّطاهر الحدّ اد وحصره
في ركن الدّ فاع عن المرأة وعن حقوقها ،وأيضا مع رفيق دربه
امحمد علي الحا ّمي واقتصار التعريف به بصفته النقابية ،في
ّ
حين كان االثنان صاحبي مشروع أشمل وأعظم وهو مشروع
تأسيس «اشتراكية تونسية».
اختار التلميذ الزيتوني الطاهر الخميري التن ّقل إلى المغرب
ليتع ّلم هناك األنكليزية ّما ساعده على االنتقال إلى بريطانيا أين
حصل على الباكالوريا ،ولم يكن ّأول تونسي يتع ّلم في بريطانيا
بل سبقه مثال علي بوشوشة ( )1917-1856منذ سنة 1878
ألي
تحسبا ّإلى لندن ،إذ ظ ّلت عين بريطانيا مفتوحة على تونس ّ
المتوسط رغم تنازلها عنها في مؤتمر برلين لصالحّ طارئ في
فرنسا.
رغبة الخميري في مزيد تحصيل العلم كانت وراء تن ّقله
إلى القاهرة للتسجيل في الجامعة األمريكية بها ،وهناك ربط
الصلة بالوسط األدبي والثقافي واإلعالم المصري في فترة بينّ
الحربين التي شهدت حركية فكرية وفنّية وأدبية هائلة جعلت
وتعرف الخميري ّ من القاهرة عاصمة للثقافة العربية آنذاك.
هناك إلى أحمد أمين وحافظ إبراهيم ومحمد حسين هيكل...
لم تتو ّقف رحلة التعليم والمعرفة في القاهرة بل واصلها
الطاهر الخميري بالتن ّقل إلى ألمانيا في فترة غليان عا ّمة
واقتراب العالم من حرب كونية جديدة ،وهناك تع ّلم الخميري
اللغة األلمانية وأعدّ أطروحة دكتورا سنة 1936حول «مفهوم
48
العصبية عند ابن خلدون» ،والتي يمكن تصنيفها ضمن البحوث
األولى في الدّ راسات الخلدونية في القرن العشرين.
مكّنه الحصول على الدكتوراه من التّدريس بجامعة هامبورغ
األلمانية أثناء فترة الحكم النازي أللمانيا .كما كان إتقانه
للغة االنكليزية من العوامل المساعدة له للتّدريس بالجامعة
ثم المشاركة في تأسيس معهد جوكير األمريكية بالقاهرةّ ،
هوبكنس ( )Joker Hopkinsاألمريكي بواشنطن لدراسة قضايا
إفريقيا الشمالية.
استغل إقامته في ألمانيا لتع ّلم اللغات القديمة كاليونانية
ّ
والالتينية والعبرية والفارسية والتركية والسريانية لإلطالع على
الحضارات القديمة دون واسطة.
لئن مكّنته معرفته بلغات متعدّ دة من الكتابة بالعربية ،طبعا،
وباألنكليزية (زعماء األدب العربي المعاصر) وباأللمانية
(مفهوم العصبية عند ابن خلدون والقاموس األلماني العربي)،
التوجه نحو تفاصيل
ّ تنوع معارفه وعمقها مكّنه من اختيار ّ
فإن ّ
ثقافات الشعوب كاللغات المحكية والعادات والتقاليد
واألمثال الشعبية ...أي أنّه كان من المث ّقفين العرب األوائل
الذي اختار الغوص في علم األنثروبولوجيا في ظرف كان فيه
أغلبهم مهووسا بكتابة التاريخ وال يم ّيز بين التاريخ ،كعلم قائم
على التّدقيق في المعلومات والبحث عن الحقيقة باالستناد
إلى لقيات مادية كاآلثار واألدوات والعملة والمخطوطات،
49
وبين األنثروبولوجيا ،كعلم يدرس اإلنسان وثقافته وموروثه
وطريقة تفكيره ومعامالته...
أعدّ في مجال األنثروبولوجيا :كتاب األمثال العامية التونسية
الذي جمع فيه األمثال في ترتيب أبجدي (ط )1967 .وكتاب
مرآة المجتمع ،فضال عن عديد المقاالت الصحفية التي ركّز
فيها على الثقافة الشعبية بتونس والتّعابير اللغوية ...وكان يحلم
بموسوعة العادات والتقاليد التونسية ومصادرها ،وقاموس
اللغة المحكية بتونس مع الكشف عن أصولها.
واجه الخميري خالل مسيرته جملة من التحدّ يات ،بداية
من تحدّ ي التكوين الزيتوني القاعدي وأحادية اللغة وقد تغ ّلب
على ذلك التحدّ ي بأن ّنوع من تكوينه وذلك بالمراوحة بين
اآلداب والفكر وأيضا بتع ّلم لغات متعدّ دة ،قديمة و»ح ّية»،
ثم كان تحدّ ي وسائل التبليغ بأن تجاوز
واستعمالها نطقا وكتابةّ ،
الوسائل التقليدية كاالقتصار على نشر الكتب والمقاالت
الصحفية على غرار أغلب مجايليه ،إذ كان ال ّطاهر الخميري
من األصوات البارزة في اإلذاعة الوطنية ومن الوجوه المألوفة
ضمن برامج التلفزة التونسية في سنوات التأسيس األولى
بشدّ اهتمام المشاهدين عندما كان يقدّ م معلومات طريفة عن
تنم عنالعادات والتقاليد واأللقاب واألمثال الشعبية التونسية ّ
خفي.
سعة معلوماته وعن جهد بحثي غير ّ
ويبقى السؤال المع ّلق عن سيرة الطاهر الخميري وعن
المتنوع وال ّثري هو سبب تهميشه في ّ
الذاكرة الثقافية ّ منجزه
التونسية؟
50
عامالن يتس ّببان عادة في تهميش المث ّقف التونسي وعموم
المث ّقفين العرب :وهما دون منازع العامالن الدّ يني ّ
والسياسي.
لقد كان الطاهر الخميري ضمن مجموعة من المث ّقفين
مؤسسات دولة لم ينل أعضاؤها نفس الحظوة والمكانة في ّ
االستقالل ،إذ لم تكن للخميري وعبدالعزيز العروي نفس
مكانة محمود المسعدي والشاذلي القليبي ومحمد مزالي
وصالح المهدي...
أن ال ّطاهر الخميري لم يعرف عنه اهتماما بالمسألة
وبما ّ
الدّ ينية أو على األقل لم تصلنا منشورات معترضة أو مجادلة
السائدة آنذاك فقد يكون الخميري ضح ّيةلعقيدة الفقهاء ّ
السياس ّية أو ضح ّية بعض الشبهات وبعض
بعض االختيارات ّ
السياس ّية.
العالقات ّ
عندما نرجع إلى ما تو ّفر من معطيات حول اهتمامات
السياسية ونشاطه وعالقاته ال نجد سوى معلومات الخميري ّ
عا ّمة ،ومن بينها تواصله مع مكاتب الحزب الحر الدستوري
في باريس والقاهرة ونشاطه مع مكتب المغرب العربي في
لندن وتعريفه بالقضية الوطنية المغربية في وسائل اإلعالم
األنغلوسكسونية ،لكن يبدو أن تن ّقله بين ألمانيا وأنكلترة
حساسة قبيل الحرب والواليات المتحدة األمريكية في فترة ّ
العالمية الثانية وأثناءها أو في فترة الحرب الباردة بين
المعسكرين الشيوعي بقيادة االتحاد السوفييتي والليبرالي
بقيادة الواليات المتحدة األمريكية وحليفتها بريطانيا ،كان
51
وراء الشكوك التي حامت حول ارتباطات الطاهر الخميري
ومدى عالقته بعالم االستخبارات البريطانية.
أهم
فإن الطاهر الخميري يبقى من ّ مهما يكن من أمر ّ
تهتم بها الجامعة
مؤسسي علم األنثروبولوجيا بتونس قبل أن ّ ّ
مهمة ما تزال في حاجة إلى
التونسية ،بمبادرته بإنجاز أعمال ّ
والتعمق كاللغة المحكية واألمثال
ّ مزيد من االهتمام والدّ راسة
الشعبية والعادات والتقاليد وألقاب العائالت...
52
ّ
الطاهر الخميري
المزي
فوزية بلحاج ّ
ّ
باحثة في علم اجتماع المسرح
وناقدة مسرح ّية
فإن ذلك لغوي كال ّطاهر الخميري بالمسرح ّ ّ يهتم باحث
أن ّ
يطرح مسألة امتدادات البحث ال ّلغوي واألدبي في المجتمع
وفي الحركة اإلبداع ّية وال ّثقاف ّية بشكل عا ّم .والعكس يبدو ر ّبما
أن للخلق الفنّي واالبتكار واإلبداعصحيحا وواردا ،إذا اعتبرنا ّ
صلة بالواقع وبالمياومة في تمظهراتها المختلفة.
الدّ كتور ال ّطاهر الخميري بدأ نشاط الكتابة باالشتغال
الشعب ّية كظاهرة إنسان ّية ّ
ولعل األمثال ّ على األمثال التّونس ّية.
شاملة ،تنطلق من هذا الواقع وتش ّعباته ،وأزماته ،وانكساراته،
وأمجاده .وهي ظواهر غالبا ما تبتكر أشكاال تعبير ّية كال ّطقوس
والشعراالجتماع ّية والدّ ين ّية أيضا فتتفتّح فيها قرائح الحكمة ّ
لتكون العمود الفقري للفعل اإلبداعي. ّ
53
ّ
اجتماعي؟ هل المسرح فعل
المضمنة
ّ وهذا يطرح العالقة بين القيم االجتماع ّية
والمختزلة في األمثال وا ّلتي عادة ما تمتدّ في نسيج اإلبداع
الفنّي في مختلف ال ّثقافات .من حيث إنّها ّ
تكون الما ّدة
األساس ّية للعادات والتّقاليد والمراسم االجتماع ّية بشكل عام
إن المسرح غالبا ما يستمدّ طروحاته من المالحم ومن حيث ّ
السير البطول ّية لشخوص واقع ّية يعيد صياغة
االجتماع ّية ومن ّ
تركيبتها وتكوينها وخطابها لتم ّثلها بإدراك جديد ووعي
تاريخي جديد أيضا.
ّ
إن ما تقوم عليه سوسيولوجيا المسرح منذ بروز طروحاتها ّ
المبدئ ّية هي العالقة الجوهر ّية بين المسرح وال ّظواهر
الصيغ األولى للفعل
االجتماع ّية التي يمكن القول بأنّها شكّلت ّ
المسرحي منذ اليونان.
أن المسرح اليوناني -وإن كان يقوم على أسس شك ّ
فال ّ
الميثيولوجيا في مناخاتها الماورائ ّية والفلسفة في مناخاتها
مهتما بال ّطقوس ّ
الروحان ّية التي ّ التّجريد ّية -كان باألساس
شك في ّ
أن يتشكّل فيها الفعل المسرحي في ذلك العهد .كما ال ّ
المسرح اليوناني اعتمد المالحم واألمثوالت ()les paraboles
التي كانت تنسب لآللهة كما ألنصاف اآللهة ال ّلذين كانوا
يتزاوجون ويمارسون حياة «بشر ّية» عاد ّية حيث يحتكّون
الشعب ّية وباألمثال ّ
الشعب ّية... بالحكمة ّ
54
وقد قام جون دوفينيو أب سوسيولوجيا المسرح في كتابه
حول «سوسيولوجيا المسرح» أو «ال ّظالل الجماع ّية» بتصنيف
سمي «باألشكال البدائ ّية لل ّظواهر المسرح ّية ورد فيه ما ّ
«للتّعبيرة المسرح ّية وهي ال ّطقوس ّ
الروحان ّية واالجتماع ّية
والفنّ ّية للمجتمعات البدائ ّية.
ولعل ذلك يؤكّد ما أطرحه من تساؤل حول اهتمام الدّ كتور ّ
ال ّطاهر الخميري بالمسرح وهو الذي تركّزت بحوثه وكتاباته
على ال ّظواهر االجتماعية من خالل األمثال ّ
الشعب ّية.
ّ ّ
التجديد والوعي التاريخي
األول بالمدرسة الخلدون ّية وهي
الرجل تعليمه ّ لقد تل ّقى ّ
مدرسة تجمع بين التّعليم الحديث الذي قام عليه تأسيس
المدرسة في حدّ ذاته ،من جهة ومن جهة أخرى بطانة التّقاليد
مؤسسو الخلدون ّية وهم كما يعلمتكون عليها ّ والقيم التي ّ
الصادقي.
الجميع ،عدد من قدماء المعهد ّ
وقد واصل تحصيل العلم في األدب والحضارة العرب ّية
وحصل عدّ ة لغات ّ وأعدّ رسالة الدّ كتوراه في ألمانيا (هامبورغ)
إلى جانب العرب ّية وهي الفرنس ّية واالنجليز ّية واأللمان ّية وا ّطلع
السريان ّية ،والعبر ّية ،والتّرك ّية ،وغيرها.
على لغات أخرى منها ّ
كل من المسرح ّيتين ال ّلتين ترجمهما «عطيل» وفي ّ
و«هملت» لشكسبير ،يذكر في مقدّ متي الن ّّصين المنشورين في
الدّ ار التّونس ّية للنّشر سنة ،1968أنّه ترجمهما مباشرة من ال ّلغة
55
الفرنس ّية واالنجليز ّية
ّ االنجليز ّية وأنّه مع ذلك استأنس بالتّراجم
إلى جانب تعريب خليل مطران.
وعن جون أوزبورن John Osborneالكاتب اإلنجليزي
نص «أقفاص وسجون» وأخرجها أيضا عرب الخميري ّ أيضاّ ،
علي بن ع ّياد وقدّ مها في .1971ويذكر أحد الحاضرين في
أن العرض لم يكتمل نظرا إلى ّ
أن علي بن ع ّياد لم هذا العرض ّ
يكن صاحيا وفقد وعيه قبل انتهاء العرض.
ّ ّ
الترجمة بصيغة الدراماتورجيا
وقد أخرج المسرح ّيتين علي بن ع ّياد ويذكر ال ّطاهر
الخميري أنّه رافق إنجاز العملين وواكب حذف بعض الجمل
أو المقاطع التي كانت تعوق دون سالسة اإللقاء حيث يقول في
مقدّ مة «عطيل»« :وكنت على اتّصال بالمخرج والمم ّثلين طيلة
مدّ ة التّرجمة ،فاخترنا من األساليب ما كان واضحا وصالحا
نصا وال يم ّثل للتّمثيل واجتنبنا ّ
كل ما قد يجعل المم ّثل يسرد ّ
دورا».
عربه من مقولة هملت وهو يستقبل المم ّثلين
وكأنّه يعمل بما ّ
يسرني أن أراكم بخير وعافية .لنبدأ
السادة ،مرحباّ .
«مرحبا أ ّيها ّ
حاالّ ،هاتوا ما عندكم ،أنشدونا قطعة ّ
نتذوق بها طعم فنّكم،
السواكن وتلهب العواطف ،»..ما جعله وهو تحرك ّ قطعة ّ
يتحسس مواقع الحرج لدى المم ّثلين
ّ يواكب عمل ّية اإلخراج،
56
ويسعى لراحتهم في التّمثيل ولصدقهم في أدائه وتحقيق
األهداف المنشودة منه.
كسبيري يحيلنا على ما كتبه
ّ ّص ّ
الش هذا التّلميح في الن ّ
أبو ح ّيان التّوحيدي في مؤ ّلف «اإلمتاع والمؤانسة» مخاطبا
المزي« :أوصيكم بأن حمادي ّ نص ّ الدّ مى كما جاء ذلك في ّ
يكون الحديث على تباعد وال ّلفظ خفيفا لطيفا والتّصريح غالبا
والصدق في إيضاحه وإثباته .احذروا ّ الحق
ّ متصدّ راّ .
توخوا
تزيينه بما يشينه وال تومئوا إلى ما يكون اإلفصاح عنه أحلى في
السمع وأعذب في النّفس .ال تعشقوا ال ّلفظ دون المعنى وال ّ
تهووا المعنى دون ال ّلفظ».
هي خصوص ّيات ف ّن األداء كما جاءت من منظور ثالثة
كتّاب خبروا ال ّلغة ال كأداة جامدة وكوعاء للمعنى ،ولكن
المتحرك
ّ تم ّثلوها بوصفها هي المعنى وهي المحمل الفكري
والسياس ّية واالقتصاد ّية
ّ وفقا للحراك وللتّغ ّيرات االجتماع ّية
المسرحي وبالتّالي تؤ ّثر بشكل ما على
ّ التي تحيط بالفعل
الفاعل المسرحي وهو المم ّثل.
عربها ،ذكر الخميري أنّه اعتمد في مقدّ مة «هملت» كما ّ
تتضمنه من شروح
ّ على طبعة Edward Hublerاالنجليز ّية لما
وتعليقات وأنّه اعتمد ترجمة Meinerts .األلمان ّية وترجمة
M.Castelainالفرنس ّية .هذا إضافة إلى ترجمة جبرا إبراهيم
جبرا والتّرجمة المختصرة لخليل مطران.
57
يبدو لي ّ
أن هذا الجوالن في ثقافات لغو ّية متعدّ دة ال يمكن
أن ينتج عن حرص على د ّقة التّرجمة بقدر ما هو تط ّلع من
الدّ كتور ال ّطاهر الخميري إلى اإليفاء بالبعد الكوني لهاتين
كل واحدة منهما من زاوية مع ّينة المسرح ّيتين ال ّلتين تطرحان ّ
الحس ّية في مسار
ّ السلطة والمتعة ملحمة اإلنسان ّ
الاّلهث وراء ّ
ال يقدّ ر فيه حسابا لآلخر .يستهين بحقوقه وذات ّيته ويمعن في
تذليله وإحباطه ،بل ويمتطيها مسلكا للوصول إلى مبتغياته.
السؤال أو التّساؤل حول الدّ افع ور ّبما يتبادر إلى ّ
الذهن ّ
الذي دعا ال ّطاهر الخميري الختيار مسرح ّيتين لشكسبير.
إن في اختيار مسرح ّية «هملت» و«عطيل» لشكسبير ،ر ّبما ّ
انتقائي في عالقاته،
ّ اهتمام بكاتب كان منخرطا في مجتمعه وغير
يمكن أن نطلق عليه انطالقا من مصطلحاتنا الحديثة «كاتب
القرب» ()un écrivain de proximitéاجتماع ّيا ،إذ كان يعاشر
طبقات المسحوقة كما جاء في كتاب يان كوت(Shakespeare ال ّ
أن مسرح ّيات شكسبير كانت في ،)notre contemporainحتّى ّ
أمريكا ،إلى حدود النّصف ال ّثاني من القرن التّاسع عشر ،تعرض
في الحانات وفي المراكب العابرة لنهر الميسيسيبي وكانت
الجماهير التي تحضر عروضها من أعمار مختلفة حيث ال توجد
شروط لدخول العرض وال مقاييس تحدّ د الجمهور المقصود.
فإن مسرح شكسبير يطرح موضوع عالوة على ذلكّ ،
االزدواج ّية في ملمح المث ّقف حيث إنّه يحلم ويخ ّطط ألحالمه
وقناعاته وأفكاره ،ولكنّه عديم الفعل وبطيؤه ر ّبما.
58
كل من الحضارات وال ّثقافات السرد ّية ال تغيب عن ّ
هذه ّ
وال ّلغات التي لجأ الخميري إليها ليستأنس بها في تعريبه لهذين
الن ّّصين الخالدين.
الرجل وهو يترجم نصوصا مسرح ّية ال ويتب ّين من ذلك ّ
أن ّ
يقتصر على تبليغ المعنى وإلباسه لفظا عرب ّيا ،ولكنّه يستبطن في
ّص األصلي ويناسق بينها وبين المقترح هذه العمل ّية خلف ّيات الن ّ
ّص.الجمالي إلخراج ذلك الن ّ
نصا جديدا في صياغته الدّ راماتورج ّية ،تتزامن
إنّه يكتب ّ
كتابته مع ال ّطرح الجمالي ّ
والرؤية اإلخراج ّية التي يقترحها
علي بن ع ّياد.
عادي أو حتّى كاتب
ّ وإنّها عمل ّية ال يمكن أن يقودها مترجم
الستّين ّيات التي كانت ما تزال تتململ ،بل
نص مسرحي في ّ ّ
وتتخ ّبط في المقاربات المسرح ّية ال ّلصيقة باألدب والمناخات
الخطاب ّية.
وأسس بشائر دراماتورج ّية رسم ال ّطاهر الخميري بوادرها ّ
مسرحي هو علي بن ع ّياد الذي كان
ّ لها في تناغم مع مبدع
يشكّل طرحا جديدا للفعل المسرحي في مقاربة خصوص ّية
والصالحة ّ
لكل ّ والسينوغرافيا الجاهزة
ّ تخ ّلصه من الخطابة
ّ
ولكل مكان. زمان
يوم الجمعة 31جويلية ،1964قدّ مت فرقة مدينة تونس
البلدي باكورة عروض مسرح ّية «عطيل»
ّ على ركح المسرح
إدارة وإخراج علي بن ع ّياد وديكور ومالبس عبد القادر
59
فراح وبأداء مجموعة من قامات المم ّثلين آنذاك منهم المم ّثل
المصري جميل راتب ونور الدّ ين القصباوي وجميل الجودي
ومنى نور الدّ ين ووفاء سالم.
السبت 7جوان ،1968شهد المسرح البلدي بتونس يوم ّ
عرضا لمسرح ّية «هملت» قدّ مته فرقة مدينة تونس على ركح
ووزعت فيه األدوار من قبل المخرج ومدير المسرح البلدي ّ
الفرقة علي بن ع ّياد على مم ّثلي الفرقة وتك ّفل قونتر لودكي
بإعداد الدّ يكور والمالبس.
يسمى في ذلك الوقت الدّ يكور والمالبس
وللتّدقيق ،ما كان ّ
السينوغرافيا.
هو ما يطلق عليه اليوم ّ
يعرب هذه المسرح ّيات ،قد ّ
ولعل ال ّطاهر الخميري وهو ّ
تحسسه لمسرحة للسينوغرافيا من حيث ّ استبطن هذا المفهوم ّ
ال ّلغة ()la théâtralité de la langue ou le langage théâtral
التي يكتب بها.
نحن إذن أمام مفكّر خبر ال ّلغة من جوانبها العفو ّية حيث
تناولها في باب األمثال والتّقاليد ،ولكنّه حفر في طبقاتها
الفكر ّية والفنّ ّية وال ّثقاف ّية فكان لنا هذا األثر الحامل ألنبل صيغ
الحوار ال ّثقافي والحضاري عن طريق التّرجمة.
60
طاهر الخميري :نزعة اإلصالح
االجتماعي
زهير الذوادي
61
لحياته الشبابية والتعليمية في تونس ( تجربة الكتّاب والجامع
األعظم والخلدونية) والتي تبدو من خالل المعاينة والمقارنة
متشابهة ومترابطة في مستوى ظروفها وتحدياتها .فقد اعتبر
طاهر الخميري ّ
أن العالم ينقسم حضاريا وثقافيا إلى عالمين
شرقي وغربي كما أنه ينقسم اقتصاديا وماديا والى نمطين
أحدهما ضعيف ومتخلف وزراعي وثانيهما قوي
ومزدهر وصناعي .وعندما عاد الخميري من رحلته
األوروبية الطويلة قبيل االستقالل التونسي إلى وطنه الذي كان
يتهيأ «النتقال فجائي وسريع» .تب ّين له ّ
أن البالد في حاجة إلى
جملة من اإلصالحات والتحسينات والتعديالت في الذهنيات
والممارسات والسلوكيات الجماعية والفردية حتّى يمكن
توجيه تطورها إلى وجهة التقدم واالزدهار والتنوير ،معتبرا ّ
أن
ذلك العمل موكول إلى المجموعة الوطنية واألفراد في ذات
الحين،وأ ّ،وسائله األساسية تبقى الثقافة واألعالم والتربية
الجديدة في ّ
كل مجاالت الحياة.
62
أن كاتبهاوكانت تلك المقاالت مرآة نقدية للمجتمع أي ّ
حاول من خاللها اإلشارة إلى بعض جوانب أزمة المجتمع
التونسي ومواطن ضعفه وانحرافته بهدف الدعوة إلى إصالحها
أو تعديلها،حتى يستقيم الجهد الوطني لالنتقال من بلد
ّ
مستقل ذي سيادة يصبو إلى تكريس قيم التقدّ م مستعمر إلى بلد
كل طاقات البالداالجتماعي والحضاري التي تستوجب تعبئة ّ
مما جعله يقول في مقدمة الكتاب في «مرآة المجتمع» هذه ال ّ
أكتب بلغة (أنا) و(أنتم) أو بلغة(نحن) و(أنتم) وأنما أكتب بلغة
(نحن) فقط(ص.)11
ومنذ مقدّ مة الكتاب حدّ د الخميري منهج كتابته التي
اعتمدت النقد لإلخالالت االجتماعية في ذهنيات وسلوكيات
التونسيين معتبرا ذلك النقد عالمة نجض ووعي عصري مارسه
الظاوروبين كمقدمة لعملية إصالح شؤونهم «سل الذين قضوا
فصل الصيف الماضي في شمال فرنسا أو شمال ألمانيا أو
أنقلترا وبقية شمال أوروبا،سلهم يخبرونك انهم رأوا هناك
وأجمل،ثم ابحث عن السبب تجد ّ
أن هؤالء كتبوا ّ حياة أفضل
كثيرا في انتقاد أنفسهم وانتقاد بعضهم البعض ،فتعلموا كيف
يضحكون على ما فيهم من ألوان الضعف البشري ،وتمكنوا
بذلك من التغ ّلب عليها»(ص.)12
فالنقد هو وسيلة القتراح اإلصالحات بعد تشخيص
مواطن الضعف .والمنوال اإلصالحي هو تجارب الغرب
األوروبي المتقدّ م ،ذلك هو منهج طاهر الخميري الذي لم
63
يصرح به لكنّه مارسه على الدّ وام بالرغم أنّه حذر من مط ّيات
ّ
التمشي اإلصالحي حتى ال يسقط في االقتباس األعمى ّ ذلك
وغير الواعي أي االقتباس الذي ال يعمل العقل النقدي حيث
كتب من ّبها» هذا طبيعي ومعقول ألن الجديد عندكم مقتبس من
الغرب وأنتم التحسنوا االقتباس»(ص )15
ويستوجب حسن االقتباس وعيا نقديا ينطلق من حقيقة
أوضاع الناس وذهنياتهم وممارستهم .لذى كانت مقاربة
طاهر الخميري في بلورة نزعته اإلصالحية في شؤون المجتمع
منحازة إلى منطق التحليل الملموس المرافق للمعايشة
والتشخيص وهو منطق علم اجتماع ورؤية انتروبولجية
ال تولي لالعتبارات النظرية أهمية كبرى بجيث أنّه التصق
بالواقع ووضع أصبعه على إخالالت وانحرافات متعددة تبدو
بسيطة (احترام المواعيد والمواقيت(ص ،)43طريقة السير أو
المشي في الطريق العام (ص )13ومنطق «البنتوات والمزايا»
(ص،)17وتراكم األوساخ في الطريق العام وداخل المنازل
(ص )25و«الماخذة بالخاطر»(ص )67و«حرف الياجور»
في العالقات (ص ،)71ومخالطة النساء للمقاهي(ص)21
و«المجهودات الضائعة» من دسائس ومكائد وحسد وشماتة
وخصومات(ص.)87
من خالل هذه السلوكيات اليومية التي ينتقدها طاهر
الخميري ،ينحت هذا األخير صورا لمختلف أوجه اإلنسان
64
التونسي الذي يطمح إلى تغيير حاله وتحقيق تقد ّمه بعد أن
استق ّلت بالده.
ولم يبلور طاهر الخميري مشروعا إصالح ّيا متكامال بل
كان فكره ذا نزعة إصالحية اجتماعية وثقافية،و هو كان على
الذي يمكن أن يتحققأن نموذج المجتمع المتقدّ م ّوعي شديد ّ
الحرة انطالقا من فجر االستقالل يشترط أن تكون في تونس ّ
للمرأة فيه دورا جديدا وفعاال .
انطلق الخميري في معالجة مسألة المرأة من جزئية بسيطة
تخص الحياة اليومية للنساء اللواتي بدأت النظم التقليدية ّ
كل إمكانيات العيش ،لذى نراه يدافع للحياة العامة تسدّ أمامه ّن ّ
عن فكرة بعث المقاهي ومطاعم خاصة بالنساء حتّى يتمك ّن
من التحرك في الفضاء العام بحر ّية تيسر لهن حياتهن اليومية.
وقد اعتبر طاهر الخميري «أننّا ال نزال نميل إلى مشاكل المرأة
معاملة نظرية عامة.نتحدث عن تحرير المرأة وعن مساواتها
بالرجل وعن السفور والحجاب واختالط الجنسين الخ...
( )...فتشغلنا هذه الكليات النظرية البعيدة عن التفكير في
الجزئيات التي يمكن الشروع في إصالحها حاال»(ص.)22
لم يتناول الخميري مسألة المرأة من زاوية النظر الدينية
والفقهية واالجتماعية (مثل عبد العزيز الثعالبي والطاهر
الحداد) أو من زاوية النظر االجتماعية والثقافية والسياسية
(مثل الحبيب بورقيبة) أو غيرهم من المصلحين،بل اختار
مقاربة المسألة ،وفق نظرته البراغماتية المنحصرة في جزئيات
65
الحياة اليومية والمباشرة دون االلتفات إلى النظريات والشرائع
والعادات والقوانين بل حصر المسألة في الحاالت ّ
الخاصة:
«إنّها ليست مسألة المرأة عموما وال مسألة المرأة الشرقية وال
مسألة المرأة المسلمة وال مسألة المرأة العربية ،بل أنها مسألة
المرأة التونسية .انهت =ا مسألة أمهاتنا وأخواتنا وخاالتنا
وزوجاتنا وبناتنا وبقية عشيرتنا األقربين(...ص.)22
وأن اعتبر طاهر الخميري أن «نموذج الرجال القوامين على
النساء قد أصبح نادرا»(ص )30ألسباب مادية ّ
فإن «االستقالل
االقتصادي هو أهم مشاكل المرأة التونسية في الوقت
الحاضر سواء كانت المرأة سافرة أو محجبة،متعلمة أو جاهلة
مساوية للرجل أو غير مساوية له ،فهي تريد أن تعيش قبل ّ
كل
شيء»(ص ،)29لذلك يقترح الخميري أن تتعلم المرأة (تعليم
ابتدائي +حرفة) حتى تتمكن من دخول سوق الشغل وتوفير
حدّ أدنى من االستقالل المادي بدل أن تبق مجرد مستهلكة
متجولة في األسواق (ص.)83
إلى جانب مسألة المرأة أبرز طاهر الخميري أهمية مسألة
الشباب الذي دعاه إلى االبتعاد عن منطق صراع األجيال
(ص .)27وحت يتمكن الشباب من المساهمة في مرحلة
«االنتقال الفجائي والسريع» الذي تعرفه البالد التونسية إبان
االستقالل ،اعتبر الخميري أن التعليم والعمل وروح المبادرة
تشكل الوسائل الناجعة الواجب تم ّلكها ،فهو ّ
يقر أن «الشباب
غير راض عن الحاضر ،غير مطمئن إلى المستقبل ،يريد حياة
66
أفضل وال يعرف إليها سبيال .فهو في حاجة إلى التوجيه
()3
والتشجيع»
أن نجاح الشباب مسألة ثقافية ،لذا قدم واعتبر الخميري ّ
لهم نصا غريبا في بعض جوانبه وان اعتمد على معطيات
موضوعية وتجربة شخصية ،حيث طالبهم باالهتمام بالتعليم
جديا وطالبهم »:أق ّلوا من العناية بالعلم والصناعة،اهتموا ّ
كل
االهتمام بالعلوم العملية واقتصدوا في االهتمام بالوجودية
ومذاهب النقد األدبي ،)4(»...مضيفا دروسا من تجارب جيله
«...تلك غلطة ارتكبناها ودفعنا ثمنها وال يجب أن نراكم
ترتكبون تلك الغلطة فيطول بقاؤنا في أخر القافلة،العصر عصر
()5
علم والثقافة السائدة هي ثقافة علمية»
و لماذا كان تقييم طاهر الخميري نقديا لثقافة العالم
الشرقي،فهو يؤكد أن الثقافة العلمية ال تفتقر إلى ما اعتبرته
الثقافة الشرقية مميزاتها النبيلة الخاصة بها حيث كتب «ليست
الثقافة العلمية شيئا باردا جافا ال لذة فيه وال نشوة،في الظالة
الفوالذية المتقنة الصنع دقة كدقة شعر ابن الرومي،ور ّقة كر ّقة
شعر العباس ابن األجنف وقوة كقوة أكبر شعراء الحماسة،وفي
مقال عن الطاقة الذرية قد نجد ما يدخل اإليمان في قلب غير
المؤمن إيمانا .)6(»...ويضيف الخميري في وصف الثقافة
العلمية« :ليست الثقافة العلمية الصناعية ثقافة مادية ال روح
فيها وال الهام كما يزعم بعض المتفلسفين قرب آلهة «صماء»
67
هي أروع جماال وأعمق روحانية وأصدق إلهاما من ألف
()7
قصيدة «عصماء»»...
و لم يكن طاهر الخميري صاحب مشروع إصالحي متكامل
ومبلور فهو كما أشرنا متجذر في نزعة إصالحية (اجتماعية)
تحديثية تنهل من الفلسفة الوضعية والعلموية التي سادت
أوساط الثقافة والفكر (غير الراديكالي) في أوروبا خالل
القرن التاسع عشر والتي كان غوست كونت أبرز وجوهها،
وذلك ما يؤكد تجذره في المنظومة الفكرية التنويرية الليبرالية
دون التوغل في القضايا الفلسفية وااليديولوجية التي رافقت
بروزها وتطورها.
وأشار طاهر الخميري أن ّ توفير حلول لجمهور النساء
والشباب وكل أصناف الفقراء والمعدمين (وهم أغلبية
المجتمع) يكمن في سياسة جديدة تعتمد تحقيق االنتقال
من االقتصاد الزراعي والتقليدي نحو نظام اقتصادي صناعي
وعصري حيث أنه اعتبر أن «األكذوبة الكبرى» التي تعرفه ثقافة
البالد هي اعتبار تونس بلدا زراعيا وأنه وجب عليها أن تبقى
كذلك لمدّ ة زمنية طويلة قبل النجاح في إرساء اقتصاد صناعي
(ص )33حيث كتب« :لن أصدّ ق أننا في نهضة حقيقية إال إذا
ومتفرعة
ّ رأيت مداخن المعامل ممتدة من بنزرت إلى توزر
شرقا وغربا»(ص )34مضيفا «وباالختصار إن بالدنا بحاجة
ماسة إلى فبارك ومصانع ولكن قيامها ال يتطلب رؤوس أموال
وعمال ق ّيمين وعليه فاألجدر بنا
فحسب بل خبراء ومهندسين ّ
68
تكوين فئة كبرى من شبابنا وتوجيههم نحو هذا الميدان بدال
من تعليمهم الشعر والفلسفة( »...ص)40
الحل لمسألة التخلف والفقر والبطالة هو التصنيع ،واعتماد
التقنيات الحديثة والتكنولوجيا العصرية .وقد حدد الخميري
مفهومه للتصنيع بصيغة مدققة إذ كتب «التصنيع الذي أعنيه هو
كل يوم من رباط االبتداء بصنع تلك األشياء التي نستعملها ّ
الحذاء إلى رباط الرقبة،ومن الجبن إلى الوقيد .هو أن ال
نبيع منتوجاتنا في صورة مواد أولية(...ص )40مثل البرتقال
والخلفتء ،وهو ما يفعله «زنوج أفريقية االستوائية ؟؟؟ (ص
)40فضال على أن التصنيع هو ّ
الحل الحقيقي لمشكلة البطالة
:معامل للعمال ال تهدئة وترقيع ومسكنات .عدد السكان في
ازدياد وكذلك عدد المتعلمين وفهم المتعلم للصبر والقناعة
والتوكل والتسليم يختلف عن فهم األ ّمي ...انّك تستطيع
حل مشكلة نخبة متعلمة محدودة العدد بتعقيد أداة الحكم ّ
وتضخيم اإلرادة وخلق الوظائف من أجل الموظفين،و لكنك
حل مشكلة البطالة لمئات اآلالف إال بإنشاء مئات ال تستطيع ّ
المعامل» (ص.)48
وال يجانب رأي الخميري الصواب فيما ذهب إليه من
تحذيرات ومقترحات وقد تبنت دولة االستقالل -نسبيا
-وجهة نظر قريبة مما طالبها به وهي نجحت في ذلك نجاحا
نسبيا في بعض المجاالت .
69
لم ينخرط طاهر الخميري في الشأن السياسي كما لم تفتح
أمامه أبواب المشاركة في الشأن العام والعمل الجامعي بل اكتفى
بالمساهمة في المجال اإلعالمي واإلذاعي والترجمة،لكن
المهمة
ّ ذلك لم يمنعه من تقديم بعض اآلراء االستشرافية
والتي كانت تخص جوهر دينامكية االنتقال التاريخي السريع
الذي أنتجته ظروف استقالل البالد التونسية ( ،)1956لكن
الخميري كان على وعي شديد أن بعض العوائق قادرة على
إجهاض نزعة اإلصالح .االجتماعي الذي كان يطمح إليه.
ورغم ابتعاد الخميري عن الوسط السياسي الميداني فهو امتلك
حسا سياسيا دقيقا قواه التحليل العلمي االجتماعي للظواهر ّ
البارزة في المجتمع الذي عاصره .فقد رصد الخميري عدد
من عوائق النجاح في االنتقال التحديثي للمجتمع والثقافة في
البالد التونسية منها
ـ انتشار ثقافة دينية سلبية تعكسها ظاهرة «انفصال في
الشخصية يؤيد ذلك أننا نقول «أدي الفرض وأنقب األرض»
(ص،)94ومر ّد ذلك ضعف التأطير الديني اإليجابي للمجتمع
أيمة المساجد
بسبب بروز نوع من الفاعلين (خاصة صلب ّ
والخطباء) الذين يفسدون وعي الناس ويدفعونهم إلى الخطأ
وهم «خطباء يعالجون المشاكل السياسية بطريقة تهريجية
ساذجة ال ترضي رجال الدين وال رجال السياسة( )...وخطباء
يرتجلون خطبهم ارتجاال ويقتبسون األيات واألحاديث
حسبما اتفق تاركين الكالم يجر بعضه بعضا ( )...وخطباء
70
يتلون تلك الخطب المشجعة للمناسبات وذلك بطريقة يظهر
منها أنهم هم أنفسهم ال يفهمون ما يقولون»(ص.)60
أقر الخميري بسلبية التأطير لبعض رجال الدين وإن ّ
للمجتمع فهو لم يغفل على سلبية بعض الظواهر األخرى
المتفشية في المجال السياسي واإلداري والتي تضخم
االنحرافات والعجز على إصالح شؤون الناس وإسداء
الخدمات التي يحتاجونها حيث كتب مالحظا « :يظهر فينا
ميال خاصا إلى الشكل ّيات وغراما صحيحا بالرسميات وح ّبا
مفرطا للحديث عن اإلجراءات «مما جعلنا نعقد البسيط
ونوزع المسؤولية ونحمل أنفسنا ما ال طاقة لنا به وال فائدة
أن «...مثل الجهاز لنا فيه(»...ص )97مستخلصا من ذلك ّ
اإلداري المضخم المعقد في بالد صغيرة كالبالد التونسية
كمثل الطفل الصغير يرتدي ثياب أبيه ويتعمم بعمامته ويتقلد
سيفه ،منظر مضحك طريف( »..ص.)98
كما أشار الخميري إلى عائق سياسي أخر من شأنه أن
يربك عملية التحديث واإلصالح في البالد وهو الذي مثله
مجرد اإلنسان
فصيل اجتماعي جديد وسمه «بالوطنجي» أي ّ
المنتسب إلى الوطن دون خدمة مصالحه .وقد شبه الخميري
هذا الفصيل االجتماعي الجديد بالحجر البشري وبالقوة السلبية
القاتلة (ص )86معتبرا أنها «أنانية قد تنحط إلى أدنى دركات
ألن الرجل الذي يعيش (حده حد نفسه) وال يقال فيه اللؤم ّ .
بعد موته سوى أنه (عاش مقبال على شأنه) هو رجل قد أخذ
71
كل شيئ ولم يعطي شيئا» (ص )86والحال ّ
أن ولم يعط :أخذ ّ
الوطنية المصبوغة بنزعة إصالحية مقيدة تستوجب ممارسات
أكثر انفتاحا على خدمة الغير والصالح العم حيث « :ينتظر
من الموظف المسؤول أن يسعى في إدخال بعض اإلصالح
على اإلدارة التي يديرها وأن يخاطر في ذلك بارتكاب بعض
األخطاء وينتظر من العالم أن يضيف شيئا جديدا إلى موضوع
اختصاصه ولو كان ذلك الشيء بعيدا عن الكمال .وينتظر مثل
ذلك من الصانع والتاجر واألديب والفنان ،ألنه بذلك تبنى
الحياة ويكون التقدم(ص.)85
72
بهدف إصالحها .فقد كان صاحب نزعة إصالحية في ّ
كل ما
يخص الحياة االجتماعية والثقافية في البالد.
ّ
.2وكانت النزعة اإلصالحية لدى الخميري مستندة إلى
ثالثة عناصر هامة وهي
-أوال :معرفته الدقيقة بظروف حياة الغرب األوروبي
المتقدمة في جميع المجاالت والتي فرضت عليه منطق
المقارنة بين «الشرق والغرب» مع ميل واضح لهذا األخير
ونجاحاته في مختلف المجاالت وأصعدة الحياة العامة
والفردية-.
-ثانيا :الوعي بأن البالد التونسية مرت في منتصف السنوات
الخمسين من القرن العشرين بمرحلة «انتقال فجائي وسريع»
يستوجب إنجازات إصالحات هامة في ذهنيات وسلوكيات
قوى المجتمع الحيوية حتى تتوجه المرحلة االنتقالية نحو
نموذج ناجح من التطور.
-ثالثا :لتبار اإلصالح المنشود حلقة ضرورية لتحقيق التطور
وأن مضمون ذلك اإلصالح ال واالزدهار في البالد والمجتمع ّ
يكون سوى الحديث الشامل وفق النظرة االجتماعية العلموية
والوضعية التي هيمنت على الحياة الثقافية في أوروبا منذ نهاية
القرن التاسع عشر.
.3جاءت الدعوة إلى إصالح وتعديل الذهنيات
والممارسات الفردية والجماعية للتونسيين وتحديثها في صيغ
صور نقدية تارة ومقترحات عملية تارة أخرى وإشارات مقارنة
73
مع أفعال الشعوب األخرى تارة ثالثة ،كما أن تلك الدعوة
لم تكن متمحورة حول مواضيع عامة وكبرى بل أنها تناولت
أحيانا جوانب بسيطة في الحياة اليومية وجزئيات طفيفة منها
لكنها تكشف خلفيات خطيرة سلبا وإيجابا لذلك اختار طاهر
الخميري أن يكون كل من خطابه النقدي ومقترحاته العملية
موجها إلى الرأي العام والى الشريحة القادرة على نشرها
وتوسيع دائرة تأثيرها .فقد اختار الخميري الصحافة المكتوبة
واإلذاعة وسيلة لنشر أفكاره وبثها في مختلف أوساط المجتمع
دون حصرها في وسط النخبة أو دوائر السلطة ومؤسساتها.
فهو خرج من منطق الدعوة إلى اإلصالح عن طريق الدعوة إلى
اإلصالح عن طريق عمل الدولة أو عن طريق نضال المجتمع
كل الناس يخص ّّ المدني بل اختار نهج التأثير األفقي الذي
كل الناستخص ّ
ّ كل الناس من أجل إصالحات ويحاول تعبئة ّ
في مستوى السلوك والذهنيات.
.4إن لم ينخرط الخميري في مشروع سياسي محدد
يكون خلفية لنزعته اإلصالحية االجتماعية فهو بلور من
خالل مقاالته وكتابه «مكافحة الثقافة» مالمح نزعة إصالحية
في المجال الثقافي تتقاطع في عدة جوانب منها مع مضمون
نقده ومقترحاته في مجال سلوكيات وذهنيات قوى المجتمع
التونسي على الصعيد االجتماعي وهو أمر يحتاج دراسة
خاصة.
74
.5لم يبلور الخميري قبل وبعد االستقالل نظرية حول
االستعمار الفرنسي وتحليل نقدي لتأثيره على المجتمع
التونسي ،وهو أمر مثير لالستغراب .وان كان انحيازه للموقف
الوطني ال تشوبه شائبة جلية .كما أن التبني الجلي لدى
يخص عوامل تقدمه
ّ الخميري للنموذج الحضاري الغربي فيما
ونهضته وازدهاره ال يبرز موقفا نقديا من التراث السياسي
والثقافي واالستراتيجي السلبي في سياق تعامل الغرب مع
بلدان الشرق وباقي المستعمرات التي أخضعوها في مختلف
أنحاء العالم.
.6يتبين من هذه المالحظات التقييمية والنقدية للنزعة
اإلصالحية االجتماعية لدى طاهر الخميري أن النظرة العامة
التي تبناها في المجالين االجتماعي والسياسي وخلفيتهما
السياسية والفكرية كانت محددة على أساس رفض كل مقاربة
راديكالية تهدف إلى الهدم بدل التعديل والتغيير والتحديث
الممنهج والتدريجي.
وان كان طاهر الخميري بعيدا عن المنطق الثوري والجذري
فهو ال يقبل من المنطق اإلصالحي االّ التمشي التدريجي
الذي ال يطال فهو ال يقبل من المنطق اإلصالحي ّااّل التمشي
التدريجي الذي ال يطال سوى المسائل الجزئية الملموسة
والواقعية والتي من شأنها أن تنتج تأثيرا على المدى المتوسط
والبعيد والتي تتوخى نهج تراكم اإلصالحات الجزئية بهدف
تحقيق التعديالت والتحسينات والتغييرات الكبرى والدائمة.
75
وقد حدد طاهر الخميري منهجيته اإلصالحية في المجال
االجتماعي مستلهما من ممارسات وتوجيهات الرسول محمد
كل هذا عبرة للمصلحين االجتماعيين صلعم كما يلي« :في ّ
الذين يرون أن البناء ال يكون إالّ بعد الهدم وأن عمليات الترميم
والرقيع هي عمليات كثيرة النفقات قليلة الفائدة،في هذا التفكير
ّ
ويشك فيه ...يظنّونها جرأة وشجاعة مغالطة لها باعث يسأل عنه
وماهي بجرأة أو شجاعة،اذ أن هي ّإاّل صبيانية ...الصبي يحب
الهدم ويفرح بالتحطيم ألن ذلك سهل أو ّ
ألن الصبي ال يدرك
القيم وال يستطيع التمييز بين الصالح وغير الصالح»(ص)56
76
الهوامش:
77
ّ
الطاهر الخميري:
ّ
مثقفا تونس ّيا طالئع ّيا
79
ّونسي بأسلوب سلس نابع منه ومتّجه إليه .وترك ّ المجتمع الت
أهم
لنا بذلك إرثا لغو ّيا وأنثروبولوج ّيا ُمتم ّيزا ،سنُحاول دراسة ّ
الضوء عليه في هذا المقال.خصائصه ونس ّلط ّ
ّ
أوال :حياته وظروف نشأته:
لع ّله من الجدير بنا ونحن ندرس علما مثل الطاهر الخميري
اإلشارة إلى تعدّ د األبعاد في شخص ّيته ،فهو الصحافي
والمترجم واألديب والناقد والمخرج اإلذاعي والتلفزي
والمحقق واالنتروبولوجي .ولد الخميري عام ((( 1899في
شب مثلحي باب سويقة بالعاصمة وتوفي سنةّ ،(((1973 ّ
أقرانه على قراءة القرآن في الكتّاب وتحديدا في ُكتّاب سيدي
البناني ،ثم التحق بعد المرحلة االبتدائية بجامع الزيتونة حيث
تم ّيز في دراسة اللغة والنحو والبالغة ،باإلضافة إلى الفقه
والتوحيد ،فاطلع على متن ابن عاشر «المرشد المعين على
الضروري من علوم الدين» ،والموسوعة األجرومة بعنوان:
ّ
«المقدمة األجرومية في مبادئ علم العربية».
وتعدّ هذه المتون أحد أبرز المراجع العربية في تعليم ال ّلغة
والنّحو وعلوم الدّ ين ،وبفضل اطالّع الخميري عليها استطاع
لغوي متم ّيز .وباإلضافة إلى تكوينه الزيتوني
ّ أن يكون له زاد
((( الطاهر الخميري :مكافحة الثقافة ،جمع وتقديم محمد المي ،الطبعة
األولى ،تونس ،دار سحر 2022،ص 5
((( الطاهر الخميري :يوليوس قيصر ،جمع وتقديم محمد المي ،الطبعة
األولى ،تونس ،دار سحر 2022،ص 5
80
التقليدي ،التحق هذا المثقف ّ
الفذ بالمدرسة الخلدونية* ّ
لينهل من ينابيعها شتّى العلوم والمعارف.
وعلى إثر انتهاء الحرب العالمية األولى ،سافر للمغرب
واستقر بمدينة طنجة حيث تع ّلم اللغة االنجليزية ،ومن طنجة
ّ
هاجر إلى إنجلترا حيث واصل تعليمه بها .وعندما قدم إلى
مدرسا في واستقر بها ،اشتغل أستاذا ّ
ّ مصر سنة 1930/1929
وتعرف على العديد من المثقفينالجامعة األمريك ّية في القاهرة ّ
والصحافة .كما ّ في ميادين مختلفة على غرار األدب ّ
والشعر
جمعته صداقات كثيرة بأسماء معروفة أمثال المصلح أحمد
أن إقامته في مصر لم تكن طويلة إالّ أنّه وبالرغم من ّ
ّ أمين.
األول بال ّلغة االنجليزية بعنوان« :زعماء
تمكّن من تأليف كتابه ّ
األدب العربي الحديث» ،وقد نشره في أواخر ال ّثالثينات من
القرن الماضي((( ،على إثر رجوعه إلنجلترا التّي لم يمكث فيها
المرة ،فسرعان ما انتقل إلى ألمانيا حيث قضى بهاطويال هاته ّ
أطول فترة من حياته ،فتع ّلم اللغة األلمانية ودرس علم النفس
التطبيقي وعلم االجتماع.
وقد أحرز على شهادة الدكتوراه بامتياز عام 1936من
يدرس بها لمدّ ة 17سنة وتمحور
جامعة هامبورغ التي بقي ّ
((( الطاهر الخميري :دراسات في اللغة والمصطلح ،تحقيق وتقديم حفناوي
عمايرية ،الطبعة األولى ،تونس ،وزارة الثقافة ،المركز الوطني لالتصال
الثقافي ،1998 ،ص9
* :المدرسة الخلدونية تأسست في 22ديسمبر 1896وكانت تسعى إلى نشر
العلوم العصرية كالتاريخ ،الجغرافيا ،اللغة الفرنسية خاصة بين طلبة جامع
الذي يقوم على تعليم تقليدي بحت. الزيتونة ّ
81
موضوع أطروحته حول »:مفهوم العصب ّية في فكر ابن
خلدون» (((.وتعتبر شخص ّيتنا موضوع الدّ رس موسوعة لغو ّية
فإلى جانب إتقانه العديد من اللغات مثل العربية واالنجليزية
واأللمانية كما سبق وأشرنا ،استطاع العالمة حذق لغات أخرى
خول له أن يقوم
كالالتينية والعبرية والفارسية واليونانية وهو ما ّ
بالمشاركة في إعداد قاموس ألماني -عربي.
أي
نسجل للطاهر الخميري ّ ّ ومن الالّفت لإلنتباه أنّنا لم
كل البعد عن هذا المجال سياسي يذكر ،فقد كان بعيدا ّّ نشاط
ولعل المتأمل في حياته يالحظ انه قد واختار أن يكون مثقفاّ .
والشعوبتحمس كثيرا وبشكل ملحوظ والفت لقضايا شعبه ّ ّ
ككل خاصة بعد الحرب العالم ّية الثانية (-1939 المغارب ّية ّ
،)1945فالتحق بالمكتب العربي بلندن عام 1946وأصبح
عضوا نشيطا به وقام بمجهود كبير للتّعريف بالقض ّية التّونسية
كالصحف. بوسائل اإلعالم ّ
من هنا أصدر المكتب العربي سنة ((( 1947دوريات
والمغاربي خصوصا وكانت على
ّ العربي عموما
ّ اهتمت ّ
بالشأن ّ
صلة وثيقة بالقض ّية التونس ّية وال ّليبية ،هذا باإلضافة إلى إقامة
الملتقيات الصحفية والندوات وإلى غير ذلك من األنشطة
التّي من شأنها أن تسهم في كسب تضامن الرأي العام العالمي
مع القضية التونسية بصفة خاصة والقضايا العربية بشكل عام.
وتواصل هذا النّشاط على نحو حثيث عندما تمكّن الدكتور
((( المصدر المذكور سابقا ،ص 6
((( المصدر ذاته ،ص 9
82
الصلة بمكتب اإلعالم التّونسي بباريس
الخميري من أن يربط ّ
الحر
أسسه جلولي فارس سنة 1947ومكتب الحزب ّ ّ
الذي ّ
الدستوري التونسي بالقاهرة على حدّ سواء.
وبعد فترة االستقالل ،عاد لوطنه واستطاع أن ينخرط
فذا ومخرجا في الحياة ال ّثقافية بسرعة كبيرة ،فقد كان كاتبا ّ
ال ومترجما مقتدرا اقتحم مسرح شكسبير تلفز ّيا وإذاع ّيا مستق ّ
العالمي بترجمته لمسرحية «هملت»((( ومسرحية «عطيل»
سنة (((،1968ومسرحية يوليوس قيصر((( ،واضعا بذلك
مغاربي
ّ تونسي بل
ّ بصمته تقريبا في جميع الميادين .وهو ّأول
موجهة
يكتسح مجال التّرجمة آنذاك ،فكانت هذه المسرحيات ّ
وتم عرضها من قبل الفرقة البلدية
باألساس للعمل الدراميّ .
أن ترجمة هذه المسرحيات كانت أقرب يفسر ّ
بتونس وهو ما ّ
للعام ّية التونسية منها للترجمة العلمية ،فقد أخرجت مسرح ّيات
وليام شكسبير بطابع تونسي طريف الق استحسان المشاهدين
والن ّقاد على حدّ سواء.
كما نشر العديد من المقاالت في المجالت والصحف مثل
الصباح والعمل والفكر والخدام وترك وراءه إرثا ثقافيا غزيرا
تنوع األجناس األدب ّية التي اجترحها الخميري
ومميزا .وأمام ّ
((( وليام شكسبير :هملت ،تعريب الطاهر الخميري ،جمع وتقديم محمد
المي ،الطبعة األولى ،تونس ،دار سحر 2022
((( وليام شكسبير :عطيل ،تعريب الطاهر الخميري ،جمع وتقديم محمد
المي ،الطبعة األولى ،تونس ،دار سحر 2022
((( وليام شكسبير :يوليوس قيصر ،تعريب الطاهر الخميري ،جمع وتقديم
محمد المي ،الطبعة األولى ،تونس ،دار سحر 2022
83
مني حتّى يتسنّى لنا
الز ّ
فإنّنا سنعتمد في دراستها على التّسلسل ّ
تطور فكره ونظرته للمجتمع.تت ّبع ّ
ّ ّ ّ ثانياّ :
تنوع دراساته عن الثقافة التونسية:
تنوعت كتابات الخميري وتأرجحت بين ال ّلغة لقد ّ
اإلنجليزية وال ّلغة األلمان ّية ،أ ّما إنتاجاته بال ّلغة العرب ّية فقد
مست مجاالت مختلفة: حظيت بالنّصيب األوفر وكانت غزيرة ّ
اجتماع ّية وثقاف ّية.
.1.2صورة المجتمع التّونسي من خالل نماذج من كتبه:
يعدّ كتاب مرآة المجتمع مرجعا علم ّيا ها ّما وقد صدر سنة
((( ،1956وهو عبارة عن مجموعة من المقاالت التّي تتم ّيز
بأسلوب جريء في طرح المواضيع التّي تناولها ،فهو محاولة
منه لكشف بعض اإلخالالت في مجتمعه مع طرح البديل أي
يسمى بالنقد االجتماعي البنّاء.
الرغبة في اإلصالح وهو ما ّ
وقد جاء هذا الكت ّيب مع بداية االستقالل أي في مطلع
والموجه كمساهمة منه
ّ بناء الدولة ،فلعب مثقفنا دور المرشد
لنحت مالمح المواطنة في الشخصية التونسية من خالل رصده
لمجموعة من المظاهر االجتماعية التّي تحتاج إلى ترشيد فـ
«هذا الوطن هو بيتنا األكبر ،ونحن متفقون على أنّه في حاجة
شديدة إلى التنظيف والتنظيم فيجب أن نتعاون على تنظيفه
((( الطاهر الخميري :مرآة المجتمع ،جمع وتقديم محمد المي ،الطبعة
األولى ،دار سحر 2023
84
وتنظيمه .وسبيل ذلك أن نترك االشتغال بالكليات النظرية،
ونشتغل بالجزئيات العملية ،عوض أن نتحدث عن مشاكل
خاصة
ّ الشباب مثال بصورة عامة مبهمة ،نبحث في مشكلة ّ
بطبقة مع ّينة من الشباب التونسي ونسعى إلى التعاون على
ح ّلها .وعوض أن نكتفي بتحفيظ بنات المدارس (النظافة
مما
بأن أطرح ما ال يحتاج إليه ّ من اإليمان) ،نحاول إقناعه ّن ّ
ويسهل عمل ّية التّنظيف»((( ،وبذلك تتب ّين
ّ يساعد على النظافة
لنا مساعي الخميري في إدخال مفاهيم جديدة ،يجب على
المجتمع أن يتبنّاها إذا ما أراد ال ّلحاق بركب المجتمعات
المتقدّ مة.
اهتم كاتبنا اهتماما خاصا بالثقافة وبمفهومها فقد ّ كما
أصدر سنة 1957كت ّيبا بعنوان «مكافحة الثقافة»((( ،وهو
ثم نشرها
عبارة عن مجموعة من المقاالت التّي وقع تجميعها ّ
في الصحافة التونسية .وعندما نتأمل في هذا الكتيب سيظهر
لنا وبشكل واضح الطاهر الخميري المثقف الطالئعي ،فهو
رواد الثقافة الذين كتبوا في هذا المجال ،فال ّثقافة تعدّ منمن ّ
الشائكة التّي تتط ّلب معرفة ودراسة واسعة ّ
بالشأن المواضيع ّ
والخارجي أيضا.
ّ اخلي
ّ الدّ
85
المبسط الضوء علىّ لذلك س ّلط من خالل هذا الكتيب
خاصة ،وتحيلنا عتبة العنوانمفهوم ال ّثقافة عا ّمة وثقافة شعبه ّ
توجهه :فماهي الثقافة التّي يريد أن يكافحها ويدحضها على ّ
وينقدها؟ وفي مقابل ذلك هل طرح لنا البديل أو الخيار أو
األنموذج األمثل لل ّثقافة التّي يجب أن تكون في بالده؟ وقد
مست متنوعة ّ
ضم هذا الكت ّيب ستّة وعشرون مقاال ،جاءت ّ ّ
مجاالت مختلفة ،وك ّلها تعكس وبصفة واضحة نظرة الخميري
العميقة لل ّثقافة التّونس ّية بمختلف جوانبها االيجابية والسلبية،
فقدّ م مجموعة من الحلول المستوحاة من أسباب تطور
المجتمعات الغربية خاصة وأنّه قضى فترة طويلة من حياته
وتعرف بشكل ج ّيد على هذه المجتمعات وعلى في المهجر ّ
خصوصياتها وعوامل تقدّ مها.
خصص الخميري مجموعة من ّ ومن هذا المنطلق،
المقاالت للحديث عن ماهية ال ّثقافة وحاول من خاللها تقديم
الذي أصبح متداوال ،فانتشر بشكل تعريف لهذا المصطلح ّ
الفت حيث «كثر استعمال كلمة «ثقافة» وكثر سوء استعمالها
حتّى ارتخت واتسعت فصارت تدّ ل على أشياء كثيرة .وال
وألح عليها بالتحليل والتحديد وعصرت تدّ ل على شيء مع ّين َّ
عصرا حتّى ج ّفت ويبست وكادت تصير من الكلمات أي يمكن
(((
أن يقال فيها حرفيا :أنّها قتلت بحثا واستعماال».
86
وفي هذا الخصوص ،قدّ م جملة من التّعاريف في قالب
من التساؤالت واالستفسارات التي وضعها حتى يدغدغ بها
فكر القارئ ،فاستشهد بمجموعة من المفكّرين الغرب ّيين أمثال
((( Thomas، I.W، B Taylor.E، E Eliot.S.Tومن العالم
العربي أمثال طه حسين ومحمود أمين...الفتا انتباهنا إلى ّ
أن:
عمم استعمال «الكاتب المصري سالمة موسى هو ّأول من ّ
عرفها في أحد كتبه األخيرة كلمة ثقافة في لغة الكتابة وقد ّ
هكذا »:الثقافة هي ما نفكر به والحضارة هي ما نعمل به»(((.
وما يمكن التّأكيد عليه إذن هو التّنوع واالختالف الكبير
جل المفكرين في تعاريفهم لهذا المصطلح ّ
الذي هو عادة بين ّ
ما يكون وليد بيئته ،وهو ما أشار إليه الخميري في مقاله «ثمن
كل البعد في تلكأن البالد التونسية بعيدة ّ
الثقافة» وأكّد على ّ
الفترة على أن تصنع شعبا مث ّقفا إالّ بنسب محدودة والسبب
يرجع إلى كونها بلد فالحي محدود اإلمكانات فـ»الثقافة
بالمقدار ّ
الذي نريده ال يأتي من الفالحة وإنّما يأتي من الصناعة
(((
ويخرج من المعامل وال يخرج من األرض»
وهنا نرى أنّها دعوة مباشرة لتغيير النظام االقتصادي بالبالد
فال يمكن لبلد مستهلك أن ننتظر منه الكثير .وما يحسب له في
هذا المقال أنّه لم يكتف بطرح اإلشكال فحسب ،بل قدّ م ّ
الحل
البديل أيضا حسب رأيه ويتمثل أساسا في السعي إلى تصنيع
87
ما يحتاجه السوق المحلي كمرحلة أولى مستعينا بجبن تستور
(((
مثاال.
عالوة على ذلك ،يقترح الخميري التّع ّقل العادي أي التخلي
حيث»إن المتع ّقلين العاد ّيين
ّ والتخ ّلص من الغرور المفرط،
متحررين في أنفسهم غير مثقلين بمعتقدات الشيطنة ّ يكونون
ّونسي
ّ الشعب الت وأولئك هم األذكياء ح ّقا (((».وهذا ما يحتاجه ّ
المتزن يستطيع أن
الغربي ،فبالعقل ّ
ّ تحديدا للحاق بركب العالم
يتعرف على اآلخر األجنبي وعلى أسباب تقدمه وتطورهّ .
ولعل
ككل وتأخرهم يعود إلى ذلك الغرور والتّفاخر نكسة العرب ّ
بالماضي والتّقوقع فيه ورفض التّعرف على اآلخر ،فتخلفنا
هو نتيجة لتفكيرنا ،وهو عندما تحدّ ث عن هذا الموضوع كان
أن من أسباب تطور المجتمعات الغربية هو االنفتاح يدرك ج ّيدا ّ
وقبول اآلخر والتع ّلم منه والتفوق عليه.
ومن الوسائل التي دعا إليها والتّي يجب أن يحذقها
التونسي هي ال ّلغة ،فهي آل ّية من آ ّليات التواصل والتعارف،
وتترأس اللغة الفرنسية قائمة تلك اللغات ،غير ّ
أن هذه الوسيلة
يجب أن تستخدم بشكل ج ّيد فـ «اضطراب التعبير يدّ ل على
اضطراب التفكير»((( ،وبإتقان اللغة حسب رأيه سيسهل ذكر
من نقل ثقافة المجتمع وستتقلص المسافات فهي همزة وصل
89
الس ّيئة التي أصبحت متفش ّية بين الجيران وصارت آفة عمياء
التونسي ،فحرمة الجار أصبحت منتهكة وهو ّ تهدّ د خصوص ّية
أمر لم نعهده قبال ،وهنا نشير إلى تغ ّير القيم والعادات الحميدة
التّي كانت منتشرة في مجتمعنا قديما ونادى الخميري إلى
إعادة أحيائها.
أن العالقات االجتماعية أصبحت أكثر كما أشار أيضا إلى ّ
تشويها «فإنّنا لنتخاصم ونتعادى على ماهو أتفه وأسخف من
أن أحد الخصمين ال يوافق اآلخر ذلك خصومة دينية سببها ّ
على طريقته في تكوير العمامة ...وخصومة سياسية سببها ّ
أن
لنحتج على
ّ أحد الحاضرين ابتسم عندما قال الخطيب( :إنّنا
ذلك صارم االحتجاج) فخرج الصوت ضعيفا ال يناسب
الكالم ...وخصومة حزبية سببها أن أحد صاحبي السجن كان
(((
يستأثر على صاحبه ببعض ما يأتيه من الهدايا الصغيرة»...
وقدّ م الخميري بعض النصائح والتوجيهات إلى الشباب
التونسي لكي يكونوا مواطنين فاعلين في مجتمعهم مخاطبا
اياهم :أوال يجب عليهم أن «يقلعوا عن العناية بالفلسفة
واألدب ويكثروا من العناية بالعلم والصناعة .اهتموا ّ
كل
االهتمام بالعلوم العملية واقتصدوا في االهتمام بالوجودية
(((
ومذاهب النقد األدبي».
90
فال ّثقافة ّ
السائدة اليوم هي ثقافة العلم والتكنولوجيا والعلوم
الحديثة وفي« :بعض األوساط األوروبية واألمريكية اليوم
يقولون فالن دكتور في الفلسفة أو دكتور في األدب .كما نقول
فالن «رجل درويش» أو «رجل نبيه»((( .فبناء الحضارة تقوم
الصناعة من ناحية ،وعلى تغ ّير نظرتها
باألساس على تبني ثقافة ّ
للزمن من ناحية أخرى ،ففي مقاله «غدا إن شاء الله» تحدّ ث
الخميري عن الفرق بين كلمة «غدا» في المجتمعات الغربية
فهي التي تعني المستقبل« .فرجال إسبانيا فهم رجال المستقبل
لكل شيء «منيانا» أي غدا ،فهم قوم ال حاضر لهم يقولون ّ
(((
وبالتالي ال وجود لهم .فهم بهذا المعنى رجال المستقبل»
بينما تستعمل كلمة «غدا» للتسويف في المجتمعات العربية
بشكل عام وفي تونس خاصة ،وهي من العادات السيئة،
فالتونسي تعود على تأخير كل المسائل مهما كانت أهم ّيتها فهو
غير واع بأهم ّية الوقت واألمثلة ال تحصى وال تعد على تفننه
تصور لنا عدمفي إضاعته وقد أورد جملة من المواقف التّي ّ
اكتراثه بالوقت ،بالرغم من أن السرعة هي إحدى أبرز مميزات
القرن العشرين.
باإلضافة إلى ذلك ،حاول من خالل هذا الكتيب الكشف
عن جوانب من الحياة االجتماعية والثقافية ،وهي التي تعد
مسرحا لمجموعة من التناقضات ،حيث س ّلط الضوء على عدّ ة
إخالالت اجتماعية كانت متفش ّية بشكل ملحوظ في المجتمع،
((( المصدر ذاته ،ص 66
((( المصدر ذاته ،ص75
91
كما قام بتقديم بعض الحلول من وجهة نظره التّي يمكن أن
تكون من أسباب البناء لمستقبل أفضل وهي محاولة واضحة
وجادة من قبله في اإلصالح واإلرشاد والتقويم ،وبذلك
اضطلع مثقفنا بدور ريادي تنويري بامتياز .وجدير بالذكر ّ
أن
كاتبنا كانت له بصمته في تحقيق كتاب ابن أبي ضياف« :أتحاف
أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد األمان».
2.2صورة المجتمع التونسي من خالل كتبات الخميري
في األدب ّ
الشعبي:
تفرد الخميري وسطع نجمه في األدب الشعبي أو ما لقد ّ
الذي يسمى الفولكلور* وهو وجه من وجوه التراث الشعبي ّ
يستعرض التراث الالمادي للشعوب ،فدراسة هذا الموروث
للذاكرة الجماع ّية والخصائص ال ّثقاف ّية
الثقافيُ ،يعدّ رصدا ّ
واألخالق ّية لشعب ما .وهي تُمكّن دارسها من استجالء خبايا
النّاس النفس ّية وعاداتهم التي يسعى المجتمع إلى نشرها طوعا
كالقصة
ّ أو قسرا .ويتج ّلى هذا الموروث في العديد من األشكال
التي تروي عن طريق الفدّ اوي واألغاني واألساطير والشعر
والسير والمالحم ...فاألدب الشعبي هو ذاكرة الشعوب يتم
توارثها جيل بعد جيل.
وقد قام بتأليف كتاب بين سنتي 1961و 1963بعنوان»:
النص
ّ قاموس العادات والتقاليد التونسية»(((جمع فيه بين
92
المكتوب والصورة ،حفاظا عن الموروث الجماعي
وتخليدا للذاكرة الشعبية .ويندرج هذا الكتاب ضمن دراسة
انتروبولوجية للمجتمع التونسي ،فالعادات والتقاليد هي عبارة
عن ممارسات للهوية المحل ّية التّي يتم رسمها وفق عناصر
ثقافية يتبناها الفرد منذ والدته ،وتم ّيز هذه العادات مجتمعا
ما عن اآلخر ،فالثقافة المجتمعية هي العمود الفقري للهوية
الوطنية .وبذلك تصبح القيم والتقاليد أعرافا أي قانون جماعي
منقول عبر األجيال وينبري محل اعتزاز وتفاخر.
أن هذا اإلرث الثقافي الذي جمعه في قاموسه وال يخفى عنا ّ
بغية الحفاظ على التراث المنقول من عادات وتقاليد هي حلقة
وصل بين الفرد ومجتمعه فحسب إميل دوركايمّ :
«إن العادات
والتقاليد االجتماعية مفروضة ملزمة .وفرضها والتزام األفراد
بها يشعرهم بالراحة ،ويفسر إلزامية الفرد بالقيام بها فالعادات
(((
االجتماعية هي العقل الجمعي.
وعلى هذا األساس ،حاول الخميري في هذا القاموس جمع
ما يمكن جمعه من األمثال التّي يمكن أن تعد «تراث حضاري
يتكون من عدة أجيال ويكلف الكثير من التجربة واالختبار،
فاطراحها جملة ال بدّ أن يسبب فراغا(...قاموس العادات
(((
والتقاليد التونسية) يحاول سدّ بعض ذلك الفراغ».
((( هالة محمد عبد العال :المرأة والثقافة ،بحث تحليلي في العوامل المؤثرة
في تكوين شخصية المرأة العربية ،المكتب العربي للمعارف ،القاهرة2018 ،
ص 21
((( الطاهر الخميري :قاموس ...المصدر ّ
الذي ذكر سابقا ،ص 13
93
ومن هنا ،يكون س ّباقا في الغوص في ثنايا الثقافة العامية
التونسية خاصة وأنّها كانت تشهد إقصاء من قبل الجامعيين
والمثقفين ،على خالف العالم الغربي الذي تجاوز هذا الصراع
إن قاموس العادات والتقاليد اللغوي بين العام ّية والفصحى اذ» ّ
التونسية ال يقصد منه االستهالك المحلي فقط ففي أوروبا
وأمريكا معاهد علمية ومراكز للبحث في مختلف العلوم
االجتماعية يهمها هذا العمل وال تراه معروفا وال قليل األهم ّية.
ألن العادات والتقاليد عند الشعوب المختلفة يتمم بعضها ّ
ويفسر بعضها البعض (((».وهكذا تتمايز العادات ّ البعض
والتقاليد بتمايز مجتمعاتها فهي تعبير واضح على اإلرث
الذي الحضاري لألمم وهو ما أراد إبرازه بإخراجه لهذا الكتاب ّ
يعكس الموروث الشعبي العريق للمجتمع التونسي.
وتعدّ األمثال الشعبية من أبرز أشكال الفولكلور ،حيث
تعكس هذه األمثال التّي عادة ما تكون محفورة في الذاكرة
الجماعية ،ثقافة شعبية لها العديد من الرموز والدّ الالت،
وعادة ما تكون الغاية منها اإلرشاد والموعظة كما يمكن أن
كل جوانب الحياةتتّسم بالحكمة ف »:مضمونها يمتد ليشمل ّ
اإلنسانية ،ويعبر عن خبرة الجماعة في مواجهة المواقف
كل منهما ،وهي من حيث شكلها سهلة المتعدّ دة التّي يواجهها ّ
يسهل االستشهاد بها عندما يقتضي
ثم ّ الحفظ واالنتشار ،ومن ّ
(((
األمر أو الموقف ذلك».
94
السمت الذي دأبه في دراسته لهذا الجنس األدبيوعلى هذا ّ
يسعنا ان نفهم ّ
أن اختيار الخميري لم يكن اعتباطيا فقد أراد من
خالله مؤلفاته في هذا المجال إحياء التراث الالمادي التونسي
والمحافظة على الذاكرة الشعبية الجماعية وبالتالي ترسيخ
الهوية التونسية ،فجاء كتابه «منتخبات من األمثال العامية
التونسية» الذي صدر سنة ((( 1967حيث جمع فيه ما يقارب
عن 2500مثل شعبي تونسي مرفوقا بجملة من الصور ،وهنا
يجب علينا أن ننوه بأهم ّيتها في توثيق األمثال الشعبية ،حيث
تضطلع بدور إيجابي معرفي في تحويل المثل من لغة منطوقة
إلى عالمة سيميائية بصرية تعبيرية من شأنها أن تعلق في ذاكرة
المتأمل وتسهم في إثراء المعنى المضمر ،فالذاكرة البصرية
عادة ما تكون طويلة.
وقد بذل الخميري مجهودا يحسب له في هذا العمل
المضني ،إذ وجد فيه ضالته .فمن خالل تجميع هذه األمثال
نص متكامل إلبراز الخصوصية التونسية والهو ّية
سعى إلى بناء ّ
المحل ّية «فالمثل يع ّبر في شكله األساسي عن حقيقة مألوفة
صيغت في أسلوب مختصر سهل ،حتّى يتداوله جمهور واسع
من الناس .يع ّبر عن حقيقة عامة أو صدق عام (((».وبذلك
تكون الذاكرة أو الفاكرة الشعبية محفوظة ،فهي بمثابة ثروة
95
وطنية يجب أن نحافظ عليها من خالل تحويلها من أقوال
شفوية إلى مأثورات مكتوبة.
وقد سبق وأن أشرنا إلى أنّه أولى عناية خاصة باألدب
الشعبي الذي يعدّ مرآة عاكسة للواقع التونسي بمختلف طبقاته.
ثالثا -من المركز إلى الهامش :ال ّلهجة العامية التّونسية من
خالل دراسات الخميري:
كان الطاهر الخميري رائدا في دراسته للغة والمصطلحات
خاصة وأنّه أتقن العديد من اللغات كما سبق وان أشرنا إلى ّ
ذلك ،فقد كان مولعا بهذا المجال إليمانه الراسخ ّ
بأن اللغة
شأنها أن تكون رافدا من الروافد المهمة التي تسمح بقبول
اآلخر والتعرف عليه وال نعني بذلك االنصهار والذوبان في
ثقافته .فكاتبنا وبالرغم من تمكنه وحذقه لعدد ال يستهان به من
اللغات ،إال أنه كان نصيرا للغة العربية ،لغة وطنه ،أما «اللغات
األجنبية فيكفي في نظره إجادة لغة منها لفتح آفاق أرحب أمام
متعلمها وال حاجة لمعرفة العديد من اللغات األجنبية إذ أنّها ال
تفيد إال لمن أراد أن يحترف مهنته»(((.
ويعتبر مثال المثقف الضليع والمتمرس والمتملك للغة
العربية ،إذ كانت له جملة من المؤاخذات في استعمالها
ودونها في عدد من مقاالته مثال مقال بعنوان «أسترها يا بني»
كشف من خالله أن كثرة استعمال اللغة العربية الفصحى» ...
يميتها وال يحييها ألنّه من األسباب التي تجعل الناس ينامون
((( الطاهر الخميري :دراسات ،...المصدر ّ
الذي ذكر سابقا ،ص 11
96
أثناء الدروس والمحاضرات ويقفلون الراديو بكثرة وال يتمون
(((
قراءة األبحاث في الجرائد والمجالت».
كما أراد أن يجد خيطا ناظما بين ما هو مكتوب وماهو بين
متداول أي بين الفصحى والعامية ويعزى السبب إلى نشوب
صراع حا ّد آنذاك بين أنصار ال ّلغة العرب ّية الفصحى وأنصار
العام ّية فكانت الغلبة ألنصار الفصحى إذ استطاع هؤالء إخماد
صوت أديب وروائي كبير مثل البشير خر ّيف .وقد حاول الطاهر
حل لمعضلة الفصحى والعام ّية ويتم ّثل أساسا الخميري إيجاد ّ
في تبسيط العرب ّية الفصحى و»تفصيح» ال ّلهجة العام ّية ،وذلك
لتقليص الهوة بين لغة الكتابة ولغة التخاطب ،وما يكون ذلك
إال بـ»اإلكتفاء فيها بصيغة واحدة تكون هي الصيغة المستعملة
فعال في القرآن والحديث أو النصوص العربية المعتمدة وإال
فالصيغة األقرب إلى المشهور في لغة التخاطب»(((وبالتالي
نستطيع التقريب بين ما هو مكتوب ومسموع ،كما تلعب
الصحافة واإلذاعة حسب اعتقاده دور مهم في تطوير اللغة
والتقريب بين لغة الحديث ولغة الكتابة.
عالوة على ذلك ،يمكننا اإلشادة بدور األدب الشعبي
كجنس أدبي جمع بين ثقافتين مختلفتين :ثقافة النخبة وثقافة
العامة ،باعتباره مقوم من مقومات الهوية الوطنية ،فدفاع
الخميري عن «الفلكور» كما سبق وأن رأينا وإضفاء الطابع
العلمي عليه بتجميعه في كتب وقواميس ما هو إال اعتراف
((( الطاهر الخميري :مكافحة ،..المصدر الذي ذكر سابقا ،ص 36
((( الطاهر الخميري :دراسات ،المصدر ذاته ،ص 12
97
بقيمة هذا الموروث والتصالح معه ،وإبراز خصوصيته خاصة
وأنّه وإلى سنوات ظل يعاني اإلقصاء من قبل عدد ال بأس به من
المثقفين .أ ّما الخميري المثقف المخضرم فقد وجد ما يبحث
عنه من خالل «علمنته» فيصبح علما يبني عن طريق مقومات
خاصة به ويدون بطريقه يصبح محفوظا في الذاكرة الجمعية.
ونجد أنّه في بعض كتاباته راوح بين اللغة العربية الفصحى
واللغة العامية كـ :وسألت موظفا عن بعض أوراقي فقال:
«تفقدني غدوة» ثم نظرت فرأيت أوراقي أمامه» ،أو قوله «نحن
قوم نعرف ان الشيء اذا كثر(يمصاط)».
وقد قام بدراسة اللهجة التونسية وقارنها بنظيراتها في بعض
والمعرب
ّ البلدان األخرى وهو ما سماه «المعرب والدخيل»
هو ماال نجد له أصل في اللغة العربية ومع ذلك يصبح عربيا فـ»
العرب المستعربة» :قوم من العجم دخلوا في العرب فتكلموا
وحاكو هيئاتهم وليسوا بصرحاء فيهم ،فصاروا عربا
ْ بلسانهم،
وليس أصلهم كذلك (((».أما الدخيل فهي الكلمات األجنبية
التي دخلت للغة العربية دون تغير ،فهي تنطق كما في لغتها
األصلية ،وهكذا نستطيع أن نقول أن الفرق بينهما هو معرب
المعربة تكون
ّ وما هو دخيل هو طريقة النطق ،فالكلمات
لها أوزان عربية أما الدخيلة فتحافظ هذه المصطلحات على
أوزانها وتنطق كما هي.
((( رشيد عبد الرحمن العبيدي :األزهري في كتابه تهذيب اللغة ،أطروحة
دكتوراه ،القاهرة .1998
التونسي
ّ وفي الحقيقة ،شهدت لغة التّخاطب للمواطن
مرت بهذا القطر ،فقدبتطور الحضارات والثقافات التّي ّ
تطورا ّ ّ
استقبلت تونس شعوبا بألسنة وحضارات وثقافات مختلفة،
نتج عنها تواصل واحتكاك وتثاقف ،إذ وجد التّونسي نفسه
يتك ّلم لغتهم بطريقة واعية أو غير واعية حتى وإن لم يتقنها،
فأصبحت بعض الكلمات الوافدة متداولة بشكل ملحوظ في
الشارع التونسي ،ويعتبر هذا «االقتراض اللغوي» وهو نقل
كلمات ومصطلحات من لغتها األم ودمجها مع اللغة المحلية
-ظاهرة عامة نجدها تقريبا في كل اللغات-أ ّما أسبابها فهي
ّ
ولعل أهمها هو التباهي بهذه األلفاظ غير المألوفة. متعددة
فـ»االقتراض اللغوي هو أحد المؤشرات على الصالت
الحضارية التّي قامت بصورة مباشرة أو غير مباشرة بين تونس
نسميه بالمثاقفة على مستوى
وغيرها من البلدان وهو ما صرنا ّ
الحياة اليومية»(((.
وعلى هذا األساس ،أولى الخميري أهمية ذات بال لما
«المعرب والدّ خيل» ومستنده في ذلك ّ
أن في «العام ّية ّ أسماه
التّونسية عدد كبير من الكلمات األجنبية ،بعضها يستعمل في
موضعه وبعضها يستعمل في غير موضعه إذ لم يعرف معناه
األصلي وطرق استعماله في اللغة المأخوذة منها»((( ،فجمع
حوالي مائتين وستة كلمة دخيلة على اللسان التونسي وحاول
99
شرحها وإيجاد مرادفها باللسان العربي وقد تنوعت هاته
الكلمات.
تعسف ال ّلغة الفرنسية على تلك الكلمات ،هو أمر ّ
ولعل ّ
طبيعي ،فقد ظلت البالد التونسية تحت وطأة االستعمار
الفرنسي لردح من الزمن ،وأما تبني كلمات من هذه اللغة
أو التحدث بها كليا فهو أمر عادي ،خاصة إن لم تطغ لغة
تعود عليها ،ومن ذلك نورد
على األخرى ،فاللسان التونسي ّ
جملة من المفردات التونسية المشتقة من اللغة الفرنسية نحو
«السرسي : Sursisوقف أو تأجيل الحكم» و»سربى،يسربي:
كل شي بالبرشة ،أ ّما النظام والتسربيس ما عندهمش ،سربى،ّ
يسربي من .»Servirومع ذلك نجد حضورا للغة اإلسبانية
من ذلك كلمة «قربيطة» و«القرباطة ج قرابط من Gorbata
بمعنى رباط الرقبة» واإليطالية من قبيل «سبيسرية Speziena
صيدلية» ،وكلمة «سرد بمعنى بارد» والفارسية مثل»سطل»
وأصلها «ستل» واليونانية القديمة((( كـ«جنس ،زنس ،هك
تكون أعمال الجنوس يجيك يزور يبني دار مقام» ونذكر من
التركية((( على سبيل المثال «اليوغرت Yugurtبمعنى اللبن
الرائب».
جل المجاالت فيمست هذه الكلمات الدّ خيلة تقريبا ّوقد ّ
الحياة اليومية سواء االقتصادية أو االجتماعية ،وعادة ما كانت
تستخدم لمزيد التوضيح والتصويت مع الخفة والسهولة في
((( المصدر ذاته ص 114
((( المصدر ذاته ص 148
100
النطق ،وكانت الجرائد منبرا منيرا استخدمه الطاهر الخميري
للتعريف بهذه المصطلحات ومنها :العمل والصباح والحاج
ضمت ركنا قارا يعنى
كلوف وخاصة جريدة «الخدام» ...حيث ّ
بالتعريف بأصول وجذور الكلمات األجنبية المنتشرة على
لسان التونسي.
بأن دراسة الخميري تأسيسا على ما سبق ،يمكن أن نجزم ّ
خاصا ّ
بكل ّ للغة جاءت شاملة ،إذ أولى الباحث اهتماما
ماله عالقة باألدب الشعبي من أمثلة ومصطلحات وتعريب
رواد
الكلمات الدخيلة و»تونستها» ،كما اختار أن يكون أحد ّ
الثقافة التونسية وجهابذتها في هذا المجال .فقد اثبت الطاهر
الخميري المثقف لمناصريه ومعارضيه على حدّ سواء جدارته
بامتياز تاركا بصمة واضحة وجل ّية في دراسة اللغة العربية
الفصحى ،فهو وكما رأينا متمكن وضليع بها ،إذ أورد ما يقارب
عن مائتين وعشرون كلمة عربية فصحى((( وردت في جريدة
العمل حيث خصص ركنا أسبوع ّيا كمساهمة منه في الدفاع عن
اللغة العربية .وأراد أن يظهر في هذا الركن جمالية اللغة العربية
وغناها من خالل إيجاد تفاسير لها باللغة الفرنسية واالنجليزية
من جهة ومن جهة أخرى حتى تعم الفائدة في أوساط قراءه.
كما تبدّ ت موسوع ّيته من خالل تنوع مصادره في التّفسير فتراه
شاعرا وأدبيا ومحاضرا ومثقفا ،ينتقل تارة بين أسلوب ميخائيل
نعيمة الواقعي وطورا بين أسلوب الجاحظ االستطرادي .دون
101
أن نغفل عن التّأثير الكبير البن رشيق وسهيل ادريس والطبري
وغيرهم في تشكيل وصقل أسلوبه ال ّلغوي في الكتابة.
بكل سالسة وتمكّن ،إذ حضر المعجم والقائمة تطول ّ
االنجليزي والفرنسي في شرحه للمفردات العربية وهو ما يدل
على حذقه للغات األجنبية .فقد م ّثل هذا الركن الذي خصصه
الصحف ّية
الخميري عالمة مضيئة لبعث روح جديدة في الكتابة ّ
وإثراء الحياة الثقافية واألدبية في تلك الفترة بأسلوب علمي
دقيق وواضح ،مسكونا باللغة العربية ومدافعا شرسا عليها.
102
و ُيمكن أن نجزم ّ
أن التّراث الخميري رغم البحوث التي
وصلتنا يحتاج إلى مزيد االشتغال عليه للكشف عن خصائص
الهو ّية ّ
والشخص ّية التونس ّية وسماتها.
103
ا�ل ف�هرس
محمد المي
الخميري 7.....................................................
سليمة لوكام
مراد الضويوي
رشيد الزواوي
بوقرة
ّ عبدالجليل
فوزية بلحاج ّ
المزي ّ
105
طاهر الخميري :نزعة اإلصالح االجتماعي 61.................
زهير الذوادي
106