Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 108

‫‪29‬‬ ‫أعالم الثقافة التونسية‬

‫الطاهر الخميري‬
‫المثقف األنثروبولوجي‬

‫الجمهورية التونسية‬
‫وزارة الشؤون الثقافية‬
‫المؤسسة الوطنية لتنمية المهرجانات‬
‫والتــظاهرات الثـــقافـية والفـنية‬
‫منتدى الفكر التنويري التونسي‬
‫المثقف األنثروبولوجي‬ ‫عنوان الكتاب‬
‫* محمد المي‬ ‫المؤلفون‬
‫* سليمة لوكام‬
‫* مراد الضويوي‬
‫* رشيد الزواوي‬
‫* عبد الجليل بوقرة‬
‫* فوزية المزي‬
‫* زهير الذوادي‬
‫* خديجة التومي‬
‫* أشواق عوي‬
‫أعالم الثقافة التونسية ـ عدد ‪29‬‬ ‫السلسلة‬

‫‪978-9938-9689-1-0‬‬ ‫ر‪.‬د‪.‬م‪.‬ك‬

‫‪108‬‬ ‫عدد الصفحات‪:‬‬


‫المي‬
‫محمد ّ‬ ‫إشراف وإعداد‬
‫منتدى الفكر التنويري التونسي‬
‫‪2023‬‬ ‫الطبعة األولى ‪:‬‬
‫المؤسسة الوطنية لتنمية المهرجانات والتظاهرات‬ ‫الناشر‬
‫الثقافية والفنية‬

‫‪2‬‬
‫الدكتور الطاهر الخميري‬

‫المثقف األنثروبولوجي‬

‫محمد المي‬

‫توفي الدكتور الطاهر الخميري في نفس اليوم والشهر‬


‫والسنة التي توفي فيها عميد األدب العربي الدكتور طه حسين‬
‫ولو طالعنا الصحف التونسية لنقف على ّ‬
‫حظ الرجلين من‬
‫المقاالت التي كتبت عن كالهما في الصحافة التونسية ألدركنا‬
‫مما كتب عن‬
‫دون عناء أن ما استأثر به طه حسين المصري أكثر ّ‬
‫التونسي الطاهر الخميري في بالده ؟‬
‫رغم الخدمات التي قدّ مها الدكتور الطاهر الخميري لتونس‬
‫فانه عاش غريبا ومات غريبا ولم ينل من اإلنصاف ماهو جدير‬
‫به حيث أغلقت أبواب الجامعة التونسية في وجهه مثلما حصل‬
‫للدكتور محمد فريد غازي ولوال الجرائد واإلذاعة التي كان‬
‫يسترزق منها لعاش بال دخل مالي يحفظ كرامته ‪.‬‬
‫الصادرة في‬
‫كان اسمه يتر ّدد في أغلب الجراد والمجالت ّ‬
‫عهده حيث كتب في ‪« :‬العمل» و«الصباح» و«الندوة» و«الفكر»‬
‫و«الخدّ ام واللغات» و«التجديد» و«اإلذاعة» ‪...‬الخ فضال عن‬

‫‪3‬‬
‫أحاديثه اإلذاعية ومحاضراته التي كان يقدّ مها في مختلف‬
‫المناسبات ويمكن تقسيم اهتماماته إلى أربعة محاور كبرى ‪:‬‬
‫* الثقافة الشعبية‬
‫* الترجمة من األنقليزية إلى العربية‬
‫* المسائل اللغوية‬
‫* النقد االجتماعي‬
‫وقد خ ّلف عدة كتب مطبوعة مقارنة بأعالم عصره وما هو‬
‫يكون كتبا عديدة قد شرعنا في‬‫متناثر في الصحف والمجالت ّ‬
‫جمعها فأصدرنا بعضها بالتعاون مع دار سحر للنشر فضال‬
‫خاصة أطروحته‬ ‫ّ‬ ‫عن كتبه باللغتين اإلنقليزية واأللمانية ‪-‬‬
‫عن ابن خلدون ‪ -‬فإننا نرى في هذا المث ّقف التونسي مثقفا‬
‫السرب وخرج عن المألوف‬ ‫استثنائيا بأتم معنى الكلمة خالف ّ‬
‫فأفرد إفراد البعير المع ّبد واتهم عدّ ة اتهامات منهم من قال انه‬
‫جاسوس انقليزي وقع تجنيده أو قام بعرض خدماته ولذلك‬
‫نفهم اهتمامه بالجوانب األنثروبولوجية على غرار العادات‬
‫والتقاليد واالهتمام بنمط العيش ‪..‬الخ وقد فعل من قبله محمد‬
‫بن عثمان الحشايشي صاحب كتاب العادات والتقاليد التونسية‬
‫في نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ‪.‬‬
‫إذا صدّ قنا هذه الدعاوى فهل نعتبر أحمد أمين الذي كتب‬
‫معجم العادات والتقاليد التونسية جاسوسا ؟ وهل نعتبر‬
‫محمود تيمور الذي اهتم باألمثال العامية جاسوسا ؟ وها قد‬

‫‪4‬‬
‫عرفنا أن الصادق الرزقي اهتم باألغاني التونسية وجمع األمثال‬
‫العامية ؟ فماذا يمكن أن نقول عنه ؟‬
‫خمسينية الدكتور الطاهر الخميري تدعونا إلى التفكير من‬
‫جديد في هذا الرجل الظاهرة وتأمل منجزه من جديد وهذا دور‬
‫هذه الذكريات التي نحييها من زمن إلى آخر لتجعلنا نفكّر في‬
‫واقع ثقافتنا وما حصل لدينا منها ‪.‬‬

‫�م �ل‬
‫حمد ا م ي�‬
‫منتدى الفكر التنويري التونسي‬

‫‪5‬‬
‫إسهام األثروبولوجيا وهواجس‬
‫التنوير في أعمال الطاهر الخميري‬

‫سليمة لوكام‬

‫تقديم‪:‬‬
‫من مرحلة الطفولة ما زلت أذكر مقولة للوالد ‪ -‬رحمه‬
‫لما يستمع‬
‫تونسي الهوى‪ ،‬كان ّ‬
‫ّ‬ ‫باديسي التّكوين‬
‫ّ‬ ‫الله‪ ، -‬وكان‬
‫إلى اإلذاعة التونسية أو يشاهد التلفزة التونسية يقول‪« ،‬الطاهر‬
‫الخميري وعبد العزيز العروي و ّعاوا التوانسة»‪ِ ،‬‬
‫وعلق ذلك‬
‫لما كنت أتابع معه أحيانا مشاهدة بعض حكايات‬ ‫في ذهني ّ‬
‫العروي على شاشة التلفزة‪ ،‬ولكن السؤال ّ‬
‫ظل يراودني‪ ،‬هذا‬
‫ثم نسيته‪.‬‬‫هو العروي‪ ،‬فمن هو الخميري؟ ّ‬
‫العلمي‪ ،‬بحكم‬
‫ّ‬ ‫ثم في مرحلة أخرى‪ ،‬وفي غمرة البحث‬ ‫ّ‬
‫االختصاص (السرديات والنقد المغاربي) طفا هذا االسم‬
‫مرة على السطح‪ ،‬لكنّني لم أتو ّقف عنده كثير ًا مدفوعة‬
‫أكثر من ّ‬
‫بفكرة براغمات ّية ‪ ،‬كان مجال البحث أولى‪.‬‬
‫و ُأتيحت لي الفرصة ّ‬
‫لما أهداني األستاذ محمد الصالح‬
‫الرصاع متفضال مشكورا مجموعة أعمال الدكتور الطاهر‬
‫ّ‬

‫‪7‬‬
‫وتقصيت أنحاء النّظر في‬
‫ّ‬ ‫الخميري‪ ،‬فانكببت على قراءتها‪،‬‬
‫تجربة بدت لي خاصة بعض ّ‬
‫الشيء باعتبار ثرائها المعرفي‬
‫والثقافي والفكري‪ ،‬وتم ّيز سياقها ‪ -‬أو سياقاتها االجتماعية‬
‫الرسمية‬
‫وبتنوع مناحيها األدبية ّ‬‫ّ‬ ‫والثقافية والسياسية‪، -‬‬
‫والشعبية‪ ،‬وانفتاحها على الحداثة وعلى التراث على حدّ‬
‫السواء‪.‬‬
‫ّ‬
‫وقد آثرت في هذا الموضع أن أختار للدراسة متنا محدّ د‬
‫المجال نسب ّي ًا من مجموع األعمال‪ ،‬فوضعت الترجمات‬
‫جانب ًا‪ ،‬واتخذت من كتاب «مكافحة الثقافة» و« مرآة المجتمع»‬
‫مدونة أروم من خاللها الوقوف على خصوصية الخطاب‬ ‫ّ‬
‫واستراتيجيات الكتابة عند الطاهر الخميري بوصفه مصلح ًا‬
‫تنوير ّي ًا ومثقف ًا عضو ّي ًا بالمفهوم الغرامشي‪.‬‬

‫اإلسهام األنثروبولوجي‪:‬‬
‫أ ّما الملمح االنثربولوجي الذي وسم جانب ًا من أعمال‬
‫بقوة في عمليه «قاموس العادات والتقاليد‬ ‫الخميري فحضر ّ‬
‫التونس ّية» و«مختارات من األمثال العام ّية التونس ّية»‪ ،‬وهما‬
‫يقعان على مسافة غير بعيدة من األدب الشعبي‪ ،‬وبهما ُيعدّ‬
‫الخميري رائد ًا في هذا المجال بالنّظر إلى د ّقة المرحلة التي‬
‫ظهرا فيها‪ ،‬وغياب المحضن األكاديمي الذي يمكن أن يحتوي‬
‫التوجه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مثل هذا‬

‫‪8‬‬
‫أن ما دعا الخميري‬ ‫وحري بنا في هذا المقام أن نشير إلى ّ‬ ‫ّ‬
‫إلى سلوك هذا النهج في التعاطي مع ثقافة المجتمع يرتدّ‬
‫فيما يبدو إلى احتكاكه المباشر بطبقات الشعب على تباين‬
‫بالصحافة التي كانت‬ ‫مشاربها‪ ،‬وتفاوت مستوياتها‪ ،‬واشتغاله ّ‬
‫عما‬‫يشذ ّ‬‫بالنسبة إليه رافد ًا ها ّم ًا ومح ّفز ًا ‪ ،‬وهو في ذلك لم ّ‬
‫كان يتعاطاه أمثاله من رواد النّهضة والتنويريين في المشرق‬
‫العربي من الكتاب والمثقفين الذين قال عنهم جرجي زيدان‪:‬‬
‫«المشتغلون في الصحافة في هذه النّهضة كثيرون‪ ،‬إذ لم‬
‫قانوني ّإاّل كتب في‬
‫ّ‬ ‫مؤرخ أو‬
‫ينبغ أديب أو شاعر أو عالم أو ّ‬
‫بأن ثقافة شعب‬ ‫كل ذلك يقينه ّ‬ ‫جريدة أو مج ّلة‪ 1».‬وأعمق من ّ‬
‫تتجزأ‪ ،‬وأنّه ليس من شيء أولى بالدّ رس والتّمحيص في‬ ‫ما ال ّ‬
‫تمر بها المنطقة المغارب ّية‬
‫مرحلة ما بعد الكولونيالية التي كانت ّ‬
‫مقوماتها‪ ،‬كاللغة سليمة ب ّينة‬
‫من تثبيت الهو ّية‪ ،‬والمحافظة على ّ‬
‫سواء أكانت رسم ّية فصيحة أم عام ّية دارجة‪ ،‬وكالدّ ين صحيحا‬
‫نق ّي ًا من الترهات واألباطيل‪ ،‬فالتفكير في قاموس العادات‬
‫والتقاليد‪ ،‬والعناية بجمع األمثال‪ ،‬وما تناقلته أفواه التونسيين‬
‫بكل مناشط حياتهم‪ ،‬وطرائق تفكيرهم‪.‬‬ ‫من أقوال مأثورة ترتبط ّ‬
‫الرغم من اإلعراض الذي لقيه الخميري بسبب‬ ‫وعلى ّ‬
‫تك ّلس بعض ّ‬
‫الذهن ّيات فيما هو موصول بالثقافة الشعب ّية آنذاك‪،‬‬
‫تشجع على مثل هذه‬ ‫ظل غياب منظومة ثقاف ّية أكاديم ّية ّ‬ ‫وفي ّ‬
‫فإن ما قدّ مه الباحث في هذا السياق يعدّ إسهام ًا‬ ‫الدّ راسات‪ّ ،‬‬
‫مؤسسا‪ ،‬ومنجز ًا كان له أثره البالغ في التعريف‬ ‫انثروبولوج ّي ًا ِّ‬
‫ّونسي‪ ،‬وليس بخاف‬ ‫ّ‬ ‫بالتّطورات التي طرأت على المجتمع الت‬

‫‪9‬‬
‫توصلت إليه عند الغربيين‪ ،‬الدّ راسات اإلنسان ّية‬ ‫على أحد ما ّ‬
‫رسمي‬
‫ّ‬ ‫األنثروبولوجية التي ال تم ّي ُز وال تُفاضل بين ما هو‬
‫شعبي في ثقافات شعوبها‪ ،‬و«يستطيع المتت ّبع للحياة‬ ‫ّ‬ ‫وما هو‬
‫خاصة أن يشهد عدّ ة‬ ‫ّ‬ ‫الثقاف ّية عا ّمة ‪ ،‬وللدّ راسات اإلنسان ّية‬
‫أهميتها التي ال يمكن إغفالها‪ ،‬أو تجاهلها‪ ،‬فالذي‬ ‫تطورات لها ّ‬ ‫ّ‬
‫ال في‬ ‫تطورا مذه ً‬
‫أن الثالثين سنة الماضية قد شهدت ّ‬ ‫شك فيه ّ‬
‫ال ّ‬
‫الدّ راسات التي تتناول المجتمع بالوصف والتّحليل‪ ،‬وتحاول‬
‫والتطور‪ ،‬واالتّفاق‬
‫ّ‬ ‫أن ترصد مظاهر ال ّثبات والتغ ّير‪ ،‬والجمود‬
‫والسلب في الظواهر االجتماع ّية‬ ‫ّ‬ ‫واالختالف‪ ،‬واإليجاب‬
‫‪2‬‬
‫وال ّثقافية المختلفة‪».‬‬
‫ولن كانت هذه الجهود قد سبقت زمنها‪ ،‬ولم تته ّيأ لها‬
‫شروط وجودها في حينها‪ ،‬ولم تنتظم ضمن رؤية علم ّية‬
‫منهجية‪ ،‬ولم تتأ ّطر داخل «عمل الفريق» الذي تقتضيه مثل‬
‫توصل إليه الخميري كان كافي ًا ألن‬ ‫ّ‬ ‫هذه البحوث‪ّ ،‬‬
‫فإن ما‬
‫السبيل لمن جاء بعده‪ ،‬ويكسر حاجز ًا سمح لمن بعده‬ ‫يمهد ّ‬
‫ّ‬
‫تطور المجتمع‪ ،‬وآليات تشكّل بنياته‬ ‫المهتمين الباحثين في ّ‬
‫ّ‬ ‫من‬
‫الثقافية واالجتماع ّية بأن يخوض تجربة البحث باالتّكاء على‬
‫فردي كاد أن يل ّفه التعتيم والنسيان‪.‬‬
‫ّ‬ ‫منجز جهد‬
‫ّ‬
‫مبادىء التنوير‪:‬‬
‫في تقديمه الدقيق لكتاب «مرآة المجتمع» للطاهر الخميري‪،‬‬
‫يرى «محمد المي» أنّه يذكّره بسالمة موسى فيما له عالقة‬
‫«بتربية المجتمع وتوجيهه ومحاولة إصالح بعض مظاهر عيشه‬

‫‪10‬‬
‫يبرره تحديد ًا فيما‬
‫وكيف ّية إقامته على األرض»‪ ،‬وهذا رأي له ما ّ‬
‫بالصحافة‪ ،‬وحرصه على إصالح‬ ‫له آصرة باشتغال الخميري ّ‬
‫حال الشعب‪ ،‬وتعليمه‪ ،‬وإيقاظه‪ ،‬وتنبيهه إلى ما يمكن أن يع ّطل‬
‫تطوره أو يعيق دورانها‪.‬‬
‫عجلة ّ‬
‫إن ما ع ّن لنا من خالل قراءة بعض‬ ‫لكن في الحقيقة‪ّ ،‬‬
‫المتون المشرق ّية أظهر قرب ًا للخميري من «طه حسين» أكثر‬
‫من «سالمة موسى» ‪ ،‬وال أرى أنه يشبه أحدا بقدر ما يشبه طه‬
‫حسين في بعض أعماله ( بين بين ‪ ،‬نقد وإصالح ‪ ،‬من لغو‬
‫الصيف‪ ،‬خصام ونقد‪ ،‬أحاديث‪ ،‬مرآة الضمير الحديث‪)...،‬‬
‫التي عالج فيها مشكالت المجتمع وثقافته‪ ،‬والشعب وشؤونه‪،‬‬
‫فكما هجس هذا بأحوال المصريين وطرائق عيشهم‪ ،‬وانتقد‬
‫أساليب تفكيرهم في دقائقها وتفاصيلها‪ ،‬في نوع من الكتابة‬
‫تم فيها استدعاء صنوف من األدب والتاريخ والفكر‬ ‫التي ّ‬
‫والنادرة والخاطرة‪ ،‬مع االستعانة في ذلك كله بثراء عدة‬
‫معرفية ‪ ،‬وأدوات تحليل ونقد اجتهد طه حسين في تعقيلها‪،‬‬
‫وأمعن في صياغة شعر ّيتها‪ ،‬وتشكيل جمال ّيتها على النّحو‬
‫الذي يص ّيرها لصيقة به‪ ،‬مالزمة له‪ ،‬ومباينة في اآلن لما ارتضاه‬
‫الخميري أسلوب كتابة‪ ،‬وسمت ًا في بناء نصوصه‪ ،‬وإنّه من نافل‬
‫القول أن نسهب فيما انعقد حوله إجماع النقاد والدّ ارسين عن‬
‫خصائص الكتابة عند طه حسين‪ ،‬أ ّما فيما يتع ّلق بالخميري في‬
‫فسنفصل الحديث فيها الحقا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫هذا الجانب‬

‫‪11‬‬
‫وههنا ينبغي أن نشرع باب ًا وسيع ًا ندلف من خالله إلى‬
‫يتأسس عليها الفكر التنويري عند‬
‫معرفة المبادىء العا ّمة التي ّ‬
‫الخميري‪ ،‬وتتقاطع إلى حدّ كبير مع تلك التي يتبنّاها «طه‬
‫ثم عن مسار «سالمة موسى» ومن انضوى‬ ‫حسين»‪ ،‬وتبعده من ّ‬
‫معه تحت مظ ّلة واحدة‪ .‬ومن أظهر ما استصفيناه من مبادىء‪:‬‬
‫ارتكاز الخميري على جانب الحداثة دون أن يناصب التراث‬
‫األعم األغلب يضرب المثل بالنموذج‬ ‫ّ‬ ‫العداء‪ ،‬فكما أنّه في‬
‫االجتماعي والمستوى‬
‫ّ‬ ‫الحضاري‪ ،‬والوعي‬
‫ّ‬ ‫الغربي في السلوك‬
‫ّ‬
‫قافي‪ ،‬فإنّنا نلفيه في كثير من المواضع مشدودا إلى مقومات‬ ‫ال ّث ّ‬
‫مصوبا بعض‬
‫ّ‬ ‫الهو ّية العرب ّية اإلسالم ّية‪ ،‬مدافعا عن اللغة العرب ّية‬
‫استعماالتها‪ ،‬وهو في هذا يتطلع إلى غرض أساسي واحد‪:‬‬
‫إعادة إعطاء المدينة العربية ‪ -‬اإلسالمية أصالة وحركية تتيحان‬
‫‪3‬‬
‫لها أن تحتل بكرامة منزلتها في جوقة األمم الحديثة»‪.‬‬
‫خط سير «سالمة موسى» وشبلي‬ ‫ثم يختلف تمام ًا عن ّ‬ ‫ومن ّ‬
‫ّ‬
‫المبشرين‬ ‫شميل» و«لطفي الس ّيد» من دعاة العلمان ّية والعقالن ّية‬
‫بمبادىء الثورة الفرنس ّية ‪.‬‬
‫‪-‬هدوء الخطاب التنويري الخميري‪ ،‬بالموازنة مع خطاب‬
‫الليبرانيين المشارقة‪ ،‬ومنهم سالمة موسى الذي كان‬
‫التنويري حيث يقول‪:‬‬
‫ّ‬ ‫جريئا بل صدام ّيا في بث مشروعه‬
‫سر ًا وجهرة‪،‬‬
‫« هذا هو مذهبي الذي أعمل له طول حياتي ّ‬
‫بالشرق‪ ،‬مؤمن بالغرب‪ ،‬وفي ّ‬
‫كل ما أكتب أحاول‬ ‫فأنا كافر ّ‬
‫أن أغرس في ذهن القارئء تلك النزعات التي اتّسمت‬

‫‪12‬‬
‫بها أور ّبا في العصر الحديث‪ ،‬وأن أجعل ّقرائي يو ّلون‬
‫‪4‬‬
‫ويتنصلون من ّ‬
‫الشرق‪»...‬‬ ‫ّ‬ ‫وجوههم نحو الغرب‪،‬‬
‫وفي المقابل‪ ،‬يطالعنا «الخميري» بنبرة فيها كثير من التع ّقل‬
‫والوعي بطبيعة المرحلة‪ ،‬وصالبة األرض التي يقف عليها حتّى‬
‫تزل به قدم‪ ،‬ولنضرب مثاال على ذلك ما ورد في مفتتح مقال‬ ‫ال ّ‬
‫«اللغة الفرنس ّية في تونس» ‪ ،‬وهو بالمناسبة مقال دقيق خطير‬
‫على إيجازه‪ ،‬يقول‪ « :‬هذه كلمة البدّ لها من مقدّ مة‪ ،‬وذلك‬
‫اجتناب ًا لسوء التّفاهم‪ ، 5».‬وفي هذا ما يشي بحرص الخميري‬
‫على أن ُيفهم خطابه على الوجه الصحيح دون أن يحدث‬
‫ضباب ّية‪ ،‬أو يخ ّلف جدالً‪.‬‬
‫وما يحسن الوقوف عنده في هذا الموضع تحديدا‪ ،‬هو ّ‬
‫أن‬
‫هاجس التنوير في ذهن الخميري يعني تونس ّأوال وأخير ًا‪ .‬لم‬
‫يكن الخميري‪ ،‬معن ّي ًا بالشرق أو بالغرب بقدر ما كان معن ّيا بما‬
‫ومرات على الغرب‪ ،‬ال‬ ‫الشرق‪ّ ،‬‬‫مرة على ّ‬ ‫في تونس‪ ،‬يعرضه ّ‬
‫بحس وطني ٍ‬
‫عال‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫انتقاصي وال باستعالء تغريبي ‪ ،‬بل‬ ‫بتعريض‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وغيرة ظاهرة على أبنائه ‪.‬‬
‫وإن كنّا ال نشكّك في ما كان يهدف إليه «سالمة موسى»‬
‫خاص‪ّ ،‬‬
‫فإن‬ ‫ّ‬ ‫الشرق‪ ،‬ونهضة مصر ‪ ،‬بوجه‬ ‫الرغبة في نهضة ّ‬ ‫من ّ‬
‫بالسطح ّية وعدم‬
‫أن اتهام «سالمة موسى ّ‬ ‫بعض الدارسين يرى ّ‬
‫ّعمق في التّحليل عند تناوله القضايا الفكر ّية‪ ... ،‬يعود أساس ًا‬
‫الت ّ‬
‫‪ ... ،‬إلى اعتماده المقالة البسيطة واألسلوب البعيد عن التّعقيد‪،‬‬
‫أن األفكار التي كان ينشرها لم تكن سهلة الهضم آنذاك‪،‬‬ ‫ذلك ّ‬

‫‪13‬‬
‫كما كان مبدأ ممارسته الفكر ّية‪ ،‬يقول‪ « :‬يجب رفع ّ‬
‫الشعب إلى‬
‫الرفيع‪ ».‬وعمال بهذا المبدأ اشتغل طوال حياته‬
‫مستوى األدب ّ‬
‫بالصحافة ‪ ،‬بدأها سنة ‪ 1909‬بالمقتطف‪ ،‬وتخ ّلى عنها سنة‬ ‫ّ‬
‫‪6‬‬
‫‪ 1952‬باألخبار‪».‬‬
‫مما قرأ في‬ ‫‪-‬يختار «الخميري» نماذج نقده وإصالحه ّ‬
‫ومما عاشه من تجارب‬ ‫ّ‬
‫والمجاّلت‪ّ ،‬‬ ‫والصحف‬ ‫ّ‬ ‫الكتب‬
‫ومما سمع من أخبار‬ ‫مع النّاس‪ ،‬من النّخب ‪ ،‬ومن الع ّامة‪ّ ،‬‬
‫ويمحصها‪،‬‬‫ّ‬ ‫نقلها له بعض األصدقاء والمعارف‪ ،‬فيح ّللها‬
‫ويتّخذها تُكأة يش ّيد عليها رؤيته في التوعية‪ ،‬بل في‬
‫استنهاض الهمم‪ ،‬وإيقاظ الضمائر‪ ،‬وترشيد سلوكات‬
‫الشعب‪ ،‬وهو في هذا يتقاطع إلى حدّ كبير مع «طه حسين»‬
‫حدّ التطابق‪ ،‬فلو أخذنا على سبيل المثال ال الحصر‪،‬‬
‫تهم المصريين‬ ‫كتاب «بين بين» وما طرحه من مسائل ّ‬
‫جراء التحوالت‬ ‫في تلك اآلونة ‪ ،‬وما طرأ على حياتهم ّ‬
‫االجتماعية‪ ،‬والتيارات الثقاف ّية‪ ،‬واألحداث السياس ّية‪،‬‬
‫أن الموضوعات المطروحة فيه بعناوين من مثل‪:‬‬ ‫لتب ّين ّا ّ‬
‫«األدب والسياسة (جد وهزل)»‪ ،‬و«عيد» و« طيف»‬
‫الذوق» و«خوف» و«النفوس‬ ‫و«الضمائر القلقة» و«في ّ‬
‫القلقة» و«شياطين اإلنس والج ّن» و«جوع وأحاديث»‪...‬‬
‫تقترب في كثير مع ما طرحه «ال ّطاهر الخميري» في‬
‫أحاديثه ومقاالته‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫يقول طه حسين في مقال بعنوان «خوف»‪« :‬لست أدري أين‬
‫قرأت‪ ،‬بل لع ّلي أعلم أنّي قرأت في فصل طويل أراد به صاحبه‬
‫تعريف مصر إلى أعضاء المؤتمر البرلماني الدولي‪ 7»...‬وفي «‬
‫أن في الضمير المصري شيئا من‬ ‫الضمائر القلقة» يقول‪ « :‬يظهر ّ‬
‫قلق يحتاج أن يعنى بها الذين يهمهم أن يكون الضمير المصري‬
‫راضيا مطمئنّا وآمنا ومستريحا‪ 7».‬وفي «جوع وأحاديث» يقول‪:‬‬
‫نشق عليهم في القول‪،‬‬‫األعزاء أن ّ‬
‫ّ‬ ‫« ال يغضب المواطنون‬
‫الحق‪ ،‬وإن لم يبلغ‬
‫ونعنّف بهم في الحديث‪ .‬فقد يجب أن ُيقال ّ‬
‫‪9‬‬
‫الرضى‪».‬‬
‫من نفوسهم موضع ّ‬
‫و نكاد نقع على ما يشبه هذا وأكثر عند الخميري في كتابه‬
‫ضم بين دفتيه عناوين من مثل‪ « :‬المشية‬ ‫«مرآة المجتمع» الذي ّ‬
‫والخلق» و« توضيح فكرة» واالستقالل االقتصادي» و«‬
‫بمناسبة المولد» و« النساء في األسواق» و« مجهودات ضائعة»‬
‫وعرج فيها على الواقع التونسي‪ ،‬ون ّبه إلى‬ ‫وقليل من السياسة»‪ّ ،‬‬
‫وحذر من مكامن الخلل التي تكاد تعصف‬ ‫مواطن الضعف فيه‪ّ ،‬‬
‫بمقدّ راته‪ ،‬وتنسف بنياته االجتماعية والثقافية واإلنسان ّية‪ ،‬مؤكّدا‬
‫صدوره عن رغبة جامحة وأمل طافح في أن تنصلح أحوال‬
‫الوطن بالنقد والتصويب‪ ،‬ويستقيم أمر شعبه تقدّ م ًا وازدهار ًا‪،‬‬
‫يوضح بشكل ب ّين وصارم أنّه ‪:‬‬ ‫لذلك نجده في مقدّ مة الكتاب ّ‬
‫« في مرآة المجتمع» هذه‪ ،‬ال أكتب بلغة (أنا) و(أنتم) أو بلغة‬
‫(نحن) و(أنتم)‪ ،‬وإنّما أكتب بلغة (نحن) فقط‪ .‬هذا الوطن هو‬
‫بيتنا األكبر‪ ،‬ونحن مث ّقفون على أنّه بحاجة شديدة إلى التنظيم‬
‫‪10‬‬
‫والتّنظيف‪ ،‬فيجب أن نتعاون على تنظيفه وتنظيمه‪».‬‬

‫‪15‬‬
‫والتد ّبر في دالالت هذه الرؤية يص ّير أمر اختالف‬
‫الخميري عن سالمة موسى وطه حسين وغيرهما من‬
‫اإلصالحيين والتنويريين المشارقة فارق ًا وجوهر ّيا‪ ،‬ويتم ّثل في‬
‫تشاركي ال من زاوية‬
‫ّ‬ ‫بمهمة المثقف من منظور‬
‫ّ‬ ‫ذلك الوعي‬
‫مما اقترحه «علي حرب» في سياق‬ ‫نخبو ّية‪ ،‬وهو هنا يقترب ّ‬
‫آخر ( من ضمن ما اقترحه الستدراك ما فات‪ ،‬والستباق الزمن‬
‫وفتح آفاق المستقبل) من ّ «كسر عقلية النخبة واالنتقال إلى‬
‫المجتمع التداولي حيث كل الناس هم فاعلون ومشاركون‬
‫كل في موقعه وبأدوات اختصاصه‬ ‫في أعمال البناء واإلنماء‪ّ ،‬‬
‫‪11‬‬
‫وإبداعاته في مجال عمله‪».‬‬
‫ّحضر خليق ًا بأن ُيقتدى‬
‫‪-‬اتخاذ الخميري اآلخر مثاال للت ّ‬
‫به‪ ،‬ونموذجا للمدن ّية ينبغي أن ُيحتذى‪ ،‬ولم يكن له بدّ من‬
‫ذلك‪ ،‬فليس لمن عاش في الغرب آنذاك‪ ،‬ورأى عن كثب‬
‫ما ينعم به القوم من راحة‪ ،‬وما يجدونه من رغد العيش‪،‬‬
‫تطور علومهم‪ ،‬وضخامة عمرانهم‪ ،‬وصدق‬ ‫ليس بسبب ّ‬
‫ساساتهم وقادتهم‪ ،‬بل بوعيهم بذواتهم‪ ،‬وبالتزامهم‬
‫بقواعد األخالق التي تواضعوا عليها‪ ،‬واعتقادهم الجازم‬
‫بأن القوانين التي تحكمهم تسري عليهم بوصفهم‬ ‫ّ‬
‫مواطنين كاملي الحقوق‪.‬‬
‫و قد ُيقرأ هذا النمط من التفكير على أنّه نوع من االستالب‪،‬‬
‫الغربي فنحن بالتّأكيد‬
‫ّ‬ ‫على اعتبار أنّنا حين نعجب بالمثال‬
‫«نفتّش رغم ذلك على أنفسنا في مرآة الغرب المتصدّ عة‪،‬‬

‫‪16‬‬
‫ونبحث عن حداثة شبيهة بحداثة الغرب‪ ،‬وعن مدن ّية مماثلة‬
‫للمدن ّية الغرب ّية‪ ،‬ونضغط واقعنا وفق النّماذج الغرب ّية تائهين عن‬
‫السعي‬ ‫ّ‬
‫وأن ّ‬
‫ً ‪12‬‬
‫مما أحدث ارتجاجا ور ّدة أكثر خطرا «‬ ‫أنفسنا ّ‬
‫إلى التقليد والمحاكاة بدافع المضاهاة والمماثلة‪ ،‬والواقع‬
‫أن ما أنجزه الخميري ال يستقيم وهذا المنظور‪ ،‬وليس فيه ما‬ ‫ّ‬
‫صحته في الكتابين كليهما‪ ،‬فهو ‪ ،‬وإن كان‬ ‫ُيقيم الدّ ليل على ّ‬
‫قد أعلنها صراحة في مقدّ مة كتاب مرآة المجتمع قائالً‪ْ « :‬‬
‫سل‬
‫الذين قضوا فصل الصيف الماضي في شمال فرنسا أو شمال‬
‫ألمانيا‪ ،‬أو في أنقلترا وبق ّية شمال أور ّبا‪ ،‬سلهم ُيخبروك أنّهم‬
‫ثم ابحث عن السبب تجد ّ‬
‫أن‬ ‫رأوا هناك حياة أفضل وأجمل‪ّ ،‬‬
‫هؤالء كتبوا كثيرا في انتقاد أنفسهم‪ ،‬وانتقاد بعضهم البعض‪،‬‬
‫فتع ّلموا كيف يضحكون على ما فيهم من ألوان الضعف‬
‫البشري وتمكّنوا من التغ ّلب عليها‪ ،‬أعرف عشرات من كتب‬ ‫ّ‬
‫مطولة‬
‫وضعها األلمان في محاسن األنجليز‪...‬و أعرف فهارس ّ‬
‫‪13‬‬
‫تحتوي على ما كتبه األلمان‪»...‬‬
‫أن الخميري ُأثنى على أوربا‪ِ ،‬‬
‫وأشاد‬ ‫فإن ذلك ال يعني ّ‬ ‫ّ‬
‫بجمالها هيام ًا فيها‪ ،‬وفناء في أوطانها‪ ،‬وإنّما ليع ّلم أبناء بلده‬
‫الذات‪ ،‬وأثرها في توعية الشعوب بواقعها‪ ،‬وإدراكها‬ ‫فضيلة نقد ّ‬
‫لمقدراتها‪.‬‬
‫سماه هو «قتل القيم» في‬
‫و مثل ذلك عندما ن ّبه إلى خطورة ما ّ‬
‫كتابه « مكافحة الثقافة» حينما عقد مقارنة بين ما فعله األنجليز‬
‫مع شكسبير الذين أكثروا من الكتابة عنه حتى سئمه النّاس‪،‬‬

‫‪17‬‬
‫وبين ما يمكن أن يفعله التونسيون مع أبي القاسم الشابي‪ ،‬وهو‬
‫إذ يفعل ذلك‪ ،‬فإنّه ينشىء خطاب مشابهة بين الطرفين‪ ،‬وينتقد‬
‫يشهر ليخلص في آخر المقال إلى القول‪:‬‬‫ليبني ال لينتقص أو ّ‬
‫« هذه هي نقائصنا‪ ،‬وهي ‪ -‬بالنّسبة إلينا‪ -‬من نقص القادرين‬
‫‪14‬‬
‫على التّمام‪».‬‬
‫وفي موضع آخر‪ ،‬يشرعن «الخميري» فكرة استعارة النظام‬
‫القوي الدقيق‬
‫ّ‬ ‫الفرنسي‪ ،‬وينعته بكونه « ذلك الجهاز‬
‫ّ‬ ‫اإلداري‬
‫ويبرر بكون تونس لم تخرج عن سرب الشعوب‬ ‫ّ‬ ‫المحكم»‬
‫لما استعارت ذلك النظام اإلداري‪ ،‬فيقول‪ « :‬أخذنا عن‬ ‫األخرى ّ‬
‫فرنسا الكثير من نظامها اإلداري كما أخذ غيرنا من الشعوب‬
‫المعاصرة‪ ،‬واستفدنا من ذلك كما استفادوا‪ّ ،‬إاّل أنّنا لم نحسن‬
‫ً ‪15‬‬
‫األخذ دائما‪».‬‬
‫و غاية ما نخلص إليه من تعاطي الخميري مع الغرب‪ ،‬ذلك‬
‫يعب من منابعه ال ّث ّرة‪ ،‬ويتق ّلب‬
‫اآلخر الذي قضى زمنا غير قصير ّ‬
‫في محاضنه المعرف ّية والثقافية‪ ،‬ليعود بها إلى أبناء مجتمعه‪،‬‬
‫ومتنور ًا‬
‫ّ‬ ‫يجوس في مساربه‪ ،‬ويتخ ّلل مغاوره مصلحا غيور ًا‪،‬‬
‫أثقل كاهله ما يعانيه شعبه من تخ ّلف‪ ،‬وما ينطوي عليه مجتمعه‬
‫من مظاهر التفكّك والتدهور‪.‬‬

‫خاتمة‪:‬‬
‫لم يتّسع المقام في هذا الموضع لتفصيل القول في جوانب‬
‫أخرى م ّثلت عالمات مضيئة في منجز «الخميري» ّ‬
‫خاصة فيما‬

‫‪18‬‬
‫بالصحافة عالقة وثيقة‪ ،‬أو ما‬
‫له باألدب نسب صريح‪ ،‬وأو ما له ّ‬
‫ربطته بالترجمة صلة وطيدة‪ّ ،‬‬
‫لعل سانحة أخرى تتيح لنا إمكان‬
‫اإلفاضة في هذا الجانب أو ذاك‪.‬‬
‫فإن ما قدّ مه الخميري في مجاالت‬ ‫الشأن‪ّ ،‬‬‫وأ ّيا كان ّ‬
‫الثقافة والسياسة واألدب والفكر خليق بأن ُيثمن وما أسداه‬
‫لمجتمعه من خدمات جليلة‪ ،‬وإرشادات ق ّيمة‪ ،‬وتصويبات ما‬
‫زلنا إلى اليوم في حاجة إليها في تربية شبابنا‪ ،‬وتوعية نسائنا‪،‬‬
‫الرجل ما زال بحاجة إلى‬ ‫إن كثير ًا ّ‬
‫مما كتبه ّ‬ ‫وتوعية مثقفينا‪ ،‬بل ّ‬
‫أن ُيتدارس‪ ،‬وتنشر عليه بقعة ضوء تُجلي الكثير من العتمة‪،‬‬
‫وتنفتح على عديد الدّ الالت‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫الهوامش‪:‬‬
‫‪ -1‬جرجي زيدان‪ ،‬تاريخ آداب اللغة العرب ّية‪ ،‬ج‪ ،4‬موفم‬
‫للنّشر‪ ،‬تقديم إبراهيم صحراوي‪ ،1993 ،‬ص ‪.439‬‬
‫عبي وثقافة المجتمع‪ ،‬دار مصر‬ ‫‪ -2‬أحمد مرسي‪ ،‬األدب ّ‬
‫الش ّ‬
‫المحروسة‪ ،‬القاهرة‪ ،2008 ،‬ص ‪.9‬‬
‫‪ ». -3‬محمد أركون‪ ،‬الفكر العربي‪ ،‬مع مقدمة من المؤلف‬
‫العوا‪ ،‬منشورات‬
‫ّ‬ ‫خاصة بالطبعة العربية‪ ،‬تر د عادل‬
‫عويدات‪ ،‬لبنان‪ -‬باريس‪ ،‬ط‪ ،1985 ،3‬ص ‪)150‬‬
‫‪ -4‬سالمة موسى‪ ،‬ماهي النّهضة ومختارات أخرى‪ ،‬موفم‬
‫للنشر‪ ،2000 ،‬الجزائر‪ ،‬ص ‪.12 -11‬‬
‫‪ -5‬الدكتور الطاهر الخميري‪ ،‬مكافحة الثقافة‪ ،‬جمع وتقديم‪:‬‬
‫محمد المي‪ ،‬سلسلة كتاب الشهر رقم ‪ ،62‬دار سحر‬ ‫ّ‬
‫للنشر‪ ،‬تونس‪ ،2023 ،‬ص‪.27‬‬
‫‪ -6‬مصطفى ماضي‪ ،‬تقديم كتاب «ماهي النّهضة لسالمة‬
‫موسى‪ ،‬موفم للنشر‪ ،2000 ،‬الجزائر‪ ،‬ص ‪.15‬‬
‫‪ -7‬طه حسين ‪ ،‬بين بين‪ ،‬دار العلم للماليين‪ ،‬ط‪،12‬القاهرة‪،‬‬
‫‪،1983‬ص ‪.89‬‬
‫‪ -8‬طه حسين ‪ ،‬بين بين‪ ،‬ص ‪.96‬‬
‫‪ -9‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.142‬‬

‫‪20‬‬
‫محمد‬
‫ّ‬ ‫‪ -10‬الطاهر الخميري‪ ،‬مرآة المجتمع‪ ،‬جمع وتقديم‪:‬‬
‫المي‪ ،‬سلسلة كتاب الضهر رقم ‪ ،62‬دار سحر للنشر‪،‬‬
‫تونس‪ ،2023 ،‬ص ‪.11‬‬
‫‪ -11‬علي حرب‪ ،‬ثورات القوة الناعمة في العالم العربي‪ ،‬نحو‬
‫تفكيك الدكتاتوريات واألصوليات‪ ،‬الدّ ار العربية للعلوم‬
‫ناشرون‪ ،‬منشورات ضفاف‪ ،‬لبنان‪ ،2011 ،‬ص ‪.13‬‬
‫محمد الجبابلي‪ ،‬المقدّ س وغربة اإلنسان‪ ،‬الدّ ار التونس ّية‬
‫‪ّ -12‬‬
‫للكتاب‪ ،‬تونس‪ ،2012 ،‬ص ‪.118‬‬
‫‪ -13‬الطاهر الخميري‪ ،‬مرآة المجتمع‪ ،‬ص ‪.12‬‬
‫‪ -14‬الطاهر الخميري‪ ،‬مكافحة الثقافة‪ ،‬ص ‪.48‬‬
‫‪ -15‬الطاهر الخميري‪ ،‬مرآة المجتمع‪ ،‬ص ‪.97‬‬

‫‪21‬‬
‫الدكتور ّ‬
‫الطاهر الخميري‬
‫أنتروبولوج ّيا‬

‫مراد الضويوي‬
‫جامعة جندوبة‬
‫المعهد العالي للعلوم اإلنسان ّية بجندوبة‬

‫لم يكن الخميري ع َلما من أعالم الجامعة التونس ّية شأنه في‬
‫ومحمد اليعالوي‬
‫ّ‬ ‫ذلك شأن أعالم كبار مثل الشاذلي بويحيى‬
‫ومحمد مختار العبيدي ‪ ...‬وآخرين‪.‬‬
‫ّ‬
‫لقد لفظته الجامعة التونس ّية لفظ النواة بل أغلقت األبواب‬
‫ممن هم دونه‬
‫دونه وفتحتها مشرعة على مصراعيها آلخرين ّ‬
‫تخصصه العلمي الدّ قيق‪.‬‬ ‫وال يمارونه في ّ‬
‫لقد كانت أبحاثه من أوائل األبحاث ا ّلتي قدّ مت في‬
‫مهما في البرامج العلم ّية في مختلف‬‫تخصص يشغل اآلن ح ّيزا ّ‬ ‫ّ‬
‫الجامعات العالم ّية نعني به علم‪« :‬األنتروبولجيا الثقاف ّية» ‪.‬‬
‫لقد ولد الدكتور ال ّطاهر الخميري سنة ‪ 1899‬بمدينة تونس‬
‫الزيتونة والخلدون ّية وأتم‬
‫ثم جامع ّ‬
‫ابتدأ تعليمه في كتّاب البنّاني ّ‬
‫تعليمه في أنقلترا وتعليمه العالي في ألمانيا وحصل على شهادة‬
‫الدكتوراه من جامعة هامبورغ األلمان ّية سنة ‪ 1936‬وعلى إجازة‬

‫‪23‬‬
‫في تدريس الح ّية من الجامعة نفسها سنة ‪ 1937‬م‪ ،‬درس من‬
‫ال ّلغات العبر ّية والسريان ّية واليونان ّية والالتين ّية والفارس ّية‬
‫والترك ّية واإلنقليز ّية واأللمان ّية وله من المؤلفات ‪:‬‬
‫ـ زعماء األدب العربي المعاصر طبع في اليبزيغ سنة ‪1930‬‬
‫باإلنقليز ّية‬
‫‪1937‬‬ ‫ـ مفهوم العصب ّية عند ابن خلدون في هامبورغ‬
‫باأللمان ّية‬
‫ـ وقد ح ّقق له الباحث ّ‬
‫محمد المي ستّة كتب نشرها تباعا في‬
‫سلسلة كتاب ّ‬
‫الشهر عن دار سحر للنشر ‪:‬‬
‫ـ هاملت تعريب الدّ كتور ال ّطاهر الخميري جمع وتقديم‬
‫المي‬
‫محمد ّ‬‫ّ‬
‫ـ يوليوس قيصر‬
‫ـ عطيل‬
‫ـ مكافحة الثقافة‬
‫ـ قاموس العادات والتقاليد التونس ّية‬
‫(((‬
‫ـ مرآة المجتمع‬

‫((( صدرت عن دار سحر للنشر سلسلة كتاب ّ‬


‫الشهر عدد (‪61 + 60 + 58‬‬
‫‪ ) 65 + 64 + 63 + 62 +‬نوفمبر ‪ / 2022‬ماي ‪2023‬‬

‫‪24‬‬
‫‪- 1‬أنتروبولوجيا الثقافة‪:‬‬
‫أفرد الخميري في الثقافة كتابا وسمه بمكافحة الثقافة وتم‬
‫نشره في شهر مارس ‪ 1957‬هذا الكتاب صدر في شكل مقاالت‬
‫يوم ّية كتبت بين سنتي ‪ 1954‬و‪ 1955‬في جريدة الصباح‬
‫الذي يعنيه مصطلح الثقافة‬ ‫وجمع بينها موضوع الثقافة فما ّ‬
‫فضال عن مكافحة الثقافة عنده لقد رأى محقق هذا الكتاب عن‬
‫أن الخميري « كان كمن يقاوم مدّ ا جديدا بدأ يستفحل في‬ ‫حق ّ‬
‫ّ‬
‫للتحرر وهو بذلك كمن كان يدعو‬ ‫ّ‬ ‫جسم مجتمع ناهض وتائق‬
‫المث ّقفين إلى اإلطالل على ثقافة مختلفة وعدم التل ّبس بالثقافة‬
‫الفرنس ّية لغة وعادة وتقليدا» (((‪ ،‬لقد عمد الدكتور الخميري‬
‫في هذا الكتاب إلى تحديد عالقة األدب بالحياة االجتماع ّية‬
‫وكيف يمكن لألدب أن يقوم بدور في بناء المجتمع الجديد‬
‫التحرر وبناء شخصيته ونحت كيانه على حدّ‬ ‫ّ‬ ‫مجتمع يتوق إلى‬
‫تعبير محمود المسعدي‪ ،‬لقد كثر استعمال كلمة «ثقافة» كما‬
‫يقول الدكتور ال ّطاهر الخميري وكثر سوء استعمالها حتى‬
‫تدل على‬ ‫تدل على أشياء كثيرة وال ّ‬‫ارتخت واتسعت فصارت ّ‬
‫سياسي أو‬
‫ّ‬ ‫خاصة عندما يتع ّلق األمر بتوظيف‬
‫ّ‬ ‫شيء مع ّين‪،‬‬
‫إيديولوجي لهذا المصطلح على نحو ما نقرأ في إعالن نشر‬
‫ّ‬
‫ودونته‬
‫في إحدى الجرائد التونس ّية بتاريخ ‪ّ ،1952/ 03/22‬‬
‫يقول الدكتور الخميري يومئذ لطرافة القالب ا ّلذي وضع فيه‪،‬‬
‫«انعقد اجتماع رهيب تحت إشراف شعبة المكان الدستور ّية‬

‫المي مقدّ مة كتاب « مكافحة الثقافة» ص ‪.6‬‬


‫محمد ّ‬
‫ّ‬ ‫(((‬

‫‪25‬‬
‫تجار ودستوريين وعملة وفالحة‬ ‫ضم جميع طبقات األهالي من ّ‬‫ّ‬
‫ونقابيين» فعدّ الدستوريين طبقة من طبقات األهالي ال تشمل‬
‫التجار والعملة والفالحين‪ ،‬والنقابيين كما عدّ المثقفين طبقة‬
‫تختلف عن ممثلي المنظمات القوم ّية األطباء والمحامين‬
‫واألدباء» (((‪ ،‬لقد انخرط الخميري في الشأن العا ّم شأنه في‬
‫الشعب عبر الجرائد‬ ‫ذلك شأن النخب المثقفة ا ّلتي تعاملت مع ّ‬
‫واإلذاعة فال يختلف خطاب الدكتور الخميري عن خطب‬
‫الرئيس» أو حكايات‬ ‫الزعيم الحبيب بورقيبة «توجيهات الس ّيد ّ‬ ‫ّ‬
‫تحولت إلى سلطة اجتماع ّية مثلما ال‬ ‫عبد العزيز العروي ا ّلتي ّ‬
‫يختلف كتاباته عن جيل االستقالل‪ ،‬لقد نشر الدكتور الخميري‬
‫األول في تونس‬ ‫أبحاثه في سلسلة كتاب البعث الكتاب الشهري ّ‬
‫ومحمد الحليوي‬ ‫ّ‬ ‫كرو‬
‫محمد ّ‬
‫ّ‬ ‫شأنه في ذلك شأن أبي القاسم‬
‫ومحمد المرزوقي‬ ‫ّ‬ ‫ومحمد مزالي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ومحمد العروسي المطوي‬
‫ّ‬
‫وعثمان الك ّعاك وناجية ثامر‪ ...‬كانت هناك طبقة من المثقفين‬
‫الجدد األنتلجنسيا التونس ّية الجديدة اآلخذة في التشكّل في‬
‫الحرة المستق ّلة اتّجذت من الصحافة المكتوبة واإلذاعة‬ ‫تونس ّ‬
‫من منبرا جديدا لحوار مباشر تصل به جسور التواصل مع‬
‫الشعب ‪.‬إنّها ثقافة الجماهير أو الثقافة الشعب ّية مدخال‬ ‫جماهير ّ‬
‫لفهم المجتمع وتحليل بنياته النفس ّية واالجتماع ّية والدّ ين ّية فئة‬
‫الذين آمنوا بالفعل الثقافي والسياسي واالجتماعي‬ ‫من المثقفين ّ‬
‫في مجتمع يعيش حراكا سياس ّيا واجتماع ّيا وثقاف ّيا مع صعود‬

‫((( الطاهر الخميري مكافحة الثقافة ص ‪.9‬‬

‫‪26‬‬
‫التحرر العالمي في األربعينيات والخمسينيات في‬
‫ّ‬ ‫حركات‬
‫القرن العشرين‪.‬‬
‫من هنا لم يستنكف الخميري من االهتمام باألدب‬
‫الشعب ّية والعادات والتقاليد التونس ّية ألن‬ ‫الشعبي والثقافة ّ‬‫ّ‬
‫ولعل هذا ما جعله يطلق هذه‬ ‫ّ‬ ‫الثقافة ّ‬
‫الشعب ّية مرآة المجتمع‬
‫التسمية على عناوين كتبه (((‪،‬ولهذا سيأخذ الدكتور الخميري‬
‫منحى سوسيولوج ّيا أو أنتروبولوجيا في محاولته لتعريف‬
‫مصطلح الثقافة‪ ،‬مستشهدا بابن خلدون تارة وبرواد المدرسة‬
‫التوجه األنقلوسكسوني‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫خاصة ذات‬‫ّ‬ ‫االجتماع ّية طورا آخر‪،‬‬
‫فالثقافة من منظور اجتماعي أنتروبولوجي هي « القيم الماد ّية‬
‫متوحشا‪ ،‬والثقافة‬
‫ّ‬ ‫ألي شعب سواء أكان متمدّ نا أو‬ ‫واالجتماع ّية ّ‬
‫وتتكون من‬
‫ّ‬ ‫الخاص لشعب من ّ‬
‫الشعوب‬ ‫ّ‬ ‫هي أسلوب الحياة‬
‫مجموعتين من العناصر عناصر ماد ّية كالصنائع والفنون‬
‫وعناصر غير ماد ّية كالعادات والمعتقدات‪ ،‬إنّه يمتاح من‬
‫كل نماذج‬ ‫قاموس علم االجتماع فيطلق مصطلح الثقافة على ّ‬
‫السلوك االجتماعي ويشمل اللغة والصناعات والفنون والعلوم‬
‫والقوانين ونظام الحكم واألخالق والعادات والتقاليد والدّ ين‬
‫والمؤسسات‪ ،‬فالثقافة إذن بهذا المعنى‬ ‫ّ‬ ‫والبناء والمواصالت‬
‫هي أسلوب حياة المجتمع بصرف النّظر عن درجة الحضارة‬
‫الخاصة وهي تتمثل في‬‫ّ‬ ‫والتقدّ م في العلوم ّ‬
‫فلكل شعب ثقافته‬
‫جانبها الما ّدي في اآلالت واألدوات والسالح واللباس وتتمثل‬

‫((( انظر كتاب مرآة المجتمع ومكافحة الثقافة‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫في جانبها غير المادي في القيم والمعتقدات (((‪ ،‬الثقافة بالمعنى‬
‫كل المفاهيم والقيم ا ّلتي يقول بها أعضاء‬‫العلمي للكلمة هي ّ‬
‫مجتمع من المجتمعات فتؤثر في أنماط سلوكهم‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪ ②- 2‬أنتروبولوجيا العادات والتقاليد التونسية ‪:‬‬
‫مجرد قاموس‬ ‫لم يكن قاموس العادات والتقاليد التونس ّية ّ‬
‫تعرف لغة واصطالحا تعريفا‬ ‫معجمي يحتوي مداخل معجم ّية ّ‬‫ّ‬
‫مشتقا من سياقه الثقافي واالجتماعي‪ ،‬بل إنّه قاموس في‬
‫األنتروبولوجيا الثقاف ّية‪ ،‬تمتاح من سوسيولوجيا اللغة والدّ ين‬
‫والتّاريخ والثقافة الشعب ّية ودونك شواهد عديدة مثل‬
‫تعريف الوحدات المعجم ّية التّالية‪:‬‬
‫ـ خبز‪ :‬يسمى الخبز نعمة ونعمة ر ّبي ويتأثم من أسقط فتاته‬
‫على األرض ووطئه باألرجل وإذا وقع الخبز على األرض‬
‫ثم يرفع إلى‬‫يقرب من الشفتين ّ‬ ‫ويشرف أي ّ‬ ‫ّ‬ ‫فإنّه يرفع ويباس‬
‫الصغار عن اللعب بالخبز ويخوفونه بالعبارة «‬ ‫الجبين وينهى ّ‬
‫اللي يلعب بالخبز ربي يحرقه بالنّار ‪ ...‬يقال عند االنفصال بين‬
‫يحس بقرب أجله‬ ‫الزوجين وفات الخبزة ‪ ...‬والمريض ا ّلذي ّ‬
‫خبزتي تع ّلقت ‪...‬ومن األمثال الواردة في الخبز ‪ :‬خبز السميد‬
‫البراني ‪ ...‬وخبز‬
‫ير ّد الخدّ حديد وخبز السوق ما ياكله كان ّ‬
‫(((‬
‫وماء والهناء وال الدّ ويدة والبالء ‪»...‬‬

‫((( انظر مزيدا من التفصيل فصل مكافحة الثقافة ص ص ‪17 + 11‬‬


‫((( قاموس العادات والتقاليد التونس ّية ص ص ‪103 /102‬‬

‫‪28‬‬
‫مجرد رصف المفاهيم لوحدات‬ ‫ّ‬ ‫يتجاوز األمر‬
‫معجم ّية مشت ّقة من الثقافة الشعب ّية إلى إحالتها على سياقها‬
‫السوسيوأنتروبولوجي أي صورة الخبز في المخيال الشعبي‬
‫وقس على ذلك مداخل معجم ّية أخرى دين ّية واجتماع ّية‬
‫وسياس ّية يمكن أن تكون مفتاحا لتحليل بنى المخيال‬
‫االجتماعي والدّ يني والسياسي من ذلك الما ّدة المعجم ّية « دار‬
‫أجواد « هو بيت تسجن فيه المرأة ا ّلتي تسيء معاشرة زوجها‬
‫أو تستعصي على أبيها أو ول ّيها ويكون سجنها بأمر من القاضي‬
‫(((‬
‫الشرعي‬
‫(((‬
‫ـ خاتم الرحمان ‪:‬عبارة يكنّى بها عن البكارة‬
‫أن الج ّن يسكنون تحت األرض وفي‬ ‫حن ‪ :‬يعتقد ّ‬
‫ـ مدخل ّ‬
‫ذلك يقال فوقنا ناس وتحتنا ناس إنّهم يخرجون في الظالم‬
‫وإنّهم يأكلون ويشربون ويشتهون بعض أطعمة اإلنس‪ ،‬لذلك‬
‫يوضع لهم بعض من األطعمة على عتبة باب المطبخ ويقال‬
‫إنّهم يشتهون طعامنا وفيهم البكر واليتيمة والحبلى المتوحمة‪،‬‬
‫إنّهم يساكنون اإلنس في البيوت‪ ،‬ويشار إليهم بعبارات ممالي‬
‫أن بعض الج ّن يعشقون الجنس‬ ‫الدّ ار والناس األخرى ‪ .‬ويعتقد ّ‬
‫الزواج‬
‫الرجل إنّه ملكاته جن ّية وهذا يمنعه من ّ‬
‫المقابل فيقال في ّ‬
‫(((‬
‫‪...‬‬

‫((( قاموس العادات والتقاليد التونس ّية ص ‪115‬‬


‫((( قاموس العادات والتقاليد التونس ّية ص ‪101‬‬
‫((( قاموس العادات والتقاليد التونس ّية ص ‪76‬‬

‫‪29‬‬
‫مجرد محاولة معجم ّية لوضع قاموس‬‫‪ ‬يتجاوز األمر إذن ّ‬
‫للعادات والتقاليد التونس ّية فنحن إزاء دراسة سوسيولوج ّية‬
‫خاصة بإحالتها على‬
‫لألمثال التونس ّية الواردة في هذا القاموس ّ‬
‫سياقها التاريخي واالجتماعي ا ّلذي أنتجها واستنطاقها على‬
‫لسان أصحابها في لغتهم العام ّية‪.‬‬
‫أو رؤية مث ّقف أنقلوسكسوني تش ّبع بالثقافة األنجليز ّية نقد‬
‫فيها التأثير السلبي للفرنس ّية على التونسيين وتغييب الهو ّية‬
‫الثقافية الوطن ّية والقوم ّية والدّ ين ّية‪ ،‬فكان كمن يقاوم مدّ ا جديدا‬
‫أن فرنسا قد خرجت جسدا ولم‬ ‫استفحل منذ الخمسينيات‪ ،‬إذ ّ‬
‫تخرج روحا ‪.‬‬
‫من هنا كان كتابه «مكافحة الثقافة» رصدا لعالقة األدب‬
‫الشعب‪ ،‬فكيف يمكن لألدب أن‬ ‫بالحياة االجتماع ّية وهموم ّ‬
‫يقوم بدور في بناء المجتمع الجديد؟‪ ،‬إنّه أدب جديد ال يراوغ‬
‫الشعب‬‫وال يكذب وال يخذل وال يخون‪ ،‬إنّه ينبع من هموم ّ‬
‫القراء ‪ :‬جمعت‬
‫بل إنّه ينطق على لسانهم يقول الخميري «إلى ّ‬
‫هذه النّصوص من أفواه العديد من النّساء بمدينة تونس بين سنة‬
‫‪ 1953‬و‪ 1962‬فهل تعرفونها برواية أخرى أو تجدون فيها ما‬
‫التفضل بإرسال الجواب‬
‫ّ‬ ‫يحتاج إلى التصويب والتكميل‪ ،‬نرجو‬
‫إلى قاموس العادات والتقاليد التونس ّية شارع باريس تونس(((»‬
‫إن وجود مثل هذه المعتقدات القديمة ا ّلتي هي جزء ال‬ ‫ّ‬
‫يتجزأ من الثقافة الشعب ّية ـ يقول الخميري ـ «مع انتشار التعليم‬
‫ّ‬

‫((( مج ّلة اإلذاعة ‪ 16‬أفريل ‪1962‬‬

‫‪30‬‬
‫يجعل فهم الحياة الدّ ين ّية في تونس اليوم صعبا ويجعل وصفها‬
‫مضطربا غير دقيق األمثال تدخل اليوم في حديث النّاس‬
‫من مختلف ال ّطبقات بعضها يفهم على غير وجهه وبعضها‬
‫يدل عليه لفظه‪...‬‬ ‫يستعمل في غير موضعه وبعضها ال يراد به ما ّ‬
‫عامة‬ ‫وهي في جملتها تم ّثل ّ‬
‫الشعور الدّ يني والقيم الدّ ين ّية عند ّ‬
‫الصلة‬‫الشعب»(((‪ ،‬هذا فيما يتع ّلق بالمواد المعجم ّية ذات ّ‬ ‫ّ‬
‫يخص األمثال المتع ّلقة‬ ‫ّ‬ ‫بالعادات والتقاليد الدّ ين ّية أ ّما فيما‬
‫فيخصها الخميري بتحليل‬ ‫ّ‬ ‫بالحياة االجتماع ّية والفلكلور‬
‫سوسيولوجي عميق يربط الحياة الثقاف ّية بمختلف األشكال‬
‫السائدة في فترة زمن ّية مخصوصة على نحو ما نقرأ في‬ ‫الفن ّية ّ‬
‫الرقص‬ ‫أن ّ‬‫مما ال مراء فيه ّ‬ ‫الما ّدة المعجم ّية ‪« :‬رقص» ‪ّ :‬‬
‫(((‬

‫الفولكلوري التونسي استعاد مجده القديم عندما كان يعرف‬


‫الشعبي فبعدما كان رقصا على ال ّطبل والمزمار‬ ‫بالرقص البدوي ّ‬ ‫ّ‬
‫ثم ارتقى فأصبح‬ ‫أصبح رقصا على الدّ ربكة وعلى المزود ّ‬
‫رقصا على الكمنجة ا ّلتي تحاكي المزود في نغماته وبعدما‬
‫كان ال يظهر إالّ في حفالت أعراس البدو أصبح ال تخلو منه‬
‫إن الرقص الفلكلوري من األلوان التونس ّية‬ ‫ثم ّ‬
‫حفلة عموم ّية‪ّ ...‬‬
‫بالرشيد ّية أو‬
‫خاصة ّ‬ ‫الصميمة ا ّلتي تقدّ م للسواحين في حفالت ّ‬ ‫ّ‬
‫زروق في سيدي أبي سعيد ‪ ،‬وال يقتصر‬
‫(((‬
‫بالحمامات أو بدار ّ‬
‫األمر على تعيين المداخل المعجم ّية وتفسيرها وتحليلها‬

‫((( قاموس العادات والتقاليد التونس ّية ص ‪124‬‬


‫((( قاموس العادات والتقاليد التونس ّية ص ‪147‬‬
‫((( قاموس العادات والتقاليد التونس ّية ص ‪147‬‬

‫‪31‬‬
‫اللغوي واالجتماعي بل يعدوها إلى اإلحالة‬
‫ّ‬ ‫ور ّدها إلى سياقها‬
‫المرجع ّية والتوثيق العلمي الدّ قيق‪:‬‬
‫الساكنة‬
‫الزاي وفتح العين وتشديد الالّم ّ‬ ‫ـ زعلقي بسكون ّ‬
‫الشرير الخبيث الفتّاك « فدخل بعض الزعالقة من الغوغاء ‪...‬‬
‫ّ‬
‫وولج على الحاجب رضوان في داره فقتله»((( ‪.‬‬
‫نجد في اللهجة التونس ّية زعلقي وزعلوك وعزلوك ك ّلها‬
‫محرفة عن صعلوك لشبهها بصفات‬ ‫صفات مستقبحة فكأنّها ّ‬
‫«ذؤبان العرب» أي صعاليكها وفتّاكيها ومنه «زميم» بسكون‬
‫الزاي وكسر الميم مقدّ م جماعة ال ّلصوص ومنه ّ‬
‫قصة «األربعين‬ ‫ّ‬
‫(((‬
‫سارق وزميمهم»‬
‫فكري متكامل كانت له دوافعه المعرف ّية‬
‫ّ‬ ‫نحن إذن إزاء مشروع‬
‫والذات ّية يرويها الخميري بنفسه «في سنة ‪ 1955‬دعيت إلى‬
‫جامعة دجونز هوبكنز بواشنطن للمشاركة في مشروع دراسات‬
‫عن شمال إفريقيا كنّا شرقيين ومستشرقين وكانت ترد في بعض‬
‫الخاصة بتونس ألفاظ عرب ّية ال نجدها في القواميس‬ ‫ّ‬ ‫النصوص‬
‫العرب ّية بمعناها المعروف في تونس‪ ...‬هناك شعرت بالحاجة‬
‫إلى معجم للعام ّية التونس ّية وقاموس للعادات والتقاليد التونس ّية‬
‫وبدأت بجمع المواد الالّزمة لذلك»(((‪.‬‬
‫ثم قام بنشرها تباعا في صحف تونس ّية وفي مج ّلة اإلذاعة‬
‫ّ‬
‫خاصة تحت عناوين ‪:‬‬ ‫ّ‬
‫((( تاريخ ابن خلدون ‪ 375 4‬بيروت ‪( + 1958‬قاموس العادات ص ‪) 161‬‬
‫((( قاموس العادات والتقاليد التونس ّية ص ‪164‬‬
‫((( قاموس العادات والتقاليد التونس ّية ص ‪171‬‬

‫‪32‬‬
‫ـ أمثال وعبارات عام ّية تونس ّية‬
‫ـ شواهد معجم األلفاظ العام ّية في ال ّلهجة التونس ّية‬
‫ـ ألفاظ الحضارة في العام ّية التونس ّية‬
‫ـ فقه العام ّية التونس ّية‬
‫المعرب والدّ خيل في العام ّية التونس ّية‬
‫ّ‬ ‫ـ‬
‫وفي مج ّلة اإلذاعة ‪:‬‬
‫ـ من قاموس العادات والتقاليد التونس ّية‬
‫محمد المي‬‫ّ‬ ‫حتّى اكتمل صرح هذا المشروع مع الباحث‬
‫كل أعماله بمناسبة‬ ‫ا ّلذي أقدم على جمع وتقديم وتحقيق ّ‬
‫ّ‬
‫الذكرى الخمسين لوفاته تكريما له في ندوة علم ّية دول ّية ‪.‬‬

‫خاتمة‪:‬‬
‫من قاموس العادات والتقاليد التونس ّية إلى مرآة المجتمع‬
‫إلى مكافحة الثقافة إلى ترجمة هاملت وعطيل ويوليوس قيصر‬
‫إلى العرب ّية الفصحى‪ ،‬كان هاجس الدكتور ال ّطاهر الخميري‬
‫مكافة ثقافة سائدة بائدة أنتجها االستعمار على امتداد قرن‬
‫الزمان وتواصلت بعد االستقالل من خالل تشجيع الثقافة‬ ‫من ّ‬
‫الشعب‪،‬‬‫الفرنكفون ّية‪ ،‬وإنتاج ثقافة جديدة أشدّ التصاقا بهموم ّ‬
‫إنّها ثقافة الجماهير ال جمهور ّية الثقافة‪ ،‬فالثقافة بالمعنى‬
‫كل المفاهيم والقيم ا ّلتي يقول بها أعضاء‬
‫العلمي للكلمة هي ّ‬
‫مجتمع من المجتمعات فتؤثر في أنماط سلوكهم‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫جدل الثقافة بين الخصوصية‬
‫والكونية في فكر الدكتور الطاهر‬
‫الخميري‪:‬‬

‫في السردية التاريخية للهوية‬

‫رشيد الزواوي‬

‫‪ .I‬الطاهر الخميري المفكر ‪ :‬السياقات التاريخية‬


‫‪ .II‬الطاهر الخميري المترجم ‪ :‬جدل الثقافة والبناء العقلي‬
‫‪ .III‬الطاهر الخميري المثقف ‪ :‬الثقافة والتثاقف ‪ :‬سرديات‬
‫الهوية‬
‫‪ .IV‬خاتمة ‪:‬‬

‫مقدمة ‪:‬‬
‫يثير هذا العنوان في تركيبه العديد من المحاذير واالسئلة‬
‫وينطوي على جملة من اإلشارات اإلشكالية علينا البدء‬
‫بالكشف عنها والبحث عن المدخل المناسب اللتقاطها‬
‫فصياغة مقالة حول جدل الثقافة في فكر الطاهر الخميري‬
‫ليست من المسلمات أو الموضعيات سهلة التعامل معها‪ ،‬وإنما‬

‫‪35‬‬
‫المهمة تقتضي دوما فهما مفهوميا لفكر الخميري والسياقيات‬
‫التاريخية والظروف الموضوعية التي حفت بهذا الفكر‪.‬‬
‫لم يعد مريحا ألحد اليوم االطمئنان لمفاهيم مثل الجدل‬
‫أو الثقافة أو الهوية والتي مثلت في السابق محاور للنقاش‬
‫وبحث عن حدودها‪ ،‬فهي في النهاية موضوعيات للنقاش في‬
‫األدبيات والفلسفات وعلم االجتماع الخ ‪ ...‬فإن نكتب اليوم‬
‫حول الطاهر الخميري هي محاولة إلحياء هذا الفكر والذي‬
‫جمع بين اإلبعاد األكاديمية والثقافة الشعبية كتابة وترجمة وان‬
‫تعددت االنتقادات لفكر الرجل من جهة سوء الفهم تعتبر في‬
‫حد ذاتها اعترافا ضمنيا للقيمة العلمية للطاهر الخميري ‪.‬‬
‫إنا مقاربتنا لفكر الطاهر الخميري هو اعتراف بالمكانة‬
‫الفكرية والثقافية التي ساهمت في إرساء الهوية الوطنية‬
‫وتكريس لمفهوم الخصوصية الثقافية ‪.‬‬

‫الطاهر الخميري المفكر ‪ :‬السياقات التاريخية‬ ‫‪I‬‬

‫ما معنى أن تكون مفكرا ؟ وما هو نمط التفكير المناسب للسياق‬


‫الثقافي واالجتماعي والسياسي للمجتمع ؟ هل يمكن للمفكر‬
‫أن يجيب على األسئلة الكبرى التي تطرحها الواقع الثقافي‬
‫واالجتماعي للعصر ؟ وهل كل كتابة هي تعبير عن ثقافة وروح‬
‫العصر ؟‬
‫هذه األسئلة وغيرها من األسئلة الحارقة تطرح اليوم على‬
‫مفكري العصر فليس من السهل على المفكر أن يعرف سلفا‬

‫‪36‬‬
‫ماذا سيكون أو من سيكون لئن الكتابة تبقى تمرينا يوميا ‪ .‬ان‬
‫الطاهر الخميري ليس كغيره من مفكري عصره ألنه ال يفكر‬
‫وحيدا متفردا ثابتا في أشياء توقظ رغبته منعزال هناك عن آالم‬
‫شعبه‪ ،‬وإنما يعتبر من جيل أخذ على عاتقه مشاغل وهموم‬
‫مجتمعه السياسي والثقافي والفكري ‪.‬‬
‫يستحيل على المرء في شخص الخميري أن يخرج عن‬
‫عصره إال متوحدا متأمال ويتعذر عليه االبتعاد عن مجتمعه‬
‫إال مهاجرا مغتربا تائها في دروب ال يؤدي إلى أي مكان‪ ،‬لكن‬
‫يستحيل عليه أيضا البقاء واالستمرار في تكرار نفسه ‪.‬‬
‫في الحقيقة ال يمكن قراءة أثر الطاهر الخميري بمعزل‬
‫عن جملة النصوص التي جمعها وقدمها األستاذ محمد المي‬
‫والصادرة عن دار سحر للنشر سلسلة كتاب الشهر بمناسبة‬
‫خمسينية الدكتور الطاهر الخميري لسنة ‪( 2023/2022‬مرأة‬
‫المجتمع ‪ /‬مكافحة الثقافة ‪ +‬هملت وغيرها من المؤثورات‪.‬‬
‫ما يمكن مالحظته منذ البداية أن الفهم العميق لفكر الطاهر‬
‫الخميري قد يتطلب منا قراءة دقيقة ومتأنية لجملة اإلنتاج‬
‫الفكري سواء كانت مقاالت أو كتب أو منشورات وقد حذرنا‬
‫بدءا األستاذ محمد المي من ضرورة عدم اعتماد القراءات‬
‫االسقاطية يقول «إننا ال يمكن فهم هذا الكتاب (مرأة المجتمع)‬
‫إذا أخرجناه من سياقه التاريخي الذي كتب ونشر فيه»((( ونجد‬

‫((( الطاهر الخميري ‪ :‬مرآة المجتمع‪ ،‬جمع وتقديم محمد المي‪ ،‬دار سحر‬
‫للنشر‪ 2022 ،‬ص ‪5‬‬

‫‪37‬‬
‫نفس الصياغة في معرض تقديمه لكتاب « مكافحة الثقافة»‬
‫إننا « ال نفهم خطورة هذا الكتاب إال بوضعه في ظرفه ألزماني‬
‫والنظر إليه بمالبسات وظروف تلك المرحلة»(((بمعنى أن‬
‫الحكم المسبق على أعمال الطاهر الخميري بعيون معاصرة‬
‫أو إسقاط اإلحكام أو إعادة التصنيف قد تؤدي إلى سوء الفهم‬
‫أو عدم الفهم‪ .‬وعليه ال يمكن تصنيف هذه الكتابات علي أنها‬
‫مجرد إنتاج ثقافي يدخل في دائرة المستهلك واليومي وإنما‬
‫هي رؤية ثاقبة النشغاالت العصر يتنوع فيها النقد بجميع أبعاده‬
‫سواء كان أدبي انتربولوجي اجتماعي عقدي وحتي السياسي‪.‬‬
‫ليس من السهل علينا اليوم تصنيف الرجل على انه مجرد مفكر‬
‫أو مثقف عضوي أو مترجم وإنما هو جماع هذا وذاكا قد جعل‬
‫من فعل الكتابة تمرين يومي للتعبير عن انشغاالت المجتمع‬
‫ويعالج بها ثقافة أمة خرجت للتو من االستعمار ‪.‬‬
‫أن يكون الطاهر الخميري مفكرا معناه أن يكون قادرا‬
‫على صياغة السؤال من خالل اللغة واالزدحام المفاهيم‬
‫المخصوص الذي يراه مناسبا لثقافة عصره وذهنية مجتمعه‪.‬‬
‫إن تجربة الطاهر الخميري من الفرادة بمكان من جهة‬
‫تجربته على احتمال وجود آخر في عالقته المركبة باإلرث‬
‫الثقافي الهووي وتجربته الفردية خارج حدود ذاته ووطنه وبلده‬
‫قد يبدوا لنا أن الطاهر الخميري الشخص والطاهر الخميري‬
‫المفكر ليس واحدا من جهة اللغة واالنتماء والهوية فأن يكون‬

‫((( الطاهر الخميري ‪ :‬مكافحة الثقافة‪ ،‬نفس المربع ص ‪8‬‬

‫‪38‬‬
‫مفكرا هذا ال يعني أنه امتهن حرفته الكتابة وإنما هي قدرة على‬
‫التحمل وجهد متواصل‪ ،‬أن يكون مفكرا معناه أن يكون بال‬
‫هوية فهو هويات متعددة حيث تنزلق هذه النفس المتعبة في‬
‫أنفاس اآلخرين‪.‬‬
‫كتب الطاهر الخميري في الثقافة واألدب والسياسة حاول‬
‫من خالل أسلوبه اللغوي تأصيل معنى الخصوصية في الثقافة‬
‫التونسية التي أصابها بعض التحير في زمنه وحاول االرتقاء‬
‫باللغة ونمط العادات والتقاليد إلى الكونية ‪ .‬وهذا ما قد نلحظه‬
‫في كتاباته من خالل (مرآة المجتمع‪ ،‬أو مكافحة الثقافة أو حتى‬
‫قاموس العادات والتقاليد التونسية‪).‬لم يكن الطاهر الخميري‬
‫مثل مثقفي عصره من جهة االهتمام حيث كتب في الثقافة‬
‫والحياة األدبية في اللغة واألدب في الفلكلور‪ ،‬كتب لإلذاعة‬
‫واخرج برامج إذاعية وتلفزية وترجم العديد من المسرحيات‪،‬‬
‫هذا الحضور المتميز للرجل ليس كغيره من أدباء عصره مثل أبا‬
‫القاسم محمد كرو أو الدكتور فريد غازي وان كانت أعمالهم‬
‫وشحت نبض الحياة االجتماعية والثقافية فإنها بقيت بال‬
‫روح‪ ،‬الطاهر الخميري بين االهتمام بالحياة اليومية وإفرازاتها‬
‫التعبيرية وجملة السلوكيات ورصد االتجاهات الفكرية في‬
‫البالد النائية كتناوله النقد األدبي في أمريكا والثقافة في الهند‬
‫وتعليقه على ترجمة روزنتال لمقدمة ابن خلدون إلى االنقليزية‬
‫مع اإلشارة إلى مواطن الضعف فيها‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫إن جميع المقاالت المنشورة بالدوريات التونسية‬
‫والمجالت «النبوة» الفكر اللغات «اإلذاعة» أو في الصحف‬
‫اليومية «العمل» «الصباح» اعتنت كلها بالنقد االجتماعي‬
‫وبالثقافة والقضايا اللغوية مع الحرص دوما على تعريف الثقافة‬
‫الشعبية التونسية اقتناعا راسخ لديه بان هناك واجبات علمية ال‬
‫يمكن أداءها اال في تونس ومن قبل تونسيين ‪.‬‬
‫مالحظة‪ :‬عندما كان الطاهر الخميري رئيس قسم التأليف‬
‫والترجمة والنشر بكتابة الدولة للمعارف اقترح برنامج يتضمن‬
‫‪ -1‬معجم كبير للهجة التونسية‬
‫‪ -2‬معاجم خاصة لمؤلفات ابن خلدون وابن أبي دينار وابن‬
‫أبي الضياف وخير الدين وحسين خوجة وغيرهم من المؤلفين‬
‫التونسية المتأخرين‬
‫مصور‬
‫ّ‬ ‫‪ -3‬قاموس للعادات والتقاليد التونسية به ملحق‬
‫‪ -4‬مجموعة من األمثال التونسية مرتبة حسب المواضيع‬
‫مفسرة من ّ‬
‫الشعر الملحون‬ ‫‪ -5‬نصوص ّ‬
‫يفسر‬
‫كل هذه مواضيع ّ‬ ‫أن ‪ّ :‬‬
‫ويختم مقترحات مؤكدا على ّ‬
‫بعضها البعض وال يحسن القيام بها إال تونسيون وفي توني‪.‬‬
‫وذلك التصالها بعادات وتقاليد ال يزال العمل جاريا بها عند‬
‫مختلف طبقات المجتمع‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫الطاهر الخميري المترجم ‪ :‬جدل الثقافة والبناء‬
‫‪II‬‬
‫العقلي‬

‫أن يكون أحدهم مفكرا أو مثقفا أو كاتبا مشهورا في سياق‬


‫تاريخي معين ألمة ما هذا أمر طبيعي وجهد يمكن أن يأخذ‬
‫في الحسبان لجيل بأكمله ويمكن لتلك الكتابة أن تؤثر في‬
‫مسار التاريخ برمته‪ ،‬لكن أن تكون مترجما فهذا أمر أخر ربما‬
‫يستدعي الدقة في صناعة المعنى وتأويل النص ‪.‬‬
‫إن للطاهر الخميري بصمة واضحة في الثقافة التونسية ال‬
‫بإنتاجه المتنوع فحسب من جهة التأليف كتابة والترجمة لكبار‬
‫األدباء وإنما لما يتميز به من عمق التفكير والتأمل والتقاط‬
‫اللحظات المناسبة لكل األحداث والمناسبات والتغييرات‬
‫اإلقليمية والدولية ‪.‬إن االنخراط في القضايا المتنوعة للمجتمع‬
‫التونسي لفترة ما قبل االستقالل وبعده ساهم في بلورة رؤية‬
‫جديدة لنمط تفكير التونسيين‪ ،‬ونعني بالثقافة التونسية هذا‬
‫النوع المخصوص من طرائق العيش والعادات والتقاليد وطرق‬
‫المعامالت ضمن ثقافة شعبية مخصوصة‪.‬‬
‫ان اشتغال الطاهر الخميري على اللغات األخرى خصوصا‬
‫االنكليزية (تعلم العديد من اللغات مثل اليونانية والالتينية‪،‬‬
‫العربية‪ ،‬الفارسية‪ ،‬فرنسية‪ ،‬ألمانية‪ ،‬انكليزية) من خالل فعل‬
‫الترجمة والذي يؤكد مرة أخرى أن ليس ثمة هوية أو سردية‬
‫جاهزة للمفكر‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫فكل عملية ترجمة هي تعبير ضمني على محاولة تجربة‬
‫احتمال آخر للوجود في هذا العالم تجمع بين احتمالين إما‬
‫الخصوصية (بما يعينه اللفظ من فرادة وأصالة االنتماء رمزا‬
‫ولغة ودين وعادات) وإما الكونية ( االنخراط في عالمية ما‬
‫سواء كانت ثقافية أو غير ذلك) فال أحد يغترب خارج حدود‬
‫لغته إال لماما وقد تنزلق هذه ألنفس في أنفاس اآلخرين بفعل‬
‫الترجمة لدهر ‪ .‬لكن هناك دوما نوعا خاص من الوجود ورثناه‬
‫ليقول عنا ما عجزت اللغة عن قوله‪.‬‬
‫إن محاورة اللغة من داخل اللغة قد دفع الطاهر الخميري‬
‫إلى ابتداع نوع مخصوص من الكتابة السترجاع سردية مهددة‬
‫من قبل االستعمار‪ .‬فالقراءة المتأنية لكتب الطاهر الخميري‬
‫خصوصا الترجمات (هملت‪ /‬عطيل يولوس القيصر) والتي‬
‫جمعها وقدمها األستاذ محمد المي وصدرت عن دار سحر‬
‫للنشر تعتبر مغامرة وتحدي خطير أقدم عليه الكاتب في‬
‫تلك الفترة من جهتين أوال اختبار اإلعمال المسرحية لكبير‬
‫األدباء االنكليز شكسبير وما يتمتع به هذا الكاتب من الحبكة‬
‫األدبية وتمثل الوقائع والروح القصصية ومن جهة ثانية عملية‬
‫الترجمة مباشرة من النص األصلي الي اللغة العربية دون‬
‫توقف حتي انك كما يقول محمد المي في معرض تقديمه‬
‫لكتاب يولوس القيصر لقد أحسن تعريب بعضها إلى درجة‬

‫‪42‬‬
‫انك تحسب ان العربية هي لغتها األصلية فال تشعر بغريب‬
‫لفظ وال بحوشي كالم»(((‪.‬‬
‫ويعتبر الطاهر الخميري أول من قام بترجمة هملت إلى‬
‫العربية دون توقف عند نصوص أخرى بل انه قام كذلك‬
‫بإدخال تعديالت على النص وإضافة بعض المصطلحات‬
‫العامية حتى يصفي على النص دفقا جديدا يتالءم وروح‬
‫العصر والمجتمع ‪ .‬فلم يكن مفكرا خصما عنيدا متورطا في‬
‫جدال االنتماء يحمل في أعماقه أنين السابقين وعنف الهوية‬
‫النمطية بل أن أنفاسه قد انزلقت في أنفاس اآلخرين من خالل‬
‫فعل ومفعول الترجمة‪ .‬كل ترجمة هي انفتاح على إمكانات‬
‫أخرى للوجود‬
‫ما يمكن أن نلخص إليه أن الطاهر الخميري لم يكن من‬
‫فئة المثقفين المتعصبين لثقافة بعينها كنوع منفرد مخصوص‪،‬‬
‫فالسياق التاريخي واإلحداث والوقائع االجتماعية قبل‬
‫االستعمار وبعده عجلت باستحداث أسلوب جديد يجمع‬
‫بين التثاقف وبناء الشخصية الوطنية وهذا بين من خالل‬
‫أخراطه في العمل التحريري لشمال إفريقيا بالرغم عدم انتمائه‬
‫السياسي واالستماع بالثقافة الوطنية بإشكالها المختلفة‪.‬‬

‫((( يولوس القيصر ‪ :‬ص ‪7‬‬

‫‪43‬‬
‫الطاهر الخميري المثقف ‪ :‬الثقافة والتثاقف ‪:‬‬
‫‪III‬‬
‫سرديات الهوية‬

‫قال هيقل ذات مرة «أن الثقافة هي شكل الفكر وهكذا يعرف‬
‫اإلنسان كيف يتمالك‪ ،‬فال يتصرف وفق ميوالته ورغباته إنما‬
‫يستغرق في التأمل»((( وكتب أو سيغالد سبنغلر «تنشاء ثقافة ما‬
‫لحظة ما تستيقظ روح نبيلة فتنفصل عن الحالة النفسية البدائية‬
‫للطفولة اإلنسانية األبدية‪ ،‬انها شكل ينبثق من الالشكل»((( إلى‬
‫أي مدى يستجيب فكر الطاهر الخميري لروح الثقافة والمبادئ‬
‫المؤسسة للثقافة ؟‬
‫إن مفهوم الثقافة قد اثأر جدال واسعا في األدبيات‬
‫والدراسات االجتماعية والفلسفية واالنتروبولوجية من جهة‬
‫االشتقاق والتعريف إلى جهة االستعمال والمعاني التابعه‬
‫له وطرق التوظيف من جهة الخصوصية (انتماء ‪ /‬هوية ‪/‬‬
‫عادات) أو الكونية ( الشاركية ‪ /‬العولمة‪ /‬التثاقف)‪.‬‬
‫مفهوم الثقافة كغيره من المفاهيم شهد ازدحام لغوي‬
‫وخلطا دالليا متقاطعا مع مفهوم الحضارة ‪ /‬التعليم‪/‬الدراسة‬
‫‪/‬العادات‪ /‬التراث إلى غير ذلك من المفاهيم الجنيسة‪ .‬وإن‬
‫عملية الفهم تقتضي دائما وضعه في سياقه الداللي والتاريخي‬

‫((( هيقل ‪ :‬العقل في التاريخ ص ‪88-87‬‬


‫((( أوسيفالد سبنغلر ‪ :‬انحدار العرب ص ‪282‬‬

‫‪44‬‬
‫حتى يستجيب للمقاصد‪ .‬كيف وظف الطاهر الخميري هذا‬
‫المفهوم ؟‬
‫كتب الطاهر الخميري ذات مرة عنوانا رشيقا « مكافحة‬
‫الثقافة « منذ الخمسينات من القرن الماضي ‪ 1954‬وهو جملة‬
‫مقاالت موزعة بين ‪ 1956/54‬اعتمدت جميعها بموضوع‬
‫الثقافة ذات بعد نقدي تأسيسي ‹انظر الصفحة ‪ 6-5‬من تقديم‬
‫محمد المي للكتاب) حاول من خالله الطاهر الخميري إرساء‬
‫تقنيات جديدة لمفهوم ثقافة عندنا‬
‫يقال مفهوم الثقافة وبقطع النظر على انتماءاته الغربية أو‬
‫الشرقية أو حتى االيديولوجية على معان متعددة يمكن إجمالها‬
‫على كل شيء مخالف لما هو بالطبيعة فهو المكتسب اإلنساني‬
‫والبناء الفكري والعقدي والسلوك الفردي واالجتماعي بما‬
‫فيه من تقاليد وأعراف وعادات ‪.‬‬
‫و قد نجد في معرض قراءتنا لكتاب مكافحة الثقافة العديد‬
‫من التعريفات لمفهوم الثقافة في األدب واالنتربولوجيا‬
‫والفلسفة الخ‪ ...‬أفردها الخميري تحت عنوان ال يعكس‬
‫المضمون «محاوالت» لتقريب جملة التصورات الذهينة‬
‫القارئ وخصوصا القارئ التونسي كلمة ثقافة كما قلنا بقطع‬
‫النظر عن األصول اللغوية أو الدقة االيتمولوجية لها سياقات‬
‫تاريخية في الغرب كما الشرق‪ .‬وما يمكن مالحظته أن القارئ‬
‫المتعجل لكتاب مكافحة الثقافة يقع في حيرة من جهة أن‬
‫المضمون وعناوين المقالة ال تترجم المضمون ما عدا « عنوان‬

‫‪45‬‬
‫مكافحة الثقافة « محاوالت ثمن الثقافة « بعض المثقفات‬
‫أو األدب والمجتمع ‪ .‬ونجد معنى لثقافة استعراضا مطوال‬
‫لمفهوم ومعنى الثقافة في العديد من األدبيات والثقافات‪.‬ما‬
‫يمكن أن نلخص إليه من خالل كتابه «مرآة المجتمع» ومكافحة‬
‫الثقافة أن الطاهر الخميري أراد أن يرسي مالمح الثقافة الوطنية‬
‫التونسية منطلقا مما هو فردي من جهه تمثله لمضمون الثقافة‬
‫التونسية وما أصابها من تحير لذلك سعي إلى تمثل ثقافة وطنية‬
‫مقارنة بالثقافة اإلنسانية والتي تعكس روح العيش المشترك فال‬
‫معنى لثقافة ال تغير مالمح المجتمع‬

‫خاتمة ‪:‬‬
‫إن الكتابة حول الطاهر الخميري المفكر‪ ،‬المترجم‬
‫والمثقف تعتبر في حدّ ذاتها مجازفة‪ ،‬قد تتطلب منا الدقة‬
‫المفهومية تفاديا لسوء الفهم ‪ .‬فان يكون الواحد منا قارئ‬
‫جيدا لفكر الطاهر الخميري معناه أن يكون مدركا للسياقات‬
‫التاريخية واالجتماعية والثقافية التي عاشها الرجل قبل‬
‫االستغالل وبعده‪.‬‬
‫ان إحياء روح الطاهر الخميري من خالل الندوات أو األيام‬
‫الدراسية هو من جهة اعتراف لهذا الجيل بخدمات الرجل‬
‫العلمية والثقافية ومن جهة ثانية إحياء للذاكرة الوطنية والثقافية‬
‫الوطنية برمتها‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫الطاهر الخميري‬

‫سيرة زيتوني أنثروبولوجي منسي‬

‫بوقرة‬
‫ّ‬ ‫عبدالجليل‬

‫بقدر ما نتو ّغل في البحث حول سيرة العالم ال ّطاهر‬


‫الخميري بقدر ما تتك ّثف األسئلة وتضغط ّ‬
‫وتلح‪ ،‬ومنها التّعتيم‬
‫المفروض على منجزه إلى درجة التجاهل والتغييب‪ ،‬رغم كثرة‬
‫كل وسائل اإلعالم والتّواصل‬‫ما كتب ونشر ورغم تعامله مع ّ‬
‫تنوع وسائل‬ ‫سواء منها المكتوب أو المسموع والمرئي‪ ،‬ورغم ّ‬
‫الصحفي إلى البحوث الفكر ّية‬‫التّبليغ المعتمدة من المقال ّ‬
‫واألكاديمية مرورا بالبرامج اإلذاعية والتلفزيونية واألعمال‬
‫المسرحية‪...‬‬
‫فمن هو الطاهر الخميري؟ ولماذا هذا التغييب؟‬
‫التّجاهل والتغييب والتهميش والتقزيم أنواع‪ ،‬وهو ال يقتصر‬
‫على منع تداول االسم ودفن المنجز‪ ،‬وهو أمر لم يعد ممكنا في‬
‫زمننا هذا زمن سهولة نشر المعلومة وتعدّ د المواقع اإللكترونية‬
‫وتنوعها وصعوبة حجبها ومراقبتها كما كان عليه األمر مع‬ ‫ّ‬
‫تم ابتكار أساليب أخرى للتهميش مثل حصر‬ ‫الورقي‪ ،‬لذا ّ‬
‫منجز المبدعين والعلماء في جزء يسير من مسارهم واقتطاعه‬

‫‪47‬‬
‫من مشروع متكامل مثلما حصل مع ال ّطاهر الحدّ اد وحصره‬
‫في ركن الدّ فاع عن المرأة وعن حقوقها‪ ،‬وأيضا مع رفيق دربه‬
‫امحمد علي الحا ّمي واقتصار التعريف به بصفته النقابية‪ ،‬في‬
‫ّ‬
‫حين كان االثنان صاحبي مشروع أشمل وأعظم وهو مشروع‬
‫تأسيس «اشتراكية تونسية»‪.‬‬
‫اختار التلميذ الزيتوني الطاهر الخميري التن ّقل إلى المغرب‬
‫ليتع ّلم هناك األنكليزية ّما ساعده على االنتقال إلى بريطانيا أين‬
‫حصل على الباكالوريا‪ ،‬ولم يكن ّأول تونسي يتع ّلم في بريطانيا‬
‫بل سبقه مثال علي بوشوشة (‪ )1917-1856‬منذ سنة ‪1878‬‬
‫ألي‬
‫تحسبا ّ‬‫إلى لندن‪ ،‬إذ ظ ّلت عين بريطانيا مفتوحة على تونس ّ‬
‫المتوسط رغم تنازلها عنها في مؤتمر برلين لصالح‬‫ّ‬ ‫طارئ في‬
‫فرنسا‪.‬‬
‫رغبة الخميري في مزيد تحصيل العلم كانت وراء تن ّقله‬
‫إلى القاهرة للتسجيل في الجامعة األمريكية بها‪ ،‬وهناك ربط‬
‫الصلة بالوسط األدبي والثقافي واإلعالم المصري في فترة بين‬‫ّ‬
‫الحربين التي شهدت حركية فكرية وفنّية وأدبية هائلة جعلت‬
‫وتعرف الخميري‬ ‫ّ‬ ‫من القاهرة عاصمة للثقافة العربية آنذاك‪.‬‬
‫هناك إلى أحمد أمين وحافظ إبراهيم ومحمد حسين هيكل‪...‬‬
‫لم تتو ّقف رحلة التعليم والمعرفة في القاهرة بل واصلها‬
‫الطاهر الخميري بالتن ّقل إلى ألمانيا في فترة غليان عا ّمة‬
‫واقتراب العالم من حرب كونية جديدة‪ ،‬وهناك تع ّلم الخميري‬
‫اللغة األلمانية وأعدّ أطروحة دكتورا سنة ‪ 1936‬حول «مفهوم‬

‫‪48‬‬
‫العصبية عند ابن خلدون»‪ ،‬والتي يمكن تصنيفها ضمن البحوث‬
‫األولى في الدّ راسات الخلدونية في القرن العشرين‪.‬‬
‫مكّنه الحصول على الدكتوراه من التّدريس بجامعة هامبورغ‬
‫األلمانية أثناء فترة الحكم النازي أللمانيا‪ .‬كما كان إتقانه‬
‫للغة االنكليزية من العوامل المساعدة له للتّدريس بالجامعة‬
‫ثم المشاركة في تأسيس معهد جوكير‬ ‫األمريكية بالقاهرة‪ّ ،‬‬
‫هوبكنس (‪ )Joker Hopkins‬األمريكي بواشنطن لدراسة قضايا‬
‫إفريقيا الشمالية‪.‬‬
‫استغل إقامته في ألمانيا لتع ّلم اللغات القديمة كاليونانية‬
‫ّ‬
‫والالتينية والعبرية والفارسية والتركية والسريانية لإلطالع على‬
‫الحضارات القديمة دون واسطة‪.‬‬
‫لئن مكّنته معرفته بلغات متعدّ دة من الكتابة بالعربية‪ ،‬طبعا‪،‬‬
‫وباألنكليزية (زعماء األدب العربي المعاصر) وباأللمانية‬
‫(مفهوم العصبية عند ابن خلدون والقاموس األلماني العربي)‪،‬‬
‫التوجه نحو تفاصيل‬
‫ّ‬ ‫تنوع معارفه وعمقها مكّنه من اختيار‬ ‫ّ‬
‫فإن ّ‬
‫ثقافات الشعوب كاللغات المحكية والعادات والتقاليد‬
‫واألمثال الشعبية‪ ...‬أي أنّه كان من المث ّقفين العرب األوائل‬
‫الذي اختار الغوص في علم األنثروبولوجيا في ظرف كان فيه‬
‫أغلبهم مهووسا بكتابة التاريخ وال يم ّيز بين التاريخ‪ ،‬كعلم قائم‬
‫على التّدقيق في المعلومات والبحث عن الحقيقة باالستناد‬
‫إلى لقيات مادية كاآلثار واألدوات والعملة والمخطوطات‪،‬‬

‫‪49‬‬
‫وبين األنثروبولوجيا‪ ،‬كعلم يدرس اإلنسان وثقافته وموروثه‬
‫وطريقة تفكيره ومعامالته‪...‬‬
‫أعدّ في مجال األنثروبولوجيا‪ :‬كتاب األمثال العامية التونسية‬
‫الذي جمع فيه األمثال في ترتيب أبجدي (ط‪ )1967 .‬وكتاب‬
‫مرآة المجتمع‪ ،‬فضال عن عديد المقاالت الصحفية التي ركّز‬
‫فيها على الثقافة الشعبية بتونس والتّعابير اللغوية‪ ...‬وكان يحلم‬
‫بموسوعة العادات والتقاليد التونسية ومصادرها‪ ،‬وقاموس‬
‫اللغة المحكية بتونس مع الكشف عن أصولها‪.‬‬
‫واجه الخميري خالل مسيرته جملة من التحدّ يات‪ ،‬بداية‬
‫من تحدّ ي التكوين الزيتوني القاعدي وأحادية اللغة وقد تغ ّلب‬
‫على ذلك التحدّ ي بأن ّنوع من تكوينه وذلك بالمراوحة بين‬
‫اآلداب والفكر وأيضا بتع ّلم لغات متعدّ دة‪ ،‬قديمة و»ح ّية»‪،‬‬
‫ثم كان تحدّ ي وسائل التبليغ بأن تجاوز‬
‫واستعمالها نطقا وكتابة‪ّ ،‬‬
‫الوسائل التقليدية كاالقتصار على نشر الكتب والمقاالت‬
‫الصحفية على غرار أغلب مجايليه‪ ،‬إذ كان ال ّطاهر الخميري‬
‫من األصوات البارزة في اإلذاعة الوطنية ومن الوجوه المألوفة‬
‫ضمن برامج التلفزة التونسية في سنوات التأسيس األولى‬
‫بشدّ اهتمام المشاهدين عندما كان يقدّ م معلومات طريفة عن‬
‫تنم عن‬‫العادات والتقاليد واأللقاب واألمثال الشعبية التونسية ّ‬
‫خفي‪.‬‬
‫سعة معلوماته وعن جهد بحثي غير ّ‬
‫ويبقى السؤال المع ّلق عن سيرة الطاهر الخميري وعن‬
‫المتنوع وال ّثري هو سبب تهميشه في ّ‬
‫الذاكرة الثقافية‬ ‫ّ‬ ‫منجزه‬
‫التونسية؟‬

‫‪50‬‬
‫عامالن يتس ّببان عادة في تهميش المث ّقف التونسي وعموم‬
‫المث ّقفين العرب‪ :‬وهما دون منازع العامالن الدّ يني ّ‬
‫والسياسي‪.‬‬
‫لقد كان الطاهر الخميري ضمن مجموعة من المث ّقفين‬
‫مؤسسات دولة‬ ‫لم ينل أعضاؤها نفس الحظوة والمكانة في ّ‬
‫االستقالل‪ ،‬إذ لم تكن للخميري وعبدالعزيز العروي نفس‬
‫مكانة محمود المسعدي والشاذلي القليبي ومحمد مزالي‬
‫وصالح المهدي‪...‬‬
‫أن ال ّطاهر الخميري لم يعرف عنه اهتماما بالمسألة‬
‫وبما ّ‬
‫الدّ ينية أو على األقل لم تصلنا منشورات معترضة أو مجادلة‬
‫السائدة آنذاك فقد يكون الخميري ضح ّية‬‫لعقيدة الفقهاء ّ‬
‫السياس ّية أو ضح ّية بعض الشبهات وبعض‬
‫بعض االختيارات ّ‬
‫السياس ّية‪.‬‬
‫العالقات ّ‬
‫عندما نرجع إلى ما تو ّفر من معطيات حول اهتمامات‬
‫السياسية ونشاطه وعالقاته ال نجد سوى معلومات‬ ‫الخميري ّ‬
‫عا ّمة‪ ،‬ومن بينها تواصله مع مكاتب الحزب الحر الدستوري‬
‫في باريس والقاهرة ونشاطه مع مكتب المغرب العربي في‬
‫لندن وتعريفه بالقضية الوطنية المغربية في وسائل اإلعالم‬
‫األنغلوسكسونية‪ ،‬لكن يبدو أن تن ّقله بين ألمانيا وأنكلترة‬
‫حساسة قبيل الحرب‬ ‫والواليات المتحدة األمريكية في فترة ّ‬
‫العالمية الثانية وأثناءها أو في فترة الحرب الباردة بين‬
‫المعسكرين الشيوعي بقيادة االتحاد السوفييتي والليبرالي‬
‫بقيادة الواليات المتحدة األمريكية وحليفتها بريطانيا‪ ،‬كان‬

‫‪51‬‬
‫وراء الشكوك التي حامت حول ارتباطات الطاهر الخميري‬
‫ومدى عالقته بعالم االستخبارات البريطانية‪.‬‬
‫أهم‬
‫فإن الطاهر الخميري يبقى من ّ‬ ‫مهما يكن من أمر ّ‬
‫تهتم بها الجامعة‬
‫مؤسسي علم األنثروبولوجيا بتونس قبل أن ّ‬ ‫ّ‬
‫مهمة ما تزال في حاجة إلى‬
‫التونسية‪ ،‬بمبادرته بإنجاز أعمال ّ‬
‫والتعمق كاللغة المحكية واألمثال‬
‫ّ‬ ‫مزيد من االهتمام والدّ راسة‬
‫الشعبية والعادات والتقاليد وألقاب العائالت‪...‬‬

‫‪52‬‬
‫ّ‬
‫الطاهر الخميري‬

‫التّرجمة للمسرح‪ :‬إبداع على إبداع‬

‫المزي‬
‫فوزية بلحاج ّ‬
‫ّ‬
‫باحثة في علم اجتماع المسرح‬
‫وناقدة مسرح ّية‬

‫فإن ذلك‬ ‫لغوي كال ّطاهر الخميري بالمسرح ّ‬ ‫ّ‬ ‫يهتم باحث‬
‫أن ّ‬
‫يطرح مسألة امتدادات البحث ال ّلغوي واألدبي في المجتمع‬
‫وفي الحركة اإلبداع ّية وال ّثقاف ّية بشكل عا ّم‪ .‬والعكس يبدو ر ّبما‬
‫أن للخلق الفنّي واالبتكار واإلبداع‬‫صحيحا وواردا‪ ،‬إذا اعتبرنا ّ‬
‫صلة بالواقع وبالمياومة في تمظهراتها المختلفة‪.‬‬
‫الدّ كتور ال ّطاهر الخميري بدأ نشاط الكتابة باالشتغال‬
‫الشعب ّية كظاهرة إنسان ّية‬ ‫ّ‬
‫ولعل األمثال ّ‬ ‫على األمثال التّونس ّية‪.‬‬
‫شاملة‪ ،‬تنطلق من هذا الواقع وتش ّعباته‪ ،‬وأزماته‪ ،‬وانكساراته‪،‬‬
‫وأمجاده‪ .‬وهي ظواهر غالبا ما تبتكر أشكاال تعبير ّية كال ّطقوس‬
‫والشعر‬‫االجتماع ّية والدّ ين ّية أيضا فتتفتّح فيها قرائح الحكمة ّ‬
‫لتكون العمود الفقري للفعل اإلبداعي‪.‬‬ ‫ّ‬

‫‪53‬‬
‫ّ‬
‫اجتماعي؟‬ ‫هل المسرح فعل‬
‫المضمنة‬
‫ّ‬ ‫وهذا يطرح العالقة بين القيم االجتماع ّية‬
‫والمختزلة في األمثال وا ّلتي عادة ما تمتدّ في نسيج اإلبداع‬
‫الفنّي في مختلف ال ّثقافات‪ .‬من حيث إنّها ّ‬
‫تكون الما ّدة‬
‫األساس ّية للعادات والتّقاليد والمراسم االجتماع ّية بشكل عام‬
‫إن المسرح غالبا ما يستمدّ طروحاته من المالحم‬ ‫ومن حيث ّ‬
‫السير البطول ّية لشخوص واقع ّية يعيد صياغة‬
‫االجتماع ّية ومن ّ‬
‫تركيبتها وتكوينها وخطابها لتم ّثلها بإدراك جديد ووعي‬
‫تاريخي جديد أيضا‪.‬‬
‫ّ‬
‫إن ما تقوم عليه سوسيولوجيا المسرح منذ بروز طروحاتها‬ ‫ّ‬
‫المبدئ ّية هي العالقة الجوهر ّية بين المسرح وال ّظواهر‬
‫الصيغ األولى للفعل‬
‫االجتماع ّية التي يمكن القول بأنّها شكّلت ّ‬
‫المسرحي منذ اليونان‪.‬‬
‫أن المسرح اليوناني ‪-‬وإن كان يقوم على أسس‬ ‫شك ّ‬
‫فال ّ‬
‫الميثيولوجيا في مناخاتها الماورائ ّية والفلسفة في مناخاتها‬
‫مهتما بال ّطقوس ّ‬
‫الروحان ّية التي‬ ‫ّ‬ ‫التّجريد ّية ‪ -‬كان باألساس‬
‫شك في ّ‬
‫أن‬ ‫يتشكّل فيها الفعل المسرحي في ذلك العهد‪ .‬كما ال ّ‬
‫المسرح اليوناني اعتمد المالحم واألمثوالت (‪)les paraboles‬‬
‫التي كانت تنسب لآللهة كما ألنصاف اآللهة ال ّلذين كانوا‬
‫يتزاوجون ويمارسون حياة «بشر ّية» عاد ّية حيث يحتكّون‬
‫الشعب ّية وباألمثال ّ‬
‫الشعب ّية‪...‬‬ ‫بالحكمة ّ‬

‫‪54‬‬
‫وقد قام جون دوفينيو أب سوسيولوجيا المسرح في كتابه‬
‫حول «سوسيولوجيا المسرح» أو «ال ّظالل الجماع ّية» بتصنيف‬
‫سمي «باألشكال البدائ ّية‬ ‫لل ّظواهر المسرح ّية ورد فيه ما ّ‬
‫«للتّعبيرة المسرح ّية وهي ال ّطقوس ّ‬
‫الروحان ّية واالجتماع ّية‬
‫والفنّ ّية للمجتمعات البدائ ّية‪.‬‬
‫ولعل ذلك يؤكّد ما أطرحه من تساؤل حول اهتمام الدّ كتور‬ ‫ّ‬
‫ال ّطاهر الخميري بالمسرح وهو الذي تركّزت بحوثه وكتاباته‬
‫على ال ّظواهر االجتماعية من خالل األمثال ّ‬
‫الشعب ّية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التجديد والوعي التاريخي‬
‫األول بالمدرسة الخلدون ّية وهي‬
‫الرجل تعليمه ّ‬ ‫لقد تل ّقى ّ‬
‫مدرسة تجمع بين التّعليم الحديث الذي قام عليه تأسيس‬
‫المدرسة في حدّ ذاته‪ ،‬من جهة ومن جهة أخرى بطانة التّقاليد‬
‫مؤسسو الخلدون ّية وهم كما يعلم‬‫تكون عليها ّ‬ ‫والقيم التي ّ‬
‫الصادقي‪.‬‬
‫الجميع‪ ،‬عدد من قدماء المعهد ّ‬
‫وقد واصل تحصيل العلم في األدب والحضارة العرب ّية‬
‫وحصل عدّ ة لغات‬ ‫ّ‬ ‫وأعدّ رسالة الدّ كتوراه في ألمانيا (هامبورغ)‬
‫إلى جانب العرب ّية وهي الفرنس ّية واالنجليز ّية واأللمان ّية وا ّطلع‬
‫السريان ّية‪ ،‬والعبر ّية‪ ،‬والتّرك ّية‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫على لغات أخرى منها ّ‬
‫كل من المسرح ّيتين ال ّلتين ترجمهما «عطيل»‬ ‫وفي ّ‬
‫و«هملت» لشكسبير‪ ،‬يذكر في مقدّ متي الن ّّصين المنشورين في‬
‫الدّ ار التّونس ّية للنّشر سنة ‪ ،1968‬أنّه ترجمهما مباشرة من ال ّلغة‬

‫‪55‬‬
‫الفرنس ّية واالنجليز ّية‬
‫ّ‬ ‫االنجليز ّية وأنّه مع ذلك استأنس بالتّراجم‬
‫إلى جانب تعريب خليل مطران‪.‬‬
‫وعن جون أوزبورن ‪ John Osborne‬الكاتب اإلنجليزي‬
‫نص «أقفاص وسجون» وأخرجها أيضا‬ ‫عرب الخميري ّ‬ ‫أيضا‪ّ ،‬‬
‫علي بن ع ّياد وقدّ مها في ‪ .1971‬ويذكر أحد الحاضرين في‬
‫أن العرض لم يكتمل نظرا إلى ّ‬
‫أن علي بن ع ّياد لم‬ ‫هذا العرض ّ‬
‫يكن صاحيا وفقد وعيه قبل انتهاء العرض‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الترجمة بصيغة الدراماتورجيا‬
‫وقد أخرج المسرح ّيتين علي بن ع ّياد ويذكر ال ّطاهر‬
‫الخميري أنّه رافق إنجاز العملين وواكب حذف بعض الجمل‬
‫أو المقاطع التي كانت تعوق دون سالسة اإللقاء حيث يقول في‬
‫مقدّ مة «عطيل»‪« :‬وكنت على اتّصال بالمخرج والمم ّثلين طيلة‬
‫مدّ ة التّرجمة‪ ،‬فاخترنا من األساليب ما كان واضحا وصالحا‬
‫نصا وال يم ّثل‬ ‫للتّمثيل واجتنبنا ّ‬
‫كل ما قد يجعل المم ّثل يسرد ّ‬
‫دورا»‪.‬‬
‫عربه من مقولة هملت وهو يستقبل المم ّثلين‬
‫وكأنّه يعمل بما ّ‬
‫يسرني أن أراكم بخير وعافية‪ .‬لنبدأ‬
‫السادة‪ ،‬مرحبا‪ّ .‬‬
‫«مرحبا أ ّيها ّ‬
‫حاالّ‪ ،‬هاتوا ما عندكم‪ ،‬أنشدونا قطعة ّ‬
‫نتذوق بها طعم فنّكم‪،‬‬
‫السواكن وتلهب العواطف‪ ،»..‬ما جعله وهو‬ ‫تحرك ّ‬ ‫قطعة ّ‬
‫يتحسس مواقع الحرج لدى المم ّثلين‬
‫ّ‬ ‫يواكب عمل ّية اإلخراج‪،‬‬

‫‪56‬‬
‫ويسعى لراحتهم في التّمثيل ولصدقهم في أدائه وتحقيق‬
‫األهداف المنشودة منه‪.‬‬
‫كسبيري يحيلنا على ما كتبه‬
‫ّ‬ ‫ّص ّ‬
‫الش‬ ‫هذا التّلميح في الن ّ‬
‫أبو ح ّيان التّوحيدي في مؤ ّلف «اإلمتاع والمؤانسة» مخاطبا‬
‫المزي‪« :‬أوصيكم بأن‬ ‫حمادي ّ‬ ‫نص ّ‬ ‫الدّ مى كما جاء ذلك في ّ‬
‫يكون الحديث على تباعد وال ّلفظ خفيفا لطيفا والتّصريح غالبا‬
‫والصدق في إيضاحه وإثباته‪ .‬احذروا‬ ‫ّ‬ ‫الحق‬
‫ّ‬ ‫متصدّ را‪ّ .‬‬
‫توخوا‬
‫تزيينه بما يشينه وال تومئوا إلى ما يكون اإلفصاح عنه أحلى في‬
‫السمع وأعذب في النّفس‪ .‬ال تعشقوا ال ّلفظ دون المعنى وال‬ ‫ّ‬
‫تهووا المعنى دون ال ّلفظ»‪.‬‬
‫هي خصوص ّيات ف ّن األداء كما جاءت من منظور ثالثة‬
‫كتّاب خبروا ال ّلغة ال كأداة جامدة وكوعاء للمعنى‪ ،‬ولكن‬
‫المتحرك‬
‫ّ‬ ‫تم ّثلوها بوصفها هي المعنى وهي المحمل الفكري‬
‫والسياس ّية واالقتصاد ّية‬
‫ّ‬ ‫وفقا للحراك وللتّغ ّيرات االجتماع ّية‬
‫المسرحي وبالتّالي تؤ ّثر بشكل ما على‬
‫ّ‬ ‫التي تحيط بالفعل‬
‫الفاعل المسرحي وهو المم ّثل‪.‬‬
‫عربها‪ ،‬ذكر الخميري أنّه اعتمد‬ ‫في مقدّ مة «هملت» كما ّ‬
‫تتضمنه من شروح‬
‫ّ‬ ‫على طبعة ‪ Edward Hubler‬االنجليز ّية لما‬
‫وتعليقات وأنّه اعتمد ترجمة‪ Meinerts .‬األلمان ّية وترجمة‬
‫‪ M.Castelain‬الفرنس ّية‪ .‬هذا إضافة إلى ترجمة جبرا إبراهيم‬
‫جبرا والتّرجمة المختصرة لخليل مطران‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫يبدو لي ّ‬
‫أن هذا الجوالن في ثقافات لغو ّية متعدّ دة ال يمكن‬
‫أن ينتج عن حرص على د ّقة التّرجمة بقدر ما هو تط ّلع من‬
‫الدّ كتور ال ّطاهر الخميري إلى اإليفاء بالبعد الكوني لهاتين‬
‫كل واحدة منهما من زاوية مع ّينة‬ ‫المسرح ّيتين ال ّلتين تطرحان ّ‬
‫الحس ّية في مسار‬
‫ّ‬ ‫السلطة والمتعة‬ ‫ملحمة اإلنسان ّ‬
‫الاّلهث وراء ّ‬
‫ال يقدّ ر فيه حسابا لآلخر‪ .‬يستهين بحقوقه وذات ّيته ويمعن في‬
‫تذليله وإحباطه‪ ،‬بل ويمتطيها مسلكا للوصول إلى مبتغياته‪.‬‬
‫السؤال أو التّساؤل حول الدّ افع‬ ‫ور ّبما يتبادر إلى ّ‬
‫الذهن ّ‬
‫الذي دعا ال ّطاهر الخميري الختيار مسرح ّيتين لشكسبير‪.‬‬
‫إن في اختيار مسرح ّية «هملت» و«عطيل» لشكسبير‪ ،‬ر ّبما‬ ‫ّ‬
‫انتقائي في عالقاته‪،‬‬
‫ّ‬ ‫اهتمام بكاتب كان منخرطا في مجتمعه وغير‬
‫يمكن أن نطلق عليه انطالقا من مصطلحاتنا الحديثة «كاتب‬
‫القرب» (‪)un écrivain de proximité‬اجتماع ّيا‪ ،‬إذ كان يعاشر‬
‫طبقات المسحوقة كما جاء في كتاب يان كوت(‪Shakespeare‬‬ ‫ال ّ‬
‫أن مسرح ّيات شكسبير كانت في‬ ‫‪ ،)notre contemporain‬حتّى ّ‬
‫أمريكا‪ ،‬إلى حدود النّصف ال ّثاني من القرن التّاسع عشر‪ ،‬تعرض‬
‫في الحانات وفي المراكب العابرة لنهر الميسيسيبي وكانت‬
‫الجماهير التي تحضر عروضها من أعمار مختلفة حيث ال توجد‬
‫شروط لدخول العرض وال مقاييس تحدّ د الجمهور المقصود‪.‬‬
‫فإن مسرح شكسبير يطرح موضوع‬ ‫عالوة على ذلك‪ّ ،‬‬
‫االزدواج ّية في ملمح المث ّقف حيث إنّه يحلم ويخ ّطط ألحالمه‬
‫وقناعاته وأفكاره‪ ،‬ولكنّه عديم الفعل وبطيؤه ر ّبما‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫كل من الحضارات وال ّثقافات‬ ‫السرد ّية ال تغيب عن ّ‬
‫هذه ّ‬
‫وال ّلغات التي لجأ الخميري إليها ليستأنس بها في تعريبه لهذين‬
‫الن ّّصين الخالدين‪.‬‬
‫الرجل وهو يترجم نصوصا مسرح ّية ال‬ ‫ويتب ّين من ذلك ّ‬
‫أن ّ‬
‫يقتصر على تبليغ المعنى وإلباسه لفظا عرب ّيا‪ ،‬ولكنّه يستبطن في‬
‫ّص األصلي ويناسق بينها وبين المقترح‬ ‫هذه العمل ّية خلف ّيات الن ّ‬
‫ّص‪.‬‬‫الجمالي إلخراج ذلك الن ّ‬
‫نصا جديدا في صياغته الدّ راماتورج ّية‪ ،‬تتزامن‬
‫إنّه يكتب ّ‬
‫كتابته مع ال ّطرح الجمالي ّ‬
‫والرؤية اإلخراج ّية التي يقترحها‬
‫علي بن ع ّياد‪.‬‬
‫عادي أو حتّى كاتب‬
‫ّ‬ ‫وإنّها عمل ّية ال يمكن أن يقودها مترجم‬
‫الستّين ّيات التي كانت ما تزال تتململ‪ ،‬بل‬
‫نص مسرحي في ّ‬ ‫ّ‬
‫وتتخ ّبط في المقاربات المسرح ّية ال ّلصيقة باألدب والمناخات‬
‫الخطاب ّية‪.‬‬
‫وأسس‬ ‫بشائر دراماتورج ّية رسم ال ّطاهر الخميري بوادرها ّ‬
‫مسرحي هو علي بن ع ّياد الذي كان‬
‫ّ‬ ‫لها في تناغم مع مبدع‬
‫يشكّل طرحا جديدا للفعل المسرحي في مقاربة خصوص ّية‬
‫والصالحة ّ‬
‫لكل‬ ‫ّ‬ ‫والسينوغرافيا الجاهزة‬
‫ّ‬ ‫تخ ّلصه من الخطابة‬
‫ّ‬
‫ولكل مكان‪.‬‬ ‫زمان‬
‫يوم الجمعة ‪ 31‬جويلية ‪ ،1964‬قدّ مت فرقة مدينة تونس‬
‫البلدي باكورة عروض مسرح ّية «عطيل»‬
‫ّ‬ ‫على ركح المسرح‬
‫إدارة وإخراج علي بن ع ّياد وديكور ومالبس عبد القادر‬

‫‪59‬‬
‫فراح وبأداء مجموعة من قامات المم ّثلين آنذاك منهم المم ّثل‬
‫المصري جميل راتب ونور الدّ ين القصباوي وجميل الجودي‬
‫ومنى نور الدّ ين ووفاء سالم‪.‬‬
‫السبت ‪ 7‬جوان ‪ ،1968‬شهد المسرح البلدي بتونس‬ ‫يوم ّ‬
‫عرضا لمسرح ّية «هملت» قدّ مته فرقة مدينة تونس على ركح‬
‫ووزعت فيه األدوار من قبل المخرج ومدير‬ ‫المسرح البلدي ّ‬
‫الفرقة علي بن ع ّياد على مم ّثلي الفرقة وتك ّفل قونتر لودكي‬
‫بإعداد الدّ يكور والمالبس‪.‬‬
‫يسمى في ذلك الوقت الدّ يكور والمالبس‬
‫وللتّدقيق‪ ،‬ما كان ّ‬
‫السينوغرافيا‪.‬‬
‫هو ما يطلق عليه اليوم ّ‬
‫يعرب هذه المسرح ّيات‪ ،‬قد‬ ‫ّ‬
‫ولعل ال ّطاهر الخميري وهو ّ‬
‫تحسسه لمسرحة‬ ‫للسينوغرافيا من حيث ّ‬ ‫استبطن هذا المفهوم ّ‬
‫ال ّلغة (‪)la théâtralité de la langue ou le langage théâtral‬‬
‫التي يكتب بها‪.‬‬
‫نحن إذن أمام مفكّر خبر ال ّلغة من جوانبها العفو ّية حيث‬
‫تناولها في باب األمثال والتّقاليد‪ ،‬ولكنّه حفر في طبقاتها‬
‫الفكر ّية والفنّ ّية وال ّثقاف ّية فكان لنا هذا األثر الحامل ألنبل صيغ‬
‫الحوار ال ّثقافي والحضاري عن طريق التّرجمة‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫طاهر الخميري ‪ :‬نزعة اإلصالح‬
‫االجتماعي‬

‫زهير الذوادي‬

‫كتب طاهر الخميري في مقال موسوم «بعض المثقفات»‪:‬‬


‫نحن في فترة انتقال فجائي سريع»(‪ )1‬وهذا النص المحرر‬
‫سنة ‪1954‬و المنشور ضمن كتاب «مكافحة الثقافة» يعتزل‬
‫اإلشكالية األساسية التي قارب من خاللها طاهر لخميري‬
‫كل المسائل التي تطرق إليها في كتاباته ومواقفه وممارساته‬
‫الثقافية واالجتماعية ‪ .‬وقد عاد الخميري إلى تونس عشية‬
‫واستقر فيها( حتى وفاته) بعد أن قضى في أوروبا‬
‫ّ‬ ‫االستقالل‬
‫كل سنوات شبابه (منذ نهاية الحرب‬ ‫(بريطانيا وألمانيا‪ّ )...‬‬
‫العالمية األولى أو بعدها بقليل) حيث أنهى تعليمه الثانوي‬
‫وتلقى تكوينه الجامعي قبل أن يشتغل في التدريس‪ .‬وعاش‬
‫الخميري فترة وجيزة فيما بين( ‪ )1930- 1929‬في مصر‬
‫جيث درس في الجامعة األمريكية في القاهرة وتعرف على‬
‫كبار مثقفيها مثل إبراهيم المازني وحافظ إبراهيم وأحمد أمين‬
‫الذي كانت له معه عالقة وطيدة‪.‬‬
‫أن الحياة في مصر أنعشت في ذهن طاهر‬ ‫شك ّ‬ ‫وما من ّ‬
‫الخميري ذات األفكار والتقييمات التي احتفظ بها كخالصة‬

‫‪61‬‬
‫لحياته الشبابية والتعليمية في تونس ( تجربة الكتّاب والجامع‬
‫األعظم والخلدونية) والتي تبدو من خالل المعاينة والمقارنة‬
‫متشابهة ومترابطة في مستوى ظروفها وتحدياتها‪ .‬فقد اعتبر‬
‫طاهر الخميري ّ‬
‫أن العالم ينقسم حضاريا وثقافيا إلى عالمين‬
‫شرقي وغربي كما أنه ينقسم اقتصاديا وماديا والى نمطين‬
‫أحدهما ضعيف ومتخلف وزراعي وثانيهما قوي‬
‫ومزدهر وصناعي‪ .‬وعندما عاد الخميري من رحلته‬
‫األوروبية الطويلة قبيل االستقالل التونسي إلى وطنه الذي كان‬
‫يتهيأ «النتقال فجائي وسريع» ‪ .‬تب ّين له ّ‬
‫أن البالد في حاجة إلى‬
‫جملة من اإلصالحات والتحسينات والتعديالت في الذهنيات‬
‫والممارسات والسلوكيات الجماعية والفردية حتّى يمكن‬
‫توجيه تطورها إلى وجهة التقدم واالزدهار والتنوير‪ ،‬معتبرا ّ‬
‫أن‬
‫ذلك العمل موكول إلى المجموعة الوطنية واألفراد في ذات‬
‫الحين‪،‬وأ‪ ّ،‬وسائله األساسية تبقى الثقافة واألعالم والتربية‬
‫الجديدة في ّ‬
‫كل مجاالت الحياة‪.‬‬

‫النزعة اإلصالحية االجتماعية‬ ‫‪I‬‬

‫تضم ّن كتاب «مرآة المجتمع»(‪ )2‬الذي جمع فيه طاهر‬


‫الخميري مقاالته الصادرة في جريدة «الصباح» سنة ‪1956‬‬
‫خصصها للقضايا االجتماعية التي كانت البالد التونسي‬
‫والتي ّ‬
‫تواجهها في أول مراحل عهدها باالستقالل ‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫أن كاتبها‬‫وكانت تلك المقاالت مرآة نقدية للمجتمع أي ّ‬
‫حاول من خاللها اإلشارة إلى بعض جوانب أزمة المجتمع‬
‫التونسي ومواطن ضعفه وانحرافته بهدف الدعوة إلى إصالحها‬
‫أو تعديلها‪،‬حتى يستقيم الجهد الوطني لالنتقال من بلد‬
‫ّ‬
‫مستقل ذي سيادة يصبو إلى تكريس قيم التقدّ م‬ ‫مستعمر إلى بلد‬
‫كل طاقات البالد‬‫االجتماعي والحضاري التي تستوجب تعبئة ّ‬
‫مما جعله يقول في مقدمة الكتاب في «مرآة المجتمع» هذه ال‬ ‫ّ‬
‫أكتب بلغة (أنا) و(أنتم) أو بلغة(نحن) و(أنتم) وأنما أكتب بلغة‬
‫(نحن) فقط(ص‪.)11‬‬
‫ومنذ مقدّ مة الكتاب حدّ د الخميري منهج كتابته التي‬
‫اعتمدت النقد لإلخالالت االجتماعية في ذهنيات وسلوكيات‬
‫التونسيين معتبرا ذلك النقد عالمة نجض ووعي عصري مارسه‬
‫الظاوروبين كمقدمة لعملية إصالح شؤونهم «سل الذين قضوا‬
‫فصل الصيف الماضي في شمال فرنسا أو شمال ألمانيا أو‬
‫أنقلترا وبقية شمال أوروبا‪،‬سلهم يخبرونك انهم رأوا هناك‬
‫وأجمل‪،‬ثم ابحث عن السبب تجد ّ‬
‫أن هؤالء كتبوا‬ ‫ّ‬ ‫حياة أفضل‬
‫كثيرا في انتقاد أنفسهم وانتقاد بعضهم البعض‪ ،‬فتعلموا كيف‬
‫يضحكون على ما فيهم من ألوان الضعف البشري‪ ،‬وتمكنوا‬
‫بذلك من التغ ّلب عليها»(ص‪.)12‬‬
‫فالنقد هو وسيلة القتراح اإلصالحات بعد تشخيص‬
‫مواطن الضعف‪ .‬والمنوال اإلصالحي هو تجارب الغرب‬
‫األوروبي المتقدّ م‪ ،‬ذلك هو منهج طاهر الخميري الذي لم‬

‫‪63‬‬
‫يصرح به لكنّه مارسه على الدّ وام بالرغم أنّه حذر من مط ّيات‬
‫ّ‬
‫التمشي اإلصالحي حتى ال يسقط في االقتباس األعمى‬ ‫ّ‬ ‫ذلك‬
‫وغير الواعي أي االقتباس الذي ال يعمل العقل النقدي حيث‬
‫كتب من ّبها» هذا طبيعي ومعقول ألن الجديد عندكم مقتبس من‬
‫الغرب وأنتم التحسنوا االقتباس»(ص ‪)15‬‬
‫ويستوجب حسن االقتباس وعيا نقديا ينطلق من حقيقة‬
‫أوضاع الناس وذهنياتهم وممارستهم ‪ .‬لذى كانت مقاربة‬
‫طاهر الخميري في بلورة نزعته اإلصالحية في شؤون المجتمع‬
‫منحازة إلى منطق التحليل الملموس المرافق للمعايشة‬
‫والتشخيص وهو منطق علم اجتماع ورؤية انتروبولجية‬
‫ال تولي لالعتبارات النظرية أهمية كبرى بجيث أنّه التصق‬
‫بالواقع ووضع أصبعه على إخالالت وانحرافات متعددة تبدو‬
‫بسيطة (احترام المواعيد والمواقيت(ص‪ ،)43‬طريقة السير أو‬
‫المشي في الطريق العام (ص‪ )13‬ومنطق «البنتوات والمزايا»‬
‫(ص‪،)17‬وتراكم األوساخ في الطريق العام وداخل المنازل‬
‫(ص‪ )25‬و«الماخذة بالخاطر»(ص‪ )67‬و«حرف الياجور»‬
‫في العالقات (ص‪ ،)71‬ومخالطة النساء للمقاهي(ص‪)21‬‬
‫و«المجهودات الضائعة» من دسائس ومكائد وحسد وشماتة‬
‫وخصومات(ص‪.)87‬‬
‫من خالل هذه السلوكيات اليومية التي ينتقدها طاهر‬
‫الخميري‪ ،‬ينحت هذا األخير صورا لمختلف أوجه اإلنسان‬

‫‪64‬‬
‫التونسي الذي يطمح إلى تغيير حاله وتحقيق تقد ّمه بعد أن‬
‫استق ّلت بالده‪.‬‬
‫ولم يبلور طاهر الخميري مشروعا إصالح ّيا متكامال بل‬
‫كان فكره ذا نزعة إصالحية اجتماعية وثقافية‪،‬و هو كان على‬
‫الذي يمكن أن يتحقق‬‫أن نموذج المجتمع المتقدّ م ّ‬‫وعي شديد ّ‬
‫الحرة انطالقا من فجر االستقالل يشترط أن تكون‬ ‫في تونس ّ‬
‫للمرأة فيه دورا جديدا وفعاال ‪.‬‬
‫انطلق الخميري في معالجة مسألة المرأة من جزئية بسيطة‬
‫تخص الحياة اليومية للنساء اللواتي بدأت النظم التقليدية‬ ‫ّ‬
‫كل إمكانيات العيش‪ ،‬لذى نراه يدافع‬ ‫للحياة العامة تسدّ أمامه ّن ّ‬
‫عن فكرة بعث المقاهي ومطاعم خاصة بالنساء حتّى يتمك ّن‬
‫من التحرك في الفضاء العام بحر ّية تيسر لهن حياتهن اليومية‪.‬‬
‫وقد اعتبر طاهر الخميري «أننّا ال نزال نميل إلى مشاكل المرأة‬
‫معاملة نظرية عامة‪.‬نتحدث عن تحرير المرأة وعن مساواتها‬
‫بالرجل وعن السفور والحجاب واختالط الجنسين الخ‪...‬‬
‫(‪ )...‬فتشغلنا هذه الكليات النظرية البعيدة عن التفكير في‬
‫الجزئيات التي يمكن الشروع في إصالحها حاال»(ص‪.)22‬‬
‫لم يتناول الخميري مسألة المرأة من زاوية النظر الدينية‬
‫والفقهية واالجتماعية (مثل عبد العزيز الثعالبي والطاهر‬
‫الحداد) أو من زاوية النظر االجتماعية والثقافية والسياسية‬
‫(مثل الحبيب بورقيبة) أو غيرهم من المصلحين‪،‬بل اختار‬
‫مقاربة المسألة‪ ،‬وفق نظرته البراغماتية المنحصرة في جزئيات‬

‫‪65‬‬
‫الحياة اليومية والمباشرة دون االلتفات إلى النظريات والشرائع‬
‫والعادات والقوانين بل حصر المسألة في الحاالت ّ‬
‫الخاصة‪:‬‬
‫«إنّها ليست مسألة المرأة عموما وال مسألة المرأة الشرقية وال‬
‫مسألة المرأة المسلمة وال مسألة المرأة العربية‪ ،‬بل أنها مسألة‬
‫المرأة التونسية ‪ .‬انهت =ا مسألة أمهاتنا وأخواتنا وخاالتنا‬
‫وزوجاتنا وبناتنا وبقية عشيرتنا األقربين‪(...‬ص‪.)22‬‬
‫وأن اعتبر طاهر الخميري أن «نموذج الرجال القوامين على‬
‫النساء قد أصبح نادرا»(ص‪ )30‬ألسباب مادية ّ‬
‫فإن «االستقالل‬
‫االقتصادي هو أهم مشاكل المرأة التونسية في الوقت‬
‫الحاضر سواء كانت المرأة سافرة أو محجبة‪،‬متعلمة أو جاهلة‬
‫مساوية للرجل أو غير مساوية له‪ ،‬فهي تريد أن تعيش قبل ّ‬
‫كل‬
‫شيء»(ص‪ ،)29‬لذلك يقترح الخميري أن تتعلم المرأة (تعليم‬
‫ابتدائي ‪+‬حرفة) حتى تتمكن من دخول سوق الشغل وتوفير‬
‫حدّ أدنى من االستقالل المادي بدل أن تبق مجرد مستهلكة‬
‫متجولة في األسواق (ص‪.)83‬‬
‫إلى جانب مسألة المرأة أبرز طاهر الخميري أهمية مسألة‬
‫الشباب الذي دعاه إلى االبتعاد عن منطق صراع األجيال‬
‫(ص‪ .)27‬وحت يتمكن الشباب من المساهمة في مرحلة‬
‫«االنتقال الفجائي والسريع» الذي تعرفه البالد التونسية إبان‬
‫االستقالل‪ ،‬اعتبر الخميري أن التعليم والعمل وروح المبادرة‬
‫تشكل الوسائل الناجعة الواجب تم ّلكها‪ ،‬فهو ّ‬
‫يقر أن «الشباب‬
‫غير راض عن الحاضر‪ ،‬غير مطمئن إلى المستقبل‪ ،‬يريد حياة‬

‫‪66‬‬
‫أفضل وال يعرف إليها سبيال‪ .‬فهو في حاجة إلى التوجيه‬
‫(‪)3‬‬
‫والتشجيع»‬
‫أن نجاح الشباب مسألة ثقافية‪ ،‬لذا قدم‬ ‫واعتبر الخميري ّ‬
‫لهم نصا غريبا في بعض جوانبه وان اعتمد على معطيات‬
‫موضوعية وتجربة شخصية‪ ،‬حيث طالبهم باالهتمام بالتعليم‬
‫جديا وطالبهم ‪ »:‬أق ّلوا من العناية بالعلم والصناعة‪،‬اهتموا ّ‬
‫كل‬
‫االهتمام بالعلوم العملية واقتصدوا في االهتمام بالوجودية‬
‫ومذاهب النقد األدبي‪ ،)4(»...‬مضيفا دروسا من تجارب جيله‬
‫«‪...‬تلك غلطة ارتكبناها ودفعنا ثمنها وال يجب أن نراكم‬
‫ترتكبون تلك الغلطة فيطول بقاؤنا في أخر القافلة‪،‬العصر عصر‬
‫(‪)5‬‬
‫علم والثقافة السائدة هي ثقافة علمية»‬
‫و لماذا كان تقييم طاهر الخميري نقديا لثقافة العالم‬
‫الشرقي‪،‬فهو يؤكد أن الثقافة العلمية ال تفتقر إلى ما اعتبرته‬
‫الثقافة الشرقية مميزاتها النبيلة الخاصة بها حيث كتب «ليست‬
‫الثقافة العلمية شيئا باردا جافا ال لذة فيه وال نشوة‪،‬في الظالة‬
‫الفوالذية المتقنة الصنع دقة كدقة شعر ابن الرومي‪،‬ور ّقة كر ّقة‬
‫شعر العباس ابن األجنف وقوة كقوة أكبر شعراء الحماسة‪،‬وفي‬
‫مقال عن الطاقة الذرية قد نجد ما يدخل اإليمان في قلب غير‬
‫المؤمن إيمانا‪ .)6(»...‬ويضيف الخميري في وصف الثقافة‬
‫العلمية‪« :‬ليست الثقافة العلمية الصناعية ثقافة مادية ال روح‬
‫فيها وال الهام كما يزعم بعض المتفلسفين قرب آلهة «صماء»‬

‫‪67‬‬
‫هي أروع جماال وأعمق روحانية وأصدق إلهاما من ألف‬
‫(‪)7‬‬
‫قصيدة «عصماء»‪»...‬‬
‫و لم يكن طاهر الخميري صاحب مشروع إصالحي متكامل‬
‫ومبلور فهو كما أشرنا متجذر في نزعة إصالحية (اجتماعية)‬
‫تحديثية تنهل من الفلسفة الوضعية والعلموية التي سادت‬
‫أوساط الثقافة والفكر (غير الراديكالي) في أوروبا خالل‬
‫القرن التاسع عشر والتي كان غوست كونت أبرز وجوهها‪،‬‬
‫وذلك ما يؤكد تجذره في المنظومة الفكرية التنويرية الليبرالية‬
‫دون التوغل في القضايا الفلسفية وااليديولوجية التي رافقت‬
‫بروزها وتطورها‪.‬‬
‫وأشار طاهر الخميري أن ّ توفير حلول لجمهور النساء‬
‫والشباب وكل أصناف الفقراء والمعدمين (وهم أغلبية‬
‫المجتمع) يكمن في سياسة جديدة تعتمد تحقيق االنتقال‬
‫من االقتصاد الزراعي والتقليدي نحو نظام اقتصادي صناعي‬
‫وعصري حيث أنه اعتبر أن «األكذوبة الكبرى» التي تعرفه ثقافة‬
‫البالد هي اعتبار تونس بلدا زراعيا وأنه وجب عليها أن تبقى‬
‫كذلك لمدّ ة زمنية طويلة قبل النجاح في إرساء اقتصاد صناعي‬
‫(ص‪ )33‬حيث كتب‪« :‬لن أصدّ ق أننا في نهضة حقيقية إال إذا‬
‫ومتفرعة‬
‫ّ‬ ‫رأيت مداخن المعامل ممتدة من بنزرت إلى توزر‬
‫شرقا وغربا»(ص‪ )34‬مضيفا «وباالختصار إن بالدنا بحاجة‬
‫ماسة إلى فبارك ومصانع ولكن قيامها ال يتطلب رؤوس أموال‬
‫وعمال ق ّيمين وعليه فاألجدر بنا‬
‫فحسب بل خبراء ومهندسين ّ‬

‫‪68‬‬
‫تكوين فئة كبرى من شبابنا وتوجيههم نحو هذا الميدان بدال‬
‫من تعليمهم الشعر والفلسفة‪( »...‬ص‪)40‬‬
‫الحل لمسألة التخلف والفقر والبطالة هو التصنيع‪ ،‬واعتماد‬
‫التقنيات الحديثة والتكنولوجيا العصرية‪ .‬وقد حدد الخميري‬
‫مفهومه للتصنيع بصيغة مدققة إذ كتب «التصنيع الذي أعنيه هو‬
‫كل يوم من رباط‬ ‫االبتداء بصنع تلك األشياء التي نستعملها ّ‬
‫الحذاء إلى رباط الرقبة‪،‬ومن الجبن إلى الوقيد ‪ .‬هو أن ال‬
‫نبيع منتوجاتنا في صورة مواد أولية‪(...‬ص‪ )40‬مثل البرتقال‬
‫والخلفتء‪ ،‬وهو ما يفعله «زنوج أفريقية االستوائية ؟؟؟ (ص‬
‫‪ )40‬فضال على أن التصنيع هو ّ‬
‫الحل الحقيقي لمشكلة البطالة‬
‫‪ :‬معامل للعمال ال تهدئة وترقيع ومسكنات‪ .‬عدد السكان في‬
‫ازدياد وكذلك عدد المتعلمين وفهم المتعلم للصبر والقناعة‬
‫والتوكل والتسليم يختلف عن فهم األ ّمي ‪...‬انّك تستطيع‬
‫حل مشكلة نخبة متعلمة محدودة العدد بتعقيد أداة الحكم‬ ‫ّ‬
‫وتضخيم اإلرادة وخلق الوظائف من أجل الموظفين‪،‬و لكنك‬
‫حل مشكلة البطالة لمئات اآلالف إال بإنشاء مئات‬ ‫ال تستطيع ّ‬
‫المعامل» (ص‪.)48‬‬
‫وال يجانب رأي الخميري الصواب فيما ذهب إليه من‬
‫تحذيرات ومقترحات وقد تبنت دولة االستقالل ‪-‬نسبيا‬
‫‪-‬وجهة نظر قريبة مما طالبها به وهي نجحت في ذلك نجاحا‬
‫نسبيا في بعض المجاالت ‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫لم ينخرط طاهر الخميري في الشأن السياسي كما لم تفتح‬
‫أمامه أبواب المشاركة في الشأن العام والعمل الجامعي بل اكتفى‬
‫بالمساهمة في المجال اإلعالمي واإلذاعي والترجمة‪،‬لكن‬
‫المهمة‬
‫ّ‬ ‫ذلك لم يمنعه من تقديم بعض اآلراء االستشرافية‬
‫والتي كانت تخص جوهر دينامكية االنتقال التاريخي السريع‬
‫الذي أنتجته ظروف استقالل البالد التونسية (‪ ،)1956‬لكن‬
‫الخميري كان على وعي شديد أن بعض العوائق قادرة على‬
‫إجهاض نزعة اإلصالح‪ .‬االجتماعي الذي كان يطمح إليه‪.‬‬
‫ورغم ابتعاد الخميري عن الوسط السياسي الميداني فهو امتلك‬
‫حسا سياسيا دقيقا قواه التحليل العلمي االجتماعي للظواهر‬ ‫ّ‬
‫البارزة في المجتمع الذي عاصره ‪ .‬فقد رصد الخميري عدد‬
‫من عوائق النجاح في االنتقال التحديثي للمجتمع والثقافة في‬
‫البالد التونسية منها‬
‫ـ انتشار ثقافة دينية سلبية تعكسها ظاهرة «انفصال في‬
‫الشخصية يؤيد ذلك أننا نقول «أدي الفرض وأنقب األرض»‬
‫(ص‪،)94‬ومر ّد ذلك ضعف التأطير الديني اإليجابي للمجتمع‬
‫أيمة المساجد‬
‫بسبب بروز نوع من الفاعلين (خاصة صلب ّ‬
‫والخطباء) الذين يفسدون وعي الناس ويدفعونهم إلى الخطأ‬
‫وهم «خطباء يعالجون المشاكل السياسية بطريقة تهريجية‬
‫ساذجة ال ترضي رجال الدين وال رجال السياسة(‪ )...‬وخطباء‬
‫يرتجلون خطبهم ارتجاال ويقتبسون األيات واألحاديث‬
‫حسبما اتفق تاركين الكالم يجر بعضه بعضا (‪ )...‬وخطباء‬

‫‪70‬‬
‫يتلون تلك الخطب المشجعة للمناسبات وذلك بطريقة يظهر‬
‫منها أنهم هم أنفسهم ال يفهمون ما يقولون»(ص‪.)60‬‬
‫أقر الخميري بسلبية التأطير لبعض رجال الدين‬ ‫وإن ّ‬
‫للمجتمع فهو لم يغفل على سلبية بعض الظواهر األخرى‬
‫المتفشية في المجال السياسي واإلداري والتي تضخم‬
‫االنحرافات والعجز على إصالح شؤون الناس وإسداء‬
‫الخدمات التي يحتاجونها حيث كتب مالحظا ‪« :‬يظهر فينا‬
‫ميال خاصا إلى الشكل ّيات وغراما صحيحا بالرسميات وح ّبا‬
‫مفرطا للحديث عن اإلجراءات «مما جعلنا نعقد البسيط‬
‫ونوزع المسؤولية ونحمل أنفسنا ما ال طاقة لنا به وال فائدة‬
‫أن «‪...‬مثل الجهاز‬ ‫لنا فيه‪(»...‬ص‪ )97‬مستخلصا من ذلك ّ‬
‫اإلداري المضخم المعقد في بالد صغيرة كالبالد التونسية‬
‫كمثل الطفل الصغير يرتدي ثياب أبيه ويتعمم بعمامته ويتقلد‬
‫سيفه‪ ،‬منظر مضحك طريف‪( »..‬ص‪.)98‬‬
‫كما أشار الخميري إلى عائق سياسي أخر من شأنه أن‬
‫يربك عملية التحديث واإلصالح في البالد وهو الذي مثله‬
‫مجرد اإلنسان‬
‫فصيل اجتماعي جديد وسمه «بالوطنجي» أي ّ‬
‫المنتسب إلى الوطن دون خدمة مصالحه‪ .‬وقد شبه الخميري‬
‫هذا الفصيل االجتماعي الجديد بالحجر البشري وبالقوة السلبية‬
‫القاتلة (ص‪ )86‬معتبرا أنها «أنانية قد تنحط إلى أدنى دركات‬
‫ألن الرجل الذي يعيش (حده حد نفسه) وال يقال فيه‬ ‫اللؤم ‪ّ .‬‬
‫بعد موته سوى أنه (عاش مقبال على شأنه) هو رجل قد أخذ‬

‫‪71‬‬
‫كل شيئ ولم يعطي شيئا» (ص‪ )86‬والحال ّ‬
‫أن‬ ‫ولم يعط ‪ :‬أخذ ّ‬
‫الوطنية المصبوغة بنزعة إصالحية مقيدة تستوجب ممارسات‬
‫أكثر انفتاحا على خدمة الغير والصالح العم حيث ‪« :‬ينتظر‬
‫من الموظف المسؤول أن يسعى في إدخال بعض اإلصالح‬
‫على اإلدارة التي يديرها وأن يخاطر في ذلك بارتكاب بعض‬
‫األخطاء وينتظر من العالم أن يضيف شيئا جديدا إلى موضوع‬
‫اختصاصه ولو كان ذلك الشيء بعيدا عن الكمال ‪ .‬وينتظر مثل‬
‫ذلك من الصانع والتاجر واألديب والفنان‪ ،‬ألنه بذلك تبنى‬
‫الحياة ويكون التقدم(ص‪.)85‬‬

‫مالحظات تقيمية للنزعة اإلصالحية االجتماعية‬


‫‪II‬‬
‫لدى طاهر الخميري ‪.‬‬

‫‪ .1‬لم يكن طاهر الخميري صاحب مشروع إصالحي‬


‫متكامل ومترابط مثلما كان الحال مع عبد العزيز الثعالبي‬
‫وطاهر الحداد والحبيب بورقيبة ‪ .‬وهو اختار أن يكون عالما‬
‫في حدود تخصصه األكاديمي‪ .‬اشتغل بالتدريس طول حياته‬
‫المهنية التي قضاها في الغرب (ألمانيا وانكلترا) وأمتهن‬
‫الصحافة المكتوبة والداعية بعد غودته إلى تونس ملتزما‬
‫باالبتعاد ظاهريا على مجال العمل السياسي‪ .‬لكن عدم انخراط‬
‫الخميري في الشأن السياسي لم يمنعه من االهتمام بالشأن‬
‫العام من زاوية دراسة ذهنيات وممارسات التونسيين ونقدها‬

‫‪72‬‬
‫بهدف إصالحها ‪ .‬فقد كان صاحب نزعة إصالحية في ّ‬
‫كل ما‬
‫يخص الحياة االجتماعية والثقافية في البالد‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪ .2‬وكانت النزعة اإلصالحية لدى الخميري مستندة إلى‬
‫ثالثة عناصر هامة وهي‬
‫‪ -‬أوال ‪ :‬معرفته الدقيقة بظروف حياة الغرب األوروبي‬
‫المتقدمة في جميع المجاالت والتي فرضت عليه منطق‬
‫المقارنة بين «الشرق والغرب» مع ميل واضح لهذا األخير‬
‫ونجاحاته في مختلف المجاالت وأصعدة الحياة العامة‬
‫والفردية‪-.‬‬
‫‪ -‬ثانيا ‪ :‬الوعي بأن البالد التونسية مرت في منتصف السنوات‬
‫الخمسين من القرن العشرين بمرحلة «انتقال فجائي وسريع»‬
‫يستوجب إنجازات إصالحات هامة في ذهنيات وسلوكيات‬
‫قوى المجتمع الحيوية حتى تتوجه المرحلة االنتقالية نحو‬
‫نموذج ناجح من التطور‪.‬‬
‫‪ -‬ثالثا ‪ :‬لتبار اإلصالح المنشود حلقة ضرورية لتحقيق التطور‬
‫وأن مضمون ذلك اإلصالح ال‬ ‫واالزدهار في البالد والمجتمع ّ‬
‫يكون سوى الحديث الشامل وفق النظرة االجتماعية العلموية‬
‫والوضعية التي هيمنت على الحياة الثقافية في أوروبا منذ نهاية‬
‫القرن التاسع عشر‪.‬‬
‫‪ .3‬جاءت الدعوة إلى إصالح وتعديل الذهنيات‬
‫والممارسات الفردية والجماعية للتونسيين وتحديثها في صيغ‬
‫صور نقدية تارة ومقترحات عملية تارة أخرى وإشارات مقارنة‬

‫‪73‬‬
‫مع أفعال الشعوب األخرى تارة ثالثة‪ ،‬كما أن تلك الدعوة‬
‫لم تكن متمحورة حول مواضيع عامة وكبرى بل أنها تناولت‬
‫أحيانا جوانب بسيطة في الحياة اليومية وجزئيات طفيفة منها‬
‫لكنها تكشف خلفيات خطيرة سلبا وإيجابا لذلك اختار طاهر‬
‫الخميري أن يكون كل من خطابه النقدي ومقترحاته العملية‬
‫موجها إلى الرأي العام والى الشريحة القادرة على نشرها‬
‫وتوسيع دائرة تأثيرها ‪ .‬فقد اختار الخميري الصحافة المكتوبة‬
‫واإلذاعة وسيلة لنشر أفكاره وبثها في مختلف أوساط المجتمع‬
‫دون حصرها في وسط النخبة أو دوائر السلطة ومؤسساتها‪.‬‬
‫فهو خرج من منطق الدعوة إلى اإلصالح عن طريق الدعوة إلى‬
‫اإلصالح عن طريق عمل الدولة أو عن طريق نضال المجتمع‬
‫كل الناس‬ ‫يخص ّ‬‫ّ‬ ‫المدني بل اختار نهج التأثير األفقي الذي‬
‫كل الناس‬‫تخص ّ‬
‫ّ‬ ‫كل الناس من أجل إصالحات‬ ‫ويحاول تعبئة ّ‬
‫في مستوى السلوك والذهنيات‪.‬‬
‫‪ .4‬إن لم ينخرط الخميري في مشروع سياسي محدد‬
‫يكون خلفية لنزعته اإلصالحية االجتماعية فهو بلور من‬
‫خالل مقاالته وكتابه «مكافحة الثقافة» مالمح نزعة إصالحية‬
‫في المجال الثقافي تتقاطع في عدة جوانب منها مع مضمون‬
‫نقده ومقترحاته في مجال سلوكيات وذهنيات قوى المجتمع‬
‫التونسي على الصعيد االجتماعي وهو أمر يحتاج دراسة‬
‫خاصة‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫‪ .5‬لم يبلور الخميري قبل وبعد االستقالل نظرية حول‬
‫االستعمار الفرنسي وتحليل نقدي لتأثيره على المجتمع‬
‫التونسي‪ ،‬وهو أمر مثير لالستغراب‪ .‬وان كان انحيازه للموقف‬
‫الوطني ال تشوبه شائبة جلية ‪ .‬كما أن التبني الجلي لدى‬
‫يخص عوامل تقدمه‬
‫ّ‬ ‫الخميري للنموذج الحضاري الغربي فيما‬
‫ونهضته وازدهاره ال يبرز موقفا نقديا من التراث السياسي‬
‫والثقافي واالستراتيجي السلبي في سياق تعامل الغرب مع‬
‫بلدان الشرق وباقي المستعمرات التي أخضعوها في مختلف‬
‫أنحاء العالم‪.‬‬
‫‪ .6‬يتبين من هذه المالحظات التقييمية والنقدية للنزعة‬
‫اإلصالحية االجتماعية لدى طاهر الخميري أن النظرة العامة‬
‫التي تبناها في المجالين االجتماعي والسياسي وخلفيتهما‬
‫السياسية والفكرية كانت محددة على أساس رفض كل مقاربة‬
‫راديكالية تهدف إلى الهدم بدل التعديل والتغيير والتحديث‬
‫الممنهج والتدريجي‪.‬‬
‫وان كان طاهر الخميري بعيدا عن المنطق الثوري والجذري‬
‫فهو ال يقبل من المنطق اإلصالحي االّ التمشي التدريجي‬
‫الذي ال يطال فهو ال يقبل من المنطق اإلصالحي ّااّل التمشي‬
‫التدريجي الذي ال يطال سوى المسائل الجزئية الملموسة‬
‫والواقعية والتي من شأنها أن تنتج تأثيرا على المدى المتوسط‬
‫والبعيد والتي تتوخى نهج تراكم اإلصالحات الجزئية بهدف‬
‫تحقيق التعديالت والتحسينات والتغييرات الكبرى والدائمة‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫وقد حدد طاهر الخميري منهجيته اإلصالحية في المجال‬
‫االجتماعي مستلهما من ممارسات وتوجيهات الرسول محمد‬
‫كل هذا عبرة للمصلحين االجتماعيين‬ ‫صلعم كما يلي‪« :‬في ّ‬
‫الذين يرون أن البناء ال يكون إالّ بعد الهدم وأن عمليات الترميم‬
‫والرقيع هي عمليات كثيرة النفقات قليلة الفائدة‪،‬في هذا التفكير‬
‫ّ‬
‫ويشك فيه ‪...‬يظنّونها جرأة وشجاعة‬ ‫مغالطة لها باعث يسأل عنه‬
‫وماهي بجرأة أو شجاعة‪،‬اذ أن هي ّإاّل صبيانية‪ ...‬الصبي يحب‬
‫الهدم ويفرح بالتحطيم ألن ذلك سهل أو ّ‬
‫ألن الصبي ال يدرك‬
‫القيم وال يستطيع التمييز بين الصالح وغير الصالح»(ص‪)56‬‬

‫‪76‬‬
‫الهوامش‪:‬‬

‫‪ : 1‬طاهر الخميري ‪ :‬مكافحة الثقافة جمع و تقديم محمد‬


‫المي دار سحر تونس ‪3202‬ص ‪83‬‬
‫‪ :2‬طاهر الخميري «مرأة المجتمع جمع و تقديم محمد المي‬
‫دار سحر تونس ‪3202‬ص ‪201‬‬
‫‪:3‬طاهر الخميري ‪ :‬مكافحة الثقافة جمع و تقديم محمد المي‬
‫دار سحر تونس ‪3202‬ص ‪56‬‬
‫‪ 4:‬طاهر الخميري ‪ :‬مكافحة الثقافة جمع و تقديم محمد‬
‫المي دار سحر تونس ‪3202‬ص ‪56‬‬
‫‪ :5‬طاهر الخميري ‪ :‬مكافحة الثقافة جمع و تقديم محمد‬
‫المي دار سحر تونس ‪3202‬ص ‪56‬‬
‫‪:6‬طاهر الخميري ‪ :‬مكافحة الثقافة جمع و تقديم محمد‬
‫المي دار سحر تونس ‪3202‬ص ‪66‬‬
‫‪ :7‬طاهر الخميري ‪ :‬مكافحة الثقافة جمع و تقديم محمد‬
‫المي دار سحر تونس ‪3202‬ص ‪76‬‬

‫‪77‬‬
‫ّ‬
‫الطاهر الخميري‪:‬‬

‫ّ‬
‫مثقفا تونس ّيا طالئع ّيا‬

‫د‪ .‬أشواق عوي‬


‫المعهد العالي للعلوم االنسان ّية‬
‫جامعة جندوبة‬

‫على سبيل التمهيد‪:‬‬


‫رواد الثقافة في تونس والمغرب‬ ‫يعتبر ال ّطاهر الخميري أحد ّ‬
‫وطني صميمي متش ّبع‬ ‫ّ‬ ‫العربي على حدّ سواء‪ .‬فهو مث ّقف‬
‫ّ‬
‫معرفي قوامه الثقافات العالم ّية‬
‫ّ‬ ‫الثقافي التونسي وبزاد‬
‫ّ‬ ‫بالتّراث‬
‫المتقدّ مة‪ .‬وقد كان لهما األثر البارز في نحت شخصيته بفضل‬
‫اطالعه الواسع على ثقافة اآلخر ومحاولة فهمها من جهة‪،‬‬
‫وحذقه لعديد اللغات كاأللمانية واالنجليزية من جهة أخرى‪.‬‬
‫كرسها في‬
‫كما كانت له نظرة طالئع ّية رائدة ورؤية استشراف ّية ّ‬
‫معظم إنتاجاته الثقافية من كتب ومقاالت وندوات وترجمات‪،‬‬
‫خاصة‬
‫ّ‬ ‫أدبي لم يحظ باإلجماع‬ ‫فضال عن إعادة إحيائه لنمط ّ‬
‫لدى أغلب المث ّقفين والجامع ّيين الذين كانوا يرفضون ّ‬
‫كل‬
‫ما هو فلكلوري‪ .‬وأمام تهميش هذا النّوع من ال ّثقافة اختار‬
‫لمث ّقفي عصره‪ .‬إذ رسم صورة‬ ‫الخميري لنفسه طريقا ُمخالفا ُ‬

‫‪79‬‬
‫ّونسي بأسلوب سلس نابع منه ومتّجه إليه‪ .‬وترك‬ ‫ّ‬ ‫المجتمع الت‬
‫أهم‬
‫لنا بذلك إرثا لغو ّيا وأنثروبولوج ّيا ُمتم ّيزا‪ ،‬سنُحاول دراسة ّ‬
‫الضوء عليه في هذا المقال‪.‬‬‫خصائصه ونس ّلط ّ‬

‫ّ‬
‫أوال‪ :‬حياته وظروف نشأته‪:‬‬
‫لع ّله من الجدير بنا ونحن ندرس علما مثل الطاهر الخميري‬
‫اإلشارة إلى تعدّ د األبعاد في شخص ّيته‪ ،‬فهو الصحافي‬
‫والمترجم واألديب والناقد والمخرج اإلذاعي والتلفزي‬
‫والمحقق واالنتروبولوجي‪ .‬ولد الخميري عام (((‪ 1899‬في‬
‫شب مثل‬‫حي باب سويقة بالعاصمة وتوفي سنة‪ّ ،(((1973‬‬ ‫ّ‬
‫أقرانه على قراءة القرآن في الكتّاب وتحديدا في ُكتّاب سيدي‬
‫البناني‪ ،‬ثم التحق بعد المرحلة االبتدائية بجامع الزيتونة حيث‬
‫تم ّيز في دراسة اللغة والنحو والبالغة‪ ،‬باإلضافة إلى الفقه‬
‫والتوحيد‪ ،‬فاطلع على متن ابن عاشر «المرشد المعين على‬
‫الضروري من علوم الدين»‪ ،‬والموسوعة األجرومة بعنوان‪:‬‬
‫ّ‬
‫«المقدمة األجرومية في مبادئ علم العربية»‪.‬‬
‫وتعدّ هذه المتون أحد أبرز المراجع العربية في تعليم ال ّلغة‬
‫والنّحو وعلوم الدّ ين‪ ،‬وبفضل اطالّع الخميري عليها استطاع‬
‫لغوي متم ّيز‪ .‬وباإلضافة إلى تكوينه الزيتوني‬
‫ّ‬ ‫أن يكون له زاد‬

‫((( الطاهر الخميري‪ :‬مكافحة الثقافة‪ ،‬جمع وتقديم محمد المي‪ ،‬الطبعة‬
‫األولى‪ ،‬تونس‪ ،‬دار سحر‪ 2022،‬ص ‪5‬‬
‫((( الطاهر الخميري‪ :‬يوليوس قيصر‪ ،‬جمع وتقديم محمد المي‪ ،‬الطبعة‬
‫األولى‪ ،‬تونس‪ ،‬دار سحر‪ 2022،‬ص ‪5‬‬

‫‪80‬‬
‫التقليدي‪ ،‬التحق هذا المثقف ّ‬
‫الفذ بالمدرسة الخلدونية*‬ ‫ّ‬
‫لينهل من ينابيعها شتّى العلوم والمعارف‪.‬‬
‫وعلى إثر انتهاء الحرب العالمية األولى‪ ،‬سافر للمغرب‬
‫واستقر بمدينة طنجة حيث تع ّلم اللغة االنجليزية‪ ،‬ومن طنجة‬
‫ّ‬
‫هاجر إلى إنجلترا حيث واصل تعليمه بها‪ .‬وعندما قدم إلى‬
‫مدرسا في‬ ‫واستقر بها‪ ،‬اشتغل أستاذا ّ‬
‫ّ‬ ‫مصر سنة ‪1930/1929‬‬
‫وتعرف على العديد من المثقفين‬‫الجامعة األمريك ّية في القاهرة ّ‬
‫والصحافة‪ .‬كما‬ ‫ّ‬ ‫في ميادين مختلفة على غرار األدب ّ‬
‫والشعر‬
‫جمعته صداقات كثيرة بأسماء معروفة أمثال المصلح أحمد‬
‫أن إقامته في مصر لم تكن طويلة إالّ أنّه‬ ‫وبالرغم من ّ‬
‫ّ‬ ‫أمين‪.‬‬
‫األول بال ّلغة االنجليزية بعنوان‪« :‬زعماء‬
‫تمكّن من تأليف كتابه ّ‬
‫األدب العربي الحديث»‪ ،‬وقد نشره في أواخر ال ّثالثينات من‬
‫القرن الماضي(((‪ ،‬على إثر رجوعه إلنجلترا التّي لم يمكث فيها‬
‫المرة‪ ،‬فسرعان ما انتقل إلى ألمانيا حيث قضى بها‬‫طويال هاته ّ‬
‫أطول فترة من حياته‪ ،‬فتع ّلم اللغة األلمانية ودرس علم النفس‬
‫التطبيقي وعلم االجتماع‪.‬‬
‫وقد أحرز على شهادة الدكتوراه بامتياز عام ‪ 1936‬من‬
‫يدرس بها لمدّ ة ‪ 17‬سنة وتمحور‬
‫جامعة هامبورغ التي بقي ّ‬
‫((( الطاهر الخميري‪ :‬دراسات في اللغة والمصطلح‪ ،‬تحقيق وتقديم حفناوي‬
‫عمايرية‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬تونس‪ ،‬وزارة الثقافة‪ ،‬المركز الوطني لالتصال‬
‫الثقافي‪ ،1998 ،‬ص‪9‬‬
‫*‪ :‬المدرسة الخلدونية تأسست في ‪ 22‬ديسمبر ‪ 1896‬وكانت تسعى إلى نشر‬
‫العلوم العصرية كالتاريخ‪ ،‬الجغرافيا‪ ،‬اللغة الفرنسية خاصة بين طلبة جامع‬
‫الذي يقوم على تعليم تقليدي بحت‪.‬‬ ‫الزيتونة ّ‬

‫‪81‬‬
‫موضوع أطروحته حول‪ »:‬مفهوم العصب ّية في فكر ابن‬
‫خلدون»‪ (((.‬وتعتبر شخص ّيتنا موضوع الدّ رس موسوعة لغو ّية‬
‫فإلى جانب إتقانه العديد من اللغات مثل العربية واالنجليزية‬
‫واأللمانية كما سبق وأشرنا‪ ،‬استطاع العالمة حذق لغات أخرى‬
‫خول له أن يقوم‬
‫كالالتينية والعبرية والفارسية واليونانية وهو ما ّ‬
‫بالمشاركة في إعداد قاموس ألماني‪ -‬عربي‪.‬‬
‫أي‬
‫نسجل للطاهر الخميري ّ‬ ‫ّ‬ ‫ومن الالّفت لإلنتباه أنّنا لم‬
‫كل البعد عن هذا المجال‬ ‫سياسي يذكر‪ ،‬فقد كان بعيدا ّ‬‫ّ‬ ‫نشاط‬
‫ولعل المتأمل في حياته يالحظ انه قد‬ ‫واختار أن يكون مثقفا‪ّ .‬‬
‫والشعوب‬‫تحمس كثيرا وبشكل ملحوظ والفت لقضايا شعبه ّ‬ ‫ّ‬
‫ككل خاصة بعد الحرب العالم ّية الثانية (‪-1939‬‬ ‫المغارب ّية ّ‬
‫‪ ،)1945‬فالتحق بالمكتب العربي بلندن عام ‪ 1946‬وأصبح‬
‫عضوا نشيطا به وقام بمجهود كبير للتّعريف بالقض ّية التّونسية‬
‫كالصحف‪.‬‬ ‫بوسائل اإلعالم ّ‬
‫من هنا أصدر المكتب العربي سنة ‪ ((( 1947‬دوريات‬
‫والمغاربي خصوصا وكانت على‬
‫ّ‬ ‫العربي عموما‬
‫ّ‬ ‫اهتمت ّ‬
‫بالشأن‬ ‫ّ‬
‫صلة وثيقة بالقض ّية التونس ّية وال ّليبية‪ ،‬هذا باإلضافة إلى إقامة‬
‫الملتقيات الصحفية والندوات وإلى غير ذلك من األنشطة‬
‫التّي من شأنها أن تسهم في كسب تضامن الرأي العام العالمي‬
‫مع القضية التونسية بصفة خاصة والقضايا العربية بشكل عام‪.‬‬
‫وتواصل هذا النّشاط على نحو حثيث عندما تمكّن الدكتور‬
‫((( المصدر المذكور سابقا‪ ،‬ص ‪6‬‬
‫((( المصدر ذاته‪ ،‬ص ‪9‬‬

‫‪82‬‬
‫الصلة بمكتب اإلعالم التّونسي بباريس‬
‫الخميري من أن يربط ّ‬
‫الحر‬
‫أسسه جلولي فارس سنة ‪ 1947‬ومكتب الحزب ّ‬ ‫ّ‬
‫الذي ّ‬
‫الدستوري التونسي بالقاهرة على حدّ سواء‪.‬‬
‫وبعد فترة االستقالل‪ ،‬عاد لوطنه واستطاع أن ينخرط‬
‫فذا ومخرجا‬ ‫في الحياة ال ّثقافية بسرعة كبيرة‪ ،‬فقد كان كاتبا ّ‬
‫ال ومترجما مقتدرا اقتحم مسرح شكسبير‬ ‫تلفز ّيا وإذاع ّيا مستق ّ‬
‫العالمي بترجمته لمسرحية «هملت»((( ومسرحية «عطيل»‬
‫سنة ‪ (((،1968‬ومسرحية يوليوس قيصر(((‪ ،‬واضعا بذلك‬
‫مغاربي‬
‫ّ‬ ‫تونسي بل‬
‫ّ‬ ‫بصمته تقريبا في جميع الميادين‪ .‬وهو ّأول‬
‫موجهة‬
‫يكتسح مجال التّرجمة آنذاك‪ ،‬فكانت هذه المسرحيات ّ‬
‫وتم عرضها من قبل الفرقة البلدية‬
‫باألساس للعمل الدرامي‪ّ .‬‬
‫أن ترجمة هذه المسرحيات كانت أقرب‬ ‫يفسر ّ‬
‫بتونس وهو ما ّ‬
‫للعام ّية التونسية منها للترجمة العلمية‪ ،‬فقد أخرجت مسرح ّيات‬
‫وليام شكسبير بطابع تونسي طريف الق استحسان المشاهدين‬
‫والن ّقاد على حدّ سواء‪.‬‬
‫كما نشر العديد من المقاالت في المجالت والصحف مثل‬
‫الصباح والعمل والفكر والخدام وترك وراءه إرثا ثقافيا غزيرا‬
‫تنوع األجناس األدب ّية التي اجترحها الخميري‬
‫ومميزا‪ .‬وأمام ّ‬
‫((( وليام شكسبير‪ :‬هملت‪ ،‬تعريب الطاهر الخميري‪ ،‬جمع وتقديم محمد‬
‫المي‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬تونس‪ ،‬دار سحر ‪2022‬‬
‫((( وليام شكسبير‪ :‬عطيل‪ ،‬تعريب الطاهر الخميري‪ ،‬جمع وتقديم محمد‬
‫المي‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬تونس‪ ،‬دار سحر ‪2022‬‬
‫((( وليام شكسبير‪ :‬يوليوس قيصر‪ ،‬تعريب الطاهر الخميري‪ ،‬جمع وتقديم‬
‫محمد المي‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬تونس‪ ،‬دار سحر ‪2022‬‬

‫‪83‬‬
‫مني حتّى يتسنّى لنا‬
‫الز ّ‬
‫فإنّنا سنعتمد في دراستها على التّسلسل ّ‬
‫تطور فكره ونظرته للمجتمع‪.‬‬‫تت ّبع ّ‬
‫ّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ثانيا‪ّ :‬‬
‫تنوع دراساته عن الثقافة التونسية‪:‬‬
‫تنوعت كتابات الخميري وتأرجحت بين ال ّلغة‬ ‫لقد ّ‬
‫اإلنجليزية وال ّلغة األلمان ّية‪ ،‬أ ّما إنتاجاته بال ّلغة العرب ّية فقد‬
‫مست مجاالت مختلفة‪:‬‬ ‫حظيت بالنّصيب األوفر وكانت غزيرة ّ‬
‫اجتماع ّية وثقاف ّية‪.‬‬
‫‪ .1.2‬صورة المجتمع التّونسي من خالل نماذج من كتبه‪:‬‬
‫يعدّ كتاب مرآة المجتمع مرجعا علم ّيا ها ّما وقد صدر سنة‬
‫(((‪ ،1956‬وهو عبارة عن مجموعة من المقاالت التّي تتم ّيز‬
‫بأسلوب جريء في طرح المواضيع التّي تناولها‪ ،‬فهو محاولة‬
‫منه لكشف بعض اإلخالالت في مجتمعه مع طرح البديل أي‬
‫يسمى بالنقد االجتماعي البنّاء‪.‬‬
‫الرغبة في اإلصالح وهو ما ّ‬
‫وقد جاء هذا الكت ّيب مع بداية االستقالل أي في مطلع‬
‫والموجه كمساهمة منه‬
‫ّ‬ ‫بناء الدولة‪ ،‬فلعب مثقفنا دور المرشد‬
‫لنحت مالمح المواطنة في الشخصية التونسية من خالل رصده‬
‫لمجموعة من المظاهر االجتماعية التّي تحتاج إلى ترشيد فـ‬
‫«هذا الوطن هو بيتنا األكبر‪ ،‬ونحن متفقون على أنّه في حاجة‬
‫شديدة إلى التنظيف والتنظيم فيجب أن نتعاون على تنظيفه‬

‫((( الطاهر الخميري‪ :‬مرآة المجتمع‪ ،‬جمع وتقديم محمد المي‪ ،‬الطبعة‬
‫األولى‪ ،‬دار سحر ‪2023‬‬

‫‪84‬‬
‫وتنظيمه‪ .‬وسبيل ذلك أن نترك االشتغال بالكليات النظرية‪،‬‬
‫ونشتغل بالجزئيات العملية‪ ،‬عوض أن نتحدث عن مشاكل‬
‫خاصة‬
‫ّ‬ ‫الشباب مثال بصورة عامة مبهمة‪ ،‬نبحث في مشكلة‬ ‫ّ‬
‫بطبقة مع ّينة من الشباب التونسي ونسعى إلى التعاون على‬
‫ح ّلها‪ .‬وعوض أن نكتفي بتحفيظ بنات المدارس (النظافة‬
‫مما‬
‫بأن أطرح ما ال يحتاج إليه ّ‬ ‫من اإليمان)‪ ،‬نحاول إقناعه ّن ّ‬
‫ويسهل عمل ّية التّنظيف»(((‪ ،‬وبذلك تتب ّين‬
‫ّ‬ ‫يساعد على النظافة‬
‫لنا مساعي الخميري في إدخال مفاهيم جديدة‪ ،‬يجب على‬
‫المجتمع أن يتبنّاها إذا ما أراد ال ّلحاق بركب المجتمعات‬
‫المتقدّ مة‪.‬‬
‫اهتم كاتبنا اهتماما خاصا بالثقافة وبمفهومها فقد‬ ‫ّ‬ ‫كما‬
‫أصدر سنة ‪ 1957‬كت ّيبا بعنوان «مكافحة الثقافة»(((‪ ،‬وهو‬
‫ثم نشرها‬
‫عبارة عن مجموعة من المقاالت التّي وقع تجميعها ّ‬
‫في الصحافة التونسية‪ .‬وعندما نتأمل في هذا الكتيب سيظهر‬
‫لنا وبشكل واضح الطاهر الخميري المثقف الطالئعي‪ ،‬فهو‬
‫رواد الثقافة الذين كتبوا في هذا المجال‪ ،‬فال ّثقافة تعدّ من‬‫من ّ‬
‫الشائكة التّي تتط ّلب معرفة ودراسة واسعة ّ‬
‫بالشأن‬ ‫المواضيع ّ‬
‫والخارجي أيضا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اخلي‬
‫ّ‬ ‫الدّ‬

‫((( المصدر المذكور سابقا‪ ،‬ص ‪ 11‬و‪12‬‬


‫*‪ :‬الفلكلور هو مجموعة من الفنون كالقصص‪ ،‬الحكايات‪ ،‬األساطير‪،‬‬
‫العادات‪ ،‬التقاليد ويتم نقلها من جيل إلى آخر عن طريق الرواية الشفوية‬
‫((( الطاهر الخميري‪ :‬مكافحة الثقافة‪ ،‬جمع وتقديم محمد المي‪ ،‬الطبقة‬
‫األولى تونس‪ ،‬دار النشر سحر ‪ ،2022‬ص ‪5‬‬

‫‪85‬‬
‫المبسط الضوء على‬‫ّ‬ ‫لذلك س ّلط من خالل هذا الكتيب‬
‫خاصة‪ ،‬وتحيلنا عتبة العنوان‬‫مفهوم ال ّثقافة عا ّمة وثقافة شعبه ّ‬
‫توجهه‪ :‬فماهي الثقافة التّي يريد أن يكافحها ويدحضها‬ ‫على ّ‬
‫وينقدها؟ وفي مقابل ذلك هل طرح لنا البديل أو الخيار أو‬
‫األنموذج األمثل لل ّثقافة التّي يجب أن تكون في بالده؟ وقد‬
‫مست‬ ‫متنوعة ّ‬
‫ضم هذا الكت ّيب ستّة وعشرون مقاال‪ ،‬جاءت ّ‬ ‫ّ‬
‫مجاالت مختلفة‪ ،‬وك ّلها تعكس وبصفة واضحة نظرة الخميري‬
‫العميقة لل ّثقافة التّونس ّية بمختلف جوانبها االيجابية والسلبية‪،‬‬
‫فقدّ م مجموعة من الحلول المستوحاة من أسباب تطور‬
‫المجتمعات الغربية خاصة وأنّه قضى فترة طويلة من حياته‬
‫وتعرف بشكل ج ّيد على هذه المجتمعات وعلى‬ ‫في المهجر ّ‬
‫خصوصياتها وعوامل تقدّ مها‪.‬‬
‫خصص الخميري مجموعة من‬ ‫ّ‬ ‫ومن هذا المنطلق‪،‬‬
‫المقاالت للحديث عن ماهية ال ّثقافة وحاول من خاللها تقديم‬
‫الذي أصبح متداوال‪ ،‬فانتشر بشكل‬ ‫تعريف لهذا المصطلح ّ‬
‫الفت حيث «كثر استعمال كلمة «ثقافة» وكثر سوء استعمالها‬
‫حتّى ارتخت واتسعت فصارت تدّ ل على أشياء كثيرة‪ .‬وال‬
‫وألح عليها بالتحليل والتحديد وعصرت‬ ‫تدّ ل على شيء مع ّين َّ‬
‫عصرا حتّى ج ّفت ويبست وكادت تصير من الكلمات أي يمكن‬
‫(((‬
‫أن يقال فيها حرفيا‪ :‬أنّها قتلت بحثا واستعماال‪».‬‬

‫((( المصدر المذكور سابقا‪ ،‬ص‪9‬‬

‫‪86‬‬
‫وفي هذا الخصوص‪ ،‬قدّ م جملة من التّعاريف في قالب‬
‫من التساؤالت واالستفسارات التي وضعها حتى يدغدغ بها‬
‫فكر القارئ‪ ،‬فاستشهد بمجموعة من المفكّرين الغرب ّيين أمثال‬
‫‪((( Thomas، I.W، B Taylor.E، E Eliot.S.T‬ومن العالم‬
‫العربي أمثال طه حسين ومحمود أمين‪...‬الفتا انتباهنا إلى ّ‬
‫أن‪:‬‬
‫عمم استعمال‬ ‫«الكاتب المصري سالمة موسى هو ّأول من ّ‬
‫عرفها في أحد كتبه األخيرة‬ ‫كلمة ثقافة في لغة الكتابة وقد ّ‬
‫هكذا‪ »:‬الثقافة هي ما نفكر به والحضارة هي ما نعمل به»(((‪.‬‬
‫وما يمكن التّأكيد عليه إذن هو التّنوع واالختالف الكبير‬
‫جل المفكرين في تعاريفهم لهذا المصطلح ّ‬
‫الذي هو عادة‬ ‫بين ّ‬
‫ما يكون وليد بيئته‪ ،‬وهو ما أشار إليه الخميري في مقاله «ثمن‬
‫كل البعد في تلك‬‫أن البالد التونسية بعيدة ّ‬
‫الثقافة» وأكّد على ّ‬
‫الفترة على أن تصنع شعبا مث ّقفا إالّ بنسب محدودة والسبب‬
‫يرجع إلى كونها بلد فالحي محدود اإلمكانات فـ»الثقافة‬
‫بالمقدار ّ‬
‫الذي نريده ال يأتي من الفالحة وإنّما يأتي من الصناعة‬
‫(((‬
‫ويخرج من المعامل وال يخرج من األرض»‬
‫وهنا نرى أنّها دعوة مباشرة لتغيير النظام االقتصادي بالبالد‬
‫فال يمكن لبلد مستهلك أن ننتظر منه الكثير‪ .‬وما يحسب له في‬
‫هذا المقال أنّه لم يكتف بطرح اإلشكال فحسب‪ ،‬بل قدّ م ّ‬
‫الحل‬
‫البديل أيضا حسب رأيه ويتمثل أساسا في السعي إلى تصنيع‬

‫((( المصدر ذاته‪ ،‬ص‪12-11‬‬


‫((( المصدر ذاته‪ ،‬ص ‪10‬‬
‫((( المصدر المذكور سابقا‪ ،‬ص‪21‬‬

‫‪87‬‬
‫ما يحتاجه السوق المحلي كمرحلة أولى مستعينا بجبن تستور‬
‫(((‬
‫مثاال‪.‬‬
‫عالوة على ذلك‪ ،‬يقترح الخميري التّع ّقل العادي أي التخلي‬
‫حيث»إن المتع ّقلين العاد ّيين‬
‫ّ‬ ‫والتخ ّلص من الغرور المفرط‪،‬‬
‫متحررين في أنفسهم غير مثقلين بمعتقدات الشيطنة‬ ‫ّ‬ ‫يكونون‬
‫ّونسي‬
‫ّ‬ ‫الشعب الت‬ ‫وأولئك هم األذكياء ح ّقا‪ (((».‬وهذا ما يحتاجه ّ‬
‫المتزن يستطيع أن‬
‫الغربي‪ ،‬فبالعقل ّ‬
‫ّ‬ ‫تحديدا للحاق بركب العالم‬
‫يتعرف على اآلخر األجنبي وعلى أسباب تقدمه وتطوره‪ّ .‬‬
‫ولعل‬
‫ككل وتأخرهم يعود إلى ذلك الغرور والتّفاخر‬ ‫نكسة العرب ّ‬
‫بالماضي والتّقوقع فيه ورفض التّعرف على اآلخر‪ ،‬فتخلفنا‬
‫هو نتيجة لتفكيرنا‪ ،‬وهو عندما تحدّ ث عن هذا الموضوع كان‬
‫أن من أسباب تطور المجتمعات الغربية هو االنفتاح‬ ‫يدرك ج ّيدا ّ‬
‫وقبول اآلخر والتع ّلم منه والتفوق عليه‪.‬‬
‫ومن الوسائل التي دعا إليها والتّي يجب أن يحذقها‬
‫التونسي هي ال ّلغة‪ ،‬فهي آل ّية من آ ّليات التواصل والتعارف‪،‬‬
‫وتترأس اللغة الفرنسية قائمة تلك اللغات‪ ،‬غير ّ‬
‫أن هذه الوسيلة‬
‫يجب أن تستخدم بشكل ج ّيد فـ «اضطراب التعبير يدّ ل على‬
‫اضطراب التفكير»(((‪ ،‬وبإتقان اللغة حسب رأيه سيسهل ذكر‬
‫من نقل ثقافة المجتمع وستتقلص المسافات فهي همزة وصل‬

‫((( المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪22‬‬


‫((( ‪ : ‬المصدر ذاته‪ ،‬ص ‪24‬‬
‫((( المصدر ذاته‪ ،‬ص ‪28‬‬
‫تيسر عملية التواصل والتعارف‬‫بين األفراد وثقافاتهم‪ ،‬كما أنّها ّ‬
‫على تجارب اآلخرين واكتساب معارفهم وتتبنّى األفضل منها‪.‬‬
‫وفي الواقع‪ ،‬لم يقتصر الخميري في هذا الكت ّيب على‬
‫الجانب النّظري لمفهوم الثقافة فحسب‪ ،‬وإنّما قام في بعض‬
‫من مقاالته التّي أدرجها بدراسة الواقع التونسي‪ ،‬فتحدث عن‬
‫الجرائد المحل ّية وما أصابها من وهن بسبب التقليد وعدم‬
‫تحمل‬
‫ّ‬ ‫المحاولة في االبتكار والتجديد‪ ،‬وطالب بضرورة‬
‫المسؤولية‪ ،‬فتكوين شخصية تم ّيزه عن اآلخر هي من صميم‬
‫عمل الصحفي الجا ّد‪ ،‬كما عاب عليهم استخدام لغة المبالغة‬
‫والتضخيم في مقاالتهم‪.‬‬
‫فضال عن ذلك‪ ،‬استنكر وشجب فشل المرأة المث ّقفة في‬
‫المجتمع التونسي كر ّبة بيت‪ ،‬واصفا إياها بالناجحة اجتماعيا‬
‫والفاشلة أسريا‪ ،‬فهي ال تولي عائلتها االهتمام المطلوب عادة‬
‫من س ّيدة البيت‪ .‬فدعا بذلك إلى ضرورة التّوفيق بين متط ّلبات‬
‫الحياة االجتماعية والحياة األسر ّية في آن واحد‪ ،‬فـ»يوم الزوجة‬
‫المثقفة ينبغي أن يكون أطول من يوم غير المثقفة لما ينتظر منها‬
‫من حسن الترتيب والنظام وتوزيع العمل بالحكمة والعدل‬
‫(((‬
‫على ساعات الليل والنهار»‬
‫السلوكيات المجتمع ّية‪ ،‬ففي‬
‫والحظ الكاتب تغ ّيرا في ّ‬
‫التجسس وهي من العادات‬
‫ّ‬ ‫مقاله «أربعة صور»((( درس ظاهرة‬

‫((( المصدر ذاته‪ ،‬ص ‪38‬‬


‫((( المصدر ذاته‪ :‬ص ‪45‬‬

‫‪89‬‬
‫الس ّيئة التي أصبحت متفش ّية بين الجيران وصارت آفة عمياء‬
‫التونسي‪ ،‬فحرمة الجار أصبحت منتهكة وهو‬ ‫ّ‬ ‫تهدّ د خصوص ّية‬
‫أمر لم نعهده قبال‪ ،‬وهنا نشير إلى تغ ّير القيم والعادات الحميدة‬
‫التّي كانت منتشرة في مجتمعنا قديما ونادى الخميري إلى‬
‫إعادة أحيائها‪.‬‬
‫أن العالقات االجتماعية أصبحت أكثر‬ ‫كما أشار أيضا إلى ّ‬
‫تشويها «فإنّنا لنتخاصم ونتعادى على ماهو أتفه وأسخف من‬
‫أن أحد الخصمين ال يوافق اآلخر‬ ‫ذلك خصومة دينية سببها ّ‬
‫على طريقته في تكوير العمامة‪ ...‬وخصومة سياسية سببها ّ‬
‫أن‬
‫لنحتج على‬
‫ّ‬ ‫أحد الحاضرين ابتسم عندما قال الخطيب‪( :‬إنّنا‬
‫ذلك صارم االحتجاج) فخرج الصوت ضعيفا ال يناسب‬
‫الكالم‪ ...‬وخصومة حزبية سببها أن أحد صاحبي السجن كان‬
‫(((‬
‫يستأثر على صاحبه ببعض ما يأتيه من الهدايا الصغيرة‪»...‬‬
‫وقدّ م الخميري بعض النصائح والتوجيهات إلى الشباب‬
‫التونسي لكي يكونوا مواطنين فاعلين في مجتمعهم مخاطبا‬
‫اياهم‪ :‬أوال يجب عليهم أن «يقلعوا عن العناية بالفلسفة‬
‫واألدب ويكثروا من العناية بالعلم والصناعة‪ .‬اهتموا ّ‬
‫كل‬
‫االهتمام بالعلوم العملية واقتصدوا في االهتمام بالوجودية‬
‫(((‬
‫ومذاهب النقد األدبي‪».‬‬

‫((( المصدر ذاته‪ ،‬ص ‪62‬‬


‫((( ‪ : ‬المصدر ذاته‪ ،‬ص ‪65‬‬

‫‪90‬‬
‫فال ّثقافة ّ‬
‫السائدة اليوم هي ثقافة العلم والتكنولوجيا والعلوم‬
‫الحديثة وفي‪« :‬بعض األوساط األوروبية واألمريكية اليوم‬
‫يقولون فالن دكتور في الفلسفة أو دكتور في األدب‪ .‬كما نقول‬
‫فالن «رجل درويش» أو «رجل نبيه»(((‪ .‬فبناء الحضارة تقوم‬
‫الصناعة من ناحية‪ ،‬وعلى تغ ّير نظرتها‬
‫باألساس على تبني ثقافة ّ‬
‫للزمن من ناحية أخرى‪ ،‬ففي مقاله «غدا إن شاء الله» تحدّ ث‬
‫الخميري عن الفرق بين كلمة «غدا» في المجتمعات الغربية‬
‫فهي التي تعني المستقبل‪« .‬فرجال إسبانيا فهم رجال المستقبل‬
‫لكل شيء «منيانا» أي غدا‪ ،‬فهم قوم ال حاضر لهم‬ ‫يقولون ّ‬
‫(((‬
‫وبالتالي ال وجود لهم‪ .‬فهم بهذا المعنى رجال المستقبل»‬
‫بينما تستعمل كلمة «غدا» للتسويف في المجتمعات العربية‬
‫بشكل عام وفي تونس خاصة‪ ،‬وهي من العادات السيئة‪،‬‬
‫فالتونسي تعود على تأخير كل المسائل مهما كانت أهم ّيتها فهو‬
‫غير واع بأهم ّية الوقت واألمثلة ال تحصى وال تعد على تفننه‬
‫تصور لنا عدم‬‫في إضاعته وقد أورد جملة من المواقف التّي ّ‬
‫اكتراثه بالوقت‪ ،‬بالرغم من أن السرعة هي إحدى أبرز مميزات‬
‫القرن العشرين‪.‬‬
‫باإلضافة إلى ذلك‪ ،‬حاول من خالل هذا الكتيب الكشف‬
‫عن جوانب من الحياة االجتماعية والثقافية‪ ،‬وهي التي تعد‬
‫مسرحا لمجموعة من التناقضات‪ ،‬حيث س ّلط الضوء على عدّ ة‬
‫إخالالت اجتماعية كانت متفش ّية بشكل ملحوظ في المجتمع‪،‬‬
‫((( المصدر ذاته‪ ،‬ص ‪66‬‬
‫((( المصدر ذاته‪ ،‬ص‪75‬‬

‫‪91‬‬
‫كما قام بتقديم بعض الحلول من وجهة نظره التّي يمكن أن‬
‫تكون من أسباب البناء لمستقبل أفضل وهي محاولة واضحة‬
‫وجادة من قبله في اإلصالح واإلرشاد والتقويم‪ ،‬وبذلك‬
‫اضطلع مثقفنا بدور ريادي تنويري بامتياز‪ .‬وجدير بالذكر ّ‬
‫أن‬
‫كاتبنا كانت له بصمته في تحقيق كتاب ابن أبي ضياف‪« :‬أتحاف‬
‫أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد األمان‪».‬‬
‫‪ 2.2‬صورة المجتمع التونسي من خالل كتبات الخميري‬
‫في األدب ّ‬
‫الشعبي‪:‬‬
‫تفرد الخميري وسطع نجمه في األدب الشعبي أو ما‬ ‫لقد ّ‬
‫الذي‬ ‫يسمى الفولكلور* وهو وجه من وجوه التراث الشعبي ّ‬
‫يستعرض التراث الالمادي للشعوب‪ ،‬فدراسة هذا الموروث‬
‫للذاكرة الجماع ّية والخصائص ال ّثقاف ّية‬
‫الثقافي‪ُ ،‬يعدّ رصدا ّ‬
‫واألخالق ّية لشعب ما‪ .‬وهي تُمكّن دارسها من استجالء خبايا‬
‫النّاس النفس ّية وعاداتهم التي يسعى المجتمع إلى نشرها طوعا‬
‫كالقصة‬
‫ّ‬ ‫أو قسرا‪ .‬ويتج ّلى هذا الموروث في العديد من األشكال‬
‫التي تروي عن طريق الفدّ اوي واألغاني واألساطير والشعر‬
‫والسير والمالحم‪ ...‬فاألدب الشعبي هو ذاكرة الشعوب يتم‬
‫توارثها جيل بعد جيل‪.‬‬
‫وقد قام بتأليف كتاب بين سنتي ‪ 1961‬و‪ 1963‬بعنوان‪»:‬‬
‫النص‬
‫ّ‬ ‫قاموس العادات والتقاليد التونسية»(((جمع فيه بين‬

‫((( الطاهر الخميري‪ :‬قاموس العادات والتقاليد التونسية‪ ،‬جمع وتقديم‬


‫محمد المي‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬تونس‪ ،‬دار سحر‪ ،2023 ،‬ص ‪5‬‬

‫‪92‬‬
‫المكتوب والصورة‪ ،‬حفاظا عن الموروث الجماعي‬
‫وتخليدا للذاكرة الشعبية‪ .‬ويندرج هذا الكتاب ضمن دراسة‬
‫انتروبولوجية للمجتمع التونسي‪ ،‬فالعادات والتقاليد هي عبارة‬
‫عن ممارسات للهوية المحل ّية التّي يتم رسمها وفق عناصر‬
‫ثقافية يتبناها الفرد منذ والدته‪ ،‬وتم ّيز هذه العادات مجتمعا‬
‫ما عن اآلخر‪ ،‬فالثقافة المجتمعية هي العمود الفقري للهوية‬
‫الوطنية‪ .‬وبذلك تصبح القيم والتقاليد أعرافا أي قانون جماعي‬
‫منقول عبر األجيال وينبري محل اعتزاز وتفاخر‪.‬‬
‫أن هذا اإلرث الثقافي الذي جمعه في قاموسه‬ ‫وال يخفى عنا ّ‬
‫بغية الحفاظ على التراث المنقول من عادات وتقاليد هي حلقة‬
‫وصل بين الفرد ومجتمعه فحسب إميل دوركايم‪ّ :‬‬
‫«إن العادات‬
‫والتقاليد االجتماعية مفروضة ملزمة‪ .‬وفرضها والتزام األفراد‬
‫بها يشعرهم بالراحة‪ ،‬ويفسر إلزامية الفرد بالقيام بها فالعادات‬
‫(((‬
‫االجتماعية هي العقل الجمعي‪.‬‬
‫وعلى هذا األساس‪ ،‬حاول الخميري في هذا القاموس جمع‬
‫ما يمكن جمعه من األمثال التّي يمكن أن تعد «تراث حضاري‬
‫يتكون من عدة أجيال ويكلف الكثير من التجربة واالختبار‪،‬‬
‫فاطراحها جملة ال بدّ أن يسبب فراغا‪(...‬قاموس العادات‬
‫(((‬
‫والتقاليد التونسية) يحاول سدّ بعض ذلك الفراغ‪».‬‬

‫((( هالة محمد عبد العال‪ :‬المرأة والثقافة‪ ،‬بحث تحليلي في العوامل المؤثرة‬
‫في تكوين شخصية المرأة العربية‪ ،‬المكتب العربي للمعارف‪ ،‬القاهرة‪2018 ،‬‬
‫ص ‪21‬‬
‫((( الطاهر الخميري‪ :‬قاموس‪ ...‬المصدر ّ‬
‫الذي ذكر سابقا‪ ،‬ص ‪13‬‬

‫‪93‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬يكون س ّباقا في الغوص في ثنايا الثقافة العامية‬
‫التونسية خاصة وأنّها كانت تشهد إقصاء من قبل الجامعيين‬
‫والمثقفين‪ ،‬على خالف العالم الغربي الذي تجاوز هذا الصراع‬
‫إن قاموس العادات والتقاليد‬ ‫اللغوي بين العام ّية والفصحى اذ» ّ‬
‫التونسية ال يقصد منه االستهالك المحلي فقط ففي أوروبا‬
‫وأمريكا معاهد علمية ومراكز للبحث في مختلف العلوم‬
‫االجتماعية يهمها هذا العمل وال تراه معروفا وال قليل األهم ّية‪.‬‬
‫ألن العادات والتقاليد عند الشعوب المختلفة يتمم بعضها‬ ‫ّ‬
‫ويفسر بعضها البعض‪ (((».‬وهكذا تتمايز العادات‬ ‫ّ‬ ‫البعض‬
‫والتقاليد بتمايز مجتمعاتها فهي تعبير واضح على اإلرث‬
‫الذي‬ ‫الحضاري لألمم وهو ما أراد إبرازه بإخراجه لهذا الكتاب ّ‬
‫يعكس الموروث الشعبي العريق للمجتمع التونسي‪.‬‬
‫وتعدّ األمثال الشعبية من أبرز أشكال الفولكلور‪ ،‬حيث‬
‫تعكس هذه األمثال التّي عادة ما تكون محفورة في الذاكرة‬
‫الجماعية‪ ،‬ثقافة شعبية لها العديد من الرموز والدّ الالت‪،‬‬
‫وعادة ما تكون الغاية منها اإلرشاد والموعظة كما يمكن أن‬
‫كل جوانب الحياة‬‫تتّسم بالحكمة ف‪ »:‬مضمونها يمتد ليشمل ّ‬
‫اإلنسانية‪ ،‬ويعبر عن خبرة الجماعة في مواجهة المواقف‬
‫كل منهما‪ ،‬وهي من حيث شكلها سهلة‬ ‫المتعدّ دة التّي يواجهها ّ‬
‫يسهل االستشهاد بها عندما يقتضي‬
‫ثم ّ‬ ‫الحفظ واالنتشار‪ ،‬ومن ّ‬
‫(((‬
‫األمر أو الموقف ذلك‪».‬‬

‫((( المصدر ذاته‪ ،‬ص‪6‬‬


‫((( أحمد مرسي‪ :‬األدب الشعبي والعادات والتقاليد الشعبية‪ ،‬المأثورات‬

‫‪94‬‬
‫السمت الذي دأبه في دراسته لهذا الجنس األدبي‬‫وعلى هذا ّ‬
‫يسعنا ان نفهم ّ‬
‫أن اختيار الخميري لم يكن اعتباطيا فقد أراد من‬
‫خالله مؤلفاته في هذا المجال إحياء التراث الالمادي التونسي‬
‫والمحافظة على الذاكرة الشعبية الجماعية وبالتالي ترسيخ‬
‫الهوية التونسية‪ ،‬فجاء كتابه «منتخبات من األمثال العامية‬
‫التونسية» الذي صدر سنة (((‪ 1967‬حيث جمع فيه ما يقارب‬
‫عن ‪ 2500‬مثل شعبي تونسي مرفوقا بجملة من الصور‪ ،‬وهنا‬
‫يجب علينا أن ننوه بأهم ّيتها في توثيق األمثال الشعبية‪ ،‬حيث‬
‫تضطلع بدور إيجابي معرفي في تحويل المثل من لغة منطوقة‬
‫إلى عالمة سيميائية بصرية تعبيرية من شأنها أن تعلق في ذاكرة‬
‫المتأمل وتسهم في إثراء المعنى المضمر‪ ،‬فالذاكرة البصرية‬
‫عادة ما تكون طويلة‪.‬‬
‫وقد بذل الخميري مجهودا يحسب له في هذا العمل‬
‫المضني‪ ،‬إذ وجد فيه ضالته‪ .‬فمن خالل تجميع هذه األمثال‬
‫نص متكامل إلبراز الخصوصية التونسية والهو ّية‬
‫سعى إلى بناء ّ‬
‫المحل ّية «فالمثل يع ّبر في شكله األساسي عن حقيقة مألوفة‬
‫صيغت في أسلوب مختصر سهل‪ ،‬حتّى يتداوله جمهور واسع‬
‫من الناس‪ .‬يع ّبر عن حقيقة عامة أو صدق عام‪ (((».‬وبذلك‬
‫تكون الذاكرة أو الفاكرة الشعبية محفوظة‪ ،‬فهي بمثابة ثروة‬

‫الشعبية‪ ،1986 ،‬ص ‪74‬‬


‫((( الطاهر الخميري‪ :‬دراسات‪ ،‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪10‬‬
‫((( الكسندر كراب‪ :‬علم الفلكلور‪ :‬ترجمة رشدي صالح‪ ،‬القاهرة ‪،1967‬‬
‫ص ‪242‬‬

‫‪95‬‬
‫وطنية يجب أن نحافظ عليها من خالل تحويلها من أقوال‬
‫شفوية إلى مأثورات مكتوبة‪.‬‬
‫وقد سبق وأن أشرنا إلى أنّه أولى عناية خاصة باألدب‬
‫الشعبي الذي يعدّ مرآة عاكسة للواقع التونسي بمختلف طبقاته‪.‬‬
‫ثالثا‪ -‬من المركز إلى الهامش‪ :‬ال ّلهجة العامية التّونسية من‬
‫خالل دراسات الخميري‪:‬‬
‫كان الطاهر الخميري رائدا في دراسته للغة والمصطلحات‬
‫خاصة وأنّه أتقن العديد من اللغات كما سبق وان أشرنا إلى‬ ‫ّ‬
‫ذلك‪ ،‬فقد كان مولعا بهذا المجال إليمانه الراسخ ّ‬
‫بأن اللغة‬
‫شأنها أن تكون رافدا من الروافد المهمة التي تسمح بقبول‬
‫اآلخر والتعرف عليه وال نعني بذلك االنصهار والذوبان في‬
‫ثقافته‪ .‬فكاتبنا وبالرغم من تمكنه وحذقه لعدد ال يستهان به من‬
‫اللغات‪ ،‬إال أنه كان نصيرا للغة العربية‪ ،‬لغة وطنه‪ ،‬أما «اللغات‬
‫األجنبية فيكفي في نظره إجادة لغة منها لفتح آفاق أرحب أمام‬
‫متعلمها وال حاجة لمعرفة العديد من اللغات األجنبية إذ أنّها ال‬
‫تفيد إال لمن أراد أن يحترف مهنته»(((‪.‬‬
‫ويعتبر مثال المثقف الضليع والمتمرس والمتملك للغة‬
‫العربية‪ ،‬إذ كانت له جملة من المؤاخذات في استعمالها‬
‫ودونها في عدد من مقاالته مثال مقال بعنوان «أسترها يا بني»‬
‫كشف من خالله أن كثرة استعمال اللغة العربية الفصحى» ‪...‬‬
‫يميتها وال يحييها ألنّه من األسباب التي تجعل الناس ينامون‬
‫((( الطاهر الخميري‪ :‬دراسات‪ ،...‬المصدر ّ‬
‫الذي ذكر سابقا‪ ،‬ص ‪11‬‬

‫‪96‬‬
‫أثناء الدروس والمحاضرات ويقفلون الراديو بكثرة وال يتمون‬
‫(((‬
‫قراءة األبحاث في الجرائد والمجالت‪».‬‬
‫كما أراد أن يجد خيطا ناظما بين ما هو مكتوب وماهو بين‬
‫متداول أي بين الفصحى والعامية ويعزى السبب إلى نشوب‬
‫صراع حا ّد آنذاك بين أنصار ال ّلغة العرب ّية الفصحى وأنصار‬
‫العام ّية فكانت الغلبة ألنصار الفصحى إذ استطاع هؤالء إخماد‬
‫صوت أديب وروائي كبير مثل البشير خر ّيف‪ .‬وقد حاول الطاهر‬
‫حل لمعضلة الفصحى والعام ّية ويتم ّثل أساسا‬ ‫الخميري إيجاد ّ‬
‫في تبسيط العرب ّية الفصحى و»تفصيح» ال ّلهجة العام ّية‪ ،‬وذلك‬
‫لتقليص الهوة بين لغة الكتابة ولغة التخاطب‪ ،‬وما يكون ذلك‬
‫إال بـ»اإلكتفاء فيها بصيغة واحدة تكون هي الصيغة المستعملة‬
‫فعال في القرآن والحديث أو النصوص العربية المعتمدة وإال‬
‫فالصيغة األقرب إلى المشهور في لغة التخاطب»(((وبالتالي‬
‫نستطيع التقريب بين ما هو مكتوب ومسموع‪ ،‬كما تلعب‬
‫الصحافة واإلذاعة حسب اعتقاده دور مهم في تطوير اللغة‬
‫والتقريب بين لغة الحديث ولغة الكتابة‪.‬‬
‫عالوة على ذلك‪ ،‬يمكننا اإلشادة بدور األدب الشعبي‬
‫كجنس أدبي جمع بين ثقافتين مختلفتين‪ :‬ثقافة النخبة وثقافة‬
‫العامة‪ ،‬باعتباره مقوم من مقومات الهوية الوطنية‪ ،‬فدفاع‬
‫الخميري عن «الفلكور» كما سبق وأن رأينا وإضفاء الطابع‬
‫العلمي عليه بتجميعه في كتب وقواميس ما هو إال اعتراف‬
‫((( الطاهر الخميري‪ :‬مكافحة ‪ ،..‬المصدر الذي ذكر سابقا‪ ،‬ص ‪36‬‬
‫((( الطاهر الخميري‪ :‬دراسات‪ ،‬المصدر ذاته‪ ،‬ص ‪12‬‬

‫‪97‬‬
‫بقيمة هذا الموروث والتصالح معه‪ ،‬وإبراز خصوصيته خاصة‬
‫وأنّه وإلى سنوات ظل يعاني اإلقصاء من قبل عدد ال بأس به من‬
‫المثقفين‪ .‬أ ّما الخميري المثقف المخضرم فقد وجد ما يبحث‬
‫عنه من خالل «علمنته» فيصبح علما يبني عن طريق مقومات‬
‫خاصة به ويدون بطريقه يصبح محفوظا في الذاكرة الجمعية‪.‬‬
‫ونجد أنّه في بعض كتاباته راوح بين اللغة العربية الفصحى‬
‫واللغة العامية كـ‪ :‬وسألت موظفا عن بعض أوراقي فقال‪:‬‬
‫«تفقدني غدوة» ثم نظرت فرأيت أوراقي أمامه»‪ ،‬أو قوله «نحن‬
‫قوم نعرف ان الشيء اذا كثر(يمصاط)»‪.‬‬
‫وقد قام بدراسة اللهجة التونسية وقارنها بنظيراتها في بعض‬
‫والمعرب‬
‫ّ‬ ‫البلدان األخرى وهو ما سماه «المعرب والدخيل»‬
‫هو ماال نجد له أصل في اللغة العربية ومع ذلك يصبح عربيا فـ»‬
‫العرب المستعربة»‪ :‬قوم من العجم دخلوا في العرب فتكلموا‬
‫وحاكو هيئاتهم وليسوا بصرحاء فيهم‪ ،‬فصاروا عربا‬
‫ْ‬ ‫بلسانهم‪،‬‬
‫وليس أصلهم كذلك‪ (((».‬أما الدخيل فهي الكلمات األجنبية‬
‫التي دخلت للغة العربية دون تغير‪ ،‬فهي تنطق كما في لغتها‬
‫األصلية‪ ،‬وهكذا نستطيع أن نقول أن الفرق بينهما هو معرب‬
‫المعربة تكون‬
‫ّ‬ ‫وما هو دخيل هو طريقة النطق‪ ،‬فالكلمات‬
‫لها أوزان عربية أما الدخيلة فتحافظ هذه المصطلحات على‬
‫أوزانها وتنطق كما هي‪.‬‬

‫((( رشيد عبد الرحمن العبيدي‪ :‬األزهري في كتابه تهذيب اللغة‪ ،‬أطروحة‬
‫دكتوراه‪ ،‬القاهرة ‪.1998‬‬
‫التونسي‬
‫ّ‬ ‫وفي الحقيقة‪ ،‬شهدت لغة التّخاطب للمواطن‬
‫مرت بهذا القطر‪ ،‬فقد‬‫بتطور الحضارات والثقافات التّي ّ‬
‫تطورا ّ‬ ‫ّ‬
‫استقبلت تونس شعوبا بألسنة وحضارات وثقافات مختلفة‪،‬‬
‫نتج عنها تواصل واحتكاك وتثاقف‪ ،‬إذ وجد التّونسي نفسه‬
‫يتك ّلم لغتهم بطريقة واعية أو غير واعية حتى وإن لم يتقنها‪،‬‬
‫فأصبحت بعض الكلمات الوافدة متداولة بشكل ملحوظ في‬
‫الشارع التونسي‪ ،‬ويعتبر هذا «االقتراض اللغوي» وهو نقل‬
‫كلمات ومصطلحات من لغتها األم ودمجها مع اللغة المحلية‬
‫‪-‬ظاهرة عامة نجدها تقريبا في كل اللغات‪-‬أ ّما أسبابها فهي‬
‫ّ‬
‫ولعل أهمها هو التباهي بهذه األلفاظ غير المألوفة‪.‬‬ ‫متعددة‬
‫فـ»االقتراض اللغوي هو أحد المؤشرات على الصالت‬
‫الحضارية التّي قامت بصورة مباشرة أو غير مباشرة بين تونس‬
‫نسميه بالمثاقفة على مستوى‬
‫وغيرها من البلدان وهو ما صرنا ّ‬
‫الحياة اليومية»(((‪.‬‬
‫وعلى هذا األساس‪ ،‬أولى الخميري أهمية ذات بال لما‬
‫«المعرب والدّ خيل» ومستنده في ذلك ّ‬
‫أن في «العام ّية‬ ‫ّ‬ ‫أسماه‬
‫التّونسية عدد كبير من الكلمات األجنبية‪ ،‬بعضها يستعمل في‬
‫موضعه وبعضها يستعمل في غير موضعه إذ لم يعرف معناه‬
‫األصلي وطرق استعماله في اللغة المأخوذة منها»(((‪ ،‬فجمع‬
‫حوالي مائتين وستة كلمة دخيلة على اللسان التونسي وحاول‬

‫((( الطاهر الخميري‪ :‬دراسات‪ ،‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪14‬‬


‫((( المصدر ذاته‪ ،‬ص ‪93‬‬

‫‪99‬‬
‫شرحها وإيجاد مرادفها باللسان العربي وقد تنوعت هاته‬
‫الكلمات‪.‬‬
‫تعسف ال ّلغة الفرنسية على تلك الكلمات‪ ،‬هو أمر‬ ‫ّ‬
‫ولعل ّ‬
‫طبيعي‪ ،‬فقد ظلت البالد التونسية تحت وطأة االستعمار‬
‫الفرنسي لردح من الزمن‪ ،‬وأما تبني كلمات من هذه اللغة‬
‫أو التحدث بها كليا فهو أمر عادي‪ ،‬خاصة إن لم تطغ لغة‬
‫تعود عليها‪ ،‬ومن ذلك نورد‬
‫على األخرى‪ ،‬فاللسان التونسي ّ‬
‫جملة من المفردات التونسية المشتقة من اللغة الفرنسية نحو‬
‫«السرسي ‪: Sursis‬وقف أو تأجيل الحكم» و»سربى‪،‬يسربي‪:‬‬
‫كل شي بالبرشة‪ ،‬أ ّما النظام والتسربيس ما عندهمش‪ ،‬سربى‪،‬‬‫ّ‬
‫يسربي من ‪ .»Servir‬ومع ذلك نجد حضورا للغة اإلسبانية‬
‫من ذلك كلمة «قربيطة» و«القرباطة ج قرابط من ‪Gorbata‬‬
‫بمعنى رباط الرقبة» واإليطالية من قبيل «سبيسرية ‪Speziena‬‬
‫صيدلية»‪ ،‬وكلمة «سرد بمعنى بارد» والفارسية مثل»سطل»‬
‫وأصلها «ستل» واليونانية القديمة((( كـ«جنس‪ ،‬زنس‪ ،‬هك‬
‫تكون أعمال الجنوس يجيك يزور يبني دار مقام» ونذكر من‬
‫التركية((( على سبيل المثال «اليوغرت ‪ Yugurt‬بمعنى اللبن‬
‫الرائب»‪.‬‬
‫جل المجاالت في‬‫مست هذه الكلمات الدّ خيلة تقريبا ّ‬‫وقد ّ‬
‫الحياة اليومية سواء االقتصادية أو االجتماعية‪ ،‬وعادة ما كانت‬
‫تستخدم لمزيد التوضيح والتصويت مع الخفة والسهولة في‬
‫((( المصدر ذاته ص ‪114‬‬
‫((( المصدر ذاته ص ‪148‬‬

‫‪100‬‬
‫النطق‪ ،‬وكانت الجرائد منبرا منيرا استخدمه الطاهر الخميري‬
‫للتعريف بهذه المصطلحات ومنها‪ :‬العمل والصباح والحاج‬
‫ضمت ركنا قارا يعنى‬
‫كلوف وخاصة جريدة «الخدام»‪ ...‬حيث ّ‬
‫بالتعريف بأصول وجذور الكلمات األجنبية المنتشرة على‬
‫لسان التونسي‪.‬‬
‫بأن دراسة الخميري‬ ‫تأسيسا على ما سبق‪ ،‬يمكن أن نجزم ّ‬
‫خاصا ّ‬
‫بكل‬ ‫ّ‬ ‫للغة جاءت شاملة‪ ،‬إذ أولى الباحث اهتماما‬
‫ماله عالقة باألدب الشعبي من أمثلة ومصطلحات وتعريب‬
‫رواد‬
‫الكلمات الدخيلة و»تونستها»‪ ،‬كما اختار أن يكون أحد ّ‬
‫الثقافة التونسية وجهابذتها في هذا المجال‪ .‬فقد اثبت الطاهر‬
‫الخميري المثقف لمناصريه ومعارضيه على حدّ سواء جدارته‬
‫بامتياز تاركا بصمة واضحة وجل ّية في دراسة اللغة العربية‬
‫الفصحى‪ ،‬فهو وكما رأينا متمكن وضليع بها‪ ،‬إذ أورد ما يقارب‬
‫عن مائتين وعشرون كلمة عربية فصحى((( وردت في جريدة‬
‫العمل حيث خصص ركنا أسبوع ّيا كمساهمة منه في الدفاع عن‬
‫اللغة العربية‪ .‬وأراد أن يظهر في هذا الركن جمالية اللغة العربية‬
‫وغناها من خالل إيجاد تفاسير لها باللغة الفرنسية واالنجليزية‬
‫من جهة ومن جهة أخرى حتى تعم الفائدة في أوساط قراءه‪.‬‬
‫كما تبدّ ت موسوع ّيته من خالل تنوع مصادره في التّفسير فتراه‬
‫شاعرا وأدبيا ومحاضرا ومثقفا‪ ،‬ينتقل تارة بين أسلوب ميخائيل‬
‫نعيمة الواقعي وطورا بين أسلوب الجاحظ االستطرادي‪ .‬دون‬

‫((( المصدر ذاته صفحات ‪ 152‬إلى صفحة ‪.236‬‬

‫‪101‬‬
‫أن نغفل عن التّأثير الكبير البن رشيق وسهيل ادريس والطبري‬
‫وغيرهم في تشكيل وصقل أسلوبه ال ّلغوي في الكتابة‪.‬‬
‫بكل سالسة وتمكّن‪ ،‬إذ حضر المعجم‬ ‫والقائمة تطول ّ‬
‫االنجليزي والفرنسي في شرحه للمفردات العربية وهو ما يدل‬
‫على حذقه للغات األجنبية‪ .‬فقد م ّثل هذا الركن الذي خصصه‬
‫الصحف ّية‬
‫الخميري عالمة مضيئة لبعث روح جديدة في الكتابة ّ‬
‫وإثراء الحياة الثقافية واألدبية في تلك الفترة بأسلوب علمي‬
‫دقيق وواضح‪ ،‬مسكونا باللغة العربية ومدافعا شرسا عليها‪.‬‬

‫الخ ـ ــاتـ ـم ــة‬


‫في خاتمة هذا البحث وبعد جولة في ثنايا كتابات الدكتور‬
‫الطاهر الخميري‪ ،‬يمكن لنا أن نؤكّد على أنّه ال يزال وإلى اليوم‬
‫الذي تحتاجه تونس والقادر على‬ ‫أنموذجا للمث ّقف الحصيف ّ‬
‫تعزيز االتجاه التقدمي للثقافة التونسية‪.‬‬
‫ويمكننا القول إنّه قد ُو ّفق إلى حدّ كبير في صياغة مشروع‬
‫تفرد‪ ،‬مكّنه من التّجديد ال ّث ّ‬
‫قافي ال س ّيما في مجال‬ ‫ثقافي ُم ّ‬
‫ّ‬
‫ال ّلسان ّيات واألنثروبولوجيا‪.‬‬
‫الضوء‬ ‫قافي الذي حاولنا تسليط ّ‬ ‫أن هذا اإلرث ال ّث ّ‬
‫والواقع ّ‬
‫دونة يشتغل عليها‬ ‫برقي‪ ،‬يمكن أن ُيم ّثل ُم ّ‬
‫ّ‬ ‫على ثناياه بشكل‬
‫الشعوب ال ّثقاف ّية‬
‫والمؤرخون ُبغية دراسة خصائص ّ‬ ‫ّ‬ ‫الباحثون‬
‫أهميتها مازالت‬ ‫واألنثروبولوج ّية‪ .‬وهذه الحقول المعرف ّية على ّ‬
‫في حاجة إلى جهود بحث ّية لمزيد الحفر والتّنقيب‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫و ُيمكن أن نجزم ّ‬
‫أن التّراث الخميري رغم البحوث التي‬
‫وصلتنا يحتاج إلى مزيد االشتغال عليه للكشف عن خصائص‬
‫الهو ّية ّ‬
‫والشخص ّية التونس ّية وسماتها‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫ا�ل ف�هرس‬

‫الدكتور الطاهر الخميري المثقف األنثروبولوجي‪3.............‬‬

‫محمد المي‬

‫إسهام األثروبولوجيا وهواجس التنوير في أعمال الطاهر‬

‫الخميري ‪7.....................................................‬‬

‫سليمة لوكام‬

‫الدكتور ال ّطاهر الخميري أنتروبولوج ّيا‪23.......................‬‬

‫مراد الضويوي‬

‫جدل الثقافة بين الخصوصية والكونية في فكر الدكتور‬

‫الطاهر الخميري‪ :‬في السردية التاريخية للهوية‪35..............‬‬

‫رشيد الزواوي‬

‫الطاهر الخميري سيرة زيتوني أنثروبولوجي منسي ‪47...........‬‬

‫بوقرة‬
‫ّ‬ ‫عبدالجليل‬

‫ال ّطاهر الخميريالتّرجمة للمسرح‪ :‬إبداع على إبداع ‪53...........‬‬

‫فوزية بلحاج ّ‬
‫المزي‬ ‫ّ‬

‫‪105‬‬
‫طاهر الخميري ‪ :‬نزعة اإلصالح االجتماعي ‪61.................‬‬

‫زهير الذوادي‬

‫ال ّطاهر الخميري‪:‬مث ّقفا تونس ّيا طالئع ّيا ‪79.......................‬‬

‫د‪ .‬أشواق عوي‬

‫‪106‬‬

You might also like