Download as doc, pdf, or txt
Download as doc, pdf, or txt
You are on page 1of 10

‫هل يمكن تصور وجود أفكار خارج إطار اللغة ؟طرح المشكلة ‪:‬لقد شغلت العالقة بين اللغة

والفكر بال فالسفة اللغة وعلمائها ؛ فاعتقد البعض منهم أن هناك تطابق مطلق بينهما ‪ ،‬والوجود ألفكاٍر ال تستطيع اللغة التعبير عنها ‪ ،‬واعتقد آخرون أن هناك انفصال بين اللغة‬
‫والفكر ‪ ،‬مما يلزم عنه إمكان تواجد أفكار تعجز اللغة عن التعبير عنها وتوصيلها للغير ‪ ،‬فهل فعال يمكن أن يكون هناك فكارا بدون لغة ؟ بمعنى آخر ‪ :‬هل يمكن ان توجد افكار خارج حدود اللغة ؟محاولة حل المشكلة ‪:‬أ‪ -‬عرض االطروحة ‪:‬يرى بعض المفكرين من أنصار‬
‫االتجاه الثنائي ‪ ،‬أنه ال يوجد تطابق وتناسب بين عالم االفكار وعالم االلفاظ فالفكر اسبق من اللغة واوسع منها ‪ ،‬وأن ما يملكه الفرد من افكار ومعان يفوق بكثير ما يملكه من الفاظ وكلمات ‪ ،‬مما يعني انه يمكن أن تتواجد افكار خارج إطار اللغة ‪ .‬ويدافع عن هذه الوجهة من‬
‫النظر الفالسفة الحدسانيون أمثال الفرنسي " هنري برغسون " والرمزيون من االدباء والفنانين ‪ ،‬وكذا الصوفية الذين يسمون أنفسهم أهل الباطن والحقائق الكبرى ‪.‬ب‪ -‬الحجة ‪:‬وما يؤكد ذلك ‪ ،‬أن االنسان كثيرا ما يدرك كمًا زاخرًا من المعاني واالفكار تتزاحم في ذهنه ‪ ،‬وفي‬
‫المقابل ال يجد اال الفاظا محدودة ال تكفي لبيان هذه المعاني واالفكار‪ .‬كما قد يفهم أمرا من االمور ويكّو ن عنه صورة واضحة بذهنه وهو لم يتكلم بعد ‪ ،‬فإذا شرع في التعبير عما حصل في فكره من افكار عجز عن ذلك ‪ .‬كما قد يحصل أننا نتوقف – لحظات – أثناء الحديث أو‬
‫الكتابة بحثا عن كلمات مناسبة لمعنى معين ‪ ،‬أو نقوم بتشطيب أو تمزيق ما نكتبه ثم نعيد صياغته من جديد ‪ ...‬و في هذا المعنى يقول " برغسون " ‪ « :‬إننا نملك افكارا اكثر مما نملك اصواتا » ‪.‬ثــم إن االلفاظ ُوضعت – أصال – للتعبير عما تواضع واصطلح عليه الناس بغية‬
‫التواصل وتبادل المنافع ‪ ،‬فهي إذن ال تعبر اال على ما تواضع عليه الناس واصطلحوا عليه ( أي مايعرف بالناحية االجتماعية للفكر ) ‪ ،‬وتبقى داخل كل إنسان جوانب عميقة خاصة وذاتية من عواطف ومشاعر ال يستطيع التعبير عنها ‪ ،‬لذلك فاللغة عاجزة عن نقل ما نشعر به‬
‫لالخرين ‪ ،‬يقول " فاليري " ‪ « :‬أجمل االفكار ‪ ،‬تلك التي ال نستطيع التعبير عنها »‪ .‬ولهذا تـّم ابتكار وسائل تعبير بديلة عن اللغة كالرسم والموسيقى ‪..‬وفضال عن ذلك ‪ ،‬فإن الفكر فيض متصل من المعاني في تدفق مستمر ‪ ،‬أشبه بالسيل الجارف ال يعرف االنسقام او‬
‫التجزئة ‪ ،‬وهو نابض بالحياة والروح أي " ديمومة " ‪ ،‬أما ألفاظ اللغة فهي سلسلة من االصوات منفصلة ‪ ،‬مجزأة ومتقطعة ‪ ،‬وال يمكن للمنفصل ان يعبر عن المتصل ‪ ،‬والنتيجة أن اللغة تجمد الفكر في قوالب جامدة فاقدة للحيوية ‪ ،‬لذلك قيل ‪ « :‬االلفاظ قبور المعاني » ‪ .‬جـ‪-‬‬
‫النقد ‪:‬لكن القول ان الفكر اوسع من اللغة واسبق منها ليس اال مجرد افتراض وهمي ‪ ،‬فإذا كنا ندرك معاٍن ثم نبحث لها عن ألفاظ ما يبرر اسبقية الفكر على اللغة ‪ ،‬فإن العكس قد يحدث أيضا حيث نردد الفاظ دون حصول معاٍن تقابلها وهو ما يعرف في علم النفس بـ " الببغائية‬
‫" أفال يعني ذلك أن اللغة اسبق من الفكر ؟ وحتى لو سلمنا – جدال – بوجود اسبقية الفكر على اللغة فإنها مجرد اسبقية منطقية ال زمنية ؛ فاالنسان يشعر أنه يفكر ويتكلم في آٍن واحد ‪ .‬والواقع يبين ان التفكير يستحيل ان يتم بدون لغة ؛ فكيف يمكن ان تمثل في الذهن تصورات‬
‫ال اسم لها ؟ وكيف تتمايز االفكار فيما بينها لوال اندراجها في قوالب لغوية ؟ ثم لو كانت اللغة عاجزة على التعبير عن جميع افكارنا فالعيب قد ال يكون في اللغة ‪ ،‬بل في مستعملها الذي قد يكون فاقد لثروة لغوية تمكنه من التعبير عن افكاره ‪.‬أ‪ -‬نقيض االطروحة ‪:‬يعتقد معظم‬
‫فالسفة اللغة وعلمائها من انصار االتجاه االحادي ‪ ،‬أن هناك تناسب بين الفكر واللغة ‪ ،‬وعليه فعالم االفكار يتطابق مع عالم االلفاظ ‪ ،‬أي ان معاني االفكارتتطابق مع داللة االلفاظ ‪ ،‬وال وجود ألفكار خارج اطار اللغة ‪ ،‬والى ذلك يذهب الفليسوف الفرنسي " ديكارت "‬
‫وااللماني " هيجل " والمفكر االنجليزي " هاملتون " وعالم النفس االمريكي " واطسن " ‪ ،‬الذين يؤكدون جميعهم أن بين اللغة والفكر اتصال ووحدة عضوية وهما بمثابة وجهي العملة النقدية غير القابلة للتجزئة ‪ ،‬باعتبار « ان الفكر لغة صامتة واللغة فكر ناطق ‪» .‬ب‪-‬‬
‫الحجة ‪:‬وما يثبت ذلك ‪ ،‬أن المالحظة المتأملة وعلم النفس يؤكدان أن الطفل يولد صفحة بيضاء خاليا تماما من أي افكار ‪ ،‬ويبدأ في اكتسابها بالموازاة مع تعلمه اللغة ‪ ،‬أي أنه يتعلم التفكير في نفس الوقت الذي يتعلم فيه اللغة ‪ .‬وعندما يصل الفرد الى مرحلة النضج العقلي فإنه‬
‫يفكر باللغة التي يتقنها ‪ ،‬فاالفكار ال ترد الى الذهن مجردة ‪ ،‬بل مغلفة باللغة التي نعرفها ‪ » ،‬فـ« مهما كانت االفكار التي تجيئ الى فكر االنسان ‪ ،‬فإنها ال تستطيع ان تنشأ وتوجد اال على مادة اللغة » ‪ .‬وأنه حسب " هيجل " أي محاولة للتفكير بدون لغة هي محاولة عديمة‬
‫الجدوى ‪ ،‬فاللغة هي التي تعطي للفكر وجده االسمى واالصح ‪ .‬ثـم إننا ال نعرف حصول فكرة جديدة في ذهن صاحبها اال اذا تميزت عن االفكار السابقة ‪ ،‬وال يوجد ما يمايزها اال عالمة لغوية منطوقة أو مكتوبة ‪.‬كما ان االفكار تبقى عديمة المعنى في ذهن صاحبها ولم تتجسد‬
‫في الواقع ‪ ،‬وال سبيل الى ذلك اال الفاظ اللغة التي تدرك ادراكا حسيا ‪ ،‬فاللغة – إذن – هي التي تبرز الفكر من حيز الكتمان الى حيز التصريح ‪ ،‬ولوالها لبقي كامنا عدما ‪ ،‬لذلك قيل ‪ « :‬الكلمة لباس المعنى ولوالها لبقي مجهوال ‪ » .‬والنتيجة ان العالقة بين اللغة والفكر بمثابة‬
‫العالقة بين الروح بالجسد ‪ ،‬االمر الذي جعل " هاملتون " يقول ‪ « :‬إن االلفاظ حصون المعاني ‪ » .‬جـ‪ -‬النقد ‪:‬لكن ورغم ذلك ‪ ،‬فإنه ال وجود لتطابق مطلق بين الفكر واللغة ‪ ،‬بدليل ان القدرة على الفهم تتفاوت مع القدرة على التبليغ ‪ ،‬من ذلك مثال أنه اذا خاطبنا شخص بلغة ال‬
‫نتقنها فإننا نفهم الكثير مما يقول ‪ ،‬لكننا نعجز عن مخاطبته بالمقدار الذي فهمناه ‪ ،‬كما أن االدباء ‪ -‬مثال ‪ -‬رغم امتالكهم لثروة لغوية يعانون من مشكلة في التبليغ ‪ .‬التركيب ‪:‬في الحقيقة أن العالقة بين اللغة والفكر عالقة ذات تاثير متبادل ‪ ،‬فكالهما يؤثر في اآلخر ويتأثر به ‪،‬‬
‫لكن ورغم ذلك فإنه ال وجود ألفكار ال تستطيع اللغة أن تعبر عنها ‪ ،‬كما أنه – في نفس الوقت – ال وجود أللفاظ ال تحمل أي فكرة او معنى حل المشكلة ‪:‬وهكذا يتضخ انه ال يمكن للفكر ان يتواجد دون لغة وال لغة دون فكر ‪ ،‬على االعتبار ان االنسان بشكل عام يفكر بلغته‬

‫ويتكلم بف‪ ،‬وهذا يعني في النهاية أنه يستحيل تصور وجود افكار خارج اطار اللغة ‪.‬‬

‫المقالة الثالثة‪ :‬دافع عن االطروحة القائلة ‪ " :‬أن اللغة منفصلة عن الفكر وتعيقه " االستقصاء بالوضطرح المشكلة ‪:‬تعد اللغة بمثابة الوعاء‬
‫الذي يصب فيه الفرد أفكاره ‪ ،‬ليبرزها من حيز الكتمان الى حيز التصريح ‪ .‬لكن البعض أعتقد ان اللغة تشكل عائقا للفكر ‪ ،‬على اعتبار‬
‫أنها عاجزة عنإحتوائه والتعبير عنه ‪ ،‬مما يفترض تبني االطروحة القائلة ان اللغة منفصلة عن الفكر وتعيقه ‪ ،‬ولكن كيف يمكن الدفاع عن‬
‫هذه االطروحة ؟ محاولة حل المشكلةأ ‪ -‬عرض االطروحة كفكرة ‪:‬يرى أنصار االتجاه الثنائي ‪ ،‬أن هناك انفصال بين الفكر واللغة ‪ ،‬و‬
‫أنه ال يوجد تناسب بين عالم االفكار وعالم االلفاظ ‪ ،‬حيث ان ما يملكه الفرد من أفكار و معان يفوق بكثير ما يملكه من الفاظ وكلمات ‪،‬‬
‫مما يعني ان اللغة ال تستطيع ان تستوعب الفكر او تحتويه ‪ ،‬ومن ثــــّم فهي عاجزة عن التبليغ او التعبير عن هذا الفكر ‪.‬ب ‪ -‬مسلمات‬
‫االطروحة ‪ :‬الفكر أسبق من اللغة و أوسع منها ‪ ،‬بحيث ان االنسان يفكر بعقله قبل ان يعبر بلسانه ‪.‬ج – الحجة ‪:‬كثيرا ما يشعر االنسان‬
‫بسيل من الخواطر واالفكار تتزاحم في ذهنه ‪ ،‬لكنه يعجز عن التعبير عنها ‪ ،‬النه ال يجد اال الفاظا محدودة ال تكفي لبيانها ‪ ،‬وعلى هذا‬
‫االساس كانت اللغة عاجزة عن إبراز المعاني المتولدة عن الفكر ابرزا تاما وكامال ‪ ،‬يقول أبو حيان التوحيدي ‪ " :‬ليس في قوة اللغة ان‬
‫تملك المعاني " ويقول برغسون ‪ " :‬اننا نملك افكارا اكثر مما نملك اصواتا "‬
‫‪ -‬اللغة ُو ضعت اصال للتعبير عما تواضع او اصطلح عليه المجتمع بهدف تحقيق التواصل وتبادل المنافع ‪ ،‬وبالتالي فهي ال تعبر اال على‬
‫ما تعارف عليه الناس ( أي الناحية االجتماعية للفكر ) ‪ ،‬ويبقى داخل كل فرد جوانب عميقة خاصة وذاتية من عواطف ومشاعر ال‬
‫يستطيع التعبير عنها ‪ ،‬لذلك كانت اللغة عاجزة عن نقل ما نشعر به لآلخرين ‪ ،‬يقول فاليري ‪ :‬أجمل االفكار ‪ ،‬تلك التي ال نستطيع التعبير‬
‫عنها ‪ -.‬إبتكار االنسان لوسائل التعبير بديلة عن اللغة كالرسم و الموسيقى ما يثبت عجز اللغة عن استيعاب الفكر و التعبير عنه ‪.‬‬
‫‪ 2‬تدعيم االطروحة بحجج شخصية ( شكال ومضمونا ) ‪:‬تثبت التجربة الذاتية التي يعيشها كل انسان ‪ ،‬أننا كثيرا ما نعجز عن التعبير عن‬
‫كل مشاعرنا وخواطرنا وافكارنا ‪ ،‬فنتوقف اثناء الحديث او الكتابة بحثا عن كلمة مناسبة لفكرة معينة ‪ ،‬أو نكرر القول ‪ " :‬يعجز اللسان‬
‫عن التعبير " ‪ ،‬او نلجأ الى الدموع للتعبير عن انفعاالتنا ( كحاالت الفرح الشديد ) ‪ ،‬ولو ذهبنا الى بلد اجنبي ال نتقن لغته ‪ ،‬فإن ذلك يعيق‬
‫تبليغ افكارنا ‪ ،‬مما يثبت عدم وجود تناسب بين الفهم والتبليغ ‪.‬أ – عرض منطق خصوم االطروحة ‪:‬يرى انصار االتجاه االحادي ‪ ،‬أن‬
‫هناك اتصال ووحدة بين الفكر واللغة ‪ ،‬وهما بمثابة وجهي العملة النقدية غير القابلة للتجزئة ‪ ،‬فاللغة والفكر شيئا واحدا ‪ ،‬بحيث ال توجد‬
‫افكار بدون الفاظ تعبر عنها ‪ ،‬كما انه ال وجود اللفاظ ال تحمل أي فكرة او معنى ‪ .‬وعليه كانت اللغة فكر ناطق والفكر لغة صامتة ‪ ،‬على‬
‫االعتبار ان االنسان بشكل عام يفكر بلغته ويتكلم بفكره ‪ .‬كما أثبت علم النفس ان الطفل يولد صفحة بيضاء خالية من أي افكار و يبدأ في‬
‫اكتسابها بموازاة مع تعلمه اللغة ‪ .‬وأخيرا ‪ ،‬فإن العجز التي توصف به اللغة قد ال يعود الى اللغة في حد ذاتها ‪ ،‬بل الى مستعملها الذي قد‬
‫يكون فاقدا لثروة لغوية تمكنه من التعبير عن افكاره ‪.‬ب – نقد منطقهم ‪:‬لكن ورغم ذلك ‪ ،‬فإن االنسان يشعر بعدم مسايرة اللغة للفكر ‪،‬‬
‫فاالدباء مثال رغم امتالكهم لثروة لغوية يعانون من مشكلة في التبليغ ‪ ،‬وعلى مستوى الواقع يشعر أغلب الناس بعدم التناسب بين الفكر‬
‫واللغة ‪.‬حل المشكلة ‪:‬وهكذا يتضح ان هناك شبه انفصال بين اللغة والفكر ‪ ،‬باعتبار ان الفكر اسبق واوسع من اللغة ‪ ،‬وان اللغة تقوم بدور‬
‫سلبي بالنسبة له ‪ ،‬فهي تعيقه وتفقده حيويته ‪ ،‬مما يعني ان االطروحة القائلة ‪ " :‬أن اللغة منفصلة عن الفكر وتعيقه " اطروحة صحيحة ‪.‬‬

‫المقالة الرابعة‪ :‬يقول هيبوليت ‪ « :‬إذا فكرنا بدون لغة ‪ ،‬فنحن ال نفكر » دافع عن األطروحة التي يتضمنها القول ‪ .‬االستفصاء‬
‫بالوضعطرح المشكل ‪ :‬اذا كانت اللغة اداة للفكر ‪ ،‬بحيث يستحيل ان يتم التفكير بدون لغة ؛ فكيف يمكن اثبات صحة هذه الفكرة ؟‬
‫‪ - II‬محاولة حل المشكل ‪:‬أ‪ -‬عرض الموقف كفكرة ‪ :‬ان الفكر ال يمكن ان يكون له وجود دون لغة تعبر عنه ‪ ،‬إذ ال وجودألفكارال يمكن‬
‫للغة ان تعبر عنا ‪ ،‬حيث أن هناك – حسب انصار االتجاه االحادي ‪ -‬تناسب بين الفكر واللغة ‪ ،‬ومعنى ذلك أن عالم االفكار يتناسب مع‬
‫عالم االلفاظ ‪ ،‬أي ان معاني االفكارتتطابق مع داللة االلفاظ ‪ ،‬فالفكر واللغة وجهان لعملة واحدة غير قابلة للتجزئة فـ« الفكر لغة صامتة ‪،‬‬
‫واللغة فكر ناطق » ‪.‬ب‪ -‬المسلمات و البرهنة‪ :‬ما يثبت ذلك ‪ ،‬ما اكده علم نفس الطفل من ان الطفل يولد صفحة بيضاء خاليا تماما من اية‬
‫افكار ‪ ،‬ويبدأ في اكتسابها بالموازاة مع تعلمه اللغة ‪ ،‬وعندما يصل الى مرحلة النضج العقلي فإنه يفكر باللغة التي يتقنها ‪ ،‬فاالفكار ال ترد‬
‫الى الذهن مجردة ‪ ،‬بل مغلفة باللغة التي نعرفها فـ« مهما كانت االفكار التي تجيئ الى فكر االنسان ‪ ،‬فإنها ال تستطيع ان تنشأ وتوجد اال‬
‫على مادة اللغة »‪.‬ومن جهة ثانية ‪ ،‬فإن االفكار تبقى عديمة المعنى اذا بقيت في ذهن صاحبها ولم تتجسد في الواقع ‪ ،‬وال سبيل الى ذلك‬
‫اال بألفاظ اللغة التي تدرك ادراكًا حسيًا ‪ ،‬أي ان اللغة هي التي تخرج الفكر الى الوجود الفعلي ‪ ،‬ولوالها لبقي كامنًا عدمًا ‪ ،‬ولذلك قيل ‪« :‬‬
‫الكلمة لباس المعنى ‪ ،‬ولوالها لبقي مجهوًال » ‪.‬وعلى هذا االساس ‪ ،‬فإن العالقة بين الفكر واللغة بمثابة العالقة بين الروح والجسد ‪ ،‬االمر‬
‫الذي جعل الفيلسوف االنجليزي ( هاملتون ) يقول ‪ « :‬االلفاظ حصون المعاني » ‪.‬تدعيم االطروحة بحجج ‪:‬أن اللغة تقدم للفكر القوالب‬
‫التي تصاغ فيها المعاني ‪ .‬اللغة وسيلة إلبراز الفكر من حيز الكتمان الى حيز التصري‪ -‬اللغة عماد التفكير وكشف الحقائق ‪ .‬اللغة تقدم‬
‫للفكر تعاريف جاهزة ‪ ،‬وتزود المفكر بصيغ وتعابير معروفة‬
‫اللغة اداة لوصف االشياء حتى ال تتادخل مع غيرها ‪-‬أ‪ -‬عرض منطق الخصوم ‪:‬يزعم معظم الفالسفة الحدسانيون والرمزيون من االدباء‬
‫والفنانين وكذا الصوفية ‪ ،‬انه ال يوجد تناسب بين عالم االفكار وعالم االلفاظ ‪ ،‬فالفكر اوسع من اللغة واسبق منها ‪ ،‬ويلزم عن ذلك ان ما‬
‫يملكه الفرد من افكار ومعان يفوق بكثير ما يملكه من الفاٍظ وكلماتٍ ‪ ،‬مما يعني انه يمكن ان توجد افكار خارج اطار اللغة ‪.‬‬
‫ويؤكد ذلك ‪ ،‬ان االنسان كثيرا ما يدرك في ذهنه كما زاخرا من المعاني تتزاحم في ذهنه ‪ ،‬وفي المقابل ال يجد اال الفاظا محدودة ال تكفي‬
‫لبيان هذه المعاني ‪ .‬كما قد يفهم امرا من االمور ويكون عنه فكرة واضحة بذهنه وهو لم يتكلم بعد ‪ ،‬فإذا شرع في التعبير عما حصل في‬
‫ذهنه من افكار عجز عن ذلك ‪ .‬كما ان الفكر فيض متصل من المعاني في تدفق مستمر ال تسعه االلفاظ ‪ ،‬وهو نابض بالحياة والروح ‪،‬‬
‫وهو " ديمومة " [‪ ]2‬ال تعرف االنقسام أو التجزئة ‪ ،‬أما الفاظ اللغة فهي سلسلة من االصوات منفصلة ‪ ،‬مجزأة ومتقطعة ‪ ،‬وال يمكن‬
‫للمنفصل ان يعبر عن المتصل ‪ ،‬والنتيجة أن اللغة تجمد الفكر في قوالب جامدة فاقدة للحيوية ‪ ،‬لذلك قيل ‪ « :‬االلفاظ قبور المعاني » ‪.‬‬
‫‪-3‬ب نقد منطقهم ‪:‬ان اسبقية الفكر على اللغة مجرد اسبقية منطقية ال زمنية ؛ فاالنسان يشعر أنه يفكر ويتكلم في آٍن واحد ‪ .‬والواقع يبين‬
‫ان التفكير يستحيل ان يتم بدون لغة ؛ فكيف يمكن ان تمثل في الذهن تصورات ال اسم لها ؟ وكيف تتمايز االفكار فيما بينها لوال اندراجها‬
‫في قوالب لغوية ؟حل المشكل ‪:‬وهذا يعني انه ال يمكن للفكر ان يتواجد دون لغة ‪ ،‬وان الرغبة في التفكير بدون لغة – كما يقول هيجل –‬
‫هي محاولة عديمة المعنى ‪ ،‬فاللغة هي التي تعطي للفكر وجوده االسمى واالصح ‪ ،‬مما يؤدي بنا الى القول ان االطروحة السابقة‬
‫اطروحة صحيحة ‪.‬‬

‫المقالة الخامسة ‪:‬هل الشعور كاٍف لمعرفة كل حياتنا النفسية ؟ جدلية ‪.‬‬
‫‪I‬طرح المشكلة ‪:‬ان التعقيد الذي تتميز به الحياة النفسية ‪ ،‬جعلها تحظى باهتمام علماء النفس القدامى والمعاصرون ‪ ،‬فحاولوا دراستها‬
‫وتفسير الكثير من مظاهرها ‪ .‬فاعتقد البعض منهم ان الشعور هو االداة الوحيدة التي تمكننا من معرفة الحياة النفسية ‪ ،‬فهل يمكنالتسليم‬
‫بهذا الرأي ؟ او بمعنى آخر ‪ :‬هل معرفتنا لحياتنا النفسية متوقفة على الشعور بها ؟‬
‫‪ II‬محاولة حل المشكلة ‪:‬أ‪ -‬عرض االطروحة ‪:‬يذهب انصارعلم النفس التقليدي من فالسفة وعلماء ‪ ،‬الى االعتقاد بأن الشعور هو أساس‬
‫كل معرفة نفسية ‪ ،‬فيكفي ان يحلل المرء شعوره ليتعرف بشكٍل واضح على كل ما يحدث في ذاته من احوال نفسية او ما يقوم به من‬
‫افعال ‪ ،‬فالشعور والنفس مترادفان ‪ ،‬ومن ثـّم فكل نشاط نفسي شعوري ‪ ،‬وما ال نشعر به فهو ليس من انفسنا ‪ ،‬ولعل من ابرز المدافعين‬
‫عن هذا الموقف الفيلسوفان الفرنسيان " ديكارت " الذي يرى أنه ‪ « :‬ال توجد حياة أخرى خارج النفس اال الحياة الفيزيولوجية » ‪ ،‬وكذلك‬
‫" مين دو بيران " الذي يؤكد على أنه ‪ « :‬ال توجد واقعة يمكن القول عنها انها معلومة دون الشعور بها » ‪ .‬وهـذا كله يعني ان الشعور‬
‫هو اساس الحياة النفسية ‪ ،‬وهو االداة الوحيدة لمعرفتها ‪ ،‬وال وجود لما يسمى بـ " الالشعور " ‪ .‬ب‪ -‬الحجة ‪:‬ويعتمد انصار هذا الموقف‬
‫على حجة مستمدة من " كوجيتو ديكارت " القائل ‪ « :‬أنا أفكر ‪ ،‬إذن أنا موجود » ‪ ،‬وهذا يعني ان الفكر دليل الوجود ‪ ،‬وان النفس‬
‫البشرية ال تنقطع عن التفكير اال اذا انعم وجودها ‪ ،‬وان كل ما يحدث في الذات قابل للمعرفة ‪ ،‬والشعور قابل للمعرفة فهو موجود ‪ ،‬اما‬
‫الالشعور فهو غير قابل للمعرفة ومن ثـّم فهو غير موجود ‪.‬اذن ال وجود لحياة نفسية ال نشعر بها ‪ ،‬فال نستطيع ان نقول عن االنسان‬
‫الّسوي انه يشعر ببعض االحوال وال يشعر بأخرى مادامت الديمومة واالستمرار من خصائص الشعور ‪.‬ثـم إن القول بوجود نشاط نفسي‬
‫ال نشعر به معناه وجود الالشعور ‪ ،‬وهذا يتناقض مع حقيقة النفس القائمة على الشعور بها ‪ ،‬فال يمكن الجمع بين النقيضين الشعور‬
‫والالشعـور في نفٍس واحدة ‪ ،‬بحيث ال يمكن تصور عقل ال يعقل ونفس ال تشعر ‪.‬وأخيرا ‪ ،‬لو كان الالشعور موجودا لكان قابال للمالحظة‬
‫‪ ،‬لكننا ال نستطيع مالحظته داخليا عن طريق الشعور ‪ ،‬ألننا ال نشعر به ‪ ،‬وال مالحظته خارجيا ألنه نفسي ‪ ،‬وماهو نفسي باطني وذاتي ‪.‬‬
‫وهذا يعني ان الالشعور غير موجود ‪ ،‬وماهو موجود نقيضه وهو الشعور ‪.‬‬
‫‪1‬جـ‪ -‬النقد ‪:‬ولكن المالحظة ليست دليال على وجود االشياء ‪ ،‬حيث يمكن ان نستدل على وجود الشئ من خالل آثاره ‪ ،‬فال أحد يستطيع‬
‫مالحظة الجاذبية او التيار الكهربائي ‪ ،‬ورغم ذلك فاثارهما تجعلنا ال ننكر وجودهما ‪.‬ثم ان التسليم بأن الشعورهو اساس الحياة النفسية‬
‫وهو االداة الوحيدة لمعرفتها ‪ ،‬معناه جعل جزء من السلوك االنساني مبهما ومجهول االسباب ‪ ،‬وفي ذلك تعطيل لمبدأ السببية ‪ ،‬الذي هو‬
‫اساس العلوم ‪.‬أ‪ -‬عرض نقيض االطروحة ‪ :‬بخالف ما سبق ‪ ،‬يذهب الكثير من انصار علم النفس المعاصر ‪ ،‬ان الشعور وحده ليس كاٍف‬
‫لمعرفة كل خبايا النفس ومكنوناتها ‪ ،‬كون الحياة النفسية ليست شعورية فقط ‪ ،‬لذلك فاالنسان ال يستطيع – في جميع االحوال – ان يعي‬
‫ويدرك اسباب سلوكه ‪ .‬ولقد دافع عن ذلك طبيب االعصاب النمساوي ومؤسس مدرسة التحليل النفسي " سيغموند فرويد " الذي يرى‬
‫أن ‪ « :‬الالشعور فرضية الزمة ومشروعة ‪ ..‬مع وجود االدلة التي تثبت وجود الالشعور » ‪ .‬فالشعور ليس هـو النفس كلها ‪ ،‬بل هناك‬
‫جزء هام ال نتفطن – عادة – الى وجوده رغم تأثيره المباشر على سلوكاتنا وأفكارنا وانفعاالتنا ‪..‬ب‪ -‬الحجة ‪:‬وما يؤكد ذلك ‪ ،‬أن معطيات‬
‫الشعور ناقصة وال يمكنه أن يعطي لنا معرفة كافية لكل ما يجري في حياتنا النفسية ‪ ،‬بحيث ال نستطيع من خالله ان نعرف الكثير من‬
‫أسباب المظاهرالسلوكية كاالحالم والنسيان وهفوات اللسان وزالت االقالم ‪ ..‬فتلك المظاهر الالشعورية ال يمكن معرفتها بمنهج‬
‫االستبطان ( التأمل الباطني ) القائم على الشعور ‪ ،‬بل نستدل على وجودها من خالل اثارها على السلوك ‪ .‬كما أثبت الطب النفسي أن‬
‫الكثير من االمراض والعقد واالضطرابات النفسية يمكن عالجها بالرجوع الى الخبرات واالحداث ( كالصدمات والرغبات والغرائز ‪) ..‬‬
‫المكبوتة في الالشعور‪.‬جـ ‪ -‬النقد ‪:‬ال شك ان مدرسة التحليل النفسي قد أبانت فعالية الالشعور في الحياة النفسية ‪ ،‬لكن الالشعور يبقى‬
‫مجرد فرضية قد تصلح لتفسير بعض السلوكات ‪ ،‬غير أن المدرسة النفسية جعلتها حقيقة مؤكدة ‪ ،‬مما جعلها تحول مركز الثقل في الحياة‬
‫النفسية من الشعور الى الالشعور ‪ ،‬االمر الذي يجعل االنسان اشبه بالحيوان مسّير بجملة من الغرائز والميول المكبوتة في الالشعور‪.‬‬
‫التركيب ‪:‬وهكذا يتجلى بوضوح ‪ ،‬أن الحياة النفسية كيان معقد يتداخل فيه ماهو شعوري بما هو الشعوري ‪ ،‬أي انها بنية مركبة من‬
‫الشعور والالشعور ‪ ،‬فالشعور يمكننا من فهم الجانب الواعي من الحياة النفسية ‪ ،‬والالشعور يمكننا من فهم الجانب الالواعي منها ‪.‬حل‬
‫المشكلة ‪:‬وهكذا يتضح ‪ ،‬أن االنسان يعيش حياة نفسية ذات جانبين ‪ :‬جانب شعوري ُيمِكننا ادراكه واالطالع عليه من خالل الشعور ‪،‬‬
‫وجانب الشعوري ال يمكن الكشف عنه اال من خالل التحليل النفسي ‪ ،‬مما يجعلنا نقول أن الشعور وحده غير كاٍف لمعرفة كل ما يجري‬
‫في حيتنا النفسية ‪.‬‬

‫المقالة السادسة‪:‬هل الذاكرة ظاهرة اجتماعية أم بيولوجيةالطريقة ‪ :‬جدليطرح المشكل ‪:‬اختلفت الطروحات والتفسيرات فيما يتعلق بطبيعة‬
‫الذاكرة وحفظ الذكريات ‪ .‬فاعتقد البعض ان الذاكرة ذات طبيعة اجتماعية ‪ ،‬وان الذكريات مجرد خبرات مشتركة بين افراد الجماعة‬
‫الواحدة ‪ .‬واعتقد آخرون ان الذاكرة مجرد وظيفة مادية من وظائف الدماغ ؛ االمر الذي يدعونا الى طرح المشكلة التالية ‪ :‬هل الذاكرة‬
‫ذات طابع اجتماعي أم مادي بيولوجي ؟محاولةحل المشكأل‪ -‬عرض االطروحة ‪:‬أنصار النظرية االجتماعية ‪ :‬اساس الذاكرة هو‬
‫المجتمع ؛ أي انها ظاهرة اجتماعية بالدرجة االولى ‪.‬ب‪ -‬الحجة ‪:‬ألن – أصل كل ذكرى االدراك الحسي ‪ ،‬واالنسان حتى ولو كان منعزال‬
‫فانه عندما يدرك أمرا ويثبته في ذهنه فإنه يعطيه إسما ليميزه عن المدركات السابقة ‪ ،‬وهو في ذلك يعتمد على اللغة ‪ ،‬واللغة ذات طابع‬
‫اجتماعي ‪ ،‬لذلك فالذكريات تحفظ بواسطة اشارات ورموز اللغة ‪ ،‬التي ُتكتسب من المجتمع‬
‫‪ -‬ان الفرد ال يعود الى الذاكرة ليسترجع ما فيها من صور ‪ ،‬اال اذا دفعه الغير الى ذلك أو وجه اليه سؤاال ‪ ،‬فأنت مثال ال تتذكر مرحلة‬
‫االبتدائي او المتوسط اال اذا رأيت زميال لك شاركك تلك المرحلة ‪ ،‬او اذا وجه اليك سؤاال حولها ‪ ،‬لذلك فإن معظم خبراتنا من طبيعة‬
‫اجتماعية ‪ ،‬وهي تتعلق بالغير ‪ ،‬ونسبة ماهو فردي فيها ضئيل ‪ ،‬يقول هالفاكس ‪ " :‬إنني في أغلب االحيان حينما أتذكر فإن الغير هو الذي‬
‫يدفعني الى التذكر ‪ ...‬ألن ذاكرتي تساعد ذاكرته ‪ ،‬كما أن ذاكرته تساعد ذاكرتي " ‪.‬ويقول ‪ " :‬ليس هناك ما يدعو للبحث عن موضوع‬
‫الذكريات وأين تحفظ إذ أنني أتذكرها من الخارج ‪ ...‬فالزمرة االجتماعية التي انتسب إليها هي التي تقدم إلي جميع الوسائل إلعادة بنائها "‬
‫‪ -‬واالنسان لكي يتعرف على ذكرياته ويحدد اطارها الزماني والمكاني ‪ ،‬فإنه في الغالب يلجأ الى احداث اجتماعية ‪ ،‬فيقول مثال ( حدث‬
‫ذلك اثناء ‪ ....‬او قبل ‪ ....‬و في المكان ‪ .....‬وعليه فالذكريات بدون أطر اجتماعية تبقى صور غير محددة وكأنها تخيالت ‪ ،‬يقول ‪ :‬ب ‪.‬‬
‫جاني ‪ " :‬لو كان االنسان وحيدا لما كانت له ذاكرة ولما كان بحاجة إليها " ‪.‬ج‪ -‬النقد ‪:‬لو كانت الذاكرة ظاهرة اجتماعية باالساس ‪ ،‬فيلزم‬
‫عن ذلك أن تكون ذكريات جميع االفراد المتواجدين داخل المجتمع الواحد متماثلة ‪ ،‬وهذا غير واقع ‪ .‬ثم ان الفرد حينما يتذكر ‪ ،‬ال يتذكر‬
‫دائما ماضيه المشترك مع الغير ‪ ،‬فقد يتذكر حوادث شخصية ال عالقة للغير بها ولم يطلب منه احد تذكرها ( كما هو الحال في حاالت‬
‫العزلة عندما نتذكر بدافع مؤثر شخصي ) ‪ ،‬مما يعني وجود ذكريات فردية خالصة ‪.‬‬
‫‪-2‬أ‪ -‬عرض نقيض االطروحة ‪ :‬النظرية المادية ‪ :‬الذاكرة وظيفة مادية بالدرجة االولى ‪ ،‬وترتبط بالنشاط العصبي ( الدماغب‪-‬‬
‫الحجة ‪:‬ألن ‪ - :‬الذاكرة ترتبط بالدماغ ‪ ،‬واصابته في منطقة ما تؤدي الى تلف الذكريات ( من ذلك الفقدان الكلي او الجزئي للذكريات في‬
‫بعض الحوادث ) ‪ -.‬بعض امراض الذاكرة لها عالقة باالضطرابات التي تصيب الجملة العصبية عموما والدماغ على وجه الخصوص ‪،‬‬
‫فالحبسة او االفازيا ( التي هي من مظاهر فقدان الذاكرة ) سببها اصابة منطقة بروكا في قاعدة التلفيف الثالث من الجهة الشمالية للدماغ ‪،‬‬
‫أو بسبب نزيف دموي في الفص الجداري االيمن من الجهة اليسرى للدماغ ‪ ،‬مثال ذلك الفتاة التي أصيبت برصاصة ادت الى نزيف في‬
‫الفص الجداري االيمن من الجهة اليسرى للدماغ ‪ ،‬فكانت ال تتعرف على االشياء الموضوعة في يدها اليسرى بعد تعصيب عينيها ‪ ،‬فهي‬
‫تحوم حولها وتصفها دون ان تذكرها باالسم ‪ ،‬وتتعرف عليها مباشرة بعد وضعها في يدها اليمنىيقول تين ‪ " :Taine‬إن الدماغ وعاء‬
‫يستقبل ويختزن مختلف الذكريات " ‪ ،‬ويقول ريبو ‪ " :‬الذاكرة وظيفة بيولوجية بالماهية "ج‪ -‬النقد ‪:‬ان ما يفند مزاعم انصار النظرية‬
‫المادية هو ان فقدان الذاكرة ال يعود دائما الى اسباب عضوية (اصابات في الدماغ) فقد يكون ألسباب نفسية ( صدمات نفسية ) ‪ ...‬ثم ان‬
‫الذاكرة قائمة على عنصر االنتقاء سواء في مرحلة التحصيل والتثبيت او في مرحلة االسترجاع ‪ ،‬وهذا االنتقاء ال يمكن تفسيره اال بالميل‬
‫واالهتمام والرغبة والوعي والشعور بالموقف الذي يتطلب التذكر ‪ ..‬وهذه كلها امور نفسية ال مادية ‪.‬التركيب ( تجاوز الموقفين ) ‪:‬ومنه‬
‫يتبين ان الذاكرة رغم انها تشترط اطر اجتماعية نسترجع فيها صور الذكريات ونحدد من خاللها اطارها الزماني والمكاني ‪ ،‬باالضافة‬
‫الى سالمة الجملة العصبية والدماغ على وجه التحديد ‪ ،‬اال انها تبقى احوال نفسية خالصة ‪ ،‬إنها ديمومة نفسية أي روح ‪ ،‬وتتحكم فيها‬
‫مجموعة من العوامل النفسية كالرغبات والميول والدوافع والشعور ‪..‬‬
‫االمثلة ‪ :‬إن قدرة الشاعر على حفظ الشعر اكبر من قدرة الرياضي ‪ .‬ومقدرة الرياضي في حفظ األرقام والمسائل الرياضية اكبر من‬
‫مقدرة الفيلسوف ‪ ...‬وهكذا ‪ ,‬والفرد في حالة القلق والتعب يكون اقل قدرة على الحفظ ‪ ,‬وهذا باإلضافة إلى السمات الشخصية التي تؤثر‬
‫إيجابا أو سلبا على القدرة على التعلم والتذكر كعامل السن ومستوى الذكاء والخبرات السابقة حل المشكل‪:‬وهكذا يتضح ان الذاكرة ذات‬
‫طبيعة معقدة ‪ ،‬يتداخل ويتشابك فيها ماهو مادي مع ماهو اجتماعي مع ماهو نفسي ‪ ،‬بحث ال يمكن ان نهمل او نغّلب فيها عنصرا من هذه‬
‫العناصر الثالث ‪.‬‬
‫مالحظة ‪:‬يمكن في التركيب الجمع بين الموقفين ‪ ،‬و ليس من الضروري تجاوزهما‬

‫المقالة السابعة‪ :‬هل يمكن القول ان العقل هو اساس القيمة االخالقية ؟ جدلية طرح المشكلة ‪:‬تعد مشكلة أساس القيمة الخلقية من أقدم‬
‫المشكالت في الفلسفة االخالقية وأكثرها إثارة للجدل ؛ إذ تباينت حولها االراء واختلفت المواقف ‪ ،‬ومن تلك المواقف الموقف العقلي الذي‬
‫فسر أساس القيمة االخالقية بإرجاعها الى العقل ؛ فهل فعال يمكن تأسيس القيم االخالقية على العقل وحده ؟محاولة حل المشكلة ‪ :‬أ –‬
‫عرض االطروحة ‪:‬يرى البعض ‪ ،‬أن مايميز االنسان – عن الكائنات االخرى ‪ -‬هو العقل ‪ ،‬لذلك فهو المقياس الذي نحكم به على االشياء‬
‫وعلى سلوكنا وعلى القيم جميعا ‪ ،‬أي أن أساس الحكم على االفعال و السلوكات وإضفاء طابع اخالقي عليها هو العقل ‪ ،‬وعليه ٌأعتبر‬
‫المصدر لكل قيمة خلقية ‪ .‬وقد دافع عن هذا الرأي أفالطون قديما والمعتزلة في العصر االسالمي وكانط في العصر الحديث ‪.‬ب –‬
‫الحجة ‪:‬ويؤكد ذلك أن ( أفالطون ‪ 428‬ق م – ‪ 347‬ق م ) قسم أفعال الناس تبعا لتقسيم المجتمع ‪ ،‬فإذا كان المجتمع ينقسم الى ثالث‬
‫طبقات هي طبقة الحكماء وطبقة الجنود وطبقة العبيد ‪ ،‬فإن االفعال – تبعا لذلك – تنقسم الى ثالثة قوى تحكمها ثالث فضائل ‪ :‬القوة‬
‫العاقلة ( تقابل طبقة الحكماء ) وفضيلتها الحكمة والقوة الغضبية ( طبقة الجنود ) وفضيلتها الشجاعة والقوة الشهوانية ( العبيد ) وفضيلتها‬
‫العفة ‪ ،‬والحكمة هي رأس الفضائل ألنها تحد من طغيان القوتين الغضبية والشهوانية ‪ ،‬وال يكون االنسان حكيما اال اذا خضعت القوة‬
‫الشهوانية والقوة الغضبية للقوة العاقلة ‪.‬و عند المعتزلة ‪ ،‬فالعقل يدرك ما في االفعال من حسن او قبح ‪ ،‬أي ان بإمكان العقل ادراك قيم‬
‫االفعال والتمييز فيها بين ما هو حسن مستحسن وماهو قبيح مستهجن ‪ ،‬وذلك حتى قبل مجيئ الشرع ‪ ،‬ألن الشرع مجرد مخبر لما يدركه‬
‫العقل ‪ ،‬بدليل ان العقالء في الجاهلية كانوا يستحسنون افعاال كاصدق والعدل واالمانة والوفاء ‪ ،‬ويستقبحون أخرى كالكذب والظلم‬
‫والخيانة والغدر ‪ ..‬وان االنسان مكلف في كل زمان ومكان ولوال القدرة على التمييز لسقطت مسؤولية العباد امام التكليف ‪ .‬والعقل عند‬
‫( كانط ‪ ) 1804 – 1724‬الوسيلة التي يميز به اإلنسان بين الخير والشر‪ ،‬وهوالمشّرعُ لمختلف القوانين والقواعد األخالقية التي تتصف‬
‫بالكلية والشمولية ‪ ،‬معتبرًا اإلرادة الخيرة القائمة على اساس الواجب الركيزة األساسية للفعل ألن االنسان بعقله ينجز نوعين من االوامر ‪:‬‬
‫أوامر شرطية مقيدة ( مثل ‪ :‬كن صادقا ليحبك الناس ) ‪ ،‬وأوامر قطعية مطلقة ( مثال ‪ :‬كن صادقا ) ‪ ،‬فاالوامر االولى ليس لها أي قيمة‬
‫اخالقية حقيقية ‪ ،‬فهي تحقق اخالق منفعة ‪ ،‬وتتخذ االخالق ال كغاية في ذاتها ‪ ،‬وانما كوسيلة لتحقيق غاية ‪ .‬اما االوامر الثاني فهي اساس‬
‫االخالق ‪ ،‬النها ال تهدف الى تحقيق أي غاية او منفعة ‪ ،‬بل تسعى الى انجاز الواجب االخالقي على انه واجب فقط بصرف النظر عن‬
‫النتائج التي تحصل منه لذلك يقول ‪ « :‬إن الفعل الذي يتسم بالخيرية الخلقية فعل نقي خالص ‪ ,‬وكأنما هو قد هبط من السماء »‬
‫‪ -1‬جـ ‪ -‬النقد ‪:‬لكن التصور الذي قدمه العقليون ألساس القيمة االخالقية تصور بعيد عن الواقع االنساني ‪ ،‬فالعقل اوال قاصر واحكامه‬
‫متناقضة ‪ ،‬فما يحكم عليه هذا بأنه خير يحكم عليه ذاك بأنه شر فاذا كان العقل قسمة مشتركة بين الناس فلماذا تختلف القيم االخالقية بينهم‬
‫إذن ؟ ‪ .‬كما يهمل هذا التصور الطبيعة البشرية ‪ ،‬فاالنسان ليس مالكا يتصرف وفق احكام العقل ‪ ،‬بل هو ايضا كائن له مطالب حيوية‬
‫يسعى الى اشباعها ‪ ،‬والتي لها تأثير في تصور الفعل ‪ .‬واخيرا أن األخالق عند كانط هي أخالق متعالية مثالية ال يمكن تجسيدها على‬
‫ارض الواقع ‪.‬أ – عرض نقيض االطروحة ‪ :‬وخالفا لما سبق ‪ ،‬يرى البعض اآلخر أن العقل ليس هو االساس الوحيد للقيم االخالقية ‪،‬‬
‫باعتبار ان القيمة الخلقية لألفعال اإلنسانية متوقفة على نتائجها وأثارها االيجابية أي ما تحصله من لذة ومنفعة وما تتجنبه من الم‬
‫ومضرة ‪ ،‬وقد تتوقف القيم االخالقية على ما هو سائد في المجتمع من عادات وتقاليد واعراف وقوانين ‪ ،‬فتكون بذلك صدى لهذه االطر‬
‫االجتماعية ‪ ،‬وقد يتوقف – في االخير ‪ -‬معيار الحكم على قيم االفعال من خير ( حسن ) او شر ( قبح ) على االرادة االلهية او الشرع ‪.‬‬
‫‪ -2‬ب – الحجة ‪ :‬وما يثبت ذلك ‪ ،‬ان القيم االخالقية ماهي اال مسألة حسابية لنتائج الفعل ‪ ،‬وهذه النتائج ال تخرج عن تحصيل اللذات‬
‫والمنافع ؛ فما يحفز االنسان الى الفعل هو دائما رغبته في تحصيل لذة او منفعة ألن ذلك يتوافق مع الطبيعة االنسانية فاالنسان بطبعة‬
‫يميل الى اللذة والمنفعة ويتجنب االلم والضرر ‪ ،‬وهو ٌيقدم على الفعل كلما اقترن بلذة او منفعة ‪ ،‬ويحجم عنه اذا اقترن بألم او ضرر ‪،‬‬
‫فاللذة والمنفعة هما غاية الوجود ومقياس أي عمل أخالقي ‪ ،‬وهما الخير االسمى وااللم والضرر هماالشر االقصى ‪.‬ومن ناحية أخرى ‪،‬‬
‫فإن القيم األخالقية بمختلف أنواعها وأشكالها سببها المجتمع ‪ ,‬وما سلوك األفراد في حياتهم اليومية إال انعكاس للضمير الجمعي الذي‬
‫ُيهيمن على كل فرد في المجتمع ‪ .‬أي ان معيار تقويم االفعال اساسه المجتمع ‪ ،‬والناس تصدر احكامها باالعتماد عليه ‪ ،‬فمثال الطفل حينما‬
‫يولد ال تكون لديه فكرة عن الخير او الشر ‪ ،‬فينشأ في مجتمع – يتعهده بالتربية والتثقيف – يجد فيه الناس تستحسن افعاال وتستقبح‬
‫أخرى ‪ ،‬فيأخذ هذا المقياس عنهم ‪ ،‬فيستحسن ما يستحسنه الناس ‪ ،‬ويستقبح ما يستقبحونه ‪ ،‬فإن هواستقبح مثال الجريمة فألن المجتمع كله‬
‫يستقبحها ‪ ،‬ومن ثّم يدرك ان كل ما يوافق قواعد السلوك االجتماعي فهو خير وكل ما يخالفها فهو شر ‪ .‬والنتيجة ان القيم االخالقية من‬
‫صنع المجتمع ال الفرد ‪ ،‬وما على هذا الفرد اال ان يذعن لها طوعا اوكرها ‪ ،‬االمر الذي جعل دوركايم ( ‪ ) 1917 – 1858‬يقول ‪ « :‬اذا‬
‫تكلم ضميرنا فإن المجتمع هو الذي يتكلم فينا » ‪ ،‬وكذلك ‪ « :‬ان المجتمع هو النموذج والمصدر لكل سلطة اخالقية ‪ ،‬وأي فعل ال يقره‬
‫المجتمع بأنه اخالقي ‪ ،‬ال يكسب فاعله أي قدر من الهيبة او النفوذ » ‪.‬ومن ناحية ثالثة ‪ ،‬ان معيار الحكم على قيم االفعال من خير او شر‬
‫يرتد الى االرادة االلهية او الشرع ‪ .‬فـنحن – حسب (إبن حزم االندلسي ‪374‬هـ ‪ 456 -‬هـ ) – نستند الى الدين في تقويم االفعال الخلقية‬
‫وفق قيم العمل بالخير والفضيلة واالنتهاء عن الشر والرذيلة ‪ ،‬وال وجود لشيئ حسنا لذاته او قبيحا لذاته ‪ ،‬ولكن الشرع قرر ذلك ‪ ،‬فما‬
‫سّم اه هللا حسنا فهو حسن وما سّم اه قبيحا فهو قبيح ‪.‬كما ان االفعال حسنة او قبيحة – حسب ما يذهب اليه االشاعرة – باالمر او النهي‬
‫االلهي ‪ ،‬فما امر به هللا فهو خير وما نهى عنه فهو شر ‪ ،‬أي ان االوامر االلهية هي التي تضفي صفة الخير على االفعال او تنفيها عنها ‪،‬‬
‫ولذلك – مثال – الصدق ليس خيرا لذاته وال الكذب شرا لذاته ‪ ،‬ولن الشرع قرر ذلك ‪ .‬والعقل عاجز عن ادراك قيم االفعال والتمييز فيها‬
‫بين الحسن والقبح ‪ ،‬وليس له مجال اال اتباع ما اثبته الشرع ‪.‬جـ ‪ -‬النقد ‪ :‬ولكن النفعيون ال يميزون بين الثابت والمتغير وال بين النسبي‬
‫والمطلق ألن القيم االخالقية قيم ثابتة ومطلقة ‪ ،‬واالخذ باللذة والمنفعة كمقياس لها يجعلها متغيرة ونسبية ‪ ،‬فيصبح الفعل الواحد خيرا‬
‫وشرا في آن واحد ‪ ،‬خيرا عند هذا اذا حقق له لذة او منفعة ‪ ،‬وشرا عند ذاك اذا لم يحقق أًّيا منهما ‪ .‬ثم ان المنافع متعارضة ‪ ،‬فما ينفعني‬
‫قد ال ينفع غيري بالضرورة ‪ ،‬وأخيرا فان ربط االخالق باللذة والمنفعة يحط من قيمة االخالق و االنسان معًا ؛ فتصبح االخالق مجرد‬
‫وسيلة لتحقيق غايات كما يصبح االنسان في مستوى واحد مع الحيوان ‪.‬ثم ان المدرسة االجتماعية تبالغ كثيرا في تقدير المجتمع واالعالء‬
‫من شأنه ‪ ،‬وفي المقابل تقلل او تعدم اهمية الفرد ودوره في صنع االخالق ‪ ،‬والتاريخ يثبت ان افرادا ( انبياء ‪ ،‬مصلحين ) كانوا مصدرا‬
‫لقيم اخالقية ساعدت المجتمعات على النهوض والتقدم ‪ .‬ومن جهة ثانية ‪ ،‬فالواقع يثبت ان القيم االخالقية تتباين حتى داخل المجتمع‬
‫الواحد ‪ ،‬وكذا اختالفها من عصر الى آخر ‪ ،‬ولو كان المجتع مصدرا لالخالق لكانت ثابتة فيه ولزال االختالف بين افراد المجتمع‬
‫الواحد ‪.‬وبالنسبة للنزعة الدينية فإنه ال يجوز الخلط بين مجالين من االحكام ‪ - :‬احكام شرعية حيث الحالل والحرام ‪ ،‬وهي متغيرة وفق‬
‫مقاصد الشريعة واحكام اخالقية حيث الخير والشر او الحسن والقبح ‪ ،‬وهي ثابتة في كل زمان ومكان ‪ .‬مثال ‪ :‬الكل يتفق على ان الكذب‬
‫شر ‪ ،‬اما االستثناء كجواز الكذب في الحرب او من اجل انقاذ برئ ( بقصد حفظ النفس الذي هو من مقاصد الشريعة ) فال يجعل من‬
‫الكذب خيرًاالتركيب ‪:‬إن االنسان في كينونته متعدد االبعاد ؛ فهو اضافة الى كونه كائن عاقل فإنه كائن بيولوجي أيضا ال يتواجد اال ضمن‬
‫الجماعة التي تؤمن بمعتقد خاص ‪ ،‬وهذه االبعاد كلها لها تأثير في تصور االنسان للفعل االخالقي وكيفية الحكم عليه ‪ .‬فقد يتصور االنسان‬
‫أخالقية الفعل بمقتضئ ما يحكم به علقه ‪ ،‬أو بمقتضى ما يهدف الى تحصيله من وراء الفعل ‪ ،‬أو بمقتضى العرف االجتماعي أو وفق‬
‫معتقداته التي يؤمن بها ‪.‬حل المشكلة ‪:‬وهكذا يتضح أن أسس القيم االخالقية مختلفة ومتعددة ‪ ،‬وهذا التعدد واالختالف يعود في جوهره‬
‫الى تباين وجهات النظر بين الفالسفة الذين نظر كل واحدا منهم الى المشكلة من زاوية خاصة ‪ ،‬أي زاوية المذهب او االتجاه الذي ينتمي‬
‫اليه ‪ .‬والى تعدد ابعاد االنسان ‪ ،‬لذلك جاز القول ان العقل ليس االساس الوحيد للقيم االخالقية ‪.‬‬
‫مالحظة ‪:‬يمكن االكتفاء في نقيض االطروحة برأي واحد‬

‫المقالة الثامنة ‪:‬هل يمكن اعتبار القوة وسيلة مشروعة لنيل الحقوق ؟ الطريقة ‪ :‬جدلية‬
‫طرح المشكلة ‪ :‬إن العدالة مبدأ أخالقي سامي ‪ ،‬سعت المجتمعات قديمها وحديثها الى جعلها واقعا ملموسا بين افرداها ‪ ،‬وال يمكن ان‬
‫يحصل ذلك اال اذا ُأعطي كل ذي حق حقه ‪ ،‬والحق هو الشيئ الثابت الذي ال يجوز إنكاره طبيعيا كان او اجتماعيا او اخالقيا ‪ .‬اال ان‬
‫المفكرين والفالسفة اختلفوا في الوسائل التي تمكننا من نيل هذه الحقوق ‪ ،‬فاعتقد البعض منهم بأن القوة وسيلة مشروعة لتحقيقها ‪ ،‬فهل‬
‫يمكن اعتبار القوة – حقيقة – آداة مشروعة لنيل الحقوق ؟ بمعنى ‪ :‬هل يمكن تأسيس الحقوق على أساس القوة ؟‬
‫محاولة حل المشكلة ‪:‬أ‪ -‬االطروحة ‪ :‬لقد ذهب فريق من الفالسفة الى اعتبار القوة آداة مشروعة لنيل الحقوق ‪ ،‬واساس سليما يمكن ان‬
‫تقوم عليه هذه الحقوق ‪ ،‬ونجد من بين هؤالء المفكر االيطالي " ميكيافيلي " الذي يرى أن ‪ « :‬الغاية تبرر الوسيلة » ‪ ،‬حتى وان كانت‬
‫الوسيلة ال اخالقية ‪ ،‬فإذا كان االنتصار ومن ثـّم نيل الحقوق هو ضالة الحاكم وهدفه ‪ ،‬فالبد من استعمال القوة اذا كان االمر يستدعي‬
‫ذلك ‪ .‬اما الفيلسوف االنجليزي " توماس هوبز " فيرى ان القوي هو الذي يحدد الخير والشر ‪ .‬بينما الفيلسوف الهولندي " سبينوزا " يرى‬
‫‪ « :‬أن كل فرد يملك من الحق بمقدار ما يملك من القوة » كما أشاد الفيلسوف االلماني " نيتشه " بإرادة القوة حلى حساب الضعفاء ‪ .‬ونجد‬
‫– في االخير –‪ .‬الفيلسوف االلماني المادي " كارل ماركس " الذي يذهب الى ان الحقوق ماهي اال مظهرا لقوة الطبقة المسيطرة اجتماعيا‬
‫والمهيمنة اقتصاديا ‪ .‬وعليه فالقوة – حسب هؤالء – آداة مشروعة بل وضرورية لنيل الحقوق ب‪ -‬الحجة ‪ :‬وما يؤكد مشروعية القوة‬
‫كوسيلة الكتساب الحقوق هو تاريخ المجتمعات االنسانية نفسه ؛ إذ يثبت بأن كثيرا من الحقوق وجدت بفضل استخدام القوة ‪ ،‬فقيام‬
‫النزاعات والثورات انتهت في معظمها بتأسيس الكثير من الحقوق ‪ ،‬التي صارت فيما بعد موضع اعتراف من طرف الجميع ‪ ،‬مثال ذلك‬
‫أن الكثير من الشعوب المستعمرة استردت حريتها – كحق طبيعي – بفعل الثورة المسلحة أي القوة العسكرية ‪.‬كما ان المجتمع الدولي‬
‫حاليا يثبت بأن الدول التي تتمتع بحق النقض ( الفيتو) في مجلس االمن هي الدول القوية اقتصاديا واجتماعيا ‪.‬‬
‫جـ‪ -‬النقد ‪ :‬ال ننكر ان بعض الحقوق تـّم نيلها عن طريق القوة ‪ ،‬لكن ذلك ال يدعونا الى التسليم أنها – أي القوة – وسيلة مشروعة‬
‫للحصول على جميع الحقوق ‪ ،‬ألن ذلك يؤدي الى انتشار قانون الغاب فيأكل بموجبه القوي الضعيف ‪ ،‬وبالتالي تفسد الحياة االجتماعية‬
‫وتهدر الكثير من الحقوق ‪.‬اضافة الى ذلك فالقوة امر نسبي أي متغير ‪ ،‬فالقوي اليوم ضعيف غدًا والعكس صحيح ‪ ،‬وألجل ذلك فإن الحق‬
‫الذي يتأسس على القوة يزول بزوالها ‪.‬أ‪ -‬نقيض االطروحة ‪ :‬خالفا للموقف السابق ‪ ،‬يذهب فريق من الفالسفة الى االعتقاد أن القوة ال‬
‫يمكن ان تعتبر وسيلة سليمة ومشروعة لنيل الحقوق ‪ ،‬وال ينبغي بأي حال من االحول ان تكون اساسا للحقوق ‪ .‬و الذين يدافعون عن هذه‬
‫الوجهة من النظر الفيلسوف الفرنسي " جان جاك روسو " الذي يقول ‪ « :‬إن القوة سلطة مادية ‪ ،‬وال أرى بتاتا كيف تنجم االخالقية من‬
‫نتائجها » ‪ ،‬فالقوة بهذا المعنى ال يمكن ان تصنع الحق ‪ ،‬ولعل هذه ما ذهب اليه الزعيم الهندي " غاندي " عندما بـّيـن أن استخدام القوة‬
‫في سبيل نيل الحقوق ماهو سوى مجرد فلسفة مادية ال اخالقية ‪ ،‬حيث يقول ‪ « :‬اننا سوف نكسب معركتنا ال بمقدار ما نقتل من خصوم ‪،‬‬
‫ولكن بمدار ما نقتل في نفوسنا الرغبة في القتل » ‪ .‬وعلى هذا االساس فالقوة غير مشروعة في نيل الحقوق ‪ .‬ب – الحجة ‪ :‬ألنه من‬
‫التناقض الحصول على حقوق تمتاز بأنها اخالقية بوسائل ال اخالقية " القوة " ‪ ،‬فالحقوق من القيم التي تتأسس علها العدالة ‪ ،‬وعليه‬
‫فالعدل والحق من المبادئ االخالقية ومن ثـّم ال يجوز تحقيقهما بوسائل ال اخالقية ‪ ،‬ألن أخالقية الغاية تفرض بالضرورة اخالقية الوسيلة‬
‫‪.‬كما ان ثبات الكثير من الحقوق يستبعد تأسيسها على القوة او االعتماد عليها في تحصيلها ‪ ،‬ألنها متغيرة ‪ ،‬وكل ما تأسس على متغير كان‬
‫متغيرا بالضرورة ‪.‬ثم ان تاريخ المجتمعات يوكد – من جهة أخرى – أن نسبة كبيرة من الحقوق التي يتمتع بها االفراد ‪ ،‬لم يعتمد على‬
‫القوة في نيلها وتحصيلها ‪.‬النقد ‪ :‬ولكن القول ان القوة ليست مشروعة في نيل الحقوق ‪ ،‬ال يمنع من كونها وسيلة مشروعة للدفاع عن هذه‬
‫الحقوق ضد مغتصبيها ‪ ،‬او للمطالبة بها ان اقتضت الضرورة ‪ .‬التركيب ‪ :‬ان الحقوق ‪ -‬من حيث هي مكاسب مادية ومعنوية يتمتع بها‬
‫االفراد يخولها لهم القانون وتفرضها االعراف – ال يمكن ارجاعا الى اساس واحد نظرا لتعدد اسسها ‪ ،‬فمنها ما يتأسس على طبيعة‬
‫االنسان ذاتها ‪ ،‬ومنها ما يتأسس على اساس اجتماعي من حيث ان المجتمع هو الذي يمنحها ألفراده ‪ ،‬ومنها ما يتأسس على ايماننا‬
‫الباطني بها واحترامنا لها حل المشكلة ‪ :‬وهكذا يتضح انه ال يمكن اعتبار القوة اساسا سليما للحقوق ‪ ،‬وال وسيلة مشروعة لنيلها ‪ ،‬وإن‬
‫كان ذلك ال يمنعنا من اللجوء الى القوة للدفاع عن الحقوق او المطالبة بها ‪.‬‬

‫المقالة التاسعة‪ :‬هل تتأسس العدالة االجتماعية على المساواة أم على التفاوت ؟ جدلية طرح المشكلة ‪:‬كل مجتمع من المجتمعات يسعى الى‬
‫تحقيق العدل بين أفراده ‪ ،‬وذلك بإعطاء كل ذي حق حقه ‪ ،‬ومن هنا ينشأ التناقض بين العدالة التي تقتضي المساواة ‪ ،‬وبين الفروق الفردية‬
‫التي تقتضي مراعاتها ‪ ،‬إذ ان تأسيس العدالة على المساواة يوقع الظلم بحكم وجود تفاوت طبيعي بين االفراد ‪ ،‬وتأسيسها على التفاوت فيه‬
‫تكريس للطبقية والعنصرية ؛ مما يجعالنا نطرح المشكلة التالية ‪ :‬ماهو المبدأ االمثل الذي يحقق عدالة موضوعية ‪ :‬هل هو مبدأ المساواة‬
‫أم مبدأ التفاوت ؟محاولة حل المشكلة ‪ :‬عرض االطروحة‪:‬يرى البعض ان العدالة تتأسس على المساواة ‪ ،‬على اعتبار ان العدالة الحقيقية‬
‫تعني المساواة بين الجميع االفراد في الحقوق والواجبات وامام القانون ‪ ،‬وأي تفاوت بينهم يعد ظلم ‪ ،‬ويدافع عن هذا الرأي فالسفة القانون‬
‫الطبيعي وفالسفة العقد االجتماعي وكذا انصار المذهب االشتراكي ‪.‬الحجة ‪-:‬ويؤكد ذلك ‪ ،‬ان االفراد – حسب فالسفة القانون الطبيعي ‪-‬‬
‫الذين كانوا يعيشون في حالة الفطرة كانوا يتمتعون بمساوة تامة وكاملة فيما بينهم ‪ ،‬ومارسوا حقوقهم الطبيعية على قدم المساواة ‪ ،‬لذلك‬
‫فاالفراد سواسية ‪ ،‬فـ« ليس هناك شيئ اشبه بشيئ من االنسان باالنسان » ‪ ،‬وعليه فالعدالة تقتضي المساواة بين جميع االفراد في الحقوق‬
‫والواجبات بحكم بطبيعتهم المشتركة ‪ ،‬ومادام الناس متساوون في كل شيئ فما على العدالة اال ان تحترم هذه المساواة ‪ .‬اما فالسفة العقد‬
‫االجتماعي ‪ ،‬فيؤكدون ان انتقال االنسان من المجتمع الطبيعي الى المجتمع السياسي تـّم بناًء على تعاقد ‪ ،‬وبما ان االفراد في المجتمع‬
‫الطبيعي كانوا يتمتعون بمساواة تامة وكاملة ‪ ،‬لم يكونوا ليقبلوا التعاقد مالم يعتبرهم المتعاقدون معهم مساوين لهم ‪ ،‬فالمساواة شرط قيام‬
‫العقد ‪ ،‬وبالتالي فالعقد قائم على عدالة اساسها المساواة بين الجميع في الحقوق والواجبات ‪.‬‬
‫‪ -‬في حين ان االشتراكيين يرون ان ال عدالة حقيقية دون مساواة فعلية بين االفراد في الحقوق والواجبات ‪ ،‬وال تتحقق المساواة دون‬
‫االقرار بمبدأ الملكية الجماعية لوسائل االنتاج ‪ ،‬التي تتيح للجميع التمتع بهذا الحق ‪ ،‬ألن الملكية الخاصة تكّر س الطبقية واالستغالل وهي‬
‫بذلك تقضي على روح المساواة التي هي اساس العدالة ‪.‬النقد ‪:‬إن انصار المساواة مثاليون في دعواهم الى اقامة مساواة مطلقة ‪،‬‬
‫ويناقضون الواقع ‪ ،‬ألن التفاوت الطبيعي امر مؤكد ‪ ،‬فالناس ليسوا نسخا متطابقة وال متجانسين في كل شيئ ‪ ،‬والفروق الفردية تؤكد ذلك‬
‫‪ ،‬ومن ثـّم ففي المساواة ظلم لعدم احترام الفروق الفردية الطبيعية ‪.‬عرض نقيض االطروحة ‪:‬وبخالف ما سبق ‪ ،‬يرى البعض االخر ان‬
‫العدالة ال تعني بالضرورة المساواة ‪ ،‬بل ان في المساواة ظلم لعدم احترام االختالفات بين الناس ‪ ،‬ومن هذا المنطلق فإن العدالة الحقيقة‬
‫تعني تكريس مبدأ التفاوت ‪ ،‬إذ ليس من العدل ان نساوي بين اناس متفاوتين طبيعيا ‪ .‬ويذهب الى هذه الوجهة من النظر فالسفة قدامى‬
‫ومحدثين وايضا بعض العلماء في ميدان علم النفس والبيولوجيا ‪.‬الحجة ‪-:‬فأفالطون قديما قسم المجتمع الى ثالث طبقات ‪ :‬طبقة الحكماء‬
‫وطبقة الجنود وطبقة العبيد ‪ ،‬وهي طبقات تقابل مستويات النفس االنسانية ‪ :‬النفس العاقلة والغضبية والشهوانية ‪ ،‬وهذا التقسيم يرجع الى‬
‫االختالف بين االفراد في القدرات والمعرفة والفضيلة ‪ ،‬وعلى العدالة ان تحترم هذا التمايز الطبقي ‪ ،‬ومن واجب الدولة ان تراعي هذه‬
‫الفوارق ايضا وتوزع الحقوق وفق مكانة كل فرد ‪.‬اما ارسطو فاعتبر التفاوت قانون الطبيعة ‪ ،‬حيث ان الناس متفاوتين بطبيعتهم‬
‫ومختلفين في قدراتهم وفي ارادة العمل وقيمة الجهد المبذول ‪ ،‬وهذا كله يستلزم التفاوت في االستحقاق ؛ فال يجب ان يحصل اناس‬
‫متساوون على حصص غير متساوية ‪ ،‬او يحصل اناس غير متساويين على حصص متساوية ‪ .‬وحديثا يؤكد ( هيجل ‪) 1831 – 1770‬‬
‫على مبدأ التفاوت بين االمم ‪ ،‬وان االمة القوية هي التي يحق لها امتالك كل الحقوق وتسيطر على العالم ‪ ،‬على اساس انها افضل االمم ‪،‬‬
‫وعلى االمم االخرى واجب ‪ ،‬هو الخضوع لالمة القوية‪ - .‬وفي نفس االتجاه ‪ ،‬يذهب ( نيتشه ‪ ) 1900 – 1844‬ان التفاوت بين االفراد‬
‫قائم وال يمكن انكاره ‪ ،‬فيقسم المجتمع الى طبقتين ‪ :‬طبقة االسياد وطبقة العبيد ‪ ،‬وان للسادة اخالقهم وحقوقهم ‪ ،‬وللعبيد اخالقهم وواجباتهم‬
‫‪.‬أما انصار المذهب الرأسمالي فيقيمون العدل على اساس التفاوت ‪ ،‬فالمساواة المطلقة مستحيلة وفيها ظلم ‪ ،‬إذ ال يجب مساواة الفرد‬
‫العبقري المبدع بالفرد العادي الساذج ‪ ،‬وال العامل المجد البارع بالعامل الكسول الخامل ‪ ،‬بل البد من االعتراف بهذا التفاوت وتشجيعه ‪،‬‬
‫ألن ذلك يبعث على الجهد والعمل وخلق جو من المنافسة بين المتفاوتين ‪ -.‬ويؤكد بعض العلماء ان كل حق يقابله واجب ‪ ،‬غير ان قدرة‬
‫االفراد في رد الواجب المقابل للحق متفاوتة في مجاالت عدة ‪ :‬فمن الناحية البيولوجية ‪ ،‬هناك اختالف بين الناس في بنياتهم البيولوجية‬
‫والجسمانية ‪ ،‬مما ينتج عنه اختالف قدرتهم على العمل ورد الواجب ‪ ،‬لذلك فليس من العدل مساواتهم في الحقوق ‪ ،‬بل يجب ان نساعد‬
‫أولئك الذين يملكون افضل االعضاء والعقول على االرتقاء اجتماعيا ‪ ،‬يقول الطبيب الفيزيولوجي الفرنسي ( ألكسيس كاريل ‪– 1873‬‬
‫‪ « : ) 1944‬بدال من ان نحاول تحقيق المساواة بين الالمساواة العضوية والعقلية ‪ ،‬يجب توسيع دائرة هذه االختالفات وننشئ رجاال‬
‫عظماء » ‪ .‬ومن الناحية النفسية ‪ ،‬نجد تمايز بين االفراد من حيث مواهبهم وذكائهم وكل القدرات العقلية االخرى ‪ ،‬ومن العبث ان نحاول‬
‫مساواة هؤالء المتفاوتون طبيعيا ‪.‬واخيرا ومن الناحية االجتماعية ‪ ،‬فالناس ليسوا سواء ‪ ،‬فهناك الغني الذي يملك والفقير الذي ال يملك ‪،‬‬
‫والملكية حق طبيعي للفرد ‪ ،‬وليس من العدل نزع هذه الملكية ليشاركه فيها آخرين بدعوى المساواة ‪.‬النقد ‪:‬ان التفاوت الطبيعي بين‬
‫االفراد امر مؤكد وال جدال فيه ‪ ،‬غير انه ال ينبغي ان يكون مبررا لتفاوت طبقي او اجتماعي او عرقي عنصري ‪ .‬كما قد يكون‬
‫االختالف في االستحقاق مبنيا على فوارق اصطناعية ال طبيعية فيظهر تفاوت ال تحترم فيه الفروق الفردية ‪.‬التركيب ‪:‬ان المساواة‬
‫المطلقة مستحيلة ‪ ،‬والتفاوت االجتماعي ال شك انه ظلم ‪ ،‬وعلى المجتمع ان يحارب هذا التفاوت ليقترب ولو نسبيا من العدالة ‪ ،‬وال يكون‬
‫ذلك اال بتوفير شروط ذلك ‪ ،‬ولعل من أهمها اقرار مبدأ تكافؤ الفرص والتناسب بين الكفاءة واالستحقاق ومحاربة االستغالل ‪.‬‬
‫حل المشكلة ‪:‬وهكذا يتضح ان العدالة هي ما تسعى المجتمعات قديمها وحديثها الى تجسيدها ‪ ،‬ويبقى التناقض قائما حول االساس الذي‬
‫تبنى عليه العدالة ‪ ،‬غير ان المساواة – رغم صعوبة تحقيقها واقعا – تبقى هي السبيل الى تحقيق هذه العدالة كقيمة اخالقية عليا ‪.‬‬
‫المقالة العاشرة ‪:‬هل يمكن إبعاد القيم االخالقية من الممارسة السياسية ؟ جدلية ‪.‬‬
‫‪I‬طرح المشكلة ‪:‬إن الدولة وجدت إلجل غايات ذات طابع أخالقي ‪ ،‬مما يفرض أن تكون الممارسة السياسية أيضا أخالقية ‪ ،‬إال أن الواقع‬
‫يكشف خالف ذلك تمامًا ‪ ،‬سواء تعلق االمر بالممارسة السياسية على مستوى الدولة الواحدة أو على مستوى العالقات بين الدول ‪ ،‬حيث‬
‫يسود منطق القوة والخداع وهضم الحقوق ‪ ..‬وكأن العمل السياسي ال ينجح إال إذا ُأبعدت القيم االخالقية ؛ فهل فعال يمكن إبعاداالعتبارات‬
‫االخالقية من العمل السياسي ؟محاولة حل المشكلة أ‪ -‬عرض االطروحة‪:‬يرى بعض المفكرين ‪ ،‬أن العالقة بين االخالق والسياسة ‪ ،‬لذلك‬
‫يجب إبعاد االعتبارات االخالقية تمامًا من العمل السياسي ‪ ،‬وهو ما يذهب إليه صراحة المفكر االيطالي " ميكيافيلي ‪" 1527– 1469‬‬
‫في كتابه " االمير " ‪ ،‬حيث يرى أن مبدأ العمل السياسي هو ‪ « :‬الغاية تبرر الوسيلة » ‪ ،‬فنجاح العمل السياسي هو ما يحققه من نتائج‬
‫ناجحة كإستقرار الدولة وحفظ النظام وضمان المصالح الحيوية ‪ ..‬بغض النظر عن الوسائل المتبعة في ذلك حتى وإن كانت الأخالقية ‪،‬‬
‫بل ويذهب الى أبعد من ذلك ‪ ،‬فيزعم أن االخالق تضر بالسياسة وتعرقل نجاحها ‪ ،‬وان الدول التي تبني سياستها على االخالق تنهار‬
‫بسرعة‪.‬ويوافقه في ذلك أيضًا فيلسوف القوة " نيتشه ‪ ، " 1900– 1844‬الذي يرى أن السياسة ال تتفق مع االخالق في شيئ ‪ ،‬والحاكم‬
‫المقيد باالخالق ليس بسياسي بارع ‪ ،‬وهو لذلك غير راسخ على عرشه ‪ ،‬فيجب على طالب الحكم من االلتجاء الى المكر والخداع والرياء‬
‫‪ ،‬فالفضائل االنسانية العظيمة من االخالص واالمانة والرحمة والمحبة تصير رذائل في السياسة ‪ .‬وعلى الحاكم أن يكون قويًا ‪ ،‬ألن‬
‫االخالق هي سالح الضعفاء ومن صنعهم ‪.‬ب ‪ -‬الحجة‪:‬وما يبرر ذلك أن المحكوم إنسان ‪ ،‬واالنسان شرير بطبعه ‪ ،‬يميل الى السيطرة‬
‫واالستغالل والتمرد وعدم الخضوع الى السلطة المنظمة ‪ ،‬ولو ترك على حاله لعاد المجتمع الى حالته الطبيعية ‪ ،‬فتسود الفوضى والظلم‬
‫واستغالل القوي للضعيف ‪ ،‬ويلزم عن ذلك استعمال القوة وجميع الوسائل لردع ذلك الشر حفاظا على استقرار الدولة ويقائها ‪.‬ومن جهة‬
‫ثانية ‪ ،‬فالعالقات السياسية بين الدول تحكمها المصالح الحيوية االستراتيجية ‪ ،‬فتجد الدولة نفسها بين خيارين ‪ :‬إما تعمل على تحقيق‬
‫مصالحها بغض النظر عن االعتبارات االخالقية ‪ ،‬وإما تراعي االخالق التي قد ال تتفق مع مصالحها ‪ ،‬فتفقدها ويكون مصيرها الضعف‬
‫واالنهيار ‪.‬جـ ‪ -‬النقد ‪:‬ولكن القول أن االنسان شرير بطبعه مجرد زعم وإفتراض وهمي ليس له أي أساس من الصحة ؛ فاالنسان مثلما‬
‫يحمل االستعداد للشر يحمل أيضا االستعداد للخير ‪ ،‬ووظيفة الدولة تنمية جوانب الخير فيه ‪ ،‬أما لجوئها الى القوة فدليل على عجزها عن‬
‫القيام بوظيفتها ‪ ،‬واال فال فرق بين الدولة كمجتمع سياسي منظم والمجتمع الطبيعي حيث يسود منطق الظلم والقوة ‪.‬هذا ‪ ،‬واستقراء‬
‫ميكيافيلي للتاريخ إستقراء ناقص ‪ ،‬مما ال يسمح بتعميم أحكامه ‪ ،‬فهو يؤكد – من التاريخ – زوال الدول التي بنيت على اسس أخالقية ‪،‬‬
‫غير أن التاريخ نفسه يكشف ان الممارسة السياسية في عهد الخلفاء الراشدين كانت قائمة على اساس من االخالق ‪ ،‬والعالقة بين الخليفة‬
‫والرعية كانت تسودها المحبة واالخوة والنصيحة ‪ ،‬مما أدى الى ازدهار الدولة ال إنهيارها ‪.‬‬
‫وأخيرًا ‪ ،‬فالقوة أمر نسبي ‪ ،‬فالقوي اليوم ضعيف غدًا ‪ ،‬والواقع أثبت أن الدول والسياسات التي قامت على القوة كان مصيرها الزوال ‪،‬‬
‫كما هو الحال بالنسبة لالنظمة االستبدادية الديكتاتورية ‪ .‬أ‪-‬عرض نقيض االطروحة ‪ :‬وخالفا لما سلف ‪ ،‬يعتقد البعض االخر أنه من‬
‫الضروري مراعاة القيم االخالقية في الممارسة السياسية ‪ ،‬سواء تعلق االمر بالعالقة التي تربط الحاكم والمحكومين على مستوى الدولة‬
‫الواحدة ‪ ،‬أو على مستوى العالقات بين الدول ‪ .‬ومعنى ذلك ‪ ،‬أن على السياسي أن يستبعد كل الوسائل الالاخالقية من العمل السياسي ‪،‬‬
‫وأن يسعى الى تحقيق العدالة واالمن وضمان حقوق االنسان الطبيعية واالجتماعية ‪ .‬وهذا ما دعا إليه أغلب الفالسفة منذ القديم ‪ ،‬فهذا "‬
‫أرسطو " يعتبر السياسة فرعًا من االخالق ‪ ،‬ويرى أن وظيفة الدولة االساسية هي نشر الفضيلة وتعليم المواطن االخالق ‪ .‬ثم حديثا‬
‫الفيلسوف االلماني " كانط ‪ ، " 1804– 1724‬الذي يدعو الى معاملة االنسان كغاية في ذاته وليس كمجرد وسيلة ‪ ،‬كما دعا في كتابه "‬
‫مشروع السالم الدائم " الى إنشاء هيئة دولية تعمل على نشر السالم وفك النزاعات بطرق سلمية وتغليب االخالق في السياسة ‪ ،‬وهو ما‬
‫تجسد – الحقا – في عصبة االمم ثم هيئة االمم المتحدة ‪ ،‬كما دعا الى ضرورة قيام نظام دولي يقوم على الديمقراطية والتسامح والعدل‬
‫والمساواة بين الشعوب واالمم ‪ .‬ومن بعده ألـّح فالسفة معاصرون على أخالقية الممارسة السياسية ‪ ،‬أبرزهم الفرنسي " هنري برغسون‬
‫‪ " 1941 – 1856‬و االنجليزي " برتراند رسل ‪. " 1969– 1871‬ب‪-‬الحجة‪ :‬إن الدولة خصوصًا والسياسة عموماً إنما وجدتا ألجل‬
‫تحقيق غايات أخالقية منعدمة في المجتمع الطبيعي ‪ ،‬وعليه فأخالقية الغاية تفرض أخالقية الوسيلة ‪ .‬كما أن ارتباط السياسة باالخالق‬
‫يسمح بالتطور واالزدهار نتيجة بروز الثقة بين الحكام والمحكومين ‪ ،‬فينمو الشعور بالمسؤولية ويتفانى االفراد في العمل ‪.‬‬
‫ثم ان غياب االخالق وابتعادها من المجال السياسي يّو لد انعدام الثقة والثورات على المستوى الداخلي ‪ ،‬أما على المستوى الخارجي‬
‫فيؤدي الى الحروب ‪ ،‬مع ما فيها من ضرر على االمن واالستقرار وإهدار لحقوق االنسان الطبيعية ‪ ،‬وهذا كله يجعل الدولة تتحول الى‬
‫أداة قمع وسيطرة واستغالل ‪ .‬جـ النقد ‪:‬ال يمكن إنكار أهمية دعوة الفالسفة الى أخالقية الممارسة السياسية ‪ ،‬إال ان ذلك يبقـى مجرد دعوة‬
‫نظرية فقط ‪ ،‬فالقيم االخالقية وحدها – كقيم معنوية – ال تكفي لتجعل التظيم السياسي قويًا قادرًا على فرض وجوده وفرض احترام‬
‫القانون ‪ ،‬وال هي تستطيع ايضًا ضمان بقاء الدولة واستمرارها ‪ ،‬وهو االمر الذي يؤكد صعوبة تجسيد القيم االخالقية في الممارسة‬
‫السياسية ‪.‬التركيب ‪:‬وفي الواقع أنه ال يمكن الفصل بين االخالق والسياسة ‪ ،‬لذلك فغاية الممارسة السياسية يجب أن تهدف الى تجسيد القيم‬
‫االخالقية وترقية المواطن والحفاظ على حقوقه االساسية ‪ ،‬دون إهمال تحقيق المصالح المشروعة التي هي اساس بقاء الدولة وازدهارها‬
‫حل المشكلة ‪:‬وهكذا يتضح ‪ ،‬أنه ال يمكن إطالقا إبعاد القيم االخالقية من الممارسة السياسية رغم صعوبة تجسيدها في الواقع ‪ .‬ومن جهة‬
‫أخرى ‪ ،‬فاالخالق بدون قوة ضعف ‪ ،‬والقوة بدون أخالق ذريعة للتعسف ومبررللظلم ‪ .‬وعليه فالسياسي الناجح هوالذي يتخذ من القوة‬
‫وسيلة لتجسيد القيم االخالقية وأخالقية الممارسة السياسية ‪.‬‬

‫المقالة الحادية عشر (تصميم جزئي )الموضوع الثامن‪:‬إذا كانت التجربة ال تعطينا عددًا خالصًا مجردًا وال خطًا دون عرض وال سطحًا‬
‫دون سمك ‪ ،‬فهل يعني ذلك أن المفاهيم الرياضية ليست مستخلصة من التجربة الحسية ؟‬
‫‪ I‬طرح المشكلة ‪:‬هل المفاهيم الرياضية أصلها عقلي أم تجريبي ؟‪ -II‬محاولة حل المشكلة ‪- :‬أ‪ -‬عرض االطروحة ‪:‬يرى أصار النزعة‬
‫العقلية المثالية أن المفاهيم الرياضية ليست مستخلصة من التجربة الحسية ‪ ،‬بل هي مفاهيم عقلية خالصة ‪.‬‬
‫‪-‬ب‪ -‬الحجة ‪ -:‬ألن المفاهيم الرياضية مفاهيم مجردة أنشأها العقل و استنبطها من مبادئه االساسية ( الهوية ‪ ،‬عدم التناقض ‪ ،‬الثالث‬
‫المرفوع ) من دون الحاجة الى الرجوع الى الواقع الحسي ‪ .‬ان التجربة ال تعطينا عددًا خالصًا مجردًا وال خطًا دون عرض وال سطحًا‬
‫دون سمك ‪ ،‬مما يعني ان المفاهيم الرياضية نابعة من العقل وموجودة فيه بصورة قبلية ‪ -.‬المفاهيم الرياضية هي حقائق معقولة وهي‬
‫مفاهيم ازلية وثابتة ‪ ،‬والعقل كان يدركها في عالم المثل ‪ ،‬ولكن عند مفارقته لهذا العالم نسيها ‪ ،‬وما عليه اال تذكرها ( افالطون ) ‪.‬‬
‫‪ -‬ان المفاهيم الرياضية هي مفاهيم فطرية تتميز بالبساطة والبداهة واليقين ‪ ،‬وبما ان العقل قاسم مشترك بين جميع الناس ‪ ،‬فإن الناس‬
‫جميعهم بإمكانهم ادراك هذه المفاهيم ( ديكارت ) ‪.‬جـ‪ -‬النقد ‪:‬إن الطفل الصغير يمزج بين العدد والشيئ المعدود ‪ .‬وتاريخ الرياضيات يقدم‬
‫لنا الشواهد على ان العمل الرياضي بدأ حسيا ‪ ،‬وتدرج شيئا فشيئا نحو التجريد بإدخال الصفر والعدد السالب والعدد الكسري ‪ ...‬ثم لو‬
‫كانت المفاهيم الرياضية فطرية لتساوى في العلم بها الجميع ‪ ،‬لكنها مفاهيم ال يدركها اال القلة القليلة من المتخصصين ‪.‬‬
‫‪-2‬أ‪ -‬عرض االطروحة ‪:‬يؤكد أنصار النزعة الحسية التجريبية ان المفاهيم الرياضية مثل سائر معارفنا مستمدة من التجربة الحسية ‪.‬‬
‫‪-2‬ب‪ -‬الحجة ‪:‬مجموعة من االشجار اوحت بفكرة العدد ‪ ،‬وان بعض االشياء الطبيعية اوحت باالشكال الهندسية ‪ ،‬فشكل الشمس مثال‬
‫اوحى بفكرة الدائرة ‪ ،‬وان االنسان في اقدم العصور استعان في العّد بالحصى واالصابع ‪ ..‬ثم ان تجربة مسح االراضي عند قدماء‬
‫المصريين هي التي ادت الى نشوء علم الهندسة ‪ .‬وان الهندسة اسبق ظهورا من الحساب او الجبر ألنها اقرب الى التجربة ‪.‬جـ‪ -‬النقد ‪:‬ان‬
‫المفاهيم الرياضية ليست كما اعتقد التجريبيون مستمدة من التجربة الحسية ‪ ،‬فهذه االخيرة لم تكن االحافزا للعقل على تجريد المعاني‬
‫الرياضية ‪ .‬التركيب ‪:‬في الحقيقة ان هناك تالزم بين العقل والتجربة ‪ ،‬فال وجود لمعرفة عقلية خالصة وال لمعرفة تجريبية خالصة ‪.‬‬
‫وعلى هذا االساس ‪ ،‬فإنه من المنطق القول ان اصل الرياضيات يعود الى التجربة الحسية ‪ ،‬فهي قبل ان تصبح علما عقليا قطعت مرحلة‬
‫كلها تجريبية ‪ ،‬ولكن العقل جّرد تلك المعاني الحسية ‪ ،‬فأصبحت مفاهيم مجردة ‪.‬حل المشكلة ‪ :‬إن أصل المفاهيم الرياضية هو التجربة‬
‫الحسية ‪ ،‬ثم اصبحت مفاهيم مجردة ال عالقة لها بالواقع ‪.‬‬

‫المقالة الثانية عشر‪ :‬اذا كانت الرياضيات ال تقدم معرفة تجريبية ‪ ،‬ففيم تتمثل قيمتها ؟ اسنقصاء‬
‫* تعتبر التجرية مقياس اساسي نحكم به على " علمية " أي معرفة من المعارف ‪ ،‬ومن المعلوم ان الرياضيات علم عقلي بحت ‪ ،‬مجرد‬
‫تماما عن ماهو محسوس ‪ ،‬لذلك فهي ال تقدم أي معرفة تجريبية ‪ ،‬والسؤال الذي يطرح هنا ؛ فيم تكمن قيمة الرياضيات اذا كانت ال تقدم‬
‫أي معرفة تجريبية ؟ إن موضوع الرياضيات هو الكميات العقلية المجردة ‪ ،‬التي تتميز بالثبات واالستقاللية عن الواقع المحسوس ‪،‬‬
‫ولغتها الرموز من ثوابت ومتغيرات ‪ ،‬وليست ألفاظ اللغة العادية التي تتصف بالغموض واالبهام ‪ .‬ومنهجها االستدالل العقلي ذو الطبيعة‬
‫االستنتاجية – االفتراضية ‪ ،‬يراعي فيه الرياضي عدم تناقض النتائج مع ما يفترضه من قضايا أولية دون الرجوع الى الواقع الحسي ‪.‬‬
‫كما توصف الرياضيات بالخصوبة نظرا لتعدد فروعها ( كالجبر ‪ ،‬الهندسة ‪ ،‬الهندسة التحليلية ‪ ،‬نظرية المجموعات ‪ ،‬حساب االحتماالت‬
‫‪ ) ..‬وتعدد انساقها ( كنسق اقليدس ‪ ،‬نسق لوباتشوفسكي ‪ ،‬نسق ريمان ‪ ) ..‬دون ان يكون هناك تناقضا بين هذه الفروع واالنساق ‪ .‬كما‬
‫تعود خصوبتها الى طبيعة البرهان الرياضي ‪ ،‬فهو – بخالف القياس االرسطي – يتميز بخاصيتيه التركيبية والتعميمية ‪ ،‬حيث ننتقل فيه‬
‫من البسيط الى المركب ومن الخاص الى العام ‪ .‬ان الرياضيات وان كانت من العلوم التجريدية فهي لغة العلوم التجريبية ‪ ،‬وتكمن قيمتها‬
‫في استعانة العلوم التجريبية بها في صياغة نتائجها ‪ .‬حيث ان العلوم على اختالفها – سواء الطبيعية منها التي تدرس المادة الجامدة او‬
‫الحية ‪ ،‬أو االنسانية التي تدرس االنسان ومختلف مواقفه – تسعى الى استخدام الرياضيات في مباحثها ومناهجها وصياغة نتائجها ‪..‬‬
‫ولقد كانت الرياضيات حتى القرن ‪ 17‬م منفصلة عن العلوم ‪ ،‬وحينئذ تبّين – كما قال " غاليلي " – أن ‪ « :‬الطبيعة مكتوبة بلغة رياضية‬
‫» ‪ ،‬ومادامت الطبيعة – التي هي موضوع العلم – مكتوبة كذلك – فإنه ال يصلح لفهم العالقات التي تربط بين ظواهرها اال استعمال لغة‬
‫الرياضيات ‪ ،‬التي هي – حسب " بوانكاري " – « اللغة الوحيدة التي يستطيع العِالم أن يتكلم بها » ‪ ..‬وهكذا بدأت الرياضيات تغزو‬
‫العلوم ‪.‬فلقد صاغ " غاليلي " قانون سقوط االجسام صياغة رياضية ( ع = ½ ج ‪ x‬ز‪ ، ) 2‬وكذلك فعل " نيوتن في قانون الجاذبية ‪،‬‬
‫لتعرف الفيزياء بعدها استعماال واسعا للرياضيات ‪ ،‬كما هو الحال في قوانين السرعة والتسارع و حركة االجسام ‪.‬‬
‫هذا ‪ ،‬وقد حسب " كبلر " حركة كوكب المريخ حسابا رياضيا ‪ ،‬ليعرف علم الفلك – هو االخر – استعمال لغة الرياضيات ‪ ،‬كحساب‬
‫حركة الكواكب والظواهر مثل الكسوف والخسوف والمواقيت ‪..‬إضافة الى ذلك ‪ ،‬فإن الكمياء إبتداًء من " الفوازييه " أصبحت تعبر عن‬
‫تفاعل العناصر و عمليات االكسدة واالرجاع في شكل معادالت رياضية ‪ ،‬كما أصبح العنصر الكميائي يعرف بوزنه الذري ‪..‬‬
‫واالمر نفسه في البيولوجيا ‪ ،‬السيما استخدام االحصاء الرياضي مثلما فعل " مندل " في قوانين الوراثة ‪ .‬والواقع اليومي يكشف عن‬
‫استعمال واسع للرياضيات في البيولوجيا ‪ ،‬وتحديدا في ميدان الطب ‪ ،‬حيث تكمم دقات القلب وعدد كريات الدم ونسبة السكر ومعدل‬
‫الضغط ‪...‬‬
‫ولم يقتصر استعمال الرياضيات على العلوم الطبيعية المادية فحسب ‪ ،‬بل تعداه الى العلوم االنسانية ؛ فلقد تمكن علماء النفس االلمان "‬
‫فيبر " و " فيخنر " من صياغة قانون رياضي لالحساس هو قانون العتبة المطلقة والعتبة الفارقة ‪ .‬كما وضع الفرنسي " بيني " مقياسا‬
‫رياضيا عاما لدرجة الذكاء ونسبته ‪ ،‬هو العمر العقلي مقسوما على العمر الزمني مضروبا في ‪ . 100‬و ذات االمر في االقتصاد‬
‫والجغرافيا البشرية ؛ حيث يستعمل االحصاء وحساب االحتماالت والتعبير عن النتائج في شكل معادالت رياضية ومنحنيات بيانية‬
‫ودوائر نسبية ‪ .‬و تكمن قيمة الرياضيات في كونها ساهمت في تطور العلوم ‪ ،‬من مجرد وصف كيفي للظواهر يعتد على اللغة العادية‬
‫المبهمة الى تحديد كم دقيق لها ؛ فالعلوم لم تبلغ الدقة في فهم ظواهرها ومن ثــّم التنبؤ بها ‪ ،‬اال بعدما صارت تصوغ نتائجها صياغة‬
‫رياضية ‪.‬هذا من جهة ‪ ،‬ومن جهة فإن الرياضيات تهيئ للعلم المفاهيم التي يقوم عليها‪ ،‬مثال ذلك ان " نيوتن " اقتبس مفهوم المكان من‬
‫المكان الحسي عند " إقليدس " ‪ ،‬ولوال هندسة " ريمان " لما كانت نسبية " إنشتاين " ‪.‬ومن جهة ثالثة ‪ ،‬فإن الرياضيات تسمح باكتشاف‬
‫القوانين العلمية دون الحاجة الى المرور بالمالحظة والتجربة ‪ ،‬مثال ذلك أن حساب العالم " لوفيريي " لكوكب " أورانيوس " أدى الى‬
‫اكتشاف كوكب " نيبتون " ‪ ،‬كما وصل العالم " ماكسويل " الى اكتشاف الموجات الكهرومغناطيسية ووضع لها أربع معادالت رياضية‬
‫أحاطت بخواصها من حسابات رياضية خالصة ‪ ،‬ولم يتحقق منها العلماء تجريبيا اال بعد مرور ثمانين – ‪ – 80‬سنة ‪.‬‬
‫* وهكذا يتضح ‪ ،‬أن للرياضيات قيمة كبرى باعتبارها لغة العلوم الحديثة ‪ ،‬فهي وإن كانت ال تقدم أي معرفة تجريبية ‪ ،‬فإنها اللغة التي‬
‫تستخدمها هذه العلوم في التعبير عن نتائجها ‪ .‬فالرياضيات تمثل نموذجا للوضوح ومعيارا للدقة واليقين وطريقا لالبداع ‪ ،‬وهو ما يهدف‬
‫كل علم الى بلوغه ‪.‬‬
‫الموضوع الثالثة عشر ‪ :‬هل يمكن اخضاع المادة الحية للمنهج التجريبي على غرار المادة الجامدة ؟ جدلية‬
‫‪ -I‬طرح المشكلة ‪:‬تختلف المادة الحية عن الجامدة من حيث طبيعتها المعقدة ‪ ،‬االمر الذي جعل البعض يؤمن ان تطبيق خطوات المنهج‬
‫التجربيي عليها بنفس الكيفية المطبقة في المادة الجامدة متعذرا ‪ ،‬و يعتقد آخرون ان المادة الحية كالجامدة من حيث مكوناتها مما يسمح‬
‫بامكانية اخضاعها للدراسة التجريبية ‪ ،‬فهل يمكن فعال تطبيق المنهج التجريبي على المادة الحية على غرار المادة الجامدة ؟‬
‫‪ –II‬محاولة حل المشكلة ‪ :‬أ‪ -‬االطروحة ‪:‬يرى البعض ‪ ،‬أنه ال يمكن تطبيق المنهج التجرببي على الظواهر الحية بنفس الكيفية التي يتم‬
‫فيها تطبيقه على المادة الجامدة ‪ ،‬إذ تعترض ذلك جملة من الصعوبات و العوائق ‪ ،‬بعضها يتعلق بطبيعة الموضوع المدروس ذاته و هو‬
‫المادة الحية ‪ ،‬و بعضها االخر الى يتعلق بتطبيق خطوات المنج التجريبي عليها ‪.‬ب‪ -‬الحجة ‪:‬و يؤكد ذلك ‪ ،‬أن المادة الحية – مقارنة‬
‫بالمادة الجامدة – شديدة التعقيد نظرا للخصائص التي تميزها ؛ فالكائنات الحية تتكاثر عن طريق التناسل للمحافظة على النوع و‬
‫االستمرار في البقاء ‪ .‬ثم إن المحافظة على توازن الجسم الحي يكون عن طريقالتغذية التي تتكون من جميع العناصر الضرورية التي‬
‫يحتاجها الجسم ‪ .‬كما يمر الكائن الحي بسلسلة من المراحل التي هي مراحل النمو ‪ ،‬فتكون كل مرحلة هي نتيجة للمرحلة السابقة و سبب‬
‫للمرحلة الالحقة ‪ .‬هذا ‪ ،‬و تعتبر المادة الحية مادة جامدة أضيفت لها صفة الحياة من خالل الوظيفة التي تؤديها ‪ ،‬فالكائن الحي يقوم بجملة‬
‫من الوظائف تقوم بها جملة من االعضاء ‪ ،‬مع تخصص كل عضو بالوظيفة التي تؤديها و اذا اختل العضو تعطلت الوظيفة و ال يمكن‬
‫لعضو آخر أن يقوم بها ‪ .‬و تتميز الكائنات الحية – ايضا – بـالوحدة العضوية التي تعني ان الجزء تابع للكل و ال يمكن أن يقوم بوظيفته‬
‫اال في اطار هذا الكل ‪ ،‬و سبب ذلك يعود الى أن جميع الكائنات الحية – باستثناء الفيروسات – تتكون من خاليا ‪.‬باالضافة الى الصعوبات‬
‫المتعلقة بطبيعة الموضوع ‪ ،‬هناك صعوبات تتعلق بالمنهج المطبق و هو المنهج التجريبي بخطواته المعروفة ‪ ،‬و أول عائق يصادفنا على‬
‫مستوى المنهج هو عائقالمالحظة ؛ فمن شروط المالحظة العلمية الدقة و الشمولية و متابعة الظاهرة في جميع شروطها و ظروفها و‬
‫مراحلها ‪ ،‬لكن ذلك يبدو صعبا ومتعذرا في المادة الحية ‪ ،‬فألنها حية فإنه ال يمكن مالحظة العضوية ككل نظرا لتشابك و تعقيد و تداخل و‬
‫تكامل و ترابط االجزاء العضوية الحية فيما بينها ‪ ،‬مما يحول دون مالحظتها مالحظة علمية ‪ ،‬خاصة عند حركتها أو اثناء قيامها‬
‫بوظيفتها ‪ .‬كما ال يمكن مالحظة العضو معزوال ‪ ،‬فالمالحظة تكون ناقصة غير شاملة مما يفقدها صفة العلمية ‪ ،‬ثم ان عزل العضو قد‬
‫يؤدي الى موته ‪ ،‬يقول أحد الفيزيولوجيين الفرنسيين ‪ « :‬إن سائر اجزاء الجسم الحي مرتبطة فيما بينها ‪ ،‬فهي ال تتحرك اال بمقدار ما‬
‫تتحرك كلها معا ‪ ،‬و الرغبة في فصل جزء منها معناه نقلها من نظام االحياء الى نظام االموات و دائما على مستوى المنهج ‪ ،‬هناك عائق‬
‫التجريب الذي يطرح مشاكل كبيرة ؛ فمن المشكالت التي تعترض العالم البيولوجي مشكلة الفرق بين الوسطين الطبيعي و االصطناعي ؛‬
‫فالكائن الحي في المخبر ليس كما هو في حالته الطبيعية ‪ ،‬إذ أن تغير المحيط من وسط طبيعي الى شروط اصطناعية يشوه الكائن الحي و‬
‫يخلق اضطرابا في العضوية و يفقد التوازن ‪.‬ومعلوم ان التجريب في المادة الجامدة يقتضي تكرار الظاهرة في المختبر للتأكد من صحة‬
‫المالحظات و الفرضيات ‪ ،‬و اذا كان الباحث في ميدان المادة الجامدة يستطيع اصطناع و تكرار الظاهرة وقت ما شاء ‪ ،‬ففي المادة الحية‬
‫يتعذر تكرار التجربة ألن تكرارها ال يؤدي دائما الى نفس النتيجة ‪ ،‬مثال ذلك ان حقن فأر بـ‪1‬سم‪ 3‬من المصل ال يؤثر فيه في المرة‬
‫االولى ‪ ،‬و في الثانية قد يصاب بصدمة عضوية ‪ ،‬و الثالثة تؤدي الى موته ‪ ،‬مما يعني أن نفس االسباب ال تؤدي الى نفس النتائج في‬
‫البيولوجيا ‪ ،‬و هو ما يلزم عنه عدم امكانية تطبيق مبدأ الحتمية بصورة صارمة في البيولوجيا ‪ ،‬علما ان التجريب و تكراره يستند الى هذا‬
‫المبدأ ‪ .‬و بشكل عام ‪ ،‬فإن التجريب يؤثر على بنية الجهاز العضوي ‪ ،‬ويدمر أهم عنصر فيه وهو الحياة ‪.‬و من العوائق كذلك ‪ ،‬عائق‬
‫التصنيف و التعميم ؛ فإذا كانت الظواهر الجامدة سهلة التصنيف بحيث يمكن التمييز فيها بين ما هو فلكي أو فيزيائي أو جيولوجي وبين‬
‫أصناف الظواهر داخل كل صنف ‪ ،‬فإن التصنيف في المادة الحية يشكل عقبة نظرا لخصوصيات كل كائن حي التي ينفرد بها عن غيره ‪،‬‬
‫ومن ثـّم فإن كل تصنيف يقضي على الفردية ويشّو ه طبيعة الموضوع مما يؤثر سلبا على نتائج البحث ‪.‬وهذا بدوره يحول دون تعميم‬
‫النتائج على جميع افراد الجنس الواحد ‪ ،‬بحيث ان الكائن الحي ال يكون هو هو مع االنواع االخرى من الكائنات ‪ ،‬ويعود ذلك الى الفردية‬
‫التي يتمتع بها الكائن الحي ‪.‬جـ‪ -‬النقد ‪:‬لكن هذه مجرد عوائق تاريخية الزمت البيولوجيا عند بداياتها و محاولتها الظهور كعلم يضاهي‬
‫العلوم المادية االخرى بعد انفصالها عن الفلسفة ‪ ،‬كما ان هذه العوائق كانت نتيجة لعدم اكتمال بعض العلوم االخرى التي لها عالقة‬
‫بالبيولوجيا خاصة علم الكمياء ‪ ..‬و سرعان ما تــّم تجاوزها ‪.‬أ‪ -‬نقيض االطروحة ‪:‬وخالفا لما سبق ‪ ،‬يعتقد البعض أنه يمكن اخضاع‬
‫المادة الحية الى المنهج التجريبي ‪ ،‬فالمادة الحية كالجامدة من حيث المكونات ‪ ،‬وعليه يمكن تفسيرها بالقوانين الفيزيائية‪ -‬الكميائية أي‬
‫يمكن دراستها بنفس الكيفية التي ندرس بها المادة الجامدة ‪ .‬ويعود الفضل في ادخال المنهج التجريبي في البيولوجيا الى العالم‬
‫الفيزيولوجي ( كلود بيرنار ) متجاوزا بذلك العوائق المنهجية التي صادفت المادة الحية في تطبيقها للمنهج العلمي ‪.‬ب‪ -‬االدلة ‪:‬و ما يثبت‬
‫ذلك ‪ ،‬أنه مادامت المادة الحية تتكون من نفس عناصر المادة الجامدة كاالوكسجين و الهيدروجين و الكربون و االزوت و الكالسيوم و‬
‫الفسفور ‪ ...‬فإنه يمكن دراسة المادة الحية تماما مثل المادة الجامدة ‪.‬هذا على مستوى طبيعة الموضوع ‪ ،‬اما على مستوى المنهج فقد صار‬
‫من الممكن القيام بالمالحظة الدقيقة على العضوية دون الحاجة الى فصل االعضاء عن بعضها ‪ ،‬أي مالحظة العضوية وهي تقوم‬
‫بوظيفتها ‪ ،‬و ذلك بفضل ابتكار وسائل المالحظة كالمجهر االلكتروني و االشعة و المنظار ‪...‬كما اصبح على مستوى التجريب القيام‬
‫بالتجربة دون الحاجة الى ابطال وظيفة العضو أو فصله ‪ ،‬و حتى و إن تــّم فصل العضو الحي فيمكن بقائه حيا مدة من الزمن بعد وضعه‬
‫في محاليل كميائية خاصة ‪.‬جـ‪ -‬النقد ‪:‬ولكن لو كانت المادة الحية كالجامدة ألمكن دراستها دراسة علمية على غرار المادة الجامدة ‪ ،‬غير‬
‫ان ذلك تصادفه جملة من العوائق و الصعوبات تكشف عن الطبيعة المعقدة للمادة الحية ‪ .‬كما انه اذا كانت الظواهر الجامدة تفسر تفسيرا‬
‫حتميا و آليا ‪ ،‬فإن للغائية إعتبار و أهمية في فهم وتفسير المادة الحية ‪ ،‬مع ما تحمله الغائية من اعتبارات ميتافيزيقية قد ال تكون للمعرفة‬
‫العلمية عالقة بها ‪-.‬التركيب ‪:‬و بذلك يمكن القول أن المادة الحية يمكن دراستها دراسة العلمية ‪ ،‬لكن مع مراعاة طبيعتها وخصوصياتها‬
‫التي تختلف عن طبيعة المادة الجامدة ‪ ،‬بحيث بحيث يمكن للبيولوجيا ان تستعير المنهج التجريبي من العلوم المادية االخرى مع االحتفاظ‬
‫بطبيعتها الخاصة ‪ ،‬يقول كلود بيرنار ‪ « :‬البد لعلم البيولوجيا أن يأخذ من الفيزياء و الكمياء المنهج التجريبي ‪ ،‬مع االحتفاظ بحوادثه‬
‫الخاصة و قوانينه الخاصة »‪ .‬حل المشكلة ‪:‬وهكذا يتضح ان المشكل المطروح في ميدان البيولوجيا على مستوى المنهج خاصة ‪ ،‬يعود‬
‫اساسا الى طبيعة الموضوع المدروس و هو الظاهرة الحية ‪ ،‬والى كون البيولوجيا علم حديث العهد بالدراسات العلمية ‪ ،‬و يمكنه تجاوز‬
‫تلك العقبات التي تعترضه تدريجيا ‪.‬‬

You might also like