Professional Documents
Culture Documents
نظرية المعرفة عند الشاطبي
نظرية المعرفة عند الشاطبي
www.arrabita.ma
2
مقدمة
تروم هذه الورقة مباحثة يف �أهدى ال�سبل املو�صلة �إىل الك�شف عن مبد�إ تكامل العلم ال�شرعي،
وتداخل �أن�ساقه املعرفية ،وتناظر �أجنا�سه العلمية تناظرا و�إن كان يوحي ابتداء ب�إمكانية وجود
تقابل ظاهري بني ق�ضاياه؛ ف�إنه يروم عند التحقيق �إنتاج معرفة متجان�سة ي�صطحب فيها العقل
وال�شرع ويزدوج فيها النظر والعمل ،بق�صد دح�ض �شبه اجلاحدين وانتحال املبطلني.
ولعل علم الفقه و�أ�صوله من هذا القبيل ،فلقد ح�صل �شبه �إجماع من النظار على �أنه خري
متثيل لهذا التكامل� ،إما لقوته اال�ستيعابية وقدرته على احتواء كثري من قواعد العلوم بعد
اقرتا�ض بع�ضها من جمالها الذي احت�ضنها ابتداء ،و�إما ملكنة �أعالمه ومتكنهم من رفع اخلالف
عن ق�ضاياه ومباحثه بالتوظيف ال�سليم لقواعد النظر العلمي ال�سليم فهما وا�ستنباطا حتقيقا
وتنزيال ،وقد تولد عنه �أن �صارت تلك القواعد حمطة توا�صلية وقنوات تعارفية لي�س فقط بني
نظار العلم و�أهل التخ�ص�ص ،بل وحتى مع املخالف يف النحلة.
تلك كانت ق�صة نظرية املعرفة يف بعديها النظري والإجرائي عند ال�شاطبي� ،أق�صد كونها
حم�ضنا لتكامل العلوم عرب التوظيف الإجرائي لقنواتها املعرفية ال�شرعية يف بعدها الوجودي
والعلمي .ذلك لأن قنوات حمل املعرفة ال�شرعية عند النظار عموما ،وعند الأ�صوليني خ�صو�صا
يطبعها طابع �شبه الإجماع على حجيتها نظريا والعمل بها تنزيليا و�إجراء .وهي :الوحي
والكون والعقل.
www.arrabita.ma
نظرية املعرفة عند ال�شاطبي :درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج 3
غري �أن توظيفها عند �أبي �إ�سحاق م�سح مب�سحة نظرية «ترجمة العلم �إىل العمل» .وهي نظرية
توحي يف جميع تواليفه �إىل وجوب ا�ستثمار املعرفة لتوليد كليات العلوم وحماولة �إخراجها من
الكمون �إىل التجلي �أو من الوجود بالقوة �إىل الوجود بالفعل .فلم ي�شغل نف�سه مبحاولة الت�أ�صيل
مل�سلمة االعرتاف النظري والإقناع احلجاجي بقواعد الوحي والكون والعقل ...كما عودتنا مدونات
الأ�صوليني يف مباحث الكالم مثل حديثهم عن طبيعة احلكم التنجيزي وال�صلوحي والتح�سني
والتقبيح وطبيعة عالقة ال�سبب بامل�سبب هل هي عادية �أم ت�أثريية؟ وكذا عالقة ال�سنة بالقر�آن،
�إال قليال ،وعوار�ضهما من عموم وخ�صو�ص وتقييد ون�سخ وحقيقة وجماز وحجيتها جميعا� ...إىل
غري ذلك ..و�إمنا حاول جتاوز هذه املباحث يف طريقة عر�ضها التجريدي النظري ليطل من نافذة
هذه العلوم م�سلمة على تر�سانة من الإ�شكاالت التي �أثارتها عالقة هذه العلوم بع�ضها ببع�ض،
باعتبارها ممثلة لوحدة ال�شريعة يف �شبكتها الكلية املعقدة.
و�إِنَّ َغ َّ�ض الطرف عن تلك الإ�شكاالت العملية العار�ضة �سيولد ،قطعا ،ال�شك يف هاته الوحدة
وحماولة تفكيك ن�سيجها من قبل املغر�ضني �أو اجلاهلني على حد �سواء .فكان �أن انت�صب �أبو
�إ�سحاق لر�صد �أهم هذه الإ�شكاالت العار�ضة لعلوم ال�شريعة ،وتفكيك خالياها و�إعادة ترتيب
مباحث العلوم ترتيبا يجري على ن�سق هويتها الراجعة �إىل وحدة ال�شريعة التابعة هي بدورها
لوحدة الوحي كالم اهلل الواحد غري املتعدد.
ومن هنا ،حقا ،وجب �إعادة القراءة لقواعد علم الأ�صول يف منظور �شيخ املقا�صد ،باعتباره
العلم الكلي الأعلى الناظم ملا �سواه من العلوم وهي جزئيات بالن�سبة �إليه .فكان �أن جر عليه
االهتمام مب�صادر املعرفة يف جتلياتها الوجودية والعلمية الكربى �أعني :النقل والعقل والكون .وما
�سواها مكمل لها �أو راجع �إليها.
www.arrabita.ma
�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر 4
هذا املبحث هنا هو ر�صد ذلك املحتوى �إجماال من خالل امل�صادر الرئي�سة واملكملة لها املق�صودة
�أ�صالة لرتكيب مباحث الفن يف منظور �أبي �إ�سحاق:
.1الوحي؛ هو كليات القر�آن العليا :ولها طابعان :طابع م�صدري :يرتبط مباهية القر�آن
الكرمي وال�سنة النبوية ..فهما م�صدران لإن�شاء الأحكام التف�صيلية املبا�شرة الراجعة �إىل احلالل
واحلرام ،ثم هما م�صدران لتوليد قواعد الأ�صول الفقهية وحجيتها ال�شرعية .وما �سوى هاذين
نا�شئ عنهما مثل الإجماع والقيا�س واال�ستدالل.
وطابع قانوين حجاجي :يتعلق خ�صي�صا مبنظومات القواعد الكلية التي لي�ست م�صادر
ولكنها قوانني ،مثل العموم واخل�صو�ص ،و�سد الذريعة ،وقواعد امل�آل ،وامل�صلحة ...وغريها .فبني
�أن هاته الكليات كا�شفة عن احلكم و�صاحلة للتناظر واملجادلة �أثناء ربط الدليل مبواقعه يف
النوازل والق�ضايا وما يتعلق بالفروع يف حمطة حتقيق املناط.
.2الكون؛ هو منظومة احلالل التي زين اهلل بها مناكب الوجود وغلبها على احلرام� .أو قل:
هي جمموع الطيبات التي ن�صبها ال�شارع للتمتع بها �أ�صالة واتخاذها قنوات لعبادته يف الأر�ض...
فبي �أن هذا التعريف يقود لزوما �إىل ج�س
ويرتبط بها �ضرورة جمموع الكائنات املعرفة بخالقهاِّ .
نب�ض حظرية التوحيد التعبدي يف �شعور املكلف ،ومن خالله �ستتجلى مالمح الت�صوف ال�سني
املعتدل �أو «فقه القلوب» .ودجمه يف الأ�صول معقول كما �سيت�ضح فيما بعد ،و�إمنا كان كذلك
تعري�ضا بالأ�صوليني الذين اقت�صروا على «فقه الظاهر» دون «فقه الباطن» ،وهما على كل حال
علمان �صنوان.
.3العقل؛ مل يعنت به ال�شاطبي من جهة احلجية كما عودتنا مدونات الأ�صوليني ونظار
الكالم؛ ولكن من جهة كونه قناة لتوليد قواعد كلية رمبا مل يعهدها الأ�صوليون مبنهج �أبي �إ�سحاق
التكاملي ...وذلك مثل نظرية ال�سبب وامل�سبب والعالقة بينهما هل حتكمها العادة فيرتتب على
ذلك مبد�أ التوحيد؟ �أم الت�أثري املبا�شر فيلزم عنه مبد�أ اال�ستخالف القا�ضي بوجوب مراعاة
الفعل الإن�ساين من جهة �أ�سبابه وقرائنه ولواحقه جميعا؟ ..وبني �أن من ثمرات هذا املبد�أ عنده
ترتب كلي «امل�آل» وفروعه.
هذه هي �أمهات امل�صادر املعرفية عند ال�شاطبي و�سنغ�ض الطرف عن �سائرها مثل اللغة
واملنطق ...تبعا خل�صو�صية الدرا�سة املعدة �أ�صالة لبيان عالقة �أوال فقه الباطن بفقه الظاهر
www.arrabita.ma
نظرية املعرفة عند ال�شاطبي :درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج 5
وثانيا كالم اهلل امل�سطور «الوحي» بكتابه املنظور «الكون» ،باعتبار الثاين معادال مو�ضوعيا
للأول .ففي وجهة نظري ،هنا ت�سكن تر�سانة من الأ�سرار العلمية والتعبدية امل�ساعدة على
قراءة الكون بفهر�س القر�آن؛ قراءة توحيدية �شاملة كا�شفة عن منظومة من الإ�شكاالت
املعرفية ،و�إمكان �إر�ساء حلول لها �صاحلة لكل زمان ومكان ولي�س قا�صرة على حميط �إمام
غرناطة االجتماعي والعلمي ،وال على علم الأ�صول ال�صناعي فقط ،بل ممتدة �إىل �سائر العلوم
مثل التف�سري والت�صوف كما �أ�شري �سابقا .وقد تداخلت هذه امل�صادر يف ت�شكيل بع�ض قواعد
العلمني معا وفوائدهما عرب قناة الكلي.
www.arrabita.ma
�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر 6
نبادر ابتداء لتقدمي احلل املنهجي والقناة املعرفية التي �ساعدت �أبو �إ�سحاق يف مللمة �شتات
العلوم يف �صيغتها الن�سقية القاعدية ،على اعتبار �أن اخلو�ض يف اجلزئيات هو ا�ستمرار ،بوعي �أو
بغري وعي ،يف توطني الأزمة ...ومن ثم كان احلل هو الوقوف على نظرية «الكلي» املحت�ضن لتلك
اجلزئيات.
وهذا ال يعني �أن الأ�صوليني قبله �أهملوا النظرية ،ت�أ�صيال �أو تنزيال ،كال ،بل قواعد العلوم
هي نف�سها كليات ،بيد �أن طبيعتها «اال�ستحواذية» مل ترتقى عندهم لتخرج من فن �إىل فن خروجا
منهجيا ي�ضبط �إ�شكاال ما ،و�إال ف�إن هجرة «القواعد الكلية» من علم �إىل �صنوه معروف متداول
بقوة...
من هنا كانت الكليات عند �أبي �إ�سحاق لها جتليان:
جتلي خا�ص؛ وهو ا�ستفادة فروع فقهية.
جتلي عام؛ ا�ستفادة قواعد فقهية و�أ�صولية .وهنا ال�شك مربط الفر�س عنده ...ولهذا كان
الكثري من القواعد الكلية عند غريه جزئيات �إ�ضافية عنده ،متاما مثل الفروع من جهة قوتها
ولي�س من جهة طبيعتها� .إذن ما مظاهر هذا التكامل بني العلوم عند �إمام غرناطة؟ وكيف
ا�ستطاع الو�صول �إليه من خالل قناة الكلي؟
ما يعنينا هنا يف هذا املقام من تلك العلوم املتداخلة منهجيا ومعرفيا مع الأ�صول؛ علم
ال�سلوك �أو الت�صوف ،وذلك لأمرين اثنني:
�أولهما؛ �أن وجود قواعده ومفاهيمه بقوة يف ثنايا «املوافقات»؛ ي�ستفز الناظر ويدفعه �إىل
البحث والت�سا�ؤل حول �سر �إدماج مطالبه بكرثة يف مطالب الأ�صول ،ب�صورة مل تكن عند الأ�صوليني
قبل �أبي �إ�سحاق وال َخ ُّطوها ب�أميانهم!
والثاين؛ �أن الت�صوف هو �أقرب العلوم ال�شرعية �إىل الفقه و�أ�صوله ،وذلك لأن العلوم
املق�صودة بالأ�صالة من ال�شارع الرتباطها املبا�شر ب�أفعال املكلفني �إمنا تنح�صر يف علم
الفقه دون �سواه؛ ذلك لأن الأحكام هي �أو�صاف قيمية ت�صف الأفعال يف الوجود وت�ؤطرها،
وما الأدلة من قواعد ون�صو�ص �إال قنوات حاملة لتلك الأو�صاف يف �صورتها النهائية بعد
�سربها واختبارها ...وملا كان علم الفقه منه ظاهر وباطن وكان اعتناء الفقهاء والأ�صوليني
www.arrabita.ma
نظرية املعرفة عند ال�شاطبي :درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج 7
بالأول يف الغالب دون الثاين؛ كان ذلك مدعاة �إىل ا�ستدراك �أبي �إ�سحاق بدجمه هذا
يف ذاك وجعلهما على مرتبة واحدة ي�شملهما جن�س واحد هو الفقه .فكان لزاما طرق
قواعد الت�صوف كطرق قواعد الأ�صول ،باعتبارهما «�شقيقان يف الداللة على �أحكام اهلل»
كما عرب ال�شيخ زروق ،لكن اجلميع ظلل لديه مبظلة الكلي الأعلى .وهذا �سر �إبداعه املنهجي
القا�ضي بالتكامل والتداخل مع احلفاظ على هوية كل علم علم على حدة.
فما حقيقة هذا التداخل العلمي والتكامل املعريف بني الأ�صول والت�صوف عند ال�شاطبي؟
www.arrabita.ma
�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر 8
ومن هنا ،وبناء على ذلك ،كان توظيف كثري من العلماء ملعاين ومفاهيم ال�سلوك والت�صوف
داخل املباحث الأ�صولية والفقهية؛ �إمنا هو يف هام�شها دون �أن يرقى �إىل �أن يكون من �صلب العلم،
ف�صار ب�إدراجه فيها ،ك�إدراج دقائق الكالم واملنطق وبع�ض فروع اللغة والفقه ،و�سيلة �إىل «خلط
بع�ض العلوم ببع�ض».
وذلك مثل ما جاء يف قواعد العز بن عبد ال�سالم من احلديث عن «الأذكار» ،و»البدع» ،و»ما
بطن من معارف الأولياء و�أحوالهم» ،وبع�ض مقامات الإميان و�أحوال الإن�سان فيها كـ»اخلوف،
والرجاء ،واحلياء ،والتوكل ،واملهابة ،والتوبة والزهد والفقر والغنى».وغريها ..وفروق القرايف
مل تخل هي �أي�ضا من بع�ض حديث عن ذلك مثل «قاعدة الزهد وذات اليد ،والفرق بينهما»
و»الفرق بني قاعدة الزهد وقاعدة الورع» ،و»الفرق بني قاعدة املع�صية التي هي كفر وما لي�س
بكفر» ،و�أ�شياء من هذا القبيل �أدخلت يف العلم وهُ ِّجرت �إليه دون �أداء وظيفتها املتنا�سقة جمعا
بني الفنني ،فظهر انف�صامها عنه.
و�أما الغزايل ،رائد نظار الفن ،فكان على نقي�ضهما يف الطرف الآخر؛ �إذ مل ت�سلم كتبه
من �شائبة االنف�صام العلمي بني مباحث العلمني و�إقالة �أحدهما من الآخر وا�ستقالل كل منهما
مبباحثه ا�ستقالال يوحي بعدم تكاملهما وتداخلهما ،يدل على ذلك ا�ستقالل مباحث كتابه
«الإحياء» عن مباحث كتابه «امل�ست�صفى»؛ فالأول مثل مذكرة الزهاد وح�شي بفنون من ق�ص�ص
الوجدان وال�شعور تبدو على غري منهاج قواعد العقل وم�ساطره كما طرقها يف الثاين فحدث
االنف�صام ..وغري ه�ؤالء كثري .وهذا هو بالذات الذي عمل ال�شاطبي على تالفيه بالت�صحيح كما
�ستتجلى بع�ض مظاهره يف هذه الدرا�سة.
www.arrabita.ma
نظرية املعرفة عند ال�شاطبي :درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج 9
فالآداب ال�شرعية املحت�ضنة للت�صوف يف هذه القاعدة الكلية ت�ضاهي الفروع الفقهية يف
الن�سبة �إىل الأ�صول ،ومن هنا تت�ضح حقيقة الفرق بني نوعي التداخل .وقد �أ�شار �إىل ذلك يف
مو�ضع �آخر �إذ قال« :كل م�س�ألة ال ينبني عليها عمل؛ فاخلو�ض فيها خو�ض فيما مل يدل على
ا�ستح�سانه دليل �شرعي؛ و�أعني بالعمل؛ عمل القلب ،وعمل اجلوارح ،من حيث هو مطلوب �شرعا».
وهذه كلية �أخرى �شاملة م�ستوعبة جلن�س الفنني تقرر �أن عمل القلب ،وهو حمط نظر الت�صوف من
املكلف ،مطلوب يف علم الأ�صول كعمل اجلوارح ،وهو حمط نظر الفقه والفروع منه ،فمو�ضوعهما
معا وجمالهما الرئي�س فعل املكلف ظاهرا وباطنا.
ومن ثم مل تقت�صر نظرياته على خ�صو�صية الفقه ال�صناعي يف �شقه اجلوارحي ،بل جتاوزته
لت�صري قادرة على احت�ضان املنظومة ال�شعورية والوجدانية لدى املكلف .ومن هنا �أي�ضا خرج
حديثه عن اجلمال.
www.arrabita.ma
�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر 10
احلفاظ ،طبعا ،على وظيفته الرتبوية الكلية التي �سيق من �أجلها حيث ولد يف �أو كاره الأوىل ،بل
وهي التي �سوف ت�ضفي على املفاهيم الأ�صولية عند �أبي �إ�سحاق جمالها ورونقها.
على هذا املهيع جتد �أبا �إ�سحاق ي�سوق كثريا من امل�صطلحات واملفاهيم والقواعد الأخالقية
الراجعة �إىل علم ال�سلوك ومفيدة ب�صفة مبا�شرة للفقه كـ»فتيا �أهل الورع» ،و»ق�صد احلظ»،
و»ق�صد التعبد» ،و»ق�صد املوافقة» ،و»ق�صد املخالفة» ،و»عزائم املطالب» ...وغريها كثري ،ناهيك
عن بع�ض �آخر منها و�إن مل يرق �إىل �إفادة معنى �أ�صويل حم�ض �أو فقهي راجع �إىل الأ�صول �إفرادي
�أو تركيبي؛ �إال �أنه �أفاد جتديدا يف منهجية الت�أ�صيل للفقه �أو �إعطاء حقيقة �أ�صولية �أو فقهية
تفهم من ال�سياق والنظم مبجموعها كمفهوم «املقامات» ،و»الأحوال» ،و»الكرامات» ،و»اخلوارق»،
و»الإخال�ص» ،و»الزهد» ،و»الرجاء» ،و»اخلوف» ،و»الفرا�سة» ،و»الذوق» ،وغريها كثري مما ال
ميكن ح�صره.
هذا دون �أن نن�سى ،وهو الكثري الغالب� ،شحن املفاهيم والقواعد الأ�صولية نف�سها مبعاين
الرتبية والأخالق ومقا�صد الت�صوف كما هو احلال بالن�سبة ملفاهيم املباح ،واالجتهاد ،وامل�آل،
وحتقيق املناط اخلا�ص ،وقواعد املقا�صد برمتها ناطقة بذلك .قال يف �سياق حجاجي حول
�إمكانية �ضبط املفهوم« :و�أما الكالم يف دقائق الت�صوف فلي�س ببدعة ب�إطالق ،وال هو مما ي�صح
بالدليل ب�إطالق ،بل الأمر ينق�سم».
ولفظ الت�صوف البد من �شرحه �أوال حتى يقع احلكم على �أمر مفهوم لأنه �أمر جممل...
وحا�صل ما يرجع فيه لفظ الت�صوف عندهم معنيان� :أحدهما :التخلق بكل خلق �سني ،والتجرد
عن كل خلق َد ِ ّ
ن .والآخر �أنه الفناء عن نف�سه والبقاء لربه ،وهما يف التحقيق �إىل معنى واحد� ،إال
�أن �أحدهما ي�صلح للتعبري به عن البداية والآخر ي�صلح التعبري به عن النهاية ،وكالهما ات�صاف»،
�إىل �أن قال« :و�إذا ثبت هذا فالت�صوف باملعنى الأول ال بدعة يف الكالم فيه ،لأنه �إمنا يرجع �إىل
تفقه ينبني عليه العمل وتف�صيل �آفاته وعوار�ضه و�أوجه تاليف الف�ساد الواقع فيه بالإ�صالح».
فهذا الن�ص القاطع يبني �أن الت�صوف ال�سني املعتدل �إمنا يرجع يف نهاية املطاف �إىل الفقه
الذي ينبني عليه عمل ،ويكون بهذه احليثية نوعا من �أنواع املعرفة ال�شرعية الداخلة حتت جن�س
الأ�صول التي يرتتب عليها كما قال �سابقا« :فروع فقهية �أو �آداب �شرعية» .فت�صري الفروع ،هاهنا،
مع الت�صوف بالن�سبة �إىل الأ�صول ر�ضيعي لبان وفر�سي رهان! لكونهما يتجاذبان نف�س الوظيفة
www.arrabita.ma
نظرية املعرفة عند ال�شاطبي :درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج 11
املتمثلة يف �إن�شاء عمل بعد حتقيق �أ�صوله النظرية وفق ترتيب منهجي ي�صلح مبجال كل منهما.
قال« :وهو؛ (�أي الت�صوف) فقه �صحيح و�أ�صوله يف الكتاب وال�سنة ظاهرة ،فال يقال يف مثله
«بدعة»� ،إال �إذا �أطلق على فروع الفقه التي مل ُي ْل َف مث ُلها يف ال�سلف ال�صالح �أنها بدعة ،كفروع
�أبواب ال�سلم والإجارات واجلراح ...وبيوع الآجال وما �أ�شبه ذلك .ولي�س من �ش�أن العلماء �إطالق
لفظ البدعة على الفروع امل�ستنبطة التي مل تكن فيما �سلف ،و�إن دقت م�سائلها .فكذلك ال يطلق
على دقائق فروع الأخالق الظاهرة والباطنة �أنها بدعة ،لأن اجلميع يرجع �إىل �أ�صول �شرعية».
فهذا كله يوحي ابتداء ب�إمكانية وجود تداخل منهجي ،مفاهيم وقواعد ،بني الأ�صول والت�صوف
و�أن (�صلبية) الأول منهما قادرة على �ضبط (ليونة) الثاين �ضبط الكلي جلزئيه .وقد �أملح �أبو
�إ�سحاق بلمحة ميكن اعتبارها ،مع ما �سبق ،حماولة بناء نظري للإ�شكال �سوف يعمل على �أجر�أته
عمليا يف �سائر مطالب كتبه ،هنالك يتحول من دعوى جدلية �إىل ق�ضية م�سلمة ،ذلك قوله« :وهذا؛
(�أي الت�صوف) نوع من �أنواع الفقه املتعلق ب�أهواء النفو�س ،وال يعد من البدع لدخوله حتت جن�س
الفقه ،لأنه و�إن دق راجع �إىل ما جل من الفقه ،ودقته وجلته �إ�ضافيان واحلقيقة واحدة».
من هنا يكون ال�شاطبي قد دفع عن علم الأ�صول التداخل االبتذايل �أو الهام�شي غري املنتج،
وجلب له التداخل الن�سقي �أو الإجرائي الذي ُ َي ّكن من �إ�ضفاء طابع الوحدة والتنا�سق على العلم.
و ُي�سهم يف توليد علوم �أخر؛ هي جزئيات بالن�سبة �إليه ،جند يف �صدارتها؛ قواعد اجلمال التعبدي
والتف�سري ال�صويف الإ�شاري.
www.arrabita.ma
�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر 12
�إن نظرية الكون والف�ساد التي اهتم بها نظار الفل�سفة اليونانية والإ�سالمية من �أر�سطو زعيم
الأوىل �إىل ابن ر�شد رائد الثانية؛ مل يكن قط عبثا ،بل كان يف جوهره اهتماما �أولويا مباهية
الكائنات ووظيفتها .فال ي�أتي كائن �إال على �أنقا�ض كائن �آخر �أو ارتباطا به لتكوين ثالث منهما...
وهكذا ي�ستمر التكوين الإلهي للمخلوقات بتالقح جواهرها وتالقيها لت�أدية وظيفة الت�سخري
الكوين للإن�سان باعتباره «ثمرة �شجرة اخللقة» على حد تعبري النور�سي.
من هنا كان واجبا على هذا الإن�سان �أن ي�ستثمر خدمة هذه املخلوقات ،وما �أبيح له من طيباتها
لت�شكيل مائدة تعبدية حتوله من طبيعته «النا�سوتية» والتقوقع حولها �إىل وظيفته «الالهوتية» �أو
قل :من عبادة نف�سه واقتنا�ص �شهواته �إىل عبادة خالقه وتوحيده.
تلك هي طبيعة الكون والكائنات يف فل�سفة الإ�سالم ..فكان معظم اهتمامات الوحي القر�آن
بكليات هذه الفل�سفة «الوجودية»� ،أق�صد :ربط طبيعة الكائنات بوظيفة الإن�سان يف ن�سق وجودي
حتكمه �إرادة اهلل الأزلية وحرية الإن�سان االختيارية .من هذا امل�سلك حاول �أن ي�سلك �أبو �إ�سحاق
بقواعده الأ�صولية و�شحنها مبعان الكونية واال�ستخالف والتوحيد التعبدي ،لي�صري للفن طابعا
ح�ضاريا ير�سم من خالله معامل فل�سفة امتثالية وجودية تنبني يف جمملها على كلية «ترجمة العلم
�إىل العمل» كما �أ�شرنا �سالفا ،وتخرج القواعد من حيز النظر املجرد والتنزيل الفروعي ال�ضيق
�إىل ف�ضاء الإجراء والتوظيف الكوين ال�سنني املبني على قانون التدافع احل�ضاري يف جماري
العمران وطبائعه.
و�سيتم االقت�صار على �أمنوذج املباح مبا هو �صورة ناطقة بهذه التجليات التداخلية دون �سائر
املطالب ،ملوجبني اثنني� :أوال لكونه مركز الأحكام وقناة توفري اخلدمة لنظرية املقا�صد يف �شقيها
الأ�صلي والتبعي وبكل جتلياتها العمرانية الكونية واجلمالية التعبدية ال�صوفية .والثاين :لكونه
حمطة منهجية جتلت من خاللها معامل جتديد زاوية النظر �إىل مفهومه ،بعدما قبع زمنا غري
تبي يذكر ملادته املتمثلة يف
ي�سري يف قوالب املنطق وجدليات احلدود الذاتية عند ال�سابقني ،دون ُّ ٍ
جملة النعم والآالء الكونية يف الوجود� .إذ من خالل هذه العالقة التالزمية بني املفهوم واحلقيقة،
�أو بني ال�صورة ومادتها �سوف يبني �أبو �إ�سحاق ق�ضاياه التجديدية يف امل�صطلح ،وير�صد طبيعته
التكاملية املاثلة يف كونه منهج بحث ي�صل الأر�ض بال�سماء ،وي�ؤلف بني واقع الأ�شياء يف الوجود
و�أ�صلها الرباين يف الغيب.
www.arrabita.ma
نظرية املعرفة عند ال�شاطبي :درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج 13
فما حقيقة املباح املعرفية عند ال�شاطبي؟ وما طبيعته الرتبوية ال�صوفية؟ وكيف تفتقت عنها
جتليات تناغم الإن�سان مع الكون والكائنات �أو نظرية اجلمال التعبدي؟
�إن طبيعة املباح يف مدر�سة �أبي �إ�سحاق الأ�صولية منطوية على �أ�سرار علمية وكونية هي املحرك
ملحور اجلمال فيها .ف�صارت بذلك قمينة ب�أن ُت َك ِّونَ حقيقته املعرفية يف املطالب الأ�صولية .يدل
على ذلك �أمران يف املفهوم :لأنه �إما «لي�س مطلوب الفعل وال مطلوب االجتناب» ،وتلك حقيقته
اجلزئية �إذا جترد عن القرائن اخلارجية ،بحيث يعد فا�صال برزخيا بني الواجب واحلرام وما
يرجع �إليهما ،لأنه مركز الب�ؤرة وميزان الأحكام ،فال يبغي بع�ضها على بع�ض ﴿:
(﴾ الرحمن.)20:
و�إما مطلوب طلب العزائم الكلية واملقا�صد الأ�صلية لأنه خادم لها بوظيفته ،حينئذ يتفرع �إىل
نوعني حتتهما �أ�صناف .ثم ي�ؤول اجلميع يف النهاية �إىل ت�شكيل �شجرة متداخلة الأغ�صان متباينة
الفروع ،من خاللها تتك�شف حقي َق ُت ُه �سافرة عن كل تلك الأ�سرار:
املباح باعتبار حقيقته اجلزئية:
على جهة التحرمي على جهة الكراهة على جهة الوجوب على جهة الندب
فهو �شبكة ذات �أ�صول وفروع يتداخل فيها الرتبوي ال�صويف مع الفقهي الأ�صويل وميتد اجلميع
لي�شكل مائدة من اجلمل التعبدي يف �شعور املكلف �إذا طبع قلبه بنوع من ال�صفاء والإخال�ص.
وقبل ت�شريح هذه املنظومة اجلمالية فيه ال ب�أ�س �أن منهد بعر�ض القوانني الكلية العلمية
والوجودية التي حتكم هذه ال�شبكة وتلخ�ص وظيفة الإن�سان التعبدية جتاه الكون والكائنات وهي
على التوايل:
www.arrabita.ma
�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر 14
ـ الكون؛ مر�آة يعك�س جمال الأ�سماء احل�سنى وال�صفات العال ،وقناته امل�ؤدية �إليه يف وجدان
املكلف هي :التوحيد.
ـ الكون؛ منظومة من النعم والطيبات من�صوبة للتناول واال�ستمتاع وقناته امل�ؤدية �إليه يف
الوجدان هي :ال�شكر.
ـ الكون؛ زينة دنيوية فانية ،وتر�سانة من ال�شهوات واملالهي ،وقناته امل�ؤدية �إليه يف الوجدان:
الزهد والورع.
هذه هي �أمهات �أ�صول الأخالق عند نظار الرتبية والت�صوف �سلبا و�إيجابا ،حتلية وتخلية؛
�أق�صد �أن التوحيد وال�شكر هما مبد�أ التحلية �إيجابا ،والزهد والورع هما مبد�أ التخلية �سلبا ودفعا.
و�إنه ملن العجب �أن جند هذه الكليات هي مبد�أ حراك نوعي اجلمال معا عند �أبي �إ�سحاق ،ذلك
لأن �صورة النعم والكائنات يف الوجود يحكمها نوعان من اجلمال؛ �أحدهما ابتالئي ي�شمل جميع
النعم والآخر تعبدي مرتبط بال�شكر والتوحيد .وهذه خال�صة لهما لتمهيد املق�صود:
�أ .جمال التكوين (�أو اجلمال االبتالئي)
جمال التكوين هو جملة النعم �أو �أ�سباب الزينة التكوينية االبتالئية املو�ضوعة �سببا لال�ستمتاع
على الإطالق ،بناء على �أن «الأ�سباب وامل�سببات مو�ضوعة يف هذه الدار ابتالء للعباد وامتحانا
لهم ،ف�إنها طريق �إىل ال�سعادة �أو ال�شقاوة»( .)1فهو من امل�صالح املطلقة الراجعة �إىل ق�صد ال�شارع
االبتدائي قبل ت�صرف املكلف ،كما �سوف ي�أتي مع �أبي �إ�سحاق ،لكنه م�سيج بغطاء م�شيئة اهلل يف
خلقه بق�صد ابتالئهم واختبارهم ق�ضاء وقدرا .فعلى هذا النوع من اجلمال و�ضعت �أ�صول النعم
يف الكون ابتداء؛ قال تعاىل ﴿ :
( ﴾الكهف .)7 :وقال �سبحانه ﴿ :
�( ﴾ آل عمران .)14 :وقال جل وعال﴿ :
( ﴾ الكهف.)46 :
وقال �أي�ضا ﴿ :
www.arrabita.ma
نظرية املعرفة عند ال�شاطبي :درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج 15
( ﴾ امللك .)5 :وقال �أي�ضا ﴿ :
( ﴾ الأعراف.)32 :
فهذه الآيات وغريها مما �شاكلها؛ تفيد �أن هذه الزينة �إمنا و�ضعت للنا�س ،جميع النا�س ،فال
يتعلق بها مدح �أو ذم من حيث هي كذلك قبل التكليف مبقت�ضياتها ولوازمها الراجعة �إىل قانون
االنت�ساب الإمياين ،و�إن تعلق بها �شيء من ذلك؛ فهو تعلق عام ولي�س خا�صا .قال ابن القيم يف
تعليقه على الآيات« :ف�أخرب �سبحانه عن خلق العامل ،واملوت واحلياة ،وتزيني الأر�ض مبا عليها
�أنه لالبتالء»(.)1
وقال �سيد قطب مقررا هذه احلقيقة« :ونظرة �إىل ال�سماء كافية لإدراك �أن اجلمال عن�صر
مق�صود يف بناء الكون ،و�أن �صنعة ال�صانع فيه بديعة التكوين جميلة التن�سيق ،و�أن اجلمال فيه
فطرة عميقة ال عر�ض �سطحي ،و�أن ت�صميمه قائم على جمال التكوين»( .)2ثم لأن اجلمال التكويني
البد و�أن تكون �أ�شيا�ؤه التي يزدان بها النا�س مغايرة لهم منف�صلة عنهم(.)3
يقول الدكتور توحيد الزهريي يف تعليقه على �آية الزينة ال�سالفة يف �سورة الكهف« :بن�ص هذه
الآية نعلم �أن اجلمال الذي تبديه الأ�شياء هو حقيقة مو�ضوعية توجد خارج النف�س الإن�سانية،
وت�ستند �إىل عمل الهي هو «التزيني» .والغاية منه هو االبتالء»(.)4
كل هذه الن�صو�ص ناطقة باملراد ،مفيدة �أن اجلمال االبتالئي التكويني �إمنا هو جذوة من
الكلمات التكوينية ،وامل�شيئة القدرية التي ر�سمت مقادير املخلوقات فقدرتها تقديرا ،ثم �شخ�صتها
يف الوجود لتكون كالدال على مكونها وخالقها قبل ت�صرف املكلف فيها� .أما بعد ذلك الت�صرف؛
فالبد من ا�ستتباع تكليف يجر م�س�ؤولية واختيارا جراء فعل العبد جتاهها ،ف�إن كان فعال �إيجابيا
حممودا ترتب عليه جمال تكليفي تعبدي ،وهو يف:
ب .جمال التكليف (�أو اجلمال التعبدي)
ينفرد اجلمال التكليفي التعبدي عن عديله ال�سابق مبيزتني متالزمتني:
� .1أبو بكر بن قيم اجلوزية ،رو�ضة املحبني ونزهة امل�شتاقني ،حتقيق :عبد اهلل املن�شاوي ،املن�صورة :مكتبة الإميان ،د.
ت� ،ص.47
� .2سيد قطب ،يف ظالل القر�آن ،القاهرة :دار ال�شروق ،ط1972 ،1م.2984/5 ،
.3الطاهر ابن عا�شور ،التحرير والتنوير ،تون�س :دار �سحنون للطباعة والن�شر ،د .ت.89/23 ،
.4توحيد الزهريي ،نحو فل�سفة �إ�سالمية للجمال والفن ،الكويت :دار القلم ،ط1998 ،1م� ،ص.48
www.arrabita.ma
�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر 16
�أوالهما؛ كونه قب�س ًا من منظومة التكليف واالختيار عموما ،حيث يوجد املدح والذم واحل�سن
والقبح والثواب والعقاب ،فال خالف يف كون هذه املتقابالت �إمنا هي من لوازم االختيار التعبدي
عند املكلف ،حيث يخرج من كونه عبدا خملوقا ،قهرا وا�ضطرارا� ،إىل كونه مكلفا م�س�ؤوال طوعا
واختيارا ،فال يبقى كالبهيمة امل�سيبة ت�سرت�سل يف نيل لذاتها واقتنا�ص �شهواتها دون داع يقيد �أو
حامل يزع عن الوقوع يف املحظور! وجمموع ذلك كله هو ق�صد ال�شارع العام من و�ضع ال�شريعة،
كما قال �أبو �إ�سحاق« :املق�صد ال�شرعي من و�ضع ال�شريعة؛ �إخراج املكلف عن داعية هواه حتى
يكون عبدا هلل اختيارا كما هو عبد هلل ا�ضطرارا»(.)1
والثاين؛ �أنه مت�صل بالعبد نابع من م�شكاة الروح والوجدان امل�ستقرة يف قلبه يف حال
�إميانه ،م�ستنده قوله تعاىل ﴿ :
( ﴾ احلجرات� .)7 :إذ ذهب طائفة
من املف�سرين �إىل �أن هذا التزيني نف�سي مت�صل كما �سطره الراغب( ،)2فخالف بذلك اجلمال
االبتالئي املنف�صل؛ الرتباطه ب�أ�صول النعم املن�صوبة يف الكون البتالء املكلف� :أي�شكر �أم يكون
من اجلاحدين! لكن يبقى الإ�شكال يف قنواته احلاملة له املج�سدة ملقت�ضياته يف ال�سلوك بعد ثبوت
�أ�صله يف الباطن :ما هي؟
�إن نظرة خاطفة �إىل تواليف نظار الرتبية وال�سلوك توحي قطعا بوجود مفاهيم تداولية �ضاربة
بعمقها يف �صلب اجلمال واحل�سن ،غري �أنها فروع عن زينة �أ�صل الإميان امل�ستقر يف الباطن،
فكانت بالن�سبة �إلية منازل وقواعد ُتظهر حقيقته يف اخلارج ك�ش�أن اجلزئيات مع كليها الناظم لها
عند املناطقة ،حيث ال يت�شخ�ص وال يتج�سد �إال بها وفيها .وذلك مثل ال�صدق والإخال�ص والتوحيد
وال�شكر واحلمد والرفق واللني والرحمة والتودد و�صلة الأرحام وح�سن اجلوار ...وغريها من
مكارم الأخالق ،مما تتوا�ضع عليه العقول ال�سليمة والفطر ال�صحيحة الراجعة �إىل «التلب�س من
كل ما هو معروف من حما�سن العادات ،والتباعد عن كل ما هو منكر يف حما�سن العادات»(.)3
.1ال�شاطبي ،املوافقات ،م� ،س.128/2 ،
.2فقوله( ﴾ ﴿ :احلجرات )7 :فهو من الزينة النف�سية .وقوله:
﴿( ﴾ الأعراف )30 :فقد حمل على الزينة
اخلارجية» .الراغب الأ�صفهاين ،معجم مفردات �ألفاظ القر�آن ،حتقيق� :إبراهيم �شم�س الدين ،بريوت :دار الكتب
العلمية/لبنان ،ط2008 ،3م� ،ص.219
.3نف�س امل�صدر وال�صفحة.
www.arrabita.ma
نظرية املعرفة عند ال�شاطبي :درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج 17
www.arrabita.ma
�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر 18
خال�صة الأمر املجزئة يف ال�سياق� :أن �إدراك اجلمال الكوين �إمنا تكفي فيه الفطرة فقط؛ لأن
�أ�سبابه مو�ضوعة بالق�صد االبتدائي ،كما قلنا قبل ،ال�ستدعاء متعة النا�س من حيث هم كذلك على
تال للأول البد فيه من اخل�ضوع ملبادئ التكليف؛ الإطالق .و�أما التعبدي فهو ذوقي انفعايل خا�ص ٍ
لأن الفطرة فيه قد ت�ضعف عن معرفة الأ�سباب وال�شروط املقت�ضية له وكذا املوانع العار�ضة فيه
لق�صد ال�شارع .ومن هنا �سقط تذوق غري امل�سلم لل�صور الت�شكيلية يف مهاوي اال�ست�صنام الت�ألهي
للمخلوقات تارة ،ول�شهوات «الليبيدو» تارة �أخرى! وقد نظمت الآية الكرمية ﴿ :
( ﴾ الأعراف)30 :؛ النوعني معا .هذا عموما فكيف ان�سرح ذلك �إىل
املباح بنوعيه لدى ال�شاطبي؟
www.arrabita.ma
نظرية املعرفة عند ال�شاطبي :درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج 19
اجلمال التعبدي اخلال�ص فيها .و�أما جمالها قبل خلو�صها ومتح�ضها؛ فهو جمال كوين م�شرتك
بني النا�س كافرهم وم�ؤمنهم ،فكانت طبيعته ابتالئية حم�ضة.
فالنعم يف حقيقتها االبتدائية �إمنا هي هدايا للعبد ،و�ضعت على نهج ال�شكر الذي يقود �إىل
املنعم ،وبه كانت هدايا ،غري �أنها م�شوبة بابتالء ،ومتى كفرها العبد ومل ي�شكر؛ كان رادا لهدية
اهلل« .وهل يليق بالعبد عدم قبول هدية ال�سيد؟! هذا غري الئق يف حما�سن العادات ،وال يف جماري
ال�شرع ،بل ق�صد املهدي �أن تقبل هديته .وهدية اهلل �إىل العبد ما �أنعم به عليه ،فليقبل ثم لي�شكر
له عليها»( .)1و�إن كان اجلميع مقهورا حتت �سلطة القدر ،لأنه هو احلاكم يف نهاية املطاف عليها.
يقول يف هذا املقام« :ف�إذا َج َر ْت؛ (�أي النعم) يف التكليف بح�سب امل�شروع؛ فذلك هو ال�شكر
وهو جريها على ما و�ضعت �أوال ،و�إن جرت على غري ذلك فهو الكفران ،ومن ثم اجنرت املفا�سد
و�أحاطت باملكلف .وكل بق�ضاء اهلل وقدره»(.)2
�إن �أ�صول النعم عند �أبي �إ�سحاق �إذا ارتبطت بحقيقة اجلمال� ،صار لها ثالث حمطات
�أ�سا�سية يف الوجود:
�أوالها؛ جن�س النعم اخلارجية املاثلة يف الكون (�أو اجلمال االبتالئي).
الثانية؛ حركة االنفعال الناجتة عن الت�أثر الوجداين بتلك النعم (�أو اجلمال التعبدي).
الثالثة؛ الرتجمة الفعلية التي تثريها حركة االنفعال الوجدانية وهي علة م�ؤثرة فيها (�أو
الرتجمة اخلارجية للجمال التعبدي).
ف�أما الأوىل؛ فهي حقيقة اجلمال االبتالئي القدري الراجع �إىل �أجنا�س النعم والآالء املعرفة
باجلمال ال�سرمدي املطلق الذي تت�صف به الذات الإلهية قبل ت�صرف املكلف يف تلك النعم .قال
�أبو �إ�سحاق« :فالرب تعاىل قد تعرف �إىل عبده بنعمه وامنت بها قبل النظر يف فعل املكلف فيها
على الإطالق»(.)3
ومن هنا كانت «جهة االمتنان ال تزول �أ�صال»( ،)4فهي دائمة اال�سرت�سال على العبد دون
انقطاع �إال �أن يت�صرف فيها باملخالفة كما قال« :ف�إذا ت�أملت احلالة وجدت املذموم ت�صرف
.1امل�صدر نف�سه.
.2امل�صدر نف�سه.164/3 ،
.3امل�صدر نف�سه.163/3 ،
.4امل�صدر نف�سه.
www.arrabita.ma
�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر 20
املكلف يف النعم ،ال �أنف�س النعم� ،إال �أنها ملا كانت �آلة للحالة املذمومة ذمت من تلك اجلهة»(.)1
لكنها ،مع كل ذلك ،قبل تناولها يف �إطارها الإمياين ،وجمالها التعبدي الذي تلوح �إليه ،وجعلت
بالق�صد الأ�صلي من �أجله ،ابتالء.
و�أما الثانية؛ فرتجع حقيقتها �إىل اجلمال التكليفي التعبدي الالزم عن �أ�صل الإميان وتزيينه
يف قلب امل�ؤمن ،كما �سبق ،ف ِن َع ُم املباح �إمنا و�ضعت بالأ�صالة خلدمة هذا النوع من اجلمال املحبوب
من الرب قطعا ،والآخر ُج ِع َل يف خدمته .قال م�شريا �إىل ذلك�« :أال ترى �أن ال�شارع �أباح �أ�شياء مما
فيه ق�ضاء نهمة النف�س ومتتعها وا�ستلذاذها؟...
و�أي�ضا ف�إن اهلل تعاىل و�ضع يف الأمور املتناولة �إيجابا �أو ندبا �أ�شياء من امل�ستلذات احلاملة
على تناول تلك الأمور ،لتكون تلك اللذات كاحلادي �إىل القيام بتلك الأمور ،حتى �إنه و�ضع لأهل
االمتثال الثائرين على املبايعة يف �أنف�س التكاليف �أنواعا من اللذات العاجلة والأنوار ال�شارحة
لل�صدور ما ال يعدله من لذات الدنيا �شيء ،حتى يكون �سببا ال�ستلذاذ الطاعة والفرار �إليها
وتف�ضيلها على غريها»(.)2
�إذ هذه الأنوار ال�شارحة لل�صدور ،واللذات القائمة بها �إمنا هي جداول جمالية تفجرت من
معني زينة الإميان املرتتبة على �شكر تلك «الأمور املتناولة �إيجابا �أو ندبا» .فهي جدلية م�ستمرة
بني جمال النعم اخلارجية الوجودية املو�ضوعة ن�صب عني املكلف للتمتع والتناول ،وبني زينة
ال�شكر على تلك النعم نف�سها جراء الإميان باملنعم بها .وبذلك اكت�سبت هذه املحطة قوتها يف
ت�شكيل نظرية فقه اجلمال عند ال�شاطبي و�صارت هي العمود الفقري جل�سمها.
و�أما الثالثة؛ فتابعة للثانية من حيث �إنها ترجمتها الفعلية يف اخلارج ومتثيل مادي عمراين
لرمزيتها يف �أعماق وجدان امل�سلم .فدخل يف معناها واملقالة لل�شاطبي« :زينة لبا�س امل�ؤمن كما
قال� ،صلى اهلل عليه و�سلم�« :إن اهلل جميل يحب اجلمال»( )3بعد قول الرجل� :إن الرجل يحب �أن
يكون ثوبه ح�سنا ونعله ح�سنة»(� ،)4إذا ق�صر احلديث على �سبب وروده ،وقد ورد يف اللبا�س(،)5
و�إمنا �صيغ على هذه ال�صورة الكلية جوابا عن �س�ؤال جزئي؛ لإظهار �أن من �صفات الرب جل
.1امل�صدر نف�سه.
.2ال�شاطبي ،االعت�صام ،م� ،س� ،ص.253
.3نا�صر الدين الألباين ،ال�سل�سلة ال�صحيحة ،الريا�ض :مكتبة املعارف للن�شر والتوزيع ،ط1996 ،1م.247/1 ،
.4ال�شاطبي ،املوافقات ،م� ،س.93-92/1 ،
.5ابن القيم ،الفوائد ،م� ،س.184/1 ،
www.arrabita.ma
نظرية املعرفة عند ال�شاطبي :درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج 21
وعال اجلمال ،فيحب من يت�صف بها من عباده تقربا �إليه وطاعة .فكانت الكلية( )1بق�صد
ا�سرت�سالها على جميع اجلزئيات الداخلة حتتها بالقوة ،و�إن كانت غري منطوق بها يف ال�س�ؤال
بالفعل؛ من �أجل تفادي توهم النقي�ض يف معر�ض البيان .وهذا �شبيه بقوله �صلى اهلل عليه
و�سلم يف �سياق �آخر �إذ �سئل عن ماء البحر فقال« :هو الطهور ما�ؤه احلل ميتته»( .)2ومثله كثري
خارج عن مقامنا.
فجمال املباح� ،إذن ،مبعناه اخلا�ص باملحطة الثالثة ،فرد من ما�صدقاته الوجودية ،فيكون
حكمه «لي�س مطلوب الفعل وال مطلوب االجتناب»( .)3وقد ن�ص على ذلك حيث قال« :و�أي�ضا ف�إن
اجلمال والزينة مما يدخل حتت الق�سم الأول؛ (�أي املباح املخري فيه) لأنه خادم له ،ويدل عليه
قوله تعاىل( ﴾ ﴿ :الأعراف.)4(»)30 :
ف�إذا تعلق بخدمة املقا�صد الكلية الكربى �صار مطلوب الفعل ندبا مكمال ملا هو �أقوى منه يف
الت�شريع .قال يف ذات املقام« :ف�أنت ترى �أن هذا الثوب احل�سن ،مثال ،مباح اللب�س قد ا�ستوى يف
نظر ال�شارع فعله وتركه ،فال ق�صد له يف �أحد الأمرين .وهذا معقول واقع بهذا االعتبار املقت�صر
به على ذات املباح من حيث هو كذلك .وهو من جهة ما هو وقاية للحر والربد و ُم َوا ٍر لل�سو�أة وجمال
يف النظر مطلوب .وهذا النظر غري خمت�ص بهذا الثوب املعني ،وال بهذا الوقت املعني ،فهو نظر
بالكل ال باجلزء»(.)5
ومن هنا كان تركه باعتبار كليته مكروها مبعيار الدوام على الرتك� ،أو ال�شمول «فلو ترك
جملة لكان على خالف ما ندب ال�شرع �إليه .ففي احلديث�« :إذا �أو �سع اهلل عليكم ف�أو�سعوا على
�أنف�سكم ،و�إن اهلل يحب �أن يرى �أثر نعمته على عبده» .وقوله يف الآخر حني ح�سن من هيئته�« :ألي�س
هذا �أح�سن؟» .وقوله�« :إن اهلل جميل يحب اجلمال» بعد قول الرجل� :إن الرجل يحب �أن يكون ثوبه
ح�سنا ،ونعله ح�سنا ،وكثري من ذلك .وهكذا لو ترك النا�س كلهم ذلك لكان مكروها»(.)6
.1قال ابن القيم« :وقوله يف احلديث �إن اهلل جميل يحب اجلمال يتناول جمال الثياب امل�س�ؤول عنه يف نف�س احلديث،
ويدخل فيه بطريق العموم اجلمال من كل �شيء» ،م� ،س .184/1 ،ومن هنا كلية احلديث.
.2الألباين ،ال�سل�سلة ال�صحيحة ،م� ،س.479/1 ،
.3ال�شاطبي ،املوافقات ،م� ،س.76/1 ،
.4امل�صدر نف�سه.221/2 ،
.5امل�صدر نف�سه.102/1 ،
.6امل�صدر نف�سه.93-92/1 ،
www.arrabita.ma
�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر 22
www.arrabita.ma
نظرية املعرفة عند ال�شاطبي :درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج 23
كذلك كان �ش�أنه عند �أبي �إ�سحاق؛ �إذ له جتليان بناء على ما �سبق من قوانني كونية :فهو:
�أوال؛ �إما قناة فطرية وجدانية ملعرفة ال�صانع املتجلي يف م�صنوعاته« ،وذلك العامل كله من
حيث هو منظور فيه ،و�صنعة ي�ستدل بها على ما وراءها»( .)1قال�« :إن وجوه التمتعات هيئت للعباد
�أ�سبابا خلقـا واخرتاعـا ،فح�صلت املنة بها من تلك اجلهة� ...أال ترى �إىل قوله ﴿ :
( ﴾ الأعراف.)2(»)30 :
ثانيا؛ و�إما نافذة �إىل عامل النف�س؛ لأنه يحملها على ر�صد �أفعالها ومتابعتها جتاه النعم
املبثوثة يف الكون والدخول يف زمرة امل�سبحني ال�شاكرين احلامدين ،ومتع َّل ُقه �أي�ضا «العامل كله من
حيث هو مو�صل �إىل العباد املنافع وامل�ضار ،ومن حيث هو م�سخر لهم ومنقاد ملا يريدون فيه»(.)3
قال�« :أال ترى �أن اهلل تعاىل خاطب النا�س يف ابتداء التكليف خطاب التعريف مبا �أنعم عليهم من
الطيبات وامل�صالح التي بثها يف هذا الوجود ،لأجلهم وحل�صول منافعهم ومرافقهم التي يقوم بها
عي�شهم ،وتكمل بها ت�صرفاتهم ...ثم وعدوا على ذلك بالنعيم �إن �آمنوا ،وبالعذاب �إن متادوا على
ما هم عليه من الكفر»(.)4
�إن ما جبل عليه الإن�سان من حب رو�ضات الدنيا اخل�ضراء ،وب�ساتينها اجلميلة ،وم�صابيح
ال�سماء النورانية ،وما تعك�سه على الأر�ض من جمال وجالل ،وما بث يف هذه من طيبات للتناول
و�أزاهري قزحية للزينة والتجمل� ..إمنا هو مبعث ا�ستجا�شة لتدبر القلب وحتركه ال�سريع جتاه
�صانع هذه امل�صنوعات ،لأن جمال ال�صنعة وكمالها في�ض رحماين من جمال �صانعها وكماله،
ولأننا �إمنا «ن�ستدل بكمال ال�صنعة على كمال ال�صانع»( )5بتعبري �صاحبنا .وتلك هي فل�سفة
الإ�سالم جتاه الكون والكائنات ،فال جرم كان حمتوى هذه الفل�سفة عند النظار �إمنا هو «النظر
يف املوجودات واعتبارها من جهة داللتها على ال�صانع ( )...ف�إن املوجودات �إمنا تدل على ال�صانع
مبعرفة �صنعتها ،و�أنه كلما كانت معرفتها ب�صنعتها �أمت؛ كانت املعرفة بال�صانع �أمت» (.)6
فكان من لزوم تلك النعم للمنعم بها؛ ما ال يخفى ،جريا على �أ�صل �أبي �إ�سحاق يف نظرية
التعريف املبنية على لزوم الدليل للمدلول والعلم للعمل .لأن تلك املخلوقات ،امل�صاغة يف جملة
.1امل�صدر نف�سه.148/1 ،
.2امل�صدر نف�سه.169-168/3 ،
.3امل�صدر نف�سه.
.4امل�صدر نف�سه.125/2 ،
.5ال�شاطبي ،املوافقات ،م� ،س.203/2 ،
.6ابن ر�شد احلفيد ،ف�صل املقال ،حتقيق :حممد عمارة ،القاهرة :دار املعارف ،ط� ،3ص.22
www.arrabita.ma
�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر 24
النعم ،دالة لزوما على خالقها ،فكانت بذلك معرف ًة به .قال ابن تيمية ي�شري �إىل ذلك �أي�ضا:
«املخلوقات دالة على خالقها �سبحانه وتعاىل ،ف�إنه ما منها خملوق �إال وهو ملزوم خلالقه ال ميكن
وجوده بدون وجود خالقه»(.)1
ميكن� ،إذن� ،إرجاع دالالت الكائنات على �صانعها عند �إمامنا �إىل�« :أوال؛ مبا فيها من الداللة
على وجود ال�صانع ووحدانيته و�صفاته العلى وعلى الدار الآخرة .ثانيا؛ �أنها منن ونعم امنت اهلل
بها على عباده»( .)2فالأوىل تلمع بنور التوحيد والثانية مقهورة حتت وازع ال�شكر.
فال عجب� ،إذن� ،أن جند ال�شكر ،وكما �سقناه البن القيم �سابقا ،عند �أبي �إ�سحاق؛ جماال
باطنا وانخراطا يف �سلك التوحيد بالكلية ،كما يدل عليه قوله �إجماال« :وال�شكر هو �صرف ما �أنعم
عليك يف مر�ضاة املنعم ،وهو راجع �إىل االن�صراف �إليه بالكلية ،ومعنى بالكلية �أن يكون جاريا على
مقت�ضى مر�ضاته بح�سب اال�ستطاعة يف كل حال ،وهو معنى قوله �صلى اهلل عليه و�سلم(« :)3حق
اهلل على العباد �أن يعبدوه وال ي�شركوا به �شيئا»(.)4
فال�شكر ،هنا� ،إمنا هو مبعناه العام املف�ضي �إىل الدخول يف التوحيد �أو الإميان ،من هنا قرن
بينهما يف الن�ص على الإجمال .لكنه ف�صل يف ن�ص �آخر ما �أجمله هناك بقوله« :تناول املباح ال
ي�صح �أن يكون �صاحبه حما�سبا عليه ب�إطالق ،و�إمنا يحا�سب على التق�صري يف ال�شكر عليه� ،إما
يف جهة تناوله واكت�سابه ،و�إما يف جهة اال�ستعانة به على التكليفات .فمن حا�سب نف�سه يف ذلك
وعمل على ما �أمر به؛ فقد �شكر نعم اهلل .ويف ذلك قال تعاىل ﴿ :
www.arrabita.ma
نظرية املعرفة عند ال�شاطبي :درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج 25
وللأ�ستاذ �سعيد النور�سي يف هذا املقام �إ�شراقات لطيفة تزيد يف جتلية هذه احلقيقة،
قال�« :إن ثمرة واحدة ،وزهرة واحدة ،و�ضياء واحدا ،كل منها يعك�س ،كاملر�آة ال�صغرية ،رزقا
ب�سيطا ونعمة جزئية و�إح�سانا ب�سيطا ،ولكن ب�سر التوحيد تتكاثف تلك املرايا ال�صغرية مع
مثيالتها مبا�شرة ويت�صل بع�ضها بالبع�ض الآخر ،حتى ي�صبح ذلك النوع مر�آة وا�سعة كبرية
جدا تعك�س �ضربا من جمال �إلهي يتجلى جتليا خا�صا بذلك النوع ،فيظهر �سر التوحيد جماال
�سرمديا باقيا من خالل ذلك اجلمال الفاين امل�ؤقت ...بينما �إن مل ينظر �إىل ذلك اجلمال
بنظر التوحيد� ،أي لوال �سر التوحيد؛ لظلت تلك الثمرة اجلزئية �سائبة وحيدة فريدة معزولة
عن مثيالتها؛ فال يظهر ذلك اجلمال املقد�س وال يبني ذلك الكمال الرفيع ،بل تنك�سف حتى
تلك اللمعة اجلزئية املتعلقة منها وت�ضيع وتنتك�س منقلبة على عقبيها من نفا�سة الأملا�س الثمني
�إىل خ�سا�سة ِق َط ِع الزجاج املنك�سر»(.)1
فالتوحيد ،مبا هو كلي معنوي م�ستفاد من حقيقة النعم ووظيفتها ،ولي�س من هياكلها املادية،
هو املق�صود ابتداء من تلك النعم والآالء املتج�سدة يف تلك الهياكل .فهو جمال تعبدي باطن
يرتجمه جمال تلك النعم الراجعة �إىل امل�شيئة اخللقية القدرية احلاكمة على اجلميع يف اخللق.
قال �أبو �إ�سحاق ي�سرح يف امل�ساق نف�سه ،مقررا �أن الدنيا «براهني على وجود الباري ووحدانيته
واتّ�صافه ب�صفات الكمال ،وعلى �أن الآخرة حقّ ؛ فهي مر�آة يرى فيها احلقّ »(.)2
�إن املر�آة/الدنيا هنا؛ �إمنا هي �أداة عاك�سة جلمال الأ�سماء احل�سنى وكمال ال�صفات العال،
وما املخلوقات ،يف تنا�سقها وحراكها امل�ستمر� ،إال نقو�ش ومر�صعات لتلك الأ�سماء وال�صفات،
الناطقة بكلية التوحيد العليا املطلقة حيث يوجد الكمال املطلق .فلهذا كان مبد�أ ال متناهيا و�إن
تناهت تلك الأ�شباح الدنيوية املعرفة به بج�سومها� ،إذ تذوب اجل�سوم وتن�ساب الأرواح يف �سريورة
دائمة ،وذلك هو مناط تالقي الدنيا بالآخرة كما قال»:وهذا ال تنف�صل الدنيا فيه من الآخرة»(.)3
ي�سرت�سل �أبو �إ�سحاق يف ال�سياق نف�سه« :فاحلا�صل �أن ما بث فيها [�أي الدنيا] من النعم
الذي و�ضعت عنوانا عليه ،كجعل اللفظ دليال على املعنى ،باقٍ و�إن فني العنوان»( .)4و�إمنا الذي
و�ضعت عنوانا عليه هو التوحيد ،وهو جمال م�سرت�سل ال يفنى ،يدل عليه جمال النعم الكونية
� .1سعيد النور�سي ،ال�شعاعات �ضمن كليات ر�سائل النور ،طبع القاهرة� :شركة �سوزلر للن�شر ،ط2005 ،4م� ،ص.11
.2امل�صدر نف�سه.363/3 ،
.3امل�صدر نف�سه.227/4 ،
.4امل�صدر نف�سه.227/4 ،
www.arrabita.ma
�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر 26
الذي عما قريب �سيفنى دونه كفناء الر�سم دون الروح .و�إمنا جعل هذا خلدمة ذاك وتخلي�صه
من الكدرات التي َت ْع َلقُ به يف الدنيا والآخرة .قال ،يف �سياق املقابلة بني النوعني بعد �سرده لآيات
الزينة واجلمال« :فامنت تعاىل وعرف بنعم من جملتها اجلمال والزينة ،وهو الذي ذم به الدنيا
يف قوله ﴿ :
( ﴾ احلديد ...)19 :بل حني عرف بنعم الآخرة امنت ب�أمثاله يف الدنيا...
وهو كثري .ف�أنزل الأحكام و�شرع احلالل واحلرام تخلي�صا لهذه النعم التي خلقها لنا من �شوائب
الكدرات الدنيويات والأخرويات»(.)1
فهذه النعم بدون خ�ضوع لقوانني االمتثال التكليفي التعبدي ت�صري �أ�شباحا بال �أرواح ،ور�سوما
بال عنوان ،يرتجم حقيقتها ووظيفتها وي�ضفي عليها جمالها ورونقها� .أو بعبارة العالمة النور�سي
الزجاج املنك�سر».
ِ �سابقا «تنتك�س منقلبة على عقبها من نفا�سة الأملا�س الثمني �إىل خ�سا�سة ِق َط ِع
وبذلك ُي َّو َفقُ بني ذم الدنيا ومدحها ،و�أن ذلك راجع �إىل تباين االعتبارين فيها ،فيح�صل
التناغم بني الكليتني ،وي�ستتب ا�ستمرار احلقيقة اجلمالية يف النوعني :جمال هو قرين اللهو
واللعب لأنه دنيوي م�شرتك ،وجمال �أخروي خال�ص متوقف على التكليف والتعبد.
�إن حركة النعم يف املباح املنرية مل�سلك كلي التوحيد يف حقائقها الوظيفية الوجودية؛ جتعل
وحتول م�ستمر من ج�سم �آيل جامد �إىل �شريعة فطرية �إلهية ،تتعلق
ٍ الطبيعة يف �صريورة دائمة
تعلقا متوا�صال ب�أحوال الكائنات فيها .من هنا كان جمال هذه النعم مر�آة عاك�سة جلمال الأ�سماء
احل�سنى وال�صفات العال ،باعتبارها مدخل التعريف باخلالق ربا و�إلها(� ،)2أو هو جذوة منه؛ وجود
الأول رهني بوجود هذا الثاين دون العك�س� ،إذ هو املق�صود ولي�س الآخر.
ومن هنا �أي�ضا كانت حقيقة التوحيد الناظم حلقيقتي احلمد وال�شكر ،من بني منازل الإميان،
يف قلب امل�ؤمن؛ هي املرتجم احلقيقي عن ذلك اجلمال املطلق الذي ال ينتهي ،حيث تنتهي تلك
النعم الكونية االبتالئية املعرفة به ،كما ال ينتهي نور ال�شم�س �إذا انتهت املر�آة العاك�سة لتجلياته
يف زاوية من الكون وانك�سرت .وهذا �سر الفرق بني اجلمالني :التعبدي التكليفي املقيد ،واالبتالئي
التكويني الزائل.
www.arrabita.ma
نظرية املعرفة عند ال�شاطبي :درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج 27
وباجلملة ف�إن العالقة بني املباح ،مبا هو حكم �شرعي ،والتوحيد ،مبا هو �أ�صل عقدي ناظم
حلقيقتي ال�شكر واحلمد يف فكر �أبي �إ�سحاق ،عالقة تالزمية؛ فتنطلق من الأول وظيفة خادمة،
وتنتهي �إىل الثاين مق�صدا وغاية .وهذا جتلي من جتليات قوله�« :إن ن�سبة �أ�صول الفقه من
ال�شريعة كن�سبة �أ�صول الدين»( .)1وقوله�« :إن املخالف يف �أ�صل من �أ�صول ال�شريعة العملية ال يق�صر
عن املخالف يف �أ�صل من الأ�صول االعتقادية يف هدم القواعد ال�شرعية»(.)2
ويبقى املباح (املرفوع احلرج) داال على رحمة اهلل وعفوه ،لأن �أ�صله النهي؛ (�أي حقيقته
الكلية املقا�صدية) ،و�أي خري يف املداومة على �سماع الغناء (اجلائز) وتغريد الع�صافري والتعاطي
ملختلف �أ�صناف اللهو واللعب؛ �سوى هدم الكليات ونق�ض ال�ضروريات ،واالنت�ساب �إىل حظرية
احلمقى واملغفلني؟! لأن النظر �إىل الكون ،بهذا االعتبار� ،إمنا هو «نظر جمرد من احلكمة ا ّلتي
و�ضعت لها ال ّدنيا من كونها متع ّرفا للحقّ ،وم�ستحقا ل�شكر الوا�ضع لها ،بل �إمنا يعترب فيها كونها
لل�شهوات ،انتظاما يف �سلك البهائم؛ فظاهر �أَ َنها من هذه اجلهة ق�شر عي�شا ومقتن�صا ل ّذات ،وم�آال ّ
بال ُل ّب ،ولعب بال ج ّد )...( ،وهو نظر الكفار ا َّلذين مل يب�صروا منها �إال ما قال تعاىل من �أ َّنها
لعب ولهو وزينة وغري ذلك مما و�صفها به ،ولذلك �صارت �أعمالهم ﴿ :
( ﴾ ال ُّنورِ.)3(»)38 :
لكن م�صادفة بع�ض من ذلك يف بع�ض �أوقات العمر ،كما تقر به جماري العادات ،دون تعود؛
هو �أمر ال ي�ضر املكلف وال يلحقه ب�سببه ذنب وال نقي�صة ،وهذا معنى كونه «مباحا باجلزء منهيا
عنه بالكل كراهة �أو حترميا»( .)4ف�إذا �أخذه العبد م�أخذ املتلهف على الدنيا وزهرتها وبهجتها،
وعود نف�سه على تعاطيه ،وحملها على اللهو واللعب بعيدا عن �سبيل اجلد والن�صب؛ دخل بذلك
يف زمرة من كان قد تخلى عن عبادة الرب ،وهي وظيفته الوجودية و�سر مق�صد ا�ستخالف اهلل
تعاىل له يف الكون.
من هنا نفهم �سر تو�سيع ال�شاطبي �أ�صل املباح وجماريه ليحت�ضن جميع تلك املعاين ،و�أن
ذلك �إمنا كان بق�صد االنتقال من �ضيق املفهوم وجزئية ن�صيته� ،إىل امتداده الغيبي وحركته يف
الوجود ،ا�ستجابة ًلن�سقية الكليات القر�آنية يف ربط الفعل الب�شري بقانون اال�ستخالف.
.1ال�شاطبي ،املوافقات ،م� ،س.20/1 ،
.2امل�صدر نف�سه.128/4 ،
.3امل�صدر نف�سه.363/3 ،
.4امل�صدر نف�سه.93-92/1 ،
www.arrabita.ma
�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر 28
.1هو الطويف وكتابه «الإك�سري يف علم التف�سري» قال يف مقدمته�« :إنه مل يزل يتلجلج يف �صدري �إ�شكال علم التف�سري»!:
الطويف �سليمان بن عبد القوي ،الإك�سري يف علم التف�سري ،ت .عبد القادر ح�سني ،ن�شر القاهرة :مكتبة الآداب ،د.
ط ود .ت� ،ص.27
.2امل�صدر نف�سه ،ج� ،3ص.257
.3امل�صدر نف�سه ،ج� ،3ص.276
www.arrabita.ma
نظرية املعرفة عند ال�شاطبي :درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج 29
� .1أبو حامد الغزايل ،جواهر القر�آن ،ت .حممد ر�شيد ر�ضا القباين ،بريوت :دار �إحياء العلوم ،ط،2
(1406ﻫ1986/م)� ،ص.37
.2ال�شاطبي ،املوافقات ،م� ،س ،ج� ،3ص.293
.3امل�صدر نف�سه ،ج� ،3ص.295
www.arrabita.ma
�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر 30
و�أما �شرط القطع فقد قال ي�ؤكد على ا�ستح�ضاره يف �أحد ال�سياقات« :وحا�صل هذا الكالم �أن
املراد بالظاهر هو املفهوم العربي والباطن هو مراد اهلل تعاىل من كالمه وخطابه .ف�إن كان مراد
من �أطلق هذه العبارة ما ُف ِّ�س َر؛ ف�صحيح وال نزاع فيه .و�إن �أرادوا غري ذلك فهو �إثبات �أمر زائد
على ما كان معلوما عند ال�صحابة ومن بعدهم ،فال بد من دليل قطعي يثبت هذه الدعوى؛ لأنها
�أ�صل يحكم به على تف�سري الكتاب فال يكون ظنيا»( .)1فالبد من �شرط حتقيق القطع يف الأ�صل كما
إطارات املعرفة وظفت ،ومن جملتها
ترى .وهذا من لوازم مفهوم الأ�صول/الكليات عنده ،يف �أي ِّ� ِ
التف�سري الإ�شاري وهو املطلوب.
ال�ضابط الثاين :حترير املفهوم وتقعيده
�أق�صد بيان املفهومني املركزيني اللذين الح منهما الإ�شكال اال�صطالحي ،حتى يتميزا عند
الناظر يف التف�سري عموما والإ�شاري منه على اخل�صو�ص ،وهما :الظاهر والباطن.
�أ .مفهوم الظاهر
قال يحرره ويقعد له« :ف ُك ُّل ما كان من املعاين العربية التي ال ينبني فهم القر�آن �إال عليها؛
فهو داخل حتت الظاهر»(� .)2إنها كلية تعريفية �أخرى �ساقها لتحديد املفهوم وت�أطريه كليا وبيان
العلوم التي يحت�ضنها ،مما يدخل حتت مفهومه من بني املعاين ال�شرعية .ثم قال يجليه �أكرث بعد
�سرد �أمثلة تو�ضح حقيقته« :فامل�سائل البيانية واملنازع البالغية ال َم ْع ِدل بها عن ظاهر القر�آن...
ف�إذا ح�صل فهم ذلك كله على ترتيبه يف الل�سان العربي؛ فقد ح�صل فهم ظاهر القر�آن .ومن هنا
ح�صل �إعجاز القر�آن عند القائلني ب�أن �إعجازه بالف�صاحة»( .)3ومن ثم ف�إن «من لي�س له �أ�صالة يف
الل�سان العربي فعما قريب يفهم كتاب اهلل على غري وجهه»(.)4
ب .مفهوم الباطن
على �شاكلة نظريه �سار يف التقعيد ملفهوم الباطن .قال« :و ُك ُّل ما كان من املعاين التي تقت�ضي
حتقيق املخاطب بو�صف العبودية والإقرار هلل بالربوبية ،فذلك هو الباطن املراد واملق�صود الذي
�أنزل القر�آن لأجله»(.)5
.1امل�صدر نف�سه ،ج� ،3ص.287
.2امل�صدر نف�سه ،ج� ،3ص.289
.3امل�صدر نف�سه ،ج� ،3ص.290-289
.4ال�شاطبي ،االعت�صام ،م� ،س ،ج� ،2ص.398
.5ال�شاطبي ،املوافقات ،م� ،س ،ج� ،3ص.290
www.arrabita.ma
نظرية املعرفة عند ال�شاطبي :درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج 31
فهذا تعريف جممل؛ �إذ دخول العبد حتت ر ِِّق العبودية والإقرار هلل بالربوبية؛ هو مق�صد
�أعلى لل�شريعة الإ�سالمية وغاية عامة لقانون اال�ستخالف .و�إمنا �ساقه هنا لريتب عليه ما هو
�أخ�ص منه يف التعريف بالباطن ،حيث يقرب املفهوم من حقيقة التف�سري الإ�شاري ،الذي هو
املراد دون غريه من معاين الت�أويل الباطني .فك�أن التعريف توطئة للنعي على الباطنية ،ف�ض ًال
عن كونه متهيدا للو�صول �إىل املق�صود حتديدا .ثم �ساق جملة �أمثلة تقرب حقيقته للناظر ،ثم
قال جممال معناه وم�شيدا باعتباره« :وعلى اجلملة؛ فكل من زاغ ومال عن ال�صراط امل�ستقيم؛
فبمقدار ما فاته من باطن القر�آن فهما وعلما .وكل من �أ�صاب احلق و�صادف ال�صواب؛ فبمقدار
ما ح�صل له من فهم باطنه»( .)1وتلك هي حقيقة التف�سري الإ�شاري حيث التحومي على مراد اهلل
تعاىل الباطني .وهو غري داللة الإ�شارة عند الأ�صوليني(.)2
فبان �أن املفهوم ميتح من معني دالئل الربوبية والعبودية يف القر�آن وذلك هو الباطن ،يف
مقابل الظاهر الذي يرجع �إىل املنازع اللغوية وقواعد الل�سان .فك�أن هذه قوانني وتلك مواد �أو هذه
�أ�شباح وتلك �أرواح.
فهذان املفهومان ،كما ترى ،هما حمور الإ�شكال ،ويف ا�صطالحهما ت�شابكت �أنظار النظار
وتداخلت �أفهامهم حتى ن�شب النزاع ،وجرى الوادي بطمه على القرى؛ من كرثة اجلدل واخلالف
والتنازع حول م�صادرة معناهما� ،إذ رب م�صطلح �أوجب امل�شاحة يف املعنى!
فلذلك �صار ُي َع ِّر�ض ،من جهة ،مبن لي�س �أهال لإجرائهما على املطلوب بقوله« :من النا�س
من زعم �أن للقر�آن ظاهرا وباطنا ،ورمبا نقلوا يف ذلك بع�ض الأحاديث والآثار»( .)3ومن جهة
�أخرى؛ مبن وقف يف �أحد طريف املفهوم �إفراطا �أو تفريط ًا ،ومل يبتغ التو�سط منزل ًة لتحري احلق
فيه قائال« :ف�إن النا�س يف �أمثال هذه الأ�شياء بني قائلني منهم من ي�صدق به وي�أخذه على ظاهره
ويعتقد �أن ذلك هو مراد اهلل تعاىل من كتابه ،و�إذا عار�ضه ما ينقل يف كتب التف�سري على خالفه،
.1امل�صدر نف�سه ،ج� ،3ص.292
.2قال ابن القيم يف هذا ال�سياق« :فالإ�شارات من جن�س الأدلة والأعالم و�سببها� :صفاء يح�صل باجلمعية ،فيلطف
ح�س غريه وفهمه عن �إدراكها» ابن اجلوزية ،مدارجبه احل�س والذهن ،في�ستيقظ لإدراك �أمور لطيفة ال يك�شف ُّ
ال�سالكني ،م� ،س ،ج� 2ص.389
فحقيقتها جمموع اللوامع واللوائح عندهم؛ التي تلوح بها الفرا�سة ال�صادقة دون اال�ستنجاد مبنطوق اللفظ ،فخالف
بذلك داللة الإ�شارة التي هي من لوازم العبارة واملنطوق عند الأ�صوليني .وهذا التباين هو الذي �أكد عليه الطاهر
ابن عا�شور يف املقام نف�سه فقال« :ولي�س من الإ�شارة ما يعرف يف الأ�صول بداللة الإ�شارة وفحوى اخلطاب» ابن
عا�شور حممد الطاهر ،التحرير والتنوير ،الدار التون�سية للن�شر تون�س1984 ،م ،ج� ،1ص.36
.3ال�شاطبي ،املوافقات ،م� ،س ،ج� ،3ص.286
www.arrabita.ma
�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر 32
فرمبا كذب به �أو �أ�شكل عليه .ومنهم من يكذب به على الإطالق ويرى �أنه تقول وبهتان ،مثل ما
تقدم من تف�سري الباطنية ومن حذا حذوهم .وكال الطريقني فيه ميل عن الإن�صاف»(.)1
املف�سر
ال�ضابط الثالث� :شهادة الأدلة للمعنى َّ
�أي وجود �شاهد من القر�آن �أو من اخلارج يوافق املعنى الإ�شاري ،ويكون بالن�سبة �إليه مبثابة
ال�شاهد �أو املعترب ،بتعبري �أهل �صناعة احلديث ،يقويه وي�شد ع�ضده .قال يف هذا ال�ضابط« :وكون
الباطن هو املراد من اخلطاب قد ظهر �أي�ضا مما تقدم يف امل�س�ألة قبلها ،ولكن ي�شرتط فيه
�شرطان:
�أحدهما؛ �أن ي�صح على مقت�ضى الظاهر املقرر يف ل�سان العرب ،ويجري على املقا�صد العربية.
والثاين� :أن يكون له �شاهد ن�صا �أو ظاهرا يف حمل �آخر ي�شهد ل�صحته من غري معار�ض ()...
لأنه �إن مل يكن له �شاهد يف حمل �آخر �أو كان له معار�ض؛ �صار من جملة الدعاوى التي تدعى على
القر�آن .والدعوى املجردة غري مقبولة باتفاق العلماء»(.)2
و�إمنا قلت من القر�آن �أو من خارج؛ لأنه كذلك عند �أبي �إ�سحاق� ،أي �أن يكون ال�شاهد امل�سوق
ملوافقة املعنى الإ�شاري؛ دليال �شرعيا �أو دليال وجوديا من اخلارج يطابقه .فالبد من وجود
�أحدهما يتحقق به مفهوم (االعتبار) .وال�شاطبي بهذا النظر يكون قد فتح نافذة �أخرى يطل
منها كل قا�صد معترب �إىل �أحوال الكون والكائنات باعتبارها عاملا مو�ضوعيا يعك�س جتليات الوحي
كتاب اهلل امل�سطور ،ويكون هذا الوحي فهر�سا لها �ضابطا لوظائفها وطبائعها العمرانية .فماذا
عن املفهوم �أوال؟
www.arrabita.ma
نظرية املعرفة عند ال�شاطبي :درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج 33
الق�شريي :االعتبار هو النظر يف حقائق الأ�شياء وجهات داللتها ليعرف بالنظر فيها �شيء �آخر من
جن�سها»( .)1وقال الغزايل يف �سياق توظيف املفهوم« :بل �أقول فهم مو�سى من الأمر بخلع النعلني؛
ِّاطراح الكونني ،فامتثل الأمر ظاهر ًا بخلع نعليه ،وباطن ًا باطراح العاملني .وهذا هو «االعتبار»؛ �أي
العبور من ال�شيء �إىل غريه ،ومن الظاهر �إىل ال�سر»(.)2
�أو يجعل من قيا�س الأوىل؛ وهو نوع من جن�س القيا�س ،فيلحظ فيه �أي�ضا معنى العبور والإحلاق.
وهذا تخريج ل�شيخ الإ�سالم يف �شرحه حديث النزول قائال )...(« :وبع�ض ذلك ال يجعل تف�س ًريا،
كما يف قوله تعاىل( ﴾ ﴿ :الواقعة ،)82 :وقول النبي �صلى اهلل عليه
و�سلم« :ال تدخل املالئكة بيتًا فيه كلب»( ،)3ف�إذا كان ورقه ال مي�سه �إال املطهرون؛ فمعانيه ال يهتدي
بها �إال القلوب الطاهرة ،و�إذا كان امللك ال يدخل بيتًا فيه كلب ،فاملعاين التي حتبها املالئكة ال
تدخل قل ًبا فيه �أخالق الكالب املذمومة ،وال تنزل املالئكة على ه�ؤالء»( .)4ثم �صرح مبا يفيد كونه
قيا�سا يف مثال �آخر قائال« :فالذي ت�سميه الفقهاء قيا�سا هو الذي ت�سميه ال�صوفية �إ�شارة .وهذا
ينق�سم �إىل �صحيح وباطل ( )...كذلك من قال« :ال تدخل املالئكة بيتا فيه كلب وال جنب» فاعترب
بذلك �أن القلب ال يدخله حقائق الإميان �إذا كان فيه ما ينج�سه من الكرب واحل�سد؛ فقد �أ�صاب،
قال تعاىل( ﴾ ﴿ :املائدة.)5(»)43 :
ورمبا ُنزِّ َل على املعنى نف�سه ما ذهب �إليه ابن ر�شد احلفيد حني قال يو�ضح حقيقة املفهوم:
«االعتبار لي�س �شيئا �أكرث من ا�ستنباط املجهول من املعلوم ،وا�ستخراجه منه ،وهذا هو القيا�س»(.)6
ويعترب عبد الكرمي عكيوي من �أهم املعا�صرين الذين �سطروا تعريفا جامعا للنظرية ،فقال
بعدما �ساق مدونة من تعاريف القدامى واملحدثني ك ٌّل ح�سب فنه« :االعتبار هو النظر يف امل�س�ألة
.1حممد بن �أحمد اخلطيب ال�شربيني ،ال�سراج املنري يف الإعانة على معرفة بع�ض معاين كالم ربنا احلكيم اخلبري،
القاهرة :مطبعة بوالق الأمريية القاهرة1285 ،ﻫ ،ج� ،4ص .240ومثله عند الرازي ،انظر:
ـ �أبو عبد اهلل حممد بن عمر الرازي ،مفاتيح الغيب �أو التف�سري الكبري ،بريوت :دار �إحياء الرتاث العربي ،ط،3
1420ﻫ ،ج� ،29ص.504
� .2أبو حامد الغزايل ،م�شكاة الأنوار ،ت� .أبو العال عفيفي ،القاهرة :الدار القومية للطباعة والن�شر ،د .ط� ،ص.73
.3البخاري� ،صحيح البخاري ،م� ،س :،ج� ،4ص.114
� .4أبو العبا�س �أحمد بن عبد احلليم ابن تيمية� ،شرح حديث النزول ،بريوت :املكتب الإ�سالمي/لبنان ،ط،1
(1397ﻫ1977/م) ،د .ت� ،ص.169
.5ابن تيمية ،جمموع الفتاوى ،م� ،س ،ج� ،13ص.242
� .6أبو الوليد �أحمد بن �أحمد ابن ر�شد ،ف�صل املقال فيما بني احلكمة وال�شريعة من االت�صال ،ت .حممد عمارة ،دار
املعارف ،ط� ،3ص.23
www.arrabita.ma
�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر 34
مع ا�ستح�ضار نظائرها وااللتفات �إىل لوازمها ومراعاة نقائ�ضها ،مع �صحة املنا�سبة»( .)1وهو
تعريف يخدم �سائر العلوم ويربطها بفل�سفة النظرية يف منحاها العلمي والوجودي ،فهو �أعم من
ارتباطها مبجال التف�سري وقواعده� .إال �أن �إ�شارته �إىل وجوب ا�ستح�ضار �ضابط النظر يف لوازم
امل�س�ألة مع �صحة املنا�سبة؛ هو مربط الفر�س عندنا هنا.
وباجلملة ف�إن من قالوا بجواز هذا النوع التف�سريي عموما ا�شرتطوا فيه �شروطا مقيدة
لإطالق القول به ،وهي:
� .1أ َّال يتجافى عن ظاهر النظم القر�آين.
َّ � .2أل يقال؛ �إن الإ�شارة هي املراد من الظاهر ،وال اعتبار بالوجوه التف�سريية الأُ َخر.
َّ � .3أل ينه�ض معار�ض �شرعي �أو عقلي للتف�سري الإ�شاري.
َّ � .4أل يكون جاريا يف ركاب الهوى والبدعة.
� .5أن ت�ؤن�س له �شواهد من ال�شرع.
َّ � .6أل يعتمد يف جمال ا�ستنباط الأحكام ال�شرعية ،و�إمنا يقت�صر يف الأخذ به �إن َّ
�صح و�سلم
من املعار�ضة؛ يف جمال تهذيب الأخالق وتزكية النفو�س ،وتثبيت الإميان(.)2
هذا كان يف نظرهم ،فماذا عن نظر ال�شاطبي؟
.1عبد الكرمي عكيوي ،نظرية االعتبار يف العلوم الإ�سالمية ،فرجينيا :املعهد العاملي للفكر الإ�سالمي ،ط،1
(1429ﻫ2009/م)� ،ص.37
.2قطب الري�سوين ،الن�ص القر�آين من تهافت القراءة �إىل �أفق التدبر ،من�شورات وزارة الأوقاف وال�ش�ؤون الإ�سالمية
املغرب ،ط2010 ،1م� ،ص.194
www.arrabita.ma
نظرية املعرفة عند ال�شاطبي :درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج 35
القر�آن ويتبعه �سائر املوجودات ( )...والثاين :ما يكون �أ�صل انفجاره من املوجودات جزئيها �أو
كليها ويتبعه االعتبار يف القر�آن»(.)1
فقد �سلم ابتدا ًء بحقيقة امل�صطلح� ،أق�صد االعتبار ،متام ًا كما ر�سمها �أبو حامد ،وهو �شيخ
ال�شاطبي ب�صورة غري مبا�شرة يف التعرف على حقائق الت�صوف ،وبناء على ذلك اهتم بتقعيد
ق�سميه املتفرعني عنه يف �صيغة كلية جري ًا على �أ�صله يف بناء حقائق العلم وترتيبها ،وهما:
االعتبار القر�آين واالعتبار الوجودي.
�أ .يف االعتبار القر�آين
قال مبينا خوا�صه التي متيزه« :ف�إن كان الأول؛ فذلك االعتبار �صحيح وهو معترب يف فهم
باطن القر�آن من غري �إ�شكال؛ لأن فهم القر�آن �إمنا يرد على القلوب على وفق ما نزل له القر�آن
وهو الهداية التامة على ما يليق بكل واحد من املكلفني وبح�سب التكاليف و�أحوالها ال ب�إطالق .و�إذا
كان كذلك فامل�شي على طريقها م�شي على ال�صراط امل�ستقيم .ولأن االعتبار القر�آين قلما يجده
�إال من كان من �أهله عمال به على تقليد �أو اجتهاد ،فال يخرجون عند االعتبار فيه عن حدوده كما
مل يخرجوا يف العمل به والتخلق ب�أخالقه عن حدوده ،بل تنفتح لهم �أبواب الفهم فيه على توازي
�أحكامه ،ويلزم من ذلك �أن يكون معتدا به جلريانه على جماريه .وال�شاهد على ذلك ما نقل من
فهم ال�سلف ال�صالح فيه ،ف�إنه كله جا ٍر على ما تق�ضي به العربية ،وما تدل عليه الأدلة ال�شرعية
ح�سبما تبني قبل»(.)2
ومعان
فالن�ص كله تقعيد حلقيقة االعتبار القر�آين حيث ترجع �إىل االحتفال مبرامز �إ�شارية ٍ
باطنية تتدفق من غري توقف ،يلوح بها النظر القر�آين عند التدبر .قال« :ف�إن االعتبار ال�صحيح
يف اجلملة هو الذي يخرق نور الب�صرية فيه حجب الأكوان من غري توقف ،ف�إن توقف فهو غري
�صحيح �أو غري كامل ح�سبما بينه �أهل التحقيق بال�سلوك»(.)3
�إن الكون هنا جمال ل�سياحة قلبية ،ترت�شف من �أعيان الكائنات التي ميوج بها يف م�ساحة
«بانورامية» ممتدة وغري متناهية ،لأن طبيعتها م�سكوكة ب�سكة الكلمات القر�آنية غري املتناهية
هي كذلك؛ ﴿
www.arrabita.ma
�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر 36
( ﴾ الكهف .)104 :ولي�ست اجل�سوم والأعرا�ض املادية احلاملة
لتلك اجلواهر �سوى عالمات مادية تظهر وتختفي لترتك بعد اختفائها وظيفتها التعبدية الكونية
التي حددها لها اخلالق يف حدود التعريف به للإن�سان ،فهي خادمة له لكن خدمة تعبدية مناطة
بها تكوينا وخلقا ...فكان البد من ا�ستنطاق هذه الكائنات واحلفر يف �أ�سرارها الكونية امللكوتية
مبعاول القر�آن نف�سه� ،ألي�س هو الكتاب املعرف مبجالها ووظائفها؟ فكيف يطلق للقلب ال�سياحة
ال�شعورية يف جمالها دون الرجوع �إليه خ�ضوعا لكلياته العلمية ال�شاملة؟ لكن ذلك كله مع م�صاحبة
�شرط «مراعاة الل�سان العربي»� ،إذ ي�شهد له كما �صرح يف �آخر الن�ص املركزي ال�سابق.
ف�أنت ترى �إذن �أن ماهية (االعتبار) متج�سدة يف ق�سمه الأول هنا؛ �إمنا ترجع �إىل معني
الت�صوف والوقوف على دقائق �أهل ال�سلوك �إذا تخلقوا ب�أخالق �أهل القر�آن ،ك ٌّل بح�سب درجته
كما �أ�شار( .)1بيد �أن حقيقته ان�سبكت يف م�سبكة �أ�صولية يف �صيغة كلية و�أفرغت يف قالب �صار �أقدر
على �إخراجها من ليونتها يف ال�سلوك �إىل �صالبتها يف الأ�صول املقطوع بها .وقد و�صف هذا الق�سم
مع قرينه مبا يفيد ذلك بعد �سرد �أمثلة لهما قائال« :وال بد قبل اخلو�ض يف رفع الإ�شكال من تقدمي
�أ�صل م�سلم»()2؛ فهما راجعان �إىل �أ�صل كلي قطعي له نف�س طبيعة الأ�صول عند �أبي �إ�سحاق.
ب .يف االعتبار الوجودي
و�أما الوجودي فقد حكم عليه بقوله« :و�إن كان الثاين؛ فالتوقف عن اعتباره يف فهم باطن
القر�آن الزم ،و�أخذه على �إطالقه فيه ممتنع لأنه بخالف الأول؛ فال ي�صح �إطالق القول باعتباره
يف فهم القر�آن»( .)3وذلك راجع بالأ�سا�س �إىل طبيعة الإ�شارات واللوائح التي تقذف �إلهاما
وحتديثا يف قلوب �أ�صحاب الأحوال ،وب�سبب �صعوبة �إيقافها يف عامل الروح ل�شدة تناغمه مع الكون
وخملوقاته وما ين�ساب منها من حوادث وظواهر؛ ف�إن القلب ي�سارع يف بادئ النظر �إىل احلكم
عليها .ومن هنا خطورتها.
لكنه �صحح العمل به ب�شرطني اثنني:
� .1أي يف ن�صه ال�سابق بقوله« :على ما يليق بكل واحد من املكلفني وبح�سب التكاليف و�أحوالها ال ب�إطالق» ال�شاطبي،
املوافقات ،م� ،س ،ج� ،3ص .302ثم بني �أنه خا�ص ب�أهله بقوله« :ولأن االعتبار القر�آين قلما يجده �إال من كان من
�أهله عمال به على تقليد �أو اجتهاد « نف�س امل�صدر وال�صفحة� .أو بتعبري �شيخ الزيتونة «الإ�شارة (� )...إمنا ت�شري ملن
ا�ستعدت عقولهم ( )...وال ينتفع بها غري �أولئك» ابن عا�شور ،التحرير والتنوير ،م� ،س ،ج� ،1ص.36
.2ال�شاطبي ،املوافقات ،م� ،س ،ج� ،3ص.302
.3امل�صدر نف�سه ،ج� ،3ص.303
www.arrabita.ma
نظرية املعرفة عند ال�شاطبي :درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج 37
ال�شرط الأول؛ �أن يكون ذلك االعتبار يف مقابلة مطلق من املعاين القر�آنية ،لأنه مطلق غري
مقيد ،وكالهما وجوديان في�صح تنزيله عليها .قال�« :إن تلك الأنظار الباطنة يف الآيات املذكورة
�إذا مل يظهر جريانها على مقت�ضى ال�شروط املتقدمة؛ فهي راجعة �إىل االعتبار غري القر�آين وهو
الوجودي ،وي�صح تنزيله على معاين القر�آن؛ لأنه وجودي �أي�ضا ،فهو م�شرتك من تلك اجلهة غري
َب ب�شاهد موافق»()1؛ لأن املطالبة بال�شواهد واملعتربات؛ �إمنا تكونخا�ص ،فال ُي َطا َل ُب فيه املُ ْعت ِ ُ
حينما ُي َّدعى يف ذلك االعتبار �أنه خا�ص باملعنى الذي �سيق للداللة عليه يف القر�آن ،حينئذ يطالب
بالدليل� .أما �إذا كان مطلقا فال يحتاج فيه �إىل ذلك كما �ست�أتي �أمثلته .وهذا يجر �إىل:
ال�شرط الثاين؛ �أن ال يكون تف�سريا خا�صا بالآية ،بل يجعل من �إ�شاراتها االعتبارية ،ومن ثم
فال يكون جمهوري ًا بل خا�صا ب�أهله الذين تفتقت مواهبهم الوجدانية له دون غريهم .قال م�شريا
�إليه« :و�أي�ضا ف�إن من ذكر عنه مثل ذلك من املعتربين؛ مل ي�صرح ب�أنه املعنى املق�صود املخاطب
به اخللق ،بل �أجراه جمراه و�سكت عن كونه هو املراد ،و�إن جاء �شيء من ذلك و�صرح �صاحبه �أنه
هو املراد؛ فهو من �أرباب الأحوال الذين ال يفرقون بني االعتبار القر�آين والوجودي ،و�أكرث ما يطر�أ
هذا ملن هو َب ُع َد يف ال�سلوك� ،سائر على الطريق مل يتحقق مبطلوبه ،وال اعتبار بقول من مل يثبت
ْاع ِت َبا ُر قوله من الباطنية وغريهم»(.)2
لقد بدا وا�ضحا �أن �شروط اعتبار مفهوم (االعتبار) مبا هو الرتجمة اال�صطالحية العلمية
للتف�سري الإ�شاري (الباطني) ال�صحيح عند �أبي �إ�سحاق ثالثة:
املف�سر.
�أوال :مراعاة الل�سان العربي يف حقيقة املعنى َّ
ثاني ًا :وجود �شاهد من م�ساق الكالم �أو من اخلارج ي�شهد ل�صحته باالعتبار.
ثالثا� :أن يكون منبعه القر�آن الكرمي ثم يتبعه الدليل اخلارجي يف جماري الوجود ،وهو امل�سمى
بـ(االعتبار القر�آين).
هذا الأخري� ،أق�صد �شرط االعتبار القر�آين� ،إذا وجد َّ
دل على �أخويه بالقوة ،لأنهما خا�صتان
يف ماهيته ،فال يقرن بهما عادة يف التعبري عن املطلوب عند �أبي �إ�سحاق .فلذلك اكتفى بهما
�شرطني بعد بيان حقيقة ذلك النوع من التف�سري قائال« :وبهذين ال�شرطني يتبني �صحة ما تقدم
�أنه الباطن»( .)3ويبقى �أ�صل (االعتبار الوجودي) مق�صورا على �أهله ال يجاوز زمرتهم.
.1نف�س امل�صدر وال�صفحة.
.2نف�س امل�صدر وال�صفحة.
.3امل�صدر نف�سه ،ج� 3ص.295
www.arrabita.ma
�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر 38
بهذين ال�ضابطني تظهر نظرية التف�سري الإ�شاري جلية وا�ضحة ،وحتمل جميع �أقوال النظار
على حمكها يف ت�أويالتهم للن�صو�ص ،وذلك حتى ال تبقى هذه الن�صو�ص مرتعا للدخيل ي�صول
فيها ويجول كما هو احلال بالن�سبة للقراءات احلداثية املغر�ضة يف الع�صر احلايل ،متاما مثل
عديلتها الباطنية يف الع�صور اخلالية.
� .2أمثلة تطبيقية لت�شخي�صه
�إن نظرة خاطفة �إىل منظومة الأمثلة التي �ساقها �أبو �إ�سحاق لتنزيل نظرية التف�سري الإ�شاري
(�أو االعتبار)؛ تبني مدى ت�أثره بحجة الإ�سالم الغزايل( )1يف الت�أ�صيل العلمي لها والتمثيل
حلقيقتها .و�إمنا تفرد �شيخ املقا�صد ب�شحن قواعدها ب�ضوابط الأ�صول وت�سييجها ب�سياج الكليات
حتى ت�صري �أقرب �إىل �صلب العلم لديه ورفع النزاع فيها .وهذه جملة �أمثلة جرت جمرى الأمهات
يف التمثيل عنده:
�أ .املثال الأول
قال« :نقل عن �سهل بن عبد اهلل يف فهم القر�آن �أ�شياء مما يعد من باطنه ،فقد ذكر عنه �أنه
قال يف قوله تعاىل( ﴾ ﴿:البقرة)21 :؛ �أي �أ�ضدادا قال:
«و�أكرب الأنداد النف�س الأمارة بال�سوء املتطلعة �إىل حظوظها ومناها بغري هدى من اهلل» .وهذا
ي�شري �إىل �أن النف�س الأمارة داخلة حتت عموم الأنداد ،حتى لو ف�صل لكان املعنى :فال جتعلوا هلل
�أندادا :ال �صنما وال �شيطانا وال النف�س وال كذا .وهذا م�شكل الظاهر جدا؛ �إذ كان م�ساق الآية
وحم�صول القرائن فيها يدل على �أن الأنداد :الأ�صنام �أو غريها مما كانوا يعبدون ،ومل يكونوا
يعبدون �أنف�سهم وال يتخذونها �أربابا .ولكن له وجه جار على ال�صحة؛ وذلك �أنه مل يقل �إن هذا هو
تف�سري الآية ،ولكن �أتى مبا هو ن ٌّد يف االعتبار ال�شرعي الذي �شهد له القر�آن» ( .)2ثم ذكر �ضابطني
�أجراهما جمرى العذر ل�سهل رحمه اهلل .وحقيقتهما �أنهما دليالن من القر�آن �شاهدان باالعتبار
ملا جاء به وهما:
.1قد قال يف ال�سياق نف�سه م�شيدا بالغزايل« :وللغزايل يف «م�شكاة الأنوار» ويف كتاب ال�شكر من «الإحياء» ويف كتاب
«جواهر القر�آن» يف االعتبار القر�آين وغريه ما يتبني به لهذا املو�ضع �أمثلة ،فت�أملها هناك واهلل املوفق» .امل�صدر
نف�سه ،ج� ،3ص.304
.2امل�صدر نف�سه ،ج� ،3ص.298
www.arrabita.ma
نظرية املعرفة عند ال�شاطبي :درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج 39
ال�ضابط الأول�« :أن الناظر قد ي�أخذ من معنى الآية معنى من باب االعتبار ،فيجريه فيما
مل تنزل فيه لأنه يجامعه يف الق�صد �أو يقاربه ،لأن حقيقة الند �أنه امل�ضاد لنده اجلاري على
مناق�ضته ،والنف�س الأمارة هذا �ش�أنها؛ لأنها ت�أمر �صاحبها مبراعاة حظوظها الهية �أو �صادة عن
مراعاة حقوق خالقها .وهذا هو الذي يعني به الند يف نده؛ لأن الأ�صنام ن�صبوها لهذا املعنى
بعينه ،و�شاهد �صحة هذا االعتبار قوله تعاىل ﴿ :
( ﴾ ال َّت ْو َب ِة .)31 :وهم مل يعبدوهم من دون اهلل ولكنهم ائتمروا ب�أوامرهم وانتهوا عما
نهوهم عنه كيف كان .فما حرموا عليه حرموه وما �أباحوا لهم حللوه ،فقال اهلل تعاىل﴿ :
( ﴾ ال َّت ْو َب ِة.)31 :
وهذا �ش�أن املتبع لهوى نف�سه»( .)1فحقيقة العبور من الظاهر �إىل الباطن �أو من املعنى اجللي
�إىل املعنى اخلفي مما هو يف ذاته قيا�س ،كما �سماه ابن تيمية �سابقا ،وا�ضحة يف الن�ص؛ �إذ
متعلقها قوله« :لأن الأ�صنام ن�صبوها لهذا املعنى بعينه»(.)2
ال�ضابط الثاين�« :أن الآية و�إن نزلت يف �أهل الأ�صنام؛ ف�إن لأهل الإ�سالم فيها نظرا بالن�سبة
�إليهم� ،أال ترى �أن عمر ابن اخلطاب قال لبع�ض من تو�سع يف الدنيا من �أهل الإميان� :أين تذهب
بكم هذه الآية ﴿( ﴾ الأحقاف .)19 :وكان هو يعترب
نف�سه بها .و�إمنا �أنزلت يف الكفار ( )...ف�إذا كان كذلك؛ �صح التنزيل بالن�سبة �إىل النف�س الأمارة
يف قوله( ﴾ ﴿ :البقرة.)3(»)21 :
�إن هذا ال�ضابط يرجع �إىل قاعدة «فقه اجلزئيات من الكليات»()4؛ وهي قاعدة مفادها
�إمكانية �سحب حكم الدليل على غري حمله الذي �أنيط به فيه وتنزيله يف جمراه اال�ستعمايل،
واجلامع هو املعنى الذي �سيق له.
و�إمنا قلنا جمراه اال�ستعمايل؛ لأنه كذلك يف باب العموم واخل�صو�ص عند �أبي �إ�سحاق( ،)5وهو
امل�سمى بـ(العموم اال�ستعمايل) ،وقد ظهر �أنه منزلة بني منزلتي عموم اللفظ وخ�صو�ص ال�سبب،
www.arrabita.ma
�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر 40
فلي�س العربة ب�أحدهما بل به هو ،ويلتحق به كل ما كان يف معنى �سببه .ومن هناك اقتن�ص عمومه
و�إن كان يف مورده خا�صا.
ف�إىل هنا يرجع فقه عمر ،ر�ضي اهلل عنه ،حيث َنزَّل الآية على خ�صو�صيات نف�سه ،من باب
تنزيل الكلي على اجلزئي لتحقيق مقا�صد تربوية ترجع �إىل قاعدة اخلوف والرجاء ،وهي كلية
قطعية عنده �أي�ضا .وهذا يدل على تداخل كل هذه القواعد و�أنها �إمنا تخلقت يف رحم واحدة هي
امل�شكلة لنظرية التف�سري عنده .قال الزخم�شري يع�ضد مدلول هذه القاعدة« :وكم من �آية �أنزلت
يف �ش�أن الكافرين ،وفيها �أو فر ن�صيب للم�ؤمنني تدبرا لها واعتبارا مبوردها»(.)1
ب .املثال الثاين
قال« :ومن ذلك �أنه قال يف قوله تعاىل( ﴾ ﴿:ءال عمران:)96 :
«باطن البيت قلب حممد ي�ؤمن به من �أثبت اهلل يف قلبه التوحيد واقتدى بهدايته»(.)2
وهذا بح�سب ما �سطر؛ فاقد لل�شرطني ال�ضابطني وهما :ل�سان العرب ودليل �شاهد .فلذلك
قال« :وهذا التف�سري يحتاج �إىل بيان ،ف�إن هذا املعنى ال تعرفه العرب ،وال فيه من جهتها و�ضع
جمازي منا�سب ،وال يالئمه م�ساق بحال»( .)3ثم ا�ستدرك قائال« :والعذر عنه �أنه مل يقع فيه ما
يدل على �أنه تف�سري للقر�آن ،فزال الإ�شكال �إذا»(.)4
فهذا �ضابط للقول باالعتبار الوجودي اخلارجي كما يظهر من نكتة العذر الذي اعتذر به
ري لها،
ل�سهل؛ وهو �أن املعنى املراد �سيق عنده م�ساق امل�ستفاد من الآية باالعتبار ،ومل يقل هو تف�س ٌ
�إذ لو �صرح بذلك لكان ما �صرح به �أقرب �إىل �شق�شقات الباطنية!
ج .املثال الثالث
قال« :ومنه قوله يف تف�سري قول اهلل تعاىل( ﴾ ﴿:الن�ساء،)51 :
قال« :ر�أ�س الطواغيت كلها النف�س الأمارة بال�سوء �إذا خلى العبد معها للمع�صية» .وهو �أي�ضا من
قبيل ما قبله ،و�إن فر�ض �أنه تف�سري؛ فعلى ما مر يف قوله تعاىل﴾ ﴿ :
(البقرة .)21 :وقال يف قوله تعاىل( ﴾ ﴿ :الن�ساء« :)36 :و�أما باطنها؛
.1الزخم�شري ،الك�شاف ،م� ،س ،ج� ،1ص.37
.2ال�شاطبي ،املوافقات ،م� ،س ،ج� ،3ص.300
.3امل�صدر نف�سه.
.4امل�صدر نف�سه.
www.arrabita.ma
نظرية املعرفة عند ال�شاطبي :درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج 41
فهو القلب( ﴾ ﴿ ،الن�ساء :)36 :النف�س الطبيعي﴾ ﴿ ،
(ال ِّن َ�ساءِ )36 :العقل املقتدي بعمل ال�شرع( ﴾ ﴿ ،الن�ساء :)36 :اجلوارح املطيعة
هلل ،عز وجل ،وهو من املوا�ضع امل�شكلة يف كالمه»(.)1
فهذان مثاالن يجريان يف املجرى نف�سه الذي جرت عليه �أمثاله قب ُل؛ �إذ لي�س للعرب عهد مبثل
هذا الت�أويل يف هذه الأ�شياء ،وال نقل عن ال�سلف ال�صالح مثله ،وال َث َّم دليل �آخر يدل على �صحة
هذا التف�سري ،ال من م�ساق الآية ،مورد هذه امل�ؤ َّو َلت ،وال من خارج( .)2بل «مثل هذا �أقرب �إىل ما
ثبت رده ونفيه عن القر�آن من كالم الباطنية ومن �أ�شبههم»(.)3
فلذلك كان �أحرى بالتوقف فيه و�إحلاقه باالعتبار الوجودي الذي ال ين�شط الفرتاع معناه
وا�ستكناه �سره �إال �أرباب الأحوال .قال يف�سر ذلك يف مو�ضع �آخر« :فكون القلب جار ذا قربى
واجلار اجلنب هو النف�س الطبيعي �إىل �سائر ما ذكر؛ ي�صح تنزيله اعتباريا مطلقا ،ف�إن مقابلة
الوجود بع�ضه ببع�ض يف هذا النمط �صحيح و�سهل جدا عند �أربابه»()4؛ �أي ي�صح تنزيل معناه على
الإطالق دون تق ُّيد مبحل الآية حتى ال يقال؛ �إنه تف�سري لها� ،إذ ملَّا كانت هذه املعاين وجودية يف
اخلارج؛ قوبلت يف بيان ما تدل عليه مبا هو وجودي �أي�ضا يف القر�آن ،وهو القلب وما ذكر معه.
فالكل �أ�صل انفجاره الوجود ابتداء ،بخالف االعتبار القر�آين املنطلق يف �أ�سا�سه من القر�آن وي�أتي
ما يدل عليه وجوديا تابعا .فلذلك يوقف على حمله.
متا م��ا كم��ا �ص��رح �أ ب��و �إ �س��حاق قائ�لا« :غ�ير �أن��ه مغ�� ِّر ٌر مب��ن لي���س برا�س��خ �أو دا خ��ل حت��ت
()5
�إيالة را�سخ»!
ورمبا �أ َّمل ب�شيء من ذلك املفكر قا�سم حاج حمد يف مثل هذا املقام حني فرق بني «(مل�س)؛
حيث تعني قر�آنيا التناول باليد �أو االحتكاك الع�ضوي واحل�سي ،و(م�س) حيث تعني التفاعل
العقلي والوجداين ،فلم مينع اهلل (مل�س) امل�صحف؛ فهو للب�شر �أجمعني وكيفما كانت حاالتهم
(� )...أما (م�س) القر�آن مبا يعني التفاعل مع مكنوناته و�أعماقه فيتطلب حالة من اال�ستعداد»(.)6
.1امل�صدر نف�سه ،ج� ،3ص.301
.2امل�صدر نف�سه ،ج� ،3ص.300
.3امل�صدر نف�سه ،ج� ،3ص.301
.4امل�صدر نف�سه ،ج� ،3ص.303
.5ال�شاطبي ،املوافقات ،م� ،س ،ج� ،3ص.303
.6حاج حمد ،العاملية الإ�سالمية الثانية ،م� ،س ،ج� ،1ص.55
www.arrabita.ma
�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر 42
و�إن كان طابع املخرج الذي ارت�ضاه يف الت�أويل ل�سانيا ،لكن لو ا�ستثمر مع ال�ضوابط التي و�ضع
ال�شاطبي للتف�سري الإ�شاري؛ رمبا يكون متهيدا لبناء ن�سق منهاجي موحد يف نوع ذلك التف�سري
للقر�آن يف الع�صر احلا�ضر خا�صة.
فهذه �أمثلة اقت�ضتها خ�صو�صية املو�ضع دون ا�ستيعاب؛ كراهة للتطويل .وباهلل التوفيق.
خامتة
تن�ضح مدونات �أبي �إ�سحاق ال�شاطبي بزخم تدافعي من الكليات؛ نظرا الختالف طبيعتها
َ
وظائف يف العلم جتديدا وتكميال ،ت�صنيفا املعرفية ووظيفتها املنهجية التي لزمت عنها لت�أدية
وترتيبا .وقد وفق �إىل حد ال ي�ستهان به يف بث ذخائر نفي�سة من �أنواعها يف �سياق الت�أ�صيل لقواعد
الفن؛ اعتربت عنده قوانني لت�شكيل نظرية يف املعرفة وفق منظومة الت�صور الكلي يف الإ�صالح،
والإ�شادة مببد�أ التكامل املعريف ،القا�ضي بتذويب اجلزئيات اخلالفية و�إعادة ت�صنيفها ،لتجري
على َ�سنن �أمهاتها من الكليات يف �إثمار معرفة متوازنة؛ تلوح فيها �أهم املقا�صد العليا لل�شريعة
الإ�سالمية يف جتلياتها احل�ضارية وت�ضفي عليها م�سح ًة من �سراج جمالها .ذلك ما حاولت طرقه
هذه اجلولة ال�سريعة مع �شيخ املقا�صد وميكن تلخي�ص ق�ضيتها يف �أ�صول هي:
ـ نظرية تكامل العلوم ال�شرعية و�أثرها يف جتديد زاوية النظر �إىل مطالب تلك العلوم و�إعادة
ت�صنيفها حتى تغدو خادمة لأ�صلها الوحي الإلهي يف بعده الن�صي �أوال ،ثم يف جتلياته الوجودية
واحل�ضارية ثانيا..
ـ البحث عن الن�سق اجلمايل يف العلوم ال�شرعية من خالل علم الأ�صول ،ببيان القنوات
احلاملة لنظرية اجلمال التعبدي يف مباحثه .ولعل دمج ال�شاطبي فقه الظاهر بفقه الباطن كان
�أجنع م�سلك منهجي يلوح ب�إمكانية توفر تلك القنوات �أو على الأقل البحث عن دررها املدفونة يف
�صدف العلوم..
ـ بيان مركزية كل من الكون والكائنات وكليات الوحي يف جتديد قنوات العلم عند �إمام
غرناطة ،باعتبار �أن الأول معادال مو�ضوعيا للثاين ومر�آة عاك�سة مل�ضامينه ي�ستحيل يف منطق
النظر ال�سليم والنقل ال�صحيح التفريق بينهما �إبان �أي حماولة لت�أ�صيل املعرفة �أو جتديدها.
www.arrabita.ma