Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 42

( 145 )

www.arrabita.ma
‫‪2‬‬

‫نظرية املعرفة عند ال�شاطبي‬


‫درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها‬
‫ق�ضايا ومناذج‬

‫د‪� .‬إدري�س الرتكاوي‬


‫�أ�ستاذ باحث يف �أ�صول الفقه‬

‫مقدمة‬
‫تروم هذه الورقة مباحثة يف �أهدى ال�سبل املو�صلة �إىل الك�شف عن مبد�إ تكامل العلم ال�شرعي‪،‬‬
‫وتداخل �أن�ساقه املعرفية‪ ،‬وتناظر �أجنا�سه العلمية تناظرا و�إن كان يوحي ابتداء ب�إمكانية وجود‬
‫تقابل ظاهري بني ق�ضاياه؛ ف�إنه يروم عند التحقيق �إنتاج معرفة متجان�سة ي�صطحب فيها العقل‬
‫وال�شرع ويزدوج فيها النظر والعمل‪ ،‬بق�صد دح�ض �شبه اجلاحدين وانتحال املبطلني‪.‬‬
‫ولعل علم الفقه و�أ�صوله من هذا القبيل‪ ،‬فلقد ح�صل �شبه �إجماع من النظار على �أنه خري‬
‫متثيل لهذا التكامل‪� ،‬إما لقوته اال�ستيعابية وقدرته على احتواء كثري من قواعد العلوم بعد‬
‫اقرتا�ض بع�ضها من جمالها الذي احت�ضنها ابتداء‪ ،‬و�إما ملكنة �أعالمه ومتكنهم من رفع اخلالف‬
‫عن ق�ضاياه ومباحثه بالتوظيف ال�سليم لقواعد النظر العلمي ال�سليم فهما وا�ستنباطا حتقيقا‬
‫وتنزيال‪ ،‬وقد تولد عنه �أن �صارت تلك القواعد حمطة توا�صلية وقنوات تعارفية لي�س فقط بني‬
‫نظار العلم و�أهل التخ�ص�ص‪ ،‬بل وحتى مع املخالف يف النحلة‪.‬‬
‫تلك كانت ق�صة نظرية املعرفة يف بعديها النظري والإجرائي عند ال�شاطبي‪� ،‬أق�صد كونها‬
‫حم�ضنا لتكامل العلوم عرب التوظيف الإجرائي لقنواتها املعرفية ال�شرعية يف بعدها الوجودي‬
‫والعلمي‪ .‬ذلك لأن قنوات حمل املعرفة ال�شرعية عند النظار عموما‪ ،‬وعند الأ�صوليني خ�صو�صا‬
‫يطبعها طابع �شبه الإجماع على حجيتها نظريا والعمل بها تنزيليا و�إجراء‪ .‬وهي‪ :‬الوحي‬
‫والكون والعقل‪.‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫نظرية املعرفة عند ال�شاطبي‪ :‬درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج‬ ‫‪3‬‬

‫غري �أن توظيفها عند �أبي �إ�سحاق م�سح مب�سحة نظرية «ترجمة العلم �إىل العمل»‪ .‬وهي نظرية‬
‫توحي يف جميع تواليفه �إىل وجوب ا�ستثمار املعرفة لتوليد كليات العلوم وحماولة �إخراجها من‬
‫الكمون �إىل التجلي �أو من الوجود بالقوة �إىل الوجود بالفعل‪ .‬فلم ي�شغل نف�سه مبحاولة الت�أ�صيل‬
‫مل�سلمة االعرتاف النظري والإقناع احلجاجي بقواعد الوحي والكون والعقل‪ ...‬كما عودتنا مدونات‬
‫الأ�صوليني يف مباحث الكالم مثل حديثهم عن طبيعة احلكم التنجيزي وال�صلوحي والتح�سني‬
‫والتقبيح وطبيعة عالقة ال�سبب بامل�سبب هل هي عادية �أم ت�أثريية؟ وكذا عالقة ال�سنة بالقر�آن‪،‬‬
‫�إال قليال‪ ،‬وعوار�ضهما من عموم وخ�صو�ص وتقييد ون�سخ وحقيقة وجماز وحجيتها جميعا‪� ...‬إىل‬
‫غري ذلك‪ ..‬و�إمنا حاول جتاوز هذه املباحث يف طريقة عر�ضها التجريدي النظري ليطل من نافذة‬
‫هذه العلوم م�سلمة على تر�سانة من الإ�شكاالت التي �أثارتها عالقة هذه العلوم بع�ضها ببع�ض‪،‬‬
‫باعتبارها ممثلة لوحدة ال�شريعة يف �شبكتها الكلية املعقدة‪.‬‬
‫و�إِنَّ َغ َّ�ض الطرف عن تلك الإ�شكاالت العملية العار�ضة �سيولد‪ ،‬قطعا‪ ،‬ال�شك يف هاته الوحدة‬
‫وحماولة تفكيك ن�سيجها من قبل املغر�ضني �أو اجلاهلني على حد �سواء‪ .‬فكان �أن انت�صب �أبو‬
‫�إ�سحاق لر�صد �أهم هذه الإ�شكاالت العار�ضة لعلوم ال�شريعة‪ ،‬وتفكيك خالياها و�إعادة ترتيب‬
‫مباحث العلوم ترتيبا يجري على ن�سق هويتها الراجعة �إىل وحدة ال�شريعة التابعة هي بدورها‬
‫لوحدة الوحي كالم اهلل الواحد غري املتعدد‪.‬‬
‫ومن هنا‪ ،‬حقا‪ ،‬وجب �إعادة القراءة لقواعد علم الأ�صول يف منظور �شيخ املقا�صد‪ ،‬باعتباره‬
‫العلم الكلي الأعلى الناظم ملا �سواه من العلوم وهي جزئيات بالن�سبة �إليه‪ .‬فكان �أن جر عليه‬
‫االهتمام مب�صادر املعرفة يف جتلياتها الوجودية والعلمية الكربى �أعني‪ :‬النقل والعقل والكون‪ .‬وما‬
‫�سواها مكمل لها �أو راجع �إليها‪.‬‬

‫املحور الأول‪ :‬حمتوى نظرية املعرفة وتكامل العلوم‬


‫�أوال‪ :‬جممل م�صادر املعرفة عند ال�شاطبي‬
‫�إذا �سلمنا �أن توظيف م�صادر املعرفة عند ال�شاطبي كان بق�صد الوقوف على نظرية تكامل‬
‫العلوم وتداخلها وخدمة بع�ضها لبع�ض؛ �أمكننا �أن نقف على حمتوى هذا الإجراء عموما وتلم�س‬
‫كليات ذلك التكامل تف�صيال والوقوف على بع�ض مناذجه التي �صارت مبثابة املر�آة العاك�سة‬
‫لوحدة ال�شريعة من خالل علم الأ�صول‪ .‬والتف�صيل فيه نرتكه �إىل املباحث املقبلة‪ .‬و�إمنا وظيفة‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر‬ ‫‪4‬‬

‫هذا املبحث هنا هو ر�صد ذلك املحتوى �إجماال من خالل امل�صادر الرئي�سة واملكملة لها املق�صودة‬
‫�أ�صالة لرتكيب مباحث الفن يف منظور �أبي �إ�سحاق‪:‬‬
‫‪ .1‬الوحي؛ هو كليات القر�آن العليا‪ :‬ولها طابعان‪ :‬طابع م�صدري‪ :‬يرتبط مباهية القر�آن‬
‫الكرمي وال�سنة النبوية‪ ..‬فهما م�صدران لإن�شاء الأحكام التف�صيلية املبا�شرة الراجعة �إىل احلالل‬
‫واحلرام‪ ،‬ثم هما م�صدران لتوليد قواعد الأ�صول الفقهية وحجيتها ال�شرعية‪ .‬وما �سوى هاذين‬
‫نا�شئ عنهما مثل الإجماع والقيا�س واال�ستدالل‪.‬‬
‫وطابع قانوين حجاجي‪ :‬يتعلق خ�صي�صا مبنظومات القواعد الكلية التي لي�ست م�صادر‬
‫ولكنها قوانني‪ ،‬مثل العموم واخل�صو�ص‪ ،‬و�سد الذريعة‪ ،‬وقواعد امل�آل‪ ،‬وامل�صلحة‪ ...‬وغريها‪ .‬فبني‬
‫�أن هاته الكليات كا�شفة عن احلكم و�صاحلة للتناظر واملجادلة �أثناء ربط الدليل مبواقعه يف‬
‫النوازل والق�ضايا وما يتعلق بالفروع يف حمطة حتقيق املناط‪.‬‬
‫‪ .2‬الكون؛ هو منظومة احلالل التي زين اهلل بها مناكب الوجود وغلبها على احلرام‪� .‬أو قل‪:‬‬
‫هي جمموع الطيبات التي ن�صبها ال�شارع للتمتع بها �أ�صالة واتخاذها قنوات لعبادته يف الأر�ض‪...‬‬
‫فبي �أن هذا التعريف يقود لزوما �إىل ج�س‬
‫ويرتبط بها �ضرورة جمموع الكائنات املعرفة بخالقها‪ِّ .‬‬
‫نب�ض حظرية التوحيد التعبدي يف �شعور املكلف‪ ،‬ومن خالله �ستتجلى مالمح الت�صوف ال�سني‬
‫املعتدل �أو «فقه القلوب»‪ .‬ودجمه يف الأ�صول معقول كما �سيت�ضح فيما بعد‪ ،‬و�إمنا كان كذلك‬
‫تعري�ضا بالأ�صوليني الذين اقت�صروا على «فقه الظاهر» دون «فقه الباطن»‪ ،‬وهما على كل حال‬
‫علمان �صنوان‪.‬‬
‫‪ .3‬العقل؛ مل يعنت به ال�شاطبي من جهة احلجية كما عودتنا مدونات الأ�صوليني ونظار‬
‫الكالم؛ ولكن من جهة كونه قناة لتوليد قواعد كلية رمبا مل يعهدها الأ�صوليون مبنهج �أبي �إ�سحاق‬
‫التكاملي‪ ...‬وذلك مثل نظرية ال�سبب وامل�سبب والعالقة بينهما هل حتكمها العادة فيرتتب على‬
‫ذلك مبد�أ التوحيد؟ �أم الت�أثري املبا�شر فيلزم عنه مبد�أ اال�ستخالف القا�ضي بوجوب مراعاة‬
‫الفعل الإن�ساين من جهة �أ�سبابه وقرائنه ولواحقه جميعا؟‪ ..‬وبني �أن من ثمرات هذا املبد�أ عنده‬
‫ترتب كلي «امل�آل» وفروعه‪.‬‬
‫هذه هي �أمهات امل�صادر املعرفية عند ال�شاطبي و�سنغ�ض الطرف عن �سائرها مثل اللغة‬
‫واملنطق‪ ...‬تبعا خل�صو�صية الدرا�سة املعدة �أ�صالة لبيان عالقة �أوال فقه الباطن بفقه الظاهر‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫نظرية املعرفة عند ال�شاطبي‪ :‬درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج‬ ‫‪5‬‬

‫وثانيا كالم اهلل امل�سطور «الوحي» بكتابه املنظور «الكون»‪ ،‬باعتبار الثاين معادال مو�ضوعيا‬
‫للأول‪ .‬ففي وجهة نظري‪ ،‬هنا ت�سكن تر�سانة من الأ�سرار العلمية والتعبدية امل�ساعدة على‬
‫قراءة الكون بفهر�س القر�آن؛ قراءة توحيدية �شاملة كا�شفة عن منظومة من الإ�شكاالت‬
‫املعرفية‪ ،‬و�إمكان �إر�ساء حلول لها �صاحلة لكل زمان ومكان ولي�س قا�صرة على حميط �إمام‬
‫غرناطة االجتماعي والعلمي‪ ،‬وال على علم الأ�صول ال�صناعي فقط‪ ،‬بل ممتدة �إىل �سائر العلوم‬
‫مثل التف�سري والت�صوف كما �أ�شري �سابقا‪ .‬وقد تداخلت هذه امل�صادر يف ت�شكيل بع�ض قواعد‬
‫العلمني معا وفوائدهما عرب قناة الكلي‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬مركزية الكلي يف تكامل العلوم وتداخلها‪ :‬الأ�صول والت�صوف �أمنوذجا‬


‫فرق كبري بني الت�أليف يف فن علمي من حيث هو علم �صناعي تقت�ضي ال�صناعة فيه ر�صد‬
‫حيثيات املعرفة امل�شكلة لإطاره من �شروط ومو�ضوع وهدف ت�شكل مبجموعها �سياجا لذلك العلم‪،‬‬
‫ال يدخل فيه غريه‪ ،‬و�إن �أدخل فبالت�أويل‪ ،‬وال يزحف هو خارجه‪ .‬من حيث امل�صطلحات املركزية‬
‫والقواعد الكلية على ال�سواء‪� ،‬سيما �إذا �سلمنا ابتداء ب�أن حماولة دمج �أجنا�س منها بنظائرها يف‬
‫علم �آخر �إمنا هو «من باب خلط بع�ض العلوم ببع�ض»‪.‬من منظور ال�شاطبي نف�سه‪ .‬وبني الت�أليف‬
‫يف علم من حيث هو علم غائي ممتد �إىل �سائر �أقرانه من العلوم التي ت�شكل وحدة ال�شريعة ونظم‬
‫اجلميع يف عقد واحد‪ ،‬لو �ضاعت منه حلقة واحدة انفرط العقد ب�أكمله‪.‬‬
‫ففي احلالة الثانية يكون العلم قادرا على احتواء �إ�شكاالت الواقع الكوين بكل حتدياته‪ ،‬و�إيجاد‬
‫منافذ ل�صياغة حلول لها �ضمن وحدة ال�شريعة التي هي غاية ذلك العلم نف�سه‪ ،‬ما دام من �أخ�ص‬
‫خ�صائ�صها ال�صالحية يف كل مكان‪ ،‬والثبات املمتد على م ّر الأزمان‪...‬‬
‫واملت�أمل يف م�شروع �شيخ املقا�صد يجد نف�سه ال حمالة �أمام زخم تدافعي من العلوم م�ؤطرة‬
‫�ضمن هذه احلالة الثانية‪ ،‬م�صاغة يف �سلك العلم الكلي الأعلى عنده الذي هو علم �أ�صول الفقه‪.‬‬
‫وبني �أن هذا الت�أطري �سيجر لزوما الإ�شكال املنهجي ال�سابق �أق�صد‪ :‬كيف ي�سلم دمج علم‬
‫يف علم واخللط بني قواعدهما؟ �ألي�س �إدماجها هو �إجهاز على نظرية املعرفة الإ�سالمية نف�سها‬
‫اخلا�ضعة هي بدورها لفل�سفة ت�صنيف العلوم والتفريق بني مباحثها ومو�ضوعاتها تفريقا يوجب‬
‫احلفاظ على هويتها؟!‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر‬ ‫‪6‬‬

‫نبادر ابتداء لتقدمي احلل املنهجي والقناة املعرفية التي �ساعدت �أبو �إ�سحاق يف مللمة �شتات‬
‫العلوم يف �صيغتها الن�سقية القاعدية‪ ،‬على اعتبار �أن اخلو�ض يف اجلزئيات هو ا�ستمرار‪ ،‬بوعي �أو‬
‫بغري وعي‪ ،‬يف توطني الأزمة‪ ...‬ومن ثم كان احلل هو الوقوف على نظرية «الكلي» املحت�ضن لتلك‬
‫اجلزئيات‪.‬‬
‫وهذا ال يعني �أن الأ�صوليني قبله �أهملوا النظرية‪ ،‬ت�أ�صيال �أو تنزيال‪ ،‬كال‪ ،‬بل قواعد العلوم‬
‫هي نف�سها كليات‪ ،‬بيد �أن طبيعتها «اال�ستحواذية» مل ترتقى عندهم لتخرج من فن �إىل فن خروجا‬
‫منهجيا ي�ضبط �إ�شكاال ما‪ ،‬و�إال ف�إن هجرة «القواعد الكلية» من علم �إىل �صنوه معروف متداول‬
‫بقوة‪...‬‬
‫من هنا كانت الكليات عند �أبي �إ�سحاق لها جتليان‪:‬‬
‫جتلي خا�ص؛ وهو ا�ستفادة فروع فقهية‪.‬‬
‫جتلي عام؛ ا�ستفادة قواعد فقهية و�أ�صولية‪ .‬وهنا ال�شك مربط الفر�س عنده‪ ...‬ولهذا كان‬
‫الكثري من القواعد الكلية عند غريه جزئيات �إ�ضافية عنده‪ ،‬متاما مثل الفروع من جهة قوتها‬
‫ولي�س من جهة طبيعتها‪� .‬إذن ما مظاهر هذا التكامل بني العلوم عند �إمام غرناطة؟ وكيف‬
‫ا�ستطاع الو�صول �إليه من خالل قناة الكلي؟‬
‫ما يعنينا هنا يف هذا املقام من تلك العلوم املتداخلة منهجيا ومعرفيا مع الأ�صول؛ علم‬
‫ال�سلوك �أو الت�صوف‪ ،‬وذلك لأمرين اثنني‪:‬‬
‫�أولهما؛ �أن وجود قواعده ومفاهيمه بقوة يف ثنايا «املوافقات»؛ ي�ستفز الناظر ويدفعه �إىل‬
‫البحث والت�سا�ؤل حول �سر �إدماج مطالبه بكرثة يف مطالب الأ�صول‪ ،‬ب�صورة مل تكن عند الأ�صوليني‬
‫قبل �أبي �إ�سحاق وال َخ ُّطوها ب�أميانهم!‬
‫والثاين؛ �أن الت�صوف هو �أقرب العلوم ال�شرعية �إىل الفقه و�أ�صوله‪ ،‬وذلك لأن العلوم‬
‫املق�صودة بالأ�صالة من ال�شارع الرتباطها املبا�شر ب�أفعال املكلفني �إمنا تنح�صر يف علم‬
‫الفقه دون �سواه؛ ذلك لأن الأحكام هي �أو�صاف قيمية ت�صف الأفعال يف الوجود وت�ؤطرها‪،‬‬
‫وما الأدلة من قواعد ون�صو�ص �إال قنوات حاملة لتلك الأو�صاف يف �صورتها النهائية بعد‬
‫�سربها واختبارها‪ ...‬وملا كان علم الفقه منه ظاهر وباطن وكان اعتناء الفقهاء والأ�صوليني‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫نظرية املعرفة عند ال�شاطبي‪ :‬درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج‬ ‫‪7‬‬

‫بالأول يف الغالب دون الثاين؛ كان ذلك مدعاة �إىل ا�ستدراك �أبي �إ�سحاق بدجمه هذا‬
‫يف ذاك وجعلهما على مرتبة واحدة ي�شملهما جن�س واحد هو الفقه‪ .‬فكان لزاما طرق‬
‫قواعد الت�صوف كطرق قواعد الأ�صول‪ ،‬باعتبارهما «�شقيقان يف الداللة على �أحكام اهلل»‬
‫كما عرب ال�شيخ زروق‪ ،‬لكن اجلميع ظلل لديه مبظلة الكلي الأعلى‪ .‬وهذا �سر �إبداعه املنهجي‬
‫القا�ضي بالتكامل والتداخل مع احلفاظ على هوية كل علم علم على حدة‪.‬‬
‫فما حقيقة هذا التداخل العلمي والتكامل املعريف بني الأ�صول والت�صوف عند ال�شاطبي؟‬

‫‪ .1‬يف التداخل الهام�شي املفارق بني العلمني‬


‫قال م�شريا �إىل حقيقته‪« :‬هذا العلم؛ (�أي الأ�صول) مل يخت�ص ب�إ�ضافته �إىل الفقه �إال لكونه‬
‫مفيدا له وحمققا لالجتهاد فيه‪ ،‬ف�إذا مل يفد ذلك فلي�س ب�أ�صل له‪ ،‬وال يلزم على هذا �أن يكون كل‬
‫ما انبنى عليه فرع فقهي من جملة �أ�صول الفقه‪ ،‬و�إال �أدى ذلك �إىل �أن يكون �سائر العلوم من �أ�صول‬
‫الفقه كعلم النحو‪ ،‬واال�شتقاق‪ ،‬والت�صريف‪ ،‬واملعاين‪ ،‬والبيان‪ ،‬والعدد‪ ،‬وامل�ساحة‪ ،‬واحلديث‪ ،‬وغري‬
‫ذلك من العلوم التي يتوقف عليها حتقيق الفقه وينبني عليها من م�سائله‪ ،‬ولي�س كذلك؛ فلي�س كل‬
‫ما يفتقر �إليه الفقه يعد من �أ�صوله‪ ،‬و�إمنا الالزم �أن كل �أ�صل ي�ضاف �إىل الفقه ال ينبني عليه فقه‬
‫فلي�س ب�أ�صل له»‪.‬‬
‫�إن هذا النقد املنهجي من خالل هذا الن�ص الذي ُبثَّ يف �إحدى مقدماته التمهيدية لكتابه‬
‫«املوافقات»؛ �إمنا ُج ِع َل عنده مبثابة منطلق منهجي‪ ،‬وم�سبار كلي لفح�ص كل معرفة �أ�صولية عند‬
‫الأ�صوليني و�إعادة بنائها لت�صري �إما معرفية (�صلبية) داخل العلم‪ ،‬و�إما من الزوائد املعرفية‬
‫الواجب �إطراحها خارج جماله يف الهام�ش‪.‬‬
‫و�إمنا َم َّثل مبا نطق به الن�ص بالفعل من نحو‪ ،‬وا�شتقاق‪ ،‬وحديث‪ ،‬وغريها‪ ...‬لتكون كالدال‬
‫على ما �سواها مما هو داخل فيه بالقوة‪ ،‬وذلك �ش�أن الت�صوف‪ .‬وقد دعم قاعدته يف �سياق �آخر‬
‫بقوله‪« :‬و�أما كونه (ال�شيء) فر�ضا �أو مندوبا �أو مباحا �أو مكروها �أو حراما؛ فال مدخل له يف‬
‫م�سائل الأ�صول من حيث هي �أ�صول‪ ،‬فمن �أدخلها فيها فمن باب «خلط بع�ض العلوم ببع�ض»‪ .‬مما‬
‫يدل على ا�ستقاللية العلم من جميع النواحي‪.‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر‬ ‫‪8‬‬

‫ومن هنا‪ ،‬وبناء على ذلك‪ ،‬كان توظيف كثري من العلماء ملعاين ومفاهيم ال�سلوك والت�صوف‬
‫داخل املباحث الأ�صولية والفقهية؛ �إمنا هو يف هام�شها دون �أن يرقى �إىل �أن يكون من �صلب العلم‪،‬‬
‫ف�صار ب�إدراجه فيها‪ ،‬ك�إدراج دقائق الكالم واملنطق وبع�ض فروع اللغة والفقه‪ ،‬و�سيلة �إىل «خلط‬
‫بع�ض العلوم ببع�ض»‪.‬‬
‫وذلك مثل ما جاء يف قواعد العز بن عبد ال�سالم من احلديث عن «الأذكار»‪ ،‬و»البدع»‪ ،‬و»ما‬
‫بطن من معارف الأولياء و�أحوالهم»‪ ،‬وبع�ض مقامات الإميان و�أحوال الإن�سان فيها كـ»اخلوف‪،‬‬
‫والرجاء‪ ،‬واحلياء‪ ،‬والتوكل‪ ،‬واملهابة‪ ،‬والتوبة والزهد والفقر والغنى»‪.‬وغريها‪ ..‬وفروق القرايف‬
‫مل تخل هي �أي�ضا من بع�ض حديث عن ذلك مثل «قاعدة الزهد وذات اليد‪ ،‬والفرق بينهما»‬
‫و»الفرق بني قاعدة الزهد وقاعدة الورع»‪ ،‬و»الفرق بني قاعدة املع�صية التي هي كفر وما لي�س‬
‫بكفر»‪ ،‬و�أ�شياء من هذا القبيل �أدخلت يف العلم وهُ ِّجرت �إليه دون �أداء وظيفتها املتنا�سقة جمعا‬
‫بني الفنني‪ ،‬فظهر انف�صامها عنه‪.‬‬
‫و�أما الغزايل‪ ،‬رائد نظار الفن‪ ،‬فكان على نقي�ضهما يف الطرف الآخر؛ �إذ مل ت�سلم كتبه‬
‫من �شائبة االنف�صام العلمي بني مباحث العلمني و�إقالة �أحدهما من الآخر وا�ستقالل كل منهما‬
‫مبباحثه ا�ستقالال يوحي بعدم تكاملهما وتداخلهما‪ ،‬يدل على ذلك ا�ستقالل مباحث كتابه‬
‫«الإحياء» عن مباحث كتابه «امل�ست�صفى»؛ فالأول مثل مذكرة الزهاد وح�شي بفنون من ق�ص�ص‬
‫الوجدان وال�شعور تبدو على غري منهاج قواعد العقل وم�ساطره كما طرقها يف الثاين فحدث‬
‫االنف�صام‪ ..‬وغري ه�ؤالء كثري‪ .‬وهذا هو بالذات الذي عمل ال�شاطبي على تالفيه بالت�صحيح كما‬
‫�ستتجلى بع�ض مظاهره يف هذه الدرا�سة‪.‬‬

‫‪ .2‬يف التداخل الن�سقي املنتج‬


‫هو كل تداخل يف�ضي �إىل �إنتاج عمل �أو �إثمار معرفة قلبية �أو جوارحية مادام املفهوم �أو‬
‫القاعدة املرحالن من �إطارهما العلمي قد ينتجان بجوار مفهوم �أو قاعدة �أ�صليني معنى هو يف‬
‫�صلب علم الأ�صول‪ ،‬ولعله مل يكن ذا �صلة بهما وهما يف جمالهما الذي ولدا فيه ابتداء ون�ش�آ‬
‫وترعرعا! قال‪« :‬كل م�س�ألة يف �أ�صول الفقه ال ينبني عليها فروع فقهية‪� ،‬أو �آداب �شرعية‪� ،‬أوال تكون‬
‫عونا يف ذلك‪ ،‬فو�ضعها يف �أ�صول الفقه عارية»‪.‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫نظرية املعرفة عند ال�شاطبي‪ :‬درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج‬ ‫‪9‬‬

‫فالآداب ال�شرعية املحت�ضنة للت�صوف يف هذه القاعدة الكلية ت�ضاهي الفروع الفقهية يف‬
‫الن�سبة �إىل الأ�صول‪ ،‬ومن هنا تت�ضح حقيقة الفرق بني نوعي التداخل‪ .‬وقد �أ�شار �إىل ذلك يف‬
‫مو�ضع �آخر �إذ قال‪« :‬كل م�س�ألة ال ينبني عليها عمل؛ فاخلو�ض فيها خو�ض فيما مل يدل على‬
‫ا�ستح�سانه دليل �شرعي؛ و�أعني بالعمل؛ عمل القلب‪ ،‬وعمل اجلوارح‪ ،‬من حيث هو مطلوب �شرعا»‪.‬‬
‫وهذه كلية �أخرى �شاملة م�ستوعبة جلن�س الفنني تقرر �أن عمل القلب‪ ،‬وهو حمط نظر الت�صوف من‬
‫املكلف‪ ،‬مطلوب يف علم الأ�صول كعمل اجلوارح‪ ،‬وهو حمط نظر الفقه والفروع منه‪ ،‬فمو�ضوعهما‬
‫معا وجمالهما الرئي�س فعل املكلف ظاهرا وباطنا‪.‬‬
‫ومن ثم مل تقت�صر نظرياته على خ�صو�صية الفقه ال�صناعي يف �شقه اجلوارحي‪ ،‬بل جتاوزته‬
‫لت�صري قادرة على احت�ضان املنظومة ال�شعورية والوجدانية لدى املكلف‪ .‬ومن هنا �أي�ضا خرج‬
‫حديثه عن اجلمال‪.‬‬

‫‪ .3‬يف امتدادات التداخل الن�سقي و�إ�شكالية املفهوم‬


‫و�إن امتدادات جذور هذا التداخل املنهجي وجتلياته لهي رهينة بت�سليم القول بهجرة املفاهيم‬
‫والقواعد‪ ،‬بالتبع‪ ،‬من علم �إىل �آخر وا�صطباغها ب�صبغة جماله‪ ،‬و�أن ذلك ال �ضري فيه ما دامت‬
‫هذه الهجرة « ُت�سهم يف حتقيق التكامل املعريف بني احلقول املعرفية»‪ .‬وتلك هي ق�صة علم الرتبية‬
‫�أو الأخالق فيما يعرب عنه بـ»الت�صوف» يف عالقته بالأ�صول‪.‬‬
‫ف�إنه �إذا كان العلم احلق عند �أبي �إ�سحاق هو «معرفة ا�صطالحات �أهله»‪ .‬ف�إن ذلك �سوف لن‬
‫يكون عائقا �أمامه يف ا�سترياد م�صطلحات ومفاهيم‪ ،‬قد ترتقى يف كثري من الأحيان �إىل �صريورتها‬
‫�أ�صوال وقواعد‪ ،‬من خمتلف العلوم ال�شرعية املت�آخية مع علم الأ�صول يف اعتماد ال�شريعة م�صدرا‬
‫للمعرفة‪ ،‬و�صبغها بطابع جماله الذي يقع فيه احلراك العلمي‪ .‬وهاهنا حط علم الت�صوف‪ ،‬مع‬
‫كثري من مفاهيمه‪ ،‬رحا َله والحت حقيقته‪.‬‬
‫ثم لي�س يف هذا تذويب للفروق املنهجية الكلية بني العلمني‪ ،‬ولكنه زيادة �ضبط لهما معا‬
‫خا�صة علم الت�صوف الذي يتميز بليونة جماله‪ ،‬ذلك �أن املفهوم فيه‪ ،‬والقاعدة �أي�ضا‪ ،‬يولد يف‬
‫حم�ضنه وين�ش�أ ويرتعرع حتت رعايته وي�صطبغ ب�صبغته‪ ،‬ال خارجها‪ ،‬ف�إذا رحل �إىل علم الأ�صول‬
‫لت�أدية وظيفة ّما تبعا حلقيقته؛ �صار متحليا بحلية جمال ذلك العلم‪ ،‬م�صطبغا ب�صبغته‪ ،‬تنطبع‬
‫فيه (�صلبية) العلم ودقة �إطاره وقد كان من قبل لينا رخوا‪ ،‬معر�ضا لتوظيف كل من هب ودب! مع‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر‬ ‫‪10‬‬

‫احلفاظ‪ ،‬طبعا‪ ،‬على وظيفته الرتبوية الكلية التي �سيق من �أجلها حيث ولد يف �أو كاره الأوىل‪ ،‬بل‬
‫وهي التي �سوف ت�ضفي على املفاهيم الأ�صولية عند �أبي �إ�سحاق جمالها ورونقها‪.‬‬
‫على هذا املهيع جتد �أبا �إ�سحاق ي�سوق كثريا من امل�صطلحات واملفاهيم والقواعد الأخالقية‬
‫الراجعة �إىل علم ال�سلوك ومفيدة ب�صفة مبا�شرة للفقه كـ»فتيا �أهل الورع»‪ ،‬و»ق�صد احلظ»‪،‬‬
‫و»ق�صد التعبد»‪ ،‬و»ق�صد املوافقة»‪ ،‬و»ق�صد املخالفة»‪ ،‬و»عزائم املطالب»‪ ...‬وغريها كثري‪ ،‬ناهيك‬
‫عن بع�ض �آخر منها و�إن مل يرق �إىل �إفادة معنى �أ�صويل حم�ض �أو فقهي راجع �إىل الأ�صول �إفرادي‬
‫�أو تركيبي؛ �إال �أنه �أفاد جتديدا يف منهجية الت�أ�صيل للفقه �أو �إعطاء حقيقة �أ�صولية �أو فقهية‬
‫تفهم من ال�سياق والنظم مبجموعها كمفهوم «املقامات»‪ ،‬و»الأحوال»‪ ،‬و»الكرامات»‪ ،‬و»اخلوارق»‪،‬‬
‫و»الإخال�ص»‪ ،‬و»الزهد»‪ ،‬و»الرجاء»‪ ،‬و»اخلوف»‪ ،‬و»الفرا�سة»‪ ،‬و»الذوق»‪ ،‬وغريها كثري مما ال‬
‫ميكن ح�صره‪.‬‬
‫هذا دون �أن نن�سى‪ ،‬وهو الكثري الغالب‪� ،‬شحن املفاهيم والقواعد الأ�صولية نف�سها مبعاين‬
‫الرتبية والأخالق ومقا�صد الت�صوف كما هو احلال بالن�سبة ملفاهيم املباح‪ ،‬واالجتهاد‪ ،‬وامل�آل‪،‬‬
‫وحتقيق املناط اخلا�ص‪ ،‬وقواعد املقا�صد برمتها ناطقة بذلك‪ .‬قال يف �سياق حجاجي حول‬
‫�إمكانية �ضبط املفهوم‪« :‬و�أما الكالم يف دقائق الت�صوف فلي�س ببدعة ب�إطالق‪ ،‬وال هو مما ي�صح‬
‫بالدليل ب�إطالق‪ ،‬بل الأمر ينق�سم»‪.‬‬
‫ولفظ الت�صوف البد من �شرحه �أوال حتى يقع احلكم على �أمر مفهوم لأنه �أمر جممل‪...‬‬
‫وحا�صل ما يرجع فيه لفظ الت�صوف عندهم معنيان‪� :‬أحدهما‪ :‬التخلق بكل خلق �سني‪ ،‬والتجرد‬
‫عن كل خلق َد ِ ّ‬
‫ن‪ .‬والآخر �أنه الفناء عن نف�سه والبقاء لربه‪ ،‬وهما يف التحقيق �إىل معنى واحد‪� ،‬إال‬
‫�أن �أحدهما ي�صلح للتعبري به عن البداية والآخر ي�صلح التعبري به عن النهاية‪ ،‬وكالهما ات�صاف»‪،‬‬
‫�إىل �أن قال‪« :‬و�إذا ثبت هذا فالت�صوف باملعنى الأول ال بدعة يف الكالم فيه‪ ،‬لأنه �إمنا يرجع �إىل‬
‫تفقه ينبني عليه العمل وتف�صيل �آفاته وعوار�ضه و�أوجه تاليف الف�ساد الواقع فيه بالإ�صالح»‪.‬‬
‫فهذا الن�ص القاطع يبني �أن الت�صوف ال�سني املعتدل �إمنا يرجع يف نهاية املطاف �إىل الفقه‬
‫الذي ينبني عليه عمل‪ ،‬ويكون بهذه احليثية نوعا من �أنواع املعرفة ال�شرعية الداخلة حتت جن�س‬
‫الأ�صول التي يرتتب عليها كما قال �سابقا‪« :‬فروع فقهية �أو �آداب �شرعية»‪ .‬فت�صري الفروع‪ ،‬هاهنا‪،‬‬
‫مع الت�صوف بالن�سبة �إىل الأ�صول ر�ضيعي لبان وفر�سي رهان! لكونهما يتجاذبان نف�س الوظيفة‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫نظرية املعرفة عند ال�شاطبي‪ :‬درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج‬ ‫‪11‬‬

‫املتمثلة يف �إن�شاء عمل بعد حتقيق �أ�صوله النظرية وفق ترتيب منهجي ي�صلح مبجال كل منهما‪.‬‬
‫قال‪« :‬وهو؛ (�أي الت�صوف) فقه �صحيح و�أ�صوله يف الكتاب وال�سنة ظاهرة‪ ،‬فال يقال يف مثله‬
‫«بدعة»‪� ،‬إال �إذا �أطلق على فروع الفقه التي مل ُي ْل َف مث ُلها يف ال�سلف ال�صالح �أنها بدعة‪ ،‬كفروع‬
‫�أبواب ال�سلم والإجارات واجلراح‪ ...‬وبيوع الآجال وما �أ�شبه ذلك‪ .‬ولي�س من �ش�أن العلماء �إطالق‬
‫لفظ البدعة على الفروع امل�ستنبطة التي مل تكن فيما �سلف‪ ،‬و�إن دقت م�سائلها‪ .‬فكذلك ال يطلق‬
‫على دقائق فروع الأخالق الظاهرة والباطنة �أنها بدعة‪ ،‬لأن اجلميع يرجع �إىل �أ�صول �شرعية»‪.‬‬
‫فهذا كله يوحي ابتداء ب�إمكانية وجود تداخل منهجي‪ ،‬مفاهيم وقواعد‪ ،‬بني الأ�صول والت�صوف‬
‫و�أن (�صلبية) الأول منهما قادرة على �ضبط (ليونة) الثاين �ضبط الكلي جلزئيه‪ .‬وقد �أملح �أبو‬
‫�إ�سحاق بلمحة ميكن اعتبارها‪ ،‬مع ما �سبق‪ ،‬حماولة بناء نظري للإ�شكال �سوف يعمل على �أجر�أته‬
‫عمليا يف �سائر مطالب كتبه‪ ،‬هنالك يتحول من دعوى جدلية �إىل ق�ضية م�سلمة‪ ،‬ذلك قوله‪« :‬وهذا؛‬
‫(�أي الت�صوف) نوع من �أنواع الفقه املتعلق ب�أهواء النفو�س‪ ،‬وال يعد من البدع لدخوله حتت جن�س‬
‫الفقه‪ ،‬لأنه و�إن دق راجع �إىل ما جل من الفقه‪ ،‬ودقته وجلته �إ�ضافيان واحلقيقة واحدة»‪.‬‬
‫من هنا يكون ال�شاطبي قد دفع عن علم الأ�صول التداخل االبتذايل �أو الهام�شي غري املنتج‪،‬‬
‫وجلب له التداخل الن�سقي �أو الإجرائي الذي ُ َي ّكن من �إ�ضفاء طابع الوحدة والتنا�سق على العلم‪.‬‬
‫و ُي�سهم يف توليد علوم �أخر؛ هي جزئيات بالن�سبة �إليه‪ ،‬جند يف �صدارتها؛ قواعد اجلمال التعبدي‬
‫والتف�سري ال�صويف الإ�شاري‪.‬‬

‫املحور الثاين‪ :‬ق�ضايا ومناذج ت�صور نظرية التكامل‬


‫‪ .1‬روح الكون والكائنات‪� :‬أو نظرية اجلمال التعبدي يف املباح‬
‫الإن�سان «ماهية جامعة»‪�.‬أودعها اهلل فيه ليكون دائم االت�صال باملوجودات‪ ،‬تربطه بها و�شائج‬
‫�شتى‪ ،‬وعالقات تعبدية كونية م�ستمرة منبج�سة من عني الوحي نف�سه‪ ،‬فال عجب‪� ،‬إذن‪� ،‬أن جند‬
‫القر�آن يركز على هذه الو�شائج والعالقات يف غري ما �سياق ويربز �ضرورتها يف تخريج الإن�سان‬
‫الكوين‪ ،‬باعتباره عاملا م�صغرا يحوي بني جوانحه تر�سانة من الأ�سرار التي تعترب مر�آة عاك�سة‬
‫لأ�صول املخلوقات ووظائفها يف الكون؛ العامل الأكرب‪.‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر‬ ‫‪12‬‬

‫�إن نظرية الكون والف�ساد التي اهتم بها نظار الفل�سفة اليونانية والإ�سالمية من �أر�سطو زعيم‬
‫الأوىل �إىل ابن ر�شد رائد الثانية؛ مل يكن قط عبثا‪ ،‬بل كان يف جوهره اهتماما �أولويا مباهية‬
‫الكائنات ووظيفتها‪ .‬فال ي�أتي كائن �إال على �أنقا�ض كائن �آخر �أو ارتباطا به لتكوين ثالث منهما‪...‬‬
‫وهكذا ي�ستمر التكوين الإلهي للمخلوقات بتالقح جواهرها وتالقيها لت�أدية وظيفة الت�سخري‬
‫الكوين للإن�سان باعتباره «ثمرة �شجرة اخللقة» على حد تعبري النور�سي‪.‬‬
‫من هنا كان واجبا على هذا الإن�سان �أن ي�ستثمر خدمة هذه املخلوقات‪ ،‬وما �أبيح له من طيباتها‬
‫لت�شكيل مائدة تعبدية حتوله من طبيعته «النا�سوتية» والتقوقع حولها �إىل وظيفته «الالهوتية» �أو‬
‫قل‪ :‬من عبادة نف�سه واقتنا�ص �شهواته �إىل عبادة خالقه وتوحيده‪.‬‬
‫تلك هي طبيعة الكون والكائنات يف فل�سفة الإ�سالم‪ ..‬فكان معظم اهتمامات الوحي القر�آن‬
‫بكليات هذه الفل�سفة «الوجودية»‪� ،‬أق�صد‪ :‬ربط طبيعة الكائنات بوظيفة الإن�سان يف ن�سق وجودي‬
‫حتكمه �إرادة اهلل الأزلية وحرية الإن�سان االختيارية‪ .‬من هذا امل�سلك حاول �أن ي�سلك �أبو �إ�سحاق‬
‫بقواعده الأ�صولية و�شحنها مبعان الكونية واال�ستخالف والتوحيد التعبدي‪ ،‬لي�صري للفن طابعا‬
‫ح�ضاريا ير�سم من خالله معامل فل�سفة امتثالية وجودية تنبني يف جمملها على كلية «ترجمة العلم‬
‫�إىل العمل» كما �أ�شرنا �سالفا‪ ،‬وتخرج القواعد من حيز النظر املجرد والتنزيل الفروعي ال�ضيق‬
‫�إىل ف�ضاء الإجراء والتوظيف الكوين ال�سنني املبني على قانون التدافع احل�ضاري يف جماري‬
‫العمران وطبائعه‪.‬‬
‫و�سيتم االقت�صار على �أمنوذج املباح مبا هو �صورة ناطقة بهذه التجليات التداخلية دون �سائر‬
‫املطالب‪ ،‬ملوجبني اثنني‪� :‬أوال لكونه مركز الأحكام وقناة توفري اخلدمة لنظرية املقا�صد يف �شقيها‬
‫الأ�صلي والتبعي وبكل جتلياتها العمرانية الكونية واجلمالية التعبدية ال�صوفية‪ .‬والثاين‪ :‬لكونه‬
‫حمطة منهجية جتلت من خاللها معامل جتديد زاوية النظر �إىل مفهومه‪ ،‬بعدما قبع زمنا غري‬
‫تبي يذكر ملادته املتمثلة يف‬
‫ي�سري يف قوالب املنطق وجدليات احلدود الذاتية عند ال�سابقني‪ ،‬دون ُّ ٍ‬
‫جملة النعم والآالء الكونية يف الوجود‪� .‬إذ من خالل هذه العالقة التالزمية بني املفهوم واحلقيقة‪،‬‬
‫�أو بني ال�صورة ومادتها �سوف يبني �أبو �إ�سحاق ق�ضاياه التجديدية يف امل�صطلح‪ ،‬وير�صد طبيعته‬
‫التكاملية املاثلة يف كونه منهج بحث ي�صل الأر�ض بال�سماء‪ ،‬وي�ؤلف بني واقع الأ�شياء يف الوجود‬
‫و�أ�صلها الرباين يف الغيب‪.‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫نظرية املعرفة عند ال�شاطبي‪ :‬درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج‬ ‫‪13‬‬

‫فما حقيقة املباح املعرفية عند ال�شاطبي؟ وما طبيعته الرتبوية ال�صوفية؟ وكيف تفتقت عنها‬
‫جتليات تناغم الإن�سان مع الكون والكائنات �أو نظرية اجلمال التعبدي؟‬
‫�إن طبيعة املباح يف مدر�سة �أبي �إ�سحاق الأ�صولية منطوية على �أ�سرار علمية وكونية هي املحرك‬
‫ملحور اجلمال فيها‪ .‬ف�صارت بذلك قمينة ب�أن ُت َك ِّونَ حقيقته املعرفية يف املطالب الأ�صولية‪ .‬يدل‬
‫على ذلك �أمران يف املفهوم‪ :‬لأنه �إما «لي�س مطلوب الفعل وال مطلوب االجتناب»‪ ،‬وتلك حقيقته‬
‫اجلزئية �إذا جترد عن القرائن اخلارجية‪ ،‬بحيث يعد فا�صال برزخيا بني الواجب واحلرام وما‬
‫يرجع �إليهما‪ ،‬لأنه مركز الب�ؤرة وميزان الأحكام‪ ،‬فال يبغي بع�ضها على بع�ض‪  ﴿:‬‬
‫‪(﴾  ‬الرحمن‪.)20:‬‬
‫و�إما مطلوب طلب العزائم الكلية واملقا�صد الأ�صلية لأنه خادم لها بوظيفته‪ ،‬حينئذ يتفرع �إىل‬
‫نوعني حتتهما �أ�صناف‪ .‬ثم ي�ؤول اجلميع يف النهاية �إىل ت�شكيل �شجرة متداخلة الأغ�صان متباينة‬
‫الفروع‪ ،‬من خاللها تتك�شف حقي َق ُت ُه �سافرة عن كل تلك الأ�سرار‪:‬‬
‫املباح باعتبار حقيقته اجلزئية‪:‬‬

‫مباح عر�ضا ورفعا للحرج‬ ‫مباح خمري فيه ن�صا‬

‫اعتبار وظيفته الكلية‪:‬‬

‫مطلوب االجتناب‬ ‫مطلوب الفعل‬

‫على جهة التحرمي‬ ‫على جهة الكراهة‬ ‫على جهة الوجوب‬ ‫على جهة الندب‬
‫فهو �شبكة ذات �أ�صول وفروع يتداخل فيها الرتبوي ال�صويف مع الفقهي الأ�صويل وميتد اجلميع‬
‫لي�شكل مائدة من اجلمل التعبدي يف �شعور املكلف �إذا طبع قلبه بنوع من ال�صفاء والإخال�ص‪.‬‬
‫وقبل ت�شريح هذه املنظومة اجلمالية فيه ال ب�أ�س �أن منهد بعر�ض القوانني الكلية العلمية‬
‫والوجودية التي حتكم هذه ال�شبكة وتلخ�ص وظيفة الإن�سان التعبدية جتاه الكون والكائنات وهي‬
‫على التوايل‪:‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر‬ ‫‪14‬‬

‫ـ الكون؛ مر�آة يعك�س جمال الأ�سماء احل�سنى وال�صفات العال‪ ،‬وقناته امل�ؤدية �إليه يف وجدان‬
‫املكلف هي‪ :‬التوحيد‪.‬‬
‫ـ الكون؛ منظومة من النعم والطيبات من�صوبة للتناول واال�ستمتاع وقناته امل�ؤدية �إليه يف‬
‫الوجدان هي‪ :‬ال�شكر‪.‬‬
‫ـ الكون؛ زينة دنيوية فانية‪ ،‬وتر�سانة من ال�شهوات واملالهي‪ ،‬وقناته امل�ؤدية �إليه يف الوجدان‪:‬‬
‫الزهد والورع‪.‬‬
‫هذه هي �أمهات �أ�صول الأخالق عند نظار الرتبية والت�صوف �سلبا و�إيجابا‪ ،‬حتلية وتخلية؛‬
‫�أق�صد �أن التوحيد وال�شكر هما مبد�أ التحلية �إيجابا‪ ،‬والزهد والورع هما مبد�أ التخلية �سلبا ودفعا‪.‬‬
‫و�إنه ملن العجب �أن جند هذه الكليات هي مبد�أ حراك نوعي اجلمال معا عند �أبي �إ�سحاق‪ ،‬ذلك‬
‫لأن �صورة النعم والكائنات يف الوجود يحكمها نوعان من اجلمال؛ �أحدهما ابتالئي ي�شمل جميع‬
‫النعم والآخر تعبدي مرتبط بال�شكر والتوحيد‪ .‬وهذه خال�صة لهما لتمهيد املق�صود‪:‬‬
‫�أ‪ .‬جمال التكوين (�أو اجلمال االبتالئي)‬
‫جمال التكوين هو جملة النعم �أو �أ�سباب الزينة التكوينية االبتالئية املو�ضوعة �سببا لال�ستمتاع‬
‫على الإطالق‪ ،‬بناء على �أن «الأ�سباب وامل�سببات مو�ضوعة يف هذه الدار ابتالء للعباد وامتحانا‬
‫لهم‪ ،‬ف�إنها طريق �إىل ال�سعادة �أو ال�شقاوة»(‪ .)1‬فهو من امل�صالح املطلقة الراجعة �إىل ق�صد ال�شارع‬
‫االبتدائي قبل ت�صرف املكلف‪ ،‬كما �سوف ي�أتي مع �أبي �إ�سحاق‪ ،‬لكنه م�سيج بغطاء م�شيئة اهلل يف‬
‫خلقه بق�صد ابتالئهم واختبارهم ق�ضاء وقدرا‪ .‬فعلى هذا النوع من اجلمال و�ضعت �أ�صول النعم‬
‫يف الكون ابتداء؛ قال تعاىل‪         ﴿ :‬‬
‫‪( ﴾‬الكهف‪ .)7 :‬وقال �سبحانه‪       ﴿ :‬‬
‫‪         ‬‬
‫‪�( ﴾       ‬آل عمران‪ .)14 :‬وقال جل وعال‪﴿ :‬‬
‫‪( ﴾         ‬الكهف‪.)46 :‬‬
‫وقال �أي�ضا‪         ﴿ :‬‬

‫‪  .1‬امل�صدر نف�سه‪.148/1 ،‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫نظرية املعرفة عند ال�شاطبي‪ :‬درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج‬ ‫‪15‬‬

‫‪( ﴾  ‬امللك‪ .)5 :‬وقال �أي�ضا‪       ﴿ :‬‬
‫‪( ﴾   ‬الأعراف‪.)32 :‬‬
‫فهذه الآيات وغريها مما �شاكلها؛ تفيد �أن هذه الزينة �إمنا و�ضعت للنا�س‪ ،‬جميع النا�س‪ ،‬فال‬
‫يتعلق بها مدح �أو ذم من حيث هي كذلك قبل التكليف مبقت�ضياتها ولوازمها الراجعة �إىل قانون‬
‫االنت�ساب الإمياين‪ ،‬و�إن تعلق بها �شيء من ذلك؛ فهو تعلق عام ولي�س خا�صا‪ .‬قال ابن القيم يف‬
‫تعليقه على الآيات‪« :‬ف�أخرب �سبحانه عن خلق العامل‪ ،‬واملوت واحلياة‪ ،‬وتزيني الأر�ض مبا عليها‬
‫�أنه لالبتالء»(‪.)1‬‬
‫وقال �سيد قطب مقررا هذه احلقيقة‪« :‬ونظرة �إىل ال�سماء كافية لإدراك �أن اجلمال عن�صر‬
‫مق�صود يف بناء الكون‪ ،‬و�أن �صنعة ال�صانع فيه بديعة التكوين جميلة التن�سيق‪ ،‬و�أن اجلمال فيه‬
‫فطرة عميقة ال عر�ض �سطحي‪ ،‬و�أن ت�صميمه قائم على جمال التكوين»(‪ .)2‬ثم لأن اجلمال التكويني‬
‫البد و�أن تكون �أ�شيا�ؤه التي يزدان بها النا�س مغايرة لهم منف�صلة عنهم(‪.)3‬‬
‫يقول الدكتور توحيد الزهريي يف تعليقه على �آية الزينة ال�سالفة يف �سورة الكهف‪« :‬بن�ص هذه‬
‫الآية نعلم �أن اجلمال الذي تبديه الأ�شياء هو حقيقة مو�ضوعية توجد خارج النف�س الإن�سانية‪،‬‬
‫وت�ستند �إىل عمل الهي هو «التزيني»‪ .‬والغاية منه هو االبتالء»(‪.)4‬‬
‫كل هذه الن�صو�ص ناطقة باملراد‪ ،‬مفيدة �أن اجلمال االبتالئي التكويني �إمنا هو جذوة من‬
‫الكلمات التكوينية‪ ،‬وامل�شيئة القدرية التي ر�سمت مقادير املخلوقات فقدرتها تقديرا‪ ،‬ثم �شخ�صتها‬
‫يف الوجود لتكون كالدال على مكونها وخالقها قبل ت�صرف املكلف فيها‪� .‬أما بعد ذلك الت�صرف؛‬
‫فالبد من ا�ستتباع تكليف يجر م�س�ؤولية واختيارا جراء فعل العبد جتاهها‪ ،‬ف�إن كان فعال �إيجابيا‬
‫حممودا ترتب عليه جمال تكليفي تعبدي‪ ،‬وهو يف‪:‬‬
‫ب‪ .‬جمال التكليف (�أو اجلمال التعبدي)‬
‫ينفرد اجلمال التكليفي التعبدي عن عديله ال�سابق مبيزتني متالزمتني‪:‬‬

‫‪�  .1‬أبو بكر بن قيم اجلوزية‪ ،‬رو�ضة املحبني ونزهة امل�شتاقني‪ ،‬حتقيق‪ :‬عبد اهلل املن�شاوي‪ ،‬املن�صورة‪ :‬مكتبة الإميان‪ ،‬د‪.‬‬
‫ت‪� ،‬ص‪.47‬‬
‫‪�  .2‬سيد قطب‪ ،‬يف ظالل القر�آن‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار ال�شروق‪ ،‬ط‪1972 ،1‬م‪.2984/5 ،‬‬
‫‪   .3‬الطاهر ابن عا�شور‪ ،‬التحرير والتنوير‪ ،‬تون�س‪ :‬دار �سحنون للطباعة والن�شر‪ ،‬د‪ .‬ت‪.89/23 ،‬‬
‫‪   .4‬توحيد الزهريي‪ ،‬نحو فل�سفة �إ�سالمية للجمال والفن‪ ،‬الكويت‪ :‬دار القلم‪ ،‬ط‪1998 ،1‬م‪� ،‬ص‪.48‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر‬ ‫‪16‬‬

‫�أوالهما؛ كونه قب�س ًا من منظومة التكليف واالختيار عموما‪ ،‬حيث يوجد املدح والذم واحل�سن‬
‫والقبح والثواب والعقاب‪ ،‬فال خالف يف كون هذه املتقابالت �إمنا هي من لوازم االختيار التعبدي‬
‫عند املكلف‪ ،‬حيث يخرج من كونه عبدا خملوقا‪ ،‬قهرا وا�ضطرارا‪� ،‬إىل كونه مكلفا م�س�ؤوال طوعا‬
‫واختيارا‪ ،‬فال يبقى كالبهيمة امل�سيبة ت�سرت�سل يف نيل لذاتها واقتنا�ص �شهواتها دون داع يقيد �أو‬
‫حامل يزع عن الوقوع يف املحظور! وجمموع ذلك كله هو ق�صد ال�شارع العام من و�ضع ال�شريعة‪،‬‬
‫كما قال �أبو �إ�سحاق‪« :‬املق�صد ال�شرعي من و�ضع ال�شريعة؛ �إخراج املكلف عن داعية هواه حتى‬
‫يكون عبدا هلل اختيارا كما هو عبد هلل ا�ضطرارا»(‪.)1‬‬
‫والثاين؛ �أنه مت�صل بالعبد نابع من م�شكاة الروح والوجدان امل�ستقرة يف قلبه يف حال‬
‫�إميانه‪ ،‬م�ستنده قوله تعاىل‪         ﴿ :‬‬
‫‪            ‬‬
‫‪( ﴾     ‬احلجرات‪� .)7 :‬إذ ذهب طائفة‬
‫من املف�سرين �إىل �أن هذا التزيني نف�سي مت�صل كما �سطره الراغب(‪ ،)2‬فخالف بذلك اجلمال‬
‫االبتالئي املنف�صل؛ الرتباطه ب�أ�صول النعم املن�صوبة يف الكون البتالء املكلف‪� :‬أي�شكر �أم يكون‬
‫من اجلاحدين! لكن يبقى الإ�شكال يف قنواته احلاملة له املج�سدة ملقت�ضياته يف ال�سلوك بعد ثبوت‬
‫�أ�صله يف الباطن‪ :‬ما هي؟‬
‫�إن نظرة خاطفة �إىل تواليف نظار الرتبية وال�سلوك توحي قطعا بوجود مفاهيم تداولية �ضاربة‬
‫بعمقها يف �صلب اجلمال واحل�سن‪ ،‬غري �أنها فروع عن زينة �أ�صل الإميان امل�ستقر يف الباطن‪،‬‬
‫فكانت بالن�سبة �إلية منازل وقواعد ُتظهر حقيقته يف اخلارج ك�ش�أن اجلزئيات مع كليها الناظم لها‬
‫عند املناطقة‪ ،‬حيث ال يت�شخ�ص وال يتج�سد �إال بها وفيها‪ .‬وذلك مثل ال�صدق والإخال�ص والتوحيد‬
‫وال�شكر واحلمد والرفق واللني والرحمة والتودد و�صلة الأرحام وح�سن اجلوار‪ ...‬وغريها من‬
‫مكارم الأخالق‪ ،‬مما تتوا�ضع عليه العقول ال�سليمة والفطر ال�صحيحة الراجعة �إىل «التلب�س من‬
‫كل ما هو معروف من حما�سن العادات‪ ،‬والتباعد عن كل ما هو منكر يف حما�سن العادات»(‪.)3‬‬
‫‪  .1‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات‪ ،‬م‪� ،‬س‪.128/2 ،‬‬
‫‪  .2‬فقوله‪( ﴾      ﴿ :‬احلجرات‪ )7 :‬فهو من الزينة النف�سية‪ .‬وقوله‪:‬‬
‫﴿‪( ﴾          ‬الأعراف‪ )30 :‬فقد حمل على الزينة‬
‫اخلارجية»‪ .‬الراغب الأ�صفهاين‪ ،‬معجم مفردات �ألفاظ القر�آن‪ ،‬حتقيق‪� :‬إبراهيم �شم�س الدين‪ ،‬بريوت‪ :‬دار الكتب‬
‫العلمية‪/‬لبنان‪ ،‬ط‪2008 ،3‬م‪� ،‬ص‪.219‬‬
‫‪  .3‬نف�س امل�صدر وال�صفحة‪.‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫نظرية املعرفة عند ال�شاطبي‪ :‬درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج‬ ‫‪17‬‬

‫كليات عليا هي املمثلة لقناة اجلمال‬


‫بيد �أن‪ ،‬هاهنا‪� ،‬إ�شارة؛ وذلك �أن لهذه العزائم اجلمالية ٍ‬
‫التعبدي يف الت�صور الإ�سالمي‪ ،‬تتمثل يف احلمد وال�شكر والتوحيد‪ .‬و�إن كان اجلميع ين�ضوي حتت‬
‫حقيقة منازل الإميان �أو «عمومات العزائم» �إال �أن لهذه‪ ،‬دون الباقي‪ ،‬خ�صو�صي ًة جمالي ًة يف نف�س‬
‫اخل�صو�ص‪ ،‬تظهر يف كونها النافذة الأوىل التي يطل منها العبد بقلبه على منظومة زينة الإميان‬
‫التي يقع فيها احلراك اجلمايل اخلا�ص‪ ،‬حيث التفاعل مع النعم الكونية اخلارجية كما �سي�أتي‬
‫مع �أبي �إ�سحاق‪ .‬ومن هنا �أي�ضا كان حدها اال�صطالحي عند العلماء قد روعي فيه التداخل‬
‫اال�صطالحي واملفهومي مع احلقيقة اجلمالية عموما‪ ،‬كما يظهر من تعريف ابن القيم‪ ،‬حيث‬
‫ُج ِعل ك ٌّل من ال�شكر واحلمد من �أفرادها عنده‪ .‬وكذلك ال�شوكاين‪ ،‬وكل من �سار على دربهما يف‬
‫تذوق حقيقة املفهومني‪ ،‬ومقا�صدها اجلمالية‪.‬‬
‫يقول الثاين يف تعريف احلمد‪ :‬هو «الو�صف باجلميل على اجلميل االختياري للتعظيم»(‪،)1‬‬
‫فاحلمد هو مركز ب�ؤرة هذا النوع من اجلمال وقطب رحاه‪ ،‬و�إليه ترجع جميع جتلياته‪ ،‬فال يزال‬
‫العبد من خالله يرتقى كما قال ابن القيم‪« :‬من معرفة ال�صفات �إىل معرفة الذات‪ ،‬ف�إذا �شاهد‬
‫�شيئا من جمال الأفعال ا�ستدل به على جمال ال�صفات‪ ،‬ثم ا�ستدل بجمال ال�صفات على جمال‬
‫الذات‪ .‬ومن‪ ،‬هاهنا‪ ،‬يتبني �أنه �سبحانه له احلمد كله»(‪.)2‬‬
‫هل ر�أيت هذا اال�ستحواذ ال�شامل على معاين �صفات اهلل وذاته و�أفعاله �سبحانه؟ كذلك‬
‫كانت حقيقة منزلة احلمد و�أ�سرارها التعبدية يف وجدان العبد‪ ،‬حتى �إذا انتقل �إىل الثناء وال�شكر‬
‫على �صانع املخلوقات ومنعم النعم الكونية؛ �صار جامعا يف الباطن بني احل�سنيني‪ ،‬جالبا للمحبة‬
‫الإلهية من خالل القناتني‪ .‬ي�سرت�سل ابن القيم يف نف�س ال�سياق‪« :‬فهو �سبحانه يحب ظهور �أثر‬
‫نعمته على عبده‪ ،‬ف�إنه من اجلمال الذي يحبه‪ ،‬وذلك من �شكره على نعمه‪ ،‬وهو جمال باطن»(‪.)3‬‬
‫واملعنيان معا �سوف ينظمهما كلي التوحيد عند ال�شاطبي‪ ،‬كما �سيظهر يف املباح قريبا‪ .‬ثم‬
‫بعد ذلك ت�أتي جتليات العمران اجلمالية يف اخلارج بح�سب ما متليه عليها �صفاتها اجلمالية‬
‫وعنا�صرها ال�شعورية يف الباطن‪.‬‬
‫�إن اجلمال الكوين مبعث �شعوري للجمال التعبدي‪ ،‬وهذا مدلول له والآخر دليل عليه يف‬
‫معادلة جمالية متبادلة الطرفني طردا وعك�سا يف حركة العبد ومقا�صدها التعبدية‪.‬‬
‫‪  .1‬حممد بن علي ال�شوكاين‪ ،‬نيل الأوطار �شرح منتقى الأخبار‪ ،‬تعليق‪ :‬حممد منري الدم�شقي‪ ،‬ن�شر �إدارة الطباعة‬
‫املنريية‪ ،‬د‪ .‬ت‪.01/1 ،‬‬
‫‪  .2‬ابن قيم اجلوزية‪ ،‬الفوائد‪ ،‬بريوت‪ :‬دار الفكر‪ ،‬بريوت‪ ،‬د‪ .‬ت‪� ،‬ص‪.182‬‬
‫‪  .3‬امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‪.184‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر‬ ‫‪18‬‬

‫خال�صة الأمر املجزئة يف ال�سياق‪� :‬أن �إدراك اجلمال الكوين �إمنا تكفي فيه الفطرة فقط؛ لأن‬
‫�أ�سبابه مو�ضوعة بالق�صد االبتدائي‪ ،‬كما قلنا قبل‪ ،‬ال�ستدعاء متعة النا�س من حيث هم كذلك على‬
‫تال للأول البد فيه من اخل�ضوع ملبادئ التكليف؛‬ ‫الإطالق‪ .‬و�أما التعبدي فهو ذوقي انفعايل خا�ص ٍ‬
‫لأن الفطرة فيه قد ت�ضعف عن معرفة الأ�سباب وال�شروط املقت�ضية له وكذا املوانع العار�ضة فيه‬
‫لق�صد ال�شارع‪ .‬ومن هنا �سقط تذوق غري امل�سلم لل�صور الت�شكيلية يف مهاوي اال�ست�صنام الت�ألهي‬
‫للمخلوقات تارة‪ ،‬ول�شهوات «الليبيدو» تارة �أخرى! وقد نظمت الآية الكرمية‪   ﴿ :‬‬
‫‪( ﴾   ‬الأعراف‪)30 :‬؛ النوعني معا‪ .‬هذا عموما فكيف ان�سرح ذلك �إىل‬
‫املباح بنوعيه لدى ال�شاطبي؟‬

‫يف املباح الوارد تخريا‬


‫�أما النوع الأول‪ ،‬وهو الراجع �إىل التخيري‪ ،‬فهو من جملة النعم التي «امنت اهلل بها على‬
‫عباده»(‪ )1‬وجعلها «حجة على اخللق»(‪ .)2‬ومعنى ذلك �أن هذه النعم �إمنا و�ضعت للعباد لال�ستمتاع‬
‫بها‪ ،‬من حيث هم عباد‪ ،‬على الإطالق �إذا �أخذت بحقها‪ .‬وهي حجة عليهم‪ ،‬يف الآن نف�سه‪ ،‬لأنها‬
‫حقائق ابتالئية وكلمات �أزلية ت�صرفت يف اخلارج يف �شكل دالئل عينية برهانية �شاهدة عليهم‪.‬‬
‫وقد نبهت الآية الكرمية يف �سورة الأعراف �إىل املعنيني معا‪ ،‬فقال تعاىل‪    ﴿ :‬‬
‫‪             ‬‬
‫‪( ﴾ ‬الأعراف‪.)30 :‬‬
‫فهذه الزينة املنطوق بها �إمنا تعلقت بجميع العباد يف الدنيا‪ ،‬من حيث هم كذلك‪ ،‬فلما دخلت‬
‫معر�ض الثواب والعقاب الراجعني �إىل �أ�صل التكليف؛ �أخرب �سبحانه �أنها خال�صة للذين �آمنوا‪،‬‬
‫لأنهم �أخذوها من جهة الق�صد من و�ضعها‪ .‬فلذلك �أنكر �سبحانه كما قال ال�شاطبي الإمام‪« :‬على‬
‫من حرم �شيئا مما بث يف الأر�ض من الطيبات‪ ،‬وجعل ذلك من �أنواع �ضاللهم‪ .‬فقال تعاىل‪﴿ :‬‬
‫‪( ﴾         ‬الأعراف‪)30 :‬؛ �أي خلقت‬
‫لأجلهم ﴿‪( ﴾         ‬الأعراف‪)32 :‬‬
‫ال تباعة فيها وال �إثم»(‪ .)3‬ذلك ملا ترتب عليها من �شكر وتوحيد و�إميان‪ ،‬هي كليات �شكلت حم�ض‬
‫‪  .1‬امل�صدر نف�سه‪.82/1 ،‬‬
‫‪   .2‬امل�صدر نف�سه‪.166/3 ،‬‬
‫‪  .3‬امل�صدر نف�سه‪.89/1 ،‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫نظرية املعرفة عند ال�شاطبي‪ :‬درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج‬ ‫‪19‬‬

‫اجلمال التعبدي اخلال�ص فيها‪ .‬و�أما جمالها قبل خلو�صها ومتح�ضها؛ فهو جمال كوين م�شرتك‬
‫بني النا�س كافرهم وم�ؤمنهم‪ ،‬فكانت طبيعته ابتالئية حم�ضة‪.‬‬
‫فالنعم يف حقيقتها االبتدائية �إمنا هي هدايا للعبد‪ ،‬و�ضعت على نهج ال�شكر الذي يقود �إىل‬
‫املنعم‪ ،‬وبه كانت هدايا‪ ،‬غري �أنها م�شوبة بابتالء‪ ،‬ومتى كفرها العبد ومل ي�شكر؛ كان رادا لهدية‬
‫اهلل‪« .‬وهل يليق بالعبد عدم قبول هدية ال�سيد؟! هذا غري الئق يف حما�سن العادات‪ ،‬وال يف جماري‬
‫ال�شرع‪ ،‬بل ق�صد املهدي �أن تقبل هديته‪ .‬وهدية اهلل �إىل العبد ما �أنعم به عليه‪ ،‬فليقبل ثم لي�شكر‬
‫له عليها»(‪ .)1‬و�إن كان اجلميع مقهورا حتت �سلطة القدر‪ ،‬لأنه هو احلاكم يف نهاية املطاف عليها‪.‬‬
‫يقول يف هذا املقام‪« :‬ف�إذا َج َر ْت؛ (�أي النعم) يف التكليف بح�سب امل�شروع؛ فذلك هو ال�شكر‬
‫وهو جريها على ما و�ضعت �أوال‪ ،‬و�إن جرت على غري ذلك فهو الكفران‪ ،‬ومن ثم اجنرت املفا�سد‬
‫و�أحاطت باملكلف‪ .‬وكل بق�ضاء اهلل وقدره»(‪.)2‬‬
‫�إن �أ�صول النعم عند �أبي �إ�سحاق �إذا ارتبطت بحقيقة اجلمال‪� ،‬صار لها ثالث حمطات‬
‫�أ�سا�سية يف الوجود‪:‬‬
‫�أوالها؛ جن�س النعم اخلارجية املاثلة يف الكون (�أو اجلمال االبتالئي)‪.‬‬
‫الثانية؛ حركة االنفعال الناجتة عن الت�أثر الوجداين بتلك النعم (�أو اجلمال التعبدي)‪.‬‬
‫الثالثة؛ الرتجمة الفعلية التي تثريها حركة االنفعال الوجدانية وهي علة م�ؤثرة فيها (�أو‬
‫الرتجمة اخلارجية للجمال التعبدي)‪.‬‬
‫ف�أما الأوىل؛ فهي حقيقة اجلمال االبتالئي القدري الراجع �إىل �أجنا�س النعم والآالء املعرفة‬
‫باجلمال ال�سرمدي املطلق الذي تت�صف به الذات الإلهية قبل ت�صرف املكلف يف تلك النعم‪ .‬قال‬
‫�أبو �إ�سحاق‪« :‬فالرب تعاىل قد تعرف �إىل عبده بنعمه وامنت بها قبل النظر يف فعل املكلف فيها‬
‫على الإطالق»(‪.)3‬‬
‫ومن هنا كانت «جهة االمتنان ال تزول �أ�صال»(‪ ،)4‬فهي دائمة اال�سرت�سال على العبد دون‬
‫انقطاع �إال �أن يت�صرف فيها باملخالفة كما قال‪« :‬ف�إذا ت�أملت احلالة وجدت املذموم ت�صرف‬
‫‪  .1‬امل�صدر نف�سه‪.‬‬
‫‪  .2‬امل�صدر نف�سه‪.164/3 ،‬‬
‫‪  .3‬امل�صدر نف�سه‪.163/3 ،‬‬
‫‪  .4‬امل�صدر نف�سه‪.‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر‬ ‫‪20‬‬

‫املكلف يف النعم‪ ،‬ال �أنف�س النعم‪� ،‬إال �أنها ملا كانت �آلة للحالة املذمومة ذمت من تلك اجلهة»(‪.)1‬‬
‫لكنها‪ ،‬مع كل ذلك‪ ،‬قبل تناولها يف �إطارها الإمياين‪ ،‬وجمالها التعبدي الذي تلوح �إليه‪ ،‬وجعلت‬
‫بالق�صد الأ�صلي من �أجله‪ ،‬ابتالء‪.‬‬
‫و�أما الثانية؛ فرتجع حقيقتها �إىل اجلمال التكليفي التعبدي الالزم عن �أ�صل الإميان وتزيينه‬
‫يف قلب امل�ؤمن‪ ،‬كما �سبق‪ ،‬ف ِن َع ُم املباح �إمنا و�ضعت بالأ�صالة خلدمة هذا النوع من اجلمال املحبوب‬
‫من الرب قطعا‪ ،‬والآخر ُج ِع َل يف خدمته‪ .‬قال م�شريا �إىل ذلك‪�« :‬أال ترى �أن ال�شارع �أباح �أ�شياء مما‬
‫فيه ق�ضاء نهمة النف�س ومتتعها وا�ستلذاذها؟‪...‬‬
‫و�أي�ضا ف�إن اهلل تعاىل و�ضع يف الأمور املتناولة �إيجابا �أو ندبا �أ�شياء من امل�ستلذات احلاملة‬
‫على تناول تلك الأمور‪ ،‬لتكون تلك اللذات كاحلادي �إىل القيام بتلك الأمور‪ ،‬حتى �إنه و�ضع لأهل‬
‫االمتثال الثائرين على املبايعة يف �أنف�س التكاليف �أنواعا من اللذات العاجلة والأنوار ال�شارحة‬
‫لل�صدور ما ال يعدله من لذات الدنيا �شيء‪ ،‬حتى يكون �سببا ال�ستلذاذ الطاعة والفرار �إليها‬
‫وتف�ضيلها على غريها»(‪.)2‬‬
‫�إذ هذه الأنوار ال�شارحة لل�صدور‪ ،‬واللذات القائمة بها �إمنا هي جداول جمالية تفجرت من‬
‫معني زينة الإميان املرتتبة على �شكر تلك «الأمور املتناولة �إيجابا �أو ندبا»‪ .‬فهي جدلية م�ستمرة‬
‫بني جمال النعم اخلارجية الوجودية املو�ضوعة ن�صب عني املكلف للتمتع والتناول‪ ،‬وبني زينة‬
‫ال�شكر على تلك النعم نف�سها جراء الإميان باملنعم بها‪ .‬وبذلك اكت�سبت هذه املحطة قوتها يف‬
‫ت�شكيل نظرية فقه اجلمال عند ال�شاطبي و�صارت هي العمود الفقري جل�سمها‪.‬‬
‫و�أما الثالثة؛ فتابعة للثانية من حيث �إنها ترجمتها الفعلية يف اخلارج ومتثيل مادي عمراين‬
‫لرمزيتها يف �أعماق وجدان امل�سلم‪ .‬فدخل يف معناها واملقالة لل�شاطبي‪« :‬زينة لبا�س امل�ؤمن كما‬
‫قال‪� ،‬صلى اهلل عليه و�سلم‪�« :‬إن اهلل جميل يحب اجلمال»(‪ )3‬بعد قول الرجل‪� :‬إن الرجل يحب �أن‬
‫يكون ثوبه ح�سنا ونعله ح�سنة»(‪� ،)4‬إذا ق�صر احلديث على �سبب وروده‪ ،‬وقد ورد يف اللبا�س(‪،)5‬‬
‫و�إمنا �صيغ على هذه ال�صورة الكلية جوابا عن �س�ؤال جزئي؛ لإظهار �أن من �صفات الرب جل‬
‫‪   .1‬امل�صدر نف�سه‪.‬‬
‫‪   .2‬ال�شاطبي‪ ،‬االعت�صام‪ ،‬م‪� ،‬س‪� ،‬ص‪.253‬‬
‫‪   .3‬نا�صر الدين الألباين‪ ،‬ال�سل�سلة ال�صحيحة‪ ،‬الريا�ض‪ :‬مكتبة املعارف للن�شر والتوزيع‪ ،‬ط‪1996 ،1‬م‪.247/1 ،‬‬
‫‪   .4‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات‪ ،‬م‪� ،‬س‪.93-92/1 ،‬‬
‫‪   .5‬ابن القيم‪ ،‬الفوائد‪ ،‬م‪� ،‬س‪.184/1 ،‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫نظرية املعرفة عند ال�شاطبي‪ :‬درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج‬ ‫‪21‬‬

‫وعال اجلمال‪ ،‬فيحب من يت�صف بها من عباده تقربا �إليه وطاعة‪ .‬فكانت الكلية(‪ )1‬بق�صد‬
‫ا�سرت�سالها على جميع اجلزئيات الداخلة حتتها بالقوة‪ ،‬و�إن كانت غري منطوق بها يف ال�س�ؤال‬
‫بالفعل؛ من �أجل تفادي توهم النقي�ض يف معر�ض البيان‪ .‬وهذا �شبيه بقوله �صلى اهلل عليه‬
‫و�سلم يف �سياق �آخر �إذ �سئل عن ماء البحر فقال‪« :‬هو الطهور ما�ؤه احلل ميتته»(‪ .)2‬ومثله كثري‬
‫خارج عن مقامنا‪.‬‬
‫فجمال املباح‪� ،‬إذن‪ ،‬مبعناه اخلا�ص باملحطة الثالثة‪ ،‬فرد من ما�صدقاته الوجودية‪ ،‬فيكون‬
‫حكمه «لي�س مطلوب الفعل وال مطلوب االجتناب»(‪ .)3‬وقد ن�ص على ذلك حيث قال‪« :‬و�أي�ضا ف�إن‬
‫اجلمال والزينة مما يدخل حتت الق�سم الأول؛ (�أي املباح املخري فيه) لأنه خادم له‪ ،‬ويدل عليه‬
‫قوله تعاىل‪( ﴾        ﴿ :‬الأعراف‪.)4(»)30 :‬‬
‫ف�إذا تعلق بخدمة املقا�صد الكلية الكربى �صار مطلوب الفعل ندبا مكمال ملا هو �أقوى منه يف‬
‫الت�شريع‪ .‬قال يف ذات املقام‪« :‬ف�أنت ترى �أن هذا الثوب احل�سن‪ ،‬مثال‪ ،‬مباح اللب�س قد ا�ستوى يف‬
‫نظر ال�شارع فعله وتركه‪ ،‬فال ق�صد له يف �أحد الأمرين‪ .‬وهذا معقول واقع بهذا االعتبار املقت�صر‬
‫به على ذات املباح من حيث هو كذلك‪ .‬وهو من جهة ما هو وقاية للحر والربد و ُم َوا ٍر لل�سو�أة وجمال‬
‫يف النظر مطلوب‪ .‬وهذا النظر غري خمت�ص بهذا الثوب املعني‪ ،‬وال بهذا الوقت املعني‪ ،‬فهو نظر‬
‫بالكل ال باجلزء»(‪.)5‬‬
‫ومن هنا كان تركه باعتبار كليته مكروها مبعيار الدوام على الرتك‪� ،‬أو ال�شمول «فلو ترك‬
‫جملة لكان على خالف ما ندب ال�شرع �إليه‪ .‬ففي احلديث‪�« :‬إذا �أو �سع اهلل عليكم ف�أو�سعوا على‬
‫�أنف�سكم‪ ،‬و�إن اهلل يحب �أن يرى �أثر نعمته على عبده»‪ .‬وقوله يف الآخر حني ح�سن من هيئته‪�« :‬ألي�س‬
‫هذا �أح�سن؟»‪ .‬وقوله‪�« :‬إن اهلل جميل يحب اجلمال» بعد قول الرجل‪� :‬إن الرجل يحب �أن يكون ثوبه‬
‫ح�سنا‪ ،‬ونعله ح�سنا‪ ،‬وكثري من ذلك‪ .‬وهكذا لو ترك النا�س كلهم ذلك لكان مكروها»(‪.)6‬‬

‫‪  .1‬قال ابن القيم‪« :‬وقوله يف احلديث �إن اهلل جميل يحب اجلمال يتناول جمال الثياب امل�س�ؤول عنه يف نف�س احلديث‪،‬‬
‫ويدخل فيه بطريق العموم اجلمال من كل �شيء»‪ ،‬م‪� ،‬س‪ .184/1 ،‬ومن هنا كلية احلديث‪.‬‬
‫‪  .2‬الألباين‪ ،‬ال�سل�سلة ال�صحيحة‪ ،‬م‪� ،‬س‪.479/1 ،‬‬
‫‪  .3‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات‪ ،‬م‪� ،‬س‪.76/1 ،‬‬
‫‪  .4‬امل�صدر نف�سه‪.221/2 ،‬‬
‫‪  .5‬امل�صدر نف�سه‪.102/1 ،‬‬
‫‪  .6‬امل�صدر نف�سه‪.93-92/1 ،‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر‬ ‫‪22‬‬

‫املباح املرفوع احلرج عن فعله‬


‫�أما النوع الثاين وهو املباح «املطلوب الرتك بالكل؛ فال نعلم يف ال�شريعة ما يدل على حقيقة‬
‫التخيري فيه ن�صا‪ ،‬بل هو م�سكوت عنه �أو م�شار �إليه بعبارة تخرجه عن حكم التخيري ال�صريح‪،‬‬
‫كت�سمية الدنيا لعبا ولهوا يف معر�ض الذم ملن ركن �إليها»(‪)1‬؛ �أي �أن �إباحته بالعر�ض واللزوم ولي�ست‬
‫ذاتية كما الأول‪ ،‬لأن حقيقته لهو ولعب‪ ،‬فال ي�ستحق تلك املرتبة يف مملكة اهلل عموما وال يف‬
‫�إن�سانية الإن�سان! و�إمنا عر�ض له ذلك عفوا ورفعا للحرج عن اخللق‪ .‬فال عالقة له �إذن بالطيبات‬
‫و�أ�صول النعم واالمتنان اخلادمة لكليات املقا�صد ال�ضرورية‪� ،‬إذ حتف من حولها وتطوف بها‬
‫تكميال وتزيينا كما هي وظيفة الأول‪.‬‬
‫ومن ثم ال عالقة له باجلمال واحل�سن‪ .‬يقول �أبو �إ�سحاق‪�« :‬إن وجوه التمتعات هيئت للعباد‬
‫�أ�سبابها خلقا واخرتاعا‪ ،‬فح�صلت املنة بها من تلك اجلهة‪ ،‬وال جتد للهو �أو اللعب تهيئة تخت�ص‬
‫به يف �أ�صل اخللق‪ ،‬و�إمنا هي مبثوثة مل يح�صل من جهتها تعرف مبنة‪� ،‬أال ترى �إىل قوله‪:‬‬
‫اف‪.)2(»)30 :‬‬‫(الَ ْع َر ِ‬
‫﴿‪ ْ ﴾          ‬أ‬
‫فاحل�سن واجلمال متوقف على ما ترى من خمتلف �أ�صناف النعم املمنت بها يف الوجود‪ ،‬والتي‬
‫ر�سخت يف طباع الب�شر لتح�صيل التوافق بني الطبيعة والكون‪ ،‬حتى ي�ستتب جريان قانون‬
‫ناب عن حتقيق هذه الأ�سرار‪ ،‬بخالف النوع‬ ‫اال�ستخالف يف اخلليقة‪ .‬وهذا ال�صنف من املباح ٍ‬
‫الأول الذي و�ضع على تلك ال�شاكلة‪ ،‬حيث مالءمته للفطر وال�سجايا‪ .‬والتف�صيل فيه يف‪:‬‬

‫املباح قناة فطرية للتعريف بال�صانع والتعرف عليه‬


‫تلك حقيقة املباح (املخري فيه) عند �أرباب الذوق‪� ،‬أعني �أن جمالية �أ�صول النعم فيه‪ ،‬املتمثلة‬
‫يف «التزيني يف ال�صنعة؛ من �أهم املقا�صد املهمة املعرفة بال�صانع‪ ،‬ومن �أ�شف مرايا التودد‬
‫والتعرف‪ ،‬ومن �ألطف عنوانات التحبب»(‪ .)3‬فكان من املقا�صد الإلهية الكلية يف مملكة اخللق؛ �أَنْ‬
‫َ‬
‫ويتعرف متوددا �إىل عباده بتزيينات م�صنوعاته»(‪.)4‬‬ ‫« ُي َع ِّر َف اخلال ِئقَ قدر َتهُ‪،‬‬

‫‪  .1‬امل�صدر نف�سه‪.102/1 ،‬‬


‫‪  .2‬امل�صدر نف�سه‪.169-168/3 ،‬‬
‫‪�  .3‬سعيد النور�سي‪ ،‬املثنوي العربي النوري �ضمن كليات ر�سائل النور‪ ،‬طبع القاهرة‪� :‬شركة �سوزلر للن�شر‪ ،‬ط‪2005 ،4‬م‪،‬‬
‫�ص‪.449‬‬
‫‪  .4‬امل�صدر نف�سه‪.‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫نظرية املعرفة عند ال�شاطبي‪ :‬درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج‬ ‫‪23‬‬

‫كذلك كان �ش�أنه عند �أبي �إ�سحاق؛ �إذ له جتليان بناء على ما �سبق من قوانني كونية‪ :‬فهو‪:‬‬
‫�أوال؛ �إما قناة فطرية وجدانية ملعرفة ال�صانع املتجلي يف م�صنوعاته‪« ،‬وذلك العامل كله من‬
‫حيث هو منظور فيه‪ ،‬و�صنعة ي�ستدل بها على ما وراءها»(‪ .)1‬قال‪�« :‬إن وجوه التمتعات هيئت للعباد‬
‫�أ�سبابا خلقـا واخرتاعـا‪ ،‬فح�صلت املنة بها من تلك اجلهة‪� ...‬أال ترى �إىل قوله‪  ﴿ :‬‬
‫‪( ﴾        ‬الأعراف‪.)2(»)30 :‬‬
‫ثانيا؛ و�إما نافذة �إىل عامل النف�س؛ لأنه يحملها على ر�صد �أفعالها ومتابعتها جتاه النعم‬
‫املبثوثة يف الكون والدخول يف زمرة امل�سبحني ال�شاكرين احلامدين‪ ،‬ومتع َّل ُقه �أي�ضا «العامل كله من‬
‫حيث هو مو�صل �إىل العباد املنافع وامل�ضار‪ ،‬ومن حيث هو م�سخر لهم ومنقاد ملا يريدون فيه»(‪.)3‬‬
‫قال‪�« :‬أال ترى �أن اهلل تعاىل خاطب النا�س يف ابتداء التكليف خطاب التعريف مبا �أنعم عليهم من‬
‫الطيبات وامل�صالح التي بثها يف هذا الوجود‪ ،‬لأجلهم وحل�صول منافعهم ومرافقهم التي يقوم بها‬
‫عي�شهم‪ ،‬وتكمل بها ت�صرفاتهم‪ ...‬ثم وعدوا على ذلك بالنعيم �إن �آمنوا‪ ،‬وبالعذاب �إن متادوا على‬
‫ما هم عليه من الكفر»(‪.)4‬‬
‫�إن ما جبل عليه الإن�سان من حب رو�ضات الدنيا اخل�ضراء‪ ،‬وب�ساتينها اجلميلة‪ ،‬وم�صابيح‬
‫ال�سماء النورانية‪ ،‬وما تعك�سه على الأر�ض من جمال وجالل‪ ،‬وما بث يف هذه من طيبات للتناول‬
‫و�أزاهري قزحية للزينة والتجمل‪� ..‬إمنا هو مبعث ا�ستجا�شة لتدبر القلب وحتركه ال�سريع جتاه‬
‫�صانع هذه امل�صنوعات‪ ،‬لأن جمال ال�صنعة وكمالها في�ض رحماين من جمال �صانعها وكماله‪،‬‬
‫ولأننا �إمنا «ن�ستدل بكمال ال�صنعة على كمال ال�صانع»(‪ )5‬بتعبري �صاحبنا‪ .‬وتلك هي فل�سفة‬
‫الإ�سالم جتاه الكون والكائنات‪ ،‬فال جرم كان حمتوى هذه الفل�سفة عند النظار �إمنا هو «النظر‬
‫يف املوجودات واعتبارها من جهة داللتها على ال�صانع (‪ )...‬ف�إن املوجودات �إمنا تدل على ال�صانع‬
‫مبعرفة �صنعتها‪ ،‬و�أنه كلما كانت معرفتها ب�صنعتها �أمت؛ كانت املعرفة بال�صانع �أمت» (‪.)6‬‬
‫فكان من لزوم تلك النعم للمنعم بها؛ ما ال يخفى‪ ،‬جريا على �أ�صل �أبي �إ�سحاق يف نظرية‬
‫التعريف املبنية على لزوم الدليل للمدلول والعلم للعمل‪ .‬لأن تلك املخلوقات‪ ،‬امل�صاغة يف جملة‬
‫‪  .1‬امل�صدر نف�سه‪.148/1 ،‬‬
‫‪  .2‬امل�صدر نف�سه‪.169-168/3 ،‬‬
‫‪  .3‬امل�صدر نف�سه‪.‬‬
‫‪  .4‬امل�صدر نف�سه‪.125/2 ،‬‬
‫‪  .5‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات‪ ،‬م‪� ،‬س‪.203/2 ،‬‬
‫‪  .6‬ابن ر�شد احلفيد‪ ،‬ف�صل املقال‪ ،‬حتقيق‪ :‬حممد عمارة‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار املعارف‪ ،‬ط‪� ،3‬ص‪.22‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر‬ ‫‪24‬‬

‫النعم‪ ،‬دالة لزوما على خالقها‪ ،‬فكانت بذلك معرف ًة به‪ .‬قال ابن تيمية ي�شري �إىل ذلك �أي�ضا‪:‬‬
‫«املخلوقات دالة على خالقها �سبحانه وتعاىل‪ ،‬ف�إنه ما منها خملوق �إال وهو ملزوم خلالقه ال ميكن‬
‫وجوده بدون وجود خالقه»(‪.)1‬‬
‫ميكن‪� ،‬إذن‪� ،‬إرجاع دالالت الكائنات على �صانعها عند �إمامنا �إىل‪�« :‬أوال؛ مبا فيها من الداللة‬
‫على وجود ال�صانع ووحدانيته و�صفاته العلى وعلى الدار الآخرة‪ .‬ثانيا؛ �أنها منن ونعم امنت اهلل‬
‫بها على عباده»(‪ .)2‬فالأوىل تلمع بنور التوحيد والثانية مقهورة حتت وازع ال�شكر‪.‬‬
‫فال عجب‪� ،‬إذن‪� ،‬أن جند ال�شكر‪ ،‬وكما �سقناه البن القيم �سابقا‪ ،‬عند �أبي �إ�سحاق؛ جماال‬
‫باطنا وانخراطا يف �سلك التوحيد بالكلية‪ ،‬كما يدل عليه قوله �إجماال‪« :‬وال�شكر هو �صرف ما �أنعم‬
‫عليك يف مر�ضاة املنعم‪ ،‬وهو راجع �إىل االن�صراف �إليه بالكلية‪ ،‬ومعنى بالكلية �أن يكون جاريا على‬
‫مقت�ضى مر�ضاته بح�سب اال�ستطاعة يف كل حال‪ ،‬وهو معنى قوله �صلى اهلل عليه و�سلم(‪« :)3‬حق‬
‫اهلل على العباد �أن يعبدوه وال ي�شركوا به �شيئا»(‪.)4‬‬
‫فال�شكر‪ ،‬هنا‪� ،‬إمنا هو مبعناه العام املف�ضي �إىل الدخول يف التوحيد �أو الإميان‪ ،‬من هنا قرن‬
‫بينهما يف الن�ص على الإجمال‪ .‬لكنه ف�صل يف ن�ص �آخر ما �أجمله هناك بقوله‪« :‬تناول املباح ال‬
‫ي�صح �أن يكون �صاحبه حما�سبا عليه ب�إطالق‪ ،‬و�إمنا يحا�سب على التق�صري يف ال�شكر عليه‪� ،‬إما‬
‫يف جهة تناوله واكت�سابه‪ ،‬و�إما يف جهة اال�ستعانة به على التكليفات‪ .‬فمن حا�سب نف�سه يف ذلك‬
‫وعمل على ما �أمر به؛ فقد �شكر نعم اهلل‪ .‬ويف ذلك قال تعاىل‪     ﴿ :‬‬

‫‪             ‬‬

‫‪( ﴾‬الأعراف‪.)5(»)30 :‬‬


‫ف�أنت ترى‪� ،‬إذا نظم الن�صان معا يف �سلك واحد‪ ،‬منا�سبة ال�شكر والتوحيد‪ ،‬باعتبارهما‬
‫القناة الأ�سا�سية يف الوجدان للجمال التعبدي‪ ،‬لال�ستمتاع بالزينة الكونية‪ ،‬حيث ت�شري �إليها الآية‪،‬‬
‫الراجعة �إىل اجلمال االبتالئي القدري‪ ،‬وخ�ضوعهما يف �شعور العبد لن�سق واحد‪.‬‬
‫‪  .1‬ابن تيمية‪ ،‬جمموع الفتاوى‪ ،‬م‪� ،‬س‪.103/9 ،‬‬
‫‪  .2‬املوافقات‪ ،‬م‪� ،‬س‪.360/2 ،‬‬
‫‪  .3‬البخاري‪� ،‬صحيح البخاري‪.29/4 ،‬‬
‫‪  .4‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات‪ ،‬م‪� ،‬س‪244/2 ،‬‬
‫‪  .5‬امل�صدر نف�سه‪.32/1 ،‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫نظرية املعرفة عند ال�شاطبي‪ :‬درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج‬ ‫‪25‬‬

‫وللأ�ستاذ �سعيد النور�سي يف هذا املقام �إ�شراقات لطيفة تزيد يف جتلية هذه احلقيقة‪،‬‬
‫قال‪�« :‬إن ثمرة واحدة‪ ،‬وزهرة واحدة‪ ،‬و�ضياء واحدا‪ ،‬كل منها يعك�س‪ ،‬كاملر�آة ال�صغرية‪ ،‬رزقا‬
‫ب�سيطا ونعمة جزئية و�إح�سانا ب�سيطا‪ ،‬ولكن ب�سر التوحيد تتكاثف تلك املرايا ال�صغرية مع‬
‫مثيالتها مبا�شرة ويت�صل بع�ضها بالبع�ض الآخر‪ ،‬حتى ي�صبح ذلك النوع مر�آة وا�سعة كبرية‬
‫جدا تعك�س �ضربا من جمال �إلهي يتجلى جتليا خا�صا بذلك النوع‪ ،‬فيظهر �سر التوحيد جماال‬
‫�سرمديا باقيا من خالل ذلك اجلمال الفاين امل�ؤقت‪ ...‬بينما �إن مل ينظر �إىل ذلك اجلمال‬
‫بنظر التوحيد‪� ،‬أي لوال �سر التوحيد؛ لظلت تلك الثمرة اجلزئية �سائبة وحيدة فريدة معزولة‬
‫عن مثيالتها؛ فال يظهر ذلك اجلمال املقد�س وال يبني ذلك الكمال الرفيع‪ ،‬بل تنك�سف حتى‬
‫تلك اللمعة اجلزئية املتعلقة منها وت�ضيع وتنتك�س منقلبة على عقبيها من نفا�سة الأملا�س الثمني‬
‫�إىل خ�سا�سة ِق َط ِع الزجاج املنك�سر»(‪.)1‬‬
‫فالتوحيد‪ ،‬مبا هو كلي معنوي م�ستفاد من حقيقة النعم ووظيفتها‪ ،‬ولي�س من هياكلها املادية‪،‬‬
‫هو املق�صود ابتداء من تلك النعم والآالء املتج�سدة يف تلك الهياكل‪ .‬فهو جمال تعبدي باطن‬
‫يرتجمه جمال تلك النعم الراجعة �إىل امل�شيئة اخللقية القدرية احلاكمة على اجلميع يف اخللق‪.‬‬
‫قال �أبو �إ�سحاق ي�سرح يف امل�ساق نف�سه‪ ،‬مقررا �أن الدنيا «براهني على وجود الباري ووحدانيته‬
‫واتّ�صافه ب�صفات الكمال‪ ،‬وعلى �أن الآخرة حقّ ؛ فهي مر�آة يرى فيها احلقّ »(‪.)2‬‬
‫�إن املر�آة‪/‬الدنيا هنا؛ �إمنا هي �أداة عاك�سة جلمال الأ�سماء احل�سنى وكمال ال�صفات العال‪،‬‬
‫وما املخلوقات‪ ،‬يف تنا�سقها وحراكها امل�ستمر‪� ،‬إال نقو�ش ومر�صعات لتلك الأ�سماء وال�صفات‪،‬‬
‫الناطقة بكلية التوحيد العليا املطلقة حيث يوجد الكمال املطلق‪ .‬فلهذا كان مبد�أ ال متناهيا و�إن‬
‫تناهت تلك الأ�شباح الدنيوية املعرفة به بج�سومها‪� ،‬إذ تذوب اجل�سوم وتن�ساب الأرواح يف �سريورة‬
‫دائمة‪ ،‬وذلك هو مناط تالقي الدنيا بالآخرة كما قال‪»:‬وهذا ال تنف�صل الدنيا فيه من الآخرة»(‪.)3‬‬
‫ي�سرت�سل �أبو �إ�سحاق يف ال�سياق نف�سه‪« :‬فاحلا�صل �أن ما بث فيها [�أي الدنيا] من النعم‬
‫الذي و�ضعت عنوانا عليه‪ ،‬كجعل اللفظ دليال على املعنى‪ ،‬باقٍ و�إن فني العنوان»(‪ .)4‬و�إمنا الذي‬
‫و�ضعت عنوانا عليه هو التوحيد‪ ،‬وهو جمال م�سرت�سل ال يفنى‪ ،‬يدل عليه جمال النعم الكونية‬
‫‪�  .1‬سعيد النور�سي‪ ،‬ال�شعاعات �ضمن كليات ر�سائل النور‪ ،‬طبع القاهرة‪� :‬شركة �سوزلر للن�شر‪ ،‬ط‪2005 ،4‬م‪� ،‬ص‪.11‬‬
‫‪  .2‬امل�صدر نف�سه‪.363/3 ،‬‬
‫‪  .3‬امل�صدر نف�سه‪.227/4 ،‬‬
‫‪  .4‬امل�صدر نف�سه‪.227/4 ،‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر‬ ‫‪26‬‬

‫الذي عما قريب �سيفنى دونه كفناء الر�سم دون الروح‪ .‬و�إمنا جعل هذا خلدمة ذاك وتخلي�صه‬
‫من الكدرات التي َت ْع َلقُ به يف الدنيا والآخرة‪ .‬قال‪ ،‬يف �سياق املقابلة بني النوعني بعد �سرده لآيات‬
‫الزينة واجلمال‪« :‬فامنت تعاىل وعرف بنعم من جملتها اجلمال والزينة‪ ،‬وهو الذي ذم به الدنيا‬
‫يف قوله‪            ﴿ :‬‬
‫‪( ﴾ ‬احلديد‪ ...)19 :‬بل حني عرف بنعم الآخرة امنت ب�أمثاله يف الدنيا‪...‬‬
‫وهو كثري‪ .‬ف�أنزل الأحكام و�شرع احلالل واحلرام تخلي�صا لهذه النعم التي خلقها لنا من �شوائب‬
‫الكدرات الدنيويات والأخرويات»(‪.)1‬‬
‫فهذه النعم بدون خ�ضوع لقوانني االمتثال التكليفي التعبدي ت�صري �أ�شباحا بال �أرواح‪ ،‬ور�سوما‬
‫بال عنوان‪ ،‬يرتجم حقيقتها ووظيفتها وي�ضفي عليها جمالها ورونقها‪� .‬أو بعبارة العالمة النور�سي‬
‫الزجاج املنك�سر»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫�سابقا «تنتك�س منقلبة على عقبها من نفا�سة الأملا�س الثمني �إىل خ�سا�سة ِق َط ِع‬
‫وبذلك ُي َّو َفقُ بني ذم الدنيا ومدحها‪ ،‬و�أن ذلك راجع �إىل تباين االعتبارين فيها‪ ،‬فيح�صل‬
‫التناغم بني الكليتني‪ ،‬وي�ستتب ا�ستمرار احلقيقة اجلمالية يف النوعني‪ :‬جمال هو قرين اللهو‬
‫واللعب لأنه دنيوي م�شرتك‪ ،‬وجمال �أخروي خال�ص متوقف على التكليف والتعبد‪.‬‬
‫�إن حركة النعم يف املباح املنرية مل�سلك كلي التوحيد يف حقائقها الوظيفية الوجودية؛ جتعل‬
‫وحتول م�ستمر من ج�سم �آيل جامد �إىل �شريعة فطرية �إلهية‪ ،‬تتعلق‬
‫ٍ‬ ‫الطبيعة يف �صريورة دائمة‬
‫تعلقا متوا�صال ب�أحوال الكائنات فيها‪ .‬من هنا كان جمال هذه النعم مر�آة عاك�سة جلمال الأ�سماء‬
‫احل�سنى وال�صفات العال‪ ،‬باعتبارها مدخل التعريف باخلالق ربا و�إلها(‪� ،)2‬أو هو جذوة منه؛ وجود‬
‫الأول رهني بوجود هذا الثاين دون العك�س‪� ،‬إذ هو املق�صود ولي�س الآخر‪.‬‬
‫ومن هنا �أي�ضا كانت حقيقة التوحيد الناظم حلقيقتي احلمد وال�شكر‪ ،‬من بني منازل الإميان‪،‬‬
‫يف قلب امل�ؤمن؛ هي املرتجم احلقيقي عن ذلك اجلمال املطلق الذي ال ينتهي‪ ،‬حيث تنتهي تلك‬
‫النعم الكونية االبتالئية املعرفة به‪ ،‬كما ال ينتهي نور ال�شم�س �إذا انتهت املر�آة العاك�سة لتجلياته‬
‫يف زاوية من الكون وانك�سرت‪ .‬وهذا �سر الفرق بني اجلمالني‪ :‬التعبدي التكليفي املقيد‪ ،‬واالبتالئي‬
‫التكويني الزائل‪.‬‬

‫‪  .1‬امل�صدر نف�سه‪.226/4 ،‬‬


‫‪  .2‬فريد الأن�صاري‪ ،‬بالغ الر�سالة القر�آنية من �أجل �إب�صار لآيات الطريق‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار ال�سالم‪ ،‬ط‪2009 ،1‬م‪� ،‬ص‪.78‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫نظرية املعرفة عند ال�شاطبي‪ :‬درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج‬ ‫‪27‬‬

‫وباجلملة ف�إن العالقة بني املباح‪ ،‬مبا هو حكم �شرعي‪ ،‬والتوحيد‪ ،‬مبا هو �أ�صل عقدي ناظم‬
‫حلقيقتي ال�شكر واحلمد يف فكر �أبي �إ�سحاق‪ ،‬عالقة تالزمية؛ فتنطلق من الأول وظيفة خادمة‪،‬‬
‫وتنتهي �إىل الثاين مق�صدا وغاية‪ .‬وهذا جتلي من جتليات قوله‪�« :‬إن ن�سبة �أ�صول الفقه من‬
‫ال�شريعة كن�سبة �أ�صول الدين»(‪ .)1‬وقوله‪�« :‬إن املخالف يف �أ�صل من �أ�صول ال�شريعة العملية ال يق�صر‬
‫عن املخالف يف �أ�صل من الأ�صول االعتقادية يف هدم القواعد ال�شرعية»(‪.)2‬‬
‫ويبقى املباح (املرفوع احلرج) داال على رحمة اهلل وعفوه‪ ،‬لأن �أ�صله النهي؛ (�أي حقيقته‬
‫الكلية املقا�صدية)‪ ،‬و�أي خري يف املداومة على �سماع الغناء (اجلائز) وتغريد الع�صافري والتعاطي‬
‫ملختلف �أ�صناف اللهو واللعب؛ �سوى هدم الكليات ونق�ض ال�ضروريات‪ ،‬واالنت�ساب �إىل حظرية‬
‫احلمقى واملغفلني؟! لأن النظر �إىل الكون‪ ،‬بهذا االعتبار‪� ،‬إمنا هو «نظر جمرد من احلكمة ا ّلتي‬
‫و�ضعت لها ال ّدنيا من كونها متع ّرفا للحقّ ‪ ،‬وم�ستحقا ل�شكر الوا�ضع لها‪ ،‬بل �إمنا يعترب فيها كونها‬
‫لل�شهوات‪ ،‬انتظاما يف �سلك البهائم؛ فظاهر �أَ َنها من هذه اجلهة ق�شر‬ ‫عي�شا ومقتن�صا ل ّذات‪ ،‬وم�آال ّ‬
‫بال ُل ّب‪ ،‬ولعب بال ج ّد‪ )...( ،‬وهو نظر الكفار ا َّلذين مل يب�صروا منها �إال ما قال تعاىل من �أ َّنها‬
‫لعب ولهو وزينة وغري ذلك مما و�صفها به‪ ،‬ولذلك �صارت �أعمالهم‪  ﴿ :‬‬
‫‪( ﴾         ‬ال ُّنورِ‪.)3(»)38 :‬‬
‫لكن م�صادفة بع�ض من ذلك يف بع�ض �أوقات العمر‪ ،‬كما تقر به جماري العادات‪ ،‬دون تعود؛‬
‫هو �أمر ال ي�ضر املكلف وال يلحقه ب�سببه ذنب وال نقي�صة‪ ،‬وهذا معنى كونه «مباحا باجلزء منهيا‬
‫عنه بالكل كراهة �أو حترميا»(‪ .)4‬ف�إذا �أخذه العبد م�أخذ املتلهف على الدنيا وزهرتها وبهجتها‪،‬‬
‫وعود نف�سه على تعاطيه‪ ،‬وحملها على اللهو واللعب بعيدا عن �سبيل اجلد والن�صب؛ دخل بذلك‬
‫يف زمرة من كان قد تخلى عن عبادة الرب‪ ،‬وهي وظيفته الوجودية و�سر مق�صد ا�ستخالف اهلل‬
‫تعاىل له يف الكون‪.‬‬
‫من هنا نفهم �سر تو�سيع ال�شاطبي �أ�صل املباح وجماريه ليحت�ضن جميع تلك املعاين‪ ،‬و�أن‬
‫ذلك �إمنا كان بق�صد االنتقال من �ضيق املفهوم وجزئية ن�صيته‪� ،‬إىل امتداده الغيبي وحركته يف‬
‫الوجود‪ ،‬ا�ستجابة ًلن�سقية الكليات القر�آنية يف ربط الفعل الب�شري بقانون اال�ستخالف‪.‬‬
‫‪  .1‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات‪ ،‬م‪� ،‬س‪.20/1 ،‬‬
‫‪  .2‬امل�صدر نف�سه‪.128/4 ،‬‬
‫‪  .3‬امل�صدر نف�سه‪.363/3 ،‬‬
‫‪  .4‬امل�صدر نف�سه‪.93-92/1 ،‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر‬ ‫‪28‬‬

‫‪ .2‬كلي االعتبار‪� :‬أو نظرية التف�سري ال�صويف الإ�شاري‬


‫�ضوابط التف�سري الإ�شاري الباطني‬
‫�إن الناظر يف جمموع ما �أنتجه نظار القر�آن والتف�سري من مرويات ومتون؛ يح�صل له قطعا‬
‫الإ�شكال ِف َعدِّ كون التف�سري علما حتكمه كليات و�أ�صول منظمة للمجال‪ ،‬نظرا الختالف قواعده‬
‫وعدم وجود رابط منهجي َيلم �شتاتها ويوحد بينها! وهذا الذي جعل بع�ض النظار قدميا ي�سوق‬
‫كتابا لهذا الغر�ض م�ست�شعرا خطورة الإ�شكال(‪.)1‬‬
‫من خ�ضم هذا الإ�شكال خرجت حماولتنا هاته للك�شف عن دفائن �أبي �إ�سحاق يف الت�أ�صيل‬
‫لأ�صول العلم‪ ،‬وبيان معامل منهجه يف تركيب قواعده‪ ،‬جريا على مبدئه املنهجي القا�ضي بتكامل‬
‫العلوم ال�شرعية وتداخلها تداخ ًال ن�سقي ًا منتجا لفروع فقهية �أو �آداب �شرعية مناطها الت�صوف �أو‬
‫التف�سري‪ .‬وهما على كل حال علمان مت�ساوقان م�آلهما واحد هو �إنتاج حكم عملي �أو �أ�صل علمي‪.‬‬
‫و�إن نظرية التف�سري الإ�شاري �إمنا �أذكرها البحث يف الكليات عند �أبي �إ�سحاق وترتبت عليه‪.‬‬
‫فهي فرع عن نظرية التف�سري عموما‪ .‬وكال النظريتني َث َمرة �أثمرتها �شجرة الكلي املتحدة ذات‬
‫الفروع العلمية املتنوعة‪ ،‬بيد �أنها �سقيت عنده مباء القر�آن الواحد غري املتعدد لأنه «كلية ال�شريعة‬
‫«(‪ )2‬و»العامل به على التحقيق عامل بجملة ال�شريعة»(‪ ،)3‬فمنه تفرعت �سائر العلوم بكلياتها‪ .‬وهاهنا‬
‫ت�أطر عنده البحث يف التف�سري عموما والإ�شاري منه على جهة اخل�صو�ص‪.‬‬
‫بيد �أن ما ي�صادف املت�أمل يف منهج طرق �أبي �إ�سحاق لهذه النظرية هو تداخل العلم بالعمل‬
‫والقر�آن بالوجود يف ت�أ�صيل النظرية وربطها بقواعد قادرة على �إخراجها من «زئبقيتها» وعدم‬
‫ان�ضباطها يف ال�سلوك �إىل «�صلبيتها» وان�ضباطها يف الأ�صول‪ .‬ما ي�ؤهلها لتكون �أمنوذجا �آخر‬
‫و�صورة جلية لتكامل كليات القر�آن مبواقع الوجود‪ .‬قال الغزايل ي�شيد بهذا الفن يف �سياق ت�صنيفه‬
‫ال�صدفة‬
‫الظاهري‪»:‬علم التف�سري الظاهر‪ ،‬وهو الطبقة الأخرية من َّ‬
‫ُ‬ ‫للعلوم والتعري�ض بالتف�سري‬

‫‪  .1‬هو الطويف وكتابه «الإك�سري يف علم التف�سري» قال يف مقدمته‪�« :‬إنه مل يزل يتلجلج يف �صدري �إ�شكال علم التف�سري»!‪:‬‬
‫الطويف �سليمان بن عبد القوي‪ ،‬الإك�سري يف علم التف�سري‪ ،‬ت‪ .‬عبد القادر ح�سني‪ ،‬ن�شر القاهرة‪ :‬مكتبة الآداب ‪ ،‬د‪.‬‬
‫ط ود‪ .‬ت‪� ،‬ص‪.27‬‬
‫‪  .2‬امل�صدر نف�سه‪ ،‬ج‪� ،3‬ص‪.257‬‬
‫‪  .3‬امل�صدر نف�سه‪ ،‬ج‪� ،3‬ص‪.276‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫نظرية املعرفة عند ال�شاطبي‪ :‬درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج‬ ‫‪29‬‬

‫أنف�س‬ ‫ا�سة ال ُّد ّر‪ ،‬ولذلك ي�شتد به َ�ش َب ُه ُه حتى يظن َ‬


‫الظا ُّنون �أنه ال ُّد ّر ولي�س ورا َءه � ُ‬ ‫م َّ‬
‫القريبة من ُ َ‬
‫وحرما َنهم‪� ،‬إذ ظنوا �أنه ال رتبة وراء ُرتبتهم!»(‪.)1‬‬ ‫أعظم ُغ ْب َن ُهم ِ‬
‫منه‪ ،‬وبه قنع �أكرث اخللق‪ ،‬وما � َ‬
‫و�إمنا الدر عنده هو التف�سري الإ�شاري ُمع َت َم ُد �أهل التزكية وال�سلوك‪ ،‬والغزايل من فحولهم‪،‬‬
‫وقد �أ�شاد به ال�شاطبي فيما ي�أتي من الن�صو�ص‪ ،‬بل ا�ستند �إليه يف التنظري لقاعدة االعتبار‪ ،‬التي‬
‫هي املرتجم املفهومي لهذا النوع من التف�سري عنده‪،‬كما �سيظهر قريبا‪.‬‬
‫وملا كان للتف�سري عنده جمموعة من ال�ضوابط حتى يغدو مقبوال يف ميزان الكليات‪ ،‬وكان‬
‫التف�سري الإ�شاري نوعا من جن�س االتف�سري عموما؛ كان ال جرم خا�ضعا لها هو بدوره خ�ضوع‬
‫اجلزئي ل�ضوابط الكلي‪ .‬وهي‪:‬‬
‫ال�ضابط الأول‪ :‬موافقة الل�سان العربي وحتقيق القطع يف الأ�صل‬
‫�أما موافقة الل�سان فبني �شرطها من قوله‪ُ « :‬ك ُّل معنى م�ستنبط من القر�آن غري جار على‬
‫الل�سان العربي؛ فلي�س من علوم القر�آن يف �شيء ال مما ي�ستفاد منه وال مما ي�ستفاد به»(‪.)2‬‬
‫فهذه كلية تقعيدية لق�صد املوافقة لل�سان؛ �ساقها يف مقام الت�أ�صيل للنظرية‪ ،‬فلهذا �شملت‬
‫املف�سرة‪ ،‬متاما كما يلمح �إليه يف �آخر القولة‪ .‬فكل ما خرج‬
‫املف�سرة كما املعاين َّ‬
‫عنده القوانني ِّ‬
‫عن منظومة الل�سان يف �صبغته الفطرية؛ فقد خفت موازينه ومل ترجح كفته يف ميزان النظر‬
‫القر�آين‪� ،‬إذ لي�س ُيعتمد عليه معيار ًا للتف�سري‪ ،‬وال قانونا لال�ستنباط‪ ،‬وال مدلوال لدليله �صاحلا‬
‫للتخلق مب�ضمونه‪.‬‬
‫وكل ذلك فرع عن �أ�صل �أمية ال�شريعة عنده وفطريتها تبعا لأهلها‪ .‬قال يف مو�ضع �آخر ي�ؤكد‬
‫هذه احليثية‪« :‬وكون الباطن هو املراد من اخلطاب؛ قد ظهر �أي�ضا مما تقدم يف امل�س�ألة قبلها‪،‬‬
‫ولكن ي�شرتط فيه �شرطان‪� :‬أحدهما؛ �أن ي�صح على مقت�ضى الظاهر املقرر يف ل�سان العرب ويجري‬
‫على املقا�صد العربية‪ .‬والثاين؛ �أن يكون له �شاهد ن�صا �أو ظاهرا يف حمل �آخر ي�شهد ل�صحته من‬
‫غري معار�ض»(‪.)3‬‬

‫‪�  .1‬أبو حامد الغزايل‪ ،‬جواهر القر�آن‪ ،‬ت‪ .‬حممد ر�شيد ر�ضا القباين‪ ،‬بريوت‪ :‬دار �إحياء العلوم‪ ،‬ط‪،2‬‬
‫(‪1406‬ﻫ‪1986/‬م)‪� ،‬ص‪.37‬‬
‫‪  .2‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات‪ ،‬م‪� ،‬س‪ ،‬ج‪� ،3‬ص‪.293‬‬
‫‪  .3‬امل�صدر نف�سه‪ ،‬ج‪� ،3‬ص‪.295‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر‬ ‫‪30‬‬

‫و�أما �شرط القطع فقد قال ي�ؤكد على ا�ستح�ضاره يف �أحد ال�سياقات‪« :‬وحا�صل هذا الكالم �أن‬
‫املراد بالظاهر هو املفهوم العربي والباطن هو مراد اهلل تعاىل من كالمه وخطابه‪ .‬ف�إن كان مراد‬
‫من �أطلق هذه العبارة ما ُف ِّ�س َر؛ ف�صحيح وال نزاع فيه‪ .‬و�إن �أرادوا غري ذلك فهو �إثبات �أمر زائد‬
‫على ما كان معلوما عند ال�صحابة ومن بعدهم‪ ،‬فال بد من دليل قطعي يثبت هذه الدعوى؛ لأنها‬
‫�أ�صل يحكم به على تف�سري الكتاب فال يكون ظنيا»(‪ .)1‬فالبد من �شرط حتقيق القطع يف الأ�صل كما‬
‫إطارات املعرفة وظفت‪ ،‬ومن جملتها‬
‫ترى‪ .‬وهذا من لوازم مفهوم الأ�صول‪/‬الكليات عنده‪ ،‬يف �أي ِّ� ِ‬
‫التف�سري الإ�شاري وهو املطلوب‪.‬‬
‫ال�ضابط الثاين‪ :‬حترير املفهوم وتقعيده‬
‫�أق�صد بيان املفهومني املركزيني اللذين الح منهما الإ�شكال اال�صطالحي‪ ،‬حتى يتميزا عند‬
‫الناظر يف التف�سري عموما والإ�شاري منه على اخل�صو�ص‪ ،‬وهما‪ :‬الظاهر والباطن‪.‬‬
‫�أ‪ .‬مفهوم الظاهر‬
‫قال يحرره ويقعد له‪« :‬ف ُك ُّل ما كان من املعاين العربية التي ال ينبني فهم القر�آن �إال عليها؛‬
‫فهو داخل حتت الظاهر»(‪� .)2‬إنها كلية تعريفية �أخرى �ساقها لتحديد املفهوم وت�أطريه كليا وبيان‬
‫العلوم التي يحت�ضنها‪ ،‬مما يدخل حتت مفهومه من بني املعاين ال�شرعية‪ .‬ثم قال يجليه �أكرث بعد‬
‫�سرد �أمثلة تو�ضح حقيقته‪« :‬فامل�سائل البيانية واملنازع البالغية ال َم ْع ِدل بها عن ظاهر القر�آن‪...‬‬
‫ف�إذا ح�صل فهم ذلك كله على ترتيبه يف الل�سان العربي؛ فقد ح�صل فهم ظاهر القر�آن‪ .‬ومن هنا‬
‫ح�صل �إعجاز القر�آن عند القائلني ب�أن �إعجازه بالف�صاحة»(‪ .)3‬ومن ثم ف�إن «من لي�س له �أ�صالة يف‬
‫الل�سان العربي فعما قريب يفهم كتاب اهلل على غري وجهه»(‪.)4‬‬
‫ب‪ .‬مفهوم الباطن‬
‫على �شاكلة نظريه �سار يف التقعيد ملفهوم الباطن‪ .‬قال‪« :‬و ُك ُّل ما كان من املعاين التي تقت�ضي‬
‫حتقيق املخاطب بو�صف العبودية والإقرار هلل بالربوبية‪ ،‬فذلك هو الباطن املراد واملق�صود الذي‬
‫�أنزل القر�آن لأجله»(‪.)5‬‬
‫‪  .1‬امل�صدر نف�سه‪ ،‬ج‪� ،3‬ص‪.287‬‬
‫‪  .2‬امل�صدر نف�سه‪ ،‬ج‪� ،3‬ص‪.289‬‬
‫‪  .3‬امل�صدر نف�سه‪ ،‬ج‪� ،3‬ص‪.290-289‬‬
‫‪  .4‬ال�شاطبي‪ ،‬االعت�صام‪ ،‬م‪� ،‬س‪ ،‬ج‪� ،2‬ص‪.398‬‬
‫‪  .5‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات‪ ،‬م‪� ،‬س‪ ،‬ج‪� ،3‬ص‪.290‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫نظرية املعرفة عند ال�شاطبي‪ :‬درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج‬ ‫‪31‬‬

‫فهذا تعريف جممل؛ �إذ دخول العبد حتت ر ِِّق العبودية والإقرار هلل بالربوبية؛ هو مق�صد‬
‫�أعلى لل�شريعة الإ�سالمية وغاية عامة لقانون اال�ستخالف‪ .‬و�إمنا �ساقه هنا لريتب عليه ما هو‬
‫�أخ�ص منه يف التعريف بالباطن‪ ،‬حيث يقرب املفهوم من حقيقة التف�سري الإ�شاري‪ ،‬الذي هو‬
‫املراد دون غريه من معاين الت�أويل الباطني‪ .‬فك�أن التعريف توطئة للنعي على الباطنية‪ ،‬ف�ض ًال‬
‫عن كونه متهيدا للو�صول �إىل املق�صود حتديدا‪ .‬ثم �ساق جملة �أمثلة تقرب حقيقته للناظر‪ ،‬ثم‬
‫قال جممال معناه وم�شيدا باعتباره‪« :‬وعلى اجلملة؛ فكل من زاغ ومال عن ال�صراط امل�ستقيم؛‬
‫فبمقدار ما فاته من باطن القر�آن فهما وعلما‪ .‬وكل من �أ�صاب احلق و�صادف ال�صواب؛ فبمقدار‬
‫ما ح�صل له من فهم باطنه»(‪ .)1‬وتلك هي حقيقة التف�سري الإ�شاري حيث التحومي على مراد اهلل‬
‫تعاىل الباطني‪ .‬وهو غري داللة الإ�شارة عند الأ�صوليني(‪.)2‬‬
‫فبان �أن املفهوم ميتح من معني دالئل الربوبية والعبودية يف القر�آن وذلك هو الباطن‪ ،‬يف‬
‫مقابل الظاهر الذي يرجع �إىل املنازع اللغوية وقواعد الل�سان‪ .‬فك�أن هذه قوانني وتلك مواد �أو هذه‬
‫�أ�شباح وتلك �أرواح‪.‬‬
‫فهذان املفهومان‪ ،‬كما ترى‪ ،‬هما حمور الإ�شكال‪ ،‬ويف ا�صطالحهما ت�شابكت �أنظار النظار‬
‫وتداخلت �أفهامهم حتى ن�شب النزاع‪ ،‬وجرى الوادي بطمه على القرى؛ من كرثة اجلدل واخلالف‬
‫والتنازع حول م�صادرة معناهما‪� ،‬إذ رب م�صطلح �أوجب امل�شاحة يف املعنى!‬
‫فلذلك �صار ُي َع ِّر�ض‪ ،‬من جهة‪ ،‬مبن لي�س �أهال لإجرائهما على املطلوب بقوله‪« :‬من النا�س‬
‫من زعم �أن للقر�آن ظاهرا وباطنا‪ ،‬ورمبا نقلوا يف ذلك بع�ض الأحاديث والآثار»(‪ .)3‬ومن جهة‬
‫�أخرى؛ مبن وقف يف �أحد طريف املفهوم �إفراطا �أو تفريط ًا‪ ،‬ومل يبتغ التو�سط منزل ًة لتحري احلق‬
‫فيه قائال‪« :‬ف�إن النا�س يف �أمثال هذه الأ�شياء بني قائلني منهم من ي�صدق به وي�أخذه على ظاهره‬
‫ويعتقد �أن ذلك هو مراد اهلل تعاىل من كتابه‪ ،‬و�إذا عار�ضه ما ينقل يف كتب التف�سري على خالفه‪،‬‬
‫‪  .1‬امل�صدر نف�سه‪ ،‬ج‪� ،3‬ص‪.292‬‬
‫‪  .2‬قال ابن القيم يف هذا ال�سياق‪« :‬فالإ�شارات من جن�س الأدلة والأعالم و�سببها‪� :‬صفاء يح�صل باجلمعية‪ ،‬فيلطف‬
‫ح�س غريه وفهمه عن �إدراكها» ابن اجلوزية‪ ،‬مدارج‬‫به احل�س والذهن‪ ،‬في�ستيقظ لإدراك �أمور لطيفة ال يك�شف ُّ‬
‫ال�سالكني‪ ،‬م‪� ،‬س‪ ،‬ج‪� 2‬ص‪.389‬‬
‫فحقيقتها جمموع اللوامع واللوائح عندهم؛ التي تلوح بها الفرا�سة ال�صادقة دون اال�ستنجاد مبنطوق اللفظ‪ ،‬فخالف‬
‫بذلك داللة الإ�شارة التي هي من لوازم العبارة واملنطوق عند الأ�صوليني‪ .‬وهذا التباين هو الذي �أكد عليه الطاهر‬
‫ابن عا�شور يف املقام نف�سه فقال‪« :‬ولي�س من الإ�شارة ما يعرف يف الأ�صول بداللة الإ�شارة وفحوى اخلطاب» ابن‬
‫عا�شور حممد الطاهر‪ ،‬التحرير والتنوير‪ ،‬الدار التون�سية للن�شر تون�س‪1984 ،‬م‪ ،‬ج‪� ،1‬ص‪.36‬‬
‫‪  .3‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات‪ ،‬م‪� ،‬س‪ ،‬ج‪� ،3‬ص‪.286‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر‬ ‫‪32‬‬

‫فرمبا كذب به �أو �أ�شكل عليه‪ .‬ومنهم من يكذب به على الإطالق ويرى �أنه تقول وبهتان‪ ،‬مثل ما‬
‫تقدم من تف�سري الباطنية ومن حذا حذوهم‪ .‬وكال الطريقني فيه ميل عن الإن�صاف»(‪.)1‬‬
‫املف�سر‬
‫ال�ضابط الثالث‪� :‬شهادة الأدلة للمعنى َّ‬
‫�أي وجود �شاهد من القر�آن �أو من اخلارج يوافق املعنى الإ�شاري‪ ،‬ويكون بالن�سبة �إليه مبثابة‬
‫ال�شاهد �أو املعترب‪ ،‬بتعبري �أهل �صناعة احلديث‪ ،‬يقويه وي�شد ع�ضده‪ .‬قال يف هذا ال�ضابط‪« :‬وكون‬
‫الباطن هو املراد من اخلطاب قد ظهر �أي�ضا مما تقدم يف امل�س�ألة قبلها‪ ،‬ولكن ي�شرتط فيه‬
‫�شرطان‪:‬‬
‫�أحدهما؛ �أن ي�صح على مقت�ضى الظاهر املقرر يف ل�سان العرب‪ ،‬ويجري على املقا�صد العربية‪.‬‬
‫والثاين‪� :‬أن يكون له �شاهد ن�صا �أو ظاهرا يف حمل �آخر ي�شهد ل�صحته من غري معار�ض (‪)...‬‬
‫لأنه �إن مل يكن له �شاهد يف حمل �آخر �أو كان له معار�ض؛ �صار من جملة الدعاوى التي تدعى على‬
‫القر�آن‪ .‬والدعوى املجردة غري مقبولة باتفاق العلماء»(‪.)2‬‬
‫و�إمنا قلت من القر�آن �أو من خارج؛ لأنه كذلك عند �أبي �إ�سحاق‪� ،‬أي �أن يكون ال�شاهد امل�سوق‬
‫ملوافقة املعنى الإ�شاري؛ دليال �شرعيا �أو دليال وجوديا من اخلارج يطابقه‪ .‬فالبد من وجود‬
‫�أحدهما يتحقق به مفهوم (االعتبار)‪ .‬وال�شاطبي بهذا النظر يكون قد فتح نافذة �أخرى يطل‬
‫منها كل قا�صد معترب �إىل �أحوال الكون والكائنات باعتبارها عاملا مو�ضوعيا يعك�س جتليات الوحي‬
‫كتاب اهلل امل�سطور‪ ،‬ويكون هذا الوحي فهر�سا لها �ضابطا لوظائفها وطبائعها العمرانية‪ .‬فماذا‬
‫عن املفهوم �أوال؟‬

‫الداللة ال�صناعية ملفهوم االعتبار‬

‫�أوال‪ :‬عند النظار عموما ً‬


‫ال يخرج معنى (االعتبار) يف عرف �أهل ال�سلوك عن العبور من ال�شيء �إىل غريه ب�صفة عامة‪،‬‬
‫والعبور من املعنى الظاهر �إىل املعنى الباطن النا�شئ عنه و�إحلاقه به‪ ،‬عمال بهما معا ال ب�أحدهما‬
‫«فيكون العامل عامال بالوجهني موفيا حق اللفظ يف املعنيني»(‪ .)3‬قال اخلطيب ال�شربيني‪« :‬قال‬
‫‪  .1‬امل�صدر نف�سه‪ ،‬ج‪� ،3‬ص‪.302‬‬
‫‪  .2‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات‪ ،‬م‪� ،‬س‪ ،‬ج‪� ،3‬ص‪.295‬‬
‫‪�  .3‬أبو بكر حممد بن عبد اهلل ابن العربي‪ ،‬العوا�صم والقوا�صم‪ ،‬مكتبة الأن�صار‪ ،‬ط‪2006 ،1‬م‪� ،‬ص‪.196‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫نظرية املعرفة عند ال�شاطبي‪ :‬درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج‬ ‫‪33‬‬

‫الق�شريي‪ :‬االعتبار هو النظر يف حقائق الأ�شياء وجهات داللتها ليعرف بالنظر فيها �شيء �آخر من‬
‫جن�سها»(‪ .)1‬وقال الغزايل يف �سياق توظيف املفهوم‪« :‬بل �أقول فهم مو�سى من الأمر بخلع النعلني؛‬
‫ِّاطراح الكونني‪ ،‬فامتثل الأمر ظاهر ًا بخلع نعليه‪ ،‬وباطن ًا باطراح العاملني‪ .‬وهذا هو «االعتبار»؛ �أي‬
‫العبور من ال�شيء �إىل غريه‪ ،‬ومن الظاهر �إىل ال�سر»(‪.)2‬‬
‫�أو يجعل من قيا�س الأوىل؛ وهو نوع من جن�س القيا�س‪ ،‬فيلحظ فيه �أي�ضا معنى العبور والإحلاق‪.‬‬
‫وهذا تخريج ل�شيخ الإ�سالم يف �شرحه حديث النزول قائال‪ )...(« :‬وبع�ض ذلك ال يجعل تف�س ًريا‪،‬‬
‫كما يف قوله تعاىل‪( ﴾   ﴿ :‬الواقعة‪ ،)82 :‬وقول النبي �صلى اهلل عليه‬
‫و�سلم‪« :‬ال تدخل املالئكة بيتًا فيه كلب»(‪ ،)3‬ف�إذا كان ورقه ال مي�سه �إال املطهرون؛ فمعانيه ال يهتدي‬
‫بها �إال القلوب الطاهرة‪ ،‬و�إذا كان امللك ال يدخل بيتًا فيه كلب‪ ،‬فاملعاين التي حتبها املالئكة ال‬
‫تدخل قل ًبا فيه �أخالق الكالب املذمومة‪ ،‬وال تنزل املالئكة على ه�ؤالء»(‪ .)4‬ثم �صرح مبا يفيد كونه‬
‫قيا�سا يف مثال �آخر قائال‪« :‬فالذي ت�سميه الفقهاء قيا�سا هو الذي ت�سميه ال�صوفية �إ�شارة‪ .‬وهذا‬
‫ينق�سم �إىل �صحيح وباطل (‪ )...‬كذلك من قال‪« :‬ال تدخل املالئكة بيتا فيه كلب وال جنب» فاعترب‬
‫بذلك �أن القلب ال يدخله حقائق الإميان �إذا كان فيه ما ينج�سه من الكرب واحل�سد؛ فقد �أ�صاب‪،‬‬
‫قال تعاىل‪( ﴾       ﴿ :‬املائدة‪.)5(»)43 :‬‬
‫ورمبا ُنزِّ َل على املعنى نف�سه ما ذهب �إليه ابن ر�شد احلفيد حني قال يو�ضح حقيقة املفهوم‪:‬‬
‫«االعتبار لي�س �شيئا �أكرث من ا�ستنباط املجهول من املعلوم‪ ،‬وا�ستخراجه منه‪ ،‬وهذا هو القيا�س»(‪.)6‬‬
‫ويعترب عبد الكرمي عكيوي من �أهم املعا�صرين الذين �سطروا تعريفا جامعا للنظرية‪ ،‬فقال‬
‫بعدما �ساق مدونة من تعاريف القدامى واملحدثني ك ٌّل ح�سب فنه‪« :‬االعتبار هو النظر يف امل�س�ألة‬

‫‪  .1‬حممد بن �أحمد اخلطيب ال�شربيني‪ ،‬ال�سراج املنري يف الإعانة على معرفة بع�ض معاين كالم ربنا احلكيم اخلبري‪،‬‬
‫القاهرة‪ :‬مطبعة بوالق الأمريية القاهرة‪1285 ،‬ﻫ‪ ،‬ج‪� ،4‬ص‪ .240‬ومثله عند الرازي‪ ،‬انظر‪:‬‬
‫ـ �أبو عبد اهلل حممد بن عمر الرازي ‪ ،‬مفاتيح الغيب �أو التف�سري الكبري‪ ،‬بريوت‪ :‬دار �إحياء الرتاث العربي‪ ،‬ط‪،3‬‬
‫‪1420‬ﻫ‪ ،‬ج‪� ،29‬ص‪.504‬‬
‫‪�  .2‬أبو حامد الغزايل‪ ،‬م�شكاة الأنوار‪ ،‬ت‪� .‬أبو العال عفيفي‪ ،‬القاهرة‪ :‬الدار القومية للطباعة والن�شر‪ ،‬د‪ .‬ط‪� ،‬ص‪.73‬‬
‫‪  .3‬البخاري‪� ،‬صحيح البخاري‪ ،‬م‪� ،‬س‪ :،‬ج‪� ،4‬ص‪.114‬‬
‫‪�  .4‬أبو العبا�س �أحمد بن عبد احلليم ابن تيمية‪� ،‬شرح حديث النزول‪ ،‬بريوت‪ :‬املكتب الإ�سالمي‪/‬لبنان‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫(‪1397‬ﻫ‪1977/‬م)‪ ،‬د‪ .‬ت‪� ،‬ص‪.169‬‬
‫‪  .5‬ابن تيمية‪ ،‬جمموع الفتاوى‪ ،‬م‪� ،‬س‪ ،‬ج‪� ،13‬ص‪.242‬‬
‫‪�  .6‬أبو الوليد �أحمد بن �أحمد ابن ر�شد‪ ،‬ف�صل املقال فيما بني احلكمة وال�شريعة من االت�صال‪ ،‬ت‪ .‬حممد عمارة‪ ،‬دار‬
‫املعارف‪ ،‬ط‪� ،3‬ص‪.23‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر‬ ‫‪34‬‬

‫مع ا�ستح�ضار نظائرها وااللتفات �إىل لوازمها ومراعاة نقائ�ضها‪ ،‬مع �صحة املنا�سبة»(‪ .)1‬وهو‬
‫تعريف يخدم �سائر العلوم ويربطها بفل�سفة النظرية يف منحاها العلمي والوجودي‪ ،‬فهو �أعم من‬
‫ارتباطها مبجال التف�سري وقواعده‪� .‬إال �أن �إ�شارته �إىل وجوب ا�ستح�ضار �ضابط النظر يف لوازم‬
‫امل�س�ألة مع �صحة املنا�سبة؛ هو مربط الفر�س عندنا هنا‪.‬‬
‫وباجلملة ف�إن من قالوا بجواز هذا النوع التف�سريي عموما ا�شرتطوا فيه �شروطا مقيدة‬
‫لإطالق القول به‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫‪� .1‬أ َّال يتجافى عن ظاهر النظم القر�آين‪.‬‬
‫‪َّ � .2‬أل يقال؛ �إن الإ�شارة هي املراد من الظاهر‪ ،‬وال اعتبار بالوجوه التف�سريية الأُ َخر‪.‬‬
‫‪َّ � .3‬أل ينه�ض معار�ض �شرعي �أو عقلي للتف�سري الإ�شاري‪.‬‬
‫‪َّ � .4‬أل يكون جاريا يف ركاب الهوى والبدعة‪.‬‬
‫‪� .5‬أن ت�ؤن�س له �شواهد من ال�شرع‪.‬‬
‫‪َّ � .6‬أل يعتمد يف جمال ا�ستنباط الأحكام ال�شرعية‪ ،‬و�إمنا يقت�صر يف الأخذ به �إن َّ‬
‫�صح و�سلم‬
‫من املعار�ضة؛ يف جمال تهذيب الأخالق وتزكية النفو�س‪ ،‬وتثبيت الإميان(‪.)2‬‬
‫هذا كان يف نظرهم‪ ،‬فماذا عن نظر ال�شاطبي؟‬

‫ثانيا‪ :‬عند ال�شاطبي‬


‫‪ .1‬حقيقة املفهوم‬
‫�أما �أبو �إ�سحاق فقد �صغى �إىل منهج التعريف بالتق�سيم لر�صد حقيقة املفهوم وق�سميه معا‪،‬‬
‫ينظم به الأقوال جميعا وي�سربها مب�سباره‪ ،‬فال تزال �أمام الناظر جلي ًة وا�ضح ًة قد انق�شعت‬
‫حتى ِ‬
‫�سحابة �إ�شكالها وانخن�س طائر �إبهامها !‪ .‬قال‪« :‬االعتبارات القر�آنية الواردة على القلوب الظاهرة‬
‫للب�صائر �إذا �صحت على كمال �شروطها‪ ،‬فهي على �ضربني‪� :‬أحدهما‪ :‬ما يكون �أ�صل انفجاره من‬

‫‪  .1‬عبد الكرمي عكيوي‪ ،‬نظرية االعتبار يف العلوم الإ�سالمية‪ ،‬فرجينيا‪ :‬املعهد العاملي للفكر الإ�سالمي‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫(‪1429‬ﻫ‪2009/‬م)‪� ،‬ص‪.37‬‬
‫‪  .2‬قطب الري�سوين‪ ،‬الن�ص القر�آين من تهافت القراءة �إىل �أفق التدبر‪ ،‬من�شورات وزارة الأوقاف وال�ش�ؤون الإ�سالمية‬
‫املغرب‪ ،‬ط‪2010 ،1‬م‪� ،‬ص‪.194‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫نظرية املعرفة عند ال�شاطبي‪ :‬درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج‬ ‫‪35‬‬

‫القر�آن ويتبعه �سائر املوجودات (‪ )...‬والثاين‪ :‬ما يكون �أ�صل انفجاره من املوجودات جزئيها �أو‬
‫كليها ويتبعه االعتبار يف القر�آن»(‪.)1‬‬
‫فقد �سلم ابتدا ًء بحقيقة امل�صطلح‪� ،‬أق�صد االعتبار‪ ،‬متام ًا كما ر�سمها �أبو حامد‪ ،‬وهو �شيخ‬
‫ال�شاطبي ب�صورة غري مبا�شرة يف التعرف على حقائق الت�صوف‪ ،‬وبناء على ذلك اهتم بتقعيد‬
‫ق�سميه املتفرعني عنه يف �صيغة كلية جري ًا على �أ�صله يف بناء حقائق العلم وترتيبها‪ ،‬وهما‪:‬‬
‫االعتبار القر�آين واالعتبار الوجودي‪.‬‬
‫�أ‪ .‬يف االعتبار القر�آين‬
‫قال مبينا خوا�صه التي متيزه‪« :‬ف�إن كان الأول؛ فذلك االعتبار �صحيح وهو معترب يف فهم‬
‫باطن القر�آن من غري �إ�شكال؛ لأن فهم القر�آن �إمنا يرد على القلوب على وفق ما نزل له القر�آن‬
‫وهو الهداية التامة على ما يليق بكل واحد من املكلفني وبح�سب التكاليف و�أحوالها ال ب�إطالق‪ .‬و�إذا‬
‫كان كذلك فامل�شي على طريقها م�شي على ال�صراط امل�ستقيم‪ .‬ولأن االعتبار القر�آين قلما يجده‬
‫�إال من كان من �أهله عمال به على تقليد �أو اجتهاد‪ ،‬فال يخرجون عند االعتبار فيه عن حدوده كما‬
‫مل يخرجوا يف العمل به والتخلق ب�أخالقه عن حدوده‪ ،‬بل تنفتح لهم �أبواب الفهم فيه على توازي‬
‫�أحكامه‪ ،‬ويلزم من ذلك �أن يكون معتدا به جلريانه على جماريه‪ .‬وال�شاهد على ذلك ما نقل من‬
‫فهم ال�سلف ال�صالح فيه‪ ،‬ف�إنه كله جا ٍر على ما تق�ضي به العربية‪ ،‬وما تدل عليه الأدلة ال�شرعية‬
‫ح�سبما تبني قبل»(‪.)2‬‬
‫ومعان‬
‫فالن�ص كله تقعيد حلقيقة االعتبار القر�آين حيث ترجع �إىل االحتفال مبرامز �إ�شارية ٍ‬
‫باطنية تتدفق من غري توقف‪ ،‬يلوح بها النظر القر�آين عند التدبر‪ .‬قال‪« :‬ف�إن االعتبار ال�صحيح‬
‫يف اجلملة هو الذي يخرق نور الب�صرية فيه حجب الأكوان من غري توقف‪ ،‬ف�إن توقف فهو غري‬
‫�صحيح �أو غري كامل ح�سبما بينه �أهل التحقيق بال�سلوك»(‪.)3‬‬
‫�إن الكون هنا جمال ل�سياحة قلبية‪ ،‬ترت�شف من �أعيان الكائنات التي ميوج بها يف م�ساحة‬
‫«بانورامية» ممتدة وغري متناهية‪ ،‬لأن طبيعتها م�سكوكة ب�سكة الكلمات القر�آنية غري املتناهية‬
‫هي كذلك؛ ﴿‪             ‬‬

‫‪  .1‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات‪ ،‬م‪� ،‬س‪ ،‬ج‪� ،3‬ص‪.302‬‬


‫‪  .2‬امل�صدر نف�سه‪ ،‬ج‪� ،3‬ص‪.303-302‬‬
‫‪  .3‬امل�صدر نف�سه‪ ،‬ج‪� ،3‬ص‪.302‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر‬ ‫‪36‬‬

‫‪( ﴾    ‬الكهف‪ .)104 :‬ولي�ست اجل�سوم والأعرا�ض املادية احلاملة‬
‫لتلك اجلواهر �سوى عالمات مادية تظهر وتختفي لترتك بعد اختفائها وظيفتها التعبدية الكونية‬
‫التي حددها لها اخلالق يف حدود التعريف به للإن�سان‪ ،‬فهي خادمة له لكن خدمة تعبدية مناطة‬
‫بها تكوينا وخلقا‪ ...‬فكان البد من ا�ستنطاق هذه الكائنات واحلفر يف �أ�سرارها الكونية امللكوتية‬
‫مبعاول القر�آن نف�سه‪� ،‬ألي�س هو الكتاب املعرف مبجالها ووظائفها؟ فكيف يطلق للقلب ال�سياحة‬
‫ال�شعورية يف جمالها دون الرجوع �إليه خ�ضوعا لكلياته العلمية ال�شاملة؟ لكن ذلك كله مع م�صاحبة‬
‫�شرط «مراعاة الل�سان العربي»‪� ،‬إذ ي�شهد له كما �صرح يف �آخر الن�ص املركزي ال�سابق‪.‬‬
‫ف�أنت ترى �إذن �أن ماهية (االعتبار) متج�سدة يف ق�سمه الأول هنا؛ �إمنا ترجع �إىل معني‬
‫الت�صوف والوقوف على دقائق �أهل ال�سلوك �إذا تخلقوا ب�أخالق �أهل القر�آن‪ ،‬ك ٌّل بح�سب درجته‬
‫كما �أ�شار(‪ .)1‬بيد �أن حقيقته ان�سبكت يف م�سبكة �أ�صولية يف �صيغة كلية و�أفرغت يف قالب �صار �أقدر‬
‫على �إخراجها من ليونتها يف ال�سلوك �إىل �صالبتها يف الأ�صول املقطوع بها‪ .‬وقد و�صف هذا الق�سم‬
‫مع قرينه مبا يفيد ذلك بعد �سرد �أمثلة لهما قائال‪« :‬وال بد قبل اخلو�ض يف رفع الإ�شكال من تقدمي‬
‫�أ�صل م�سلم»(‪)2‬؛ فهما راجعان �إىل �أ�صل كلي قطعي له نف�س طبيعة الأ�صول عند �أبي �إ�سحاق‪.‬‬
‫ب‪ .‬يف االعتبار الوجودي‬
‫و�أما الوجودي فقد حكم عليه بقوله‪« :‬و�إن كان الثاين؛ فالتوقف عن اعتباره يف فهم باطن‬
‫القر�آن الزم‪ ،‬و�أخذه على �إطالقه فيه ممتنع لأنه بخالف الأول؛ فال ي�صح �إطالق القول باعتباره‬
‫يف فهم القر�آن»(‪ .)3‬وذلك راجع بالأ�سا�س �إىل طبيعة الإ�شارات واللوائح التي تقذف �إلهاما‬
‫وحتديثا يف قلوب �أ�صحاب الأحوال‪ ،‬وب�سبب �صعوبة �إيقافها يف عامل الروح ل�شدة تناغمه مع الكون‬
‫وخملوقاته وما ين�ساب منها من حوادث وظواهر؛ ف�إن القلب ي�سارع يف بادئ النظر �إىل احلكم‬
‫عليها‪ .‬ومن هنا خطورتها‪.‬‬
‫لكنه �صحح العمل به ب�شرطني اثنني‪:‬‬
‫‪�  .1‬أي يف ن�صه ال�سابق بقوله‪« :‬على ما يليق بكل واحد من املكلفني وبح�سب التكاليف و�أحوالها ال ب�إطالق» ال�شاطبي‪،‬‬
‫املوافقات‪ ،‬م‪� ،‬س‪ ،‬ج‪� ،3‬ص‪ .302‬ثم بني �أنه خا�ص ب�أهله بقوله‪« :‬ولأن االعتبار القر�آين قلما يجده �إال من كان من‬
‫�أهله عمال به على تقليد �أو اجتهاد « نف�س امل�صدر وال�صفحة‪� .‬أو بتعبري �شيخ الزيتونة «الإ�شارة (‪� )...‬إمنا ت�شري ملن‬
‫ا�ستعدت عقولهم (‪ )...‬وال ينتفع بها غري �أولئك» ابن عا�شور‪ ،‬التحرير والتنوير‪ ،‬م‪� ،‬س‪ ،‬ج‪� ،1‬ص‪.36‬‬
‫‪  .2‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات‪ ،‬م‪� ،‬س‪ ،‬ج‪� ،3‬ص‪.302‬‬
‫‪  .3‬امل�صدر نف�سه‪ ،‬ج‪� ،3‬ص‪.303‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫نظرية املعرفة عند ال�شاطبي‪ :‬درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج‬ ‫‪37‬‬

‫ال�شرط الأول؛ �أن يكون ذلك االعتبار يف مقابلة مطلق من املعاين القر�آنية‪ ،‬لأنه مطلق غري‬
‫مقيد‪ ،‬وكالهما وجوديان في�صح تنزيله عليها‪ .‬قال‪�« :‬إن تلك الأنظار الباطنة يف الآيات املذكورة‬
‫�إذا مل يظهر جريانها على مقت�ضى ال�شروط املتقدمة؛ فهي راجعة �إىل االعتبار غري القر�آين وهو‬
‫الوجودي‪ ،‬وي�صح تنزيله على معاين القر�آن؛ لأنه وجودي �أي�ضا‪ ،‬فهو م�شرتك من تلك اجلهة غري‬
‫َب ب�شاهد موافق»(‪)1‬؛ لأن املطالبة بال�شواهد واملعتربات؛ �إمنا تكون‬‫خا�ص‪ ،‬فال ُي َطا َل ُب فيه املُ ْعت ِ ُ‬
‫حينما ُي َّدعى يف ذلك االعتبار �أنه خا�ص باملعنى الذي �سيق للداللة عليه يف القر�آن‪ ،‬حينئذ يطالب‬
‫بالدليل‪� .‬أما �إذا كان مطلقا فال يحتاج فيه �إىل ذلك كما �ست�أتي �أمثلته‪ .‬وهذا يجر �إىل‪:‬‬
‫ال�شرط الثاين؛ �أن ال يكون تف�سريا خا�صا بالآية‪ ،‬بل يجعل من �إ�شاراتها االعتبارية‪ ،‬ومن ثم‬
‫فال يكون جمهوري ًا بل خا�صا ب�أهله الذين تفتقت مواهبهم الوجدانية له دون غريهم‪ .‬قال م�شريا‬
‫�إليه‪« :‬و�أي�ضا ف�إن من ذكر عنه مثل ذلك من املعتربين؛ مل ي�صرح ب�أنه املعنى املق�صود املخاطب‬
‫به اخللق‪ ،‬بل �أجراه جمراه و�سكت عن كونه هو املراد‪ ،‬و�إن جاء �شيء من ذلك و�صرح �صاحبه �أنه‬
‫هو املراد؛ فهو من �أرباب الأحوال الذين ال يفرقون بني االعتبار القر�آين والوجودي‪ ،‬و�أكرث ما يطر�أ‬
‫هذا ملن هو َب ُع َد يف ال�سلوك‪� ،‬سائر على الطريق مل يتحقق مبطلوبه‪ ،‬وال اعتبار بقول من مل يثبت‬
‫ْاع ِت َبا ُر قوله من الباطنية وغريهم»(‪.)2‬‬
‫لقد بدا وا�ضحا �أن �شروط اعتبار مفهوم (االعتبار) مبا هو الرتجمة اال�صطالحية العلمية‬
‫للتف�سري الإ�شاري (الباطني) ال�صحيح عند �أبي �إ�سحاق ثالثة‪:‬‬
‫املف�سر‪.‬‬
‫�أوال‪ :‬مراعاة الل�سان العربي يف حقيقة املعنى َّ‬
‫ثاني ًا‪ :‬وجود �شاهد من م�ساق الكالم �أو من اخلارج ي�شهد ل�صحته باالعتبار‪.‬‬
‫ثالثا‪� :‬أن يكون منبعه القر�آن الكرمي ثم يتبعه الدليل اخلارجي يف جماري الوجود‪ ،‬وهو امل�سمى‬
‫بـ(االعتبار القر�آين)‪.‬‬
‫هذا الأخري‪� ،‬أق�صد �شرط االعتبار القر�آين‪� ،‬إذا وجد َّ‬
‫دل على �أخويه بالقوة‪ ،‬لأنهما خا�صتان‬
‫يف ماهيته‪ ،‬فال يقرن بهما عادة يف التعبري عن املطلوب عند �أبي �إ�سحاق‪ .‬فلذلك اكتفى بهما‬
‫�شرطني بعد بيان حقيقة ذلك النوع من التف�سري قائال‪« :‬وبهذين ال�شرطني يتبني �صحة ما تقدم‬
‫�أنه الباطن»(‪ .)3‬ويبقى �أ�صل (االعتبار الوجودي) مق�صورا على �أهله ال يجاوز زمرتهم‪.‬‬
‫‪  .1‬نف�س امل�صدر وال�صفحة‪.‬‬
‫‪  .2‬نف�س امل�صدر وال�صفحة‪.‬‬
‫‪  .3‬امل�صدر نف�سه‪ ،‬ج‪� 3‬ص‪.295‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر‬ ‫‪38‬‬

‫بهذين ال�ضابطني تظهر نظرية التف�سري الإ�شاري جلية وا�ضحة‪ ،‬وحتمل جميع �أقوال النظار‬
‫على حمكها يف ت�أويالتهم للن�صو�ص‪ ،‬وذلك حتى ال تبقى هذه الن�صو�ص مرتعا للدخيل ي�صول‬
‫فيها ويجول كما هو احلال بالن�سبة للقراءات احلداثية املغر�ضة يف الع�صر احلايل‪ ،‬متاما مثل‬
‫عديلتها الباطنية يف الع�صور اخلالية‪.‬‬
‫‪� .2‬أمثلة تطبيقية لت�شخي�صه‬
‫�إن نظرة خاطفة �إىل منظومة الأمثلة التي �ساقها �أبو �إ�سحاق لتنزيل نظرية التف�سري الإ�شاري‬
‫(�أو االعتبار)؛ تبني مدى ت�أثره بحجة الإ�سالم الغزايل(‪ )1‬يف الت�أ�صيل العلمي لها والتمثيل‬
‫حلقيقتها‪ .‬و�إمنا تفرد �شيخ املقا�صد ب�شحن قواعدها ب�ضوابط الأ�صول وت�سييجها ب�سياج الكليات‬
‫حتى ت�صري �أقرب �إىل �صلب العلم لديه ورفع النزاع فيها‪ .‬وهذه جملة �أمثلة جرت جمرى الأمهات‬
‫يف التمثيل عنده‪:‬‬
‫�أ‪ .‬املثال الأول‬
‫قال‪« :‬نقل عن �سهل بن عبد اهلل يف فهم القر�آن �أ�شياء مما يعد من باطنه‪ ،‬فقد ذكر عنه �أنه‬
‫قال يف قوله تعاىل‪( ﴾     ﴿:‬البقرة‪)21 :‬؛ �أي �أ�ضدادا قال‪:‬‬
‫«و�أكرب الأنداد النف�س الأمارة بال�سوء املتطلعة �إىل حظوظها ومناها بغري هدى من اهلل»‪ .‬وهذا‬
‫ي�شري �إىل �أن النف�س الأمارة داخلة حتت عموم الأنداد‪ ،‬حتى لو ف�صل لكان املعنى‪ :‬فال جتعلوا هلل‬
‫�أندادا‪ :‬ال �صنما وال �شيطانا وال النف�س وال كذا‪ .‬وهذا م�شكل الظاهر جدا؛ �إذ كان م�ساق الآية‬
‫وحم�صول القرائن فيها يدل على �أن الأنداد‪ :‬الأ�صنام �أو غريها مما كانوا يعبدون‪ ،‬ومل يكونوا‬
‫يعبدون �أنف�سهم وال يتخذونها �أربابا‪ .‬ولكن له وجه جار على ال�صحة؛ وذلك �أنه مل يقل �إن هذا هو‬
‫تف�سري الآية‪ ،‬ولكن �أتى مبا هو ن ٌّد يف االعتبار ال�شرعي الذي �شهد له القر�آن» (‪ .)2‬ثم ذكر �ضابطني‬
‫�أجراهما جمرى العذر ل�سهل رحمه اهلل‪ .‬وحقيقتهما �أنهما دليالن من القر�آن �شاهدان باالعتبار‬
‫ملا جاء به وهما‪:‬‬

‫‪  .1‬قد قال يف ال�سياق نف�سه م�شيدا بالغزايل‪« :‬وللغزايل يف «م�شكاة الأنوار» ويف كتاب ال�شكر من «الإحياء» ويف كتاب‬
‫«جواهر القر�آن» يف االعتبار القر�آين وغريه ما يتبني به لهذا املو�ضع �أمثلة‪ ،‬فت�أملها هناك واهلل املوفق»‪ .‬امل�صدر‬
‫نف�سه‪ ،‬ج‪� ،3‬ص‪.304‬‬
‫‪  .2‬امل�صدر نف�سه‪ ،‬ج‪� ،3‬ص‪.298‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫نظرية املعرفة عند ال�شاطبي‪ :‬درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج‬ ‫‪39‬‬

‫ال�ضابط الأول‪�« :‬أن الناظر قد ي�أخذ من معنى الآية معنى من باب االعتبار‪ ،‬فيجريه فيما‬
‫مل تنزل فيه لأنه يجامعه يف الق�صد �أو يقاربه‪ ،‬لأن حقيقة الند �أنه امل�ضاد لنده اجلاري على‬
‫مناق�ضته‪ ،‬والنف�س الأمارة هذا �ش�أنها؛ لأنها ت�أمر �صاحبها مبراعاة حظوظها الهية �أو �صادة عن‬
‫مراعاة حقوق خالقها‪ .‬وهذا هو الذي يعني به الند يف نده؛ لأن الأ�صنام ن�صبوها لهذا املعنى‬
‫بعينه‪ ،‬و�شاهد �صحة هذا االعتبار قوله تعاىل‪    ﴿ :‬‬
‫‪( ﴾ ‬ال َّت ْو َب ِة‪ .)31 :‬وهم مل يعبدوهم من دون اهلل ولكنهم ائتمروا ب�أوامرهم وانتهوا عما‬
‫نهوهم عنه كيف كان‪ .‬فما حرموا عليه حرموه وما �أباحوا لهم حللوه‪ ،‬فقال اهلل تعاىل‪﴿ :‬‬
‫‪( ﴾     ‬ال َّت ْو َب ِة‪.)31 :‬‬
‫وهذا �ش�أن املتبع لهوى نف�سه»(‪ .)1‬فحقيقة العبور من الظاهر �إىل الباطن �أو من املعنى اجللي‬
‫�إىل املعنى اخلفي مما هو يف ذاته قيا�س‪ ،‬كما �سماه ابن تيمية �سابقا‪ ،‬وا�ضحة يف الن�ص؛ �إذ‬
‫متعلقها قوله‪« :‬لأن الأ�صنام ن�صبوها لهذا املعنى بعينه»(‪.)2‬‬
‫ال�ضابط الثاين‪�« :‬أن الآية و�إن نزلت يف �أهل الأ�صنام؛ ف�إن لأهل الإ�سالم فيها نظرا بالن�سبة‬
‫�إليهم‪� ،‬أال ترى �أن عمر ابن اخلطاب قال لبع�ض من تو�سع يف الدنيا من �أهل الإميان‪� :‬أين تذهب‬
‫بكم هذه الآية ﴿‪( ﴾    ‬الأحقاف‪ .)19 :‬وكان هو يعترب‬
‫نف�سه بها‪ .‬و�إمنا �أنزلت يف الكفار (‪ )...‬ف�إذا كان كذلك؛ �صح التنزيل بالن�سبة �إىل النف�س الأمارة‬
‫يف قوله‪( ﴾   ﴿ :‬البقرة‪.)3(»)21 :‬‬
‫�إن هذا ال�ضابط يرجع �إىل قاعدة «فقه اجلزئيات من الكليات»(‪)4‬؛ وهي قاعدة مفادها‬
‫�إمكانية �سحب حكم الدليل على غري حمله الذي �أنيط به فيه وتنزيله يف جمراه اال�ستعمايل‪،‬‬
‫واجلامع هو املعنى الذي �سيق له‪.‬‬
‫و�إمنا قلنا جمراه اال�ستعمايل؛ لأنه كذلك يف باب العموم واخل�صو�ص عند �أبي �إ�سحاق(‪ ،)5‬وهو‬
‫امل�سمى بـ(العموم اال�ستعمايل)‪ ،‬وقد ظهر �أنه منزلة بني منزلتي عموم اللفظ وخ�صو�ص ال�سبب‪،‬‬

‫‪  .1‬امل�صدر نف�سه‪ ،‬ج‪� ،3‬ص‪.299-298‬‬


‫‪  .2‬امل�صدر نف�سه‪ ،‬ج‪� ،3‬ص‪.298‬‬
‫‪  .3‬امل�صدر نف�سه‪ ،‬ج‪� ،3‬ص‪.299‬‬
‫‪  .4‬امل�صدر نف�سه‪ ،‬ج‪� ،3‬ص‪.213‬‬
‫‪  .5‬امل�صدر نف�سه‪ ،‬ج‪� ،3‬ص‪.290‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر‬ ‫‪40‬‬

‫فلي�س العربة ب�أحدهما بل به هو‪ ،‬ويلتحق به كل ما كان يف معنى �سببه‪ .‬ومن هناك اقتن�ص عمومه‬
‫و�إن كان يف مورده خا�صا‪.‬‬
‫ف�إىل هنا يرجع فقه عمر‪ ،‬ر�ضي اهلل عنه‪ ،‬حيث َنزَّل الآية على خ�صو�صيات نف�سه‪ ،‬من باب‬
‫تنزيل الكلي على اجلزئي لتحقيق مقا�صد تربوية ترجع �إىل قاعدة اخلوف والرجاء‪ ،‬وهي كلية‬
‫قطعية عنده �أي�ضا‪ .‬وهذا يدل على تداخل كل هذه القواعد و�أنها �إمنا تخلقت يف رحم واحدة هي‬
‫امل�شكلة لنظرية التف�سري عنده‪ .‬قال الزخم�شري يع�ضد مدلول هذه القاعدة‪« :‬وكم من �آية �أنزلت‬
‫يف �ش�أن الكافرين‪ ،‬وفيها �أو فر ن�صيب للم�ؤمنني تدبرا لها واعتبارا مبوردها»(‪.)1‬‬
‫ب‪ .‬املثال الثاين‬
‫قال‪« :‬ومن ذلك �أنه قال يف قوله تعاىل‪( ﴾     ﴿:‬ءال عمران‪:)96 :‬‬
‫«باطن البيت قلب حممد ي�ؤمن به من �أثبت اهلل يف قلبه التوحيد واقتدى بهدايته»(‪.)2‬‬
‫وهذا بح�سب ما �سطر؛ فاقد لل�شرطني ال�ضابطني وهما‪ :‬ل�سان العرب ودليل �شاهد‪ .‬فلذلك‬
‫قال‪« :‬وهذا التف�سري يحتاج �إىل بيان‪ ،‬ف�إن هذا املعنى ال تعرفه العرب‪ ،‬وال فيه من جهتها و�ضع‬
‫جمازي منا�سب‪ ،‬وال يالئمه م�ساق بحال»(‪ .)3‬ثم ا�ستدرك قائال‪« :‬والعذر عنه �أنه مل يقع فيه ما‬
‫يدل على �أنه تف�سري للقر�آن‪ ،‬فزال الإ�شكال �إذا»(‪.)4‬‬
‫فهذا �ضابط للقول باالعتبار الوجودي اخلارجي كما يظهر من نكتة العذر الذي اعتذر به‬
‫ري لها‪،‬‬
‫ل�سهل؛ وهو �أن املعنى املراد �سيق عنده م�ساق امل�ستفاد من الآية باالعتبار‪ ،‬ومل يقل هو تف�س ٌ‬
‫�إذ لو �صرح بذلك لكان ما �صرح به �أقرب �إىل �شق�شقات الباطنية!‬
‫ج‪ .‬املثال الثالث‬
‫قال‪« :‬ومنه قوله يف تف�سري قول اهلل تعاىل‪( ﴾  ﴿:‬الن�ساء‪،)51 :‬‬
‫قال‪« :‬ر�أ�س الطواغيت كلها النف�س الأمارة بال�سوء �إذا خلى العبد معها للمع�صية»‪ .‬وهو �أي�ضا من‬
‫قبيل ما قبله‪ ،‬و�إن فر�ض �أنه تف�سري؛ فعلى ما مر يف قوله تعاىل‪﴾   ﴿ :‬‬
‫(البقرة‪ .)21 :‬وقال يف قوله تعاىل‪( ﴾   ﴿ :‬الن�ساء‪« :)36 :‬و�أما باطنها؛‬
‫‪  .1‬الزخم�شري‪ ،‬الك�شاف‪ ،‬م‪� ،‬س‪ ،‬ج‪� ،1‬ص‪.37‬‬
‫‪  .2‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات‪ ،‬م‪� ،‬س‪ ،‬ج‪� ،3‬ص‪.300‬‬
‫‪  .3‬امل�صدر نف�سه‪.‬‬
‫‪  .4‬امل�صدر نف�سه‪.‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫نظرية املعرفة عند ال�شاطبي‪ :‬درا�سة يف منهج تكامل العلوم وتداخلها ق�ضايا ومناذج‬ ‫‪41‬‬

‫فهو القلب‪( ﴾ ﴿ ،‬الن�ساء‪ :)36 :‬النف�س الطبيعي‪﴾ ﴿ ،‬‬
‫(ال ِّن َ�ساءِ‪ )36 :‬العقل املقتدي بعمل ال�شرع‪( ﴾ ﴿ ،‬الن�ساء‪ :)36 :‬اجلوارح املطيعة‬
‫هلل‪ ،‬عز وجل‪ ،‬وهو من املوا�ضع امل�شكلة يف كالمه»(‪.)1‬‬
‫فهذان مثاالن يجريان يف املجرى نف�سه الذي جرت عليه �أمثاله قب ُل؛ �إذ لي�س للعرب عهد مبثل‬
‫هذا الت�أويل يف هذه الأ�شياء‪ ،‬وال نقل عن ال�سلف ال�صالح مثله‪ ،‬وال َث َّم دليل �آخر يدل على �صحة‬
‫هذا التف�سري‪ ،‬ال من م�ساق الآية‪ ،‬مورد هذه امل�ؤ َّو َلت‪ ،‬وال من خارج(‪ .)2‬بل «مثل هذا �أقرب �إىل ما‬
‫ثبت رده ونفيه عن القر�آن من كالم الباطنية ومن �أ�شبههم»(‪.)3‬‬
‫فلذلك كان �أحرى بالتوقف فيه و�إحلاقه باالعتبار الوجودي الذي ال ين�شط الفرتاع معناه‬
‫وا�ستكناه �سره �إال �أرباب الأحوال‪ .‬قال يف�سر ذلك يف مو�ضع �آخر‪« :‬فكون القلب جار ذا قربى‬
‫واجلار اجلنب هو النف�س الطبيعي �إىل �سائر ما ذكر؛ ي�صح تنزيله اعتباريا مطلقا‪ ،‬ف�إن مقابلة‬
‫الوجود بع�ضه ببع�ض يف هذا النمط �صحيح و�سهل جدا عند �أربابه»(‪)4‬؛ �أي ي�صح تنزيل معناه على‬
‫الإطالق دون تق ُّيد مبحل الآية حتى ال يقال؛ �إنه تف�سري لها‪� ،‬إذ ملَّا كانت هذه املعاين وجودية يف‬
‫اخلارج؛ قوبلت يف بيان ما تدل عليه مبا هو وجودي �أي�ضا يف القر�آن‪ ،‬وهو القلب وما ذكر معه‪.‬‬
‫فالكل �أ�صل انفجاره الوجود ابتداء‪ ،‬بخالف االعتبار القر�آين املنطلق يف �أ�سا�سه من القر�آن وي�أتي‬
‫ما يدل عليه وجوديا تابعا‪ .‬فلذلك يوقف على حمله‪.‬‬
‫متا م��ا كم��ا �ص��رح �أ ب��و �إ �س��حاق قائ�لا‪« :‬غ�ير �أن��ه مغ�� ِّر ٌر مب��ن لي���س برا�س��خ �أو دا خ��ل حت��ت‬
‫(‪)5‬‬
‫�إيالة را�سخ»!‬
‫ورمبا �أ َّمل ب�شيء من ذلك املفكر قا�سم حاج حمد يف مثل هذا املقام حني فرق بني «(مل�س)؛‬
‫حيث تعني قر�آنيا التناول باليد �أو االحتكاك الع�ضوي واحل�سي‪ ،‬و(م�س) حيث تعني التفاعل‬
‫العقلي والوجداين‪ ،‬فلم مينع اهلل (مل�س) امل�صحف؛ فهو للب�شر �أجمعني وكيفما كانت حاالتهم‬
‫(‪� )...‬أما (م�س) القر�آن مبا يعني التفاعل مع مكنوناته و�أعماقه فيتطلب حالة من اال�ستعداد»(‪.)6‬‬
‫‪  .1‬امل�صدر نف�سه‪ ،‬ج‪� ،3‬ص‪.301‬‬
‫‪  .2‬امل�صدر نف�سه‪ ،‬ج‪� ،3‬ص‪.300‬‬
‫‪  .3‬امل�صدر نف�سه‪ ،‬ج‪� ،3‬ص‪.301‬‬
‫‪  .4‬امل�صدر نف�سه‪ ،‬ج‪� ،3‬ص‪.303‬‬
‫‪  .5‬ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات‪ ،‬م‪� ،‬س‪ ،‬ج‪� ،3‬ص‪.303‬‬
‫‪  .6‬حاج حمد‪ ،‬العاملية الإ�سالمية الثانية‪ ،‬م‪� ،‬س‪ ،‬ج‪� ،1‬ص‪.55‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر‬ ‫‪42‬‬

‫و�إن كان طابع املخرج الذي ارت�ضاه يف الت�أويل ل�سانيا‪ ،‬لكن لو ا�ستثمر مع ال�ضوابط التي و�ضع‬
‫ال�شاطبي للتف�سري الإ�شاري؛ رمبا يكون متهيدا لبناء ن�سق منهاجي موحد يف نوع ذلك التف�سري‬
‫للقر�آن يف الع�صر احلا�ضر خا�صة‪.‬‬
‫فهذه �أمثلة اقت�ضتها خ�صو�صية املو�ضع دون ا�ستيعاب؛ كراهة للتطويل‪ .‬وباهلل التوفيق‪.‬‬

‫خامتة‬
‫تن�ضح مدونات �أبي �إ�سحاق ال�شاطبي بزخم تدافعي من الكليات؛ نظرا الختالف طبيعتها‬
‫َ‬
‫وظائف يف العلم جتديدا وتكميال‪ ،‬ت�صنيفا‬ ‫املعرفية ووظيفتها املنهجية التي لزمت عنها لت�أدية‬
‫وترتيبا‪ .‬وقد وفق �إىل حد ال ي�ستهان به يف بث ذخائر نفي�سة من �أنواعها يف �سياق الت�أ�صيل لقواعد‬
‫الفن؛ اعتربت عنده قوانني لت�شكيل نظرية يف املعرفة وفق منظومة الت�صور الكلي يف الإ�صالح‪،‬‬
‫والإ�شادة مببد�أ التكامل املعريف‪ ،‬القا�ضي بتذويب اجلزئيات اخلالفية و�إعادة ت�صنيفها‪ ،‬لتجري‬
‫على َ�سنن �أمهاتها من الكليات يف �إثمار معرفة متوازنة؛ تلوح فيها �أهم املقا�صد العليا لل�شريعة‬
‫الإ�سالمية يف جتلياتها احل�ضارية وت�ضفي عليها م�سح ًة من �سراج جمالها‪ .‬ذلك ما حاولت طرقه‬
‫هذه اجلولة ال�سريعة مع �شيخ املقا�صد وميكن تلخي�ص ق�ضيتها يف �أ�صول هي‪:‬‬
‫ـ نظرية تكامل العلوم ال�شرعية و�أثرها يف جتديد زاوية النظر �إىل مطالب تلك العلوم و�إعادة‬
‫ت�صنيفها حتى تغدو خادمة لأ�صلها الوحي الإلهي يف بعده الن�صي �أوال‪ ،‬ثم يف جتلياته الوجودية‬
‫واحل�ضارية ثانيا‪..‬‬
‫ـ البحث عن الن�سق اجلمايل يف العلوم ال�شرعية من خالل علم الأ�صول‪ ،‬ببيان القنوات‬
‫احلاملة لنظرية اجلمال التعبدي يف مباحثه‪ .‬ولعل دمج ال�شاطبي فقه الظاهر بفقه الباطن كان‬
‫�أجنع م�سلك منهجي يلوح ب�إمكانية توفر تلك القنوات �أو على الأقل البحث عن دررها املدفونة يف‬
‫�صدف العلوم‪..‬‬
‫ـ بيان مركزية كل من الكون والكائنات وكليات الوحي يف جتديد قنوات العلم عند �إمام‬
‫غرناطة‪ ،‬باعتبار �أن الأول معادال مو�ضوعيا للثاين ومر�آة عاك�سة مل�ضامينه ي�ستحيل يف منطق‬
‫النظر ال�سليم والنقل ال�صحيح التفريق بينهما �إبان �أي حماولة لت�أ�صيل املعرفة �أو جتديدها‪.‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬

You might also like