Professional Documents
Culture Documents
مقاصد الشريعة وأثرها في استنباط الأحكام
مقاصد الشريعة وأثرها في استنباط الأحكام
إعداد
د .محمد الطاهر الميساوي
د .نعمان جغيم
(الجامعة اإلسالمية العالمية بماليزيا)
تقديم
من المعلوم الثابت عند أهل التحقيق أن البحث عن المب ادئ العام ة الناظم ة
لنصوص الشريعة في أص ولها وفص ولها والمقاص د الكلي ة المن وط تحقيقه ا
بالأحكام الشرعية في جزئياتها وفروعها ليس أمرًا مس تحدثًا ط رأ م ع تك ون
المذاهب الفقهية وتمايزها أو نشأ مع ظهور علم أصول الفق ه وتكامل ه منهج ًا
يهدي عمل الفقي ه المجته د في اس تنباط الأحك ام من أدلته ا ثم تنزيله ا على
الوقائع وتكييف أوضاع المكلفين طبقًا لمقتضياتها .وإنما ك ان ذل ك ص نيعًا
يضرب بجذوره في صميم العهد النبوي وجيل الصحابة الذين تلقوه عن الرسول
صلوات الله وسلامه عليه ،أخذًا فيه بتوجيهات القرآن الكريم تصريحًا وتنبيه ًا
وإيحاًء بم ا ي دل على حكم ة التنزي ل وخل و الش ريعة عن العبث وبع دها عن
التحكم ،وكون أحكامها إنما ُوضعت لمصلحة العباد في المعاش والمعاد.
وإذا ك ان ه ذا البحث لم يتخ ذ في ذل ك العص ر لغ ًة فني ة خاص ة أو
مصطلحات علمية متميزة ،فإن ذلك أمر طبيعي في نمو الفكر اإلنس اني ،ح تى
وإن استند في قضاياه ومقوالته ومسائله واستدالالته إلى مرجعي ة ال وحي .ثم
إن جيل الصحابة ،الذين شهدوا تنزل الوحي وتلقوا هديه على ي دي الرس ول
تربية لهم منه وتعليمًا وإرشادًا ،قد ُأشرَب أك ثُرهم -وخاص ة َمْن ُعرف وا
باالجتهاد والفت وى منهم -ال روَح الكلي ال ذي يس ري في نص وص الش ريعة
والمعاِنَي الكليَة التي تنضوي تحتها جزئياُتها واألص وَل العام ة ال تي تنتظم
فروَعها ،وذلك بضرب من الفهم االرتكازي الذي تولد ل ديهم بفض ل اإلش عاع
الروحي والفكري المباشر لوجود صاحب الرسالة في حياتهم وبيئتهم 1.واآلثار
المروية عن أئم ة الفت وى واالجته اد من الص حابة ومن أخ ذ عنهم من جي ل
التابعين طافحة بشواهد سيرهم على نهج البحث عن مقاصد الشريعة والتبص ر
بمناسبات المصالح واعتباره ا عن د اس تنباط األحك ام وإجرائه ا على الوق ائع
2
والنوازل التي تعرض لهم.
1انظر في هذا المعنى محمد باقر الصدر :المجموعة الكاملة لمؤلفات السيد محمد باقر
الصدر ،ج :13المدرسة القرآنية ،السنن التاريخية في القرآن (بيروت :دار التعارف
للمطبوعات ،)1410/1990 ،ص.40-39
2راجع ما ساقه بهذا الشأن الشيخ محمد مصطفى شلبي في كتابه تعليل األحكام (بيروت:
دار النهضة العربية ،)1981 ،ص.93-35
وم ا أن اس تقامت لم ذاهب التفق ه واالجته اد مبانيه ا واس توت مناهجه ا
ومسالك النظر لديها ،وما أن تمايزت أعالمه ا واس تقرت م داركها من خالل
نضوج علم أصول الفقه مجاًال مستقًّال في الفك ر التش ريعي اإلس المي ،ح تى
صارت لموضوع مقاصد الشريعة مصطلحاٌت تخصه وألف اظ تع رب عن ه ،وإن
كان ذلك قد تم على نحو متدرج ع بر ت راكم الجه ود العلمي ة لطائف ة من
العلماء النظار المحققين خالل مدة غير يسيرة من الزمن .وقد ك انت أنظ ار
الفقهاء ومناظرات األصوليين في مسألة التعلي ل وم ا ارتب ط به ا من تأس يس
لمشروعية القياس هي السياق الذي تبَّلرت فيه مقول ُة المقاص د تعب يرًا عن
غائية األحكام الشرعية ،كما كان مفهوم المص لحة المح ور أو قطب ال رحى
الذي دارت عليه تلك األنظار والمناظرات.
وإذا كان لمقولة مقاصِد الشريعة بهذا المقام ،اتصالًا قوّيًا بمس ألة التعلي ل
وارتباطًا متينًا بموضوع المصلحة ،بل انبثاقًا منهما ،فح رٌّي أن يك ون له ا من
الاعتبار في الاجتهاد استنباطًا للأحكام من أدلتها وتطبيقًا لها في الواقع ما يناسب
ذلكم المقام .ولقد تفاوتت تقري راُت العلم اء في اعتب ار مقاص د الش ريعة في
الاجتهاد وتباينت أقواُلهم في ضبط مدى ذلك الاعتب ار وص وره ،وإنم ا يرج ع
اختلاُفهم هذا إلى نظرتهم إلى مكانة المقاص د الش رعية من علم أص ول الفق ه
وعلاقتها بمباحثه ومسائله المختلفة .وسيسعى هذا البحث إلى تن اول الموض وع
من هذه الزاوي ة عملًا على تجلي ة وظيف ة المقاص د من حيث تفعي ل مس الك
الاجتهاد والفتوى وتوسيع مدارك المجته د والمف تي في التعام ل م ع الأقض ية
والنوازل التي تطرأ في أبعادها المختلفة على مستوى الفرد والمجتمع.
ولما كان موضوع المصلحة هو المحور الذي دارت حوله الأنظ ار في قض ية
التعليل مثلما هو قوام مقولة المقاصد ،فق د رأى الباحث ان ض رورة التوس ع في
مناقشته واستقصاء القول فيه ،مع الح رص على ع دم التوغ ل في مس الك م ا
ارتبط به وتفرع عن الجدل حوله من مصطلحات إلا في حدود م ا دعت الحاج ة
إليه لتوضيح الأطروحة التي سعى البحث إلى بيانها .وبعبارة أخرى ،إن ما ح اول
الكاتبان تفصيل القول فيه في المبحث الأول من هذه الدراس ة إنم ا ه و تأص يل
وتأسيس لما جاء في المباحث التالية له.
تعليل األحكام والبحث عن معقولية التشريع ومقاصده
2
ليس من غرض هذا المبحث استقصاُء كالم العلماء في مسألة التعليل ،كما
ليس من غايته حصُر تعريفاتهم للعلة وال سرد ما قرروه لها من ش روط وم ا
ضبطوه بشأنها من قوداح ،فذلك أمر قد تكفلت بتفصيل القول في ه المؤلف ات
األصولية قديمًا وح ديثًا بم ا ال مزي د علي ه ،إال أن يك ون على س بيل إع ادة
التركيب نظمًا لما ُوضع لها من مصطلحات وما صيغ بش أنها من مف اهيم في
نسق نظري متسق البناء متواشج العناصر .وإذا كان علم أصول الفق ه – كم ا
هو معلوم – قد تأثر بالمقوالت الكالمي ة للم ذهب العق دي ال ذي ينتمي إلي ه
المؤلفون فيه ،بحيث "كان من الضرورة أن يقع التصنيف في ه ذا الب اب على
اعتقاد مصِّنف الكتاب" كما قال السمرقندي 3،فإن ذلك التأثير ق د نجم عن ه
غيُر قليل من التشويش والبلبلة في صياغة المفاهيم المرتبطة بمبحث التعلي ل
وما يضاهيه اضطرابًا في وضع المصطلحات المعبرة عنها.
ولم يكن مظهر ذلك التشويش والاضطراب قاصرًا على التخالف بين المدارس
الكلامية أو التباين بين أصحاب المدرسة الكلامية الواحدة ،وإنم ا نج ده ك ذلك
جلّيًا على مستوى ذات العالم الفرد من علماء المدرسة الكلامية ذاتها ،وخاص ة من
الأشاعرة .حتى إننا نج د بعض هم ينفي في كتب ه في علم الكلام م ا يق رره في
مؤلفاته في علم أصول الفقه! وليس من س بب ل ذلك إلا المماحك ات المذهبي ة
والإلزامات المتبادلة وطرد الأصول في المناظرة ،كم ا ه و الأم ر في خص وص
الأشاعرة والمعتزلة ،كما بين الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور عليه رحم ة الل ه.
ذلك أن "الأشاعرة لما أنكروا وجوَب فعل الصلاح والأصلح وأورد عليهم المعتزلة
أو قدروا هم في أنفسهم أن ُيوَرَد عليهم أن الله تعالى لا يفعل ش يئًا إلا لغ رض
وحكمة ولا تكون الأغراض إلا المصالح ،فالتزموا أن أفع ال الل ه تع الى لا ُتن اُط
بالأغراض ولا ُيعَّبر عنها بالعلل" ،وهم قد التزموا ذلك على الرغم من تسليمهم
بأن "أفعال الله تعالى لا تخلو عن الثمرة والحكمة"! وإذا كان الأمر كذلك فإنا
4
لنتساءل عن "الحرج الذي نظروا إليه حين منعوا تعليل أفعال الله وأغراضها".
3السمرقندي ،عالء الدين أبو بكر محمد بن أحمد :ميزان األصول في نتائج العقول،
تحقيق محمد زكي عبد البر (القاهرة :مكتبة دار االتراث ،)1418/1997 ،ص.2
4ابن عاشور ،محمد الطاهر :تفسير التحرير والتنوير (تونس :دار سحنون للنشر
والتوزيع ،)1997 ،ج ،1ص .381-380هذا وقد ناقش ابن عاشور االعتراضات التي
أوردها اإلمام الرازي على نهج األشاعرة ضد القول بتعليل أفعال اهلل تعالى (بما في ذلك
أحكام الشريعة) ،مبينًا عدم انتهاضها على أصل راسخ ،ومبينًا كذلك أن القول بالتعليل
3
الشرع والفطرة والعقل
وأّيًا ما كان الأمر فقد كان من نتائج الغبار الذي أثارت ه تل ك المن اظرات
والإلزامات أن جانب المنخرطون فيها نهج القرآن الصريح وطريق الس نة اللاحب
القائمين على التعليل وربط الأحكام بأس باب وأوص اف وعل ل ت دل بص ورة أو
بأخرى من صور الدلالة على ما تنطوي عليه تلك الأحكام من ِحكم وما يناس بها
من مقاصد تدور كلها حول م ا في ه ص لاح الخل ق جلب ًا للمص لحة أو دفع ًا
للمفسدة أو كلاهما في آن واحد .وليس ذلك الربط قائمًا على مجرد الاعتباط
والتحكم بحيث يقال إن الأعيان أو الأفعال التي تعلق بها الأمر أو النهي أو استندت
إليها الإباحة خلٌو من صفات حسن وصلاح أو أحوال قبح وفساد إم ا في ذاته ا أو
بسبب حيثياتها ومقارناتها ،وإنها إنما تصير حسنة أو قبيحة بسبب تعل ق خط اب
الشارع بها ،فذلك أمر لا تخفى مجافاته لما ق ام علي ه أس لوب الق رآن الك ريم
ومسلك الرسول عليه أفضل الصلاة وأزكى التس ليم من اعت داد بالعق ل ال ذي
أودعه الله في الإنسان ومراعاة للفطرة التي فطر الناَس عليه ا ،وم ا ج رى ب ه
نهجهما من تعليل لما سيق فيهما من أوامر ونواه ،بل وما جاء فيهم ا من وص ف
5
لأحداث ووقائع وظواهر إنسانية وتاريخية وكونية.
وكما قرر الإمام ابن تيمية بحق ،ف إن َمْن ينك ر أن للأفع ال ص فاٍت ذاتي ًة
مدعيًا أن الفعل إنما يحسن ويقبح لمجرد تعلق الأمر الشرعي به ،وأن لا أس اَس
ال يخدش في تنزيه اهلل تعالى وال في كماله سبحانه .هذا ومن المفارقات العجيبة التي
نبه عليها بعض الكتاب أن بعض المدارس التي آمنت في مجال علم الكالم بمبدأ الحكمة
والغائية وأكدت قدرة العقل على إدراك مظاهر الحكمة ووجوه المصلحة في الفعل
اإللهي ،نفت ذلك بخصوص األحكام الشرعية فلم يظهر في فقهها التنظير للمقاصد ،بينما
بعض المدارس التي نفت التعليل والغرض عن أفعال اهلل تعالى ،قالت بذلك في شأن أحكام
الشريعة بما مهد لها السبيل للقول بالمقاصد( .انظر محمد ،يحيى" :نظرية المقاصد
والواقع" ،مجلة قضايا إسالمية معاصرة ،العدد ،1420/1999 ،8ص.)141-137
ويمكن أن نضيف إلى هذه المفارقة مفارقة أخرى ،وهي أن بعض المذاهب الفقهية التي
توسعت في اعتبار المصلحة وعولت في سبيل ذلك على جملة من القواعد واألصول،
كاالستحسان (الحنفية والمالكية) والمصلحة المرسلة واعتبار الذرائع (المالكية) ،لم
ينشأ عندها القول بالمقاصد تنظيرًا وتأصيًال ،في حين أن من رّد تلك القواعد واألصول
في تنظيراتهم األصولية ،وهم الشافعية ،هم الذين كانت لهم الريادة في التنظير
للمقاصد.
5انظر دراسة موسعة وشاملة في هذا الصدد في الجنابي ،يونس عبد مرزوك :أسلوب
التعليل وطرائقه في القرآن الكريم (بيروت :دار المدار اإلسالمي ،ط.)2004 ،1
4
لتعلق أحكام الشريعة سوى خطاب الشارع ،فإنه في الحقيقة ينكر ما ق امت علي ه
الشريعُة من مراعاة للمصالح والمفاسد واعتبار للمعروف والمنكر مما يدرك ه
الناُس بعقولهم التي ركبها الله فيهم ،ومن ثم فهو منِكٌر ليس فقط للمناس بات
بين الأحكام وعللها ،بل لأساس الفهم الصحيح للشريعة وإدراك ما قامت علي ه من
6
حكمة وما اتسمت به من محاسن وما وضعت لأجله من مقاصد.
وإذا كان اإلسالم ديَن الفطرة كما يقرر القرآن نفسه ،فإن ذل ك ال يع ني
فقط أن اإلنسان قد ُخلق على هيئة معينة بحيث ي درك أن ل ه خالق ًا أوج ده
فيسوقه ذلك اإلدراك إلى التوجه نحوه والسعي لعبادته (كما قرر ذل ك ع دد
من المفسرين كابن عطية والزمخشري وال رازي) ،ويك ون التوحي د ب ذلك
أمرًا مركوزًا في فطرة اإلنسان وطبيعته ،وإنما يعني أيضًا "أن األصول ال تي
جاء بها اإلس الم هي من الفط رة ،ثم تتبعه ا أص ول وف روع هي من الفض ائل
الذائعة المقبوله ،فجاء بها اإلسالم وحرض عليه ا؛ إذ هي من الع ادات الص الحة
المتأصلة في البشر ،والناشئة عن مقاص د من الخ ير س المة من الض رر ،فهي
راجعة إلى أصول الفطرة 7".وبعبارة أخرى فإن "أصول البر واإلثم وكلياتها"
هي الفطرة ،وهي "الدين الذي ال يتغير بتغير األعصار 8".ولو أن العلماء الذين
تناظروا في مسألة التعليل وذهبوا فيها مذاهب شتى ينفي بعضها بعضًا وينقض
الواحد منها ما ينسجه اآلخر ،وق رروا بش أنها أق واًال تتج افى وروَح الق رآن
ونهجه وُتناِكُب سبيَل السنة ومسلكها ،انتبهوا إلى ما أسسه اإلس الم من ه ذه
العروة الوثقى بين مقررات الشرع وأحكامه من جهة وطبيعة الخلق وم ا فط ر
اهلل عليه اإلنسان من عق ل من جه ة أخ رىَ ،لَم ا ورط وا فيم ا ورط وا في ه،
فالشريعة أمر اهلل وقدره الشرعي والفطرة خلق اهلل وق دره الك وني ،ال تب ديل
6ابن تيمية ،شيخ اإلسالم أحمد بن عبد الحليم :مجموع الفتاوى ،جمع وترتيب عبد
الرحمن بن قاسم النجدي (المملكة العربية السعودية :اإلدارة العامة لشؤون الحرمين،
بدون تاريخ) ج ،11ص( 154بتصرف) .وانظر كذلك له القياس في الشرع اإلسالمي
(بيروت :دار اآلفاق الجديدة ،)1402/1982 ،ص .64
7ابن عاشور ،محمد الطاهر :مقاصد الشريعة الإسلامية ،تحقيق محمد الطاهر الميساوي
(عمان :دار النفائس،ط ،)1421/2001 ،2ص.264
8الدهلوي ،شاه ولي اهلل ابن عبد الرحيم :حجة اهلل البالغة ،تعليق محمد شريف سكر
(بيروت :دار إحياء العلوم ،ط ،)1413/1992 ،2ج ،1ص( 85ولعل الصحيح:
وكلياتهما باإلضافة إلى البر واإلثم).
5
لخلق اهلل وال معقب على حكمه .وبناًء على ذلك يمكن القول مع القاض ي عب د
الجبار بأن "كَّل ما على المكلف فعُله أو ترك ه ق د رَّكب اهلل ُجَمَل ُه في
العقول ،وإنما ال يكون في قوة العقول التنبي ُه على تفاص يلها ،س واء ك ان في
أمور الدين أو في أمور المعاش ومنافع الن اس ،وس واء ك ان ال ديني من ب اب
العقليات أو الشرعيات" ،وب ذلك تك ون التك اليف ال تي ج اءت به ا الش ريعة
9
"مطابقًة للعقول ،وكذلك أحوال المعامالت وم ا يتص ل بالض ر والنف ع".
وحيث تقررت في العقول تلك األصول والجمُل والكليات التي بها قوام الفطرة
التي فطر اهلل اإلنسان عليها ،فإن الش ريعة اإلس المية ج اءت ت دعو الن اس إلى
تقويم الفطرة والحفاظ على مظاهر صالحها وإحياء ما اندرس منها وتخليصها
10
مما غلث بها من الرعونات واألحوال الفاسدة في الفكر واالعتقاد والعمل.
ونحسب أن أولئك النفر من األصوليين الذين استقام لهم األمر فنطروا إلى
األحكام الشرعية من زاوية ما أنيط بها من ِحَكٍم ُقِصَد بها استص الُح الخل ق
في معاشهم ومعادهم ،إنما كانوا يصدرون عن إدراك لهذا األصل األصيل ال ذي
به يتقوم خلوُد الشريعة ويتأسس شمول أحكامها لكل البشر وتتأيد ص لوحيتها
لكل األوضاع واألحوال .فإمام الحرمين الجويني الذي وضع الصياغة النظري ة
األولى لمقاصد الشريعة عند حديثه عن "تقاس يم العل ل واألص ول" 11يزخ ز
برهانه -وخاصة الجزء الثاني منه -بالكالم على محاسن الش ريعة ومراش دها
وما تنطوي عليه أحكامها من حكم ،كما تكثر في ه اإلش ارات إلى م ا ك ان من
9القاضي عبد الجبار :المحيط بالتكليف (جمع الحسين بن أحمد بن متويه) ،تحقيق عمر
السيد عزمي (القاهرة :الدار المصرية للتأليف والترجمة ،د .ت ،).ص.32-31
10ابن عاشور :مقاصد الشريعة اإلسالمية ،ص .265-263
11الجويني ،إمام الخرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد اهلل بن يوسف :البرهان في
أصول الفقه ،تحقيق عبد العظيم الديب (المنصورة (مصر) :دار الوفاء،)1412/1992 ،
ج ،2ص .626-602وقد صنف الجويني علل األحكام على حسب ما ارتبط بها من مصالح
شرعت األحكام ألجل تحقيقها إلى خمسة أقسام اعتبرها هي األصول التي قامت عليها
الشريعة :األول "ما ُيعقُل معناه وهو أصل ،ويئول المعنى المعقول منه إلى أمر ضروري
ال بد منه مع تقرير غاية اإليالة الكلية والسياسة العامية" ،والثاني "ما يتعلق بالحاجة
العامة ،وال ينتهي إلى حد الضرورة" ،والثالث "ما ال يتعلق بضرورة حاقة وال حاجة عامة،
ولكنه يلوح فيه غرض في جلب مكرمة أو نفي نقيض لها" ،والرابع "ما ال يستند إلى
حاجة وال ضرورة ،وتحصيل المقصود فيه مندوب إليه تصريحًا ابتداء" ،والخامس "ما ال
يلوح فيه للمستنبط معنى أصًال وال مقتضى من ضرورة أو حاجة أو استحثاث على
مكرمة".
6
مسلك الصحابة في توخي مناسبات األحكام وإن كان ذلك بظن غ الب ال يقين
قاطع ،سيرًا منهم في ذلك على نهج الشريعة وسياستها في استص الح الخل ق.
وعلى المنوال ذاته نسج اإلمام عز الدين بن عبد السالم في قواعده حيث قرر أن
"االعتماد في جلب مصالح ال دارين ودرء مفاس دهما ُيْبَنى في األغلب على م ا
يظهر في الظنون" ،مؤكدًا "أن تقديم األصلح فاألصلح ودرء األفس د فاألفس د
مركوٌز في طباع العباد ،نظرًا منهم من رب األرباب" 12.بل إن الفقيه الشافعي
األشعري ال يتردد أن يق رر مقول ة طالم ا ُش ِّنع به ا على الق ائلين به ا من
المعتزل ة ،فيؤك د أن "معظم مص الح ال دنيا ومفاس دها معروف ة بالعق ل،
وك ذلك معظم الش رائع ،إذ ال يخفى على عاق ل – قب ل ورود الش رع – أن
تحصيل المصالح المحضة ،ودرء المفاسد المحضة عن نفس اإلنسان وعن غ يره
محمود حسن ،وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن ،وأن درء أفسد
المفاسد فأفسدها محمود حس ن ،وأن تق ديم المص الح الراجح ة إلى المفاس د
المرجوحة محمود حسن ،وأن درء المفاسد الراجحة على المص الح المرجوح ة
13
محمود حسن".
ونحن إذا أمعنا النظر في خطاب ات الق رآن الك ريم أم رًا ونهي ًا وتوجيه ًا
وإرشادًا ،وإذا ما سبرنا الأحكام في مواردها وسياقاتها المختلفة تحصحص ل دينا
أن "العبرة في المشروعية وعدمها بما يتضمنه الفع ُل من الص لاح والفس اد ،ولا
عبرة بصورته ومظهره" 14،والأمر نفسه يصدق على السنة النبوية على ص احبها
الصلاة والسلام 15.ولنا أن نتمثل لهذا الأصل بما جاء في شأن الخمر والميسر في
قوله سبحانهَ :يْس َأُلوَنَك َعِن اْلَخْم ِر َواْلَمْيِس ِر ُق ْل ِفيِهَم ا ِإْثٌم
َكِبيٌر َوَمَناِفُع ِللَّناِس َوِإْثُمُهَما َأْكَبُر ِمن َّنْفِعِهَما( البقرة219 :
) ،وقوله عز وجلِ :إَّنَما ُيِريُد الَّشْيَطاُن َأن ُيوِق َع َبْيَنُكُم اْلَع َداَوَة
12ابن عبد السالم ،عز الدين عبد العزيز :القواعد الكبرى الموسوم بقواعد األحكام في
مصالح األنام ،تحقيق نزيه كمال حماد وغثمان جمعة ضميرية (دمشق :دار القلم،
،)1421/2000ج ،1ص 6و.9
13المرجع نفسه ،ص ( 8-7والتسويد من عندنا).
14شلتوت ،محمود :تفسير القرآن الكريم (القاهرة :دار الشروق ،ط،)1424/2004 ،12
ص .428
15انظر للمزيد من التفصيل في خصوص ربط القرآن والسنة األحكام بما يترتب على
الفعل من مصلحة أو مفسدة شلبي ،محمد مصطفى :تعليل األحكام ،ص.34-14
7
َواْلَبْغَضاء ِفي اْلَخْمِر َواْلَمْيِسِر َوَيُصَّدُكْم َعن ِذْك ِر الّل ِه َوَعِن
الَّصلَاِة َفَهْل َأنُتم ُّمنَتُهوَن( المائدة .)91 :ففي الآية الأولى مقابل ٌة بين
الإثم الذي ُيوقع فيه تعاطي الخمر والميسر والمنافع التي تتأتى منه ،بم ا يفي د
تقديرًا واقعّيًا لهما لا ينكر ما فيهما من منافع كاللذة والفرح وهض م الطع ام
وتشجيع الجبان وتسخية البخيل والتجارة وربح للمال ،إلخ .ولكن تلك المن افع
مرجوحة بمفاسد أكبر أكدت الآيُة الأولى رجحاَنها وتولت الآيُة الثانية بياَنها
وتلخيصها في أصلين كليين جامعين هما فساُد العلاقات الشخصية والاجتماعي ة
بين الناس ،وتنكُبهم سواء السبيل في الصلة مع خالقهم وم ولاهم .وفي الآي تين
تنبيٌه وتوجي ه للعق ول إلى اس تجلاء تفاص يل تل ك المفاس د ب النظر العلمي
16
المسَّدد والبحث المنهجي المؤيد.
وتأصيًال لما نحاول االس تدالل علي ه في ه ذا المبحث ق ال الش يخ محم د
الطاهر ابن عاشور كالمًا ناصعًا في سياق تفسيره لآلي ة األولى من المناس ب
جلبه هنا .قال" :فإن قلت :ما الوجه في ذكر من افع الخم ر والميس ر م ع أن
سياق التحريم والتمهيد إليه يقتضي تناسي المنافع؟ قلت :إن كانت اآلية نازلة
لتحريم الخمر والميسر فالفائدة في ذكر المن افع هي بي ان حكم ة التش ريع
ليعتاد المسلمون مراعاة علل األشياء؛ ألن اهلل جعل هذا الدين دينًا دائمًا وأودعه
أمة أراد أن يكون منها مشرعون لمختِلف ومتج ِّدِد الح وادث ،فل ذلك أش ار
لعلل األحكام في غير موضع كقوله تعالىَ :أُيِحُّب َأَحُدُكْم َأن َيْأُك َل
َلْحَم َأِخيِه َمْيتاً[ الحجرات ]12 :ونحو ذلك ،وتخصيص التنص يص على
العلل ببعض األحكام في بعض اآليات إنما هو في مواضع خفاء العلل ،فإن الخم ر
قد اشتهر بينهم نفُعها ،والميسَر قد اتخذوه ذريعة لنفع الفقراء فوجب بياُن ما
فيهما من المفاسد إنباًء بحكمة التحريم .وفائدة أخرى وهي ت أنيس المكَّلفين
عند فطامهم عن أكبر لذائذهم تذكيرًا لهم ب أن ربهم ال يري د إال ص الَحهم
17
دون نكايتهم".
16انظر تفصيل هذه المعاني في األلوسي البغدادي ،أبو الفضل شهاب الدين محمود :روح
المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ،تحقيق محمد أحمد األمد وعمر عبد
السالم السالمي (بيروت :دار إحياء التراث العربي ومؤسسة التاريخ العربي،
،)1420/1999ج ،2-1ص 695-690وج ،8-7ص24-23؛ ابن عاشور :تفسير
التحرير والتنوير ،ج ،2ص ،350-339وج ،4ص ،7ص.30-21
17ابن عاشور :تفسير التحرير والتنوير ،ج.350 ،2
8
وإذا كان مما احتج به األصوليون قديمًا لحجية القي اس والحاج ة إلي ه أن
النصوص الشرعية ال تحيط بأحكام جميع الحوادث ألنها متناهية والحوادث غير
متناهية 18،فإن ابن عاشور ينبهنا إلى ناحي ة أخ رى تتأي د من خالله ا مس ألة
التعليل بوصفها األساس الذي بدونه ال يقوم القياس أصال .وقد ج اء ذل ك في
سياق بحثة في مقصد الشريعة من تجنب التفريع في عهد التش ريع حيث ق ال:
"ق د تتبعت تفري ع الش ريعة في زمن الرس ول فوج دت معظم ه في أحك ام
العبادات ،حتى إنك لتجد أبواب العبادات في مصنفات الس نة هي الج زء األعظم
من التصنيف ،بخالف أبواب المعامالت ،وذلك ألن العبادات مبني ة على مقاص د
قارة فال حرج في دوامها ولزومها لألمم والعصور إال في أح وال ن ادرة ت دخل
تحت حكم الرخصة .فأما المع امالت فبحاج ة إلى اختالف تفاريعه ا ب اختالف
األحوال والعصور ،فالحمل فيها على حكم ال يتغير حرٌج عظيم على كث ير من
طبقات األمة .ولذلك كان دخ ول القي اس في العب ادات قليًال ن ادرًا ،وك ان
معظمه داخًال في المعامالت .ولذلك نجد أحكام المعامالت في الق رآن غالب ًا
19
مسوقًا بصفة كلية".
العلة والحكمة والمناسبة أو البحث عن المبدأ الموِّح د
ودون الاسترسال في سرد مث ل ه ذه التقري رات ،إذ يكفي م ا س بق تأيي دًا
وتأكيدًا لما قصدنا الاحتجاج ل ه ،فإن ه من المناس ب هن ا أن نق ف عن د بعض
الجوانب المفهومية والمنهجي ة المتص لة بالعل ة في ال درس الأص ولي نظ رًا
لأهميتها الخاصة لبحثنا هذا ،كونها السياق ال ذي ب رز في ه التنظ ير لمقاص د
الش ريعة واتض حت من خلال ه أبعاده ا ،وتكام ل في إط اره مفه وم المص لحة
وتم ايزت أقس امها وأنواعه ا .ش مل درس الأص وليين في العل ة مس ائل ع دة،
فتناولوها من حبث ما به تحققها ،ومن حيث تعريفها وأقسامها ،كم ا تناولوه ا
من حيث شروطها ومسالكها ،ومن حيث نواقضها وقوادحها ،كم ا تج ادلوا فيم ا
هو المعَّلل أهو العين التي تعلق بها الحكم أم الحكم نفسه ،إلخ 20.وق د تن وعت
18الزركشي ،بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد اهلل :البحر المحيط في أصول الفقه،
تحقيق محمد محمد تامر (بيروت :دار الكتب العلمية ،)1421/2000 ،ج ،4ص.23
19ابن عاشور :مقاصد الشريعة الإسلامية ،ص.404 -403
20راجع الدراسة الرائدة الشاملة والمفصلة لكل هذه الجوانب في السعدي ،عبد الحكيم غبد
الرحمن :مباحث العلة عند األصوليين (بيروت :دار البشائر اإلسالمية ،ط،2
.)1421/2000
9
الألفاُظ التي استخدموها في التعبير عنها تبعًا لاختلاف الزاوية التي ُنِظَر منها
إلى ما ُيعُّد علة ،وتبعًا ك ذلك للاعتب ارات الكلامي ة ال تي وجهت تعريف اِت
العلماء لها .ومن المسائل التي نريد أن نصوب عليها النظر هنا مس ألتان :الأولى
مسألة العلاقة بين مصطلحي العلة والحكمة والثاني ة مس ألة الوص ف المناس ب
والمناسبة بين الحكم وعلته .وقد حص رنا النظ ر في ه اتين المس ألتين؛ إذ إن
مقولة المقاصد إنما نبتت مصطلحًا ونضجت مفهومًا وتكاملت عناصر في خضم
جدل العلماء بخصوصهما.
ولنمِّهْد للمسألة الأولى بكلام للإمام أبي إسحاق الشيرازي جاء في ه أن عل ل
الشرع بعد أن جعلها الشارع عللًا "وجب طرُده ا وجرياُنه ا كالعل ل العقلي ة،
لأنه ا بع د جعله ا عل ة في اقتض اء الحكم بمنزل ة العل ل العقلي ة في جمي ع
الأزمان" 21،وبذلك فإن الخلاف في اقتضاء العلة الحكَم أه و بنفس ها من حيث
هي مؤثرة في معلولها أم بنصب ناصب وجعل جاعل "لا يعود إلى فائ دة ،وإنم ا
هو اختلاف في الاسم" 22.وتنبع أهمية هذا الكلام -فيما يل وح لن ا -من كون ه
يتضمن تنبيهًا إلى ضرورة تج اوز الج دل الكلامي ال ذي اس تغرق كث يرًا من
جهود الأصوليين تناظرًا حول إيج اب العل ل الش رعية وع دم إيجابه ا وس عيًا
للتمييز بينها وبين العلل العقلية ،من أجل تصويب النظر على م ا ت دل علي ه أو
تومئ إليه تلك العلل من ِحَكٍم ومصالح .ومهما يكن من أمر ،فإننا نس تطيع أن
نتبين في العبارات التي اس تخدمها علم اء الأص ول في تع ريفهم للعل ة بع دين
مهمين م ترابطين لا يس تقيم ب دونهما إدارك علي ة العل ة أو الوص ف للحكم
الشرعي :الأول هو ما يمكن أن نعتبره بع دًا خارجّي ًا أو ظ اهرًا لعل ة الحكم،
والثاني هو ما يمكن عده بعدًا داخلّيًا أو باطنًا لتل ك العل ة .وبعب ارة أخ رى،
هذان البعدان هما البعد الخاص بمظهر الحكم والبعد الخ اص بمض مونه .وق د
عبرت عن البعد الأول طائفٌة من الألفاظ مثل كون العلة معرفًا وس ببًا للحكم
21الشيرازي ،أبو إسحاق إبراهيم :شرح اللمع ،تحقيق عبد المجيد تركي (بيروت :دار الغرب
الإسلامي ،)1408/1988 ،ج ،2ص.790
22المرجع نفسه ،ج ،2ص.833
10
أو دليلًا وأمارة له وعلامة عليه 23،أما الثاني فق د اس تخدمت في التعب ير عن ه
24
جملة أخرى من الألفاظ مثل الباعث والداعي والحكمة.
ولتوضيح هذين البعدين دعنا ننظر في حكم القصاص معتمدين على ما قدمه
اإلمام الغزالي بشأنه من تحليل .فالقتل العمد ،وهو واقعة موضوعية ،هو األم ر
أو الحدث الخارجي الذي ُعِّلق به حكُم القصاص ،فهو األمارة أو العالم ة على
الحكم ،وهو كذلك سببه وال دليل علي ه ،وه و األم ر المقتض ي أو الم وجب
للقصاص ،فإذا لم يكن قتل ال يكون هناك قصاص .أما البعد الداخلي لعلية القتل
للقصاص ،أي الداعي لجعل القتل سببًا إليجاب القصاص ،فهو الزجر عن القت ل
"لما فيه من الفساد وفوات النف وس المقص ود بقاؤه ا .والحاج ة س ابقة على
السبب ،فصلحت ألن تكون علة باعثة عليه ،وال نعني بالحكمة والمع نى المخي ل
إال الباعث على شرع الحكم 25".ويمكن القول بعبارة أخرى إن حف ظ النف وس
هو العلة الغائية لشرع القصاص وهو المصلحة المقصودة به ،بينم ا القت ل ه و
علته السببية.
وإذن فالشريعة إنما ب نيت أحكامه ا على اعتب ار م ا ي ترتب عليه ا من حكم
ومصالح إذ هي -كما قرر الغزالي -الثمرة المطلوبة ،فالِحَكُم والمص الح في
الحقيقة هي عل ل للأحك ام في العلم والقص د وإن ت أخرت عنه ا في الحص ول
والوجود .إلا أن الأص وليين ق د اختلف وا في التعلي ل بالحكم ة به ذا المع نى،
23انظر في ذلك مثًال الجصاص ،أبو بكر أحمد بن علي :الفصول في األصول ،تحقيق
محمد محمد تامر (بيروت :دار الكتب العلمية ،)1420/2000 ،ج ،2ص 162و201؛
البصري ،أبو الحسين :المعتمد في أصول الفقه ،تحقيق محمد حديد اهلل وآخرين (دمشق:
المعهد الفرنسي بدمشق ،)1965 ،ج ،2ص 769-768و774-773؛ الباجي ،أبو الوليد:
إحكام الفصول في أحكام األصول ،تحقيق عبد المجيد تركي (بيروت :دار الغرب
اإلسالمي ،)1415/1995 ،ج ،2ص ،658الجويني :البرهان في أصول الفقه ،ج ،2ص
498و511؛ الطوفي ،نجم الدين أبو الربيع سليمان بن عبد القوي :شرح مختصر
الروضة ،تحقيق عبد اهلل بن عبد المحسن التركي (بيروت :مؤسسة الرسالة،
،)1410/1990ج .317-31 ،3وانظر السعدي :مباحث العلة ،ص 102-71و-145
.157
24شلبي :تعليل األحكام ،ص117؛ السعدي ،مباحث العلة ،ص .73
25الغزالي ،أبو حامد محمد بن محمد بن محمد :شفاء الغليل في بيان الشبه واْلُمخيل
ومسالك التعليل ،تعليق زكريا عميرات (بيروت :دار الكتب العلمية،)1420/1999 ،
ص 287؛ المستصفى من علم األصول ،تحقيق محمد سليمان األشقر (بيروت :مؤسسة
الرسالة ،)1417/1997 ،ج.350
11
فجمهورهم لم يعولوا على التعليل بها نظرًا لما قدروه فيها من عدم الانض باط،
أما الباقون فقد قالوا بالتعليل بالحكمة شريطة أن يتوافر فيه ا ش رطا الظه ور
والانضباط 26.ومع أننا ندرك حقيقة الدوافع التي حدت بأص حاب ال رأي الأول
من حيث أنها تنبع من حرص على الابتعاد في فهم أحكام الشريعة عن التق ديرات
الذاتية وغير الموضوعية التي قد تتحكم فيها الأهواء والرغبات الشخصية ،إلا أن
موقفهم يوشك أن يخضع فقَه الشريعة لنزعة ظاهري ة جام دة .أم ا أص حاب
الرأي الثاني فإن التكييف الذي جاؤوا به لاعتماد الحكمة في التعليل لا يبدو حلًّا
مناسبًا ومتماسكًا للمشكلة ،بل هو هروب منها وانكفاء على الج انب الظ اهر أو
الخارجي لعلية العلة كما سبق بيانه قبل قلي ل ،وب ذلك فه و لا يك اد يف ترق
كثيرًا عن الرأي الأول .وفي كلا الموقفين يك ون ق د حص ل إه دار لمفه وم
الحكمة وسد لما يفتحه من أبواب واسعة للتفقه في أحك ام الش ريعة وإجرائه ا
على الواقع .وربما كان الشعور بهذا الانسداد هو ال ذي حف ز العق ل الأص ولي
للبحث عن مخارج أخرى يتم من خلاله ا تج اوز حال ة التج اذب ال تي أدت إلى
الوقوع في مثل هذا المأزق .ونحسب أن فكرة المناسب والمناسبة كانت هي أحد
تلك المخارج بل كانت -فيما نحسب -المخرج الرئيس من ذلك الانسداد ،وإن
كانت هي الأخرى لم تسلم من جدال حولها ما فتئ أن انجلى عن تس الم بش أنها
عند غالب المتأخرين من الأصوليين.
يمكن إرجاع احتدام الجدل الأصولي المنهجي حول المناسبة إلى النصف الأول
من القرن الخامس الهجري ،وقد شاع في الاس تعمال لف ظ الإخال ة تعب يرًا عن
المفهوم نفسه ،وذلك في سياق مناقشتهم لمسالك العلة وط رق الكش ف عنه ا.
ودون الدخول في تفاصيل ذلك الجدل يحسن بنا الانطلاق من تعري ف الوص ف
المخيل أو المناسب الذي ساقه الفقيه والأصولي الحنفي أبو زيد الدبوسي والذي
مؤداه أنه الوصف الذي يوقع "في القلب خياَل القبول وأث َر الص حة 27".إلا أن
26اآلمدي ،سيف الدين أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد :اإلحكام في أصول األحكام،
تحقيق إبراهيم العجوز (بيروت :دار الكتب العلمية ،د.ت ،).ج ،2ص .107وفي ذلك عود
إلى العلة في بعدها الخارجي من حيث هي وصف لمحل الحكم ظاهر منضبط.
27الدبوسي ،أبو زيد عبد الله بن عمر :تقويم الأدلة في أصول الفقه ،تحقيق عدنان العلي
(صيدا/بيروت :المكتبة العصرية ،)1426/2006 ،ص .325هذا ومن الغريب أن العلماء
الذين تناقلوا تعريف الدبوسي بغرض نقضه والرد عليه لم يكونوا دقيقين في النقل ،فقد
أوردوه على النحو الآتي" :ما إذا عرض على العقول تلقته بالقبول" ،وقد استمر ذلك
12
الدبوسي الذي أورد هذا التعريف في معرض المناظرة مع الشافعية اعترض عليه
لما يتسم به من عنصر الذاتية وعدم الخضوع لمعايير موض وعية يمكن ال نزول
عندها عند الاستشكال؛ ذلك أن الإخالة -كما يق ول " -إش ارة إلى م ا يق ع في
القلب ،وما لا ُيطلع عليه ،فلا يصير حجًة على غيره" ،فضلًا عن أن "كَّل معِّلل
يمكنه أن يقول :وقع في قلبي خياُل ص حته (أي ص حة المخي ل أو المناس ب)،
فيصير معارضًا إياك ،وإنه من باب الإلهام وقد بينا في موضعه بطلاَن ذكره على
سبيل الاحتجاج به" 28.ويبدو أن هذا الاستشكال وذاك الاع تراض ك ان لهم ا من
قوة الإرباك والإحراج للشافعية ومن نح ا نح وهم م ا جع ل الغ زالي يستش عر
الحاجة للانتهاض لهما والرد عليهما ،فكان تأليفه كتاب "ش فاء الغلي ل في بي ان
الشبه والمخيل ومسالك التعليل" الذي احتل فيه بيان معنى المناسب والاستدلال
29
على مشروعية التعليل به الحيز الأكبر.
بعد الكلام على مسالك العل ة ال تي يعتم د في تحدي دها على البني ة النص ية
واللغوية لخطاب الشرع 30،انتقل الغزالي إلى المس الك العقلي ة وفي مق دمتها
المناسبة مذكرًا باعتراض الدبوسي عليه ا واش تراطه ض رورة إظه ار الت أثير
بالنص أو الإجماع .ولما كان مبنى ذلك الاع تراض ه و غي اب "المعي ار ال ذي
ُيعرف به كون المعنى مناسبًا إذا وقع فيه الشُّك للناظر أو التنازُع للمناِظر"،
سلك أبو حامد سبيل التفصيل فق ال" :المع اني المناس بة م ا نش ير إلى وج وه
المصالح وأماراتها ،وفي إطلاق المصلحة أيضًا نوُع إجمال؛ والمصلحة ترج ع إلى
جلب منفعة أو دفع مضرة ،والعبارة الحاوية لها أن المناسبة ترجع إلى رعاية أحر
مقصود .أما المقصود فينقسم إلى دي ني وإلى دني وي ،وك ل واح د ينقس م إلى
تحصيل وإبقاء ...وجميع أنواع المناسبات ترجع إلى رعاية المقاصد ،وم ا انف ك
عن رعاية أمر مقصود فليس مناسبًا ،وم ا أش ار إلى رعاي ة أم ر مقص ود فه و
المناسب 31".ويص وغ أب و حام د ه ذا التفص يل والتص وير اختص ارًا على نهج
التصحيف حتى العصر الحديث (انظر على سبيل المثال الغزالي ،والآمدي).
29نستشف الأثر الذي تركته انتقادات الدبوسي للإخالة من كلام الغزالي في المقدمة ،حيث
ذهب إلى حد تأكيد عدم ارتياحه إلى طريقة شيخه الجويني في تأييد هذا المفهوم والرد
على المخالفين لعدم وفائها بالغرض وكون الجواب غير مقنع عن اعتراضاتهم .الغزالي:
شفاء الغليل ،ص .9
30الغزالي :شفاء الغليل ،ص.71-16
31المرجع نفسه ،ص .80-79
13
التعريف فيقول في المستصفى" :المراد بالمناسب م ا ه و على منه اج المص الح،
بحيث إذا أضيف الحكم إليه انتظم 32".وإذا كانت المناسباُت راجع ًة إلى رعاي ة
المقاصد التي تتفاوت مراتُبها إذ منها ما يقع في محل الض رورات وم ا يق ع في
رتبة الحاجات وما يقع في رتبة التوسعة والتيسير ولكِّل رتبة من هاته الرتب م ا
تتمة وتكملة لها 33،فإن ما يقع في الرتبة العليا -الضرورات -كحف ظ النف وس
الذي "هو من ضرورة الخلق" ،أمر نجد "العقول مشيرة إلي ه وقاض ية ب ه ل ولا
ورود الشرائع؛ وهو الذي لا يجوز انفكاُك شرٍع عنه عند من يقول بتحسين العقل
وتقبيحه 34".وبناًء على ذلك فإن "كل مناسبة يرجع حاصلها إلى رعاية مقصود
يقع ذلك المقصود في رتبة يشير العقُل إلى حفظه ا ،ولا يس تغني العقلاُء عنه ا
35
فهو واقٌع في الرتبة القصوى من الظهور".
وبهذا التعريف لمعنى المناسب وتعيين رتبه وتحدي د مض امين تل ك ال رتب
يكون الغزالي قد وضع الإطار الأساسي الذي التزمه العلماء من بع ده في نظ رهم
في المناسبة .وإذا م ا اس تثنينا الع ز ابن عب د الس لام والط وفي 36وابن تيمي ة
والشاطبي الذين يمكن القول بأنه كان لهم مقاربات لموضوع المصلحة مختلف ة
عما سار عليه سائر علماء الأصول ،فإننا لا نكاد نجد في الدرس الأصولي َمْن خرج
عن هذا الإطار الذي رسمه الغزالي من خلال مناقش ته وتعريف ه للمناس بة أو من
أضاف إليه شيئًا ذا بال .إلا أننا واجدون مع ذلك لفت ات بارع ة وطريف ة -وإن
كانت مغمورة -عند كل من الرازي والط وفي بحيث يمكن الق ول إن المناس بة
عندهما قد تحولت إلى نظرية كلية تتجاوز المضمار المح دود لمبحث مس الك
14
العلة ،الأمر الذي يجعلها جديرة بالوقوف عندها وقف ة خاص ة .ولنب دأ ب الرازي
الذي لخص تعريفات من سبقوه للمناسب في تعريفين" :الأول أن ه ال ذي يفض ي
إلى ما يوافق الإنسان تحصيلًا وإبقاء" ،وأنه "قد يعبر عن التحصيل بجلب المنفعة،
وعن الإبقاء بدفع المضرة 37".أما التعريف الثاني فه و أن المناس ب ه و "الملائم
38
لأفعال العقلاء في العادات".
وقد بين الرازي أن التعريف الأول ه و "ق ول َمْن يعل ل أحك ام الل ه تع الى
بالحكم والمصالح" ،بينما "التعريف الثاني هو قول من يأباه 39".على أن ال رازي
يمضي في تفصيل الاعتبارات المختلفة التي ينظر على أساسها إلى المناسب وفقًا
للتعريف الأول ،فيذكر قسميه من حقيقي وإقناعي ،وأنواع ه من معت بر وملغى
ومرسل ،ومراتب الحقيقي من ضروري وحاجي وتحسيني .وتس توقفنا في ثناي ا
ذلك عبارٌة مهمة عنون بها الرازي الفن الثاني من الفصل ال ذي خصص ه للكلام
40
على المناسبة ،وهي قوله" :في إقامة الدلالة على أن المناسبة دالة على العلية"،
حيث أورد تحت هذا العنوان الشواهد القرآنية والأدلة العقلية على ك ون أحك ام
الشريعة إنما وضعت لمصلحة الخلق 41.ثم يطوى البحث الخاص بمسالك العل ة
ويبقى العقل متطلعًا إلى مزيد بيان لما تنطوي عليه تلك العب ارة الموحي ة من
معاني وأبعاد ،ولا نظفر بشيء من ذل ك إلا في خاتم ة القس م الأخ ير من ب اب
التعارض والترجيح الذي خصه الرازي للترجيح بين الأقيسة ،وكأنم ا قص د أن
يصوغ إضافته الحقيقية في شأن التنظير للمناسبة بحيث لا تجلب عليه اع تراض
معترض أو نقد منتقد .فما الجديد الذي جاء به الرازي؟
يمكن القول إن ما قرره الرازي في الموضع الم ذكور يوش ك أن يقلب ،ال
بل هو يقلب فعًال ،ما اعتاد األصوليون السير علي ه في ت رتيب مس الك العل ة
حسب أهميتها رأسًا على عقب .يقرر الفخر "أن المناس بة أق وى من الت أثير؛
ألنه ال معنى للتأثير إال أنه ُعرف تأثيُر هذا الوصف في ن وع ه ذا الحكم وفي
37الرازي ،فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين :المحصول في علم أصول الفقه ،دراسة
وتحقيق الدكتور طه جابر فياض العلواني (بيروت :مؤسسة الرسالة ،ط،2
،)1412/1992ج ،5ص.157
38المرجع نفسه ،ص .158
39المرجع نفسه ،ص .159-158
40المرجع نفسه ،ص .172
41المرجع نفسه ،ص.196-172
15
جنسه ،وكوُن الشيء مؤثرًا في شيء ال يوجب كوَنه مؤثرًا فيما يشاركه في
جنسه .أما كونه مناسبًا فهو الذي ألجله صار الوصف مؤثرًا في الحكم ،فك ان
االستدالُل بالمناسبة على العلية أقوى من االستدالل بالتأثير عليها 42".وإذا م ا
علمنا أن التأثير إنما يظهر بالنص أو اإلجماع كالقول ب أن العل ة في الوالي ة
الصغر 43،أدركنا المغزى الحقيقي لكالم ال رازي ه ذا .وبعب ارة أخ رى ،ف إن
الوصف الذي يثبت تأثيره نّصًا أو إجماعًا إنما يستمُّد صالحيَته للك ون عل ًة
من كونه مناِسبًا؛ "ألن المناسبة مستِقَّلٌة بإنتاج العلية" ،ذلك أن المناسبة -
44
كما يؤكد الرازي بوضوح " -علٌة ِلِعِّلية العلة".
فما مغزى هذا الكلام؟
إذا كان معنى المناسب كما بين الجويني والغ زالي وال رازي نفس ه ،وتبعهم
على ذلك سائر علماء الأصول من بعد ،يدور حول مراعاة المصلحة بأنواعها التي
فصلوها ومراتبها التي حددوها ،فإن ما قرره الرازي هنا لا ُيبقي مج الًا لل تردد
في كون المناسبة هي الأصل الكلي الذي ترتد إليه قضية التعلي ل برمته ا ،إذ لم
تعد المناسبة عنده مجرد مسلك يأتي في رتبة مت أخرة عن ع دد من المس الك
النقلية والعقلية للكشف عن العلة 45،ب ل هي المعين ال ذي من ه تس تمُّد العل ُة
ِعِّليَتها بقطع النظر عن المسلك الذي ُيَتَوَّصُل به إليها .وهذه نقلٌة كبيرة
لا نكاد نجد من انتبه إليها من دارسيه بم ا في ذل ك َمْن اختص روا المحص ول
كالسراج الأرموي أو شرحوه كالشهاب القرافي الذي لم يعل ق ب أي ش يء على
هذه التقريرات التي لا نكاد نجد لها نظيرًا في كتب الأصول! وعلى ذل ك يمكن
القول بأن الرازي قد سعى في الحقيقة إلى صياغة نظرية متكامل ة في المناس بة
16
تجعل سائر مسالك العلة التي ضبطها الأص وليون عناص ر له ا ،بحيث إن تل ك
العناصر تكتسب مشروعيتها من هذا النظرية.
هذه الخطوة المنهجية والنظري ة ال تي خطاه ا الفخ ر ال رازي في تن اول
المناسبة وتأصيل معناها أص ًال كلي ًا للعلي ة في األحك ام الش رعية ستش هد
تعميقًا لها عند نجم الدين الطوفي ال ذي ي رى أن المناس ب من المهم ات ليس
فقط "ألن عليه مدار الشريعة" ،ب ل ك ذلك ألن علي ه "م دار الوج ود ،إذ ال
موجود إال وهو على َوْفِق المناسبة العقلي ة" ،وإن ك انت "أن واع المناس بات
تتفاوت في العموم والخصوص والخفاء والظهور 46".ولعله بسبب إدراك ه ذه
األهمية التي تكتسيها قضية المناسبة قال اإلمام الشوكاني بشأنها م ا ق ال حين
47
قرر أنها "عمدة كتاب القياس ومحل غموضه ووضوحه".
المصلحة قطب الرحى في مقاصد الشريعة
إن ما قاله الطوفي عن المناسبة ينقلها من مستوى كونها نظري ة في نظ ام
أحكام الشريعة وما تنهض عليه من علل وم ا تتغي اه من مقاص د ت دور ح ول
مصلحة الخلق ،ليجعلها نظرية أوسع مدى تشمل نظام الخلق والك ون من حيث
قيامهما على وفق الحكمة اإللهية البالغ ة .وهك ذا فنحن إزاء خط وة تأص يلية
أخرى مهمة تؤكد األصل الكبير الذي تقدم الكالم علي ه في خص وص العالق ة
بين الشريعة والفطرة والعقل ،ذلك األصل الذي سينطلق منه ابن عاشور الحقًا
في دعوته إلى إنشاء علم مقاصد الشريعة والتنظير له ،وتأصيل عموم أحكامه ا
للبشر كافة وشمولها لكل مج االت حي اة اإلنس ان وص الحيتها لك ل العص ور
واألزمان .وقد شاع عند عدد من الكتاب أن الطوفي يق ول بالمص لحة بص ورة
مطلقة ،بحيث تكون لها الحكوم ُة على م ا س واها ح تى وإن ك ان نّص ًا من
القرآن ،وذلك اعتمادًا على شرحه لحديث "ال ضرر وال ض رار" دون الرج وع
إلى مؤلفاته األخرى .إال أن الناظر في شرحه لمختص ر الروض ة وفي ش رحه
للحديث المذكور معًا يصعب عليه قبول هذه النسبة ،أو التس ليم به ا ب إطالق
ومن دون تكييف ،ولذلك فاألمر يتطلب شيئًا من التأني كما يحتاج إلى قراءة
17
تناٍّص لتحديد ما يمكن عُّده رأيًا نهائّيًا للط وفي .وس نطيل الوق وف مع ه
شيئًا ما نظرًا لما نتج عما نسب إليه من تجاذب في اآلراء.
ليس من قبيل التجني على هذا الع اِلم المث ير للج دل 48أو الافتئ ات علي ه
الإشارة إلى الاضطراب الواقع في كلام ه على المص لحة عن د ش رحه للح ديث
المذكور .بعد أن يذكر أن جملة أدلة الشرع كما يمكن استقراؤها في مختل ف
المذاهب الفقهية تسعة عشر بابًا بعضها متفق عليه وبعضها مختل ف في ه ،يعل ق
الطوفي بأن "قول النبي « :لا ضرر ولا ضرار» يقتضي رعاية المص الح إثبات ًا
والمفاسد نفيًا؛ إذ الضرر هو المفسدة ،فإذا نفاها الشرع لزم إثبات النفع الذي هو
المصلحة؛ لأنهما نقيضان لا واسطة بينهما 49".ومن بين التسعة عشر دليلًا ال تي
أحصاها يقرر أن "أقواها النص والإجم اع ،ثم هم ا إم ا أن يوافق ا المص لحة أو
يخالفاها ،فإن وافقاه ا فبه ا ونعمت ولا ن زاع؛ إذ ق د اتفقت الأدل ة الثلاث ة على
الحكم ،وهي النص والإجماع ورعاية المصلحة المستفادة من قول ه « :لا ض رر
ولا ضرار» ،وإن خالفاها وجب تقديم رعاية المصلحة عليهما بطريق التخص يص
والبيان لهما ،لا بطريق الافتئات عليهما والتعطيل لهم ا ،كم ا تق دم الس نة على
القرآن بطريق البيان 50".وبيان ذلك عند الطوفي أن ه ذين ال دليلين "إم ا ألا
يقتضيا ضررًا ولا مفسدة بالكلية ،أو يقتضيا ذل ك ،ف إن لم يقتض يا ش يئًا من
ذلك فهما موافقان لرعاي ة المص لحة ،وإن اقتض يا ض ررًا فإم ا أن يك ون [أي
الضرر] مجموع مدلوليهما أو بعضه ،فإن ك ان مجم وع م دلوليهما فلا ب د أن
48ليس الطوفي مثيرًا للجدل فقط بسبب رأيه في المصلحة ،بل اختلف الكاتبون حتى في
انتمائه المذهبي ،فمنهم من عده حنبلي المذهب ،ومنهم من نسبه إلى التشيع ،ومنهم من
ذهب إلى حد اتهامه بعدم الانتماء إلى أٍّي من المذاهب المعروفة ناسبًا له شعرًا في هذا
المعنى يشي بنزعة عبثية لديه مما يتعارض مع الصورة التي تتراءى لنا من سائر مؤلفاته
التي وصلت إلينا! انظر في هذا الصدد زيد ،مصطفى :المصلحة في التشريع الإسلامي
(القاهرة :دار اليسر للطباعة والنشر ،)1427/2006 ،ص ( 105-89هذا ويشتمل هذا
الكتاب على النص المحقق لشرح الطوفي لحديث الرسول « :لا ضرر ولا ضرار» ،وهو
في الحقيقة جزء من شرحه للأربعين النووية)؛ البوطي ،محمد سعيد رمضان :ضوابط
المصلحة في الشريعة الإسلامية (بيروت :مؤسسة الرسالة ،ط ،)1421/2000 ،7ص
( 179-178الهامش رقم )1؛ وكذلك مقدمة عبد الله التركي لشرح مختصر الروضة،
ج ،1ص .37-33وهذا الخلاف حول الهوية المذهبية للطوفي هو في الواقع موروث ممن
ترجموا له من القدامى.
49مصطفى زيد :المصلحة في التشريع اإلسالمي ،ص .241
50المرجع نفسه.
18
يكون من قبيل ما اشتثني من قوله « :لا ضرر ولا ض رار» ،وذل ك كالح دود
والعقوبات على الجنايات ،وإن كان الضرر بعض م دلوليهما ف إن اقتض اه دلي لٌ
خاص اُّتِبع الدليُل الخاص وإن لم يقتضه دليل خاص وجب تخصيُصهما بقول ه
51
« :لا ضرر ولا ضرار» ،جمعًا بين الأدلة".
فههنا نلاحظ أن الطوفي لا يرى تقديَم المصلحة على النص والإجماع بإطلاق،
وإنما من حيث كونها تصلح مخصصًا أو مبينًا لمقتضاهما .ومستنده في ذل ك
أنه يرى في هذا الحديث تعبيرًا عن أصل كلي يؤسس لمفهوم المصلحة من جهة
ويعبر عن الاتجاه العام للشريعة من جهة أخرى ،وهو ما يوضحه بقوله إن ه "من
52
المحال أن يراعي الله عز وجل مصلحة خلقه في مبدئهم ومع ادهم ومعاش هم،
ثم يهمل مصلحتهم في الأحكام الشرعية؛ إذ هي أعم ،فكانت بالمراعاة أولى ،ولأنها
أيضًا من مصلحة معاشهم؛ إذ بها صيانُة أموالهم ودمائهم وأعراضهم ،ولا مع اش
لهم بدونها ،فوجب الق وُل بأن ه راعاه ا لهم .وإذا ثبتت رعايت ه إياه ا ،لم يج ز
إهماُلها بوجه من الوجوه ،فإن وافقها النُّص والإجماع وغيرهما من أدلة الش رع
فلا كلام ،وإن خالفها دليٌل شرعي ُوِّفق بينه وبينها بما ذكرناه :من تخصيصه
53
بها وتقديمها بطريق البيان".
51المرجع نفسه ،ص .242ونالحظ هنا أن ما ذكره الطوفي من إمكانية اقتضاء النصوص
الضرر ،أو حتى معارضتها لما فيه مصلحة كالم غير مقبول ،وربما أعذر صاحبه بأنه
صدر منه من باب االستطراد الذي تجر إليه روح المناظرة والتفريع النظري .فإذا كان
األصل في الشريعة انبناء أحكامها على مراعاة المصلحة تحصيًال والمفسدة دفعًا ،فإن ما
قاله لن يعدو كونه افتراضًا ال يلتفت إليه .أما ما مثل به من الحدود والعقوبات وجعله
استثناًء من قاعدة "ال ضرر وال ضرار" فإنه ساقه مساقًا غفل فيه عن كون الحدود
والعقوبات إنما هي مجعولة لتحقيق مصالح أكبر أو درء مفاسد أكبر.
52يشير الطوفي بهذا إلى ما استدل به على أن "أفعال اهلل معللة بحكم غائية تعود بنفع
المكلفين وكمالهم ،ال بنفع اهلل وكماله؛ الستغنائه بذاته عما سواه" وعلى أن "رعاية
المصالح واجبة من اهلل ؛ حيث التزم التفضل بها ،ال واجبة عليه ".كما يشير إلى ما ساقه
من آيات وأحاديث تدل على أن أحكام الشريعة إنما وضعت لما فيه مصالح؛ إذ "ما من آية
من كتاب اهلل إال وهي تشتمل على مصلحة أو مصالح ".المرجع نفسه ،ص .249-244
53المرجع نفسه ،ص .250
19
وإذا ما تركنا الإجماع وما أثاره الطوفي بشأنه من إشكالات جانبًا 54،فإن منشأ
الإشكال فيما ذهب إليه بخصوص التعارض بين المصلحة والنص أنه ليس واضحًا
المراد عنده بالنص ،أهو مطلق خطابات الشرع مما قد تختلف وجوُه الدلالة في ه
وتتفاوت وضوحًا وخفاًء ،وعمومًا وخصوصًا ،وإطلاقًا وتقييدًا ،وإجمالًا وبيانًا
إلخ ،بما يعني انفتاَحها لمحامل قد تتف اوت فيه ا أنظ ار المجته دين حس ب م ا
يعتمدونه من أدوات في التفسير والتأويل والتوفيق والترجيح والاستنباط ،أم هو
النص بالمعنى الاصطلاحي عند الأص وليين ال ذي لا يحتم ل تع ددًا في الدلال ة
وبالتالي لا مجال فيه للتأويل؟ لقد ميز الطوفي ،شأُنه شأن سائر الأصوليين ،بين
"العبادات والمقدرات ونحوها" مما يكون التعويُل فيه على النص وص على س بيل
55
التعبد و"المعاملات والعادات" التي ُيعتد فيه ا بالمص الح على س بيل التعلي ل،
وذلك بناًء على أن العبادات "حق للشرع خاص به ،ولا يمكن معرفة حقه كّم ًا
وكيفًا وزمانًا ومكانًا إلا من جهته"؛ إذ "تخفى مصالحها عن مج اري العق ول"
وبناًء كذلك على أن المصلحة في "سياس ة المكلفين في حق وقهم ...معلوم ة
لهم بحكم العادة والعقل ،فإذا رأينا دليل الشرع متقاع دًا عن إفادته ا علمن ا أَّن ا
ُأِحْلنا في تحصيلها على رعايتها ،كما أن النصوص لما ك انت لا تفي بالأحك ام
علمنا أنا ُأِحلنا بتمامها على القياس ،وهو إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص علي ه
بجامع بينهم ا 56".وق د نب ه ك ذلك إلى أن النص وص مختلف ة ،ويعتوره ا
التعارُض بما يجعلها منشأ للخلاف في فهم الأحكام في مقاب ل رعاي ة المص الح،
حيث أن المصلحة "أمر حقيقي في نفسه لا ُيختلف فيه 57".إلا أن ه على ال رغم
من أهمية هذه التوضيحات فإن الإشكال والالتباس لا يرتفع ان به ا بالكلي ة ،فم ا
قرره بشأن الوضوح الذاتي للمصلحة ليس أكثر من دعوى لا تسلم من الاعتراض
فضلًا عن أن تثبت أمام النقض بما ُيشاهد من اختلاف الناس وتنازعهم في مع نى
المصلحة وفيما هو مصلحة وما ليس بمصلحة ،وفي مدى المص لحة ومجالاته ا،
54من االعتراضات التي يثيرها الطوفي على حجية اإلجماع وهو أن وجود مذاهب فقهية
متعددة واجتهادات مختلفة في فهم نصوص الشريعة واستنباط األحكام منها من لدن
الصحابة هو ذاته مثار ضد تلك الحجية .ولذلك يخلص إلى أن "السواد األعظم الواجب
اتباعه هو الحجة والدليل الواضح؛ وإال لوم أن يتبع العلماء العامة إذا خالفوهم؛ ألن العامة
أكثر ،وهم السواد األعظم" .المرجع نفسه ،ص .272
55المرجع نفسه ،ص .276-273
56المرجع نفسه ،ص .278-277
57المرجع نفسه ،ص .261
20
وفي معاييرها وضوابط تحديدها ،بمن فيهم أصحاب المذاهب العقلية الص رف إن
58
ثبت وجود مثل هذه المذاهب أصلا.
ومهما يكن من أمر ،يبدو أن الط وفي لم يكن مهتّم ًا بتقس يمات الأص وليين
للمصلحة وتنويعهم لاعتباراتها المختلفة بقدر اهتمامه بالس عي لوض ع نظري ة
شاملة فيها تتأصل في النظام العام لنصوص الشريعة وأصولها الكلية بم ا يجع ل
مفهوم المصلحة أمرًا كلّيًا متقِّومًا بنفسه بقطع النظر عن جزئياته وأف راده.
وهذا ما نلحظه في تعليقه على مفهوم المصلحة المرسلة ،فهو يذكر أن الطريقة
التي استفادها من ح ديث «لا ض رر ولا ض رار» "ليس ت هي الق ول بالمص الح
المرسلة على ما ذهب إليه مال ك ،ب ل هي أبل غ من ذل ك ،وه و التعوي ل على
النصوص والإجماع في العبادات والمقدرات ،وعلى اعتبار المص الح في المع املات
وباقي الأحكام 59".وهو يزيد موقفه وضوحًا في باب الاستصلاح من ش رحه على
مختصر الروضة حيث يقول" :اعلم أن هؤلاء الذين قسموا المصلحة إلى معتبرة
وملغاة ،ومرسلة ضرورية وغير ضرورية ،تعسفوا وتكلفوا ،والطريُق إلى معرفة
حكم المصالح أعم من هذا وأقرب ،وذلك ب أن نق ول :ق د ثبت مراع اة الش رع
للمصلحة والمفسدة بالجملة إجماعًا ،وحينئذ نقول :الفع ل إن تض من مص لحة
مجردة حصلناها ،وإن تضمن مفسدة مجردة نفيناها ،وإن تضمن مصلحة من وجه
ومفسدة من وجه ،فإن استوى في نظرنا تحصيل المصلحة ودفع المفسدة توقفن ا
على المرجح أو خيرنا بينهما ،...وإن لم يستو ذل ك ب ل ت رجح أح ُد الأم رين
تحصيُل المصلحة أو دفع المفس دة فعلن اه؛ لأن العم ل ب الراجح متعين ش رعًا،
وعلى هذا يتخرج كل ما ذكروه في تفصيلهم المصلحة 60".ويرى الط وفي أن
الأصل الذي ذكره ك اف لأن تتخ رج الأحك ام علي ه "عن د تع ارض المص الح
والمفاسد فيها ،أو عند تجردها" ،وأنه بذلك "لا حاجة بن ا إلى تنوي ع التص رف
فيها بتقسيم وتنويع لا يتحقق ويوجب الخلاف والتف رق" ،وذل ك بن اًء على أن
الطريقة التي بينها "إذا تحققها العاقل لم يس تطع إنكاره ا لاض طرار عقل ه إلى
61
قبولها".
انظر عرضًا موجزًا بهذا الشأن في البوطي ،ضوابط المصلحة.44-27 ، 58
21
والسؤال الآن هو :هل كان الطوفي منفردًا بهذا الرأي أو مبتدعًا فيه؟
لا يبدو الأمر كذلك ،إذ نجد شيخه ابن تيمية قد مهد السبيل لمث ل م ا ذهب
إليه ،فقد أخذ على الأصوليين حص رهم مقاص د الش رع الكلي ة في الض روريات
الخمسة المتمثلة في حفظ ال دين والنفس والعق ل والنس ل والم ال ،حيث ق ال:
"وقوم من الخائض ين في أص ول الفق ه وتعلي ل الأحك ام الش رعية بالأوص اف
المناسبة ،إذا تكلموا في المناسبة وأن ترتيب الشارع للأحكام الش رعية بالأوص اف
المناسبة يتضمن تحصيل مصالح العباد ،ودفع مضارهم ،ورأوا أن المصلحة نوعان:
أخروية ودنيوية ،جعلوا الأخروية ما في سياسة النفس وتهذيب الأخلاق من الحكم،
وجعلوا الدنيوية ما تضمن حف ظ ال دماء والأم وال والف روج والعق ول وال دين
الظاهر ،وأعرضوا عن العبادات الباطنة والظاهرة من أنواع المع ارف بالل ه تع الى
وملائكته وكتبه ورسله ،وأحوال القلوب وأعمالها ،كمحبة الله وخشيته وإخلاص
الدين له ،والتوكل عليه والرجا لرحمته ودعائه ،وغير ذلك من أن واع المص الح
في الدنيا والآخرة .وكذلك فيما ش رعه من الوف اء ب العقود ،وص لة الأرح ام،
وحقوق المماليك والجيران ،وحقوق المسلمين بعضهم على بعض ،وغ ير ذل ك
من أنواع ما أمر به ونهى عنه :حفظًا للأحوال السنية ،وتهذيب الأخلاق ،ويتبين أن
هذا جزء من أجزاء ما جاءت به الشريعة من المص الح 62".ف ابن تيمي ة في ه ذا
النص أكثر وضوحًا وجرأة من الطوفي في تقرير انبن اء الش ريعة على اعتب ار
المصالح في سائر أحكامها ،لا تمييز عنده في ذلك بين أحك ام العب ادات وأحك ام
المعاملات .فعن ده أن م دار الش ريعة على قول ه تع الىَ :ف اَّتُقوا الَّل َه َم ا
اْسَتَطْعُتْم( التغابن )16 :المفسر لقوله :اَّتُقوْا الّلَه َح َّق ُتَقاِت ِه( آل
عمران ،)102 :وعلى قول النبي « :فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما اس تطعتم»،
"وعلى أن الواجب تحصيل المصالح وتكميله ا وتبطي ل المفاس د وتقليله ا ،ف إذا
تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما ،ودفع أعظم المفس دتين
63
مع احتمال أدناهما ،هو المشروع".
بل إن ابن تيمية نفسه يبدو تابعًا فيما قاله وذهب إليه؛ ذلك أن أبا الوفاء ابن
عقيل كان قد قرر من قبل أننا "إذا علمنا أن العليم الحكيم لا يتعبدنا إلا بما فيه
22
المصلحة ،قطعنا أن العبادات كلها مصالح ،وإن لم نعلم وجه المصلحة في ك ل
واحدة من العبادات بعينها ،ولا يكون جهلنا بوجه المصلحة في ك ل ش يء منه ا
مخرجًا لنا عن العلم بأنه مصلحة في الجمل ة 64".ومب نى ذل ك عن د الفقي ه
والنظار الحنبلي الكبير ،والسلف الملهم لكل من ابن تيمية والطوفي ،أن "الس مع
لما ورد بحظر أفعال في أعيان وإباجة أفعال في أعيان ،وبان لنا بأن لهذه الأعيان
مالكًا بدليل العقل" ،علمنا "أنه أباح ما أباح وحظر ما حظر إما لمصلحة أو نفي
مفسدة ،أو لتحكٍم ومطلق إرادة ،ابتلاًء وامتحانًا ،رجعنا إلى مقتضى الشرع فيما
سكت عنه من إباحة أو حظ ر 65".وينهض تأص يل ابن عقي ل لقض ية التعلي ل
بالمصلحة على قاعدة كلية يتعاضد فيها الخلق والأم ر ويتظ افر فيه ا الطب ع
والشرع ،فيتحقق ما أراده الله سبحانه من مقصد هداية خلقه ورعاية مصلحتهم.
"فكما أنه سبحانه قسم منافعهم الدنيوي ة بين كلي ات تولاه ا لا س بيل لهم إلى
تحصيلها ،ولا التسبب إلى تأثير ما يحصل عندها ،كالرياح والس حاب والأمط ار
وخلق الحيوان لأنواع الأغراض ،فجرت تلك مج رى النص وص ال تي لا س بيل
للعبد إلى تحصيل الأحكام الحاصلة بها والصادرة عنها ،وبين جزئيات وكلها إلى
اكتساب خلق ه واس تخراجها بص فاء نح ائزهم وص حة ق رائحهم ،ك الحرث
والحصاد والدياس وم ا يحت اجون إلي ه من بن اء الأكن ان وال بيوت ونس اجة
الملابس ...فجمع لهم بين النعمتين :الكبرى التي تولاها ،والصغرى التي ألهمهم
توليها وهداهم إلى تحصيلها ،بما منحهم من صحة النحائز وأدوات التحصيل من
جودة القرائح 66".ومقتضى هذا الكلام أنه كما احتوت الطبيع ة أو الك ون على
أصول المنافع وكلياتها مما لا سبيل لغير الخالق إلى إيجاده وتكوين ه ثم ت رك
للإنسان مجال التصرف فيها بمختلف وج وه التص رف من اس تخراج واس تنماء
واستعمال لما يفي بحاجاته ،كذلك احتوت نصوص الشريعة على الأصول الكلية
والقواعد العامة لتشريع المصالح تاركة للمجته دين النظ ر في س بل تحقي ق
ماصدقاتها وجزئياتها بحسب الأحوال والأوضاع المتغيرة.
64الظفري ،أبو الوفاء علي بن عقيل بن محمد بن عقيل الحنبلي البغدادي :الواضح في
أصول الفقه ،تحقيق جورج المقدسي (بيروت :الشركة المتحدة للتوزيع،
،)1423/2003ج ،4/2ص.366
65المرجع نفسه ،ص.346
66المرجع نفسه ،ص367
23
وجريًا على ما قرره هؤلاء الفقهاء نجد ابن قيم الجوزية يؤك د بك ل ثق ة
وقوة أن "الش ريعة مبناه ا وأساس ها على الحكم ومص الح العب اد في المع اش
والمعاد" ،وأنها "عدل كلها ،ورحمة كلها ،ومصالح كلها ،وحكمة كله ا" ،وأن
ك ل "مس ألة خ رجت عن الع دل إلى الج ور ،وعن الرحم ة إلى ض دها ،وعن
المصلحة إلى المفسدة ،وعن الحكمة إلى العبث ،فليست من الشريعة وإن ُأدخلت
67
فيها بالتأويل".
وإذا كانت أحكام الشريعة قائمة على علل مناسبة لها جلبًا للمص الح ودرءًا
للمفاسد 68،فإن "معظم مقاصد الق رآن األم ر باكتس اب المص الح وأس بابها،
والزجر عن اكتساب المفاسد وأسبابها 69 ".على أنه إذا كانت مص الح اآلخ رة
وأسبابها ومفاسدها وأس بابها ال تع رف إال بالش رع بحيث إذا خفي منه ا ش يء
ُطلب من أدلته ،فإن مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها وأسبابها -كم ا يؤك د
العز بن عب د الس الم "معروف ة بالض رورات والتج ارب والع ادات والظن ون
المعتبرات ،فإن خفي منها شيء ُطلب من أدلته" 70من ضرورة عقٍل أو تجرب ة
حس أو مستِقِّر عادة أو معَتَبر ظن .وبناًء على ذلك ال يتردد أن يق رر أن ه
"من أراد أن يع رف المناس بات والمص الح والمفاس د ،راجَحه ا ومرجوَحه ا،
فْليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع لم يرد به ،ثم يبني علي ه األحك ام،
فال يكاد ُحكٌم منها يخرج عن ذلك إال ما تعب د اهلل ب ه عب اده ولم يقفهم على
مصلحته أو مفسدته" ،وذلك نظرًا لم ا في األفع ال من ص فات حس ن أو قبح
يمكن للعقل أن يعرفه ا ،ولكن دون إيج اب على اهلل تع الى ال ذي "إنم ا يجلب
مصاِلَح الحسن ويدرأ مفاسد القبيح َطْوًال منه على عباده وتفضال 71".وه ذا
أمر ينبثق من أصل كلي أصله الفقيه الشافعي مفاده أن "الشريعة كلها نصائح،
إما بدرء مفاسد ،أو بجلب مصالح" ،ولذلك ف إن اهلل ع ز وج ل "ق د أب ان في
كتابه ما في بعض األحكام من المفاس د حّث ًا على اجتن اب المفاس د ،وم ا في
67ابن قيم الجوزية :إعلام الموقعين عن رب العالمين ،تحقيق عصام الدين الصبابطي
(القاهرة :دار الحديث ،)1425/2004 ،ج ،2/3ص.5
68عز الدين بن عبد السالم :القواعد الكبرى ،ج ،2ص.7
69المرجع نفسه ،ج ،1ص.12-11
70المرجع نفسه ،ص.13
71المرجع نفسه ،ص.14-13
24
بعض األحكام من المصالح جّثًا على إتيان المصالح" 72،بحيث ينفتح الباب أمام
عقل المجتهد فيفرع عليها وينسج على منوالها مستهديًا بم يزان الش ريعة في
ترتيب المصالح والمفاسد على أسبابها ،والتبص ر بوس ائل تحص يلها ،ومراع اة
مراتبها من حيث القوة والضعف ،والخصوص والعموم ،وتقدير م داها من حيث
التوقيت والدوام ،والنظر في كيفيات التوفيق أو الترجيح بينها عن د ال تزاحم
والتعارض ،واعتبار تفاوتها حسب األشخاص والجماعات واختالفها عبر الزم ان
والمكان.
يمكن القول إن هذا النهج من اعتب ار أن أحك ام الش ريعة مبناه ا على رعاي ة
المصلحة هو نهج غالب العلماء من فقهاء وأصوليين حتى عصرنا هذا .فعليه أقام
الإمام الشاطبي جهده الكبير في إعادة ص ياغة علم أص ول الفق ه من خلال جع ل
مقاصد الشريعة المحور الذي تدور عليه سائر مباحثه وتتكيف وفق ًا ل ه س ائر
مسائله .فكون أحكام الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد حقيقة ثابتة عنده قد دل
عليها استقراء الشريعة "استقراًء لا ينازع فيه الرازي ولا غ يره" ،فض لًا عن أن
"التعاليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة ...أكثر من أن تحصى 73".فه ذه
قضية لا يرى الشاطبي مجالًا للتردد فيه ا؛ لأنه ا قائم ة على الاس تقراء المفي د
للعلم ،الأمر الذي يجعلنا "نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الش ريعة"،
والأمر الذي به كذلك "ثبت القياس والاجتهاد 74".ذلك أن الش ارع ق د قص د
بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية "على وجه لا يختل لها به نظ ام ،لا
بحسب الكل ولا بحسب الجزء ،وسواء في ذلك ما كان من قبيل الض روريات أو
الحاجيات أو التحسينات" ،بناًء على "كم ال النظ ام في التش ريع" ال ذي ي أبى
75
كمال النظام فيه "أن ينخرم ما وضع له ،وهو المصالح".
25
فالمعَتَبُر في نظام الشرع -كما يبين الشاطبي " -إنما ه و األم ر األعظم،
وهو جهة المصلحة التي هي عماد الدين والدنيا ،ال من حيث أهواء النفوس ،حتى
إن العقالء قد اتفقوا على هذا النوع في الجملة ،وإن لم ي دركوا من تفاص يلها
قبل الشرع ما أتى به الشرع ،فقد اتفقوا على اعتبار إقامة الحياة ال دنيا له ا أو
لآلخرة ،بحيث منعوا من اتباع جملة من أه وائهم بس بب ذل ك 76".وفي ه ذا
اإلطار ينبه صاحب الموافقات إلى أن الخالف المشهور بين المعتزلة واألش اعرة
يصبح خالفًا ال طائل من ورائه؛ فإذا كان المعتزلة يعتبرون المصالح والمفاسد
بحسب ما يؤدي إليه العقل ،وهو "الوجه الذي يتم به صالُح العالم على الجمل ة
والتفصيل في المصالح ،أو ينخرم به في المفاس د" ،وإذا ك ان الش رع عن دهم
"كاشفًا لمقتضى ما ادعاه العقل عندهم بال زيادة وال نقص ان ،فال ف رق بينهم
وبين األشاعرة في محصول المسألة ،وإنما اختلفوا في المدرك ،واختالفهم في ه
77
ال يضر في كون المصالح معتبرة شرعًا ومنضبطة في أنفسها".
وفي سياق نظريته فيما سماه بالارتفاقات التي بمقتضاها تطورت حياة البش ر
في طرق كسب معاشهم وسبل إقامة علاقاتهم بعضهم ببعض وفي كيفية إجراء
نظمهم وإدارة شؤونهم من الأسرة إلى الإمامة مما اقتضى وجوَد شرع أو ق انون
يحكمهم في ذلك كله ،ينسج الإم ام ش اه ولي الل ه ال دهلوي على من وال َمن
سبقوه في تقرير قيام أحكام الشريعة على اعتبار المصلحة ،فيقول" :وق د يظن
ظان أن الأحكام الشرعية غير متضمنة لشيء من المصالح ،وأنه ليس بين الأعمال
وبين ما جعل الله جزاًء لها مناسبة ،وأن مثل التكليف بالشرائع كمثل س يد أراد
أن يختبر طاعة عبده ،فأمره برفع حجر أو لمس شجرة مما لا فائ دة في ه غ ير
الاختبار ،فلما أطاع أو عصى جوزي بعمله .وهذا ظن فاسد تكذبه السنة وإجم اع
القرون المشهود لها بالخير 78".ذلك أن الشارع -كما يرى الدهلوي -قد أفاد
البشر نوعين من العلم :النوع الأول هو علم المصالح والمفاسد مما وجههم إليه
من "اكتساب الأخلاق النافع ة في ال دنيا أو في الآخ رة وإزال ة أض دادها ،ومن
تدبير المنزل وآداب المعاش وسياسة المدينة" ،فكانت كل مص لحة حث الش رع
الناس عليها وكل مفسدة ردعهم عنها لا يخلو الأمر فيها من الرج وع إلى أح د
26
أصول ثلاثة :أحدها :تهذيب النفس بالخصال النافعة ،والثاني :إعلاء كلمة الحق
وتمكين الشرائع ،والثالث" :انتظام أم ر الن اس ،وإص لاح ارتفاق اتهم وته ذيب
رسومهم ،ومعنى رجوعها إليها أن يكون للشيء دخل في تلك الأمور إثبات ًا له ا
أو نفيًا إياها بأن يكون شعبة من خصلة منها أو ضّدًا لشعبتها أو مظنة لوجودها
أو عدمها ،أو متلازمًا معها أو مع ضدها أو طريقًا إليها أو إلى الإع راض عنه ا،
والرضا في الأصل إنما يتعل ق بتل ك المص الح ،والس خط إنم ا ين اط بتل ك
المفاسد 79".أما النوع الثاني من العلم فهو "علم الشرائع والحدود والفرائض"،
وهي ما بينه الشارع من المق ادير ال تي نص ب للمص الح بخصوص ها "مظ اَّن
80
وأمارات مضبوطة معلومة ،وأدار الحكم عليها وكلف الناس بها".
وإذ ليس من أغراض هذه الدراسة استقصاء تفاصيل الأقوال وجزئي ات الآراء
التي جرت بها أقلام العلماء السابقين في التعليل وما انبنت عليه أحكام الش ريعة
من مراعاة لمصالح البشر معاشًا ومعادًا ،فإن ما سبق يكفي ليوقفن ا على مع الم
الاتجاه العام الذي تبَّلر في الفك ر التش ريعي الإس لامي تعب يرًا عن مركزي ة
المصلحة في النظر الاجتهادي لم ذاهب التفق ه في الش ريعة .وق د هي أ ذل ك
الاتجاُه قاعدَة الانطلاق ومهد سبيَل السير للعلماء الخالفين في العصر الح ديث
ليبنوا تنظيرهم للمصلحة والمقاصد تجاوبًا مع ما جرت به الحياة من تبدل في
أوضاعها وتطور في أنماطها وأساليبها ،وسعيًا لتكييف ما ث ار فيه ا من ن وازل
ومشكلات لا يكاد يلفى لها نظيٌر فيما سبق للعقل الفقهي المس لم معالجُت ه من
أقضية ووقائع .وقد اقتضى ذلك تكييفًا منهجّيًا صار موضوع المص لحة في ه
يدرس بضرب من الاستقلال والتمييز الذي لا نجده في مؤلفات الفق ه وأص وله
حيث ُيعرض للمصلحة بوصفها من توابع مباحث أخرى .ولن نتوس ع في تتب ع
الأقوال والتقريرات التي جادت بها قرائُح العلم اء المعاص رين في ه ذا الش أن،
وإنما يكفي أن نقف مع بعض االكتابات التي ص ار له ا من المرجعي ة في الفك ر
الاجتهادي الحديث ما يجعلها ممثلة للوجهة التي يمكن أن نق ول إن المتش رعين
المسلمين في جملتهم يسيرون عليها .وهي في الواق ع الوجه ة ال تي انبثقت في
إطارها معظُم الاجتهادات التي قام عليها ما تش هده حي اة المس لمين من أعم ال
ومؤسسات في مجالات الاجتماع والاقتصاد والسياسة وغيرها.
27
ويأتي في مقدمة تلك المؤلفات كتاب الشيخ محمد الطاهر ابن عاش ور في
مقاصد الشريعة .فهذا المؤَّلُف يمكن في الحقيقة عُّده تعبيرًا عن الهم الع ام
الذي شغل عقوَل المصلحين منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميالدي
بحثًا عن السبل الناجعة لمواجهة تح ديات العص ر الح ديث وتحقي ق مص الح
المسلمين في إطار من ثوابت الشرع وقيمه الخالدة وتوخي ًا لمقاص ده العام ة
والخاصة 81.وهو ما أعرب عنه ابن عاشور بوضوح ال لبس في ه ،حيث ذك ر أن
قص ده من إمالء مب احث في مقاص د الش ريعة واالحتج اج إلثباته ا أن تك ون
"نبراسًا للمتفقهين في الدين ،ومرجعًا بينهم عند اختالف األنظ ار" من أج ل
"إغاثة المسلمين بباللة تشريع مصالحهم الطارئة متى نزلت الحوادث واشتبكت
82
النوازل".
فما تلك المصالح التي ُيعَّول في تحقيقها على مقاصد الشريعة التي دعا ابن
عاشور إلى جعلها علمًا قائمًا بذاته مستقلًّا عن أصول الفقه؟
بنى الشيخ ابن عاشور قوله في المصلحة على أصلين رئيسين :األص ل األول
أن مقاصد الشريعة مبنية على الفطرة ،على اعتبار "أن األصول ال تي ج اء به ا
اإلسالم هي من الفطرة ،ثم تتبعه ا أص وٌل وف روع هي من الفض ائل الذائع ة
المقبول ة ،فج اء به ا اإلس الم وح َّرض عليه ا ،إذ هي من الع ادات الص الحة
المتأِّصلة في البشر والناشئة عن مقاصد من الخير سالمة من الضرر" 83،ومن
ثم جاءت الشريعة تدعو إلى "تقويم الفطرة والحفاظ على أعمالها ،وإحي اء م ا
اندرس منها 84".فكان مقصُدها العام الذي دل عليه اس تقراُء كلي ات دالئله ا
وجزئياتها "هو حفُظ نظام األمة واستدامة صالحه بصالح المهيمن عليه ،وه و
نوع اإلنسان" صالحًا يشمل "صالَح عقله ،وصالَح عمله ،وصالَح ما بين يدي ه
85
من موجودات العالم الذي يعيش فيه" ،وذلك بجلب الصالح ودرء الفساد.
81يمكن في هذا الصدد اإلشارة إلى كتابات أعالم بارزين مثل خير الدين التونسي ،والشيخ
محمد عبده ،والشيخ محمد رشيد رضا ،والشيخ محمد الحجوي الثعالبي ،والشيخ محمد
الخضر حسين ،والشيخ محمود شلتوت ،واألستاذ عالل الفاسي ،وغيرهم كثير.
82ابن عاشور :مقاصد الشريعة ،ص.165
83المرجع نفسه ،ص.264
84المرجع نفسه ،ص.265
85المرجع نفسه ،ص.276 ،273
28
أما األصل الثاني فهو "اليقين بأن أحكام الشريعة كلها مشتملة على مقاص د
الشارع ،وهي حكم ومصالح ومنافع ،ولذلك كان الواجب على علمائها تعُّرُف
علل التشريع ومقاصده ظاهرها وخفِّيها 86".فإذا ج از أن تك ون في الش ريعة
أحكام تعبدية ال علَة ظاهرة لها وال يمكن االطالُع على علتها ،ف إن ابن عاش ور
يذهب إلى أن ذلك ال ينبغي أن يكون في المعامالت المالي ة والجنائي ة ،فه و ال
يرى "أن يكون في هذه تعبدي ،وعلى الفقيه أن يستنبط العلل فيه ا 87 ".ذل ك
أن "العبادات أوغُل في جانب األثر؛ ألن كثيرًا منها التعب دُّي ال ذي ال ي دخل
فيه القياس دخوًال قوّيًا" ،أما فقه المع امالت فيحت اج إلى "أص ول وكلي ات
تجعل للعارف بها معرفة بأحوال الزمان"" ،فك ان ال واجب أن ال يك ون طري ُق
التفق ه واح دًا في ن وعي الفق ه الم ذكورين (أي فق ه العب ادات وفق ه
المعامالت) 88".ولذلك كانت موارد األحك ام الش رعية أو م ا تعلقت ب ه من
تصرفات المكلفين وأفعالهم في مختلف أنواع المعامالت على ضربين :مقاص د
ووسائل" ،فالمقاصد هي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها ،والوسائل هي
89
الطرق المفضية إليها".
وفي ضوء هذين الأص لين وتأسيس ًا عليهم ا ج رى ابن عاش ور في تعري ف
المصلحة وإثبات حجيتها وتحديد مداها وأنواعها ،وهو إذ يفعل ذلك يق دم لن ا
خلاصة ممحصة لما دارت حوله أنظار الفقهاء والأصوليين قبله من أقوال وآراء.
ولذلك فإن هذه الدراسة تتبنى ما صاغه من أفك ار بوص فه تعب يرًا عم ا يمكن
عُّده المساَق العام للنظر الاستصلاحي في الفق ه الإس لامي .فالمص لحة عن ده
"وصف للفعل يحصل به الصلاح ،أي النف ع ،من ه دائم ًا أو غالب ًا ،للجمه ور أو
للآحاد" ،بحيث تكون خالصة أو مطردة ،عامة أو خاصة" .أما المفس دة فهي م ا
قابل المصلحة ،وهي وصف للفعل يحصل به الفساد ،أي الض ر ،دائم ًا أو غالب ًا،
للجمهور أو للآحاد 90".وإذا كانت المصلحة بأنواعها تشتمل على قسمين" :م ا
29
يكون فيه حٌّظ ظاهٌر للناس في الجبلة ،يقتضي ميل نفوسهم إلى تحصيله؛ لأن
في تحصيله ملاءمًة لهم" و"ما ليس فيه حظ ظاهر لهم" ،ف إن لك ل من ه ذين
القسمين "خصائص من عناية الشارع" 91.فالقسم الأول ليس من ش أن الش ارع
التعرض له بالطلب إذ يكفي داعي الجبلة في توجي ه اهتم ام الن اس لتحص يله،
فيكون شأن الشريعة "أن تزيل عنه موانع حصوله" ،بينما "القسم الثاني يتعرض
له التشريع بالتأكيد ،ويرتب العقوبة على تركه والاعتداء علي ه" م ع إيج اب
92
بعضه "على الأعيان وبعضه على الكفايات ،بحسب محل المصلحة".
ومع هذا التنويع للمصلحة ،يستعيد ابن عاش ور تقس يم الأص وليين من حيث
قوة أثرها (وهو ما سموه بالمناسب الحقيقي) فتنقس م إلى ض رورية وحاجي ة
تحس ينية ومن حيث م دركها أو ال دليل عليه ا فتنقس م إلى قطعي ة وظني ة
ووهمية" .فالمصالح الضروية هي ال تي تك ون الأم ة بمجموعه ا وآحاده ا في
ضرورة إلى تحصيلها بحيث لا يستقيم النظام باختلالها ،فإذا انخرمت تؤول حالة
الأمة إلى فساد وتلاش 93".أما المصالح الحاجية فهي "ما تحتاج الأم ة إلي ه في
اقتناء مصالحها وانتظام أمرها على وجه حسن ،بحيث ل و لا مراعات ه لم ا فس د
النظام ولكنه كان على حال ة غ ير منتظم ة 94".وت أتي في الرتب ة الأخ يرة
المصالح التحسينية التي هي "ما كان بها كمال ح ال الأم ة في نظامه ا ح تى
تعيش آمنة مطمئنة ولها بهجة منظر المجتمع في مرآى بقية الأمم ،حتى تك ون
الأمة الإسلامية مرغوبًا في الاندماج فيها أو التقرب منه ا 95".ولا يخفى م ا في
هذه الصياغة من حرص على إب راز الج وانب الاجتماعي ة والأبع اد الحض ارية
للمصالح برتبها المتفاوتة بوصفها المحور الذي تدور عليه مقاصد الشريعة في
تحقيق الصلاح ودرء الفس اد .أم ا اعتب ار المص الح من حيث م دركها فالب اب
منفسح فيه لكل من النص والعقل ،بحيث إن منه ا م ا ق د ت دل النص وص على
ضرورة تحصيله دلالة قطعية ،مثلما أن منها ما يقوم دليل العق ل على ض رورة
جلبه .وكذلك فإن منها ما تكون دلالة النص أو العقل عليه ظنية .أما المصالح
الوهمية فهي ما يكون منشؤه مج رد ال وهم والخي ال ولا ينتهض ل ه دلي ل من
المرجع نفسه ،ص.292 91
30
العقل ولا من الشرع 96.وفضلًا عن الاعتبارات السالفة فإن هناك نظرًا آخر إلى
المصالح والمفاسد من حيث "كونه ا حاص لة من الأفع ال بالقص د أو حاص لة
بالمآل" ،وهذا مقام مرتبك "فيه تتفاوت مدالاك العقلاء اهتداًء وغفلة ،وقب ولًا
وإعراضًا ،فتطلع فيه الحيل والذرائع" ،الأمر الذي يسترعي الحذق والفطنة من
97
الفقيه.
وفي ضوء هذه االعتبارات جميعًا من تحديد لمعنى المصلحة وبيان ألقسامها
واعتباراتها المختلفة ،يقرر ابن عاشور أن "طريق المصالح ه و أوس ع طري ق
يسلكه الفقيه في تدبير أم ور األم ة عن د نوازله ا ونوائبه ا إذا التبس ت علي ه
المسالك ،وأنه إن لم يتبع هذا المسلك الواضح والمحجة البيض اء فق د عط ل
98
اإلسالم عن أن يكون دينًا عاّمًا باقيا".
ويبدو ابن عاشور في احتجاجه لبناء االجتهاد على اعتب ار المص الح س ائرًا
على نهج قريب من ذلك الذي سار عليه ابن عقيل وابن تيمي ة والط وفي وابن
القيم ،ناحيًا في ذلك منحى وضع إطار شامل لها يستوعب ض روبها المختلف ة
وصورها المتعددة .ولذلك يؤكد أن الغ رض من بي ان أن واع المص الح ليس
مجرد معرفة مراعاة الشريعة لها ،وال مجرد قياس النظائر على جزئيات تل ك
المصالح ،فذلك كله دون الغرض من تأسيس علم مقاصد الشريعة ال ذي دع ا
إليه .وإنما الغرض من التعرض لتلك األنواع ودراستها هو "أن نعرف كث يرًا
من صور المصالح المختلفة األنواع المعروُف قصُد الشريعة إياها ،حتى يحصل
لنا من تلك المعرفة يقيٌن بصور كلية من أنواع هاته المص الح .فم تى حلت
الحوادث التي لم يسبق حلوُله ا في زمن الش ارع ،وال له ا نظ ائُر ذاُت أحك ام
متلقاة منه ،عرفنا كيف ندخلها تحت تلك الصور الكلية ،فنثبت لها من األحكام
أمثاَل ما نثبت لكلياتها 99".وب ذلك يتهي أ لش يخ الزيتون ة أن يح ل إش كال
االحتجاج للمصالح المرسلة التي طالما جرى التنازع فيها بين موسع ومض يق،
فهو يرى أن ليس على الع الم أن يحص ر نفس ه في المص الح المنص وص على
حكمها أو الملحقة بنظائرها قياسًا ،وإنما من الواجب عليه "تحص يل المص الح
31
غير المثبتة أحكامها بالتعيين وال الملحقة بأحكام نظائرها بالقياس" ،بناًء على
"وجوب اعتبار جنسها على الجملة وبدون الدخول في التفاصيل 100".ذل ك أن
أدلة اعتبار أجناس المصالح "حاصلٌة من استقراء الشريعة قطعًا أو ظّنًا قريبًا
من القطع" ،كما أن "أوصاف الحكمة قائمٌة بذواتها غير محتاج ة إلى تش بيه
فرع بأصل ،وإنما هي واضحٌة للناظر فيها وضوحًا متفاوتًا ،لكنه غير محت اج
101
إلى استنباٍط وال إلى سلوك مسالكه.
وعلى ما قرره ابن عاشور مم ا يب دو أن طوائ ف واس عة من فقه اء العص ر
يميلون إليه نقفي فنقول :إن مراعاة الشريعة للمصالح وفتحها الباب للمجتهدين
لتكييف الوقائع والنوازل والحكم عليها وفق ما تشتمل عليه من المص الح جلب ًا
أو تتضمنه من المفاسد دفعًا أو الترجيح بينها عند ال تزاحم والتع ارض أو بين
طرفي المصلحة والمفسدة عند التشابك ليس ناشئًا عن نزعة ذرائعية في النظر
إلى المصلحة أو فهم مادي لمعناها ومضمونها ،ولا هو م تروك تق ديره لب ادئ
الرأي وعفو الخاطر ،فليس مثل ذلك مما يمكن أن يخطر على بال أي فقي ه من
فقهاء الشريعة يحترم عقده وعقله .وإنما مفهوم المصلحة في النظ ر الش رعي
منبثق عن رؤية كلية لكينونة الإنسان وكيان المجتمع يتحدد معنى المص لحة
والمفسدة والنفع والضر فيها بأبعاده المادية والروحي ة والخلقي ة والمعنوي ة
على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة سواء ،ويكون فيه الاهتمام بالمص لحة
والمفسدة في ذاتها بقدر الاهتمام بالوسيلة المفضية إليها حيث لا مجال لمقول ة
الغاية تسوغ الوسيلة.
ولعله من هذا المنطلق وفي ضوء ه ذا التق دير نس تطيع أن ن درك المغ زى
الحقيقي لما فعله الإمام الغزالي حيث ق رر أن المص لحة هي م ا أدى إلى حف ظ
الكليات الخمسة الضرورية (الدين والنفس والعق ل والنس ل والم ال) أو بعض ها
فيطلب تحصيله ،وأن المفس دة هي م ا أدى إلى تف ويت ش يء من ذل ك فيطلب
درؤه .ذلك أن هذه الضروريات تمثل الأص ول ال تي ترج ع إليه ا المص الح في
كلياتها وجزئيات تفاصيلها وأعيانه ا ،فض لًا عن أنه ا تعكس الأبع اد المختلف ة
لمقومات الوجود البشري التي لا يمكن تصور حياة إنسانية مستقرة متوازن ة في
حال اختلالها جزئّيًا أو كليا .ويمكن القول إن هذه الأصول تقدم الض ابط الكلي
المرجع نفسه ،ص .310 100
32
والمعيار الأعلى اللذين ترتد إليهما وتنبث ق منهم ا س ائر الض وابط والمع ايير
الجزئية التي تفاوتت أنظار العلم اء في تحدي دها ق ديمًا وح ديثًا بين متش دد
ومتسامح 102.وفي ضوء هذا لا حرج في القول بأن "المصلحة مص در تجدي دي
تطويري للفقه" وأن "الإفتاء المصلحي يمكن أن يأتي جديدًا لا مثاَل ل ه س ابق
يقاس عليه ،ويعتمد الاجتهاُد فيه على نظرة شاملة للفقه وخبرة بمقاصد الش رع
يحوزها المفتي المستصلح" 103والفقيه المجته د ،فض لًا عن دراي ة بمجري ات
الواقع ومشخصات الأفعال الإنسانية وتشابك الأوض اع الاجتماعي ة في مج الات
الحياة مع مراعاة لأقدار تأثير بعضها في بعض.
موقع مقاصد الشريعة في أصول الفقه
سبق البيان بأن مقاصد الشريعة مصطلحًا ومفهوم ًا ق د نش أت في كن ف
مناقشات األصوليين ومجادالتهم حول ركن العلة من القياس .وبعب ارة أك ثر
تحديدًا ظهرت المقاصد بوصفها مج رد فص ل أو جزئي ة من مبحث مس الك
العلة .إال أن مآالت النمو الذي شهده الدرس األصولي انتهت بمقاصد الش ريعة،
التي تخلقت في تربة مبحث المناسبة ،شجرًة ضاربة الج ذور ،باس قة األفن ان،
وارفة األغصان ،دانية القطوف ،تؤتي أكله ا ك ل حين ب إذن ربه ا ،ولم تع د
المقاص د مج رد جزئي ة من جزئي ات علم أص ول الفق ه وف رع من ف روع
104
مسائله.
ومنذ أطلق الشيخ الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور دعوته إلى فص ل دراس ة
المقاصد عن مباحث علم األصول ،تراوحت المواقف من تلك الدعوة بين ثالث ة
اتجاهات:
102انظر تحليًال ومناقشة لتلك الضوابط في البوطي :ضوابط المصلحة في الشريعة
اإلسالمية ،ص.282-110
103الراشد ،محمد أحمد :أصول اإلفتاء واالجتهاد التطبيقي في نظريات فقه الدعوة
اإلسالمية (فان كوفر/كندا :دار المحراب ،ط ،)1428/2007 ،4ج ،1ص.293
104ينظر على سبيل المثال في عالقة المقاصد بالمباحث األصولية :اليوبي ،محمد سعد بن
أحمد بن مسعود :مقاصد الشريعة وعالقتها باألدلة الشرعية (الريَاض :دار الهجرة،
)1418/1998؛ الخادمي ،نور الدين بن مختار :المقاصد الشرعية وصلتها باألدلة
الشرعية والمصطلحات األصولية (الرياض :دار إشبيليا)1424/2003 ،؛ ابن الخوجة،
الشيخ محمد الحبيب :بين علمي أصول الفقه والمقاصد ،وهو الجزء الثاني من كتابه:
محمد الطاهر ابن عاشور وكتابه مقاصد الشريعة اإلسالمية (الدوحة :وزارة األوقاف
والشئون اإلسالمية.)1425/2004 ،
33
أحدها :جعل مقاص د الش ريعة قس ما من أقس ام علم األص ول ،تض اف إلى
أقسامه المعروفة :الحكم ،واألدلة ،ودالالت األلفاظ ،واالجتهاد...إلخ .وهو خيار
فيه نظر ألنه ُيبقي األقسام األخرى من أصول الفقه على جفافه ا وفقره ا إلى
البعد القيمي ،حيث إن الكثير منها في حاجة إلى توسيع وتط وير ،ح تى تص بح
دراس ته تس ير في اتج اه البحث في المض امين القيمي ة للنص وص واألحك ام
الشرعية ،بدًال من قصر التركيز على المسائل اللغوية والكالمية .وفضًال عما
سبق ،فإن هذا الخيار يوقعنا في مشكلة منهجية؛ حيث إننا إذا أعطين ا البحث في
المقاصد حقه ومداه فإن ذلك يؤدي إلى تضّخم الجزء الخ اص ب ه بش كل ق د
يطغى على األج زاء األخ رى ،وينتج عن ه خل ل منهجي وتض ّخم في مب احث
األصول .وإذا أردنا تجنب هذا الخلل المنهجي بتحديد المباحث التي ت درس في
هذا القسم بالقضايا األساسية في المقاصد ،ف إن ذل ك ي ؤدي إلى تحجيم ه ذه
المباحث الحيوية وتضييق نطاق البحث فيها ،ومن َثّم التقليل من فوائدها ،وهو
أمر سلبي غير مرغوب فيه.
وقد يبدو لأول وهل ة أن ه ذا الخي ار ه و مس لك الش اطبي ،حيث خص ص
للمقاصد الجزء الثاني من كتاب "الموافقات" ،بسط فيه القول فيه ا .ولكن بم ا
أن الشاطبي لم يكن يرمي من وراء تأليف الموافقات إلى وضع كتاب متكام ل في
أصول الفقه يشمل جميع أبواب هذا العلم بشكل مرَّتب ،بل ك ان قص ده تأص يل
بعض المسائل الأصولية ،وإعادة النظر في أخرى ،وإضافة الكثير من المسائل إلى
هذا العلم ،ومنها مقاصد الشريعة ،والدعوة إلى صياغة جديدة لعلم الأصول يكون
عماد منهج البحث فيه الاستقراء ،والخيط الناظم الذي يربط مباحثه والروح التي
تسري فيه المقاصد الشرعية ،فإنه من العسير أن ننسب إلى الشاطبي أنه ب إفراده
جزءا من الموافقات للمقاصد الشرعية يكون قد سار في اتجاه جعلها جزءا مستقلا
من أجزاء هذا العلم.
ويبدو للباحث أن هذا اإلفراد اقتضته ضرورة الري ادة في التنظ ير لمب احث
المقاصد ،بقصد اإلبراز والتوُّسع في البيان واالحتج اج واإلثب ات ،وإن اقتض ى
ذلك شيئا من االستطراد واإلطناب ،والتوُّسع في إي راد الش واهد .وه ذا ش أن
العمل التأسيسي ،إذ قد يحتاج ص احبه إلى ط ول نفس في الش رح واالس تدالل
بقصد البيان واإلقناع ،خاصة إذا كان المؤلف يتوقع إنكارا ومعارضة لما يؤسس
34
له ،وهو األمر الذي كان يخشاه الش اطبي كم ا تح دث عن ذل ك في مقدم ة
الكتاب.
وعالوًة عما سبق ،فإن النظر في كتاب الموافقات يدل على أن الشاطبي ق د
بناه على ما تقرر لديه من نتائج البحث الطوي ل في مقاص د الش ريعة منهج ا
ومضمونا.
فمن حيث المنهج ،نجد المنهج االستقرائي ،الذي عده الش اطبي أفض ل منهج
للبحث في المقاصد الشرعية ،حاضرا بقوة في جميع أجزاء الكتاب 105،وكذلك
األمر في البحث عن الكليات وتحديد العالق ة العض وية التكاملي ة بينه ا وبين
الجزئيات.
ومن حيث المضمون ،يظهر بجالء الرب ط بين المقاص د الش رعية وجمل ة
كبيرة من مسائل علم األصول .ولم يكن الشيخ عبد اهلل دراز مجانب ًا الص واب
حين قرر أن هذا العلم بقي "فاقدًا قسمًا عظيمًا ،ه و ش طر العلم الب احث عن
أحد ركنيه" ،أي علم أسرار الشريعة ومقاصدها .وإنه لمحق أيضا حين يق ول
بأن اإلمام الشاطبي هو الذي هيأه اهلل تعالى "لتدارك ه ذا النقص ،وإنش اء ه ذه
العم ارة الك برى ،في ه ذا الف راغ الم ترامي األط راف في ن واحي ه ذا العلم
106
الجليل".
واالتجاه الثاني :هو إعادة صياغة علم أصول الفقه بشكل يستوعب كثيرا من
مباحث المقاصد ويجعلها جزءا من نسيجه .فالناظر في علم أصول الفقه يدرك
أنه وضع في أصله لبيان مناهج االجتهاد وض وابطه ،س واء في ذل ك االجته اد
القائم على تفسير النصوص أو على القياس .ولكن بع د ذل ك تط ور ليص بح
بمثابة نظرية عامة للفقه اإلسالمي؛ فلم يعد يقتص ر على الح ديث عن من اهج
االجتهاد ومصادر التشريع ،بل تعدى ذلك إلى الحديث عن جمي ع العناص ر ذات
العالقة بالتشريع ،كما هو الحال في تقس يم األقط اب األربع ة عن د الغ زالي:
األحكام (وتشمل :الحكم ،والحاكم ،والمحكوم عليه ،والمحكوم في ه) ،واألدل ة
35
الشرعية ،ووجوه داللة األدلة ،والمجتهد الذي يستنبط األحكام من األدلة ومع ه
االجتهاد الذي هو عملية التعامل مع النص أو ما فيه معناه.
ومادام الأمر قد استقر على جعل علم أص ول الفق ه به ذا النظم ،فإن ه ينبغي
البلوغ به مداه منهجا ومضمونا ،حتى تص بح مباحث ه ممثل ة لنظري ة متكامل ة
للتشريع الإسلامي ،تبحث بعمق مصادر التش ريع ،ومقاص ده ،وفلس فته ،ومن اهج
الاجته اد في ه وض وابطه ،وتطبيق ه على واق ع الحي اة ،والعلاق ة بين الش ارع
والمشَّرع له .ولا شك أن تحقيق هذا اله دف يتع دى المب احث التقليدي ة لعلم
الأصول ليشمل المقاصد وغيرها.
واالتجاه الثالث :هو تحقيق دع وة ابن عاش ور بتأس يس علم جدي د خ اص
بمقاصد الش ريعة ،وفص له عن علم أص ول الفق ه .ويطمح ابن عاش ور إلى أن
يحقق "علم مقاصد الشريعة" الذي يرنو إلى تأسيسه ثالثة أم ور :أح دها :أن
تصبح قواعده "أدلة ضرورية ،أو قريبة منه ا" 107،بمع نى أن تص بح قواع ده
ومسائله قطعية ،أو قريبة من القطع ،ومن ثم تحقي ق األم ر الث اني :وه و أن
تصبح تلك القواعد الفيصل الذي يفص ل بين الم ذاهب عن د اختالفه ا ،أو على
األقل وسيلة إلى إقالل االختالف بين فقهاء األمصار ،أما األمر الثالث :فه و أن
تكون نبراسا يهتدي به المتفقهون في الدين ،بمع نى أنه ا تطل ع المتفق ه على
108
فلسفة التشريع اإلسالمي ،بمعرفة مقاصده وغاياته.
ولكن الواقع أن مسألة الظني ة ال تقتص ر على مس ائل األص ول ،ب ل ت دخل
الكثير من مباحث المقاصد وقواعدها .وحتى في القواعد المقاصدية التي تتسم
بالقطعية ،فإن الظن واالختالف يدخلها عندما ينتقل األمر إلى تحقي ق مناطه ا
في الواقع.
وواضح من كالم ابن عاشور أن ه ي رى الفص ل الكام ل بين علم أص ول الفق ه
و"علم مقاصد الشريعة" ،وال يرى داعيا لتطوير علم أص ول الفق ه ،ب ل ي دعو إلى
تركه "على حاله ،تستمد منه طرق تركيب األدلة الفقهي ة" 109،وتوَّج ه العناي ة
36
الكبرى إلى استنباط وتطوير مبادئ وقواعد "علم مقاصد الشريعة" لتكون "أص وال
110
قطعية للتفقه في الدين".
ولكن مع هذه الدعوة فإن ابن عاشور لا يرى "علم مقاصد الشريعة" بديلا عن
علم أصول الفقه ،بل يراه مكملا له ،حيث تكون وظيفة أصول الفقه تزويد الفقيه
بـ"طرق تركيب الأدلة الفقهية" ،ووظيفة "علم مقاصد الشريعة" هو التفقه في
111
الدين ،والفصل بين الفقهاء في اختلافاتهم ،والتقريب بين وجهات نظرهم.
ولا يبدو أن ضررًا ما سيلحق بمقاصد الشريعة إذا ُأْفِردت بعلم خ اص على
الطريقة التي دعا إليها ابن عاشور ،حيث إنها ستأخذ جواهر علم الأصول لتضاف
إليها مباحث أخرى .إلا أن الفصل على الطريقة التي صّورها ابن عاشور (بإبقاء
علم أصول الفقه على ما هو عليه) سوف يكون لا محال ة ُمِض ًّرا بعلم أص ول
الفقه .و يكون ذلك الض رر من ج انبين :أح دهما :إفق ار علم أص ول الفق ه
بتجريده من أجزاء مهمة من ه ونقله ا إلى "علم مقاص د الش ريعة" ،والث اني:
حرمانه من التط ور المنهجي والمض موني ال ذي ت وفره ل ه مب احث مقاص د
الشريعة .وهذا طريق إلى إضعاف علم أصول الفقه دون إيجاد بديل ل ه يمكن أن
يسد مسده.
وخطورة دعوة ابن عاشور ليست في تأسيس علم خ اص بمقاص د الش ريعة؛
ألن مقاصد الشريعة بالصورة ال تي رس مها ه و في كتاب ه مقاص د الش ريعة
اإلس المية من خالل االقتص ار على الح ديث عن مقاص د التش ريع العام ة،
والمقاصد الخاصة في المعامالت بين الناس يمكنه ا أن تك ِّون علم ا مس تقال،
ويمكن فصلها في البحث عن أصول الفقه .ولكنن ا إذا أخ ذنا مقاص د الش ريعة
باإلطار الذي وضعه اإلمام الشاطبي فإن فصلها عن أصول الفقه ال يكون ممكن ا.
ولكن وجه الخطورة يكمن في دعوته إلى إفراغ علم أصول الفق ه من ج واهره
المقصدية ،وإبقائه على ما هو عليه.
وبناء على ما سبق يتبين أن دعوة الفصل بالصورة التي دعا إليه ا ابن عاش ور
غير مناسبة ،لإضرارها بعلم الأص ول ،ولكن يمكن أن تس تبدل بص يغة معتدل ة
تحقق الفائدة للبحث المقاصدي ولأصول الفقه في آن واح د ،وذل ك بتحقي ق
37
استقلالية نسبية لـ"علم المقاصد" ،فلا ُيج َّرد علم الأص ول من المقاص د ،ولا
ُيْحصر البحث في المقاص د في إط ار المب احث الأص ولية ،وه و الأم ر ال ذي
112
يقترحه بعض الباحثين في هذا الشأن.
المقاصد الشرعية بوصفها مرجحات في االختالفات الفقهية
االختالفات الفقهية أمر واقع بين فقه اء ه ذه األم ة من مختل ف الم ذاهب
الفقهية ،أو بين علماء المذهب الواحد ،والمفتي في هذا العصر ق د يج د نفس ه
أمام اجتهادات مختلفة يتطلب األمر اختيار أحدها .وال شك أن االختي ار ينبغي
أن ال يكون خاضعًا للتعصب المذهبي أو للرغبة والهوى ،وإنما يك ون بن اء على
قوة الدليل ومناسبة الرأي للواقعة محّل الفتوى .وهنا يكون لمراعاة المقاص د
الشرعية المحّل األكبر من االعتبار في الترجيح ،ب أن ي رجح المف تي ال رأي
األقرب إلى تحقيق تلك المقاصد ،فذاك هو المطلوب شرعا وعقال.
وينبغي بداية توضيح نس بية تحدي د المقاص د؛ فنحن لا نش ك في أن ك ل
اجتهاد ُمعَتٍّد به وصادر عمن هو مؤهل له قد س عى في ه ص احبه إلى تحقي ق
مقاصد الشارع ،وبناء عليه ،فنحن بترجيحنا اجتهادا على آخ ر اعتب ارا لمراع اة
المقاصد الشرعية لا نتهم طرفًا بالجهل بتلك المقاصد أو بع دم الاعت داد به ا،
وإنما الأمر مبني إما على كون المقاصد في بعض الجزئيات قد تك ون ظني ة أو
خفية فتختلف درجة إصابتها من قبل المجته دين ،أو على ك ون المقاص د ق د
تتغير في بعض الجزئيات بتغير الزمان والظروف ،فيكون ذلك هو أساس القول
بموافقة أحد الأقوال للمقاصد الش رعية أك ثر من غ يره .وم ع ذل ك ينبغي
الإقرار بأن هذا الترجيح في ذاته قد يكون محّل اعتراض ون زاع من قب ل بعض
الأطراف ،ولا حرج في ذلك لأن الظنيات قابلة للاختلاف حولها.
112انظر :إسماعيل الحسني ،نظرية المقاصد عند اإلمام محمد الطاهر بن عاشور ،ص433؛
الريسوني ،أحمد ،نظرية المقاصد عند اإلمام الشاطبي (فرجينيا :المعهد العالمي للفكر
اإلسالمي /الدار العالمية للكتاب اإلسالمي ،ط1412 ،2هـ) ص315؛ غالية بوهدة،
"استقاللية مقاصد الشريعة اإلسالمية عن علم أصول الفقه بين النظرية والتطبيق" ورقة
مقدمة للندوة العالمية عن الفقه اإلسالمي وأصوله وتحديات القرن الواحد والعشرين:
مقاصد الشريعة وسبل تحقيقها في المجتمعات المعاصرة 10-8 ،أغسطس 2006م،
الجامعة اإلسالمية العالمية بماليزيا ،ضمن أعمال الندوة ،ج ،1ص.302
38
ومن أجل بيان مجمل لدور المقاصد في ال ترجيح بين اآلراء الفقهي ة ،يمكن
أن نرجع االختالفات الفقهية في مجملها إلى ما يأتي:
.1االختالف في فهم النص الظني الداللة الذي يحتمل أكثر من معنى ،مع
عدم وجود مرِّجح قاطع من المقام أو السياق أو القرائن النصية وغ ير
النصية.
وفي هذا النوع من الخالفات الفقهية قد يك ون للمقاص د الش رعية عنص ر
الحسم في ترجيح رأي على رأي آخر؛ فمادامت األدلة متكافئة ف إن اختي ار م ا
يكون من االجتهادات أقرب إلى تحقيق المقاصد الشرعية ذات الصلة بالموضوع،
وأوفق بالمقاصد العامة للشريعة يكون هو المتعِّين؛ ألنه من الثابت أن األحكام
الشرعية لم توضع اعتباطا ،بل ُوِض عت لتحقي ق مقاص د الش ارع من الخل ق
والتكليف.
.2االختالف بسبب الترجيح بين األدلة التي تبدو في ظاهرها متعارضة.
وهذا النوع من االختالف وإن كانت فيه طرق عديدة لل ترجيح بحس ب
نوع التعارض ،إال أن للمقاصد أثر في الترجيح يقوى ويض عف بحس ب
وجود مرجحات أخرى وبحسب قوة تلك المرجحات.
.3الاختلاف في تصحيح الأحاديث النبوية عندما يكون الدليل من السنة
النبوية .وفي هذا النوع تكون الموافقة للمقاصد الش رعية الثابت ة أح د
العوامل (وليس العامل الوحيد) في تص حيح ح ديث أو تض عيفه ،وبن اء
عليه ترجيح الرأي المبني على الحديث الصحيح ،وجع ل ال رأي المب ني
على الحديث الضعيف مرجوحا.
.4الاختلاف في تقدير المصالح والمفاسد والترجيح بينها سواء كان ذلك
بسبب اختلاف المدارك العقلية والخبرات العملية ،أو بس بب اختلاف ص ور
ومآلات الفعل أو التصُّرف من بيئة إلى أخرى أو من زمان إلى آخر.
وهذا النوع من االختالفات هو المجال األوسع الستخدام المقاص د لل ترجيح
بين اآلراء ،ألن مبنى تل ك اآلراء في األس اس على اعتب ار المص الح .وتق دير
المصالح والمفاسد قد يتغير بتغُّير الظروف والمآالت ،وهو الُمعَّب ر عن ه في
القواعد الفقهية بعدم إنكار تغُّير الفت وى بتغُّي ر الزم ان .وإذا ك ان األم ر
39
كذلك فإن إعادة النظر في تقدير المصالح والمفاسد والترجيح بينها ومراعاة
مقاصد الشريعة تكون هي المرِّجحات األساسية بين ما ُنِقل إلينا من اجتهادات
أهل العلم.
.5التفاوت في االطالع على األحاديث النبوية الشريفة ،بأن يكون بعضهم
اطلع على حديث أو أحاديث لم يطلع عليها اآلخ ر .وال يب دو للمقاص د
الشرعية أثر في الترجيح بين اآلراء المبنية على هذا السبب؛ ألن اجته اد
من غابت عنه النصوص ُتحَّكم فيه النصوص والقواعد الكلية ذات الصلة
بالموضوع ،فإن وافقها ُأْجِري ،وإن خالفها دون أن يكون له َسَنٌد أقوى
من ذلك النص الذي غاب عن ه أو يس اويه ُرَّد ،ألن ه اجته اد في غ ير
محله.
أهمية المقاصد في تنزيل األحكام الشرعية على الوقائع الفردية والجماعية
تظهر الحاجة إلى النظر في مقاصد الشريعة عند تنزي ل األحك ام الش رعية
على األفراد والجماع ات في ج انبين :أح دهماُ :حْس ن تحقي ق من اط الحكم
الشرعي ،والثاني النظر في مآالت األحكام المجَّردة عند تنزيله ا على الوق ائع
واألشخاص.
أ .مراعاة مقاصد الشارع في تحقيق المناط الخاص للحكم
من المعلوم أن المقصود من شرع األحكام ونصب األدلة الشرعية عليه ا ه و
تنزيل أفعال المكلفين على حسبها 113.فاألحكام الشرعية إنما ُأنِزلت لتتحَّول
إلى واقع عملي في حياة الناس ،ولكن األدلة الشرعية في غالبها ممَّحضة للحكم
في أجن اس األفع ال المج ردة ،من حيث إن األم ر والنهي فيه ا "يتعلق ان في
الخطاب بص فة مباش رة بحنس الفع ل ،ك أن يتعل ق النهي بالس رقة ،واألم ر
باألمانة .أما األفعال الجزئية المشَّخصة بظروف المكان والزمان ،مما ق ام ب ه
زيد من سرقة ،أو عمرو من أمانة ،ف إن (األدل ة تتعل ق) به ا بواس طة النظ ر
العقلي ،حيث يتم إرجاعها إلى أجناسها التي تعلق بها الوحي مباشرة َلَّم ا يق ع
التحُّقق من أنها مناط ة ب الجنس المعَّين" 114،وه و المص طلح علي ه عن د
األصوليين بتحقيق المناط.
40
فاألصل في م ا ك ان يت نّزل في الق رآن الك ريم من أحك ام ه و العم وم
والتجريد ،أي التعلق بحنس األفعال ،وه و م ا س ماه الش اطبي اقتض اء األدل ة
األصلي لألحكام قبل طروء العوارض .وكثيرا م ا ك ان يحص ل بي ان من اط
الحكم سواء بالقرآن الكريم أو بالبيان النبوي الشريف ،وهو م ا اص طلح علي ه
الش اطبي باالقتض اء التبعي ،وه و الواق ع على المح ّل م ع اعتب ار التواب ع
واإلضافات 115،ولكن ذلك البيان غير مستنفذ لجميع مناطات األحك ام .ولّم ا
كانت األحكام الش رعية تق ع مطلق ة ومج ردة ،أم ا األفع ال فتق ع معَّين ة
مشَّخصة ،فإن تنزيل المطلق المجرد على المعَّين المشَّخص يحتاج إلى ن وع
اجتهاد ونظر ،وهو اجتهاد تحقيق المناط ،الذي قال عنه الشاطبي إنه ب اق بق اء
التكليف إلى يوم القيامة 116،وجعله على نوعين :ع ام ،وه و ال ذي يرج ع إلى
األنواع ،وخاص ،والمراد منه أن المجتهد أو المفتي "يحمل على ك ّل نفس من
أحكام النصوص ما يليق بها ،بناء على أن ذلك هو المقصود الش رعي في تلِّقي
التكاليف" 117،وهو مرادنا بتحقيق المناط في هذا المقام.
والحاصل أن الشارع قاصد إلى ُحْسن تنزيل األحكام المجَّردة على مناطاتها
الحقيقي ة في الواق ع العملي ح تى ُتْثم ر تل ك األحك ام فوائ دها وتحِّق ق
مقاصدها .فحسن تحقيق المناط مقص د من مقاص د الش ارع ،ألن ه ي ؤدي إلى
تحقيق مقاصد األحكام.
وحتى يتحقق مقصد الشارع في تنزيل الأحكام على مناطاتها الحقيقي ة ينبغي
على المجتهد أن ينظر في المقصد من الحكم الشرعي الذي هو بصدد تنزيله على
واقعة أو شخص ما ،ثم ينظر في تلك الح ال ه ل هي ُمطاِبق ة ل ذلك الحكم
داخلة في نطاقه؟ أم أنها محّل ترُّخص أو اس تثناء ،أو هي أولى بال دخول تحت
حكم آخر غير هذا؟
فإذا تبَّين له مطابقة المقصد من الحكم للواقعة ألحقها به ،أما إذا تبَّين ل ه
عدم الموافقة ،فإنه ينبغي عليه تدقيق النظر في حال تلك الواقعة ،فربما ك ان
115وقد بَّين الشاطبي أهم المواضع التي كان يتم فيها ذلك البيان .الموافقات ،ج ،3ص
.75-71
116الشاطبي ،الموافقات ،ج ،4ص.467 ،463
117المرجع نفسه ،ج ،3ص.471
41
الشارع قد أفاد ما يجعلها محّل ترُّخص أو استثناء ،أو ربما كانت داخل ة تحت
حكم آخر غير هذا الذي هو محل التنزيل.
ومن أمثلة ذلك م ا فعل ه عم ر بن الخط اب رض ي اهلل في س هم المؤلف ة
قلوبهم .حيث جعل القرآن الكريم المؤلفة قلوبهم من مصارف الزك اة ،وليس
من الواجب -كما ه و رأي الجمه ور ورأي عم ر بن الخط اب - 118أن تعطى
الزكاة لجميع مصارفها في كل وقت .فالقرآن الكريم ش رع إعط اء الزك اة
للمؤلفة قلوبهم تليينا لقلوبهم وتقريبا لها إلى اإلسالم أو إتقاء لش رهم ،وق د
كان هذا المقصد متحققا في زمن الرسول .فلما جاء زمن عم ر ،وق د دخ ل
الناس في دين اهلل أفواجا ،وأصبحت دعائم الدين واض حة مس تقرة ،وألص حابه
شوكة قوية تحمي جميع من أوى إليه ،لم يع د من اط ذل ك الحكم متحقق ا،
فقرر عمر بن الخطاب عدم العمل بالنص ألن مناطه لم يع د متحقق ا ،فه و لم
يقرر عدم تنزيل الحكم على الواقع إلى األبد ،ولكن في تلك الظروف ،فإذا َجّد
ظرف تحّقق فيه مناط الحكم والمقصد منه ُصرف للمؤلف ة قل وبهم نص يبهم
من الزكاة.
وكذلك ما فعله في الزواج من محصنات أهل الكتاب ،فإن القرآن ق د أب اح
الزواج منهن كما أباح أك ل طع امهم ،ربم ا تأليف ا لقل وبهم ،وتوس يعا على
المؤمنين؛ إذ قد ُتلِجئ الحاجة أو الض رورة بعض هم إلى ذل ك في وقت م ا.
ولكن لما رأى عمر إسرافا في ذلك وسوء اس تخدام له ذا المب اح ،إذ ك ان في
غالبه غير محتاج إليه ،فضال عما ينتج عنه من تعنيس وفتنة للمؤمنات ،وخط ر
على أسرار الدولة وخططها إذا تزوج القادة منهن ،تحقق لديه أن من اط الحكم
الذي يترتب عليه المقصد من إباحة هذا النوع من الزواج غير متحقق في غالب
تلك الحاالت ،فنهى عن ذلك الزواج ،مع بقاء حكم اإلباحة إلى األبد عند تحقق
المناط ،وهو الحاجة أو الضرورة الملجئة ووجود مص لحة راجح ة في ذل ك
الزواج.
وك ذلك م ا فعل ه م ع غلم ان لح اطب بن أبي بلتع ة حين س رقوا ناق ة
فانتحروها وأكلوها .فلما رفع األمر إلى عمر بن الخطاب ،لم يقط ع أي ديهم،
118قعله جي ،محمد رواس :موسوعة فقه عمر بن الخطاب (بيروت :دار النفائس للطباعة
والنشر والتوزيع ،ط1418 ،5هـ1997 /م) ،ص.468
42
وقال لسيدهم" :لوال أني أظن أنك تجيعهم حتى أن أحدهم أتى م ا ح ّرم اهلل،
لقطعت أيديهم ،ولكن واهلل لئن تركتهم ألغرمنك غرامة توجع ك" وغّرم ه
ضعف ثمن الناقة 119.فكأن عمر هنا جعل ضرورة الجوع بمنزلة اإلكراه الذي
هو من مسقطات عقوبة السرقة 120،ولم يطبق حد السرقة عليهم لع دم وج ود
مناطه ،بسبب عدم توفر بعض شروط إقامة الحد.
43
ب .مراعاة مقاصد الشريعة في النظر إلى مآالت األفعال
تنزيل الحكم الشرعي على واقعة أو شخص ما يقتضي النظر فيما يؤول إليه
ذلك التنزيل .وأساس ذلك أن األحكام الشرعية إنم ا ج اءت لتحقي ق ص الح
العباد بتحقيق المص الح ودرء المفاس د على المس تويين التجري دي المطل ق،
والتطبيقي المعَّين .ومن المسَّلم به لدى أهل اإلس الم أن ك ل حكم ج اء ب ه
الشرع ُمحِّقق لمصلحة أو دافع لمفس دة على المس توى التجري دي المطل ق.
ولكن عند تلُّبس ُحْكم ما بالواقع المشَّخص ،بما يعتريه من تواب ع وإض افات،
قد يتخَّلف أحيانا تحقيق المصلحة أو دفع المفسدة على الكمال أو على الغالب،
بل قد يؤدي األمر إلى عكس المقصد الشرعي من ذلك الحكم .وإذا صار األم ر
إلى ذلك وجب على المجتهد أن يعيد النظر في تنزيل ذل ك الحكم على تل ك
الواقعة المشخَّصة ،ليصل إلى حكم آخر هو أليق بتلك الحال ،وأكثر تحقيق ا
للمقصد الشرعي .وهذا هو المعَّبر عنه باعتبار المآالت.
ومما يشهد العتبار المآل في القرآن والسنة 121،نهي القرآن الكريم عن س ب
آلهة المشركين (األنعام ،)108 :مع أن هذا الفعل مشروع في أصله ،لما يؤول
إليه من سّب الذات اإللهية من قبل أهل الشرك انتقاما آللهتهم .وامتناع الرسول
عن قتل المنافقين ،لما قد يؤول إليه ذلك من تشهير به من قبل أعدائه ،بأنه
يقت ل أص حابه ،وه و األم ر ال ذي ي ؤدي إلى تنف ير الن اس من ال دخول في
اإلسالم 122.وامتناع الرسول عن إعادة بناء البيت على قواعد إبراهيم ،مخاف ة
أن يفتتن ضعاف اإليمان حديثو العهد باإلسالم فيظنوا أن الرس ول اعت دى على
حرمة البيت الحرام ،أو أن يستخدم أعداء اإلسالم ذلك لتنف ير من لم ُيْس ِلم
121انظر تفصيًال وافيًا عن أدلة اعتبار مآالت األفعال في القرآن الكريم والسنة النبوية
وآثار الصحابة في :عبد الرحمن بن معمر السنوسي :اعتبار المآالت ومراعاة نتائج
التصرفات (الرياض :دار ابن الجوزي ،ط1424 ،1هـ) ص 124وما بعدها.
122عن جابر بن عبد اهلل قال :كنا في غزاة ،فكسع رجل من المهاجرين رجال من األنصار،
فقال األنصاري :يا لألنصار ،وقال المهاجري :يا للمهاجرين ،فسمعها اهلل رسوله ،قال :ما
هذا؟ فقالوا :كسع رجل من المهاجرين رجال من األنصار ،فقال األنصاري :يا لألنصار،
وقال المهاجري :يا للمهاجرين ،فقال النبي " :دعوها فإنها منتنة" .قال جابر :وكانت
األنصار حين قدم النبي أكثر ،ثم كثر المهاجرون بعد .فقال عبد اهلل بن أبي :أو قد
فعلوا ،واهلل لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن األعز منها األذل ،فقال عمر بن الخطاب :
دعني يا رسول اهلل أضرب عنق هذا المنافق ،قال النبي " :دعه ،ال يتحدث الناس أن محمدا
يقتل أصحابه" .أخرجه البخاري ،ومسلم.
44
بع د من قبائ ل الع رب ،اس تغالال لم ا ك ان في نفوس هم من تعظيم لل بيت
123
الحرام.
واعتبار م آالت األفع ال ليس معن اه تعطي ل الحكم الش رعي في واقع ة من
الوقائع باجتهاد المجتهد بدعوى أن الحكم ال يحق ق المقص د من ه ،ولكن ه في
الواقع انتقال بالواقعة من حكم إلى حكم آخر ،إما بأن تكون مح ّل ت رُّخص أو
استثناء ،أو تكون ألصق بقاعدة أخرى وحكم آخر ،ليصل المجته د إلى إلحاقه ا
بأقرب األصول شبهًا بها .ومن مظاهر اعتبار مآالت األفعال ما يأتي:
.1سّد ذرائع الفساد :والمراد به إبطال األعمال المشروعة في ذاتها إذا كان
القيام بها يؤول إلى فساٍد ُمعَتَبر يزيد عن المصلحة ال تي ش رعت من أجله ا
تلك األفعال 124.وأساسه أن من المقاص د العظمى للش ريعة تحقي ق الص الح
ودفع الفساد ،ولذلك جاءت األحكام الشرعية في أساسها محقق ة ل ذلك ،ف إذا
وجدت ظروف تصِّير الفعل المشروع إلى إيقاع مفس دة يعت د بمثله ا ش رعا،
وجب منع ذلك الفعل المشروع في تلك الظروف ،ف إذا زالت تل ك الظ روف
وزالت معها المفسدة ،عاد الفعل إلى مشروعيته.
ومع أن موضوع سّد ذرائع الفساد محل اختالف بين العلماء والمذاهب ،إال أن
أصله ثابت في الشريعة ال يمكن إنكاره وال إهماله عند تنزيل األحكام الش رعية،
وإنما الخالف في إعماله في بعض الف روع عن دما تختل ف وجه ات النظ ر في
الترجيح بين المصلحة الناتجة عن تشريع الفعل ،والمفسدة الناتجة عن إيقاعه.
.2الّتحُّيل :والمراد به الّتحُّيل على األحكام الشرعية الُمْفضي إلى إيجاد
الصورة المشروعة للفعل مع تغييب المقصد من شرعه ،وقد ضبطه ابن عاش ور
بكونه" :يفيد معنى إبراز عمل ممنوع شرعا في ص ورة عم ل ج ائز ،أو إب راز
عمل غير معتٍّد ب ه ش رعا في ص ورة عم ل معت ٍّد ب ه ،لقص د التفِّص ي من
123عن عائشة أن رسول اهلل قال" :ألم تري أن قومك بنوا الكعبة واقتصروا عن قواعد
إبراهيم .فقلت :يا رسول اهلل ،أال تردها على قواعد إبراهيم؟ قال :لوال حدثان قومك
بالكفر" .فقال عبد اهلل بن عمر :لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول اهلل ،ما أرى
رسول اهلل ترك استالم الركنين اللذين يليان الحجر إال أن البيت لم يتمم على قواعد
إبراهيم .رواه البخاري ومسلم.
124انظر تفصيال جيدا لموضوع سد الذرائع في ابن عاشور ،مقاصد الشريعة اإلسالمية ،ص
.370-365
45
مؤاخذته" 125.وأساس هذا المبدأ أن الشارع قاصد من تشريعاته القيام به ا على
وجهها الصحيح لتثمر مقاصدها ،فإذا تحَّيل الشخص على إسقاطها إم ا بتغي ير
صورتها ،أو بالقصد إلى اإلتيان بما يبطلها بغير وجه حق ،أدى ذلك إلى إه دار
الحقوق ،والهجوم على المحرمات باصطناع وسائل مشروعة في ظاهرها .وهذا
فيه ما فيه من المفاسد المخالفة للمقاصد الشرعية.
وال شك أن بعض جزئيات هذا األصل مح ّل خالف بين الفقه اء والم ذاهب،
وال ضير في ذلك؛ ألنه خالف ناتج عن تقدير المص الح والمفاس د ،والموازن ة
بينه ا ،ولكن ه أص ل يجب األخ ذ ب ه في الجمل ة ،وإَّال آل األم ر إلى التالعب
باألحكام الشرعية وإبطال مقاصدها.
.3مالحظة م واطن الّت رُّخص :من الث ابت أن الش ارع قاص د من ش رع
األحكام إلى عموم االلتزام بها من قبل المكلفين ،ولكنه في الوقت نفس ه ص رح
بأنه غير قاصد إلى إعنات الناس واإلضرار بهم "وما جع ل عليكم في ال دين من
126
حرج" (الحج" ،)78 :ما يريد اهلل ليجعل عليكم من حرج" (المائ دة.)6 :
والجمع بين هذين المقصدين يتطلب من المجتهد المفتي عن د تنزي ل األحك ام
على الوقائع والتصرفات النظر في مآل تنزيلها ،فإذا كان ذلك مؤديا إلى ضرر
وحرج ُيعتُّد بمثلهما شرعا ،وجب النظر في إمكان دخول الواقع ة أو التص رف
في محّل الترُّخص .وليس في الترُّخص تعطيل للحكم الشرعي ،بل هو انتقال
بالواقعة من دليل إلى دليل آخر ،مراعاة لمقاصد الشارع وألصل اعتب ار م آالت
األفعال المعتّد به شرعا.
وقد أبرز ابن عاشور عند حديثه عن الرخصة في كتاب ه مقاص د الش ريعة
اإلسالمية عنصر الرخصة العامة بقسميها المط رد والم ؤقت .ومَّث ل للقس م
األول بالسلم والمزارعة والمساقاة ،وللثاني بما أف تى ب ه علم اء المالكي ة من
جواز الكراء المؤبد في أرض الوقف حين زهد الناس في كرائها لفترات زمنية
قصيرة وبفتوى علماء بخارى من الحنفية بجواز بيع الوفاء في الكروم لحاج ة
125ابن عاشور ،مقاصد الشريعة ،ص .353وقد فصل ابن عاشور في موضوع الحيل تفصيًال
دقيقًا فلينظر هناك.
126انظر في موضوع رفع الحرج ما كتبه ابن عاشور في كتابه مقاصد الشريعة تحت
مباحث" :انبناء الشريعة على الفطرة" ص ،267-259و"السماحة أول أوصاف الشريعة
وأكبر مقاصدها" ص ،272-268و"ليست الشريعة بنكاية" ص.339-337
46
غارسيها إلى النفقات عليها قبل إثمارها 127.ودعا الفقهاء إلى مراعاة الرخص ة
العامة المؤقتة مثل مراعاة الرخصة الخاصة والعامة المَّطردة.
وما نَّبه عليه ابن عاشور يجب االحتفاء به من قبل فقهاء العص ر ،غ ير أن ه
عند العمل بالرخصة العامة ينبغي األخذ بعين االعتبار أن ال يتح ّول ذل ك إلى
وسيلة إلضفاء المشروعية على المعامالت والتصرفات الفاس دة ،تكريس ا للظلم
واالنحراف .فمن أهم المقاصد التي جاءت الش ريعة من أجله ا إبط ال العوائ د
الفاسدة والتصرفات الظالمة ،واستبدالها بما فيه الصالح والعدل.
.4مالحظة مواضع االستثناء :حيث إن الش ارع ق د يخص األحك ام العام ة
(سواء جاءت تلك األحكام في نصوص أو قواعد كلية) باس تثناء بعض الص ور
والحاالت ،نظرا لعدم تحُّقق قصد الشارع من تش ريع الحكم في تل ك الص ور
والحاالت ،بل يكون تحقيق المقصد في إعطاء تل ك الح االت والص ور أحكام ا
خاصة مستثناة من القواعد العامة.
ومن االستثناء ما يكون بنص خاص من نصوص الق رآن أو الس نة ،وه و م ا
يعِّبر عنه األصوليون بالتخصيص واالستثناء ،ومنه م ا يك ون بفع ل المجته د
حين يخصص النصوص والقواعد الشرعية العامة ،ومنها القياس ،بعد النظر في
مقاصد النصوص واألحكام ،وقد ال يكون ذلك التخصيص بنص خاص بالمسألة،
ولكن بما هو ُمْسَتَشٌّف من نصوص الشريعة وقواعدها العامة .ومن هذا الباب
ما يعِّبر عن ه بعض علم اء المالكي ة بالتخص يص بالمص لحة أو االستحس ان
بالمصلحة ،واالستحسان بترك اليسير للَّتوسعة 128.ومنه ما يعِّبر عنه علم اء
الحنفية باالستحسان بالضرورة 129.فإن في جميع هذه الحاالت نج د االمتن اع
عن طرد قواعد عامة -نصوصًا كانت أو أقيسة -في بعض األفراد؛ ألن مقاصد
الشارع تقتضي استثناءها من تلك القواعد ،وإعطاءها أحكاما خاصة ،أو إلحاقها
بقواعد أخرى أكثر لصوقا بها.
.5مراعاة الخالف :ال ش ك أن من المقاص د العظمى للش ريعة اإلس المية
تحقيق األخوة بين المسلمين ،والمحافظة عليها بالنهي عما يؤدي إلى إفس ادها،
127ابن عاشور ،مقاصد الشريعة ،ص.383-380
128الشاطبي ،الموافقات ،ج ،4ص.363
129الدبوسي ،أبو زيد عبيد اهلل بن عمر بن عيسى ،تقويم األدلة في أصول الفقه ،ص-405
.406
47
وقد جاء بهذا كثير من األحكام الش رعية ،مث ل النهي عن خطب ة الرج ل على
خطبة أخيه ،وبيعه على بيع أخيه ،والنهي عن الغ رر ،وعم ا ي ؤدي إلى ال نزاع
والشقاق مثل العقود التي تنطوي على جهالة.
ومما قد يؤدي إلى خرم آصرة األخوة وإث ارة الش قاق ع دم اح ترام ال رأي
المخالف م ادام في دائ رة الخالف المقب ول ش رعا ،ه ذا ،فض ال عن أن وق وع
الخالف في المسائل الظنية ليس خارجا عن مقاصد الشارع ،بل ه و أم ر مالزم
للطبيعة البشرية ،أقَّره الشارع بإقرار االجتهاد.
وتأسيسًا على ما س بق ،ينبغي على المجته د عن د تنزي ل األحك ام مراع اة
المذهب السائد في المنطقة ،وما درج عليه الناس في حياتهم اليومية من أحك ام
ذلك المذهب ،تجُّنبا لما قد يقع من فتنة وقطع ألواصر األخوة بسبب مس ائل
ظنية قابلة لالختالف.
ويكفي االستدالل على هذا بفعل عبد اهلل بن مسعود َ لَّما صّلى خلف عثمان
بن عفان بمنى ُمِتًّما ،مع أنه كان يقول بالقصر ،وكان قد ح اجج عثم ان
في مذهبه باإلتم ام .وَلّم ا س ئل عن اتباع ه م ذهب عثم ان ق ال" :الخالف
130
شّر".
كما أن مراعاة الخالف ق د يك ون الب د من ه الس تقرار األحك ام الش رعية
والحقوق والواجبات المترِّتبة عليها .ومما يؤِّيد هذا ما ه و معل وم من ع دم
نقض حكم القاضي إذا لم يكن فيه خطأ ظاهر ،كأن يخالف نصا من غير تأوي ل
131
مقبول ،أو يخالف إجماعا .وكذلك عدم نقض اجتهاد سابق باجتهاد الح ق،
إذا كان ذلك في االجتهادات التي تم تنزيلها على الواقع وترتبت عليه ا حق وق
وواجبات؛ ألن ذلك ضروري الستقرار األحك ام ،وع دم إه دار حق وق الن اس.
ويبِّينه ما جاء عن عمر بن الخطاب عن دما قض ى في مس ألة ام رأة ت وفيت
وتركت زوجها وأمها وأخوين شقيقين وأخوين ألم فق ط ،فأش رك عم ر بين
اإلخوة جميعا في الثلث ،فقال له رجل :إنك لم تشرك بينهم عام ك ذا وك ذا.
48
فقال عمر :تلك على ما قضينا يومئذ ،وهذه على ما قضينا اليوم" 132.أما على
المستوى النظري فإن للمجتهد أن يغِّير اجتهاده إذا بدا ل ه خط أ في االجته اد
السابق ،وعندها ال ُينَسب إليه الرأي القديم لرجوعه عنه ،بل يكون مذهب ه ه و
آخر اجتهاداته .ومثال ذلك اإلمام الشافعي في القديم والجدي د من فق ه ،حيث
إن ما يصح أن يطلق عليه مذهب الشافعي هو ما استقر عليه أم ره في الجدي د.
وأَّما ما ذهب إليه بعض الشافعية من أخذ بالمذهب الق ديم في بعض المس ائل،
فليس بناء على أن ذلك هو مذهب اإلمام الشافعي ،وإنم ا بن اء على ت رجيحهم
للرأي القديم على الجديد العتبارات رأوه ا مرِّجح ة ،ويك ون ه ذا االختي ار
للقديم هو مذهب أتباع الشافعي (الشافعية) ،ال مذهب اإلمام الشافعي ،ألن مذهبه
هو ما استقّر عليه رأيه.
وربما صلح التمثيل لهذا العنصر بمسألة غريبة أوردها ابن السبكي في طبقات
الشافعية ،حيث ذكر أن أبا سعيد الإص طخري لم ا ُعِّين قاض يا على سجس تان
"سار إليها ونظر فى مناكحاتهم فأصاب معظمها مبنيًا على غير اعتبار ال ولي،
فأنكرها غاية الإنكار ،وأبطلها عن آخرها" 133.ولم يذكر المؤلف ما نتج عن هذا
التصرف ،ولكنه ليس هناك من شّك في أن يكون قد أحدث اضطرابًا كبيرًا في
حياة الناس وسبب شحناء عظيمة بينهم.
.6التوُّسط والاعتدال :من مقاصد الشرع العظيمة التي ينبغي مراعاتها عند
تنزيل الأحكام التوُّس ط والاعت دال .ويك ون التوُّس ط والاعت دال في امتث ال
الأحكام على المستوى الفردي بأن يأخ ذ الإنس ان من العم ل م ا يطي ق؛ لأن من
مقاصد الشارع المداومة على العمل الصالح ليستمّر أث ره الإيج ابي في ته ذيب
السلوك والسمو بالروح طيلة عمر الإنسان ،مصداقا لقول الرسول لم ا س ئل :
أي العمل أحب إلى الله؟ قال" :أدومه وإن قّل" 134،والمداومة تقتضي التوُّسط
والاعتدال ،لأن الإفراط والتنُّطع قد يؤدي إلى الانقطاع والانتك اس ،كم ا بين ه
49
قول الرسول " :إن ال دين ُيْس ر ،ولن يش اّد ال دين أح د إلا غلب ه ،فس ِّددوا
135
وقاربوا ،وأبشروا ،واستعينوا بالغدوة والروحة ،وشيء من الدلجة".
أما على المستوى الجم اعي ،ف إن الأم ر لا يبع د عن ذل ك المع نى ،حيث إن
التشريعات التي تسُّن لعاّمة الناس ينبغي أن تَّتسم بالتوُّسط والاعتدال مراع اة
لكون الناس ليسوا على درجة واحدة ،ففيهم صاحب الهمة العالي ة ،وفيهم ص احب
النفس الضعيفة .والوسطية في التش ريع تلِّبي الح ّد المقب ول ال ذي يحتاج ه
صاحب الِهّمة العالية ،وترتفع بصاحب النفس الض عيفة درج ة لا َيْعُس ر علي ه
الارتقاء إليها .ويؤيد ذل ك م ا ورد في الس نة من نهي الن بي عن الإطال ة في
الصلاة بالعامة مراعاة لظروفهم ،فعن أبي هريرة أنه قال" :إذا ص لى أح دكم
بالناس ،فليخِّفف ،فإن فيهم السقيم ،والض عيف ،والكب ير .ف إذا ص لى أح دكم
136
لنفسه فليطِّول ما شاء".
.7مراعاة الواقع والظروف :وهذا العنصر مكِّمل للعنصر الس ابق ،وذل ك
أن من األحكام ما يتراوح بين حدين :أحدهما يميل نحو التشديد ،واآلخر يمي ل
نحو التيسير .وعلى من ي نزل األحك ام على الوق ائع الفردي ة أن ينظ ر ح ال
الشخص عند إفتائه ،فإذا كان مثال من أهل الغلو والتشديد على النفس ،مال ب ه
نحو االعتدال ،وإذا كان من أهل المعاصي واالستخفاف بحرمات اهلل مال به نحو
ما يحقق زجره عن ذلك ويعود به إلى طريق التوسط واالعتدال 137.وكل هذا
ينبغي أن يكون بعيدا عما قد يق ع من فس اد في بعض ال ذمم من إفت اء الن اس
بالمحاباة بحسب ما يربطهم بالمفتي من عالقات رغبة أو رهبة.
ومن الناحية الاجتماعية ،ينبغي على المجتهد أن يستشعر في الوقت نفسه أنه
مصلح اجتماعي ،فيتحرى الطريق الذي يجعل فتواه تؤدي إلى تحقي ق الإص لاح
الاجتماعي الذي ه و من أعظم مقاص د الش رع الإس لامي .وم ع أن الأص ل في
التشريعات الجماعية أن تميل نحو التوسط والتيسير ،كما سبق الإشارة إليه في
العنصر السابق ،إلا أنه إذا رأى المفتي أن ش يئًا من ذل ك التيس ير يق ود نح و
ظاهرة اجتماعية سلبية ،أو يؤدي إلى الاستخفاف بالأحكام الشرعية ،وجب علي ه
50
تغيير التشريع إلى ما يعين على علاج ذلك الخلل .وفي هذا أمثل ة كث يرة من
تاريخ الفقه الإسلامي ،منها :زيادة الص حابة عقوب ة ش رب الخم ر إلى ثم انين
جلدة ،وإمضاء عمر بن الخطاب الطلاق بلفظ الثلاث ثلاثا بع د أن ك ان يحس ب
طلقة واحدة ،وربط علماء المالكية تحريم بيوع الآجال بأثرها في المجتمع؛ فإذا
فشا التعامل بها وانقلب إلى تحُّيل على الربا ُأْفِتي بمنعه ا لم ا ينتج عن الرب ا
من مفاسد اجتماعية ،أما إذا كان وقوعه ا قليلا بحيث لا يك ون مظن ة التحُّي ل
138
على الربا لم ُتْمَنع.
.8التدُّرج :مراعاة التدرج في تنزيل األحكام على الواقع أمر نسبي يختلف
باختالف المحل ،من حيث قوة صلة المكَّلفين بالدين ،والظروف البيئية ،ون وع
األحكام الشرعية المنَّزلة على الواقع.
ومما لا شك فيه أن التدرج في التشريع خاصية من خصائص عص ر التنزي ل
زالت باكتمال الشريعة واستقرارها وانقطاع الوحي ،فلا س بيل إلى الع ودة إلي ه
بحال .وإنما المقصود هنا هو التدرج في الدعوة والتطبيق .والأص ل فيمن دخ ل
هذا الدين أن يستسلم لحكم الله تعالى بجميع أحكامه في حدود طاقته ،ولكن ق د
تطرأ بعض الظروف تجعل من العسير جدا تطبيق الأحكام الشرعية ـ خاصة منها
ذات الصبغة الاجتماعية ـ دفعة واحدة ،فيحتاج الأمر إلى ش يء من الت درج فيم ا
يقبل التدرج ،ويكون ذلك إما بمراعاة ُسَّلم الأولويات ،أو بالبدء بالممه دات ،أو
بالتدرج الكمي ،أو بتأخير بعض الأحكام إلى أن يتم تهيئة الظروف المناسبة لها.
وهذا الموضوع في غاية الحساسية ،ولذلك فهو يحتاج إلى تق دير من أه ل
العلم ،قائم على اإلخالص وصدق النية ،ودراس ة موض وعية للواق ع ،م ع ب ذل
قصارى الجهد في البلوغ بتطبيق األحكام الشرعية مداه ،حتى ال ينقلب الت درج
ذريعة إلى تعطيل الشرع بحجج واهية هي عين ما جاء الشرع لمحاربته.
أما الدليل على اعتبار التدرج فمنه وق وع الت درج والنس خ في عص ر التنزي ل.
والتدرج في التشريع وإن كان خاصا بعصر التنزيل ،إال أنه يرشد إلى أن التدرج من
سنن اهلل في الكون.
ومنه وصية الرسول لمعاذ بن جبل حين بعث ه إلى اليمن فق ال" :ادعهم
إلى شهادة أن ال إله إال اهلل وأني رسول اهلل ،فإن هم أطاعوا ل ذلك ،ف أعلمهم أن
ابن عاشور ،مقاصد الشريعة ،ص.369-368 138
51
اهلل قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ،فإن هم أطاعوا ل ذلك،
فأعلمهم أن اهلل افترض عليهم صدقة في أموالهم ،تؤخذ من أغنيائهم وترد على
فقرائهم" .139
ومنه فعل عمر بن عبد العزيز حينما تولى الخلاف ة وأخ ذ بمنهج الت درج في
إنفاذ الحق وتغيير المنكر الذي انتشر في الدولة ،خاصة الطبقة الحاكمة .وق د
قال له ولده عبد الملك ذات يوم :ما يمنعك أن تمضي الذي تريد؟ فوالذي نفسي
بيده ما أبالي لو غلت بك وبي القدور ،قال وحّق هذا منك؟ قال :نعم والله ،قال
عمر :الحمد لله الذي جعل من ذريتي من يعينني على أمر دي ني .إني ل و ب اهت
الناس بالذي تقول لم آمن أن ينكروها ،فإذا أنكروها لم أجد ب دًا من الس يف ،ولا
خير في خير لا يجيء إلا بالسيف .يا بني ،إني أروض الناس رياضة الصعبة ،ف إن
بَّطأ بي ُعُمر أرجو أن ينفذ الله مشيئتي ،وإن تعدو منّيتي فقد علم الل ه ال ذي
140
أريده".
ضرورة مراعاة المقاصد الشرعية في الفتاوى المعاصرة
االجتهاد هو أن يبذل المجتهد وسعه في البحث عن الحكم الش رعي األك ثر
مناسبة للواقعة محل االجتهاد ،بما يحقق المقاصد العام ة والجزئي ة من ش رع
األحكام .وبناء عليه فإن "أكثر المجتهدين إص ابة ،وأك ثر ص واب المجته د
الواح د في اجتهادات ه يكون ان على مقي اس غوص ه في تطُّلب مقاص د
الشريعة" 141.والواقع أن ض رورة مراع اة المقاص د الش رعية في الفت وى ال
تختلف بين العصور الماضية والعصر الحاضر ،فاالجتهاد يكون صائبًا أو قريبًا
من الصواب عندما يستوفي صاحبه شروط االجتهاد ،وعلى رأسها فقه المقاص د
واإلحاطة بها ،ويكون اجتهادًا قاص رًا إذا قّص ر ص احبه في ش روط االجته اد
السليم التي يتقدمها فقه المقاصد الشرعية ومراعاة ضوابط التنزيل التي س بق
الحديث عنها.
وربما تميز االجتهاد والفتوى في هذا العصر بكون غالبية الوقائع المستجدة
من القضايا التي يكون االجتهاد فيها بناء على الموازنة بين المصالح والمفاس د،
52
فضًال عن أن الن وازل العام ة ذات الص لة ب النواحي االجتماعي ة واالقتص ادية
والسياسية قضايا معَّقدة ومتشابكة مع غيرها ،وهي األمور التي تتطلب التدقيق
في فهم تلك القضايا في جميع أبعادها وتداعياتها ومآالته ا ،واالس تعانة بأه ل
التخصص في ذلك ،ثم بعد ذلك تقييمها بنظرة شمولية متوازن ة قائم ة على
ِفْقٍه ثاقب في المقاصد الش رعية عاِّمه ا وخاص ها وجزئِّيه ا ،للوص ول إلى
الحكم الذي يكون أقرب إلى تحقيق المقاصد الشرعية.
وأّي فتوى ُتْبَنى على نظرة جزئية متعِّجلة قائمة على س وء فهم أو س وء
تقدير للمآالت تنِّزل األحكام على غير مناطاته ا الحقيقي ة س وف ت ؤدي إلى
إهدار المقاصد الشرعية ،واإلضرار باألمة في مجملها أو في جماعاته ا .وغ ني
عن البيان أننا عندما نتحدث عن مراعاة المقاصد الشرعية ،نتحدث عن المقاصد
الحقيقية التي دلت عليها نصوص الشارع بمنطوقها أو بمعقوله ا أو بمقاماته ا
وس ياقاتها .وال نتح دث عن مقاص د من يبتغي التفص ي عن ال دين باس تبدال
مقاصده الشخصية بمقاصد الشريعة.
53
خاتمة
يمكن أن نخلص في نهاية هذا البحث إلى أن مقاصد الش ريعة هي روح األحك ام
الشرعية وقلبها النابض ،وهي العنصر الموِّجه لعمل الفقيه المجتهد والمعام ل
الذي ال ينبغي غيابه في جميع ح االت االجته اد واإلفت اء والتش ريع .ومراع اة
المقاصد القائمة على إصالح حياة الناس في الدارين أصل أصيل في اإلسالم منذ
أول يوم بدأت فيه أحكامه بالتنزل ،وذاك هو أس اس جع ل الش ريعة اإلس المية
خاتم الشرائع ،وجعلها عامة زمانا ومكانا وأشخاصا .والمراد بالمقاصد الشرعية
ما دلت عليه نصوص الشارع تصريحا وتلميحا وأيدته الفطرة السليمة والعقول
الراجحة ،وليس المراد بها أهواء أهل األهواء وتوهماتهم.
54