Download as doc, pdf, or txt
Download as doc, pdf, or txt
You are on page 1of 55

‫مقاصد الشريعة‬

‫وأثرها في استنباط األحكام‬

‫بحث مقدم لدورة مجمع الفقه اإلسالمي‬


‫بكوااللمبور ‪2007‬‬

‫إعداد‬
‫د‪ .‬محمد الطاهر الميساوي‬
‫د‪ .‬نعمان جغيم‬
‫(الجامعة اإلسالمية العالمية بماليزيا)‬
‫تقديم‬
‫من المعلوم الثابت عند أهل التحقيق أن البحث عن المب ادئ العام ة الناظم ة‬
‫لنصوص الشريعة في أص ولها وفص ولها والمقاص د الكلي ة المن وط تحقيقه ا‬
‫بالأحكام الشرعية في جزئياتها وفروعها ليس أمرًا مس تحدثًا ط رأ م ع تك ون‬
‫المذاهب الفقهية وتمايزها أو نشأ مع ظهور علم أصول الفق ه وتكامل ه منهج ًا‬
‫يهدي عمل الفقي ه المجته د في اس تنباط الأحك ام من أدلته ا ثم تنزيله ا على‬
‫الوقائع وتكييف أوضاع المكلفين طبقًا لمقتضياتها‪ .‬وإنما ك ان ذل ك ص نيعًا‬
‫يضرب بجذوره في صميم العهد النبوي وجيل الصحابة الذين تلقوه عن الرسول‬
‫صلوات الله وسلامه عليه‪ ،‬أخذًا فيه بتوجيهات القرآن الكريم تصريحًا وتنبيه ًا‬
‫وإيحاًء بم ا ي دل على حكم ة التنزي ل وخل و الش ريعة عن العبث وبع دها عن‬
‫التحكم‪ ،‬وكون أحكامها إنما ُوضعت لمصلحة العباد في المعاش والمعاد‪.‬‬
‫وإذا ك ان ه ذا البحث لم يتخ ذ في ذل ك العص ر لغ ًة فني ة خاص ة أو‬
‫مصطلحات علمية متميزة‪ ،‬فإن ذلك أمر طبيعي في نمو الفكر اإلنس اني‪ ،‬ح تى‬
‫وإن استند في قضاياه ومقوالته ومسائله واستدالالته إلى مرجعي ة ال وحي‪ .‬ثم‬
‫إن جيل الصحابة‪ ،‬الذين شهدوا تنزل الوحي وتلقوا هديه على ي دي الرس ول ‪‬‬
‫تربية لهم منه وتعليمًا وإرشادًا‪ ،‬قد ُأشرَب أك ثُرهم ‪ -‬وخاص ة َمْن ُعرف وا‬
‫باالجتهاد والفت وى منهم ‪ -‬ال روَح الكلي ال ذي يس ري في نص وص الش ريعة‬
‫والمعاِنَي الكليَة التي تنضوي تحتها جزئياُتها واألص وَل العام ة ال تي تنتظم‬
‫فروَعها‪ ،‬وذلك بضرب من الفهم االرتكازي الذي تولد ل ديهم بفض ل اإلش عاع‬
‫الروحي والفكري المباشر لوجود صاحب الرسالة في حياتهم وبيئتهم‪ 1.‬واآلثار‬
‫المروية عن أئم ة الفت وى واالجته اد من الص حابة ومن أخ ذ عنهم من جي ل‬
‫التابعين طافحة بشواهد سيرهم على نهج البحث عن مقاصد الشريعة والتبص ر‬
‫بمناسبات المصالح واعتباره ا عن د اس تنباط األحك ام وإجرائه ا على الوق ائع‬
‫‪2‬‬
‫والنوازل التي تعرض لهم‪.‬‬

‫‪ 1‬انظر في هذا المعنى محمد باقر الصدر‪ :‬المجموعة الكاملة لمؤلفات السيد محمد باقر‬
‫الصدر‪ ،‬ج‪ :13‬المدرسة القرآنية‪ ،‬السنن التاريخية في القرآن (بيروت‪ :‬دار التعارف‬
‫للمطبوعات‪ ،)1410/1990 ،‬ص‪.40-39‬‬
‫‪ 2‬راجع ما ساقه بهذا الشأن الشيخ محمد مصطفى شلبي في كتابه تعليل األحكام (بيروت‪:‬‬
‫دار النهضة العربية‪ ،)1981 ،‬ص‪.93-35‬‬
‫وم ا أن اس تقامت لم ذاهب التفق ه واالجته اد مبانيه ا واس توت مناهجه ا‬
‫ومسالك النظر لديها‪ ،‬وما أن تمايزت أعالمه ا واس تقرت م داركها من خالل‬
‫نضوج علم أصول الفقه مجاًال مستقًّال في الفك ر التش ريعي اإلس المي‪ ،‬ح تى‬
‫صارت لموضوع مقاصد الشريعة مصطلحاٌت تخصه وألف اظ تع رب عن ه‪ ،‬وإن‬
‫كان ذلك قد تم على نحو متدرج ع بر ت راكم الجه ود العلمي ة لطائف ة من‬
‫العلماء النظار المحققين خالل مدة غير يسيرة من الزمن‪ .‬وقد ك انت أنظ ار‬
‫الفقهاء ومناظرات األصوليين في مسألة التعلي ل وم ا ارتب ط به ا من تأس يس‬
‫لمشروعية القياس هي السياق الذي تبَّلرت فيه مقول ُة المقاص د تعب يرًا عن‬
‫غائية األحكام الشرعية‪ ،‬كما كان مفهوم المص لحة المح ور أو قطب ال رحى‬
‫الذي دارت عليه تلك األنظار والمناظرات‪.‬‬
‫وإذا كان لمقولة مقاصِد الشريعة بهذا المقام‪ ،‬اتصالًا قوّيًا بمس ألة التعلي ل‬
‫وارتباطًا متينًا بموضوع المصلحة‪ ،‬بل انبثاقًا منهما‪ ،‬فح رٌّي أن يك ون له ا من‬
‫الاعتبار في الاجتهاد استنباطًا للأحكام من أدلتها وتطبيقًا لها في الواقع ما يناسب‬
‫ذلكم المقام‪ .‬ولقد تفاوتت تقري راُت العلم اء في اعتب ار مقاص د الش ريعة في‬
‫الاجتهاد وتباينت أقواُلهم في ضبط مدى ذلك الاعتب ار وص وره‪ ،‬وإنم ا يرج ع‬
‫اختلاُفهم هذا إلى نظرتهم إلى مكانة المقاص د الش رعية من علم أص ول الفق ه‬
‫وعلاقتها بمباحثه ومسائله المختلفة‪ .‬وسيسعى هذا البحث إلى تن اول الموض وع‬
‫من هذه الزاوي ة عملًا على تجلي ة وظيف ة المقاص د من حيث تفعي ل مس الك‬
‫الاجتهاد والفتوى وتوسيع مدارك المجته د والمف تي في التعام ل م ع الأقض ية‬
‫والنوازل التي تطرأ في أبعادها المختلفة على مستوى الفرد والمجتمع‪.‬‬
‫ولما كان موضوع المصلحة هو المحور الذي دارت حوله الأنظ ار في قض ية‬
‫التعليل مثلما هو قوام مقولة المقاصد‪ ،‬فق د رأى الباحث ان ض رورة التوس ع في‬
‫مناقشته واستقصاء القول فيه‪ ،‬مع الح رص على ع دم التوغ ل في مس الك م ا‬
‫ارتبط به وتفرع عن الجدل حوله من مصطلحات إلا في حدود م ا دعت الحاج ة‬
‫إليه لتوضيح الأطروحة التي سعى البحث إلى بيانها‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬إن ما ح اول‬
‫الكاتبان تفصيل القول فيه في المبحث الأول من هذه الدراس ة إنم ا ه و تأص يل‬
‫وتأسيس لما جاء في المباحث التالية له‪.‬‬
‫تعليل األحكام والبحث عن معقولية التشريع ومقاصده‬

‫‪2‬‬
‫ليس من غرض هذا المبحث استقصاُء كالم العلماء في مسألة التعليل‪ ،‬كما‬
‫ليس من غايته حصُر تعريفاتهم للعلة وال سرد ما قرروه لها من ش روط وم ا‬
‫ضبطوه بشأنها من قوداح‪ ،‬فذلك أمر قد تكفلت بتفصيل القول في ه المؤلف ات‬
‫األصولية قديمًا وح ديثًا بم ا ال مزي د علي ه‪ ،‬إال أن يك ون على س بيل إع ادة‬
‫التركيب نظمًا لما ُوضع لها من مصطلحات وما صيغ بش أنها من مف اهيم في‬
‫نسق نظري متسق البناء متواشج العناصر‪ .‬وإذا كان علم أصول الفق ه – كم ا‬
‫هو معلوم – قد تأثر بالمقوالت الكالمي ة للم ذهب العق دي ال ذي ينتمي إلي ه‬
‫المؤلفون فيه‪ ،‬بحيث "كان من الضرورة أن يقع التصنيف في ه ذا الب اب على‬
‫اعتقاد مصِّنف الكتاب" كما قال السمرقندي‪ 3،‬فإن ذلك التأثير ق د نجم عن ه‬
‫غيُر قليل من التشويش والبلبلة في صياغة المفاهيم المرتبطة بمبحث التعلي ل‬
‫وما يضاهيه اضطرابًا في وضع المصطلحات المعبرة عنها‪.‬‬
‫ولم يكن مظهر ذلك التشويش والاضطراب قاصرًا على التخالف بين المدارس‬
‫الكلامية أو التباين بين أصحاب المدرسة الكلامية الواحدة‪ ،‬وإنم ا نج ده ك ذلك‬
‫جلّيًا على مستوى ذات العالم الفرد من علماء المدرسة الكلامية ذاتها‪ ،‬وخاص ة من‬
‫الأشاعرة‪ .‬حتى إننا نج د بعض هم ينفي في كتب ه في علم الكلام م ا يق رره في‬
‫مؤلفاته في علم أصول الفقه! وليس من س بب ل ذلك إلا المماحك ات المذهبي ة‬
‫والإلزامات المتبادلة وطرد الأصول في المناظرة‪ ،‬كم ا ه و الأم ر في خص وص‬
‫الأشاعرة والمعتزلة‪ ،‬كما بين الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور عليه رحم ة الل ه‪.‬‬
‫ذلك أن "الأشاعرة لما أنكروا وجوَب فعل الصلاح والأصلح وأورد عليهم المعتزلة‬
‫أو قدروا هم في أنفسهم أن ُيوَرَد عليهم أن الله تعالى لا يفعل ش يئًا إلا لغ رض‬
‫وحكمة ولا تكون الأغراض إلا المصالح‪ ،‬فالتزموا أن أفع ال الل ه تع الى لا ُتن اُط‬
‫بالأغراض ولا ُيعَّبر عنها بالعلل"‪ ،‬وهم قد التزموا ذلك على الرغم من تسليمهم‬
‫بأن "أفعال الله تعالى لا تخلو عن الثمرة والحكمة"! وإذا كان الأمر كذلك فإنا‬
‫‪4‬‬
‫لنتساءل عن "الحرج الذي نظروا إليه حين منعوا تعليل أفعال الله وأغراضها"‪.‬‬

‫‪ 3‬السمرقندي‪ ،‬عالء الدين أبو بكر محمد بن أحمد‪ :‬ميزان األصول في نتائج العقول‪،‬‬
‫تحقيق محمد زكي عبد البر (القاهرة‪ :‬مكتبة دار االتراث‪ ،)1418/1997 ،‬ص‪.2‬‬
‫‪ 4‬ابن عاشور‪ ،‬محمد الطاهر‪ :‬تفسير التحرير والتنوير (تونس‪ :‬دار سحنون للنشر‬
‫والتوزيع‪ ،)1997 ،‬ج‪ ،1‬ص‪ .381-380‬هذا وقد ناقش ابن عاشور االعتراضات التي‬
‫أوردها اإلمام الرازي على نهج األشاعرة ضد القول بتعليل أفعال اهلل تعالى (بما في ذلك‬
‫أحكام الشريعة)‪ ،‬مبينًا عدم انتهاضها على أصل راسخ‪ ،‬ومبينًا كذلك أن القول بالتعليل‬

‫‪3‬‬
‫الشرع والفطرة والعقل‬
‫وأّيًا ما كان الأمر فقد كان من نتائج الغبار الذي أثارت ه تل ك المن اظرات‬
‫والإلزامات أن جانب المنخرطون فيها نهج القرآن الصريح وطريق الس نة اللاحب‬
‫القائمين على التعليل وربط الأحكام بأس باب وأوص اف وعل ل ت دل بص ورة أو‬
‫بأخرى من صور الدلالة على ما تنطوي عليه تلك الأحكام من ِحكم وما يناس بها‬
‫من مقاصد تدور كلها حول م ا في ه ص لاح الخل ق جلب ًا للمص لحة أو دفع ًا‬
‫للمفسدة أو كلاهما في آن واحد‪ .‬وليس ذلك الربط قائمًا على مجرد الاعتباط‬
‫والتحكم بحيث يقال إن الأعيان أو الأفعال التي تعلق بها الأمر أو النهي أو استندت‬
‫إليها الإباحة خلٌو من صفات حسن وصلاح أو أحوال قبح وفساد إم ا في ذاته ا أو‬
‫بسبب حيثياتها ومقارناتها‪ ،‬وإنها إنما تصير حسنة أو قبيحة بسبب تعل ق خط اب‬
‫الشارع بها‪ ،‬فذلك أمر لا تخفى مجافاته لما ق ام علي ه أس لوب الق رآن الك ريم‬
‫ومسلك الرسول عليه أفضل الصلاة وأزكى التس ليم من اعت داد بالعق ل ال ذي‬
‫أودعه الله في الإنسان ومراعاة للفطرة التي فطر الناَس عليه ا‪ ،‬وم ا ج رى ب ه‬
‫نهجهما من تعليل لما سيق فيهما من أوامر ونواه‪ ،‬بل وما جاء فيهم ا من وص ف‬
‫‪5‬‬
‫لأحداث ووقائع وظواهر إنسانية وتاريخية وكونية‪.‬‬
‫وكما قرر الإمام ابن تيمية بحق‪ ،‬ف إن َمْن ينك ر أن للأفع ال ص فاٍت ذاتي ًة‬
‫مدعيًا أن الفعل إنما يحسن ويقبح لمجرد تعلق الأمر الشرعي به‪ ،‬وأن لا أس اَس‬
‫ال يخدش في تنزيه اهلل تعالى وال في كماله سبحانه‪ .‬هذا ومن المفارقات العجيبة التي‬
‫نبه عليها بعض الكتاب أن بعض المدارس التي آمنت في مجال علم الكالم بمبدأ الحكمة‬
‫والغائية وأكدت قدرة العقل على إدراك مظاهر الحكمة ووجوه المصلحة في الفعل‬
‫اإللهي‪ ،‬نفت ذلك بخصوص األحكام الشرعية فلم يظهر في فقهها التنظير للمقاصد‪ ،‬بينما‬
‫بعض المدارس التي نفت التعليل والغرض عن أفعال اهلل تعالى‪ ،‬قالت بذلك في شأن أحكام‬
‫الشريعة بما مهد لها السبيل للقول بالمقاصد‪( .‬انظر محمد‪ ،‬يحيى‪" :‬نظرية المقاصد‬
‫والواقع"‪ ،‬مجلة قضايا إسالمية معاصرة‪ ،‬العدد ‪ ،1420/1999 ،8‬ص‪.)141-137‬‬
‫ويمكن أن نضيف إلى هذه المفارقة مفارقة أخرى‪ ،‬وهي أن بعض المذاهب الفقهية التي‬
‫توسعت في اعتبار المصلحة وعولت في سبيل ذلك على جملة من القواعد واألصول‪،‬‬
‫كاالستحسان (الحنفية والمالكية) والمصلحة المرسلة واعتبار الذرائع (المالكية)‪ ،‬لم‬
‫ينشأ عندها القول بالمقاصد تنظيرًا وتأصيًال‪ ،‬في حين أن من رّد تلك القواعد واألصول‬
‫في تنظيراتهم األصولية‪ ،‬وهم الشافعية‪ ،‬هم الذين كانت لهم الريادة في التنظير‬
‫للمقاصد‪.‬‬
‫‪ 5‬انظر دراسة موسعة وشاملة في هذا الصدد في الجنابي‪ ،‬يونس عبد مرزوك‪ :‬أسلوب‬
‫التعليل وطرائقه في القرآن الكريم (بيروت‪ :‬دار المدار اإلسالمي‪ ،‬ط‪.)2004 ،1‬‬

‫‪4‬‬
‫لتعلق أحكام الشريعة سوى خطاب الشارع‪ ،‬فإنه في الحقيقة ينكر ما ق امت علي ه‬
‫الشريعُة من مراعاة للمصالح والمفاسد واعتبار للمعروف والمنكر مما يدرك ه‬
‫الناُس بعقولهم التي ركبها الله فيهم‪ ،‬ومن ثم فهو منِكٌر ليس فقط للمناس بات‬
‫بين الأحكام وعللها‪ ،‬بل لأساس الفهم الصحيح للشريعة وإدراك ما قامت علي ه من‬
‫‪6‬‬
‫حكمة وما اتسمت به من محاسن وما وضعت لأجله من مقاصد‪.‬‬
‫وإذا كان اإلسالم ديَن الفطرة كما يقرر القرآن نفسه‪ ،‬فإن ذل ك ال يع ني‬
‫فقط أن اإلنسان قد ُخلق على هيئة معينة بحيث ي درك أن ل ه خالق ًا أوج ده‬
‫فيسوقه ذلك اإلدراك إلى التوجه نحوه والسعي لعبادته (كما قرر ذل ك ع دد‬
‫من المفسرين كابن عطية والزمخشري وال رازي)‪ ،‬ويك ون التوحي د ب ذلك‬
‫أمرًا مركوزًا في فطرة اإلنسان وطبيعته‪ ،‬وإنما يعني أيضًا "أن األصول ال تي‬
‫جاء بها اإلس الم هي من الفط رة‪ ،‬ثم تتبعه ا أص ول وف روع هي من الفض ائل‬
‫الذائعة المقبوله‪ ،‬فجاء بها اإلسالم وحرض عليه ا؛ إذ هي من الع ادات الص الحة‬
‫المتأصلة في البشر‪ ،‬والناشئة عن مقاص د من الخ ير س المة من الض رر‪ ،‬فهي‬
‫راجعة إلى أصول الفطرة‪ 7".‬وبعبارة أخرى فإن "أصول البر واإلثم وكلياتها"‬
‫هي الفطرة‪ ،‬وهي "الدين الذي ال يتغير بتغير األعصار‪ 8".‬ولو أن العلماء الذين‬
‫تناظروا في مسألة التعليل وذهبوا فيها مذاهب شتى ينفي بعضها بعضًا وينقض‬
‫الواحد منها ما ينسجه اآلخر‪ ،‬وق رروا بش أنها أق واًال تتج افى وروَح الق رآن‬
‫ونهجه وُتناِكُب سبيَل السنة ومسلكها‪ ،‬انتبهوا إلى ما أسسه اإلس الم من ه ذه‬
‫العروة الوثقى بين مقررات الشرع وأحكامه من جهة وطبيعة الخلق وم ا فط ر‬
‫اهلل عليه اإلنسان من عق ل من جه ة أخ رى‪َ ،‬لَم ا ورط وا فيم ا ورط وا في ه‪،‬‬
‫فالشريعة أمر اهلل وقدره الشرعي والفطرة خلق اهلل وق دره الك وني‪ ،‬ال تب ديل‬

‫‪ 6‬ابن تيمية‪ ،‬شيخ اإلسالم أحمد بن عبد الحليم‪ :‬مجموع الفتاوى‪ ،‬جمع وترتيب عبد‬
‫الرحمن بن قاسم النجدي (المملكة العربية السعودية‪ :‬اإلدارة العامة لشؤون الحرمين‪،‬‬
‫بدون تاريخ) ج ‪ ،11‬ص‪( 154‬بتصرف)‪ .‬وانظر كذلك له القياس في الشرع اإلسالمي‬
‫(بيروت‪ :‬دار اآلفاق الجديدة‪ ،)1402/1982 ،‬ص ‪.64‬‬
‫‪ 7‬ابن عاشور‪ ،‬محمد الطاهر‪ :‬مقاصد الشريعة الإسلامية‪ ،‬تحقيق محمد الطاهر الميساوي‬
‫(عمان‪ :‬دار النفائس‪،‬ط‪ ،)1421/2001 ،2‬ص‪.264‬‬
‫‪ 8‬الدهلوي‪ ،‬شاه ولي اهلل ابن عبد الرحيم‪ :‬حجة اهلل البالغة‪ ،‬تعليق محمد شريف سكر‬
‫(بيروت‪ :‬دار إحياء العلوم‪ ،‬ط‪ ،)1413/1992 ،2‬ج‪ ،1‬ص‪( 85‬ولعل الصحيح‪:‬‬
‫وكلياتهما باإلضافة إلى البر واإلثم)‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫لخلق اهلل وال معقب على حكمه‪ .‬وبناًء على ذلك يمكن القول مع القاض ي عب د‬
‫الجبار بأن "كَّل ما على المكلف فعُله أو ترك ه ق د رَّكب اهلل ُجَمَل ُه في‬
‫العقول‪ ،‬وإنما ال يكون في قوة العقول التنبي ُه على تفاص يلها‪ ،‬س واء ك ان في‬
‫أمور الدين أو في أمور المعاش ومنافع الن اس‪ ،‬وس واء ك ان ال ديني من ب اب‬
‫العقليات أو الشرعيات"‪ ،‬وب ذلك تك ون التك اليف ال تي ج اءت به ا الش ريعة‬
‫‪9‬‬
‫"مطابقًة للعقول‪ ،‬وكذلك أحوال المعامالت وم ا يتص ل بالض ر والنف ع‪".‬‬
‫وحيث تقررت في العقول تلك األصول والجمُل والكليات التي بها قوام الفطرة‬
‫التي فطر اهلل اإلنسان عليها‪ ،‬فإن الش ريعة اإلس المية ج اءت ت دعو الن اس إلى‬
‫تقويم الفطرة والحفاظ على مظاهر صالحها وإحياء ما اندرس منها وتخليصها‬
‫‪10‬‬
‫مما غلث بها من الرعونات واألحوال الفاسدة في الفكر واالعتقاد والعمل‪.‬‬
‫ونحسب أن أولئك النفر من األصوليين الذين استقام لهم األمر فنطروا إلى‬
‫األحكام الشرعية من زاوية ما أنيط بها من ِحَكٍم ُقِصَد بها استص الُح الخل ق‬
‫في معاشهم ومعادهم‪ ،‬إنما كانوا يصدرون عن إدراك لهذا األصل األصيل ال ذي‬
‫به يتقوم خلوُد الشريعة ويتأسس شمول أحكامها لكل البشر وتتأيد ص لوحيتها‬
‫لكل األوضاع واألحوال‪ .‬فإمام الحرمين الجويني الذي وضع الصياغة النظري ة‬
‫األولى لمقاصد الشريعة عند حديثه عن "تقاس يم العل ل واألص ول"‪ 11‬يزخ ز‬
‫برهانه ‪ -‬وخاصة الجزء الثاني منه ‪ -‬بالكالم على محاسن الش ريعة ومراش دها‬
‫وما تنطوي عليه أحكامها من حكم‪ ،‬كما تكثر في ه اإلش ارات إلى م ا ك ان من‬
‫‪ 9‬القاضي عبد الجبار‪ :‬المحيط بالتكليف (جمع الحسين بن أحمد بن متويه)‪ ،‬تحقيق عمر‬
‫السيد عزمي (القاهرة‪ :‬الدار المصرية للتأليف والترجمة‪ ،‬د‪ .‬ت‪ ،).‬ص‪.32-31‬‬
‫‪ 10‬ابن عاشور‪ :‬مقاصد الشريعة اإلسالمية‪ ،‬ص ‪.265-263‬‬
‫‪ 11‬الجويني‪ ،‬إمام الخرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد اهلل بن يوسف‪ :‬البرهان في‬
‫أصول الفقه‪ ،‬تحقيق عبد العظيم الديب (المنصورة (مصر)‪ :‬دار الوفاء‪،)1412/1992 ،‬‬
‫ج‪ ،2‬ص‪ .626-602‬وقد صنف الجويني علل األحكام على حسب ما ارتبط بها من مصالح‬
‫شرعت األحكام ألجل تحقيقها إلى خمسة أقسام اعتبرها هي األصول التي قامت عليها‬
‫الشريعة‪ :‬األول "ما ُيعقُل معناه وهو أصل‪ ،‬ويئول المعنى المعقول منه إلى أمر ضروري‬
‫ال بد منه مع تقرير غاية اإليالة الكلية والسياسة العامية"‪ ،‬والثاني "ما يتعلق بالحاجة‬
‫العامة‪ ،‬وال ينتهي إلى حد الضرورة"‪ ،‬والثالث "ما ال يتعلق بضرورة حاقة وال حاجة عامة‪،‬‬
‫ولكنه يلوح فيه غرض في جلب مكرمة أو نفي نقيض لها"‪ ،‬والرابع "ما ال يستند إلى‬
‫حاجة وال ضرورة‪ ،‬وتحصيل المقصود فيه مندوب إليه تصريحًا ابتداء"‪ ،‬والخامس "ما ال‬
‫يلوح فيه للمستنبط معنى أصًال وال مقتضى من ضرورة أو حاجة أو استحثاث على‬
‫مكرمة"‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫مسلك الصحابة في توخي مناسبات األحكام وإن كان ذلك بظن غ الب ال يقين‬
‫قاطع‪ ،‬سيرًا منهم في ذلك على نهج الشريعة وسياستها في استص الح الخل ق‪.‬‬
‫وعلى المنوال ذاته نسج اإلمام عز الدين بن عبد السالم في قواعده حيث قرر أن‬
‫"االعتماد في جلب مصالح ال دارين ودرء مفاس دهما ُيْبَنى في األغلب على م ا‬
‫يظهر في الظنون"‪ ،‬مؤكدًا "أن تقديم األصلح فاألصلح ودرء األفس د فاألفس د‬
‫مركوٌز في طباع العباد‪ ،‬نظرًا منهم من رب األرباب"‪ 12.‬بل إن الفقيه الشافعي‬
‫األشعري ال يتردد أن يق رر مقول ة طالم ا ُش ِّنع به ا على الق ائلين به ا من‬
‫المعتزل ة‪ ،‬فيؤك د أن "معظم مص الح ال دنيا ومفاس دها معروف ة بالعق ل‪،‬‬
‫وك ذلك معظم الش رائع‪ ،‬إذ ال يخفى على عاق ل – قب ل ورود الش رع – أن‬
‫تحصيل المصالح المحضة‪ ،‬ودرء المفاسد المحضة عن نفس اإلنسان وعن غ يره‬
‫محمود حسن‪ ،‬وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن‪ ،‬وأن درء أفسد‬
‫المفاسد فأفسدها محمود حس ن‪ ،‬وأن تق ديم المص الح الراجح ة إلى المفاس د‬
‫المرجوحة محمود حسن‪ ،‬وأن درء المفاسد الراجحة على المص الح المرجوح ة‬
‫‪13‬‬
‫محمود حسن‪".‬‬
‫ونحن إذا أمعنا النظر في خطاب ات الق رآن الك ريم أم رًا ونهي ًا وتوجيه ًا‬
‫وإرشادًا‪ ،‬وإذا ما سبرنا الأحكام في مواردها وسياقاتها المختلفة تحصحص ل دينا‬
‫أن "العبرة في المشروعية وعدمها بما يتضمنه الفع ُل من الص لاح والفس اد‪ ،‬ولا‬
‫عبرة بصورته ومظهره"‪ 14،‬والأمر نفسه يصدق على السنة النبوية على ص احبها‬
‫الصلاة والسلام‪ 15.‬ولنا أن نتمثل لهذا الأصل بما جاء في شأن الخمر والميسر في‬
‫قوله سبحانه‪َ :‬يْس َأُلوَنَك َعِن اْلَخْم ِر َواْلَمْيِس ِر ُق ْل ِفيِهَم ا ِإْثٌم‬
‫َكِبيٌر َوَمَناِفُع ِللَّناِس َوِإْثُمُهَما َأْكَبُر ِمن َّنْفِعِهَما‪( ‬البقرة‪219 :‬‬
‫)‪ ،‬وقوله عز وجل‪ِ :‬إَّنَما ُيِريُد الَّشْيَطاُن َأن ُيوِق َع َبْيَنُكُم اْلَع َداَوَة‬

‫‪ 12‬ابن عبد السالم‪ ،‬عز الدين عبد العزيز‪ :‬القواعد الكبرى الموسوم بقواعد األحكام في‬
‫مصالح األنام‪ ،‬تحقيق نزيه كمال حماد وغثمان جمعة ضميرية (دمشق‪ :‬دار القلم‪،‬‬
‫‪ ،)1421/2000‬ج‪ ،1‬ص ‪ 6‬و‪.9‬‬
‫‪ 13‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪( 8-7‬والتسويد من عندنا)‪.‬‬
‫‪ 14‬شلتوت‪ ،‬محمود‪ :‬تفسير القرآن الكريم (القاهرة‪ :‬دار الشروق‪ ،‬ط‪،)1424/2004 ،12‬‬
‫ص ‪.428‬‬
‫‪ 15‬انظر للمزيد من التفصيل في خصوص ربط القرآن والسنة األحكام بما يترتب على‬
‫الفعل من مصلحة أو مفسدة شلبي‪ ،‬محمد مصطفى‪ :‬تعليل األحكام‪ ،‬ص‪.34-14‬‬

‫‪7‬‬
‫َواْلَبْغَضاء ِفي اْلَخْمِر َواْلَمْيِسِر َوَيُصَّدُكْم َعن ِذْك ِر الّل ِه َوَعِن‬
‫الَّصلَاِة َفَهْل َأنُتم ُّمنَتُهوَن‪( ‬المائدة‪ .)91 :‬ففي الآية الأولى مقابل ٌة بين‬
‫الإثم الذي ُيوقع فيه تعاطي الخمر والميسر والمنافع التي تتأتى منه‪ ،‬بم ا يفي د‬
‫تقديرًا واقعّيًا لهما لا ينكر ما فيهما من منافع كاللذة والفرح وهض م الطع ام‬
‫وتشجيع الجبان وتسخية البخيل والتجارة وربح للمال‪ ،‬إلخ‪ .‬ولكن تلك المن افع‬
‫مرجوحة بمفاسد أكبر أكدت الآيُة الأولى رجحاَنها وتولت الآيُة الثانية بياَنها‬
‫وتلخيصها في أصلين كليين جامعين هما فساُد العلاقات الشخصية والاجتماعي ة‬
‫بين الناس‪ ،‬وتنكُبهم سواء السبيل في الصلة مع خالقهم وم ولاهم‪ .‬وفي الآي تين‬
‫تنبيٌه وتوجي ه للعق ول إلى اس تجلاء تفاص يل تل ك المفاس د ب النظر العلمي‬
‫‪16‬‬
‫المسَّدد والبحث المنهجي المؤيد‪.‬‬
‫وتأصيًال لما نحاول االس تدالل علي ه في ه ذا المبحث ق ال الش يخ محم د‬
‫الطاهر ابن عاشور كالمًا ناصعًا في سياق تفسيره لآلي ة األولى من المناس ب‬
‫جلبه هنا‪ .‬قال‪" :‬فإن قلت‪ :‬ما الوجه في ذكر من افع الخم ر والميس ر م ع أن‬
‫سياق التحريم والتمهيد إليه يقتضي تناسي المنافع؟ قلت‪ :‬إن كانت اآلية نازلة‬
‫لتحريم الخمر والميسر فالفائدة في ذكر المن افع هي بي ان حكم ة التش ريع‬
‫ليعتاد المسلمون مراعاة علل األشياء؛ ألن اهلل جعل هذا الدين دينًا دائمًا وأودعه‬
‫أمة أراد أن يكون منها مشرعون لمختِلف ومتج ِّدِد الح وادث‪ ،‬فل ذلك أش ار‬
‫لعلل األحكام في غير موضع كقوله تعالى‪َ :‬أُيِحُّب َأَحُدُكْم َأن َيْأُك َل‬
‫َلْحَم َأِخيِه َمْيتاً‪[ ‬الحجرات‪ ]12 :‬ونحو ذلك‪ ،‬وتخصيص التنص يص على‬
‫العلل ببعض األحكام في بعض اآليات إنما هو في مواضع خفاء العلل‪ ،‬فإن الخم ر‬
‫قد اشتهر بينهم نفُعها‪ ،‬والميسَر قد اتخذوه ذريعة لنفع الفقراء فوجب بياُن ما‬
‫فيهما من المفاسد إنباًء بحكمة التحريم‪ .‬وفائدة أخرى وهي ت أنيس المكَّلفين‬
‫عند فطامهم عن أكبر لذائذهم تذكيرًا لهم ب أن ربهم ال يري د إال ص الَحهم‬
‫‪17‬‬
‫دون نكايتهم‪".‬‬

‫‪ 16‬انظر تفصيل هذه المعاني في األلوسي البغدادي‪ ،‬أبو الفضل شهاب الدين محمود‪ :‬روح‬
‫المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني‪ ،‬تحقيق محمد أحمد األمد وعمر عبد‬
‫السالم السالمي (بيروت‪ :‬دار إحياء التراث العربي ومؤسسة التاريخ العربي‪،‬‬
‫‪ ،)1420/1999‬ج‪ ،2-1‬ص‪ 695-690‬وج‪ ،8-7‬ص‪24-23‬؛ ابن عاشور‪ :‬تفسير‬
‫التحرير والتنوير‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪ ،350-339‬وج‪ ،4‬ص‪ ،7‬ص‪.30-21‬‬
‫‪ 17‬ابن عاشور‪ :‬تفسير التحرير والتنوير‪ ،‬ج‪.350 ،2‬‬

‫‪8‬‬
‫وإذا كان مما احتج به األصوليون قديمًا لحجية القي اس والحاج ة إلي ه أن‬
‫النصوص الشرعية ال تحيط بأحكام جميع الحوادث ألنها متناهية والحوادث غير‬
‫متناهية‪ 18،‬فإن ابن عاشور ينبهنا إلى ناحي ة أخ رى تتأي د من خالله ا مس ألة‬
‫التعليل بوصفها األساس الذي بدونه ال يقوم القياس أصال‪ .‬وقد ج اء ذل ك في‬
‫سياق بحثة في مقصد الشريعة من تجنب التفريع في عهد التش ريع حيث ق ال‪:‬‬
‫"ق د تتبعت تفري ع الش ريعة في زمن الرس ول ‪ ‬فوج دت معظم ه في أحك ام‬
‫العبادات‪ ،‬حتى إنك لتجد أبواب العبادات في مصنفات الس نة هي الج زء األعظم‬
‫من التصنيف‪ ،‬بخالف أبواب المعامالت‪ ،‬وذلك ألن العبادات مبني ة على مقاص د‬
‫قارة فال حرج في دوامها ولزومها لألمم والعصور إال في أح وال ن ادرة ت دخل‬
‫تحت حكم الرخصة‪ .‬فأما المع امالت فبحاج ة إلى اختالف تفاريعه ا ب اختالف‬
‫األحوال والعصور‪ ،‬فالحمل فيها على حكم ال يتغير حرٌج عظيم على كث ير من‬
‫طبقات األمة‪ .‬ولذلك كان دخ ول القي اس في العب ادات قليًال ن ادرًا‪ ،‬وك ان‬
‫معظمه داخًال في المعامالت‪ .‬ولذلك نجد أحكام المعامالت في الق رآن غالب ًا‬
‫‪19‬‬
‫مسوقًا بصفة كلية‪".‬‬
‫العلة والحكمة والمناسبة أو البحث عن المبدأ الموِّح د‬
‫ودون الاسترسال في سرد مث ل ه ذه التقري رات‪ ،‬إذ يكفي م ا س بق تأيي دًا‬
‫وتأكيدًا لما قصدنا الاحتجاج ل ه‪ ،‬فإن ه من المناس ب هن ا أن نق ف عن د بعض‬
‫الجوانب المفهومية والمنهجي ة المتص لة بالعل ة في ال درس الأص ولي نظ رًا‬
‫لأهميتها الخاصة لبحثنا هذا‪ ،‬كونها السياق ال ذي ب رز في ه التنظ ير لمقاص د‬
‫الش ريعة واتض حت من خلال ه أبعاده ا‪ ،‬وتكام ل في إط اره مفه وم المص لحة‬
‫وتم ايزت أقس امها وأنواعه ا‪ .‬ش مل درس الأص وليين في العل ة مس ائل ع دة‪،‬‬
‫فتناولوها من حبث ما به تحققها‪ ،‬ومن حيث تعريفها وأقسامها‪ ،‬كم ا تناولوه ا‬
‫من حيث شروطها ومسالكها‪ ،‬ومن حيث نواقضها وقوادحها‪ ،‬كم ا تج ادلوا فيم ا‬
‫هو المعَّلل أهو العين التي تعلق بها الحكم أم الحكم نفسه‪ ،‬إلخ‪ 20.‬وق د تن وعت‬

‫‪ 18‬الزركشي‪ ،‬بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد اهلل‪ :‬البحر المحيط في أصول الفقه‪،‬‬
‫تحقيق محمد محمد تامر (بيروت‪ :‬دار الكتب العلمية‪ ،)1421/2000 ،‬ج‪ ،4‬ص‪.23‬‬
‫‪ 19‬ابن عاشور‪ :‬مقاصد الشريعة الإسلامية‪ ،‬ص‪.404 -403‬‬
‫‪ 20‬راجع الدراسة الرائدة الشاملة والمفصلة لكل هذه الجوانب في السعدي‪ ،‬عبد الحكيم غبد‬
‫الرحمن‪ :‬مباحث العلة عند األصوليين (بيروت‪ :‬دار البشائر اإلسالمية‪ ،‬ط‪،2‬‬
‫‪.)1421/2000‬‬

‫‪9‬‬
‫الألفاُظ التي استخدموها في التعبير عنها تبعًا لاختلاف الزاوية التي ُنِظَر منها‬
‫إلى ما ُيعُّد علة‪ ،‬وتبعًا ك ذلك للاعتب ارات الكلامي ة ال تي وجهت تعريف اِت‬
‫العلماء لها‪ .‬ومن المسائل التي نريد أن نصوب عليها النظر هنا مس ألتان‪ :‬الأولى‬
‫مسألة العلاقة بين مصطلحي العلة والحكمة والثاني ة مس ألة الوص ف المناس ب‬
‫والمناسبة بين الحكم وعلته‪ .‬وقد حص رنا النظ ر في ه اتين المس ألتين؛ إذ إن‬
‫مقولة المقاصد إنما نبتت مصطلحًا ونضجت مفهومًا وتكاملت عناصر في خضم‬
‫جدل العلماء بخصوصهما‪.‬‬
‫ولنمِّهْد للمسألة الأولى بكلام للإمام أبي إسحاق الشيرازي جاء في ه أن عل ل‬
‫الشرع بعد أن جعلها الشارع عللًا "وجب طرُده ا وجرياُنه ا كالعل ل العقلي ة‪،‬‬
‫لأنه ا بع د جعله ا عل ة في اقتض اء الحكم بمنزل ة العل ل العقلي ة في جمي ع‬
‫الأزمان"‪ 21،‬وبذلك فإن الخلاف في اقتضاء العلة الحكَم أه و بنفس ها من حيث‬
‫هي مؤثرة في معلولها أم بنصب ناصب وجعل جاعل "لا يعود إلى فائ دة‪ ،‬وإنم ا‬
‫هو اختلاف في الاسم"‪ 22.‬وتنبع أهمية هذا الكلام ‪ -‬فيما يل وح لن ا ‪ -‬من كون ه‬
‫يتضمن تنبيهًا إلى ضرورة تج اوز الج دل الكلامي ال ذي اس تغرق كث يرًا من‬
‫جهود الأصوليين تناظرًا حول إيج اب العل ل الش رعية وع دم إيجابه ا وس عيًا‬
‫للتمييز بينها وبين العلل العقلية‪ ،‬من أجل تصويب النظر على م ا ت دل علي ه أو‬
‫تومئ إليه تلك العلل من ِحَكٍم ومصالح‪ .‬ومهما يكن من أمر‪ ،‬فإننا نس تطيع أن‬
‫نتبين في العبارات التي اس تخدمها علم اء الأص ول في تع ريفهم للعل ة بع دين‬
‫مهمين م ترابطين لا يس تقيم ب دونهما إدارك علي ة العل ة أو الوص ف للحكم‬
‫الشرعي‪ :‬الأول هو ما يمكن أن نعتبره بع دًا خارجّي ًا أو ظ اهرًا لعل ة الحكم‪،‬‬
‫والثاني هو ما يمكن عده بعدًا داخلّيًا أو باطنًا لتل ك العل ة‪ .‬وبعب ارة أخ رى‪،‬‬
‫هذان البعدان هما البعد الخاص بمظهر الحكم والبعد الخ اص بمض مونه‪ .‬وق د‬
‫عبرت عن البعد الأول طائفٌة من الألفاظ مثل كون العلة معرفًا وس ببًا للحكم‬

‫‪ 21‬الشيرازي‪ ،‬أبو إسحاق إبراهيم‪ :‬شرح اللمع‪ ،‬تحقيق عبد المجيد تركي (بيروت‪ :‬دار الغرب‬
‫الإسلامي‪ ،)1408/1988 ،‬ج‪ ،2‬ص‪.790‬‬
‫‪ 22‬المرجع نفسه‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.833‬‬

‫‪10‬‬
‫أو دليلًا وأمارة له وعلامة عليه‪ 23،‬أما الثاني فق د اس تخدمت في التعب ير عن ه‬
‫‪24‬‬
‫جملة أخرى من الألفاظ مثل الباعث والداعي والحكمة‪.‬‬
‫ولتوضيح هذين البعدين دعنا ننظر في حكم القصاص معتمدين على ما قدمه‬
‫اإلمام الغزالي بشأنه من تحليل‪ .‬فالقتل العمد‪ ،‬وهو واقعة موضوعية‪ ،‬هو األم ر‬
‫أو الحدث الخارجي الذي ُعِّلق به حكُم القصاص‪ ،‬فهو األمارة أو العالم ة على‬
‫الحكم‪ ،‬وهو كذلك سببه وال دليل علي ه‪ ،‬وه و األم ر المقتض ي أو الم وجب‬
‫للقصاص‪ ،‬فإذا لم يكن قتل ال يكون هناك قصاص‪ .‬أما البعد الداخلي لعلية القتل‬
‫للقصاص‪ ،‬أي الداعي لجعل القتل سببًا إليجاب القصاص‪ ،‬فهو الزجر عن القت ل‬
‫"لما فيه من الفساد وفوات النف وس المقص ود بقاؤه ا‪ .‬والحاج ة س ابقة على‬
‫السبب‪ ،‬فصلحت ألن تكون علة باعثة عليه‪ ،‬وال نعني بالحكمة والمع نى المخي ل‬
‫إال الباعث على شرع الحكم‪ 25".‬ويمكن القول بعبارة أخرى إن حف ظ النف وس‬
‫هو العلة الغائية لشرع القصاص وهو المصلحة المقصودة به‪ ،‬بينم ا القت ل ه و‬
‫علته السببية‪.‬‬
‫وإذن فالشريعة إنما ب نيت أحكامه ا على اعتب ار م ا ي ترتب عليه ا من حكم‬
‫ومصالح إذ هي ‪ -‬كما قرر الغزالي ‪ -‬الثمرة المطلوبة‪ ،‬فالِحَكُم والمص الح في‬
‫الحقيقة هي عل ل للأحك ام في العلم والقص د وإن ت أخرت عنه ا في الحص ول‬
‫والوجود‪ .‬إلا أن الأص وليين ق د اختلف وا في التعلي ل بالحكم ة به ذا المع نى‪،‬‬
‫‪ 23‬انظر في ذلك مثًال الجصاص‪ ،‬أبو بكر أحمد بن علي‪ :‬الفصول في األصول‪ ،‬تحقيق‬
‫محمد محمد تامر (بيروت‪ :‬دار الكتب العلمية‪ ،)1420/2000 ،‬ج‪ ،2‬ص ‪ 162‬و‪201‬؛‬
‫البصري‪ ،‬أبو الحسين‪ :‬المعتمد في أصول الفقه‪ ،‬تحقيق محمد حديد اهلل وآخرين (دمشق‪:‬‬
‫المعهد الفرنسي بدمشق‪ ،)1965 ،‬ج‪ ،2‬ص‪ 769-768‬و‪774-773‬؛ الباجي‪ ،‬أبو الوليد‪:‬‬
‫إحكام الفصول في أحكام األصول‪ ،‬تحقيق عبد المجيد تركي (بيروت‪ :‬دار الغرب‬
‫اإلسالمي‪ ،)1415/1995 ،‬ج‪ ،2‬ص‪ ،658‬الجويني‪ :‬البرهان في أصول الفقه‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‬
‫‪ 498‬و‪511‬؛ الطوفي‪ ،‬نجم الدين أبو الربيع سليمان بن عبد القوي‪ :‬شرح مختصر‬
‫الروضة‪ ،‬تحقيق عبد اهلل بن عبد المحسن التركي (بيروت‪ :‬مؤسسة الرسالة‪،‬‬
‫‪ ،)1410/1990‬ج‪ .317-31 ،3‬وانظر السعدي‪ :‬مباحث العلة‪ ،‬ص ‪ 102-71‬و‪-145‬‬
‫‪.157‬‬
‫‪ 24‬شلبي‪ :‬تعليل األحكام‪ ،‬ص‪117‬؛ السعدي‪ ،‬مباحث العلة‪ ،‬ص ‪.73‬‬
‫‪ 25‬الغزالي‪ ،‬أبو حامد محمد بن محمد بن محمد‪ :‬شفاء الغليل في بيان الشبه واْلُمخيل‬
‫ومسالك التعليل‪ ،‬تعليق زكريا عميرات (بيروت‪ :‬دار الكتب العلمية‪،)1420/1999 ،‬‬
‫ص ‪287‬؛ المستصفى من علم األصول‪ ،‬تحقيق محمد سليمان األشقر (بيروت‪ :‬مؤسسة‬
‫الرسالة‪ ،)1417/1997 ،‬ج‪.350‬‬

‫‪11‬‬
‫فجمهورهم لم يعولوا على التعليل بها نظرًا لما قدروه فيها من عدم الانض باط‪،‬‬
‫أما الباقون فقد قالوا بالتعليل بالحكمة شريطة أن يتوافر فيه ا ش رطا الظه ور‬
‫والانضباط‪ 26.‬ومع أننا ندرك حقيقة الدوافع التي حدت بأص حاب ال رأي الأول‬
‫من حيث أنها تنبع من حرص على الابتعاد في فهم أحكام الشريعة عن التق ديرات‬
‫الذاتية وغير الموضوعية التي قد تتحكم فيها الأهواء والرغبات الشخصية‪ ،‬إلا أن‬
‫موقفهم يوشك أن يخضع فقَه الشريعة لنزعة ظاهري ة جام دة‪ .‬أم ا أص حاب‬
‫الرأي الثاني فإن التكييف الذي جاؤوا به لاعتماد الحكمة في التعليل لا يبدو حلًّا‬
‫مناسبًا ومتماسكًا للمشكلة‪ ،‬بل هو هروب منها وانكفاء على الج انب الظ اهر أو‬
‫الخارجي لعلية العلة كما سبق بيانه قبل قلي ل‪ ،‬وب ذلك فه و لا يك اد يف ترق‬
‫كثيرًا عن الرأي الأول‪ .‬وفي كلا الموقفين يك ون ق د حص ل إه دار لمفه وم‬
‫الحكمة وسد لما يفتحه من أبواب واسعة للتفقه في أحك ام الش ريعة وإجرائه ا‬
‫على الواقع‪ .‬وربما كان الشعور بهذا الانسداد هو ال ذي حف ز العق ل الأص ولي‬
‫للبحث عن مخارج أخرى يتم من خلاله ا تج اوز حال ة التج اذب ال تي أدت إلى‬
‫الوقوع في مثل هذا المأزق‪ .‬ونحسب أن فكرة المناسب والمناسبة كانت هي أحد‬
‫تلك المخارج بل كانت ‪ -‬فيما نحسب ‪ -‬المخرج الرئيس من ذلك الانسداد‪ ،‬وإن‬
‫كانت هي الأخرى لم تسلم من جدال حولها ما فتئ أن انجلى عن تس الم بش أنها‬
‫عند غالب المتأخرين من الأصوليين‪.‬‬
‫يمكن إرجاع احتدام الجدل الأصولي المنهجي حول المناسبة إلى النصف الأول‬
‫من القرن الخامس الهجري‪ ،‬وقد شاع في الاس تعمال لف ظ الإخال ة تعب يرًا عن‬
‫المفهوم نفسه‪ ،‬وذلك في سياق مناقشتهم لمسالك العلة وط رق الكش ف عنه ا‪.‬‬
‫ودون الدخول في تفاصيل ذلك الجدل يحسن بنا الانطلاق من تعري ف الوص ف‬
‫المخيل أو المناسب الذي ساقه الفقيه والأصولي الحنفي أبو زيد الدبوسي والذي‬
‫مؤداه أنه الوصف الذي يوقع "في القلب خياَل القبول وأث َر الص حة‪ 27".‬إلا أن‬

‫‪ 26‬اآلمدي‪ ،‬سيف الدين أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد‪ :‬اإلحكام في أصول األحكام‪،‬‬
‫تحقيق إبراهيم العجوز (بيروت‪ :‬دار الكتب العلمية‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،).‬ج‪ ،2‬ص‪ .107‬وفي ذلك عود‬
‫إلى العلة في بعدها الخارجي من حيث هي وصف لمحل الحكم ظاهر منضبط‪.‬‬
‫‪ 27‬الدبوسي‪ ،‬أبو زيد عبد الله بن عمر‪ :‬تقويم الأدلة في أصول الفقه‪ ،‬تحقيق عدنان العلي‬
‫(صيدا‪/‬بيروت‪ :‬المكتبة العصرية‪ ،)1426/2006 ،‬ص ‪ .325‬هذا ومن الغريب أن العلماء‬
‫الذين تناقلوا تعريف الدبوسي بغرض نقضه والرد عليه لم يكونوا دقيقين في النقل‪ ،‬فقد‬
‫أوردوه على النحو الآتي‪" :‬ما إذا عرض على العقول تلقته بالقبول"‪ ،‬وقد استمر ذلك‬

‫‪12‬‬
‫الدبوسي الذي أورد هذا التعريف في معرض المناظرة مع الشافعية اعترض عليه‬
‫لما يتسم به من عنصر الذاتية وعدم الخضوع لمعايير موض وعية يمكن ال نزول‬
‫عندها عند الاستشكال؛ ذلك أن الإخالة ‪ -‬كما يق ول ‪" -‬إش ارة إلى م ا يق ع في‬
‫القلب‪ ،‬وما لا ُيطلع عليه‪ ،‬فلا يصير حجًة على غيره"‪ ،‬فضلًا عن أن "كَّل معِّلل‬
‫يمكنه أن يقول‪ :‬وقع في قلبي خياُل ص حته (أي ص حة المخي ل أو المناس ب)‪،‬‬
‫فيصير معارضًا إياك‪ ،‬وإنه من باب الإلهام وقد بينا في موضعه بطلاَن ذكره على‬
‫سبيل الاحتجاج به"‪ 28.‬ويبدو أن هذا الاستشكال وذاك الاع تراض ك ان لهم ا من‬
‫قوة الإرباك والإحراج للشافعية ومن نح ا نح وهم م ا جع ل الغ زالي يستش عر‬
‫الحاجة للانتهاض لهما والرد عليهما‪ ،‬فكان تأليفه كتاب "ش فاء الغلي ل في بي ان‬
‫الشبه والمخيل ومسالك التعليل" الذي احتل فيه بيان معنى المناسب والاستدلال‬
‫‪29‬‬
‫على مشروعية التعليل به الحيز الأكبر‪.‬‬
‫بعد الكلام على مسالك العل ة ال تي يعتم د في تحدي دها على البني ة النص ية‬
‫واللغوية لخطاب الشرع‪ 30،‬انتقل الغزالي إلى المس الك العقلي ة وفي مق دمتها‬
‫المناسبة مذكرًا باعتراض الدبوسي عليه ا واش تراطه ض رورة إظه ار الت أثير‬
‫بالنص أو الإجماع‪ .‬ولما كان مبنى ذلك الاع تراض ه و غي اب "المعي ار ال ذي‬
‫ُيعرف به كون المعنى مناسبًا إذا وقع فيه الشُّك للناظر أو التنازُع للمناِظر"‪،‬‬
‫سلك أبو حامد سبيل التفصيل فق ال‪" :‬المع اني المناس بة م ا نش ير إلى وج وه‬
‫المصالح وأماراتها‪ ،‬وفي إطلاق المصلحة أيضًا نوُع إجمال؛ والمصلحة ترج ع إلى‬
‫جلب منفعة أو دفع مضرة‪ ،‬والعبارة الحاوية لها أن المناسبة ترجع إلى رعاية أحر‬
‫مقصود‪ .‬أما المقصود فينقسم إلى دي ني وإلى دني وي‪ ،‬وك ل واح د ينقس م إلى‬
‫تحصيل وإبقاء‪ ...‬وجميع أنواع المناسبات ترجع إلى رعاية المقاصد‪ ،‬وم ا انف ك‬
‫عن رعاية أمر مقصود فليس مناسبًا‪ ،‬وم ا أش ار إلى رعاي ة أم ر مقص ود فه و‬
‫المناسب‪ 31".‬ويص وغ أب و حام د ه ذا التفص يل والتص وير اختص ارًا على نهج‬

‫التصحيف حتى العصر الحديث (انظر على سبيل المثال الغزالي‪ ،‬والآمدي)‪.‬‬
‫‪ 29‬نستشف الأثر الذي تركته انتقادات الدبوسي للإخالة من كلام الغزالي في المقدمة‪ ،‬حيث‬
‫ذهب إلى حد تأكيد عدم ارتياحه إلى طريقة شيخه الجويني في تأييد هذا المفهوم والرد‬
‫على المخالفين لعدم وفائها بالغرض وكون الجواب غير مقنع عن اعتراضاتهم‪ .‬الغزالي‪:‬‬
‫شفاء الغليل‪ ،‬ص ‪.9‬‬
‫‪ 30‬الغزالي‪ :‬شفاء الغليل‪ ،‬ص‪.71-16‬‬
‫‪ 31‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.80-79‬‬

‫‪13‬‬
‫التعريف فيقول في المستصفى‪" :‬المراد بالمناسب م ا ه و على منه اج المص الح‪،‬‬
‫بحيث إذا أضيف الحكم إليه انتظم‪ 32".‬وإذا كانت المناسباُت راجع ًة إلى رعاي ة‬
‫المقاصد التي تتفاوت مراتُبها إذ منها ما يقع في محل الض رورات وم ا يق ع في‬
‫رتبة الحاجات وما يقع في رتبة التوسعة والتيسير ولكِّل رتبة من هاته الرتب م ا‬
‫تتمة وتكملة لها‪ 33،‬فإن ما يقع في الرتبة العليا ‪ -‬الضرورات ‪ -‬كحف ظ النف وس‬
‫الذي "هو من ضرورة الخلق"‪ ،‬أمر نجد "العقول مشيرة إلي ه وقاض ية ب ه ل ولا‬
‫ورود الشرائع؛ وهو الذي لا يجوز انفكاُك شرٍع عنه عند من يقول بتحسين العقل‬
‫وتقبيحه‪ 34".‬وبناًء على ذلك فإن "كل مناسبة يرجع حاصلها إلى رعاية مقصود‬
‫يقع ذلك المقصود في رتبة يشير العقُل إلى حفظه ا‪ ،‬ولا يس تغني العقلاُء عنه ا‬
‫‪35‬‬
‫فهو واقٌع في الرتبة القصوى من الظهور‪".‬‬
‫وبهذا التعريف لمعنى المناسب وتعيين رتبه وتحدي د مض امين تل ك ال رتب‬
‫يكون الغزالي قد وضع الإطار الأساسي الذي التزمه العلماء من بع ده في نظ رهم‬
‫في المناسبة‪ .‬وإذا م ا اس تثنينا الع ز ابن عب د الس لام والط وفي‪ 36‬وابن تيمي ة‬
‫والشاطبي الذين يمكن القول بأنه كان لهم مقاربات لموضوع المصلحة مختلف ة‬
‫عما سار عليه سائر علماء الأصول‪ ،‬فإننا لا نكاد نجد في الدرس الأصولي َمْن خرج‬
‫عن هذا الإطار الذي رسمه الغزالي من خلال مناقش ته وتعريف ه للمناس بة أو من‬
‫أضاف إليه شيئًا ذا بال‪ .‬إلا أننا واجدون مع ذلك لفت ات بارع ة وطريف ة ‪ -‬وإن‬
‫كانت مغمورة ‪ -‬عند كل من الرازي والط وفي بحيث يمكن الق ول إن المناس بة‬
‫عندهما قد تحولت إلى نظرية كلية تتجاوز المضمار المح دود لمبحث مس الك‬

‫‪ 32‬الغزالي‪ :‬المستصفى‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪.306‬‬


‫‪ 33‬الغزالي‪ :‬شفاء الغليل‪ ،‬ص ‪.80‬‬
‫‪ 34‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.81‬‬
‫‪ 35‬المرجع نفسه‪ ،‬هكذا في الأصل ويبدو في الكلام اضطراب‪ .‬على أن الغزالي لا يخفي شعوره‬
‫بالحرج وهو يقول هذا الكلام‪ ،‬الأمر الذي يضطره إلى الاعتذار لكي لا يتهم بالاعتزال ولكي‬
‫لا ينفر الناس من هذا الذي قرره بشأن قدرة العقل على إدراك ما يعود إلى الضروري من‬
‫المصالح‪ ،‬فيقول‪" :‬وإنما نبهنا على هذا القدر كي لا ننسب إلى اعتقاد الاعتزال‪ ،‬ولا ينفر‬
‫طبع المسترشد عن هذا الكلام خيفة التضمخ بعقيدة مهجورة‪ ،‬يرسخ في نفوس أهل السنة‬
‫تهجينها"!‬
‫‪ 36‬ننبه هنا إلى أن للطوفي ما يمكن اعتباره مقاربتين إلشكالية المصلحة‪ ،‬األولى ما سلكه‬
‫في شرحه لحديث "ال ضرر وال ضرار" والثانية في شرح الروضة‪ ،‬وسنشير إلى ذلك في‬
‫حينه‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫العلة‪ ،‬الأمر الذي يجعلها جديرة بالوقوف عندها وقف ة خاص ة‪ .‬ولنب دأ ب الرازي‬
‫الذي لخص تعريفات من سبقوه للمناسب في تعريفين‪" :‬الأول أن ه ال ذي يفض ي‬
‫إلى ما يوافق الإنسان تحصيلًا وإبقاء"‪ ،‬وأنه "قد يعبر عن التحصيل بجلب المنفعة‪،‬‬
‫وعن الإبقاء بدفع المضرة‪ 37".‬أما التعريف الثاني فه و أن المناس ب ه و "الملائم‬
‫‪38‬‬
‫لأفعال العقلاء في العادات‪".‬‬
‫وقد بين الرازي أن التعريف الأول ه و "ق ول َمْن يعل ل أحك ام الل ه تع الى‬
‫بالحكم والمصالح"‪ ،‬بينما "التعريف الثاني هو قول من يأباه‪ 39".‬على أن ال رازي‬
‫يمضي في تفصيل الاعتبارات المختلفة التي ينظر على أساسها إلى المناسب وفقًا‬
‫للتعريف الأول‪ ،‬فيذكر قسميه من حقيقي وإقناعي‪ ،‬وأنواع ه من معت بر وملغى‬
‫ومرسل‪ ،‬ومراتب الحقيقي من ضروري وحاجي وتحسيني‪ .‬وتس توقفنا في ثناي ا‬
‫ذلك عبارٌة مهمة عنون بها الرازي الفن الثاني من الفصل ال ذي خصص ه للكلام‬
‫‪40‬‬
‫على المناسبة‪ ،‬وهي قوله‪" :‬في إقامة الدلالة على أن المناسبة دالة على العلية"‪،‬‬
‫حيث أورد تحت هذا العنوان الشواهد القرآنية والأدلة العقلية على ك ون أحك ام‬
‫الشريعة إنما وضعت لمصلحة الخلق‪ 41.‬ثم يطوى البحث الخاص بمسالك العل ة‬
‫ويبقى العقل متطلعًا إلى مزيد بيان لما تنطوي عليه تلك العب ارة الموحي ة من‬
‫معاني وأبعاد‪ ،‬ولا نظفر بشيء من ذل ك إلا في خاتم ة القس م الأخ ير من ب اب‬
‫التعارض والترجيح الذي خصه الرازي للترجيح بين الأقيسة‪ ،‬وكأنم ا قص د أن‬
‫يصوغ إضافته الحقيقية في شأن التنظير للمناسبة بحيث لا تجلب عليه اع تراض‬
‫معترض أو نقد منتقد‪ .‬فما الجديد الذي جاء به الرازي؟‬
‫يمكن القول إن ما قرره الرازي في الموضع الم ذكور يوش ك أن يقلب‪ ،‬ال‬
‫بل هو يقلب فعًال‪ ،‬ما اعتاد األصوليون السير علي ه في ت رتيب مس الك العل ة‬
‫حسب أهميتها رأسًا على عقب‪ .‬يقرر الفخر "أن المناس بة أق وى من الت أثير؛‬
‫ألنه ال معنى للتأثير إال أنه ُعرف تأثيُر هذا الوصف في ن وع ه ذا الحكم وفي‬

‫‪ 37‬الرازي‪ ،‬فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين‪ :‬المحصول في علم أصول الفقه‪ ،‬دراسة‬
‫وتحقيق الدكتور طه جابر فياض العلواني (بيروت‪ :‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬ط‪،2‬‬
‫‪ ،)1412/1992‬ج‪ ،5‬ص‪.157‬‬
‫‪ 38‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.158‬‬
‫‪ 39‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.159-158‬‬
‫‪ 40‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.172‬‬
‫‪ 41‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.196-172‬‬

‫‪15‬‬
‫جنسه‪ ،‬وكوُن الشيء مؤثرًا في شيء ال يوجب كوَنه مؤثرًا فيما يشاركه في‬
‫جنسه‪ .‬أما كونه مناسبًا فهو الذي ألجله صار الوصف مؤثرًا في الحكم‪ ،‬فك ان‬
‫االستدالُل بالمناسبة على العلية أقوى من االستدالل بالتأثير عليها‪ 42".‬وإذا م ا‬
‫علمنا أن التأثير إنما يظهر بالنص أو اإلجماع كالقول ب أن العل ة في الوالي ة‬
‫الصغر‪ 43،‬أدركنا المغزى الحقيقي لكالم ال رازي ه ذا‪ .‬وبعب ارة أخ رى‪ ،‬ف إن‬
‫الوصف الذي يثبت تأثيره نّصًا أو إجماعًا إنما يستمُّد صالحيَته للك ون عل ًة‬
‫من كونه مناِسبًا؛ "ألن المناسبة مستِقَّلٌة بإنتاج العلية"‪ ،‬ذلك أن المناسبة ‪-‬‬
‫‪44‬‬
‫كما يؤكد الرازي بوضوح ‪" -‬علٌة ِلِعِّلية العلة"‪.‬‬
‫فما مغزى هذا الكلام؟‬
‫إذا كان معنى المناسب كما بين الجويني والغ زالي وال رازي نفس ه‪ ،‬وتبعهم‬
‫على ذلك سائر علماء الأصول من بعد‪ ،‬يدور حول مراعاة المصلحة بأنواعها التي‬
‫فصلوها ومراتبها التي حددوها‪ ،‬فإن ما قرره الرازي هنا لا ُيبقي مج الًا لل تردد‬
‫في كون المناسبة هي الأصل الكلي الذي ترتد إليه قضية التعلي ل برمته ا‪ ،‬إذ لم‬
‫تعد المناسبة عنده مجرد مسلك يأتي في رتبة مت أخرة عن ع دد من المس الك‬
‫النقلية والعقلية للكشف عن العلة‪ 45،‬ب ل هي المعين ال ذي من ه تس تمُّد العل ُة‬
‫ِعِّليَتها بقطع النظر عن المسلك الذي ُيَتَوَّصُل به إليها‪ .‬وهذه نقلٌة كبيرة‬
‫لا نكاد نجد من انتبه إليها من دارسيه بم ا في ذل ك َمْن اختص روا المحص ول‬
‫كالسراج الأرموي أو شرحوه كالشهاب القرافي الذي لم يعل ق ب أي ش يء على‬
‫هذه التقريرات التي لا نكاد نجد لها نظيرًا في كتب الأصول! وعلى ذل ك يمكن‬
‫القول بأن الرازي قد سعى في الحقيقة إلى صياغة نظرية متكامل ة في المناس بة‬

‫‪ 42‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪( 457-456‬والتسويد من عندنا)‪.‬‬


‫‪ 43‬الغزالي‪ :‬المستصفى‪ ،‬ج‪ ،2‬ص ‪.307‬‬
‫‪ 44‬الرازي‪ :‬المحصول‪ ،‬ج‪ ،5‬ص‪( 457‬والتسويد من عندنا)‪.‬‬
‫‪ 45‬راجع تفصيل تلك المسالك في الغزالي‪ :‬شفاء الغليل‪ ،‬ص‪144-16‬؛ والمستصفى‪ ،‬ج‪،2‬‬
‫ص‪( 314-298‬حيث احتل مسلك المناسبة المرتبة الرابعة قبل السبر والتقسيم في‬
‫الكتاب األول‪ ،‬بينما جاء في الكتاب الثاني تاليًا للسبر والتقسيم ال متقدمًا عليه‪ ،‬علمًا بأن‬
‫االستدالل على حجية المناسبة قد استغرق الحيز األكبر من شفاء الغليل)؛ الزركشي‪:‬‬
‫البحر المحيط‪ ،‬ج‪ ،4‬ص ‪( 230-165‬حيث جاءت المناسبة في الرتبة الخامسة)‪ .‬وانظر‬
‫السعدي‪ :‬مباحث العلة‪ ،‬ص ‪.523-339‬‬

‫‪16‬‬
‫تجعل سائر مسالك العلة التي ضبطها الأص وليون عناص ر له ا‪ ،‬بحيث إن تل ك‬
‫العناصر تكتسب مشروعيتها من هذا النظرية‪.‬‬
‫هذه الخطوة المنهجية والنظري ة ال تي خطاه ا الفخ ر ال رازي في تن اول‬
‫المناسبة وتأصيل معناها أص ًال كلي ًا للعلي ة في األحك ام الش رعية ستش هد‬
‫تعميقًا لها عند نجم الدين الطوفي ال ذي ي رى أن المناس ب من المهم ات ليس‬
‫فقط "ألن عليه مدار الشريعة"‪ ،‬ب ل ك ذلك ألن علي ه "م دار الوج ود‪ ،‬إذ ال‬
‫موجود إال وهو على َوْفِق المناسبة العقلي ة"‪ ،‬وإن ك انت "أن واع المناس بات‬
‫تتفاوت في العموم والخصوص والخفاء والظهور‪ 46".‬ولعله بسبب إدراك ه ذه‬
‫األهمية التي تكتسيها قضية المناسبة قال اإلمام الشوكاني بشأنها م ا ق ال حين‬
‫‪47‬‬
‫قرر أنها "عمدة كتاب القياس ومحل غموضه ووضوحه‪".‬‬
‫المصلحة قطب الرحى في مقاصد الشريعة‬
‫إن ما قاله الطوفي عن المناسبة ينقلها من مستوى كونها نظري ة في نظ ام‬
‫أحكام الشريعة وما تنهض عليه من علل وم ا تتغي اه من مقاص د ت دور ح ول‬
‫مصلحة الخلق‪ ،‬ليجعلها نظرية أوسع مدى تشمل نظام الخلق والك ون من حيث‬
‫قيامهما على وفق الحكمة اإللهية البالغ ة‪ .‬وهك ذا فنحن إزاء خط وة تأص يلية‬
‫أخرى مهمة تؤكد األصل الكبير الذي تقدم الكالم علي ه في خص وص العالق ة‬
‫بين الشريعة والفطرة والعقل‪ ،‬ذلك األصل الذي سينطلق منه ابن عاشور الحقًا‬
‫في دعوته إلى إنشاء علم مقاصد الشريعة والتنظير له‪ ،‬وتأصيل عموم أحكامه ا‬
‫للبشر كافة وشمولها لكل مج االت حي اة اإلنس ان وص الحيتها لك ل العص ور‬
‫واألزمان‪ .‬وقد شاع عند عدد من الكتاب أن الطوفي يق ول بالمص لحة بص ورة‬
‫مطلقة‪ ،‬بحيث تكون لها الحكوم ُة على م ا س واها ح تى وإن ك ان نّص ًا من‬
‫القرآن‪ ،‬وذلك اعتمادًا على شرحه لحديث "ال ضرر وال ض رار" دون الرج وع‬
‫إلى مؤلفاته األخرى‪ .‬إال أن الناظر في شرحه لمختص ر الروض ة وفي ش رحه‬
‫للحديث المذكور معًا يصعب عليه قبول هذه النسبة‪ ،‬أو التس ليم به ا ب إطالق‬
‫ومن دون تكييف‪ ،‬ولذلك فاألمر يتطلب شيئًا من التأني كما يحتاج إلى قراءة‬

‫‪ 46‬الطوفي‪ :‬شرح مختصر الروضة‪ ،‬ج‪ ،3‬ص ‪.382‬‬


‫‪ 47‬الشوكاني‪ ،‬محمد بن علي‪ :‬إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم األصول‪ ،‬تحقيق‬
‫محمد صبحي بن حسن حالق (بيروت‪/‬دمشق‪ :‬دار ابن كثير‪ ،)1421/2000 ،‬ص ‪.713‬‬

‫‪17‬‬
‫تناٍّص لتحديد ما يمكن عُّده رأيًا نهائّيًا للط وفي‪ .‬وس نطيل الوق وف مع ه‬
‫شيئًا ما نظرًا لما نتج عما نسب إليه من تجاذب في اآلراء‪.‬‬
‫ليس من قبيل التجني على هذا الع اِلم المث ير للج دل‪ 48‬أو الافتئ ات علي ه‬
‫الإشارة إلى الاضطراب الواقع في كلام ه على المص لحة عن د ش رحه للح ديث‬
‫المذكور‪ .‬بعد أن يذكر أن جملة أدلة الشرع كما يمكن استقراؤها في مختل ف‬
‫المذاهب الفقهية تسعة عشر بابًا بعضها متفق عليه وبعضها مختل ف في ه‪ ،‬يعل ق‬
‫الطوفي بأن "قول النبي ‪« :‬لا ضرر ولا ضرار» يقتضي رعاية المص الح إثبات ًا‬
‫والمفاسد نفيًا؛ إذ الضرر هو المفسدة‪ ،‬فإذا نفاها الشرع لزم إثبات النفع الذي هو‬
‫المصلحة؛ لأنهما نقيضان لا واسطة بينهما‪ 49".‬ومن بين التسعة عشر دليلًا ال تي‬
‫أحصاها يقرر أن "أقواها النص والإجم اع‪ ،‬ثم هم ا إم ا أن يوافق ا المص لحة أو‬
‫يخالفاها‪ ،‬فإن وافقاه ا فبه ا ونعمت ولا ن زاع؛ إذ ق د اتفقت الأدل ة الثلاث ة على‬
‫الحكم‪ ،‬وهي النص والإجماع ورعاية المصلحة المستفادة من قول ه ‪« :‬لا ض رر‬
‫ولا ضرار»‪ ،‬وإن خالفاها وجب تقديم رعاية المصلحة عليهما بطريق التخص يص‬
‫والبيان لهما‪ ،‬لا بطريق الافتئات عليهما والتعطيل لهم ا‪ ،‬كم ا تق دم الس نة على‬
‫القرآن بطريق البيان‪ 50".‬وبيان ذلك عند الطوفي أن ه ذين ال دليلين "إم ا ألا‬
‫يقتضيا ضررًا ولا مفسدة بالكلية‪ ،‬أو يقتضيا ذل ك‪ ،‬ف إن لم يقتض يا ش يئًا من‬
‫ذلك فهما موافقان لرعاي ة المص لحة‪ ،‬وإن اقتض يا ض ررًا فإم ا أن يك ون [أي‬
‫الضرر] مجموع مدلوليهما أو بعضه‪ ،‬فإن ك ان مجم وع م دلوليهما فلا ب د أن‬
‫‪ 48‬ليس الطوفي مثيرًا للجدل فقط بسبب رأيه في المصلحة‪ ،‬بل اختلف الكاتبون حتى في‬
‫انتمائه المذهبي‪ ،‬فمنهم من عده حنبلي المذهب‪ ،‬ومنهم من نسبه إلى التشيع‪ ،‬ومنهم من‬
‫ذهب إلى حد اتهامه بعدم الانتماء إلى أٍّي من المذاهب المعروفة ناسبًا له شعرًا في هذا‬
‫المعنى يشي بنزعة عبثية لديه مما يتعارض مع الصورة التي تتراءى لنا من سائر مؤلفاته‬
‫التي وصلت إلينا! انظر في هذا الصدد زيد‪ ،‬مصطفى‪ :‬المصلحة في التشريع الإسلامي‬
‫(القاهرة‪ :‬دار اليسر للطباعة والنشر‪ ،)1427/2006 ،‬ص ‪( 105-89‬هذا ويشتمل هذا‬
‫الكتاب على النص المحقق لشرح الطوفي لحديث الرسول ‪« :‬لا ضرر ولا ضرار»‪ ،‬وهو‬
‫في الحقيقة جزء من شرحه للأربعين النووية)؛ البوطي‪ ،‬محمد سعيد رمضان‪ :‬ضوابط‬
‫المصلحة في الشريعة الإسلامية (بيروت‪ :‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬ط‪ ،)1421/2000 ،7‬ص‬
‫‪( 179-178‬الهامش رقم ‪)1‬؛ وكذلك مقدمة عبد الله التركي لشرح مختصر الروضة‪،‬‬
‫ج‪ ،1‬ص ‪ .37-33‬وهذا الخلاف حول الهوية المذهبية للطوفي هو في الواقع موروث ممن‬
‫ترجموا له من القدامى‪.‬‬
‫‪ 49‬مصطفى زيد‪ :‬المصلحة في التشريع اإلسالمي‪ ،‬ص ‪.241‬‬
‫‪ 50‬المرجع نفسه‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫يكون من قبيل ما اشتثني من قوله ‪« :‬لا ضرر ولا ض رار»‪ ،‬وذل ك كالح دود‬
‫والعقوبات على الجنايات‪ ،‬وإن كان الضرر بعض م دلوليهما ف إن اقتض اه دلي لٌ‬
‫خاص اُّتِبع الدليُل الخاص وإن لم يقتضه دليل خاص وجب تخصيُصهما بقول ه‬
‫‪51‬‬
‫‪« :‬لا ضرر ولا ضرار»‪ ،‬جمعًا بين الأدلة‪".‬‬
‫فههنا نلاحظ أن الطوفي لا يرى تقديَم المصلحة على النص والإجماع بإطلاق‪،‬‬
‫وإنما من حيث كونها تصلح مخصصًا أو مبينًا لمقتضاهما‪ .‬ومستنده في ذل ك‬
‫أنه يرى في هذا الحديث تعبيرًا عن أصل كلي يؤسس لمفهوم المصلحة من جهة‬
‫ويعبر عن الاتجاه العام للشريعة من جهة أخرى‪ ،‬وهو ما يوضحه بقوله إن ه "من‬
‫‪52‬‬
‫المحال أن يراعي الله عز وجل مصلحة خلقه في مبدئهم ومع ادهم ومعاش هم‪،‬‬
‫ثم يهمل مصلحتهم في الأحكام الشرعية؛ إذ هي أعم‪ ،‬فكانت بالمراعاة أولى‪ ،‬ولأنها‬
‫أيضًا من مصلحة معاشهم؛ إذ بها صيانُة أموالهم ودمائهم وأعراضهم‪ ،‬ولا مع اش‬
‫لهم بدونها‪ ،‬فوجب الق وُل بأن ه راعاه ا لهم‪ .‬وإذا ثبتت رعايت ه إياه ا‪ ،‬لم يج ز‬
‫إهماُلها بوجه من الوجوه‪ ،‬فإن وافقها النُّص والإجماع وغيرهما من أدلة الش رع‬
‫فلا كلام‪ ،‬وإن خالفها دليٌل شرعي ُوِّفق بينه وبينها بما ذكرناه‪ :‬من تخصيصه‬
‫‪53‬‬
‫بها وتقديمها بطريق البيان‪".‬‬

‫‪ 51‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪ .242‬ونالحظ هنا أن ما ذكره الطوفي من إمكانية اقتضاء النصوص‬
‫الضرر‪ ،‬أو حتى معارضتها لما فيه مصلحة كالم غير مقبول‪ ،‬وربما أعذر صاحبه بأنه‬
‫صدر منه من باب االستطراد الذي تجر إليه روح المناظرة والتفريع النظري‪ .‬فإذا كان‬
‫األصل في الشريعة انبناء أحكامها على مراعاة المصلحة تحصيًال والمفسدة دفعًا‪ ،‬فإن ما‬
‫قاله لن يعدو كونه افتراضًا ال يلتفت إليه‪ .‬أما ما مثل به من الحدود والعقوبات وجعله‬
‫استثناًء من قاعدة "ال ضرر وال ضرار" فإنه ساقه مساقًا غفل فيه عن كون الحدود‬
‫والعقوبات إنما هي مجعولة لتحقيق مصالح أكبر أو درء مفاسد أكبر‪.‬‬
‫‪ 52‬يشير الطوفي بهذا إلى ما استدل به على أن "أفعال اهلل ‪ ‬معللة بحكم غائية تعود بنفع‬
‫المكلفين وكمالهم‪ ،‬ال بنفع اهلل ‪ ‬وكماله؛ الستغنائه بذاته عما سواه" وعلى أن "رعاية‬
‫المصالح واجبة من اهلل ‪‬؛ حيث التزم التفضل بها‪ ،‬ال واجبة عليه‪ ".‬كما يشير إلى ما ساقه‬
‫من آيات وأحاديث تدل على أن أحكام الشريعة إنما وضعت لما فيه مصالح؛ إذ "ما من آية‬
‫من كتاب اهلل ‪ ‬إال وهي تشتمل على مصلحة أو مصالح‪ ".‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.249-244‬‬
‫‪ 53‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.250‬‬

‫‪19‬‬
‫وإذا ما تركنا الإجماع وما أثاره الطوفي بشأنه من إشكالات جانبًا‪ 54،‬فإن منشأ‬
‫الإشكال فيما ذهب إليه بخصوص التعارض بين المصلحة والنص أنه ليس واضحًا‬
‫المراد عنده بالنص‪ ،‬أهو مطلق خطابات الشرع مما قد تختلف وجوُه الدلالة في ه‬
‫وتتفاوت وضوحًا وخفاًء‪ ،‬وعمومًا وخصوصًا‪ ،‬وإطلاقًا وتقييدًا‪ ،‬وإجمالًا وبيانًا‬
‫إلخ‪ ،‬بما يعني انفتاَحها لمحامل قد تتف اوت فيه ا أنظ ار المجته دين حس ب م ا‬
‫يعتمدونه من أدوات في التفسير والتأويل والتوفيق والترجيح والاستنباط‪ ،‬أم هو‬
‫النص بالمعنى الاصطلاحي عند الأص وليين ال ذي لا يحتم ل تع ددًا في الدلال ة‬
‫وبالتالي لا مجال فيه للتأويل؟ لقد ميز الطوفي‪ ،‬شأُنه شأن سائر الأصوليين‪ ،‬بين‬
‫"العبادات والمقدرات ونحوها" مما يكون التعويُل فيه على النص وص على س بيل‬
‫‪55‬‬
‫التعبد و"المعاملات والعادات" التي ُيعتد فيه ا بالمص الح على س بيل التعلي ل‪،‬‬
‫وذلك بناًء على أن العبادات "حق للشرع خاص به‪ ،‬ولا يمكن معرفة حقه كّم ًا‬
‫وكيفًا وزمانًا ومكانًا إلا من جهته"؛ إذ "تخفى مصالحها عن مج اري العق ول"‬
‫وبناًء كذلك على أن المصلحة في "سياس ة المكلفين في حق وقهم‪ ...‬معلوم ة‬
‫لهم بحكم العادة والعقل‪ ،‬فإذا رأينا دليل الشرع متقاع دًا عن إفادته ا علمن ا أَّن ا‬
‫ُأِحْلنا في تحصيلها على رعايتها‪ ،‬كما أن النصوص لما ك انت لا تفي بالأحك ام‬
‫علمنا أنا ُأِحلنا بتمامها على القياس‪ ،‬وهو إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص علي ه‬
‫بجامع بينهم ا‪ 56".‬وق د نب ه ك ذلك إلى أن النص وص مختلف ة‪ ،‬ويعتوره ا‬
‫التعارُض بما يجعلها منشأ للخلاف في فهم الأحكام في مقاب ل رعاي ة المص الح‪،‬‬
‫حيث أن المصلحة "أمر حقيقي في نفسه لا ُيختلف فيه‪ 57".‬إلا أن ه على ال رغم‬
‫من أهمية هذه التوضيحات فإن الإشكال والالتباس لا يرتفع ان به ا بالكلي ة‪ ،‬فم ا‬
‫قرره بشأن الوضوح الذاتي للمصلحة ليس أكثر من دعوى لا تسلم من الاعتراض‬
‫فضلًا عن أن تثبت أمام النقض بما ُيشاهد من اختلاف الناس وتنازعهم في مع نى‬
‫المصلحة وفيما هو مصلحة وما ليس بمصلحة‪ ،‬وفي مدى المص لحة ومجالاته ا‪،‬‬
‫‪ 54‬من االعتراضات التي يثيرها الطوفي على حجية اإلجماع وهو أن وجود مذاهب فقهية‬
‫متعددة واجتهادات مختلفة في فهم نصوص الشريعة واستنباط األحكام منها من لدن‬
‫الصحابة هو ذاته مثار ضد تلك الحجية‪ .‬ولذلك يخلص إلى أن "السواد األعظم الواجب‬
‫اتباعه هو الحجة والدليل الواضح؛ وإال لوم أن يتبع العلماء العامة إذا خالفوهم؛ ألن العامة‬
‫أكثر‪ ،‬وهم السواد األعظم"‪ .‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.272‬‬
‫‪ 55‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.276-273‬‬
‫‪ 56‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.278-277‬‬
‫‪ 57‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.261‬‬

‫‪20‬‬
‫وفي معاييرها وضوابط تحديدها‪ ،‬بمن فيهم أصحاب المذاهب العقلية الص رف إن‬
‫‪58‬‬
‫ثبت وجود مثل هذه المذاهب أصلا‪.‬‬
‫ومهما يكن من أمر‪ ،‬يبدو أن الط وفي لم يكن مهتّم ًا بتقس يمات الأص وليين‬
‫للمصلحة وتنويعهم لاعتباراتها المختلفة بقدر اهتمامه بالس عي لوض ع نظري ة‬
‫شاملة فيها تتأصل في النظام العام لنصوص الشريعة وأصولها الكلية بم ا يجع ل‬
‫مفهوم المصلحة أمرًا كلّيًا متقِّومًا بنفسه بقطع النظر عن جزئياته وأف راده‪.‬‬
‫وهذا ما نلحظه في تعليقه على مفهوم المصلحة المرسلة‪ ،‬فهو يذكر أن الطريقة‬
‫التي استفادها من ح ديث «لا ض رر ولا ض رار» "ليس ت هي الق ول بالمص الح‬
‫المرسلة على ما ذهب إليه مال ك‪ ،‬ب ل هي أبل غ من ذل ك‪ ،‬وه و التعوي ل على‬
‫النصوص والإجماع في العبادات والمقدرات‪ ،‬وعلى اعتبار المص الح في المع املات‬
‫وباقي الأحكام‪ 59".‬وهو يزيد موقفه وضوحًا في باب الاستصلاح من ش رحه على‬
‫مختصر الروضة حيث يقول‪" :‬اعلم أن هؤلاء الذين قسموا المصلحة إلى معتبرة‬
‫وملغاة‪ ،‬ومرسلة ضرورية وغير ضرورية‪ ،‬تعسفوا وتكلفوا‪ ،‬والطريُق إلى معرفة‬
‫حكم المصالح أعم من هذا وأقرب‪ ،‬وذلك ب أن نق ول‪ :‬ق د ثبت مراع اة الش رع‬
‫للمصلحة والمفسدة بالجملة إجماعًا‪ ،‬وحينئذ نقول‪ :‬الفع ل إن تض من مص لحة‬
‫مجردة حصلناها‪ ،‬وإن تضمن مفسدة مجردة نفيناها‪ ،‬وإن تضمن مصلحة من وجه‬
‫ومفسدة من وجه‪ ،‬فإن استوى في نظرنا تحصيل المصلحة ودفع المفسدة توقفن ا‬
‫على المرجح أو خيرنا بينهما‪ ،...‬وإن لم يستو ذل ك ب ل ت رجح أح ُد الأم رين‬
‫تحصيُل المصلحة أو دفع المفس دة فعلن اه؛ لأن العم ل ب الراجح متعين ش رعًا‪،‬‬
‫وعلى هذا يتخرج كل ما ذكروه في تفصيلهم المصلحة‪ 60".‬ويرى الط وفي أن‬
‫الأصل الذي ذكره ك اف لأن تتخ رج الأحك ام علي ه "عن د تع ارض المص الح‬
‫والمفاسد فيها‪ ،‬أو عند تجردها"‪ ،‬وأنه بذلك "لا حاجة بن ا إلى تنوي ع التص رف‬
‫فيها بتقسيم وتنويع لا يتحقق ويوجب الخلاف والتف رق"‪ ،‬وذل ك بن اًء على أن‬
‫الطريقة التي بينها "إذا تحققها العاقل لم يس تطع إنكاره ا لاض طرار عقل ه إلى‬
‫‪61‬‬
‫قبولها‪".‬‬

‫انظر عرضًا موجزًا بهذا الشأن في البوطي‪ ،‬ضوابط المصلحة‪.44-27 ،‬‬ ‫‪58‬‬

‫مصطفى زيد‪ :‬المصلحة في التشريع اإلسالمي‪ ،‬ص ‪.272‬‬ ‫‪59‬‬

‫الطوفي‪ :‬شرح مختصر الروضة‪ ،‬ج‪ ،3‬ص ‪.214‬‬ ‫‪60‬‬

‫المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.217‬‬ ‫‪61‬‬

‫‪21‬‬
‫والسؤال الآن هو‪ :‬هل كان الطوفي منفردًا بهذا الرأي أو مبتدعًا فيه؟‬
‫لا يبدو الأمر كذلك‪ ،‬إذ نجد شيخه ابن تيمية قد مهد السبيل لمث ل م ا ذهب‬
‫إليه‪ ،‬فقد أخذ على الأصوليين حص رهم مقاص د الش رع الكلي ة في الض روريات‬
‫الخمسة المتمثلة في حفظ ال دين والنفس والعق ل والنس ل والم ال‪ ،‬حيث ق ال‪:‬‬
‫"وقوم من الخائض ين في أص ول الفق ه وتعلي ل الأحك ام الش رعية بالأوص اف‬
‫المناسبة‪ ،‬إذا تكلموا في المناسبة وأن ترتيب الشارع للأحكام الش رعية بالأوص اف‬
‫المناسبة يتضمن تحصيل مصالح العباد‪ ،‬ودفع مضارهم‪ ،‬ورأوا أن المصلحة نوعان‪:‬‬
‫أخروية ودنيوية‪ ،‬جعلوا الأخروية ما في سياسة النفس وتهذيب الأخلاق من الحكم‪،‬‬
‫وجعلوا الدنيوية ما تضمن حف ظ ال دماء والأم وال والف روج والعق ول وال دين‬
‫الظاهر‪ ،‬وأعرضوا عن العبادات الباطنة والظاهرة من أنواع المع ارف بالل ه تع الى‬
‫وملائكته وكتبه ورسله‪ ،‬وأحوال القلوب وأعمالها‪ ،‬كمحبة الله وخشيته وإخلاص‬
‫الدين له‪ ،‬والتوكل عليه والرجا لرحمته ودعائه‪ ،‬وغير ذلك من أن واع المص الح‬
‫في الدنيا والآخرة‪ .‬وكذلك فيما ش رعه من الوف اء ب العقود‪ ،‬وص لة الأرح ام‪،‬‬
‫وحقوق المماليك والجيران‪ ،‬وحقوق المسلمين بعضهم على بعض‪ ،‬وغ ير ذل ك‬
‫من أنواع ما أمر به ونهى عنه‪ :‬حفظًا للأحوال السنية‪ ،‬وتهذيب الأخلاق‪ ،‬ويتبين أن‬
‫هذا جزء من أجزاء ما جاءت به الشريعة من المص الح‪ 62".‬ف ابن تيمي ة في ه ذا‬
‫النص أكثر وضوحًا وجرأة من الطوفي في تقرير انبن اء الش ريعة على اعتب ار‬
‫المصالح في سائر أحكامها‪ ،‬لا تمييز عنده في ذلك بين أحك ام العب ادات وأحك ام‬
‫المعاملات‪ .‬فعن ده أن م دار الش ريعة على قول ه تع الى‪َ :‬ف اَّتُقوا الَّل َه َم ا‬
‫اْسَتَطْعُتْم‪( ‬التغابن‪ )16 :‬المفسر لقوله‪ :‬اَّتُقوْا الّلَه َح َّق ُتَقاِت ِه‪( ‬آل‬
‫عمران‪ ،)102 :‬وعلى قول النبي ‪« :‬فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما اس تطعتم»‪،‬‬
‫"وعلى أن الواجب تحصيل المصالح وتكميله ا وتبطي ل المفاس د وتقليله ا‪ ،‬ف إذا‬
‫تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما‪ ،‬ودفع أعظم المفس دتين‬
‫‪63‬‬
‫مع احتمال أدناهما‪ ،‬هو المشروع‪".‬‬
‫بل إن ابن تيمية نفسه يبدو تابعًا فيما قاله وذهب إليه؛ ذلك أن أبا الوفاء ابن‬
‫عقيل كان قد قرر من قبل أننا "إذا علمنا أن العليم الحكيم لا يتعبدنا إلا بما فيه‬

‫‪ 62‬ابن تيمية‪ :‬مجموع الفتاوى‪ ،‬ج‪ ،32‬ص‪.234‬‬


‫‪ 63‬شيخ الإسلام ابن تيمية‪ :‬الفتاوى العراقية‪ ،‬تحقيق عبد الصمد المفتي (بيروت‪ :‬المكتب‬
‫الإسلامي‪ ،)1425/2004 ،‬ج‪ ،2‬ص‪.884-883‬‬

‫‪22‬‬
‫المصلحة‪ ،‬قطعنا أن العبادات كلها مصالح‪ ،‬وإن لم نعلم وجه المصلحة في ك ل‬
‫واحدة من العبادات بعينها‪ ،‬ولا يكون جهلنا بوجه المصلحة في ك ل ش يء منه ا‬
‫مخرجًا لنا عن العلم بأنه مصلحة في الجمل ة‪ 64".‬ومب نى ذل ك عن د الفقي ه‬
‫والنظار الحنبلي الكبير‪ ،‬والسلف الملهم لكل من ابن تيمية والطوفي‪ ،‬أن "الس مع‬
‫لما ورد بحظر أفعال في أعيان وإباجة أفعال في أعيان‪ ،‬وبان لنا بأن لهذه الأعيان‬
‫مالكًا بدليل العقل"‪ ،‬علمنا "أنه أباح ما أباح وحظر ما حظر إما لمصلحة أو نفي‬
‫مفسدة‪ ،‬أو لتحكٍم ومطلق إرادة‪ ،‬ابتلاًء وامتحانًا‪ ،‬رجعنا إلى مقتضى الشرع فيما‬
‫سكت عنه من إباحة أو حظ ر‪ 65".‬وينهض تأص يل ابن عقي ل لقض ية التعلي ل‬
‫بالمصلحة على قاعدة كلية يتعاضد فيها الخلق والأم ر ويتظ افر فيه ا الطب ع‬
‫والشرع‪ ،‬فيتحقق ما أراده الله سبحانه من مقصد هداية خلقه ورعاية مصلحتهم‪.‬‬
‫"فكما أنه سبحانه قسم منافعهم الدنيوي ة بين كلي ات تولاه ا لا س بيل لهم إلى‬
‫تحصيلها‪ ،‬ولا التسبب إلى تأثير ما يحصل عندها‪ ،‬كالرياح والس حاب والأمط ار‬
‫وخلق الحيوان لأنواع الأغراض‪ ،‬فجرت تلك مج رى النص وص ال تي لا س بيل‬
‫للعبد إلى تحصيل الأحكام الحاصلة بها والصادرة عنها‪ ،‬وبين جزئيات وكلها إلى‬
‫اكتساب خلق ه واس تخراجها بص فاء نح ائزهم وص حة ق رائحهم‪ ،‬ك الحرث‬
‫والحصاد والدياس وم ا يحت اجون إلي ه من بن اء الأكن ان وال بيوت ونس اجة‬
‫الملابس‪ ...‬فجمع لهم بين النعمتين‪ :‬الكبرى التي تولاها‪ ،‬والصغرى التي ألهمهم‬
‫توليها وهداهم إلى تحصيلها‪ ،‬بما منحهم من صحة النحائز وأدوات التحصيل من‬
‫جودة القرائح‪ 66".‬ومقتضى هذا الكلام أنه كما احتوت الطبيع ة أو الك ون على‬
‫أصول المنافع وكلياتها مما لا سبيل لغير الخالق إلى إيجاده وتكوين ه ثم ت رك‬
‫للإنسان مجال التصرف فيها بمختلف وج وه التص رف من اس تخراج واس تنماء‬
‫واستعمال لما يفي بحاجاته‪ ،‬كذلك احتوت نصوص الشريعة على الأصول الكلية‬
‫والقواعد العامة لتشريع المصالح تاركة للمجته دين النظ ر في س بل تحقي ق‬
‫ماصدقاتها وجزئياتها بحسب الأحوال والأوضاع المتغيرة‪.‬‬

‫‪ 64‬الظفري‪ ،‬أبو الوفاء علي بن عقيل بن محمد بن عقيل الحنبلي البغدادي‪ :‬الواضح في‬
‫أصول الفقه‪ ،‬تحقيق جورج المقدسي (بيروت‪ :‬الشركة المتحدة للتوزيع‪،‬‬
‫‪ ،)1423/2003‬ج‪ ،4/2‬ص‪.366‬‬
‫‪ 65‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.346‬‬
‫‪ 66‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪367‬‬

‫‪23‬‬
‫وجريًا على ما قرره هؤلاء الفقهاء نجد ابن قيم الجوزية يؤك د بك ل ثق ة‬
‫وقوة أن "الش ريعة مبناه ا وأساس ها على الحكم ومص الح العب اد في المع اش‬
‫والمعاد"‪ ،‬وأنها "عدل كلها‪ ،‬ورحمة كلها‪ ،‬ومصالح كلها‪ ،‬وحكمة كله ا"‪ ،‬وأن‬
‫ك ل "مس ألة خ رجت عن الع دل إلى الج ور‪ ،‬وعن الرحم ة إلى ض دها‪ ،‬وعن‬
‫المصلحة إلى المفسدة‪ ،‬وعن الحكمة إلى العبث‪ ،‬فليست من الشريعة وإن ُأدخلت‬
‫‪67‬‬
‫فيها بالتأويل‪".‬‬
‫وإذا كانت أحكام الشريعة قائمة على علل مناسبة لها جلبًا للمص الح ودرءًا‬
‫للمفاسد‪ 68،‬فإن "معظم مقاصد الق رآن األم ر باكتس اب المص الح وأس بابها‪،‬‬
‫والزجر عن اكتساب المفاسد وأسبابها‪ 69 ".‬على أنه إذا كانت مص الح اآلخ رة‬
‫وأسبابها ومفاسدها وأس بابها ال تع رف إال بالش رع بحيث إذا خفي منه ا ش يء‬
‫ُطلب من أدلته‪ ،‬فإن مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها وأسبابها ‪ -‬كم ا يؤك د‬
‫العز بن عب د الس الم "معروف ة بالض رورات والتج ارب والع ادات والظن ون‬
‫المعتبرات‪ ،‬فإن خفي منها شيء ُطلب من أدلته"‪ 70‬من ضرورة عقٍل أو تجرب ة‬
‫حس أو مستِقِّر عادة أو معَتَبر ظن‪ .‬وبناًء على ذلك ال يتردد أن يق رر أن ه‬
‫"من أراد أن يع رف المناس بات والمص الح والمفاس د‪ ،‬راجَحه ا ومرجوَحه ا‪،‬‬
‫فْليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع لم يرد به‪ ،‬ثم يبني علي ه األحك ام‪،‬‬
‫فال يكاد ُحكٌم منها يخرج عن ذلك إال ما تعب د اهلل ب ه عب اده ولم يقفهم على‬
‫مصلحته أو مفسدته"‪ ،‬وذلك نظرًا لم ا في األفع ال من ص فات حس ن أو قبح‬
‫يمكن للعقل أن يعرفه ا‪ ،‬ولكن دون إيج اب على اهلل تع الى ال ذي "إنم ا يجلب‬
‫مصاِلَح الحسن ويدرأ مفاسد القبيح َطْوًال منه على عباده وتفضال‪ 71".‬وه ذا‬
‫أمر ينبثق من أصل كلي أصله الفقيه الشافعي مفاده أن "الشريعة كلها نصائح‪،‬‬
‫إما بدرء مفاسد‪ ،‬أو بجلب مصالح"‪ ،‬ولذلك ف إن اهلل ع ز وج ل "ق د أب ان في‬
‫كتابه ما في بعض األحكام من المفاس د حّث ًا على اجتن اب المفاس د‪ ،‬وم ا في‬

‫‪ 67‬ابن قيم الجوزية‪ :‬إعلام الموقعين عن رب العالمين‪ ،‬تحقيق عصام الدين الصبابطي‬
‫(القاهرة‪ :‬دار الحديث‪ ،)1425/2004 ،‬ج‪ ،2/3‬ص‪.5‬‬
‫‪ 68‬عز الدين بن عبد السالم‪ :‬القواعد الكبرى‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.7‬‬
‫‪ 69‬المرجع نفسه‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.12-11‬‬
‫‪ 70‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.13‬‬
‫‪ 71‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.14-13‬‬

‫‪24‬‬
‫بعض األحكام من المصالح جّثًا على إتيان المصالح"‪ 72،‬بحيث ينفتح الباب أمام‬
‫عقل المجتهد فيفرع عليها وينسج على منوالها مستهديًا بم يزان الش ريعة في‬
‫ترتيب المصالح والمفاسد على أسبابها‪ ،‬والتبص ر بوس ائل تحص يلها‪ ،‬ومراع اة‬
‫مراتبها من حيث القوة والضعف‪ ،‬والخصوص والعموم‪ ،‬وتقدير م داها من حيث‬
‫التوقيت والدوام‪ ،‬والنظر في كيفيات التوفيق أو الترجيح بينها عن د ال تزاحم‬
‫والتعارض‪ ،‬واعتبار تفاوتها حسب األشخاص والجماعات واختالفها عبر الزم ان‬
‫والمكان‪.‬‬
‫يمكن القول إن هذا النهج من اعتب ار أن أحك ام الش ريعة مبناه ا على رعاي ة‬
‫المصلحة هو نهج غالب العلماء من فقهاء وأصوليين حتى عصرنا هذا‪ .‬فعليه أقام‬
‫الإمام الشاطبي جهده الكبير في إعادة ص ياغة علم أص ول الفق ه من خلال جع ل‬
‫مقاصد الشريعة المحور الذي تدور عليه سائر مباحثه وتتكيف وفق ًا ل ه س ائر‬
‫مسائله‪ .‬فكون أحكام الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد حقيقة ثابتة عنده قد دل‬
‫عليها استقراء الشريعة "استقراًء لا ينازع فيه الرازي ولا غ يره"‪ ،‬فض لًا عن أن‬
‫"التعاليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة ‪ ...‬أكثر من أن تحصى‪ 73".‬فه ذه‬
‫قضية لا يرى الشاطبي مجالًا للتردد فيه ا؛ لأنه ا قائم ة على الاس تقراء المفي د‬
‫للعلم‪ ،‬الأمر الذي يجعلنا "نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الش ريعة"‪،‬‬
‫والأمر الذي به كذلك "ثبت القياس والاجتهاد‪ 74".‬ذلك أن الش ارع ق د قص د‬
‫بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية "على وجه لا يختل لها به نظ ام‪ ،‬لا‬
‫بحسب الكل ولا بحسب الجزء‪ ،‬وسواء في ذلك ما كان من قبيل الض روريات أو‬
‫الحاجيات أو التحسينات"‪ ،‬بناًء على "كم ال النظ ام في التش ريع" ال ذي ي أبى‬
‫‪75‬‬
‫كمال النظام فيه "أن ينخرم ما وضع له‪ ،‬وهو المصالح‪".‬‬

‫‪ 72‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.14‬‬


‫‪ 73‬الشاطبي‪ ،‬أبو إسحاق إبراهيم بن موسى‪ :‬الموافقات في أصول الشريعة‪ ،‬تحقيق عبد اهلل‬
‫دراز (بيروت‪ :‬دار المعرفة‪ ،1416/1996 ،‬نشرة بعناية إبراهيم رمضان)‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‬
‫‪ .323-322‬وقد خص الشاطبي فخر الدين الرازي بالذكر ألنه من أكثر من أثار‬
‫االعتراضات على تعليل أحكام الشريعة باألغراض الباعثة على شرعها‪( .‬انظر في ذلك‬
‫الرازي‪ :‬المحصول‪ ،‬ج‪ ،5‬ص‪.)135-128‬‬
‫‪ 74‬الشاطبي‪ :‬الموافقات‪ ،‬ص‪.323‬‬
‫‪ 75‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.350‬‬

‫‪25‬‬
‫فالمعَتَبُر في نظام الشرع ‪ -‬كما يبين الشاطبي ‪" -‬إنما ه و األم ر األعظم‪،‬‬
‫وهو جهة المصلحة التي هي عماد الدين والدنيا‪ ،‬ال من حيث أهواء النفوس‪ ،‬حتى‬
‫إن العقالء قد اتفقوا على هذا النوع في الجملة‪ ،‬وإن لم ي دركوا من تفاص يلها‬
‫قبل الشرع ما أتى به الشرع‪ ،‬فقد اتفقوا على اعتبار إقامة الحياة ال دنيا له ا أو‬
‫لآلخرة‪ ،‬بحيث منعوا من اتباع جملة من أه وائهم بس بب ذل ك‪ 76".‬وفي ه ذا‬
‫اإلطار ينبه صاحب الموافقات إلى أن الخالف المشهور بين المعتزلة واألش اعرة‬
‫يصبح خالفًا ال طائل من ورائه؛ فإذا كان المعتزلة يعتبرون المصالح والمفاسد‬
‫بحسب ما يؤدي إليه العقل‪ ،‬وهو "الوجه الذي يتم به صالُح العالم على الجمل ة‬
‫والتفصيل في المصالح‪ ،‬أو ينخرم به في المفاس د"‪ ،‬وإذا ك ان الش رع عن دهم‬
‫"كاشفًا لمقتضى ما ادعاه العقل عندهم بال زيادة وال نقص ان‪ ،‬فال ف رق بينهم‬
‫وبين األشاعرة في محصول المسألة‪ ،‬وإنما اختلفوا في المدرك‪ ،‬واختالفهم في ه‬
‫‪77‬‬
‫ال يضر في كون المصالح معتبرة شرعًا ومنضبطة في أنفسها‪".‬‬
‫وفي سياق نظريته فيما سماه بالارتفاقات التي بمقتضاها تطورت حياة البش ر‬
‫في طرق كسب معاشهم وسبل إقامة علاقاتهم بعضهم ببعض وفي كيفية إجراء‬
‫نظمهم وإدارة شؤونهم من الأسرة إلى الإمامة مما اقتضى وجوَد شرع أو ق انون‬
‫يحكمهم في ذلك كله‪ ،‬ينسج الإم ام ش اه ولي الل ه ال دهلوي على من وال َمن‬
‫سبقوه في تقرير قيام أحكام الشريعة على اعتبار المصلحة‪ ،‬فيقول‪" :‬وق د يظن‬
‫ظان أن الأحكام الشرعية غير متضمنة لشيء من المصالح‪ ،‬وأنه ليس بين الأعمال‬
‫وبين ما جعل الله جزاًء لها مناسبة‪ ،‬وأن مثل التكليف بالشرائع كمثل س يد أراد‬
‫أن يختبر طاعة عبده‪ ،‬فأمره برفع حجر أو لمس شجرة مما لا فائ دة في ه غ ير‬
‫الاختبار‪ ،‬فلما أطاع أو عصى جوزي بعمله‪ .‬وهذا ظن فاسد تكذبه السنة وإجم اع‬
‫القرون المشهود لها بالخير‪ 78".‬ذلك أن الشارع ‪ -‬كما يرى الدهلوي ‪ -‬قد أفاد‬
‫البشر نوعين من العلم‪ :‬النوع الأول هو علم المصالح والمفاسد مما وجههم إليه‬
‫من "اكتساب الأخلاق النافع ة في ال دنيا أو في الآخ رة وإزال ة أض دادها‪ ،‬ومن‬
‫تدبير المنزل وآداب المعاش وسياسة المدينة"‪ ،‬فكانت كل مص لحة حث الش رع‬
‫الناس عليها وكل مفسدة ردعهم عنها لا يخلو الأمر فيها من الرج وع إلى أح د‬

‫المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.352‬‬ ‫‪76‬‬

‫المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.357‬‬ ‫‪77‬‬

‫الدهلوي‪ :‬حجة اهلل البالغة‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.27‬‬ ‫‪78‬‬

‫‪26‬‬
‫أصول ثلاثة‪ :‬أحدها‪ :‬تهذيب النفس بالخصال النافعة‪ ،‬والثاني‪ :‬إعلاء كلمة الحق‬
‫وتمكين الشرائع‪ ،‬والثالث‪" :‬انتظام أم ر الن اس‪ ،‬وإص لاح ارتفاق اتهم وته ذيب‬
‫رسومهم‪ ،‬ومعنى رجوعها إليها أن يكون للشيء دخل في تلك الأمور إثبات ًا له ا‬
‫أو نفيًا إياها بأن يكون شعبة من خصلة منها أو ضّدًا لشعبتها أو مظنة لوجودها‬
‫أو عدمها‪ ،‬أو متلازمًا معها أو مع ضدها أو طريقًا إليها أو إلى الإع راض عنه ا‪،‬‬
‫والرضا في الأصل إنما يتعل ق بتل ك المص الح‪ ،‬والس خط إنم ا ين اط بتل ك‬
‫المفاسد‪ 79".‬أما النوع الثاني من العلم فهو "علم الشرائع والحدود والفرائض"‪،‬‬
‫وهي ما بينه الشارع من المق ادير ال تي نص ب للمص الح بخصوص ها "مظ اَّن‬
‫‪80‬‬
‫وأمارات مضبوطة معلومة‪ ،‬وأدار الحكم عليها وكلف الناس بها‪".‬‬
‫وإذ ليس من أغراض هذه الدراسة استقصاء تفاصيل الأقوال وجزئي ات الآراء‬
‫التي جرت بها أقلام العلماء السابقين في التعليل وما انبنت عليه أحكام الش ريعة‬
‫من مراعاة لمصالح البشر معاشًا ومعادًا‪ ،‬فإن ما سبق يكفي ليوقفن ا على مع الم‬
‫الاتجاه العام الذي تبَّلر في الفك ر التش ريعي الإس لامي تعب يرًا عن مركزي ة‬
‫المصلحة في النظر الاجتهادي لم ذاهب التفق ه في الش ريعة‪ .‬وق د هي أ ذل ك‬
‫الاتجاُه قاعدَة الانطلاق ومهد سبيَل السير للعلماء الخالفين في العصر الح ديث‬
‫ليبنوا تنظيرهم للمصلحة والمقاصد تجاوبًا مع ما جرت به الحياة من تبدل في‬
‫أوضاعها وتطور في أنماطها وأساليبها‪ ،‬وسعيًا لتكييف ما ث ار فيه ا من ن وازل‬
‫ومشكلات لا يكاد يلفى لها نظيٌر فيما سبق للعقل الفقهي المس لم معالجُت ه من‬
‫أقضية ووقائع‪ .‬وقد اقتضى ذلك تكييفًا منهجّيًا صار موضوع المص لحة في ه‬
‫يدرس بضرب من الاستقلال والتمييز الذي لا نجده في مؤلفات الفق ه وأص وله‬
‫حيث ُيعرض للمصلحة بوصفها من توابع مباحث أخرى‪ .‬ولن نتوس ع في تتب ع‬
‫الأقوال والتقريرات التي جادت بها قرائُح العلم اء المعاص رين في ه ذا الش أن‪،‬‬
‫وإنما يكفي أن نقف مع بعض االكتابات التي ص ار له ا من المرجعي ة في الفك ر‬
‫الاجتهادي الحديث ما يجعلها ممثلة للوجهة التي يمكن أن نق ول إن المتش رعين‬
‫المسلمين في جملتهم يسيرون عليها‪ .‬وهي في الواق ع الوجه ة ال تي انبثقت في‬
‫إطارها معظُم الاجتهادات التي قام عليها ما تش هده حي اة المس لمين من أعم ال‬
‫ومؤسسات في مجالات الاجتماع والاقتصاد والسياسة وغيرها‪.‬‬

‫المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.375-374‬‬ ‫‪79‬‬

‫المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.375‬‬ ‫‪80‬‬

‫‪27‬‬
‫ويأتي في مقدمة تلك المؤلفات كتاب الشيخ محمد الطاهر ابن عاش ور في‬
‫مقاصد الشريعة‪ .‬فهذا المؤَّلُف يمكن في الحقيقة عُّده تعبيرًا عن الهم الع ام‬
‫الذي شغل عقوَل المصلحين منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميالدي‬
‫بحثًا عن السبل الناجعة لمواجهة تح ديات العص ر الح ديث وتحقي ق مص الح‬
‫المسلمين في إطار من ثوابت الشرع وقيمه الخالدة وتوخي ًا لمقاص ده العام ة‬
‫والخاصة‪ 81.‬وهو ما أعرب عنه ابن عاشور بوضوح ال لبس في ه‪ ،‬حيث ذك ر أن‬
‫قص ده من إمالء مب احث في مقاص د الش ريعة واالحتج اج إلثباته ا أن تك ون‬
‫"نبراسًا للمتفقهين في الدين‪ ،‬ومرجعًا بينهم عند اختالف األنظ ار" من أج ل‬
‫"إغاثة المسلمين بباللة تشريع مصالحهم الطارئة متى نزلت الحوادث واشتبكت‬
‫‪82‬‬
‫النوازل‪".‬‬
‫فما تلك المصالح التي ُيعَّول في تحقيقها على مقاصد الشريعة التي دعا ابن‬
‫عاشور إلى جعلها علمًا قائمًا بذاته مستقلًّا عن أصول الفقه؟‬
‫بنى الشيخ ابن عاشور قوله في المصلحة على أصلين رئيسين‪ :‬األص ل األول‬
‫أن مقاصد الشريعة مبنية على الفطرة‪ ،‬على اعتبار "أن األصول ال تي ج اء به ا‬
‫اإلسالم هي من الفطرة‪ ،‬ثم تتبعه ا أص وٌل وف روع هي من الفض ائل الذائع ة‬
‫المقبول ة‪ ،‬فج اء به ا اإلس الم وح َّرض عليه ا‪ ،‬إذ هي من الع ادات الص الحة‬
‫المتأِّصلة في البشر والناشئة عن مقاصد من الخير سالمة من الضرر"‪ 83،‬ومن‬
‫ثم جاءت الشريعة تدعو إلى "تقويم الفطرة والحفاظ على أعمالها‪ ،‬وإحي اء م ا‬
‫اندرس منها‪ 84".‬فكان مقصُدها العام الذي دل عليه اس تقراُء كلي ات دالئله ا‬
‫وجزئياتها "هو حفُظ نظام األمة واستدامة صالحه بصالح المهيمن عليه‪ ،‬وه و‬
‫نوع اإلنسان" صالحًا يشمل "صالَح عقله‪ ،‬وصالَح عمله‪ ،‬وصالَح ما بين يدي ه‬
‫‪85‬‬
‫من موجودات العالم الذي يعيش فيه"‪ ،‬وذلك بجلب الصالح ودرء الفساد‪.‬‬

‫‪ 81‬يمكن في هذا الصدد اإلشارة إلى كتابات أعالم بارزين مثل خير الدين التونسي‪ ،‬والشيخ‬
‫محمد عبده‪ ،‬والشيخ محمد رشيد رضا‪ ،‬والشيخ محمد الحجوي الثعالبي‪ ،‬والشيخ محمد‬
‫الخضر حسين‪ ،‬والشيخ محمود شلتوت‪ ،‬واألستاذ عالل الفاسي‪ ،‬وغيرهم كثير‪.‬‬
‫‪ 82‬ابن عاشور‪ :‬مقاصد الشريعة‪ ،‬ص‪.165‬‬
‫‪ 83‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.264‬‬
‫‪ 84‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.265‬‬
‫‪ 85‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.276 ،273‬‬

‫‪28‬‬
‫أما األصل الثاني فهو "اليقين بأن أحكام الشريعة كلها مشتملة على مقاص د‬
‫الشارع‪ ،‬وهي حكم ومصالح ومنافع‪ ،‬ولذلك كان الواجب على علمائها تعُّرُف‬
‫علل التشريع ومقاصده ظاهرها وخفِّيها‪ 86".‬فإذا ج از أن تك ون في الش ريعة‬
‫أحكام تعبدية ال علَة ظاهرة لها وال يمكن االطالُع على علتها‪ ،‬ف إن ابن عاش ور‬
‫يذهب إلى أن ذلك ال ينبغي أن يكون في المعامالت المالي ة والجنائي ة‪ ،‬فه و ال‬
‫يرى "أن يكون في هذه تعبدي‪ ،‬وعلى الفقيه أن يستنبط العلل فيه ا‪ 87 ".‬ذل ك‬
‫أن "العبادات أوغُل في جانب األثر؛ ألن كثيرًا منها التعب دُّي ال ذي ال ي دخل‬
‫فيه القياس دخوًال قوّيًا"‪ ،‬أما فقه المع امالت فيحت اج إلى "أص ول وكلي ات‬
‫تجعل للعارف بها معرفة بأحوال الزمان"‪" ،‬فك ان ال واجب أن ال يك ون طري ُق‬
‫التفق ه واح دًا في ن وعي الفق ه الم ذكورين (أي فق ه العب ادات وفق ه‬
‫المعامالت)‪ 88".‬ولذلك كانت موارد األحك ام الش رعية أو م ا تعلقت ب ه من‬
‫تصرفات المكلفين وأفعالهم في مختلف أنواع المعامالت على ضربين‪ :‬مقاص د‬
‫ووسائل‪" ،‬فالمقاصد هي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها‪ ،‬والوسائل هي‬
‫‪89‬‬
‫الطرق المفضية إليها‪".‬‬
‫وفي ضوء هذين الأص لين وتأسيس ًا عليهم ا ج رى ابن عاش ور في تعري ف‬
‫المصلحة وإثبات حجيتها وتحديد مداها وأنواعها‪ ،‬وهو إذ يفعل ذلك يق دم لن ا‬
‫خلاصة ممحصة لما دارت حوله أنظار الفقهاء والأصوليين قبله من أقوال وآراء‪.‬‬
‫ولذلك فإن هذه الدراسة تتبنى ما صاغه من أفك ار بوص فه تعب يرًا عم ا يمكن‬
‫عُّده المساَق العام للنظر الاستصلاحي في الفق ه الإس لامي‪ .‬فالمص لحة عن ده‬
‫"وصف للفعل يحصل به الصلاح‪ ،‬أي النف ع‪ ،‬من ه دائم ًا أو غالب ًا‪ ،‬للجمه ور أو‬
‫للآحاد"‪ ،‬بحيث تكون خالصة أو مطردة‪ ،‬عامة أو خاصة‪" .‬أما المفس دة فهي م ا‬
‫قابل المصلحة‪ ،‬وهي وصف للفعل يحصل به الفساد‪ ،‬أي الض ر‪ ،‬دائم ًا أو غالب ًا‪،‬‬
‫للجمهور أو للآحاد‪ 90".‬وإذا كانت المصلحة بأنواعها تشتمل على قسمين‪" :‬م ا‬

‫‪ 86‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.246‬‬


‫‪ 87‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.247-246‬‬
‫‪ 88‬ابن عاشور‪ :‬أليس الصبح بقريب؟ التعليم العربي اإلسالمي‪ :‬دراسة تاريخية وآراء‬
‫إصالحية‪ ،‬تحقيق محمد الطاهر الميساوي (كوااللمبور‪ :‬دار التجديد‪،)1423/2002 ،‬‬
‫ص‪.234‬‬
‫‪ 89‬ابن عاشور‪ :‬مقاصد الشريعة‪ ،‬ص‪.413‬‬
‫‪ 90‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.283-282‬‬

‫‪29‬‬
‫يكون فيه حٌّظ ظاهٌر للناس في الجبلة‪ ،‬يقتضي ميل نفوسهم إلى تحصيله؛ لأن‬
‫في تحصيله ملاءمًة لهم" و"ما ليس فيه حظ ظاهر لهم"‪ ،‬ف إن لك ل من ه ذين‬
‫القسمين "خصائص من عناية الشارع"‪ 91.‬فالقسم الأول ليس من ش أن الش ارع‬
‫التعرض له بالطلب إذ يكفي داعي الجبلة في توجي ه اهتم ام الن اس لتحص يله‪،‬‬
‫فيكون شأن الشريعة "أن تزيل عنه موانع حصوله"‪ ،‬بينما "القسم الثاني يتعرض‬
‫له التشريع بالتأكيد‪ ،‬ويرتب العقوبة على تركه والاعتداء علي ه" م ع إيج اب‬
‫‪92‬‬
‫بعضه "على الأعيان وبعضه على الكفايات‪ ،‬بحسب محل المصلحة‪".‬‬
‫ومع هذا التنويع للمصلحة‪ ،‬يستعيد ابن عاش ور تقس يم الأص وليين من حيث‬
‫قوة أثرها (وهو ما سموه بالمناسب الحقيقي) فتنقس م إلى ض رورية وحاجي ة‬
‫تحس ينية ومن حيث م دركها أو ال دليل عليه ا فتنقس م إلى قطعي ة وظني ة‬
‫ووهمية‪" .‬فالمصالح الضروية هي ال تي تك ون الأم ة بمجموعه ا وآحاده ا في‬
‫ضرورة إلى تحصيلها بحيث لا يستقيم النظام باختلالها‪ ،‬فإذا انخرمت تؤول حالة‬
‫الأمة إلى فساد وتلاش‪ 93".‬أما المصالح الحاجية فهي "ما تحتاج الأم ة إلي ه في‬
‫اقتناء مصالحها وانتظام أمرها على وجه حسن‪ ،‬بحيث ل و لا مراعات ه لم ا فس د‬
‫النظام ولكنه كان على حال ة غ ير منتظم ة‪ 94".‬وت أتي في الرتب ة الأخ يرة‬
‫المصالح التحسينية التي هي "ما كان بها كمال ح ال الأم ة في نظامه ا ح تى‬
‫تعيش آمنة مطمئنة ولها بهجة منظر المجتمع في مرآى بقية الأمم‪ ،‬حتى تك ون‬
‫الأمة الإسلامية مرغوبًا في الاندماج فيها أو التقرب منه ا‪ 95".‬ولا يخفى م ا في‬
‫هذه الصياغة من حرص على إب راز الج وانب الاجتماعي ة والأبع اد الحض ارية‬
‫للمصالح برتبها المتفاوتة بوصفها المحور الذي تدور عليه مقاصد الشريعة في‬
‫تحقيق الصلاح ودرء الفس اد‪ .‬أم ا اعتب ار المص الح من حيث م دركها فالب اب‬
‫منفسح فيه لكل من النص والعقل‪ ،‬بحيث إن منه ا م ا ق د ت دل النص وص على‬
‫ضرورة تحصيله دلالة قطعية‪ ،‬مثلما أن منها ما يقوم دليل العق ل على ض رورة‬
‫جلبه‪ .‬وكذلك فإن منها ما تكون دلالة النص أو العقل عليه ظنية‪ .‬أما المصالح‬
‫الوهمية فهي ما يكون منشؤه مج رد ال وهم والخي ال ولا ينتهض ل ه دلي ل من‬
‫المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.292‬‬ ‫‪91‬‬

‫المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.293-292‬‬ ‫‪92‬‬

‫المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.300‬‬ ‫‪93‬‬

‫المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.306‬‬ ‫‪94‬‬

‫المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.307‬‬ ‫‪95‬‬

‫‪30‬‬
‫العقل ولا من الشرع‪ 96.‬وفضلًا عن الاعتبارات السالفة فإن هناك نظرًا آخر إلى‬
‫المصالح والمفاسد من حيث "كونه ا حاص لة من الأفع ال بالقص د أو حاص لة‬
‫بالمآل"‪ ،‬وهذا مقام مرتبك "فيه تتفاوت مدالاك العقلاء اهتداًء وغفلة‪ ،‬وقب ولًا‬
‫وإعراضًا‪ ،‬فتطلع فيه الحيل والذرائع"‪ ،‬الأمر الذي يسترعي الحذق والفطنة من‬
‫‪97‬‬
‫الفقيه‪.‬‬
‫وفي ضوء هذه االعتبارات جميعًا من تحديد لمعنى المصلحة وبيان ألقسامها‬
‫واعتباراتها المختلفة‪ ،‬يقرر ابن عاشور أن "طريق المصالح ه و أوس ع طري ق‬
‫يسلكه الفقيه في تدبير أم ور األم ة عن د نوازله ا ونوائبه ا إذا التبس ت علي ه‬
‫المسالك‪ ،‬وأنه إن لم يتبع هذا المسلك الواضح والمحجة البيض اء فق د عط ل‬
‫‪98‬‬
‫اإلسالم عن أن يكون دينًا عاّمًا باقيا‪".‬‬
‫ويبدو ابن عاشور في احتجاجه لبناء االجتهاد على اعتب ار المص الح س ائرًا‬
‫على نهج قريب من ذلك الذي سار عليه ابن عقيل وابن تيمي ة والط وفي وابن‬
‫القيم‪ ،‬ناحيًا في ذلك منحى وضع إطار شامل لها يستوعب ض روبها المختلف ة‬
‫وصورها المتعددة‪ .‬ولذلك يؤكد أن الغ رض من بي ان أن واع المص الح ليس‬
‫مجرد معرفة مراعاة الشريعة لها‪ ،‬وال مجرد قياس النظائر على جزئيات تل ك‬
‫المصالح‪ ،‬فذلك كله دون الغرض من تأسيس علم مقاصد الشريعة ال ذي دع ا‬
‫إليه‪ .‬وإنما الغرض من التعرض لتلك األنواع ودراستها هو "أن نعرف كث يرًا‬
‫من صور المصالح المختلفة األنواع المعروُف قصُد الشريعة إياها‪ ،‬حتى يحصل‬
‫لنا من تلك المعرفة يقيٌن بصور كلية من أنواع هاته المص الح‪ .‬فم تى حلت‬
‫الحوادث التي لم يسبق حلوُله ا في زمن الش ارع‪ ،‬وال له ا نظ ائُر ذاُت أحك ام‬
‫متلقاة منه‪ ،‬عرفنا كيف ندخلها تحت تلك الصور الكلية‪ ،‬فنثبت لها من األحكام‬
‫أمثاَل ما نثبت لكلياتها‪ 99".‬وب ذلك يتهي أ لش يخ الزيتون ة أن يح ل إش كال‬
‫االحتجاج للمصالح المرسلة التي طالما جرى التنازع فيها بين موسع ومض يق‪،‬‬
‫فهو يرى أن ليس على الع الم أن يحص ر نفس ه في المص الح المنص وص على‬
‫حكمها أو الملحقة بنظائرها قياسًا‪ ،‬وإنما من الواجب عليه "تحص يل المص الح‬

‫المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.315-314‬‬ ‫‪96‬‬

‫المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.316‬‬ ‫‪97‬‬

‫المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.316-315‬‬ ‫‪98‬‬

‫المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.309-308‬‬ ‫‪99‬‬

‫‪31‬‬
‫غير المثبتة أحكامها بالتعيين وال الملحقة بأحكام نظائرها بالقياس"‪ ،‬بناًء على‬
‫"وجوب اعتبار جنسها على الجملة وبدون الدخول في التفاصيل‪ 100".‬ذل ك أن‬
‫أدلة اعتبار أجناس المصالح "حاصلٌة من استقراء الشريعة قطعًا أو ظّنًا قريبًا‬
‫من القطع"‪ ،‬كما أن "أوصاف الحكمة قائمٌة بذواتها غير محتاج ة إلى تش بيه‬
‫فرع بأصل‪ ،‬وإنما هي واضحٌة للناظر فيها وضوحًا متفاوتًا‪ ،‬لكنه غير محت اج‬
‫‪101‬‬
‫إلى استنباٍط وال إلى سلوك مسالكه‪.‬‬
‫وعلى ما قرره ابن عاشور مم ا يب دو أن طوائ ف واس عة من فقه اء العص ر‬
‫يميلون إليه نقفي فنقول‪ :‬إن مراعاة الشريعة للمصالح وفتحها الباب للمجتهدين‬
‫لتكييف الوقائع والنوازل والحكم عليها وفق ما تشتمل عليه من المص الح جلب ًا‬
‫أو تتضمنه من المفاسد دفعًا أو الترجيح بينها عند ال تزاحم والتع ارض أو بين‬
‫طرفي المصلحة والمفسدة عند التشابك ليس ناشئًا عن نزعة ذرائعية في النظر‬
‫إلى المصلحة أو فهم مادي لمعناها ومضمونها‪ ،‬ولا هو م تروك تق ديره لب ادئ‬
‫الرأي وعفو الخاطر‪ ،‬فليس مثل ذلك مما يمكن أن يخطر على بال أي فقي ه من‬
‫فقهاء الشريعة يحترم عقده وعقله‪ .‬وإنما مفهوم المصلحة في النظ ر الش رعي‬
‫منبثق عن رؤية كلية لكينونة الإنسان وكيان المجتمع يتحدد معنى المص لحة‬
‫والمفسدة والنفع والضر فيها بأبعاده المادية والروحي ة والخلقي ة والمعنوي ة‬
‫على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة سواء‪ ،‬ويكون فيه الاهتمام بالمص لحة‬
‫والمفسدة في ذاتها بقدر الاهتمام بالوسيلة المفضية إليها حيث لا مجال لمقول ة‬
‫الغاية تسوغ الوسيلة‪.‬‬
‫ولعله من هذا المنطلق وفي ضوء ه ذا التق دير نس تطيع أن ن درك المغ زى‬
‫الحقيقي لما فعله الإمام الغزالي حيث ق رر أن المص لحة هي م ا أدى إلى حف ظ‬
‫الكليات الخمسة الضرورية (الدين والنفس والعق ل والنس ل والم ال) أو بعض ها‬
‫فيطلب تحصيله‪ ،‬وأن المفس دة هي م ا أدى إلى تف ويت ش يء من ذل ك فيطلب‬
‫درؤه‪ .‬ذلك أن هذه الضروريات تمثل الأص ول ال تي ترج ع إليه ا المص الح في‬
‫كلياتها وجزئيات تفاصيلها وأعيانه ا‪ ،‬فض لًا عن أنه ا تعكس الأبع اد المختلف ة‬
‫لمقومات الوجود البشري التي لا يمكن تصور حياة إنسانية مستقرة متوازن ة في‬
‫حال اختلالها جزئّيًا أو كليا‪ .‬ويمكن القول إن هذه الأصول تقدم الض ابط الكلي‬
‫المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.310‬‬ ‫‪100‬‬

‫المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.311-310‬‬ ‫‪101‬‬

‫‪32‬‬
‫والمعيار الأعلى اللذين ترتد إليهما وتنبث ق منهم ا س ائر الض وابط والمع ايير‬
‫الجزئية التي تفاوتت أنظار العلم اء في تحدي دها ق ديمًا وح ديثًا بين متش دد‬
‫ومتسامح‪ 102.‬وفي ضوء هذا لا حرج في القول بأن "المصلحة مص در تجدي دي‬
‫تطويري للفقه" وأن "الإفتاء المصلحي يمكن أن يأتي جديدًا لا مثاَل ل ه س ابق‬
‫يقاس عليه‪ ،‬ويعتمد الاجتهاُد فيه على نظرة شاملة للفقه وخبرة بمقاصد الش رع‬
‫يحوزها المفتي المستصلح"‪ 103‬والفقيه المجته د‪ ،‬فض لًا عن دراي ة بمجري ات‬
‫الواقع ومشخصات الأفعال الإنسانية وتشابك الأوض اع الاجتماعي ة في مج الات‬
‫الحياة مع مراعاة لأقدار تأثير بعضها في بعض‪.‬‬
‫موقع مقاصد الشريعة في أصول الفقه‬
‫سبق البيان بأن مقاصد الشريعة مصطلحًا ومفهوم ًا ق د نش أت في كن ف‬
‫مناقشات األصوليين ومجادالتهم حول ركن العلة من القياس‪ .‬وبعب ارة أك ثر‬
‫تحديدًا ظهرت المقاصد بوصفها مج رد فص ل أو جزئي ة من مبحث مس الك‬
‫العلة‪ .‬إال أن مآالت النمو الذي شهده الدرس األصولي انتهت بمقاصد الش ريعة‪،‬‬
‫التي تخلقت في تربة مبحث المناسبة‪ ،‬شجرًة ضاربة الج ذور‪ ،‬باس قة األفن ان‪،‬‬
‫وارفة األغصان‪ ،‬دانية القطوف‪ ،‬تؤتي أكله ا ك ل حين ب إذن ربه ا‪ ،‬ولم تع د‬
‫المقاص د مج رد جزئي ة من جزئي ات علم أص ول الفق ه وف رع من ف روع‬
‫‪104‬‬
‫مسائله‪.‬‬
‫ومنذ أطلق الشيخ الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور دعوته إلى فص ل دراس ة‬
‫المقاصد عن مباحث علم األصول‪ ،‬تراوحت المواقف من تلك الدعوة بين ثالث ة‬
‫اتجاهات‪:‬‬
‫‪ 102‬انظر تحليًال ومناقشة لتلك الضوابط في البوطي‪ :‬ضوابط المصلحة في الشريعة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬ص‪.282-110‬‬
‫‪ 103‬الراشد‪ ،‬محمد أحمد‪ :‬أصول اإلفتاء واالجتهاد التطبيقي في نظريات فقه الدعوة‬
‫اإلسالمية (فان كوفر‪/‬كندا‪ :‬دار المحراب‪ ،‬ط‪ ،)1428/2007 ،4‬ج‪ ،1‬ص‪.293‬‬
‫‪ 104‬ينظر على سبيل المثال في عالقة المقاصد بالمباحث األصولية‪ :‬اليوبي‪ ،‬محمد سعد بن‬
‫أحمد بن مسعود‪ :‬مقاصد الشريعة وعالقتها باألدلة الشرعية (الريَاض‪ :‬دار الهجرة‪،‬‬
‫‪)1418/1998‬؛ الخادمي‪ ،‬نور الدين بن مختار‪ :‬المقاصد الشرعية وصلتها باألدلة‬
‫الشرعية والمصطلحات األصولية (الرياض‪ :‬دار إشبيليا‪)1424/2003 ،‬؛ ابن الخوجة‪،‬‬
‫الشيخ محمد الحبيب‪ :‬بين علمي أصول الفقه والمقاصد‪ ،‬وهو الجزء الثاني من كتابه‪:‬‬
‫محمد الطاهر ابن عاشور وكتابه مقاصد الشريعة اإلسالمية (الدوحة‪ :‬وزارة األوقاف‬
‫والشئون اإلسالمية‪.)1425/2004 ،‬‬

‫‪33‬‬
‫أحدها‪ :‬جعل مقاص د الش ريعة قس ما من أقس ام علم األص ول‪ ،‬تض اف إلى‬
‫أقسامه المعروفة‪ :‬الحكم‪ ،‬واألدلة‪ ،‬ودالالت األلفاظ‪ ،‬واالجتهاد‪...‬إلخ‪ .‬وهو خيار‬
‫فيه نظر ألنه ُيبقي األقسام األخرى من أصول الفقه على جفافه ا وفقره ا إلى‬
‫البعد القيمي‪ ،‬حيث إن الكثير منها في حاجة إلى توسيع وتط وير‪ ،‬ح تى تص بح‬
‫دراس ته تس ير في اتج اه البحث في المض امين القيمي ة للنص وص واألحك ام‬
‫الشرعية‪ ،‬بدًال من قصر التركيز على المسائل اللغوية والكالمية‪ .‬وفضًال عما‬
‫سبق‪ ،‬فإن هذا الخيار يوقعنا في مشكلة منهجية؛ حيث إننا إذا أعطين ا البحث في‬
‫المقاصد حقه ومداه فإن ذلك يؤدي إلى تضّخم الجزء الخ اص ب ه بش كل ق د‬
‫يطغى على األج زاء األخ رى‪ ،‬وينتج عن ه خل ل منهجي وتض ّخم في مب احث‬
‫األصول‪ .‬وإذا أردنا تجنب هذا الخلل المنهجي بتحديد المباحث التي ت درس في‬
‫هذا القسم بالقضايا األساسية في المقاصد‪ ،‬ف إن ذل ك ي ؤدي إلى تحجيم ه ذه‬
‫المباحث الحيوية وتضييق نطاق البحث فيها‪ ،‬ومن َثّم التقليل من فوائدها‪ ،‬وهو‬
‫أمر سلبي غير مرغوب فيه‪.‬‬
‫وقد يبدو لأول وهل ة أن ه ذا الخي ار ه و مس لك الش اطبي‪ ،‬حيث خص ص‬
‫للمقاصد الجزء الثاني من كتاب "الموافقات"‪ ،‬بسط فيه القول فيه ا‪ .‬ولكن بم ا‬
‫أن الشاطبي لم يكن يرمي من وراء تأليف الموافقات إلى وضع كتاب متكام ل في‬
‫أصول الفقه يشمل جميع أبواب هذا العلم بشكل مرَّتب‪ ،‬بل ك ان قص ده تأص يل‬
‫بعض المسائل الأصولية‪ ،‬وإعادة النظر في أخرى‪ ،‬وإضافة الكثير من المسائل إلى‬
‫هذا العلم‪ ،‬ومنها مقاصد الشريعة‪ ،‬والدعوة إلى صياغة جديدة لعلم الأصول يكون‬
‫عماد منهج البحث فيه الاستقراء‪ ،‬والخيط الناظم الذي يربط مباحثه والروح التي‬
‫تسري فيه المقاصد الشرعية‪ ،‬فإنه من العسير أن ننسب إلى الشاطبي أنه ب إفراده‬
‫جزءا من الموافقات للمقاصد الشرعية يكون قد سار في اتجاه جعلها جزءا مستقلا‬
‫من أجزاء هذا العلم‪.‬‬
‫ويبدو للباحث أن هذا اإلفراد اقتضته ضرورة الري ادة في التنظ ير لمب احث‬
‫المقاصد‪ ،‬بقصد اإلبراز والتوُّسع في البيان واالحتج اج واإلثب ات‪ ،‬وإن اقتض ى‬
‫ذلك شيئا من االستطراد واإلطناب‪ ،‬والتوُّسع في إي راد الش واهد‪ .‬وه ذا ش أن‬
‫العمل التأسيسي‪ ،‬إذ قد يحتاج ص احبه إلى ط ول نفس في الش رح واالس تدالل‬
‫بقصد البيان واإلقناع‪ ،‬خاصة إذا كان المؤلف يتوقع إنكارا ومعارضة لما يؤسس‬

‫‪34‬‬
‫له‪ ،‬وهو األمر الذي كان يخشاه الش اطبي كم ا تح دث عن ذل ك في مقدم ة‬
‫الكتاب‪.‬‬
‫وعالوًة عما سبق‪ ،‬فإن النظر في كتاب الموافقات يدل على أن الشاطبي ق د‬
‫بناه على ما تقرر لديه من نتائج البحث الطوي ل في مقاص د الش ريعة منهج ا‬
‫ومضمونا‪.‬‬
‫فمن حيث المنهج‪ ،‬نجد المنهج االستقرائي‪ ،‬الذي عده الش اطبي أفض ل منهج‬
‫للبحث في المقاصد الشرعية‪ ،‬حاضرا بقوة في جميع أجزاء الكتاب‪ 105،‬وكذلك‬
‫األمر في البحث عن الكليات وتحديد العالق ة العض وية التكاملي ة بينه ا وبين‬
‫الجزئيات‪.‬‬
‫ومن حيث المضمون‪ ،‬يظهر بجالء الرب ط بين المقاص د الش رعية وجمل ة‬
‫كبيرة من مسائل علم األصول‪ .‬ولم يكن الشيخ عبد اهلل دراز مجانب ًا الص واب‬
‫حين قرر أن هذا العلم بقي "فاقدًا قسمًا عظيمًا‪ ،‬ه و ش طر العلم الب احث عن‬
‫أحد ركنيه"‪ ،‬أي علم أسرار الشريعة ومقاصدها‪ .‬وإنه لمحق أيضا حين يق ول‬
‫بأن اإلمام الشاطبي هو الذي هيأه اهلل تعالى "لتدارك ه ذا النقص‪ ،‬وإنش اء ه ذه‬
‫العم ارة الك برى‪ ،‬في ه ذا الف راغ الم ترامي األط راف في ن واحي ه ذا العلم‬
‫‪106‬‬
‫الجليل"‪.‬‬
‫واالتجاه الثاني‪ :‬هو إعادة صياغة علم أصول الفقه بشكل يستوعب كثيرا من‬
‫مباحث المقاصد ويجعلها جزءا من نسيجه‪ .‬فالناظر في علم أصول الفقه يدرك‬
‫أنه وضع في أصله لبيان مناهج االجتهاد وض وابطه‪ ،‬س واء في ذل ك االجته اد‬
‫القائم على تفسير النصوص أو على القياس‪ .‬ولكن بع د ذل ك تط ور ليص بح‬
‫بمثابة نظرية عامة للفقه اإلسالمي؛ فلم يعد يقتص ر على الح ديث عن من اهج‬
‫االجتهاد ومصادر التشريع‪ ،‬بل تعدى ذلك إلى الحديث عن جمي ع العناص ر ذات‬
‫العالقة بالتشريع‪ ،‬كما هو الحال في تقس يم األقط اب األربع ة عن د الغ زالي‪:‬‬
‫األحكام (وتشمل‪ :‬الحكم‪ ،‬والحاكم‪ ،‬والمحكوم عليه‪ ،‬والمحكوم في ه)‪ ،‬واألدل ة‬

‫‪ 105‬انظر للتفصيل في مجاالت استخدام الشاطبي لالستقراء في كتاب الموافقات‪ :‬نعمان‬


‫جغيم‪ ،‬طرق الكشف عن مقاصد الشارع (عمان‪ :‬دار النفائس‪2002 ،‬م)‪ ،‬ص‪.293-267‬‬
‫‪ 106‬الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.12-11‬‬

‫‪35‬‬
‫الشرعية‪ ،‬ووجوه داللة األدلة‪ ،‬والمجتهد الذي يستنبط األحكام من األدلة ومع ه‬
‫االجتهاد الذي هو عملية التعامل مع النص أو ما فيه معناه‪.‬‬
‫ومادام الأمر قد استقر على جعل علم أص ول الفق ه به ذا النظم‪ ،‬فإن ه ينبغي‬
‫البلوغ به مداه منهجا ومضمونا‪ ،‬حتى تص بح مباحث ه ممثل ة لنظري ة متكامل ة‬
‫للتشريع الإسلامي‪ ،‬تبحث بعمق مصادر التش ريع‪ ،‬ومقاص ده‪ ،‬وفلس فته‪ ،‬ومن اهج‬
‫الاجته اد في ه وض وابطه‪ ،‬وتطبيق ه على واق ع الحي اة‪ ،‬والعلاق ة بين الش ارع‬
‫والمشَّرع له‪ .‬ولا شك أن تحقيق هذا اله دف يتع دى المب احث التقليدي ة لعلم‬
‫الأصول ليشمل المقاصد وغيرها‪.‬‬
‫واالتجاه الثالث‪ :‬هو تحقيق دع وة ابن عاش ور بتأس يس علم جدي د خ اص‬
‫بمقاصد الش ريعة‪ ،‬وفص له عن علم أص ول الفق ه‪ .‬ويطمح ابن عاش ور إلى أن‬
‫يحقق "علم مقاصد الشريعة" الذي يرنو إلى تأسيسه ثالثة أم ور‪ :‬أح دها‪ :‬أن‬
‫تصبح قواعده "أدلة ضرورية‪ ،‬أو قريبة منه ا"‪ 107،‬بمع نى أن تص بح قواع ده‬
‫ومسائله قطعية‪ ،‬أو قريبة من القطع‪ ،‬ومن ثم تحقي ق األم ر الث اني‪ :‬وه و أن‬
‫تصبح تلك القواعد الفيصل الذي يفص ل بين الم ذاهب عن د اختالفه ا‪ ،‬أو على‬
‫األقل وسيلة إلى إقالل االختالف بين فقهاء األمصار‪ ،‬أما األمر الثالث‪ :‬فه و أن‬
‫تكون نبراسا يهتدي به المتفقهون في الدين‪ ،‬بمع نى أنه ا تطل ع المتفق ه على‬
‫‪108‬‬
‫فلسفة التشريع اإلسالمي‪ ،‬بمعرفة مقاصده وغاياته‪.‬‬
‫ولكن الواقع أن مسألة الظني ة ال تقتص ر على مس ائل األص ول‪ ،‬ب ل ت دخل‬
‫الكثير من مباحث المقاصد وقواعدها‪ .‬وحتى في القواعد المقاصدية التي تتسم‬
‫بالقطعية‪ ،‬فإن الظن واالختالف يدخلها عندما ينتقل األمر إلى تحقي ق مناطه ا‬
‫في الواقع‪.‬‬
‫وواضح من كالم ابن عاشور أن ه ي رى الفص ل الكام ل بين علم أص ول الفق ه‬
‫و"علم مقاصد الشريعة"‪ ،‬وال يرى داعيا لتطوير علم أص ول الفق ه‪ ،‬ب ل ي دعو إلى‬
‫تركه "على حاله‪ ،‬تستمد منه طرق تركيب األدلة الفقهي ة"‪ 109،‬وتوَّج ه العناي ة‬

‫ابن عاشور‪ ،‬مقاصد الشريعة‪ ،‬ص‪.166‬‬ ‫‪107‬‬

‫المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.165‬‬ ‫‪108‬‬

‫المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.172‬‬ ‫‪109‬‬

‫‪36‬‬
‫الكبرى إلى استنباط وتطوير مبادئ وقواعد "علم مقاصد الشريعة" لتكون "أص وال‬
‫‪110‬‬
‫قطعية للتفقه في الدين"‪.‬‬
‫ولكن مع هذه الدعوة فإن ابن عاشور لا يرى "علم مقاصد الشريعة" بديلا عن‬
‫علم أصول الفقه‪ ،‬بل يراه مكملا له‪ ،‬حيث تكون وظيفة أصول الفقه تزويد الفقيه‬
‫بـ"طرق تركيب الأدلة الفقهية"‪ ،‬ووظيفة "علم مقاصد الشريعة" هو التفقه في‬
‫‪111‬‬
‫الدين‪ ،‬والفصل بين الفقهاء في اختلافاتهم‪ ،‬والتقريب بين وجهات نظرهم‪.‬‬
‫ولا يبدو أن ضررًا ما سيلحق بمقاصد الشريعة إذا ُأْفِردت بعلم خ اص على‬
‫الطريقة التي دعا إليها ابن عاشور‪ ،‬حيث إنها ستأخذ جواهر علم الأصول لتضاف‬
‫إليها مباحث أخرى‪ .‬إلا أن الفصل على الطريقة التي صّورها ابن عاشور (بإبقاء‬
‫علم أصول الفقه على ما هو عليه) سوف يكون لا محال ة ُمِض ًّرا بعلم أص ول‬
‫الفقه‪ .‬و يكون ذلك الض رر من ج انبين‪ :‬أح دهما‪ :‬إفق ار علم أص ول الفق ه‬
‫بتجريده من أجزاء مهمة من ه ونقله ا إلى "علم مقاص د الش ريعة"‪ ،‬والث اني‪:‬‬
‫حرمانه من التط ور المنهجي والمض موني ال ذي ت وفره ل ه مب احث مقاص د‬
‫الشريعة‪ .‬وهذا طريق إلى إضعاف علم أصول الفقه دون إيجاد بديل ل ه يمكن أن‬
‫يسد مسده‪.‬‬
‫وخطورة دعوة ابن عاشور ليست في تأسيس علم خ اص بمقاص د الش ريعة؛‬
‫ألن مقاصد الشريعة بالصورة ال تي رس مها ه و في كتاب ه مقاص د الش ريعة‬
‫اإلس المية من خالل االقتص ار على الح ديث عن مقاص د التش ريع العام ة‪،‬‬
‫والمقاصد الخاصة في المعامالت بين الناس يمكنه ا أن تك ِّون علم ا مس تقال‪،‬‬
‫ويمكن فصلها في البحث عن أصول الفقه‪ .‬ولكنن ا إذا أخ ذنا مقاص د الش ريعة‬
‫باإلطار الذي وضعه اإلمام الشاطبي فإن فصلها عن أصول الفقه ال يكون ممكن ا‪.‬‬
‫ولكن وجه الخطورة يكمن في دعوته إلى إفراغ علم أصول الفق ه من ج واهره‬
‫المقصدية‪ ،‬وإبقائه على ما هو عليه‪.‬‬
‫وبناء على ما سبق يتبين أن دعوة الفصل بالصورة التي دعا إليه ا ابن عاش ور‬
‫غير مناسبة‪ ،‬لإضرارها بعلم الأص ول‪ ،‬ولكن يمكن أن تس تبدل بص يغة معتدل ة‬
‫تحقق الفائدة للبحث المقاصدي ولأصول الفقه في آن واح د‪ ،‬وذل ك بتحقي ق‬

‫المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.172‬‬ ‫‪110‬‬

‫المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.172 ،165‬‬ ‫‪111‬‬

‫‪37‬‬
‫استقلالية نسبية لـ"علم المقاصد"‪ ،‬فلا ُيج َّرد علم الأص ول من المقاص د‪ ،‬ولا‬
‫ُيْحصر البحث في المقاص د في إط ار المب احث الأص ولية‪ ،‬وه و الأم ر ال ذي‬
‫‪112‬‬
‫يقترحه بعض الباحثين في هذا الشأن‪.‬‬
‫المقاصد الشرعية بوصفها مرجحات في االختالفات الفقهية‬
‫االختالفات الفقهية أمر واقع بين فقه اء ه ذه األم ة من مختل ف الم ذاهب‬
‫الفقهية‪ ،‬أو بين علماء المذهب الواحد‪ ،‬والمفتي في هذا العصر ق د يج د نفس ه‬
‫أمام اجتهادات مختلفة يتطلب األمر اختيار أحدها‪ .‬وال شك أن االختي ار ينبغي‬
‫أن ال يكون خاضعًا للتعصب المذهبي أو للرغبة والهوى‪ ،‬وإنما يك ون بن اء على‬
‫قوة الدليل ومناسبة الرأي للواقعة محّل الفتوى‪ .‬وهنا يكون لمراعاة المقاص د‬
‫الشرعية المحّل األكبر من االعتبار في الترجيح‪ ،‬ب أن ي رجح المف تي ال رأي‬
‫األقرب إلى تحقيق تلك المقاصد‪ ،‬فذاك هو المطلوب شرعا وعقال‪.‬‬
‫وينبغي بداية توضيح نس بية تحدي د المقاص د؛ فنحن لا نش ك في أن ك ل‬
‫اجتهاد ُمعَتٍّد به وصادر عمن هو مؤهل له قد س عى في ه ص احبه إلى تحقي ق‬
‫مقاصد الشارع‪ ،‬وبناء عليه‪ ،‬فنحن بترجيحنا اجتهادا على آخ ر اعتب ارا لمراع اة‬
‫المقاصد الشرعية لا نتهم طرفًا بالجهل بتلك المقاصد أو بع دم الاعت داد به ا‪،‬‬
‫وإنما الأمر مبني إما على كون المقاصد في بعض الجزئيات قد تك ون ظني ة أو‬
‫خفية فتختلف درجة إصابتها من قبل المجته دين‪ ،‬أو على ك ون المقاص د ق د‬
‫تتغير في بعض الجزئيات بتغير الزمان والظروف‪ ،‬فيكون ذلك هو أساس القول‬
‫بموافقة أحد الأقوال للمقاصد الش رعية أك ثر من غ يره‪ .‬وم ع ذل ك ينبغي‬
‫الإقرار بأن هذا الترجيح في ذاته قد يكون محّل اعتراض ون زاع من قب ل بعض‬
‫الأطراف‪ ،‬ولا حرج في ذلك لأن الظنيات قابلة للاختلاف حولها‪.‬‬

‫‪ 112‬انظر‪ :‬إسماعيل الحسني‪ ،‬نظرية المقاصد عند اإلمام محمد الطاهر بن عاشور‪ ،‬ص‪433‬؛‬
‫الريسوني‪ ،‬أحمد‪ ،‬نظرية المقاصد عند اإلمام الشاطبي (فرجينيا‪ :‬المعهد العالمي للفكر‬
‫اإلسالمي‪ /‬الدار العالمية للكتاب اإلسالمي‪ ،‬ط‪1412 ،2‬هـ) ص‪315‬؛ غالية بوهدة‪،‬‬
‫"استقاللية مقاصد الشريعة اإلسالمية عن علم أصول الفقه بين النظرية والتطبيق" ورقة‬
‫مقدمة للندوة العالمية عن الفقه اإلسالمي وأصوله وتحديات القرن الواحد والعشرين‪:‬‬
‫مقاصد الشريعة وسبل تحقيقها في المجتمعات المعاصرة‪ 10-8 ،‬أغسطس ‪2006‬م‪،‬‬
‫الجامعة اإلسالمية العالمية بماليزيا‪ ،‬ضمن أعمال الندوة‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.302‬‬

‫‪38‬‬
‫ومن أجل بيان مجمل لدور المقاصد في ال ترجيح بين اآلراء الفقهي ة‪ ،‬يمكن‬
‫أن نرجع االختالفات الفقهية في مجملها إلى ما يأتي‪:‬‬
‫‪ .1‬االختالف في فهم النص الظني الداللة الذي يحتمل أكثر من معنى‪ ،‬مع‬
‫عدم وجود مرِّجح قاطع من المقام أو السياق أو القرائن النصية وغ ير‬
‫النصية‪.‬‬
‫وفي هذا النوع من الخالفات الفقهية قد يك ون للمقاص د الش رعية عنص ر‬
‫الحسم في ترجيح رأي على رأي آخر؛ فمادامت األدلة متكافئة ف إن اختي ار م ا‬
‫يكون من االجتهادات أقرب إلى تحقيق المقاصد الشرعية ذات الصلة بالموضوع‪،‬‬
‫وأوفق بالمقاصد العامة للشريعة يكون هو المتعِّين؛ ألنه من الثابت أن األحكام‬
‫الشرعية لم توضع اعتباطا‪ ،‬بل ُوِض عت لتحقي ق مقاص د الش ارع من الخل ق‬
‫والتكليف‪.‬‬
‫‪ .2‬االختالف بسبب الترجيح بين األدلة التي تبدو في ظاهرها متعارضة‪.‬‬
‫وهذا النوع من االختالف وإن كانت فيه طرق عديدة لل ترجيح بحس ب‬
‫نوع التعارض‪ ،‬إال أن للمقاصد أثر في الترجيح يقوى ويض عف بحس ب‬
‫وجود مرجحات أخرى وبحسب قوة تلك المرجحات‪.‬‬
‫‪ .3‬الاختلاف في تصحيح الأحاديث النبوية عندما يكون الدليل من السنة‬
‫النبوية‪ .‬وفي هذا النوع تكون الموافقة للمقاصد الش رعية الثابت ة أح د‬
‫العوامل (وليس العامل الوحيد) في تص حيح ح ديث أو تض عيفه‪ ،‬وبن اء‬
‫عليه ترجيح الرأي المبني على الحديث الصحيح‪ ،‬وجع ل ال رأي المب ني‬
‫على الحديث الضعيف مرجوحا‪.‬‬
‫‪ .4‬الاختلاف في تقدير المصالح والمفاسد والترجيح بينها سواء كان ذلك‬
‫بسبب اختلاف المدارك العقلية والخبرات العملية‪ ،‬أو بس بب اختلاف ص ور‬
‫ومآلات الفعل أو التصُّرف من بيئة إلى أخرى أو من زمان إلى آخر‪.‬‬
‫وهذا النوع من االختالفات هو المجال األوسع الستخدام المقاص د لل ترجيح‬
‫بين اآلراء‪ ،‬ألن مبنى تل ك اآلراء في األس اس على اعتب ار المص الح‪ .‬وتق دير‬
‫المصالح والمفاسد قد يتغير بتغُّير الظروف والمآالت‪ ،‬وهو الُمعَّب ر عن ه في‬
‫القواعد الفقهية بعدم إنكار تغُّير الفت وى بتغُّي ر الزم ان‪ .‬وإذا ك ان األم ر‬

‫‪39‬‬
‫كذلك فإن إعادة النظر في تقدير المصالح والمفاسد والترجيح بينها ومراعاة‬
‫مقاصد الشريعة تكون هي المرِّجحات األساسية بين ما ُنِقل إلينا من اجتهادات‬
‫أهل العلم‪.‬‬
‫‪ .5‬التفاوت في االطالع على األحاديث النبوية الشريفة‪ ،‬بأن يكون بعضهم‬
‫اطلع على حديث أو أحاديث لم يطلع عليها اآلخ ر‪ .‬وال يب دو للمقاص د‬
‫الشرعية أثر في الترجيح بين اآلراء المبنية على هذا السبب؛ ألن اجته اد‬
‫من غابت عنه النصوص ُتحَّكم فيه النصوص والقواعد الكلية ذات الصلة‬
‫بالموضوع‪ ،‬فإن وافقها ُأْجِري‪ ،‬وإن خالفها دون أن يكون له َسَنٌد أقوى‬
‫من ذلك النص الذي غاب عن ه أو يس اويه ُرَّد‪ ،‬ألن ه اجته اد في غ ير‬
‫محله‪.‬‬
‫أهمية المقاصد في تنزيل األحكام الشرعية على الوقائع الفردية والجماعية‬
‫تظهر الحاجة إلى النظر في مقاصد الشريعة عند تنزي ل األحك ام الش رعية‬
‫على األفراد والجماع ات في ج انبين‪ :‬أح دهما‪ُ :‬حْس ن تحقي ق من اط الحكم‬
‫الشرعي‪ ،‬والثاني النظر في مآالت األحكام المجَّردة عند تنزيله ا على الوق ائع‬
‫واألشخاص‪.‬‬
‫أ‪ .‬مراعاة مقاصد الشارع في تحقيق المناط الخاص للحكم‬
‫من المعلوم أن المقصود من شرع األحكام ونصب األدلة الشرعية عليه ا ه و‬
‫تنزيل أفعال المكلفين على حسبها‪ 113.‬فاألحكام الشرعية إنما ُأنِزلت لتتحَّول‬
‫إلى واقع عملي في حياة الناس‪ ،‬ولكن األدلة الشرعية في غالبها ممَّحضة للحكم‬
‫في أجن اس األفع ال المج ردة‪ ،‬من حيث إن األم ر والنهي فيه ا "يتعلق ان في‬
‫الخطاب بص فة مباش رة بحنس الفع ل‪ ،‬ك أن يتعل ق النهي بالس رقة‪ ،‬واألم ر‬
‫باألمانة‪ .‬أما األفعال الجزئية المشَّخصة بظروف المكان والزمان‪ ،‬مما ق ام ب ه‬
‫زيد من سرقة‪ ،‬أو عمرو من أمانة‪ ،‬ف إن (األدل ة تتعل ق) به ا بواس طة النظ ر‬
‫العقلي‪ ،‬حيث يتم إرجاعها إلى أجناسها التي تعلق بها الوحي مباشرة َلَّم ا يق ع‬
‫التحُّقق من أنها مناط ة ب الجنس المعَّين"‪ 114،‬وه و المص طلح علي ه عن د‬
‫األصوليين بتحقيق المناط‪.‬‬

‫الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.30‬‬ ‫‪113‬‬

‫النجار‪ ،‬في فقه التدين‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.50‬‬ ‫‪114‬‬

‫‪40‬‬
‫فاألصل في م ا ك ان يت نّزل في الق رآن الك ريم من أحك ام ه و العم وم‬
‫والتجريد‪ ،‬أي التعلق بحنس األفعال‪ ،‬وه و م ا س ماه الش اطبي اقتض اء األدل ة‬
‫األصلي لألحكام قبل طروء العوارض‪ .‬وكثيرا م ا ك ان يحص ل بي ان من اط‬
‫الحكم سواء بالقرآن الكريم أو بالبيان النبوي الشريف‪ ،‬وهو م ا اص طلح علي ه‬
‫الش اطبي باالقتض اء التبعي‪ ،‬وه و الواق ع على المح ّل م ع اعتب ار التواب ع‬
‫واإلضافات‪ 115،‬ولكن ذلك البيان غير مستنفذ لجميع مناطات األحك ام‪ .‬ولّم ا‬
‫كانت األحكام الش رعية تق ع مطلق ة ومج ردة‪ ،‬أم ا األفع ال فتق ع معَّين ة‬
‫مشَّخصة‪ ،‬فإن تنزيل المطلق المجرد على المعَّين المشَّخص يحتاج إلى ن وع‬
‫اجتهاد ونظر‪ ،‬وهو اجتهاد تحقيق المناط‪ ،‬الذي قال عنه الشاطبي إنه ب اق بق اء‬
‫التكليف إلى يوم القيامة‪ 116،‬وجعله على نوعين‪ :‬ع ام‪ ،‬وه و ال ذي يرج ع إلى‬
‫األنواع‪ ،‬وخاص‪ ،‬والمراد منه أن المجتهد أو المفتي "يحمل على ك ّل نفس من‬
‫أحكام النصوص ما يليق بها‪ ،‬بناء على أن ذلك هو المقصود الش رعي في تلِّقي‬
‫التكاليف"‪ 117،‬وهو مرادنا بتحقيق المناط في هذا المقام‪.‬‬
‫والحاصل أن الشارع قاصد إلى ُحْسن تنزيل األحكام المجَّردة على مناطاتها‬
‫الحقيقي ة في الواق ع العملي ح تى ُتْثم ر تل ك األحك ام فوائ دها وتحِّق ق‬
‫مقاصدها‪ .‬فحسن تحقيق المناط مقص د من مقاص د الش ارع‪ ،‬ألن ه ي ؤدي إلى‬
‫تحقيق مقاصد األحكام‪.‬‬
‫وحتى يتحقق مقصد الشارع في تنزيل الأحكام على مناطاتها الحقيقي ة ينبغي‬
‫على المجتهد أن ينظر في المقصد من الحكم الشرعي الذي هو بصدد تنزيله على‬
‫واقعة أو شخص ما‪ ،‬ثم ينظر في تلك الح ال ه ل هي ُمطاِبق ة ل ذلك الحكم‬
‫داخلة في نطاقه؟ أم أنها محّل ترُّخص أو اس تثناء‪ ،‬أو هي أولى بال دخول تحت‬
‫حكم آخر غير هذا؟‬
‫فإذا تبَّين له مطابقة المقصد من الحكم للواقعة ألحقها به‪ ،‬أما إذا تبَّين ل ه‬
‫عدم الموافقة‪ ،‬فإنه ينبغي عليه تدقيق النظر في حال تلك الواقعة‪ ،‬فربما ك ان‬

‫‪ 115‬وقد بَّين الشاطبي أهم المواضع التي كان يتم فيها ذلك البيان‪ .‬الموافقات‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‬
‫‪.75-71‬‬
‫‪ 116‬الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪ ،‬ج‪ ،4‬ص‪.467 ،463‬‬
‫‪ 117‬المرجع نفسه‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.471‬‬

‫‪41‬‬
‫الشارع قد أفاد ما يجعلها محّل ترُّخص أو استثناء‪ ،‬أو ربما كانت داخل ة تحت‬
‫حكم آخر غير هذا الذي هو محل التنزيل‪.‬‬
‫ومن أمثلة ذلك م ا فعل ه عم ر بن الخط اب رض ي اهلل في س هم المؤلف ة‬
‫قلوبهم‪ .‬حيث جعل القرآن الكريم المؤلفة قلوبهم من مصارف الزك اة‪ ،‬وليس‬
‫من الواجب ‪ -‬كما ه و رأي الجمه ور ورأي عم ر بن الخط اب‪ - 118‬أن تعطى‬
‫الزكاة لجميع مصارفها في كل وقت‪ .‬فالقرآن الكريم ش رع إعط اء الزك اة‬
‫للمؤلفة قلوبهم تليينا لقلوبهم وتقريبا لها إلى اإلسالم أو إتقاء لش رهم‪ ،‬وق د‬
‫كان هذا المقصد متحققا في زمن الرسول ‪ .‬فلما جاء زمن عم ر‪ ،‬وق د دخ ل‬
‫الناس في دين اهلل أفواجا‪ ،‬وأصبحت دعائم الدين واض حة مس تقرة‪ ،‬وألص حابه‬
‫شوكة قوية تحمي جميع من أوى إليه‪ ،‬لم يع د من اط ذل ك الحكم متحقق ا‪،‬‬
‫فقرر عمر بن الخطاب عدم العمل بالنص ألن مناطه لم يع د متحقق ا‪ ،‬فه و لم‬
‫يقرر عدم تنزيل الحكم على الواقع إلى األبد‪ ،‬ولكن في تلك الظروف‪ ،‬فإذا َجّد‬
‫ظرف تحّقق فيه مناط الحكم والمقصد منه ُصرف للمؤلف ة قل وبهم نص يبهم‬
‫من الزكاة‪.‬‬
‫وكذلك ما فعله في الزواج من محصنات أهل الكتاب‪ ،‬فإن القرآن ق د أب اح‬
‫الزواج منهن كما أباح أك ل طع امهم‪ ،‬ربم ا تأليف ا لقل وبهم‪ ،‬وتوس يعا على‬
‫المؤمنين؛ إذ قد ُتلِجئ الحاجة أو الض رورة بعض هم إلى ذل ك في وقت م ا‪.‬‬
‫ولكن لما رأى عمر إسرافا في ذلك وسوء اس تخدام له ذا المب اح‪ ،‬إذ ك ان في‬
‫غالبه غير محتاج إليه‪ ،‬فضال عما ينتج عنه من تعنيس وفتنة للمؤمنات‪ ،‬وخط ر‬
‫على أسرار الدولة وخططها إذا تزوج القادة منهن‪ ،‬تحقق لديه أن من اط الحكم‬
‫الذي يترتب عليه المقصد من إباحة هذا النوع من الزواج غير متحقق في غالب‬
‫تلك الحاالت‪ ،‬فنهى عن ذلك الزواج‪ ،‬مع بقاء حكم اإلباحة إلى األبد عند تحقق‬
‫المناط‪ ،‬وهو الحاجة أو الضرورة الملجئة ووجود مص لحة راجح ة في ذل ك‬
‫الزواج‪.‬‬
‫وك ذلك م ا فعل ه م ع غلم ان لح اطب بن أبي بلتع ة حين س رقوا ناق ة‬
‫فانتحروها وأكلوها‪ .‬فلما رفع األمر إلى عمر بن الخطاب‪ ،‬لم يقط ع أي ديهم‪،‬‬

‫‪ 118‬قعله جي‪ ،‬محمد رواس‪ :‬موسوعة فقه عمر بن الخطاب (بيروت‪ :‬دار النفائس للطباعة‬
‫والنشر والتوزيع‪ ،‬ط‪1418 ،5‬هـ‪1997 /‬م)‪ ،‬ص‪.468‬‬

‫‪42‬‬
‫وقال لسيدهم‪" :‬لوال أني أظن أنك تجيعهم حتى أن أحدهم أتى م ا ح ّرم اهلل‪،‬‬
‫لقطعت أيديهم‪ ،‬ولكن واهلل لئن تركتهم ألغرمنك غرامة توجع ك" وغّرم ه‬
‫ضعف ثمن الناقة‪ 119.‬فكأن عمر هنا جعل ضرورة الجوع بمنزلة اإلكراه الذي‬
‫هو من مسقطات عقوبة السرقة‪ 120،‬ولم يطبق حد السرقة عليهم لع دم وج ود‬
‫مناطه‪ ،‬بسبب عدم توفر بعض شروط إقامة الحد‪.‬‬

‫أخرجه البيهقي في سننه‪ ،‬ومالك في الموطأ‪.‬‬ ‫‪119‬‬

‫قعله جي‪ ،‬موسوعة فقه عمر بن الخطاب‪ ،‬ص‪.491‬‬ ‫‪120‬‬

‫‪43‬‬
‫ب‪ .‬مراعاة مقاصد الشريعة في النظر إلى مآالت األفعال‬
‫تنزيل الحكم الشرعي على واقعة أو شخص ما يقتضي النظر فيما يؤول إليه‬
‫ذلك التنزيل‪ .‬وأساس ذلك أن األحكام الشرعية إنم ا ج اءت لتحقي ق ص الح‬
‫العباد بتحقيق المص الح ودرء المفاس د على المس تويين التجري دي المطل ق‪،‬‬
‫والتطبيقي المعَّين‪ .‬ومن المسَّلم به لدى أهل اإلس الم أن ك ل حكم ج اء ب ه‬
‫الشرع ُمحِّقق لمصلحة أو دافع لمفس دة على المس توى التجري دي المطل ق‪.‬‬
‫ولكن عند تلُّبس ُحْكم ما بالواقع المشَّخص‪ ،‬بما يعتريه من تواب ع وإض افات‪،‬‬
‫قد يتخَّلف أحيانا تحقيق المصلحة أو دفع المفسدة على الكمال أو على الغالب‪،‬‬
‫بل قد يؤدي األمر إلى عكس المقصد الشرعي من ذلك الحكم‪ .‬وإذا صار األم ر‬
‫إلى ذلك وجب على المجتهد أن يعيد النظر في تنزيل ذل ك الحكم على تل ك‬
‫الواقعة المشخَّصة‪ ،‬ليصل إلى حكم آخر هو أليق بتلك الحال‪ ،‬وأكثر تحقيق ا‬
‫للمقصد الشرعي‪ .‬وهذا هو المعَّبر عنه باعتبار المآالت‪.‬‬
‫ومما يشهد العتبار المآل في القرآن والسنة‪ 121،‬نهي القرآن الكريم عن س ب‬
‫آلهة المشركين (األنعام‪ ،)108 :‬مع أن هذا الفعل مشروع في أصله‪ ،‬لما يؤول‬
‫إليه من سّب الذات اإللهية من قبل أهل الشرك انتقاما آللهتهم‪ .‬وامتناع الرسول‬
‫‪ ‬عن قتل المنافقين‪ ،‬لما قد يؤول إليه ذلك من تشهير به ‪ ‬من قبل أعدائه‪ ،‬بأنه‬
‫يقت ل أص حابه‪ ،‬وه و األم ر ال ذي ي ؤدي إلى تنف ير الن اس من ال دخول في‬
‫اإلسالم‪ 122.‬وامتناع الرسول ‪ ‬عن إعادة بناء البيت على قواعد إبراهيم‪ ،‬مخاف ة‬
‫أن يفتتن ضعاف اإليمان حديثو العهد باإلسالم فيظنوا أن الرس ول اعت دى على‬
‫حرمة البيت الحرام‪ ،‬أو أن يستخدم أعداء اإلسالم ذلك لتنف ير من لم ُيْس ِلم‬

‫‪ 121‬انظر تفصيًال وافيًا عن أدلة اعتبار مآالت األفعال في القرآن الكريم والسنة النبوية‬
‫وآثار الصحابة في‪ :‬عبد الرحمن بن معمر السنوسي‪ :‬اعتبار المآالت ومراعاة نتائج‬
‫التصرفات (الرياض‪ :‬دار ابن الجوزي‪ ،‬ط‪1424 ،1‬هـ) ص‪ 124‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ 122‬عن جابر بن عبد اهلل قال‪ :‬كنا في غزاة ‪ ،‬فكسع رجل من المهاجرين رجال من األنصار‪،‬‬
‫فقال األنصاري‪ :‬يا لألنصار‪ ،‬وقال المهاجري‪ :‬يا للمهاجرين‪ ،‬فسمعها اهلل رسوله ‪ ،‬قال‪ :‬ما‬
‫هذا؟ فقالوا ‪ :‬كسع رجل من المهاجرين رجال من األنصار‪ ،‬فقال األنصاري‪ :‬يا لألنصار‪،‬‬
‫وقال المهاجري‪ :‬يا للمهاجرين‪ ،‬فقال النبي ‪" :‬دعوها فإنها منتنة"‪ .‬قال جابر‪ :‬وكانت‬
‫األنصار حين قدم النبي ‪ ‬أكثر‪ ،‬ثم كثر المهاجرون بعد‪ .‬فقال عبد اهلل بن أبي‪ :‬أو قد‬
‫فعلوا‪ ،‬واهلل لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن األعز منها األذل‪ ،‬فقال عمر بن الخطاب ‪:‬‬
‫دعني يا رسول اهلل أضرب عنق هذا المنافق‪ ،‬قال النبي ‪" :‬دعه ‪ ،‬ال يتحدث الناس أن محمدا‬
‫يقتل أصحابه"‪ .‬أخرجه البخاري‪ ،‬ومسلم‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫بع د من قبائ ل الع رب‪ ،‬اس تغالال لم ا ك ان في نفوس هم من تعظيم لل بيت‬
‫‪123‬‬
‫الحرام‪.‬‬
‫واعتبار م آالت األفع ال ليس معن اه تعطي ل الحكم الش رعي في واقع ة من‬
‫الوقائع باجتهاد المجتهد بدعوى أن الحكم ال يحق ق المقص د من ه‪ ،‬ولكن ه في‬
‫الواقع انتقال بالواقعة من حكم إلى حكم آخر‪ ،‬إما بأن تكون مح ّل ت رُّخص أو‬
‫استثناء‪ ،‬أو تكون ألصق بقاعدة أخرى وحكم آخر‪ ،‬ليصل المجته د إلى إلحاقه ا‬
‫بأقرب األصول شبهًا بها‪ .‬ومن مظاهر اعتبار مآالت األفعال ما يأتي‪:‬‬
‫‪ .1‬سّد ذرائع الفساد‪ :‬والمراد به إبطال األعمال المشروعة في ذاتها إذا كان‬
‫القيام بها يؤول إلى فساٍد ُمعَتَبر يزيد عن المصلحة ال تي ش رعت من أجله ا‬
‫تلك األفعال‪ 124.‬وأساسه أن من المقاص د العظمى للش ريعة تحقي ق الص الح‬
‫ودفع الفساد‪ ،‬ولذلك جاءت األحكام الشرعية في أساسها محقق ة ل ذلك‪ ،‬ف إذا‬
‫وجدت ظروف تصِّير الفعل المشروع إلى إيقاع مفس دة يعت د بمثله ا ش رعا‪،‬‬
‫وجب منع ذلك الفعل المشروع في تلك الظروف‪ ،‬ف إذا زالت تل ك الظ روف‬
‫وزالت معها المفسدة‪ ،‬عاد الفعل إلى مشروعيته‪.‬‬
‫ومع أن موضوع سّد ذرائع الفساد محل اختالف بين العلماء والمذاهب‪ ،‬إال أن‬
‫أصله ثابت في الشريعة ال يمكن إنكاره وال إهماله عند تنزيل األحكام الش رعية‪،‬‬
‫وإنما الخالف في إعماله في بعض الف روع عن دما تختل ف وجه ات النظ ر في‬
‫الترجيح بين المصلحة الناتجة عن تشريع الفعل‪ ،‬والمفسدة الناتجة عن إيقاعه‪.‬‬
‫‪ .2‬الّتحُّيل‪ :‬والمراد به الّتحُّيل على األحكام الشرعية الُمْفضي إلى إيجاد‬
‫الصورة المشروعة للفعل مع تغييب المقصد من شرعه‪ ،‬وقد ضبطه ابن عاش ور‬
‫بكونه‪" :‬يفيد معنى إبراز عمل ممنوع شرعا في ص ورة عم ل ج ائز‪ ،‬أو إب راز‬
‫عمل غير معتٍّد ب ه ش رعا في ص ورة عم ل معت ٍّد ب ه‪ ،‬لقص د التفِّص ي من‬

‫‪ 123‬عن عائشة أن رسول اهلل ‪ ‬قال‪" :‬ألم تري أن قومك بنوا الكعبة واقتصروا عن قواعد‬
‫إبراهيم‪ .‬فقلت‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬أال تردها على قواعد إبراهيم؟ قال‪ :‬لوال حدثان قومك‬
‫بالكفر"‪ .‬فقال عبد اهلل بن عمر‪ :‬لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول اهلل ‪ ،‬ما أرى‬
‫رسول اهلل ‪ ‬ترك استالم الركنين اللذين يليان الحجر إال أن البيت لم يتمم على قواعد‬
‫إبراهيم‪ .‬رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪ 124‬انظر تفصيال جيدا لموضوع سد الذرائع في ابن عاشور‪ ،‬مقاصد الشريعة اإلسالمية‪ ،‬ص‬
‫‪.370-365‬‬

‫‪45‬‬
‫مؤاخذته"‪ 125.‬وأساس هذا المبدأ أن الشارع قاصد من تشريعاته القيام به ا على‬
‫وجهها الصحيح لتثمر مقاصدها‪ ،‬فإذا تحَّيل الشخص على إسقاطها إم ا بتغي ير‬
‫صورتها‪ ،‬أو بالقصد إلى اإلتيان بما يبطلها بغير وجه حق‪ ،‬أدى ذلك إلى إه دار‬
‫الحقوق‪ ،‬والهجوم على المحرمات باصطناع وسائل مشروعة في ظاهرها‪ .‬وهذا‬
‫فيه ما فيه من المفاسد المخالفة للمقاصد الشرعية‪.‬‬
‫وال شك أن بعض جزئيات هذا األصل مح ّل خالف بين الفقه اء والم ذاهب‪،‬‬
‫وال ضير في ذلك؛ ألنه خالف ناتج عن تقدير المص الح والمفاس د‪ ،‬والموازن ة‬
‫بينه ا‪ ،‬ولكن ه أص ل يجب األخ ذ ب ه في الجمل ة‪ ،‬وإَّال آل األم ر إلى التالعب‬
‫باألحكام الشرعية وإبطال مقاصدها‪.‬‬
‫‪ .3‬مالحظة م واطن الّت رُّخص‪ :‬من الث ابت أن الش ارع قاص د من ش رع‬
‫األحكام إلى عموم االلتزام بها من قبل المكلفين‪ ،‬ولكنه في الوقت نفس ه ص رح‬
‫بأنه غير قاصد إلى إعنات الناس واإلضرار بهم "وما جع ل عليكم في ال دين من‬
‫‪126‬‬
‫حرج" (الحج‪" ،)78 :‬ما يريد اهلل ليجعل عليكم من حرج" (المائ دة‪.)6 :‬‬
‫والجمع بين هذين المقصدين يتطلب من المجتهد المفتي عن د تنزي ل األحك ام‬
‫على الوقائع والتصرفات النظر في مآل تنزيلها‪ ،‬فإذا كان ذلك مؤديا إلى ضرر‬
‫وحرج ُيعتُّد بمثلهما شرعا‪ ،‬وجب النظر في إمكان دخول الواقع ة أو التص رف‬
‫في محّل الترُّخص‪ .‬وليس في الترُّخص تعطيل للحكم الشرعي‪ ،‬بل هو انتقال‬
‫بالواقعة من دليل إلى دليل آخر‪ ،‬مراعاة لمقاصد الشارع وألصل اعتب ار م آالت‬
‫األفعال المعتّد به شرعا‪.‬‬
‫وقد أبرز ابن عاشور عند حديثه عن الرخصة في كتاب ه مقاص د الش ريعة‬
‫اإلسالمية عنصر الرخصة العامة بقسميها المط رد والم ؤقت‪ .‬ومَّث ل للقس م‬
‫األول بالسلم والمزارعة والمساقاة‪ ،‬وللثاني بما أف تى ب ه علم اء المالكي ة من‬
‫جواز الكراء المؤبد في أرض الوقف حين زهد الناس في كرائها لفترات زمنية‬
‫قصيرة وبفتوى علماء بخارى من الحنفية بجواز بيع الوفاء في الكروم لحاج ة‬

‫‪ 125‬ابن عاشور‪ ،‬مقاصد الشريعة‪ ،‬ص‪ .353‬وقد فصل ابن عاشور في موضوع الحيل تفصيًال‬
‫دقيقًا فلينظر هناك‪.‬‬
‫‪ 126‬انظر في موضوع رفع الحرج ما كتبه ابن عاشور في كتابه مقاصد الشريعة تحت‬
‫مباحث‪" :‬انبناء الشريعة على الفطرة" ص‪ ،267-259‬و"السماحة أول أوصاف الشريعة‬
‫وأكبر مقاصدها" ص‪ ،272-268‬و"ليست الشريعة بنكاية" ص‪.339-337‬‬

‫‪46‬‬
‫غارسيها إلى النفقات عليها قبل إثمارها‪ 127.‬ودعا الفقهاء إلى مراعاة الرخص ة‬
‫العامة المؤقتة مثل مراعاة الرخصة الخاصة والعامة المَّطردة‪.‬‬
‫وما نَّبه عليه ابن عاشور يجب االحتفاء به من قبل فقهاء العص ر‪ ،‬غ ير أن ه‬
‫عند العمل بالرخصة العامة ينبغي األخذ بعين االعتبار أن ال يتح ّول ذل ك إلى‬
‫وسيلة إلضفاء المشروعية على المعامالت والتصرفات الفاس دة‪ ،‬تكريس ا للظلم‬
‫واالنحراف‪ .‬فمن أهم المقاصد التي جاءت الش ريعة من أجله ا إبط ال العوائ د‬
‫الفاسدة والتصرفات الظالمة‪ ،‬واستبدالها بما فيه الصالح والعدل‪.‬‬
‫‪ .4‬مالحظة مواضع االستثناء‪ :‬حيث إن الش ارع ق د يخص األحك ام العام ة‬
‫(سواء جاءت تلك األحكام في نصوص أو قواعد كلية) باس تثناء بعض الص ور‬
‫والحاالت‪ ،‬نظرا لعدم تحُّقق قصد الشارع من تش ريع الحكم في تل ك الص ور‬
‫والحاالت‪ ،‬بل يكون تحقيق المقصد في إعطاء تل ك الح االت والص ور أحكام ا‬
‫خاصة مستثناة من القواعد العامة‪.‬‬
‫ومن االستثناء ما يكون بنص خاص من نصوص الق رآن أو الس نة‪ ،‬وه و م ا‬
‫يعِّبر عنه األصوليون بالتخصيص واالستثناء‪ ،‬ومنه م ا يك ون بفع ل المجته د‬
‫حين يخصص النصوص والقواعد الشرعية العامة‪ ،‬ومنها القياس‪ ،‬بعد النظر في‬
‫مقاصد النصوص واألحكام‪ ،‬وقد ال يكون ذلك التخصيص بنص خاص بالمسألة‪،‬‬
‫ولكن بما هو ُمْسَتَشٌّف من نصوص الشريعة وقواعدها العامة‪ .‬ومن هذا الباب‬
‫ما يعِّبر عن ه بعض علم اء المالكي ة بالتخص يص بالمص لحة أو االستحس ان‬
‫بالمصلحة‪ ،‬واالستحسان بترك اليسير للَّتوسعة‪ 128.‬ومنه ما يعِّبر عنه علم اء‬
‫الحنفية باالستحسان بالضرورة‪ 129.‬فإن في جميع هذه الحاالت نج د االمتن اع‬
‫عن طرد قواعد عامة ‪ -‬نصوصًا كانت أو أقيسة ‪ -‬في بعض األفراد؛ ألن مقاصد‬
‫الشارع تقتضي استثناءها من تلك القواعد‪ ،‬وإعطاءها أحكاما خاصة‪ ،‬أو إلحاقها‬
‫بقواعد أخرى أكثر لصوقا بها‪.‬‬
‫‪ .5‬مراعاة الخالف‪ :‬ال ش ك أن من المقاص د العظمى للش ريعة اإلس المية‬
‫تحقيق األخوة بين المسلمين‪ ،‬والمحافظة عليها بالنهي عما يؤدي إلى إفس ادها‪،‬‬
‫‪ 127‬ابن عاشور‪ ،‬مقاصد الشريعة‪ ،‬ص‪.383-380‬‬
‫‪ 128‬الشاطبي‪ ،‬الموافقات‪ ،‬ج‪ ،4‬ص‪.363‬‬
‫‪ 129‬الدبوسي‪ ،‬أبو زيد عبيد اهلل بن عمر بن عيسى‪ ،‬تقويم األدلة في أصول الفقه‪ ،‬ص‪-405‬‬
‫‪.406‬‬

‫‪47‬‬
‫وقد جاء بهذا كثير من األحكام الش رعية‪ ،‬مث ل النهي عن خطب ة الرج ل على‬
‫خطبة أخيه‪ ،‬وبيعه على بيع أخيه‪ ،‬والنهي عن الغ رر‪ ،‬وعم ا ي ؤدي إلى ال نزاع‬
‫والشقاق مثل العقود التي تنطوي على جهالة‪.‬‬
‫ومما قد يؤدي إلى خرم آصرة األخوة وإث ارة الش قاق ع دم اح ترام ال رأي‬
‫المخالف م ادام في دائ رة الخالف المقب ول ش رعا‪ ،‬ه ذا‪ ،‬فض ال عن أن وق وع‬
‫الخالف في المسائل الظنية ليس خارجا عن مقاصد الشارع‪ ،‬بل ه و أم ر مالزم‬
‫للطبيعة البشرية‪ ،‬أقَّره الشارع بإقرار االجتهاد‪.‬‬
‫وتأسيسًا على ما س بق‪ ،‬ينبغي على المجته د عن د تنزي ل األحك ام مراع اة‬
‫المذهب السائد في المنطقة‪ ،‬وما درج عليه الناس في حياتهم اليومية من أحك ام‬
‫ذلك المذهب‪ ،‬تجُّنبا لما قد يقع من فتنة وقطع ألواصر األخوة بسبب مس ائل‬
‫ظنية قابلة لالختالف‪.‬‬
‫ويكفي االستدالل على هذا بفعل عبد اهلل بن مسعود ‪َ ‬لَّما صّلى خلف عثمان‬
‫بن عفان ‪ ‬بمنى ُمِتًّما‪ ،‬مع أنه كان يقول بالقصر‪ ،‬وكان قد ح اجج عثم ان ‪‬‬
‫في مذهبه باإلتم ام‪ .‬وَلّم ا س ئل ‪ ‬عن اتباع ه م ذهب عثم ان ق ال‪" :‬الخالف‬
‫‪130‬‬
‫شّر‪".‬‬
‫كما أن مراعاة الخالف ق د يك ون الب د من ه الس تقرار األحك ام الش رعية‬
‫والحقوق والواجبات المترِّتبة عليها‪ .‬ومما يؤِّيد هذا ما ه و معل وم من ع دم‬
‫نقض حكم القاضي إذا لم يكن فيه خطأ ظاهر‪ ،‬كأن يخالف نصا من غير تأوي ل‬
‫‪131‬‬
‫مقبول‪ ،‬أو يخالف إجماعا‪ .‬وكذلك عدم نقض اجتهاد سابق باجتهاد الح ق‪،‬‬
‫إذا كان ذلك في االجتهادات التي تم تنزيلها على الواقع وترتبت عليه ا حق وق‬
‫وواجبات؛ ألن ذلك ضروري الستقرار األحك ام‪ ،‬وع دم إه دار حق وق الن اس‪.‬‬
‫ويبِّينه ما جاء عن عمر بن الخطاب ‪ ‬عن دما قض ى في مس ألة ام رأة ت وفيت‬
‫وتركت زوجها وأمها وأخوين شقيقين وأخوين ألم فق ط‪ ،‬فأش رك عم ر بين‬
‫اإلخوة جميعا في الثلث‪ ،‬فقال له رجل‪ :‬إنك لم تشرك بينهم عام ك ذا وك ذا‪.‬‬

‫‪ 130‬سنن أبي داود‪ ،‬كتاب المناسك‪ ،‬باب الصالة بمنى‪.‬‬


‫‪ 131‬ابن قيم الجوزية‪ ،‬إعالم الموقعين (بيروت‪ :‬دار الجيل‪1973 ،‬م) ج‪ ،1‬ص‪11-110‬؛ ابن‬
‫قدامة‪ ،‬المغني‪ ،‬تحقيق د‪ .‬عبد اهلل بن عبد المحسن التركي‪ ،‬ود‪ .‬عبد الفتاح الحلو‬
‫(القاهرة‪ :‬هجر للطباعة والنشر‪ ،‬ط‪1992 ،2‬م) ج‪ ،14‬ص‪.36‬‬

‫‪48‬‬
‫فقال عمر‪ :‬تلك على ما قضينا يومئذ‪ ،‬وهذه على ما قضينا اليوم"‪ 132.‬أما على‬
‫المستوى النظري فإن للمجتهد أن يغِّير اجتهاده إذا بدا ل ه خط أ في االجته اد‬
‫السابق‪ ،‬وعندها ال ُينَسب إليه الرأي القديم لرجوعه عنه‪ ،‬بل يكون مذهب ه ه و‬
‫آخر اجتهاداته‪ .‬ومثال ذلك اإلمام الشافعي في القديم والجدي د من فق ه‪ ،‬حيث‬
‫إن ما يصح أن يطلق عليه مذهب الشافعي هو ما استقر عليه أم ره في الجدي د‪.‬‬
‫وأَّما ما ذهب إليه بعض الشافعية من أخذ بالمذهب الق ديم في بعض المس ائل‪،‬‬
‫فليس بناء على أن ذلك هو مذهب اإلمام الشافعي‪ ،‬وإنم ا بن اء على ت رجيحهم‬
‫للرأي القديم على الجديد العتبارات رأوه ا مرِّجح ة‪ ،‬ويك ون ه ذا االختي ار‬
‫للقديم هو مذهب أتباع الشافعي (الشافعية)‪ ،‬ال مذهب اإلمام الشافعي‪ ،‬ألن مذهبه‬
‫هو ما استقّر عليه رأيه‪.‬‬
‫وربما صلح التمثيل لهذا العنصر بمسألة غريبة أوردها ابن السبكي في طبقات‬
‫الشافعية‪ ،‬حيث ذكر أن أبا سعيد الإص طخري لم ا ُعِّين قاض يا على سجس تان‬
‫"سار إليها ونظر فى مناكحاتهم فأصاب معظمها مبنيًا على غير اعتبار ال ولي‪،‬‬
‫فأنكرها غاية الإنكار‪ ،‬وأبطلها عن آخرها"‪ 133.‬ولم يذكر المؤلف ما نتج عن هذا‬
‫التصرف‪ ،‬ولكنه ليس هناك من شّك في أن يكون قد أحدث اضطرابًا كبيرًا في‬
‫حياة الناس وسبب شحناء عظيمة بينهم‪.‬‬
‫‪ .6‬التوُّسط والاعتدال‪ :‬من مقاصد الشرع العظيمة التي ينبغي مراعاتها عند‬
‫تنزيل الأحكام التوُّس ط والاعت دال‪ .‬ويك ون التوُّس ط والاعت دال في امتث ال‬
‫الأحكام على المستوى الفردي بأن يأخ ذ الإنس ان من العم ل م ا يطي ق؛ لأن من‬
‫مقاصد الشارع المداومة على العمل الصالح ليستمّر أث ره الإيج ابي في ته ذيب‬
‫السلوك والسمو بالروح طيلة عمر الإنسان‪ ،‬مصداقا لقول الرسول ‪ ‬لم ا س ئل ‪:‬‬
‫أي العمل أحب إلى الله؟ قال‪" :‬أدومه وإن قّل"‪ 134،‬والمداومة تقتضي التوُّسط‬
‫والاعتدال‪ ،‬لأن الإفراط والتنُّطع قد يؤدي إلى الانقطاع والانتك اس‪ ،‬كم ا بين ه‬

‫‪ 132‬قلعه جي‪ ،‬موسوعة فقه عمر بن الخطاب‪ ،‬ص‪.729‬‬


‫‪ 133‬ابن السبكي‪ ،‬تاج الدين عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي‪ ،‬طبقات الشافعية الكبرى‪،‬‬
‫تحقيق محمود محمد الطناحي وعبد الفتاح محمد الحلو (القاهرة‪ :‬دار إحياء الكتب‬
‫العربية‪ ،‬د‪.‬ت) ج‪ ،3‬ص‪.231‬‬
‫‪ 134‬أخرجه مسلم في صحيحه‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫قول الرسول ‪" :‬إن ال دين ُيْس ر‪ ،‬ولن يش اّد ال دين أح د إلا غلب ه‪ ،‬فس ِّددوا‬
‫‪135‬‬
‫وقاربوا‪ ،‬وأبشروا‪ ،‬واستعينوا بالغدوة والروحة‪ ،‬وشيء من الدلجة"‪.‬‬
‫أما على المستوى الجم اعي‪ ،‬ف إن الأم ر لا يبع د عن ذل ك المع نى‪ ،‬حيث إن‬
‫التشريعات التي تسُّن لعاّمة الناس ينبغي أن تَّتسم بالتوُّسط والاعتدال مراع اة‬
‫لكون الناس ليسوا على درجة واحدة‪ ،‬ففيهم صاحب الهمة العالي ة‪ ،‬وفيهم ص احب‬
‫النفس الضعيفة‪ .‬والوسطية في التش ريع تلِّبي الح ّد المقب ول ال ذي يحتاج ه‬
‫صاحب الِهّمة العالية‪ ،‬وترتفع بصاحب النفس الض عيفة درج ة لا َيْعُس ر علي ه‬
‫الارتقاء إليها‪ .‬ويؤيد ذل ك م ا ورد في الس نة من نهي الن بي ‪ ‬عن الإطال ة في‬
‫الصلاة بالعامة مراعاة لظروفهم‪ ،‬فعن أبي هريرة أنه ‪ ‬قال‪" :‬إذا ص لى أح دكم‬
‫بالناس‪ ،‬فليخِّفف‪ ،‬فإن فيهم السقيم‪ ،‬والض عيف‪ ،‬والكب ير‪ .‬ف إذا ص لى أح دكم‬
‫‪136‬‬
‫لنفسه فليطِّول ما شاء"‪.‬‬
‫‪ .7‬مراعاة الواقع والظروف‪ :‬وهذا العنصر مكِّمل للعنصر الس ابق‪ ،‬وذل ك‬
‫أن من األحكام ما يتراوح بين حدين‪ :‬أحدهما يميل نحو التشديد‪ ،‬واآلخر يمي ل‬
‫نحو التيسير‪ .‬وعلى من ي نزل األحك ام على الوق ائع الفردي ة أن ينظ ر ح ال‬
‫الشخص عند إفتائه‪ ،‬فإذا كان مثال من أهل الغلو والتشديد على النفس‪ ،‬مال ب ه‬
‫نحو االعتدال‪ ،‬وإذا كان من أهل المعاصي واالستخفاف بحرمات اهلل مال به نحو‬
‫ما يحقق زجره عن ذلك ويعود به إلى طريق التوسط واالعتدال‪ 137.‬وكل هذا‬
‫ينبغي أن يكون بعيدا عما قد يق ع من فس اد في بعض ال ذمم من إفت اء الن اس‬
‫بالمحاباة بحسب ما يربطهم بالمفتي من عالقات رغبة أو رهبة‪.‬‬
‫ومن الناحية الاجتماعية‪ ،‬ينبغي على المجتهد أن يستشعر في الوقت نفسه أنه‬
‫مصلح اجتماعي‪ ،‬فيتحرى الطريق الذي يجعل فتواه تؤدي إلى تحقي ق الإص لاح‬
‫الاجتماعي الذي ه و من أعظم مقاص د الش رع الإس لامي‪ .‬وم ع أن الأص ل في‬
‫التشريعات الجماعية أن تميل نحو التوسط والتيسير‪ ،‬كما سبق الإشارة إليه في‬
‫العنصر السابق‪ ،‬إلا أنه إذا رأى المفتي أن ش يئًا من ذل ك التيس ير يق ود نح و‬
‫ظاهرة اجتماعية سلبية‪ ،‬أو يؤدي إلى الاستخفاف بالأحكام الشرعية‪ ،‬وجب علي ه‬

‫‪ 135‬أخرجه البخاري‪ ،‬باب الدين يسر‪.‬‬


‫‪ 136‬أخرجه النسائي وصححه األلباني‪.‬‬
‫‪ 137‬وقد بين الإمام الشاطبي أن هذا المنهج من خصائص الشريعة الإسلامية في أوامرها‬
‫ونواهيها‪ .‬انظر ذلك في‪ :‬الموافقات‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.468 -463‬‬

‫‪50‬‬
‫تغيير التشريع إلى ما يعين على علاج ذلك الخلل‪ .‬وفي هذا أمثل ة كث يرة من‬
‫تاريخ الفقه الإسلامي‪ ،‬منها‪ :‬زيادة الص حابة عقوب ة ش رب الخم ر إلى ثم انين‬
‫جلدة‪ ،‬وإمضاء عمر بن الخطاب الطلاق بلفظ الثلاث ثلاثا بع د أن ك ان يحس ب‬
‫طلقة واحدة‪ ،‬وربط علماء المالكية تحريم بيوع الآجال بأثرها في المجتمع؛ فإذا‬
‫فشا التعامل بها وانقلب إلى تحُّيل على الربا ُأْفِتي بمنعه ا لم ا ينتج عن الرب ا‬
‫من مفاسد اجتماعية‪ ،‬أما إذا كان وقوعه ا قليلا بحيث لا يك ون مظن ة التحُّي ل‬
‫‪138‬‬
‫على الربا لم ُتْمَنع‪.‬‬
‫‪ .8‬التدُّرج‪ :‬مراعاة التدرج في تنزيل األحكام على الواقع أمر نسبي يختلف‬
‫باختالف المحل‪ ،‬من حيث قوة صلة المكَّلفين بالدين‪ ،‬والظروف البيئية‪ ،‬ون وع‬
‫األحكام الشرعية المنَّزلة على الواقع‪.‬‬
‫ومما لا شك فيه أن التدرج في التشريع خاصية من خصائص عص ر التنزي ل‬
‫زالت باكتمال الشريعة واستقرارها وانقطاع الوحي‪ ،‬فلا س بيل إلى الع ودة إلي ه‬
‫بحال‪ .‬وإنما المقصود هنا هو التدرج في الدعوة والتطبيق‪ .‬والأص ل فيمن دخ ل‬
‫هذا الدين أن يستسلم لحكم الله تعالى بجميع أحكامه في حدود طاقته‪ ،‬ولكن ق د‬
‫تطرأ بعض الظروف تجعل من العسير جدا تطبيق الأحكام الشرعية ـ خاصة منها‬
‫ذات الصبغة الاجتماعية ـ دفعة واحدة‪ ،‬فيحتاج الأمر إلى ش يء من الت درج فيم ا‬
‫يقبل التدرج‪ ،‬ويكون ذلك إما بمراعاة ُسَّلم الأولويات‪ ،‬أو بالبدء بالممه دات‪ ،‬أو‬
‫بالتدرج الكمي‪ ،‬أو بتأخير بعض الأحكام إلى أن يتم تهيئة الظروف المناسبة لها‪.‬‬
‫وهذا الموضوع في غاية الحساسية‪ ،‬ولذلك فهو يحتاج إلى تق دير من أه ل‬
‫العلم‪ ،‬قائم على اإلخالص وصدق النية‪ ،‬ودراس ة موض وعية للواق ع‪ ،‬م ع ب ذل‬
‫قصارى الجهد في البلوغ بتطبيق األحكام الشرعية مداه‪ ،‬حتى ال ينقلب الت درج‬
‫ذريعة إلى تعطيل الشرع بحجج واهية هي عين ما جاء الشرع لمحاربته‪.‬‬
‫أما الدليل على اعتبار التدرج فمنه وق وع الت درج والنس خ في عص ر التنزي ل‪.‬‬
‫والتدرج في التشريع وإن كان خاصا بعصر التنزيل‪ ،‬إال أنه يرشد إلى أن التدرج من‬
‫سنن اهلل في الكون‪.‬‬
‫ومنه وصية الرسول ‪ ‬لمعاذ بن جبل ‪ ‬حين بعث ه إلى اليمن فق ال‪" :‬ادعهم‬
‫إلى شهادة أن ال إله إال اهلل وأني رسول اهلل‪ ،‬فإن هم أطاعوا ل ذلك‪ ،‬ف أعلمهم أن‬
‫ابن عاشور‪ ،‬مقاصد الشريعة‪ ،‬ص‪.369-368‬‬ ‫‪138‬‬

‫‪51‬‬
‫اهلل قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة‪ ،‬فإن هم أطاعوا ل ذلك‪،‬‬
‫فأعلمهم أن اهلل افترض عليهم صدقة في أموالهم‪ ،‬تؤخذ من أغنيائهم وترد على‬
‫فقرائهم" ‪.139‬‬
‫ومنه فعل عمر بن عبد العزيز حينما تولى الخلاف ة وأخ ذ بمنهج الت درج في‬
‫إنفاذ الحق وتغيير المنكر الذي انتشر في الدولة‪ ،‬خاصة الطبقة الحاكمة‪ .‬وق د‬
‫قال له ولده عبد الملك ذات يوم‪ :‬ما يمنعك أن تمضي الذي تريد؟ فوالذي نفسي‬
‫بيده ما أبالي لو غلت بك وبي القدور‪ ،‬قال وحّق هذا منك؟ قال‪ :‬نعم والله‪ ،‬قال‬
‫عمر‪ :‬الحمد لله الذي جعل من ذريتي من يعينني على أمر دي ني‪ .‬إني ل و ب اهت‬
‫الناس بالذي تقول لم آمن أن ينكروها‪ ،‬فإذا أنكروها لم أجد ب دًا من الس يف‪ ،‬ولا‬
‫خير في خير لا يجيء إلا بالسيف‪ .‬يا بني‪ ،‬إني أروض الناس رياضة الصعبة‪ ،‬ف إن‬
‫بَّطأ بي ُعُمر أرجو أن ينفذ الله مشيئتي‪ ،‬وإن تعدو منّيتي فقد علم الل ه ال ذي‬
‫‪140‬‬
‫أريده"‪.‬‬
‫ضرورة مراعاة المقاصد الشرعية في الفتاوى المعاصرة‬
‫االجتهاد هو أن يبذل المجتهد وسعه في البحث عن الحكم الش رعي األك ثر‬
‫مناسبة للواقعة محل االجتهاد‪ ،‬بما يحقق المقاصد العام ة والجزئي ة من ش رع‬
‫األحكام‪ .‬وبناء عليه فإن "أكثر المجتهدين إص ابة‪ ،‬وأك ثر ص واب المجته د‬
‫الواح د في اجتهادات ه يكون ان على مقي اس غوص ه في تطُّلب مقاص د‬
‫الشريعة"‪ 141.‬والواقع أن ض رورة مراع اة المقاص د الش رعية في الفت وى ال‬
‫تختلف بين العصور الماضية والعصر الحاضر‪ ،‬فاالجتهاد يكون صائبًا أو قريبًا‬
‫من الصواب عندما يستوفي صاحبه شروط االجتهاد‪ ،‬وعلى رأسها فقه المقاص د‬
‫واإلحاطة بها‪ ،‬ويكون اجتهادًا قاص رًا إذا قّص ر ص احبه في ش روط االجته اد‬
‫السليم التي يتقدمها فقه المقاصد الشرعية ومراعاة ضوابط التنزيل التي س بق‬
‫الحديث عنها‪.‬‬
‫وربما تميز االجتهاد والفتوى في هذا العصر بكون غالبية الوقائع المستجدة‬
‫من القضايا التي يكون االجتهاد فيها بناء على الموازنة بين المصالح والمفاس د‪،‬‬

‫أخرجه البخاري عن ابن عباس‪.‬‬ ‫‪139‬‬

‫ابن الجوزي‪ ،‬سيرة عمر بن عبد العزيز‪ ،‬ص‪.263-262‬‬ ‫‪140‬‬

‫ابن عاشور‪ ،‬مقاصد الشريعة‪ ،‬ص‪.197‬‬ ‫‪141‬‬

‫‪52‬‬
‫فضًال عن أن الن وازل العام ة ذات الص لة ب النواحي االجتماعي ة واالقتص ادية‬
‫والسياسية قضايا معَّقدة ومتشابكة مع غيرها‪ ،‬وهي األمور التي تتطلب التدقيق‬
‫في فهم تلك القضايا في جميع أبعادها وتداعياتها ومآالته ا‪ ،‬واالس تعانة بأه ل‬
‫التخصص في ذلك‪ ،‬ثم بعد ذلك تقييمها بنظرة شمولية متوازن ة قائم ة على‬
‫ِفْقٍه ثاقب في المقاصد الش رعية عاِّمه ا وخاص ها وجزئِّيه ا‪ ،‬للوص ول إلى‬
‫الحكم الذي يكون أقرب إلى تحقيق المقاصد الشرعية‪.‬‬
‫وأّي فتوى ُتْبَنى على نظرة جزئية متعِّجلة قائمة على س وء فهم أو س وء‬
‫تقدير للمآالت تنِّزل األحكام على غير مناطاته ا الحقيقي ة س وف ت ؤدي إلى‬
‫إهدار المقاصد الشرعية‪ ،‬واإلضرار باألمة في مجملها أو في جماعاته ا‪ .‬وغ ني‬
‫عن البيان أننا عندما نتحدث عن مراعاة المقاصد الشرعية‪ ،‬نتحدث عن المقاصد‬
‫الحقيقية التي دلت عليها نصوص الشارع بمنطوقها أو بمعقوله ا أو بمقاماته ا‬
‫وس ياقاتها‪ .‬وال نتح دث عن مقاص د من يبتغي التفص ي عن ال دين باس تبدال‬
‫مقاصده الشخصية بمقاصد الشريعة‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫خاتمة‬
‫يمكن أن نخلص في نهاية هذا البحث إلى أن مقاصد الش ريعة هي روح األحك ام‬
‫الشرعية وقلبها النابض‪ ،‬وهي العنصر الموِّجه لعمل الفقيه المجتهد والمعام ل‬
‫الذي ال ينبغي غيابه في جميع ح االت االجته اد واإلفت اء والتش ريع‪ .‬ومراع اة‬
‫المقاصد القائمة على إصالح حياة الناس في الدارين أصل أصيل في اإلسالم منذ‬
‫أول يوم بدأت فيه أحكامه بالتنزل‪ ،‬وذاك هو أس اس جع ل الش ريعة اإلس المية‬
‫خاتم الشرائع‪ ،‬وجعلها عامة زمانا ومكانا وأشخاصا‪ .‬والمراد بالمقاصد الشرعية‬
‫ما دلت عليه نصوص الشارع تصريحا وتلميحا وأيدته الفطرة السليمة والعقول‬
‫الراجحة‪ ،‬وليس المراد بها أهواء أهل األهواء وتوهماتهم‪.‬‬

‫‪54‬‬

You might also like