Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 286

2

1
3
‫المقدمــة‬

‫املقــدمة‬
‫احلمد هلل الذي أكرم عباده بالسلوك إليه‪ ،‬وتفضل عليهم بمعرفة الطريق‬
‫والسري عليه‪ ،‬ثم الصالة والسالم عىل إمام السالكني‪ ،‬وخاتم املرسلني‪،‬‬
‫وعىل من تبعه من الصاحلني‪ ،‬أما بعد‪:‬‬
‫فإن السائر إىل اهلل تعاىل مفتقر يف سريه إىل ما يصلح قلبه وي َز ِّكيه‪ ،‬وي ِ‬
‫وق ُظه‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫مشتغل حتى ينتهي أوان العمل‪،‬‬ ‫اً‬ ‫من غفلته و ُي َر ِّقيه‪ ،‬وال يزال السائر بذلك‬
‫وحتل به ساعة األجل‪ ،‬فيجد عند ذلك سع َيه ﴿ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ‬ ‫َّ‬
‫ﭴ ﭵ ﭶ﴾ [سورة الشعراء‪ ،]89-88:‬فمن س َّلم قلبه من شوائبه هنا؛ نجاه اهلل‬
‫هناك‪ ،‬ومن أمهله هنا؛ عاقبه اهلل هناك‪.‬‬
‫وإن من أعظم ما ُيعني عىل سالمة القلب وطهارته‪َ :‬س َف َر القلب يف ُكتب‬ ‫َّ‬
‫الرقائق وإصالح النفوس‪ ،‬تلك التي خ َّط ْتها أنامل سلف األمة‪ ،‬بمداد‬
‫كتاب‬
‫ُ‬ ‫الكتاب والسنة‪ ،‬ومن َأ ْم َث ِل تلك الكتب وأحسنها‪ ،‬وأبركها وأتقنها‪:‬‬
‫مدارج السالكني‪ ،‬لإلمام ابن قيم اجلوزية رمحه اهلل‪.‬‬
‫وقد جاد اهلل فيه عىل مؤلفه فأجاد‪ ،‬وفتح له فيه فأفاد‪ ،‬حتى صار للعقد‬
‫مقد ًما وسابِ ًقا‪،‬‬
‫واسطة‪ ،‬وللمسك خامتة‪ ،‬فأضحى بني كتب املؤلف َّ‬
‫وس ِائ ًقا‪.‬‬
‫وإِ َما ًما َ‬
‫عد هتذيب ًا لكتاب‬
‫وقد م َّن اهلل علينا بكتاب (تقريب مدارج السالكني) الذي ُي ُّ‬
‫كل ما ليس له صلة بأصل موضوع الكتاب ومقصده الرئيس‪،‬‬ ‫(املدارج) من ِّ‬
‫أال وهو أعامل القلوب واملنازل التي يرت َّقى فيها العبد مراقي العبودية‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫واليوم نقدم لعموم القراء كتاب (اإلكسري)‪ ،‬وهو هتذيب للتقريب‪ ،‬يقع‬
‫اً‬
‫مشتمل عىل‬ ‫يف ُثلث التقريب من حيث احلجم‪ ،‬انتقيناه ليكون تِ ْر َيا ًقا إيامن ًّيا‪،‬‬
‫مقاصد كتاب مدارج السالكني‪ ،‬راجني أن َي ِص َّح عليه ما قال ابن القيم‪:‬‬
‫ِ‬
‫نحاس‬ ‫قناطري من‬ ‫عىل‬ ‫مثقال ٍ‬
‫ذرة‬ ‫ُ‬ ‫(اإلكسري الكياموي‪ ،‬الذي إذا ُوضع منه‬
‫َ‬
‫األعامل ق َل َبها ذهب ًا)‪.‬‬

‫منهجية العمل‪:‬‬
‫أوال‪ :‬املقصد األساس من هذا العمل هو تقريب كتاب‪ :‬مدارج السالكني‪،‬‬
‫وتيسري االستفادة منه لرشحية أوسع من القراء؛ ليكون منهج ًا إيامني ًا‪،‬‬
‫الرقاق‬ ‫وتزكي ًة نفسي ًة‪ ،‬وزبد ًة سلوكي ًة حتوي نفيس كالم ابن القيم يف ِّ‬
‫(التقريب) هتذيب ًا‬
‫ُ‬ ‫وأعامل القلوب ومنهج السلوك وقواعده‪ ،‬ولئن كان‬
‫هتذيب للتهذيب‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫(فاإلكسري)‬
‫ُ‬ ‫(للمدارج)؛‬
‫ثانيا‪ :‬سعي ًا يف حتقيق مقصد (اإلكسري)؛ فقد حذفنا مما أثبتناه يف (التقريب) اآليت‪:‬‬
‫ملحا‪.-‬‬
‫مجيع كالم اهلروي‪ ،‬وما اتصل به من كالم املؤلف ‪ -‬ما مل يكن ذكره ّ‬ ‫(أ) َ‬
‫غري امل َّت ِس ِق مع عنوان املنزلة وأصل موضوعها‪ ،‬أو ما كان‬
‫(ب) كال َم املؤلف َ‬
‫من قبيل التقسيامت العلمية وأوجه االستنباط ‪-‬ولو كان موضوعها‬
‫الرقائق وأعامل القلوب‪ ،-‬وترتب عىل هذا حذف بعض املنازل كاملة‪.‬‬
‫َ‬
‫املنازل التي مل يرتشح منها مما يوافق مقصد (اإلكسري) إال أسطر ًا قليلة‪،‬‬ ‫(ج)‬
‫مما جعل بقاءها غري منسجم مع منهجية الكتاب وسبكه‪.‬‬
‫املكر َر من النصوص الرشعية ‪-‬ما مل ُيضف معنى زائد ًا يف حمل‬
‫َّ‬ ‫(د)‬

‫‪6‬‬
‫المقدمــة‬

‫االستشهاد‪ ،-‬ونكتفي منها ‪-‬غالب ًا‪ -‬بذكر آية وحديث‪ ،‬بحسب املتن‬
‫األصح‪ ،‬واملعنى األقرب واألشمل‪.‬‬
‫املكر َر من‬
‫املكر َر من كالم املؤلف إذا تضمن املعنى نفسه‪ ،‬وكذلك َّ‬
‫(هـ) َّ‬
‫كبريا من التعريفات أو املقوالت‬
‫وخصوصا عند رسده عد ًدا ً‬
‫ً‬ ‫منقوله‪،‬‬
‫أو األبيات الشعرية‪.‬‬
‫(و) العناوين اجلانبية التي وضعناها يف (التقريب)‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬قد حيتاج سياق الكالم إىل زيادة تربط بعضه ببعض‪ ،‬وعند ذلك‬
‫ُنضيف هذه الزيادة‪ ،‬ونجعلها بني معقوفتني هكذا [‪.].....‬‬
‫رابعا‪ :‬اعتمدنا يف أحاديث (اإلكسري) عىل املنهج اآليت‪:‬‬
‫(أ) ذكر األحاديث الصحيحة واحلسنة دون الضعيفة‪.‬‬
‫(ب) إذا كان احلديث خمرج ًا يف الصحيحني أو أحدمها؛ فنقترص عليه يف التخريج‪.‬‬
‫(ج) إذا خرج احلديث أهل السنن ومل خيرج يف الصحيحني؛ اقترصنا عىل‬
‫اثنني منهم‪ ،‬مع ذكر احلكم عىل احلديث‪.‬‬
‫(د) إذا خرج احلديث أمحد وغريه ومل خيرجه أهل السنن؛ اكتفينا بأمحد‪.‬‬
‫(هـ) اكتفينا يف احلكم عىل األحاديث بأحكام اإلمام األلباين دون غريه‪،‬‬
‫وذلك لشهرته عند املعارصين‪.‬‬
‫خامسا‪ :‬اقترصنا يف غريب األلفاظ عىل ذكر معنى اللفظ‪ ،‬دون ذكر املراجع‪.‬‬
‫نص املؤلف أو تأخريه؛‬
‫سادسا‪ :‬وقع يف مواضع يسرية من الكتاب تقديم ِّ‬

‫‪7‬‬
‫رعاي ًة للمناسبة‪ ،‬وقد م َّيزنا النص املوضوع يف غري حم ِّله بوضعه بني‬
‫نجمتني هكذا *‪.*.....‬‬
‫سابعا‪ :‬وضعنا عناوين لفقرات الكتاب كاملنازل وبعض الفصول فيها‬
‫مستفيدين من العناوين التي استخدمها ابن القيم رمحه اهلل يف‬
‫الكتاب األصل أو جمتهدين بعنوان يناسب ما يتبعه من الكالم‪.‬‬
‫خطوات العمل‪:‬‬
‫وو ِّز َع ْت عىل فريق العمل‪ ،‬وقام ُّ‬ ‫ٍ‬
‫كل باحث‬ ‫‪ُ 1‬قسم التقريب إىل أجزاء‪ُ ،‬‬
‫باختصار جزئه‪.‬‬
‫اآلخر‪.‬‬ ‫راج َع ُّ‬
‫كل باحث خمترص الباحث َ‬ ‫‪َ 2‬‬
‫ال بعد هتذيبه ومراجعته من‬ ‫ِ‬
‫بمراجعة اإلكسري كام ً‬ ‫‪ 3‬قام اثنان من الباحثني‬
‫الباحثني‪.‬‬
‫ِ‬
‫ملراجعة املسودة‪.‬‬ ‫مر ًة أخرى عىل الباحثني‬ ‫ِ‬
‫‪ُ 4‬و ِّز َعت األجزا ُء َّ‬
‫ب كام ً‬
‫ال‪ ،‬ومقابلته‬ ‫املهذ ِ‬
‫النص َّ‬‫ص لضبط َّ‬ ‫متخص ٍ‬‫ِّ‬ ‫العمل إىل فريق‬ ‫ُ‬ ‫‪ُ 5‬س ِّلم‬
‫النص املح َّقق من نسخة التقريب‪.‬‬ ‫عىل ِّ‬
‫وخ ِد َم بعالمات‬
‫وخ ِّر َج ْت أحادي ُثه‪ُ ،‬‬
‫ف الكتاب‪ ،‬و ُعزيت آيا ُته‪ُ ،‬‬ ‫‪ُ 6‬ص َّ‬
‫كل‪.‬‬ ‫شكيل ملِا ُي ْش ِ‬
‫ِ‬ ‫الترَّ قيم وال َّت‬
‫ِّمني لتحكيمه‪.‬‬ ‫ِ‬
‫املراحل عىل جمموعة من املحك َ‬ ‫‪ُ 7‬و ِّزع اإلكسري بعد هذه‬

‫‪8‬‬
‫المقدمــة‬

‫ِ‬
‫اجتهاد الفريق‪.‬‬ ‫بحس ِ‬
‫ب‬ ‫‪ 8‬ر ِ‬
‫لت َ‬‫امللحوظات و ُع ِّد ْ‬
‫ُ‬ ‫وج َعت‬ ‫ُ‬
‫ويف اخلتام نحمد اهلل تعاىل عىل نعمة التامم‪ ،‬ونسأله القبول واإلكرام‪،‬‬
‫متعلقني بأهداب جوده‪ ،‬واقفني بباب عفوه‪ ،‬راجني منه أن يبارك هذا‬
‫العمل‪ ،‬وأن جيعله خالصا لوجهه‪ ،‬واحلمد هلل رب العاملني‪.‬‬
‫فريق العمل‪:‬‬
‫د‪ .‬صالح بن عبد العزيز املحيميد‪.‬‬
‫أ‪ .‬تركي بن عبد اهلل الرتكي‪.‬‬
‫د‪ .‬حازم بن عبد الرمحن البسام‪.‬‬
‫د‪ .‬فهد بن حممد اخلويطر‪.‬‬
‫أ‪ .‬حممد بن عبد اهلل احلميد‪.‬‬
‫ونسعد بأي ملحوظة أو اقرتاح عىل هذا العمل من خالل الربيد اإللكرتوين‪:‬‬
‫‪tagrebalmdareg@gmail.com‬‬

‫‪9‬‬
‫رب َي ِّ�ســـــر و� ِأع ْ‬
‫ـــــن‬ ‫ِّ‬
‫دوان إال عىل الظاملني‪،‬‬ ‫للم َّت ِقني‪ ،‬وال ُع َ‬ ‫رب العالمَني‪ ،‬والعاقبة ُ‬ ‫احلمد هلل ِّ‬
‫ُ‬
‫رسلني‪ ،‬وقيو ُم‬‫رب العالمَني‪ ،‬وإل ُه ا ُمل َ‬ ‫َ‬
‫رشيك له‪ُّ ،‬‬ ‫أن ال إل َه إلاَّ اهللُ ْ‬
‫وح َده ال‬ ‫وأشهد ْ‬
‫ُ‬
‫املبعوث ِ‬
‫بالكتاب‬ ‫ُ‬ ‫عبده ورسو ُله‬ ‫حممدا ُ‬‫ً‬ ‫وأشهد َّ‬
‫أن‬ ‫ُ‬ ‫واألرضني‪،‬‬ ‫السموات‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫والشك واليقني‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫والرشاد‪،‬‬
‫والغي َّ‬
‫ِّ‬ ‫الفار ِق بني اهلُدى والضالل‪،‬‬ ‫املبني‪ِ ،‬‬

‫ِ‬
‫أحسن‬ ‫ِ‬
‫ونحم َله عىل‬ ‫أنزله لنقرأه تد ُّب ًرا‪ ،‬ونتأ َّمله تبصرًُّ ا‪ ،‬ونسعد به تذ ُّك ًرا‪،‬‬
‫ونصد َق أخباره‪ ،‬ونجتهد عىل إقامة أوامره ونواهيه‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫وجوهه ومعانيه‪،‬‬
‫امر علومه النافعة ا ُملوصلة إىل اهلل سبحانه ِمن أشجاره‪ ،‬ورياحني‬ ‫َ‬
‫ونجتني ثِ‬
‫احلكَم من بني ِرياضه وأزهاره‪.‬‬ ‫ِ‬

‫بالعلم النافع‪ ،‬والعمل الصالح كام‬ ‫كامل اإلنسان إنام هو ِ‬


‫وبعد‪ :‬فلماَّ كان ُ‬
‫ُ‬
‫قال تعاىل‪﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ‬
‫ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ﴾ [العرص‪]3 - 1 :‬؛ كان حقي ًقا باإلنسان أن‬
‫أنفاسه‪ -‬فيام ينال به املطالب العالية‪ ،‬ويخَ ُلص به‬
‫َ‬ ‫ُينفق ساعات عمره‪-‬بل‬
‫وتفه ِمه وتد ُّبره‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫ِ‬
‫باإلقبال عىل القرآن‬ ‫من اخلرسان املبني‪ ،‬وليس ذلك إال‬
‫والعكوف ِ‬
‫باهل َّمة‬ ‫ِ‬ ‫ف العناية إليه‪،‬‬‫وإثارة دفائنه‪ ،‬ورص ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫واستخراج كنوزه‪،‬‬
‫ْ‬
‫الكفيل بمصالح العباد يف املعاش واملعاد‪ ،‬وا ُملوصل هلم إىل‬ ‫ُ‬ ‫عليه؛ فإنه‬
‫سبيل الرشاد ‪.‬‬
‫ونحن بعون اهلل ُننَ ِّبه عىل هذا بالكالم عىل فاحتة الكتاب و ُأ ِّم القرآن‪،‬‬

‫‪10‬‬
‫مقدمة المصنف‬

‫تضمنَته من‬
‫َّ‬ ‫وعىل بعض ما تضمنته هذه السورة من هذه املطالب‪ ،‬وما‬
‫منازل السائرين‪ ،‬ومقامات العارفني‪ ،‬والفرق بني وسائلها وغاياهتا‪،‬‬
‫يسد‬ ‫ِ‬
‫السورة َمقا َمها‪ ،‬وال ُّ‬ ‫غري هذه‬
‫ومواهبها وكسبياهتا‪ ،‬وبيان أنه ال يقوم ُ‬
‫مسدها؛ ولذلك مل ُين ِْزل اهلل يف التوراة وال يف اإلنجيل وال يف الزبور وال يف‬ ‫َّ‬
‫القرآن ِم ْث َلها‪.‬‬

‫واهلل املستعان‪ ،‬وعليه ال ُّت ْكلاَ ن‪ ،‬وال حول وال قوة إال باهلل ِّ‬
‫العيل العظيم‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫بيان ا�شتمال الفاحتة على �أمهات املطالب‬
‫ِ‬
‫املطالب العالية أ َت َّم اشتامل‪،‬‬ ‫اشتملت عىل أمهات‬‫ْ‬ ‫أن هذه السور َة‬ ‫اعلم َّ‬
‫فاشتملت عىل التعريف باملعبود تبارك وتعاىل‬ ‫ْ‬ ‫تضمن؛‬
‫ُّ‬ ‫َ‬
‫أكمل‬ ‫وتضمنتها‬
‫َّ‬
‫ومدارها‬ ‫ِ‬
‫والصفات ال ُعليا إليها‪،‬‬ ‫رج ُع األسامء احلسنى‬ ‫بثالثة أسامء‪ ،‬م ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫عليها‪ ،‬وهي‪( :‬اهلل)‪ ،‬و(الرب)‪ ،‬و(الرمحن)‪ ،‬و ُبنِ َيت السور ُة عىل اإلهلية‪،‬‬
‫مبني عىل اإلهلية‪ ﴿ ،‬ﭤ ﭥ﴾‬ ‫والر ُبوبِ َّية‪ ،‬والرمحة؛ ﴿ ﭢ ﭣ ﴾ ٌّ‬ ‫ُّ‬
‫عىل الربوبية‪ ،‬وطلب اهلداية إىل رصاطه املستقيم بصفة الرمحة‪ ،‬واحلمد‬
‫األمور الثالثة‪ ،‬فهو املحمود يف إهل َّيته‪ ،‬وربوبِ َّيتِه‪ ،‬ورمحته‪ ،‬والثنا ُء‬ ‫َ‬ ‫يتضمن‬
‫واملجد كامالن حلمده‪.‬‬
‫ُ‬
‫وتفر َد‬ ‫ها‪،‬‬‫ئ‬‫إثبات املعاد‪ ،‬وجزاء العباد بأعامهلم‪ ،‬حسنِها وسي ِ‬
‫َ‬ ‫وتضمنت‬
‫ُّ‬ ‫َ ِّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫وكون ُحكمه بالعدل‪ ،‬وكل هذا‬ ‫َ‬ ‫حلكم إ ْذ ذاك بني اخلالئق‪،‬‬
‫الرب تعاىل با ُ‬
‫ِّ‬
‫حتت قوله‪﴿ :‬ﭞ ﭟ ﭠ﴾ [الفاحتة‪.]4 :‬‬
‫[و] قوله‪﴿ :‬ﭧ ﭨ ﭩ﴾ [الفاحتة‪ ]6 :‬اهلداية‪ :‬هي البيان والداللة‪،‬‬
‫ثم التوفيق واإلهلام‪.‬‬
‫ُ‬
‫وبطالن‬ ‫اضطرار العبد إىل هذه الدعوة فوق كل رضورة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ومن هاهنا ُيع َلم‬
‫سؤال َمن يقول‪ :‬إذا كنا مهتدين‪ ،‬فكيف نسأل اهلداية؟ فإن املجهول لنا من‬
‫اً‬
‫وكسل مثل ما نريده‪ ،‬أو أكثر‬ ‫هتاو ًنا‬ ‫ه‬‫ل‬‫َ‬ ‫ع‬ ‫أضعاف املعلوم‪ ،‬وما ال نريد فِ‬
‫ُ‬ ‫احلق‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫منه‪ ،‬أو دو َنه‪ ،‬وما ال نقدر عليه مما نريده كذلك‪ ،‬وما نعرف مجلته وال هنتدي‬

‫‪12‬‬
‫المطالب‬
‫املطالب‬ ‫أمهات‬
‫أمهات‬ ‫�‬

‫فمن َك َم َل ْت‬
‫يفوت احلرص‪ ،‬ونحن حمتاجون إىل اهلداية التا َّمة‪َ ،‬‬‫ُ‬ ‫فأمر‬
‫لتفاصيله ٌ‬
‫َ‬
‫سؤال التثبيت والدوام‪.‬‬ ‫ُ‬
‫سؤال اهلداية له‬ ‫له هذه األمور؛ كان‬
‫وللهداية مرتبة أخرى ‪-‬وهي آخر مراتبها‪ :-‬وهي اهلداية يو َم القيامة‬
‫املوصل إليها‪ ،‬فمن ُه ِد َي يف هذه الدار إىل‬ ‫ُ‬ ‫إىل طريق اجلنة‪ ،‬وهو الرصاط‬
‫أرسل به رسو َله‪ ،‬وأنزل به كتا َبه؛ ُه ِد َي هناك‬ ‫رصاط اهلل املستقيم‪ ،‬الذي َ‬
‫ودار ثوابه‪ ،‬وعىل قدر ثبوت قدمه‬ ‫إىل الرصاط املستقيم املوصل إىل جنَّتِه ِ‬
‫ثبوت قدمه عىل‬ ‫ُ‬ ‫عىل هذا الرصاط الذي نص َبه اهلل لعباده يف هذه الدار يكون‬
‫الرصاط املنصوب عىل َم ْت ِن جهنم‪ ،‬وعىل قدر َسيرْ ِ ه عىل هذه الرصاط يكون‬
‫َسيرْ ُ ه عىل ذاك الرصاط؛ فمنهم َمن َي ُم ُّر كالربق‪ ،‬ومنهم َمن َي ُم ُّر كالطرف‪،‬‬
‫كشد الركاب‪ ،‬ومنهم َمن يسعى‬ ‫ِّ‬ ‫ومنهم َم ْن َي ُم ُّر كالريح‪ ،‬ومنهم َم ْن َي ُم ُّر‬
‫حبوا‪ ،‬ومنهم املخدوش املس َّلم‪،‬‬ ‫سع ًيا‪ ،‬ومنهم َمن َي ُم ُّر مش ًيا‪ ،‬ومنهم َمن حيبو ً‬
‫ومنهم ا ُملك َْر َد ُس((( يف النار‪.‬‬
‫العبد َسيرْ َ ُه عىل ذلك الرصاط ِمن َسيرْ ِ ه عىل هذا َح ْذ َو ال ُق َّذة بال ُق َّذة؛‬ ‫فلينظر ُ‬ ‫ِ‬
‫جزا ًء ِوفا ًقا‪﴿:‬ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ﴾ [النمل‪.]90 :‬‬
‫ناكبون عنه‪،‬‬ ‫ولمََّا كان طالب الرصاط املستقيم طالب أم ٍر أكثر الناس ِ‬
‫ُ‬ ‫َ ْ‬ ‫ُ‬
‫الع َّزة‪ ،‬والنفوس جمبول ٌة عىل وحشة‬ ‫طريق مراف ُقه فيها يف غاية ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫لسلوك‬ ‫مريدا‬
‫ً‬
‫التفرد‪ ،‬وعىل األُنس بالرفيق؛ ن َّبه اهلل سبحانه عىل الرفيق يف هذه الطريق‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫وأهنم ُه ُم الذين‪ ﴿ :‬ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ‬

‫((( ا ُملك َْر َد ُس‪ :‬الذي ِجمُ َعت يدا ُه ِ‬


‫ورجاله و ُألقي إىل موضع‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫الرصاط إىل الرفيق السالِكني‬ ‫َ‬ ‫ﮉ ﮊ ﮋ﴾ [النساء‪ ،]69 :‬فأضاف‬
‫وسلوك الرصاط‬ ‫ِ‬ ‫ليزول عن الطالب للهداية‬ ‫َ‬ ‫وه ُم الذين أنعم اهلل عليهم؛‬
‫له‪ُ ،‬‬
‫تفرده عن أهل زمانه و َبني ِجنسه‪ ،‬وليعلم أن رفيقه يف هذا الرصاط‬ ‫وحش ُة ُّ‬
‫ني عنه له؛ فإهنم ُه ُم‬ ‫هم الذين أنعم اهلل عليهم؛ فال يكرتث بمخالفة الن ِ‬
‫َّاكبِ َ‬ ‫ُ ُ‬
‫َ‬
‫«عليك‬ ‫األق ُّلون َق ْد ًرا‪ ،‬وإن كانوا األكثرين عد ًدا‪ ،‬كام قال بعض السلف‪:‬‬
‫ترَ‬ ‫غ‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫وال‬ ‫الباطل‪،‬‬ ‫وطريق‬
‫َ‬ ‫وإياك‬ ‫السالكني‪،‬‬ ‫ة‬ ‫َّ‬
‫ل‬ ‫وح ْش ِ‬
‫لق‬ ‫بطريق احلق‪ ،‬وال َتس َت ِ‬
‫َّ‬
‫بكثرة اهلالِكني»‪.‬‬
‫ِ‬

‫تفردك فانظر إىل الرفيق السابق‪ ،‬واحرص عىل‬ ‫استوحشت يف ُّ‬


‫َ‬ ‫وك َّلام‬
‫عمن ِسواهم؛ فإهنم لن ُي ْغنُوا عنك من اهلل شي ًئا‪،‬‬
‫ال َّلحاق هبم‪ ،‬و ُغ َّض الطرف َّ‬
‫التفت إليهم‬
‫َّ‬ ‫تلتفت إليهم؛ فإنك متى‬ ‫ْ‬ ‫وإذا صاحوا بك يف طريق َس ِريك فال‬
‫أخذوك‪ ،‬أو عاقوك‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫الشــفاءين‬

‫ا�شتمال الفاحتة على ِّ‬


‫ال�شفاءين‬
‫ِ�شفاء القلوب‪ِ ،‬‬
‫و�شفاء الأبدان‬

‫أتم اشتامل؛ َّ‬


‫فإن مدار‬ ‫ملت عليه َّ‬ ‫هُ‬
‫اشتاملا عىل شفاء القلوب‪ :‬فإهنا اش َت ْ‬ ‫فأما‬
‫َّ‬
‫فساد ِ‬
‫العلم‪ ،‬وفساد القصد‪.‬‬ ‫وأسقامها عىل أصلني‪ِ :‬‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اعتالل القلوب‬
‫الضالل والغضب؛ فالضالل نتيج ُة ِ‬
‫فساد‬ ‫ُ‬ ‫داءان قاتِالن‪ ،‬ومها‬
‫ويرت َّتب عليهام ِ‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫القلوب‬ ‫املرضان مها ِم ُ‬
‫الك أمراض‬ ‫َ‬ ‫وهذان‬ ‫القصد‪،‬‬ ‫العلم‪ ،‬والغضب نتيج ُة ِ‬
‫فساد‬ ‫ِ‬
‫ِ‬
‫مجيعها‪.‬‬
‫مرض الضالل؛ ولذلك كان‬ ‫تتضم ُن الشفا َء من َ‬ ‫َّ‬ ‫فهداية الرصاط املستقي ِم‬
‫ٍ‬
‫وليلة‬ ‫كل يوم‬ ‫عبد‪ ،‬وأوج َبه عليه َّ‬ ‫عاء عىل كل ٍ‬ ‫اهلداية أفرض د ٍ‬ ‫ِ‬ ‫سؤال هذه‬ ‫ُ‬
‫َ َ ُ‬
‫غري هذا‬ ‫م‬ ‫قو‬ ‫ي‬ ‫وال‬ ‫املطلوبة‪،‬‬ ‫اهلداية‬ ‫إىل‬ ‫ه‬‫يف كل صالة؛ لشدة رضورتِه وفاقتِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫السؤال َمقا َمه‪.‬‬
‫اً‬
‫وحال؛‬ ‫اً‬
‫وعمل‬ ‫والتح ُّقق بـ﴿ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ﴾ ِع اًلم ومعرف ًة‪،‬‬
‫القلب والقصد ‪.‬‬‫ِ‬ ‫مرض فساد‬ ‫يتضم ُن الشفا َء من َ‬‫َّ‬
‫ضان عظيامن‪ْ ،‬‬
‫إن مل َيتدار ْك ُهام َترام َيا به إىل‬ ‫عر ُض له مر ِ‬ ‫إن القلب َي ِ‬ ‫ثم َّ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫الرياء بـ ﴿ ﭢ ﭣ﴾‪ ،‬ودوا ُء‬ ‫الرياء‪ ،‬والكبرْ ؛ فدواء ِّ‬ ‫ال َّتـ َلف وال بد‪ ،‬ومها‪ِّ :‬‬
‫الكبرْ بـ﴿ ﭤ ﭥ ﴾‪.‬‬ ‫ِ‬

‫وحه‪-‬‬ ‫‪-‬ق�دس اهللُ ُر َ‬


‫َّ‬ ‫أس�م ُع ش�يخ اإلسلام اب� َن تيم َّي� َة‬
‫َ‬ ‫وكثيرً ا م�ا كن�ت‬
‫يق�ول‪ :‬ب�ـ﴿ ﭢ ﭣ﴾ َتدف�ع الرياء‪ ،‬وب�ـ﴿ ﭤ ﭥ﴾ َتدف�ع ِ‬
‫الكربيا َء‪.‬‬ ‫ِّ‬

‫‪15‬‬
‫ِ‬
‫ض الكربياء‬ ‫مر ِ‬ ‫ض الرياء بـ﴿ ﭢ ﭣ﴾‪ ،‬ومن َ‬ ‫فإذا ُعوفيِ َ من َ‬
‫مر ِ‬
‫مرض الضالل واجلهل بـ﴿ﭧ‬ ‫جب بـ﴿ﭤ ﭥ﴾‪ ،‬ومن َ‬ ‫وال ُع ِ‬
‫ور َف َل يف أثواب‬ ‫ه‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وأسقام‬ ‫أمراضه‬ ‫ن‬ ‫ﭨ ﭩ﴾ [الفاحتة‪]٦ :‬؛ ُعوفيِ ِ‬
‫م‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫غري املغضوب عليهم؛‬ ‫العافية‪ ،‬وتمَ َّت عليه النعمة‪ ،‬وكان من ا ُملنْ َعم عليهم‪ِ ،‬‬
‫ِ‬
‫احلق و َع َد ُلوا عنه‪ ،‬والضا ِّلني؛ ُ‬
‫وهم‬ ‫عرفوا َّ‬ ‫َ‬ ‫الذين‬ ‫القصد‪،‬‬ ‫فساد‬ ‫وهم ُ‬
‫أهل‬ ‫ُ‬
‫عرفوه‪.‬‬‫احلق ومل َي ِ‬
‫العلم‪ ،‬الذين َج ِهلوا َّ‬ ‫فساد ِ‬
‫ِ‬ ‫أهل‬‫ُ‬
‫تضمنُها لشفاء األبدان‪ :‬ففي الصحيح من حديث أيب املتو ِّكل عن‬ ‫ُّ‬ ‫وأما‬
‫َّ‬
‫بحي من العرب‪،‬‬ ‫مروا ٍّ‬ ‫ناسا من أصحاب ِّ‬
‫النبي ﷺ ُّ‬ ‫أن ً‬ ‫َّ‬ ‫أيب سعيد اخلُدري‬
‫فلم َي ْق ُروهم‪ ،‬ومل ُيض ِّيفوهم‪ ،‬ف ُل ِد َغ س ِّي ُد احلي‪ ،‬فأتوهم‪ ،‬فقالوا‪ :‬هل عندكم‬
‫من ر ْق َي ٍة‪ ،‬أو هل فيكم ِمن ٍ‬
‫راق؟ فقالوا‪ :‬نعم‪ ،‬ولكنَّكم مل َت ْق ُرونا‪ ،‬فال َن ْف َع ُل‬ ‫ُ‬
‫عل‪ ،‬فجعلوا هلم عىل ذلك قطي ًعا من الغنم‪ ،‬فجعل ٌ‬
‫رجل‬ ‫حتى جتعلوا لنا ُج اً‬
‫منَّا يقر ُأ عليه بفاحتة الكتاب‪ ،‬فقام ْ‬
‫كأن مل يكن به َق َل َب ٌة‪ ،‬فقلنا‪ :‬ال َت ْعجلوا حتى‬
‫ريك هَّأنا ُر ْق َي ٌة؟ ُك ُلوا‪،‬‬
‫يت النبي ﷺ‪ ،‬فأت ْيناه‪ ،‬فذ َك ْرنا له ذلك‪ ،‬فقال‪« :‬ما ُي ْد َ‬ ‫نأ َ‬
‫واض ُبوا يل َم َع ُكم بِ َس ْهمٍ»(((‪.‬‬‫رْ ِ‬

‫حصول شفاء هذا ال َّلدي ِغ بقراءة الفاحتة عليه‪،‬‬‫َ‬ ‫ُ‬


‫احلديث‬ ‫تضمن هذا‬ ‫َّ‬ ‫فقد‬
‫بلغت ِمن شفائه ما مل يب ُل ْغه الدواء‪ ،‬هذا مع َك ْو ِن‬
‫ْ‬ ‫فأغنَ ْته عن الدواء‪ ،‬وربام‬
‫أهل ٍ‬
‫بخل و ُلؤم؛‬ ‫غري مسلمني‪ ،‬أو َ‬ ‫احلي َ‬
‫غري قابل؛ إ َّما لكون هؤالء ِّ‬ ‫ا َمل َح ِّل َ‬
‫فكيف إذا كان ا َمل َح ُّل اً‬
‫قابل؟!‬

‫((( أخرجه البخاري (‪ ،)5749 ،5736 ،2276‬ومسلم (‪ ،)2201‬لفظ «كلوا» عند الرتمذي (‪.)2064‬‬

‫‪16‬‬
‫الشــفاءين‬
‫ال�شفاءين‬

‫أكثر من أن ُت ْذ َكر‪ ،‬وذلك يف كل زمان‪،‬‬ ‫جارب بذلك‪ :‬فهي ُ‬ ‫وأما شهادة ال َّت ِ‬‫َّ‬
‫مد َة ا ُمل ِ‬
‫قام‬ ‫سيام َّ‬ ‫جر ْب ُت أنا من ذلك يف ن ْفيس ويف َغريي ً‬
‫أمورا عجيبة‪ ،‬وال َّ‬ ‫وقد َّ‬
‫َقطع‬ ‫ض يل ٌ ِ‬ ‫أعزها اهلل تعاىل؛ فإنه كان َيع ِر ُ‬
‫بمك َة َّ‬
‫آالم ُم ْزعجة‪ ،‬بحيث تكاد ت ُ‬
‫وأمسح‬
‫ُ‬ ‫احلرك َة م ِّني‪ ،‬وذلك يف أثناء الطواف وغريه‪ ،‬فأبادر إىل قراءة الفاحتة‪،‬‬
‫رارا عديدة‪ ،‬وكنت ُ‬
‫آخذ‬ ‫ِ‬ ‫هبا عىل ِّ‬
‫جر ْب ُت ذلك م ً‬
‫حمل األمل فكأنه حصا ٌة تسقط‪َّ ،‬‬
‫فأجد به من النفع‬ ‫ُ‬ ‫َق َد ًحا من ماء زمزم‪ ،‬فأقرأ عليه الفاحتة ً‬
‫مرارا‪ ،‬وأرش ُبه‪،‬‬
‫أعه ْد ِمث َله يف الدواء‪ ،‬واألمر أعظم من ذلك‪ ،‬ولكن بحسب ِ‬
‫قوة‬ ‫والقو ِة ما مل َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫وصح ِة اليقني‪ ،‬واهلل املستعان‪.‬‬
‫َّ‬ ‫اإليامن‪،‬‬

‫‪17‬‬
‫الكالم على قوله‬
‫﴿ ﭢﭣﭤﭥ﴾‬

‫والعقاب‪ ،‬انتهى إىل‬‫ِ‬ ‫ب والشرَّ ائع‪ ،‬والثواب‬‫سرِ ُّ اخلَ ْل ِق واأل ْمر‪ ،‬وال ُك ُت ِ‬
‫مدار العبودية والتوحيد‪ ،‬حتى قيل‪ :‬أنزل اهلل مائة‬‫هاتني الكلمتني‪ ،‬وعليهام ُ‬
‫معاين‬
‫َ‬ ‫مجع‬‫مجع معان َيها يف التوراة واإلنجيل والقرآن‪ ،‬و َ‬‫كتاب وأربع َة ك ُتب‪َ ،‬‬
‫معاين القرآن يف ا ُمل َف َّصل‪ ،‬ومجع معاين‬
‫َ‬ ‫مجع‬
‫هذه الكتب الثالثة يف القرآن‪ ،‬و َ‬
‫املفصل يف الفاحتة‪ ،‬ومعاين الفاحتة يف ﴿ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ﴾ [الفاحتة‪.]٥ :‬‬ ‫َّ‬
‫عبده نِصفني‪ ،‬فنِص ُفهام له تعاىل‪،‬‬
‫ِ‬
‫ومها الكلمتان املقسومتان بينْ الرب وبينْ‬
‫وهو ﴿ﭢ ﭣ﴾‪ ،‬ونِص ُفهام لعبده‪ ،‬وهو ﴿ ﭤ ﭥ﴾‪.‬‬

‫الذ ِّل واخلضوع‪ ،‬والعرب تقول‪:‬‬ ‫والعبادة جتمع أصلني‪ :‬غاية احلب بغاية ُّ‬
‫طريق ُم َع َّبد‪ ،‬أي‪ُ :‬م َذ َّلل‪ ،‬والتع ُّبد‪ :‬ال َّت َذ ُّلل واخلضوع‪َ ،‬‬
‫فمن أحبب َته ومل تكن‬
‫عابدا له‪ ،‬و َمن خض ْع َت له بال حم َّب ٍة مل تكن ً‬
‫عابدا له‪ ،‬حتى‬ ‫خاض ًعا له مل تكن ً‬
‫تكون محُ ِ ًّبا خاض ًعا‪.‬‬

‫واالستعانة جتمع أصلني‪ :‬الثق َة باهلل‪ ،‬واالعتام َد عليه؛ فإن العبد قد َيثِ ُق‬
‫بالواحد من الناس وال َيعتمد عليه يف أموره مع ثقته به؛ الستغنائه عنه‪،‬‬
‫عتمد عليه مع عدم ثقتِه به؛ حلاجته إليه‪ ،‬ولعدم َمن يقوم َمقا َمه‪،‬‬
‫وقد َي ُ‬
‫فيحتاج إىل اعتامده عليه‪ ،‬مع أنه غري واثق به‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫مدار المنازل‬

‫والتوكُّل معنى يلتئم من أصلني‪ :‬من الثقة‪ ،‬واالعتامد‪ ،‬وهو حقيقة ﴿ ﭢﭥ﴾‪.‬‬
‫وتقديم العبادة عىل االستعانة يف الفاحتة من باب تقديم الغايات عىل‬
‫الوسائل؛ ِ‬
‫إذ العبادة غاي ُة العباد التي ُخ ِل ُقوا هلا‪ ،‬واالستعانة وسيل ٌة إليها‪.‬‬
‫وقال شيخ اإلسالم ابن تيم َّي َة ‪« :‬تأ َّملت أنفع الدعاء فإذا هو يف سؤال‬
‫العون عىل مرضاته‪ ،‬ثم رأيته يف الفاحتة‪ ،‬يف ﴿ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ﴾»‪.‬‬ ‫َ‬ ‫اهلل‬

‫‪19‬‬
‫�أف�ضل العبادات‬
‫ِ‬
‫وأنفعها‪ ،‬وأح ِّقها باإليثار‬ ‫ِ‬
‫أفضل العبادة‬ ‫أهل مقا ِم ﴿ ﭢ ﭣ﴾ هلم يف‬ ‫ُ‬
‫وهم يف ذلك أربع ُة أصناف‪:‬‬ ‫ِ‬
‫والتخصيص أربع ُة ُط ُرق‪ُ ،‬‬
‫وأفض ُلها‪ :‬أش ُّقها عىل النفوس‬
‫َ‬ ‫عندهم أنفع العبادات‬‫األول‪َ :‬‬
‫الصنف َّ‬ ‫ِّ‬
‫أبعد األشياء ِمن َهواها‪ ،‬وهو حقيقة التع ُّبد‪ ،‬واألجر‬
‫وأصع ُبها؛ قالوا‪ :‬ألنه ُ‬
‫ور عىل النفوس‪.‬‬ ‫جل ِ‬ ‫قدر املش َّقة‪ ،‬وهؤالء‪ُ :‬هم ُ‬
‫أهل املجاهدات وا َ‬ ‫عىل ْ‬
‫والزهد يف الدنيا‪،‬‬‫ُ‬ ‫أفضل العبادات وأنف ُعها‪ :‬ال َّت ُّ‬
‫جرد‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الصنف الثاين قالوا‪:‬‬
‫ِّ‬
‫بكل ما‬ ‫اح االهتامم هبا‪ ،‬وعد ُم االكرتاث ِّ‬ ‫والتق ُّل ُل منها غاي َة اإلمكان‪ ،‬وا ِّط َر ُ‬
‫هو منها‪.‬‬
‫نفع ُمت َع ٍّد‪:‬‬ ‫فيه‬ ‫كان‬ ‫ما‬ ‫ها‬ ‫ع‬ ‫وأنف‬ ‫بادات‬ ‫أفضل ِ‬
‫الع‬ ‫َ‬ ‫أن‬
‫رأوا َّ‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫الصنف الثالث‪ْ :‬‬ ‫ِّ‬
‫َ‬
‫واالشتغال بمصالح‬ ‫أفضل من ذي النفع القارص‪ ،‬فرأوا ِخدمة الفقراء‪،‬‬ ‫َ‬ ‫فرأوه‬
‫فتصد ْوا‬
‫َّ‬ ‫أفضل‪،‬‬‫َ‬ ‫ِ‬
‫واجلاه والنفع‬ ‫وقضاء حوائجهم‪ ،‬ومساعدتهَ م باملال‬ ‫ِ‬ ‫الناس‬
‫له‪ِ ،‬‬
‫وعملوا عليه‪.‬‬
‫وعم َل النَّ َّفاع مت َع ٍّد إىل الغري‪،‬‬
‫قارص عىل ن ْفسه‪َ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫عمل العابد‬ ‫بأن َ‬ ‫واحتجوا َّ‬
‫ُّ‬
‫اآلخر؟!‬‫أحدمها من َ‬ ‫وأين ُ‬
‫ِ‬
‫بك‬ ‫لعيل بن أيب طالب ‪« :‬لأَ ْن هَيد َ‬
‫ي اهلل َ‬ ‫رسول اهلل ﷺ ِّ‬ ‫ُ‬ ‫قالوا‪ :‬وقد قال‬
‫املتعدي‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ك ِمن حمُ ْ ِر النَّ َعمِ» ‪ ،‬وهذا التفضيل للنفع‬
‫(((‬ ‫ِ‬
‫واح ًدا َخ ٌري َل َ‬ ‫رجلاً‬
‫ُ‬
‫((( أخرجه البخاري (‪ ،)2942‬ومسلم (‪.)2406‬‬

‫‪20‬‬
‫أفضل العبادات‬

‫الرب تعاىل يف‬ ‫ُ‬


‫العمل عىل مرضاة ِّ‬ ‫إن أفضل العبادة‬
‫الصنف الرابع قالوا‪َّ :‬‬
‫ِ‬
‫الوقت ووظيف ُته‪.‬‬ ‫كل وقت بام هو مقتىض ذلك‬
‫وإن َآل إىل ْترك األوراد؛ من صالة‬‫فأفضل العبادات يف وقت اجلهاد‪ :‬اجلها ُد‪ْ ،‬‬
‫ومن ْترك إمتا ِم َصالة الفرض‪ ،‬كام يف حالة األمن‪.‬‬ ‫الليل‪ ،‬وصيام النهار‪ ،‬بل ِ‬

‫ُ‬
‫واالشتغال به عن‬ ‫ِ‬
‫الضيف مثل‪ :‬القيا ُم بح ِّقه‪،‬‬ ‫واألفضل يف وقت ُحضور‬
‫حق الزوجة واألهل‪.‬‬ ‫ب‪ ،‬وكذلك يف أداء ِّ‬ ‫ستح ِّ‬ ‫ِ‬
‫الورد ا ُمل َ‬
‫اإلقبال عىل تعليمه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫اجلاهل‪:‬‬ ‫واألفضل يف وقت اسرتشاد الطالب‪ ،‬وتعلي ِم ِ‬
‫ُ‬
‫واالشتغال به‪.‬‬
‫ِ‬
‫والدعاء ِّ‬ ‫ُ‬ ‫السحر‪:‬‬ ‫ُ‬
‫والذكر‬ ‫االشتغال بالصالة والقرآن‬ ‫واألفضل يف أوقات َّ‬
‫واالستغفار‪.‬‬
‫ُ‬
‫واالشتغال بإجابة املؤ ِّذن‪.‬‬ ‫وقت األذان‪ْ :‬تر ُك ما هو فيه ِمن ِورده‪،‬‬ ‫واألفضل يف ِ‬

‫ُّصح يف إيقاعها عىل‬ ‫اجل ُّد والن ُ‬ ‫مس‪ِ :‬‬ ‫اخل ِ‬ ‫واألفضل يف أوقات الصلوات َ‬
‫وإن ب ُعد‬ ‫واخلروج إىل اجلامع‪ْ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫أكمل الوجوه‪ ،‬واملبادر ُة إليها يف َّأول الوقت‪،‬‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫أفضل‪.‬‬ ‫كان‬
‫ِ‬
‫املساعدة باجلاه‪ ،‬أو ال َب َد ِن‪ ،‬أو املال‪:‬‬ ‫ِ‬
‫رضورة املحتاج إىل‬ ‫واألفضل يف أوقات‬
‫وإيثار ذلك عىل أورادك وخلوتك‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫االشتغال بمساعدته‪ ،‬وإغاث ُة هلفته‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وتفه ِمه‪،‬‬ ‫ره‬ ‫ب‬ ‫تد‬ ‫عىل‬ ‫ة‬ ‫م‬ ‫واألفضل يف وقت ِقراءة القرآن‪ :‬مجعي ُة القلب ِ‬
‫واهل‬
‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫جمع قل َبك عىل َف ْهمه وتد ُّبره‪ ،‬والعز ِم عىل تنفيذ‬ ‫كأن اهلل خياط ُبك به‪ ،‬ف َت ُ‬ ‫حتى َّ‬
‫كتاب من السلطان عىل ذلك‪.‬‬ ‫جاءه‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ب‬‫ِ‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫ق‬ ‫ة‬ ‫ي‬ ‫ع‬ ‫جمَ‬ ‫ن‬ ‫أوامره أعظم ِ‬
‫م‬ ‫ِ‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬

‫‪21‬‬
‫والذ ِ‬
‫كر‪،‬‬ ‫الترضع والدعاء ِّ‬ ‫يف‬ ‫د‬ ‫االجتها‬ ‫بعرفة‪:‬‬ ‫ِ‬
‫الوقوف‬ ‫واألفضل يف وقت‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫دون الصو ِم امل ِ‬
‫ُضعف عن ذلك‪.‬‬ ‫َّ‬
‫وحضور جنازتِه‬ ‫ض أخيك املسلم أو موتِ‬ ‫مر ِ‬
‫ُ‬ ‫ه‪،‬‬ ‫ت‬
‫ُ‬ ‫عياد‬ ‫ه‪:‬‬ ‫واألفضل يف وقت َ‬
‫وتشيي ُعه‪ ،‬وتقديم ذلك عىل خلوتك ومجع َّيتِك‪.‬‬
‫النوازل وأذى الناس لك‪ :‬أدا ُء واجب الصرب مع‬ ‫ِ‬ ‫واألفضل يف وقت نزول‬
‫فإن املؤمن الذي خيالِ ُط الناس ويصرب عىل‬ ‫ُخلطتك هبم‪ ،‬دون اهلرب منهم؛ َّ‬
‫ُ‬
‫أفضل من الذي ال خيالطُهم وال ْيؤذونه‪.‬‬ ‫أذاهم‬
‫ُ‬
‫الرش؛‬
‫خري من اعتزاهلم فيه‪ ،‬وعزل ُتهم يف ِّ‬ ‫واألفضل ُخلطتهم يف اخلري؛ فهي ٌ‬
‫فإن َع ِل َم أنه إذا خالطهم أزا َله أو ق َّلله فهي خري‬
‫أفضل من خلطتهم فيه‪ْ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫فهو‬
‫من عزلتهم‪.‬‬
‫الوقت واحلال‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫إيثار مرضاة اهلل يف ذلك‬ ‫‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫وحال‬ ‫كل وقت‬ ‫فاألفضل يف ِّ‬
‫ُ‬
‫الوقت ووظيفتِه و ُمقتضاه‪.‬‬
‫ِ‬ ‫واالشتغال بواجب ذلك‬‫ُ‬

‫أهل التع ُّب ِد املق َّيد؛ فمتى‬


‫واألصناف ق ْب َلهم ُ‬
‫ُ‬ ‫وهؤالء هم أهل التع ُّبد ا ُمل ْط َلق‪،‬‬
‫وفارقه َيرى ن ْف َسه كأنه قد‬ ‫الفرع الذي تع َّلق به من العبادة َ‬ ‫خرج أحدهم عن ْ‬
‫وجه واحد‪ ،‬وصاحب التع ُّبد امل ْط َلق‬ ‫ن َقص وترك عبادته‪ ،‬فهو يعبد اهلل عىل ٍ‬
‫َ‬
‫غرض يف تع ُّب ٍد بعينه ُيؤثره عىل غريه‪ ،‬بل غرضه تت ُّبع مرضاة اهلل‬ ‫ليس له ٌ‬
‫فمدار تع ُّب ِده عليها‪ ،‬فهو ال يزال متن ِّق اًل يف منازل العبودية‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫تعاىل أين كانت؛‬
‫ِ‬
‫تلوح له منزل ٌة‬ ‫ك َّلام ُرفعت له منزل ٌة َعم َل عىل َسريه إليها‪ ،‬واشتغل هبا حتى َ‬
‫رأيت العلامء رأي َته معهم‪،‬‬
‫فإن َ‬‫سريه‪ْ ،‬‬
‫أخرى‪ ،‬فهذا دأ ُبه يف السري حتى ينتهي ُ‬
‫‪22‬‬
‫أفضل العبادات‬

‫وإن رأيت ال ُع َّباد رأيته معهم‪ ،‬وإن رأيت املجاهدين رأيته معهم‪ ،‬وإن رأيت‬ ‫ْ‬
‫املتصدقني املحسنني رأيته معهم‪ ،‬فهذا هو‬ ‫ِّ‬ ‫الذاكرين رأيته معهم‪ ،‬وإن رأيت‬
‫الرسوم‪ ،‬ومل تق ِّيده القيود‪ ،‬ومل يكن عم ُله عىل‬ ‫ِ‬
‫العبد امل ْط َل ُق‪ ،‬الذي مل تمَ لكْه ُّ‬
‫ُ‬
‫لذتهُ ا وراح ُتها من العبادات‪ ،‬بل عىل مراد ر ِّبه‪ ،‬ولو كانت‬ ‫مراد ن ْفسه وما فيه َّ‬
‫ولذتهُ ا يف سواه‪ ،‬فهذا املتح ِّقق بـ﴿ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ﴾‬ ‫راح ُة ن ْفسه َّ‬
‫القائم هبام صد ًقا‪َ ،‬م ْل َب ُسه ما هت َّيأ‪ ،‬ومأك ُله ما تيسرَّ ‪ ،‬واشتغا ُله بام ُأ ِم َر به‬
‫ُ‬ ‫ح ًّقا‪،‬‬
‫ووج َده خال ًيا‪ ،‬ال متلكه إشارة‪ ،‬وال‬ ‫يف كل وقت بوقته‪ ،‬وجملسه حيث انتهى َ‬
‫جمرد‪ ،‬دائر مع األمر حيث دار‪َ ،‬ي ِدين‬ ‫حر َّ‬ ‫رسم‪ٌّ ،‬‬ ‫ُيق ِّيده قيد‪ ،‬وال يستويل عليه ْ‬
‫مضار ُبه‪ ،‬يأنس‬ ‫ِ‬ ‫ركائ ُبه‪ ،‬ويدور معه حيث استق َّلت‬ ‫اآلمر أ َّنى توجه ْت ِ‬ ‫بدين ِ‬ ‫ِ‬
‫َّ َ‬
‫به ُك ُّل محُ ِ ٍّق‪ ،‬ويستوحش منه ُك ُّل ُم ْبطِ ٍل‪ ،‬كالغيث حيث وقع نفع‪ ،‬وكالنخلة‬
‫الغلظة منه عىل‬ ‫ِ‬ ‫ال َيس ُقط ور ُقها‪ ،‬وك ُّلها منفعة حتى شو ُكها‪ ،‬وهو موضع‬
‫هكت حمار ُم اهلل؛ فهو هلل وباهلل ومع اهلل‪،‬‬ ‫والغضب إذا ان ُت ْ‬‫ِ‬ ‫املخالفني ألمر اهلل‪،‬‬
‫عزل‬‫وصحب الناس بال ن ْفس‪ ،‬بل إذا كان مع اهلل َ‬ ‫ِ‬ ‫صحب اهللَ بال َخلق‪،‬‬ ‫قد ِ‬
‫فواها له!‬‫اخلالئق‪ ،‬وختلىَّ عنهم‪ ،‬وإذا كان مع َخلقه َع َز َل ن ْفسه وختلىَّ عنها‪ً ،‬‬
‫وفر َحه به‪،‬‬ ‫نسه باهلل َ‬ ‫أعظم ُأ َ‬
‫َ‬ ‫أشد وحش َته منهم! وما‬ ‫أغر َبه بني الناس! وما َّ‬ ‫ما َ‬
‫وسكو َنه إليه واهلل املستعان‪ ،‬وعليه ال ُّتكْالن‪.‬‬ ‫وطمأنين َته به‪ُ ،‬‬

‫‪23‬‬
‫نتقل فيها القلب‬‫منازل ﴿ ﭢ ﭣ﴾ التي َي ِ‬
‫يه �إىل اهلل تعاىل‬ ‫ً‬
‫منزلة يف حال َ�س رْ ِ‬ ‫ً‬
‫منزلة‬

‫أن ترتيب هذه املقامات ليس باعتبار أن السالك يقطع املقام و ُيفارقه‬ ‫اعلم َّ‬
‫وينتقل إىل الثاين‪ ،‬كمنازل السري ِ‬
‫احلسيِّ ‪ ،‬هذا محُ َال‪ ،‬أال ترى أن اليقظة معه يف‬
‫تفارقه؟ وكذلك البصرية واإلرادة والعزم‪ ،‬وكذلك التوبة؛ فإهنا‬ ‫كل مقام ال ِ‬
‫أيضا‪ ،‬بل هي يف كل مقام ُم ْس َت ْص َحبة؛‬
‫كام أهنا من أول املقامات فهي آخرها ً‬
‫ومن املقامات ما يكون جام ًعا ملقا َمني‪ ،‬ومنها ما يكون جام ًعا ألكثر من‬
‫يستحق صاحبه اسمه إال عند‬ ‫ُّ‬ ‫ذلك‪ ،‬ومنها ما َيندرج فيه مجيع املقامات‪ ،‬فال‬
‫استجامع مجيع املقامات فيه‪.‬‬
‫تص َّور وجو ُدها بدوهنام‪.‬‬
‫املحاسبة ومقام اخلوف‪ ،‬ال ُي َ‬
‫َ‬ ‫فالتوبة جامعة ملقام‬
‫تصور وجو ُده بدوهنام‪.‬‬
‫جامع ملقام الصرب ومقام املحبة‪ ،‬ال ُي َّ‬
‫ٌ‬ ‫والرضا‬
‫ِ‬
‫والتو ُّكل جامع ملقام التفويض واالستعانة والرضا‪ ،‬ال ُي َّ‬
‫تصور وجو ُده بدوهنا‪.‬‬
‫والرجاء جامع ملقام اخلوف واإلرادة‪.‬‬
‫وكل مقام من هذه املقامات فالسالكون بالنسبة إليه نوعان‪ :‬أبرار‪،‬‬
‫مراتب‬
‫ُ‬ ‫واملقربون يف ِذ ْر َوة َسنامه‪ ،‬وهكذا‬
‫َّ‬ ‫و ُم َق َّر ُبون؛ فاألبرار يف أذياله‪،‬‬
‫وتفاض َل درجاهتم‬
‫ُ‬ ‫وكل من النوعني ال يحُ يِص تفاوتهَ م‪،‬‬‫اإليامن مجي ُعها‪ٌّ ،‬‬
‫إال اهلل تعاىل‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫المنـــــازل‬

‫وقد يعرض له أعىل املقامات واألحوال يف أول بداية َسيرْ ِ ه‪ ،‬ف َينفتح‬
‫بعد للسالك‬ ‫نس والطمأنينة ما مل حيصل ُ‬ ‫عليه من حال املحبة والرضا واألُ ِ‬
‫يف هنايته‪ ،‬وحيتاج هذا السالك يف هنايته إىل أمور ‪-‬من البصرية‪ ،‬والتوبة‪،‬‬
‫واملحاسبة‪ -‬أعظم من حاجة صاحب البداية إليها‪ ،‬فليس يف ذلك ترتيب‬
‫كليِّ ٌّ الز ٌم للسلوك‪.‬‬
‫املتقدمني من أئمة القوم كال ًما‬‫فاألوىل الكال ُم يف هذه املقامات عىل طريقة ِّ‬
‫وجبِه‪ ،‬وآفته املانعة من حصوله‪،‬‬ ‫مطل ًقا يف كل مقام مقام‪ ،‬ببيان حقيقته وم ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وخاصه‪ ،‬فكالم أئمة الطريق هو عىل هذا املنهاج؛‬ ‫والقاطع عنه‪ِ ،‬‬
‫وذ ْكر عا ِّمه‬
‫ِّ‬
‫فص اًل جام ًعا مبينًا‬
‫فإنهَّ م ن َظموا عىل أعامل القلوب وعىل األحوال كال ًما ُم َّ‬
‫بعدد معلوم‪.‬‬‫ٍ‬ ‫مطل ًقا من غري ترتيب‪ ،‬وال حرص للمقامات‬
‫والسنة‪ ،‬ونذكر هلا‬
‫منازل ال ُعبودية الواردة يف القرآن ُّ‬ ‫َ‬ ‫فاألوىل بنا‪ْ :‬‬
‫أن نذ ُك َر‬
‫َ‬
‫ليكون ذلك‬ ‫احليس؛‬ ‫الس ِ‬
‫ري‬ ‫ِ‬
‫ترتيب َّ‬ ‫ستحق‪ ،‬بل ُمستحس ٌن‪ ،‬بحسب‬ ‫غري ُم‬
‫ِّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ترتي ًبا َ‬
‫أتم‪،‬‬ ‫به‬ ‫صديق‬
‫ُ‬ ‫ت‬
‫َّ‬ ‫ال‬ ‫َ‬
‫فيكون‬ ‫‪،‬‬‫باحلس‬ ‫ِ‬
‫املشهود‬ ‫ة‬‫َ‬ ‫منزل‬ ‫ِ‬
‫املعقول‬ ‫ِ‬
‫تنزيل‬ ‫أقرب إىل‬
‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫أسهل‪.‬‬ ‫أكمل‪ ،‬وضب ُطه‬ ‫ومعرف ُته َ‬

‫‪25‬‬
‫منزلة اليقظة‬
‫وطرفه‬
‫العبد قبل وصول الداعي إليه يف نوم الغفلة‪ ،‬قل ُبه نائم ْ‬
‫َ‬ ‫اعلم َّ‬
‫أن‬
‫مؤ ِّذن الرمحن‪:‬‬
‫َيقظان‪ ،‬فصاح به الناصح‪ ،‬وأسمعه داعي النجاح‪ ،‬وأ َّذ َن به َ‬
‫«حي عىل الفالح»‪.‬‬
‫َّ‬
‫فأول مراتب هذا النائم اليقظ ُة واالنتباه من النوم‪.‬‬
‫أنفع هذه‬ ‫ِ‬
‫انزعاج القلب َلروعة االنتباه من رقدة الغافلني‪ ،‬وهلل ما َ‬ ‫ُ‬ ‫* وهي‪:‬‬
‫فمن‬ ‫أشد إعان َتها عىل السلوك! َ‬ ‫وخطرها! وما َّ‬
‫َ‬ ‫قد َرها‬
‫أعظم ْ‬‫َ‬ ‫الروع َة! وما‬ ‫َّ‬
‫انتب َه‬ ‫فإذا‬ ‫الغفلة‪،‬‬ ‫سكرات‬ ‫يف‬ ‫فهو‬ ‫وإال‬ ‫بالفالح‪،‬‬ ‫أحس هبا فقد أحس واهللِ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫(((‬
‫األوىل‪ ،‬وأوطانِه التي ُسبِ َي منها‪*.‬‬
‫شمر هللِ هبمته إىل السفر إىل منازله ُ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫أوج َب له‬
‫فإنه إذا َهنض من ورطة الغفلة‪ ،‬واستنار قلبه برؤية نور التنبيه؛ َ‬
‫وطر ُفه فيها َ‬
‫شاه َد‬ ‫ه‬ ‫قلب‬ ‫ق‬‫حد‬
‫َّ‬ ‫ام‬‫ل‬‫َّ‬ ‫وك‬ ‫والظاهرة‪،‬‬ ‫الباطنة‬ ‫اهلل‬ ‫م‬‫ع‬ ‫ذلك مالحظ َة نِ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫وفر َغ قلبه ملشاهدة‬
‫حدها‪َّ ،‬‬ ‫عظمتها وكثرهتا‪ ،‬فيئِس من َع ِّدها‪ ،‬والوقوف عىل ِّ‬
‫ِم َّنة اهلل عليه هبا من غري استحقاق‪ ،‬وال استجالب هلا بثمن‪ ،‬فتيق ََّن حينئذ‬
‫القيام بشكرها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ريه يف واجبها‪ ،‬وهو‬ ‫تقص َ‬
‫حمبة‬ ‫ِ ِ‬
‫شهود تلك امل َّنة والتقصري نوعني جليلني من العبودية‪َّ :‬‬
‫ُ‬ ‫فأوجب له‬
‫وإزراءه عىل نفسه؛ حيث‬
‫َ‬ ‫نعم وال َّل َهج ِ‬
‫بذ ْك ِره‪ ،‬وتذ ُّللـه وخضوعه له‪،‬‬ ‫ا ُمل ِ‬

‫((( النجمتان تدالن عىل أن الكالم بينهام ُعدل موضعه من كتاب مدارج السالكني مراعا ًة للسياق وهي‬
‫مواضع قليلة‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫اليقظـــــة‬

‫عجز عن شكر نِ َع ِمه‪ ،‬فينظر إىل ما سلف منه من اإلساءة‪ ،‬ويعلم أنه عىل‬
‫بموجب َح ِّق ِه‪،‬‬
‫ِ‬ ‫احلق‬
‫ذة صاحب ِّ‬ ‫بمؤاخ ِ‬
‫َ‬ ‫خطر عظيم فيها‪ُ ،‬مشرْ ِ ف عىل اهلالك‬
‫الفارط بالعلم والعمل‪ ،‬وخت َّلص من ِر ِّق‬
‫شمر الستدراك ِ‬ ‫فإذا طا َل َع جنايته َّ‬
‫ختليص إيامنه ومعرفته‬‫ُ‬ ‫ب التمحيص‪ ،‬وهو‬ ‫اجلناية باالستغفار والنَّدم‪ ،‬و َط َل ِ‬
‫ث اجلناية‪.‬‬‫من َخب ِ‬
‫َ‬
‫أشياء‪ :‬بالتوبة‪ ،‬واالستغفار‪،‬‬
‫َ‬ ‫وهذا التمحيص يكون يف دار الدنيا بأربعة‬
‫فإن محَ َّ َص ْته هذه األربع ُة وخ َّلصته كان‬ ‫ِ‬
‫واملصائب ا ُمل َك ِّفرة‪ْ ،‬‬ ‫واحلسنات ِ‬
‫املاح َية‪،‬‬
‫بني‪ُ ،‬ي َبشرِّ وهنم باجلنة‪ ،‬وكان من الذين ﴿ﭘ‬ ‫من الذين تتو َّفاهم املالئكة ط ِّي َ‬
‫ﭙ ﭚ ﴾عند املوت ﴿ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ‬
‫ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ‬
‫ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ﴾ [فصلت‪.]32 - 30 :‬‬
‫نصوحا‪ ،‬وهي‬ ‫ة‬ ‫ُ‬ ‫التوب‬ ‫تكن‬ ‫فلم‬ ‫وختليصه؛‬ ‫بتمحيصه‬ ‫ُ‬
‫ة‬ ‫األربع‬ ‫هذه‬ ‫وإن مل َت ِ‬
‫ف‬
‫ً‬
‫املصحوب‬
‫ُ‬ ‫كامل تا ًّما‪ ،‬وهو‬ ‫العا َّم ُة الشاملة الصادقة‪ ،‬ومل يكن االستغفار اً‬
‫استغفار َمن يف‬
‫َ‬ ‫فارقة الذنب والندم عليه‪ ،‬هذا هو االستغفار النافع‪ ،‬ال‬ ‫بم َ‬ ‫ُ‬
‫احلسنات يف‬
‫ُ‬ ‫يده قدح ا ُمل ْس ِكر‪ ،‬يقول‪ :‬أستغفر اهلل‪ ،‬ثم َيرفعه إىل فيه! ومل تكن‬
‫لع َظ ِم اجلناية‪ ،‬وإما‬‫َكميتِها وكيفيتِها وافي ًة بالتكفري‪ ،‬وال املصائب‪ ،‬وهذا إما ِ‬
‫َّ‬ ‫ِّ َّ‬
‫أشياء‪:‬‬
‫َ‬ ‫لض ْعف ا ُمل َم ِّحص‪ ،‬وإما هلام‪ :‬محُ ِّ َص يف الربزخ بثالثة‬ ‫َ‬
‫أحدها‪ :‬صالة أهل اإليامن عليه‪ ،‬واستغفارهم له‪ ،‬وشفاعتهم له‪.‬‬
‫متحيصه بفتنة القرب‪ ،‬وروعة ال َف َّتان‪ ،‬وال َعصرْ َ ة واالنتهار‪ ،‬وتوابع ذلك‪.‬‬
‫ُ‬ ‫الثاين‪:‬‬

‫‪27‬‬
‫الثالث‪ :‬ما هُيدي إليه إخوا ُنه املسلمون من هدايا األعامل‪.‬‬
‫ِ‬
‫ي ربه يف املوقف بثالثة‬ ‫فإن مل َتف هذه الثالث ُة بالتمحيص‪ :‬محُ ِّ َص بني َي َد ْ‬‫ْ‬
‫الش َفعاء‪ ،‬وعفو اهلل ‪.‬‬ ‫أشياء‪ :‬أهوال القيامة وشدة املوقف‪ ،‬وشفاعة ُّ‬ ‫َ‬
‫ف هذه الثالثة بتمحيصه‪ :‬فال َّبد له من دخول الكِري‪ ،‬رمح ًة يف ح ِّقه؛‬ ‫فإن مل َت ِ‬
‫ومتحيصا خلبثه‪،‬‬
‫ً‬ ‫النار ُطهر ًة له‬
‫ويتطهر يف النار‪ ،‬فتكون ُ‬
‫َّ‬ ‫ويتمحص‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ليتخ َّلص‬
‫وشدته وضعفه وترا ُكمه‪ ،‬فإذا‬ ‫حسب كثرة اخلبث وق َّلته‪َّ ،‬‬‫ويكون ُمك ُثه فيها عىل َ‬
‫خرج من النار‪ ،‬و ُأدخل اجلنة‪.‬‬ ‫خالصا طي ًبا‪ُ ،‬أ َ‬
‫ً‬ ‫وص ِّفي َذ َه ُبه‪ ،‬وصار‬
‫خرج خب ُثه ُ‬

‫‪28‬‬
‫الفكـــــرة‬

‫مــنزلة ِ‬
‫الفكــرة‬
‫حتديق القلب إىل جهة‬
‫ُ‬ ‫أوجبت له الفكرة‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫ْ‬ ‫فإذا استحكمت يقظ ُته‬
‫التامسا له‪.‬‬
‫ً‬ ‫املطلوب؛‬
‫والفكرة فكرتان‪ :‬فكرة تتع َّلق بالعلم واملعرفة‪ ،‬وفكرة تتع َّلق بالطلب واإلرادة‪.‬‬
‫فالتي تتع ِّلق بالعلم واملعرفة‪ :‬فكر ُة التمييز بني احلق والباطل‪ ،‬والثابت‬
‫واملنفي‪.‬‬
‫ِّ‬
‫والضار‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫والتي تتع َّلق بالطلب واإلرادة‪ :‬فهي الفكرة التي تمُ ِّيز بني النافع‬
‫ثم يرت َّتب عليها فكر ٌة أخرى يف الطريق إىل ُحصول ما ينفع‪ ،‬فيسلكها‪،‬‬
‫يرض‪ ،‬فيرتكها‪.‬‬
‫وطريق ما ُّ‬
‫سابع هلا‪ ،‬هي جمال أفكار ال ُع َقالء‪.‬‬
‫َ‬ ‫فهذه س َّت ُة أقسام ال‬

‫‪29‬‬
‫منزلة الب�صرية‬

‫صحت فكرتُه أوجبت له البصريةَ؛ فهي نور يف القلب ُيبصرِ‬ ‫* فإذا َّ‬
‫هلل يف هذه ألوليائه‪ ،‬ويف هذه‬ ‫الوعد والوعيد‪ ،‬واجلن َة والنار‪ ،‬وما َو َعد ا ُ‬ ‫َ‬ ‫به‬
‫ني لدعوة احلق‪،‬‬ ‫خرجوا من قبورهم ُم ْه ِط ِع َ‬ ‫الناس وقد َ‬ ‫َ‬ ‫ألعدائه‪ ،‬فأبصرَ َ‬
‫مالئكة السموات فأحاطت هبم‪ ،‬وقد جاء اهلل و َن َص َب ُك َ‬
‫رسيه‬ ‫ُ‬ ‫وقد نزلت‬
‫ني‬
‫بالنبي َ‬
‫وجي َء ِّ‬ ‫وو ِض َع الكتاب‪ِ ،‬‬ ‫لفصل القضاء‪ ،‬وقد أرشقت األرض لنوره‪ُ ،‬‬
‫خلصوم‪،‬‬ ‫الص ُحف‪ ،‬واجتمعت ا ُ‬ ‫ُص َب امليزان‪ ،‬وتطايرت ُّ‬ ‫والشهداء‪ ،‬وقد ن ِ‬
‫اش‬‫الع َط ُ‬ ‫َب‪ ،‬وكثُر ِ‬
‫وض وأكوا ُبه عن َكث ٍ‬ ‫حل ُ‬ ‫والح ا َ‬ ‫كل َغريم بغريمه‪،‬‬ ‫وتع َّلق ُّ‬
‫َ‬
‫األنوار دون‬‫ُ‬ ‫الناس إليه‪ ،‬و ُقسمت‬ ‫ُ‬ ‫ُص َب اجلرس للعبور‪ ،‬و ُل َّز‬ ‫و َق َّل الوا ِرد‪ ،‬ون ِ‬
‫بعضا حت َته‪ ،‬واملتساقطون فيها‬ ‫بعضها ً‬ ‫ظلمته للعبور عليه‪ ،‬والنار يحَ ْ ِط ُم ُ‬
‫عني يرى هبا ذلك‪ ،‬ويقوم بقلبه‬ ‫أضعاف الناجني‪ ،‬فينفتح يف قلبه ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫أضعاف‬
‫يه اآلخر َة ودوا َمها‪ ،‬والدنيا ورسع َة انقضائها‪.‬‬ ‫شاهد من شواهد اآلخرة ي ِر ِ‬ ‫ٌ‬
‫ُ‬
‫نور يقذفه اهلل يف القلب‪ ،‬يرى به حقيق َة ما أخربت به الرسل‪،‬‬ ‫فالبصرية ٌ‬
‫انتفاعه بام دعت إليه الرسل‪،‬‬
‫ُ‬ ‫رأي َعينْ ٍ ‪ ،‬فيتحقَّق مع ذلك‬
‫شاه َد َ‬
‫كأنه َ‬
‫ِ‬
‫بعض العارفني‪ :‬البصرية حتقُّ ق‬ ‫وترض ُره بمخالفتهم‪ ،‬وهذا معنى قول‬ ‫ُّ‬
‫والترضر به‪ .‬وقال بعضهم‪ :‬البصرية ما خ َّلصك من احلرية؛‬
‫ُّ‬ ‫االنتفاع باليشء‬
‫إما بإيامن‪ ،‬وإما ِ‬
‫بعيان‪.‬‬
‫والبصرية عىل ثالث َدرجات؛ َمن اس َتكملها فقد اس َتكمل البصرية‪ :‬بصرية‬

‫‪30‬‬
‫البصيــــرة‬

‫الوعد والوعيد‪.‬‬
‫يف األسامء والصفات‪ ،‬وبصرية يف األمر وال َّنهي‪ ،‬وبصرية يف ْ‬
‫وصف‬ ‫ض ما َ‬‫بشبهة تُعا ِر ُ‬
‫فالبصرية يف األسامء والصفات‪ :‬ألاَّ يتأ َّثر إيامنُك ُ‬
‫الش َبه ا ُملعارضة لذلك عندك بمنزلة‬
‫اهلل به ن ْف َسه‪ ،‬ووص َفه به رسو ُله‪ ،‬بل تكون ُّ‬
‫والشكوك يف وجود اهلل‪ ،‬فكالمها سواء يف البطالن عند أهل البصائر‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫الش َبه‬
‫ُّ‬
‫الرب تبارك وتعاىل مستو ًيا عىل عرشه‪ ،‬متك ِّل اًم‬ ‫قلبك َّ‬ ‫يشه َد ُ‬ ‫وعق ُْد هذا أن َ‬
‫سميعا‬
‫ً‬ ‫وس ْف ِّليه‪ ،‬وأشخاصه وذواته‪،‬‬ ‫بصريا بحركات العامل ُع ْلو ِّيه ُ‬ ‫ً‬ ‫بأم ِره وهنيه‪،‬‬
‫نازل ِمن‬ ‫وأم ُر املاملك حتت تدبريه‪ٌ ،‬‬ ‫رقيبا عىل ضامئرهم وأرسارهم‪ْ ،‬‬ ‫ألصواهتم‪ً ،‬‬
‫عنده وصاعد إليه‪ ،‬وأمالكه بني يديه تُن ِّفذ أوامره يف أقطار املاملك‪ ،‬موصو ًفا‬
‫منز ًها عن العيوب والنقائص واملثال‪،‬‬ ‫بصفات الكامل‪ ،‬منعوتًا بنعوت اجلالل‪َّ ،‬‬
‫حي ال يموت‪ُّ ،‬قيوم ال‬ ‫وصف ن ْفسه يف كتابه‪ ،‬وفوق ما يصفه به خلقه‪ٌّ ،‬‬ ‫هو كام َ‬
‫مثقال َذ َّر ٍة يف الساموات وال يف األرض‪ ،‬بصري يرى‬ ‫ُ‬ ‫ينام‪ ،‬عليم ال خيفى عليه‬
‫النملة السوداء‪ ،‬عىل الصخرة الصماَّ ء‪ ،‬يف الليلة الظلامء‪ ،‬سميع َيسمع‬ ‫ِ‬ ‫بيب‬‫َد َ‬
‫ضجيج األصوات‪ ،‬باختالف اللغات‪ ،‬عىل تف ُّنن احلاجات‪ ،‬تمَ َّ ْت كلامتُه ِص ْد ًقا‬
‫وم اًثل‪ ،‬وتعالت ذاتُه أن‬ ‫وعدل‪ ،‬فج َّلت صفاتُه أن تُقاس بصفات خ ْل ِقه َش ًبها ِ‬ ‫اً‬
‫عدل وحكم ًة ورمح ًة‬ ‫ووسع ْت اخلليق َة أفعا ُله اً‬ ‫ِ‬ ‫تُشبه شي ًئا من الذوات اً‬
‫أصل‪،‬‬
‫لك واحلمد‪ ،‬وله‬ ‫خل ْل ُق واألمر‪ ،‬وله النعمة والفضل‪ ،‬وله ا ُمل ُ‬ ‫وفضل‪ ،‬له ا َ‬
‫اً‬ ‫وإحسانًا‬
‫آخر ليس بعده يشء‪ ،‬ظاهر ليس فو َقه يشء‪،‬‬ ‫أول ليس قبله يشء‪ٌ ،‬‬ ‫الثناء واملجد‪ٌ ،‬‬
‫ومتجيد‪ ،‬ولذلك‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وثناء‬ ‫ٍ‬
‫ومحد‪،‬‬ ‫مد ٍح‬ ‫باطن ليس دو َنه يشء‪ ،‬أسامؤه ك ُّلها أسامء ْ‬
‫ُعوت جالل‪ ،‬وأفعاله ك ُّلها‬ ‫كامل‪ ،‬ونُعوته ن ُ‬ ‫صفات ٍ‬ ‫ُ‬ ‫كانت ُح ْس َنى‪ ،‬وصفاتُه ك ُّلها‬

‫‪31‬‬
‫ومرشد‬ ‫ِ‬ ‫دال عليه‪،‬‬‫كل يشء من خملوقاته ٌّ‬ ‫حكمة ورمحة‪ ،‬ومصلحة وعدل‪ُّ ،‬‬ ‫ٌ‬
‫باطل‪ ،‬وال‬ ‫واألرض وما بينهام اً‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫السموات‬ ‫ملن رآه بعني البصرية إليه‪ ،‬مل يخَ ُل ِق‬
‫وأسبغَ‬
‫َ‬ ‫خللق لقيام توحيده وعبادته‪،‬‬ ‫عاطل‪ ،‬بل خلق ا َ‬ ‫اً‬ ‫َترك اإلنسان ُس ًدى‬
‫تعرف إىل عباده بأنواع‬ ‫وكرامته‪،‬‬ ‫زيادته‬ ‫إىل‬ ‫بشكرها‬ ‫لوا‬ ‫ليتوس‬ ‫ه‬‫م‬ ‫ع‬ ‫عليهم نِ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫التعرفات‪ ،‬وصرَ َّ ف هلم اآليات‪ ،‬و َن َّوع هلم الدالالت‪ ،‬ودعاهم إىل حمبته من‬ ‫ُّ‬
‫فأتم عليهم نِ َع َم ُه‬
‫ومد بينه وبينهم من عهده أقوى األسباب‪َّ ،‬‬ ‫مجيع األبواب‪َّ ،‬‬
‫وك َتب عىل ن ْفسه‬ ‫السابغة‪ ،‬وأقام عليهم ُح َّج َته البالغة‪ ،‬أفاض عليهم النعمة‪َ ،‬‬
‫تاب الذي كتبه‪ :‬أنَّ رمحتي سبقت غضبي‪.‬‬ ‫وضمن ِ‬
‫الك َ‬ ‫الرمحة‪َّ َ ،‬‬
‫املرتبة الثانية‪ :‬البصرية يف األمر وال َّنهي؛ وهي جتريده عن املعارضة بتأويل‪،‬‬
‫بهة تُعا ِرض العلم بأمر اهلل وهنيه‪ ،‬وال‬
‫هوى‪ ،‬فال يقوم بقلبِه ُش ٌ‬
‫أو تقليد‪ ،‬أو ً‬
‫جل ِ‬
‫هد يف‬ ‫بذل ا ُ‬ ‫شهو ٌة متنع من تنفيذه وامتثالِه واألخذ به‪ ،‬وال ٌ‬
‫تقليد ُيزحيه عن ْ‬
‫تل ِّقي األحكام من ِمشكاة النصوص‪.‬‬

‫املرتبة الثالثة‪ :‬البصرية يف الوعد والوعيد؛ [و] هو أن تشهد َ‬


‫قيام اهلل تعاىل‬
‫ِ‬
‫العمل‪ ،‬ودار‬ ‫اً‬
‫وآجل‪ ،‬يف دار‬ ‫اً‬
‫عاجل‬ ‫عىل كل نفس بام كسبت يف اخلري والرش‪،‬‬
‫اجلزاء‪ ،‬وأنَّ ذلك هو ِ‬
‫موجب إهليته وربوبيته‪ ،‬وعدله وحكمته‪.‬‬
‫القصد والنية‬
‫َ‬ ‫فإذا انتبه وأبرص‪ :‬أخذ يف «القصد» ِ‬
‫وص ْدق اإلرادة‪ ،‬وأجمْ َ َع‬
‫هبة السفر‪،‬‬ ‫بد له منه‪ ،‬فأخذ يف ُ‬
‫أ‬ ‫َّ‬ ‫ال‬ ‫أنه‬ ‫َّن‬
‫ق‬ ‫وتي‬ ‫م‬ ‫وع ِ‬
‫ل‬ ‫عىل سفر اهلجرة إىل اهلل‪َ ،‬‬
‫َ‬
‫والتجرد عن عوائق السفر‪ ،‬وقطع العالئق التي متنعه‬ ‫املعاد‪،‬‬ ‫ليوم‬ ‫الزاد‬ ‫ِ‬
‫وتعبئة‬
‫ُّ‬
‫قصده صار «عز ًما» جاز ًما‪ ،‬مستلز ًما للرشوع يف‬ ‫َ‬
‫استحك َم ُ‬ ‫من اخلروج؛ فإذا‬

‫‪32‬‬
‫البصيــــرة‬

‫ُّ‬
‫بالتوكل عىل اهلل‪ ،‬قال تعاىل‪ ﴿ :‬ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ﴾ [سورة آل‬ ‫السفر‪ ،‬مقرونًا‬
‫عمران‪.]159 :‬‬
‫القصد اجلازم امل َّتصل بالفعل‪ ،‬ولذلك قيل‪ :‬إنه َّأول الرشوع‬
‫ُ‬ ‫والعزم‪ :‬هو‬
‫يف احلركة لطلب املقصود‪ ،‬وحقيقته‪ :‬هو استجامع قوى اإلرادة عىل الفعل‪.‬‬
‫والعزم نوعان؛ أحدمها‪ :‬عزم ا ُملريد عىل الدخول يف الطريق‪ ،‬وهذا من‬
‫أخص من هذا‪*.‬‬
‫ُّ‬ ‫السري‪ ،‬وهو‬ ‫عزم يف حال َّ‬
‫البدايات‪ .‬والثاين‪ٌ :‬‬

‫‪33‬‬
‫منزلـــة املحا�ســـبة‬

‫وهذه املنازل األربعة‪ :‬اليقظة‪ ،‬والفكرة‪ ،‬والبصرية‪ ،‬والعزم‪[ ،‬هي] لسائر‬


‫تصور‬
‫املنازل كاألساس لل ُبنيان‪ ،‬وعليها مدار منازل السفر إىل اهلل تعاىل‪ ،‬وال ُي َّ‬
‫السفر إليه بدون نزوهلا الب َّت َة‪ ،‬وهي عىل ترتيب السري ِ‬
‫احلسيِّ ‪َّ ،‬‬
‫فإن املقيم يف‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫السفر حتى يستيقظ من غفلته عن السفر‪ ،‬ثم يتبصرَّ يف أمر‬ ‫ُ‬ ‫وطنه ال يتأ َّتى منه‬
‫والتزود‬
‫ُّ‬ ‫وخ َط ِره‪ ،‬وما فيه من املنفعة واملصلحة‪ ،‬ثم يفكِّر يف ُأهبة السفر‬ ‫سفره َ‬
‫وإعداد ُع َّدته‪ ،‬ثم يعزم عليه‪ ،‬فإذا عزم عليه وأمجع قصده انتقل إىل منزلة‬
‫ِ‬
‫ستصحب ما له‪ ،‬ويؤ ِّدي ما عليه؛‬ ‫املحاسبة؛ وهي التمييز بني ما له وعليه‪ ،‬ف َي‬
‫مسافر َس َف َر َم ْن ال يعود‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ألنه‬

‫دل عىل املحاسبة قو ُله تعاىل‪﴿ :‬ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ‬


‫[و] قد َّ‬
‫ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ﴾ [احلرش‪.]18 :‬‬

‫يظهر‬ ‫ِ‬
‫قايس بني ما م َن اهلل وما منك‪ ،‬فحينئذ ُ‬
‫[ومن أركان املحاسبة]‪ :‬أن ُت َ‬
‫التفاوت‪ ،‬وتعلم أنه ليس إال عفوه ورمحته‪ ،‬أو اهلالك والع َط ُ‬
‫ب‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫لك‬

‫عبد‪ ،‬وتتبني لك حقيق ُة الن ْفس‬‫والعبد ٌ‬


‫َ‬ ‫رب‬
‫أن الرب ٌّ‬ ‫ويف هذه ا ُملقا َيسة تعلم َّ‬
‫وتفرد الرب بالكامل واإلفضال‪ ،‬وأن كل‬ ‫وصفاتهُ ا‪ ،‬و َع َظم ُة جالل الربوبية‪ُّ ،‬‬
‫جاهل بحقيقة‬ ‫ٌ‬ ‫نعمة منه فضل‪ ،‬وكل نقمة منه عدل‪ ،‬وأنت قبل هذه ا ُملقاي ِ‬
‫سة‬ ‫َ‬
‫كل رش‪،‬‬‫ظهر لك أهنا منبع ِّ‬ ‫ت‬‫َ‬ ‫س‬ ‫ي‬ ‫قا‬ ‫فإذا‬ ‫ها‪،‬‬‫ق‬‫ن ْفسك‪ ،‬وبربوبية فاطرها وخالِ ِ‬
‫َ‬ ‫َْ‬

‫‪34‬‬
‫المحاســـبة‬

‫فضل اهلل ورمحته‬‫حدها‪ :‬اجلاهل ُة الظاملة‪ ،‬وأ َّنه لوال ُ‬ ‫وأساس كل ن ْقص‪َّ ،‬‬
‫وأن َّ‬
‫أبدا‪ ،‬ولوال ُهداه ما اهتدت‪ ،‬ولوال إرشاده وتوفي ُقه ملا‬ ‫زكت ً‬
‫بتزكيته هلا ما ْ‬
‫ٌ‬
‫وصول إىل خري الب َّتة‪.‬‬ ‫كان هلا‬

‫ألن حسن الظن بالنفس‬ ‫[وتتوقف املحاسبة عىل]‪ :‬سوء الظ ِّن بالنفس َّ‬
‫والعيوب اً‬
‫كامل؛‬ ‫َ‬ ‫يمنع من كامل التفتيش و ُي َل ِّبس عليه‪ ،‬فريى ا َملساوئ حماس َن‪،‬‬
‫سن ظنِّه بنفسه‪ ،‬وج ِ‬
‫هله بحقوق العبود َّية‪،‬‬ ‫[و] ِرضا العبد بطاعته ٌ‬
‫دليل عىل ُح ِ‬
‫َ‬
‫لمه بام َيستح ُّقه الرب ويليق أن يعا َمل به‪.‬‬ ‫وعد ِم ِع ِ‬

‫ِ‬
‫وعيوب عمله‪ ،‬وجه َله‬ ‫أن جه َله بنفسه وصفاهتا وآفاهتا‪،‬‬‫وحاصل ذلك‪َّ :‬‬
‫ُ‬
‫وإحسان‬ ‫بربه وحقوقه وما ينبغي أن يعا َمل به‪ ،‬يتو َّلد منهام رضاه بطاعته‪،‬‬
‫والكبرْ واآلفات ما هو أكرب من الكبائر‬ ‫ظنِّه هبا‪ ،‬ويتو َّلد من ذلك من العجب ِ‬
‫ُ ْ‬
‫الظاهرة؛ من الزنا‪ ،‬ورشب اخلمر‪ ،‬والفرار من الزحف‪ ،‬ونحوها؛ فالرضا‬
‫بالطاعة من ُرعونات النفس ومحاقتِها‪.‬‬

‫استغفارا َع ِقيب الطاعات؛‬‫ً‬ ‫أشد ما َيكونون‬


‫وأرباب العزائم والبصائر ُّ‬
‫تقصريهم فيها‪ ،‬و َت ْرك القيام هلل هبا كام َيليق بجالله وكربيائه‪ ،‬وأنه‬
‫َ‬ ‫لشهودهم‬
‫أحدهم عىل مثل هذه العبودية‪ ،‬وال َر ِض َيها لس ِّيده‪.‬‬ ‫لوال األمر لمََا أقد َم ُ‬
‫اج بيته بأن يستغفروه َع ِقيب إفاضتهم من‬
‫وحج َ‬
‫َّ‬ ‫وقد أ َم َر اهلل تعاىل َو ْف َده‬
‫أج ُّل املواقف وأفض ُلها‪ ،‬فقال‪﴿ :‬ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ‬ ‫عرفات‪ ،‬وهو َ‬
‫ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ‬

‫‪35‬‬
‫ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ‬
‫ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ﴾ [البقرة‪ ،]199 - 198 :‬وقال تعاىل‪ ﴿ :‬ﭡ‬
‫الس َحر‪ ،‬ثم‬
‫‪َ « :‬م ُّدوا الصالة إىل َّ‬ ‫ﭢ﴾ [آل عمران‪ ،]17 :‬قال احلسن‬
‫جلسوا يستغفرون اهلل »‪.‬‬

‫بعني‬ ‫ِ‬
‫بالعبودية نظر أفعا َله ِ‬ ‫يزيد حيث يقول‪َ « :‬من حت َّق َق‬
‫در الشيخ أيب َ‬ ‫وهلل ُّ‬
‫الدعوى‪ ،‬وأقوا َله بعني االفرتاء»‪.‬‬ ‫الر ِ‬
‫ياء‪ ،‬وأحوا َله بعني َّ‬ ‫ِّ‬
‫املطلوب يف قلبِك ص ُغ َر ْت عندك وتضاءلت القيم ُة التي َتبذهلا‬
‫ُ‬ ‫وك َّلام َع ُظم‬
‫وعر ْف َت اهلل‪،‬‬
‫شه ْد َت حقيقة الربوبية وحقيقة العبودية‪َ ،‬‬ ‫يف حتصيله‪ ،‬وك َّلام ِ‬
‫وعر ْف َت النفس‪ ،‬تبينَّ لك أن ما معك من البضاعة ال يصلح للملك احلق‪،‬‬ ‫َ‬
‫وتفضله‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫خشيت عاقبته‪ ،‬وإنام َيقبله بكرمه وجوده‬
‫َ‬ ‫ولو جئت بعمل ال َّثق َل ِ‬
‫ني‬
‫وتفضله‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫أيضا بكرمه وجوده‬
‫و ُيثي ُبك عليه ً‬
‫وأشد من‬
‫ُّ‬ ‫أعظم إ ْث اًم من ذنبه‬
‫ُ‬ ‫يريك ألخيك بذنبه‬ ‫[واعلم] َّ‬
‫أن َت ْع َ‬
‫معصيته؛ لمِا فيه من َص ْو َلة الطاعة‪ ،‬وتزكية النفس‪ ،‬وشكرها‪ ،‬واملناداة‬
‫عليها بالرباءة من الذنب‪َّ ،‬‬
‫وأن أخاك هو الذي با َء به‪ ،‬ولعل َكسرْ َ ته بذنبه‪،‬‬
‫الذ َّلة واخلضوع‪ ،‬واإلزراء عىل نفسه‪ ،‬والتخ ُّلص‬ ‫أحدث له من ِّ‬ ‫َ‬ ‫وما‬
‫ناكس‬ ‫والكبرْ وال ُع ْجب‪ ،‬ووقوفه بني يدي اهلل‬ ‫ِ‬ ‫من مرض الدعوى‪،‬‬
‫َ‬
‫وخري له من َص ْو َلة‬ ‫له‪،‬‬ ‫أنفع‬ ‫القلب‬ ‫الرأس‪ ،‬خاشع الطرف‪ ،‬منكسرِ‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫طاعتك‪ ،‬وتك ُّث ِرك هبا‪ ،‬واالعتداد هبا‪ ،‬واملِنَّة عىل اهلل تعاىل َ‬
‫وخ ْل ِقه هبا‪،‬‬

‫‪36‬‬
‫المحاســـبة‬

‫ت اهلل!‬ ‫فام أقرب هذا العايص من رمحة اهلل! وما أقرب هذا ا ُمل ِد َّل من م ْق ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫نائم‬ ‫تبيت‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫أن‬ ‫وإنك‬ ‫عليه‪،‬‬ ‫هبا‬ ‫ل‬‫ُّ‬ ‫د‬‫فذنب َت ِذ ُّل به لديه‪ ،‬أحب إليه من طاعة ُت ِ‬
‫اً‬ ‫ُّ‬ ‫ٌ‬
‫املعجب ال يصعد‬ ‫عج ًبا‪ ،‬فإن َ‬ ‫قائم وتصبح ُم َ‬ ‫خري من أن تبيت اً‬ ‫وتصبح ناد ًما‪ٌ ،‬‬
‫َ‬
‫أن تبكي وأنت ُم ِد ٌّل‪،‬‬ ‫خري من ْ‬ ‫ٌ‬ ‫ف‪،‬‬ ‫له عمل‪ ،‬وإنك أن َتضحك وأنت ِ‬
‫معرت‬
‫ني‪ ،‬ولعل اهلل أسقاه هبذا‬ ‫أحب إليه من َز َجل ا ُمل َس ِّبحني ا ُمل ِد ِّل َ‬
‫ُّ‬ ‫وأنني املذنبني‬
‫ُ‬
‫قاتل هو فيك وال تشعر‪.‬‬ ‫الذنب دوا ًء استخرج به داء اً‬

‫‪37‬‬
‫منزلـــــة التــــــوبة‬
‫ِ‬
‫املنزلة‪َ ،‬‬
‫أرشف منها عىل مقام التوبة‪،‬‬ ‫ونز َل يف هذه‬
‫صح له هذا املقام‪َ ،‬‬‫فإذا َّ‬
‫ألنه باملحاسبة قد متيز عنده ما له مما عليه‪ ،‬فلي ِ‬
‫جم ْع عىل التشمري إليه‪ ،‬والنزول‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫فيه إىل املامت‪.‬‬
‫ُ‬
‫السالك‪،‬‬ ‫وآخرها‪ ،‬فال ُيفارقه ُ‬
‫العبد‬ ‫أو ُل املنازل‪ ،‬وأوسطها‪،‬‬ ‫ِ‬
‫التوبة َّ‬ ‫ُ‬
‫ومنزل‬
‫ُ‬
‫صحبه‬‫آخ َر ارحتل به‪ ،‬واس َت َ‬ ‫ٍ‬
‫منزل َ‬ ‫وال يزال فيه إىل املامت‪ِ ،‬‬
‫وإن ارتحَ َ ل إىل‬
‫معه‪ ،‬ونزل به‪.‬‬
‫فالتوبة هي بداية العبد وهناي ُته‪ ،‬وحاجته إليها يف النهاية رضورية‪ ،‬كام أنَّ‬
‫حاج َته إليها يف البداية كذلك‪ ،‬وقد قال اهلل تعاىل‪ ﴿ :‬ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ‬
‫خاطب‬ ‫مدنية‪َ ،‬‬
‫ﰀ ﰁ ﰂ﴾ [النور‪ ،]31 :‬وهذه اآلية يف سورة َّ‬
‫وخيار َخ ْلقه أن يتوبوا إليه‪ ،‬بعد إيامهنم وصربهم‪،‬‬ ‫َ‬ ‫أهل اإليامن‬ ‫اهلل هبا َ‬
‫املسبب بسببِه‪ ،‬وأتى‬
‫تعليق َّ‬
‫َ‬ ‫الفالح بالتوبة‬
‫َ‬ ‫وهجرهتم وجهادهم‪ ،‬ثم ع َّلق‬
‫بالرتجي؛ إيذانًا بأنكم إذا تُبتم كنتم عىل رجاء الفالح‪،‬‬‫ِّ‬ ‫شعرة‬‫(لعل) ا ُمل ِ‬
‫بأداة َّ‬
‫الفالح إال التائبون‪ ،‬جعلنا اهلل منهم‪.‬‬
‫َ‬ ‫فال يرجو‬
‫وقال تعاىل‪﴿ :‬ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ﴾ [احلجرات‪ ،]11 :‬ف َق َسم‬
‫اسم الظاملِ عىل َمن‬ ‫ع‬ ‫ق‬‫َ‬ ‫وأو‬ ‫‪،‬‬‫ة‬‫َ‬ ‫ت‬
‫َّ‬ ‫الب‬ ‫ثالث‬ ‫م‬ ‫س‬ ‫العباد إىل تائب وظامل‪ ،‬وما َثم ِ‬
‫ق‬
‫َ‬ ‫َّ ْ ٌ‬
‫مل َي ُتب‪ ،‬وال أظ َل َم منه؛ جلهله بِ َر ِّبه وبحقه‪ ،‬وبعيب َن ْفسه وآفات أعامله‪.‬‬
‫اس‪ ،‬تُو ُبوا إىل اهللِ‪ ،‬فواهللِ إنيِّ لأَ ت ُ‬
‫ُوب‬ ‫ويف الصحيح عنه ﷺ أنه قال‪« :‬يا هُّأيا ال َّن ُ‬

‫‪38‬‬
‫التـــــوبة‬

‫اليو ِم أك َث َر ِمن َسبعنيَ َم َّرةً»(((‪.‬‬ ‫ِ‬


‫إ َليه يف َ‬
‫جوع العبد إىل اهلل‪ ،‬ومفارقته لرصاط املغضوب‬ ‫التوبة هي ُر ُ‬‫ُ‬ ‫وملَّا كانت‬
‫ني‪ ،‬وذلك ال يحَ ُصل إال هبداية اهلل تعاىل له إىل الرصاط‬ ‫عليهم والضا ِّل َ‬
‫املستقيم‪ ،‬وال تحَ ُصل هدايته إال بإعانته وتوحيده‪ ،‬انتظمتها سور ُة الفاحتة‬
‫أحسن انتظام‪ ،‬وتضمنتها أبلغَ تضمن‪ ،‬فمن أعطى الفاحت َة حقَّها ِ‬
‫‪-‬ع اًلم‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫َص ُّح له قراءهتا عىل العبودية إال بالتوبة‬ ‫وحال ومعرف ًة‪َ -‬ع ِلم أنه ال ت ِ‬ ‫اً‬ ‫وشهو ًدا‬
‫التامة إىل الرصاط املستقيم ال تكون مع اجلهل بالذنوب‪،‬‬ ‫ال َّن ُصوح‪ ،‬فإن اهلداية َّ‬
‫وال مع اإلرصار عليها؛ فإن األول َج ْهل ُينايف معرف َة اهلدى‪ ،‬والثاين َغ ٌّي ينايف‬
‫التوبة إال بعد معرفة الذنب‪ ،‬واالعرتاف‬ ‫ُ‬ ‫َص ُّح‬‫قصده وإرادتَه؛ فلذلك ال ت ِ‬ ‫َ‬
‫الذنب بعد‬‫َ‬ ‫لب التخ ُّلص من سوء عواقبه‪ ،‬وأنَّك إنام ارتكبت‬ ‫وط ِ‬ ‫به‪َ ،‬‬
‫خطره‬‫ُ‬ ‫انخالعك من ثوب عصمته لك‪ ،‬فمتى َع َرف هذا االنخالع َع ُظم‬
‫ك ُب ْع ُده‪ ،‬وهو حقيقة‬ ‫وع ِل َم أنَّ ا ُهل ْل َك َّ‬
‫كل ا ُهل ْل ِ‬ ‫واشتدت عليه ُمفارق ُته‪َ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫عنده‪،‬‬
‫اخلذالن‪ ،‬فام خلىَّ اهلل بينك وبني الذنب إال بعد أن َخ َذ َلك‪ ،‬وخلىَّ بينك وبني‬ ‫ِ‬
‫الذنب إليك اً‬
‫سبيل‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫نفسك‪ ،‬ولو عصمك وو َّفقك لمَ ا َو َجد‬
‫اخلذالن‪ :‬أنْ يخُليِّ اهلل بينك وبني‬ ‫فقد أمجع العارفون باهلل تعاىل عىل أن ِ‬
‫هلل إىل نفسك‪ ،‬وله سبحانه يف هذه التخلية‬ ‫نفسك‪ ،‬والتوفيق‪ :‬أنْ ال َي ِك َل َك ا ُ‬
‫وأرسار‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫وخذالنك حني وا َق ْع َته‪ِ -‬ح َك ٌم‬ ‫‪-‬بينك وبني الذنب ِ‬

‫فرحه‪ ،‬بل ال ُيباشرِ ها‬


‫كمل هبا ُ‬
‫أبدا‪ ،‬وال َي ُ‬ ‫تتم له َّ‬
‫لذتُه بمعصيته ً‬ ‫واملؤمن ال ُّ‬
‫((( أخرجه البخاري (‪ )6307‬ومسلم (‪.)2702‬‬

‫‪39‬‬
‫الشهوة يحَ ُجبه عن الشعور به‪ ،‬ومتى‬ ‫ِ‬ ‫ولكن ُس ْك َر‬ ‫َّ‬ ‫ٌ‬
‫خمالط لقلبه‪،‬‬ ‫إال واحلزن‬
‫واشتدت ِغبط ُته ورسوره فلي َّت ِهم إيامنه‪ ،‬و ْليب ِ‬
‫ك عىل‬ ‫َْ‬ ‫ُ َ ْ‬ ‫َّ‬ ‫َخلاَ ُ‬
‫قلبه من هذا احلزن‪،‬‬
‫وص ُعب عليه‪،‬‬ ‫َ‬
‫وغاظه َ‬ ‫حيا ألحزنه ارتكا ُبه للذنب‪،‬‬ ‫موت قلبه‪ ،‬فإنه لو كان ًّ‬
‫جلر ٍح بمي ٍ‬
‫إيالم‪.‬‬
‫ت ٌ‬ ‫س به فام ُ ْ َ ِّ‬ ‫القلب بذلك‪ ،‬فحيث مل يحُ ِ َّ‬ ‫ُ‬ ‫س‬ ‫وألح َّ‬
‫َ‬
‫قل َمن هيتدي إليها‪ ،‬أو ينتبه هلا‪ ،‬وهي موضع‬ ‫وهذه ال ُّنكتة يف الذ ْنب َّ‬
‫تدارك بثالثة أشياء‪ :‬خوف من املوافاة‬
‫جدا‪ُ ،‬مرتا ٍم إىل اهلالك إن مل ُي َ‬
‫وف ًّ‬‫مخَ ُ ٌ‬
‫عليه قبل التوبة‪ ،‬وندم عىل ما فاته من اهلل تعاىل بمخالفة أمره‪ ،‬وتشمري ِ‬
‫للج ِّد‬
‫يف استدراكه‪.‬‬
‫الندم عىل ما َس َلف منه يف املايض‪ ،‬واإلقالع عنه يف احلال‪،‬‬
‫فحقيق ُة التوبة‪ُ :‬‬
‫والعزم عىل أن ال ُيعاو َده يف املستقبل‪.‬‬
‫تقع فيه التوبة‪ ،‬فإنه يف ذلك الوقت يندم‪،‬‬
‫والثالثة جتتمع يف الوقت الذي ُ‬
‫وي ِ‬
‫قلع‪ ،‬و َيع ِزم‪.‬‬ ‫ُ‬
‫فحينئذ يرجع إىل العبودية التي ُخ ِلق هلا‪ ،‬وهذا الرجوع هو حقيقة التوبة‪،‬‬
‫ٍ‬
‫َ‬
‫رشائط له‪.‬‬ ‫علت‬ ‫وملا كان متو ِّق ًفا عىل تلك الثالثة ُج ِ‬
‫ُ‬
‫فالتوبة املقبولة الصحيحة هلا عالمات‪ ،‬منها‪ :‬أن يكون بعد التوبة ً‬
‫خريا مما‬
‫كان قبل اخلطيئة‪.‬‬
‫مستمر‬
‫ٌّ‬ ‫مصاحبا له‪ ،‬ال يأمن طرف َة َعينْ ٍ ‪ ،‬فخوفه‬
‫ً‬ ‫ومنها‪ :‬أنه ال يزال اخلوف‬
‫قول الرسل ل َق ْبض ُروحه‪ ﴿ :‬ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ‬ ‫إىل أن يسمع َ‬

‫‪40‬‬
‫التـــــوبة‬

‫ﭡ ﭢ ﭣ﴾ [فصلت‪ ،]30 :‬فهناك يزول اخلوف‪.‬‬


‫وتقطعه ند ًما وخو ًفا‪ ،‬وهذا عىل قدر ِع َظم اجلناية‬
‫ُّ‬ ‫ومنها‪ :‬انخالع قلبه‪،‬‬
‫وصغَ رها‪ ،‬وهذا تأويل ابن ُع َي ْينة لقوله تعاىل‪﴿ :‬ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ‬ ‫ِ‬
‫ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ﴾ [التوبة‪ ،]110 :‬قال‪« :‬ت ُّ‬
‫َقط ُعها بالتوبة»‪.‬‬
‫انصداع القلب‬
‫َ‬ ‫وجب‬ ‫وال ريب أن اخلوف الشديد من العقوبة العظيمة ُي ِ‬
‫قلبه حرس ًة عىل‬ ‫َقط ُعه‪ ،‬وهذا حقيقة التوبة؛ ألنه يتقطع ُ‬ ‫وانخالعه‪ ،‬وهذا هو ت ُّ‬
‫َ‬
‫قلبه يف الدنيا عىل ما َف َّرط‬ ‫ما َف َرط منه‪ ،‬وخو ًفا من سوء عاقبته‪ ،‬فمن مل َي َّ‬
‫تقطع ُ‬
‫ثواب املطيعني‪،‬‬‫َ‬ ‫احلقائق‪ ،‬وعا َين‬
‫ُ‬ ‫َقطع يف اآلخرة إذا َحق ِ‬
‫َّت‬ ‫حرس ًة وخو ًفا؛ ت َّ‬
‫تقطع القلب إما يف الدنيا وإما يف اآلخرة‪.‬‬ ‫وعقاب العاصني‪ ،‬فال بد من ُّ‬ ‫َ‬
‫خاصة حتصل للقلب‬ ‫َّ‬ ‫أيضا‪َ :‬كسرْ ٌة‬ ‫وجبات التوبة الصحيحة ً‬ ‫ومن ُم ِ‬
‫ال ُيشبِهها يشء‪ ،‬وال تكون لغري ا ُمل ْذنِب‪ ،‬ال حتصل بجوع‪ ،‬وال رياضة‪،‬‬
‫القلب بني يدي الرب‬ ‫َ‬ ‫حب مجُ َّرد‪ ،‬وإنام هي أمر وراء هذا ك ِّله‪ ،‬تَكسرِ‬‫وال ٍّ‬
‫تامة‪ ،‬قد أحاطت به من مجيع ِجهاته‪ ،‬وألقته بني يدي ربه طرحيًا اً‬
‫ذليل‬ ‫كرس ًة َّ‬
‫ان آبِ ٍق ِمن سيده‪ُ ،‬فأ ِخذ ُفأحضرِ بني يديه‪ ،‬ومل جيد‬ ‫خاشعا‪ ،‬كحال ٍ‬
‫عبد َج ٍ‬ ‫ً‬
‫وع ِلم‬ ‫َمن ينجيه من سطوته‪ ،‬ومل جيد منه ُب ًّدا وال عنه ِغ ًنى‪ ،‬وال منه مهر ًبا‪َ ،‬‬
‫علم إحاطة سيده‬ ‫أن حياته وسعادته‪ ،‬وفالحه ونجاتَه يف رضاه عنه‪ ،‬وقد ِ‬
‫بتفاصيل جناياته‪ ،‬هذا مع ُح ِّبه لسيده‪ ،‬وشدة حاجته إليه‪ ،‬وعلمه بضعفه‬
‫وعز سيده‪ ،‬فيجتمع من هذه األحوال َكسرْ ٌة‬ ‫وذ ِّله ِّ‬
‫وعجزه‪ ،‬وقوة سيده‪ُ ،‬‬
‫عائدها عليه! وما أعظم َجبرْ َ ه‬ ‫أجزل َ‬‫َ‬ ‫وذ َّل ٌة وخضوع‪ ،‬ما َ‬
‫أنفعها للعبد وما‬ ‫ِ‬

‫‪41‬‬
‫الكسرْ ة‪،‬‬‫أحب إىل سيده من هذه َ‬ ‫يشء َّ‬ ‫سيده! فليس ٌ‬ ‫هبا‪ ،‬وما أقر َبه هبا من ِّ‬
‫واخلضوع والتذ ُّلل‪ ،‬واإلخبات‪ ،‬واالنطراح بني يديه‪ ،‬واالستسالم له‪ ،‬فلله‬
‫لك إلاَّ َرحمِ ْ َتني‪ ،‬أسأ ُل َك‬
‫وذليِّ َ‬‫بع ِّز َك ُ‬ ‫ما أحىل قو َله يف هذه احلال‪« :‬أسأ ُل َك ِ‬
‫ِ‬
‫اخلاط ُئة‬ ‫ِ‬
‫الكاذ ُبة‬ ‫هذه ِ‬
‫ناص َيتي‬ ‫يك‪ِ ،‬‬ ‫ناك َع ِّني و َفقْري إ َل َ‬ ‫وض ْعفي‪ ،‬وبِ ِغ َ‬ ‫ُبق َّوتِ َك َ‬
‫واك‪ ،‬ال َم ْلجأ وال َم ْن َجى‬ ‫ثري‪ ،‬وليس يل َس ِّي ٌد ِس َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫واي‬
‫َ‬ ‫بيد َك ِ‬
‫س‬ ‫بينْ َ َي َد ْي َك‪َ ،‬ع ُ‬
‫ليل‪،‬‬ ‫اض ِع َّ‬
‫الذ ِ‬ ‫خل ِ‬ ‫يك ابتِ َ‬
‫هال ا َ‬ ‫ني‪ ،‬وأبت ِه ُل إ َل َ‬ ‫يك‪ ،‬أسأ ُل َك َمسأل َة املِسك ِ‬ ‫نك إلاَّ إ َل َ‬‫ِم َ‬
‫ور ِغ َم َ‬ ‫سؤال َمن َخ َض َع ْت َ‬ ‫َ‬ ‫ف الضرَّ ي ِر‪،‬‬ ‫وك ُدعا َء اخلائِ ِ‬
‫وأدع َ‬
‫لك‬ ‫لك َر َقب ُته‪َ ،‬‬ ‫ُ‬
‫لك َق ْل ُبه»‪.‬‬ ‫وفاض ْت َ‬
‫لك َع ْينا ُه‪ ،‬و َذ َّل َ‬ ‫َ‬ ‫أ ْن ُفه‪،‬‬

‫ـــوذ بِ ِه فيـام ُأؤَ ِّم ُل ُ‬


‫ـــه‬ ‫ـن أ ُل ُ‬
‫يا َم ْ‬
‫ِ‬
‫حــــاذ ُر ُه‬ ‫ــوذ ِ‬
‫به ممَِّا ُأ‬ ‫ــن ُأع ُ‬ ‫و َم ْ‬
‫أنت كاسرِ ُ ُه‬‫اس َع ْظ اًم َ‬
‫ال يجَ ْ برُ ُ ال َّن ُ‬
‫أنت جابِ ُر ُه‬
‫ـون َع ْظ اًم َ‬
‫يض َ‬ ‫وال هَيِ ُ‬

‫فمن مل جيد ذلك يف قلبه فلي َّت ِهم توب َته‪،‬‬


‫فهذا وأمثاله من آثار التوبة املقبولة‪َ ،‬‬
‫أصعب التوب َة الصحيح َة باحلقيقة‪ ،‬وما أسه َلها‬‫َ‬ ‫ولريجع إىل تصحيحها‪ ،‬فام‬
‫أشق عليه من التوبة الصادقة‬ ‫ُ‬
‫الصادق شي ًئا َّ‬ ‫باللسان والدعوى! وما عا َل َج‬
‫اخلالصة‪ ،‬فال حول وال قوة إال باهلل‪.‬‬
‫كبائر ِم ْث ِلها‬
‫َ‬ ‫احل ِّس َّي ِة والقاذورات‪ ،‬يف‬
‫وأكثر الناس املتربئني عن الكبائر ِ‬
‫ِّ‬
‫أعظم منها أو دوهنا‪ ،‬وال يخَ ُطر بقلوهبم أهنا ذنوب ليتوبوا منها‪ ،‬فعندهم‬ ‫َ‬ ‫أو‬

‫‪42‬‬
‫التـــــوبة‬

‫من اإلزراء عىل أهل الكبائر واحتقارهم‪ ،‬وصولة طاعاهتم عليهم‪ِ ،‬‬
‫وم َّنتهم‬
‫خل ْلق هلم عىل طاعاهتم‪،‬‬ ‫واطنهم لتعظيم ا َ‬ ‫خل ْلق بلسان احلال‪ ،‬واقتضاء َب ِ‬ ‫عىل ا َ‬
‫أبغض إىل اهلل تعاىل‪،‬‬
‫ُ‬ ‫اقتضاء ال خيفى عىل أحد غريهم‪ ،‬وتوابع ذلك ما هو‬
‫أحدهم بقاذورة أو كبرية‬ ‫هلل َ‬ ‫َدارك ا ُ‬
‫عد هلم عن بابه من كبائ ِر أولئك‪ ،‬فإنْ ت َ‬ ‫وأب ُ‬
‫ْ‬
‫قدره‪ ،‬و ُي ِذ َّله هبا‪ ،‬ويخُ ِرج هبا صول َة‬
‫وقعه فيها ليكسرِ هبا ن ْف َسه‪ ،‬و ُي َع ِّر َفه هبا ْ‬‫ي ِ‬
‫ُ‬
‫أصحاب الكبائر بتوبة‬
‫َ‬ ‫َدارك‬ ‫الطاعة من قلبه‪ ،‬فهي رمحة يف حقه‪ ،‬كام أنه إذا ت َ‬
‫نصوح‪ ،‬وإقبال بقلوهبم إليه؛ فهو رمحة يف ح ِّقهم‪ ،‬وإال فكالمها عىل خطر‪.‬‬

‫تأمالت صاحب البصيرة إذا أذنب ‪:‬‬

‫صدرت منه اخلطيئ ُة فله ٌ‬


‫نظر إىل مخسة أمور‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫اعلم أن صاحب البصرية إذا‬
‫وخشي ًة حيمله‬ ‫أحدها‪ :‬أن ينظر إىل الوعد والوعيد‪ ،‬في ِ‬
‫حدث له ذلك خو ًفا َ‬ ‫ُ‬
‫عىل التوبة‪.‬‬
‫االعرتاف‬
‫َ‬ ‫[الثاين]‪ :‬أن ينظر إىل أمر اهلل تعاىل له ونيِه‪ ،‬في ِ‬
‫حدث له ذلك‬ ‫ُ‬ ‫هَ ْ‬
‫واإلقرار عىل نفسه بالذنب‪.‬‬
‫َ‬ ‫بكوهنا خطيئ ًة‪،‬‬
‫ِ‬
‫وتقديرها‬ ‫[الثالث]‪ :‬أن ينظر إىل متكني اهلل تعاىل له منها‪ ،‬وتخَ لِيتِه بينه وبينها‪،‬‬
‫حدث له ذلك أنوا ًعا‬ ‫وحال بينها وبينه‪ ،‬في ِ‬ ‫َ‬ ‫عليه‪ ،‬وأنه لو شاء ل َع َص َمه منها‪،‬‬
‫ُ‬
‫من املعرفة باهلل وأسامئه وصفاته‪ ،‬وحكمته‪ ،‬ورمحته‪ ،‬ومغفرته وعفوه‪،‬‬
‫وجب له هذه املعرف ُة عبودي ًة هبذه األسامء‪ ،‬وال حتصل‬ ‫وح ْل ِمه وكرمه‪ ،‬و ُت ِ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫والوعيد‪،‬‬ ‫ِ‬
‫بالوعد‬ ‫ِ‬
‫واجلزاء‬ ‫َ‬
‫ارتباط اخللق واألمر‬ ‫بدون لوازمها الب َّت َة‪ ،‬ويعلم‬

‫‪43‬‬
‫بأسامئه وصفاته وأن ذلك موجب األسامء والصفات‪ ،‬وأثرها يف الوجود‪،‬‬
‫بد منه‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫وصفة ُم ْق َت ٍ‬
‫ض ألثره وموجبه‪ ،‬متع ِّل ٌق به‪ ،‬ال َّ‬ ‫َّ‬
‫وأن كل اسم‬
‫ِ‬
‫وأرسار ال َق َدر‬ ‫طلعه عىل رياض ُمؤنِقة من املعارف واإليامن‪،‬‬ ‫وهذا املشهد ي ِ‬
‫ُ‬
‫يضيق عن التعبري عنها نِ ُ‬
‫طاق الك َِل ِم‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫واحلكمة‬
‫فمن بعضها‪ :‬أنه سبحانه العزيز الذي يقيض ما يشاء‪ ،‬وأ َّنه لكامل ِع ِّزه‬
‫ف إراد َته عىل ما يشاء‪،‬‬ ‫ورص َ‬
‫َّ‬ ‫َحك ََم عىل العبد وقىض عليه بأن ق َّلب قلبه‬
‫مريدا شائ ًيا لمِا شاء منه العزيز احلكيم‪ ،‬وهذا‬
‫وحال بني العبد وقلبه‪ ،‬وجعله ً‬
‫يترصف‬ ‫من كامل العزة؛ إذ ال يقدر عىل ذلك إال اهلل تعاىل‪ ،‬وغاية املخلوق أن َّ‬
‫مريدا شائ ًيا لمِا يشاؤه منك ويريده فال يقدر‬
‫يف بدنك وظاهرك‪ ،‬وأما َج ْع ُلك ً‬
‫عليه إال ذو العزة الباهرة‪.‬‬
‫عز سيده‪ ،‬والحظه بقلبه‪ ،‬ومتكَّن شهو ُده منه؛ كان‬ ‫العبد َّ‬
‫ُ‬ ‫عرف‬‫فإذا َ‬
‫وأنفع له؛ ألنه يصري مع اهلل تعاىل ال‬
‫َ‬ ‫االشتغال به عن ُذ ِّل املعصية أوىل به‬
‫مع نفسه‪.‬‬
‫ومن معرفة عزته يف قضائه‪ :‬أن يعرف أنه ُمد َّبر مقهور‪ ،‬ناصيته بيد غريه‪،‬‬
‫حقري‪ ،‬يف‬
‫ٌ‬ ‫ال عصمة له إال بعصمته‪ ،‬وال توفيق له إال بمعونته‪ ،‬فهو ٌ‬
‫ذليل‬
‫قبضة عزيز محيد‪.‬‬
‫أيضا يف قضائه‪ :‬أن يشهد أن الكامل واحلمد‪ ،‬والغنا َء‬ ‫ومن شهود عزته ً‬
‫ِ‬
‫والعيب والظلم‬ ‫ال َّتا َّم‪ ،‬والعزة ك َّلها هلل‪ ،‬وأن العبد ن ْف َسه أوىل بالنقص والذم‪،‬‬

‫‪44‬‬
‫التـــــوبة‬

‫لذ ِّله ونقصه وعيبه وفقره‪ ،‬ازداد شهو ُده لعزة‬ ‫واحلاجة‪ ،‬وكلام ازداد شهو ُده ُ‬
‫اهلل تعاىل وكامله‪ ،‬وحمَ ْ ِده وغناه‪ ،‬وكذلك بالعكس‪ ،‬فنقص الذنب ِ‬
‫وذ َّل ُته ُت ْط ِل ُعه‬
‫عىل مشهد العزة‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن يعرف بِ َّره سبحانه يف َسترْ ه عليه حال ارتكاب املعصية مع‬
‫فح ِذروه‪ ،‬وهذا من كامل ِّبره‪،‬‬ ‫كامل رؤيته له‪ ،‬ولو شاء ل َف َضحه بني َخ ْلقه َ‬
‫ومن أسامئه‪( :‬البرَُّ )‪ ،‬وهذا البرُِّ من س ِّيده به مع كامل ِغنَاه عنه‪ ،‬وكامل فقر‬
‫العبد إليه‪ ،‬فيشتغل بمطالعة هذه املِنَّة‪ ،‬ومشاهدة هذا البرِِّ واإلحسان والكرم‪،‬‬
‫فيذهل عن ُذ ِّل اخلطيئة‪ ،‬فيبقى مع اهلل‪ ،‬وذلك أنفع له من االشتغال بجنايته‪،‬‬
‫وشهود ُذ ِّل معصيته؛ فإن االشتغال باهلل والغفل َة عام سواه هو املطلب األعىل‪،‬‬
‫واملقصد األسنى‪.‬‬
‫ُ‬
‫ومنها‪ :‬شهوده ِح ْل َم اهلل يف إمهال راكب اخلطيئة‪ ،‬ولو شاء لعاجله‬
‫بالعقوبة؛ ولكنه احلليم الذي ال َيعجل‪ ،‬ف ُي ْح ِدث له ذلك معرف َته سبحانه‬
‫باسمه (احلليم)‪ ،‬ومشاهد َة صفة ِ‬
‫(احل ْلم)‪ ،‬والتع ُّب َد هبذا االسم‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬معرفة العبد كر َم ربه يف َقبول العذر منه إذا اعتذر إليه‪ ،‬فيقبل عذره‬
‫اً‬
‫اشتغال بذكره وشكره‪ ،‬وحم َّب ًة أخرى مل تكن‬ ‫وجب له ذلك‬ ‫بكرمه َوجوده‪ ،‬ف ُي ِ‬
‫فإن حمبتك ملن شكرك عىل إحسانك وجازاك به‪ ،‬ثم‬ ‫حاصل ًة له قبل ذلك‪َّ ،‬‬
‫وحده‪،‬‬
‫أضعاف حمبتك عىل شكر اإلحسان َ‬ ‫ُ‬ ‫يؤاخ ْذك هبا‬‫غفر لك إساءتك ومل ِ‬
‫بعد الذنب لون آخر‪.‬‬
‫والواقع شاهد بذلك‪ ،‬فعبودية التوبة َ‬
‫ومنها‪ :‬أن يشهد فضله يف مغفرته‪ ،‬فإن املغفرة ٌ‬
‫فضل من اهلل تعاىل‪ ،‬وإال‬

‫‪45‬‬
‫عادل حممو ًدا‪ ،‬وإنام غفره‬‫اخذ بمحض ح ِّقه‪ ،‬وكان اً‬ ‫واخ َذ َنا بالذنب َل َو َ‬
‫فلو َ‬
‫شكرا له وحمبة‪ ،‬وإناب ًة إليه‪،‬‬ ‫بفضله ال باستحقاقك‪ ،‬ف ُي ِ‬
‫أيضا ً‬ ‫وجب لك ذلك ً‬
‫وابتهاجا به‪ ،‬ومعرف ًة له باسمه (الغ َّفار)‪ ،‬ومشاهد ًة هلذه الصفة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وفرحا‬
‫ً‬
‫وتع ُّب ًدا بمقتضاها‪ ،‬وذلك أكمل يف العبودية واملعرفة واملحبة‪.‬‬
‫الذ ِّل واخلضوع واالنكسار بني يديه‪،‬‬ ‫مراتب ُّ‬
‫َ‬ ‫ومنها‪ :‬أن ُيك َِّم َل لعبده‬
‫در ْت لقالت كقول‬ ‫واالفتقار إليه‪ ،‬فإن النفس فيها مضاها ٌة للربوبية‪ ،‬ولو َق َ‬
‫وغريه عجز فأضمر‪ ،‬وإنام يخُ َ ِّل ُصها من هذه‬ ‫ُ‬ ‫فرعون‪ ،‬ولكنه َق َد َر فأظهر‪،‬‬
‫َ‬
‫ذل العبودية‪.‬‬ ‫املضاهاة ُّ‬

‫آثارها اقتضا َء األسباب التامة ملسبباهتا‪،‬‬ ‫ومنها‪ :‬أن أسامءه احلسنى تقتيض ُ‬
‫فاسم (السميع‪ ،‬البصري) يقتيض مسمو ًعا و ُمبصرًَ ا‪ ،‬واسم (الرزاق)‬
‫يقتيض مرزو ًقا‪ ،‬واسم (الرحيم) يقتيض مرحو ًما‪ ،‬وكذلك اسم (الغفور)‪،‬‬
‫و(العفو)‪ ،‬و(التواب)‪ ،‬و(احلليم) يقتيض َمن يغفر له‪ ،‬ويتوب عليه‪ ،‬ويعفو‬
‫عنه‪ ،‬ويحَ ُل ُم عنه‪ ،‬ويستحيل تعطيل هذه األسامء والصفات؛ إذ هي أسام ٌء‬
‫ود‪،‬‬‫وإحسان وج ٍ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫حكمة‬ ‫ُ‬
‫وأفعال‬ ‫وصفات كامل‪ ،‬ونعوت جالل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫حسنى‪،‬‬
‫ُ‬
‫أعلم اخل ْلق باهلل ‪-‬صلوات‬ ‫فالبد من ظهور آثارها يف العامل‪ ،‬وقد أشار إىل هذا ُ‬
‫اء ب َقو ٍم‬ ‫لجَ‬ ‫و‬ ‫‪،‬‬ ‫م‬ ‫ُ‬
‫ك‬ ‫ب‬ ‫اهلل‬ ‫ب‬ ‫ه‬ ‫َ‬
‫ذ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫بوا‪،‬‬‫اهلل وسالمه عليه‪ -‬حيث يقول‪َ « :‬لو لمَ ُت ْذنِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ ْ‬
‫رون ‪ -‬في ِ‬
‫غف ُر ُهل ْم»(((‪.‬‬ ‫َ‬ ‫بون ‪ُ -‬ثم يس َت ِ‬
‫غف‬ ‫َ‬ ‫ي ْذنِ‬
‫َ‬ ‫َّ َ‬ ‫ُ‬
‫ومنها‪ :‬ال األعظم‪ ،‬الذي ال تقتحمه ِ‬
‫العبارة‪ ،‬وال جتسرُ ُ عليه اإلشارة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫سرُِّّ‬
‫(‪ )1‬أخرجه مسلم (‪.)2749‬‬

‫‪46‬‬
‫التـــــوبة‬

‫قلوب‬‫ُ‬ ‫وال ُينادي عليه منادي اإليامن عىل ُرؤوس األشهاد‪ ،‬بل َش ِه َد ْته‬
‫خواص العباد‪ ،‬فازدادت به معرف ًة لرهبا وحمب ًة له‪ ،‬وطمأنينة به‪ ،‬وشو ًقا إليه‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫بذ ْك ِره‪ ،‬وشهو ًدا لبرِِّ ه‪ ،‬ولطفه وكرمه وإحسانه‪ ،‬ومطالع ًة لرس العبودية‪،‬‬ ‫ولهَ جا ِ‬
‫َ ً‬
‫وإرشا ًفا عىل حقيقة اإلهلية‪ ،‬وهو ما ثبت يف الصحيحني من حديث أنس بن‬
‫توب إ َل ِيه ِم ْن‬ ‫حني َي ُ‬
‫ِ ِ‬
‫أفر ُح ب َتوبة َع ْبده َ‬ ‫مالك ‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪« :‬هلل َ‬
‫وشا ُبه‪،‬‬ ‫عامه رَ‬ ‫َ‬
‫ط‬ ‫وعليها‬ ‫‪،‬‬‫ه‬ ‫ن‬ ‫ت ِ‬
‫م‬ ‫ْ‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫فان‬ ‫‪،‬‬ ‫ض َفلاَ ٍ‬
‫ة‬ ‫ِ‬ ‫بأر‬ ‫راح ٍ‬
‫لة‬ ‫أح ِدكُم كان عىل ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫راح َلتِه‪ ،‬فب ْينام هو‬ ‫َفأيِس منها‪ ،‬فأ َتى َشجر ًة فاض َطجع يف ظِ ِّلها‪َ ،‬ق ْد أيِس ِمن ِ‬
‫َ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫اللهم‬
‫َّ‬ ‫خ َط ِامها‪ُ ،‬ث َّم قال ِم ْن ِش َّد ِة ال َف َرحِ ‪:‬‬ ‫فأخ َذ بِ ِ‬ ‫كذلك إذا هو هبا قائِم ٌة ِع َنده‪َ ،‬‬ ‫َ‬
‫أخ َطأ ِم ْن ِش َّد ِة ال َف َرحِ »(((‪.‬‬
‫ك‪ْ ،‬‬ ‫أنت ع ِ‬
‫بدي وأنا َر ُّب َ‬ ‫َ َ‬
‫واإلعراض عنه‪ ،‬وال‬‫ُ‬ ‫والقصد أن هذا الفرح له ٌ‬
‫شأن ال ينبغي للعبد إمهال ُه‬
‫بع ِّز جاللِه‪.‬‬‫ي َّطلع عليه إال من له معرفة خاص ٌة باهلل وأسامئه وصفاته‪ ،‬وما يليق ِ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وخ َري ُة اهلل من‬ ‫فاملؤمنون من نوع اإلنسان خري الربية عىل اإلطالق‪ِ ،‬‬
‫ُ‬
‫وليتواتر إحسانه إليه‪ ،‬ول َي ُخ َّصه من‬ ‫عليه‪،‬‬ ‫نعمته‬ ‫م‬ ‫العالمَني‪ ،‬فإنه خ َلقه ليتِ‬
‫َ‬ ‫ُ َّ‬
‫كرامته وفضله بام مل َتنله أمنيته‪ ،‬ومل خيطر عىل باله ومل يشعر به‪ ،‬ليسأ َله من‬
‫العاجلة واآلجلة‪ ،‬التي ال ُتنال إال‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الباطنة والظاهرة‪،‬‬ ‫املواهب والعطايا‬
‫وإيثاره عىل ما سواه‪ ،‬فاتخَّ ذه حمبو ًبا له‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫بمح َّبته‪ ،‬وال ُتنال حم َّبته إال بطاعته‪،‬‬
‫جوا ٌد ملحبوبه إذا قدم عليه‪ ،‬و َع ِه َد إليه‬ ‫أفضل ما يع ُده محُ ِ‬
‫قادر‬
‫ٌّ ٌّ ٌ َ‬ ‫غني‬ ‫ب‬ ‫َ ُ ِّ‬ ‫وأعد له‬
‫َّ‬
‫قربه إليه‪ ،‬ويزيده‬ ‫تقد َم إليه فيه بأوامره ونواهيه‪ ،‬وأعلمه يف عهده ما ُي ِّ‬ ‫عهدا َّ‬ ‫ً‬

‫)‪ (1‬أخرجه مسلم (‪ ،)2747‬وأخرج البخاري أوله (‪.(6039‬‬

‫‪47‬‬
‫بعده منه ويسخطه عليه‪ ،‬و ُي ْس ِقطه من عينه‪.‬‬
‫حمب ًة له وكرامة عليه‪ ،‬وما ي ِ‬
‫ُ‬
‫جاهره بالعداوة‪ ،‬وأمر عباده‬ ‫وللمحبوب عدو هو أبغض ِ‬
‫خلقه إليه‪ ،‬قد‬
‫َ‬ ‫ٌّ‬
‫أن يكون دينُهم وطاعتهم وعبادتهُ م له‪ ،‬دون َولِ ِّيهم ومعبودهم احلق‪،‬‬
‫ظاه ُروه ووا َل ْو ُه عىل رهبم‪ ،‬وكانوا أعدا ًء‬
‫واستقطع عبا َده‪ ،‬واختذ منهم حز ًبا َ‬
‫له مع هذا العدو‪.‬‬
‫ِ‬
‫كرهه‪ ،‬وأ َب َق‬ ‫عبده وحمبو ُبه لغضبه‪ ،‬وارتكب َمساخ َطه وما َي َ‬ ‫تعرض ُ‬ ‫فإذا َّ‬
‫وظاه َره عليه‪ ،‬وحت َّي َز إليه‪ ،‬وقطع طريق نِ َع ِمه وإحسانه إليه‬ ‫َ‬ ‫عدوه‬
‫َّ‬ ‫منه‪ ،‬ووالىَ‬
‫طريق العقوبة واالنتقام والغضب‪ :‬فقد‬ ‫َ‬ ‫أحب يشء إليه‪ ،‬وفتح‬ ‫ُّ‬ ‫التي هي‬
‫خالف ما هو موصوف به من اجلود واإلحسان‬ ‫َ‬ ‫اد الكري ِم‬ ‫استدعى من اجلو ِ‬
‫َ‬
‫وتعرض إلغضابه وإسخاطه وانتقامه‪ ،‬وأن يصري غض ُبه وسخ ُطه يف‬ ‫والبرِِّ ‪َّ ،‬‬
‫موضع رضاه‪ ،‬وانتقامه وعقوب ُته يف موضع كرمه وبِ ِّره وإعطائه‪ ،‬فاستدعى‬
‫أحب إليه منه‪ ،‬وخالف ما هو من لوازم ذاته من‬ ‫بمعصيته من أفعاله ما سواه ُّ‬
‫إذ انقلب‬ ‫اجلود واإلحسان‪ .‬فبينام هو حبيبه املقرب املخصوص بالكرامة‪ِ ،‬‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫مائل عنه إىل عدوه‪ ،‬مع شدة حاجته إليه‪ ،‬وعدم‬ ‫آبِ ًقا شار ًدا‪ ،‬را ًّدا لكرامته‪ ،‬اً‬
‫استغنائه عنه طرفة عني‪ .‬فبينام ذلك احلبيب مع العدو يف طاعته وخدمته‬
‫خالف ما هو‬ ‫َ‬ ‫عدوه‪ ،‬قد استدعى من س ِّيده‬ ‫موافقة‬ ‫يف‬ ‫ًا‬
‫ك‬ ‫ناسيا لسيده‪ ،‬م ِ‬
‫نهم‬
‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫أهله إذ عرضت له فكرة فتذ َّكر بِ َّر سيده وعط َفه‪ ،‬وجو َده وكر َمه‪ ،‬و َع ِل َم أنه‬
‫قد ْم عليه بن ْفسه ُق ِد َم‬ ‫مصريه إليه‪ ،‬و َع ْر َضه عليه‪ ،‬وأنه إن مل َي َ‬
‫َ‬ ‫ال ُب َّد له منه‪ ،‬وأن‬
‫وج َّد يف اهلرب إليه‬ ‫عدوه‪َ ،‬‬ ‫ففر إىل سيده من بلد ِّ‬ ‫به عليه عىل أسوأ األحوال‪َّ ،‬‬

‫‪48‬‬
‫التـــــوبة‬

‫وتوسد َث َرى أعتابه‪ُ ،‬م اً‬


‫تذلِّل‬ ‫َّ‬ ‫خده عىل عتبة بابه‪،‬‬
‫حتى وصل إىل بابه‪ ،‬فوضع َّ‬
‫مترض ًعا‪ ،‬خاش ًعا باك ًيا آس ًفا‪ ،‬يتم َّلق سيده ويسرتمحه‪ ،‬ويستعطفه ويعتذر‬
‫إليه‪ ،‬قد ألقى بيده إليه‪ ،‬واستسلم له وأعطاه ِق َيا َده‪ ،‬وألقى إليه زمامه‪ ،‬فعلم‬
‫ومكان الشدة عليه رمح ًة‬
‫ُ‬ ‫رضا عنه‪،‬‬
‫سيده ما يف قلبه‪ ،‬فعاد مكان الغضب عليه ً‬
‫ُ‬
‫حلم‪ ،‬فاستدعى بالتوبة‬ ‫عفوا‪ ،‬وباملنع عطاء‪ ،‬وباملؤاخذة اً‬
‫به‪ ،‬وأبدله بالعقوبة ً‬
‫والرجوع من س ِّيده ما هو أهله‪ ،‬وما هو موجب أسامئه احلسنى‪ ،‬وصفاته‬
‫واختيارا‪،‬‬
‫ً‬ ‫وولِ ُّيه طو ًعا‬
‫العليا‪ ،‬فكيف يكون َفر ُح س ِّيده به وقد عاد إليه حبيبه َ‬
‫وراجع ما حيبه س ِّي ُده منه ويرضاه‪ ،‬وفتح طريق البرِِّ واإلحسان واجلود‪ ،‬التي‬‫َ‬
‫أحب إىل سيده من طريق الغضب واالنتقام والعقوبة؟‬ ‫هي ُّ‬
‫وهذا موضع احلكاية املشهورة عن بعض العارفني أنه حصل له شرُ ُ و ٌد‬
‫السكَك با ًبا قد ُفتِح‪ ،‬وخرج منه صبي‬ ‫وإ َب ٌ‬
‫اق من َس ِّيده‪ ،‬فرأى يف بعض ِّ‬
‫يستغيث ويبكي‪ ،‬وأمه خلفه تطرده‪ ،‬حتى خرج‪ ،‬فأغلقت الباب يف وجهه‬
‫غري بعيد‪ ،‬ثم وقف ُمفك ًِّرا‪ ،‬فلم جيد له مأوى غري‬
‫ودخلت‪ ،‬فذهب الصبي َ‬
‫غري والدته‪ ،‬فرجع مكسور القلب‬ ‫البيت الذي ُأ ِ‬
‫خرج منه‪ ،‬وال َمن ُيؤويه َ‬
‫خده عىل عتبة الباب ونام‪،‬‬ ‫فتوسده ووضع َّ‬ ‫َّ‬ ‫حزينًا‪ ،‬فوجد الباب ُمرتجًَ ا‪،‬‬
‫فخرجت أ ُّمه‪ ،‬فلام رأته عىل تلك احلال مل متلك أن َر َم ْت نفسها عليه‪ ،‬والتزمته‬
‫ُتق ِّبله وتبكي‪ ،‬وتقول‪ :‬يا ولدي‪ ،‬أين تذهب عني؟ و َمن ُيؤويك ِسواي؟ أمل‬
‫أقل لك‪ :‬ال تخُ الفني‪ ،‬وال تحَ ِملني بمعصيتك يل عىل خالف ما ُجبِ ُ‬
‫لت عليه‬
‫اخلري لك؟ ثم َ‬
‫أخذ ْته ودخلت‪.‬‬ ‫من الرمحة لك‪ ،‬والشفقة عليك‪ ،‬وإراديت َ‬
‫‪49‬‬
‫لت عليه من‬ ‫فتأ َّم ْل قول األم‪ :‬ال حتملني بمعصيتك يل عىل خالف ما ُجبِ ُ‬
‫الرمحة والشفقة‪.‬‬
‫باده ِم َن الوالِ َد ِة َبو َل ِدها»(((‪ ،‬وأين تقع رمح ُة‬
‫بع ِ‬‫وتأم ْل قوله ﷺ‪« :‬هلل أرحم ِ‬
‫ْ َ ُ‬ ‫َّ‬
‫ف‬ ‫رص َ‬
‫الوالدة من رمحة اهلل؟ فإذا أغضبه العبد بمعصيته فقد استدعى منه ْ‬
‫أه ُله وأوىل به‪.‬‬
‫تلك الرمحة عنه‪ ،‬فإذا تاب إليه فقد استدعى منه ما هو ْ‬
‫أعظم من فرح هذا‬ ‫َ‬ ‫فهذه نبذة يسرية ُت ْط ِل ُع َك عىل سرِِّ فرح اهلل بتوبة عبده‬
‫الواجد لراحلته يف األرض املهلكة‪ ،‬بعد اليأس منها‪ ،‬ووراء هذا ما جتفو عنه‬
‫ُ‬
‫األذهان‪.‬‬ ‫العبارة‪ ،‬و َت ِد ُّق عن إدراكه‬
‫جلود والبرِِّ ‪ ،‬وأ َّما إن‬ ‫ِ‬ ‫نظرت إىل تع ُّلق الفرح‬
‫اإلهلي باإلحسان وا ُ‬
‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫هذا إذا‬
‫أج ُّل من هذا وأعظم منه‪،‬‬ ‫مشهد َ‬
‫ٌ‬ ‫الحظت تع ُّل َقه بإهل َّيته وكونِه معبو ًدا فذاك‬
‫ني‪.‬‬‫خواص ا ُمل ِح ِّب َ‬
‫ُّ‬ ‫وإنام يشهده‬
‫فإن اهلل سبحانه إ َّنام خ َلق اخللق لعبادته اجلامعة ملح َّبته واخلضوع له‬ ‫َّ‬
‫السموات واألرض‪ ،‬وهو غاية‬ ‫ُ‬ ‫وطاعته‪ ،‬وهذا هو احلق الذي ُخ ِل َقت به‬
‫اخللق واألمر‪ ،‬ونف ُيه‪ -‬كام يقول أعداؤه‪ -‬هو الباطل‪ ،‬والعبث الذي َن َّز َه نفسه‬
‫الس َدى الذي َّنزه نفسه عنه أن يرتك اإلنسان عليه‪ ،‬فهو سبحانه‬ ‫عنه‪ ،‬وهو ُّ‬
‫طاع‪ ،‬وال َي ْع َبأ بخ ْلقه شي ًئا لوال حم َّب ُتهم وطاعتهم له‪.‬‬
‫حيب أن ُي ْع َبد و ُي َ‬
‫عدوك‪ ،‬وحال بينك‬
‫شديدا‪ ،‬وأسرَ َ ُه ُّ‬
‫ً‬ ‫بل فام الظ ُّن بمحبوب لك حت ُّبه ح ًّبا‬

‫(‪ )1‬أخرجه البخاري (‪ ،)5999‬ومسلم (‪.)2754‬‬

‫‪50‬‬
‫التـــــوبة‬

‫ويعرضه ألنواع‬ ‫ِّ‬ ‫العدو س َي ُسو ُمه سو َء العذاب‪،‬‬


‫َّ‬ ‫أن‬‫وبينه‪ ،‬وأنت تعلم َّ‬
‫رسك وتربيتك‪ ،‬ثم إ َّنه انفلت من عدوه‪،‬‬ ‫اهلالك‪ ،‬وأنت ْأولىَ به منه‪ ،‬وهو َغ ُ‬
‫ويرتضاك‬‫َّ‬ ‫ووافاك عىل غري ميعاد‪ ،‬فلم َي ْف َج ْأك إال وهو عىل بابك‪ ،‬يتم َّلقك‬
‫فرحك به وقد‬ ‫خد ْيه عىل تراب أعتابك‪ ،‬فكيف يكون ُ‬ ‫ويستعتبك‪ ،‬و ُي َم ِّرغ َّ‬
‫اخ َتصص َته لنفسك‪ ،‬ورضي َته ل ُق ْربك‪ ،‬وآثر َته عىل ِسواه؟!‬
‫ولست الذي أوجد َته وخلق َته‪ ،‬وأسبغت عليه نِ َع َمك‪ ،‬واهلل‬ ‫َ‬ ‫هذا‬
‫ِ‬
‫حيب أن‬ ‫وكو َنه‪ ،‬وأسبغ عليه ن َع َمه‪ ،‬وهو ُّ‬ ‫أوجد عبده‪ ،‬وخ َلقه َّ‬ ‫َ‬ ‫هو الذي‬
‫لول ِّيها‪ُ ،‬مطي ًعا‬ ‫شاكرا هلا‪ ،‬محُ ًّبا َ‬
‫ً‬ ‫ظه ًرا لنعمه‪ ،‬اً‬
‫قابل هلا‪،‬‬ ‫ُيتِ َّمها عليه‪ ،‬فيصري ُم ِ‬
‫لعدوه‪ُ ،‬م ْب ِغ ًضا له عاص ًيا له‪ ،‬واهلل تعاىل حيب من عبده‬ ‫ِّ‬ ‫عابدا له‪ُ ،‬معاد ًيا‬
‫له ً‬
‫حيب أن يوال َيه سبحانه ويطي َعه‬ ‫عدوه‪ ،‬ومعصي َته وخمالف َته‪ ،‬كام ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫معادا َة‬
‫عدوه‪،‬‬
‫و َيع ُبده‪ ،‬فتنضاف حم َّبته لعبادته وطاعته واإلنابة إليه إىل حم َّبته لعداوة ِّ‬
‫فتشتد املح َّبة منه سبحانه‪ ،‬مع حصول حمبوبه‪ ،‬وهذا‬ ‫ُّ‬ ‫ومعصيته وخمالفته‪،‬‬
‫حقيقة الفرح‪.‬‬
‫األمارة‬
‫َّ‬ ‫فس‬‫ن‬
‫َّ‬ ‫ال‬ ‫وهو‬ ‫ها‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ومصدر‬ ‫اجلناية‬ ‫ِّ‬
‫حمل‬ ‫إىل‬ ‫النظر‬ ‫‪:‬‬ ‫(((‬
‫النظر [الرابع]‬
‫أمورا‪:‬‬
‫نظره إليها ً‬‫بالسوء‪ ،‬ويفيده ُ‬
‫وأن اجلهل والظلم يصدر عنهام ُّ‬
‫كل‬ ‫أن يعرف أنهَّ ا جاهلة ظاملة‪َّ ،‬‬
‫منها‪ْ :‬‬
‫والظلم ال َم ْط َم َع يف استقامته واعتداله‬ ‫ُ‬
‫اجلهل‬ ‫ه‬‫ت‬‫ُ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫قول وعمل قبيح‪ ،‬ومن ِ‬
‫ص‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫بذل اجلهد يف العلم النافع الذي يخُ ِْرجها به عن‬ ‫فيوجب له ذلك َ‬ ‫ِ‬ ‫الب َّتة‪،‬‬

‫((( لصاحب البصرية إذا صدرت منه اخلطيئة‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫والعمل الصالح الذي يخُ ِْرجها به عن َو ْصف ال ُّظلم‪ ،‬ومع‬ ‫ِ‬ ‫وصف اجلهل‪،‬‬
‫هذا فجه ُلها أكثر من ِع ْلمها‪ ،‬و ُظلمها أعظم من َع ْدهلا‪.‬‬
‫فحقيق بِ َمن هذا شأ ُنه أن يرغب إىل خالقها وفاطرها أن َي ِق َيه شرََّ ها‪ْ ،‬‬
‫وأن‬ ‫ٌ‬
‫خري َمن َز َّكاها‪ ،‬فإنه ول ُّيها و َموالها‪ ،‬وأن ال َي ِك َله‬
‫يؤتيها تقواها و ُي َز ِّك َيها‪ ،‬فهو ُ‬
‫عني‪ ،‬فإ َّنه إن َو َك َله إليها هلك‪ ،‬فام هلك َمن هلك إال حيث ُو ِك َل‬ ‫إليها طرف َة ٍ‬
‫أهل ْمني ُر ْشدي‪،‬‬ ‫إىل نفسه‪ ،‬وقال النبي ﷺ حلص ِ بن [عبيد] ‪ُ « :‬ق ِل‪ :‬اللهم ِ‬
‫َّ‬ ‫ُ َ ينْ‬
‫عرف حقيقة نفسه وما ُطب ِ َعت عليه َع ِل َم أهنا منبع‬ ‫ن‬ ‫فم‬ ‫‪،‬‬ ‫يس»‬ ‫ْ‬
‫ف‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫ش‬ ‫ي‬‫وقن ِ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫(((‬
‫رََّ‬
‫ففضل ِمن اهلل َم َّن به عليها‪ ،‬مل‬
‫ٌ‬ ‫وأن كل خري فيها‬ ‫كل سوء‪َّ ،‬‬ ‫رش‪ ،‬ومأوى ِّ‬ ‫كل ٍّ‬
‫يكن منها‪ ،‬كام قال تعاىل‪ ﴿ :‬ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ﴾‬
‫[النور‪.]21 :‬‬
‫ٌ‬
‫صادق يف‬ ‫أن َمن له بصري ٌة بنفسه‪ ،‬وبصري ٌة بحقوق اهلل تعاىل‪ ،‬وهو‬ ‫ومنها‪َّ :‬‬
‫نظره يف سيئاته حسن ًة الب َّتة‪ ،‬فال َي ْل َقى اهلل تعاىل إال باإلفالس‬ ‫َط َلبِه‪ ،‬مل ُي ْب ِق له ُ‬
‫وعيوب عمله َع ِلم‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ف؛ أل َّنه إذا ف َّتش عن عيوب نفسه‬ ‫ا َمل ْحض‪ ،‬والفقر الصرِّ ْ‬
‫فضل عن‬ ‫وأن تلك البضاعة ال ُت ْشترَ َ ى هبا النجا ُة ِمن عذابه‪ ،‬اً‬ ‫أنهَّ ا ال تصلح هلل‪َّ ،‬‬
‫وص َفا له معه ٌ‬
‫وقت؛‬ ‫وحال مع اهلل‪َ ،‬‬‫ٌ‬ ‫عمل‬‫ص له ٌ‬ ‫الفوز بعظيم ثوابه‪ ،‬فإن َخ َل َ‬
‫أهل لذلك‪،‬‬ ‫فضله‪ ،‬وأنَّه ليس من نفسه‪ ،‬وال هي ٌ‬ ‫شاهد ِم َّنـ َة اهلل عليه به‪ ،‬وجمرد ِ‬
‫َ‬
‫َّ‬
‫شاه ٌد ملِن َِّة اهلل عليه‪ ،‬ولعيوب ن ْفسه وعمله؛ أل َّنه متى َت َط َّلبها رآها‪،‬‬
‫فهو دائم م ِ‬
‫اً ُ‬
‫وأنفعها للعبد‪ ،‬ولذلك كان س ِّيد االستغفار‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫أج ِّل أنواع املعارف‬ ‫وهذا من َ‬

‫((( أخرجة الرتمذي (‪ ،)3483‬وصححه األلباين يف «مشكاة املصابيح» (‪.)2476‬‬

‫‪52‬‬
‫التـــــوبة‬

‫أنت‪َ ،‬خ َل ْق َتني‪ ،‬وأنا َع ْب ُد َك‪ ،‬وأنا عىل َع ْه ِد َك‬ ‫َ‬ ‫أنت َر يِّب‪ ،‬ال إل َه إلاَّ‬ ‫«اللهم َ‬ ‫َّ‬
‫عل‪،‬‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫لك بنِعمتِ‬ ‫َ‬ ‫وء‬ ‫ب‬ ‫أ‬ ‫‪،‬‬‫ت‬ ‫ُ‬ ‫ع‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫ص‬ ‫ما‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫بك ِ‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ذ‬ ‫و‬ ‫ع‬ ‫أ‬ ‫‪،‬‬ ‫ت‬
‫ُ‬ ‫ع‬ ‫َ‬
‫ط‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫اس‬ ‫ما‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫د‬‫ووع ِ‬
‫يََّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫رَِّ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ‬
‫وب إلاَّ َ‬ ‫غف ُر ُّ‬ ‫فاغفر يل‪ ،‬إ َّنه ال ي ِ‬ ‫وأبوء َبذ ْنبي‪ِ ،‬‬
‫أنت»(((‪.‬‬ ‫الذ ُن َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ُ‬
‫االعرتاف من العبد ُبر ُبوبِ َّيتِه‪ ،‬وإهل َّيته وتوحيده‪،‬‬ ‫َ‬ ‫االستغفار‬
‫ُ‬ ‫فتضمن هذا‬ ‫َّ‬
‫تستلزم َع ْج َزه عن أداء‬ ‫ِ‬ ‫واالعرتاف بأ َّنه خال ُقه‪ ،‬العالِـم به؛ إذ أنشأه نشأ ًة‬ ‫َ‬
‫اص َي ُته بيده ويف قبضته‪ ،‬ال‬ ‫عبده الذي َن ِ‬ ‫واالعرتاف بأ َّنه ُ‬ ‫َ‬ ‫ح ِّقه‪ ،‬وتقصريه فيه‪،‬‬
‫الدخول حتت عهده ‪-‬وهو أ ْم ُره‬ ‫َم ْه َر َب له منه‪ ،‬وال َوليَِّ له سواه‪ ،‬ثم التزام ُّ‬
‫بحسب استطاعتي‪،‬‬ ‫وأن ذلك َ‬ ‫ونهَ ْ ُيه‪ -‬الذي َع ِه َده إليه عىل لسان رسوله‪َّ ،‬‬
‫بحسب أداء َح ِّقك؛ فإ َّنه غري مقدور للبرش‪ ،‬وإنام هو ُج ْهد ا ُمل ِق ِّل‪ ،‬و َق ْدر‬ ‫ال َ‬
‫صدق بوعدك الذي وعد َته ألهل طاعتك بالثواب‪،‬‬ ‫الطاقة‪ ،‬ومع ذلك فأنا ُم ِّ‬
‫يم عىل عهدك‪ ،‬و ُم َص ِّد ٌق بوعدك‪ ،‬ثم‬ ‫ِ‬
‫وألهل معصيتك بالعقاب‪ ،‬فأنا ُمق ٌ‬
‫رش ما َف َّر ْط ُت فيه من أ ْم ِرك ونهَ ْ ِيك‪ ،‬فإ َّنك إن مل‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫االستعاذة واالعتصام بك ِ‬
‫ِّ‬
‫رشه‪ ،‬وإال أحاطت يب اهل َل َك ُة‪َّ ،‬‬ ‫ُت ِع ْذين ِ‬
‫سبب اهلالك‪ ،‬وأنا‬ ‫فإن إضاعة ح ِّقك ُ‬ ‫ِّ‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ُ‬
‫واإلحسان‬ ‫بذنبي؛ فمنك النِّعمة‬ ‫عيل‪ ،‬و ُأ ِق ُّر وألتزم َ‬ ‫َّ‬ ‫عمتك‬ ‫ُأ ِقر لك وألتزم بنِ‬
‫ُّ‬
‫وأن‬‫نب واإلساءة‪ ،‬فأسألك أن تغفر يل بِ َم ْح ِو ذنبي‪ْ ،‬‬ ‫الذ ُ‬‫والفضل‪ ،‬ومنِّي َّ‬
‫َت ِق َيني ِمن شرَِّ ه‪ ،‬إ َّنه ال يغفر الذنوب إال أنت‪.‬‬

‫تضمن َمل ْحض العبود َّية‪ُّ ،‬‬


‫فأي‬ ‫الدعاء س ِّي َد االستغفار؛ إ ْذ هو ُم ِّ‬
‫فلهذا كان هذا ُّ‬
‫وعمله ِ‬
‫ومنَّ َة اهلل عليه؟‬ ‫ِ‬ ‫حسنة تبقى للبصري الصادق مع مشاهدتِه عيوب ِ‬
‫نفسه‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َّ‬

‫((( أخرجه البخاري (‪.)6306‬‬

‫‪53‬‬
‫احلاض له‬
‫ِّ‬ ‫اآلمر له باملعصية‪ ،‬ا ُمل َز ِّين له فِع َلها‪،‬‬
‫النظر [اخلامس]‪ :‬نظره إىل ِ‬
‫ُ‬
‫عليها‪ ،‬وهو شيطانه ا ُمل َو َّكل به‪.‬‬
‫َ‬
‫وكامل االحرتاز منه‪ ،‬والتح ُّف َظ‬ ‫النظر إليه ومالحظ ُته اختا َذه ُ‬
‫عد ًّوا‪،‬‬ ‫يده‬‫ف‬‫في ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫لمِ‬
‫عدوه وهو ال يشعر‪ ،‬فإ َّنه يريد أن يظفر به‬ ‫واليقظ َة‪ ،‬واالنتبا َه َا يريده منه ُّ‬
‫بعضها أصعب من بعض‪ ،‬ال ينزل منه من العقبة‬ ‫يف َع َق ٍبة من سبع عقبات؛ ُ‬
‫الشا َّقة إىل ما دوهنا إال إذا عجز عن الظفر به فيها‪:‬‬
‫ِ‬
‫وصفات كامله‪ ،‬وما أخبرَ َ ْت‬ ‫وبدينه ولقائه‪،‬‬ ‫العقبة األوىل‪ :‬عقبة الكُفر باهلل ِ‬
‫ِ‬
‫نار عداوته‪ ،‬واسرتاح معه‪،‬‬ ‫به رس ُله عنه‪ ،‬فإ َّنه إن َظف َر به يف هذه العقبة َب َر َد ْت ُ‬
‫ِ‬
‫نور اإليامن؛‬‫وسل َم معه ُ‬ ‫فإن اقتحم هذه العقب َة ونجا منها ببصرية اهلداية‪َ ،‬‬
‫طل َبه عىل‪:‬‬
‫احلق الذي أرسل ا ُ‬
‫هلل‬ ‫خالف ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫باعتقاد‬ ‫العقبة الثانية‪ :‬وهي عقبة البِ ْدعة‪ ،‬إ َّما‬
‫والرسوم‬‫به رسو َله‪ ،‬وأنزل به كتا َبه‪ ،‬وإ َّما بالتع ُّبد بام مل ْيأ َذ ْن به من األوضا ِع ُّ‬
‫الدين‪ ،‬التي ال َيق َب ُل اهلل منها شي ًئا‪.‬‬
‫ا ُمل ْح َدثة يف ِّ‬
‫العقبة الثالثة‪ :‬وهي َع َقب ُة الكبائر‪ِ ْ ،‬‬
‫فإن َظفر به فيها َز َّينَها له‪َ ،‬‬
‫وح َّسنها يف‬
‫وس َّوف به‪ ،‬وفتح له باب اإلرجاء‪.‬‬ ‫عينه‪َ ،‬‬
‫وح ُتن ِْجيه‪ ،‬طل َبه عىل‪:‬‬ ‫مة ِمن اهلل‪ ،‬أو ٍ‬ ‫بعص ٍ‬ ‫ِ‬
‫بتوبة َن ُص ٍ‬ ‫فإن َق َط َع هذه العقب َة ْ‬
‫ْ‬
‫الصغائر‪ ،‬فك َ‬
‫َال له منها بال َق َف َزان‪ ،‬قال‪ :‬ما عليك‬ ‫الرابعة‪ :‬وهي عقبة َّ‬ ‫العقبة َّ‬
‫مت بأنهَّ ا ُت َك َّفر باجتناب‬ ‫يت ِمن ال َّلم ِم‪ ،‬أوما ِ‬
‫عل َ‬ ‫َ‬ ‫اجتنبت الكبائر ما َغ ِ‬
‫ش‬ ‫َ‬ ‫إذا‬
‫َ‬ ‫َ َ‬

‫‪54‬‬
‫التـــــوبة‬

‫أمرها حتى ُيصرَِّ عليها‪ ،‬فيكون‬ ‫الكبائر وباحلسنات؟ وال يزال هُ َي ِّون عليه َ‬
‫فإن اإلرصار عىل‬ ‫حال منه؛ َّ‬ ‫الو ِج ُل الناد ُم أحس َن اً‬ ‫ِ‬
‫اخلائف َ‬ ‫ُ‬ ‫ب الكبرية‬ ‫مرتك ُ‬
‫الذنب أقبح منه‪ ،‬وال كبري َة مع ال َّتوبة واالستغفار‪ ،‬وال صغرية مع اإلرصار‪،‬‬ ‫َّ‬
‫لذلك َم َث اًل ب َق ْو ٍم « َن َز ُلوا‬ ‫َ‬ ‫وب»‪ُ ،‬ث َّم ضرَ َ َب‬ ‫الذ ُن ِ‬
‫رات ُّ‬ ‫وقد قال ﷺ‪« :‬إياكُم ومحُ َ َّق ِ‬
‫َّ ْ‬
‫ود‪،‬‬‫ود‪ ،‬وهذا بع ٍ‬ ‫احل َطب‪ ،‬فجع َل جَيِيء هذا بِع ٍ‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ز‬
‫َ‬ ‫و‬ ‫ع‬ ‫فأ‬ ‫‪،‬‬ ‫ِ‬
‫األرض‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫الة ِ‬‫ب َف ٍ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫فكذلك َش ْأ ُن‬ ‫َ‬ ‫وأنض ُجوا ُخ ْب َز هَ ُت ْم‪،‬‬ ‫َ‬ ‫فأو َق ُدو ُه ً‬
‫نارا‪،‬‬ ‫كثريا‪ْ ،‬‬ ‫ح َّتى جمَ َ ُعوا َح َط ًبا ً‬
‫بشأ هِنا ح َّتى هُ ْتلِ َكه»(((‪.‬‬ ‫هني ْ‬ ‫ِ‬
‫وب؛ تجَ َتم ُع عىل ال َعبد و َيس َت ُ‬
‫ِ‬ ‫الذ ُن ِ‬
‫رات ُّ‬ ‫محُ َ َّق ِ‬

‫فش َغ َله‬ ‫فاع ِلها‪َ ،‬‬ ‫العقبة اخلامسة‪ :‬وهي عقبة ا ُملباحات التي ال حرج عىل ِ‬
‫ََ َ‬
‫طمع‬ ‫عاده‪ُ ،‬ثم ِ‬ ‫هبا عن االستكثار من ال َّطاعات‪ ،‬وعن االجتهاد يف التزود َلمِ ِ‬
‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫السنَن إىل َت ْرك الواجبات‪،‬‬ ‫ك‬ ‫ر‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫ن‬ ‫أن يستدرجه منها إىل َتر ِك السنن‪ ،‬ثم ِ‬
‫م‬ ‫فيه ْ‬
‫ُّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫واملنازل العالية‪ ،‬ولو‬ ‫َ‬ ‫واملكاسب العظيمة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وأ َق ُّل ما ُينال منه تفوي ُته األرباح‪،‬‬
‫بالسعر‪.‬‬ ‫فوت عىل نفسه شي ًئا من ال ُق ُربات‪ ،‬ولكنَّه جاهل ِّ‬ ‫الس ْعر لمََا َّ‬ ‫ف ِّ‬ ‫َع َر َ‬
‫بقدر الطاعات‬ ‫ِ‬ ‫هاد‪ ،‬ومعرفة‬ ‫ونور ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫فإن َن َجا من هذه العقبة ببصرية تا َّمة‪،‬‬ ‫ْ‬
‫شرتي‪،‬‬ ‫وخطر ال ِّتجارة‪ ،‬وكرم ا ُمل ِ‬ ‫ِ‬ ‫وق َّل ِة املقام عىل امليناء‪،‬‬ ‫واالستكثار منها‪ِ ،‬‬
‫وض َّن بأنفاسه أن تذهب يف غري‬ ‫فبخل بأوقاته‪َ ،‬‬ ‫وقدر ما يعوض به ال ُّتجار‪ِ ،‬‬
‫َّ‬ ‫ُ َ َّ‬
‫العدو عىل‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫ِربح َط َل َبه‬
‫العقبة السادسة‪ :‬وهي عقبة األعامل ا َملرجوحة ا َملفضولة من الطاعات‪،‬‬
‫والربح؛‬
‫وحسنها يف عينه‪ ،‬وز َّينها له‪ ،‬وأراه ما فيها من الفضل ِّ‬
‫َّ‬ ‫فأ َم َره هبا‪،‬‬

‫((( أخرجه أمحد (‪ ،)3818‬وصححه األلباين يف «السلسلة الصحيحة»(‪.)389‬‬

‫‪55‬‬
‫وربحا؛ أل َّنه لمََّا عجز عن‬
‫ً‬ ‫وأعظم كس ًبا‬
‫ُ‬ ‫ليشغله هبا عماَّ هو أفضل منها‪،‬‬
‫أصل الثواب َط ِم َع يف ختسريه كام َله وفض َله‪ ،‬ودرجاتِه العالي َة‪َ ،‬‬
‫فش َغ َله‬ ‫تخَ سريه َ‬
‫األحب‬ ‫ِ‬
‫وباملحبوب هلل عن‬ ‫اجح‪،‬‬ ‫الفاضل‪ ،‬وباملرجوح عن الر ِ‬‫ِ‬ ‫باملفضول عن‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫إليه‪ ،‬وبا َمل ْرضيِِّ عن ْ‬
‫األر ىَض له‪.‬‬
‫أصحاب هذه العقبة؟ فهم األفراد يف العالمَ ‪ ،‬واألكثرون قد‬ ‫ُ‬ ‫ولكن أين‬
‫ظفر هبم يف العقبات األُ َول‪.‬‬ ‫ِ‬
‫فإن يف األعامل واألقوال سي ًدا ومسودا‪ ،‬ورئيسا ومرؤوسا‪ِ ،‬‬
‫وذ ْر َو ًة وما دوهنا‪،‬‬ ‫َّ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ِّ َ ُ ً‬
‫أنت َر يِّب‪ ،‬الإل َه‬
‫اللهم َ‬ ‫‪:‬‬‫بد‬
‫ُ‬ ‫ع‬ ‫ال‬ ‫َ‬
‫قول‬ ‫ي‬ ‫أن‬
‫ْ‬ ‫ِ‬
‫غفار‬ ‫كام يف احلديث الصحيح‪« :‬سي ُد الاِ ستِ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ِّ‬
‫األم ِر»(((‪،‬وال يقطع‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬
‫م‬ ‫نا‬ ‫س‬ ‫ة‬
‫ُ‬
‫ُ ْ َ‬‫و‬ ‫ذر‬ ‫د‬ ‫ها‬ ‫ِ‬
‫«اجل‬ ‫اآلخر‪:‬‬ ‫احلديث‬ ‫ويف‬ ‫‪،‬‬ ‫َ‬
‫احلديث‬ ‫‪،‬‬ ‫(((‬
‫إلاَّ َ‬
‫أنت»‬
‫الع ْلم‪ ،‬السائرين عىل جا َّدة التوفيق‪،‬‬ ‫أهل البصائر والصدق من ُأويل ِ‬ ‫هذه العقب َة إال ُ‬
‫ِّ‬
‫حق ح َّقه‪.‬‬ ‫األعامل ِ‬
‫منازلهَ ا‪ ،‬وأع َط ْوا ُك َّل ذي ٍّ‬ ‫َ‬ ‫قد أنزلوا‬
‫بد له‬
‫العدو عليها سوى واحدة ال َّ‬ ‫ُّ‬ ‫يبق هناك عقب ٌة يطلبه‬
‫فإذا نجا منها مل َ‬
‫رسل اهلل وأنبياؤه‪ ،‬وأكرم اخل ْلق عليه‪.‬‬ ‫أحد َلن ََجا منها ُ‬
‫منها‪ ،‬ولو نجا منها ٌ‬
‫تسليط ُجن ِْده عليه بأنواع األذى‪ ،‬باليد‬ ‫ِ‬ ‫[العقبة السابعة]‪ :‬وهي عقب ُة‬
‫حسب مرتبته يف اخلري‪ ،‬فكلام َع َل ْت مرتب ُته أج َلب عليه‬ ‫واللسان والقلب‪ ،‬عىل َ‬
‫وظاه َر عليه بِ ُجنْده‪ ،‬وس َّلط عليه حز َبه وأه َله بأنواع ال َّتسليط‪،‬‬
‫َ‬ ‫ور ِجله‪،‬‬
‫بخيله َ‬
‫جد يف االستقامة والدعوة‬ ‫وهذه العقبة ال ِحي َلة له يف التخ ُّلص منها‪ ،‬فإ َّنه ك َّلام َّ‬

‫((( أخرجه البخاري (‪.)6306‬‬


‫((( أخرجه الرتمذي (‪ )2616‬وقال‪( :‬حديث حسن صحيح)‪ ،‬وابن ماجه (‪.)3973‬‬

‫‪56‬‬
‫التـــــوبة‬

‫السفهاء به‪ ،‬فهو يف هذه‬ ‫العدو يف إغراء ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫إىل اهلل تعاىل‪ ،‬والقيام بأ ْم ِره‪َ ،‬ج َّد‬
‫الع َقبة قد َلبِس لأَ ْم َة احلرب‪ ،‬وأخذ يف حماربة العدو هلل وباهلل‪ ،‬فع ِ‬
‫بود َّي ُته فيها‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫سمى عبود َّي َة ا ُملرا َغمة‪ ،‬وال ينتبه هلا إال ُأو ُلو‬
‫اص العارفني‪ ،‬وهي ُت َّ‬ ‫عبود َّي ُة َخ َو ِّ‬
‫لعدوه‪ ،‬وإغا َظتِه له‪.‬‬‫ِّ‬ ‫ه‬ ‫ي‬ ‫مة ولِ‬
‫َ ِّ‬
‫البصائر ال َّتامة‪ ،‬وال يشء أحب إىل اهلل من مرا َغ ِ‬
‫ُ‬ ‫َ ُّ‬ ‫َّ‬
‫أحـــكام ال ّ َتوبـــــة‬

‫ليق بالعبد َج ْه ُلها‪:‬‬ ‫ونذكر ُن َب ًذا تتع َّلق بأحكام ال َّتوبة ُّ‬
‫تشتد احلاجة إليها‪ ،‬وال َي ُ‬
‫تأخريها‪،‬‬‫ُ‬ ‫الذنب َف ْر ٌض عىل ال َف ْو ِر‪ ،‬ال جيوز‬ ‫منها‪ :‬املبادرة إىل ال َّتوبة من َّ‬
‫الذنب َب ِق َي عليه توب ٌة أخرى‪،‬‬ ‫أخرها عىص بالتأخري‪ ،‬فإذا تاب من َّ‬ ‫فمتى َّ‬
‫ِ‬
‫التائب‪ ،‬بل عنده أ َّنه‬ ‫وهي توبته من تأخري ال َّتوبة‪ ،‬و َق َّل أن تخَ ُطر هذه ِ‬
‫ببال‬
‫يبق عليه يشء آخر‪ ،‬وقد َب ِق َي عليه ال َّتوب ُة من تأخري‬ ‫الذنب مل َ‬ ‫إذا تاب من َّ‬
‫ال َّتوبة‪ ،‬وال ُينجي من هذا إال توب ٌة عامة ممَِّا يعلم من ذنوبه وممَّا ال َي ْع َلم‪َّ ،‬‬
‫فإن‬
‫ذة هبا‬ ‫املؤاخ ِ‬
‫َ‬ ‫أكثر مما يعلمه‪ ،‬وال ينفعه يف عدم‬ ‫ما ال يعلمه العبد من ذنوبه ُ‬
‫رتك العلم والعمل‪ ،‬فاملعصية‬ ‫ٍ‬
‫عاص ب ْ‬ ‫جه ُله إذا كان متم ِّكنًا من العلم‪ ،‬فإ َّنه‬
‫يف ح ِّقه ُّ‬
‫أشد‪.‬‬
‫الذنب فهل يرجع إىل ما كان عليه قبل‬ ‫تاب من َّ‬‫أن العبد إذا َ‬ ‫[ومنها]‪َّ :‬‬
‫الذنب أو ال يرجع إليها؟ اخ ُت ِلف يف ذلك‪.‬‬
‫الدرجة التي ح َّطه عنها َّ‬ ‫َّ‬
‫الذنب من َّ‬
‫اخلالف‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫َ‬ ‫حيكي هذا‬ ‫عت شيخ اإلسالم اب َن تيم َّي َة‬ ‫ِ‬
‫وسم ُ‬
‫ني َمن ال يعود إىل درجته‪ ،‬ومنهم َمن يعود إليها‪،‬‬ ‫أن ِمن ِ‬
‫التائبِ َ‬ ‫«والصحيح َّ‬
‫َّ‬

‫‪57‬‬
‫خريا مما كان قبل َّ‬
‫الذنب‪ ،‬فكان داود‬ ‫ومنهم َمن يعود إىل أعىل منها‪ ،‬فيصري ً‬
‫خريا منه قبل اخلطيئة»‪.‬‬
‫بعد ال َّتوبة ً‬
‫وح َذره ِ‬
‫وج ِّده‬ ‫ب بعد َتوبتِه ْ ِ‬‫بحسب حال ال َّت ِائ ِ‬
‫وعزمه َ‬ ‫َ‬ ‫قال‪« :‬وهذا‬
‫خريا ممَِّا كان‬
‫الذنب عاد ً‬ ‫أعظم ممَِّا كان له قبل َّ‬‫َ‬ ‫وتشمريه‪ْ ،‬‬
‫فإن كان ذلك‬
‫مثل حالِه‪ ،‬وإن كان دو َنه مل َي ُعد إىل‬
‫وأعىل درج ًة‪ ،‬وإن كان مث َله عاد إىل ِ‬
‫درجته‪ ،‬وكان ُمنح ًّطا عنها»‪.‬‬

‫الصف األول‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫وقد ضرُ ِ َب لذلك م َث ٌل َبر ُج ٍل خرج ِمن بيته يريد الصالة يف‬
‫ِ‬ ‫ال ي ْل ِوي عىل يشء يف طريقه‪ ،‬فعرض له ٌ ِ‬
‫رجل من َخ ْلفه َج َب َذ ثو َبه ْ‬
‫وأو َقفه‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫قليل‪ ،‬يريد َت ْعوي َقه عن الصالة‪ ،‬فله معه حاالن‪:‬‬
‫اً‬
‫حال ِ‬
‫غري ال َّتائب‪.‬‬ ‫أن يشتغل به حتى تفو َته الصال ُة‪ ،‬فهذه ُ‬
‫أحدمها‪ْ :‬‬
‫الثاين‪ :‬أن يجُ ِ‬
‫اذ َبه عىل نفسه‪ ،‬ويت َف َّلت منه؛ لئلاَّ تفو َته الصالة‪ ،‬ثم له بعد‬
‫هذا التف ُّلت ثالث ُة أحوال‪:‬‬

‫الو ْقفة‪ُ ،‬فر َّبام‬


‫وو ْث ًبا؛ ليستدرك ما فاته بتلك َ‬
‫أحدها‪ :‬أن يكون َسيرْ ُ ه جمَ ًزا َ‬
‫استدركه وزاد عليه‪.‬‬

‫الثاين‪ :‬أن يعود إىل مثل َسيرْ ِ ه‪.‬‬

‫وهتاو ًنا‪ ،‬فيفوته فضيل ُة الصف األول‪،‬‬


‫ُ‬ ‫ورا‬ ‫أن ُت ِ‬
‫ور َثه تلك الوقف ُة ُف ُت ً‬ ‫الثالث‪ْ :‬‬
‫وأول الوقت‪ ،‬فهكذا التائب سواء‪.‬‬ ‫أو فضيل ُة اجلامعة َّ‬

‫‪58‬‬
‫التـــــوبة‬

‫خري‬ ‫ِ‬
‫ص‬ ‫ع‬‫ي‬ ‫مل‬ ‫الذي‬ ‫طيع‬ ‫ُ‬
‫مل‬ ‫ا‬ ‫هل‬ ‫ه‪:‬‬ ‫ن‬
‫َّ‬ ‫أ‬ ‫وهي‬ ‫‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫رشيفة‬ ‫ٍ‬
‫بمسألة‬ ‫ويتبينَّ هذا‬
‫ٌ‬ ‫َْ‬
‫وحا‪ ،‬أو هذا ال َّتائب أفضل منه؟‬ ‫من العايص الذي تاب إىل اهلل َت ْوب ًة َن ُص ً‬
‫ف يف ذلك؛‬ ‫اخ ُت ِل َ‬
‫وحا‪ ،‬واح َت ُّجوا‬‫ص عىل َمن عىص وتاب َت ْوب ًة َن ُص ً‬ ‫رج َحت َمن مل َي ْع ِ‬ ‫فطائفة َّ‬
‫بوجوه [منها] ‪:‬‬ ‫ٍ‬

‫مراحل إىل فوق‪،‬‬‫َ‬ ‫طيع ِع َّد َة‬ ‫زمن اشتغال العايص بمعصيته يسبقه ا ُمل ُ‬ ‫أن يف ِ‬ ‫‪َّ -1‬‬
‫فتكون درج ُته أعىل من درجته‪ ،‬وغاي ُته أ َّنه إذا تاب استقبل َسيرْ َ ه ليلحقه‪،‬‬
‫آخر‪ ،‬فأ َّنى له ب َل ِ‬
‫حاقه؟‬ ‫وذاك يف َسيرْ ٍ َ َ‬
‫أحاط عىل بستان طاعته حائ ًطا َح ِصينًا ال جيد األعدا ُء إليه‬ ‫َ‬ ‫طيع قد‬ ‫أن ا ُمل َ‬ ‫‪َّ -2‬‬
‫ٍ‬
‫أبدا‪ ،‬والعايص‬ ‫زيادة و ُن ُم ٍّو ً‬ ‫وخرض ُته وهبج ُته يف‬ ‫مر ُته وزهر ُته ُ‬ ‫سبيل‪ ،‬ف َث َ‬ ‫اً‬
‫قد فتح فيه َث ْغ ًرا‪ ،‬و َث َل َم فيه ُث ْلم ًة‪ ،‬و َم َّك َن منه السرَُّّ َاق واألعدا َء‪ ،‬فدخلوا‬
‫وخربوا ِحيطا َنه‪ ،‬وق َطعوا‬ ‫وأفسدوا أغصا َنه‪َّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫اً‬
‫وشامل‪،‬‬ ‫ف َعا ُثوا فيه يمينًا‬
‫وأحرقوا يف نواحيه‪ ،‬وق َط ُعوا ماءه‪ ،‬أو َن َق ُصوا َس ْق َيه‪ ،‬فمتى يرجع‬ ‫ه‪،‬‬‫ثمراتِ‬
‫َ‬
‫األول؟‬ ‫ِ‬
‫هذا إىل حاله َّ‬
‫ٍ‬ ‫‪-‬وإن مل ُتنكِر ك َْو َن َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫حسنات منه‪-‬‬ ‫أكثر‬
‫األول َ‬ ‫ْ‬ ‫ائب‬ ‫رج َحت ال َّت َ‬ ‫وطائف ٌة َّ‬
‫بوجوه [منها ]‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫واحتجت‬ ‫َّ‬
‫ب العبود َّيات إىل اهلل‪ ،‬وأ ْك َر ِمها عليه‪ ،‬فإ َّنه سبحانه‬ ‫أح ِّ‬
‫ِ‬
‫أن عبود َّية ال َّتوبة من َ‬ ‫‪َّ -1‬‬
‫أحب األشياء إليه َلمَا اب ُتليِ َ َّ‬
‫بالذنب أكر ُم‬ ‫ني‪ ،‬ولو مل تكن ال َّتوب ُة َّ‬ ‫التوابِ َ‬ ‫حيب َّ‬
‫اخلَ ْلق عليه‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫الذل‪ ،‬واالنكسار‪ ،‬واخلضوع‪ ،‬والتم ُّل ِق هلل‪،‬‬ ‫أن عبود َّية ال َّتوبة فيها من ُّ‬ ‫‪َّ -2‬‬
‫وإن زادت يف‬ ‫أحب إليه من كثري من األعامل ال َّظاهرة‪ْ ،‬‬ ‫والتذ ُّلل له‪ ،‬ما هو ُّ‬
‫وح العبود َّية‪،‬‬ ‫الذ َّل واالنكسار ُر ُ‬‫فإن ُّ‬‫ال َق ْدر والك َِّم َّية عىل عبود َّية ال َّتوبة‪َّ ،‬‬
‫يوضحه‪:‬‬ ‫ومخُُّها و ُل ُّبها‪ِّ ،‬‬
‫أكمل منها لغريه؛ فإ َّنه قد‬ ‫الذ ِّل واالنكسار لل َّتائب ُ‬ ‫ب ُّ‬ ‫حصول مراتِ ِ‬
‫َ‬ ‫أن‬ ‫‪َّ -3‬‬
‫ِ‬
‫بانكسار‬ ‫وامتاز عنه‬
‫َ‬ ‫شارك َمن مل ُيذنِب يف ُذ ِّل الفقر‪ ،‬والعبود َّية‪ ،‬واملح َّبة‪،‬‬ ‫َ‬
‫ند‬‫أج ُد َك؟ قال‪ِ :‬ع َ‬ ‫قلبِه باملعصية كام يف األثر اإلرسائييل‪ :‬يا ر ِّب‪ ،‬أين ِ‬
‫َ‬
‫العبد من َر ِّبه‬
‫ُ‬ ‫أقرب ما يكون‬ ‫هذا‬ ‫ِ‬
‫ل‬ ‫وألج‬ ‫يل‪.‬‬ ‫أج‬ ‫ن‬ ‫م‬‫ا ُملنكسرِ ِة قلو م ِ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫بهُ‬
‫وانكسار بني يدي َر ِّبه ‪.‬‬‫ٍ‬ ‫وهو ساجد؛ أل َّنه مقا ُم ُذ ٍّل‬
‫قول َيو َم‬ ‫النبي ﷺ فيام َيروي عن ر ِّبه تبارك وتعاىل‪« :‬أ َّنه َي ُ‬ ‫قول ِّ‬ ‫وتأ َّم ْل َ‬
‫طعمني‪ ،‬قال‪ :‬يا رب‪ ،‬كيف ُأ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك‬ ‫طع ُم َ‬ ‫َ ِّ‬ ‫ك ف َل ْم ُت ْ‬ ‫ابن آ َد َم‪ ،‬اس َتط َع ْم ُت َ‬ ‫القيامة‪َ :‬‬
‫طع ْمه‪َ ،‬أما لو أط َع ْم َته‬ ‫مك عبدي ف َلم ُت ِ‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ط‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫اس‬ ‫قال‪:‬‬ ‫؟‬ ‫ني‬ ‫وأنت رب العالمَ ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُّ َ‬
‫ك ف َل ْم َت ْس ِقني‪ ،‬قال‪ :‬يا َر ِّب‪َ ،‬‬
‫كيف‬ ‫ابن آ َد َم‪ ،‬اس َتس َق ْي ُت َ‬ ‫َ‬ ‫دي‪.‬‬ ‫ن‬
‫ْ‬ ‫ع‬‫ذلك ِ‬ ‫َل َو َج ْد َت َ‬
‫الن ف َل ْم َت ْس ِق ِه‪َ ،‬أما َل ْو‬
‫سقاك َع ْبدي ُف ٌ‬‫َ‬ ‫ني؟ قال‪ :‬اس َت‬ ‫ِ‬
‫وأنت َر ُّب العالمَ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫أسقيك‬
‫ت ف َل ْم َت ُع ْدين‪ ،‬قال‪ :‬يا َر ِّب‪ ،‬كيف‬ ‫ابن آ َد َم‪َ ،‬م ِر ْض ُ‬ ‫س َقي َته َلوج ْد َت َ ِ‬
‫ذلك عنْدي‪َ .‬‬ ‫َ ْ َ َ‬
‫إن َع ْبدي ُفال ًنا َم ِر َض ف َل ْم َت ُع ْده‪َ ،‬أما َل ْو‬ ‫ِ‬
‫ني؟ قال‪َ :‬أما َّ‬ ‫وأنت َر ُّب العالمَ َ‬ ‫َ‬ ‫أ ُعو ُد َك‬
‫ُع ْد َت ُه َل َو َج ْد َتني ِع َنده»(((‪ ،‬فقال يف عيادة املريض‪َ « :‬ل َو َج ْد َتني ِع َنده»‪ ،‬وقال‬
‫املريض‬ ‫ففرق بينهام‪َّ ،‬‬
‫فإن‬ ‫دي»‪،‬‬ ‫ن‬
‫ْ‬ ‫ذلك ِ‬
‫ع‬ ‫َ‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫د‬
‫ْ‬ ‫ج‬ ‫و‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫«‬ ‫‪:‬‬ ‫يف اإل ْطعام واإلس َق ِ‬
‫اء‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬
‫املرض‪ ،‬فإذا كان مؤمنًا‬ ‫بد أن َيكسرِ ه ُ‬ ‫القلب ولو كان َمن كان‪ ،‬فال َّ‬ ‫ِ‬ ‫مكسور‬
‫ُ‬
‫((( أخرجه مسلم (‪ )2569‬بنحوه‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫التـــــوبة‬

‫قد انكرس قل ُبه باملرض كان اهلل عنده‪.‬‬


‫والفضل والعطايا إ َّنام َت ِنزل يف َشم ِع ِ‬ ‫ِ‬ ‫جلبرْ ِ‬
‫دان‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫أن شمع َة ا َ‬ ‫والقصد‪َّ :‬‬
‫وافر‪ ،‬يوضحه ‪:‬‬ ‫نصيب‬ ‫ذلك‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ائب ِ‬ ‫االنكسار‪ ،‬وللعايص ال َّت ِ‬ ‫ِ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫أنفع للعبد إذا اقرتنت به ال َّتوب ُة ِمن كثري ِمن ال َّطاعات‪،‬‬ ‫الذنب قد يكون َ‬ ‫أن َّ‬ ‫‪َّ -4‬‬
‫ب فيدخل به اجلنَّ َة‪،‬‬ ‫الذ ْن َ‬‫العبد َّ‬ ‫الس َلف‪ «:‬قد يعمل ُ‬ ‫ِ‬ ‫وهذا معنى ِ‬
‫بعض َّ‬ ‫قول‬
‫وقد يعمل ال َّطاع َة فيدخل هبا النَّار‪ ،‬قالوا‪ :‬وكيف ذلك؟ قال‪ :‬يعمل‬
‫وإن مشى‪ ،‬ك َّلام َذ َك َره‬ ‫وإن َق َع َد ْ‬ ‫إن قام ْ‬ ‫ب َعينَ ْي ِه؛ ْ‬ ‫ب فال يزال ُن ْص َ‬ ‫الذ ْن َ‬ ‫َّ‬
‫سبب نجاتِه‪ ،‬ويعمل‬ ‫َ‬ ‫واستغفارا‪ ،‬و َن َد ًما‪ ،‬فيكون ذلك‬ ‫ً‬ ‫أحدث له َتوب ًة‪،‬‬ ‫َ‬
‫قعد وإن مشى‪ ،‬ك َّلام َذ َك َرها‬ ‫إن قام وإن َ‬ ‫ب عينيه؛ ْ‬ ‫احلسنة‪ ،‬فال تزال ُن ْص َ‬
‫نب م ِ‬
‫وج ًبا‬ ‫َّ‬
‫الذ‬ ‫فيكون‬ ‫ه‪،‬‬ ‫ِ‬
‫هالك‬ ‫سبب‬ ‫فتكون‬ ‫َّة‪،‬‬ ‫ن‬ ‫وك ا ِ‬
‫وم‬ ‫أور َث ْته ُعجبا ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ ً برًْ‬ ‫ْ‬
‫ٍ‬
‫وحياء‬ ‫خوف ِمن اهلل‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ومعامالت قلب َّية؛ ِمن‬ ‫ٍ‬ ‫طاعات وحسنات‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫لترَ َ ُّتب‬
‫ناد ًما‪ُ ،‬مستقبِ اًل َر َّبه»‪،‬‬ ‫خجل‪ ،‬باكيا ِ‬ ‫اً‬ ‫رأسه‬ ‫ا‬‫ِّس‬‫ك‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫يديه‬ ‫بني‬ ‫ٍ‬
‫وإطراق‬ ‫منه‪،‬‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ُ ً‬
‫توجب له صول ًة‪ِ ،‬‬
‫وكبرًْ ا‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫طاعة‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫للعبد ِ‬
‫ِ‬ ‫أنفع‬ ‫ِ‬
‫اآلثار‬ ‫هذه‬ ‫من‬ ‫ٍ‬
‫واحد‬ ‫ُّ‬
‫وكل‬
‫َ ْ‬ ‫ُ‬
‫خري‬ ‫ب‬ ‫أن هذا ا ُمل ْذنِ‬ ‫َّ‬ ‫ريب‬ ‫وال‬ ‫‪،‬‬ ‫ِ‬
‫االحتقار‬ ‫واز ِدرا ًء بالنَّاس‪ ،‬ورؤي َتهم ِ‬
‫بعني‬ ‫ْ‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫الص ِائل‬ ‫َّ‬ ‫ه‪،‬‬ ‫والفوز من هذا ا ُملعجب بطاعتِ‬
‫ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫وأقرب إىل النَّجاة‬ ‫ُ‬ ‫عند اهلل‪،‬‬
‫خالف ذلك‬ ‫َ‬ ‫وإن قال بلسانه‬ ‫وعباده‪ْ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫هبا‪ ،‬ا ْلـماَ ِّن هبا‪ ،‬وبِحالِه عىل اهلل‬
‫اخلالئق إذا مل ُيع ِّظموه ويرفعوه‪،‬‬ ‫َ‬ ‫عادي‬ ‫فاهللُ شهيد عىل ما يف قلبِه‪ ،‬ويكاد ي ِ‬
‫ُ‬
‫وخيض ُعوا له‪ ،‬وجيد يف قلبِه ُب ْغض ًة َلمِ ْن مل يفعل به كذلك‪ ،‬ولو ف َّت َش ن ْف َسه‬
‫كامنًا‪.‬‬‫التفتيش لرأى فيها ذلك ِ‬ ‫ِ‬ ‫حق‬ ‫َّ‬
‫وعرفه به َق ْد َره‪ ،‬وكفى‬ ‫به‪،‬‬ ‫ه‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ٍ‬
‫ب‬ ‫ن‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ذ‬ ‫يف‬ ‫ألقاه‬ ‫ا‬ ‫خري‬ ‫فإذا أراد اهلل هبذا ِ‬
‫العبد‬
‫َّ‬ ‫سرَ َ‬ ‫ً‬
‫‪61‬‬
‫والكبرْ ِ واملِنَّة‬
‫ِ‬ ‫رأسه‪ ،‬واستخرج به منه دا َء ال ُع ْجب‬ ‫به عبا َده شرََّ ُه‪ ،‬و َنكَّس به َ‬
‫طاعات كثرية‪ ،‬ويكون‬ ‫ٍ‬ ‫أنفع هلذا ِمن‬ ‫عليه وعىل عباده‪ ،‬فيكون هذا َّ‬
‫ب َ‬ ‫الذ ْن ُ‬
‫قيل بلسان احلال يف‬ ‫الداء ال ُع َضال‪ ،‬كام َ‬ ‫الدواء ليستخرج به َّ‬ ‫ب َّ‬ ‫بمنزلة شرُ ْ ِ‬
‫وخروجه من اجلنَّة بذ ْنبِه‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫قصة آد َم‬ ‫َّ‬
‫وجودي و َك َرمي‬ ‫ظهر فضيل ُ‬ ‫أن ُأ ِ‬ ‫أحب ْ‬ ‫ُّ‬ ‫بالذنب ألنيِّ‬ ‫يا آد ُم‪ ،‬إ َّنام ابتلي ُتك َّ‬
‫ون‬
‫غف ُر َ‬ ‫ون فيس َت ِ‬ ‫َ‬ ‫ب‬‫عىل من عصاين‪َ ،‬لو لمَ ُت ْذنِبوا َل َذهب اهلل ب ُكم‪ ،‬ولجَ اء ب َقو ٍم ي ْذنِ‬
‫َ‬ ‫ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ‬
‫غف ُر ُهلم‪.‬‬ ‫اهلل في ِ‬
‫َ‬
‫بح ْلمي؟‬ ‫الذنوب فعىل من أجود ِ‬ ‫يك من ُّ‬ ‫وعصمت َبنِ َ‬ ‫ُ‬ ‫يا آدم‪ ،‬إذا عصم ُتك‬
‫َ ُ‬
‫الرحيم؟‬ ‫اب َّ‬‫وعىل َمن أجود ب َع ْفوي و َمغفريت وتوبتي‪ ،‬وأنا ال َّت َّو ُ‬
‫يا آدم‪ ،‬ال جتزع ِمن قويل لك‪ ﴿ :‬ﮗ ﮘ﴾ [األعراف‪ ]18 :‬فلك َخ َل ْق ُتها‪ ،‬ولكن‬
‫جل ُفون‪،‬‬ ‫ا‬ ‫حائب‬ ‫س‬ ‫عليه‬ ‫ر‬ ‫دار املجاهدة‪ ،‬واب ُذر بِ َذار ال َّتقوى‪ ،‬وأمطِ‬ ‫اهبِ ْط إىل ِ‬
‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫فاح ُص ْد ُه‪.‬‬ ‫ب واس َتغ َلظ‪ ،‬واستوى عىل ُسوقه؛ ف َت َع َال ْ‬ ‫حل ُّ‬
‫اشتد ا َ‬‫فإذا َّ‬
‫طاعة ُت ِد ُّل هبا علينا‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ب إلينا من‬ ‫أح ُّ‬ ‫ذنب َتذ ُّل به لدينا‪َ ،‬‬
‫ِ‬
‫يا آدم‪ٌ ،‬‬
‫ني‪.‬‬‫ب إلينا من تسبيح ا ُمل ِد ِّل َ‬ ‫أح ُّ‬ ‫بني‪َ ،‬‬‫أنني ا ُمل ْذنِ َ‬ ‫يا آدم‪ُ ،‬‬
‫نك وال‬ ‫لك عىل ما كان ِم َ‬ ‫ور َج ْو َتني َغ َف ْر ُت َ‬ ‫ك ما َد َع ْو َتني َ‬ ‫ابن آ َد َم‪ ،‬إ َّن َ‬‫«يا َ‬
‫ان الس ِ‬
‫لك‪.‬‬ ‫امء‪ُ ،‬ث َّم اس َتغ َف ْر َتني َغ َف ْر ُت َ‬ ‫ك َعنَ َ َّ‬ ‫ت ُذنو ُب َ‬ ‫ابن آ َد َم‪َ ،‬ل ْو َب َل َغ ْ‬ ‫ُأبايل‪َ .‬‬
‫رش ُك يب َش ْي ًئا‪،‬‬ ‫األرض َخطا َيا‪ُ ،‬ث َّم َل ِقي َتني ال ُت ِ‬ ‫ِ‬ ‫اب‬ ‫ابن آ َد َم‪َ ،‬ل ْو َل ِقي َتني بِ ُق َر ِ‬ ‫يا َ‬
‫ك ب ُقرابهِ ا م ِ‬
‫غفرةً»(((‪.‬‬ ‫َ‬ ‫أ َت ْي ُت َ َ‬
‫((( أخرجه الرتمذي (‪ ،)3540‬وصححه األلباين يف «صحيح اجلامع» (‪.)4338‬‬

‫‪62‬‬
‫التـــــوبة‬

‫التوبة النصوح وحقيقتها‪:‬‬


‫﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ‬ ‫قال تعاىل‪:‬‬
‫َ‬
‫فجعل‬ ‫ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ﴾ [التحريم‪،]8 :‬‬
‫َ‬
‫ودخول‬ ‫العبد‪،‬‬
‫ُ‬ ‫تكفريها‪ -‬بزوال ما َيك َْر ُه‬
‫ُ‬ ‫رش الس ِّيئات ‪-‬وهو‬ ‫وقاي َة ِّ‬
‫العبد‪َ -‬منُو ًطا بحصول ال َّتوبة النَّصوح‪،‬‬‫ُ‬ ‫حيب‬
‫حصول ما ُّ‬ ‫ُ‬ ‫اجلنَّات ‪-‬وهو‬
‫ومرج ُعها إىل يشء واحد‪ ،‬فقال عمر بن‬ ‫ِ‬ ‫السلف عنها‪،‬‬ ‫عبارات َّ‬
‫ُ‬ ‫وقد اختلفت‬
‫يتوب من َّ‬
‫الذنب ثم ال‬ ‫َ‬ ‫َّصوح‪ْ :‬‬
‫أن‬ ‫كعب ‪« :‬ال َّتوب ُة الن ُ‬ ‫ٍ‬ ‫اخلطاب و ُأبيَُّ‪ ‬بن‬
‫يعود إليه كام ال يعود اللب ُن إىل الضرَّ ْ ع»‪.‬‬
‫االستغفار‬
‫ُ‬ ‫ظي ‪« :‬جيمعها أربع ُة أشيا َء‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫كعب ال ُق َر ُّ‬ ‫وقال حممد بن‬
‫ومهاجر ُة‬ ‫جلنان‪،‬‬ ‫با‬ ‫بال ِّلسان‪ ،‬واإلقالع باألبدان‪ ،‬وإضامر َتر ِك العو ِ‬
‫د‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫ُ ْ‬ ‫ُ‬
‫َس ِّي ِئ اإلخوان»‪.‬‬
‫يتضمن ثالث َة أشيا َء‪:‬‬
‫َّ‬ ‫النصح يف ال َّتوبة‬
‫ُ‬ ‫قلت‪:‬‬
‫بحيث ال َت َد ُع ذن ًبا إال تناو َل ْته‪.‬‬
‫ُ‬ ‫تعميم مجي ِع ُّ‬
‫الذنوب واستغرا ُقها هبا‬ ‫ُ‬ ‫[األول]‪:‬‬
‫والصدق ب ُك ِّل َّيته عليها‪ ،‬بحيث ال يبقى عنده َتر ُّدد‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫إمجاع ال َع ْزم‬
‫ُ‬ ‫الثـاين‪:‬‬
‫كل إرادتِه وعزيمتِه ِ‬
‫مباد ًرا هبا‪.‬‬ ‫تلو ٌم وال انتظار‪ ،‬بل جيمع عليها َّ‬ ‫وال ُّ‬
‫إخالصها‪ ،‬ووقو ُعها‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫القادحة يف‬ ‫الشوائب ِ‬
‫والع َلل‬ ‫ختليصها من َّ‬ ‫الثالث‪:‬‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫والرهبة ممَّا عنده‪ ،‬ال‬ ‫ِ‬
‫والرغبة فيام لديه‪،‬‬ ‫اخلوف ِمن اهلل تعاىل وخشيتِه‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ملحض‬
‫ِ‬
‫حفظ‬ ‫ظ حالِه‪ ،‬أو‬ ‫جاهه وحرمتِه‪ ،‬ومنصبه ورياستِه‪ ،‬أو ِحل ْف ِ‬ ‫ظ ِ‬ ‫َكمن يتوب ِحل ْف ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ‬
‫اهلرب ِمن َذ ِّمهم‪ ،‬أو لئلاَّ يتس َّلط عليه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الناس‪ ،‬أو‬ ‫ِ‬
‫استدعاء حمَ ْ ِد‬ ‫قوتِه ومالِه‪ ،‬أو‬‫َّ‬

‫‪63‬‬
‫وعج ِزه‪ ،‬ونحو ذلك من‬ ‫إلفالسه‬ ‫أو‬ ‫نب‪،‬‬ ‫َّ‬
‫الذ‬ ‫من‬ ‫ه‬ ‫الس َفهاء‪ ،‬أو لقضاء متِ‬
‫ْ‬ ‫نهَ ْ َ‬ ‫ُّ ُ‬
‫وخ ُل ِ‬
‫وصها هلل‪.‬‬ ‫صحتها ُ‬ ‫ِ‬
‫الع َلل التي َت َ‬
‫قد ُح يف َّ‬
‫ف ب ُط ْه ِرهم‬‫فإن مل َت ِ‬ ‫الدنيا‪ْ ،‬‬ ‫يتطه َ‬ ‫نوب ثالث ُة ٍ ِ‬ ‫الذ ِ‬ ‫ِ‬
‫فألهل ُّ‬
‫رون هبا يف ُّ‬ ‫أهنار عظا ٍم َّ‬
‫ِ‬
‫احلسنات‬ ‫هنر اجلحي ِم يو َم القيامة‪ :‬هنر ال َّتوبة النَّصوح‪ ،‬وهنر‬ ‫ُط ِّهروا يف ِ‬
‫ِ‬
‫العظيمة ا ُمل َك ِّفرة‪ ،‬فإذا أراد اهلل‬ ‫املحيطة هبا‪ ،‬وهنر املصائب‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لألوزار‬ ‫ا ُمل ِ‬
‫ستغرقة‬
‫طاهرا‪ ،‬فلم‬ ‫فو َر َد القيام َة ط ِّي ًبا‬
‫األهنار الثالثة‪َ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫أحد هذه‬ ‫خريا أدخله َ‬
‫ً‬ ‫بعبده ً‬
‫الرابع‪.‬‬
‫حي َت ْج إىل النهر َّ‬
‫بعدها‪،‬‬‫وبة منه َ‬ ‫بتوبة ِمن اهلل عليه َقب َلها‪ ،‬و َت ٍ‬ ‫العبد إىل اهلل تعاىل حمفوف ٌة ٍ‬ ‫و َتوب ُة ِ‬
‫ْ‬
‫تاب عليه أو اًَّل إذ ًنا وتوفي ًقا‬ ‫ه‬‫ن‬‫َّ‬ ‫فإ‬ ‫‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫والحقة‬ ‫ٍ‬
‫سابقة‬ ‫ف َتوب ُته بني َتوب َتينْ ِ من اهلل؛‬
‫َ‬
‫بول وإثاب ًة‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬ﯙ ﯚ‬ ‫فتاب اهلل عليه ثان ًيا َق اً‬
‫العبد‪َ ،‬‬
‫فتاب ُ‬ ‫وإهلا ًما‪َ ،‬‬
‫ﯛﯜ ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ‬
‫ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﴾ [ال َّت ْوبة‪.]١١٨ – ١١٧ :‬‬
‫ِ‬
‫اإلباق‪،‬‬ ‫اب‪ ،‬ف َتوب ُة العبد رجو ُعه إىل س ِّيده بعد‬‫اب‪ ،‬واهلل َت َّو ٌ‬
‫والعبد َت َّو ٌ‬
‫وتوفيق‪ ،‬و َق ٌ‬ ‫ِ‬
‫نوعان‪ٌ :‬‬
‫بول واعتدا ٌد‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫إذن‬ ‫و َتوب ُة َّ‬
‫الر ِّب‬
‫بسلوك رصاطِه املستقي ِم‬
‫ِ‬ ‫الرجوع إىل اهلل‬
‫ُ‬ ‫فمبدؤها‬
‫ُ‬ ‫ومنتهى‪،‬‬ ‫وال َّتوبة هلا ٌ‬
‫مبدأ ُ‬
‫وص اًل إىل ِرضوانه‪ ،‬وأ َم َرهم بسلوكه بقوله‪﴿:‬ﭺ ﭻ‬ ‫لعباده‪ ،‬م ِ‬‫ِ‬ ‫ا َّلذي َن َص َبه‬
‫ُ‬
‫الرجوع‬
‫ُ‬ ‫ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﴾ [األنعام‪ ،]153 :‬وهناي ُتها‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫إليه يف ا َملعاد‪،‬‬
‫فمن رجع إىل‬ ‫وسلوك رصاطه الذي َن َص َبه ُموص اًل إىل َجنَّته‪َ ،‬‬
‫الد ِار بال َّتوبة؛ رجع إليه يف ا َملعاد بال َّث ِ‬
‫واب‪.‬‬ ‫اهلل يف هذه َّ‬

‫‪64‬‬
‫التـــــوبة‬

‫الذنوب صغائر وكبائر‪:‬‬

‫الس َلف‬ ‫ِ‬


‫ع‬ ‫وإمجا‬ ‫َّة‬ ‫ن‬‫والس‬ ‫ِ‬
‫القرآن‬ ‫بنص‬ ‫ر‬ ‫ِ‬
‫وكبائ‬ ‫ر‬ ‫ِ‬
‫صغائ‬ ‫ُّ‬
‫الذنوب تنقسم إىل‬
‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫واالعتبار‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ‬ ‫ِ‬
‫ﮚ﴾ [النساء‪.]31 :‬‬
‫األرض َخطايا‪ُ ،‬ث َّم َل ِقي َتني ال ُتشرْ ِ ُك يب‬
‫ِ‬ ‫وأ َّما حديث‪َ « :‬ل ْو َل ِقي َتني ب ُق ِ‬
‫راب‬
‫صغائر‪،‬‬ ‫ه‬ ‫ُّ‬
‫ل‬ ‫ك‬ ‫َ‬
‫الرشك‬ ‫ا‬ ‫د‬‫َ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ما‬ ‫َّ‬
‫أن‬ ‫عىل‬ ‫هذا‬ ‫ُّ‬
‫يدل‬ ‫فال‬ ‫‪،‬‬ ‫ة‬
‫ً»‬ ‫ر‬ ‫ك ب ُقرابهِ ا م ِ‬
‫غف‬ ‫َشي ًئا‪ ،‬أ َت ْي ُت َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫(((‬

‫أن َمن مل ُيشرْ ِ ك باهلل شي ًئا فذنو ُبه مغفور ٌة كائن ًة ما كانت‪ ،‬ولكن‬ ‫يدل عىل َّ‬ ‫بل ُّ‬
‫القلوب بأعامل اجلوارح‪ ،‬وتع ُّلقها هبا‪ ،‬وإلاَّ مل‬ ‫ِ‬ ‫أن يعلم ارتباط أعامل‬ ‫ينبغي ْ‬
‫يفهم مراد الرسول ﷺ‪ ،‬ويقع اخل ْبط وال َّت ْخبيط‪.‬‬

‫أن ال ُيشرْ ِ ك باهلل شي ًئا الب َّت َة‪ -‬ال ُ‬


‫يصدر‬ ‫فاعلم أن هذا النَّفي العا َّم للشرِّ ْ ك‪ْ -‬‬‫ْ‬
‫دم ُن الكبرية وا ُملصرُِّ عىل الصغرية ْ‬
‫أن‬ ‫أبدا‪ ،‬وال يمكن م ِ‬ ‫ً‬ ‫معصية‬ ‫عىل‬ ‫م‬ ‫ن‬‫م‬‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ صرٍِّ‬
‫يلتفت‬
‫ُ‬ ‫رش َك باهلل شي ًئا‪ ،‬هذا ِمن أعظ ِم ا ُملحال‪ ،‬وال‬ ‫وحيد‪ ،‬حتى ال ُي ِ‬ ‫ُ‬ ‫يصفو له ال َّت‬
‫كاحلجر أو أقسى‪ ،‬يقول‪ :‬وما‬ ‫ِ‬ ‫إىل َج َد ٍّيل ال َح َّظ له يف أعامل القلوب‪ ،‬بل َق ْل ُبه‬
‫وج ُه اإلحالة؟‬
‫املانع؟ وما ْ‬
‫ِ‬
‫املعصية‬ ‫اإلرصار عىل‬ ‫واعلم َّ‬
‫أن‬ ‫ِ‬
‫وجهله‪،‬‬ ‫فتون بِ َج َدلِه‬
‫القلب ا َمل َ‬ ‫َف َد ْع هذا‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫وح ِّبه لغري اهلل‪،‬‬ ‫خوف القلب ِمن غري اهلل ورجائه ِ‬
‫لغري اهلل‪ُ ،‬‬
‫ِ‬ ‫ب ِمن‬ ‫يوج ُ‬ ‫ِ‬
‫و ُذ ِّله لغري اهلل‪ ،‬و َتو ُّك ِله عىل غري اهلل ما يصري به م ِ‬
‫نغم ًسا يف بِ ِ‬
‫حار الشرِّ ْ ك‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫((( أخرجه مسلم (‪ )2687‬بنحوه‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫فإن ُذ َّل‬
‫عقل‪َّ ،-‬‬ ‫‪-‬إن كان له ٌ‬ ‫نفسه ْ‬ ‫واحلاكم يف هذا ما يعلمه اإلنسان ِمن ِ‬
‫ُ‬
‫ور َثه خو ًفا من غري اهلل‪ ،‬وذلك شرِ ْ ٌك‪،‬‬ ‫أن يقو َم بالقلب ف ُي ِ‬
‫بد ْ‬
‫املعصية ال َّ‬
‫وص ُله إىل َغ َر ِضه‪،‬‬
‫ور َثه حمب ًة لغري اهلل‪ ،‬واستعان ًة بغريه يف األسباب التي ُت ِ‬
‫َّ‬ ‫و ُي ِ‬
‫فيكون عم ُله ال باهلل وال له‪ ،‬وهذا حقيق ُة الشرِّ ْ ك‪.‬‬
‫ِ‬
‫األرض‬ ‫يستحيل أن يلقى اهلل بِ ُق ِ‬
‫راب‬ ‫ُ‬ ‫رش ْك باهلل شي ًئا‬‫أن َمن مل ُي ِ‬ ‫واملقصود‪َّ :‬‬
‫ب‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫تائب منها‪ ،‬مع ِ‬ ‫غري ٍ‬
‫حل ِّ‬
‫ُ‬ ‫ا‬ ‫ة‬ ‫غاي‬ ‫هو‬ ‫الذي‬ ‫ه‬ ‫توحيد‬ ‫كامل‬ ‫خطا َيا ُمصرًِّ ا عليها َ‬
‫ِ‬
‫للر ِّب تعاىل‪.‬‬ ‫واخلضو ِع‪ ،‬واخلوف والرجاء َّ‬
‫ِ‬
‫احلياء‬ ‫أن الكبِرية قد َيقترَ ِ ُن هبا ِمن‬ ‫أمر ينبغي ال َّتف ُّط ُن له‪ ،‬وهو َّ‬ ‫وهاهنا ٌ‬
‫بالصغرية ِمن‬ ‫يقرتن َّ‬‫ُ‬ ‫ِ‬
‫بالصغائر‪ ،‬وقد‬ ‫واخلوف‪ ،‬واالستعظا ِم هلا ما ي ِ‬
‫لح ُقها‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫واالستهانة هبا ما ُي ْل ِح ُقها بالكبائر‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ِق َّل ِة احلياء‪ ،‬وعد ِم ا ُملباالة‪ ،‬و َت ْر ِك اخلوف‪،‬‬
‫بل جيعلها يف أعىل ُر َتبِها‪.‬‬
‫الفعل‪،‬‬‫ِ‬ ‫جمرد‬ ‫زائد عىل َّ‬
‫قدر ٌ‬ ‫ِ‬
‫بالقلب‪ ،‬وهو ٌ‬ ‫أمر َم ْر ِج ُعه إىل ما يقو ُم‬
‫وهذا ٌ‬
‫ِ‬
‫وغريه‪.‬‬ ‫واإلنسان يعرف ذلك ِمن ِ‬
‫نفسه‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫اإلحسان العظيم‪ ،‬ما ال ُيع َفى‬ ‫ِ‬
‫ولصاحب‬ ‫ب‪،‬‬ ‫ح‬‫وأيضا فإ َّنه يع َفى للم ِ‬
‫ً‬
‫ُ ِّ‬ ‫ُْ‬
‫غريه‪.‬‬ ‫ِ‬
‫لغريه‪ ،‬ويسا َم ُح بام ال يسا َم ُح به ُ‬

‫‪66‬‬
‫التـــــوبة‬

‫فضل (ال إله إال اهلل) وما يقع يف القلب منها‬

‫وشد ِة احلاجة إليه‪:‬‬


‫لع َظ ِم هذا ا َملقام َّ‬‫و َنزيد هاهنا إيضاحا؛ ِ‬
‫ً‬
‫قو ِة‬ ‫ِ‬
‫الذنوب وغيومها ب َق ْد ِر َّ‬ ‫اب ُّ‬‫بد ُد ِمن َض َب ِ‬ ‫اعلم َّ‬
‫أن أش َّع َة (ال إله إال اهلل) ُت ِّ‬ ‫ْ‬
‫ُّور قو ًة وضع ًفا‬ ‫أهلها يف ذلك الن ِ‬ ‫الشعا ِع وضع ِفه‪ ،‬فلها نور‪ ،‬وتفاو ُت ِ‬ ‫ذلك ُّ‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬
‫الكلمة يف قلبِه كالشمس‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ور هذه‬ ‫ن‬
‫ُ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫‪:‬‬ ‫ِ‬
‫الناس‬ ‫ن‬ ‫ال يحُ صيه إال اهللُ تعاىل؛ ِ‬
‫فم‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫الد ِّر ِّي‪.‬‬ ‫ِ‬
‫كالكوكب ُّ‬ ‫نورها يف قلبِه‬ ‫ومنهم‪َ :‬من ُ‬
‫نورها يف قلبه كاملِ ْش َعل العظيم‪.‬‬ ‫ومنهم‪َ :‬من ُ‬
‫الضعيف‪.‬‬ ‫وآخر‪ :‬كالسرِّ اج ا ُملضيِ ء‪ ،‬وآخر‪ :‬كالسرِّ اج َّ‬ ‫َ‬
‫القيامة بأ ْيامنهِ ِم وبينْ أيدهيم عىل هذا املِ ْقدار‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫األنوار يو َم‬ ‫ُ‬ ‫تظهر‬
‫ُ‬ ‫وهلذا‬
‫وحال‪.‬‬ ‫اً‬ ‫وعمل‪ ،‬ومعرف ًة‬ ‫اً‬ ‫الكلمة‪ِ ،‬ع ْل اًم‬
‫ِ‬ ‫نور هذه‬ ‫ب ما هو يف قلوبهِ م ِمن ِ‬ ‫بحس ِ‬ ‫َ‬
‫الشب ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫هات والشهوات‬ ‫أح َر َق من ُّ ُ‬ ‫واشتد؛ ْ‬
‫َّ‬ ‫الكلمة‬ ‫نور هذه‬ ‫وك َّلام ع ُظ َم ُ‬
‫ِ‬ ‫وصل إىل ٍ‬ ‫وش َّدتِه‪ ،‬حتى إ َّنه ر َّبام‬ ‫بحسب قوتِه ِ‬
‫ف معها ُشبهة وال‬ ‫يصاد ُ‬ ‫حال ال‬ ‫َ‬ ‫ِ َّ‬
‫حال الصادق يف توحيده‪ ،‬الذي مل ُيشرْ ِ ك باهلل‬ ‫أح َرقه‪ ،‬وهذا ُ‬ ‫شهو ًة وال ذ ْن ًبا إال ْ‬
‫أح َرقها‪ ،‬فسام ُء إيامنِه قد‬ ‫ذنب أو شهوة أو ُشبهة َد َن ْت من هذا النُّور ْ‬
‫ٍ‬ ‫فأي ٍ‬ ‫شي ًئا‪ُّ ،‬‬
‫ارق إال عىل ِغ َّر ٍة‬ ‫الس ُ‬ ‫َّ‬ ‫منها‬ ‫ينال‬ ‫ُ‬ ‫فال‬ ‫حلسناته‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫سارق‬ ‫كل‬ ‫ِّ‬ ‫ن‬ ‫م‬‫ح ِرست بالنُّجوم ِ‬
‫ُ َ‬
‫سار ِقه‪،‬‬ ‫استنقذه ِمن ِ‬
‫َ‬ ‫استيقظ و َع ِل َم ما سرُ ِ َق منه‬ ‫َ‬ ‫بد منها للبرش‪ ،‬فإذا‬ ‫وغفلة ال َّ‬ ‫ٍ‬
‫واإلنس‪ ،‬ليس‬ ‫ِ‬ ‫اجل ِّن‬ ‫لصوص ِ‬ ‫ِ‬ ‫أبدا مع‬ ‫حص َل أضعا َفه بك َْسبِه‪ ،‬فهو هكذا ً‬ ‫أو َّ‬
‫ظهره‪.‬‬ ‫الباب‬ ‫لىَّ‬ ‫وو‬ ‫ه‪،‬‬‫ت‬‫َ‬ ‫زان‬ ‫خ‬‫كمن َف َتح هلم ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫‪67‬‬
‫كل يشء‬ ‫رب ِّ‬ ‫خالق إال اهلل‪َّ ،‬‬ ‫إقرار ِ‬ ‫جمر َد ِ‬
‫وأن اهلل ُّ‬ ‫العبد بأ َّنه ال َ‬ ‫التوحيد َّ‬ ‫ُ‬ ‫وليس‬
‫وهم ُم ِ‬ ‫ِ‬
‫التوحيد‬‫ُ‬ ‫رشكون‪ ،‬بل‬ ‫و َمليكُه‪ ،‬كام كان ُع َّبا ُد األصنا ِم ُمق ِّري َن بذلك ُ‬
‫االنقياد لطاعتِه‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وكامل‬‫ِ‬ ‫والذ ِّل له‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫يتضم ُن ِمن حم َّبة اهلل‪ ،‬واخلضو ِع له‪،‬‬ ‫َّ‬
‫األقوال واألعامل‪ ،‬واملن ِع‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وجهه األعىل بجمي ِع‬ ‫وإرادة ِ‬ ‫ِ‬ ‫العبادة له‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وإخالص‬
‫الداعية إىل‬ ‫األسباب َّ‬ ‫ِ‬ ‫غض ما يحَ ُ ول بني صاحبِه وبني‬ ‫واحلب‪ ،‬وال ُب ِ‬ ‫ِّ‬ ‫والعطاء‪،‬‬
‫«إن اهلل‬ ‫قول النَّبِ ِّي ﷺ‪َّ :‬‬ ‫عرف َ‬ ‫عرف هذا َ‬ ‫واإلرصار عليها‪ ،‬و َمن َ‬ ‫ِ‬ ‫املعايص‪،‬‬
‫بذلك َو ْج َه اهلل»(((‪ ،‬وقو َله‪« :‬ال‬ ‫َ‬ ‫ار َمن قال‪ :‬ال إل َه إلاَّ اهلل‪َ ،‬يب َتغي‬ ‫َح َّر َم عىل النَّ ِ‬
‫دخ ُل النَّ َار َمن قال‪ :‬ال إل َه إلاَّ اهلل»(((‪.‬‬ ‫َي ُ‬
‫قول‬ ‫حاصل بمجرد ِ‬ ‫اً‬ ‫صلوات اهلل وسال ُمه عليه مل جيعل ذلك‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫والشارع‬
‫َّ‬
‫ين اإلسالم‪َّ ،‬‬
‫فإن‬ ‫خالف املعلوم باالضطرار ِمن ِد ِ‬ ‫ُ‬ ‫فإن هذا‬ ‫سان فقط‪َّ ،‬‬ ‫ال ِّل ِ‬
‫ِ‬
‫األسفل‬ ‫الد ْر ِك‬ ‫اجلاح ِدي َن هلا يف َّ‬ ‫ِ‬ ‫املنافقني يقولوهنا بألسنتهم‪ ،‬وهم حتت‬
‫يتضم ُن ِمن‬ ‫َّ‬ ‫القلب‬‫ِ‬ ‫ُ‬
‫وقول‬ ‫‪،‬‬ ‫وقول ال ِّل ِ‬
‫سان‬ ‫ِ‬ ‫القلب‪،‬‬ ‫بد ِمن ِ‬
‫قول‬ ‫من النَّار‪ ،‬فال َّ‬
‫ضمنَ ْته ِمن النفي واإلثبات‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫ما‬ ‫ِ‬
‫حقيقة‬ ‫ِ‬
‫ومعرفة‬ ‫ِ‬
‫والتصديق هبا‪،‬‬ ‫معرفتها‪،‬‬
‫املختصة به‪ ،‬التي يستحيل ُثبوتهُ ا‬ ‫َّ‬ ‫حقيقة اإلهل َّية ا َملن ِْف َّية عن غري اهلل‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ومعرفة‬
‫حتريم‬ ‫ب‬ ‫يوج‬‫ِ‬ ‫ما‬ ‫اً‬
‫وحال‬ ‫ًا‬ ‫ن‬ ‫ويقي‬ ‫‪،‬‬ ‫ة‬‫ً‬ ‫ومعرف‬ ‫لم‬ ‫ع‬‫ل َغ ِ ه‪ ،‬وقيا ِم هذا املعنى بالقلب ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫اً‬ ‫يرْ‬
‫الشارع ما َر َّتب عليه من ال َّثواب‪ ،‬فإ َّنام هو‬ ‫ُ‬ ‫ب‬
‫قول َر َّت َ‬ ‫قائلها عىل النار‪ ،‬و ُك ُّل ٍ‬
‫مر ٍة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫ة‬ ‫مائ‬ ‫ه‪،‬‬ ‫د‬ ‫بحان اهلل وبحم ِ‬
‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫س‬‫ُ‬ ‫ٍ‪:‬‬
‫م‬ ‫و‬ ‫ي‬
‫َ‬ ‫يف‬ ‫قال‬ ‫ن‬ ‫«م‬
‫َ‬ ‫ﷺ‪:‬‬ ‫ه‬‫القول التام‪ ،‬كقولِ‬
‫ُّ‬

‫((( أخرجه البخاري (‪ ،)425‬ومسلم (‪)33‬‬


‫((( أخرجه البخاري (‪ ،)128‬ومسلم (‪.)32‬‬

‫‪68‬‬
‫التـــــوبة‬

‫كانت ِم ْث َل َز َب ِد ال َبحرِ»(((‪،‬‬
‫ْ‬ ‫‪-‬أو ُغ ِف َر ْت ل ُه ُذ ُنو ُبه‪ -‬و َل ْو‬ ‫ت عن ُه َخطايا ُه ْ‬ ‫ُح َّط ْ‬
‫ِ‬
‫القول ال ِّلساين‪.‬‬ ‫جمرد‬ ‫وليس هذا ُم َر َّت ًبا عىل َّ‬
‫غافل عن معناها‪ُ ،‬م ْع ِر ًضا عن تد ُّبرها‪ ،‬ومل يواطِ ْئ‬ ‫َن َع ْم‪َ ،‬من قاهلا بلسانه‪ ،‬اً‬
‫عرف َق ْد َرها وحقيق َتها‪ ،‬راج ًيا مع ذلك ثوابهَ ا‪َ ،‬ح َّطت ِمن‬ ‫قل ُبه لسا َنه‪ ،‬وال َ‬
‫ِ‬
‫وعددها‪ ،‬وإ َّنام‬ ‫بصورها‬ ‫تتفاض ُل َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫األعامل ال‬ ‫بحسب ما يف قلبه‪َّ ،‬‬
‫فإن‬ ‫خطاياه َ‬
‫فتكون صور ُة العم َلينْ ِ واحد ًة‪ ،‬وبينهام‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫القلوب‪،‬‬ ‫بتفاض ِل ما يف‬ ‫ُ‬ ‫تتفاض ُل‬
‫َ‬
‫الصف‬
‫ِّ‬ ‫والر ُجالن يكون مقا ُمهام يف‬ ‫واألرض‪َّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫التفاضل كام بني السامء‬ ‫ُ‬ ‫يف‬
‫واحدا‪ ،‬وبني صال َت ْي ِهام كام بني السامء واألرض‪.‬‬ ‫ً‬
‫وتسعون ِس ِجلاًّ ‪،‬‬
‫َ‬ ‫توضع يف ِك َّف ٍة‪ ،‬ويقابلها تسع ٌة‬ ‫البطاقة التي َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫حديث‬ ‫وتأ َّم ْل‬
‫عذب‪.‬‬‫الس ِجلاَّ ت‪ ،‬فال ُي َّ‬ ‫يش‬ ‫ُ‬ ‫البرص‪ ،‬فتث ُق ُل البطاق ُة و َتطِ‬
‫ِ‬ ‫د‬
‫َّ‬ ‫م‬ ‫منها‬ ‫ل‬‫ٍّ‬ ‫كل ِس ِ‬
‫ج‬ ‫ُّ‬
‫ِّ‬ ‫َ‬
‫بذنوبِه‪،‬‬ ‫مثل هذه البطاقة‪ ،‬وكثري منهم يدخل النار ُ‬ ‫مو ِّحد له ُ‬
‫ومعلو ٌم أن كل َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫السجلاَّ ُت‪َ ،‬ل َّ‬
‫ـمـا‬ ‫ألجله ِّ‬‫وطاش ْت ْ‬ ‫َ‬ ‫الرجل‪،‬‬ ‫ولك َّن السرَِّّ الذي َث َّق َل بطاق َة ذلك‬
‫انفردت بطاق ُته بال ِّث َقل َّ‬
‫والرزانة‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫مل ْ حيصل لغريه من أرباب البطاقات‪،‬‬
‫فانظر إىل ِذ ْك ِر َمن ق ْل ُبه مآلن بمح َّبتِك‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬
‫اإليضاح هلذا املعنى‬ ‫أردت زيادة‬
‫َ‬ ‫وإذا‬
‫انجذبت َدواعي‬‫ْ‬ ‫مشغول بغريك‪ ،‬قد‬ ‫ٌ‬ ‫غافل َس ٍاه‪،‬‬
‫كر َمن هو ُم ْع ِر ٌض عنك‪ٌ ،‬‬ ‫ِ‬
‫وذ ِ‬
‫واحدا؟ أم هل يكون‬ ‫ً‬ ‫وإيثاره عليك‪ ،‬هل يكون ِذ ْك ُرهمُ ا لك‬ ‫ِ‬ ‫قلبِه إىل حم َّب ِة غريك‪،‬‬
‫ذان همُ ا هبذه املثابة‪ ،‬أو َع ْبداك‪ ،‬أو َز ْو َجتاك‪ ،‬عندك سواء؟‬ ‫ولداك ال َّل ِ‬
‫َ‬

‫((( أخرجه البخاري (‪ ،)6405‬ومسلم (‪.)2691‬‬

‫‪69‬‬
‫اإليامن ا َّلتي مل تشغ ْله عند‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫حقائق‬ ‫ِ‬
‫املائة من‬ ‫بقلب ِ‬
‫قاتل‬ ‫ِ‬ ‫وتأ َّم ْل ما قام‬
‫أن جعل َينُو ُء‬ ‫السري إىل القرية‪ ،‬وحمَ َل ْته ‪-‬وهو يف تلك احلال‪ -‬عىل ْ‬ ‫السياق عن َّ‬ ‫ِّ‬
‫وإيامن آخر‪ ،‬وال َج َرم‬ ‫ٌ‬ ‫أمر آخر‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بصدره‪ ،‬وهو يعالج َسكَرات املوت‪ ،‬فهذا ٌ‬
‫أن ُألحِْ َق بالقرية الصالحِ ة‪ ،‬وج ِع َل ِمن ِ‬
‫أهلها‪.‬‬ ‫ُ‬
‫اشتد به‬ ‫الكلب وقد َّ‬ ‫َ‬ ‫بقلب ال َب ِغ ِّي التي رأت ذلك‬ ‫ِ‬ ‫وقريب من هذا ما قام‬ ‫ٌ‬
‫ني‪،‬‬ ‫الوقت ‪-‬مع عد ِم اآللة‪ ،‬وعدم ا ُمل ِع ِ‬ ‫َ‬ ‫العطش يأ ُك ُل ال َّثرى‪ ،‬فقام بقلبها ذلك‬ ‫ُ‬
‫البئر‪،‬‬‫أن َغ َّر َر ْت بنفسها يف نزول ِ‬ ‫رائيه بعملها‪ -‬ما مح َلها عىل ْ‬ ‫وعدم من ُت ِ‬
‫َ‬
‫لء املاء يف ُخ ِّفها‪ ،‬ومل تعبأ بت َع ُّر ِضها لل َّت َلف‪ ،‬وحمَ ِلها له بِ ِفيها وهو مآلن‪،‬‬ ‫وم ِ‬
‫َ‬
‫تواض ِعها هلذا املخلوق الذي َج َر ْت عاد ُة‬ ‫الر ِق ُّي يف البئر‪ ،‬ثم ُ‬ ‫حتى أمكنها ُّ‬
‫أن‬ ‫ف بيدها حتى شرَ ِ َب‪ِ ،‬من غري ْ‬ ‫فأمسكت له اخلُ َّ‬
‫ْ‬ ‫الناس بضرَ ْ بِه و َط ْر ِده‪،‬‬
‫تقدم‬ ‫أنوار هذا ال َق ْد ِر من التوحيد ما َّ‬ ‫فأحرقت ُ‬ ‫ْ‬ ‫ترجو منه جزا ًء وال ُشك ً‬
‫ُورا‪،‬‬
‫والعامل يف‬ ‫ُ‬ ‫حال األعامل وال ُعماَّ ِل عند اهلل‪،‬‬ ‫منها من البِغاء‪ ،‬فغفر هلا‪ ،‬فهكذا ُ‬
‫قناطري‬ ‫عىل‬ ‫غفلة من هذا اإلك ِْسري الكياموي‪ ،‬الذي إذا و ِضع منه مثقال َذر ٍ‬
‫ة‬ ‫ٍ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫حاس األعامل َق َل َبها َذ َه ًبا‪ ،‬واهلل ا ُملستعان(((‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫من ُن‬

‫سمي‪ ،‬واهلل اهلادي إىل سواء‬


‫((( ومن هذه الدرة من كالم ابن القيم رمحه اهلل ملعت فكرة هذا الكتاب وهبا ّ‬
‫السبيل‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫التـــــوبة‬

‫اسم التائب حتى يتخ ّ َلص‬


‫َ‬ ‫العبد‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫يستحق‬ ‫تاب منها وال‬
‫أجناس ما ُي ُ‬
‫ُ‬
‫منها‬

‫أجناس ا ُمل َح َّرمات‪:‬‬


‫ُ‬ ‫نسا مذكورة يف كتاب اهلل تعاىل‪ ،‬هي‬ ‫وهي اثنا َعشرَ َ ِج ً‬
‫الكفر‪ ،‬والشرِّ ْ ك‪ ،‬والنِّفاق‪ ،‬وال ُف ُسوق‪ ،‬والعصيان‪ ،‬واإلثم‪ ،‬وال ُع ْدوان‪،‬‬
‫غري ِ‬
‫سبيله‪.‬‬ ‫سبيل ِ‬ ‫ٍ‬ ‫وال َف ْحشاء‪ ،‬وا ُملنْكَر‪ ،‬وال َب ْغي‪ ،‬وال َقول عىل اهلل بال ِع ْلم‪ ،‬وا ِّتباع‬
‫دار ِّ‬
‫كل ما َح َّر َم اهلل‪ ،‬وإليها انتها ُء العالمَ ِ‬ ‫ِ‬
‫فهذه االثنا عرش جن ًْسا عليها َم ُ‬
‫ِ‬
‫صلوات اهلل وسال ُمه عليهم‪ ،‬وقد يكون يف‬ ‫ُ‬ ‫بأسرْ ِ هم‪ ،‬إال أتباع ُّ‬
‫الر ُسل‪،‬‬
‫أكثرها وأ َق ُّلها‪ ،‬أو واحدة منها‪ ،‬وقد يعلم بذلك‪ ،‬وقد ال يعلم‪.‬‬ ‫الرجل ُ‬
‫حرز ِمن ُموا َقعتِها‪ ،‬وإ َّنام‬
‫حصن وال َّت ُّ‬‫فال َّتوبة الن َُّصوح هي بالتخ ُّلص منها‪ ،‬وال َّت ُّ‬
‫يمكن التخ ُّلص منها َملن َ‬
‫عرفها‪.‬‬
‫ب‬ ‫‪ -1‬فأما الكفر فنوعان‪ُ :‬ك ْفر أكرب‪ ،‬وكفر أصغر؛ فالكفر األكرب هو ا ُمل ِ‬
‫وج ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ ُ‬
‫ِ‬
‫الوعيد دون اخللود‪.‬‬ ‫ب الستحقاق‬ ‫ِ‬
‫للخلود يف النَّار‪ ،‬واألصغر ِ‬
‫موج ٌ‬
‫‪ -2‬وأما الرشك فهو نوعان‪ :‬أكرب وأصغر؛ فاألكرب ال ي ِ‬
‫غف ُره اهلل إال بال َّتوبة‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الرياء‪،‬‬ ‫ري‬ ‫خ َذ من دون اهلل نِ ًّدا‪ ،‬وأما الشرِّ ُك األصغر‪ ُ:‬ف َكي ِ‬
‫س‬ ‫منه‪ ،‬وهو أن ي َّت ِ‬
‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ف بغري اهلل‪.‬‬ ‫للخ ْلق‪ ،‬واحل ِل ِ‬ ‫والتصنُّع َ‬
‫َ‬
‫الرجل ممتل ًئا منه وهو‬‫فالدا ُء ال ُعضال الباطن‪ ،‬الذي يكون ُ‬ ‫‪ -3‬وأما النِّفاق‪َّ :‬‬
‫وكثريا ما يخَ َفى عىل َمن َت َل َّبس‬ ‫َّاس‪،‬‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫عىل‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ال يشعر‪ ،‬فإ َّنه أمر َخ ِفي؛ َخ ِ‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ٌّ‬ ‫ٌ‬ ‫َ ُُ‬
‫صلح وهو م ِ‬
‫فس ٌد‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫به‪ ،‬فيز ُعم أ َّنه ُم ٌ‬

‫‪71‬‬
‫السنَّة والقرآن‪ ،‬بادي ٌة َلمِن‬ ‫عرفون هبا ُمب َّين ٌة يف ُّ‬ ‫عالمات ُي َ‬
‫ٌ‬ ‫[واملنافقون] هلم‬
‫أقبح مقام قامه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َتدبرها ِ‬
‫الريا ُء‪ ،‬وهو ُ‬ ‫ِّ‬ ‫واهلل‬ ‫هبم‬ ‫قام‬ ‫اإليامن‪،‬‬ ‫بصائر‬ ‫أهل‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الكسل ع ُأ ِمروا به ِ‬
‫اإلخالص‬‫ُ‬ ‫ح‬ ‫ب‬
‫َ‬ ‫فأص‬ ‫‪،‬‬‫الرمحن‬ ‫أوامر‬ ‫ن‬‫م‬ ‫ُ ماَّ‬ ‫اإلنسان‪ ،‬وقعد هبم‬ ‫ُ‬
‫ثقيل‪﴿ ،‬ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ‬ ‫لذلك عليهم اً‬
‫ﮈ ﮉ ﮊ﴾ [النساء‪.]142 :‬‬
‫فالصبح عند طلوع‬ ‫‪،‬‬ ‫األول إىل شرَ َ ِق املو َتى‬ ‫ِ‬ ‫ُي ِّ‬
‫ُّ‬ ‫الصال َة عن وقتها َّ‬ ‫ؤخرون َّ‬
‫(((‬

‫روب‪ ،‬و َين ُقروهنا َن ْق َر ال ُغراب؛ إذ هي صال ُة‬ ‫والعرص عند ال ُغ ِ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫الشمس‪،‬‬
‫الثعلب؛ إذ يتي َّقن أ َّنه‬ ‫ِ‬ ‫التفات‬
‫َ‬ ‫القلوب‪ ،‬ويلتفتون فيها‬ ‫ِ‬ ‫األبدان‪ ،‬ال صال ُة‬
‫أحدهم ففي البيت أو‬ ‫ُ‬ ‫إن صلىَّ‬ ‫مطرو ٌد مطلوب‪ ،‬وال يشهدون اجلامع َة‪ ،‬بل ْ‬
‫عاه َد َغ َدر‪ ،‬وإذا َح َّدث َك َذب‪ ،‬وإذا َو َع َد‬ ‫خاص َم َف َجر‪ ،‬وإذا َ‬ ‫الد َّكان‪ ،‬وإذا َ‬ ‫ُّ‬
‫أخ َلف‪ ،‬وإذا ْاؤتمُ ِ َن خان‪.‬‬
‫وفساد ن َّياتهِ م‪ ،‬ف َث َّب َطهم عنها وأق َع َدهم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ث قلوبهِ م‬ ‫َك ِره اهلل طاعاتهِ م؛ لخِ ب ِ‬
‫ُْ‬ ‫َ‬
‫وأبعدهم‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وارهم؛ َلمِ ْي ِل ِهم إىل أعدائه‪ ،‬فطر َدهم عنه‬ ‫ِ‬
‫وأب َغ َض ُق ْربهَ م منه وج َ‬
‫وحك ََم‬ ‫أسعدهم‪َ ،‬‬ ‫َ‬ ‫فأعر َض عنهم‪ ،‬وأشقاهم وما‬ ‫َ‬ ‫وأعرضوا عن َو ْح ِيه‬ ‫َ‬
‫أن يكونوا ِمن‬ ‫طم َع هلم يف ال َفالح بعده‪ ،‬إلاَّ ْ‬ ‫بح ْك ٍم َع ْدل ال َم َ‬
‫ٍ‬ ‫عليهم ُ‬
‫ائبني‪ ،‬فقال‪﴿ :‬ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ‬ ‫ال َّت َ‬
‫ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ﴾ [ال َّت ْوبة‪.]46 :‬‬
‫بد ِّق ِه‬‫ولعلمهم ِ‬
‫قني األولِني‪ِ ،‬‬
‫َّ‬ ‫قلوب السابِ َ‬ ‫َ‬ ‫خوف النِّفاق‬ ‫ُ‬ ‫قطع‬
‫تاهلل لقد َ‬
‫ِ‬

‫س ا ُملح َتضرِ ِ إذا َشـ ِر َق بِ ِ‬


‫ريقه‪.‬‬ ‫((( أراد أنهَّ ُ م ُي َص ُّلونهَ ا ومل َي ْبقَ من ال َّنها ِر إلاَّ ب َق ْد ِر ما ْيب َقى من ن ْف ِ ْ‬

‫‪72‬‬
‫التـــــوبة‬

‫أن يكونوا من‬ ‫ِ‬


‫بنفوسهم حتى َخ ُشوا ْ‬ ‫ساءت ُظنونهُ م‬
‫ْ‬ ‫وج ِّله وتفاصيله وجمُ َ ِله‬
‫ِ‬
‫مجلة املنافقني؛ قال عمر بن اخلطاب حلذيفة ‪« :‬يا حذيف ُة‪ ،‬نشد ُتك باهللِ‪،‬‬
‫أحدا»‪.‬‬
‫بعدك ً‬ ‫رسول اهلل ﷺ منهم؟ فقال‪ :‬ال‪ ،‬وال ُأز ِّكي َ‬‫ُ‬ ‫هل َسماَّ ين َ‬
‫لك‬
‫أصحاب حممد ﷺ‪ ،‬ك ُّلهم‬ ‫ِ‬ ‫«أدركت ثالثني من‬ ‫ُ‬ ‫قال اب ُن أيب ُم َل ْيك َة ‪:‬‬
‫َ‬
‫وميكائيل»‬ ‫َ‬
‫جربيل‬ ‫ِ‬
‫كإيامن‬ ‫إن إيامنه‬ ‫أحد يقول‪َّ :‬‬ ‫خياف النِّفاق عىل ن ْف ِسه‪ ،‬ما منهم ٌ‬
‫البخاري‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫ذكره‬
‫َ‬
‫احلسن ‪« :‬ما ِأمنَه إال منافق‪ ،‬وال َخا َف ُه إال مؤمن»‪.‬‬ ‫و ُذك َر عن َ‬
‫ِ‬
‫ِ‬ ‫ساقي َت ِ ‪ :‬ساقية الك ِ‬ ‫ِّفاق ينب ُت عىل ِ‬
‫الرياء‪ ،‬ومخَ ْ َر ُجهام‬ ‫ِّ‬ ‫وساقية‬ ‫ب‪،‬‬ ‫َذ‬ ‫َ ينْ‬ ‫َز ْر ُع الن ِ َ ُ‬
‫ف البصرية‪ ،‬وعني َض ِ‬ ‫عني َضع ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫األركان‬ ‫عف العزيمة‪ ،‬فإذا تمََّت هذه‬ ‫من َعينَينْ ِ ‪ْ ِ :‬‬
‫هار‪،‬‬ ‫ف ٍ‬ ‫نيان النِّفاق‪ ،‬ولكنَّه بمدارج السيول عىل َش َفا جر ٍ‬ ‫األربع اس َتحك ََم ُب ُ‬
‫ُُ‬
‫املستور‪ ،‬و ُب ْعثِ َر ما‬
‫ُ‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫ش‬‫فإذا سال سي ُل احلقائق‪ ،‬وعاينوا يوم ُتبلىَ الرسائر‪ ،‬و ُك ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬
‫وح ِّصل ما يف الصدور‪َ ،‬ت َبينَّ حينئذ ملن كانت بضاعته النِّفاق؛ َّ‬
‫أن‬ ‫يف القبور‪ُ ،‬‬
‫حواصله التي حصلها كانت كالرساب‪ ﴿ ،‬ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ‬
‫ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﴾ [النور‪.]39 :‬‬
‫ساعية‪ ،‬والفاحش ُة يف‬ ‫ِ‬ ‫اله َية‪ ،‬وأجسا ُدهم إليها‬ ‫قلو م عن اخلريات ِ‬
‫بهُ‬
‫سامعه قاسية‪ ،‬وإذا‬ ‫ِ‬ ‫احلق كانت قلوبهُ م عن‬ ‫اجهم فاشية‪ ،‬وإذا َس ِمعوا َّ‬ ‫فِ َج ِ‬
‫أبصار قلوبهِ م وكانت آذانهُ م واعية‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫انفتحت‬
‫ْ‬ ‫الزور‬‫وش ِهدوا ُّ‬ ‫َ‬
‫الباطل َ‬ ‫َحضرَ وا‬
‫تنزل بك القاضية‪.‬‬ ‫أن َ‬ ‫قبل ْ‬ ‫الر ُج ُل َ‬ ‫ا‬ ‫أي‬ ‫ها‬ ‫ر‬ ‫ذ‬ ‫َ‬ ‫فاح‬ ‫ِّفاق‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫أمارات‬
‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫فهذه واهلل‬
‫ْ ْ هُّ َّ‬
‫وأما ال ُف ُسوق فهو يف كتاب اهلل نوعان‪ُ :‬م ْف َرد ُم ْط َلق‪ ،‬و َمقرون‬
‫‪َّ -5،4‬‬

‫‪73‬‬
‫ِ‬
‫بالعصيان ﴿ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ‬
‫ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﴾ [احلجرات ‪.]7 :‬‬
‫والعدوان فهام َق ِر ِ‬
‫ينان‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﯭ ﯮ ﯯ‬ ‫ُ‬ ‫وأما اإلثم‬
‫‪َّ -7،6‬‬
‫ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﴾ [املائدة‪.]2 :‬‬
‫‪[ -8‬و] البغي غالب استعامله يف حقوق العباد واالستطالة عليهم‪.‬‬
‫فالفحشاء‪ :‬ما ظهر ُق ْب ُحها لكل أحد‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وأما الفحشاء واملنكر؛‬ ‫‪َّ -10،9‬‬
‫عقل سليم ‪ ،‬وأما املنكر [فهو] الذي ُت ِ‬
‫نك ُره‬ ‫كل ذي ٍ‬ ‫واستفحشه ُّ‬
‫َ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫والف َطر له فهو فاحشة‪.‬‬ ‫العقول ِ‬ ‫ُ‬ ‫العقول ِ‬
‫والف َطر‪ ،‬فام اشتد إنكار‬ ‫ُ‬
‫وأعظمها‬
‫ُ‬ ‫حتريم‪،‬‬
‫حرمات اً‬ ‫أشد هذه ا ُمل َّ‬ ‫وأما القول عىل اهلل بال ِع ْلم‪ :‬فهو ُّ‬ ‫‪َّ -11‬‬
‫والضالالت‪،‬‬ ‫أصل الشرِّ ك وال ُك ْفر‪ ،‬وعليه ُأ ِّسست البِ َد ُع َّ‬ ‫إثم‪ ،‬وهو ُ‬ ‫اً‬
‫القول عىل اهلل بال ِع ْلم(((‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أساسها‬
‫ُ‬ ‫ين‬ ‫الد‬
‫ِّ‬ ‫يف‬ ‫ة‬ ‫َّ‬
‫ل‬ ‫ض‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫بدعة م ِ‬ ‫ُّ‬
‫فكل‬

‫شاه ُد الخَ ْلق يف المعص ّ َية‬


‫ِ‬ ‫َم‬
‫جل َّهال الذين ال َف ْر َق‬
‫‪-1‬فأما مشهد احليوانية وقضاء الشهوة‪ :‬فمشهد ا ُ‬ ‫َّ‬
‫مههم‬ ‫بينهم وبني سائر احليوان إال يف اعتدال القامة و ُن ْطق ال ِّلسان‪ ،‬ليس ُّ‬
‫نفوس‬
‫ٌ‬ ‫نفوسهم‬
‫ُ‬ ‫جمرد َن ْيل الشهوة بأي طريق أ ْف َض ْت إليها‪ ،‬فهؤالء‬ ‫إال َّ‬
‫فضل عن درجة املالئكة‪،‬‬ ‫اً‬ ‫حيوانية مل َتترَ َ َّق عنها إىل درجة اإلنسانية‪،‬‬
‫بحسب‬ ‫فاوتون َ‬‫أن ُت ْذكر‪ ،‬وهم يف أحواهلم ُم َت ِ‬‫أخ ُّس من ْ‬‫فهؤالء حاهلم َ‬
‫ت احليوانات التي هم عىل أخالقها وطباعها‪.‬‬ ‫تفاو ِ‬
‫ُ‬
‫((( مل يتكلم ابن القيم عن الثاين عرش وهو ( اتباع سبيل غري املؤمنني )‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫التـــــوبة‬

‫كلب لوقع عليها‬ ‫ف ٍ‬ ‫فمنهم َمن ن ْف ُسه َك ْلب َّية‪ ،‬لو صا َدف جيف ًة ُتشبِ ُع أ ْل َ‬
‫ومحاها من سائر الكالب‪ ،‬وهمَُّ ه ِش َب ُع بطنِه من أي طعام ا َّت َفق؛ ميتة أو َذ ِك ّي‪،‬‬
‫خبيث أو ط ِّيب‪ ،‬وال يستحي من قبيح‪ ،‬إن تحَ ْ ِمل عليه َي ْل َهث أو َتترْ ُ ْكه يلهث‪.‬‬

‫يد يف ع َل ِفه َ‬
‫زيد‬ ‫ومنهم َمن ن ْف ُسه حمِ ار َّية مل تخُ ْ َلق إال للك َِّد والع َلف‪ ،‬كلام ِز َ‬
‫محله كتا َبه فلم‬ ‫احليوان وأق ُّله بصري ًة‪ ،‬وهلذا م َّثل اهلل به َمن َّ‬ ‫ِ‬ ‫يف َك ِّده‪ ،‬أبك َُم‬
‫السوء الذي آتاه اهلل آياتِه‬ ‫لمِ‬
‫عمل‪ ،‬و َم َّثل بالكلب عا َ ُّ‬ ‫قها وال اً‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يحَ ْ م ْله معرف ًة وال ف ً‬
‫فانسلخ منها وأخ َل َد إىل األرض وا َّت َبع هواه‪.‬‬

‫نفسه َس ُبع َّية غضبِ َّية‪ ،‬همَُّ ه العدوان عىل الناس و َق ُ‬


‫هرهم بام‬ ‫ومنهم َمن ُ‬
‫الس ُبع َلمِا ُ‬
‫يصدر منه‪.‬‬ ‫وصلت إليه قدر ُته‪ ،‬طبيعته تتقاىض ذلك ك َتقايض طبيعة َّ‬‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫نفسه َف ْأ ِر َّي ٌة‪،‬‬
‫تسبيحه بلسان‬
‫ُ‬ ‫فاسق بط ْبعه‪ُ ،‬م ْفسد ملا َ‬
‫جاو َره‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ومنهم َمن ُ‬
‫احلال‪ :‬سبحان َمن َخ َل َقه للفساد‪.‬‬
‫حلماَ ت‪ ،‬كاحل َّية والعقرب‬
‫الس ُموم وا ُ‬ ‫ِ‬
‫نفوس َذوات ُّ‬ ‫ومنهم َمن ُ‬
‫نفسه عىل‬
‫رب‪،‬‬ ‫الق‬ ‫َ‬
‫الرجل‬ ‫ل‬ ‫وغريمها‪ ،‬وهذا الرضب هو الذي يؤذي بعينه‪ ،‬في ِ‬
‫دخ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫واجلم َل ِ‬
‫الق ْد َر‪.‬‬ ‫ََ‬
‫بع ِخنزير؛ َي ُم ُّر بالط ِّيبات فال َي ْل ِوي عليها‪ ،‬فإذا‬ ‫َ‬
‫ط‬ ‫ه‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫ط‬‫َ‬ ‫ن‬‫م‬ ‫س‬‫ا‬‫َّ‬ ‫الن‬ ‫ن‬ ‫ِ‬
‫وم‬
‫ُ‬ ‫ُْ‬ ‫َ‬
‫ويرى من‬ ‫منك‬ ‫يسمع‬ ‫‪،‬‬ ‫ِ‬
‫الناس‬ ‫من‬ ‫كثري‬ ‫وهكذا‬ ‫ه‪،‬‬ ‫م‬ ‫ق‬‫َ‬ ‫ه‬ ‫اإلنسان عن ر ِ‬
‫جيع‬ ‫ُ‬ ‫قا َم‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫املساوئ‪ ،‬فال يتح َّف ُظها وال ينق ُلها وال ِ‬
‫تناس ُبه‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أضعاف‬ ‫أضعاف‬‫َ‬ ‫ِ‬
‫املحاسن‬
‫فإذا رأى س ْقط ًة أو كلمة َعوراء وج َد ب ْغي َته وما ِ‬
‫يناس ُبه‪ ،‬فج َعلها فاكه َته و ُن ْق َله‪.‬‬ ‫ْ َ َ َ ُ َ‬ ‫َ‬

‫‪75‬‬
‫ِ‬
‫اووس؛ ليس له إال ال َّت َط ُّوس وال َّت َز ُّين‬ ‫ومنهم َمن هو عىل طبيعة ال َّط‬
‫بالريش‪ ،‬وما وراء ذلك يش ٌء‪.‬‬
‫ِّ‬
‫أح َق ُد احليوان‪ ،‬وأغ َل ُظه َكبِ ًدا‪.‬‬ ‫ومنهم َمن هو عىل طبيعة ا َ‬
‫جل َمل؛ ْ‬
‫فوسا‪،‬‬ ‫ن‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫احليوانات‬ ‫ف‬
‫ُ‬ ‫أرش‬ ‫هي‬ ‫التي‬ ‫اخليل‪،‬‬ ‫طبائع‬ ‫ِ‬
‫احليوانات‬ ‫وأمحد طبائ ِع‬
‫ُ‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫وأكر ُمها طِبا ًعا‪ ،‬وكذلك ال َغنَم‪.‬‬
‫نفوسهم‬‫ِ‬ ‫املشهد ليس هلم ُش ُهو ٌد ِسوى َم ْي ِل‬ ‫ِ‬ ‫أصحاب هذا‬ ‫واملقصو ُد َّ‬
‫أن‬
‫َ‬
‫وشهواتهِ م‪ ،‬ال يعرفون ما وراء ذلك ال َب َّتة‪.‬‬
‫ويكرهه‪ ،‬ويلو ُم‬ ‫عبده ما ُي ْب ِغ ُضه سبحا َنه‬
‫تقديره عىل ِ‬ ‫ِ‬ ‫ومشهد ِح ِ‬
‫كمة اهللِ يف‬ ‫ُ‬ ‫‪-2‬‬
‫ُ‬
‫ويعاقب عليه‪ ،‬وأ َّنه لو شاء ل َع َص َمه منه‪ ،‬ولحَ َال بينه وبينه‪ ،‬وأ َّنه سبحانه‬ ‫ِ‬
‫يكون يف العالمَ يش ٌء إال بمشيئتِه‪﴿ ،‬ﮞ ﮟ ﮠ‬ ‫ُ‬ ‫ال ُيعصىَ َقسرًْ ا‪ ،‬وأ َّنه ال‬
‫ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﴾ [األعراف‪.]54 :‬‬
‫أن اهلل سبحانه مل يخَ ْ ُلق شي ًئا عب ًثا وال ُس ًدى‪َّ ،‬‬
‫وأن له‬ ‫شهدون َّ‬‫وهؤالء َي َ‬
‫ٍ‬
‫وطاعة ومعصية‪.‬‬ ‫احلكم َة البالِغ َة يف كل ما َق َّد َره وقضا ُه ِمن خري وشرٍَّ ‪،‬‬
‫ِ‬

‫واحد‪ ،‬وهو أ َّنه لوال املعصي ُة ِمن أبيِ البرش‪-‬بأ ْك ِله ِمن‬‫ٌ‬ ‫ويكفي من هذا ٌ‬
‫مثال‬
‫للر ِّب‬ ‫ظام‬ ‫الشجرة‪ -‬ملا َتر َّتب عىل ذلك ما َتر َّتب من وجود هذه املحبوبات ِ‬
‫الع‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫وإظهار‬ ‫ِ‬
‫وإنزال ُك ُتبِه‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وتكليفهم‪ ،‬وإرسال ُر ُس ِله‪،‬‬ ‫تعاىل‪ِ ،‬من امتحان َخ ْل ِقه‬
‫ِ‬
‫وظهور‬ ‫ِ‬
‫وإهانة أعدائه‪،‬‬ ‫ِ‬
‫أوليائه‪،‬‬ ‫وعجائبه‪ ،‬وتنويعها وترصيفها‪ ،‬وإكرا ِم‬ ‫ِ‬ ‫آياته‬
‫ِ‬
‫وظهور‬ ‫وح ْل ِمه‪،‬‬‫وانتقامه‪ ،‬و َع ْف ِوه ومغفرتِه‪ ،‬وص ْف ِحه ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫وعزتِه‬ ‫ِ‬
‫وفضله‪َّ ،‬‬ ‫َع ْدلِه‬

‫‪76‬‬
‫التـــــوبة‬

‫ِ‬
‫االبتالء واالمتحان‪.‬‬ ‫ِ‬
‫أعدائه يف دار‬ ‫من يعب ُده ويحُ ِبه ويقوم بِم ِ‬
‫راضيه بني‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫حلكْم‪ ،‬وأ َّنه‬ ‫الر ِّب تعاىل باخلَ ْلق وا ُ‬
‫أن َيشهد انفرا َد َّ‬ ‫‪[ -3‬مشهد التوحيد] وهو ْ‬
‫وأن اخلَ ْلق‬ ‫ما شاء كان‪ ،‬وما مل َي َش ْأ مل يكن‪ ،‬وأ َّنه ال َّ‬
‫تتحرك َذ َّر ٌة إال بإذنه‪َّ ،‬‬
‫ب إال وهو بني أصابعه‪ ،‬إن شاء‬ ‫َمقهورون حتت قبضته‪ ،‬وأ َّنه ما ِمن ق ْل ٍ‬
‫فالقلوب بيده‪ ،‬وهو ُم َق ِّل ُبها‬ ‫يمه أقامه‪ ،‬وإن شاء أن ُيزي َغه أزا َغه‪،‬‬ ‫ق‬‫أن ي ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ َ‬
‫و ُمصرَِّ ُفها كيف شاء وكيف أراد ‪.‬‬
‫أن التوفيق هو ألاَّ‬ ‫ِ‬
‫العارفون باهلل َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫التوفيق واخلذالن‪ ،‬وقد َ‬
‫أمجع‬ ‫مشهد‬‫ُ‬ ‫‪-4‬‬
‫أن يخُ َ ليِّ ب ْينك وبينها؛ فالعبيد ُمتق ِّلبون‬
‫واخلذالن ْ‬‫ي ِك َلك اهلل إىل نفسك‪ِ ،‬‬
‫َ‬
‫الساعة الواحدة ينال نصي َبه من هذا‬ ‫يف‬ ‫العبد‬ ‫بل‬ ‫ذالنه‪،‬‬ ‫بني توفيقه ِ‬
‫وخ‬
‫َّ‬
‫وهذا‪ ،‬ف ُيطي ُعه و ُيرضيه و َيذ ُكره ويشكره بتوفيقه له‪ ،‬ثم َيعصيه وخيالفه‬
‫وخذالنه‪ْ ،‬‬
‫فإن‬ ‫دائر بني توفيقه ِ‬ ‫بخذالنه له‪ ،‬فهو ِ‬ ‫خ ُطه ويغ ُف ُل عنه ِ‬ ‫ويس ِ‬
‫ٌ‬ ‫ُْ‬
‫وحكمته‪ ،‬وهو املحمود عىل‬ ‫وإن َخ َذله فبِعدلِه ِ‬‫َو َّف َقه فبفضله ورمحته‪ْ ،‬‬
‫العبد شي ًئا هو له‪ ،‬وإ َّنام منعه ما‬
‫َ‬ ‫محد وأكم ُله‪ ،‬ومل َيمنع‬‫هذا وهذا‪ ،‬له أ َتم ٍ‬
‫ُّ‬
‫أعلم حيث يضعه وأين جيعله‪.‬‬ ‫وهو‬ ‫وعطائه‪،‬‬ ‫ه‬ ‫هو جمرد ِ‬
‫فضل‬
‫ُ‬ ‫َّ ُ‬
‫املشهد وأعطاه ح َّقه َع ِلم رضور َته وفاق َته إىل التوفيق‬ ‫َ‬ ‫العبد هذا‬
‫شهد ُ‬ ‫فمتى ِ‬
‫وأن إيامنه وتوحيده بِ َي ِد غريه‪ ،‬لو تخَلىَّ‬‫فة عني‪َّ ،‬‬ ‫حلظة وطر ِ‬
‫ْ‬
‫ٍ‬ ‫وكل‬‫يف كل ن َفس‪ِّ ،‬‬
‫وأن ا ُمل ْم ِسك له‬
‫عرشه‪ ،‬ولخَ َ َّرت سام ُء إيامنِه عىل األرض‪َّ ،‬‬ ‫عني ل ُث َّل ُ‬ ‫عنه طرف َة ٍ‬
‫ودأب لسانه‪:‬‬ ‫ه‬‫ِ‬ ‫قلب‬ ‫ى‬ ‫ري‬ ‫ج‬ ‫ِ‬
‫فه‬ ‫بإذنه‪،‬‬ ‫إال‬ ‫األرض‬ ‫عىل‬ ‫تقع‬ ‫أن‬ ‫ء‬ ‫السام‬ ‫ك‬ ‫من ي ِ‬
‫مس‬
‫ُ‬ ‫ِّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬
‫ف‬‫لوب‪ ،‬صرَِّ ْ‬ ‫ف ال ُق ِ‬ ‫لوب‪َ ،‬ث ِّب ْت َق ْلبي عىل ِدينِ َك»‪ ،‬و«يا ُمصرَِّ َ‬
‫ب ال ُق ِ‬ ‫«يا ُمق ِّل َ‬

‫‪77‬‬
‫ِ‬
‫واألرض‪،‬‬ ‫َق ْلبي عىل طا َعتِ َك»‪ ،‬ودعواه‪« :‬يا حي يا َقيوم‪ ،‬يا بديع السم ِ‬
‫وات‬ ‫ُّ ُ َ َ َّ َ‬ ‫َ ُّ‬
‫أص ِل ْح يل ْ‬
‫شأين ُك َّله‪،‬‬ ‫غيث‪ْ ،‬‬‫أنت‪َ ،‬برمحتِ َك أس َت ُ‬ ‫يا ذا اجل ِ‬
‫الل واإلكرا ِم‪ ،‬ال إل َه إلاَّ َ‬ ‫َ‬
‫أح ٍد ِم ْن َخ ْل ِق َك»‪.‬‬ ‫ِ‬
‫وال َتك ْلني إىل َن ْفيس َط ْرف َة َعينْ ٍ ‪ ،‬وال إىل َ‬
‫بعبده ما َي ْص ُلح به العبد‪ ،‬بأن جيعله‬ ‫يفعل ِ‬ ‫أن َ‬ ‫والتوفيق إرادة اهلل من ِ‬
‫نفسه ْ‬
‫مؤ ًثرا له عىل غريه‪ ،‬و ُي َب ِّغض إليه‬ ‫ريدا له‪ ،‬محُ ِ ًّبا له‪ْ ،‬‬
‫قادرا عىل فِعل ما ُيرضيه‪ُ ،‬م ً‬ ‫ً‬
‫طه‪ ،‬و ُيك َِّرهه إليه‪ ،‬وهذا مجُ َّرد فعله‪ ،‬والعبد محَ َ ٌّل له‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬ﭾ‬ ‫سخ ُ‬ ‫ما ي ِ‬
‫ُ‬
‫ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ‬
‫ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﮕ ﮖ ﮗ﴾ [احلجرات‪.]8 - 7 :‬‬
‫بلدة ِمن ِ‬
‫بالده‬ ‫أهل ٍ‬ ‫أرسل إىل ِ‬ ‫َ‬ ‫واخل ِ‬
‫ذالن َم َثل‪َ :‬م ِلك‬ ‫وقد ضرُ ِ ب للتوفيق ِ‬
‫تاحهم‪،‬‬ ‫العدو ُم َص ِّب ُحهم عن قريب ومجُ ْ ُ‬‫َّ‬ ‫وكتب معه كتا ًبا ُي ْع ِل ُمهم َّ‬
‫أن‬ ‫َ‬ ‫رسول‪،‬‬‫اً‬
‫ومراكب وزا ًدا‬ ‫اً‬
‫أموال‬ ‫إليهم‬ ‫وأرسل‬ ‫فيها‪،‬‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ومخُ َرب البلد‪ ،‬ومه ِ‬
‫ل‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُْ‬ ‫ِّ‬
‫األد َّلة‪ ،‬وقد أرسلت إليكم مجيع‬ ‫ارحت ُلوا إيل مع هؤالء ِ‬ ‫وأد َّل ًة‪ ،‬وقال‪ِ :‬‬
‫و ُع َّد ًة ِ‬
‫َّ‬
‫فخذوا بيده‬ ‫ما حتتاجون إليه‪ ،‬ثم قال جلامعة من مماليكه‪ :‬اذهبوا إىل فالن‪ُ ،‬‬
‫واحمْ ِلوه‪ ،‬وال َت َذروه َيق ُعد‪ ،‬واذهبوا إىل فالن كذلك وإىل فالن‪ ،‬و َذ ُروا َمن‬
‫ساكنُوين يف بلدي‪ ،‬فذهب َخواص ِ‬ ‫أن ي ِ‬
‫امللك‬ ‫ُّ‬ ‫داهم؛ فإنهَّ م ال َيص ُلحون ْ ُ‬ ‫َع ُ‬
‫إىل َمن ُأ ِمروا بِ َح ْم ِلهم‪ ،‬فلم يرتكوهم َي ِق ُّرون‪ ،‬بل حمَ َ ُلوهم حمَ ْ اًل‪ ،‬وسا ُقوهم‬
‫العدو َمن َب ِقي يف املدينة و َق َتلهم‪ ،‬وأسرَ َ َمن أسرَ َ ‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫تاح‬
‫فاج َ‬ ‫َس ْو ًقا إىل امللك‪ْ ،‬‬
‫ص أولئك بإحسانِه‬ ‫عادل فيهم؟ نعم‪َ ،‬خ َّ‬‫اً‬ ‫امللك ظا ًملا هلؤالء‪ ،‬أم‬‫فهل ُي َع ُّد ُ‬
‫وح َرمها َمن َعداهم؛ إ ْذ ال جتب عليه ال َّتسوي ُة بينهم يف فضله‬ ‫ِ‬
‫وعنايته‪َ ،‬‬
‫فض ُله وإكرا ُمه ْيؤتيه َمن يشاء‪.‬‬ ‫وإكرامه‪ ،‬بل ذلك ْ‬

‫‪78‬‬
‫التـــــوبة‬

‫أج ِّل املشاهد‪ ،‬وهو أعىل مما ق ْب َله وأوسع‪.‬‬ ‫ن‬ ‫‪ -5‬مشهد األسامء والصفات‪ ،‬وهو ِ‬
‫م‬
‫َ‬ ‫ِّ‬
‫وأمرا باألسامء احلسنى‪،‬‬ ‫ا‬ ‫ً‬
‫ق‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫َ‬
‫خ‬ ‫الوجود‬ ‫ق‬ ‫ُّ‬
‫ل‬ ‫ع‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫معرفة‬ ‫املشهد‪:‬‬ ‫هذا‬ ‫عىل‬ ‫ع‬ ‫وا ُمل ْطلِ‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫وأن العامل بام فيه ِمن بعض آثارها ومقتضاها‪.‬‬ ‫والصفات ال ُعلىَ ‪ ،‬وارتباطِه هبا‪َّ ،‬‬
‫والتعرف إىل‬‫ُّ‬ ‫واآليات الباهرة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وقد َره احلكم ُة البالغة‪،‬‬ ‫فله يف كل ما قىض َّ‬
‫وذ ْك ِرهم له‪ ،‬وشكرهم له‪،‬‬ ‫عباده بأسامئه وصفاته‪ ،‬واستدعاء حمبتِهم له‪ِ ،‬‬ ‫ِ‬
‫ُ َّ‬
‫ص به‪ِ ،‬ع ْل اًم ومعرف ًة‬‫ٌّ‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫مخُ‬ ‫د‬ ‫ٌ‬ ‫ب‬
‫ُّ‬ ‫تع‬ ‫فله‬ ‫ٍ‬
‫م‬ ‫اس‬ ‫كل‬ ‫ُّ‬ ‫إذ‬ ‫احلسنى؛‬ ‫بأسامئه‬ ‫له‬ ‫هم‬ ‫د‬ ‫وتعب ِ‬
‫ُّ‬
‫الناس عبود َّي ًة‪ :‬املتع ِّب ُد بجميع األسامء والصفات التي ي َّط ِلع‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫وأكمل‬ ‫وحال‪،‬‬ ‫اً‬
‫حيج ُبه التع ُّبد‬
‫كم ْن ُ‬‫آخ َر‪َ ،‬‬ ‫عليها البرش‪ ،‬فال تحَ ُج ُبه عبودي ُة‪ :‬اس ٍم عن عبود َّية اس ٍم َ‬
‫باسمه (القدير) عن التع ُّبد باسمه (احلليم الرحيم)‪ ،‬أو حتجبه عبود َّية اسمه‬
‫(املعطِي) عن عبود َّية اسمه (املانع)‪ ،‬أو عبود َّية اسمه (الرحيم) و(الع ُفو)‬
‫(املنتقم)‪ ،‬أو التع ُّبد بأسامء التو ُّدد‪ ،‬والبرِِّ ‪ ،‬وال ُّلطف‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫و(الغفور) عن اسمه‬
‫واإلحسان عن أسامء العدل‪ ،‬واجلربوت‪ ،‬والكربياء‪ ،‬والعظمة ونحو ذلك‪.‬‬
‫السائري َن إىل اهلل تعاىل‪ ،‬وهي طريق ٌة مشت َّق ٌة من ِ‬
‫قلب‬ ‫وهذه طريق ُة الك َُّم ِل من َّ‬
‫والدعاء‬‫القرآن‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪ ﴿ :‬ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ﴾ [األعراف‪ُّ ،]180 :‬‬
‫يتناو ُل دعا َء املسألة‪ ،‬ودعا َء ال َّثناء‪ ،‬ودعا َء التع ُّبد‪ ،‬وهو سبحانه يدعو عبا َده‬ ‫هبا َ‬
‫أن يعر ُفوه بأسامئه وصفاتِه‪ ،‬و ُي ْثنُوا عليه هبا‪ُ ،‬‬
‫ويأخذوا بِ َح ِّظهم من عبود َّيتِها‪.‬‬ ‫إىل ْ‬
‫حيب َّ‬ ‫ِ‬
‫(ج َواد)‬ ‫كل علي ٍم‪َ ،‬‬ ‫ب أسامئه وصفاته‪ ،‬فهو (عليم) ُّ‬ ‫وج َ‬
‫وهو سبحانه حيب ُم َ‬
‫حيب اجلامل‪َ ( ،‬ع ُف ٌّو) حيب ال َع ْفو‬
‫الو ْتر‪( ،‬مجيل) ُّ‬ ‫(و ْت ٌر) حيب ِ‬ ‫كل َجواد‪ِ ،‬‬ ‫حيب َّ‬
‫ُّ‬
‫(شكُور) حيب الشاكرين‪،‬‬ ‫(ح ِي ٌّي) حيب احلياء وأه َله‪َ ( ،‬ب ٌّر) حيب األبرار‪َ ،‬‬‫وأه َله‪َ ،‬‬
‫فلمح َّبتِه سبحانه لل َّتوبة‬ ‫أهل ِ‬
‫احل ْلم‪ِ ،‬‬ ‫حيب َ‬‫حيب الصابِري َن؛ (حليم) ُّ‬ ‫(ص ُبور) ُّ‬ ‫َ‬

‫‪79‬‬
‫ويتوب عليه‪ ،‬ويعفو عنه‪ ،‬و َق َّدر‬
‫ُ‬ ‫والص ْف ِح؛ َخ َل َق َمن ُ‬
‫يغفر له‪،‬‬ ‫ِ‬
‫والعفو َّ‬ ‫واملغفرة‪،‬‬
‫املحبوب له ا َمل ْرضيُِّ‬
‫ُ‬ ‫وقوع املكروه وا َمل ْب ُغوض له؛ ليرت َّتب عليه‬
‫َ‬ ‫عليه ما يقتيض‬
‫كتوسط األسباب املكروهة ا ُمل ْف ِضية إىل املحبوب‪.‬‬ ‫فتوسطه ُّ‬‫له‪ُّ ،‬‬
‫ِ‬
‫ألطف املشاهد‪َ ،‬‬
‫وأخ ِّصها‬ ‫ِ‬
‫شواهده‪ ،‬وهذا ِمن‬ ‫وتعدد‬
‫‪6‬ـ مشهد زيادة اإليامن ُّ‬
‫ِ‬
‫بأهل املعرفة‪.‬‬
‫أمر مشهود‬ ‫واألموال‪،‬‬ ‫ِ‬
‫واألبدان‬ ‫ِ‬
‫القلوب‬ ‫يف‬ ‫احلسنات والسي ِ‬
‫ئات‬ ‫ِ‬ ‫وآثار‬
‫ٌ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫عر ُفه املؤم ُن والكافر‪ ،‬والبرَُّ والفاجر‪.‬‬ ‫عقل سليم‪ ،‬بل َي ِ‬ ‫ينكره ذو ٍ‬ ‫يف العالمَ ‪ ،‬ال ُ‬
‫نفسه ويف ِ‬ ‫العبد هذا يف ِ‬ ‫ِ‬
‫غريه‪ ،‬وتأ ُّم ُله ومطالع ُته‪ ،‬مما ِّ‬
‫يقوي إيام َنه‬ ‫وشهو ُد‬
‫حمسوس يف‬ ‫د‬ ‫مشهو‬ ‫ٌ‬
‫عدل‬ ‫هذا‬ ‫َّ‬
‫فإن‬ ‫قاب‪،‬‬ ‫بام جاءت به الرسل‪ ،‬وبال َّثواب ِ‬
‫والع‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ُّ ُ‬
‫أعظم منها ملن كانت‬ ‫ُ‬ ‫قوبات عاجلة دا َّلة عىل ما هو‬ ‫ٌ‬ ‫وبات و ُع‬ ‫هذا العالمَ ‪ ،‬و َم ُث ٌ‬
‫ِ‬ ‫بعض الن ِ‬
‫أتدار ْكه‬
‫نب ومل أبادره‪ ،‬ومل َ‬ ‫َّاس‪ :‬إذا َص َد َر مني َذ ٌ‬ ‫له بصري ٌة‪ ،‬كام قال يل ُ‬
‫حسبت‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أثره الس ِّيئ‪ ،‬فإذا أصا َبني ‪-‬أو فو َقه أو دو َنه‪ -‬كام‬ ‫انتظرت َ‬ ‫ُ‬ ‫بال َّت ْوبة‬
‫رسول اهلل‪ ،‬ويكون‬ ‫ُ‬ ‫حممدا‬
‫أن ً‬ ‫رياي‪ :‬أشهد أن ال إله إال اهلل‪ ،‬وأشهد َّ‬ ‫ِ‬
‫يكون ه ِّج َ‬
‫فعلت كذا‬ ‫َ‬ ‫فإن الصادق متى أخربك أ َّنك إذا‬ ‫شواهد اإليامن وأد َّلتِه‪َّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫ذلك ِمن‬
‫فعلت شي ًئا من ذلك‬ ‫َ‬ ‫فجعلت ك َّلام‬
‫َ‬ ‫وكذا تر َّتب عليه ِمن املكروه كذا وكذا‪،‬‬
‫حصل لك ما قال ِمن املكروه‪ ،‬مل َت ْز َد ْد إال ِع ْل اًم بصدقه وبصري ًة فيه‪ ،‬وليس‬
‫يشهد شي ًئا ِمن‬‫ُ‬ ‫الذنوب عىل ق ْلبِه‪ ،‬فال‬ ‫ُ‬ ‫لكل أحد‪ ،‬بل أكثر الناس َت ِري ُن‬ ‫هذا ِّ‬
‫يشعر به الب َّت َة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ذلك‪ ،‬وال‬
‫ف‬ ‫الذنوب واملعايص َت ِ‬
‫عص ُ‬ ‫وأه ِوي ُة ُّ‬
‫نور اإليامن‪ْ ،‬‬
‫القلب فيه ُ‬
‫ُ‬ ‫وإ َّنام يكون هذا‬

‫‪80‬‬
‫التـــــوبة‬

‫صباح إيامنه مع قوة تلك األه ِ‬


‫وية‬ ‫ِ‬ ‫م‬‫يشاهد هذا وهذا‪ ،‬ويرى حال ِ‬ ‫ِ‬ ‫فيه‪ ،‬فهو‬
‫ْ‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫السفينة‬ ‫الرياح‪ ،‬وتق ُّل ِ‬
‫ب‬ ‫البحر عند َهي ِ‬
‫جان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب‬ ‫ِ‬
‫كراك‬ ‫والرياح‪ ،‬فريى نفسه‬
‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬
‫الرياح‪ ،‬فهكذا‬ ‫به‬ ‫تلعب‬ ‫ٍ‬
‫وح‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫عىل‬ ‫ي‬ ‫انكرست به‪ ،‬وب ِ‬
‫ق‬ ‫ْ‬ ‫إذا‬ ‫ام‬ ‫ي‬ ‫س‬ ‫وال‬ ‫ها‪،‬‬ ‫و َت َك ُّف ِ‬
‫ئ‬
‫ِّ‬ ‫َ َ‬ ‫َّ‬
‫غري‬ ‫به‬ ‫أريد‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫وإن‬ ‫‪،‬‬ ‫اخلري‬ ‫به‬ ‫يد‬‫َ‬ ‫ر‬‫الذنوب‪ ،‬إذا ُأ ِ‬ ‫ِ‬
‫ارتكاب ُّ‬ ‫نفسه عند‬‫يشاهد َ‬ ‫ُ‬ ‫املؤم ُن‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫واد آخر‪.‬‬‫ذلك فقلبه يف ٍ‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫وأحوال األُ َمم‪،‬‬ ‫تاريخ العالمَ ‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ومتى انف َتح هذا الباب للعبد انتفع بمطا َل ِ‬
‫عة‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫أهل زمانِه وما ِ‬‫بمجريات ِ‬
‫يشاه ُده من أحوال النَّاس‪.‬‬ ‫ومجُ ْ َريات اخلَ ْلق‪ ،‬بل انتفع ُ‬
‫تداركها ِمن َس ْق ٍي باألدوية‬
‫فإن َ‬‫بالذات‪ْ ،‬‬‫السموم ُمضرَِّ ٌة َّ‬ ‫فالذنوب مثل ُّ‬ ‫ُّ‬
‫الس َلف‪:‬‬ ‫بعض‬ ‫قال‬ ‫كام‬ ‫‪،‬‬ ‫ُ‬
‫اهلالك‬ ‫وكان‬ ‫ة‪،‬‬ ‫ي‬ ‫اإليامن‬ ‫ة‬
‫َ‬ ‫و‬ ‫ُ‬
‫ق‬ ‫ال‬ ‫ت‬ ‫ر‬ ‫ه‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫وإال‬ ‫هلا‪،‬‬ ‫املقاو ِ‬
‫مة‬ ‫ِ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ََ‬
‫حل َّمى َب ُ‬
‫ريد املوت»‪.‬‬ ‫يد ال ُك ْفر‪ ،‬كام َّ‬
‫أن ا ُ‬ ‫«املعايص َب ِر ُ‬
‫وجفولهَ ا‬ ‫ِ‬ ‫العبد ن ْقص حالِ‬
‫ِ‬
‫القلوب عليه‪ُ ،‬‬ ‫يرُّ َ‬ ‫غ‬ ‫وت‬ ‫ه‬ ‫ب‬
‫َّ‬ ‫ر‬
‫َ‬ ‫عىص‬ ‫إذا‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫فشهو ُد‬
‫وهوا َنه عىل ِ‬
‫أهل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫األبواب يف وجهه‪ ،‬و َتو ُّع َر املسالك عليه‪َ ،‬‬ ‫منه‪ ،‬وانسدا َد‬
‫سبب ذلك حتى يع َل َم من أين‬ ‫َ‬ ‫وأوالده وزوجتِه وإخوانِه‪ ،‬و َت َط ُّل ُبه‬ ‫ِ‬ ‫بيتِه‬
‫وباشرَ‬ ‫أقلع‬ ‫ْ‬
‫فإن‬ ‫ه‪،‬‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫إيام‬ ‫ي‬ ‫يقو‬
‫ِّ‬ ‫مما‬ ‫لذلك‪،‬‬ ‫ب‬ ‫ِ‬
‫املوج‬ ‫السبب‬ ‫عىل‬ ‫ه‬ ‫ع‬ ‫ُ‬ ‫ووقو‬ ‫‪،‬‬ ‫ُأتيِ‬
‫َ‬
‫والغنى بعد‬ ‫الذ ِّل‪ِ ،‬‬
‫الع َّز بعد ُّ‬‫ضد هذه احلال‪ ،‬رأى ِ‬ ‫األسباب التي ُتفيض به إىل ِّ‬ ‫َ‬
‫عفه‬ ‫الفقر‪ ،‬وال ور بعد احلزن‪ ،‬واألمن بعد اخلوف‪ ،‬والقو َة يف قلبِه بعد َض ِ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫سرُّ َ‬
‫ِ‬
‫اإليامن يف قلبِه وبراهينُه وأد َّل ُته‬ ‫شواهد‬
‫ُ‬ ‫وو َهنِه؛ ازدا َد إيام ًنا مع إيامنه‪ ،‬ف َت ْقوى‬
‫َ‬
‫ن قال اهللُ فيهم‪ ﴿ :‬ﭷ ﭸ ﭹ‬ ‫الذي‬ ‫ن‬ ‫يف حال معصيتِه وطاعتِه‪ ،‬فهذا ِ‬
‫م‬
‫َ‬
‫ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﴾ [الزمر‪.]35 :‬‬

‫‪81‬‬
‫ِ‬
‫القلوب‬ ‫املشهد متى تبصرَّ َ فيه‪ ،‬وأعطاه ح َّقه‪ ،‬صار ِمن أط َّباء‬
‫ِ‬ ‫وصاحب هذا‬
‫ُ‬
‫وائها‪ ،‬فنفعه اهلل يف ن ْف ِسه‪ ،‬ونفع به َمن شاء ِمن َخ ْل ِقه‪.‬‬
‫بدائها ود ِ‬
‫َ‬
‫ني ِ‬
‫العالمِ َ‬
‫الذنب خرج ِمن قلبِه تلك ِ‬
‫الغلظ ُة‬ ‫العبد إذا وقع يف َّ‬
‫َ‬ ‫‪7‬ـ مشهد الرمحة؛ َّ‬
‫فإن‬
‫ب‪ ،‬حتى‬ ‫والقسوة‪ ،‬والكيف َّي ُة ال َغ َضبِ َّي ُة التي كانت عنده ملن َص َد َر منه َذ ْن ٌ‬
‫ويأخذه‪ ،‬غض ًبا منه‬ ‫َ‬ ‫أن هُي ِلكَه‬‫لو َق َد َر عليه ألهلكه‪ ،‬ور َّبام دعا اهللَ عليه ْ‬
‫للمذنبِ َ‬ ‫ِ‬
‫ني اخل ّطائني‪،‬‬ ‫جيد يف قلبِه رمح ًة ُ‬ ‫أن ال ُي ْعىص‪ ،‬فال ُ‬ ‫رصا عىل ْ‬ ‫هلل‪ ،‬وح ً‬
‫راء‪ ،‬وال َي ْذ ُك ُرهم إال بلسان ال َّط ْع ِن‬ ‫واالزد ِ‬
‫ِ‬ ‫وال يراهم إال بِ َعينْ ِ االحتِ ِ‬
‫قار‬
‫َ‬
‫استغاث‬ ‫ونفسه‬‫َ‬ ‫املقادير ُ‬
‫وخليِّ‬ ‫ُ‬ ‫والذ ِّم‪ ،‬فإذا َج َر ْت عليه‬ ‫ب هلم َّ‬ ‫فيهم‪ ،‬وال َع ْي ِ‬
‫الس ِليم‪ ،‬ودعاه ُدعا َء ا ُمل ْض َط ِّر‪،‬‬ ‫باهللِ وال َتجأ إليه‪ ،‬وتمَ َ ْل َم َل بني يديه تمَ َ ْل ُم َل َّ‬
‫ني رمح ًة‬ ‫خل َّطائِ َ‬ ‫ني ِر َّق ًة‪ ،‬وتلك ال َقساو ُة عىل ا َ‬ ‫لظة عىل املذنِبِ َ‬ ‫الغ ُ‬ ‫ف َتب ّد َلت تلك ِ‬
‫َ‬
‫وج َعل هلم‬ ‫وتبد َل ُد ُ‬ ‫ِ‬ ‫ولِينًا‪ ،‬مع ِ‬
‫عاؤه عليهم ُدعا ًء هلم‪َ ،‬‬ ‫بحدود اهلل‪ّ ،‬‬ ‫قيامه‬
‫يغفر هلم‪ ،‬فام أنف َعه له ِمن مشهد! وما‬ ‫أن َ‬ ‫يسأل اهللَ فيها ْ‬ ‫وظيف ًة من ُع ُمره‪ُ ،‬‬
‫أعظم َج ْدواه عليه!‬ ‫َ‬
‫وأضعف‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أعج ُز يشء عن ِح ْفظ نفسه‬ ‫‪8‬ـ مشهد العجز والضعف‪ ،‬وأ َّنه َ‬
‫حول إال بِربه‪ ،‬فيشهد قلبه كريشة م ْل ٍ‬
‫قاة‬ ‫قوة له وال قدرة وال َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫وأ َّنه ال َّ‬
‫ٍ‬
‫سفينة‬ ‫ِ‬
‫كراكب‬ ‫نفسه‬ ‫ويشهد‬ ‫‪،‬‬ ‫اً‬
‫وشامل‬ ‫ًا‬ ‫ن‬ ‫يمي‬ ‫الرياح‬ ‫ها‬ ‫س‬ ‫ت‬‫ُ‬ ‫بأرض َف ٍ‬
‫الة‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫يرِّ ُ‬
‫يج هبا الرياح‪ ،‬وتتالعب هبا األمواج‪ ،‬ترفعها تارة‪ ،‬وتخَ ِف ُضها‬ ‫يف البحر تهَ ِ ُ‬
‫يدي ول ِّيه‪،‬‬ ‫حيا بني ْ‬ ‫أخرى‪ ،‬جتري عليه أحكا ُم ال َق َدر‪ ،‬وهو كاآللة َط ِر ً‬
‫ملك لنفسه ضرًَّ ا وال نف ًعا‪،‬‬ ‫خده عىل َثرى أعتابه‪ ،‬ال َي ُ‬ ‫ُم ْل ًقى ببابه‪ ،‬واض ًعا َّ‬
‫اجلهل وال ُّظلم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫شورا‪ ،‬ليس له ِمن نفسه إال‬ ‫وال مو ًتا وال حياة وال ُن ً‬

‫‪82‬‬
‫التـــــوبة‬

‫كشاة م ْل ٍ‬
‫قاة بني‬ ‫ٍ‬ ‫ه‪،‬‬ ‫فاهلالك أدنى إليه ِمن شرِ اك َن ِ‬
‫عل‬ ‫ُ‬ ‫وآثارمها ومقتضياتهُ ام‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫طرف َة ٍ‬
‫عني‬ ‫الراعي‪ ،‬فلو ختلىَّ عنها ْ‬ ‫والسباع‪ ،‬ال َي ُر ُّدهم عنها إال َّ‬
‫الذئاب ِّ‬ ‫ِّ‬
‫لتقاسموها أعضا ًء‪.‬‬
‫ِ‬
‫اإلنس واجل ِّن‪،‬‬ ‫ِ‬
‫شياطني‬ ‫أعدائه؛ ِمن‬
‫ِ‬ ‫حال ِ‬
‫العبد ُم ْل ًقى بني اهلل وبني‬ ‫وهكذا ُ‬
‫وو َك َله إىل نفسه‬
‫سبيل‪ ،‬وإن ختلىَّ عنه‪َ ،‬‬ ‫فإن حمَ ا ُه منهم وك َّفهم عنه مل يجَ دوا إليه اً‬
‫ْ‬
‫نصيب َمن َظ ِفر به منهم‪.‬‬
‫ُ‬ ‫عني مل َين َق ِسم عليهم‪ ،‬بل هو‬
‫طرف َة ٍ‬

‫عاجز ضعيف‪ ،‬ف َت ُ‬


‫زول عنه‬ ‫ٌ‬ ‫العبد أ َّنه‬
‫ُ‬ ‫ف‬
‫عر ُ‬ ‫ِ‬
‫املشهد َي ِ‬ ‫واملقصود َّ‬
‫أن يف هذا‬
‫عاوى‪ ،‬واإلضافات إىل نفسه‪ ،‬ويعلم أ َّنه ليس له ِمن ِ‬
‫األمر يشء‪،‬‬ ‫الد َ‬‫عونات َّ‬
‫ُ‬ ‫ُر‬
‫والضعف‪.‬‬ ‫ِ‬
‫والعجز َّ‬ ‫إن هو إلاَّ محَ ْ ُض الفقر‬
‫وليس بيده يشء‪ْ ،‬‬

‫للر ِّب ‪ ،‬فيشهد يف كل‬ ‫ِ‬


‫واالفتقار َّ‬ ‫الذ ِّل‪ ،‬واالنكسار‪ ،‬واخلضوع‪،‬‬ ‫‪9‬ـ مشهد ُّ‬
‫وافتقارا تا ًّما إىل ر ِّبه َو َولِ ِّيه‪،‬‬
‫ً‬ ‫َذ َّر ٍة من َذ َّراتِه الباطنة وال َّظاهرة رضور ًة تا َّم ًة‪،‬‬
‫حتصل‬ ‫وهداه وسعاد ُته‪ ،‬وهذه احلال التي ُ‬ ‫صالحه وفالحه‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫و َمن بيده‬
‫فيحصل لقلبِه‬ ‫ُ‬ ‫تدرك باحلصول‪،‬‬ ‫نال العبار ُة حقيق َتها‪ ،‬وإ َّنام َ‬ ‫لقلبِه ال َت ُ‬
‫خاصة ال ُي ْشبِ ُهها يشء‪ ،‬بحيث يرى نفسه كاإلناء ا َمل ْر ُضوض حتت‬ ‫َكسرْ ٌة َّ‬
‫األرجل‪ ،‬الذي ال يشء فيه‪ ،‬وال به وال منه‪ ،‬وال فيه منفعة‪ ،‬وال ُير َغب يف‬ ‫ُ‬
‫جديد ِمن صانِعه و َق ِّي ِمه‪ ،‬فحينئذ‬ ‫ٍ‬ ‫مثله‪ ،‬وأنه ال يص ُلح لالنتفاعِ إال بِ َج ٍ‬
‫رب‬
‫ستح ُّق منه‬ ‫ري‪ ،‬ويرى أنه ال ي ِ‬ ‫يستكثر يف هذا املشهد ما ِم ْن َر ِّبه إليه ِمن اخل ِ‬
‫َ‬
‫وعلم أنَّ‬ ‫ري نا َله من اهلل تعاىل استكثره عىل نفسه‪ِ ،‬‬ ‫فأي خ ٍ‬
‫كثريا‪ُّ ،‬‬ ‫اً‬
‫َ‬ ‫قليل وال ً‬
‫َق ْد َره ُدو َنه‪ ،‬وأنَّ رمح َة ر ِّبه اقتضت ِذ ْك َره به‪ ،‬وسياق َته إليه‪ ،‬واس َت َق َّل ما ِمن‬

‫‪83‬‬
‫طاعات ال َّثق َلينْ ِ ‪ِ -‬من ِّ‬
‫أقل‬ ‫ِ‬ ‫نفسه ِمن الطاعات َلر ِّبه‪ ،‬ورآها‪ -‬ولو َ‬
‫ساو ْت‬
‫قليل معاصيه وذنوبِه‪َّ ،‬‬
‫فإن ال َكسرْ ة التي‬ ‫ما ينبغي لر ِّبه عليه‪ ،‬واستكثر َ‬
‫حصلت لقلبه أوج َب ْت له هذا ك َّله‪.‬‬
‫زق‬ ‫والر َ‬ ‫والرمحة‬ ‫َّرص‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫أدنى‬ ‫وما‬ ‫!‬ ‫ِ‬
‫املكسور‬ ‫ِ‬
‫القلب‬ ‫هذا‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫فام أقرب اجلرب ِ‬
‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫أحب‬‫ُّ‬ ‫وأجداه عليه! و َذ َّر ٌة ِمن هذا و َن َف ٌس منه‬ ‫املشهد له ْ‬
‫َ‬ ‫أنفع هذا‬ ‫منه! وما َ‬
‫ِ‬ ‫عجبِ َ‬ ‫طاعات أمثال اجلبال من ا ُمل ِد ِّل َ‬
‫ٍ‬
‫وعلومهم‬ ‫ني بأعامهلم‬ ‫ني ا ُمل َ‬ ‫إىل اهلل من‬
‫قلب قد متكَّنت منه هذه ال َكسرْ ة‪،‬‬ ‫وأحب القلوب إىل اهلل سبحانه ٌ‬ ‫ُّ‬ ‫وأحواهلم‪،‬‬
‫ِ‬
‫يدي ر ِّبه‪ ،‬ال يرفع رأسه إليه حيا ًء‬ ‫الذ َّلة‪ ،‬فهو ناك ُس الرأس بني ْ‬ ‫و َم َل َك ْته هذه ِّ‬
‫وخجل من اهلل تعاىل‪.‬‬ ‫اً‬

‫يرفع‬
‫يسجد سجد ًة ال ُ‬
‫ُ‬ ‫القلب؟ قال‪ :‬نعم‪،‬‬
‫ُ‬ ‫فني‪ :‬أ َي ُ‬
‫سجد‬ ‫ِ‬
‫العار َ‬ ‫ِ‬
‫لبعض‬ ‫قيل‬
‫رأسه منها إىل يوم ال ِّلقاء‪ ،‬فهذا سجود القلب‪.‬‬
‫َ‬
‫سجد‬ ‫ساجد السجو َد املراد منه‪ ،‬وإذا‬ ‫ٍ‬ ‫غري‬ ‫فقلب ال تباشرِ ُ ه هذه َ‬
‫َ‬ ‫الكسرْ ُة فهو ُ‬ ‫ٌ‬
‫وع َنا الوجهُ حينئذ‬ ‫ح‪َ ،‬‬ ‫مجيع اجلوار ِ‬ ‫سجد ْت معه ُ‬ ‫َ‬ ‫الع ْظمى‬ ‫القلب هلل هذه السجد َة ُ‬ ‫ُ‬
‫وخ َض َع واستكان‪،‬‬ ‫العبد َ‬ ‫ُ‬ ‫واجلوارح كلُّها‪ ،‬وذَلَّ‬
‫ُ‬ ‫وت‬‫الص ُ‬ ‫وخشَ عَ َّ‬‫للح ِّي ال َقيُّومِ‪َ ،‬‬‫َ‬
‫ليل إىل‬ ‫الذ ِ‬ ‫وولِ ِّيه َن َظ َر َّ‬‫ناظرا بق ْلبِه إىل ر ِّبه َ‬ ‫العبودية‪ً ،‬‬
‫َّ‬ ‫خده عىل عتبة‬‫ووض َع َّ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫ستعط ًفا‬ ‫ذليل مستكي ًنا ُم‬ ‫خاض ًعا له‪ ،‬اً‬ ‫العزيز الرحيم‪ ،‬فال ُيرى إلاَّ ُم َتم ِّل ًقا لر ِّبه‪ِ ،‬‬
‫َّ‬
‫املحب ِة‬
‫َّ‬ ‫الكامل‬ ‫ب‬‫ُّ‬ ‫ح‬ ‫يرتض ا ُمل ِ‬
‫ربه كام ىَّ‬ ‫رتض َّ‬ ‫له‪ ،‬يسأله َع ْط َفه ورمح َته‪ ،‬فهو َي ىَّ‬
‫هم غري‬ ‫له‬ ‫فليس‬ ‫منه‪،‬‬ ‫له‬ ‫بد‬ ‫وال‬ ‫عنه‪،‬‬ ‫له‬ ‫نى‬ ‫املالك له‪ ،‬الذي ال ِ‬
‫غ‬ ‫َ‬ ‫حمبو َبه‬
‫ٌّ‬
‫اسرتضائه واستعطافه؛ ألنَّه ال حياة له وال فالح إال يف ُق ْربِه ورضاه عنه‪،‬‬

‫‪84‬‬
‫التـــــوبة‬

‫عمن‬ ‫ل‬‫ُ‬ ‫غضب من حيايت يف رضاه؟ وكيف أ ْع ِ‬


‫د‬ ‫وحمبتِه له‪ ،‬يقول‪ :‬كيف ُأ ِ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫سعاديت وفالحي و َفوزي يف ُقربه وحبه ِ‬
‫وذ ْك ِره؟‬ ‫ُ ِّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫بأطيب‬ ‫َف أبيه َي ْغ ُذوه‬‫وصاحب هذا املشهد‪ :‬يشهد نفسه كرج ٍل كان يف َكن ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫الكامل أ َت َّم‬ ‫ِ‬
‫درجات‬ ‫ال َّطعام والشرَّ اب وال ِّلباس‪ ،‬و ُي َز ِّينه أحس َن ِّ‬
‫الزينة‪ ،‬و ُي َر ِّقيه‬
‫فخرج عليه يف‬ ‫له‪،‬‬ ‫حاجة‬ ‫يف‬ ‫أبوه‬ ‫ه‬‫ث‬‫َ‬ ‫فبع‬ ‫ها‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫ل‬ ‫ك‬ ‫ه‬ ‫ِ‬
‫بمصاحل‬ ‫ترقية‪ ،‬وهو ال َق ِّي ُم‬
‫َ‬
‫وش َّده َوثا ًقا‪ ،‬ثم ذهب به إىل بالد األعداء فسا َمه‬ ‫عد ٌّو‪ ،‬فأسرَ َ ه وك َّت َفه َ‬ ‫طريقه ُ‬
‫ُسو َء العذاب‪ ،‬وعا َم َله بِ ِض ِّد ما كان أبوه يعامله به‪ ،‬فهو يتذ َّكر تربي َة والده‬
‫واع ُج احلرسات ك َّلام رأى‬ ‫وإحسانه إليه ال َفين َة بعد ال َفينة‪ ،‬ف َت ِهيج من قلبه َل ِ‬
‫ْ‬
‫عدوه َيسو ُمه‬ ‫ِّ‬ ‫وكل ما كان فيه‪ ،‬فب ْينا هو يف أسرْ ِ‬ ‫حا َله وتذ َّكر ما كان عليه َّ‬
‫العذاب‪ ،‬ويريد َن ْح َره يف آخر األمر‪ ،‬إذ حانت منه التفات ٌة إىل نحو ِد ِ‬
‫يار‬ ‫ِ‬ ‫سو َء‬
‫أبيه‪ ،‬فرأى أباه منه قري ًبا‪ ،‬فسعى إليه‪ ،‬وألقى ن ْف َسه عليه‪ ،‬وان َط َر َح بني يديه‪،‬‬
‫يستغيث‪ :‬يا أبتاه‪ ،‬يا أبتاه! انظر إىل ولدك وما هو فيه‪ ،‬ودمو ُعه َتس َتبِ ُق عىل‬ ‫ُ‬
‫لتز ٌم‬‫وعدوه يف طلبِه‪ ،‬حتى وقف عىل رأسه‪ ،‬وهو ُم ِ‬ ‫والتزمه‪،‬‬ ‫اعتنقه‬ ‫قد‬ ‫‪،‬‬‫ه‬‫َخ َّدي ِ‬
‫ُّ‬ ‫ْ‬
‫عد ِّوه ويخُليِّ‬ ‫ِ‬
‫احلال إىل ُ‬ ‫والده ُي ْس ِل ُمه مع هذه‬ ‫إن َ‬ ‫لوالده ممُ ِس ٌك له‪ ،‬فهل تقول‪َّ :‬‬
‫بولدها‬ ‫والوالدة ِ‬
‫ِ‬ ‫أرحم بعبده ِمن الوالد بولده‪،‬‬ ‫بينه وبينه؟! فام ال َّظ ُّن بمن هو‬
‫ُ‬
‫خده يف‬ ‫حيا ببابه‪ُ ،‬ي َم ِّرغ َّ‬ ‫عدوه إليه‪ ،‬وألقى نفسه طر ً‬ ‫وهرب من ِّ‬ ‫إذا َف َّر إليه‪َ ،‬‬
‫راح َم له‬ ‫ثرى أعتابه باكيا بني يديه‪ ،‬يقول‪ :‬يا رب‪ ،‬يا رب‪ ،‬ارحم من ال ِ‬
‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬
‫سواك‪ ،‬وال و َّيل له سواك‪ ،‬وال نارص له سواك‪ ،‬وال ُم ْؤ ِوي له سواك‪ ،‬وال‬
‫ومؤ ِّم ُلك و ُم ْرتجَ يك‪ ،‬ال ملجأ‬ ‫ُم ِغيث له سواك‪ِ ،‬م ْسكينُك وفقريك‪ ،‬وسائلك َ‬
‫له وال َمن َْجى له منك إال إليك‪ ،‬أنت مال ُذه‪ ،‬وبك َمعا ُذه‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫يا مـن أ ُلـو ُذ ِ‬
‫بـه فيــام ُأ َؤ ِّم ُلـــ ُه‬ ‫َ ْ‬
‫ِ‬
‫حـــاذ ُر ُه‬ ‫ومـَن أ ُعــو ُذ ِ‬
‫بـه ممَِّا ُأ‬ ‫ْ‬
‫أنت كاسرِ ُ ُه‬ ‫َّاس َع ْظ اًم َ‬
‫ال يجَ ْبرُ ُ الن ُ‬
‫أنت جابِ ُـر ُه‬
‫ـون َع ْظ اًم َ‬ ‫يض َ‬ ‫وال هَي ُ‬
‫والشوق إىل لقائه‪ ،‬واالبتهاج به‪ ،‬والفرح والسرُّ ور‬ ‫‪ -10‬مشهد العبودية واملح َّبة‪َّ ،‬‬
‫كره‬ ‫به‪ ،‬ف َت َقر به عينه‪ ،‬ويسكن إليه قلبه‪ ،‬وتطمئن إليه جوارحه‪ ،‬ويستويل ِ‬
‫ذ‬
‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫رات املعصية‪،‬‬‫مكان َخ َط ِ‬
‫َ‬ ‫فتصري َخ َط ُ‬
‫رات املح َّبة‬ ‫ه‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وقلب‬ ‫ه‬‫ب‬ ‫عىل لسان محُ ِ‬
‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫ساخطِه‪ ،‬وحركات‬ ‫إرادة معاصيه وم ِ‬
‫َ‬
‫مكان ِ‬‫َ‬ ‫التقرب إليه ومرضاته‬ ‫وإراد ُة ُّ‬
‫مكان حركاهتا باملعايص‪ ،‬وقد امتأل قل ُبه من‬ ‫َ‬ ‫ال ِّلسان واجلوارح بالطاعات‬
‫اجلوارح لطاعته‪ ،‬فإن هذه الكَرس َة‬ ‫ت‬ ‫د‬ ‫وانقا‬ ‫كره‪،‬‬‫ذ‬ ‫محَ َبتِه‪ ،‬ولهَ ِ ج لسا ُنه بِ ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫تأثري عجيب يف املح َّبة ال ُيعبرَّ عنه‪.‬‬ ‫اخلاصة هلا ٌ‬ ‫َّ‬
‫يقول‪َ « :‬من أراد السعادة األبد َّية‪،‬‬ ‫شيخ اإلسال ِم ابن تيم َّية‬ ‫وكان ُ‬
‫فليلز ْم َع َتب َة ال ُعبود َّية»‪.‬‬
‫َ‬
‫دخ ُله عىل اهلل‪ ،‬و َت ْر ِميه عىل‬
‫الذ َّلة والكَرسة اخلاصة ُت ِ‬
‫َّ‬ ‫أن هذه ِّ‬ ‫والقصد‪َّ :‬‬
‫طريق املح َّبة‪ ،‬ف ُيفتح له منها باب ال ُيفتح له من غري هذه الطريق‪ ،‬وإن كانت‬
‫ُط ُرق سائر األعامل والطاعات َتفتح للعبد أبوا ًبا من املح َّبة‪ ،‬ولكن الذي‬
‫الذ ِّل واالنكسار‪ ،‬واالفتقار وازدراء النفس‪ ،‬ورؤيتها‬ ‫ُيفتح منها من طريق ُّ‬
‫والذم‪ ،‬بحيث يشاهدها َض ْيع ًة‬ ‫َّقص َّ‬‫بعني الضعف والعجز والعيب والن ِ‬
‫نوع آخر وفتح آخر‪ ،‬والسالك هبذا الطريق‬ ‫وعجزا‪ ،‬وتفري ًطا وذن ًبا وخطيئ ًة‪ٌ :‬‬
‫ً‬

‫‪86‬‬
‫التـــــوبة‬

‫تسمى طريقة ال َّطري‪ ،‬يسبق‬ ‫وهي‬ ‫‪،‬‬ ‫واد وهو يف ٍ‬


‫واد‬ ‫غريب يف الناس‪ ،‬وهم يف ٍ‬
‫َّ‬ ‫ٌ‬
‫حيد ُثك وإذا‬ ‫ب‪ ،‬ب ْينا هو ِّ‬ ‫الر ْك َ‬
‫السعا َة‪ ،‬فيصبح وقد قطع َّ‬ ‫النائم فيها عىل فراشه ُّ‬ ‫ُ‬
‫السعا َة‪ ،‬فاهلل املستعان‪ ،‬وهو خري الغافرين‪.‬‬ ‫وفات ُّ‬ ‫َ‬ ‫به قد َس َب َق الطرف‬
‫عبده‪ ،‬فإ َّنه سبحانه‬ ‫وفرحه بِتوبة ِ‬‫ِ‬ ‫وهذا الذي حصل له ِمن آثار حم َّب ِة اهلل له‪،‬‬
‫أعظم َف َر ٍح وأكم َله‪.‬‬ ‫بتوبتهم‬ ‫فرح‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫‪،‬‬ ‫ابني‬
‫َ‬ ‫و‬ ‫ت‬
‫َّ‬ ‫ال‬ ‫ب‬ ‫يحُ ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫نب‪،‬‬‫الذ ِ‬‫عة َّ‬ ‫الذنب‪ ،‬ويف حال موا َق ِ‬ ‫العبد ِمنَنَه سبحانه عليه قبل َّ‬ ‫فك َّلام طا َل َع ُ‬
‫ُ‬
‫وح ْلمه عنه‪ ،‬وإحسا َنه إليه‪ ،‬هاجت ِمن َقلبِه َل ِ‬
‫واع ُج‬ ‫نب‪ ،‬وبِره به‪ِ ،‬‬ ‫الذ ِ‬ ‫وبعد َّ‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫وأي‬ ‫َّ‬ ‫والش ِ‬‫َّ‬ ‫حمبتِ‬
‫أحس َن إليها‪ُّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫حب‬ ‫عىل‬ ‫جمبولة‬ ‫القلوب‬ ‫فإن‬ ‫لقائه‪،‬‬ ‫إىل‬ ‫وق‬ ‫ه‬ ‫َّ‬
‫العبد باملعايص‪ ،‬وهو َي ُم ُّده بنِ َع ِمه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫إحسان َمن ِ‬
‫يبار ُزه‬ ‫ِ‬ ‫إحسان أعظم ِمن‬
‫ني له‬‫ويعامله بألطافه‪ ،‬و ُي ْسبِ ُل عليه َسترْ َ ه‪ ،‬وحيفظه من َخ َطفات أعدائه ا ُملرت ِّقبِ َ‬
‫ول بينهم وبينه‪ ،‬وهو يف‬ ‫رة؛ ينالون منه هبا ُب ْغي َتهم‪ ،‬وير ُّدهم عنه‪ ،‬ويحَ ُ‬ ‫أدنى َع ْث ٍ‬
‫ذلك كله بِ َع ْينِه يراه و َي َّط ِل ُع عليه‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫منزلـــــــة الإنـــــــابة‬

‫عده َ‬
‫منزل اإلنابة‪ ،‬وقد أ َمر به تعاىل‬ ‫استقرت َق َد ُمه يف منزل ال َّتوبة نزل َب َ‬
‫َّ‬ ‫فإذا‬
‫يف كتابه‪ ،‬وأثنى عىل خليله هبا‪ ،‬فقال‪﴿ :‬ﯜ ﯝ ﯞ﴾ [الزمر‪ ،]54 :‬وقال‪:‬‬
‫ِ‬
‫اخلشية‬ ‫﴿ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﴾[هود‪ ،]75 :‬وأخرب َّ‬
‫أن ثوا َبه وجنَّ َته ألهل‬
‫واإلنابة‪ ،‬فقال‪﴿ :‬ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ‬
‫ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ﴾ [ق‪.]34-31 :‬‬
‫ِ‬
‫املخلوقات ك ِّلها‪َ ،‬ي ِ‬
‫شرت ُك فيها‬ ‫واإلنابة إنابتان‪ :‬إنابة ُلربوبِ َّيتِه‪ ،‬وهي إنابة‬
‫والفاجر‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ‬ ‫املؤمن والكافر‪ ،‬والبرَُّ‬
‫ﭗ ﭘ﴾ [الروم‪ ،]33 :‬واإلنابة الثانية‪ :‬إنابة أوليائه‪ ،‬وهي إنابة إلهل َّيتِه‪ ،‬إنابة‬
‫عبودية وحم َّبة‪.‬‬
‫واإلعراض‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫واإلقبال عليه‪،‬‬ ‫واخلضوع له‪،‬‬
‫َ‬ ‫تتضمن أربع َة أمور‪ :‬حم َّبته‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وهي‬
‫وتفسري‬ ‫األربعة‪،‬‬ ‫هذه‬ ‫فيه‬ ‫اجتمعت‬
‫ْ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫لاَّ‬‫إ‬ ‫نيب‬ ‫ُ‬
‫مل‬ ‫ا‬ ‫اسم‬ ‫يستحق‬
‫ُّ‬ ‫فال‬ ‫واه‪،‬‬‫س‬‫ع ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ماَّ‬
‫لف هلذه اللفظة يدور عىل ذلك‪.‬‬ ‫الس ِ‬
‫َّ‬
‫والتقدم‪ ،‬فـ(ا ُملنيب) إىل اهلل‪ :‬ا ُمل ِ‬
‫رسع‬ ‫ُّ‬ ‫ويف ال َّلفظة معنى اإلرساع والرجو ِع‬
‫املتقدم إىل محَ ا ِّبه‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫كل وقت‪،‬‬ ‫إىل َم ْرضاتِه‪ ،‬الراجع إليه َّ‬
‫عالمات صدق اإلنابة‪:‬‬
‫إذا َص َف ْت له اإلناب ُة إىل ر ِّبه تخَ َّلص من الفكرة يف َل َّذة َّ‬
‫الذنب‪ ،‬وأعاد مكانهَ ا‬
‫الفكْر فيه موجود ًة يف قلبه‬ ‫لذ ُة ِ‬
‫لذ ْك ِره‪ ،‬والفكرة فيه‪ ،‬فام دامت َّ‬ ‫أ ًملا وتوجعا ِ‬
‫ُّ ً‬
‫غري صافية‪.‬‬ ‫فإناب ُته ُ‬
‫‪88‬‬
‫اإلنـــــابة‬

‫نب يف قلبه فهو جياهدها‬ ‫الذ ِ‬ ‫لذ َة َّ‬ ‫حال َمن جيد َّ‬ ‫أي احلا َلينْ ِ أعىل؟ ُ‬ ‫فإن قيل‪ُّ :‬‬
‫الذنب يف‬ ‫لذة َّ‬
‫حال َمن ماتت َّ‬ ‫هلل‪ ،‬ويرتكها ِمن خوفه وحم َّبتِه وإجاللِه‪ ،‬أو ُ‬
‫وتوج ًعا وطمأنينة إىل َر ِّبه‪ ،‬وسكو ًنا إليه‪ ،‬والتِذا ًذا‬ ‫ُّ‬ ‫قلبه‪ ،‬وصار مكاهنا أ ًملا‬
‫بذكره؟‬‫بحبه‪ ،‬وتنعُّم ِ‬
‫اً‬ ‫ُ ِّ‬
‫نفسه‬ ‫املجاهدة‪ِ ْ :‬‬ ‫ِ‬ ‫أرفع وأكمل‪ ،‬وغاي ُة‬ ‫قيل‪ُ :‬‬
‫أن جياه َد َ‬ ‫َ‬ ‫صاحب‬ ‫حال هذا ُ‬
‫ِ‬
‫املنزلة وال ُق ْرب‪ ،‬و َمن ٌ‬
‫ُوط به‪.‬‬ ‫يصل إىل مقا ِم هذا ومنزلته‪ ،‬ولكنَّه تالِ ِيه يف‬ ‫حتى َ‬
‫ِ‬
‫وإيثاره رضا‬ ‫صاحب ال َّل َّذة‪ ،‬و َت ْر ِكه محَ ا ِّبه هلل‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫جماهدة‬ ‫أج ُر‬‫فإن قيل‪ :‬فأين ْ‬
‫كي عند أهل‬‫أفضل من النوع ا َمل َل ِّ‬ ‫َ‬ ‫اهلل عىل هواه‪ ،‬وهبذا كان النوع اإلنساين‬
‫ويف‬‫ع‬‫ُ‬ ‫و‬ ‫املجاهدة‬ ‫هذه‬ ‫ن‬ ‫واملطمئن قد اسرتاح ِ‬
‫م‬ ‫ِ‬ ‫السنَّة‪ ،‬وكانوا خري البرَ َّية‪،‬‬
‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬
‫ىَ‬
‫املعاف واملبتلىَ ‪.‬‬ ‫منها‪ ،‬فبينهام من التفاوت ما بني درجة‬
‫بالذنب‪ ،‬ثم ال َّل ْوم عليه والنَّدم منه‪،‬‬‫األمر َّ‬
‫ُ‬ ‫قيل‪ :‬النَّفس هلا ثالث ُة أحوال‪:‬‬
‫احلال أعىل أحواهلا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫واإلقبال بك ِّل َّيتِها عليه‪ ،‬وهذه‬‫ُ‬ ‫ثم الطمأنينة إىل ربهِّ ا‬
‫املجاهد‪ ،‬وما حيصل له من ثواب جماهدتِه‬ ‫ِ‬ ‫وأرفعها‪ ،‬وهي التي ُي َش ِّمر إليها‬
‫راكب ِ‬
‫القفار‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الطمأنينة إىل اهلل‪ ،‬فهو بمنزلة‬ ‫مريه إىل درجة‬ ‫وص ِربه فهو ل َت ْش ِ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫والطواف به‪.‬‬ ‫واألهوال لِ َي ِص َل إىل البيت فيطمئن قل ُبه برؤيته‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ (((‬
‫واملهامه‬
‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫وساجدا‪ ،‬ليس له‬
‫ً‬ ‫مشغول به طائ ًفا اً‬
‫وقائم‪ ،‬وراك ًعا‬ ‫بمنزلة َمن هو‬ ‫واآلخر‬
‫ُ‬
‫أجر‪ ،‬ولكن‬ ‫وكل له ٌ‬‫مشغول بالغاية‪ ،‬وذاك بالوسيلة‪ٌّ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫التفات إىل غريه‪ ،‬فهذا‬ ‫ٌ‬
‫وأج ِر الوسائل َب ْو ٌن‪.‬‬ ‫ِ‬
‫أج ِر الغايات ْ‬ ‫بينْ ْ‬
‫)‪ (1‬أي‪ :‬املفاوز البعيدة‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫للمطمئ ِّن من األحوال والعبود َّية واإليامن فوق ما حيصل هلذا‬ ‫ِ‬ ‫وما حيصل‬
‫ِ‬
‫عمل املطمئ ِّن‬ ‫عمل‪ -‬ف َق ْد ُر‬ ‫أكثر اً‬ ‫كان‬ ‫‪-‬وإن‬ ‫تعاىل‬ ‫اهلل‬ ‫املجاهد نفسه يف ِ‬
‫ذات‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫فضل‬ ‫عمل‪ ،‬وذلك ُ‬ ‫أكثر اً‬ ‫د‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫املجاه‬ ‫هذا‬ ‫كان‬ ‫وإن‬ ‫‪،‬‬ ‫أعظم‬ ‫ه‬ ‫نيب بجملتِه وكيفيتِ‬ ‫ا ُمل ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫عمل‪ ،‬وفيهم َمن هو‬ ‫ٍ‬ ‫الص ِّد ُيق الصحاب َة بكثرة‬ ‫اهلل يؤتيه َمن يشاء‪ ،‬فام َس َبق ِّ‬
‫إن‬ ‫آخ َر قا َم بقلبه‪ ،‬حتى َّ‬ ‫بأمر َ‬ ‫وح ًّجا وقراء ًة وصال ًة منه‪ ،‬ولكن ٍ‬ ‫أكثر صيا ًما َ‬
‫أفضل الصحابة كان يسابِ ُقه وال يراه إال أمامه‪.‬‬ ‫َ‬

‫أشق‪ ،‬وال‬ ‫ُ‬


‫تكون َّ‬ ‫الذنب والشهوة قد‬ ‫نفسه عىل َل َّذة َّ‬ ‫جماهد ِ‬
‫ِ‬ ‫ولكن عبود َّية‬
‫ِ‬
‫األعامل اإليامن باهلل‪ ،‬واجلها ُد‬ ‫ُ‬
‫فأفضل‬ ‫يلزم من مش َّقتِها تفضي ُلها يف الدرجة‪،‬‬
‫الدرجة ‪.‬‬‫أشق منه وهو تالِ ِيه يف َّ‬ ‫ُّ‬
‫واخلوف عليهم‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ترك االستهانة بأهل الغفلة‪،‬‬ ‫ومن عالمات اإلنابة‪ُ :‬‬ ‫ِ‬
‫باب الرجاء لنفسك‪ ،‬فرتجو لنفسك الرمحة‪ ،‬وختشى عىل أهل‬ ‫مع فتحك َ‬
‫واخش عىل نفسك النقمة‪ ،‬فإن كنت‬ ‫َ‬ ‫ارج هلم الرمحة‪،‬‬ ‫الغفلة النِّقمة‪ ،‬ولكن ُ‬
‫ِ‬
‫ورؤية ما ُهم عليه‪،‬‬ ‫ال بد مستهينًا هبم ماق ًتا هلم‪ ،‬النكشاف أحواهلم لك‪،‬‬
‫أشد مق ًتا منك هلم‪ ،‬وكن أرجى لرمحة اهلل منك لنفسك‪.‬‬ ‫فكن لنفسك َّ‬
‫ثم‬ ‫اهلل‪،‬‬ ‫ذات‬ ‫يف‬ ‫ق‬‫َ‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫خل‬ ‫ا‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ق‬ ‫تمَ‬ ‫ى‬‫ت‬‫َّ‬ ‫ح‬ ‫الف ِ‬
‫قه‬ ‫كل ِ‬ ‫قال بعض السلف‪« :‬لن َتف َق َه َّ‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫ُت ْقبِل عىل ن ْف ِس َك فتكون هلا َ‬
‫أش َّد َم ْق ًتا»‪.‬‬
‫ومتييز‬
‫ُ‬ ‫[ومنها ] ‪ :‬التفتيش عام [يشوب األعامل] من حظوظ النفس‪،‬‬
‫الرب منها ِمن حظ النفس‪ ،‬ولعل أكثرها أو ك َّلها أن تكون ح ًّظا‬
‫ِّ‬ ‫حق‬
‫ِّ‬
‫لنفسك وأنت ال تشعر‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫اإلنـــــابة‬

‫َ‬
‫األعامل‬ ‫ٍ‬
‫وحظوظ متنع‬ ‫فال إله إال اهللُ‪ ،‬كم يف النفوس ِمن ِع َل ٍل وأغراض‪،‬‬
‫عم ُل العمل حيث ال يراه‬ ‫أن تكون هلل خالصة‪ ،‬وأن تصل إليه؟ وإن العبد ل َي َ‬
‫العمل والعيون قد استدارت عليه‬ ‫َ‬ ‫برش ال َب َّتة‪ ،‬وهو غري خالص هلل‪ ،‬ويعمل‬ ‫ٌ‬
‫نطا ًقا‪ ،‬وهو خالص لوجه اهلل‪ ،‬وال يم ِّي ُز هذا من هذا إال ُ‬
‫أهل البصائر‪ ،‬وأط َّبا ُء‬
‫القلوب العالمِون بأدوائها ِ‬
‫وع َل ِلها‪.‬‬
‫فبني العمل وبينْ القلب مسافة‪ ،‬ويف تلك املسافة ُق َّطاع متنع وصول العمل‬
‫وصل منه إىل قلبه حم َّب ٌة وال خوف‬ ‫كثري العمل‪ ،‬وما َ‬
‫إىل القلب‪ ،‬فيكون الرجل َ‬
‫وال رجاء‪ ،‬وال زهد يف الدنيا وال رغب ٌة يف ِ‬
‫اآلخرة‪ ،‬وال نور ُي َف ِّرق به بني أولياء‬
‫قو ٌة يف أمره؛ فلو وصل ُ‬
‫أثر األعامل إىل‬ ‫اهلل وأعدائه‪ ،‬وبني احلق والباطل‪ ،‬وال َّ‬
‫ِ‬
‫وأعدائه‪،‬‬ ‫قلبه الستنار وأرشق‪ ،‬ورأى احلق والباطل‪ ،‬وم َّيز بني أولياء اهلل‬
‫املزيد من األحوال‪.‬‬
‫َ‬ ‫وأوجب له ذلك‬
‫ثم بني القلب وبينْ الرب مسافة‪ ،‬وعليها ُق َّطاع متنع وصول العمل إليه‪ِ ،‬من‬
‫وع َل ٍل خفية لو استقىص‬ ‫ونسيان املِنَّة‪ِ ،‬‬
‫ِ‬ ‫ِكبرْ ٍ وإعجاب وإدالل‪ ،‬ورؤية العمل‪،‬‬
‫رتها عىل أكثر العماَّ ل؛ إ ْذ لو‬
‫يف طلبها لرأى العجب‪ ،‬ومن رمحة اهلل تعاىل س ُ‬
‫رأوها وعاينوها لوقعوا فيام هو أشد منها‪ ،‬من اليأس والقنوط واالستحسار‪،‬‬
‫اهلمة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫تور‬ ‫ُ‬
‫ف‬ ‫و‬ ‫العزم‪،‬‬ ‫ومخود‬ ‫العمل‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وترك‬
‫َّ‬

‫‪91‬‬
‫ُّ‬
‫التذكـــــــر‬ ‫ُ‬
‫منزلـــــــة‬

‫القلب منزل َة التذ ُّكر‪ ،‬وهو قرين اإلنابة؛ قال تعاىل‪﴿ :‬ﮬ ﮭ‬
‫ُ‬ ‫ثم َي ِنزل‬
‫ﮮ ﮯ ﮰ﴾ [غافر‪.]13:‬‬
‫واص ُأويل األلباب؛ كام قال تعاىل‪﴿ :‬ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ‬ ‫ِ‬
‫وهو من َخ ِّ‬
‫ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ﴾ [الرعد‪.]19:‬‬
‫ِ‬
‫اإليامن واإلحسان‪،‬‬ ‫وحقائق‬
‫َ‬ ‫والتذ ُّكر والتفكُّر منزالن ُيثمران َ‬
‫أنواع املعارف‪،‬‬
‫يفتح ُقفل‬
‫فالعارف ال يزال يعود بتفكُّره عىل تذ ُّكره‪ ،‬وبتذ ُّكره عىل تفكُّره‪ ،‬حتى َ‬
‫قلبه بإذن الفتاح العليم‪.‬‬
‫قال احلسن البرصي ‪« :‬ما زال ُ‬
‫أهل العل ِم يعودون بالتذ ُّكر عىل التفكُّر‪،‬‬
‫القلوب حتى نطقت»‪.‬‬‫َ‬ ‫وبالتفكُّر عىل التذ ُّكر‪ ،‬و ُيناطِقون‬
‫فمنزلة التذ ُّكر من التفكُّر منزل ُة حصول اليشء املطلوب بعد التفتيش‬
‫املتلوة‪:‬‬ ‫يف‬ ‫قال‬ ‫كام‬ ‫كرى؛‬ ‫آيـات اهلل املتلو ُة واملشـهود ُة ِ‬
‫ذ‬ ‫ُ‬ ‫عليه‪ ،‬وهلذا كانت‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫﴿ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅﮆ ﮇ ﮈ‬
‫ﮉ﴾ [غافر‪ ،]54-53:‬وقال تعاىل يف آياته املشهودة‪ ﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ‬
‫ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ‬
‫ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ﴾ [ق‪.]37-36:‬‬
‫والناس ثالث ٌة‪ٌ :‬‬
‫رجل قل ُبه ميت‪ ،‬فذلك الذي ال قلب له‪ ،‬فهذا ليست هذه‬
‫اآلي ُة ِذكرى يف ح ِّقه‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫التذكــــــر‬

‫غري مستمع لآليات املت ُل َّوة‪ ،‬التي‬


‫مستعد‪ ،‬لكنه ُ‬‫ٌّ‬ ‫الثاين‪ٌ :‬‬
‫رجل له قلب َح ٌّي‬
‫ورودها‪ ،‬أو لوصوهلا إليه ولكن‬ ‫ِ‬ ‫يخُ رب هبا اهلل عن اآليات املشهودة؛ إ َّما لعدم‬
‫أيضا ال‬
‫حارضا‪ ،‬فهذا ً‬ ‫ً‬ ‫مشغول عنها بغريها‪ ،‬فهو غائب القلب‪ ،‬ليس‬ ‫ٌ‬ ‫قلبه‬
‫الذكرى‪ ،‬مع استعداده ووجود قلبه‪.‬‬ ‫حتص ُل له ِّ‬
‫ُ‬
‫اآليات‪ ،‬فأصغى بسمعه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫مستعد‪ُ ،‬تل َي ْت عليه‬
‫ٌّ‬ ‫والثالث‪ٌ :‬‬
‫رجل َح ُّي القلب‬
‫وأحضرَ قلبه‪ ،‬ومل َيش َغ ْله بغري َفهم ما يسمعه‪ ،‬فهو شاهد القلب‪ُ ،‬م ٍ‬
‫لق السمع‪،‬‬
‫فهذا القسم هو الذي ينتفع باآليات املت ُل َّوة واملشهودة‪.‬‬
‫فاألول‪ :‬بمنزلة األعمى الذي ال ُيبرص‪.‬‬
‫الطام ِح ببرصه إىل غري جهة املنظور إليه‪ِ .‬‬
‫فكالمها‬ ‫ِ‬ ‫والثاين‪ :‬بمنزلة البصري‬
‫ال يراه‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬بمنزلة البصري الذي قد َح َّدق إىل جهة املنظور إليه‪ ،‬وأ ْت َبعه‬
‫برصه‪ ،‬وقاب َله عىل ُّ‬
‫توسط من ال ُبعد والقرب‪ ،‬فهذا هو الذي يراه‪.‬‬ ‫َ‬
‫فسبحان َمن َجعل كالمه شفا ًء لمِا يف الصدور!‬

‫وسائل اكتساب ثمرة التفكر‪:‬‬

‫بثالثة أشيا َء‪ِ :‬بقصرَ ِ األ َم ِل‪،‬‬


‫ِ‬ ‫الف ِ‬
‫كرة‬ ‫قال[اهلروي ]‪« :‬وإ َّنام تجُ َتنى ثمر ُة ِ‬
‫وق َّل ِة اخلُ ْل َطة وال َّت َمنِّي وال َّت َع ُّل ِق ب َغ ِري اهللِ ِّ‬
‫والش َب ِع وا َملنا ِم»‪.‬‬ ‫رآن‪ِ ،‬‬
‫وال َّتأم ِل يف ال ُق ِ‬
‫ُّ‬
‫مدة احلياة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ورسع�ة انقضاء َّ‬ ‫فأمَّ�ا ِقَص� األمل‪ :‬فهو ِ‬
‫العلم ب ُقرب الرحيل‪،‬‬ ‫رَ ُ‬
‫‪93‬‬
‫وهو من أنفع األمور للقلب؛ فإنه يبعثه عىل مغافصة األيام(((‪ ،‬وانتهاز الفرص‬
‫التي تمَ ُ ُّر َم َّر السحاب‪ ،‬ومبادرة َط ِّي صحائف األعامل‪ ،‬ويثري ساكن عزماته إىل‬
‫دار البقاء‪ ،‬ويحَ ُّثه عىل قضاء جهاز سفره‪ ،‬وتدارك الفارط‪ِّ ،‬‬
‫ويزهده يف الدنيا‪،‬‬
‫ش�اهد من‬
‫ٌ‬ ‫وير ِّغب�ه يف اآلخرة؛ فيقوم بقلب�ه ‪-‬إذا داوم مطالعة قرص األمل‪-‬‬
‫شواهد اليقني‪ُ ،‬يريه فنا َء الدنيا‪ ،‬ورسع َة انقضائها‪ ،‬وق َّلة ما َ‬
‫بقي منها‪ ،‬وأهنا قد‬
‫ترح َل ْت ُم ْدبِر ًة‪ ،‬ومل َ‬
‫يبق منها إال ُصباب ٌة كصبابة اإلناء َيتصابهُّ ا صاح ُبها‪ ،‬وأهنا‬ ‫َّ‬
‫شمسه عىل رؤوس اجلبال‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫بقي من يوم صارت‬ ‫مل يبق منها إال كام َ‬
‫ترحلت ُم ْقبِل ًة‪ ،‬وقد جاء أرشاطها‬ ‫و ُيريه بقا َء اآلخرة ودوا َمها‪ ،‬وأهنا قد َّ‬
‫فكل منهام يسري‬ ‫صاحب له يت َّلقاه‪ٌّ ،‬‬ ‫خرج‬ ‫كمسافر‬ ‫لقائها‬ ‫ن‬‫م‬‫وأعالمها‪ ،‬وأنه ِ‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫اآلخر‪ ،‬فيوشك أن يلتقيا رسي ًعا‪.‬‬ ‫إىل َ‬
‫ويكفي يف ِقصرَ األمل قوله تعاىل‪﴿ :‬ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ‬
‫ﰈ ﰉ ﰊ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ﴾ [الشعراء‪ ،]207 -205 :‬وقوله تعاىل‪:‬‬
‫النبي‬
‫ب ُّ‬ ‫وخ َط َ‬‫﴿ﭩﭪﭫ ﭬﭭﭮ ﭯﭰﭱﭲﭳ﴾ [يونس‪َ ،]45 :‬‬
‫والشمس عىل رؤوس اجلبال‪ ،‬فقال‪« :‬إ َّنه مل ْ َي َبق ِم َن ُّ‬
‫الد ْنيا فيام‬ ‫ُ‬ ‫ﷺ يو ًما أصحابه‬
‫وم ُكم هذا فيام َمىض منه»(((‪.‬‬ ‫مىض منها إلاَّ كام بقي ِمن ي ِ‬
‫َ َ َ‬ ‫َ‬
‫زوال الدنيا ومفارقتِها‪ ،‬وتي ُّقن ِ‬
‫لقاء‬ ‫ِ‬ ‫وقصرَ ُ األمل بِناؤه عىل أمرين‪ :‬تي ُّقن‬ ‫ِ‬
‫ويؤثِر أوالمها باإليثار‪.‬‬ ‫قاي ُس بني األمرين ْ‬ ‫ِ‬
‫وبقائها ودوامها‪ ،‬ثم ُي ِ‬ ‫اآلخرة‬

‫(‪ )1‬األخذ عىل غرة‪ ،‬واملراد مسابقتها وانتهاز فرص الطاعات‪.‬‬


‫)‪ (2‬أخرجه الرتمذي (‪ ،)2191‬وقال‪ :‬حديث حسن‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫التذكــــــر‬

‫مجع ِ‬
‫الفكْر عىل‬ ‫التأمل يف القرآن‪ :‬فهو حتديق ناظر القلب إىل معانيه‪ ،‬و ْ ُ‬
‫وأما ُّ‬ ‫َّ‬
‫تفه ٍم وال تد ُّبر‪.‬‬ ‫تدبره وتع ُّق ِ‬
‫جمرد تالوته بال ُّ‬
‫َّ‬ ‫ال‬ ‫بإنزاله‪،‬‬ ‫املقصود‬ ‫وهو‬ ‫ه‪،‬‬‫ل‬ ‫ُّ‬
‫قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ﴾‬
‫وأقرب إىل نجاته‪ِ ،‬من تد ُّبر‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫ومعاده‪،‬‬ ‫أنفع للعبد يف معاشه‬ ‫[ص‪ ،]29:‬فليس يش ٌء َ‬
‫العبد عىل‬
‫طلع َ‬ ‫الفكْر عىل معاين آياته؛ فإهنا ُت ِ‬ ‫مج ِع ِ‬
‫وإطالة التأ ُّمل فيه‪ ،‬و ْ‬ ‫ِ‬ ‫القرآن‪،‬‬
‫والرش بحذافريمها‪ ،‬وعىل طرقاهتام وأسبابهِ ام‪ ،‬وغاياتهِ ام وثمراهتام‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫معامل اخلري‬
‫قواعد اإليامن يف قلبه‪ ،‬و ُتش ِّيد بنيانه‪ ،‬و ُتو ِّط ُد أركا َنه‪ ،‬و ُتريه صورة‬ ‫َ‬ ‫و ُتث ِّبت‬
‫الدنيا واآلخرة‪ ،‬واجلنَّ ِة والنار يف قلبه‪ ،‬وتحُضرِ ُ ه بني األمم‪ ،‬وتريه أ َّيا َم اهلل فيهم‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫عر ُفه ذاته وأسام َءه وصفاتِه‬ ‫ِّ‬ ‫ت‬
‫ُ‬ ‫و‬ ‫ه‪،‬‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫وفض‬ ‫ْ‬ ‫اهلل‬ ‫َ‬
‫عدل‬ ‫ه‬‫د‬‫ُ‬ ‫ِ‬
‫شه‬ ‫ت‬
‫ُ‬ ‫و‬ ‫‪،‬‬ ‫و ُتب ه مواقع ِ‬
‫الع‬
‫َ برَ‬ ‫صرِّ‬
‫وأفعا َله‪ ،‬وما يحُ ُّبه وما ُيبغضه‪ ،‬ورصا َطه املوصل إليه‪ ،‬وما لسالكيه بعد الوصول‬
‫ِ‬
‫ومفسدات‬ ‫عرفه النَّ ْف َس وصفاتهِ ا‪،‬‬ ‫تهِ‬
‫وقواطع الطريق وآفا ا‪ ،‬و ُت ِّ‬ ‫َ‬ ‫والقدوم عليه‪،‬‬
‫وأهل النار وأعاملهَ م‪ ،‬وأحواهلم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫طريق أهل اجلن َِّة‬ ‫وتعرفه َ‬ ‫ِّ تهِ‬
‫ومصححا ا‪ِّ ،‬‬ ‫األعامل‬
‫ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة‪ ،‬وأقسا َم اخل ْلق واجتام َعهم فيام‬ ‫وسيامهم‪،‬‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫فرتقون فيه‪.‬‬ ‫جيتمعون فيه‪ ،‬وافرتا َقهم فيام َي ِ‬

‫وطريق الوصول إليه‪ ،‬وما له من‬


‫َ‬ ‫املدعو إليه‪،‬‬
‫َ‬ ‫الرب‬
‫َّ‬ ‫عرفه‬
‫وباجلملة‪ُ :‬ت ِّ‬
‫الكرامة إذا َق ِدم عليه‪.‬‬
‫عرفه يف مقابل ذلك ثالث ًة أخرى‪ :‬ما يدعو إليه الشيطان‪ ،‬والطريق املوصل َة‬
‫و ُت ِّ‬
‫ِ‬
‫والعذاب بعد الوصول إليه‪.‬‬ ‫إليه‪ ،‬وما للمستجيب لدعوته من اإلهانة‬
‫فهذه س َّت ُة أمور رضوري ٌة للعبد معرفتها‪ ،‬ومشاهدهتا ومطالعتها‪ ،‬ف ُتشهده‬

‫‪95‬‬
‫اآلخرة حتى كأنه فيها‪ ،‬و ُتغ ِّيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها‪ ،‬وتمُ ِّيز له بني‬
‫َ‬
‫والباطل اً‬
‫باطل‪،‬‬ ‫ِ‬
‫والباطل يف كل ما اخ َتلف فيه العالمَ ‪ ،‬فترُ يه احلق ح ًّقا‪،‬‬ ‫احلق‬
‫يفرق به بني اهلدى والضالل‪ ،‬وال َغ ِّي والرشاد‪ ،‬وتعطيه‬ ‫ونورا ِّ‬
‫وتعطيه فرقا ًنا ً‬
‫والناس‬
‫ُ‬ ‫ورسورا؛ فيصري يف شأن‬‫ً‬ ‫وانرشاحا‪ ،‬وهبجة‬
‫ً‬ ‫وس َع ًة‬
‫قوة يف قلبه‪ ،‬وحيا ًة َ‬
‫يف ٍ‬
‫شأن َ‬
‫آخ َر‪.‬‬
‫وختوفه‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫وحتذره‬ ‫العبد إىل ر ِّبه بالوعد اجلميل‪،‬‬ ‫َ‬ ‫تزال معانيه ُتنهض‬ ‫فال ُ‬
‫ف ِللقاء اليوم ال َّثقيل‪،‬‬ ‫بوعيده من العذاب الوبيل‪ ،‬وتحَ ُ ُّثه عىل ال َّتضم ِر وال َّتخ ُّف ِ‬
‫ُّ‬
‫وتص ُّده عن اقتحام ُط ُر ِق‬ ‫السبيل‪ُ ،‬‬ ‫واملذاهب إىل سواء َّ‬‫ِ‬ ‫وتهَ ديه يف ُظ َلم اآلراء‬
‫البِ َدع واألضاليل‪ ،‬و َتبع ُثه عىل االزدياد ِمن النِّ َعم بشكر ر ِّبه اجلليل‪ ،‬و ُتبصرِّ ه‬
‫فيقع يف العناء ال َّطويل‪.‬‬ ‫اها‬ ‫يتعد‬
‫َّ‬ ‫لاَّ‬‫ئ‬ ‫ل‬ ‫عليها؛‬ ‫ه‬‫ف‬‫ُ‬ ‫بحدود احلالل واحلرام‪ ،‬و َت ِ‬
‫ق‬
‫َ‬
‫األمور‬
‫َ‬ ‫سهل عليه‬ ‫احلق وال َّتحويل‪ ،‬و ُت ِّ‬‫يل عن ِّ‬ ‫الزيغ وا َمل ِ‬ ‫و ُتث ِّبت قلبه عن َّ‬
‫عزما ُته وونى‬
‫فرتت َ‬ ‫الشا َّق َة غاي َة ال َّتسهيل‪ ،‬وتناديه ك َّلام‬ ‫ِ‬
‫والعقبات َّ‬ ‫عاب‬
‫ْ‬ ‫الص َ‬ ‫ِّ‬
‫الر َ‬
‫حيل‪.‬‬ ‫والر َ‬
‫حيل َّ‬ ‫حاق‪َّ ،‬‬ ‫حاق ال َّل َ‬
‫الدليل‪ ،‬فال َّل َ‬
‫الركب وفا َتك َّ‬ ‫ُ‬ ‫يف َس ِريه‪َّ :‬‬
‫تقد َم‬
‫كمني من كامئن‬
‫ٌ‬ ‫الدليل‪ ،‬وك َّلام خرج عليه‬‫وتحَ ْ دو به وتسري أمامه َسيرْ َ َّ‬
‫ِ‬
‫فاعتصم باهلل‪ ،‬واستعن‬ ‫احلذر!‬ ‫احلذر‬ ‫قاطع من ُق َّطاع ال َّطريق ناد ْته‪:‬‬ ‫العدو‪ ،‬أو‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ِّ‬
‫به‪ ،‬وقل‪ :‬حسبي اهلل ونِ ْع َم الوكيل‪.‬‬
‫مفسدات القلب اخلمس ُة فهي ا َّلتي أشار إليها‪ :‬من كثرة اخللطة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وأما‬
‫َّ‬
‫وال َّتمنِّي‪ ،‬وال َّتع ُّلق بغري اهلل‪ِّ ،‬‬
‫والش َبع‪ ،‬واملنام‪.‬‬
‫فهذه اخلمسة من أكرب مفسدات القلب‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫التذكــــــر‬

‫والد ِار اآلخرة‪ ،‬ويكشف عن طريق‬ ‫يسري إىل اهلل َّ‬


‫ُ‬ ‫[و] اعلم َّ‬
‫أن القلب‬
‫وقوتِه‪،‬‬
‫احلق ونهَ ْ ِجه‪ ،‬وآفات النفس والعمل‪ ،‬وق َّطاع الطريق‪ ،‬بنوره وحياته َّ‬
‫ِّ‬
‫سمعه وبرصه‪ ،‬و َغ ِ‬
‫يبة َّ‬
‫الشواغل والقواطع عنه‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وسالمة‬ ‫وص َّحتِه وعزمه‪،‬‬ ‫ِ‬

‫إن مل ُت ِصمه‬ ‫نوره‪ ،‬وتغور عني بصريته‪ ،‬و ُتثقل سمعه‪ْ ،‬‬ ‫وهذه اخلمسة ُتطفئ َ‬
‫مه َته‪،‬‬ ‫وتوقف‬ ‫عزيمته‪،‬‬ ‫ترِّ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ت‬
‫ُ‬ ‫و‬ ‫ه‪،‬‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫صح‬ ‫وتوهن‬ ‫ها‪،‬‬ ‫َّ‬
‫ل‬ ‫ك‬ ‫واه‬ ‫ُ‬
‫ق‬ ‫ف‬ ‫و ُتب ِكمه و ُت ِ‬
‫ضع‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬
‫وتنكسه إىل ورائه‪ ،‬و َمن ال شعور له هبذا فميت القلب‪:‬‬
‫رح بمي ٍ‬
‫ت إيال ُم‪.‬‬ ‫وما لجِ ُ ٍ َ ِّ‬
‫وج ِعل‬ ‫ِ‬
‫يل كامله‪ ،‬قاطع ٌة له عن الوصول إىل ما ُخلق له‪ُ ،‬‬ ‫فهي عائق ٌة له عن َن ِ‬
‫ولذ ُته يف الوصول إليه؛ فإ َّنه ال نعيم له وال َل َّذ َة‪،‬‬ ‫وابتهاجه َّ‬ ‫ُ‬ ‫نعيمه وسعادته‬‫ُ‬
‫ِ‬
‫والفرح‬ ‫بذكره‪،‬‬‫والطمأنينة ِ‬
‫ِ‬ ‫كامل‪ ،‬إال بمعرفة اهلل وحم َّبتِه‪،‬‬ ‫وال ابتهاج‪ ،‬وال َ‬
‫وق إىل لقائه؛ فهذه جنَّ ُته العاجلة‪ ،‬كام أ َّنه ال نعيم له‬ ‫والش ِ‬ ‫واالبتهاج ب ُقربه‪َّ ،‬‬
‫فوز إال بجواره يف دار النَّعي ِم يف اجلنَّة اآلجلة‪ ،‬فله جنَّتان‪ ،‬ال‬ ‫يف اآلخرة‪ ،‬وال َ‬
‫يدخل األُوىل‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫دخ ُل الثاني َة منهام إن مل‬ ‫َي ُ‬
‫«إن يف الدنيا جن ًة َمن مل‬ ‫يقول‪َّ :‬‬ ‫عت شيخ اإلسالم اب َن تيم َّي َة‬ ‫وسم ُ‬ ‫ِ‬
‫دخ ْلها مل يدخل جنَّ َة اآلخرة»‪.‬‬ ‫َي ُ‬
‫أهل اجلن َِّة‬‫وقال بعض العارفني‪« :‬إنه ل َي ُم ُّر بالقلب أوقات أقول‪ :‬إن كان ُ‬
‫عيش ط ِّيب»‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫يف ِمثل هذا‪ ،‬إنهَّ م لفي‬
‫الدنيا وما ذاقوا‬
‫خرجوا من ُّ‬
‫«مساكني أهل الدنيا‪َ ،‬‬
‫ُ‬ ‫وقال بعض املح ِّبني‪:‬‬

‫‪97‬‬
‫والش ُ‬
‫وق‬ ‫أطيب ما فيها؟ قال‪ :‬محَ َّب ُة اهلل‪ ،‬واألُ ُ‬
‫نس به‪َّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫أطيب ما فيها‪ ،‬قالوا‪ :‬وما‬
‫َ‬
‫واإلقبال عليه‪ ،‬واإلعراض عماَّ ِسواه»‪ ،‬أو نحو هذا من الكالم‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫إىل لقائه‪،‬‬
‫شهد هذا و َي ِ‬
‫عرفه ذو ًقا‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫وكل َمن له قلب َح ٌّي َي َ‬
‫وهذه األشياء اخلمسة‪ :‬قاطع ٌة عن هذا‪ ،‬حائل ٌة بني القلب وب ْينه‪ ،‬عائق ٌة له‬
‫يف عليه منها‪.‬‬ ‫املريض ِخ َ‬
‫ُ‬ ‫يتدار ْكها‬ ‫وعلل ْ‬
‫إن مل َ‬ ‫اً‬ ‫أمراضا‬
‫ً‬ ‫عن َسريه‪ ،‬محُ ِدث ٌة له‬
‫فأما ما َتؤ ِّثره كثر ُة اخللطة‪ :‬فامتالء القلب من ُد َخان أنفاس بني آد َم حتى‬ ‫َّ‬
‫وضع ًفا‪ ،‬وحمَ ْ اًل لمِا َي ِ‬
‫عجز عن محله‬ ‫وتفر ًقا‪ ،‬و ًّ‬
‫مها وغماًّ ‪َ ،‬‬ ‫َي ْسو َّد‪ ،‬ويوجب له تشت ًتا ُّ‬
‫مصاحله‪ ،‬واالشتغال عنها بهِ ِم وبأمورهم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وإضاعة‬ ‫من مؤنة ُقرناء ُّ‬
‫السوء‪،‬‬
‫وتقسيم فِكره يف أودية مطالبهم وإراداهتم؛ فامذا يبقى منه هلل َّ‬
‫والد ِار اآلخرة؟!‬
‫جلبت خلط ُة الناس من نِقمة‪ ،‬ودفعت من نعمة‪ ،‬وأنزلت من‬ ‫ْ‬ ‫هذا‪ ،‬وكم‬
‫لت من ِمنحة‪ ،‬وأح َّلت من َرز َّية‪ ،‬وأوقعت يف بلية؟!‬
‫حمنة‪ ،‬وع َّط ْ‬

‫الناس؟ وهل كان علىَ أيب طالب عند الوفاة ُّ‬


‫أرض‬ ‫ُ‬ ‫وهل آف ُة الن ِ‬
‫َّاس إلاَّ‬
‫ٍ‬
‫واحدة ِ‬
‫توجب له‬ ‫السوء؟ مل يزالوا به حتى حالوا بينه وبني كلمة‬ ‫من ُقرناء ُّ‬
‫سعاد َة األبد‪.‬‬
‫بعضهم من‬ ‫ِ‬
‫وقضاء و َط ِر ِ‬ ‫الدنيا‪،‬‬ ‫يف‬ ‫ة‬‫وهذه اخللطة ا َّلتي تكون عىل نوع مود ٍ‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫ت احلقائق‪ -‬عداو ًة‪َ ،‬ي َع ُّض املخالِ ُط عليها يديه ند ًما‪،‬‬ ‫بعض‪ ،‬تنقلب ‪-‬إذا ح َّق ِ‬
‫َ‬
‫كام قال تعاىل‪﴿ :‬ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ‬
‫ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ‬

‫‪98‬‬
‫التذكــــــر‬

‫ﯕ ﯖ ﯗ ﴾ [الفرقان‪.]29-27:‬‬

‫خرف‪.]67:‬‬ ‫وقال تعاىل‪﴿ :‬ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ﴾ ُّ‬


‫[الز ُ‬

‫َّاس يف اخلري ‪-‬كاجلمعة‬ ‫افع يف ْأمر اخللطة‪ :‬أن خيالط الن َ‬ ‫والضابط النَّ ُ‬‫َّ‬
‫ِ‬
‫واجلهاد‪ ،‬والنَّصيحة‪ -‬و َيعتزلهَ م‬ ‫واألعياد واحلج‪ ،‬وتعليم ِ‬
‫العلم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫واجلامعات‪،‬‬
‫ِّ‬
‫دعت احلاجة إىل ُخلطتِهم يف الشرَِّّ ‪ ،‬ومل‬ ‫ِ‬ ‫وفضول املباحات‪ ،‬فإذا‬‫ِ‬ ‫يف الشرَِّّ ‪،‬‬
‫احلذر أن ُيوافِ َقهم‪ ،‬و ْل َيصبرِ ْ عىل أذاهم‪ ،‬فإنهَّ م ال َّ‬
‫بد‬ ‫َ‬ ‫فاحلذر‬
‫َ‬ ‫مكنْه اعتزالهُ م‬ ‫ي ِ‬
‫ُ‬
‫قو ٌة وال نارص‪ ،‬ولكن أ ًذى َيع ُقبه ِع ٌّز وحمب ٌة له وتعظيم‪،‬‬ ‫أن يؤذوه إن مل يكن له َّ‬
‫رب العالمَني‪ ،‬وموافق ُتهم يعقبها ُذ ٌّل‬ ‫وثنا ٌء عليه منهم ومن املؤمنني‪ ،‬ومن ِّ‬
‫رب العالمَني‪.‬‬ ‫ن‬ ‫وبغض له‪ ،‬وم ْق ٌت‪ ،‬وذم منهم ومن املؤمنني‪ِ ،‬‬
‫وم‬ ‫ٌ‬
‫ِّ‬ ‫ٌّ‬ ‫َ‬
‫مآل‪ ،‬وإن ِ‬
‫دعت احلاج ُة إىل‬ ‫وأمحد اً‬ ‫وأحس ُن عاقب ًة‪،‬‬ ‫خري‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫أذاهم ٌ‬
‫رب عىل ُ‬
‫فالص ُ‬
‫َّ‬
‫املجلس طاع ًة هلل إن‬
‫َ‬ ‫قلب ذلك‬ ‫فليجته ْد أن ي ِ‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ُخلطتِهم يف فضول املباحات‪،‬‬
‫يطاين القاط ِع‬ ‫َّ‬
‫الش‬ ‫الوارد‬ ‫إىل‬ ‫ت‬
‫ْ‬ ‫أمكنه‪ ،‬ويشجع ن ْفسه ويقوي قلبه‪ ،‬وال ي ِ‬
‫لتف‬
‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫ُ ِّ‬
‫بأن هذا ريا ٌء وحمب ٌة إلظهار ِعلمك وحالك‪ ،‬ونحو ذلك‪،‬‬ ‫له عن ذلك‪َّ ،‬‬
‫حاربه‪ ،‬وليستع ْن باهلل‪ ،‬ويؤ ِّثر فيهم من اخلري ما أمكنه‪.‬‬ ‫فل ُي ِ‬
‫الشع ِ‬
‫رة من‬ ‫املقادير عن ذلك‪ ،‬ف ْل َي ُس َّل قلبه من بينهم َ‬
‫كس ِّل َّ َ‬ ‫ُ‬ ‫عجز ْته‬
‫فإن َّ‬
‫نائم يقظا ًنا؛ َينظر إليهم وال‬ ‫بعيدا‪ ،‬اً‬ ‫حارضا غائ ًبا‪ ،‬قري ًبا ً‬
‫ً‬ ‫العجني‪ ،‬وليك ْن فيهم‬
‫ور َقى به إىل‬ ‫نهم‪،‬‬‫ي‬ ‫ب‬ ‫ن‬ ‫يبصرِ هم‪ ،‬ويسمع كالمهم وال يعيه؛ أل َّنه قد أخذ قلبه ِ‬
‫م‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫حول العرش مع األرواح ال ُع ْلو َّي ِة َّ‬
‫الزك َّية‪.‬‬ ‫ِ‬
‫املأل األعىل‪ ،‬يسبح َ‬

‫‪99‬‬
‫أصعب هذا وأش َّقه عىل النُّفوس! وإ َّنه َل ٌ‬
‫يسري عىل َمن يسرَّ ه اهلل عليه؛‬ ‫َ‬ ‫وما‬
‫ديم اللجأ إليه‪ ،‬و ُيلقي ن ْف َسه عىل بابه طر ً‬
‫حيا‬ ‫صدق اهللَ‪ ،‬و ُي َ‬ ‫فبينْ العبد وب ْينه ْ‬
‫أن َي ُ‬
‫كر الدائم بالقلب وال ِّلسان‪،‬‬ ‫ذليل‪ ،‬وال يعني عىل هذا إال ا َملح َّب ُة الصادقة‪ِّ ،‬‬
‫والذ ُ‬ ‫اً‬
‫كرها‪ ،‬وال ينال هذا إال ب ُع َّد ٍة صاحلة‪،‬‬ ‫ُ‬
‫الباقية اآليت ِ‬
‫ذ‬ ‫ِ‬ ‫ُّب املفسدات األرب ِع‬ ‫وجتن ُ‬
‫وعزيمة صادقة‪ ،‬وفرا ٍغ من التع ُّلق بغري اهلل‪.‬‬‫ٍ‬ ‫وما َّد ِة قوة من اهلل‪،‬‬

‫بحر ال ساحل‬ ‫بحر ال َّتمنِّي‪ :‬وهو ٌ‬ ‫املفسد ال َّثاين من مفسدات القلب‪ :‬ركو ُبه َ‬
‫رأس أموال‬ ‫إن ا ُملنى ُ‬ ‫مفاليس العالمَ ‪ ،‬كام قيل‪َّ :‬‬
‫ُ‬ ‫له‪ ،‬وهو البحر ا َّلذي يركبه‬
‫مواعيد الشياطني‪ ،‬وخياالت املحال والبهتان‪ ،‬فال‬ ‫ُ‬ ‫املفاليس‪ ،‬وبضاع ُة ُر َّكابِه‬
‫واخلياالت الباطلة‪ ،‬تتالعب براكبِه كام ُيتال َعب‬ ‫ِ‬ ‫أمواج األماين الكاذبة‪،‬‬ ‫تزال‬
‫ُ‬
‫سم ٍ‬
‫هينة َخسيسة ُس ْفل َّية‪ ،‬ليست هلا همَِّ ٌة َتنال هبا‬ ‫كل ن ْف ٍ َ‬
‫باجليفة‪ ،‬وهي بضاع ُة ِّ‬
‫الذهنية‪ ،‬ف ُيم ِّثل ا ُملتمنِّي صور ًة‬ ‫احلقائق اخلارجية‪ ،‬فاعتاضت عنها باألماين ِّ‬ ‫َ‬
‫مطلوب ًة يف ن ْفسه وقد فاز بوصوهلا‪ ،‬وال َت َّذ بال َّظ َفر هبا‪ ،‬فب ْينا هو عىل هذه احلال‬
‫يده واحلصري‪.‬‬
‫استيقظ فإذا ُ‬
‫إذ ْ‬
‫ِ‬
‫والعمل الذي‬ ‫اهلم ِة ال َعل َّي ِة أمانيه حائم ٌة حول العلم واإليامن‪،‬‬
‫وصاحب َّ‬
‫يقربه من ر ِّبه‪ ،‬و ُيدنيه ِمن ِجواره‪.‬‬
‫ِّ‬
‫فأماين هذا ٌ‬
‫إيامن ونور‪ ،‬وأماين أولئك خدع وغرور‪.‬‬

‫أج َره يف بعض األشياء كأجر‬ ‫َّبي ﷺ متمنِّي اخلري‪ ،‬ور َّبام َج َعل ْ‬
‫وقد مدح الن ُّ‬
‫الن‪ -‬ا َّلذي ي َّتقي يف مالِه ر َّبه‪،‬‬
‫بعمل ُف ٍ‬
‫ِ‬ ‫مال ِ‬
‫لعم ْل ُت‬ ‫أن يل اً‬
‫فاعله‪ ،‬كالقائل‪ :‬لو َّ‬

‫‪100‬‬
‫التذكــــــر‬

‫واء»(((‪.‬‬ ‫ِ‬
‫األجر َس ٌ‬ ‫و َي ِص ُل فيه ر َ‬
‫محه‪ ،‬ويخُ ِر ُج منه حقه ‪ -‬وقال‪« :‬همُ َ ا يف‬
‫الثالث من مفسدات القلب‪ :‬التع ُّلق بغري اهلل‪ ،‬وهذا أعظم مفسداته‬
‫ُ‬ ‫املفسد‬
‫عىل اإلطالق‪.‬‬
‫أقطع له عن اهلل‪ ،‬وأحجب له عن مصاحله‬ ‫ُ‬ ‫أرض من ذلك‪ ،‬وال‬ ‫فليس عليه ُّ‬
‫وخذله ِمن‬‫َ‬ ‫وسعادته منه؛ فإ َّنه إذا تع َّلق بغري اهلل َو َك َله اهلل إىل َمن تع َّلق به‪،‬‬
‫حتصيل مقصوده من اهلل بتع ُّلقه بغريه‪ ،‬والتفاتِه إىل‬ ‫ُ‬ ‫جهة َمن تع َّلق به‪ ،‬وفا َته‬
‫حصل‪ ،‬وال إىل ما أ َّمله ممَّن تع َّلق به وصل؛‬ ‫اهلل‬ ‫ن‬ ‫م‬‫سواه؛ فال عىل نصيبه ِ‬
‫َ‬
‫قال تعاىل‪﴿ :‬ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ‬
‫َّاس ِخذال ًنا َمن تع َّلق بغري اهلل‪،‬‬
‫فأعظم الن ِ‬
‫ُ‬ ‫ﮀ ﮁ ﮂ﴾ [مريم‪]82-81 :‬؛‬
‫أعظم ممَّا حصل له ممَّن تع َّلق به‪،‬‬ ‫ه‬ ‫فإن ما فاته ِمن مصاحله وسعادتِه و َف ِ‬
‫الح‬ ‫َّ‬
‫ُ‬
‫ِ ِ‬ ‫وهو معر ٌض َّ ِ‬
‫كم َثل املستظ ِّل من ِّ‬
‫احلر‬ ‫للزوال والفوات‪ ،‬و َم َث ُل املتع ِّلق بغري اهلل َ‬ ‫ُ َّ‬
‫والربد ببيت العنكبوت ْأو َه ِن البيوت‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ِ‬
‫واملفس ُد له من ذلك نوعان‪:‬‬ ‫ابع ِمن مفسدات القلب‪ :‬ال َّطعام‪:‬‬ ‫الر ُ‬
‫املفسد َّ‬
‫مات‬‫وحمر ٌ‬
‫حل ِّق اهلل‪َّ ،‬‬
‫مات َ‬‫حمر ٌ‬ ‫كاملحرمات‪ ،‬وهي َّ‬ ‫َّ‬ ‫فس ُده ل َع ْينِه وذاتِه‬
‫أحدمها‪ :‬ما ي ِ‬
‫ُ‬
‫حلق ِ‬
‫العباد‪.‬‬
‫والش َب ِع‬
‫حده‪ ،‬كاإلرساف يف احلالل‪ِّ ،‬‬ ‫عدي ِّ‬ ‫والثاين‪ :‬ما يفسده ب َق ْد ِره‪ ،‬و َت ِّ‬
‫مؤنة البِطنة وحماولتِها‪،‬‬
‫ِ‬ ‫املفرط؛ فإ َّنه ُيثقله عن ال َّطاعات‪ ،‬و َيشغله بمزاولة‬

‫((( أخرجه الرتمذي (‪ ،)2325‬وصححه األلباين يف «صحيح الرتغيب والرتهيب» (‪.)110 /1‬‬

‫‪101‬‬
‫رضرها‪ ،‬وال َّتأ ِّذي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ووقاية‬ ‫ترصفها‬ ‫بمزاولة‬ ‫شغله‬ ‫هبا‬ ‫ر‬ ‫حتى يظفر هبا‪ ،‬فإذا َظ ِ‬
‫ف‬
‫ُّ‬
‫ووسعها؛ فإ َّنه‬ ‫وطرق جماري الشيطان َّ‬ ‫الشهوة‪َّ ،‬‬ ‫وقوى عليه موا َّد َّ‬ ‫بثقلها‪َّ ،‬‬
‫فالصوم ُيض ِّيق جماريه و َي ُس ُّد عليه ُطرقه‪،‬‬ ‫الدم‪َّ ،‬‬ ‫جيري من ابن آد َم جمرى َّ‬
‫رشب كثريا‪ ،‬فنام كثريا‪ ،‬فخسرِ‬ ‫كثريا ِ‬ ‫ِّ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ويوس ُعها‪ ،‬و َمن أكل ً‬ ‫ِّ‬ ‫طرقها‬ ‫والش َبع ُي ِّ‬
‫ب ِ‬
‫ابن‬ ‫شا ِمن َب ْطنِه‪ ،‬بِ َح ْس ِ‬ ‫مي ِو ً‬
‫عاء رَ ًّ‬ ‫كثريا‪ ،‬ويف احلديث املشهور‪« :‬ما َمأل آ َد ٌّ‬ ‫ً‬
‫ث لشرَ ابِه‪،‬‬ ‫ث ل َط ِ‬
‫عامه‪ ،‬و ُث ُل ٌ‬ ‫فإن كان ال ب َّد ِ‬
‫فاعلاً ف ُث ُل ٌ‬ ‫امت ي ِ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ه‪،‬‬ ‫آ َد َم ُل َق ْي ٌ ُ ْ َ ُ َ‬
‫ب‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫ص‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ق‬
‫ث لنَ َف ِسه»(((‪.‬‬‫و ُث ُل ٌ‬
‫البدن‪ ،‬ويض ِّي ُع‬ ‫َ‬ ‫القلب‪ ،‬و ُيثقل‬‫َ‬ ‫املفسد اخلامس‪ :‬كثرة النوم‪ :‬فإ َّنه يميت‬
‫الض ُّار غري‬ ‫جدا‪ ،‬ومنه َّ‬ ‫الوقت‪ ،‬و ُيورث كثر َة الغفلة والكسل‪ ،‬ومنه املكروه ًّ‬
‫يل‬ ‫شد ِة احلاجة إليه‪ ،‬ونو ُم َّأو ِل ال َّل ِ‬ ‫ند َّ‬ ‫النَّافع للبدن‪ ،‬وأنفع النوم ما كان ِع َ‬
‫ط الن ِ‬ ‫آخره‪ ،‬ونوم وس ِ‬ ‫مح ُد وأنفع من ِ‬
‫قرب النَّوم‬ ‫طر َف ْيه‪ ،‬وك َّلام ُ‬‫أنفع من َ‬
‫َّهار ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫أ َ‬
‫رضره‪ ،‬وال س َّيام نو ُم العرص والنَّو ُم َّأو َل الن ِ‬
‫َّهار‬ ‫ُ‬ ‫قل نف ُعه‪ ،‬وك ُثر‬ ‫فني َّ‬ ‫من ال َّط َر ِ‬
‫إلاَّ لسهران‪.‬‬
‫بح وطلو ِع الشمس؛ فإ َّنه وقت‬ ‫الص ِ‬ ‫صالة‬ ‫بني‬ ‫م‬ ‫َّو‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫هم‬ ‫عند‬
‫َ‬ ‫املكروه‬ ‫ن‬ ‫ِ‬
‫وم‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫الكني َمز َّي ٌة عظيمة‪ ،‬حتى لو ساروا‬ ‫َ‬ ‫الس‬ ‫ند‬
‫َ‬ ‫الوقت ِ‬
‫ع‬ ‫َ‬ ‫وللسري ذلك‬ ‫َغنيمة‪،‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫مس؛‬ ‫الش ُ‬ ‫الوقت حتى تط ُلع َّ‬ ‫َ‬ ‫السري ذلك‬ ‫طول ليلهم مل َيسمحوا بالقعود عن َّ‬
‫ووقت نزول األرزاق‪ ،‬وحصول ال َق ْسم‪ ،‬وحلول‬ ‫ُ‬ ‫ومفتاحه‪،‬‬‫َّهار ِ‬
‫فإ َّنه َّأو ُل الن ِ‬
‫احل َّصة؛‬ ‫مجيعه عىل حكم تلك ِ‬ ‫الربكة‪ ،‬ومنه ينشأ النَّهار‪ ،‬وينسحب حكْم ِ‬
‫ُ ُ‬

‫((( صححه األلباين يف السلسلة الصحيحة (‪.)2265‬‬

‫‪102‬‬
‫التذكــــــر‬

‫فينبغي أن يكون نو ُمها كنوم املضطر‪.‬‬


‫دسه األخري‪ ،‬وهو‬ ‫نصف الليل‪ ،‬وس ِ‬ ‫ِ‬ ‫فأعدل النوم وأنف ُعه نوم‬ ‫ُ‬ ‫وباجلملة‬
‫ُ‬
‫أعدل النو ِم عند األطباء‪ ،‬فام زاد عليه أو َن َقص‬ ‫ُ‬ ‫ساعات‪ ،‬وهذا‬ ‫ٍ‬ ‫مقدار ِ‬
‫ثامن‬
‫بحسبه‪.‬‬ ‫منه أ َّثر عندهم يف الطبيعة انحرا ًفا َ‬
‫ِ‬ ‫ومن النَّوم ا َّلذي ال ينفع ً‬ ‫ِ‬
‫يب غروب الشمس‪،‬‬ ‫أيضا‪ :‬النَّو ُم َّأو َل ال َّليل‪َ ،‬عق َ‬
‫نبي اهلل ﷺ َيكْرهه‪ ،‬فهو مكرو ٌه رش ًعا و َط ْب ًعا‪.‬‬ ‫ِ‬
‫حتى تذهب َفحم ُة العشاء‪ ،‬وكان ُّ‬
‫ث‬‫ور ٌ‬‫وه ْج ُره ُمط َل ًقا ُم ِ‬
‫ورثة هلذه اآلفات‪ ،‬فمدافع ُته َ‬ ‫أن كثرة النَّو ِم ُم ِ‬ ‫وكام َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وجفاف‬ ‫آلفات أخرى عظام‪ :‬من سوء املزاج و ُي ْبسه‪ ،‬وانحراف النَّ ْفس‪َ ،‬‬
‫أمراضا ُم ِتلفة ال ينتفع صاح ُبها‬ ‫ً‬ ‫ورث‬ ‫عينة عىل ال َف ْهم والعمل‪ ،‬و ُي ِ‬ ‫الرطوبات ا ُمل ِ‬
‫ُّ‬
‫فم ِن اع َتصم به فقد أخذ‬ ‫بقلبه وال بدنه معها‪ ،‬وما قام الوجود إلاَّ بالعدل‪َ ،‬‬
‫بح ِّظه من جمام ِع اخلري‪ ،‬واهلل املستعان‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫ُّ‬
‫التذكـــــــر‬
‫االعت�صام‬ ‫ُ‬
‫منزلـــــــة‬

‫﴿ﭱ‬ ‫وهو نوعان‪ :‬اعتصام باهلل‪ ،‬واعتصا ٌم بحبل اهلل‪ ،‬قال تعاىل‪:‬‬
‫نيوية واألُخرو َّي ِة‬
‫الد ِ‬ ‫السعادة ُّ‬
‫ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ﴾ [آل عمران‪ ،]103:‬ومدار َّ‬
‫عىل االعتصام باهلل‪ ،‬واالعتصا ِم بحبله‪ ،‬وال نجا َة إلاَّ َمل ِن استمسك هباتني‬
‫ِ‬
‫العصمتني‪.‬‬
‫عص ُم من‬ ‫عصم من الضاللة‪ ،‬واالعتصام به ي ِ‬ ‫فأما االعتصام بحبله‪ :‬فإنه ي ِ‬
‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫مقصده؛ فهو حمتاج إىل‬ ‫ِ‬ ‫نحو‬ ‫ٍ‬ ‫اهل َ َلكة؛ َّ‬
‫طريق َ‬ ‫ائر إىل اهلل كالسائر عىل‬‫الس َ‬ ‫فإن َّ‬
‫المة فيها‪ ،‬فال يصل إىل مقصده إلاَّ بعد حصول هذين‬ ‫هداية ال َّطريق‪ ،‬والس ِ‬
‫َّ‬
‫الضاللة‪ ،‬وهيديه إىل الطريق‪ ،‬وال ُع َّد ُة‬ ‫كفيل بِعصمته من َّ‬ ‫ليل ٌ‬ ‫فالد ُ‬
‫األ ْمرين له؛ َّ‬
‫السالم ُة من ُق َّطاع ال َّطريق وآفاتهِ ا‪.‬‬
‫حتص ُل له َّ‬
‫الح هبا ُ‬ ‫والس ُ‬
‫والقو ُة ِّ‬
‫َّ‬
‫الدليل‪ ،‬واالعتصا ُم باهلل‬
‫باع َّ‬ ‫واالعتصام بحبل اهلل ِ‬
‫يوجب له اهلداي َة وا ِّت َ‬
‫والسالح‪ ،‬واملا َّد َة التي َيس َلم هبا يف طريقه؛ وهلذا‬
‫القو َة وال ُع َّد َة ِّ‬
‫يوجب له َّ‬
‫السلف يف االعتصام بحبل اهلل‪ ،‬بعد إشارهتم ك ِّلهم إىل‬ ‫عبارات َّ‬
‫ُ‬ ‫لفت‬
‫اخ َت ْ‬
‫هذا املعنى‪.‬‬
‫ين اهلل»‪.‬‬ ‫«تمَ سكوا ِ‬
‫بد ِ‬ ‫فقال ابن ع َّباس‬
‫َّ‬
‫وقال ابن مسعود ‪« :‬هو اجلامع ُة»‪.‬‬
‫واالمتناع به‪ ،‬واالحتامء به‪ ،‬وسؤا ُله‬
‫ُ‬ ‫وأما االعتصا ُم به‪ :‬فهو ال َّتو ُّكل عليه‪،‬‬
‫َّ‬

‫‪104‬‬
‫االعتصــــــام‬

‫فإن ثمرة االعتصام به هو‬ ‫ويدفع عنه؛ َّ‬ ‫أن يحَ مي العبد ويمنعه‪ ،‬وي ِ‬
‫عص َمه‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫املؤمن إذا‬ ‫فع عن العبد‪ ،‬واهلل يدفع عن ا َّلذين آمنوا‪ ،‬ف َيدفع عن عبده‬ ‫الد ُ‬‫َّ‬
‫الش ِ‬
‫بهات‬ ‫كل سبب ُيفيض إىل العطب‪ ،‬وحيميه منه‪ ،‬فيدفع عنه ُّ‬ ‫اع َتصم به َّ‬
‫موجب‬ ‫عنه‬ ‫ويدفع‬ ‫ه‪،‬‬‫س‬‫والشهوات‪ ،‬وكي َد عدوه الباطن وال َّظاهر‪ ،‬و ن ْف ِ‬ ‫َّ‬
‫َ‬ ‫شرََّ‬ ‫ِّ‬ ‫ْ‬
‫قو ِة االعتصام به ومتكُّنِه‪ ،‬فينعقد يف ح ِّقه‬‫بحسب َّ‬ ‫أسباب الشرَِّّ بعد انعقادها‪َ ،‬‬
‫أسباب العطب‪ ،‬فيدفع عنه موجباتهِ ا ومسبباهتا‪ ،‬ويدفع عنه َ‬
‫قد َره ب َق َد ِره‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وإراد َته بإرادتِه‪ ،‬و ُيعيذه به منه‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫منزلــة ال�ســماع‬

‫أه ِله‪ ،‬فقال تعاىل‪﴿:‬ﰂ ﰃ ﰄﰅ﴾‬


‫وقد أ َمر اهلل به يف كتابه‪ ،‬وأثنى عىل ْ‬
‫[املائدة‪ ،]108:‬وقال‪﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ‬
‫ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ﴾ [املائدة‪.]83:‬‬
‫وأساس اإليامن الذي انبنى عليه‪ ،‬وهو رائده‬ ‫ُ‬ ‫أصل العقل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫امع‬
‫فالس ُ‬
‫َّ‬
‫الش ِ‬
‫أن يف املسموع‪ ،‬وفيه و َقع َخ ْب ُط الناس‬ ‫كل َّ‬‫أن َّ‬ ‫الش َ‬ ‫وجليسه ووزيره‪ ،‬ولك َّن َّ‬ ‫ُ‬
‫واختال ُفهم‪ ،‬و َغ ِل َط فيه َمن َغ ِل َط‪.‬‬
‫السام ِع تنبي ُه القلب عىل معاين املسموع‪ ،‬وحتريكه عنها طل ًبا‬ ‫وحقيقة َّ‬
‫ِ‬
‫ومألفه‪.‬‬ ‫بكل أحد إىل وطنه‬ ‫وبغضا‪ ،‬فهو ٍ‬
‫حاد يحَ دو ِّ‬ ‫وح ًّبا‬
‫ً‬ ‫وهر ًبا‪ُ ،‬‬
‫السامع؛ منهم َمن يسمع بطبعه ون ْف ِسه وهواه‪ ،‬فهذا ح ُّظه ِمن‬ ‫وأصحاب َّ‬
‫مسموعه ما وافق طب َعه‪.‬‬
‫ومنهم َمن يسمع بحاله وإيامنِه ومعرفتِه وعقله‪ ،‬فهذا ُيفتح له من املسموع‬
‫وقوتِه ومادته‪.‬‬
‫بحسب استعداده َّ‬ ‫َ‬
‫الصحيح‪َ «:‬فبِي‬
‫اإلهلي َّ‬
‫ِّ‬ ‫ومنهم َمن يسمع باهلل‪ ،‬ال يسمع بغريه‪ ،‬كام يف احلديث‬
‫وأصح من ِّ‬
‫كل أحد‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫وب ُيبصرِ ُ »(((‪ ،‬وهذا أعىل سام ًعا‪،‬‬
‫سم ُع‪ ،‬يِ‬
‫َي َ‬

‫((( أخرجه البخاري (‪ )6502‬بمعناه‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫الســـــماع‬

‫فأما املسموع فعىل ثالثة أرضب‪:‬‬


‫َّ‬
‫وريض‬
‫َ‬ ‫أحدها‪ :‬مسموع يحُ ُّبه اهلل ويرضاه‪ ،‬وأ َمر به عبا َده‪ ،‬وأثنى عىل أهله‪،‬‬
‫عنهم به‪.‬‬
‫ومد َح ا ُمل ِ‬
‫عرضني عنه‪.‬‬ ‫الثاين‪ :‬مسموع ُيبغضه و َيكرهه‪ ،‬وهنى عنه‪َ ،‬‬
‫مد َح صاح َبه‬
‫مباح مأذون فيه‪ ،‬ال يحُ ُّبه وال يبغضه‪ ،‬وال َ‬
‫الثالث‪ :‬مسموع ٌ‬
‫فحك ُْمه ُحكم سائر املباحات‪.‬‬
‫وال ذ َّمه؛ ُ‬
‫السامع ا َّلذي مدحه اهلل يف كتابه‪ ،‬وأ َمر به‪ ،‬وأثنى‬‫األو ُل‪ :‬فهو َّ‬ ‫فأما النَّوع َّ‬‫َّ‬
‫أضل من األنعام‪ُ ،‬‬
‫وه ُم‬ ‫عرضني عنه ول َعن َُهم‪ ،‬وج َع َلهم َّ‬ ‫عىل أصحابه‪ ،‬و َذ َّم ا ُمل ِ‬
‫القائلون يف النَّار‪﴿ :‬ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ﴾ [ا ُمللك‪ ،]10:‬وهو سامع‬ ‫َ‬
‫أساس اإليامن ا َّلذي عليه‬ ‫امع‬ ‫الس‬ ‫فهذا‬ ‫ﷺ؛‬ ‫رسوله‬ ‫عىل‬ ‫هلا‬ ‫أنز‬
‫َ‬ ‫التي‬ ‫آياتِه املتلو ِ‬
‫ة‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫بحاسة األذن‪ ،‬وسامع َفهم وعقل‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫بناؤه‪ ،‬وهو عىل ثالثة أنواع‪ :‬سامع إدراك‬
‫وسامع إجابة و َقبول‪ ،‬والثالثة يف القرآن‪.‬‬
‫املقربني هو سامع القرآن باالعتبارات الثالثة‪ :‬إدرا ًكا‬
‫أن سامع َّ‬ ‫واملقصود‪َّ :‬‬
‫و َف اً‬
‫هم وتد ُّب ًرا‪ ،‬وإجابة‪.‬‬
‫وكل سامع يف القرآن َم َدح اهلل أصحابه وأثنى عليهم‪ ،‬وأ َمر به أوليا َءه‬ ‫ُّ‬
‫وسامع القرآن‪ ،‬ال‬
‫ُ‬ ‫سامع األبيات‪،‬‬
‫ُ‬ ‫السامع‪ ،‬وهو سامع اآليات‪ ،‬ال‬ ‫فهو هذا َّ‬
‫ِ‬
‫الشعراء‪،‬‬‫قصائد ُّ‬ ‫سامع‬
‫والسامء‪ ،‬ال ُ‬ ‫رب األرض َّ‬ ‫سامع الشيطان‪ ،‬وسامع كال ِم ِّ‬
‫لني واملؤمنني‪ ،‬ال‬ ‫واملرس َ‬ ‫األنبياء‬ ‫وسامع‬ ‫د‪،‬‬ ‫ِ‬
‫القصائ‬ ‫سامع‬ ‫ال‬ ‫د‪،‬‬ ‫ِ‬
‫املراش‬ ‫وسامع‬
‫َ‬
‫ِّني واملطربني‪.‬‬‫سامع املغن َ‬

‫‪107‬‬
‫وسائق يسوق‬ ‫ٌ‬ ‫القلوب إىل ِجوار علاَّ ِم الغيوب‪،‬‬ ‫دو‬ ‫يحَ‬ ‫فهذا السامع ٍ‬
‫حاد‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫مات إىل أعىل املقامات‬ ‫العز ِ‬ ‫وحمرك ُيثري ساك َن َ‬ ‫األرواح إىل ديار األفراح‪ِّ ،‬‬
‫كب يف طريق اجلنان‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫وأرف ِع الدرجات‪،‬‬
‫الر َ‬ ‫َّ‬ ‫يدل‬ ‫ودليل‬ ‫لإليامن‪،‬‬ ‫ينادي‬ ‫ومناد‬
‫حي عىل‬ ‫اإلصباح‪:‬‬ ‫ق‬ ‫ودا ٍع يدعو القلوب باملساء والصباح‪ِ ،‬من ِقبل فالِ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫حي عىل الفالح‪.‬‬ ‫الفالح‪َّ ،‬‬
‫لعربة‪ ،‬وتذكر ًة ملعرفة‪،‬‬ ‫فلن تعدم ِمن هذا السامع إرشادا حلجة‪ ،‬وتبرص ًة ِ‬
‫ً ُ َّ‬
‫وفِكر ًة يف آية‪ ،‬و َدالل ًة عىل رشد‪ ،‬ور ًّدا عن ضاللة‪ ،‬وإرشا ًدا ِمن َغ ٍّي‪ ،‬وبصري ًة‬
‫رضة ومفسدة‪ ،‬وهداي ًة إىل نور‪،‬‬ ‫وأمرا بمصلحة‪ ،‬وهن ًيا عن َم َّ‬ ‫ً‬ ‫عمى‪،‬‬ ‫من ً‬
‫وجال ًء لبصرية‪،‬‬ ‫وإخراجا من ظلمة‪ ،‬وزجرا عن هوى‪ ،‬وح ًّثا عىل ُتقى‪ِ ،‬‬ ‫ً‬
‫ً‬
‫ف ُش ْبهة‪ ،‬وإيضاح‬ ‫وكش َ‬ ‫وعصم ًة ونجاة‪ْ ،‬‬ ‫وحيا ًة لقلب‪ ،‬وغذاء ودواء وشفاء‪ِ ،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫حق‪ ،‬وإبطال باطل‪.‬‬ ‫وحتقيق ٍّ‬
‫َ‬ ‫برهان‪،‬‬
‫عر َض عنه‪،‬‬ ‫كرهه‪ ،‬و َيمدح ا ُمل ِ‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫اهلل‬ ‫ه‬ ‫ض‬ ‫ُ‬ ‫[النوع الثاين من السامع]‪ :‬ما ي ِ‬
‫بغ‬
‫َ َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫تضمن‬ ‫العبد يف قلبه ودينه‪ ،‬كسامع الباطل ك ِّله‪ ،‬إال إذا َّ‬ ‫َ‬ ‫كل ما َيضرُُّ‬‫وهو سامع ِّ‬
‫الضد‪،‬‬ ‫ظهر ُحسنَه‬ ‫الضد ُي ِ‬ ‫فإن‬‫بحسن ِض ِّده؛ َّ‬ ‫ِ‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫واالعتبار به‪ ،‬بعلمه ُ‬ ‫َ‬ ‫ر َّده وإبطاله‬
‫كام قيل‪:‬‬
‫وإذا َس ِم ْع ُت إىل حديثِ َك زا َدين‬
‫حديث ِسواكا‬ ‫َ‬ ‫ُح ًّبا ل ُه َس ْمعي‬
‫ضـني عنـه بقـوله‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫واملعر‬ ‫اركـني لسـامعه‪،‬‬ ‫َ‬ ‫مدح اهللُ ال َّت‬ ‫وكسامع ال َّلغو ا َّلذي َ‬
‫﴿ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ﴾ [القصص‪.]55:‬‬

‫‪108‬‬
‫الخــــــوف‬

‫منزلـــة اخلـــوف‬

‫وفرض عىل كل أحد‪ ،‬قال‬ ‫ِ‬


‫وأنفعها للقلب‪،‬‬ ‫أج ِّل منازل ال َّط ِ‬
‫ريق‬ ‫ِ‬
‫ٌ‬ ‫وهي من َ‬
‫اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ﴾ [آل عمران‪ ،]175:‬و َم َد َح أه َله يف‬
‫كتابه وأ ْثنى عليهم‪ ،‬فقال‪﴿ :‬ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ﴾ إىل قوله‪﴿ :‬ﭜ‬
‫ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ﴾ [املؤمنون‪.] 61 -57 :‬‬
‫َ‬
‫رسول اهلل‪﴿ ،‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ‬ ‫قالت‪ :‬قلت‪ :‬يا‬ ‫عن عائشة‬
‫رس ُق؟‬ ‫رش ُب اخلَ ْم َر‪ ،‬و َي ِ‬‫ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﴾ [املؤمنون‪ ،]60:‬أهو الذي َيزين‪ ،‬و َي َ‬
‫اف ألاَّ‬
‫وي ُ‬ ‫تص َّد ُق‪ ،‬خَ‬‫الر ُج ُل َيصو ُم و ُي َص يِّل و َي َ‬ ‫الص ِّد ِ‬
‫يق‪ ،‬ولكنَّه َّ‬ ‫قال‪« :‬ال يا ابن َة ِّ‬
‫ُيق َب َل منه»(((‪.‬‬
‫واجتهدوا فيها‪ ،‬وخافوا أن ُتر َّد‬ ‫«عملوا واهللِ بالطاعات‪،‬‬‫قال احلسن ‪ِ :‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫مجع إساء ًة وأ ْمنًا»‪.‬‬ ‫مجع إحسا ًنا وخشية‪ ،‬واملنافق َ‬ ‫إن املؤمن َ‬ ‫عليهم؛ َّ‬
‫غري مرتادفة‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫ألفاظ متقاربة ُ‬ ‫و«الرهبة»‬
‫َّ‬ ‫و«الو َجل» و«اخلوف» و«اخلشية»‬
‫َ‬
‫‪« :‬اخلوف تو ُّقع العقوبة عىل ِ‬
‫جماري األنفاس»‪.‬‬ ‫جلنَ ْيد‬
‫قال أبو القاسم ا ُ‬
‫أخص من اخلوف؛ فإن اخلشية للعلامء باهلل‪ ،‬قال تعاىل‪ ﴿ :‬ﯞ‬
‫ُّ‬ ‫و«اخلشية»‬
‫ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﴾ [فاطر‪]28 :‬؛ فهي خوف مقرون بمعرفة‪ ،‬وقال‬
‫النبي ﷺ‪« :‬إنيِّ أ ْتقاكُم هللِ‪َ ،‬‬
‫وأش ُّدكُم له َخ ْشيةً»(((‪.‬‬

‫((( أخرجه الرتمذي (‪ ،)3175‬وصححه األلباين يف «السلسلة الصحيحة» (‪.)162‬‬


‫((( أخرجه البخاري (‪ ،)5063‬ومسلم (‪.)1401‬‬

‫‪109‬‬
‫العدو‬
‫َّ‬ ‫ٌ‬
‫وسكون‪ ،‬فإن الذي يرى‬ ‫وانقباض‬
‫ٌ‬ ‫فاخلوف حرك ٌة‪ ،‬واخلَشي ُة ا ْن ِج ٌ‬
‫امع‬ ‫ُ‬
‫والس َيل ونحو ذلك له حالتان‪:‬‬ ‫َّ‬
‫إحدامها‪ :‬حركة للهرب منه‪ ،‬وهي حالة اخلوف‪.‬‬
‫وقراره يف مكان ال َي ِص ُل إليه‪ ،‬وهي اخلشية‪.‬‬
‫ُ‬ ‫والثانية‪ :‬سكو ُنه‬
‫الو َجل‪ :‬فرجفان‬ ‫وأما َ‬
‫اهلرب من املكروه‪َّ ،‬‬ ‫وأما الرهبة‪ :‬فهي اإلمعان يف َ‬
‫َّ‬
‫القلب‪ ،‬وانصدا ُعه ِ‬
‫لذكر َمن خياف ُسلطانه وعقوب َته‪ ،‬أو لرؤيته‪ ،‬وأما اهليب ُة‪:‬‬
‫وأكثر ما يكون مع املعرفة واملحبة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فخوف مقارن للتعظيم واإلجالل‪،‬‬‫ٌ‬
‫ٌ‬
‫مقرون باحلب‪.‬‬ ‫تعظيم‬
‫ٌ‬ ‫واإلجالل‪:‬‬
‫فاخلوف لعامة املؤمنني‪ ،‬واخلشية للعلامء العارفني‪ ،‬واهليب ُة للمح ِّبني‪،‬‬
‫اخلوف واخلشية‪ ،‬كام‬‫ُ‬ ‫قدر العلم واملعرفة يكون‬ ‫قربني‪ ،‬وعىل ْ‬ ‫للم َّ‬
‫واإلجالل ُ‬
‫قال ﷺ‪« :‬إنيِّ أل ْع َل ُم ُكم باهللِ‪َ ،‬‬
‫وأش ُّدكُم له خشية »(((‪.‬‬
‫قال أبو حفص ‪« :‬اخلوف َسوط اهلل‪ُ ،‬ي َق ِّوم به الشار َد عن بابه»‪ .‬وقال‪:‬‬
‫وكل أحد إذا ِخف َته‬
‫«اخلوف رساج يف القلب‪ ،‬به ُيبرص ما فيه من اخلري والرش‪ُّ ،‬‬
‫هربت إليه»‪.‬‬‫َ‬ ‫بت منه إال اهلل تعاىل؛ فإنك إذا ِخف َته‬‫هر َ‬‫َ‬
‫هارب ِمن ر ِّبه إىل ر ِّبه‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫فاخلائف‬
‫خرب»‪ .‬وقال إبراهيم بن‬ ‫اخلوف قل ًبا إال ِ‬ ‫ُ‬ ‫قال أبو سليامن ‪« :‬ما فارق‬
‫وطرد‬
‫القلوب أحرق مواضع الشهوات منها‪َ ،‬‬
‫َ‬ ‫اخلوف‬
‫ُ‬ ‫شيبان ‪« :‬إذا سكَن‬
‫الدنيا عنها»‪.‬‬

‫((( أخرجه البخاري (‪ ،)6101‬ومسلم (‪.)2356‬‬

‫‪110‬‬
‫الخــــــوف‬

‫اخلوف‪ ،‬فإذا زال‬


‫ُ‬ ‫«الناس عىل الطريق ما مل َي ُز ْل عنهم‬
‫ُ‬ ‫وقال ذو النُّون ‪:‬‬
‫الطريق»‪.‬‬
‫َ‬ ‫اخلوف ض ُّلوا‬
‫ُ‬ ‫عنهم‬
‫واخلوف ليس مقصو ًدا لذاته‪ ،‬بل مقصو ًدا لغريه َق ْص َد الوسائل؛ وهلذا‬
‫خوف عليهم وال هم حيزنون‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫َيزول بزوال ا َمل ُخوف؛ فإن أهل اجلنة ال‬
‫جتاوز‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫حمارم اهلل‪ ،‬فإذا‬ ‫حال بينْ صاحبِه وبينْ‬
‫واخلوف املحمود الصادق‪ :‬ما َ‬
‫اليأس والقنوط‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ذلك خيف منه ُ‬
‫ظاهرا وباطنًا»‪.‬‬ ‫اآلثام‬ ‫عن‬ ‫الورع‬ ‫هو‬ ‫ِ‬
‫اخلوف‬ ‫دق‬ ‫قال أبو عثامن ‪ِ :‬‬
‫«ص‬
‫ً‬
‫حج َزك‬ ‫ِ‬
‫وسمعت شيخ اإلسالم اب َن تيم َّية َ يقول‪« :‬اخلوف املحمو ُد ما َ‬
‫عن حمار ِم اهلل»‪.‬‬
‫واخلوف‬
‫ُ‬ ‫رأسه‪،‬‬‫[و] القلب يف َس ِريه إىل اهلل تعاىل بمنزلة الطائر؛ فا َملح َّب ُة ُ‬
‫والرجاء َجناحاه؛ فمتى َس ِل َم الرأس واجلناحان فال َّط ُري ج ِّيد الطريان‪،‬‬
‫جلناحان فهو ُعرضة لكل‬ ‫الرأس مات الطائر‪ ،‬ومتى ُعدم ا َ‬ ‫ُ‬ ‫ومتى ُقطِع‬
‫ناح اخلوف‬
‫صائد وكارس‪ ،‬ولكن السلف استح ُّبوا أن يقوى يف الصحة َج ُ‬
‫عىل جناح الرجاء‪ ،‬وعند اخلروج من الدنيا يقوى جناح الرجاء عىل جناح‬
‫الغالب‬
‫ُ‬ ‫سليامن و َغ ِريه؛ قال‪« :‬ينبغي للقلب أن يكون‬ ‫َ‬ ‫اخلوف؛ هذه طريق ُة أيب‬
‫فسد»‪.‬‬‫اخلوف؛ فإنه إذا كان الغالب عليه الرجاء َ‬ ‫َ‬ ‫عليه‬
‫اعتدال الرجاء واخلوف‪ ،‬وغلب ُة احلب؛‬ ‫ُ‬ ‫غريه‪« :‬أكمل األحوال‪:‬‬
‫وقال ُ‬
‫بمنِّه وكرمه»‪.‬‬ ‫ل‬ ‫سائق‪ ،‬واهلل ا ُمل ِ‬
‫وص‬ ‫ٌ‬ ‫واخلوف‬ ‫‪،‬‬ ‫فاملحبة هي املركب‪ ،‬والرجاء ٍ‬
‫حاد‬
‫َ‬

‫‪111‬‬
‫منزلـــــة اخل�شـــــوع‬

‫قال تعاىل‪﴿ :‬ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ﴾‬


‫[احلديد‪.]16:‬‬
‫ِ‬
‫إسالمنا وبينْ أن عات َبنا اهللُ هبذه اآلية إال‬ ‫‪« :‬ما كان بينْ‬ ‫قال ابن مسعود‬
‫أربع ِس َ‬
‫نني»(((‪.‬‬ ‫ُ‬
‫قلوب املؤمنني‪ ،‬فعات َبهم عىل رأس‬
‫َ‬ ‫وقال ابن عباس ‪َّ :‬‬
‫«إن اهلل استبطأ‬
‫ثالث عرش َة َسنَ ًة ِمن نزول القرآن»(((‪.‬‬
‫َ‬
‫وقال تعاىل‪﴿ :‬ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ﴾ [املؤمنون‪.]2 -1 :‬‬
‫والذ َّلة‪ ،‬واجلمع َّي ِة عليه‪.‬‬ ‫يد ِي َّ‬
‫الر ِّب باخلضوع ِّ‬ ‫واخلشوع‪ :‬قيام القلب بني َ‬
‫‪« :‬اخلشوع‪ :‬تذ ُّل ُل القلوب لعالم الغيوب»‪.‬‬ ‫جلنَيد‬
‫وقال ا ُ‬
‫أن اخلشوع حم ُّله القلب‪ ،‬وثمرته عىل اجلوارح؛ فهي‬
‫وأمجع العارفون عىل َّ‬
‫ُتظهره‪.‬‬
‫وخشوع النِّفاق‪ ،‬فقيل له‪ :‬وما‬
‫َ‬ ‫الصحابة يقول‪« :‬إ َّياكم‬ ‫وكان بعض َّ‬
‫غري خاشع»‪.‬‬ ‫ُ‬
‫البدن خاش ًعا والقلب ُ‬ ‫خشوع النفاق؟ قال‪ :‬أن ُيرى‬
‫ُ‬

‫((( أخرجه مسلم (‪.)3027‬‬


‫((( «الدر املنثور» للسيوطي (‪ ،)276 /14‬وعزاه البن أيب حاتم وابن مردويه‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫الخشـــــوع‬

‫صاحب‬
‫َ‬ ‫الصالة‪ ،‬فقال‪« :‬يا‬ ‫رجل طأطأ رقبته يف َّ‬ ‫اً‬ ‫عمر بن اخل َّطاب‬ ‫ورأى ُ‬
‫اخلشوع يف القلوب»‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫اخلشوع يف الرقاب‪ ،‬إ َّنام‬
‫ُ‬ ‫الرقبة‪ ،‬ارفع رقبتك‪ ،‬ليس‬ ‫َّ‬
‫تاموتون يف ِم ْش َيتِهم‪ ،‬فقالت‬ ‫شبا ًبا يمشون و َي َ‬ ‫ورأت عائش ُة‬
‫ألصحاهبا‪َ « :‬من هؤالء؟ فقالوا‪ُ :‬ن َّساك‪ ،‬فقالت‪ :‬كان عمر بن اخلطاب إذا‬
‫رضب أوجع‪ ،‬وإذا أطعم أشبع‪ ،‬وكان‬ ‫مشى أرسع‪ ،‬وإذا قال أسمع‪ ،‬وإذا َ‬
‫َّاسك ح ًّقا»‪.‬‬‫هو الن ِ‬

‫أكثر‬ ‫اخلشوع‬ ‫من‬ ‫ُ‬


‫الرجل‬ ‫ري‬ ‫ي‬ ‫أن‬ ‫كره‬ ‫ي‬ ‫«كان‬ ‫‪:‬‬ ‫ياض‬ ‫وقال ال ُف َضيل بن ِ‬
‫ع‬
‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ‬
‫ممَّا يف قلبه»‪.‬‬
‫وآخر ما تفقدون‬ ‫فقدون من دينكم اخلشوع‪ِ ،‬‬ ‫وقال حذيفة ‪« :‬أول ما َت ِ‬
‫َّ‬
‫ور َّب ُم َص ٍّل ال خري فيه‪ ،‬ويوشك أن تدخل مسجد‬ ‫الصالة‪ُ ،‬‬ ‫من دينكم َّ‬
‫اجلامعة فال ترى فيهم خاش ًعا»(((‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬ما تقولون يف َصالة َمن َع ِد َم اخلشوع؛ هل ُيع َت ُّد هبا أ ْم ال؟‬
‫قيل‪ :‬أ َّما االعتدا ُد بهِ َ ا يف ال َّث َو ِ‬
‫اب‪ :‬فال ُي ْع َت ُّد له منها إال بام َع َقل فيه‪َ ،‬‬
‫وخ َشع‬
‫فيه لربه‪.‬‬
‫وأما اال ْعتِدا ُد هبا يف أحكام الدنيا‪ ،‬وسقوط القضاء‪ :‬فإن غ َلب عليها‬
‫اخلشوع وتع ُّقلها‪ ،‬اع ُت َّد هبا إمجا ًعا‪ ،‬وإن غ َلب عليه عد ُم اخلشوع فيها‪ ،‬وعدم‬ ‫ُ‬

‫((( أخرجه أمحد يف الزهد (‪ ،)1003‬وابن أيب شيبة (‪ ،)34808‬واحلاكم (‪ ،)8448‬وقال‪:‬‬


‫صحيح اإلسناد‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫تع ُّقلها‪ ،‬فقد اخ َتلف الفقهاء يف وجوب إعادهتا‪ْ ،‬‬
‫فأو َجبها [قوم]‪:‬‬
‫وح الصالة ومقصو ُدها و ُل ُّبها‪ ،‬فكيف ُي ُّ‬
‫عتد‬ ‫َ‬
‫والعقل ُر ُ‬ ‫قالوا‪َّ :‬‬
‫ألن اخلشوع‬
‫وظاهرها؟!‬ ‫ا‬ ‫تهُ‬ ‫ر‬ ‫صو‬ ‫وبقيت‬
‫ْ‬ ‫ها‪،‬‬ ‫ب‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫و‬ ‫ها‬ ‫وح‬ ‫ر‬ ‫دت‬‫ْ‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ٍ‬
‫بصالة‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ َ‬
‫عمدا ألبطلها َت ْر ُكه‪ ،‬وغايته‪:‬‬ ‫العبد واج ًبا ِمن واجباهتا ً‬ ‫ُ‬ ‫قالوا‪ :‬ولو َترك‬
‫عضو من أعضاء العبد ا ُملع َتق يف‬ ‫ٍ‬ ‫بعضا من أبعاضها بمنزلة فوات‬ ‫أن يكون ً‬
‫وصارت بمنزلة‬ ‫ْ‬ ‫وحها‪ ،‬و ُل َّبها و َمقصو َدها‪،‬‬
‫مت ُر َ‬‫الك َّفارة‪ ،‬فكيف إذا َع ِد ْ‬
‫قر ًبا إىل اهلل تعاىل يف‬ ‫ِ‬
‫عتد بالعبد املقطوع اليد‪ُ ،‬يعتقه َت ُّ‬‫العبد امل ِّيت؟! فإذا مل ُي َّ‬
‫ك َّفارة واجبة‪ ،‬فكيف ُي ُّ‬
‫عتد بالعبد امل ِّيت؟!‬
‫مل ٍك من امللوك‪ ،‬فام‬ ‫وهلذا قال بعض الس َلف‪ :‬الصال ُة كجارية تهُ دى إىل ِ‬
‫َّ‬
‫بمن هُيدي إليه جاري ًة شلاَّ َء‪ ،‬أو عورا َء‪ ،‬أو عميا َء‪ ،‬أو مقطوع َة اليد‬ ‫الظ ُّن َ‬
‫والرجل‪ ،‬أو مريض ًة‪ ،‬أو َز ِمن ًة‪ ،‬أو قبيح ًة‪ ،‬حتى هُيدي جاري ًة ميتة بال ُر ٍ‬
‫وح أو‬
‫تقرب هبا إىل ر ِّبه تعاىل!‬
‫العبد‪ ،‬و َي َّ‬
‫ُ‬ ‫جارية قبيحة‪ ،‬فهكذا الصال ُة التي هُيدهيا‬
‫وح فيها‪،‬‬ ‫طي ًّبا‪ ،‬وليس من العمل الطيب صال ٌة ال ُر َ‬‫ب ال َيق ُبل إال ِ‬
‫واهلل ط ِّي ٌ‬
‫وح فيه‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫كام أنه ليس من العتق الط ِّيب ع ْت ُق عبد ال ُر َ‬
‫تعطيل َمل ِل ِك‬
‫ٌ‬ ‫قالوا‪ :‬وتعطيل القلب عن عبودية احلضور واخلشوع‬
‫األعضاء عن عبوديته‪ ،‬و َع ْز ٌل له عنها‪ ،‬فامذا ُت ْغني طاع ُة َّ‬
‫الرعية وعبود َّي ُتها‪،‬‬
‫وقد ُع ِز َل َم ِلكُها و َتع َّطل؟‬

‫قالوا‪ :‬واألعضاء تابع ٌة للقلب‪َ ،‬تص ُلح بصالحه‪ ،‬و َت ُ‬


‫فسد بفساده‪ ،‬فإذا مل‬

‫‪114‬‬
‫الخشـــــوع‬

‫سدت عبودي ُته‬ ‫عتد بعبود َّيتها‪ ،‬وإذا َف ْ‬ ‫قائم بعبوديته‪ ،‬فاألعضاء ْأوىل أال ُي َّ‬ ‫يكن اً‬
‫نده ومادَّتهُ م منه‪ ،‬وعن أمره‬ ‫بالغفلة والوسواس فأ َّنى َت ِصح عبودي ُة رعيتِه وج ِ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫صدرون‪ ،‬وبه يأمترون؟!‬ ‫َي ُ‬
‫ومجعية القلب عىل اهلل يف‬ ‫ِ‬ ‫فباجلملة‪ :‬مصلحة اإلخالص واحلضور‪،‬‬
‫سائر واجباهتا؛ فكيف ُي َظ ُّن به‬ ‫الصالة‪ ،‬أرجح يف نظر الشارع من مصلحة ِ‬
‫ُ‬
‫ف‪ ،‬أو َش َّد ٍة‬‫أنه يبطلها برتك تكبرية واحدة‪ ،‬أو اعتدال يف ركن‪ ،‬أو تر ِك حر ٍ‬
‫ْ َْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫سمع اهلل َلمِن محِ َده‪ ،‬أو قول‪:‬‬
‫من القراءة الواجبة‪ ،‬أو تر ِك تسبيحة‪ ،‬أو قول‪ِ :‬‬
‫ْ‬
‫صححها مع فوات ُل ِّبها‪،‬‬ ‫ي‬ ‫ثم‬ ‫عليه‪،‬‬ ‫بالصالة‬ ‫ه‬‫احلمد‪ ،‬أو ِذ ْك ِر رسولِ‬
‫ُ‬ ‫ر َّبنا ولك‬
‫ُ ِّ‬
‫وروحها وسرِِّ ها؟!‬ ‫األعظم‪،‬‬ ‫ها‬ ‫ِ‬
‫ومقصود‬
‫ُ‬
‫وظهورا‪.‬‬
‫ً‬ ‫احتجت به هذه الطائف ُة‪ ،‬وهي ُح َج ٌج كام تراها َّ‬
‫قوة‬ ‫َّ‬ ‫فهذا ما‬
‫رشائع اإلسال ِم عىل األفعال الظاهرة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫اآلخر]‪:‬‬
‫[وقال أصحاب القول َ‬
‫رشائع الثواب والعقاب‪ ،‬فلله تعاىل‬
‫ُ‬ ‫حقائق اإليامن الباطن ُة فتلك عليها‬
‫ُ‬ ‫وأما‬
‫وحك ُْم‬ ‫حك ِ‬
‫كم يف الدنيا عىل الرشائع الظاهرة وأعامل اجلوارح‪ُ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ح‬‫ُ‬ ‫‪:‬‬‫ْامن‬ ‫ُ‬
‫اآلخرة عىل احلقائق والبواطن‪.‬‬
‫عاجل وال ِ‬
‫آج اًل‪،‬‬ ‫اً‬ ‫نعم ال يحَ ُصل مقصو ُد هذه الصالة من ثواب اهلل‬
‫عاجل يف القلب من قوة إيامنه‪ ،‬واستنارتِه‪ ،‬وانرشاحه‬ ‫اً‬ ‫مزيدا‬
‫ً‬ ‫فإن للصالة‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ووجد حالوة العبادة‪ ،‬والفرح والرسور‪ ،‬وال َّل َّذة التي ُ‬
‫حتصل َملن‬ ‫وانفساحه ْ‬
‫حيصل ملن َّقربه السلطان‬ ‫مهه عىل اهلل‪ ،‬وحضرَ َ قل ُبه بني يديه‪ ،‬كام ُ‬‫اجتمع قلبه و ُّ‬
‫ُّ‬
‫وأجل‪.‬‬ ‫ِ‬
‫واإلقبال عليه‪ ،‬واهلل أعىل‬ ‫وخصه بمناجاته‬ ‫َّ‬ ‫منه‪،‬‬

‫‪115‬‬
‫الدرجات ال ُعىل يف اآلخرة‪ ،‬و ُمرا َفقة َّ‬
‫املقربني؛‬ ‫وكذلك ما يحَ ُصل هلذا من ِّ‬
‫ُ‬
‫ليكون َمقا ُمهام يف‬ ‫الرج َلني‬ ‫بفوات احلضور واخلشوع‪ّ ،‬‬‫ِ‬ ‫ُك ُّل هذا َيفو ُته‬
‫وإن ُ‬
‫واحدا‪ ،‬وبني صالتيهام كام بني السامء واألرض! وليس كال ُمنا يف‬ ‫ً‬ ‫الصف‬‫ِّ‬
‫هذا ك ِّله‪.‬‬
‫والفوائد فذاك إليه‪ ،‬إن‬
‫ُ‬ ‫الثمرات‬
‫ُ‬ ‫حصل هذه‬ ‫وجوب اإلعادة ل َت ُ‬
‫َ‬ ‫فإن أرد ُتم‬
‫فوهتا عىل ن ْف ِسه‪ ،‬وإن أردتم بوجوب اإلعادة أ َّنا‬
‫شاء أن يحُ ِّصلها وإن شاء أن ُي ِّ‬
‫الة فال‪.‬‬ ‫عاقبه عىل تر ِكها‪ ،‬و ُنر ِّتب عليه أحكام ِ‬
‫تارك الص ِ‬ ‫لزمه هبا و ُن ِ‬
‫ُن ِ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫أرجح ال َقولني‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وهذا القول ال َّثاين‬

‫‪116‬‬
‫اإلخبــــــات‬

‫منزلـــــــة الإخبـــــات‬

‫قال اهلل تعاىل‪ ﴿ :‬ﮒ ﮓ﴾ [احلج‪ ،]34 :‬ثم كشف عن معناهم فقال‪:‬‬
‫﴿ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ‬
‫ﮢ ﮣ ﴾ [احلج‪ .]35 :‬وقال‪﴿ :‬ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ‬
‫ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ﴾ [هود‪.]23 :‬‬
‫املنخفض من األرض‪ ،‬وبه َفسرَّ اب ُن ع َّباس‬
‫ُ‬ ‫اخلَ ْب ُت يف أصل ال ُّلغة‪ :‬املكان‬
‫و َقتاد ُة لفظ ا ُملخبِتِني‪ ،‬وقاال‪ُ :‬هم املتواضعون‪.‬‬
‫ِ‬
‫املطمئ ُّن إىل اهلل »‪.‬‬ ‫‪« :‬املخبِت‪:‬‬ ‫قال جماهد‬
‫اإلخبات َّأو َل َمقا ٍم يتخ َّلص فيه السالك من الرت ُّدد‪ ،‬والسالك‬ ‫ُ‬ ‫َّملا كان‬
‫مسافر إىل ربه‪ ،‬سائر إليه عىل مدى أنفاسه‪ ،‬ال ينتهي َس ُريه إليه ما دام ن َف ُسه‬
‫يصحبه؛ َشبه حصول اإلخبات له باملاء العذب الذي ي ِرده املسافر عىل ظمأٍ‬
‫َ ُ‬ ‫َّ‬
‫خواطر تر ُّدده يف إمتام‬ ‫عنه‬ ‫زيل‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫ه‪،‬‬‫د‬ ‫مور‬ ‫ويه‬ ‫ف‬ ‫له‪،‬‬ ‫وحاجة يف أول م ِ‬
‫ناه‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫يرَ‬ ‫َ‬
‫سفره‪ ،‬أو رجوعه إىل وطنه ملشقة السفر‪ ،‬فإذا ورد ذلك املا َء زال عنه الترَّ ُّد ُد‬
‫وخاطر الرجوع‪.‬‬
‫ُ‬
‫الك إذا ورد مورد اإلخبات خت َّلص من الرت ُّدد ُّ‬
‫والرجوع‪َ ،‬‬
‫ونزل‬ ‫الس ُ‬ ‫كذلك َّ‬
‫َّأو َل منازل ال ُّطمأنينة لسفره‪َ ،‬‬
‫وج َّد يف السري‪.‬‬
‫استقر ْت َق َد ُم العبد يف منزلة اإلخبات ومتكَّن فيها‪،‬‬
‫َّ‬ ‫[و] اعلم أ َّنه متى‬

‫‪117‬‬
‫نفسه عن خ َطفات املدح َّ‬
‫والذ ِّم‪ ،‬فال يفرح بمدح‬ ‫مه ُته‪ ،‬وع َل ْت ُ‬ ‫ارتفعت َّ‬
‫وتأهل للفناء‬ ‫خرج عن ِّ‬
‫حظ نفسه‪َّ ،‬‬ ‫ف َمن َ‬‫وص ُ‬‫النَّاس‪ ،‬وال حيزن لذ ِّمهم‪ ،‬هذا ْ‬
‫يف عبودية ربه‪ ،‬وصار قلبه ُم َّط ِر ًحا ألشعة أنوار األسامء والصفات‪ ،‬وباشرَ َ‬
‫حالو َة اإليامن واليقني ق ْل ُبه‪.‬‬
‫والوقوف عند مدح النَّاس وذ ِّم ِهم عالمة انقطاع القلب‪ُ ،‬‬
‫وخ ُل ِّوه من اهلل‪،‬‬
‫وح حم َّبتِه ومعرفته‪ ،‬ومل َي ُذ ْق حالوة ال َّتع ُّلق به وال ُّطمأنينة إليه‪.‬‬ ‫شرِ‬
‫وأ َّنه مل تبا ْ ه ُر ُ‬
‫[فـ] صاحب هذا املنزل ال يرىض عن نفسه‪ ،‬وهو م ِ‬
‫بغ ٌض هلا‪ُ ،‬م َت َم ٍّن‬ ‫ُ‬
‫ملفارقتها‪.‬‬
‫معلول من أوصاف العبد‪ ،‬مذمو ًما من‬ ‫اً‬ ‫واملراد بال َّن ْفس عند القوم‪ :‬ما كان‬
‫أخالقه وأفعاله‪ ،‬سواء كان ذلك َك ْسب ًّيا له أو َخ ْلق ًّيا‪ ،‬فهو شديد الالئمة هلا‪،‬‬
‫وهذا أحد التأويلني يف قوله تعاىل‪ ﴿ :‬ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﴾ [القيامة‪ ،]2 :‬قال‬
‫وعك ِْرم ُة‪َ « :‬تلوم عىل اخلري والرش‪ ،‬وال تصرب عىل الرساء‪ ،‬وال‬ ‫سعيد بن جبري ِ‬
‫َُ‬
‫عىل الرضاء»‪.‬‬
‫قواعد القوم ا ُملجم ِع عليها بينهم‪ ،‬التي اتفقت كلمة أولهَّ ِ م ِ‬
‫وآخ ِرهم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫فإ َّنه من‬
‫َ‬
‫حجاب بني العبد وبني اهلل تعاىل‪ ،‬وأنه ال‬ ‫أن النَّ ْف َس‬ ‫ومحُ ِ ِّقهم وم ِ‬
‫بطلهم عليها‪َّ :‬‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫رب العزة يف‬
‫زيد‪« :‬رأيت َّ‬ ‫يصل إىل اهلل حتى يقطع هذا احلجاب‪ ،‬كام قال أبو َي َ‬
‫نفسك و َت َ‬
‫عال»‪.‬‬ ‫املنام‪ ،‬فقلت‪ :‬ريب‪ ،‬كيف الطريق إليك؟ فقال‪َ :‬خ ِّل َ‬
‫السري إىل اهلل‪ُّ ،‬‬
‫وكل سائر فال طريق‬ ‫فالنَّ ْفس ٌ‬
‫جبل عظيم ٌّ‬
‫شاق يف طريق َّ‬

‫‪118‬‬
‫اإلخبــــــات‬

‫ينتهي إليه‪ ،‬ولكن منهم َمن هو ٌّ‬


‫شاق عليه‪،‬‬ ‫َ‬ ‫له إال عىل ذلك اجلبل‪ ،‬فالبد أن‬
‫سه ٌل عليه‪ ،‬وإنه َل َي ٌ‬
‫سري عىل َمن يسرَّ ه اهلل عليه‪.‬‬ ‫ومنهم من هو ْ‬
‫وك و َع ْو َسج‪،‬‬‫وش ٌ‬
‫ووهود‪َ ،‬‬ ‫اجلبل أودي ٌة وشعوب‪ ،‬و َع َقبات ُ‬ ‫ِ‬ ‫ويف ذلك‬
‫ولصوص يقتطعون الطريق عىل السائرين‪ ،‬وال س َّيام ِ‬
‫أهل‬ ‫ق‬ ‫و ُع ّليق ِ‬
‫وش‬
‫ٌ‬ ‫برْ‬
‫ومصابيح اليقني ت َّت ِقد بزيت‬
‫ُ‬ ‫الليل ا ُملدلجِ ني‪ ،‬فإذا مل يكُن معهم ُع َد ُد اإليامن‪،‬‬
‫وحالت‬
‫ْ‬ ‫القواطع‪،‬‬
‫ُ‬ ‫قت هبم تلك املوانع‪ ،‬وتش َّبثت هبم تلك‬‫اإلخبات‪ ،‬وإال تع َّل ْ‬
‫بينهم وبني السري‪.‬‬
‫رجعوا عىل أعقاهبم َّملا عجزوا عن قطعه واقتحا ِم‬ ‫السائري َن منه َ‬ ‫وأكثر َّ‬
‫َّاس من صعوده وارتقائه‪،‬‬ ‫يطان عىل ُق َّلة ذلك اجلبل ِّ‬
‫حيذر الن َ‬ ‫والش ُ‬ ‫عقبته‪َّ ،‬‬
‫وخيو ُفهم منه‪ ،‬في َّت ِفق مش َّق ُة ذلك اجلبل‪ ،‬وقعو ُد ذلك املخوف عىل ُق َّلتِه‪،‬‬
‫ِّ‬
‫االنقطاع والرجوع‪ ،‬واملعصوم‬
‫ُ‬ ‫وضعف عزيمة السائر ونيته‪ ،‬فيتولد من ذلك‬ ‫ُ‬
‫َمن عصمه اهلل‪.‬‬
‫وحتذيره وختويفه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫صياح القاطع‪،‬‬
‫ُ‬ ‫اشتد به‬
‫رقي السائر يف ذلك اجلبل َّ‬ ‫وك َّلام َ‬
‫السري‪ ،‬وتزول‬ ‫يسهل َّ‬ ‫فإذا قطعه وبلغ ُق َّلته‪ :‬فإذا املخاوف ك ُّل ُه َّن أمان‪ ،‬وحينئذ ُ‬
‫عنه عوارض ال َّطريق‪ ،‬ومشق ُة عقباهتا‪ ،‬ويرى طري ًقا واس ًعا ِآمنًا‪ ،‬به املنازل‬
‫واملناهل‪ ،‬وعليه األعالم‪ ،‬وفيه اإلقامات‪ ،‬قد ُأ ِع َّد ْت لركب الرمحن‪.‬‬ ‫ُ‬
‫رب ساعة‪ ،‬وشجاع ُة‬
‫السعادة والفالح‪ :‬قو ُة عزيمة‪ ،‬وص ُ‬ ‫فبينْ العبد وبني َّ‬
‫ن ْفس‪ ،‬وثبات قلب‪ ،‬والفضل بيد اهلل يؤتيه َمن يشاء‪ ،‬واهلل ذو الفضل العظيم‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫منزلــــــة الزهـــــــد‬

‫قال اهلل تعاىل‪﴿:‬ﭨﭩﭪ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳ‬


‫ﭴ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ‬
‫ﭵ‬
‫ﮊﮌﮍﮎﮏﮐﮑ﴾ [احلديد‪.]٢٠ :‬‬
‫ﮋ‬ ‫ﮆﮇﮈﮉ‬

‫وقال تعاىل‪ ﴿ :‬ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘ ﴾ [األعىل‪.]١٧ – ١٦ :‬‬

‫وق َّلتِها وانقطاعها‪،‬‬


‫بخستها‪ِ ،‬‬
‫واإلخبار ِ‬
‫ِ َّ‬ ‫والقرآن مملو ٌء من ال َّتزهيد يف الدنيا‪،‬‬
‫ِ‬
‫ورسعة‬ ‫ِ‬
‫واإلخبار برشفها ودوامها‬ ‫غيب يف اآلخرة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ورسعة فنائها‪ ،‬والترَّ‬
‫شاهدا ِ‬
‫يعاين به حقيقة الدنيا‬ ‫ً‬ ‫خريا أقام يف قلبه‬ ‫إقباهلا‪ ،‬فإذا أراد اهلل ٍ‬
‫بعبد‬
‫ً‬
‫ويؤثِر منهام ما هو أوىل باإليثار‪.‬‬
‫واآلخرة‪ْ ،‬‬

‫«الزهد‪:‬‬
‫وحه ‪ -‬يقول‪ُّ :‬‬ ‫ِ‬
‫[و]سمعت شيخ اإلسالم اب َن تيم َّي َة ‪َّ -‬‬
‫قدس اهللُ ُر َ‬
‫ْتر ُك ما ال ينفع يف اآلخرة‪ ،‬والورع‪ْ :‬ترك ما تخَ اف َ‬
‫رضره يف اآلخرة»‪.‬‬
‫ِ‬
‫وأمجعها‪.‬‬ ‫أحس ِن ما قيل يف ُّ‬
‫الزهد والورع‬ ‫ن‬ ‫وهذه العبارة ِ‬
‫م‬
‫َ‬
‫الدنيا ِقصرَ ُ األمل‪ ،‬ليس بأكل الغليظ‪ ،‬وال‬
‫«الزهد يف ُّ‬ ‫سفيان ال َّث ُّ‬
‫وري‪ُّ :‬‬ ‫ُ‬ ‫قال‬
‫لبس العباء»‪.‬‬
‫‪«:‬عدم ِ‬
‫فرحه بإقباهلا‪ ،‬وال حزنه عىل إدبارها»‪ ،‬فإ َّنه‬ ‫وقال اإلمام أمحد‬
‫ُ‬
‫زاهدا؟ فقال‪« :‬نعم‪ ،‬عىل‬
‫ألف دينار‪ ،‬هل يكون ً‬
‫الرجل يكون معه ُ‬ ‫عن‬ ‫ل‬ ‫سِ‬
‫ئ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬

‫‪120‬‬
‫الزهـــــــد‬

‫رشيطة أن ال يفرح إذا زادت‪ ،‬وال حيزن إذا نقصت»‪.‬‬

‫«ترك ما يشغل عن اهلل»‪.‬‬


‫‪ْ :‬‬ ‫اراين‬
‫الد ُّ‬ ‫َ‬
‫سليامن َّ‬ ‫وقال أبو‬

‫«الزهد عىل ثالثة ُ‬


‫أوجه‪:‬‬ ‫‪ُّ :‬‬ ‫وقد قال اإلمام أمحد بن حنبل‬

‫األول‪ْ :‬تر ُك احلرام‪ ،‬وهو زهد العوا ِّم‪.‬‬


‫َّ‬
‫اخلواص‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫والثاين‪ُ :‬‬
‫ترك الفضول من احلالل‪ ،‬وهو زهد‬
‫والثالث‪ُ :‬‬
‫ترك ما يشغل عن اهلل‪ ،‬وهو زهد العارفني»‪.‬‬

‫وأخ ُذه‬ ‫الزهد س َف ُر القلب من وطن ُّ‬


‫الدنيا‪ْ ،‬‬ ‫وا َّلذي أ َ‬
‫مج َع عليه العارفون َّ‬
‫أن ُّ‬
‫ِ‬
‫منازل اآلخرة‪.‬‬ ‫يف‬

‫اسم الزهد حتى يزهد فيها‪ ،‬وهي‪:‬‬‫العبد َ‬


‫ُ‬ ‫يستحق‬
‫ُّ‬ ‫و ُم َت َع َّل ُقه س َّت ُة أشيا َء‪ ،‬ال‬
‫والرياسة‪ ،‬والنَّاس‪ ،‬والنَّ ْفس‪ُّ ،‬‬
‫وكل ما دون اهلل‪.‬‬ ‫والص َور‪ِّ ،‬‬ ‫املال‪ُّ ،‬‬
‫ِم ْن َأ ْز َه ِد َأ ْه ِل‬
‫وداود‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫سليامن‬ ‫وليس املراد رف َْضها من امللك‪ ،‬فقد كان‬
‫زماهنام‪ ،‬وهلام من املال والن ِ‬
‫ِّساء وامللك ما هلام‪ ،‬وكان نب ُّينا ﷺ أزهد البرش عىل‬
‫اإلطالق‪ ،‬وله تسع نسوة‪.‬‬
‫ُ‬
‫وعثامن‬ ‫والزبري‪،‬‬
‫وكان عيلُّ‪ ‬بن أيب طالب‪ ،‬وعبد الرمحن بن عوف‪ُّ ،‬‬
‫الز َّهاد‪ ،‬مع‬
‫من ُّ‬ ‫عيل‬
‫حلسن بن ٍّ‬‫الزهاد‪ ،‬مع ما هلم من األموال‪ ،‬وكان ا َ‬ ‫من َّ‬
‫ونكاحا هلن وأغناهم‪ ،‬وكان عبد اهلل بن‬
‫ً‬ ‫أ َّنه كان من ِ‬
‫أكثر األُ َّمة حم َّب ًة للنساء‬

‫‪121‬‬
‫ُ‬
‫وسفيان من‬ ‫الز َّهاد‪ ،‬مع مال كثري‪ ،‬وكذلك ال َّليث بن سعد‬ ‫األئمة ُّ‬
‫املبارك من َّ‬
‫رأس مال يقول‪« :‬لوال هو َل َت َمن َْد َل بنا هؤالء»‪.‬‬
‫الز َّهاد‪ ،‬وكان له ُ‬
‫أئمة ُّ‬
‫َّ‬
‫الدنيا‬
‫هد يف ُّ‬‫الز ُ‬ ‫غريه‪« :‬ليس ُّ‬ ‫حلسن أو ِ‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫كال‬ ‫هد‪،‬‬ ‫الز‬ ‫ُّ‬ ‫يف‬ ‫قيل‬ ‫ما‬ ‫ن‬‫ِ‬ ‫أحس‬ ‫ن‬ ‫ِ‬
‫وم‬
‫ُ َ‬ ‫َ‬
‫نك بام‬‫يد اهلل أو َث َق ِم َ‬
‫تكون بام يف ِ‬
‫َ‬ ‫إضاعة ِ‬
‫املال؛ ولك ْن أن‬ ‫ِ‬ ‫بِ َتحري ِم احل ِ‬
‫الل‪ ،‬وال‬ ‫َ‬
‫نك فيها لو‬ ‫ب ِم َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫غ‬ ‫أر‬ ‫‪-‬‬ ‫هبا‬ ‫بت‬ ‫َ‬ ‫ص‬ ‫واب ا ُمل ِ‬
‫صيبة ‪ -‬إذا ُأ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫ث‬ ‫يف‬ ‫َ‬
‫تكون‬ ‫وأن‬ ‫‪،‬‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫يف ِ‬
‫يد‬
‫وأحسنِه‪.‬‬
‫َ‬ ‫الزهد‬ ‫يف‬ ‫ٍ‬
‫م‬ ‫كال‬ ‫ِ‬
‫ع‬ ‫مج‬
‫َ‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫مل ُت ِصب َك»؛ فهذا ِ‬
‫م‬ ‫ْ ْ‬

‫‪122‬‬
‫الـــــــــورع‬

‫منزلـــــــة الـــــــورع‬

‫قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﴾‬


‫[املؤمنون‪.]51 :‬‬

‫وقال تعاىل‪ ﴿ :‬ﯖ ﯗ ﴾ [املدثر‪.]4 :‬‬

‫‪« :‬ال تلبسها عىل غدر‪ ،‬وال ُظ ْل ٍم وال إثم‪ ،‬ال َب ْسها‬ ‫قال ُأبيَُّ‪ ‬بن كعب‬
‫وأنت َب ٌّر طاهر»‪.‬‬
‫ِ‬
‫املأمور‬ ‫وتقصريها من مجلة ال َّتطهري‬
‫َ‬ ‫أن تطهريها من النَّجاسات‪،‬‬‫وال ريب َّ‬
‫ث نجاسة‬ ‫اهر ِ‬
‫تور ُ‬ ‫ألن نجاسة ال َّظ ِ‬
‫به‪ ،‬إ ْذ به متا ُم إصالح األعامل واألخالق؛ َّ‬
‫عد عنها‪.‬‬ ‫الباطن؛ ولذلك ُأمر القائم ب يدي اهلل بإزالتها والب ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ ينْ‬
‫دنس‬‫يطهر املا ُء َ‬ ‫ِ‬
‫القلب ونجاس َته‪ ،‬كام ِّ‬ ‫يطهر د َن َس‬ ‫واملقصود‪َّ :‬‬
‫أن الورع ِّ‬
‫ال َّثوب ونجاس َته‪ ،‬وبينْ الثياب والقلوب مناسب ٌة ظاهرة وباطنة‪ ،‬ولذلك ُّ‬
‫تدل‬
‫ثياب املرء يف املنام عىل قلبه وحاله‪ ،‬ويؤ ِّثر ٌّ‬
‫كل منهام يف اآلخر‪.‬‬ ‫ُ‬
‫السبا ِع؛ لمِا تؤ ِّثر يف القلب‬
‫ِّ‬
‫ب‪ ،‬وج ُل ِ‬
‫ود‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫والذ‬ ‫ِ‬
‫رير‬‫حل‬
‫َ‬ ‫ا‬ ‫ِ‬
‫باس‬‫وهلذا ي عن لِ‬
‫نهُ َ‬
‫أمر‬ ‫ياب‬ ‫ِّ‬
‫ث‬ ‫ال‬ ‫يف‬ ‫ِ‬
‫َّفس‬ ‫ن‬‫وال‬ ‫القلب‬ ‫وتأثري‬ ‫واخلشوع‪،‬‬ ‫من اهليئة املنافية للعبودي ِ‬
‫ة‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬
‫خفي يعرفه أهل البصائر من نظافتها ودنسها ورائحتها‪ ،‬وهبجتها وكسفتها‪،‬‬
‫ٌّ‬
‫حتى َّ‬
‫إن ثوب البرَِّ ل ُي َ‬
‫عرف من ثوب الفاجر‪ ،‬وليسا عليهام‪.‬‬

‫‪123‬‬
‫الورع ك َّله يف كلمة واحدة؛ فقال‪ِ :‬‬
‫«من ُح ْس ِن إسال ِم‬ ‫َ‬ ‫مجع النبي ﷺ‬ ‫وقد َ‬
‫رء تَر ُكه ما ال َيعنِ ِ‬
‫يه»(((‪ ،‬فهذا َي ُع ُّم الترَّ ْ َك لمِ ا ال يعني من الكالم‪ ،‬وال َّنظ ِر‪،‬‬ ‫املَ ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫والفكر‪ ،‬وسائر احلركات الظاهرة والباطنة‪،‬‬ ‫واالستامع‪ ،‬والبطش‪ ،‬واملَيش‪ِ ،‬‬
‫كافية شافية يف الورع‪.‬‬ ‫فهذه الكلمة ٌ‬

‫وتر ُك ما ال َيعنِيك هو‬ ‫‪« :‬الورع ْتر ُك ِّ‬


‫كل شبهة‪ْ ،‬‬ ‫قال إبراهيم بن أدهم‬
‫ْتر ُك الفضالت»‪.‬‬

‫والفضة‪،‬‬
‫َّ‬ ‫الذهب‬ ‫وقال إسحاق بن خ َلف ‪« :‬الورع يف املنطق ُّ‬
‫أشد منه يف َّ‬
‫الرياسة»‪.‬‬ ‫والفضة؛ ألنهَّ ام ُي َ‬
‫بذالن يف طلب ِّ‬ ‫َّ‬ ‫أشد منه يف َّ‬
‫الذهب‬ ‫الرياسة ُّ‬
‫هد يف ِّ‬
‫والز ُ‬
‫ُّ‬

‫وقال حييى بن معاذ ‪« :‬الورع عىل وجهني؛ ورع يف الظاهر‪ :‬أن ال‬
‫وورع يف الباطن‪ :‬هو أن ال يدخل قل َبك ِسواه‪ ،‬وقال‪َ :‬من مل‬ ‫يتحرك إال هلل‪َ ،‬‬
‫َّ‬
‫الدقيق من الورع مل َي ِص ْل إىل اجلليل من العطاء»‪.‬‬
‫ينظر يف َّ‬

‫العبد حقيق َة التقوى حتى يدع ما ال بأس به‬


‫وقال بعض السلف‪« :‬ال يبلغ ُ‬
‫حذرا مما به بأس»‪.‬‬
‫ً‬
‫‪« :‬كنا َن َد ُع سبعني با ًبا من احلالل خماف َة أن نقع يف‬ ‫الصحابة‬
‫وقال بعض َّ‬
‫باب من احلرام»‪.‬‬

‫((( أخرجه الرتمذي (‪ ،)2317‬وصححه األلباين يف «مشكاة املصابيح» (‪.)4840‬‬

‫‪124‬‬
‫الـــــــــورع‬

‫فوائد التورع بتجنب القبائح‪:‬‬

‫إحداها‪َ :‬ص ْو ُن النفس؛ وهو ِح ْف ُظها ومحايتها عماَّ َيشينها‪ ،‬و َيعيبها و ُيزري‬
‫كرمت عليه‬
‫ْ‬ ‫وعباده املؤمنني‪ ،‬وسائر خلقه‪َّ ،‬‬
‫فإن من‬ ‫ِ‬ ‫هبا عند اهلل ومالئكته‪،‬‬
‫ن ْف ُسه وكبرُ ت عنده‪ :‬صاهنا ومحاها‪ ،‬وز َّكاها وعلاّ ها‪ ،‬ووضعها يف أعىل‬
‫أهل العزائم والكامالت‪ ،‬و َمن هانت عليه ن ْف ُسه وص ُغ ْ‬
‫رت‬ ‫ِّ‬
‫املحال‪ ،‬وزاحم هبا َ‬
‫وحل ِزمامها وأرخاه‪ ،‬و َد َّساها ومل‬ ‫الرذائل‪ ،‬وأطلق ِشناقها‪َّ ،‬‬ ‫عنده ألقاها يف َّ‬
‫َي ُصنْها عن قبيح‪.‬‬
‫توفري احلسنات ِمن وجهني‪:‬‬
‫ُ‬ ‫[والثانية]‬
‫نقصت‬
‫ْ‬ ‫أحدمها‪ :‬توفري زمانِه عىل اكتِساب احلسنات‪ ،‬فإذا اشتغل بالقبائح‬
‫ِ‬
‫مستع ًّدا لتحصيلها‪.‬‬ ‫احلسنات ا َّلتي كان‬
‫ُ‬ ‫عليه‬
‫املفعولة عن نقصاهنا بموازنة السي ِ‬
‫ئات أو‬ ‫ِ‬ ‫والثاين‪ :‬توفري احلسنات‬
‫َّ ِّ‬
‫ِ‬
‫احلسنات‪ ،‬وقد‬ ‫ِ‬
‫السيئات قد تحُ بِط‬ ‫وبة َّ‬
‫أن‬ ‫تقدم يف منزلة ال َّت ِ‬
‫ََّ‬ ‫حبوطِها‪ ،‬كام‬
‫َ‬
‫ديوان‬ ‫ضع َفها قط ًعا‪ ،‬فتجنُّبها يوفر‬ ‫بد أن ُت ِ‬‫ستغر ُقها بالك ِّل َّي ِة أو تنقصها‪ ،‬فال َّ‬
‫َت ِ‬
‫ِ‬
‫يستغرقه‬ ‫احلسنات‪ ،‬وذلك بمنزلة َمن له مال حاصل‪ ،‬واستدان عليه‪ ،‬فإ َّما أن‬
‫والس ِّيئات‪.‬‬
‫الدي ُن أو أكثره أو ينقصه‪ ،‬فهكذا احلسنات َّ‬ ‫َّ‬
‫الس َّن ِة َي ُ‬
‫زيد بالطاعة‪،‬‬ ‫أهل ُّ‬‫[والثالثة] صيان ُة اإليامن‪ :‬ألنَّ اإليامن عند مجيع ِ‬
‫وق والوجود‪،‬‬ ‫بالذ ِ‬‫أمر معلوم َّ‬ ‫وينقص باملعصية‪ ،‬وإضعاف املعايص لإليامن ٌ‬
‫فإن‬ ‫فإنَّ العبد‪-‬كام جاء يف احلديث‪« -‬إذا أذ َن َب ُن ِك َت يف َقلبِه ُن ْك ٌتة َس ْو ُ‬
‫داء‪ْ ،‬‬

‫‪125‬‬
‫خرى‪ ،‬ح َّتى تَع ُل َو‬‫أ‬ ‫تاب واس َتغ َفر ُص ِق َل َق ْلبه‪ ،‬وإن عا َد فأذ َن َب ُن ِك َت ِ‬
‫فيه ُن ْك ٌتة ُ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫وذلك الر ُان ا َّلذي قال ُ‬
‫اهلل تعاىل‪ ﴿:‬ﭹﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﴾‬ ‫َ َّ‬ ‫َق ْل َبه‪،‬‬
‫[املطففني‪.(((»]14 :‬‬
‫ُ‬
‫واإليامن هو نور يف القلب‪ ،‬والقبائح‬ ‫نوره‪،‬‬
‫فالقبائح ُت َس ِّود القلب‪ ،‬و ُتطفئ َ‬
‫ذهب به أو تق ِّلله قط ًعا‪.‬‬‫َت َ‬
‫نور القلب‪ ،‬وقد أخرب‬ ‫ئات ُتطفئ َ‬
‫والس ِّي ُ‬
‫نور القلب‪َّ ،‬‬‫[و] احلسنات َتزيد َ‬
‫املنافقني‬
‫َ‬ ‫للران ا َّلذي يعلوها‪ ،‬وأخرب أ َّنه أر َك َس‬
‫سبب َّ‬
‫ب القلوب ٌ‬ ‫تعاىل َّ‬
‫أن َك ْس َ‬
‫بكسبِهم‪ ،‬فقال‪ ﴿ :‬ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ﴾ [النساء‪.]٨٨ :‬‬ ‫يف نفاقهم ْ‬

‫((( أخرجه الرتمذي (‪ ،)3334‬وقال‪ :‬حسن صحيح ‪ ،‬وابن ماجه (‪.)4244‬‬

‫‪126‬‬
‫الرجـــــــاء‬

‫منزلـــــــة الرجــــــاء‬

‫قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ‬


‫طلب‬ ‫ِ‬
‫الوسيلة إليه‪:‬‬ ‫ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ﴾ [اإلرساء‪ ،]57 :‬فابتغاء‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫اإليامن الثالث َة ا َّلتي عليها بناؤه‪:‬‬ ‫ال ُقرب منه بالعبود َّية واملح َّبة‪َ ،‬‬
‫فذ َكر مقامات‬
‫والرجاء‪.‬‬
‫احلب‪ ،‬واخلوف‪َّ ،‬‬
‫رسول اهلل ﷺ يقول ‪-‬‬ ‫َ‬ ‫عت‬
‫سم ُ‬‫ويف صحيح مسلم عن جابر قال‪ِ :‬‬
‫ي ِس ُن ال َّظ َّن َبر ِّبه»(((‪ ،‬ويف‬ ‫أح ُدكُم إلاَّ وهو حُ ْ‬
‫قبل موته بثالث ‪« :-‬ال َي ُمو َت َّن َ‬
‫شاء»(((‪.‬‬ ‫ما‬ ‫يب‬ ‫ن‬ ‫ُ‬
‫ظ‬ ‫ي‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫يب‪،‬‬ ‫دي‬ ‫ب‬ ‫ع‬ ‫ن‬ ‫َ‬
‫ظ‬ ‫ند‬
‫َ‬ ‫قول اهلل ‪ :‬أنا ِ‬
‫ع‬ ‫الصحيح عنه ﷺ « َي ُ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬
‫«الرجاء» ٍ‬
‫حاد يحَ دو القلوب إىل بالد املحبوب‪ ،‬وهو اهللُ والدار اآلخرة‪،‬‬
‫الس َري‪.‬‬
‫ويط ِّيب هلا َّ‬
‫أن ال َّتمنِّي يكون مع الكسل‪ ،‬وال يس ُلك بصاحبه‬
‫والفرق بينه وبني التمنِّي َّ‬
‫وح ِ‬
‫سن التوكل‪.‬‬ ‫اجل ِّد واالجتهاد‪ ،‬و«الرجاء» يكون مع ب ْذ ِل ا ِ‬ ‫طريق ِ‬
‫جلهد ُ‬‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫ُ‬
‫ويأخذ زر َعها‪.‬‬ ‫أرض يبذرها‬
‫فاألول‪ :‬كحال َمن يتمنَّى أن يكون له ٌ‬

‫طلوع الزرع‪.‬‬ ‫بذ ُرها‪ ،‬ويرجو‬ ‫شق أرضه ِ‬


‫ويفل ُحها و َي ُ‬ ‫والثاين‪ :‬كحال َمن َي ُّ‬
‫َ‬

‫((( أخرجه مسلم (‪.)2877‬‬


‫((( أخرجه أمحد (‪ ،)16016‬وصححه األلباين يف «صحيح اجلامع» (‪.)4316‬‬

‫‪127‬‬
‫الرجاء ال َي ِص ُّح إلاَّ مع العمل‪.‬‬ ‫وهلذا أمجع العارفون عىل َّ‬
‫أن َّ‬

‫جاء ثالثة أنواع‪ :‬نوعان حممودان‪ ،‬ونوع غرور مذموم‪.‬‬


‫والر ُ‬
‫َّ‬
‫فاألوالن رجاء رج ٍل ِ‬
‫عم َل بطاعة اهلل عىل نور من اهلل‪ ،‬فهو ٍ‬
‫راج لثوابه‪،‬‬ ‫ُ ُ‬ ‫َّ‬
‫ورج ٍل أذنب ذن ًبا ثم تاب منه إىل اهلل تعاىل‪ ،‬فهو ٍ‬
‫راج ملغفرته‪.‬‬ ‫ُ‬
‫والثالث‪ :‬رجل م َت ٍ‬
‫امد يف التفريط واخلطايا‪ ،‬يرجو رمح َة اهلل بال عمل‪ ،‬فهذا‬ ‫ُ‬
‫هو الغرور والتمنِّي والرجاء الكاذب‪.‬‬
‫ِ‬
‫باب‬
‫نظر إىل نفسه وعيوبه وآفات عمله‪ ،‬يفتح عليه َ‬ ‫وللسالك ن َظران‪ٌ :‬‬
‫ِ‬
‫وكرمه وبِ ِّره‪ ،‬يفتح عليه باب الرجاء‪.‬‬ ‫ونظر إىل َسعة فضل ر ِّبه‬ ‫اخلوف‪،‬‬
‫ٌ‬

‫كجناح ِي الطائر؛ إذا‬


‫َ‬ ‫وذباري ‪« :‬اخلوف والرجاء‬ ‫ُّ‬ ‫الر‬
‫عيل ُّ‬‫قال أبو ٍّ‬
‫أحدمها و َقع فيه الن ُ‬
‫َّقص‪ ،‬وإذا‬ ‫استويا استوى ال َّط ُري و َت َّم طريا ُنه‪ ،‬وإذا ن َقص ُ‬
‫حد املوت»‪.‬‬
‫الطائر يف ِّ‬
‫ُ‬ ‫ذه َبا صار‬
‫َ‬

‫قال حييى بن معاذ ‪« :‬يكاد رجائي لك مع ُّ‬


‫الذنوب يغلب عىل رجائي‬
‫ِ‬
‫أعتم ُد يف األعامل عىل اإلخالص‪ ،‬وكيف‬ ‫أجدين‬
‫ُ‬ ‫لك مع األعامل؛ ألنيِّ‬
‫أحرزها وأنا باآلفات معروف؟ وأجدين يف ُّ‬
‫الذنوب أعتمد عىل عفوك‪،‬‬
‫جلود موصوف؟»‪.‬‬
‫وكيف ال تغفرها وأنت با ُ‬

‫أج ِّل منازهلم‪ ،‬وأعالها وأرشفِها‪ ،‬وعليه وعىل احلب‬


‫َ‬ ‫ن‬ ‫[و] الرجاء ِ‬
‫م‬

‫‪128‬‬
‫الرجـــــــاء‬

‫مدح اهلل أهله‪ ،‬وأثنى عليهم‪ ،‬فقال‪﴿ :‬ﯯ‬


‫مدار السري إىل اهلل‪ ،‬وقد َ‬
‫واخلوف ُ‬
‫ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﴾ [األحزاب‪.]٢١ :‬‬

‫اإلهلي ع�ن النبي ﷺ ‪ -‬فيام ي�روي عن ربه ‪-‬‬ ‫ِّ‬ ‫ويف احلدي�ث الصحي�ح‬
‫كان ِم َ‬
‫نك وال‬ ‫ك عىل ما َ‬‫ور َج ْو َتني َغ َف ْر ُت َل َ‬ ‫ابن آ َد َم‪ ،‬إ َّن َ‬
‫ك ما َد َع ْو َتني َ‬ ‫«يا َ‬
‫ُأبايل»(((‪.‬‬

‫وقد روى األعمش عن أيب صالح عن أيب هريرة ‪ ،‬عن النبي ﷺ قال‪:‬‬
‫قول اهلل ‪ :‬أنا ِع َند َظ ِّن َع ْبدي يب‪ ،‬وأنا معه إذا َذك ََرين‪ْ ،‬‬
‫فإن َذك ََرين يف َن ْف ِسه‬ ‫« َي ُ‬
‫إ‬ ‫ب‬ ‫َ‬ ‫ترَ‬‫ق‬ ‫ا‬ ‫منهم‪ِ ،‬‬
‫وإن‬ ‫ُ‬ ‫ري‬‫إل َخ ٍ‬ ‫إل َذك َْر ُته يف َم ٍ‬
‫وإن َذك ََرين يف َم ٍ‬ ‫َذك َْر ُته يف َن ْفيس‪ْ ،‬‬
‫َ ليََّ‬
‫وإن أتاين‬ ‫ت ِ‬
‫إليه با ًعا‪ْ ،‬‬ ‫إيل ِذرا ًعا‪ ،‬اقترَ َ ْب ُ‬ ‫ب‬ ‫ترَ‬ ‫ق‬ ‫ا‬ ‫ِ‬
‫وإن‬ ‫ا‪،‬‬‫ع‬ ‫را‬ ‫إليه ِ‬
‫ذ‬ ‫ت ِ‬ ‫ُ‬ ‫ب‬ ‫ترَ‬‫ق‬ ‫ا‬ ‫ا‪،‬‬‫رب‬ ‫ِ‬
‫ش‬
‫َ َ َّ‬ ‫ً‬ ‫َْ‬ ‫ً‬
‫َي ْميش‪ ،‬أ َت ْي ُته َه ْر َول ًة»(((‪.‬‬

‫قو ِة املعرفة باهلل وأسامئه وصفاته وغلبة رمحته‬ ‫ب‬ ‫حس‬ ‫عىل‬ ‫فقو ُة الر ِ‬
‫جاء‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ َّ‬
‫وه ِّد َم ْت‬ ‫لت عبودي ُة القلب واجلوارح‪ُ ،‬‬ ‫وح الرجاء ل ُع ِّط ْ‬‫غضبه‪ ،‬ولوال َر ُ‬
‫كثريا؛ بل لوال َروح‬ ‫ومساجد ُيذ َكر فيها ُ‬
‫اسم اهلل ً‬ ‫ُ‬ ‫وصلوات‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫صوامع‪ ،‬وبِ َي ٌع‪،‬‬
‫ُ‬
‫حيه الطيب ُة لمَا جرت ُس ُفن األعامل‬
‫حتركت اجلوارح بالطاعة‪ ،‬ولوال ر ُ‬ ‫الرجاء لمَا َّ‬
‫حمب ٍ‬
‫راج‬ ‫ُّ‬
‫وكل‬ ‫الرجاء‪،‬‬ ‫يكون‬ ‫ا‬ ‫َّتهِ‬
‫وقو‬ ‫يف بحر اإلرادات‪ ،‬وعىل حسب املحب ِ‬
‫ة‬
‫ٍّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫ب ما كان إليه‪ ،‬وكذلك‬ ‫أح َّ‬
‫خائف بالضرَّ ورة‪ ،‬فهو أرجى ما يكون حلبيبه‪َ ،‬‬ ‫ٌ‬

‫وحسنه األلباين يف «السلسلة الصحيحة» (‪.)127‬‬


‫َّ‬ ‫((( أخرجه الرتمذي (‪،)3540‬‬
‫((( أخرجه البخاري (‪ ،)7405‬ومسلم (‪.)2675‬‬

‫‪129‬‬
‫وطر َد حمبوبه له وإبعا َده‪ ،‬واحتجابه‬ ‫خوفه‪ ،‬فإنه خياف سقو َطه من عينيه‪ْ ،‬‬
‫يت للمحبة‪ ،‬فإ َّنه يرجوه قبل لقائه‬ ‫أشد خوف‪ ،‬ورجاؤه ملحبوبه ذا ٌّ‬ ‫عنه‪ ،‬فخوفه ُّ‬
‫الرجا ُء له‪ ،‬لمِا حيصل به من حياة‬ ‫اشتد َّ‬‫والوصول إليه‪ ،‬فإذا لق َيه ووصل إليه َّ‬
‫ُروحه‪ ،‬ونعيم قلبه من ألطاف حمبوبه‪ ،‬وبِ ِّره وإقباله عليه‪ ،‬ونظره إليه بعني‬
‫نعيم وال فوز إال‬ ‫وال‬ ‫ب‬ ‫ِ‬
‫للمح‬ ‫حياة‬ ‫ال‬ ‫ا‬ ‫مم‬ ‫ذلك‬ ‫وغري‬ ‫ه‪،‬‬‫وتأهيله ملحبتِ‬
‫ِ‬ ‫الرضا‪،‬‬
‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫وأج ُّله وأمتُّه‪.‬‬
‫بوصوله إليه من حمبوبه‪ ،‬فرجاؤه أعظم رجاء‪َ ،‬‬
‫ٍ‬
‫أرسار عظيمة من أرسار‬ ‫حق ال َّتأمل ي ِ‬
‫طل ْعك عىل‬ ‫املوضع َّ‬ ‫فتأم ْل هذا‬
‫ُّ ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫العبود َّي ِة واملح َّبة‪.‬‬
‫فكل حمب ٍ‬
‫املحب‬
‫ِّ‬ ‫قلب‬ ‫من‬ ‫ُّنها‬
‫ك‬ ‫مت‬ ‫ر‬ ‫قد‬
‫ْ‬ ‫وعىل‬ ‫والرجاء‪،‬‬ ‫باخلوف‬ ‫مصحوبة‬ ‫ة‬ ‫ُّ َّ‬
‫صح ُبه وحش ٌة‪ ،‬بخالف خوف‬ ‫ي‬ ‫ال‬ ‫ب‬ ‫يشتد خو ُفه ورجاؤه‪ ،‬لكن خوف ِ‬
‫املح‬ ‫ُّ‬
‫ِّ َ َ‬
‫ب ال يصحبه ِع َّلة‪ ،‬بخالف رجاء األجري‪ ،‬فأين رجا ُء‬ ‫ِّ‬
‫امليسء‪ ،‬ورجاء ِ‬
‫املح‬
‫ب من رجاء األجري وب ْينهام كام بينْ حا َل ْي ِهام؟!‬ ‫ِ‬
‫املح‬
‫ِّ‬

‫رضوري للمريد السالك‪ ،‬والعارف لو فارقه حلظ ًة‬ ‫ٌّ‬ ‫فالرجا ُء‬
‫وباجلملة‪َّ :‬‬
‫وعيب يرجو صالحه‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫لتلف أو كاد‪ ،‬فإ َّنه دائر بني ذنب يرجو غفرا َنه‪،‬‬
‫ب من‬ ‫ٍ‬
‫واستقامة يرجو حصوهلا أو دوا َمها‪ ،‬و ُق ْر ٍ‬ ‫صالح يرجو َقبوله‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫وعم ٍل‬
‫َ‬
‫السالكني عن هذه‬
‫َ‬ ‫ينفك أحد من‬ ‫اهلل ومنزلة عنده يرجو وصو َله إليها‪ ،‬وال ُّ‬
‫األمور أو عن بعضها‪.‬‬

‫ثأر عند عبده فيدركه بعقوبته‪ ،‬وال يتشفى بعقابه‪،‬‬


‫والر ُّب تعاىل ليس له ٌ‬
‫َّ‬

‫‪130‬‬
‫الرجـــــــاء‬

‫وال يزيد ذلك يف ُم ْلكه مثقال ذرة‪ ،‬وال ينقص مغفرته‪ ،‬لو غفر ألهل األرض‬
‫ك ِّلهم؛ لمَا نقص مثقال ذرة من ملكه‪ ،‬كيف‪َّ ،‬‬
‫والرمح ُة أوسع من العقوبة وأس َب ُق‬
‫الرمح َة؟‬ ‫ه‬ ‫من الغضب وأغلب له وهو قد كتب عىل ن ْف ِ‬
‫س‬
‫َّ‬
‫ومن ثمار الرجاء‪:‬‬

‫ِ‬
‫ويسترشفه من‬ ‫اج ِة إىل ما يرجوه من ربه‪،‬‬
‫العبودي ِة والفاقة‪ ،‬والحْ َ َ‬
‫َّ‬ ‫‪ -1‬إظهار‬
‫إحسانه‪ ،‬وأنَّه ال يستغني عن فضله وإحسانِه َطرف َة عني‪.‬‬

‫فض ِله؛ أل َّنه‬ ‫ب من عباده أن يؤ ِّملوه و َي ْرجوه‪ ،‬ويسألوه من ْ‬ ‫‪ -2‬أ َّنه سبحانه ِ‬
‫حي‬
‫ُّ‬
‫ب ما إىل‬ ‫ِ‬
‫وأح ُّ‬
‫وأوسع َمن أعطى‪َ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫أج َود َمن ُسئل‪،‬‬
‫اجلواد‪ْ ،‬‬‫احلق َ‬ ‫امللك ُّ‬
‫ب‬‫غض ْ‬ ‫سأل اهلل َي َ‬‫رجى و ُيؤمل و ُيسأل‪ ،‬ويف احلديث «م ْن مل ي ِ‬ ‫اجلواد أن ُي َ‬‫َ‬
‫َ َْ‬ ‫َّ‬
‫ِ (((‬
‫يغضب عليه‪.‬‬
‫ْ‬ ‫اهلل‬ ‫يرج‬
‫ُ‬ ‫مل‬ ‫ن‬‫فم‬
‫ٌ َ‬‫؛‬ ‫وطالب‬ ‫راج‬‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫والسائل‬ ‫‪،‬‬ ‫عليه»‬
‫أن الرجاء ٍ‬
‫حاد يحَ ْ دو به يف َسريه إىل اهلل‪ ،‬ويط ِّيب له ا َملسري‪ ،‬ويحَ ُ ُّثه عليه‪،‬‬ ‫‪َّ َّ -3‬‬
‫وحده ال‬
‫َ‬ ‫فإن اخلوف‬ ‫الرجاء لمَا سرَ ى أحد‪َّ ،‬‬ ‫ويبعثه عىل مالزمته‪ ،‬فلوال َّ‬
‫الرجاء‪.‬‬ ‫احلب‪ ،‬و ُيزعجه اخلوف‪ ،‬ويحَ دوه َّ‬ ‫حيركه ُّ‬‫حير ُك العبد‪ ،‬وإ َّنام ِّ‬
‫ِّ‬
‫اشتد‬
‫َّ‬ ‫الرجاء يطرحه عىل عتبة املح َّبة‪ ،‬ويلقيه يف ِدهليزها‪ ،‬فإ َّنه ك َّلام‬ ‫‪َّ -4‬‬
‫أن َّ‬
‫ورضا عنه‪.‬‬ ‫وشكرا له‪ً ،‬‬ ‫ً‬ ‫وحصل له ما يرجوه ازداد ح ًّبا هلل تعاىل‪،‬‬
‫َ‬ ‫رجاؤه‬

‫((( أخرجه الرتمذي (‪ ،)3373‬وابن ماجه (‪ ،)3827‬وصححه األلباين يف «صحيح اجلامع» (‪.)2418‬‬

‫‪131‬‬
‫الشكر‪ ،‬ا َّلذي هو خالصة‬
‫‪ -5‬أ َّنه يبعثه عىل أعىل املقامات‪ ،‬وهو مقام ُّ‬
‫جوه كان ذلك أدعى لشكره‪.‬‬
‫العبود َّية‪ ،‬فإ َّنه إذا حصل له َم ْر ُّ‬
‫املزيد من معرفته بأسامئه ومعانيها‪ ،‬والتع ُّلق هبا‪َّ ،‬‬
‫فإن الرجاء‬ ‫َ‬ ‫‪ -6‬أ َّنه ُيوجب له‬
‫تع ُّل ٌق بأسامء اإلحسان‪ ،‬وتع ُّب ٌد هبا‪ ،‬ودعا ٌء هبا‪ ،‬وقد قال تعاىل‪﴿ :‬ﭳ‬
‫ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ﴾ [األعراف‪.]180 :‬‬

‫اآلخ َر‬ ‫تقدم ‪ُّ -‬‬


‫فكل واحد منهام َي ُم ُّد َ‬ ‫الرجاء ‪ -‬كام َّ‬ ‫‪َّ -7‬‬
‫أن املح َّبة ال ُّ‬
‫تنفك عن َّ‬
‫ويقويه‪.‬‬
‫ِّ‬

‫خائف‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫فكل ٍ‬
‫راج‬ ‫ِ‬
‫مستلز ٌم للخوف‪ُّ ،‬‬ ‫والرجا ُء‬
‫للرجاء‪َّ ،‬‬ ‫ِ‬
‫مستلز ٌم َّ‬ ‫‪َّ -8‬‬
‫أن اخلوف‬
‫راج‪ ،‬وألجل هذا حسن وقوع الر ِ‬
‫جاء يف موضع حيسن فيه‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫خائف‬ ‫ُّ‬
‫وكل‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وقوع اخلوف‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪ ﴿ :‬ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﴾ [نوح‪ ،]13:‬قال كثري‬
‫من املفرسين‪ :‬املعنى‪ :‬ما لكم ال ختافون هلل َع َظم ًة؟ قالوا‪َّ :‬‬
‫والرجاء بمعنى‬
‫اخلوف‪ .‬وال َّتحقيق أ َّنه ِ‬
‫مالزم له‪.‬‬

‫ألطف‬
‫َ‬ ‫أن العبد إذا تع َّلق قل ُبه برجاء ربه‪ ،‬فأعطاه ما رجاه‪ ،‬كان ذلك‬
‫‪َّ -9‬‬
‫َ‬
‫وأبلغ من حصول ما مل َي ْر ُجه‪.‬‬ ‫موق ًعا‪ ،‬وأحىل عند العبد‪،‬‬

‫مراتب عبود َّيتِه من ُّ‬


‫الذ ِّل واالنكسار‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫تكميل‬ ‫أن اهلل يريد من عباده‬ ‫‪َّ -10‬‬
‫والرضا‬ ‫والشكر‪،‬‬ ‫ِ‬
‫رب‬ ‫والص‬ ‫والرجاء‪،‬‬ ‫ِ‬
‫واخلوف‬ ‫وال َّتو ُّك ِل واالستعانة‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫مراتب‬ ‫نب وابتاله به‪ ،‬لتكميل‬ ‫الذ َ‬ ‫ِ‬
‫وغريها‪ ،‬وهلذا َق َّدر عليه َّ‬ ‫واإلنابة‬

‫‪132‬‬
‫الرجـــــــاء‬

‫عبوديات ِ‬
‫عبده إليه‪ ،‬فكذلك‬ ‫ِ‬ ‫أحب‬ ‫من‬ ‫هي‬ ‫التي‬ ‫بالتوبة‬ ‫ه‬‫عبوديتِ‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫بالرجاء واخلوف‪.‬‬
‫تكميلها َّ‬
‫الرجاء ‪-‬من االنتظار والترَّ ُّق ِ‬
‫ب وال َّتو ُّق ِع لفضل اهلل‪ -‬ما يوجب‬ ‫أن يف َّ‬ ‫‪َّ -11‬‬
‫بذكره‪ ،‬ودوام االلتفات إليه بمالحظة أسامئه وصفاته‪،‬‬ ‫تع ُّل َق القلب ِ‬
‫كل اسم وصفة‪.‬‬‫وأخذه بنصيبه من ِّ‬ ‫وتن ُّقل القلب يف رياضها األنيقة‪ْ ،‬‬

‫‪133‬‬
‫منزلـــــــة املراقبــــــة‬

‫قال اهلل تعاىل‪ ﴿ :‬ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﴾ [غافر‪.]١٩ :‬‬


‫ِ‬ ‫َّبي ﷺ ِ‬
‫له‪«:‬أن‬
‫ْ‬ ‫اإلحسان؟ فقال‬ ‫عن‬ ‫جربيل ‪ :‬أنه َس َأل الن َّ‬ ‫َ‬ ‫ويف حديث‬
‫فإن مل ْ َت ُك ْن َترا ُه فإ َّن ُه َي َ‬
‫راك»(((‪.‬‬ ‫َتع ُب َد اهلل كأ َّن َ‬
‫ك َترا ُه‪ْ ،‬‬
‫احلق عىل ظاهره وباطنِه‪،‬‬ ‫املراقبة‪ :‬دوام ِعلم العبد‪ ،‬وتي ُّقنِه با ِّطالع ِّ‬
‫واليقني هي املراقبة‪ ،‬وهي ثمرة ِعلمه َّ‬
‫بأن اهلل سبحانه‬ ‫ِ‬ ‫فاستدام ُته هلذا العلم‬
‫كل وقت َّ‬
‫وكل‬ ‫سامع لقوله‪ ،‬وهو م َّط ِلع عىل عمله َّ‬
‫ٌ‬ ‫ناظر إليه‪،‬‬
‫رقيب عليه‪ٌ ،‬‬
‫رفة عني‪ ،‬والغافل عن هذا بمعزل عن حال أهل‬ ‫وكل َط ِ‬
‫وكل ن َفس َّ‬‫حلظة‪َّ ،‬‬
‫البدايات‪ ،‬فكيف بحال املريدين؟ فكيف بحال العارفني؟‬
‫وتعظيم ما ع َّظم‬
‫ُ‬ ‫وقال ذو النُّون ‪« :‬عالمة املراقبة‪ُ :‬‬
‫إيثار ما أنزل اهلل‪،‬‬
‫وتصغري ما ص َّغر اهللُ»‪.‬‬
‫ُ‬ ‫اهللُ‪،‬‬
‫جلس َت‬‫ْ‬ ‫سابوري ‪-‬رمحهام اهلل‪« :-‬إذا‬‫ِّ‬ ‫َ‬
‫عثامن النَّ ْي‬ ‫وقال أبو حفص أليب‬
‫َّاس فكن واع ًظا لقلبك ون ْف ِسك‪ ،‬وال َي ُغ َّر َّنك اجتام ُعهم عليك‪ ،‬فإنهَّ م‬
‫للن ِ‬
‫ظاهرك‪ ،‬واهلل يراقب باطنك»‪.‬‬
‫َ‬ ‫يراقبون‬
‫سبب حلفظه يف‬
‫ٌ‬ ‫ريق مجُ ِمعون عىل َّ‬
‫أن مراقبة اهلل يف اخلواطر‪:‬‬ ‫وأرباب ال َّط ِ‬

‫((( أخرجه البخاري (‪ ،)50‬ومسلم (‪.)9‬‬

‫‪134‬‬
‫المراقبـــــة‬

‫رسه وعالنيته‪.‬‬
‫رسه‪ :‬حفظه اهلل يف حركاته يف ِّ‬ ‫حركات ال َّظواهر‪َ ،‬‬
‫فمن راقب اهلل يف ِّ‬
‫(الرقيب)‪( ،‬احلفيظ)‪( ،‬العليم)‪( ،‬السميع)‪،‬‬ ‫واملراقبة‪ :‬هي ال َّتع ُّبد باسمه َّ‬
‫فمن َع َقل هذه األسامء‪ ،‬وتع َّب َد بمقتضاها‪ :‬حص َل ْت له املراقبة‪.‬‬ ‫(البصري)‪َ ،‬‬

‫‪135‬‬
‫منزلـــــــة الإخــــال�ص‬

‫قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﴾ [البينة‪ ،]٥ :‬وقال لنبيه‬


‫ﷺ‪﴿ :‬ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ‬
‫ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﴾ [األنعام‪ .]163 - 162 :‬وقال‪ ﴿ :‬ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ‬
‫ﭠ ﭡ ﭢ﴾ [امللك‪.]2 :‬‬
‫عيل‪،‬‬ ‫أبا‬ ‫يا‬ ‫قالوا‪:‬‬ ‫وأصوبه‪،‬‬ ‫ه‬‫أخلص‬ ‫«هو‬ ‫‪:‬‬ ‫اض‬ ‫ي‬ ‫قال ال ُف َضيل بن ِ‬
‫ع‬
‫ٍّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫خالصا‪ ،‬ومل يك ْن صوا ًبا؛ مل ْ‬
‫ً‬ ‫أخلصه وأصو ُبه؟ فقال‪َّ :‬‬
‫إن العمل إذا كان‬ ‫ُ‬ ‫ما‬
‫خالصا صوا ًبا‪،‬‬‫ً‬ ‫َ‬
‫يكون‬ ‫خالصا‪ :‬مل ُيقبل؛ حتى‬
‫ً‬ ‫ُيق َبل‪ ،‬وإذا كان صوا ًبا ومل يكن‬
‫السنَّة‪ ،‬ثم قرأ قوله تعـاىل‪:‬‬ ‫والصواب أن يكون عىل ُّ‬‫واخلالص‪ :‬أن يكون هلل‪َّ ،‬‬
‫﴿ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ‬
‫ﰗ﴾ [الكهف‪.»]110 :‬‬
‫وقال تعاىل‪﴿ :‬ﮐ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ﴾ [النساء‪،]125 :‬‬
‫واإلحسان فيه‪ :‬متابع ُة‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫القصد والعمل له‪،‬‬ ‫إخالص‬ ‫ِ‬
‫الوجه هلل تعاىل‪:‬‬ ‫فإسالم‬
‫ُ‬
‫وسنَّتِه‪.‬‬
‫رسوله ﷺ ُ‬
‫عم َل َع َملاً‬ ‫ك لن تخُ َ َّل َ‬
‫ف ف َت َ‬ ‫النبي ﷺ لسعد بن أيب و َّقاص ‪« :‬إ َّن َ‬ ‫ُّ‬ ‫وقال‬
‫َتب َتغي ِبه َو ْج َه اهلل تعاىل إلاَّ از َد ْد َت ِبه َخ ًريا‪ ،‬و َد َرج ًة َو ِر ْفع ًة»(((‪.‬‬

‫((( أخرجه البخاري (‪ ،)1295‬ومسلم (‪.)1628‬‬

‫‪136‬‬
‫اإلخــــــالص‬

‫قار ُئ ال ُق ِ‬
‫رآن‪ ،‬وا ُمل ِ‬
‫جاه ُد‪ ،‬وا ُمل َت َص ِّد ُق‬ ‫وأخ عن أو ِل ٍ‬
‫ثالثة ُت َس َّع ُر هبِ ُم النَّ ُار‪ِ :‬‬ ‫َّ‬ ‫برَ َ‬
‫ومل‬ ‫‪،‬‬‫ق‬ ‫ٌ‬ ‫د‬‫ِّ‬ ‫تص‬ ‫م‬ ‫ٌ‬
‫الن‬ ‫ُ‬
‫ف‬ ‫‪،‬‬‫جاع‬ ‫ش‬‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫الن‬ ‫ُ‬
‫ف‬ ‫‪،‬‬‫ئ‬‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫قار‬ ‫ٌ‬
‫الن‬ ‫ُ‬
‫ف‬ ‫‪:‬‬ ‫قال‬‫َ‬ ‫ي‬ ‫ذلك لِ‬
‫َ‬ ‫وا‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫ع‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ن‬‫ي‬ ‫ذ‬‫باملِه‪ ،‬ا َّل ِ‬
‫ْ‬ ‫ُ َ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬
‫تك ْن أعاملهُ ُم خالِص ًة هلل(((‪.‬‬
‫كاء ِ‬‫ِ‬
‫عن‬ ‫اإلهلي يقول اهلل تعاىل‪« :‬أنا أ ْغنى الشرُّ َ‬ ‫ِّ‬ ‫الصحيح‬ ‫ويف احلديث َّ‬
‫أرش َك ِبه‪ ،‬وأنا ِمن ُه‬
‫َ‬ ‫ذي‬ ‫َّ‬
‫ل‬ ‫فيه َغ ِ ي فهو لِ‬
‫يرْ‬
‫الشرِّ ِك‪ ،‬من ع ِم َل عملاً أرش َك ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬
‫أجسام ُكم‪ ،‬وال إىل‬ ‫ِ‬ ‫«إن اهلل ال َين ُظ ُر إىل‬ ‫ريء»‬
‫الصحيح عنه ﷺ‪َّ :‬‬ ‫َّ‬ ‫ويف‬ ‫‪،‬‬ ‫َب ٌ‬
‫(((‬

‫ُص َو ِركُم‪ ،‬ولكِ ْن َين ُظ ُر إىل ُق ُلوبِ ُكم»(((‪.‬‬


‫وقال تعاىل‪﴿ :‬ﯥﯦ ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ﴾ [احلج‪.]٣٧ :‬‬

‫والقصد واحد‪.‬‬
‫ُ‬ ‫تنوعت عبارهتم يف اإلخالص‪،‬‬
‫وقد َّ‬
‫احلق سبحانه بالقصد يف الطاعة‪.‬‬
‫فقيل‪ :‬هو إفراد ِّ‬
‫دق‪ :‬ال َّتن ِّقي‬
‫والص ُ‬ ‫ِّ‬ ‫وقيل‪ :‬التو ِّقي من مالحظة اخلَ ْلق حتى عن ن ْفسك‪،‬‬
‫يتم‬
‫ادق ال إعجاب له‪ ،‬وال ُّ‬ ‫والص ُ‬
‫من مطالعة النَّ ْفس‪ ،‬فاملخلص ال ريا َء له‪َّ ،‬‬
‫بالصرب‪.‬‬ ‫لاَّ‬‫إ‬ ‫دق إلاَّ باإلخالص‪ ،‬وال يتِ ِ‬
‫ن‬ ‫الص ُ‬ ‫اإلخالص إلاَّ‬
‫َّ‬ ‫َ ماَّ‬ ‫بالصدق‪ ،‬وال ِّ‬
‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫وقيل‪ :‬اإلخالص‪ :‬نِ ُ‬
‫سيان ُرؤية اخلَ ْلق بدوام النظر إىل اخلالق‪ ،‬و َمن َتز َّي َن‬
‫للناس بام ليس فيه س َق َط من َع ِ‬
‫ني اهلل‪.‬‬
‫((( أخرجه مسلم (‪.)1905‬‬
‫((( أخرجه مسلم (‪ )2985‬بنحوه‪.‬‬
‫((( أخرجه مسلم (‪.)2564‬‬

‫‪137‬‬
‫أج ِل الناس رياء‪ ،‬والعمل ِمن‬
‫ْ‬ ‫ن‬‫م‬‫‪« :‬تر ُك العمل ِ‬
‫ْ‬ ‫ومن كالم ال ُف َضيل‬
‫أج ِل الناس شرِ ْ ك‪ ،‬واإلخالص أن يعافيك اهلل منهام»‪.‬‬
‫ْ‬

‫آفات تعرض للعبد يف عمله‪:‬‬


‫ثالث آفات‪ :‬رؤيته ومالحظ ُته‪ ،‬وطلب ِ‬
‫العوض‬ ‫ُ‬ ‫يعرض للعامل يف عمله‬
‫عليه‪ ،‬ورضاه به وسكو ُنه إليه‪.‬‬

‫عمله‪ :‬مشاهد ُته لمِِنَّة اهلل عليه‪ْ ،‬‬


‫وفض ِله وتوفيقه له‪،‬‬ ‫فالذي يخُ ِّلصه من رؤية ِ‬
‫وأ َّنه باهلل ال بن ْفسه‪ ،‬وأ َّنه إ َّنام أوجب عم َله مشيئ ُة اهلل ال مشيئ ُته هو‪ ،‬كام قال‬
‫تعاىل‪﴿ :‬ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ﴾ [التكوير‪ ،]29 :‬وأ َّنه لو ُخليِّ ون ْف َسه‬
‫فإن النَّ ْفس جاهل ٌة ظاملة‪ ،‬طب ُعها الكسل‪،‬‬ ‫الح يش ٌء الب َّت َة‪َّ ،‬‬
‫الص ِ‬ ‫ه‬ ‫مل يكن ِمن ِ‬
‫فعل‬
‫َّ‬
‫رش‪ ،‬ومأوى ِّ‬
‫كل سوء‪ ،‬وما كان‬ ‫وإيثار الشهوات والبطالة‪ ،‬وهي منبع ِّ‬
‫كل ٍّ‬ ‫ُ‬
‫صد ْر منه خري‪ ،‬وال هو من شأنه‪.‬‬
‫هكذا مل َي ُ‬

‫فاخلري ا َّلذي َي ُ‬
‫صد ُر منها إ َّنام هو من اهلل تعاىل وبه‪ ،‬ال من العبد‪ ،‬وال به‪،‬‬
‫كام قال تعاىل‪﴿ :‬ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ‬
‫ﭱ ﭲ﴾ [النور‪ ،]21 :‬وقال أهل اجلنَّة‪﴿ :‬ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ‬
‫ومنَّتِه‪،‬‬
‫فضل اهلل ِ‬
‫ِ‬ ‫جمرد‬ ‫ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ﴾ [األعراف‪ُّ ،]43 :‬‬
‫فكل خري يف العبد فهو َّ‬
‫وإحسانِه ونعمته‪ ،‬وهو املحمود عليه‪.‬‬
‫ِ‬
‫وبرصه‪،‬‬ ‫فرؤية العبد ألعامله يف احلقيقة‪ ،‬كرؤيته لصفاته اخل ْلقية ِمن ِ‬
‫سمعه‬ ‫َّ‬

‫‪138‬‬
‫اإلخــــــالص‬

‫جمر ُد‬ ‫ُّ‬


‫فالكل‬ ‫ذلك‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ونحو‬ ‫أعضائه‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وسالمة‬ ‫ه‪،‬‬‫وإدراكه وقوتِه‪ ،‬بل من صحتِ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫عطاء اهلل ونعمتِه وفضله‪.‬‬
‫العبد من هذه ِ‬
‫اآلفة‪ :‬معرف ُة ر ِّبه‪ ،‬ومعرف ُة ن ْف ِسه‪.‬‬ ‫فالذي خُي ِّلص َ‬
‫عبد حمض‪،‬‬ ‫الع َوض عىل العمل‪ِ :‬ع ْل ُمه بأ َّنه ٌ‬ ‫طلب ِ‬
‫ِ‬ ‫والذي خي ِّل ُصه ِمن‬
‫وضا وال أجرة؛ إذ هو خيد ُمه بمقتىض‬ ‫يستح ُّق عىل خدمته لس ِّيده ِع ً‬
‫ِ‬ ‫والعبد ال‬
‫تفض ٌل منه‪ ،‬وإحسان إليه‪،‬‬ ‫واب ُّ‬ ‫عبود َّيتِه‪ ،‬فام يناله من س ِّيده من األجر وال َّث ِ‬
‫عبد الغري‪ ،‬فأ َّما‬
‫حل ُّر‪ ،‬أو ُ‬ ‫ا‬ ‫ها‬ ‫ُّ‬
‫ق‬ ‫يستح‬ ‫إنام‬ ‫األجرة‬ ‫وإنعام عليه‪ ،‬ال معاوضة؛ ِ‬
‫إذ‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫عبده ن ْف ِ‬
‫سه فال‪.‬‬
‫والذي خي ِّلصه من رضاه بعمله وسكونِه إليه ْأمران‪ :‬أحدمها‪ :‬مطالعة‬
‫ِ‬
‫ونصيب الشيطان‪ ،‬ف َق َّل‬ ‫ِ‬
‫وتقصريه فيه‪ ،‬وما فيه من ِّ‬
‫حظ النَّ ْفس‪،‬‬ ‫عيوبِه وآفاته‪،‬‬
‫عمل من األعامل إلاَّ وللشيطان فيه نصيب‪ ،‬وإن َّ‬
‫قل‪ ،‬وللنفس فيه ٌّ‬
‫حظ‪.‬‬ ‫ٌ‬

‫الس خَي َتلِ ُسه‬


‫ٌ‬
‫فات الرج ِل يف صالتِه؟ فقال‪« :‬هو اختِ‬
‫َ‬ ‫َّ ُ‬
‫عن التِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ﷺ‬ ‫َّبي‬
‫ُّ‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫سِ‬
‫ئ‬ ‫ُ‬
‫يطان ِمن ص ِ‬
‫الة ال َعبدِ»(((‪.‬‬ ‫الش ُ‬ ‫َّ‬
‫َ‬
‫التفات قلبه إىل ما سوى اهلل؟‬
‫ُ‬ ‫التفات َط ْرفِه أو لحَ ْظِه؛ فكيف‬
‫ُ‬ ‫فإذا كان هذا‬
‫نصيب الشيطان من العبودية‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫هذا أعظم‬
‫من حقوق العبود َّية‪ ،‬وآدابهِ ا الظاهرة‬ ‫الرب‬ ‫لمه بام يستح ُّقه‬ ‫ِ‬
‫ُّ‬ ‫الثاين‪ :‬ع ُ‬

‫((( أخرجه البخاري (‪.)751‬‬

‫‪139‬‬
‫أضعف وأعجز ُّ‬
‫وأقل من أن يو ِّف َيها ح َّقها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫والباطنة‪ ،‬ورشوطها‪ ،‬وأن العبد‬
‫وأن يرىض هبا لربه‪ ،‬فالعارف ال يرىض بيشء من عمله لر ِّبه‪ ،‬وال يرىض ن ْف َسه‬
‫هلل تعاىل طرف َة عني‪ ،‬ويستحيي من مقابلة اهلل بعمله‪.‬‬
‫غضه هلا‪ ،‬وكراهته ألنفاسه وصعودها إىل اهلل‪:‬‬ ‫ِ‬
‫وعمله‪ ،‬و ُب ُ‬ ‫فسوء ظنِّه بنفسه‬
‫والرضا عن نفسه‪.‬‬
‫الرضا بعمله‪ِّ ،‬‬ ‫حيول بينه وبني ِّ‬

‫‪140‬‬
‫االســــتقامة‬

‫منزلـــــــة اال�ســــتقامة‬

‫قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ‬


‫ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ﴾ [فصلت‪.]30 :‬‬
‫الصديق عن االستقامة؟‬‫ُ‬ ‫وأعظمها استقام ًة أبو بكر‬ ‫ة‬ ‫م‬ ‫األ‬ ‫يق‬ ‫د‬
‫ِّ‬ ‫س ِئل ِ‬
‫ص‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫َ‬
‫ترشك باهلل شي ًئا» يريد‪ :‬االستقام َة عىل حمض ال َّتوحيد‪.‬‬ ‫فقال‪« :‬أن ال‬
‫وقال ُعمر بن اخل َّطاب ‪« :‬االستقامة‪ :‬أن تستقيم عىل األمر والنَّهي‪ ،‬وال‬
‫غان ال َّثعالب»‪.‬‬
‫َترو َغ َر َو َ‬
‫يقول‪« :‬استقاموا عىل حم َّبته وعبوديته‪،‬‬ ‫وسمعت شيخ اإلسالم اب َن َتيم َّية‬ ‫ُ‬
‫فلم يلتفتوا عنه َي ْمن ًة وال َيسرْ ًة»‪.‬‬
‫َ‬
‫رسول اهلل‪ُ ،‬ق ْل‬ ‫بن عبد اهلل قال‪ :‬قلت‪ :‬يا‬ ‫سفيان ِ‬
‫َ‬ ‫ويف صحيح مسلم عن‬
‫ت باهلل‪ُ ،‬ث َّم‬ ‫أح ًدا َغ َري َك‪ ،‬قال‪ُ « :‬ق ْل‪َ :‬آمنْ ُ‬ ‫ول ال ُ‬
‫أسأل عنه َ‬ ‫يل يف اإلسال ِم َق اً‬
‫اس َت ِق ْم»(((‪.‬‬
‫أن َخ َري‬‫يموا ولن حُ ْت ُصوا‪ ،‬واع َل ُموا َّ‬ ‫ق‬‫وبان عن النبي ﷺ قال‪« :‬اس َت ِ‬ ‫وعن َث َ‬
‫ُ‬
‫مؤ ِم ٌن»(((‪.‬‬ ‫أعاملِ ُكم الصالةُ‪ ،‬وال حُيافِ ُظ عىل الو ُض ِ‬
‫وء إلاَّ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َّ‬
‫فاملقاربة‪،‬‬ ‫عليها‬ ‫ر‬ ‫واملطلوب من العبد االستقامة‪ ،‬وهي السداد‪ ،‬فإن مل ي ْق ِ‬
‫د‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫النبي ﷺ‪:‬‬ ‫فريط واإلضاعة‪ ،‬كام يف حديث أيب هرير َة عن ِّ‬ ‫فإن نزل عنها فال َّت ُ‬ ‫ْ‬

‫((( أخرجه مسلم (‪.)38‬‬


‫((( أخرجه ابن ماجه (‪ ،)277‬وصححه األلباين يف «السلسلة الصحيحة» (‪.)115‬‬

‫‪141‬‬
‫أح ٌد ِمن ُكم ب َع َملِه»‪ ،‬قالوا‪ :‬وال َ‬
‫أنت يا‬ ‫نج َو َ‬ ‫«س ِّد ُدوا ِ‬
‫وقار ُبوا‪ ،‬واع َل ُموا أ َّنه لن َي ُ‬ ‫َ‬
‫محة ِمن ُه و َف ْض ٍل»(((‪.‬‬
‫رسول اهلل؟ قال‪« :‬وال أنا‪ ،‬إلاَّ أن ي َت َغم َدين اهلل بر ٍ‬
‫َ‬ ‫َ َّ‬ ‫َ‬
‫السداد‬ ‫وهي‬ ‫باالستقامة‪،‬‬ ‫فأمر‬ ‫ها‪،‬‬‫ل‬‫َّ‬ ‫ك‬ ‫ين‬ ‫الد‬
‫ِّ‬ ‫ِ‬
‫مقامات‬ ‫فجمع يف هذا احلديث‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫واألقوال واألعامل‪.‬‬ ‫واإلصابة يف النِّ َّيات‬
‫وبان أهنم ال ُيطيقوهنا‪ ،‬فن َق َلهم إىل املقاربة‪ ،‬وهي‪ :‬أن‬
‫وأخرب يف حديث َث َ‬
‫فإن مل ُي ِص ْبه‬
‫بحسب طاقتهم‪ ،‬كالذي َيرمي إىل الغرض‪ْ ،‬‬ ‫يقربوا من االستقامة َ‬
‫ِ‬
‫يقاربه‪ ،‬ومع هذا فأخربهم‪َّ :‬‬
‫أن االستقامة واملقارب َة ال ُتنجي يوم القيامة‪ ،‬فال‬
‫أحد إىل عمله‪ ،‬وال يعجب به‪ ،‬وال يرى َّ‬
‫أن نجاته به‪ ،‬بل إ َّنام نجا ُته‬ ‫َيرك ْن ٌ‬
‫ِ‬
‫وعفوه وفضله‪.‬‬ ‫برمحة اهلل‬
‫الدين‪ ،‬وهي القيام بني يدي اهلل‬ ‫فاالستقامة كلمة جامعة‪ِ ،‬‬
‫آخذ ٌة بمجام ِع ِّ‬
‫الصدق‪ ،‬والوفاء بالعهد‪.‬‬
‫عىل حقيقة ِّ‬
‫واالستقامة تتع َّلق باألقوال‪ ،‬واألفعال‪ ،‬واألحوال‪ ،‬والنِّ َّيات‪ ،‬فاالستقامة‬
‫فيها‪ :‬وقو ُعها هلل‪ ،‬وباهلل‪ ،‬وعىل أمر اهلل‪.‬‬
‫طالب الكرامة‪َّ ،‬‬
‫فإن‬ ‫َ‬ ‫صاحب االستقامة‪ ،‬ال‬
‫َ‬ ‫قال بعض العارفني‪« :‬كن‬
‫متحرك ٌة يف طلب الكرامة‪ ،‬ور ُّبك يطالِ ُبك باالستقامة»‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ن ْف َسك‬
‫عت شيخ اإلسالم ابن تيم َّي َة يقول ‪« :‬أع َظ ُم الكرامة‪ :‬لزوم‬ ‫ِ‬
‫وسم ُ‬
‫االستقامة»‪.‬‬

‫((( أخرجه البخاري (‪ ،)5673‬ومسلم (‪ )2816‬واللفظ له‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫االســــتقامة‬

‫أصالن لالستقامة‪:‬‬

‫والسلف َي ْذكرون [أصلني لالستقامة] ومها‪ :‬االقتصاد يف األعامل‪،‬‬ ‫َّ‬


‫قلب العبد وخيتبرِ ُ ه‪ ،‬فإن رأى فيه داعي ًة‬ ‫بالسنَّة‪َّ ،‬‬
‫فإن الشيطان َي َش ُّم َ‬ ‫واالعتصا ُم ُّ‬
‫للسنة‪ :‬أخرجه عن االعتصام هبا‪.‬‬ ‫وإعراضا عن كامل االنقياد ُّ‬
‫ً‬ ‫للبدعة‪،‬‬
‫يظفر به من باب اقتِطاعه‬ ‫ْ‬ ‫مل‬ ‫هلا‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫طلب‬ ‫ة‬‫َ‬ ‫د‬
‫َّ‬ ‫وإن رأى فيه ِحرصا عليها‪ِ ،‬‬
‫وش‬ ‫ً‬ ‫ْ‬
‫حد االقتصاد فيها‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وجماوزة ِّ‬ ‫جلور عىل النَّ ْفس‪،‬‬ ‫عنها‪ ،‬فأمره باالجتهاد‪ ،‬وا َ‬
‫إن هذا خري وطاعة‪ ،‬والزيادة واالجتهاد فيها أوىل‪ ،‬فال تفرت مع‬ ‫قائل له‪َّ :‬‬
‫اً‬
‫أهل الفتور‪ ،‬وال َتن َْم مع أهل النوم‪ ،‬فال يزال يحَ ُ ُّثه ويحُ ِّرضه‪ ،‬حتى يخُ ِر َجه عن‬
‫االقتصاد فيها‪.‬‬
‫قال بعض السلف‪« :‬ما أ َمر اهلل بأمر إلاَّ وللشيطان فيه نزعتان‪ ،‬إ َّما إىل‬
‫تفريط‪ ،‬وإما إىل جماوزة ‪-‬وهي اإلفراط‪ -‬وال يبايل بأيام ِ‬
‫ظفر»‪.‬‬ ‫هِّ‬ ‫َّ‬
‫رسول اهللِ ﷺ لعبد اهلل بن َعمرو بن العاص ‪« :‬يا َع ْب َد اهلل َ‬
‫بن‬ ‫ُ‬ ‫وقال‬
‫ت َفترْ َ ُته إىل ُسنَّ ٍة أف َل َح‪،‬‬
‫فم ْن كا َن ْ‬ ‫ً‪،‬‬‫ة‬ ‫ترْ‬‫ف‬‫َ‬ ‫عام ٍل شةً‪ ،‬ول ُك ِّل ش ٍ‬
‫ة‬ ‫إن ل ُك ِّل ِ‬ ‫مرو‪َّ ،‬‬‫َع ٍ‬
‫َ‬ ‫رَِّ‬ ‫رَِّ‬
‫وخ رِ‬ ‫ت َفترْ ُته إىل بِ ْد ٍ‬
‫س»(((‪ ،‬قال له ذلك حني أمره باالقتصاد‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫خاب‬
‫َ‬ ‫عة‬ ‫ومن كا َن ْ َ‬ ‫َ‬
‫يف العمل‪.‬‬
‫وإخالص مقرون باال ِّتباع‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫اجتهاد باقتصاد‪،‬‬ ‫فكل اخلري يف‬ ‫ُّ‬

‫وصححه األلباين يف «صحيح اجلامع الصغري» (‪.)2152‬‬


‫َّ‬ ‫((( أخرجه أمحد (‪، )6764‬‬

‫‪143‬‬
‫منزلــــــــة التوكُّ ـــــــل‬

‫قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ﴾ [املائدة‪ ،]23 :‬وقال عن‬


‫أصحاب نبيه‪ ﴿ :‬ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ‬
‫ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ﴾ [آل عمران‪.]173 :‬‬
‫بعني أ ْل ًفا الذين يدخلون اجلنة بغري‬ ‫الس َ‬ ‫الصحيحني ‪-‬يف حديث َّ‬ ‫ويف َّ‬
‫ون‪ ،‬وال َي ْك َت ُو َ‬
‫ون‪ ،‬وعىل َربهِّ ِم‬ ‫ون‪ ،‬وال َي َتطيرَّ ُ َ‬ ‫«ه ُم ا َّل ِذ َ‬
‫ين ال َيسترَ ُق َ‬ ‫حساب‪ُ :-‬‬
‫وك ُل َ‬
‫ون»(((‪.‬‬ ‫َي َت َّ‬
‫لك أس َل ْم ُت‪،‬‬ ‫«اللهم َ‬
‫َّ‬ ‫الصحيحني‪ :‬أنَّ رسول اهلل ﷺ كان يقول‪:‬‬ ‫ويف َّ‬
‫اللهم إنيِّ‬
‫َّ‬ ‫خاص ْم ُت‪،‬‬
‫َ‬ ‫وإليك أ َن ْب ُت‪َ ،‬‬
‫وبك‬ ‫َ‬ ‫َوك ْل ُت‪،‬‬ ‫َ‬
‫وعليك ت َّ‬ ‫َ‬
‫وبك آ َم ْن ُت‪،‬‬
‫جل ُّن‬ ‫وت‪ ،‬وا ِ‬ ‫أنت ا َ‬
‫حل ُّي ا َّلذي ال َي ُم ُ‬ ‫أنت‪ :‬أن ت ِ‬
‫ُض َّلني‪َ ،‬‬ ‫بع َّزتِ َك‪ ،‬ال إل َه إلاَّ َ‬
‫وذ ِ‬
‫أع ُ‬
‫ُ‬
‫ُون»(((‪.‬‬
‫واإلنس َي ُموت َ‬
‫ُ‬
‫َوك ِله‪،‬‬
‫ون عىل اهلل َح َّق ت ُّ‬ ‫مرفوعا‪« :‬لو أن َُّكم َت َت َّ‬
‫وك ُل َ‬ ‫ً‬ ‫ويف الترِّ مذي عن ُع َ‬
‫مر‬
‫وح بِطا ًنا»(((‪.‬‬
‫اصا وت َُر ُ‬ ‫ري‪ ،‬ت َْغدُ و مِخ ً‬ ‫َل َرزَ ُ‬
‫قكم كام َيرزُ ُق َّ‬
‫الط َ‬
‫قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪َ « :‬من قال ‪-‬يعني إذا‬ ‫السنن عن أنس‬
‫ويف ُّ‬

‫((( أخرجه البخاري (‪ )5705‬واللفظ له‪ ،‬ومسلم (‪.)220‬‬


‫((( أخرجه البخاري (‪ ،)7385،7383‬ومسلم (‪ )2717‬واللفظ له‪.‬‬
‫(((أخرجه الرتمذي (‪ ،)2344‬وابن ماجه (‪ ،)4164‬وصححه األلباين يف «السلسلة الصحيحة»‬
‫(‪.)310‬‬

‫‪144‬‬
‫التوكـــــل‬

‫َوك ْل ُت عىل اهلل‪ ،‬وال َح ْو َل وال ُق َّو َة إلاَّ باهلل؛ ُي ُ‬


‫قال‬ ‫َخ َر َج ِمن َبيتِه‪ -‬بِ ِ‬
‫اسم اهلل‪ ،‬ت َّ‬
‫كيف َ‬
‫لك بِ َر ُج ٍل‬ ‫آخ َر‪َ :‬‬ ‫يطان لِ َش ٍ‬
‫يطان َ‬ ‫الش ُ‬ ‫يت‪َ ،‬في ُ‬
‫قول َّ‬ ‫يت َو ُو ِق َ‬
‫وك ِف َ‬
‫يت ُ‬‫ل ُه‪ُ :‬ه ِد َ‬
‫وو ِقيَ؟»(((‪.‬‬‫وك ِف َي ُ‬
‫قد ُه ِد َي ُ‬
‫ٌ‬
‫استعانة وعبادة‪،‬‬ ‫صف الدِّ ين‪ ،‬ونِ ُ‬
‫صفه الثاين اإلنابة؛ فإنَّ ِّ‬
‫الدين‬ ‫وكل نِ ُ‬
‫ال َّت ُّ‬
‫وك ُل هو االستعانة‪ ،‬واإلنابة هي العبادة‪.‬‬
‫فال َّت ُّ‬
‫لسعة متع َّل ِق‬ ‫وأمجعها‪ ،‬وال تزال معمور ًة بالنازلني‪َ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫ومنزلته أوسع املنازل‬
‫املؤمنني‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫ووقوعه من‬ ‫وكثرة حوائج العالمَ ني‪ ،‬وعمو ِم ال َّت ُّ‬
‫وك ِل‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وكل‪،‬‬ ‫ال َّت ُّ‬
‫فأهل السموات‬ ‫ُ‬ ‫ري والوحش والبهائم‪،‬‬ ‫والفجار‪َّ ،‬‬
‫والط ِ‬ ‫َّ‬ ‫والك َّفار‪ ،‬واألبرار‬
‫توك ِلهم‪.‬‬‫متعلق ُّ‬
‫ُ‬ ‫وكل‪ ،‬وإنْ تبا َي َن‬ ‫واألرض ‪-‬املك َّلفون وغريهم‪ -‬يف مقام ال َّت ُّ‬
‫لون عليه يف حصول ما يرضيه منهم‪ ،‬ويف إقامته‬ ‫وخاص ُته ِّ‬
‫متوك َ‬ ‫َّ‬ ‫فأولياؤه‬
‫ِ‬
‫وإعالء كلامته‪ ،‬وجهاد‬ ‫فيتوكلون عليه يف اإليامن‪ ،‬ون ِ‬
‫ُرصة دينه‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫يف اخل ْلق‪،‬‬
‫ِ‬
‫وتنفيذ أوامره‪.‬‬ ‫أعدائه‪ ،‬ويف حما ِّبه‬
‫وح ْف ِظ حالِه مع اهلل‪،‬‬
‫يتوكل عليه يف استقامته يف ن ْف ِسه‪ِ ،‬‬
‫ودون هؤالء َمن َّ‬
‫ً‬
‫فارغا من الناس‪.‬‬
‫يتوك ُل عليه يف معلو ٍم ينا ُله منه‪ِ ،‬من رزق‪ ،‬أو عافية‪ ،‬أو‬
‫ودون هؤالء َمن َّ‬
‫زوجة أو ولد‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫عدو‪ ،‬أو‬ ‫ٍ‬
‫نرص عىل ٍّ‬
‫حيبه ويرضاه من ُّ‬
‫الظلم‬ ‫ودون هؤالء َمن َّ‬
‫يتوكل عليه يف حصول ما ال ُّ‬
‫((( أخرجه أبو داود (‪ ،)5090‬والرتمذي (‪ ،)3426‬وصححه األلباين يف «صحيح اجلامع» (‪.)499‬‬

‫‪145‬‬
‫ِ‬
‫املطالب ال ينالوهنا‬ ‫وحصول اإلثم والفواحش‪ ،‬فإنَّ أصحاب هذه‬ ‫ِ‬ ‫والع ِ‬
‫دوان‬ ‫ُ‬
‫وتوك ِلهم عليه‪ ،‬بل قد يكون ُّ‬
‫توك ُلهم أقوى من‬ ‫ُّ‬ ‫غالبا إلاَّ باستعانتهم باهلل‪،‬‬
‫ً‬
‫ري من أصحاب الطاعات‪ ،‬وهلذا ُيلقون أنفسهم يف املتالف واملهالك‪،‬‬ ‫توكل كث ٍ‬ ‫ُّ‬
‫يس ِّلمهم‪ ،‬و ُي َظ ِّف َرهم بمطالبهم‪.‬‬
‫معتمدين عىل اهلل أن َ‬
‫وواجب اخل ْلق‪،‬‬
‫َ‬ ‫احلق‪،‬‬
‫واجب ِّ‬ ‫َ‬ ‫التوكل يف الواجب أعني‪:‬‬ ‫فأفضل ال َّت ُّ‬
‫وكل‪ُّ :‬‬
‫ٍ‬
‫مصلحة‬ ‫وك ُل يف التأثري يف اخلارج يف‬ ‫وأنفعه ال َّت ُّ‬ ‫وواجب ال َّن ْفس‪ ،‬وأوسعه‬
‫َ‬
‫ُ‬
‫توكل األنبياء يف إقامة دين اهلل‪ ،‬ودفع‬ ‫دينية‪ ،‬وهو ُّ‬ ‫ٍ‬
‫مفسدة‬ ‫دينية‪ ،‬أو يف دفع‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ُّ‬
‫التوكل‬ ‫بعد يف‬
‫اس ُ‬ ‫ن‬
‫َّ‬ ‫ال‬ ‫ثم‬ ‫هم‪،‬‬‫توكل ورثتِ‬ ‫فساد املفسدين يف األرض‪ ،‬وهذا ُّ‬
‫ُ‬
‫متوك ٍل عىل اهلل يف حصول امللك‪ِ ،‬‬
‫ومن‬ ‫فمن ِّ‬ ‫عىل حسب همِ َ ِمهم ومقاصدهم‪ِ ،‬‬
‫َ‬
‫متوك ٍل يف حصول رغيف‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫ٍ‬
‫توك ُله عىل اهلل يف حصول يشء ناله‪ ،‬فإنْ كان حمبو ًبا له َم ْر ًّ‬
‫ضيا‬ ‫و َمن َص َدق ُّ‬
‫مبغوضا كان ما حصل له‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫مسخوطا‬ ‫ُ‬
‫العاقبة املحمودة‪ ،‬وإن كان‬ ‫كانت له فيه‬
‫ِ‬
‫مصلحة‬ ‫وك ِل دون‬ ‫ُ‬
‫مصلحة ال َّت ُّ‬ ‫حصلت له‬
‫ْ‬ ‫مباحا‬
‫مرض ًة عليه‪ ،‬وإن كان ً‬ ‫بتوكله َّ‬‫ُّ‬
‫توكل فيه‪ ،‬إن مل ي ِ‬
‫ستع ْن به عىل طاعاته‪.‬‬ ‫ما َّ‬
‫َ‬
‫‪:‬‬ ‫بن معاذ‬ ‫عم ُل القلب»‪ُ ،‬‬
‫وسئل حييى ُ‬ ‫ُّ‬
‫«التوكل َ‬ ‫قال اإلمام أمحد ‪:‬‬
‫ريض باهلل اً‬
‫وكيل»‪.‬‬ ‫اً‬
‫متوكِّل؟ فقال‪ :‬إذا َ‬ ‫الر ُ‬
‫جل‬ ‫«متى يكون َّ‬
‫كون إليه‪.‬‬ ‫ِ‬
‫مأنينة إليه‪ ،‬والس ِ‬ ‫ومنهم َمن يفسرِّ ه بالثِّقة باهلل‪ُّ ،‬‬
‫والط‬
‫ُّ‬
‫والقو ِة»‪.‬‬
‫َّ‬ ‫واالنخالع من احلول‬
‫ُ‬ ‫‪« :‬هو ُ‬
‫ترك تدبري ال َّنفس‪،‬‬ ‫قال ذو ال ُّنون‬

‫‪146‬‬
‫التوكـــــل‬

‫يصح إلاَّ مع‬


‫القيام باألسباب‪ ،‬بل ال ُّ‬
‫َ‬ ‫ُّ‬
‫التوكل ال ينايف‬ ‫وأمجع القوم عىل أنَّ‬
‫القيام هبا‪ ،‬وإلاَّ فهو بطالة ُّ‬
‫وتوك ٌل فاسد‪.‬‬
‫ُ‬
‫حقيقة‬ ‫مركبة من جمموع أمور‪ ،‬ال تَتِ ُّم‬ ‫التوكل ٌ‬
‫حال َّ‬ ‫ُّ‬ ‫وحقيقة األمر‪ :‬أن‬
‫التوكل إال هبا‪.‬‬

‫درجات التوكل ‪:‬‬

‫وم َّيتِه‪ ،‬وانتهاء‬


‫معرفة بالر ِّب وصفاتِه من ُقدرته‪ ،‬وكفايته‪ ،‬و َقي ِ‬
‫ُّ‬ ‫ٌ َّ‬ ‫فأو ُل ذلك‪:‬‬‫َّ‬
‫األمور إىل ِعلمه‪ ،‬وصدو ِرها عن مشيئته وقدرته‪ ،‬وهذه املعرفة َّأو ُل درجة‬
‫يضع هبا العبدُ قد َمه يف مقام التوكل‪.‬‬
‫ِ‬
‫األسباب‬ ‫أعظم‬
‫ِ‬ ‫واملسببات فالتوكل من‬
‫َّ‬ ‫الدرج ُة الثَّاني ُة‪ :‬إثبات األسباب‬
‫َّ‬
‫فمن أنكر األسباب مل يستقم‬ ‫حيص ُل هبا املطلوب‪ ،‬ويندفع هبا املكروه‪َ ،‬‬ ‫التي ُ‬
‫كون إىل األسباب‪ ،‬وقطع َع ِ‬
‫القة‬ ‫عدم الر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫التوكل ُ ُّ‬ ‫التوكل‪ ،‬ولكن من متام‬ ‫منه‬
‫وحال بدنِه قيا َمه هبا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫حال قلبِه قيا َمه باهلل ال هبا‪،‬‬
‫القلب هبا؛ فيكون ُ‬
‫ِ‬
‫َوحيد ال َّت ُّ‬
‫وك ِل؛ فإنَّه ال يستقيم‬ ‫لب يف َمقا ِم ت‬‫وخ ال َق ِ‬ ‫الد َرج ُة الثَّالِث ُة‪ُ :‬ر ُس ُ‬
‫َّ‬
‫توحيده؛ بل حقيقة التوكل توحيد القلب‪ ،‬فام‬ ‫ُ‬ ‫يصح له‬ ‫العبد حتى‬‫ِ‬ ‫توك ُل‬
‫ُّ‬
‫َّ‬
‫ِ‬
‫جتريد التوحيد‬ ‫معلول مدخول‪ ،‬وعىل قدر‬ ‫ٌ‬ ‫فتوك ُله‬
‫عالئق الشرِّ ك‪ُّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫دامت فيه‬
‫ْ‬
‫االلتفات‬
‫ُ‬ ‫التفت إىل غري اهلل أخذ ذلك‬‫َ‬ ‫التوكل‪ ،‬فإنَّ العبد متى‬ ‫ُّ‬ ‫صح ُة‬‫تكون َّ‬
‫الشعبة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ذهاب تلك ُّ‬ ‫توكله عىل اهلل بقدر‬ ‫ُشعب ًة ِمن ُش َعب قلبِه‪ ،‬فنقص ِمن ُّ‬
‫حق‪،‬‬ ‫يصح إلاَّ برفض األسباب‪ ،‬وهذا ٌّ‬ ‫التوك َل ال ُّ‬
‫ُّ‬ ‫ومن هاهنا َظ َّن َمن َظ َّن أنَّ‬

‫‪147‬‬
‫فالتوكل ال َيتِ ُّم إال برفض األسباب‬
‫ُ‬ ‫لكن رفضها عن القلب ال عن اجلوارح‪،‬‬
‫منقطعا منها م َّت ِص اًل هبا‪.‬‬
‫ً‬ ‫عن القلب‪ ،‬وتع ُّل ِق اجلوارح هبا‪ ،‬فيكون‬
‫إليه‪ ،‬وس ُكونُه ِ‬
‫ناده ِ‬‫لب عىل اهللِ‪ ،‬واستِ ُ‬ ‫الرابِع ُة‪ :‬اعتِ ُ‬
‫امد ال َق ِ‬
‫إليه‬ ‫ُ‬ ‫الد َرج ُة َّ‬
‫َّ‬
‫ٌ‬
‫سكون إليها‪ ،‬بل‬ ‫اضطراب من تشويش األسباب‪ ،‬وال‬ ‫ٌ‬ ‫بحيث ال يبقى فيه‬
‫مسببها‪.‬‬ ‫الس َ‬
‫كون إىل ِّ‬ ‫كون إليها من قلبه‪ ،‬و ُيلبِ ُسه ُّ‬ ‫الس َ‬‫خيلع ُّ‬
‫قلبه ويخَ ِفق عند‬
‫وعالمة هذا أنَّه ال يبايل بإقباهلا وإدبا ِرها‪ ،‬وال يضط ِر ُب ُ‬
‫ِ‬
‫وإقبال ما َيكره؛ ألنَّ اعتامده عىل اهلل‪ ،‬وسكو َنه إليه‪،‬‬ ‫إدبار ما يحُ ُّب منها‪،‬‬
‫حال َمن خرج عليه‬ ‫حصنه ِمن خوفها ورجائِها‪ ،‬فحا ُله ُ‬ ‫واستنا َده إليه‪ ،‬قد َّ‬
‫ربه إليه‪ ،‬وأغلق‬ ‫فأدخله‬ ‫ا‪،‬‬ ‫مفتوح‬
‫ً‬ ‫ا‬‫ن‬‫ً‬ ‫ص‬ ‫عدو عظيم ال طاق َة له به‪ ،‬فرأى ِ‬
‫ح‬
‫ُّ‬ ‫ٌّ‬
‫احلصن‪ ،‬فاضطراب قلبِه وخو ُفه‬ ‫احلصن‪ ،‬فهو يشاهد عدوه خارج ِ‬ ‫باب ِ‬
‫عليه َ‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫منهم يف هذه احلال ال معنى له‪.‬‬
‫مها‪ ،‬ف ِ ق منه‪ ،‬فقال له ِ‬ ‫ِ‬
‫امللك‪ :‬عندي أضعا ُفه‪،‬‬ ‫وكذلك َمن أعطاه مل ٌك در ً سرُ‬
‫صح َة ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قول‬ ‫جئت إ َّيل أعطي ُتك من خزائني أضعا َفه‪ ،‬فإذا علم َّ‬ ‫تم‪ ،‬متى َ‬ ‫ال تهَ َّ‬
‫وع ِل َم أنَّ خزائ َنه ٌ‬
‫مليئة بذلك؛ مل حيزنه فوتُه‪.‬‬ ‫امللك‪ ،‬ووثِق به‪ ،‬واطمأنَّ إليه‪َ ،‬‬‫ِ‬

‫الظ ِّن باهللِ تعاىل‪ ،‬فعىل ْ‬


‫قدر ُح ِ‬
‫سن ظ ِّنك به‬ ‫ِ‬
‫اخلامس ُة‪ُ :‬ح ْس ُن َّ‬ ‫الد َرج ُة‬
‫َّ‬
‫بحسن‬‫التوك َل ُ‬
‫ُّ‬ ‫بعضهم‬
‫ُ‬ ‫ف‬ ‫ولذلك‬ ‫عليه؛‬ ‫ك‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫ُّ‬
‫توك‬ ‫يكون‬ ‫له‪،‬‬ ‫ك‬ ‫ورجائِ‬
‫سرَّ‬
‫الظن باهلل‪.‬‬
‫سن ِّ‬ ‫الظ ِّن‪ ،‬فقال‪ :‬التوكل‪ُ :‬ح ُ‬ ‫َّ‬

‫وكل عليه‪ ،‬إ ْذ ال ُي َّ‬


‫تصو ُر‬ ‫سن َّ‬
‫الظ ِّن به يدعوه إىل ال َّت ُّ‬ ‫وال َّتحقيق‪ :‬أنَّ ُح َ‬

‫‪148‬‬
‫التوكـــــل‬

‫وك ُل عىل َمن ال ترجوه‪.‬‬


‫وك ُل عىل َمن تُيسء ظ َّنك به‪ ،‬وال ال َّت ُّ‬
‫ال َّت ُّ‬
‫يه ك ِّلها ِ‬
‫واع ِ‬
‫ذاب َد ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫السادس ُة‪ :‬استِ ُ‬
‫إليه‪،‬‬ ‫وانج ُ‬ ‫القلب ل ُه‪،‬‬ ‫سالم‬ ‫الدرج ُة َّ‬ ‫َّ‬
‫و َق ْط ُع ُمنازَ عاتِه‪.‬‬
‫االستسالم‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫إسقاط التدبري‪ ،‬يعني‪:‬‬ ‫ُ‬
‫التوكل‬ ‫قول بعضهم‪:‬‬‫وهذا معنى ِ‬
‫الر ِّب لك‪ ،‬وهذا يف غري باب األم ِر وال َّن ِ‬
‫هي‪ ،‬بل فيام يفعله بك‪ ،‬ال فيام‬ ‫لتدبري َّ‬
‫أ َم َرك بفعله‪.‬‬
‫التوك ِل و ُل ُّبه وحقيقته‪ ،‬وهو‬
‫ُّ‬ ‫فويض‪ ،‬وهو ُروح‬ ‫ُ‬ ‫السابع ُة‪ :‬ال َّت‬
‫الدرج ُة َّ‬
‫َّ‬
‫واضطرارا‪ ،‬بل‬
‫ً‬ ‫واختيارا‪ ،‬ال ُك ً‬
‫رها‬ ‫ً‬ ‫إلقاء أمو ِره ك ِّلها إىل اهلل‪ ،‬وإنزالهُ ا به ً‬
‫طلبا‬
‫أموره إىل أبيه‪ ،‬العالمِ ِ بشفقته عليه‬ ‫االبن العاجز َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫الضعيف املغلوب َ‬ ‫كتفويض‬
‫ريه‬‫ريه له‪ ،‬فهو يرى أنَّ تدب َ‬ ‫سن واليتِه له‪ ،‬وتدب ِ‬
‫وح ِ‬‫ورمحتِه‪ ،‬ومتا ِم كفايته‪ُ ،‬‬
‫ِ‬
‫خري من قيامه هو‬ ‫خري من تدبريه لن ْفسه‪ ،‬وقيا َمه بمصاحله وتو ِّل َيه هلا ٌ‬ ‫له ٌ‬
‫أموره‬
‫َ‬ ‫بمصالح ن ْف ِسه وتو ِّليه هلا‪ ،‬فال يجَ ِ ُد له أص َل َح وال َ‬
‫أرفق من تفويضه‬ ‫ِ‬
‫وجه ِله‬ ‫ِ‬
‫ك َّلها إىل أبيه‪ ،‬وراحته من محل كلفتها وثقل محلها‪ ،‬مع عجزه عنها‪ْ ،‬‬
‫وعلمه بكامل ِعلم َمن َف َّوض إليه‪ ،‬وقدرتِه وشفقته‪.‬‬ ‫بوجوه املصالح فيها‪ِ ،‬‬
‫رجة‪ ،‬ان َت َق َل منها إىل َدر ِ‬
‫جة‬ ‫الد ِ‬
‫هذه َّ‬‫الدرجة الثامنة‪ :‬فإذا َو َضع َق َد َمه يف ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫الرضا وهي ثمرة ال َّت ُّ‬
‫وكل‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫التوك ُل قب َله‪ ،‬والرضا‬
‫ُّ‬ ‫شيخنا يقول‪« :‬املقدور َيكتنِ ُفه ْأمران‪:‬‬ ‫وكان ُ‬
‫وريض باملَقضيِِّ له بعد الفعل؛ فقد‬ ‫َ‬ ‫توكل عىل اهلل َ‬
‫قبل الفعل‪،‬‬ ‫فمن َّ‬‫بعده‪َ ،‬‬
‫بالعبودية»‪.‬‬
‫َّ‬ ‫قام‬

‫‪149‬‬
‫ري َك‬ ‫«اللهم إنيِّ أس َتخ ُ‬ ‫خارة‪:‬‬ ‫قول ال َّنبي ﷺ يف دعاء االستِ‬ ‫قلت‪ :‬وهذا معنى ِ‬
‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫توكل‬ ‫ظيم»‪ ،‬فهذا ُّ‬ ‫الع ِ‬ ‫ضل َك َ‬ ‫درتِ َك‪ ،‬وأسأ ُل َك ِمن َف ِ‬ ‫قد ُر َك ُبق َ‬ ‫بع ْل ِم َك‪ ،‬وأس َت ِ‬ ‫ِ‬
‫َقدر وال ِ‬ ‫ِ‬
‫وأنت َعلاَّ ُم‬ ‫َ‬ ‫أقد ُر‪،‬‬ ‫وتفويض‪ ،‬ثم قال‪« :‬فإ َّن َك ت َْع َل ُم وال أع َل ُم‪ ،‬وت ُ‬
‫وتوس ٌل إليه سبحانه‬ ‫والقوة‪،‬‬ ‫حل ِ‬
‫ول‬ ‫العلم وا َ‬ ‫يوب»‪ ،‬فهذا تربؤٌ إىل اهلل من ِ‬ ‫الغُ ِ‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫ربه أن يقيضَ‬ ‫املتوسلون‪ ،‬ثم سأل َّ‬ ‫ِّ‬ ‫َوسل إليه هبا‬ ‫أحب ما ت َّ‬ ‫بصفاته التي هي ُّ‬
‫رص َفه عنه إن كان‬ ‫آجل‪ ،‬وأن َي ِ‬ ‫عاجل أو اً‬ ‫اً‬ ‫األمر إن كان فيه مصلح ُته‪،‬‬ ‫َ‬ ‫له ذلك‬
‫يبق عليه إلاَّ‬ ‫آجل‪ ،‬فهذا هو حاج ُته التي سأهلا‪ ،‬فلم َ‬ ‫عاجل أو اً‬ ‫اً‬ ‫مرضتُه‪،‬‬
‫فيه َّ‬
‫به»(((‪.‬‬‫حيث كان‪ُ ،‬ثم َر ِّضني ِ‬ ‫ري ُ‬ ‫خل َ‬ ‫الرضا بام يقضيه له‪ ،‬فقال‪« :‬وا ْقدُ ْر َيل ا َ‬
‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫اإليامنية‪،‬‬ ‫ِ‬
‫واحلقائق‬ ‫ة‪،‬‬‫اإلهلي‬ ‫ِ‬
‫املعارف‬ ‫عاء عىل هذه‬
‫الد ُ‬
‫فقد اشتمل هذا ُّ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫بعده‪ ،‬وهو‬‫والرضا َ‬ ‫املقدور‪،‬‬ ‫وقوع‬ ‫قبل‬ ‫والتفويض‬
‫ُ‬ ‫ل‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫التوك‬ ‫مجلتها‬ ‫ن‬ ‫التي ِ‬
‫م‬
‫ِّ‬
‫فتفويضه‬
‫ُ‬ ‫يرض بام ُقيضَ له؛‬ ‫صحتِه‪ ،‬فإن مل َ‬ ‫ُ‬
‫وعالمة َّ‬ ‫ِ‬
‫والتفويض‪،‬‬ ‫ثمرة ُّ‬
‫التوكل‬
‫ٌ‬
‫معلول فاسد‪.‬‬
‫وتثب ُت‬ ‫التوكل‪،‬‬ ‫مقام‬
‫َ‬ ‫العبد‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫ِ‬
‫ستكم‬ ‫ي‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫الثامن‬ ‫ِ‬
‫رجات‬‫الد‬
‫فباستكامل هذه َّ‬
‫ُ‬
‫َق َد ُمه فيه‪.‬‬

‫أعم املقامات تع ُّل ًقا باألسامء احلسنى؛ فإنَّ له تع ُّل ًقا ًّ‬
‫خاصا‬ ‫ُ‬
‫والتوكل من ِّ‬
‫ِ‬
‫وأسامء الصفات‪ ،‬فله تع ُّل ٌق باسم (الغ َّفار)‪ ،‬و(ال َّت َّواب)‪،‬‬ ‫بعامة أسامء األفعال‪،‬‬
‫َّ‬
‫و(الرحيم)‪ ،‬وتع ُّل ًقا باسم (الفتاح)‪ ،‬و(الوهاب)‪ ،‬و(الرزاق)‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫و(العفو)‪،‬‬

‫((( أخرجه البخاري (‪.)6382‬‬

‫‪150‬‬
‫التوكـــــل‬

‫و(املعطي)‪ ،‬و(املحسن)‪ ،‬وتعل ًقا باسم (املعز)‪( ،‬املذل)‪( ،‬اخلافض)‪،‬‬


‫وخ ْف ِضهم‬ ‫ِ‬
‫أعداء دينه‪َ ،‬‬ ‫توك ِله عليه يف إذالل‬
‫(الرافع)‪( ،‬املانع)‪ ،‬من جهة ُّ‬
‫ِ‬ ‫و َم ْن ِع ِهم‬
‫أسباب النرصة‪ ،‬وتع ُّل ًقا بأسامء القدرة واإلرادة‪ ،‬وله تع ُّل ٌق ٌّ‬
‫عام‬ ‫َ‬
‫األئمة بأنَّه املعرفة باهلل‪.‬‬ ‫ِ‬
‫بجميع األسامء احلسنى؛ وهلذا فسرَّ ه َمن فسرَّ ه من َّ‬
‫مقام التوكل‪ ،‬وك َّلام كان باهلل‬
‫يصح له ُ‬ ‫ِ‬
‫معرفة العبد‬ ‫بحسب‬
‫ُّ‬ ‫وإنَّام أراد أنَّه َ‬
‫أعرف؛ كان ُّ‬
‫توكله عليه أقوى‪.‬‬ ‫َ‬

‫ب] ِمن اخل ْلق ال من احلق‪ ،‬فال يطلب من أحد‬


‫الط َل ِ‬ ‫ُ‬
‫إسقاط َّ‬ ‫[ومن التوكل‪:‬‬
‫شي ًئا‪ ،‬فإنَّ الطلب ِمن اخل ْلق يف األصل حمظور‪ ،‬وغايته‪ :‬أن يباح للرضورة‪،‬‬
‫أمحد عىل أنَّه ال جيب‪ ،‬وكذلك كان ُ‬
‫شيخنا‬ ‫ونص ُ‬ ‫كإباحة امليتة للمضطر‪َّ ،‬‬
‫يشري إىل أنَّه ال جيب الطلب والسؤال‪.‬‬
‫حق اخل ْلق‪،‬‬ ‫بوبية‪ُ ،‬‬
‫وظ ْل ٌم يف ِّ‬ ‫الر‬ ‫حق‬
‫ِّ‬ ‫يف‬ ‫م‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫ُ‬
‫«ظ‬ ‫السؤال‪:‬‬ ‫يف‬ ‫يقول‬ ‫ه‬‫ت‬‫ُ‬ ‫ع‬ ‫ِ‬
‫وسم‬
‫ُّ َّ‬ ‫ٌ‬
‫حق الن ْفس»‪.‬‬
‫وظلم يف ِّ‬‫ٌ‬
‫ِ‬
‫وإراقة ماء الوجه لغري‬ ‫الذ ِّل لغري اهلل‪،‬‬ ‫أما يف حق الربوبية‪ِ ،‬‬
‫فلام فيه من ُّ‬ ‫َّ‬
‫والتعوض عن سؤاله بسؤال املخلوقني‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫خالقه‪،‬‬
‫اس‪ ،‬فبمنازعتهم ما يف أيدهيم بالسؤال‪ ،‬واستخ ِراجه منهم‪،‬‬
‫وأما يف حقِّ ال َّن ِ‬
‫وأح ُّب ما إليهم َمن ال يسأهلم‪ ،‬فإنَّ أمواهلم‬
‫وأبغض ما إليهم َمن يسأهلم‪َ ،‬‬
‫غضك‪.‬‬‫حمبوباتهُ م‪ ،‬و َمن سألك حمبوبك فقد تعرض ملَقتك و ُب ِ‬
‫َّ‬

‫‪151‬‬
‫َ‬
‫وريض‬ ‫السائل ن ْفسه حيث امتهنها‪ ،‬وأقامها يف مقام ُذ ِّل السؤال‪،‬‬
‫ِ‬ ‫وأ َّما ُظ ْل ُم‬
‫قدرا‪.‬‬
‫خري منه وأعىل ً‬ ‫َ‬
‫السائل ٌ‬ ‫هلا ُبذ ِّل الطلب َّممن هو ِم ْث ُله‪ ،‬أو َّ‬
‫لعل‬

‫والر ُّب تعاىل ك َّلام سأ ْل َته‬ ‫ُ‬


‫سؤال الفقري للفقري‪َّ ،‬‬ ‫فسؤال املخلوق للمخلوق‬
‫ُ‬
‫واملخلوق كلام سأل َته ُه ْن َت عليه‬ ‫وأحبك‪،‬‬‫َّ‬ ‫َ‬
‫وريض عنك‪،‬‬ ‫َك ُر ْم َت عليه‪،‬‬
‫وأبغضك و َقالك‪ ،‬كام قيل‪:‬‬
‫غض ُب إنْ ت ََر ْك َت ُس َؤا َل ُه‬
‫اهلل َي َ‬
‫سأل َي َ‬
‫غض ُب‬ ‫و ُب َن ُّي آ َد َم ِح َ‬
‫ني ُي ُ‬

‫يتعرض لسؤال العبيد وهو جيد عند مواله َّ‬


‫كل ما يريد‪.‬‬ ‫وقبيح بالعبد املريد أن َّ‬
‫ند‬‫عي قال‪ُ :‬ك َّنا ِع َ‬ ‫األشج ِّ‬
‫َ‬ ‫ويف صحيح مسلم عن عوف بن مالك‬
‫ول اهلل؟»‪،‬‬ ‫ون َر ُس َ‬ ‫بعة فقال‪« :‬أال تُبايِ ُع َ‬ ‫امنية‪ ،‬أو َس ٌ‬ ‫سعة أو َث ٌ‬ ‫رسول اهلل ﷺ تِ ٌ‬ ‫ِ‬
‫ون‬ ‫رسول اهلل‪ُ ،‬ث َّم قال‪« :‬أال تُبايِ ُع َ‬ ‫َ‬ ‫فق ْلنا‪ :‬قد با َي ْع َ‬
‫ناك يا‬ ‫عة‪ُ ،‬‬‫هد بِبي ٍ‬‫وك َّنا َح ِديثي َع ٍ‬ ‫ُ‬
‫َْ‬
‫فعلاَ َم نُبايِ ُع َك؟‬ ‫َ‬ ‫أيد َينا و ُق ْلنا‪ :‬قد با َي ْع َ‬ ‫ول اهلل؟» َفبس ْطنا ِ‬ ‫َر ُس َ‬
‫رسول اهلل‪َ ،‬‬ ‫ناك يا‬ ‫ََ‬
‫س ‪ -‬وأسرََّ َك ِلم ًة‬ ‫خل ْم ِ‬ ‫وات ا َ‬‫والص َل ِ‬
‫به َش ْي ًئا‪َّ ،‬‬ ‫«أن تَعبدُ وا اهلل‪ ،‬وال تُشرْ ِ ُكوا ِ‬
‫فقال‪ُ ْ :‬‬
‫بعض ُأو َلئِ َك ال َّن َف ِر َي ْس ُق ُط‬ ‫رأي ُت َ‬ ‫اس َش ْي ًئا»‪ ،‬قال‪ :‬ولقد ْ‬ ‫َخ ِف َّي ًة ‪ -‬وال ت َْسأ ُلوا ال َّن َ‬
‫أح ًدا أن ُينا ِو َله َّإيا ُه(((‪.‬‬‫سأل َ‬‫أحد ِهم فام َي ُ‬ ‫سو ُط ِ‬
‫َ ْ‬

‫((( أخرجه مسلم (‪.)1043‬‬

‫‪152‬‬
‫الصبـــــــر‬

‫منزلـــــــة ال�صـــــرب‬

‫موضعا»‪.‬‬
‫ً‬ ‫تسعني‬
‫َ‬ ‫رب يف القرآن يف نحو‬
‫الص َ‬ ‫‪« :‬ذكر ا ُ‬
‫هلل َّ‬ ‫قال اإلمام أمحد‬
‫األمة‪ ،‬وهو نصف اإليامن‪ ،‬فإنَّ اإليامن نصفان‪ :‬نصف‬
‫واجب بإمجاع َّ‬
‫ٌ‬ ‫وهو‬
‫صرب‪ ،‬ونصف شكر‪.‬‬
‫وهو يف القرآن عىل س َّت َة عشرَ َ ً‬
‫نوعا‪:‬‬
‫﴿ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ﴾‬ ‫األول‪ :‬األمر به‪ ،‬نحو قوله‪:‬‬
‫[البقرة‪.]153 :‬‬
‫ضده كقوله‪﴿ :‬ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ‬
‫هي عن ِّ‬
‫الثاين‪ :‬ال َّن ُ‬
‫ﯳ﴾ [األحقاف‪ ،]35 :‬وقوله‪ ﴿ :‬ﯡ ﯢ ﯣ﴾ [األنفال‪.]15 :‬‬

‫ناء عىل أهله‪ ،‬كقوله‪ ﴿ :‬ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ‬


‫الثالث‪ :‬ال َّث ُ‬
‫ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ﴾ [البقرة‪.]177 :‬‬
‫حمبتَه هلم‪ ،‬كقوله‪﴿ :‬ﯡﯢﯣ﴾ [آل عمران‪.]١٤٦ :‬‬
‫الرابع‪ :‬إجيا ُبه سبحانه َّ‬
‫تتضم ُن ِح ْف َظهم‪ ،‬ونصرْ َ هم‪،‬‬
‫َّ‬ ‫خاص ٌة‪،‬‬
‫معي ٌة َّ‬ ‫َّ‬ ‫وهي‬ ‫هلم‪،‬‬ ‫ه‬‫ت‬‫َ‬ ‫ي‬ ‫إجياب َم ِ‬
‫ع‬
‫ُ َّ‬ ‫اخلامس‪:‬‬
‫العلم واإلحاطة‪ ،‬كقوله‪ ﴿ :‬ﭚﭛ‬ ‫وتأييدهم‪ ،‬ليست معي ًة عام ًة‪ ،‬وهي معي ُة ِ‬
‫َ‬
‫َّ‬ ‫َّ َّ‬
‫ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﴾ [األنفال‪.]46 :‬‬
‫خري ألصحابه‪ ،‬كقوله‪ ﴿ :‬ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ‬ ‫إخباره بأنَّ َّ‬
‫الصرب ٌ‬ ‫ُ‬ ‫السادس‪:‬‬
‫ﯭ ﴾ [النحل‪.]126 :‬‬

‫‪153‬‬
‫بأحس ِن أعاملهِ م‪ ،‬كقوله‪﴿ :‬ﮀ ﮁ ﮂ‬
‫َ‬ ‫هلم‬ ‫ِ‬
‫اجلزاء‬ ‫إجياب‬
‫ُ‬ ‫السابع‪:‬‬
‫ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ﴾ [النحل‪.]٩٦ :‬‬
‫الثامن‪ :‬إجيا ُبه اجلزا َء هلم بغري حساب‪ ،‬كقوله تعاىل‪ ﴿ :‬ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ‬
‫ﰗ ﰘ﴾ [الزمر‪.]١٠ :‬‬
‫الصرب‪ ،‬كقوله تعاىل‪﴿ :‬ﭠ ﭡ ﭢ‬
‫البرشى ألهل َّ‬
‫التاسع‪ :‬إطالق ُ‬
‫ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﴾ [البقرة‪.]١٥٥ :‬‬
‫ِ‬
‫واملدد هلم‪ ،‬كقوله تعاىل‪ ﴿ :‬ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ‬ ‫العارش‪ :‬ضامن ال َّن ِ‬
‫رص‬
‫ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﴾ [آل عمران‪،]125 :‬‬
‫الص ِ‬
‫رب»(((‪.‬‬ ‫النَّرص مع َّ‬
‫َ‬ ‫«واع َل ْم َّ‬
‫أن‬ ‫النبي ﷺ‪ْ :‬‬
‫قول ِّ‬‫ومنه ُ‬

‫أهل العزائم‪ ،‬كقوله تعاىل‪ ﴿ :‬ﯹ‬ ‫الص ِ‬


‫رب هم ُ‬ ‫احلادي عرش‪ :‬اإلخبار أنَّ أهل َّ‬
‫ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ﴾ [الشورى‪.]٤٣ :‬‬
‫َ‬
‫واحلظوظ‬ ‫الصاحل َة وجزا َءها‬ ‫َ‬
‫األعامل َّ‬ ‫الثاين عرش‪ :‬اإلخبار أنَّه ما ُي َلقَّى‬
‫رب‪ ،‬كقوله تعاىل‪ ﴿:‬ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ‬ ‫الص ِ‬ ‫ُ‬
‫أهل َّ‬ ‫العظيم َة إلاَّ‬
‫ﮗﮘﮙ ﮚﮛﮜﮝﮞ ﮟﮠﮡﮢﮣ ﮤ ﮥﮦ‬
‫ﮧ﴾ [فصلت‪.]٣٥ – ٣٤ :‬‬
‫الص ِ‬ ‫نتفع باآليات ِ‬
‫والعبرَ ِ ُ‬ ‫ِ‬ ‫الثالث َ‬
‫َ‬
‫رب‪ ،‬كقوله تعاىل‪:‬‬ ‫أهل َّ‬ ‫عرش‪ :‬اإلخبار أنَّه إنَّام َي ُ‬

‫((( أخرجه أمحد (‪ ،)2308‬وصححه األلباين يف «السلسلة الصحيحة» (‪.)2382‬‬

‫‪154‬‬
‫الصبـــــــر‬

‫﴿ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ‬
‫ﯘ ﯙ ﯚﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ﴾ [إبراهيم‪.]5 :‬‬
‫َ‬
‫ودخول‬ ‫ابع َ‬
‫عرش‪ :‬اإلخبار بأنَّ الفوزَ باملطلوب‪ ،‬وال َّنجا َة من املرهوب‪،‬‬ ‫الر َ‬ ‫َّ‬
‫بالصرب‪ ،‬كقوله تعاىل‪﴿ :‬ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ‬ ‫اجل َّنة‪ ،‬إنَّام نا ُلوه َّ‬
‫ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ﴾ [الرعد‪.]٢٤ – ٢٣ :‬‬
‫عت شيخ اإلسالم‬‫سم ُ‬‫عرش‪ :‬أنَّه يو ِر ُث صاحبه درجة اإلمام َة‪ِ ،‬‬
‫اخلامس َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫الدين‪،‬‬ ‫ُ‬
‫اإلمامة يف ِّ‬ ‫رب واليقني‪ ،‬ت ُ‬
‫ُنال‬ ‫بالص ِ‬
‫وحه ‪ -‬يقول‪َّ :‬‬ ‫قدس ا ُ‬
‫هلل ُر َ‬ ‫تيمي َة ‪َّ -‬‬
‫ابن َّ‬
‫َ‬
‫ثم تال قو َله تعاىل‪﴿ :‬ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ‬
‫ﮄ ﴾ [السجدة‪.]٢٤ :‬‬
‫السادس َ‬
‫عرش‪ :‬اقرتانُه بمقامات اإلسال ِم واإليامن‪ ،‬كام قرنه اهلل سبحانه‬ ‫َ‬
‫الح واملَ ْرحمَ ة‪.‬‬
‫الص ِ‬ ‫ِ‬
‫والعمل َّ‬ ‫والتوكل‪ ،‬والشك ِر‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫باليقني وباإليامن‪ ،‬وبالتقوى‬
‫إيامن ملَن ال‬
‫أس من اجلسد‪ ،‬وال َ‬ ‫الر ِ‬‫رب من اإليامن بمنزلة َّ‬ ‫الص ُ‬‫وهلذا كان َّ‬
‫«خري‬
‫ُ‬ ‫اخلطاب ‪:‬‬ ‫رب له‪ ،‬كام أنَّه ال جسد ملَن ال رأس له‪ ،‬قال عمر بن َّ‬ ‫ص َ‬
‫حيح‪« :‬أ َّن ُه ِض ٌ‬
‫ياء»(((‪،‬‬ ‫الص ِ‬ ‫بي ﷺ يف احلديث َّ‬ ‫بالصرب»‪ ،‬وأخرب ال َّن ُّ‬ ‫أدركناه َّ‬ ‫عيش ْ‬ ‫ٍ‬
‫وقال‪َ « :‬من َي َتصبرَّ ْ ُي َصبرِّ ْ ُه اهلل»(((‪.‬‬
‫وليس‬
‫َ‬ ‫املؤ ِم ِن! َّ‬
‫إن أ ْم َر ُه ُك َّل ُه ل ُه َخ ٌري‪،‬‬ ‫«ع َج ًبا لأِ م ِر ْ‬‫حيح‪َ :‬‬ ‫الص ِ‬ ‫ويف احلديث َّ‬

‫((( أخرجه مسلم (‪.)223‬‬


‫((( أخرجه البخاري (‪ ،)1469‬ومسلم (‪.)1053‬‬

‫‪155‬‬
‫وإن أصا َب ْت ُه‬ ‫ريا ل ُه‪ْ ،‬‬ ‫فكان َخ ً‬
‫َ‬ ‫إن أصا َب ْت ُه سرََّ ُاء َش َك َر‪،‬‬ ‫لمؤ ِم ِن‪ْ ،‬‬ ‫ذلك لأِ َح ٍد إلاَّ لِ ْ‬ ‫َ‬
‫ريا لهُ»(((‪.‬‬ ‫فكان َخ ً‬ ‫ض ُاء َصبرَ َ ‪َ ،‬‬ ‫رََّ‬
‫ت‬ ‫«إن ِش ْئ ِ‬ ‫يدعو هلا‪ْ :‬‬ ‫أن‬ ‫ه‬‫ت‬‫ْ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫فسأ‬ ‫ع‬
‫ُ‬ ‫ُرص‬
‫َ‬ ‫ت‬ ‫كانت‬ ‫التي‬ ‫وقال للمرأة الس ِ‬
‫وداء‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫فقالت‪ :‬إنيِّ أت ََك َّش ُف‪،‬‬ ‫ك»‪،‬‬ ‫عافي ِ‬ ‫ت َد َعو ُت اهلل ْ ِ‬ ‫وإن ِش ْئ ِ‬ ‫جل َّن ُة‪ْ ،‬‬ ‫ولك ا َ‬ ‫ت ِ‬ ‫َصبرَ ِ‬
‫ْ‬ ‫أن ُي َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫فدعا هلا(((‪.‬‬
‫ف‪َ ،‬‬ ‫فا ْد ُع اهلل أن ال أت ََك َّش َ‬
‫األنصار بأن َيصبرِ ُ وا عىل األ َث َر ِة ا َّلتي َي ْل َق ْونهَ ا َب َ‬
‫عده‪ ،‬ح َّتى َي ْل َق ْو ُه‬ ‫َ‬ ‫وأ َم َر‬
‫وض‪.‬‬ ‫حل ِ‬ ‫عىل ا َ‬
‫يبة‪ ،‬وأخبرَ َ أنَّه إنَّام‬‫ند ا ُمل ِص ِ‬ ‫رب ِع َ‬ ‫بالص ِ‬ ‫ر‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫وأ‬ ‫رب‪،‬‬ ‫بالص‬ ‫و‬
‫ِّ‬ ‫د‬‫ُ‬ ‫الع‬ ‫ند م ِ‬
‫القاة‬ ‫َ‬ ‫ع‬‫وأ َمر ِ‬
‫َ َّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫األولىَ ‪.‬‬ ‫دمة ُ‬ ‫ند الص ِ‬ ‫ي ُك ُ ِ‬
‫ون ع َ َّ‬ ‫َ‬
‫ساب؛ فإنَّ ذلك خي ِّفف‬ ‫رب واالحتِ ُ‬ ‫األ ُمو ِر ُله‪ ،‬وهو َّ‬
‫الص ُ‬ ‫صاب بأن َف ِع ُ‬ ‫وأ َم َر ا ُمل َ‬
‫زيد يف املصيبة‪ ،‬وي ِ‬ ‫ِّ‬
‫ذه ُب‬ ‫ُ‬ ‫والتشكي َي ُ‬ ‫والتسخط‬
‫ُّ‬ ‫واجلزع‬
‫َ‬ ‫مصيب َته‪ ،‬ويو ِّفر َ‬
‫أجره‪،‬‬
‫األجر‪.‬‬
‫طاء َخ ً‬ ‫الصرب خري ك ُّله‪ ،‬فقال‪« :‬ما ُأ ِ‬
‫وأو َس َع‬ ‫ريا ل ُه ْ‬ ‫أحدٌ َع ً‬ ‫عط َي َ‬ ‫وأخرب ﷺ أنَّ َّ َ ٌ‬
‫الص ِ‬
‫رب»(((‪.‬‬ ‫ِم َن َّ‬
‫وصرب عن معصية اهلل‪ ،‬وصرب عىل‬
‫ٌ‬ ‫وهو ثالثة أنواع‪ٌ :‬‬
‫صرب عىل طاعة اهلل‪،‬‬
‫امتحان اهلل‪.‬‬

‫((( أخرجه مسلم (‪.)2999‬‬


‫((( أخرجه البخاري (‪ ،)5652‬ومسلم (‪.)2576‬‬
‫((( أخرجه البخاري (‪ ،)1469‬ومسلم (‪.)1053‬‬

‫‪156‬‬
‫الصبـــــــر‬

‫كس َب‬ ‫صرب عىل ما يتع َّل ُق بالكسب‪ ،‬والثالث‪ٌ :‬‬


‫صرب عىل ما ال ْ‬ ‫فاألوالن‪ٌ :‬‬
‫َّ‬
‫للعبد فيه‪.‬‬

‫صرب‬ ‫سا ُ‬ ‫تيمي َة َّ‬ ‫ِ‬


‫وحه‪ -‬يقول‪« :‬كان ُ‬ ‫هلل ُر َ‬ ‫‪-‬قد َ‬ ‫ابن َّ‬
‫عت شيخ اإلسالم َ‬ ‫وسم ُ‬
‫ربه عىل إلقاء إخوتِه‬
‫أكمل ِمن ص ِ‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫امرأة العزيز عن شأهنا‪:‬‬ ‫َ‬
‫يوسف عن مطاوعة‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫له يف ا ُ‬
‫جرت عليه بغري‬
‫ْ‬ ‫جل ِّب‪ ،‬وبيعه وتفريقهم بينه وبينْ أبيه؛ فإنَّ هذه ٌ‬
‫أمور‬
‫صربه عن‬
‫وأما ُ‬ ‫كس َب له فيها‪ ،‬ليس للعبد فيها ٌ‬
‫حيلة غري الصرب‪َّ ،‬‬ ‫اختياره‪ ،‬ال ْ‬
‫سيام مع األسباب التي تقوى‬ ‫وال‬ ‫س‪،‬‬ ‫ْ‬
‫ف‬ ‫ن‬
‫َّ‬ ‫لل‬ ‫ٍ‬
‫وحماربة‬ ‫املعصية‪ :‬فصرب اختيار ورضا‬
‫َّ‬
‫وعز ًبا ليس له‬
‫قوية‪َ ،‬‬ ‫ُ‬
‫وداعية الشباب إليها َّ‬ ‫شابا‪،‬‬
‫معها دواعي املواقعة‪ ،‬فإ َّنه كان ًّ‬
‫والغريب ال يستحي يف بلد غربتِه َّمما يستحي‬
‫ُ‬ ‫وغريبا‪،‬‬
‫ً‬ ‫يعوضه ويربد شهوتَه‪،‬‬ ‫ما ِّ‬
‫أيضا ليس ُ‬
‫وازعه كوازع‬ ‫ً‬
‫ومملوكا‪ ،‬واململوك ً‬ ‫ِ‬
‫ومعارفه وأهله‪،‬‬ ‫منه بني أصحابه‬
‫قيب‪ ،‬وهي‬
‫الر ُ‬
‫سيدته‪ ،‬وقد غاب َّ‬
‫وذات منصب‪ ،‬وهي ِّ‬
‫ُ‬ ‫احلر‪ ،‬واملرأة مجيلة‪،‬‬
‫ِّ‬
‫توع َد ْته‬
‫أشد احلرص‪ ،‬ومع ذلك َّ‬ ‫ُ‬
‫واحلريصة عىل ذلك َّ‬ ‫ُ‬
‫الداعية له إىل ن ْفسها‪،‬‬
‫وإيثارا لمِ ا‬
‫ً‬ ‫اختيارا‪،‬‬
‫ً‬ ‫والصغار‪ ،‬ومع هذه الدواعي ك ِّلها ص َ‬
‫رب‬ ‫يفعل بالسجن َّ‬ ‫إنْ مل ْ‬
‫عند اهلل‪ ،‬وأين هذا ِمن صربه يف ا ُ‬
‫جل ِّب عىل ما ليس من كسبِه؟!»‪.‬‬

‫أكمل من الصرب عىل اجتناب‬ ‫ُ‬ ‫«الصرب عىل أداء الطاعات‬


‫ُ‬ ‫وكان يقول‪:‬‬
‫ترك‬ ‫ِ‬
‫مصلحة ِ‬ ‫أح ُّب إىل الشارع من‬ ‫ِ‬
‫الطاعة َ‬ ‫مات وأفضل؛ فإنَّ مصلحة ِف ِ‬
‫عل‬ ‫املحر ِ‬
‫َّ‬
‫ِ‬
‫وجود املعصية»‪.‬‬ ‫وأكر ُه ِمن مفسدة‬
‫أبغض إليه َ‬
‫املعصية‪ ،‬ومفسدة عد ِم الطاعة ُ‬

‫‪157‬‬
‫وثمة تقسيم آخر للصبر‪:‬‬
‫صرب باهلل‪ ،‬وصرب هلل‪ ،‬وصرب مع اهلل‪.‬‬
‫ٌ‬
‫برب ِه ال‬ ‫ِ‬
‫فاألول‪ :‬صرب االستعانة به‪ ،‬ورؤيته أنَّه هو المْ ُ َصبرِّ ‪ ،‬وأن َصرب العبد ّ‬
‫بن ْفسه‪ ،‬كام قال تعاىل‪﴿ :‬ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ﴾ [النحل‪ ]127 :‬يعني‪ :‬إنْ مل‬
‫ُيصبرِّ ْ ك هو مل تصرب‪.‬‬
‫حمب َة اهلل‪ ،‬وإراد َة‬
‫الباعث عىل الصرب َّ‬
‫ُ‬ ‫والثاين‪ :‬الصرب هلل‪ ،‬وهو أن يكون‬
‫ِ‬
‫واالستحامد إىل اخل ْلق‪ ،‬وغري‬ ‫قو ِة الن ْفس‪،‬‬
‫والتقر َب إليه‪ ،‬ال إلظهاره َّ‬
‫َّ‬ ‫وج ِهه‪،‬‬
‫ذلك من األغراض‪.‬‬
‫يني منه‪ ،‬ومع‬ ‫الد ِّ‬
‫والثالث‪ :‬الصرب مع اهلل‪ ،‬وهو دوران العبد مع مراد اهلل ِّ‬
‫يتوج ُه‬
‫َّ‬ ‫مقيم بإقامتها‪،‬‬‫بسريها‪ ،‬اً‬ ‫سائرا َ‬
‫ً‬ ‫صابرا ن ْف َسه معها‪،‬‬
‫ً‬ ‫ينية‪،‬‬
‫الد َّ‬‫أحكامه ِّ‬
‫ركائبها‪ ،‬وينزل معها أين استق َّلت مضاربهُ ا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫توج َه ْت‬
‫معها أين َّ‬
‫صابرا مع اهلل؛ أي قد جعل ن ْف َسه َوق ًفا عىل أوامره وحما ِّبه‪،‬‬ ‫ه‬ ‫فهذا معنى كونِ‬
‫ً‬
‫الص ِّديقني‪.‬‬
‫صرب ِّ‬
‫وأصعبها‪ ،‬وهو ُ‬ ‫ُ‬ ‫أشد أنواع الص ِ‬
‫رب‬ ‫وهو ُّ‬
‫ِ‬
‫اإليامن؟ فقال‪:‬‬ ‫رسول اهلل ﷺ ِ‬
‫عن‬ ‫ُ‬ ‫للبخاري‪ُ :‬سئِ َل‬
‫ِّ‬ ‫ويف كتاب األدب‬
‫والسامح ُة»(((‪.‬‬ ‫رب‪َّ ،‬‬ ‫«الص ُ‬
‫َّ‬
‫وأوعبِه ملقامات اإليامن من أوَّلهِ ا‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫وأعظمه برهانًا‪،‬‬ ‫مج ِع الكالم‬ ‫وهذا ِمن أ َ‬
‫إىل ِ‬
‫آخ ِرها‪.‬‬

‫((( مل نقف عليه يف «األدب املفرد» وأخرجه أمحد (‪ ،)19435‬وصححه األلباين يف «السلسلة الصحيحة»‬
‫(‪.)551‬‬

‫‪158‬‬
‫الصبـــــــر‬

‫فإن ال َّن ْف َ‬
‫س ُيراد منها شيئان‪:‬‬ ‫َّ‬

‫‪َ -1‬ب ْذ ُل ما ُأ ْ‬
‫مرت به وإعطاؤُ ه‪ .‬فاحلامل عليه السامحة‪.‬‬
‫الصرب‪.‬‬
‫ُ‬ ‫عد منه؛ فاحلامل عليه‪:‬‬ ‫‪ -2‬ترك ما هنيت عنه‪ُ ،‬‬
‫والب ُ‬
‫فح اجلميل‪،‬‬
‫والص ِ‬
‫َّ‬ ‫بالصرب اجلميل‪،‬‬
‫َّ‬ ‫وقد أمر اهلل سبحانه يف كتابه‬
‫واهلجر اجلميل‪.‬‬
‫وحه‪ -‬يقول‪« :‬الصرب‬ ‫‪-‬قدس ا ُ‬
‫هلل ُر َ‬ ‫تيمي َة َّ‬ ‫ِ‬
‫ابن َّ‬
‫عت شيخ اإلسالم َ‬ ‫فسم ُ‬
‫عتاب‬
‫َ‬ ‫والصفح اجلميل هو الذي ال‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫اجلميل هو الذي ال شكوى فيه وال معه‪،‬‬
‫واهلجر اجلميل الذي ال أذى معه»‪.‬‬
‫ُ‬ ‫معه‪،‬‬
‫ابن ُع َي ْين َة يف قوله تعاىل‪﴿ :‬ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ﴾‬
‫وقال ُ‬
‫[السجدة‪ ]24 :‬قال‪« :‬أخذوا برأس األم ِر فجعلهم رؤسا َء»‪.‬‬
‫بالصرب اجلميل‪،‬‬ ‫والشكوى إىل اهلل ال تنايف الصرب‪ ،‬فإنَّ يعقوب‬
‫َو َعد َّ‬ ‫َّ‬
‫ف‪ ،‬ثم ق�ال‪ ﴿ :‬ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﴾ [يوس�ف‪:‬‬ ‫وعد ال يخُ ِل ُ‬
‫وال َّن ُّب�ي إذا َ‬
‫‪.]٨٦‬‬
‫صابرا مع قوله‪ ﴿:‬ﭤ ﭥ ﭦ‬
‫ً‬ ‫وجده‬ ‫أخبرَ ا ُ‬
‫هلل عنه أنَّه َ‬ ‫وب‬
‫وكذلك ُّأي ُ‬
‫ﭧ ﭨ ﭩ ﴾ [األنبياء‪.]٨٣ :‬‬
‫ـك َب ِل َّي ٌ‬
‫ــة فاصـبرِ هلــــا‬ ‫وإذا َع َر ْت َ‬
‫أع َل ُ‬
‫ـــم‬ ‫َّـه َ‬
‫بـك ْ‬ ‫ريـم فإن ُ‬
‫الك ِ‬ ‫َصـبرْ َ َ‬

‫‪159‬‬
‫وإذا َش َ‬
‫ـك ْو َت إىل ِ‬
‫ابـن آ َد َم إنَّــــام‬
‫حيم إىل ا َّلذي ال َي ْر َح ُ‬
‫ـم‬ ‫الر َ‬ ‫ت َْش ُكو َّ‬
‫وألز ِمها للمحبني‪ ،‬وهم‬
‫املحبة‪َ ،‬‬
‫َّ‬ ‫طريق‬ ‫يف‬ ‫املنازل‬ ‫آك ِ‬
‫د‬ ‫َ‬ ‫ن‬‫م‬‫[وباجلملة] الصرب ِ‬
‫ِ‬
‫املنازل يف طريق ال َّتوحيد‬ ‫ِ‬
‫أعرف‬ ‫كل منزلة‪ ،‬وهو ِمن‬ ‫أحوج إىل منزلته من ِّ‬
‫ُ‬
‫رضورية‪.‬‬ ‫وحاجة ِ‬
‫املح ِّب إليه‬ ‫ُ‬ ‫وأبينِها‪،‬‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫حلكمه‪ ،‬وأخرب أنَّ صربه به‪،‬‬‫أحب اخل ْل ِق إليه بالصرب ُ‬
‫وقد أمر اهلل تعاىل َّ‬
‫أجر‬ ‫ل‬ ‫وجع‬ ‫اجلزاء‪،‬‬ ‫أعظم‬ ‫هلم‬ ‫ن‬ ‫وض ِ‬
‫م‬ ‫أحس َن ال َّثناء‪َ ،‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الصابرين َ‬
‫َ‬ ‫وأثنى عىل‬
‫وأجرهم بغري حساب‪.‬‬ ‫َ‬ ‫غ ِ‬
‫ريهم حمسو ًبا‪،‬‬

‫‪160‬‬
‫الرضـــــــا‬

‫منزلـــــــــة الر�ضـــــــا‬

‫مستحب‪َّ ،‬‬
‫مؤك ٌد استحبا ُبه‪ ،‬واختلفوا يف وجوبه‬ ‫ٌّ‬ ‫العلامء عىل أنَّه‬
‫ُ‬ ‫قد أمجع‬
‫عىل قولني‪.‬‬

‫لز َم ما جعل اهلل ِرضا ُه فيه؛ فإنَّه‬


‫الرضا‪ :‬أن َي َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫حصول ِّ‬ ‫أسباب‬ ‫أعظم‬
‫ِ‬ ‫ومن‬
‫الرضا وال ُب َّد‪.‬‬
‫يوصله إىل مقام ِّ‬
‫الرضا؟ فقال‪ :‬إذا‬ ‫العبد إىل مقام ِّ‬
‫ُ‬ ‫قيل ليحيى بن ُمعاذ ‪« :‬متى َيب ُل ُغ‬
‫أعطي َتني َقبِ ُ‬
‫لت‪،‬‬ ‫إنْ‬ ‫فيقول‪:‬‬ ‫ه‪،‬‬ ‫رب‬
‫َّ‬ ‫به‬ ‫يعامل‬ ‫فيام‬ ‫ٍ‬
‫أصول‬ ‫أقام ن ْف َسه عىل أربعة‬
‫ْ‬
‫أج ْب ُت»‪.‬‬ ‫دعوتَني َ‬
‫ترك َتني َع َب ْد ُت‪ ،‬وإنْ ْ‬ ‫منع َتني َر ِض ُ‬
‫يت‪ ،‬وإنْ ْ‬ ‫وإنْ ْ‬
‫ض عىل‬ ‫س باألمل واملَكا ِره؛ بل ألاَّ َيع ِ‬
‫رت َ‬ ‫الرضا ألاَّ يحُ ِ َّ‬
‫وليس من رشط ِّ‬
‫الرضا‪،‬‬
‫س له ال ينايف ِّ‬ ‫وكراهة ال َّن ْف ِ‬
‫ُ‬ ‫تسخطه‪ ،‬ووجود التألمُّ ِ‬ ‫ا ُ‬
‫حلكم وال َي َّ‬
‫احلر‬ ‫ِ‬
‫الشديد‬ ‫اليوم‬ ‫يف‬ ‫الصائم‬ ‫ورضا‬ ‫ريه‪،‬‬ ‫َ‬
‫الك‬ ‫الد ِ‬
‫واء‬ ‫كرضا املريض بشرُ ب َّ‬
‫ِّ‬
‫حيص ُل له يف سبيل اهلل من‬ ‫بام ينا ُله من أمل اجلوع َّ‬
‫والظمأ‪ ،‬ورضا املجاهد بام ُ‬
‫أمل اجلراح‪ ،‬وغريها‪.‬‬

‫أج ِّل غاية‪ ،‬ولكن‬ ‫ٌ‬


‫موصلة إىل َ‬ ‫جدا‪،‬‬
‫طريق خمترصة‪ ،‬قريبة ًّ‬
‫ٌ‬ ‫وطريق الرضا‬
‫بأصعب ِمن مشق َِّة طريق اجلهاد‪ ،‬وال‬
‫َ‬ ‫فيها مشقة‪ ،‬ومع هذا فليست مش َّق ُتها‬
‫فيها من العقبات واملفاوز ما فيها‪ ،‬وإنَّام عقبتها مه ٌَّة عالية‪ ،‬ون ْف ٌس زكية‪،‬‬
‫كل ما َي ِر ُد عليها من اهلل‪.‬‬ ‫وتوطني ال َّن ْف ِ‬
‫س عىل ِّ‬

‫‪161‬‬
‫ورمحة ر ِّبه‪ ،‬وشفقتِه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بضعفه وعج ِزه‪،‬‬ ‫سه ُل ذلك عىل العبد‪ِ :‬ع ْل ُمه‬ ‫و ُي ِّ‬
‫عليه‪ ،‬وبِ ِّره به‪ ،‬فإذا َش ِه َد هذا وهذا‪ ،‬ومل يطرح ن ْف َسه بني يديه‪ ،‬ويرض‬
‫حبه و ِرضا ُه ك ِّلها إليه‪ :‬فن ْف ُسه ٌ‬
‫نفس مطرود ٌة‬ ‫به وعنه‪ ،‬وتنجذب دواعي ِّ‬
‫ٌ‬
‫ممتحنة مبتالة‬ ‫مؤهل ًة ُلقربِه ومواالته‪ ،‬أو ن ْف ٌس‬
‫عن اهلل‪ ،‬بعيدة عنه‪ ،‬ليست َّ‬
‫بأصناف الباليا وامل ِ َحن‪.‬‬
‫أمام‬ ‫العبد وهو ُم ٍ‬
‫ستلق عىل فراشه‪ ،‬فيصبح َ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫واملحبة ُتسيرِّ‬
‫َّ‬ ‫فطريق الرضا‬
‫َ‬
‫بمراحل‪.‬‬ ‫الر ِ‬
‫كب‬ ‫َّ‬
‫بالر ِّب تبارك وتعاىل‪.‬‬
‫ور َّ‬‫والس ُ‬
‫الفرح رُّ‬
‫ُ‬ ‫[و] ثمر ُة ِّ‬
‫الرضا‪:‬‬
‫ذكرت‬
‫ُ‬ ‫وحه يف املنام‪ ،‬وكأنيِّ‬ ‫قدس ا ُ‬
‫هلل ُر َ‬ ‫تيمي َة َّ‬
‫ابن َّ‬
‫ورأيت شيخ اإلسالم َ‬
‫ُ‬
‫وأخذت يف تعظيمه ومنفعتِه ال أذكره َ‬
‫اآلن فقال‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫له شي ًئا من أعامل القلب‪،‬‬
‫ور به»‪ ،‬أو نحو هذا من العبارة‪.‬‬ ‫الفرح باهلل‪ ،‬والسرُّ ُ‬
‫ُ‬ ‫«أما أنا فطريقتي‪:‬‬
‫َّ‬
‫وهكذا كانت حا ُله يف احلياة‪ ،‬يبدو ذلك عىل ظاهره‪ ،‬وينادي به عليه حا ُله‪.‬‬
‫الرضا‪ْ :‬تر ُك االختيار قبل القضاء‪،‬‬‫وقال ذو ال ُّنون ‪« :‬ثالثة من أعالم ِّ‬
‫احلب يف َح ْش ِو البالء»‪.‬‬ ‫وهي ُ‬
‫جان ِّ‬ ‫ِ‬
‫وفقدان املرارة بعد القضاء‪َ ،‬‬
‫أح ُّب إ َّيل من الغنى‪،‬‬ ‫ذر يقول‪ :‬الفقر َ‬ ‫يل ‪« :‬إنَّ أبا ٍّ‬ ‫بن ع ٍّ‬‫للحسني ِ‬ ‫وقيل ُ‬
‫ذر‪َّ ،‬أما أنا فأقول‪َ :‬م ِن ا َّت َك َل‬ ‫رح َم ا ُ‬‫الصحة‪ ،‬فقال‪ِ :‬‬
‫هلل أبا ٍّ‬ ‫أحب إ َّيل من ِّ َّ‬ ‫والسقم ُّ‬
‫ُ‬
‫ري ما اختار اهلل له»‪.‬‬ ‫سن اختيا ِر اهلل له مل َي َّ‬
‫تمن غ َ‬ ‫عىل ُح ِ‬

‫أفضل ِم َن ُّ‬ ‫الف َضيل بن ِع ٍ ِ‬


‫الدنيا؛‬
‫الزهد يف ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ياض لبشرْ ٍ احلايف‪ِّ :‬‬
‫«الرضا‬ ‫وقال ُ‬
‫ألنَّ الرايض ال يتم َّنى فوق منزلته»‪.‬‬

‫‪162‬‬
‫الرضـــــــا‬

‫مدار مقامات الدين عىل الرضا‪:‬‬

‫قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ﴾ [األنعام‪.]١٦٤ :‬‬


‫رب‬
‫غريه‪ ،‬وهو ُّ‬ ‫ب ر ًّبا َ‬ ‫قال ابن ع َّباس ‪« :‬س ِّي ًدا وإهلًا‪ ،‬يعني‪ :‬فكيف أط ُل ُ‬
‫السورة‪﴿ :‬ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ﴾‬ ‫كل يشء؟!» وقال يف َّأو ِ‬
‫ل‬ ‫ِّ‬
‫ُّ‬
‫وملجأ‪ ،‬وهو من املواالة التي‬ ‫ً‬ ‫ونارصا ومعينًا‬
‫ً‬ ‫[األنعام‪ :]14 :‬يعني‪ :‬معبو ًدا‬
‫وسطها‪﴿ :‬ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ‬ ‫ب والطاعة‪ ،‬وقال يف َ‬ ‫حل َّ‬
‫تتضم ُن ا ُ‬
‫َّ‬
‫أفغري اهللِ أبتغي َمن يحَ ك ُُم بيني‬
‫َ‬ ‫ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ﴾ [األنعام‪ ]114 :‬أي‪:‬‬
‫وب ْينكم‪ ،‬فنتحاكم إليه فيام اختل ْفنا فيه؟ وهذا كتا ُبه س ِّي ُد احلكَّام‪ ،‬فكيف‬
‫نتحا َك ُم إىل غري كتابِه؟ وقد أنزله مفص اً‬
‫َّل مب َّينًا‪ ،‬كاف ًيا شاف ًيا‪.‬‬
‫حق التأ ُّم ِل‪ ،‬رأ ْي َتها هي ن ْف ُس الرضا‬ ‫َ‬
‫الثالث َّ‬ ‫ِ‬
‫اآليات‬ ‫وأنت إذا تأ َّم ْل َت هذه‬
‫مجا عنها‪،‬‬ ‫َ‬
‫احلديث مرت ً‬ ‫ورأيت‬
‫َ‬ ‫اً‬
‫رسول‪،‬‬ ‫باهلل ر ًّبا‪ ،‬وباإلسالم دينًا‪ ،‬وبمحمد‬
‫ومشت ًّقا منها‪ ،‬فكثري من الناس يرىض به ر ًّبا‪ ،‬وال يبغي ر ًّبا ِسواه‪ ،‬لكنه ال‬
‫قربونه إىل اهلل‪،‬‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫أ‬ ‫منه‬ ‫ًّا‬ ‫ن‬ ‫ظ‬ ‫أولياء‪،‬‬ ‫دونه‬ ‫ن‬ ‫يرىض به وح َده وليا‪ ،‬بل يوايل ِ‬
‫م‬
‫نهَّ ُ ِّ‬ ‫ْ‬ ‫ًّ‬ ‫ْ‬
‫التوحيد‪ :‬أن‬
‫ُ‬ ‫امللك‪ ،‬وهذا عني الشرِّ ك؛ بل‬ ‫وأن مواالتهَ م كمواالة خواص ِ‬ ‫َّ‬
‫ِّ‬
‫ال ي َّتخذ من دونه أولياء‪.‬‬
‫وكثري من الناس يبتغي غريه حكَم‪ ،‬حياكم إليه‪ ،‬ويخُ ِ‬
‫اصم إليه‪ ،‬و َيرىض‬ ‫َ َ اً‬
‫بحكمه‪.‬‬‫ُ‬
‫خذ ِسواه ر ًّبا‪ ،‬وال‬
‫وهذه املقامات الثالث ُة هي أركان التوحيد‪ :‬أن ال ي َّت ِ‬
‫غريه َحك اًَم‪.‬‬
‫إهلًا‪ ،‬وال َ‬
‫‪163‬‬
‫من عالمات صحة الرضا استواء النعمة والبلية‪:‬‬

‫تستوي النِّعم ُة والبل َّي ُة [عند العبد] يف الرضا لوجوه‪:‬‬


‫يان أحكا ِم سيده ا ُمل ِ‬
‫شف ِق‬ ‫جر َ‬
‫ِّ‬ ‫املحض ال َيسخط َ‬
‫ُ‬ ‫حمض‪ ،‬والعبد‬
‫عبد ٌ‬
‫‪ -1‬أ َّنه ٌ‬
‫البار الن ِ‬
‫َّاصح املحسن‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫أعلم بمصلحته وما ينفعه‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫جاهل بعواقب األمور‪ ،‬وس ِّي ُده‬ ‫‪ -2‬أ َّنه‬
‫وخف عليه مح ُله‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ريض به انقلب يف ح ِّقه نعم ًة ومنحة‪،‬‬ ‫إذا‬ ‫ه‬ ‫ن‬
‫َّ‬ ‫بأ‬ ‫ه‬ ‫لم‬ ‫‪ِ -3‬‬
‫ع‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫سخطه تضاعف عليه ثق ُله و َك ُّله‪ ،‬ومل َيز َد ْد إلاَّ َّ‬
‫شد ًة‪.‬‬ ‫ني عليه‪ ،‬وإذا ِ‬ ‫و ُأ ِع َ‬
‫ثم ُر رضا ر ِّبه عنه‪.‬‬ ‫أن ِرضاه عن ربه يف مجيع احلاالت ي ِ‬ ‫‪ -4‬أن يعلم َّ‬
‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫سليم نق ًّيا من ِّ‬
‫الغش‬ ‫اً‬ ‫السالمة‪ ،‬فيجعل قل َبه‬‫باب َّ‬
‫فتح له َ‬‫الرضا َي ُ‬‫أن ِّ‬ ‫‪َّ -5‬‬
‫والد َغ ِل ِ‬
‫والغ ِّل‪ ،‬وال ينجو من عذاب اهلل إلاَّ َمن أتى اهللَ بقلب سليم‪.‬‬ ‫َّ‬
‫ب له ْ‬ ‫أن الرضا ُي ِ‬
‫يفرح بام آتاه‪ ،‬وذلك‬
‫أن ال يأسى عىل ما فاته‪ ،‬وال َ‬ ‫وج ُ‬ ‫‪ِّ َّ -6‬‬
‫أفضل ِخ ِ‬
‫صال اإليامن‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِمن‬
‫فإن َّ‬
‫كل‬ ‫نظري اجلهاد من أعامل اجلوارح‪َّ ،‬‬
‫‪ -7‬أن الرضا من أعامل القلوب‪ُ ،‬‬
‫واحد منهام ِذرو ُة سنا ِم اإليامن‪.‬‬
‫ٍ‬

‫واقف مع اختيار اهلل له‪ِ ،‬‬


‫معر ٌض عن اختياره لن ْفسه‪ ،‬وهذا‬ ‫ٌ‬ ‫أن الرايض‬ ‫‪َّ -8‬‬
‫قو ِة معرفته بر ِّبه‪ ،‬ومعرفتِه بن ْف ِسه‪.‬‬
‫من َّ‬
‫أسباط‪،‬‬
‫ويوسف بن ْ‬
‫ُ‬ ‫وسفيان ال َّث ُّ‬
‫وري‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ب بن َ‬
‫الو ْرد‪،‬‬ ‫وقد اجتمع ُو َه ْي ُ‬

‫‪164‬‬
‫الرضـــــــا‬

‫موت ال ُفجاءة قبل اليوم‪ ،‬فأ َّما اليوم‪:‬‬ ‫أكر ُه َ‬‫وري ‪« :‬قد كنت َ‬ ‫فقال ال َّث ُّ‬
‫ف من‬ ‫أختو ُ‬ ‫ا‬ ‫فودد ُت أنيِّ ميت‪ ،‬فقال له يوسف بن أسباط‪ :‬ومل؟ فقال‪ :‬لمِ‬ ‫ِ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫تكر ُه‬
‫وري‪ :‬ومل َ َ‬‫طول البقاء‪ ،‬فقال ال َّث ُّ‬ ‫أكر ُه َ‬
‫الفتنة‪ ،‬فقال يوسف‪ :‬لكنِّي ال َ‬
‫عمل صاحلًا‪ ،‬فقيل‬ ‫وأعمل اً‬ ‫ُ‬ ‫أتوب فيه‬
‫ُ‬ ‫أصادف يو ًما‬
‫ُ‬ ‫املوت؟ قال‪ :‬لعليِّ‬ ‫َ‬
‫أحب ذلك إ َّيل‬ ‫ا‪،‬‬ ‫ئ‬ ‫شي‬ ‫أختار‬ ‫ال‬ ‫أنا‬ ‫فقال‪:‬‬ ‫أنت؟‬ ‫تقول‬ ‫لوهيب‪ :‬أي ٍ‬
‫يشء‬
‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫ُّ‬ ‫ُ َ‬
‫ورب الكعبة»‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫وري بني عينيه‪ ،‬وقال‪ُ :‬روحان َّي ٌة‬ ‫أح ُّبه إىل اهلل‪ ،‬ف َق َّبل ال َّث ُّ‬
‫استوت عنده حال ُة البقاء واملوت‪ ،‬وقف مع اختيار‬
‫ْ‬ ‫فهذا حال ٍ‬
‫عبد قد‬
‫اهلل له منهام‪.‬‬
‫رب من اجلنَّة وما فيها‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪ ﴿:‬ﯟ‬ ‫‪َّ -9‬‬
‫أن رضا اهلل عن العبد أك ُ‬
‫ﯠ ﯡ ﯢ﴾ [التوبة‪.]72 :‬‬
‫فإن حسن‬ ‫باب ُح ِ‬
‫سن اخلُ ُلق مع اهلل ومع الناس؛ َّ‬ ‫‪ -10‬أن الرضا يفتح َ‬
‫لق من الرضا‪ ،‬وسوء اخللق من السخط‪ ،‬وحسن اخللق يب ُلغ‬ ‫اخلُ ِ‬
‫ِ‬
‫احلسنات كام‬ ‫بصاحبه درج َة الصائم القائم‪ ،‬وسوء اخللق يأكل‬
‫تأ ُك ُل ُ‬
‫النار احلطب‪.‬‬
‫الناس بسخط اهلل‪ ،‬وأن‬
‫َ‬ ‫العبد ِمن أن ُيريض‬
‫َ‬ ‫ص‬ ‫أن الرضا بالقدر خي ِّل ُ‬
‫‪َّ -11‬‬
‫ِ‬
‫فضل اهلل‪.‬‬ ‫حمض‬
‫يذ َّمهم عىل ما مل يؤته اهلل‪ ،‬وأن يحَ َم َدهم عىل ما هو ُ‬‫ُ‬

‫ب‬ ‫ِ‬
‫فاملح‬ ‫‪َّ -12‬‬
‫أن املح َّب َة واإلخالص واإلنابة ال تقوم إال عىل ساق الرضا‪،‬‬
‫ُّ‬
‫ني‬ ‫كل حالة‪ ،‬وقد كان ِع ُ‬
‫مران ب ُن ُح َص ٍ‬ ‫راض عن حبيبه يف ِّ‬ ‫ٍ‬

‫‪165‬‬
‫فبقي مل ًقى عىل ظهره مد ًة طويلة‪ ،‬ال يقوم وال‬ ‫َ‬ ‫استسقى بطنُه‪،‬‬
‫موضع حلاجته‪ ،‬فدخل عليه ُم َط ِّرف بن‬ ‫ٌ‬ ‫يقعد‪ ،‬وقد ُنقب له يف رسيره‬
‫خري‪ ،‬فجعل يبكي لمِا رأى من حاله‪ ،‬فقال له ِع ْمران‪:‬‬ ‫الش ِّ‬
‫بن ِّ‬‫عبد اهلل ِ‬
‫ك‪،‬‬‫احلال العظيمة‪ ،‬فقال‪ :‬ال َتب ِ‬ ‫ِ‬ ‫«مل َ تبكي؟ فقال‪ :‬ألنيِّ أراك عىل هذه‬
‫ْ‬
‫لعل اهلل أن ينف َعك به‪،‬‬ ‫فإن أح َّبه إ َّيل أح ُّبه إليه‪ ،‬وقال‪ُ :‬أخبرِ ُ ك بيشء‪َّ ،‬‬
‫َّ‬
‫إن املالئكة تزورين فآ َن ُس هبا‪ ،‬و ُتس ِّل ُم َّ‬
‫عيل‬ ‫عيل حتى أموت‪َّ ،‬‬ ‫واك ُت ْم َّ‬
‫تسليمها»‪.‬‬ ‫َ‬ ‫فأسم ُع‬
‫َ‬
‫ُ‬
‫أعامل‬ ‫حد معلوم حمسوب‪ ،‬وأ َّما‬
‫ف إىل ٍّ‬ ‫ِ‬
‫اجلوارح ُتضا َع ُ‬ ‫‪َّ -13‬‬
‫أن أعامل‬
‫القلوب فال ينتهي تضعي ُفها‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫الشــــكر‬

‫منزلــــــــة ال�شــــــكر‬

‫فوق منزلة الرضا وزيادة؛ فالرضا ُمند ِر ٌج‬ ‫وهي من أعىل املنازل‪ ،‬وهي َ‬
‫تقدم‬ ‫نصف اإليامن ‪ -‬كام َّ‬ ‫ُ‬ ‫وجود الشكر بدونه‪ ،‬وهو‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ستحيل‬ ‫يف الشكر؛ إذ َي‬
‫هلل به‪ ،‬وهنى عن‬ ‫‪ -‬واإليامن نصفان‪ :‬نصف ُش ْكر‪ ،‬ونصف َصبرْ ‪ ،‬وقد أ َمر ا ُ‬
‫ووصف به خواص َخ ْلقه‪ ،‬وجعله غاي َة َخ ِ‬
‫لقه‬ ‫َ‬ ‫ضده‪ ،‬وأ ْثنى عىل أهله‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫َّ‬
‫وحارسا‬ ‫سببا للمزيد من فضله‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ووعد أه َله‬ ‫وأم ِره‪َ ،‬‬
‫ً‬ ‫بأحسن جزائه‪ ،‬وجعله ً‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫اسم من‬ ‫نتفعون بآياته‪ ،‬واش َت َّق هلم اً‬‫وحافظا لنِعمته‪ ،‬وأخ أنَّ أهله ُهم ا ُمل ِ‬ ‫ً‬
‫ُ‬ ‫برَ‬
‫وصل الشاكر إىل مشكوره‪ ،‬بل‬ ‫الشكور‪ ،‬وهو ُم ِ‬ ‫أسامئه؛ فإنه سبحانه هو َّ‬
‫الر ِّب من عبده‪.‬‬‫مشكورا‪ ،‬وهو غاية رضا َّ‬ ‫ً‬ ‫الشاكر‬
‫َ‬ ‫ُيعيد‬
‫قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ﴾ [النحل‪.]114 :‬‬
‫النبي ﷺ‪« :‬أنَّه قا َم ح َّتى ت ََو َّر َم ْت َقدَ ماه‪ ،‬فقيل له‪:‬‬ ‫الصحيحني عن ِّ‬ ‫ويف َّ‬
‫ون‬
‫أك ُ‬ ‫َأخ َر؟ قال‪ :‬أفال ُ‬ ‫َقد َم ِمن َذ ْنبِ َك وما ت َّ‬ ‫لك ما ت َّ‬‫اهلل َ‬ ‫َفع ُل هذا وقد َغ َفر ُ‬ ‫ت َ‬
‫أن ت َ‬
‫َقول‬ ‫س‬
‫ْ َ ْ‬ ‫ن‬ ‫َ‬
‫ت‬ ‫فال‬ ‫؛‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫ب‬ ‫ِ‬
‫ح‬ ‫ُ‬ ‫لأَ‬ ‫نيِّ‬ ‫إ‬ ‫‪،‬‬ ‫ُ‬
‫عاذ‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫يا‬ ‫ِ‬ ‫«واهلل‬ ‫عاذ‪:‬‬ ‫ُ‬
‫مل‬ ‫وقال‬ ‫‪.‬‬‫(((‬
‫َع ْبدً ا َش ً‬
‫كورا؟»‬
‫ُّ‬
‫وح ْس ِن ِعبا َدتِ َك»(((‪.‬‬‫وش ْك ِر َك‪ُ ،‬‬ ‫أع ِّني عىل ِذ ْك ِر َك‪ُ ،‬‬ ‫الة‪ :‬اللهم ِ‬ ‫كل َص ٍ‬ ‫يف ُد ُب ِر ِّ‬
‫َّ‬
‫هورا‬ ‫ظ‬‫ُ‬ ‫احليوان‬ ‫أبدان‬ ‫يف‬ ‫ذاء‬ ‫الشكر يف وضع ال ِّلسان‪ :‬ظهور أث ِر ِ‬
‫الغ‬ ‫وأصل ُّ‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫عبده‪:‬‬ ‫نعمة اهلل عىل لسان ِ‬ ‫ِ‬ ‫ظهور أث ِر‬ ‫َب ِّي ًنا‪ ،‬كذلك حقيق ُته يف العبودية‪ ،‬وهو‬
‫ُ‬

‫((( أخرجه البخاري (‪ ،)4836‬ومسلم (‪.)2819‬‬


‫((( أخرجه أبو داود (‪ ،)1522‬والنسائي (‪ ،)1303‬وصححه األلباين يف «صحيح أيب داود» (‪.)1522‬‬

‫‪167‬‬
‫ِ‬
‫جوارحه انقيا ًدا وطاع ًة‪.‬‬ ‫وحمب ًة‪ ،‬وعىل‬
‫ثنا ًء واعرتا ًفا‪ ،‬وعىل قلبه شهو ًدا َّ‬
‫مخس قواعدَ ‪ :‬خضوع الشاكر للمشكور‪ُّ ،‬‬
‫وحبه له‪،‬‬ ‫بني عىل ِ‬ ‫والش ْكر َم ٌّ‬
‫ُّ‬
‫والثناء عليه هبا‪ ،‬وألاَّ يستعملها فيام َي ْك َره‪.‬‬
‫ُ‬ ‫واعرتا ُفه بنعمته‪،‬‬
‫فهذه اخلمسة هي أساس الشكر‪ ،‬وبِناؤُ ه عليها‪ ،‬فمتى ُع ِد َم منها واحدة‪:‬‬
‫اختل ِمن قواعد الشكر قاعد ٌة‪.‬‬
‫َّ‬
‫وحده‪ ،‬فكالمه إليها يرجع‪ ،‬وعليها يدور‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫وكل َمن تك َّلم يف ُّ‬
‫الش ْكر‬
‫االعرتاف بنِعمة ا ُمل ِ‬
‫نعم عىل وجه اخلضوع‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫حده أنه‬
‫فقيل‪ُّ :‬‬
‫كوف القلب عىل حمبة ا ُمل ِ‬
‫نعم‪ ،‬واجلوارح عىل طاعته‪،‬‬ ‫وقيل‪ :‬هو ُع ُ‬
‫َّ‬
‫وجريان ال ِّلسان ِ‬
‫بذ ْكره‪ ،‬والثناء عليه‪.‬‬ ‫َ‬
‫يل من عندك‬ ‫وش ْكري نِ ٌ‬
‫عمة ع َّ‬ ‫أشكرك؟ ُ‬ ‫رب‪ ،‬كيف ُ‬ ‫داود ‪ :‬يا ِّ‬ ‫وقال ُ‬
‫داود‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َستوجب هبا ُش ْك ًرا؟! فقال‪ :‬اآلن َش َك ْرتَني يا ُ‬
‫ت‬
‫«الش ْك ُر‪:‬‬ ‫ُ‬
‫عد‪ُّ :‬‬ ‫وقال اجل َنيد وقد سأله سرَ ِ ٌّي عن الشكر‪ ،‬وهو َص ٌّ‬
‫بي َب ُ‬
‫ستعان بيشء من نِعم اهلل عىل معاصيه‪ ،‬فقال‪ِ :‬من أين لك هذا؟ قال‪:‬‬
‫َ‬ ‫أن ال ُي‬
‫ِمن مجُ الستِك»‪.‬‬

‫‪168‬‬
‫الحيــــــاء‬

‫منزلـــــــة احليــــــاء‬

‫قال اهلل تعاىل‪ ﴿ :‬ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ﴾ [النساء‪ ]1:‬وقال تعاىل‪﴿ :‬ﭲ ﭳ‬


‫ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ﴾ [غافر‪.]19 :‬‬

‫رسول اهللِ ﷺ َم َّر َبر ُج ٍل ‪ -‬وهو‬


‫َ‬ ‫مر ‪ :‬أنَّ‬ ‫ويف الصحيح من حديث ابن ُع َ‬
‫ِ‬
‫اإليامن»(((‪.‬‬ ‫احلياء ِمن‬
‫َ‬ ‫فإن‬
‫ياء ‪ -‬فقال‪َ « :‬د ْع ُه؛ َّ‬ ‫حل ِ‬
‫َي ِع ُظ أخا ُه يف ا َ‬
‫أش َّد َحيا ًء ِم َن الع ْذ ِ‬
‫راء يف‬ ‫سول اهلل ﷺ َ‬ ‫سعيد ‪« :‬كان َر ُ‬ ‫ٍ‬ ‫وفيهام عن أيب‬
‫َ‬
‫ِخ ْد ِرها‪ ،‬فإذا رأى َشي ًئا َي ْك َر ُهه َع َرفْنا ُه يف َو ْج ِهه»(((‪.‬‬
‫قوة ُخ ُل ِق احلياء‪،‬‬
‫واحلياء من احلياة‪ ،‬وعىل َح َسب حياة القلب يكون فيه َّ‬
‫أتم‪.‬‬ ‫احلياء‬
‫ُ‬ ‫كان‬ ‫أحيى‪،‬‬ ‫القلب‬
‫ُ‬ ‫كان‬ ‫فكلام‬ ‫وح‪،‬‬‫والر‬ ‫القلب‬ ‫موت‬ ‫من‬ ‫احلياء‬ ‫ة‬ ‫َّ‬
‫ل‬ ‫ِ‬
‫وق‬
‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫«احلياء رؤية اآلالء‪ ،‬ورؤية التقصري‪ ،‬فيتو َّلد بينهام ٌ‬
‫حالة‬ ‫ُ‬ ‫جل َنيد ‪:‬‬‫قال ا ُ‬
‫ُسمى احليا َء‪ ،‬وحقيق ُته؛ ُخ ُل ٌق َي َبع ُث عىل ت َْر ِك القبائح‪ ،‬و َيم َنع ال َّت َ‬
‫فريط يف‬ ‫ت َّ‬
‫احلق»‪.‬‬
‫حق صاحب ِّ‬ ‫ِّ‬
‫الشق ِ‬
‫ْوة‪ :‬القسو ُة يف‬ ‫ياض ‪« :‬خمَ ٌس من عالمات َّ‬ ‫الف َضيل بن ِع ٍ‬ ‫وقال ُ‬
‫ُ‬
‫وطول األمل»‪.‬‬ ‫ُ‬
‫والرغبة يف الدنيا‪،‬‬ ‫ود العني‪ِ ،‬‬
‫وق َّل ُة احلياء‪،‬‬ ‫القلب‪ ،‬وجمُ ُ‬
‫ِ‬
‫‪َ « :‬م ِن استحيا من اهلل ُم ً‬
‫طيعا‪ :‬استحيا منه وهو‬ ‫وقال يحَ يى ُ‬
‫بن ُمعاذ‬
‫ُمذنِ ٌب»‪.‬‬
‫)‪ (1‬أخرجه البخاري (‪ ،)24‬ومسلم (‪.(36‬‬
‫)‪ (2‬أخرجه البخاري (‪ ،)6102‬ومسلم (‪.(2320‬‬

‫‪169‬‬
‫وهذا الكالم حيتاج إىل رشح؛ ومعناه‪ :‬أنَّ َمن َغ َلب عليه ُخ ُل ُق احلياء من‬
‫اهلل حتى يف حال طاعتِه‪ ،‬فقلبه ُمط ِر ٌق بني يديه إطراق ُم ٍ‬
‫ستح َخ ِج ٍل؛ فإنه إذا‬
‫ذنبا استحيا اهلل ِمن نظره إليه يف تلك احلال لكرامته عليه‪ ،‬فيستحيي‬ ‫وا َقع ً‬
‫شاهد بذلك؛‬‫ٌ‬ ‫كرم عليه ما َيشي ُنه عنده‪ ،‬ويف الشاهد‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫و‬ ‫ه‬‫ولي‬ ‫ن‬‫م‬‫أن يرى ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬
‫وأحبهم إليه‪ ،‬وأقربهِ م منه من‬ ‫ِّ‬ ‫أخص الناس به‪،‬‬‫ِّ‬ ‫اطلع عىل‬ ‫الرج َل إذا َّ‬
‫ُ‬ ‫فإنَّ‬
‫لحقه من ذلك االطالعِ عليه‬ ‫حيبه وهو خيونه‪ ،‬فإنه َي َ‬
‫صاحب‪ ،‬أو ولد‪ ،‬أو َمن ُّ‬
‫غاية الكرم‪.‬‬ ‫عجيب‪ ،‬حتى كأنه هو اجلاين‪ ،‬وهذا ُ‬ ‫ٌ‬ ‫حياء‬
‫ٌ‬
‫ُكيفه‬
‫األفهام‪ ،‬وال ت ِّ‬
‫ُ‬ ‫آخ ُر‪ ،‬ال تُد ِركه‬
‫الرب من عبده‪ :‬فذاك نوع َ‬ ‫وأما حياء ِّ‬
‫كريم َيستحيي من‬ ‫حيي‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫ٌ‬ ‫حياء كر ٍم وب ٍّر وجود وجالل؛ فإنه ٌّ‬ ‫ُ‬ ‫العقول؛ فإنه‬
‫عذ َب ذا َشي ٍ‬
‫فرا‪ ،‬ويستحيي أن ُي ِّ‬ ‫ِ‬
‫شابت‬
‫ْ‬ ‫بة‬ ‫ْ‬ ‫ردمها ص ً‬ ‫عبده إذا ر َفع إليه ْ‬
‫يديه أن ُي َّ‬
‫يف اإلسالم‪.‬‬

‫أوجه الحياء‪:‬‬

‫أوجه‪ :‬حياء ِجناية‪ ،‬وحياء تقصري‪ ،‬وحياء‬ ‫ِ‬


‫عرشة‬ ‫وقد قسم احلياء عىل‬
‫ْ‬
‫مة‪ ،‬وحياء استِصغار لل َّنفس واحتِقار هلا‪،‬‬
‫الل‪ ،‬وحياء َكر ٍم‪ ،‬وحياء ِح ْش ٍ‬
‫َ‬
‫َج ٍ‬
‫وحياء حمبة‪ ،‬وحياء عبودية‪ ،‬وحياء رشف ِ‬
‫وع َّزة‪ ،‬وحياء ا ُملستحيي من َن ْفسه‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫‪ ،‬لمََّا َّ‬
‫فر هار ًبا يف اجلنة‪.‬‬ ‫فأ َّما حياء اجلناية‪ :‬فمنه حياء آدم‬
‫سبحون الليل والنهار ال َيفترُ ون‪،‬‬
‫وحياء التقصري كحياء املالئكة الذين ُي ِّ‬
‫حق عبادتِك»‪.‬‬
‫«س ْبحا َنك! ما عبدناك َّ‬
‫يوم القيامة قالوا‪ُ :‬‬
‫فإذا كان ُ‬

‫‪170‬‬
‫الحيــــــاء‬

‫وحياء اإلجالل هو حياء معرفة‪ ،‬وعىل َح َسب معرفة العبد بر ِّبه يكون‬
‫حياؤه منه‪.‬‬
‫وحياء الكرم كحياء النبي ﷺ من القوم الذين دعاهم إىل َو ِ‬
‫ليمة زَ َ‬
‫ينب‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫َ‬
‫وط َّولوا عنده‪ ،‬فقام واستحيا أن يقول هلم‪ :‬انرصفوا ‪.‬‬
‫(((‬

‫أن يسأل رسول اهلل ﷺ عن‬ ‫وحياء احلشمة كحياء عيلِّ‪ ‬بن أيب طالب‬
‫املَ ْذ ِي؛ ملكان ابنتِه ِمنه(((‪.‬‬
‫حني يسأله‬ ‫ِ‬
‫العبد من ر ِّبه‬ ‫وحياء االستِحقار واستِصغار ال َّن ْفس كحياء‬
‫صغارا هلا‪.‬‬‫حوائجه‪ ،‬احتِقارا لشأن َن ْف ِسه‪ ،‬واستِ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫املحب من حمبوبه‪ ،‬حتى إنَّه إذا َخ َطر عىل قلبه‬
‫ِّ‬ ‫املحبة‪ :‬فهو حياء‬
‫وأما حياء َّ‬
‫وجهه‪ ،‬وال يدري ما سببه‪،‬‬ ‫يف حال َغيبتِ‬
‫وأحس به يف ْ‬
‫َّ‬ ‫قلبه‪،‬‬ ‫من‬ ‫احلياء‬
‫ُ‬ ‫هاج‬ ‫ه‬ ‫ْ‬
‫ٌ‬
‫روعة شديدةٌ‪.‬‬ ‫للمحب عند مالقاتِه حمبوبه ومفاجأته له‬
‫ِّ‬ ‫وكذلك َيع ِرض‬
‫ِ‬ ‫حمب ٍة وخوف‪،‬‬
‫ومشاهدة عدم‬ ‫حياء العبودية‪ :‬فهو حياء ممُ ت ِزج بني َّ‬
‫ُ‬ ‫وأ َّما‬
‫فعبوديته له ت ِ‬
‫ُوجب‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫وأجل منها‪،‬‬ ‫صالح عبوديته ملعبوده‪ ،‬وأن َق ْد َره أعىل‬
‫استحيا َءه منه ال حمالة‪.‬‬
‫فحياء النفس العظيمة الكبرية إذا صدر منها ما‬
‫ُ‬ ‫والعزة‪:‬‬
‫َّ‬ ‫حياء الرشف‬
‫وأ َّما ُ‬
‫ف‬‫قدرها من بذل عطاء أو إحسان‪ ،‬فإنه يستحيي مع َب ْذلِه حيا َء شرَ ِ‬‫هو دون ْ‬
‫س ِ‬
‫وع َّزة‪ ،‬وهذا له سببان‪:‬‬ ‫َن ْف ٍ‬

‫)‪ (1‬أخرجه البخاري (‪ ،)4793‬ومسلم (‪.(1428‬‬


‫)‪ (2‬أخرجه البخاري (‪ ،)269 ،178‬ومسلم (‪.(303‬‬

‫‪171‬‬
‫أحدمها هذا‪ ،‬والثاين‪ :‬استحياؤه من ِ‬
‫اآلخذ‪ ،‬حتى إنَّ بعض أهل الكرم ال‬
‫التكرم؛‬
‫ُّ‬ ‫تُطا ِوعه َن ْف ُسه بمواجهته ملن ُيعطيه حيا ًء منه‪ ،‬وهذا َي ُ‬
‫دخل يف حياء‬
‫لة ِ‬
‫اآلخذ‪.‬‬ ‫ألنه يستحيي من َخج ِ‬
‫ْ‬
‫فوس الرشيفة العزيزة ِمن ِرضاها‬
‫املرء من ن ْف ِسه؛ فهو حياء ال ُّن ِ‬
‫حياء ِ‬
‫وأ َّما ُ‬
‫فالعبد إذا‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أكمل ما يكون من احلياء؛‬ ‫بالد ِ‬
‫ون وهذا‬ ‫يعها ُّ‬ ‫لن ْفسها بالنقص‪ ،‬وب ِ‬
‫َ‬
‫در‪.‬‬ ‫استحيا من ن ْفسه؛ فهو بأن يستحيي من غريه ْ‬
‫أج ُ‬
‫العلم حيا ًء منه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ناظر إليه أورثه هذا‬ ‫الرب تعاىل ٌ‬ ‫[و] العبد متى َع ِلم أن َّ‬
‫سيده‪،‬‬ ‫يدي‬ ‫بني‬ ‫الشغل‬ ‫ل‬ ‫جيذبه إىل احتامل أعباء الطاعة‪ ،‬مثل العبد إذا َع ِ‬
‫م‬ ‫ِ‬
‫ِّ‬
‫سيده إليه‪،‬‬ ‫من‬ ‫اإلحسان‬ ‫مع‬ ‫ام‬ ‫سي‬ ‫وال‬ ‫ألعبائه‪،‬‬ ‫ل‬‫اً‬ ‫نشيطا فيه‪ ،‬محُ ِ‬
‫تم‬ ‫فإنه يكون ً‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫غيب‬
‫والرب تعاىل ال َي ُ‬ ‫ُّ‬ ‫سيده‪،‬‬ ‫عن‬ ‫ا‬‫غائب‬ ‫كان‬ ‫إذا‬ ‫ما‬ ‫بخالف‬ ‫ده‪،‬‬ ‫لسي‬ ‫ه‬‫وحمبتِ‬
‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫نظر القلب والتفاتُه إىل نظره سبحانه إىل العبد‪،‬‬ ‫نظره عن عبده‪ ،‬ولكن يغيب ُ‬ ‫ُ‬
‫وقل التفاتُه إىل َنظ ِر اهلل تبارك وتعاىل إليه‪ :‬تو َّلد‬ ‫ظره‪َّ ،‬‬ ‫فإن القلب إذا غاب َن ُ‬
‫من ذلك ِق َّل ُة احلياء ‪.‬‬
‫وكذلك حيمله عىل استقباح ِجنايته‪ ،‬وهذا االستقباح احلاصل باحلياء َق ْد ٌر‬
‫زائد عىل استقباح مالحظة الوعيد‪ ،‬وهو فوقه‪.‬‬
‫ٌ‬
‫أتم‬
‫املحب ُّ‬
‫ِّ‬ ‫املحبة‪ ،‬فاستقباح‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫احلاصل عن‬ ‫االستقباح‬
‫ُ‬ ‫وأرفع درجة منه‪:‬‬
‫العبد أن يشتكي لغري اهلل‪،‬‬
‫كف َ‬ ‫من استقباح اخلائف؛ ولذلك فإن هذا احلياء َي ُّ‬
‫فيكون قد شكا اهلل إىل خ ْلقه‪ ،‬وال َيم َن ُع الشكوى إليه سبحانه‪ ،‬فإن الشكوى‬
‫فاحلياء منه ال ُينافيها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫إليه سبحانه فقر‪ِ ،‬‬
‫وذ َّل ٌة‪ ،‬وفاقة‪ ،‬وعبودية‪،‬‬ ‫ٌ‬

‫‪172‬‬
‫الصـــــدق‬

‫منزلـــــــــة ال�صــــــدق‬

‫والطريق‬
‫ُ‬ ‫السالكني‪،‬‬ ‫مجيع منازل َّ‬
‫األعظم‪ ،‬الذي منه تنشأ ُ‬‫ُ‬ ‫هي منزل القوم‬
‫األقوم الذي َمن مل يسرِ عليه فهو من ا ُمل ِ‬
‫نقطعني اهلالكني‪ ،‬وبه تمَ َّيز ُ‬
‫أهل النفاق‬ ‫َ ْ‬
‫نان من أهل النريان‪ ،‬وهو سيف اهلل يف أرضه‬ ‫جل ِ‬‫وس َّكان ا ِ‬
‫من أهل اإليامن‪ُ ،‬‬
‫الذي ما ُو ِضع عىل يشء إال َق َطعه‪ ،‬وال َ‬
‫واجه اً‬
‫باطل إال أر َداه وصرَ َ عه‪َ ،‬من‬
‫صال به مل ت َُر َّد صولته‪ ،‬و َمن َن َطق به َع َل ْت عىل اخلصوم َك ِلم ُته‪ ،‬فهو ُروح‬
‫واحلامل عىل اقتِحام األهوال‪ ،‬والباب الذي‬ ‫ُ‬ ‫األعامل‪ ،‬ومحَ َ ُّك األحوال‪،‬‬
‫الدين‪ ،‬وعمود‬ ‫جلالل‪ ،‬وهو أساس بِناء ِّ‬ ‫دخل منه الواصلون إىل َح ِ‬
‫رضة ذي ا َ‬
‫أرفع درجات العاملني‪،‬‬
‫بوة التي هي ُ‬ ‫ُفسطاط اليقني‪ ،‬ودرجته تالية لدرجة ال ُّن َّ‬
‫الص ِّديقني‪ ،‬كام‬
‫واألهنار إىل مساكن ِّ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫العيون‬ ‫نان جتري‬‫جل ِ‬
‫ومن مساكنهم يف ا ِ‬
‫كان من قلوهبم إىل قلوهبم يف هذه الدار َم َد ٌد م َّتصل ُ‬
‫ومعني‪.‬‬
‫وخص ا ُمل َنع َم‬
‫َّ‬ ‫وقد أمر اهلل سبحانه َ‬
‫أهل اإليامن أن يكونوا مع الصادقني‪،‬‬
‫والصاحلني؛ فقال تعاىل‪﴿ :‬ﭲ‬ ‫والش ِ‬
‫هداء‬ ‫ُّ‬ ‫يقني‬
‫والص ِّد َ‬
‫ِّ‬ ‫ني‬
‫عليهم بال َّن ِّبي َ‬
‫َّ‬
‫ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﴾ [التوبة‪.]119:‬‬
‫ٍ‬
‫ومنافق؛ فقال‪﴿ :‬ﭦ ﭧ ﭨ‬ ‫ٍ‬
‫صادق‬ ‫الناس إىل‬
‫َ‬ ‫و َق َّسم ُ‬
‫اهلل سبحانه‬
‫ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﴾ [األحزاب‪.]24 :‬‬
‫الكذب؛ فال جيتمع ِ‬
‫كذب وإيامن‬ ‫أساسه‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ُ‬ ‫والنفاق ُ‬ ‫الصدق‪،‬‬ ‫أساسه‬
‫واإليامن ُ‬
‫إال وأحدمها محُ ا ِر ٌب َ‬
‫لآلخر‪.‬‬

‫‪173‬‬
‫وقال‪﴿ :‬ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬﭭ ﭮ‬
‫[الز َمر‪ ]34- 33:‬فالذي جاء بالصدق‬
‫ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ﴾ ُّ‬
‫ِ‬
‫وعمله وحاله‪ ،‬فالصدق يف هذه الثالثة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫الصدق يف قوله‬ ‫هو من شأنه‬
‫بلة عىل‬ ‫فالصدق يف األقوال‪ :‬استِواء ال ِّلسان عىل األقوال‪ ،‬كاستواء الس ْن ِ‬ ‫ِّ‬
‫ُّ‬
‫استواء األفعال عىل األمر واملتابعة‪ ،‬كاستواء‬ ‫ُ‬ ‫والصدق يف األعامل‪:‬‬ ‫ساقها‪ِّ ،‬‬
‫والصدق يف األحوال‪ :‬استواء القلب واجلوارح عىل‬ ‫ِّ‬ ‫الرأس عىل اجلسد‪،‬‬
‫العبد من الذين‬ ‫ُ‬ ‫الطاقة‪ ،‬فبذلك يكون‬ ‫وبذل َّ‬‫ُ‬ ‫الوسع‪،‬‬ ‫فراغ‬‫اإلخالص‪ ،‬واستِ‬
‫ُ‬
‫يقي ُته؛‬
‫صد َّ‬‫وبح َسب كامل هذه األمور فيه وقيامها به‪ :‬تكون ِّ‬ ‫بالصدق‪َ ،‬‬ ‫جاؤوا ِّ‬
‫ديقية‪ ،‬حتى‬ ‫الص َّ‬ ‫يق وأرضاه‪ُ :‬ذرو ُة َسنا ِم ِّ‬ ‫الص ِّد ِ‬
‫ولذلك كان أليب بكر ِّ‬
‫«الصديق» عىل اإلطالق‪ ،‬والصديق أبلغ من الصدوق والصدوق أبلغ‬ ‫َ‬ ‫ُس ِّمي‬
‫ِ‬
‫االنقياد‬ ‫الصديقية‪ ،‬وهي كامل‬ ‫من الصادق‪ ،‬فأعىل مراتب الصدق‪ :‬مرتبة‬
‫َّ‬
‫للرسول ﷺ‪ ،‬مع كامل اإلخالص للم ِ‬
‫رسل‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫دخله ومخُ َرجه عىل ِّ‬
‫الصدق؛‬ ‫وقد أ َمر ُ‬
‫اهلل سبحانه رسو َله أن يسأله أن جيعل ُم َ‬
‫فقال‪﴿ :‬ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ‬
‫إبراهيم ﷺ‪ ،‬أنَّه سأله أن هَيِ َب له َ‬
‫لسان‬ ‫َ‬ ‫ﮗ﴾ [اإلرساء‪ ]80:‬وأخبرَ عن خليله‬
‫دق يف الناس‪ ،‬فقال‪ ﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ﴾ [الشعراء‪.]84:‬‬ ‫ِص ٍ‬
‫ْعد ِص ٍ‬
‫دق؛ فقال تعاىل‪﴿ :‬ﭣ‬ ‫وبشرَّ عبا َده بأن هلم عنده َق َد َم ِص ٍ‬
‫دق‪ ،‬و َمق َ‬
‫ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ﴾ [يونس‪ ،]2:‬وقال‪﴿ :‬ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ‬
‫ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ﴾ [القمر‪.]55 -54:‬‬

‫‪174‬‬
‫الصـــــدق‬

‫ُ‬
‫ولسان الصدق‪،‬‬ ‫دخل الصدق‪ ،‬ومخُ َرج الصدق‪،‬‬
‫فهذه مخسة أشياء‪ُ :‬م َ‬
‫و َق َد ُم الصدق‪ ،‬و َمق َْع ُد الصدق‪.‬‬
‫احلق الثابت‪ ،‬ا ُمل َّت ِصل باهلل‪ ،‬املوصل‬ ‫الص ِ‬
‫دق يف هذه األشياء‪ :‬هو ُّ‬ ‫وحقيقة ِّ‬
‫إىل اهلل‪ ،‬وهو ما كان به وله‪ ،‬من األقوال واألعامل‪ ،‬وجزاء ذلك يف الدنيا‬
‫واآلخرة‪.‬‬
‫وخروجه حقًّا ثاب ًتا‬
‫ُ‬ ‫وم َرج الصدق‪ :‬أن يكون دخو ُله‬ ‫دخل الصدق‪ ،‬خُ‬ ‫فم َ‬
‫ُ‬
‫غية‪ ،‬وحصول املطلوب‪ ،‬ضد مخُ َرج‬ ‫بالظ َفر بالب ِ‬
‫َّ‬ ‫اً‬
‫صل‬ ‫ت‬‫َّ‬ ‫م‬ ‫ه‪،‬‬‫باهلل‪ ،‬ويف مرضاتِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وصل إليها‪ ،‬وال له ساق ثابتة يقوم‬ ‫دخله الذي ال غاية له ُي ِ‬ ‫وم َ‬ ‫ِ‬
‫الكذب ُ‬
‫خرجه هو وأصحابه‬ ‫كم َ‬ ‫خرج أعدائه يوم بدر‪ ،‬ومخُ َرج الصدق ُ‬ ‫كم َ‬
‫عليها‪ُ ،‬‬
‫يف تلك الغزوة‪.‬‬
‫دخل ِصدق باهلل‪ ،‬وهلل‪ ،‬وابتغاء مرضاة اهلل‪،‬‬ ‫دخله املدينة كان ُم َ‬ ‫وكذلك ُم َ‬
‫ُ‬
‫وإدراك ما ط َلبه يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬بخالف‬ ‫التأييد َّ‬
‫والظ َف ُر وال َّن ُ‬
‫رص‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فا َّتصل به‬
‫الك ِذب الذي رام أعداؤه أن َي ْد ُخلوا به املدين َة يوم األحزاب‪ ،‬فإنه مل‬ ‫دخل َ‬‫ُم َ‬
‫وار‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫يكن باهلل‪ ،‬وال هلل‪ ،‬بل محُ َّادة هلل ورسوله‪ ،‬فلم ي َّت ِصل به إال ِ‬
‫والب ُ‬
‫َ‬ ‫ذالن‬‫اخل‬
‫احلسن عليه ﷺ من سائر األمم بالصدق‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الصدق‪ :‬فهو ُ‬
‫الثناء‬ ‫وأ َّما لسان ِّ‬
‫وذريته من األنبياء والرسل‪ ﴿:‬ﰂ‬ ‫ليس ثنا ًء َ ِ‬
‫بالكذب؛ كام قال عن إبراهيم َّ‬
‫واملراد بال ِّلسان هاهنا‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ﴾ [مريم‪]50 :‬‬
‫الثناء ا َ‬
‫حل َس ُن‪.‬‬ ‫ُ‬
‫الص ِ‬
‫دق‪ُ :‬ففسرِّ باجل َّنة‪ ،‬و ُفسرِّ بمحمد ﷺ‪ ،‬و ُفسرِّ باألعامل الصاحلة‪.‬‬ ‫وأ َّما َق ُ‬
‫دم ِّ‬

‫‪175‬‬
‫َ‬
‫األعامل‬ ‫قدموا‬
‫قدمون عليه يوم القيامة‪ ،‬وهم َّ‬ ‫قدموه وي ِ‬
‫وحقيقة القدم ما َّ‬
‫ُ‬
‫واإليامن بمحمد ﷺ‪ ،‬وي ِ‬
‫قدمون عىل اجل َّنة التي هي جزاء ذلك‪.‬‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫قعدُ الصدق‪ :‬فهو اجلنة عند ِّ‬
‫الرب تبارك وتعاىل‪.‬‬ ‫وأ َّما َم َ‬
‫حق‪ ،‬ودوا َم ُه‬
‫واستقرار ُه‪ ،‬وأنه ٌّ‬
‫َ‬ ‫و ِو ْصف ذلك ك ِّله بالصدق ُمستل ِز ٌم ثبو َت َه‬
‫فع ُه‪ ،‬وكامل عائدته‪ ،‬فإنه ُم َّت ِص ٌل باحلق سبحانه‪ ،‬كائن به وله‪.‬‬‫و َن َ‬
‫قال عبد الواحد بن زيد‪« :‬الصدق‪ :‬الوفاء هلل بالعمل»‪.‬‬
‫وقيل‪ُ :‬موا َفقة السرِِّّ ال ُّن َ‬
‫طق‪.‬‬
‫خري من رسيرته‪،‬‬
‫الرس والعالنية‪ ،‬يعني أن الكاذب عالني ُته ٌ‬
‫وقيل‪ :‬استواء ِّ‬
‫ظاهره خري من باطنه‪.‬‬
‫ُ‬ ‫كاملنافق الذي‬
‫وتتبع حما ِّبه‪ ،‬فهو ُمتق ِّلب‬ ‫ُ‬
‫وتنفيذ أوامره‪ُّ ،‬‬ ‫الصادق مطلو ُبه رضا ر ِّبه‪،‬‬ ‫َ‬ ‫إن‬
‫ستقل معها أين استق َّلت مضاربهُ ا‪،‬‬
‫ركائبها‪ ،‬و َي ُّ‬ ‫ُ‬ ‫توجهت‬ ‫فيها يسري معها أين َّ‬
‫للخلق‬ ‫َف َب ْي َنا ُه َو يف َصلاَ ٍة إِ ْذ رأي ْته يف ِذ ْك ٍر ُث َّم فيِ َغ ْز ٍو‪ ،‬ثم يف َح ٍّج‪ ،‬ثم يف إحسان َ‬
‫بالتعليم وغريه‪ ،‬من أنواع النفع‪ ،‬ثم يف أم ٍر بمعروف‪ ،‬أو نهَ ي عن ُمنكر‪ ،‬أو يف‬
‫للدين والدنيا‪ ،‬ثم يف عيادة مريض‪ ،‬أو تشييع جنازة‪ ،‬أو‬ ‫قيام بسبب فيه عامرة ِّ‬
‫نرص مظلوم ‪-‬إن أمكن‪ -‬إىل غري ذلك من أنواع القرب واملنافع‪.‬‬
‫يتقيد بقيد وال إشارة‪ ،‬وال بمكان‬ ‫ِ‬
‫رسم وال عادة وال َو ْض ٌع‪ ،‬وال َّ‬
‫ال َيملكه ٌ‬
‫وزي معينَّ ال يلبس سواه‪ ،‬وعبادة معينة ال ي ِ‬
‫لتفت‬ ‫َ‬ ‫ُ َّ‬ ‫َ َ‬ ‫معينَّ ال يصليِّ إلاَّ فيه‪ُ ٍّ ،‬‬
‫كب ْعد ما بني السامء‬ ‫بينهام‬ ‫ما‬ ‫فضلها عليها يف الدرجة‪ ،‬وبع ِ‬
‫د‬ ‫إىل غريها‪ ،‬مع ِ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬

‫‪176‬‬
‫الصـــــدق‬
‫ال�صـــــدق‬

‫وإيثار‬ ‫فس‪،‬‬ ‫ِ‬


‫واآلفات والريا َء والتص ُّنع‪ ،‬وعباد َة ال َّن ِ‬ ‫واألرض؛ فإن البال َء‬
‫َ‬
‫رادها‪ ،‬واإلشار َة إليها‪ :‬كلها يف هذه األوضاع‪ ،‬والرسوم والقيود‪ ،‬التي‬ ‫ُم ِ‬
‫فضل عن السري من قلوهبم إىل اهلل‬ ‫ست أربابهَ ا عن السري إىل قلوهبم‪ ،‬اً‬‫َح َب ْ‬
‫وقيده وإشارته ‪ -‬ولو‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ووضعه وز ِّيه‬ ‫ِ‬
‫رسمه‬ ‫أحدهم عن‬
‫تعاىل‪ ،‬فإذا خرج ُ‬
‫وسقوطا من أعني الناس‪،‬‬ ‫ً‬ ‫نقصا‪،‬‬
‫هجن ذلك‪ ،‬ورآه ً‬ ‫إىل أفضل منه ‪ -‬اس َت َ‬
‫وس َقط من عني اهلل‪.‬‬ ‫َّ‬
‫انحط َ‬ ‫ً‬
‫وانحطاطا ُلرتبته عندهم‪ ،‬وهو قد‬
‫أصحاب‬
‫ُ‬ ‫طيقه إلاَّ‬
‫الروايس‪ ،‬ال ُي ُ‬
‫كحمل اجلبال َّ‬ ‫فحمل الصدق َ‬ ‫ً‬
‫وأيضا َ‬
‫العزائم‪ ،‬فهم يتق َّلبون حتته تق ُّلب احلماَّ ل بحمله الثقيل‪ ،‬والرياء والكذب‬
‫حامل له يف أي موضع‬ ‫ٌ‬ ‫خفيف كالريشة‪ ،‬ال جيد له صاحبه ثِ َق اًل الب َّتة‪ ،‬فهو‬
‫ا َّت َفق‪ ،‬بال تعب وال مشقَّة وال ُك ْلفة‪ ،‬وال يتق َّلب حتت حمِ له وال جيد ثِ َقله‪.‬‬

‫‪177‬‬
‫منزلـــــــة الإيثــــــار‬
‫قال اهلل تعاىل يف مدح ِ‬
‫أهله‪﴿ :‬ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ﴾‬
‫الشح؛ فإنَّ املؤثر عىل نفسه تارك ملا هو حمتاج إليه‪.‬‬
‫ضد ُّ‬
‫[احلرش‪]9 :‬؛ فاإليثار ّ‬
‫ُ‬
‫أفضل‬ ‫ِ‬
‫الناس‬ ‫‪« :‬سخاء ال َّن ْف ِ‬
‫س عماَّ يف أيدي‬ ‫قال عبد اهلل بن املبارك‬
‫بالبذل»‪.‬‬ ‫س‬‫ِ‬ ‫ْ‬
‫ف‬ ‫ن‬
‫َّ‬ ‫ال‬ ‫سخاء‬ ‫ن‬ ‫ِ‬
‫م‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫اجلود والسخاء واإلحسان‪.‬‬ ‫وهذا املنزل‪ :‬هو منزل‬
‫ثالث‪:‬‬ ‫وسمي بمنزل «اإليثار»؛ ألنه أعىل مراتبِه؛ َّ‬
‫فإن املراتب ٌ‬ ‫ِّ‬
‫يصع ُب عليه‪ ،‬فهو منزلة «السخاء»‪.‬‬ ‫البذل‪ ،‬وال ُ‬ ‫أحدها‪ :‬أن ال ينقصه ْ‬
‫جلود»‪.‬‬ ‫مثل ما أعطى‪ ،‬فهو «ا ُ‬ ‫يبقي َ‬ ‫أو‬ ‫ا‪،‬‬ ‫ئ‬
‫ً‬ ‫شي‬ ‫له‬ ‫ي‬ ‫الثانية‪ :‬أن يعطي األكثر‪ ،‬وي ِ‬
‫بق‬
‫َ‬ ‫ُ َ‬
‫ريه باليشء مع حاجته إليه‪ ،‬فهي مرتبة «اإليثار»‪،‬‬ ‫الثالثة‪ :‬أن يؤثر غ َ‬
‫ِ‬
‫ثاره عن أخيه بام هو حمتاج إليه‪ ،‬وهي املرتبة‬ ‫وعكسها «األ َثرة» وهو است ْئ ُ‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل ﷺ لألنصار ‪« :‬إ َّن ُكم س َت ْل َق ْو َن َب ْعدي أ َثرةً‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫التي قال فيها‬
‫بن ُعباد َة من‬ ‫يس بن سعد ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫وكان‬ ‫‪.‬‬ ‫(((‬
‫ض»‬ ‫فاصبرِ ُ وا ح َّتى َت ْل َق ْوين عىل ا َ‬
‫حل ْو ِ‬
‫مر ًة فاستبطأ إخوا َنه يف العيادة‪ ،‬فسأل‬ ‫األجواد املعروفني‪ ،‬حتى إنَّه م ِرض َّ‬
‫الدين‪ ،‬فقال‪ :‬أخزى ا ُ‬
‫هلل‬ ‫عنهم‪ ،‬فقالوا‪« :‬إهنم يستحيون َّمما لك عليهم من َّ‬
‫يس عليه‬ ‫اإلخوان من الزيارة‪ ،‬ثم أ َم َر مناد ًيا ُينادي‪َ :‬من كان ل َق ٍ‬ ‫َ‬ ‫مال َيمنع‬ ‫اً‬
‫لكثرة َمن عا َده»‪.‬‬ ‫عتبة بابه؛ َ‬ ‫مال فهو منه يف ِح ٍّل‪ ،‬فام أمسى حتى ُكسرِ َ ْت ُ‬ ‫ٌ‬

‫)‪ (1‬أخرجه البخاري (‪ )3793‬واللفظ له‪ ،‬ومسلم (‪.(1059‬‬

‫‪178‬‬
‫اإليثـــــــار‬

‫استئثار الناس‬
‫َ‬ ‫احلكيم اخلبري ‪-‬سبحانه‪-‬‬
‫ُ‬ ‫قدر‬
‫رس التقدير‪ ،‬حيث َّ‬ ‫فتأمل َّ‬‫َّ‬
‫ليجازيم عىل إيثارهم يف الدنيا‬
‫هَ‬ ‫عىل األنصار بالدنيا ‪-‬وهم أهل اإليثار‪-‬؛‬
‫عد ٍن عىل الناس‪ ،‬فيظهر حينئذ‬‫عىل نفوسهم باملنازل العالية يف ج َّنات ْ‬
‫فضيلة إيثا ِرهم ودرج ُته ويغبِ ُطهم َم ِن استأثر عليهم بالدنيا أعظم ِغ ٍ‬
‫بطة‪،‬‬ ‫ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وذلك فضل اهلل يؤتيه من يشاء واهلل ذو الفضل العظيم‪.‬‬
‫رأيت الناس يستأثرون عليك ‪-‬مع كونك من أهل اإليثار‪-‬؛ فاعلم‬
‫فإذا َ‬
‫أنَّه اخلري يراد بك‪.‬‬

‫مراتب الجود‪:‬‬

‫مراتب‪:‬‬
‫َ‬ ‫رش‬ ‫وا ُ‬
‫جلود َع ُ‬
‫إحداها‪ :‬اجلود بالن ْفس‪ ،‬وهو أعىل مراتبِه‪ ،‬كام قال الشاعر‪:‬‬
‫خيل هبا‬ ‫الب ُ‬ ‫ُود بال َّن ْف ِ‬
‫س‪ ،‬إ ْذ َض َّن َ‬ ‫يجَ ُ‬
‫جل ِ‬
‫ود‬ ‫ِ‬
‫غاية ا ُ‬ ‫س أ ْقصىَ‬‫ود بال َّن ْف ِ‬ ‫وا ُ‬
‫جل ُ‬
‫وده عىل‬ ‫ِ‬
‫مراتب اجلود‪ ،‬فيحمل اجلوا َد ُج ُ‬ ‫الثانية‪ :‬اجلود بالرياسة‪ ،‬وهو ثاين‬
‫ود هبا‪ ،‬واإليثار يف قضاء حاجات ِ‬
‫امللتمس‪.‬‬ ‫جل ِ‬
‫امتهان رياسته‪ ،‬وا ُ‬

‫وكدا يف‬
‫تعبا ًّ‬ ‫هبا‬ ‫فيجود‬ ‫ه‪،‬‬ ‫س‬‫ورفاهيته‪ ،‬وإمجا ِم ن ْف ِ‬
‫َ‬ ‫ه‬‫الثالثة‪ :‬اجلود براحتِ‬
‫ً‬
‫سامره‪ ،‬كام قيل‪:‬‬ ‫ولذتِه ُمل ِ‬ ‫ومه َّ‬ ‫اإلنسان ب َن ِ‬
‫ِ‬ ‫جود‬
‫ريه‪ ،‬ومن هذا ُ‬ ‫مصلحة غ ِ‬
‫ــدى لـو قـال سائِ ُل ُ‬
‫ــه‬ ‫ـم بال َّن َ‬
‫ُم َت َّي ٌ‬
‫يع َك َرى َع ْي َن ْي َك‪ْ ،‬مل َي َن ِم‬ ‫َه ْب يل جمَ َ‬

‫‪179‬‬
‫بالعلم و َب ْذلِه‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬اجلود ِ‬

‫طر ًحا‪.‬‬ ‫َبذ َله ملَن مل يسأ ُلك عنه؛ بل ت َ‬


‫َطر َحه عليه ْ‬ ‫ومن اجلود به‪ :‬أن ت ُ‬

‫استقصيت له جوابهَ ا‬
‫َ‬ ‫ومن اجلود به‪ :‬أن السائل إذا سألك عن مسألة؛‬
‫بقدر ما تَد َف ُع به الضرَّ ورة‪ ،‬كام كان‬
‫شافيا‪ ،‬ال يكون جوا ُبك له ْ‬ ‫ً‬ ‫جوا ًبا‬
‫بعضهم يك ُت ُب يف جواب الفتيا‪« :‬نعم»‪ ،‬أو‪« :‬ال»‪ .‬مقتصرًِ ا عليها‪.‬‬ ‫ُ‬
‫عجيبا؛ كان إذا‬‫ً‬ ‫تيمي َة يف ذلك ً‬
‫أمرا‬ ‫ابن َّ‬ ‫شاهدت من شيخ اإلسالم ِ‬ ‫ُ‬ ‫وقد‬
‫األئم ِة األربعة ‪-‬إذا َق ِد َر‬
‫َّ‬ ‫مذاهب‬
‫َ‬ ‫كمي ٍة‪ ،‬ذكر يف جواهبا‬
‫ُسئل عن مسألة ُح َّ‬
‫ِ‬
‫املسألة‬ ‫وذكر متعلقات‬ ‫ِ‬
‫القول الراجح‪،‬‬ ‫وترجيح‬ ‫ومأخذ اخلالف‪،‬‬‫َ‬ ‫عليه‪،-‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫فرحه بتلك املتعلقات‬ ‫أنفع للسائل من مسألته‪ ،‬فيكون ُ‬ ‫التي ربام تكون َ‬
‫وال َّلواز ِم أعظم من ِ‬
‫فرحه بمسألته‪.‬‬ ‫َ‬
‫الرجل إىل ذي‬ ‫مع‬ ‫وامليش‬
‫ِ‬ ‫كالش ِ‬
‫فاعة‬ ‫َّ‬ ‫اخلامسة‪ :‬اجلود بال َّنفع باجلاه‪،‬‬
‫َّ‬
‫سلطان ونحوه‪.‬‬
‫بي ﷺ‪:‬‬ ‫ن‬
‫َّ‬ ‫ال‬ ‫قال‬ ‫كام‬ ‫ه‪،‬‬ ‫ِ‬
‫أنواع‬ ‫السادسة‪ :‬اجلود بنفع البدن عىل اختالف‬
‫ُّ‬
‫مس‪،‬‬ ‫الش ُ‬ ‫أح ِد ُكم َصدَ ٌقة‪ُ ،‬ك َّل َيو ٍم تَط ُل ُع فيه َّ‬ ‫« ُيصبِ ُح عىل ُك ِّل ُسلاَ مى ِمن َ‬
‫دابتِه‪ ،‬ف َت ْح ِم ُله ع َليها‪ ،‬أو َير َف ُع له‬
‫الر ُج َل يف َّ‬
‫ِ‬
‫َي ْعد ُل بينْ اثنَينْ ِ َصدَ ٌقة‪ ،‬وتُعنيُ َّ‬
‫الر ُج ُل‬ ‫شيها‬ ‫م‬ ‫ي‬
‫َ‬ ‫وبك ِّل ُخ ْط ٍ‬
‫وة‬ ‫ُ‬ ‫‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫قة‬ ‫دَ‬ ‫ص‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ة‬ ‫ب‬ ‫ي‬ ‫َّ‬
‫الط‬ ‫ُ‬
‫ة‬ ‫م‬‫ل‬‫والك ِ‬
‫تاع ُه َصدَ ٌقة‪َ ،‬‬ ‫ع َليها َم َ‬
‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫ِّ‬
‫الط ِ‬
‫ريق َصدَ ٌقة»(((‪.‬‬ ‫عن َّ‬
‫يط األذى ِ‬ ‫الص ِ‬
‫الة َصدَ ٌقة‪ ،‬و ُي ِم ُ‬ ‫إىل َّ‬

‫((( أخرجه البخاري (‪ ،)2989‬ومسلم (‪.)1009‬‬

‫‪180‬‬
‫اإليثـــــــار‬

‫الصحابة ‪ ،‬كان إذا‬ ‫كجود أبيِ َض ْم َض ٍم من َّ‬ ‫بالعرض‪ُ ،‬‬ ‫السابعة‪ :‬اجلود ِ‬
‫َصد ْق ُت‬ ‫فأتصدق بِه عىل ال َّن ِ‬
‫اس‪ ،‬وقد ت َّ‬ ‫ُ‬ ‫هم إنَّه ال َ‬
‫مال يل‬ ‫أصب َح قال‪ :‬ال َّل َّ‬
‫َ‬
‫قذ َفني‪ :‬فهو يف ِح ٍّل‪.‬‬
‫فمن ش َت َمني‪ ،‬أو َ‬
‫َ‬ ‫ريض‪،‬‬ ‫عليهم ِ‬
‫بع‬
‫ص من معاداة‬ ‫ِ‬
‫وراحة القلب‪ ،‬والتخ ُّل ِ‬ ‫ويف هذا اجلود من سالمة الصدر‪،‬‬
‫اخل ْلق ما فيه‪.‬‬
‫رشيفة ِمن‬
‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫واإلغضاء‪ ،‬وهذه مرتبة‬ ‫الثامنة‪ :‬اجلود بالصرب‪ ،‬واالحتامل‪،‬‬
‫مراتبه‪ ،‬وهي أنفع لصاحبها من اجلود باملال‪.‬‬
‫ِ‬
‫اجلود؛ فإنَّه جيتني ثمر َة عواقبِه‬ ‫اجلود بامله فعليه هبذا‬ ‫صع َب عليه‬
‫ُ‬ ‫فمن ُ‬ ‫َ‬
‫توة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫الف‬ ‫جود‬ ‫وهذا‬ ‫اآلخرة‪،‬‬ ‫قبل‬ ‫نيا‬ ‫الد‬
‫ُّ‬ ‫يف‬ ‫ِ‬
‫احلميدة‬
‫َّ‬
‫والبسطة‪ ،‬وهو َ‬
‫فوق اجلود بالصرب‪،‬‬ ‫خللق والبِرش َ‬‫التاسعة‪ :‬اجلود با ُ‬
‫واالحتامل والعفو‪ ،‬وهو الذي بلغ بصاحبه درجة الصائم القائم‪.‬‬
‫بخ ُلقه واحتامله‪.‬‬
‫يس َعهم ُ‬
‫الناس بامله ويمك ُنه أن َ‬
‫َ‬ ‫يس َع‬
‫والعبد ال يمكنه أن َ‬
‫ِ‬
‫الناس عليهم‪ ،‬فال يلتفت إليه‪ ،‬وال‬ ‫العارشة‪ :‬اجلود برتكه ما يف أيدي‬
‫يتعرض له بحاله‪ ،‬وال لسانِه‪ ،‬وهذا هو الذي قال‬
‫سترشف له بقلبه‪ ،‬وال َّ‬‫ِ‬ ‫َي‬
‫عبد اهلل بن املبارك‪ :‬إنَّه من جود ْ‬
‫البذل‪.‬‬
‫خاص يف القلب واحلال‪،‬‬ ‫وتأثري‬ ‫ٍ‬
‫مرتبة من مراتب اجلود مزيد‬ ‫ِّ‬
‫ولكل‬
‫ٌّ‬ ‫ٌ‬
‫للم ْم ِسك‪ ،‬واهلل املستعان‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫واإلتالف‬ ‫للجواد‪،‬‬ ‫املزيد‬
‫َ‬ ‫ن‬ ‫واهلل سبحانه قد ِ‬
‫ضم‬

‫‪181‬‬
‫ُ‬
‫لـــــــق‬ ‫منزلــــــــــة ُ‬
‫اخل‬

‫قال اهلل تعاىل لنب ِّيه ﷺ‪﴿ :‬ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﴾ [القلم‪.]٤ :‬‬

‫واملعنى‪ :‬إ َّنك َلعىل اخلُ ُلق الذي َ‬


‫آثرك اهلل به يف القرآن‪.‬‬
‫مجع اهلل له مكار َم األخالق يف قوله تعاىل‪﴿ :‬ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ‬
‫وقد َ‬
‫ﭺ ﭻ﴾ [األعراف‪.]199 :‬‬
‫فر ِ‬
‫سول اهلل‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ن‬ ‫قال أنس ‪« :‬ما م ِسس ُت ِديباجا وال حريرا أ ْل َ ِ‬
‫م‬
‫َ‬ ‫َ ً ينَ‬ ‫ً‬ ‫َ ْ‬ ‫ٌ‬
‫سول اهلل ﷺ‪ .‬ول َق ْد َخ َد ْم ُت‬ ‫حة ر ِ‬ ‫رائ ِ‬ ‫رائح ًة َق ُّط أ ْطيب ِمن ِ‬‫ﷺ‪ ،‬وال َش ِمم ُت ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ف‪ ،‬وال قال لِشيَ ٍء َفع ْل ُته‪ :‬لمِ‬ ‫ٍّ‬ ‫ُ‬
‫أ‬ ‫‪:‬‬ ‫ُّ‬
‫ط‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫يل‬ ‫قال‬ ‫فام‬ ‫‪،‬‬ ‫ني‬
‫َ‬ ‫سول اهلل ﷺ عَشرْ ِسنِ‬ ‫َر َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫َف َع ْل َته؟ وال لشيَ ٍء لمَ ْ أ ْف َع ْل ُه‪ :‬أال َف َع ْل َت كذا؟» متفق عليه(((‪.‬‬
‫الدين‪.‬‬ ‫الدين كله ُخلق‪َ ،‬‬
‫فمن زا َد عليك يف اخلُلق‪ ،‬زا َد عليك يف ِّ‬ ‫ِّ‬
‫ُ‬
‫واحتامل األذى‪.‬‬ ‫وكف األذى‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫إن حسن اخلُلق‪ُ :‬‬
‫بذل الندى‪،‬‬ ‫وقد قيل‪َّ :‬‬
‫تصور قيا ُم ساقه إال عليها‪:‬‬‫وحسن اخلُلق يقو ُم عىل أربعة أركان ال ُي َّ‬ ‫ُ‬
‫الصرب‪ِ ،‬‬
‫والع َّفة‪ ،‬والشجاعة‪ ،‬والعدل‪.‬‬
‫ِ‬
‫واألناة‬ ‫وكف األذى‪ِ ،‬‬
‫واحلل ِم‬ ‫ِّ‬ ‫فالصرب يحَ ِم ُله عىل االحتامل وك ْظ ِم الغيظ‪،‬‬
‫والرفق‪ ،‬وعد ِم ال َّطيش والعجلة‪.‬‬
‫ِّ‬

‫((( أخرجه البخاري (‪ ،)1973‬ومسلم (‪.)2330‬‬

‫‪182‬‬
‫ُ‬
‫ــــــلق‬ ‫ُ‬
‫الخ‬

‫والقبائح من القول والفعل‪ ،‬وتحَ ِمله‬


‫ِ‬ ‫الر ِ‬
‫ذائل‬ ‫والع َّفة حتمله عىل اجتناب َّ‬
‫ِ‬
‫والبخل والكذب‪،‬‬ ‫كل خري‪ ،‬ومتنعه من الفحش‪،‬‬ ‫عىل احلياء‪ ،‬وهو رأس ِّ‬
‫ِ‬
‫والغيبة والنميمة‪.‬‬
‫ِ‬
‫وإيثار معايل األخالق ِّ‬
‫والش َيم‪ ،‬وعىل‬ ‫عز ِة النَّ ْفس‪،‬‬
‫والشجاعة تحَ ِم ُله عىل َّ‬
‫ال َب ْذل والنَّدى‪ ،‬الذي هو شجاع ُة النَّ ْفس وقوَّتهُ ا عىل إخراج املحبوب ومفارقته‪.‬‬
‫ِ‬
‫اإلفراط‬ ‫وتوسطِه فيها بني طرفيَ ِ‬ ‫أخالقه‪،‬‬ ‫اعتدال‬ ‫عىل‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫ُ‬ ‫والعدل يحَ ِ‬
‫م‬
‫ُّ‬
‫ِ‬
‫توس ٌط بينْ اإلمساك‬ ‫والسخاء الذي هو ُّ‬ ‫والتفريط؛ ف َيحم ُله عىل ُخ ُلق اجلود َّ‬
‫الذ ِّل ِ‬ ‫ِ‬
‫والق َحة‪،‬‬ ‫توس ٌط بني ُّ‬ ‫واإلرساف والتبذير‪ ،‬وعىل ُخ ُلق احلياء الذي هو ُّ‬
‫الشجاعة الذي هو توس ٌط بني اجلبن وال َّتهور‪ ،‬وعىل ُخ ُلق ِ‬
‫احللم‬ ‫ِ‬ ‫وعىل ُخ ُلق‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫ِ‬
‫وسقوط الن ْفس‪.‬‬ ‫ِ‬
‫واملهانة‬ ‫توس ٌط بني الغضب‬ ‫الذي هو ُّ‬
‫ِ‬
‫الفاضلة من هذه األربعة‪.‬‬ ‫ومنشأ مجي ِع األخالق‬
‫ومنشأ مجيع األخالق السافلة‪ ،‬وبناؤها عىل أربعة أركان‪ :‬اجلهل‪ ،‬والظلم‪،‬‬
‫والشهوة‪ ،‬والغضب‪.‬‬
‫َ‬
‫والكامل‬ ‫والقبيح يف صورة احلسن‪،‬‬‫َ‬ ‫فاجلهل ُيريه احلس َن يف صورة القبيح‪،‬‬
‫َّقص اً‬
‫كامل‪.‬‬ ‫نقصا‪ ،‬والن َ‬
‫ً‬
‫ب يف موضع‬ ‫غض‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ه‪،‬‬ ‫ِ‬
‫موضع‬ ‫غري‬ ‫يف‬ ‫ء‬‫وال ُّظ ْلم ِم ُله عىل وضع ال ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫شيَّ‬ ‫يحَ‬
‫البذل‪ ،‬وحيجم يف‬ ‫بخ ُل يف موضع ْ‬ ‫عج ُل يف موضع األناة‪ ،‬و َي َ‬ ‫الرضا‪ ،‬و َي َ‬
‫ِّ‬
‫ويشتد‬
‫ُّ‬ ‫ني يف موضع ِّ‬
‫الش َّدة‪،‬‬ ‫قد ُم يف موضع اإلحجام‪ ،‬و َي ِل ُ‬ ‫موضع اإلقدام‪ ،‬وي ِ‬
‫ُ‬

‫‪183‬‬
‫يف موضع ال ِّلني‪ ،‬ويتواضع يف موضع ِ‬
‫الع َّزة‪ ،‬ويتكبرَّ ُ يف موضع ال َّتواضع‪.‬‬
‫والش ِّح والبخل‪ ،‬وعد ِم الع َّف ِة‪ ،‬والنَّهمة‬
‫ُّ‬ ‫احلرص‬ ‫والشهوة تحَ ِم ُله عىل ِ‬
‫والد ِ‬
‫ناءات ك ِّلها‪.‬‬ ‫والذ ِّل َّ‬
‫واجلشع‪ُّ ،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫والغضب يحَ م ُله عىل الكرب‪ ،‬واحلقد‪ ،‬واحلسد‪ ،‬والعدوان‪َّ ،‬‬
‫والس َفه‪.‬‬
‫ٌ‬
‫أخالق مذمومة‪.‬‬ ‫قني ِمن هذه األخالق‬ ‫ب ِمن بني ِّ‬
‫كل ُخ ُل ِ‬ ‫ويرت َّك ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الضعف‪ ،‬وإفرا ُطها يف َّ‬
‫القوة‪.‬‬ ‫إفراط النَّ ْفس يف َّ‬
‫ُ‬ ‫األربعة أصالن‪:‬‬ ‫ومالك هذه‬
‫ُّ‬
‫والذل‪،‬‬ ‫يتو َّل ُد من إفراطها يف الضعف‪ :‬املهانة‪ ُ،‬والبخل‪ِ ،‬‬
‫واخل َّس ُة واللؤم‪،‬‬
‫وسفساف األمور‪ ،‬واألخالق‪.‬‬ ‫‪،‬‬ ‫والشح‬ ‫رص‪،‬‬ ‫ِ‬
‫واحل‬
‫َ‬ ‫ُّ‬
‫حش والبطش‪.‬‬ ‫ويتو َّل ُد من إفراطها يف القوة‪ :‬الظلم والغضب ِ‬
‫واحل َّدة‪ ،‬وال ُف ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫فإن الن ْفس قد‬‫باآلخ ِر أوال ُد ِغ َّية كثريون؛ َّ‬
‫َ‬ ‫تزو ِج أحد اخلُ ُل ِ‬
‫قني‬ ‫ِ‬
‫ويتو َّلد من ُّ‬
‫رب الناس إذا قدر‪ ،‬وأذلهَّ م إذا ُق ِهر‪،‬‬‫قو ًة وضع ًفا‪ ،‬فيكون صاح ُبها أج َ‬ ‫جتمع َّ‬
‫أذل ِمن امرأة جبان عن القوي‪ ،‬جريء‬ ‫عسوف ج َّبار‪ ،‬فإذا ُقهر صار َّ‬
‫ٌ‬ ‫ظالمِ‬
‫عىل الضعيف‪.‬‬
‫بعضا‪ ،‬كام أن األخالق احلميد َة‪ :‬يو ِّلد‬ ‫فاألخالق الذميمة‪ :‬يو ِّلد ُ‬
‫بعضها ً‬
‫بعضا‪.‬‬
‫بعضها ً‬‫ُ‬
‫وطرفاه‬ ‫بينهام‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫ط‬ ‫وس‬ ‫وهو‬ ‫‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ني‬ ‫ميم‬ ‫َ‬
‫ذ‬ ‫ِ‬
‫قني‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫ُ‬
‫بخ‬ ‫َف‬
‫ٌ‬ ‫ن‬ ‫مكت‬ ‫ٍ‬
‫حممود‬ ‫وكل ُخ ُل ٍق‬
‫ُّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ُخ ُلقان ذميامن‪ ،‬كاجلود‪ :‬الذي يكتنفه ُخ ُل َقا البخل وال َّتبذير‪ ،‬والتواضع الذي‬

‫‪184‬‬
‫ُ‬
‫ــــــــلق‬ ‫ُ‬
‫الخ‬

‫الذل واملهانة‪ ،‬والكرب والعلو‪.‬‬ ‫يكتنفه ُخ ُل َقا ِّ‬


‫ط انحرفت إىل أحد اخلُ ُلقني الذميمني‬ ‫انحرفت عن التوس ِ‬ ‫ْ‬ ‫فإن النَّ ْفس متى‬
‫ُّ‬
‫وال بد‪.‬‬
‫ذل‬ ‫وعلو‪ ،‬وإ َّما إىل ٍّ‬ ‫ٍ‬ ‫فإذا انحرفت عن خ ُلق التواض ِع انحرفت‪ :‬إما إىل ِ‬
‫ك‬
‫ٍّ‬ ‫برْ‬ ‫َّ‬
‫هانة وحقارة‪.‬‬‫وم ٍ‬
‫َ‬
‫والنزق ِ‬
‫واحل َّد ِة‬ ‫َ‬ ‫احللم انحرفت‪ :‬إما إىل ال َّطيش‬ ‫انحرفت عن ُخ ُلق ِ‬ ‫ْ‬ ‫وإذا‬
‫ٍ‬
‫ومهانة‬ ‫ذل‬ ‫ففر ٌق بينْ َمن ِح ْل ُمه ِح ْل ُم ٍّ‬ ‫واخلفة‪ ،‬وإ َّما إىل ِّ‬
‫الذل واملهانة واحلقارة‪ْ ،‬‬
‫وعز ٍة ورشف‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫اقتدار َّ‬ ‫وحقارة وعجز‪ ،‬وبينْ َمن ِح ْل ُمه ِح ْل ُم‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫عجلة و َطيش‬ ‫والرفق انحرفت‪ :‬إ َّما إىل‬ ‫وإذا انحرفت عن ُخ ُلق األناة ِّ‬
‫فق واألناة بينهام‪.‬‬ ‫والر ُ‬
‫و ُعنف‪ ،‬وإ َّما إىل تفريط وإضاعة‪ِّ ،‬‬
‫غري‬ ‫هتو ٍر وإقدا ٍم ِ‬ ‫وإذا انحرفت عن ُخ ُلق الشجاعة انحرفت‪ :‬إ َّما إىل ُّ‬
‫وتأخ ٍر مذمو ٍم‪.‬‬ ‫حممود‪ ،‬وإ َّما إىل جبن ُّ‬
‫حبيب لقاؤه‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫عزيز جان ُبه‪،‬‬
‫هيب حمبوب‪ٌ ،‬‬ ‫وصاحب اخل ُلق َ‬
‫الو َسط‪َ :‬م ٌ‬

‫‪185‬‬
‫�سبل تهذيب الأخالق‬

‫[هذا] فصل نافع جد ًا عظيم النفع للسالك‪ ،‬يوصله عن قريب‪ ،‬ويسيرِّ ه‬


‫تغيري‬ ‫فإن أصعب ما عىل الطبيعة اإلنساني ِ‬
‫ة‬ ‫بأخالقه التي ال يمكنه إزال ُتها؛ َّ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫الصعبة واملجاهدات‬‫ِ‬ ‫الرياضات‬ ‫األخالق التي ُط ْ‬
‫وأصحاب ِّ‬
‫ُ‬ ‫بعت عليها‪،‬‬
‫أكثرهم بتبديلها‪ ،‬لكن النفوس اشتغلت‬ ‫ر‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ظ‬‫ي‬ ‫ومل‬ ‫عليها‪،‬‬ ‫لوا‬ ‫الشاقة إ َّنام ِ‬
‫عم‬
‫ْ ُ‬ ‫َ‬
‫سلطان تلك األخالق وبرز‬ ‫ُ‬ ‫الرياضات عن ظهور سلطاهنا‪ ،‬فإذا جاء‬ ‫بتلك ِّ‬
‫جيوش الرياضة وش َّتتها‪ ،‬واستوىل عىل مملكة الطبع‪.‬‬ ‫َ‬ ‫كسرَ‬
‫يصل به السالك مع تلك األخالق‪ ،‬وال حيتاج إىل عالجها‬ ‫فصل ُ‬ ‫وهذا ٌ‬
‫وأرسع من َسري العامل عىل إزالتها‪.‬‬ ‫وأج َّل‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫وإزالتها‪ ،‬ويكون َسيرْ ُ ه أقوى َ‬
‫هنر ٍ‬ ‫نرضبه‪ ،‬مطاب ًقا لمِ‬
‫جار يف صببه‬ ‫ٌ‬ ‫وهو‪:‬‬ ‫ريده‪،‬‬ ‫ن‬
‫ُ‬ ‫ا‬ ‫مثل ِ ُ‬ ‫ونقد ُم قبل هذا اً‬ ‫ِّ‬
‫ودور‪ ،‬وأصحابهُ ا يعلمون‬ ‫ٍ‬ ‫أرض وعمران‬ ‫ٍ‬ ‫نته إىل تغريق‬ ‫ومنحدره‪ ،‬وم ٍ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫ف أراض َيهم وأموالهَ م‪ ،‬فانقسموا‬ ‫تل َ‬ ‫أ َّنه ال ينتهي حتى خيرب دورهم‪ ،‬وي ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬
‫ثالث فِ َر ٍق‪:‬‬
‫َ‬
‫وحبسه وإيقافه‪ ،‬فال تصنع‬ ‫ِ‬ ‫رصفت قواها وقوى أعامهلا إىل َسكْره‬ ‫ْ‬ ‫فرقة‬
‫جيتمع ثم حيمل عىل ا َل َّس ْك ِر‪ ،‬فيكون‬‫َ‬ ‫ري أمر؛ فإنَّه يوشك أن‬ ‫ُ‬
‫الفرقة كب َ‬ ‫هذه‬
‫أعظم‪.‬‬
‫َ‬ ‫إفسا ُده وختري ُبه‬
‫مت أ َّنه ال ُيغني عنها شي ًئا‪ ،‬فقالت‪ :‬ال خالص‬ ‫وفرق ٌة رأت هذه احلالة‪ِ ،‬‬
‫وعل ْ‬
‫فرامت قط َعه من أصله‪َّ ،‬‬
‫فتعذر عليها‬ ‫ْ‬ ‫بقطعه من أصل ال َينبوع‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫من حمذوره إال‬

‫‪186‬‬
‫تهذيب األخالق‬

‫دائم يف‬ ‫فهم‬ ‫اإلباء‪،‬‬ ‫أشد‬


‫َّ‬ ‫ذلك‬ ‫عليهم‬ ‫ُ‬
‫ة‬ ‫َّهري‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫ُ‬
‫ة‬ ‫الطبيع‬ ‫عذر‪ ،‬وأب ِ‬
‫ت‬ ‫ذلك غاي َة ال َّت ُّ‬
‫اً‬ ‫َ‬
‫سدوه ِمن موضع َن َب َع ِمن موضع‪ ،‬فاشتغل هؤالء بشأن‬ ‫قطع ال َينبوع‪ ،‬وك َّلام ُّ‬
‫ِ‬
‫وغرس األشجار‪.‬‬ ‫ِ‬
‫والعامرات‬ ‫هذا النَّهر عن الزراعات‬
‫وعلموا أنهَّ م قد ضاعت عليهم‬‫خالفت رأي الفرقتني‪ِ ،‬‬
‫ْ‬ ‫فجاءت فرق ٌة ثالثة‬
‫رصف ذلك ِ‬
‫النهر عن مجَ راه املنتهي إىل خراب‬ ‫ِ‬ ‫كثري من مصاحلهم‪ ،‬فأخذوا يف‬ ‫ٌ‬
‫يترضرون به‪،‬‬
‫َّ‬ ‫العمران‪ ،‬ورصفوه إىل موض ٍع ينتفعون بوصوله إليه‪ ،‬وال‬
‫ِ‬
‫والكأل‬ ‫أنواع ال ُعشب‬ ‫فأنبتت‬
‫ْ‬ ‫ٍ‬
‫أرض قابلة للنبات‪ ،‬وس َقوها به‪،‬‬ ‫فرصفوه إىل‬
‫َ‬
‫والثامر املختلفة األصناف‪ ،‬فكانت هذه الفرق ُة هي أصوب ِ‬
‫الف َر ِق يف شأن‬ ‫َ‬
‫هذا النهر‪.‬‬
‫سائر‬ ‫َ‬
‫اإلنسان ‪-‬بل َ‬ ‫اقتضت حكم ُته أن َر َّكب‬
‫ْ‬ ‫فإذا تبينَّ هذا امل َثل‪ ،‬فاهلل سبحانه‬
‫قوتني‪ :‬غضب َّية‪ ،‬وشهوانية وهي اإلرادية‪.‬‬ ‫عىل‬ ‫ٍ‬
‫حممولة‬ ‫طبيعة‬ ‫عىل‬ ‫‪-‬‬ ‫ِ‬
‫احليوان‬
‫َّ‬
‫س وصفاتهِ ا‪ ،‬ومها مركوزتان‬ ‫وهاتان القوتان مها احلاملتان ألخالق الن ْف ِ‬
‫وبقو ِة‬ ‫ِ‬
‫املنافع إىل ن ْفسه‪َّ ،‬‬
‫َ‬ ‫ذب‬ ‫ِ‬
‫فبقوة الشهوة واإلرادة يجَ ُ‬ ‫كل حيوان‪َّ ،‬‬ ‫يف ِجبِ َّلة ِّ‬
‫املضار عنها‪.‬‬
‫َّ‬ ‫الغضب يدفع‬
‫منصب يف جدول الطبيعة‬‫ٌّ‬ ‫القوتني‪ ،‬وهو‬ ‫مثال هاتني َّ‬ ‫فإذا تبينَّ هذا فالنهر ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ومجَ راها إىل ُدور القلب وعمرانه وحواصله‪ُ ،‬يذه ُبها و ُيتل ُفها وال بد‪ ،‬فالنُّ ُ‬
‫فوس‬
‫وهدم عمرا َنه‪،‬‬ ‫ديار اإليامن‪ ،‬وق َلع َ‬
‫آثاره‪َ ،‬‬ ‫فخرب َ‬‫اجلاهل ُة ال َّظامل ُة ترك ْته وجمراه‪َّ ،‬‬
‫وز ُّقوم‪ ،‬وهو‬
‫وشوك َ‬ ‫شجرة خبيثة‪ِ ،‬من حنظل وضرَ ي ٍع َ‬ ‫ٍ‬ ‫وأنبت موض َعها َّ‬
‫كل‬ ‫َ‬
‫الذي يأك ُله ُ‬
‫أهل النار يو َم املعاد‪.‬‬

‫‪187‬‬
‫أمر هذا النهر‪،‬‬ ‫فوس ال َّزك َّي ُة الفاضلة‪ :‬فإنهَّ ا ْ‬
‫رأت ما يؤول إليه ُ‬ ‫وأما النُّ ُ‬
‫َّ‬
‫ثالث فِ َرق‪:‬‬
‫َ‬ ‫فافرتقوا‬
‫ِ‬
‫واخللوات والتمرينات را ُموا ق ْط َعه‬ ‫فأصحاب الرياضات واملجاهدات‪،‬‬
‫اجلبِ َّل َة البرشية‪ ،‬ومل‬‫من َينبوعه‪ ،‬فأ َب ْت ذلك حكم ُة اهلل تعاىل‪ ،‬وما ط َبع عليه ِ‬
‫طيس‪ ،‬وصارت‬ ‫الو ُ‬ ‫ومحي َ‬
‫َ‬ ‫فاشتد القتال‪ ،‬ودام احلرب‪،‬‬
‫َّ‬ ‫َتن َق ْد له الطبيعة‪،‬‬
‫س عىل إزالة‬ ‫جال‪ ،‬وهؤالء رصفوا ُقواهم إىل جماهدة النَّ ْف ِ‬ ‫احلرب دو اًل ِ‬
‫وس اً‬ ‫َُ‬
‫تلك الصفات‪.‬‬
‫نفوسهم باألعامل‪ ،‬ومل يجُ يبوا دواعي‬ ‫َ‬ ‫أعرضوا عنها‪َ ،‬‬
‫وشغلوا‬ ‫وفرق ٌة َ‬
‫هنرها من إفساد‬ ‫ِّنوا‬ ‫ك‬ ‫يم‬ ‫مل‬ ‫لكن‬ ‫راها‪،‬‬ ‫مجَ‬ ‫عىل‬ ‫اها‬‫ي‬ ‫إ‬ ‫ختليتهم‬ ‫مع‬ ‫تلك الص ِ‬
‫فات‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫ورأوا أن‬ ‫ِ‬
‫وأساسه‪،‬‬ ‫عمراهنم‪ ،‬بل اشتغلوا بتحصني العمران‪ ،‬وإحكا ِم بنائه‬
‫ْ‬
‫بد أن يصل إليه‪ ،‬فإذا وصل وصل إىل ٍ‬
‫بناء محُ َك ٍم مل هَي ِد ْمه‪ ،‬بل‬ ‫َّهر ال َّ‬
‫ذلك الن َ‬
‫قو َة عزيمتهم وإرادتهِ م يف العامرة‪،‬‬ ‫رصفوا َّ‬ ‫وشامل‪ ،‬فهؤالء َ‬ ‫اً‬ ‫يأخ ُذ عنه يمينًا‬
‫ُ‬
‫الفاسدة من أصلها‪ ،‬خو ًفا‬ ‫ِ‬ ‫رصفوها يف قطع املا َّد ِة‬ ‫وإحكا ِم البناء‪ ،‬وأولئك َ‬
‫من هدم البناء‪.‬‬
‫عن هذه املسألة‪ ،‬وقط ِع اآلفات‪،‬‬ ‫وسألت يو ًما شيخ اإلسالم اب َن تيم َّي َة‬
‫ُ‬
‫ريق وتنظيفها؟‬ ‫ِ‬
‫واالشتغال بتنقية ال َّط ِ‬

‫ب ال َق َذر‪ -‬ك َّلام‬


‫فقال يل يف مجلة كالمه‪« :‬النَّ ْف ُس مثل البا ُطوس ‪-‬وهو ُج ُّ‬
‫ف عليه‪ ،‬و َت ْعبرُ َ ه وتجَ وزه فاف َع ْل‪،‬‬‫إن أمكنك أن َتس ُق َ‬
‫ظهر وخرج‪ ،‬ولكن ْ‬ ‫نبش َته َ‬
‫غريه»‪.‬‬ ‫ظهر‬ ‫ا‬‫ئ‬‫ً‬ ‫شي‬ ‫ت‬‫َ‬ ‫ْ‬
‫نبش‬ ‫وكلام‬ ‫قراره‪،‬‬ ‫إىل‬ ‫تصل‬ ‫لن‬ ‫ك‬‫ن‬‫َّ‬ ‫فإ‬ ‫بنبشه؛‬ ‫ل‬‫ْ‬ ‫ِ‬
‫تشتغ‬ ‫وال‬
‫َ ُ‬
‫‪188‬‬
‫تهذيب األخالق‬

‫س‬ ‫آفات النَّ ْف ِ‬ ‫«مثال ِ‬ ‫الشيوخِ فقال يل‪ُ :‬‬ ‫بعض ُّ‬ ‫املسألة َ‬‫ِ‬ ‫سألت عن هذه‬ ‫ُ‬ ‫فقلت‪:‬‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫مثال احلي ِ‬
‫فإن أقبل عىل تفتيش الطريق‬ ‫والعقارب التي يف طريق املسافر‪ْ ،‬‬ ‫ات‬ ‫ُ َّ‬
‫السفر ُّ‬ ‫واالشتغال بق ْت ِلها انقطع‪ ،‬ومل ي ِ‬ ‫ِ‬
‫مه ُتك‬ ‫قط‪ ،‬ولكن لت ُك ْن َّ‬ ‫ُ‬ ‫مكنْه‬ ‫ُ‬ ‫عنها‪،‬‬
‫عرض لك فيها ما‬ ‫واإلعراض عنها‪ ،‬وعد َم االلتفات إليها‪ ،‬فإذا َ‬ ‫َ‬ ‫ا َمل َ‬
‫سري‪،‬‬
‫شيخ اإلسالم‬ ‫فاستحس َن ُ‬ ‫َ‬ ‫امض عىل َسريك»؛‬ ‫ِ‬ ‫ثم‬‫سري فاق ُت ْله‪َّ ،‬‬ ‫َيعوقك عن ا َمل ِ‬
‫جدا‪ ،‬وأثنى عىل قائله‪.‬‬ ‫ذلك ًّ‬
‫فات ما ُخل َق ْت‬ ‫أن هذه الص ِ‬ ‫رأت َّ‬ ‫إذا تبني هذا‪ ،‬فهذه الفرق ُة الثالثة‪ْ :‬‬
‫ِّ‬
‫امر‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫ث‬ ‫وال‬ ‫والشوك‪،‬‬ ‫الورد‪،‬‬ ‫به‬ ‫سقى‬ ‫ي‬ ‫س ًدى وال عب ًثا‪ ،‬وأ ا بمنزلة ٍ‬
‫ماء‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫نهَّ‬ ‫ُ‬
‫خاف‬ ‫َ‬ ‫وأن ما‬ ‫منطوية عليها‪َّ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫جلواهر‬ ‫وأصداف‬
‫ٌ‬ ‫واحلطب‪ ،‬وأنهَّ ا صوان‬
‫َ‬
‫أن ِ‬ ‫ِ‬
‫يسقى‬
‫َ‬ ‫فرأوا َّ برْ َ ٌ‬
‫هنر‬ ‫الك‬ ‫ْ‬ ‫سبب الفالح وال َّظ َفر‪،‬‬ ‫منه أولئك هو ن ْف ُس‬
‫اهلمة‪،‬‬ ‫علو َّ‬ ‫ويسقى به ُّ‬ ‫َ‬ ‫العلو والفخر‪ ،‬وال َب َط ُر وال ُّظ ْل ُم والعدوان‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫به‬
‫والعلو عليهم‪ ،‬وهذه‬ ‫هم‬ ‫وقهر‬ ‫اهلل‪،‬‬ ‫ألعداء‬ ‫ُ‬
‫ة‬ ‫واملراغم‬ ‫ة‪،‬‬ ‫ي‬ ‫واأل َنفة‪ ،‬واحل ِ‬
‫م‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫َ َّ‬
‫الدر َة‬ ‫هذه‬ ‫واستخرجوا‬ ‫راس‪،‬‬ ‫صدفته‪ ،‬فرصفوا جمراه إىل هذا ِ‬
‫الغ‬ ‫در ٌة يف َ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫لكن استعملوه حيث يكون‬ ‫من صدفته‪ ،‬وأبقوه عىل حاله يف نفوسهم‪ِ ،‬‬
‫الصفَّينْ ِ ‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫أنفع‪ ،‬وقد رأى النَّبيُّ ﷺ أبا ُد َجان َة َيت َب ْخترَ ُ بينْ‬ ‫استعام ُله َ‬
‫وضعِ»(((‪.‬‬ ‫«إنا لمَ ِ ْشي ٌة يب ِغ ُضها اهلل‪ ،‬إلاَّ يف ِم ْث ِل هذا ا َمل ِ‬
‫ُْ‬ ‫هَّ‬
‫أحس ِن مواضعه‪،‬‬ ‫يف‬ ‫جيري‬ ‫لق‬ ‫ِ‬ ‫خل‬‫ا‬ ‫وهذا‬ ‫فانظر كيف خلىَّ جمرى هذه الص ِ‬
‫فة‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫اً‬
‫موصل‪.‬‬ ‫القاطع‬ ‫َ‬
‫استحال‬ ‫الصف ُة املذموم ُة عبود َّي ًة وكيف‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫[و] كيف صارت ِّ‬

‫((( أخرجه البخاري يف «التاريخ الكبري» (‪.)154/3‬‬

‫‪189‬‬
‫جمتهد عىل‬‫ٌ‬ ‫الصفات‬ ‫هذه‬ ‫ِ‬
‫أصول‬ ‫ع‬ ‫ْ‬
‫ط‬ ‫ق‬ ‫عىل‬ ‫ُ‬
‫والعامل‬ ‫ياضات‪،‬‬ ‫الر‬ ‫ب‬ ‫ِ‬
‫فصاح‬
‫ِّ‬ ‫ُ ِّ‬
‫أقرها يف موضعها وأ َع َّدها ألقراهنا‪ ،‬وهو‬ ‫قد‬ ‫وهذا‬ ‫رب‪،‬‬ ‫قطع ماد ِة اخليالء ِ‬
‫والك‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ف هلا يف َمرصف ُيعينه عىل مطلبه و ُيوصله إليه‪.‬‬ ‫مرص ٌ‬
‫ِّ‬
‫الغبطة واملنافسة‪،‬‬ ‫وكذلك ُخلق احلسد؛ فإ َّنه ال يذم‪ ،‬وهو كالصدفة لدرة ِ‬
‫ُ ُّ‬
‫فس َّل َطه عىل َه َل َكتِه‬ ‫كام قال النبي ﷺ‪« :‬ال َح َس َد إلاَّ يف اثنَ َتينْ ِ ‪َ :‬ر ُج ٍل آتا ُه اهللُ مالاً ‪َ ،‬‬
‫وأطراف النَّ ِ‬
‫هار»(((‪.‬‬ ‫َ‬ ‫آناء ال َّل ِ‬
‫يل‬ ‫رآن‪ ،‬فهو َي ُقو ُم به َ‬ ‫ور ُج ٍل آتا ُه اهللُ ال ُق َ‬ ‫يف َ‬
‫احل ِّق‪َ ،‬‬
‫فاحلسد ُيوصل إىل املنافسة التي حي ُّبها اهلل ويأمر هبا يف قوله‪﴿ :‬ﯢ ﯣ‬
‫ﯤ ﯥ﴾ [املطففني‪]62 :‬؛ فال تعمل عىل إعدام هذا اخلُلق من‬
‫الر َتب العالية‪،‬‬ ‫يف‬ ‫املنافسة‬ ‫عىل‬ ‫احلامل‬ ‫ِ‬
‫املحمود‬ ‫ن ْفسك‪ ،‬بل احرفه إىل احلسد‬
‫ُّ‬
‫وتزاحم أهلها بالركب‪ ،‬ال تتم َّن زوال نعمة اهلل عن عبده فتزول عنك ويبقيها‬
‫عليه‪.‬‬
‫كل خري‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وأوصلها إىل ِّ‬ ‫وكذلك ُخلق ِ‬
‫احلرص؛ فإ َّنه من أنفع األخالق‬
‫قوة احلرص‪ ،‬فال َت ْ‬
‫عمل عىل ق ْطعها ولكن علقها بام‬ ‫بحسب َّ‬ ‫وشد ُة الطلب َ‬
‫«اح ِر ْص عىل ما‬
‫النفس يف معادها‪ ،‬ويكملها ويز ِّكيها‪ ،‬كام قال ﷺ‪ْ :‬‬ ‫َ‬ ‫ينفع‬
‫ك‪ ،‬واس َت ِع ْن باهللِ وال َت ْع ِ‬
‫جزْ»(((‪.‬‬ ‫َين َف ُع َ‬
‫احلرص عليه أو ال‬
‫ُ‬ ‫فقوة احلرص ال ُت َذ ُّم‪ ،‬وإنام ُيذم صرَ ُفها إىل ما ُّ‬
‫يرض‬
‫أنفع للعبد منه‪.‬‬ ‫وغريه ُ‬
‫ُ‬ ‫ينفع‪،‬‬

‫((( أخرجه البخاري (‪ ،)73‬ومسلم (‪.)816‬‬


‫((( أخرجه مسلم (‪.)2664‬‬

‫‪190‬‬
‫تهذيب األخالق‬

‫وأوصلها إىل كامله وسعادتِه؛‬ ‫ِ‬ ‫قوة الشهوة ِمن أنفع ال ُق َوى للعبد‬ ‫وكذلك َّ‬
‫وبحسب‬
‫َ‬ ‫وبحسب شهوة العبد للكامل يكون طل ُبه له‪،‬‬ ‫َ‬ ‫فإهنا ُتثمر املح َّب َة‪،‬‬
‫وقر ِة العني يكون طل ُبه لذلك يف‬ ‫َّ‬
‫ووصال األحب ِ‬
‫ة‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫العيش‬ ‫قو ِة شهوته لِ َل َّذ ِ‬
‫ة‬ ‫َّ‬
‫دق الشهوة وقوَّتهُ ا يحَ ِم ُله عىل‬
‫فص ُ‬ ‫مصد ًقا؛ ِ‬
‫ِّ‬ ‫وإن كان مؤمنًا هبا موقنًا‬ ‫اجلنة‪ْ ،‬‬
‫ّ‬
‫وأجل وأرفع‪.‬‬ ‫بيع مشتهى أعىل منه‬
‫فالر ُسل صلوات اهلل‬ ‫الصفات واألخالق‪ُّ ،‬‬ ‫وهذه قاعدة م َّطرد ٌة يف مجيع ِّ‬
‫جمار حممودة‪ ،‬وجاؤوا‬ ‫املذمومة إىل ٍ‬ ‫ِ‬ ‫برصفها عن جمارهيا‬ ‫وسال ُمه عليهم جاؤوا ْ‬
‫ليامن مائ ُة امرأة‪،‬‬ ‫لس َ‬ ‫كان‬ ‫حتى‬ ‫رسي‪،‬‬ ‫ت‬
‫َّ‬ ‫وال‬ ‫ِّكاح‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫إىل‬ ‫الش ِ‬
‫هوة‬ ‫َّ‬ ‫برصف قو ِ‬
‫ة‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫الرسول ﷺ بني تسع‪ ،‬وأباح لأل َّم ِة أرب ًعا‬ ‫ُ‬ ‫مجع‬
‫تسع وتسعون‪ ،‬و َ‬ ‫ٌ‬ ‫ولداو َد‬
‫هوة عن‬‫الش ِ‬ ‫لقو ِة هذه َّ‬ ‫ا‬‫ف‬‫ً‬ ‫رص‬ ‫حرص؛‬ ‫بال‬ ‫الرساري‬ ‫ن‬ ‫مما طاب من النساء‪ِ ،‬‬
‫وم‬
‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬
‫أحب إليه ِمن َن ْف ِل العبادة‬ ‫جمرى احلرام إىل جمرى احلالل الذي حي ُّبه اهلل‪ ،‬وهو ُّ‬
‫عند ِ‬
‫أكثر الفقهاء‪.‬‬
‫والغ ِ‬
‫لظة عليهم‬ ‫ولذلك جاؤوا برصف قوة الغضبية إىل جهاد أعداء اهلل‪ِ ،‬‬
‫َّ‬
‫واالنتقام منهم‪.‬‬
‫األصوات املطربة ال َّل ِ‬
‫ذيذة ال ُي َذ ُّم بل يحُ َمد‪ ،‬وقد‬ ‫ِ‬ ‫وكذلك شهوة استام ِع‬
‫األشعري واستمع إىل قراءته‪ ،‬وقال‪« :‬لقد‬ ‫ِّ‬ ‫النبي ﷺ عىل أيب موسى‬ ‫وقف ُّ‬
‫َّ‬
‫مر بن اخلطاب يأ ُم ُره إذا‬ ‫ع‬‫ُ‬ ‫وكان‬ ‫‪،‬‬
‫(((‬
‫َ»‬ ‫د‬ ‫داو‬ ‫آل‬ ‫وت ِم ْزمارا ِمن م ِ‬
‫زام ِري ِ‬ ‫ُأ يِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬

‫((( أخرجه البخاري (‪ ،)5048‬ومسلم (‪.)793‬‬

‫‪191‬‬
‫وهم يسمعون‪ ،‬هذا كان‬ ‫ِ‬ ‫حرض ِع َ‬
‫نده مع الصحابة أن ُيسم َعهم قراء َته‪ ،‬فيقرأ ُ‬
‫خواص‬
‫ِّ‬ ‫امع‬ ‫امع أو من ِ‬
‫كر َهه؟ وهل هذا إلاَّ َس ُ‬ ‫الس َ‬
‫حرم هذا َّ‬
‫فمن َّ‬
‫سامع القوم‪َ ،‬‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫وآالت‬ ‫صدية وقرآن الشيطان‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫األولياء؟ فأين هذا من سامع ا ُمل ِ‬
‫كاء وال َّت‬
‫املعازف بنغامت الناشد؟‬
‫تتغذى به‪ ،‬ولكن ال يستوي َمن غذاؤه‬ ‫طيب َّ‬‫ٍ‬ ‫للروح من سام ٍع‬ ‫بد ُّ‬
‫فال َّ‬
‫العسل واحللوى والط ِّيبات‪ ،‬و َمن غذاؤه الرجيع وا َمليت ُة َّ‬
‫والد ُم وحلم اخلنزير‬ ‫ُ‬
‫أه ُل هذا ال يرون آثاره عىل شفاههم‬ ‫وما ُأ ِه َّل به لغري اهلل‪ ،‬ويا عج ًبا! ْ‬
‫إن كان ْ‬
‫أرباب البصائر ذلك عليهم؟!‬ ‫ِ‬ ‫ووجوههم‪ ،‬أفال َيس َتحون من معاينة‬
‫أن رسوم الطبيعة و ُقواها ال يمكن تعطي ُلها يف دار االبتالء‬
‫واملقصود‪َّ :‬‬
‫ِ‬
‫النافعة له‪ ،‬التي ال حترم عليه‬ ‫ِ‬
‫ستعم ُلها يف مواضعها‬ ‫العارف َي‬
‫ُ‬ ‫واالمتحان‪ ،‬فالبصري‬
‫فسد عليه حاله مع اهلل‪ ،‬وال ُت ِ‬
‫سقطه من عينه‪.‬‬ ‫دينًا‪ ،‬وال تقطع عليه طري ًقا‪ ،‬وال ُت ِ‬

‫فإن قلت‪ :‬هل يمكن أن يكون اخلُ ُل ُق كسب ًّيا‪ ،‬أو هو ٌ‬


‫أمر خارج عن الكسب؟‬

‫يصري له َسج َّي ًة وم َلك ًة‪،‬‬


‫َ‬ ‫قلت‪ :‬يمكن أن يقع كسب ًّيا بال َّتخ ُّلق وال َّتك ُّلف؛ حتى‬
‫فيك ُلخَ ُل َق ِ حُيِبهام اهلل‪ِ :‬‬
‫احل ْل ُم‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ألشج ِ‬
‫ُّ ُ‬ ‫ينْ‬ ‫«إن‬
‫َّ‬ ‫‪:‬‬ ‫يس‬ ‫ق‬ ‫ال‬ ‫عبد‬ ‫النبي ﷺ َ ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫وقد قال‬
‫ك اهلل‬ ‫أخ ُل َقينْ ِ تخَ َّل ْق ُت هبام‪ ،‬أ ْم َج َب َلني اهلل ع َل ِيهام؟ فقال‪ْ :‬‬
‫«بل َج َب َل َ‬ ‫واألناةُ»‪ ،‬فقال‪ُ :‬‬
‫مد هلل ا َّلذي جب َلني عىل ُخ ُل َق ِ يحُ ِ‬
‫ورسو ُله(((‪.‬‬
‫َ‬ ‫اهلل‬ ‫ام‬ ‫ه‬ ‫ب‬
‫ينْ ُّ ُ‬ ‫ََ‬ ‫ع َل ِيهام»‪ .‬فقال‪ :‬ا َ‬
‫حل ُ‬

‫((( أخرجه مسلم (‪ ،)17‬إىل قوله‪ِ :‬‬


‫«احللم واألناة»‪ ،‬وأخرج باقيه أبو داود (‪.)5225‬‬

‫‪192‬‬
‫تهذيب األخالق‬

‫النبي‬ ‫اخللق‪ :‬ما هو طبيعة ِ‬


‫وجبِ َّلة‪ ،‬وما هو‬ ‫فدل عىل أن من ُ‬ ‫َّ‬
‫مكتسب‪ ،‬وكان ُّ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫األخالق‪ ،‬ال هَ ْيدي‬ ‫ألح َس ِن‬ ‫ين‬ ‫د‬‫ﷺ يقول يف دعاء االستفتاح‪« :‬ال َّلهم اه ِ‬
‫ْ‬ ‫َّ ْ‬
‫أنت»(((‪،‬‬
‫َ‬ ‫ف عنِّي َس ِّي َئها إلاَّ‬‫ف عنِّي َس ِّي َئها‪ ،‬ال يَصرْ ِ ُ‬
‫أنت‪ ،‬واصرْ ِ ْ‬‫َ‬ ‫ألح َسنِها إلاَّ‬
‫ْ‬
‫فذكر الكسب وال َق َدر‪.‬‬

‫مشاهد العبد فيما يصيبه من أذى الخلق‪:‬‬

‫مشهدا فيام ُيصيبه من أذى اخل ْلق وجنايتِهم عليه‪:‬‬


‫ً‬ ‫أحد عشرَ َ‬
‫وهاهنا للعبد َ‬
‫وقدره‪ ،‬يراه‬ ‫ِ‬
‫وقضائه َ‬ ‫القدر‪َّ ،‬‬
‫وأن ما جرى عليه بمشيئة اهلل‬ ‫أحدها‪ :‬مشهد َ‬
‫ِ‬
‫واملرض واألمل‪.‬‬ ‫كال َّتأ ِّذي ِّ‬
‫باحلر والربد‪،‬‬
‫وحس َن عاقبتِه‪،‬‬
‫ويشهد وجو َبه‪ُ ،‬‬
‫ُ‬ ‫شه ُده‬ ‫الص ِرب‪ ،‬ف َي َ‬
‫املشهد الثاين‪ :‬مشهد َّ‬
‫الغبطة والرسور‪.‬‬ ‫وجزاء أهله‪ ،‬وما يرت َّتب عليه من ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫وفض َله‬
‫شهد ذلك ْ‬ ‫والصفح ِ‬
‫واحللم‪ ،‬فإ َّنه متى ِ‬ ‫ِ‬ ‫املشهد الثالث‪ :‬مشهد العفو‬
‫ش يف بصريته‪.‬‬ ‫عد ْل عنه إال لغ َب ٍ‬ ‫وع َّزته‪ :‬مل ي ِ‬
‫وحالوته ِ‬
‫َ‬
‫فح‪ ،‬وهذا ال‬ ‫والص ِ‬
‫العفو َّ‬‫ِ‬ ‫فوق مشهد‬ ‫املشهد الرابع‪ :‬مشهد الرضا‪ ،‬وهو َ‬
‫صيبت به سببه القيام هلل‪ ،‬فإن‬ ‫ْ‬ ‫يكون إلاَّ للنفوس املطمئنة‪ ،‬س َّيام إن كان ما ُأ‬
‫كان ما ُأصيب به يف اهلل‪ ،‬ويف مرضاتِه وحم َّبتِه؛ َر ِض َي ْت بام ناهلا يف اهلل‪.‬‬
‫املشهد اخلامس‪ :‬مشهد اإلحسان‪ ،‬وهو ُ‬
‫أرفع ممَّا قبله‪ ،‬وهو أن يقابل إساء َة‬

‫((( أخرجه مسلم (‪.)771‬‬

‫‪193‬‬
‫ِ‬
‫امليسء إليه باإلحسان‪ ،‬في ِ‬
‫حس َن إليه ك َّلام أساء هو إليه‪.‬‬ ‫ُ‬
‫جدا‬
‫مشهد رشيف ًّ‬
‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫وبرد القلب‪ ،‬وهذا‬ ‫املشهد السادس‪ :‬مشهد السالمة‬
‫عرفه‪ ،‬وذاق حالو َته‪ ،‬وهو أن ال َيش َغل قل َبه وسرَِّ ه بام ناله من األذى‪،‬‬ ‫مل َن َ‬
‫فر ُغ قلبه من ذلك‪ ،‬ويرى‬ ‫ي‬ ‫بل‬ ‫ه‪،‬‬‫س‬‫ثأره‪ ،‬وشفاء ن ْف ِ‬
‫وطلب الوصول إىل درك ِ‬‫ِ‬
‫ِّ‬ ‫ُ‬
‫ُ‬
‫وأعون عىل مصاحله‪.‬‬ ‫أنفع له‪ ،‬وأ َل ُّذ وأطيب‪،‬‬
‫وخلوه منه ُ‬
‫َّ‬ ‫أن سالمته وبر َده‬ ‫َّ‬
‫مشهد األمن‪ ،‬فإ َّنه إذا ترك املقابل َة واالنتقام؛ ِأم َن ما هو‬‫ُ‬ ‫املشهد السابع‪:‬‬
‫بد‪.‬‬
‫اخلوف وال َّ‬
‫ُ‬ ‫انتقم وا َق َعه‬
‫رش من ذلك‪ ،‬وإذا َ‬ ‫ٌّ‬
‫ِ‬
‫الناس له من‬ ‫املشهد الثامن‪ :‬مشهد اجلهاد‪ ،‬وهو أن يشهد تو ُّل َد أذى‬
‫ِ‬
‫وإقامة دين اهلل‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وأمرهم باملعروف‪ ،‬ونهَ ِي ِهم عن املنكر‪،‬‬ ‫جهاده يف سبيل اهلل‪،‬‬
‫وإعالء كلامتِه‪.‬‬
‫رضه بأع َظ ِم الثمن‪.‬‬ ‫وصاحب هذا املقام‪ :‬قد اشرتى اهللُ منه ن ْفسه وماله ِ‬
‫وع َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫املشهد التاسع‪ :‬مشهد النِّعمة‪ ،‬وذلك من وجوه‪:‬‬
‫َّرص‪ ،‬ومل‬ ‫أحدها‪ :‬أن يشهد نعم َة اهلل عليه يف أن ج َع َله مظلو ًما يرت َّق ُ‬
‫ب الن َ‬
‫َ‬
‫واألخذ‪.‬‬ ‫جيع ْله ظالمًِا يرت َّق ُ‬
‫ب ا َمل ْق َت‬
‫ومنها‪ :‬أن يشهد نعم َة اهلل يف ال َّتكفري بذلك من خطاياه؛ فإ َّنه ما أصاب‬
‫املؤم َن َه ٌّم وال َغ ٌّم وال أ ًذى إلاَّ ك َّفر اهللُ به من خطاياه‪.‬‬
‫وأسهل من غريها؛ فإ َّنه ما ِمن‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫أهون‬ ‫ون تلك البل َّي ِة‬
‫ومنها‪ :‬أن يشهد َك َ‬
‫حمنة إلاَّ وفو َقها ما هو أقوى منها وأ َم ُّر‪ْ ،‬‬
‫فإن مل يكن فو َقها حمن ٌة يف البدن‬ ‫ٍ‬

‫‪194‬‬
‫تهذيب األخالق‬

‫ٍ‬
‫مصيبة دون‬ ‫وأن َّ‬
‫كل‬ ‫ِ‬
‫وإسالمه وتوحيده‪َّ ،‬‬ ‫فلينظر إىل سالمة دينه‬ ‫ِ‬
‫واملال‬
‫ْ‬
‫ين ج َل ٌل‪.‬‬‫الد ِ‬ ‫ِ‬
‫مصيبة ِّ‬
‫أج ِرها وثواهبا يو َم الفقر والفاقة‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬توفي ُة ْ‬
‫جدا‪.‬‬
‫لطيف رشيف ًّ‬
‫ٌ‬ ‫مشهد‬
‫ٌ‬ ‫املشهد العارش‪ :‬مشهد األُسوة‪ ،‬وهو‬
‫ِ‬ ‫بيب يرىض أن يكون له ُأسو ٌة ُبر ُس ِل اهلل‪ ،‬وأنبيائه‬
‫وأوليائه‪،‬‬ ‫فإن العاقل ال َّل َ‬ ‫َّ‬
‫أشد اخل ْل ِق امتحا ًنا بالناس‪ ،‬وأذى الناس‬ ‫ُّ‬ ‫وخاصتِه ِمن خ ْل ِقه؛ فإنهَّ م‬ ‫َّ‬
‫مع‬ ‫صص األنبياء‬ ‫ِ‬ ‫السيل يف احلدور‪ ،‬ويكفي تد ُّب ُر َق‬ ‫أرسع من َّ‬ ‫ُ‬ ‫إليهم‬
‫وشأن نب ِّينا ﷺ وأذى أعدائه له بام مل ْيؤ َذ به َمن َق ْب َله؛ وقد قال له‬ ‫ِ‬ ‫ُأممَ ِهم‪،‬‬
‫أحد ِ‬
‫بم ْث ِل‬ ‫ولتؤ َذ َي َّن‪ ،‬وقال له‪« :‬ما جاء ٌ‬ ‫خر َج َّن ْ‬ ‫بن َنو َف ٍل‪َ :‬ل ُت َك َّذ َب َّن و َل ُت َ‬ ‫قة ُ‬ ‫ور ُ‬ ‫َ‬
‫مستمر يف ورثته كام كان يف مورثهم ﷺ‪.‬‬ ‫وهذا‬ ‫‪،‬‬ ‫»‬ ‫ودي‬
‫َ‬ ‫ع‬‫ُ‬ ‫إال‬ ‫به‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ئ‬
‫ْ‬ ‫ج‬‫ما ِ‬
‫ٌّ‬
‫(((‬

‫وخواص عباده‪ :‬األمثل‬ ‫ِّ‬ ‫العبد أن يكون له أسو ٌة بخيار خ ْلق اهلل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أفال يرىض‬
‫فاألمثل؟!‬
‫ِ‬ ‫أج ُّل‬
‫املشاهد وأرف ُعها‪ :-‬مشهد التوحيد‪ ،‬فإذا‬ ‫املشهد احلادي عرش ‪-‬وهو َ‬
‫ب إليه‪،‬‬ ‫والتقر ِ‬ ‫ه‬‫واإلخالص له ومعاملتِه وإيثار مرضاتِ‬ ‫ِ‬ ‫اهلل‬ ‫امتأل قلبه بمحب ِ‬
‫ة‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫نس به واالطمئنان إليه‪ ،‬وسكن إليه‪،‬‬ ‫وقر ْت عينُه باهلل‪ ،‬وابتهج قلبه بح ِّبه واألُ ِ‬ ‫َّ‬
‫واشتاق إىل لقائه‪ ،‬واتخَّ ذه ول ًّيا دون ما سواه‪ ،‬بحيث َف َّو َض إليه َ‬
‫أموره ك َّلها‪،‬‬
‫أذى الناس له البتة‪.‬‬ ‫متسع لشهود َ‬ ‫ٌ‬ ‫وريض به وبأقضيته؛ فإنه ال يبقى يف قلبه‬ ‫َ‬

‫((( أخرجه البخاري (‪ ،)3‬ومسلم (‪.)160‬‬

‫‪195‬‬
‫منزلــــــة التوا�ضـــــع‬

‫قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ﴾ [الفرقان‪.]٣٦ :‬‬

‫وقال تعاىل‪﴿ :‬ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ‬


‫ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ﴾ [املائدة‪.]٤٥ :‬‬

‫عداه بأداة «عىل»‬


‫وعطف وشفقة وإخبات ّ‬ ‫ٍ‬ ‫الذ ُّل منهم ُذ َّل رمحة‬
‫َّملا كان ُّ‬
‫تضمينًا ملعاين هذه األفعال؛ فإ َّنه مل ُي ِرد به َّ‬
‫ذل اهلوان الذي صاحبه ذليل‪ ،‬وإنام‬
‫هو ذل اللني واالنقياد الذي صاحبه َذلول‪ ،‬فاملؤمن َذلول‪.‬‬

‫دخ ُل‬
‫قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪« :‬ال َي ُ‬ ‫ويف صحيح مسلم عن ابن مسعود‬
‫قال َذ َّر ٍة ِمن ِكبرْ ٍ »(((‪.‬‬ ‫جلنَّ ُة َمن كان يف َق ْلبِه ِم ْث ُ‬ ‫ا َ‬
‫أخ ُذ ب َي ِده‬ ‫ِ‬
‫وكانت األ َم ُة َت ُ‬ ‫عليهم‪،‬‬‫يان ف ُي َس ِّل ُم ِ‬ ‫وكان النَّبي ﷺ يمر عىل الصب ِ‬
‫ِّ ْ‬ ‫َ ُ ُّ‬ ‫ُّ‬
‫أه ِله‪ ،‬ومل ْ َي ُك ْن‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫يث شا َء ْت‪ ،‬وكان ﷺ َيك ُ‬ ‫ﷺ ف َتن َط ِل ُق به َح ُ‬
‫ُون يف َبيته يف خ ْدمة ْ‬
‫أله ِله‪،‬‬
‫الشا َة ْ‬ ‫ب َّ‬ ‫ف َن ْع َله‪ ،‬و َي ْر َق ْع َث ْو َبه‪ ،‬ويحَ ُل ُ‬ ‫َين َت ِق ُم لنَ ْف ِسه َق ُّط‪ ،‬وكان ﷺ يخَ ِْص ُ‬
‫ني‪ ،‬ويميش مع األرم ِ‬
‫لة‬ ‫اخلاد ِم ‪ ،‬ويجُ الِس ا َمل ِ‬
‫ساك‬ ‫ِ‬ ‫مع‬ ‫ل‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ك‬ ‫أ‬‫ي‬ ‫ف الب ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫و َيعل ُ َ َ َ‬
‫و‬ ‫‪،‬‬ ‫ري‬ ‫ع‬
‫بد ُأ من َل ِ‬ ‫واليتي ِم يف حاجتِ‬
‫ولو إىل‬ ‫يب َد ْعو َة َمن َدعا ُه‪ْ ،‬‬ ‫بالسال ِم‪ ،‬ويجُ ِ ُ‬ ‫َّ‬ ‫ه‬ ‫ي‬
‫َ‬ ‫ق‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ي‬
‫َ‬ ‫و‬ ‫ام‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ه‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫أيسرَ ِ شيَ ٍء‪.‬‬
‫((( أخرجه مسلم (‪.)91‬‬

‫‪196‬‬
‫التواضـــــع‬

‫الو ْج ِه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وكان ﷺ ه َ ا ُمل ْؤ ِ‬


‫كريم ال َّطب ِع‪ ،‬جمَ َيل ا ُملعاشرَ ة‪َ ،‬ط ْل َق َ‬ ‫َ‬ ‫‪،‬‬ ‫ق‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫ُ‬ ‫خل‬ ‫ا‬ ‫َ‬ ‫ينِّ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫‪،‬‬ ‫نة‬ ‫َ ينِّ‬
‫حيم بك ُِّل‬ ‫ر‬ ‫ِ‬
‫لب‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫ال‬ ‫يق‬
‫َ‬ ‫ف‪ ،‬ر ِ‬
‫ق‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ري‬ ‫َ‬
‫غ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫واضعا ِمن َغ ِري ِذ َّل ٍة‪ ،‬جوادا ِ‬ ‫بساما‪ ،‬م َت ِ‬
‫َ اً‬ ‫َ‬ ‫سرَ َ‬ ‫َ َ ً‬ ‫ً‬ ‫َ َّ ً ُ‬
‫ب هلُم‪.‬‬ ‫ني‪َ ،‬لينِّ َ اجلانِ ِ‬ ‫لمؤ ِمنِ َ‬ ‫ناح لِ ْ‬ ‫جل ِ‬ ‫ِ‬
‫ُم ْسل ٍم‪ ،‬خاف َض ا َ‬
‫ِ‬

‫للحق‪ ،‬وينقاد له‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫التواضع؟ فقال‪« :‬خيضع‬ ‫ُ‬ ‫ضيل ب ُن ِعياض عن‬ ‫ُسئل ال ُف ُ‬
‫و َيق َب ُله ممَّن قاله»‪.‬‬
‫مر بن اخل َّطاب عىل عاتقه ِقرب ُة‬ ‫«رأيت ُع َ‬ ‫ُ‬ ‫الز َبري ‪:‬‬ ‫وقال ُعروة بن ُّ‬
‫أمري املؤمنني‪ ،‬ال ينبغي لك هذا‪ ،‬فقال‪َّ :‬ملا أتاين الوفو ُد سامعني‬ ‫ماء‪ ،‬قلت‪ :‬يا َ‬
‫فأحببت أن أكسرِ ها»‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫مطيعني‪ ،‬دخ َل ْت ن ْفيس نخوة‪،‬‬
‫ندم‪ ،‬فألقى ن ْف َسه وحلف‪:‬‬ ‫بالل بسواده‪ ،‬ثم أ َّنه ِ‬ ‫اً‬ ‫و ُيذكر َّ‬
‫أن أبا ذر عيرَّ‬
‫رأسه حتى فعل بالل‪.‬‬ ‫خدي بقدمه‪ ،‬فلم يرفع َ‬ ‫بالل ِّ‬ ‫رفعت رأيس حتى يطأ ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ال‬
‫ك‬ ‫ال‬ ‫فكان‬ ‫واحلرص‪،‬‬ ‫[و] أو ُل ذنب َعىص اهلل به أبوا الثقلني‪ِ :‬‬
‫الك‬
‫برْ ُ‬ ‫برْ ُ‬ ‫ََ‬ ‫َّ‬
‫أمره إىل ما آل إليه‪ ،‬وذنب آد َم عىل نب ِّينا وعليه‬ ‫إبليس اللعني؛ فآل ُ‬ ‫َ‬ ‫ذنب‬
‫َ‬
‫السال ُم‪ :‬كان من احلرص والشهوة‪ ،‬فكان عاقبته التوب َة واهلداية‪ ،‬وذنب‬ ‫َّ‬
‫بالقدر واإلرصار‪ ،‬وذنب آدم أوجب له إضاف َته‬ ‫إبليس محله عىل االحتجاج َ‬ ‫َ‬
‫واالعرتاف به واالستغفار‪.‬‬ ‫َ‬ ‫إىل ن ْف ِسه‪،‬‬
‫وقائدهم إىل‬ ‫ِ‬ ‫فأهل الكبرْ ِ واإلرصار‪ ،‬واالحتِجاجِ باألقدار‪ :‬مع شيخهم‬
‫املعرتفون بالذنوب‪ ،‬الذين‬ ‫ِ‬ ‫النار إبليس‪ ،‬وأهل الشهوة املستغفرون التائِبون‬
‫يف اجلنة‪.‬‬ ‫بالقدر‪ :‬مع أبيهم آد َم‬
‫ال حيتجون عليها َ‬

‫‪197‬‬
‫منزلـــــــــة املـــــروءة‬

‫َ‬
‫احليوان البهيم‪،‬‬ ‫فارق هبا‬ ‫ِ‬ ‫صاف الن ْف ِ‬
‫س بصفات اإلنسان التي َ‬ ‫ُ‬ ‫حقيقتها‪ :‬ا ِّت‬
‫الرجيم؛ َّ‬
‫فإن يف النفس ثالث َة دوا ٍع متجاذبة‪:‬‬ ‫َ‬
‫والشيطان َّ‬
‫دا ٍع يدعوها إىل اال ِّتصاف بأخالق الشيطان‪ :‬من ِ‬
‫الكبرْ ‪ ،‬واحلسد‪ ،‬والعلو‪،‬‬
‫والبغي‪ ،‬والرش‪ ،‬واألذى‪ ،‬والفساد‪ ،‬والغش‪.‬‬
‫ودا ٍع يدعوها إىل أخالق احليوان‪ ،‬وهو داعي الشهوة‪.‬‬
‫ودا ٍع يدعوها إىل أخالق ا َمل َلك‪ِ ،‬من اإلحسان‪ ،‬والنُّصح‪ ،‬والبرِِّ ‪،‬‬
‫والعلم‪ ،‬والطاعة‪.‬‬
‫الداع َي ِ‬
‫ني‪ ،‬وإجاب ُة الداعي الثالث‪.‬‬ ‫فحقيقة املروءة‪ُ :‬بغض ذينك َّ‬
‫والتوج ُه‬
‫ُّ‬ ‫وقلة املروءة وعد ُمها‪ :‬هو االسرتسال مع ذينك الداعيني‪،‬‬
‫لدعوتهِ ام أين كانت‪.‬‬
‫عقول بال شهوة‪ ،‬وخ َلق البهائم‬ ‫اً‬ ‫قال بعض السلف‪« :‬خ َلق اهلل املالئك َة‬
‫فمن غلب‬ ‫العقل والشهوة؛ َ‬ ‫َ‬ ‫شهو ًة بال عقول‪ ،‬وخلق اب َن آد َم‪ ،‬ور َّكب فيه‬
‫عق ُله شهو َته ا ْل َتحق باملالئكة‪ ،‬و َمن َغ َلبت شهو ُته عق َله ا ْل َتحق بالبهائم»‪.‬‬
‫حد املروءة‪ :‬إهنا غلب ُة العقل للشهوة‪.‬‬
‫وهلذا قيل يف ِّ‬

‫وحقيقة املروءة جتنُّب الدنايا َّ‬


‫والرذائل‪ ،‬من األقوال‪ ،‬واألخالق‪ ،‬واألعامل‪.‬‬

‫‪198‬‬
‫المــــــروءة‬

‫فمروءة اللسان‪ :‬حالوته وطيبته ولِينُه‪ ،‬واجتناء الثامر منه بسهولة ويرس‪.‬‬
‫ومروءة ُ‬
‫اخل ُلق‪َ :‬س َع ُته و َب ْس ُطه للحبيب والبغيض‪.‬‬
‫عقل و ُعر ًفا ورش ًعا‪.‬‬
‫ومروءة املال‪ :‬اإلصابة ببذله مواق َعه املحمود َة اً‬

‫ومروءة اجلاه‪َ :‬ب ْذ ُله للمحتاج إليه‪.‬‬


‫ومروءة اإلحسان‪ :‬تعجي ُله وتيسريه‪ ،‬وتوفريه‪ ،‬وعدم رؤيته َ‬
‫حال وقوعه‪،‬‬
‫ونسيانه بعد وقوعه‪ ،‬فهذه مروءة ال َب ْذل‪.‬‬
‫ِ‬
‫واإلغضاء‬ ‫ِ‬
‫واملعاتبة‪ ،‬واملطالبة واملامراة‪،‬‬ ‫وأما مروءة الترَّ ْ ك‪ :‬فكرتك اخلصام‪،‬‬
‫ِ‬
‫والتغافل عن‬ ‫وترك االستقصاء يف طلبه‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫عن عيب ما يأخذه من ح ِّقك‪،‬‬
‫ع َثرات الناس‪ ،‬وإشعارهم أ َّنك ال تعلم ألحد منهم عثرة‪ ،‬والتوقري للكبري‪،‬‬
‫وحفظ حرمة النظري‪ ،‬ورعاية أدب الصغري‪.‬‬ ‫ِ‬

‫وهي ُ‬
‫ثالث َدرجات‪:‬‬
‫الدرجة األوىل‪ :‬مروءة ا َمل ِ‬
‫رء مع ن ْفسه‪ ،‬وهي أن حيملها َقسرًْ ا عىل مراعاة ما‬ ‫َّ‬
‫جيمل ويزين‪ ،‬وترك ما يدنس ويشني‪ ،‬ليصري هلا ملكة يف العالنية؛ فمن اعتاد‬ ‫ِّ‬
‫شي ًئا يف رسه وخلوته ملكه يف عالنيته وجهره‪.‬‬
‫الرشع والعقل‪،‬‬ ‫ه‬‫حيظر‬ ‫ال‬ ‫ما‬ ‫لاَّ‬‫إ‬ ‫املأل‪،‬‬ ‫يف‬ ‫ه‬ ‫فال يفعل خاليا ما يستحي ِمن ِ‬
‫فعل‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫وال يكون إلاَّ يف اخللوة‪ ،‬كاجلامع‪ ،‬والتخليِّ ‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬
‫َ‬
‫رشوط األدب‬ ‫الدرجة الثانية‪ :‬املروءة مع اخل ْلق‪ ،‬بأن يستعمل معهم‬

‫‪199‬‬
‫واحلياء‪ ،‬واخلُ ُلق اجلميل‪ ،‬وال يظهر هلم ما يكرهه هو ِمن غريه لنفسه‪،‬‬
‫ونفر عنه‪ِ ،‬من قول أو ٍ‬
‫فعل أو‬ ‫فكل ما َك ِر َهه َ‬
‫الناس مرآ ًة لنفسه‪ُّ ،‬‬
‫َ‬ ‫وليتخذ‬
‫فليفع ْله‪.‬‬
‫َ‬ ‫أح َّبه من ذلك واستحسنه‬
‫فليتج َّن ْبه‪ ،‬وما َ‬
‫َ‬ ‫خ ُلق‪،‬‬
‫الدرجة الثالثة‪ :‬املروءة مع ِّ‬
‫احلق سبحانه‪ ،‬باالستحياء من نظره إليك‪،‬‬
‫كل حلظة و َن َفس‪ ،‬وبإصالح عيوب ن ْف ِسك جهد اإلمكان؛‬
‫وا ِّطالعه عليك يف ِّ‬
‫فإ َّنه قد اشرتاها منك وأنت سا ٍع يف تسليم املبيع‪ ،‬وتقايض الثمن‪ ،‬وليس من‬
‫تسليمه عىل ما فيه من العيوب‪ ،‬وتقايض الثمن اً‬
‫كامل‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫املروءة‪:‬‬

‫‪200‬‬
‫األدب‬

‫منزلــــــــة الأدب‬
‫ِ‬
‫وإصابة مواقعه‪،‬‬ ‫ِعلم األدب‪ :‬هو ِعلم إصالح ال ِّلسان ِ‬
‫واخلطاب‪،‬‬ ‫ُ‬
‫العام‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫عبة من األدب‬ ‫وحتسني ألفاظه‪ِ ،‬‬
‫وصيانته عن اخلطأ وا َ‬
‫خل َلل‪ ،‬وهو ُش ٌ‬
‫أدب مع اهلل‪ ،‬وأدب مع رسوله ﷺ ورشعه‪ ،‬وأدب مع‬ ‫واألدب ثالثة أنواع‪ٌ :‬‬
‫َخ ْل ِقه‪.‬‬
‫األدب مع اهلل‪:‬‬
‫فاألدب مع اهلل ثالثة أنواع‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬صيان ُة معاملته أن يشوهبا بنقيصة‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬صيانة قلبك أن يلتفت إىل غريه‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬صيانة إرادتك أن تتع َّلق بام َيم ُق ُتك عليه‪.‬‬
‫أحوج منَّا إىل كثري من‬
‫ُ‬ ‫‪« :‬نحن إىل قليل من األدب‬ ‫وقال اب ُن املبارك‬
‫ِ‬
‫العلم»‪.‬‬
‫صلوات اهلل وسال ُمه عليهم مع اهلل‪ ،‬وخطابهَ م‬‫ُ‬ ‫الر ُس ِل‬
‫أحوال ُّ‬ ‫َ‬ ‫وتأ َّم ْل‬
‫وسؤاهلم‪ ،‬كيف تجَ ِ ُدها ك َّلها مشحون ًة باألدب‪ ،‬قائم ًة به‪.‬‬

‫قال املسيح ‪ ﴿ :‬ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ﴾ ومل يقل‪« :‬مل أ ُق ْله»‪ْ ،‬‬


‫وفر ٌق بني‬
‫ثم أحال األمر عىل ِعلمه سبحانه باحلال وسرِِّ ه‪،‬‬ ‫اجلوابني يف حقيقة األدب‪َّ ،‬‬
‫فقال‪ ﴿ :‬ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ﴾ ثم َّبرأ ن ْف َسه عن ِعلمه بغيب ر ِّبه وما خيتص به‬

‫‪201‬‬
‫سبحانه‪ ،‬فقال‪﴿ :‬ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ﴾ ثم أثنى عىل ربه‪ ،‬ووصفه بتفرده ِ‬
‫بعلم‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬
‫الغيوب ك ِّلها‪ ،‬فقال‪ ﴿ :‬ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ﴾ [ المائدة‪.]901 :‬‬
‫‪﴿ :‬ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ‬ ‫ِ‬
‫اخللي�ل‬ ‫إبراهي�م‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ق�ول‬ ‫وكذل�ك‬
‫ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ﴾ [الش�عراء‪ ]80 – 78 :‬ومل ي ُق�ل‪« :‬وإذا‬
‫أمرضني»؛ ِحف ًظا لألدب مع اهلل‪.‬‬
‫خلض يف السفينة‪ ﴿ :‬ﮚ ﮛ ﮜ ﴾ [الكهف‪ ،]79 :‬ومل‬ ‫قول ا َ‬
‫وكذلك ُ‬
‫ني‪﴿ :‬ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ﴾‬ ‫ربك أن أعيبها»‪ .‬وقال يف الغُ ال َم ِ‬
‫ُيقل‪« :‬فأراد ُّ‬
‫[الكهف‪.]82 :‬‬
‫مؤمني اجل ِّن‪﴿ :‬ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ﴾ ومل يقولوا‪:‬‬
‫وكذلك قول ْ‬
‫«أراده رهبم»‪.‬‬
‫ثم قالوا‪ ﴿:‬ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ﴾ [اجلن‪.]10 :‬‬
‫‪﴿ :‬ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ﴾‬ ‫وألطف من هذا ُ‬
‫قول موسى‬ ‫ُ‬
‫[القصص‪ ]42 :‬ومل ُيقل‪« :‬أطعمني»‪.‬‬
‫السنن‪،‬‬ ‫هتاو َن باألدب ُعوقب بحرمان ُّ‬‫بن ا ُملبارك ‪َ « :‬من َ‬ ‫عبد اهلل ُ‬ ‫وقال ُ‬
‫عوقب بحرمان الفرائض‪ ،‬و َمن هتاون بالفرائض عوقب‬ ‫هتاو َن بالسنن ِ‬ ‫و َمن َ‬
‫ُّ‬
‫بحرمان املعرفة»‪.‬‬
‫وغ َ‬
‫سل‬ ‫والوضو َء ُ‬ ‫األدب‪،‬‬ ‫من‬ ‫ِ‬
‫العورة‬ ‫واألدب هو الدِّ ين ك ُّله‪ ،‬فإنَّ َسترْ َ‬
‫ُ‬
‫طاهرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫والتطه َر من اخلبث ِمن األدب‪ ،‬حتى يقف بني َ‬
‫يد ِي اهلل‬ ‫ُّ‬ ‫اجلنابة‬
‫الرج ُل يف صالته للوقوف بني يدي ر ِّبه‪.‬‬‫يتجمل ُ‬ ‫ِ‬
‫وهلذا كانوا يستح ُّبون أن َّ‬

‫‪202‬‬
‫األدب‬

‫وكان لبعض السلف ُح َّل ٌة بمبل ٍغ عظيم من املال‪ ،‬وكان َيل َب ُسها َ‬
‫وقت‬
‫جتم ْل ُت له يف َصاليت»‪.‬‬
‫أحق َمن َّ‬‫ُّ‬ ‫الصالة‪ ،‬ويقول‪« :‬ربيِّ‬
‫واملقصود‪ :‬أن األدب مع اهلل تبارك وتعاىل‪ :‬هو القيام بدينه‪ ،‬والتأ ُّد ُب‬
‫ظاهرا وباطنًا‪.‬‬
‫ً‬ ‫بآدابه‬
‫أشياء‪ :‬معرف ٌة به بأسامئه‬ ‫بثالثة‬ ‫إال‬ ‫اهلل‬ ‫مع‬ ‫األدب‬ ‫ُّ‬
‫قط‬ ‫ٍ‬
‫ألحد‬ ‫وال يستقيم‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫كره‪ ،‬ون ْف ٌس مستعدة قابلة‬ ‫ي‬ ‫وما‬ ‫ب‬ ‫وصفاته‪ ،‬ومعرف ٌة بدينه ورشعه وما ِ‬
‫حي‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬
‫اً‬
‫وحال؛ واهلل املستعان‪.‬‬ ‫اً‬
‫وعمل‬ ‫ل ِّينَ ٌة‪ ،‬متهيئة ل َقبول احلق ِع اًلم‬
‫األدب مع الرسول ﷺ‪:‬‬
‫مملوء به‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫األدب مع الرسول ﷺ‪ :‬فالقرآن‬
‫ُ‬ ‫وأما‬
‫َّ‬
‫كامل التسليم له‪ ،‬واالنقياد ألمره‪ ،‬وتل ِّقي ِ‬
‫خربه‬ ‫فرأس األدب معه‪ُ :‬‬ ‫ُ‬
‫اً‬
‫معقول‪،‬‬ ‫حيمله معارض َة خيال باطل‪ِّ ،‬‬
‫يسميه‬ ‫بال َقبول والتصديق‪ ،‬دون أن ّ‬
‫يقدم عليه آرا َء الرجال‪ ،‬وزباالت أذهاهنم‪،‬‬ ‫حيمله شبه ًة أو شك ًا‪ ،‬أو ِّ‬ ‫أو ّ‬
‫واالنقياد واإلذعان‪ ،‬كام وحد ِ‬
‫املرس َل بالعبادة‬ ‫ِ‬ ‫فيوح ُده بالتحكيم وال َّتسليم‪،‬‬
‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫ِ‬
‫واإلنابة والتوكل‪.‬‬ ‫والذ ِّل‪،‬‬
‫واخلضو ِع ُّ‬
‫هني‪ ،‬وال ٍ‬
‫إذن‬ ‫يتقدم بينْ يديه بأمر وال ٍ‬
‫ومن األدب مع الرسول ﷺ‪ :‬أن ال َّ‬ ‫ِ‬
‫ترصف‪ ،‬حتى يأمر هو‪ ،‬وينهى ويأ َذن‪ ،‬كام قال تعاىل‪﴿ :‬ﮎ ﮏ ﮐ‬ ‫وال ُّ‬
‫نسخ‪،‬‬ ‫ي‬
‫ُ‬ ‫مل‬ ‫القيامة‬ ‫يوم‬ ‫إىل‬ ‫ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ﴾ [احلجرات‪ ]1 :‬وهذا ٍ‬
‫باق‬
‫َ‬
‫كالتقدم بني يديه يف حياته‪ ،‬وال ْفر َق بينهام‬
‫ُّ‬ ‫فالتقد ُم بينْ يدي ُسنَّتِه بعد وفاته‪،‬‬
‫ُّ‬
‫عند ذي عقل سليم‪.‬‬

‫‪203‬‬
‫سبب حلبوط‬
‫فوق صوته؛ فإنَّه ٌ‬ ‫األصوات َ‬
‫ُ‬ ‫ومن األدب معه‪ :‬أن ال ت َ‬
‫ُرفع‬ ‫ِ‬
‫ونتائج األفكار عىل ُس َّنتِه وما جاء به؟ أترى‬
‫ِ‬ ‫الظن برفع اآلراء‪،‬‬
‫األعامل‪ ،‬فام ُّ‬
‫موجب حلبوطها؟!‬
‫ٌ‬ ‫فوق صوته‬ ‫ِ‬
‫األصوات َ‬ ‫موجبا ل َقبول األعامل‪ ،‬ورفع‬ ‫ذلك‬
‫ً‬
‫َ‬
‫ستشك َل قو ُله؛ بل َيستشكل اآلراء لقوله‪ ،‬وال‬ ‫ومن األدب معه‪ :‬أن ال ُي‬
‫كالمه‬
‫حيرف ُ‬ ‫األقيسة وتلغى لنصوصه‪ ،‬وال َّ‬‫ُ‬ ‫نصه بقياس؛ بل تهُ َد ُر‬
‫ُيعارض ُّ‬
‫اً‬
‫معقول‪.‬‬ ‫عن حقيقته خليال يسميه أصحا ُبه‬
‫األدب مع الخلق‪:‬‬
‫خل ْلق؛ فهو معامل ُتهم ‪-‬عىل اختالف مراتبهم‪ -‬بام يليق هبم‪،‬‬ ‫األدب مع ا َ‬
‫ُ‬ ‫وأ َّما‬
‫ِ‬
‫ولألب‬ ‫خاص‪،‬‬
‫أدب ٌّ‬ ‫ين ٌ‬‫الوالد ِ‬
‫َ‬ ‫خاص‪ ،‬فمع‬
‫أدب ٌّ‬ ‫أدب‪ ،‬واملراتب فيها ٌ‬ ‫ولكل مرتبة ٌ‬ ‫ِّ‬
‫أدب يليق به‪ ،‬وله‬
‫آخ ُر‪ ،‬ومع السلطان ٌ‬ ‫أدب َ‬
‫أخص به‪ ،‬ومع العالمِ ٌ‬ ‫ُّ‬ ‫أدب هو‬
‫منهام ٌ‬
‫غري أدبِه مع أصحابه و َذوي أنسه‪،‬‬‫أدب يليق هبم‪ ،‬ومع األجانب أدب ُ‬ ‫مع األقران ٌ‬
‫ِ‬
‫وفالحه‪،‬‬ ‫رء عنوان سعادتِه‬‫وأدب املَ ِ‬
‫ُ‬ ‫أدب غري أدبه مع أهل بيته‪،‬‬ ‫ومع الضيف ٌ‬
‫وق َّل ُة أدبِه عنوان شقاوتِه و َبوا ِره‪.‬‬
‫جلب ِحرمانهُ ُ ام ِ‬
‫بمثل‬ ‫بمثل األدب‪ ،‬وال اس ُت ِ‬
‫فام اس ُتج ِلب خري الدنيا واآلخرة ِ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ق َّل ِة األدب‪.‬‬
‫حبس الغار حني أطبقت‬
‫صاحبه من ْ‬ ‫َ‬ ‫فانظر إىل األدب مع الوالدين كيف َن َّجى‬
‫اً‬
‫وإقبال عىل الصالة‪ -‬كيف‬ ‫اً‬
‫‪-‬تأويل‬ ‫األم‬
‫عليهم الصخرة؟ واإلخالل به مع ِّ‬
‫ور ْميِه بالفاحشة‪.‬‬
‫ب الناس له‪َ ،‬‬ ‫ورض ِ‬
‫صاحبه هبدم صومعته ْ‬
‫ُ‬ ‫ام ُتحن‬

‫‪204‬‬
‫اليقيــــــن‬

‫منزلــة اليقــــني‬

‫فاض َل العارفون‪،‬‬ ‫الروح من اجلسد‪ ،‬وفيه َت َ‬ ‫وهو من اإليامن بمنزلة ُّ‬


‫وعم ُل القوم إ َّنام كان عليه‪،‬‬
‫شمر العاملون‪َ ،‬‬ ‫وفيه تنا َف َس املتنافسون‪ ،‬وإليه َّ‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫اإلمامة يف‬ ‫حصول‬ ‫وإشاراتهُ م ك ُّلها إليه‪ ،‬وإذا َّ‬
‫تزوج الص ُ‬
‫رب باليقني‪ :‬ولد بينهام‬
‫الدين‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ‬ ‫ِّ‬
‫ﮄ﴾ [السجدة‪.]42 :‬‬
‫ِ‬
‫أعامل اجلوارح‪ ،‬وهو‬ ‫فـ«اليقني» ُروح أعامل القلوب التي هي أرواح‬
‫الصديق َّية‪ ،‬وهو ُقطب َر َحى هذا الشأن الذي عليه ُ‬
‫مداره‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫حقيقة‬

‫واليقني قرين التوكل؛ وهلذا ُفسرِّ التو ُّك ُل َّ‬


‫بقوة اليقني‪.‬‬

‫ُ‬
‫اقرتان اهلدى به‪،‬‬ ‫والصواب‪َّ :‬‬
‫أن التوكل ثمر ُته ونتيجته؛ وهلذا َح ُسن‬
‫فاحلق‪ :‬هو‬
‫ُّ‬ ‫قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﴾ [النمل‪]97 :‬‬

‫اليقني‪ ،‬وقالت ُر ُس ُل اهلل‪﴿ :‬ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ﴾‬


‫[إبراهيم‪.]21 :‬‬

‫نورا وإرشا ًقا‪ ،‬وانتفى عنه ُّ‬


‫كل ريب‬ ‫اليقني إىل القلب امتأل ً‬
‫ُ‬ ‫ومتى وصل‬
‫وشكرا له‪،‬‬
‫ً‬ ‫وغم‪ ،‬فامتأل حم َّب ًة هلل‪ ،‬وخو ًفا منه ً‬
‫ورضا به‪،‬‬ ‫وهم ٍّ‬ ‫ٍّ‬
‫وشك وسخط‪ٍّ ،‬‬
‫اً‬
‫وتوكُّل عليه‪ ،‬وإنابة إليه‪ ،‬فهو مادة مجيع املقامات واحلامل هلا‪.‬‬

‫‪205‬‬
‫هبي؟‬ ‫و‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫أو‬ ‫ي‪،‬‬‫ب‬ ‫س‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫هو‬ ‫هل‬ ‫فيه‪:‬‬ ‫ف‬ ‫واخ ُت ِ‬
‫ل‬ ‫ْ‬
‫ُّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ُّ‬
‫وهبي باعتبار ن ْف ِسه وذاته‪.‬‬
‫بي باعتبار أسبابه‪َ ،‬م ٌّ‬
‫كس ٌّ‬
‫والتحقيق‪ :‬أنه ْ‬
‫‪« :‬اليقني هو استقرار ِ‬
‫العلم الذي ال َينقلب وال يحُ َّول‪ ،‬وال‬ ‫جلنَيد‬
‫قال ا ُ‬
‫يتغيرَّ يف القلب»‪.‬‬
‫والنار حقيق ًة‪ ،‬قيل له‪ :‬وكيف؟ قال‪ :‬رأ ْي ُتهام‬
‫َ‬ ‫«رأيت اجلن َة‬
‫ُ‬ ‫بعضهم‪:‬‬
‫وقال ُ‬
‫رسول اهلل ﷺ‪ ،‬ورؤيتي هلام بعينيه ُ‬
‫أوثق عندي من رؤيتي هلام بع ْين ََّي؛‬ ‫ِ‬ ‫بعين َْي‬
‫برصه ﷺ»‪.‬‬‫فإن برصي قد خيطئ و َيزيغ‪ ،‬بخالف ِ‬ ‫َّ‬

‫دائم‪،‬‬
‫بالتقدم اً‬
‫ُّ‬ ‫ِ‬
‫وركوب األخطار‪ ،‬وهو يأ ُمر‬ ‫واليقني يحَ مل عىل األهوال‪،‬‬
‫ُ‬
‫ْ‬
‫فإن مل يقارنه العلم؛ محل عىل املعاطب‪.‬‬
‫اليقني ق َعد بصاحبه عن‬ ‫صح ْبه‬ ‫بالتأخ ِر واإلحجام‪ْ ،‬‬
‫ُّ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫فإن مل َي َ‬ ‫يأمر‬
‫ُ‬ ‫لم‬ ‫والع‬
‫املكاسب والغنائم‪.‬‬
‫كالفرق بني اخلرب‬ ‫اليقني‬ ‫وحق‬
‫ِّ‬ ‫اليقني‬ ‫ِ‬
‫ني‬ ‫وع‬ ‫اليقني‬ ‫لم‬ ‫[و] الفرق بينْ ِ‬
‫ع‬
‫ْ‬
‫وحق اليقني َ‬
‫فوق هذا‪.‬‬ ‫الصادق ِ‬
‫والعيان‪ُّ ،‬‬
‫تش ُّك يف‬ ‫عنده اً‬
‫عسل‪ ،‬وأنت ال ُ‬ ‫بمن أخربك‪ :‬أن َ‬ ‫وقد مثلت املراتب الثالث َ‬
‫ِص ْدقه‪ ،‬ثم أراك إياه فازد ْد َت يقينًا‪ ،‬ثم ُذ ْق َت منه‪.‬‬
‫فاألول‪ِ :‬علم اليقني‪.‬‬
‫والثاين‪ :‬عني اليقني‪.‬‬

‫‪206‬‬
‫اليقيــــــن‬

‫حق اليقني‪.‬‬
‫والثالث‪ُّ :‬‬
‫وشاه َدها‬ ‫ت اجلن ُة يف املوقف‬ ‫اآلن باجلنة والنار‪ِ :‬علم يقني‪ ،‬فإذا ُأزلِ َف ِ‬
‫َ‬ ‫نا‬ ‫م‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫ِ‬
‫فع‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫اجلحيم وعا َينها اخلالئق‪ ،‬فذلك عني اليقني‪ ،‬فإذا ُأدخل‬ ‫ت‬‫اخلالئق‪ ،‬وبر َز ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ ِّ‬
‫حق اليقني‪.‬‬ ‫النار فذلك حينئذ ُّ‬ ‫وأهل ِ‬
‫النار َ‬ ‫أهل اجلن َِّة اجلنَّ َة‪ُ ،‬‬
‫ُ‬

‫‪207‬‬
‫منزلـــــة ِّ‬
‫الذكـــــر‬

‫وت‬‫منشور الوالية الذي من ُأ ْعطِيه اتصل‪ ،‬ومن ُمنِ َعه ُع ِز َل‪ ،‬وهو ُق ُ‬
‫ُ‬ ‫ِّ‬
‫الذكر‬
‫قبورا‪ ،‬وعامر ُة ديارهم‬‫قلوب القوم‪ ،‬الذي متى فارقها صارت األجسا ُد هلا ً‬
‫اع‬ ‫َّ‬
‫ط‬ ‫ق‬ ‫به‬ ‫لون‬ ‫لت عنه صارت بورا‪ ،‬وهو سالحهم الذي يقاتِ‬ ‫فمتى تع َّط ْ‬
‫َ‬ ‫ُ ُ ُ‬ ‫ً‬
‫هاب احلريق‪ ،‬ودواء أسقامهم الذي‬ ‫ِ‬
‫وماؤهم الذي يطفئون به الت َ‬ ‫ُ‬ ‫الطريق‪،‬‬
‫متى فارقهم انتكست منهم القلوب‪ ،‬والسبب الواصل والعالقة التي كانت‬
‫بينهم وبني عالم الغيوب‪.‬‬
‫به َيستدفِعون اآلفات‪ ،‬ويستكشفون الك ُُربات‪ ،‬وتهَ ون عليهم به‬
‫املصيبات‪ ،‬وعىل كل جارحة من اجلوارح عبودي ٌة مؤ َّقتة‪ِّ ،‬‬
‫والذكر عبودي ُة‬
‫ِ‬
‫معبودهم وحمبوهبم‬ ‫القلب واللسان‪ ،‬وهي غري مؤ َّقتة‪ ،‬بل هم مأمورون ِ‬
‫بذكر‬ ‫ُ‬
‫يف ِّ‬
‫كل حال‪ :‬قيا ًما‪ ،‬وقعو ًدا‪ ،‬وعىل جنوهبم‪.‬‬
‫قيعان وهو ِغراسها‪ ،‬فكذلك القلوب بور وخراب وهو‬
‫ٌ‬ ‫فكام َّ‬
‫أن اجلنة‬
‫وأساسها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫عامرهتا‬
‫وصقالهُ ا‪ ،‬ودواؤها إذا غشيها اعتالهلا‪ ،‬وك َّلام ازداد‬ ‫وهو ِجالء القلوب ِ‬
‫اكر يف ِذكره استغرا ًقا‪ ،‬ازداد ملذكوره محَ َّب ًة وإىل لقائه اشتيا ًقا‪ ،‬وإذا واطأ يف‬ ‫َّ‬
‫الذ ُ‬
‫كل يشء‪،‬‬ ‫وحف َظ اهللُ عليه َّ‬‫كل يشء‪ِ ،‬‬ ‫ِذكره قل ُبه للسانه‪ ،‬نيس يف جنب ِذ ِ‬
‫كره َّ‬ ‫َ‬
‫وضا من كل يشء‪.‬‬ ‫وكان له ِع ً‬
‫ِ‬
‫وتنقش ُع ال ُّظ ْلم ُة عن األبصار‪.‬‬ ‫الو ْق ُر عن األسامع‪ ،‬وال َبكَم عن ُ‬
‫األلسن‪،‬‬ ‫به يزول َ‬

‫‪208‬‬
‫ِّ‬
‫الذكــــــر‬

‫أبصار الناظرين‪ ،‬فاللسان‬


‫َ‬ ‫ز َّين اهلل به ألسن َة َّ‬
‫الذاكرين‪ ،‬كام ز َّين بالنور‬
‫الغافل كالعني العمياء‪ ،‬واألذن الصامء‪ ،‬واليد الشالء‪.‬‬
‫عبده‪ ،‬ما مل يغلقه العبد بغفلتِه‪.‬‬
‫وهو باب اهلل األعظم املفتوح بينه وبني ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫رصي ‪« :‬تف َّقدوا احلالو َة يف ثالثة أشياء‪ :‬يف الصالة‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫احلسن ال َب‬
‫قال َ‬
‫الباب مغ َل ٌق»‪.‬‬ ‫َّ‬
‫أن‬ ‫فاعلموا‬ ‫لاَّ‬‫إ‬ ‫و‬ ‫م‪،‬‬ ‫ت‬
‫ُ‬ ‫وجد‬
‫ْ‬ ‫فإن‬ ‫القرآن‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وقراءة‬ ‫والذ ِ‬
‫كر‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫َ‬
‫الشيطان َ‬
‫أهل الغفلة والنسيان‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وبالذكر َيرصع ُ‬
‫العبد الشيطان‪ ،‬كام يرصع‬
‫أوج ٍه‪:‬‬
‫وهو يف القرآن عىل عشرَ ة ُ‬
‫ومقيدا‪.‬‬
‫ً‬ ‫األول‪ :‬األمر به م ْط َل ًقا‬
‫ضده من الغفلة والنِّسيان‪.‬‬
‫الثـاين‪ :‬النهي عن ِّ‬
‫الثالث‪ :‬تعليق الفالح باستدامته وكثرتِه‪.‬‬
‫أعد اهلل هلم من اجلنة واملغفرة‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬الثناء عىل أهله واإلخبار بام َّ‬
‫اخلامس‪ :‬اإلخبار عن ُخرسان َمن لهَ َا عنه بغريه‪.‬‬
‫لذ ِ‬
‫كرهم له‪.‬‬ ‫السادس‪ :‬أنه جعل ِذكره سبحانه هلم جزاء ِ‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫السـابع‪ :‬اإلخبار أ َّنه أكبرَ ُ من ِّ‬
‫كل يشء‪.‬‬
‫ِ‬
‫الثامـن‪ :‬أنه جعله خامت َة األعامل الصاحلة كام كان م َ‬
‫فتاحها‪.‬‬
‫التاسع‪ :‬اإلخبار عن أهله بأهنم ُهم ُ‬
‫أهل االنتفاع بآياته‪ ،‬وأهنم أولو‬
‫األلباب دون غريهم‪.‬‬

‫‪209‬‬
‫وحها‪ ،‬فمتى َع ِد َم ْته‬ ‫العارش‪ :‬أنه جعله قري َن مجي ِع األعامل الصاحلة ُ‬
‫ور َ‬
‫كانت كاجلسد بال ُروح‪.‬‬
‫والذاكرون‪ :‬هم أهل السبق‪ ،‬كام روى مسلم يف صحيحه من حديث‬ ‫َّ‬
‫سري يف طريق‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ﷺ‬ ‫رسول اهللِ‬ ‫ُ‬ ‫العالء‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن أيب هرير َة قال‪ :‬كان‬
‫ُ‬
‫دان‪َ ،‬س َب َق ا ُمل َف ِّر َ‬ ‫دان‪ ،‬فقال‪ِ :‬‬‫جبل يقال له‪ :‬جمُ ْ ُ‬ ‫فم َّر عىل ٍ‬
‫دون»‬ ‫«سريوا هذا جمُ ْ ُ‬ ‫م َّك َة‪َ ،‬‬
‫والذاكِ ُ‬
‫رات»(((‪.‬‬ ‫كثريا َّ‬ ‫ً‬ ‫هلل‬
‫َ‬ ‫ا‬ ‫رون‬
‫َ‬ ‫«الذاكِ‬
‫َّ‬ ‫قال‪:‬‬ ‫؟‬‫رسول اهللِ‬
‫َ‬ ‫دون يا‬ ‫قالوا‪ :‬وما ا ُمل َف ِّر َ‬
‫املوحدون‪ ،‬وإما اآلحاد ال ُفرادى‪.‬‬ ‫وا ُمل َف ِّردون‪ :‬إما ِّ‬
‫بخ ِري أعاملِ ُكم‪،‬‬ ‫الدرداء ‪« :‬أال ُأ َن ِّب ُئ ُكم َ‬ ‫ويف املسند مرفو ًعا من حديث أيب َّ‬
‫الذ ِ‬
‫هب‬ ‫ِ‬
‫إعطاء َّ‬ ‫وخ ٍري ل ُكم ِمن‬ ‫وأر َف ِعها يف َد َرجاتِ ُكم‪َ ،‬‬ ‫م‪،‬‬ ‫ك‬ ‫ُ‬ ‫وأ ْزكاها ِع َند ملِيكِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫رضبوا أعنا َق ُكم؟» قالوا‪:‬‬ ‫رضبوا أعنا َق ُهم و َي ِ‬‫دوكُم‪ ،‬ف َت ِ‬ ‫ع‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫وأن‬
‫ْ‬ ‫‪،‬‬ ‫ة‬‫والف َّض ِ‬
‫ِ‬
‫ْ َ َّ‬
‫رسول اهللِ؟ قال‪ِ :‬‬
‫«ذك ُْر اهللِ »(((‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ذاك يا‬‫وما َ‬
‫الذكر‪ :‬أنَّ اهلل يباهي مالئك َته بأهله‪ ،‬كام يف صحيح مسلم‬ ‫ويكفي يف رشف ِّ‬
‫قة ِمن أصحابِه‪ ،‬فقال‪« :‬ما‬ ‫رسول اهللِ ﷺ‪َ :‬خرج عىل َح ْل ٍ‬ ‫َ‬ ‫أن‬ ‫عن معاوي َة ‪َّ :‬‬
‫َ‬
‫حم ُده عىل ما َهدانا لإلسال ِم و َم َّن‬ ‫أج َل َس ُكم؟»‪ ،‬قالوا‪َ :‬ج َلسنا َن ْذ ُك ُر ا َ‬
‫هلل و َن َ‬ ‫ْ‬
‫ْ‬
‫ذلك‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ذلك؟» قالوا‪ :‬آهللِ ما أج َل َسنا إلاَّ‬ ‫َ‬ ‫به علينا‪ .‬قال‪« :‬آهللِ ما أج َل َس ُكم إلاَّ‬
‫أن َ‬
‫اهلل‬ ‫ربيل فأخبرَ َ ين‪َّ :‬‬ ‫ولكن أتاين ِج ُ‬ ‫ْ‬ ‫لكم‪،‬‬‫قال‪« :‬أ َما إنيِّ ْمل أس َت ْح ِل ْف ُكم هُ ْتم ًة ُ‬
‫بك ُم املَالئِك َة»(((‪.‬‬‫ُيباهي ُ‬

‫)‪ (1‬أخرجه مسلم (‪.(2676‬‬


‫(‪ )2‬أخرجه الرتمذي (‪ ،)3377‬وابن ماجه (‪ ،)3790‬وصححه األلباين يف «ختريج الكلم الطيب» (‪.)1‬‬
‫)‪ (3‬أخرجه مسلم (‪.(2701‬‬

‫‪210‬‬
‫ِّ‬
‫الذكــــــر‬

‫«م َث ُل‬
‫ويف الصحيحني من حديث أيب موسى ‪ ،‬عن النبي ﷺ أنه قال‪َ :‬‬
‫احلي وا َملي ِ‬
‫ت»(((‪.‬‬ ‫ا َّلذي َي ْذك ُُر ر َّب ُه وا َّلذي ال َي ْذك ُُره‪َ :‬م َث ُل َ ِّ ِّ‬
‫الذكر ثالثة أنواع‪:‬‬
‫‪ِ -1‬ذكر األسامء والصفات ومعانيها‪ ،‬والثناء عىل اهلل هبا‪ ،‬وتوحيد اهلل هبا‪.‬‬
‫‪ِ -2‬‬
‫وذكر األمر والنهي‪ ،‬واحلالل واحلرام‪.‬‬
‫وذكر اآلالء والنَّعامء‪ ،‬واإلحسان واأليادي‪.‬‬ ‫‪ِ -3‬‬
‫[و] هو ثالثة أنواع ً ِ‬
‫القلب واللسان‪ ،‬وهو أعالها‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫كر يتواطأ عليه‬ ‫أيضا‪ :‬ذ ٌ‬
‫وحده‪ ،‬وهو يف الدرجة الثانية‪.‬‬ ‫كر بالقلب َ‬ ‫ِ‬
‫وذ‬
‫ٌ‬
‫املجرد‪ ،‬وهو يف الدرجة الثالثة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫كر باللسان َّ‬ ‫وذ ٌ‬
‫ذاكرا‬ ‫العبد‬ ‫صار‬ ‫به‬ ‫قبله‬ ‫كر‬‫ذ‬‫بذكرين من ربه له‪ِ :‬‬ ‫حمفوف ِ‬
‫ٌ‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫لر‬ ‫العبد‬ ‫كر‬ ‫وذ‬‫ِ‬
‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫مذكورا‪ ،‬كام قال تعاىل‪﴿ :‬ﯩ ﯪ﴾‬ ‫العبد‬ ‫صار‬ ‫به‬ ‫بعده‬ ‫كر‬ ‫له‪ِ ،‬‬
‫وذ‬
‫ً‬
‫«من َذك ََرين يف ن ْف ِسه َذك َْر ُته يف‬ ‫[البقرة‪ ،]251 :‬وقال فيام َيروي عنه نب ُّيه ﷺ‪َ :‬‬
‫منهم»(((‪.‬‬‫أل َخ ٍري ُ‬‫مأل َذكَر ُته يف م ٍ‬
‫ن ْفيس‪ ،‬ومن َذكَرين يف ٍ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫)‪ (1‬أخرجه البخاري (‪ )6407‬واللفظ له‪ ،‬ومسلم (‪.(779‬‬


‫)‪ (2‬أخرجه البخاري (‪ ،)7405‬ومسلم (‪.(2675‬‬

‫‪211‬‬
‫منزلـــة العلــــم‬
‫قد ٍم يضعه يف الطريق إىل ِ‬
‫آخ ِر‬ ‫السالك ِمن َّأول َ‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫تصحب‬ ‫وهذه املنزلة إن مل‬
‫طريق الوصول‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫قد ٍم ينتهي إليه‪ ،‬فسلو ُكه عىل غري طريق‪ ،‬وهو مقطوع عليه‬
‫مسدو ٌد عليه ُس ُب ُل اهلدى والفالح‪ ،‬مغ َّلق ٌة عنه أبواهبا‪ ،‬وهذا إمجاع من الشيوخ‬
‫اب إبليس وشرُ َ ُطه‪.‬‬
‫ونو ُ‬
‫اع الطريق منهم‪َّ ،‬‬ ‫العارفني‪ ،‬ومل َينْ َه عن العلم إال ق َّط ُ‬
‫‪« :‬ال ُّط ُر ُق ك ُّلها مسدود ٌة عىل اخل ْلق إلاَّ عىل من‬ ‫جلنَيد بن حممد‬
‫قال ا ُ‬
‫آثار الرسول ﷺ»‪.‬‬‫اقتفى َ‬
‫وقال‪َ « :‬من مل حيفظ القرآن‪ ،‬ويك ُت ِ‬
‫ب احلديث؛ ال ُيق َتدى به يف هذا األمر؛‬
‫ألن ِعلمنا مق َّيد بالكتاب والسنة»‪.‬‬
‫ٍ‬
‫وورا ُثهم‪ ،‬وهو‬
‫عصبتهم َّ‬ ‫العلم هاد‪ ،‬هو ِترك ُة األنبياء وترا ُثهم‪ ،‬وأه ُله َ‬
‫حياة القلوب‪ ،‬ونور البصائر‪ ،‬وشفاء الصدور‪ ،‬ورياض العقول‪َّ ،‬‬
‫ولذ ُة‬
‫ُ‬
‫ودليل املتحيرِّ ين‪ ،‬وهو امليزان الذي به توزن‬ ‫نس املستوحشني‪،‬‬ ‫األرواح‪ ،‬و ُأ ُ‬
‫ُ‬
‫األقوال واألعامل واألحوال‪.‬‬
‫الشك واليقني‪ ،‬وال َغ ِّي والرشاد‪ ،‬واهلدى والضالل‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫املفرق بني‬
‫وهو احلاكم ِّ‬
‫مجد‪ ،‬وبه اهتدى إليه‬ ‫به ُي ْع َرف اهلل و ُي ْع َبد‪ ،‬و ُي ْذ َكر و ُي َّ‬
‫وحد‪ ،‬ويحُ مد و ُي َّ‬
‫ومن بابه دخل عليه القاصدون‪.‬‬ ‫السالكون‪ ،‬ومن طريقه وصل إليه الواصلون‪ِ ،‬‬

‫الرشائع واألحكام‪ ،‬ويتم َّي ُز احلالل من احلرام‪ ،‬وبه ُت َ‬


‫وصل األرحام‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫عرف‬ ‫به ُت َ‬

‫‪212‬‬
‫العلــــــــم‬

‫عرف مرايض احلبيب‪ ،‬وبمعرفتها ومتابعتها يوصل إليه من قريب‪.‬‬


‫وبه ُت َ‬
‫قائد‪ ،‬والعمل تابع‪ ،‬وهو الصاحب يف‬ ‫وهو إما ٌم‪ ،‬والعمل مأموم‪ ،‬وهو ٌ‬
‫ث يف اخلَلوة‪ ،‬واألنيس يف الوحشة‪ ،‬والكاشف عن ُّ‬
‫الشبهة‪،‬‬ ‫واملحد ُ‬
‫ِّ‬ ‫الغربة‪،‬‬
‫َف الذي ال ضيع َة عىل َمن‬ ‫والغنى الذي ال فقر عىل من ِ‬
‫ظفر بكَنزه‪ ،‬وال َكن ُ‬ ‫َ‬
‫آوى إىل ِحرزه‪.‬‬
‫والبحث عنه جهاد‪ ،‬وطل ُبه ُقربة‪ ،‬و َب ْذ ُله صدقة‪ ،‬ومدارسته‬
‫ُ‬ ‫مذاكرته تسبيح‪،‬‬
‫أعظم منها إىل الرشاب والطعام‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُتعدل بالصيام والقيام‪ ،‬واحلاجة إليه‬
‫أحوج منهم إىل الطعام والشرَّ اب؛‬ ‫ِ‬
‫م‬ ‫ل‬ ‫قال اإلمام أمحد ‪« :‬الناس إىل ِ‬
‫الع‬
‫ُ‬
‫مر ًة أو مرتني‪ ،‬وحاجته إىل‬ ‫ِ‬
‫والرشاب يف اليوم َّ‬ ‫الرجل حيتاج إىل الطعام‬ ‫َّ‬
‫ألن ُ‬
‫العلم بعدد أنفاسه»‪.‬‬
‫ُ‬
‫أفضل من صالة النافلة»‪.‬‬ ‫وروينا عن الشافعي أنه قال‪« :‬طلب ِ‬
‫العل ِم‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫ونص عىل ذلك أبو حنيفة ‪.‬‬
‫َّ‬
‫فوضعت ألواحي‬
‫ُ‬ ‫يد ْي مالك ‪،‬‬ ‫وقال اب ُن َو ْهب ‪« :‬كنت بني َ‬
‫بأفضل ممَّا َ‬
‫قمت عنه»‪ .‬ذكره ابن‬ ‫َ‬ ‫وقمت أصليِّ ‪ ،‬فقال‪ :‬ما الذي َ‬
‫قمت إليه‬ ‫ُ‬
‫وغريه‪.‬‬
‫ُ‬ ‫عبد البرَِّ‬
‫أج ِّل مشهود به‪ ،‬وهو التوحيد‪َ ،‬‬
‫وقرن‬ ‫واستشهد اهلل بأهل العلم عىل َ‬
‫ِ‬
‫وشـهادة مالئكته‪ ،‬ويف ِض ْم ِن ذلك تعدي ُلهـم؛ فـإ َّنه‬ ‫شـهادتهَ م بشهادته‬
‫ِ‬
‫ستشهد بمجروح‪.‬‬ ‫ال َي‬

‫‪213‬‬
‫ونوره بني عباده‪ ،‬وقائدهم ودليلهم إىل جنَّته‪،‬‬
‫ُ‬ ‫حج ُة اهلل يف أرضه‪،‬‬
‫وهو َّ‬
‫و ُم ْدنِيهم من كرامته‪.‬‬
‫ِ‬
‫القمر ليل َة البدر عىل‬ ‫أهله عىل العباد كفضل‬‫فض َل ِ‬ ‫أن ْ‬‫و َيكفي يف رشفه‪َّ :‬‬
‫وأن املالئكة َل َت َض ُع هلم أجنحتها‪ ،‬و ُتظِ ُّلهم هبا‪َّ ،‬‬
‫وأن العالمِ‬ ‫سائر الكواكب‪َّ ،‬‬
‫ُ‬
‫احليتان يف البحر‪ ،‬وحتى‬ ‫يستغفر له َمن يف السموات ومن يف األرض‪ ،‬حتى‬
‫اخلري‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الناس َ‬ ‫النمل يف جحرها‪ ،‬وأن اهلل ومالئكته يص ُّلون عىل مع ِّلمي‬ ‫ُ‬
‫كليم الرمحن موسى ب ُن ِع َ‬
‫مران يف طلب العلم هو وفتاه‪،‬‬ ‫ولقد رحل ُ‬
‫َ‬
‫مسائل‪،‬‬ ‫حتى مسهام النصب يف سفرمها يف طلب العلم‪ ،‬حتى ِ‬
‫ظفر بثالث‬ ‫َ ُ‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫وأعلمهم به‪.‬‬ ‫وهو ِمن أكر ِم اخل ْل ِق عىل اهلل‬
‫املزيد منه‪ ،‬فقال‪﴿ :‬ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﴾‬
‫َ‬ ‫وأمر اهللُ رسو َله أن يسأله‬
‫َ‬
‫[طه‪.]114 :‬‬

‫‪214‬‬
‫الســـكينة‬
‫َّ‬

‫ال�ســـكينة‬
‫منزلــــة َّ‬
‫مواضع‪:‬‬
‫َ‬ ‫السكين َة يف كتابه يف س َّتة‬
‫وقد َذ َكر اهلل سبحانه َّ‬
‫األول‪ :‬قوله تعاىل‪﴿ :‬ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ‬
‫ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﴾ [البقرة‪.]248 :‬‬
‫الثاين‪ :‬قوله تعاىل‪﴿ :‬ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ﴾‬
‫[التوبة‪.]62 :‬‬
‫الثالث‪ :‬قوله تعاىل‪﴿ :‬ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ‬
‫ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﴾ [التوبة‪.]40 :‬‬
‫الرابع‪ :‬قوله تعاىل‪﴿ :‬ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ‬
‫ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ﴾ [الفتح‪.]4 :‬‬
‫اخلامس‪ :‬قوله تعاىل‪﴿ :‬ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ‬
‫ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﴾ [الفتح‪.]18 :‬‬
‫السادس‪ :‬قوله تعاىل‪﴿ :‬ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ‬
‫ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ﴾ [الفتح‪.]62 :‬‬
‫اشتدت عليه األمور؛ قرأ ِ‬
‫آيات‬ ‫َّ‬ ‫إذا‬ ‫شيخ اإلسالم اب ُن تيم َّي َة‬‫وكان ُ‬
‫ُ‬
‫جرت له يف مرضه‪ِ ،‬‬
‫تعج ُز ال ُقوى‬ ‫ْ‬ ‫ٍ‬
‫عظيمة‬ ‫وسمع ُته يقول يف واقعة‬ ‫ِ‬ ‫السكينة‪،‬‬
‫َّ‬
‫ظهرت له إ ْذ ذاك يف حال َض ْعف‬
‫ْ‬ ‫أرواح شيطانية‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫محلها‪ -‬من حماربة‬
‫عن ْ‬

‫‪215‬‬
‫قلت ألقاريب ومن حويل‪ :‬اقرؤوا ِ‬
‫آيات‬ ‫األمر‪ُ ،‬‬ ‫عيل‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫اشتد َّ‬
‫َّ‬ ‫القوة‪ -‬قال‪« :‬فلماَّ‬
‫َّ‬
‫وجلست وما يب َق َلب ٌة»‪.‬‬
‫ُ‬ ‫السكينة‪ ،‬قال‪ :‬ثم أق َلع عنِّي ذلك ُ‬
‫احلال‪،‬‬ ‫َّ‬
‫اضطراب القلب ممَّا َي ِر ُد عليه؛‬
‫ِ‬ ‫أيضا قراء َة هذه اآليات عند‬‫بت أنا ً‬
‫جر ُ‬
‫وقد َّ‬
‫عظيم يف سكونه و ُطمأنينتِه‪.‬‬
‫تأثريا اً‬
‫فرأيت هلا ً‬
‫ُ‬
‫وأصل «السكينة»‪ :‬هي ال ُّطمأنين ُة والوقار‪ ،‬والسكون الذي ُي ِنز ُله اهلل يف‬
‫نزع ُج بعد ذلك لمِا َي ِر ُد‬
‫شدة املخاوف؛ فال ي ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫من‬ ‫ه‬‫ِ‬ ‫اضطراب‬ ‫عند‬ ‫ه‪،‬‬ ‫قلب ِ‬
‫عبد‬
‫وقو َة اليقني والثبات‪.‬‬
‫عليه‪ ،‬ويوجب له زياد َة اإليامن‪َّ ،‬‬
‫وهلذا أخرب سبحانه عن إنزاهلا عىل رسوله ﷺ وعىل املؤمنني يف مواض ِع‬
‫فوق‬‫والعدو َ‬ ‫ُّ‬ ‫القلق واالضطراب؛ كيو ِم اهلجرة‪ ،‬إ ْذ هو وصاح ُبه يف الغار‪،‬‬
‫رؤوسهم‪ ،‬لو نظر أحدهم إىل ما حتت قدميه لرآمها‪ ،‬وكيو ِم ُحنَينْ ٍ ‪ ،‬حني َو َّل ْوا‬
‫حل َديبية‬ ‫أحد منهم عىل أحد‪ ،‬وكيو ِم ا ُ‬ ‫مدبِري َن من شدة بأس الك َّفار‪ ،‬ال َي ْلوي ٌ‬
‫حني اضطربت قلوبهُ م من حتكُّم الكفار عليهم‪ ،‬ودخولهِ م حتت رشوطِ ِه ُم‬
‫مر‪ -‬حتى‬ ‫محلها ‪-‬وهو ُع ُ‬ ‫بضعف ُع َم َر عن ْ‬
‫وحس ُبك َ‬‫التي ال حتملها النفوس‪ْ ،‬‬
‫«كل سكينة يف القرآن فهي ُطمأنينة‪،‬‬ ‫بالص ِّديق‪ ،‬قال ابن ع َّباس ‪ُّ :‬‬‫َث َّب َته اهلل ِّ‬
‫إلاَّ التي يف سورة البقرة»‪.‬‬
‫اجلوارح‬
‫ُ‬ ‫وسكنت إليها‬
‫ْ‬ ‫َّ‬
‫اطمأن هبا‪،‬‬ ‫والسكينة إذا نزلت يف القلب‬
‫سان بالصواب واحلكمة‪ ،‬وحالت‬ ‫وخشعت‪ ،‬واكتسبت الوقار‪ ،‬وأنطقت ال ِّل َ‬
‫وكل باطل‪ ،‬قال ابن عباس‬‫قول اخلنا وال ُفحش‪ ،‬وال َّل ْغ ِو واهل ُ ْج ِر‪ِّ ،‬‬‫بينه وبني ِ‬
‫السكين َة تنطِ ُق عىل لسان ُع َم َر وقلبِه»‪.‬‬
‫أن َّ‬‫نتحدث َّ‬
‫َّ‬ ‫‪« :‬كنا‬

‫‪216‬‬
‫الم َح ّب ِ‬
‫ـــة‬ ‫َ‬

‫ـــــــة امل َ َح َّب ِ‬


‫ــــة‬ ‫ُ‬ ‫َم ْن ِز َل‬
‫ِ‬
‫العاملون‪،‬‬ ‫شخص‬ ‫وهي املنزلة التي فيها تنا َف َس املتنافِسون‪ ،‬وإليها َ‬
‫ترو َح‬ ‫ها‬ ‫ِ‬
‫نسيم‬ ‫ِ‬
‫وح‬ ‫وبر‬ ‫ون‪،‬‬‫ب‬ ‫وإىل َع َل ِمها شمر السابقون‪ ،‬وعليها تفانى ِ‬
‫املح‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫وقر ُة العيون‪ ،‬وهي احلياة‬
‫وت القلوب‪ ،‬وغذا ُء األرواح‪َّ ،‬‬ ‫العابدون؛ فهي ُق ُ‬
‫والنور الذي َمن ف َق َده ففي بحار‬ ‫األموات‪،‬‬ ‫مجلة‬ ‫ن‬ ‫التي من ح ِرمها فهو ِ‬
‫م‬
‫ُ‬ ‫ُ َ‬
‫ِ‬
‫ال ُّظ ُلامت‪ ،‬والشفا ُء الذي َمن ُعدمه ح َّلت بقلبه ُ‬
‫مجيع األسقام‪ ،‬واللذ ُة التي‬
‫َمن مل َيظ َف ْر هبا ف َع ْي ُشه ك ُّله مهو ٌم وآالم‪.‬‬

‫خلت منها‬
‫ْ‬ ‫ِ‬
‫واملقامات واألحوال التي متى‬ ‫ِ‬
‫اإليامن واألعامل‪،‬‬ ‫وهي ُروح‬
‫وح فيه‪.‬‬
‫فهي كاجلسد الذي ال ُر َ‬
‫بش ِّق األن ُف ِ‬
‫س بالغيها‪،‬‬ ‫أثقال السائرين إىل بالد مل يكونوا إال ِ‬ ‫َ‬ ‫تحَ ِم ُل‬
‫َ‬
‫أبدا واصليها‪ ،‬و ُت َب ِّو ُئهم من مقاعد‬ ‫منازل مل يكونوا بدوهنا ً‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫وتوص ُلهم إىل‬
‫مقامات مل يكونوا لوال هي داخليها‪ ،‬وهي مطايا القوم التي َمرساهم‬ ‫ٍ‬ ‫الص ْد ِق‬
‫ِّ‬
‫دائم إىل احلبيب‪ ،‬وطري ُق ُه ُم األ ْقو ُم الذي ُي َب ِّل ُغهم إىل منازهلم‬
‫ظهورها اً‬ ‫ِ‬ ‫عىل‬
‫األُوىل من قريب‪.‬‬

‫أوفر‬ ‫م‬ ‫بهِ‬‫حمبو‬ ‫تاهلل لقد ذهب أه ُلها برشف الدنيا واآلخرة؛ إذ هلم من معي ِ‬
‫ة‬
‫ُ‬ ‫َ َّ‬
‫مقادير اخلالئق بمشيئته وحكمتِه البالغة‪:-‬‬ ‫َ‬ ‫قدر‬
‫نصيب‪ ،‬وقد قىض اهلل ‪-‬يو َم َّ‬
‫ني سابِغة‪.‬‬ ‫أن املرء مع من أحب‪ ،‬فيا هلا من ٍ‬
‫نعمة عىل املح ِّب َ‬

‫‪217‬‬
‫تقدموا‬ ‫وهم عىل ُظهور ال ُف ُر ِ‬
‫ش نائمون‪ ،‬وقد َّ‬ ‫السعا َة ُ‬
‫تاهلل لقد سبق القو ُم ُّ‬
‫وهم يف سريهم واقفون‪.‬‬ ‫َ‬
‫بمراحل ُ‬ ‫ب‬‫الر ْك َ‬
‫َّ‬
‫األو ِل‬ ‫يف‬ ‫ـي‬ ‫ِ‬ ‫تجَ‬‫و‬ ‫ا‬ ‫ـد‬
‫ً‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫تمَشيِ‬ ‫ــل‬ ‫مــن يل ِ‬
‫بم ْث ِل َسيرْ ِ َك ا ُمل َد َّل ِ‬
‫َّ‬ ‫ُ َْ‬ ‫َ ْ‬
‫أنفسهم يف‬‫حي عىل الفالح‪ ،‬و َب َذلوا َ‬ ‫الشوق إ ْذ نادى هبم‪َّ :‬‬ ‫أجابوا مؤ ِّذ َن َّ‬
‫بالرضا والسامح‪ ،‬وواصلوا إليه‬ ‫طلب الوصول إىل حمبوهبم‪ ،‬وكان َب ْذلهُ ُم ِّ‬
‫والرواح‪ ،‬تاهلل لقد محِدوا عند الوصول مَسرْ اهم‪،‬‬ ‫املسري باإلدالج وال ُغ ُد ِّو َّ‬
‫َ‬
‫وشكروا موالهم عىل ما أعطاهم‪ ،‬وإنام يحَ َم ُد القو ُم السرُّ َ ى عند الصباح‪.‬‬

‫وس ْو ِمها؟‬ ‫ِ‬


‫خيل‬ ‫ب‬ ‫ال‬ ‫س اجل ِ‬
‫بان‬ ‫ِ‬ ‫أو ُل نقده ِمن أثامن املحبة‪ :‬ب ْذ ُل الروح؛ فام للم ِ‬
‫فل‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ َ‬ ‫َّ‬
‫َّسيئة ا ُملعسرِ ون‪،‬‬
‫فلسون‪ ،‬وال كس َد ْت فينف َقها بالن ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫هزلت فيستامها ا ُمل ِ‬
‫ْ َ ُ‬ ‫تاهلل ما‬
‫رض هلا بثمن ُدون َب ْذ ِل النُّفوس‪،‬‬ ‫سوق َم ْن يزيد‪ ،‬فلم ُي َ‬‫لقد ُأقيم ْت لل َعرض يف ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫فدارت‬ ‫املح ُّبون ينظرون‪ ،‬هُّأيم َيص ُل ُح أن يكون ثمنًا؟‬ ‫فتأخر الب َّطالون‪ ،‬وقام ِ‬ ‫َّ‬
‫السلع ُة بينهم‪ ،‬ووقعت يف يد‪ ﴿ :‬ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ﴾ [املائدة‪.]54 :‬‬
‫ِّ‬
‫صح ِة الدعوى؛ فلو ُيع َطى‬ ‫ِ‬
‫املدعون للمحبة ُطولبوا بإقامة الب ِّينة عىل َّ‬ ‫ملا ك ُثر َّ‬
‫املدعون يف الشهود‪،‬‬
‫فتنوع َّ‬‫جي‪َّ ،‬‬
‫الش ِّ‬ ‫الناس بدعواهم ال َّدعى اخلَليُِّ ُحرق َة َّ‬
‫فقيل‪ :‬ال ُتق َب ُل هذه الدعوى إال بب ِّينة‪﴿ :‬ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ﴾‬
‫[آل عمران ‪.]31 :‬‬
‫ِ‬
‫وأخالقه؛‬ ‫ِ‬
‫احلبيب يف أفعاله وأقواله‬ ‫أتباع‬ ‫فتأخ َر اخل ْل ُق ك ُّلهم‪ ،‬وث َب َت‬
‫َّ‬
‫ُ‬

‫‪218‬‬
‫الم َح ّب ِ‬
‫ـــة‬ ‫َ‬

‫ف ُطولِبوا بعدالة الب ِّينة بتزكية‪﴿ :‬ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ﴾ [املائدة‪.]54 :‬‬

‫ني وأموالهَ م‬
‫إن نفوس املح ِّب َ‬ ‫ِ‬
‫املجاهدون‪ ،‬فقيل هلم‪َّ :‬‬ ‫ني وقام‬
‫أكثر املح ِّب َ‬ ‫َّ‬
‫فتأخر ُ‬
‫فه ُل ُّموا إىل بيعة‪ ﴿ :‬ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ‬ ‫ليست هلم‪َ ،‬‬
‫ﯟ ﯠ﴾ [التوبة‪.]111 :‬‬

‫وفض َل الثمن‪ ،‬وجالل َة َمن جرى عىل يديه‬ ‫عرفوا َع َظم َة ا ُملشرتي‪ْ ،‬‬ ‫فلماَّ َ‬
‫السلعة‪ ،‬وأن هلا شأ ًنا‪ ،‬فرأوا من أعظم ال َغ ِ‬
‫بن أن‬ ‫قد َر ِّ‬‫عرفوا ْ‬‫عقد التبايع؛ َ‬
‫ُ‬
‫ِ‬ ‫يبيعوها لغريه بثمن َب ْخ ٍ‬
‫ضوان بالرتايض‪ ،‬من غري‬ ‫س‪ ،‬فع َقدوا معه بيع َة ِّ‬
‫الر‬
‫ثبوت ِخيار‪ ،‬وقالوا‪ :‬واهللِ ال ُن ِقي ُلك وال َنس َت ِقي ُلك‪.‬‬

‫نفوسكم وأموا ُلكم‬


‫ُ‬ ‫صارت‬
‫ْ‬ ‫العقد وس َّلموا ا َملبيع‪ ،‬قيل هلم‪ُ :‬م ْذ‬
‫ُ‬ ‫تم‬
‫فلماَّ َّ‬
‫فر ما كانت‪ ،‬وأضعا َفها م ًعا‪﴿ :‬ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ‬ ‫لنا َر َد ْدناها عليكم ْأو َ‬
‫ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ﴾ [آل‬

‫عمران‪.]170 - 169 :‬‬


‫ِ‬
‫ومتابعة‬ ‫وس ِق َي ْت بامء اإلخالص‪،‬‬ ‫القلب‪،‬‬ ‫يف‬ ‫ست شجر ُة املحب ِ‬
‫ة‬ ‫[و] إذا ُغ ِر ْ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫أص ُلها ٌ‬
‫ثابت‬ ‫كل حني بإذن ربهِّ ا‪ْ ،‬‬ ‫وآتت ُأ ُك َلها َّ‬
‫ْ‬ ‫أنواع ال ِّثامر‪،‬‬
‫َ‬ ‫أثمر ْت‬
‫احلبيب؛ َ‬
‫بسدرة املنتهى‪.‬‬ ‫يف قرار القلب‪ ،‬وفر ُعها م َّت ِص ٌل ِ‬
‫ْ‬
‫حيج ُبه ُدو َنه يش ٌء‪ ﴿ :‬ﯦ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫[و] ال ُ‬
‫ب صاع ًدا إىل حبيبه‪ ،‬ال ُ‬ ‫يزال َس ْع ُي املح ِّ‬
‫ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ﴾ [فاطر‪.]10 :‬‬

‫‪219‬‬
‫تعريف المحبة‪:‬‬

‫زيدها إلاَّ خفا ًء وجفاء‪،‬‬


‫أوضح منها؛ فاحلدود ال َت ُ‬
‫َ‬ ‫ال تحُ َ ُّد املحب ُة ٍّ‬
‫بحد‬
‫ٍ‬
‫فحدها وجو ُدها‪ ،‬وال توصف املحب ُة بوصف َ‬
‫أظه َر من املحبة‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫وإ َّنام يتك َّل ُم الناس يف أسباهبا وواجباتهِ ا‪ ،‬وعالماتهِ ا وشواهدها‪ ،‬وثمراتهِ ا‬
‫عت هبِ ُم‬ ‫وتنو ْ‬
‫الس َّتة‪َّ ،‬‬ ‫دارت عىل هذه ِّ‬ ‫ْ‬ ‫وأحكامها‪ ،‬فحدو ُدهم ورسو ُمهم‬
‫ومقامه وحاله‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫خص‬ ‫الش‬ ‫ِ‬
‫إدراك َّ‬ ‫بحسب‬ ‫اإلشارات‪،‬‬ ‫رت‬‫العبارات‪ ،‬وك ُث ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫وملكه للعبارة‪.‬‬
‫«جر ْت مسألة يف املح َّب ِة‬ ‫َ‬ ‫‪:‬‬ ‫اين‬
‫ُّ‬ ‫ت‬‫َّ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ال‬ ‫بكر‬ ‫أيب‬ ‫[قول]‬ ‫فيها‪،‬‬ ‫قيل‬ ‫ما‬ ‫أمجع‬ ‫ن‬‫م‬‫وِ‬
‫أصغرهم‬ ‫َ‬ ‫َيد‬ ‫‪-‬أعزها اهلل‪ -‬أيا َم ا َملوسم‪ ،‬فتك َّلم الشيوخ فيها‪ ،‬وكان ا ُ‬
‫جلن ُ‬ ‫َّ‬ ‫بم َّك َة‬
‫ودمعت عيناه‪ ،‬ثم قال‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫عراقي‪ ،‬فأطرق رأسه‪،‬‬ ‫يا‬ ‫عندك‬ ‫ما‬ ‫ِسنًّا‪ ،‬فقالوا‪ِ :‬‬
‫هات‬
‫ُّ‬
‫ناظر إليه بقلبه‪،‬‬ ‫حقوقه‪،‬‬ ‫بأداء‬ ‫قائم‬ ‫ه‪،‬‬‫ب‬ ‫ر‬ ‫بذكر‬ ‫ل‬‫ٌ‬ ‫ص‬ ‫عبد ذاهب عن ِ‬
‫نفسه‪ ،‬م َّت ِ‬ ‫ٌ‬
‫ٌ‬ ‫ِّ‬ ‫ٌ‬
‫أنوار َهيبتِه‪ ،‬وص َفا شرُ ُبه من كأس ُو ِّده‪ ،‬وانكشف له اجلبار ِمن‬ ‫أحرق قل َبه ُ‬
‫حترك فبأمر اهلل‪ ،‬وإن‬ ‫فإن تكلم فباهلل‪ ،‬وإن نطق فعن اهلل‪ ،‬وإن َّ‬ ‫أستار غيبه‪ْ ،‬‬
‫سكن فمع اهلل‪ ،‬فهو باهلل وهلل ومع اهلل‪.‬‬
‫تاج العارفني»‪.‬‬
‫زيد‪ ،‬جبرَ َ ك اهللُ يا َ‬
‫فبكى الشيوخ وقالوا‪ :‬ما عىل هذا َم ٌ‬
‫األسباب الجالبة للمحبة‪ ،‬والموجبةِ لها َ‬
‫عشرة‪:‬‬
‫ِ‬
‫الكتاب‬ ‫والتفهم ملعانيه وما ُأريد به‪ ،‬كتد ُّبر‬
‫ُّ‬ ‫أحدها‪ :‬قراءة القرآن بالتد ُّبر‬
‫ليتفه َم مرا َد صاحبِه منه‪.‬‬
‫الذي حيفظه العبد [ويرشحه]‪َّ ،‬‬

‫‪220‬‬
‫الم َح ّب ِ‬
‫ـــة‬ ‫َ‬

‫التقرب إىل اهلل بالنوافل بعد الفرائض؛ فإنهَّ ا توصله إىل درجة‬
‫الثاين‪ُّ :‬‬
‫املحبوبية بعد املحبة‪.‬‬
‫ِ‬
‫والعمل واحلال‪،‬‬ ‫كل حال؛ باللسان والقلب‪،‬‬ ‫الثالث‪ :‬دوام ِ‬
‫ذكره عىل ِّ‬
‫قد ِر نصيبِه من هذا الذكر‪.‬‬
‫فنصيبه من املحبة عىل ْ‬
‫الرابع‪ :‬إيثار حما ِّبه عىل حما ِّبك عند غلبات اهلوى‪ ،‬وال َّت َسنُّم إىل حما ِّبه‪ ،‬وإن‬
‫ص ُعب املرتقى‪.‬‬
‫اخلامس‪ :‬مطالعة القلب ألسامئه وصفاتِه‪ ،‬ومشاهدتهُ ا ومعرفتها‪ ،‬وتق ُّل ُبه‬
‫عرف اهلل بأسامئه وصفاتِه وأفعالِه‪:‬‬ ‫فمن َ‬ ‫يف رياض هذه املعرفة وميادينها‪َ ،‬‬
‫أحبه ال حمالة؛ وهلذا كانت املع ِّطل ُة ِ‬
‫اع الطريق عىل‬ ‫جلهم َّي ُة ق َّط َ‬
‫َ‬ ‫وا‬ ‫ة‬ ‫ُ‬ ‫رعوني‬ ‫والف‬ ‫َّ‬
‫القلوب بينها وبني الوصول إىل املحبوب‪.‬‬
‫السادس‪ :‬مشاهدة بِ ِّره وإحسانه وآالئه‪ ،‬ونِ َع ِمه الباطنة والظاهرة؛ فإهنا‬
‫داعية إىل حمبته‪.‬‬
‫انكسار القلب بك ِّل َّيتِه بني يديه‪ ،‬وليس يف‬ ‫ُ‬ ‫السابع ‪-‬وهو من أعجبها‪:-‬‬
‫غري األسامء والعبارات‪.‬‬ ‫التعبري عن هذا املعنى ُ‬
‫وتالوة كالمه‪ ،‬والوقوف‬ ‫ِ‬ ‫اإلهلي؛ ملناجاته‬ ‫وقت النزول‬ ‫الثامن‪ :‬اخلَلو ُة به َ‬
‫ِّ‬
‫بالقلب والتأ ُّدب بأدب العبودية بني يديه‪ ،‬ثم َخ ْت ُم ذلك باالستغفار والتوبة‪.‬‬
‫كالمهم كام‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ثمرات‬ ‫أطايب‬ ‫ُ‬
‫قاط‬ ‫ني الصادقني‪ ،‬والتِ‬ ‫التاسع‪ :‬جمالسة املح ِّب َ‬
‫َ‬
‫حت مصلح ُة الكالم‪ِ ،‬‬
‫مت‬
‫وعل َ‬ ‫ترج ْ‬ ‫أطايب الثمر‪ ،‬وال تتكلم إلاَّ إذا َّ‬ ‫َ‬ ‫َينتقي‬
‫زيدا حلالك‪ ،‬ومنفع ًة لغريك‪.‬‬ ‫أن فيه َم ً‬‫َّ‬

‫‪221‬‬
‫سبب يحَ ول بني القلب وبني اهلل ‪.‬‬ ‫كل ٍ‬ ‫العارش‪ :‬مباعدة ِّ‬
‫ِ‬
‫منازل املحبة‪ ،‬ودخلوا عىل‬ ‫وص َل املح ُّبون إىل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فمن هذه األسباب العشرَ ة‪َ :‬‬
‫وانفتاح ِ‬
‫عني‬ ‫الشأن‪،‬‬ ‫هلذا‬ ‫وح‬ ‫الر‬ ‫د‬ ‫استعدا‬ ‫ران‪:‬‬ ‫م‬ ‫أ‬ ‫ه‬ ‫ِّ‬
‫ل‬ ‫ك‬ ‫ذلك‬ ‫ُ‬
‫الك‬ ‫احلبيب‪ِ ،‬‬
‫وم‬
‫ُ‬ ‫ُ ُّ‬ ‫ْ‬
‫البصرية واهلل املستعان‪.‬‬

‫محبة العبد هلل ومحبة اهلل للعبد‪:‬‬

‫قال تعاىل‪﴿ :‬ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭲ ﴾ [آل عمران‪ ،]31 :‬وهذه‬


‫القلوب حمب َة اهلل؛‬ ‫الداراين ‪َّ « :‬ملا اد ِ‬
‫عت‬ ‫َ‬
‫سليامن َّ‬ ‫تسمى آي َة املحبة‪ .‬قال أبو‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫أنزل اهلل هلا حمنة‪﴿ :‬ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭲ ﴾ [آل عمران‪.»]31 :‬‬
‫الث َمن ك َُّن‬‫ويف الصحيحني‪ ،‬عن أنس قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪َ « :‬ث ٌ‬
‫إليه ممَِّا ِسواهمُ ا‪ْ ،‬‬
‫وأن‬ ‫ون اهللُ ورسو ُله أحب ِ‬
‫َ َّ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ك‬‫ُ‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫أن‬
‫ْ‬ ‫‪:‬‬ ‫ِ‬
‫اإليامن‬ ‫ة‬
‫َ‬ ‫الو‬ ‫ح‬‫َ‬ ‫ن‬
‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫هب‬ ‫د‬
‫َ‬ ‫ج‬‫َ‬ ‫و‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫فيه‬
‫أن َي ُعو َد يف ال ُك ْف ِر‪َ -‬ب ْع َد إ ْذ أن َق َذ ُه اهللُ ِمن ُه‪-‬‬ ‫ب ا َمل ْر َء ال حُيِ ُّبه إلاَّ هلل‪ْ ،‬‬
‫وأن َي ْك َر َه ْ‬ ‫ِ‬
‫حُي َّ‬
‫أن ُي ْل َقى يف ِ‬
‫النار»(((‪.‬‬ ‫كر ُه ْ‬ ‫كام َي َ‬
‫قول‬‫ويف صحيح البخاري‪ ،‬عن أيب هرير َة قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪َ « :‬ي ُ‬
‫بدي بشيَ ٍء‬ ‫ب‪ ،‬وما َتقرب إيل ع ِ‬
‫َّ َ َّ َ‬ ‫باحل ْر ِ‬ ‫اهللُ تعاىل‪َ :‬من عا َدى يل َولِ َّيا ْ‬
‫فقد آ َذ ْن ُته َ‬
‫إيل بال َّنوافِ ِل ح َّتى‬
‫َّ‬ ‫ب‬
‫ُ‬ ‫ر‬ ‫َ‬
‫ق‬
‫َ َّ‬‫ت‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫زال ع ِ‬
‫بد‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬
‫َ‬ ‫وال‬ ‫‪،‬‬ ‫أداء ما ا ْفرت ْض ُته ِ‬
‫عليه‬ ‫َ‬
‫أحب إيل ِمن ِ‬
‫َ َّ َّ‬
‫ُنت َس ْم َعه ا َّلذي َي ْس َم ُع ِبه‪ ،‬و َبصرَ َ ه ا َّلذي ُيبصرِ ُ ِبه‪ ،‬و َي َد ُه‬‫ُأ ِح َّبه؛ فإذا أح َب ْب ُته ك ُ‬

‫((( أخرجه البخاري (‪ ،)21‬ومسلم (‪.)43‬‬

‫‪222‬‬
‫الم َح ّب ِ‬
‫ـــة‬ ‫َ‬

‫ور ْج َله ا َّلتي َيمشيِ هبا‪ ،‬و َلئِ ْن سأ َلني لأَ ُ ْعطِينَّه‪ ،‬و َلئِ ْن اس َتعا َذين‬
‫ا َّلتي َيبطِ ُش هبا‪ِ ،‬‬
‫لأَ ُ ِع َيذ َّنه»(((‪.‬‬
‫ب اهللُ ال َع َبد َد َعا‬ ‫أح َّ‬ ‫النبي ﷺ أنه قال‪« :‬إذا َ‬ ‫أيضا‪ ،‬عن ِّ‬ ‫ويف الصحيحني عنه ً‬
‫يل‪ُ ،‬ثم ينادي يف الس ِ‬
‫امء‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ج‬ ‫ِ‬ ‫ه‬‫ب‬ ‫فأحبه؛ في ِ‬
‫ح‬ ‫يل‪ ،‬فقال‪ :‬إ ُأ ِحب ُفال ًنا‪ِ ،‬‬ ‫ِجبرْ َ‬
‫َّ‬ ‫َّ ُ‬ ‫َّ ُ ُّ برْ‬ ‫ُّ‬ ‫نيِّ‬
‫ول يف‬ ‫وض ُع ل ُه ال َق ُب ُ‬ ‫ثم ُي َ‬ ‫‪،‬‬ ‫حبه أه ُل الس ِ‬
‫امء‬ ‫فأحبوه‪ ،‬في ِ‬ ‫إن اهللَ حُيِب ُفال ًنا ِ‬ ‫ول‪َّ :‬‬‫ف َي ُق ُ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬
‫ِ‬
‫األرض»(((‪.‬‬
‫باده‪ِ ،‬‬
‫وذ ِ‬ ‫حيبه اهللُ سبحانه من ِع ِ‬ ‫بذكر من ِ‬
‫كر ما حي ُّبه‬ ‫ُّ‬ ‫والسنَّ ُة ممَ لوآن ِ َ‬ ‫والقرآن ُّ‬
‫من أعامهلم وأقوا م وأخالقهم؛ كقوله تعاىل‪ ﴿ :‬ﯡ ﯢ ﯣ﴾ [آل‬
‫لهِ‬ ‫ِ‬
‫عمران‪ ﴿ ،]146 :‬ﰁ ﰂ ﰃ﴾ [آل عمران‪﴿ ،]148 :‬ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ‬
‫ﯟ﴾ [البقرة‪﴿ ،]222 :‬ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ‬
‫ﯗ ﯘ ﯙ﴾ [الصف‪ ﴿ ،]4 :‬ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ﴾ [آل عمران‪.]76 :‬‬
‫ي ُّب‬ ‫و«إن َ‬
‫اهلل حُ ِ‬ ‫َّ‬ ‫األعامل إىل اهللِ كذا وكذا»‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫«أح ُّب‬
‫السنة‪َ :‬‬ ‫وكم يف ُّ‬ ‫ْ‬
‫الصال ُة عىل َو ْقتِها‪ُ ،‬ث َّم بِ ُّر‬
‫األعامل إىل اهللِ‪َّ :‬‬ ‫ِ‬ ‫«أح ُّب‬
‫كذا وكذا»؛ كقوله‪َ :‬‬
‫اإليامن‬
‫ُ‬ ‫امل إىل اهللِ‪:‬‬
‫األع ِ‬ ‫ب‬ ‫و«أح‬ ‫‪،‬‬ ‫ِ (((‬
‫هاد يف َس ِ‬
‫بيل اهلل»‬ ‫ثم ا ِ‬
‫جل ُ‬ ‫‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ن‬ ‫ي‬ ‫دَ‬‫الوالِ‬
‫ْ‬ ‫َ ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬
‫الع َم ِل إىل اهللِ‪:‬‬ ‫ب‬
‫َ ُّ َ‬‫و«أح‬ ‫‪،‬‬‫(((‬
‫ور»‬‫ثم َح ٌّج َمبرْ ُ ٌ‬ ‫هاد يف َس ِ ِ‬
‫بيل اهلل‪َّ ،‬‬ ‫جل ُ‬ ‫ثم ا ِ‬‫باهلل‪َّ ،‬‬
‫ِ‬

‫((( أخرجه البخاري (‪.)6502‬‬


‫((( أخرجه البخاري (‪ ،)3209‬ومسلم (‪.)2637‬‬
‫((( أخرجه البخاري (‪ ،)5970 ،527‬ومسلم (‪.)85‬‬
‫((( أخرجه البخاري (‪ ،)26‬ومسلم (‪.)83‬‬

‫‪223‬‬
‫أن ُي ْؤ َخ َذ بِ ُر َخ ِصه»(((‪.‬‬
‫ي ُّب ْ‬ ‫«إن َ‬
‫اهلل حُ ِ‬ ‫صاح ُبه» ‪ ،‬وقوله‪َّ :‬‬
‫(((‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عليه‬ ‫داو َم‬
‫ما َ‬
‫أشد فر ٍح يع َلمه ِ‬
‫العباد‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وفر ُحه العظيم بتوبة عبده الذي هو ُّ َ َ ُ‬ ‫وأضعاف ذلك‪َ ،‬‬
‫حمبتِه للتوبة وللتائب‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ن‬ ‫م‬‫وهو ِ‬

‫اإليامن واإلحسان‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫مجيع مقامات‬ ‫فلو َب َط َل ْت مسأل ُة املحبة لبط َل ْت‬
‫ُ‬
‫السري إىل اهلل‪.‬‬ ‫ُ‬
‫منازل َّ‬ ‫ولتع َّط ْ‬
‫لت‬
‫وعمل؛ فإذا خال منها فهو ميت ال ُروح فيه‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ومنزلة‬ ‫كل مقام‬ ‫فإهنا ُروح ِّ‬
‫اإلخالص إليها‪ ،‬بل هي حقيقة اإلخالص‪ ،‬بل‬ ‫ِ‬ ‫ونِسب ُتها إىل األعامل كنسبة‬
‫فمن ال حم َّب َة‬
‫واحلب والطاعة هلل‪َ ،‬‬ ‫ِّ‬ ‫بالذ ِّل‬
‫هي ن ْف ُس اإلسالم؛ فإ َّنه االستسالم ُّ‬
‫فإن «اإلله» هو‬ ‫له ال إسال َم له أل ْب َّت َة؛ بل هي حقيقة شهادة أن ال إله إال اهلل؛ َّ‬
‫وتعظيم‪ ،‬وطاع ًة‪.‬‬ ‫‪،‬‬‫ء‬ ‫ورجا‬ ‫ا‪،‬‬ ‫ً‬
‫ف‬ ‫وخو‬ ‫‪،‬‬ ‫ُلاًّ‬
‫ذ‬ ‫و‬ ‫ً‬
‫ا‬ ‫ب‬ ‫ح‬ ‫د‬ ‫با‬ ‫الذي يألهَ ه ِ‬
‫الع‬
‫اً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ‬
‫إِله‪ :‬بمعنى «مألوه»‪ ،‬وهو الذي تألهَ ُه القلوب‪ ،‬أي‪ :‬تحُ ُّبه و َت ِذ ُّل له‪.‬‬
‫احلب‪.‬‬ ‫ِ‬
‫مراتب‬ ‫ر‬ ‫آخ‬‫وأصل «ال َّتأ ُّله»‪ :‬التعبد‪ ،‬و«التعبد» ِ‬
‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬
‫احلب و َت َّي َمه)‪ :‬إذا م َلكه وذلـله َملحبوبِه‪.‬‬
‫يقال‪( :‬ع َّبده ُّ‬
‫مك ُن اإلناب ُة بدون املح َّب ِة والرضا‪،‬‬
‫فـ «املحبة» حقيق ُة العبودية‪ ،‬وهل ي ِ‬
‫ُ‬
‫رب‬‫ص‬ ‫لاَّ‬‫إ‬ ‫احلقيقة‬ ‫يف‬ ‫رب‬ ‫الص‬ ‫وهل‬ ‫والرجاء؟‬ ‫ِ‬
‫واخلوف‬ ‫والشكر‪،‬‬ ‫ِ‬
‫واحلمد‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ني؟ فإنهَّ م إ َّنام يتو َّكلون عىل املحبوب يف حصول حما ِّبه ومراضيه‪.‬‬‫املح ِّب َ‬

‫((( أخرجه البخاري (‪ ،)43‬ومسلم (‪.)785‬‬


‫((( أخرجه أمحد (‪ ،)5866‬وصححه األلباين يف «إرواء الغليل» (‪.)9/3‬‬

‫‪224‬‬
‫الم َح ّب ِ‬
‫ـــة‬ ‫َ‬

‫زهدون يف حم َّب ِة ما‬


‫ني؛ فإنهَّ م َي َ‬
‫زهد املح ِّب َ‬
‫وكذلك «الزهد» يف احلقيقة‪ :‬هو ُ‬
‫ِسواه ملحبته‪.‬‬
‫احلب‬ ‫بني‬ ‫ن‬‫م‬‫وكذلك «احلياء» يف احلقيقة‪ :‬إ َّنام هو حياء املحبني؛ فإنه يتو َّل ُد ِ‬
‫ِّ‬ ‫ُ ِّ‬
‫خوف محَ ٌض‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫والتعظيم‪ ،‬وأ َّما ما ال يكون عن حمبة‪ :‬فذلك‬
‫فقر األرواح إىل حمبوهبا‪ ،‬وهو أعىل‬ ‫وكذلك مقا ُم «الفقر»؛ فإ َّنه يف احلقيقة ُ‬
‫أتم من فقر القلب إىل َمن حي ُّبه‪ ،‬ال سيام إذا وجده يف‬ ‫أنوا ِع الفقر؛ فإ َّنه ال َ‬
‫فقر ُّ‬
‫وضا سواه‪ ،‬وهذه حقيقة الفقر عند العارفني‪.‬‬ ‫احلب‪ ،‬ومل يجَ ِ ْد منه ِع ً‬
‫ِ‬
‫القلب بحصول حمبوبه‪ ،‬وكذلك الشوق إىل اهلل‬ ‫وكذلك «الغنى» هو غنى‬
‫ب املح َّب ِة وسرُِّ ها‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫ه‬‫ن‬‫َّ‬ ‫فإ‬ ‫ه؛‬ ‫ِ‬
‫ولقائ‬ ‫تعاىل‬

‫‪225‬‬
‫منزلـــــــــة الـــــــذوق‬

‫ض باهللِ َر ًّبا‪ ،‬وباإلسال ِم‬ ‫اإليامن‪ :‬من ر يِ‬


‫ِ‬ ‫«ذاق َط ْع َم‬
‫يف الصحيح عنه ﷺ‪َ :‬‬
‫َ َ َ‬
‫وأن القلب َيذو ُقه كام‬ ‫عام‪َّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫ط‬ ‫لإليامن‬ ‫َّ‬
‫أن‬ ‫فأخرب‪:‬‬ ‫‪،‬‬‫(((‬
‫حم ٍد ﷺ َر ُسول»‬
‫وبم َّ‬
‫ِ‬
‫دينًا‪ُ ،‬‬
‫طعم الطعام والرشاب‪.‬‬ ‫ذوق ال َف ُم َ‬
‫َي ُ‬

‫وحصولِه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫النبي ﷺ عن إدراك حقيقة اإليامن‪ ،‬واإلحسان‪ُ ،‬‬ ‫ُّ‬ ‫وقد َعبرَّ‬
‫ِ‬
‫احلالوة‬ ‫اب تار ًة‪ ،‬وبوجود‬ ‫وق تار ًة‪ ،‬وبالطعام والشرَّ ِ‬ ‫بالذ ِ‬ ‫للقلب ومبارشتِه له َّ‬
‫الث َمن ك َُّن فيه َو َج َد هبِ َّن َحالو َة‬ ‫ِ‬
‫اإليامن»‪ ،‬وقال‪َ « :‬ث ٌ‬ ‫«ذاق َط ْع َم‬‫تار ًة‪ ،‬كام قال‪َ :‬‬
‫ب ا َمل ْر َء ال‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ومن كان حُي ُّ‬ ‫ب إليه ممَِّا سواهمُ ا‪َ ،‬‬ ‫اإليامن‪َ :‬من كان اهللُ ورسو ُله َ‬
‫أح َّ‬
‫فر ‪َ -‬ب ْع َد إ ْذ أ ْن َقذ ُه اهللُ ِمن ُه‪ -‬كام‬ ‫أن َي ِ‬
‫رج َع يف ال ُك ِ‬ ‫وم ْن كان َي ْك َر ُه ْ‬ ‫ِ‬
‫حُي ُّبه إلاَّ هلل‪َ ،‬‬
‫ار»(((‪.‬‬ ‫أن ُي ْل َقى يف النَّ ِ‬
‫كر ُه ْ‬
‫َي َ‬
‫صح ِة الن َُّّبو ِة؛ حيث قال أليب‬ ‫ِ‬
‫استد َّل به ه َر ْق ُل عىل َّ‬
‫وق هو الذي َ‬ ‫وهذا َّ‬
‫الذ ُ‬
‫اإليامن‪،‬‬
‫ُ‬ ‫لدينِه؟ فقال‪ :‬ال‪ .‬قال‪ :‬وكذلك‬ ‫أحد منهم س ْخط ًة ِ‬
‫َ‬ ‫فيان‪« :‬فهل َير َت ُّد ٌ‬ ‫ُس َ‬
‫الو ُته َبشاش َة ال ُق ِ‬
‫لوب»(((‪.‬‬ ‫ت َح َ‬ ‫إذا خا َل َط ْ‬
‫خالطت بشاش ُته‬
‫ْ‬ ‫وق اإليامن الذي [إذا]‬ ‫باعه ِمن َذ ِ‬
‫فاستد َّل بام يحَ ص ُل أل ْت ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫ورسالة‪ ،‬ال َدعوى‬ ‫أبدا عىل أ َّنه َدعو ُة ُن ُب َّو ٍة‬
‫القلب ً‬ ‫سخ ْطه ذلك‬ ‫القلوب‪ :‬مل َي َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫((( أخرجه مسلم (‪.)34‬‬
‫((( أخرجه البخاري (‪ ،)21‬ومسلم (‪.)43‬‬
‫((( أخرجه البخاري (‪ ،)7‬ومسلم (‪.)1773‬‬

‫‪226‬‬
‫الـــــذوق‬

‫م ٍ‬
‫لك ورياسة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ُ‬
‫تكون‬ ‫ِ‬
‫واإلحسان أ ْم ٌر يجَ ِ ُده القلب‪،‬‬ ‫حالوة اإليامن‬ ‫ِ‬ ‫أن َذ َ‬
‫وق‬ ‫واملقصود‪َّ :‬‬
‫ِ‬
‫حالوة اجلام ِع إىل آلته؛‬ ‫وق‬‫وق حالوة ال َّطعا ِم إىل ال َف ِم‪ ،‬و َذ ِ‬ ‫ِ‬
‫كنسبة َذ ِ‬ ‫نِسب ُته إليه‬
‫ِ (((‬
‫طعم‬‫ٌ‬ ‫فلإليامن‬ ‫‪،‬‬ ‫وق ُع َس ْي َل َتك»‬‫النبي ﷺ‪« :‬ح َّتى َت ُذوقي ُع َس ْي َل َته‪ ،‬و َي ُذ َ‬ ‫كام قال ُّ‬
‫كوك إلاَّ إذا وصل‬ ‫والش ُ‬ ‫الش َب ُه ُّ‬ ‫تزول ُّ‬ ‫ووج ٌد‪ ،‬وال ُ‬ ‫وق ْ‬ ‫وحالو ٌة يتع َّل ُق هبام َذ ٌ‬
‫طعمه‪ ،‬ويجَ ِ ُد‬
‫ذوق َ‬ ‫اإليامن قل َبه حقيق َة املبارشة‪ ،‬ف َي ُ‬ ‫ُ‬ ‫العبد إىل هذه احلال‪ ،‬فباشرَ َ‬ ‫ُ‬
‫حالو َته‪ ،‬واهلل املوفق‪.‬‬

‫عالمات الذوق النافع‪:‬‬

‫وطمع يف غرض‬ ‫ٌ‬ ‫قطع صاح َبه عن طلبِه أ ْم ُر ُدنيا‪،‬‬ ‫وق‪ :‬أن ال َي َ‬ ‫ِمن عالمات َّ‬
‫الذ ِ‬
‫القلب يف َس ِريه إىل مطلبه؛ فإ َّنه َمن‬ ‫ِ‬ ‫مع َي ْقطعان َ‬
‫طريق‬ ‫فإن َ‬
‫األمل وال َّط َ‬ ‫من أغراضها؛ َّ‬
‫أمل يف َغ ِريه‪ْ ،‬‬
‫وإن تع َّلق‬ ‫نس به؛ مل يك ْن له ٌ‬ ‫رب منه واألُ ِ‬ ‫ِ‬
‫معرفة اهلل وال ُق ِ‬ ‫ذاق حالو َة‬
‫ألج ِله‪ ،‬وال يؤ ِّم ُله معه‪.‬‬ ‫ه‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫م‬ ‫يؤ‬ ‫فهو‬ ‫ه‪،‬‬ ‫ب‬ ‫ا‬ ‫محَ‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫بسواه‪ ،‬فهو إلعانتِه عىل مرضاتِ‬ ‫أم ُله ِ‬
‫ْ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫األمل؟‬ ‫العبد هذا‬
‫ُ‬ ‫قلت‪ :‬فام ا َّلذي َيق َط ُع به‬
‫فإن َ‬
‫ْ‬
‫قو ُة رغبتِه يف ا َملطلب األعىل‪ ،‬الذي ليس يش ٌء أعىل منه‪ ،‬ومعرف ُته‬ ‫قلت‪َّ :‬‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫انقطاعه‪ ،‬وأ َّنه يف احلقيقة‬ ‫ووش ِك‬
‫ورسعة ذهابه‪ْ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫بخ َّس ِة ما يؤ َّم ُل ُدو َنه‪،‬‬
‫ِ‬
‫جم قد تدلىَّ للغروب فهو‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫و‬ ‫زائل‪،‬‬ ‫ل‬‫ٌّ‬ ‫يف‪ ،‬فهو ظِ‬‫سحابة ص ٍ‬
‫ِ‬ ‫أو‬ ‫‪،‬‬ ‫كخيال َط ٍ‬
‫يف‬ ‫ِ‬
‫ٌ‬ ‫َ‬

‫((( أخرجه البخاري (‪ ،)2639‬ومسلم (‪.)1433‬‬

‫‪227‬‬
‫قريب آفِل‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫عن‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫لد ْنيا؟ إ َّنام أنا كَراكِ ٍ‬
‫النبي ﷺ‪« :‬ما يل ولِ ُّ‬
‫ب قال يف ظ ِّل َش َجرة ُث َّم َ‬
‫راح‬ ‫قال ُّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫إص َب َعه يف ال َي ِّم‪،‬‬ ‫الد ْنيا يف اآلخرة إلاَّ كام ُيدخ ُل َ‬
‫أح ُدكُم ْ‬ ‫و َت َركَها»(((‪ ،‬وقال‪« :‬ما ُّ‬
‫الدنيا يف جنب اآلخرة بام يعلق عىل اإلصبع من‬ ‫فش َّبه ُّ‬ ‫ف ْل َين ُظ ْر بِ َم َت ِ‬
‫رج ُع؟»(((‪َ ،‬‬
‫غمس يف البحر‪.‬‬
‫البلل حني ُت َ‬
‫رج ٌل‪،‬‬ ‫وتيها‬‫أ‬‫ُ‬ ‫ها‬‫ر‬‫ِ‬ ‫أن الدنيا ِمن أوهلا إىل ِ‬
‫آخ‬ ‫مر بن اخل َّطاب ‪« :‬لو َّ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫قال ُع ُ‬
‫املوت‪ ،‬لكان بمنزلة َمن رأى يف منامه ما َيسرُُّ ه‪ ،‬ثم استيقظ فإذا ليس‬
‫ُ‬ ‫ثم جاءه‬
‫يف يده يش ٌء»‪.‬‬

‫الدنيا بحذافريه يف جنب‬


‫«نعيم ُّ‬
‫ُ‬ ‫غريه‪:-‬‬
‫‪-‬أو ُ‬ ‫ف بن عبد اهلل‬ ‫طر ُ‬
‫وقال ُم ِّ‬
‫أقل ِمن َذ َّرة يف جنب جبال الدنيا»‪.‬‬
‫نعيم اآلخرة؛ ُّ‬

‫عني بصريته يف الدنيا واآلخرة؛ َع ِلم َّ‬


‫أن األمر كذلك‪.‬‬ ‫و َمن َح َّدق َ‬
‫ِ‬
‫احلقري‬ ‫ِ‬
‫اجلزء‬ ‫أمل ِمن هذا‬ ‫ِ‬
‫واملعرفة‪ ،‬أن َيقط َعه ٌ‬ ‫ِ‬
‫العقل‬ ‫ليق بصحيح‬ ‫فكيف َي ُ‬
‫ب َمن نِسب ُة‬
‫فض اًل عن أن َيق َطعه عن ط َل ِ‬ ‫ِ‬
‫ضمح ُّل؟ ْ‬ ‫عن َنعي ٍم ال َي ُ‬
‫زول‪ ،‬وال َي‬
‫والفرح ب ُقربِه‪ ،‬كنِ ِ‬
‫سبة‬ ‫ِ‬ ‫نس به‪،‬‬‫الدائ ِم إىل نعيم معرفتِه وحم َّبتِه‪ ،‬واألُ ِ‬
‫هذا النَّعي ِم َّ‬
‫الدنيا إىل نعي ِم اجلن َِّة؟ قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ‬ ‫نعي ِم ُّ‬

‫((( أخرجه الرتمذي (‪ ،)2377‬وصححه األلباين يف «السلسلة الصحيحة» (‪.)438‬‬


‫((( أخرجه مسلم (‪.)2858‬‬

‫‪228‬‬
‫الـــــذوق‬

‫ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ‬
‫ك‬‫أ‬‫َ‬ ‫يسري‪-‬‬ ‫له‬ ‫قال‬‫ي‬ ‫‪-‬وال‬ ‫ضوانه‬ ‫ِ‬
‫ر‬ ‫ن‬‫م‬‫ﯠ ﯡ ﯢ﴾ [التوبة‪ ،]27 :‬فيسري ِ‬
‫برَ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫ِم َن اجلنَّات وما فيها‪.‬‬

‫إليهم ِم َن النَّ َظ ِر إىل‬


‫ب ِ‬ ‫ويف حديث الرؤية‪« :‬فواهللِ ما أ ْع ُ‬
‫طاه ُم اهللُ َشي ًئا َ‬
‫أح َّ‬
‫ِ‬
‫بغاية‬ ‫ورضيِ لن ْف ِسه‬
‫باحلرمان‪َ ،‬‬ ‫وج ِهه»(((‪ ،‬فمن ق َطعه عن هذا أم ٌل‪ ،‬فقد فاز ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬
‫اخلُرسان‪ ،‬واهلل املستعان‪ ،‬وعليه ال ُّتكالن‪ ،‬وما شاء اهلل كان‪.‬‬

‫((( أخرجه مسلم (‪.)181‬‬

‫‪229‬‬
‫بني همة البداية والفتور بعدها‬

‫أوقات البداية»‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫جلنَيد ‪َ :‬‬


‫«واش ْوقا ُه إىل‬ ‫قال ا ُ‬
‫والسري إىل اهلل؛ فإ َّنه‬ ‫الطلب‪،‬‬ ‫عىل‬ ‫مجع اهلم ِ‬
‫ة‬ ‫ْ‬ ‫و‬ ‫البداية‪،‬‬ ‫ِ‬
‫أوقات‬ ‫لذ َة‬ ‫يعني‪َّ :‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫أوقات البدايات؛ لمِا كان‬ ‫ِ‬ ‫السري والط َلب‪ .‬فارتاح إىل‬ ‫َّ‬ ‫عىل‬ ‫كان جمموع اهلم ِ‬
‫ة‬ ‫َ َّ‬
‫اهلم ِة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫عن اخلَ ْل ِق‪ ،‬واجتام ِع َّ‬ ‫اإلعراض ِ‬
‫ِ‬ ‫فيها ِمن َل َّذ ِة‬
‫رج ٍل‪ ،‬وهو يبكي ِمن خشية اهلل‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫الص ِّد ُيق عىل ُ‬ ‫بكر ِّ‬ ‫و َم َّر أبو ٍ‬
‫قس ْت قلو ُبنا»‪.‬‬ ‫«هكذا كنَّا ح َّتى َ‬
‫ش ٍة َفترْ ةً»(((‪.‬‬‫رَِّ‬ ‫ِّ‬
‫ل‬ ‫ُ‬
‫ك‬ ‫ول‬ ‫ً‪،‬‬
‫ة‬ ‫ش‬
‫رَِّ‬ ‫ل‬ ‫ٍ‬ ‫«إن ل ُك ِّل ِ‬
‫عام‬ ‫النبي ﷺ‪َّ :‬‬ ‫وقد َأخرب ُّ‬
‫رتة إىل حالِه‬ ‫شتاق يف تلك ال َف ِ‬ ‫عر َض له َفترْ ٌة‪ ،‬ف َي ُ‬ ‫فالطالب اجلا ُّد‪ :‬ال بد أن َت ِ‬
‫لب واالجتِهاد‪.‬‬ ‫وقت ال َّط ِ‬ ‫َ‬
‫فمن كانت َفترْ َ ُته إىل‬ ‫منه‪،‬‬ ‫بد‬
‫َّ‬ ‫ال‬ ‫م‬ ‫ِ‬
‫الز‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫أ‬ ‫‪:‬‬ ‫كني‬ ‫ات للسالِ‬ ‫فتخ ُّل ُل الفترَ ِ‬
‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ ٌْ‬ ‫َّ‬
‫جي له أن َيعو َد‬ ‫ر‬ ‫ٍ‬
‫م‬ ‫ر‬ ‫محُ‬ ‫يف‬ ‫ه‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫دخ‬ ‫ض‪ ،‬ومل ُت ِ‬‫ٍ‬ ‫فر‬ ‫ن‬ ‫سديد‪ ،‬ومل تخُ ِرجه ِ‬
‫م‬ ‫ٍ‬ ‫ت‬‫َ‬ ‫و‬ ‫مقار ٍ‬
‫بة‬
‫َّ ُ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ َ‬
‫خريا ممَّا كان‪.‬‬‫ً‬
‫وإدبارا؛ فإذا أقب َل ْت‬
‫ً‬ ‫لوب اً‬
‫إقبال‬ ‫«إن هلذه ال ُق ِ‬
‫مر بن اخل َّطاب ‪َّ :‬‬‫قال ُع ُ‬
‫أدبر ْت َفأ ِلزموها ال َف َ‬
‫رائض»‪.‬‬ ‫وإن َ‬ ‫فخذوها بالنَّ ِ‬
‫وافل‪ْ ،‬‬ ‫ُ‬

‫وصححه األلباين يف «صحيح اجلامع الصغري» (‪.)2152‬‬


‫َّ‬ ‫((( أخرجه أمحد (‪، )6764‬‬

‫‪230‬‬
‫الهمــــــــة‬

‫احل َك ِم ما‬‫الكني ِم َن ِ‬‫َ‬ ‫للس‬ ‫ض‬‫ُ‬ ‫ِ‬


‫ر‬ ‫َع‬
‫ت‬ ‫تي‬ ‫ل‬‫َّ‬ ‫ا‬ ‫ب‬ ‫ِ‬ ‫ج‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫حل‬ ‫وا‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫يو‬ ‫والغُ‬ ‫ويف هذه ال َف ِ‬
‫رتات‬
‫َّ‬
‫ادق ِم َن الكاذب‪.‬‬ ‫الص ُ‬ ‫َّ‬ ‫هلل‪ ،‬وهبا َيتبينَّ‬ ‫ال َيع َل ُم تفصي َله إلاَّ ا ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وهواه‪.‬‬ ‫ب عىل َعق َبيه‪ ،‬و َيعو ُد إىل ُرسو ِم طبيعته َ‬ ‫فالكاذب َينقل ُ‬
‫يأس ِمن َروح اهللِ‪ ،‬و ُي ْلقي ن ْف َسه بالباب‬ ‫الفر َج‪ ،‬وال َي ُ‬ ‫ر‬ ‫ادق ي ِ‬
‫والص ُ َ ُ َ‬
‫نتظ‬ ‫َّ‬
‫كاإلناء الفارغِ ا َّلذي ال يش َء فيه ألب َّت َة‪ ،‬ي ِ‬
‫نتظ ُر‬ ‫ِ‬ ‫ذليل ِمسكي ًنا ُمس َتكي ًنا‪،‬‬ ‫َطر ًحيا اً‬
‫َ َ‬
‫بسبب ِم َن العبد وإنْ‬ ‫ٍ‬ ‫اإلناء وصانِ ُعه ما َيص ُل ُح له‪ ،‬ال‬ ‫ِ‬ ‫ضع فيه مالِ ُك‬ ‫أن َي َ‬
‫األسباب لكن ليس هو منك؛ بل هو ا َّلذي َم َّن‬ ‫ِ‬ ‫أعظ ِم‬‫قار ِمن َ‬ ‫ِ‬
‫كان هذا االفت ُ‬
‫ِ‬
‫املرء وق ْلبِه‪.‬‬ ‫ُول بينْ‬ ‫وأ ْخالك عنك‪ ،‬وهو ا َّلذي يحَ ُ‬ ‫عليك به‪ ،‬وجر َدك منك‪َ ،‬‬
‫َّ‬
‫مأل إنا َءك‪،‬‬ ‫محك و َي َ‬ ‫ريد أن َير َ‬‫فإذا رأي َته قد أقا َمك يف هذا املَقا ِم‪ ،‬فاع َل ْم أنَّه ُي ُ‬
‫ربه و َمن‬ ‫فس ْل َّ‬ ‫ضي ٌع‪َ ،‬‬ ‫قلب ُم َّ‬ ‫املوضع فاع َلم أنَّه ٌ‬ ‫ِ‬ ‫القلب يف غري هذا‬ ‫َ‬ ‫وضع َت‬
‫ْ‬ ‫فإنْ‬
‫ُ‬
‫القائل‪:‬‬ ‫هو بينْ أصابِعه‪ ،‬أن َي ُر َّده عليك‪ ،‬ويجَ َم َع َش ْم َلك به‪ ،‬ولقد َ‬
‫أحس َن‬
‫ري َم ِ‬
‫وضع‬ ‫إذا ما َو َض ْع َت ال َق ْل َب يف َغ ِ‬
‫ــو َق ْل ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫بغَ ــ ِ‬
‫ــب ُم َض َّي ُ‬
‫ــع‬ ‫فه َ‬‫ري إنـــاء ْ‬

‫‪231‬‬
‫منزلـــــــة ال�صفـــــــاء‬
‫تاب والسن َِّة‪ ،‬فمن مل يحَ َف ِ‬ ‫يقول دائم‪ِ :‬ع ْلمنا هذا مقي ٌد ِ‬
‫بالك ِ‬
‫ظ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ اً‬ ‫َيد‬
‫جلن ُ‬
‫كان ا ُ‬
‫احلديث‪ ،‬ومل َيتف َّق ْه فال ُي ْق َت َدى به‪.‬‬
‫َ‬ ‫القرآن‪ ،‬ومل َيك ُت ِ‬
‫ب‬ ‫َ‬

‫حي والن َُّّبو ِة هُي ِّذ ُب صاح َبه‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬


‫لم الصايف‪ ،‬ا ُملتل َّقى من مشكاة َ‬
‫الو ِ‬ ‫ِ‬
‫فهذا الع ُ‬
‫طريق العبود َّي ِة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لسلوك‬
‫وحتكيمه باطنًا‬ ‫وظاهرا‪،‬‬ ‫رسول اهللِ ﷺ باطنًا‬ ‫ِ‬ ‫وحقيق ُته‪ :‬ال َّتأ ُّد ُب بآداب‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫سري معه حيث سار بك؛‬ ‫ف بك‪ ،‬وا َمل ُ‬ ‫والوقوف معه حيث و َق َ‬ ‫ُ‬ ‫وظاهرا‪،‬‬
‫ً‬
‫ِ‬
‫وظاه َره‪،‬‬ ‫شيخك ا َّلذي قد أ ْل َق ْي َت إليه أ ْم َرك ك َّله‪ ،‬سرَِّ ه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بمنزلة‬ ‫بحيث تجَ َع ُله‬
‫واقتد ْي َت به يف مجي ِع أحوالِه‪ ،‬ووق ْف َت مع ما يأ ُم ُرك به‪ ،‬فال تخُ الِ ُفه ال َب َّت َة‪ ،‬ف َتج َع ُل‬ ‫َ‬
‫وحاكم‪ ،‬و ُتع ِّل ُق قل َبك بقلبِه الكريم‪،‬‬ ‫اً‬ ‫شيخا‪ ،‬وإما ًما و ُقدو ًة‬ ‫رسول اهللِ ﷺ لك ً‬ ‫َ‬
‫سري إذا‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫و‬ ‫ك‪،‬‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫اس‬ ‫إذا‬ ‫ف‬ ‫ُ‬ ‫وروحاني َتك بروحانيتِه‪ ،‬ف ُتجيبه إذا دعاك‪ ،‬و َت ِ‬
‫ق‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫ب لغضبِه‪ ،‬و َترىض ِلرضاه‪،‬‬ ‫غض ُ‬ ‫سار بك‪ ،‬و َت ِق ُيل إذا قال‪ ،‬و َت ِنز ُل إذا َنزل‪ ،‬و َت َ‬
‫عن اهللِ ٍ‬
‫بخرب‬ ‫يشء أنز ْل َته منزل َة ما تراه بعينك‪ ،‬وإذا َأخبرَ َ ك ِ‬ ‫وإذا َأخ ك عن ٍ‬
‫برَ َ‬
‫سم ُعه ِم َن اهللِ ُبأ ُذنِك‪.‬‬ ‫أنز ْل َته منزل َة ما َت َ‬
‫شيخك وأستا َذك‪ ،‬ومع ِّل َمك و ُمر ِّبيك‬ ‫َ‬ ‫الر َ‬
‫سول‬ ‫وباجلملة‪ :‬ف َتج َع ُل َّ‬
‫َ‬
‫الوسائط‬ ‫سق ُط‬‫الوسائط بينك وبينه إلاَّ يف ال َّتبليغ‪ ،‬كام ُت ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ط‬ ‫ومؤدبك‪ ،‬و ُت ِ‬
‫سق‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ِّ َ‬
‫ِ‬
‫صول أ ْم ِره ونهَ ِيه‬ ‫رس ِل يف العبود َّية‪ ،‬وال ُتثبِ ُت وساط ًة إلاَّ يف ُو‬ ‫بينك وب ا ُمل ِ‬
‫ينْ‬ ‫ْ‬
‫ورسالتِه إليك‪.‬‬

‫‪232‬‬
‫الصفـــــــــاء‬

‫حممدا‬
‫ً‬ ‫هلل‪ ،‬وأنَّ‬ ‫حقيقة َش ِ‬
‫هادة أن ال إل َه إلاَّ ا ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫جريدان‪ :‬همُ َ ا‬ ‫ِ‬
‫وهذان ال َّت‬
‫ستح ُّق العباد َة ِسواه‪،‬‬
‫املعبود املأ ُلوه‪ ،‬ا َّلذي ال ي ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫وحده‬
‫َ‬ ‫رسول اهلل‪ ،‬فا ُ‬
‫هلل‬ ‫ُ‬
‫الطاع َة ِسواه‪ ،‬و َمن‬ ‫هتدى به‪ ،‬ا َّلذي ال ي ِ‬
‫ستح ُّق َّ‬ ‫َ‬ ‫طاع ا ُمل َّت َب ُع‪ ،‬ا ُمل َ‬
‫ورسو ُله‪ :‬ا ُمل ُ‬
‫طاع إذا َأ َمر بطاعته‪ُ ،‬في ُ‬
‫طاع ت ََب ًعا ال اً‬
‫أصل‪.‬‬ ‫ِسوا ُه‪ :‬فإنَّام ُي ُ‬
‫فالطريق مسدود ٌة إلاَّ عىل م ِن اق َتفى آثار الر ِ‬
‫سول ﷺ‪ ،‬واق َتدى به يف‬ ‫َ َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬
‫ظاه ِره وباطِنِه‪.‬‬
‫ِ‬
‫ريق؛ فليس ح ُّظه ِمن س ِ‬
‫لوكه إلاَّ‬ ‫غري هذا ال َّط ِ‬
‫الك عىل ِ‬
‫الس ُ‬
‫ُ‬ ‫فال َيتعنَّى َّ‬
‫عب‪ ،‬وأعام ُله ﴿ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ‬ ‫ال َّت َ‬
‫ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ﴾ [النور‪.]93 :‬‬
‫ِ‬ ‫الك عىل هذه ال َّط ِ‬
‫زح ًفا‪ ،‬فأ ْت ُ‬
‫باع‬ ‫زحف ْ‬ ‫ريق؛ فإ َّنه واص ٌل ولو َ‬ ‫الس ُ‬
‫وال يتعنَّى َّ‬
‫عزائمهم وهمِ َ ُمهم و ُمتابع ُتهم‬
‫ُ‬ ‫سول ﷺ إذا ق َع َد ْت هبم أعاملهُ م‪ ،‬قا َم ْت هبم‬ ‫الر ِ‬
‫َّ‬
‫لنب ِّيهم؛ َف ُهم كام قيل‪:‬‬
‫ـل َسـيرْ ِ َك ا ُمل َد َّل ِ‬
‫ـــل‬ ‫مـن يل ِ‬
‫بم ْث ِ‬ ‫َ ْ‬
‫األو ِل‬ ‫تمَ ِشــي ُر َو ْي ً‬
‫ـدا وتجَ ِـي يف َّ‬
‫هاد وال َّتشمري؛‬‫املقصودة باالجتِ ِ‬
‫ِ‬ ‫[و] صفاء ِ‬
‫العل ِم هَ ْيدي صاح َبه إىل الغاية‬ ‫ُ‬
‫غري ُمنتبِ ٍه إىل‬
‫ُ‬ ‫ه‪،‬‬ ‫بج ِّده واجتِ ِ‬
‫هاد‬ ‫كني ‪-‬بل أكثرهم‪ -‬سالِ ٌك ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫فإن كثريا ِمن السالِ‬
‫َّ ً َ َّ‬
‫املقصود‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫أن قوما َق ِدموا ِمن ٍ‬ ‫و َأ ِ‬
‫بعيدة‬ ‫بالد‬ ‫جدا‪ ،‬وهو‪ً َّ :‬‬ ‫رض ُب لك يف هذا َم َث اًل َ‬
‫حسنًا ًّ‬

‫‪233‬‬
‫َّاس‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫ب‬ ‫ج‬ ‫ِ‬ ‫ع‬ ‫ف‬ ‫العجيبة‪،‬‬ ‫واهليئة‬ ‫ة‪،‬‬ ‫ي‬ ‫عليهم أ َثر النَّعي ِم والبهجة‪ ،‬واملالبس السنِ‬
‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َّ َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫لسائر‬ ‫مج ِعها‬ ‫أحس ِن البالد‪ ،‬وأ َ‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫هلم‪ ،‬فسأ ُلوهم عن حاهلم؟ فقالوا‪ :‬بالدنا ِ‬
‫م‬ ‫ُ‬
‫وأص ِّحها هوا ًء‪ ،‬وأك َث ِرها فاكه ًة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ياها‪َ ،‬‬ ‫أنوا ِع النَّعيم‪ ،‬وأرخاها و َأك َث ِرها م ً‬
‫وأبشارا‪ ،‬ومع هذا‬ ‫ً‬ ‫َّاس ُص َو ًرا‬ ‫أحس ُن الن ِ‬ ‫وأه ُلها كذلك َ‬ ‫دال‪ْ ،‬‬ ‫و َأع َظ ِمها اعتِ اً‬
‫وجو ًدا ورمح ًة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اً‬ ‫الوصف اً‬ ‫فم ِلكُها ال َينا ُله‬
‫وكامل‪ ،‬وإحسا ًنا وع اًلم وح اًلم‪ُ ،‬‬ ‫مجال‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫سائر م ِ‬
‫األطراف‪ ،‬فال‬ ‫لوك‬ ‫ِ ُ‬ ‫والسطو ُة عىل‬ ‫للرع َّية‪ ،‬و ُقر ًبا منهم‪ ،‬وله اهلَيب ُة َّ‬ ‫َّ‬
‫عدوهم‪ ،‬ال‬ ‫ٍ ِ‬ ‫أحد منهم يف مقاومتِه وحماربتِه‪ِ ُ ،‬‬
‫فأهل بلده يف أمان من ِّ‬ ‫ُ َ‬ ‫طم ُع ٌ‬ ‫َي َ‬
‫سه ُل‬ ‫ِ ِ‬ ‫وف بساحتِهم‪ ،‬ومع هذا‪ :‬فله‬ ‫يحَ ُ ُّل اخلَ ُ‬
‫رب ُز فيها إىل َرع َّيته‪ ،‬ف ُي ِّ‬ ‫أوقات َي ُ‬
‫ٌ‬
‫ِ‬ ‫الد َ‬
‫أبصارهم عليه‬ ‫ُ‬ ‫جاب ب ْينه وب ْينهم‪ ،‬فإذا وق َع ْت‬ ‫خول عليه‪ ،‬و َير َف ُع احل َ‬ ‫هلم ُّ‬
‫واضمح َّل‪ ،‬حتى ال ي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ندهم ُّ‬ ‫تالشى ِع َ‬
‫لتفتون إىل‬ ‫َ‬ ‫كل ما ُهم فيه م َن النَّعي ِم ْ َ َ‬
‫اململكة بال َّتعظي ِم‬ ‫ِ‬ ‫سائر ِ‬
‫أهل‬ ‫عليه‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫ق‬ ‫َ‬
‫أ‬ ‫منهم‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫واحد‬ ‫عىل‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫ق‬ ‫َ‬
‫أ‬ ‫فإذا‬ ‫منه‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫يشء‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫البالد‪َ ،‬ن ْدعوهم إىل حرضتِه‪ ،‬وهذه ُك ُت ُبه‬ ‫ِ‬ ‫واإلجالل‪ ،‬ونح ُن ُر ُس ُله إىل ِ‬
‫أهل‬
‫بالكذب عليه‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫زيل سو َء ال َّظ ِّن بنا‪ ،‬واتهِّ ا َمنا‬ ‫هود ما ُي ُ‬ ‫الش ِ‬ ‫إىل النَّاس‪ ،‬ومعنا ِم َن ُّ‬

‫انقسموا أقسا ًما‪:‬‬ ‫ِ‬


‫ل‬ ‫س‬ ‫الر‬ ‫َ‬
‫أحوال‬ ‫دوا‬ ‫وشاه‬ ‫ذلك‪،‬‬ ‫َّاس‬ ‫ن‬‫ال‬ ‫ع‬ ‫ِ‬
‫سم‬
‫َ‬ ‫ُّ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫فلماَّ‬
‫تجش ُم مش َّق َة‬
‫ديارنا‪ ،‬وال َن َّ‬‫خر ُج ِمن ِ‬ ‫فار ُق أوطا َننا‪ ،‬وال َن ُ‬‫فطائف ٌة قالت‪ :‬ال ُن ِ‬
‫ِ‬
‫وأبنائنا‬ ‫نازلِنا‪ ،‬ومفارقة ِ‬
‫آبائنا‬ ‫ِ‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫نا‬ ‫البعيد‪ ،‬و َنرت ُك ما َألِ ْفناه ِمن َع ِ‬
‫يش‬ ‫ِ‬ ‫الس ِ‬
‫فر‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫حتصيل ما‬‫ِ‬ ‫غري هذه البالد‪ ،‬ونحن ال َن ِ‬
‫قد ُر عىل‬ ‫وإخوانِنا أل ْم ٍر ُو ِع ْدنا به يف ِ‬
‫ُ‬
‫هد وا َملش َّق ِة‪ ،‬فكيف َن ِ‬
‫بعد اجل ِ‬
‫نتق ُل عنه؟‬ ‫نح ُن فيه إلاَّ َ ُ‬
‫فارقة أن ُف ِسها ألبدانهِ ا؛ َّ‬
‫فإن‬ ‫وبالدها‪ :‬كم ِ‬
‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ا‬ ‫ُ‬
‫ورأت هذه ِ‬
‫الفرق ُة مفارق َتها ألوطانهِ‬ ‫ْ‬

‫‪234‬‬
‫الصفـــــــــاء‬

‫كر ُه ما إليها ُمفارق ُته‪ ،‬ولو فار َق ْته إىل النَّعي ِم ا ُملقي ِم‪.‬‬ ‫َ‬
‫أ‬ ‫‪-‬‬ ‫ِ‬
‫للبدن‬ ‫ها‬ ‫لشد ِة إ ْل ِ‬
‫ف‬ ‫الن ْف َس ‪َّ -‬‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫العقل‪.‬‬ ‫احل ِّس وال َّطب ِع عىل داعي‬ ‫فهذه ال َّطائف ُة غ َلب عليها داعي ِ‬
‫َ‬
‫وح ِ‬ ‫ِ‬ ‫حال الرس ِل‪ ،‬وما هم فيه ِ‬ ‫وال َّطائف ُة الثانية‪َّ :‬ملا ْ‬
‫سن‬ ‫ُ‬ ‫البهجة‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫رأت َ ُّ ُ‬
‫السري‪،‬‬ ‫يف‬ ‫ذوا‬ ‫َ‬
‫فأخ‬ ‫‪،‬‬‫ك‬ ‫بالد ا َمل ِل ِ‬ ‫سري إىل ِ‬ ‫ِ‬ ‫للم‬ ‫وا‬ ‫ب‬ ‫تأه‬ ‫هم‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫د‬
‫ْ‬ ‫ص‬‫احلال‪ ،‬و َع ِلموا ِ‬ ‫ِ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫وعارض ْتهم‬ ‫القاعدي َن‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وعشائ ُرهم ِم َن‬ ‫ِ‬ ‫أه ُلهم وأصحابهُ م‬
‫َ‬ ‫فعار َضهم ْ‬ ‫َ‬
‫ويؤ ِّخرون أخرى‪،‬‬ ‫قدمون ِر ْج اًل َ‬ ‫فج َعلوا ُي ِّ‬ ‫ِ‬
‫ورهم وبساتينُهم‪َ ،‬‬ ‫َمساكنُهم و ُد ُ‬
‫حوها‪ ،‬وإذا‬ ‫وة ال َع ِ‬ ‫بالد ا َمل ِل ِك وما فيها ِمن س ْل ِ‬ ‫فإذا تذ َّكروا طِيب ِ‬
‫قدموا َن َ‬ ‫يش َت َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫أه ِلهم‬ ‫يشها‪ ،‬وص ِ‬
‫حبة‬ ‫بالدهم و َع ِ‬ ‫الل ِ‬ ‫ِ‬ ‫عار َضهم ما َألِ ُفوه واعتادوه ِمن ظِ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫الد ِ‬ ‫تأخروا ِ‬ ‫وأصحابهِ م‪َّ :‬‬
‫يني‬
‫اع َ‬ ‫َّ‬ ‫دائم بينْ‬ ‫فهم اً‬ ‫عن ا َملسري‪ ،‬وال َت َفتوا إليهم‪ُ ،‬‬
‫اآلخر‪ ،‬ف َيصريون إليه‪.‬‬ ‫أحدمها و َي ْقوى عىل َ‬ ‫ب ُ‬ ‫ني‪ ،‬إىل أن ي ِ‬
‫غل‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ِ‬
‫واجلاذ‬
‫َ َ‬
‫أن بال َد ا َمل ِل َك َأ ْوىل هبا؛‬ ‫ورأت َّ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬
‫عزائمها‪،‬‬ ‫ظهور‬ ‫ت‬ ‫ْ‬ ‫ب‬ ‫والطائف ُة الثالثة‪ :‬ر ِ‬
‫ك‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ب‬ ‫بحس ِ‬ ‫ء‬ ‫ط‬‫ْ‬ ‫ب‬ ‫ها‬ ‫ِ‬ ‫س‬ ‫يف‬ ‫لكن‬ ‫؛‬ ‫ِ‬
‫م‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ُّ‬
‫ل‬ ‫ال‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫ها‬ ‫فو َّطن َْت أن ُفسها عىل قص ِدها‪ ،‬ومل ي ْثنِ‬
‫َ يرْ ُ ٌ َ‬ ‫ُ َّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫وحال ا َمل ِل ِك‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫البالد‬ ‫أحوال تلك‬ ‫ِ‬ ‫عف ما ُك ِشف هلا ِمن‬ ‫َض ِ‬

‫فسارت َس ًريا حثي ًثا‪ُ ،‬‬


‫فهم‬ ‫ْ‬ ‫ت يف ا َملسري وواص َل ْته‪،‬‬ ‫والطائف ُة َّ‬
‫الرابعة‪َّ :‬‬
‫جد ْ‬
‫كام قيل‪:‬‬
‫يـل ُم ْرخٍ ُس ُدو َلـ ُه‬ ‫ور ْك ٍ‬
‫ب َس َـروا وال َّل ُ‬ ‫َ‬
‫ـــل ُم ْغـــبرَِّ ا َملطالِـ ِع َقاتِـــ ِم‬‫عـىل ُك ِّ‬
‫األرض َب ْينَها‬
‫ُ‬ ‫مات ضا َع ِ‬
‫ت‬ ‫ح َدوا َع َز ٍ‬
‫َ ْ‬
‫ـور الع ِ‬
‫زائــ ِم‬ ‫ُراه ْم يف ُظ ُه ِ َ‬ ‫صـار سـ ُ‬ ‫َف َ‬

‫‪235‬‬
‫ُت ِرهيِ ْ‬
‫ــم ُن ُجــو ُم ال َّل ْي ِ‬
‫ـل ما َيط ُلبو َنــ ُه‬
‫الشعرى وهـا ِم الن ِ‬
‫َّعائــ ِم‬ ‫عىل عاتِ ِ‬
‫َ‬ ‫ـق ِّ َْ‬
‫غري َتن ُّب ٍه‬
‫واهم موقوف ٌة عليه ِمن ِ‬ ‫همِ‬
‫فهؤالء َ ُمهم مرصوف ٌة إىل ا َملسري‪ ،‬و ُق ُ‬
‫ِ‬
‫والغاية ال ُعليا‪.‬‬ ‫ِ‬
‫املقصود األَع َظ ِم‪،‬‬ ‫منهم إىل‬
‫أخذوا يف ِ‬
‫اجل ِّد يف ا َملسري‪ ،‬وهمَِّ ُتهم ُمتع ِّلق ٌة بالغاية‪،‬‬ ‫والطائف ُة اخلامسة‪َ :‬‬
‫شاه ُدونه ِمن ب ٍ‬
‫عد‪،‬‬ ‫رون إىل املقصود بالسري‪ ،‬فكأ م ي ِ‬ ‫َ‬ ‫ريهم ناظِ‬
‫فهم يف َس ِ‬
‫ُ‬ ‫نهَّ ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫الش ِ‬
‫اهد الذي‬ ‫عاملون عىل هذا َّ‬ ‫بالده‪ ،‬فهم ِ‬ ‫وهو ي ْدعوهم إىل ن ْف ِسه وإىل ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫قام بقلوبهِ م‪.‬‬
‫ِ‬
‫بالعمل‬ ‫شاه َد املقصو َد‬ ‫شاه ِ‬
‫قد ِر ِ‬ ‫كل ٍ‬ ‫وعم ُل ِّ‬
‫فمن َ‬ ‫َ‬ ‫ه‪،‬‬ ‫د‬ ‫َ‬ ‫عىل‬ ‫منهم‬ ‫أحد‬ ‫َ‬
‫هد فيه َأ َت َّم ممَّن ال‬ ‫لمه كان ُنصحه فيه‪ ،‬وإخالصه وحتسينُه‪ ،‬وب ْذ ُل اجل ِ‬ ‫يف ِع ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الغائب‪،‬‬ ‫ه‬ ‫د‬
‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫يجَ‬ ‫ما‬ ‫ب‬ ‫ِ‬ ‫َّص‬ ‫ن‬ ‫وال‬ ‫ِ‬
‫عب‬ ‫ت‬
‫َّ‬ ‫ال‬ ‫س‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫الح ْظه‪ ،‬ومل يجَ ِ ْد ِ‬
‫م‬ ‫شاه ُده ومل ي ِ‬ ‫ي ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫شاه ُده‪ :‬ليس‬ ‫عم َل عم اًل َمل ِل ٍك بحرضتِه‪ ،‬وهو ي ِ‬ ‫شاهد بذلك‪ ،‬فمن ِ‬ ‫ٌ‬ ‫والوجو ُد‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫غري متي ِّق ٍن بوصوله إليه‪.‬‬ ‫وهو‬ ‫عنه‪،‬‬ ‫ه‬ ‫عم َل يف َغيبتِه وب ِ‬
‫عد‬ ‫حا ُله كحالة من ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫وارتفعت‪،‬‬
‫ْ‬ ‫اهلم ُة َع َل ْت‬ ‫العل ِم َته‪ ،‬ومتى صح ِ‬
‫ت‬ ‫ويصحح له صفاء هذا ِ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫همَِّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ِّ ُ‬
‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫لاَّ‬ ‫فإن سفولهَ ا ودناءتهَ ا ِمن ِع َّلتِها وس َق ِ‬
‫الصعو َد‬ ‫ب‬
‫ُ ُّ‬ ‫ل‬ ‫ط‬ ‫ت‬‫َ‬ ‫َّار‬ ‫ن‬ ‫كال‬ ‫فهي‬ ‫إ‬ ‫و‬ ‫ها‪،‬‬‫م‬ ‫َ‬ ‫َّ ُ‬
‫واالرتفاع ما مل تمُ ن َْع‪.‬‬
‫َ‬
‫ت اخلَ ْل َق إليه‬‫باحلق ط َلبا وقص ًدا‪ ،‬وأوص َل ِ‬
‫ِّ‬ ‫ت‬‫ْ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫ص‬ ‫ت‬
‫َّ‬ ‫ا‬ ‫ٌ‬
‫ة‬ ‫مه‬ ‫م‬
‫ِ‪:‬‬ ‫م‬ ‫وأعىل ِ‬
‫اهل‬
‫ْ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫جريدها ِم َن انقسا ِم‬
‫سل و َأتبا ُعهم‪ ،‬وصح ُتها‪ :‬ب َت ِ‬
‫َّ‬ ‫الر ِ‬
‫مه ُة ُّ‬ ‫صحا‪ ،‬وهذه َّ‬ ‫َدعو ًة و ُن ً‬

‫‪236‬‬
‫الصفـــــــــاء‬

‫توح َد َمطلوبهُ ا باإلخالص‪،‬‬ ‫بل‬ ‫ها؛‬ ‫ِ‬


‫طريق‬ ‫ط َلبِها‪ ،‬وانقسا ِم َمطلوبهِ ا‪ ،‬وانقسا ِم‬
‫َّ‬
‫الد ِ‬ ‫دق‪ ،‬وطري ُقها بالس ِ‬ ‫بالص ِ‬
‫دليل‪ ،‬ال‬ ‫نص َبه اهللُ اً‬ ‫ليل ا َّلذي َ‬ ‫ف َّ‬ ‫لوك خ ْل َ‬ ‫ُّ‬ ‫وط َل ُبها ِّ‬
‫دليل له‪.‬‬‫نص َبه هو اً‬ ‫َمن َ‬
‫فوق‬ ‫بمن َ‬ ‫ٌ‬
‫ة‬ ‫ق‬ ‫ِّ‬
‫ل‬ ‫متع‬ ‫ة‬ ‫ٌ‬ ‫م‬ ‫ِ‬
‫فه‬ ‫ا‪،‬‬ ‫تهَ‬ ‫تفاو‬ ‫وأشد‬
‫َّ‬ ‫ا‪،‬‬ ‫أ‬ ‫ش‬ ‫أعجب‬ ‫ما‬ ‫!‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫اهل‬‫وهلل ِ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ نهَ‬ ‫َ ُ‬
‫امرئ‬‫ٍ‬ ‫كل‬ ‫تقول‪ِ :‬قيم ُة ِّ‬ ‫حل ِّش‪ ،‬والعا َّم ُة ُ‬ ‫ُ‬ ‫وا‬ ‫ِ‬
‫األنتان‬ ‫مه ٌة حائم ٌة َ‬
‫حول‬ ‫العرش‪ ،‬و َّ‬ ‫ِ‬
‫اخلاص ِة تقول‪ :‬قيم ُته‬ ‫ُ‬
‫ة‬ ‫وخاص‬ ‫ه‪،‬‬ ‫ب‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫ط‬ ‫ي‬ ‫ما‬ ‫ما ِسنُه‪ ،‬واخلاص ُة تقول‪ :‬قيم ُة ِ‬
‫املرء‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َ ُ‬ ‫َّ‬ ‫يحُ‬
‫مه ُته إىل َمطلوبِه‪.‬‬ ‫َّ‬
‫مي‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫س‬ ‫َ‬ ‫األ‬ ‫ٍ‬
‫عب‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫بن‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫ة‬ ‫ربيع‬ ‫اهلم ِم‪ ،‬فان ُظر إىل مه ِ‬
‫ة‬ ‫ف مراتب ِ‬ ‫عر َ‬ ‫وإذا أر ْد َت أن َت ِ‬
‫ْ ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬
‫جلن َِّة»(((‪.‬‬ ‫ا‬ ‫يف‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫ق‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫را‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫«أسأ‬ ‫فقال‪:‬‬ ‫ي»‪،‬‬ ‫رسول اهللِ ﷺ‪« :‬س ْلن ِ‬ ‫ُ‬ ‫وقد قال له‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫لده‪.‬‬ ‫أل بطنَه‪ ،‬أو ُيواري ِج َ‬ ‫وكان َغ ُريه َيسأ ُله ما َيم ُ‬
‫ِ‬
‫األرض‬ ‫فاتيح ُك ِ‬
‫نوز‬ ‫رسول اهللِ ﷺ حني ُع ِر َض ْت عليه َم ُ‬ ‫ِ‬ ‫مه ِة‬
‫وان ُظ ْر إىل َّ‬
‫اهلم ُة‬ ‫تلك‬ ‫له‬ ‫ت‬ ‫ْ‬ ‫ب‬ ‫فأ‬ ‫ه‪،‬‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫ِ‬
‫طاعة‬ ‫أخ َذها ألن َف َقها يف‬ ‫فأباها‪ ،‬ومعلو ٌم أ َّنه لو َ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬
‫ف‬ ‫ترص َ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫أن‬ ‫عليه‬ ‫ض‬ ‫ر‬ ‫العالي ُة‪ :‬أن يتع َّل َق منها بيشء ممَّا ِسوى اهللِ ومحَ ا ِّبه‪ ،‬و ُع ِ‬
‫َّ‬
‫خالق هذه‬ ‫ف بال ُعبود َّي ِة ا َمل ْح َض ِة‪ ،‬فال إل َه إلاَّ اهللُ ُ‬ ‫رص َ‬
‫ُّ‬ ‫ت‬
‫َّ‬ ‫ال‬ ‫واختار‬
‫َ‬ ‫‪،‬‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫با‬ ‫َ‬
‫فأ‬ ‫‪،‬‬ ‫ك‬ ‫با ُمل ْل ِ‬
‫وخالق همِ َ ٍم ال َت ْع ُدو همِ َ َم َأ َخ ِّس احليوانات‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫س تحَ ِم ُلها‪،‬‬ ‫وخالق ن ْف ٍ‬ ‫ُ‬ ‫اهل َّم ِة‪،‬‬ ‫ِ‬

‫((( أخرجه مسلم (‪.)489‬‬

‫‪237‬‬
‫منزلـــــة ال�ســـــرور‬

‫قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ﴾ [يونس‪.]58 :‬‬


‫للفر ِح والسرُّ ِ‬
‫ور‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫وذلك‬ ‫ه‪،‬‬‫بفضله ورمحتِ‬
‫ِ‬ ‫بالفر ِح‬ ‫َّ‬
‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫فإن اهلل تعاىل أ َم َر عبا َده َ‬
‫اد كري ٍم محُ ِس ٍن َب ٍّر‬
‫فإن من َف ِرح بام ي ِص ُل إليه ِمن جو ٍ‬
‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫‪،‬‬ ‫الفضل والر ِ‬
‫محة‬ ‫ِ َّ‬ ‫ِ‬
‫بصاحب‬
‫وص َل ذلك إليه َأ ْوىل و َأ ْحرى‪.‬‬ ‫بمن َأ َ‬ ‫كان َفر ُحه َ‬
‫شتهى؛ في َتو َّل ُد ِمن‬
‫يل ا ُمل َ‬ ‫ِ‬
‫املحبوب و َن ِ‬ ‫ِ‬
‫القلب بإدراك‬ ‫والفر ُح َّ‬
‫لذ ٌة َت َق ُع يف‬ ‫َ‬
‫ور‪.‬‬ ‫ل‬‫وا‬ ‫الفرح‬ ‫ى‬ ‫سم‬ ‫ت‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫ة‬ ‫حال‬ ‫ه‬ ‫ِ‬
‫إدراك‬
‫َ سرُّ َ‬ ‫َّ‬
‫يب َقوله‪﴿ :‬ﮂ ﮃ ﮄ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وذ َك َر سبحانه‬
‫األمر بالفرح بفضله وبرمحته َعق َ‬
‫َ‬
‫ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ﴾ [يونس‪ ،]57 :‬وال‬
‫دور ِمن‬
‫الص ِ‬ ‫ِ‬
‫تتضم ُن املوعظ َة وشفا َء ُّ‬
‫َّ‬
‫ٍ‬
‫ورمحة‬ ‫ِ‬
‫فضل‬ ‫فر َح به ِمن‬
‫أح ُّق أن ُي َ‬
‫يش َء َ‬
‫ِ‬
‫َأدوائها باهلدى َّ‬
‫والرمحة‪.‬‬
‫الدنيا وزينتِها‪ ،‬أي‪ :‬هذا هو ا َّلذي‬ ‫ِ‬
‫أعراض ُّ‬ ‫َّاس ِمن‬
‫خري ممَّا يجَ َم ُع الن َ‬
‫فذلك ٌ‬
‫فروح به‪ ،‬ال ما يجَ َم ُع ُ‬
‫أهل‬ ‫بأج ِّل َم ٍ‬ ‫فر َح َ‬ ‫فر َح به‪ ،‬و َمن َف ِر َح به فقد ِ‬ ‫َين َبغي أن ُي َ‬
‫الزوال‪،‬‬ ‫وو ِش ُ‬
‫يك َّ‬ ‫بموض ٍع للفرح؛ أل َّنه ُعرض ٌة لآلفات‪َ ،‬‬ ‫الدنيا منها‪ ،‬فإ َّنه ليس َ‬ ‫ُّ‬
‫ب يف ا َملنام‪ ،‬ثم انقضىَ ا َملنام‪،‬‬ ‫ف َخ ٍ‬ ‫وو ِخيم العاقبة‪ ،‬وهو ك َطي ِ‬
‫الص َّ‬‫زار َّ‬
‫َ‬ ‫يال‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ‬
‫يف‪ ،‬و َأع َقب مزاره ِ‬
‫اهلجران‪.‬‬ ‫وولىَّ ال َّط ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫رآن‪ِ :‬من أعىل‬ ‫وباإليامن‪ ،‬والسن َِّة‪ِ ،‬‬
‫والعل ِم‪ ،‬وال ُق ِ‬
‫ُّ‬
‫ِ‬ ‫ه‪،‬‬‫فالفرح باهلل‪ ،‬ورسولِ‬
‫ُ‬

‫‪238‬‬
‫الســــــرور‬

‫فني؛ قال تعاىل‪﴿ :‬ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ‬ ‫ِ‬


‫العار َ‬ ‫ِ‬
‫قامات‬‫َم‬
‫ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﴾ [التوبة‪.]124 :‬‬

‫وقال‪﴿ :‬ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ﴾ [الرعد‪.]36 :‬‬

‫ند صاحبِه‪ ،‬ومحَ َّبتِه‬ ‫تعظيمه ِع َ‬


‫ِ‬ ‫دليل عىل‬ ‫والسنَّ ِة ٌ‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬
‫واإليامن‬ ‫ِ‬
‫م‬ ‫ل‬ ‫فالفرح ِ‬
‫بالع‬ ‫ُ‬
‫ند ُحصولِه‪ :‬عىل ْ‬
‫قد ِر‬ ‫العبد بالشيَّ ِء ِع َ‬
‫ِ‬ ‫فإن َفر َح‬‫غريه؛ َّ‬ ‫وإيثاره له عىل ِ‬ ‫ِ‬ ‫له‪،‬‬
‫فر ُحه ُحصو ُله له‪،‬‬ ‫فمن ليس له رغب ٌة يف الشيَّ ِء ال ُي ِ‬ ‫َ‬ ‫فيه؛‬ ‫ه‬ ‫حمبتِه له‪ ،‬ورغبتِ‬
‫َّ‬
‫والرغبة‪.‬‬ ‫وال يحَ ُز ُنه َفوا ُته؛ فالفرح تابِع للمحب ِ‬
‫ة‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ ٌ‬
‫وأكم ِلها‪،‬‬ ‫ِ‬
‫أنواعه‬ ‫الر ُّب تعاىل بأعىل‬ ‫والفرح صف ُة ٍ‬
‫َ‬ ‫ف َّ‬ ‫يوص ُ‬ ‫كامل؛ وهلذا َ‬ ‫ُ‬
‫الواج ِد لراحلتِه ا َّلتي عليها طعا ُمه‬ ‫ِ‬ ‫أعظم ِمن ِ‬
‫فرح‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫ائب‬ ‫ت‬
‫َّ‬ ‫ال‬ ‫ِ‬
‫بتوبة‬ ‫ه‬ ‫ِ‬
‫كفرح‬
‫واليأس ِمن ُحصولهِ ا‪.‬‬
‫ِ‬ ‫بعد ف ْق ِده هلا‪،‬‬ ‫ِ‬
‫املهلكة َ‬ ‫ِ‬
‫األرض‬ ‫ورشا ُبه يف‬
‫ولذتِه و جتِ‬ ‫ِ‬
‫والفرح‬
‫ُ‬ ‫ه‪،‬‬ ‫القلب‪ َّ ،‬بهَ‬ ‫رح أعىل أنوا ِع نعي ِم‬‫أن ال َف َ‬ ‫واملقصود‪َّ :‬‬
‫الرضا به؛ َّ‬
‫فإن‬ ‫وق ِّ‬ ‫والفرح بالشيَّ ِء َف َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫واحلزن عذا ُبه‪،‬‬ ‫نعيمه‪ ،‬واهل َ ُّم‬
‫ور ُ‬ ‫والسرُّ ُ‬
‫لذ ٌة وبهَ ج ٌة ورسور‪.‬‬ ‫والفرح َّ‬
‫َ‬ ‫كون واسترِ احة‪،‬‬
‫وس ٌ‬ ‫الرضا ُطمأنين ٌة ُ‬‫ِّ‬

‫السرور يخلص السالك من ثالثة أحزان‪:‬‬

‫ب‬‫فني عن ر ْك ِ‬ ‫وف انقطـا ٍع‪ ،‬وهذا ُح ُ‬


‫زن ا ُملتخ ِّل َ‬ ‫حز ٌن َأ ْو َرثه َخ ُ‬
‫احلزن األول‪ْ :‬‬
‫كب‪،‬‬‫الر ِ‬ ‫هذا‬ ‫فون عن ص ِ‬
‫حبة‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬
‫ل‬ ‫تخ‬ ‫ُ‬
‫مل‬‫ا‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫االنقطاع‬ ‫ُ‬
‫فأهل‬ ‫ة‪،‬‬ ‫ب‬ ‫املح‬ ‫د‬‫اجلنَّة‪ ،‬وو ْف ِ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫فد‪.‬‬‫وهذا الو ِ‬
‫َ‬

‫‪239‬‬
‫وه ُم ا َّلذين ﴿ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ﴾‬
‫ُ‬
‫سري إليه وإىل جنَّتِه‪.‬‬
‫َ‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫أن‬ ‫هم‬‫م‬‫َ‬ ‫َ‬
‫[التوبة‪ ،]46 :‬ف َثب َط عزائمهم وهمِ‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫اجلهل‪.‬‬ ‫حزن ُظ ْل ِ‬
‫مة‬ ‫احلزن الثاين‪ :‬هو ُ‬
‫وجهل عم ٍل و َغي‪ِ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫جهل ِعل ٍم‬
‫وكالمها له‬ ‫ٍّ‬ ‫ُ َ‬ ‫ومعرفة‬ ‫ُ‬ ‫واجلهل َنوعانِ‪:‬‬
‫ب‬ ‫يوجب نورا و ُأ ْنسا‪ِ ،‬‬
‫فض ُّده ِ‬ ‫أن ِ‬
‫العلم ِ‬ ‫ُظ ْلم ٌة ووحش ٌة يف القلب‪ ،‬فكام َّ‬
‫يوج ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ ً‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لم ا َّلذي َب َعث به رسو َله ً‬
‫نورا‬ ‫سمى اهللُ تعاىل الع َ‬ ‫وحش ًة‪ ،‬وقد َّ‬ ‫ُظ ْلم ًة ويوق ُع ْ‬
‫اً‬
‫وضالل‪.‬‬ ‫وه ًدى وحياة‪ِ ،‬‬
‫وض َّده‪ُ :‬ظ ْلم ًة و َمو ًتا‬ ‫ُ‬
‫قال تعاىل‪ ﴿ :‬ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ‬
‫ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ﴾ [األنعام‪.]221 :‬‬
‫املؤ ِ‬
‫من‪ ﴿ :‬ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ‬ ‫و َمث َُل هذا ال ُّن َ‬
‫ور يف قلب ْ‬
‫ﯙﯚﯛ ﯜ ﯝﯞﯟﯠﯡ ﯢﯣﯤ ﯥﯦﯧ‬
‫ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ‬
‫ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ﴾ [النور‪.]35 :‬‬
‫تفر ُق اهل َ ِّم‬ ‫وحش ُة ال َّت ِ‬ ‫احلزن الثالث‪ُ :‬ح ْز ٌن َب َع َث ْت ُه ْ‬
‫فرق‪[ ،‬و] التفرق هو‪ُّ :‬‬ ‫ُّ‬
‫القلب عىل‬ ‫ِ‬ ‫وات مجع َّي ِة‬‫حزن ممُ ِ ٌّض عىل َف ِ‬ ‫ٌ‬ ‫فر ِق‬ ‫والقلب عن اهلل ؛ وهلذا ال َّت ُّ‬ ‫ِ‬
‫حاصل ًة َلر ُجل‪ ،‬مل‬ ‫مج ِعها ِ‬ ‫الدنيا بأ َ‬ ‫أهل ُّ‬‫ات ِ‬ ‫لذ ُ‬‫رض ْت َّ‬ ‫ونعيمها‪ ،‬فلو ُف َ‬ ‫ِ‬ ‫اهلل ولذَّتهِ ا‬
‫وقه‬ ‫وش ِ‬ ‫وفر ِحه به‪ ،‬و ُأ ْن ِسه ب ُق ْربِه‪َ ،‬‬ ‫اهلل‪،‬‬ ‫عىل‬ ‫ِ‬
‫القلب‬ ‫لذ ِة مجعي ِ‬
‫ة‬ ‫َّ‬ ‫إىل‬ ‫ٌ‬
‫ة‬ ‫سب‬‫يكن هلا نِ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬
‫رش َق فيه ما‬ ‫َ‬
‫أ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ُ‬
‫ق‬ ‫صد‬
‫ِّ‬ ‫ي‬ ‫ام‬ ‫ن‬
‫َّ‬ ‫فإ‬ ‫ذاقه‪،‬‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫لاَّ‬‫إ‬ ‫به‬ ‫ق‬ ‫ُ‬ ‫صد‬
‫ِّ‬ ‫ي‬ ‫ال‬ ‫ر‬ ‫م‬‫أ‬ ‫وهذا‬ ‫ه‪،‬‬ ‫إىل ِ‬
‫لقائ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ٌْ ُ‬

‫‪240‬‬
‫الســــــرور‬

‫ِ‬
‫القائل‪:‬‬ ‫أرش َق فيك‪ ،‬وهلل َد ُّر‬
‫َ‬
‫ـــم‬ ‫ه‬ ‫نار‬ ‫ى‬ ‫ر‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫أ‬ ‫ي‬‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ِ‬
‫صاح‬ ‫أيا‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ــي مـــا ال َأرى‬ ‫فقـــال‪ُ :‬ت ِرينِ‬
‫َ‬
‫ــقاك ال َغـرام ولمَ يس ِ‬
‫ــــقني‬ ‫َ‬ ‫َس‬
‫ُ َْ ْ‬
‫ــرا‬ ‫فأبصـَـر َت ما لمَ أ ُكن م ِ‬
‫بص‬
‫َ‬ ‫ْ ْ ُ‬ ‫ْ‬
‫ذكور إلاَّ ألمَ ُ الوحشة‪ ،‬و َنك َُد ال َّتش ُّتت‪ ،‬و ُغ ُ‬
‫بار‬ ‫ِ‬ ‫فرق ا َمل‬ ‫فلو مل يك ْن يف ال َّت ُّ‬
‫نقطعني‬
‫َ‬ ‫وأقل عقوبتِه‪ :‬أن يب َتىل بص ِ‬
‫حبة ا ُمل‬ ‫الش َعث؛ ل َك َفى به عقوب ًة‪ ،‬فكيف ُّ‬ ‫َّ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وخدمتِهم؟ ف َتصري أوقا ُته ا َّلتي هي ما َّد ُة حياتِه وال قيم َة هلا‪،‬‬ ‫ومعارشتهِ ِم ِ‬
‫ُ‬
‫ذاق‬‫قلب َ‬ ‫أغراضهم‪ ،‬وهذه عقوب ُة ٍ‬ ‫ِ‬ ‫حوائجهم‪ ،‬و َن ِ‬
‫يل‬ ‫ِ‬ ‫ُمستغرق ًة يف قضاء‬
‫ثم آ َث َر عىل ذلك ِسواه‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫به‪،‬‬ ‫ِ‬
‫س‬ ‫ن‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫واأل‬ ‫عليه‪،‬‬ ‫ة‬ ‫اإلقبال عىل اهلل‪ ،‬واجلمعي ِ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫حالو َة‬
‫حياة يف قلبِه ٍ‬
‫ونور فإ َّنه‬ ‫نسه‪ ،‬وما هم عليه‪ ،‬ومن له َأدنى ٍ‬ ‫بطريقة بني ِج ِ‬ ‫ِ‬ ‫ورضيِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ند والدتهِ ا‪.‬‬‫احلامل ِع َ‬
‫ُ‬ ‫فرق‪ ،‬كام َتس َت ُ‬
‫غيث‬ ‫ُّ‬ ‫ت‬
‫َّ‬ ‫ال‬ ‫هذا‬ ‫ِ‬
‫وحشة‬ ‫ن‬ ‫ستغيث قلبه ِ‬
‫م‬ ‫ُ ُ‬ ‫َي‬
‫ُ‬
‫اإلقبال عىل اهلل‪.‬‬ ‫لمه إلاَّ‬
‫ث ال َي ُّ‬ ‫ِ‬
‫القلب َش َع ٌ‬ ‫ففي‬
‫وفيه َوحش ٌة ال ُيزي ُلها إلاَّ األُ ْن ُس به يف َخ ْلوتِه‪.‬‬
‫دق معاملتِه‪.‬‬
‫وص ِ‬‫ذهبه إلاَّ ال ور بمعرفته‪ِ ،‬‬
‫سرُّ ُ‬
‫ِ‬
‫حزن ال ُي ُ‬ ‫وفيه ٌ‬
‫والفرار منه إليه‪.‬‬
‫ُ‬ ‫االجتامع عليه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وفيه َق َل ٌق ال ُيسكنُه إلاَّ‬
‫طف ُئها إلاَّ الرضا بأم ِره و ِيه و َق ِ‬
‫ضائه‪ ،‬ومعانق ُة‬ ‫ريان حس ٍ‬
‫ات ال ي ِ‬ ‫ُ‬ ‫وفيه نِ‬
‫ْ نهَ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫رَ‬
‫وقت ِ‬
‫لقائه‪.‬‬ ‫الصرب عىل ذلك إىل ِ‬
‫ِ‬

‫‪241‬‬
‫وحده مطلو َبه‪.‬‬
‫يكون هو َ‬ ‫َ‬ ‫ف ُد َ‬
‫ون أن‬ ‫شديد ال َي ِق ُ‬
‫ٌ‬ ‫ب‬ ‫وفيه ط َل ٌ‬
‫ِ‬
‫اإلخالص‬ ‫وص ُ‬
‫دق‬ ‫كره‪ِ ،‬‬‫وفيه فاق ٌة ال َي ُس ُّدها إلاَّ حم َّب ُته‪ ،‬واإلناب ُة إليه‪ ،‬ودوا ُم ِذ ِ‬
‫الدنيا وما فيها مل ُت َس َّد تلك الفاق ُة منه ً‬
‫أبدا‪.‬‬ ‫عطي ُّ‬ ‫له‪ ،‬ولو ُأ َ‬
‫أشد ِمن ألمَ ِ العـذاب‪ ،‬قـال تعـاىل‪:‬‬ ‫يوق ُع َوحش َة احلجاب‪ ،‬وألمَُه ُّ‬ ‫فال َّتفر ُق ِ‬
‫ُّ‬
‫﴿ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ﴾ [املطففني‪ ،]16-15 :‬فاج َت َمع‬
‫وعذاب اجلحيم‪.‬‬
‫ُ‬ ‫عذاب احلجاب‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫عليهم‬

‫‪242‬‬
‫الســـــــر‬

‫منزلـــــــــة ال�ســـــــر‬

‫فيه ُم اخلَبرَ ُ )‬ ‫ِ‬


‫األخفيا ُء ا َّلذي َن َو َر َد ِ‬ ‫حاب السرِِّّ ‪ُ :‬ه ُم‬‫(أص ُ‬ ‫[قال اهلروي ]‪ْ :‬‬
‫َّاس‬ ‫ن‬ ‫وال‬ ‫هاهنا‬ ‫أنت‬
‫َ‬ ‫ُه‪:‬‬ ‫ن‬ ‫اب‬ ‫له‬ ‫قال‬ ‫ُ‬
‫حيث‬ ‫‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫اص‬ ‫َّ‬
‫ق‬ ‫و‬ ‫أيب‬ ‫بن‬ ‫سعد‬‫حديث ِ‬ ‫َ‬ ‫ريد به‪:‬‬ ‫قد ُي ُ‬
‫ُ‬
‫ب‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫تنازعون يف اإلمارة؟ فقال‪ :‬إنيِّ ِ‬
‫«إن اهلل حُي ُّ‬ ‫رسول اهلل ﷺ يقول‪َّ :‬‬ ‫عت‬
‫سم ُ‬ ‫َي َ‬
‫اخل ِف َّي»(((‪.‬‬
‫ال َع َبد ال َّت ِق َي ال َغن ِ َّي َ‬
‫ِ‬
‫باألبواب‪ ،‬ال ُي ْؤ َب ُه ل ُه‪،‬‬ ‫ث أغبرَ َ َمد ُفو ٍع‬ ‫أش َع َ‬ ‫«ر َّب ْ‬ ‫ريد به‪ :‬قو َله ﷺ‪ُ :‬‬ ‫وقد ُي ُ‬
‫أقس َم عىل اهلل لأَ َّبرهُ»(((‪.‬‬ ‫ْلو َ‬
‫صفات ُثبوت َّية‪ ،‬وثال ًثا سلب َّية‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫ثالث‬ ‫َ‬ ‫[و] َذ َكر [اهلروي] هلم‬
‫تعو َض عنه‬ ‫ت‬‫َ‬ ‫وال‬ ‫اهلل‪،‬‬ ‫َ‬
‫دون‬ ‫ف‬
‫َ‬ ‫األُوىل‪( :‬ع ُلو همِ ِم ِهم)؛ و ُع ُلو اهلم ِة‪ :‬أن ال َت ِ‬
‫ق‬
‫َّ‬ ‫ُّ َّ‬ ‫ُ ُّ َ‬
‫س به‪،‬‬ ‫بيع ح َّظها ِم َن اهلل و ُق ْربِه واألُ ْن ِ‬ ‫بدل منه‪ ،‬وال َت َ‬ ‫بيشء‪ ،‬وال ترىض ب َغ ِريه اً‬
‫فاهلم ُة‬ ‫الفانية‪،‬‬ ‫ِ‬
‫سيسة‬ ‫خل‬ ‫ا‬ ‫بيشء ِمن احل ِ‬
‫ظوظ‬ ‫ٍ‬ ‫به‪،‬‬ ‫ِ‬
‫هاج‬ ‫ور واالبتِ‬ ‫والفرح والسرُّ ِ‬‫ِ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬
‫ساقطِهم‪ ،‬وال‬ ‫ائر العايل عىل ال ُّطيور؛ ال يرىض بم ِ‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫ط‬ ‫كال‬ ‫م‬ ‫م‬
‫َ‬
‫العالي ُة عىل ِ‬
‫اهل‬
‫صول‬ ‫ِ‬ ‫اهلم َة ك َّلام َع َل ْت ب ُع َد ْت عن ُو‬ ‫فإن َّ‬ ‫اآلفات ا َّلتي َت ِص ُل إليهم؛ َّ‬ ‫ُ‬ ‫َت ِص ُل إليه‬
‫قواطع‬ ‫ِ‬
‫اآلفات‬ ‫َّ‬
‫فإن‬ ‫مكان؛‬ ‫كل‬ ‫ِّ‬ ‫ن‬ ‫اآلفات ِ‬
‫م‬ ‫ُ‬ ‫ا‬ ‫تهْ‬ ‫د‬ ‫َ‬ ‫قص‬ ‫ت‬‫ْ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫نز‬ ‫ام‬‫ل‬‫َّ‬ ‫وك‬ ‫إليها‪،‬‬ ‫ِ‬
‫اآلفات‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫تذ ُب ِم َن‬ ‫جتذب منه‪ ،‬وإ َّنام تجَ ِ‬
‫ُ‬
‫واذب‪ ،‬وهي ال َتعلو إىل املكان العايل ف َت ِ‬
‫ْ‬
‫ِ‬
‫وج ُ‬ ‫َ‬
‫نوان ِحرمانِه‪.‬‬ ‫مهتِه ُع ُ‬ ‫ول‬ ‫ُ‬ ‫ف‬‫ُ‬ ‫وس‬ ‫ه‪،‬‬ ‫نوان ِ‬
‫فالح‬ ‫ُ‬ ‫ع‬ ‫املكان السافل‪ ،‬فع ُلو مه ِة ا َمل ِ‬
‫رء‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ُّ َّ‬

‫((( أخرجه مسلم (‪.)2965‬‬


‫((( أخرجه مسلم (‪ )2622‬بنحوه‪.‬‬

‫‪243‬‬
‫الش ِ‬
‫وائب ا َّلتي َتعو ُقه‬ ‫خالصه ِم َن َّ‬
‫ُ‬ ‫وهو‬ ‫)‬ ‫العالمة الثانية‪( :‬ص َفاء ال َق ِ‬
‫صد‬ ‫َ ُ‬
‫عن مقصوده‪.‬‬
‫ٍ ِ‬ ‫القصد ِمن ِّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الر ِّب‬
‫كل إرادة ُتزاح ُم ُمرا َد َّ‬ ‫وصفا ُء القصد ُيرا ُد به‪ُ :‬خ ُ‬
‫لوص‬
‫ري‪.‬‬ ‫القصد جمردا ُمل ِ‬
‫يني األ ْم ِّ‬
‫ِّ‬ ‫الد‬
‫ِّ‬ ‫ه‬ ‫راد‬ ‫ُ َّ ً‬ ‫صري‬
‫تعاىل‪ ،‬بل َي ُ‬
‫وائقوالقواطع‪.‬‬ ‫وك)‪،‬وهوسالم ُته ِم َناآلفاتوال َع ِ‬ ‫(صح ُةالس ُل ِ‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫العالمةالثالثة‪ِ :‬‬
‫طريق واحد‪ ،‬فال ي ِ‬
‫نقس ُم‬ ‫ٍ‬ ‫واحدا لواحد‪ ،‬يف‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫يكون‬ ‫والعبار ُة اجلامع ُة هلا‪ :‬أن‬
‫َ‬
‫تلو ُن طري ُقه‪.‬‬ ‫ط َل ُبه وال َمطلو ُبه‪ ،‬وال َي َّ‬

‫الس ْلب َّي ُة ا َّلتي َ‬


‫ذكرها‪:‬‬ ‫وأما ال َّثالث ُة َّ‬
‫َّ‬
‫همِ ِ‬ ‫فأو هُلا‪( :‬مل ْ ُيو َق ْ‬
‫ف هلُم عىل َر ْس ٍم)‪[ ،‬أي]‪ :‬أنهَّ م ل ُع ُل ِّو َ مهم س َبقوا الن َ‬
‫َّاس‬ ‫َّ‬
‫ف هلم‬‫فل َس ْب ِقهم مل يو َق ْ‬
‫دون السابِقون‪ِ ،‬‬
‫فه ُم ا ُمل َف ِّر َ َّ‬
‫ِ‬
‫السري‪ ،‬فلم َيقفوا معهم‪ُ ،‬‬ ‫يف َّ‬
‫عدهم‪ :‬قد‬ ‫شم ُر َب َ‬ ‫عىل أ َث ٍر يف الطريق‪ ،‬ومل َيع َل ِم ِّ‬
‫املتأخ ُر عنهم أين َس َلكوا؟ وا ُمل ِّ‬
‫الكوكب‪ ،‬و َيستخبرِ ُ َمن رآهم‪ :‬أين‬ ‫عد عظيم‪ ،‬كام ُيرى‬ ‫يرى آثار نريانهِ م عىل ب ٍ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫رآهم؟ فحا ُله كام قيل‪:‬‬
‫ُ‬
‫غاد ِ‬
‫ورائ ٍ‬
‫ـح‬ ‫سـائ ُل عنكُم ُك َّل ٍ‬
‫ُأ ِ‬

‫ومــي إىل ْأوطانِك ُْم و ُأ َس ِّل ُم‬


‫و ُأ ِ‬

‫عرفون به عند‬ ‫اس ٍم)‪ ،‬أي‪ :‬مل يشتهروا باس ٍم ُي َ‬ ‫(ولمَ ُي َ‬


‫نس ُبوا إلىَ ْ‬ ‫العالمة الثانية‪َ :‬‬
‫وأيضا فإنهَّ م مل َيتق َّيدوا‬
‫الناس من األسامء التي صارت أعال ًما ألهل الطريق‪ً ،‬‬ ‫ِ‬

‫‪244‬‬
‫الســـــــر‬

‫غريه ِم َن األعامل؛ َّ‬


‫فإن هذا‬ ‫ون ِ‬ ‫عرفون به ُد َ‬ ‫اسمه‪ ،‬ف ُي َ‬ ‫بعمل واحد يجَ ري عليهم ُ‬ ‫ٍ‬
‫ف صاح ُبها‬ ‫آف ٌة يف ال ُعبود َّية‪ ،‬وهي ُعبود َّي ٌة ُمق َّيد ٌة‪ ،‬وأ َّما ال ُعبود َّي ُة ا ُمل ْط َلقة‪ :‬فال ُي َ‬
‫عر ُ‬
‫اختالف ِ‬
‫أنواعها‪ ،‬فله مع‬ ‫ِ‬ ‫يب لداعيها عىل‬ ‫مجُ‬ ‫ه‬‫ن‬‫َّ‬ ‫فإ‬ ‫أسامئها؛‬ ‫معاين‬ ‫ن‬ ‫باس ٍم مع ٍ ِ‬
‫م‬
‫ٌ‬ ‫ينَّ‬
‫بسهم‪ ،‬فال َيتق َّي ُد برس ٍم وال إشارة‪ ،‬وال‬ ‫معهم‬ ‫ب‬ ‫ِ‬
‫رض‬ ‫ي‬ ‫نصيب‬ ‫أهل عبودي ٍ‬
‫ة‬ ‫كل ِ‬ ‫ِّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ َ‬ ‫َّ‬
‫إن ُس ِئل عن شيخه؟ قال‪:‬‬ ‫الحي‪ ،‬بل ْ‬ ‫ٍّ‬
‫وضعي اصطِ‬
‫طريق ْ ٍّ ْ‬ ‫ٍ‬ ‫اس ٍم وال ِز ٍّي‪ ،‬وال‬
‫باس ال َّتقوى‪ ،‬وعن‬ ‫طريقه؟ قال‪ :‬اال ِّتباع‪ ،‬وعن ِخرقتِه؟ قال‪ :‬لِ‬ ‫ِ‬ ‫سول‪ ،‬وعن‬ ‫الر ُ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫مقصوده و َمطلبِه؟ قال‪ ﴿ :‬ﭙ ﭚ﴾‬ ‫ِ‬ ‫السنَّ ِة‪ ،‬وعن‬ ‫مذهبِه؟ قال‪:‬‬
‫حتكيم ُّ‬
‫ُ‬
‫[األنعام‪ ،25 :‬والكهف‪ ،]82 :‬وعن ِرباطِه قال‪﴿ :‬ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ‬
‫ﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖ ﭗﭘﭙﭚ‬
‫ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ﴾ [النور‪ .]37-36 :‬وعن‬
‫نسبِه؟ قال‪:‬‬‫َ‬
‫ـوا ُه‬ ‫ِ‬ ‫أبيِ‬
‫أب يل س َ‬ ‫اإلسال ُم ال َ‬
‫ْ‬
‫ـس أو تمَ ِيـ ِم‬
‫إذا اف َت َخ ُروا ب َق ْي ٍ‬
‫ريد‪ :‬أ م خل ِ‬ ‫والعالمة الثالثة‪( :‬ومل ُيشرَ ْ ِ‬
‫فائهم ِ‬
‫عن الن ِ‬
‫َّاس‬ ‫إليهم باألصابِ ِع) ُي ُ نهَّ َ‬ ‫ْ‬
‫عرفوا بينهم‪ ،‬حتى ُيشريوا إليهم باألصابع‪.‬‬ ‫مل ُي َ‬

‫‪245‬‬
‫منزلــــــــة الغــــــربة‬

‫قال اهلل تعاىل‪ ﴿ :‬ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ‬


‫ﯯ﴾ [هود‪.]116 :‬‬
‫وه ُم الذين أشار إليهم النبي ﷺ يف قوله‪َ « :‬ب َدأ اإلسال ُم َغري ًبا‪ ،‬وس َي ُعو ُد‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫باء»‪ ،‬قيل‪ :‬و َم ِن ال ُغ َربا ُء يا‬ ‫َغريبا كام ب َدأ‪ ،‬ف ُطوبى لِل ُغر ِ‬
‫ين‬ ‫رسول اهلل؟ قال‪« :‬ا َّلذ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫اس»(((‪.‬‬ ‫ون إذا َف َس َد ال َّن ُ‬ ‫َيص ُل ُح َ‬
‫ذات يوم ونحن‬ ‫النبي ﷺ َ‬ ‫مرو قال‪ :‬قال ُّ‬ ‫ويف حديث عبد اهلل بن َع ٍ‬
‫«ناس‬ ‫قال‪:‬‬ ‫اهلل؟‬ ‫َ‬
‫رسول‬ ‫يا‬ ‫ء‬ ‫با‬‫ر‬ ‫ُ‬
‫غ‬ ‫ال‬ ‫ِ‬
‫ن‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫‪:‬‬ ‫َ‬
‫قيل‬ ‫»‪،‬‬ ‫عنده‪ُ « :‬طوبى لِل ُغر ِ‬
‫باء‬
‫ٌ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫يهم أك َث ُر ممَِّن ُيطِي ُع ُهم»(((‪.‬‬ ‫عص ِ‬‫َثري‪ ،‬من ي ِ‬
‫ناس ك ٍ َ َ‬ ‫ليل يف ٍ‬ ‫ون َق ٌ‬ ‫صا ُلحِ َ‬
‫جدا؛ ُس ُّموا‬ ‫دوحون ا َمل ْغبوطون‪ ،‬ولِ ِق َّلتِهم يف الن ِ‬
‫َّاس ًّ‬ ‫َ‬ ‫فهؤالء ُه ُم الغربا ُء ا َمل ْم‬
‫فأهل اإلسال ِم يف الن ِ‬
‫َّاس‬ ‫فات‪ُ ،‬‬ ‫غري هذه الص ِ‬ ‫َّاس عىل ِ‬ ‫فإن َأك َث َر الن ِ‬ ‫ُغربا َء‪َّ ،‬‬
‫ِّ‬
‫منني ُغربا ُء‪.‬‬
‫املؤ َ‬ ‫العل ِم يف ْ‬ ‫وأهل ِ‬ ‫أهل اإلسال ِم ُغربا ُء‪ُ ،‬‬ ‫منون يف ِ‬ ‫واملؤ َ‬ ‫ُغربا ُء‪ْ ،‬‬
‫والداعون إليها‬ ‫السن َِّة ‪-‬ا َّلذين ُيم ِّيزوهنا ِم َن األهواء والبِ َد ِع‪ -‬غربا ُء‪َّ ،‬‬ ‫وأهل ُّ‬ ‫ُ‬
‫أهل اهلل‬ ‫أشد هؤالء غرب ًة‪ ،‬ولكن هؤالء ُهم ُ‬ ‫فني هلم ُّ‬ ‫ابرون عىل أ َذى املخالِ َ‬ ‫ُ‬ ‫الص‬
‫َّ‬
‫ح ًّقا‪ ،‬فال غرب َة عليهم‪ ،‬وإنام غرب ُتهم بني األكثري َن‪ ،‬الذين قال اهلل فيهـم‪:‬‬
‫﴿ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ﴾ [األنعام‪،]116 :‬‬

‫((( أخرج أصله مسلم (‪.)145‬‬


‫((( أخرجه أمحد (‪ ،)6650‬وصححه األلباين يف «السلسلة الصحيحة» (‪.)1619‬‬

‫‪246‬‬
‫الغـــــــربة‬

‫ِ‬
‫املوحشة‪،‬‬ ‫فأولئك هم الغربا ُء ِمن اهلل ورسوله ودينِه‪ ،‬وغرب ُتهم هي الغربة‬
‫املشار إليهم‪ ،‬كام قيل‪:‬‬‫َ‬ ‫وإن كانوا هم املعروفني‬
‫يــار ُه‬ ‫فليــس َغ ِريبا من َتنـــاء ْت ِ‬
‫د‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ً َ‬ ‫َ‬
‫ولكـــ َّن َمـن َتنْأ ْيـ َن عنــ ُه َغ ِر ُ‬
‫يــب‬
‫ِ‬
‫احلال ا َّلتي‬ ‫فرعون انتهى إىل َم ْدي َن عىل‬ ‫َ‬ ‫خرج موسى هار ًبا ِمن َقو ِم‬ ‫و َّملا َ‬
‫مريض غريب‪،‬‬ ‫وحيد ٌ‬
‫ٌ‬ ‫رب‪،‬‬
‫خائف جائع‪ ،‬قال‪ :‬يا ِّ‬ ‫ٌ‬ ‫غريب‬
‫ٌ‬ ‫وحيد‬
‫ٌ‬ ‫ذ َك َر اهللُ‪ ،‬وهو‬
‫فقيل له‪ :‬يا موسى‪ ،‬الوحيد‪َ :‬من ليس له ِم ْثيل أنيس‪ ،‬واملريض‪َ :‬من ليس له‬
‫ِمثيل طبيب‪ ،‬والغريب‪َ :‬من ليس ب ْيني وب ْينه معامل ٌة‪.‬‬
‫ُ‬
‫ثالثة أنواع‪:‬‬ ‫فالغربة‬
‫وأهل ُسنَّ ِة رسوله ﷺ بني هذا اخل ْلق‪ ،‬وهي الغربة التي‬ ‫ِ‬ ‫غربة ِ‬
‫أهل اهلل‬
‫الدين الذي جاء به أ َّنه بدأ غري ًبا وأنه‬ ‫رسول اهلل ﷺ أه َلها‪ ،‬وأخرب عن ِّ‬ ‫ُ‬ ‫مدح‬
‫وأن أهله يصريون غربا َء‪.‬‬ ‫سيعود غري ًبا كام بدأ‪َّ ،‬‬
‫ووقت دون وقت‪ ،‬وبني قو ٍم دون‬ ‫ٍ‬ ‫مكان دون مكان‪،‬‬‫ٍ‬ ‫وهذه ال ُغربة قد تكون يف‬
‫ِ‬
‫الغربة هم ُ‬
‫أهل اهلل ح ًّقا‪ ،‬فإنهَّ م مل َيأووا إىل غري اهلل‬ ‫غريهم‪ ،‬ولكن أهل هذه‬ ‫قوم ِ‬
‫وه ُم الذين‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تعاىل‪ ،‬ومل َينتسبوا إىل غري رسوله ﷺ‪ ،‬ومل َي ْدعوا إىل غري ما جاء به‪ُ ،‬‬
‫الناس يوم القيامة مع آهلتهم َبقوا‬ ‫أحوج ما كانوا إليهم‪ ،‬فإذا انطلق ُ‬ ‫َ‬ ‫الناس‬
‫فارقوا َ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫فار ْقنا َ‬
‫الناس‬ ‫الناس؟ فيقولون‪َ :‬‬ ‫يف مكاهنم‪ ،‬فيقال هلم‪ :‬أال َتنطلقون حيث انطلق ُ‬
‫(((‬
‫أحوج إليهم منَّا إليهم اليو َم‪ ،‬وإنا ننتظر ر َّبنا الذي كنَّا َنع ُب ُده ‪.‬‬‫ُ‬ ‫ونحن‬
‫((( أخرجه البخاري (‪ ،)4581‬ومسلم (‪.)183‬‬

‫‪247‬‬
‫فهذه الغربة ال وحش َة عىل صاحبها‪ ،‬بل هو آ َن ُس ما يكون إذا استوحش‬
‫وأشد ما يكون وحش ًة إذا استأنسوا‪ ،‬فول ُّيه اهللُ ورسو ُله والذين آمنوا‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫الناس‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وج َفوه‪.‬‬
‫أكثر الناس َ‬ ‫وإن عاداه ُ‬
‫ومن هؤالء الغرباء‪َ :‬من َذ َكرهم أنس يف حديثه عن النبي ﷺ‪« :‬ر َُّب‬ ‫ِ‬
‫ِ‬ ‫ث أغ ‪ِ ،‬ذي طِ‬
‫أقس َم عىل اهلل أل َب َّر ُه»(((‪.‬‬
‫َ‬ ‫لو‬ ‫له‪،‬‬ ‫ه‬ ‫ب‬
‫ُ َُ‬‫ؤ‬
‫ْ‬ ‫ي‬ ‫ال‬ ‫‪،‬‬ ‫ين‬ ‫ر‬
‫َْ‬‫م‬ ‫أش َع َ برَ َ‬ ‫ْ‬
‫بالسنَّة‪،‬‬ ‫ك‬ ‫التمس‬ ‫ﷺ‪:‬‬ ‫النبي‬ ‫غبطهم‬ ‫الذين‬ ‫ِ‬
‫الغرباء‬ ‫ومن صفات هؤالء‬
‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬
‫املعروف عندهم‪،‬‬ ‫وترك ما أحدثوه؛ وإن كان هو‬ ‫ُ‬ ‫الناس‪،‬‬ ‫ب عنها‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫إذا رغ َ‬
‫أحد ِ‬
‫غري‬ ‫وترك االنتساب إىل ٍ‬ ‫ُ‬ ‫أكثر الناس‪،‬‬
‫وجتريد التوحيد؛ وإن أنكر ذلك ُ‬ ‫ُ‬
‫اهلل ورسولِه‪ ،‬ال شيخ‪ ،‬وال طريقة‪ ،‬وال مذهب‪ ،‬وال طائفة‪ ،‬بل هؤالء الغرباء‬
‫وحده‪،‬‬‫َ‬ ‫وحده‪ ،‬وإىل رسوله باال ِّتباع لمِا جاء به‬ ‫َ‬ ‫منتسبون إىل اهلل بالعبودية له‬
‫وأكثر الناس بل ك ُّلهم ٌ‬
‫الئم هلم‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وهؤالء هم القابضون عىل اجلمر ح ًّقا‪،‬‬
‫للسواد‬ ‫ٍ‬
‫ومفارقة‬ ‫وبدعة‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫شذوذ‬ ‫َ‬
‫أهل‬ ‫وهنم‬ ‫د‬‫ُّ‬ ‫ع‬‫ي‬ ‫ق‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫اخل‬ ‫هذا‬ ‫بني‬ ‫هم‬‫فلِ ُغربتِ‬
‫َّ‬ ‫َُ‬
‫األع َظ ِم!‬
‫لدعوة اإلسالم ُن َّزا ًعا من القبائل‪ ،‬بل آحا ًدا منهم‬ ‫ِ‬ ‫وكان املستجيبون‬
‫تغربوا عن قبائلهم وعشائرهم‪ ،‬ودخلوا يف اإلسالم‪ ،‬فكانوا هم الغربا َء ح ًّقا‪،‬‬ ‫َّ‬
‫أفواجا‪ ،‬فزالت تلك‬ ‫ً‬ ‫الناس فيه‬
‫ُ‬ ‫وانترشت دعو ُته ودخل‬ ‫ْ‬ ‫حتى ظهر اإلسال ُم‬
‫الغرب ُة عنهم‪ ،‬ثم أخذ يف االغرتاب والترَّ ُّحل‪ ،‬حتى عاد غري ًبا كام بدأ‪.‬‬
‫أشد‬ ‫ُ‬
‫رسول اهلل ﷺ وأصحا ُبه هو اليو َم ُّ‬ ‫احلق الذي كان عليه‬
‫بل اإلسالم ُّ‬

‫((( أخرجه مسلم (‪ ،)2622‬وأصله عند البخاري (‪ ،)2703‬ومسلم (‪.)1675‬‬

‫‪248‬‬
‫الغـــــــربة‬

‫غرب ًة منه يف َّأو ِل ظهوره‪ ،‬وإن كانت أعال ُمه ورسو ُمه الظاهر ُة مشهور ًة‬
‫جدا‪ ،‬وأه ُله غربا ُء بني الناس‪.‬‬
‫احلقيقي غريب ًّ‬
‫ُّ‬ ‫معروفة‪ ،‬فاإلسالم‬
‫جدا غريب ًة بني اثنتني وسبعني فرق ًة‪،‬‬‫وكيف ال تكون فِرق ٌة واحد ٌة قليل ٌة ًّ‬
‫سوق إال بمخالفة ما‬‫ومناصب وواليات‪ ،‬وال يقوم هلا ٌ‬ ‫ٍ‬
‫ورئاسات‬ ‫ذات أتباع‬
‫َ‬
‫َ‬
‫ولذاتهِ م‪ ،‬وما ُهم‬
‫فإن ن ْف َس ما جاء به ُيضا ُّد أهوا َءهم َّ‬‫الرسول ﷺ؟ َّ‬‫ُ‬ ‫جاء به‬
‫ِ‬
‫والشهوات‬ ‫ِ‬
‫وعلمهم‪،‬‬ ‫الشبهات والبِ َدع التي هي منتهى فضيلتهم‬ ‫عليه من ُّ‬
‫مقاص ِدهم وإراداتهِ م‪.‬‬
‫ِ‬ ‫التي هي غاي ُة‬
‫السائر إىل اهلل عىل طريق املتابعة غري ًبا بني هؤالء‬‫ُ‬ ‫فكيف ال يكون املؤم ُن‬
‫كل منهم برأيه؟‬ ‫عجب ٌّ‬ ‫الذين قد ا َّتبعوا أهواءهم‪ ،‬وأطاعوا ُش َّحهم‪ ،‬و ُأ ِ‬

‫مخسني من الصحابة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫أجر‬ ‫بدينه‬ ‫ك‬ ‫متس‬ ‫إذا‬ ‫الوقت‬ ‫هذا‬ ‫يف‬ ‫له‬ ‫ل‬‫ع‬‫وهلذا ج ِ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫وهذا األجر العظيم إنام هو لغربته بني الناس‪ ،‬والتمس ِك بالسنَّة بني ُظ ُل ِ‬
‫امت‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬
‫أهوائهم وآرائهم‪.‬‬
‫وفق ًْها يف ُس َّن ِة رسوله‪،‬‬
‫املؤمن الذي قد رزقه اهلل بصري ًة يف دينه‪ِ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫فإذا أراد‬
‫الناس فيه من األهواء والبِ َدعِ والضالالت‪ُّ ،‬‬
‫وتنكبِهم‬ ‫ُ‬ ‫هم يف كتابه‪ ،‬وأراه ما‬‫و َف اً‬
‫رسول اهلل ﷺ وأصحا ُبه‪ ،‬فإذا أراد أن‬ ‫ُ‬ ‫عن الرصاط املستقيم الذي كان عليه‬
‫وطعنِهم‬
‫وأهل البِ َدعِ فيه‪ْ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫اجله ِ‬
‫ال‬ ‫قد ِح َّ‬ ‫ِّ‬
‫فليوط ْن ن ْف َسه عىل ْ‬ ‫َ‬
‫الرصاط‬ ‫َيس ُل َك هذا‬
‫سلفهم من‬ ‫ري الناس عنه‪ ،‬وحتذي ِرهم منه‪ ،‬كام كان ُ‬ ‫عليه‪ ،‬وإزرائهم به‪ ،‬وتنف ِ‬
‫وقدح فيام‬
‫فأما إنْ دعاهم إىل ذلك‪َ ،‬‬ ‫ﷺ‪،‬‬ ‫ه‬ ‫ِ‬
‫وإمام‬ ‫ه‬ ‫الكفار يفعلون مع َم ِ‬
‫تبوع‬
‫َّ‬
‫َ‬
‫احلبائل‪،‬‬ ‫نصبون له‬ ‫وائل‪ ،‬و َي ِ‬
‫ُهم عليه‪ :‬فهناك تقوم قيام ُتهم‪ ،‬و َيبغون له الغَ َ‬
‫ورج ِل ِه‪.‬‬
‫ريهم ْ‬ ‫يل كب ِ‬
‫بخ ِ‬ ‫ويجَ ِلبون عليه َ‬

‫‪249‬‬
‫لتمس ِكهم‬
‫ُّ‬
‫فهو غريب يف دينه لفساد أدياهنم‪ ،‬غريب يف متس ِكه بالسن ِ‬
‫َّة‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫ٌ‬
‫لسوء صالتهِ م‪،‬‬ ‫صالته‬ ‫يف‬ ‫غريب‬ ‫هم‪،‬‬ ‫ِ‬
‫عقائد‬ ‫غريب يف اعتقاده لفساد‬ ‫بالبِ َدع‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫غريب يف‬
‫ٌ‬ ‫ملخالفة نِ َسبِهم‪،‬‬
‫ِ‬ ‫غريب يف طريقه لفساد ُط ُر ِقهم‪ ،‬غريب يف نِسبته‬
‫أنفسهم‪.‬‬ ‫هتوى‬ ‫ال‬ ‫ما‬ ‫عىل‬ ‫هم‬ ‫معارشته هلم؛ أل َّنه يعاشرِ‬
‫ُ‬ ‫ُ ُ‬
‫مساعدا وال معينًا فهو‬
‫ً‬ ‫وباجلملة‪ :‬فهو غريب يف أمور دنياه وآخرته ال ِ‬
‫جيد‬
‫عالمِ بني جهال‪ ،‬صاحب سنَّة بني أهل بِ َدع‪ ،‬دا ٍع إىل اهلل ورسولِه بني ٍ‬
‫دعاة إىل‬ ‫ُ ُ‬ ‫َّ‬
‫املعروف لدهيم منك ٌَر‬
‫ُ‬ ‫األهواء والبدع‪ ،‬آمر باملعروف ٍ‬
‫ناه عن املنكر بني قو ٍم‬ ‫ٌ‬
‫معروف‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫واملنك َُر‬
‫أهل الباطل وأهل‬ ‫النوع الثاين من الغربة‪ :‬غرب ٌة مذمومة وهي غربة ِ‬
‫وإن ك ُثر أه ُلها‬
‫املفلحني ْ‬
‫َ‬ ‫احلق‪ ،‬فهي غربة بني حزب اهلل‬
‫الفجور بني أهل ِّ‬
‫مؤنِسهم‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫وحشة عىل كثرة ْ‬ ‫فهم غربا ُء عىل كثرة أصحاهبم وأشياعهم‪ُ ،‬‬
‫أهل‬
‫عرفون يف أهل األرض‪ ،‬ويخَ فون عىل أهل السامء‪.‬‬‫ُي َ‬
‫النوع الثالث‪ :‬غربة مشرتكة ال حُتمد وال ُت َذم وهي الغربة عن الوطن؛ فإن‬
‫الناس كلهم يف هذه الدار غرباء‪ ،‬فإهنا ليست هلم بدار مقام‪ ،‬وال هي الدار التي‬
‫الدنيا كأ َّن َك‬
‫مر ‪ُ « :‬ك ْن يف ُّ‬
‫خلقوا هلا‪ ،‬وقد قال النبي ﷺ لعبد اهلل بن ُع َ‬
‫بيل»(((‪ ،‬وهكذا هو نفس األمر؛ أل َّنه أمر أن يطالع ذلك‬‫عابر َس ٍ‬
‫ريب‪ ،‬أو ُ‬ ‫َغ ٌ‬
‫حق املعرفة‪.‬‬‫بقلبه ويعرفه َّ‬

‫((( أخرجه البخاري (‪.)6416‬‬

‫‪250‬‬
‫الغـــــــربة‬

‫أبيات يف هذا املعنى‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫ويل من‬


‫ـد ٍن فإ َّنـــها‬ ‫وحـــي عىل جن ِ‬
‫َّـات َع ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ‬
‫ـــم‬ ‫ِ‬
‫نــــاز ُل َك األُولىَ وفيـها ا ُمل َخ َّي ُ‬ ‫َم‬
‫ـــرى‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ـل‬ ‫فه‬ ‫و‬ ‫د‬
‫ُ‬ ‫ع‬ ‫ال‬ ‫ي‬ ‫ب‬ ‫ــ‬‫س‬ ‫َّنــا‬ ‫ن‬ ‫ِ‬
‫ولك‬
‫َ‬ ‫َ ْ ُ َ ِّ َ‬
‫َن ُعـــــو ُد إىل ْأوطانِنــــا و ُن َســــ َّل ُم‬
‫ـوق ُغر َبتِنـا ا َّلتــي‬ ‫اب َف َ‬ ‫وأي اغــترِ ٍ‬ ‫ُّ‬
‫ت األ ْعـدا ُء فينـا تحَ َ كـ َُّم‬‫أضـح ِ‬
‫هلــا ْ َ‬
‫ريـب إذا َنـــأى‬ ‫أن ال َغ َ‬ ‫وقــد َز َع ُموا َّ‬
‫ْ‬
‫وشــ َّط ْت بـه ْأوطا ُن ُه ليــس َينْ َع ُ‬
‫ــم‬ ‫َ‬
‫بد ســاع ًة‬‫ـم ال َع ُ‬ ‫ع‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫ال‬ ‫ذا‬ ‫ل‬‫ِ‬ ‫أج‬ ‫ن‬ ‫ـ‬ ‫ِ‬
‫فم‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ِمــ َن ال ُع ْم ِ‬
‫ـــر إلاَّ َب ْع َدهـــا َيتــــأ ُلمَّ‬
‫الدار غري ًبا‪ ،‬وهو عىل َجناح سفر‪ ،‬ال ُّ‬
‫حيل‬ ‫ِ‬ ‫وكيف ال يكون العبد يف هذه‬
‫عن راحلته إال بني أهل القبور؟ فهو مسافر يف صورة قاعد‪ ،‬وقد قيل‪:‬‬
‫ٌ‬
‫ـــــل‬ ‫راح‬‫هـذ ِه األيــام إلاَّ م ِ‬‫ومــا ِ‬
‫َ‬ ‫َّ ُ‬
‫ـد‬ ‫ت ِ‬
‫قاص ُ‬ ‫ــث بــها دا ٍع إىل ا َملـو ِ‬ ‫يحَ ُ ُّ‬
‫ْ‬
‫ـت أ َّنـــها‬ ‫لـو َتأ َّم ْل َ‬ ‫ذا‬ ‫ن‬‫م‬‫وأ ْعجـب ِ‬
‫ْ‬ ‫َ ُ‬
‫ـــد‬
‫قاع ُ‬‫نـاز ُل ُت ْطــوى وا ُملسـافِر ِ‬ ‫َم ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬

‫‪251‬‬
‫منزلــــــة املعاينــــة‬

‫مقد ٌس عن اطالع البرش عىل ذاته‪ ،‬أو أنوار ذاته‪،‬‬ ‫منز ٌه َّ‬
‫الرب تبارك وتعاىل َّ‬
‫أنوار صفاته‪ ،‬وإنام هي الشواهد التي تقوم بقلب العبد‪ ،‬كام‬ ‫ِ‬ ‫أو صفاته‪ ،‬أو‬
‫أعد اهلل ِ‬
‫ألهلهام‪.‬‬ ‫شاهد من اآلخرة واجلنة والنار‪ ،‬وما َّ‬ ‫ٌ‬ ‫يقوم بقلبه‬
‫ٍ‬
‫وهذا هو الذي وجده عبد اهلل بن حرام األنصاري يوم ُأ ُحد‪َّ ،‬ملا قال‪ً :‬‬
‫«واها‬
‫ومن هذا قو ُله ﷺ‪« :‬إذا َم َر ْر ُتم‬ ‫ون ُأح ٍد»‪ِ ،‬‬ ‫َ‬ ‫د‬ ‫ها‬ ‫حي‬‫ر‬ ‫واهلل‬ ‫د‬
‫ُ‬ ‫أج‬‫ِ‬ ‫نيِّ‬‫إ‬ ‫!‬ ‫يح اجلن ِ‬
‫َّة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ر‬ ‫لِ‬
‫ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬
‫الذك ِْر»(((‪ ،‬ومنه‬ ‫ياض اجلن َِّة؟ قال‪ِ :‬‬
‫«ح َل ُق ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫ر‬ ‫وما‬ ‫قالوا‪:‬‬ ‫وا»‪،‬‬ ‫ع‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫ار‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫اجل َّن ِ‬
‫ة‬ ‫ياض َ‬‫ِبر ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫اجلنَّ ِة»(((‪ ،‬فهو روضة ألهل‬ ‫ومنبرَ ِ ي َر ْوض ٌة ِمن ِر ِ‬
‫ياض َ‬ ‫قو ُله‪« :‬ما ب بيتي ِ‬
‫َ ينْ َ َ ْ‬
‫العلم واإليامن؛ لمِا يقوم بقلوهبم من شواهد اجلنة‪ ،‬حتى كأهنا هلم رأي عني‪،‬‬
‫وإذا قعد املنافق هناك مل يكن ذلك املكان يف حقه روضة من رياض اجلنة‪،‬‬
‫فالعمل‪ :‬إ َّنام هو عىل الشواهد‪ ،‬وعىل حسب ِ‬
‫شاهد العبد يكون عم ُله‪.‬‬ ‫َ‬
‫ونحن ُنشري‪-‬بعون اهلل وتوفيقه‪ -‬إىل الشواهد‪ ،‬إشار ًة ُيع َلم هبا حقيق ُة األمر‪.‬‬

‫شواهد السائر إىل اهلل‪:‬‬


‫والدار اآلخرة‪ :‬أن يقوم به ِ‬
‫شاه ٌد من الدنيا‬ ‫ِ‬ ‫اهلل‬ ‫إىل‬ ‫ِ‬
‫السائر‬ ‫ِ‬
‫شواهد‬ ‫فأو ُل‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫ورسعة انقضائها‪،‬‬ ‫ِ‬
‫رشكائها‪،‬‬ ‫وخ َّس ِة‬
‫وحقارتهِ ا‪ ،‬وق َّل ِة وفائها‪ ،‬وكثرة جفائها‪ِ ،‬‬

‫((( أخرجه الرتمذي (‪ ، )3510‬وصححه األلباين يف «السلسلة الصحيحة» (‪ ،)2562‬والصواب أن‬


‫الصحايب هو أنس بن النرض ولعله سبق قلم من املؤلف ‪-‬رمحه اهلل‪.-‬‬
‫((( أخرجه البخاري (‪ ،)1888‬ومسلم (‪.)1391‬‬

‫‪252‬‬
‫المعاينـــــــة‬

‫بدعت هبم‪ ،‬وعذبتهم بأنواع‬ ‫وعشا َقها صرَ ْ عى َحولهَ ا‪ ،‬قد َّ‬
‫َّ‬ ‫ويرى أهلها‬
‫اً‬
‫طويل‪ ،‬سقتهم‬ ‫أمر الرشاب‪ ،‬أضحكتهم اً‬
‫قليل‪ ،‬وأبكتهم‬ ‫العذاب‪ ،‬وأذاقتهم َّ‬
‫كؤوس ُس ِّمها‪ ،‬بعد كؤوس مخرها‪ ،‬فسكروا بح ِّبها‪ ،‬وماتوا هبجرها‪.‬‬
‫ترحل قلبه عنها‪ ،‬وسافر يف طلب الدار‬ ‫فإذا قام بالعبد هذا الشاهد منها َّ‬
‫اآلخرة وحينئذ يقوم بقلبه شاهد من اآلخرة ودوامها‪ ،‬وأهنا هي احليوان‬
‫ُّ‬
‫وحمط‬ ‫دار القرار‪،‬‬ ‫ح ًّقا‪ ،‬فأهلها ال يرحتلون منها‪ ،‬وال يظعنون عنها‪ ،‬بل هي ُ‬
‫الدنيا‬‫السري‪ ،‬وأن الدنيا بالنسبة إليها كام قال النبي ﷺ‪« :‬ما ُّ‬ ‫الرحال‪ ،‬ومنتهى َّ‬
‫أح ُدكُم إص َب َعه يف ال َي ِّم‪َ ،‬ف ْل َين ُظ ْر بِ َم َت ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫رج ُع؟»(((‪.‬‬ ‫يف اآلخرة إلاَّ كام جَي َع ُل َ‬
‫وشدة‬‫ثم يقوم بقلبه شاهد من النار‪ ،‬وتو ُّق ِدها واضطرامها‪ ،‬و ُب ْعد قعرها‪َّ ،‬‬
‫حرها‪ ،‬وعظيم عذاب أهلها‪ ،‬فيشاهدهم وقد سيقوا إليها سو َد الوجوه‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫ُز ْر َق العيون‪ ،‬والسالسل واألغالل يف أعناقهم‪ ،‬فلام انتهوا إليها ُف ِّتحت‬
‫يف وجوههم أبوابهُ ا‪ ،‬فشاهدوا ذلك املنظر الفظيع‪ ،‬وقد تقطعت قلوهبم‬
‫حرسة وأس ًفا ﴿ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ﴾‬
‫[الكهف‪.]53 :‬‬
‫رب العالمَني‬ ‫ِ‬
‫ل‬ ‫ب‬ ‫فأراهم شاهد اإليامن‪ ،‬وهم إليها يدفعون‪ ،‬وأتى النِّداء ِمن ِ‬
‫ق‬
‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أن‪﴿ :‬ﰆﰇ ﰈ ﰉ﴾ [الصافات‪ ]24 :‬ثم قيل هلم‪﴿ :‬ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ‬
‫ﯺﯻ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ ﭚﭛ ﭜﭝ‬
‫فأراهم شاهد اإليامن‪،‬‬ ‫ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﴾ [الطور‪،]16 - 14 :‬‬

‫((( أخرجه مسلم (‪.)2858‬‬

‫‪253‬‬
‫وهم يف احلمـيم عىل وجوههم يســحبون‪ ،‬ويف النار كاحلطب يسـجرون‬
‫وبئس‬
‫حاف َ‬‫﴿ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ﴾ [األعراف‪ ،]41 :‬فبئس ال ّل ُ‬
‫وإن َيس َتغيثوا من شدة العطش ﴿ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ﴾‬ ‫راش‪ْ ،‬‬ ‫الف ُ‬ ‫ِ‬
‫وصه َر ما يف بطوهنم‪،‬‬
‫َ‬ ‫[الكهف‪ ]29 :‬فإذا ِ‬
‫رشبوه َق َّطع أمعا َءهم يف أجوافهم‪،‬‬
‫الز ُّقو ُم‪ ﴿ ،‬ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ‬ ‫رشابهُ ُ ُم احلميم‪ ،‬وطعا ُمهم َّ‬
‫ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ‬
‫ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ‬
‫ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ﴾ [فاطر‪.]37 - 36 :‬‬
‫الشاهد‪ :‬انخلع من الذنوب واملعايص‪ ،‬وا ِّتباع‬
‫ُ‬ ‫فإذا قام بقلب العبد هذا‬
‫ثياب اخلوف واحلذر‪ْ ،‬‬
‫وأخ َصب قل َبه من مطر أجفانه‪ ،‬وهان‬ ‫اهلوى‪ ،‬ولبِس َ‬
‫عليه ُّ‬
‫كل مصيبة تصيبه يف غري دينه وقلبه‪.‬‬
‫قو ِة هذا الشاهد يكون بعده من املعايص واملخالفات‪ ،‬ف ُيذيب‬
‫حسب َّ‬ ‫وعىل َ‬
‫فيجد‬
‫ُ‬ ‫الشاهد من قلبه الفضالت‪ ،‬واملواد ِ‬
‫املهلك َة‪ ،‬و ُينضجها ثم يخُ ِرجها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫هذا‬
‫َّ‬
‫ورسورها‪.‬‬
‫َ‬ ‫القلب َّ‬
‫لذ َة العافية‬ ‫ُ‬
‫أعد اهلل ألهلها فيها‪ ،‬ممَّا ال َعينْ ٌ‬ ‫فيقوم به بعد ذلك‪ :‬شاهد من اجلنة‪ ،‬وما َّ‬
‫فضل عماَّ وصفه اهلل لعباده‬ ‫ب َبشرَ ٍ ‪ ،‬اً‬ ‫رأت‪ ،‬وال ُأ ُذ ٌن َس ِم َع ْ‬
‫ت‪ ،‬وال َخ َط َر عىل ق ْل ِ‬ ‫ْ‬
‫املفصل‪ ،‬الكفيل بأعىل أنواع ال َّل َّذة‪ ،‬من املطاعم‬ ‫عىل لسان رسوله من النعيم َّ‬
‫واملشارب‪ ،‬واملالبس والصور‪ ،‬والبهجة والرسور‪ ،‬فيقوم بقلبه شاهد دار قد‬
‫الد ُّر‪،‬‬
‫باؤها ُّ‬ ‫وح ْص ُ‬ ‫‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ك‬ ‫س‬ ‫جعل اهلل النعيم املقيم الدائم بحذافريه فيها‪ُ ،‬ترب ُتها املِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َْ‬

‫‪254‬‬
‫المعاينـــــــة‬

‫والف َّض ِة‪ ،‬وقصب اللؤلؤ‪ ،‬ورشاهبا أحىل من العسل‪،‬‬ ‫هب ِ‬ ‫ناؤها َلبِ ُن َّ‬
‫الذ ِ‬ ‫وبِ ُ‬
‫وأطيب رائحة من املسك‪ ،‬وأبرد من الكافور‪ ،‬وألذ من الزنجبيل‪ ،‬ونساؤها‬
‫إحداه َّن يف هذه الدنيا لغ َلب عىل ضوء الشمس(((‪ ،‬ولباسهم‬ ‫ُ‬ ‫وج ُه‬
‫لو َب َر َز ْ‬
‫وخ َد ُمهم ِو ْل ٌ‬
‫دان كاللؤلؤ املنثور‪ ،‬وفاكهتهم‬ ‫السندس واإلستربق‪َ ،‬‬ ‫احلرير من ُّ‬
‫دائمة‪ ،‬ال مقطوعة وال ممنوعة‪ ،‬وفرش مرفوعة‪ ،‬وغذاؤهم حلم طري مما‬
‫يشتهون‪ ،‬ورشاهبم عليه مخرة ال فيها َغ ْو ٌل وال هم عنها ُي َنزفون‪ ،‬وخرضهتم‬
‫فاكهة مما يتخريون‪ ،‬وشاهدهم حور عني كأمثال اللؤلؤ املكنون‪ ،‬فهم عىل‬
‫األرائك متكئون‪ ،‬ويف تلك الرياض يحُبرَ ون‪ ،‬وفيها ما تشتهي األنفس وتلذ‬
‫األعني‪ ،‬وهم فيها خالدون‪.‬‬
‫فإذا انضم إىل هذا الشاهد‪ :‬شاهد يوم املزيد‪ ،‬والنظر إىل وجه الرب ‪،‬‬
‫وسامع كالمه منه بال واسطة‪.‬‬
‫الشاهد إىل الشواهد التي قبله فهناك يسري القلب إىل‬
‫ُ‬ ‫انضم هذا‬
‫َّ‬ ‫[و] إذا‬
‫ربه أرسع من سري الرياح يف مهابهِّ ا‪ ،‬فال يلتفت يف طريقه يمينًا وال اً‬
‫شامل‪.‬‬
‫العبد‬ ‫ُّ‬
‫ضمحل فيه هذه الشواهد‪ ،‬ويغيب به ُ‬ ‫آخ ُر َت‬ ‫هذا‪ ،‬وفوق ذلك ِ‬
‫شاه ٌد َ‬
‫وعزه وسلطانه‪،‬‬
‫الرب تعاىل‪ ،‬ومجاله وكامله‪ِّ ،‬‬
‫شاهد جالل ِّ‬ ‫ُ‬ ‫عنها كلها‪ ،‬وهو‬
‫وعلوه فوق عرشه‪ ،‬وتك ُّل ِمه بكتبه وكلامت تكوينه‪ ،‬وخطابه‬ ‫ِّ‬ ‫ه‬‫وقيوميتِ‬
‫ِّ‬
‫ملالئكته وأنبيائه‪.‬‬

‫((( أخرجه البخاري (‪.)2796‬‬

‫‪255‬‬
‫قاهرا فوق عباده‪ ،‬مستو ًيا عىل عرشه‪ ،‬منفر ًدا بتدبري‬
‫فإذا شاهد بقلبه ق ُّيو ًما ً‬
‫ومنز اًل كتبه‪ ،‬يرىض ويغضب‪ ،‬و ُيثيب‬ ‫ِ‬ ‫مملكته‪ ،‬آمرا ناهيا‪ِ ،‬‬
‫مرس اًل رسله‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ويذل‪ ،‬وحيب ويبغض‪ ،‬ويرحم إذا استرُ حم‪،‬‬ ‫ويعز ُّ‬
‫و ُيعاقب‪ ،‬ويعطي و َيمنع‪ُّ ،‬‬
‫غفر إذا اس ُتغفر‪ ،‬ويعطي إذا ُسئل‪ ،‬وجييب إذا ُدعي‪ ،‬ويقيل إذا استقيل‪،‬‬ ‫وي ِ‬
‫َ‬
‫أكرب ِمن كل يشء‪ ،‬وأعظم من كل يشء‪ ،‬وأ َع ُّز من كل يشء‪ ،‬وأ ْق َد ُر من كل‬
‫يشء‪ ،‬وأعلم من كل يشء‪ ،‬وأحك َُم من كل يشء‪ ،‬فلو كانت قوى اخلالئق‬
‫ك ِّلهم عىل واحد منهم‪ ،‬ثم كانوا ك ُّلهم عىل تلك القوة‪ ،‬ثم ُن ِس َب ْت تلك القوى‬
‫قوة األسد‪ ،‬ولو ُق ِّدر‬
‫إىل قوته تعاىل لكانت أقل من قوة ال َبعوضة بالنسبة إىل َّ‬
‫ِ‬
‫ب‬‫مجال اخلَ ْلق ك ِّلهم عىل واحد منهم‪ ،‬ثم كانوا ك ُّلهم بذلك اجلامل‪ ،‬ثم ُنس َ‬
‫ُ‬
‫رساج ضعيف بالنسبة إىل عني الشمس‪ ،‬ولو‬ ‫ٍ‬ ‫الرب تعاىل لكان ُدون‬
‫إىل مجال ِّ‬
‫كل اخلَ ِ‬
‫لق عىل تلك‬ ‫رج ٍل منهم‪ ،‬ثم كان ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لني واآلخري َن عىل ُ‬
‫األو َ‬
‫لم َّ‬ ‫كان ع ُ‬
‫الر ِّب تعاىل؛ لكان ذلك كنقرة عصفور من البحر‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الصفة‪ ،‬ثم ُنسب إىل علم َّ‬
‫ِّ‬
‫ُعوت كامله‪ ،‬فإنه يسمع‬ ‫وبرصه‪ ،‬وسائر ن ِ‬ ‫ِ‬ ‫وهكذا سائر صفاته‪ ،‬كسمعه‬
‫ضجيج األصوات باختالف اللغات‪ ،‬عىل تف ُّن ِن احلاجات‪ ،‬فال َيشغَ ُله ْ‬
‫سم ٌع‬
‫سواء عنده َمن أسرََّ‬
‫ٌ‬ ‫لحينِ َ ‪،‬‬
‫يتربم بإحلاح ا ُمل ّ‬
‫عن سمع‪ ،‬وال تغلطه املسائل‪ ،‬وال َّ‬
‫القول و َمن َج َهر به‪ ،‬فالرس عنده عالنية‪ ،‬والغيب عنده شهادة‪ ،‬يرى دبيب‬ ‫َ‬
‫ياط عروقها‬ ‫الظلامء‪ ،‬ويرى نِ َ‬ ‫النملة السوداء عىل الصخرة الصماَّ ء يف الليلة َّ‬
‫وجماري القوت يف أعضائها‪ ،‬يضع السموات عىل إصبع من أصابع يده‪،‬‬
‫والشجر عىل إصبع‪ ،‬واملا َء عىل‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫واجلبال عىل إصبع‪،‬‬ ‫َ‬
‫واألرض عىل إصبع‪،‬‬

‫‪256‬‬
‫المعاينـــــــة‬

‫إصبع‪ ،‬ويقبض سامواته بإحدى يديه‪ ،‬واألرضني باليد األخرى‪ ،‬فالسموات‬


‫السبع يف كفه كخردلة يف كف العبد‪ ،‬ولو أن اخللق كلهم من أوهلم إىل‬
‫واحدا ما أحاطوا باهلل ‪ ،‬لو كشف احلجاب عن وجهه‬
‫ً‬ ‫آخرهم قاموا ص ًّفا‬
‫ألحرقت سبحاته ما انتهى إليه برصه من خلقه‪.‬‬
‫فإذا قام بقلب العبد هذا الشاهد اضمح َّلت فيه الشواهد املتقدمة من غري‬
‫الشواهد كلها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أن تعدم‪ ،‬بل تصري الغلبة والقهر هلذا الشاهد‪ ،‬وتندرج فيه‬
‫و َم ْن هذا شاهده فله سلوك وسري خاص‪ ،‬ليس لغريه ممن هو عن هذا يف‬
‫غفلة‪ ،‬أو معرفة جمملة‪.‬‬
‫فصاحب هذا الشاهد سائر إىل اهلل يف يقظته ومنامه‪ ،‬وحركته وسكونه‬
‫وفطره وصيامه‪ ،‬له شأن وللناس شأن‪ ،‬هو يف واد وهم يف واد‪.‬‬
‫َخ ِليـــليََّ ال واهلل مــا أنـــا ِمنكُــام‬
‫آل َليـــلىَ َب َدا لِ َيــا‬
‫إذا َع َلـــم ِمــن ِ‬
‫ٌ‬
‫والكشف واملشاهد َة يف هذه الدار إنام تقع عىل‬ ‫َ‬ ‫يان‬ ‫واملقصود‪ :‬أن ِ‬
‫الع َ‬
‫العلمية‪ ،‬وهو ما يقوم بقلوب عابديه وحم ِّبيه‪ ،‬واملنيبني إليه‬ ‫واألمثلة ِ‬
‫ِ‬ ‫الشواهد‬
‫ِ‬
‫واخلشية واإلنابة‪،‬‬ ‫من هذا الشاهد‪ ،‬وهو الباعث هلم عىل العبادة واملحبة‪،‬‬
‫يتعداه‪ ،‬وأعظم‬ ‫فكل منهم له مقا ٌم معلوم ال َّ‬ ‫طرفاه‪ٌّ ،‬‬‫وتفاوتهُ م فيه ال ينحرص َ‬ ‫ُ‬
‫الناس ح ًّظا يف ذلك معرتف بأنه ال يحُيص ثنا ًء عليه سبحانه‪ ،‬وأنه فوق ما‬
‫يثني عليه املثنون‪ ،‬وفوق ما حيمده احلامدون‪.‬‬

‫‪257‬‬
‫وطهارة القلب‪ ،‬ونزاهته من األوصاف املذمومة‪ ،‬واإلرادات السفلية‪،‬‬
‫كريس هذا الشاهد‪ ،‬الذي‬
‫ُّ‬ ‫وخلوه وتفريغه من التعلق بغري اهلل سبحانه‪ ،‬هو‬
‫ُّ‬
‫ٍ‬
‫متلوث باخلبائث‬ ‫جيلس عليه‪ ،‬ومقعده الذي يتمكن فيه‪ ،‬فحرام عىل قلب‬
‫ٍ‬
‫متعلق باملرادات السافلة أن يقوم به هذا‬ ‫واألخالق والصفات الذميمة‪،‬‬
‫َ‬
‫يكون من أهله‪.‬‬ ‫الشاهد‪ ،‬أو‬
‫ونورها‬
‫ُ‬ ‫األرواح‪،‬‬
‫َ‬ ‫[و] إذا طلعت شمس التوحيد‪ ،‬وبارشت حرارتهُ ا‬
‫البصائر‪ ،‬جتلت هبا ظلامت النفس وال َّط ْبع‪ ،‬وحتركت هبا األرواح يف طلب‬ ‫َ‬
‫من ﴿ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﴾ [الشورى‪ ،]١١ :‬فسافر القلب‬
‫منزل‪ ،‬فهو ينتقل من عبادة إىل‬ ‫منزل اً‬‫يف بيداء األمر‪ ،‬ونزل منازل العبود َّية‪ ،‬اً‬
‫شواهد الصفات قائم ًة بقلبه‪ ،‬توق ُظه‬
‫ُ‬ ‫عبادة‪ ،‬مقيم عىل معبود واحد‪ ،‬فال تزال‬
‫وتقيمه إذا قعد‪ ،‬إن قام بقلبه‬ ‫ُ‬ ‫إذا رقد‪ ،‬وتذ ِّك ُره إذا َغ َفل‪ُ ،‬‬
‫وحتدو به إذا سار‪،‬‬
‫شاهد من الربوبية والق ُّيوم َّية رأى أن األمر ك َّله هلل‪ ،‬ليس ألحد معه من األمر‬‫ٌ‬
‫يشء ﴿ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ‬
‫ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ‬
‫ﰀﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅﰆ ﰇ ﰈ﴾ [فاطر‪ ،]٣ - ٢ :‬إن قام بقلبه شاهد من‬
‫اإلهلية؛ رأى يف ذلك الشاهد األمر والنهي‪ ،‬والن َُّّبوات‪ ،‬والكتب والرشائع‪،‬‬
‫األمر‬
‫َ‬ ‫والرضا‪ ،‬والكراهة والبغض‪ ،‬والثواب والعقاب‪ ،‬وشاهد‬ ‫واملحبة ِّ‬
‫ُ‬
‫وأعامل العباد صاعدة إليه‪ ،‬ومعروضة عليه‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫مستو عىل عرشه‪،‬‬ ‫اً‬
‫نازل ممن هو‬
‫جيزي باإلحسان منها يف هذه الدار‪ ،‬ويف الع ْقبى نرضة ورسورا‪ ،‬وي ِ‬
‫قدم إىل ما‬ ‫ً َ‬ ‫ُ‬
‫منثورا‪.‬‬
‫ً‬ ‫مل يكن عىل أمره ورشعه منها فيجعله هباء‬

‫‪258‬‬
‫المعاينـــــــة‬

‫وإن قام بقلبه شاهد من الرمحة‪ ،‬رأى الوجو َد ك َّله اً‬


‫قائم هبذه الصفة قد‬
‫وعلم‪ ،‬وانتهت رمح ُته إىل حيث انتهى‬ ‫اً‬ ‫كل يشء رمحة‬ ‫وسع من هي صفته َّ‬
‫كل يشء‪ ،‬كام وسع ُ‬
‫عرشه كل يشء‪.‬‬ ‫تس َع َّ‬ ‫ِ‬
‫علمه‪ ،‬فاستوى عىل عرشه برمحته؛ ل َ‬ ‫ُ‬
‫شأن َ‬
‫آخ ُر‪.‬‬ ‫ِ‬
‫والعظمة واجلربوت‪ :‬فله ٌ‬ ‫شاهد ِ‬
‫الع َّز ِة والكربياء‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وإن قام بقلبه‬
‫شواهد الصفات‪ ،‬وما ذكرناه أدنى ٍ‬
‫تنبيه عليها‪ ،‬فالكشف‬ ‫ِ‬ ‫وهكذا مجيع‬
‫ْ‬
‫يان واملشاهد ُة ال تتجاوز الشواهد‪.‬‬ ‫ِ‬
‫والع ُ‬

‫‪259‬‬
‫منزلـــــة احلـــــياة‬

‫قال اهلل تعاىل‪ ﴿:‬ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ﴾ [األنعام‪.]122 :‬‬


‫املراد هبا‪َ :‬من كان َ‬
‫ميت القلب بعدم ُروح العلم واهلدى واإليامن‪ ،‬فأحياه‬
‫الروح التي أحيا هبا بد َنه‪ ،‬وهي ُروح معرفته‬ ‫الرب تعاىل ُبروح أخرى ِ‬
‫غري ُّ‬ ‫ُّ‬
‫وحده ال رشيك له‪.‬‬ ‫ِ‬
‫وتوحيده‪ ،‬وحمبته وعبادته َ‬
‫وحا؛ ملا حيصل به من حياة القلوب واألرواح‪ ،‬فقال تعاىل‪:‬‬
‫وسمى وحيه ُر ً‬
‫َّ‬
‫﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ‬
‫ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ﴾ [الشورى‪.]52 :‬‬
‫وقد جعل اهلل احلياة الطيبة ألهل معرفته وحمبته وعبادته؛ فقال تعاىل‪﴿ :‬ﮉ‬
‫ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ‬
‫ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﴾ [النحل‪ ،]97 :‬وقد ُفسرِّ ت احلياة الطيبة بالقناعة‬
‫ونعيمه‪،‬‬ ‫القلب‬ ‫حياة‬ ‫أهنا‬ ‫والصواب‪:‬‬ ‫ذلك‪،‬‬ ‫وغري‬ ‫احلسن‬ ‫ِ‬
‫والرزق‬ ‫والرضا‪،‬‬
‫ُ‬
‫ورسوره باإليامن ومعرفة اهلل‪ ،‬وحم َّبتِه‪ ،‬واإلنابة إليه‪ ،‬والتو ُّك ِل عليه؛ فإنه‬ ‫ُ‬ ‫وهبجته‬
‫نعيم اجلنة‪ ،‬كام كان‬ ‫إال‬ ‫ه‪،‬‬ ‫فوق ِ‬
‫نعيم‬ ‫ب من حياة صاحبها‪ ،‬وال نعيم َ‬
‫َ‬ ‫ال حيا َة أط َي ُ‬
‫أهل اجلنة يف ِم ِ‬
‫ثل‬ ‫أوقات أقول فيها‪ :‬إن كان ُ‬ ‫ٌ‬ ‫بعض العارفني يقول‪« :‬إ َّنه ل َت ُم ُّر يب‬
‫أوقات يرقص فيها‬ ‫ٌ‬ ‫غريه‪« :‬إنه ل َي ُم ُّر بالقلب‬
‫يش ط ِّيب»‪ ،‬وقال ُ‬ ‫هذا إهنم لفي َع ٍ‬
‫َطر ًبا»‪.‬‬
‫وإذا كانت حياة القلب حياة ط ِّيب ًة تبعته حياة اجلوارح؛ فإنه َم ِلكُها‪ ،‬وهلذا‬

‫‪260‬‬
‫الحيـــــــاة‬

‫جعل اهلل املعيشة الضنك َملن أعرض عن ِذ ْك ِره‪ ،‬وهي عكس احلياة الطيبة‪.‬‬
‫ودار البرَ زخ‪،‬‬
‫دار الدنيا‪َ ،‬‬
‫الدور الثالث؛ أعني‪َ :‬‬ ‫وهذه احلياة الط ِّيبة تكون يف ُّ‬
‫الدور الثالث‪ ،‬فاألبرار يف النعيم‬
‫أيضا تكون يف ُّ‬ ‫ودار القرار‪ ،‬واملعيشة الضنك ً‬
‫جار يف اجلحيم هاهنا وهناك‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪ ﴿ :‬ﮓﮔ‬ ‫هاهنا وهناك‪ ،‬وال ُف َّ‬
‫ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ﴾ [النحل‪ِ ،]30 :‬‬
‫فذ ْك ُر اهلل‪ ،‬وحمبته وطاعته‪،‬‬
‫واإلعراض عنه والغفل ُة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫واإلقبال عليه‪ :‬ضام ٌن ألطيب احلياة الدنيا‪،‬‬
‫ِ‬
‫واملعيشة الضنك يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬ ‫كفيل باحلياة املن َّغ َصة‪،‬‬‫ومعصيته‪ٌ :‬‬

‫مراتب‪:‬‬
‫ُ‬ ‫للحياة‬
‫املرتبة األوىل‪ :‬حيا ُة األرض بالنبات‪.‬‬
‫النمو واالغتذاء‪ ،‬وهذه احلياة مشرتك ٌة بني النبات‬
‫ِّ‬ ‫املرتبة الثانية‪ :‬حياة‬
‫ِ‬
‫واحليوان الذي يعيش بالغذاء‪.‬‬
‫بقد ٍر زائد عىل ُنموه واغتذائه‪ ،‬وهو‬
‫املرتبة الثالثة‪ :‬حياة احليوان املغتذي ْ‬
‫إحساسه وحركته‪.‬‬
‫املرتبة الرابعة‪ :‬حياة احليوان الذي ال يغتذي بالطعام والرشاب‪ ،‬كحياة‬
‫املالئكة‪ ،‬وحياة األرواح بعد ُمفارقتها األبدان‪ ،‬فإن حياهتا ُ‬
‫أكمل من حياة‬
‫احليوان املغتذي‪.‬‬
‫املرتبة اخلامسة‪ :‬حياة العلم من موت اجلهل‪.‬‬
‫املرتبة السادسة‪ :‬حياة اإلرادة واهلمة واملحبة؛ فإن احلياة الطيبة إنام ُتنال‬

‫‪261‬‬
‫قدر ذلك تكون‬ ‫باهلمة العالية‪ ،‬واملحبة الصادقة‪ ،‬واإلرادة اخلالصة‪ ،‬فعىل ْ‬
‫وأخس الناس حيا ًة أخسهم همِ ة‪ ،‬وأضعفهم حمبة وطل ًبا‪ ،‬وحيا ُة‬ ‫ُّ‬ ‫احلياة الطيبة‪،‬‬
‫البهائم خري من حياته‪ ،‬كام قيل‪:‬‬
‫هلـــو و َغفـــل ٌة‬
‫ٌ‬ ‫غـرور‬
‫ُ‬ ‫ـار َك يا َم‬
‫نهَ ُ‬
‫لـك ِ‬
‫الز ُم‬ ‫والـــردى َ‬‫َّ‬ ‫و َل ْي ُل َك َنـو ٌم‬
‫سـخ ُط ِغ َّبـه‬‫و َتك َْد ُح فيام سوف َت َ‬
‫عيـش الب ِ‬
‫ـــم‬
‫ُ‬ ‫هائ‬ ‫الدنيا َت ُ َ‬ ‫كذلك يف ُّ‬ ‫َ‬
‫فــر ُح با ُملنـــى‬‫ــر بام َيفنـى و َت َ‬‫ُت َس ُّ‬
‫كام ُغر بال َّل َّذ ِ‬
‫ات يف النَّــو ِم حـــالمِ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫والناس إذا شاهدوا‬
‫ُ‬ ‫واملقصود‪ :‬أن حياة القلب بالعلم واإلرادة واهلمة‪،‬‬
‫ِ‬
‫وترك‬ ‫حي القلب‪ ،‬وحياة القلب بدوام الذكر‬ ‫ذلك من الرجل‪ ،‬قالوا‪ :‬هو ُّ‬
‫الذنوب‪ ،‬كام قال عبد اهلل بن املبارك ‪:‬‬
‫لــوب‬
‫َ‬ ‫نـوب تمُ ِ ُ‬
‫يـت ال ُق‬ ‫الذ َ‬‫ـت ُّ‬
‫رأ ْي ُ‬
‫الــــذ َّل إدمــانهُ ا‬
‫ُّ‬ ‫وقــد ُي ِ‬
‫ــور ُ‬
‫ث‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫لــوب‬ ‫الذ ِ‬
‫نـوب َحيــا ُة ال ُق‬ ‫و َت ْـر ُك ُّ‬
‫ـــــك ِع ْصيانهُ ـــا‬
‫َ‬ ‫ـــري لن ْف ِس‬
‫وخ ٌ‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫لـــوك‬ ‫الديـ َن إلاَّ ا ُمل‬
‫ـد ِّ‬
‫أفس َ‬ ‫ْ‬
‫وهـل َ‬
‫ور ْهبـانهُ ــــا‬ ‫ٍ‬
‫ــــوء‬‫وأحبـــار ُس‬
‫ُ‬ ‫ُ‬

‫‪262‬‬
‫الحيـــــــاة‬

‫ُّفـوس ومل ْ َي ْر َبحـــوا‬


‫وبـا ُعـوا الن َ‬
‫ومل ْ َي ْغ ُ‬
‫ــــل يف ال َبيـــ ِع أثـامنهُ ــــا‬
‫ٍ‬
‫يـــفة‬ ‫ــع ال َقـــو ُم يف ِج‬
‫فقــد َر َت َ‬
‫ْ‬
‫ـب ُخ ْســــرانهُ ا‬ ‫َيبِ ُ‬
‫ــني لــذي ال ُّل ِّ‬

‫وسمعت شيخ اإلسالم ابن تيمية يقول‪َ « :‬من واظب عىل (يا ُّ‬
‫حي يا قيو ُم‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ال إل َه إلاَّ أنت) َّ‬
‫كل يو ٍم‪ ،‬بني ُسنة الفجر وصالة الفجر أربعني َّ‬
‫مر ًة‪ :‬أحيا اهللُ قلبه»‪.‬‬
‫أن اهلل سبحانه ج َعل حياة البدن بالطعام والرشاب؛ فحيا ُة القلب بدوام‬ ‫وكام َّ‬
‫ِ‬
‫وترك الذنوب‪.‬‬ ‫ِ‬
‫واإلنابة إىل اهلل‪،‬‬ ‫الذكر‪،‬‬ ‫ِّ‬

‫والتعلق بالرذائل والشهوات املنقطعة عن‬ ‫ُ‬ ‫والغفل ُة اجلاثم ُة عىل القلب‪،‬‬
‫الضعف يتواىل عليه حتى يموت‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ضعف هذه احليا َة‪ ،‬وال يزال‬ ‫ُقرب‪ :‬ي ِ‬
‫ُ‬
‫ِ‬ ‫وعالمة موته‪ :‬أنه ال َي ِ‬
‫نكرا‪ ،‬كام قال عبد اهلل بن‬‫عرف معرو ًفا‪ ،‬وال ُينكر ُم ً‬
‫مسعود ‪« :‬أتدرون َمن م ِّيت األحياء؟ الذي قيل فيه‪:‬‬
‫مـات فاسـترَ اح بمي ٍ‬
‫ـت‬ ‫َ‬ ‫ليـس َمن‬
‫َ َْ‬
‫ِ‬
‫األحيــــاء‬ ‫إ َّنــام ا َمل ْي ُ‬
‫ـــت َم ِّي ُ‬
‫ــت‬
‫نكرا»‪.‬‬ ‫م‬ ‫ر‬ ‫قالوا‪ :‬ومن هو؟ قال‪ :‬الذي ال يعرف معرو ًفا‪ ،‬وال ي ِ‬
‫نك‬
‫ُ ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫موت ق ْلبه‪ ،‬ال موت بدنه؛ إذ ُ‬
‫أكثر هذا اخللق‬ ‫والرجل‪ :‬هو الذي خياف َ‬
‫موت أبداهنم‪ ،‬وال ُيبالون بموت قلوهبم‪ ،‬وال َي ِ‬
‫عرفون من احلياة إال‬ ‫خيافون َ‬
‫احلياة الطبيعية‪ ،‬وذلك من موت القلب والروح‪ ،‬فإن هذه احلياة الطبيعية‬

‫‪263‬‬
‫بالظل الزائل‪ ،‬والنبات الرسيع اجلفاف‪ ،‬واملنام الذي يخُ يل ِ‬
‫لرائيه أنه‬ ‫ِّ‬ ‫شبيه ٌة‬
‫َّ‬
‫خيال‪ ،‬كام قال عمر بن اخلطاب ‪« :‬لو‬ ‫حقيقة‪ ،‬فإذا استيقظ عرف أنه كان اً‬
‫أن احلياة الدنيا من أوهلا إىل آخرها ُأوتِيها رجل واحد‪ ،‬ثم جاءه املوت‪ :‬لكان‬ ‫َّ‬
‫بمنزلة َمن رأى يف منامه ما يسرُُّ ه ثم استيقظ‪ ،‬فإذا ليس يف يده يشء»‪.‬‬
‫املرتبة السابعة من مراتب احلياة‪ :‬حياة األخالق‪ ،‬والصفات املحمودة‪،‬‬
‫والص ِ‬ ‫ِ‬
‫دق‬ ‫جلود والسخاء‪ ،‬واملروءة ِّ‬ ‫فحيا ُة َمن قد ُطبِ َع عىل احلياء والع َّفة‪ ،‬وا ُ‬
‫َ‬
‫يكون‬ ‫أتم ِمن حياة َمن َيقهر ن ْف َسه‪ ،‬و ُيغالب ط ْب َعه‪ ،‬حتى‬‫والوفاء‪ ،‬ونحوها‪ُّ :‬‬
‫أكم َل‪ ،‬كانت حيا ُته أقوى‬‫األخالق يف صاحبها َ‬ ‫ُ‬ ‫كذلك‪ ،‬وكلام كانت هذه‬
‫أكمل‬ ‫أكمل من حياة اجلبان‪ ،‬وحيا ُة الس ِ‬
‫خ ِّي َ‬ ‫وأتم‪،‬وهلذا كانت حيا ُة الشجاع َ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫من حياة البخيل‪.‬‬
‫املرتبة الثامنة‪ :‬حياة الفرح والرسور‪ ،‬وقرة العني باهلل‪.‬‬
‫هذه املرتبة من مراتب احلياة أعىل مراتبها‪ ،‬ولكن كيف يصل إليها َمن‬
‫سبي يف بالد الشهوات‪ ،‬وأمله موقوف عىل اجتناء اللذات‪ ،‬وسريته‬ ‫ع ْق ُله َم ٌّ‬
‫مهته‬ ‫و‬ ‫واملخالفات‪،‬‬ ‫باملعايص‬ ‫مستهلك‬ ‫ينه‬ ‫جارية عىل أسوأ العادات‪ِ ،‬‬
‫ود‬
‫َّ‬
‫السفليات‪ ،‬وعقيدته غري ُمتل َّقاة من ِمشكاة النُّبوات؟!‬ ‫واقفة مع ُّ‬
‫عرض‪،‬‬ ‫الشبهات ُمنتكس‪ ،‬وعن الناصح ُم ِ‬ ‫نغم ٌس‪ ،‬ويف ُّ‬‫فهو يف الشهوات م ِ‬
‫ُ‬
‫عرتض‪ ،‬وعن ال ى نائم‪ ،‬وقلبه يف كل ٍ‬
‫واد هائم؛ فلو أنه‬ ‫وعىل املرشد ُم ِ‬
‫ٌ‬ ‫سرُّ‬
‫ورغب عن ُمشاركة أبناء جنسه‪ ،‬وخرج ِمن ِضيق اجلهل‬ ‫جترد من ن ْفسه‪ِ ،‬‬
‫َّ‬
‫ومن سجن اهلوى إىل ساحة اهلدى‪ ،‬ومن نجاسة النفس إىل‬ ‫العلم‪ِ ،‬‬‫إىل فضاء ِ‬
‫اإللف الذي نشأ بنشأته‪ ،‬وزاد ِبزيادته‪ ،‬و َق ِو َي بقوته‪،‬‬
‫َ‬ ‫طهارة القدس‪ :‬لرأى‬

‫‪264‬‬
‫الحيـــــــاة‬

‫وشجا يف‬
‫ً‬ ‫قذى يف عني بصريته‪،‬‬ ‫بحصوله‪ً ،‬‬ ‫ورشف عند ن ْفسه وأبناء جنسه ُ‬ ‫ُ‬
‫ومرضا ُمرتام ًيا إىل هالكه‪.‬‬‫ً‬ ‫حلق إيامنه‪،‬‬
‫غري معهودة بني أموات األحياء؛ فهل‬ ‫أرشت إىل حياة ِ‬ ‫َ‬ ‫لت‪ :‬قد‬ ‫فإن ُق َ‬ ‫ْ‬
‫أن ما نحن‬‫ألصل إىل يشء من أذواقها‪ ،‬فقد بان يل َّ‬ ‫َ‬ ‫وصف طريقها؛‬ ‫ُ‬ ‫ُيمكنك‬
‫لوها عن املنكرات‬ ‫بخ ِّ‬‫زادت علينا فيه البهائم ُ‬‫ْ‬ ‫فيه من احلياة حيا ٌة هبيمية‪ ،‬ربام‬
‫صات وسالمة العاقبة؟‬ ‫واملن ِّغ ِ‬

‫لمها ومعرفتها‬ ‫ب ِع ِ‬ ‫إن اشتياق القلب إىل هذه احلياة‪ ،‬وط َل ِ‬ ‫قلت‪َ :‬ل َع ْم ُر اهلل َّ‬
‫دليل عىل حياته‪ ،‬وأنه ليس من مجلة األموات‪.‬‬ ‫َل ٌ‬
‫وهتتدي إليه طري ًقا يوصلك إليه‪،‬‬ ‫طريقها‪ :‬أن تعرف اهللَ سبحانه‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫فأو ُل‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫شاهد من شواهد اآلخرة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫امت الطبع بأشعة البصرية‪ ،‬فيقوم بقلبه‬ ‫وحيرق ُظ ُل ِ‬ ‫ِ‬
‫فينجذب إليها ب ُك ِّل َّيتِه‪ ،‬ويزهد يف التعلقات الفانية‪ ،‬ويدأب يف تصحيح التوبة‪،‬‬
‫وتر ِك املنهيات الظاهرة والباطنة‪ ،‬ثم‬ ‫والقيام باملأمورات الظاهرة والباطنة‪ْ ،‬‬
‫ٌ‬
‫فضول ال‬ ‫كر ُهها اهلل‪ ،‬وال بخطرة‬ ‫محِ‬
‫حارسا عىل قلبه‪ ،‬فال يسا ُه بخطرة َي َ‬ ‫ً‬ ‫يقوم‬
‫تنفعه‪ ،‬فيصفو بذلك قل ُبه عن حديث الن ْفس ووساوسها‪ ،‬ف ُي ْفدى ِمن أرسها‪،‬‬
‫ويصري طلي ًقا‪ ،‬فحينئذ خيلو ق ْل ُبه بذكر ربه‪ ،‬وحمبته واإلنابة إليه‪ ،‬وخيرج من‬
‫بني بيوت طبعه ونفسه إىل فضاء اخللوة بربه وذكره‪ ،‬كام قيل‪:‬‬
‫وأخـرج مـن بـني البيــوت لعلنــي‬
‫النفس يف السـر خال ًيـا‬
‫َ‬ ‫ُأحدث عنك‬
‫فحينئ�ذ جيتم�ع قلب�ه وخواطره وحديث نفس�ه على إرادة رب�ه‪ ،‬وطلبه‬
‫والشوق إليه‪.‬‬

‫‪265‬‬
‫فإذا صدق يف ذلك‪ُ :‬ر ِز َق حمبة الرسول ﷺ‪ ،‬واستولت روحانيته عىل‬
‫قلبه‪ ،‬فجعله إمامه ومعلمه‪ ،‬وأستاذه وشيخه وقدوته‪ ،‬كام جعله اهلل نبيه‬
‫ورسوله وهاد ًيا إليه‪ ،‬فيطالع سريته ومبادئ أموره‪ ،‬وكيفية نزول الوحي‬
‫عليه‪ ،‬ويعرف صفاته وأخالقه‪ ،‬وآدابه يف حركاته وسكونه‪ ،‬ويقظته ومنامه‪،‬‬
‫وعبادته ومعارشته ألهله وأصحابه‪ ،‬حتى يصري كأنه معه من بعض أصحابه‪.‬‬
‫فإذا رسخ ق ْل ُبه يف ذلك‪ُ :‬فتِ َح عليه ب َفهم الوحي املنزل عليه من ربه‪ ،‬بحيث‬
‫شاه َد قل ُبه ما ُأ ِنزلت فيه‪ ،‬وماذا ُأريد هبا‪ ،‬وحظه املختص به‬ ‫إذا قرأ السورة‪َ ،‬‬
‫منها؛ من الصفات واألخالق واألفعال املذمومة‪ ،‬فيجتهد يف التخلص منها‬
‫كام جيتهد يف الشفاء من املرض املخوف‪ ،‬ومن الصفات واألفعال املمدوحة‪،‬‬
‫فيجتهد يف تكميلها وإمتامها‪.‬‬
‫الر ِّب‬ ‫ِ‬
‫صفات‬ ‫عني أخرى‪ ،‬ي ِ‬
‫شـاه ُد هبا‬ ‫فإذا مت َّكن من ذلك‪ :‬انف َتح يف قلبِه ٌ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫فوق‬‫الر ِّب سبحانه َ‬ ‫رئي لعينه‪ ،‬فيشهد ُع ُل َّو َّ‬ ‫تصري لقلبه بمنزلة ا َمل ِّ‬
‫َ‬ ‫‪ ،‬حتى‬
‫عنده بتدبري مملكتِه‪ ،‬وتك ُّل َمه‬ ‫ونزول األمر ِمن ِ‬ ‫َ‬ ‫خ ْل ِقه‪ ،‬واستوا َءه عىل عرشه‪،‬‬
‫به‪ ،‬وإرسا َله إىل َمن َيشا ُء بام َيشا ُء‪،‬‬ ‫لعبده ِج َ‬
‫ربيل‬ ‫بالوحي‪ ،‬وتكليمه ِ‬
‫َ‬
‫وصعو َد األمور إليه‪ ،‬و َع ْر َضها عليه‪.‬‬‫ُ‬
‫منزل لكُتبه‪،‬‬ ‫فوق عباده‪ِ ،‬آم ًرا ناه ًيا‪ ،‬باع ًثا ُلر ُسله‪ ،‬اً‬ ‫قاهرا َ‬ ‫ِ‬
‫فيشاهد قل ُبه ر ًّبا ً‬
‫مثيل له‪ ،‬وال ِع ْدل له‪ ،‬ليس ألحد معه‬ ‫معبو ًدا ُمطا ًعا‪ ،‬ال رشيك له‪ ،‬وال َ‬
‫لك وال َّتدبري‪ ،‬فال‬ ‫ِمن األمر يشء‪ ،‬بل األمر ك ُّله له‪ ،‬فيشه ُده سبحانه قائم با ُمل ِ‬
‫اً‬ ‫َ َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬
‫نفع وال رض‪ ،‬وال عطاء وال منع‪ ،‬وال ق ْبض وال‬ ‫حرك َة وال سكون‪ ،‬وال َ‬
‫ِ‬
‫الكون ك ِّله به‪ ،‬وقيا َمه ُسبحانه بن ْفسه‪،‬‬ ‫بسط‪ :‬إلاَّ ب ُقدرته وتدبريه‪ ،‬فيشهد قيا َم‬

‫‪266‬‬
‫الحيـــــــاة‬

‫لكل ما ِسواه‪.‬‬
‫املقيم ِّ‬
‫ُ‬ ‫القائم بن ْفسه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫فهو‬
‫املصحح َة جلميع صفات الكامل‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫فإذا َر َسخ ق ْل ُبه يف ذلك‪ :‬ش ِهد ِّ‬
‫الصف َة‬
‫ِ‬
‫والقدرة واإلرادة‪،‬‬ ‫مع والبرص‪،‬‬ ‫الس ِ‬ ‫وهي (احلياة) التي كاملهُ ا َيستل ِز ُم َ‬
‫كامل َّ‬
‫املصححة جلميع األفعال‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫ومي ِة‬‫والكال ِم وسائ ِر صفات الكامل‪ ،‬وصف َة ال َق ُّي َّ‬
‫ال لمِ ا يريد‪.‬‬
‫صفة كامل‪ ،‬وهو ال َف َّع ُ‬ ‫ِ‬ ‫كل‬ ‫فـ(ا َ‬
‫حل ُّي ال َق ُّيوم)‪َ :‬من له ُّ‬
‫شه ُده ُسبحانه‬ ‫القرب واملَ ِع َّية‪َ ،‬في َ‬ ‫قلبه يف ذلك‪ُ :‬فتِح له مشهد ُ‬ ‫فإذا رسخ ُ‬
‫فوق سامواته عىل‬ ‫قريبا غري بعيد‪ ،‬مع َكونِه َ‬ ‫ري غائب عنه‪ً ،‬‬ ‫حارضً ا معه‪ ،‬غ َ‬
‫فيحص ُل له‬ ‫ُ‬ ‫بالصنع والتدبري‪ ،‬واخل ْل ِق واألمر‪،‬‬ ‫قائم ُّ‬ ‫عرشه‪ ،‬بائ ًنا ِمن َخ ْلقه‪ ،‬اً‬
‫الصفة‪ ،‬فيأنس به بعد أن كان مستوحشً ا‪،‬‬ ‫نس هبذه ِّ‬ ‫األ‬‫مع التعظيم واإلجالل ُ‬
‫ُ‬
‫و َيقْوى بعد أن كان ضعي ًفا‪ ،‬و َيفرح بعد أن كان حزي ًنا‪ ،‬وجيد ْبع َد أن كان ً‬
‫فاقدا‪،‬‬
‫واف ِل ح َّتى ُأ ِح َّبه‪ ،‬فإذا‬ ‫زال َعبدي َيت َقر ُب إ َّيل بال َّن ِ‬
‫َّ‬ ‫فحينئذ جيد طعم قو َله‪« :‬وال َي ُ ْ‬
‫بط ُش‬ ‫سم ُع به‪ ،‬و َبصرَ َ ه ا َّلذي ُيبصرِ ُ به‪ ،‬و َيدَ ُه ا َّلتي َي ِ‬ ‫كنت َس ْم َعه ا َّلذي َي َ‬ ‫أحب ْب ُته ُ‬
‫َ‬
‫عيذنَّه»(((‪.‬‬ ‫هبا‪ ،‬و ِر ْج َله ا َّلتي َي ْميش هبا‪ ،‬ولئِ ْن َسأ َلني ُأل ْع ِط َي َّنه‪ ،‬ولئِ ْن اس َتعا َذين ُأل َ‬

‫تقرب‬ ‫م‬ ‫حمبوب‪،‬‬ ‫ب‬ ‫احلياة عىل اإلطالق حيا ُة هذا العبد؛ فإنه محُ ِ‬ ‫ِ‬ ‫فأطيب‬
‫ُ ِّ‬ ‫ٌّ‬ ‫ُ‬
‫استيالئه عىل قلبه‪ ،‬ولهَ ِجه‬ ‫ِ‬ ‫قريب منه‪ ،‬قد صار له حبي َبه لفرط‬ ‫إىل ر ِّبه‪ ،‬ور ُّبه‬
‫ٌ‬
‫جله‪،‬‬‫ور ِ‬ ‫ويده ِ‬ ‫سمعه وبرصه‪ِ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫كوف همَِّ ته عىل َمرضاته بمنزلة‬ ‫كره‪ ،‬و ُع ِ‬ ‫ِ‬
‫بذ ِ‬
‫برص‬ ‫أ‬‫َ‬ ‫ب‬‫أ‬‫َ‬ ‫وإن‬ ‫بحبيبه‪،‬‬ ‫ع‬ ‫سمع ِ‬
‫سم‬ ‫فإن ِ‬
‫ْ‬ ‫ه‪،‬‬ ‫وس ْع ِ‬
‫ي‬ ‫ه‬ ‫ِ‬
‫وعمل‬ ‫ه‬ ‫ِ‬
‫إدراك‬ ‫آالت‬
‫وهذه ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫صرَ‬ ‫َ‬
‫وإن مشى مشى به‪.‬‬ ‫وإن َب َط َش َب َط َش به‪ْ ،‬‬ ‫به‪ْ ،‬‬

‫((( أخرجه البخاري (‪.)6502‬‬

‫‪267‬‬
‫مه ُته عاكف ًة عىل أ ْمرين‪ :‬استفراغ القلب يف‬ ‫فإن السالك إىل ر ِّبه ال تزال َّ‬ ‫َّ‬
‫ِص ْدق احلب‪ ،‬و َب ْذ ِل اجلهد يف امتثال األمر‪ ،‬فال يزال كذلك حتى يبدو عىل‬
‫وآثار صفاته وأسامئه‪ ،‬ولكن يتوارى عنه ذلك أحيا ًنا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫شواهد معرفته‪،‬‬‫ُ‬ ‫سرِِّ ه‬
‫جلود‪ ،‬و َيتوارى بحكم ال َفرتة‪ ،‬والفرتات أ ْم ٌر‬ ‫ويبدو أحيا ًنا‪ ،‬يبدو ِمن ِ‬
‫عني ا ُ‬
‫عام ٍل شرَِّ ة‪ ،‬ولكل شرَِّ ة فرت ٌة‪ ،‬فأعالها َفرتة الوحي‪ ،‬وهي‬ ‫فلك ُِّل ِ‬‫الزم للعبد‪ِ ،‬‬
‫ٌ‬
‫اهلم ِة للمريدين‪ ،‬وفرتة العمل‬ ‫اخلاص للعارفني‪ ،‬وفرتة َّ‬ ‫ِّ‬ ‫لألنبياء‪ ،‬و َفرت ُة احلال‬
‫ات أنواع من احلكمة والرمحة‪ ،‬وال َّتعر ِ‬
‫فات اإلهل َّية‪،‬‬ ‫للعابدين‪ ،‬ويف هذه ال َفترَ ِ‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ٌ‬
‫َّواجذ عليها‪ ،‬وغري‬ ‫وعض الن ِ‬ ‫وق إليها‪ِّ ،‬‬ ‫الش ِ‬ ‫ِ‬
‫وجتديد َّ‬ ‫قد ِر النِّعمة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وتعريف ْ‬
‫ذلك‪.‬‬
‫ستقر‪ ،‬و َينصبِ َغ هبا قل ُبه‪،‬‬
‫تتكر ُر وتتزايد‪ ،‬حتى َت َّ‬ ‫الشواهد َّ‬
‫ُ‬ ‫وال تزال تلك‬
‫ٍ‬
‫تكون نعم ًة عليه‪ ،‬وراح ًة له‪ ،‬وترو ً‬
‫حيا‬ ‫ُ‬ ‫قاطعة له‪ ،‬بل‬ ‫صري ال َفرت ُة َ‬
‫غري‬ ‫و َت َ‬
‫وتنفيسا عنه‪.‬‬
‫ً‬
‫املحب إذا تع َّل َق ْت ُروحه بحبيبه‪ ،‬عاك ًفا عىل َمزيد حم َّبتِه‪ ،‬وأسباب‬ ‫ِّ‬ ‫فه َّم ُة‬ ‫ِ‬
‫قوهتا‪ ،‬فهو يعمل عىل هذا‪ ،‬ثم يرت َّقى منه إىل طلب حم َّب ِة حبيبِه له‪ ،‬فيعمل عىل‬
‫ندر ُج يف هذا‬ ‫يفار ُقه ألب َّت َة‪ ،‬بل َي ِ‬
‫الطلب األول‪ ،‬وال ِ‬ ‫َ‬ ‫حصول ذلك‪ ،‬وال يعدم‬
‫«كنت‬
‫ُ‬ ‫حيصل له منزل ُة‪:‬‬ ‫الطلب الثاين‪ ،‬فتتع َّل ُق همَِّ ُته باأل ْمرين مجي ًعا؛ فإ َّنه إ َّنام ُ‬ ‫ِ‬
‫ِ‬
‫األمر الثاين‪ ،‬وهو َكو ُنه‬ ‫سم ُع به‪ ،‬و َبصرَ َ ه ا َّلذي ُيبصرِ ُ به» هبذا‬ ‫َس ْم َعه ا َّلذي َي َ‬
‫كنت َس ْم َعه و َبصرَ َ ه‪ »...‬إلخ‪،‬‬ ‫أح َب ْب ُته ُ‬‫حمبو ًبا حلبيبه‪ ،‬كام قال يف احلديث‪« :‬فإذا ْ‬
‫تقر ُب إىل ر ِّبه؛ ِحف ًظا ملح َّبتِه له‪ ،‬واستدعا ًء ملح َّب ِة ر ِّبه له‪.‬‬‫فهو َي َّ‬
‫ب إليه؛ فقل ُبه‪:‬‬ ‫التقر ِ‬ ‫بأنواع‬ ‫له‬ ‫ه‬‫ِ‬ ‫ب‬ ‫حبي‬ ‫اجل ِّد يف طلب حمب ِ‬
‫ة‬ ‫ِ‬ ‫ئزر‬ ‫م‬‫يش ُّد ِ‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫فحينئذ‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬

‫‪268‬‬
‫الحيـــــــاة‬

‫ِ‬
‫وتالوة كال ِم‬ ‫للذ ِ‬
‫كر‬ ‫واخلوف والرجاء‪ ،‬ولسا ُنه‪ِّ :‬‬ ‫ِ‬ ‫للمحبة واإلنابة والتو ُّك ِل‪،‬‬
‫ب ِمن حبيبه‪.‬‬
‫قر ِ‬ ‫وجوارحه‪ :‬للطاعات‪ ،‬فهو ال َيفترُ ُ ِ‬
‫عن ال َّت ُّ‬ ‫ُ‬ ‫حبيبه‪،‬‬
‫ِ‬
‫الس ُري ا ُمل ْفيض إىل هذه الغاية التي ال ُتنال إلاَّ به‪ ،‬وال ُي َ‬
‫وص ُل إليها‬ ‫وهذا هو َّ‬
‫جتتمع له يف سريه مجيع متفر ِ‬
‫قات‬ ‫الباب وهذه الطريق‪ ،‬وحينئذ ِ‬ ‫ِ‬ ‫هذا‬ ‫ن‬‫م‬‫إلاَّ ِ‬
‫ُ ِّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫في اخلواطر‪ ،‬وختلية الباطن‪.‬‬ ‫السلوك‪ :‬من احلضور‪ ،‬واهل ِ‬
‫يبة‪ ،‬واملراقبة‪ ،‬و َن ِ‬‫َ‬ ‫ُّ‬
‫قربات باألعامل الظاهرة‪ ،‬وهي ظاهر‬ ‫رش ُع اً‬
‫أوَّل يف ال َّت ُّ‬ ‫املحب َي َ‬
‫َّ‬ ‫فإن‬
‫التقرب‪ ،‬ثم يرت َّقى من ذلك إىل حال التقرب‪ ،‬وهو االنجذاب إىل حبيبه‬ ‫ُّ‬
‫وعقله وبدنه‪ ،‬ثم يرت َّقى من ذلك إىل مقام اإلحسان‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫بك ِّل َّيته؛ ُبروحه وقلبه‪،‬‬ ‫ُ‬
‫فيتقر ُب إليه حينئذ بأعامل القلوب؛ من املحبة واإلنابة‪،‬‬ ‫عب ُد ا َ‬
‫هلل كأنَّه يراه‪،‬‬ ‫َفي ُ‬
‫َّ‬
‫ِ‬ ‫والتعظيم واإلجالل واخلشية‪ ،‬فينبعث حينئذ من باطنه ا ُ‬
‫الروح‪،‬‬‫ود َبب ْذل ُّ‬
‫جل ُ‬ ‫ِ‬
‫وأنفاسه وإرادتِه‪،‬‬
‫ِ‬ ‫وحه ون ْف ِسه‪،‬‬
‫جود بر ِ‬ ‫ٍ‬
‫حمبة حبيبِه بال تك ُّلف‪َ ،‬في ُ ُ‬
‫ود يف ِ‬
‫َّ‬ ‫جل ُ‬ ‫وا ُ‬
‫وأعاملِه حلبيبه اً‬
‫حال ال تك ُّل ًفا‪.‬‬

‫ورسه وباطنه‪ ،‬وإن مل يجَ ِ ْده‬ ‫ب‬ ‫التقر‬ ‫بحال‬ ‫ر‬ ‫املحب ذلك‪ ،‬فقد ِ‬
‫ظف‬ ‫فإذا وجد ِ‬
‫ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬
‫ف التقرب‬ ‫وظاهره فقط‪ ،‬ف ْلي ُدم عىل ذلك‪ ،‬وليتك َّل ِ‬
‫ِ‬ ‫يتقرب بلسانه وبدنه‬
‫َ‬ ‫فهو َّ‬
‫التقرب‪.‬‬
‫باألذكار واألعامل عىل الدوام؛ فعساه أن حيظى بحال ُّ‬
‫أيضا‪ ،‬وهو يشء ال ُيعبرَّ عنه بأحسن‬ ‫آخ ُر ً‬ ‫أمر َ‬
‫ب الباطن ٌ‬ ‫التقر ِ‬
‫ووراء هذا ُّ‬
‫أقرب اخللق إىل اهلل ﷺ عن هذا املعنى؛ حيث يقول حاك ًيا عن ربه‬ ‫ِ‬ ‫من عبارة‬
‫قر َب ِمنِّي ِذرا ًعا‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫ن‬ ‫وم‬ ‫ا‪،‬‬‫ع‬ ‫را‬ ‫ت منه ِ‬
‫ذ‬ ‫ُ‬ ‫ب‬ ‫قر‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫ا‬ ‫تبارك وتعاىل‪« :‬من َتقرب ِمنِّي ِ‬
‫ش‬
‫َّ‬ ‫ُ ً َ‬ ‫برْ ً َّ ْ‬ ‫َّ َ‬ ‫َ‬

‫‪269‬‬
‫ومن أتاين َي ْميش أ َت ْي ُته َه ْر َول ًة»(((‪.‬‬
‫ت من ُه با ًعا‪َ ،‬‬
‫قر ْب ُ‬
‫َت َّ‬
‫فيجد هذا املحب يف باطنه ذوق معنى هذا احلديث ذو ًقا حقيق ًّيا‪.‬‬
‫فذكر من مراتب القرب ثالثة‪ ،‬ون َّبه هبا عىل ما دوهنا وما فوقها؛ فذكر‬
‫تقرب العبد إليه بالشرب‪ ،‬وتقربه سبحانه إىل العبد ذرا ًعا‪ ،‬فإذا ذاق العبد‬
‫حقيقة هذا التقرب انتقل منه إىل تقرب الذراع‪ ،‬فيجد ذوق تقرب الرب‬
‫إليه با ًعا‪.‬‬
‫امليش حينئذ إىل ربه‪ ،‬فيذوق‬ ‫َ‬ ‫فإذا ذاق حالو َة هذا ال ُقرب الثاين‪ :‬أرسع‬
‫رو َل‬
‫حالو َة إتيانه إليه َه ْرول ًة‪ ،‬وهاهنا منتهى احلديث‪ ،‬من ِّب ًها عىل أنه إذا َه َ‬
‫ولة العبد إليه؛ فإما أن يكون قد أمسك‬ ‫عبده إليه كان ُقرب حبيبه منه فوق هر ِ‬ ‫ُ‬
‫َْ‬ ‫ُ‬
‫شأن هذا اجلزاء‪ ،‬وأنه يدخل يف اجلزاء الذي مل تسمع به ُأ ُذن‪،‬‬ ‫لع َظ ِم ِ‬ ‫عن ذلك ِ‬
‫ومل خيطر عىل قلب برش‪ ،‬أو إحال ًة له عىل املراتب املتقدمة‪ ،‬فكأنه قيل‪ِ :‬‬
‫وق ْس‬
‫بأكثر منه‪،‬‬
‫يتقر ُب إليك َ‬ ‫بذ ُل منك ِّ‬
‫متقر ًبا إىل ربك‪َّ ،‬‬ ‫قد ِر ما َت ُ‬‫عىل هذا‪ ،‬فعىل ْ‬
‫تقرب إىل حبيبه‬ ‫التقرب املذكور يف مراتبه‪ ،‬أي‪َ :‬من َّ‬ ‫فالز ُم هذا ُّ‬ ‫وعىل هذا ِ‬
‫الر ُّب منه سبحانه بن ْف ِسه‬ ‫ِ‬
‫ُبروحه ومجيع ُقواه‪ ،‬وإرادته وأقواله وأعامله؛ َّ‬
‫تقر َب َّ‬
‫ب ع ْب ِده إليه‪.‬‬ ‫تقر ِ‬
‫يف مقابلة ُّ‬
‫وليس القرب يف هذه املراتب ك ِّلها ُق ْر َب مسافة حسية وال مماسة‪ ،‬بل هو‬
‫قرب حقيقة‪ ،‬والرب تعاىل فوق سامواته عىل عرشه‪ ،‬والعبد يف األرض‪.‬‬
‫التقرب ثان ًيا‪ ،‬ثم حال التقرب‬ ‫ثم‬ ‫‪،‬‬ ‫اً‬
‫أول‬ ‫ِ‬
‫ب‬ ‫التقر‬ ‫د‬
‫ُ‬ ‫قص‬ ‫هو‬ ‫ِ‬
‫األمر‬ ‫هذا‬ ‫الك‬ ‫ِ‬
‫وم‬
‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫ْ‬

‫((( أخرجه البخاري (‪ ،)7405‬ومسلم (‪.)2675‬‬

‫‪270‬‬
‫الحيـــــــاة‬

‫ثال ًثا‪ ،‬وهو االنبعاث بالكلية إىل احلبيب‪.‬‬


‫بمراده عن هواك‪ ،‬وبام يحُ ُّبه عن ح ِّظك‪،‬‬ ‫وحقيقة هذا االنبعاث‪ْ :‬‬
‫أن َتفنَى ُ‬
‫بل يصري ذلك هو جمموع حظك ومرادك‪.‬‬
‫وز َي عىل ذلك‬ ‫تقرب إىل حبيبه بيشء من األشياء ُج ِ‬
‫عر ْف َت أن َمن َّ‬ ‫وقد َ‬
‫وعرفت أن أعىل أنواع التقرب تقرب العبد بجملته‬ ‫رب هو أضعافه‪َ ،‬‬ ‫ب ُق ٍ‬
‫تقر َب ب ُك ِّله‪ ،‬ومل‬
‫فمن فعل ذلك فقد َّ‬
‫‪-‬بظاهره وباطنه‪ ،‬وبوجوده‪ -‬إىل حبيبه‪َ ،‬‬
‫َت َبق منه بق َّي ٌة لغري حبيبه‪.‬‬
‫قرب به‪،‬‬ ‫املتقرب إليه باألعامل ُيعطى أضعاف أضعاف ما َت َّ‬ ‫ِّ‬ ‫وإذا كان‬
‫تقرب إليه ُبروحه‪ ،‬ومجي ِع إرادته وهمَِّ تِه‪ ،‬وأقواله وأعاملِه؟‬ ‫بمن َّ‬
‫فام الظ ُّن َ‬
‫أه ٌل أن يجُ ا َد عليه‪ ،‬بأن يكون ر ُّبه‬
‫وعىل هذا فكام جا َد حلبيبه بنفسه‪ ،‬فإنه ْ‬
‫وضا عن كل يشء‪ ،‬جزا ًء ِوفا ًقا؛ فإن اجلزاء من‬ ‫سبحانه هو ح َّظه ونصيبه‪ِ ،‬ع ً‬
‫جنس العمل‪ ،‬وشواهد هذا كثرية‪.‬‬
‫﴿ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ‬ ‫منها‪ :‬قوله تعاىل‪:‬‬
‫ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ﴾ [الطالق‪ ،]3 - 2 :‬ففرق بني اجلزاءين كام ترى‪ ،‬وج َعل‬
‫جزا َء املتوكل عليه َكو َنه ُسبحانه َح ْس َبه‪.‬‬
‫«من َذك ََرين يف ن ْف ِسه َذك َْر ُته يف ن ْفيس‪،‬‬ ‫ومنها‪ :‬قو ُله يف احلديث القديس‪َ :‬‬
‫أل َذكَر ُته يف م ٍ‬
‫أل َخ ٍري من ُه»(((‪.‬‬ ‫ومن َذكَرين يف م ٍ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وخالصها من هذا‬
‫ُ‬ ‫املرتبة التاسعة‪ :‬حياة األرواح بعد مفارقتها ألبداهنا‪،‬‬

‫((( أخرجه البخاري (‪ ،)7405‬ومسلم (‪.)2675‬‬

‫‪271‬‬
‫وحا ورحيا ًنا وراحة‪ ،‬نسب ُة هذه ِ‬
‫الدار‬ ‫ور‬ ‫ء‬ ‫فضا‬ ‫ورائه‬ ‫من‬ ‫فإن‬ ‫ه‪،‬‬ ‫وض ِ‬
‫يق‬ ‫السجن ِ‬
‫ً َ ً‬ ‫ِّ‬
‫بطن األ ِّم إىل هذه الدار‪ ،‬أو أدنى من ذلك‪.‬‬ ‫إليه كنسبة ِ‬

‫ص‬ ‫املؤذي املنكِّد‪ ،‬الذي ُتن ِّغ ُ‬ ‫ِ‬


‫الرفيق ْ‬ ‫ويكفي يف طِيب هذه احلياة‪ :‬مفارق ُة‬
‫فضل عن خمالطته وعرشته‪ ،‬إىل الرفيق األعىل الذين‬ ‫رؤي ُته ومشاهد ُته احليا َة‪ ،‬اً‬
‫وح ُس َن أولئك‬ ‫‪،‬‬‫احلني‬ ‫والص‬ ‫والش ِ‬
‫هداء‬ ‫يقني ُّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫والص ِّد َ‬
‫ني ِّ‬ ‫أنعم اهللُ عليهم من النب ِّي َ‬
‫رفي ًقا‪ ،‬يف جوار الرب الرمحن الرحيم‪.‬‬
‫ولو مل يكن يف املوت من اخلري إال أنه باب الدخول إىل هذه احلياة‪ ،‬وجرس‬
‫يعرب منه إليها؛ لكفى به تحُ فة للمؤمن‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫إن من سافر إىل بلد العدل ِ‬
‫برَ َ‬ ‫ص‬
‫َ‬ ‫والرسور‪،‬‬ ‫واألمن‬ ‫صب‬ ‫واخل‬ ‫ول َع ْم ُر اهلل‪َ َّ ،‬‬
‫أحوج ما كان‬ ‫َ‬ ‫وفار َق املتخ ِّل َ‬
‫فني‬ ‫يف طريقه عىل كل مشقة وإعواز وجدب‪َ ،‬‬
‫إليهم‪ ،‬وأجاب املنادي إ ْذ نادى به‪َ :‬ح َّي عىل الفالح‪ ،‬و َب َذ َل ن ْف َسه يف الوصول‬
‫فح ِم َد عند‬
‫َ‬ ‫واح‪،‬‬ ‫والر‬
‫ِّ َّ‬ ‫و‬ ‫د‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫غ‬ ‫بال‬ ‫الس‬
‫َّيرْ َ‬ ‫وواصل‬ ‫والسامح‪،‬‬ ‫بالرضا‬ ‫ب‬
‫ِّ‬ ‫ح‬‫ب ْذ َل ا ُمل ِ‬
‫َ‬
‫املسافر السرُّ ى عند الصباح‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الوصول َمرساه‪ ،‬وإنام يحَ َم ُد‬
‫باح يحَ َم ُد ال َقو ُم السرُّ ى‬
‫الص ِ‬ ‫ند َّ‬ ‫ِع َ‬
‫امت يحَ َم ُد ال َقو ُم ال ُّتقـــى‬ ‫ويف ا َمل ِ‬

‫وما هذا‪-‬واهللِ‪ -‬بالصعب وال بالشديد‪ ،‬مع هذا العمر القصري‪ ،‬الذي هو‬
‫بالنسبة إىل تلك الدار كساعة من هنار ﴿ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ‬
‫ﯾ ﯿ﴾ [األحقاف‪﴿ ،]35 :‬ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ﴾‬
‫[يونس‪.]45 :‬‬

‫‪272‬‬
‫الحيـــــــاة‬

‫ِ‬
‫وذهاب الدنيا‬ ‫املرتبة العارشة‪ :‬احلياة الدائم ُة الباقية بعد َط ِّي هذا العالمَ ‪،‬‬
‫املشمرون‪ ،‬وتسابق‬ ‫شمر إليها‬ ‫ِ‬
‫ِّ‬ ‫وأهلها يف دار احليوان‪ ،‬وهي احلياة التي َّ‬
‫إليها املتسابقون‪ ،‬وتنافس فيها املتنافسون‪ ،‬وهي التي أجر ْينا الكالم إليها‪،‬‬
‫ونادت الكتب الساموية ورسل اهلل مجيعهم عليها‪ ،‬وهي التي يقول من فاته‬
‫االستعداد هلا﴿ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ‬
‫ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ‬
‫ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﴾ [الفجر‪ ،]26 - 21 :‬وهي التي قال اهلل‬
‫فيها‪ ﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ‬
‫ﭡ﴾ [العنكبوت‪.]64 :‬‬
‫ف السَّيرْ ِ‬ ‫واحلياة املتقدمة كالنوم بالنِّسبة إليها‪ ،‬وكل ما تقدم‪ِ -‬من وص ِ‬
‫ْ‬
‫ِ‬
‫والباطنة‪ -‬فوسيل ٌة إىل هذه‬ ‫ومنازلِه‪ ،‬وأحوال السائرين‪ ،‬وعبوديتِ ِهم ال َّظ ِ‬
‫اهرة‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫اآلخ ِ‬
‫رة‬ ‫الدنيا يف ِ‬‫احلياة‪ ،‬وإنام احلياة الدنيا بالنسبة إليها كام قال النبي ﷺ‪« :‬ما ُّ‬
‫أحدكُم إص َب َع ُه يف ال َي ِّم‪ ،‬ف ْل َين ُظ ْر بِ َم َت ِ‬
‫رج ُع؟»(((‪.‬‬ ‫دخ ُل ُ‬ ‫إلاَّ كام ي ِ‬
‫ُ‬
‫ست اآلخرة‪ ،‬فكانت الدنيا ن َف ًسا من أنفاسها‪ ،‬فأصاب أهل‬ ‫وكام قيل‪ :‬تن َّف ِ‬
‫فهم عىل هذا النفس يعملون‪ ،‬وأصاب أهل الشقاوة‬ ‫السعادة نفس نعيمها‪ُ ،‬‬
‫فهم عىل ذلك النفس يعملون‪.‬‬ ‫نفس عذاهبا‪ُ ،‬‬
‫وإذا كانت حيا ُة أهل اإليامن والعمل الصالح يف هذه الدار حيا ًة ط ِّيب ًة‪ ،‬فام‬
‫وض ِيقها؟ فام ال َّظ ُّن‬
‫الظن بحياهتم يف الربزخ‪ ،‬وقد خت َّلصوا ِمن سجن الدنيا ِ‬
‫ُّ‬

‫((( أخرجه مسلم (‪.)2858‬‬

‫‪273‬‬
‫بحياهتم يف دار النعيم ا ُملقي ِم الذي ال يزول‪ُ ،‬‬
‫وهم َي َر ْو َن وج َه ربهِّ م تبارك‬
‫وتعاىل ُبكْر ًة و َع ِش ًّيا‪ ،‬ويسمعون ِخطا َبه؟‬
‫ِ‬
‫احلياة التي ال خطر‬ ‫س عن طلب هذه‬ ‫ف الن ْف ِ‬ ‫فإن قلت‪ :‬ما سبب خت ُّل ِ‬
‫ُ‬
‫هلا‪ ،‬وزهدها فيها؟ وما سبب رغبتِها يف احلياة الفانية املضمحلة‪ ،‬التي هي‬
‫تكذيب بتلك احلياة؟ أ ْم‬
‫ٌ‬ ‫تصو ِرها وشعورها؟ أم‬ ‫كاخليال واملنام؟ أفسا ٌد يف ُّ‬
‫بالعيان عىل الغائب‬‫آلفة يف العقل‪ ،‬وعمى هناك؟ أم إيثار للحارض املشهود ِ‬ ‫ٍ‬
‫ْ ٌ‬ ‫ً‬
‫املعلوم باإليامن؟‬
‫أمور ُمر َّك ٍبة من ذلك ك ِّله‪ ،‬وأقوى األسباب يف‬ ‫ٍ‬ ‫قيل‪ :‬بل ذلك ملجموع‬
‫وح األعامل‪ ،‬وهو الباعث عليها‪،‬‬ ‫ف اإليامن؛ فإن اإليامن هو ُر ُ‬ ‫ذلك‪ :‬ض ْع ُ‬
‫ُ‬
‫يكون أ ْم ُره‬ ‫قو ِة اإليامن‬ ‫بأحسنِها‪ ،‬والناهي عن أقبحها‪ ،‬وعىل ْ‬
‫قد ِر َّ‬ ‫َ‬ ‫ر‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫واآلم‬
‫امر صاحبِه وانتهاؤه‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ونهَ ُيه لصاحبه‪ ،‬وائت ُ‬
‫السبب الثاين‪ُ :‬جثوم الغفلة عىل القلب؛ َّ‬
‫فإن الغفلة نوم القلب‪ ،‬وهلذا جتد‬
‫احل ِّس نِيا ًما يف الواقع‪ ،‬فتحسبهم أيقا ًظا وهم رقود‪.‬‬
‫كثريا من األيقاظ يف ِ‬
‫ً‬
‫أن الغفل َة هي نو ُم القلب عن ط َلب هذه احلياة‪ ،‬وهي ِحجاب‬ ‫واملقصود‪َّ :‬‬
‫بالذكر‪ ،‬وإال تكاثف حتى يصري حجاب‬ ‫ف هذا احلجاب ِّ‬ ‫فإن ُك ِش َ‬
‫عليه‪ْ ،‬‬
‫ٍ‬
‫واشتغال بام ال ُيفيد‪ ،‬فإن بادر إىل كشفه‪ ،‬وإال تكاثف حتى‬ ‫بطالة ولعب‪،‬‬
‫ٍ‬
‫وذنوب صغار ُتبعده عن اهلل‪ ،‬فإن بادر إىل كشفه‪ ،‬وإال‬ ‫ٍ‬
‫معاص‬ ‫يصري حجاب‬
‫وجب م ْقت الرب تعاىل وغضبه ولعنته‪،‬‬ ‫تكاثف حتى يصري حجاب كبائر ُت ِ‬
‫َ‬
‫ُ‬
‫العامل‬ ‫فإن بادر إىل كشفه‪ ،‬وإال تكاثف حتى صار حجاب بدع عملية ِّ‬
‫يعذب‬

‫‪274‬‬
‫الحيـــــــاة‬

‫فيها نفسه‪ ،‬وال تجُ ْ دي عليه شي ًئا‪ ،‬فإن بادر إىل كشفه‪ ،‬وإال تكاثف حتى صار‬
‫حجاب بدع قولية اعتقادية‪ ،‬تتضمن الكذب عىل اهلل ورسوله‪ ،‬والتكذيب‬
‫باحلق الذي جاء به الرسول‪.‬‬
‫يقدح‬ ‫‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫وتكذيب‬ ‫ٍّ‬
‫شك‬ ‫حجاب‬ ‫صار‬ ‫حتى‬ ‫تكاثف‬ ‫لاَّ‬ ‫إ‬‫و‬ ‫ه‪،‬‬ ‫فإن بادر إىل ِ‬
‫كشف‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ور ُس ِله‪،‬‬ ‫يف أصول اإليامن اخلمسة‪ ،‬وهي‪ :‬اإليامن باهلل‪ ،‬ومالئكته‪ ،‬و ُك ُتبِه‪ُ ،‬‬
‫فل ِغ َلظ حجابه وكثافته وظلمته وسواده ال َيرى حقائق اإليامن‪،‬‬ ‫ولقائه‪ِ ،‬‬
‫ويتمكن منه الشيطان َي ِعده و ُيمنِّيه‪ ،‬والنفس األمارة بالسوء تهَ ْوى وتشتهي‪،‬‬
‫وسلطان الطبع قد َظ ِف َر بسلطان اإليامن‪ ،‬فأسرَ َ ه وسجنه إن مل هُ ْي ِلكْه‪ ،‬وتولىَّ‬
‫تدبري اململكة‪ ،‬واستخدم جنود الشهوات‪ ،‬وأقطعها العوائد التي جرى عليها‬
‫العمل‪ ،‬وأغلق باب اليقظة‪ ،‬وأقام عليه َّبواب الغفلة‪ ،‬وقال‪ :‬إياك أن ُن ْؤ َتى‬
‫عيل إال‬ ‫يدخل‬ ‫ا‬ ‫أحد‬
‫ً‬ ‫ِّن‬
‫ك‬ ‫مت‬ ‫أن‬ ‫إياك‬ ‫وقال‪:‬‬ ‫اهلوى‪،‬‬ ‫من‬ ‫ا‬ ‫ب‬ ‫حاج‬ ‫ذ‬ ‫تخَّ‬‫ا‬ ‫و‬ ‫ك‪،‬‬ ‫من ِقب ِ‬
‫ل‬
‫َّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫البواب‪ ،‬فيا َّبواب الغفلة‪ ،‬ويا‬ ‫معك‪ ،‬فأ ْم ُر هذه اململكة قد صار إليك‪ ،‬وإىل َّ‬
‫كل منكام ثغره‪ ،‬فإن أخليتام فسد أمر مملكتنا‪ ،‬وعادت‬ ‫حاجب اهلوى لِ َي ْلزم ٌّ‬
‫الدولة لغرينا‪ ،‬وسامنا سلطان اإليامن سوم اخلزي واهلوان‪ ،‬وال نفرح هبذه‬
‫أبدا‪.‬‬
‫املدينة ً‬
‫العساكر‪ ،‬مع ِر َّقة اإليامن‪،‬‬
‫ُ‬ ‫اجتمعت عىل القلب هذه‬‫ْ‬ ‫فال إله إال اهللُ! إذا‬
‫ِ‬
‫واالنخراط يف سلك أبناء‬ ‫وق َّلة األعوان‪ ،‬واإلعراض عن ِذكر الرمحن‪،‬‬
‫العاجل احلارض عىل الغائب‪،‬‬ ‫َ‬ ‫فس ِد لإلنسان‪ :‬آ َث َر‬
‫وطول األمل ا ُمل ِ‬
‫ِ‬ ‫الزمان‪،‬‬
‫املوعود به بعد َط ِّي هذه األكوان‪ ،‬فاهلل املستعان‪ ،‬وعليه ال ُّتكالن‪.‬‬

‫‪275‬‬
‫منزلـــــة املعرفـــــة‬

‫﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ‬ ‫قال [اهلروي] «قال اهللُ تعاىل‪:‬‬


‫ني ال ِ‬
‫هو»‪.‬‬
‫َ‬ ‫كام‬ ‫ء‬ ‫عرف ُة‪ :‬إحاط ٌة ب َع ِ شيَّ‬
‫ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ﴾ [املائدة‪ .]83 :‬ا َمل ِ‬

‫آثار المعرفة وشواهدها‪:‬‬


‫أعرف كان له أخوف»‪ُّ ،‬‬
‫ويدل عىل‬ ‫َ‬ ‫أمحد بن عاصم ‪« :‬من كان باهلل‬ ‫قال ُ‬
‫ُ‬
‫وقول النبي ﷺ‪:‬‬ ‫هذا قوله تعاىل‪﴿ :‬ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ﴾ [فاطر‪،]28 :‬‬
‫أعر ُف ُكم باهللِ‪َ ،‬‬
‫وأش ُّدكُم ل ُه َخ ْشي ًة»(((‪.‬‬ ‫«أنا َ‬
‫ومن عالمات العارف‪ :‬أنه ال يطالِب وال خياصم‪ ،‬وال يعاتِب‪ ،‬وال يرى له‬
‫فضل‪ ،‬وال يرى له عىل أحد ح ًّقا‪.‬‬ ‫أحد اً‬ ‫عىل ٍ‬
‫ف عىل فائت‪ ،‬وال يفرح ٍ‬
‫بآت؛ أل َّنه ينظر إىل‬ ‫َ ُ‬ ‫ومن عالماته‪ :‬أنه ال َ‬
‫يأس ُ‬
‫ِ‬
‫األشياء بعني الفناء والزوال‪ ،‬وأهنا يف احلقيقة كال ِّظالل واخليال‪.‬‬
‫وطره من‬
‫قض َ‬ ‫العارف من الدنيا ومل َي ِ‬ ‫ُ‬ ‫وقال حييى بن ُمعاذ ‪« :‬يخَ ُر ُج‬
‫شيئني‪ :‬بكاؤه عىل نفسه‪ ،‬وثناؤه عىل ر ِّبه»‪.‬‬
‫يدل عىل معرفته بنفسه وعيوبِه وآفاته‪ ،‬وعىل‬ ‫أحس ِن الكالم؛ فإنه ُّ‬ ‫ن‬ ‫وهذا ِ‬
‫م‬
‫َ‬
‫معرفته بربه وكاملِه وجالله؛ فهو شديد اإلزراء عىل نفسه‪ ،‬لهَ ِ ٌج بالثناء عىل ربه‪.‬‬

‫((( أخرجه البخاري (‪ ،)6101‬ومسلم (‪.)2356‬‬

‫‪276‬‬
‫المعرفــــــــة‬

‫‪« :‬املعرفة عىل ثالثة أركان‪ :‬اهليبة‪ ،‬واحلياء‪ ،‬واألُنس»‪.‬‬ ‫قال اب ُن عطاء‬
‫ٌ‬
‫مشغول‬ ‫أحس ِن الكالم وأخصرَ ِ ه؛ فهو‬ ‫ِ‬
‫وقيل‪( :‬العارف اب ُن وقته)‪ ،‬وهذا من َ‬
‫فه ُّمه‬
‫بعد يف الوجود‪َ ،‬‬‫بوظيفة وقتِه عماَّ مىض وصار يف العدم‪ ،‬وعماَّ مل يدخل ُ‬
‫ِعامر ُة وقتِه الذي هو ما َّد ُة حياته الباقية‪.‬‬
‫ومن عالماته‪ :‬أنه مستأنِ ٌس بر ِّبه‪ ،‬مستوحش ممَّن يقطعه عنه‪ ،‬وهلذا قيل‪:‬‬
‫العارف َمن أنِس باهلل فأوحشه من اخل ْلق‪ ،‬وافتقر إىل اهلل فأغناه عنهم‪ ،‬و َذ َّل‬
‫وتواض َع هلل فرفعه بينهم‪ ،‬واستغنى باهلل فأحوجهم إليه‪.‬‬ ‫َ‬ ‫فأعزه فيهم‪،‬‬
‫هلل َّ‬
‫وأنفاسه تسبيح‪ ،‬ونو ُم العارف‬ ‫ُ‬ ‫وقال بعض السلف‪« :‬نوم العارف يقظ ٌة‪،‬‬
‫أفضل من صالة الغافل»‪.‬‬‫ُ‬

‫ست‪ :‬من الشك إىل اليقني‪،‬‬ ‫وقيل‪ :‬جمالسة العارف تدعوك ِمن ِس ٍّت إىل ٍّ‬
‫الذكر‪ ،‬ومن الرغبة يف الدنيا إىل‬ ‫ومن الرياء إىل اإلخالص‪ ،‬ومن الغفلة إىل ِّ‬
‫الرغبة يف اآلخرة‪ ،‬ومن ِ‬
‫الكبرْ إىل التواضع‪ ،‬ومن سوء ال َّط ِو َّية إىل النصيحة‪.‬‬
‫يستق ُّر لعبد قد ٌم يف املعرفة ‪-‬بل وال يف اإليامن‪ -‬حتى ْيؤ ِم َن بصفات‬
‫[و] ال ِ‬
‫ِ‬
‫بالصفات‬ ‫حد اجلهل بربه؛ فاإليامن‬ ‫ويعر َفها معرف ًة تخُ ِر ُجه عن ِّ‬
‫ِ‬ ‫الرب ‪،‬‬
‫ِّ‬
‫ومعرف ُتها‪ :‬هو أساس اإلسالم‪ ،‬وقاعد ُة اإليامن‪ ،‬وثمرة شجرة اإلحسان‪،‬‬
‫فضل‬ ‫ِ‬
‫واإليامن واإلحسان‪ ،‬اً‬ ‫فمن َج َح َد الصفات‪ :‬فقد هدم أساس اإلسالم‬ ‫َ‬
‫عن أن يكون من أهل العرفان‪.‬‬
‫‪-‬صلوات اهلل وسال ُمه عليهم أمجعني‪-‬‬
‫ُ‬ ‫والر ُس ُل ِمن أوَّلهِ م إىل خامتهم‬
‫ُّ‬

‫‪277‬‬
‫عوي َن بعد‬ ‫د‬‫ْ‬ ‫َ‬
‫مل‬‫ا‬ ‫حال‬ ‫ِ‬
‫وبيان‬ ‫إليه‪،‬‬ ‫املوصل‬ ‫الطريق‬ ‫ِ‬
‫وبيان‬ ‫اهلل‪،‬‬ ‫إىل‬ ‫بالدعوة‬ ‫لوا‬ ‫ُأر ِ‬
‫س‬
‫ِّ‬ ‫ْ‬
‫كل رسول‪:‬‬ ‫كل ِم َّل ٍة عىل لسان ِّ‬
‫الثالث رضورية يف ِّ‬
‫ُ‬ ‫وصوهلم إليه‪ ،‬فهذه القواعد‬
‫الر َّب املد ُع َّو إليه بأسامئه وصفاتِه وأفعاله تعري ًفا‬ ‫عرفوا َّ‬ ‫[القاعدة األوىل]‪ّ :‬‬
‫فوق سامواته‬ ‫َّل‪ ،‬حتى كأن العباد يشاهدونه سبحانه‪ ،‬وينظرون إليه َ‬ ‫ُمفص اً‬
‫أصوات خ ْل ِقه‪،‬‬
‫َ‬ ‫أمر مملكتِه‪ ،‬ويسمع‬ ‫عىل عرشه‪ ،‬يك ِّلم مالئكته‪ ،‬ويد ِّب ُر َ‬
‫ظواهرهم‪ ،‬يأمر‬ ‫شاهد‬ ‫ي‬ ‫ُ‬ ‫كام‬ ‫َهم‬ ‫ن‬ ‫بواط‬ ‫ويشاهد‬ ‫م‪،‬‬ ‫ويرى أفعالهَ م وحركاتهِ‬
‫َ‬
‫سخ ُط‪ ،‬ويضحك ِمن ُقنوطهم و ُق ْرب‬ ‫ب و َي َ‬ ‫ِ‬
‫وينهى‪ ،‬ويرىض ويغضب‪ ،‬ويحُ ُّ‬
‫ني حمتاجهم‪ ،‬وجيرب‬ ‫غريه‪ ،‬وجييب دعو َة ُم ْض َط ِّرهم‪ ،‬و ُيغيث َملهو َفهم‪ ،‬و ُي ِع ُ‬ ‫ِ‬
‫كسريهم‪ ،‬و ُيغني فقريهم‪ ،‬ويميت ويحُ ْ يي‪ ،‬و ُيعطي و َيمنع‪ ،‬يؤيت ا ُمللك من‬
‫اخلري‪،‬‬ ‫بيده‬ ‫يشاء‪،‬‬ ‫من‬ ‫ل‬ ‫ُّ‬ ‫يشاء‪ ،‬وي ِنزع ا ُمللك ممن يشاء‪ ،‬وي ِع ُّز من يشاء‪ ،‬وي ِ‬
‫ذ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬
‫ُّ‬
‫ويفك‬ ‫فرج كر ًبا‪،‬‬‫كل يو ٍم هو يف شأن؛ يغفر ذ ْن ًبا‪ ،‬و ُي ِّ‬ ‫وهو عىل كل يشء قدير‪َّ ،‬‬
‫قصم ظا ًملا‪ ،‬ويرحم مسكينًا‪ ،‬و ُيغيث ملهو ًفا‪،‬‬ ‫عانيا‪ ،‬وينرص مظلوما‪ ،‬وي ِ‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫تقديمه‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ويقدم ما يشاء‬ ‫ِّ‬ ‫و َيسوق األقدار إىل مواقيتها‪ ،‬ويجُ رهيا عىل نظامها‪،‬‬
‫ِ‬
‫تدبري املاملك ك ِّلها‬ ‫األمور ك ِّلها بيديه‪ ،‬ومدار‬ ‫ِ‬ ‫ويؤخر ما يشاء تأخريه؛ ِ‬
‫فأز َّمة‬ ‫ِّ‬
‫وزبدة الرسالة‪.‬‬
‫عليه‪ ،‬وهذا مقصود الدعوة‪ُ ،‬‬
‫القاعدة الثانية‪ :‬تعريفهم بالطريق املوصل إليه‪ ،‬وهو رصاطه املستقيم‪،‬‬
‫واجتناب نهَ ْ ِيه‪ ،‬واإليامن‬ ‫ه‪،‬‬‫ر‬‫ِ‬ ‫م‬ ‫أ‬ ‫ثال‬‫وأتباعهم؛ وهو امتِ‬
‫ِ‬ ‫الذي نصبه ُلر ُس ِله‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫بو ْعده ووعيده‪.‬‬
‫احلال بعد الوصول؛ وهو ما تضمنه اليوم ِ‬
‫اآلخ ُر‬ ‫ِ‬ ‫القاعدة الثالثة‪ :‬تعريف‬
‫ُ‬ ‫َّ‬

‫‪278‬‬
‫المعرفــــــــة‬

‫حل ِ‬
‫وض‪ ،‬وامليزان‪ ،‬والرصاط‪.‬‬ ‫من اجلنة والنار‪ ،‬وما قبل ذلك من احلساب‪ ،‬وا َ‬
‫وشهوده‬
‫ُ‬ ‫وإثبات حقائقها‪ ،‬وتع ُّل ُق القلب هبا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫فاإليامن بالصفات ومعرف ُتها‪،‬‬
‫ووس ُطه وغايته‪ ،‬وهو روح السالكني‪ ،‬وحادهيم إىل‬ ‫ِ‬
‫الطريق َ‬ ‫هلا‪ :‬هو مبدأ‬
‫ثري همِ َ ِمهم إذا قصرَّ وا‪.‬‬
‫وم ُ‬‫عزماتهِ م إذا فترَ وا‪ُ ،‬‬‫وحمرك َ‬
‫الوصول‪ِّ ،‬‬

‫‪279‬‬
‫منزلـــــــة التوحـــــيد‬

‫قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ﴾ [آل عمران‪.]18 :‬‬


‫وأو ُل مقام يقوم فيه‬ ‫الطريق‪،‬‬ ‫ِ‬
‫منازل‬ ‫ل‬ ‫ُ‬ ‫وأو‬ ‫سل‪،‬‬ ‫الر‬ ‫ِ‬
‫دعوة‬ ‫التوحيد َّأو ُل‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫السالك إىل اهلل تعاىل‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ‬ ‫ُ‬
‫ﭽ ﭾ﴾ [النحل‪.]36 :‬‬
‫معاذ بن‬‫ِ‬ ‫النبي ﷺ لرسوله‬ ‫قال‬ ‫وهلذا‬ ‫؛‬ ‫ِ‬
‫سل‬ ‫الر‬ ‫ِ‬
‫دعوة‬ ‫فتاح‬ ‫م‬‫فالتوحيد‪ِ :‬‬
‫ُّ‬ ‫ُّ‬
‫أه َل كِ ٍ‬
‫تاب‪ ،‬ف ْل َي ُك ْن َّأو َل ما‬ ‫وما ْ‬ ‫ك َت ْأيت َق ً‬ ‫جبل وقد بع َثه إىل اليمن‪« :‬إ َّن َ‬ ‫ٍ‬
‫حمم ًدا‬ ‫وأن‬
‫َّ‬ ‫ُ‪،‬‬ ‫هلل‬‫ا‬ ‫لاَّ‬‫إ‬ ‫ه‬ ‫إل‬ ‫ال‬ ‫أن‬
‫ْ‬ ‫دوا‬ ‫ِ‬
‫ه‬ ‫َ‬
‫ش‬ ‫فإذا‬ ‫ه‪،‬‬ ‫د‬ ‫َ‬ ‫وح‬ ‫ِ‬ ‫اهلل‬ ‫ة‬
‫ُ‬ ‫باد‬ ‫َت ْدعوهم إليه‪ِ :‬‬
‫ع‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ُ‬
‫وات يف ال َيو ِم‬‫عليهم مَخْس ص َل ٍ‬ ‫ِ‬ ‫أن اهللَ قد َف َر َض‬ ‫رسول اهللِ‪ ،‬فأخبرِ ْ ُهم َّ‬ ‫ُ‬
‫َ َ‬
‫احلديث(((‪.‬‬‫َ‬ ‫يلة‪ »...‬وذكر‬ ‫وال َّل ِ‬

‫خيرج به من الدنيا‪ ،‬كام‬ ‫ما‬ ‫ر‬ ‫يدخل به يف اإلسالم‪ِ ،‬‬


‫وآخ‬ ‫ُ‬ ‫فالتوحيد‪َّ :‬أو ُل ما‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫آخر ك ِ‬
‫َالمه‪ :‬ال إل َه إلاَّ اهللُ؛ َد َخ َل َ‬
‫اجلنَّ َة»(((؛ فهو َّأو ُل‬ ‫قال النبي ﷺ‪« :‬من كان ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬
‫وآخر واجب‪ ،‬فالتوحيد أو ُل األمر ِ‬
‫وآخ ُره‪.‬‬ ‫واجب‪ِ ،‬‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫توحيد‬
‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫َوعان‪:‬‬ ‫دعت إليه ُر ُس ُل اهلل‪ ،‬ونزلت به ك ُت ُبه فن‬ ‫وأ َّما التوحيد الذي ْ‬
‫وتوحيد يف املطلب والقصد‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫يف املعرفة واإلثبات‪،‬‬

‫((( أخرجه البخاري (‪ ،)1496 ،1458‬ومسلم (‪.)19‬‬


‫((( أخرجه أمحد (‪ ،)22127 ،22034‬وصححه األلباين يف «صحيح اجلامع» (‪.)6479‬‬

‫‪280‬‬
‫التوحيــــــد‬

‫الرب تعاىل‪ ،‬وأسامئه‪ ،‬وصفاتِه‪ ،‬وأفعاله‪،‬‬ ‫ِّ‬


‫فاألول‪ :‬هو إثبات حقيقة ِ‬
‫ذات‬
‫وتكليمه َملن شاء ِمن عباده‪،‬‬
‫ِ‬ ‫فوق سامواته عىل عرشه‪ ،‬وتك ُّل ِمه بكتبه‪،‬‬ ‫وع ُل ِّوه َ‬
‫وقد ِره‪ ،‬وحكمه‪ ،‬وقد أفصح القرآن عن هذا النوع‬ ‫وإثبات عمو ِم قضائه‪َ ،‬‬
‫ُ‬
‫جد اإلفصاح‪.‬‬ ‫َّ‬
‫تضمنَ ْته سورة ﴿ﭑ ﭒ ﭓ﴾‪ ،‬وقوله‪﴿ :‬ﭪ‬ ‫ما‬ ‫ثل‬‫م‬‫النوع الثاين‪ِ :‬‬
‫َّ‬
‫ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ﴾ [آل عمران‪ ،]64 :‬وغالب سور‬
‫متضمنه لنو َع ِي التوحيد‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫كل سورة يف القرآن فهي‬ ‫القرآن‪ ،‬بل ُّ‬
‫متضمن ٌة للتوحيد‪ ،‬شاهدة به‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫كل آية يف القرآن فهي‬ ‫بل نقول قولاً كُل ًّيا‪َّ :‬‬
‫إن َّ‬
‫رب عن اهلل‪ ،‬وأسامئه وصفاتِه وأفعاله‪ ،‬فهو التوحيد‬ ‫داعي ٌة إليه؛ فإن القرآن‪ :‬إ َّما خ ٌ‬
‫كل ما ُي ْع َبد‬‫وحده ال رشيك له‪ ،‬وخ ْل ِع ِّ‬ ‫لمي اخلبرَ ُّي‪ ،‬وإ َّما دعوة إىل عبادته َ‬ ‫ِ‬
‫الع‬
‫ُّ‬
‫وهني‪ ،‬وإلزا ٌم بطاعته يف هنيه‬ ‫أمر ٌ‬ ‫بي‪ ،‬وإ َّما ٌ‬‫اإلرادي الط َل ُّ‬
‫ُّ‬ ‫ِمن دونه‪ ،‬فهو التوحيد‬
‫ِ‬
‫توحيده‬ ‫رب عن إكرامه ألهل‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫ومكمال ُته‪ ،‬وإ َّما خ ٌ‬
‫ِّ‬ ‫حقوق التوحيد‬ ‫وأمره‪ ،‬فهي‬
‫كر ُمهم به يف اآلخرة‪ ،‬فهو جزا ُء توحيده‪،‬‬ ‫وطاعته‪ ،‬وما ف َعل هبم يف الدنيا‪ ،‬وما ُي ِ‬
‫حيل هبم يف‬ ‫رب عن أهل الرشك‪ ،‬وما ُف ِع َل هبم يف الدنيا من النَّكال‪ ،‬وما ُّ‬ ‫وإ َّما خ ٌ‬
‫ال ُعقبى من العذاب‪ ،‬فهو جزا ُء َمن خرج عن ُحكم التوحيد‪.‬‬

‫‪281‬‬
‫اخلامتــــــــــة‬

‫﴿ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇﰈ﴾‬

‫ني عليه بام هو ْأه ُله‪ ،‬وبام أثنى به‬ ‫اآلية حامدي َن هلل‪ُ ،‬م ْثنِ َ‬
‫فنختم الكتاب هبذه ِ‬
‫َ‬
‫عىل ن ْفسه‪.‬‬
‫ب ر ُّبنا ويرىض‪ ،‬وكام‬ ‫محدا طيبا مبار ًكا فيه‪ ،‬كام يحُ ِ‬ ‫رب العالمَ َ‬
‫ُّ‬ ‫ني‪ً ً ،‬‬ ‫واحلمد هلل ِّ‬
‫كفور‪ ،‬وال ُم َو َّد ٍع‪ ،‬وال ُمس َتغنًى‬ ‫ٍ‬ ‫ْفي وال َم‬ ‫ك‬ ‫م‬ ‫ري‬ ‫َ‬
‫غ‬ ‫جالله‪،‬‬ ‫ز‬‫ِّ‬ ‫ينبغي لكر ِم وج ِهه ِ‬
‫وع‬
‫َ َ ٍّ‬ ‫َ ْ‬
‫عنه ر َّبنا‪.‬‬
‫كر نعمته‪ ،‬وأن يو ِّف َقنا ألداء ح ِّقه‪ ،‬وأن ُيعينَنا عىل ِذكره‬ ‫ونسأله أن يوز َعنا ُش َ‬
‫خالصا‬
‫ً‬ ‫الكتاب ويف ِ‬
‫غريه‬ ‫ِ‬ ‫سن عبادته‪ ،‬وأن جيعل ما َق َص ْدنا له يف هذا‬ ‫وح ِ‬
‫كره ُ‬ ‫وش ِ‬ ‫ُ‬
‫لوجهه الكريم‪ ،‬ونصيح ًة لعباده‪.‬‬
‫لني؛ ٍ‬
‫حممد‪،‬‬ ‫وبار َك عىل خاتم َ‬
‫املرس َ‬ ‫ني‪ ،‬وصىل اهلل وس َّل َم َ‬ ‫رب العالمَ َ‬ ‫واحلمد هلل ِّ‬
‫أمجعني‪.‬‬
‫َ‬ ‫وعىل آلِه‬

‫‪282‬‬
283
‫الفهــــــــــر�س‬

‫املقــدمة ‪5........................................................................‬‬
‫رب يســـــر ِ‬
‫وأعـــــ ْن ‪10......................................................‬‬ ‫ِّ َ ِّ‬
‫بيان اشتامل الفاحتة عىل أمهات املطالب‪12.........................................‬‬
‫وشفاء األبدان ‪15.....................‬‬‫الشفاءين ِشفاء القلوب‪ِ ،‬‬ ‫اشتامل الفاحتة عىل ِّ‬
‫الكالم عىل قوله ﴿ ﭢﭣﭤﭥ﴾ ‪18.................................‬‬
‫أفضل العبادات ‪20...............................................................‬‬
‫منازل ﴿ ﭢ ﭣ﴾ التي ي ِ‬
‫نتقل فيها القلب منزل ًة منزل ًة يف حال َسيرْ ِ ه إىل اهلل تعاىل ‪24.......‬‬ ‫َ‬
‫منزلة اليقظة‪26...................................................................‬‬
‫مــنزلة ِ‬
‫الفكــرة‪29...............................................................‬‬
‫منزلة البصرية ‪30.................................................................‬‬
‫منزلـــة املحاســـبة‪34...........................................................‬‬
‫منزلة التوبة‪38....................................................................‬‬
‫منزلة اإلنابة ‪88...................................................................‬‬
‫منزلـــ ُة التذكُّــر‪92..............................................................‬‬
‫منزلـة االعتصام‪104.............................................................‬‬
‫منزلــة الســامع‪106.............................................................‬‬
‫منزلـــة اخلـــوف ‪109..........................................................‬‬
‫منزلة اخلشوع ‪112...............................................................‬‬
‫منزلة اإلخبات ‪117..............................................................‬‬

‫‪284‬‬
‫ا لفهـــر س‬

‫منزلة الزهد ‪120.................................................................‬‬


‫منزلــة الـــورع‪123.............................................................‬‬
‫منزلة الرجــاء‪127...............................................................‬‬
‫منزلة املراقبة‪134.................................................................‬‬
‫منزلــة اإلخــالص‪136.........................................................‬‬
‫منزلة االستقامة ‪141.............................................................‬‬
‫منزلــة التوكُّــل ‪144............................................................‬‬
‫منزلــة الصــرب ‪153.............................................................‬‬
‫منزلــــة الرضــــا ‪161.........................................................‬‬
‫منزلــة الشــكر‪167.............................................................‬‬
‫منزلـــة احليـــاء‪169............................................................‬‬
‫منزلـــــة الصـــدق‪173........................................................‬‬
‫منزلــة اإليثــار‪178.............................................................‬‬
‫لـــق‪182.............................................................‬‬
‫منزلــة اخلُ ُ‬
‫سبل هتذيب األخالق‪186........................................................‬‬
‫منزلة التواضع‪196...............................................................‬‬
‫منزلة املروءة‪198.................................................................‬‬
‫منزلة األدب‪201.................................................................‬‬
‫منزلــة اليقــــني ‪205...........................................................‬‬
‫منزلة ِّ‬
‫الذكر‪208 .................................................................‬‬
‫منزلـــة العلــــم ‪212...........................................................‬‬

‫‪285‬‬
‫ا لفهـــر س‬

‫السكينة ‪215...............................................................‬‬ ‫منزلة َّ‬


‫َمن ِْز َل ُة ا َمل َح َّبة‪217 .................................................................‬‬
‫منزلـــــة الـــــذوق ‪226.......................................................‬‬
‫بني مهة البداية والفتوربعدها‪230.................................................‬‬
‫منزلـــة الصفــــاء ‪232.........................................................‬‬
‫منزلـــــة الســـــرور ‪238......................................................‬‬
‫منزلــــة الســــر ‪243..........................................................‬‬
‫منزلة الغربة ‪246.................................................................‬‬
‫منزلة املعاينة‪252.................................................................‬‬
‫منزلة احلياة‪260..................................................................‬‬
‫منزلة املعرفة ‪276 ................................................................‬‬
‫منزلة التوحيد ‪280...............................................................‬‬
‫اخلــامتــــــــة ‪282.............................................................‬‬

‫‪286‬‬

You might also like