Professional Documents
Culture Documents
Kotobati - الإكسير خلاصة أعمال القلوب من مدارج السالكين لابن القيم مجموعة من
Kotobati - الإكسير خلاصة أعمال القلوب من مدارج السالكين لابن القيم مجموعة من
1
3
المقدمــة
املقــدمة
احلمد هلل الذي أكرم عباده بالسلوك إليه ،وتفضل عليهم بمعرفة الطريق
والسري عليه ،ثم الصالة والسالم عىل إمام السالكني ،وخاتم املرسلني،
وعىل من تبعه من الصاحلني ،أما بعد:
فإن السائر إىل اهلل تعاىل مفتقر يف سريه إىل ما يصلح قلبه وي َز ِّكيه ،وي ِ
وق ُظه ُ َ ُ ُ ٌ
مشتغل حتى ينتهي أوان العمل، اً من غفلته و ُي َر ِّقيه ،وال يزال السائر بذلك
وحتل به ساعة األجل ،فيجد عند ذلك سع َيه ﴿ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ َّ
ﭴ ﭵ ﭶ﴾ [سورة الشعراء ،]89-88:فمن س َّلم قلبه من شوائبه هنا؛ نجاه اهلل
هناك ،ومن أمهله هنا؛ عاقبه اهلل هناك.
وإن من أعظم ما ُيعني عىل سالمة القلب وطهارتهَ :س َف َر القلب يف ُكتب َّ
الرقائق وإصالح النفوس ،تلك التي خ َّط ْتها أنامل سلف األمة ،بمداد
كتاب
ُ الكتاب والسنة ،ومن َأ ْم َث ِل تلك الكتب وأحسنها ،وأبركها وأتقنها:
مدارج السالكني ،لإلمام ابن قيم اجلوزية رمحه اهلل.
وقد جاد اهلل فيه عىل مؤلفه فأجاد ،وفتح له فيه فأفاد ،حتى صار للعقد
مقد ًما وسابِ ًقا،
واسطة ،وللمسك خامتة ،فأضحى بني كتب املؤلف َّ
وس ِائ ًقا.
وإِ َما ًما َ
عد هتذيب ًا لكتاب
وقد م َّن اهلل علينا بكتاب (تقريب مدارج السالكني) الذي ُي ُّ
كل ما ليس له صلة بأصل موضوع الكتاب ومقصده الرئيس، (املدارج) من ِّ
أال وهو أعامل القلوب واملنازل التي يرت َّقى فيها العبد مراقي العبودية.
5
واليوم نقدم لعموم القراء كتاب (اإلكسري) ،وهو هتذيب للتقريب ،يقع
اً
مشتمل عىل يف ُثلث التقريب من حيث احلجم ،انتقيناه ليكون تِ ْر َيا ًقا إيامن ًّيا،
مقاصد كتاب مدارج السالكني ،راجني أن َي ِص َّح عليه ما قال ابن القيم:
ِ
نحاس قناطري من عىل مثقال ٍ
ذرة ُ (اإلكسري الكياموي ،الذي إذا ُوضع منه
َ
األعامل ق َل َبها ذهب ًا).
منهجية العمل:
أوال :املقصد األساس من هذا العمل هو تقريب كتاب :مدارج السالكني،
وتيسري االستفادة منه لرشحية أوسع من القراء؛ ليكون منهج ًا إيامني ًا،
الرقاق وتزكي ًة نفسي ًة ،وزبد ًة سلوكي ًة حتوي نفيس كالم ابن القيم يف ِّ
(التقريب) هتذيب ًا
ُ وأعامل القلوب ومنهج السلوك وقواعده ،ولئن كان
هتذيب للتهذيب.
ٌ (فاإلكسري)
ُ (للمدارج)؛
ثانيا :سعي ًا يف حتقيق مقصد (اإلكسري)؛ فقد حذفنا مما أثبتناه يف (التقريب) اآليت:
ملحا.-
مجيع كالم اهلروي ،وما اتصل به من كالم املؤلف -ما مل يكن ذكره ّ (أ) َ
غري امل َّت ِس ِق مع عنوان املنزلة وأصل موضوعها ،أو ما كان
(ب) كال َم املؤلف َ
من قبيل التقسيامت العلمية وأوجه االستنباط -ولو كان موضوعها
الرقائق وأعامل القلوب ،-وترتب عىل هذا حذف بعض املنازل كاملة.
َ
املنازل التي مل يرتشح منها مما يوافق مقصد (اإلكسري) إال أسطر ًا قليلة، (ج)
مما جعل بقاءها غري منسجم مع منهجية الكتاب وسبكه.
املكر َر من النصوص الرشعية -ما مل ُيضف معنى زائد ًا يف حمل
َّ (د)
6
المقدمــة
االستشهاد ،-ونكتفي منها -غالب ًا -بذكر آية وحديث ،بحسب املتن
األصح ،واملعنى األقرب واألشمل.
املكر َر من
املكر َر من كالم املؤلف إذا تضمن املعنى نفسه ،وكذلك َّ
(هـ) َّ
كبريا من التعريفات أو املقوالت
وخصوصا عند رسده عد ًدا ً
ً منقوله،
أو األبيات الشعرية.
(و) العناوين اجلانبية التي وضعناها يف (التقريب).
ثالثا :قد حيتاج سياق الكالم إىل زيادة تربط بعضه ببعض ،وعند ذلك
ُنضيف هذه الزيادة ،ونجعلها بني معقوفتني هكذا [.].....
رابعا :اعتمدنا يف أحاديث (اإلكسري) عىل املنهج اآليت:
(أ) ذكر األحاديث الصحيحة واحلسنة دون الضعيفة.
(ب) إذا كان احلديث خمرج ًا يف الصحيحني أو أحدمها؛ فنقترص عليه يف التخريج.
(ج) إذا خرج احلديث أهل السنن ومل خيرج يف الصحيحني؛ اقترصنا عىل
اثنني منهم ،مع ذكر احلكم عىل احلديث.
(د) إذا خرج احلديث أمحد وغريه ومل خيرجه أهل السنن؛ اكتفينا بأمحد.
(هـ) اكتفينا يف احلكم عىل األحاديث بأحكام اإلمام األلباين دون غريه،
وذلك لشهرته عند املعارصين.
خامسا :اقترصنا يف غريب األلفاظ عىل ذكر معنى اللفظ ،دون ذكر املراجع.
نص املؤلف أو تأخريه؛
سادسا :وقع يف مواضع يسرية من الكتاب تقديم ِّ
7
رعاي ًة للمناسبة ،وقد م َّيزنا النص املوضوع يف غري حم ِّله بوضعه بني
نجمتني هكذا *.*.....
سابعا :وضعنا عناوين لفقرات الكتاب كاملنازل وبعض الفصول فيها
مستفيدين من العناوين التي استخدمها ابن القيم رمحه اهلل يف
الكتاب األصل أو جمتهدين بعنوان يناسب ما يتبعه من الكالم.
خطوات العمل:
وو ِّز َع ْت عىل فريق العمل ،وقام ُّ ٍ
كل باحث ُ 1قسم التقريب إىل أجزاءُ ،
باختصار جزئه.
اآلخر. راج َع ُّ
كل باحث خمترص الباحث َ َ 2
ال بعد هتذيبه ومراجعته من ِ
بمراجعة اإلكسري كام ً 3قام اثنان من الباحثني
الباحثني.
ِ
ملراجعة املسودة. مر ًة أخرى عىل الباحثني ِ
ُ 4و ِّز َعت األجزا ُء َّ
ب كام ً
ال ،ومقابلته املهذ ِ
النص َّص لضبط َّ متخص ٍِّ العمل إىل فريق ُ ُ 5س ِّلم
النص املح َّقق من نسخة التقريب. عىل ِّ
وخ ِد َم بعالمات
وخ ِّر َج ْت أحادي ُثهُ ،
ف الكتاب ،و ُعزيت آيا ُتهُ ، ُ 6ص َّ
كل. شكيل ملِا ُي ْش ِ
ِ الترَّ قيم وال َّت
ِّمني لتحكيمه. ِ
املراحل عىل جمموعة من املحك َ ُ 7و ِّزع اإلكسري بعد هذه
8
المقدمــة
ِ
اجتهاد الفريق. بحس ِ
ب 8ر ِ
لت َامللحوظات و ُع ِّد ْ
ُ وج َعت ُ
ويف اخلتام نحمد اهلل تعاىل عىل نعمة التامم ،ونسأله القبول واإلكرام،
متعلقني بأهداب جوده ،واقفني بباب عفوه ،راجني منه أن يبارك هذا
العمل ،وأن جيعله خالصا لوجهه ،واحلمد هلل رب العاملني.
فريق العمل:
د .صالح بن عبد العزيز املحيميد.
أ .تركي بن عبد اهلل الرتكي.
د .حازم بن عبد الرمحن البسام.
د .فهد بن حممد اخلويطر.
أ .حممد بن عبد اهلل احلميد.
ونسعد بأي ملحوظة أو اقرتاح عىل هذا العمل من خالل الربيد اإللكرتوين:
tagrebalmdareg@gmail.com
9
رب َي ِّ�ســـــر و� ِأع ْ
ـــــن ِّ
دوان إال عىل الظاملني، للم َّت ِقني ،وال ُع َ رب العالمَني ،والعاقبة ُ احلمد هلل ِّ
ُ
رسلني ،وقيو ُمرب العالمَني ،وإل ُه ا ُمل َ َ
رشيك لهُّ ، أن ال إل َه إلاَّ اهللُ ْ
وح َده ال وأشهد ْ
ُ
املبعوث ِ
بالكتاب ُ عبده ورسو ُله حممدا ًُ وأشهد َّ
أن ُ واألرضني، السموات
َ َّ
والشك واليقني. ِّ والرشاد،
والغي َّ
ِّ الفار ِق بني اهلُدى والضالل، املبنيِ ،
ِ
أحسن ِ
ونحم َله عىل أنزله لنقرأه تد ُّب ًرا ،ونتأ َّمله تبصرًُّ ا ،ونسعد به تذ ُّك ًرا،
ونصد َق أخباره ،ونجتهد عىل إقامة أوامره ونواهيه، ِّ وجوهه ومعانيه،
امر علومه النافعة ا ُملوصلة إىل اهلل سبحانه ِمن أشجاره ،ورياحني َ
ونجتني ثِ
احلكَم من بني ِرياضه وأزهاره. ِ
10
مقدمة المصنف
تضمنَته من
َّ وعىل بعض ما تضمنته هذه السورة من هذه املطالب ،وما
منازل السائرين ،ومقامات العارفني ،والفرق بني وسائلها وغاياهتا،
يسد ِ
السورة َمقا َمها ،وال ُّ غري هذه
ومواهبها وكسبياهتا ،وبيان أنه ال يقوم ُ
مسدها؛ ولذلك مل ُين ِْزل اهلل يف التوراة وال يف اإلنجيل وال يف الزبور وال يف َّ
القرآن ِم ْث َلها.
واهلل املستعان ،وعليه ال ُّت ْكلاَ ن ،وال حول وال قوة إال باهلل ِّ
العيل العظيم.
11
بيان ا�شتمال الفاحتة على �أمهات املطالب
ِ
املطالب العالية أ َت َّم اشتامل، اشتملت عىل أمهاتْ أن هذه السور َة اعلم َّ
فاشتملت عىل التعريف باملعبود تبارك وتعاىل ْ تضمن؛
ُّ َ
أكمل وتضمنتها
َّ
ومدارها ِ
والصفات ال ُعليا إليها، رج ُع األسامء احلسنى بثالثة أسامء ،م ِ
ُ َ
عليها ،وهي( :اهلل) ،و(الرب) ،و(الرمحن) ،و ُبنِ َيت السور ُة عىل اإلهلية،
مبني عىل اإلهلية ﴿ ،ﭤ ﭥ﴾ والر ُبوبِ َّية ،والرمحة؛ ﴿ ﭢ ﭣ ﴾ ٌّ ُّ
عىل الربوبية ،وطلب اهلداية إىل رصاطه املستقيم بصفة الرمحة ،واحلمد
األمور الثالثة ،فهو املحمود يف إهل َّيته ،وربوبِ َّيتِه ،ورمحته ،والثنا ُء َ يتضمن
واملجد كامالن حلمده.
ُ
وتفر َد ها،ئإثبات املعاد ،وجزاء العباد بأعامهلم ،حسنِها وسي ِ
َ وتضمنت
ُّ َ ِّ َ َ َّ
وكون ُحكمه بالعدل ،وكل هذا َ حلكم إ ْذ ذاك بني اخلالئق،
الرب تعاىل با ُ
ِّ
حتت قوله﴿ :ﭞ ﭟ ﭠ﴾ [الفاحتة.]4 :
[و] قوله﴿ :ﭧ ﭨ ﭩ﴾ [الفاحتة ]6 :اهلداية :هي البيان والداللة،
ثم التوفيق واإلهلام.
ُ
وبطالن اضطرار العبد إىل هذه الدعوة فوق كل رضورة، ُ ومن هاهنا ُيع َلم
سؤال َمن يقول :إذا كنا مهتدين ،فكيف نسأل اهلداية؟ فإن املجهول لنا من
اً
وكسل مثل ما نريده ،أو أكثر هتاو ًنا هلَ ع أضعاف املعلوم ،وما ال نريد فِ
ُ احلق
ُ ْ
منه ،أو دو َنه ،وما ال نقدر عليه مما نريده كذلك ،وما نعرف مجلته وال هنتدي
12
المطالب
املطالب أمهات
أمهات �
فمن َك َم َل ْت
يفوت احلرص ،ونحن حمتاجون إىل اهلداية التا َّمةَ ،ُ فأمر
لتفاصيله ٌ
َ
سؤال التثبيت والدوام. ُ
سؤال اهلداية له له هذه األمور؛ كان
وللهداية مرتبة أخرى -وهي آخر مراتبها :-وهي اهلداية يو َم القيامة
املوصل إليها ،فمن ُه ِد َي يف هذه الدار إىل ُ إىل طريق اجلنة ،وهو الرصاط
أرسل به رسو َله ،وأنزل به كتا َبه؛ ُه ِد َي هناك رصاط اهلل املستقيم ،الذي َ
ودار ثوابه ،وعىل قدر ثبوت قدمه إىل الرصاط املستقيم املوصل إىل جنَّتِه ِ
ثبوت قدمه عىل ُ عىل هذا الرصاط الذي نص َبه اهلل لعباده يف هذه الدار يكون
الرصاط املنصوب عىل َم ْت ِن جهنم ،وعىل قدر َسيرْ ِ ه عىل هذه الرصاط يكون
َسيرْ ُ ه عىل ذاك الرصاط؛ فمنهم َمن َي ُم ُّر كالربق ،ومنهم َمن َي ُم ُّر كالطرف،
كشد الركاب ،ومنهم َمن يسعى ِّ ومنهم َم ْن َي ُم ُّر كالريح ،ومنهم َم ْن َي ُم ُّر
حبوا ،ومنهم املخدوش املس َّلم، سع ًيا ،ومنهم َمن َي ُم ُّر مش ًيا ،ومنهم َمن حيبو ً
ومنهم ا ُملك َْر َد ُس((( يف النار.
العبد َسيرْ َ ُه عىل ذلك الرصاط ِمن َسيرْ ِ ه عىل هذا َح ْذ َو ال ُق َّذة بال ُق َّذة؛ فلينظر ُ ِ
جزا ًء ِوفا ًقا﴿:ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ﴾ [النمل.]90 :
ناكبون عنه، ولمََّا كان طالب الرصاط املستقيم طالب أم ٍر أكثر الناس ِ
ُ َ ْ ُ
الع َّزة ،والنفوس جمبول ٌة عىل وحشة طريق مراف ُقه فيها يف غاية ِ ٍ ِ
لسلوك مريدا
ً
التفرد ،وعىل األُنس بالرفيق؛ ن َّبه اهلل سبحانه عىل الرفيق يف هذه الطريق، ُّ
وأهنم ُه ُم الذين ﴿ :ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ
13
الرصاط إىل الرفيق السالِكني َ ﮉ ﮊ ﮋ﴾ [النساء ،]69 :فأضاف
وسلوك الرصاط ِ ليزول عن الطالب للهداية َ وه ُم الذين أنعم اهلل عليهم؛
لهُ ،
تفرده عن أهل زمانه و َبني ِجنسه ،وليعلم أن رفيقه يف هذا الرصاط وحش ُة ُّ
ني عنه له؛ فإهنم ُه ُم هم الذين أنعم اهلل عليهم؛ فال يكرتث بمخالفة الن ِ
َّاكبِ َ ُ ُ
َ
«عليك األق ُّلون َق ْد ًرا ،وإن كانوا األكثرين عد ًدا ،كام قال بعض السلف:
ترَ غ ت
َ وال الباطل، وطريق
َ وإياك السالكني، ة َّ
ل وح ْش ِ
لق بطريق احلق ،وال َتس َت ِ
َّ
بكثرة اهلالِكني».
ِ
14
الشــفاءين
15
ِ
ض الكربياء مر ِ ض الرياء بـ﴿ ﭢ ﭣ﴾ ،ومن َ فإذا ُعوفيِ َ من َ
مر ِ
مرض الضالل واجلهل بـ﴿ﭧ جب بـ﴿ﭤ ﭥ﴾ ،ومن َ وال ُع ِ
ور َف َل يف أثواب ه، ِ
وأسقام أمراضه ن ﭨ ﭩ﴾ [الفاحتة]٦ :؛ ُعوفيِ ِ
م
َ َ
غري املغضوب عليهم؛ العافية ،وتمَ َّت عليه النعمة ،وكان من ا ُملنْ َعم عليهمِ ،
ِ
احلق و َع َد ُلوا عنه ،والضا ِّلني؛ ُ
وهم عرفوا َّ َ الذين القصد، فساد وهم ُ
أهل ُ
عرفوه.احلق ومل َي ِ
العلم ،الذين َج ِهلوا َّ فساد ِ
ِ أهلُ
تضمنُها لشفاء األبدان :ففي الصحيح من حديث أيب املتو ِّكل عن ُّ وأما
َّ
بحي من العرب، مروا ٍّ ناسا من أصحاب ِّ
النبي ﷺ ُّ أن ً َّ أيب سعيد اخلُدري
فلم َي ْق ُروهم ،ومل ُيض ِّيفوهم ،ف ُل ِد َغ س ِّي ُد احلي ،فأتوهم ،فقالوا :هل عندكم
من ر ْق َي ٍة ،أو هل فيكم ِمن ٍ
راق؟ فقالوا :نعم ،ولكنَّكم مل َت ْق ُرونا ،فال َن ْف َع ُل ُ
عل ،فجعلوا هلم عىل ذلك قطي ًعا من الغنم ،فجعل ٌ
رجل حتى جتعلوا لنا ُج اً
منَّا يقر ُأ عليه بفاحتة الكتاب ،فقام ْ
كأن مل يكن به َق َل َب ٌة ،فقلنا :ال َت ْعجلوا حتى
ريك هَّأنا ُر ْق َي ٌة؟ ُك ُلوا،
يت النبي ﷺ ،فأت ْيناه ،فذ َك ْرنا له ذلك ،فقال« :ما ُي ْد َ نأ َ
واض ُبوا يل َم َع ُكم بِ َس ْهمٍ»(((.رْ ِ
((( أخرجه البخاري ( ،)5749 ،5736 ،2276ومسلم ( ،)2201لفظ «كلوا» عند الرتمذي (.)2064
16
الشــفاءين
ال�شفاءين
أكثر من أن ُت ْذ َكر ،وذلك يف كل زمان، جارب بذلك :فهي ُ وأما شهادة ال َّت َِّ
مد َة ا ُمل ِ
قام سيام َّ جر ْب ُت أنا من ذلك يف ن ْفيس ويف َغريي ً
أمورا عجيبة ،وال َّ وقد َّ
َقطع ض يل ٌ ِ أعزها اهلل تعاىل؛ فإنه كان َيع ِر ُ
بمك َة َّ
آالم ُم ْزعجة ،بحيث تكاد ت ُ
وأمسح
ُ احلرك َة م ِّني ،وذلك يف أثناء الطواف وغريه ،فأبادر إىل قراءة الفاحتة،
رارا عديدة ،وكنت ُ
آخذ ِ هبا عىل ِّ
جر ْب ُت ذلك م ً
حمل األمل فكأنه حصا ٌة تسقطَّ ،
فأجد به من النفع ُ َق َد ًحا من ماء زمزم ،فأقرأ عليه الفاحتة ً
مرارا ،وأرش ُبه،
أعه ْد ِمث َله يف الدواء ،واألمر أعظم من ذلك ،ولكن بحسب ِ
قوة والقو ِة ما مل َ
َ ُ َّ
وصح ِة اليقني ،واهلل املستعان.
َّ اإليامن،
17
الكالم على قوله
﴿ ﭢﭣﭤﭥ﴾
والعقاب ،انتهى إىلِ ب والشرَّ ائع ،والثوابسرِ ُّ اخلَ ْل ِق واأل ْمر ،وال ُك ُت ِ
مدار العبودية والتوحيد ،حتى قيل :أنزل اهلل مائةهاتني الكلمتني ،وعليهام ُ
معاين
َ مجعمجع معان َيها يف التوراة واإلنجيل والقرآن ،و َكتاب وأربع َة ك ُتبَ ،
معاين القرآن يف ا ُمل َف َّصل ،ومجع معاين
َ مجع
هذه الكتب الثالثة يف القرآن ،و َ
املفصل يف الفاحتة ،ومعاين الفاحتة يف ﴿ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ﴾ [الفاحتة.]٥ : َّ
عبده نِصفني ،فنِص ُفهام له تعاىل،
ِ
ومها الكلمتان املقسومتان بينْ الرب وبينْ
وهو ﴿ﭢ ﭣ﴾ ،ونِص ُفهام لعبده ،وهو ﴿ ﭤ ﭥ﴾.
الذ ِّل واخلضوع ،والعرب تقول: والعبادة جتمع أصلني :غاية احلب بغاية ُّ
طريق ُم َع َّبد ،أيُ :م َذ َّلل ،والتع ُّبد :ال َّت َذ ُّلل واخلضوعَ ،
فمن أحبب َته ومل تكن
عابدا له ،و َمن خض ْع َت له بال حم َّب ٍة مل تكن ً
عابدا له ،حتى خاض ًعا له مل تكن ً
تكون محُ ِ ًّبا خاض ًعا.
واالستعانة جتمع أصلني :الثق َة باهلل ،واالعتام َد عليه؛ فإن العبد قد َيثِ ُق
بالواحد من الناس وال َيعتمد عليه يف أموره مع ثقته به؛ الستغنائه عنه،
عتمد عليه مع عدم ثقتِه به؛ حلاجته إليه ،ولعدم َمن يقوم َمقا َمه،
وقد َي ُ
فيحتاج إىل اعتامده عليه ،مع أنه غري واثق به.
18
مدار المنازل
والتوكُّل معنى يلتئم من أصلني :من الثقة ،واالعتامد ،وهو حقيقة ﴿ ﭢﭥ﴾.
وتقديم العبادة عىل االستعانة يف الفاحتة من باب تقديم الغايات عىل
الوسائل؛ ِ
إذ العبادة غاي ُة العباد التي ُخ ِل ُقوا هلا ،واالستعانة وسيل ٌة إليها.
وقال شيخ اإلسالم ابن تيم َّي َة « :تأ َّملت أنفع الدعاء فإذا هو يف سؤال
العون عىل مرضاته ،ثم رأيته يف الفاحتة ،يف ﴿ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ﴾». َ اهلل
19
�أف�ضل العبادات
ِ
وأنفعها ،وأح ِّقها باإليثار ِ
أفضل العبادة أهل مقا ِم ﴿ ﭢ ﭣ﴾ هلم يف ُ
وهم يف ذلك أربع ُة أصناف: ِ
والتخصيص أربع ُة ُط ُرقُ ،
وأفض ُلها :أش ُّقها عىل النفوس
َ عندهم أنفع العباداتاألولَ :
الصنف َّ ِّ
أبعد األشياء ِمن َهواها ،وهو حقيقة التع ُّبد ،واألجر
وأصع ُبها؛ قالوا :ألنه ُ
ور عىل النفوس. جل ِ قدر املش َّقة ،وهؤالءُ :هم ُ
أهل املجاهدات وا َ عىل ْ
والزهد يف الدنيا،ُ أفضل العبادات وأنف ُعها :ال َّت ُّ
جرد، ُ الصنف الثاين قالوا:
ِّ
بكل ما اح االهتامم هبا ،وعد ُم االكرتاث ِّ والتق ُّل ُل منها غاي َة اإلمكان ،وا ِّط َر ُ
هو منها.
نفع ُمت َع ٍّد: فيه كان ما ها ع وأنف بادات أفضل ِ
الع َ أن
رأوا َّ
ٌ َ الصنف الثالثْ : ِّ
َ
واالشتغال بمصالح أفضل من ذي النفع القارص ،فرأوا ِخدمة الفقراء، َ فرأوه
فتصد ْوا
َّ أفضل،َ ِ
واجلاه والنفع وقضاء حوائجهم ،ومساعدتهَ م باملال ِ الناس
لهِ ،
وعملوا عليه.
وعم َل النَّ َّفاع مت َع ٍّد إىل الغري،
قارص عىل ن ْفسهَ ،
ٌ عمل العابد بأن َ واحتجوا َّ
ُّ
اآلخر؟!أحدمها من َ وأين ُ
ِ
بك لعيل بن أيب طالب « :لأَ ْن هَيد َ
ي اهلل َ رسول اهلل ﷺ ِّ ُ قالوا :وقد قال
املتعدي.
ِّ ك ِمن حمُ ْ ِر النَّ َعمِ» ،وهذا التفضيل للنفع
((( ِ
واح ًدا َخ ٌري َل َ رجلاً
ُ
((( أخرجه البخاري ( ،)2942ومسلم (.)2406
20
أفضل العبادات
ُ
واالشتغال به عن ِ
الضيف مثل :القيا ُم بح ِّقه، واألفضل يف وقت ُحضور
حق الزوجة واألهل. ب ،وكذلك يف أداء ِّ ستح ِّ ِ
الورد ا ُمل َ
اإلقبال عىل تعليمه، ُ اجلاهل: واألفضل يف وقت اسرتشاد الطالب ،وتعلي ِم ِ
ُ
واالشتغال به.
ِ
والدعاء ِّ ُ السحر: ُ
والذكر االشتغال بالصالة والقرآن واألفضل يف أوقات َّ
واالستغفار.
ُ
واالشتغال بإجابة املؤ ِّذن. وقت األذانْ :تر ُك ما هو فيه ِمن ِورده، واألفضل يف ِ
ُّصح يف إيقاعها عىل اجل ُّد والن ُ مسِ : اخل ِ واألفضل يف أوقات الصلوات َ
وإن ب ُعد واخلروج إىل اجلامعْ ، ُ أكمل الوجوه ،واملبادر ُة إليها يف َّأول الوقت، ِ
َ
أفضل. كان
ِ
املساعدة باجلاه ،أو ال َب َد ِن ،أو املال: ِ
رضورة املحتاج إىل واألفضل يف أوقات
وإيثار ذلك عىل أورادك وخلوتك. ُ االشتغال بمساعدته ،وإغاث ُة هلفته، ُ
وتفه ِمه، ره ب تد عىل ة م واألفضل يف وقت ِقراءة القرآن :مجعي ُة القلب ِ
واهل
ُّ ُّ َّ َّ
جمع قل َبك عىل َف ْهمه وتد ُّبره ،والعز ِم عىل تنفيذ كأن اهلل خياط ُبك به ،ف َت ُ حتى َّ
كتاب من السلطان عىل ذلك. جاءه ن م بِ ْ
ل ق ة ي ع جمَ ن أوامره أعظم ِ
م ِ
ٌ َ َّ َ
21
والذ ِ
كر، الترضع والدعاء ِّ يف د االجتها بعرفة: ِ
الوقوف واألفضل يف وقت
ُّ ُ
دون الصو ِم امل ِ
ُضعف عن ذلك. َّ
وحضور جنازتِه ض أخيك املسلم أو موتِ مر ِ
ُ ه، ت
ُ عياد ه: واألفضل يف وقت َ
وتشيي ُعه ،وتقديم ذلك عىل خلوتك ومجع َّيتِك.
النوازل وأذى الناس لك :أدا ُء واجب الصرب مع ِ واألفضل يف وقت نزول
فإن املؤمن الذي خيالِ ُط الناس ويصرب عىل ُخلطتك هبم ،دون اهلرب منهم؛ َّ
ُ
أفضل من الذي ال خيالطُهم وال ْيؤذونه. أذاهم
ُ
الرش؛
خري من اعتزاهلم فيه ،وعزل ُتهم يف ِّ واألفضل ُخلطتهم يف اخلري؛ فهي ٌ
فإن َع ِل َم أنه إذا خالطهم أزا َله أو ق َّلله فهي خري
أفضل من خلطتهم فيهْ ، ُ فهو
من عزلتهم.
الوقت واحلال، ِ إيثار مرضاة اهلل يف ذلك : ٍ
وحال كل وقت فاألفضل يف ِّ
ُ
الوقت ووظيفتِه و ُمقتضاه.
ِ واالشتغال بواجب ذلكُ
وإن رأيت ال ُع َّباد رأيته معهم ،وإن رأيت املجاهدين رأيته معهم ،وإن رأيت ْ
املتصدقني املحسنني رأيته معهم ،فهذا هو ِّ الذاكرين رأيته معهم ،وإن رأيت
الرسوم ،ومل تق ِّيده القيود ،ومل يكن عم ُله عىل ِ
العبد امل ْط َل ُق ،الذي مل تمَ لكْه ُّ
ُ
لذتهُ ا وراح ُتها من العبادات ،بل عىل مراد ر ِّبه ،ولو كانت مراد ن ْفسه وما فيه َّ
ولذتهُ ا يف سواه ،فهذا املتح ِّقق بـ﴿ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ﴾ راح ُة ن ْفسه َّ
القائم هبام صد ًقاَ ،م ْل َب ُسه ما هت َّيأ ،ومأك ُله ما تيسرَّ ،واشتغا ُله بام ُأ ِم َر به
ُ ح ًّقا،
ووج َده خال ًيا ،ال متلكه إشارة ،وال يف كل وقت بوقته ،وجملسه حيث انتهى َ
جمرد ،دائر مع األمر حيث دارَ ،ي ِدين حر َّ رسمٌّ ، ُيق ِّيده قيد ،وال يستويل عليه ْ
مضار ُبه ،يأنس ِ ركائ ُبه ،ويدور معه حيث استق َّلت اآلمر أ َّنى توجه ْت ِ بدين ِ ِ
َّ َ
به ُك ُّل محُ ِ ٍّق ،ويستوحش منه ُك ُّل ُم ْبطِ ٍل ،كالغيث حيث وقع نفع ،وكالنخلة
الغلظة منه عىل ِ ال َيس ُقط ور ُقها ،وك ُّلها منفعة حتى شو ُكها ،وهو موضع
هكت حمار ُم اهلل؛ فهو هلل وباهلل ومع اهلل، والغضب إذا ان ُت ِْ املخالفني ألمر اهلل،
عزلوصحب الناس بال ن ْفس ،بل إذا كان مع اهلل َ ِ صحب اهللَ بال َخلق، قد ِ
فواها له!اخلالئق ،وختلىَّ عنهم ،وإذا كان مع َخلقه َع َز َل ن ْفسه وختلىَّ عنهاً ،
وفر َحه به، نسه باهلل َ أعظم ُأ َ
َ أشد وحش َته منهم! وما أغر َبه بني الناس! وما َّ ما َ
وسكو َنه إليه واهلل املستعان ،وعليه ال ُّتكْالن. وطمأنين َته بهُ ،
23
نتقل فيها القلبمنازل ﴿ ﭢ ﭣ﴾ التي َي ِ
يه �إىل اهلل تعاىل ً
منزلة يف حال َ�س رْ ِ ً
منزلة
أن ترتيب هذه املقامات ليس باعتبار أن السالك يقطع املقام و ُيفارقه اعلم َّ
وينتقل إىل الثاين ،كمنازل السري ِ
احلسيِّ ،هذا محُ َال ،أال ترى أن اليقظة معه يف
تفارقه؟ وكذلك البصرية واإلرادة والعزم ،وكذلك التوبة؛ فإهنا كل مقام ال ِ
أيضا ،بل هي يف كل مقام ُم ْس َت ْص َحبة؛
كام أهنا من أول املقامات فهي آخرها ً
ومن املقامات ما يكون جام ًعا ملقا َمني ،ومنها ما يكون جام ًعا ألكثر من
يستحق صاحبه اسمه إال عند ُّ ذلك ،ومنها ما َيندرج فيه مجيع املقامات ،فال
استجامع مجيع املقامات فيه.
تص َّور وجو ُدها بدوهنام.
املحاسبة ومقام اخلوف ،ال ُي َ
َ فالتوبة جامعة ملقام
تصور وجو ُده بدوهنام.
جامع ملقام الصرب ومقام املحبة ،ال ُي َّ
ٌ والرضا
ِ
والتو ُّكل جامع ملقام التفويض واالستعانة والرضا ،ال ُي َّ
تصور وجو ُده بدوهنا.
والرجاء جامع ملقام اخلوف واإلرادة.
وكل مقام من هذه املقامات فالسالكون بالنسبة إليه نوعان :أبرار،
مراتب
ُ واملقربون يف ِذ ْر َوة َسنامه ،وهكذا
َّ و ُم َق َّر ُبون؛ فاألبرار يف أذياله،
وتفاض َل درجاهتم
ُ وكل من النوعني ال يحُ يِص تفاوتهَ م،اإليامن مجي ُعهاٌّ ،
إال اهلل تعاىل.
24
المنـــــازل
وقد يعرض له أعىل املقامات واألحوال يف أول بداية َسيرْ ِ ه ،ف َينفتح
بعد للسالك نس والطمأنينة ما مل حيصل ُ عليه من حال املحبة والرضا واألُ ِ
يف هنايته ،وحيتاج هذا السالك يف هنايته إىل أمور -من البصرية ،والتوبة،
واملحاسبة -أعظم من حاجة صاحب البداية إليها ،فليس يف ذلك ترتيب
كليِّ ٌّ الز ٌم للسلوك.
املتقدمني من أئمة القوم كال ًمافاألوىل الكال ُم يف هذه املقامات عىل طريقة ِّ
وجبِه ،وآفته املانعة من حصوله، مطل ًقا يف كل مقام مقام ،ببيان حقيقته وم ِ
ُ ُ
وخاصه ،فكالم أئمة الطريق هو عىل هذا املنهاج؛ والقاطع عنهِ ،
وذ ْكر عا ِّمه
ِّ
فص اًل جام ًعا مبينًا
فإنهَّ م ن َظموا عىل أعامل القلوب وعىل األحوال كال ًما ُم َّ
بعدد معلوم.ٍ مطل ًقا من غري ترتيب ،وال حرص للمقامات
والسنة ،ونذكر هلا
منازل ال ُعبودية الواردة يف القرآن ُّ َ فاألوىل بناْ :
أن نذ ُك َر
َ
ليكون ذلك احليس؛ الس ِ
ري ِ
ترتيب َّ ستحق ،بل ُمستحس ٌن ،بحسب غري ُم
ِّ ٍّ ترتي ًبا َ
أتم، به صديق
ُ ت
َّ ال َ
فيكون ،باحلس ِ
املشهود ةَ منزل ِ
املعقول ِ
تنزيل أقرب إىل
َّ ِّ َ
َ
أسهل. أكمل ،وضب ُطه ومعرف ُته َ
25
منزلة اليقظة
وطرفه
العبد قبل وصول الداعي إليه يف نوم الغفلة ،قل ُبه نائم ْ
َ اعلم َّ
أن
مؤ ِّذن الرمحن:
َيقظان ،فصاح به الناصح ،وأسمعه داعي النجاح ،وأ َّذ َن به َ
«حي عىل الفالح».
َّ
فأول مراتب هذا النائم اليقظ ُة واالنتباه من النوم.
أنفع هذه ِ
انزعاج القلب َلروعة االنتباه من رقدة الغافلني ،وهلل ما َ ُ * وهي:
فمن أشد إعان َتها عىل السلوك! َ وخطرها! وما َّ
َ قد َرها
أعظم َْ الروع َة! وما َّ
انتب َه فإذا الغفلة، سكرات يف فهو وإال بالفالح، أحس هبا فقد أحس واهللِ
َ َّ َّ
(((
األوىل ،وأوطانِه التي ُسبِ َي منها*.
شمر هللِ هبمته إىل السفر إىل منازله ُ
َّ َّ
أوج َب له
فإنه إذا َهنض من ورطة الغفلة ،واستنار قلبه برؤية نور التنبيه؛ َ
وطر ُفه فيها َ
شاه َد ه قلب قحد
َّ املَّ وك والظاهرة، الباطنة اهلل مع ذلك مالحظ َة نِ
ْ ُ َ
وفر َغ قلبه ملشاهدة
حدهاَّ ، عظمتها وكثرهتا ،فيئِس من َع ِّدها ،والوقوف عىل ِّ
ِم َّنة اهلل عليه هبا من غري استحقاق ،وال استجالب هلا بثمن ،فتيق ََّن حينئذ
القيام بشكرها.
ُ ريه يف واجبها ،وهو تقص َ
حمبة ِ ِ
شهود تلك امل َّنة والتقصري نوعني جليلني من العبوديةَّ :
ُ فأوجب له
وإزراءه عىل نفسه؛ حيث
َ نعم وال َّل َهج ِ
بذ ْك ِره ،وتذ ُّللـه وخضوعه له، ا ُمل ِ
((( النجمتان تدالن عىل أن الكالم بينهام ُعدل موضعه من كتاب مدارج السالكني مراعا ًة للسياق وهي
مواضع قليلة.
26
اليقظـــــة
عجز عن شكر نِ َع ِمه ،فينظر إىل ما سلف منه من اإلساءة ،ويعلم أنه عىل
بموجب َح ِّق ِه،
ِ احلق
ذة صاحب ِّ بمؤاخ ِ
َ خطر عظيم فيهاُ ،مشرْ ِ ف عىل اهلالك
الفارط بالعلم والعمل ،وخت َّلص من ِر ِّق
شمر الستدراك ِ فإذا طا َل َع جنايته َّ
ختليص إيامنه ومعرفتهُ ب التمحيص ،وهو اجلناية باالستغفار والنَّدم ،و َط َل ِ
ث اجلناية.من َخب ِ
َ
أشياء :بالتوبة ،واالستغفار،
َ وهذا التمحيص يكون يف دار الدنيا بأربعة
فإن محَ َّ َص ْته هذه األربع ُة وخ َّلصته كان ِ
واملصائب ا ُمل َك ِّفرةْ ، واحلسنات ِ
املاح َية،
بنيُ ،ي َبشرِّ وهنم باجلنة ،وكان من الذين ﴿ﭘ من الذين تتو َّفاهم املالئكة ط ِّي َ
ﭙ ﭚ ﴾عند املوت ﴿ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ
ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ
ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ﴾ [فصلت.]32 - 30 :
نصوحا ،وهي ة ُ التوب تكن فلم وختليصه؛ بتمحيصه ُ
ة األربع هذه وإن مل َت ِ
ف
ً
املصحوب
ُ كامل تا ًّما ،وهو العا َّم ُة الشاملة الصادقة ،ومل يكن االستغفار اً
استغفار َمن يف
َ فارقة الذنب والندم عليه ،هذا هو االستغفار النافع ،ال بم َ ُ
احلسنات يف
ُ يده قدح ا ُمل ْس ِكر ،يقول :أستغفر اهلل ،ثم َيرفعه إىل فيه! ومل تكن
لع َظ ِم اجلناية ،وإماَكميتِها وكيفيتِها وافي ًة بالتكفري ،وال املصائب ،وهذا إما ِ
َّ ِّ َّ
أشياء:
َ لض ْعف ا ُمل َم ِّحص ،وإما هلام :محُ ِّ َص يف الربزخ بثالثة َ
أحدها :صالة أهل اإليامن عليه ،واستغفارهم له ،وشفاعتهم له.
متحيصه بفتنة القرب ،وروعة ال َف َّتان ،وال َعصرْ َ ة واالنتهار ،وتوابع ذلك.
ُ الثاين:
27
الثالث :ما هُيدي إليه إخوا ُنه املسلمون من هدايا األعامل.
ِ
ي ربه يف املوقف بثالثة فإن مل َتف هذه الثالث ُة بالتمحيص :محُ ِّ َص بني َي َد ْْ
الش َفعاء ،وعفو اهلل . أشياء :أهوال القيامة وشدة املوقف ،وشفاعة ُّ َ
ف هذه الثالثة بتمحيصه :فال َّبد له من دخول الكِري ،رمح ًة يف ح ِّقه؛ فإن مل َت ِ
ومتحيصا خلبثه،
ً النار ُطهر ًة له
ويتطهر يف النار ،فتكون ُ
َّ ويتمحص، َّ ليتخ َّلص
وشدته وضعفه وترا ُكمه ،فإذا حسب كثرة اخلبث وق َّلتهَّ ،ويكون ُمك ُثه فيها عىل َ
خرج من النار ،و ُأدخل اجلنة. خالصا طي ًباُ ،أ َ
ً وص ِّفي َذ َه ُبه ،وصار
خرج خب ُثه ُ
28
الفكـــــرة
مــنزلة ِ
الفكــرة
حتديق القلب إىل جهة
ُ أوجبت له الفكرة ،وهي:
ْ فإذا استحكمت يقظ ُته
التامسا له.
ً املطلوب؛
والفكرة فكرتان :فكرة تتع َّلق بالعلم واملعرفة ،وفكرة تتع َّلق بالطلب واإلرادة.
فالتي تتع ِّلق بالعلم واملعرفة :فكر ُة التمييز بني احلق والباطل ،والثابت
واملنفي.
ِّ
والضار،
ِّ والتي تتع َّلق بالطلب واإلرادة :فهي الفكرة التي تمُ ِّيز بني النافع
ثم يرت َّتب عليها فكر ٌة أخرى يف الطريق إىل ُحصول ما ينفع ،فيسلكها،
يرض ،فيرتكها.
وطريق ما ُّ
سابع هلا ،هي جمال أفكار ال ُع َقالء.
َ فهذه س َّت ُة أقسام ال
29
منزلة الب�صرية
صحت فكرتُه أوجبت له البصريةَ؛ فهي نور يف القلب ُيبصرِ * فإذا َّ
هلل يف هذه ألوليائه ،ويف هذه الوعد والوعيد ،واجلن َة والنار ،وما َو َعد ا ُ َ به
ني لدعوة احلق، خرجوا من قبورهم ُم ْه ِط ِع َ الناس وقد َ َ ألعدائه ،فأبصرَ َ
مالئكة السموات فأحاطت هبم ،وقد جاء اهلل و َن َص َب ُك َ
رسيه ُ وقد نزلت
ني
بالنبي َ
وجي َء ِّ وو ِض َع الكتابِ ، لفصل القضاء ،وقد أرشقت األرض لنورهُ ،
خلصوم، الص ُحف ،واجتمعت ا ُ ُص َب امليزان ،وتطايرت ُّ والشهداء ،وقد ن ِ
اشالع َط ُ َب ،وكثُر ِ
وض وأكوا ُبه عن َكث ٍ حل ُ والح ا َ كل َغريم بغريمه، وتع َّلق ُّ
َ
األنوار دونُ الناس إليه ،و ُقسمت ُ ُص َب اجلرس للعبور ،و ُل َّز و َق َّل الوا ِرد ،ون ِ
بعضا حت َته ،واملتساقطون فيها بعضها ً ظلمته للعبور عليه ،والنار يحَ ْ ِط ُم ُ
عني يرى هبا ذلك ،ويقوم بقلبه أضعاف الناجني ،فينفتح يف قلبه ٌ ِ ُ
أضعاف
يه اآلخر َة ودوا َمها ،والدنيا ورسع َة انقضائها. شاهد من شواهد اآلخرة ي ِر ِ ٌ
ُ
نور يقذفه اهلل يف القلب ،يرى به حقيق َة ما أخربت به الرسل، فالبصرية ٌ
انتفاعه بام دعت إليه الرسل،
ُ رأي َعينْ ٍ ،فيتحقَّق مع ذلك
شاه َد َ
كأنه َ
ِ
بعض العارفني :البصرية حتقُّ ق وترض ُره بمخالفتهم ،وهذا معنى قول ُّ
والترضر به .وقال بعضهم :البصرية ما خ َّلصك من احلرية؛
ُّ االنتفاع باليشء
إما بإيامن ،وإما ِ
بعيان.
والبصرية عىل ثالث َدرجات؛ َمن اس َتكملها فقد اس َتكمل البصرية :بصرية
30
البصيــــرة
الوعد والوعيد.
يف األسامء والصفات ،وبصرية يف األمر وال َّنهي ،وبصرية يف ْ
وصف ض ما َبشبهة تُعا ِر ُ
فالبصرية يف األسامء والصفات :ألاَّ يتأ َّثر إيامنُك ُ
الش َبه ا ُملعارضة لذلك عندك بمنزلة
اهلل به ن ْف َسه ،ووص َفه به رسو ُله ،بل تكون ُّ
والشكوك يف وجود اهلل ،فكالمها سواء يف البطالن عند أهل البصائر. ِ الش َبه
ُّ
الرب تبارك وتعاىل مستو ًيا عىل عرشه ،متك ِّل اًم قلبك َّ يشه َد ُ وعق ُْد هذا أن َ
سميعا
ً وس ْف ِّليه ،وأشخاصه وذواته، بصريا بحركات العامل ُع ْلو ِّيه ُ ً بأم ِره وهنيه،
نازل ِمن وأم ُر املاملك حتت تدبريهٌ ، رقيبا عىل ضامئرهم وأرسارهمْ ، ألصواهتمً ،
عنده وصاعد إليه ،وأمالكه بني يديه تُن ِّفذ أوامره يف أقطار املاملك ،موصو ًفا
منز ًها عن العيوب والنقائص واملثال، بصفات الكامل ،منعوتًا بنعوت اجلاللَّ ،
حي ال يموتُّ ،قيوم ال وصف ن ْفسه يف كتابه ،وفوق ما يصفه به خلقهٌّ ، هو كام َ
مثقال َذ َّر ٍة يف الساموات وال يف األرض ،بصري يرى ُ ينام ،عليم ال خيفى عليه
النملة السوداء ،عىل الصخرة الصماَّ ء ،يف الليلة الظلامء ،سميع َيسمع ِ بيبَد َ
ضجيج األصوات ،باختالف اللغات ،عىل تف ُّنن احلاجات ،تمَ َّ ْت كلامتُه ِص ْد ًقا
وم اًثل ،وتعالت ذاتُه أن وعدل ،فج َّلت صفاتُه أن تُقاس بصفات خ ْل ِقه َش ًبها ِ اً
عدل وحكم ًة ورمح ًة ووسع ْت اخلليق َة أفعا ُله اً ِ تُشبه شي ًئا من الذوات اً
أصل،
لك واحلمد ،وله خل ْل ُق واألمر ،وله النعمة والفضل ،وله ا ُمل ُ وفضل ،له ا َ
اً وإحسانًا
آخر ليس بعده يشء ،ظاهر ليس فو َقه يشء، أول ليس قبله يشءٌ ، الثناء واملجدٌ ،
ومتجيد ،ولذلك ٍ ٍ
وثناء ٍ
ومحد، مد ٍح باطن ليس دو َنه يشء ،أسامؤه ك ُّلها أسامء ْ
ُعوت جالل ،وأفعاله ك ُّلها كامل ،ونُعوته ن ُ صفات ٍ ُ كانت ُح ْس َنى ،وصفاتُه ك ُّلها
31
ومرشد ِ دال عليه،كل يشء من خملوقاته ٌّ حكمة ورمحة ،ومصلحة وعدلُّ ، ٌ
باطل ،وال واألرض وما بينهام اً
َ ِ
السموات ملن رآه بعني البصرية إليه ،مل يخَ ُل ِق
وأسبغَ
َ خللق لقيام توحيده وعبادته، عاطل ،بل خلق ا َ اً َترك اإلنسان ُس ًدى
تعرف إىل عباده بأنواع وكرامته، زيادته إىل بشكرها لوا ليتوس هم ع عليهم نِ
َّ َّ َ َ
التعرفات ،وصرَ َّ ف هلم اآليات ،و َن َّوع هلم الدالالت ،ودعاهم إىل حمبته من ُّ
فأتم عليهم نِ َع َم ُه
ومد بينه وبينهم من عهده أقوى األسبابَّ ، مجيع األبوابَّ ،
وك َتب عىل ن ْفسه السابغة ،وأقام عليهم ُح َّج َته البالغة ،أفاض عليهم النعمةَ ،
تاب الذي كتبه :أنَّ رمحتي سبقت غضبي. وضمن ِ
الك َ الرمحةَّ َ ،
املرتبة الثانية :البصرية يف األمر وال َّنهي؛ وهي جتريده عن املعارضة بتأويل،
بهة تُعا ِرض العلم بأمر اهلل وهنيه ،وال
هوى ،فال يقوم بقلبِه ُش ٌ
أو تقليد ،أو ً
جل ِ
هد يف بذل ا ُ شهو ٌة متنع من تنفيذه وامتثالِه واألخذ به ،وال ٌ
تقليد ُيزحيه عن ْ
تل ِّقي األحكام من ِمشكاة النصوص.
32
البصيــــرة
ُّ
بالتوكل عىل اهلل ،قال تعاىل ﴿ :ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ﴾ [سورة آل السفر ،مقرونًا
عمران.]159 :
القصد اجلازم امل َّتصل بالفعل ،ولذلك قيل :إنه َّأول الرشوع
ُ والعزم :هو
يف احلركة لطلب املقصود ،وحقيقته :هو استجامع قوى اإلرادة عىل الفعل.
والعزم نوعان؛ أحدمها :عزم ا ُملريد عىل الدخول يف الطريق ،وهذا من
أخص من هذا*.
ُّ السري ،وهو عزم يف حال َّ
البدايات .والثاينٌ :
33
منزلـــة املحا�ســـبة
يظهر ِ
قايس بني ما م َن اهلل وما منك ،فحينئذ ُ
[ومن أركان املحاسبة] :أن ُت َ
التفاوت ،وتعلم أنه ليس إال عفوه ورمحته ،أو اهلالك والع َط ُ
ب. ُ لك
34
المحاســـبة
فضل اهلل ورمحتهحدها :اجلاهل ُة الظاملة ،وأ َّنه لوال ُ وأساس كل ن ْقصَّ ،
وأن َّ
أبدا ،ولوال ُهداه ما اهتدت ،ولوال إرشاده وتوفي ُقه ملا زكت ً
بتزكيته هلا ما ْ
ٌ
وصول إىل خري الب َّتة. كان هلا
ألن حسن الظن بالنفس [وتتوقف املحاسبة عىل] :سوء الظ ِّن بالنفس َّ
والعيوب اً
كامل؛ َ يمنع من كامل التفتيش و ُي َل ِّبس عليه ،فريى ا َملساوئ حماس َن،
سن ظنِّه بنفسه ،وج ِ
هله بحقوق العبود َّية، [و] ِرضا العبد بطاعته ٌ
دليل عىل ُح ِ
َ
لمه بام َيستح ُّقه الرب ويليق أن يعا َمل به. وعد ِم ِع ِ
ِ
وعيوب عمله ،وجه َله أن جه َله بنفسه وصفاهتا وآفاهتا،وحاصل ذلكَّ :
ُ
وإحسان بربه وحقوقه وما ينبغي أن يعا َمل به ،يتو َّلد منهام رضاه بطاعته،
والكبرْ واآلفات ما هو أكرب من الكبائر ظنِّه هبا ،ويتو َّلد من ذلك من العجب ِ
ُ ْ
الظاهرة؛ من الزنا ،ورشب اخلمر ،والفرار من الزحف ،ونحوها؛ فالرضا
بالطاعة من ُرعونات النفس ومحاقتِها.
35
ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ
ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ﴾ [البقرة ،]199 - 198 :وقال تعاىل ﴿ :ﭡ
الس َحر ،ثم
َ « :م ُّدوا الصالة إىل َّ ﭢ﴾ [آل عمران ،]17 :قال احلسن
جلسوا يستغفرون اهلل ».
بعني ِ
بالعبودية نظر أفعا َله ِ يزيد حيث يقولَ « :من حت َّق َق
در الشيخ أيب َ وهلل ُّ
الدعوى ،وأقوا َله بعني االفرتاء». الر ِ
ياء ،وأحوا َله بعني َّ ِّ
املطلوب يف قلبِك ص ُغ َر ْت عندك وتضاءلت القيم ُة التي َتبذهلا
ُ وك َّلام َع ُظم
وعر ْف َت اهلل،
شه ْد َت حقيقة الربوبية وحقيقة العبوديةَ ، يف حتصيله ،وك َّلام ِ
وعر ْف َت النفس ،تبينَّ لك أن ما معك من البضاعة ال يصلح للملك احلق، َ
وتفضله،
ُّ خشيت عاقبته ،وإنام َيقبله بكرمه وجوده
َ ولو جئت بعمل ال َّثق َل ِ
ني
وتفضله.
ُّ أيضا بكرمه وجوده
و ُيثي ُبك عليه ً
وأشد من
ُّ أعظم إ ْث اًم من ذنبه
ُ يريك ألخيك بذنبه [واعلم] َّ
أن َت ْع َ
معصيته؛ لمِا فيه من َص ْو َلة الطاعة ،وتزكية النفس ،وشكرها ،واملناداة
عليها بالرباءة من الذنبَّ ،
وأن أخاك هو الذي با َء به ،ولعل َكسرْ َ ته بذنبه،
الذ َّلة واخلضوع ،واإلزراء عىل نفسه ،والتخ ُّلص أحدث له من ِّ َ وما
ناكس والكبرْ وال ُع ْجب ،ووقوفه بني يدي اهلل ِ من مرض الدعوى،
َ
وخري له من َص ْو َلة له، أنفع القلب الرأس ،خاشع الطرف ،منكسرِ
ٌ ُ ُ َ
طاعتك ،وتك ُّث ِرك هبا ،واالعتداد هبا ،واملِنَّة عىل اهلل تعاىل َ
وخ ْل ِقه هبا،
36
المحاســـبة
ت اهلل! فام أقرب هذا العايص من رمحة اهلل! وما أقرب هذا ا ُمل ِد َّل من م ْق ِ
َ َ
نائم تبيت
َ ْ
أن وإنك عليه، هبا لُّ دفذنب َت ِذ ُّل به لديه ،أحب إليه من طاعة ُت ِ
اً ُّ ٌ
املعجب ال يصعد عج ًبا ،فإن َ قائم وتصبح ُم َ خري من أن تبيت اً وتصبح ناد ًماٌ ،
َ
أن تبكي وأنت ُم ِد ٌّل، خري من ْ ٌ ف، له عمل ،وإنك أن َتضحك وأنت ِ
معرت
ني ،ولعل اهلل أسقاه هبذا أحب إليه من َز َجل ا ُمل َس ِّبحني ا ُمل ِد ِّل َ
ُّ وأنني املذنبني
ُ
قاتل هو فيك وال تشعر. الذنب دوا ًء استخرج به داء اً
37
منزلـــــة التــــــوبة
ِ
املنزلةَ ،
أرشف منها عىل مقام التوبة، ونز َل يف هذه
صح له هذا املقامَ ،فإذا َّ
ألنه باملحاسبة قد متيز عنده ما له مما عليه ،فلي ِ
جم ْع عىل التشمري إليه ،والنزول ُ َّ
فيه إىل املامت.
ُ
السالك، وآخرها ،فال ُيفارقه ُ
العبد أو ُل املنازل ،وأوسطها، ِ
التوبة َّ ُ
ومنزل
ُ
صحبهآخ َر ارحتل به ،واس َت َ ٍ
منزل َ وال يزال فيه إىل املامتِ ،
وإن ارتحَ َ ل إىل
معه ،ونزل به.
فالتوبة هي بداية العبد وهناي ُته ،وحاجته إليها يف النهاية رضورية ،كام أنَّ
حاج َته إليها يف البداية كذلك ،وقد قال اهلل تعاىل ﴿ :ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ
خاطب مدنيةَ ،
ﰀ ﰁ ﰂ﴾ [النور ،]31 :وهذه اآلية يف سورة َّ
وخيار َخ ْلقه أن يتوبوا إليه ،بعد إيامهنم وصربهم، َ أهل اإليامن اهلل هبا َ
املسبب بسببِه ،وأتى
تعليق َّ
َ الفالح بالتوبة
َ وهجرهتم وجهادهم ،ثم ع َّلق
بالرتجي؛ إيذانًا بأنكم إذا تُبتم كنتم عىل رجاء الفالح،ِّ شعرة(لعل) ا ُمل ِ
بأداة َّ
الفالح إال التائبون ،جعلنا اهلل منهم.
َ فال يرجو
وقال تعاىل﴿ :ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ﴾ [احلجرات ،]11 :ف َق َسم
اسم الظاملِ عىل َمن ع قَ وأو ،ةَ ت
َّ الب ثالث م س العباد إىل تائب وظامل ،وما َثم ِ
ق
َ َّ ْ ٌ
مل َي ُتب ،وال أظ َل َم منه؛ جلهله بِ َر ِّبه وبحقه ،وبعيب َن ْفسه وآفات أعامله.
اس ،تُو ُبوا إىل اهللِ ،فواهللِ إنيِّ لأَ ت ُ
ُوب ويف الصحيح عنه ﷺ أنه قال« :يا هُّأيا ال َّن ُ
38
التـــــوبة
39
الشهوة يحَ ُجبه عن الشعور به ،ومتى ِ ولكن ُس ْك َر َّ ٌ
خمالط لقلبه، إال واحلزن
واشتدت ِغبط ُته ورسوره فلي َّت ِهم إيامنه ،و ْليب ِ
ك عىل َْ ُ َ ْ َّ َخلاَ ُ
قلبه من هذا احلزن،
وص ُعب عليه، َ
وغاظه َ حيا ألحزنه ارتكا ُبه للذنب، موت قلبه ،فإنه لو كان ًّ
جلر ٍح بمي ٍ
إيالم.
ت ٌ س به فام ُ ْ َ ِّ القلب بذلك ،فحيث مل يحُ ِ َّ ُ س وألح َّ
َ
قل َمن هيتدي إليها ،أو ينتبه هلا ،وهي موضع وهذه ال ُّنكتة يف الذ ْنب َّ
تدارك بثالثة أشياء :خوف من املوافاة
جداُ ،مرتا ٍم إىل اهلالك إن مل ُي َ
وف ًّمخَ ُ ٌ
عليه قبل التوبة ،وندم عىل ما فاته من اهلل تعاىل بمخالفة أمره ،وتشمري ِ
للج ِّد
يف استدراكه.
الندم عىل ما َس َلف منه يف املايض ،واإلقالع عنه يف احلال،
فحقيق ُة التوبةُ :
والعزم عىل أن ال ُيعاو َده يف املستقبل.
تقع فيه التوبة ،فإنه يف ذلك الوقت يندم،
والثالثة جتتمع يف الوقت الذي ُ
وي ِ
قلع ،و َيع ِزم. ُ
فحينئذ يرجع إىل العبودية التي ُخ ِلق هلا ،وهذا الرجوع هو حقيقة التوبة،
ٍ
َ
رشائط له. علت وملا كان متو ِّق ًفا عىل تلك الثالثة ُج ِ
ُ
فالتوبة املقبولة الصحيحة هلا عالمات ،منها :أن يكون بعد التوبة ً
خريا مما
كان قبل اخلطيئة.
مستمر
ٌّ مصاحبا له ،ال يأمن طرف َة َعينْ ٍ ،فخوفه
ً ومنها :أنه ال يزال اخلوف
قول الرسل ل َق ْبض ُروحه ﴿ :ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ إىل أن يسمع َ
40
التـــــوبة
41
الكسرْ ة،أحب إىل سيده من هذه َ يشء َّ سيده! فليس ٌ هبا ،وما أقر َبه هبا من ِّ
واخلضوع والتذ ُّلل ،واإلخبات ،واالنطراح بني يديه ،واالستسالم له ،فلله
لك إلاَّ َرحمِ ْ َتني ،أسأ ُل َك
وذليِّ َبع ِّز َك ُ ما أحىل قو َله يف هذه احلال« :أسأ ُل َك ِ
ِ
اخلاط ُئة ِ
الكاذ ُبة هذه ِ
ناص َيتي يكِ ، ناك َع ِّني و َفقْري إ َل َ وض ْعفي ،وبِ ِغ َ ُبق َّوتِ َك َ
واك ،ال َم ْلجأ وال َم ْن َجى ثري ،وليس يل َس ِّي ٌد ِس َ ٌ َ
ك واي
َ بيد َك ِ
س بينْ َ َي َد ْي َكَ ،ع ُ
ليل، اض ِع َّ
الذ ِ خل ِ يك ابتِ َ
هال ا َ ني ،وأبت ِه ُل إ َل َ يك ،أسأ ُل َك َمسأل َة املِسك ِ نك إلاَّ إ َل َِم َ
ور ِغ َم َ سؤال َمن َخ َض َع ْت َ َ ف الضرَّ ي ِر، وك ُدعا َء اخلائِ ِ
وأدع َ
لك لك َر َقب ُتهَ ، ُ
لك َق ْل ُبه». وفاض ْت َ
لك َع ْينا ُه ،و َذ َّل َ َ أ ْن ُفه،
42
التـــــوبة
من اإلزراء عىل أهل الكبائر واحتقارهم ،وصولة طاعاهتم عليهمِ ،
وم َّنتهم
خل ْلق هلم عىل طاعاهتم، واطنهم لتعظيم ا َ خل ْلق بلسان احلال ،واقتضاء َب ِ عىل ا َ
أبغض إىل اهلل تعاىل،
ُ اقتضاء ال خيفى عىل أحد غريهم ،وتوابع ذلك ما هو
أحدهم بقاذورة أو كبرية هلل َ َدارك ا ُ
عد هلم عن بابه من كبائ ِر أولئك ،فإنْ ت َ وأب ُ
ْ
قدره ،و ُي ِذ َّله هبا ،ويخُ ِرج هبا صول َة
وقعه فيها ليكسرِ هبا ن ْف َسه ،و ُي َع ِّر َفه هبا ْي ِ
ُ
أصحاب الكبائر بتوبة
َ َدارك الطاعة من قلبه ،فهي رمحة يف حقه ،كام أنه إذا ت َ
نصوح ،وإقبال بقلوهبم إليه؛ فهو رمحة يف ح ِّقهم ،وإال فكالمها عىل خطر.
43
بأسامئه وصفاته وأن ذلك موجب األسامء والصفات ،وأثرها يف الوجود،
بد منه. ٍ
وصفة ُم ْق َت ٍ
ض ألثره وموجبه ،متع ِّل ٌق به ،ال َّ َّ
وأن كل اسم
ِ
وأرسار ال َق َدر طلعه عىل رياض ُمؤنِقة من املعارف واإليامن، وهذا املشهد ي ِ
ُ
يضيق عن التعبري عنها نِ ُ
طاق الك َِل ِم. ُ ِ
واحلكمة
فمن بعضها :أنه سبحانه العزيز الذي يقيض ما يشاء ،وأ َّنه لكامل ِع ِّزه
ف إراد َته عىل ما يشاء، ورص َ
َّ َحك ََم عىل العبد وقىض عليه بأن ق َّلب قلبه
مريدا شائ ًيا لمِا شاء منه العزيز احلكيم ،وهذا
وحال بني العبد وقلبه ،وجعله ً
يترصف من كامل العزة؛ إذ ال يقدر عىل ذلك إال اهلل تعاىل ،وغاية املخلوق أن َّ
مريدا شائ ًيا لمِا يشاؤه منك ويريده فال يقدر
يف بدنك وظاهرك ،وأما َج ْع ُلك ً
عليه إال ذو العزة الباهرة.
عز سيده ،والحظه بقلبه ،ومتكَّن شهو ُده منه؛ كان العبد َّ
ُ عرففإذا َ
وأنفع له؛ ألنه يصري مع اهلل تعاىل ال
َ االشتغال به عن ُذ ِّل املعصية أوىل به
مع نفسه.
ومن معرفة عزته يف قضائه :أن يعرف أنه ُمد َّبر مقهور ،ناصيته بيد غريه،
حقري ،يف
ٌ ال عصمة له إال بعصمته ،وال توفيق له إال بمعونته ،فهو ٌ
ذليل
قبضة عزيز محيد.
أيضا يف قضائه :أن يشهد أن الكامل واحلمد ،والغنا َء ومن شهود عزته ً
ِ
والعيب والظلم ال َّتا َّم ،والعزة ك َّلها هلل ،وأن العبد ن ْف َسه أوىل بالنقص والذم،
44
التـــــوبة
لذ ِّله ونقصه وعيبه وفقره ،ازداد شهو ُده لعزة واحلاجة ،وكلام ازداد شهو ُده ُ
اهلل تعاىل وكامله ،وحمَ ْ ِده وغناه ،وكذلك بالعكس ،فنقص الذنب ِ
وذ َّل ُته ُت ْط ِل ُعه
عىل مشهد العزة.
ومنها :أن يعرف بِ َّره سبحانه يف َسترْ ه عليه حال ارتكاب املعصية مع
فح ِذروه ،وهذا من كامل ِّبره، كامل رؤيته له ،ولو شاء ل َف َضحه بني َخ ْلقه َ
ومن أسامئه( :البرَُّ ) ،وهذا البرُِّ من س ِّيده به مع كامل ِغنَاه عنه ،وكامل فقر
العبد إليه ،فيشتغل بمطالعة هذه املِنَّة ،ومشاهدة هذا البرِِّ واإلحسان والكرم،
فيذهل عن ُذ ِّل اخلطيئة ،فيبقى مع اهلل ،وذلك أنفع له من االشتغال بجنايته،
وشهود ُذ ِّل معصيته؛ فإن االشتغال باهلل والغفل َة عام سواه هو املطلب األعىل،
واملقصد األسنى.
ُ
ومنها :شهوده ِح ْل َم اهلل يف إمهال راكب اخلطيئة ،ولو شاء لعاجله
بالعقوبة؛ ولكنه احلليم الذي ال َيعجل ،ف ُي ْح ِدث له ذلك معرف َته سبحانه
باسمه (احلليم) ،ومشاهد َة صفة ِ
(احل ْلم) ،والتع ُّب َد هبذا االسم.
ومنها :معرفة العبد كر َم ربه يف َقبول العذر منه إذا اعتذر إليه ،فيقبل عذره
اً
اشتغال بذكره وشكره ،وحم َّب ًة أخرى مل تكن وجب له ذلك بكرمه َوجوده ،ف ُي ِ
فإن حمبتك ملن شكرك عىل إحسانك وجازاك به ،ثم حاصل ًة له قبل ذلكَّ ،
وحده،
أضعاف حمبتك عىل شكر اإلحسان َ ُ يؤاخ ْذك هباغفر لك إساءتك ومل ِ
بعد الذنب لون آخر.
والواقع شاهد بذلك ،فعبودية التوبة َ
ومنها :أن يشهد فضله يف مغفرته ،فإن املغفرة ٌ
فضل من اهلل تعاىل ،وإال
45
عادل حممو ًدا ،وإنام غفرهاخذ بمحض ح ِّقه ،وكان اً واخ َذ َنا بالذنب َل َو َ
فلو َ
شكرا له وحمبة ،وإناب ًة إليه، بفضله ال باستحقاقك ،ف ُي ِ
أيضا ً وجب لك ذلك ً
وابتهاجا به ،ومعرف ًة له باسمه (الغ َّفار) ،ومشاهد ًة هلذه الصفة، ً وفرحا
ً
وتع ُّب ًدا بمقتضاها ،وذلك أكمل يف العبودية واملعرفة واملحبة.
الذ ِّل واخلضوع واالنكسار بني يديه، مراتب ُّ
َ ومنها :أن ُيك َِّم َل لعبده
در ْت لقالت كقول واالفتقار إليه ،فإن النفس فيها مضاها ٌة للربوبية ،ولو َق َ
وغريه عجز فأضمر ،وإنام يخُ َ ِّل ُصها من هذه ُ فرعون ،ولكنه َق َد َر فأظهر،
َ
ذل العبودية. املضاهاة ُّ
آثارها اقتضا َء األسباب التامة ملسبباهتا، ومنها :أن أسامءه احلسنى تقتيض ُ
فاسم (السميع ،البصري) يقتيض مسمو ًعا و ُمبصرًَ ا ،واسم (الرزاق)
يقتيض مرزو ًقا ،واسم (الرحيم) يقتيض مرحو ًما ،وكذلك اسم (الغفور)،
و(العفو) ،و(التواب) ،و(احلليم) يقتيض َمن يغفر له ،ويتوب عليه ،ويعفو
عنه ،ويحَ ُل ُم عنه ،ويستحيل تعطيل هذه األسامء والصفات؛ إذ هي أسام ٌء
ود،وإحسان وج ٍ
ٍ ٍ
حكمة ُ
وأفعال وصفات كامل ،ونعوت جالل، ُ حسنى،
ُ
أعلم اخل ْلق باهلل -صلوات فالبد من ظهور آثارها يف العامل ،وقد أشار إىل هذا ُ
اء ب َقو ٍم لجَ و ، م ُ
ك ب اهلل ب ه َ
ذ َ
ل بوا،اهلل وسالمه عليه -حيث يقولَ « :لو لمَ ُت ْذنِ
َ ْ َ َ ْ ْ
رون -في ِ
غف ُر ُهل ْم»(((. َ بون ُ -ثم يس َت ِ
غف َ ي ْذنِ
َ َّ َ ُ
ومنها :ال األعظم ،الذي ال تقتحمه ِ
العبارة ،وال جتسرُ ُ عليه اإلشارة، ُ سرُِّّ
( )1أخرجه مسلم (.)2749
46
التـــــوبة
قلوبُ وال ُينادي عليه منادي اإليامن عىل ُرؤوس األشهاد ،بل َش ِه َد ْته
خواص العباد ،فازدادت به معرف ًة لرهبا وحمب ًة له ،وطمأنينة به ،وشو ًقا إليه، ِّ
بذ ْك ِره ،وشهو ًدا لبرِِّ ه ،ولطفه وكرمه وإحسانه ،ومطالع ًة لرس العبودية، ولهَ جا ِ
َ ً
وإرشا ًفا عىل حقيقة اإلهلية ،وهو ما ثبت يف الصحيحني من حديث أنس بن
توب إ َل ِيه ِم ْن حني َي ُ
ِ ِ
أفر ُح ب َتوبة َع ْبده َ مالك ،قال :قال رسول اهلل ﷺ« :هلل َ
وشا ُبه، عامه رَ َ
ط وعليها ،ه ن ت ِ
م ْ ت
َ َ
ل َ
ف فان ، ض َفلاَ ٍ
ة ِ بأر راح ٍ
لة أح ِدكُم كان عىل ِ
ُ ُ ْ َ
راح َلتِه ،فب ْينام هو َفأيِس منها ،فأ َتى َشجر ًة فاض َطجع يف ظِ ِّلهاَ ،ق ْد أيِس ِمن ِ
َ ْ َ َ َ َ
اللهم
َّ خ َط ِامهاُ ،ث َّم قال ِم ْن ِش َّد ِة ال َف َرحِ : فأخ َذ بِ ِ كذلك إذا هو هبا قائِم ٌة ِع َندهَ ، َ
أخ َطأ ِم ْن ِش َّد ِة ال َف َرحِ »(((.
كْ ، أنت ع ِ
بدي وأنا َر ُّب َ َ َ
واإلعراض عنه ،والُ والقصد أن هذا الفرح له ٌ
شأن ال ينبغي للعبد إمهال ُه
بع ِّز جاللِه.ي َّطلع عليه إال من له معرفة خاص ٌة باهلل وأسامئه وصفاته ،وما يليق ِ
َّ َ َ
وخ َري ُة اهلل من فاملؤمنون من نوع اإلنسان خري الربية عىل اإلطالقِ ،
ُ
وليتواتر إحسانه إليه ،ول َي ُخ َّصه من عليه، نعمته م العالمَني ،فإنه خ َلقه ليتِ
َ ُ َّ
كرامته وفضله بام مل َتنله أمنيته ،ومل خيطر عىل باله ومل يشعر به ،ليسأ َله من
العاجلة واآلجلة ،التي ال ُتنال إال ِ ِ
الباطنة والظاهرة، املواهب والعطايا
وإيثاره عىل ما سواه ،فاتخَّ ذه حمبو ًبا له، ِ بمح َّبته ،وال ُتنال حم َّبته إال بطاعته،
جوا ٌد ملحبوبه إذا قدم عليه ،و َع ِه َد إليه أفضل ما يع ُده محُ ِ
قادر
ٌّ ٌّ ٌ َ غني ب َ ُ ِّ وأعد له
َّ
قربه إليه ،ويزيده تقد َم إليه فيه بأوامره ونواهيه ،وأعلمه يف عهده ما ُي ِّ عهدا َّ ً
47
بعده منه ويسخطه عليه ،و ُي ْس ِقطه من عينه.
حمب ًة له وكرامة عليه ،وما ي ِ
ُ
جاهره بالعداوة ،وأمر عباده وللمحبوب عدو هو أبغض ِ
خلقه إليه ،قد
َ ٌّ
أن يكون دينُهم وطاعتهم وعبادتهُ م له ،دون َولِ ِّيهم ومعبودهم احلق،
ظاه ُروه ووا َل ْو ُه عىل رهبم ،وكانوا أعدا ًء
واستقطع عبا َده ،واختذ منهم حز ًبا َ
له مع هذا العدو.
ِ
كرهه ،وأ َب َق عبده وحمبو ُبه لغضبه ،وارتكب َمساخ َطه وما َي َ تعرض ُ فإذا َّ
وظاه َره عليه ،وحت َّي َز إليه ،وقطع طريق نِ َع ِمه وإحسانه إليه َ عدوه
َّ منه ،ووالىَ
طريق العقوبة واالنتقام والغضب :فقد َ أحب يشء إليه ،وفتح ُّ التي هي
خالف ما هو موصوف به من اجلود واإلحسان َ اد الكري ِم استدعى من اجلو ِ
َ
وتعرض إلغضابه وإسخاطه وانتقامه ،وأن يصري غض ُبه وسخ ُطه يف والبرِِّ َّ ،
موضع رضاه ،وانتقامه وعقوب ُته يف موضع كرمه وبِ ِّره وإعطائه ،فاستدعى
أحب إليه منه ،وخالف ما هو من لوازم ذاته من بمعصيته من أفعاله ما سواه ُّ
إذ انقلب اجلود واإلحسان .فبينام هو حبيبه املقرب املخصوص بالكرامةِ ،
ُ َّ
مائل عنه إىل عدوه ،مع شدة حاجته إليه ،وعدم آبِ ًقا شار ًدا ،را ًّدا لكرامته ،اً
استغنائه عنه طرفة عني .فبينام ذلك احلبيب مع العدو يف طاعته وخدمته
خالف ما هو َ عدوه ،قد استدعى من س ِّيده موافقة يف ًا
ك ناسيا لسيده ،م ِ
نهم
ِّ ُ ً
أهله إذ عرضت له فكرة فتذ َّكر بِ َّر سيده وعط َفه ،وجو َده وكر َمه ،و َع ِل َم أنه
قد ْم عليه بن ْفسه ُق ِد َم مصريه إليه ،و َع ْر َضه عليه ،وأنه إن مل َي َ
َ ال ُب َّد له منه ،وأن
وج َّد يف اهلرب إليه عدوهَ ، ففر إىل سيده من بلد ِّ به عليه عىل أسوأ األحوالَّ ،
48
التـــــوبة
50
التـــــوبة
51
والعمل الصالح الذي يخُ ِْرجها به عن َو ْصف ال ُّظلم ،ومع ِ وصف اجلهل،
هذا فجه ُلها أكثر من ِع ْلمها ،و ُظلمها أعظم من َع ْدهلا.
فحقيق بِ َمن هذا شأ ُنه أن يرغب إىل خالقها وفاطرها أن َي ِق َيه شرََّ هاْ ،
وأن ٌ
خري َمن َز َّكاها ،فإنه ول ُّيها و َموالها ،وأن ال َي ِك َله
يؤتيها تقواها و ُي َز ِّك َيها ،فهو ُ
عني ،فإ َّنه إن َو َك َله إليها هلك ،فام هلك َمن هلك إال حيث ُو ِك َل إليها طرف َة ٍ
أهل ْمني ُر ْشدي، إىل نفسه ،وقال النبي ﷺ حلص ِ بن [عبيد] ُ « :ق ِل :اللهم ِ
َّ ُ َ ينْ
عرف حقيقة نفسه وما ُطب ِ َعت عليه َع ِل َم أهنا منبع ن فم ، يس» ْ
ف َ
ن ش يوقن ِ
ِ
َ َ (((
رََّ
ففضل ِمن اهلل َم َّن به عليها ،مل
ٌ وأن كل خري فيها كل سوءَّ ، رش ،ومأوى ِّ كل ٍّ
يكن منها ،كام قال تعاىل ﴿ :ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ﴾
[النور.]21 :
ٌ
صادق يف أن َمن له بصري ٌة بنفسه ،وبصري ٌة بحقوق اهلل تعاىل ،وهو ومنهاَّ :
نظره يف سيئاته حسن ًة الب َّتة ،فال َي ْل َقى اهلل تعاىل إال باإلفالس َط َلبِه ،مل ُي ْب ِق له ُ
وعيوب عمله َع ِلم
ِ ِ ِ
ف؛ أل َّنه إذا ف َّتش عن عيوب نفسه ا َمل ْحض ،والفقر الصرِّ ْ
فضل عن وأن تلك البضاعة ال ُت ْشترَ َ ى هبا النجا ُة ِمن عذابه ،اً أنهَّ ا ال تصلح هللَّ ،
وص َفا له معه ٌ
وقت؛ وحال مع اهللَ ،ٌ عملص له ٌ الفوز بعظيم ثوابه ،فإن َخ َل َ
أهل لذلك، فضله ،وأنَّه ليس من نفسه ،وال هي ٌ شاهد ِم َّنـ َة اهلل عليه به ،وجمرد ِ
َ
َّ
شاه ٌد ملِن َِّة اهلل عليه ،ولعيوب ن ْفسه وعمله؛ أل َّنه متى َت َط َّلبها رآها،
فهو دائم م ِ
اً ُ
وأنفعها للعبد ،ولذلك كان س ِّيد االستغفار: ِ أج ِّل أنواع املعارف وهذا من َ
52
التـــــوبة
أنتَ ،خ َل ْق َتني ،وأنا َع ْب ُد َك ،وأنا عىل َع ْه ِد َك َ أنت َر يِّب ،ال إل َه إلاَّ «اللهم َ َّ
عل، كَ لك بنِعمتِ َ وء ب أ ،ت ُ ع ن
َ ص ما ش ن بك ِ
م َ ُ
ذ و ع أ ، ت
ُ ع َ
ط ت
َ اس ما َ
ك دووع ِ
يََّ َ ُ ُ ْ َ رَِّ ْ ُ ْ َ ْ
وب إلاَّ َ غف ُر ُّ فاغفر يل ،إ َّنه ال ي ِ وأبوء َبذ ْنبيِ ،
أنت»(((. الذ ُن َ َ ْ ُ ُ
االعرتاف من العبد ُبر ُبوبِ َّيتِه ،وإهل َّيته وتوحيده، َ االستغفار
ُ فتضمن هذا َّ
تستلزم َع ْج َزه عن أداء ِ واالعرتاف بأ َّنه خال ُقه ،العالِـم به؛ إذ أنشأه نشأ ًة َ
اص َي ُته بيده ويف قبضته ،ال عبده الذي َن ِ واالعرتاف بأ َّنه ُ َ ح ِّقه ،وتقصريه فيه،
الدخول حتت عهده -وهو أ ْم ُره َم ْه َر َب له منه ،وال َوليَِّ له سواه ،ثم التزام ُّ
بحسب استطاعتي، وأن ذلك َ ونهَ ْ ُيه -الذي َع ِه َده إليه عىل لسان رسولهَّ ،
بحسب أداء َح ِّقك؛ فإ َّنه غري مقدور للبرش ،وإنام هو ُج ْهد ا ُمل ِق ِّل ،و َق ْدر ال َ
صدق بوعدك الذي وعد َته ألهل طاعتك بالثواب، الطاقة ،ومع ذلك فأنا ُم ِّ
يم عىل عهدك ،و ُم َص ِّد ٌق بوعدك ،ثم ِ
وألهل معصيتك بالعقاب ،فأنا ُمق ٌ
رش ما َف َّر ْط ُت فيه من أ ْم ِرك ونهَ ْ ِيك ،فإ َّنك إن مل ن م االستعاذة واالعتصام بك ِ
ِّ
رشه ،وإال أحاطت يب اهل َل َك ُةَّ ، ُت ِع ْذين ِ
سبب اهلالك ،وأنا فإن إضاعة ح ِّقك ُ ِّ ن م
ُ
واإلحسان بذنبي؛ فمنك النِّعمة عيل ،و ُأ ِق ُّر وألتزم َ َّ عمتك ُأ ِقر لك وألتزم بنِ
ُّ
وأننب واإلساءة ،فأسألك أن تغفر يل بِ َم ْح ِو ذنبيْ ، الذ ُوالفضل ،ومنِّي َّ
َت ِق َيني ِمن شرَِّ ه ،إ َّنه ال يغفر الذنوب إال أنت.
53
احلاض له
ِّ اآلمر له باملعصية ،ا ُمل َز ِّين له فِع َلها،
النظر [اخلامس] :نظره إىل ِ
ُ
عليها ،وهو شيطانه ا ُمل َو َّكل به.
َ
وكامل االحرتاز منه ،والتح ُّف َظ النظر إليه ومالحظ ُته اختا َذه ُ
عد ًّوا، يدهففي ِ
ُ ُ
لمِ
عدوه وهو ال يشعر ،فإ َّنه يريد أن يظفر به واليقظ َة ،واالنتبا َه َا يريده منه ُّ
بعضها أصعب من بعض ،ال ينزل منه من العقبة يف َع َق ٍبة من سبع عقبات؛ ُ
الشا َّقة إىل ما دوهنا إال إذا عجز عن الظفر به فيها:
ِ
وصفات كامله ،وما أخبرَ َ ْت وبدينه ولقائه، العقبة األوىل :عقبة الكُفر باهلل ِ
ِ
نار عداوته ،واسرتاح معه، به رس ُله عنه ،فإ َّنه إن َظف َر به يف هذه العقبة َب َر َد ْت ُ
ِ
نور اإليامن؛وسل َم معه ُ فإن اقتحم هذه العقب َة ونجا منها ببصرية اهلدايةَ ،
طل َبه عىل:
احلق الذي أرسل ا ُ
هلل خالف ِّ ِ ِ
باعتقاد العقبة الثانية :وهي عقبة البِ ْدعة ،إ َّما
والرسومبه رسو َله ،وأنزل به كتا َبه ،وإ َّما بالتع ُّبد بام مل ْيأ َذ ْن به من األوضا ِع ُّ
الدين ،التي ال َيق َب ُل اهلل منها شي ًئا.
ا ُمل ْح َدثة يف ِّ
العقبة الثالثة :وهي َع َقب ُة الكبائرِ ْ ،
فإن َظفر به فيها َز َّينَها لهَ ،
وح َّسنها يف
وس َّوف به ،وفتح له باب اإلرجاء. عينهَ ،
وح ُتن ِْجيه ،طل َبه عىل: مة ِمن اهلل ،أو ٍ بعص ٍ ِ
بتوبة َن ُص ٍ فإن َق َط َع هذه العقب َة ْ
ْ
الصغائر ،فك َ
َال له منها بال َق َف َزان ،قال :ما عليك الرابعة :وهي عقبة َّ العقبة َّ
مت بأنهَّ ا ُت َك َّفر باجتناب يت ِمن ال َّلم ِم ،أوما ِ
عل َ َ اجتنبت الكبائر ما َغ ِ
ش َ إذا
َ َ َ
54
التـــــوبة
أمرها حتى ُيصرَِّ عليها ،فيكون الكبائر وباحلسنات؟ وال يزال هُ َي ِّون عليه َ
فإن اإلرصار عىل حال منه؛ َّ الو ِج ُل الناد ُم أحس َن اً ِ
اخلائف َ ُ ب الكبرية مرتك ُ
الذنب أقبح منه ،وال كبري َة مع ال َّتوبة واالستغفار ،وال صغرية مع اإلرصار، َّ
لذلك َم َث اًل ب َق ْو ٍم « َن َز ُلوا َ وب»ُ ،ث َّم ضرَ َ َب الذ ُن ِ
رات ُّ وقد قال ﷺ« :إياكُم ومحُ َ َّق ِ
َّ ْ
ود،ود ،وهذا بع ٍ احل َطب ،فجع َل جَيِيء هذا بِع ٍ َ م ه ز
َ و ع فأ ، ِ
األرض ن م الة ِب َف ٍ
ُ ُ ُ َ َ ُ ُ ُ َ ْ َ
فكذلك َش ْأ ُن َ وأنض ُجوا ُخ ْب َز هَ ُت ْم، َ فأو َق ُدو ُه ً
نارا، كثرياْ ، ح َّتى جمَ َ ُعوا َح َط ًبا ً
بشأ هِنا ح َّتى هُ ْتلِ َكه»(((. هني ْ ِ
وب؛ تجَ َتم ُع عىل ال َعبد و َيس َت ُ
ِ الذ ُن ِ
رات ُّ محُ َ َّق ِ
فش َغ َله فاع ِلهاَ ، العقبة اخلامسة :وهي عقبة ا ُملباحات التي ال حرج عىل ِ
ََ َ
طمع عادهُ ،ثم ِ هبا عن االستكثار من ال َّطاعات ،وعن االجتهاد يف التزود َلمِ ِ
َّ ُّ
السنَن إىل َت ْرك الواجبات، ك ر ت
َ ن أن يستدرجه منها إىل َتر ِك السنن ،ثم ِ
م فيه ْ
ُّ ْ ْ
واملنازل العالية ،ولو َ واملكاسب العظيمة، َ وأ َق ُّل ما ُينال منه تفوي ُته األرباح،
بالسعر. فوت عىل نفسه شي ًئا من ال ُق ُربات ،ولكنَّه جاهل ِّ الس ْعر لمََا َّ ف ِّ َع َر َ
بقدر الطاعات ِ هاد ،ومعرفة ونور ٍ ٍ فإن َن َجا من هذه العقبة ببصرية تا َّمة، ْ
شرتي، وخطر ال ِّتجارة ،وكرم ا ُمل ِ ِ وق َّل ِة املقام عىل امليناء، واالستكثار منهاِ ،
وض َّن بأنفاسه أن تذهب يف غري فبخل بأوقاتهَ ، وقدر ما يعوض به ال ُّتجارِ ،
َّ ُ َ َّ
العدو عىل:
ُّ ِربح َط َل َبه
العقبة السادسة :وهي عقبة األعامل ا َملرجوحة ا َملفضولة من الطاعات،
والربح؛
وحسنها يف عينه ،وز َّينها له ،وأراه ما فيها من الفضل ِّ
َّ فأ َم َره هبا،
55
وربحا؛ أل َّنه لمََّا عجز عن
ً وأعظم كس ًبا
ُ ليشغله هبا عماَّ هو أفضل منها،
أصل الثواب َط ِم َع يف ختسريه كام َله وفض َله ،ودرجاتِه العالي َةَ ،
فش َغ َله تخَ سريه َ
األحب ِ
وباملحبوب هلل عن اجح، الفاضل ،وباملرجوح عن الر ِِ باملفضول عن
ِّ َّ
إليه ،وبا َمل ْرضيِِّ عن ْ
األر ىَض له.
أصحاب هذه العقبة؟ فهم األفراد يف العالمَ ،واألكثرون قد ُ ولكن أين
ظفر هبم يف العقبات األُ َول. ِ
فإن يف األعامل واألقوال سي ًدا ومسودا ،ورئيسا ومرؤوساِ ،
وذ ْر َو ًة وما دوهنا، َّ
ً ً ِّ َ ُ ً
أنت َر يِّب ،الإل َه
اللهم َ :بد
ُ ع ال َ
قول ي أن
ْ ِ
غفار كام يف احلديث الصحيح« :سي ُد الاِ ستِ
َّ َ َ َ ِّ
األم ِر»(((،وال يقطع ْ ِ
م نا س ة
ُ
ُ ْ َو ذر د ها ِ
«اجل اآلخر: احلديث ويف ، َ
احلديث ، (((
إلاَّ َ
أنت»
الع ْلم ،السائرين عىل جا َّدة التوفيق، أهل البصائر والصدق من ُأويل ِ هذه العقب َة إال ُ
ِّ
حق ح َّقه. األعامل ِ
منازلهَ ا ،وأع َط ْوا ُك َّل ذي ٍّ َ قد أنزلوا
بد له
العدو عليها سوى واحدة ال َّ ُّ يبق هناك عقب ٌة يطلبه
فإذا نجا منها مل َ
رسل اهلل وأنبياؤه ،وأكرم اخل ْلق عليه. أحد َلن ََجا منها ُ
منها ،ولو نجا منها ٌ
تسليط ُجن ِْده عليه بأنواع األذى ،باليد ِ [العقبة السابعة] :وهي عقب ُة
حسب مرتبته يف اخلري ،فكلام َع َل ْت مرتب ُته أج َلب عليه واللسان والقلب ،عىل َ
وظاه َر عليه بِ ُجنْده ،وس َّلط عليه حز َبه وأه َله بأنواع ال َّتسليط،
َ ور ِجله،
بخيله َ
جد يف االستقامة والدعوة وهذه العقبة ال ِحي َلة له يف التخ ُّلص منها ،فإ َّنه ك َّلام َّ
56
التـــــوبة
السفهاء به ،فهو يف هذه العدو يف إغراء ُّ ُّ إىل اهلل تعاىل ،والقيام بأ ْم ِرهَ ،ج َّد
الع َقبة قد َلبِس لأَ ْم َة احلرب ،وأخذ يف حماربة العدو هلل وباهلل ،فع ِ
بود َّي ُته فيها ُ ِّ َ َ
سمى عبود َّي َة ا ُملرا َغمة ،وال ينتبه هلا إال ُأو ُلو
اص العارفني ،وهي ُت َّ عبود َّي ُة َخ َو ِّ
لعدوه ،وإغا َظتِه له.ِّ ه ي مة ولِ
َ ِّ
البصائر ال َّتامة ،وال يشء أحب إىل اهلل من مرا َغ ِ
ُ َ ُّ َّ
أحـــكام ال ّ َتوبـــــة
ليق بالعبد َج ْه ُلها: ونذكر ُن َب ًذا تتع َّلق بأحكام ال َّتوبة ُّ
تشتد احلاجة إليها ،وال َي ُ
تأخريها،ُ الذنب َف ْر ٌض عىل ال َف ْو ِر ،ال جيوز منها :املبادرة إىل ال َّتوبة من َّ
الذنب َب ِق َي عليه توب ٌة أخرى، أخرها عىص بالتأخري ،فإذا تاب من َّ فمتى َّ
ِ
التائب ،بل عنده أ َّنه وهي توبته من تأخري ال َّتوبة ،و َق َّل أن تخَ ُطر هذه ِ
ببال
يبق عليه يشء آخر ،وقد َب ِق َي عليه ال َّتوب ُة من تأخري الذنب مل َ إذا تاب من َّ
ال َّتوبة ،وال ُينجي من هذا إال توب ٌة عامة ممَِّا يعلم من ذنوبه وممَّا ال َي ْع َلمَّ ،
فإن
ذة هبا املؤاخ ِ
َ أكثر مما يعلمه ،وال ينفعه يف عدم ما ال يعلمه العبد من ذنوبه ُ
رتك العلم والعمل ،فاملعصية ٍ
عاص ب ْ جه ُله إذا كان متم ِّكنًا من العلم ،فإ َّنه
يف ح ِّقه ُّ
أشد.
الذنب فهل يرجع إىل ما كان عليه قبل تاب من َّأن العبد إذا َ [ومنها]َّ :
الذنب أو ال يرجع إليها؟ اخ ُت ِلف يف ذلك.
الدرجة التي ح َّطه عنها َّ َّ
الذنب من َّ
اخلالف ،ثم قال:
َ حيكي هذا عت شيخ اإلسالم اب َن تيم َّي َة ِ
وسم ُ
ني َمن ال يعود إىل درجته ،ومنهم َمن يعود إليها، أن ِمن ِ
التائبِ َ «والصحيح َّ
َّ
57
خريا مما كان قبل َّ
الذنب ،فكان داود ومنهم َمن يعود إىل أعىل منها ،فيصري ً
خريا منه قبل اخلطيئة».
بعد ال َّتوبة ً
وح َذره ِ
وج ِّده ب بعد َتوبتِه ْ ِبحسب حال ال َّت ِائ ِ
وعزمه َ َ قال« :وهذا
خريا ممَِّا كان
الذنب عاد ً أعظم ممَِّا كان له قبل ََّ وتشمريهْ ،
فإن كان ذلك
مثل حالِه ،وإن كان دو َنه مل َي ُعد إىل
وأعىل درج ًة ،وإن كان مث َله عاد إىل ِ
درجته ،وكان ُمنح ًّطا عنها».
الصف األول،
ِّ وقد ضرُ ِ َب لذلك م َث ٌل َبر ُج ٍل خرج ِمن بيته يريد الصالة يف
ِ ال ي ْل ِوي عىل يشء يف طريقه ،فعرض له ٌ ِ
رجل من َخ ْلفه َج َب َذ ثو َبه ْ
وأو َقفه َ َ
قليل ،يريد َت ْعوي َقه عن الصالة ،فله معه حاالن:
اً
حال ِ
غري ال َّتائب. أن يشتغل به حتى تفو َته الصال ُة ،فهذه ُ
أحدمهاْ :
الثاين :أن يجُ ِ
اذ َبه عىل نفسه ،ويت َف َّلت منه؛ لئلاَّ تفو َته الصالة ،ثم له بعد
هذا التف ُّلت ثالث ُة أحوال:
58
التـــــوبة
خري ِ
ص عي مل الذي طيع ُ
مل ا هل ه: ن
َّ أ وهي ، ٍ
رشيفة ٍ
بمسألة ويتبينَّ هذا
ٌ َْ
وحا ،أو هذا ال َّتائب أفضل منه؟ من العايص الذي تاب إىل اهلل َت ْوب ًة َن ُص ً
ف يف ذلك؛ اخ ُت ِل َ
وحا ،واح َت ُّجواص عىل َمن عىص وتاب َت ْوب ًة َن ُص ً رج َحت َمن مل َي ْع ِ فطائفة َّ
بوجوه [منها] : ٍ
مراحل إىل فوق،َ طيع ِع َّد َة زمن اشتغال العايص بمعصيته يسبقه ا ُمل ُ أن يف ِ َّ -1
فتكون درج ُته أعىل من درجته ،وغاي ُته أ َّنه إذا تاب استقبل َسيرْ َ ه ليلحقه،
آخر ،فأ َّنى له ب َل ِ
حاقه؟ وذاك يف َسيرْ ٍ َ َ
أحاط عىل بستان طاعته حائ ًطا َح ِصينًا ال جيد األعدا ُء إليه َ طيع قد أن ا ُمل َ َّ -2
ٍ
أبدا ،والعايص زيادة و ُن ُم ٍّو ً وخرض ُته وهبج ُته يف مر ُته وزهر ُته ُ سبيل ،ف َث َ اً
قد فتح فيه َث ْغ ًرا ،و َث َل َم فيه ُث ْلم ًة ،و َم َّك َن منه السرَُّّ َاق واألعدا َء ،فدخلوا
وخربوا ِحيطا َنه ،وق َطعوا وأفسدوا أغصا َنهَّ ، َ اً
وشامل، ف َعا ُثوا فيه يمينًا
وأحرقوا يف نواحيه ،وق َط ُعوا ماءه ،أو َن َق ُصوا َس ْق َيه ،فمتى يرجع ه،ثمراتِ
َ
األول؟ ِ
هذا إىل حاله َّ
ٍ -وإن مل ُتنكِر ك َْو َن َّ ِ ِ
حسنات منه- أكثر
األول َ ْ ائب رج َحت ال َّت َ وطائف ٌة َّ
بوجوه [منها ]: ٍ واحتجت َّ
ب العبود َّيات إىل اهلل ،وأ ْك َر ِمها عليه ،فإ َّنه سبحانه أح ِّ
ِ
أن عبود َّية ال َّتوبة من َ َّ -1
أحب األشياء إليه َلمَا اب ُتليِ َ َّ
بالذنب أكر ُم ني ،ولو مل تكن ال َّتوب ُة َّ التوابِ َ حيب َّ
اخلَ ْلق عليه.
59
الذل ،واالنكسار ،واخلضوع ،والتم ُّل ِق هلل، أن عبود َّية ال َّتوبة فيها من ُّ َّ -2
وإن زادت يف أحب إليه من كثري من األعامل ال َّظاهرةْ ، والتذ ُّلل له ،ما هو ُّ
وح العبود َّية، الذ َّل واالنكسار ُر ُفإن ُّال َق ْدر والك َِّم َّية عىل عبود َّية ال َّتوبةَّ ،
يوضحه: ومخُُّها و ُل ُّبهاِّ ،
أكمل منها لغريه؛ فإ َّنه قد الذ ِّل واالنكسار لل َّتائب ُ ب ُّ حصول مراتِ ِ
َ أن َّ -3
ِ
بانكسار وامتاز عنه
َ شارك َمن مل ُيذنِب يف ُذ ِّل الفقر ،والعبود َّية ،واملح َّبة، َ
ندأج ُد َك؟ قالِ :ع َ قلبِه باملعصية كام يف األثر اإلرسائييل :يا ر ِّب ،أين ِ
َ
العبد من َر ِّبه
ُ أقرب ما يكون هذا ِ
ل وألج يل. أج ن ما ُملنكسرِ ِة قلو م ِ
ُ ْ ْ بهُ
وانكسار بني يدي َر ِّبه .ٍ وهو ساجد؛ أل َّنه مقا ُم ُذ ٍّل
قول َيو َم النبي ﷺ فيام َيروي عن ر ِّبه تبارك وتعاىل« :أ َّنه َي ُ قول ِّ وتأ َّم ْل َ
طعمني ،قال :يا رب ،كيف ُأ ِ ِ ِ
ك طع ُم َ َ ِّ ك ف َل ْم ُت ْ ابن آ َد َم ،اس َتط َع ْم ُت َ القيامةَ :
طع ْمهَ ،أما لو أط َع ْم َته مك عبدي ف َلم ُت ِ َ ع ط ت
َ اس قال: ؟ ني وأنت رب العالمَ ِ
ْ ْ َ َ َ َ َ ُّ َ
ك ف َل ْم َت ْس ِقني ،قال :يا َر ِّبَ ،
كيف ابن آ َد َم ،اس َتس َق ْي ُت َ َ دي. ن
ْ عذلك ِ َل َو َج ْد َت َ
الن ف َل ْم َت ْس ِق ِهَ ،أما َل ْو
سقاك َع ْبدي ُف ٌَ ني؟ قال :اس َت ِ
وأنت َر ُّب العالمَ َ َ َ
أسقيك
ت ف َل ْم َت ُع ْدين ،قال :يا َر ِّب ،كيف ابن آ َد َمَ ،م ِر ْض ُ س َقي َته َلوج ْد َت َ ِ
ذلك عنْديَ . َ ْ َ َ
إن َع ْبدي ُفال ًنا َم ِر َض ف َل ْم َت ُع ْدهَ ،أما َل ْو ِ
ني؟ قالَ :أما َّ وأنت َر ُّب العالمَ َ َ أ ُعو ُد َك
ُع ْد َت ُه َل َو َج ْد َتني ِع َنده»((( ،فقال يف عيادة املريضَ « :ل َو َج ْد َتني ِع َنده» ،وقال
املريض ففرق بينهامَّ ،
فإن دي»، ن
ْ ذلك ِ
ع َ ت
َ د
ْ ج و ل َ « : يف اإل ْطعام واإلس َق ِ
اء
َ َّ َ َ ْ
املرض ،فإذا كان مؤمنًا بد أن َيكسرِ ه ُ القلب ولو كان َمن كان ،فال َّ ِ مكسور
ُ
((( أخرجه مسلم ( )2569بنحوه.
60
التـــــوبة
62
التـــــوبة
63
وعج ِزه ،ونحو ذلك من إلفالسه أو نب، َّ
الذ من ه الس َفهاء ،أو لقضاء متِ
ْ نهَ ْ َ ُّ ُ
وخ ُل ِ
وصها هلل. صحتها ُ ِ
الع َلل التي َت َ
قد ُح يف َّ
ف ب ُط ْه ِرهمفإن مل َت ِ الدنياْ ، يتطه َ نوب ثالث ُة ٍ ِ الذ ِ ِ
فألهل ُّ
رون هبا يف ُّ أهنار عظا ٍم َّ
ِ
احلسنات هنر اجلحي ِم يو َم القيامة :هنر ال َّتوبة النَّصوح ،وهنر ُط ِّهروا يف ِ
ِ
العظيمة ا ُمل َك ِّفرة ،فإذا أراد اهلل املحيطة هبا ،وهنر املصائبِ ِ
لألوزار ا ُمل ِ
ستغرقة
طاهرا ،فلم فو َر َد القيام َة ط ِّي ًبا
األهنار الثالثةَ ، ِ أحد هذه خريا أدخله َ
ً بعبده ً
الرابع.
حي َت ْج إىل النهر َّ
بعدها،وبة منه َ بتوبة ِمن اهلل عليه َقب َلها ،و َت ٍ العبد إىل اهلل تعاىل حمفوف ٌة ٍ و َتوب ُة ِ
ْ
تاب عليه أو اًَّل إذ ًنا وتوفي ًقا هنَّ فإ ، ٍ
والحقة ٍ
سابقة ف َتوب ُته بني َتوب َتينْ ِ من اهلل؛
َ
بول وإثاب ًة ،قال تعاىل﴿ :ﯙ ﯚ فتاب اهلل عليه ثان ًيا َق اً
العبدَ ،
فتاب ُ وإهلا ًماَ ،
ﯛﯜ ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ
ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﴾ [ال َّت ْوبة.]١١٨ – ١١٧ :
ِ
اإلباق، اب ،ف َتوب ُة العبد رجو ُعه إىل س ِّيده بعداب ،واهلل َت َّو ٌ
والعبد َت َّو ٌ
وتوفيق ،و َق ٌ ِ
نوعانٌ :
بول واعتدا ٌد. ٌ إذن و َتوب ُة َّ
الر ِّب
بسلوك رصاطِه املستقي ِم
ِ الرجوع إىل اهلل
ُ فمبدؤها
ُ ومنتهى، وال َّتوبة هلا ٌ
مبدأ ُ
وص اًل إىل ِرضوانه ،وأ َم َرهم بسلوكه بقوله﴿:ﭺ ﭻ لعباده ،م ِِ ا َّلذي َن َص َبه
ُ
الرجوع
ُ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﴾ [األنعام ،]153 :وهناي ُتها
ِ ِ ُ إليه يف ا َملعاد،
فمن رجع إىل وسلوك رصاطه الذي َن َص َبه ُموص اًل إىل َجنَّتهَ ،
الد ِار بال َّتوبة؛ رجع إليه يف ا َملعاد بال َّث ِ
واب. اهلل يف هذه َّ
64
التـــــوبة
أن َمن مل ُيشرْ ِ ك باهلل شي ًئا فذنو ُبه مغفور ٌة كائن ًة ما كانت ،ولكن يدل عىل َّ بل ُّ
القلوب بأعامل اجلوارح ،وتع ُّلقها هبا ،وإلاَّ مل ِ أن يعلم ارتباط أعامل ينبغي ْ
يفهم مراد الرسول ﷺ ،ويقع اخل ْبط وال َّت ْخبيط.
65
فإن ُذ َّل
عقلَّ ،- -إن كان له ٌ نفسه ْ واحلاكم يف هذا ما يعلمه اإلنسان ِمن ِ
ُ
ور َثه خو ًفا من غري اهلل ،وذلك شرِ ْ ٌك، أن يقو َم بالقلب ف ُي ِ
بد ْ
املعصية ال َّ
وص ُله إىل َغ َر ِضه،
ور َثه حمب ًة لغري اهلل ،واستعان ًة بغريه يف األسباب التي ُت ِ
َّ و ُي ِ
فيكون عم ُله ال باهلل وال له ،وهذا حقيق ُة الشرِّ ْ ك.
ِ
األرض يستحيل أن يلقى اهلل بِ ُق ِ
راب ُ رش ْك باهلل شي ًئاأن َمن مل ُي ِ واملقصودَّ :
ب ُ ِ تائب منها ،مع ِ غري ٍ
حل ِّ
ُ ا ة غاي هو الذي ه توحيد كامل خطا َيا ُمصرًِّ ا عليها َ
ِ
للر ِّب تعاىل. واخلضو ِع ،واخلوف والرجاء َّ
ِ
احلياء أن الكبِرية قد َيقترَ ِ ُن هبا ِمن أمر ينبغي ال َّتف ُّط ُن له ،وهو َّ وهاهنا ٌ
بالصغرية ِمن يقرتن َُّ ِ
بالصغائر ،وقد واخلوف ،واالستعظا ِم هلا ما ي ِ
لح ُقها ُ
ِ
واالستهانة هبا ما ُي ْل ِح ُقها بالكبائر،
ِ ِق َّل ِة احلياء ،وعد ِم ا ُملباالة ،و َت ْر ِك اخلوف،
بل جيعلها يف أعىل ُر َتبِها.
الفعل،ِ جمرد زائد عىل َّ
قدر ٌ ِ
بالقلب ،وهو ٌ أمر َم ْر ِج ُعه إىل ما يقو ُم
وهذا ٌ
ِ
وغريه. واإلنسان يعرف ذلك ِمن ِ
نفسه ُ
ِ
اإلحسان العظيم ،ما ال ُيع َفى ِ
ولصاحب ب، حوأيضا فإ َّنه يع َفى للم ِ
ً
ُ ِّ ُْ
غريه. ِ
لغريه ،ويسا َم ُح بام ال يسا َم ُح به ُ
66
التـــــوبة
67
كل يشء رب ِّ خالق إال اهللَّ ، إقرار ِ جمر َد ِ
وأن اهلل ُّ العبد بأ َّنه ال َ التوحيد َّ ُ وليس
وهم ُم ِ ِ
التوحيدُ رشكون ،بل و َمليكُه ،كام كان ُع َّبا ُد األصنا ِم ُمق ِّري َن بذلك ُ
االنقياد لطاعتِه، ِ وكاملِ والذ ِّل له، ُّ يتضم ُن ِمن حم َّبة اهلل ،واخلضو ِع له، َّ
األقوال واألعامل ،واملن ِع، ِ وجهه األعىل بجمي ِع وإرادة ِ ِ العبادة له، ِ ِ
وإخالص
الداعية إىل األسباب َّ ِ غض ما يحَ ُ ول بني صاحبِه وبني واحلب ،وال ُب ِ ِّ والعطاء،
«إن اهلل قول النَّبِ ِّي ﷺَّ : عرف َ عرف هذا َ واإلرصار عليها ،و َمن َ ِ املعايص،
بذلك َو ْج َه اهلل»((( ،وقو َله« :ال َ ار َمن قال :ال إل َه إلاَّ اهللَ ،يب َتغي َح َّر َم عىل النَّ ِ
دخ ُل النَّ َار َمن قال :ال إل َه إلاَّ اهلل»(((. َي ُ
قول حاصل بمجرد ِ اً صلوات اهلل وسال ُمه عليه مل جيعل ذلك ُ ِ
والشارع
َّ
ين اإلسالمَّ ،
فإن خالف املعلوم باالضطرار ِمن ِد ِ ُ فإن هذا سان فقطَّ ، ال ِّل ِ
ِ
األسفل الد ْر ِك اجلاح ِدي َن هلا يف َّ ِ املنافقني يقولوهنا بألسنتهم ،وهم حتت
يتضم ُن ِمن َّ القلبِ ُ
وقول ، وقول ال ِّل ِ
سان ِ القلب، بد ِمن ِ
قول من النَّار ،فال َّ
ضمنَ ْته ِمن النفي واإلثبات، َّ ت
َ ما ِ
حقيقة ِ
ومعرفة ِ
والتصديق هبا، معرفتها،
املختصة به ،التي يستحيل ُثبوتهُ ا َّ حقيقة اإلهل َّية ا َملن ِْف َّية عن غري اهلل، ِ ِ
ومعرفة
حتريم ب يوجِ ما اً
وحال ًا ن ويقي ، ةً ومعرف لم عل َغ ِ ه ،وقيا ِم هذا املعنى بالقلب ِ
َ ُ اً يرْ
الشارع ما َر َّتب عليه من ال َّثواب ،فإ َّنام هو ُ ب
قول َر َّت َ قائلها عىل النار ،و ُك ُّل ٍ
مر ٍة، َّ َ
ة مائ ه، د بحان اهلل وبحم ِ
َ ْ َ سُ ٍ:
م و ي
َ يف قال ن «م
َ ﷺ: هالقول التام ،كقولِ
ُّ
68
التـــــوبة
كانت ِم ْث َل َز َب ِد ال َبحرِ»(((،
ْ -أو ُغ ِف َر ْت ل ُه ُذ ُنو ُبه -و َل ْو ت عن ُه َخطايا ُه ْ ُح َّط ْ
ِ
القول ال ِّلساين. جمرد وليس هذا ُم َر َّت ًبا عىل َّ
غافل عن معناهاُ ،م ْع ِر ًضا عن تد ُّبرها ،ومل يواطِ ْئ َن َع ْمَ ،من قاهلا بلسانه ،اً
عرف َق ْد َرها وحقيق َتها ،راج ًيا مع ذلك ثوابهَ اَ ،ح َّطت ِمن قل ُبه لسا َنه ،وال َ
ِ
وعددها ،وإ َّنام بصورها تتفاض ُل َ
َ َ
األعامل ال بحسب ما يف قلبهَّ ،
فإن خطاياه َ
فتكون صور ُة العم َلينْ ِ واحد ًة ،وبينهام ُ ِ
القلوب، بتفاض ِل ما يف ُ تتفاض ُل
َ
الصف
ِّ والر ُجالن يكون مقا ُمهام يف واألرضَّ ، ِ التفاضل كام بني السامء ُ يف
واحدا ،وبني صال َت ْي ِهام كام بني السامء واألرض. ً
وتسعون ِس ِجلاًّ ،
َ توضع يف ِك َّف ٍة ،ويقابلها تسع ٌة البطاقة التي َ ِ َ
حديث وتأ َّم ْل
عذب.الس ِجلاَّ ت ،فال ُي َّ يش ُ البرص ،فتث ُق ُل البطاق ُة و َتطِ
ِ د
َّ م منها لٍّ كل ِس ِ
ج ُّ
ِّ َ
بذنوبِه، مثل هذه البطاقة ،وكثري منهم يدخل النار ُ مو ِّحد له ُ
ومعلو ٌم أن كل َ
ِ ِ ِ
السجلاَّ ُتَ ،ل َّ
ـمـا ألجله ِّوطاش ْت ْ َ الرجل، ولك َّن السرَِّّ الذي َث َّق َل بطاق َة ذلك
انفردت بطاق ُته بال ِّث َقل َّ
والرزانة. ْ مل ْ حيصل لغريه من أرباب البطاقات،
فانظر إىل ِذ ْك ِر َمن ق ْل ُبه مآلن بمح َّبتِك، ْ ِ
اإليضاح هلذا املعنى أردت زيادة
َ وإذا
انجذبت َدواعيْ مشغول بغريك ،قد ٌ غافل َس ٍاه،
كر َمن هو ُم ْع ِر ٌض عنكٌ ، ِ
وذ ِ
واحدا؟ أم هل يكون ً وإيثاره عليك ،هل يكون ِذ ْك ُرهمُ ا لك ِ قلبِه إىل حم َّب ِة غريك،
ذان همُ ا هبذه املثابة ،أو َع ْبداك ،أو َز ْو َجتاك ،عندك سواء؟ ولداك ال َّل ِ
َ
69
اإليامن ا َّلتي مل تشغ ْله عند ِ ِ
حقائق ِ
املائة من بقلب ِ
قاتل ِ وتأ َّم ْل ما قام
أن جعل َينُو ُء السري إىل القرية ،وحمَ َل ْته -وهو يف تلك احلال -عىل ْ السياق عن َّ ِّ
وإيامن آخر ،وال َج َرم ٌ أمر آخر، ِ ِ
بصدره ،وهو يعالج َسكَرات املوت ،فهذا ٌ
أن ُألحِْ َق بالقرية الصالحِ ة ،وج ِع َل ِمن ِ
أهلها. ُ
اشتد به الكلب وقد َّ َ بقلب ال َب ِغ ِّي التي رأت ذلك ِ وقريب من هذا ما قام ٌ
ني، الوقت -مع عد ِم اآللة ،وعدم ا ُمل ِع ِ َ العطش يأ ُك ُل ال َّثرى ،فقام بقلبها ذلك ُ
البئر،أن َغ َّر َر ْت بنفسها يف نزول ِ رائيه بعملها -ما مح َلها عىل ْ وعدم من ُت ِ
َ
لء املاء يف ُخ ِّفها ،ومل تعبأ بت َع ُّر ِضها لل َّت َلف ،وحمَ ِلها له بِ ِفيها وهو مآلن، وم ِ
َ
تواض ِعها هلذا املخلوق الذي َج َر ْت عاد ُة الر ِق ُّي يف البئر ،ثم ُ حتى أمكنها ُّ
أن ف بيدها حتى شرَ ِ َبِ ،من غري ْ فأمسكت له اخلُ َّ
ْ الناس بضرَ ْ بِه و َط ْر ِده،
تقدم أنوار هذا ال َق ْد ِر من التوحيد ما َّ فأحرقت ُ ْ ترجو منه جزا ًء وال ُشك ً
ُورا،
والعامل يف ُ حال األعامل وال ُعماَّ ِل عند اهلل، منها من البِغاء ،فغفر هلا ،فهكذا ُ
قناطري عىل غفلة من هذا اإلك ِْسري الكياموي ،الذي إذا و ِضع منه مثقال َذر ٍ
ة ٍ
َ َّ َ ُ ِّ
حاس األعامل َق َل َبها َذ َه ًبا ،واهلل ا ُملستعان(((. ِ من ُن
70
التـــــوبة
71
السنَّة والقرآن ،بادي ٌة َلمِن عرفون هبا ُمب َّين ٌة يف ُّ عالمات ُي َ
ٌ [واملنافقون] هلم
أقبح مقام قامه ِ ِ ِ َتدبرها ِ
الريا ُء ،وهو ُ ِّ واهلل هبم قام اإليامن، بصائر أهل ن م َّ
ِ ِ الكسل ع ُأ ِمروا به ِ
اإلخالصُ ح ب
َ فأص ،الرمحن أوامر نم ُ ماَّ اإلنسان ،وقعد هبم ُ
ثقيل﴿ ،ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ لذلك عليهم اً
ﮈ ﮉ ﮊ﴾ [النساء.]142 :
فالصبح عند طلوع ، األول إىل شرَ َ ِق املو َتى ِ ُي ِّ
ُّ الصال َة عن وقتها َّ ؤخرون َّ
(((
روب ،و َين ُقروهنا َن ْق َر ال ُغراب؛ إذ هي صال ُة والعرص عند ال ُغ ِ ُ ِ
الشمس،
الثعلب؛ إذ يتي َّقن أ َّنه ِ التفات
َ القلوب ،ويلتفتون فيها ِ األبدان ،ال صال ُة
أحدهم ففي البيت أو ُ إن صلىَّ مطرو ٌد مطلوب ،وال يشهدون اجلامع َة ،بل ْ
عاه َد َغ َدر ،وإذا َح َّدث َك َذب ،وإذا َو َع َد خاص َم َف َجر ،وإذا َ الد َّكان ،وإذا َ ُّ
أخ َلف ،وإذا ْاؤتمُ ِ َن خان.
وفساد ن َّياتهِ م ،ف َث َّب َطهم عنها وأق َع َدهم، ِ ث قلوبهِ م َك ِره اهلل طاعاتهِ م؛ لخِ ب ِ
ُْ َ
وأبعدهم، َ وارهم؛ َلمِ ْي ِل ِهم إىل أعدائه ،فطر َدهم عنه ِ
وأب َغ َض ُق ْربهَ م منه وج َ
وحك ََم أسعدهمَ ، َ فأعر َض عنهم ،وأشقاهم وما َ وأعرضوا عن َو ْح ِيه َ
أن يكونوا ِمن طم َع هلم يف ال َفالح بعده ،إلاَّ ْ بح ْك ٍم َع ْدل ال َم َ
ٍ عليهم ُ
ائبني ،فقال﴿ :ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ال َّت َ
ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ﴾ [ال َّت ْوبة.]46 :
بد ِّق ِهولعلمهم ِ
قني األولِنيِ ،
َّ قلوب السابِ َ َ خوف النِّفاق ُ قطع
تاهلل لقد َ
ِ
72
التـــــوبة
73
ِ
بالعصيان ﴿ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ
ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﴾ [احلجرات .]7 :
والعدوان فهام َق ِر ِ
ينان ،قال اهلل تعاىل﴿ :ﯭ ﯮ ﯯ ُ وأما اإلثم
َّ -7،6
ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﴾ [املائدة.]2 :
[ -8و] البغي غالب استعامله يف حقوق العباد واالستطالة عليهم.
فالفحشاء :ما ظهر ُق ْب ُحها لكل أحد، ُ وأما الفحشاء واملنكر؛ َّ -10،9
عقل سليم ،وأما املنكر [فهو] الذي ُت ِ
نك ُره كل ذي ٍ واستفحشه ُّ
َ
ُ َّ
والف َطر له فهو فاحشة. العقول ِ ُ العقول ِ
والف َطر ،فام اشتد إنكار ُ
وأعظمها
ُ حتريم،
حرمات اً أشد هذه ا ُمل َّ وأما القول عىل اهلل بال ِع ْلم :فهو ُّ َّ -11
والضالالت، أصل الشرِّ ك وال ُك ْفر ،وعليه ُأ ِّسست البِ َد ُع َّ إثم ،وهو ُ اً
القول عىل اهلل بال ِع ْلم(((. ُ أساسها
ُ ين الد
ِّ يف ة َّ
ل ض ُ
ٍ
بدعة م ِ ُّ
فكل
74
التـــــوبة
كلب لوقع عليها ف ٍ فمنهم َمن ن ْف ُسه َك ْلب َّية ،لو صا َدف جيف ًة ُتشبِ ُع أ ْل َ
ومحاها من سائر الكالب ،وهمَُّ ه ِش َب ُع بطنِه من أي طعام ا َّت َفق؛ ميتة أو َذ ِك ّي،
خبيث أو ط ِّيب ،وال يستحي من قبيح ،إن تحَ ْ ِمل عليه َي ْل َهث أو َتترْ ُ ْكه يلهث.
يد يف ع َل ِفه َ
زيد ومنهم َمن ن ْف ُسه حمِ ار َّية مل تخُ ْ َلق إال للك َِّد والع َلف ،كلام ِز َ
محله كتا َبه فلم احليوان وأق ُّله بصري ًة ،وهلذا م َّثل اهلل به َمن َّ ِ يف َك ِّده ،أبك َُم
السوء الذي آتاه اهلل آياتِه لمِ
عمل ،و َم َّثل بالكلب عا َ ُّ قها وال اً ِ ِ
يحَ ْ م ْله معرف ًة وال ف ً
فانسلخ منها وأخ َل َد إىل األرض وا َّت َبع هواه.
75
ِ
اووس؛ ليس له إال ال َّت َط ُّوس وال َّت َز ُّين ومنهم َمن هو عىل طبيعة ال َّط
بالريش ،وما وراء ذلك يش ٌء.
ِّ
أح َق ُد احليوان ،وأغ َل ُظه َكبِ ًدا. ومنهم َمن هو عىل طبيعة ا َ
جل َمل؛ ْ
فوسا، ن
ُ ِ
احليوانات ف
ُ أرش هي التي اخليل، طبائع ِ
احليوانات وأمحد طبائ ِع
ُ
ً َ ُ
وأكر ُمها طِبا ًعا ،وكذلك ال َغنَم.
نفوسهمِ املشهد ليس هلم ُش ُهو ٌد ِسوى َم ْي ِل ِ أصحاب هذا واملقصو ُد َّ
أن
َ
وشهواتهِ م ،ال يعرفون ما وراء ذلك ال َب َّتة.
ويكرهه ،ويلو ُم عبده ما ُي ْب ِغ ُضه سبحا َنه
تقديره عىل ِ ِ ومشهد ِح ِ
كمة اهللِ يف ُ -2
ُ
ويعاقب عليه ،وأ َّنه لو شاء ل َع َص َمه منه ،ولحَ َال بينه وبينه ،وأ َّنه سبحانه ِ
يكون يف العالمَ يش ٌء إال بمشيئتِه﴿ ،ﮞ ﮟ ﮠ ُ ال ُيعصىَ َقسرًْ ا ،وأ َّنه ال
ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﴾ [األعراف.]54 :
أن اهلل سبحانه مل يخَ ْ ُلق شي ًئا عب ًثا وال ُس ًدىَّ ،
وأن له شهدون َّوهؤالء َي َ
ٍ
وطاعة ومعصية. احلكم َة البالِغ َة يف كل ما َق َّد َره وقضا ُه ِمن خري وشرٍَّ ،
ِ
واحد ،وهو أ َّنه لوال املعصي ُة ِمن أبيِ البرش-بأ ْك ِله ِمنٌ ويكفي من هذا ٌ
مثال
للر ِّب ظام الشجرة -ملا َتر َّتب عىل ذلك ما َتر َّتب من وجود هذه املحبوبات ِ
الع
َّ َ َ
ِ
وإظهار ِ
وإنزال ُك ُتبِه، ِ
وتكليفهم ،وإرسال ُر ُس ِله، تعاىلِ ،من امتحان َخ ْل ِقه
ِ
وظهور ِ
وإهانة أعدائه، ِ
أوليائه، وعجائبه ،وتنويعها وترصيفها ،وإكرا ِم ِ آياته
ِ
وظهور وح ْل ِمه،وانتقامه ،و َع ْف ِوه ومغفرتِه ،وص ْف ِحه ِ
َ
ِ وعزتِه ِ
وفضلهَّ ، َع ْدلِه
76
التـــــوبة
ِ
االبتالء واالمتحان. ِ
أعدائه يف دار من يعب ُده ويحُ ِبه ويقوم بِم ِ
راضيه بني َ ُّ ُ َ
حلكْم ،وأ َّنه الر ِّب تعاىل باخلَ ْلق وا ُ
أن َيشهد انفرا َد َّ [ -3مشهد التوحيد] وهو ْ
وأن اخلَ ْلق ما شاء كان ،وما مل َي َش ْأ مل يكن ،وأ َّنه ال َّ
تتحرك َذ َّر ٌة إال بإذنهَّ ،
ب إال وهو بني أصابعه ،إن شاء َمقهورون حتت قبضته ،وأ َّنه ما ِمن ق ْل ٍ
فالقلوب بيده ،وهو ُم َق ِّل ُبها يمه أقامه ،وإن شاء أن ُيزي َغه أزا َغه، قأن ي ِ
ُ ُ َ
و ُمصرَِّ ُفها كيف شاء وكيف أراد .
أن التوفيق هو ألاَّ ِ
العارفون باهلل َّ ِ ِ
التوفيق واخلذالن ،وقد َ
أمجع مشهدُ -4
أن يخُ َ ليِّ ب ْينك وبينها؛ فالعبيد ُمتق ِّلبون
واخلذالن ْي ِك َلك اهلل إىل نفسكِ ،
َ
الساعة الواحدة ينال نصي َبه من هذا يف العبد بل ذالنه، بني توفيقه ِ
وخ
َّ
وهذا ،ف ُيطي ُعه و ُيرضيه و َيذ ُكره ويشكره بتوفيقه له ،ثم َيعصيه وخيالفه
وخذالنهْ ،
فإن دائر بني توفيقه ِ بخذالنه له ،فهو ِ خ ُطه ويغ ُف ُل عنه ِ ويس ِ
ٌ ُْ
وحكمته ،وهو املحمود عىل وإن َخ َذله فبِعدلِه َِو َّف َقه فبفضله ورمحتهْ ،
العبد شي ًئا هو له ،وإ َّنام منعه ما
َ محد وأكم ُله ،ومل َيمنعهذا وهذا ،له أ َتم ٍ
ُّ
أعلم حيث يضعه وأين جيعله. وهو وعطائه، ه هو جمرد ِ
فضل
ُ َّ ُ
املشهد وأعطاه ح َّقه َع ِلم رضور َته وفاق َته إىل التوفيق َ العبد هذا
شهد ُ فمتى ِ
وأن إيامنه وتوحيده بِ َي ِد غريه ،لو تخَلىَّفة عنيَّ ، حلظة وطر ِ
ْ
ٍ وكليف كل ن َفسِّ ،
وأن ا ُمل ْم ِسك له
عرشه ،ولخَ َ َّرت سام ُء إيامنِه عىل األرضَّ ، عني ل ُث َّل ُ عنه طرف َة ٍ
ودأب لسانه: هِ قلب ى ري ج ِ
فه بإذنه، إال األرض عىل تقع أن ء السام ك من ي ِ
مس
ُ ِّ َ َ َ ُ
فلوب ،صرَِّ ْ ف ال ُق ِ لوبَ ،ث ِّب ْت َق ْلبي عىل ِدينِ َك» ،و«يا ُمصرَِّ َ
ب ال ُق ِ «يا ُمق ِّل َ
77
ِ
واألرض، َق ْلبي عىل طا َعتِ َك» ،ودعواه« :يا حي يا َقيوم ،يا بديع السم ِ
وات ُّ ُ َ َ َّ َ َ ُّ
أص ِل ْح يل ْ
شأين ُك َّله، غيثْ ،أنتَ ،برمحتِ َك أس َت ُ يا ذا اجل ِ
الل واإلكرا ِم ،ال إل َه إلاَّ َ َ
أح ٍد ِم ْن َخ ْل ِق َك». ِ
وال َتك ْلني إىل َن ْفيس َط ْرف َة َعينْ ٍ ،وال إىل َ
بعبده ما َي ْص ُلح به العبد ،بأن جيعله يفعل ِ أن َ والتوفيق إرادة اهلل من ِ
نفسه ْ
مؤ ًثرا له عىل غريه ،و ُي َب ِّغض إليه ريدا له ،محُ ِ ًّبا لهْ ،
قادرا عىل فِعل ما ُيرضيهُ ،م ً ً
طه ،و ُيك َِّرهه إليه ،وهذا مجُ َّرد فعله ،والعبد محَ َ ٌّل له ،قال تعاىل﴿ :ﭾ سخ ُ ما ي ِ
ُ
ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ
ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﮕ ﮖ ﮗ﴾ [احلجرات.]8 - 7 :
بلدة ِمن ِ
بالده أهل ٍ أرسل إىل ِ َ واخل ِ
ذالن َم َثلَ :م ِلك وقد ضرُ ِ ب للتوفيق ِ
تاحهم، العدو ُم َص ِّب ُحهم عن قريب ومجُ ْ َُّ وكتب معه كتا ًبا ُي ْع ِل ُمهم َّ
أن َ رسول،اً
ومراكب وزا ًدا اً
أموال إليهم وأرسل فيها، ن م ك ومخُ َرب البلد ،ومه ِ
ل
َ َ ُْ ِّ
األد َّلة ،وقد أرسلت إليكم مجيع ارحت ُلوا إيل مع هؤالء ِ وأد َّل ًة ،وقالِ :
و ُع َّد ًة ِ
َّ
فخذوا بيده ما حتتاجون إليه ،ثم قال جلامعة من مماليكه :اذهبوا إىل فالنُ ،
واحمْ ِلوه ،وال َت َذروه َيق ُعد ،واذهبوا إىل فالن كذلك وإىل فالن ،و َذ ُروا َمن
ساكنُوين يف بلدي ،فذهب َخواص ِ أن ي ِ
امللك ُّ داهم؛ فإنهَّ م ال َيص ُلحون ْ ُ َع ُ
إىل َمن ُأ ِمروا بِ َح ْم ِلهم ،فلم يرتكوهم َي ِق ُّرون ،بل حمَ َ ُلوهم حمَ ْ اًل ،وسا ُقوهم
العدو َمن َب ِقي يف املدينة و َق َتلهم ،وأسرَ َ َمن أسرَ َ . ُّ تاح
فاج َ َس ْو ًقا إىل امللكْ ،
ص أولئك بإحسانِه عادل فيهم؟ نعمَ ،خ َّاً امللك ظا ًملا هلؤالء ،أمفهل ُي َع ُّد ُ
وح َرمها َمن َعداهم؛ إ ْذ ال جتب عليه ال َّتسوي ُة بينهم يف فضله ِ
وعنايتهَ ،
فض ُله وإكرا ُمه ْيؤتيه َمن يشاء. وإكرامه ،بل ذلك ْ
78
التـــــوبة
أج ِّل املشاهد ،وهو أعىل مما ق ْب َله وأوسع. ن -5مشهد األسامء والصفات ،وهو ِ
م
َ ِّ
وأمرا باألسامء احلسنى، ا ً
ق ْ
ل َ
خ الوجود ق ُّ
ل ع ت
َ معرفة املشهد: هذا عىل ع وا ُمل ْطلِ
ً َ
وأن العامل بام فيه ِمن بعض آثارها ومقتضاها. والصفات ال ُعلىَ ،وارتباطِه هباَّ ،
والتعرف إىلُّ واآليات الباهرة، ُ وقد َره احلكم ُة البالغة، فله يف كل ما قىض َّ
وذ ْك ِرهم له ،وشكرهم له، عباده بأسامئه وصفاته ،واستدعاء حمبتِهم لهِ ، ِ
ُ َّ
ص بهِ ،ع ْل اًم ومعرف ًةٌّ ت
َ مخُ د ٌ ب
ُّ تع فله ٍ
م اس كل ُّ إذ احلسنى؛ بأسامئه له هم د وتعب ِ
ُّ
الناس عبود َّي ًة :املتع ِّب ُد بجميع األسامء والصفات التي ي َّط ِلع ِ ُ
وأكمل وحال، اً
حيج ُبه التع ُّبد
كم ْن ُآخ َرَ ، عليها البرش ،فال تحَ ُج ُبه عبودي ُة :اس ٍم عن عبود َّية اس ٍم َ
باسمه (القدير) عن التع ُّبد باسمه (احلليم الرحيم) ،أو حتجبه عبود َّية اسمه
(املعطِي) عن عبود َّية اسمه (املانع) ،أو عبود َّية اسمه (الرحيم) و(الع ُفو)
(املنتقم) ،أو التع ُّبد بأسامء التو ُّدد ،والبرِِّ ،وال ُّلطف، ِ و(الغفور) عن اسمه
واإلحسان عن أسامء العدل ،واجلربوت ،والكربياء ،والعظمة ونحو ذلك.
السائري َن إىل اهلل تعاىل ،وهي طريق ٌة مشت َّق ٌة من ِ
قلب وهذه طريق ُة الك َُّم ِل من َّ
والدعاءالقرآن ،قال اهلل تعاىل ﴿ :ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ﴾ [األعرافُّ ،]180 :
يتناو ُل دعا َء املسألة ،ودعا َء ال َّثناء ،ودعا َء التع ُّبد ،وهو سبحانه يدعو عبا َده هبا َ
أن يعر ُفوه بأسامئه وصفاتِه ،و ُي ْثنُوا عليه هباُ ،
ويأخذوا بِ َح ِّظهم من عبود َّيتِها. إىل ْ
حيب َّ ِ
(ج َواد) كل علي ٍمَ ، ب أسامئه وصفاته ،فهو (عليم) ُّ وج َ
وهو سبحانه حيب ُم َ
حيب اجلاملَ ( ،ع ُف ٌّو) حيب ال َع ْفو
الو ْتر( ،مجيل) ُّ (و ْت ٌر) حيب ِ كل َجوادِ ، حيب َّ
ُّ
(شكُور) حيب الشاكرين، (ح ِي ٌّي) حيب احلياء وأه َلهَ ( ،ب ٌّر) حيب األبرارَ ،وأه َلهَ ،
فلمح َّبتِه سبحانه لل َّتوبة أهل ِ
احل ْلمِ ، حيب َحيب الصابِري َن؛ (حليم) ُّ (ص ُبور) ُّ َ
79
ويتوب عليه ،ويعفو عنه ،و َق َّدر
ُ والص ْف ِح؛ َخ َل َق َمن ُ
يغفر له، ِ
والعفو َّ واملغفرة،
املحبوب له ا َمل ْرضيُِّ
ُ وقوع املكروه وا َمل ْب ُغوض له؛ ليرت َّتب عليه
َ عليه ما يقتيض
كتوسط األسباب املكروهة ا ُمل ْف ِضية إىل املحبوب. فتوسطه ُّلهُّ ،
ِ
ألطف املشاهدَ ،
وأخ ِّصها ِ
شواهده ،وهذا ِمن وتعدد
6ـ مشهد زيادة اإليامن ُّ
ِ
بأهل املعرفة.
أمر مشهود واألموال، ِ
واألبدان ِ
القلوب يف احلسنات والسي ِ
ئات ِ وآثار
ٌ ِّ َّ
عر ُفه املؤم ُن والكافر ،والبرَُّ والفاجر. عقل سليم ،بل َي ِ ينكره ذو ٍ يف العالمَ ،ال ُ
نفسه ويف ِ العبد هذا يف ِ ِ
غريه ،وتأ ُّم ُله ومطالع ُته ،مما ِّ
يقوي إيام َنه وشهو ُد
حمسوس يف د مشهو ٌ
عدل هذا َّ
فإن قاب، بام جاءت به الرسل ،وبال َّثواب ِ
والع
ٌ ٌ ُّ ُ
أعظم منها ملن كانت ُ قوبات عاجلة دا َّلة عىل ما هو ٌ وبات و ُع هذا العالمَ ،و َم ُث ٌ
ِ بعض الن ِ
أتدار ْكه
نب ومل أبادره ،ومل َ َّاس :إذا َص َد َر مني َذ ٌ له بصري ٌة ،كام قال يل ُ
حسبت،
ُ أثره الس ِّيئ ،فإذا أصا َبني -أو فو َقه أو دو َنه -كام انتظرت َ ُ بال َّت ْوبة
رسول اهلل ،ويكون ُ حممدا
أن ً رياي :أشهد أن ال إله إال اهلل ،وأشهد َّ ِ
يكون ه ِّج َ
فعلت كذا َ فإن الصادق متى أخربك أ َّنك إذا شواهد اإليامن وأد َّلتِهَّ ، ِ ذلك ِمن
فعلت شي ًئا من ذلك َ فجعلت ك َّلام
َ وكذا تر َّتب عليه ِمن املكروه كذا وكذا،
حصل لك ما قال ِمن املكروه ،مل َت ْز َد ْد إال ِع ْل اًم بصدقه وبصري ًة فيه ،وليس
يشهد شي ًئا ِمنُ الذنوب عىل ق ْلبِه ،فال ُ لكل أحد ،بل أكثر الناس َت ِري ُن هذا ِّ
يشعر به الب َّت َة. ُ ذلك ،وال
ف الذنوب واملعايص َت ِ
عص ُ وأه ِوي ُة ُّ
نور اإليامنْ ،
القلب فيه ُ
ُ وإ َّنام يكون هذا
80
التـــــوبة
81
ِ
القلوب املشهد متى تبصرَّ َ فيه ،وأعطاه ح َّقه ،صار ِمن أط َّباء
ِ وصاحب هذا
ُ
وائها ،فنفعه اهلل يف ن ْف ِسه ،ونفع به َمن شاء ِمن َخ ْل ِقه.
بدائها ود ِ
َ
ني ِ
العالمِ َ
الذنب خرج ِمن قلبِه تلك ِ
الغلظ ُة العبد إذا وقع يف َّ
َ 7ـ مشهد الرمحة؛ َّ
فإن
ب ،حتى والقسوة ،والكيف َّي ُة ال َغ َضبِ َّي ُة التي كانت عنده ملن َص َد َر منه َذ ْن ٌ
ويأخذه ،غض ًبا منه َ أن هُي ِلكَهلو َق َد َر عليه ألهلكه ،ور َّبام دعا اهللَ عليه ْ
للمذنبِ َ ِ
ني اخل ّطائني، جيد يف قلبِه رمح ًة ُ أن ال ُي ْعىص ،فال ُ رصا عىل ْ هلل ،وح ً
راء ،وال َي ْذ ُك ُرهم إال بلسان ال َّط ْع ِن واالزد ِ
ِ وال يراهم إال بِ َعينْ ِ االحتِ ِ
قار
َ
استغاث ونفسهَ املقادير ُ
وخليِّ ُ والذ ِّم ،فإذا َج َر ْت عليه ب هلم َّ فيهم ،وال َع ْي ِ
الس ِليم ،ودعاه ُدعا َء ا ُمل ْض َط ِّر، باهللِ وال َتجأ إليه ،وتمَ َ ْل َم َل بني يديه تمَ َ ْل ُم َل َّ
ني رمح ًة خل َّطائِ َ ني ِر َّق ًة ،وتلك ال َقساو ُة عىل ا َ لظة عىل املذنِبِ َ الغ ُ ف َتب ّد َلت تلك ِ
َ
وج َعل هلم وتبد َل ُد ُ ِ ولِينًا ،مع ِ
عاؤه عليهم ُدعا ًء هلمَ ، بحدود اهللّ ، قيامه
يغفر هلم ،فام أنف َعه له ِمن مشهد! وما أن َ يسأل اهللَ فيها ْ وظيف ًة من ُع ُمرهُ ،
أعظم َج ْدواه عليه! َ
وأضعف،
ُ أعج ُز يشء عن ِح ْفظ نفسه 8ـ مشهد العجز والضعف ،وأ َّنه َ
حول إال بِربه ،فيشهد قلبه كريشة م ْل ٍ
قاة قوة له وال قدرة وال َ
ُ َ ِّ وأ َّنه ال َّ
ٍ
سفينة ِ
كراكب نفسه ويشهد ، اً
وشامل ًا ن يمي الرياح ها س تُ بأرض َف ٍ
الة ِ
َ يرِّ ُ
يج هبا الرياح ،وتتالعب هبا األمواج ،ترفعها تارة ،وتخَ ِف ُضها يف البحر تهَ ِ ُ
يدي ول ِّيه، حيا بني ْ أخرى ،جتري عليه أحكا ُم ال َق َدر ،وهو كاآللة َط ِر ً
ملك لنفسه ضرًَّ ا وال نف ًعا، خده عىل َثرى أعتابه ،ال َي ُ ُم ْل ًقى ببابه ،واض ًعا َّ
اجلهل وال ُّظلم، ُ شورا ،ليس له ِمن نفسه إال وال مو ًتا وال حياة وال ُن ً
82
التـــــوبة
كشاة م ْل ٍ
قاة بني ٍ ه، فاهلالك أدنى إليه ِمن شرِ اك َن ِ
عل ُ وآثارمها ومقتضياتهُ ام،
ُ ُ
طرف َة ٍ
عني الراعي ،فلو ختلىَّ عنها ْ والسباع ،ال َي ُر ُّدهم عنها إال َّ
الذئاب ِّ ِّ
لتقاسموها أعضا ًء.
ِ
اإلنس واجل ِّن، ِ
شياطني أعدائه؛ ِمن
ِ حال ِ
العبد ُم ْل ًقى بني اهلل وبني وهكذا ُ
وو َك َله إىل نفسه
سبيل ،وإن ختلىَّ عنهَ ، فإن حمَ ا ُه منهم وك َّفهم عنه مل يجَ دوا إليه اً
ْ
نصيب َمن َظ ِفر به منهم.
ُ عني مل َين َق ِسم عليهم ،بل هو
طرف َة ٍ
83
طاعات ال َّثق َلينْ ِ ِ -من ِّ
أقل ِ نفسه ِمن الطاعات َلر ِّبه ،ورآها -ولو َ
ساو ْت
قليل معاصيه وذنوبِهَّ ،
فإن ال َكسرْ ة التي ما ينبغي لر ِّبه عليه ،واستكثر َ
حصلت لقلبه أوج َب ْت له هذا ك َّله.
زق والر َ والرمحة َّرص ن ال أدنى وما ! ِ
املكسور ِ
القلب هذا ن م فام أقرب اجلرب ِ
ِّ َ َ َ
أحبُّ وأجداه عليه! و َذ َّر ٌة ِمن هذا و َن َف ٌس منه املشهد له ْ
َ أنفع هذا منه! وما َ
ِ عجبِ َ طاعات أمثال اجلبال من ا ُمل ِد ِّل َ
ٍ
وعلومهم ني بأعامهلم ني ا ُمل َ إىل اهلل من
قلب قد متكَّنت منه هذه ال َكسرْ ة، وأحب القلوب إىل اهلل سبحانه ٌ ُّ وأحواهلم،
ِ
يدي ر ِّبه ،ال يرفع رأسه إليه حيا ًء الذ َّلة ،فهو ناك ُس الرأس بني ْ و َم َل َك ْته هذه ِّ
وخجل من اهلل تعاىل. اً
يرفع
يسجد سجد ًة ال ُ
ُ القلب؟ قال :نعم،
ُ فني :أ َي ُ
سجد ِ
العار َ ِ
لبعض قيل
رأسه منها إىل يوم ال ِّلقاء ،فهذا سجود القلب.
َ
سجد ساجد السجو َد املراد منه ،وإذا ٍ غري فقلب ال تباشرِ ُ ه هذه َ
َ الكسرْ ُة فهو ُ ٌ
وع َنا الوجهُ حينئذ حَ ، مجيع اجلوار ِ سجد ْت معه ُ َ الع ْظمى القلب هلل هذه السجد َة ُ ُ
وخ َض َع واستكان، العبد َ ُ واجلوارح كلُّها ،وذَلَّ
ُ وتالص ُ وخشَ عَ َّللح ِّي ال َقيُّومَِ ،َ
ليل إىل الذ ِ وولِ ِّيه َن َظ َر َّناظرا بق ْلبِه إىل ر ِّبه َ العبوديةً ،
َّ خده عىل عتبةووض َع َّ َ
ِ
ستعط ًفا ذليل مستكي ًنا ُم خاض ًعا له ،اً العزيز الرحيم ،فال ُيرى إلاَّ ُم َتم ِّل ًقا لر ِّبهِ ،
َّ
املحب ِة
َّ الكامل بُّ ح يرتض ا ُمل ِ
ربه كام ىَّ رتض َّ له ،يسأله َع ْط َفه ورمح َته ،فهو َي ىَّ
هم غري له فليس منه، له بد وال عنه، له نى املالك له ،الذي ال ِ
غ َ حمبو َبه
ٌّ
اسرتضائه واستعطافه؛ ألنَّه ال حياة له وال فالح إال يف ُق ْربِه ورضاه عنه،
84
التـــــوبة
85
يا مـن أ ُلـو ُذ ِ
بـه فيــام ُأ َؤ ِّم ُلـــ ُه َ ْ
ِ
حـــاذ ُر ُه ومـَن أ ُعــو ُذ ِ
بـه ممَِّا ُأ ْ
أنت كاسرِ ُ ُه َّاس َع ْظ اًم َ
ال يجَ ْبرُ ُ الن ُ
أنت جابِ ُـر ُه
ـون َع ْظ اًم َ يض َ وال هَي ُ
والشوق إىل لقائه ،واالبتهاج به ،والفرح والسرُّ ور -10مشهد العبودية واملح َّبةَّ ،
كره به ،ف َت َقر به عينه ،ويسكن إليه قلبه ،وتطمئن إليه جوارحه ،ويستويل ِ
ذ
ُ ُّ
رات املعصية،مكان َخ َط ِ
َ فتصري َخ َط ُ
رات املح َّبة ه، ِ وقلب هب عىل لسان محُ ِ
ُ ِّ
ساخطِه ،وحركات إرادة معاصيه وم ِ
َ
مكان َِ التقرب إليه ومرضاته وإراد ُة ُّ
مكان حركاهتا باملعايص ،وقد امتأل قل ُبه من َ ال ِّلسان واجلوارح بالطاعات
اجلوارح لطاعته ،فإن هذه الكَرس َة ت د وانقا كره،ذ محَ َبتِه ،ولهَ ِ ج لسا ُنه بِ ِ
ُ َ َ َّ
تأثري عجيب يف املح َّبة ال ُيعبرَّ عنه. اخلاصة هلا ٌ َّ
يقولَ « :من أراد السعادة األبد َّية، شيخ اإلسال ِم ابن تيم َّية وكان ُ
فليلز ْم َع َتب َة ال ُعبود َّية».
َ
دخ ُله عىل اهلل ،و َت ْر ِميه عىل
الذ َّلة والكَرسة اخلاصة ُت ِ
َّ أن هذه ِّ والقصدَّ :
طريق املح َّبة ،ف ُيفتح له منها باب ال ُيفتح له من غري هذه الطريق ،وإن كانت
ُط ُرق سائر األعامل والطاعات َتفتح للعبد أبوا ًبا من املح َّبة ،ولكن الذي
الذ ِّل واالنكسار ،واالفتقار وازدراء النفس ،ورؤيتها ُيفتح منها من طريق ُّ
والذم ،بحيث يشاهدها َض ْيع ًة َّقص َّبعني الضعف والعجز والعيب والن ِ
نوع آخر وفتح آخر ،والسالك هبذا الطريق وعجزا ،وتفري ًطا وذن ًبا وخطيئ ًةٌ :
ً
86
التـــــوبة
87
منزلـــــــة الإنـــــــابة
عده َ
منزل اإلنابة ،وقد أ َمر به تعاىل استقرت َق َد ُمه يف منزل ال َّتوبة نزل َب َ
َّ فإذا
يف كتابه ،وأثنى عىل خليله هبا ،فقال﴿ :ﯜ ﯝ ﯞ﴾ [الزمر ،]54 :وقال:
ِ
اخلشية ﴿ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﴾[هود ،]75 :وأخرب َّ
أن ثوا َبه وجنَّ َته ألهل
واإلنابة ،فقال﴿ :ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ
ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ﴾ [ق.]34-31 :
ِ
املخلوقات ك ِّلهاَ ،ي ِ
شرت ُك فيها واإلنابة إنابتان :إنابة ُلربوبِ َّيتِه ،وهي إنابة
والفاجر ،قال اهلل تعاىل﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ املؤمن والكافر ،والبرَُّ
ﭗ ﭘ﴾ [الروم ،]33 :واإلنابة الثانية :إنابة أوليائه ،وهي إنابة إلهل َّيتِه ،إنابة
عبودية وحم َّبة.
واإلعراض
َ َ
واإلقبال عليه، واخلضوع له،
َ تتضمن أربع َة أمور :حم َّبته، َّ وهي
وتفسري األربعة، هذه فيه اجتمعت
ْ ن م لاَّإ نيب ُ
مل ا اسم يستحق
ُّ فال واه،سع ِ
ُ َ َ ماَّ
لف هلذه اللفظة يدور عىل ذلك. الس ِ
َّ
والتقدم ،فـ(ا ُملنيب) إىل اهلل :ا ُمل ِ
رسع ُّ ويف ال َّلفظة معنى اإلرساع والرجو ِع
املتقدم إىل محَ ا ِّبه.
ِّ كل وقت، إىل َم ْرضاتِه ،الراجع إليه َّ
عالمات صدق اإلنابة:
إذا َص َف ْت له اإلناب ُة إىل ر ِّبه تخَ َّلص من الفكرة يف َل َّذة َّ
الذنب ،وأعاد مكانهَ ا
الفكْر فيه موجود ًة يف قلبه لذ ُة ِ
لذ ْك ِره ،والفكرة فيه ،فام دامت َّ أ ًملا وتوجعا ِ
ُّ ً
غري صافية. فإناب ُته ُ
88
اإلنـــــابة
نب يف قلبه فهو جياهدها الذ ِ لذ َة َّ حال َمن جيد َّ أي احلا َلينْ ِ أعىل؟ ُ فإن قيلُّ :
الذنب يف لذة َّ
حال َمن ماتت َّ هلل ،ويرتكها ِمن خوفه وحم َّبتِه وإجاللِه ،أو ُ
وتوج ًعا وطمأنينة إىل َر ِّبه ،وسكو ًنا إليه ،والتِذا ًذا ُّ قلبه ،وصار مكاهنا أ ًملا
بذكره؟بحبه ،وتنعُّم ِ
اً ُ ِّ
نفسه املجاهدةِ ْ : ِ أرفع وأكمل ،وغاي ُة قيلُ :
أن جياه َد َ َ صاحب حال هذا ُ
ِ
املنزلة وال ُق ْرب ،و َمن ٌ
ُوط به. يصل إىل مقا ِم هذا ومنزلته ،ولكنَّه تالِ ِيه يف حتى َ
ِ
وإيثاره رضا صاحب ال َّل َّذة ،و َت ْر ِكه محَ ا ِّبه هلل،
ِ ِ
جماهدة أج ُرفإن قيل :فأين ْ
كي عند أهلأفضل من النوع ا َمل َل ِّ َ اهلل عىل هواه ،وهبذا كان النوع اإلنساين
ويفعُ و املجاهدة هذه ن واملطمئن قد اسرتاح ِ
م ِ السنَّة ،وكانوا خري البرَ َّية،
َ ُّ ُّ
ىَ
املعاف واملبتلىَ . منها ،فبينهام من التفاوت ما بني درجة
بالذنب ،ثم ال َّل ْوم عليه والنَّدم منه،األمر َّ
ُ قيل :النَّفس هلا ثالث ُة أحوال:
احلال أعىل أحواهلا، ُ واإلقبال بك ِّل َّيتِها عليه ،وهذهُ ثم الطمأنينة إىل ربهِّ ا
املجاهد ،وما حيصل له من ثواب جماهدتِه ِ وأرفعها ،وهي التي ُي َش ِّمر إليها
راكب ِ
القفار ِ ِ
الطمأنينة إىل اهلل ،فهو بمنزلة مريه إىل درجة وص ِربه فهو ل َت ْش ِ َ
ِ
والطواف به. واألهوال لِ َي ِص َل إىل البيت فيطمئن قل ُبه برؤيته ِ ِ ِ (((
واملهامه
ٌ ِ
وساجدا ،ليس له
ً مشغول به طائ ًفا اً
وقائم ،وراك ًعا بمنزلة َمن هو واآلخر
ُ
أجر ،ولكن وكل له ٌمشغول بالغاية ،وذاك بالوسيلةٌّ ، ٌ التفات إىل غريه ،فهذا ٌ
وأج ِر الوسائل َب ْو ٌن. ِ
أج ِر الغايات ْ بينْ ْ
) (1أي :املفاوز البعيدة.
89
للمطمئ ِّن من األحوال والعبود َّية واإليامن فوق ما حيصل هلذا ِ وما حيصل
ِ
عمل املطمئ ِّن عمل -ف َق ْد ُر أكثر اً كان -وإن تعاىل اهلل املجاهد نفسه يف ِ
ذات ِ
َ َ
فضل عمل ،وذلك ُ أكثر اً د
ُ ِ
املجاه هذا كان وإن ، أعظم ه نيب بجملتِه وكيفيتِ ا ُمل ِ
َ ُ َّ
عمل ،وفيهم َمن هو ٍ الص ِّد ُيق الصحاب َة بكثرة اهلل يؤتيه َمن يشاء ،فام َس َبق ِّ
إن آخ َر قا َم بقلبه ،حتى َّ بأمر َ وح ًّجا وقراء ًة وصال ًة منه ،ولكن ٍ أكثر صيا ًما َ
أفضل الصحابة كان يسابِ ُقه وال يراه إال أمامه. َ
90
اإلنـــــابة
َ
األعامل ٍ
وحظوظ متنع فال إله إال اهللُ ،كم يف النفوس ِمن ِع َل ٍل وأغراض،
عم ُل العمل حيث ال يراه أن تكون هلل خالصة ،وأن تصل إليه؟ وإن العبد ل َي َ
العمل والعيون قد استدارت عليه َ برش ال َب َّتة ،وهو غري خالص هلل ،ويعمل ٌ
نطا ًقا ،وهو خالص لوجه اهلل ،وال يم ِّي ُز هذا من هذا إال ُ
أهل البصائر ،وأط َّبا ُء
القلوب العالمِون بأدوائها ِ
وع َل ِلها.
فبني العمل وبينْ القلب مسافة ،ويف تلك املسافة ُق َّطاع متنع وصول العمل
وصل منه إىل قلبه حم َّب ٌة وال خوف كثري العمل ،وما َ
إىل القلب ،فيكون الرجل َ
وال رجاء ،وال زهد يف الدنيا وال رغب ٌة يف ِ
اآلخرة ،وال نور ُي َف ِّرق به بني أولياء
قو ٌة يف أمره؛ فلو وصل ُ
أثر األعامل إىل اهلل وأعدائه ،وبني احلق والباطل ،وال َّ
ِ
وأعدائه، قلبه الستنار وأرشق ،ورأى احلق والباطل ،وم َّيز بني أولياء اهلل
املزيد من األحوال.
َ وأوجب له ذلك
ثم بني القلب وبينْ الرب مسافة ،وعليها ُق َّطاع متنع وصول العمل إليهِ ،من
وع َل ٍل خفية لو استقىص ونسيان املِنَّةِ ،
ِ ِكبرْ ٍ وإعجاب وإدالل ،ورؤية العمل،
رتها عىل أكثر العماَّ ل؛ إ ْذ لو
يف طلبها لرأى العجب ،ومن رمحة اهلل تعاىل س ُ
رأوها وعاينوها لوقعوا فيام هو أشد منها ،من اليأس والقنوط واالستحسار،
اهلمة. ِ
تور ُ
ف و العزم، ومخود العمل، ِ
وترك
َّ
91
ُّ
التذكـــــــر ُ
منزلـــــــة
القلب منزل َة التذ ُّكر ،وهو قرين اإلنابة؛ قال تعاىل﴿ :ﮬ ﮭ
ُ ثم َي ِنزل
ﮮ ﮯ ﮰ﴾ [غافر.]13:
واص ُأويل األلباب؛ كام قال تعاىل﴿ :ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ِ
وهو من َخ ِّ
ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ﴾ [الرعد.]19:
ِ
اإليامن واإلحسان، وحقائق
َ والتذ ُّكر والتفكُّر منزالن ُيثمران َ
أنواع املعارف،
يفتح ُقفل
فالعارف ال يزال يعود بتفكُّره عىل تذ ُّكره ،وبتذ ُّكره عىل تفكُّره ،حتى َ
قلبه بإذن الفتاح العليم.
قال احلسن البرصي « :ما زال ُ
أهل العل ِم يعودون بالتذ ُّكر عىل التفكُّر،
القلوب حتى نطقت».َ وبالتفكُّر عىل التذ ُّكر ،و ُيناطِقون
فمنزلة التذ ُّكر من التفكُّر منزل ُة حصول اليشء املطلوب بعد التفتيش
املتلوة: يف قال كام كرى؛ آيـات اهلل املتلو ُة واملشـهود ُة ِ
ذ ُ عليه ،وهلذا كانت
َّ َّ
﴿ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅﮆ ﮇ ﮈ
ﮉ﴾ [غافر ،]54-53:وقال تعاىل يف آياته املشهودة ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ
ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ
ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ﴾ [ق.]37-36:
والناس ثالث ٌةٌ :
رجل قل ُبه ميت ،فذلك الذي ال قلب له ،فهذا ليست هذه
اآلي ُة ِذكرى يف ح ِّقه.
92
التذكــــــر
94
التذكــــــر
مجع ِ
الفكْر عىل التأمل يف القرآن :فهو حتديق ناظر القلب إىل معانيه ،و ْ ُ
وأما ُّ َّ
تفه ٍم وال تد ُّبر. تدبره وتع ُّق ِ
جمرد تالوته بال ُّ
َّ ال بإنزاله، املقصود وهو ه،ل ُّ
قال اهلل تعاىل﴿ :ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ﴾
وأقرب إىل نجاتهِ ،من تد ُّبر
َ
ِ
ومعاده، أنفع للعبد يف معاشه [ص ،]29:فليس يش ٌء َ
العبد عىل
طلع َ الفكْر عىل معاين آياته؛ فإهنا ُت ِ مج ِع ِ
وإطالة التأ ُّمل فيه ،و ْ ِ القرآن،
والرش بحذافريمها ،وعىل طرقاهتام وأسبابهِ ام ،وغاياتهِ ام وثمراهتام، ِّ معامل اخلري
قواعد اإليامن يف قلبه ،و ُتش ِّيد بنيانه ،و ُتو ِّط ُد أركا َنه ،و ُتريه صورة َ و ُتث ِّبت
الدنيا واآلخرة ،واجلنَّ ِة والنار يف قلبه ،وتحُضرِ ُ ه بني األمم ،وتريه أ َّيا َم اهلل فيهم، ُّ
عر ُفه ذاته وأسام َءه وصفاتِه ِّ ت
ُ و ه، َ
ل وفض ْ اهلل َ
عدل هدُ ِ
شه ت
ُ و ، و ُتب ه مواقع ِ
الع
َ برَ صرِّ
وأفعا َله ،وما يحُ ُّبه وما ُيبغضه ،ورصا َطه املوصل إليه ،وما لسالكيه بعد الوصول
ِ
ومفسدات عرفه النَّ ْف َس وصفاتهِ ا، تهِ
وقواطع الطريق وآفا ا ،و ُت ِّ َ والقدوم عليه،
وأهل النار وأعاملهَ م ،وأحواهلم، ِ طريق أهل اجلن َِّة وتعرفه َ ِّ تهِ
ومصححا اِّ ، األعامل
ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة ،وأقسا َم اخل ْلق واجتام َعهم فيام وسيامهم، ِ
َ
فرتقون فيه. جيتمعون فيه ،وافرتا َقهم فيام َي ِ
95
اآلخرة حتى كأنه فيها ،و ُتغ ِّيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها ،وتمُ ِّيز له بني
َ
والباطل اً
باطل، ِ
والباطل يف كل ما اخ َتلف فيه العالمَ ،فترُ يه احلق ح ًّقا، احلق
يفرق به بني اهلدى والضالل ،وال َغ ِّي والرشاد ،وتعطيه ونورا ِّ
وتعطيه فرقا ًنا ً
والناس
ُ ورسورا؛ فيصري يف شأنً وانرشاحا ،وهبجة
ً وس َع ًة
قوة يف قلبه ،وحيا ًة َ
يف ٍ
شأن َ
آخ َر.
وختوفه
ِّ ِّ
وحتذره العبد إىل ر ِّبه بالوعد اجلميل، َ تزال معانيه ُتنهض فال ُ
ف ِللقاء اليوم ال َّثقيل، بوعيده من العذاب الوبيل ،وتحَ ُ ُّثه عىل ال َّتضم ِر وال َّتخ ُّف ِ
ُّ
وتص ُّده عن اقتحام ُط ُر ِق السبيلُ ، واملذاهب إىل سواء َِّ وتهَ ديه يف ُظ َلم اآلراء
البِ َدع واألضاليل ،و َتبع ُثه عىل االزدياد ِمن النِّ َعم بشكر ر ِّبه اجلليل ،و ُتبصرِّ ه
فيقع يف العناء ال َّطويل. اها يتعد
َّ لاَّئ ل عليها؛ هفُ بحدود احلالل واحلرام ،و َت ِ
ق
َ
األمور
َ سهل عليه احلق وال َّتحويل ،و ُت ِّيل عن ِّ الزيغ وا َمل ِ و ُتث ِّبت قلبه عن َّ
عزما ُته وونى
فرتت َ الشا َّق َة غاي َة ال َّتسهيل ،وتناديه ك َّلام ِ
والعقبات َّ عاب
ْ الص َ ِّ
الر َ
حيل. والر َ
حيل َّ حاقَّ ، حاق ال َّل َ
الدليل ،فال َّل َ
الركب وفا َتك َّ ُ يف َس ِريهَّ :
تقد َم
كمني من كامئن
ٌ الدليل ،وك َّلام خرج عليهوتحَ ْ دو به وتسري أمامه َسيرْ َ َّ
ِ
فاعتصم باهلل ،واستعن احلذر! احلذر قاطع من ُق َّطاع ال َّطريق ناد ْته: العدو ،أو
َ َ ٌ ِّ
به ،وقل :حسبي اهلل ونِ ْع َم الوكيل.
مفسدات القلب اخلمس ُة فهي ا َّلتي أشار إليها :من كثرة اخللطة،
ُ وأما
َّ
وال َّتمنِّي ،وال َّتع ُّلق بغري اهللِّ ،
والش َبع ،واملنام.
فهذه اخلمسة من أكرب مفسدات القلب.
96
التذكــــــر
إن مل ُت ِصمه نوره ،وتغور عني بصريته ،و ُتثقل سمعهْ ، وهذه اخلمسة ُتطفئ َ
مه َته، وتوقف عزيمته، ترِّ َ
ف ت
ُ و ه، ت
َ صح وتوهن ها، َّ
ل ك واه ُ
ق ف و ُتب ِكمه و ُت ِ
ضع
َّ ُ َّ ْ
وتنكسه إىل ورائه ،و َمن ال شعور له هبذا فميت القلب:
رح بمي ٍ
ت إيال ُم. وما لجِ ُ ٍ َ ِّ
وج ِعل ِ
يل كامله ،قاطع ٌة له عن الوصول إىل ما ُخلق لهُ ، فهي عائق ٌة له عن َن ِ
ولذ ُته يف الوصول إليه؛ فإ َّنه ال نعيم له وال َل َّذ َة، وابتهاجه َّ ُ نعيمه وسعادتهُ
ِ
والفرح بذكره،والطمأنينة ِ
ِ كامل ،إال بمعرفة اهلل وحم َّبتِه، وال ابتهاج ،وال َ
وق إىل لقائه؛ فهذه جنَّ ُته العاجلة ،كام أ َّنه ال نعيم له والش ِ واالبتهاج ب ُقربهَّ ،
فوز إال بجواره يف دار النَّعي ِم يف اجلنَّة اآلجلة ،فله جنَّتان ،ال يف اآلخرة ،وال َ
يدخل األُوىل. ِ دخ ُل الثاني َة منهام إن مل َي ُ
«إن يف الدنيا جن ًة َمن مل يقولَّ : عت شيخ اإلسالم اب َن تيم َّي َة وسم ُ ِ
دخ ْلها مل يدخل جنَّ َة اآلخرة». َي ُ
أهل اجلن َِّةوقال بعض العارفني« :إنه ل َي ُم ُّر بالقلب أوقات أقول :إن كان ُ
عيش ط ِّيب». ٍ يف ِمثل هذا ،إنهَّ م لفي
الدنيا وما ذاقوا
خرجوا من ُّ
«مساكني أهل الدنياَ ،
ُ وقال بعض املح ِّبني:
97
والش ُ
وق أطيب ما فيها؟ قال :محَ َّب ُة اهلل ،واألُ ُ
نس بهَّ ، ُ أطيب ما فيها ،قالوا :وما
َ
واإلقبال عليه ،واإلعراض عماَّ ِسواه» ،أو نحو هذا من الكالم. ُ إىل لقائه،
شهد هذا و َي ِ
عرفه ذو ًقا. ُّ
وكل َمن له قلب َح ٌّي َي َ
وهذه األشياء اخلمسة :قاطع ٌة عن هذا ،حائل ٌة بني القلب وب ْينه ،عائق ٌة له
يف عليه منها. املريض ِخ َ
ُ يتدار ْكها وعلل ْ
إن مل َ اً أمراضا
ً عن َسريه ،محُ ِدث ٌة له
فأما ما َتؤ ِّثره كثر ُة اخللطة :فامتالء القلب من ُد َخان أنفاس بني آد َم حتى َّ
وضع ًفا ،وحمَ ْ اًل لمِا َي ِ
عجز عن محله وتفر ًقا ،و ًّ
مها وغماًّ َ ، َي ْسو َّد ،ويوجب له تشت ًتا ُّ
مصاحله ،واالشتغال عنها بهِ ِم وبأمورهم، ِ ِ
وإضاعة من مؤنة ُقرناء ُّ
السوء،
وتقسيم فِكره يف أودية مطالبهم وإراداهتم؛ فامذا يبقى منه هلل َّ
والد ِار اآلخرة؟!
جلبت خلط ُة الناس من نِقمة ،ودفعت من نعمة ،وأنزلت من ْ هذا ،وكم
لت من ِمنحة ،وأح َّلت من َرز َّية ،وأوقعت يف بلية؟!
حمنة ،وع َّط ْ
98
التذكــــــر
ﯕ ﯖ ﯗ ﴾ [الفرقان.]29-27:
َّاس يف اخلري -كاجلمعة افع يف ْأمر اخللطة :أن خيالط الن َ والضابط النَّ َُّ
ِ
واجلهاد ،والنَّصيحة -و َيعتزلهَ م واألعياد واحلج ،وتعليم ِ
العلم، ِ واجلامعات،
ِّ
دعت احلاجة إىل ُخلطتِهم يف الشرَِّّ ،ومل ِ وفضول املباحات ،فإذاِ يف الشرَِّّ ،
احلذر أن ُيوافِ َقهم ،و ْل َيصبرِ ْ عىل أذاهم ،فإنهَّ م ال َّ
بد َ فاحلذر
َ مكنْه اعتزالهُ م ي ِ
ُ
قو ٌة وال نارص ،ولكن أ ًذى َيع ُقبه ِع ٌّز وحمب ٌة له وتعظيم، أن يؤذوه إن مل يكن له َّ
رب العالمَني ،وموافق ُتهم يعقبها ُذ ٌّل وثنا ٌء عليه منهم ومن املؤمنني ،ومن ِّ
رب العالمَني. ن وبغض له ،وم ْق ٌت ،وذم منهم ومن املؤمننيِ ،
وم ٌ
ِّ ٌّ َ
مآل ،وإن ِ
دعت احلاج ُة إىل وأمحد اً وأحس ُن عاقب ًة، خري
ُ َ أذاهم ٌ
رب عىل ُ
فالص ُ
َّ
املجلس طاع ًة هلل إن
َ قلب ذلك فليجته ْد أن ي ِ
َ ِ ُخلطتِهم يف فضول املباحات،
يطاين القاط ِع َّ
الش الوارد إىل ت
ْ أمكنه ،ويشجع ن ْفسه ويقوي قلبه ،وال ي ِ
لتف
ِّ َ ِّ َ ُ ِّ
بأن هذا ريا ٌء وحمب ٌة إلظهار ِعلمك وحالك ،ونحو ذلك، له عن ذلكَّ ،
حاربه ،وليستع ْن باهلل ،ويؤ ِّثر فيهم من اخلري ما أمكنه. فل ُي ِ
الشع ِ
رة من املقادير عن ذلك ،ف ْل َي ُس َّل قلبه من بينهم َ
كس ِّل َّ َ ُ عجز ْته
فإن َّ
نائم يقظا ًنا؛ َينظر إليهم وال بعيدا ،اً حارضا غائ ًبا ،قري ًبا ً
ً العجني ،وليك ْن فيهم
ور َقى به إىل نهم،ي ب ن يبصرِ هم ،ويسمع كالمهم وال يعيه؛ أل َّنه قد أخذ قلبه ِ
م
َ ْ َ َ ُ
حول العرش مع األرواح ال ُع ْلو َّي ِة َّ
الزك َّية. ِ
املأل األعىل ،يسبح َ
99
أصعب هذا وأش َّقه عىل النُّفوس! وإ َّنه َل ٌ
يسري عىل َمن يسرَّ ه اهلل عليه؛ َ وما
ديم اللجأ إليه ،و ُيلقي ن ْف َسه عىل بابه طر ً
حيا صدق اهللَ ،و ُي َ فبينْ العبد وب ْينه ْ
أن َي ُ
كر الدائم بالقلب وال ِّلسان، ذليل ،وال يعني عىل هذا إال ا َملح َّب ُة الصادقةِّ ،
والذ ُ اً
كرها ،وال ينال هذا إال ب ُع َّد ٍة صاحلة، ُ
الباقية اآليت ِ
ذ ِ ُّب املفسدات األرب ِع وجتن ُ
وعزيمة صادقة ،وفرا ٍغ من التع ُّلق بغري اهلل.ٍ وما َّد ِة قوة من اهلل،
بحر ال ساحل بحر ال َّتمنِّي :وهو ٌ املفسد ال َّثاين من مفسدات القلب :ركو ُبه َ
رأس أموال إن ا ُملنى ُ مفاليس العالمَ ،كام قيلَّ :
ُ له ،وهو البحر ا َّلذي يركبه
مواعيد الشياطني ،وخياالت املحال والبهتان ،فال ُ املفاليس ،وبضاع ُة ُر َّكابِه
واخلياالت الباطلة ،تتالعب براكبِه كام ُيتال َعب ِ أمواج األماين الكاذبة، تزال
ُ
سم ٍ
هينة َخسيسة ُس ْفل َّية ،ليست هلا همَِّ ٌة َتنال هبا كل ن ْف ٍ َ
باجليفة ،وهي بضاع ُة ِّ
الذهنية ،ف ُيم ِّثل ا ُملتمنِّي صور ًة احلقائق اخلارجية ،فاعتاضت عنها باألماين ِّ َ
مطلوب ًة يف ن ْفسه وقد فاز بوصوهلا ،وال َت َّذ بال َّظ َفر هبا ،فب ْينا هو عىل هذه احلال
يده واحلصري.
استيقظ فإذا ُ
إذ ْ
ِ
والعمل الذي اهلم ِة ال َعل َّي ِة أمانيه حائم ٌة حول العلم واإليامن،
وصاحب َّ
يقربه من ر ِّبه ،و ُيدنيه ِمن ِجواره.
ِّ
فأماين هذا ٌ
إيامن ونور ،وأماين أولئك خدع وغرور.
أج َره يف بعض األشياء كأجر َّبي ﷺ متمنِّي اخلري ،ور َّبام َج َعل ْ
وقد مدح الن ُّ
الن -ا َّلذي ي َّتقي يف مالِه ر َّبه،
بعمل ُف ٍ
ِ مال ِ
لعم ْل ُت أن يل اً
فاعله ،كالقائل :لو َّ
100
التذكــــــر
واء»(((. ِ
األجر َس ٌ و َي ِص ُل فيه ر َ
محه ،ويخُ ِر ُج منه حقه -وقال« :همُ َ ا يف
الثالث من مفسدات القلب :التع ُّلق بغري اهلل ،وهذا أعظم مفسداته
ُ املفسد
عىل اإلطالق.
أقطع له عن اهلل ،وأحجب له عن مصاحله ُ أرض من ذلك ،وال فليس عليه ُّ
وخذله ِمنَ وسعادته منه؛ فإ َّنه إذا تع َّلق بغري اهلل َو َك َله اهلل إىل َمن تع َّلق به،
حتصيل مقصوده من اهلل بتع ُّلقه بغريه ،والتفاتِه إىل ُ جهة َمن تع َّلق به ،وفا َته
حصل ،وال إىل ما أ َّمله ممَّن تع َّلق به وصل؛ اهلل ن مسواه؛ فال عىل نصيبه ِ
َ
قال تعاىل﴿ :ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ
َّاس ِخذال ًنا َمن تع َّلق بغري اهلل،
فأعظم الن ِ
ُ ﮀ ﮁ ﮂ﴾ [مريم]82-81 :؛
أعظم ممَّا حصل له ممَّن تع َّلق به، ه فإن ما فاته ِمن مصاحله وسعادتِه و َف ِ
الح َّ
ُ
ِ ِ وهو معر ٌض َّ ِ
كم َثل املستظ ِّل من ِّ
احلر للزوال والفوات ،و َم َث ُل املتع ِّلق بغري اهلل َ ُ َّ
والربد ببيت العنكبوت ْأو َه ِن البيوت. ِ
ِ
واملفس ُد له من ذلك نوعان: ابع ِمن مفسدات القلب :ال َّطعام: الر ُ
املفسد َّ
ماتوحمر ٌ
حل ِّق اهللَّ ،
مات َحمر ٌ كاملحرمات ،وهي َّ َّ فس ُده ل َع ْينِه وذاتِه
أحدمها :ما ي ِ
ُ
حلق ِ
العباد.
والش َب ِع
حده ،كاإلرساف يف احلاللِّ ، عدي ِّ والثاين :ما يفسده ب َق ْد ِره ،و َت ِّ
مؤنة البِطنة وحماولتِها،
ِ املفرط؛ فإ َّنه ُيثقله عن ال َّطاعات ،و َيشغله بمزاولة
((( أخرجه الرتمذي ( ،)2325وصححه األلباين يف «صحيح الرتغيب والرتهيب» (.)110 /1
101
رضرها ،وال َّتأ ِّذي ِ ِ
ووقاية ترصفها بمزاولة شغله هبا ر حتى يظفر هبا ،فإذا َظ ِ
ف
ُّ
ووسعها؛ فإ َّنه وطرق جماري الشيطان َّ الشهوةَّ ، وقوى عليه موا َّد َّ بثقلهاَّ ،
فالصوم ُيض ِّيق جماريه و َي ُس ُّد عليه ُطرقه، الدمَّ ، جيري من ابن آد َم جمرى َّ
رشب كثريا ،فنام كثريا ،فخسرِ كثريا ِ ِّ
ً ً ويوس ُعها ،و َمن أكل ً ِّ طرقها والش َبع ُي ِّ
ب ِ
ابن شا ِمن َب ْطنِه ،بِ َح ْس ِ مي ِو ً
عاء رَ ًّ كثريا ،ويف احلديث املشهور« :ما َمأل آ َد ٌّ ً
ث لشرَ ابِه، ث ل َط ِ
عامه ،و ُث ُل ٌ فإن كان ال ب َّد ِ
فاعلاً ف ُث ُل ٌ امت ي ِ
ُ ْ ه، آ َد َم ُل َق ْي ٌ ُ ْ َ ُ َ
ب ْ
ل ص ن م ق
ث لنَ َف ِسه»(((.و ُث ُل ٌ
البدن ،ويض ِّي ُع َ القلب ،و ُيثقلَ املفسد اخلامس :كثرة النوم :فإ َّنه يميت
الض ُّار غري جدا ،ومنه َّ الوقت ،و ُيورث كثر َة الغفلة والكسل ،ومنه املكروه ًّ
يل شد ِة احلاجة إليه ،ونو ُم َّأو ِل ال َّل ِ ند َّ النَّافع للبدن ،وأنفع النوم ما كان ِع َ
ط الن ِ آخره ،ونوم وس ِ مح ُد وأنفع من ِ
قرب النَّوم طر َف ْيه ،وك َّلام ُأنفع من َ
َّهار ُ ُ َ ُ أ َ
رضره ،وال س َّيام نو ُم العرص والنَّو ُم َّأو َل الن ِ
َّهار ُ قل نف ُعه ،وك ُثر فني َّ من ال َّط َر ِ
إلاَّ لسهران.
بح وطلو ِع الشمس؛ فإ َّنه وقت الص ِ صالة بني م َّو ن ال هم عند
َ املكروه ن ِ
وم
ُّ ُ
الكني َمز َّي ٌة عظيمة ،حتى لو ساروا َ الس ند
َ الوقت ِ
ع َ وللسري ذلك َغنيمة،
َّ َّ
مس؛ الش ُ الوقت حتى تط ُلع َّ َ السري ذلك طول ليلهم مل َيسمحوا بالقعود عن َّ
ووقت نزول األرزاق ،وحصول ال َق ْسم ،وحلول ُ ومفتاحه،َّهار ِ
فإ َّنه َّأو ُل الن ِ
احل َّصة؛ مجيعه عىل حكم تلك ِ الربكة ،ومنه ينشأ النَّهار ،وينسحب حكْم ِ
ُ ُ
102
التذكــــــر
103
ُّ
التذكـــــــر
االعت�صام ُ
منزلـــــــة
﴿ﭱ وهو نوعان :اعتصام باهلل ،واعتصا ٌم بحبل اهلل ،قال تعاىل:
نيوية واألُخرو َّي ِة
الد ِ السعادة ُّ
ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ﴾ [آل عمران ،]103:ومدار َّ
عىل االعتصام باهلل ،واالعتصا ِم بحبله ،وال نجا َة إلاَّ َمل ِن استمسك هباتني
ِ
العصمتني.
عص ُم من عصم من الضاللة ،واالعتصام به ي ِ فأما االعتصام بحبله :فإنه ي ِ
ُ َ َ ُ
مقصده؛ فهو حمتاج إىل ِ نحو ٍ اهل َ َلكة؛ َّ
طريق َ ائر إىل اهلل كالسائر عىلالس َ فإن َّ
المة فيها ،فال يصل إىل مقصده إلاَّ بعد حصول هذين هداية ال َّطريق ،والس ِ
َّ
الضاللة ،وهيديه إىل الطريق ،وال ُع َّد ُة كفيل بِعصمته من َّ ليل ٌ فالد ُ
األ ْمرين له؛ َّ
السالم ُة من ُق َّطاع ال َّطريق وآفاتهِ ا.
حتص ُل له َّ
الح هبا ُ والس ُ
والقو ُة ِّ
َّ
الدليل ،واالعتصا ُم باهلل
باع َّ واالعتصام بحبل اهلل ِ
يوجب له اهلداي َة وا ِّت َ
والسالح ،واملا َّد َة التي َيس َلم هبا يف طريقه؛ وهلذا
القو َة وال ُع َّد َة ِّ
يوجب له َّ
السلف يف االعتصام بحبل اهلل ،بعد إشارهتم ك ِّلهم إىل عبارات َّ
ُ لفت
اخ َت ْ
هذا املعنى.
ين اهلل». «تمَ سكوا ِ
بد ِ فقال ابن ع َّباس
َّ
وقال ابن مسعود « :هو اجلامع ُة».
واالمتناع به ،واالحتامء به ،وسؤا ُله
ُ وأما االعتصا ُم به :فهو ال َّتو ُّكل عليه،
َّ
104
االعتصــــــام
فإن ثمرة االعتصام به هو ويدفع عنه؛ َّ أن يحَ مي العبد ويمنعه ،وي ِ
عص َمه
َ َ َ
ِ
املؤمن إذا فع عن العبد ،واهلل يدفع عن ا َّلذين آمنوا ،ف َيدفع عن عبده الد َُّ
الش ِ
بهات كل سبب ُيفيض إىل العطب ،وحيميه منه ،فيدفع عنه ُّ اع َتصم به َّ
موجب عنه ويدفع ه،سوالشهوات ،وكي َد عدوه الباطن وال َّظاهر ،و ن ْف ِ َّ
َ شرََّ ِّ ْ
قو ِة االعتصام به ومتكُّنِه ،فينعقد يف ح ِّقهبحسب َّ أسباب الشرَِّّ بعد انعقادهاَ ،
أسباب العطب ،فيدفع عنه موجباتهِ ا ومسبباهتا ،ويدفع عنه َ
قد َره ب َق َد ِره، ُ
وإراد َته بإرادتِه ،و ُيعيذه به منه.
105
منزلــة ال�ســماع
106
الســـــماع
107
وسائق يسوق ٌ القلوب إىل ِجوار علاَّ ِم الغيوب، دو يحَ فهذا السامع ٍ
حاد
َ َّ
مات إىل أعىل املقامات العز ِ وحمرك ُيثري ساك َن َ األرواح إىل ديار األفراحِّ ،
كب يف طريق اجلنان، ُّ ٌ ٍ وأرف ِع الدرجات،
الر َ َّ يدل ودليل لإليامن، ينادي ومناد
حي عىل اإلصباح: ق ودا ٍع يدعو القلوب باملساء والصباحِ ،من ِقبل فالِ
َّ َ َّ
حي عىل الفالح. الفالحَّ ،
لعربة ،وتذكر ًة ملعرفة، فلن تعدم ِمن هذا السامع إرشادا حلجة ،وتبرص ًة ِ
ً ُ َّ
وفِكر ًة يف آية ،و َدالل ًة عىل رشد ،ور ًّدا عن ضاللة ،وإرشا ًدا ِمن َغ ٍّي ،وبصري ًة
رضة ومفسدة ،وهداي ًة إىل نور، وأمرا بمصلحة ،وهن ًيا عن َم َّ ً عمى، من ً
وجال ًء لبصرية، وإخراجا من ظلمة ،وزجرا عن هوى ،وح ًّثا عىل ُتقىِ ، ً
ً
ف ُش ْبهة ،وإيضاح وكش َ وعصم ًة ونجاةْ ، وحيا ًة لقلب ،وغذاء ودواء وشفاءِ ،
ً ً
حق ،وإبطال باطل. وحتقيق ٍّ
َ برهان،
عر َض عنه، كرهه ،و َيمدح ا ُمل ِ ي و اهلل ه ض ُ [النوع الثاين من السامع] :ما ي ِ
بغ
َ َ ُ
ِ
تضمن العبد يف قلبه ودينه ،كسامع الباطل ك ِّله ،إال إذا َّ َ كل ما َيضرُُّوهو سامع ِّ
الضد، ظهر ُحسنَه الضد ُي ِ فإنبحسن ِض ِّده؛ َّ ِ
ُّ َّ واالعتبار به ،بعلمه ُ َ ر َّده وإبطاله
كام قيل:
وإذا َس ِم ْع ُت إىل حديثِ َك زا َدين
حديث ِسواكا َ ُح ًّبا ل ُه َس ْمعي
ضـني عنـه بقـوله: َ ِ
واملعر اركـني لسـامعه، َ مدح اهللُ ال َّت وكسامع ال َّلغو ا َّلذي َ
﴿ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ﴾ [القصص.]55:
108
الخــــــوف
منزلـــة اخلـــوف
109
العدو
َّ ٌ
وسكون ،فإن الذي يرى وانقباض
ٌ فاخلوف حرك ٌة ،واخلَشي ُة ا ْن ِج ٌ
امع ُ
والس َيل ونحو ذلك له حالتان: َّ
إحدامها :حركة للهرب منه ،وهي حالة اخلوف.
وقراره يف مكان ال َي ِص ُل إليه ،وهي اخلشية.
ُ والثانية :سكو ُنه
الو َجل :فرجفان وأما َ
اهلرب من املكروهَّ ، وأما الرهبة :فهي اإلمعان يف َ
َّ
القلب ،وانصدا ُعه ِ
لذكر َمن خياف ُسلطانه وعقوب َته ،أو لرؤيته ،وأما اهليب ُة:
وأكثر ما يكون مع املعرفة واملحبة، ُ فخوف مقارن للتعظيم واإلجالل،ٌ
ٌ
مقرون باحلب. تعظيم
ٌ واإلجالل:
فاخلوف لعامة املؤمنني ،واخلشية للعلامء العارفني ،واهليب ُة للمح ِّبني،
اخلوف واخلشية ،كامُ قدر العلم واملعرفة يكون قربني ،وعىل ْ للم َّ
واإلجالل ُ
قال ﷺ« :إنيِّ أل ْع َل ُم ُكم باهللَِ ،
وأش ُّدكُم له خشية »(((.
قال أبو حفص « :اخلوف َسوط اهللُ ،ي َق ِّوم به الشار َد عن بابه» .وقال:
وكل أحد إذا ِخف َته
«اخلوف رساج يف القلب ،به ُيبرص ما فيه من اخلري والرشُّ ،
هربت إليه».َ بت منه إال اهلل تعاىل؛ فإنك إذا ِخف َتههر ََ
هارب ِمن ر ِّبه إىل ر ِّبه.
ٌ فاخلائف
خرب» .وقال إبراهيم بن اخلوف قل ًبا إال ِ ُ قال أبو سليامن « :ما فارق
وطرد
القلوب أحرق مواضع الشهوات منهاَ ،
َ اخلوف
ُ شيبان « :إذا سكَن
الدنيا عنها».
110
الخــــــوف
111
منزلـــــة اخل�شـــــوع
112
الخشـــــوع
صاحب
َ الصالة ،فقال« :يا رجل طأطأ رقبته يف َّ اً عمر بن اخل َّطاب ورأى ُ
اخلشوع يف القلوب». ُ اخلشوع يف الرقاب ،إ َّنام
ُ الرقبة ،ارفع رقبتك ،ليس َّ
تاموتون يف ِم ْش َيتِهم ،فقالت شبا ًبا يمشون و َي َ ورأت عائش ُة
ألصحاهباَ « :من هؤالء؟ فقالواُ :ن َّساك ،فقالت :كان عمر بن اخلطاب إذا
رضب أوجع ،وإذا أطعم أشبع ،وكان مشى أرسع ،وإذا قال أسمع ،وإذا َ
َّاسك ح ًّقا».هو الن ِ
113
تع ُّقلها ،فقد اخ َتلف الفقهاء يف وجوب إعادهتاْ ،
فأو َجبها [قوم]:
وح الصالة ومقصو ُدها و ُل ُّبها ،فكيف ُي ُّ
عتد َ
والعقل ُر ُ قالواَّ :
ألن اخلشوع
وظاهرها؟! ا تهُ ر صو وبقيت
ْ ها، ب ُ
ل و ها وح ر دتْ َ
ق َ
ف ٍ
بصالة
ُ َّ ُ َ
عمدا ألبطلها َت ْر ُكه ،وغايته: العبد واج ًبا ِمن واجباهتا ً ُ قالوا :ولو َترك
عضو من أعضاء العبد ا ُملع َتق يف ٍ بعضا من أبعاضها بمنزلة فوات أن يكون ً
وصارت بمنزلة ْ وحها ،و ُل َّبها و َمقصو َدها،
مت ُر َالك َّفارة ،فكيف إذا َع ِد ْ
قر ًبا إىل اهلل تعاىل يف ِ
عتد بالعبد املقطوع اليدُ ،يعتقه َت ُّالعبد امل ِّيت؟! فإذا مل ُي َّ
ك َّفارة واجبة ،فكيف ُي ُّ
عتد بالعبد امل ِّيت؟!
مل ٍك من امللوك ،فام وهلذا قال بعض الس َلف :الصال ُة كجارية تهُ دى إىل ِ
َّ
بمن هُيدي إليه جاري ًة شلاَّ َء ،أو عورا َء ،أو عميا َء ،أو مقطوع َة اليد الظ ُّن َ
والرجل ،أو مريض ًة ،أو َز ِمن ًة ،أو قبيح ًة ،حتى هُيدي جاري ًة ميتة بال ُر ٍ
وح أو
تقرب هبا إىل ر ِّبه تعاىل!
العبد ،و َي َّ
ُ جارية قبيحة ،فهكذا الصال ُة التي هُيدهيا
وح فيها، طي ًّبا ،وليس من العمل الطيب صال ٌة ال ُر َب ال َيق ُبل إال ِ
واهلل ط ِّي ٌ
وح فيه. ٍ ِ ِ
كام أنه ليس من العتق الط ِّيب ع ْت ُق عبد ال ُر َ
تعطيل َمل ِل ِك
ٌ قالوا :وتعطيل القلب عن عبودية احلضور واخلشوع
األعضاء عن عبوديته ،و َع ْز ٌل له عنها ،فامذا ُت ْغني طاع ُة َّ
الرعية وعبود َّي ُتها،
وقد ُع ِز َل َم ِلكُها و َتع َّطل؟
114
الخشـــــوع
سدت عبودي ُته عتد بعبود َّيتها ،وإذا َف ْ قائم بعبوديته ،فاألعضاء ْأوىل أال ُي َّ يكن اً
نده ومادَّتهُ م منه ،وعن أمره بالغفلة والوسواس فأ َّنى َت ِصح عبودي ُة رعيتِه وج ِ
ُ َّ ُّ
صدرون ،وبه يأمترون؟! َي ُ
ومجعية القلب عىل اهلل يف ِ فباجلملة :مصلحة اإلخالص واحلضور،
سائر واجباهتا؛ فكيف ُي َظ ُّن به الصالة ،أرجح يف نظر الشارع من مصلحة ِ
ُ
ف ،أو َش َّد ٍةأنه يبطلها برتك تكبرية واحدة ،أو اعتدال يف ركن ،أو تر ِك حر ٍ
ْ َْ ُ ُ
سمع اهلل َلمِن محِ َده ،أو قول:
من القراءة الواجبة ،أو تر ِك تسبيحة ،أو قولِ :
ْ
صححها مع فوات ُل ِّبها، ي ثم عليه، بالصالة هاحلمد ،أو ِذ ْك ِر رسولِ
ُ ر َّبنا ولك
ُ ِّ
وروحها وسرِِّ ها؟! األعظم، ها ِ
ومقصود
ُ
وظهورا.
ً احتجت به هذه الطائف ُة ،وهي ُح َج ٌج كام تراها َّ
قوة َّ فهذا ما
رشائع اإلسال ِم عىل األفعال الظاهرة،
ُ اآلخر]:
[وقال أصحاب القول َ
رشائع الثواب والعقاب ،فلله تعاىل
ُ حقائق اإليامن الباطن ُة فتلك عليها
ُ وأما
وحك ُْم حك ِ
كم يف الدنيا عىل الرشائع الظاهرة وأعامل اجلوارحُ ، ٌ حُ :ْامن ُ
اآلخرة عىل احلقائق والبواطن.
عاجل وال ِ
آج اًل، اً نعم ال يحَ ُصل مقصو ُد هذه الصالة من ثواب اهلل
عاجل يف القلب من قوة إيامنه ،واستنارتِه ،وانرشاحه اً مزيدا
ً فإن للصالة
ِ ِ ِ
ووجد حالوة العبادة ،والفرح والرسور ،وال َّل َّذة التي ُ
حتصل َملن وانفساحه ْ
حيصل ملن َّقربه السلطان مهه عىل اهلل ،وحضرَ َ قل ُبه بني يديه ،كام ُاجتمع قلبه و ُّ
ُّ
وأجل. ِ
واإلقبال عليه ،واهلل أعىل وخصه بمناجاته َّ منه،
115
الدرجات ال ُعىل يف اآلخرة ،و ُمرا َفقة َّ
املقربني؛ وكذلك ما يحَ ُصل هلذا من ِّ
ُ
ليكون َمقا ُمهام يف الرج َلني بفوات احلضور واخلشوعّ ،ِ ُك ُّل هذا َيفو ُته
وإن ُ
واحدا ،وبني صالتيهام كام بني السامء واألرض! وليس كال ُمنا يف ً الصفِّ
هذا ك ِّله.
والفوائد فذاك إليه ،إن
ُ الثمرات
ُ حصل هذه وجوب اإلعادة ل َت ُ
َ فإن أرد ُتم
فوهتا عىل ن ْف ِسه ،وإن أردتم بوجوب اإلعادة أ َّنا
شاء أن يحُ ِّصلها وإن شاء أن ُي ِّ
الة فال. عاقبه عىل تر ِكها ،و ُنر ِّتب عليه أحكام ِ
تارك الص ِ لزمه هبا و ُن ِ
ُن ِ
َّ َ َ ْ
أرجح ال َقولني ،واهلل أعلم.
ُ وهذا القول ال َّثاين
116
اإلخبــــــات
منزلـــــــة الإخبـــــات
قال اهلل تعاىل ﴿ :ﮒ ﮓ﴾ [احلج ،]34 :ثم كشف عن معناهم فقال:
﴿ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ
ﮢ ﮣ ﴾ [احلج .]35 :وقال﴿ :ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ
ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ﴾ [هود.]23 :
املنخفض من األرض ،وبه َفسرَّ اب ُن ع َّباس
ُ اخلَ ْب ُت يف أصل ال ُّلغة :املكان
و َقتاد ُة لفظ ا ُملخبِتِني ،وقاالُ :هم املتواضعون.
ِ
املطمئ ُّن إىل اهلل ». « :املخبِت: قال جماهد
اإلخبات َّأو َل َمقا ٍم يتخ َّلص فيه السالك من الرت ُّدد ،والسالك ُ َّملا كان
مسافر إىل ربه ،سائر إليه عىل مدى أنفاسه ،ال ينتهي َس ُريه إليه ما دام ن َف ُسه
يصحبه؛ َشبه حصول اإلخبات له باملاء العذب الذي ي ِرده املسافر عىل ظمأٍ
َ ُ َّ
خواطر تر ُّدده يف إمتام عنه زيل ي و ه،د مور ويه ف له، وحاجة يف أول م ِ
ناه
َ ُ ُ يرَ َ
سفره ،أو رجوعه إىل وطنه ملشقة السفر ،فإذا ورد ذلك املا َء زال عنه الترَّ ُّد ُد
وخاطر الرجوع.
ُ
الك إذا ورد مورد اإلخبات خت َّلص من الرت ُّدد ُّ
والرجوعَ ،
ونزل الس ُ كذلك َّ
َّأو َل منازل ال ُّطمأنينة لسفرهَ ،
وج َّد يف السري.
استقر ْت َق َد ُم العبد يف منزلة اإلخبات ومتكَّن فيها،
َّ [و] اعلم أ َّنه متى
117
نفسه عن خ َطفات املدح َّ
والذ ِّم ،فال يفرح بمدح مه ُته ،وع َل ْت ُ ارتفعت َّ
وتأهل للفناء خرج عن ِّ
حظ نفسهَّ ، ف َمن َوص ُالنَّاس ،وال حيزن لذ ِّمهم ،هذا ْ
يف عبودية ربه ،وصار قلبه ُم َّط ِر ًحا ألشعة أنوار األسامء والصفات ،وباشرَ َ
حالو َة اإليامن واليقني ق ْل ُبه.
والوقوف عند مدح النَّاس وذ ِّم ِهم عالمة انقطاع القلبُ ،
وخ ُل ِّوه من اهلل،
وح حم َّبتِه ومعرفته ،ومل َي ُذ ْق حالوة ال َّتع ُّلق به وال ُّطمأنينة إليه. شرِ
وأ َّنه مل تبا ْ ه ُر ُ
[فـ] صاحب هذا املنزل ال يرىض عن نفسه ،وهو م ِ
بغ ٌض هلاُ ،م َت َم ٍّن ُ
ملفارقتها.
معلول من أوصاف العبد ،مذمو ًما من اً واملراد بال َّن ْفس عند القوم :ما كان
أخالقه وأفعاله ،سواء كان ذلك َك ْسب ًّيا له أو َخ ْلق ًّيا ،فهو شديد الالئمة هلا،
وهذا أحد التأويلني يف قوله تعاىل ﴿ :ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﴾ [القيامة ،]2 :قال
وعك ِْرم ُةَ « :تلوم عىل اخلري والرش ،وال تصرب عىل الرساء ،وال سعيد بن جبري ِ
َُ
عىل الرضاء».
قواعد القوم ا ُملجم ِع عليها بينهم ،التي اتفقت كلمة أولهَّ ِ م ِ
وآخ ِرهم، ِ فإ َّنه من
َ
حجاب بني العبد وبني اهلل تعاىل ،وأنه ال أن النَّ ْف َس ومحُ ِ ِّقهم وم ِ
بطلهم عليهاَّ :
ٌ ُ
رب العزة يف
زيد« :رأيت َّ يصل إىل اهلل حتى يقطع هذا احلجاب ،كام قال أبو َي َ
نفسك و َت َ
عال». املنام ،فقلت :ريب ،كيف الطريق إليك؟ فقالَ :خ ِّل َ
السري إىل اهللُّ ،
وكل سائر فال طريق فالنَّ ْفس ٌ
جبل عظيم ٌّ
شاق يف طريق َّ
118
اإلخبــــــات
119
منزلــــــة الزهـــــــد
«الزهد:
وحه -يقولُّ : ِ
[و]سمعت شيخ اإلسالم اب َن تيم َّي َة َّ -
قدس اهللُ ُر َ
ْتر ُك ما ال ينفع يف اآلخرة ،والورعْ :ترك ما تخَ اف َ
رضره يف اآلخرة».
ِ
وأمجعها. أحس ِن ما قيل يف ُّ
الزهد والورع ن وهذه العبارة ِ
م
َ
الدنيا ِقصرَ ُ األمل ،ليس بأكل الغليظ ،وال
«الزهد يف ُّ سفيان ال َّث ُّ
وريُّ : ُ قال
لبس العباء».
«:عدم ِ
فرحه بإقباهلا ،وال حزنه عىل إدبارها» ،فإ َّنه وقال اإلمام أمحد
ُ
زاهدا؟ فقال« :نعم ،عىل
ألف دينار ،هل يكون ً
الرجل يكون معه ُ عن ل سِ
ئ
ُ ُ
120
الزهـــــــد
121
ُ
وسفيان من الز َّهاد ،مع مال كثري ،وكذلك ال َّليث بن سعد األئمة ُّ
املبارك من َّ
رأس مال يقول« :لوال هو َل َت َمن َْد َل بنا هؤالء».
الز َّهاد ،وكان له ُ
أئمة ُّ
َّ
الدنيا
هد يف ُّالز ُ غريه« :ليس ُّ حلسن أو ِ ا م كال هد، الز ُّ يف قيل ما نِ أحس ن ِ
وم
ُ َ َ
نك باميد اهلل أو َث َق ِم َ
تكون بام يف ِ
َ إضاعة ِ
املال؛ ولك ْن أن ِ بِ َتحري ِم احل ِ
الل ،وال َ
نك فيها لو ب ِم َ َ َ
غ أر - هبا بت َ ص واب ا ُمل ِ
صيبة -إذا ُأ ِ ِ َ
ث يف َ
تكون وأن ، َ
ك يف ِ
يد
وأحسنِه.
َ الزهد يف ٍ
م كال ِ
ع مج
َ أ ن مل ُت ِصب َك»؛ فهذا ِ
م ْ ْ
122
الـــــــــورع
منزلـــــــة الـــــــورع
« :ال تلبسها عىل غدر ،وال ُظ ْل ٍم وال إثم ،ال َب ْسها قال ُأبيَُّ بن كعب
وأنت َب ٌّر طاهر».
ِ
املأمور وتقصريها من مجلة ال َّتطهري
َ أن تطهريها من النَّجاسات،وال ريب َّ
ث نجاسة اهر ِ
تور ُ ألن نجاسة ال َّظ ِ
به ،إ ْذ به متا ُم إصالح األعامل واألخالق؛ َّ
عد عنها. الباطن؛ ولذلك ُأمر القائم ب يدي اهلل بإزالتها والب ِ
ُ ُ ينْ
دنسيطهر املا ُء َ ِ
القلب ونجاس َته ،كام ِّ يطهر د َن َس واملقصودَّ :
أن الورع ِّ
ال َّثوب ونجاس َته ،وبينْ الثياب والقلوب مناسب ٌة ظاهرة وباطنة ،ولذلك ُّ
تدل
ثياب املرء يف املنام عىل قلبه وحاله ،ويؤ ِّثر ٌّ
كل منهام يف اآلخر. ُ
السبا ِع؛ لمِا تؤ ِّثر يف القلب
ِّ
ب ،وج ُل ِ
ود ُ ِ ه
َ َّ
والذ ِ
ريرحل
َ ا ِ
باسوهلذا ي عن لِ
نهُ َ
أمر ياب ِّ
ث ال يف ِ
َّفس نوال القلب وتأثري واخلشوع، من اهليئة املنافية للعبودي ِ
ة
ٌ َّ
خفي يعرفه أهل البصائر من نظافتها ودنسها ورائحتها ،وهبجتها وكسفتها،
ٌّ
حتى َّ
إن ثوب البرَِّ ل ُي َ
عرف من ثوب الفاجر ،وليسا عليهام.
123
الورع ك َّله يف كلمة واحدة؛ فقالِ :
«من ُح ْس ِن إسال ِم َ مجع النبي ﷺ وقد َ
رء تَر ُكه ما ال َيعنِ ِ
يه»((( ،فهذا َي ُع ُّم الترَّ ْ َك لمِ ا ال يعني من الكالم ،وال َّنظ ِر، املَ ِ
ْ ْ
والفكر ،وسائر احلركات الظاهرة والباطنة، واالستامع ،والبطش ،واملَيشِ ،
كافية شافية يف الورع. فهذه الكلمة ٌ
والفضة،
َّ الذهب وقال إسحاق بن خ َلف « :الورع يف املنطق ُّ
أشد منه يف َّ
الرياسة». والفضة؛ ألنهَّ ام ُي َ
بذالن يف طلب ِّ َّ أشد منه يف َّ
الذهب الرياسة ُّ
هد يف ِّ
والز ُ
ُّ
وقال حييى بن معاذ « :الورع عىل وجهني؛ ورع يف الظاهر :أن ال
وورع يف الباطن :هو أن ال يدخل قل َبك ِسواه ،وقالَ :من مل يتحرك إال هللَ ،
َّ
الدقيق من الورع مل َي ِص ْل إىل اجلليل من العطاء».
ينظر يف َّ
124
الـــــــــورع
إحداهاَ :ص ْو ُن النفس؛ وهو ِح ْف ُظها ومحايتها عماَّ َيشينها ،و َيعيبها و ُيزري
كرمت عليه
ْ وعباده املؤمنني ،وسائر خلقهَّ ،
فإن من ِ هبا عند اهلل ومالئكته،
ن ْف ُسه وكبرُ ت عنده :صاهنا ومحاها ،وز َّكاها وعلاّ ها ،ووضعها يف أعىل
أهل العزائم والكامالت ،و َمن هانت عليه ن ْف ُسه وص ُغ ْ
رت ِّ
املحال ،وزاحم هبا َ
وحل ِزمامها وأرخاه ،و َد َّساها ومل الرذائل ،وأطلق ِشناقهاَّ ، عنده ألقاها يف َّ
َي ُصنْها عن قبيح.
توفري احلسنات ِمن وجهني:
ُ [والثانية]
نقصت
ْ أحدمها :توفري زمانِه عىل اكتِساب احلسنات ،فإذا اشتغل بالقبائح
ِ
مستع ًّدا لتحصيلها. احلسنات ا َّلتي كان
ُ عليه
املفعولة عن نقصاهنا بموازنة السي ِ
ئات أو ِ والثاين :توفري احلسنات
َّ ِّ
ِ
احلسنات ،وقد ِ
السيئات قد تحُ بِط وبة َّ
أن تقدم يف منزلة ال َّت ِ
ََّ حبوطِها ،كام
َ
ديوان ضع َفها قط ًعا ،فتجنُّبها يوفر بد أن ُت ِستغر ُقها بالك ِّل َّي ِة أو تنقصها ،فال َّ
َت ِ
ِ
يستغرقه احلسنات ،وذلك بمنزلة َمن له مال حاصل ،واستدان عليه ،فإ َّما أن
والس ِّيئات.
الدي ُن أو أكثره أو ينقصه ،فهكذا احلسنات َّ َّ
الس َّن ِة َي ُ
زيد بالطاعة، أهل ُّ[والثالثة] صيان ُة اإليامن :ألنَّ اإليامن عند مجيع ِ
وق والوجود، بالذ ِأمر معلوم َّ وينقص باملعصية ،وإضعاف املعايص لإليامن ٌ
فإن فإنَّ العبد-كام جاء يف احلديث« -إذا أذ َن َب ُن ِك َت يف َقلبِه ُن ْك ٌتة َس ْو ُ
داءْ ،
125
خرى ،ح َّتى تَع ُل َوأ تاب واس َتغ َفر ُص ِق َل َق ْلبه ،وإن عا َد فأذ َن َب ُن ِك َت ِ
فيه ُن ْك ٌتة ُ َ
َ ُ َ
وذلك الر ُان ا َّلذي قال ُ
اهلل تعاىل ﴿:ﭹﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﴾ َ َّ َق ْل َبه،
[املطففني.(((»]14 :
ُ
واإليامن هو نور يف القلب ،والقبائح نوره،
فالقبائح ُت َس ِّود القلب ،و ُتطفئ َ
ذهب به أو تق ِّلله قط ًعا.َت َ
نور القلب ،وقد أخرب ئات ُتطفئ َ
والس ِّي ُ
نور القلبَّ ،[و] احلسنات َتزيد َ
املنافقني
َ للران ا َّلذي يعلوها ،وأخرب أ َّنه أر َك َس
سبب َّ
ب القلوب ٌ تعاىل َّ
أن َك ْس َ
بكسبِهم ،فقال ﴿ :ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ﴾ [النساء.]٨٨ : يف نفاقهم ْ
126
الرجـــــــاء
منزلـــــــة الرجــــــاء
ُ
ويأخذ زر َعها. أرض يبذرها
فاألول :كحال َمن يتمنَّى أن يكون له ٌ
127
الرجاء ال َي ِص ُّح إلاَّ مع العمل. وهلذا أمجع العارفون عىل َّ
أن َّ
128
الرجـــــــاء
اإلهلي ع�ن النبي ﷺ -فيام ي�روي عن ربه - ِّ ويف احلدي�ث الصحي�ح
كان ِم َ
نك وال ك عىل ما َور َج ْو َتني َغ َف ْر ُت َل َ ابن آ َد َم ،إ َّن َ
ك ما َد َع ْو َتني َ «يا َ
ُأبايل»(((.
وقد روى األعمش عن أيب صالح عن أيب هريرة ،عن النبي ﷺ قال:
قول اهلل :أنا ِع َند َظ ِّن َع ْبدي يب ،وأنا معه إذا َذك ََرينْ ،
فإن َذك ََرين يف َن ْف ِسه « َي ُ
إ ب َ ترَق ا منهمِ ،
وإن ُ ريإل َخ ٍ إل َذك َْر ُته يف َم ٍ
وإن َذك ََرين يف َم ٍ َذك َْر ُته يف َن ْفيسْ ،
َ ليََّ
وإن أتاين ت ِ
إليه با ًعاْ ، إيل ِذرا ًعا ،اقترَ َ ْب ُ ب ترَ ق ا ِ
وإن ا،ع را إليه ِ
ذ ت ِ ُ ب ترَق ا ا،رب ِ
ش
َ َ َّ ً َْ ً
َي ْميش ،أ َت ْي ُته َه ْر َول ًة»(((.
قو ِة املعرفة باهلل وأسامئه وصفاته وغلبة رمحته ب حس عىل فقو ُة الر ِ
جاء
َّ َ َّ َّ
وه ِّد َم ْت لت عبودي ُة القلب واجلوارحُ ، وح الرجاء ل ُع ِّط ْغضبه ،ولوال َر ُ
كثريا؛ بل لوال َروح ومساجد ُيذ َكر فيها ُ
اسم اهلل ً ُ وصلوات،
ٌ صوامع ،وبِ َي ٌع،
ُ
حيه الطيب ُة لمَا جرت ُس ُفن األعامل
حتركت اجلوارح بالطاعة ،ولوال ر ُ الرجاء لمَا َّ
حمب ٍ
راج ُّ
وكل الرجاء، يكون ا َّتهِ
وقو يف بحر اإلرادات ،وعىل حسب املحب ِ
ة
ٍّ َّ َ
ب ما كان إليه ،وكذلك أح َّ
خائف بالضرَّ ورة ،فهو أرجى ما يكون حلبيبهَ ، ٌ
129
وطر َد حمبوبه له وإبعا َده ،واحتجابه خوفه ،فإنه خياف سقو َطه من عينيهْ ،
يت للمحبة ،فإ َّنه يرجوه قبل لقائه أشد خوف ،ورجاؤه ملحبوبه ذا ٌّ عنه ،فخوفه ُّ
الرجا ُء له ،لمِا حيصل به من حياة اشتد َّوالوصول إليه ،فإذا لق َيه ووصل إليه َّ
ُروحه ،ونعيم قلبه من ألطاف حمبوبه ،وبِ ِّره وإقباله عليه ،ونظره إليه بعني
نعيم وال فوز إال وال ب ِ
للمح حياة ال ا مم ذلك وغري ه،وتأهيله ملحبتِ
ِ الرضا،
َ ِّ َّ َّ
وأج ُّله وأمتُّه.
بوصوله إليه من حمبوبه ،فرجاؤه أعظم رجاءَ ،
ٍ
أرسار عظيمة من أرسار حق ال َّتأمل ي ِ
طل ْعك عىل املوضع َّ فتأم ْل هذا
ُّ ُ َ َّ
العبود َّي ِة واملح َّبة.
فكل حمب ٍ
املحب
ِّ قلب من ُّنها
ك مت ر قد
ْ وعىل والرجاء، باخلوف مصحوبة ة ُّ َّ
صح ُبه وحش ٌة ،بخالف خوف ي ال ب يشتد خو ُفه ورجاؤه ،لكن خوف ِ
املح ُّ
ِّ َ َ
ب ال يصحبه ِع َّلة ،بخالف رجاء األجري ،فأين رجا ُء ِّ
امليسء ،ورجاء ِ
املح
ب من رجاء األجري وب ْينهام كام بينْ حا َل ْي ِهام؟! ِ
املح
ِّ
رضوري للمريد السالك ،والعارف لو فارقه حلظ ًة ٌّ فالرجا ُء
وباجلملةَّ :
وعيب يرجو صالحه، ٍ لتلف أو كاد ،فإ َّنه دائر بني ذنب يرجو غفرا َنه،
ب من ٍ
واستقامة يرجو حصوهلا أو دوا َمها ،و ُق ْر ٍ صالح يرجو َقبوله،
ٍ وعم ٍل
َ
السالكني عن هذه
َ ينفك أحد من اهلل ومنزلة عنده يرجو وصو َله إليها ،وال ُّ
األمور أو عن بعضها.
130
الرجـــــــاء
وال يزيد ذلك يف ُم ْلكه مثقال ذرة ،وال ينقص مغفرته ،لو غفر ألهل األرض
ك ِّلهم؛ لمَا نقص مثقال ذرة من ملكه ،كيفَّ ،
والرمح ُة أوسع من العقوبة وأس َب ُق
الرمح َة؟ ه من الغضب وأغلب له وهو قد كتب عىل ن ْف ِ
س
َّ
ومن ثمار الرجاء:
ِ
ويسترشفه من اج ِة إىل ما يرجوه من ربه،
العبودي ِة والفاقة ،والحْ َ َ
َّ -1إظهار
إحسانه ،وأنَّه ال يستغني عن فضله وإحسانِه َطرف َة عني.
فض ِله؛ أل َّنه ب من عباده أن يؤ ِّملوه و َي ْرجوه ،ويسألوه من ْ -2أ َّنه سبحانه ِ
حي
ُّ
ب ما إىل ِ
وأح ُّ
وأوسع َمن أعطىَ ، ُ أج َود َمن ُسئل،
اجلوادْ ،احلق َ امللك ُّ
بغض ْ سأل اهلل َي َرجى و ُيؤمل و ُيسأل ،ويف احلديث «م ْن مل ي ِ اجلواد أن ُي ََ
َ َْ َّ
ِ (((
يغضب عليه.
ْ اهلل يرج
ُ مل نفم
ٌ َ؛ وطالب راجٍ ُ
والسائل ، عليه»
أن الرجاء ٍ
حاد يحَ ْ دو به يف َسريه إىل اهلل ،ويط ِّيب له ا َملسري ،ويحَ ُ ُّثه عليه، َّ َّ -3
وحده ال
َ فإن اخلوف الرجاء لمَا سرَ ى أحدَّ ، ويبعثه عىل مالزمته ،فلوال َّ
الرجاء. احلب ،و ُيزعجه اخلوف ،ويحَ دوه َّ حيركه ُّحير ُك العبد ،وإ َّنام ِّ
ِّ
اشتد
َّ الرجاء يطرحه عىل عتبة املح َّبة ،ويلقيه يف ِدهليزها ،فإ َّنه ك َّلام َّ -4
أن َّ
ورضا عنه. وشكرا لهً ، ً وحصل له ما يرجوه ازداد ح ًّبا هلل تعاىل،
َ رجاؤه
((( أخرجه الرتمذي ( ،)3373وابن ماجه ( ،)3827وصححه األلباين يف «صحيح اجلامع» (.)2418
131
الشكر ،ا َّلذي هو خالصة
-5أ َّنه يبعثه عىل أعىل املقامات ،وهو مقام ُّ
جوه كان ذلك أدعى لشكره.
العبود َّية ،فإ َّنه إذا حصل له َم ْر ُّ
املزيد من معرفته بأسامئه ومعانيها ،والتع ُّلق هباَّ ،
فإن الرجاء َ -6أ َّنه ُيوجب له
تع ُّل ٌق بأسامء اإلحسان ،وتع ُّب ٌد هبا ،ودعا ٌء هبا ،وقد قال تعاىل﴿ :ﭳ
ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ﴾ [األعراف.]180 :
خائف،
ٌ فكل ٍ
راج ِ
مستلز ٌم للخوفُّ ، والرجا ُء
للرجاءَّ ، ِ
مستلز ٌم َّ َّ -8
أن اخلوف
راج ،وألجل هذا حسن وقوع الر ِ
جاء يف موضع حيسن فيه ٍ ٍ
خائف ُّ
وكل
َّ ُ ُ
وقوع اخلوف ،قال اهلل تعاىل ﴿ :ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﴾ [نوح ،]13:قال كثري
من املفرسين :املعنى :ما لكم ال ختافون هلل َع َظم ًة؟ قالواَّ :
والرجاء بمعنى
اخلوف .وال َّتحقيق أ َّنه ِ
مالزم له.
ألطف
َ أن العبد إذا تع َّلق قل ُبه برجاء ربه ،فأعطاه ما رجاه ،كان ذلك
َّ -9
َ
وأبلغ من حصول ما مل َي ْر ُجه. موق ًعا ،وأحىل عند العبد،
132
الرجـــــــاء
عبوديات ِ
عبده إليه ،فكذلك ِ أحب من هي التي بالتوبة هعبوديتِ
ِّ َّ
بالرجاء واخلوف.
تكميلها َّ
الرجاء -من االنتظار والترَّ ُّق ِ
ب وال َّتو ُّق ِع لفضل اهلل -ما يوجب أن يف َّ َّ -11
بذكره ،ودوام االلتفات إليه بمالحظة أسامئه وصفاته، تع ُّل َق القلب ِ
كل اسم وصفة.وأخذه بنصيبه من ِّ وتن ُّقل القلب يف رياضها األنيقةْ ،
133
منزلـــــــة املراقبــــــة
134
المراقبـــــة
رسه وعالنيته.
رسه :حفظه اهلل يف حركاته يف ِّ حركات ال َّظواهرَ ،
فمن راقب اهلل يف ِّ
(الرقيب)( ،احلفيظ)( ،العليم)( ،السميع)، واملراقبة :هي ال َّتع ُّبد باسمه َّ
فمن َع َقل هذه األسامء ،وتع َّب َد بمقتضاها :حص َل ْت له املراقبة. (البصري)َ ،
135
منزلـــــــة الإخــــال�ص
136
اإلخــــــالص
قار ُئ ال ُق ِ
رآن ،وا ُمل ِ
جاه ُد ،وا ُمل َت َص ِّد ُق وأخ عن أو ِل ٍ
ثالثة ُت َس َّع ُر هبِ ُم النَّ ُارِ : َّ برَ َ
ومل ،ق ٌ دِّ تص م ٌ
الن ُ
ف ،جاع شُ ٌ
الن ُ
ف ،ئٌ ِ
قار ٌ
الن ُ
ف : قالَ ي ذلك لِ
َ وا ُ
ل ع َ
ف ني ذباملِه ،ا َّل ِ
ْ ُ َ ٌ ُ َ َ
تك ْن أعاملهُ ُم خالِص ًة هلل(((.
كاء ِِ
عن اإلهلي يقول اهلل تعاىل« :أنا أ ْغنى الشرُّ َ ِّ الصحيح ويف احلديث َّ
أرش َك ِبه ،وأنا ِمن ُه
َ ذي َّ
ل فيه َغ ِ ي فهو لِ
يرْ
الشرِّ ِك ،من ع ِم َل عملاً أرش َك ِ
َ َ َ َ َ ْ
أجسام ُكم ،وال إىل ِ «إن اهلل ال َين ُظ ُر إىل ريء»
الصحيح عنه ﷺَّ : َّ ويف ، َب ٌ
(((
والقصد واحد.
ُ تنوعت عبارهتم يف اإلخالص،
وقد َّ
احلق سبحانه بالقصد يف الطاعة.
فقيل :هو إفراد ِّ
دق :ال َّتن ِّقي
والص ُ ِّ وقيل :التو ِّقي من مالحظة اخلَ ْلق حتى عن ن ْفسك،
يتم
ادق ال إعجاب له ،وال ُّ والص ُ
من مطالعة النَّ ْفس ،فاملخلص ال ريا َء لهَّ ،
بالصرب. لاَّإ دق إلاَّ باإلخالص ،وال يتِ ِ
ن الص ُ اإلخالص إلاَّ
َّ َ ماَّ بالصدق ،وال ِّ
ِّ ُ
وقيل :اإلخالص :نِ ُ
سيان ُرؤية اخلَ ْلق بدوام النظر إىل اخلالق ،و َمن َتز َّي َن
للناس بام ليس فيه س َق َط من َع ِ
ني اهلل.
((( أخرجه مسلم (.)1905
((( أخرجه مسلم ( )2985بنحوه.
((( أخرجه مسلم (.)2564
137
أج ِل الناس رياء ،والعمل ِمن
ْ نم« :تر ُك العمل ِ
ْ ومن كالم ال ُف َضيل
أج ِل الناس شرِ ْ ك ،واإلخالص أن يعافيك اهلل منهام».
ْ
فاخلري ا َّلذي َي ُ
صد ُر منها إ َّنام هو من اهلل تعاىل وبه ،ال من العبد ،وال به،
كام قال تعاىل﴿ :ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ
ﭱ ﭲ﴾ [النور ،]21 :وقال أهل اجلنَّة﴿ :ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ
ومنَّتِه،
فضل اهلل ِ
ِ جمرد ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ﴾ [األعرافُّ ،]43 :
فكل خري يف العبد فهو َّ
وإحسانِه ونعمته ،وهو املحمود عليه.
ِ
وبرصه، فرؤية العبد ألعامله يف احلقيقة ،كرؤيته لصفاته اخل ْلقية ِمن ِ
سمعه َّ
138
اإلخــــــالص
139
أضعف وأعجز ُّ
وأقل من أن يو ِّف َيها ح َّقها، ُ والباطنة ،ورشوطها ،وأن العبد
وأن يرىض هبا لربه ،فالعارف ال يرىض بيشء من عمله لر ِّبه ،وال يرىض ن ْف َسه
هلل تعاىل طرف َة عني ،ويستحيي من مقابلة اهلل بعمله.
غضه هلا ،وكراهته ألنفاسه وصعودها إىل اهلل: ِ
وعمله ،و ُب ُ فسوء ظنِّه بنفسه
والرضا عن نفسه.
الرضا بعملهِّ ، حيول بينه وبني ِّ
140
االســــتقامة
منزلـــــــة اال�ســــتقامة
141
أح ٌد ِمن ُكم ب َع َملِه» ،قالوا :وال َ
أنت يا نج َو َ «س ِّد ُدوا ِ
وقار ُبوا ،واع َل ُموا أ َّنه لن َي ُ َ
محة ِمن ُه و َف ْض ٍل»(((.
رسول اهلل؟ قال« :وال أنا ،إلاَّ أن ي َت َغم َدين اهلل بر ٍ
َ َ َّ َ
السداد وهي باالستقامة، فأمر ها،لَّ ك ين الد
ِّ ِ
مقامات فجمع يف هذا احلديث
َّ َ
ِ
واألقوال واألعامل. واإلصابة يف النِّ َّيات
وبان أهنم ال ُيطيقوهنا ،فن َق َلهم إىل املقاربة ،وهي :أن
وأخرب يف حديث َث َ
فإن مل ُي ِص ْبه
بحسب طاقتهم ،كالذي َيرمي إىل الغرضْ ، يقربوا من االستقامة َ
ِ
يقاربه ،ومع هذا فأخربهمَّ :
أن االستقامة واملقارب َة ال ُتنجي يوم القيامة ،فال
أحد إىل عمله ،وال يعجب به ،وال يرى َّ
أن نجاته به ،بل إ َّنام نجا ُته َيرك ْن ٌ
ِ
وعفوه وفضله. برمحة اهلل
الدين ،وهي القيام بني يدي اهلل فاالستقامة كلمة جامعةِ ،
آخذ ٌة بمجام ِع ِّ
الصدق ،والوفاء بالعهد.
عىل حقيقة ِّ
واالستقامة تتع َّلق باألقوال ،واألفعال ،واألحوال ،والنِّ َّيات ،فاالستقامة
فيها :وقو ُعها هلل ،وباهلل ،وعىل أمر اهلل.
طالب الكرامةَّ ،
فإن َ صاحب االستقامة ،ال
َ قال بعض العارفني« :كن
متحرك ٌة يف طلب الكرامة ،ور ُّبك يطالِ ُبك باالستقامة».
ِّ ن ْف َسك
عت شيخ اإلسالم ابن تيم َّي َة يقول « :أع َظ ُم الكرامة :لزوم ِ
وسم ُ
االستقامة».
142
االســــتقامة
أصالن لالستقامة:
143
منزلــــــــة التوكُّ ـــــــل
144
التوكـــــل
145
ِ
املطالب ال ينالوهنا وحصول اإلثم والفواحش ،فإنَّ أصحاب هذه ِ والع ِ
دوان ُ
وتوك ِلهم عليه ،بل قد يكون ُّ
توك ُلهم أقوى من ُّ غالبا إلاَّ باستعانتهم باهلل،
ً
ري من أصحاب الطاعات ،وهلذا ُيلقون أنفسهم يف املتالف واملهالك، توكل كث ٍ ُّ
يس ِّلمهم ،و ُي َظ ِّف َرهم بمطالبهم.
معتمدين عىل اهلل أن َ
وواجب اخل ْلق،
َ احلق،
واجب ِّ َ التوكل يف الواجب أعني: فأفضل ال َّت ُّ
وكلُّ :
ٍ
مصلحة وك ُل يف التأثري يف اخلارج يف وأنفعه ال َّت ُّ وواجب ال َّن ْفس ،وأوسعه
َ
ُ
توكل األنبياء يف إقامة دين اهلل ،ودفع دينية ،وهو ُّ ٍ
مفسدة دينية ،أو يف دفع
َّ َّ
ُّ
التوكل بعد يف
اس ُ ن
َّ ال ثم هم،توكل ورثتِ فساد املفسدين يف األرض ،وهذا ُّ
ُ
متوك ٍل عىل اهلل يف حصول امللكِ ،
ومن فمن ِّ عىل حسب همِ َ ِمهم ومقاصدهمِ ،
َ
متوك ٍل يف حصول رغيف. ِّ
ٍ
توك ُله عىل اهلل يف حصول يشء ناله ،فإنْ كان حمبو ًبا له َم ْر ًّ
ضيا و َمن َص َدق ُّ
مبغوضا كان ما حصل له ً ً
مسخوطا ُ
العاقبة املحمودة ،وإن كان كانت له فيه
ِ
مصلحة وك ِل دون ُ
مصلحة ال َّت ُّ حصلت له
ْ مباحا
مرض ًة عليه ،وإن كان ً بتوكله َُّّ
توكل فيه ،إن مل ي ِ
ستع ْن به عىل طاعاته. ما َّ
َ
: بن معاذ عم ُل القلب»ُ ،
وسئل حييى ُ ُّ
«التوكل َ قال اإلمام أمحد :
ريض باهلل اً
وكيل». اً
متوكِّل؟ فقال :إذا َ الر ُ
جل «متى يكون َّ
كون إليه. ِ
مأنينة إليه ،والس ِ ومنهم َمن يفسرِّ ه بالثِّقة باهللُّ ،
والط
ُّ
والقو ِة».
َّ واالنخالع من احلول
ُ « :هو ُ
ترك تدبري ال َّنفس، قال ذو ال ُّنون
146
التوكـــــل
147
فالتوكل ال َيتِ ُّم إال برفض األسباب
ُ لكن رفضها عن القلب ال عن اجلوارح،
منقطعا منها م َّت ِص اًل هبا.
ً عن القلب ،وتع ُّل ِق اجلوارح هبا ،فيكون
إليه ،وس ُكونُه ِ
ناده ِلب عىل اهللِ ،واستِ ُ الرابِع ُة :اعتِ ُ
امد ال َق ِ
إليه ُ الد َرج ُة َّ
َّ
ٌ
سكون إليها ،بل اضطراب من تشويش األسباب ،وال ٌ بحيث ال يبقى فيه
مسببها. الس َ
كون إىل ِّ كون إليها من قلبه ،و ُيلبِ ُسه ُّ الس َخيلع ُّ
قلبه ويخَ ِفق عند
وعالمة هذا أنَّه ال يبايل بإقباهلا وإدبا ِرها ،وال يضط ِر ُب ُ
ِ
وإقبال ما َيكره؛ ألنَّ اعتامده عىل اهلل ،وسكو َنه إليه، إدبار ما يحُ ُّب منها،
حال َمن خرج عليه حصنه ِمن خوفها ورجائِها ،فحا ُله ُ واستنا َده إليه ،قد َّ
ربه إليه ،وأغلق فأدخله ا، مفتوح
ً انً ص عدو عظيم ال طاق َة له به ،فرأى ِ
ح
ُّ ٌّ
احلصن ،فاضطراب قلبِه وخو ُفه احلصن ،فهو يشاهد عدوه خارج ِ باب ِ
عليه َ
َ َّ
منهم يف هذه احلال ال معنى له.
مها ،ف ِ ق منه ،فقال له ِ ِ
امللك :عندي أضعا ُفه، وكذلك َمن أعطاه مل ٌك در ً سرُ
صح َة ِ ِ ِ
قول جئت إ َّيل أعطي ُتك من خزائني أضعا َفه ،فإذا علم َّ تم ،متى َ ال تهَ َّ
وع ِل َم أنَّ خزائ َنه ٌ
مليئة بذلك؛ مل حيزنه فوتُه. امللك ،ووثِق به ،واطمأنَّ إليهَ ،ِ
148
التوكـــــل
149
ري َك «اللهم إنيِّ أس َتخ ُ خارة: قول ال َّنبي ﷺ يف دعاء االستِ قلت :وهذا معنى ِ
َّ ِّ
توكل ظيم» ،فهذا ُّ الع ِ ضل َك َ درتِ َك ،وأسأ ُل َك ِمن َف ِ قد ُر َك ُبق َ بع ْل ِم َك ،وأس َت ِ ِ
َقدر وال ِ ِ
وأنت َعلاَّ ُم َ أقد ُر، وتفويض ،ثم قال« :فإ َّن َك ت َْع َل ُم وال أع َل ُم ،وت ُ
وتوس ٌل إليه سبحانه والقوة، حل ِ
ول العلم وا َ يوب» ،فهذا تربؤٌ إىل اهلل من ِ الغُ ِ
ُّ َّ ُّ
ربه أن يقيضَ املتوسلون ،ثم سأل َّ ِّ َوسل إليه هبا أحب ما ت َّ بصفاته التي هي ُّ
رص َفه عنه إن كان آجل ،وأن َي ِ عاجل أو اً اً األمر إن كان فيه مصلح ُته، َ له ذلك
يبق عليه إلاَّ آجل ،فهذا هو حاج ُته التي سأهلا ،فلم َ عاجل أو اً اً مرضتُه،
فيه َّ
به»(((.حيث كانُ ،ثم َر ِّضني ِ ري ُ خل َ الرضا بام يقضيه له ،فقال« :وا ْقدُ ْر َيل ا َ
َّ ِّ
اإليامنية، ِ
واحلقائق ة،اإلهلي ِ
املعارف عاء عىل هذه
الد ُ
فقد اشتمل هذا ُّ
َّ َّ
بعده ،وهووالرضا َ املقدور، وقوع قبل والتفويض
ُ ل ُ ُّ
التوك مجلتها ن التي ِ
م
ِّ
فتفويضه
ُ يرض بام ُقيضَ له؛ صحتِه ،فإن مل َ ُ
وعالمة َّ ِ
والتفويض، ثمرة ُّ
التوكل
ٌ
معلول فاسد.
وتثب ُت التوكل، مقام
َ العبد
ُ ُ
ل ِ
ستكم ي
َ ِ
الثامن ِ
رجاتالد
فباستكامل هذه َّ
ُ
َق َد ُمه فيه.
أعم املقامات تع ُّل ًقا باألسامء احلسنى؛ فإنَّ له تع ُّل ًقا ًّ
خاصا ُ
والتوكل من ِّ
ِ
وأسامء الصفات ،فله تع ُّل ٌق باسم (الغ َّفار) ،و(ال َّت َّواب)، بعامة أسامء األفعال،
َّ
و(الرحيم) ،وتع ُّل ًقا باسم (الفتاح) ،و(الوهاب) ،و(الرزاق)، َّ و(العفو)،
150
التوكـــــل
151
َ
وريض السائل ن ْفسه حيث امتهنها ،وأقامها يف مقام ُذ ِّل السؤال،
ِ وأ َّما ُظ ْل ُم
قدرا.
خري منه وأعىل ً َ
السائل ٌ هلا ُبذ ِّل الطلب َّممن هو ِم ْث ُله ،أو َّ
لعل
152
الصبـــــــر
منزلـــــــة ال�صـــــرب
موضعا».
ً تسعني
َ رب يف القرآن يف نحو
الص َ « :ذكر ا ُ
هلل َّ قال اإلمام أمحد
األمة ،وهو نصف اإليامن ،فإنَّ اإليامن نصفان :نصف
واجب بإمجاع َّ
ٌ وهو
صرب ،ونصف شكر.
وهو يف القرآن عىل س َّت َة عشرَ َ ً
نوعا:
﴿ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ﴾ األول :األمر به ،نحو قوله:
[البقرة.]153 :
ضده كقوله﴿ :ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ
هي عن ِّ
الثاين :ال َّن ُ
ﯳ﴾ [األحقاف ،]35 :وقوله ﴿ :ﯡ ﯢ ﯣ﴾ [األنفال.]15 :
153
بأحس ِن أعاملهِ م ،كقوله﴿ :ﮀ ﮁ ﮂ
َ هلم ِ
اجلزاء إجياب
ُ السابع:
ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ﴾ [النحل.]٩٦ :
الثامن :إجيا ُبه اجلزا َء هلم بغري حساب ،كقوله تعاىل ﴿ :ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ
ﰗ ﰘ﴾ [الزمر.]١٠ :
الصرب ،كقوله تعاىل﴿ :ﭠ ﭡ ﭢ
البرشى ألهل َّ
التاسع :إطالق ُ
ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﴾ [البقرة.]١٥٥ :
ِ
واملدد هلم ،كقوله تعاىل ﴿ :ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ العارش :ضامن ال َّن ِ
رص
ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﴾ [آل عمران،]125 :
الص ِ
رب»(((. النَّرص مع َّ
َ «واع َل ْم َّ
أن النبي ﷺْ :
قول ِّومنه ُ
154
الصبـــــــر
﴿ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ
ﯘ ﯙ ﯚﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ﴾ [إبراهيم.]5 :
َ
ودخول ابع َ
عرش :اإلخبار بأنَّ الفوزَ باملطلوب ،وال َّنجا َة من املرهوب، الر َ َّ
بالصرب ،كقوله تعاىل﴿ :ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ اجل َّنة ،إنَّام نا ُلوه َّ
ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ﴾ [الرعد.]٢٤ – ٢٣ :
عت شيخ اإلسالمسم ُعرش :أنَّه يو ِر ُث صاحبه درجة اإلمام َةِ ،
اخلامس َ
َ َ
الدين، ُ
اإلمامة يف ِّ رب واليقني ،ت ُ
ُنال بالص ِ
وحه -يقولَّ : قدس ا ُ
هلل ُر َ تيمي َة َّ -
ابن َّ
َ
ثم تال قو َله تعاىل﴿ :ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﮁ ﮂ ﮃ
ﮄ ﴾ [السجدة.]٢٤ :
السادس َ
عرش :اقرتانُه بمقامات اإلسال ِم واإليامن ،كام قرنه اهلل سبحانه َ
الح واملَ ْرحمَ ة.
الص ِ ِ
والعمل َّ والتوكل ،والشك ِر،
ُّ باليقني وباإليامن ،وبالتقوى
إيامن ملَن ال
أس من اجلسد ،وال َ الر ِرب من اإليامن بمنزلة َّ الص ُوهلذا كان َّ
«خري
ُ اخلطاب : رب له ،كام أنَّه ال جسد ملَن ال رأس له ،قال عمر بن َّ ص َ
حيح« :أ َّن ُه ِض ٌ
ياء»(((، الص ِ بي ﷺ يف احلديث َّ بالصرب» ،وأخرب ال َّن ُّ أدركناه َّ عيش ْ ٍ
وقالَ « :من َي َتصبرَّ ْ ُي َصبرِّ ْ ُه اهلل»(((.
وليس
َ املؤ ِم ِن! َّ
إن أ ْم َر ُه ُك َّل ُه ل ُه َخ ٌري، «ع َج ًبا لأِ م ِر ْحيحَ : الص ِ ويف احلديث َّ
155
وإن أصا َب ْت ُه ريا ل ُهْ ، فكان َخ ً
َ إن أصا َب ْت ُه سرََّ ُاء َش َك َر، لمؤ ِم ِنْ ، ذلك لأِ َح ٍد إلاَّ لِ ْ َ
ريا لهُ»(((. فكان َخ ً ض ُاء َصبرَ َ َ ، رََّ
ت «إن ِش ْئ ِ يدعو هلاْ : أن هتْ َ
ل فسأ ع
ُ ُرص
َ ت كانت التي وقال للمرأة الس ِ
وداء
َ َّ
فقالت :إنيِّ أت ََك َّش ُف، ك»، عافي ِ ت َد َعو ُت اهلل ْ ِ وإن ِش ْئ ِ جل َّن ُةْ ، ولك ا َ ت ِ َصبرَ ِ
ْ أن ُي َ ْ ْ
فدعا هلا(((.
فَ ، فا ْد ُع اهلل أن ال أت ََك َّش َ
األنصار بأن َيصبرِ ُ وا عىل األ َث َر ِة ا َّلتي َي ْل َق ْونهَ ا َب َ
عده ،ح َّتى َي ْل َق ْو ُه َ وأ َم َر
وض. حل ِ عىل ا َ
يبة ،وأخبرَ َ أنَّه إنَّامند ا ُمل ِص ِ رب ِع َ بالص ِ ر م
َ وأ رب، بالص و
ِّ دُ الع ند م ِ
القاة َ عوأ َمر ِ
َ َّ َّ َ ُ َ
األولىَ . دمة ُ ند الص ِ ي ُك ُ ِ
ون ع َ َّ َ
ساب؛ فإنَّ ذلك خي ِّفف رب واالحتِ ُ األ ُمو ِر ُله ،وهو َّ
الص ُ صاب بأن َف ِع ُ وأ َم َر ا ُمل َ
زيد يف املصيبة ،وي ِ ِّ
ذه ُب ُ والتشكي َي ُ والتسخط
ُّ واجلزع
َ مصيب َته ،ويو ِّفر َ
أجره،
األجر.
طاء َخ ً الصرب خري ك ُّله ،فقال« :ما ُأ ِ
وأو َس َع ريا ل ُه ْ أحدٌ َع ً عط َي َ وأخرب ﷺ أنَّ َّ َ ٌ
الص ِ
رب»(((. ِم َن َّ
وصرب عن معصية اهلل ،وصرب عىل
ٌ وهو ثالثة أنواعٌ :
صرب عىل طاعة اهلل،
امتحان اهلل.
156
الصبـــــــر
157
وثمة تقسيم آخر للصبر:
صرب باهلل ،وصرب هلل ،وصرب مع اهلل.
ٌ
برب ِه ال ِ
فاألول :صرب االستعانة به ،ورؤيته أنَّه هو المْ ُ َصبرِّ ،وأن َصرب العبد ّ
بن ْفسه ،كام قال تعاىل﴿ :ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ﴾ [النحل ]127 :يعني :إنْ مل
ُيصبرِّ ْ ك هو مل تصرب.
حمب َة اهلل ،وإراد َة
الباعث عىل الصرب َّ
ُ والثاين :الصرب هلل ،وهو أن يكون
ِ
واالستحامد إىل اخل ْلق ،وغري قو ِة الن ْفس،
والتقر َب إليه ،ال إلظهاره َّ
َّ وج ِهه،
ذلك من األغراض.
يني منه ،ومع الد ِّ
والثالث :الصرب مع اهلل ،وهو دوران العبد مع مراد اهلل ِّ
يتوج ُه
َّ مقيم بإقامتها،بسريها ،اً سائرا َ
ً صابرا ن ْف َسه معها،
ً ينية،
الد َّأحكامه ِّ
ركائبها ،وينزل معها أين استق َّلت مضاربهُ ا. ُ توج َه ْت
معها أين َّ
صابرا مع اهلل؛ أي قد جعل ن ْف َسه َوق ًفا عىل أوامره وحما ِّبه، ه فهذا معنى كونِ
ً
الص ِّديقني.
صرب ِّ
وأصعبها ،وهو ُ ُ أشد أنواع الص ِ
رب وهو ُّ
ِ
اإليامن؟ فقال: رسول اهلل ﷺ ِ
عن ُ للبخاريُ :سئِ َل
ِّ ويف كتاب األدب
والسامح ُة»(((. ربَّ ، «الص ُ
َّ
وأوعبِه ملقامات اإليامن من أوَّلهِ ا َ ِ
وأعظمه برهانًا، مج ِع الكالم وهذا ِمن أ َ
إىل ِ
آخ ِرها.
((( مل نقف عليه يف «األدب املفرد» وأخرجه أمحد ( ،)19435وصححه األلباين يف «السلسلة الصحيحة»
(.)551
158
الصبـــــــر
فإن ال َّن ْف َ
س ُيراد منها شيئان: َّ
َ -1ب ْذ ُل ما ُأ ْ
مرت به وإعطاؤُ ه .فاحلامل عليه السامحة.
الصرب.
ُ عد منه؛ فاحلامل عليه: -2ترك ما هنيت عنهُ ،
والب ُ
فح اجلميل،
والص ِ
َّ بالصرب اجلميل،
َّ وقد أمر اهلل سبحانه يف كتابه
واهلجر اجلميل.
وحه -يقول« :الصرب -قدس ا ُ
هلل ُر َ تيمي َة َّ ِ
ابن َّ
عت شيخ اإلسالم َ فسم ُ
عتاب
َ والصفح اجلميل هو الذي ال
ُ ُ
اجلميل هو الذي ال شكوى فيه وال معه،
واهلجر اجلميل الذي ال أذى معه».
ُ معه،
ابن ُع َي ْين َة يف قوله تعاىل﴿ :ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ﴾
وقال ُ
[السجدة ]24 :قال« :أخذوا برأس األم ِر فجعلهم رؤسا َء».
بالصرب اجلميل، والشكوى إىل اهلل ال تنايف الصرب ،فإنَّ يعقوب
َو َعد َّ َّ
ف ،ثم ق�ال ﴿ :ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﴾ [يوس�ف: وعد ال يخُ ِل ُ
وال َّن ُّب�ي إذا َ
.]٨٦
صابرا مع قوله ﴿:ﭤ ﭥ ﭦ
ً وجده أخبرَ ا ُ
هلل عنه أنَّه َ وب
وكذلك ُّأي ُ
ﭧ ﭨ ﭩ ﴾ [األنبياء.]٨٣ :
ـك َب ِل َّي ٌ
ــة فاصـبرِ هلــــا وإذا َع َر ْت َ
أع َل ُ
ـــم َّـه َ
بـك ْ ريـم فإن ُ
الك ِ َصـبرْ َ َ
159
وإذا َش َ
ـك ْو َت إىل ِ
ابـن آ َد َم إنَّــــام
حيم إىل ا َّلذي ال َي ْر َح ُ
ـم الر َ ت َْش ُكو َّ
وألز ِمها للمحبني ،وهم
املحبةَ ،
َّ طريق يف املنازل آك ِ
د َ نم[وباجلملة] الصرب ِ
ِ
املنازل يف طريق ال َّتوحيد ِ
أعرف كل منزلة ،وهو ِمن أحوج إىل منزلته من ِّ
ُ
رضورية. وحاجة ِ
املح ِّب إليه ُ وأبينِها،
َّ َ
حلكمه ،وأخرب أنَّ صربه به،أحب اخل ْل ِق إليه بالصرب ُ
وقد أمر اهلل تعاىل َّ
أجر ل وجع اجلزاء، أعظم هلم ن وض ِ
م أحس َن ال َّثناءَ ،
َ َ َ َ الصابرين َ
َ وأثنى عىل
وأجرهم بغري حساب. َ غ ِ
ريهم حمسو ًبا،
160
الرضـــــــا
منزلـــــــــة الر�ضـــــــا
مستحبَّ ،
مؤك ٌد استحبا ُبه ،واختلفوا يف وجوبه ٌّ العلامء عىل أنَّه
ُ قد أمجع
عىل قولني.
161
ورمحة ر ِّبه ،وشفقتِه
ِ ِ
بضعفه وعج ِزه، سه ُل ذلك عىل العبدِ :ع ْل ُمه و ُي ِّ
عليه ،وبِ ِّره به ،فإذا َش ِه َد هذا وهذا ،ومل يطرح ن ْف َسه بني يديه ،ويرض
حبه و ِرضا ُه ك ِّلها إليه :فن ْف ُسه ٌ
نفس مطرود ٌة به وعنه ،وتنجذب دواعي ِّ
ٌ
ممتحنة مبتالة مؤهل ًة ُلقربِه ومواالته ،أو ن ْف ٌس
عن اهلل ،بعيدة عنه ،ليست َّ
بأصناف الباليا وامل ِ َحن.
أمام العبد وهو ُم ٍ
ستلق عىل فراشه ،فيصبح َ ِ
َ واملحبة ُتسيرِّ
َّ فطريق الرضا
َ
بمراحل. الر ِ
كب َّ
بالر ِّب تبارك وتعاىل.
ور َّوالس ُ
الفرح رُّ
ُ [و] ثمر ُة ِّ
الرضا:
ذكرت
ُ وحه يف املنام ،وكأنيِّ قدس ا ُ
هلل ُر َ تيمي َة َّ
ابن َّ
ورأيت شيخ اإلسالم َ
ُ
وأخذت يف تعظيمه ومنفعتِه ال أذكره َ
اآلن فقال: ُ له شي ًئا من أعامل القلب،
ور به» ،أو نحو هذا من العبارة. الفرح باهلل ،والسرُّ ُ
ُ «أما أنا فطريقتي:
َّ
وهكذا كانت حا ُله يف احلياة ،يبدو ذلك عىل ظاهره ،وينادي به عليه حا ُله.
الرضاْ :تر ُك االختيار قبل القضاء،وقال ذو ال ُّنون « :ثالثة من أعالم ِّ
احلب يف َح ْش ِو البالء». وهي ُ
جان ِّ ِ
وفقدان املرارة بعد القضاءَ ،
أح ُّب إ َّيل من الغنى، ذر يقول :الفقر َ يل « :إنَّ أبا ٍّ بن ع ٍّللحسني ِ وقيل ُ
ذرَّ ،أما أنا فأقولَ :م ِن ا َّت َك َل رح َم ا ُالصحة ،فقالِ :
هلل أبا ٍّ أحب إ َّيل من ِّ َّ والسقم ُّ
ُ
ري ما اختار اهلل له». سن اختيا ِر اهلل له مل َي َّ
تمن غ َ عىل ُح ِ
162
الرضـــــــا
164
الرضـــــــا
موت ال ُفجاءة قبل اليوم ،فأ َّما اليوم: أكر ُه َوري « :قد كنت َ فقال ال َّث ُّ
ف من أختو ُ ا فودد ُت أنيِّ ميت ،فقال له يوسف بن أسباط :ومل؟ فقال :لمِ ِ
َّ َ ْ
تكر ُه
وري :ومل َ َطول البقاء ،فقال ال َّث ُّ أكر ُه َ
الفتنة ،فقال يوسف :لكنِّي ال َ
عمل صاحلًا ،فقيل وأعمل اً ُ أتوب فيه
ُ أصادف يو ًما
ُ املوت؟ قال :لعليِّ َ
أحب ذلك إ َّيل ا، ئ شي أختار ال أنا فقال: أنت؟ تقول لوهيب :أي ٍ
يشء
ُّ ً ُّ ُ َ
ورب الكعبة». ِّ وري بني عينيه ،وقالُ :روحان َّي ٌة أح ُّبه إىل اهلل ،ف َق َّبل ال َّث ُّ
استوت عنده حال ُة البقاء واملوت ،وقف مع اختيار
ْ فهذا حال ٍ
عبد قد
اهلل له منهام.
رب من اجلنَّة وما فيها ،قال اهلل تعاىل ﴿:ﯟ َّ -9
أن رضا اهلل عن العبد أك ُ
ﯠ ﯡ ﯢ﴾ [التوبة.]72 :
فإن حسن باب ُح ِ
سن اخلُ ُلق مع اهلل ومع الناس؛ َّ -10أن الرضا يفتح َ
لق من الرضا ،وسوء اخللق من السخط ،وحسن اخللق يب ُلغ اخلُ ِ
ِ
احلسنات كام بصاحبه درج َة الصائم القائم ،وسوء اخللق يأكل
تأ ُك ُل ُ
النار احلطب.
الناس بسخط اهلل ،وأن
َ العبد ِمن أن ُيريض
َ ص أن الرضا بالقدر خي ِّل ُ
َّ -11
ِ
فضل اهلل. حمض
يذ َّمهم عىل ما مل يؤته اهلل ،وأن يحَ َم َدهم عىل ما هو ُُ
ب ِ
فاملح َّ -12
أن املح َّب َة واإلخالص واإلنابة ال تقوم إال عىل ساق الرضا،
ُّ
ني كل حالة ،وقد كان ِع ُ
مران ب ُن ُح َص ٍ راض عن حبيبه يف ِّ ٍ
165
فبقي مل ًقى عىل ظهره مد ًة طويلة ،ال يقوم وال َ استسقى بطنُه،
موضع حلاجته ،فدخل عليه ُم َط ِّرف بن ٌ يقعد ،وقد ُنقب له يف رسيره
خري ،فجعل يبكي لمِا رأى من حاله ،فقال له ِع ْمران: الش ِّ
بن ِّعبد اهلل ِ
ك،احلال العظيمة ،فقال :ال َتب ِ ِ «مل َ تبكي؟ فقال :ألنيِّ أراك عىل هذه
ْ
لعل اهلل أن ينف َعك به، فإن أح َّبه إ َّيل أح ُّبه إليه ،وقالُ :أخبرِ ُ ك بيشءَّ ،
َّ
إن املالئكة تزورين فآ َن ُس هبا ،و ُتس ِّل ُم َّ
عيل عيل حتى أموتَّ ، واك ُت ْم َّ
تسليمها». َ فأسم ُع
َ
ُ
أعامل حد معلوم حمسوب ،وأ َّما
ف إىل ٍّ ِ
اجلوارح ُتضا َع ُ َّ -13
أن أعامل
القلوب فال ينتهي تضعي ُفها.
166
الشــــكر
منزلــــــــة ال�شــــــكر
فوق منزلة الرضا وزيادة؛ فالرضا ُمند ِر ٌج وهي من أعىل املنازل ،وهي َ
تقدم نصف اإليامن -كام َّ ُ وجود الشكر بدونه ،وهو ُ ُ
ستحيل يف الشكر؛ إذ َي
هلل به ،وهنى عن -واإليامن نصفان :نصف ُش ْكر ،ونصف َصبرْ ،وقد أ َمر ا ُ
ووصف به خواص َخ ْلقه ،وجعله غاي َة َخ ِ
لقه َ ضده ،وأ ْثنى عىل أهله، ِّ
َّ
وحارسا سببا للمزيد من فضله، ِ ووعد أه َله وأم ِرهَ ،
ً بأحسن جزائه ،وجعله ً َ ْ
اسم من نتفعون بآياته ،واش َت َّق هلم اًوحافظا لنِعمته ،وأخ أنَّ أهله ُهم ا ُمل ِ ً
ُ برَ
وصل الشاكر إىل مشكوره ،بل الشكور ،وهو ُم ِ أسامئه؛ فإنه سبحانه هو َّ
الر ِّب من عبده.مشكورا ،وهو غاية رضا َّ ً الشاكر
َ ُيعيد
قال اهلل تعاىل﴿ :ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ﴾ [النحل.]114 :
النبي ﷺ« :أنَّه قا َم ح َّتى ت ََو َّر َم ْت َقدَ ماه ،فقيل له: الصحيحني عن ِّ ويف َّ
ون
أك ُ َأخ َر؟ قال :أفال ُ َقد َم ِمن َذ ْنبِ َك وما ت َّ لك ما ت َّاهلل َ َفع ُل هذا وقد َغ َفر ُ ت َ
أن ت َ
َقول س
ْ َ ْ ن َ
ت فال ؛ كَ ب ِ
ح ُ لأَ نيِّ إ ، ُ
عاذ م
ُ يا ِ «واهلل عاذ: ُ
مل وقال .(((
َع ْبدً ا َش ً
كورا؟»
ُّ
وح ْس ِن ِعبا َدتِ َك»(((.وش ْك ِر َكُ ، أع ِّني عىل ِذ ْك ِر َكُ ، الة :اللهم ِ كل َص ٍ يف ُد ُب ِر ِّ
َّ
هورا ظُ احليوان أبدان يف ذاء الشكر يف وضع ال ِّلسان :ظهور أث ِر ِ
الغ وأصل ُّ
ً ُ
عبده: نعمة اهلل عىل لسان ِ ِ ظهور أث ِر َب ِّي ًنا ،كذلك حقيق ُته يف العبودية ،وهو
ُ
167
ِ
جوارحه انقيا ًدا وطاع ًة. وحمب ًة ،وعىل
ثنا ًء واعرتا ًفا ،وعىل قلبه شهو ًدا َّ
مخس قواعدَ :خضوع الشاكر للمشكورُّ ،
وحبه له، بني عىل ِ والش ْكر َم ٌّ
ُّ
والثناء عليه هبا ،وألاَّ يستعملها فيام َي ْك َره.
ُ واعرتا ُفه بنعمته،
فهذه اخلمسة هي أساس الشكر ،وبِناؤُ ه عليها ،فمتى ُع ِد َم منها واحدة:
اختل ِمن قواعد الشكر قاعد ٌة.
َّ
وحده ،فكالمه إليها يرجع ،وعليها يدور.
ِّ وكل َمن تك َّلم يف ُّ
الش ْكر
االعرتاف بنِعمة ا ُمل ِ
نعم عىل وجه اخلضوع. ُ حده أنه
فقيلُّ :
كوف القلب عىل حمبة ا ُمل ِ
نعم ،واجلوارح عىل طاعته، وقيل :هو ُع ُ
َّ
وجريان ال ِّلسان ِ
بذ ْكره ،والثناء عليه. َ
يل من عندك وش ْكري نِ ٌ
عمة ع َّ أشكرك؟ ُ رب ،كيف ُ داود :يا ِّ وقال ُ
داود. ِ
َستوجب هبا ُش ْك ًرا؟! فقال :اآلن َش َك ْرتَني يا ُ
ت
«الش ْك ُر: ُ
عدُّ : وقال اجل َنيد وقد سأله سرَ ِ ٌّي عن الشكر ،وهو َص ٌّ
بي َب ُ
ستعان بيشء من نِعم اهلل عىل معاصيه ،فقالِ :من أين لك هذا؟ قال:
َ أن ال ُي
ِمن مجُ الستِك».
168
الحيــــــاء
منزلـــــــة احليــــــاء
169
وهذا الكالم حيتاج إىل رشح؛ ومعناه :أنَّ َمن َغ َلب عليه ُخ ُل ُق احلياء من
اهلل حتى يف حال طاعتِه ،فقلبه ُمط ِر ٌق بني يديه إطراق ُم ٍ
ستح َخ ِج ٍل؛ فإنه إذا
ذنبا استحيا اهلل ِمن نظره إليه يف تلك احلال لكرامته عليه ،فيستحيي وا َقع ً
شاهد بذلك؛ٌ كرم عليه ما َيشي ُنه عنده ،ويف الشاهد ي ن م
َ و هولي نمأن يرى ِ
ُ َ ِّ
وأحبهم إليه ،وأقربهِ م منه من ِّ أخص الناس به،ِّ اطلع عىل الرج َل إذا َّ
ُ فإنَّ
لحقه من ذلك االطالعِ عليه حيبه وهو خيونه ،فإنه َي َ
صاحب ،أو ولد ،أو َمن ُّ
غاية الكرم. عجيب ،حتى كأنه هو اجلاين ،وهذا ُ ٌ حياء
ٌ
ُكيفه
األفهام ،وال ت ِّ
ُ آخ ُر ،ال تُد ِركه
الرب من عبده :فذاك نوع َ وأما حياء ِّ
كريم َيستحيي من حيي ِ ُ
ٌ حياء كر ٍم وب ٍّر وجود وجالل؛ فإنه ٌّ ُ العقول؛ فإنه
عذ َب ذا َشي ٍ
فرا ،ويستحيي أن ُي ِّ ِ
شابت
ْ بة ْ ردمها ص ً عبده إذا ر َفع إليه ْ
يديه أن ُي َّ
يف اإلسالم.
أوجه الحياء:
170
الحيــــــاء
وحياء اإلجالل هو حياء معرفة ،وعىل َح َسب معرفة العبد بر ِّبه يكون
حياؤه منه.
وحياء الكرم كحياء النبي ﷺ من القوم الذين دعاهم إىل َو ِ
ليمة زَ َ
ينب، ِّ
َ
وط َّولوا عنده ،فقام واستحيا أن يقول هلم :انرصفوا .
(((
أن يسأل رسول اهلل ﷺ عن وحياء احلشمة كحياء عيلِّ بن أيب طالب
املَ ْذ ِي؛ ملكان ابنتِه ِمنه(((.
حني يسأله ِ
العبد من ر ِّبه وحياء االستِحقار واستِصغار ال َّن ْفس كحياء
صغارا هلا.حوائجه ،احتِقارا لشأن َن ْف ِسه ،واستِ
ً ً
املحب من حمبوبه ،حتى إنَّه إذا َخ َطر عىل قلبه
ِّ املحبة :فهو حياء
وأما حياء َّ
وجهه ،وال يدري ما سببه، يف حال َغيبتِ
وأحس به يف ْ
َّ قلبه، من احلياء
ُ هاج ه ْ
ٌ
روعة شديدةٌ. للمحب عند مالقاتِه حمبوبه ومفاجأته له
ِّ وكذلك َيع ِرض
ِ حمب ٍة وخوف،
ومشاهدة عدم حياء العبودية :فهو حياء ممُ ت ِزج بني َّ
ُ وأ َّما
فعبوديته له ت ِ
ُوجب َّ ُّ
وأجل منها، صالح عبوديته ملعبوده ،وأن َق ْد َره أعىل
استحيا َءه منه ال حمالة.
فحياء النفس العظيمة الكبرية إذا صدر منها ما
ُ والعزة:
َّ حياء الرشف
وأ َّما ُ
فقدرها من بذل عطاء أو إحسان ،فإنه يستحيي مع َب ْذلِه حيا َء شرَ ِهو دون ْ
س ِ
وع َّزة ،وهذا له سببان: َن ْف ٍ
171
أحدمها هذا ،والثاين :استحياؤه من ِ
اآلخذ ،حتى إنَّ بعض أهل الكرم ال
التكرم؛
ُّ تُطا ِوعه َن ْف ُسه بمواجهته ملن ُيعطيه حيا ًء منه ،وهذا َي ُ
دخل يف حياء
لة ِ
اآلخذ. ألنه يستحيي من َخج ِ
ْ
فوس الرشيفة العزيزة ِمن ِرضاها
املرء من ن ْف ِسه؛ فهو حياء ال ُّن ِ
حياء ِ
وأ َّما ُ
فالعبد إذا
ُ ُ
أكمل ما يكون من احلياء؛ بالد ِ
ون وهذا يعها ُّ لن ْفسها بالنقص ،وب ِ
َ
در. استحيا من ن ْفسه؛ فهو بأن يستحيي من غريه ْ
أج ُ
العلم حيا ًء منه،
ُ ناظر إليه أورثه هذا الرب تعاىل ٌ [و] العبد متى َع ِلم أن َّ
سيده، يدي بني الشغل ل جيذبه إىل احتامل أعباء الطاعة ،مثل العبد إذا َع ِ
م ِ
ِّ
سيده إليه، من اإلحسان مع ام سي وال ألعبائه، لاً نشيطا فيه ،محُ ِ
تم فإنه يكون ً
ِّ َّ
غيب
والرب تعاىل ال َي ُ ُّ سيده، عن اغائب كان إذا ما بخالف ده، لسي هوحمبتِ
ِّ ً ِّ َّ
نظر القلب والتفاتُه إىل نظره سبحانه إىل العبد، نظره عن عبده ،ولكن يغيب ُ ُ
وقل التفاتُه إىل َنظ ِر اهلل تبارك وتعاىل إليه :تو َّلد ظرهَّ ، فإن القلب إذا غاب َن ُ
من ذلك ِق َّل ُة احلياء .
وكذلك حيمله عىل استقباح ِجنايته ،وهذا االستقباح احلاصل باحلياء َق ْد ٌر
زائد عىل استقباح مالحظة الوعيد ،وهو فوقه.
ٌ
أتم
املحب ُّ
ِّ املحبة ،فاستقباح
َّ ُ
احلاصل عن االستقباح
ُ وأرفع درجة منه:
العبد أن يشتكي لغري اهلل،
كف َ من استقباح اخلائف؛ ولذلك فإن هذا احلياء َي ُّ
فيكون قد شكا اهلل إىل خ ْلقه ،وال َيم َن ُع الشكوى إليه سبحانه ،فإن الشكوى
فاحلياء منه ال ُينافيها.
ُ إليه سبحانه فقرِ ،
وذ َّل ٌة ،وفاقة ،وعبودية، ٌ
172
الصـــــدق
منزلـــــــــة ال�صــــــدق
والطريق
ُ السالكني، مجيع منازل َّ
األعظم ،الذي منه تنشأ ُُ هي منزل القوم
األقوم الذي َمن مل يسرِ عليه فهو من ا ُمل ِ
نقطعني اهلالكني ،وبه تمَ َّيز ُ
أهل النفاق َ ْ
نان من أهل النريان ،وهو سيف اهلل يف أرضه جل ِوس َّكان ا ِ
من أهل اإليامنُ ،
الذي ما ُو ِضع عىل يشء إال َق َطعه ،وال َ
واجه اً
باطل إال أر َداه وصرَ َ عهَ ،من
صال به مل ت َُر َّد صولته ،و َمن َن َطق به َع َل ْت عىل اخلصوم َك ِلم ُته ،فهو ُروح
واحلامل عىل اقتِحام األهوال ،والباب الذي ُ األعامل ،ومحَ َ ُّك األحوال،
الدين ،وعمود جلالل ،وهو أساس بِناء ِّ دخل منه الواصلون إىل َح ِ
رضة ذي ا َ
أرفع درجات العاملني،
بوة التي هي ُ ُفسطاط اليقني ،ودرجته تالية لدرجة ال ُّن َّ
الص ِّديقني ،كام
واألهنار إىل مساكن ِّ
ُ ُ
العيون نان جتريجل ِ
ومن مساكنهم يف ا ِ
كان من قلوهبم إىل قلوهبم يف هذه الدار َم َد ٌد م َّتصل ُ
ومعني.
وخص ا ُمل َنع َم
َّ وقد أمر اهلل سبحانه َ
أهل اإليامن أن يكونوا مع الصادقني،
والصاحلني؛ فقال تعاىل﴿ :ﭲ والش ِ
هداء ُّ يقني
والص ِّد َ
ِّ ني
عليهم بال َّن ِّبي َ
َّ
ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﴾ [التوبة.]119:
ٍ
ومنافق؛ فقال﴿ :ﭦ ﭧ ﭨ ٍ
صادق الناس إىل
َ و َق َّسم ُ
اهلل سبحانه
ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﴾ [األحزاب.]24 :
الكذب؛ فال جيتمع ِ
كذب وإيامن أساسه ُ ُ
ُ والنفاق ُ الصدق، أساسه
واإليامن ُ
إال وأحدمها محُ ا ِر ٌب َ
لآلخر.
173
وقال﴿ :ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬﭭ ﭮ
[الز َمر ]34- 33:فالذي جاء بالصدق
ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ﴾ ُّ
ِ
وعمله وحاله ،فالصدق يف هذه الثالثة. ُ
الصدق يف قوله هو من شأنه
بلة عىل فالصدق يف األقوال :استِواء ال ِّلسان عىل األقوال ،كاستواء الس ْن ِ ِّ
ُّ
استواء األفعال عىل األمر واملتابعة ،كاستواء ُ والصدق يف األعامل: ساقهاِّ ،
والصدق يف األحوال :استواء القلب واجلوارح عىل ِّ الرأس عىل اجلسد،
العبد من الذين ُ الطاقة ،فبذلك يكون وبذل َُّ الوسع، فراغاإلخالص ،واستِ
ُ
يقي ُته؛
صد َّوبح َسب كامل هذه األمور فيه وقيامها به :تكون ِّ بالصدقَ ، جاؤوا ِّ
ديقية ،حتى الص َّ يق وأرضاهُ :ذرو ُة َسنا ِم ِّ الص ِّد ِ
ولذلك كان أليب بكر ِّ
«الصديق» عىل اإلطالق ،والصديق أبلغ من الصدوق والصدوق أبلغ َ ُس ِّمي
ِ
االنقياد الصديقية ،وهي كامل من الصادق ،فأعىل مراتب الصدق :مرتبة
َّ
للرسول ﷺ ،مع كامل اإلخالص للم ِ
رسل. ُ َّ
دخله ومخُ َرجه عىل ِّ
الصدق؛ وقد أ َمر ُ
اهلل سبحانه رسو َله أن يسأله أن جيعل ُم َ
فقال﴿ :ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ
إبراهيم ﷺ ،أنَّه سأله أن هَيِ َب له َ
لسان َ ﮗ﴾ [اإلرساء ]80:وأخبرَ عن خليله
دق يف الناس ،فقال ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ﴾ [الشعراء.]84: ِص ٍ
ْعد ِص ٍ
دق؛ فقال تعاىل﴿ :ﭣ وبشرَّ عبا َده بأن هلم عنده َق َد َم ِص ٍ
دق ،و َمق َ
ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ﴾ [يونس ،]2:وقال﴿ :ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ
ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ﴾ [القمر.]55 -54:
174
الصـــــدق
ُ
ولسان الصدق، دخل الصدق ،ومخُ َرج الصدق،
فهذه مخسة أشياءُ :م َ
و َق َد ُم الصدق ،و َمق َْع ُد الصدق.
احلق الثابت ،ا ُمل َّت ِصل باهلل ،املوصل الص ِ
دق يف هذه األشياء :هو ُّ وحقيقة ِّ
إىل اهلل ،وهو ما كان به وله ،من األقوال واألعامل ،وجزاء ذلك يف الدنيا
واآلخرة.
وخروجه حقًّا ثاب ًتا
ُ وم َرج الصدق :أن يكون دخو ُله دخل الصدق ،خُ فم َ
ُ
غية ،وحصول املطلوب ،ضد مخُ َرج بالظ َفر بالب ِ
َّ اً
صل تَّ م ه،باهلل ،ويف مرضاتِ
ُ ُ
وصل إليها ،وال له ساق ثابتة يقوم دخله الذي ال غاية له ُي ِ وم َ ِ
الكذب ُ
خرجه هو وأصحابه كم َ خرج أعدائه يوم بدر ،ومخُ َرج الصدق ُ كم َ
عليهاُ ،
يف تلك الغزوة.
دخل ِصدق باهلل ،وهلل ،وابتغاء مرضاة اهلل، دخله املدينة كان ُم َ وكذلك ُم َ
ُ
وإدراك ما ط َلبه يف الدنيا واآلخرة ،بخالف التأييد َّ
والظ َف ُر وال َّن ُ
رص، ُ فا َّتصل به
الك ِذب الذي رام أعداؤه أن َي ْد ُخلوا به املدين َة يوم األحزاب ،فإنه مل دخل َُم َ
وار. ُ يكن باهلل ،وال هلل ،بل محُ َّادة هلل ورسوله ،فلم ي َّت ِصل به إال ِ
والب ُ
َ ذالناخل
احلسن عليه ﷺ من سائر األمم بالصدق، ُ الصدق :فهو ُ
الثناء وأ َّما لسان ِّ
وذريته من األنبياء والرسل ﴿:ﰂ ليس ثنا ًء َ ِ
بالكذب؛ كام قال عن إبراهيم َّ
واملراد بال ِّلسان هاهنا:
ُ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ﴾ [مريم]50 :
الثناء ا َ
حل َس ُن. ُ
الص ِ
دقُ :ففسرِّ باجل َّنة ،و ُفسرِّ بمحمد ﷺ ،و ُفسرِّ باألعامل الصاحلة. وأ َّما َق ُ
دم ِّ
175
َ
األعامل قدموا
قدمون عليه يوم القيامة ،وهم َّ قدموه وي ِ
وحقيقة القدم ما َّ
ُ
واإليامن بمحمد ﷺ ،وي ِ
قدمون عىل اجل َّنة التي هي جزاء ذلك. َ
ُ
قعدُ الصدق :فهو اجلنة عند ِّ
الرب تبارك وتعاىل. وأ َّما َم َ
حق ،ودوا َم ُه
واستقرار ُه ،وأنه ٌّ
َ و ِو ْصف ذلك ك ِّله بالصدق ُمستل ِز ٌم ثبو َت َه
فع ُه ،وكامل عائدته ،فإنه ُم َّت ِص ٌل باحلق سبحانه ،كائن به وله.و َن َ
قال عبد الواحد بن زيد« :الصدق :الوفاء هلل بالعمل».
وقيلُ :موا َفقة السرِِّّ ال ُّن َ
طق.
خري من رسيرته،
الرس والعالنية ،يعني أن الكاذب عالني ُته ٌ
وقيل :استواء ِّ
ظاهره خري من باطنه.
ُ كاملنافق الذي
وتتبع حما ِّبه ،فهو ُمتق ِّلب ُ
وتنفيذ أوامرهُّ ، الصادق مطلو ُبه رضا ر ِّبه، َ إن
ستقل معها أين استق َّلت مضاربهُ ا،
ركائبها ،و َي ُّ ُ توجهت فيها يسري معها أين َّ
للخلق َف َب ْي َنا ُه َو يف َصلاَ ٍة إِ ْذ رأي ْته يف ِذ ْك ٍر ُث َّم فيِ َغ ْز ٍو ،ثم يف َح ٍّج ،ثم يف إحسان َ
بالتعليم وغريه ،من أنواع النفع ،ثم يف أم ٍر بمعروف ،أو نهَ ي عن ُمنكر ،أو يف
للدين والدنيا ،ثم يف عيادة مريض ،أو تشييع جنازة ،أو قيام بسبب فيه عامرة ِّ
نرص مظلوم -إن أمكن -إىل غري ذلك من أنواع القرب واملنافع.
يتقيد بقيد وال إشارة ،وال بمكان ِ
رسم وال عادة وال َو ْض ٌع ،وال َّ
ال َيملكه ٌ
وزي معينَّ ال يلبس سواه ،وعبادة معينة ال ي ِ
لتفت َ ُ َّ َ َ معينَّ ال يصليِّ إلاَّ فيهُ ٍّ ،
كب ْعد ما بني السامء بينهام ما فضلها عليها يف الدرجة ،وبع ِ
د إىل غريها ،مع ِ
ُ ْ ُ
176
الصـــــدق
ال�صـــــدق
177
منزلـــــــة الإيثــــــار
قال اهلل تعاىل يف مدح ِ
أهله﴿ :ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ﴾
الشح؛ فإنَّ املؤثر عىل نفسه تارك ملا هو حمتاج إليه.
ضد ُّ
[احلرش]9 :؛ فاإليثار ّ
ُ
أفضل ِ
الناس « :سخاء ال َّن ْف ِ
س عماَّ يف أيدي قال عبد اهلل بن املبارك
بالبذل». سِ ْ
ف ن
َّ ال سخاء ن ِ
م
َ
ِ
اجلود والسخاء واإلحسان. وهذا املنزل :هو منزل
ثالث: وسمي بمنزل «اإليثار»؛ ألنه أعىل مراتبِه؛ َّ
فإن املراتب ٌ ِّ
يصع ُب عليه ،فهو منزلة «السخاء». البذل ،وال ُ أحدها :أن ال ينقصه ْ
جلود». مثل ما أعطى ،فهو «ا ُ يبقي َ أو ا، ئ
ً شي له ي الثانية :أن يعطي األكثر ،وي ِ
بق
َ ُ َ
ريه باليشء مع حاجته إليه ،فهي مرتبة «اإليثار»، الثالثة :أن يؤثر غ َ
ِ
ثاره عن أخيه بام هو حمتاج إليه ،وهي املرتبة وعكسها «األ َثرة» وهو است ْئ ُ ُ
رسول اهلل ﷺ لألنصار « :إ َّن ُكم س َت ْل َق ْو َن َب ْعدي أ َثرةً، ُ التي قال فيها
بن ُعباد َة من يس بن سعد ِ ُ َ
ق وكان . (((
ض» فاصبرِ ُ وا ح َّتى َت ْل َق ْوين عىل ا َ
حل ْو ِ
مر ًة فاستبطأ إخوا َنه يف العيادة ،فسأل األجواد املعروفني ،حتى إنَّه م ِرض َّ
الدين ،فقال :أخزى ا ُ
هلل عنهم ،فقالوا« :إهنم يستحيون َّمما لك عليهم من َّ
يس عليه اإلخوان من الزيارة ،ثم أ َم َر مناد ًيا ُيناديَ :من كان ل َق ٍ َ مال َيمنع اً
لكثرة َمن عا َده». عتبة بابه؛ َ مال فهو منه يف ِح ٍّل ،فام أمسى حتى ُكسرِ َ ْت ُ ٌ
178
اإليثـــــــار
استئثار الناس
َ احلكيم اخلبري -سبحانه-
ُ قدر
رس التقدير ،حيث َّ فتأمل ََّّ
ليجازيم عىل إيثارهم يف الدنيا
هَ عىل األنصار بالدنيا -وهم أهل اإليثار-؛
عد ٍن عىل الناس ،فيظهر حينئذعىل نفوسهم باملنازل العالية يف ج َّنات ْ
فضيلة إيثا ِرهم ودرج ُته ويغبِ ُطهم َم ِن استأثر عليهم بالدنيا أعظم ِغ ٍ
بطة، ُ
َ َ
وذلك فضل اهلل يؤتيه من يشاء واهلل ذو الفضل العظيم.
رأيت الناس يستأثرون عليك -مع كونك من أهل اإليثار-؛ فاعلم
فإذا َ
أنَّه اخلري يراد بك.
مراتب الجود:
مراتب:
َ رش وا ُ
جلود َع ُ
إحداها :اجلود بالن ْفس ،وهو أعىل مراتبِه ،كام قال الشاعر:
خيل هبا الب ُ ُود بال َّن ْف ِ
س ،إ ْذ َض َّن َ يجَ ُ
جل ِ
ود ِ
غاية ا ُ س أ ْقصىَود بال َّن ْف ِ وا ُ
جل ُ
وده عىل ِ
مراتب اجلود ،فيحمل اجلوا َد ُج ُ الثانية :اجلود بالرياسة ،وهو ثاين
ود هبا ،واإليثار يف قضاء حاجات ِ
امللتمس. جل ِ
امتهان رياسته ،وا ُ
وكدا يف
تعبا ًّ هبا فيجود ه، سورفاهيته ،وإمجا ِم ن ْف ِ
َ هالثالثة :اجلود براحتِ
ً
سامره ،كام قيل: ولذتِه ُمل ِ ومه َّ اإلنسان ب َن ِ
ِ جود
ريه ،ومن هذا ُ مصلحة غ ِ
ــدى لـو قـال سائِ ُل ُ
ــه ـم بال َّن َ
ُم َت َّي ٌ
يع َك َرى َع ْي َن ْي َكْ ،مل َي َن ِم َه ْب يل جمَ َ
179
بالعلم و َب ْذلِه.
الرابعة :اجلود ِ
استقصيت له جوابهَ ا
َ ومن اجلود به :أن السائل إذا سألك عن مسألة؛
بقدر ما تَد َف ُع به الضرَّ ورة ،كام كان
شافيا ،ال يكون جوا ُبك له ْ ً جوا ًبا
بعضهم يك ُت ُب يف جواب الفتيا« :نعم» ،أو« :ال» .مقتصرًِ ا عليها. ُ
عجيبا؛ كان إذاً تيمي َة يف ذلك ً
أمرا ابن َّ شاهدت من شيخ اإلسالم ِ ُ وقد
األئم ِة األربعة -إذا َق ِد َر
َّ مذاهب
َ كمي ٍة ،ذكر يف جواهبا
ُسئل عن مسألة ُح َّ
ِ
املسألة وذكر متعلقات ِ
القول الراجح، وترجيح ومأخذ اخلالف،َ عليه،-
َ َ
فرحه بتلك املتعلقات أنفع للسائل من مسألته ،فيكون ُ التي ربام تكون َ
وال َّلواز ِم أعظم من ِ
فرحه بمسألته. َ
الرجل إىل ذي مع وامليش
ِ كالش ِ
فاعة َّ اخلامسة :اجلود بال َّنفع باجلاه،
َّ
سلطان ونحوه.
بي ﷺ: ن
َّ ال قال كام ه، ِ
أنواع السادسة :اجلود بنفع البدن عىل اختالف
ُّ
مس، الش ُ أح ِد ُكم َصدَ ٌقةُ ،ك َّل َيو ٍم تَط ُل ُع فيه َّ « ُيصبِ ُح عىل ُك ِّل ُسلاَ مى ِمن َ
دابتِه ،ف َت ْح ِم ُله ع َليها ،أو َير َف ُع له
الر ُج َل يف َّ
ِ
َي ْعد ُل بينْ اثنَينْ ِ َصدَ ٌقة ،وتُعنيُ َّ
الر ُج ُل شيها م ي
َ وبك ِّل ُخ ْط ٍ
وة ُ ، ٌ
قة دَ ص
َ ُ
ة ب ي َّ
الط ُ
ة ملوالك ِ
تاع ُه َصدَ ٌقةَ ، ع َليها َم َ
َّ ْ ِّ
الط ِ
ريق َصدَ ٌقة»(((. عن َّ
يط األذى ِ الص ِ
الة َصدَ ٌقة ،و ُي ِم ُ إىل َّ
180
اإليثـــــــار
الصحابة ،كان إذا كجود أبيِ َض ْم َض ٍم من َّ بالعرضُ ، السابعة :اجلود ِ
َصد ْق ُت فأتصدق بِه عىل ال َّن ِ
اس ،وقد ت َّ ُ هم إنَّه ال َ
مال يل أصب َح قال :ال َّل َّ
َ
قذ َفني :فهو يف ِح ٍّل.
فمن ش َت َمني ،أو َ
َ ريض، عليهم ِ
بع
ص من معاداة ِ
وراحة القلب ،والتخ ُّل ِ ويف هذا اجلود من سالمة الصدر،
اخل ْلق ما فيه.
رشيفة ِمن
ٌ ِ
واإلغضاء ،وهذه مرتبة الثامنة :اجلود بالصرب ،واالحتامل،
مراتبه ،وهي أنفع لصاحبها من اجلود باملال.
ِ
اجلود؛ فإنَّه جيتني ثمر َة عواقبِه اجلود بامله فعليه هبذا صع َب عليه
ُ فمن ُ َ
توة. ُ
الف جود وهذا اآلخرة، قبل نيا الد
ُّ يف ِ
احلميدة
َّ
والبسطة ،وهو َ
فوق اجلود بالصرب، خللق والبِرش َالتاسعة :اجلود با ُ
واالحتامل والعفو ،وهو الذي بلغ بصاحبه درجة الصائم القائم.
بخ ُلقه واحتامله.
يس َعهم ُ
الناس بامله ويمك ُنه أن َ
َ يس َع
والعبد ال يمكنه أن َ
ِ
الناس عليهم ،فال يلتفت إليه ،وال العارشة :اجلود برتكه ما يف أيدي
يتعرض له بحاله ،وال لسانِه ،وهذا هو الذي قال
سترشف له بقلبه ،وال َِّ َي
عبد اهلل بن املبارك :إنَّه من جود ْ
البذل.
خاص يف القلب واحلال، وتأثري ٍ
مرتبة من مراتب اجلود مزيد ِّ
ولكل
ٌّ ٌ
للم ْم ِسك ،واهلل املستعان.
ُ َ
واإلتالف للجواد، املزيد
َ ن واهلل سبحانه قد ِ
ضم
181
ُ
لـــــــق منزلــــــــــة ُ
اخل
182
ُ
ــــــلق ُ
الخ
183
يف موضع ال ِّلني ،ويتواضع يف موضع ِ
الع َّزة ،ويتكبرَّ ُ يف موضع ال َّتواضع.
والش ِّح والبخل ،وعد ِم الع َّف ِة ،والنَّهمة
ُّ احلرص والشهوة تحَ ِم ُله عىل ِ
والد ِ
ناءات ك ِّلها. والذ ِّل َّ
واجلشعُّ ،
ِ ِ ِ
والغضب يحَ م ُله عىل الكرب ،واحلقد ،واحلسد ،والعدوانَّ ،
والس َفه.
ٌ
أخالق مذمومة. قني ِمن هذه األخالق ب ِمن بني ِّ
كل ُخ ُل ِ ويرت َّك ُ
ِ ِ
الضعف ،وإفرا ُطها يف َّ
القوة. إفراط النَّ ْفس يف َّ
ُ األربعة أصالن: ومالك هذه
ُّ
والذل، يتو َّل ُد من إفراطها يف الضعف :املهانة ُ،والبخلِ ،
واخل َّس ُة واللؤم،
وسفساف األمور ،واألخالق. ، والشح رص، ِ
واحل
َ ُّ
حش والبطش. ويتو َّل ُد من إفراطها يف القوة :الظلم والغضب ِ
واحل َّدة ،وال ُف ُ ُ َّ
فإن الن ْفس قدباآلخ ِر أوال ُد ِغ َّية كثريون؛ َّ
َ تزو ِج أحد اخلُ ُل ِ
قني ِ
ويتو َّلد من ُّ
رب الناس إذا قدر ،وأذلهَّ م إذا ُق ِهر،قو ًة وضع ًفا ،فيكون صاح ُبها أج َ جتمع َّ
أذل ِمن امرأة جبان عن القوي ،جريء عسوف ج َّبار ،فإذا ُقهر صار َّ
ٌ ظالمِ
عىل الضعيف.
بعضا ،كام أن األخالق احلميد َة :يو ِّلد فاألخالق الذميمة :يو ِّلد ُ
بعضها ً
بعضا.
بعضها ًُ
وطرفاه بينهام، ٌ
ط وس وهو ، ِ
ني ميم َ
ذ ِ
قني ُ
ل ُ
بخ َف
ٌ ن مكت ٍ
حممود وكل ُخ ُل ٍق
ُّ
َ َ َ
ُخ ُلقان ذميامن ،كاجلود :الذي يكتنفه ُخ ُل َقا البخل وال َّتبذير ،والتواضع الذي
184
ُ
ــــــــلق ُ
الخ
185
�سبل تهذيب الأخالق
186
تهذيب األخالق
187
أمر هذا النهر، فوس ال َّزك َّي ُة الفاضلة :فإنهَّ ا ْ
رأت ما يؤول إليه ُ وأما النُّ ُ
َّ
ثالث فِ َرق:
َ فافرتقوا
ِ
واخللوات والتمرينات را ُموا ق ْط َعه فأصحاب الرياضات واملجاهدات،
اجلبِ َّل َة البرشية ،وملمن َينبوعه ،فأ َب ْت ذلك حكم ُة اهلل تعاىل ،وما ط َبع عليه ِ
طيس ،وصارت الو ُ ومحي َ
َ فاشتد القتال ،ودام احلرب،
َّ َتن َق ْد له الطبيعة،
س عىل إزالة جال ،وهؤالء رصفوا ُقواهم إىل جماهدة النَّ ْف ِ احلرب دو اًل ِ
وس اً َُ
تلك الصفات.
نفوسهم باألعامل ،ومل يجُ يبوا دواعي َ أعرضوا عنهاَ ،
وشغلوا وفرق ٌة َ
هنرها من إفساد ِّنوا ك يم مل لكن راها، مجَ عىل اهاي إ ختليتهم مع تلك الص ِ
فات
َ َّ ِّ
ورأوا أن ِ
وأساسه، عمراهنم ،بل اشتغلوا بتحصني العمران ،وإحكا ِم بنائه
ْ
بد أن يصل إليه ،فإذا وصل وصل إىل ٍ
بناء محُ َك ٍم مل هَي ِد ْمه ،بل َّهر ال َّ
ذلك الن َ
قو َة عزيمتهم وإرادتهِ م يف العامرة، رصفوا َّ وشامل ،فهؤالء َ اً يأخ ُذ عنه يمينًا
ُ
الفاسدة من أصلها ،خو ًفا ِ رصفوها يف قطع املا َّد ِة وإحكا ِم البناء ،وأولئك َ
من هدم البناء.
عن هذه املسألة ،وقط ِع اآلفات، وسألت يو ًما شيخ اإلسالم اب َن تيم َّي َة
ُ
ريق وتنظيفها؟ ِ
واالشتغال بتنقية ال َّط ِ
س آفات النَّ ْف ِ «مثال ِ الشيوخِ فقال يلُ : بعض ُّ املسألة َِ سألت عن هذه ُ فقلت: ُ
ِ مثال احلي ِ
فإن أقبل عىل تفتيش الطريق والعقارب التي يف طريق املسافرْ ، ات ُ َّ
السفر ُّ واالشتغال بق ْت ِلها انقطع ،ومل ي ِ ِ
مه ُتك قط ،ولكن لت ُك ْن َّ ُ مكنْه ُ عنها،
عرض لك فيها ما واإلعراض عنها ،وعد َم االلتفات إليها ،فإذا َ َ ا َمل َ
سري،
شيخ اإلسالم فاستحس َن ُ َ امض عىل َسريك»؛ ِ ثمسري فاق ُت ْلهَّ ، َيعوقك عن ا َمل ِ
جدا ،وأثنى عىل قائله. ذلك ًّ
فات ما ُخل َق ْت أن هذه الص ِ رأت َّ إذا تبني هذا ،فهذه الفرق ُة الثالثةْ :
ِّ
امر، ِّ
ث وال والشوك، الورد، به سقى ي س ًدى وال عب ًثا ،وأ ا بمنزلة ٍ
ماء
ُ ُ نهَّ ُ
خاف َ وأن ما منطوية عليهاَّ ، ٍ جلواهر وأصداف
ٌ واحلطب ،وأنهَّ ا صوان
َ
أن ِ ِ
يسقى
َ فرأوا َّ برْ َ ٌ
هنر الك ْ سبب الفالح وال َّظ َفر، منه أولئك هو ن ْف ُس
اهلمة، علو َّ ويسقى به ُّ َ العلو والفخر ،وال َب َط ُر وال ُّظ ْل ُم والعدوان، ُّ به
والعلو عليهم ،وهذه هم وقهر اهلل، ألعداء ُ
ة واملراغم ة، ي واأل َنفة ،واحل ِ
م
ُّ ُ َ َّ
الدر َة هذه واستخرجوا راس، صدفته ،فرصفوا جمراه إىل هذا ِ
الغ در ٌة يف َ
َّ َ َّ
لكن استعملوه حيث يكون من صدفته ،وأبقوه عىل حاله يف نفوسهمِ ،
الصفَّينْ ِ ،فقال: َّ أنفع ،وقد رأى النَّبيُّ ﷺ أبا ُد َجان َة َيت َب ْخترَ ُ بينْ استعام ُله َ
وضعِ»(((. «إنا لمَ ِ ْشي ٌة يب ِغ ُضها اهلل ،إلاَّ يف ِم ْث ِل هذا ا َمل ِ
ُْ هَّ
أحس ِن مواضعه، يف جيري لق ِ خلا وهذا فانظر كيف خلىَّ جمرى هذه الص ِ
فة
َ ُ ِّ
اً
موصل. القاطع َ
استحال الصف ُة املذموم ُة عبود َّي ًة وكيف ِ
ُ [و] كيف صارت ِّ
189
جمتهد عىلٌ الصفات هذه ِ
أصول ع ْ
ط ق عىل ُ
والعامل ياضات، الر ب ِ
فصاح
ِّ ُ ِّ
أقرها يف موضعها وأ َع َّدها ألقراهنا ،وهو قد وهذا رب، قطع ماد ِة اخليالء ِ
والك
َّ َّ
ف هلا يف َمرصف ُيعينه عىل مطلبه و ُيوصله إليه. مرص ٌ
ِّ
الغبطة واملنافسة، وكذلك ُخلق احلسد؛ فإ َّنه ال يذم ،وهو كالصدفة لدرة ِ
ُ ُّ
فس َّل َطه عىل َه َل َكتِه كام قال النبي ﷺ« :ال َح َس َد إلاَّ يف اثنَ َتينْ ِ َ :ر ُج ٍل آتا ُه اهللُ مالاً َ ،
وأطراف النَّ ِ
هار»(((. َ آناء ال َّل ِ
يل رآن ،فهو َي ُقو ُم به َ ور ُج ٍل آتا ُه اهللُ ال ُق َ يف َ
احل ِّقَ ،
فاحلسد ُيوصل إىل املنافسة التي حي ُّبها اهلل ويأمر هبا يف قوله﴿ :ﯢ ﯣ
ﯤ ﯥ﴾ [املطففني]62 :؛ فال تعمل عىل إعدام هذا اخلُلق من
الر َتب العالية، يف املنافسة عىل احلامل ِ
املحمود ن ْفسك ،بل احرفه إىل احلسد
ُّ
وتزاحم أهلها بالركب ،ال تتم َّن زوال نعمة اهلل عن عبده فتزول عنك ويبقيها
عليه.
كل خري، ِ
وأوصلها إىل ِّ وكذلك ُخلق ِ
احلرص؛ فإ َّنه من أنفع األخالق
قوة احلرص ،فال َت ْ
عمل عىل ق ْطعها ولكن علقها بام بحسب َّ وشد ُة الطلب َ
«اح ِر ْص عىل ما
النفس يف معادها ،ويكملها ويز ِّكيها ،كام قال ﷺْ : َ ينفع
ك ،واس َت ِع ْن باهللِ وال َت ْع ِ
جزْ»(((. َين َف ُع َ
احلرص عليه أو ال
ُ فقوة احلرص ال ُت َذ ُّم ،وإنام ُيذم صرَ ُفها إىل ما ُّ
يرض
أنفع للعبد منه. وغريه ُ
ُ ينفع،
190
تهذيب األخالق
وأوصلها إىل كامله وسعادتِه؛ ِ قوة الشهوة ِمن أنفع ال ُق َوى للعبد وكذلك َّ
وبحسب
َ وبحسب شهوة العبد للكامل يكون طل ُبه له، َ فإهنا ُتثمر املح َّب َة،
وقر ِة العني يكون طل ُبه لذلك يف َّ
ووصال األحب ِ
ة َّ ِ العيش قو ِة شهوته لِ َل َّذ ِ
ة َّ
دق الشهوة وقوَّتهُ ا يحَ ِم ُله عىل
فص ُ مصد ًقا؛ ِ
ِّ وإن كان مؤمنًا هبا موقنًا اجلنةْ ،
ّ
وأجل وأرفع. بيع مشتهى أعىل منه
فالر ُسل صلوات اهلل الصفات واألخالقُّ ، وهذه قاعدة م َّطرد ٌة يف مجيع ِّ
جمار حممودة ،وجاؤوا املذمومة إىل ٍ ِ برصفها عن جمارهيا وسال ُمه عليهم جاؤوا ْ
ليامن مائ ُة امرأة، لس َ كان حتى رسي، ت
َّ وال ِّكاح ن ال إىل الش ِ
هوة َّ برصف قو ِ
ة ِ
ُ َّ
الرسول ﷺ بني تسع ،وأباح لأل َّم ِة أرب ًعا ُ مجع
تسع وتسعون ،و َ ٌ ولداو َد
هوة عنالش ِ لقو ِة هذه َّ افً رص حرص؛ بال الرساري ن مما طاب من النساءِ ،
وم
َّ ْ َّ
أحب إليه ِمن َن ْف ِل العبادة جمرى احلرام إىل جمرى احلالل الذي حي ُّبه اهلل ،وهو ُّ
عند ِ
أكثر الفقهاء.
والغ ِ
لظة عليهم ولذلك جاؤوا برصف قوة الغضبية إىل جهاد أعداء اهللِ ،
َّ
واالنتقام منهم.
األصوات املطربة ال َّل ِ
ذيذة ال ُي َذ ُّم بل يحُ َمد ،وقد ِ وكذلك شهوة استام ِع
األشعري واستمع إىل قراءته ،وقال« :لقد ِّ النبي ﷺ عىل أيب موسى وقف ُّ
َّ
مر بن اخلطاب يأ ُم ُره إذا عُ وكان ،
(((
َ» د داو آل وت ِم ْزمارا ِمن م ِ
زام ِري ِ ُأ يِ
ُ ُ َ ً َ
191
وهم يسمعون ،هذا كان ِ حرض ِع َ
نده مع الصحابة أن ُيسم َعهم قراء َته ،فيقرأ ُ
خواص
ِّ امع امع أو من ِ
كر َهه؟ وهل هذا إلاَّ َس ُ الس َ
حرم هذا َّ
فمن َّ
سامع القومَ ،
َ
ِ
وآالت صدية وقرآن الشيطان، ِ األولياء؟ فأين هذا من سامع ا ُمل ِ
كاء وال َّت
املعازف بنغامت الناشد؟
تتغذى به ،ولكن ال يستوي َمن غذاؤه طيب ٍَّ للروح من سام ٍع بد ُّ
فال َّ
العسل واحللوى والط ِّيبات ،و َمن غذاؤه الرجيع وا َمليت ُة َّ
والد ُم وحلم اخلنزير ُ
أه ُل هذا ال يرون آثاره عىل شفاههم وما ُأ ِه َّل به لغري اهلل ،ويا عج ًبا! ْ
إن كان ْ
أرباب البصائر ذلك عليهم؟! ِ ووجوههم ،أفال َيس َتحون من معاينة
أن رسوم الطبيعة و ُقواها ال يمكن تعطي ُلها يف دار االبتالء
واملقصودَّ :
ِ
النافعة له ،التي ال حترم عليه ِ
ستعم ُلها يف مواضعها العارف َي
ُ واالمتحان ،فالبصري
فسد عليه حاله مع اهلل ،وال ُت ِ
سقطه من عينه. دينًا ،وال تقطع عليه طري ًقا ،وال ُت ِ
192
تهذيب األخالق
193
ِ
امليسء إليه باإلحسان ،في ِ
حس َن إليه ك َّلام أساء هو إليه. ُ
جدا
مشهد رشيف ًّ
ٌ ِ
وبرد القلب ،وهذا املشهد السادس :مشهد السالمة
عرفه ،وذاق حالو َته ،وهو أن ال َيش َغل قل َبه وسرَِّ ه بام ناله من األذى، مل َن َ
فر ُغ قلبه من ذلك ،ويرى ي بل ه،سثأره ،وشفاء ن ْف ِ
وطلب الوصول إىل درك ِِ
ِّ ُ
ُ
وأعون عىل مصاحله. أنفع له ،وأ َل ُّذ وأطيب،
وخلوه منه ُ
َّ أن سالمته وبر َده َّ
مشهد األمن ،فإ َّنه إذا ترك املقابل َة واالنتقام؛ ِأم َن ما هوُ املشهد السابع:
بد.
اخلوف وال َّ
ُ انتقم وا َق َعه
رش من ذلك ،وإذا َ ٌّ
ِ
الناس له من املشهد الثامن :مشهد اجلهاد ،وهو أن يشهد تو ُّل َد أذى
ِ
وإقامة دين اهلل، ِ
وأمرهم باملعروف ،ونهَ ِي ِهم عن املنكر، جهاده يف سبيل اهلل،
وإعالء كلامتِه.
رضه بأع َظ ِم الثمن. وصاحب هذا املقام :قد اشرتى اهللُ منه ن ْفسه وماله ِ
وع َ َ ُ
املشهد التاسع :مشهد النِّعمة ،وذلك من وجوه:
َّرص ،ومل أحدها :أن يشهد نعم َة اهلل عليه يف أن ج َع َله مظلو ًما يرت َّق ُ
ب الن َ
َ
واألخذ. جيع ْله ظالمًِا يرت َّق ُ
ب ا َمل ْق َت
ومنها :أن يشهد نعم َة اهلل يف ال َّتكفري بذلك من خطاياه؛ فإ َّنه ما أصاب
املؤم َن َه ٌّم وال َغ ٌّم وال أ ًذى إلاَّ ك َّفر اهللُ به من خطاياه.
وأسهل من غريها؛ فإ َّنه ما ِمن
َ َ
أهون ون تلك البل َّي ِة
ومنها :أن يشهد َك َ
حمنة إلاَّ وفو َقها ما هو أقوى منها وأ َم ُّرْ ،
فإن مل يكن فو َقها حمن ٌة يف البدن ٍ
194
تهذيب األخالق
ٍ
مصيبة دون وأن َّ
كل ِ
وإسالمه وتوحيدهَّ ، فلينظر إىل سالمة دينه ِ
واملال
ْ
ين ج َل ٌل.الد ِ ِ
مصيبة ِّ
أج ِرها وثواهبا يو َم الفقر والفاقة.
ومنها :توفي ُة ْ
جدا.
لطيف رشيف ًّ
ٌ مشهد
ٌ املشهد العارش :مشهد األُسوة ،وهو
ِ بيب يرىض أن يكون له ُأسو ٌة ُبر ُس ِل اهلل ،وأنبيائه
وأوليائه، فإن العاقل ال َّل َ َّ
أشد اخل ْل ِق امتحا ًنا بالناس ،وأذى الناس ُّ وخاصتِه ِمن خ ْل ِقه؛ فإنهَّ م َّ
مع صص األنبياء ِ السيل يف احلدور ،ويكفي تد ُّب ُر َق أرسع من َّ ُ إليهم
وشأن نب ِّينا ﷺ وأذى أعدائه له بام مل ْيؤ َذ به َمن َق ْب َله؛ وقد قال له ِ ُأممَ ِهم،
أحد ِ
بم ْث ِل ولتؤ َذ َي َّن ،وقال له« :ما جاء ٌ خر َج َّن ْ بن َنو َف ٍلَ :ل ُت َك َّذ َب َّن و َل ُت َ قة ُ ور ُ َ
مستمر يف ورثته كام كان يف مورثهم ﷺ. وهذا ، » ودي
َ عُ إال به ت َ ئ
ْ جما ِ
ٌّ
(((
وخواص عباده :األمثل ِّ العبد أن يكون له أسو ٌة بخيار خ ْلق اهلل، ُ أفال يرىض
فاألمثل؟!
ِ أج ُّل
املشاهد وأرف ُعها :-مشهد التوحيد ،فإذا املشهد احلادي عرش -وهو َ
ب إليه، والتقر ِ هواإلخالص له ومعاملتِه وإيثار مرضاتِ ِ اهلل امتأل قلبه بمحب ِ
ة
ُّ َّ ُ
نس به واالطمئنان إليه ،وسكن إليه، وقر ْت عينُه باهلل ،وابتهج قلبه بح ِّبه واألُ ِ َّ
واشتاق إىل لقائه ،واتخَّ ذه ول ًّيا دون ما سواه ،بحيث َف َّو َض إليه َ
أموره ك َّلها،
أذى الناس له البتة. متسع لشهود َ ٌ وريض به وبأقضيته؛ فإنه ال يبقى يف قلبه َ
195
منزلــــــة التوا�ضـــــع
دخ ُل
قال :قال رسول اهلل ﷺ« :ال َي ُ ويف صحيح مسلم عن ابن مسعود
قال َذ َّر ٍة ِمن ِكبرْ ٍ »(((. جلنَّ ُة َمن كان يف َق ْلبِه ِم ْث ُ ا َ
أخ ُذ ب َي ِده ِ
وكانت األ َم ُة َت ُ عليهم،يان ف ُي َس ِّل ُم ِ وكان النَّبي ﷺ يمر عىل الصب ِ
ِّ ْ َ ُ ُّ ُّ
أه ِله ،ومل ْ َي ُك ْن ِ ِ ِ يث شا َء ْت ،وكان ﷺ َيك ُ ﷺ ف َتن َط ِل ُق به َح ُ
ُون يف َبيته يف خ ْدمة ْ
أله ِله،
الشا َة ْ ب َّ ف َن ْع َله ،و َي ْر َق ْع َث ْو َبه ،ويحَ ُل ُ َين َت ِق ُم لنَ ْف ِسه َق ُّط ،وكان ﷺ يخَ ِْص ُ
ني ،ويميش مع األرم ِ
لة اخلاد ِم ،ويجُ الِس ا َمل ِ
ساك ِ مع ل ُ ُ
ك أي ف الب ِ ِ
ْ َ َْ َ ُ و َيعل ُ َ َ َ
و ، ري ع
بد ُأ من َل ِ واليتي ِم يف حاجتِ
ولو إىل يب َد ْعو َة َمن َدعا ُهْ ، بالسال ِم ،ويجُ ِ ُ َّ ه ي
َ ق َ َ ي
َ و ام، ِ
ه َ َ
أيسرَ ِ شيَ ٍء.
((( أخرجه مسلم (.)91
196
التواضـــــع
للحق ،وينقاد له، ِّ التواضع؟ فقال« :خيضع ُ ضيل ب ُن ِعياض عن ُسئل ال ُف ُ
و َيق َب ُله ممَّن قاله».
مر بن اخل َّطاب عىل عاتقه ِقرب ُة «رأيت ُع َ ُ الز َبري : وقال ُعروة بن ُّ
أمري املؤمنني ،ال ينبغي لك هذا ،فقالَّ :ملا أتاين الوفو ُد سامعني ماء ،قلت :يا َ
فأحببت أن أكسرِ ها». ُ مطيعني ،دخ َل ْت ن ْفيس نخوة،
ندم ،فألقى ن ْف َسه وحلف: بالل بسواده ،ثم أ َّنه ِ اً و ُيذكر َّ
أن أبا ذر عيرَّ
رأسه حتى فعل بالل. خدي بقدمه ،فلم يرفع َ بالل ِّ رفعت رأيس حتى يطأ ٌ ُ ال
ك ال فكان واحلرص، [و] أو ُل ذنب َعىص اهلل به أبوا الثقلنيِ :
الك
برْ ُ برْ ُ ََ َّ
أمره إىل ما آل إليه ،وذنب آد َم عىل نب ِّينا وعليه إبليس اللعني؛ فآل ُ َ ذنب
َ
السال ُم :كان من احلرص والشهوة ،فكان عاقبته التوب َة واهلداية ،وذنب َّ
بالقدر واإلرصار ،وذنب آدم أوجب له إضاف َته إبليس محله عىل االحتجاج َ َ
واالعرتاف به واالستغفار. َ إىل ن ْف ِسه،
وقائدهم إىل ِ فأهل الكبرْ ِ واإلرصار ،واالحتِجاجِ باألقدار :مع شيخهم
املعرتفون بالذنوب ،الذين ِ النار إبليس ،وأهل الشهوة املستغفرون التائِبون
يف اجلنة. بالقدر :مع أبيهم آد َم
ال حيتجون عليها َ
197
منزلـــــــــة املـــــروءة
َ
احليوان البهيم، فارق هبا ِ صاف الن ْف ِ
س بصفات اإلنسان التي َ ُ حقيقتها :ا ِّت
الرجيم؛ َّ
فإن يف النفس ثالث َة دوا ٍع متجاذبة: َ
والشيطان َّ
دا ٍع يدعوها إىل اال ِّتصاف بأخالق الشيطان :من ِ
الكبرْ ،واحلسد ،والعلو،
والبغي ،والرش ،واألذى ،والفساد ،والغش.
ودا ٍع يدعوها إىل أخالق احليوان ،وهو داعي الشهوة.
ودا ٍع يدعوها إىل أخالق ا َمل َلكِ ،من اإلحسان ،والنُّصح ،والبرِِّ ،
والعلم ،والطاعة.
الداع َي ِ
ني ،وإجاب ُة الداعي الثالث. فحقيقة املروءةُ :بغض ذينك َّ
والتوج ُه
ُّ وقلة املروءة وعد ُمها :هو االسرتسال مع ذينك الداعيني،
لدعوتهِ ام أين كانت.
عقول بال شهوة ،وخ َلق البهائم اً قال بعض السلف« :خ َلق اهلل املالئك َة
فمن غلب العقل والشهوة؛ َ َ شهو ًة بال عقول ،وخلق اب َن آد َم ،ور َّكب فيه
عق ُله شهو َته ا ْل َتحق باملالئكة ،و َمن َغ َلبت شهو ُته عق َله ا ْل َتحق بالبهائم».
حد املروءة :إهنا غلب ُة العقل للشهوة.
وهلذا قيل يف ِّ
198
المــــــروءة
فمروءة اللسان :حالوته وطيبته ولِينُه ،واجتناء الثامر منه بسهولة ويرس.
ومروءة ُ
اخل ُلقَ :س َع ُته و َب ْس ُطه للحبيب والبغيض.
عقل و ُعر ًفا ورش ًعا.
ومروءة املال :اإلصابة ببذله مواق َعه املحمود َة اً
وهي ُ
ثالث َدرجات:
الدرجة األوىل :مروءة ا َمل ِ
رء مع ن ْفسه ،وهي أن حيملها َقسرًْ ا عىل مراعاة ما َّ
جيمل ويزين ،وترك ما يدنس ويشني ،ليصري هلا ملكة يف العالنية؛ فمن اعتاد ِّ
شي ًئا يف رسه وخلوته ملكه يف عالنيته وجهره.
الرشع والعقل، هحيظر ال ما لاَّإ املأل، يف ه فال يفعل خاليا ما يستحي ِمن ِ
فعل
ُ ُ ً
وال يكون إلاَّ يف اخللوة ،كاجلامع ،والتخليِّ ،ونحو ذلك.
َ
رشوط األدب الدرجة الثانية :املروءة مع اخل ْلق ،بأن يستعمل معهم
199
واحلياء ،واخلُ ُلق اجلميل ،وال يظهر هلم ما يكرهه هو ِمن غريه لنفسه،
ونفر عنهِ ،من قول أو ٍ
فعل أو فكل ما َك ِر َهه َ
الناس مرآ ًة لنفسهُّ ،
َ وليتخذ
فليفع ْله.
َ أح َّبه من ذلك واستحسنه
فليتج َّن ْبه ،وما َ
َ خ ُلق،
الدرجة الثالثة :املروءة مع ِّ
احلق سبحانه ،باالستحياء من نظره إليك،
كل حلظة و َن َفس ،وبإصالح عيوب ن ْف ِسك جهد اإلمكان؛
وا ِّطالعه عليك يف ِّ
فإ َّنه قد اشرتاها منك وأنت سا ٍع يف تسليم املبيع ،وتقايض الثمن ،وليس من
تسليمه عىل ما فيه من العيوب ،وتقايض الثمن اً
كامل. ُ املروءة:
200
األدب
منزلــــــــة الأدب
ِ
وإصابة مواقعه، ِعلم األدب :هو ِعلم إصالح ال ِّلسان ِ
واخلطاب، ُ
العام.
ِّ عبة من األدب وحتسني ألفاظهِ ،
وصيانته عن اخلطأ وا َ
خل َلل ،وهو ُش ٌ
أدب مع اهلل ،وأدب مع رسوله ﷺ ورشعه ،وأدب مع واألدب ثالثة أنواعٌ :
َخ ْل ِقه.
األدب مع اهلل:
فاألدب مع اهلل ثالثة أنواع:
أحدها :صيان ُة معاملته أن يشوهبا بنقيصة.
الثاين :صيانة قلبك أن يلتفت إىل غريه.
الثالث :صيانة إرادتك أن تتع َّلق بام َيم ُق ُتك عليه.
أحوج منَّا إىل كثري من
ُ « :نحن إىل قليل من األدب وقال اب ُن املبارك
ِ
العلم».
صلوات اهلل وسال ُمه عليهم مع اهلل ،وخطابهَ مُ الر ُس ِل
أحوال ُّ َ وتأ َّم ْل
وسؤاهلم ،كيف تجَ ِ ُدها ك َّلها مشحون ًة باألدب ،قائم ًة به.
201
سبحانه ،فقال﴿ :ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ﴾ ثم أثنى عىل ربه ،ووصفه بتفرده ِ
بعلم ُّ َ
الغيوب ك ِّلها ،فقال ﴿ :ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ﴾ [ المائدة.]901 :
﴿ :ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ِ
اخللي�ل إبراهي�م
َ ُ
ق�ول وكذل�ك
ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ﴾ [الش�عراء ]80 – 78 :ومل ي ُق�ل« :وإذا
أمرضني»؛ ِحف ًظا لألدب مع اهلل.
خلض يف السفينة ﴿ :ﮚ ﮛ ﮜ ﴾ [الكهف ،]79 :ومل قول ا َ
وكذلك ُ
ني﴿ :ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ﴾ ربك أن أعيبها» .وقال يف الغُ ال َم ِ
ُيقل« :فأراد ُّ
[الكهف.]82 :
مؤمني اجل ِّن﴿ :ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ﴾ ومل يقولوا:
وكذلك قول ْ
«أراده رهبم».
ثم قالوا ﴿:ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ﴾ [اجلن.]10 :
﴿ :ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ﴾ وألطف من هذا ُ
قول موسى ُ
[القصص ]42 :ومل ُيقل« :أطعمني».
السنن، هتاو َن باألدب ُعوقب بحرمان ُّبن ا ُملبارك َ « :من َ عبد اهلل ُ وقال ُ
عوقب بحرمان الفرائض ،و َمن هتاون بالفرائض عوقب هتاو َن بالسنن ِ و َمن َ
ُّ
بحرمان املعرفة».
وغ َ
سل والوضو َء ُ األدب، من ِ
العورة واألدب هو الدِّ ين ك ُّله ،فإنَّ َسترْ َ
ُ
طاهرا.
ً والتطه َر من اخلبث ِمن األدب ،حتى يقف بني َ
يد ِي اهلل ُّ اجلنابة
الرج ُل يف صالته للوقوف بني يدي ر ِّبه.يتجمل ُ ِ
وهلذا كانوا يستح ُّبون أن َّ
202
األدب
وكان لبعض السلف ُح َّل ٌة بمبل ٍغ عظيم من املال ،وكان َيل َب ُسها َ
وقت
جتم ْل ُت له يف َصاليت».
أحق َمن َُّّ الصالة ،ويقول« :ربيِّ
واملقصود :أن األدب مع اهلل تبارك وتعاىل :هو القيام بدينه ،والتأ ُّد ُب
ظاهرا وباطنًا.
ً بآدابه
أشياء :معرف ٌة به بأسامئه بثالثة إال اهلل مع األدب ُّ
قط ٍ
ألحد وال يستقيم
َ ُ
كره ،ون ْف ٌس مستعدة قابلة ي وما ب وصفاته ،ومعرف ٌة بدينه ورشعه وما ِ
حي
َ َ ُّ
اً
وحال؛ واهلل املستعان. اً
وعمل ل ِّينَ ٌة ،متهيئة ل َقبول احلق ِع اًلم
األدب مع الرسول ﷺ:
مملوء به.
ٌ األدب مع الرسول ﷺ :فالقرآن
ُ وأما
َّ
كامل التسليم له ،واالنقياد ألمره ،وتل ِّقي ِ
خربه فرأس األدب معهُ : ُ
اً
معقول، حيمله معارض َة خيال باطلِّ ،
يسميه بال َقبول والتصديق ،دون أن ّ
يقدم عليه آرا َء الرجال ،وزباالت أذهاهنم، حيمله شبه ًة أو شك ًا ،أو ِّ أو ّ
واالنقياد واإلذعان ،كام وحد ِ
املرس َل بالعبادة ِ فيوح ُده بالتحكيم وال َّتسليم،
َّ ِّ
ِ
واإلنابة والتوكل. والذ ِّل،
واخلضو ِع ُّ
هني ،وال ٍ
إذن يتقدم بينْ يديه بأمر وال ٍ
ومن األدب مع الرسول ﷺ :أن ال َّ ِ
ترصف ،حتى يأمر هو ،وينهى ويأ َذن ،كام قال تعاىل﴿ :ﮎ ﮏ ﮐ وال ُّ
نسخ، ي
ُ مل القيامة يوم إىل ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ﴾ [احلجرات ]1 :وهذا ٍ
باق
َ
كالتقدم بني يديه يف حياته ،وال ْفر َق بينهام
ُّ فالتقد ُم بينْ يدي ُسنَّتِه بعد وفاته،
ُّ
عند ذي عقل سليم.
203
سبب حلبوط
فوق صوته؛ فإنَّه ٌ األصوات َ
ُ ومن األدب معه :أن ال ت َ
ُرفع ِ
ونتائج األفكار عىل ُس َّنتِه وما جاء به؟ أترى
ِ الظن برفع اآلراء،
األعامل ،فام ُّ
موجب حلبوطها؟!
ٌ فوق صوته ِ
األصوات َ موجبا ل َقبول األعامل ،ورفع ذلك
ً
َ
ستشك َل قو ُله؛ بل َيستشكل اآلراء لقوله ،وال ومن األدب معه :أن ال ُي
كالمه
حيرف ُ األقيسة وتلغى لنصوصه ،وال َُّ نصه بقياس؛ بل تهُ َد ُر
ُيعارض ُّ
اً
معقول. عن حقيقته خليال يسميه أصحا ُبه
األدب مع الخلق:
خل ْلق؛ فهو معامل ُتهم -عىل اختالف مراتبهم -بام يليق هبم، األدب مع ا َ
ُ وأ َّما
ِ
ولألب خاص،
أدب ٌّ ين ٌالوالد ِ
َ خاص ،فمع
أدب ٌّ أدب ،واملراتب فيها ٌ ولكل مرتبة ٌ ِّ
أدب يليق به ،وله
آخ ُر ،ومع السلطان ٌ أدب َ
أخص به ،ومع العالمِ ٌ ُّ أدب هو
منهام ٌ
غري أدبِه مع أصحابه و َذوي أنسه،أدب يليق هبم ،ومع األجانب أدب ُ مع األقران ٌ
ِ
وفالحه، رء عنوان سعادتِهوأدب املَ ِ
ُ أدب غري أدبه مع أهل بيته، ومع الضيف ٌ
وق َّل ُة أدبِه عنوان شقاوتِه و َبوا ِره.
جلب ِحرمانهُ ُ ام ِ
بمثل بمثل األدب ،وال اس ُت ِ
فام اس ُتج ِلب خري الدنيا واآلخرة ِ
ُ ْ
ق َّل ِة األدب.
حبس الغار حني أطبقت
صاحبه من ْ َ فانظر إىل األدب مع الوالدين كيف َن َّجى
اً
وإقبال عىل الصالة -كيف اً
-تأويل األم
عليهم الصخرة؟ واإلخالل به مع ِّ
ور ْميِه بالفاحشة.
ب الناس لهَ ، ورض ِ
صاحبه هبدم صومعته ْ
ُ ام ُتحن
204
اليقيــــــن
منزلــة اليقــــني
ُ
اقرتان اهلدى به، والصوابَّ :
أن التوكل ثمر ُته ونتيجته؛ وهلذا َح ُسن
فاحلق :هو
ُّ قال اهلل تعاىل﴿ :ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﴾ [النمل]97 :
205
هبي؟ و م
َ أو ي،ب س َ
ك هو هل فيه: ف واخ ُت ِ
ل ْ
ُّ ْ ْ ُّ
وهبي باعتبار ن ْف ِسه وذاته.
بي باعتبار أسبابهَ ،م ٌّ
كس ٌّ
والتحقيق :أنه ْ
« :اليقني هو استقرار ِ
العلم الذي ال َينقلب وال يحُ َّول ،وال جلنَيد
قال ا ُ
يتغيرَّ يف القلب».
والنار حقيق ًة ،قيل له :وكيف؟ قال :رأ ْي ُتهام
َ «رأيت اجلن َة
ُ بعضهم:
وقال ُ
رسول اهلل ﷺ ،ورؤيتي هلام بعينيه ُ
أوثق عندي من رؤيتي هلام بع ْين ََّي؛ ِ بعين َْي
برصه ﷺ».فإن برصي قد خيطئ و َيزيغ ،بخالف ِ َّ
دائم،
بالتقدم اً
ُّ ِ
وركوب األخطار ،وهو يأ ُمر واليقني يحَ مل عىل األهوال،
ُ
ْ
فإن مل يقارنه العلم؛ محل عىل املعاطب.
اليقني ق َعد بصاحبه عن صح ْبه بالتأخ ِر واإلحجامْ ،
ُّ ِ
ُ فإن مل َي َ يأمر
ُ لم والع
املكاسب والغنائم.
كالفرق بني اخلرب اليقني وحق
ِّ اليقني ِ
ني وع اليقني لم [و] الفرق بينْ ِ
ع
ْ
وحق اليقني َ
فوق هذا. الصادق ِ
والعيانُّ ،
تش ُّك يف عنده اً
عسل ،وأنت ال ُ بمن أخربك :أن َ وقد مثلت املراتب الثالث َ
ِص ْدقه ،ثم أراك إياه فازد ْد َت يقينًا ،ثم ُذ ْق َت منه.
فاألولِ :علم اليقني.
والثاين :عني اليقني.
206
اليقيــــــن
حق اليقني.
والثالثُّ :
وشاه َدها ت اجلن ُة يف املوقف اآلن باجلنة والنارِ :علم يقني ،فإذا ُأزلِ َف ِ
َ نا م ْ
ل ِ
فع
َ ُ ُ
اجلحيم وعا َينها اخلالئق ،فذلك عني اليقني ،فإذا ُأدخل تاخلالئق ،وبر َز ِ
ُ ُ ِّ
حق اليقني. النار فذلك حينئذ ُّ وأهل ِ
النار َ أهل اجلن َِّة اجلنَّ َةُ ،
ُ
207
منزلـــــة ِّ
الذكـــــر
وتمنشور الوالية الذي من ُأ ْعطِيه اتصل ،ومن ُمنِ َعه ُع ِز َل ،وهو ُق ُ
ُ ِّ
الذكر
قبورا ،وعامر ُة ديارهمقلوب القوم ،الذي متى فارقها صارت األجسا ُد هلا ً
اع َّ
ط ق به لون لت عنه صارت بورا ،وهو سالحهم الذي يقاتِ فمتى تع َّط ْ
َ ُ ُ ُ ً
هاب احلريق ،ودواء أسقامهم الذي ِ
وماؤهم الذي يطفئون به الت َ ُ الطريق،
متى فارقهم انتكست منهم القلوب ،والسبب الواصل والعالقة التي كانت
بينهم وبني عالم الغيوب.
به َيستدفِعون اآلفات ،ويستكشفون الك ُُربات ،وتهَ ون عليهم به
املصيبات ،وعىل كل جارحة من اجلوارح عبودي ٌة مؤ َّقتةِّ ،
والذكر عبودي ُة
ِ
معبودهم وحمبوهبم القلب واللسان ،وهي غري مؤ َّقتة ،بل هم مأمورون ِ
بذكر ُ
يف ِّ
كل حال :قيا ًما ،وقعو ًدا ،وعىل جنوهبم.
قيعان وهو ِغراسها ،فكذلك القلوب بور وخراب وهو
ٌ فكام َّ
أن اجلنة
وأساسها.
ُ عامرهتا
وصقالهُ ا ،ودواؤها إذا غشيها اعتالهلا ،وك َّلام ازداد وهو ِجالء القلوب ِ
اكر يف ِذكره استغرا ًقا ،ازداد ملذكوره محَ َّب ًة وإىل لقائه اشتيا ًقا ،وإذا واطأ يف َّ
الذ ُ
كل يشء، وحف َظ اهللُ عليه َّكل يشءِ ، ِذكره قل ُبه للسانه ،نيس يف جنب ِذ ِ
كره َّ َ
وضا من كل يشء. وكان له ِع ً
ِ
وتنقش ُع ال ُّظ ْلم ُة عن األبصار. الو ْق ُر عن األسامع ،وال َبكَم عن ُ
األلسن، به يزول َ
208
ِّ
الذكــــــر
209
وحها ،فمتى َع ِد َم ْته العارش :أنه جعله قري َن مجي ِع األعامل الصاحلة ُ
ور َ
كانت كاجلسد بال ُروح.
والذاكرون :هم أهل السبق ،كام روى مسلم يف صحيحه من حديث َّ
سري يف طريق يَ ﷺ رسول اهللِ ُ العالء ،عن أبيه ،عن أيب هرير َة قال :كان
ُ
دانَ ،س َب َق ا ُمل َف ِّر َ دان ،فقالِ :جبل يقال له :جمُ ْ ُ فم َّر عىل ٍ
دون» «سريوا هذا جمُ ْ ُ م َّك َةَ ،
والذاكِ ُ
رات»(((. كثريا َّ ً هلل
َ ا رون
َ «الذاكِ
َّ قال: ؟رسول اهللِ
َ دون يا قالوا :وما ا ُمل َف ِّر َ
املوحدون ،وإما اآلحاد ال ُفرادى. وا ُمل َف ِّردون :إما ِّ
بخ ِري أعاملِ ُكم، الدرداء « :أال ُأ َن ِّب ُئ ُكم َ ويف املسند مرفو ًعا من حديث أيب َّ
الذ ِ
هب ِ
إعطاء َّ وخ ٍري ل ُكم ِمن وأر َف ِعها يف َد َرجاتِ ُكمَ ، م، ك ُ وأ ْزكاها ِع َند ملِيكِ
ْ َ
رضبوا أعنا َق ُكم؟» قالوا: رضبوا أعنا َق ُهم و َي ِدوكُم ،ف َت ِ ع ا و َ
ق ْ
ل ت
َ وأن
ْ ، ةوالف َّض ِ
ِ
ْ َ َّ
رسول اهللِ؟ قالِ :
«ذك ُْر اهللِ »(((. َ ذاك ياوما َ
الذكر :أنَّ اهلل يباهي مالئك َته بأهله ،كام يف صحيح مسلم ويكفي يف رشف ِّ
قة ِمن أصحابِه ،فقال« :ما رسول اهللِ ﷺَ :خرج عىل َح ْل ٍ َ أن عن معاوي َة َّ :
َ
حم ُده عىل ما َهدانا لإلسال ِم و َم َّن أج َل َس ُكم؟» ،قالواَ :ج َلسنا َن ْذ ُك ُر ا َ
هلل و َن َ ْ
ْ
ذلك. َ ذلك؟» قالوا :آهللِ ما أج َل َسنا إلاَّ َ به علينا .قال« :آهللِ ما أج َل َس ُكم إلاَّ
أن َ
اهلل ربيل فأخبرَ َ ينَّ : ولكن أتاين ِج ُ ْ لكم،قال« :أ َما إنيِّ ْمل أس َت ْح ِل ْف ُكم هُ ْتم ًة ُ
بك ُم املَالئِك َة»(((.ُيباهي ُ
210
ِّ
الذكــــــر
«م َث ُل
ويف الصحيحني من حديث أيب موسى ،عن النبي ﷺ أنه قالَ :
احلي وا َملي ِ
ت»(((. ا َّلذي َي ْذك ُُر ر َّب ُه وا َّلذي ال َي ْذك ُُرهَ :م َث ُل َ ِّ ِّ
الذكر ثالثة أنواع:
ِ -1ذكر األسامء والصفات ومعانيها ،والثناء عىل اهلل هبا ،وتوحيد اهلل هبا.
ِ -2
وذكر األمر والنهي ،واحلالل واحلرام.
وذكر اآلالء والنَّعامء ،واإلحسان واأليادي. ِ -3
[و] هو ثالثة أنواع ً ِ
القلب واللسان ،وهو أعالها. ُ كر يتواطأ عليه أيضا :ذ ٌ
وحده ،وهو يف الدرجة الثانية. كر بالقلب َ ِ
وذ
ٌ
املجرد ،وهو يف الدرجة الثالثة. ِ
كر باللسان َّ وذ ٌ
ذاكرا العبد صار به قبله كرذبذكرين من ربه لهِ : حمفوف ِ
ٌ ه ب لر العبد كر وذِ
ً ِّ ِّ
مذكورا ،كام قال تعاىل﴿ :ﯩ ﯪ﴾ العبد صار به بعده كر لهِ ،
وذ
ً
«من َذك ََرين يف ن ْف ِسه َذك َْر ُته يف [البقرة ،]251 :وقال فيام َيروي عنه نب ُّيه ﷺَ :
منهم»(((.أل َخ ٍري ُمأل َذكَر ُته يف م ٍ
ن ْفيس ،ومن َذكَرين يف ٍ
َ ْ َ َ
211
منزلـــة العلــــم
قد ٍم يضعه يف الطريق إىل ِ
آخ ِر السالك ِمن َّأول َ
َ ِ
تصحب وهذه املنزلة إن مل
طريق الوصول، ُ قد ٍم ينتهي إليه ،فسلو ُكه عىل غري طريق ،وهو مقطوع عليه
مسدو ٌد عليه ُس ُب ُل اهلدى والفالح ،مغ َّلق ٌة عنه أبواهبا ،وهذا إمجاع من الشيوخ
اب إبليس وشرُ َ ُطه.
ونو ُ
اع الطريق منهمَّ ، العارفني ،ومل َينْ َه عن العلم إال ق َّط ُ
« :ال ُّط ُر ُق ك ُّلها مسدود ٌة عىل اخل ْلق إلاَّ عىل من جلنَيد بن حممد
قال ا ُ
آثار الرسول ﷺ».اقتفى َ
وقالَ « :من مل حيفظ القرآن ،ويك ُت ِ
ب احلديث؛ ال ُيق َتدى به يف هذا األمر؛
ألن ِعلمنا مق َّيد بالكتاب والسنة».
ٍ
وورا ُثهم ،وهو
عصبتهم َّ العلم هاد ،هو ِترك ُة األنبياء وترا ُثهم ،وأه ُله َ
حياة القلوب ،ونور البصائر ،وشفاء الصدور ،ورياض العقولَّ ،
ولذ ُة
ُ
ودليل املتحيرِّ ين ،وهو امليزان الذي به توزن نس املستوحشني، األرواح ،و ُأ ُ
ُ
األقوال واألعامل واألحوال.
الشك واليقني ،وال َغ ِّي والرشاد ،واهلدى والضالل.
ِّ املفرق بني
وهو احلاكم ِّ
مجد ،وبه اهتدى إليه به ُي ْع َرف اهلل و ُي ْع َبد ،و ُي ْذ َكر و ُي َّ
وحد ،ويحُ مد و ُي َّ
ومن بابه دخل عليه القاصدون. السالكون ،ومن طريقه وصل إليه الواصلونِ ،
212
العلــــــــم
213
ونوره بني عباده ،وقائدهم ودليلهم إىل جنَّته،
ُ حج ُة اهلل يف أرضه،
وهو َّ
و ُم ْدنِيهم من كرامته.
ِ
القمر ليل َة البدر عىل أهله عىل العباد كفضلفض َل ِ أن ْو َيكفي يف رشفهَّ :
وأن املالئكة َل َت َض ُع هلم أجنحتها ،و ُتظِ ُّلهم هباَّ ،
وأن العالمِ سائر الكواكبَّ ،
ُ
احليتان يف البحر ،وحتى يستغفر له َمن يف السموات ومن يف األرض ،حتى
اخلري. ِ
الناس َ النمل يف جحرها ،وأن اهلل ومالئكته يص ُّلون عىل مع ِّلمي ُ
كليم الرمحن موسى ب ُن ِع َ
مران يف طلب العلم هو وفتاه، ولقد رحل ُ
َ
مسائل، حتى مسهام النصب يف سفرمها يف طلب العلم ،حتى ِ
ظفر بثالث َ ُ َّ
ِ
وأعلمهم به. وهو ِمن أكر ِم اخل ْل ِق عىل اهلل
املزيد منه ،فقال﴿ :ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﴾
َ وأمر اهللُ رسو َله أن يسأله
َ
[طه.]114 :
214
الســـكينة
َّ
ال�ســـكينة
منزلــــة َّ
مواضع:
َ السكين َة يف كتابه يف س َّتة
وقد َذ َكر اهلل سبحانه َّ
األول :قوله تعاىل﴿ :ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ
ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﴾ [البقرة.]248 :
الثاين :قوله تعاىل﴿ :ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ﴾
[التوبة.]62 :
الثالث :قوله تعاىل﴿ :ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ
ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﴾ [التوبة.]40 :
الرابع :قوله تعاىل﴿ :ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ
ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ﴾ [الفتح.]4 :
اخلامس :قوله تعاىل﴿ :ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ
ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﴾ [الفتح.]18 :
السادس :قوله تعاىل﴿ :ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ
ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ﴾ [الفتح.]62 :
اشتدت عليه األمور؛ قرأ ِ
آيات َّ إذا شيخ اإلسالم اب ُن تيم َّي َةوكان ُ
ُ
جرت له يف مرضهِ ،
تعج ُز ال ُقوى ْ ٍ
عظيمة وسمع ُته يقول يف واقعة ِ السكينة،
َّ
ظهرت له إ ْذ ذاك يف حال َض ْعف
ْ أرواح شيطانية، ٍ محلها -من حماربة
عن ْ
215
قلت ألقاريب ومن حويل :اقرؤوا ِ
آيات األمرُ ، عيل
َ ُ اشتد َّ
َّ القوة -قال« :فلماَّ
َّ
وجلست وما يب َق َلب ٌة».
ُ السكينة ،قال :ثم أق َلع عنِّي ذلك ُ
احلال، َّ
اضطراب القلب ممَّا َي ِر ُد عليه؛
ِ أيضا قراء َة هذه اآليات عندبت أنا ً
جر ُ
وقد َّ
عظيم يف سكونه و ُطمأنينتِه.
تأثريا اً
فرأيت هلا ً
ُ
وأصل «السكينة» :هي ال ُّطمأنين ُة والوقار ،والسكون الذي ُي ِنز ُله اهلل يف
نزع ُج بعد ذلك لمِا َي ِر ُد
شدة املخاوف؛ فال ي ِ
َ
ِ من هِ اضطراب عند ه، قلب ِ
عبد
وقو َة اليقني والثبات.
عليه ،ويوجب له زياد َة اإليامنَّ ،
وهلذا أخرب سبحانه عن إنزاهلا عىل رسوله ﷺ وعىل املؤمنني يف مواض ِع
فوقوالعدو َ ُّ القلق واالضطراب؛ كيو ِم اهلجرة ،إ ْذ هو وصاح ُبه يف الغار،
رؤوسهم ،لو نظر أحدهم إىل ما حتت قدميه لرآمها ،وكيو ِم ُحنَينْ ٍ ،حني َو َّل ْوا
حل َديبية أحد منهم عىل أحد ،وكيو ِم ا ُ مدبِري َن من شدة بأس الك َّفار ،ال َي ْلوي ٌ
حني اضطربت قلوبهُ م من حتكُّم الكفار عليهم ،ودخولهِ م حتت رشوطِ ِه ُم
مر -حتى محلها -وهو ُع ُ بضعف ُع َم َر عن ْ
وحس ُبك َالتي ال حتملها النفوسْ ،
«كل سكينة يف القرآن فهي ُطمأنينة، بالص ِّديق ،قال ابن ع َّباس ُّ :َث َّب َته اهلل ِّ
إلاَّ التي يف سورة البقرة».
اجلوارح
ُ وسكنت إليها
ْ َّ
اطمأن هبا، والسكينة إذا نزلت يف القلب
سان بالصواب واحلكمة ،وحالت وخشعت ،واكتسبت الوقار ،وأنطقت ال ِّل َ
وكل باطل ،قال ابن عباسقول اخلنا وال ُفحش ،وال َّل ْغ ِو واهل ُ ْج ِرِّ ،بينه وبني ِ
السكين َة تنطِ ُق عىل لسان ُع َم َر وقلبِه».
أن َّنتحدث َّ
َّ « :كنا
216
الم َح ّب ِ
ـــة َ
خلت منها
ْ ِ
واملقامات واألحوال التي متى ِ
اإليامن واألعامل، وهي ُروح
وح فيه.
فهي كاجلسد الذي ال ُر َ
بش ِّق األن ُف ِ
س بالغيها، أثقال السائرين إىل بالد مل يكونوا إال ِ َ تحَ ِم ُل
َ
أبدا واصليها ،و ُت َب ِّو ُئهم من مقاعد منازل مل يكونوا بدوهنا ً َ ِ
وتوص ُلهم إىل
مقامات مل يكونوا لوال هي داخليها ،وهي مطايا القوم التي َمرساهم ٍ الص ْد ِق
ِّ
دائم إىل احلبيب ،وطري ُق ُه ُم األ ْقو ُم الذي ُي َب ِّل ُغهم إىل منازهلم
ظهورها اً ِ عىل
األُوىل من قريب.
أوفر م بهِحمبو تاهلل لقد ذهب أه ُلها برشف الدنيا واآلخرة؛ إذ هلم من معي ِ
ة
ُ َ َّ
مقادير اخلالئق بمشيئته وحكمتِه البالغة:- َ قدر
نصيب ،وقد قىض اهلل -يو َم َّ
ني سابِغة. أن املرء مع من أحب ،فيا هلا من ٍ
نعمة عىل املح ِّب َ
217
تقدموا وهم عىل ُظهور ال ُف ُر ِ
ش نائمون ،وقد َّ السعا َة ُ
تاهلل لقد سبق القو ُم ُّ
وهم يف سريهم واقفون. َ
بمراحل ُ بالر ْك َ
َّ
األو ِل يف ـي ِ تجَو ا ـد
ً ي و ر تمَشيِ ــل مــن يل ِ
بم ْث ِل َسيرْ ِ َك ا ُمل َد َّل ِ
َّ ُ َْ َ ْ
أنفسهم يفحي عىل الفالح ،و َب َذلوا َ الشوق إ ْذ نادى هبمَّ : أجابوا مؤ ِّذ َن َّ
بالرضا والسامح ،وواصلوا إليه طلب الوصول إىل حمبوهبم ،وكان َب ْذلهُ ُم ِّ
والرواح ،تاهلل لقد محِدوا عند الوصول مَسرْ اهم، املسري باإلدالج وال ُغ ُد ِّو َّ
َ
وشكروا موالهم عىل ما أعطاهم ،وإنام يحَ َم ُد القو ُم السرُّ َ ى عند الصباح.
218
الم َح ّب ِ
ـــة َ
ني وأموالهَ م
إن نفوس املح ِّب َ ِ
املجاهدون ،فقيل هلمَّ : ني وقام
أكثر املح ِّب َ َّ
فتأخر ُ
فه ُل ُّموا إىل بيعة ﴿ :ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ليست هلمَ ،
ﯟ ﯠ﴾ [التوبة.]111 :
وفض َل الثمن ،وجالل َة َمن جرى عىل يديه عرفوا َع َظم َة ا ُملشرتيْ ، فلماَّ َ
السلعة ،وأن هلا شأ ًنا ،فرأوا من أعظم ال َغ ِ
بن أن قد َر ِّعرفوا ْعقد التبايع؛ َ
ُ
ِ يبيعوها لغريه بثمن َب ْخ ٍ
ضوان بالرتايض ،من غري س ،فع َقدوا معه بيع َة ِّ
الر
ثبوت ِخيار ،وقالوا :واهللِ ال ُن ِقي ُلك وال َنس َت ِقي ُلك.
219
تعريف المحبة:
220
الم َح ّب ِ
ـــة َ
التقرب إىل اهلل بالنوافل بعد الفرائض؛ فإنهَّ ا توصله إىل درجة
الثاينُّ :
املحبوبية بعد املحبة.
ِ
والعمل واحلال، كل حال؛ باللسان والقلب، الثالث :دوام ِ
ذكره عىل ِّ
قد ِر نصيبِه من هذا الذكر.
فنصيبه من املحبة عىل ْ
الرابع :إيثار حما ِّبه عىل حما ِّبك عند غلبات اهلوى ،وال َّت َسنُّم إىل حما ِّبه ،وإن
ص ُعب املرتقى.
اخلامس :مطالعة القلب ألسامئه وصفاتِه ،ومشاهدتهُ ا ومعرفتها ،وتق ُّل ُبه
عرف اهلل بأسامئه وصفاتِه وأفعالِه: فمن َ يف رياض هذه املعرفة وميادينهاَ ،
أحبه ال حمالة؛ وهلذا كانت املع ِّطل ُة ِ
اع الطريق عىل جلهم َّي ُة ق َّط َ
َ وا ة ُ رعوني والف َّ
القلوب بينها وبني الوصول إىل املحبوب.
السادس :مشاهدة بِ ِّره وإحسانه وآالئه ،ونِ َع ِمه الباطنة والظاهرة؛ فإهنا
داعية إىل حمبته.
انكسار القلب بك ِّل َّيتِه بني يديه ،وليس يف ُ السابع -وهو من أعجبها:-
غري األسامء والعبارات. التعبري عن هذا املعنى ُ
وتالوة كالمه ،والوقوف ِ اإلهلي؛ ملناجاته وقت النزول الثامن :اخلَلو ُة به َ
ِّ
بالقلب والتأ ُّدب بأدب العبودية بني يديه ،ثم َخ ْت ُم ذلك باالستغفار والتوبة.
كالمهم كام ِ ِ
ثمرات أطايب ُ
قاط ني الصادقني ،والتِ التاسع :جمالسة املح ِّب َ
َ
حت مصلح ُة الكالمِ ،
مت
وعل َ ترج ْ أطايب الثمر ،وال تتكلم إلاَّ إذا َّ َ َينتقي
زيدا حلالك ،ومنفع ًة لغريك. أن فيه َم ًَّ
221
سبب يحَ ول بني القلب وبني اهلل . كل ٍ العارش :مباعدة ِّ
ِ
منازل املحبة ،ودخلوا عىل وص َل املح ُّبون إىل ِ ِ
فمن هذه األسباب العشرَ ةَ :
وانفتاح ِ
عني الشأن، هلذا وح الر د استعدا ران: م أ ه ِّ
ل ك ذلك ُ
الك احلبيبِ ،
وم
ُ ُ ُّ ْ
البصرية واهلل املستعان.
222
الم َح ّب ِ
ـــة َ
ور ْج َله ا َّلتي َيمشيِ هبا ،و َلئِ ْن سأ َلني لأَ ُ ْعطِينَّه ،و َلئِ ْن اس َتعا َذين
ا َّلتي َيبطِ ُش هباِ ،
لأَ ُ ِع َيذ َّنه»(((.
ب اهللُ ال َع َبد َد َعا أح َّ النبي ﷺ أنه قال« :إذا َ أيضا ،عن ِّ ويف الصحيحني عنه ً
يلُ ،ثم ينادي يف الس ِ
امء، ُ ج ِ هب فأحبه؛ في ِ
ح يل ،فقال :إ ُأ ِحب ُفال ًناِ ، ِجبرْ َ
َّ َّ ُ َّ ُ ُّ برْ ُّ نيِّ
ول يف وض ُع ل ُه ال َق ُب ُ ثم ُي َ ، حبه أه ُل الس ِ
امء فأحبوه ،في ِ إن اهللَ حُيِب ُفال ًنا ِ ولَّ :ف َي ُق ُ
َّ َّ ْ ُّ ُ ُ ُّ ُّ
ِ
األرض»(((.
بادهِ ،
وذ ِ حيبه اهللُ سبحانه من ِع ِ بذكر من ِ
كر ما حي ُّبه ُّ والسنَّ ُة ممَ لوآن ِ َ والقرآن ُّ
من أعامهلم وأقوا م وأخالقهم؛ كقوله تعاىل ﴿ :ﯡ ﯢ ﯣ﴾ [آل
لهِ ِ
عمران ﴿ ،]146 :ﰁ ﰂ ﰃ﴾ [آل عمران﴿ ،]148 :ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ
ﯟ﴾ [البقرة﴿ ،]222 :ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ
ﯗ ﯘ ﯙ﴾ [الصف ﴿ ،]4 :ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ﴾ [آل عمران.]76 :
ي ُّب و«إن َ
اهلل حُ ِ َّ األعامل إىل اهللِ كذا وكذا»، ِ «أح ُّب
السنةَ : وكم يف ُّ ْ
الصال ُة عىل َو ْقتِهاُ ،ث َّم بِ ُّر
األعامل إىل اهللَِّ : ِ «أح ُّب
كذا وكذا»؛ كقولهَ :
اإليامن
ُ امل إىل اهللِ:
األع ِ ب و«أح ، ِ (((
هاد يف َس ِ
بيل اهلل» ثم ا ِ
جل ُ ، ِ
ن ي دَالوالِ
ْ َ ُّ َّ ْ
الع َم ِل إىل اهللِ: ب
َ ُّ َو«أح ،(((
ور»ثم َح ٌّج َمبرْ ُ ٌ هاد يف َس ِ ِ
بيل اهللَّ ، جل ُ ثم ا ِباهللَّ ،
ِ
223
أن ُي ْؤ َخ َذ بِ ُر َخ ِصه»(((.
ي ُّب ْ «إن َ
اهلل حُ ِ صاح ُبه» ،وقولهَّ :
((( ِ ِ
عليه داو َم
ما َ
أشد فر ٍح يع َلمه ِ
العباد، ِ
وفر ُحه العظيم بتوبة عبده الذي هو ُّ َ َ ُ وأضعاف ذلكَ ،
حمبتِه للتوبة وللتائب. َّ ن موهو ِ
اإليامن واإلحسان، ِ مجيع مقامات فلو َب َط َل ْت مسأل ُة املحبة لبط َل ْت
ُ
السري إىل اهلل. ُ
منازل َّ ولتع َّط ْ
لت
وعمل؛ فإذا خال منها فهو ميت ال ُروح فيه، ٍ ٍ
ومنزلة كل مقام فإهنا ُروح ِّ
اإلخالص إليها ،بل هي حقيقة اإلخالص ،بل ِ ونِسب ُتها إىل األعامل كنسبة
فمن ال حم َّب َة
واحلب والطاعة هللَ ، ِّ بالذ ِّل
هي ن ْف ُس اإلسالم؛ فإ َّنه االستسالم ُّ
فإن «اإلله» هو له ال إسال َم له أل ْب َّت َة؛ بل هي حقيقة شهادة أن ال إله إال اهلل؛ َّ
وتعظيم ،وطاع ًة. ،ء ورجا ا، ً
ف وخو ، ُلاًّ
ذ و ً
ا ب ح د با الذي يألهَ ه ِ
الع
اً ً َّ ُ َ ُ
إِله :بمعنى «مألوه» ،وهو الذي تألهَ ُه القلوب ،أي :تحُ ُّبه و َت ِذ ُّل له.
احلب. ِ
مراتب ر آخوأصل «ال َّتأ ُّله» :التعبد ،و«التعبد» ِ
ِّ ُ ُّ ُّ
احلب و َت َّي َمه) :إذا م َلكه وذلـله َملحبوبِه.
يقال( :ع َّبده ُّ
مك ُن اإلناب ُة بدون املح َّب ِة والرضا،
فـ «املحبة» حقيق ُة العبودية ،وهل ي ِ
ُ
ربص لاَّإ احلقيقة يف رب الص وهل والرجاء؟ ِ
واخلوف والشكر، ِ
واحلمد
ُ ُ
ني؟ فإنهَّ م إ َّنام يتو َّكلون عىل املحبوب يف حصول حما ِّبه ومراضيه.املح ِّب َ
224
الم َح ّب ِ
ـــة َ
225
منزلـــــــــة الـــــــذوق
226
الـــــذوق
م ٍ
لك ورياسة. ُ
ُ
تكون ِ
واإلحسان أ ْم ٌر يجَ ِ ُده القلب، حالوة اإليامن ِ أن َذ َ
وق واملقصودَّ :
ِ
حالوة اجلام ِع إىل آلته؛ وقوق حالوة ال َّطعا ِم إىل ال َف ِم ،و َذ ِ ِ
كنسبة َذ ِ نِسب ُته إليه
ِ (((
طعمٌ فلإليامن ، وق ُع َس ْي َل َتك»النبي ﷺ« :ح َّتى َت ُذوقي ُع َس ْي َل َته ،و َي ُذ َ كام قال ُّ
كوك إلاَّ إذا وصل والش ُ الش َب ُه ُّ تزول ُّ ووج ٌد ،وال ُ وق ْ وحالو ٌة يتع َّل ُق هبام َذ ٌ
طعمه ،ويجَ ِ ُد
ذوق َ اإليامن قل َبه حقيق َة املبارشة ،ف َي ُ ُ العبد إىل هذه احلال ،فباشرَ َ ُ
حالو َته ،واهلل املوفق.
وطمع يف غرض ٌ قطع صاح َبه عن طلبِه أ ْم ُر ُدنيا، وق :أن ال َي َ ِمن عالمات َّ
الذ ِ
القلب يف َس ِريه إىل مطلبه؛ فإ َّنه َمن ِ مع َي ْقطعان َ
طريق فإن َ
األمل وال َّط َ من أغراضها؛ َّ
أمل يف َغ ِريهْ ،
وإن تع َّلق نس به؛ مل يك ْن له ٌ رب منه واألُ ِ ِ
معرفة اهلل وال ُق ِ ذاق حالو َة
ألج ِله ،وال يؤ ِّم ُله معه. ه ُ
ل م يؤ فهو ه، ب ا محَ و ه بسواه ،فهو إلعانتِه عىل مرضاتِ أم ُله ِ
ْ ِّ ِّ َْ َ
َ
األمل؟ العبد هذا
ُ قلت :فام ا َّلذي َيق َط ُع به
فإن َ
ْ
قو ُة رغبتِه يف ا َملطلب األعىل ،الذي ليس يش ٌء أعىل منه ،ومعرف ُته قلتَّ :
ُ
ِ
انقطاعه ،وأ َّنه يف احلقيقة ووش ِك
ورسعة ذهابهْ ، ِ بخ َّس ِة ما يؤ َّم ُل ُدو َنه،
ِ
جم قد تدلىَّ للغروب فهو ن
َ و زائل، لٌّ يف ،فهو ظِسحابة ص ٍ
ِ أو ، كخيال َط ٍ
يف ِ
ٌ َ
227
قريب آفِل.
ٍ عن
ٍ ِ لد ْنيا؟ إ َّنام أنا كَراكِ ٍ
النبي ﷺ« :ما يل ولِ ُّ
ب قال يف ظ ِّل َش َجرة ُث َّم َ
راح قال ُّ
ِ ِ
إص َب َعه يف ال َي ِّم، الد ْنيا يف اآلخرة إلاَّ كام ُيدخ ُل َ
أح ُدكُم ْ و َت َركَها»((( ،وقال« :ما ُّ
الدنيا يف جنب اآلخرة بام يعلق عىل اإلصبع من فش َّبه ُّ ف ْل َين ُظ ْر بِ َم َت ِ
رج ُع؟»(((َ ،
غمس يف البحر.
البلل حني ُت َ
رج ٌل، وتيهاأُ هارِ أن الدنيا ِمن أوهلا إىل ِ
آخ مر بن اخل َّطاب « :لو َّ
ُ َّ قال ُع ُ
املوت ،لكان بمنزلة َمن رأى يف منامه ما َيسرُُّ ه ،ثم استيقظ فإذا ليس
ُ ثم جاءه
يف يده يش ٌء».
228
الـــــذوق
ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ
كأَ يسري- له قالي -وال ضوانه ِ
ر نمﯠ ﯡ ﯢ﴾ [التوبة ،]27 :فيسري ِ
برَ ُ ُ ٌ
ِم َن اجلنَّات وما فيها.
229
بني همة البداية والفتور بعدها
230
الهمــــــــة
231
منزلـــــــة ال�صفـــــــاء
تاب والسن َِّة ،فمن مل يحَ َف ِ يقول دائمِ :ع ْلمنا هذا مقي ٌد ِ
بالك ِ
ظ َ ُّ َّ ُ ُ اً َيد
جلن ُ
كان ا ُ
احلديث ،ومل َيتف َّق ْه فال ُي ْق َت َدى به.
َ القرآن ،ومل َيك ُت ِ
ب َ
232
الصفـــــــــاء
حممدا
ً هلل ،وأنَّ حقيقة َش ِ
هادة أن ال إل َه إلاَّ ا ُ ُ ِ
جريدان :همُ َ ا ِ
وهذان ال َّت
ستح ُّق العباد َة ِسواه،
املعبود املأ ُلوه ،ا َّلذي ال ي ِ
َ ُ وحده
َ رسول اهلل ،فا ُ
هلل ُ
الطاع َة ِسواه ،و َمن هتدى به ،ا َّلذي ال ي ِ
ستح ُّق َّ َ طاع ا ُمل َّت َب ُع ،ا ُمل َ
ورسو ُله :ا ُمل ُ
طاع إذا َأ َمر بطاعتهُ ،في ُ
طاع ت ََب ًعا ال اً
أصل. ِسوا ُه :فإنَّام ُي ُ
فالطريق مسدود ٌة إلاَّ عىل م ِن اق َتفى آثار الر ِ
سول ﷺ ،واق َتدى به يف َ َّ َ ُ َ
ظاه ِره وباطِنِه.
ِ
ريق؛ فليس ح ُّظه ِمن س ِ
لوكه إلاَّ غري هذا ال َّط ِ
الك عىل ِ
الس ُ
ُ فال َيتعنَّى َّ
عب ،وأعام ُله ﴿ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ال َّت َ
ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ﴾ [النور.]93 :
ِ الك عىل هذه ال َّط ِ
زح ًفا ،فأ ْت ُ
باع زحف ْ ريق؛ فإ َّنه واص ٌل ولو َ الس ُ
وال يتعنَّى َّ
عزائمهم وهمِ َ ُمهم و ُمتابع ُتهم
ُ سول ﷺ إذا ق َع َد ْت هبم أعاملهُ م ،قا َم ْت هبم الر ِ
َّ
لنب ِّيهم؛ َف ُهم كام قيل:
ـل َسـيرْ ِ َك ا ُمل َد َّل ِ
ـــل مـن يل ِ
بم ْث ِ َ ْ
األو ِل تمَ ِشــي ُر َو ْي ً
ـدا وتجَ ِـي يف َّ
هاد وال َّتشمري؛املقصودة باالجتِ ِ
ِ [و] صفاء ِ
العل ِم هَ ْيدي صاح َبه إىل الغاية ُ
غري ُمنتبِ ٍه إىل
ُ ه، بج ِّده واجتِ ِ
هاد كني -بل أكثرهم -سالِ ٌك ِ
َ َ فإن كثريا ِمن السالِ
َّ ً َ َّ
املقصود.
ٍ أن قوما َق ِدموا ِمن ٍ و َأ ِ
بعيدة بالد جدا ،وهوً َّ : رض ُب لك يف هذا َم َث اًل َ
حسنًا ًّ
233
َّاس ن ال ب ج ِ ع ف العجيبة، واهليئة ة، ي عليهم أ َثر النَّعي ِم والبهجة ،واملالبس السنِ
ُ َ َ َّ َّ َ ُ
ِ
لسائر مج ِعها أحس ِن البالد ،وأ َ َ ن هلم ،فسأ ُلوهم عن حاهلم؟ فقالوا :بالدنا ِ
م ُ
وأص ِّحها هوا ًء ،وأك َث ِرها فاكه ًة، ِ
ياهاَ ، أنوا ِع النَّعيم ،وأرخاها و َأك َث ِرها م ً
وأبشارا ،ومع هذا ً َّاس ُص َو ًرا أحس ُن الن ِ وأه ُلها كذلك َ دالْ ، و َأع َظ ِمها اعتِ اً
وجو ًدا ورمح ًة ِ ِ اً الوصف اً فم ِلكُها ال َينا ُله
وكامل ،وإحسا ًنا وع اًلم وح اًلمُ ، مجال ُ َ
ِ سائر م ِ
األطراف ،فال لوك ِ ُ والسطو ُة عىل للرع َّية ،و ُقر ًبا منهم ،وله اهلَيب ُة َّ َّ
عدوهم ،ال ٍ ِ أحد منهم يف مقاومتِه وحماربتِهِ ُ ،
فأهل بلده يف أمان من ِّ ُ َ طم ُع ٌ َي َ
سه ُل ِ ِ وف بساحتِهم ،ومع هذا :فله يحَ ُ ُّل اخلَ ُ
رب ُز فيها إىل َرع َّيته ،ف ُي ِّ أوقات َي ُ
ٌ
ِ الد َ
أبصارهم عليه ُ جاب ب ْينه وب ْينهم ،فإذا وق َع ْت خول عليه ،و َير َف ُع احل َ هلم ُّ
واضمح َّل ،حتى ال ي ِ ِ ندهم ُّ تالشى ِع َ
لتفتون إىل َ كل ما ُهم فيه م َن النَّعي ِم ْ َ َ
اململكة بال َّتعظي ِم ِ سائر ِ
أهل عليه ل َ ب ق َ
أ منهم: ٍ
واحد عىل ل َ ب ق َ
أ فإذا منه، ٍ
يشء
ُ َ َ
البالدَ ،ن ْدعوهم إىل حرضتِه ،وهذه ُك ُت ُبه ِ واإلجالل ،ونح ُن ُر ُس ُله إىل ِ
أهل
بالكذب عليه. ِ زيل سو َء ال َّظ ِّن بنا ،واتهِّ ا َمنا هود ما ُي ُ الش ِ إىل النَّاس ،ومعنا ِم َن ُّ
234
الصفـــــــــاء
كر ُه ما إليها ُمفارق ُته ،ولو فار َق ْته إىل النَّعي ِم ا ُملقي ِم. َ
أ - ِ
للبدن ها لشد ِة إ ْل ِ
ف الن ْف َس َّ -
َ
ِ
العقل. احل ِّس وال َّطب ِع عىل داعي فهذه ال َّطائف ُة غ َلب عليها داعي ِ
َ
وح ِ ِ حال الرس ِل ،وما هم فيه ِ وال َّطائف ُة الثانيةَّ :ملا ْ
سن ُ البهجة ن
َ م ُ رأت َ ُّ ُ
السري، يف ذوا َ
فأخ ،ك بالد ا َمل ِل ِ سري إىل ِ ِ للم وا ب تأه هم َ
ق د
ْ صاحلال ،و َع ِلموا ِ ِ
َّ َ ُ َّ
وعارض ْتهم القاعدي َن، ِ وعشائ ُرهم ِم َن ِ أه ُلهم وأصحابهُ م
َ فعار َضهم ْ َ
ويؤ ِّخرون أخرى، قدمون ِر ْج اًل َ فج َعلوا ُي ِّ ِ
ورهم وبساتينُهمَ ، َمساكنُهم و ُد ُ
حوها ،وإذا وة ال َع ِ بالد ا َمل ِل ِك وما فيها ِمن س ْل ِ فإذا تذ َّكروا طِيب ِ
قدموا َن َ يش َت َّ َ َ
أه ِلهم يشها ،وص ِ
حبة بالدهم و َع ِ الل ِ ِ عار َضهم ما َألِ ُفوه واعتادوه ِمن ظِ
ْ ُ ُ َ
الد ِ تأخروا ِ وأصحابهِ مَّ :
يني
اع َ َّ دائم بينْ فهم اً عن ا َملسري ،وال َت َفتوا إليهمُ ،
اآلخر ،ف َيصريون إليه. أحدمها و َي ْقوى عىل َ ب ُ ني ،إىل أن ي ِ
غل َ ِ ب ِ
واجلاذ
َ َ
أن بال َد ا َمل ِل َك َأ ْوىل هبا؛ ورأت َّ ْ ِ
عزائمها، ظهور ت ْ ب والطائف ُة الثالثة :ر ِ
ك
َ َ َ
ب بحس ِ ء طْ ب ها ِ س يف لكن ؛ ِ
م ا و ُّ
ل ال م و َ
ل ها فو َّطن َْت أن ُفسها عىل قص ِدها ،ومل ي ْثنِ
َ يرْ ُ ٌ َ ُ َّ ُ ْ َ
وحال ا َمل ِل ِك. ِ ِ
البالد أحوال تلك ِ عف ما ُك ِشف هلا ِمن َض ِ
235
ُت ِرهيِ ْ
ــم ُن ُجــو ُم ال َّل ْي ِ
ـل ما َيط ُلبو َنــ ُه
الشعرى وهـا ِم الن ِ
َّعائــ ِم عىل عاتِ ِ
َ ـق ِّ َْ
غري َتن ُّب ٍه
واهم موقوف ٌة عليه ِمن ِ همِ
فهؤالء َ ُمهم مرصوف ٌة إىل ا َملسري ،و ُق ُ
ِ
والغاية ال ُعليا. ِ
املقصود األَع َظ ِم، منهم إىل
أخذوا يف ِ
اجل ِّد يف ا َملسري ،وهمَِّ ُتهم ُمتع ِّلق ٌة بالغاية، والطائف ُة اخلامسةَ :
شاه ُدونه ِمن ب ٍ
عد، رون إىل املقصود بالسري ،فكأ م ي ِ َ ريهم ناظِ
فهم يف َس ِ
ُ نهَّ ُ َّ ُ
الش ِ
اهد الذي عاملون عىل هذا َّ بالده ،فهم ِ وهو ي ْدعوهم إىل ن ْف ِسه وإىل ِ
ُ َ
قام بقلوبهِ م.
ِ
بالعمل شاه َد املقصو َد شاه ِ
قد ِر ِ كل ٍ وعم ُل ِّ
فمن َ َ ه، د َ عىل منهم أحد َ
هد فيه َأ َت َّم ممَّن ال لمه كان ُنصحه فيه ،وإخالصه وحتسينُه ،وب ْذ ُل اجل ِ يف ِع ِ
ُ َ ُ ُ
الغائب، ه د
ُ ِ يجَ ما ب ِ َّص ن وال ِ
عب ت
َّ ال س م ن الح ْظه ،ومل يجَ ِ ْد ِ
م شاه ُده ومل ي ِ ي ِ
ُ َ َ ِّ ُ ُ
شاه ُده :ليس عم َل عم اًل َمل ِل ٍك بحرضتِه ،وهو ي ِ شاهد بذلك ،فمن ِ ٌ والوجو ُد
ُ َ َ َ
غري متي ِّق ٍن بوصوله إليه. وهو عنه، ه عم َل يف َغيبتِه وب ِ
عد حا ُله كحالة من ِ
ُ ُ َ
وارتفعت،
ْ اهلم ُة َع َل ْت العل ِم َته ،ومتى صح ِ
ت ويصحح له صفاء هذا ِ
َّ َّ همَِّ ُ ُ ِّ ُ
ُ ِ لاَّ فإن سفولهَ ا ودناءتهَ ا ِمن ِع َّلتِها وس َق ِ
الصعو َد ب
ُ ُّ ل ط تَ َّار ن كال فهي إ و ها،م َ َّ ُ
واالرتفاع ما مل تمُ ن َْع.
َ
ت اخلَ ْل َق إليهباحلق ط َلبا وقص ًدا ،وأوص َل ِ
ِّ تْ َ
ل ص ت
َّ ا ٌ
ة مه م
ِ: م وأعىل ِ
اهل
ْ ً َّ َ
جريدها ِم َن انقسا ِم
سل و َأتبا ُعهم ،وصح ُتها :ب َت ِ
َّ الر ِ
مه ُة ُّ صحا ،وهذه َّ َدعو ًة و ُن ً
236
الصفـــــــــاء
237
منزلـــــة ال�ســـــرور
238
الســــــرور
239
وه ُم ا َّلذين ﴿ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ﴾
ُ
سري إليه وإىل جنَّتِه.
َ ت
َ ْ
أن هممَ َ
[التوبة ،]46 :ف َثب َط عزائمهم وهمِ
َ َّ
ِ
اجلهل. حزن ُظ ْل ِ
مة احلزن الثاين :هو ُ
وجهل عم ٍل و َغيِ ، ٍ جهل ِعل ٍم
وكالمها له ٍّ ُ َ ومعرفة ُ واجلهل َنوعانِ:
ب يوجب نورا و ُأ ْنساِ ،
فض ُّده ِ أن ِ
العلم ِ ُظ ْلم ٌة ووحش ٌة يف القلب ،فكام َّ
يوج ُ ً ُ ً َ
ِ ِ
لم ا َّلذي َب َعث به رسو َله ً
نورا سمى اهللُ تعاىل الع َ وحش ًة ،وقد َّ ُظ ْلم ًة ويوق ُع ْ
اً
وضالل. وه ًدى وحياةِ ،
وض َّدهُ :ظ ْلم ًة و َمو ًتا ُ
قال تعاىل ﴿ :ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ
ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ﴾ [األنعام.]221 :
املؤ ِ
من ﴿ :ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ و َمث َُل هذا ال ُّن َ
ور يف قلب ْ
ﯙﯚﯛ ﯜ ﯝﯞﯟﯠﯡ ﯢﯣﯤ ﯥﯦﯧ
ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ
ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ﴾ [النور.]35 :
تفر ُق اهل َ ِّم وحش ُة ال َّت ِ احلزن الثالثُ :ح ْز ٌن َب َع َث ْت ُه ْ
فرق[ ،و] التفرق هوُّ : ُّ
القلب عىل ِ وات مجع َّي ِةحزن ممُ ِ ٌّض عىل َف ِ ٌ فر ِق والقلب عن اهلل ؛ وهلذا ال َّت ُّ ِ
حاصل ًة َلر ُجل ،مل مج ِعها ِ الدنيا بأ َ أهل ُّات ِ لذ ُرض ْت َّ ونعيمها ،فلو ُف َ ِ اهلل ولذَّتهِ ا
وقه وش ِ وفر ِحه به ،و ُأ ْن ِسه ب ُق ْربِهَ ، اهلل، عىل ِ
القلب لذ ِة مجعي ِ
ة َّ إىل ٌ
ة سبيكن هلا نِ
َ َّ ْ
رش َق فيه ما َ
أ ن م ك ُ
ق صد
ِّ ي ام ن
َّ فإ ذاقه، ن م لاَّإ به ق ُ صد
ِّ ي ال ر مأ وهذا ه، إىل ِ
لقائ
َ َ ُ َ ٌْ ُ
240
الســــــرور
ِ
القائل: أرش َق فيك ،وهلل َد ُّر
َ
ـــم ه نار ى ر ت
َ ا م أ يِ ب ِ
صاح أيا
ْ ُ َ َ َ
ــي مـــا ال َأرى فقـــالُ :ت ِرينِ
َ
ــقاك ال َغـرام ولمَ يس ِ
ــــقني َ َس
ُ َْ ْ
ــرا فأبصـَـر َت ما لمَ أ ُكن م ِ
بص
َ ْ ْ ُ ْ
ذكور إلاَّ ألمَ ُ الوحشة ،و َنك َُد ال َّتش ُّتت ،و ُغ ُ
بار ِ فرق ا َمل فلو مل يك ْن يف ال َّت ُّ
نقطعني
َ وأقل عقوبتِه :أن يب َتىل بص ِ
حبة ا ُمل الش َعث؛ ل َك َفى به عقوب ًة ،فكيف ُّ َّ
ُ ُ
وخدمتِهم؟ ف َتصري أوقا ُته ا َّلتي هي ما َّد ُة حياتِه وال قيم َة هلا، ومعارشتهِ ِم ِ
ُ
ذاققلب َ أغراضهم ،وهذه عقوب ُة ٍ ِ حوائجهم ،و َن ِ
يل ِ ُمستغرق ًة يف قضاء
ثم آ َث َر عىل ذلك ِسواه، َّ به، ِ
س ن
ْ ُ واأل عليه، ة اإلقبال عىل اهلل ،واجلمعي ِ
َّ ِ حالو َة
حياة يف قلبِه ٍ
ونور فإ َّنه نسه ،وما هم عليه ،ومن له َأدنى ٍ بطريقة بني ِج ِ ِ ورضيِ
ْ َ ْ ُ َ َ
ند والدتهِ ا.احلامل ِع َ
ُ فرق ،كام َتس َت ُ
غيث ُّ ت
َّ ال هذا ِ
وحشة ن ستغيث قلبه ِ
م ُ ُ َي
ُ
اإلقبال عىل اهلل. لمه إلاَّ
ث ال َي ُّ ِ
القلب َش َع ٌ ففي
وفيه َوحش ٌة ال ُيزي ُلها إلاَّ األُ ْن ُس به يف َخ ْلوتِه.
دق معاملتِه.
وص ِذهبه إلاَّ ال ور بمعرفتهِ ،
سرُّ ُ
ِ
حزن ال ُي ُ وفيه ٌ
والفرار منه إليه.
ُ االجتامع عليه،
ُ وفيه َق َل ٌق ال ُيسكنُه إلاَّ
طف ُئها إلاَّ الرضا بأم ِره و ِيه و َق ِ
ضائه ،ومعانق ُة ريان حس ٍ
ات ال ي ِ ُ وفيه نِ
ْ نهَ ِّ ُ رَ
وقت ِ
لقائه. الصرب عىل ذلك إىل ِ
ِ
241
وحده مطلو َبه.
يكون هو َ َ ف ُد َ
ون أن شديد ال َي ِق ُ
ٌ ب وفيه ط َل ٌ
ِ
اإلخالص وص ُ
دق كرهِ ،وفيه فاق ٌة ال َي ُس ُّدها إلاَّ حم َّب ُته ،واإلناب ُة إليه ،ودوا ُم ِذ ِ
الدنيا وما فيها مل ُت َس َّد تلك الفاق ُة منه ً
أبدا. عطي ُّ له ،ولو ُأ َ
أشد ِمن ألمَ ِ العـذاب ،قـال تعـاىل: يوق ُع َوحش َة احلجاب ،وألمَُه ُّ فال َّتفر ُق ِ
ُّ
﴿ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ﴾ [املطففني ،]16-15 :فاج َت َمع
وعذاب اجلحيم.
ُ عذاب احلجاب، ُ عليهم
242
الســـــــر
منزلـــــــــة ال�ســـــــر
243
الش ِ
وائب ا َّلتي َتعو ُقه خالصه ِم َن َّ
ُ وهو ) العالمة الثانية( :ص َفاء ال َق ِ
صد َ ُ
عن مقصوده.
ٍ ِ القصد ِمن ِّ
ِ ِ
الر ِّب
كل إرادة ُتزاح ُم ُمرا َد َّ وصفا ُء القصد ُيرا ُد بهُ :خ ُ
لوص
ري. القصد جمردا ُمل ِ
يني األ ْم ِّ
ِّ الد
ِّ ه راد ُ َّ ً صري
تعاىل ،بل َي ُ
وائقوالقواطع. وك)،وهوسالم ُته ِم َناآلفاتوال َع ِ (صح ُةالس ُل ِ
ُّ َّ
العالمةالثالثةِ :
طريق واحد ،فال ي ِ
نقس ُم ٍ واحدا لواحد ،يف ً َ
يكون والعبار ُة اجلامع ُة هلا :أن
َ
تلو ُن طري ُقه. ط َل ُبه وال َمطلو ُبه ،وال َي َّ
244
الســـــــر
245
منزلــــــــة الغــــــربة
246
الغـــــــربة
ِ
املوحشة، فأولئك هم الغربا ُء ِمن اهلل ورسوله ودينِه ،وغرب ُتهم هي الغربة
املشار إليهم ،كام قيل:َ وإن كانوا هم املعروفني
يــار ُه فليــس َغ ِريبا من َتنـــاء ْت ِ
د
ُ َ ً َ َ
ولكـــ َّن َمـن َتنْأ ْيـ َن عنــ ُه َغ ِر ُ
يــب
ِ
احلال ا َّلتي فرعون انتهى إىل َم ْدي َن عىل َ خرج موسى هار ًبا ِمن َقو ِم و َّملا َ
مريض غريب، وحيد ٌ
ٌ رب،
خائف جائع ،قال :يا ِّ ٌ غريب
ٌ وحيد
ٌ ذ َك َر اهللُ ،وهو
فقيل له :يا موسى ،الوحيدَ :من ليس له ِم ْثيل أنيس ،واملريضَ :من ليس له
ِمثيل طبيب ،والغريبَ :من ليس ب ْيني وب ْينه معامل ٌة.
ُ
ثالثة أنواع: فالغربة
وأهل ُسنَّ ِة رسوله ﷺ بني هذا اخل ْلق ،وهي الغربة التي ِ غربة ِ
أهل اهلل
الدين الذي جاء به أ َّنه بدأ غري ًبا وأنه رسول اهلل ﷺ أه َلها ،وأخرب عن ِّ ُ مدح
وأن أهله يصريون غربا َء. سيعود غري ًبا كام بدأَّ ،
ووقت دون وقت ،وبني قو ٍم دون ٍ مكان دون مكان،ٍ وهذه ال ُغربة قد تكون يف
ِ
الغربة هم ُ
أهل اهلل ح ًّقا ،فإنهَّ م مل َيأووا إىل غري اهلل غريهم ،ولكن أهل هذه قوم ِ
وه ُم الذين ِ ِ
تعاىل ،ومل َينتسبوا إىل غري رسوله ﷺ ،ومل َي ْدعوا إىل غري ما جاء بهُ ،
الناس يوم القيامة مع آهلتهم َبقوا أحوج ما كانوا إليهم ،فإذا انطلق ُ َ الناس
فارقوا َ
َ
ِ
فار ْقنا َ
الناس الناس؟ فيقولونَ : يف مكاهنم ،فيقال هلم :أال َتنطلقون حيث انطلق ُ
(((
أحوج إليهم منَّا إليهم اليو َم ،وإنا ننتظر ر َّبنا الذي كنَّا َنع ُب ُده .ُ ونحن
((( أخرجه البخاري ( ،)4581ومسلم (.)183
247
فهذه الغربة ال وحش َة عىل صاحبها ،بل هو آ َن ُس ما يكون إذا استوحش
وأشد ما يكون وحش ًة إذا استأنسوا ،فول ُّيه اهللُ ورسو ُله والذين آمنوا، ُّ الناس، ُ
وج َفوه.
أكثر الناس َ وإن عاداه ُ
ومن هؤالء الغرباءَ :من َذ َكرهم أنس يف حديثه عن النبي ﷺ« :ر َُّب ِ
ِ ث أغ ِ ،ذي طِ
أقس َم عىل اهلل أل َب َّر ُه»(((.
َ لو له، ه ب
ُ َُؤ
ْ ي ال ، ين ر
َْم أش َع َ برَ َ ْ
بالسنَّة، ك التمس ﷺ: النبي غبطهم الذين ِ
الغرباء ومن صفات هؤالء
ُّ ُّ ُّ
املعروف عندهم، وترك ما أحدثوه؛ وإن كان هو ُ الناس، ب عنها ِ
َ ُ إذا رغ َ
أحد ِ
غري وترك االنتساب إىل ٍ ُ أكثر الناس،
وجتريد التوحيد؛ وإن أنكر ذلك ُ ُ
اهلل ورسولِه ،ال شيخ ،وال طريقة ،وال مذهب ،وال طائفة ،بل هؤالء الغرباء
وحده،َ وحده ،وإىل رسوله باال ِّتباع لمِا جاء به َ منتسبون إىل اهلل بالعبودية له
وأكثر الناس بل ك ُّلهم ٌ
الئم هلم. ُ وهؤالء هم القابضون عىل اجلمر ح ًّقا،
للسواد ٍ
ومفارقة وبدعة، ٍ
شذوذ َ
أهل وهنم دُّ عي ق ْ
ل اخل هذا بني همفلِ ُغربتِ
َّ َُ
األع َظ ِم!
لدعوة اإلسالم ُن َّزا ًعا من القبائل ،بل آحا ًدا منهم ِ وكان املستجيبون
تغربوا عن قبائلهم وعشائرهم ،ودخلوا يف اإلسالم ،فكانوا هم الغربا َء ح ًّقا، َّ
أفواجا ،فزالت تلك ً الناس فيه
ُ وانترشت دعو ُته ودخل ْ حتى ظهر اإلسال ُم
الغرب ُة عنهم ،ثم أخذ يف االغرتاب والترَّ ُّحل ،حتى عاد غري ًبا كام بدأ.
أشد ُ
رسول اهلل ﷺ وأصحا ُبه هو اليو َم ُّ احلق الذي كان عليه
بل اإلسالم ُّ
248
الغـــــــربة
غرب ًة منه يف َّأو ِل ظهوره ،وإن كانت أعال ُمه ورسو ُمه الظاهر ُة مشهور ًة
جدا ،وأه ُله غربا ُء بني الناس.
احلقيقي غريب ًّ
ُّ معروفة ،فاإلسالم
جدا غريب ًة بني اثنتني وسبعني فرق ًة،وكيف ال تكون فِرق ٌة واحد ٌة قليل ٌة ًّ
سوق إال بمخالفة ماومناصب وواليات ،وال يقوم هلا ٌ ٍ
ورئاسات ذات أتباع
َ
َ
ولذاتهِ م ،وما ُهم
فإن ن ْف َس ما جاء به ُيضا ُّد أهوا َءهم َّالرسول ﷺ؟ َُّ جاء به
ِ
والشهوات ِ
وعلمهم، الشبهات والبِ َدع التي هي منتهى فضيلتهم عليه من ُّ
مقاص ِدهم وإراداتهِ م.
ِ التي هي غاي ُة
السائر إىل اهلل عىل طريق املتابعة غري ًبا بني هؤالءُ فكيف ال يكون املؤم ُن
كل منهم برأيه؟ عجب ٌّ الذين قد ا َّتبعوا أهواءهم ،وأطاعوا ُش َّحهم ،و ُأ ِ
مخسني من الصحابة، َ أجر بدينه ك متس إذا الوقت هذا يف له لعوهلذا ج ِ
ُ َّ ُ
وهذا األجر العظيم إنام هو لغربته بني الناس ،والتمس ِك بالسنَّة بني ُظ ُل ِ
امت ُّ ُّ
أهوائهم وآرائهم.
وفق ًْها يف ُس َّن ِة رسوله،
املؤمن الذي قد رزقه اهلل بصري ًة يف دينهِ ، ُ فإذا أراد
الناس فيه من األهواء والبِ َدعِ والضالالتُّ ،
وتنكبِهم ُ هم يف كتابه ،وأراه ماو َف اً
رسول اهلل ﷺ وأصحا ُبه ،فإذا أراد أن ُ عن الرصاط املستقيم الذي كان عليه
وطعنِهم
وأهل البِ َدعِ فيهْ ، ِ اجله ِ
ال قد ِح َّ ِّ
فليوط ْن ن ْف َسه عىل ْ َ
الرصاط َيس ُل َك هذا
سلفهم من ري الناس عنه ،وحتذي ِرهم منه ،كام كان ُ عليه ،وإزرائهم به ،وتنف ِ
وقدح فيام
فأما إنْ دعاهم إىل ذلكَ ، ﷺ، ه ِ
وإمام ه الكفار يفعلون مع َم ِ
تبوع
َّ
َ
احلبائل، نصبون له وائل ،و َي ِ
ُهم عليه :فهناك تقوم قيام ُتهم ،و َيبغون له الغَ َ
ورج ِل ِه.
ريهم ْ يل كب ِ
بخ ِ ويجَ ِلبون عليه َ
249
لتمس ِكهم
ُّ
فهو غريب يف دينه لفساد أدياهنم ،غريب يف متس ِكه بالسن ِ
َّة ُّ ُّ ٌ
لسوء صالتهِ م، صالته يف غريب هم، ِ
عقائد غريب يف اعتقاده لفساد بالبِ َدع،
ُ ٌ
غريب يف
ٌ ملخالفة نِ َسبِهم،
ِ غريب يف طريقه لفساد ُط ُر ِقهم ،غريب يف نِسبته
أنفسهم. هتوى ال ما عىل هم معارشته هلم؛ أل َّنه يعاشرِ
ُ ُ ُ
مساعدا وال معينًا فهو
ً وباجلملة :فهو غريب يف أمور دنياه وآخرته ال ِ
جيد
عالمِ بني جهال ،صاحب سنَّة بني أهل بِ َدع ،دا ٍع إىل اهلل ورسولِه بني ٍ
دعاة إىل ُ ُ َّ
املعروف لدهيم منك ٌَر
ُ األهواء والبدع ،آمر باملعروف ٍ
ناه عن املنكر بني قو ٍم ٌ
معروف.
ٌ واملنك َُر
أهل الباطل وأهل النوع الثاين من الغربة :غرب ٌة مذمومة وهي غربة ِ
وإن ك ُثر أه ُلها
املفلحني ْ
َ احلق ،فهي غربة بني حزب اهلل
الفجور بني أهل ِّ
مؤنِسهم، ٍ
وحشة عىل كثرة ْ فهم غربا ُء عىل كثرة أصحاهبم وأشياعهمُ ،
أهل
عرفون يف أهل األرض ،ويخَ فون عىل أهل السامء.ُي َ
النوع الثالث :غربة مشرتكة ال حُتمد وال ُت َذم وهي الغربة عن الوطن؛ فإن
الناس كلهم يف هذه الدار غرباء ،فإهنا ليست هلم بدار مقام ،وال هي الدار التي
الدنيا كأ َّن َك
مر ُ « :ك ْن يف ُّ
خلقوا هلا ،وقد قال النبي ﷺ لعبد اهلل بن ُع َ
بيل»((( ،وهكذا هو نفس األمر؛ أل َّنه أمر أن يطالع ذلكعابر َس ٍ
ريب ،أو ُ َغ ٌ
حق املعرفة.بقلبه ويعرفه َّ
250
الغـــــــربة
251
منزلــــــة املعاينــــة
مقد ٌس عن اطالع البرش عىل ذاته ،أو أنوار ذاته، منز ٌه َّ
الرب تبارك وتعاىل َّ
أنوار صفاته ،وإنام هي الشواهد التي تقوم بقلب العبد ،كام ِ أو صفاته ،أو
أعد اهلل ِ
ألهلهام. شاهد من اآلخرة واجلنة والنار ،وما َّ ٌ يقوم بقلبه
ٍ
وهذا هو الذي وجده عبد اهلل بن حرام األنصاري يوم ُأ ُحدَّ ،ملا قالً :
«واها
ومن هذا قو ُله ﷺ« :إذا َم َر ْر ُتم ون ُأح ٍد»ِ ، َ د ها حير واهلل د
ُ أجِ نيِّإ ! يح اجلن ِ
َّة ِ ِ
ر لِ
ُ َ ُ َ
الذك ِْر»((( ،ومنه ياض اجلن َِّة؟ قالِ :
«ح َل ُق ِّ ُ ِ
ر وما قالوا: وا»، ع ت
َ ار َ
ف اجل َّن ِ
ة ياض َِبر ِ
َ ُ ْ
اجلنَّ ِة»((( ،فهو روضة ألهل ومنبرَ ِ ي َر ْوض ٌة ِمن ِر ِ
ياض َ قو ُله« :ما ب بيتي ِ
َ ينْ َ َ ْ
العلم واإليامن؛ لمِا يقوم بقلوهبم من شواهد اجلنة ،حتى كأهنا هلم رأي عني،
وإذا قعد املنافق هناك مل يكن ذلك املكان يف حقه روضة من رياض اجلنة،
فالعمل :إ َّنام هو عىل الشواهد ،وعىل حسب ِ
شاهد العبد يكون عم ُله. َ
ونحن ُنشري-بعون اهلل وتوفيقه -إىل الشواهد ،إشار ًة ُيع َلم هبا حقيق ُة األمر.
252
المعاينـــــــة
بدعت هبم ،وعذبتهم بأنواع وعشا َقها صرَ ْ عى َحولهَ ا ،قد َّ
َّ ويرى أهلها
اً
طويل ،سقتهم أمر الرشاب ،أضحكتهم اً
قليل ،وأبكتهم العذاب ،وأذاقتهم َّ
كؤوس ُس ِّمها ،بعد كؤوس مخرها ،فسكروا بح ِّبها ،وماتوا هبجرها.
ترحل قلبه عنها ،وسافر يف طلب الدار فإذا قام بالعبد هذا الشاهد منها َّ
اآلخرة وحينئذ يقوم بقلبه شاهد من اآلخرة ودوامها ،وأهنا هي احليوان
ُّ
وحمط دار القرار، ح ًّقا ،فأهلها ال يرحتلون منها ،وال يظعنون عنها ،بل هي ُ
الدنياالسري ،وأن الدنيا بالنسبة إليها كام قال النبي ﷺ« :ما ُّ الرحال ،ومنتهى َّ
أح ُدكُم إص َب َعه يف ال َي ِّمَ ،ف ْل َين ُظ ْر بِ َم َت ِ ِ ِ
رج ُع؟»(((. يف اآلخرة إلاَّ كام جَي َع ُل َ
وشدةثم يقوم بقلبه شاهد من النار ،وتو ُّق ِدها واضطرامها ،و ُب ْعد قعرهاَّ ،
حرها ،وعظيم عذاب أهلها ،فيشاهدهم وقد سيقوا إليها سو َد الوجوه، ِّ
ُز ْر َق العيون ،والسالسل واألغالل يف أعناقهم ،فلام انتهوا إليها ُف ِّتحت
يف وجوههم أبوابهُ ا ،فشاهدوا ذلك املنظر الفظيع ،وقد تقطعت قلوهبم
حرسة وأس ًفا ﴿ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ﴾
[الكهف.]53 :
رب العالمَني ِ
ل ب فأراهم شاهد اإليامن ،وهم إليها يدفعون ،وأتى النِّداء ِمن ِ
ق
ِّ َ ُ ُ
أن﴿ :ﰆﰇ ﰈ ﰉ﴾ [الصافات ]24 :ثم قيل هلم﴿ :ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ
ﯺﯻ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ ﭚﭛ ﭜﭝ
فأراهم شاهد اإليامن، ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﴾ [الطور،]16 - 14 :
253
وهم يف احلمـيم عىل وجوههم يســحبون ،ويف النار كاحلطب يسـجرون
وبئس
حاف َ﴿ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ﴾ [األعراف ،]41 :فبئس ال ّل ُ
وإن َيس َتغيثوا من شدة العطش ﴿ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ﴾ راشْ ، الف ُ ِ
وصه َر ما يف بطوهنم،
َ [الكهف ]29 :فإذا ِ
رشبوه َق َّطع أمعا َءهم يف أجوافهم،
الز ُّقو ُم ﴿ ،ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ رشابهُ ُ ُم احلميم ،وطعا ُمهم َّ
ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ
ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ
ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ﴾ [فاطر.]37 - 36 :
الشاهد :انخلع من الذنوب واملعايص ،وا ِّتباع
ُ فإذا قام بقلب العبد هذا
ثياب اخلوف واحلذرْ ،
وأخ َصب قل َبه من مطر أجفانه ،وهان اهلوى ،ولبِس َ
عليه ُّ
كل مصيبة تصيبه يف غري دينه وقلبه.
قو ِة هذا الشاهد يكون بعده من املعايص واملخالفات ،ف ُيذيب
حسب َّ وعىل َ
فيجد
ُ الشاهد من قلبه الفضالت ،واملواد ِ
املهلك َة ،و ُينضجها ثم يخُ ِرجها، ُ هذا
َّ
ورسورها.
َ القلب َّ
لذ َة العافية ُ
أعد اهلل ألهلها فيها ،ممَّا ال َعينْ ٌ فيقوم به بعد ذلك :شاهد من اجلنة ،وما َّ
فضل عماَّ وصفه اهلل لعباده ب َبشرَ ٍ ،اً رأت ،وال ُأ ُذ ٌن َس ِم َع ْ
ت ،وال َخ َط َر عىل ق ْل ِ ْ
املفصل ،الكفيل بأعىل أنواع ال َّل َّذة ،من املطاعم عىل لسان رسوله من النعيم َّ
واملشارب ،واملالبس والصور ،والبهجة والرسور ،فيقوم بقلبه شاهد دار قد
الد ُّر،
باؤها ُّ وح ْص ُ ، ُ
ك س جعل اهلل النعيم املقيم الدائم بحذافريه فيهاُ ،ترب ُتها املِ
َ ْ َْ
254
المعاينـــــــة
والف َّض ِة ،وقصب اللؤلؤ ،ورشاهبا أحىل من العسل، هب ِ ناؤها َلبِ ُن َّ
الذ ِ وبِ ُ
وأطيب رائحة من املسك ،وأبرد من الكافور ،وألذ من الزنجبيل ،ونساؤها
إحداه َّن يف هذه الدنيا لغ َلب عىل ضوء الشمس((( ،ولباسهم ُ وج ُه
لو َب َر َز ْ
وخ َد ُمهم ِو ْل ٌ
دان كاللؤلؤ املنثور ،وفاكهتهم السندس واإلستربقَ ، احلرير من ُّ
دائمة ،ال مقطوعة وال ممنوعة ،وفرش مرفوعة ،وغذاؤهم حلم طري مما
يشتهون ،ورشاهبم عليه مخرة ال فيها َغ ْو ٌل وال هم عنها ُي َنزفون ،وخرضهتم
فاكهة مما يتخريون ،وشاهدهم حور عني كأمثال اللؤلؤ املكنون ،فهم عىل
األرائك متكئون ،ويف تلك الرياض يحُبرَ ون ،وفيها ما تشتهي األنفس وتلذ
األعني ،وهم فيها خالدون.
فإذا انضم إىل هذا الشاهد :شاهد يوم املزيد ،والنظر إىل وجه الرب ،
وسامع كالمه منه بال واسطة.
الشاهد إىل الشواهد التي قبله فهناك يسري القلب إىل
ُ انضم هذا
َّ [و] إذا
ربه أرسع من سري الرياح يف مهابهِّ ا ،فال يلتفت يف طريقه يمينًا وال اً
شامل.
العبد ُّ
ضمحل فيه هذه الشواهد ،ويغيب به ُ آخ ُر َت هذا ،وفوق ذلك ِ
شاه ٌد َ
وعزه وسلطانه،
الرب تعاىل ،ومجاله وكاملهِّ ،
شاهد جالل ِّ ُ عنها كلها ،وهو
وعلوه فوق عرشه ،وتك ُّل ِمه بكتبه وكلامت تكوينه ،وخطابه ِّ هوقيوميتِ
ِّ
ملالئكته وأنبيائه.
255
قاهرا فوق عباده ،مستو ًيا عىل عرشه ،منفر ًدا بتدبري
فإذا شاهد بقلبه ق ُّيو ًما ً
ومنز اًل كتبه ،يرىض ويغضب ،و ُيثيب ِ مملكته ،آمرا ناهياِ ،
مرس اًل رسله، ً ً
ويذل ،وحيب ويبغض ،ويرحم إذا استرُ حم، ويعز ُّ
و ُيعاقب ،ويعطي و َيمنعُّ ،
غفر إذا اس ُتغفر ،ويعطي إذا ُسئل ،وجييب إذا ُدعي ،ويقيل إذا استقيل، وي ِ
َ
أكرب ِمن كل يشء ،وأعظم من كل يشء ،وأ َع ُّز من كل يشء ،وأ ْق َد ُر من كل
يشء ،وأعلم من كل يشء ،وأحك َُم من كل يشء ،فلو كانت قوى اخلالئق
ك ِّلهم عىل واحد منهم ،ثم كانوا ك ُّلهم عىل تلك القوة ،ثم ُن ِس َب ْت تلك القوى
قوة األسد ،ولو ُق ِّدر
إىل قوته تعاىل لكانت أقل من قوة ال َبعوضة بالنسبة إىل َّ
ِ
بمجال اخلَ ْلق ك ِّلهم عىل واحد منهم ،ثم كانوا ك ُّلهم بذلك اجلامل ،ثم ُنس َ
ُ
رساج ضعيف بالنسبة إىل عني الشمس ،ولو ٍ الرب تعاىل لكان ُدون
إىل مجال ِّ
كل اخلَ ِ
لق عىل تلك رج ٍل منهم ،ثم كان ُّ ِ ِ
لني واآلخري َن عىل ُ
األو َ
لم َّ كان ع ُ
الر ِّب تعاىل؛ لكان ذلك كنقرة عصفور من البحر. ِ ِ
الصفة ،ثم ُنسب إىل علم َّ
ِّ
ُعوت كامله ،فإنه يسمع وبرصه ،وسائر ن ِ ِ وهكذا سائر صفاته ،كسمعه
ضجيج األصوات باختالف اللغات ،عىل تف ُّن ِن احلاجات ،فال َيشغَ ُله ْ
سم ٌع
سواء عنده َمن أسرََّ
ٌ لحينِ َ ،
يتربم بإحلاح ا ُمل ّ
عن سمع ،وال تغلطه املسائل ،وال َّ
القول و َمن َج َهر به ،فالرس عنده عالنية ،والغيب عنده شهادة ،يرى دبيب َ
ياط عروقها الظلامء ،ويرى نِ َ النملة السوداء عىل الصخرة الصماَّ ء يف الليلة َّ
وجماري القوت يف أعضائها ،يضع السموات عىل إصبع من أصابع يده،
والشجر عىل إصبع ،واملا َء عىل
َ َ
واجلبال عىل إصبع، َ
واألرض عىل إصبع،
256
المعاينـــــــة
257
وطهارة القلب ،ونزاهته من األوصاف املذمومة ،واإلرادات السفلية،
كريس هذا الشاهد ،الذي
ُّ وخلوه وتفريغه من التعلق بغري اهلل سبحانه ،هو
ُّ
ٍ
متلوث باخلبائث جيلس عليه ،ومقعده الذي يتمكن فيه ،فحرام عىل قلب
ٍ
متعلق باملرادات السافلة أن يقوم به هذا واألخالق والصفات الذميمة،
َ
يكون من أهله. الشاهد ،أو
ونورها
ُ األرواح،
َ [و] إذا طلعت شمس التوحيد ،وبارشت حرارتهُ ا
البصائر ،جتلت هبا ظلامت النفس وال َّط ْبع ،وحتركت هبا األرواح يف طلب َ
من ﴿ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﴾ [الشورى ،]١١ :فسافر القلب
منزل ،فهو ينتقل من عبادة إىل منزل اًيف بيداء األمر ،ونزل منازل العبود َّية ،اً
شواهد الصفات قائم ًة بقلبه ،توق ُظه
ُ عبادة ،مقيم عىل معبود واحد ،فال تزال
وتقيمه إذا قعد ،إن قام بقلبه ُ إذا رقد ،وتذ ِّك ُره إذا َغ َفلُ ،
وحتدو به إذا سار،
شاهد من الربوبية والق ُّيوم َّية رأى أن األمر ك َّله هلل ،ليس ألحد معه من األمرٌ
يشء ﴿ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ
ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ
ﰀﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅﰆ ﰇ ﰈ﴾ [فاطر ،]٣ - ٢ :إن قام بقلبه شاهد من
اإلهلية؛ رأى يف ذلك الشاهد األمر والنهي ،والن َُّّبوات ،والكتب والرشائع،
األمر
َ والرضا ،والكراهة والبغض ،والثواب والعقاب ،وشاهد واملحبة ِّ
ُ
وأعامل العباد صاعدة إليه ،ومعروضة عليه، ٍ
مستو عىل عرشه، اً
نازل ممن هو
جيزي باإلحسان منها يف هذه الدار ،ويف الع ْقبى نرضة ورسورا ،وي ِ
قدم إىل ما ً َ ُ
منثورا.
ً مل يكن عىل أمره ورشعه منها فيجعله هباء
258
المعاينـــــــة
259
منزلـــــة احلـــــياة
260
الحيـــــــاة
جعل اهلل املعيشة الضنك َملن أعرض عن ِذ ْك ِره ،وهي عكس احلياة الطيبة.
ودار البرَ زخ،
دار الدنياَ ،
الدور الثالث؛ أعنيَ : وهذه احلياة الط ِّيبة تكون يف ُّ
الدور الثالث ،فاألبرار يف النعيم
أيضا تكون يف ُّ ودار القرار ،واملعيشة الضنك ً
جار يف اجلحيم هاهنا وهناك ،قال اهلل تعاىل ﴿ :ﮓﮔ هاهنا وهناك ،وال ُف َّ
ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ﴾ [النحلِ ،]30 :
فذ ْك ُر اهلل ،وحمبته وطاعته،
واإلعراض عنه والغفل ُة،
ُ واإلقبال عليه :ضام ٌن ألطيب احلياة الدنيا،
ِ
واملعيشة الضنك يف الدنيا واآلخرة. كفيل باحلياة املن َّغ َصة،ومعصيتهٌ :
مراتب:
ُ للحياة
املرتبة األوىل :حيا ُة األرض بالنبات.
النمو واالغتذاء ،وهذه احلياة مشرتك ٌة بني النبات
ِّ املرتبة الثانية :حياة
ِ
واحليوان الذي يعيش بالغذاء.
بقد ٍر زائد عىل ُنموه واغتذائه ،وهو
املرتبة الثالثة :حياة احليوان املغتذي ْ
إحساسه وحركته.
املرتبة الرابعة :حياة احليوان الذي ال يغتذي بالطعام والرشاب ،كحياة
املالئكة ،وحياة األرواح بعد ُمفارقتها األبدان ،فإن حياهتا ُ
أكمل من حياة
احليوان املغتذي.
املرتبة اخلامسة :حياة العلم من موت اجلهل.
املرتبة السادسة :حياة اإلرادة واهلمة واملحبة؛ فإن احلياة الطيبة إنام ُتنال
261
قدر ذلك تكون باهلمة العالية ،واملحبة الصادقة ،واإلرادة اخلالصة ،فعىل ْ
وأخس الناس حيا ًة أخسهم همِ ة ،وأضعفهم حمبة وطل ًبا ،وحيا ُة ُّ احلياة الطيبة،
البهائم خري من حياته ،كام قيل:
هلـــو و َغفـــل ٌة
ٌ غـرور
ُ ـار َك يا َم
نهَ ُ
لـك ِ
الز ُم والـــردى ََّ و َل ْي ُل َك َنـو ٌم
سـخ ُط ِغ َّبـهو َتك َْد ُح فيام سوف َت َ
عيـش الب ِ
ـــم
ُ هائ الدنيا َت ُ َ كذلك يف ُّ َ
فــر ُح با ُملنـــىــر بام َيفنـى و َت َُت َس ُّ
كام ُغر بال َّل َّذ ِ
ات يف النَّــو ِم حـــالمِ
ُ َّ
والناس إذا شاهدوا
ُ واملقصود :أن حياة القلب بالعلم واإلرادة واهلمة،
ِ
وترك حي القلب ،وحياة القلب بدوام الذكر ذلك من الرجل ،قالوا :هو ُّ
الذنوب ،كام قال عبد اهلل بن املبارك :
لــوب
َ نـوب تمُ ِ ُ
يـت ال ُق الذ َـت ُّ
رأ ْي ُ
الــــذ َّل إدمــانهُ ا
ُّ وقــد ُي ِ
ــور ُ
ث ْ
ِ
لــوب الذ ِ
نـوب َحيــا ُة ال ُق و َت ْـر ُك ُّ
ـــــك ِع ْصيانهُ ـــا
َ ـــري لن ْف ِس
وخ ٌ َ
ُ
لـــوك الديـ َن إلاَّ ا ُمل
ـد ِّ
أفس َ ْ
وهـل َ
ور ْهبـانهُ ــــا ٍ
ــــوءوأحبـــار ُس
ُ ُ
262
الحيـــــــاة
وسمعت شيخ اإلسالم ابن تيمية يقولَ « :من واظب عىل (يا ُّ
حي يا قيو ُم، ُ
ال إل َه إلاَّ أنت) َّ
كل يو ٍم ،بني ُسنة الفجر وصالة الفجر أربعني َّ
مر ًة :أحيا اهللُ قلبه».
أن اهلل سبحانه ج َعل حياة البدن بالطعام والرشاب؛ فحيا ُة القلب بدوام وكام َّ
ِ
وترك الذنوب. ِ
واإلنابة إىل اهلل، الذكر، ِّ
والتعلق بالرذائل والشهوات املنقطعة عن ُ والغفل ُة اجلاثم ُة عىل القلب،
الضعف يتواىل عليه حتى يموت، ُ ضعف هذه احليا َة ،وال يزال ُقرب :ي ِ
ُ
ِ وعالمة موته :أنه ال َي ِ
نكرا ،كام قال عبد اهلل بنعرف معرو ًفا ،وال ُينكر ُم ً
مسعود « :أتدرون َمن م ِّيت األحياء؟ الذي قيل فيه:
مـات فاسـترَ اح بمي ٍ
ـت َ ليـس َمن
َ َْ
ِ
األحيــــاء إ َّنــام ا َمل ْي ُ
ـــت َم ِّي ُ
ــت
نكرا». م ر قالوا :ومن هو؟ قال :الذي ال يعرف معرو ًفا ،وال ي ِ
نك
ُ ً ُ َ
موت ق ْلبه ،ال موت بدنه؛ إذ ُ
أكثر هذا اخللق والرجل :هو الذي خياف َ
موت أبداهنم ،وال ُيبالون بموت قلوهبم ،وال َي ِ
عرفون من احلياة إال خيافون َ
احلياة الطبيعية ،وذلك من موت القلب والروح ،فإن هذه احلياة الطبيعية
263
بالظل الزائل ،والنبات الرسيع اجلفاف ،واملنام الذي يخُ يل ِ
لرائيه أنه ِّ شبيه ٌة
َّ
خيال ،كام قال عمر بن اخلطاب « :لو حقيقة ،فإذا استيقظ عرف أنه كان اً
أن احلياة الدنيا من أوهلا إىل آخرها ُأوتِيها رجل واحد ،ثم جاءه املوت :لكان َّ
بمنزلة َمن رأى يف منامه ما يسرُُّ ه ثم استيقظ ،فإذا ليس يف يده يشء».
املرتبة السابعة من مراتب احلياة :حياة األخالق ،والصفات املحمودة،
والص ِ ِ
دق جلود والسخاء ،واملروءة ِّ فحيا ُة َمن قد ُطبِ َع عىل احلياء والع َّفة ،وا ُ
َ
يكون أتم ِمن حياة َمن َيقهر ن ْف َسه ،و ُيغالب ط ْب َعه ،حتىوالوفاء ،ونحوهاُّ :
أكم َل ،كانت حيا ُته أقوىاألخالق يف صاحبها َ ُ كذلك ،وكلام كانت هذه
أكمل أكمل من حياة اجلبان ،وحيا ُة الس ِ
خ ِّي َ وأتم،وهلذا كانت حيا ُة الشجاع َ
َّ َّ
من حياة البخيل.
املرتبة الثامنة :حياة الفرح والرسور ،وقرة العني باهلل.
هذه املرتبة من مراتب احلياة أعىل مراتبها ،ولكن كيف يصل إليها َمن
سبي يف بالد الشهوات ،وأمله موقوف عىل اجتناء اللذات ،وسريته ع ْق ُله َم ٌّ
مهته و واملخالفات، باملعايص مستهلك ينه جارية عىل أسوأ العاداتِ ،
ود
َّ
السفليات ،وعقيدته غري ُمتل َّقاة من ِمشكاة النُّبوات؟! واقفة مع ُّ
عرض، الشبهات ُمنتكس ،وعن الناصح ُم ِ نغم ٌس ،ويف ُّفهو يف الشهوات م ِ
ُ
عرتض ،وعن ال ى نائم ،وقلبه يف كل ٍ
واد هائم؛ فلو أنه وعىل املرشد ُم ِ
ٌ سرُّ
ورغب عن ُمشاركة أبناء جنسه ،وخرج ِمن ِضيق اجلهل جترد من ن ْفسهِ ،
َّ
ومن سجن اهلوى إىل ساحة اهلدى ،ومن نجاسة النفس إىل العلمِ ،إىل فضاء ِ
اإللف الذي نشأ بنشأته ،وزاد ِبزيادته ،و َق ِو َي بقوته،
َ طهارة القدس :لرأى
264
الحيـــــــاة
وشجا يف
ً قذى يف عني بصريته، بحصولهً ، ورشف عند ن ْفسه وأبناء جنسه ُ ُ
ومرضا ُمرتام ًيا إىل هالكه.ً حلق إيامنه،
غري معهودة بني أموات األحياء؛ فهل أرشت إىل حياة ِ َ لت :قد فإن ُق َ ْ
أن ما نحنألصل إىل يشء من أذواقها ،فقد بان يل َّ َ وصف طريقها؛ ُ ُيمكنك
لوها عن املنكرات بخ ِّزادت علينا فيه البهائم ُْ فيه من احلياة حيا ٌة هبيمية ،ربام
صات وسالمة العاقبة؟ واملن ِّغ ِ
لمها ومعرفتها ب ِع ِ إن اشتياق القلب إىل هذه احلياة ،وط َل ِ قلتَ :ل َع ْم ُر اهلل َّ
دليل عىل حياته ،وأنه ليس من مجلة األموات. َل ٌ
وهتتدي إليه طري ًقا يوصلك إليه، طريقها :أن تعرف اهللَ سبحانه، ِ فأو ُل
َ َّ
شاهد من شواهد اآلخرة، ٌ امت الطبع بأشعة البصرية ،فيقوم بقلبه وحيرق ُظ ُل ِ ِ
فينجذب إليها ب ُك ِّل َّيتِه ،ويزهد يف التعلقات الفانية ،ويدأب يف تصحيح التوبة،
وتر ِك املنهيات الظاهرة والباطنة ،ثم والقيام باملأمورات الظاهرة والباطنةْ ،
ٌ
فضول ال كر ُهها اهلل ،وال بخطرة محِ
حارسا عىل قلبه ،فال يسا ُه بخطرة َي َ ً يقوم
تنفعه ،فيصفو بذلك قل ُبه عن حديث الن ْفس ووساوسها ،ف ُي ْفدى ِمن أرسها،
ويصري طلي ًقا ،فحينئذ خيلو ق ْل ُبه بذكر ربه ،وحمبته واإلنابة إليه ،وخيرج من
بني بيوت طبعه ونفسه إىل فضاء اخللوة بربه وذكره ،كام قيل:
وأخـرج مـن بـني البيــوت لعلنــي
النفس يف السـر خال ًيـا
َ ُأحدث عنك
فحينئ�ذ جيتم�ع قلب�ه وخواطره وحديث نفس�ه على إرادة رب�ه ،وطلبه
والشوق إليه.
265
فإذا صدق يف ذلكُ :ر ِز َق حمبة الرسول ﷺ ،واستولت روحانيته عىل
قلبه ،فجعله إمامه ومعلمه ،وأستاذه وشيخه وقدوته ،كام جعله اهلل نبيه
ورسوله وهاد ًيا إليه ،فيطالع سريته ومبادئ أموره ،وكيفية نزول الوحي
عليه ،ويعرف صفاته وأخالقه ،وآدابه يف حركاته وسكونه ،ويقظته ومنامه،
وعبادته ومعارشته ألهله وأصحابه ،حتى يصري كأنه معه من بعض أصحابه.
فإذا رسخ ق ْل ُبه يف ذلكُ :فتِ َح عليه ب َفهم الوحي املنزل عليه من ربه ،بحيث
شاه َد قل ُبه ما ُأ ِنزلت فيه ،وماذا ُأريد هبا ،وحظه املختص به إذا قرأ السورةَ ،
منها؛ من الصفات واألخالق واألفعال املذمومة ،فيجتهد يف التخلص منها
كام جيتهد يف الشفاء من املرض املخوف ،ومن الصفات واألفعال املمدوحة،
فيجتهد يف تكميلها وإمتامها.
الر ِّب ِ
صفات عني أخرى ،ي ِ
شـاه ُد هبا فإذا مت َّكن من ذلك :انف َتح يف قلبِه ٌ
َّ ُ
فوقالر ِّب سبحانه َ رئي لعينه ،فيشهد ُع ُل َّو َّ تصري لقلبه بمنزلة ا َمل ِّ
َ ،حتى
عنده بتدبري مملكتِه ،وتك ُّل َمه ونزول األمر ِمن ِ َ خ ْل ِقه ،واستوا َءه عىل عرشه،
به ،وإرسا َله إىل َمن َيشا ُء بام َيشا ُء، لعبده ِج َ
ربيل بالوحي ،وتكليمه ِ
َ
وصعو َد األمور إليه ،و َع ْر َضها عليه.ُ
منزل لكُتبه، فوق عبادهِ ،آم ًرا ناه ًيا ،باع ًثا ُلر ُسله ،اً قاهرا َ ِ
فيشاهد قل ُبه ر ًّبا ً
مثيل له ،وال ِع ْدل له ،ليس ألحد معه معبو ًدا ُمطا ًعا ،ال رشيك له ،وال َ
لك وال َّتدبري ،فال ِمن األمر يشء ،بل األمر ك ُّله له ،فيشه ُده سبحانه قائم با ُمل ِ
اً َ َ ُ ُ ٌ َ
نفع وال رض ،وال عطاء وال منع ،وال ق ْبض وال حرك َة وال سكون ،وال َ
ِ
الكون ك ِّله به ،وقيا َمه ُسبحانه بن ْفسه، بسط :إلاَّ ب ُقدرته وتدبريه ،فيشهد قيا َم
266
الحيـــــــاة
لكل ما ِسواه.
املقيم ِّ
ُ القائم بن ْفسه،
ُ فهو
املصحح َة جلميع صفات الكامل، ِّ فإذا َر َسخ ق ْل ُبه يف ذلك :ش ِهد ِّ
الصف َة
ِ
والقدرة واإلرادة، مع والبرص، الس ِ وهي (احلياة) التي كاملهُ ا َيستل ِز ُم َ
كامل َّ
املصححة جلميع األفعال،
ِّ ومي ِةوالكال ِم وسائ ِر صفات الكامل ،وصف َة ال َق ُّي َّ
ال لمِ ا يريد.
صفة كامل ،وهو ال َف َّع ُ ِ كل فـ(ا َ
حل ُّي ال َق ُّيوم)َ :من له ُّ
شه ُده ُسبحانه القرب واملَ ِع َّيةَ ،في َ قلبه يف ذلكُ :فتِح له مشهد ُ فإذا رسخ ُ
فوق سامواته عىل قريبا غري بعيد ،مع َكونِه َ ري غائب عنهً ، حارضً ا معه ،غ َ
فيحص ُل له ُ بالصنع والتدبري ،واخل ْل ِق واألمر، قائم ُّ عرشه ،بائ ًنا ِمن َخ ْلقه ،اً
الصفة ،فيأنس به بعد أن كان مستوحشً ا، نس هبذه ِّ األمع التعظيم واإلجالل ُ
ُ
و َيقْوى بعد أن كان ضعي ًفا ،و َيفرح بعد أن كان حزي ًنا ،وجيد ْبع َد أن كان ً
فاقدا،
واف ِل ح َّتى ُأ ِح َّبه ،فإذا زال َعبدي َيت َقر ُب إ َّيل بال َّن ِ
َّ فحينئذ جيد طعم قو َله« :وال َي ُ ْ
بط ُش سم ُع به ،و َبصرَ َ ه ا َّلذي ُيبصرِ ُ به ،و َيدَ ُه ا َّلتي َي ِ كنت َس ْم َعه ا َّلذي َي َ أحب ْب ُته ُ
َ
عيذنَّه»(((. هبا ،و ِر ْج َله ا َّلتي َي ْميش هبا ،ولئِ ْن َسأ َلني ُأل ْع ِط َي َّنه ،ولئِ ْن اس َتعا َذين ُأل َ
تقرب م حمبوب، ب احلياة عىل اإلطالق حيا ُة هذا العبد؛ فإنه محُ ِ ِ فأطيب
ُ ِّ ٌّ ُ
استيالئه عىل قلبه ،ولهَ ِجه ِ قريب منه ،قد صار له حبي َبه لفرط إىل ر ِّبه ،ور ُّبه
ٌ
جله،ور ِ ويده ِ سمعه وبرصهِ ، ِ كوف همَِّ ته عىل َمرضاته بمنزلة كره ،و ُع ِ ِ
بذ ِ
برص أَ بأَ وإن بحبيبه، ع سمع ِ
سم فإن ِ
ْ ه، وس ْع ِ
ي ه ِ
وعمل ه ِ
إدراك آالت
وهذه ُ
َ َ صرَ َ
وإن مشى مشى به. وإن َب َط َش َب َط َش بهْ ، بهْ ،
267
مه ُته عاكف ًة عىل أ ْمرين :استفراغ القلب يف فإن السالك إىل ر ِّبه ال تزال َّ َّ
ِص ْدق احلب ،و َب ْذ ِل اجلهد يف امتثال األمر ،فال يزال كذلك حتى يبدو عىل
وآثار صفاته وأسامئه ،ولكن يتوارى عنه ذلك أحيا ًنا، ُ شواهد معرفته،ُ سرِِّ ه
جلود ،و َيتوارى بحكم ال َفرتة ،والفرتات أ ْم ٌر ويبدو أحيا ًنا ،يبدو ِمن ِ
عني ا ُ
عام ٍل شرَِّ ة ،ولكل شرَِّ ة فرت ٌة ،فأعالها َفرتة الوحي ،وهي فلك ُِّل ِالزم للعبدِ ،
ٌ
اهلم ِة للمريدين ،وفرتة العمل اخلاص للعارفني ،وفرتة َّ ِّ لألنبياء ،و َفرت ُة احلال
ات أنواع من احلكمة والرمحة ،وال َّتعر ِ
فات اإلهل َّية، للعابدين ،ويف هذه ال َفترَ ِ
ُّ َّ ٌ
َّواجذ عليها ،وغري وعض الن ِ وق إليهاِّ ، الش ِ ِ
وجتديد َّ قد ِر النِّعمة، ِ
وتعريف ْ
ذلك.
ستقر ،و َينصبِ َغ هبا قل ُبه،
تتكر ُر وتتزايد ،حتى َت َّ الشواهد َّ
ُ وال تزال تلك
ٍ
تكون نعم ًة عليه ،وراح ًة له ،وترو ً
حيا ُ قاطعة له ،بل صري ال َفرت ُة َ
غري و َت َ
وتنفيسا عنه.
ً
املحب إذا تع َّل َق ْت ُروحه بحبيبه ،عاك ًفا عىل َمزيد حم َّبتِه ،وأسباب ِّ فه َّم ُة ِ
قوهتا ،فهو يعمل عىل هذا ،ثم يرت َّقى منه إىل طلب حم َّب ِة حبيبِه له ،فيعمل عىل
ندر ُج يف هذا يفار ُقه ألب َّت َة ،بل َي ِ
الطلب األول ،وال ِ َ حصول ذلك ،وال يعدم
«كنت
ُ حيصل له منزل ُة: الطلب الثاين ،فتتع َّل ُق همَِّ ُته باأل ْمرين مجي ًعا؛ فإ َّنه إ َّنام ُ ِ
ِ
األمر الثاين ،وهو َكو ُنه سم ُع به ،و َبصرَ َ ه ا َّلذي ُيبصرِ ُ به» هبذا َس ْم َعه ا َّلذي َي َ
كنت َس ْم َعه و َبصرَ َ ه »...إلخ، أح َب ْب ُته ُحمبو ًبا حلبيبه ،كام قال يف احلديث« :فإذا ْ
تقر ُب إىل ر ِّبه؛ ِحف ًظا ملح َّبتِه له ،واستدعا ًء ملح َّب ِة ر ِّبه له.فهو َي َّ
ب إليه؛ فقل ُبه: التقر ِ بأنواع له هِ ب حبي اجل ِّد يف طلب حمب ِ
ة ِ ئزر ميش ُّد ِ
ُ ٍ
فحينئذ
ُّ َّ َ
268
الحيـــــــاة
ِ
وتالوة كال ِم للذ ِ
كر واخلوف والرجاء ،ولسا ُنهِّ : ِ للمحبة واإلنابة والتو ُّك ِل،
ب ِمن حبيبه.
قر ِ وجوارحه :للطاعات ،فهو ال َيفترُ ُ ِ
عن ال َّت ُّ ُ حبيبه،
ِ
الس ُري ا ُمل ْفيض إىل هذه الغاية التي ال ُتنال إلاَّ به ،وال ُي َ
وص ُل إليها وهذا هو َّ
جتتمع له يف سريه مجيع متفر ِ
قات الباب وهذه الطريق ،وحينئذ ِ ِ هذا نمإلاَّ ِ
ُ ِّ َ ُ
في اخلواطر ،وختلية الباطن. السلوك :من احلضور ،واهل ِ
يبة ،واملراقبة ،و َن َِ ُّ
قربات باألعامل الظاهرة ،وهي ظاهر رش ُع اً
أوَّل يف ال َّت ُّ املحب َي َ
َّ فإن
التقرب ،ثم يرت َّقى من ذلك إىل حال التقرب ،وهو االنجذاب إىل حبيبه ُّ
وعقله وبدنه ،ثم يرت َّقى من ذلك إىل مقام اإلحسان، ِ بك ِّل َّيته؛ ُبروحه وقلبه، ُ
فيتقر ُب إليه حينئذ بأعامل القلوب؛ من املحبة واإلنابة، عب ُد ا َ
هلل كأنَّه يراه، َفي ُ
َّ
ِ والتعظيم واإلجالل واخلشية ،فينبعث حينئذ من باطنه ا ُ
الروح،ود َبب ْذل ُّ
جل ُ ِ
وأنفاسه وإرادتِه،
ِ وحه ون ْف ِسه،
جود بر ِ ٍ
حمبة حبيبِه بال تك ُّلفَ ،في ُ ُ
ود يف ِ
َّ جل ُ وا ُ
وأعاملِه حلبيبه اً
حال ال تك ُّل ًفا.
ورسه وباطنه ،وإن مل يجَ ِ ْده ب التقر بحال ر املحب ذلك ،فقد ِ
ظف فإذا وجد ِ
ِّ ُّ َ ُّ
ف التقرب وظاهره فقط ،ف ْلي ُدم عىل ذلك ،وليتك َّل ِ
ِ يتقرب بلسانه وبدنه
َ فهو َّ
التقرب.
باألذكار واألعامل عىل الدوام؛ فعساه أن حيظى بحال ُّ
أيضا ،وهو يشء ال ُيعبرَّ عنه بأحسن آخ ُر ً أمر َ
ب الباطن ٌ التقر ِ
ووراء هذا ُّ
أقرب اخللق إىل اهلل ﷺ عن هذا املعنى؛ حيث يقول حاك ًيا عن ربه ِ من عبارة
قر َب ِمنِّي ِذرا ًعا ت
َ ن وم ا،ع را ت منه ِ
ذ ُ ب قر ت
َ ا تبارك وتعاىل« :من َتقرب ِمنِّي ِ
ش
َّ ُ ً َ برْ ً َّ ْ َّ َ َ
269
ومن أتاين َي ْميش أ َت ْي ُته َه ْر َول ًة»(((.
ت من ُه با ًعاَ ،
قر ْب ُ
َت َّ
فيجد هذا املحب يف باطنه ذوق معنى هذا احلديث ذو ًقا حقيق ًّيا.
فذكر من مراتب القرب ثالثة ،ون َّبه هبا عىل ما دوهنا وما فوقها؛ فذكر
تقرب العبد إليه بالشرب ،وتقربه سبحانه إىل العبد ذرا ًعا ،فإذا ذاق العبد
حقيقة هذا التقرب انتقل منه إىل تقرب الذراع ،فيجد ذوق تقرب الرب
إليه با ًعا.
امليش حينئذ إىل ربه ،فيذوق َ فإذا ذاق حالو َة هذا ال ُقرب الثاين :أرسع
رو َل
حالو َة إتيانه إليه َه ْرول ًة ،وهاهنا منتهى احلديث ،من ِّب ًها عىل أنه إذا َه َ
ولة العبد إليه؛ فإما أن يكون قد أمسك عبده إليه كان ُقرب حبيبه منه فوق هر ِ ُ
َْ ُ
شأن هذا اجلزاء ،وأنه يدخل يف اجلزاء الذي مل تسمع به ُأ ُذن، لع َظ ِم ِ عن ذلك ِ
ومل خيطر عىل قلب برش ،أو إحال ًة له عىل املراتب املتقدمة ،فكأنه قيلِ :
وق ْس
بأكثر منه،
يتقر ُب إليك َ بذ ُل منك ِّ
متقر ًبا إىل ربكَّ ، قد ِر ما َت ُعىل هذا ،فعىل ْ
تقرب إىل حبيبه التقرب املذكور يف مراتبه ،أيَ :من َّ فالز ُم هذا ُّ وعىل هذا ِ
الر ُّب منه سبحانه بن ْف ِسه ِ
ُبروحه ومجيع ُقواه ،وإرادته وأقواله وأعامله؛ َّ
تقر َب َّ
ب ع ْب ِده إليه. تقر ِ
يف مقابلة ُّ
وليس القرب يف هذه املراتب ك ِّلها ُق ْر َب مسافة حسية وال مماسة ،بل هو
قرب حقيقة ،والرب تعاىل فوق سامواته عىل عرشه ،والعبد يف األرض.
التقرب ثان ًيا ،ثم حال التقرب ثم ، اً
أول ِ
ب التقر د
ُ قص هو ِ
األمر هذا الك ِ
وم
ُّ ُّ ْ
270
الحيـــــــاة
271
وحا ورحيا ًنا وراحة ،نسب ُة هذه ِ
الدار ور ء فضا ورائه من فإن ه، وض ِ
يق السجن ِ
ً َ ً ِّ
بطن األ ِّم إىل هذه الدار ،أو أدنى من ذلك. إليه كنسبة ِ
وما هذا-واهللِ -بالصعب وال بالشديد ،مع هذا العمر القصري ،الذي هو
بالنسبة إىل تلك الدار كساعة من هنار ﴿ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ
ﯾ ﯿ﴾ [األحقاف﴿ ،]35 :ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ﴾
[يونس.]45 :
272
الحيـــــــاة
ِ
وذهاب الدنيا املرتبة العارشة :احلياة الدائم ُة الباقية بعد َط ِّي هذا العالمَ ،
املشمرون ،وتسابق شمر إليها ِ
ِّ وأهلها يف دار احليوان ،وهي احلياة التي َّ
إليها املتسابقون ،وتنافس فيها املتنافسون ،وهي التي أجر ْينا الكالم إليها،
ونادت الكتب الساموية ورسل اهلل مجيعهم عليها ،وهي التي يقول من فاته
االستعداد هلا﴿ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ
ﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ
ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﴾ [الفجر ،]26 - 21 :وهي التي قال اهلل
فيها ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ
ﭡ﴾ [العنكبوت.]64 :
ف السَّيرْ ِ واحلياة املتقدمة كالنوم بالنِّسبة إليها ،وكل ما تقدمِ -من وص ِ
ْ
ِ
والباطنة -فوسيل ٌة إىل هذه ومنازلِه ،وأحوال السائرين ،وعبوديتِ ِهم ال َّظ ِ
اهرة ُ َ
اآلخ ِ
رة الدنيا يف ِاحلياة ،وإنام احلياة الدنيا بالنسبة إليها كام قال النبي ﷺ« :ما ُّ
أحدكُم إص َب َع ُه يف ال َي ِّم ،ف ْل َين ُظ ْر بِ َم َت ِ
رج ُع؟»(((. دخ ُل ُ إلاَّ كام ي ِ
ُ
ست اآلخرة ،فكانت الدنيا ن َف ًسا من أنفاسها ،فأصاب أهل وكام قيل :تن َّف ِ
فهم عىل هذا النفس يعملون ،وأصاب أهل الشقاوة السعادة نفس نعيمهاُ ،
فهم عىل ذلك النفس يعملون. نفس عذاهباُ ،
وإذا كانت حيا ُة أهل اإليامن والعمل الصالح يف هذه الدار حيا ًة ط ِّيب ًة ،فام
وض ِيقها؟ فام ال َّظ ُّن
الظن بحياهتم يف الربزخ ،وقد خت َّلصوا ِمن سجن الدنيا ِ
ُّ
273
بحياهتم يف دار النعيم ا ُملقي ِم الذي ال يزولُ ،
وهم َي َر ْو َن وج َه ربهِّ م تبارك
وتعاىل ُبكْر ًة و َع ِش ًّيا ،ويسمعون ِخطا َبه؟
ِ
احلياة التي ال خطر س عن طلب هذه ف الن ْف ِ فإن قلت :ما سبب خت ُّل ِ
ُ
هلا ،وزهدها فيها؟ وما سبب رغبتِها يف احلياة الفانية املضمحلة ،التي هي
تكذيب بتلك احلياة؟ أ ْم
ٌ تصو ِرها وشعورها؟ أم كاخليال واملنام؟ أفسا ٌد يف ُّ
بالعيان عىل الغائبآلفة يف العقل ،وعمى هناك؟ أم إيثار للحارض املشهود ِ ٍ
ْ ٌ ً
املعلوم باإليامن؟
أمور ُمر َّك ٍبة من ذلك ك ِّله ،وأقوى األسباب يف ٍ قيل :بل ذلك ملجموع
وح األعامل ،وهو الباعث عليها، ف اإليامن؛ فإن اإليامن هو ُر ُ ذلك :ض ْع ُ
ُ
يكون أ ْم ُره قو ِة اإليامن بأحسنِها ،والناهي عن أقبحها ،وعىل ْ
قد ِر َّ َ ر
ُ
ِ
واآلم
امر صاحبِه وانتهاؤه. ِ
ونهَ ُيه لصاحبه ،وائت ُ
السبب الثاينُ :جثوم الغفلة عىل القلب؛ َّ
فإن الغفلة نوم القلب ،وهلذا جتد
احل ِّس نِيا ًما يف الواقع ،فتحسبهم أيقا ًظا وهم رقود.
كثريا من األيقاظ يف ِ
ً
أن الغفل َة هي نو ُم القلب عن ط َلب هذه احلياة ،وهي ِحجاب واملقصودَّ :
بالذكر ،وإال تكاثف حتى يصري حجاب ف هذا احلجاب ِّ فإن ُك ِش َ
عليهْ ،
ٍ
واشتغال بام ال ُيفيد ،فإن بادر إىل كشفه ،وإال تكاثف حتى بطالة ولعب،
ٍ
وذنوب صغار ُتبعده عن اهلل ،فإن بادر إىل كشفه ،وإال ٍ
معاص يصري حجاب
وجب م ْقت الرب تعاىل وغضبه ولعنته، تكاثف حتى يصري حجاب كبائر ُت ِ
َ
ُ
العامل فإن بادر إىل كشفه ،وإال تكاثف حتى صار حجاب بدع عملية ِّ
يعذب
274
الحيـــــــاة
فيها نفسه ،وال تجُ ْ دي عليه شي ًئا ،فإن بادر إىل كشفه ،وإال تكاثف حتى صار
حجاب بدع قولية اعتقادية ،تتضمن الكذب عىل اهلل ورسوله ،والتكذيب
باحلق الذي جاء به الرسول.
يقدح ، ٍ
وتكذيب ٍّ
شك حجاب صار حتى تكاثف لاَّ إو ه، فإن بادر إىل ِ
كشف
ُ َ
ور ُس ِله، يف أصول اإليامن اخلمسة ،وهي :اإليامن باهلل ،ومالئكته ،و ُك ُتبِهُ ،
فل ِغ َلظ حجابه وكثافته وظلمته وسواده ال َيرى حقائق اإليامن، ولقائهِ ،
ويتمكن منه الشيطان َي ِعده و ُيمنِّيه ،والنفس األمارة بالسوء تهَ ْوى وتشتهي،
وسلطان الطبع قد َظ ِف َر بسلطان اإليامن ،فأسرَ َ ه وسجنه إن مل هُ ْي ِلكْه ،وتولىَّ
تدبري اململكة ،واستخدم جنود الشهوات ،وأقطعها العوائد التي جرى عليها
العمل ،وأغلق باب اليقظة ،وأقام عليه َّبواب الغفلة ،وقال :إياك أن ُن ْؤ َتى
عيل إال يدخل ا أحد
ً ِّن
ك مت أن إياك وقال: اهلوى، من ا ب حاج ذ تخَّا و ك، من ِقب ِ
ل
َّ ً َ
البواب ،فيا َّبواب الغفلة ،ويا معك ،فأ ْم ُر هذه اململكة قد صار إليك ،وإىل َّ
كل منكام ثغره ،فإن أخليتام فسد أمر مملكتنا ،وعادت حاجب اهلوى لِ َي ْلزم ٌّ
الدولة لغرينا ،وسامنا سلطان اإليامن سوم اخلزي واهلوان ،وال نفرح هبذه
أبدا.
املدينة ً
العساكر ،مع ِر َّقة اإليامن،
ُ اجتمعت عىل القلب هذهْ فال إله إال اهللُ! إذا
ِ
واالنخراط يف سلك أبناء وق َّلة األعوان ،واإلعراض عن ِذكر الرمحن،
العاجل احلارض عىل الغائب، َ فس ِد لإلنسان :آ َث َر
وطول األمل ا ُمل ِ
ِ الزمان،
املوعود به بعد َط ِّي هذه األكوان ،فاهلل املستعان ،وعليه ال ُّتكالن.
275
منزلـــــة املعرفـــــة
276
المعرفــــــــة
« :املعرفة عىل ثالثة أركان :اهليبة ،واحلياء ،واألُنس». قال اب ُن عطاء
ٌ
مشغول أحس ِن الكالم وأخصرَ ِ ه؛ فهو ِ
وقيل( :العارف اب ُن وقته) ،وهذا من َ
فه ُّمه
بعد يف الوجودَ ،بوظيفة وقتِه عماَّ مىض وصار يف العدم ،وعماَّ مل يدخل ُ
ِعامر ُة وقتِه الذي هو ما َّد ُة حياته الباقية.
ومن عالماته :أنه مستأنِ ٌس بر ِّبه ،مستوحش ممَّن يقطعه عنه ،وهلذا قيل:
العارف َمن أنِس باهلل فأوحشه من اخل ْلق ،وافتقر إىل اهلل فأغناه عنهم ،و َذ َّل
وتواض َع هلل فرفعه بينهم ،واستغنى باهلل فأحوجهم إليه. َ فأعزه فيهم،
هلل َّ
وأنفاسه تسبيح ،ونو ُم العارف ُ وقال بعض السلف« :نوم العارف يقظ ٌة،
أفضل من صالة الغافل».ُ
ست :من الشك إىل اليقني، وقيل :جمالسة العارف تدعوك ِمن ِس ٍّت إىل ٍّ
الذكر ،ومن الرغبة يف الدنيا إىل ومن الرياء إىل اإلخالص ،ومن الغفلة إىل ِّ
الرغبة يف اآلخرة ،ومن ِ
الكبرْ إىل التواضع ،ومن سوء ال َّط ِو َّية إىل النصيحة.
يستق ُّر لعبد قد ٌم يف املعرفة -بل وال يف اإليامن -حتى ْيؤ ِم َن بصفات
[و] ال ِ
ِ
بالصفات حد اجلهل بربه؛ فاإليامن ويعر َفها معرف ًة تخُ ِر ُجه عن ِّ
ِ الرب ،
ِّ
ومعرف ُتها :هو أساس اإلسالم ،وقاعد ُة اإليامن ،وثمرة شجرة اإلحسان،
فضل ِ
واإليامن واإلحسان ،اً فمن َج َح َد الصفات :فقد هدم أساس اإلسالم َ
عن أن يكون من أهل العرفان.
-صلوات اهلل وسال ُمه عليهم أمجعني-
ُ والر ُس ُل ِمن أوَّلهِ م إىل خامتهم
ُّ
277
عوي َن بعد دْ َ
ملا حال ِ
وبيان إليه، املوصل الطريق ِ
وبيان اهلل، إىل بالدعوة لوا ُأر ِ
س
ِّ ْ
كل رسول: كل ِم َّل ٍة عىل لسان ِّ
الثالث رضورية يف ِّ
ُ وصوهلم إليه ،فهذه القواعد
الر َّب املد ُع َّو إليه بأسامئه وصفاتِه وأفعاله تعري ًفا عرفوا َّ [القاعدة األوىل]ّ :
فوق سامواته َّل ،حتى كأن العباد يشاهدونه سبحانه ،وينظرون إليه َ ُمفص اً
أصوات خ ْل ِقه،
َ أمر مملكتِه ،ويسمع عىل عرشه ،يك ِّلم مالئكته ،ويد ِّب ُر َ
ظواهرهم ،يأمر شاهد ي ُ كام َهم ن بواط ويشاهد م، ويرى أفعالهَ م وحركاتهِ
َ
سخ ُط ،ويضحك ِمن ُقنوطهم و ُق ْرب ب و َي َ ِ
وينهى ،ويرىض ويغضب ،ويحُ ُّ
ني حمتاجهم ،وجيرب غريه ،وجييب دعو َة ُم ْض َط ِّرهم ،و ُيغيث َملهو َفهم ،و ُي ِع ُ ِ
كسريهم ،و ُيغني فقريهم ،ويميت ويحُ ْ يي ،و ُيعطي و َيمنع ،يؤيت ا ُمللك من
اخلري، بيده يشاء، من ل ُّ يشاء ،وي ِنزع ا ُمللك ممن يشاء ،وي ِع ُّز من يشاء ،وي ِ
ذ
ُ ُ ُ َ َ
ُّ
ويفك فرج كر ًبا،كل يو ٍم هو يف شأن؛ يغفر ذ ْن ًبا ،و ُي ِّ وهو عىل كل يشء قديرَّ ،
قصم ظا ًملا ،ويرحم مسكينًا ،و ُيغيث ملهو ًفا، عانيا ،وينرص مظلوما ،وي ِ
َ ً ً
تقديمه، َ ويقدم ما يشاء ِّ و َيسوق األقدار إىل مواقيتها ،ويجُ رهيا عىل نظامها،
ِ
تدبري املاملك ك ِّلها األمور ك ِّلها بيديه ،ومدار ِ ويؤخر ما يشاء تأخريه؛ ِ
فأز َّمة ِّ
وزبدة الرسالة.
عليه ،وهذا مقصود الدعوةُ ،
القاعدة الثانية :تعريفهم بالطريق املوصل إليه ،وهو رصاطه املستقيم،
واجتناب نهَ ْ ِيه ،واإليامن ه،رِ م أ ثالوأتباعهم؛ وهو امتِ
ِ الذي نصبه ُلر ُس ِله
ُ ْ
بو ْعده ووعيده.
احلال بعد الوصول؛ وهو ما تضمنه اليوم ِ
اآلخ ُر ِ القاعدة الثالثة :تعريف
ُ َّ
278
المعرفــــــــة
حل ِ
وض ،وامليزان ،والرصاط. من اجلنة والنار ،وما قبل ذلك من احلساب ،وا َ
وشهوده
ُ وإثبات حقائقها ،وتع ُّل ُق القلب هبا،
ُ فاإليامن بالصفات ومعرف ُتها،
ووس ُطه وغايته ،وهو روح السالكني ،وحادهيم إىل ِ
الطريق َ هلا :هو مبدأ
ثري همِ َ ِمهم إذا قصرَّ وا.
وم ُعزماتهِ م إذا فترَ واُ ،وحمرك َ
الوصولِّ ،
279
منزلـــــــة التوحـــــيد
280
التوحيــــــد
281
اخلامتــــــــــة
﴿ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇﰈ﴾
ني عليه بام هو ْأه ُله ،وبام أثنى به اآلية حامدي َن هللُ ،م ْثنِ َ
فنختم الكتاب هبذه ِ
َ
عىل ن ْفسه.
ب ر ُّبنا ويرىض ،وكام محدا طيبا مبار ًكا فيه ،كام يحُ ِ رب العالمَ َ
ُّ نيً ً ، واحلمد هلل ِّ
كفور ،وال ُم َو َّد ٍع ،وال ُمس َتغنًى ٍ ْفي وال َم ك م ري َ
غ جالله، زِّ ينبغي لكر ِم وج ِهه ِ
وع
َ َ ٍّ َ ْ
عنه ر َّبنا.
كر نعمته ،وأن يو ِّف َقنا ألداء ح ِّقه ،وأن ُيعينَنا عىل ِذكره ونسأله أن يوز َعنا ُش َ
خالصا
ً الكتاب ويف ِ
غريه ِ سن عبادته ،وأن جيعل ما َق َص ْدنا له يف هذا وح ِ
كره ُ وش ِ ُ
لوجهه الكريم ،ونصيح ًة لعباده.
لني؛ ٍ
حممد، وبار َك عىل خاتم َ
املرس َ ني ،وصىل اهلل وس َّل َم َ رب العالمَ َ واحلمد هلل ِّ
أمجعني.
َ وعىل آلِه
282
283
الفهــــــــــر�س
املقــدمة 5........................................................................
رب يســـــر ِ
وأعـــــ ْن 10...................................................... ِّ َ ِّ
بيان اشتامل الفاحتة عىل أمهات املطالب12.........................................
وشفاء األبدان 15.....................الشفاءين ِشفاء القلوبِ ، اشتامل الفاحتة عىل ِّ
الكالم عىل قوله ﴿ ﭢﭣﭤﭥ﴾ 18.................................
أفضل العبادات 20...............................................................
منازل ﴿ ﭢ ﭣ﴾ التي ي ِ
نتقل فيها القلب منزل ًة منزل ًة يف حال َسيرْ ِ ه إىل اهلل تعاىل 24....... َ
منزلة اليقظة26...................................................................
مــنزلة ِ
الفكــرة29...............................................................
منزلة البصرية 30.................................................................
منزلـــة املحاســـبة34...........................................................
منزلة التوبة38....................................................................
منزلة اإلنابة 88...................................................................
منزلـــ ُة التذكُّــر92..............................................................
منزلـة االعتصام104.............................................................
منزلــة الســامع106.............................................................
منزلـــة اخلـــوف 109..........................................................
منزلة اخلشوع 112...............................................................
منزلة اإلخبات 117..............................................................
284
ا لفهـــر س
285
ا لفهـــر س
286