التوكل

You might also like

Download as doc, pdf, or txt
Download as doc, pdf, or txt
You are on page 1of 4

‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬

‫التوكل لغة‪ :‬تسليم وتفويض اإلنسان غيره في أمر؛ ليقوم في إصالحه مقامه‪ ،‬مع كامل‬
‫االعتماد واالطمئنان إليه‪ .‬والتوكل المأمور به في الشرع‪ :‬هو اعتماد القلب على اهلل ‪-‬‬
‫تعالى‪ -‬في األمور كلها‪ ،‬وعدم السكون إلى األسباب‪ ،‬أو منافاة اللجوء إليها‪ ..‬قال تعالى‪:‬‬
‫{َو َم ن َيَتَو َّك ْل َع َلى الَّلِه َفُهَو َح ْسُبه}‪َ{ ،‬و َع َلى الّلِه َفْلَيَتَو َّكِل اْلُم َتَو ِّك ُلون}‪.‬‬
‫إن من موجبات التوكل على الغير‪ :‬ترقب الموت‪ ،‬أو القصور اإلدراكي‪ ،‬أو العجز العضوي‪،‬‬
‫أو عدم الميل والرغبة في القيام باألمر‪ ..‬وبال شك أن كل هذه العناصر ‪-‬الحياة‪ ،‬والقدرة‪،‬‬
‫والرحمة‪ -‬مستجمعة في رب العزة والجالل‪ ،‬إذ هو الحي الذي ال يموت‪ُ{ ،‬ك ُّل َش ٍء َه اِلٌك ِإاَّل‬
‫ْي‬
‫َو ْج َهه}‪ ،‬وهو العزيز القدير‪ ،‬ومن بيده كل األمور‪ ،‬والشفيق الرحيم بعباده‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫{َو َتَو َّك ْل َع َلى اْلَع ِز يِز الَّر ِح يِم }‪.‬‬
‫إن البعض قد يخطئ في مفهوم التوكل؛ فيقع في اإلفراط‪ :‬بأن يوكل األمور كليًا إلى اهلل ‪-‬‬
‫تعالى‪ -‬دون اللجوء والعمل باألسباب‪ ..‬أو التفريط‪ :‬بحيث يعتمد على األسباب بشكل‬
‫مطلق‪ ..‬والحال بأنه من الالزم الجمع بين األمرين‪ :‬األسباب‪ ،‬واالعتماد على اهلل تعالى‪..‬‬
‫نعم‪ ،‬إن اهلل تعالى القادر على كفاية كل أمر؛ ولكنه سبحانه أبى أن ال يجري األمور إال‬
‫بمسبباتها‪ ..‬عن اإلمام الصادق ‪( :‬أوجب اهلل لعباده أن يطلبوا منه مقاصدهم‪ ،‬باألسباب التي‬
‫لألعرابي ‪-‬لما أهمل بعيره‪ ،‬وقال‪ :‬توكلت على‬ ‫سببها لذلك‪ ،‬وأمرهم بذلك)‪ .‬وقول النبي‬
‫اهلل‪( :-‬اعقلها وتوكل)!‪..‬‬
‫وروي عن أمير المؤمنين علي ‪ :‬أنه مَّر يومًا على قوم فرآهم أصحاء جالسين في زاوية‬
‫المسجد فقال ‪ :‬من أنتم؟‪ ..‬قالوا‪ :‬نحن المتوكلون‪ ..‬قال ‪ :‬ال‪ ،‬بل أنتم المتأكلة‪ ،‬فإن كنتم‬
‫متوكلين فما بلغ بكم توكلكم؟‪ ..‬قالوا‪ :‬إذا وجدنا أكلنا‪ ،‬وإ ذا فقدنا صبرنا‪ ..‬فقال ‪ :‬هكذا تفعل‬
‫الكالب عندنا‪ ..‬قالوا‪ :‬فما نفعل؟‪ ..‬قال ‪ :‬كما نفعل‪ ..‬قالوا‪ :‬كيف تفعل؟‪ ..‬قال ‪ :‬إذا وجدنا‬
‫بذلنا‪ ،‬وإ ذا فقدنا شكرنا‪.‬‬
‫فإذن‪ ،‬إن التوكل ال ينافي العمل باألسباب أبدًا‪ ،‬فهو يسعى وإ ذا حّص ل ما يريد؛ سخره في‬
‫طاعة اهلل عز وجل‪ ..‬ومن الجدير بالذكر عبارة للعالمة الطباطبائي ‪-‬صاحب الميزان‪-‬‬
‫(قده)‪ ،‬يقول فيها عن التوكل ‪( :‬ليس التوكل قطع اإلنسان‪ ،‬أو نفيه نسبة األمور إلى نفسه‪ ،‬أو‬
‫األسباب الظاهرة‪ ..‬بل نفيه دعوى االستقالل عن نفسه‪ ،‬وعن األسباب وإ رجاع االستقالل‬
‫واألصالة إليه‪ ،‬مع إبقاء أصل النسبة غير المستقلة إلى نفسه وإ لى األسباب)‪.‬‬
‫من الشواهد التي تعكس لنا ضرورة األخذ باألسباب‪:‬‬
‫* قوله تعالى عن لسان يعقوب ‪َ{ :‬قاَل َلْن ُأ ِس َل ُك َّتى ُت ُتوِن ِثًقا ِّم الّلِه َلَتْأُتَّنِني ِبِه‬
‫َن‬ ‫َمْو‬ ‫ْر ُه َم َع ْم َح ْؤ‬
‫ِإَّال َأن ُيَح اَط ِبُك ْم َفَلَّم ا آَتْو ُه َمْو ِثَقُهْم َقاَل الّلُه َع َلى َم ا َنُقوُل َو ِك يٌل }‪ ..‬نالحظ أنه مع كون يعقوب‬
‫نبي وفي قمة المتوكلين‪ ،‬إال أنه أبى إال أن يعمل باألسباب‪ ،‬وأخذ المواثيق المؤكدة على‬
‫أبنائه‪ ،‬قبل أن يجعل اهلل تعالى بينه وبينهم وكيًال‪.‬‬
‫* وقوله تعالى في قضية الدين‪ِ{ :‬إَذ ا َتَد اَينُتم ِبَدْي ٍن ِإَلى َأَج ٍل ُّم َس ًّم ى َفاْك ُتُبوُه}؛ ليكون ذلك ضمانًا‬
‫وأبلغ في الحجة‪ ،‬وهذا ال يتنافى أبدًا مع عدالة المؤمن وكونه ثقة‪ ،‬فقد ينسى الرجل أو يموت‪،‬‬
‫فيضيع حق الرجل‪ ..‬ومن هنا ورد في الروايات ‪-‬ما مضمونه‪ -‬أن المؤمن إذا أعطى أخاه‬
‫دينًا ولم يسجل عليه‪ ،‬فأنساه الشيطان أو أنكر الدين؛ فال يلومن إال نفسه‪.‬‬
‫* وخوف يعقوب على أبنائه من الحسد‪ ،‬حينما أمرهم بعدم الدخول من باب واحد‪ ،‬قال‬
‫ِن‬ ‫ٍة‬ ‫ِم‬ ‫ِح ٍد‬ ‫ِم‬ ‫ِن‬
‫تعالى‪َ{ :‬و َقاَل َيا َب َّي َال َتْدُخ ُلوْا ن َباٍب َو ا َو اْدُخ ُلوْا ْن َأْب َو اٍب ُّم َتَفِّر َق َو َم ا ُأْغ ي َع نُك م ِّم َن‬
‫الّلِه ِم ن َش ْي ٍء ِإِن اْلُح ْك ُم ِإَّال ِلّلِه َع َلْي ِه َتَو َّك ْلُت َو َع َلْي ِه َفْلَيَتَو َّكِل اْلُم َتَو ِّك ُلوَن }‪.‬‬
‫ال شك بأن النجاح في أي مشروع في الحياة‪ ،‬ال يأتي من فراغ‪ ،‬وليس وليدًا للصدفة؛ وإ نما‬
‫هو حصيلة لعناصر ثالثة رئيسية‪ ،‬ومن المناسب هنا أن نشير إليها‪:‬‬
‫فاألول‪ :‬األسباب المادية‪ :‬فإن توفر األسباب والمتطلبات‪ ،‬يشكل عامال أساسيا للتقدم نحو‬
‫الهدف المقصود‪ ..‬إذ من غير توفر البذور‪ ،‬أنى للزارع أن يستفيد من األرض‪ ،‬ويجني‬
‫الثمار الشهية؟!‪ ..‬وكيف لطالب العلم الدراسة‪ ،‬ما لم تتوفر لديه الكتب واألجواء المناسبة؟!‪..‬‬
‫الثاني‪ :‬األسباب المعنوية (الروحية)‪ :‬كالهمة الموجبة للجد‪ ،‬والتحرك السريع في سبيل تحقيق‬
‫الهدف‪ ..‬وال يخفى أهمية هذا العنصر في الخروج بخير النتائج‪ ،‬في فترة زمنية قصيرة ‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬مباركة اهلل تعالى لعالم األسباب‪ :‬فمن المعلوم أن بركة اهلل تعالى ال حدود لها‪ ،‬وإ ذا‬
‫حلت في شيء سهلت العسير‪ ،‬وباركت في القليل؛ فإن األمور طر بيده‪ ،‬وال يعجزه شيء‪،‬‬
‫وقادر على التصرف والتغيير في األسباب وقلب الموازين‪ ..‬والتاريخ دلل على ذلك‪ ،‬فذكر‬
‫تصرفه سبحانه وتعالى في القلوب‪ ،‬وربطه لألفئدة‪ ،‬وتدخله في عالم األسباب‪ :‬ألم موسى‪،‬‬
‫وفرعون وزوجته‪ ،‬وأهل الكهف‪ ،‬وفي غار ثور‪ ،‬ويوم بدر‪.‬‬
‫من مناشئ التوكل‪:‬‬
‫* البنية الثقافية القوية‪ :‬ال بد أن يكون لإلنسان مخزون من القيم والمبادئ‪ ،‬التي تسّيره‬
‫وتشكل الضابطة له في كل حركاته‪ ..‬فالذي ال يمتلك قوام فكري متميز‪ ،‬سيكون عرضة‬
‫للتذبذب في سلوكياته‪ ،‬فيومًا يخشى اهلل في نفسه‪ ،‬وآخر يعيش حالة التسيب فيفعل‬
‫األعاجيب‪ ..‬قال تعالى‪َ{ :‬ذ ِلُك ُم الَّلُه َر ِّبي َع َلْي ِه َتَو َّك ْلُت َو ِإ َلْي ِه ُأِنيُب }؛ فهنا نستفيد من هذه اآلية‬
‫أثرين‪:‬‬
‫األول‪ :‬األثر التكويني‪ :‬بأن األسباب بيد اهلل تعالى‪ ،‬وهذا ما يجعل المؤمن يعيش حالة‬
‫االطمئنان فيتوكل‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أثر تشريعي‪ :‬بأن لهذا الوجود رب‪ ،‬له حدود أمر بعدم تجازوها‪ ..‬فإذن‪ ،‬إن البنية‬
‫األساسية للمؤمن أمران‪ :‬التوكل‪ ،‬واإلنابة‪ ..‬ورد في الحديث ‪-‬ما مضمونه‪( :-‬أقوى الناس‬
‫إيمانًا؛ أكثرهم توكًال على اهلل)‪.‬‬
‫* القيام بوظائف العبودية‪ :‬إن اإلنسان الذي يسعى في عالم األسباب‪ ،‬ويبذل جهده بما‬
‫يرضي اهلل تعالى؛ سيكون محطًا لأللطاف اإللهية‪ ،‬فيحظى بالتسديد والتوفيق في شتى‬
‫مجاالته الحياتية‪.‬‬
‫ال يقتصر أثر التوكل على الحياة الفردية فحسب!‪ ..‬بل حتى في الساحة اإلسالمية‪ :‬في‬
‫القتال‪ ،‬وتحقيق النصر على األعداء؛ يلزم الجمع بين عنصري التوكل‪ ،‬والعمل باألسباب‪..‬‬
‫ومن أروع الخطب العسكرية‪ ،‬خطبة لإلمام علي البنه محمد بن الحنفية؛ لما أعطاه الراية‬
‫يوم الجمل‪( :‬تزول الجبال وال تزل‪ ،‬عّض على ناجذك!‪..‬أعر اهلل جمجمتك!‪ِ ..‬تْد في األرض‬
‫قدمك!‪ ..‬وارم ببصرك أقصى القوم!‪ ..‬وغّض بصرك!‪ ..‬واعلم أن النصر من عند اهلل‬
‫سبحانه)!‪..‬‬
‫ال شك في أن التوكل على الكمال المطلق باعث على تحقيق النجاح‪ ،‬وموجب للسعادة دنيا‬
‫وآخرة‪ ..‬ومن المناسب هنا أن نذكر بعض من آثار التوكل‪:‬‬
‫* حالة االطمئنان الكامل‪ :‬فالذي يأوي إلى حصن منيع‪ ،‬ما ضره أن يتكالب عليه األعداء من‬
‫كل حدب وصوب!‪ ..‬إن المؤمن يعيش حالة االستقرار والهدوء النفسي في كل األحوال‪ ،‬فال‬
‫تهزه التقلبات واألزمات الشديدة؛ ألنه وجود مرتبط بعالم الغيب‪ ..‬فهذا إبراهيم الخليل يلقى‬
‫في النار‪ ،‬ويعيش قمة التسليم والتوكل‪ ،‬فيرفض المدد من المالئكة‪ ،‬وحتى سؤال الرب تعالى‪،‬‬
‫حيث يقول‪( :‬حسبي من سؤالي علمه بحالي)‪.‬‬
‫* االعتماد على النفس والثقة بالذات‪ :‬إن المؤمن مقدام‪ ،‬واثق من نفسه‪ ،‬ال يهاب شيئًا‪،‬‬
‫فيتردد أو يخاف؛ ألنه يعلم بأن وراءه مدد كبير من رب العزة والجالل‪.‬‬
‫* عدم االعتناء باألوهام‪ :‬إن المؤمن يحمل ثقة باهلل تعالى‪ ،‬واعتقادًا بأنه الضار النافع‪ ،‬فال‬
‫يشغل باله باألمور الظنية من األوهام‪ ،‬كالسحر وما شابه ذلك‪ ..‬بل يسلم أمره هلل‪ ،‬ويعمل بما‬
‫ورد من المعوذات واألدعية المشروعة المحصنة في هذا المجال‪.‬‬
‫غير أن العبد بسوء تصرفه وعصيانه‪ ،‬قد يخرج من هذا الركن الوثيق‪ ،‬فيكله اهلل إلى نفسه‪،‬‬
‫‪ :‬يقول اهلل تعالى‪( :‬أيما عبد أطاعني لم أِك ْله إلى‬ ‫وياله من خسران عظيم!‪ ..‬قال النبي‬
‫غيري‪ ،‬وأّيما عبد عصاني وكلته إلى نفسه‪ ،‬ثم لم أبال في أي واد هلك)‪ ..‬ومن هنا كان‬
‫يبالغ في اإلكثار من هذا الدعاء‪( :‬رّب !‪ ..‬ال تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا‪ ،‬ال أقّل من ذلك‬
‫وال أكثر)‪.‬‬

You might also like