Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 17

‫كلية العلوم االجتماعية واإلنسانية‬ ‫جملة متون‬ ‫جامعة الدكتور موالي الطاهر سعيدة‬

‫الليبرالية في الفكر العربي املعاصر‬


‫‪The concept of liberalism in the contemporary Arab thought‬‬

‫د‪ /‬محمد بن علي‬


‫املركز الجامعي‪-‬احمد زبانة‪ -‬غليزان‬
‫‪mohamedbenali912@gmail.com:‬‬
‫مخبر األبعاد القيمية للتحوالت الفكرية والسياسية بالجزائر ‪ ..‬جامعة وهران‪2‬‬

‫ملخص‪:‬‬

‫يبقى استقبال املفاهيم الغربية في الثقافة العربية يثير الكثير من االلتباس‪ ،‬فمنذ عصر‬
‫النهضة العربية بقي املفكر العربي يقوم بعديد املحاوالت لتبيئة املفاهيم الغربية التي اطلع عليها نتيجة‬
‫الحتكاكه باألخر‪ ،‬بدأ بمفهوم النهضة واملفاهيم املجاورة له وصوال إلى مفهوم الليبرالية‪ ،‬فهل وفق‬
‫املفكر العربي في استيعاب مالبسات هذا املفهوم ووضعه موضع املمارسة العملية؟‬
‫الكلمات املفتاحية‪ :‬اللبيرالية‪ ،‬الحرية‪ ،‬الفكر العربي‪ ،‬النهضة‪ ،‬الحداثة‬
‫‪Summary :‬‬

‫‪The reception of Western concepts in Arab culture remains a source of‬‬


‫‪confusion. Since the Arab Renaissance period, the Arab thinker has made‬‬
‫‪many attempts to environment the Western concepts that he was exposed to‬‬
‫‪as a result of his friction with the other. He started with the concept of‬‬
‫‪renaissance and neighboring concepts, including the concept of liberalism, to‬‬
‫‪what extent did the Arab thinker succeed in Understand the circumstances of‬‬
‫?‪this concept and put it into practice‬‬

‫‪Keywords: liberalism; freedom; Arab thought; renaissance; modernity‬‬

‫اجملدل الثامن‪ -‬العدد الرابع – جانفي ‪2017‬‬


‫‪7‬‬
‫كلية العلوم االجتماعية واإلنسانية‬ ‫جملة متون‬ ‫جامعة الدكتور موالي الطاهر سعيدة‬

‫أهمية البحث ‪:‬‬


‫قضية الحرية في الفكرالعربي الحديث واملعاصر‪ ،‬تستحق الدراسة والتوقف أمامها‪ ،‬بتفحص‬
‫وعناية‪ -‬على الرغم من كثرة الدراسات التي تناولت الفكر العربي الحديث واملعاصر‪ -‬ألنﻬا مؤشر هام على‬
‫تطور الفكر العربي‪ ،‬وواقعيته من جهة‪ ،‬وعلى قدرته على التجدد الذاتي‪ ،‬ومواجهة التحديات من جهة‬
‫ثانية‪ .‬كما أنﻬا مؤشر على أن تقدم املجتمع‪ ،‬مرتبط بقضية الحرية برباط وثيق‪ ،‬وحقيقة األمر‪ ،‬أن هذا‬
‫املفهوم‪ ،‬لم يكن قاصرا على مجال دون آخر‪ ،‬ولكنه شمل جميع المجاالت‪ ،‬التي تتصل بقضية الحرية‪،‬‬
‫سواء كانت خاصة بالفرد أو املجتمع‪ ،‬ومن املالحظ أن تناول قضية الحرية‪ ،‬تم من خالل مجموعة‬
‫األعالم‪ ،‬في فكرنا العربي اإلسالمي الحديث واملعاصر‪ ،‬ساهموا في تطور مدلول الحرية وتثبيت معناها‪.‬‬
‫أهداف البحث‪:‬‬
‫يهدف البحث الى إعادة فتح نقاش علمي هادئ حول مالبسات فشل تبيئة مفهوم الحرية‪ -‬سواء‬
‫اعتبرناها إشكالية او مشكلة‪ -‬في حاضرنا ان على املستوى الفردي او الجماعي( املجتمعي)‪ ،‬فعلي‬
‫املستوى الفردي مازال يفهم من مفردة الحرية استباحة كل القيود واألنظمة دون مراعاة لعالقة‬
‫الحرية بمدلوالت الحق والواجب وااللتزام واملسؤولية‪ .‬وعلى املستوى االجتماعي نلمس ذلك الصراع‬
‫الفكري الذي خلقه عدم فهم قيم الحرية‪ ،‬فوجدنا أنفسنا أمام صراع مؤدلج‪ ،‬بين قيم ترى في الحرية‬
‫جانبها ( االباحي)‪ ،‬وقيم اخرى ترى في الحرية جانبها االستباحي( استباحة كل شيئ)‪ .‬وعلى املستوى‬
‫السياس ي انحصر مدلول الحرية في قيم باهتة تتعالق مع مفاهيم املواطنة وحقوق اإلنسان واحترام‬
‫التنوع‪...‬الخ دون ان يكون لهذا التعالق مخرجات تدفع باملجتمعات العربية الى السير قدما في تحقيق‬
‫دولة الحريات والحق والقانون‪.‬‬
‫فرضية البحث‪:‬‬
‫تبنى فرضية البحث على رؤية مفادها ان الفكر( املفكر) العربي الحديث واملعاصر‪ ،‬تعرف على‬
‫مفهوم الحرية في إطار رؤية مأزومة داخليا وخارجيا‪ ،‬ولم يتعرف على مفهوم الليبرالية إال من خالل‬
‫كتابات نخبوية‪ ،‬حاولت تبيئة هذا املفهوم واعطائه قوة وقابلية‪ ،‬بربطه بمدلول الحرية رغم اختالف‬
‫ظروف بروز املفهوم عند األخر ‪.‬‬
‫الدراسات السابقة‪:‬‬
‫يجد املتتبع ملختلف الكتابات التي تناولت مفهوم الحرية في الفكر اإلسالمي عموما‪ ،‬والفكر‬
‫العربي اإلسالمي الحديث واملعاصر‪ ،‬أنها وعلى الرغم من ثرائها وتنوعها‪ ،‬إال إنها بقيت تراوح نقطة‬
‫االنطالق األولى‪ ،‬فإذا كانت مشكلة الرعيل األول من املفكرين في الحضارة اإلسالمية‪ ،‬قد تمثلت في‬
‫دراسة مشكلة الحرية في مقابل مصطلح املشيئة‪ ،‬وجرت البحوث على منوال املقابلة بين الجبر‬
‫واالختيار‪ (.‬دون اغفال الدور الذي لعبته السلطة السياسية آنذاك في توجيه النقاش او الصراع‬
‫الفكري بين الخصوم)‪ ،‬فإننا نجد طرح الفكر العربي الحديث للمشكلة‪ ،‬يحاول ان يجد مبررات‬

‫اجملدل الثامن‪ -‬العدد الرابع – جانفي ‪2017‬‬


‫‪8‬‬
‫كلية العلوم االجتماعية واإلنسانية‬ ‫جملة متون‬ ‫جامعة الدكتور موالي الطاهر سعيدة‬

‫وجودها خارج اللحظة (واآلن)‪ ،‬بمعنى ان البحث ذهب الى حشد براهين وجودها‪ ،‬إما في التراث أو في‬
‫املتن األخر الوافد‪ ،‬دون أن يلقى املفهوم معالجة مرتبطة بواقع الحال‪ ،‬الذي يئن تحت ظروف القهر‬
‫واالستغالل‪ ،‬وهتك عرى الكرامة اإلنسانية‪ .‬وهنا نحيل القارئ إلى مجموعة من الدراسات التي يمكن‬
‫الرجوع إليها‪ ،‬لتتبع ما ذكرنا أنفا‪ :‬عمارة محمد‪ :‬مشكلة الحرية اإلنسانية عند املعتزلة‪ -‬أحمد لطفي‬
‫السيد‪ :‬مشكلة الحريات في العالم العربي(‪-)1959‬توفيق الطويل مفهوم الحرية(‪ -)1994‬زكريا ابراهيم‪:‬‬
‫مشكلة الحرية(‪ -)1963‬زكي نجيب محمود‪ :‬عن الحرية أتحدث(‪ -)1986‬عزت قرني‪ :‬من خالل كتابين(‬
‫طبيعة الحرية‪ -2002‬تأسيس الحرية‪ -)2001‬روزنتال‪ :‬مفهوم الحرية في االسالم(‪ -)2007‬حصاد الفكر‬
‫العربي في قضية الحرية( تأليف جماعي‪ -)1980‬عبد هللا العروي‪ :‬مفهوم الحرية(‪ -)1984‬نصار نصيف‪:‬‬
‫باب الحرية‪ -‬هذا باإلضافة الى ما نشر حول املوضوع في مختلف املجالت العلمية املحكمة وال سيما‬
‫مجلة عالم الفكر ‪ .‬ومجلة املستقبل العربي‪،‬التي يمكن مراجعة أعدادها املتوفرة على النت‪.‬‬
‫‪ -‬منهج البحث‪:‬‬
‫تقيدا بطبيعة املوضوع سوف نعمد لتوظيف املهج التاريخي‪ ،‬لتتبع حركية مفهوم الليبرالية‬
‫وظروف نشأته‪ .‬واملنهج التحليلي النقدي لرصد حركية استقبال املفهوم‪ ،‬وظروف تبيئته في الثقافة‬
‫العربية الحديثة واملعاصرة‪.‬‬
‫‪ -‬املطلب األول‪ :‬الليبرالية‪ ...‬خلفية تاريخية للمفهوم‪:‬‬
‫من الصعب الوصول إلى تعريف دقيق و متفق عليه لليبرالية‪ ،‬بل إن بلورة تعريف واضح‬
‫ودقيق ملفهوم الليبرالية أمرا صعبا وربما عديم الجدوى‪ ،‬وفي حال تحديد مفهوم الليبرالية نجد أن هذا‬
‫التحديد ال ينطبق على عدد من الفالسفة واملفكرين(‪ .)1‬إن صعوبة تحديد مفهوم الليبرالية يرجع إلى‬
‫كونه مجموعة "أفكار مجسدة في الواقع وموصولة بالتاريخ‪ ،‬بما فيه من تدافع وصراع واختالف‬
‫وتوافق‪ ،‬وهذا ما يجعل املفهوم يأخذ معاني متعددة‪ ،‬حسب القراءة املقدمة له‪ ،‬األمر الذي يصبح معه‬
‫الحديث عن مفهوم الليبرالية بإطالقية سقوط في السطحية والتعميم‪ ،‬فالقول الغالب هو أننا نقصد‬
‫بالليبرالية‪ :‬تلك األفكار واملبادئ التي ظهرت مصاحبة لظهور الرأسمالية في الغرب‪ ،‬وخاصة في القرن‬
‫السابع عشر على يد توماس هوبز و جون لوك‪ ،‬وكانت موضوعة في صورة فلسفية ألن أصحابها حرصوا‬
‫على تأسيسها على مبادئ كلية‪ ،‬ونظرة شاملة لإلنسان"(‪ ،)2‬لكن هذا القصد سرعان ما يتزعزع عندما‬
‫نصطدم بالفكرة القائلة بأن‪":‬الليبرالية لم تكن وليد التأمل الفكري في طبيعة اإلنسان واملجتمع‪ ..‬ولم‬
‫تكن سعيا من بعض املفكرين نحو وضع مبادئ جديدة لتنظيم املجتمع‪ ،‬تضمن الحرية للجميع‪ ،‬فلم‬

‫‪ )1‬وليد بن صالح الرميزان‪ ،‬الليبرالية في السعودية و الخليج‪ ،‬روافد للطباعة والنشر و التوزيع‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪،1،2009‬ص ‪14‬‬
‫‪ )2‬أشرف منصور‪ ،‬الليبرالية ‪،‬الجديدة‪ ،‬جذورها الفكرية و أبعادها االقتصادية‪،‬الهيئة املصرية العامة للكتاب‪(،‬ب ط)‪،2008،‬ص ‪23‬‬

‫اجملدل الثامن‪ -‬العدد الرابع – جانفي ‪2017‬‬


‫‪9‬‬
‫كلية العلوم االجتماعية واإلنسانية‬ ‫جملة متون‬ ‫جامعة الدكتور موالي الطاهر سعيدة‬

‫تكن النيات الطيبة واألهداف اإلنسانية النبيلة وراء ظهور الليبرالية‪...‬لقد كانت الليبرالية تعبيرا عن‬
‫الطبقة البورجوازية‪ ،‬وعن نظرتها لإلنسان واملجتمع"(‪)1‬‬
‫لقد اتخذ مصطلح الليبرالية–كواحد من املصطلحات املفتاحية في املفردات السياسية للمجتمع‬
‫الحديث–موقعه في الساحة الفكرية‪ ،‬بداية من السنوات األولى من القرن التاسع عشر‪ ،‬لدى الكتاب‬
‫اإلسبان‪ ،‬لوصف زعمائهم السياسيين‪ ،‬الذين كانوا يدافعون عن امللكية الدستورية والحكومة‬
‫البرملانية‪ ،‬وسرعان ما انتقل إلى بريطانيا حيث انتقد الثوريون‪ -‬أسالف الحزب املحافظ‪ -‬خصومهم‬
‫بأنهم ليبراليون‪ ،‬لدفاعهم عن مبادئ سياسية أوربية‪ ،‬وليست إنجليزية‪ ،‬ولم يحتل املفهوم الريادة إال في‬
‫أربعينيات القرن التاسع عشر‪ ،‬وصار يدل على نظرة متماسكة إجماال لإلنسان و املجتمع‪ ،‬تتسم برغبة‬
‫في تحرير جميع األفراد من القيود االعتباطية والغير ضرورية‪.‬‬
‫إذا نظرا لهذه التمايزات من الصعب أن نجيب عن سؤال ما الليبرالية؟ إجابة قطعية بل كل ما‬
‫في وسعنا هو محاولة تتبع الداللة املعجمية للمفهوم‪ ،‬مقرونة بالشروط الواقعية لنشأته‪ ،‬ومن هذه‬
‫الدالالت نجد أن‪" :‬الليبرالية اتجاه عقلي يسعى في ضوء افتراضاته‪ ،‬ألن يحلل العالقات الثقافية‬
‫واألخالقية واالجتماعية واالقتصادية والسياسية في املجتمع اإلنساني‪ ،‬وتؤكد على تعبير اإلنسان عن‬
‫ذاته"(‪ ،)2‬ولهذا فهي ترمي إلى ترسيخ مجموعة من املفاهيم والسياسات‪ ،‬التي تهدف إلى منح املزيد من‬
‫الحرية للفرد‪ ،‬وهي تؤكد سواء في مجال الفكر أو التطبيق‪ ،‬على فكرتين رئيسيتين‪:‬‬
‫األولى العمل ضد السلطات التحكمية‪ ،‬وإحالل أشكال أخرى من التطبيقات االجتماعية‪ ،‬محل‬
‫هذه السلطات‪ .‬والثانية‪ :‬حرية التعبير عن الرأي وعن الشخصية الفردية"(‪.)3‬‬
‫مع هذه الرؤية‪ ،‬أصبحت الحرية الفردية تمثل مركز الريادة‪ ،‬في مقابل تقلص وظيفة الدولة‪،‬التي‬
‫لم تعد سوى جهاز لحماية حريات املواطنين‪ .‬تقول املوسوعة األمريكية األكاديمية مدعمة هذا الرأي‬
‫"إن النظام الليبرالي الجديد (الذي ارتسم في فكر عصر التنوير)‪ ،‬بدأ يضع اإلنسان بدل اإلله في وسط‬
‫األشياء‪ ،‬فالناس بعقولهم املفكرة يمكنهم أن يفهموا كل ش يء‪ ،‬ويمكنهم أن يطوروا أنفسهم ومجتمعاتهم‬
‫عبر فعل نظامي وعقالني"(‪ ،)4‬فالفرد حسب الليبرالية‪،‬له السيادة على هذا الكون‪ ،‬بما يعني ضرورة‬
‫التحرر من التسلط أيا كان نوعه‪ ،‬سواء تسلط الدولة أو الجماعة‪ ،‬أو األفكار املسبقة أو املوروثة‪.‬‬
‫وأيضا جعل األولوية للمصالح الفردية وتغليبها على املصالح االجتماعية‪ .‬ف"الليبرالية تعتبر الحرية‬
‫املبدأ واملنتهى‪ ،‬الباعث والهدف‪ ،‬األصل والنتيجة في حياة اإلنسان‪ .‬وهي املنظومة الفكرية الوحيدة التي‬
‫ال تطمع في ش يء سوى وصف النشاط البشري الحر‪ ،‬وشرح أوجهه والتعليق عليه"(‪.)5‬‬

‫‪ )1‬املرجع مفسه‪ ،‬ص‪23،24‬‬


‫‪ )2‬فاروق أبو زيد‪،‬الفكر الليبرالي في الصحافة املصرية‪،‬عالم الكتب‪(،‬ب ط و ت)‪،‬ص ‪07‬‬
‫‪ )3‬املرجع والصفحة نفسها‪.‬‬
‫‪ )4‬الخراش ي سليمان بن صالح‪،‬حقيقة الليبرالية وموقف اإلسالم منها‪ ( ،‬ب ‪،‬ط‪،‬ت)‪،‬ص ‪12،13‬‬
‫‪ )5‬عبد هللا العروي‪،‬مفهوم الحرية‪،‬املركز الثقافي العربي‪،‬الدار البيضاء‪،‬املغرب‪،‬ط‪،4،2008‬ص‪49‬‬

‫اجملدل الثامن‪ -‬العدد الرابع – جانفي ‪2017‬‬


‫‪10‬‬
‫كلية العلوم االجتماعية واإلنسانية‬ ‫جملة متون‬ ‫جامعة الدكتور موالي الطاهر سعيدة‬

‫بينما يذهب ناصيف نصار إلى التمييز بين بعدين ملفهوم الحرية في الحقل الداللي لليبرالية "فإذا‬
‫كانت الليبرالية كإيديولوجيات للبرجوازية‪ ،‬قد تمحورت حول شعار الحرية وسعت إلى تجسيد هذا‬
‫الشعار في املمارسات‪ ،‬واملؤسسات االقتصادية و السياسية والثقافية و التربوية واإلعالمية‪ ،‬من وجهة‬
‫نظر أفراد الطبقة البرجوازية بإطالق‪ ،‬وسعت من جهتها إلى تجاوز األطر اإليديولوجية إلى الكشف عن‬
‫مضامين مبدأ الحرية ومستلزماته في الوجود البشري" (‪ .)1‬أما إذا تناولنا املفهوم من زاوية الحقول التي‬
‫يعرف من داخلها‪ ،‬نجد أن‪ :‬الليبرالية في الحقل السياس ي‪ ،‬ينظر إليها على أنها "مذهب سياس ي يرى أن‬
‫من املستحسن أن تزداد إلى أبعد الحدود استقاللية السلطة التشريعية والسلطة القضائية‪ ،‬بالنسبة‬
‫إلى السلطة اإلجرائية التنفيذية‪ ،‬وأن يعطى للمواطنين أكبر قدر من الضمانات‪ ،‬في مواجهة تعسف‬
‫الحكم‪ .‬أما في حقل املمارسة الدينية فإننا نجد الليبرالية تعبر عن "مذهب سياس ي‪ ،‬فلسفي يرى أن‬
‫اإلجماع الديني ليس شرطا الزما‪ ،‬لتنظيم اجتماعي جيد‪ ،‬ويطالب ب"حرية الفكر" لكل املواطنين‪ .‬أما‬
‫في امليدان االقتصادي‪ ،‬فالليبرالية "مذهب يرى أن الدولة ال ينبغي لها أن تتولى وظائف صناعية‪ ،‬وال‬
‫وظائف تجارية‪ ،‬وأنه ال يحق لها التدخل في العالقات االقتصادية‪ ،‬التي تقوم بين األفراد والطبقات أو‬
‫األمم"‪ .‬وهكذا وخوفا من انفالت األمور‪ ،‬نظرا لدعوة البعض حصر تدخل الدولة في الشرطة والعدل‬
‫والدفاع العسكري‪ ،‬يتمنى البعض " أن توضع الليبرالية في مقابل النظرية اإلنفالتية‪ ،‬وهذا تغير ملفهوم‬
‫الحرية (االنفالت) عندئذ يمكن أن تكون األولى (الليبرالية)‪ ،‬معتبرة بوصفها النظرية األخالقية‬
‫والسياسية‪ ،‬التي تتوق إلى حرية الفرد أيما توق‪ ،‬وتحد في الوقت نفسه من املطالبة أومن الحصول‬
‫على هذه الحريات‪ ،‬عندما تغدو إباحيات مضرة باآلخر‪ ،‬في املقابل يمكن للنظرية اإلنفالتية أن تكون‬
‫صورة للفردية التي ال تعترف بأي حد مألوف وقانوني للحرية الفردية‪ ،‬فهي وحدها الحكم على حقوق‬
‫الفرد وفقا لقوته"(‪ ،)2‬هذا االنفالت تحدث عنه هيمون عندما قال‪ :‬إن الليبرالية مرت بمراحل‪:‬‬
‫أ) مرحلة التكوين‪ ،‬حيث كانت وجها من وجوه الفلسفة الغربية املرتكزة على مفهوم الفرد‪،‬‬
‫ومفهوم الذات‪.‬‬
‫ب) مرحلة االكتمال‪ ،‬حيث كانت األساس الذي شيد عليه علمان عصريان هما‪ :‬علم االقتصاد‪،‬‬
‫وعلم السياسية النظرية ‪.‬‬
‫ج) مرحلة االستقالل‪ ،‬حيث نزعت الليبرالية من أصولها كل فكرة تنتمي إلى االتجاه الديمقراطي‪،‬‬
‫بعد أن أظهرت تجربة الثورة الفرنسية أن بعض أصول الليبرالية قد تنقلب عند التطبيق إلى عناصر‬
‫معادية لها‪ ،‬وعليه عند حديثنا عن الليبرالية‪ ،‬يجب أن نحدد املقصود بالفكر الليبرالي‪ :‬ف"ليبرالية‬
‫بعض فالسفة عصر النهضة‪ ،‬لم تكن سوى وجه من أوجه اإلنسية لألوروبية‪ ،‬أما ليبرالية القرن ‪19‬‬

‫‪ )1‬ناصيف نصار‪،‬باب الحرية‪،‬دار الطليعة‪،‬بيروت‪،‬ط‪،1،2003‬ص‪46‬‬


‫‪)2‬الالند‪،‬املوسوعة الفلسفية‪،‬ج‪،2‬خليل أحمد خليل‪،‬منشورات عويدات‪،‬بيروت‪،‬باريس‪،‬ط‪،2،2001‬ص ‪725،726‬‬

‫اجملدل الثامن‪ -‬العدد الرابع – جانفي ‪2017‬‬


‫‪11‬‬
‫كلية العلوم االجتماعية واإلنسانية‬ ‫جملة متون‬ ‫جامعة الدكتور موالي الطاهر سعيدة‬

‫فكانت موجهة لنقد الدولة العصرية املهيمنة على األفراد و الجماعات‪ ،‬أما ليبرالية نهاية القرن املاض ي‬
‫وبداية هذا القرن‪ ،‬فكانت تعتبر أن الدولة شر كله‪ ،‬ألنها تضيق على املبادالت الفردية"(‪.)1‬‬
‫ما نخلص إليه أوال‪ :‬هو أن الليبرالية مذهب فكري و سياس ي ينادي بالحرية املطلقة في امليدان‬
‫االقتصادي والسياس ي واالجتماعي‪ ،‬والتركيز على مبدأ االستقاللية لألفراد واملجتمعات والدول‬
‫ومعناه التحرر التام من كل أنواع اإلكراه الخارجي والداخلي‪ ،‬سواء كان دولة أم جماعة أو أفرد‪ ،‬ويتم‬
‫التصرف وفق ما يمليه قانون النفس ورغباتها‪ .‬ولكل فرد الحق والحرية في اختيار أسلوب الحياة الذي‬
‫يناسبه‪ ،‬والعمل على تكريس الحريات ضمن عقد اجتماعي‪ 2‬تتفق عليه األغلبية بكل صورها املادية‬
‫واملعنوية‪ ،‬بين الدولة واملجتمع‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬هو أن الليبرالية ظهرت كممارسة قبل أن تتشكل بوصفها لفظا اصطالحا‪ :‬بمعنى أنها من‬
‫حيث وجودها بوصفها لفظا لم تظهر إال الحقا لوجودها بوصفها واقعا‪ ،‬إذ أنها بوصفها وجود معرفي‬
‫ومجتمعي‪ ،‬أخذت في التبلور داخل سياق التاريخ األوروبي‪ ،‬على األقل قبل‪3‬قرون من ظهورها لفظا‪،‬‬
‫والدليل على ذلك‪ ،‬أن كلمة ليبرالية ستظهر في اللسان اإلنجليزي سنة ‪.)3( 1819‬‬
‫هناك ارتباط شديد بين الليبرالية وفكرة الحرية والديمقراطية‪ ،‬بل إن اسمها مشتق في الواقع‬
‫عن معنى الحرية‪ ،‬ومع ذلك فإن الليبرالية بمفهومها الذي استقر‪ ،‬تستند إلى مفهوم خاص للحرية‪،‬‬
‫اتضحت معامله بوجه خاص ابتدءا من القرن السابع عشر‪ ،‬فإذا كان الحديث عن الحرية‬
‫والديمقراطية قديما‪ ،‬يجد جذوره في الفكر اليوناني‪ ،‬واملمارسات الديمقراطية في املدن اليونانية‪ ،‬ثم في‬
‫عديد من املدن التجارية في إيطاليا‪ ،‬في العصور الوسطى وعصر النهضة‪ .‬فإن هذه املمارسات ال تمثل‬
‫الفكر الليبرالي كما استقر معناه ومفهومه من خالل املساهمات الفكرية آلباء الفكر الليبرالي‪ ،‬وخاصة‬
‫جون لوك‪ ،‬فالفكر الليبرالي ليس فقط دعوة إلى الحرية‪ ،‬ولكنه بالدرجة األولى دعوة إلى الفردية‬
‫واحترام مجال خاص يتمتع الفرد فيه باستقالله وحريته‪،‬دون تدخل وإزعاج‪ ،‬وإذا نظرنا إلى مفهوم‬
‫الحرية كما ساد في الفكر السياس ي واملمارسات العملية‪،‬نجد أنه تراوح بين مفهومين أساسين‪،‬األول هو‬
‫الحق في املشاركة في اتخاذ القرارات السياسية‪،‬والثاني هو االعتراف بمجال خاص لألفراد ال يجوز‬
‫التعدي عليه أو التدخل فيه(‪،)4‬وهذه هي التفرقة بين املعنى القديم والحديث للحرية‪ ،‬وقد أوضح‬
‫بنجامين كونستانت في كتابه"الحريات القديمة والحديثة(‪ ،)1819‬هذه التفرقة بشكل واضح‪ ،‬فالحرية‬
‫باملعنى الحديث هي االعتراف للفرد بمجال خاص‪ ،‬يتمتع فيه باالستقالل وال يخضع فيه لغير القانون‪،‬‬
‫في حين أن الحرية باملعنى القديم السائد في املدن اليونانية‪ ،‬ثم في املدن اإليطالية تشير إلى الحق في‬

‫‪)1‬عبد هللا العروي‪،‬مفهوم الحرية‪،‬مرجع سابق‪،‬ص‪، 50‬بتصرف بسيط‬


‫‪ )2‬حول املوضوع راجع فكرة العقد االجتماعي عند ‪ :‬فالسفة العقد االجتماعي‬
‫‪ )3‬الطيب بوعزة‪،‬نقد الليبرالية‪،‬لم تذكر دار النشر‪،‬الرياض‪،‬السعودية‪،‬ط‪ ،1،2009‬ص ‪21‬‬
‫‪ )4‬حازم الببالوي‪،‬عن الديمقراطية الليبرالية ‪،‬دار الشروق‪،‬القاهرة‪،‬ط‪،1،1993‬ص ‪10،11‬‬

‫اجملدل الثامن‪ -‬العدد الرابع – جانفي ‪2017‬‬


‫‪12‬‬
‫كلية العلوم االجتماعية واإلنسانية‬ ‫جملة متون‬ ‫جامعة الدكتور موالي الطاهر سعيدة‬

‫املشاركة في اتخاذ القرارات السياسية(‪ ،)1‬ووفقا لهذا املفهوم القديم فإن الفرد وهو يتمتع باملشاركة في‬
‫املسائل العامة‪ ،‬يكاد يعرف أي استقالل في أموره الخاصة‪ ،‬وعلى العكس فإن الفرد وفقا للمفهوم‬
‫الحديث للحريات يتمتع باالستقالل في حياته الخاصة‪ ،‬وعلى العكس ال يكاد يتمتع بأي سيادة في‬
‫املسائل العامة ‪.‬من الناحية التاريخية يمكن أن نميز بين ثالثة مراحل مر بها املذهب الليبرالي‪:‬‬
‫‪-‬املرحلة األولى‪ :‬مرحلة كان يغلب عليها طابع الحرية االقتصادية التي ال يقف أمامها أي عائق‪،‬‬
‫وعكست نفسها في ذلك الشعار الشهير‪" ،‬دعه يعمل دعه يمر"‪ ،‬وفي عدم تدخل الدولة في النشاط‬
‫االقتصادي (‪ .)2‬ورغم أن الليبرالية في بداية ظهورها كانت منظومة كاملة من الحقوق الفردية‪ ،‬إال أن‬
‫الطبقة البورجوازية الصاعدة آنذاك‪ ،‬تمسكت بالجانب االقتصادي لليبرالية فقط الذي كان يعطيها‬
‫املبرر‪ ،‬بأن ما تحققه من أرباح وثروات وسيطرة‪ ،‬هو نتيجة ملجهودها الفردي وحسن تدبير قيامها‬
‫باملخاطرة‪ ،‬ولهذا وقفت هذه الطبقة في البداية ضد أي حق لآلخرين‪ ،‬يمس أو يحد من حريتها في‬
‫تعظيم أرباحها وثروتها واحتكارها للسلطة‪ .‬ولهذا شهدت تلك املرحلة‪ ،‬وبالذات في بدايتها أبشع صنوف‬
‫االستغالل للعمال والنساء واألطفال (طول ساعات العمل وضآلة األجور‪ ،‬وافتقاد الشروط الصحية‬
‫والوقائية)‪ ،‬كما شهدت تلك املرحلة التوسع االستعماري واستغالل شعوب املستعمرات‪ ،‬من قبل‬
‫الدول الرأسمالية الليبرالية‪.‬‬
‫‪ -‬أما املرحلة الثانية‪ :‬فتبدأ باالزمة التي تعرض لها النظام الرأسمالي في مختلف أنحاء املعمورة‪،‬‬
‫والتي انجر عنها تحطم يقينيات الفكر الكالسيكي والنيوكالسيكي‪،‬الذي كان ينكر إمكانية حدوث األزمات‬
‫في النظام الرأسمالي‪ ،‬و يدعي عدم وجود تعارض بين املصلحة الفردية واملصلحة العامة‪ ،‬وقد مهد‬
‫الكساد الكبير السبيل لتدخل الدولة في النشاط االقتصادي واالجتماعي‪ .‬كما أن كارثة الكساد الكبير‪،‬‬
‫كانت األرضية التي أنجبت "النظرية العامة ل كنز"عام ‪ ،1936‬وهي النظرية التي سيكون لها تأثير كبير‬
‫على أوضاع الطبقة الوسطى في العالم‪ .‬فقد أثبت كينز‪ ،‬أن الرأسمالية قد فقدت قدرتها التلقائية على‬
‫التوازن‪ ،‬وأصبح بها ميل كامن يعرضها ألزمات الدورية‪ ،‬بسبب االحتماالت القوية‪ ،‬لعدم تناسب قوى‬
‫الطلب الكلي مع قوى العرض الكلي‪ .‬وألن الرأسمالية عاجزة عن أن تولد من ذاتها وبطريقة تلقائية‬
‫سبيل تجنب هذه األزمات‪ ،‬فقد دعى إلى ضرورة تدخل الدولة في النشاط االقتصادي‪ ،‬باعتبارها‬
‫املعامل املوازن أو التعويض ي لتقلبات هذا النشاط‪ ،‬واقترح جملة من السياسات النقدية املالية‬
‫واالجتماعية‪ ،‬التي من شأنها الحيلولة دون حدوث الكساد أو التضخم‪ .‬وبعد انتهاء الحرب العاملية‬
‫الثانية أصبحت الوصفة الكينزية هي األساس‪ ،‬الذي بنيت عليه السياسات االقتصادية‪،‬في دول الغرب‬
‫الرأسمالي(‪.)3‬‬

‫‪)1‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪11‬‬


‫‪ )2‬رمزي زكي‪(،‬اليبيرالية الجديدة تقول وداعا للطبقة الوسطى)‪،‬مجلة عالم الفكر‪،‬ع‪،2‬مج‪،25‬أكتوبر‪،1996‬املجلس الوطني للثقافة‬
‫والفنون واآلداب ‪،‬الكويت‪،‬ص‪69-32‬‬
‫‪ )3‬رمزي زكي‪ ،‬املقال نفسه‪.‬‬

‫اجملدل الثامن‪ -‬العدد الرابع – جانفي ‪2017‬‬


‫‪13‬‬
‫كلية العلوم االجتماعية واإلنسانية‬ ‫جملة متون‬ ‫جامعة الدكتور موالي الطاهر سعيدة‬

‫‪ -‬املرحلة الثالثة لليبرالية‪ :‬تبدأ هذه الفترة بمجموعة من األزمات املستعصية‪ ،‬التي عانت منها‬
‫الدول الرأسمالية الصناعية‪ -‬وال تزال‪ -‬ففي بداية السبعينات‪ ،‬شهدت هذه الدول زيادة واضحة في‬
‫معدالت البطالة‪ ،‬ومعدالت التضخيم في آن واحد(وهي الظاهرة التي عرفت تحت مصطلح الركود‬
‫التضخمي‪ ،‬وتدهور معدالت النمو االقتصادي وتراجع معدالت النمو اإلنتاجية وزيادة عجز املوازنة‬
‫العامة‪ ،‬و ارتفاع حجم الدين العام الداخلي وزيادة أسعار الطاقة‪...‬الخ‪.‬‬
‫املطلب الثاني‪ :‬املفكر العربي و املفاهيم الليبرالية‬
‫الليبرالية في الفكر العربي الحديث‪:‬‬
‫في إطار انفتاح األنا على االخر تجب االشارة الى الدور الذي لعبه الرحالة العرب في بداية‬
‫القرن‪ 19‬من خالل الرحالت العلمية الى الغرب‪ (1‬بداية بايطاليا ‪،‬ثم فرنسا‪ )..‬في تعريف املجتمع العربي‬
‫بالحضارة الغربية‪ ،‬التي كانت تعيش قمة مجدها‪ ،‬في مقابل الشرق املتخلف‪ ،‬فجاءت محاوالت رجال‬
‫هذه الرحاالت لتكشف لألنا‪ ،‬أسباب قوة االخر وتفوقه‪ ،‬وكانت النتيجة التي اتفق حولها جميع من‬
‫كتبوا في هذا اإلطار ان سر تقدم الغرب( فرنسنا على وجه التحديد)‪ ،‬يكمن في نظام حكمه الذي شجع‬
‫اإلنسان وأعطاه مكانته‪ .‬من هنا ظهرت محاولة رفاعة الطهطاوي‪ ،‬لتبيئة مكتسبات الحضارة الغربية‬
‫عموما‪ ،‬والفرنسية على وجه الخصوص‪ ،‬فمن وجهة نظر الطهطاوي‪ ،‬ينبغي على املسلمين‪ ،‬إذا ما أردوا‬
‫الخروج من حالة التخلف ومسايرة التقدم‪ ،‬أن يسايروا الفرنسيين في أسلوب حياتهم االجتماعية‬
‫والثقافية‪....‬الخ‪ .‬ويمكن أن نبرز إعجاب الطهطاوي بالحضارة األوربية الحديثة‪ ،‬من خالل كتابه‬
‫"تخليص اإلبريز"‪ ،2‬حيث يظهر صراع الشرق والغرب جليا‪ ،‬من خالل هذا الكتاب‪ ،‬الذي لم يكن‬
‫الغرض من ورائه وصف الغرب‪ ،‬بقدر ما كان يهدف إلى نقد العالم العربي‪ ،‬من خالل الغرب‪ ،‬فبالرغم‬
‫من أن كتاب تخليص اإلبريز‪ ،‬هو وصف للغرب في صورة باريس(‪ ،)3‬إال أن الواقع املعاش كان دائما‬
‫حاضرا‪ ،‬من خالل املقارنات التي كان يعقدها الطهطاوي‪ ،‬بين باريس ومصر‪ ،‬داعيا بني جلدته إلى‬
‫مواكبة الغرب‪ ،‬واالطالع على منشآته ‪.‬‬
‫لقد آمن الطهطاوي بالعديد من مفاهيم الليبرالية الفرنسية‪ ،‬كالحرية واملساواة والتسامح‪،‬‬
‫حيث شكلت الحرية هاجسا كبيرا عنده‪ ،‬مما جعله يخصص لها جانبا كبيرا في فكره ومؤلفاته‪ ،‬غير أنه‬
‫ربط موضوع الحرية بمسألة الحقوق املدنية‪ ،‬واعتبر أن ذلك ليس من سمات الفكر الغربي فحسب‪ ،‬بل‬
‫هو سمة من سمات الفكر اإلسالمي‪ ،‬ألن املسلمين قد مارسوا الحرية وتفاعلوا معها‪ ،‬وأن اإلسالم قد‬
‫شرعها ‪ ،‬ولكن بمفهوم أعم وأشمل من مفهومها عند الغربيين‪ ،‬وهو مفهوم" العدل"‪ ،‬وبناء على ذلك‪،‬‬
‫يمكن إعادة صياغتها‪ ،‬وبعثها من جديد في إطار التجربة الغربية‪ ،‬وذلك باعتبارها وسيلة من وسائل‬

‫‪ )1‬انظر تفصيل املوضوع في‪ :‬سابا يارد ‪ ،‬نازك‪ ،‬الرحالون العرب وحضارة الغرب‪ ،‬في النهضة العربية الحديثة‪.‬‬
‫‪ )2‬وبشكل اكثر تنظيم وعمق في كتابه‪ :‬املرشد االمين للبنات والبنين الذي يعد بمثابة مرجع هام في قضايا التربية واملواطنة وحقوق‬
‫املرأة‬
‫‪ )3‬عمارة محمد‪،‬األعمال الكاملة لرفاعة الطهطاوي‪،‬ج‪،3‬املؤسسة العربية للدراسات والنشر والتوزيع‪(،‬ب‪ .‬ط)‪،1973،‬ص‪39‬‬

‫اجملدل الثامن‪ -‬العدد الرابع – جانفي ‪2017‬‬


‫‪14‬‬
‫كلية العلوم االجتماعية واإلنسانية‬ ‫جملة متون‬ ‫جامعة الدكتور موالي الطاهر سعيدة‬

‫التقدم والرقي‪ .‬وكان الطهطاوي يرى أن أهم ما يميز املمارسة السياسية الغربية في عهده‪ ،‬عن املمارسة‬
‫السياسية العربية اإلسالمية‪ ،‬هو أن األولى قائمة على مبدأي الحرية والعدالة‪ ،‬والثانية ينعدم فيها هذان‬
‫املبدآن‪ ،‬فكانت الدول األولى متحضرة ومتمدنة‪ ،‬ألنﻬا تستند إلى مبدأ وشرط التحضر‪ ،‬بينما الثانية‬
‫متخلفة ومتأخرة‪ ،‬ألن شروط التحضر والتمدن تنعدم فيها‪.‬‬
‫لكن الطهطاوي ورغم إيمانه بمفاهيم التنوير وقيم الليبرالية‪ ،‬إال أنه بقي مشدود إلى‬
‫مرجعيته األزهرية‪ ،‬حيث كان يقيم التعامل مع الحضارة الغربية‪ ،‬في إطار نظرة معيارية دينية‪ ،‬تتعامل‬
‫مع الغرب من منظور الكفر واإليمان‪ .‬وعلى نفس املنوال سعى خير الدين التونس ي إلى تبيان الدليل‪،‬‬
‫على نجاعة مواكبة الحضارة األوربية‪ ،‬واالقتباس منها‪ ،‬من أجل إحداث الوثبة‪ ،‬على مستوى العقل‬
‫واملمارسة‪ ،‬حيث تظهر هذه النزعة‪ ،‬من خالل عرضه للغرض من وراء تأليف كتابه " أقوم املسالك في‬
‫معرفة أحوال املمالك "‪ ،‬الذي جاء فيه‪" :‬ما دعانا لجمع هذا التأليف‪...‬أمران آيالن إلى مقصد واحد‪،‬‬
‫أحدهما إغراء ذوي الغيرة والحزم‪ ،‬من رجال السياسة والعلم‪ ،‬بالتماس ما يمكن من الوسائل املوصلة‬
‫إلى حسن حال األمة اإلسالمية‪ ،‬وتنمية أسباب تمدنها"‪ ،‬هدف أدرك خير الدين التونس ي أنه يستحيل‬
‫تحقيقه‪ ،‬مالم تتوفر له األرضية املناسبة‪ ،‬املتمثلة في"حسن اإلمارة املتولدة من األمن‪ ،‬املتولد من‬
‫األمل‪ ،‬املتولد من إتقان العمل‪ ،‬املشاهد في املمالك األورباوية بالعيان"(‪.)1‬‬
‫أما األمر الثاني الذي قصد من ورائه تأليف كتابه هذا فهو ‪":‬تحذير ذوي الغفالت من عوام‬
‫املسلمين‪ ،‬عن تماديهم في اإلعراض عما يحمد من سيرة الغير‪ ،‬املوافقة لشرعنا‪ ،‬بمجرد ما انتقش في‬
‫عقولهم‪ ،‬من أن جميع ما عليه غير املسلم‪ ،‬من السير والتراتيب ينبغي أن يهجر(‪ .)2‬ولذلك دعا إلى‬
‫اقتباس األفكار السياسية واالقتصادية‪ ،‬كون مثل هذه االقتباسات‪ ،‬تتوافق مع روح الشريعة‪ ،‬داعيا‬
‫إلى تقليد الغرب فيما ينفع وال يتعارض مع الشرع‪ ،‬وترك ماال ينفع‪ ،‬مستشهدا على ذلك بقوله; الشرع‬
‫لم ينه عن التشبه بمن يفعل ما أذن هللا فيه ‪ ...‬أن صورة املشابهة فيما تعلق به صالح العباد‪ ،‬ال تضر‬
‫على أنا إذا تأملنا في حالة هؤالء املنكرين‪ ،‬ملا يحسن من أعمال اإلفرنج‪ ،‬نجدهم يمتنعون عن‬
‫مجاراتهم‪ ،‬فيما ينفع من التنظيمات ونتائجها‪ ،‬وال يمتنعون منها فيما يضرهم‪ ،‬وذلك أنا نراهم‬
‫يتنافسون في املالبس وأثاث املساكن‪ ،‬ونحوها من الضروريات(‪ ،)3‬فالشريعة ال تنافى تأسيس‬
‫التنظيمات السياسية‪ ،‬املقوية ألسباب التمدن ونمو العمران‪...‬فاألمر إذا كان صادرا عن غيرنا‪ ،‬وكان‬
‫موافق لألدلة‪ ،‬السيما إذا كنا عليه‪ ،‬وأخذ منا‪ ،‬فال وجه إلنكاره وإهماله‪ ،‬بل الواجب الحرص على‬
‫استرجاعه واستعماله(‪.)4‬‬

‫‪ )1‬التونس ي خير الدين‪،‬أقوم املسالك في معرفة أحوال املمالك ‪،‬مطبعة الدولة‪ ،‬تونس‪،‬ط‪( 1،‬بدون تاريخ)‪،‬ص‪5‬‬
‫‪ )2‬املصدر والصفحة نفسها‪.‬‬
‫‪ )3‬املصدر نفسه‪،‬ص‪.7‬‬
‫‪ )4‬شرابي هشام‪ ،‬املثقفون العرب والغرب‪،‬دار النهار‪،‬بيروت‪ ،‬ط‪(،2‬ب‪ ،‬تاريخ)‪،‬ص‪57‬‬

‫اجملدل الثامن‪ -‬العدد الرابع – جانفي ‪2017‬‬


‫‪15‬‬
‫كلية العلوم االجتماعية واإلنسانية‬ ‫جملة متون‬ ‫جامعة الدكتور موالي الطاهر سعيدة‬

‫إن أكثر ما استحدثه األوربيون‪-‬حسب خير الدين التونس ي‪ -‬هو امتداد ملا كانت عليه شعوبنا‪ ،‬ولو‬
‫أننا تابعنا مسيرتنا الحضارية‪ ،‬لوصلنا إلى ما وصلوا إليه‪ ،‬بل إنه يرى أن العالم وحدة متماسكة‪ ،‬وأن‬
‫أي إنجاز إنساني وحضاري‪ ،‬هو في مصلحة الجنس البشري‪ ،‬جميعه وحق له‪ ،‬وال عبرة في اختالف‬
‫األديان فإن كل متمسك بديانته‪ ،‬وإن كان يرى غيره ضاال في ديانته‪،‬فذلك ال يمنعه من اإلقتداء به‪،‬‬
‫فيما يستحسن في نفسه‪ ،‬من أعماله املتعلقة باملصالح الدنيوية‪ ،‬كما تفعله األمة اإلفرنجية‪ ،‬فإنهم‬
‫مازالوا يقتدون بغيرهم‪ ،‬في كل ما يرونه حسنا من أعماله‪ ،‬حتى بلغو في استقامة نظام دنياهم‪ ،‬ما هو‬
‫مشاهد(‪ .)1‬وهو ينكر على الذين يعارضون اإلقتداء بالتجربة األوربية‪ ،‬بحجة مخالفتها للشريعة في حين‬
‫أن اإلفادة من علم الغرب ومعرفته وتقدمه العمراني‪ ،‬والحذو حذوه ضمن تجربة خاصة‪ ،‬هو الذي‬
‫يحفظ استقاللنا‪ ،‬وهل يظن هؤالء املنكرون إن ذلك ممكن دون تقدم في املعارف وأسباب العمران‬
‫مشاهدة عند غيرنا(‪ .)32‬وفي تناوله ملصطلح الحرية يسير على الرأى الذي صادفناه عند الطهطاوي‬
‫‪،‬فرأى أن الحرية مالزمة للعدل‪ ،‬وأنها على هذا األساس‪،‬أصل من أصول الشريعة‪ ،‬ومن هنا فإنه يدخل‬
‫مباشرة في الحديث عنها‪ ،‬معرفا بها‪ ،‬معددا أقسامها‪ ،‬فالحرية عنده تنقسم إلى قسمين رئيسيين‪:‬‬
‫‪ -‬الحرية الشخصية‪ :‬هي إطالق تصرف اإلنسان في ذاته وكسبه‪ ،‬مع أمنه على نفسه وعرضه‬
‫وماله‪ ،‬ومساواته ألبناء جنسه لدى الحكم‪ ،‬بحيث أن اإلنسان ال يخش ى هضيمة في ذاته‪ ،‬وال في سائل‬
‫حقوقه‪ ،‬وال يحكم عليه بش يء ال تقتضيه قوانين البالد املقررة‪ ،‬وبالجملة فالقوانين تقيد الرعاة كما‬
‫تقيد الرعية‪.‬‬
‫‪ -‬الحرية السياسية‪ :‬وتعنى مشاركة املواطنين في سياسة الدولة‪ ،‬وإبداء الرأي فيما هو أصلح‬
‫لها‪ ،‬على نحو ما أشير إليه‪ ،‬بقول الخليفة الثاني عمر بن الخطاب‪"،‬من رأي منكم في اعوجاجا‬
‫فليقومه"‪ ،‬يعني انحرافا في سياسته لألمة وسيرته معها‪ ،‬ولكن ملا كانت الديمقراطية املباشرة‪ ،‬كممارسة‬
‫للحرية السياسية‪ ،‬باملعنى الذي أشار إليه الخليفة العربي‪ ،‬غير ممكنة في هذه األيام‪ ،‬فقد استبدلت‬
‫الديمقراطية املباشرة بديمقراطية تمثيلية تجسدها املجالس النيابية املنتخبة‪ ،‬فالفرق بين الحرية‬
‫السياسية عند العرب‪ ،‬والحرية السياسية كما عرفتها أوروبا في القرن التاسع عشر‪ ،‬هو فرق يعود إلى‬
‫اختالف األزمنة‪ ،‬وإلى الحاجة إلى تقنيين هذه الحرية وتنظيمها‪ ،‬منعا للهرج‪ ،‬وضمانا للضبط‪ ،‬ذلك أنه‬
‫ملا كان إعطاء الحرية بهذا املعنى (الديمقراطية املباشرة التي عبر عنها عمر بن الخطاب ) لسائر األهالي‪،‬‬
‫مظنة لتشتيت اآلراء‪ ،‬وحصول الهرج‪ ،‬عدل عنه‪ ،‬إلى كون األهالي ينتخبون طائفة من أهل املعرفة‬
‫واملروءة‪ ،‬تسمي عند األوروبيين بمجلس نواب األمة‪ ،‬وتسمى عندنا بأهل الحل والعقد‪.‬‬

‫‪ )1‬املرجع و الصفحة نفسها‪.‬‬


‫‪)2‬‬
‫‪3‬‬

‫اجملدل الثامن‪ -‬العدد الرابع – جانفي ‪2017‬‬


‫‪16‬‬
‫كلية العلوم االجتماعية واإلنسانية‬ ‫جملة متون‬ ‫جامعة الدكتور موالي الطاهر سعيدة‬

‫لقد شكل الخطاب الليبرالي العربي‪-‬اإلسالمي‪ ،1‬عند الرعيل األول من املفكرين دعوة صريحة‬
‫إلتباع خطوات النهضة األوروبية‪ ،‬للخروج من مأزق التخلف‪ .‬ورأى أن العالم العربي يجب أن ينش ئ‬
‫هيئات سياسية وإدارية واجتماعية على الطريقة األوروبية‪.‬‬
‫الليبرالية في الفكر العربي املعاصر‪:‬‬
‫نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين وبعد ‪ 11‬سبتمبر ‪ 2001‬على وجه‬
‫الخصوص‪ ،‬الذي يعتبر فاصال تاريخيا عربيا كما هو من الفواصل التاريخية األمريكية أيضا‪ ،‬ظهر جيل‬
‫جدي د من الليبراليين الجدد " وهؤالء نادوا بعصر تنوير جديد وهو مقدمة لفلسفة املستقبل‪ ،‬وتبنوا‬
‫أفكار تنويري القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين‪ ،‬وكذلك أفكار الليبيراليين الذين جاءوا في‬
‫النصف الثاني من القرن العشرين‪ ،‬وأضافوا إليها جملة من املبادئ التي بينت مواقفهم من الدين‬
‫والتراث والعقل من جهة‪ ،‬ورؤيتهم للعالقة مع األخر ( ثقافيا وسياسيا) من جهة أخرى ‪.‬والتي تعتبر‬
‫بمثابة مسودة لبيان الجيل الجديد من الليبراليين العر (‪:)2‬‬
‫‪ -‬موقفهم من الدين‪:‬‬
‫‪ -1‬املطالبة بإصرار باإلصالح التعليمي الديني الظالمي‪ ،‬في ظل سيادة اإلرهاب الديني‪ ،‬بعد أن تم‬
‫خطف اإلسالم وتزويره وأدلجته أدلجة دموية مسلحة‪.‬‬
‫‪ -2‬الدعوة إلى محاربة اإلرهاب الديني والقومي السياس ي والدموي املسلح بكافة أشكاله‪.‬‬
‫‪ -3‬تأكيد إخضاع املقدس والتراث والتشريع والقيم األخالقية للنقد العميق‪ ،‬وتطبيق النقد‬
‫العلمي العقالني‪.‬‬
‫‪ -4‬اعتبار املوقف العدائي مع اآلخرين موقفا جاء بناءا على ظروف سياسية واجتماعية معينة‬
‫قبل أربعة عشر قرنا‪ ،‬ولم تعد هذه الظروف قائمة اآلن‪ ،‬وإنما تغيرت تغيرا كليا‪ ،‬ولذا يجب عدم‬
‫اإلستعانة مطلقا باملواقف الدينية‪ ،‬التي جاءت في الكتاب املقدس تجاه اآلخرين قبل خمسة عشر قرنا‬
‫ملهاجمة اآلخرين اآلن وسفك دمائهم‪ ،‬فاملصالح متغيرة‪ ،‬واملواقف متغيرة والتغير هو سنة الحياة(‪)3‬‬
‫‪ -5‬اعتبار األحكام الشرعية أحكاما وضعت لزمانها ومكانها‪ ،‬وليست أحكاما عابرة للتاريخ كما‬
‫يدعي بعض رجال الدين‪ ،‬ومثالها األكبر حجاب املرأة وميراث املرأة‪ ،‬وشهادة املرأة‪ ،‬وتولي املرأة املناصب‬
‫السياسية والقضائية العليا‪....‬الخ‬

‫‪ )1‬يالحظ القارئ أننا اقتصرنا على ذكر الطهطاوي وخير الدين التونس ي ضمن هذا املدخل رغم أننا نجد الكثير من املفكرين العرب ممن‬
‫كانت كتاباتهم تنحوا منحى يدعو إلى قيم الحرية واقتباس النموذج النهضوي الغربي على شاكلة‪ :‬فرانسيس مراش‪ -‬لطفي السيد‪ -‬سالمة‬
‫موس ى وآخرون‪.‬‬
‫‪ )2‬شاكر النابلس ي‪ ،‬الليبيراليون الجدد‪ ،‬منشورات الجمل‪ ،‬كولون‪ ،‬أملانيا‪ ،‬ط‪ ،2005 ،1‬ص ‪ .21 ،20‬ورد املوضوع كذلك في‪ :‬موقع الحوار‬
‫املتمدن‪ ،‬ع‪ 2004 ،873‬تحت عنوان‪ :‬من هم الليبراليون العرب الجدد‪ ،‬وما هو خطابهم؟‬
‫‪ )3‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.21‬‬

‫اجملدل الثامن‪ -‬العدد الرابع – جانفي ‪2017‬‬


‫‪17‬‬
‫كلية العلوم االجتماعية واإلنسانية‬ ‫جملة متون‬ ‫جامعة الدكتور موالي الطاهر سعيدة‬

‫‪ -6‬إن الفكر الديني وهو الفكر الذي جاء به علماء الدين وفقهاؤه ورجاله‪ ،‬وليس الدين الرسولي‬
‫نفسه‪ ،‬يقف حجر عثرة أمام الفكر الحر وتطوره‪ ،‬كما يقف حجر عثرة أمام ميالد الفكر العلمي(‪،)1‬‬
‫ونقطة البداية الحقيقية والجذرية هي البدء بالتغيير الشامل‪ ،‬وعدم" قبول التفسير املنغلق واملتعصب‬
‫للنصوص املقدسة (‪ ،)2‬والنظر إلى املقدس كدستور ثابت لتنظيم العالقات املقدسة الثابتة دون‬
‫سواه‪ ،‬أي عالقة اإلنسان باهلل‪ ،‬أما عالقة اإلنسان بأخيه اإلنسان سواء كانت عالقات قانونية أو‬
‫اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية‪ ،‬فهي عالقات أرضية وليست مقدسة‪ ،‬وتتغير بتغيير العصور‬
‫واألحوال‪ ،‬واملفاهيم‪ ،‬ويحددها ويحكمها دساتير أرضية‪ ،‬وضعية قابلة هي األخرى للتغيير بمعدل‬
‫يتواكب مع سرعة تغير ما تحكمه من عالقات‪ ،‬ويقوم العلم بدور محوري في صياغتها(‪ .)3‬ويبقى الشق‬
‫الديني الخالص في تقييم اآلخر في حدود العالقة بين اإلنسان وهللا‪ ،4‬ليس إلنسان التدخل فيها أو‬
‫الحكم على طبيعتها‪ ،‬وأال يكون كمن يغتصب ماهلل‪ .‬هذا الفهم للنصوص املقدسة‪ ،‬ومجاالت تطبيقها ال‬
‫يقلل من شأن املقدس‪ ،‬أو يقلص دوره في الحياة‪ ،‬بل بالعكس فيه تكريم للمقدس وتنزيهه عن‬
‫االستخدام االنتهازي للدين‪)5( .‬‬
‫‪ -‬موقفهم من املاض ي( التراث)‪:‬‬
‫‪ -‬ال والء مطلقا للماض ي املحكوم بماضيه فقط‪ ،‬وال انغالق عليه وفهم الحاضر يدفعنا إلى إعادة‬
‫النظر في قيم املاض ي‪ ،‬وضرورة خلق املستقبل الذي هو لب الحداثة‪،‬ال يمكن إنتاج الحاضر بتاريخ‬
‫املاض ي‪ ،‬وإنما بتاريخ الحاضر واملستقبل كذلك وشرط تخطي املاض ي قائم في الحاضر‪.‬‬
‫‪ -‬إن ضعفنا‪ ،‬وهزالنا وقلة معرفتنا‪ ،‬وعجزنا العلمي والعقالني هو الذي يؤدي بنا إلى االتجاه‬
‫إما إلى املاض ي لالستعانة به لبناء الحاضر‪ ،‬وهي أسوء الخيارات‪ ،‬حيث ال يملك املاض ي إال بماضيه‬
‫فقط‪ ،‬الذي انتهت صالحيته في وقت مض ى على العرب أن يتخلوا عن املثل األعلى املوهوم‪ ،‬الذي‬
‫يتقمصوه تخيال ومكابرة‪ ،‬واستعالء واإلقرار بأن التاريخ محكوم بالقوانين وليس بهوى الشعوب‪ ،‬وال‬
‫بخيالها وال بتعلقها بماضيها (‪.)6‬‬
‫‪ -‬املراجعة النقدية للماض ي الكتشاف ما قد يمت من عناصر الخلل في الحاضر إلى ميراث‬
‫املاض ي‪ ،‬ومحاولة استخالص الدروس‪ ،‬حرصا على أن يعيد التاريخ نفسه ألن التكرار في مسيرة‬
‫اإلنسانية ال يمكن إال أن يكون وباال وتقهقرا حضاريا‪ ،‬مهما بدا األمر عكس ذلك (‪.)7‬‬

‫‪ )1‬شاكر النابلس ي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.22‬‬


‫‪ )2‬كمال غبريال‪ ،‬الليبيرالية الجديدة وفضاء يتشكل‪ :‬مقاربة ملانيغستو الليبيراليين الجدد‪ ،‬ضمن شاكر النابلس ي‪ ،‬مرجع سابق‬
‫ص ‪.64‬‬
‫‪ )3‬ملرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.65‬‬
‫‪ )4‬هنا تظهر بوضوح تأثيرات أفكار اإلصالح الديني وأفكار جون لوك خاصة في نصه رسالة في التسامح‬
‫‪ )5‬املرجع والصفحة نفسها‪.‬‬
‫‪ )6‬شاكر النابلس ي‪ ،‬من هم اليبيراليون الجدد‪ ،‬وماهو خطابهم‪ ،‬ضمن شاكر النابلس ي‪ ،‬اليبيراليون الجدد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪23 ،22‬‬
‫‪ )7‬كمال غبريال‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.68‬‬

‫اجملدل الثامن‪ -‬العدد الرابع – جانفي ‪2017‬‬


‫‪18‬‬
‫كلية العلوم االجتماعية واإلنسانية‬ ‫جملة متون‬ ‫جامعة الدكتور موالي الطاهر سعيدة‬

‫‪ -‬اإليمان بأن اغتراب العقل ال يحقق غير سيادة الهمجية والغوغائية واملجتمع الدموي‪،‬‬
‫واملطلوب هو طرح أسئلة على كافة املستويات لتجاوز رتابة املاض ي‪ ،‬تجاوز يمر بالنسبة إليهم عبر‪:‬‬
‫‪ -‬بتبني قيم الحداثة تبنيا كامال‪ ،‬باعتبارها هي التي تقود إلى الحرية ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪ -‬تحرير النفس العربية من أوهامها‪ ،‬والسحر والتعاويذ والشعوذة‪ ،‬التي تحيط بها‪) ( .‬‬
‫‪ -‬تحرير النفس العربية من ماضيها‪ ،‬ومن حكم األسالف‪ ،‬الذين مازالوا يحكموننا من قبورهم‪.‬‬
‫‪ -‬اإليمان بنسبية املعرفة والحقيقة‪.‬‬
‫‪ -‬خلق شخصية عربية جديدة‪ ،‬رافضة لقيم العنف والذل والالعقالنية والدروشة والقبلية‪،‬‬
‫مؤمنة بالقيم العقالنية‪.‬‬
‫‪ -‬العودة إلى الذات ونقدها‪ ،‬والعودة إلى الوعي بالذات ال كأفراد ولكن كأمة‪)2( .‬‬
‫والخالصة انه بمراجعة موقفنا من املقدس‪ ،‬وموقفنا من املاض ي‪ ،‬نكون قد مهدنا األرضية‬
‫إلقامة البناء الحضاري الليبرالي‪ ،‬الذي تتصدى له مسودة مانيفستو الليبراليين الجدد‪.‬‬
‫‪ -‬املوقف من العقل والثقافة العقالنية‪:‬‬
‫أما املحطة الثالثة‪ ،‬فهي الخطوة األولى في مرحلة البناء‪ ،‬وتتعلق بدور العقل في التحديث‪ ،‬فبدون‬
‫اكتساب الثقة بالذات لدى الطفل والشاب والكهل‪ ،‬لن نتقدم خطوة واحدة على طريق العقالنية‬
‫والتحديث‪ ،‬التي تسود العالم املتحضر‪ ،‬وتتيح توظيف العقل بدرجة من الكفاءة والفاعلية‪ ،‬تكفل‬
‫إقامة حضارة حديثة (‪.)3‬‬
‫‪ -‬ميكانزمات التطبيق العملي للمشروع‪:‬‬
‫‪ -‬تغيير نظام التعليم‪ ،‬والتغيير الشامل في وسائل اإلعالم‪ ،‬نظما وكوادر‪ ،‬وإذا ما تتم التحول‬
‫املطلوب‪ ،‬فإن الطريق سيصبح مفتوحا على مصراعيه لتفعيل العقل في حياتنا‪ ،‬عندها سنطرح أسئلة‬
‫على كافة املستويات لم يسبق طرحها في املاض ي‪ ،‬وسنتمكن من تحرير النفس العربية والشرقية من‬
‫أوهامها‪)4( .‬‬
‫‪ -‬عدم الحرج من اإلستعانة بالقوى الخارجية تطبيق الديمقراطية العربية‪.‬‬
‫‪ -‬ال حرج من أن يأتي اإلصالح من الخارج‪.‬‬
‫‪ -‬اإليمان بأن ال حل للصراع العربي مع اآلخرين سواء في فلسطين أو خارجها‪ ،‬إال بالحوار‬
‫واملفاوضات والحل السلمي‪**)5( .‬‬

‫‪ )1‬شاكر النابلس ي‪ ،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.23‬‬


‫‪ )2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.24‬‬
‫‪ )3‬كمال غبريال‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.71‬‬
‫‪ )4‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪74‬‬
‫‪ )5‬شاكر النابلس ي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ **.24‬واملقصود هنا حل القضية الفلسطينية‬

‫اجملدل الثامن‪ -‬العدد الرابع – جانفي ‪2017‬‬


‫‪19‬‬
‫كلية العلوم االجتماعية واإلنسانية‬ ‫جملة متون‬ ‫جامعة الدكتور موالي الطاهر سعيدة‬

‫‪ -‬اإليمان بالتطبيع السياس ي والثقافي‪ ،‬واإلعتراف بالواقعية السياسية‪ ،‬وأن التطبيع والتالقح بين‬
‫الشعوب والثقافات‪ ،‬هو الطريق إلى السالم الدائم في الشرق األوسط‪.‬‬
‫‪ -‬الوقوف إلى جانب العوملة وتأييدها‪ ،‬باعتبارها أحد الطرق املوصلة إلى الحداثة اإلقتصادية‬
‫العربية التي يمكن أن تقود إلى الحداثة السياسية والثقافية‪.‬‬
‫‪ -‬املطالبة بمساواة املرأة مع الرجل مساواة تامة‪ ،‬في الحقوق والواجبات والعمل والتعليم واإلرث‬
‫والشهادة والتوظيف‪ ،‬وتبني مجلة األحوال الشخصية التونسية‪ ،‬التي صدرت ‪ 1957‬والتي تعتبر‬
‫النموذج العربي األمثل لتحرير املرأة العربية‪ ،‬دون الحاجة إلى تبني قيم الغرب في تحرير املرأة‪،‬‬
‫ومساواتها بالرجل‪.‬‬
‫هذه هي النقاط الرئيسية أو معالم على طريق التغيير‪ ،‬وفق رؤية الليبراليين العرب في نسختهم‬
‫املعاصرة‪ .‬تغير تحتمه حسب رأيهم الحقائق املوضوعية على األرض ماديا وفكريا‪ ،‬والتي تقول ان العالم‬
‫العربي أمام خيارين ال ثالث لهما ‪:‬‬
‫‪ -‬إما اإلضمحالل جوعا ومرضا وتخلفا‪ ،‬وإما التغيير الشامل الجذري‪ ،‬والذي أصبحت تطالبنا به‬
‫–تفرضة‪ -‬القوى العظمى‪ ،‬التي لم تعد راضية على طريقة عيشنا ( على جميع األصعدة) كوناها" تأذت‬
‫وستتأذى بمنتجات ثقافتنا املتخلفة أربعة عشر قرنا على األقل‪ ،‬ذلك اإلصرار الذي يتبدى بنوعيات‬
‫متدرجة‪ ،‬بداية من املساعدة املادية والعلمية وهو ما يحدث مع الشعوب والحكومات الراغبة حقا في‬
‫اإلصالح"‪.)1(.‬‬

‫‪ -‬نقد رؤية الليبراليين العرب‪:‬‬

‫الناظر في واقع الفكر الليبرالي الذي تبنى الحداثة بجميع أشكالها‪ ،‬يجده حقق انتشارا واسعا في‬
‫العالم كله خالل العقود املاضية‪ .‬أما في عاملنا العربي ونتيجة لإلمتداد الفكري والسياس ي مع الغرب‬
‫فقد تبنى الكثير من القيم الليبرالية الرأسمالية والسياسة و الديمقراطية على غرار بقي شعوب العالم‬
‫املتقدم‪ ،‬رغم أننا نلمس ترددا وعدم وجود قناعة تامة بهذا اإلنتماء الفكري لليبرالية عند كثير من أبناء‬
‫تلك الشعوب‪ ،‬بعكس القليل من النخب املثقفة فيها‪ .‬وهذا التردد راجع أساسا إلى الحمولة‬
‫االديولوجية التي ينظر بها إلى "كلمة ليبرالية" في املخيال العربي‪ ،‬والتي ال تخرج عن كونها صنعة أمريكية‬
‫بامتياز‪ ،‬ال يعمها في األخير سوى التمكين لعوملة أفكارها‪.‬‬
‫حيث قامت( أمريكا) من أجل ذلك بمحاوالت عديدة ملسخ الهوية الدينية والقومية‪ ،‬وإرغام‬
‫تلك املجتمعات على تبني ثقافة الحداثة على النمط الغربي‪ ،‬وتسيسها بالفكر الديمقراطي‪ ،‬مما أنتج مع‬

‫‪)1‬كمال غبريال‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.74‬‬

‫اجملدل الثامن‪ -‬العدد الرابع – جانفي ‪2017‬‬


‫‪20‬‬
‫كلية العلوم االجتماعية واإلنسانية‬ ‫جملة متون‬ ‫جامعة الدكتور موالي الطاهر سعيدة‬

‫تراكمات الزمن وتسلط املستعمر‪ ،‬ردات فعل وأشكاال متطرفة من األصولية القومية إلى الليبرالية‬
‫املتطرفة إلى العنف اإلسالمي‪ ،‬مما كلف األمة املزيد من املعانات والويالت الطويلة واملؤملة والتي مازلنا‬
‫نعاني من إفرازاتها السلبية إلى وقتنا الحالي‪ .‬ومع أن استيعاب نخبنا املثقفة للفكر الحداثي كان بطيئا‬
‫ومتأخر‪ ،‬فإنها لم تكد تضع أقدامها على درجته االولى‪ ،‬أضحى العالم الغربي ينقد فكره الليبرالي‪ ،‬ويودع‬
‫حداثته التقليدية‪ ،‬وينسلخ منها إلى ما أصطلح عليه فلسفيا بـ " ما بعد الحداثة "‪.‬‬
‫فاألصوات بدأت تعلو بشكل كبير في نقد الحداثة الغربية‪ ،‬وتهميش ذلك اإلله املزعوم ( الحداثة‬
‫) الذي قدس في الكثير من مجتمعات العالم‪ ،‬بعد أن اشتغلت عليه الة النقد من كبار فالسفة الغرب‪،‬‬
‫أمثال‪ :‬الفيلسوف الفرنس ي ( ليوتار ) في كتابه الشهير ( الظرف ما بعد الحداثي ) حيث قدم نقدا عنيفا‬
‫ملشروع الحداثة الغربي‪ ،‬والفيلسوف األملاني ( هابرماس ) الذي ذهب إلى أبعد من ذلك وزعم أن‬
‫الحداثة نفسها لم يكتمل مشروعها‪ ،‬وعزز هذا النقد للحداثة الغربية وأجنحتها السياسية والعسكرية‬
‫ما كتبه ( جاك دريدا ) و (ميشل فوكو ) وغيرهما في بيان مهازل الديمقراطية وتناقضاتها الكثيرة‪)1( .‬‬
‫إن النهضة األوروبية في القرن السادس عشر هي محصلة لإلصالح الديني‪ ،‬والكشوف الجغرافية‪،‬‬
‫والثورة الكويرنيكية في مجال الطبيعة وتحوالت الفكر الفلسفي والسياس ي من مكيافلي إلى ديكارت ثم‬
‫هويز‪ ،‬ثم النزعة اإلنسانية ىاملتمثلة في إحياء اآلداب اليونانية‪ ،‬والنمو املجتمعي واإلقتصادي للتجارة‬
‫واملدن‪ ،‬فمن خالل كل ما سبق تشكل حدث النهضة كقطيعة مفصولة عن العصر الوسيط وموصولة‬
‫بكل ما كان بإمكانه أن يدعم إمكانية اإلبتكار واإلبداع‪ ،‬وقد نتج عن هذا الفعل التاريخي النهضوي كما‬
‫هو معروف نتائج معرفية وتاريخية وسياسية شملت أغلب مظاهر الحياة في أوروبا‪ ،‬في حين أن الحديث‬
‫عن " النهضة العربية‪ ،‬يتعلق بمشروع بدايات تحول إقتران مليزات خارجية‪ ،‬تمثلت في بروز ظاهرة‬
‫الهيمنة اإلستعمارية‪ ،‬وهي الظاهرة التي ساهمت بصورة رئيسية في تحريك آليات الفعل التاريخي في‬
‫محيط املجتمعات العربية في اإلقتصاد والسياسة واملجتمع والفكر وربما مازالت توجه بصورة خفية‬
‫آليات ما يجري في مجتمعاتنا(‪)2‬‬
‫نقول هذا رغم أننا نصادف بعض الكتاب العرب ممن رفضوا ان تكون الليبرالية العربية مجرد‬
‫نسخة عن نظيرتها الغربية‪ ،‬وحجتهم في ذلك أن "الحرية ناتجة قبل كل شيئ عن حاجة متولدة في‬
‫املجتمع العربي شعر بها عدد من الناس‪ ،‬أن يكون التعبير عنها قد استفاد من تجارب أجنبية مماثلة‬
‫وأن يكون الكتاب العرب قد تهافتوا على املنظومة اليبرالية ألنهم رأوا فيها عبارة وافية عما يحسون به‪،‬‬
‫فهذا ال يعني أن الدافع األول في كل هذا كان التأثير الخارجي‪ ،‬والدليل على ذلك هو أن الكتاب العرب‬

‫‪ )1‬بشير موس ى نافع‪ ،‬أزمة الخطاب اليبرالي الغربي الجديد‪ ،‬ضمن‪ :‬شاكر النابلس ي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.155‬‬
‫‪ )2‬كمال عبد اللطيف‪ ،‬مفاهيم ملتبسة في الفكر العربي املعاصر‪ ،‬دار الطليعة للطباعة والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪.1992 ،1‬‬

‫اجملدل الثامن‪ -‬العدد الرابع – جانفي ‪2017‬‬


‫‪21‬‬
‫كلية العلوم االجتماعية واإلنسانية‬ ‫جملة متون‬ ‫جامعة الدكتور موالي الطاهر سعيدة‬

‫لم ينقلوا بأمانة اليبرالية األوروبية املعاصرة لهم‪ ...‬إنهم كانوا في حاجة إلى ليبرالية متفائلة حازمة واثقة‬
‫بذاتها فأولو ليبرالية عصرهم املتشائمة الباهتة حسب رغباتهم (‪)1‬‬
‫ومما ال يمكن تجاهله من الناحية‪ ،‬هو أن العرب تعرفوا على منظومة مكتملة في املرحلة األخيرة‬
‫من مراحل تطور الفكر الليبرالي‪ ،‬تعرفوا على ليبرالية تحمل في طياتها آثار املراحل السابقة مرحلة عهد‬
‫التكوين ومفهوم الذات‪ .‬مرحلة القرن الثامن عشر ومفهوم الفرد العاقل املالك‪ .‬مرحلة عهد الردة على‬
‫الثورة الفرنسية ومفهوم املغامرة الفردية‪ .‬مرحلة نقد الديمقراطية اإلجتماعية ومفهوم املغامرة‬
‫واإلعتراض‪ ،‬بعبارة أخرى‪ ،‬إن العرب تعرفوا على ليبرالية ورثت روح الفلسفة الغربية الحديثة وروح‬
‫الثورة الفرنسية‪ ،‬وروح الردة على الثورة‪ ،‬وروح النخبوية املعادية للديمقراطية واإلشتراكية‪ ،‬إنهم‬
‫واجهوا منظومة مليئة بالعناصر املتناقضة‪ ،‬وكان من الصعب عليهم أن يتلقوها بعقل ناقد‪)2( .‬‬
‫واستغلوا الحرية كشعار‪ ،‬ألنها كانت مطلبا جماعيا يستلزمه طموح العرب إلى العدل والتقدم‬
‫والرفاهية‪ ،‬ودامت هذه الوضعية مدة طويلة‪ ،‬بحيث يمكن القول إن العهد الذي كانت فيه الحرية‬
‫مطلبا حيويا للمجتمع‪ ،‬دام من أواسط القرن املاض ي إلى ما بعد الحرب العاملية الثانية‪ ،‬كانت في هذه‬
‫املدة املنظومة الليبرالية هي األكثر مالءمة للوضعية العربية‪ ،‬وفي بعض األحيان كانت األكثر انتشارا في‬
‫السوق الفكرية العاملية‪ ،‬ولكنها لم تكن أبدا وحدها ولم تلبث أن واجهت منظومات منافسة قوية‪،‬‬
‫فكثيرا ما استغل الكتاب واملفكرون العرب هذه املنظومات األخيرة لنشر دعوة الحرية‪)3(.‬‬
‫ولم يستطيعوا أن يميزوا بين املراحل التي ذكرناها في بداية هذا املقال‪ ،‬وأن يفرقوا بين الجذور‬
‫الثابتة واألصول القارة‪ ،‬وبين الصورة الظرفية التي تلبست بها الليبرالية فحصا نقديا باملعنى الفلسفي‪،‬‬
‫واتخذوها في صورتها الظرفية كشعار‪ .‬صحيح أن الشعار كان موافقا لحاجات املجتمع العربي‪ ،‬وإنه‬
‫لهذا السبب لعب دورا ثوريا مهما جدا‪ ،‬إال أن عدم استعاب الليبرالية في مسارها التاريخي أثر تأثيرا‬
‫سلبيا في الفكر العربي في العهد الالحق‪.‬‬
‫ومن هنا نشأت خصوصية عالقة املفكرين العرب بالليبرالية‪ ،‬فمن جهة استعملوها كشعار ولم‬
‫يتجاوز إلى التمثل الفلسفي‪ ،‬ومن جهة ثانية تأثروا بها طويال إلى حد أنهم أولوا مذاهب أخرى تأويال‬
‫لبيراليا (‪)4‬‬
‫خاتمة‪:‬‬
‫ما نخلص إليه هو أن الفكر العربي اإلسالمي تأثر بما أفرزته النهضة األوروبية‪ ،‬من نتائج و‬
‫مكاسب معرفية و علمية و اقتصادية و سياسية‪ .‬أخذت تشق طريقها و تحتل مكانتها في حياة اإلنسان‬
‫و تدفعها دفعا إلى مزيد التقدم نحو أشكال أرقى من الحياة‪ .‬اإلنسان فيها هو املنطلق و الغاية‪ ،‬األمر‬

‫‪ )1‬عبد هللا العروي‪ ،‬مفهوم الحرية‪ ،‬املركز الثقافي العربي‪ ،‬املغرب‪ ،‬لبنان‪ :‬ط‪ ،2008 ،4‬ص ‪70‬‬
‫‪ )2‬املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.53‬‬
‫‪ )3‬عبد هللا العروي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.70‬‬
‫‪ )4‬املرجع والصفجة نفسها‪.‬‬

‫اجملدل الثامن‪ -‬العدد الرابع – جانفي ‪2017‬‬


‫‪22‬‬
‫كلية العلوم االجتماعية واإلنسانية‬ ‫جملة متون‬ ‫جامعة الدكتور موالي الطاهر سعيدة‬

‫الذي جعل اإلنسان ينعتق من األساطير و الخرافات‪ ،‬و يتحرر من األطر املغلقة‪ ،‬التي فرضتها عليها‬
‫الثقافة الدينية التقليدية للمسيحية‪،‬‬
‫لكننا عندما نقول تأثر يجب ان نبقى على مسافة من هذه الكلمة(تأثر)‪ ،‬وهذا لكي نستطيع ان‬
‫نجيب على النتائح التي انجرت على هذا التأثر سلبا و إيجابا‪ .‬فمن الناحية العملية يبقى سواال الرعيل‬
‫االول دون اجابة( تقدم الغرب وتخلف املسلمين)‪ .‬وتبقى محاوالت الجيل الجديد تراوح مكانها تعيش‬
‫شبه عزلة فكرية نتيجة لطبيعة املجتمعات العربية اإلسالمية من جهة‪ ،‬وفلسفة الحكم في الدولة‬
‫العربية املا‪ -‬بعد كلونيالية من جهة ثانية‪ .‬و هكذا بقيت النخبة املثقفة في العالم العربي( بمختلف‬
‫أطيافها) تستمد وجودها من تشرذمها و انقسامها و تفتتها ومن صراعاتها البينية‪ ،‬و هي تخوض فيما‬
‫بينها حروبا كالمية و معاركة فكرية النهائية‪،‬‬
‫ونتيجة لذلك فإنها تعاني اغترابا حقيقيا‪ ،‬سواء في عالقتها بالقاعدة الجماهرية‪ ،‬التي تنتمي إليها‬
‫أو في عالقتها بالواقع الذي تظل عاجزة عن التأثير فيه أو تغيره أو حتى التواصل معه‪ .‬إن النخبة املثقفة‬
‫في العالم العربي تعاني حالة بؤس فكري‪ .‬ألنها فقدت دورها الطليعي والتنويري(‪ ،) 1‬و تحولت إما إلى‬
‫معارضة هزيلة و هشة لألنظمة السياسية القائمة‪ ،‬أو صارت جزء ال يتجزأ من تلك األنظمة‪ ،‬وفي‬
‫معظم الحاالت صارت النخبة املثقفة معزولة تماما عن أي قاعدة شعبية أو جماهرية‪ ،‬و لذلك تظل‬
‫مشاريعها الفكرية مجرد مقوالت جوفاء‪ ،‬و شعارات براقة تخفي ورائها عاملا كامال من البؤس و التخلف‬
‫و املعانات‪ ،‬فخلف هذا العالم الثقافي املزدان بكافة ألوان املذاهب الفكرية (‪...)2‬يقبع عالم آخر يمتلئ‬
‫بكافة مظاهر الفقر و الحرمان‪ ،‬عالم تستشري فيه مشاعر اإلحباط و السخط و العجز و اإلحساس‬
‫بالقهر و اليأس‪ .‬إنه عالم الجماهير الصامتة الساخطة التي أعياها البحث عن حلول ألزماتها‬
‫اإلقتصادية و االجتماعية و السياسية‪.‬‬

‫‪ )(1‬وحتى نكون منصفين فإن ال يمكن الحديث عن تراجع دور املثقف‪ ،‬دون الرجوع لألسباب الحقيقية التي أدت به إلى االستقالة من‬
‫الشأن العام والتأثير فيه‬
‫‪ )2‬حسن عماد‪( ،‬أزمة التقدم في العالم العربي ) ضمن التنوير و التسامح و تجديد الفكر العربي سبق ذكر ص‪139 ،119‬‬

‫اجملدل الثامن‪ -‬العدد الرابع – جانفي ‪2017‬‬


‫‪23‬‬

You might also like