Professional Documents
Culture Documents
الليبرالية في الفكر العربي المعاصر
الليبرالية في الفكر العربي المعاصر
ملخص:
يبقى استقبال املفاهيم الغربية في الثقافة العربية يثير الكثير من االلتباس ،فمنذ عصر
النهضة العربية بقي املفكر العربي يقوم بعديد املحاوالت لتبيئة املفاهيم الغربية التي اطلع عليها نتيجة
الحتكاكه باألخر ،بدأ بمفهوم النهضة واملفاهيم املجاورة له وصوال إلى مفهوم الليبرالية ،فهل وفق
املفكر العربي في استيعاب مالبسات هذا املفهوم ووضعه موضع املمارسة العملية؟
الكلمات املفتاحية :اللبيرالية ،الحرية ،الفكر العربي ،النهضة ،الحداثة
Summary :
وجودها خارج اللحظة (واآلن) ،بمعنى ان البحث ذهب الى حشد براهين وجودها ،إما في التراث أو في
املتن األخر الوافد ،دون أن يلقى املفهوم معالجة مرتبطة بواقع الحال ،الذي يئن تحت ظروف القهر
واالستغالل ،وهتك عرى الكرامة اإلنسانية .وهنا نحيل القارئ إلى مجموعة من الدراسات التي يمكن
الرجوع إليها ،لتتبع ما ذكرنا أنفا :عمارة محمد :مشكلة الحرية اإلنسانية عند املعتزلة -أحمد لطفي
السيد :مشكلة الحريات في العالم العربي(-)1959توفيق الطويل مفهوم الحرية( -)1994زكريا ابراهيم:
مشكلة الحرية( -)1963زكي نجيب محمود :عن الحرية أتحدث( -)1986عزت قرني :من خالل كتابين(
طبيعة الحرية -2002تأسيس الحرية -)2001روزنتال :مفهوم الحرية في االسالم( -)2007حصاد الفكر
العربي في قضية الحرية( تأليف جماعي -)1980عبد هللا العروي :مفهوم الحرية( -)1984نصار نصيف:
باب الحرية -هذا باإلضافة الى ما نشر حول املوضوع في مختلف املجالت العلمية املحكمة وال سيما
مجلة عالم الفكر .ومجلة املستقبل العربي،التي يمكن مراجعة أعدادها املتوفرة على النت.
-منهج البحث:
تقيدا بطبيعة املوضوع سوف نعمد لتوظيف املهج التاريخي ،لتتبع حركية مفهوم الليبرالية
وظروف نشأته .واملنهج التحليلي النقدي لرصد حركية استقبال املفهوم ،وظروف تبيئته في الثقافة
العربية الحديثة واملعاصرة.
-املطلب األول :الليبرالية ...خلفية تاريخية للمفهوم:
من الصعب الوصول إلى تعريف دقيق و متفق عليه لليبرالية ،بل إن بلورة تعريف واضح
ودقيق ملفهوم الليبرالية أمرا صعبا وربما عديم الجدوى ،وفي حال تحديد مفهوم الليبرالية نجد أن هذا
التحديد ال ينطبق على عدد من الفالسفة واملفكرين( .)1إن صعوبة تحديد مفهوم الليبرالية يرجع إلى
كونه مجموعة "أفكار مجسدة في الواقع وموصولة بالتاريخ ،بما فيه من تدافع وصراع واختالف
وتوافق ،وهذا ما يجعل املفهوم يأخذ معاني متعددة ،حسب القراءة املقدمة له ،األمر الذي يصبح معه
الحديث عن مفهوم الليبرالية بإطالقية سقوط في السطحية والتعميم ،فالقول الغالب هو أننا نقصد
بالليبرالية :تلك األفكار واملبادئ التي ظهرت مصاحبة لظهور الرأسمالية في الغرب ،وخاصة في القرن
السابع عشر على يد توماس هوبز و جون لوك ،وكانت موضوعة في صورة فلسفية ألن أصحابها حرصوا
على تأسيسها على مبادئ كلية ،ونظرة شاملة لإلنسان"( ،)2لكن هذا القصد سرعان ما يتزعزع عندما
نصطدم بالفكرة القائلة بأن":الليبرالية لم تكن وليد التأمل الفكري في طبيعة اإلنسان واملجتمع ..ولم
تكن سعيا من بعض املفكرين نحو وضع مبادئ جديدة لتنظيم املجتمع ،تضمن الحرية للجميع ،فلم
)1وليد بن صالح الرميزان ،الليبرالية في السعودية و الخليج ،روافد للطباعة والنشر و التوزيع ،بيروت ،ط،1،2009ص 14
)2أشرف منصور ،الليبرالية ،الجديدة ،جذورها الفكرية و أبعادها االقتصادية،الهيئة املصرية العامة للكتاب(،ب ط)،2008،ص 23
تكن النيات الطيبة واألهداف اإلنسانية النبيلة وراء ظهور الليبرالية...لقد كانت الليبرالية تعبيرا عن
الطبقة البورجوازية ،وعن نظرتها لإلنسان واملجتمع"()1
لقد اتخذ مصطلح الليبرالية–كواحد من املصطلحات املفتاحية في املفردات السياسية للمجتمع
الحديث–موقعه في الساحة الفكرية ،بداية من السنوات األولى من القرن التاسع عشر ،لدى الكتاب
اإلسبان ،لوصف زعمائهم السياسيين ،الذين كانوا يدافعون عن امللكية الدستورية والحكومة
البرملانية ،وسرعان ما انتقل إلى بريطانيا حيث انتقد الثوريون -أسالف الحزب املحافظ -خصومهم
بأنهم ليبراليون ،لدفاعهم عن مبادئ سياسية أوربية ،وليست إنجليزية ،ولم يحتل املفهوم الريادة إال في
أربعينيات القرن التاسع عشر ،وصار يدل على نظرة متماسكة إجماال لإلنسان و املجتمع ،تتسم برغبة
في تحرير جميع األفراد من القيود االعتباطية والغير ضرورية.
إذا نظرا لهذه التمايزات من الصعب أن نجيب عن سؤال ما الليبرالية؟ إجابة قطعية بل كل ما
في وسعنا هو محاولة تتبع الداللة املعجمية للمفهوم ،مقرونة بالشروط الواقعية لنشأته ،ومن هذه
الدالالت نجد أن" :الليبرالية اتجاه عقلي يسعى في ضوء افتراضاته ،ألن يحلل العالقات الثقافية
واألخالقية واالجتماعية واالقتصادية والسياسية في املجتمع اإلنساني ،وتؤكد على تعبير اإلنسان عن
ذاته"( ،)2ولهذا فهي ترمي إلى ترسيخ مجموعة من املفاهيم والسياسات ،التي تهدف إلى منح املزيد من
الحرية للفرد ،وهي تؤكد سواء في مجال الفكر أو التطبيق ،على فكرتين رئيسيتين:
األولى العمل ضد السلطات التحكمية ،وإحالل أشكال أخرى من التطبيقات االجتماعية ،محل
هذه السلطات .والثانية :حرية التعبير عن الرأي وعن الشخصية الفردية"(.)3
مع هذه الرؤية ،أصبحت الحرية الفردية تمثل مركز الريادة ،في مقابل تقلص وظيفة الدولة،التي
لم تعد سوى جهاز لحماية حريات املواطنين .تقول املوسوعة األمريكية األكاديمية مدعمة هذا الرأي
"إن النظام الليبرالي الجديد (الذي ارتسم في فكر عصر التنوير) ،بدأ يضع اإلنسان بدل اإلله في وسط
األشياء ،فالناس بعقولهم املفكرة يمكنهم أن يفهموا كل ش يء ،ويمكنهم أن يطوروا أنفسهم ومجتمعاتهم
عبر فعل نظامي وعقالني"( ،)4فالفرد حسب الليبرالية،له السيادة على هذا الكون ،بما يعني ضرورة
التحرر من التسلط أيا كان نوعه ،سواء تسلط الدولة أو الجماعة ،أو األفكار املسبقة أو املوروثة.
وأيضا جعل األولوية للمصالح الفردية وتغليبها على املصالح االجتماعية .ف"الليبرالية تعتبر الحرية
املبدأ واملنتهى ،الباعث والهدف ،األصل والنتيجة في حياة اإلنسان .وهي املنظومة الفكرية الوحيدة التي
ال تطمع في ش يء سوى وصف النشاط البشري الحر ،وشرح أوجهه والتعليق عليه"(.)5
بينما يذهب ناصيف نصار إلى التمييز بين بعدين ملفهوم الحرية في الحقل الداللي لليبرالية "فإذا
كانت الليبرالية كإيديولوجيات للبرجوازية ،قد تمحورت حول شعار الحرية وسعت إلى تجسيد هذا
الشعار في املمارسات ،واملؤسسات االقتصادية و السياسية والثقافية و التربوية واإلعالمية ،من وجهة
نظر أفراد الطبقة البرجوازية بإطالق ،وسعت من جهتها إلى تجاوز األطر اإليديولوجية إلى الكشف عن
مضامين مبدأ الحرية ومستلزماته في الوجود البشري" ( .)1أما إذا تناولنا املفهوم من زاوية الحقول التي
يعرف من داخلها ،نجد أن :الليبرالية في الحقل السياس ي ،ينظر إليها على أنها "مذهب سياس ي يرى أن
من املستحسن أن تزداد إلى أبعد الحدود استقاللية السلطة التشريعية والسلطة القضائية ،بالنسبة
إلى السلطة اإلجرائية التنفيذية ،وأن يعطى للمواطنين أكبر قدر من الضمانات ،في مواجهة تعسف
الحكم .أما في حقل املمارسة الدينية فإننا نجد الليبرالية تعبر عن "مذهب سياس ي ،فلسفي يرى أن
اإلجماع الديني ليس شرطا الزما ،لتنظيم اجتماعي جيد ،ويطالب ب"حرية الفكر" لكل املواطنين .أما
في امليدان االقتصادي ،فالليبرالية "مذهب يرى أن الدولة ال ينبغي لها أن تتولى وظائف صناعية ،وال
وظائف تجارية ،وأنه ال يحق لها التدخل في العالقات االقتصادية ،التي تقوم بين األفراد والطبقات أو
األمم" .وهكذا وخوفا من انفالت األمور ،نظرا لدعوة البعض حصر تدخل الدولة في الشرطة والعدل
والدفاع العسكري ،يتمنى البعض " أن توضع الليبرالية في مقابل النظرية اإلنفالتية ،وهذا تغير ملفهوم
الحرية (االنفالت) عندئذ يمكن أن تكون األولى (الليبرالية) ،معتبرة بوصفها النظرية األخالقية
والسياسية ،التي تتوق إلى حرية الفرد أيما توق ،وتحد في الوقت نفسه من املطالبة أومن الحصول
على هذه الحريات ،عندما تغدو إباحيات مضرة باآلخر ،في املقابل يمكن للنظرية اإلنفالتية أن تكون
صورة للفردية التي ال تعترف بأي حد مألوف وقانوني للحرية الفردية ،فهي وحدها الحكم على حقوق
الفرد وفقا لقوته"( ،)2هذا االنفالت تحدث عنه هيمون عندما قال :إن الليبرالية مرت بمراحل:
أ) مرحلة التكوين ،حيث كانت وجها من وجوه الفلسفة الغربية املرتكزة على مفهوم الفرد،
ومفهوم الذات.
ب) مرحلة االكتمال ،حيث كانت األساس الذي شيد عليه علمان عصريان هما :علم االقتصاد،
وعلم السياسية النظرية .
ج) مرحلة االستقالل ،حيث نزعت الليبرالية من أصولها كل فكرة تنتمي إلى االتجاه الديمقراطي،
بعد أن أظهرت تجربة الثورة الفرنسية أن بعض أصول الليبرالية قد تنقلب عند التطبيق إلى عناصر
معادية لها ،وعليه عند حديثنا عن الليبرالية ،يجب أن نحدد املقصود بالفكر الليبرالي :ف"ليبرالية
بعض فالسفة عصر النهضة ،لم تكن سوى وجه من أوجه اإلنسية لألوروبية ،أما ليبرالية القرن 19
فكانت موجهة لنقد الدولة العصرية املهيمنة على األفراد و الجماعات ،أما ليبرالية نهاية القرن املاض ي
وبداية هذا القرن ،فكانت تعتبر أن الدولة شر كله ،ألنها تضيق على املبادالت الفردية"(.)1
ما نخلص إليه أوال :هو أن الليبرالية مذهب فكري و سياس ي ينادي بالحرية املطلقة في امليدان
االقتصادي والسياس ي واالجتماعي ،والتركيز على مبدأ االستقاللية لألفراد واملجتمعات والدول
ومعناه التحرر التام من كل أنواع اإلكراه الخارجي والداخلي ،سواء كان دولة أم جماعة أو أفرد ،ويتم
التصرف وفق ما يمليه قانون النفس ورغباتها .ولكل فرد الحق والحرية في اختيار أسلوب الحياة الذي
يناسبه ،والعمل على تكريس الحريات ضمن عقد اجتماعي 2تتفق عليه األغلبية بكل صورها املادية
واملعنوية ،بين الدولة واملجتمع.
ثانيا :هو أن الليبرالية ظهرت كممارسة قبل أن تتشكل بوصفها لفظا اصطالحا :بمعنى أنها من
حيث وجودها بوصفها لفظا لم تظهر إال الحقا لوجودها بوصفها واقعا ،إذ أنها بوصفها وجود معرفي
ومجتمعي ،أخذت في التبلور داخل سياق التاريخ األوروبي ،على األقل قبل3قرون من ظهورها لفظا،
والدليل على ذلك ،أن كلمة ليبرالية ستظهر في اللسان اإلنجليزي سنة .)3( 1819
هناك ارتباط شديد بين الليبرالية وفكرة الحرية والديمقراطية ،بل إن اسمها مشتق في الواقع
عن معنى الحرية ،ومع ذلك فإن الليبرالية بمفهومها الذي استقر ،تستند إلى مفهوم خاص للحرية،
اتضحت معامله بوجه خاص ابتدءا من القرن السابع عشر ،فإذا كان الحديث عن الحرية
والديمقراطية قديما ،يجد جذوره في الفكر اليوناني ،واملمارسات الديمقراطية في املدن اليونانية ،ثم في
عديد من املدن التجارية في إيطاليا ،في العصور الوسطى وعصر النهضة .فإن هذه املمارسات ال تمثل
الفكر الليبرالي كما استقر معناه ومفهومه من خالل املساهمات الفكرية آلباء الفكر الليبرالي ،وخاصة
جون لوك ،فالفكر الليبرالي ليس فقط دعوة إلى الحرية ،ولكنه بالدرجة األولى دعوة إلى الفردية
واحترام مجال خاص يتمتع الفرد فيه باستقالله وحريته،دون تدخل وإزعاج ،وإذا نظرنا إلى مفهوم
الحرية كما ساد في الفكر السياس ي واملمارسات العملية،نجد أنه تراوح بين مفهومين أساسين،األول هو
الحق في املشاركة في اتخاذ القرارات السياسية،والثاني هو االعتراف بمجال خاص لألفراد ال يجوز
التعدي عليه أو التدخل فيه(،)4وهذه هي التفرقة بين املعنى القديم والحديث للحرية ،وقد أوضح
بنجامين كونستانت في كتابه"الحريات القديمة والحديثة( ،)1819هذه التفرقة بشكل واضح ،فالحرية
باملعنى الحديث هي االعتراف للفرد بمجال خاص ،يتمتع فيه باالستقالل وال يخضع فيه لغير القانون،
في حين أن الحرية باملعنى القديم السائد في املدن اليونانية ،ثم في املدن اإليطالية تشير إلى الحق في
املشاركة في اتخاذ القرارات السياسية( ،)1ووفقا لهذا املفهوم القديم فإن الفرد وهو يتمتع باملشاركة في
املسائل العامة ،يكاد يعرف أي استقالل في أموره الخاصة ،وعلى العكس فإن الفرد وفقا للمفهوم
الحديث للحريات يتمتع باالستقالل في حياته الخاصة ،وعلى العكس ال يكاد يتمتع بأي سيادة في
املسائل العامة .من الناحية التاريخية يمكن أن نميز بين ثالثة مراحل مر بها املذهب الليبرالي:
-املرحلة األولى :مرحلة كان يغلب عليها طابع الحرية االقتصادية التي ال يقف أمامها أي عائق،
وعكست نفسها في ذلك الشعار الشهير" ،دعه يعمل دعه يمر" ،وفي عدم تدخل الدولة في النشاط
االقتصادي ( .)2ورغم أن الليبرالية في بداية ظهورها كانت منظومة كاملة من الحقوق الفردية ،إال أن
الطبقة البورجوازية الصاعدة آنذاك ،تمسكت بالجانب االقتصادي لليبرالية فقط الذي كان يعطيها
املبرر ،بأن ما تحققه من أرباح وثروات وسيطرة ،هو نتيجة ملجهودها الفردي وحسن تدبير قيامها
باملخاطرة ،ولهذا وقفت هذه الطبقة في البداية ضد أي حق لآلخرين ،يمس أو يحد من حريتها في
تعظيم أرباحها وثروتها واحتكارها للسلطة .ولهذا شهدت تلك املرحلة ،وبالذات في بدايتها أبشع صنوف
االستغالل للعمال والنساء واألطفال (طول ساعات العمل وضآلة األجور ،وافتقاد الشروط الصحية
والوقائية) ،كما شهدت تلك املرحلة التوسع االستعماري واستغالل شعوب املستعمرات ،من قبل
الدول الرأسمالية الليبرالية.
-أما املرحلة الثانية :فتبدأ باالزمة التي تعرض لها النظام الرأسمالي في مختلف أنحاء املعمورة،
والتي انجر عنها تحطم يقينيات الفكر الكالسيكي والنيوكالسيكي،الذي كان ينكر إمكانية حدوث األزمات
في النظام الرأسمالي ،و يدعي عدم وجود تعارض بين املصلحة الفردية واملصلحة العامة ،وقد مهد
الكساد الكبير السبيل لتدخل الدولة في النشاط االقتصادي واالجتماعي .كما أن كارثة الكساد الكبير،
كانت األرضية التي أنجبت "النظرية العامة ل كنز"عام ،1936وهي النظرية التي سيكون لها تأثير كبير
على أوضاع الطبقة الوسطى في العالم .فقد أثبت كينز ،أن الرأسمالية قد فقدت قدرتها التلقائية على
التوازن ،وأصبح بها ميل كامن يعرضها ألزمات الدورية ،بسبب االحتماالت القوية ،لعدم تناسب قوى
الطلب الكلي مع قوى العرض الكلي .وألن الرأسمالية عاجزة عن أن تولد من ذاتها وبطريقة تلقائية
سبيل تجنب هذه األزمات ،فقد دعى إلى ضرورة تدخل الدولة في النشاط االقتصادي ،باعتبارها
املعامل املوازن أو التعويض ي لتقلبات هذا النشاط ،واقترح جملة من السياسات النقدية املالية
واالجتماعية ،التي من شأنها الحيلولة دون حدوث الكساد أو التضخم .وبعد انتهاء الحرب العاملية
الثانية أصبحت الوصفة الكينزية هي األساس ،الذي بنيت عليه السياسات االقتصادية،في دول الغرب
الرأسمالي(.)3
-املرحلة الثالثة لليبرالية :تبدأ هذه الفترة بمجموعة من األزمات املستعصية ،التي عانت منها
الدول الرأسمالية الصناعية -وال تزال -ففي بداية السبعينات ،شهدت هذه الدول زيادة واضحة في
معدالت البطالة ،ومعدالت التضخيم في آن واحد(وهي الظاهرة التي عرفت تحت مصطلح الركود
التضخمي ،وتدهور معدالت النمو االقتصادي وتراجع معدالت النمو اإلنتاجية وزيادة عجز املوازنة
العامة ،و ارتفاع حجم الدين العام الداخلي وزيادة أسعار الطاقة...الخ.
املطلب الثاني :املفكر العربي و املفاهيم الليبرالية
الليبرالية في الفكر العربي الحديث:
في إطار انفتاح األنا على االخر تجب االشارة الى الدور الذي لعبه الرحالة العرب في بداية
القرن 19من خالل الرحالت العلمية الى الغرب (1بداية بايطاليا ،ثم فرنسا )..في تعريف املجتمع العربي
بالحضارة الغربية ،التي كانت تعيش قمة مجدها ،في مقابل الشرق املتخلف ،فجاءت محاوالت رجال
هذه الرحاالت لتكشف لألنا ،أسباب قوة االخر وتفوقه ،وكانت النتيجة التي اتفق حولها جميع من
كتبوا في هذا اإلطار ان سر تقدم الغرب( فرنسنا على وجه التحديد) ،يكمن في نظام حكمه الذي شجع
اإلنسان وأعطاه مكانته .من هنا ظهرت محاولة رفاعة الطهطاوي ،لتبيئة مكتسبات الحضارة الغربية
عموما ،والفرنسية على وجه الخصوص ،فمن وجهة نظر الطهطاوي ،ينبغي على املسلمين ،إذا ما أردوا
الخروج من حالة التخلف ومسايرة التقدم ،أن يسايروا الفرنسيين في أسلوب حياتهم االجتماعية
والثقافية....الخ .ويمكن أن نبرز إعجاب الطهطاوي بالحضارة األوربية الحديثة ،من خالل كتابه
"تخليص اإلبريز" ،2حيث يظهر صراع الشرق والغرب جليا ،من خالل هذا الكتاب ،الذي لم يكن
الغرض من ورائه وصف الغرب ،بقدر ما كان يهدف إلى نقد العالم العربي ،من خالل الغرب ،فبالرغم
من أن كتاب تخليص اإلبريز ،هو وصف للغرب في صورة باريس( ،)3إال أن الواقع املعاش كان دائما
حاضرا ،من خالل املقارنات التي كان يعقدها الطهطاوي ،بين باريس ومصر ،داعيا بني جلدته إلى
مواكبة الغرب ،واالطالع على منشآته .
لقد آمن الطهطاوي بالعديد من مفاهيم الليبرالية الفرنسية ،كالحرية واملساواة والتسامح،
حيث شكلت الحرية هاجسا كبيرا عنده ،مما جعله يخصص لها جانبا كبيرا في فكره ومؤلفاته ،غير أنه
ربط موضوع الحرية بمسألة الحقوق املدنية ،واعتبر أن ذلك ليس من سمات الفكر الغربي فحسب ،بل
هو سمة من سمات الفكر اإلسالمي ،ألن املسلمين قد مارسوا الحرية وتفاعلوا معها ،وأن اإلسالم قد
شرعها ،ولكن بمفهوم أعم وأشمل من مفهومها عند الغربيين ،وهو مفهوم" العدل" ،وبناء على ذلك،
يمكن إعادة صياغتها ،وبعثها من جديد في إطار التجربة الغربية ،وذلك باعتبارها وسيلة من وسائل
)1انظر تفصيل املوضوع في :سابا يارد ،نازك ،الرحالون العرب وحضارة الغرب ،في النهضة العربية الحديثة.
)2وبشكل اكثر تنظيم وعمق في كتابه :املرشد االمين للبنات والبنين الذي يعد بمثابة مرجع هام في قضايا التربية واملواطنة وحقوق
املرأة
)3عمارة محمد،األعمال الكاملة لرفاعة الطهطاوي،ج،3املؤسسة العربية للدراسات والنشر والتوزيع(،ب .ط)،1973،ص39
التقدم والرقي .وكان الطهطاوي يرى أن أهم ما يميز املمارسة السياسية الغربية في عهده ،عن املمارسة
السياسية العربية اإلسالمية ،هو أن األولى قائمة على مبدأي الحرية والعدالة ،والثانية ينعدم فيها هذان
املبدآن ،فكانت الدول األولى متحضرة ومتمدنة ،ألنﻬا تستند إلى مبدأ وشرط التحضر ،بينما الثانية
متخلفة ومتأخرة ،ألن شروط التحضر والتمدن تنعدم فيها.
لكن الطهطاوي ورغم إيمانه بمفاهيم التنوير وقيم الليبرالية ،إال أنه بقي مشدود إلى
مرجعيته األزهرية ،حيث كان يقيم التعامل مع الحضارة الغربية ،في إطار نظرة معيارية دينية ،تتعامل
مع الغرب من منظور الكفر واإليمان .وعلى نفس املنوال سعى خير الدين التونس ي إلى تبيان الدليل،
على نجاعة مواكبة الحضارة األوربية ،واالقتباس منها ،من أجل إحداث الوثبة ،على مستوى العقل
واملمارسة ،حيث تظهر هذه النزعة ،من خالل عرضه للغرض من وراء تأليف كتابه " أقوم املسالك في
معرفة أحوال املمالك " ،الذي جاء فيه" :ما دعانا لجمع هذا التأليف...أمران آيالن إلى مقصد واحد،
أحدهما إغراء ذوي الغيرة والحزم ،من رجال السياسة والعلم ،بالتماس ما يمكن من الوسائل املوصلة
إلى حسن حال األمة اإلسالمية ،وتنمية أسباب تمدنها" ،هدف أدرك خير الدين التونس ي أنه يستحيل
تحقيقه ،مالم تتوفر له األرضية املناسبة ،املتمثلة في"حسن اإلمارة املتولدة من األمن ،املتولد من
األمل ،املتولد من إتقان العمل ،املشاهد في املمالك األورباوية بالعيان"(.)1
أما األمر الثاني الذي قصد من ورائه تأليف كتابه هذا فهو ":تحذير ذوي الغفالت من عوام
املسلمين ،عن تماديهم في اإلعراض عما يحمد من سيرة الغير ،املوافقة لشرعنا ،بمجرد ما انتقش في
عقولهم ،من أن جميع ما عليه غير املسلم ،من السير والتراتيب ينبغي أن يهجر( .)2ولذلك دعا إلى
اقتباس األفكار السياسية واالقتصادية ،كون مثل هذه االقتباسات ،تتوافق مع روح الشريعة ،داعيا
إلى تقليد الغرب فيما ينفع وال يتعارض مع الشرع ،وترك ماال ينفع ،مستشهدا على ذلك بقوله; الشرع
لم ينه عن التشبه بمن يفعل ما أذن هللا فيه ...أن صورة املشابهة فيما تعلق به صالح العباد ،ال تضر
على أنا إذا تأملنا في حالة هؤالء املنكرين ،ملا يحسن من أعمال اإلفرنج ،نجدهم يمتنعون عن
مجاراتهم ،فيما ينفع من التنظيمات ونتائجها ،وال يمتنعون منها فيما يضرهم ،وذلك أنا نراهم
يتنافسون في املالبس وأثاث املساكن ،ونحوها من الضروريات( ،)3فالشريعة ال تنافى تأسيس
التنظيمات السياسية ،املقوية ألسباب التمدن ونمو العمران...فاألمر إذا كان صادرا عن غيرنا ،وكان
موافق لألدلة ،السيما إذا كنا عليه ،وأخذ منا ،فال وجه إلنكاره وإهماله ،بل الواجب الحرص على
استرجاعه واستعماله(.)4
)1التونس ي خير الدين،أقوم املسالك في معرفة أحوال املمالك ،مطبعة الدولة ،تونس،ط( 1،بدون تاريخ)،ص5
)2املصدر والصفحة نفسها.
)3املصدر نفسه،ص.7
)4شرابي هشام ،املثقفون العرب والغرب،دار النهار،بيروت ،ط(،2ب ،تاريخ)،ص57
إن أكثر ما استحدثه األوربيون-حسب خير الدين التونس ي -هو امتداد ملا كانت عليه شعوبنا ،ولو
أننا تابعنا مسيرتنا الحضارية ،لوصلنا إلى ما وصلوا إليه ،بل إنه يرى أن العالم وحدة متماسكة ،وأن
أي إنجاز إنساني وحضاري ،هو في مصلحة الجنس البشري ،جميعه وحق له ،وال عبرة في اختالف
األديان فإن كل متمسك بديانته ،وإن كان يرى غيره ضاال في ديانته،فذلك ال يمنعه من اإلقتداء به،
فيما يستحسن في نفسه ،من أعماله املتعلقة باملصالح الدنيوية ،كما تفعله األمة اإلفرنجية ،فإنهم
مازالوا يقتدون بغيرهم ،في كل ما يرونه حسنا من أعماله ،حتى بلغو في استقامة نظام دنياهم ،ما هو
مشاهد( .)1وهو ينكر على الذين يعارضون اإلقتداء بالتجربة األوربية ،بحجة مخالفتها للشريعة في حين
أن اإلفادة من علم الغرب ومعرفته وتقدمه العمراني ،والحذو حذوه ضمن تجربة خاصة ،هو الذي
يحفظ استقاللنا ،وهل يظن هؤالء املنكرون إن ذلك ممكن دون تقدم في املعارف وأسباب العمران
مشاهدة عند غيرنا( .)32وفي تناوله ملصطلح الحرية يسير على الرأى الذي صادفناه عند الطهطاوي
،فرأى أن الحرية مالزمة للعدل ،وأنها على هذا األساس،أصل من أصول الشريعة ،ومن هنا فإنه يدخل
مباشرة في الحديث عنها ،معرفا بها ،معددا أقسامها ،فالحرية عنده تنقسم إلى قسمين رئيسيين:
-الحرية الشخصية :هي إطالق تصرف اإلنسان في ذاته وكسبه ،مع أمنه على نفسه وعرضه
وماله ،ومساواته ألبناء جنسه لدى الحكم ،بحيث أن اإلنسان ال يخش ى هضيمة في ذاته ،وال في سائل
حقوقه ،وال يحكم عليه بش يء ال تقتضيه قوانين البالد املقررة ،وبالجملة فالقوانين تقيد الرعاة كما
تقيد الرعية.
-الحرية السياسية :وتعنى مشاركة املواطنين في سياسة الدولة ،وإبداء الرأي فيما هو أصلح
لها ،على نحو ما أشير إليه ،بقول الخليفة الثاني عمر بن الخطاب"،من رأي منكم في اعوجاجا
فليقومه" ،يعني انحرافا في سياسته لألمة وسيرته معها ،ولكن ملا كانت الديمقراطية املباشرة ،كممارسة
للحرية السياسية ،باملعنى الذي أشار إليه الخليفة العربي ،غير ممكنة في هذه األيام ،فقد استبدلت
الديمقراطية املباشرة بديمقراطية تمثيلية تجسدها املجالس النيابية املنتخبة ،فالفرق بين الحرية
السياسية عند العرب ،والحرية السياسية كما عرفتها أوروبا في القرن التاسع عشر ،هو فرق يعود إلى
اختالف األزمنة ،وإلى الحاجة إلى تقنيين هذه الحرية وتنظيمها ،منعا للهرج ،وضمانا للضبط ،ذلك أنه
ملا كان إعطاء الحرية بهذا املعنى (الديمقراطية املباشرة التي عبر عنها عمر بن الخطاب ) لسائر األهالي،
مظنة لتشتيت اآلراء ،وحصول الهرج ،عدل عنه ،إلى كون األهالي ينتخبون طائفة من أهل املعرفة
واملروءة ،تسمي عند األوروبيين بمجلس نواب األمة ،وتسمى عندنا بأهل الحل والعقد.
لقد شكل الخطاب الليبرالي العربي-اإلسالمي ،1عند الرعيل األول من املفكرين دعوة صريحة
إلتباع خطوات النهضة األوروبية ،للخروج من مأزق التخلف .ورأى أن العالم العربي يجب أن ينش ئ
هيئات سياسية وإدارية واجتماعية على الطريقة األوروبية.
الليبرالية في الفكر العربي املعاصر:
نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين وبعد 11سبتمبر 2001على وجه
الخصوص ،الذي يعتبر فاصال تاريخيا عربيا كما هو من الفواصل التاريخية األمريكية أيضا ،ظهر جيل
جدي د من الليبراليين الجدد " وهؤالء نادوا بعصر تنوير جديد وهو مقدمة لفلسفة املستقبل ،وتبنوا
أفكار تنويري القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ،وكذلك أفكار الليبيراليين الذين جاءوا في
النصف الثاني من القرن العشرين ،وأضافوا إليها جملة من املبادئ التي بينت مواقفهم من الدين
والتراث والعقل من جهة ،ورؤيتهم للعالقة مع األخر ( ثقافيا وسياسيا) من جهة أخرى .والتي تعتبر
بمثابة مسودة لبيان الجيل الجديد من الليبراليين العر (:)2
-موقفهم من الدين:
-1املطالبة بإصرار باإلصالح التعليمي الديني الظالمي ،في ظل سيادة اإلرهاب الديني ،بعد أن تم
خطف اإلسالم وتزويره وأدلجته أدلجة دموية مسلحة.
-2الدعوة إلى محاربة اإلرهاب الديني والقومي السياس ي والدموي املسلح بكافة أشكاله.
-3تأكيد إخضاع املقدس والتراث والتشريع والقيم األخالقية للنقد العميق ،وتطبيق النقد
العلمي العقالني.
-4اعتبار املوقف العدائي مع اآلخرين موقفا جاء بناءا على ظروف سياسية واجتماعية معينة
قبل أربعة عشر قرنا ،ولم تعد هذه الظروف قائمة اآلن ،وإنما تغيرت تغيرا كليا ،ولذا يجب عدم
اإلستعانة مطلقا باملواقف الدينية ،التي جاءت في الكتاب املقدس تجاه اآلخرين قبل خمسة عشر قرنا
ملهاجمة اآلخرين اآلن وسفك دمائهم ،فاملصالح متغيرة ،واملواقف متغيرة والتغير هو سنة الحياة()3
-5اعتبار األحكام الشرعية أحكاما وضعت لزمانها ومكانها ،وليست أحكاما عابرة للتاريخ كما
يدعي بعض رجال الدين ،ومثالها األكبر حجاب املرأة وميراث املرأة ،وشهادة املرأة ،وتولي املرأة املناصب
السياسية والقضائية العليا....الخ
)1يالحظ القارئ أننا اقتصرنا على ذكر الطهطاوي وخير الدين التونس ي ضمن هذا املدخل رغم أننا نجد الكثير من املفكرين العرب ممن
كانت كتاباتهم تنحوا منحى يدعو إلى قيم الحرية واقتباس النموذج النهضوي الغربي على شاكلة :فرانسيس مراش -لطفي السيد -سالمة
موس ى وآخرون.
)2شاكر النابلس ي ،الليبيراليون الجدد ،منشورات الجمل ،كولون ،أملانيا ،ط ،2005 ،1ص .21 ،20ورد املوضوع كذلك في :موقع الحوار
املتمدن ،ع 2004 ،873تحت عنوان :من هم الليبراليون العرب الجدد ،وما هو خطابهم؟
)3املرجع نفسه ،ص .21
-6إن الفكر الديني وهو الفكر الذي جاء به علماء الدين وفقهاؤه ورجاله ،وليس الدين الرسولي
نفسه ،يقف حجر عثرة أمام الفكر الحر وتطوره ،كما يقف حجر عثرة أمام ميالد الفكر العلمي(،)1
ونقطة البداية الحقيقية والجذرية هي البدء بالتغيير الشامل ،وعدم" قبول التفسير املنغلق واملتعصب
للنصوص املقدسة ( ،)2والنظر إلى املقدس كدستور ثابت لتنظيم العالقات املقدسة الثابتة دون
سواه ،أي عالقة اإلنسان باهلل ،أما عالقة اإلنسان بأخيه اإلنسان سواء كانت عالقات قانونية أو
اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية ،فهي عالقات أرضية وليست مقدسة ،وتتغير بتغيير العصور
واألحوال ،واملفاهيم ،ويحددها ويحكمها دساتير أرضية ،وضعية قابلة هي األخرى للتغيير بمعدل
يتواكب مع سرعة تغير ما تحكمه من عالقات ،ويقوم العلم بدور محوري في صياغتها( .)3ويبقى الشق
الديني الخالص في تقييم اآلخر في حدود العالقة بين اإلنسان وهللا ،4ليس إلنسان التدخل فيها أو
الحكم على طبيعتها ،وأال يكون كمن يغتصب ماهلل .هذا الفهم للنصوص املقدسة ،ومجاالت تطبيقها ال
يقلل من شأن املقدس ،أو يقلص دوره في الحياة ،بل بالعكس فيه تكريم للمقدس وتنزيهه عن
االستخدام االنتهازي للدين)5( .
-موقفهم من املاض ي( التراث):
-ال والء مطلقا للماض ي املحكوم بماضيه فقط ،وال انغالق عليه وفهم الحاضر يدفعنا إلى إعادة
النظر في قيم املاض ي ،وضرورة خلق املستقبل الذي هو لب الحداثة،ال يمكن إنتاج الحاضر بتاريخ
املاض ي ،وإنما بتاريخ الحاضر واملستقبل كذلك وشرط تخطي املاض ي قائم في الحاضر.
-إن ضعفنا ،وهزالنا وقلة معرفتنا ،وعجزنا العلمي والعقالني هو الذي يؤدي بنا إلى االتجاه
إما إلى املاض ي لالستعانة به لبناء الحاضر ،وهي أسوء الخيارات ،حيث ال يملك املاض ي إال بماضيه
فقط ،الذي انتهت صالحيته في وقت مض ى على العرب أن يتخلوا عن املثل األعلى املوهوم ،الذي
يتقمصوه تخيال ومكابرة ،واستعالء واإلقرار بأن التاريخ محكوم بالقوانين وليس بهوى الشعوب ،وال
بخيالها وال بتعلقها بماضيها (.)6
-املراجعة النقدية للماض ي الكتشاف ما قد يمت من عناصر الخلل في الحاضر إلى ميراث
املاض ي ،ومحاولة استخالص الدروس ،حرصا على أن يعيد التاريخ نفسه ألن التكرار في مسيرة
اإلنسانية ال يمكن إال أن يكون وباال وتقهقرا حضاريا ،مهما بدا األمر عكس ذلك (.)7
-اإليمان بأن اغتراب العقل ال يحقق غير سيادة الهمجية والغوغائية واملجتمع الدموي،
واملطلوب هو طرح أسئلة على كافة املستويات لتجاوز رتابة املاض ي ،تجاوز يمر بالنسبة إليهم عبر:
-بتبني قيم الحداثة تبنيا كامال ،باعتبارها هي التي تقود إلى الحرية .
1
-تحرير النفس العربية من أوهامها ،والسحر والتعاويذ والشعوذة ،التي تحيط بها) ( .
-تحرير النفس العربية من ماضيها ،ومن حكم األسالف ،الذين مازالوا يحكموننا من قبورهم.
-اإليمان بنسبية املعرفة والحقيقة.
-خلق شخصية عربية جديدة ،رافضة لقيم العنف والذل والالعقالنية والدروشة والقبلية،
مؤمنة بالقيم العقالنية.
-العودة إلى الذات ونقدها ،والعودة إلى الوعي بالذات ال كأفراد ولكن كأمة)2( .
والخالصة انه بمراجعة موقفنا من املقدس ،وموقفنا من املاض ي ،نكون قد مهدنا األرضية
إلقامة البناء الحضاري الليبرالي ،الذي تتصدى له مسودة مانيفستو الليبراليين الجدد.
-املوقف من العقل والثقافة العقالنية:
أما املحطة الثالثة ،فهي الخطوة األولى في مرحلة البناء ،وتتعلق بدور العقل في التحديث ،فبدون
اكتساب الثقة بالذات لدى الطفل والشاب والكهل ،لن نتقدم خطوة واحدة على طريق العقالنية
والتحديث ،التي تسود العالم املتحضر ،وتتيح توظيف العقل بدرجة من الكفاءة والفاعلية ،تكفل
إقامة حضارة حديثة (.)3
-ميكانزمات التطبيق العملي للمشروع:
-تغيير نظام التعليم ،والتغيير الشامل في وسائل اإلعالم ،نظما وكوادر ،وإذا ما تتم التحول
املطلوب ،فإن الطريق سيصبح مفتوحا على مصراعيه لتفعيل العقل في حياتنا ،عندها سنطرح أسئلة
على كافة املستويات لم يسبق طرحها في املاض ي ،وسنتمكن من تحرير النفس العربية والشرقية من
أوهامها)4( .
-عدم الحرج من اإلستعانة بالقوى الخارجية تطبيق الديمقراطية العربية.
-ال حرج من أن يأتي اإلصالح من الخارج.
-اإليمان بأن ال حل للصراع العربي مع اآلخرين سواء في فلسطين أو خارجها ،إال بالحوار
واملفاوضات والحل السلمي**)5( .
-اإليمان بالتطبيع السياس ي والثقافي ،واإلعتراف بالواقعية السياسية ،وأن التطبيع والتالقح بين
الشعوب والثقافات ،هو الطريق إلى السالم الدائم في الشرق األوسط.
-الوقوف إلى جانب العوملة وتأييدها ،باعتبارها أحد الطرق املوصلة إلى الحداثة اإلقتصادية
العربية التي يمكن أن تقود إلى الحداثة السياسية والثقافية.
-املطالبة بمساواة املرأة مع الرجل مساواة تامة ،في الحقوق والواجبات والعمل والتعليم واإلرث
والشهادة والتوظيف ،وتبني مجلة األحوال الشخصية التونسية ،التي صدرت 1957والتي تعتبر
النموذج العربي األمثل لتحرير املرأة العربية ،دون الحاجة إلى تبني قيم الغرب في تحرير املرأة،
ومساواتها بالرجل.
هذه هي النقاط الرئيسية أو معالم على طريق التغيير ،وفق رؤية الليبراليين العرب في نسختهم
املعاصرة .تغير تحتمه حسب رأيهم الحقائق املوضوعية على األرض ماديا وفكريا ،والتي تقول ان العالم
العربي أمام خيارين ال ثالث لهما :
-إما اإلضمحالل جوعا ومرضا وتخلفا ،وإما التغيير الشامل الجذري ،والذي أصبحت تطالبنا به
–تفرضة -القوى العظمى ،التي لم تعد راضية على طريقة عيشنا ( على جميع األصعدة) كوناها" تأذت
وستتأذى بمنتجات ثقافتنا املتخلفة أربعة عشر قرنا على األقل ،ذلك اإلصرار الذي يتبدى بنوعيات
متدرجة ،بداية من املساعدة املادية والعلمية وهو ما يحدث مع الشعوب والحكومات الراغبة حقا في
اإلصالح".)1(.
الناظر في واقع الفكر الليبرالي الذي تبنى الحداثة بجميع أشكالها ،يجده حقق انتشارا واسعا في
العالم كله خالل العقود املاضية .أما في عاملنا العربي ونتيجة لإلمتداد الفكري والسياس ي مع الغرب
فقد تبنى الكثير من القيم الليبرالية الرأسمالية والسياسة و الديمقراطية على غرار بقي شعوب العالم
املتقدم ،رغم أننا نلمس ترددا وعدم وجود قناعة تامة بهذا اإلنتماء الفكري لليبرالية عند كثير من أبناء
تلك الشعوب ،بعكس القليل من النخب املثقفة فيها .وهذا التردد راجع أساسا إلى الحمولة
االديولوجية التي ينظر بها إلى "كلمة ليبرالية" في املخيال العربي ،والتي ال تخرج عن كونها صنعة أمريكية
بامتياز ،ال يعمها في األخير سوى التمكين لعوملة أفكارها.
حيث قامت( أمريكا) من أجل ذلك بمحاوالت عديدة ملسخ الهوية الدينية والقومية ،وإرغام
تلك املجتمعات على تبني ثقافة الحداثة على النمط الغربي ،وتسيسها بالفكر الديمقراطي ،مما أنتج مع
تراكمات الزمن وتسلط املستعمر ،ردات فعل وأشكاال متطرفة من األصولية القومية إلى الليبرالية
املتطرفة إلى العنف اإلسالمي ،مما كلف األمة املزيد من املعانات والويالت الطويلة واملؤملة والتي مازلنا
نعاني من إفرازاتها السلبية إلى وقتنا الحالي .ومع أن استيعاب نخبنا املثقفة للفكر الحداثي كان بطيئا
ومتأخر ،فإنها لم تكد تضع أقدامها على درجته االولى ،أضحى العالم الغربي ينقد فكره الليبرالي ،ويودع
حداثته التقليدية ،وينسلخ منها إلى ما أصطلح عليه فلسفيا بـ " ما بعد الحداثة ".
فاألصوات بدأت تعلو بشكل كبير في نقد الحداثة الغربية ،وتهميش ذلك اإلله املزعوم ( الحداثة
) الذي قدس في الكثير من مجتمعات العالم ،بعد أن اشتغلت عليه الة النقد من كبار فالسفة الغرب،
أمثال :الفيلسوف الفرنس ي ( ليوتار ) في كتابه الشهير ( الظرف ما بعد الحداثي ) حيث قدم نقدا عنيفا
ملشروع الحداثة الغربي ،والفيلسوف األملاني ( هابرماس ) الذي ذهب إلى أبعد من ذلك وزعم أن
الحداثة نفسها لم يكتمل مشروعها ،وعزز هذا النقد للحداثة الغربية وأجنحتها السياسية والعسكرية
ما كتبه ( جاك دريدا ) و (ميشل فوكو ) وغيرهما في بيان مهازل الديمقراطية وتناقضاتها الكثيرة)1( .
إن النهضة األوروبية في القرن السادس عشر هي محصلة لإلصالح الديني ،والكشوف الجغرافية،
والثورة الكويرنيكية في مجال الطبيعة وتحوالت الفكر الفلسفي والسياس ي من مكيافلي إلى ديكارت ثم
هويز ،ثم النزعة اإلنسانية ىاملتمثلة في إحياء اآلداب اليونانية ،والنمو املجتمعي واإلقتصادي للتجارة
واملدن ،فمن خالل كل ما سبق تشكل حدث النهضة كقطيعة مفصولة عن العصر الوسيط وموصولة
بكل ما كان بإمكانه أن يدعم إمكانية اإلبتكار واإلبداع ،وقد نتج عن هذا الفعل التاريخي النهضوي كما
هو معروف نتائج معرفية وتاريخية وسياسية شملت أغلب مظاهر الحياة في أوروبا ،في حين أن الحديث
عن " النهضة العربية ،يتعلق بمشروع بدايات تحول إقتران مليزات خارجية ،تمثلت في بروز ظاهرة
الهيمنة اإلستعمارية ،وهي الظاهرة التي ساهمت بصورة رئيسية في تحريك آليات الفعل التاريخي في
محيط املجتمعات العربية في اإلقتصاد والسياسة واملجتمع والفكر وربما مازالت توجه بصورة خفية
آليات ما يجري في مجتمعاتنا()2
نقول هذا رغم أننا نصادف بعض الكتاب العرب ممن رفضوا ان تكون الليبرالية العربية مجرد
نسخة عن نظيرتها الغربية ،وحجتهم في ذلك أن "الحرية ناتجة قبل كل شيئ عن حاجة متولدة في
املجتمع العربي شعر بها عدد من الناس ،أن يكون التعبير عنها قد استفاد من تجارب أجنبية مماثلة
وأن يكون الكتاب العرب قد تهافتوا على املنظومة اليبرالية ألنهم رأوا فيها عبارة وافية عما يحسون به،
فهذا ال يعني أن الدافع األول في كل هذا كان التأثير الخارجي ،والدليل على ذلك هو أن الكتاب العرب
)1بشير موس ى نافع ،أزمة الخطاب اليبرالي الغربي الجديد ،ضمن :شاكر النابلس ي ،مرجع سابق ،ص .155
)2كمال عبد اللطيف ،مفاهيم ملتبسة في الفكر العربي املعاصر ،دار الطليعة للطباعة والنشر ،بيروت ،ط.1992 ،1
لم ينقلوا بأمانة اليبرالية األوروبية املعاصرة لهم ...إنهم كانوا في حاجة إلى ليبرالية متفائلة حازمة واثقة
بذاتها فأولو ليبرالية عصرهم املتشائمة الباهتة حسب رغباتهم ()1
ومما ال يمكن تجاهله من الناحية ،هو أن العرب تعرفوا على منظومة مكتملة في املرحلة األخيرة
من مراحل تطور الفكر الليبرالي ،تعرفوا على ليبرالية تحمل في طياتها آثار املراحل السابقة مرحلة عهد
التكوين ومفهوم الذات .مرحلة القرن الثامن عشر ومفهوم الفرد العاقل املالك .مرحلة عهد الردة على
الثورة الفرنسية ومفهوم املغامرة الفردية .مرحلة نقد الديمقراطية اإلجتماعية ومفهوم املغامرة
واإلعتراض ،بعبارة أخرى ،إن العرب تعرفوا على ليبرالية ورثت روح الفلسفة الغربية الحديثة وروح
الثورة الفرنسية ،وروح الردة على الثورة ،وروح النخبوية املعادية للديمقراطية واإلشتراكية ،إنهم
واجهوا منظومة مليئة بالعناصر املتناقضة ،وكان من الصعب عليهم أن يتلقوها بعقل ناقد)2( .
واستغلوا الحرية كشعار ،ألنها كانت مطلبا جماعيا يستلزمه طموح العرب إلى العدل والتقدم
والرفاهية ،ودامت هذه الوضعية مدة طويلة ،بحيث يمكن القول إن العهد الذي كانت فيه الحرية
مطلبا حيويا للمجتمع ،دام من أواسط القرن املاض ي إلى ما بعد الحرب العاملية الثانية ،كانت في هذه
املدة املنظومة الليبرالية هي األكثر مالءمة للوضعية العربية ،وفي بعض األحيان كانت األكثر انتشارا في
السوق الفكرية العاملية ،ولكنها لم تكن أبدا وحدها ولم تلبث أن واجهت منظومات منافسة قوية،
فكثيرا ما استغل الكتاب واملفكرون العرب هذه املنظومات األخيرة لنشر دعوة الحرية)3(.
ولم يستطيعوا أن يميزوا بين املراحل التي ذكرناها في بداية هذا املقال ،وأن يفرقوا بين الجذور
الثابتة واألصول القارة ،وبين الصورة الظرفية التي تلبست بها الليبرالية فحصا نقديا باملعنى الفلسفي،
واتخذوها في صورتها الظرفية كشعار .صحيح أن الشعار كان موافقا لحاجات املجتمع العربي ،وإنه
لهذا السبب لعب دورا ثوريا مهما جدا ،إال أن عدم استعاب الليبرالية في مسارها التاريخي أثر تأثيرا
سلبيا في الفكر العربي في العهد الالحق.
ومن هنا نشأت خصوصية عالقة املفكرين العرب بالليبرالية ،فمن جهة استعملوها كشعار ولم
يتجاوز إلى التمثل الفلسفي ،ومن جهة ثانية تأثروا بها طويال إلى حد أنهم أولوا مذاهب أخرى تأويال
لبيراليا ()4
خاتمة:
ما نخلص إليه هو أن الفكر العربي اإلسالمي تأثر بما أفرزته النهضة األوروبية ،من نتائج و
مكاسب معرفية و علمية و اقتصادية و سياسية .أخذت تشق طريقها و تحتل مكانتها في حياة اإلنسان
و تدفعها دفعا إلى مزيد التقدم نحو أشكال أرقى من الحياة .اإلنسان فيها هو املنطلق و الغاية ،األمر
)1عبد هللا العروي ،مفهوم الحرية ،املركز الثقافي العربي ،املغرب ،لبنان :ط ،2008 ،4ص 70
)2املرجع نفسه ،ص .53
)3عبد هللا العروي ،مرجع سابق ،ص .70
)4املرجع والصفجة نفسها.
الذي جعل اإلنسان ينعتق من األساطير و الخرافات ،و يتحرر من األطر املغلقة ،التي فرضتها عليها
الثقافة الدينية التقليدية للمسيحية،
لكننا عندما نقول تأثر يجب ان نبقى على مسافة من هذه الكلمة(تأثر) ،وهذا لكي نستطيع ان
نجيب على النتائح التي انجرت على هذا التأثر سلبا و إيجابا .فمن الناحية العملية يبقى سواال الرعيل
االول دون اجابة( تقدم الغرب وتخلف املسلمين) .وتبقى محاوالت الجيل الجديد تراوح مكانها تعيش
شبه عزلة فكرية نتيجة لطبيعة املجتمعات العربية اإلسالمية من جهة ،وفلسفة الحكم في الدولة
العربية املا -بعد كلونيالية من جهة ثانية .و هكذا بقيت النخبة املثقفة في العالم العربي( بمختلف
أطيافها) تستمد وجودها من تشرذمها و انقسامها و تفتتها ومن صراعاتها البينية ،و هي تخوض فيما
بينها حروبا كالمية و معاركة فكرية النهائية،
ونتيجة لذلك فإنها تعاني اغترابا حقيقيا ،سواء في عالقتها بالقاعدة الجماهرية ،التي تنتمي إليها
أو في عالقتها بالواقع الذي تظل عاجزة عن التأثير فيه أو تغيره أو حتى التواصل معه .إن النخبة املثقفة
في العالم العربي تعاني حالة بؤس فكري .ألنها فقدت دورها الطليعي والتنويري( ،) 1و تحولت إما إلى
معارضة هزيلة و هشة لألنظمة السياسية القائمة ،أو صارت جزء ال يتجزأ من تلك األنظمة ،وفي
معظم الحاالت صارت النخبة املثقفة معزولة تماما عن أي قاعدة شعبية أو جماهرية ،و لذلك تظل
مشاريعها الفكرية مجرد مقوالت جوفاء ،و شعارات براقة تخفي ورائها عاملا كامال من البؤس و التخلف
و املعانات ،فخلف هذا العالم الثقافي املزدان بكافة ألوان املذاهب الفكرية (...)2يقبع عالم آخر يمتلئ
بكافة مظاهر الفقر و الحرمان ،عالم تستشري فيه مشاعر اإلحباط و السخط و العجز و اإلحساس
بالقهر و اليأس .إنه عالم الجماهير الصامتة الساخطة التي أعياها البحث عن حلول ألزماتها
اإلقتصادية و االجتماعية و السياسية.
)(1وحتى نكون منصفين فإن ال يمكن الحديث عن تراجع دور املثقف ،دون الرجوع لألسباب الحقيقية التي أدت به إلى االستقالة من
الشأن العام والتأثير فيه
)2حسن عماد( ،أزمة التقدم في العالم العربي ) ضمن التنوير و التسامح و تجديد الفكر العربي سبق ذكر ص139 ،119