PPP

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 8

‫المبحث األول‪ :‬الوسائل العلمية في اإلثبات الجنائي‬

‫ظلت وسائل اإلثبات التقليدية بعددها المحدود و لمدة طويلة من الزمن العمود الفقري في اإلثبات الجنائي و المسيطرة على‬
‫قناعات القاضي الزجري ‪ ،‬فاإلعتراف كان أسهل األدلة و أشدها خطورة ‪،‬و األنظمة الجنائية ألغلب الشعوب كانت و الزالت تعتمد‬
‫عليه في اإلدانة و توقيع العقاب‪ ،‬و ال تسمح بالتشكيك فيه متغاضية بذلك عن أساليب اإلكراه و الضغط و اإلجبار و التعذيب التي‬
‫كانت تمارسها أجهزة البحث و التحري من أجل انتزاع اإلعترافات من أصحابها‪ ،‬أما شهادة الشهود فرغم القوادح التي تكتنفها فقد‬
‫ظلت أيضا وسيلة إثبات رائجة بشكل كبير في الميدان الجنائي‪ ،1‬هذا باإلضافة إلى المعاينات التي يباشرها ضباط الشرطة القضائية‬
‫و ما تستدعيه من تفتيش و حجز‪ ،‬زد على ذلك دور القرائن التي يستعين بها القاضي الزجري في تكوين قناعته‪.2‬‬

‫وبالموازاة مع هذه الوسائل التقليدية في مجال اإلثبات الجنائي ظهرت نتيجة التقدم العلمي و التكنولوجي وسائل إثبات حديثة تعتمد‬
‫على المع طيات العلمية للكشف عن الحقيقة و ذلك في سبيل تحقيق العدالة‪ ،‬حيث تم في مرحلة أولى اإلعتماد على تقنيات الطب‬
‫الشرعي و الخبرات الجنائية بمختلف أنواعها سواء تعلق األمر بالخبرات الطبية و خبرات األسلحة و المتفجرات‪ ،‬إضافة إلى‬
‫فحوصات بصمات األصابع و اإلستعانة بالكالب البوليسية للكشف عن الجرائم و اإلهتداء إلى مرتكبيها‪ ،3‬إال أن التطور لم يقف عند‬
‫هذا الحد بل ظهرت أساليب و أدلة إثبات علمية جديدة و أكثر حداثة أهمها البصمة الوراثية (المطلب األول) و التخدير و تحليل الدم‬
‫(المطلب الثاني) و إن كان قد ترتب عن ظهور هذه األدلة العلمية عدت إشكاالت تمحورت بصفة أساسية في مدى حجية األخذ بهذه‬
‫الوسائل في اإلثبات الجنائي حماية الحرية الشخصية للمتهم‪.4‬‬

‫المطلب األول‪ :‬البصمة الوراثية‬

‫تعد البصمة الوراثية من مظاهر إعجاز الخالق سبحانه و تعالى في خلق اإلنسان‪ ،‬فهي تعد بطاقة شخصية ربانية أودعها هللا عز‬
‫و جل في أطراف اإلنسان‪ ،‬حيث تحتوي على الكثير من الخطوط و المميزات التي تكسوا رؤوس أصابعه و راحتي كفيه و باطني‬
‫قدميه منذ والدته حتى بعد مماته بمدة معينة‪ ،‬حيث ال يتغير شكلها‪ ،5‬و هذه اىمميزات استغلها العلماء في تحقق الشخصية‪ ،‬انطالقا‬
‫من المميزات التي تتميز بها هذه األخيرة أي البصمة الوراثبة‪.‬‬

‫ينادى بعض الفقه المغربي بضرورة التخلي عن شهادة الشهود في اإلثبات الجنائي "انظر محمد أحداف‪ ،‬شرح قانون المسطرة الجنائية‪ ،‬مسطرة التحقيق اإلعدادي‪،‬‬ ‫‪1‬‬
‫الجزء‪ 2‬الطبعة األولى سنة ‪ ،2005‬ص‪.292:‬‬
‫يوسف وهابي إشكالية االستعانة بالخبرة الجينية‪-‬البصمة الوراثية‪-‬في االثبات الجنائي‪ ،‬دراسة مقارنة‪ ،‬مجلة الملف‪ ،‬العدد‪ 8 ،8‬مارس ‪ ،2006‬ص ‪.7‬‬ ‫‪2‬‬
‫يوسف وهابي‪ ،‬نفس المرجع‪ ،‬ص‪.27:‬‬ ‫‪3‬‬
‫عبد الباقي الصغير‪،‬أ دلة اإلثبات الجنائي و التكنولوجيا الحديثة (أجهزة الردار‪-‬الحاسبات األلية‪-‬البصمة الوراثية) دراسة مقارنة‪ ،‬بدون طبعة‪ ،‬دار النهضة العربية‪،‬‬ ‫‪4‬‬
‫القاهرة‪ ،‬سنة ‪ ،2006‬ص‪.10:‬‬
‫كاسب فالح الدروبي‪ ،‬المدخل إلى علم البصمات‪ ،‬دار الثقافة للنشر ‪ 2006‬ص‪.7:‬‬ ‫‪5‬‬
‫وقد عمدت العديد من الدول إلى تنظيم مسطرة الخبرة الجينية في قوانينها الوطنية من ذلك القانون الفرنسي الصادر بتاريخ ‪29‬‬
‫يوليوز ‪ 1994‬المتعلق بحرمة الجسد البشري وربط هذا اإلجراء بضرورة احترامه لحرمة الجسد وإنجازه تحت اشراف القضاء‬
‫ومراقبته‪.‬‬

‫أما المشرع الهولندي فأخذ هو االخر بالبصمة الجينية الذي حدد منذ سنة ‪ 1991‬شكليات اللجوء إلى تحليل الحمض النووي بناء‬
‫على قرار من القاضي‪ ،‬و إشترط لذلك اخبار المتهم بإجراء الخبرة و في حالة رفضه اإلنصياع ألمر القضاء توجب إرغامه به‬
‫وذلك بأخذ عينة من دمه بواسطة طبيب مختص‪.‬‬

‫أما في المغرب فإننا ال نجد تنظيما خاصا البصمة الوراثية ال من حيث تعريفها وضبط حجتها وقوتها اإلثباتية اللهم ما جاءت به‬
‫مدونة األسرة من إمكانية إثبات النسب بكل الوسائل المقررة شرعا بما في ذلك الخبرة القضائية‪ ،6‬أال ان هذا ال يمنع من تحديد‬
‫مفهومها وقيمتها اإلثباتية( الفقرة األولى) وشروط قولها أمام القضاء الجنائي (الفقرة الثانية)‪.‬‬

‫الفقرة األولى‪ :‬تعريف البصمة الوراثية و قيمتها اإلثباتية‬

‫تعرف البصمة الوراثية ) أو الشفرة الوراثية ) بأنها عبارة عن عملية عزل للحمض النووي (‪ )ADN‬عن مصادره الحيوية‬
‫بواسطة أنزيمات خاصة تقسم هذا الحامض حيث يكون له تسلسل معين‪. 7‬‬

‫وهذا من الناحية العلمية أما من الناحية القانونية فتم تعريفها بأنها ‪ :‬وسيلة من وسائل اإلثبات أو النفي سواء في المادة المدنية أو‬
‫الجنائية ذات الطبعة العلمية البيولوجية التي يرجع أمر استخالصها إلى المختبر العلمي الجنائي بناءا على إحالة من الجهات‬
‫القضائية المختصة وتنصب لزوما على تحليل ما يتوصل إليه من آثار في مسرح الجريمة ومقارنتها بعينات من خاليا المشتبه‬
‫فيه أو المتهم المحتوية على أحماض نووية بعد استخالصها بوسائل مشروعة‪ ،‬أما الحامض النووي فهو عبارة عن تلك المادة‬
‫المسؤولة عن نقل الصفات الوراثية من األصول إلى الفروع‪ ،‬فالحامض النووي هو الكل والبصمة الوراثية ليست سوى جزء‬
‫فهي النتيجة التي يتم استخالصها من تحليل الحمض النووي‪.‬‬

‫‪ 6‬يرى بعض الفقه المغربي بحق أن هذا التوجه للمشرع المغربي يشوبه النقص لكونه لم يفرد للخيرة الجينية على الرغم من أهميتها في اإلثبات نظاما خاصا بها يحدد شكلياتها‬
‫ودرجة حجيتها خاصة أمام القضاء الجنائي‪ ،‬راجع بهذا الخصوص لحسن بيهي الدليل العلمي ودوره في تكوين اقتناع القاضي الجنائي ص‪ 39 :‬يوسف وهابي‪ ،‬تحاليل البصمة‬
‫الوراثية (أدن ‪ ) ADN‬ودورها في إثبات أو نفي النسب‪ ،‬قراءة في مواقف القضاء والتشريع مدونة األسرة دراسة مقاربة مجلة الملف عدد ‪ 8‬مارس ‪ 2006‬ص ‪27 :‬‬

‫‪ 7‬عبد الباقي الصغير ‪ :‬أدلة اإلثبات الجنائي والتكنولوجيا الحديثة ‪ ،‬دار النهضة العربية النشر ‪ ، 2002 ،‬ص ‪59‬‬
‫ثانيا‪ :‬القيمة اإلثباتية للبصمة الوراثية‬

‫تعد البصمة الوراثية أهم تجليات علم الهندسة الوراثية‪ 8‬وأكثرها للجدل خاصة من حيث مشروعية تطبيقها في المسائل القانونية‬
‫وإعمالها كوسيلة إثبات كوسيلة إثبات للنسب أو نفيه والكشف عن الجناة والتحقق من هوية الجثث المجهولة‪ ،‬وتبرز قيمتها بشكل جلي‬
‫في المادة الجنائية مع ازدياد تعقد أساليب ارتكاب الجريمة حيث يغدو في بعض األحيان من العسير على سلطات البحث والتحقيق‬
‫الجنائي للتوصل إلى مرتكبي الفعل المجرم الذي تذهب به فطنته إلى محو أي أثر ظاهر قد يوصل إليه‪ .‬إال أن اكتشاف البصمة‬
‫الوراثية ودقة النتائج المتحصلة منها‪ ،‬وإمكانية استخالصها من بعض المخلفات المتواجدة بمسرح الجريمة والتي قد ال ينتبه الجاني‬
‫إليها‪ ،‬من شأنه أن يغل يد الجناة ويسهل مأمورية رجال البحث والتحقيق الجنائي في إيصال الدليل المقنع إلى هيئة الحكم فالخبرة‬
‫الجينية من هذا المنطلق سار لها دور فعال في الوصول إلى الحقيقة القضائية والقانونية بالنظر إلى قوة اإلسناد التي تتميز بها عن‬
‫غيرها من األدلة الجنائية‪ ،‬فاحتمال التشابه بين شخصين في المكونات الوراثية ضئيل جدا بل يكاد ينعدم ‪9‬‬

‫وهكذا تعتبر البصمة الوراثية من أعظم اكتشافات الطب الشرعي‪ ،‬ذلك ألنها تعتبر دليل إثبات ونفي قاطع بنسبة‬
‫مئة بالمئة إذا تم تحليل الحمض النووي بطريقة سليمة ألن احتمال التشابه بين البشر غير وارد في الحمض النووي بعكس الفصائل‬
‫الدموية التي تعتبر وسيلة نفي فقط الحتمال التشابه بين البشر في هذه الفصائل إذا استعملت هذه الوسيلة العلمية في الوصول إلى‬
‫الجناة الحقيقيين واألمثلة على ذلك الرئيس األمريكي بيل كلينتون الذي اعترف بواقعة التحرش الجنسي بالمجني عليها المسماة‬
‫(مونيكا جيت بمجرد التلويح له بتحليل عينة من سائله الموجود على قطعة من مالبس المجني عليها ‪.10‬‬

‫الفقرة الثانية‪ :‬شروط قبول البصمة الوراثية أمام القضاء الجنائي‬

‫يجب التأكيد في البداية أنه لم يرد في التشريع الجنائي المغربي أية إشارة للخبرة الجينية‪ ،‬ولكن هذا لم يمنع من اللجوء إليها‪ ،‬وذلك‬
‫استنادا للقواعد العامة المنصوص عليها في قانون المسطرة الجنائية الجديد خاصة ما يتعلق‬

‫‪ 8‬و يطلق عليها أيضا الخبرة الجينية أو تحاليل الحمض النووي‬


‫‪ 9‬تصل نسبة دقة تحاليل الخبرة الجينية إلى ‪ 99,999‬و يبقى احتمال التشابه ضئيل جدا و ينحصر في حالة التوائم المتطابقين فقط‬
‫الناتجين عن انشطار البويضة الواحدة‬
‫‪10‬عبد الباقي الصغير‪ ،‬أدلة اإلثبات الجنائي و التكنولوجيا‪ ،‬مرجع سابق ص ‪.65‬‬
‫بالمقتضيات الخاصة بإجراء الخبرة في الميدان الجنائي ‪ 11‬وكذا استنادا لمبدأ اإلثبات الحر الذي مضمونه إمكانية إثبات الجرائم‬
‫بكافة وسائل اإلثبات ما عدا في الحاالت التي ينص فيها القانون على خالف ذلك ‪.12‬‬

‫لكن المالحظ على الخبرة الجينية أنه ال يكفي من أجل االستعانة بها االحتكام واالستناد إلى القواعد العامة بل يقتضي تنظيما مسطريا‬
‫خاصا ودقيقا يضع الضوابط الالزمة لتأمين مصداقية النتائج والخالصات التي تنتهي إليها‪ .‬وأيضا من أجل حماية ضمانات‬
‫األشخاص الخاضعين لها‪.‬‬

‫إال أنه وعلى الرغم من غياب أي تنظيم تشريعي للخبرة الجينية في التشريع المغربي ‪ ،‬فإنه بالرجوع إلى مختلف التشريعات التي‬
‫نصت عليها وعززت ذلك بتنظيم وتفصيل أحكامها وحاالتها من أجل ضمان حقوق األفراد نجد أهم الشروط تتمحور أوال حول‬
‫ضرورة التأكد من مصداقية النتائج الناتجة عن تحليل الحمض النووي (أوال) وثانيا ضرورة الحصول على العينة من المتهم بطريقة‬
‫مشروعة (ثانيا)‪.‬‬

‫أوال‪ :‬التأكد من صحة نتيجة تحليل الحمض النووي‬

‫يعتبر شرط التأكد من صحة ومصداقية تحليل الحمض النووي أهم شرط يجب تحققه‪ ،‬حتى يمكن االستناد إليه في إثبات البراءة‬
‫واإلدانة‪ ،‬ذلك أن قيمة اختبار الحمض النووي تعتمد كلية على طريقة البحث والدقة في تفسير النتائج التي أسفر عليها‪ ،‬وهذا التحليل‬
‫يحتاج إلى خبرة واسعة وتخصص رفيع ومختبر ذو كفاءة عالية‪ ،‬ويجب أيضا أن يتم أخذ العينة في حضور األطراف حتى يتأكدوا‬
‫من مصدر العينات‪ ،‬وإال فإن عمل الخبير المختص يكون باطال لمخالفته المبدأ المواجهة‪.13‬‬

‫هكذا ونظرا لدقة هذه التقنيات فإن احتمال الخطأ والتشكيك في النتائج وارد وذلك من خالل تلوث العينة المشتبه فيها أو المراد‬
‫فحصها بعينة أخرى أثناء جمع الدليل أو نقله‪ ،‬أو بعينات تحت الفحص في نفس الوقت‪ ،‬إما نتيجة عدم تغيير القفازات بعد جمع أو‬
‫فحص كل عينة‪ ،‬أو نتيجة فحص عينات مختلفة على طاولة واحدة في نفس المختبر مما يؤدي إلى اختالط الحمض النووي من عينة‬
‫أخرى‪ ،‬أو تلوت العينة بالكائنات الحية الدقيقة كالبكتيريا والفطريات حيث تقوم بتقطيع جزيء الحمض النووي ‪ .‬ما دام هناك تدخل‬
‫من البشر إنطالقا من ما ومعلوم أنه من بين المبادئ العامة في اإلثبات الجنائي مبدأ حرية القاضي في تكوين قناعته يعرض عليه من‬
‫أدلة ومناقشتها شفويا دون أن يتقيد في تكوين قناعته بدليل معين إال إذا نص القانون على خالف ‪ ،‬ذلك‬

‫‪ 11‬تنص المادة ‪ 164‬من قانون المسطرة الجنائي الجديد يمكن لكل هيئة من هيئات التحقيق أو الحكم كلما عرضت مسألة تقنية أن تأمر بإجراء خبرة إما تلقائيا وإما يطلب من النيابة‬
‫العامة أو من األطراف‪.‬‬

‫‪12‬انظر الفصل ‪ 286‬من قانون المسطرة الجنائية‬

‫‪ 13‬عبد الباقي الصغير أدلة اإلثبات الجنائي والتكنولوجيا الحديثة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ 15 69 :‬إبراهيم صادق الجندي تطبيقات تقنية البصمة الوراثية ‪ DNA -‬في التحقيق والطب‬
‫الشرعي من ‪154 :‬‬
‫حتى لو تعلق األمر بالخبرة الجينية‪ ،‬لذلك فإنه حتى يكون للقاضي الجنائي الهيمنة على الدعوى الجنائية ‪ ،‬فال بد أن يكون على دراية‬
‫وله تدريب فني على كيفية التعامل مع األدلة العلمية الحديثة‪ ،‬خاصة الخبرة الجينية ألن هذا التأهيل العلمي هو الذي سيضمن نجاح‬
‫مهمته المتمثلة في مناقشة هذه األدلة خاصة إذا علمنا أن الدفاع يستعين بخبراء و للكشف عن أوجه القصور الموجودة بالدليل العلمي‬
‫فقد يدفع باألخطاء التي قد تحدث أثناء رفع العينات وحفظها او بخصوص طريقة إرسالها إلى المختبرات أو تبديل العينات وأخيرا‬
‫التفسير الخاطئ للنتائج ‪."14‬‬

‫لذلك فإنه ما دام أن األحكام في المادة الجنائية تنبني على الجزم واليقين ال على الشك والتخمين‪ ،‬فإنه يتعين أن تكون نتائج تحاليل‬
‫الحمض النووي صحيحة وسليمة ويقينية وتم إجراءها بشكل وطريقة علمية ‪ ،‬وهذا يستدعي أن تكون أجهزة البحث والتحري على‬
‫الجرائم لها تكوين علمي يجعلها مؤهلة من أجل القيام بمثل هذه األبحاث وأن يكون الجهاز القضائي بالتبعية على دراية واسعة بمثل‬
‫هذه األمور العلمية‪ ،‬حتى يتسنى له مناقشتها واالطمئنان إليها قبل إصدار األحكام بالبراءة أو اإلدانة باالعتماد عليها ‪ ،‬أو استبعادها‬
‫خاصة إذا علمنا أنه كلما تطورت وسائل اإلثبات الجنائي كلما تطور المجرمين في وسائل إرتكابهم للجرائم وإتخادهم االحتياطات‬
‫الالزمة التي تحول دون التعرف عليهم أو القيام بأعمال من شأنها تضليل أجهزة العدالة وإدانة أشخاص ال عالقة لهم بالجرائم‬
‫المرتكبة‪.‬‬

‫وبالرجوع إلى جهاز العدالة المغربي بدءا بجهاز البحث والتحري عن الجرائم نجده ال زال يعاني قصورا في طريقة تجميعه لألدلة‬
‫وخاصة العلمية منها التي يمكن أن تساعد في الوصول إلى الحقيقة بطريقة سهلة‪ ،‬وذلك راجع إلى غياب أطر وكفاءات بشرية‬
‫متخصصة على غرار ما هو معمول به في باقي الدول المتقدمة‪ ،‬وإن كانت هناك بداية تشكل هذه األجهزة في السنوات األخيرة من‬
‫خالل ما أصبح ما يسمى بالشرطة العلمية‪ ،‬أما على المستوى القضائي فالمالحظ أيضا غياب أي تكوين مستمر للقضاة من أجل‬
‫مسايرة التطور العلمي الحاصل في ميدان اإلثبات‪ ،‬وهو ما يؤثر على طريقة تعامله مع هذه األدلة واستبعادها أحيانا أو اللجوء إلى‬
‫االستعانة بذوي الخبرة الشيء الذي يتطلب المزيد من المجهودات من أجل مسايرة التطور العلمي‪.‬‬

‫إذن فإنه لكي يتم االعتماد على تحاليل الحمض النووي في اإلثبات الجنائي يجب أن تكون النتائج المحصل عليها صحيحة وسليمة‬
‫ويقينية ال تدع مجاال للشك أو التخمين‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬الحصول على العينة من النتهم بطريقة مشروعة‬

‫لكي يكون الدليل المستمد من تحليل الحامض النووي مقبوال يجب أن تكون وسيلة الحصول عليه مشروعة أي أنه يجب أن تكون‬
‫اإلجراءات المتبعة للحصول على عينة من المتهم مطابقة لإلجراءات المنصوص عليها قانونا‪ ،‬فإذا كان الدليل قد وصل إليه القضاء‬
‫بوسيلة غير مشروعة إنهار وأصبح ال قيمة له‪. 15‬‬

‫‪14‬إبراهيم صادق الجندي‪ ،‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪176 :‬‬

‫‪15‬عبد الباقي الصغير‪ ،‬أدلة اإلثبات الجنائي و التكنولوجي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.70:‬‬
‫واللجوء إلى الخبرة الجينية كتقنية علمية يقتضي تحليل الحمض النووي للمشتبه فيه الموجود في خلية من خاليا جسده‪ ،‬سواء كان دما‬
‫أو سائال منويا أو شعرا أو عظاما‪ ،‬وهذا يتطلب أخذ جزء من الجسم إلخضاعه للتحليل العلمي‪ ،‬وذلك يشكل اعتداء على حق اإلنسان‬
‫في السالمة الجسدية الذي يوفر له القانون الحماية وتنص االتفاقيات الدولية على احترامه ‪ ،16‬كما أن األديان السماوية قد كفلت‬
‫حرمات وحريات اإلنسان قبل أن تكفلها الدساتير والقوانين‪.‬‬

‫وباعتبار نتائج الخبرة الجينية تتجاوز حدود الكشف عن جريمة معينة‪ ،‬ذلك أنها تمكن باإلضافة إلى التعرف على هوية شخص ما‬
‫فإنها تكشف أيضا عن معلومات جد خاصة عن خصائصه الطبية والسلوكية وعن األمراض التي يمكن أن يصاب بها وعن صفاته‬
‫الوراثية وهذه المعلومات تشكل جزءا ال يتجزأ من مكونات الحياة الخاصة للشخص التي ال يجوز للغير أن يطلع عليها‪ ،‬فقد عرفت‬
‫هذه التحاليل عدة إعتراضات والتشكيك في فعالية هذا النظام المخاطرة الكثيرة والحساسية المعلومات المتحصلة منها‪ ،‬ونظرا لدقة‬
‫المعلومات الوراثية التي أدت إلى الخوف من إستخدامها على نطاق واسع‪ ،‬مع ما يترتب عن ذلك من مشاكل بالنسبة لألشخاص‬
‫المصابين بعيوب وراثية سواء كانوا مصابين فعال بأمراض وراثية أو معرضين لإلصابة بها‪.‬‬

‫ولذلك فإن التساؤل الذي يطرح هو إلى أي حد يمكن اعتبار تحاليل الحمض النووي تدخال في الحياة الخاصة؟‬

‫لإلجابة عن هذا التساؤل يجب معرفة طابع المعلومات التي يكشف عنها اختيار تحديد الهوية‪ ،‬ألن اإلعتراض األساسي على هذا‬
‫االختبار كونه يؤدي إلى البحث عن صفات وراثية موروثة‪ ،‬فاإللمام بالحمض النووي قد يكشف عن كافة االستعدادات الوراثية لدى‬
‫الشخص الخاضع لالختبار‪.‬‬

‫وبعيدا عن هذه االعتراضات التي يثيرها الفقه القانوني والفكر الحقوقي فهذه الوسيلة أصبحت ضرورية للكشف عن الجرائم‬
‫والوصول إلى مرتكبيها كل ما هنالك هو أنها يجب أن تخضع للضوابط القانونية التي تحكمها‪ ،‬شأنها في ذلك شان باقي الوسائل‬
‫األخرى التي تشكل أيضا انتهاكا للحياة الخاصة كالتفتيش والتقاط المكالمات‪.‬‬

‫ومن أهم الضوابط والشروط التي يجب أن تخضع لها تحاليل الحمض النووي هو الحصول على العينة من المتهم التي ستخضع‬
‫للتحاليل بطريقة مشروعة وقانونية‪ ،‬وإذا كانت هذه التحاليل ال تثير أي مشكل إذا لم يمانع المتهم في الخضوع لها فإنه في حالة‬
‫رفضه لها يطرح التساؤل التالي هل يمكن إرغام المتهم على الخضوع لتحاليل الحمض النووي؟ أي هل يمكن أخذ العينة من المتهم‬
‫بشكل جبري دون مراعاة موافقته أو رفضه؟‬

‫بالرجوع إلى مختلف اآلراء الفقهية والمواقف التشريعية نجد في إطار إجابتها عن هذا التساؤل قد انقسمت إلى عدة اتجاهات يمكن‬
‫إجمالها فيما يلي‪:‬‬

‫‪ 16‬تنص المادة ‪ 12‬من اإلعالن العالمي لحقوق اإلنسان ال يعرض أحد لتدخل تصفي في حياته الخاصة أو أسرته أو مسكنه أو‬
‫مراسالته أو الحمالت على شرفه وسمعته‪ ،‬ولكل شخص الحق في حماية القانون لمثل هذا التدخل أو تلك الحمالت كما أقرت االتفاقية‬
‫األوربية لحقوق اإلنسان لسنة ‪ 1950‬الحق في الخصوصية فنصت المادة ‪ 8‬منها على كل شخص له الحق في أن تحترم حياته‬
‫الخاصة وحياته العائلية ومسكنه ومراسالته‪.‬‬
‫أوال‪ :‬االتجاه الرضائي ‪ :‬يندرج في إطار هذا اإلتجاه تياران ‪ ،‬األول يمثله الفقه الفرنسي الذي يرى أن إجراء تحاليل البصمة على‬
‫المشتبه فيه يستلزم الحصول على إذنه وموافقته وال يجوز إجباره عليه كرها ‪ ،‬أي أنه يتعين قبل إجراء تحليل على عينات من جسم‬
‫المتهم الحصول على موافقة كتابية منه على ذلك‪ ،‬والتيار الثاني يمثله كل من التشريع اإلنجليزي واأليرلندي حيث يكرس مبدأ‬
‫الرضائية في الخضوع لتحاليل البصمة الوراثية‪ ،‬ولكنها رضائية مقيدة تقترب إلى حد ما من حق الصمت وعدم اإلدالء بأي تصريح‪،‬‬
‫ولكن صمته هذا يمكن أن يتخذ قرينة ضده ويمكن أن يفسر في غير مصلحته‪ ،‬وهو نفس األمر بالنسبة لرفض خضوع المتهم لتحاليل‬
‫البصمة الوراثية‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬االتجاه الجبري يمثل هذا اإلتجاه أيضا تياران ‪ ،‬األول مرن ال يذهب بعيدا في إجبار المتهم على الخضوع إلى تحاليل البصمة‬
‫الوراثية فهو ال يستعمل اإلكراه المادي المباشر‪ ،‬بل يعمل على تجريم ومعاقبة فعل االمتناع عن الخضوع لتحاليل البصمة الوراثية‪،‬‬
‫وذلك كجزاء له عن رفضه التعاون مع أجهزة العدالة‪ ،‬كما هو الشأن بالنسبة لتجريم ومعاقبة بعض األفعال الرافضة لمساعدة العدالة‬
‫كاإلمتناع عن أداء الشهادة أو أداء اليمين ‪ 17‬والثاني وهو الراجح على المستوى الفقهي والتشريعي‪ ،‬حيث أن أغلب التشريعات‬
‫أصبحت تجيز إجبار المتهم على الخضوع لتحاليل البصمة الوراثية‪ ،‬وذلك دون مراعاة موافقته أو رفضه وهذا ما يأخذ به القانون‬
‫األلماني حيث يجيز إجراء الخبرة الجينية على المتهم متى توافرت دالئل قوية على ارتكابه جريمة معينة بناء على قرار القاضي‬
‫ودون حاجة إلى رضائه‪ ،‬وهو نفس األمر بالنسبة للتشريع الدانماركي شريطة أن تكون عقوبة الجريمة تصل إلى ‪ 18‬شهرا أو أكثر‪،‬‬
‫وهو ما يأخذ به أيضا التشريع األسكتلندي والقانون السويدي‪ ،‬ويقر القانون الهولندي نفس القاعدة مع إعطائه للمتهم الحق في استئناف‬
‫قرار قاضي التحقيق بالخضوع اإلجباري للفحص داخل أجل ‪ 15‬يوما التالية لتبليغه بالقرار‪.‬‬

‫إذن بعد استعراض مختلف هذه اإلتجاهات والتيارات بخصوص الطريقة التي يتعين إتباعها ألخذ العينة من المتهم ‪ ،‬يمكن القول أن‬
‫اإلتجاه القائل بإجبار المتهم على الخضوع لتحاليل الحمض النووي في حالة رفضه هو اإلتجاه السليم الذي يتعين على المشرع‬
‫المغربي األخذ به ومسايرته عند تنظيمه للخبرة الجينية ‪ ،‬خاصة إذا علمنا أن هذه األخيرة ال تشكل مساسا خطيرا أو فادحا بجسم‬
‫المتهم أو بسالمته الجسدية إذ يقتصر األمر على الحصول على قطرات من دمه عن طريق إبرة طبية ال تسبب أي ألم جسماني وال‬
‫تلحق أي ضرر بصحته‪ ،‬وكذلك كما يرى بعض الفقه ‪ 18‬بحق أن الموازنة بين مصلحة المجتمع المتمثلة في تحقيق العدالة ومكافحة‬
‫الجريمة ومصلحة األفراد وحرياتهم الشخصية تقتضي ترجيح مصلحة المجتمع‪ ،‬لذلك فالركون إلى رضاء األفراد يجعل العدالة رهينة‬
‫باألهواء الشخصية‪ ،‬مما يكون معه اللجوء إلى اإلجبار واإلكراه تصرفا مقبوال ومنطقيا من أجل حماية المصالح العليا للمجتمع‬
‫والحفاظ على كيانه ووجوده‪.‬‬
‫إذن هذه هي أهم الضوابط والشروط التي يتعين مراعاتها في الخبرة الجينية حتى تكون وسيلة مقبولة أمام القضاء الجنائي يعتمد‬
‫عليها في تكوين اقتناعه وإصدار أحكامه وذلك إلى جانب باقي وسائل اإلثبات األخرى كتحليل الدم و التخدير(المطلب الثاني)‪.‬‬

‫‪ 17‬مثال كجريمة االمتناع عن اصدار حكم الفصل ‪ 240‬من ق ج أو السكوت العمد عن أداء الشهادة الفصل ‪ 378‬من ق ج ‪ ...‬إلخ‬

‫‪18‬عبد الباقي الصغير‪ ،‬أدلة اإلثبات الجنائي والتكنولوجيا الحديثة‪ ،‬مرجع سابق عن ‪79 :‬‬

You might also like