Professional Documents
Culture Documents
PPP
PPP
PPP
ظلت وسائل اإلثبات التقليدية بعددها المحدود و لمدة طويلة من الزمن العمود الفقري في اإلثبات الجنائي و المسيطرة على
قناعات القاضي الزجري ،فاإلعتراف كان أسهل األدلة و أشدها خطورة ،و األنظمة الجنائية ألغلب الشعوب كانت و الزالت تعتمد
عليه في اإلدانة و توقيع العقاب ،و ال تسمح بالتشكيك فيه متغاضية بذلك عن أساليب اإلكراه و الضغط و اإلجبار و التعذيب التي
كانت تمارسها أجهزة البحث و التحري من أجل انتزاع اإلعترافات من أصحابها ،أما شهادة الشهود فرغم القوادح التي تكتنفها فقد
ظلت أيضا وسيلة إثبات رائجة بشكل كبير في الميدان الجنائي ،1هذا باإلضافة إلى المعاينات التي يباشرها ضباط الشرطة القضائية
و ما تستدعيه من تفتيش و حجز ،زد على ذلك دور القرائن التي يستعين بها القاضي الزجري في تكوين قناعته.2
وبالموازاة مع هذه الوسائل التقليدية في مجال اإلثبات الجنائي ظهرت نتيجة التقدم العلمي و التكنولوجي وسائل إثبات حديثة تعتمد
على المع طيات العلمية للكشف عن الحقيقة و ذلك في سبيل تحقيق العدالة ،حيث تم في مرحلة أولى اإلعتماد على تقنيات الطب
الشرعي و الخبرات الجنائية بمختلف أنواعها سواء تعلق األمر بالخبرات الطبية و خبرات األسلحة و المتفجرات ،إضافة إلى
فحوصات بصمات األصابع و اإلستعانة بالكالب البوليسية للكشف عن الجرائم و اإلهتداء إلى مرتكبيها ،3إال أن التطور لم يقف عند
هذا الحد بل ظهرت أساليب و أدلة إثبات علمية جديدة و أكثر حداثة أهمها البصمة الوراثية (المطلب األول) و التخدير و تحليل الدم
(المطلب الثاني) و إن كان قد ترتب عن ظهور هذه األدلة العلمية عدت إشكاالت تمحورت بصفة أساسية في مدى حجية األخذ بهذه
الوسائل في اإلثبات الجنائي حماية الحرية الشخصية للمتهم.4
تعد البصمة الوراثية من مظاهر إعجاز الخالق سبحانه و تعالى في خلق اإلنسان ،فهي تعد بطاقة شخصية ربانية أودعها هللا عز
و جل في أطراف اإلنسان ،حيث تحتوي على الكثير من الخطوط و المميزات التي تكسوا رؤوس أصابعه و راحتي كفيه و باطني
قدميه منذ والدته حتى بعد مماته بمدة معينة ،حيث ال يتغير شكلها ،5و هذه اىمميزات استغلها العلماء في تحقق الشخصية ،انطالقا
من المميزات التي تتميز بها هذه األخيرة أي البصمة الوراثبة.
ينادى بعض الفقه المغربي بضرورة التخلي عن شهادة الشهود في اإلثبات الجنائي "انظر محمد أحداف ،شرح قانون المسطرة الجنائية ،مسطرة التحقيق اإلعدادي، 1
الجزء 2الطبعة األولى سنة ،2005ص.292:
يوسف وهابي إشكالية االستعانة بالخبرة الجينية-البصمة الوراثية-في االثبات الجنائي ،دراسة مقارنة ،مجلة الملف ،العدد 8 ،8مارس ،2006ص .7 2
يوسف وهابي ،نفس المرجع ،ص.27: 3
عبد الباقي الصغير،أ دلة اإلثبات الجنائي و التكنولوجيا الحديثة (أجهزة الردار-الحاسبات األلية-البصمة الوراثية) دراسة مقارنة ،بدون طبعة ،دار النهضة العربية، 4
القاهرة ،سنة ،2006ص.10:
كاسب فالح الدروبي ،المدخل إلى علم البصمات ،دار الثقافة للنشر 2006ص.7: 5
وقد عمدت العديد من الدول إلى تنظيم مسطرة الخبرة الجينية في قوانينها الوطنية من ذلك القانون الفرنسي الصادر بتاريخ 29
يوليوز 1994المتعلق بحرمة الجسد البشري وربط هذا اإلجراء بضرورة احترامه لحرمة الجسد وإنجازه تحت اشراف القضاء
ومراقبته.
أما المشرع الهولندي فأخذ هو االخر بالبصمة الجينية الذي حدد منذ سنة 1991شكليات اللجوء إلى تحليل الحمض النووي بناء
على قرار من القاضي ،و إشترط لذلك اخبار المتهم بإجراء الخبرة و في حالة رفضه اإلنصياع ألمر القضاء توجب إرغامه به
وذلك بأخذ عينة من دمه بواسطة طبيب مختص.
أما في المغرب فإننا ال نجد تنظيما خاصا البصمة الوراثية ال من حيث تعريفها وضبط حجتها وقوتها اإلثباتية اللهم ما جاءت به
مدونة األسرة من إمكانية إثبات النسب بكل الوسائل المقررة شرعا بما في ذلك الخبرة القضائية ،6أال ان هذا ال يمنع من تحديد
مفهومها وقيمتها اإلثباتية( الفقرة األولى) وشروط قولها أمام القضاء الجنائي (الفقرة الثانية).
تعرف البصمة الوراثية ) أو الشفرة الوراثية ) بأنها عبارة عن عملية عزل للحمض النووي ( )ADNعن مصادره الحيوية
بواسطة أنزيمات خاصة تقسم هذا الحامض حيث يكون له تسلسل معين. 7
وهذا من الناحية العلمية أما من الناحية القانونية فتم تعريفها بأنها :وسيلة من وسائل اإلثبات أو النفي سواء في المادة المدنية أو
الجنائية ذات الطبعة العلمية البيولوجية التي يرجع أمر استخالصها إلى المختبر العلمي الجنائي بناءا على إحالة من الجهات
القضائية المختصة وتنصب لزوما على تحليل ما يتوصل إليه من آثار في مسرح الجريمة ومقارنتها بعينات من خاليا المشتبه
فيه أو المتهم المحتوية على أحماض نووية بعد استخالصها بوسائل مشروعة ،أما الحامض النووي فهو عبارة عن تلك المادة
المسؤولة عن نقل الصفات الوراثية من األصول إلى الفروع ،فالحامض النووي هو الكل والبصمة الوراثية ليست سوى جزء
فهي النتيجة التي يتم استخالصها من تحليل الحمض النووي.
6يرى بعض الفقه المغربي بحق أن هذا التوجه للمشرع المغربي يشوبه النقص لكونه لم يفرد للخيرة الجينية على الرغم من أهميتها في اإلثبات نظاما خاصا بها يحدد شكلياتها
ودرجة حجيتها خاصة أمام القضاء الجنائي ،راجع بهذا الخصوص لحسن بيهي الدليل العلمي ودوره في تكوين اقتناع القاضي الجنائي ص 39 :يوسف وهابي ،تحاليل البصمة
الوراثية (أدن ) ADNودورها في إثبات أو نفي النسب ،قراءة في مواقف القضاء والتشريع مدونة األسرة دراسة مقاربة مجلة الملف عدد 8مارس 2006ص 27 :
7عبد الباقي الصغير :أدلة اإلثبات الجنائي والتكنولوجيا الحديثة ،دار النهضة العربية النشر ، 2002 ،ص 59
ثانيا :القيمة اإلثباتية للبصمة الوراثية
تعد البصمة الوراثية أهم تجليات علم الهندسة الوراثية 8وأكثرها للجدل خاصة من حيث مشروعية تطبيقها في المسائل القانونية
وإعمالها كوسيلة إثبات كوسيلة إثبات للنسب أو نفيه والكشف عن الجناة والتحقق من هوية الجثث المجهولة ،وتبرز قيمتها بشكل جلي
في المادة الجنائية مع ازدياد تعقد أساليب ارتكاب الجريمة حيث يغدو في بعض األحيان من العسير على سلطات البحث والتحقيق
الجنائي للتوصل إلى مرتكبي الفعل المجرم الذي تذهب به فطنته إلى محو أي أثر ظاهر قد يوصل إليه .إال أن اكتشاف البصمة
الوراثية ودقة النتائج المتحصلة منها ،وإمكانية استخالصها من بعض المخلفات المتواجدة بمسرح الجريمة والتي قد ال ينتبه الجاني
إليها ،من شأنه أن يغل يد الجناة ويسهل مأمورية رجال البحث والتحقيق الجنائي في إيصال الدليل المقنع إلى هيئة الحكم فالخبرة
الجينية من هذا المنطلق سار لها دور فعال في الوصول إلى الحقيقة القضائية والقانونية بالنظر إلى قوة اإلسناد التي تتميز بها عن
غيرها من األدلة الجنائية ،فاحتمال التشابه بين شخصين في المكونات الوراثية ضئيل جدا بل يكاد ينعدم 9
وهكذا تعتبر البصمة الوراثية من أعظم اكتشافات الطب الشرعي ،ذلك ألنها تعتبر دليل إثبات ونفي قاطع بنسبة
مئة بالمئة إذا تم تحليل الحمض النووي بطريقة سليمة ألن احتمال التشابه بين البشر غير وارد في الحمض النووي بعكس الفصائل
الدموية التي تعتبر وسيلة نفي فقط الحتمال التشابه بين البشر في هذه الفصائل إذا استعملت هذه الوسيلة العلمية في الوصول إلى
الجناة الحقيقيين واألمثلة على ذلك الرئيس األمريكي بيل كلينتون الذي اعترف بواقعة التحرش الجنسي بالمجني عليها المسماة
(مونيكا جيت بمجرد التلويح له بتحليل عينة من سائله الموجود على قطعة من مالبس المجني عليها .10
يجب التأكيد في البداية أنه لم يرد في التشريع الجنائي المغربي أية إشارة للخبرة الجينية ،ولكن هذا لم يمنع من اللجوء إليها ،وذلك
استنادا للقواعد العامة المنصوص عليها في قانون المسطرة الجنائية الجديد خاصة ما يتعلق
لكن المالحظ على الخبرة الجينية أنه ال يكفي من أجل االستعانة بها االحتكام واالستناد إلى القواعد العامة بل يقتضي تنظيما مسطريا
خاصا ودقيقا يضع الضوابط الالزمة لتأمين مصداقية النتائج والخالصات التي تنتهي إليها .وأيضا من أجل حماية ضمانات
األشخاص الخاضعين لها.
إال أنه وعلى الرغم من غياب أي تنظيم تشريعي للخبرة الجينية في التشريع المغربي ،فإنه بالرجوع إلى مختلف التشريعات التي
نصت عليها وعززت ذلك بتنظيم وتفصيل أحكامها وحاالتها من أجل ضمان حقوق األفراد نجد أهم الشروط تتمحور أوال حول
ضرورة التأكد من مصداقية النتائج الناتجة عن تحليل الحمض النووي (أوال) وثانيا ضرورة الحصول على العينة من المتهم بطريقة
مشروعة (ثانيا).
يعتبر شرط التأكد من صحة ومصداقية تحليل الحمض النووي أهم شرط يجب تحققه ،حتى يمكن االستناد إليه في إثبات البراءة
واإلدانة ،ذلك أن قيمة اختبار الحمض النووي تعتمد كلية على طريقة البحث والدقة في تفسير النتائج التي أسفر عليها ،وهذا التحليل
يحتاج إلى خبرة واسعة وتخصص رفيع ومختبر ذو كفاءة عالية ،ويجب أيضا أن يتم أخذ العينة في حضور األطراف حتى يتأكدوا
من مصدر العينات ،وإال فإن عمل الخبير المختص يكون باطال لمخالفته المبدأ المواجهة.13
هكذا ونظرا لدقة هذه التقنيات فإن احتمال الخطأ والتشكيك في النتائج وارد وذلك من خالل تلوث العينة المشتبه فيها أو المراد
فحصها بعينة أخرى أثناء جمع الدليل أو نقله ،أو بعينات تحت الفحص في نفس الوقت ،إما نتيجة عدم تغيير القفازات بعد جمع أو
فحص كل عينة ،أو نتيجة فحص عينات مختلفة على طاولة واحدة في نفس المختبر مما يؤدي إلى اختالط الحمض النووي من عينة
أخرى ،أو تلوت العينة بالكائنات الحية الدقيقة كالبكتيريا والفطريات حيث تقوم بتقطيع جزيء الحمض النووي .ما دام هناك تدخل
من البشر إنطالقا من ما ومعلوم أنه من بين المبادئ العامة في اإلثبات الجنائي مبدأ حرية القاضي في تكوين قناعته يعرض عليه من
أدلة ومناقشتها شفويا دون أن يتقيد في تكوين قناعته بدليل معين إال إذا نص القانون على خالف ،ذلك
11تنص المادة 164من قانون المسطرة الجنائي الجديد يمكن لكل هيئة من هيئات التحقيق أو الحكم كلما عرضت مسألة تقنية أن تأمر بإجراء خبرة إما تلقائيا وإما يطلب من النيابة
العامة أو من األطراف.
13عبد الباقي الصغير أدلة اإلثبات الجنائي والتكنولوجيا الحديثة ،مرجع سابق ،ص 15 69 :إبراهيم صادق الجندي تطبيقات تقنية البصمة الوراثية DNA -في التحقيق والطب
الشرعي من 154 :
حتى لو تعلق األمر بالخبرة الجينية ،لذلك فإنه حتى يكون للقاضي الجنائي الهيمنة على الدعوى الجنائية ،فال بد أن يكون على دراية
وله تدريب فني على كيفية التعامل مع األدلة العلمية الحديثة ،خاصة الخبرة الجينية ألن هذا التأهيل العلمي هو الذي سيضمن نجاح
مهمته المتمثلة في مناقشة هذه األدلة خاصة إذا علمنا أن الدفاع يستعين بخبراء و للكشف عن أوجه القصور الموجودة بالدليل العلمي
فقد يدفع باألخطاء التي قد تحدث أثناء رفع العينات وحفظها او بخصوص طريقة إرسالها إلى المختبرات أو تبديل العينات وأخيرا
التفسير الخاطئ للنتائج ."14
لذلك فإنه ما دام أن األحكام في المادة الجنائية تنبني على الجزم واليقين ال على الشك والتخمين ،فإنه يتعين أن تكون نتائج تحاليل
الحمض النووي صحيحة وسليمة ويقينية وتم إجراءها بشكل وطريقة علمية ،وهذا يستدعي أن تكون أجهزة البحث والتحري على
الجرائم لها تكوين علمي يجعلها مؤهلة من أجل القيام بمثل هذه األبحاث وأن يكون الجهاز القضائي بالتبعية على دراية واسعة بمثل
هذه األمور العلمية ،حتى يتسنى له مناقشتها واالطمئنان إليها قبل إصدار األحكام بالبراءة أو اإلدانة باالعتماد عليها ،أو استبعادها
خاصة إذا علمنا أنه كلما تطورت وسائل اإلثبات الجنائي كلما تطور المجرمين في وسائل إرتكابهم للجرائم وإتخادهم االحتياطات
الالزمة التي تحول دون التعرف عليهم أو القيام بأعمال من شأنها تضليل أجهزة العدالة وإدانة أشخاص ال عالقة لهم بالجرائم
المرتكبة.
وبالرجوع إلى جهاز العدالة المغربي بدءا بجهاز البحث والتحري عن الجرائم نجده ال زال يعاني قصورا في طريقة تجميعه لألدلة
وخاصة العلمية منها التي يمكن أن تساعد في الوصول إلى الحقيقة بطريقة سهلة ،وذلك راجع إلى غياب أطر وكفاءات بشرية
متخصصة على غرار ما هو معمول به في باقي الدول المتقدمة ،وإن كانت هناك بداية تشكل هذه األجهزة في السنوات األخيرة من
خالل ما أصبح ما يسمى بالشرطة العلمية ،أما على المستوى القضائي فالمالحظ أيضا غياب أي تكوين مستمر للقضاة من أجل
مسايرة التطور العلمي الحاصل في ميدان اإلثبات ،وهو ما يؤثر على طريقة تعامله مع هذه األدلة واستبعادها أحيانا أو اللجوء إلى
االستعانة بذوي الخبرة الشيء الذي يتطلب المزيد من المجهودات من أجل مسايرة التطور العلمي.
إذن فإنه لكي يتم االعتماد على تحاليل الحمض النووي في اإلثبات الجنائي يجب أن تكون النتائج المحصل عليها صحيحة وسليمة
ويقينية ال تدع مجاال للشك أو التخمين.
لكي يكون الدليل المستمد من تحليل الحامض النووي مقبوال يجب أن تكون وسيلة الحصول عليه مشروعة أي أنه يجب أن تكون
اإلجراءات المتبعة للحصول على عينة من المتهم مطابقة لإلجراءات المنصوص عليها قانونا ،فإذا كان الدليل قد وصل إليه القضاء
بوسيلة غير مشروعة إنهار وأصبح ال قيمة له. 15
15عبد الباقي الصغير ،أدلة اإلثبات الجنائي و التكنولوجي ،مرجع سابق ،ص.70:
واللجوء إلى الخبرة الجينية كتقنية علمية يقتضي تحليل الحمض النووي للمشتبه فيه الموجود في خلية من خاليا جسده ،سواء كان دما
أو سائال منويا أو شعرا أو عظاما ،وهذا يتطلب أخذ جزء من الجسم إلخضاعه للتحليل العلمي ،وذلك يشكل اعتداء على حق اإلنسان
في السالمة الجسدية الذي يوفر له القانون الحماية وتنص االتفاقيات الدولية على احترامه ،16كما أن األديان السماوية قد كفلت
حرمات وحريات اإلنسان قبل أن تكفلها الدساتير والقوانين.
وباعتبار نتائج الخبرة الجينية تتجاوز حدود الكشف عن جريمة معينة ،ذلك أنها تمكن باإلضافة إلى التعرف على هوية شخص ما
فإنها تكشف أيضا عن معلومات جد خاصة عن خصائصه الطبية والسلوكية وعن األمراض التي يمكن أن يصاب بها وعن صفاته
الوراثية وهذه المعلومات تشكل جزءا ال يتجزأ من مكونات الحياة الخاصة للشخص التي ال يجوز للغير أن يطلع عليها ،فقد عرفت
هذه التحاليل عدة إعتراضات والتشكيك في فعالية هذا النظام المخاطرة الكثيرة والحساسية المعلومات المتحصلة منها ،ونظرا لدقة
المعلومات الوراثية التي أدت إلى الخوف من إستخدامها على نطاق واسع ،مع ما يترتب عن ذلك من مشاكل بالنسبة لألشخاص
المصابين بعيوب وراثية سواء كانوا مصابين فعال بأمراض وراثية أو معرضين لإلصابة بها.
ولذلك فإن التساؤل الذي يطرح هو إلى أي حد يمكن اعتبار تحاليل الحمض النووي تدخال في الحياة الخاصة؟
لإلجابة عن هذا التساؤل يجب معرفة طابع المعلومات التي يكشف عنها اختيار تحديد الهوية ،ألن اإلعتراض األساسي على هذا
االختبار كونه يؤدي إلى البحث عن صفات وراثية موروثة ،فاإللمام بالحمض النووي قد يكشف عن كافة االستعدادات الوراثية لدى
الشخص الخاضع لالختبار.
وبعيدا عن هذه االعتراضات التي يثيرها الفقه القانوني والفكر الحقوقي فهذه الوسيلة أصبحت ضرورية للكشف عن الجرائم
والوصول إلى مرتكبيها كل ما هنالك هو أنها يجب أن تخضع للضوابط القانونية التي تحكمها ،شأنها في ذلك شان باقي الوسائل
األخرى التي تشكل أيضا انتهاكا للحياة الخاصة كالتفتيش والتقاط المكالمات.
ومن أهم الضوابط والشروط التي يجب أن تخضع لها تحاليل الحمض النووي هو الحصول على العينة من المتهم التي ستخضع
للتحاليل بطريقة مشروعة وقانونية ،وإذا كانت هذه التحاليل ال تثير أي مشكل إذا لم يمانع المتهم في الخضوع لها فإنه في حالة
رفضه لها يطرح التساؤل التالي هل يمكن إرغام المتهم على الخضوع لتحاليل الحمض النووي؟ أي هل يمكن أخذ العينة من المتهم
بشكل جبري دون مراعاة موافقته أو رفضه؟
بالرجوع إلى مختلف اآلراء الفقهية والمواقف التشريعية نجد في إطار إجابتها عن هذا التساؤل قد انقسمت إلى عدة اتجاهات يمكن
إجمالها فيما يلي:
16تنص المادة 12من اإلعالن العالمي لحقوق اإلنسان ال يعرض أحد لتدخل تصفي في حياته الخاصة أو أسرته أو مسكنه أو
مراسالته أو الحمالت على شرفه وسمعته ،ولكل شخص الحق في حماية القانون لمثل هذا التدخل أو تلك الحمالت كما أقرت االتفاقية
األوربية لحقوق اإلنسان لسنة 1950الحق في الخصوصية فنصت المادة 8منها على كل شخص له الحق في أن تحترم حياته
الخاصة وحياته العائلية ومسكنه ومراسالته.
أوال :االتجاه الرضائي :يندرج في إطار هذا اإلتجاه تياران ،األول يمثله الفقه الفرنسي الذي يرى أن إجراء تحاليل البصمة على
المشتبه فيه يستلزم الحصول على إذنه وموافقته وال يجوز إجباره عليه كرها ،أي أنه يتعين قبل إجراء تحليل على عينات من جسم
المتهم الحصول على موافقة كتابية منه على ذلك ،والتيار الثاني يمثله كل من التشريع اإلنجليزي واأليرلندي حيث يكرس مبدأ
الرضائية في الخضوع لتحاليل البصمة الوراثية ،ولكنها رضائية مقيدة تقترب إلى حد ما من حق الصمت وعدم اإلدالء بأي تصريح،
ولكن صمته هذا يمكن أن يتخذ قرينة ضده ويمكن أن يفسر في غير مصلحته ،وهو نفس األمر بالنسبة لرفض خضوع المتهم لتحاليل
البصمة الوراثية.
ثانيا :االتجاه الجبري يمثل هذا اإلتجاه أيضا تياران ،األول مرن ال يذهب بعيدا في إجبار المتهم على الخضوع إلى تحاليل البصمة
الوراثية فهو ال يستعمل اإلكراه المادي المباشر ،بل يعمل على تجريم ومعاقبة فعل االمتناع عن الخضوع لتحاليل البصمة الوراثية،
وذلك كجزاء له عن رفضه التعاون مع أجهزة العدالة ،كما هو الشأن بالنسبة لتجريم ومعاقبة بعض األفعال الرافضة لمساعدة العدالة
كاإلمتناع عن أداء الشهادة أو أداء اليمين 17والثاني وهو الراجح على المستوى الفقهي والتشريعي ،حيث أن أغلب التشريعات
أصبحت تجيز إجبار المتهم على الخضوع لتحاليل البصمة الوراثية ،وذلك دون مراعاة موافقته أو رفضه وهذا ما يأخذ به القانون
األلماني حيث يجيز إجراء الخبرة الجينية على المتهم متى توافرت دالئل قوية على ارتكابه جريمة معينة بناء على قرار القاضي
ودون حاجة إلى رضائه ،وهو نفس األمر بالنسبة للتشريع الدانماركي شريطة أن تكون عقوبة الجريمة تصل إلى 18شهرا أو أكثر،
وهو ما يأخذ به أيضا التشريع األسكتلندي والقانون السويدي ،ويقر القانون الهولندي نفس القاعدة مع إعطائه للمتهم الحق في استئناف
قرار قاضي التحقيق بالخضوع اإلجباري للفحص داخل أجل 15يوما التالية لتبليغه بالقرار.
إذن بعد استعراض مختلف هذه اإلتجاهات والتيارات بخصوص الطريقة التي يتعين إتباعها ألخذ العينة من المتهم ،يمكن القول أن
اإلتجاه القائل بإجبار المتهم على الخضوع لتحاليل الحمض النووي في حالة رفضه هو اإلتجاه السليم الذي يتعين على المشرع
المغربي األخذ به ومسايرته عند تنظيمه للخبرة الجينية ،خاصة إذا علمنا أن هذه األخيرة ال تشكل مساسا خطيرا أو فادحا بجسم
المتهم أو بسالمته الجسدية إذ يقتصر األمر على الحصول على قطرات من دمه عن طريق إبرة طبية ال تسبب أي ألم جسماني وال
تلحق أي ضرر بصحته ،وكذلك كما يرى بعض الفقه 18بحق أن الموازنة بين مصلحة المجتمع المتمثلة في تحقيق العدالة ومكافحة
الجريمة ومصلحة األفراد وحرياتهم الشخصية تقتضي ترجيح مصلحة المجتمع ،لذلك فالركون إلى رضاء األفراد يجعل العدالة رهينة
باألهواء الشخصية ،مما يكون معه اللجوء إلى اإلجبار واإلكراه تصرفا مقبوال ومنطقيا من أجل حماية المصالح العليا للمجتمع
والحفاظ على كيانه ووجوده.
إذن هذه هي أهم الضوابط والشروط التي يتعين مراعاتها في الخبرة الجينية حتى تكون وسيلة مقبولة أمام القضاء الجنائي يعتمد
عليها في تكوين اقتناعه وإصدار أحكامه وذلك إلى جانب باقي وسائل اإلثبات األخرى كتحليل الدم و التخدير(المطلب الثاني).
17مثال كجريمة االمتناع عن اصدار حكم الفصل 240من ق ج أو السكوت العمد عن أداء الشهادة الفصل 378من ق ج ...إلخ
18عبد الباقي الصغير ،أدلة اإلثبات الجنائي والتكنولوجيا الحديثة ،مرجع سابق عن 79 :