Professional Documents
Culture Documents
ما بعد نظرية العدالة عند جون رولز Beyond John Rawls' Theory of Justice
ما بعد نظرية العدالة عند جون رولز Beyond John Rawls' Theory of Justice
شرود عتيقة
جامعة الجزائر.2أبو القاسم سعد هللا-بوزريعة –الجزائر( -الجزائرAtika Cherroud@univ-alger2.dz ،)-
تاريخ النشر0202/../.. : تاريخ القبول0202/../.. : تاريخ االستالم0202/../.. :
ملخص :يهدف مقالنا حول نظرية العدالة كانصاف للفيلسوف األمريكي املعاصر جون رولز(-1291
)9009الى النظر في مدى ثقل وزن النظريات البديلة لها والداعية الى تجاوزها ،من خالل عرض ثالثة
نماذج منها .هذه النظرية التي أحدثت صخبا فكريا فلسفياعامليا ،وردود فعل متباينة بين مؤيد وناقد
ورافض لها طيلة خمسين عاما ،قض ى منها رولز ثالثين سنة من التنقيح والتعديل والتصحيح ،لينتقل بها
من نظرية شمولية الى نظرية ليبرالية سياسية مستقلة في العدالة ،متطلعا من خاللها الى يوتيوبيا واقعية
كونية .فهل يمكن القول أن نظرية رولز ولى عليها الزمن ؟
كلمات مفتاحية .:الفلسفة السياسية ،الليبرالية ،.الديمقراطية .،.العدالة املحلية ،العدالة العاملية.
Abstract: This article on the theory of justice as fairness by contemporary
American philosopher John Rawls (1921-2002) aims to examine the weight of
alternative theories calling for override their by presenting three examples their by
presenting three examples. Rawls' Theory of Justice, which created an
unprecedented worldwide intellectual and philosophical clamor, and mixed
reactions among supporters, critics and opponents for fifty years, of which Rawls
spent thirty years reviewing, amending and correcting, to move from a totalitarian
theory to a liberal political theory, and a realistic utopia universal of justice. Could
?it be said that Rawls’s theory is out of date
.1مقدمة:
ظهرت نظرية رولز (' )9009-1291العدالة بصفتها انصافا' كبديل منهجي ومعرفي لتجاوز النظرية
الكالسيكية ملذهب املنفعة الذي هيمن على التقليد السياس ي األنجلوسكسوني .فاستقطبت اهتمام
التيارات الليبرالية وغير الليبرالية منذ ظهورها عام .1291فما إن ّ
تم تدارس النظرية من طرف جمهرة
الفالسفة واملختصين في شتى املجاالت التي خاضت فيها من سياسة ،وأخالق ،وقانون ،وعلم اجتماع،
واقتصاد ،وحقوق اإلنسان ،والعالقات الدولية ،حتى تهاطلت آالف املقاالت والكتب تأييدا وانتقادا
ومعارضة واثراءا ،من داخل ّ
التوجه الليبرالي وخارجه .مما دفع رولز الى مراجعتها وتعديلها وتنقيحها عبر
مراحل تدريجية طيلة ثالثين عاما ،مكنته من اإلنتقال بها من نظرية ليبرالية شاملة كنظرية جون ستيوارت
مل وكانط ،الى نظرية سياسية مستقلة تشكل جزءا من املذهب الليبرالي أضيق مجاال مع صدور ثاني أخطر
كتبه بعنوان "الليبرالية السياسية"عام ، 1221الذي أعاد بعده صياغة النظرية عام 9001تحت عنوان
ّ ّ ّ
تحوال جذريا عن نظريته األولى؛ إذ انتقل رولز – 'العدالة كانصاف،إعادة صياغة" و اعتبره بعض النقاد
حسب تقييمهم -من التركيز على العدالة الى التركيز على الشرعية الليبرالية.
نظرية ليبرالية سياسية في العدالة تنأى بنفسها عن كل املذاهب الشمولية دينية كانت أو فلسفية أو
كملة منتقال من العدالة املحلية ملجتمع ديمقراطي ليبرالي الى العدالةُ ّ ّ
أخالقية ،عززها رولز بنظرية م ِّ
العاملية ملجتمع كوني في كتابه " قانون الشعوب ،وعود لفكرة العقل العام " عام .1222مما جعلها مركز
اهتمام الناقدين والشارحين واملترجمين لها حتى اليوم.
وقد ُسئل كريستيان دوال كومبان( )9009-1292في نهاية التسعينات وبداية األلفية الثانية :الى أين تتجه
الفلسفة عشية القرن الواحد والعشرين ؟ فأجاب :سأقول بكل حرية ّإن أكثر البحوث إثارة تجري اليوم
بالضبط في مجال األخالق والسياسة ،وفي مقدمة فالسفة هذا الحقل أعمال جون رولز باعتباره "مصدر
التجديد املدهش الذي عرفه هذان املجاالن" (اللذان يصعب الفصل بينهما) خارج الواليات املتحدة
األمريكية منذ حوالي ثالثين عاما "...ذاكرا العديد من الفالسفة الذين استلهموا من رولز و تأثرت أعمالهم
بنظريته تدين من مؤيدين و معارضين أمثال روبرت نوزيك،أالسداير مكنتير ،مايكل ساندل،تشارلز
تايلور،ديك هوارد ،ورونالد دوركين ،و ميكايل والزر( .الكونبان ،0202 ،صفحة .)042و تقديرا ألهمية نظرية
تم تصنيف أعماله ضمن األعمال الخالدة في تاريخ الفكر السياس ي ، ،وقد رسمت خريطة رولز في العدالة ّ
جديدة للباحثين في حقل الفلسفة السياسية واألخالقية التي تشكلت تياراتها الكبرى بناء على املوقف من
هذه النظرية .لكنها لم تسلم مع ذلك من اإلنتقاد والدعوة الى تجاوزها .فهي بتقدير البعض نظرية ملجتمع
ديمقراطي ليبرالي ،حيث "كان رولز يعتقد ّأن فكرة املجتمع كمنظومة لإلنصاف في التعاون اإلجتماعي تحظى
ّ بالقبول لدى القراء الذين ّ
تتوجه إليهم .ويبدو أنه كان مؤمنا خالل معظم فترات حياته املهنية حتى أوائل
بأن هذا التأييد سوف يتسع الى نطاق عالمي ،على األقل بالنسبة الى القراء الذين يتبعون محاور الثمانينات ّ
ّ
الجدل في نظريته ،لكي يفهموا نقاطها األساسية بشكل صحيح .لكن في السنوات األخيرة من حياته يبدو أنه
مصممة ألن تحظى بقبول ال لبس فيه من الناس ّ بأن نظريتهتراجع عن هذا اإلفتراض من خالل اإليحاء ّ
ُ
الذين يعيشون في كنف ثقافات شكلتها ُمث ٌل ديمقراطية وليبرالية" (جونستون ،2102 ،الصفحات -242
)242و هي في تقدير البعض األخر نظرية ال تتخطى حدود املجتمع األمريكي ،داعين الى تجاوزها ألنها؛ لن
تبلغ مرتبة العاملية كنظرية كونية نافعة لكل املجتمعات البشرية ،ملا تنطوي عليه من نقائص ،بينما رفضها
فريق ثالث من منطلق رفضه املبدئي لليبرالية برمتها ،متكهنا باقتراب موعد أفول نجمها؛ اعتبارا من مؤشر
تهدد بزوالها .وهنا نطرح اشكاليتنا :هل يمكن القول بعد خمسين التناقضات الداخلية العميقة التي باتت ّ
سنة من عمر نظرية العدالة كانصاف ،قض ى منها جون رولز ثالثين عاما من التصحيح والتعديل ّأن الزمن
طواها و ّأن َ
هدفه في يوتيوبيا واقعية عاملية حلم لن يتحقق؟
حول هذا اإلشكال املطروح يتمحور مقالنا الذي نهدف من خالل معالجته وفق منهج وصفي تحليلي
نقدي ،الى عرض بعض النماذج من النظريات واألعمال الفلسفية التي تقدم نفسها كبدائل لنظرية رولز
من أجل النظر في مدى تماسك هذه البدائل .وقد اخترنا نموذجين ملناقشتهما بعد بسط الخطوط الرئيسية
للنظرية .ففي املحور األول نتناول تحت "عنوان النظرية ونقادها "طرح الفيلسوف وعالم اإلقتصاد الهندي
الحائز على جائزة نوبل أمارتيا سن Amartya Sanفي كتابه "فكرة العدالة" لعام .9010الذي يقدم
الديمقراطية كنقاش عام وكحكم بالنقاش أساسا للعدالة ،والثاني للمفكر الكندي دفيد جونستون
David Johnstonمن خالل كتابه "مختصر تاريخ العدالة لعام 9019الذي يقترح مبدأ التعامل باملثل
كأساس للعدالة ،وفي املحور الثاني تحت عنوان "تنبؤات حول مصير الليبرالية" نعرض نموذجين أولهما
للمفكر اإلنجليزي جون غراي Gohn Grayمن خالل كتابه " ما بعد الليبرالية،دراسات في الفكر السياس ي"
لعام .9002الذي يتنبأ فيه باقتراب نهاية الليبرالية ،والثاني للمفكر األكوادوري دفيد بوز David Boazمن
خالل كتابه "مستقبل اللبرتارية" لعام .9002الذي يقدم على عكس سابقه دفاع اللبرتاريين عن الليبرالية
واإلستماتة في تذليل الصعوبات املطروحة أمامها .وننتهي بعد العرض الى مناقشة النتائج و الخاتمة.
.2النطرية ونقادها
2.2اعتراف رولز:
قدمه منتقدوه من اثراء ساهم به مؤيدوه بأن نظريته في العدالة تطورت بفضل ما ّ يعترف رولز ّ
ومعارضوه على السواء ،والتي على ضوئها أمكنه تعديلها لتبلغ الشكل الذي هي عليه .وقد ُسئل رولز
عن كون أكثر االنتقادات التي ّ
تلقتها نظرية العدالة كان مصدرها شعبة الفلسفة في هارفرد ،فأجاب بأن
تلك االنتقادات جعلته يفهم األمور بشكل أفضل(.سالم 22،ماي .)2121
وقد سعى رولز من خالل نظرية "العدالة بصفتها إنصافا ،إعادة صياغة" املنقحة واملعدلة بعد كتابه
"الليبرالية السياسية" الى تقديم تصور سياس ي للعدالة ُمعتقدا ّ
بأن الليبرالية السياسية قادرة على
تحقيق العدالة ملواطنين أحرار ومتساوين على اختالف مذاهبهم الدينية والفلسفية واألخالقية ،فأنشأ
نسقا من املبادئ في الحرية واملساواة التي تمنح -1لكل شخص الحق ذاته والذي ال يمكن الغاؤه ،في
ترسيمة من الحريات األساسية املتساوية الكافية ،وهذه الترسيمة متسقة مع نظام الحريات للجميع
ذاته -2.يجب أن تحقق ظواهر الالمساواة اإلجتماعية واإلقتصادية شرطين :أولهما يجب أن تتعلق
بالوظائف واملراكز التي تكون مفتوحة للجميع في شروط مساواة منصفة بالفرص ،ثانيهما أن تحقق
ظواهر الالمساواة أكبر مصلحة ألعضاء املجتمع األقل حضا (وهذا هو مبدأ الفرق( : ).رولز ،قانون
الشعوب ،9009 ،صفحة )192مضيفا بعد اعادة صياغة مبدئي الحرية واملساواة محاور أخرى في كتابه
'ليبرالية 'لم تكن موضحة بالشكل الكافي في كتابه األول أهمها فكرتي دور 'العقل العام' و'اإلجماع
بالتوافق املتقاطع' وفكرة اإلستقرار.
و َيعتبر رولز ّأن مبادئ العدالة هذه تعطي صبغة كونية ألفعالنا ّ ّضمن ما ترسمه لنا من قيود
والتزامات تفرض علينا التصرف بموجبها .على عكس األمر املطلق عند كانط .يقول رولز " هذه املبادئ ّ
هي بحق بمثابة املحدد للقانون الخلقي،أو بعبارة أدق ّهي املبادئ الصالحة للمؤسسات ولألشخاص
ً
معا .فأي قرار أو أي فعل يصدر عن الشخص خارج هذا اإلطار الذ ّي تحدده هذه املبادئ إذن سيكون
فعال مجردا من أي شرعية وأي استحقاق .ويتم اختيار مبدئي العدالة 'الحرية واملساواة' بين
املتفاوضين املمثلين للمواطنين املتساوين األحرار في اطار "وضع مبدئي أصلي" افتراض ي وخلف ستار
اهم الحقائق التي تمس بموضوعية وحيادية يسميه رولز ب"حجاب الجهالة" .يحجب عن املتفاوضين ّ
ونزاهة هذه املفاوضات واإلختيارات .مثل املعلومات املتعلقة بمكانتهم اإلجتماعية واإلقتصاديية
وانتماءاتهم وجنسهم ولونهم .ويرفع هذا الستار تدريجيا كلما بلغت املفاوضات مراحل متقدمة من
مدد رولز مبادئ العدالة لتشمل مجتمعات غير ليبرالية ثم ي ّ
التأسيس ملجتمع ديمقراطي دستوريّ .
وتشكل ما اطلق عليه 'مجتمع الشعوب' من خالل وضع اصلي ثان يتم فيه اختيار أفضل صيغ مبادئ
حدده ب ثمانية مبادئ يراها كافية لتؤدي غاية اإلتفاق والعيش بسالم مستقر قانون الشعوب الذي ّ
صنفها ضمن نظريتين-1 :مثالية و-9غير مثالية .أما األولى فتضم بين املجتمعات من جيل الى جيل ،وقد ّ
املجتمعات الليبرالية واملجتمعات الالئقة أو السمحة ،الراضية بقانون الشعوب رغم اختالف بنيتها
األساسية وانتمائها ألنظمة ال تسمح بنفس القدر من الحريات ملواطنيها على عكس املجتمعات
ّ ّ
فتضم ثالثة انواع الليبرالية .ويصف رولز هذه املجتمعات بأنها "هرمية تشاورية" .أما النظرية الالمثالية
تشمل املجتمعات املنضوية تحت أنظمة استبدادية ترفض قانون الشعوب وتسعى للهيمنة والتوسع،
ومجتمعات املستبد العادل التي ال حق ملواطنيها في املشاركة في صنع القرار .واملجتمعات املغلوبة على
أمرها التي ترزح تحت ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية غير مواتية وتتطلب واجب املساعدة من
الشعوب الليبرالية والشعوب السمحة وفق شروط محددة .ومن أجل تشكيل هذا املجتمع الكوني
أصدر رولز كتابه األخير بعنوان "قانون الشعوب ،وعود لفكرة العقل العام " عامين قبل وفاته ،ردا
على كل من فوكو ياما في كتابه نهاية التاريخ وخاتم البشر"و أستاذه صامويل هانتنغتون الذي أصدر
كتابه " صدام الحضارات إعادة صنع النظام العالمي" عامين بعد ظهور كتاب تلميذه .حيث أعلن فوكو
ّ
ماسماه ياما عن نهاية التاريخ باملعنى األيدولوجي بينما "ركز هانتغتون على الوجه الثقافي معتبرا أن
بالحضارة العاملية أو "ثقافة دافوس"( 1هانتنغتون ،0111 ،صفحة )19ستواجه خطر التحدي الحضاري
الذي يحصره أساسا في الثقافتين اإلسالمية واآلسيوية الشرقية( .هانتنغتون ،0111 ،صفحة .)061
ّ
وملا كان هاننغتون وتلميذه يعمالن على صب الديمقراطية الليبرالية في قالب اقتصادي وثقافي ال
يتجاوز حدود القوى الغربية األساسية،أصدر جون رولز كتابه قانون الشعوب ساعيا الى تدويل
نظريته للعدالة .و يأتي اختيار رولز للتسمية"قانون الشعوب" تأكيدا على ثانوية املطلب اإلثني
والثقافي ،إذ يراهن رولز على خالف هانتغتون على أن فكرة الشعب ذات طابع سياس ي بحت اليستدعي
إدماج املعطى الثقافي إال من حيث هو عمق عمومي (هاشمي ،2104 ،صفحة .)299
ّ
تشكل خطرا على ّ
قيم العالم وبينما يعتبر هانتغتون الحضارة اإلسالمية ضمن حضارات التحدي التي
الجديد فإن راولز يحرص على استدعاء نموذج إسالمي ضمن ما يسميه "الشعوب السمحة" القابلة
بقانون الشعوب،أطلق عليه اسم “كازانستان” الذي من شأن الفلسفة السياسية أن ّ
تحوله من مجرد
إمكانية إلى واقع فعلي وتلك هي اليوتوبيا الواقعية (رولز ،2112 ،صفحة ّ )10
ولعل ما جاءت به
الجمعية الدولية للهالل األحمر من شهادات على حسن سيرة قادة املسلمين وعلى رأسهم الرسول محمد
تتماش ى مع رؤية رولز إذ شهد حتى خصوم املسلمين عل ى حسن معاشرتهم لغيرهم من األديان
ّ واألجناس .فقد قال الكونت هنري دي كاستري ّ
"إن الدولة اإلسالمية ملا استقرت في الشرق لم تعارض
ّ
وظلت روما ّ
حرة في مراسالتها مع األساقفة الخاضعين الديانة املسيحية ،ولم تضع أمام بنيها عائقا،
لحكم املسلمين" (خليل أ ،2114 ،.صفحة .)29
وقد واجهت نظرية رولز في العدالة بصفتها انصافا انتقادات على ثالث مستويات* :الجماعاتيون –
*واللبرتاريون - Libertarianism:وأمارتيا سن .وتتسع القائمة لتضم العديد ممن ساهموا بانتقاداتهم في
اثرائها من أصدقاء رولز ،أمثال رونالد دوركين املساواتي ونوزيك الليبرتاري واإلشتراكي الليبرالي يورغن
هابرماس .وقد أشادوا جميعا حتى معارضيه أمثال مايكل ساندل وأمارتيا سن بأهمية نظريته في العدالة
كانصاف في وضع األساس املتين لكل من يطمح الى املساهمة في تطوير مبحث العدالة مثمنين جهوده ّ
حد
اإلمتنان .فقد قال هابرماس عن كتاب راولز بأنه »1يشكل تغيرا أسياسيا في خلق التوازن والنقاش إلى املسائل
املرتبطة بالفلسفة العملية وفلسفة الحق ليس فقط بالنسبة للفالسفة ،ولكن كذلك بالنسبة للحقوقيين
واالقتصاديين كما عادت مشكالت الفالسفة العملية وفلسفة القانون لتحتل املرتبة األسمى في الدراسات
العملية ).. (Bouvet, 1999, p. 57
ومن بين أكثر أفكار النظرية إثارة للجدل مبدأ "الفرق" principle of differenceوهو ما جرى تسميته
يفسر نظرة رولز التوفيقية املتسمة في بعض الترجمات مبدأ "اإلختالف" أو "التمايز" أو "التباين" الذي ّ
ّ
بطابع (اإلنصاف) التي جمع فيها بين مبدأ الحرية الليبرالية ومبدأ املساواة الديمقراطية ،وقد أثار نقاشا حادا
قيد مبدأ الحرية الذي يقيم عليه رولز نظريته في بين الليبرتاريين (التحرريين) الرافضون له باعتباره ُي ّ
العدالة ويضعه أمام تناقض خطير من جهة ،وألنه يفرض املساواة بين الالمتساوين دون رضا وال حرية
من األطراف املعنية بمنح حقوقها للغير من جهة أخرى ،وهو أمر غير مقبول من وجهة نظر ليبرالية .لذا كان
األجدر برولز -في نظرهم -تطبيق مبدأ اإلستحقاق .فروبرت نوزيك ) (1938-2002الذي يشيد بعظمة
ً
فصاعدا إما العمل نظرية رولز في العدالة "والقائل في تقديرها "يجب على الفالسفة السياسيين من اآلن
ضمن نظرية رولز ،أو شرح سبب عدم قيامهم بذلك (نووزيك ،0122 ،صفحة )222والذي خلص
مع رولز إلى أن "النفعية تفشل في احترام الفصل ّ بين األشخاص' (بيرين ،2101 ،صفحة .)22اعترض رغم
ذلك على االستنتاج الجزئي ملبدأ رولز الثاني للعدالة "التفاوتات االجتماعية واالقتصادية تترتب لتكون ذات
ً
منفعة كبيرة لألعضاء األقل حظا من املجتمع ".وجاء رده عن رولز في كتابه "الفوض ى ،الدولة،
ُ
اججاواليوتوبيا"مستفيضا في تحليل عاقبة الجوانب التي طرحها جون رولز في كتابه (نظرية للعدالة)،ومح ِّ
فإن الدولة الشرعية الوحيدةبأن احترام الحقوق الفردية هو املعيار الرئيس ي لتقييم أفعال الدولة ،ولهذا ّ ّ
ّ
والحرية ،وامللكية ،والتعاقد. حد حماية حقوق الحياة، الحد األدنى التي تقف نشاطاتها عند ّ هي دولة ّ
وتتجنب استخدام سلطة الدولة إلعادة توزيع الدخل ،أو جعل الناس أخالقيين ،أو حمايتهم من إيذاء ّ
أنفسهم( .ماك.)2101 ،
ّإن الليبرتاريين يؤمنون بدولة الحد األدنى التي تحمي الحريات والحقوق وتدفع اإلعتداءات على األفراد
وامللكيات دون التدخل في خياراتهم او التصرف في حقوقهم وممتلكاتهم على اعتبار ّأن الفرد ملك نفسه
وله حرية التصرف فيها وفي ممتلكاته و عقائده كما يشاء ،شريطة أال يتعدى على حريات اآلخرين وممتلكاتهم.
حتى ولو كانت ُم َّؤيدة بأغلبية ،وهذ ما يشكل اختالفا بين رولزلذلك يعارضون املمارسات الحكوميةّ ،
ونوزيك ّأدى الى اختالف النتائج املتوصل اليها من كليهما .وفي اعتقاد مايكل ساندل “1فإن موقف نوزيك
وأنصار مبدأ االستحقاق يقوم على حجتين أساسيتين :األولى أخالقية تتعلق بالطبيعة الجوهرية للحيازات
الطبيعية "الفطرية" وهو مايخول للفرد االستفادة منها ،على عكس الخصائص االجتماعية والثقافية،
والثانية ترتبط بالواقع العملي حيث أن تجريد الفرد من حيازاته الطبيعية أمر غير متاح واقعيا (ساندل م،.
،2109صفحة .)012
وفي مقابل مبدأ الفرق الذي استند اليه رولز لشرعنة الحيازات الطبيعية أخالقيا ،يطرح نوزيك نظرية
التخويل،فالناس ُمخولين لإلنتفاع من حيازاتهم وإن كانوا غير مستحقين لها أخالقيا ،و ألجل تصحيح الظلم التاريخي
الذي تعرضت له فئات اجتماعية محددة ،يقدم نوزيك تصورات بديلة ملبدأ الفرق ،حيث يقترح أن يدفع األعضاء
ً الذين ما كان لهم ليكونوا أحسن حاال لوال الظلم التاريخي مبالغ محددة لفئات ُي ّ
رجح أن يكون أعضاؤها أسوأ حاال
ُ ّ
مما كانوا عليه بسبب الظلم التاريخي...وليس هنالك جهة خارجية لها الحق في توزيع امللكيات الخاصة،السيما تلك
ُ
الناجمة عن مبدأي النقل واالكتساب (الحارس ،2101 ،صفحة .)012و إضافة الى ما سبق ذكره طرحت
جملة من التساؤوالت واإلعتراضات حول نظرية رولز في العدالة تتعلق بجدوى الوضع األصلي اإلفتراض ي
وحجاب الجهالة ،كما طرح الجماعاتيون وفي مقدمتهم ويل كيملكا ،ومايكل ولز ر عددا من املسائل حول
التعددية الثقافية التي أهملها رولز في نظرهم وأبعدها من اطار تصوره السياس ي،ومنها ما كتبه لسداير
مكنتاير تحت عنوان 'العدالة مفاهيم متغيرة' قائال":جميعنا نملك مااليحص ى من املفاهيم األخالقية
املتباينة واملتنافسة ،واملصادر األخالقية للثقافة ال تفتح لنا سبيال للفصل بينها عقليا ،والفلسفة األخالقية
بحسب فهمنا السائد تعكس صورة النقاشات الجدلية واإلختالفات في الثقافة بكل إخالص" (ماكنتاير،
،2101الصفحات )411-421ودعوة كيميلكا إلى تعميم التفضيل اإليجابي ليشمل األقليات الثقافية،
فواجب الدولة ال يقتصر على مساندة املجموعة املألوفة من الحقوق االجتماعية والسياسية التي تحميها كل
تبني حقوق الجماعات الخاصة املختلفة أو السياسات الديمقراطيات الليبرالية الدستورية ،بل عليها دعم و ّ
الرامية إلى االعتراف بهويات الجماعات العرقية الثقافية والتكيف مع تطلعاتها وأفاقها( .كيمليكا ،9011 ،صفحة
)21
أما مايكل ساندل الذي ساهم بشكل بارز ومميز في نشر نظرية رولز رغم اعتراضاته عليها .فقد انتقد
فكرة أسبقية العدل عن الخير وأولوية الفرد على الجماعة ،واهمال رولز مكانة وحق املجتمع على الفرد .
فهو يتساءل ما الداعي لوضع اآلراء والتصورات االجتماعية الدينية بين قوسين ،وإهمال اإلستفادة من هذه
القيم إذا كان رولز نفسه يؤكد عدم تشكيك الليبرالية السياسية بمزاعم أي من تلك املذاهب ،ويعطي
ساندل مثال اإلجهاض ،فإذا كان رأي املؤسسات الدينية بتحريم اإلجهاض على اعتبار أن حياة اإلنسان تبدأ
من اليوم األول للحمل صحيح ،فمن غير املعقول حينها تجاهل رأي املؤسسة الدينية( .ساندل م،2109 ،.
قدم ساندل اعتراضين أساسيين على مبدأ الفرق-1 :اعتراض الحوافز،حيث يتساءل كيف صفحة . )121و ّ
للموهوب أن يكون متحفزا لتطوير مهاراته إذا كان الينتفع منها إال الشيئ القليل ،ويضرب مثال مايكل
التدرج الضريبي سيحرمه من مضاعفة ثروته -9 جوردون متسائال :كيف له أن يتدرب بشكل كامل لو كان ّ
اعتراض ُ
الجهد :حيث أنه ال مبرر لرولز في رفض نظرية االستحقاق على أساس اعتباطية املواهب الطبيعية؛
ّ
ألن املواهب قابلة للتطوير ُ
بالجهد الفردي ،واألمثلة كثيرة،فقد عمل بيل غيتس بجهد لتجاوز نظرائه وتشييد
مايكروسوفت (ساندل م ،2109 ،.صفحة .)022
مست اإلنتقادات واإلعتراضات أيضا أولوية مبدأ الحرية التي ناقشها كثيرون وعلى رأسهم أمارتيا سن.و ّ
وحيث ال يتسع املجال لعرض جميع اإلعتراضات واإلقتراحات ،نقدم بعض النماذج من البدائل املطروحة
متبوعة بتكهنات بعض النقاد حول مصير الليبرالية كأساس ألي نظرية .
.3مناذج من النظريات البديلة لنظرية رولز
2.3بديل أمارتيا سن واقتراح دفيد جونستون:
أما بديل أمارتيا سن (ولد 1نوفمبر )1211فيتركز حول اعتباره " الديمقراطية كنقاش عام أساس العدالة
"وقد عالج سن نظرية العدالة عند رولز بصفته عالم اقتصاد وفيلسوف ،وكان انتقاده األساس ي لها
باعتبارها نظرية تعتمد على ما أطلق عليه" املؤسسية املافوقية " مقترحا نظريته القائمة على أساس
"البنائية التحتية" .
وإذا كان حوار رولز –نوزيك ،يعكس الجدل السياس ي القائم في أمريكا حول قضايا إعادة التوزيع ومجال
ومدى التدخل الحكومي الذي يختصره نوزيك في دولة الحد األدنى ،ومشكلة الحقوق املدنية ،و لكل منهما
فإن جدلصناع السياسة في الواليات املتحدة األميركية (ساندل م ،2111 ،.صفحة ّ ،)011 مؤيدين بين ّ
الفيلسوف واالقتصادي الهندي أمارتيا ِّسن الذي رأى في نظرية العدالة كانصاف "انجازا تاريخيا وضع
الفالسفة على الطريق الصحيح وأوصل موضوع العدالة الى ماهو عليه اليوم (سن أ ،2101 ،.صفحة )11
يلخص نظرته إلى صورة العدالة اإلجتماعية في املجتمعات الليبرالية ،معتقدا أن مشكلة العدالة االجتماعية
بالبعد النظري في املؤسسات األساسية (سن أ،2101 ،. في الفكر الليبرالي منذ هوبز وحتى جون رولز ،تهتم ُ
صفحة )41داعيا الى النظر الى العدالة على أساس ما أسماه "البنائية التحتية" مقابل " املؤسسية
املافوقية" .(Trancsendental institionalisme .و يطرح سن اعتراضا آخر حول مدى ّتيقن رولز من اختيار
يقر هو نفسه [رولز] بتعدد الخيارات األطراف في الوضع األصلي ملبدأي العدالة دون غيرهما من املبادئ بينما ّ
ّ
الحادة من الالمساواة املادية التي املمكنة .مع تأيده التدخل الحكومي املباشر لتصحيح األنماط التاريخية
تساهم الى جانب عوامل أخرى في تأجيج العنف املجتمعي وتحتم التدخل الحكومي للدفاع عن مصالح الذين
ال يمكنهم الدفاع عن أنفسهم( .سن أ )9012 ،.وتحت عنوان "أولوية الحرية عند جون رولز" طرح ِّسن
تساؤالته حول جدوى األولوية املطلقة للحرية في مجتمعات تعاني من الضغوطات االقتصادية ومحدودية
خصص سن فصال الدخل حيث يبدو فيها مبدأ الحرية مطلبا ثانويا (سن أ ،2101 ،.صفحة .)010كما ّ
آخر للموضوع ذاته تحت عنوان "الفقر كحرمان من القدرة" ) .فالبشر الذين يعيشون في ظروف ال يتوفر
فيها طعام مالئم ال ُيتوقع منهم أن يكترثوا لحرية التعاقد أو حرية الصحافة كما يقول اشعيا برلين (برلين،
،2109صفحة . )44
وينتقد سن في كتابه "األخالق واالقتصاد" ([)1221 ،]1229مبدأ املساواة عند رولز معتبرا ّأن نظرة رولز
غير قادرة على مراعاة تنوع األفراد في الواقع إلستبعاده األفراد ذوي اإلعاقة على أساس أنها تنطوي على
لكن الحاالت الصعبة موجودة بالفعل ،وال يمكن للعدالة أن تكون اعتبارات تتعلق بترتيب الشفقة والقلقّ ،
غير مبالية بالحياة التي يعيشها الناس .فاحتياجاتهم "تختلف حسب الصحة وطول العمر واملناخ واملوقع
الجغرافي وظروف العمل واملزاج وحتى حجم الجسم (مما يؤثر على الحاجة إلى الطعام واملالبس)( .الخويلدي،
ّ
)2121ويرى أنه يمكن تعريف العدالة االجتماعية من حيث اإلمكانيات املتاحة لألشخاص بالنظر إلى
"أدائهم" أو "إنجازاتهم" التي يمكن أن تحققها املوارد -القراءة والكتابة والحصول على وظيفة والبقاء بصحة
جيدة والنشاط السياس ي وما إلى ذلك من حيث الخيارات الفعالة للخيارات املحتملة (القدرات) .ويسلط
الضوء على ما ينقص املساواة الرولزية من ّأن " :تفسير االحتياجات ليس من قائمة السلع األساسية ولكن
من حيث "القدرات األساسية" ،فالشخص قادر على تحقيق بعض األعمال األساسية ،مثل القدرة على
التنقل ،وتلبية االحتياجات الغذائية ،والحصول على امللبس واملأوى ،والقدرة على املشاركة في الحياة
فإن"[...فالشخص املعاق قد يكون لديه كمية أكبر من البضائع [ ]...ولكن االجتماعية للمجتمع ...وبالتالي ّ
بقدرة أقل من قدرة شخص آخر (بسبب إعاقته) " (الخويلدي )2121 ،وعليه فهذه الفئة يجب عليها ،على
ً
جسديا( .الخويلدي.)2121 ، سبيل املثال ،أن تنفق أكثر للوصول إلى وظيفتها من الشخص السليم
ويقدم سن نظريته في الديمقراطية كنقاش عام باعتبارها أساس العدالة ،موضحا هدفه من كتابه
فكرة العدالة ":في هذا الكتابُ ،ينظر الى الديمقراطية كنقاش عام (الفصول ،)19-12ما يقود الى فهم
الديمقراطية 'كحكم بالنقاش" نظرا للعالقة الحميمة بين الديمقراطية والعدالة"في الفلسفة السياسية
املعاصرة ،و ّإن أفضل تعريف للديمقراطية هو الحكم بالنقاش ، governmemt by discussion ».وكان
وولتر باجهوت أول من صاغ تلك العبارةّ ،
لكن جون ستيوارت ميل هو الذي لعب دورا كبيرا في تقريب هذا
توسع ّ إال ّأن هذا املفهوم –حسب سنّ - ّ
وتطور بشكل كبير مع جون رولز املنظور لألفهام والدفاع عنه".
وهابرماس ومساهمات وأدبيات تعود لبروس اكرمان ،جوشو كوهين ودونالد دوركين وغيرهمّ .
وعرف رولز
الديمقراطية بشكل مباشر وصريح بقوله" ّإن الفكرة النهائية للديمقراطية التشاورية هي فكرة التشاور
نفسها .فعندما يتشاور مواطنان فيما بينهما ،فإنهما يتبادالن افكارا ويناقشان ما لديهما من أسباب مساندة
لهذه األفكار املتعلقة بمسائل السياسة العامة" .إال ّأن معالجة هابرماس للنقاش العام و مقاربته في
ألن هابرماس أعطىالديمقراطية اإلجرائية –في نظر سن -أفضل من باقي املقاربات حتى تلك الخاصة برولز؛ ّ
شكال إجرائيا أكثر عمليا حين ربط الديمقراطية بالليبرالية ّ
ووضح ُبعد النقاش العام في ازدواجية الخطاب
السياس ي بين املسائل األخالقية للعدالة واملسائل الذرائعية للسلطة والقهر"( .سن أ ،2101 ،.الصفحات
ّ
)492-496وقد شهد له بذلك رولز نفسه قائال" :كذلك علق هابرماس تعليقا مضيئا على ما يفرق بين
املقاربات العامة املختلفة في املفهوم الى فكرة ودور النقاش العام .فهو يقارن نظرته التشاورية –اإلجرائية
بما يصفه باألراء "الليبراية" و"الجمهورية"( ".سن أ ،2101 ،.صفحة )291وقد رفض هابرماس الديمقراطية
الليبرالية والجمهورية معا مستبدال اياهما بالديمقراطية التشاورية.
وقد عرض سن في الفصل 12و 19من كتابه 'فكرة العدالة' وجهة نظره الفلسفية بوجوب النظر الى
الديمقراطية كنقاش عام ، public reasoningوعلى أنها "القدرة على إغناء املشاركة العاقلة من خالل تعزيز
توفير املعلومات واإلمكانية العملية للمناقشات التفاعلية" ،إذ ال يمكن الحكم على الديمقراطية باملؤسسات
الرسمية فقط[كما يرى رولز] ،ولكن بقدر األصوات املسموعة من مختلف شرائح الشعب .وعلى املدى
البعيد تؤثر هذه النظرة على املستوى العالمي وليس املحلي فحسب ،حتى تبلغ الديمقراطية والعدالة مكانة
عاملية بفضل النقاش العام وفعل التواصل حيث يمكن أن يفهم أفكارها القاص ي والداني ويمكن أن تلهم
األعمال العملية وتؤثر فيها عبر الحدود".و "إذا أمكن تقييم متطلبات العدالة باإلستعانة بالنقاش العام
وحسب ،عندئذ تكون الصلة حميمة بين العدالة والديمقراطية" ،بما لهما من سمات منطقية" (سن أ،.
)2101وقد أعطى سن أمثلة تاريخية عن دور احالل الديمقراطية في القضاء على املجاعات بفضل النقاش
العام في الهند املستقلة بعد اربع سنوات من سقوط األمبراطورية وعدم تفش ي املجاعات بعد مجاعة البنغال
التي كانت األخيرة ،وعلى العكس من ذلك ،فقد استمرت املجاعة التي ضربت الصين فيما بين 1221-1222
ثالث سنوات ورغم ذلك لم تغير الحكومة الصينية سياساتها ولم يلعب البرملان دورا ديقراطيا لتوقيف
املجاعة التي اهلكت ثالثين 10مليون شخص .ألنه"لم يكن للصين برملان مفتوح لألراء اإلنتقادية املخالفة،
وال حزب معارض ،وال صحافة حرة .ولطاملا كانت لتاريخ املجاعات ،في الواقع ،صلة وثيقة على نحو مميز
بانظمة الحكم اإلستبدادية كاإلستعمار في الهند البريطانية ،ودول الحزب الواحد كاإلتحاد السوفياتي في
الثالثينات والصين وكمبوديا والدكتاتوريات العسكرية كما في اثيوبيا والصومال...الخ ودائما يتضرر الناس
إال إذا كان هناك"نقل حر لألخبار وانتقاد عام غير مراقب ،فيكون ّ
وال تتضرر الحكومات،وال تتحرك
للحكومة كذلك دقع قوي لبذل قصارها إلستئصال املجاعات( .سن أ ،2101 ،.صفحة .)421
ّ
أما اقتراح دفيد جونستون فيقوم على أساس" العدالة بصفتها تعامال باملثل " .فبينما يركز سن على
الديمقراطية كنقاش عام أساسا للعدالة من خالل كتابة 'فكرة العدالة لعام ،"9010يعود دفيد جونستون
( مواليد )0140من خالل 'مؤلفه "مختصر تاريخ العدالة' لعام ، 9019ليؤكد على النظرية الليبرالية معتبرا ّ
أن
"نظرية العدالة بوصفها إنصافا" لجون رولز ُت ّ
عد إنجازا استثنائيا حقا...باعتبارها نظرة للعدالة اإلجتماعية في
مجتمع يفترض أن يتمتع مواطنوه بالحرية واملساواة ،يبدو أنه ليس لهذه النظرية نظير .ولكن ال تخلو من بعض
املثالب"( .جونستون ،9019 ،صفحة )920منتقدا إياها من الداخل ،ذلك ّأن "نظرية العدالة كانصاف تهمل
مسألة اإلحساس بالعدالة وال تدرك ّأن العدالة ال يمكن أن تتحقق إذا انفصلت عن نوع من التعامل باملثل
بين البشر ،وهذا اإلدراك له بالتأكيد أهمية جوهرية وهو من مستلزمات ذلك اإلحساس" (جونستون،
،2102صفحة .)262
حل محل لذلك يرى جونستون وجوب التركيز على "مبدأ التعامل باملثل كاساس للعدالة" وأن َي ّ
اإلتجاهين اللذين هيمنا على الفلسفة السياسية واألخالقية (مذهب املنفعة ومذهب الواجب األخالقي) وهذا
َ
املبدأ هو "أقدم شكل من أشكال العدالة ،وربما كان أكثرها حظا من التأييد واإلنتشار"،لكن لم يكن ُي ّركز
على هدف بارز تستقى منه مبادئ وقوانين العدالة مثلما يفترض ،وال على تصور ملفهوم الحق ومجموعة من
الواجبات الصارمة التي تتبع ذلك ،بل كان يركز بدل ذلك على خصائص العالقات التي بين األشخاص.
ويستمد هذا النوع من الفهم جذوره من "التعامل باملثل" .1" Concept of réciprocitéويقدم جونستون
بأن هذا املبدأ متجذر في أغلب الفلسفات" :عالوة على هذا فإني أطمح ألن أقدم أدلة تاريخية تبرر اعتقاده ّ
التصور للعدالة ،والذي ّيركز على طبيعة عالقاتّ للقارئ بعض األسباب التي تدفعني الى اإلعتقاد ّ
بأن ذلك
الناس بدل التركيز على هدف واحد بارز أو مجموعة واجبات صارمة ،يستحق أن ينهض كبديل مرموق
لإلتجاهين املشار إليهما آنفا ،واللذين أخذناهما بنظر اإلعتبار ،نرى أنهما قد هيمنا على املناقشات العلمية
التي ما فتئت تدور حول العدالة على مدى األجيال العديدة املاضية" (جونستون ،2102 ،صفحة ّ .)01
لكن-
ألن يشكل نظرية للعدالة ،لذا على أهل اإلختصاص يشير جونستون ّ -أن هذا األساس غير جاهز ومتكامل ّ
تطويره ،فلكي تغدو هذه التصورات إرشادات موثوقة من شأنها أن تتصدى للمعضالت املعقدة التي ترتبط
بالعدالة في عالم اليوم .ينبغي مراجعتها إذا أردنا لها أن تسهم بشكل بناء في اإلرتقاء باألفكار واملمارسات التي
يمكن أن تشكل آفاقا مستقبلية( .جونستون ،2102 ،صفحة )04
ويقول معلقا على أعمال فالسفة ومفكرين حول العدالة اإلجتماعية مقارنة مع رولز "...فقد تطرقوا الى
اتجاهات متباينة في البحث .في وقت قريب كان جون رولز قد أوضح في أحد أعماله األخيرة (قانون الشعوب')
ّ
ّأن مبادئ العدالة اإلجتماعية التي تطرحها نظريته ،ال تطبق إال على عالقات أشخاص يشكلون "شعبا"
تتحدد مالمحه من خالل ّ
هوية جماعية تعتمد على روابط ثقافية أو تاريخية .وال تنطبق تلك املبادئ ،وفق
رأي رولز على جميع شعوب العالم"( .جونستون ،2102 ،صفحة )224
ّ
ويرى جونستون ّأن تقسيم الناس إلى شعوب وجماعات بالشكل الذي ركز عليه كل من فيخته ورولز
وكثير من املفكرين اآلخرين "أدى إلى نتائج ذات تأثير حاسم على العدالة .تجمع بين األفراد الذين يشكلون
تلك الجماعات روابط مميزة تقوم على اإللتزامات والثقة املتبادلة .يقتض ي ذلك ّ
بأن على هؤالء األفراد أن
يلتزموا بواجبات بعضهم تجاه بعض ،وهي واجبات تختلف عن التزام العدالة التي يدينون بها الى من هم
دخالء على مجتمعهم )...( .إن لهذه الواجبات جذورا متغلغلة في مفاهيم اإلحترام املتبادل والتعامل باملثل".
وينتهي جونستون في الختام –مثل أمارتيا سن تماما -الى ّأن سبب اإلختالل املعاصر في العالقات الدولية
سواء كانت عامة أو خاصة هو هيمنة الكبار املقتدرين للمحافظة على مصالحهم دون أدنى اهتمام بالعدالة
أو املصلحة العامة أو اإلحترام والتعامل باملثل الذي تمليه العقالنية .وهذه الهيمنة التي ينتشر بسببها ّ
كل
هذا الظلم مستمرة وأحد طرقها الصفقات عبر الحدود "التي تفرضها قوى عظمى ضد اطراف أضعف منها،
حتى لو بدت تلك الصفقات اختيارية فإنها دون شك تتضمن مساومات؛ ألنها تتم بين أطراف غير متكافئة،
ّ
على عكس الصفقات داخل الحدود ،لديها ضوابط تحددها وتقلص بذلك من حاالت الظلم( ".جونستون،2102 ،
صفحة .)229
ظل صمت القوى الكبرى في العالم يضرب عرض و يؤكد جونستون ّأن استمرار انتشار الظلم في ّ
كل نظرية وكل مساع نبيلة من أجل العدالة مهما كان وزنها ،ويفسر السكوت عن هذا الظلم الحائط ّ
بعدم وجود رغبة وإرادة حقيقية لدى القوى الكبرى التي تحكم العالم ،في إحالل العدل والسالم؛ ألنه
تهتد هذه القوى الى حلول عقالنية ،فلن تهنأ الشعوب ولن ِّ يتعارض مع مصالحها ،ومالم
تستقر"(جونستون.2102ص.) 229.
2.3تنبؤات حول مصير الليبرالية:
اخترنا نموذجين من التنبؤات أولهما:جون جراي ونهاية الليبرالية ( :ولد )8491
تحت عنوان ' :نقش على قبر الليبرالية' في الفصل السادس من كتابه مابعد الليبرالية :دراسات في الفكر
السياس ي وتحت عنوان نهاية التاريخ ام نهاية الليبرالية " في الفصل السابع يواصل جون جراي انتقاداته
الالذعة ألسس الليبرالية من خالل تعليقه على دراسة جول فاينبورج Joel Feinbergالتي ضمنها أربع
مجلدات بعنوان "الحدود األخالقية للقانون الجنائي" The Moral Limits of the criminal Lawقاطعا
الصلة في ذلك بالتقييد الحرفي بالقانون الذي ّميز الفلسفة السياسية األنجلو أمريكية خالل الربع األخير
من القرن العشرين ،فهو يستند للتفسير القضائي للحقوق باعتبار بعض املسائل كحظر اإلجهاض
واإلباحية والقتل الرحيم حقوق أساسية وليست مسائل تخص السياسة التشريعية التي تستند الى نموذج
صياغة السياسة العامة للخطاب السياس ي .وقد تجلى التقيد الحرفي بالقانون في أكثر صوره ابهارا مع أعمال
جون رولز األخيرة ،حيث "1جرى تقييد النموذج القانوني للتنظير الليبرالي تقييدا كبيرا من خالل اإلعتراف
بقايليته للتطبيق فقط على فرع من الديمقراطيات الدستورية (ربما ال يشمل سوى الواليات املتحدة)،
وعجزه عن تقرير كل القضايا الحيوية في الجدل السياس ي بشأن التقييد القانوني للحرية .لذا 'فحتى املشروع
واملحددة ّ
يعد مثاال لوهم التقيد الحرفي بالقانون ّ الرولزي Rawlsianلتعيين مجموعة من الحريات الثابتة
الذي يحرك الفكر الليبرالي الحديث في أمريكا".
فالليبرالية –حسب جون غراي -ليس لها أسسا حقيقية كما يحاول الليبراليون إيهامنا ،حيث لم يقدم
الليبراليين فعال ما يمكن أن يقنع الفكر البشري بأنها متماسكة ومستمرة ودائمة ،وال أنها قادرة حقا على
التوفيق بين وجدان اإلنسان وانتماءه املذهبي أو الطائفي ،بل على العكس من ذلك فإنها تحمل في مضامينها
بذور فنائها مثلها مثل الشيوعية وكثير من النظريات ،وقد كشفت عن فشلها الذريع رغم سيطرتها على
الساحة الفلسفية األنجلو سكسونية "فبالرغم من سيطرة الليبرالية الكاسحة في الفلسفة األنجلو أمريكية،
فهي لم تنجح قط في بيان ّأن املؤسسات الديمقراطية الليبرالية ضرورية بشكل فريد للعدالة وللمصلحة
البشرية؛ فقد فشلت الفلسفة السياسية الليبرالية بكل أشكالها –النفعية والتعاقدية أو باعتبارها نظرية
حقوق –في ترسيخ أساسها الجوهري ،وهو ّأن الديمقراطية الليبرالية هي الشكل الوحيد للحكم البشري
الذي يجيزه املنطق واألخالق( "...جراي ،2119 ،صفحة . )122
وثانيهما :دفيد بوز "اللبرتارية هي املستقبل ،ولكن"،،
يعتقد الليبراليون ّان الليبرالية مصير محتوم و مستمر وأبدي ،لكنهم يعترفون ّأن هناك ما يهددها ّ
وان
وإال ستشهد تصدعا محتمال .وفي اتجاه يدعم ما ذهب اليه جون جراي ،يرى ّ
عليهم تذليل تلك العقبات
ّ
أنطونيو مارتينو 92-1299 ( Antonio Martinoسنة) في مقال له بعنوان "الليبراية في العقد القادم" أن انهيار
ألن عقبات كثيرةالشيوعية وبزوغ فجر الليبرالية ال يعني بالضرورة نجاح واستمرارية هذه األخيرة؛ ذلك ّ
وأن نوع الحكومات الديمقراطية التي غدت تحكم اوربا تعترضها من عدة جوانب أبرزها السياسة والبيئةّ ،
الشرقية ،ال يبدو ّأنها بدأت بعمل جاد نحو إدخال إصالحات جذرية تعد بتحويلها الى اقتصاد السوق الحرة،
ومرد ذلك الى انعدام الثقة في الشرق كما هي في الغرب .فقد أشار جيمس بيوكانن الى ّأن " فقدان الثقة ّ
بالسياسة،في الشرق كما في الغرب ،وفي اإلشتراكية بتعريفها الواسع لم يكن ...مصحوبا بأي تجديد أو
ّ
استعادة واضحة بالثقة في األسواق" .وبرأي أنطونيو مارتينو أنه على الليبرايين الغربيين واجب "بحث
املشاكل الناجمة عن التحول من اإلشتراكية الى الراسمالية" وليس علينا-يقولّ -ان ندعي أننا قادرون على
فان بلداننا هي من تعلمت من أوربا تفكيك اإلشتراكية ،فسجلنا التاريخي ال يحفل بذلك،واكثر من هذا ّ
الشرقية ،لذا علينا فهم طبيعة املشكلة التي يعانيها اصدقاؤنا في أوربا الشرقية .فالنقاش في منتدى دولي
حول األفكار االليرالية هو أكثر من ضرورة .وكما ّان اوربا الشرقية تجابه عدة عقباتّ ،
فإن الحرية في بلداننا
الحرة ليست في حصن منيع.
ّ
ولخص مشاكل الراسمالية حاليا كما ورد في مجلة ايكونومست في ثالث :البيئة؛والزيادة في اإلنفاق
والضرائب واإلستدانة من جانب الحكومة الناجمة عن تعامالت جماعات الضغط ،ونمو طبقة "متدنية"
قدم الكاتب انتقادات الذعة للممارسات ثم ّ
سببه في الغالب فشل نظام التعليم في املدارس الحكومية"ّ .
ُ
الليبرالية التي تشوهها وتقودها الى الفشل ،منها املبالغة في رفض التدخل الحكومي ،وظهور بعض القيود
الصغيرة املتنامية لتقليص مساحة الحريات الشخصية "باسم الصحة والسالمة ،واألفكار املثالية األخرى
(بوز ،2112 ،صفحة 11وما بعدها).
وإن لم يتم استد اك هذه األخطاء كاإلعتقاد ّ
بان الديمقراطية هي املشكلة ،بينما نتج عن الخيار الليبرالي ر
على كثير من املستويات فشل ذريع كخيار التعليم الخاص الذي لم نحقق منه النتائج املرجوة والذي كان
من أجل املنافسة تحديا لرداءة التعليم العام وقلة كفاءته .وإذا فسر ذلك البعض بفشل دولة الرفاه فاننا
ما نزال منقسمين حول البدائل املمكنة إلستبدالها .وهي األولوية ملفكرينا .ويقترح في اتجاه اخر الحل
الفيدرالي كنموذج للتعايش السلمي مستدال على ذلك بنجاح الالمركزية الحكومية لبعض البلدان مثل
جنوب افريقيا –كندا –الصين-أو دول السوق األوربية املشتركة والدول القطرية مثل ايطاليا –اسبانيا
فإن تلك املركزية تسمح بحل املشاكل الداخلية وتحول دون نموها وتكاثرها .وتسمح وحتى اململكة املتحدةّ ،
الفيدرالية املرنة باملنافسة بين السياسات والنقاش حولها في نطاق يتعدى اإليديولوجيات ) ...وأفضل تعبير
عن هذا قبل فوت األوان كما ذكر انطونيو مارتينو هو نصيحة لورانس بيتر"افعله األن فقد يكون هناك
قانون ضده غدا" (بوز ،2112 ،صفحة .)49
إن املحامي وبينما ينتقد جون جراي نظرية الحقوق الليبرالية في أمريكا باعتبارها قاصرة في نظره ،ف ّ
والحقوقي األمريكي دونالد دوركين–( )9011-1211ينتقد بدل ذلك سلوك الحكومات الليبرالية متسائال عن
مصير ممارساتها ونتائجها من خالل ما قدمه في الفصل السابع من كتابه" اخذ الحقوق على محمل الجد
" حيث يطرح بعض املفارقات" :في وقت تسيطر فيه لغة الحقوق على الجدل السياس ي في أميركا ،هل
تحترم الدولة الحقوق األخالقية والسياسية ملواطنيها؟ هل تسير السياسة الخارجية للدولة وسياساتها
انتهكت حقوقها الحق في أن تنتهك بدورهاالعرقية باتجاه مضاد لتلك الحقوق؟ هل لألقليات العرقية التي ُ
القانون؟ ويجادل دووركين هاهنا املنظرين القائلين بأنه ليس للمواطنين حقوق خارج تلك التي يمنحها
يسميه بـ "تناقض خطير" :فإذا كان لشخص ما الحق في القيام بما يمليه عليه القانون ليصل بنا إلى ما ّ
ً ً
الضمير ،كيف يحق للدولة ثنيه عن ذلك؟ أليس عيبا على الدولة منع الناس من القيام بما ُيعتبر حقا
لهم ومعاقبتهم عليه؟ وينتهي الى نتيجة أكثر صرامة من سابقيه مفادها "إذا لم تأخذ الدولة الحقوق على
ّ
محمل الجد أيضا (حسن. ")9012 ، محمل الجد ،لن تأخذ القانون على
و أخيرا ،ومن وجهة نظر عربية-إذا اعتبرنا أننا معنيون حقا بالعدالة -فيمكن أن يختصر رأي األستاذ
التونس ي * الكشو وضع بلداننا حاليا ،رغم بعض الفروقات بينها من حيث معيار الحرية على األقل منذ
أن عمل رولز " ال يمكن أن ّ
يتحول إلى نظرية كونية ،واألمر نفسه الربيع العربي الدامي ،يقول الكشو ّ
نجده مع يورغن هابرماس حيث أن نظرياته كانت في إطار املجتمع األملاني وانتقاله من النظر إلى املاض ي
نحو البناء األوروبي" .فهذه النظريات ،ليست سوى قاعدة فكرية ننطلق منها ،ينبغي أن يقابلها عمل
املدنية في البالد والتي ينبغي أن ّ
تقدم شتى إسهام ِّاتها ّ تأسيس ي على واقعنا ،وقبل ذلك يجب تطوير الثقافة
فيها مثل علم االجتماع والتاريخ ،والفلسفة التي ينبغي تجاوز تاريخها إلى الحاضر" " .فاملادة التي اشتغل
عليها رولز هي الدستور األميركي وتأويالت املحكمة العليا له ،ومنها استخرج نظريته السياسية( .حسن،
، )2106وبالتالي فهي تنطبق على المجتمع األمريكي وليس على غيره.
تعقيب :خلص أمارتيا سن الى وجوب اعتبار الديمقراطية كنقاش عام أساسا للعدالة ومنه للحكم
بالنقاش ومن أجل اإلرتقاء بها الى العاملية ،يتوجب تكريسها وترسيخها كتقاليد "وتكمن أهمية التاريخ في
اإلدراك العام ّأن التقاليد الراسخة تستمر في التأثير على عقل الناس ويمكنها أن تلهم أو تعوق ،والبد من
أخذها في اإلعتبار سواء كانت تدفعنا أم ندفعها "...ويدلل على صحة كالمه بأمثلة تاريخية عن دور الوعي
قائال " لذا ليس غريبا الدور الذي لعبه الوعي بالتاريخ املحلي والعالمي في معركة الديمقراطية من طرف أولئك
الشجعان أمثال جواهر الل نهرو ومارتن لوثر كينغ ونيلسون مانديال" .فالنقاش الديمقراطي العام وفقا لـ
نظرية سن هو أن نستمع لكل األصوات كما وصفه نيلسون منديال في كتابه الطريق الطويل للحرية وهو 'أن
ُيسمع صوت الجميع ،الرئيس واملرؤوس والطبيب واملحارب ،والبائع واملزارع وصاحب األرض واألجير" وأن
يدلوا بأرائهم كمواطنين أحرار ومتساوين في القيمة".
غير أنه يبدو لنا ّأن هذا السبب الذي يسوقه أمارتيا سن غير كاف إلستبعاد نظرية رولز في العدالة.
وأن هذا األخير أشاد بتأكيد سن على حقوق اإلنسان في نماذج املجاعات التاريخية التي درسها خاصة ّ
كمجاعة البانجال 1291وأثيوبيا 1299والساحل بين 1291-1299مؤيدا نظرته من ّأن"الحكومات التي ال
تهتم في كثير أو قليل بحقوق اإلنسان هي تلك التي تقف مكتوفة األيدي وتترك الشعب يتضور جوعا بينما
يمكن لها أن تحول دون ذلك .امل جتمعات الجيدة التنظيم كما وصفتها ال تسمح بأن يحدث ش يء من هذا (رولز،
،2112صفحة .)041
ويبدو لنا من جهة ثانية وفق ما استنتجنا من أفكار الفيلسوفينّ ،أن فكرة النقاش العام الديمقراطي
وفكرة الفضاء العام عند سن تجد تعبيرها من خالل فكرة العقل العام لدى جون رولز التي تدعو الى تطوير
أشكال املمارسات الديمقراطية بما يخدم مصالح الجميع ومستقبل األجيال.
كذلك تجدر اإلشارة الى الرؤية الفلسفية لهابرماس من حيث تركيزه على فعل التواصل والديمقراطية
التشاورية بدل الديمقراطية الليبرالية والجمهورية ،وقلق ويل كميلكا حول تعددية الثقافات والحقوق
الخاصة لبعض األقليات التي يرى ّأن رولز لم يفها حقها ،فهي إشكاالت يبدو لنا ّأن رولز عالجها من خالل
ّ
مبدأ الحرية الفردية والحقوق األساسية لألفراد ضمن واقع"التعددية املعقولة" التي تشمل مختلف
املذاهب ،ودور العقل العام فيهاّ ،
وتفتح املجتمعات الليبرالية على باقي املجتمعات غير الليبرالية التي ّ
سماها
املجتمعات "الالئقة" وهي الراضية بقانون شعوب مشترك يضمن الحفاظ على خصوصيتها الثقافية
والدينية من منطلق مبدأ التسامح الليبرالي نفسه( .رولز ،2112 ،صفحة 020وما بعدها) .
.4خامتة:
ّإن الخالف املعبر عنه بين رولز و هابرماس وأمارتيا سن و حتى كيملكا يبدو لنا في النهاية أنه خالف
حول تفاصيل النظرية وليس خالفا جذريا .أو بمعنى أصح فهو سوء فهم ألفكار رولز أكثر منه خالف
معه .مما يجعلنا نميل الى الدعوة الى التدقيق و التعمق أكثر في النظر الى مدى ما تنتهي اليه تطبيقاتها
فإن هناك خالف مستمر حول النقاش العام وهو ناتج العملية من نتائج مستقبلية .وعلى قول سن نفسه ّ
عن سوء فهم "1 :ولقد كان ومايزال هناك قدر من سوء الفهم املشترك بين اطراف النقاشات الدائرة حول
توصيف طبيعة وحصيلة النقاش العام" ،ويعطي لذلك مثال هابرماس في سوء فهمه لنظرية رولز في هذه
ّ
النقطة بقوله "أنها تولد أولوية للحقوق الليبرالية تحط من مكانة العملية الديمقراطية'" وأنه يدرج في الئحة
ّ
الحقوق الليبرالية حرية الضمير واإلعتقاد وحرية الحياة والحرية الشخصية وحق التملك ،إال ّأن رولز فيما
أعلم -يقول سن -لم يدرج هذه األخيرة[.حقالتملك] (سن أ ،2101 ،.صفحة )41وباعتراف سن أيضا في
نهاية كتابه 'فكرة العدالة ' ّإن ":ما يدور من نقاش حول نظريات العدالة يميل أن يكون نقاشا حول ما بينها
من أوجه التشابه واإلختالف...ومع ذلك ّثمة اهتمام مشترك وهام بالعدل...وال يهم أين تمض ي بنا نظريات
تحرك العدالة ،فلدينا جميعا أسباب لإلمتنان للحراك الفكري الذي قام حولها وأطلقه وألهمه الى حد بعيد ّ
الرائد جون رولز في هذا امليدان منذ ظهور نظريته العدالة بصفتها انصاف" (سن أ ،2101 ،.صفحة .)924
الجاد مع نظرية رولز ،فتعكسه انتقادات أولئك املعارضين لليبرالية من أساسها ،الذين ّ أما الخالف
يرون أنها ال تستند الى أسس مقنعة تجعل منها نظرية كونية ،أو أن تكون نهاية التاريخ كما زعم ذلك فوكو
ياما بعد سقوط الشيوعيةّ .
لكن هؤالء املعارضين للنظرية الليبرالية ،رغم ما قدموه من انتقادات منطقية،
فإنهم لم يقدموا بدائل أفضل منها ملستقبل البشرية ،فجون غراي رغم تحليالته املقبولة ألسباب دحضه
فكرة أن تكون الليبرالية ق ا محتوما ،فهو لم يقدم بديال عنها ،إنما افع عن قناعته ّ
بأن "التاريخ عبارة ر در
عن تعاقب األمور الطارئة والكوارث واإلنقطاعات العارضة وصوال الى السالم والحضارة( .جراي،2119 ،
وبأن للتاريخ دورات متعاقبة تموت فيها حضارات وتحيا حضارات وال يمكن ألي نظرية أن صفحة ّ ")122
تسود أو تخلد بحكم طبيعة اإلختالفات بين املجتمعات البشرية وتعددية الرؤى والخيارات املالئمة لكل منها،
فإن التاريخ قد أثبت ّأن بعض امللكيات والدكتاتوريات و من جهة أخرى وعلى عكس مزاعم الليبرالية ّ
واألنظمة الشمولية قد حققت تقدما وازدهارا لشعوبها دون شرط الديمقراطية والليبرالية .وهي حقائق جاء
ذكرها أيضا في كتاب أمارتيا سن.
وكما يبدو لنا من خالل قراءتنا ألفكار نظريات العدالة املتقاربة واملتشابهة ،بل واملشتقة غالبا من
حل محلها خيار أخر ،فهذا ال يناقض ما نظرية رولز .فسواء كانت الليبرالية هي الخيار النهائي للبشرية أو ّ
ّ ّ
يضم الى جانب ذهب اليه رولز في 'قانون الشعوب' الذي شكل من خالل مبادئه مجتمعا للشعوب
ّ
املجتمعات الليبرالية مجتمعات أخرى غير ليبرالية ،لم يستثن منها إال املجتمعات املنتمية لدول مستبدة
توسعية تهدف للهيمنة وتدفع للصدام والحرب .وال يمكننا بأي حال من األحوال غض الطرف عن تلك
األصوات العاملية الداعية الى خير البشرية من خالل بلوغ اتفاقات دولية تحقق آمال الشعوب في العيش
بكرامة وحرية واملساواة بينها في الحقوق و اإلعتبار واملعاملة باملثل .وهي مضامين اليوتيوبيا الواقعية في
العدالة العاملية التي يدعو إليها جون رولز من خالل نظريته في العدالة والسالم العالمي التي تؤسس لتحقيق
األمن واإلستقرار لألجيال القادمة .وهي آمال تتجسد تدريجيا مع ظهور منظمات ومؤسسات عاملية تصون
حقوق اإلنسان وتدعو للتعاون والتضامن .مع العلم أيضا ّأن رولز لم يحصر الحل في اقتراحه فقط بل تركه
مفتوحا ،وهذا ما يضفي على نظريته املصداقية والواقعية بما يتضمنه من امكانية لتطويرها .و كذا سمة
الشرعية التي أضفاها على الليبرالية السياسية من خالل تصور سياس ي عام للعدالة ،قائم على التعاون
املنصف املحقق ملصلحة الجميع في اطار املساواة والتعامل باملثل و اإلحترام املتبادل الذي يكسب هذه
النظرية ُبعدها اإلنساني ملجتمع شعوب متجانس.
وعليه ،يبدو لنا بالنظر ملا يجري على أرض الواقع السياس ي ّ ،أن الصراع الحالي في العالم كما ذهب
الى ذلك جونستون وأمارتيا سن و دوركين ،ليس قائما حول أفضل نظريات العدالة مالءمة للمجتمعات
سواء كانت محلية أو عاملية ،إنما هو صراع حول العدالة نفسها ،إذ ليست املشكلة اليوم في أي مبادئ
العدالة أنفع وأولى؟ بقدر ما هي هل هناك إرادة حقيقية من القوى الكبرى إلقامة العدل ورفع الظلم
على أرض الواقع الفعلي ،فمطالب الحق على أشكالها هي مطالب عادلة سواء تعلقت بحق اإلعتراف أو
اإلحترام املتبادل أو املساواة والحرية ،وكلها مطالب متضمنة في مبدئي رولز للعدالة كانصاف .لكن تطبيقها
وأن املسألة باختصار الجادة من قبل القوى املتحكمة في هذا العالم ّ .
عمليا يشترط إرادة سياسية ّ
ألن أساسها ليبرالي ،بل في رفض قوى الظلم أية نظرية ّ
جادة في العدل مهما تتلخص في رفض نظرية رولز ّ
كان اتجاهها.
ّ
إال أنه ورغم تقاعس القوى الكبرى -يبقى األمل في تحقيق يوتيوبيا عاملية بوجود منظمات انسانية
دولية تحارب الظلم والفساد ،وبحضور الفلسفة السياسية واألخالقية املعاصرة وما قطعته من أشواط
بعيدة مع جون رولز ،و ما أثارته نظريته في العدالة من جداالت واسعة تجاوزت طرح األسئلة التقليدية عن
ماهية العدالة وهل بينها وبين الطبيعة والقانون تعارض؟ وما معيار العدالة طبيعي أم إلهي أم وضعي؟ وهل
البشر قادرون على تشكيل بيئتهم اإلجتماعية وفق قدراتهم أم مقيدون بمشيئة غيبية متافيزيقية؟ حيث
تطور اإلنشغال في نظرية العدالة بصفتها إنصافا إلى :كيف يمكن بلوغ إتفاق عالمي حول أفضل صور ّ
العدالة والسالم؟و هذا بحد ذاته انجازا،يبعث على األمل في حلول مشتركة يتعاون على ايجادها الجميع
وينتفع منها الجميع.بانتصار محور الخير على محور الشر.