Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 17

‫ما بعد نظرية العدالة عند جون رولز‬

‫‪Beyond John Rawls' Theory of Justice‬‬

‫شرود عتيقة‬
‫جامعة الجزائر‪.2‬أبو القاسم سعد هللا‪-‬بوزريعة –الجزائر‪( -‬الجزائر‪Atika Cherroud@univ-alger2.dz ،)-‬‬
‫تاريخ النشر‪0202/../.. :‬‬ ‫تاريخ القبول‪0202/../.. :‬‬ ‫تاريخ االستالم‪0202/../.. :‬‬

‫ملخص‪ :‬يهدف مقالنا حول نظرية العدالة كانصاف للفيلسوف األمريكي املعاصر جون رولز(‪-1291‬‬
‫‪ )9009‬الى النظر في مدى ثقل وزن النظريات البديلة لها والداعية الى تجاوزها‪ ،‬من خالل عرض ثالثة‬
‫نماذج منها‪ .‬هذه النظرية التي أحدثت صخبا فكريا فلسفياعامليا ‪ ،‬وردود فعل متباينة بين مؤيد وناقد‬
‫ورافض لها طيلة خمسين عاما‪ ،‬قض ى منها رولز ثالثين سنة من التنقيح والتعديل والتصحيح‪ ،‬لينتقل بها‬
‫من نظرية شمولية الى نظرية ليبرالية سياسية مستقلة في العدالة‪ ،‬متطلعا من خاللها الى يوتيوبيا واقعية‬
‫كونية‪ .‬فهل يمكن القول أن نظرية رولز ولى عليها الزمن ؟‬
‫كلمات مفتاحية‪ .:‬الفلسفة السياسية ‪ ،‬الليبرالية‪ ،.‬الديمقراطية‪ .،.‬العدالة املحلية ‪،‬العدالة العاملية‪.‬‬
‫‪Abstract: This article on the theory of justice as fairness by contemporary‬‬
‫‪American philosopher John Rawls (1921-2002) aims to examine the weight of‬‬
‫‪alternative theories calling for override their by presenting three examples their by‬‬
‫‪presenting three examples. Rawls' Theory of Justice, which created an‬‬
‫‪unprecedented worldwide intellectual and philosophical clamor, and mixed‬‬
‫‪reactions among supporters, critics and opponents for fifty years, of which Rawls‬‬
‫‪spent thirty years reviewing, amending and correcting, to move from a totalitarian‬‬
‫‪theory to a liberal political theory, and a realistic utopia universal of justice. Could‬‬
‫?‪it be said that Rawls’s theory is out of date‬‬

‫‪Keywords: political philosophy; liberalism; democracy; local justice; global justice.‬‬


‫__________________________________________‬
‫املؤلف املرسل‪ :‬شرود عتيقة‬

‫‪ .1‬مقدمة‪:‬‬

‫ظهرت نظرية رولز (‪' )9009-1291‬العدالة بصفتها انصافا' كبديل منهجي ومعرفي لتجاوز النظرية‬
‫الكالسيكية ملذهب املنفعة الذي هيمن على التقليد السياس ي األنجلوسكسوني‪ .‬فاستقطبت اهتمام‬
‫التيارات الليبرالية وغير الليبرالية منذ ظهورها عام ‪ .1291‬فما إن ّ‬
‫تم تدارس النظرية من طرف جمهرة‬
‫الفالسفة واملختصين في شتى املجاالت التي خاضت فيها من سياسة‪ ،‬وأخالق‪ ،‬وقانون‪ ،‬وعلم اجتماع‪،‬‬
‫واقتصاد‪ ،‬وحقوق اإلنسان‪ ،‬والعالقات الدولية‪ ،‬حتى تهاطلت آالف املقاالت والكتب تأييدا وانتقادا‬
‫ومعارضة واثراءا‪ ،‬من داخل ّ‬
‫التوجه الليبرالي وخارجه‪ .‬مما دفع رولز الى مراجعتها وتعديلها وتنقيحها عبر‬
‫مراحل تدريجية طيلة ثالثين عاما‪ ،‬مكنته من اإلنتقال بها من نظرية ليبرالية شاملة كنظرية جون ستيوارت‬
‫مل وكانط‪ ،‬الى نظرية سياسية مستقلة تشكل جزءا من املذهب الليبرالي أضيق مجاال مع صدور ثاني أخطر‬
‫كتبه بعنوان "الليبرالية السياسية"عام ‪ ، 1221‬الذي أعاد بعده صياغة النظرية عام ‪ 9001‬تحت عنوان‬
‫ّ ّ‬ ‫ّ‬
‫تحوال جذريا عن نظريته األولى؛ إذ انتقل رولز –‬ ‫'العدالة كانصاف‪،‬إعادة صياغة" و اعتبره بعض النقاد‬
‫حسب تقييمهم‪ -‬من التركيز على العدالة الى التركيز على الشرعية الليبرالية‪.‬‬

‫نظرية ليبرالية سياسية في العدالة تنأى بنفسها عن كل املذاهب الشمولية دينية كانت أو فلسفية أو‬
‫كملة منتقال من العدالة املحلية ملجتمع ديمقراطي ليبرالي الى العدالة‬‫ُ ّ‬ ‫ّ‬
‫أخالقية‪ ،‬عززها رولز بنظرية م ِّ‬
‫العاملية ملجتمع كوني في كتابه " قانون الشعوب‪ ،‬وعود لفكرة العقل العام " عام ‪ .1222‬مما جعلها مركز‬
‫اهتمام الناقدين والشارحين واملترجمين لها حتى اليوم‪.‬‬

‫وقد ُسئل كريستيان دوال كومبان(‪ )9009-1292‬في نهاية التسعينات وبداية األلفية الثانية ‪:‬الى أين تتجه‬
‫الفلسفة عشية القرن الواحد والعشرين ؟ فأجاب‪ :‬سأقول بكل حرية ّإن أكثر البحوث إثارة تجري اليوم‬
‫بالضبط في مجال األخالق والسياسة‪ ،‬وفي مقدمة فالسفة هذا الحقل أعمال جون رولز باعتباره "مصدر‬
‫التجديد املدهش الذي عرفه هذان املجاالن" (اللذان يصعب الفصل بينهما) خارج الواليات املتحدة‬
‫األمريكية منذ حوالي ثالثين عاما‪ "...‬ذاكرا العديد من الفالسفة الذين استلهموا من رولز و تأثرت أعمالهم‬
‫بنظريته تدين من مؤيدين و معارضين أمثال روبرت نوزيك‪،‬أالسداير مكنتير‪ ،‬مايكل ساندل‪،‬تشارلز‬
‫تايلور‪،‬ديك هوارد‪ ،‬ورونالد دوركين‪ ،‬و ميكايل والزر‪( .‬الكونبان‪ ،0202 ،‬صفحة ‪ .)042‬و تقديرا ألهمية نظرية‬
‫تم تصنيف أعماله ضمن األعمال الخالدة في تاريخ الفكر السياس ي‪ ، ،‬وقد رسمت خريطة‬ ‫رولز في العدالة ّ‬
‫جديدة للباحثين في حقل الفلسفة السياسية واألخالقية التي تشكلت تياراتها الكبرى بناء على املوقف من‬
‫هذه النظرية‪ .‬لكنها لم تسلم مع ذلك من اإلنتقاد والدعوة الى تجاوزها‪ .‬فهي بتقدير البعض نظرية ملجتمع‬
‫ديمقراطي ليبرالي ‪،‬حيث "كان رولز يعتقد ّأن فكرة املجتمع كمنظومة لإلنصاف في التعاون اإلجتماعي تحظى‬
‫ّ‬ ‫بالقبول لدى القراء الذين ّ‬
‫تتوجه إليهم‪ .‬ويبدو أنه كان مؤمنا خالل معظم فترات حياته املهنية حتى أوائل‬
‫بأن هذا التأييد سوف يتسع الى نطاق عالمي‪ ،‬على األقل بالنسبة الى القراء الذين يتبعون محاور‬ ‫الثمانينات ّ‬
‫ّ‬
‫الجدل في نظريته ‪ ،‬لكي يفهموا نقاطها األساسية بشكل صحيح‪ .‬لكن في السنوات األخيرة من حياته يبدو أنه‬
‫مصممة ألن تحظى بقبول ال لبس فيه من الناس‬ ‫ّ‬ ‫بأن نظريته‬‫تراجع عن هذا اإلفتراض من خالل اإليحاء ّ‬
‫ُ‬
‫الذين يعيشون في كنف ثقافات شكلتها ُمث ٌل ديمقراطية وليبرالية" (جونستون‪ ،2102 ،‬الصفحات ‪-242‬‬
‫‪ )242‬و هي في تقدير البعض األخر نظرية ال تتخطى حدود املجتمع األمريكي ‪ ،‬داعين الى تجاوزها ألنها؛ لن‬
‫تبلغ مرتبة العاملية كنظرية كونية نافعة لكل املجتمعات البشرية‪ ،‬ملا تنطوي عليه من نقائص ‪ ،‬بينما رفضها‬
‫فريق ثالث من منطلق رفضه املبدئي لليبرالية برمتها‪ ،‬متكهنا باقتراب موعد أفول نجمها؛ اعتبارا من مؤشر‬
‫تهدد بزوالها‪ .‬وهنا نطرح اشكاليتنا‪ :‬هل يمكن القول بعد خمسين‬ ‫التناقضات الداخلية العميقة التي باتت ّ‬
‫سنة من عمر نظرية العدالة كانصاف‪ ،‬قض ى منها جون رولز ثالثين عاما من التصحيح والتعديل ّأن الزمن‬
‫طواها و ّأن َ‬
‫هدفه في يوتيوبيا واقعية عاملية حلم لن يتحقق؟‬
‫حول هذا اإلشكال املطروح يتمحور مقالنا الذي نهدف من خالل معالجته وفق منهج وصفي تحليلي‬
‫نقدي‪ ،‬الى عرض بعض النماذج من النظريات واألعمال الفلسفية التي تقدم نفسها كبدائل لنظرية رولز‬
‫من أجل النظر في مدى تماسك هذه البدائل‪ .‬وقد اخترنا نموذجين ملناقشتهما بعد بسط الخطوط الرئيسية‬
‫للنظرية‪ .‬ففي املحور األول نتناول تحت "عنوان النظرية ونقادها "طرح الفيلسوف وعالم اإلقتصاد الهندي‬
‫الحائز على جائزة نوبل أمارتيا سن ‪ Amartya San‬في كتابه "فكرة العدالة" لعام ‪ .9010‬الذي يقدم‬
‫الديمقراطية كنقاش عام وكحكم بالنقاش أساسا للعدالة‪ ،‬والثاني للمفكر الكندي دفيد جونستون‬
‫‪ David Johnston‬من خالل كتابه "مختصر تاريخ العدالة لعام ‪ 9019‬الذي يقترح مبدأ التعامل باملثل‬
‫كأساس للعدالة‪ ،‬وفي املحور الثاني تحت عنوان "تنبؤات حول مصير الليبرالية" نعرض نموذجين أولهما‬
‫للمفكر اإلنجليزي جون غراي ‪ Gohn Gray‬من خالل كتابه " ما بعد الليبرالية‪،‬دراسات في الفكر السياس ي"‬
‫لعام ‪ .9002‬الذي يتنبأ فيه باقتراب نهاية الليبرالية‪ ،‬والثاني للمفكر األكوادوري دفيد بوز ‪ David Boaz‬من‬
‫خالل كتابه "مستقبل اللبرتارية" لعام ‪ .9002‬الذي يقدم على عكس سابقه دفاع اللبرتاريين عن الليبرالية‬
‫واإلستماتة في تذليل الصعوبات املطروحة أمامها ‪ .‬وننتهي بعد العرض الى مناقشة النتائج و الخاتمة‪.‬‬
‫‪ .2‬النطرية ونقادها‬
‫‪ 2.2‬اعتراف رولز‪:‬‬

‫قدمه منتقدوه من اثراء ساهم به مؤيدوه‬ ‫بأن نظريته في العدالة تطورت بفضل ما ّ‬ ‫يعترف رولز ّ‬
‫ومعارضوه على السواء‪ ،‬والتي على ضوئها أمكنه تعديلها لتبلغ الشكل الذي هي عليه‪ .‬وقد ُسئل رولز‬
‫عن كون أكثر االنتقادات التي ّ‬
‫تلقتها نظرية العدالة كان مصدرها شعبة الفلسفة في هارفرد‪ ،‬فأجاب بأن‬
‫تلك االنتقادات جعلته يفهم األمور بشكل أفضل‪(.‬سالم‪ 22،‬ماي ‪.)2121‬‬

‫وقد سعى رولز من خالل نظرية "العدالة بصفتها إنصافا‪ ،‬إعادة صياغة" املنقحة واملعدلة بعد كتابه‬
‫"الليبرالية السياسية" الى تقديم تصور سياس ي للعدالة ُمعتقدا ّ‬
‫بأن الليبرالية السياسية قادرة على‬
‫تحقيق العدالة ملواطنين أحرار ومتساوين على اختالف مذاهبهم الدينية والفلسفية واألخالقية‪ ،‬فأنشأ‬
‫نسقا من املبادئ في الحرية واملساواة التي تمنح ‪-1‬لكل شخص الحق ذاته والذي ال يمكن الغاؤه‪ ،‬في‬
‫ترسيمة من الحريات األساسية املتساوية الكافية‪ ،‬وهذه الترسيمة متسقة مع نظام الحريات للجميع‬
‫ذاته‪ -2.‬يجب أن تحقق ظواهر الالمساواة اإلجتماعية واإلقتصادية شرطين‪ :‬أولهما يجب أن تتعلق‬
‫بالوظائف واملراكز التي تكون مفتوحة للجميع في شروط مساواة منصفة بالفرص‪ ،‬ثانيهما أن تحقق‬
‫ظواهر الالمساواة أكبر مصلحة ألعضاء املجتمع األقل حضا (وهذا هو مبدأ الفرق‪( : ).‬رولز‪ ،‬قانون‬
‫الشعوب‪ ،9009 ،‬صفحة ‪ )192‬مضيفا بعد اعادة صياغة مبدئي الحرية واملساواة محاور أخرى في كتابه‬
‫'ليبرالية 'لم تكن موضحة بالشكل الكافي في كتابه األول أهمها فكرتي دور 'العقل العام' و'اإلجماع‬
‫بالتوافق املتقاطع' وفكرة اإلستقرار‪.‬‬
‫و َيعتبر رولز ّأن مبادئ العدالة هذه تعطي صبغة كونية ألفعالنا ّ ّضمن ما ترسمه لنا من قيود‬
‫والتزامات تفرض علينا التصرف بموجبها ‪ .‬على عكس األمر املطلق عند كانط‪ .‬يقول رولز " هذه املبادئ ّ‬
‫هي بحق بمثابة املحدد للقانون الخلقي‪،‬أو بعبارة أدق ّهي املبادئ الصالحة للمؤسسات ولألشخاص‬
‫ً‬
‫معا ‪.‬فأي قرار أو أي فعل يصدر عن الشخص خارج هذا اإلطار الذ ّي تحدده هذه املبادئ إذن سيكون‬
‫فعال مجردا من أي شرعية وأي استحقاق ‪ .‬ويتم اختيار مبدئي العدالة 'الحرية واملساواة' بين‬
‫املتفاوضين املمثلين للمواطنين املتساوين األحرار في اطار "وضع مبدئي أصلي" افتراض ي وخلف ستار‬
‫اهم الحقائق التي تمس بموضوعية وحيادية‬ ‫يسميه رولز ب"حجاب الجهالة"‪ .‬يحجب عن املتفاوضين ّ‬
‫ونزاهة هذه املفاوضات واإلختيارات‪ .‬مثل املعلومات املتعلقة بمكانتهم اإلجتماعية واإلقتصاديية‬
‫وانتماءاتهم وجنسهم ولونهم‪ .‬ويرفع هذا الستار تدريجيا كلما بلغت املفاوضات مراحل متقدمة من‬
‫مدد رولز مبادئ العدالة لتشمل مجتمعات غير ليبرالية‬ ‫ثم ي ّ‬
‫التأسيس ملجتمع ديمقراطي دستوري‪ّ .‬‬
‫وتشكل ما اطلق عليه 'مجتمع الشعوب' من خالل وضع اصلي ثان يتم فيه اختيار أفضل صيغ مبادئ‬
‫حدده ب ثمانية مبادئ يراها كافية لتؤدي غاية اإلتفاق والعيش بسالم مستقر‬ ‫قانون الشعوب الذي ّ‬
‫صنفها ضمن نظريتين‪-1 :‬مثالية و‪-9‬غير مثالية‪ .‬أما األولى فتضم‬ ‫بين املجتمعات من جيل الى جيل‪ ،‬وقد ّ‬
‫املجتمعات الليبرالية واملجتمعات الالئقة أو السمحة‪ ،‬الراضية بقانون الشعوب رغم اختالف بنيتها‬
‫األساسية وانتمائها ألنظمة ال تسمح بنفس القدر من الحريات ملواطنيها على عكس املجتمعات‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فتضم ثالثة انواع‬ ‫الليبرالية‪ .‬ويصف رولز هذه املجتمعات بأنها "هرمية تشاورية"‪ .‬أما النظرية الالمثالية‬
‫تشمل املجتمعات املنضوية تحت أنظمة استبدادية ترفض قانون الشعوب وتسعى للهيمنة والتوسع‪،‬‬
‫ومجتمعات املستبد العادل التي ال حق ملواطنيها في املشاركة في صنع القرار ‪ .‬واملجتمعات املغلوبة على‬
‫أمرها التي ترزح تحت ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية غير مواتية وتتطلب واجب املساعدة من‬
‫الشعوب الليبرالية والشعوب السمحة وفق شروط محددة‪ .‬ومن أجل تشكيل هذا املجتمع الكوني‬
‫أصدر رولز كتابه األخير بعنوان "قانون الشعوب‪ ،‬وعود لفكرة العقل العام " عامين قبل وفاته‪ ،‬ردا‬
‫على كل من فوكو ياما في كتابه نهاية التاريخ وخاتم البشر"و أستاذه صامويل هانتنغتون الذي أصدر‬
‫كتابه " صدام الحضارات إعادة صنع النظام العالمي" عامين بعد ظهور كتاب تلميذه‪ .‬حيث أعلن فوكو‬
‫ّ‬
‫ماسماه‬ ‫ياما عن نهاية التاريخ باملعنى األيدولوجي بينما "ركز هانتغتون على الوجه الثقافي معتبرا أن‬
‫بالحضارة العاملية أو "ثقافة دافوس"‪( 1‬هانتنغتون‪ ،0111 ،‬صفحة ‪)19‬ستواجه خطر التحدي الحضاري‬
‫الذي يحصره أساسا في الثقافتين اإلسالمية واآلسيوية الشرقية‪( .‬هانتنغتون‪ ،0111 ،‬صفحة ‪.)061‬‬
‫ّ‬
‫وملا كان هاننغتون وتلميذه يعمالن على صب الديمقراطية الليبرالية في قالب اقتصادي وثقافي ال‬
‫يتجاوز حدود القوى الغربية األساسية‪،‬أصدر جون رولز كتابه قانون الشعوب ساعيا الى تدويل‬
‫نظريته للعدالة‪ .‬و يأتي اختيار رولز للتسمية"قانون الشعوب" تأكيدا على ثانوية املطلب اإلثني‬
‫والثقافي‪ ،‬إذ يراهن رولز على خالف هانتغتون على أن فكرة الشعب ذات طابع سياس ي بحت اليستدعي‬
‫إدماج املعطى الثقافي إال من حيث هو عمق عمومي (هاشمي‪ ،2104 ،‬صفحة ‪.)299‬‬
‫ّ‬
‫تشكل خطرا على ّ‬
‫قيم العالم‬ ‫وبينما يعتبر هانتغتون الحضارة اإلسالمية ضمن حضارات التحدي التي‬
‫الجديد فإن راولز يحرص على استدعاء نموذج إسالمي ضمن ما يسميه "الشعوب السمحة" القابلة‬
‫بقانون الشعوب‪،‬أطلق عليه اسم “كازانستان” الذي من شأن الفلسفة السياسية أن ّ‬
‫تحوله من مجرد‬
‫إمكانية إلى واقع فعلي وتلك هي اليوتوبيا الواقعية (رولز‪ ،2112 ،‬صفحة ‪ّ )10‬‬
‫ولعل ما جاءت به‬
‫الجمعية الدولية للهالل األحمر من شهادات على حسن سيرة قادة املسلمين وعلى رأسهم الرسول محمد‬
‫تتماش ى مع رؤية رولز إذ شهد حتى خصوم املسلمين عل ى حسن معاشرتهم لغيرهم من األديان‬
‫ّ‬ ‫واألجناس‪ .‬فقد قال الكونت هنري دي كاستري ّ‬
‫"إن الدولة اإلسالمية ملا استقرت في الشرق لم تعارض‬
‫ّ‬
‫وظلت روما ّ‬
‫حرة في مراسالتها مع األساقفة الخاضعين‬ ‫الديانة املسيحية ‪ ،‬ولم تضع أمام بنيها عائقا‪،‬‬
‫لحكم املسلمين" (خليل أ‪ ،2114 ،.‬صفحة ‪.)29‬‬

‫‪ 2.2‬عنوان فرعي ثاين‬

‫صدى نظرية العدالة كانصاف‬


‫أثار ت نظرية العدالة عند رولز جدال واسعا حول مبادئها وأفكارها بدءا من وضعها اإلفتراض ي‬
‫"الوضع األصلي أو البدئي" و"حجاب الجهالة" كاجراءين تنفيذيين‪ ،‬الى مبدئيها في الحرية واملساواة ‪ ،‬وأسسها‬
‫الليبرالية الديمقراطية وآفاقها العاملية‪ ،‬حيث كانت ومزالت موضع نقاش بين التيارات الليبرالية األمريكية‪،‬‬
‫و النقاش األوربي الى اليوم ‪ ،‬متخطية بفضل الترجمة العوالم الغربية‪ .‬وما يمكن اإلشارة إليه بداية هو‬
‫اختالف مفهوم الليبرالية بين التقليد األنجلوسكسوني والتقليد األوربي‪ ،‬واختالفه كذلك في املصطلحات‬
‫العربية لكل بلد‪" .‬ففي التقليد األنجلوسكسوني يعتبر كل فيلسوف جزء من تيار‪ ،‬و ينقسمون بين‬
‫ليبراليين وجمهوريين وجماعاتيين ومنفعيين وغيرهم‪ .‬وعليه الينظر إلى هذه املدارس على أساس نظر‬
‫ً‬
‫التقليد الفرنس ي‪ ،‬وال كما هي استعماالتها في املصطلحات العربية املختلفة‪ ،‬فالليبرالية مثال ‪ -‬وهي‬
‫املدرسة التي ينتمي لها رولز ‪ -‬لها مستويات مختلفة للتعريف ال تقابل املعنى األميركي الذي يعتبر بأن‬
‫ألن هذه املدرسة‬‫الدولة ليس لها مهام توزيعية للثروة ويحصر دورها في ضمان العدالة والسهر على األمن‪ّ .‬‬
‫تدافع عن قيمة املساواة وليس عن الحرية‪ ،‬فهي ّ‬
‫تصنف في يسار الوسط (املدافعون عن قيمة الحرية‬
‫هم اليمين)‪،‬و ال يعني أنها تتساوى مع االشتراكية‪ .‬وقد واجه رولز هذه الفروقات حيث أن االشتراكية‬
‫تعمل على إعادة توزيع الدخل بينما يبحث الليبراليون عن املساواة في الحظوظ من خالل التربية‬
‫واإلمكانيات األساسية الختيار نمط العيش والنشاط االقتصادي (حسن‪.)2106 ،‬‬

‫وقد واجهت نظرية رولز في العدالة بصفتها انصافا انتقادات على ثالث مستويات‪* :‬الجماعاتيون –‬
‫*واللبرتاريون‪ - Libertarianism:‬وأمارتيا سن‪ .‬وتتسع القائمة لتضم العديد ممن ساهموا بانتقاداتهم في‬
‫اثرائها من أصدقاء رولز ‪ ،‬أمثال رونالد دوركين املساواتي ونوزيك الليبرتاري واإلشتراكي الليبرالي يورغن‬
‫هابرماس ‪ .‬وقد أشادوا جميعا حتى معارضيه أمثال مايكل ساندل وأمارتيا سن بأهمية نظريته في العدالة‬
‫كانصاف في وضع األساس املتين لكل من يطمح الى املساهمة في تطوير مبحث العدالة مثمنين جهوده ّ‬
‫حد‬
‫اإلمتنان‪ .‬فقد قال هابرماس عن كتاب راولز بأنه »‪1‬يشكل تغيرا أسياسيا في خلق التوازن والنقاش إلى املسائل‬
‫املرتبطة بالفلسفة العملية وفلسفة الحق ليس فقط بالنسبة للفالسفة‪ ،‬ولكن كذلك بالنسبة للحقوقيين‬
‫واالقتصاديين كما عادت مشكالت الفالسفة العملية وفلسفة القانون لتحتل املرتبة األسمى في الدراسات‬
‫العملية )‪.. (Bouvet, 1999, p. 57‬‬
‫ومن بين أكثر أفكار النظرية إثارة للجدل مبدأ "الفرق" ‪ principle of difference‬وهو ما جرى تسميته‬
‫يفسر نظرة رولز التوفيقية املتسمة‬ ‫في بعض الترجمات مبدأ "اإلختالف" أو "التمايز" أو "التباين" الذي ّ‬
‫ّ‬
‫بطابع (اإلنصاف) التي جمع فيها بين مبدأ الحرية الليبرالية ومبدأ املساواة الديمقراطية‪ ،‬وقد أثار نقاشا حادا‬
‫قيد مبدأ الحرية الذي يقيم عليه رولز نظريته في‬ ‫بين الليبرتاريين (التحرريين) الرافضون له باعتباره ُي ّ‬
‫العدالة ويضعه أمام تناقض خطير من جهة‪ ،‬وألنه يفرض املساواة بين الالمتساوين دون رضا وال حرية‬
‫من األطراف املعنية بمنح حقوقها للغير من جهة أخرى‪ ،‬وهو أمر غير مقبول من وجهة نظر ليبرالية‪ .‬لذا كان‬
‫األجدر برولز ‪-‬في نظرهم‪ -‬تطبيق مبدأ اإلستحقاق‪ .‬فروبرت نوزيك )‪ (1938-2002‬الذي يشيد بعظمة‬
‫ً‬
‫فصاعدا إما العمل‬ ‫نظرية رولز في العدالة "والقائل في تقديرها "يجب على الفالسفة السياسيين من اآلن‬
‫ضمن نظرية رولز‪ ،‬أو شرح سبب عدم قيامهم بذلك (نووزيك‪ ،0122 ،‬صفحة ‪ )222‬والذي خلص‬
‫مع رولز إلى أن "النفعية تفشل في احترام الفصل ّ بين األشخاص' (بيرين‪ ،2101 ،‬صفحة ‪ .)22‬اعترض رغم‬
‫ذلك على االستنتاج الجزئي ملبدأ رولز الثاني للعدالة "التفاوتات االجتماعية واالقتصادية تترتب لتكون ذات‬
‫ً‬
‫منفعة كبيرة لألعضاء األقل حظا من املجتمع‪ ".‬وجاء رده عن رولز في كتابه "الفوض ى‪ ،‬الدولة‪،‬‬
‫ُ‬
‫اججا‬‫واليوتوبيا"مستفيضا في تحليل عاقبة الجوانب التي طرحها جون رولز في كتابه (نظرية للعدالة)‪،‬ومح ِّ‬
‫فإن الدولة الشرعية الوحيدة‬‫بأن احترام الحقوق الفردية هو املعيار الرئيس ي لتقييم أفعال الدولة‪ ،‬ولهذا ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫والحرية‪ ،‬وامللكية‪ ،‬والتعاقد‪.‬‬ ‫حد حماية حقوق الحياة‪،‬‬ ‫الحد األدنى التي تقف نشاطاتها عند ّ‬ ‫هي دولة ّ‬
‫وتتجنب استخدام سلطة الدولة إلعادة توزيع الدخل‪ ،‬أو جعل الناس أخالقيين‪ ،‬أو حمايتهم من إيذاء‬ ‫ّ‬
‫أنفسهم‪( .‬ماك‪.)2101 ،‬‬
‫ّإن الليبرتاريين يؤمنون بدولة الحد األدنى التي تحمي الحريات والحقوق وتدفع اإلعتداءات على األفراد‬
‫وامللكيات دون التدخل في خياراتهم او التصرف في حقوقهم وممتلكاتهم على اعتبار ّأن الفرد ملك نفسه‬
‫وله حرية التصرف فيها وفي ممتلكاته و عقائده كما يشاء‪ ،‬شريطة أال يتعدى على حريات اآلخرين وممتلكاتهم‪.‬‬
‫حتى ولو كانت ُم َّؤيدة بأغلبية‪ ،‬وهذ ما يشكل اختالفا بين رولز‬‫لذلك يعارضون املمارسات الحكومية‪ّ ،‬‬
‫ونوزيك ّأدى الى اختالف النتائج املتوصل اليها من كليهما‪ .‬وفي اعتقاد مايكل ساندل ‪“1‬فإن موقف نوزيك‬
‫وأنصار مبدأ االستحقاق يقوم على حجتين أساسيتين‪ :‬األولى أخالقية تتعلق بالطبيعة الجوهرية للحيازات‬
‫الطبيعية "الفطرية" وهو مايخول للفرد االستفادة منها‪ ،‬على عكس الخصائص االجتماعية والثقافية‪،‬‬
‫والثانية ترتبط بالواقع العملي حيث أن تجريد الفرد من حيازاته الطبيعية أمر غير متاح واقعيا (ساندل م‪،.‬‬
‫‪ ،2109‬صفحة ‪.)012‬‬
‫وفي مقابل مبدأ الفرق الذي استند اليه رولز لشرعنة الحيازات الطبيعية أخالقيا‪ ،‬يطرح نوزيك نظرية‬
‫التخويل‪،‬فالناس ُمخولين لإلنتفاع من حيازاتهم وإن كانوا غير مستحقين لها أخالقيا‪ ،‬و ألجل تصحيح الظلم التاريخي‬
‫الذي تعرضت له فئات اجتماعية محددة‪ ،‬يقدم نوزيك تصورات بديلة ملبدأ الفرق‪ ،‬حيث يقترح أن يدفع األعضاء‬
‫ً‬ ‫الذين ما كان لهم ليكونوا أحسن حاال لوال الظلم التاريخي مبالغ محددة لفئات ُي ّ‬
‫رجح أن يكون أعضاؤها أسوأ حاال‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫مما كانوا عليه بسبب الظلم التاريخي‪...‬وليس هنالك جهة خارجية لها الحق في توزيع امللكيات الخاصة‪،‬السيما تلك‬
‫ُ‬
‫الناجمة عن مبدأي النقل واالكتساب (الحارس‪ ،2101 ،‬صفحة ‪ .)012‬و إضافة الى ما سبق ذكره طرحت‬
‫جملة من التساؤوالت واإلعتراضات حول نظرية رولز في العدالة تتعلق بجدوى الوضع األصلي اإلفتراض ي‬
‫وحجاب الجهالة ‪ ،‬كما طرح الجماعاتيون وفي مقدمتهم ويل كيملكا‪ ،‬ومايكل ولز ر عددا من املسائل حول‬
‫التعددية الثقافية التي أهملها رولز في نظرهم وأبعدها من اطار تصوره السياس ي‪،‬ومنها ما كتبه لسداير‬
‫مكنتاير تحت عنوان 'العدالة مفاهيم متغيرة' قائال‪":‬جميعنا نملك مااليحص ى من املفاهيم األخالقية‬
‫املتباينة واملتنافسة‪ ،‬واملصادر األخالقية للثقافة ال تفتح لنا سبيال للفصل بينها عقليا‪ ،‬والفلسفة األخالقية‬
‫بحسب فهمنا السائد تعكس صورة النقاشات الجدلية واإلختالفات في الثقافة بكل إخالص" (ماكنتاير‪،‬‬
‫‪ ،2101‬الصفحات ‪ )411-421‬ودعوة كيميلكا إلى تعميم التفضيل اإليجابي ليشمل األقليات الثقافية‪،‬‬
‫فواجب الدولة ال يقتصر على مساندة املجموعة املألوفة من الحقوق االجتماعية والسياسية التي تحميها كل‬
‫تبني حقوق الجماعات الخاصة املختلفة أو السياسات‬ ‫الديمقراطيات الليبرالية الدستورية‪ ،‬بل عليها دعم و ّ‬
‫الرامية إلى االعتراف بهويات الجماعات العرقية الثقافية والتكيف مع تطلعاتها وأفاقها‪( .‬كيمليكا‪ ،9011 ،‬صفحة‬
‫‪)21‬‬
‫أما مايكل ساندل الذي ساهم بشكل بارز ومميز في نشر نظرية رولز رغم اعتراضاته عليها ‪ .‬فقد انتقد‬
‫فكرة أسبقية العدل عن الخير وأولوية الفرد على الجماعة‪ ،‬واهمال رولز مكانة وحق املجتمع على الفرد ‪.‬‬
‫فهو يتساءل ما الداعي لوضع اآلراء والتصورات االجتماعية الدينية بين قوسين‪ ،‬وإهمال اإلستفادة من هذه‬
‫القيم إذا كان رولز نفسه يؤكد عدم تشكيك الليبرالية السياسية بمزاعم أي من تلك املذاهب‪ ،‬ويعطي‬
‫ساندل مثال اإلجهاض‪ ،‬فإذا كان رأي املؤسسات الدينية بتحريم اإلجهاض على اعتبار أن حياة اإلنسان تبدأ‬
‫من اليوم األول للحمل صحيح‪ ،‬فمن غير املعقول حينها تجاهل رأي املؤسسة الدينية‪( .‬ساندل م‪،2109 ،.‬‬
‫قدم ساندل اعتراضين أساسيين على مبدأ الفرق‪-1 :‬اعتراض الحوافز‪،‬حيث يتساءل كيف‬ ‫صفحة ‪ . )121‬و ّ‬
‫للموهوب أن يكون متحفزا لتطوير مهاراته إذا كان الينتفع منها إال الشيئ القليل‪ ،‬ويضرب مثال مايكل‬
‫التدرج الضريبي سيحرمه من مضاعفة ثروته ‪-9‬‬ ‫جوردون متسائال‪ :‬كيف له أن يتدرب بشكل كامل لو كان ّ‬
‫اعتراض ُ‬
‫الجهد ‪ :‬حيث أنه ال مبرر لرولز في رفض نظرية االستحقاق على أساس اعتباطية املواهب الطبيعية؛‬
‫ّ‬
‫ألن املواهب قابلة للتطوير ُ‬
‫بالجهد الفردي‪ ،‬واألمثلة كثيرة‪،‬فقد عمل بيل غيتس بجهد لتجاوز نظرائه وتشييد‬
‫مايكروسوفت (ساندل م‪ ،2109 ،.‬صفحة ‪.)022‬‬

‫مست اإلنتقادات واإلعتراضات أيضا أولوية مبدأ الحرية التي ناقشها كثيرون وعلى رأسهم أمارتيا سن‪.‬‬‫و ّ‬
‫وحيث ال يتسع املجال لعرض جميع اإلعتراضات واإلقتراحات‪ ،‬نقدم بعض النماذج من البدائل املطروحة‬
‫متبوعة بتكهنات بعض النقاد حول مصير الليبرالية كأساس ألي نظرية ‪.‬‬
‫‪ .3‬مناذج من النظريات البديلة لنظرية رولز‬
‫‪ 2.3‬بديل أمارتيا سن واقتراح دفيد جونستون‪:‬‬
‫أما بديل أمارتيا سن (ولد ‪ 1‬نوفمبر ‪ )1211‬فيتركز حول اعتباره " الديمقراطية كنقاش عام أساس العدالة‬
‫"وقد عالج سن نظرية العدالة عند رولز بصفته عالم اقتصاد وفيلسوف‪ ،‬وكان انتقاده األساس ي لها‬
‫باعتبارها نظرية تعتمد على ما أطلق عليه" املؤسسية املافوقية " مقترحا نظريته القائمة على أساس‬
‫"البنائية التحتية" ‪.‬‬
‫وإذا كان حوار رولز –نوزيك‪ ،‬يعكس الجدل السياس ي القائم في أمريكا حول قضايا إعادة التوزيع ومجال‬
‫ومدى التدخل الحكومي الذي يختصره نوزيك في دولة الحد األدنى ‪ ،‬ومشكلة الحقوق املدنية‪ ،‬و لكل منهما‬
‫فإن جدل‬‫صناع السياسة في الواليات املتحدة األميركية (ساندل م‪ ،2111 ،.‬صفحة ‪ّ ،)011‬‬ ‫مؤيدين بين ّ‬
‫الفيلسوف واالقتصادي الهندي أمارتيا ِّسن الذي رأى في نظرية العدالة كانصاف "انجازا تاريخيا وضع‬
‫الفالسفة على الطريق الصحيح وأوصل موضوع العدالة الى ماهو عليه اليوم (سن أ‪ ،2101 ،.‬صفحة ‪)11‬‬
‫يلخص نظرته إلى صورة العدالة اإلجتماعية في املجتمعات الليبرالية‪ ،‬معتقدا أن مشكلة العدالة االجتماعية‬
‫بالبعد النظري في املؤسسات األساسية (سن أ‪،2101 ،.‬‬ ‫في الفكر الليبرالي منذ هوبز وحتى جون رولز‪ ،‬تهتم ُ‬
‫صفحة ‪ )41‬داعيا الى النظر الى العدالة على أساس ما أسماه "البنائية التحتية" مقابل " املؤسسية‬
‫املافوقية"‪ .(Trancsendental institionalisme .‬و يطرح سن اعتراضا آخر حول مدى ّتيقن رولز من اختيار‬
‫يقر هو نفسه [رولز] بتعدد الخيارات‬ ‫األطراف في الوضع األصلي ملبدأي العدالة دون غيرهما من املبادئ بينما ّ‬
‫ّ‬
‫الحادة من الالمساواة املادية التي‬ ‫املمكنة‪ .‬مع تأيده التدخل الحكومي املباشر لتصحيح األنماط التاريخية‬
‫تساهم الى جانب عوامل أخرى في تأجيج العنف املجتمعي وتحتم التدخل الحكومي للدفاع عن مصالح الذين‬
‫ال يمكنهم الدفاع عن أنفسهم‪( .‬سن أ‪ )9012 ،.‬وتحت عنوان "أولوية الحرية عند جون رولز" طرح ِّسن‬
‫تساؤالته حول جدوى األولوية املطلقة للحرية في مجتمعات تعاني من الضغوطات االقتصادية ومحدودية‬
‫خصص سن فصال‬ ‫الدخل حيث يبدو فيها مبدأ الحرية مطلبا ثانويا (سن أ‪ ،2101 ،.‬صفحة ‪ .)010‬كما ّ‬
‫آخر للموضوع ذاته تحت عنوان "الفقر كحرمان من القدرة" ) ‪.‬فالبشر الذين يعيشون في ظروف ال يتوفر‬
‫فيها طعام مالئم ال ُيتوقع منهم أن يكترثوا لحرية التعاقد أو حرية الصحافة كما يقول اشعيا برلين (برلين‪،‬‬
‫‪ ،2109‬صفحة ‪. )44‬‬
‫وينتقد سن في كتابه "األخالق واالقتصاد" ([‪)1221 ،]1229‬مبدأ املساواة عند رولز معتبرا ّأن نظرة رولز‬
‫غير قادرة على مراعاة تنوع األفراد في الواقع إلستبعاده األفراد ذوي اإلعاقة على أساس أنها تنطوي على‬
‫لكن الحاالت الصعبة موجودة بالفعل‪ ،‬وال يمكن للعدالة أن تكون‬ ‫اعتبارات تتعلق بترتيب الشفقة والقلق‪ّ ،‬‬
‫غير مبالية بالحياة التي يعيشها الناس‪ .‬فاحتياجاتهم "تختلف حسب الصحة وطول العمر واملناخ واملوقع‬
‫الجغرافي وظروف العمل واملزاج وحتى حجم الجسم (مما يؤثر على الحاجة إلى الطعام واملالبس)‪( .‬الخويلدي‪،‬‬
‫ّ‬
‫‪ )2121‬ويرى أنه يمكن تعريف العدالة االجتماعية من حيث اإلمكانيات املتاحة لألشخاص بالنظر إلى‬
‫"أدائهم" أو "إنجازاتهم" التي يمكن أن تحققها املوارد ‪ -‬القراءة والكتابة والحصول على وظيفة والبقاء بصحة‬
‫جيدة والنشاط السياس ي وما إلى ذلك من حيث الخيارات الفعالة للخيارات املحتملة (القدرات)‪ .‬ويسلط‬
‫الضوء على ما ينقص املساواة الرولزية من ّأن ‪" :‬تفسير االحتياجات ليس من قائمة السلع األساسية ولكن‬
‫من حيث "القدرات األساسية"‪ ،‬فالشخص قادر على تحقيق بعض األعمال األساسية‪ ،‬مثل القدرة على‬
‫التنقل‪ ،‬وتلبية االحتياجات الغذائية‪ ،‬والحصول على امللبس واملأوى‪ ،‬والقدرة على املشاركة في الحياة‬
‫فإن"[‪...‬فالشخص املعاق قد يكون لديه كمية أكبر من البضائع [‪ ]...‬ولكن‬ ‫االجتماعية للمجتمع‪ ...‬وبالتالي ّ‬
‫بقدرة أقل من قدرة شخص آخر (بسبب إعاقته) " (الخويلدي‪ )2121 ،‬وعليه فهذه الفئة يجب عليها‪ ،‬على‬
‫ً‬
‫جسديا‪( .‬الخويلدي‪.)2121 ،‬‬ ‫سبيل املثال‪ ،‬أن تنفق أكثر للوصول إلى وظيفتها من الشخص السليم‬
‫ويقدم سن نظريته في الديمقراطية كنقاش عام باعتبارها أساس العدالة‪ ،‬موضحا هدفه من كتابه‬
‫فكرة العدالة ‪":‬في هذا الكتاب‪ُ ،‬ينظر الى الديمقراطية كنقاش عام (الفصول ‪ ،)19-12‬ما يقود الى فهم‬
‫الديمقراطية 'كحكم بالنقاش" نظرا للعالقة الحميمة بين الديمقراطية والعدالة"في الفلسفة السياسية‬
‫املعاصرة‪ ،‬و ّإن أفضل تعريف للديمقراطية هو الحكم بالنقاش ‪ ، governmemt by discussion ».‬وكان‬
‫وولتر باجهوت أول من صاغ تلك العبارة‪ّ ،‬‬
‫لكن جون ستيوارت ميل هو الذي لعب دورا كبيرا في تقريب هذا‬
‫توسع ّ‬ ‫إال ّأن هذا املفهوم –حسب سن‪ّ -‬‬ ‫ّ‬
‫وتطور بشكل كبير مع جون رولز‬ ‫املنظور لألفهام والدفاع عنه"‪.‬‬
‫وهابرماس ومساهمات وأدبيات تعود لبروس اكرمان ‪ ،‬جوشو كوهين ودونالد دوركين وغيرهم‪ّ .‬‬
‫وعرف رولز‬
‫الديمقراطية بشكل مباشر وصريح بقوله" ّإن الفكرة النهائية للديمقراطية التشاورية هي فكرة التشاور‬
‫نفسها ‪ .‬فعندما يتشاور مواطنان فيما بينهما ‪ ،‬فإنهما يتبادالن افكارا ويناقشان ما لديهما من أسباب مساندة‬
‫لهذه األفكار املتعلقة بمسائل السياسة العامة" ‪ .‬إال ّأن معالجة هابرماس للنقاش العام و مقاربته في‬
‫ألن هابرماس أعطى‬‫الديمقراطية اإلجرائية –في نظر سن‪ -‬أفضل من باقي املقاربات حتى تلك الخاصة برولز؛ ّ‬
‫شكال إجرائيا أكثر عمليا حين ربط الديمقراطية بالليبرالية ّ‬
‫ووضح ُبعد النقاش العام في ازدواجية الخطاب‬
‫السياس ي بين املسائل األخالقية للعدالة واملسائل الذرائعية للسلطة والقهر"‪( .‬سن أ‪ ،2101 ،.‬الصفحات‬
‫ّ‬
‫‪ )492-496‬وقد شهد له بذلك رولز نفسه قائال‪" :‬كذلك علق هابرماس تعليقا مضيئا على ما يفرق بين‬
‫املقاربات العامة املختلفة في املفهوم الى فكرة ودور النقاش العام‪ .‬فهو يقارن نظرته التشاورية –اإلجرائية‬
‫بما يصفه باألراء "الليبراية" و"الجمهورية"‪( ".‬سن أ‪ ،2101 ،.‬صفحة ‪ )291‬وقد رفض هابرماس الديمقراطية‬
‫الليبرالية والجمهورية معا مستبدال اياهما بالديمقراطية التشاورية‪.‬‬
‫وقد عرض سن في الفصل ‪12‬و‪ 19‬من كتابه 'فكرة العدالة' وجهة نظره الفلسفية بوجوب النظر الى‬
‫الديمقراطية كنقاش عام ‪ ، public reasoning‬وعلى أنها "القدرة على إغناء املشاركة العاقلة من خالل تعزيز‬
‫توفير املعلومات واإلمكانية العملية للمناقشات التفاعلية"‪ ،‬إذ ال يمكن الحكم على الديمقراطية باملؤسسات‬
‫الرسمية فقط[كما يرى رولز]‪ ،‬ولكن بقدر األصوات املسموعة من مختلف شرائح الشعب‪ .‬وعلى املدى‬
‫البعيد تؤثر هذه النظرة على املستوى العالمي وليس املحلي فحسب ‪،‬حتى تبلغ الديمقراطية والعدالة مكانة‬
‫عاملية بفضل النقاش العام وفعل التواصل حيث يمكن أن يفهم أفكارها القاص ي والداني ويمكن أن تلهم‬
‫األعمال العملية وتؤثر فيها عبر الحدود"‪.‬و "إذا أمكن تقييم متطلبات العدالة باإلستعانة بالنقاش العام‬
‫وحسب‪ ،‬عندئذ تكون الصلة حميمة بين العدالة والديمقراطية" ‪ ،‬بما لهما من سمات منطقية" (سن أ‪،.‬‬
‫‪ )2101‬وقد أعطى سن أمثلة تاريخية عن دور احالل الديمقراطية في القضاء على املجاعات بفضل النقاش‬
‫العام في الهند املستقلة بعد اربع سنوات من سقوط األمبراطورية وعدم تفش ي املجاعات بعد مجاعة البنغال‬
‫التي كانت األخيرة‪ ،‬وعلى العكس من ذلك‪ ،‬فقد استمرت املجاعة التي ضربت الصين فيما بين ‪1221-1222‬‬
‫ثالث سنوات ورغم ذلك لم تغير الحكومة الصينية سياساتها ولم يلعب البرملان دورا ديقراطيا لتوقيف‬
‫املجاعة التي اهلكت ثالثين‪ 10‬مليون شخص‪ .‬ألنه"لم يكن للصين برملان مفتوح لألراء اإلنتقادية املخالفة‪،‬‬
‫وال حزب معارض‪ ،‬وال صحافة حرة‪ .‬ولطاملا كانت لتاريخ املجاعات‪ ،‬في الواقع‪ ،‬صلة وثيقة على نحو مميز‬
‫بانظمة الحكم اإلستبدادية كاإلستعمار في الهند البريطانية‪ ،‬ودول الحزب الواحد كاإلتحاد السوفياتي في‬
‫الثالثينات والصين وكمبوديا والدكتاتوريات العسكرية كما في اثيوبيا والصومال‪...‬الخ ودائما يتضرر الناس‬
‫إال إذا كان هناك"نقل حر لألخبار وانتقاد عام غير مراقب‪ ،‬فيكون‬ ‫ّ‬
‫وال تتضرر الحكومات‪،‬وال تتحرك‬
‫للحكومة كذلك دقع قوي لبذل قصارها إلستئصال املجاعات‪( .‬سن أ‪ ،2101 ،.‬صفحة ‪.)421‬‬
‫ّ‬
‫أما اقتراح دفيد جونستون فيقوم على أساس" العدالة بصفتها تعامال باملثل "‪ .‬فبينما يركز سن على‬
‫الديمقراطية كنقاش عام أساسا للعدالة من خالل كتابة 'فكرة العدالة لعام ‪ ،"9010‬يعود دفيد جونستون‬
‫( مواليد‪ )0140‬من خالل 'مؤلفه "مختصر تاريخ العدالة' لعام ‪ ، 9019‬ليؤكد على النظرية الليبرالية معتبرا ّ‬
‫أن‬
‫"نظرية العدالة بوصفها إنصافا" لجون رولز ُت ّ‬
‫عد إنجازا استثنائيا حقا‪...‬باعتبارها نظرة للعدالة اإلجتماعية في‬
‫مجتمع يفترض أن يتمتع مواطنوه بالحرية واملساواة‪ ،‬يبدو أنه ليس لهذه النظرية نظير‪ .‬ولكن ال تخلو من بعض‬
‫املثالب"‪( .‬جونستون‪ ،9019 ،‬صفحة ‪ )920‬منتقدا إياها من الداخل ‪ ،‬ذلك ّأن "نظرية العدالة كانصاف تهمل‬
‫مسألة اإلحساس بالعدالة وال تدرك ّأن العدالة ال يمكن أن تتحقق إذا انفصلت عن نوع من التعامل باملثل‬
‫بين البشر‪ ،‬وهذا اإلدراك له بالتأكيد أهمية جوهرية وهو من مستلزمات ذلك اإلحساس" (جونستون‪،‬‬
‫‪ ،2102‬صفحة ‪.)262‬‬
‫حل محل‬ ‫لذلك يرى جونستون وجوب التركيز على "مبدأ التعامل باملثل كاساس للعدالة" وأن َي ّ‬
‫اإلتجاهين اللذين هيمنا على الفلسفة السياسية واألخالقية (مذهب املنفعة ومذهب الواجب األخالقي) وهذا‬
‫َ‬
‫املبدأ هو "أقدم شكل من أشكال العدالة‪ ،‬وربما كان أكثرها حظا من التأييد واإلنتشار"‪،‬لكن لم يكن ُي ّركز‬
‫على هدف بارز تستقى منه مبادئ وقوانين العدالة مثلما يفترض‪ ،‬وال على تصور ملفهوم الحق ومجموعة من‬
‫الواجبات الصارمة التي تتبع ذلك‪ ،‬بل كان يركز بدل ذلك على خصائص العالقات التي بين األشخاص‪.‬‬
‫ويستمد هذا النوع من الفهم جذوره من "التعامل باملثل" ‪ .1" Concept of réciprocité‬ويقدم جونستون‬
‫بأن هذا املبدأ متجذر في أغلب الفلسفات‪" :‬عالوة على هذا فإني أطمح ألن أقدم‬ ‫أدلة تاريخية تبرر اعتقاده ّ‬
‫التصور للعدالة ‪ ،‬والذي ّيركز على طبيعة عالقات‬‫ّ‬ ‫للقارئ بعض األسباب التي تدفعني الى اإلعتقاد ّ‬
‫بأن ذلك‬
‫الناس بدل التركيز على هدف واحد بارز أو مجموعة واجبات صارمة ‪ ،‬يستحق أن ينهض كبديل مرموق‬
‫لإلتجاهين املشار إليهما آنفا‪ ،‬واللذين أخذناهما بنظر اإلعتبار‪ ،‬نرى أنهما قد هيمنا على املناقشات العلمية‬
‫التي ما فتئت تدور حول العدالة على مدى األجيال العديدة املاضية" (جونستون‪ ،2102 ،‬صفحة ‪ّ .)01‬‬
‫لكن‪-‬‬
‫ألن يشكل نظرية للعدالة‪ ،‬لذا على أهل اإلختصاص‬ ‫يشير جونستون ‪ّ -‬أن هذا األساس غير جاهز ومتكامل ّ‬
‫تطويره‪ ،‬فلكي تغدو هذه التصورات إرشادات موثوقة من شأنها أن تتصدى للمعضالت املعقدة التي ترتبط‬
‫بالعدالة في عالم اليوم‪ .‬ينبغي مراجعتها إذا أردنا لها أن تسهم بشكل بناء في اإلرتقاء باألفكار واملمارسات التي‬
‫يمكن أن تشكل آفاقا مستقبلية‪( .‬جونستون‪ ،2102 ،‬صفحة ‪)04‬‬

‫ويقول معلقا على أعمال فالسفة ومفكرين حول العدالة اإلجتماعية مقارنة مع رولز "‪...‬فقد تطرقوا الى‬
‫اتجاهات متباينة في البحث‪ .‬في وقت قريب كان جون رولز قد أوضح في أحد أعماله األخيرة (قانون الشعوب')‬
‫ّ‬
‫ّأن مبادئ العدالة اإلجتماعية التي تطرحها نظريته‪ ،‬ال تطبق إال على عالقات أشخاص يشكلون "شعبا"‬
‫تتحدد مالمحه من خالل ّ‬
‫هوية جماعية تعتمد على روابط ثقافية أو تاريخية ‪ .‬وال تنطبق تلك املبادئ ‪ ،‬وفق‬
‫رأي رولز على جميع شعوب العالم"‪( .‬جونستون‪ ،2102 ،‬صفحة ‪)224‬‬
‫ّ‬
‫ويرى جونستون ّأن تقسيم الناس إلى شعوب وجماعات بالشكل الذي ركز عليه كل من فيخته ورولز‬
‫وكثير من املفكرين اآلخرين "أدى إلى نتائج ذات تأثير حاسم على العدالة‪ .‬تجمع بين األفراد الذين يشكلون‬
‫تلك الجماعات روابط مميزة تقوم على اإللتزامات والثقة املتبادلة‪ .‬يقتض ي ذلك ّ‬
‫بأن على هؤالء األفراد أن‬
‫يلتزموا بواجبات بعضهم تجاه بعض‪ ،‬وهي واجبات تختلف عن التزام العدالة التي يدينون بها الى من هم‬
‫دخالء على مجتمعهم‪ )...( .‬إن لهذه الواجبات جذورا متغلغلة في مفاهيم اإلحترام املتبادل والتعامل باملثل"‪.‬‬
‫وينتهي جونستون في الختام –مثل أمارتيا سن تماما‪ -‬الى ّأن سبب اإلختالل املعاصر في العالقات الدولية‬
‫سواء كانت عامة أو خاصة هو هيمنة الكبار املقتدرين للمحافظة على مصالحهم دون أدنى اهتمام بالعدالة‬
‫أو املصلحة العامة أو اإلحترام والتعامل باملثل الذي تمليه العقالنية‪ .‬وهذه الهيمنة التي ينتشر بسببها ّ‬
‫كل‬
‫هذا الظلم مستمرة وأحد طرقها الصفقات عبر الحدود "التي تفرضها قوى عظمى ضد اطراف أضعف منها‪،‬‬
‫حتى لو بدت تلك الصفقات اختيارية فإنها دون شك تتضمن مساومات؛ ألنها تتم بين أطراف غير متكافئة‪،‬‬
‫ّ‬
‫على عكس الصفقات داخل الحدود‪ ،‬لديها ضوابط تحددها وتقلص بذلك من حاالت الظلم‪( ".‬جونستون‪،2102 ،‬‬
‫صفحة ‪.)229‬‬
‫ظل صمت القوى الكبرى في العالم يضرب عرض‬ ‫و يؤكد جونستون ّأن استمرار انتشار الظلم في ّ‬
‫كل نظرية وكل مساع نبيلة من أجل العدالة مهما كان وزنها‪ ،‬ويفسر السكوت عن هذا الظلم‬ ‫الحائط ّ‬
‫بعدم وجود رغبة وإرادة حقيقية لدى القوى الكبرى التي تحكم العالم‪ ،‬في إحالل العدل والسالم؛ ألنه‬
‫تهتد هذه القوى الى حلول عقالنية‪ ،‬فلن تهنأ الشعوب ولن‬ ‫ِّ‬ ‫يتعارض مع مصالحها‪ ،‬ومالم‬
‫تستقر"(جونستون‪.2102‬ص‪.) 229.‬‬
‫‪ 2.3‬تنبؤات حول مصير الليبرالية‪:‬‬
‫اخترنا نموذجين من التنبؤات أولهما‪:‬جون جراي ونهاية الليبرالية‪ ( :‬ولد ‪)8491‬‬
‫تحت عنوان ‪' :‬نقش على قبر الليبرالية' في الفصل السادس من كتابه مابعد الليبرالية ‪ :‬دراسات في الفكر‬
‫السياس ي وتحت عنوان نهاية التاريخ ام نهاية الليبرالية " في الفصل السابع يواصل جون جراي انتقاداته‬
‫الالذعة ألسس الليبرالية من خالل تعليقه على دراسة جول فاينبورج ‪ Joel Feinberg‬التي ضمنها أربع‬
‫مجلدات بعنوان "الحدود األخالقية للقانون الجنائي" ‪The Moral Limits of the criminal Law‬قاطعا‬
‫الصلة في ذلك بالتقييد الحرفي بالقانون الذي ّميز الفلسفة السياسية األنجلو أمريكية خالل الربع األخير‬
‫من القرن العشرين ‪ ،‬فهو يستند للتفسير القضائي للحقوق باعتبار بعض املسائل كحظر اإلجهاض‬
‫واإلباحية والقتل الرحيم حقوق أساسية وليست مسائل تخص السياسة التشريعية التي تستند الى نموذج‬
‫صياغة السياسة العامة للخطاب السياس ي ‪ .‬وقد تجلى التقيد الحرفي بالقانون في أكثر صوره ابهارا مع أعمال‬
‫جون رولز األخيرة ‪ ،‬حيث ‪"1‬جرى تقييد النموذج القانوني للتنظير الليبرالي تقييدا كبيرا من خالل اإلعتراف‬
‫بقايليته للتطبيق فقط على فرع من الديمقراطيات الدستورية (ربما ال يشمل سوى الواليات املتحدة)‪،‬‬
‫وعجزه عن تقرير كل القضايا الحيوية في الجدل السياس ي بشأن التقييد القانوني للحرية‪ .‬لذا 'فحتى املشروع‬
‫واملحددة ّ‬
‫يعد مثاال لوهم التقيد الحرفي بالقانون‬ ‫ّ‬ ‫الرولزي ‪ Rawlsian‬لتعيين مجموعة من الحريات الثابتة‬
‫الذي يحرك الفكر الليبرالي الحديث في أمريكا"‪.‬‬
‫فالليبرالية –حسب جون غراي‪ -‬ليس لها أسسا حقيقية كما يحاول الليبراليون إيهامنا ‪ ،‬حيث لم يقدم‬
‫الليبراليين فعال ما يمكن أن يقنع الفكر البشري بأنها متماسكة ومستمرة ودائمة‪ ،‬وال أنها قادرة حقا على‬
‫التوفيق بين وجدان اإلنسان وانتماءه املذهبي أو الطائفي‪ ،‬بل على العكس من ذلك فإنها تحمل في مضامينها‬
‫بذور فنائها مثلها مثل الشيوعية وكثير من النظريات ‪ ،‬وقد كشفت عن فشلها الذريع رغم سيطرتها على‬
‫الساحة الفلسفية األنجلو سكسونية "فبالرغم من سيطرة الليبرالية الكاسحة في الفلسفة األنجلو أمريكية‪،‬‬
‫فهي لم تنجح قط في بيان ّأن املؤسسات الديمقراطية الليبرالية ضرورية بشكل فريد للعدالة وللمصلحة‬
‫البشرية؛ فقد فشلت الفلسفة السياسية الليبرالية بكل أشكالها –النفعية والتعاقدية أو باعتبارها نظرية‬
‫حقوق –في ترسيخ أساسها الجوهري‪ ،‬وهو ّأن الديمقراطية الليبرالية هي الشكل الوحيد للحكم البشري‬
‫الذي يجيزه املنطق واألخالق‪( "...‬جراي‪ ،2119 ،‬صفحة ‪. )122‬‬
‫وثانيهما‪ :‬دفيد بوز "اللبرتارية هي املستقبل‪ ،‬ولكن‪"،،‬‬
‫يعتقد الليبراليون ّان الليبرالية مصير محتوم و مستمر وأبدي‪ ،‬لكنهم يعترفون ّأن هناك ما يهددها ّ‬
‫وان‬
‫وإال ستشهد تصدعا محتمال‪ .‬وفي اتجاه يدعم ما ذهب اليه جون جراي‪ ،‬يرى‬ ‫ّ‬
‫عليهم تذليل تلك العقبات‬
‫ّ‬
‫أنطونيو مارتينو ‪92-1299 ( Antonio Martino‬سنة) في مقال له بعنوان "الليبراية في العقد القادم" أن انهيار‬
‫ألن عقبات كثيرة‬‫الشيوعية وبزوغ فجر الليبرالية ال يعني بالضرورة نجاح واستمرارية هذه األخيرة؛ ذلك ّ‬
‫وأن نوع الحكومات الديمقراطية التي غدت تحكم اوربا‬ ‫تعترضها من عدة جوانب أبرزها السياسة والبيئة‪ّ ،‬‬
‫الشرقية‪ ،‬ال يبدو ّأنها بدأت بعمل جاد نحو إدخال إصالحات جذرية تعد بتحويلها الى اقتصاد السوق الحرة‪،‬‬
‫ومرد ذلك الى انعدام الثقة في الشرق كما هي في الغرب‪ .‬فقد أشار جيمس بيوكانن الى ّأن " فقدان الثقة‬ ‫ّ‬
‫بالسياسة‪،‬في الشرق كما في الغرب‪ ،‬وفي اإلشتراكية بتعريفها الواسع لم يكن ‪...‬مصحوبا بأي تجديد أو‬
‫ّ‬
‫استعادة واضحة بالثقة في األسواق"‪ .‬وبرأي أنطونيو مارتينو أنه على الليبرايين الغربيين واجب "بحث‬
‫املشاكل الناجمة عن التحول من اإلشتراكية الى الراسمالية" وليس علينا‪-‬يقول‪ّ -‬ان ندعي أننا قادرون على‬
‫فان بلداننا هي من تعلمت من أوربا‬ ‫تفكيك اإلشتراكية‪ ،‬فسجلنا التاريخي ال يحفل بذلك‪،‬واكثر من هذا ّ‬
‫الشرقية‪ ،‬لذا علينا فهم طبيعة املشكلة التي يعانيها اصدقاؤنا في أوربا الشرقية‪ .‬فالنقاش في منتدى دولي‬
‫حول األفكار االليرالية هو أكثر من ضرورة‪ .‬وكما ّان اوربا الشرقية تجابه عدة عقبات‪ّ ،‬‬
‫فإن الحرية في بلداننا‬
‫الحرة ليست في حصن منيع‪.‬‬
‫ّ‬
‫ولخص مشاكل الراسمالية حاليا كما ورد في مجلة ايكونومست في ثالث ‪ :‬البيئة؛والزيادة في اإلنفاق‬
‫والضرائب واإلستدانة من جانب الحكومة الناجمة عن تعامالت جماعات الضغط‪ ،‬ونمو طبقة "متدنية"‬
‫قدم الكاتب انتقادات الذعة للممارسات‬ ‫ثم ّ‬
‫سببه في الغالب فشل نظام التعليم في املدارس الحكومية"‪ّ .‬‬
‫ُ‬
‫الليبرالية التي تشوهها وتقودها الى الفشل‪ ،‬منها املبالغة في رفض التدخل الحكومي‪ ،‬وظهور بعض القيود‬
‫الصغيرة املتنامية لتقليص مساحة الحريات الشخصية "باسم الصحة والسالمة‪ ،‬واألفكار املثالية األخرى‬
‫(بوز‪ ،2112 ،‬صفحة ‪ 11‬وما بعدها)‪.‬‬
‫وإن لم يتم استد اك هذه األخطاء كاإلعتقاد ّ‬
‫بان الديمقراطية هي املشكلة‪ ،‬بينما نتج عن الخيار الليبرالي‬ ‫ر‬
‫على كثير من املستويات فشل ذريع كخيار التعليم الخاص الذي لم نحقق منه النتائج املرجوة والذي كان‬
‫من أجل املنافسة تحديا لرداءة التعليم العام وقلة كفاءته‪ .‬وإذا فسر ذلك البعض بفشل دولة الرفاه فاننا‬
‫ما نزال منقسمين حول البدائل املمكنة إلستبدالها‪ .‬وهي األولوية ملفكرينا‪ .‬ويقترح في اتجاه اخر الحل‬
‫الفيدرالي كنموذج للتعايش السلمي مستدال على ذلك بنجاح الالمركزية الحكومية لبعض البلدان مثل‬
‫جنوب افريقيا –كندا –الصين‪-‬أو دول السوق األوربية املشتركة والدول القطرية مثل ايطاليا –اسبانيا‬
‫فإن تلك املركزية تسمح بحل املشاكل الداخلية وتحول دون نموها وتكاثرها‪ .‬وتسمح‬ ‫وحتى اململكة املتحدة‪ّ ،‬‬
‫الفيدرالية املرنة باملنافسة بين السياسات والنقاش حولها في نطاق يتعدى اإليديولوجيات‪ ) ...‬وأفضل تعبير‬
‫عن هذا قبل فوت األوان كما ذكر انطونيو مارتينو هو نصيحة لورانس بيتر"افعله األن فقد يكون هناك‬
‫قانون ضده غدا" (بوز‪ ،2112 ،‬صفحة ‪.)49‬‬

‫إن املحامي‬ ‫وبينما ينتقد جون جراي نظرية الحقوق الليبرالية في أمريكا باعتبارها قاصرة في نظره‪ ،‬ف ّ‬
‫والحقوقي األمريكي دونالد دوركين–( ‪ )9011-1211‬ينتقد بدل ذلك سلوك الحكومات الليبرالية متسائال عن‬
‫مصير ممارساتها ونتائجها من خالل ما قدمه في الفصل السابع من كتابه" اخذ الحقوق على محمل الجد‬
‫" حيث يطرح بعض املفارقات‪" :‬في وقت تسيطر فيه لغة الحقوق على الجدل السياس ي في أميركا‪ ،‬هل‬
‫تحترم الدولة الحقوق األخالقية والسياسية ملواطنيها؟ هل تسير السياسة الخارجية للدولة وسياساتها‬
‫انتهكت حقوقها الحق في أن تنتهك بدورها‬‫العرقية باتجاه مضاد لتلك الحقوق؟ هل لألقليات العرقية التي ُ‬
‫القانون؟ ويجادل دووركين هاهنا املنظرين القائلين بأنه ليس للمواطنين حقوق خارج تلك التي يمنحها‬
‫يسميه بـ "تناقض خطير"‪ :‬فإذا كان لشخص ما الحق في القيام بما يمليه عليه‬ ‫القانون ليصل بنا إلى ما ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الضمير‪ ،‬كيف يحق للدولة ثنيه عن ذلك؟ أليس عيبا على الدولة منع الناس من القيام بما ُيعتبر حقا‬
‫لهم ومعاقبتهم عليه؟ وينتهي الى نتيجة أكثر صرامة من سابقيه مفادها "إذا لم تأخذ الدولة الحقوق على‬
‫ّ‬
‫محمل الجد أيضا (حسن‪. ")9012 ،‬‬ ‫محمل الجد‪ ،‬لن تأخذ القانون على‬
‫و أخيرا‪ ،‬ومن وجهة نظر عربية‪-‬إذا اعتبرنا أننا معنيون حقا بالعدالة‪ -‬فيمكن أن يختصر رأي األستاذ‬
‫التونس ي * الكشو وضع بلداننا حاليا‪ ،‬رغم بعض الفروقات بينها من حيث معيار الحرية على األقل منذ‬
‫أن عمل رولز " ال يمكن أن ّ‬
‫يتحول إلى نظرية كونية‪ ،‬واألمر نفسه‬ ‫الربيع العربي الدامي‪ ،‬يقول الكشو ّ‬
‫نجده مع يورغن هابرماس حيث أن نظرياته كانت في إطار املجتمع األملاني وانتقاله من النظر إلى املاض ي‬
‫نحو البناء األوروبي"‪ .‬فهذه النظريات‪ ،‬ليست سوى قاعدة فكرية ننطلق منها‪ ،‬ينبغي أن يقابلها عمل‬
‫املدنية في البالد والتي ينبغي أن ّ‬
‫تقدم شتى إسهام ِّاتها‬ ‫ّ‬ ‫تأسيس ي على واقعنا‪ ،‬وقبل ذلك يجب تطوير الثقافة‬
‫فيها مثل علم االجتماع والتاريخ‪ ،‬والفلسفة التي ينبغي تجاوز تاريخها إلى الحاضر"‪ " .‬فاملادة التي اشتغل‬
‫عليها رولز هي الدستور األميركي وتأويالت املحكمة العليا له‪ ،‬ومنها استخرج نظريته السياسية‪( .‬حسن‪،‬‬
‫‪ ، )2106‬وبالتالي فهي تنطبق على المجتمع األمريكي وليس على غيره‪.‬‬
‫تعقيب‪ :‬خلص أمارتيا سن الى وجوب اعتبار الديمقراطية كنقاش عام أساسا للعدالة ومنه للحكم‬
‫بالنقاش ومن أجل اإلرتقاء بها الى العاملية‪ ،‬يتوجب تكريسها وترسيخها كتقاليد "وتكمن أهمية التاريخ في‬
‫اإلدراك العام ّأن التقاليد الراسخة تستمر في التأثير على عقل الناس ويمكنها أن تلهم أو تعوق‪ ،‬والبد من‬
‫أخذها في اإلعتبار سواء كانت تدفعنا أم ندفعها‪ "...‬ويدلل على صحة كالمه بأمثلة تاريخية عن دور الوعي‬
‫قائال " لذا ليس غريبا الدور الذي لعبه الوعي بالتاريخ املحلي والعالمي في معركة الديمقراطية من طرف أولئك‬
‫الشجعان أمثال جواهر الل نهرو ومارتن لوثر كينغ ونيلسون مانديال"‪ .‬فالنقاش الديمقراطي العام وفقا لـ‬
‫نظرية سن هو أن نستمع لكل األصوات كما وصفه نيلسون منديال في كتابه الطريق الطويل للحرية وهو 'أن‬
‫ُيسمع صوت الجميع‪ ،‬الرئيس واملرؤوس والطبيب واملحارب ‪ ،‬والبائع واملزارع وصاحب األرض واألجير" وأن‬
‫يدلوا بأرائهم كمواطنين أحرار ومتساوين في القيمة‪".‬‬
‫غير أنه يبدو لنا ّأن هذا السبب الذي يسوقه أمارتيا سن غير كاف إلستبعاد نظرية رولز في العدالة‪.‬‬
‫وأن هذا األخير أشاد بتأكيد سن على حقوق اإلنسان في نماذج املجاعات التاريخية التي درسها‬ ‫خاصة ّ‬
‫كمجاعة البانجال ‪ 1291‬وأثيوبيا ‪1299‬والساحل بين ‪ 1291-1299‬مؤيدا نظرته من ّأن"الحكومات التي ال‬
‫تهتم في كثير أو قليل بحقوق اإلنسان هي تلك التي تقف مكتوفة األيدي وتترك الشعب يتضور جوعا بينما‬
‫يمكن لها أن تحول دون ذلك‪ .‬امل جتمعات الجيدة التنظيم كما وصفتها ال تسمح بأن يحدث ش يء من هذا (رولز‪،‬‬
‫‪ ،2112‬صفحة ‪.)041‬‬
‫ويبدو لنا من جهة ثانية وفق ما استنتجنا من أفكار الفيلسوفين‪ّ ،‬أن فكرة النقاش العام الديمقراطي‬
‫وفكرة الفضاء العام عند سن تجد تعبيرها من خالل فكرة العقل العام لدى جون رولز التي تدعو الى تطوير‬
‫أشكال املمارسات الديمقراطية بما يخدم مصالح الجميع ومستقبل األجيال‪.‬‬
‫كذلك تجدر اإلشارة الى الرؤية الفلسفية لهابرماس من حيث تركيزه على فعل التواصل والديمقراطية‬
‫التشاورية بدل الديمقراطية الليبرالية والجمهورية‪ ،‬وقلق ويل كميلكا حول تعددية الثقافات والحقوق‬
‫الخاصة لبعض األقليات التي يرى ّأن رولز لم يفها حقها‪ ،‬فهي إشكاالت يبدو لنا ّأن رولز عالجها من خالل‬
‫ّ‬
‫مبدأ الحرية الفردية والحقوق األساسية لألفراد ضمن واقع"التعددية املعقولة" التي تشمل مختلف‬
‫املذاهب‪ ،‬ودور العقل العام فيها‪ّ ،‬‬
‫وتفتح املجتمعات الليبرالية على باقي املجتمعات غير الليبرالية التي ّ‬
‫سماها‬
‫املجتمعات "الالئقة" وهي الراضية بقانون شعوب مشترك يضمن الحفاظ على خصوصيتها الثقافية‬
‫والدينية من منطلق مبدأ التسامح الليبرالي نفسه‪( .‬رولز‪ ،2112 ،‬صفحة ‪ 020‬وما بعدها) ‪.‬‬
‫‪ .4‬خامتة‪:‬‬

‫ّإن الخالف املعبر عنه بين رولز و هابرماس وأمارتيا سن و حتى كيملكا يبدو لنا في النهاية أنه خالف‬
‫حول تفاصيل النظرية وليس خالفا جذريا ‪ .‬أو بمعنى أصح فهو سوء فهم ألفكار رولز أكثر منه خالف‬
‫معه‪ .‬مما يجعلنا نميل الى الدعوة الى التدقيق و التعمق أكثر في النظر الى مدى ما تنتهي اليه تطبيقاتها‬
‫فإن هناك خالف مستمر حول النقاش العام وهو ناتج‬ ‫العملية من نتائج مستقبلية‪ .‬وعلى قول سن نفسه ّ‬
‫عن سوء فهم ‪"1 :‬ولقد كان ومايزال هناك قدر من سوء الفهم املشترك بين اطراف النقاشات الدائرة حول‬
‫توصيف طبيعة وحصيلة النقاش العام"‪ ،‬ويعطي لذلك مثال هابرماس في سوء فهمه لنظرية رولز في هذه‬
‫ّ‬
‫النقطة بقوله "أنها تولد أولوية للحقوق الليبرالية تحط من مكانة العملية الديمقراطية'" وأنه يدرج في الئحة‬
‫ّ‬
‫الحقوق الليبرالية حرية الضمير واإلعتقاد وحرية الحياة والحرية الشخصية وحق التملك ‪ ،‬إال ّأن رولز فيما‬
‫أعلم ‪-‬يقول سن‪ -‬لم يدرج هذه األخيرة‪[.‬حقالتملك] (سن أ‪ ،2101 ،.‬صفحة ‪ )41‬وباعتراف سن أيضا في‬
‫نهاية كتابه 'فكرة العدالة ' ّإن ‪":‬ما يدور من نقاش حول نظريات العدالة يميل أن يكون نقاشا حول ما بينها‬
‫من أوجه التشابه واإلختالف‪...‬ومع ذلك ّثمة اهتمام مشترك وهام بالعدل‪...‬وال يهم أين تمض ي بنا نظريات‬
‫تحرك‬ ‫العدالة‪ ،‬فلدينا جميعا أسباب لإلمتنان للحراك الفكري الذي قام حولها وأطلقه وألهمه الى حد بعيد ّ‬
‫الرائد جون رولز في هذا امليدان منذ ظهور نظريته العدالة بصفتها انصاف" (سن أ‪ ،2101 ،.‬صفحة ‪.)924‬‬
‫الجاد مع نظرية رولز ‪ ،‬فتعكسه انتقادات أولئك املعارضين لليبرالية من أساسها‪ ،‬الذين‬ ‫ّ‬ ‫أما الخالف‬
‫يرون أنها ال تستند الى أسس مقنعة تجعل منها نظرية كونية‪ ،‬أو أن تكون نهاية التاريخ كما زعم ذلك فوكو‬
‫ياما بعد سقوط الشيوعية‪ّ .‬‬
‫لكن هؤالء املعارضين للنظرية الليبرالية‪ ،‬رغم ما قدموه من انتقادات منطقية‪،‬‬
‫فإنهم لم يقدموا بدائل أفضل منها ملستقبل البشرية‪ ،‬فجون غراي رغم تحليالته املقبولة ألسباب دحضه‬
‫فكرة أن تكون الليبرالية ق ا محتوما‪ ،‬فهو لم يقدم بديال عنها‪ ،‬إنما افع عن قناعته ّ‬
‫بأن "التاريخ عبارة‬ ‫ر‬ ‫در‬
‫عن تعاقب األمور الطارئة والكوارث واإلنقطاعات العارضة وصوال الى السالم والحضارة‪( .‬جراي‪،2119 ،‬‬
‫وبأن للتاريخ دورات متعاقبة تموت فيها حضارات وتحيا حضارات وال يمكن ألي نظرية أن‬ ‫صفحة ‪ّ ")122‬‬
‫تسود أو تخلد بحكم طبيعة اإلختالفات بين املجتمعات البشرية وتعددية الرؤى والخيارات املالئمة لكل منها‪،‬‬
‫فإن التاريخ قد أثبت ّأن بعض امللكيات والدكتاتوريات‬ ‫و من جهة أخرى وعلى عكس مزاعم الليبرالية ّ‬
‫واألنظمة الشمولية قد حققت تقدما وازدهارا لشعوبها دون شرط الديمقراطية والليبرالية‪ .‬وهي حقائق جاء‬
‫ذكرها أيضا في كتاب أمارتيا سن‪.‬‬
‫وكما يبدو لنا من خالل قراءتنا ألفكار نظريات العدالة املتقاربة واملتشابهة ‪ ،‬بل واملشتقة غالبا من‬
‫حل محلها خيار أخر‪ ،‬فهذا ال يناقض ما‬ ‫نظرية رولز‪ .‬فسواء كانت الليبرالية هي الخيار النهائي للبشرية أو ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يضم الى جانب‬ ‫ذهب اليه رولز في 'قانون الشعوب' الذي شكل من خالل مبادئه مجتمعا للشعوب‬
‫ّ‬
‫املجتمعات الليبرالية مجتمعات أخرى غير ليبرالية‪ ،‬لم يستثن منها إال املجتمعات املنتمية لدول مستبدة‬
‫توسعية تهدف للهيمنة وتدفع للصدام والحرب‪ .‬وال يمكننا بأي حال من األحوال غض الطرف عن تلك‬
‫األصوات العاملية الداعية الى خير البشرية من خالل بلوغ اتفاقات دولية تحقق آمال الشعوب في العيش‬
‫بكرامة وحرية واملساواة بينها في الحقوق و اإلعتبار واملعاملة باملثل‪ .‬وهي مضامين اليوتيوبيا الواقعية في‬
‫العدالة العاملية التي يدعو إليها جون رولز من خالل نظريته في العدالة والسالم العالمي التي تؤسس لتحقيق‬
‫األمن واإلستقرار لألجيال القادمة‪ .‬وهي آمال تتجسد تدريجيا مع ظهور منظمات ومؤسسات عاملية تصون‬
‫حقوق اإلنسان وتدعو للتعاون والتضامن‪ .‬مع العلم أيضا ّأن رولز لم يحصر الحل في اقتراحه فقط بل تركه‬
‫مفتوحا‪ ،‬وهذا ما يضفي على نظريته املصداقية والواقعية بما يتضمنه من امكانية لتطويرها‪ .‬و كذا سمة‬
‫الشرعية التي أضفاها على الليبرالية السياسية من خالل تصور سياس ي عام للعدالة‪ ،‬قائم على التعاون‬
‫املنصف املحقق ملصلحة الجميع في اطار املساواة والتعامل باملثل و اإلحترام املتبادل الذي يكسب هذه‬
‫النظرية ُبعدها اإلنساني ملجتمع شعوب متجانس‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬يبدو لنا بالنظر ملا يجري على أرض الواقع السياس ي ‪ّ ،‬أن الصراع الحالي في العالم كما ذهب‬
‫الى ذلك جونستون وأمارتيا سن و دوركين‪ ،‬ليس قائما حول أفضل نظريات العدالة مالءمة للمجتمعات‬
‫سواء كانت محلية أو عاملية‪ ،‬إنما هو صراع حول العدالة نفسها‪ ،‬إذ ليست املشكلة اليوم في أي مبادئ‬
‫العدالة أنفع وأولى؟ بقدر ما هي هل هناك إرادة حقيقية من القوى الكبرى إلقامة العدل ورفع الظلم‬
‫على أرض الواقع الفعلي‪ ،‬فمطالب الحق على أشكالها هي مطالب عادلة سواء تعلقت بحق اإلعتراف أو‬
‫اإلحترام املتبادل أو املساواة والحرية‪ ،‬وكلها مطالب متضمنة في مبدئي رولز للعدالة كانصاف‪ .‬لكن تطبيقها‬
‫وأن املسألة باختصار ال‬‫جادة من قبل القوى املتحكمة في هذا العالم ‪ّ .‬‬
‫عمليا يشترط إرادة سياسية ّ‬
‫ألن أساسها ليبرالي‪ ،‬بل في رفض قوى الظلم أية نظرية ّ‬
‫جادة في العدل مهما‬ ‫تتلخص في رفض نظرية رولز ّ‬
‫كان اتجاهها‪.‬‬
‫ّ‬
‫إال أنه ورغم تقاعس القوى الكبرى‪ -‬يبقى األمل في تحقيق يوتيوبيا عاملية بوجود منظمات انسانية‬
‫دولية تحارب الظلم والفساد‪ ،‬وبحضور الفلسفة السياسية واألخالقية املعاصرة وما قطعته من أشواط‬
‫بعيدة مع جون رولز‪ ،‬و ما أثارته نظريته في العدالة من جداالت واسعة تجاوزت طرح األسئلة التقليدية عن‬
‫ماهية العدالة وهل بينها وبين الطبيعة والقانون تعارض؟ وما معيار العدالة طبيعي أم إلهي أم وضعي؟ وهل‬
‫البشر قادرون على تشكيل بيئتهم اإلجتماعية وفق قدراتهم أم مقيدون بمشيئة غيبية متافيزيقية؟ حيث‬
‫تطور اإلنشغال في نظرية العدالة بصفتها إنصافا إلى‪ :‬كيف يمكن بلوغ إتفاق عالمي حول أفضل صور‬ ‫ّ‬
‫العدالة والسالم؟و هذا بحد ذاته انجازا‪،‬يبعث على األمل في حلول مشتركة يتعاون على ايجادها الجميع‬
‫وينتفع منها الجميع‪.‬بانتصار محور الخير على محور الشر‪.‬‬

You might also like