Professional Documents
Culture Documents
ميزان الخضرية - للإمام الشعراني
ميزان الخضرية - للإمام الشعراني
Shamela.org ١
المحتو يات
٥ الميزان الخضر ية ١
٢
المحتو يات
عن الكتاب
الكتاب :الميزان الخضر ية
المؤلف :عبد الوهاب بن أحمد بن علي الحنَ َفي ،نسبه إلى محمد ابن الحنفية ،ال َ ّ
شعْراني ،أبو محمد )المتوفى ٩٧٣ :هـ(
]الكتاب مرقم آليا[
Shamela.org ٣
المحتو يات
عن المؤلف
Shamela.org ٤
الميزان الخضر ية ١
Shamela.org ٥
الميزان الخضر ية ١
اللهم فصل وسلم عليه ,وعلي اله واصحابه صلاة وسلاما دائمين بدوام سكان الجنان )امين ,امين ,امين .امين( .وبعد فيقول )العبد
الفقير( :عبدالوهاب بن احمد الشعراني عفا الل ّٰه عنه:
" لما من الل ّٰه تعالي علي بالتبحر في علم الشر يعة )اسوة امثالي ,وصرت اطالع كتب الشر يعة المطهرة في الخلاف النازل والعالي ,واتسع
عندي الخلاف جدا :صرت اطلب من نفسي المطابقة بالجنان واللسان في الاعتقاد الجازم ان سائر ائمة المسلمين علي هدي من ربهم ,
فلم اقدر علي ذلك ,فسألت عنه جميع من وجدته من علماء مصر وصوفيتها ,فلم يطلعني احد منهم علي وجه جامع ,وصرت كلما اجمع
بين قولين ,او مذهبين في باب ,يتناقض الامر علي في باب اخر .فتوجهت الي الل ّٰه تعالي فمن الل ّٰه تعالي علي ,وتفضل واجاب سؤالي
,وجمعني علي سيدنا ومولانا ابي العباس الخضر عليه الصلاة والسلام .وذلك في سنة ٩٣١هجر ية بسطح جامع الغمري ,حين كنت
ساكنا فيه ,فشكوت اليه حالي ,فقلت له :اريد ان تعلمني يا نبي الل ّٰه ,ميزانا اجمع بها بين مذاهب المجتهدين ومقلديهم ,واردها كلها
الي الشر يعة .فقال عليه الصلاة والسلام .الق سمعك .وافتح عين قلبك .فقلت له :نعم .فقال " :اعلم يا ولدي ان الشر يعة المطهرة
قد جاءت من حيث الامر والنهي :علي مرتبتين :تخفيف وتشديد ,لا علي مرتبة واحدة ,كما يظنه غالب الناس .ولكل من المرتبتين
رجال في حال مباشرتهم للتكاليف ,فمن قوي منهم خوطب بالعزيمة والتشديد الوارد في الشر يعة صر يحا ,او المستنبط منها في مذهبه او
غيره) .ومن ضغف منهم :خوطب بالرخصة والتحقيق الوارد في الشر يعة صر يحا او مستنبطا منها في مذهبه او غيره .فلا يؤمر القوي
بالنزول الي مرتبة الرخصة ,مع قدرته علي فعل العزيمة .ولا يكلف الضعيف بالصعود الي مرتبة العزيمة ,مع عجحزه عنها .فالمرتبتان
علي الترتيب الوجودي ,لا علي التخيير .فاياك يا ولدي والغلط ,فامتحن بهذه الميزان جميع الايات والاخبار ,وما انبني عليها من اقوال
المجتهدين ومقلديهم ,تجدها كلها لا تخرج عن هاتين المرتبتين ,اللتين هما :التخفيف والتشديد.
فمن تحقق بمعرفة هذا الميزان لم يخرج قولا من اقوال المجتهدين ومقالديهم عن الشر يعة ابدا ,لان ذلك القول لا يخلو من ان يكون
مائلا الي التخفيف او الي التشديد ,فترد كل قول الي مرتبته ,فلا يجد من تحقق بمعرفة ذلك قولا يناقض قولا اخر في الشر يعة جملة
واحدة .اما في كلام الل ّٰه عز وجل وكلام رسول الل ّٰه صلي الل ّٰه عليه وسلم فالتناقض مممتنع جزما ,لانه لا يقع الا ممن ينسي وتعالي
الل ّٰه )عز وجل( عن النسيان .وجل مقدار رسول الل ّٰه صلي الل ّٰه عليه وسلم )عن ان ينسي شيئا لقوله تعالي -سنقرؤك فلا تنسي -
فكلامه صلي الل ّٰه عليه وسلم ,يجب حمله علي حالين ,لانه كان يخاطب كل جليس علي قدر عقله ,وما يحتمل ,فقال لعبد الل ّٰه بن
عباس لما سأل عن الرؤ ية " :رأيت الل ّٰه " قولا مطلقا ,وقال لغيره لما سأل عن الرؤ ية " رأيت نورا " :اني اراه " .واقر ابا بكر الصديق
رضي الل ّٰه عنه علي انفاق ماله كله في مرضات الل ّٰه تعالي .وقال لغيره :امسك عليك بعض مالك " فهو خير لك " ,وقس علي ذلك.
واما كلام المجتهدين رضي الل ّٰه عنهم :فليس فيه كذلك تناقض لان كل قول يقوله احدهم انما هو باجتهاد ,فاذا قال قولا ,ثم قال
قولا اخر يناقضه ,فهو دليل علي رجوعه عن الاول ,فهو كالحديث الذي نسخ ,فالاخر هو الذي يكون العمل به ,فان ثبت له قولان:
" لم يرجع عنهما عمل المقلد بهذا تارة وبهذا تارة " .فقلت له " :فما الطر يق الي ذوق هذه الميزان من طر يق الـكشف والعيان -كما
يشهدونها.؟ " فقال " :ان تسلك طر يق الر ياضة ,علي يد شيخ صادق قد تضلع من علوم الشر يعة والحقيقة ,حتي تمزق جميع حجبك ,
ويسير بك حتي يوقفك علي عين الشر يعة الاولي )والحقيقة( التي يتفرع عنها كل قول من اقوال علمائها " .فقلت له :لا اجد احدا اعلم
منكم.
فقال عليه الصلاة والسلام :هات يدك وغمض عينك ,فسار بي في الغيب حتي اوقفني علي عين الشر يعة المطهرة ,فرأيت جميع المذاهب
واقوال علمائها متصله بها ,ولم ار مذهبا اولي بالشر يعة من مذهب ,وعلمت ان كل مجتهد مصيب ,ورجعت عن اعتقادي ان المصيب
من المجتهدين واحد ,لا بعينه الذي كنت اعتقده قبل وصولي الي شهود العين الاولي للشر يعة . .فلما اخبرته بذلك سر عليه الصلاة
والسلام ,فقال :عرفت فالزم .فقلت له فاذن من كان محبوسا في دائرة التقليد لامام معين ,فمحال عليه ان يشهد ان كل مجتهد
مصيب؟ فقال :نعم ,لانه محجوب بحجاب التقليد عن العين التي وصل اليها امامه لما انتهي سيره وسلوكه ,ومن هنا كان كل مجتهد
لا ينكر علي الاخر ,فاترك ياولدي كلام من قال :ان المصيب من المجتهدين واحد لا بعينه .والباقي مخطئ علي من )لم ينته( سلوكه ,
فلا يقال احد هذين القولين ارجح من الاخر ,لانهما في شخصين مخصوصين .فقلت له :فاذن منع العلماء للطالب ان ينتقل من مذهب
الي مذهب انما هو رحمة به ,ليدوم سيره في مذهب واحد ,و يصل الي عين الشر يعة في اقرب زمان؟ فقال عليه الصلاة والسلام:
Shamela.org ٦
الميزان الخضر ية ١
نعم ,ولان كل مجتهد لا يبني علي قول مجتهد ,فالمنتقل من مذهب الي اخر كلما بدا له ربما يفني عمره كله ولا يصل الي الوقوف
علي عين الشر يعة ,كالمسافر في طر يق الي بلد بعيد فان اقبل بكليته ولم يلتفت الي غيره :وصل وفي مدة يسيرة .وان صار يلتفت يمينا
وشمالا ,ويمشي في كل طر يق ساعة ,ثم يرجع الي صوب مقصده :طال سفره ثم قال لي :واقر مثال ,مذاهب العلماء لذلك بالـكف
والاصابع ,فمثال عين الشر يعة الاولي مثال الـكف .ومثال مذاهب العلماء مثال الاصابع ,ومثال مدة الاشتغال بكل مذهب )مثال
العقد لللاصابع ,فاذا اشتغل بكل مذهب ثلاث سنين ,ثم انتقل الي المذهب الاخر ثلاث سنين ,وهكذا حتي يستوعب الخمس ,فهذا
قد قطع )الخمس عشرة سنة في اول عقدة من عقد الاصابع ,لان مجتهدا لا يبني علي بناء مجتهد كما مر .ولو انه سلك من عقد اصبع
واحدة لوصل الي الـكف في تسع سنين مثلا .فوقف علي عين الشر يعة ,واقر سائر الاقوال المتصلة بها .وشهد ان سائر ائمة المسلمين ,
علي هدي من ربهم .كشفا و يقينا ,لا ظنا وتخمينا .فقلت له :فما تقولون في اقوال اهل الاصول والنحو والمعاني وغير ذلك من آلات
الشر يعة ,هل تكون علي مرتبيتن :تخفيف وتشديد ,كالاحكام الشرعية؟ فقال :نعم آلات الشر يعة من لغة ,ونحو ,واصول ,وغير
ذلك يتخرج علي المرتبتين :كلام فصيح وافصح ,وكلام ضعيف وأضعف .ثم قال لي عليه الصلاة والسلام :آلات الشر يعة كالجهاد:
تارة يكون فرض عين ,وتارة يكون فرض كفاية ,فان خرج للشر يعة مبتدع كانت فرض عين .والا فهي فرض كفاية .فقلت له
فاذن كل حكم وجدنا فيه حديثين ,او قولين ,او أقوالا يعسر الجمع بينهما ,فلا بد ان يكون منسوخا ,او رجع عنه ذلك المجتهد .فقال
عليه الصلاة والسلام :نعم ,وهو كذلك.
فقلت يا سيدي :هذه ميزان لا يقدر علي العمل بها ,ويدخل جميع اقوال المجتهدين ومقلديهم في الشر يعة الا من نظر الي الشر يعة بالعين
التي كانت الصحابة ينظرون بها اليها .قبل وجود جميع المجتهدين واتباعهم .فقال عليه الصلاة والسلام :نعم ,والامر كذلك ,لـكن في
حق عامة المقلدين ,اما المجتهدين فيقدرون علي العمل بها ,مع كثرة الادلة والاقوال وتشعبها لما هم عليه من التمكن والاطلاع علي عين
الشر يعة ,التي يتفرع منها قول كل مجتهد ومقلديه الي يوم القيامة ,اذ الشر يعة كالـكف ,ومذاهب المجتهدين كالاصابع المتصلة بالـكف
)فليس صاحب اصبع اولي بالشر يعة من مذهب عند صاحب هذا المشهد.
بسم الل ّٰه الرحمن الرحيم نبذة من احوال سيدنا ومولانا ابي العباس الخضر عليه الصلاة والسلام اذكر فيها عدة جماعة من الاولياء الذين
اجتمعوا به الي عصرنا هذا ,وابين فيها نبذة من صفاته ,وملبسه ,وأكله ,وانه لا يأتي لاحد في منام او يقظة الا معلما له ,لا متعلما
,لانه غني عن علم العماء لما أعطاه الل ّٰه تعالي من لدنه ,فاقول وبالل ّٰه التوفيق " .قد أجمع اهل الـكشف قاطبة علي حياة الخضر عليه
الصلاة والسلام ,الي وقت اجتماعنا به ,وممن اخبرنا انه اجتمع به وصافحه امير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الل ّٰه عنه ,وقال
قلت له " :يا نبي الل ّٰه اوصني ,فقال يا عمر اياك ان تكون وليا للله تعالي في العلانية وعدوا له في السر " انتهي .ومنهم ذو النون المصري
اجتمع به مرات ,وعلمه اسم الل ّٰه الاعظم .ومنهم ,ابو عبد الل ّٰه البشري كان يذكر ان الخضر يأتيه الي داره .ومنهم الشيخ عبد الرازق
,اجتمع بالخضر مرات ,لما كان الخضر يحضر مجلس وعظه ,وعلمه الخضر ان كل من واظب علي قراءة اية الـكرسي ,واخر سورة
البقرة ,وشهد الل ّٰه انه لا اله الا هو ,وقل اللهم مالك الملك :الايتين عقيب كل صلاة صبح ,حفظ الل ّٰه عليه الايمان حتي يلقي ربه
عز وجل .حكاه الشيخ عبد الغفار القوصي رحمه الل ّٰه تعالي .ومنهم ابراهيم الخواص ,وابو يزيد البسطامي ,وابراهيم ابن ادهم .وكذلك
ممن كان يجتمع به كثيرا الشيخ محي الدين بن العربي ,وقال :اخذ علي الخضر عليه الصلاة والسلام العهد بالتسليم لمقالات الشيوخ
,والبسني خرقة الصوفية ,تجاه الحجر الاسود .وكذلك ممن كان يجتمع به الشيخ كامل :ابو عبد الل ّٰه القرشي من اكابر مشايخ مصر.
وكذلك ممن كان يجتمع به كثيرا الشيخ الكامل ابو الحسن الشاذلي ,والشيخ ابوالعباس المرسي ,والشيخ ياقوت العرشي .وكان الشيخ
ابو الحسن يقول " :اكره للفقهاء خصلتين :قولهم بموت الخضر ,وقولهم بكفر الحلاج.
وكان ابو العباس المرسي رضي الل ّٰه عنه يقول :صافحت الخضر بيدي هذه ,فوق ٣٠٠مرة .وكان الشيخ ياقوت رحمة الل ّٰه يقول :طلبت
مرة اجمع لفقير شيئا من الدنيا ,فقال لي الخضر :يا ياقوت ان الل ّٰه قد يفقر عبده لحكمة ,فتركت ما كنت عزمت عليه .وممن سمعته
يذكر اجتماعه به من اهل عصرنا " :سيدي علي الضرير النبتيتي ,واخبرني انه سأل الخضرعن علماء مصر في عصره ,فصار يقول :ونعم
من فلان ,حتي سألته عن الشيخ زكر يا فقال :ونعم ,الا ان عنده نفيسة .فقلت له ,وما هي؟ فقال :اذا كاتب الامراء يقول في
Shamela.org ٧
الميزان الخضر ية ١
كتابه من الشيخ زكر يا الي فلان ,فيلقب نفسه بالشيخ .قال فأعلمته بذلك ,فترك هذه اللفظة " انتهي .وكذلك ممن اجتمع يه سيدي
علي الخواص ,واخي الشيخ أفضل الدين ,وسيدي محمد المنير )رحمهم الل ّٰه تعالي( باخبارهم لي عن ذلك ,وحاشا اولياء الل ّٰه تعالي ان
يخـبروا بخلاف الواقع.
وقد نقل اليافعي اجماع القوم علي حياته الي ايام الدجال ,فاعلم ذلك .واما مقامه عليه الصلاة والسلام فهو )دوين( مقام النبوة ,
وفوق مقام الصديقية ,كما اخبر بذلك عن نفسه ,فهو مقام برزخي :له وجه الي النبوة ووجه الي الولاية .فلذلك كان العارفون يصلون
علي الخضر عليه الصلاة والسلام تارة ,و يقولون رضي الل ّٰه عنه تارة .واخبرني سيدي علي الخواص رضي الل ّٰه عنه :,ان للاجتماع
بالخضر عليه الصلاة والسلام ثلاثة شروط ,من لم تجتمع فيه لا يجتمع به ,ولو كان علي عبادة الثقلين .الاول -ان يكون علي سنة ’
لا يتدين ببدعة .الثاني -ان لا يكون له حرص علي الدنيا ,فلو خبأ عنده رغيف الي غد لم يجتمع به .الثالث -ان يكون سليم الصدر
للمسلمين ,فلا يكون في قلبه غل ,ولا حسد ,ولا كبر علي احد منهم .قال " :وكان ابوعبدالله البشري -احد رجال رسالة القشيري
-يجتمع به كثيرا ,فوقع انه قال لزوجته ضعي هذا الدرهم الي غد ,فانقطع عن رؤيته الي ان مات .ثم رآه في المنام من بعد ,فقال
له :ما ذنبي؟ فقال له :اما علمت انا لا نصحب -من يخبأ رزق غد .انتهي .واما صفته وصفة ملبسه فهو :رجل مهيب ,ابيض اللحية ,
مطرق الرأس علي الدوام ,عليه ازار ورداء من صوف ,لا يخلقان ولا يبليان ,خصوصية من الل ّٰه تعالي له ,حيث اطال عمره .وقال
بعضهم :الحكمة في ذلك عدم العصيان ,فان من لا يعصي لا تخلق له ثياب ,وما ورد من ترقيع الانبياء ثيابهم ,فهو محمول علي انها
تمزقت من جذب الجهاد او الحيطان او الاشجار .انتهي
واما طعامه عليه الصلاة والسلام ,فتارة يكتفي بالتسبيح وذكر الل ّٰه عز وجل ,وتارة يتغذي بنسيم الاسحار ,وتارة يأكل كآحاد الناس.
وكان ابو عبدالله القرشي يقول :زارني الخضر فطبخت له طعام قمح ,فاحبه الخضر عليه الصلاة والسلام ,فلم ازل احب طبيخه من
حين علمت انه يحبه ,حين طبخته له .واعلم يا اخي ان الخضر عليه الصلاة والسلام :لا يجتمع باحد من الامة الا معلما له ما لم يكن
عنده علم ,ولا يستفيد هو علما من احد لانه غني عن علم الاستنباط .لما اعطاه الحق سبحانه وتعالي له من العلم اللادني .ثم اه لا
يجتمع با احد من المريدين يقظة ,انما يجتمع به في المنام لعجز المريد عن الصبر علي صحبته في البثظة ,بخلاف كمل العارفين ,يجتمع بهم
في اليقظة و يعلمهم من العلم ما لم يكن عندهم ,وانا ممن اجتمع به في المنام حال تعليمه لي هذه " الميزان " فاعلم ذلك ,فانه نفيس.
اياك يا اخي ان تفهم من هذه الميزان وشرحها ان المرتبتين المذكورتين في كلام سيدنا ومولانا ابي العباس الخضر كما تقدم -علي التخيير
كما قد يقع فيه بعض المتهورين في اقوالهم ,فانه عليه الصلاة والسلام صرح بأن المرتبتين علي الترتيب الوجوبي .لا علي التخيير .وفي
كلام الشافعي رضي الل ّٰه عنه " اذا ضاق الامر اتسع " .ومفهوم القاعدة انه اذا اتسع الامر ضاق ,انتهي .و يوضحه قول شيخنا علي
الخواص رحمه الل ّٰه تعالي :اعتقادنا واعتقاد كل منصف في امامه ,انه لو عرض عليه حال من عجز عن العمل بالعزيمة التي قال هو بها
.....لافتاه بالرخصة التي قال بها غيره ,واقره عليها ,بل كانت هي مذهبه ,لان الائمة المجتهدين رضي الل ّٰه عنهم لا يخفي عليهم ما
انطوت عليه الشر يعة المطهرة من طلب التخفيف عن الامة في الكتاب والسنة .فمن الكتاب :قوله عز وجل -يريد الل ّٰه بكم اليسر ولا
يريد بكم العسر .وقوله تعالي -وما جعل عليكم في الدين من حرج .وقوله تعالي -فاتقوا الل ّٰه ما استطعتم .وقوله تعالي -لا يلـكف الل ّٰه
نفسا الا وسعها .وقوله تعالي -ان الل ّٰه بالناس لروؤف رحيم .ومن السنة :قوله صلي الل ّٰه عليه وسلم :الدين يسر ,ولن يشاد هذا الدين
احد الا غلبه .وقوله صلي الل ّٰه عليه وسلم :بخفض صوت -لمن بايعه علي السمع والطاعة " فيما استطعت " .وقوله صلي الل ّٰه عليه وسلم:
اذا امرتكم بامر فاتوا منه ما استطعتم .وقوله صلي الل ّٰه عليه وسلم :يسروا ولا تعسروا .وقوله صلي الل ّٰه عليه وسلم :اختلاف امتي رحمة.
اي توسعتهم علي الامة رحمة بهم .وليس المراد اختلافهم في اصل الدين ,لان الل ّٰه تعالي يقول " ان اقيموا الدين ولا ٺتفرقوا فيه." .
وكان سفيان الثوري رحمة الل ّٰه وغيره ,يكرهون قول الناس " قد اختلف العلماء " و يقولون بدل ذلك )توسع العلماء( .انتهي .وكان
الامام الشافي رضي الل ّٰه عنه يقول -اعمال الحديثين ,او القولين اولي من الغاء احدهما .انتهي.
ولـكن ذكر الحافظ المزني والحافظ الز يلعي وغيرهما :ان لاصحاب الحديث شروطا فيمن )تكلم الناس فيه( ,وهو انهم لا يروون عنه الا
Shamela.org ٨
الميزان الخضر ية ١
ما توبع عليه .وظهرت شواهده ,وعلموا ان له اصلا :فلا يروون عننه شيئا مما انفرد به اصلا .اذا خالفه الثقات ,وذلك كحديث ابي
اويس الذي خرجه مسلم ::قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين :لانه لم ينفرد به ,فان غيره من الثقات رواه كذلك .فصار حديثه
متابعة .قال الحافظ الز يلعي وغيره " :وهذه العلة قد راجت علي كثير من الحفاظ ,لا سيما من استدرك علي الصحييحين كابي عبدالله
الحاكم ,فكثيرا مايقول هذا الحديث علي شرط الشيخين .محتجا به في الصحيح .ان يكون كل حديث وجد له يكون صحيحا علي شرط
صاحب ذلك الصحيح .لاحتمال فقد شرط من شروط اصحاب ذلك الصحيح التي قدمناها انفا .اذ لم يلتزم ذلك الشرط احد غير
اصحاب الصحيح .فقد بان لك انه ليس لنا ترك حديث من تكلم الناس فيه بمجرد الكلام .فربما يكون قد توبع عليه ,وظهرت شواهده
وكان له اصل .وانما لنا ترك ما انفرد به وكان مخالفا للثقات .ولو اننا فتحنا باب الترك لكل راو تكلم بعض الناس فيه لذهب معظم
احاديث الشر يعة .كما مر ,واذا ادي الامر الي ذلك فالواجب علي جميع اتباع المجتهدين " تسليم المذاهب المخالفة لمذاهبيهم " فان ما
)رووه( لم يخرج عن احدي مرتبتي الشر يعة ابدا ,اللتين هما التخفيف والتشديد .لا يقال هذا يؤدي الي التناقض في الحكم الواحد ,
فان القائل بدليل التحريم لا يقول بدليل الاباحة مثلا ,والقائل بنقض الوضوء بمس الذكر ,لا يقول بحديث " هل هو الا بضعة منك
" لانا نقوللا تناقض بمسه ,اذ القول بالنقض بمس الذكر ,والقول بعدم النقض بمسه ,حكم الل ّٰه تعالي .وهو واحد ثم ان يرجع الي
المرتبتين ,فمن نقض بمس الذكر فقد شدد ,ومن لم ينقض بمسه فقد خفف .فيحتمل الحكمان :المرتبتين :ولكل منهما رجال.
فليس للشافعي فعل ما يتوقف علي الطهارة مع مس الذكر الا لضرورة ,كان ابتلي بالوسواس وصار يتوضأ للصبح مثلا ,حتي تكاد
الشمس تطلع فلما فرغ من وضوئه مس ذكره ,او امرأة ,فمثل هذا ينبغي له العمل بالرخصة .تقليدا للامام ابي حنيفة .وتحصيلا
للقر يضة في وقتها .فان المقاصد آكد من الوسائل .بدليل ان من لم يجد ماء ولا ترابا لزمه -في الجديد من مذهب الامام الشافعي -
ان يصلي الفرض لحرمة الوقت و يعيد .وان كان لتارك الصلاة )ايضا( عذر في تركها ,اذا لم يجد ما يتطهر به .فمن العلماء من راعي
الادب مع الحضرة الالهية ,وكره ان يقف بين يديها محدثا ,ومنهم من راعي فوات وقت الصلاة التي امره الل ّٰه تعالي بالصلاة فييه.
و يؤيده قاعدة --الميسور لا يسقط بالمعسور " وحديث :اذا امرتكم بامر فاتوا منه ما استطعتم .وقد تقدم في هذه الميزان :اننا ٺتبعنا
احاديث الشر يعة ,فلم نجد حديثين لا يمكن الجمع بينهما ابدا الا وواحد منهما منسوخ .فرجع الامر الي ان الحديث الباقي بعد النسخ:
حكمه كالحديث الذي ورد فردا ,فليس فيه الا مرتبة واحدة ,فيتعين العمل به ,اذ لا مقابل له.
وقد ذكرنا في كتابنا " زبد العلوم" ان سبب مشروعية جميع التكاليف ,انما هو الاكلة التي اكلها ابونا ادم عليه اصلاة والسلام من
الشجرة .فاراه الحق تعالي بتلك الاكلة صورة ما سيقع من بنيه اذا خرجوا من ظهره الي دار التكليف .فكانت الاحكام الشرعية كلها
,كالـكفارة لتلك الاكلة ,فاول ما تلقاه بسببها ,وجوب التوبة علي الفور والندم ,ثم تولد من تلك الاكلة الفضلة القذرة المنتنة من بول
وغائط ودم ورشح ابط ونحو ذلك " .ثم ان تلك الاكلة لم تكن بامر من الل ّٰه تعالي ..............وان كانت مرادة ,فافهم .فامرنا
بالنزول الي ارض الشهوات ,فان تلك الجنة التي كان فيهما لا تصلح لاخراج الفضلات المنتنة فيها ,واذا فلما حصلت التوبة .كان
من تمامها التطهر من آثار تلك الفضلة ,بمثابة الاقلاع عن الذنب ,وتولد من تلك الاكلة ايضا شهوة النساء والتلذذ بجماعهن ,ولمسهن.
واما الشهوة التي كانت له حين جامع حواء ,فلم يكن له فيها اختيار ,وكذلك ما وقع له من النوم حين استخرجت حواء من ضلعه
الايسر .انما كان ذلك بامر من الل ّٰه تعالي .بخلاف ما وقع من الاكل من الشجرة ,فان له حكما اخر ,فافهم .وتولد منها -ايضا النوم
والقهقة وتولد منها في اولاد ادم علي الصلاة والسلام ,الجنون ,والاغماء ,وسائر المعاصي .فامرنا بالتطهر من جميع ذلك ,كلما اردنا
الوقوف بين يديه تعالي في الصلاة ,وما الحق في وجوب الطهارة له .فلولا الاكل لكانت طهارتنا لا تنتقض ,فكنا كالملائكة ,فيس
لنا ناقض متولد من غير الاكل ابدا ,فان من لا يأكل :لا يبول ,ولا يتغوط ,ولا يخرج ر يحا ,ولا يسيل له دم ,ولا يشتهي النساء
بجماع او غيره .ولا يعصي ,ولا يكفر ,ولا يضحك بقهقهة ولا يرشح من ابطه صنان ,ولا يغتاب احدا ,ولا يجن ,ولا يغمي عليه ,
ولا ينام ولا غير ذلك من سائر ما ورد النقض به في السنة الواردة صر يحا .او من طر يق الاستنباط.
وقد كانت عائشة رضي الل ّٰه عنها ٺتوضا من الغيبة .وكان علي رضي الل ّٰه عنه يقول :من مس يهوديا او نصرانيا او صليب فليتوضأ ,لان
اليهودي ماء كافر ,واتخذ الصليبب بعد حجابه بالاكل ,فاكل ,فحجب ,فعصي ,فكفر .ومنهم من نقض بلمس النساء بسائر الجسد.
ما عدا الشعر والسن والظفر .ومنهم من نقض بلمس هذه الثلاثة .ومنهم من نقض بلمس كل امرأة لا تشتهي لـكبر او صغر .ومنهم
Shamela.org ٩
الميزان الخضر ية ١
من نقض بمن تشتهي فقط .ومنهم من نقض اذا قصد المس .ومنهم من نقض مطلقا ,وهكذا ,كما ان منهم ايضا من شرط التطهر
عن الحدث والنجاسة ,وما الحق بهما بالماء الطهور الذي لم يستعمل في فرض .ومنهم من جوز الطهارة بالمستعمل في ذلك .ومنهم
من جوزز الطهارة بالمتسعمل اذا بلغ قلتين من غير تغيير واما القول بنقض الطهارة بمس الذكر والدبر ,فهو خاص بالاكابر المتنزهين
عن المعاصي جملة .فامروا بالطهارة من مس المحل المجاور لتلك الفضلة الخارجية .بل بلغنا ان رسول الل ّٰه صلي الل ّٰه عليه وسلم ,تنزه
عن مس مجاور المجاور ,فنضح سراو يله لمجاورتها للفرج ,وقال :بهذا امرني جبر يل ,فعدم نقض الطهارة بمس الفرج خاص بالضعفاء
من الناس ,نظير عدم نقض الطهارة بلمس المرأة بدون جماع .فليس لنا ناقض متولد من غير الاكل ابدا كما مر.
ثم ان ما سماه هذا المعترض علي الامام )ابي حنيفة( قلة احتياط ,ليس ذلك بقلة احتياط ,وانما هو تسهيل وتيسير علي الامة تبعا
للشارع صلي الل ّٰه عليه وسلم في نحو قوله " :يسروا ولا تعسروا " يعني في كل شئ لم تصرح به شر يعتي .والا فكل شئ صرحت به شر يعته
صلي الل ّٰه عليه وسلم فليس فيه شئ يشق ابدا .بل الامر في ذلك علي مرتبتين :لرجل قوي وضعيف .كيف وقد ورد عن الشارع
الحديث الصحيح --اذا امرتكم بامر فأتوا منه ما استطعتم ,واذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه --قال في قسم الامر شفقة علي امته وخوفا
عليهم من فتح باب سخط الل ّٰه تعالي عليهم .اذا فعلوا ما نهاهم عنه ان يتطرقوا من المكروه الي الصغيرة ,الي الـكبيرة فيهلـكوا بخلاف
قسم الامر .فان رغبة الثواب الذي جعله الل ّٰه تعالي في فعل المأمورات :تحرض الانسان علي فعلها ,فافهم .فيحب علي كل مقلد ان
لا يعترض علي قول مجتهد ,خفف ,او شدد ,فانه ما خرج عن قواعد الدين ,ولا عن احدي مرتبتي الشر يعة الموضوعة فيها هذا الميزان
خاتمة في " بيان امثلة من مسائل الطهارة والصلاة ,ترجع الي مرتبتي الميزان ,ذكرتها استئناسا للاخوان ,لانها طر يق
لا تكاد تري فيها احد سالكا لعزتها وغرابتها ,الا قليلا وقد اخبرني الخضر عليه الصلاة والسلام :انه لم يسبق منه
تعليمها لاحد قبلي .فاقول وبالل ّٰه التوفيق "================================================== :
========================== اعلم ان وجه من قال :لا تصح الطهارة بالماء المستعمل في فرض الطهارة ,كون الخطايا
خرت فيه .كما ورد ,وما خرت فيه الخطايا فهو مستقذر شرعا عند كل من قوي ايمانه ,او كان من اهل الـكشف .ووجه من قال:
تصح الطهارة بالماء المذكور ,ان القذر الذي فيه امر غير محسوس ---ولا يطالب العبد الا بما شهد ,فمن منع الطهارة به فهو تشديد
,ومن جوزها به فهو تخفيف .فالاول خاص بالاكابر ,كالعلماء .والثاني خاصر بالاصاغر ,كالعوام .وايضاح ذلك :ان الطهارة ما
شرعت الا لتزيد العبد تقديسا والبدن نظافة :ظاهرة وباطنة ,والماء الذي خرت فيه الخطايا حسا او تقديرا لا يزيد البدن الا قذارة
لقبح الخطايا التي خرت فيه .فلو كشف للمسلم لرأي الماء الذي يتوضأ منه الناس في الميضأة )مثلا( يتكدر بوضوئهم منه .كالماء الذي
وقع فيه جملة من الحيوانات الميته المنتنة القذرة ,من كلاب وخنازير وحمير وغير ذلك من الحيوانات الي البعوض او بيض القمل ,
لانها تكون في القذارة علي حسب تلك الذنوب التي خرت من كبائر وصغائر ومكروهات ,وخلاف الاولي " ,و" لا تخرج الحيوانات
المذكورة من ذلك .فمثال غسالة الكبائر :ميتة الخنازير والكلاب -----عند من يقول بنجاسة الكلاب .ومثال غسالة الصغائر :ميتة
الحمير وغيرها من المأكولات .ومثال غسالة المكروهات :ميتة القمل والبعوض .وقد ادي كشف الامام ابي حنيفة رضي الل ّٰه عنه
الي نحو ما قلناه ,فذكر في غسالة الطهارة -اعني الماء المستعمل فيها -ثلاثة اقوال :احدها انها كالنجاسة المغلظة.
الثاني :انها كالنجاسة المخففة .الثالث :انها طاهرة في نفسها غير مطهرة لغيرها .كما قال الامام الشافعي رضي الل ّٰه عنه )فعم( بهذه
الاقوال جميع المعاصي التي تخر في الماء لانها :اما كييرة ,او صغيرة ,او مكروهة .فالـكبيرة كالزنا والواط وشرب الخمر وعقوق الوالدين
,واكل الرشوة ,والخيانة ,والدياثة ,والسعاية ,ونحو ذلك .والصغيرة كالقبلة للاجنبية ,والنظر اليها بشهوة ,والغيبة ,ونحو ذلك.
والمكروه كالاستنجاء باليمين ,من غير عذر .وتقديم اليسري من اليدين علي اليمني ,ونظائرها كثيرة .وكان سيدي علي الخواص رحمه
الل ّٰه تعالي يقول " :قد كان الامام ابوحنيفة رضي الل ّٰه عنه من اهل الـكشف بيقين ,وكان تارة يري غسالة الـكبيرة في الماء ,فيقول "
الماء نجس " نجاسة مغلظة ,وتارة يري فيه غسالة الصغائر ,فيقول انه نجس نجاسة متوسطة )لان الصغائر متوسطة(.
اما وجه من منع صحة الوضوء لمن " لم يذكروا اسم الل ّٰه عليه ,فهو لـكونه ان كل مالم يذكر اسم الل ّٰه عليه حكمه حكم الميتة في النجاسة ,
بقرينة الل ّٰه تعالي " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الل ّٰه عليه " .فما جعل الذبيحة نجسة الا عدم ذكر اسم الل ّٰه تعالي عليها .والا فالدم الفاسد
الذي يغير البدن قد خرج بالذبح المذكور .كما يشهد لذلك ظاهر حديث " لا وضوء لمن لم يذكر اسم الل ّٰه عليه " ,فان ظاهره نفي الصحة
Shamela.org ١٠
الميزان الخضر ية ١
,وان جملة بعضهم علي ان المراد " لا وضوء كامل كنظائره من قوله " :لا صلاة لجار المسجد الا في المسجد " .فان المراد ,لا صلاة
كاملة ,باجماع .وعمدة من لم يوجب النية في الطهارة ,قول ابن عباس وابي سليمان الداراني رضي الل ّٰه عنهما :لا يحتاج شئ من
فروع الاسلام الي نية بعد ان اختار صاحبه الدخول فيه .فكأن نية الاسلام شاملة لجميع فروعه من سائر العبادات التي هي وسائل
لا مقاصد .وكان سيدي علي الخواص رحمه الل ّٰه يقول " :التطهر " بلا نية من المكلف ,تصوير بعيد .فانك اذا رأيته يتوضأ وقلت له:
ماذا تصنع؟ يقول :اتوضأ .اما وجه من اوجب الترتيب في الوضوء " ,ومنع صحة الوضوء اذا لم يرتب فهو ان الذي لم يرتب ,ورد لنا
فيه عن رسول الل ّٰه صلي الل ّٰه عليه وسلم فهو داخل في عموم قوله صلي الل ّٰه عليه وسلم " ,كل عمل ليس عليه امرنا فهو رد " اي مردود
علي صاحبه غير مقبول .واما وجه من صحح الوضوء من غير ترتيب ,فهو لفهمه من القراءان ان المقصود غسل هذه الاعضاء كلها
قبل القيام الي فعل ما يتوقف علي الطهارة ,سواء تقدم الرجلان علي الوجه او تأخرا عنه .وقد كان الامام علي رضي الل ّٰه عنه ,يقول:
" لا ابالي باي " اعضاء الوضوء بدأت" فاصل الترتيب سنة ثابته ,ونهض به الي الوجوب اجتهاد المجتهدين فرجع الامر فيه الي مرتبتي
الميزان :تخفيف ,وتشديد.
واما وجه من اوجب المضمضة والاستنشاق في الوضوء ,او الغسل عن الحدث الاكبر ,فهو لان معاصي الفم واللسان والانف اكثر
من معاصي سائر الاعضاء واكبر ,لا سيما الانف ,فانه محل الانفة والـكبر المانعين للعبد من دخول جضرة الل ّٰه تعالي في صلاة او
غيرها.
اما وجه من نقض الطهارة بنوم الممكن مقعدته من الارض و بخروج الدم الجاري ,وبالقهقهة في الصلاة ,وبمس الابط الذي فيه
صنان وبمس الابرص والاحذم ,والصليب ,والكافر ,وغير ذلك مما وردت به الاخبار ,فهو الاخذ بالاحتياط في هذه الامور .فان
من لازمها وقوع صاحبها في الحجاب عن ربه عز وجل .اما النوم ممكنا فلانه برزخ بين اليقظة والموت ,له وجه الي الحياة ووجه الي
الموت ,بدليل ما ورد " النوم اخو الموت " فأخذنا بالاحتياط ونقضنا الطهارة به ,وان كان ممكنا مقعده ,والحقناه في غيبة العقل بمن
اغمي عليه .اما نقض الطهارة بخورج الدم ,وبما بعده الي مس الصليب والكافر ,فلانهما متولده من الاكل الذي من لازمه الغفلة
عن الل ّٰه عز وجل فان من لا يأكل لا دم له ,ولا يضحك في الصلاة ولا يخرج من ابطه صنان ,ولا يحصل له برص ولا جذام ,
بل هو كالملائكة.
فرجع الامر في نواقض الوضي الي مرتبتي التخفيف والتشديد فالاكابر يتنزهون من كل " ما جاور الخارج ,او جاور المجاور للخارج
,كما ورد من استحباب نضح السراو يل بعد الاستنجاء لمجاورتها للمحل المجاور للخارج | ,فليس النقض بمس الذكر لذات الذكر ,لقوله
صلي الل ّٰه عليه وسلم " هل هو الا بضعة منك " فافهم .واما وجه من نقض الطهارة بمس الفرج باليدين الي المرفقين ظهرا وبطنا ,فهو
لان اليد في الحديث " اذا افضي احدكم بيده الي فرجه" يشمل كل ما يغسل في الطهارة ,وهو الي المرفق يجعل "الي " بمعني "مع" وذلك
احوط ممن يخص النقض بمس الفرج ببطن الـكف فقط ,و يخص الافضاء بباطن الـكف فقط ,فرجع الامر في ذلك الي مرتبتي
التخفيف والتشديد كما تري .اما وجه من قال بلمس العجوز والصغيرة التي لا تشتهي وجميع المحارم ,فهو لللاخذ بالاحتياط ,فقد
يكون النقض بهذه المذكورات ليس هو دائرا مع الشهوة ,وانما ذلك لخصوص كونهن نساء .و يؤيد ذلك اطلاق " النساء " وعدم
تقييدهن بالاجانب ,او بمن بلغن حد الشهوة ,في قصة فرعون – يذبح ابنائهم ويستحيي نساءهم – وما كان يستحيي "الا الاطفال
"حسن يولدون " فلما اطلق " علي الاطفال اسم النساء في الذبح ,كذلك "اطلق علي النساء النقض بلمسهن بلا حائل في سائر الاحوال
علي حد سواء ,فكان من الاحتياط نقض الطهارة بمس ابنة ساعة ,حال نزولها من بطن امها ,والوقوف "علي هذا الحد" حتي يأتي
لنا نص يخرج الصغيرة والمحارم والعجوز .اما وجه من قال بعدم ,النقض بالمذكورات ,فهو دائر مع المحل الذي يشتهي ومالا يشتهي
عادة ,فلمسه في الحكم كلمس الحائض.
واما وجه من قال لا ينقض لمس النساء باليد ,و يفسر بالجماع ,فهو لـكون لذة اللمس امرا خفيفا ,لا يغيب الانسان بلذته عن ربه
" عز وجل عالما ,بخلاف الجماع فان صاحبه يغيب عن ربه " ولا يكاد يحضر معه ابدا ,ولذلك امر صاحبه بتعميم البدن في الغسل ,
لينتعش بالماء جميع ما سرت اليه تلك اللذة ,التي عمت جسده كله ,فان المني – وان كان فرعا من الاكل فهو اعظم لذة من البول
والغائط .فقد علمت ان الائمة ما بين مخفف ,كالامام ابي حنيفة ,ومشدد ومتوسط ,و"ان" منهم من دار في النقض مع وجود الشهوة
,وقال :لكل ساقطة لا قطة ,فرجع النقض في لمس النساء الي مرتبتي التخفيف والتشديد و يؤيد من قال :المراد بلمس النساء الجماع ,
Shamela.org ١١
الميزان الخضر ية ١
قوله تعالي -وان طلقتموهن من قبل ان تمسوهن – فان المراد بالمس هنا الجماع ,وقد يكون من قال بذلك رأي في كتب اللغة ان "
باب اللمس والمس -واحد "لـكن" ذلك خاص برعاع الناس .اما الاكابر فيتنزهون عن لمس النساء بشئ من جسدهم ,وينقضون "به"
الطهارة ,حتي بالشعر والظفر كما ينقضون الطهارة باكل لحم الجزور ,من حيث كونها محلا لركوب الشياطين عليها ,لا لذات اللحم ,
فان اللحم الذي يؤكل كله واحد .اما وجه كون مدة مسح الخف للمقيم يوما وليلة ,وللمسافر ثلاثة ايام فقط ,دون الز يادة علي ذلك ,
فهو كون هذه المدة معتدلة ,لا طو يلة ولا قصيرة ,وقد اعتبرها الشارع والعلماء في مواضع من الشر يعة ,كمدة اقل الحيض ,ومدة
الخيار للبيع
وفد زكرنا -فيما تقدم -في هذا الكتاب ان من كمل سلوكه حتي اشرف علي عين الشر يعة التي يتفرع منها قول كل عالم ,رأي يقينا
كشفا و يقينا ان كل مجتهد مصيب .وبه قال الامام ابن عبدالبر وغيره :اما كشفا او اجتهاد .فانه رضي الل ّٰه عنه كان بالمحل الاسني
من العلم ,فلا يبعد ان يكون اشرف )علي عين الشر يعة الا ولي ورأي اتصال جميع اقوال المجتهدين بها كاتصال الاصابع بالـكف ,
والظل بالشاخص ,ولذلك قال " :لا يبعد ان يكون الذين كانوا يفتون علي المذاهب الاربعة ان يكونوا اشرفوا علي عين الشر يعة الاولي
كالشيخ عبدالعزيز الدريني ,والشيخ ابي محمد الجويني ,والشيخ عز الدين بن جماعة ,والشيخ شهاب الدين بن الاقيطع )البرلسي(
واضرابهم رضي الل ّٰه عنهم )وكانوا يفتون الناس لما يناسب حالهم ,لاسيما العوام الذين لم يلتزموا مذهبا معينا ,ولم يعرفوا نصوصه ,ولا
قواعده ,لـكن لو وقع مثل ذلك ممن لم يصل الي شهود العين الاولي من المقلدين للائمة ,فلا بد له من امر المستفتي بالاتيان ببقية
الشروط في تلك المسأله التي قلد فيها ذلك الامام ,لتصح عبادته علي مذهبه ,بخلاف ما اذا اخل ببعض الشروط فانها تصير عبادة
ملفقه من عدة مذاهب فلا تصح علي مذهب من المذاهب ,كما صرح بعضهم .وكل من امعن النظر في كلام الائمة المجتهدين ,وجد
كل مجتهد يشدد تارة و يخفف تارة اخري جر يا علي قواعد كلام الشارع صلي الل ّٰه عليه وسلم ,فان رأي بقايا شعار الدين في امر من
الامور شدد علي الناس في فعله .وحرم عليهم تركه .وان راي ذهابه بفعل شدد في تركه ,لانهم رضي الل ّٰه عنهم حكماء الزمان .وكل
من زعم من المقلدين ان امامه كان ملازما قولا واحدا يطرده في حق كل احد من قوي وضعيف وانه لو عرض عليه حال من عجز
عن فعل العزيمة لافتاه بها ,ولم يرخص له في فعل الرخصة ,فكأنه يشهد علي امامه بأنه كان مخالفا لقواعد الشر يعة المطهرة .من ايات
واخبار ,وكفي بلك )قادحا( في امامه.
فالحق الذذي نعتقده في سائر الائمة رضي الل ّٰه عنهم ,انهم )انما كانوا يفتون كل واحد بما يناسب حاله ,من تخفيف وتشديد ,في سائر
ابواب العبادات والمعاملات٢٣ .
ومن نازعنا في ذلك فليأت لنا عنهم بنقل صحيح متصل الاسناد -من ذلك الامام اليه -انهم كانون يعمون الحكم بالقول الواحد في حق
كل ضعيف وقوي ,ونحن نوافقه علي ذلك ,ولعله لا يجد عنهم نقلا صحيحا متصل السند بذلك ابدا علي هذا الوجه ,فان من المعلوم
ان جميع اقوال الائمة ومقلديهم :تابعة لايات الشر يعة واخبارها ,بحكم المطابقة ,فما صرحت الشر يعة فيه التشديد :شددوا في فعله او
تركه ,وما صرحت فيه بالتخفيف خففوا فيه ) ,وما اجملت الحكم فيه كان المجتهدون فيه علي قسمين :محفف ومشدد ,بحسب ماظهر
لهم من المدارك ولسان العرب ,كما يعرف ذلك من " سابر " مذاهبهم ,فان شدد احدهم في حكم فهو يخفف في حكم اخر ,وبالعكس
,كما سيأتي بيانه ان شاء الل ّٰه تعالي قريبا :من ان مجموع المذاهب هو الشر يعة بعينها ,وان الشر يعة لا يكمل العمل بها لمن يتقيد بمذهب
واحد فراجعه .وايضاح ما تقدم كله :ان تنظر يا اخي الي كل حديث ورد او قول استنبط ,والي مقابله فلا بد من ان تجد احدهما
مخففا والاخر مشددا ,وغير ذلك لا يكون .ثم ان المخفف -من احد القولين -مثلا قد يكون هو الراجح من مذهبك ,وقد يكون هو
المرجوح ولا يخلوا حالك يا اخي -حال العمل -من ان تكون من اهل مرتبة من مرتبتي الميزان ,بشروطها السابقة في الرخصة او
عدم ورود التخيير من الشارع في فعل احد الامرين ,فتخاطب حينئذ بفعل ما تعلم انك اهله من احدي المرتبتين ,فتأمل .علي ان
لك ايضا الصعود الي العزيمة مع شدة المشقة ايضا ان اخترت ذلك ,كما ان لك النزول الي الرخصة بشرط العجز عن فعل العزيمة ,
وتكون علي هدي من ربك في كل من المرتبتين ,كما مر في الخطبة.
ثم ان قد يكون في لحكم الواحد اكثر من القولين ,فالحاذق يرد ما قارب التشديد الي التشديد ,وما قارب التخفيف الي التخفيف ,
كالقول المفصل علي حد سواء ,ومحال ان يوجد مشددان ,او مخففان لا يدخل احدهما في الاخر ,كما تقدم في الخطبة ,فان شئت
Shamela.org ١٢
الميزان الخضر ية ١
فامتحن ذلك في اقوال مذهبك مع بعضها ,وان شئت فامتحن ذلك في مذهبك " ومقابله " من المذاهب المخالفة له ,تجدهما لا يخرجان
عن تشديد وتخفيف.
وكان بعضهم يجعل كل ما اوجبه مجتهد او شرطه --من طر يق الاجتهاد والاستنباط -في مرتبة الاولي ,ومقابله " في مرتبة خلاف
الاولي " ,و يقول :ليس لاحد ان يوجب او يحرم ز يادة علي ما اوجبه الشارع او حرمه .وهو جعل ضعيف :لا يقوم علي ساق.
فان الل ّٰه تعالي جعل للمجتهد ان يحرم و يوجب بحسب ما قام عنده من الدليل .ولا يطالب بدليل ,كما لا يطالب اهل الاجماع ببيان
دليلهم ,فيما اجمعوا عليه من تحريم او تحليل .فالحق ان ما اوجبه المجتهد او حرمه مثلا من طر يق الاستنباط يكون حكنه حكم الادله
الوارده عن الشارع ,ثم لا تخرج عن تخفيف وتشديد .ولكل منهما قوم يعملون به كما مر ,وعلم مما قررناه :ان كل مالا مقابل له من
الاحاديث والاقوال ,كالحديث الذي " نسخ مقابله " او القول الذي رجع عنه قائله ,او الذي اجمع العلماء علي خلافه ,فليس فيه
الا مرتبة واحدة لسائر المكلفين لعدم وجود مشقه علي احد في فعله ,بخلاف ما فيه مشقة ,ما ,فان جاء فيه التخفيف والتشديد
كالامر بالمعروف مثلا ,فانه ورد فيه التشديد والتخفيف ,فوجه التشديد كونه كالجهاد في سبيل الل ّٰه ,فلا يسقط بخوف القتل ,
ووجه التحفيف كون ذلكك ذلك ناقصا عن رتبة الجهاد ,اذ هو قتال قوم مسلمين ,لم يخرجوا عن الاسلام بذلك الفعل .فلو ان
انسانا قال :انا امر الظالم الفلاني بالمعروف ولو قتلني نصرة لدين الل ّٰه ,لا نمنعه .ولو ان انسانا ترك الامر بالمعرو ف خوفا علي النفس
او العضو مثلا ,سلمنا له ذلك ,ان كان يأمر وينهي باليد واللسان .فان كان يغير المنكر ,بتوجهه بقلبه الي الل ّٰه تعالي كالاولياء ,وجب
عليه -مع الانكار :-الـكراهية ٢٦بالقلب ,كما قالوه فيمن اكره علي كلمة الـكفر.
وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الل ّٰه يقول " :يجب علي ارباب القلوب العاجزين عن تغيير المنكر باليد واللسان ,ان يتوجه احدهم الي
الل ّٰه تعالي ,فيحول بين الزاني مثلا وبين الزنا وقد فعل مثل هذا الواجب عليه من غير ان يحصل له ضرر .لانه لا ينسب الي ساكت
او ساكن قول او فعل ,ثم يقول " :هكذا يكون تغيير اولياء الل ّٰه تعالي للمنكر غالبا .فلا يمد احدهم يده ,ولا ينطق بكلام ,الا ان علم
ان له حالا يحميه من ذلك الظالم مثلا ,فان لم يجد له حالا في ذلك يحميه منه ,وجب عليه التوجه الي الل ّٰه تعالي في ازالته ,و يقوم ذلك
مقام تغيير المنكر باليد والسان .ثم انه لا ينافي ما قلناه ,قوله في الحديث " وذلك اضعف الايمان " اعني في حق الذي يغير المنكر بقلبه ,
لان المراد بضعف الايمان هنا رقته ,لما ترقي الولي الي حضرة الاحسان ,التي هي حضرة القرب من الل ّٰه تعالي ,لا ضعفه الذي هو
ضعف التصديق ,اذ الضعف تارة يكون مذموما وتارة يكون محمودا .وحمل كلام الشارع صلي الل ّٰه عليه وسلم علي ان المراد " بالضعف
" هنا رقة حجاب الايمان وقوة شهود قربه من حضرة ربه اولي من " نعت " الذم لان قول من قال بقلبه " اللهم هذا منكر لا ارضاه "
ليس فيه تغيير ,بل المنكر باق علي حاله ,وهذا الحمل للضعيف المذكور في الحديث لم اجده لاحد غير سيدي الخواص رحمه الل ّٰه تعالي
,وهو خلاف ما يتبادر الي الاذهان فاستفده.
وقد علمت مما قررناه في مرتبتي التشديد والتخفيف ,كمال شر يعتنا ,فانها لو كانت جاءت علي مرتبة واحدة ,لكانت عذابا علي الامة
في قسم التشديد ,ولم يظهر للدين شعار في قسم التحفيف ,وكان كل من قلد اماما في مسئلة قال فيها بالتشديد :لا يجوز له العمل بقول
غيره في مضايق الاحوال فكانت المشقة تعظم علي الامة ,ولـكن -بحمد الل ّٰه -جائت بحكم الاعتدال وعلي اكمل حال ,ولا يوجد فيها
شئ فيه مشقة الا وقد ورد فيه تخفيف ,او قول اخر ,اما ,في مذهب ذلك المجتهد او في مذهب غيره ,او لاصحابهما مخفف علي
الناس ,فالحمد للله رب العالمين .ثم انه ,يقول لمن يعتقد ان الشر يقة جاءت علي مرتبة واحدة ,وهي ما عليه امامه فقط ,ويري فساد
قول غير امامه ,ثم انه يقلد غير امامه في ضرورة من الضرورات ,هل صار مذهب ذلك الغير صحيحا حين عملت به ومذهب امامك
فاسدا ,ام مذهب امامك هو الصحيح ومذهب غيره فاسد .عندك حال عملك به ,ولعله لا يجد لك جوابا سديدا يجيبك به علي وجه
الحق عنده .فالحق الذي نعتقده :ان الشر يعة انما كملت احكامها بضم جميع الاجاديث والمذاهب كلها اليها ,فكان احاديث الشر يعة ,
واقوال علمائها هي )سدي( الشر يعة ولحمتها ,فكأ ،ها منسوخة منها.
ولو قدر اننا اخرجنا قولا من اقوال المجتهدين عنها ,لكان كالثوب الذي نقص منه خيط .فضم :يا اخي جميع احاديث الشر يعة ,واقوال
علمائها الي بعضها بعضا ,وحينئذ يظهر لك عظمة الشر يعة .ثم تأمل فيها تجدها كلها لا تخرج عن مرتبتين - :تخفيف - .تشديد .واعمل
بالاحاديث التي صحت عند الائمة ,ولو لم يأخذ بها امامك -تحز الخـير بكلتا يديك ولا تقل " :ان امامي لم يأخذ بها )ولا اعمل بها ,
Shamela.org ١٣
الميزان الخضر ية ١
لان الائمة كلهم اسري في يد الشر يعة .لا يخرجون عنها وقد تبرءوا كلهم من القول في دين الل ّٰه بالرأي .الذي لم يكن مندرجا تحت
اصل من ادلة الشر يعة كما بيناه في مقدمة كتابنا " مختصر السنن الـكبري " للامام البيهقي ,فيجب عليك يا اخي ان تحمل امامك -في
كل حديث لم يأخذ به -انه لم يظفر به ,او ظفر به ,لـكن لم يصح عنده ,والمذهب الواحد لا يحتوي علي جميع احاديث الشر يعة ابدا ,
ولو قال امامه " :اذا صح الحديث فهو مذهبي بل ربما ترك اتباعه من المقلدين احاديث كثيرة صحت بعده ,وكان الاولي لهم الاخذ بها
,عملا بوصية امامهم ,فان اعتقادنا في الائمة ان احدهم لو عاش ,وظفر بذلك الحديث الذي صح بعده ,الاخذ به .وكذلك اعتقادنا
فيه ,انه لو صح عند غيره من الائمة لاخذ به .وقد نقل الحافظ المنذري رحنه الل ّٰه ،عن الامام الشافعي رضي الل ّٰه عنه ,انه ارسل
)مرة( الي الامام احمد بن حنبل رضي الل ّٰه عنه يقول له " :اذا صح عندكم حديث فاعلمونا به حتي نأخذ به ونترك قولنا وقول غيرنا" .
وفي ذلك دليل علي ان المراد بقول الامام الشافعي رضي الل ّٰه عنه " :اذا صح الحديث فهو مذهبي " اي صح عندي او عند غيري من
الائمة ,خلاف ما فهمه بعضهم من كلام الامام الشافعي .ثم ان الامام الشافعي ,او غيره من المجتهدين ,اذا اخذوا بحديث صح عند
الغير ,فلا يلزم منه ان يكون ذلك علي وجه التقليد له في الحكم .فان المجتهد لا يقلد غيره ,وانما ذلك من باب قبول الخـير ,وقد عول
المجتهدون كلهم في الاحاديث التي اخذوا بها علي مشايخهم ,ومشايخهم علي من قبلهم .وهكذا .فاذا اتصل الحديث لمجتهد بطر يق معتبر
,فللمجتهد الاخر العمل به ,كما عمل به من قبله.
نبه علي ذلك برهان الدين البقاعي في المسائل التي وقع السؤال عنها من الحطيب )الوريدي بالمدينة المشرفة ,وقد بان لك ان احدا من
المجتهدين رضي الل ّٰه عنهم ,لم يخرج عن الشر يعة في قول من اقواله ,لان استمدادهم كلهم من عين الشر يعة ومن خطأهم فانما هو لخفاء
مداركهم فان الل ّٰه تعالي اختارهم لدينه ,وجعل لكل واحد اتباعا لا يحولون عن رأيه ,لاعتقادهم فيه ,ان مذهبه مستمد من عين
الشر يعة .كما نوضح ذلك في الخاتمة ,ونضرب المثال بشبكة الصياد ,وبذلك يكمل اعتقادنا :ان سائر ائمة المسلمين علي هدي من ربهم ,
ومن خطأ مجتهدا فقد اخرجه عن الشر يعة ,واذا خرج عنها خرج عن الهدي ,فتنبه لذلك ,ولا تكن من الغافيلن .واما حديث " :اذا
اخطأ احدكم فله اجر ,وان صاب فله اجران " .فالمراد بهذا الخطأ :الخطأ الاضافي عند من خطاه ,لا الخطأ في نفس الامر .كأن
اخطالدليل الوارد عن الشارع فلم يظفر به ,فهذا له اجر واحد) .وهو اجر اجتهاده( والثاني له اجران احدهما اجر اجتهاده والاخر اجر
ٺتبعه الدليل ,ولو كان المراد به الفساد لم يجعل له الشارع فيه اجرا كما مر .وقول بعضهم " :ان المجتهد اذا اخطأ الشر يعة يؤجر علي
رغم انفه " كلام ساقط .هكذا ذكره الامام محمد بن حزم رضي الل ّٰه عنه ,وقال " :لم يكن الاجتهاد في عرف السلف الا الاجتهاد في
طلب الدليل في تلك الحادثة ,من كلام الشارع ,لا ان المجتهد يشرع حكما زائدا علي الشر يعة من نفسه ,فان هذا شرع لم يأذن به الل ّٰه.
وقد كان رسول الل ّٰه صلي الل ّٰه عليه وسلم يقول " :اتركوني ما تركتكم " ينهي امته عن كثرة السؤال لا سيما الصحابة ,خوفا من ز يادة
تنزل الاحكام التي يعجزون عن العمل بها .وقال للسائل عن فر يضة الحج " :لو قلت نعم لوجبت ولن تستطيعوا ".
قال وتوقف السلف الصالح -من الصحابة والتابعين والائمة المجتهدين -عن جواب الفتوي التي يستفتون فيها :يؤذن بما قلناه ,فكان
احدهم اذا لم يجد دليلا عن الشارع :يتوقف عن الفتوي ,حتي ربما يعرض السؤال علي اربعين نفسا ,وهم يردونه حتي يرفع الي
الاول " انتهي كلام ابن حزم.
وذكر الشيخ محي الدين بن عربي في الفتوحات المكية ما نصه " :الذي اقول به كراهة القياس في دين الل ّٰه عز وجل ,وبه قال جعفر
الصادق وغيره من التابعين )لانه طرد حكم تلك العلة ,ولو انه اراد لكان ابانه في حديث من الاحاديث .فاذا رأينا الشارع ترك الحكم
في شئ ,فجمعه مع غيره لعلة جامعه ,كتركه ذكر الارز في حديث الربا لا يناسب جعلنا ذلك توسعة من الشارع لنا ,ولم نلحقه بالبر
والشعير مثلا .لان ذلك فضول ومزاحمة للشارع في التشر يع " .قال " :ولما اجتمع جعفر الصادق بالامام ابي حنيفة رضي الل ّٰه عنهما ,
قال له :بلغنا انك تقيس في دين الل ّٰه تعالي ,فلا تقس ,فان اول من قاس ابليس ,واطال في ذلك .ثم قال " :علي ان اهل الـكشف -
من امثالنا -لا يحتاجون قط الي قياس ,لان الل ّٰه تعالي يقول -ما فرطنا في الكتاب من شئ -يعني الا )و( صرحنا به واما ما انطوت
عليه تلك الايات من المعاني فهذا لو فتح بابه لعجز الخلق كلهم عن العمل به ضرورة .فقيل له " :فما تقولون في تحريم ضرب الوالدين
,فانه لم يصرح به القرءان ,فلولا قياسه علي التأفيف ما وجدنا له دليلا صر يحا؟ .قال الشيخ " :قد قال تعالي -وبالوالدين احسانا -
Shamela.org ١٤
الميزان الخضر ية ١
ومعلوم ان الضرب ليس باحسان ,فحرمنا ضربهما من حيث كونه غير احسان ,بهما ,ولم نحتج الي قياس " .انتهي.
لـكن لما كان هذا المقام صعب للمرتقي ,ما كل احد يصل اليه ,جعلنا القياس من الدين .فانه من انواع الاستنباط الذي امرنا الل ّٰه
تعالي باتباعه ,فان من مقام العلماء ان يبينوا لنا ما اجمل في الكتاب والسنة ,و يجب علينا اتباعهم في ذلك ما دمنا مقلدين .فاذا بلغ
)احد منا مقام الاجتهاد والـكشف فقد استغني عن تقليد غيره .فاعمل يا اخي بالعلم علي وجه الاخلاص والزهد والورع والخشية
والخوف حتي تصير تترقي في درجات الشر يعة ,الي ان تقف بعين قلبك علي العين الاولي من عيون الشر يعة .وتصير تنظر الي الشر يعة
بالعين التي كان ينظر بها الصحابة الي الشر يعة .قبل وجود المجتهدين او المقلدين وتدوين مذاهبهم ,ثم تستصحب ذلك المشهد وانت ناز
ل في ادوار الشر يعة وادوار علمائها ,الي وقتنا هذا .ومن اقرب مثال لذلك موارد البحر ,فانه من اي الجوانب اتيته منها وجدته بحرا.
فالشر يعة كالبحر ,والمغترفون منه كالعلماء الذين يستنبطون الاحكام منها ,وذلك لان لسان الشر يعة اوسع اللغات واجمعها للمعاني ,فما
من مجتهد يأخذ منها حكما الا وذلك اللفظ يشمله .مثال ذلك لفظ " القرء " شهد اللسان انه يطلق علي :الطهر ,وعلي الحيض ,وكذلك
لفظ " اللمس " يطلق علي المس باليد ,وعلي الجماع.
وقس علي ذلك :واياك والمبادرة الي تخطئة مجتهد الا بعد احاطتك بسائر لغات العرب ,التي احتوت عليها الشر يعة ومنازعها .وسمعت
سيدي عليا الخواص رحمه الل ّٰه يقول " :اياكم والانكار علي كلام احد من العلماء الا بعد الاحاطة بجميع طرق الشر يعة ,ولم تجدوا ذلك
الكلام فيها " .فقد روي الطبراني مرفوعا " :ان شر يعتي جاءت علي ٣٦٠طر يقة ,فمن سلك " طر يقة " منها نجا " انتهي .وكذلك
من اقرب مثال لارتباط اقوال العلماء بالشر يعة شبكة الصياد للسمك .فانظ الي العين الاولي منها التي هي مثال عين الشر يعة المطهرة ,
وانظر الي العيون المنتشرة عنها في سائر الادوار ,التي هي مثال اقوال الائمة المجتهدين ومقلديهم .الي يوم القيامة ,تحط علما " بالبصيرة
بارتباط اقوالهم بعين الشر يعة المطهرة ,وتجد كل عين مرتبطة بما فوقها ,حتي تنتهي الي العين الاولي ,وتشهد حينئذ ان كل مجتهد
مصيب ,وانه لست عين اولي الشر يعة من عين اخري ,الا من حيث وضوح المقتبس من نور الشمس عين الشر يعة لا غير .فيا سعادة
من اطلعه الل ّٰه تعالي " علي " مثل ذلك كما اطلعنا ,و يا فوزه وسروره اذا زءاه العلماء يوم القيامة ,واخذوا بيده وتبسموا في وجهه
,وتسارعوا الي الشفاعة فيه بين يدي الل ّٰه عز وجل و يا شقاوة من خطا المجتهدين ومقلديهم بفهمه السقيم ,من غير دليل واضح ,و يا
تعبسهم في وجهه اذا رأوه ,فالحمد لل ّٰه الذي جعلنا ممن يوجه كلام العلماء ولا يرد من اقوالهم شيئا ,اما لصحة دليلهم ,واما لاستناد
ذلك الي اجتهادهم .وقد ورد مرفوعا " اصحابي كالنجوم بايهم اقتديتم اهتديتم " .وهذا الحديث وان كان فيه مقال عند المحدثين ,فقد
صح من طر يق الـكشف.
ومعلوم ان المجتهدين علي مدرجة الصحابة " ,سلـكوا " فلا تجد محتهدا ,الا وسلسلته متصلة بصحابي ,او بجماعة من الصحابة ,بل قدم
جمهور العلماء كلام المجتهدين علي اقوال " اخاد الصحابة لاطلاع المجتهدين علي اقوال الصحابة كلهم ,او غالبهم ,فيأخذ احدهم بما
اتفقوا كلهم عليه او غالبهم وذلك اقوي من " قول احاد الصحابة ,فتأمل .ولما عل .مني الخضر عليه الصلاة والسلام هذه الميزان
السابقة ,اوقفني علي عين الشر يعة شهودا فقلت له " :اريد ان اعلمها ذوقا ,فقال لي :اكثر من الجوع والورع حتي يرق حجابك ,وتعرفها
كشفا وشهودا ,وذوقا ,فان علمها تقليدا لا يكفي عندنا " .فاخذت في الجوع والورع ,حتي كنت لا امر تحت ظل عمارة احد من
الولاة وحاشيتهم ,فضلا عن ذوق طعامهم ,وبالغت في الورع ,حتي كنت لا ءاكل طعام احد يبيع علي " من لا يتورع من القضاة
والتجار والسوقة ,ثم تركت الاكل جملة.
فكنت لا ءاكل حتي يحصل لي الاضطرار ,ومازلت كذلك الي ان شهدت عين الشر يعة وما تفرع منها فعلمتها علما يقينا لا يدخله شك
,وصرت اقرر جميع مذاهب المجتهدين ومقلديهم كما يقررها اصحابها كما سيأتي بيانه في الخاتمة ,فالحمد للله علي ذلك .فاياك يا اخي ان
تطلب ذوق هذه الميزان " بالاطلاع " عليها كشفا وانت تأكل الشبهات او تعمل بعلمك من غير اخلاص ,بل ر ياء للناس وحبا لنشر
الصيت والسمعة ,فان ذلك لا يصح " لك " ولو كنت علي عبادة الثقلين ,وان " تطلبت " تقريب الطر يق عليك يا اخي " فاسلك
يا اخي علي يد شيخ صادق متضلع من علوم الشر يعة كلها ,علي الصدق والاخلاص .وانا اضمن لك ان شاء الل ّٰه تعالي الوصول الي
عين الشر يعة الاولي .التي يتفرع منها قول كل مجتهد او مقلد من جميع المذاهب المندرسة والمستعملة .واما سلوك بغير شيخ علي الر ياء
والدعاوي والرعونات ,فلا وصول لك اليها -كما مر ايضاحه .وقد نبه الشيخ محي الدين في الباب الثالث والسبعين من الفتوحات
Shamela.org ١٥
الميزان الخضر ية ١
المكية ,في الجواب الثالث من اسئلة الحكيم الترمذي علي هذه الميزان ,علي وجه الاشارة لا التصريح ,فقال " :اعلم ان منتهي الخلق
الي الل ّٰه تعالي " وبدوهم من حضرته ,وليس وراء الل ّٰه مرمي ولا مرقي ,ومن تخلق بهذا المقام كشفا و يقينا وصل الي مقام يرتفع عنده
فيه الخلاف من حضرة الاسماء الالهية وما يتفرع منها في الشر يعة الواردة والمستنبطة " واطال في ذلك.
ثم قال " :ومن هذا المقام نزل قوله تعالي -تلك الرسل فضلنا بعضهم علي بعض -فاهل العقول علي ان المراد التفضيل الذي يدركه
العقل ويتفاوت الناس فيه " ,وهذا امر يذوقه السالك في ابتداء امره " فاذا انتهي في هذا المقام انجلت عنه عقد التفضيل بشهود قوله
تعالي " لا نفرق بين احد من رسله -ومعلوم ان من فضل بالعقل فقد فرق ,بخلاف من فرق " وفضل با طلاع الحق تعالي علي
مراتب الرسل ,فافهم .فانه حينئذ يشهد وحدانية الامر ,ويري ان عين الجمع هي عين الفرق ,مذهب واحد بعينه ,يدين الل ّٰه تعالي
به ,ولا يري مخالفته ,فينتهي به هذا المشهد " الي مقام يصير يتعبد نفسه فيه " بجميع المذاهب من غير فرقان " انتهي .وسمعت سيدي
الشيخ عبد القادر الدشطوكي رضي الل ّٰه عنه يقول " :ما ثم ولي حق له قدم الولاية المحمدية ,الا و يخرج عن التقليد للمجتهدين ,و يأخذ
العلم من حيث اخذه المجتهدون " .فاذا وصل الي ذلك :قل اخوانه المساوون له في العلم ,وكثر الانكار عليه من جميع المقلدين وذلك
لعزة مراقي علمه ,وما ثم لهم دليل واضح يرد كلام القوم ,لا عقلا ولا شرعا .وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الل ّٰه تعالي يقول" :
انما يقع الانكار كثيرا علي اهل الطر يق ,لان علومهم اتت من طر يق الـكشف دون العقل والفكر ,فلذلك انكرتها العقول ,من حيث
انكارها لغرابة طر يقها علي الفكر ,بخلاف ما اتاهم من طر يق الفكر ,فانه مألوف لهم ,فلذلك يقبلونه و يقدمونه علي علم الـكشف ".
ومن هنا تعلم يا اخي عذر بعض الفقهاء اذا انكروا هذه الميزان ,فانها من علوم الخضر عليه الصلاة والسلام ,وهي علوم يتسارع اليها
انكار علماء الشر يعة .بدليل قصة موسي عليه الصلاة والسلام معه ,وما وضعتها في هذه الطروس الا لينظر فيها علماء الاسلام " فاذا "
لم يرتضوها رفعتها ,فاني بحمد الل ّٰه احب الوفاق ,واكره انفرادي عن علماء الشر يعة بشئ لا يوافقوني عليه ,والحمد لل ّٰه رب العالمين
فاذا اردت يا اخي معرفة هذه الميزان من غير بطء فاعمل علي الاخلاص بما صرحت به الشر يعة .فاذا استوفيت العمل بما صرحت
به ,فلك حينئذ العمل بما يزيد عليه بالقياس والاستنباط ,وتأمل في النذر لما كان فيه مزاحمة للشارع في التشر يع كيف نهي النبي
صلي الل ّٰه عليه وسلم عنه ,والزم الناذر بالوفاء به ,عقوبة له ,والحق به الاثم " ان لم يأت به لسوء ادبه بالزامه نفسه شئيا لم يكلفه الشارع
به ,ولو انه لزم الادب مع الشارع ,وترك النذر لكان غير مكلف به " وقد ورد ان رسول الل ّٰه صلي الل ّٰه عليه وسلم امر الناس بالفطر
في السفر في رمضان ,فابي قوم الفطر حتي لحقتهم مشقة شديدة ,وصار احدهم مضملجعا والناس يرشون عليه الماء من الجهد ,فبلغ
رسول الل ّٰه صلي الل ّٰه عليه وسلم فقال " اولئك العصاة ,اولئك العصاة .فانظر كيف جعل رسول الل ّٰه صلي الل ّٰه عليه وسلم صومهم ذلك
معصية ,حيث خرجوا عن طاعته وامره ,مع ان الصوم نفسه مأمور به .وقد علمت يا اخي بقرائن ادلة الشر يعة ان الحق تعالي لم
يكلفنا ما يشق علينا ابدا ,ونحن تابعون :ما نحن مشرعون ,وكل من شدد شدد الل ّٰه عليه ,كما ثبت في الصحيح ,ومن شق علي الامة
فقد دخل في دعائه صلي الل ّٰه عليه وسلم
" اللهم من شق علي امتي فاشقق اللهم عليه " ,واعلم انه لا ينافي ما ذكرناه الزام العلماء للعامة بالتزام مذهب معين .وان كان لم يرد
بذلك شرع بخصوصه ,لانهم ما الزموهم بذلك الا رحمة بهم ,من باب ارتكاب اخف المفسدتين ,فلولا الزامهم العامي بمذهب معين
,لضل عن طر يق الهدي ,لعجزه عن المشي بغير دليل .فان الشر يعة ان لم تفهم هكذا لما فهمت ,وان لم " تقيد " مذاهب المجتهدين
هكذا فما قررت ولا صح للعبد كمال الاعتقاد في ان سائر ائمة المسلمين علي هدي من ربهم .وقد وضعت غالب الكلام علي هذه الميزان
بقصد الانتصار للائمة المجتهدين ومقلديهم رضي الل ّٰه عنهم اجمعين ,خلاف ما فهمه بعض من اعمي الل ّٰه عين بصيرته من قوله " :ان في
ذلك تخطئة للائمة لان كل امام لا يقول بما قاله الاخر "
فحمل كلام كل واحد علي محمل حسن يوافق الشر يعة فيه تخطئة لمن خطاه " انتهي " .فانظر يا اخي ال هذا العمي الشديد ,فان
المنقول :ان المجتهد لا يخطئ مجتهدا ,وانما يسلم له ,وقد " عبد " الل ّٰه تعالي كل مجتهد بما ظهر له ,وحرم عليه الخروج عنه الي قول غيره
,اذا لم يطلع علي استمداده من عين الشر يعة الـكبري ,التي يتفرع منها جميع المذاهب .وقد ارسل الامام لليث بن سعد يسأل الامام
مالكا رضي الل ّٰه عنهما ,عن بعض الاحكام ,فكتب اليه الامام مالك :اما بعد " فانك يا اخي امام هدي ,وحكم الل ّٰه تعالي في هذه
Shamela.org ١٦
الميزان الخضر ية ١
المسألة :ما قام عندك " انتهي .وقد ذكر الشيخ محي الدين رحمه الل ّٰه تعالي في الكلام علي " مسح الخف " من كتاب الفتوحات المكية
ما نصه " :لا ينبغي لاحد قط ان يطعن في حكم محتهد ,لان الشرع الذي هو حكم الل ّٰه تعالي قد قرر ذلك الحكم ,فصار شرعا للله بتقرير
الل ّٰه اياه "
قال " :وهذه مسئلة يقع في محظورهاا كثير من اصحاب المذاهب ,لعدم استحضارهم ما نبهناهم عليه ,مع كونهم عالمين به ,فكل من
خطا مجتهدا بعينه ,فكانه خطأ الشارع فيما قرره حكما " انتهي .وفي هذا الكلام الحاق اقوال المجتهدين بنصوص الشارع ,وجعل " قولي
المجتهد كأنهما نص واحد في جواز العمل بايهما شاء .ومما يؤيد ما ذكرناه قول علمائنا " :لو صلي المجتهد في القبلة " ,لاربع جهات فلا
قضاء مع انه صلي لغير القبلة في ثلاث جهات بيقين " .لانه لما كانت كل صلاة مستندة الي الاجتهاد قلنا بالصحة ولم تكن جهة اولي
من جهة فافهم .وقال في موضع اخر من الفتوحات " :اعلم انه كما يجب عليك الايمان بصحة شرائع الانبياء و وان خالفوا شر يعتك ,
فكذلك يجب عليك الايمان والتصديق بصحة ما استنبطه المجتهدون ,وان خالف كلام امامك " انتهي .وقال في الباب التاسع والستين
" وثلاثمائة من الفتوحات ما نصه ايضا " :اعلم ان المجتهدين هم الذين ورثوا الانبياء حقيقة لانهم في منازل الانبياء والمرسلين من حيث
الاجتهاد وذلك لانه صلي الل ّٰه عليه وسلم اباح لهم الاجتهاد في الاحكام ,وذلك تشر يع عن امر الشارع.
وتارة يخففه حتي كأنه جالس " او واقف " علي " الرضف ,والرضف " الحجارة المحماة " بالنار " تشر يعا للاكابر .قال " :وكذلك القول
في جلسة الاستراحة ,كان صلي الل ّٰه عليه وسلم يفعلها تارة و يتركها تارة اخري :,تشر يعا للاقو ياء في الثاني والضعفاء في الاول .وقد
يثقل التتجلي علي الساجد ,فلا يقدر علي النهوض من السجود ابدا ,ومن شك في قولي هذا فليجمع حواسه حتي يصير لا يشهد الا
الل ّٰه دون شئ من الاكوان كلها ,ثم يناجي ربه اذ ذاك علي الحضور ,فانه لا يقدر ان ينهض من غير جلوس ابدا .فكان من رحمة
الشارع بنا امرنا بجلسة الاستراحة " انتهي .فان قلت :فما " تقول " في حديث " من لم يقم صلبه من الركوع والسجود فلا صلاة له ".
فالجواب " :ان معناه ان من لم يرفع راسه ,الي القيام او الجلوس بين السجدتين ,فلا صلاة له كاملة ,لانه لا طاقة له بالمكث في
الركوع والسجود ,ولو انه طول ذلك لزهقت روحه ,او تقلقت وخرجت من حضرة الل ّٰه تعالي ,واذا خرجت من حضرة الل ّٰه تعالي
فصلاته خداج ,و يحتمل ان يقال :لا صلاة له اصلا ,لما تحصل عنده من الضيق والحصر في الركوع والسجود ,فتصير عبادته كعبادة
المكره ,لا ثواب فيها ولا سقوط " .انتهي .فان احتج احد بحديث المسئ صلاته فلا " يصدع " فيما قلناه ,لان المسئ صلاته :لم يكن
من اكابر الصاحابة ,فلذلك امره النبي صلي الل ّٰه عليه وسلم بالاعتدال جزما ,رحمة به " حين علم " انه لا يطيق تحمل توالي تجليات الحق
تعالي علي قلبه بالعظمة ,فنهاه عن التشبه بالاكابر في السرعة الي الركوع والسجود ,لئلا يقع في النفاق ,ولا يخرج بعدم الاعتدال عن
الحضرة ,فيصير واقفا بجسم من غير قلب.
وكان صلي الل ّٰه عليه وسلم رحمة علي الخلق اجمعين ".فافهم .فقد علمت من حميع ما قررناه ان اصل الرفع من الركوع ومن السجدة
الاولي :متفق عليه بين الائمة ,وانما الخلاف في التطو يل وعدمه ,فالاكابر يقدر احدهم علي النزول " من " الركوع او السجدة الاولي
الي الثانية ,علي التوالي ,والاصاغر لا يقدر احدهم علي ذلك الا بعد اعتدال واستراحة فيه .وايضا ذلك :ان من وصل الي محل
القرب من الركوع او السجود ,فلا يؤمر بالرجوع الي محل البعد الا لحكمة ,ولعلها ضعف العبد عن تحمل طول شهوده عظمة ربه في
ركوعه وسجوده .فان قيل :فما الحكمة في ٺثنية السجود دون الركوع في غير صلاة الـكسوف؟ غير متواجد حاليا ً
فان قيل :فما الحكمة في ٺثنية السجود دون الركوع في غير صلاة الـكسوف؟ فالجواب :الحكمة في ذلك شدة العظمة التي تتجلي في
السجود ,فشرع للعبد الرفع بين السجدتين ليتنفس بذلك من تعب تلك السجدة ,و يقدر علي سؤال المغفرة له ولاخوانه ,كما مر .وهذا
الامر في حق الاكابر والاصاغر :علي حد سواء .وقال بعض العارفين " :انما ثني السجود لان السجدة الاولي كانت امتثالا للامر
,عكس ما وقع لابليس واما الثانية فكانت شكرا علي حصول امتثال الامر " .فتأمل يا اخي في هذا المحل ,فانك لا تكاد تجده في
كلام احد .من الائمة ,والل ّٰه اعلم .واما وجه من لم يوجب الصلاة علي النبي صلي الل ّٰه عليه وسلم في الصلاة ,فهو لان الل ّٰه تعالي امرنا
بالصلاة والتسليم عليه صلي الل ّٰه عليه وسلم مطلقا ,من غير تقييد بمحل دون محل ,فلما ورد الامر بها في الحديث ,كان الاولي حمل ذلك
استحبابا في التشهد الاول والاخير ,لان موضوع الصلاة بالاصالة ,انما هو لذكر الل ّٰه تعالي وحده ,والمناجاة له بكلامه.
Shamela.org ١٧
الميزان الخضر ية ١
لـكن لما كان رسول الل ّٰه صلي الل ّٰه عليه وسلم هو الواسطة العظمي بيننا وبين الل ّٰه تعالي في جميع الاحكام التي تعبدنا الل ّٰه بها ,كان من
الادب ان لا ننساه صلي الل ّٰه عليه وسلم ,كلما حضرنا بين يدي ربنا سبحانه وتعالي ,فانه لا يقارق الحضرة الالهية ابدا ,لـكن استحبابها
خاص بالاصاغر الذين لا يقدرون علي شهود الوسائط الا بعسر ,لما طرقهم من تجلي عظمة الحق تعالي حال جلوسهم للتشهد .واما
الاكابر ,فان الل ّٰه تعالي اعطاهم القدرة علي شهودهم الوسائط مع الحق جل وعلا ,ليعطوا كل ذي حق حقه " وقد بسطنا الكلام علي
هذا المحل في الباب الرابع من كتابنا المسمي بـ " طهارة السر والفؤاد من سوء الظن بالل ّٰه تعالي وبالعباد " .عند الجواب عن قول القاضي
عياض :وشذ الامام الشافعي ,فقال بوجوب الصلاة علي رسول الل ّٰه صلي الل ّٰه عليه وسلم في التشهد الاخير ,فراجعه .وحاصله :رجوع
هذه المسئلة الي تخفيف وتشديد ,كما سبق في الميزان .واما وجه من قال بوجوب تقديم الشهادتين علي الصلاة علي رسول الل ّٰه صلي الل ّٰه
عليه وسلم في التشهد ,فلان ذكر الشهادتين من الايمان ,فوجب تقديهما علي الصلاة علي رسول الل ّٰه صلي الل ّٰه عليه وسلم ,ومن حقق
النظر وامعن فيه ,وجد رسول الل ّٰه صلي الل ّٰه عليه وسلم يحب تقديم ذلك علي ذكر الصلاة عليه ,من حيث ان امر الشهادتين والتحيات
متعلق بربه ,والصلاة عليه والتسليم يتعلقان به بالاصالة ,وان كان اسم الل ّٰه تعالي لا تخلو منه الصلاة عليه ,فافهم .واما وجه من
قال :تجب نية الخروج من الصلاة ,فهو لان المصلي كأنه في حضرة الل ّٰه الخاصة ومعلوم ان من الادب في حق الاكابر من الخلق:
استئذانهم عند الانصراف من حضراتهم الي موضع اخر دون حضرتهم في الشرف ,استمالة لقلب ذلك الـكبير ,وتطيبا لقلوب اخوانه
من اهل حضرة الملك ,فالل ّٰه تعالي احق بهذا الادب من سائر خلقه " انتهي.
" وانظر اخاك اذا كان يا اخي جالسا " معك يحادثك ثم قام من غير استئذان ولا سلام ,كيف يحصل عندك منه وحشة ,لاخلاله
بتعظيم اهل الحضرة والادب معهم .عكس ما تجد ممن استاذنك عند ارادة الانصراف ,فانك تجد منه ,انسا وراحة ,تأمل ذلك.
واما وجه من قال :يستجب نية الخروج من الصلاة ,ولا تجب ,فهو في حق من كان مشهده ان الوجود كله " حضرة الل ّٰه تعالي "
" فهو لا يري خروجه من حضرة الل ّٰه تعالي " الي مفارقته " لها وايضا فلو ان ذلك مأمور به لبينه لنا الشارع ,ولو في حديث واحد ,
فلما سكت عنه * فما بقي الا انه من ادب العبيد ,بل قال بعضهم :ان ذلك لا يلحق بالمندوبات الشرعية لان منصب الشارع يجل
ان يساو يه احد في رتبة التشر يع ,فرجع الامر في ذلك الي مرتبتي الشر يعة المذكورة في الميزان تخفيفا وتشديد .واما وجه من قال:
ينصرف من الصلاة عن اي جهة شاء من يمين او شمال ,مقدما اي جهة شاء فهو لان الجهات في اصلها كلها بالنسبة الي الل ّٰه تعالي
واحدة ,ومن كان مشهده كذلك لا يعين ترجيحا لجهة علي جهة ,فلا يخاطب الا بما يعقل .واما وجه من قال ينصرف علي جهة
اليمين --ان لم تكن له حاجة من صوب اليسار --فهو حطاب لمن كان مشهده ترجيح ما رجح الشارع في اتباع ما ورد ,بقطع النظر
عن حكمة العلل في الامور .وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الل ّٰه تعالي يقول مرارا " :الانصراف عن الصلاة الي اي جهة شاء
خاص بالاكابر ,الدائرين مع الامر ,لا مع العلل ,فاذا رجح الشارع بقعة علي بقعة :قلدناه في ذلك ,ونسخنا ما في عقلنا ,وتأمل
لو قال انسان :ان بقعة الـكعبة كآحاد البقاع لاشرف لها علي غيرها كيف بخطئه المسلمون كلهم ,وتأمل يا خي كيف امرنا الشارع
بالبداءة بالرجل اليمني في الدخول الي المسجد ,عكس ما يفعل في الخروج منه ,تعثر علي ما قلناه ".
وفي المثل السائر " من جعل كل شئ سواء ,فما لعلته دواء " فرجع الامر في المسئلة الي مرتبتي " التحفيف والتشديد المكررتين في "
الميزان .واما وجه من قال :يستحب للمصلي اذا سلم من الفر يضة واراد التنفل ,ان ينتقل عن موضع فرضه فهو للعدل بين البقاع لانها
ٺتفاخر بكثرة المصلين فيها ,والذاكرين الل ّٰه عليها ,كما ورد ان احدي البقاع تقول للاخري في حال مفاخرتها لها " :هل مر بك اليوم
ذاكر مثلي " الحديث بمعناه .وايضاح ذلك :ان حضرة مناجاة الل ّٰه تعالي في الفرائض افضل من حضرة مناجاته في النوافل ,بدليل ما
ورد في الحديث القدسي " ما تقرب الي المتقربون بمثل اداء ما افترضته عليهم " " فتبعث " البقاع في الفضل :ما فعل فيها من فاضل
او مفضول .واما وجه من قال :لا ينتقل للنفل من موضع فرضه ,فهو ناظر لتساوي البقاع في الاصل ,لحجابه عن الترجيح .فرجع
الامر في هذه المسئلة الي مرتبتي التخفيف والتشديد المذكورتين في الميزان " .قلت وحاصل هذه الميزان :ان كل من اطلعة الل ّٰه تعالي
علي صحة ادلة المجتهدين ,وعرف منازعهم ,كان حكمه حكم المجتهد المطلق ,فله العمل بكل ما ترجح عنده ,سواء وافق اقوال امامه
Shamela.org ١٨
الميزان الخضر ية ١
ام خالفه ,كما وقع للشيخ ابي " محمد " الجويني ,والجلال السيوطي وغيرهما " رحمهما الل ّٰه تعالي.
وقد قالوا للشيخ جلال الدين السيوطي :نراك تدعي الاجتهاد المطلق ,ثم لا تفتي الناس الا بمذهب الامام الشافعي واصحابه " رضي
الل ّٰه عنهم " .فقال :لان المستفتي لم يسأل عن ذلك الحكم في مذهبي ,ولو انه سألني عن مذهبي لافتيته " .ومع ذلك فقد فتشت انا
بحمد الل ّٰه تعالي استنباطاته رحمه الل ّٰه تعالي كلها ,واختياراته ,فرأيتها لا تخرج عن قواعد مذهب الامام الشافعي رضي الل ّٰه عنه ,ويسمي
مثل هذا بالمجتهد المنتسب ,كما مر بيانه في هذه الميزان ,فان المجتهد المطلق -غير المنتسب --لا يتقيد في اقواله بقواعد مذهب غيره" .
فعلم مما قررناه " ان من " لم " يطلع علي ادلة الائمة ,ولا يعرف منازعهم :يجب عليه التقيد بمذهب امام معين ,والا :ضل واضل ,كما
مر بسطه في الميزان ,والحمد لل ّٰه رب العالمين .واعلم يا اخي اني لم ازل اكتم هذه الميزان من حين تعلمتها من سيدنا ومولانا ابي العباس
الخضر عليه السلام ,كما اشرنا الي ذلك قبل الخاتمة ,ومارقمتها في هذه الطروس الا حين اشرفت علي معترك المنايا .لانها من العلم بيقين
,ولا يخفي ما ورد في " من كتم علما نافعا الجمه الل ّٰه بلجام من نار يوم القيامة " وما كنت اكتمها الا لعدم وجود من اتسعت دائرته
عقله وعمله حتي يشهد الشر يعة كلها واقوال علمائها كلهم .و يعرف منازعهم ,وذلك كالـكبريت الاحمر ,يتحدث به ولا يري ,فأسال
الل ّٰه تعالي من فضله ان ينفع بهذه الميزان من شاء الل ّٰه ,ولو واحدا ,ليلزم الادب مع الائمة ومقلديهم حتي يموت.
وكذلك نسأل الل ّٰه تعالي من فضله :ان يصلح احوالنا ومعاملتنا مع الل ّٰه تعالي ,ومع عباده ,وان ينبت لنا الزرع ويدر لنا الضرع ,
و ينزل علينا من بركات السماء ,وان يستر فضائحنا في الدارين ,وان يدخلنا وجميع اخواننا الجنة بفضله وكرمه ,من غير عذاب يسبق ,
وان يجعل اخر كلامنا في هذه الدار " اشهد ان لا اله الا الل ّٰه ,واشهد ان محمد رسول الل ّٰه صلي الل ّٰه عليه وسلم " وان يدخلنا في زمرة
الصالحـين بجاه سيدنا محمد صلي الل ّٰه عليه وسلم ,سيد المرسلين ,ولا حول ولا قوة الا بالل ّٰه العظيم .قال ناسخها " :وكان فراغ الشيخ رحمه
الل ّٰه تعالي من تأليفها سنة ٩٦٣بمصر المحروسة ,كما وجد ذلك بخطه رضي الل ّٰه عنه وارضاه ,ونفع بعلومه المسلمين امين .وصلي الل ّٰه
علي سيدنا محمد النبي الامي وعلي اله وصحبه اجمعين.
Shamela.org ١٩