Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 19

‫الميزان الخضر ية‬

‫رقم الكتاب في المكتبة الشاملة‪١٣٥٤ :‬‬


‫الطابع الزمني‪٢٠٢١-١٢-٢١-٢٢-١٦-٣٩ :‬‬
‫المكتبة الشاملة رابط الكتاب‬

‫‪Shamela.org‬‬ ‫‪١‬‬
‫المحتو يات‬
‫‪٥‬‬ ‫الميزان الخضر ية‬ ‫‪١‬‬

‫‪٢‬‬
‫المحتو يات‬

‫عن الكتاب‬
‫الكتاب‪ :‬الميزان الخضر ية‬
‫المؤلف‪ :‬عبد الوهاب بن أحمد بن علي الحنَ َفي‪ ،‬نسبه إلى محمد ابن الحنفية‪ ،‬ال َ ّ‬
‫شعْراني‪ ،‬أبو محمد )المتوفى‪ ٩٧٣ :‬هـ(‬
‫]الكتاب مرقم آليا[‬

‫‪Shamela.org‬‬ ‫‪٣‬‬
‫المحتو يات‬

‫عن المؤلف‬

‫‪Shamela.org‬‬ ‫‪٤‬‬
‫الميزان الخضر ية‬ ‫‪١‬‬

‫الميزان الخضر ية‬ ‫‪١‬‬


‫بسم الل ّٰه الرحمن الرحيم‬
‫كتاب الميزان الخضر ية ‪ ,‬كتاب الفه سيدي العارف بالل ّٰه عبد الوهاب الشعراني‪.‬‬
‫بسم الل ّٰه الرحمن الرحيم الحمد لل ّٰه الذي جعل الشر يعة المطهرة بحرا يتفرع منه جميع بحار العلوم والخلجان‪ .‬واجري جداوله )علي ارض‬
‫القلوب(‪.‬حتي روي منها قلب القاصي من حيث التقليد لعلمائها والدان‪ .‬ومن علي من شاء من عباده المختصين بالاشراف علي ينبوع‬
‫الشر يعة المطهرة‪ .‬والوقوف علي العين التي يتفرع منها قول كل عالم في كل حين وزمان ‪ ,‬فاقر اقوال جميع المجتهدين ومقلديهم بحق حين‬
‫رأي اتصالها بعين الشر يعة من طر يق الـكشف والعيان ‪ ,‬فان الشر يعة كالشجرة العظيمة المنتشرة ‪ ,‬واقوال علمائها كالفروع والاعصان‬
‫‪ ,‬فلا يوجد لنا فرع من غير اصل ‪ ,‬ولا ثمرة من غير غصن ‪ ,‬كما لا يوجد لنا ابنية من غير جدران‪.‬‬
‫وكل من اخرج قولا من اقوال علماء الشر يعة عنها ‪ ,‬فانما هو لقصوره عن درجة العرفان فان رسول الل ّٰه صلي الل ّٰه عليه وسلم امن علماء‬
‫امته علي شر يعته ‪ ,‬ومحال من المعصوم ان يؤمن عليها خوان ‪ ,‬فالكامل من يبحث عن منازع اقوال العلماء من اين اخذوها ‪ ,‬لا من ردها‬
‫بطر يق الجهل والعدوان‪ .‬ومن شهد هذا المشهد اقر بحقيقة جميع اقوال المقلدين للائمة ‪ ,‬مالم يخالفوا نصوصهم وقواعدهم ‪ ,‬او يخرقوا‬
‫اجماعا ‪ ,‬فان من فعل ذلك فليس هو مقلدا لاحد من الائمة ‪ ,‬وانما هو مقلد للشيطان‪ .‬فمرادنا بمقلدي الائمة ‪ -‬حيث اطلقناهم في هذا‬
‫الميزان ‪ - ,‬من كان كلامه مندرجا تحت اصل من اصولهم ‪ ,‬والا فدعواه التقليد زور وبهتان‪ .‬فما ثم الا قريب ‪ ,‬واقرب ‪ ,‬وبعيد وابعد‬
‫‪ ,‬بالنظر لعقيدة كل انسان‪ .‬ودائرة الاسلام والايمان تجمعهم كلهم ‪ ,‬وان تفاوتوا في التوفيق والخذلان‪ .‬احمده حمد من كرع من بحر‬
‫الشر يعة المطهرة حتي شبع ‪ ,‬وروي منه الجسم والجنان ‪ ,‬وعلم ان شر يعة نبيه محمد صلي الل ّٰه عليه وسلم جاءت شر يعة واسعة جامعة لمقم‬
‫اهل الاسلا م والايمان والاحسان ‪ ,‬وانه لا حرج فيها ولا ضيق علي احد من المسلمين‪.‬‬
‫ومن شهد غير ذلك فيها ‪ ,‬فشهوده تنطع وبهتان ‪ ,‬فان الل ّٰه تعالي يقول ‪ -‬وما جعل عليكم في الدين من حرج ‪ -‬ومن شهد في الدين من‬
‫حرج ‪ ,‬كأنه يكذب القران‪ .‬واشكره شكر من علم كمال شر يعة محمد صلي الل ّٰه عليه وسلم ‪ ,‬فوقف عندما حدث له من الامر والنهي ‪,‬‬
‫ولم يبتدع فيها شيئا الا ان شهد له به الدليل والبرهان ‪ ,‬فان الشارع ما سكت عن اشياء الا رحمة بنا لا لذهول ولا نسيان‪ .‬واسلم اليه‬
‫تسليم من رزقه الل ّٰه عز وجل حسن الظن بالائمة ومقلديهم ‪ ,‬واقام بجميع اقوالهم الدليل والبرهان ‪ ,‬اما من طر يق النظر والاستدلال ‪,‬‬
‫واما من طر يق الـكشف والعيان‪ .‬فلا بد للمؤمن من احد هذين الطر يقين‪ .‬ليطابق قوله باللسان ان سائر ائمة المسليمن علي هدي من‬
‫ربهم‪ :‬اعتقاده بالجنان‪ .‬وكل من لم يصل الي اعتقاد ذلك من طر يق الـكشف والعيان وجب عليه اعتقاده من طر يق التسليم للائمة‬
‫والاذعان‪.‬‬
‫وكما لا يجوز لنا الطعن فيما جاءت به الرسل ‪ .......‬مع اختلاف الشرائع والاديان ‪ ---‬كذلك لا يجوز لنا الطعن فيما شرعه نوابهم‬
‫بطر يق الاجتهاد والاستحسان‪ .‬و يوضح ذلك يا اخي )لك ان تعلم ان الشر يعة المطهرة جاءت ‪ --‬من حيث الامر والنهي ‪ -‬علي مرتبتين‪:‬‬
‫تخفيف وتشديد ‪ ,‬لا علي مرتبة واحدة ‪ ,‬كما سيأتي بيانه في الميزان ‪ ,‬فان جميع المكلفين لا يخرجون عن ‪ ,‬قسمين‪ :‬قوي وضعيف‪ .‬في‬
‫كل عصر واوان‪ .‬فمن قوي منهم خوطب بالتشديد والاخذ بالعزيمة ‪ ,‬ومن ضعف منهم خوطب بالتخفيف والاخذ بالرخصة ‪ ,‬وكل‬
‫منهم علي شر يعة من ربه وبيان‪ .‬فلا يؤمر القوي بالنزور للرخصة ‪ ,‬ولا يكلف الضعيف بالصعود للعزيمة‪ .‬وقد رفع حكم الخلاف في‬
‫الشر يعة بهذه الميزان‪ .‬فامتحن يا اخي ما قلته لك في كل قول ومقابلة ك تجد احداهما لا ان يكون مخففا ‪ ,‬والاخر مشددا ‪ ,‬ولكل منهما‬
‫رجال في حال مباشرة الاعمال‪ .‬ومحال ان يوجد لنا قولان معا مخففان او مشددان‪ .‬وقد يكون في المسئلة الواحدة ثلاثة اقوال فاكثر‬
‫او قول مفصل ‪ ,‬فالحاذق يرد كل قول الي ما يناسبه من احد القولين الاولين ‪ ,‬حسب الامكان‪ .‬وقد قال الامام الشافعي‪ :‬رضي الل ّٰه‬
‫عنه‪ :‬ان اعمال الحديثين او القولين اولي من الغاء احدهما ‪ ,‬وانه من كمال الايمان‪ .‬وقد امرنا الل ّٰه تعالي ان نقيم الدين ولا نتفرق فيه‬
‫‪ ,‬حفظا للدين من هدم الاركان ‪ ,‬فالحمد للله الذي من علينا باقامة الدين بمشينا علي ما تضمنته هذه الميزان‪ .‬واشهد ان لا اله الا الل ّٰه‬
‫وحده ‪ ,‬لا شر يك له ‪ ,‬شهادة تبوئ صاحبها غرف الجنان‪ .‬واشهد ان سيدنا ومولانا محمدا عبده ورسوله الذي بعثه بالشر يعة السمحاء ‪,‬‬
‫وجعل اجماع امته ملحقا في وجوب العمل به بالسنة والقران‪.‬‬

‫‪Shamela.org‬‬ ‫‪٥‬‬
‫الميزان الخضر ية‬ ‫‪١‬‬

‫اللهم فصل وسلم عليه ‪ ,‬وعلي اله واصحابه صلاة وسلاما دائمين بدوام سكان الجنان )امين ‪ ,‬امين ‪ ,‬امين‪ .‬امين(‪ .‬وبعد فيقول )العبد‬
‫الفقير(‪ :‬عبدالوهاب بن احمد الشعراني عفا الل ّٰه عنه‪:‬‬
‫" لما من الل ّٰه تعالي علي بالتبحر في علم الشر يعة )اسوة امثالي ‪ ,‬وصرت اطالع كتب الشر يعة المطهرة في الخلاف النازل والعالي ‪ ,‬واتسع‬
‫عندي الخلاف جدا‪ :‬صرت اطلب من نفسي المطابقة بالجنان واللسان في الاعتقاد الجازم ان سائر ائمة المسلمين علي هدي من ربهم ‪,‬‬
‫فلم اقدر علي ذلك ‪ ,‬فسألت عنه جميع من وجدته من علماء مصر وصوفيتها ‪ ,‬فلم يطلعني احد منهم علي وجه جامع ‪ ,‬وصرت كلما اجمع‬
‫بين قولين ‪ ,‬او مذهبين في باب ‪ ,‬يتناقض الامر علي في باب اخر‪ .‬فتوجهت الي الل ّٰه تعالي فمن الل ّٰه تعالي علي ‪ ,‬وتفضل واجاب سؤالي‬
‫‪ ,‬وجمعني علي سيدنا ومولانا ابي العباس الخضر عليه الصلاة والسلام‪ .‬وذلك في سنة ‪ ٩٣١‬هجر ية بسطح جامع الغمري ‪ ,‬حين كنت‬
‫ساكنا فيه ‪ ,‬فشكوت اليه حالي ‪ ,‬فقلت له‪ :‬اريد ان تعلمني يا نبي الل ّٰه ‪ ,‬ميزانا اجمع بها بين مذاهب المجتهدين ومقلديهم ‪ ,‬واردها كلها‬
‫الي الشر يعة‪ .‬فقال عليه الصلاة والسلام‪ .‬الق سمعك‪ .‬وافتح عين قلبك‪ .‬فقلت له‪ :‬نعم‪ .‬فقال‪ " :‬اعلم يا ولدي ان الشر يعة المطهرة‬
‫قد جاءت من حيث الامر والنهي‪ :‬علي مرتبتين‪ :‬تخفيف وتشديد ‪ ,‬لا علي مرتبة واحدة ‪ ,‬كما يظنه غالب الناس‪ .‬ولكل من المرتبتين‬
‫رجال في حال مباشرتهم للتكاليف ‪ ,‬فمن قوي منهم خوطب بالعزيمة والتشديد الوارد في الشر يعة صر يحا ‪ ,‬او المستنبط منها في مذهبه او‬
‫غيره‪) .‬ومن ضغف منهم‪ :‬خوطب بالرخصة والتحقيق الوارد في الشر يعة صر يحا او مستنبطا منها في مذهبه او غيره‪ .‬فلا يؤمر القوي‬
‫بالنزول الي مرتبة الرخصة ‪ ,‬مع قدرته علي فعل العزيمة‪ .‬ولا يكلف الضعيف بالصعود الي مرتبة العزيمة ‪ ,‬مع عجحزه عنها‪ .‬فالمرتبتان‬
‫علي الترتيب الوجودي ‪ ,‬لا علي التخيير‪ .‬فاياك يا ولدي والغلط ‪ ,‬فامتحن بهذه الميزان جميع الايات والاخبار ‪ ,‬وما انبني عليها من اقوال‬
‫المجتهدين ومقلديهم ‪ ,‬تجدها كلها لا تخرج عن هاتين المرتبتين ‪ ,‬اللتين هما‪ :‬التخفيف والتشديد‪.‬‬
‫فمن تحقق بمعرفة هذا الميزان لم يخرج قولا من اقوال المجتهدين ومقالديهم عن الشر يعة ابدا ‪ ,‬لان ذلك القول لا يخلو من ان يكون‬
‫مائلا الي التخفيف او الي التشديد ‪ ,‬فترد كل قول الي مرتبته ‪ ,‬فلا يجد من تحقق بمعرفة ذلك قولا يناقض قولا اخر في الشر يعة جملة‬
‫واحدة‪ .‬اما في كلام الل ّٰه عز وجل وكلام رسول الل ّٰه صلي الل ّٰه عليه وسلم فالتناقض مممتنع جزما ‪ ,‬لانه لا يقع الا ممن ينسي وتعالي‬
‫الل ّٰه )عز وجل( عن النسيان‪ .‬وجل مقدار رسول الل ّٰه صلي الل ّٰه عليه وسلم )عن ان ينسي شيئا لقوله تعالي ‪ -‬سنقرؤك فلا تنسي ‪-‬‬
‫فكلامه صلي الل ّٰه عليه وسلم ‪ ,‬يجب حمله علي حالين ‪ ,‬لانه كان يخاطب كل جليس علي قدر عقله ‪ ,‬وما يحتمل ‪ ,‬فقال لعبد الل ّٰه بن‬
‫عباس لما سأل عن الرؤ ية‪ " :‬رأيت الل ّٰه " قولا مطلقا ‪ ,‬وقال لغيره لما سأل عن الرؤ ية " رأيت نورا "‪ :‬اني اراه‪ " .‬واقر ابا بكر الصديق‬
‫رضي الل ّٰه عنه علي انفاق ماله كله في مرضات الل ّٰه تعالي‪ .‬وقال لغيره‪ :‬امسك عليك بعض مالك " فهو خير لك " ‪ ,‬وقس علي ذلك‪.‬‬
‫واما كلام المجتهدين رضي الل ّٰه عنهم‪ :‬فليس فيه كذلك تناقض لان كل قول يقوله احدهم انما هو باجتهاد ‪ ,‬فاذا قال قولا ‪ ,‬ثم قال‬
‫قولا اخر يناقضه ‪ ,‬فهو دليل علي رجوعه عن الاول ‪ ,‬فهو كالحديث الذي نسخ ‪ ,‬فالاخر هو الذي يكون العمل به ‪ ,‬فان ثبت له قولان‪:‬‬
‫" لم يرجع عنهما عمل المقلد بهذا تارة وبهذا تارة "‪ .‬فقلت له‪ " :‬فما الطر يق الي ذوق هذه الميزان من طر يق الـكشف والعيان ‪ -‬كما‬
‫يشهدونها‪.‬؟ " فقال‪ " :‬ان تسلك طر يق الر ياضة ‪ ,‬علي يد شيخ صادق قد تضلع من علوم الشر يعة والحقيقة ‪ ,‬حتي تمزق جميع حجبك ‪,‬‬
‫ويسير بك حتي يوقفك علي عين الشر يعة الاولي )والحقيقة( التي يتفرع عنها كل قول من اقوال علمائها "‪ .‬فقلت له‪ :‬لا اجد احدا اعلم‬
‫منكم‪.‬‬
‫فقال عليه الصلاة والسلام‪ :‬هات يدك وغمض عينك ‪ ,‬فسار بي في الغيب حتي اوقفني علي عين الشر يعة المطهرة ‪ ,‬فرأيت جميع المذاهب‬
‫واقوال علمائها متصله بها ‪ ,‬ولم ار مذهبا اولي بالشر يعة من مذهب ‪ ,‬وعلمت ان كل مجتهد مصيب ‪ ,‬ورجعت عن اعتقادي ان المصيب‬
‫من المجتهدين واحد ‪ ,‬لا بعينه الذي كنت اعتقده قبل وصولي الي شهود العين الاولي للشر يعة‪ . .‬فلما اخبرته بذلك سر عليه الصلاة‬
‫والسلام ‪ ,‬فقال‪ :‬عرفت فالزم‪ .‬فقلت له فاذن من كان محبوسا في دائرة التقليد لامام معين ‪ ,‬فمحال عليه ان يشهد ان كل مجتهد‬
‫مصيب؟ فقال‪ :‬نعم ‪ ,‬لانه محجوب بحجاب التقليد عن العين التي وصل اليها امامه لما انتهي سيره وسلوكه ‪ ,‬ومن هنا كان كل مجتهد‬
‫لا ينكر علي الاخر ‪ ,‬فاترك ياولدي كلام من قال‪ :‬ان المصيب من المجتهدين واحد لا بعينه‪ .‬والباقي مخطئ علي من )لم ينته( سلوكه ‪,‬‬
‫فلا يقال احد هذين القولين ارجح من الاخر ‪,‬لانهما في شخصين مخصوصين‪ .‬فقلت له‪ :‬فاذن منع العلماء للطالب ان ينتقل من مذهب‬
‫الي مذهب انما هو رحمة به ‪ ,‬ليدوم سيره في مذهب واحد ‪ ,‬و يصل الي عين الشر يعة في اقرب زمان؟ فقال عليه الصلاة والسلام‪:‬‬

‫‪Shamela.org‬‬ ‫‪٦‬‬
‫الميزان الخضر ية‬ ‫‪١‬‬

‫نعم ‪ ,‬ولان كل مجتهد لا يبني علي قول مجتهد ‪ ,‬فالمنتقل من مذهب الي اخر كلما بدا له ربما يفني عمره كله ولا يصل الي الوقوف‬
‫علي عين الشر يعة ‪ ,‬كالمسافر في طر يق الي بلد بعيد فان اقبل بكليته ولم يلتفت الي غيره‪ :‬وصل وفي مدة يسيرة‪ .‬وان صار يلتفت يمينا‬
‫وشمالا ‪ ,‬ويمشي في كل طر يق ساعة ‪ ,‬ثم يرجع الي صوب مقصده‪ :‬طال سفره ثم قال لي‪ :‬واقر مثال ‪ ,‬مذاهب العلماء لذلك بالـكف‬
‫والاصابع ‪ ,‬فمثال عين الشر يعة الاولي مثال الـكف‪ .‬ومثال مذاهب العلماء مثال الاصابع ‪ ,‬ومثال مدة الاشتغال بكل مذهب )مثال‬
‫العقد لللاصابع ‪ ,‬فاذا اشتغل بكل مذهب ثلاث سنين ‪ ,‬ثم انتقل الي المذهب الاخر ثلاث سنين ‪ ,‬وهكذا حتي يستوعب الخمس ‪ ,‬فهذا‬
‫قد قطع )الخمس عشرة سنة في اول عقدة من عقد الاصابع ‪ ,‬لان مجتهدا لا يبني علي بناء مجتهد كما مر‪ .‬ولو انه سلك من عقد اصبع‬
‫واحدة لوصل الي الـكف في تسع سنين مثلا‪ .‬فوقف علي عين الشر يعة ‪ ,‬واقر سائر الاقوال المتصلة بها‪ .‬وشهد ان سائر ائمة المسلمين ‪,‬‬
‫علي هدي من ربهم‪ .‬كشفا و يقينا ‪ ,‬لا ظنا وتخمينا‪ .‬فقلت له‪ :‬فما تقولون في اقوال اهل الاصول والنحو والمعاني وغير ذلك من آلات‬
‫الشر يعة ‪ ,‬هل تكون علي مرتبيتن‪ :‬تخفيف وتشديد ‪ ,‬كالاحكام الشرعية؟ فقال‪ :‬نعم آلات الشر يعة من لغة ‪ ,‬ونحو ‪ ,‬واصول‪ ,‬وغير‬
‫ذلك يتخرج علي المرتبتين‪ :‬كلام فصيح وافصح ‪ ,‬وكلام ضعيف وأضعف‪ .‬ثم قال لي عليه الصلاة والسلام‪ :‬آلات الشر يعة كالجهاد‪:‬‬
‫تارة يكون فرض عين ‪ ,‬وتارة يكون فرض كفاية ‪ ,‬فان خرج للشر يعة مبتدع كانت فرض عين‪ .‬والا فهي فرض كفاية‪ .‬فقلت له‬
‫فاذن كل حكم وجدنا فيه حديثين ‪ ,‬او قولين ‪ ,‬او أقوالا يعسر الجمع بينهما ‪ ,‬فلا بد ان يكون منسوخا ‪ ,‬او رجع عنه ذلك المجتهد‪ .‬فقال‬
‫عليه الصلاة والسلام‪ :‬نعم ‪ ,‬وهو كذلك‪.‬‬
‫فقلت يا سيدي‪ :‬هذه ميزان لا يقدر علي العمل بها ‪ ,‬ويدخل جميع اقوال المجتهدين ومقلديهم في الشر يعة الا من نظر الي الشر يعة بالعين‬
‫التي كانت الصحابة ينظرون بها اليها‪ .‬قبل وجود جميع المجتهدين واتباعهم‪ .‬فقال عليه الصلاة والسلام‪ :‬نعم ‪ ,‬والامر كذلك ‪ ,‬لـكن في‬
‫حق عامة المقلدين ‪ ,‬اما المجتهدين فيقدرون علي العمل بها ‪ ,‬مع كثرة الادلة والاقوال وتشعبها لما هم عليه من التمكن والاطلاع علي عين‬
‫الشر يعة ‪ ,‬التي يتفرع منها قول كل مجتهد ومقلديه الي يوم القيامة ‪ ,‬اذ الشر يعة كالـكف ‪ ,‬ومذاهب المجتهدين كالاصابع المتصلة بالـكف‬
‫)فليس صاحب اصبع اولي بالشر يعة من مذهب عند صاحب هذا المشهد‪.‬‬
‫بسم الل ّٰه الرحمن الرحيم نبذة من احوال سيدنا ومولانا ابي العباس الخضر عليه الصلاة والسلام اذكر فيها عدة جماعة من الاولياء الذين‬
‫اجتمعوا به الي عصرنا هذا ‪ ,‬وابين فيها نبذة من صفاته ‪ ,‬وملبسه ‪ ,‬وأكله ‪ ,‬وانه لا يأتي لاحد في منام او يقظة الا معلما له‪ ,‬لا متعلما‬
‫‪ ,‬لانه غني عن علم العماء لما أعطاه الل ّٰه تعالي من لدنه ‪ ,‬فاقول وبالل ّٰه التوفيق‪ " .‬قد أجمع اهل الـكشف قاطبة علي حياة الخضر عليه‬
‫الصلاة والسلام ‪ ,‬الي وقت اجتماعنا به ‪ ,‬وممن اخبرنا انه اجتمع به وصافحه امير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الل ّٰه عنه ‪ ,‬وقال‬
‫قلت له‪ " :‬يا نبي الل ّٰه اوصني ‪ ,‬فقال يا عمر اياك ان تكون وليا للله تعالي في العلانية وعدوا له في السر " انتهي‪ .‬ومنهم ذو النون المصري‬
‫اجتمع به مرات ‪ ,‬وعلمه اسم الل ّٰه الاعظم‪ .‬ومنهم ‪ ,‬ابو عبد الل ّٰه البشري كان يذكر ان الخضر يأتيه الي داره‪ .‬ومنهم الشيخ عبد الرازق‬
‫‪ ,‬اجتمع بالخضر مرات ‪ ,‬لما كان الخضر يحضر مجلس وعظه ‪ ,‬وعلمه الخضر ان كل من واظب علي قراءة اية الـكرسي ‪ ,‬واخر سورة‬
‫البقرة ‪ ,‬وشهد الل ّٰه انه لا اله الا هو ‪ ,‬وقل اللهم مالك الملك‪ :‬الايتين عقيب كل صلاة صبح ‪ ,‬حفظ الل ّٰه عليه الايمان حتي يلقي ربه‬
‫عز وجل‪ .‬حكاه الشيخ عبد الغفار القوصي رحمه الل ّٰه تعالي‪ .‬ومنهم ابراهيم الخواص ‪ ,‬وابو يزيد البسطامي ‪ ,‬وابراهيم ابن ادهم‪ .‬وكذلك‬
‫ممن كان يجتمع به كثيرا الشيخ محي الدين بن العربي ‪ ,‬وقال‪ :‬اخذ علي الخضر عليه الصلاة والسلام العهد بالتسليم لمقالات الشيوخ‬
‫‪ ,‬والبسني خرقة الصوفية ‪ ,‬تجاه الحجر الاسود‪ .‬وكذلك ممن كان يجتمع به الشيخ كامل‪ :‬ابو عبد الل ّٰه القرشي من اكابر مشايخ مصر‪.‬‬
‫وكذلك ممن كان يجتمع به كثيرا الشيخ الكامل ابو الحسن الشاذلي ‪ ,‬والشيخ ابوالعباس المرسي ‪ ,‬والشيخ ياقوت العرشي‪ .‬وكان الشيخ‬
‫ابو الحسن يقول‪ " :‬اكره للفقهاء خصلتين‪ :‬قولهم بموت الخضر ‪ ,‬وقولهم بكفر الحلاج‪.‬‬
‫وكان ابو العباس المرسي رضي الل ّٰه عنه يقول‪ :‬صافحت الخضر بيدي هذه ‪ ,‬فوق ‪ ٣٠٠‬مرة‪ .‬وكان الشيخ ياقوت رحمة الل ّٰه يقول‪ :‬طلبت‬
‫مرة اجمع لفقير شيئا من الدنيا ‪ ,‬فقال لي الخضر‪ :‬يا ياقوت ان الل ّٰه قد يفقر عبده لحكمة ‪ ,‬فتركت ما كنت عزمت عليه‪ .‬وممن سمعته‬
‫يذكر اجتماعه به من اهل عصرنا‪ " :‬سيدي علي الضرير النبتيتي ‪ ,‬واخبرني انه سأل الخضرعن علماء مصر في عصره ‪ ,‬فصار يقول‪ :‬ونعم‬
‫من فلان ‪ ,‬حتي سألته عن الشيخ زكر يا فقال‪ :‬ونعم ‪ ,‬الا ان عنده نفيسة‪ .‬فقلت له ‪ ,‬وما هي؟ فقال‪ :‬اذا كاتب الامراء يقول في‬

‫‪Shamela.org‬‬ ‫‪٧‬‬
‫الميزان الخضر ية‬ ‫‪١‬‬

‫كتابه من الشيخ زكر يا الي فلان ‪ ,‬فيلقب نفسه بالشيخ‪ .‬قال فأعلمته بذلك ‪ ,‬فترك هذه اللفظة " انتهي‪ .‬وكذلك ممن اجتمع يه سيدي‬
‫علي الخواص ‪ ,‬واخي الشيخ أفضل الدين ‪ ,‬وسيدي محمد المنير )رحمهم الل ّٰه تعالي( باخبارهم لي عن ذلك ‪ ,‬وحاشا اولياء الل ّٰه تعالي ان‬
‫يخـبروا بخلاف الواقع‪.‬‬
‫وقد نقل اليافعي اجماع القوم علي حياته الي ايام الدجال ‪ ,‬فاعلم ذلك‪ .‬واما مقامه عليه الصلاة والسلام فهو )دوين( مقام النبوة ‪,‬‬
‫وفوق مقام الصديقية ‪ ,‬كما اخبر بذلك عن نفسه ‪ ,‬فهو مقام برزخي‪ :‬له وجه الي النبوة ووجه الي الولاية‪ .‬فلذلك كان العارفون يصلون‬
‫علي الخضر عليه الصلاة والسلام تارة ‪ ,‬و يقولون رضي الل ّٰه عنه تارة‪ .‬واخبرني سيدي علي الخواص رضي الل ّٰه عنه ‪ :,‬ان للاجتماع‬
‫بالخضر عليه الصلاة والسلام ثلاثة شروط ‪ ,‬من لم تجتمع فيه لا يجتمع به ‪ ,‬ولو كان علي عبادة الثقلين‪ .‬الاول ‪ -‬ان يكون علي سنة ’‬
‫لا يتدين ببدعة‪ .‬الثاني ‪ -‬ان لا يكون له حرص علي الدنيا ‪ ,‬فلو خبأ عنده رغيف الي غد لم يجتمع به‪ .‬الثالث ‪ -‬ان يكون سليم الصدر‬
‫للمسلمين ‪ ,‬فلا يكون في قلبه غل ‪ ,‬ولا حسد ‪ ,‬ولا كبر علي احد منهم‪ .‬قال‪ " :‬وكان ابوعبدالله البشري ‪ -‬احد رجال رسالة القشيري‬
‫‪ -‬يجتمع به كثيرا ‪ ,‬فوقع انه قال لزوجته ضعي هذا الدرهم الي غد ‪ ,‬فانقطع عن رؤيته الي ان مات‪ .‬ثم رآه في المنام من بعد ‪ ,‬فقال‬
‫له‪ :‬ما ذنبي؟ فقال له‪ :‬اما علمت انا لا نصحب ‪ -‬من يخبأ رزق غد‪ .‬انتهي‪ .‬واما صفته وصفة ملبسه فهو‪ :‬رجل مهيب ‪ ,‬ابيض اللحية ‪,‬‬
‫مطرق الرأس علي الدوام ‪ ,‬عليه ازار ورداء من صوف ‪ ,‬لا يخلقان ولا يبليان ‪ ,‬خصوصية من الل ّٰه تعالي له ‪ ,‬حيث اطال عمره‪ .‬وقال‬
‫بعضهم‪ :‬الحكمة في ذلك عدم العصيان ‪ ,‬فان من لا يعصي لا تخلق له ثياب ‪ ,‬وما ورد من ترقيع الانبياء ثيابهم ‪ ,‬فهو محمول علي انها‬
‫تمزقت من جذب الجهاد او الحيطان او الاشجار‪ .‬انتهي‬
‫واما طعامه عليه الصلاة والسلام ‪ ,‬فتارة يكتفي بالتسبيح وذكر الل ّٰه عز وجل ‪ ,‬وتارة يتغذي بنسيم الاسحار ‪ ,‬وتارة يأكل كآحاد الناس‪.‬‬
‫وكان ابو عبدالله القرشي يقول‪ :‬زارني الخضر فطبخت له طعام قمح ‪,‬فاحبه الخضر عليه الصلاة والسلام ‪ ,‬فلم ازل احب طبيخه من‬
‫حين علمت انه يحبه ‪ ,‬حين طبخته له‪ .‬واعلم يا اخي ان الخضر عليه الصلاة والسلام‪ :‬لا يجتمع باحد من الامة الا معلما له ما لم يكن‬
‫عنده علم ‪ ,‬ولا يستفيد هو علما من احد لانه غني عن علم الاستنباط‪ .‬لما اعطاه الحق سبحانه وتعالي له من العلم اللادني‪ .‬ثم اه لا‬
‫يجتمع با احد من المريدين يقظة ‪ ,‬انما يجتمع به في المنام لعجز المريد عن الصبر علي صحبته في البثظة ‪ ,‬بخلاف كمل العارفين ‪ ,‬يجتمع بهم‬
‫في اليقظة و يعلمهم من العلم ما لم يكن عندهم ‪ ,‬وانا ممن اجتمع به في المنام حال تعليمه لي هذه " الميزان " فاعلم ذلك ‪ ,‬فانه نفيس‪.‬‬
‫اياك يا اخي ان تفهم من هذه الميزان وشرحها ان المرتبتين المذكورتين في كلام سيدنا ومولانا ابي العباس الخضر كما تقدم ‪ -‬علي التخيير‬
‫كما قد يقع فيه بعض المتهورين في اقوالهم ‪ ,‬فانه عليه الصلاة والسلام صرح بأن المرتبتين علي الترتيب الوجوبي‪ .‬لا علي التخيير‪ .‬وفي‬
‫كلام الشافعي رضي الل ّٰه عنه " اذا ضاق الامر اتسع "‪ .‬ومفهوم القاعدة انه اذا اتسع الامر ضاق ‪ ,‬انتهي‪ .‬و يوضحه قول شيخنا علي‬
‫الخواص رحمه الل ّٰه تعالي‪ :‬اعتقادنا واعتقاد كل منصف في امامه ‪ ,‬انه لو عرض عليه حال من عجز عن العمل بالعزيمة التي قال هو بها‬
‫‪ .....‬لافتاه بالرخصة التي قال بها غيره ‪ ,‬واقره عليها ‪ ,‬بل كانت هي مذهبه ‪ ,‬لان الائمة المجتهدين رضي الل ّٰه عنهم لا يخفي عليهم ما‬
‫انطوت عليه الشر يعة المطهرة من طلب التخفيف عن الامة في الكتاب والسنة‪ .‬فمن الكتاب‪ :‬قوله عز وجل ‪ -‬يريد الل ّٰه بكم اليسر ولا‬
‫يريد بكم العسر‪ .‬وقوله تعالي ‪ -‬وما جعل عليكم في الدين من حرج‪ .‬وقوله تعالي ‪ -‬فاتقوا الل ّٰه ما استطعتم‪ .‬وقوله تعالي ‪ -‬لا يلـكف الل ّٰه‬
‫نفسا الا وسعها‪ .‬وقوله تعالي ‪ -‬ان الل ّٰه بالناس لروؤف رحيم‪ .‬ومن السنة‪ :‬قوله صلي الل ّٰه عليه وسلم‪ :‬الدين يسر ‪ ,‬ولن يشاد هذا الدين‬
‫احد الا غلبه‪ .‬وقوله صلي الل ّٰه عليه وسلم‪ :‬بخفض صوت ‪ -‬لمن بايعه علي السمع والطاعة " فيما استطعت "‪ .‬وقوله صلي الل ّٰه عليه وسلم‪:‬‬
‫اذا امرتكم بامر فاتوا منه ما استطعتم‪ .‬وقوله صلي الل ّٰه عليه وسلم‪ :‬يسروا ولا تعسروا‪ .‬وقوله صلي الل ّٰه عليه وسلم‪ :‬اختلاف امتي رحمة‪.‬‬
‫اي توسعتهم علي الامة رحمة بهم‪ .‬وليس المراد اختلافهم في اصل الدين ‪ ,‬لان الل ّٰه تعالي يقول " ان اقيموا الدين ولا ٺتفرقوا فيه‪." .‬‬
‫وكان سفيان الثوري رحمة الل ّٰه وغيره ‪ ,‬يكرهون قول الناس " قد اختلف العلماء " و يقولون بدل ذلك )توسع العلماء(‪ .‬انتهي‪ .‬وكان‬
‫الامام الشافي رضي الل ّٰه عنه يقول ‪ -‬اعمال الحديثين ‪ ,‬او القولين اولي من الغاء احدهما‪ .‬انتهي‪.‬‬
‫ولـكن ذكر الحافظ المزني والحافظ الز يلعي وغيرهما‪ :‬ان لاصحاب الحديث شروطا فيمن )تكلم الناس فيه( ‪ ,‬وهو انهم لا يروون عنه الا‬

‫‪Shamela.org‬‬ ‫‪٨‬‬
‫الميزان الخضر ية‬ ‫‪١‬‬

‫ما توبع عليه‪ .‬وظهرت شواهده ‪ ,‬وعلموا ان له اصلا‪ :‬فلا يروون عننه شيئا مما انفرد به اصلا‪ .‬اذا خالفه الثقات ‪ ,‬وذلك كحديث ابي‬
‫اويس الذي خرجه مسلم‪ ::‬قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين‪ :‬لانه لم ينفرد به ‪ ,‬فان غيره من الثقات رواه كذلك‪ .‬فصار حديثه‬
‫متابعة‪ .‬قال الحافظ الز يلعي وغيره‪ " :‬وهذه العلة قد راجت علي كثير من الحفاظ ‪ ,‬لا سيما من استدرك علي الصحييحين كابي عبدالله‬
‫الحاكم ‪ ,‬فكثيرا مايقول هذا الحديث علي شرط الشيخين‪ .‬محتجا به في الصحيح‪ .‬ان يكون كل حديث وجد له يكون صحيحا علي شرط‬
‫صاحب ذلك الصحيح‪ .‬لاحتمال فقد شرط من شروط اصحاب ذلك الصحيح التي قدمناها انفا‪ .‬اذ لم يلتزم ذلك الشرط احد غير‬
‫اصحاب الصحيح‪ .‬فقد بان لك انه ليس لنا ترك حديث من تكلم الناس فيه بمجرد الكلام‪ .‬فربما يكون قد توبع عليه ‪ ,‬وظهرت شواهده‬
‫وكان له اصل‪ .‬وانما لنا ترك ما انفرد به وكان مخالفا للثقات‪ .‬ولو اننا فتحنا باب الترك لكل راو تكلم بعض الناس فيه لذهب معظم‬
‫احاديث الشر يعة‪ .‬كما مر ‪ ,‬واذا ادي الامر الي ذلك فالواجب علي جميع اتباع المجتهدين " تسليم المذاهب المخالفة لمذاهبيهم " فان ما‬
‫)رووه( لم يخرج عن احدي مرتبتي الشر يعة ابدا ‪ ,‬اللتين هما التخفيف والتشديد‪ .‬لا يقال هذا يؤدي الي التناقض في الحكم الواحد ‪,‬‬
‫فان القائل بدليل التحريم لا يقول بدليل الاباحة مثلا ‪ ,‬والقائل بنقض الوضوء بمس الذكر ‪ ,‬لا يقول بحديث " هل هو الا بضعة منك‬
‫" لانا نقوللا تناقض بمسه ‪ ,‬اذ القول بالنقض بمس الذكر ‪ ,‬والقول بعدم النقض بمسه ‪ ,‬حكم الل ّٰه تعالي‪ .‬وهو واحد ثم ان يرجع الي‬
‫المرتبتين ‪ ,‬فمن نقض بمس الذكر فقد شدد ‪ ,‬ومن لم ينقض بمسه فقد خفف‪ .‬فيحتمل الحكمان‪ :‬المرتبتين‪ :‬ولكل منهما رجال‪.‬‬
‫فليس للشافعي فعل ما يتوقف علي الطهارة مع مس الذكر الا لضرورة ‪ ,‬كان ابتلي بالوسواس وصار يتوضأ للصبح مثلا ‪ ,‬حتي تكاد‬
‫الشمس تطلع فلما فرغ من وضوئه مس ذكره ‪ ,‬او امرأة ‪ ,‬فمثل هذا ينبغي له العمل بالرخصة‪ .‬تقليدا للامام ابي حنيفة‪ .‬وتحصيلا‬
‫للقر يضة في وقتها‪ .‬فان المقاصد آكد من الوسائل‪ .‬بدليل ان من لم يجد ماء ولا ترابا لزمه ‪ -‬في الجديد من مذهب الامام الشافعي ‪-‬‬
‫ان يصلي الفرض لحرمة الوقت و يعيد‪ .‬وان كان لتارك الصلاة )ايضا( عذر في تركها ‪ ,‬اذا لم يجد ما يتطهر به‪ .‬فمن العلماء من راعي‬
‫الادب مع الحضرة الالهية ‪ ,‬وكره ان يقف بين يديها محدثا ‪ ,‬ومنهم من راعي فوات وقت الصلاة التي امره الل ّٰه تعالي بالصلاة فييه‪.‬‬
‫و يؤيده قاعدة ‪ --‬الميسور لا يسقط بالمعسور " وحديث‪ :‬اذا امرتكم بامر فاتوا منه ما استطعتم‪ .‬وقد تقدم في هذه الميزان‪ :‬اننا ٺتبعنا‬
‫احاديث الشر يعة ‪ ,‬فلم نجد حديثين لا يمكن الجمع بينهما ابدا الا وواحد منهما منسوخ‪ .‬فرجع الامر الي ان الحديث الباقي بعد النسخ‪:‬‬
‫حكمه كالحديث الذي ورد فردا ‪ ,‬فليس فيه الا مرتبة واحدة ‪ ,‬فيتعين العمل به ‪ ,‬اذ لا مقابل له‪.‬‬
‫وقد ذكرنا في كتابنا " زبد العلوم" ان سبب مشروعية جميع التكاليف ‪ ,‬انما هو الاكلة التي اكلها ابونا ادم عليه اصلاة والسلام من‬
‫الشجرة‪ .‬فاراه الحق تعالي بتلك الاكلة صورة ما سيقع من بنيه اذا خرجوا من ظهره الي دار التكليف‪ .‬فكانت الاحكام الشرعية كلها‬
‫‪ ,‬كالـكفارة لتلك الاكلة ‪ ,‬فاول ما تلقاه بسببها ‪ ,‬وجوب التوبة علي الفور والندم ‪ ,‬ثم تولد من تلك الاكلة الفضلة القذرة المنتنة من بول‬
‫وغائط ودم ورشح ابط ونحو ذلك "‪ .‬ثم ان تلك الاكلة لم تكن بامر من الل ّٰه تعالي ‪ ..............‬وان كانت مرادة ‪ ,‬فافهم‪ .‬فامرنا‬
‫بالنزول الي ارض الشهوات ‪ ,‬فان تلك الجنة التي كان فيهما لا تصلح لاخراج الفضلات المنتنة فيها ‪ ,‬واذا فلما حصلت التوبة‪ .‬كان‬
‫من تمامها التطهر من آثار تلك الفضلة ‪ ,‬بمثابة الاقلاع عن الذنب ‪ ,‬وتولد من تلك الاكلة ايضا شهوة النساء والتلذذ بجماعهن ‪ ,‬ولمسهن‪.‬‬
‫واما الشهوة التي كانت له حين جامع حواء ‪ ,‬فلم يكن له فيها اختيار ‪ ,‬وكذلك ما وقع له من النوم حين استخرجت حواء من ضلعه‬
‫الايسر‪ .‬انما كان ذلك بامر من الل ّٰه تعالي‪ .‬بخلاف ما وقع من الاكل من الشجرة ‪ ,‬فان له حكما اخر ‪ ,‬فافهم‪ .‬وتولد منها ‪ -‬ايضا النوم‬
‫والقهقة وتولد منها في اولاد ادم علي الصلاة والسلام ‪ ,‬الجنون ‪ ,‬والاغماء ‪ ,‬وسائر المعاصي‪ .‬فامرنا بالتطهر من جميع ذلك ‪ ,‬كلما اردنا‬
‫الوقوف بين يديه تعالي في الصلاة ‪ ,‬وما الحق في وجوب الطهارة له‪ .‬فلولا الاكل لكانت طهارتنا لا تنتقض ‪ ,‬فكنا كالملائكة ‪ ,‬فيس‬
‫لنا ناقض متولد من غير الاكل ابدا ‪ ,‬فان من لا يأكل‪ :‬لا يبول ‪ ,‬ولا يتغوط ‪ ,‬ولا يخرج ر يحا ‪ ,‬ولا يسيل له دم ‪ ,‬ولا يشتهي النساء‬
‫بجماع او غيره‪ .‬ولا يعصي ‪ ,‬ولا يكفر ‪ ,‬ولا يضحك بقهقهة ولا يرشح من ابطه صنان ‪ ,‬ولا يغتاب احدا ‪ ,‬ولا يجن ‪ ,‬ولا يغمي عليه ‪,‬‬
‫ولا ينام ولا غير ذلك من سائر ما ورد النقض به في السنة الواردة صر يحا‪ .‬او من طر يق الاستنباط‪.‬‬
‫وقد كانت عائشة رضي الل ّٰه عنها ٺتوضا من الغيبة‪ .‬وكان علي رضي الل ّٰه عنه يقول‪ :‬من مس يهوديا او نصرانيا او صليب فليتوضأ ‪ ,‬لان‬
‫اليهودي ماء كافر ‪ ,‬واتخذ الصليبب بعد حجابه بالاكل ‪ ,‬فاكل ‪ ,‬فحجب ‪ ,‬فعصي ‪ ,‬فكفر‪ .‬ومنهم من نقض بلمس النساء بسائر الجسد‪.‬‬
‫ما عدا الشعر والسن والظفر‪ .‬ومنهم من نقض بلمس هذه الثلاثة‪ .‬ومنهم من نقض بلمس كل امرأة لا تشتهي لـكبر او صغر‪ .‬ومنهم‬

‫‪Shamela.org‬‬ ‫‪٩‬‬
‫الميزان الخضر ية‬ ‫‪١‬‬

‫من نقض بمن تشتهي فقط‪ .‬ومنهم من نقض اذا قصد المس‪ .‬ومنهم من نقض مطلقا ‪ ,‬وهكذا ‪ ,‬كما ان منهم ايضا من شرط التطهر‬
‫عن الحدث والنجاسة ‪ ,‬وما الحق بهما بالماء الطهور الذي لم يستعمل في فرض‪ .‬ومنهم من جوز الطهارة بالمستعمل في ذلك‪ .‬ومنهم‬
‫من جوزز الطهارة بالمتسعمل اذا بلغ قلتين من غير تغيير واما القول بنقض الطهارة بمس الذكر والدبر ‪ ,‬فهو خاص بالاكابر المتنزهين‬
‫عن المعاصي جملة‪ .‬فامروا بالطهارة من مس المحل المجاور لتلك الفضلة الخارجية‪ .‬بل بلغنا ان رسول الل ّٰه صلي الل ّٰه عليه وسلم ‪ ,‬تنزه‬
‫عن مس مجاور المجاور ‪ ,‬فنضح سراو يله لمجاورتها للفرج ‪ ,‬وقال‪ :‬بهذا امرني جبر يل ‪ ,‬فعدم نقض الطهارة بمس الفرج خاص بالضعفاء‬
‫من الناس ‪ ,‬نظير عدم نقض الطهارة بلمس المرأة بدون جماع‪ .‬فليس لنا ناقض متولد من غير الاكل ابدا كما مر‪.‬‬
‫ثم ان ما سماه هذا المعترض علي الامام )ابي حنيفة( قلة احتياط ‪ ,‬ليس ذلك بقلة احتياط ‪ ,‬وانما هو تسهيل وتيسير علي الامة تبعا‬
‫للشارع صلي الل ّٰه عليه وسلم في نحو قوله‪ " :‬يسروا ولا تعسروا " يعني في كل شئ لم تصرح به شر يعتي‪ .‬والا فكل شئ صرحت به شر يعته‬
‫صلي الل ّٰه عليه وسلم فليس فيه شئ يشق ابدا‪ .‬بل الامر في ذلك علي مرتبتين‪ :‬لرجل قوي وضعيف‪ .‬كيف وقد ورد عن الشارع‬
‫الحديث الصحيح ‪ --‬اذا امرتكم بامر فأتوا منه ما استطعتم ‪ ,‬واذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه ‪ --‬قال في قسم الامر شفقة علي امته وخوفا‬
‫عليهم من فتح باب سخط الل ّٰه تعالي عليهم‪ .‬اذا فعلوا ما نهاهم عنه ان يتطرقوا من المكروه الي الصغيرة ‪ ,‬الي الـكبيرة فيهلـكوا بخلاف‬
‫قسم الامر‪ .‬فان رغبة الثواب الذي جعله الل ّٰه تعالي في فعل المأمورات‪ :‬تحرض الانسان علي فعلها ‪ ,‬فافهم‪ .‬فيحب علي كل مقلد ان‬
‫لا يعترض علي قول مجتهد ‪ ,‬خفف ‪ ,‬او شدد ‪ ,‬فانه ما خرج عن قواعد الدين ‪ ,‬ولا عن احدي مرتبتي الشر يعة الموضوعة فيها هذا الميزان‬
‫خاتمة في " بيان امثلة من مسائل الطهارة والصلاة ‪ ,‬ترجع الي مرتبتي الميزان ‪ ,‬ذكرتها استئناسا للاخوان ‪ ,‬لانها طر يق‬
‫لا تكاد تري فيها احد سالكا لعزتها وغرابتها ‪ ,‬الا قليلا وقد اخبرني الخضر عليه الصلاة والسلام‪ :‬انه لم يسبق منه‬
‫تعليمها لاحد قبلي‪ .‬فاقول وبالل ّٰه التوفيق "‪================================================== :‬‬
‫========================== اعلم ان وجه من قال‪ :‬لا تصح الطهارة بالماء المستعمل في فرض الطهارة ‪ ,‬كون الخطايا‬
‫خرت فيه‪ .‬كما ورد ‪ ,‬وما خرت فيه الخطايا فهو مستقذر شرعا عند كل من قوي ايمانه ‪ ,‬او كان من اهل الـكشف‪ .‬ووجه من قال‪:‬‬
‫تصح الطهارة بالماء المذكور ‪ ,‬ان القذر الذي فيه امر غير محسوس ‪ ---‬ولا يطالب العبد الا بما شهد ‪ ,‬فمن منع الطهارة به فهو تشديد‬
‫‪ ,‬ومن جوزها به فهو تخفيف‪ .‬فالاول خاص بالاكابر ‪ ,‬كالعلماء‪ .‬والثاني خاصر بالاصاغر ‪ ,‬كالعوام‪ .‬وايضاح ذلك‪ :‬ان الطهارة ما‬
‫شرعت الا لتزيد العبد تقديسا والبدن نظافة‪ :‬ظاهرة وباطنة ‪ ,‬والماء الذي خرت فيه الخطايا حسا او تقديرا لا يزيد البدن الا قذارة‬
‫لقبح الخطايا التي خرت فيه‪ .‬فلو كشف للمسلم لرأي الماء الذي يتوضأ منه الناس في الميضأة )مثلا( يتكدر بوضوئهم منه‪ .‬كالماء الذي‬
‫وقع فيه جملة من الحيوانات الميته المنتنة القذرة ‪ ,‬من كلاب وخنازير وحمير وغير ذلك من الحيوانات الي البعوض او بيض القمل ‪,‬‬
‫لانها تكون في القذارة علي حسب تلك الذنوب التي خرت من كبائر وصغائر ومكروهات ‪ ,‬وخلاف الاولي ‪" ,‬و" لا تخرج الحيوانات‬
‫المذكورة من ذلك‪ .‬فمثال غسالة الكبائر‪ :‬ميتة الخنازير والكلاب ‪ -----‬عند من يقول بنجاسة الكلاب‪ .‬ومثال غسالة الصغائر‪ :‬ميتة‬
‫الحمير وغيرها من المأكولات‪ .‬ومثال غسالة المكروهات‪ :‬ميتة القمل والبعوض‪ .‬وقد ادي كشف الامام ابي حنيفة رضي الل ّٰه عنه‬
‫الي نحو ما قلناه ‪ ,‬فذكر في غسالة الطهارة ‪ -‬اعني الماء المستعمل فيها ‪ -‬ثلاثة اقوال‪ :‬احدها انها كالنجاسة المغلظة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬انها كالنجاسة المخففة‪ .‬الثالث‪ :‬انها طاهرة في نفسها غير مطهرة لغيرها‪ .‬كما قال الامام الشافعي رضي الل ّٰه عنه )فعم( بهذه‬
‫الاقوال جميع المعاصي التي تخر في الماء لانها‪ :‬اما كييرة ‪ ,‬او صغيرة ‪ ,‬او مكروهة‪ .‬فالـكبيرة كالزنا والواط وشرب الخمر وعقوق الوالدين‬
‫‪ ,‬واكل الرشوة ‪ ,‬والخيانة ‪ ,‬والدياثة ‪ ,‬والسعاية ‪ ,‬ونحو ذلك‪ .‬والصغيرة كالقبلة للاجنبية ‪ ,‬والنظر اليها بشهوة ‪ ,‬والغيبة ‪ ,‬ونحو ذلك‪.‬‬
‫والمكروه كالاستنجاء باليمين ‪ ,‬من غير عذر‪ .‬وتقديم اليسري من اليدين علي اليمني ‪ ,‬ونظائرها كثيرة‪ .‬وكان سيدي علي الخواص رحمه‬
‫الل ّٰه تعالي يقول‪ " :‬قد كان الامام ابوحنيفة رضي الل ّٰه عنه من اهل الـكشف بيقين ‪ ,‬وكان تارة يري غسالة الـكبيرة في الماء ‪ ,‬فيقول "‬
‫الماء نجس " نجاسة مغلظة ‪ ,‬وتارة يري فيه غسالة الصغائر ‪ ,‬فيقول انه نجس نجاسة متوسطة )لان الصغائر متوسطة(‪.‬‬
‫اما وجه من منع صحة الوضوء لمن " لم يذكروا اسم الل ّٰه عليه ‪ ,‬فهو لـكونه ان كل مالم يذكر اسم الل ّٰه عليه حكمه حكم الميتة في النجاسة ‪,‬‬
‫بقرينة الل ّٰه تعالي " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الل ّٰه عليه "‪ .‬فما جعل الذبيحة نجسة الا عدم ذكر اسم الل ّٰه تعالي عليها‪ .‬والا فالدم الفاسد‬
‫الذي يغير البدن قد خرج بالذبح المذكور‪ .‬كما يشهد لذلك ظاهر حديث " لا وضوء لمن لم يذكر اسم الل ّٰه عليه " ‪ ,‬فان ظاهره نفي الصحة‬

‫‪Shamela.org‬‬ ‫‪١٠‬‬
‫الميزان الخضر ية‬ ‫‪١‬‬

‫‪ ,‬وان جملة بعضهم علي ان المراد " لا وضوء كامل كنظائره من قوله‪ " :‬لا صلاة لجار المسجد الا في المسجد "‪ .‬فان المراد ‪ ,‬لا صلاة‬
‫كاملة ‪ ,‬باجماع‪ .‬وعمدة من لم يوجب النية في الطهارة ‪ ,‬قول ابن عباس وابي سليمان الداراني رضي الل ّٰه عنهما‪ :‬لا يحتاج شئ من‬
‫فروع الاسلام الي نية بعد ان اختار صاحبه الدخول فيه‪ .‬فكأن نية الاسلام شاملة لجميع فروعه من سائر العبادات التي هي وسائل‬
‫لا مقاصد‪ .‬وكان سيدي علي الخواص رحمه الل ّٰه يقول‪ " :‬التطهر " بلا نية من المكلف ‪ ,‬تصوير بعيد‪ .‬فانك اذا رأيته يتوضأ وقلت له‪:‬‬
‫ماذا تصنع؟ يقول‪ :‬اتوضأ‪ .‬اما وجه من اوجب الترتيب في الوضوء ‪ " ,‬ومنع صحة الوضوء اذا لم يرتب فهو ان الذي لم يرتب ‪ ,‬ورد لنا‬
‫فيه عن رسول الل ّٰه صلي الل ّٰه عليه وسلم فهو داخل في عموم قوله صلي الل ّٰه عليه وسلم ‪ " ,‬كل عمل ليس عليه امرنا فهو رد " اي مردود‬
‫علي صاحبه غير مقبول‪ .‬واما وجه من صحح الوضوء من غير ترتيب ‪ ,‬فهو لفهمه من القراءان ان المقصود غسل هذه الاعضاء كلها‬
‫قبل القيام الي فعل ما يتوقف علي الطهارة ‪ ,‬سواء تقدم الرجلان علي الوجه او تأخرا عنه‪ .‬وقد كان الامام علي رضي الل ّٰه عنه ‪ ,‬يقول‪:‬‬
‫" لا ابالي باي " اعضاء الوضوء بدأت" فاصل الترتيب سنة ثابته ‪ ,‬ونهض به الي الوجوب اجتهاد المجتهدين فرجع الامر فيه الي مرتبتي‬
‫الميزان‪ :‬تخفيف ‪ ,‬وتشديد‪.‬‬
‫واما وجه من اوجب المضمضة والاستنشاق في الوضوء ‪ ,‬او الغسل عن الحدث الاكبر ‪ ,‬فهو لان معاصي الفم واللسان والانف اكثر‬
‫من معاصي سائر الاعضاء واكبر‪ ,‬لا سيما الانف ‪ ,‬فانه محل الانفة والـكبر المانعين للعبد من دخول جضرة الل ّٰه تعالي في صلاة او‬
‫غيرها‪.‬‬
‫اما وجه من نقض الطهارة بنوم الممكن مقعدته من الارض و بخروج الدم الجاري ‪ ,‬وبالقهقهة في الصلاة ‪ ,‬وبمس الابط الذي فيه‬
‫صنان وبمس الابرص والاحذم ‪ ,‬والصليب ‪ ,‬والكافر ‪ ,‬وغير ذلك مما وردت به الاخبار ‪ ,‬فهو الاخذ بالاحتياط في هذه الامور‪ .‬فان‬
‫من لازمها وقوع صاحبها في الحجاب عن ربه عز وجل‪ .‬اما النوم ممكنا فلانه برزخ بين اليقظة والموت ‪ ,‬له وجه الي الحياة ووجه الي‬
‫الموت ‪ ,‬بدليل ما ورد " النوم اخو الموت " فأخذنا بالاحتياط ونقضنا الطهارة به ‪ ,‬وان كان ممكنا مقعده ‪ ,‬والحقناه في غيبة العقل بمن‬
‫اغمي عليه‪ .‬اما نقض الطهارة بخورج الدم ‪ ,‬وبما بعده الي مس الصليب والكافر ‪ ,‬فلانهما متولده من الاكل الذي من لازمه الغفلة‬
‫عن الل ّٰه عز وجل فان من لا يأكل لا دم له ‪ ,‬ولا يضحك في الصلاة ولا يخرج من ابطه صنان ‪ ,‬ولا يحصل له برص ولا جذام ‪,‬‬
‫بل هو كالملائكة‪.‬‬
‫فرجع الامر في نواقض الوضي الي مرتبتي التخفيف والتشديد فالاكابر يتنزهون من كل " ما جاور الخارج ‪ ,‬او جاور المجاور للخارج‬
‫‪ ,‬كما ورد من استحباب نضح السراو يل بعد الاستنجاء لمجاورتها للمحل المجاور للخارج |‪ ,‬فليس النقض بمس الذكر لذات الذكر ‪ ,‬لقوله‬
‫صلي الل ّٰه عليه وسلم " هل هو الا بضعة منك " فافهم‪ .‬واما وجه من نقض الطهارة بمس الفرج باليدين الي المرفقين ظهرا وبطنا ‪ ,‬فهو‬
‫لان اليد في الحديث " اذا افضي احدكم بيده الي فرجه" يشمل كل ما يغسل في الطهارة ‪ ,‬وهو الي المرفق يجعل "الي " بمعني "مع" وذلك‬
‫احوط ممن يخص النقض بمس الفرج ببطن الـكف فقط ‪ ,‬و يخص الافضاء بباطن الـكف فقط ‪ ,‬فرجع الامر في ذلك الي مرتبتي‬
‫التخفيف والتشديد كما تري‪ .‬اما وجه من قال بلمس العجوز والصغيرة التي لا تشتهي وجميع المحارم ‪ ,‬فهو لللاخذ بالاحتياط ‪ ,‬فقد‬
‫يكون النقض بهذه المذكورات ليس هو دائرا مع الشهوة ‪ ,‬وانما ذلك لخصوص كونهن نساء‪ .‬و يؤيد ذلك اطلاق " النساء " وعدم‬
‫تقييدهن بالاجانب ‪ ,‬او بمن بلغن حد الشهوة ‪ ,‬في قصة فرعون – يذبح ابنائهم ويستحيي نساءهم – وما كان يستحيي "الا الاطفال‬
‫"حسن يولدون " فلما اطلق " علي الاطفال اسم النساء في الذبح ‪ ,‬كذلك "اطلق علي النساء النقض بلمسهن بلا حائل في سائر الاحوال‬
‫علي حد سواء ‪ ,‬فكان من الاحتياط نقض الطهارة بمس ابنة ساعة ‪ ,‬حال نزولها من بطن امها ‪ ,‬والوقوف "علي هذا الحد" حتي يأتي‬
‫لنا نص يخرج الصغيرة والمحارم والعجوز‪ .‬اما وجه من قال بعدم ‪ ,‬النقض بالمذكورات ‪ ,‬فهو دائر مع المحل الذي يشتهي ومالا يشتهي‬
‫عادة ‪ ,‬فلمسه في الحكم كلمس الحائض‪.‬‬
‫واما وجه من قال لا ينقض لمس النساء باليد ‪ ,‬و يفسر بالجماع ‪ ,‬فهو لـكون لذة اللمس امرا خفيفا ‪ ,‬لا يغيب الانسان بلذته عن ربه‬
‫" عز وجل عالما ‪ ,‬بخلاف الجماع فان صاحبه يغيب عن ربه " ولا يكاد يحضر معه ابدا ‪ ,‬ولذلك امر صاحبه بتعميم البدن في الغسل ‪,‬‬
‫لينتعش بالماء جميع ما سرت اليه تلك اللذة ‪ ,‬التي عمت جسده كله ‪ ,‬فان المني – وان كان فرعا من الاكل فهو اعظم لذة من البول‬
‫والغائط‪ .‬فقد علمت ان الائمة ما بين مخفف ‪ ,‬كالامام ابي حنيفة ‪ ,‬ومشدد ومتوسط ‪ ,‬و"ان" منهم من دار في النقض مع وجود الشهوة‬
‫‪ ,‬وقال‪ :‬لكل ساقطة لا قطة ‪ ,‬فرجع النقض في لمس النساء الي مرتبتي التخفيف والتشديد و يؤيد من قال‪ :‬المراد بلمس النساء الجماع ‪,‬‬

‫‪Shamela.org‬‬ ‫‪١١‬‬
‫الميزان الخضر ية‬ ‫‪١‬‬

‫قوله تعالي ‪ -‬وان طلقتموهن من قبل ان تمسوهن – فان المراد بالمس هنا الجماع ‪ ,‬وقد يكون من قال بذلك رأي في كتب اللغة ان "‬
‫باب اللمس والمس‪ -‬واحد "لـكن" ذلك خاص برعاع الناس‪ .‬اما الاكابر فيتنزهون عن لمس النساء بشئ من جسدهم ‪ ,‬وينقضون "به"‬
‫الطهارة ‪ ,‬حتي بالشعر والظفر كما ينقضون الطهارة باكل لحم الجزور ‪ ,‬من حيث كونها محلا لركوب الشياطين عليها ‪ ,‬لا لذات اللحم ‪,‬‬
‫فان اللحم الذي يؤكل كله واحد‪ .‬اما وجه كون مدة مسح الخف للمقيم يوما وليلة ‪ ,‬وللمسافر ثلاثة ايام فقط ‪ ,‬دون الز يادة علي ذلك ‪,‬‬
‫فهو كون هذه المدة معتدلة ‪ ,‬لا طو يلة ولا قصيرة ‪ ,‬وقد اعتبرها الشارع والعلماء في مواضع من الشر يعة ‪ ,‬كمدة اقل الحيض ‪ ,‬ومدة‬
‫الخيار للبيع‬
‫وفد زكرنا ‪ -‬فيما تقدم ‪ -‬في هذا الكتاب ان من كمل سلوكه حتي اشرف علي عين الشر يعة التي يتفرع منها قول كل عالم ‪ ,‬رأي يقينا‬
‫كشفا و يقينا ان كل مجتهد مصيب‪ .‬وبه قال الامام ابن عبدالبر وغيره‪ :‬اما كشفا او اجتهاد‪ .‬فانه رضي الل ّٰه عنه كان بالمحل الاسني‬
‫من العلم ‪ ,‬فلا يبعد ان يكون اشرف )علي عين الشر يعة الا ولي ورأي اتصال جميع اقوال المجتهدين بها كاتصال الاصابع بالـكف ‪,‬‬
‫والظل بالشاخص ‪ ,‬ولذلك قال‪ " :‬لا يبعد ان يكون الذين كانوا يفتون علي المذاهب الاربعة ان يكونوا اشرفوا علي عين الشر يعة الاولي‬
‫كالشيخ عبدالعزيز الدريني ‪ ,‬والشيخ ابي محمد الجويني ‪ ,‬والشيخ عز الدين بن جماعة ‪ ,‬والشيخ شهاب الدين بن الاقيطع )البرلسي(‬
‫واضرابهم رضي الل ّٰه عنهم )وكانوا يفتون الناس لما يناسب حالهم ‪ ,‬لاسيما العوام الذين لم يلتزموا مذهبا معينا ‪ ,‬ولم يعرفوا نصوصه ‪ ,‬ولا‬
‫قواعده ‪ ,‬لـكن لو وقع مثل ذلك ممن لم يصل الي شهود العين الاولي من المقلدين للائمة ‪ ,‬فلا بد له من امر المستفتي بالاتيان ببقية‬
‫الشروط في تلك المسأله التي قلد فيها ذلك الامام ‪ ,‬لتصح عبادته علي مذهبه ‪ ,‬بخلاف ما اذا اخل ببعض الشروط فانها تصير عبادة‬
‫ملفقه من عدة مذاهب فلا تصح علي مذهب من المذاهب ‪ ,‬كما صرح بعضهم‪ .‬وكل من امعن النظر في كلام الائمة المجتهدين ‪ ,‬وجد‬
‫كل مجتهد يشدد تارة و يخفف تارة اخري جر يا علي قواعد كلام الشارع صلي الل ّٰه عليه وسلم ‪ ,‬فان رأي بقايا شعار الدين في امر من‬
‫الامور شدد علي الناس في فعله‪ .‬وحرم عليهم تركه‪ .‬وان راي ذهابه بفعل شدد في تركه ‪ ,‬لانهم رضي الل ّٰه عنهم حكماء الزمان‪ .‬وكل‬
‫من زعم من المقلدين ان امامه كان ملازما قولا واحدا يطرده في حق كل احد من قوي وضعيف وانه لو عرض عليه حال من عجز‬
‫عن فعل العزيمة لافتاه بها ‪ ,‬ولم يرخص له في فعل الرخصة ‪ ,‬فكأنه يشهد علي امامه بأنه كان مخالفا لقواعد الشر يعة المطهرة‪ .‬من ايات‬
‫واخبار ‪ ,‬وكفي بلك )قادحا( في امامه‪.‬‬
‫فالحق الذذي نعتقده في سائر الائمة رضي الل ّٰه عنهم ‪ ,‬انهم )انما كانوا يفتون كل واحد بما يناسب حاله ‪ ,‬من تخفيف وتشديد ‪ ,‬في سائر‬
‫ابواب العبادات والمعاملات‪٢٣ .‬‬
‫ومن نازعنا في ذلك فليأت لنا عنهم بنقل صحيح متصل الاسناد ‪ -‬من ذلك الامام اليه ‪-‬انهم كانون يعمون الحكم بالقول الواحد في حق‬
‫كل ضعيف وقوي ‪ ,‬ونحن نوافقه علي ذلك ‪ ,‬ولعله لا يجد عنهم نقلا صحيحا متصل السند بذلك ابدا علي هذا الوجه ‪ ,‬فان من المعلوم‬
‫ان جميع اقوال الائمة ومقلديهم‪ :‬تابعة لايات الشر يعة واخبارها ‪ ,‬بحكم المطابقة ‪ ,‬فما صرحت الشر يعة فيه التشديد‪ :‬شددوا في فعله او‬
‫تركه ‪ ,‬وما صرحت فيه بالتخفيف خففوا فيه ‪) ,‬وما اجملت الحكم فيه كان المجتهدون فيه علي قسمين‪ :‬محفف ومشدد ‪ ,‬بحسب ماظهر‬
‫لهم من المدارك ولسان العرب ‪ ,‬كما يعرف ذلك من " سابر " مذاهبهم ‪ ,‬فان شدد احدهم في حكم فهو يخفف في حكم اخر ‪ ,‬وبالعكس‬
‫‪ ,‬كما سيأتي بيانه ان شاء الل ّٰه تعالي قريبا‪ :‬من ان مجموع المذاهب هو الشر يعة بعينها ‪ ,‬وان الشر يعة لا يكمل العمل بها لمن يتقيد بمذهب‬
‫واحد فراجعه‪ .‬وايضاح ما تقدم كله‪ :‬ان تنظر يا اخي الي كل حديث ورد او قول استنبط ‪ ,‬والي مقابله فلا بد من ان تجد احدهما‬
‫مخففا والاخر مشددا ‪ ,‬وغير ذلك لا يكون‪ .‬ثم ان المخفف ‪ -‬من احد القولين ‪ -‬مثلا قد يكون هو الراجح من مذهبك ‪ ,‬وقد يكون هو‬
‫المرجوح ولا يخلوا حالك يا اخي ‪ -‬حال العمل ‪ -‬من ان تكون من اهل مرتبة من مرتبتي الميزان ‪ ,‬بشروطها السابقة في الرخصة او‬
‫عدم ورود التخيير من الشارع في فعل احد الامرين ‪ ,‬فتخاطب حينئذ بفعل ما تعلم انك اهله من احدي المرتبتين ‪ ,‬فتأمل‪ .‬علي ان‬
‫لك ايضا الصعود الي العزيمة مع شدة المشقة ايضا ان اخترت ذلك ‪ ,‬كما ان لك النزول الي الرخصة بشرط العجز عن فعل العزيمة ‪,‬‬
‫وتكون علي هدي من ربك في كل من المرتبتين ‪ ,‬كما مر في الخطبة‪.‬‬
‫ثم ان قد يكون في لحكم الواحد اكثر من القولين ‪ ,‬فالحاذق يرد ما قارب التشديد الي التشديد ‪ ,‬وما قارب التخفيف الي التخفيف ‪,‬‬
‫كالقول المفصل علي حد سواء ‪ ,‬ومحال ان يوجد مشددان ‪ ,‬او مخففان لا يدخل احدهما في الاخر ‪ ,‬كما تقدم في الخطبة ‪ ,‬فان شئت‬

‫‪Shamela.org‬‬ ‫‪١٢‬‬
‫الميزان الخضر ية‬ ‫‪١‬‬

‫فامتحن ذلك في اقوال مذهبك مع بعضها ‪ ,‬وان شئت فامتحن ذلك في مذهبك " ومقابله " من المذاهب المخالفة له ‪ ,‬تجدهما لا يخرجان‬
‫عن تشديد وتخفيف‪.‬‬
‫وكان بعضهم يجعل كل ما اوجبه مجتهد او شرطه ‪ --‬من طر يق الاجتهاد والاستنباط ‪ -‬في مرتبة الاولي ‪ ,‬ومقابله " في مرتبة خلاف‬
‫الاولي " ‪ ,‬و يقول‪ :‬ليس لاحد ان يوجب او يحرم ز يادة علي ما اوجبه الشارع او حرمه‪ .‬وهو جعل ضعيف‪ :‬لا يقوم علي ساق‪.‬‬
‫فان الل ّٰه تعالي جعل للمجتهد ان يحرم و يوجب بحسب ما قام عنده من الدليل‪ .‬ولا يطالب بدليل ‪ ,‬كما لا يطالب اهل الاجماع ببيان‬
‫دليلهم ‪ ,‬فيما اجمعوا عليه من تحريم او تحليل‪ .‬فالحق ان ما اوجبه المجتهد او حرمه مثلا من طر يق الاستنباط يكون حكنه حكم الادله‬
‫الوارده عن الشارع ‪ ,‬ثم لا تخرج عن تخفيف وتشديد‪ .‬ولكل منهما قوم يعملون به كما مر ‪ ,‬وعلم مما قررناه‪ :‬ان كل مالا مقابل له من‬
‫الاحاديث والاقوال ‪ ,‬كالحديث الذي " نسخ مقابله " او القول الذي رجع عنه قائله ‪ ,‬او الذي اجمع العلماء علي خلافه ‪ ,‬فليس فيه‬
‫الا مرتبة واحدة لسائر المكلفين لعدم وجود مشقه علي احد في فعله ‪ ,‬بخلاف ما فيه مشقة ‪ ,‬ما ‪ ,‬فان جاء فيه التخفيف والتشديد‬
‫كالامر بالمعروف مثلا ‪ ,‬فانه ورد فيه التشديد والتخفيف ‪ ,‬فوجه التشديد كونه كالجهاد في سبيل الل ّٰه ‪ ,‬فلا يسقط بخوف القتل ‪,‬‬
‫ووجه التحفيف كون ذلكك ذلك ناقصا عن رتبة الجهاد ‪ ,‬اذ هو قتال قوم مسلمين ‪ ,‬لم يخرجوا عن الاسلام بذلك الفعل‪ .‬فلو ان‬
‫انسانا قال‪ :‬انا امر الظالم الفلاني بالمعروف ولو قتلني نصرة لدين الل ّٰه ‪ ,‬لا نمنعه‪ .‬ولو ان انسانا ترك الامر بالمعرو ف خوفا علي النفس‬
‫او العضو مثلا ‪ ,‬سلمنا له ذلك ‪ ,‬ان كان يأمر وينهي باليد واللسان‪ .‬فان كان يغير المنكر ‪ ,‬بتوجهه بقلبه الي الل ّٰه تعالي كالاولياء ‪ ,‬وجب‬
‫عليه ‪ -‬مع الانكار ‪ :-‬الـكراهية ‪ ٢٦‬بالقلب ‪ ,‬كما قالوه فيمن اكره علي كلمة الـكفر‪.‬‬
‫وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الل ّٰه يقول‪ " :‬يجب علي ارباب القلوب العاجزين عن تغيير المنكر باليد واللسان ‪ ,‬ان يتوجه احدهم الي‬
‫الل ّٰه تعالي ‪ ,‬فيحول بين الزاني مثلا وبين الزنا وقد فعل مثل هذا الواجب عليه من غير ان يحصل له ضرر‪ .‬لانه لا ينسب الي ساكت‬
‫او ساكن قول او فعل ‪ ,‬ثم يقول‪ " :‬هكذا يكون تغيير اولياء الل ّٰه تعالي للمنكر غالبا‪ .‬فلا يمد احدهم يده ‪ ,‬ولا ينطق بكلام ‪ ,‬الا ان علم‬
‫ان له حالا يحميه من ذلك الظالم مثلا ‪ ,‬فان لم يجد له حالا في ذلك يحميه منه ‪ ,‬وجب عليه التوجه الي الل ّٰه تعالي في ازالته ‪ ,‬و يقوم ذلك‬
‫مقام تغيير المنكر باليد والسان‪ .‬ثم انه لا ينافي ما قلناه ‪ ,‬قوله في الحديث " وذلك اضعف الايمان " اعني في حق الذي يغير المنكر بقلبه ‪,‬‬
‫لان المراد بضعف الايمان هنا رقته ‪ ,‬لما ترقي الولي الي حضرة الاحسان ‪ ,‬التي هي حضرة القرب من الل ّٰه تعالي ‪ ,‬لا ضعفه الذي هو‬
‫ضعف التصديق ‪ ,‬اذ الضعف تارة يكون مذموما وتارة يكون محمودا‪ .‬وحمل كلام الشارع صلي الل ّٰه عليه وسلم علي ان المراد " بالضعف‬
‫" هنا رقة حجاب الايمان وقوة شهود قربه من حضرة ربه اولي من " نعت " الذم لان قول من قال بقلبه " اللهم هذا منكر لا ارضاه "‬
‫ليس فيه تغيير ‪ ,‬بل المنكر باق علي حاله ‪ ,‬وهذا الحمل للضعيف المذكور في الحديث لم اجده لاحد غير سيدي الخواص رحمه الل ّٰه تعالي‬
‫‪ ,‬وهو خلاف ما يتبادر الي الاذهان فاستفده‪.‬‬
‫وقد علمت مما قررناه في مرتبتي التشديد والتخفيف ‪ ,‬كمال شر يعتنا ‪ ,‬فانها لو كانت جاءت علي مرتبة واحدة ‪ ,‬لكانت عذابا علي الامة‬
‫في قسم التشديد ‪ ,‬ولم يظهر للدين شعار في قسم التحفيف ‪ ,‬وكان كل من قلد اماما في مسئلة قال فيها بالتشديد‪ :‬لا يجوز له العمل بقول‬
‫غيره في مضايق الاحوال فكانت المشقة تعظم علي الامة ‪ ,‬ولـكن ‪ -‬بحمد الل ّٰه ‪ -‬جائت بحكم الاعتدال وعلي اكمل حال ‪ ,‬ولا يوجد فيها‬
‫شئ فيه مشقة الا وقد ورد فيه تخفيف ‪ ,‬او قول اخر ‪ ,‬اما ‪ ,‬في مذهب ذلك المجتهد او في مذهب غيره ‪ ,‬او لاصحابهما مخفف علي‬
‫الناس ‪ ,‬فالحمد للله رب العالمين‪ .‬ثم انه ‪ ,‬يقول لمن يعتقد ان الشر يقة جاءت علي مرتبة واحدة ‪ ,‬وهي ما عليه امامه فقط ‪ ,‬ويري فساد‬
‫قول غير امامه ‪ ,‬ثم انه يقلد غير امامه في ضرورة من الضرورات ‪ ,‬هل صار مذهب ذلك الغير صحيحا حين عملت به ومذهب امامك‬
‫فاسدا ‪ ,‬ام مذهب امامك هو الصحيح ومذهب غيره فاسد‪ .‬عندك حال عملك به ‪ ,‬ولعله لا يجد لك جوابا سديدا يجيبك به علي وجه‬
‫الحق عنده‪ .‬فالحق الذي نعتقده‪ :‬ان الشر يعة انما كملت احكامها بضم جميع الاجاديث والمذاهب كلها اليها ‪ ,‬فكان احاديث الشر يعة ‪,‬‬
‫واقوال علمائها هي )سدي( الشر يعة ولحمتها ‪ ,‬فكأ‪ ،‬ها منسوخة منها‪.‬‬
‫ولو قدر اننا اخرجنا قولا من اقوال المجتهدين عنها ‪ ,‬لكان كالثوب الذي نقص منه خيط‪ .‬فضم‪ :‬يا اخي جميع احاديث الشر يعة ‪ ,‬واقوال‬
‫علمائها الي بعضها بعضا ‪ ,‬وحينئذ يظهر لك عظمة الشر يعة‪ .‬ثم تأمل فيها تجدها كلها لا تخرج عن مرتبتين‪ - :‬تخفيف‪ - .‬تشديد‪ .‬واعمل‬
‫بالاحاديث التي صحت عند الائمة ‪ ,‬ولو لم يأخذ بها امامك ‪ -‬تحز الخـير بكلتا يديك ولا تقل‪ " :‬ان امامي لم يأخذ بها )ولا اعمل بها ‪,‬‬

‫‪Shamela.org‬‬ ‫‪١٣‬‬
‫الميزان الخضر ية‬ ‫‪١‬‬

‫لان الائمة كلهم اسري في يد الشر يعة‪ .‬لا يخرجون عنها وقد تبرءوا كلهم من القول في دين الل ّٰه بالرأي‪ .‬الذي لم يكن مندرجا تحت‬
‫اصل من ادلة الشر يعة كما بيناه في مقدمة كتابنا " مختصر السنن الـكبري " للامام البيهقي ‪ ,‬فيجب عليك يا اخي ان تحمل امامك ‪ -‬في‬
‫كل حديث لم يأخذ به ‪ -‬انه لم يظفر به ‪ ,‬او ظفر به ‪ ,‬لـكن لم يصح عنده ‪ ,‬والمذهب الواحد لا يحتوي علي جميع احاديث الشر يعة ابدا ‪,‬‬
‫ولو قال امامه‪ " :‬اذا صح الحديث فهو مذهبي بل ربما ترك اتباعه من المقلدين احاديث كثيرة صحت بعده ‪ ,‬وكان الاولي لهم الاخذ بها‬
‫‪ ,‬عملا بوصية امامهم ‪ ,‬فان اعتقادنا في الائمة ان احدهم لو عاش ‪ ,‬وظفر بذلك الحديث الذي صح بعده ‪ ,‬الاخذ به‪ .‬وكذلك اعتقادنا‬
‫فيه ‪ ,‬انه لو صح عند غيره من الائمة لاخذ به‪ .‬وقد نقل الحافظ المنذري رحنه الل ّٰه‪ ،‬عن الامام الشافعي رضي الل ّٰه عنه ‪ ,‬انه ارسل‬
‫)مرة( الي الامام احمد بن حنبل رضي الل ّٰه عنه يقول له‪ " :‬اذا صح عندكم حديث فاعلمونا به حتي نأخذ به ونترك قولنا وقول غيرنا‪" .‬‬
‫وفي ذلك دليل علي ان المراد بقول الامام الشافعي رضي الل ّٰه عنه‪ " :‬اذا صح الحديث فهو مذهبي " اي صح عندي او عند غيري من‬
‫الائمة ‪ ,‬خلاف ما فهمه بعضهم من كلام الامام الشافعي‪ .‬ثم ان الامام الشافعي ‪ ,‬او غيره من المجتهدين ‪ ,‬اذا اخذوا بحديث صح عند‬
‫الغير ‪ ,‬فلا يلزم منه ان يكون ذلك علي وجه التقليد له في الحكم‪ .‬فان المجتهد لا يقلد غيره ‪ ,‬وانما ذلك من باب قبول الخـير ‪ ,‬وقد عول‬
‫المجتهدون كلهم في الاحاديث التي اخذوا بها علي مشايخهم ‪ ,‬ومشايخهم علي من قبلهم‪ .‬وهكذا‪ .‬فاذا اتصل الحديث لمجتهد بطر يق معتبر‬
‫‪ ,‬فللمجتهد الاخر العمل به ‪ ,‬كما عمل به من قبله‪.‬‬
‫نبه علي ذلك برهان الدين البقاعي في المسائل التي وقع السؤال عنها من الحطيب )الوريدي بالمدينة المشرفة ‪ ,‬وقد بان لك ان احدا من‬
‫المجتهدين رضي الل ّٰه عنهم ‪ ,‬لم يخرج عن الشر يعة في قول من اقواله ‪ ,‬لان استمدادهم كلهم من عين الشر يعة ومن خطأهم فانما هو لخفاء‬
‫مداركهم فان الل ّٰه تعالي اختارهم لدينه ‪ ,‬وجعل لكل واحد اتباعا لا يحولون عن رأيه ‪ ,‬لاعتقادهم فيه ‪ ,‬ان مذهبه مستمد من عين‬
‫الشر يعة‪ .‬كما نوضح ذلك في الخاتمة ‪ ,‬ونضرب المثال بشبكة الصياد ‪ ,‬وبذلك يكمل اعتقادنا‪ :‬ان سائر ائمة المسلمين علي هدي من ربهم ‪,‬‬
‫ومن خطأ مجتهدا فقد اخرجه عن الشر يعة ‪ ,‬واذا خرج عنها خرج عن الهدي ‪ ,‬فتنبه لذلك ‪ ,‬ولا تكن من الغافيلن‪ .‬واما حديث‪ " :‬اذا‬
‫اخطأ احدكم فله اجر ‪ ,‬وان صاب فله اجران "‪ .‬فالمراد بهذا الخطأ‪ :‬الخطأ الاضافي عند من خطاه ‪ ,‬لا الخطأ في نفس الامر‪ .‬كأن‬
‫اخطالدليل الوارد عن الشارع فلم يظفر به ‪ ,‬فهذا له اجر واحد‪) .‬وهو اجر اجتهاده( والثاني له اجران احدهما اجر اجتهاده والاخر اجر‬
‫ٺتبعه الدليل ‪ ,‬ولو كان المراد به الفساد لم يجعل له الشارع فيه اجرا كما مر‪ .‬وقول بعضهم‪ " :‬ان المجتهد اذا اخطأ الشر يعة يؤجر علي‬
‫رغم انفه " كلام ساقط‪ .‬هكذا ذكره الامام محمد بن حزم رضي الل ّٰه عنه ‪ ,‬وقال‪ " :‬لم يكن الاجتهاد في عرف السلف الا الاجتهاد في‬
‫طلب الدليل في تلك الحادثة ‪ ,‬من كلام الشارع ‪ ,‬لا ان المجتهد يشرع حكما زائدا علي الشر يعة من نفسه ‪ ,‬فان هذا شرع لم يأذن به الل ّٰه‪.‬‬
‫وقد كان رسول الل ّٰه صلي الل ّٰه عليه وسلم يقول‪ " :‬اتركوني ما تركتكم " ينهي امته عن كثرة السؤال لا سيما الصحابة ‪ ,‬خوفا من ز يادة‬
‫تنزل الاحكام التي يعجزون عن العمل بها‪ .‬وقال للسائل عن فر يضة الحج‪ " :‬لو قلت نعم لوجبت ولن تستطيعوا "‪.‬‬
‫قال وتوقف السلف الصالح ‪ -‬من الصحابة والتابعين والائمة المجتهدين ‪ -‬عن جواب الفتوي التي يستفتون فيها‪ :‬يؤذن بما قلناه ‪ ,‬فكان‬
‫احدهم اذا لم يجد دليلا عن الشارع‪ :‬يتوقف عن الفتوي ‪ ,‬حتي ربما يعرض السؤال علي اربعين نفسا ‪ ,‬وهم يردونه حتي يرفع الي‬
‫الاول " انتهي كلام ابن حزم‪.‬‬
‫وذكر الشيخ محي الدين بن عربي في الفتوحات المكية ما نصه‪ " :‬الذي اقول به كراهة القياس في دين الل ّٰه عز وجل ‪ ,‬وبه قال جعفر‬
‫الصادق وغيره من التابعين )لانه طرد حكم تلك العلة ‪ ,‬ولو انه اراد لكان ابانه في حديث من الاحاديث‪ .‬فاذا رأينا الشارع ترك الحكم‬
‫في شئ ‪ ,‬فجمعه مع غيره لعلة جامعه ‪ ,‬كتركه ذكر الارز في حديث الربا لا يناسب جعلنا ذلك توسعة من الشارع لنا ‪ ,‬ولم نلحقه بالبر‬
‫والشعير مثلا‪ .‬لان ذلك فضول ومزاحمة للشارع في التشر يع "‪ .‬قال‪ " :‬ولما اجتمع جعفر الصادق بالامام ابي حنيفة رضي الل ّٰه عنهما ‪,‬‬
‫قال له‪ :‬بلغنا انك تقيس في دين الل ّٰه تعالي ‪ ,‬فلا تقس ‪ ,‬فان اول من قاس ابليس ‪ ,‬واطال في ذلك‪ .‬ثم قال‪ " :‬علي ان اهل الـكشف ‪-‬‬
‫من امثالنا ‪ -‬لا يحتاجون قط الي قياس ‪ ,‬لان الل ّٰه تعالي يقول ‪ -‬ما فرطنا في الكتاب من شئ ‪ -‬يعني الا )و( صرحنا به واما ما انطوت‬
‫عليه تلك الايات من المعاني فهذا لو فتح بابه لعجز الخلق كلهم عن العمل به ضرورة‪ .‬فقيل له‪ " :‬فما تقولون في تحريم ضرب الوالدين‬
‫‪ ,‬فانه لم يصرح به القرءان ‪ ,‬فلولا قياسه علي التأفيف ما وجدنا له دليلا صر يحا؟‪ .‬قال الشيخ‪ " :‬قد قال تعالي ‪ -‬وبالوالدين احسانا ‪-‬‬

‫‪Shamela.org‬‬ ‫‪١٤‬‬
‫الميزان الخضر ية‬ ‫‪١‬‬

‫ومعلوم ان الضرب ليس باحسان ‪ ,‬فحرمنا ضربهما من حيث كونه غير احسان ‪ ,‬بهما ‪ ,‬ولم نحتج الي قياس‪ " .‬انتهي‪.‬‬
‫لـكن لما كان هذا المقام صعب للمرتقي ‪ ,‬ما كل احد يصل اليه ‪ ,‬جعلنا القياس من الدين‪ .‬فانه من انواع الاستنباط الذي امرنا الل ّٰه‬
‫تعالي باتباعه ‪ ,‬فان من مقام العلماء ان يبينوا لنا ما اجمل في الكتاب والسنة ‪ ,‬و يجب علينا اتباعهم في ذلك ما دمنا مقلدين‪ .‬فاذا بلغ‬
‫)احد منا مقام الاجتهاد والـكشف فقد استغني عن تقليد غيره‪ .‬فاعمل يا اخي بالعلم علي وجه الاخلاص والزهد والورع والخشية‬
‫والخوف حتي تصير تترقي في درجات الشر يعة ‪ ,‬الي ان تقف بعين قلبك علي العين الاولي من عيون الشر يعة‪ .‬وتصير تنظر الي الشر يعة‬
‫بالعين التي كان ينظر بها الصحابة الي الشر يعة‪ .‬قبل وجود المجتهدين او المقلدين وتدوين مذاهبهم ‪ ,‬ثم تستصحب ذلك المشهد وانت ناز‬
‫ل في ادوار الشر يعة وادوار علمائها ‪ ,‬الي وقتنا هذا‪ .‬ومن اقرب مثال لذلك موارد البحر ‪ ,‬فانه من اي الجوانب اتيته منها وجدته بحرا‪.‬‬
‫فالشر يعة كالبحر ‪ ,‬والمغترفون منه كالعلماء الذين يستنبطون الاحكام منها ‪ ,‬وذلك لان لسان الشر يعة اوسع اللغات واجمعها للمعاني ‪ ,‬فما‬
‫من مجتهد يأخذ منها حكما الا وذلك اللفظ يشمله‪ .‬مثال ذلك لفظ " القرء " شهد اللسان انه يطلق علي‪ :‬الطهر ‪ ,‬وعلي الحيض ‪ ,‬وكذلك‬
‫لفظ " اللمس " يطلق علي المس باليد ‪ ,‬وعلي الجماع‪.‬‬
‫وقس علي ذلك‪ :‬واياك والمبادرة الي تخطئة مجتهد الا بعد احاطتك بسائر لغات العرب ‪ ,‬التي احتوت عليها الشر يعة ومنازعها‪ .‬وسمعت‬
‫سيدي عليا الخواص رحمه الل ّٰه يقول‪ " :‬اياكم والانكار علي كلام احد من العلماء الا بعد الاحاطة بجميع طرق الشر يعة ‪ ,‬ولم تجدوا ذلك‬
‫الكلام فيها "‪ .‬فقد روي الطبراني مرفوعا‪ " :‬ان شر يعتي جاءت علي ‪ ٣٦٠‬طر يقة ‪ ,‬فمن سلك " طر يقة " منها نجا " انتهي‪ .‬وكذلك‬
‫من اقرب مثال لارتباط اقوال العلماء بالشر يعة شبكة الصياد للسمك‪ .‬فانظ الي العين الاولي منها التي هي مثال عين الشر يعة المطهرة ‪,‬‬
‫وانظر الي العيون المنتشرة عنها في سائر الادوار ‪ ,‬التي هي مثال اقوال الائمة المجتهدين ومقلديهم‪ .‬الي يوم القيامة ‪ ,‬تحط علما " بالبصيرة‬
‫بارتباط اقوالهم بعين الشر يعة المطهرة ‪ ,‬وتجد كل عين مرتبطة بما فوقها ‪ ,‬حتي تنتهي الي العين الاولي ‪ ,‬وتشهد حينئذ ان كل مجتهد‬
‫مصيب ‪ ,‬وانه لست عين اولي الشر يعة من عين اخري ‪ ,‬الا من حيث وضوح المقتبس من نور الشمس عين الشر يعة لا غير‪ .‬فيا سعادة‬
‫من اطلعه الل ّٰه تعالي " علي " مثل ذلك كما اطلعنا ‪ ,‬و يا فوزه وسروره اذا زءاه العلماء يوم القيامة ‪ ,‬واخذوا بيده وتبسموا في وجهه‬
‫‪ ,‬وتسارعوا الي الشفاعة فيه بين يدي الل ّٰه عز وجل و يا شقاوة من خطا المجتهدين ومقلديهم بفهمه السقيم ‪ ,‬من غير دليل واضح ‪ ,‬و يا‬
‫تعبسهم في وجهه اذا رأوه ‪ ,‬فالحمد لل ّٰه الذي جعلنا ممن يوجه كلام العلماء ولا يرد من اقوالهم شيئا ‪ ,‬اما لصحة دليلهم ‪ ,‬واما لاستناد‬
‫ذلك الي اجتهادهم‪ .‬وقد ورد مرفوعا " اصحابي كالنجوم بايهم اقتديتم اهتديتم "‪ .‬وهذا الحديث وان كان فيه مقال عند المحدثين ‪ ,‬فقد‬
‫صح من طر يق الـكشف‪.‬‬
‫ومعلوم ان المجتهدين علي مدرجة الصحابة ‪ " ,‬سلـكوا " فلا تجد محتهدا ‪ ,‬الا وسلسلته متصلة بصحابي ‪ ,‬او بجماعة من الصحابة ‪ ,‬بل قدم‬
‫جمهور العلماء كلام المجتهدين علي اقوال " اخاد الصحابة لاطلاع المجتهدين علي اقوال الصحابة كلهم ‪ ,‬او غالبهم ‪ ,‬فيأخذ احدهم بما‬
‫اتفقوا كلهم عليه او غالبهم وذلك اقوي من " قول احاد الصحابة ‪ ,‬فتأمل‪ .‬ولما عل‪ .‬مني الخضر عليه الصلاة والسلام هذه الميزان‬
‫السابقة ‪ ,‬اوقفني علي عين الشر يعة شهودا فقلت له‪ " :‬اريد ان اعلمها ذوقا ‪ ,‬فقال لي‪ :‬اكثر من الجوع والورع حتي يرق حجابك ‪ ,‬وتعرفها‬
‫كشفا وشهودا ‪ ,‬وذوقا ‪ ,‬فان علمها تقليدا لا يكفي عندنا "‪ .‬فاخذت في الجوع والورع ‪ ,‬حتي كنت لا امر تحت ظل عمارة احد من‬
‫الولاة وحاشيتهم ‪ ,‬فضلا عن ذوق طعامهم ‪ ,‬وبالغت في الورع ‪ ,‬حتي كنت لا ءاكل طعام احد يبيع علي " من لا يتورع من القضاة‬
‫والتجار والسوقة ‪ ,‬ثم تركت الاكل جملة‪.‬‬
‫فكنت لا ءاكل حتي يحصل لي الاضطرار ‪ ,‬ومازلت كذلك الي ان شهدت عين الشر يعة وما تفرع منها فعلمتها علما يقينا لا يدخله شك‬
‫‪ ,‬وصرت اقرر جميع مذاهب المجتهدين ومقلديهم كما يقررها اصحابها كما سيأتي بيانه في الخاتمة ‪ ,‬فالحمد للله علي ذلك‪ .‬فاياك يا اخي ان‬
‫تطلب ذوق هذه الميزان " بالاطلاع " عليها كشفا وانت تأكل الشبهات او تعمل بعلمك من غير اخلاص ‪ ,‬بل ر ياء للناس وحبا لنشر‬
‫الصيت والسمعة ‪ ,‬فان ذلك لا يصح " لك " ولو كنت علي عبادة الثقلين ‪ ,‬وان " تطلبت " تقريب الطر يق عليك يا اخي " فاسلك‬
‫يا اخي علي يد شيخ صادق متضلع من علوم الشر يعة كلها ‪ ,‬علي الصدق والاخلاص‪ .‬وانا اضمن لك ان شاء الل ّٰه تعالي الوصول الي‬
‫عين الشر يعة الاولي‪ .‬التي يتفرع منها قول كل مجتهد او مقلد من جميع المذاهب المندرسة والمستعملة‪ .‬واما سلوك بغير شيخ علي الر ياء‬
‫والدعاوي والرعونات ‪ ,‬فلا وصول لك اليها ‪ -‬كما مر ايضاحه‪ .‬وقد نبه الشيخ محي الدين في الباب الثالث والسبعين من الفتوحات‬

‫‪Shamela.org‬‬ ‫‪١٥‬‬
‫الميزان الخضر ية‬ ‫‪١‬‬

‫المكية ‪ ,‬في الجواب الثالث من اسئلة الحكيم الترمذي علي هذه الميزان ‪ ,‬علي وجه الاشارة لا التصريح ‪ ,‬فقال‪ " :‬اعلم ان منتهي الخلق‬
‫الي الل ّٰه تعالي " وبدوهم من حضرته ‪ ,‬وليس وراء الل ّٰه مرمي ولا مرقي ‪ ,‬ومن تخلق بهذا المقام كشفا و يقينا وصل الي مقام يرتفع عنده‬
‫فيه الخلاف من حضرة الاسماء الالهية وما يتفرع منها في الشر يعة الواردة والمستنبطة " واطال في ذلك‪.‬‬
‫ثم قال‪ " :‬ومن هذا المقام نزل قوله تعالي ‪ -‬تلك الرسل فضلنا بعضهم علي بعض ‪ -‬فاهل العقول علي ان المراد التفضيل الذي يدركه‬
‫العقل ويتفاوت الناس فيه ‪ " ,‬وهذا امر يذوقه السالك في ابتداء امره " فاذا انتهي في هذا المقام انجلت عنه عقد التفضيل بشهود قوله‬
‫تعالي " لا نفرق بين احد من رسله ‪ -‬ومعلوم ان من فضل بالعقل فقد فرق ‪ ,‬بخلاف من فرق " وفضل با طلاع الحق تعالي علي‬
‫مراتب الرسل ‪ ,‬فافهم‪ .‬فانه حينئذ يشهد وحدانية الامر ‪ ,‬ويري ان عين الجمع هي عين الفرق ‪ ,‬مذهب واحد بعينه ‪ ,‬يدين الل ّٰه تعالي‬
‫به ‪ ,‬ولا يري مخالفته ‪ ,‬فينتهي به هذا المشهد " الي مقام يصير يتعبد نفسه فيه " بجميع المذاهب من غير فرقان " انتهي‪ .‬وسمعت سيدي‬
‫الشيخ عبد القادر الدشطوكي رضي الل ّٰه عنه يقول‪ " :‬ما ثم ولي حق له قدم الولاية المحمدية ‪ ,‬الا و يخرج عن التقليد للمجتهدين ‪ ,‬و يأخذ‬
‫العلم من حيث اخذه المجتهدون "‪ .‬فاذا وصل الي ذلك‪ :‬قل اخوانه المساوون له في العلم ‪ ,‬وكثر الانكار عليه من جميع المقلدين وذلك‬
‫لعزة مراقي علمه ‪ ,‬وما ثم لهم دليل واضح يرد كلام القوم ‪ ,‬لا عقلا ولا شرعا‪ .‬وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الل ّٰه تعالي يقول‪" :‬‬
‫انما يقع الانكار كثيرا علي اهل الطر يق ‪ ,‬لان علومهم اتت من طر يق الـكشف دون العقل والفكر ‪ ,‬فلذلك انكرتها العقول ‪ ,‬من حيث‬
‫انكارها لغرابة طر يقها علي الفكر ‪ ,‬بخلاف ما اتاهم من طر يق الفكر ‪ ,‬فانه مألوف لهم ‪ ,‬فلذلك يقبلونه و يقدمونه علي علم الـكشف "‪.‬‬
‫ومن هنا تعلم يا اخي عذر بعض الفقهاء اذا انكروا هذه الميزان ‪ ,‬فانها من علوم الخضر عليه الصلاة والسلام ‪ ,‬وهي علوم يتسارع اليها‬
‫انكار علماء الشر يعة‪ .‬بدليل قصة موسي عليه الصلاة والسلام معه ‪ ,‬وما وضعتها في هذه الطروس الا لينظر فيها علماء الاسلام " فاذا "‬
‫لم يرتضوها رفعتها ‪ ,‬فاني بحمد الل ّٰه احب الوفاق ‪ ,‬واكره انفرادي عن علماء الشر يعة بشئ لا يوافقوني عليه ‪ ,‬والحمد لل ّٰه رب العالمين‬
‫فاذا اردت يا اخي معرفة هذه الميزان من غير بطء فاعمل علي الاخلاص بما صرحت به الشر يعة‪ .‬فاذا استوفيت العمل بما صرحت‬
‫به ‪ ,‬فلك حينئذ العمل بما يزيد عليه بالقياس والاستنباط ‪ ,‬وتأمل في النذر لما كان فيه مزاحمة للشارع في التشر يع كيف نهي النبي‬
‫صلي الل ّٰه عليه وسلم عنه ‪ ,‬والزم الناذر بالوفاء به ‪ ,‬عقوبة له ‪ ,‬والحق به الاثم " ان لم يأت به لسوء ادبه بالزامه نفسه شئيا لم يكلفه الشارع‬
‫به ‪ ,‬ولو انه لزم الادب مع الشارع ‪ ,‬وترك النذر لكان غير مكلف به " وقد ورد ان رسول الل ّٰه صلي الل ّٰه عليه وسلم امر الناس بالفطر‬
‫في السفر في رمضان ‪ ,‬فابي قوم الفطر حتي لحقتهم مشقة شديدة ‪ ,‬وصار احدهم مضملجعا والناس يرشون عليه الماء من الجهد ‪ ,‬فبلغ‬
‫رسول الل ّٰه صلي الل ّٰه عليه وسلم فقال " اولئك العصاة ‪ ,‬اولئك العصاة‪ .‬فانظر كيف جعل رسول الل ّٰه صلي الل ّٰه عليه وسلم صومهم ذلك‬
‫معصية ‪ ,‬حيث خرجوا عن طاعته وامره ‪ ,‬مع ان الصوم نفسه مأمور به‪ .‬وقد علمت يا اخي بقرائن ادلة الشر يعة ان الحق تعالي لم‬
‫يكلفنا ما يشق علينا ابدا ‪ ,‬ونحن تابعون‪ :‬ما نحن مشرعون ‪ ,‬وكل من شدد شدد الل ّٰه عليه ‪ ,‬كما ثبت في الصحيح ‪ ,‬ومن شق علي الامة‬
‫فقد دخل في دعائه صلي الل ّٰه عليه وسلم‬
‫" اللهم من شق علي امتي فاشقق اللهم عليه ‪ " ,‬واعلم انه لا ينافي ما ذكرناه الزام العلماء للعامة بالتزام مذهب معين‪ .‬وان كان لم يرد‬
‫بذلك شرع بخصوصه ‪ ,‬لانهم ما الزموهم بذلك الا رحمة بهم ‪ ,‬من باب ارتكاب اخف المفسدتين ‪ ,‬فلولا الزامهم العامي بمذهب معين‬
‫‪ ,‬لضل عن طر يق الهدي ‪ ,‬لعجزه عن المشي بغير دليل‪ .‬فان الشر يعة ان لم تفهم هكذا لما فهمت ‪ ,‬وان لم " تقيد " مذاهب المجتهدين‬
‫هكذا فما قررت ولا صح للعبد كمال الاعتقاد في ان سائر ائمة المسلمين علي هدي من ربهم‪ .‬وقد وضعت غالب الكلام علي هذه الميزان‬
‫بقصد الانتصار للائمة المجتهدين ومقلديهم رضي الل ّٰه عنهم اجمعين ‪ ,‬خلاف ما فهمه بعض من اعمي الل ّٰه عين بصيرته من قوله‪ " :‬ان في‬
‫ذلك تخطئة للائمة لان كل امام لا يقول بما قاله الاخر "‬
‫فحمل كلام كل واحد علي محمل حسن يوافق الشر يعة فيه تخطئة لمن خطاه " انتهي "‪ .‬فانظر يا اخي ال هذا العمي الشديد ‪ ,‬فان‬
‫المنقول‪ :‬ان المجتهد لا يخطئ مجتهدا ‪ ,‬وانما يسلم له ‪ ,‬وقد " عبد " الل ّٰه تعالي كل مجتهد بما ظهر له ‪ ,‬وحرم عليه الخروج عنه الي قول غيره‬
‫‪ ,‬اذا لم يطلع علي استمداده من عين الشر يعة الـكبري ‪ ,‬التي يتفرع منها جميع المذاهب‪ .‬وقد ارسل الامام لليث بن سعد يسأل الامام‬
‫مالكا رضي الل ّٰه عنهما ‪ ,‬عن بعض الاحكام ‪ ,‬فكتب اليه الامام مالك‪ :‬اما بعد " فانك يا اخي امام هدي ‪ ,‬وحكم الل ّٰه تعالي في هذه‬

‫‪Shamela.org‬‬ ‫‪١٦‬‬
‫الميزان الخضر ية‬ ‫‪١‬‬

‫المسألة‪ :‬ما قام عندك " انتهي‪ .‬وقد ذكر الشيخ محي الدين رحمه الل ّٰه تعالي في الكلام علي " مسح الخف " من كتاب الفتوحات المكية‬
‫ما نصه‪ " :‬لا ينبغي لاحد قط ان يطعن في حكم محتهد ‪ ,‬لان الشرع الذي هو حكم الل ّٰه تعالي قد قرر ذلك الحكم ‪ ,‬فصار شرعا للله بتقرير‬
‫الل ّٰه اياه "‬
‫قال‪ " :‬وهذه مسئلة يقع في محظورهاا كثير من اصحاب المذاهب ‪ ,‬لعدم استحضارهم ما نبهناهم عليه ‪ ,‬مع كونهم عالمين به ‪ ,‬فكل من‬
‫خطا مجتهدا بعينه ‪ ,‬فكانه خطأ الشارع فيما قرره حكما " انتهي‪ .‬وفي هذا الكلام الحاق اقوال المجتهدين بنصوص الشارع ‪ ,‬وجعل " قولي‬
‫المجتهد كأنهما نص واحد في جواز العمل بايهما شاء‪ .‬ومما يؤيد ما ذكرناه قول علمائنا‪ " :‬لو صلي المجتهد في القبلة ‪ " ,‬لاربع جهات فلا‬
‫قضاء مع انه صلي لغير القبلة في ثلاث جهات بيقين "‪ .‬لانه لما كانت كل صلاة مستندة الي الاجتهاد قلنا بالصحة ولم تكن جهة اولي‬
‫من جهة فافهم‪ .‬وقال في موضع اخر من الفتوحات‪ " :‬اعلم انه كما يجب عليك الايمان بصحة شرائع الانبياء و وان خالفوا شر يعتك ‪,‬‬
‫فكذلك يجب عليك الايمان والتصديق بصحة ما استنبطه المجتهدون ‪ ,‬وان خالف كلام امامك " انتهي‪ .‬وقال في الباب التاسع والستين‬
‫" وثلاثمائة من الفتوحات ما نصه ايضا‪ " :‬اعلم ان المجتهدين هم الذين ورثوا الانبياء حقيقة لانهم في منازل الانبياء والمرسلين من حيث‬
‫الاجتهاد وذلك لانه صلي الل ّٰه عليه وسلم اباح لهم الاجتهاد في الاحكام ‪ ,‬وذلك تشر يع عن امر الشارع‪.‬‬
‫وتارة يخففه حتي كأنه جالس " او واقف " علي " الرضف ‪ ,‬والرضف " الحجارة المحماة " بالنار " تشر يعا للاكابر‪ .‬قال‪ " :‬وكذلك القول‬
‫في جلسة الاستراحة ‪ ,‬كان صلي الل ّٰه عليه وسلم يفعلها تارة و يتركها تارة اخري ‪ :,‬تشر يعا للاقو ياء في الثاني والضعفاء في الاول‪ .‬وقد‬
‫يثقل التتجلي علي الساجد ‪ ,‬فلا يقدر علي النهوض من السجود ابدا ‪ ,‬ومن شك في قولي هذا فليجمع حواسه حتي يصير لا يشهد الا‬
‫الل ّٰه دون شئ من الاكوان كلها ‪ ,‬ثم يناجي ربه اذ ذاك علي الحضور ‪ ,‬فانه لا يقدر ان ينهض من غير جلوس ابدا‪ .‬فكان من رحمة‬
‫الشارع بنا امرنا بجلسة الاستراحة " انتهي‪ .‬فان قلت‪ :‬فما " تقول " في حديث " من لم يقم صلبه من الركوع والسجود فلا صلاة له "‪.‬‬
‫فالجواب‪ " :‬ان معناه ان من لم يرفع راسه ‪ ,‬الي القيام او الجلوس بين السجدتين ‪ ,‬فلا صلاة له كاملة ‪ ,‬لانه لا طاقة له بالمكث في‬
‫الركوع والسجود ‪ ,‬ولو انه طول ذلك لزهقت روحه ‪ ,‬او تقلقت وخرجت من حضرة الل ّٰه تعالي ‪ ,‬واذا خرجت من حضرة الل ّٰه تعالي‬
‫فصلاته خداج ‪ ,‬و يحتمل ان يقال‪ :‬لا صلاة له اصلا ‪ ,‬لما تحصل عنده من الضيق والحصر في الركوع والسجود ‪ ,‬فتصير عبادته كعبادة‬
‫المكره ‪ ,‬لا ثواب فيها ولا سقوط "‪ .‬انتهي‪ .‬فان احتج احد بحديث المسئ صلاته فلا " يصدع " فيما قلناه ‪ ,‬لان المسئ صلاته‪ :‬لم يكن‬
‫من اكابر الصاحابة ‪ ,‬فلذلك امره النبي صلي الل ّٰه عليه وسلم بالاعتدال جزما ‪ ,‬رحمة به " حين علم " انه لا يطيق تحمل توالي تجليات الحق‬
‫تعالي علي قلبه بالعظمة ‪ ,‬فنهاه عن التشبه بالاكابر في السرعة الي الركوع والسجود ‪ ,‬لئلا يقع في النفاق ‪ ,‬ولا يخرج بعدم الاعتدال عن‬
‫الحضرة ‪ ,‬فيصير واقفا بجسم من غير قلب‪.‬‬
‫وكان صلي الل ّٰه عليه وسلم رحمة علي الخلق اجمعين‪ ".‬فافهم‪ .‬فقد علمت من حميع ما قررناه ان اصل الرفع من الركوع ومن السجدة‬
‫الاولي‪ :‬متفق عليه بين الائمة ‪ ,‬وانما الخلاف في التطو يل وعدمه ‪ ,‬فالاكابر يقدر احدهم علي النزول " من " الركوع او السجدة الاولي‬
‫الي الثانية ‪ ,‬علي التوالي ‪ ,‬والاصاغر لا يقدر احدهم علي ذلك الا بعد اعتدال واستراحة فيه‪ .‬وايضا ذلك‪ :‬ان من وصل الي محل‬
‫القرب من الركوع او السجود ‪ ,‬فلا يؤمر بالرجوع الي محل البعد الا لحكمة ‪ ,‬ولعلها ضعف العبد عن تحمل طول شهوده عظمة ربه في‬
‫ركوعه وسجوده‪ .‬فان قيل‪ :‬فما الحكمة في ٺثنية السجود دون الركوع في غير صلاة الـكسوف؟ غير متواجد حاليا ً‬
‫فان قيل‪ :‬فما الحكمة في ٺثنية السجود دون الركوع في غير صلاة الـكسوف؟ فالجواب‪ :‬الحكمة في ذلك شدة العظمة التي تتجلي في‬
‫السجود ‪ ,‬فشرع للعبد الرفع بين السجدتين ليتنفس بذلك من تعب تلك السجدة ‪ ,‬و يقدر علي سؤال المغفرة له ولاخوانه ‪ ,‬كما مر‪ .‬وهذا‬
‫الامر في حق الاكابر والاصاغر‪ :‬علي حد سواء‪ .‬وقال بعض العارفين‪ " :‬انما ثني السجود لان السجدة الاولي كانت امتثالا للامر‬
‫‪ ,‬عكس ما وقع لابليس واما الثانية فكانت شكرا علي حصول امتثال الامر "‪ .‬فتأمل يا اخي في هذا المحل ‪ ,‬فانك لا تكاد تجده في‬
‫كلام احد‪ .‬من الائمة ‪ ,‬والل ّٰه اعلم‪ .‬واما وجه من لم يوجب الصلاة علي النبي صلي الل ّٰه عليه وسلم في الصلاة ‪ ,‬فهو لان الل ّٰه تعالي امرنا‬
‫بالصلاة والتسليم عليه صلي الل ّٰه عليه وسلم مطلقا ‪ ,‬من غير تقييد بمحل دون محل ‪ ,‬فلما ورد الامر بها في الحديث ‪ ,‬كان الاولي حمل ذلك‬
‫استحبابا في التشهد الاول والاخير ‪ ,‬لان موضوع الصلاة بالاصالة ‪ ,‬انما هو لذكر الل ّٰه تعالي وحده ‪ ,‬والمناجاة له بكلامه‪.‬‬

‫‪Shamela.org‬‬ ‫‪١٧‬‬
‫الميزان الخضر ية‬ ‫‪١‬‬

‫لـكن لما كان رسول الل ّٰه صلي الل ّٰه عليه وسلم هو الواسطة العظمي بيننا وبين الل ّٰه تعالي في جميع الاحكام التي تعبدنا الل ّٰه بها ‪ ,‬كان من‬
‫الادب ان لا ننساه صلي الل ّٰه عليه وسلم ‪ ,‬كلما حضرنا بين يدي ربنا سبحانه وتعالي ‪ ,‬فانه لا يقارق الحضرة الالهية ابدا ‪ ,‬لـكن استحبابها‬
‫خاص بالاصاغر الذين لا يقدرون علي شهود الوسائط الا بعسر ‪ ,‬لما طرقهم من تجلي عظمة الحق تعالي حال جلوسهم للتشهد‪ .‬واما‬
‫الاكابر ‪ ,‬فان الل ّٰه تعالي اعطاهم القدرة علي شهودهم الوسائط مع الحق جل وعلا ‪ ,‬ليعطوا كل ذي حق حقه " وقد بسطنا الكلام علي‬
‫هذا المحل في الباب الرابع من كتابنا المسمي بـ " طهارة السر والفؤاد من سوء الظن بالل ّٰه تعالي وبالعباد "‪ .‬عند الجواب عن قول القاضي‬
‫عياض‪ :‬وشذ الامام الشافعي ‪ ,‬فقال بوجوب الصلاة علي رسول الل ّٰه صلي الل ّٰه عليه وسلم في التشهد الاخير ‪ ,‬فراجعه‪ .‬وحاصله‪ :‬رجوع‬
‫هذه المسئلة الي تخفيف وتشديد ‪ ,‬كما سبق في الميزان‪ .‬واما وجه من قال بوجوب تقديم الشهادتين علي الصلاة علي رسول الل ّٰه صلي الل ّٰه‬
‫عليه وسلم في التشهد ‪ ,‬فلان ذكر الشهادتين من الايمان ‪ ,‬فوجب تقديهما علي الصلاة علي رسول الل ّٰه صلي الل ّٰه عليه وسلم ‪ ,‬ومن حقق‬
‫النظر وامعن فيه ‪ ,‬وجد رسول الل ّٰه صلي الل ّٰه عليه وسلم يحب تقديم ذلك علي ذكر الصلاة عليه ‪ ,‬من حيث ان امر الشهادتين والتحيات‬
‫متعلق بربه ‪ ,‬والصلاة عليه والتسليم يتعلقان به بالاصالة ‪ ,‬وان كان اسم الل ّٰه تعالي لا تخلو منه الصلاة عليه ‪ ,‬فافهم‪ .‬واما وجه من‬
‫قال‪ :‬تجب نية الخروج من الصلاة ‪ ,‬فهو لان المصلي كأنه في حضرة الل ّٰه الخاصة ومعلوم ان من الادب في حق الاكابر من الخلق‪:‬‬
‫استئذانهم عند الانصراف من حضراتهم الي موضع اخر دون حضرتهم في الشرف ‪ ,‬استمالة لقلب ذلك الـكبير ‪ ,‬وتطيبا لقلوب اخوانه‬
‫من اهل حضرة الملك ‪ ,‬فالل ّٰه تعالي احق بهذا الادب من سائر خلقه " انتهي‪.‬‬
‫" وانظر اخاك اذا كان يا اخي جالسا " معك يحادثك ثم قام من غير استئذان ولا سلام ‪ ,‬كيف يحصل عندك منه وحشة ‪ ,‬لاخلاله‬
‫بتعظيم اهل الحضرة والادب معهم‪ .‬عكس ما تجد ممن استاذنك عند ارادة الانصراف ‪ ,‬فانك تجد منه ‪ ,‬انسا وراحة ‪ ,‬تأمل ذلك‪.‬‬
‫واما وجه من قال‪ :‬يستجب نية الخروج من الصلاة ‪ ,‬ولا تجب ‪ ,‬فهو في حق من كان مشهده ان الوجود كله " حضرة الل ّٰه تعالي "‬
‫" فهو لا يري خروجه من حضرة الل ّٰه تعالي " الي مفارقته " لها وايضا فلو ان ذلك مأمور به لبينه لنا الشارع ‪ ,‬ولو في حديث واحد ‪,‬‬
‫فلما سكت عنه * فما بقي الا انه من ادب العبيد ‪ ,‬بل قال بعضهم‪ :‬ان ذلك لا يلحق بالمندوبات الشرعية لان منصب الشارع يجل‬
‫ان يساو يه احد في رتبة التشر يع ‪ ,‬فرجع الامر في ذلك الي مرتبتي الشر يعة المذكورة في الميزان تخفيفا وتشديد‪ .‬واما وجه من قال‪:‬‬
‫ينصرف من الصلاة عن اي جهة شاء من يمين او شمال ‪ ,‬مقدما اي جهة شاء فهو لان الجهات في اصلها كلها بالنسبة الي الل ّٰه تعالي‬
‫واحدة ‪ ,‬ومن كان مشهده كذلك لا يعين ترجيحا لجهة علي جهة ‪ ,‬فلا يخاطب الا بما يعقل‪ .‬واما وجه من قال ينصرف علي جهة‬
‫اليمين ‪ --‬ان لم تكن له حاجة من صوب اليسار ‪ --‬فهو حطاب لمن كان مشهده ترجيح ما رجح الشارع في اتباع ما ورد ‪ ,‬بقطع النظر‬
‫عن حكمة العلل في الامور‪ .‬وسمعت سيدي عليا الخواص رحمه الل ّٰه تعالي يقول مرارا‪ " :‬الانصراف عن الصلاة الي اي جهة شاء‬
‫خاص بالاكابر ‪ ,‬الدائرين مع الامر ‪ ,‬لا مع العلل ‪ ,‬فاذا رجح الشارع بقعة علي بقعة‪ :‬قلدناه في ذلك ‪ ,‬ونسخنا ما في عقلنا ‪ ,‬وتأمل‬
‫لو قال انسان‪ :‬ان بقعة الـكعبة كآحاد البقاع لاشرف لها علي غيرها كيف بخطئه المسلمون كلهم ‪ ,‬وتأمل يا خي كيف امرنا الشارع‬
‫بالبداءة بالرجل اليمني في الدخول الي المسجد ‪ ,‬عكس ما يفعل في الخروج منه ‪ ,‬تعثر علي ما قلناه "‪.‬‬
‫وفي المثل السائر " من جعل كل شئ سواء ‪ ,‬فما لعلته دواء " فرجع الامر في المسئلة الي مرتبتي " التحفيف والتشديد المكررتين في "‬
‫الميزان‪ .‬واما وجه من قال‪ :‬يستحب للمصلي اذا سلم من الفر يضة واراد التنفل ‪ ,‬ان ينتقل عن موضع فرضه فهو للعدل بين البقاع لانها‬
‫ٺتفاخر بكثرة المصلين فيها ‪ ,‬والذاكرين الل ّٰه عليها ‪ ,‬كما ورد ان احدي البقاع تقول للاخري في حال مفاخرتها لها‪ " :‬هل مر بك اليوم‬
‫ذاكر مثلي " الحديث بمعناه‪ .‬وايضاح ذلك‪ :‬ان حضرة مناجاة الل ّٰه تعالي في الفرائض افضل من حضرة مناجاته في النوافل ‪ ,‬بدليل ما‬
‫ورد في الحديث القدسي " ما تقرب الي المتقربون بمثل اداء ما افترضته عليهم " " فتبعث " البقاع في الفضل‪ :‬ما فعل فيها من فاضل‬
‫او مفضول‪ .‬واما وجه من قال‪ :‬لا ينتقل للنفل من موضع فرضه ‪ ,‬فهو ناظر لتساوي البقاع في الاصل ‪ ,‬لحجابه عن الترجيح‪ .‬فرجع‬
‫الامر في هذه المسئلة الي مرتبتي التخفيف والتشديد المذكورتين في الميزان "‪ .‬قلت وحاصل هذه الميزان‪ :‬ان كل من اطلعة الل ّٰه تعالي‬
‫علي صحة ادلة المجتهدين ‪ ,‬وعرف منازعهم ‪ ,‬كان حكمه حكم المجتهد المطلق ‪ ,‬فله العمل بكل ما ترجح عنده ‪ ,‬سواء وافق اقوال امامه‬

‫‪Shamela.org‬‬ ‫‪١٨‬‬
‫الميزان الخضر ية‬ ‫‪١‬‬

‫ام خالفه ‪ ,‬كما وقع للشيخ ابي " محمد " الجويني ‪ ,‬والجلال السيوطي وغيرهما " رحمهما الل ّٰه تعالي‪.‬‬
‫وقد قالوا للشيخ جلال الدين السيوطي‪ :‬نراك تدعي الاجتهاد المطلق ‪ ,‬ثم لا تفتي الناس الا بمذهب الامام الشافعي واصحابه " رضي‬
‫الل ّٰه عنهم "‪ .‬فقال‪ :‬لان المستفتي لم يسأل عن ذلك الحكم في مذهبي ‪ ,‬ولو انه سألني عن مذهبي لافتيته "‪ .‬ومع ذلك فقد فتشت انا‬
‫بحمد الل ّٰه تعالي استنباطاته رحمه الل ّٰه تعالي كلها ‪ ,‬واختياراته ‪ ,‬فرأيتها لا تخرج عن قواعد مذهب الامام الشافعي رضي الل ّٰه عنه ‪ ,‬ويسمي‬
‫مثل هذا بالمجتهد المنتسب ‪ ,‬كما مر بيانه في هذه الميزان ‪ ,‬فان المجتهد المطلق ‪ -‬غير المنتسب ‪ --‬لا يتقيد في اقواله بقواعد مذهب غيره‪" .‬‬
‫فعلم مما قررناه " ان من " لم " يطلع علي ادلة الائمة ‪ ,‬ولا يعرف منازعهم‪ :‬يجب عليه التقيد بمذهب امام معين ‪ ,‬والا‪ :‬ضل واضل ‪ ,‬كما‬
‫مر بسطه في الميزان ‪ ,‬والحمد لل ّٰه رب العالمين‪ .‬واعلم يا اخي اني لم ازل اكتم هذه الميزان من حين تعلمتها من سيدنا ومولانا ابي العباس‬
‫الخضر عليه السلام ‪ ,‬كما اشرنا الي ذلك قبل الخاتمة ‪ ,‬ومارقمتها في هذه الطروس الا حين اشرفت علي معترك المنايا‪ .‬لانها من العلم بيقين‬
‫‪ ,‬ولا يخفي ما ورد في " من كتم علما نافعا الجمه الل ّٰه بلجام من نار يوم القيامة " وما كنت اكتمها الا لعدم وجود من اتسعت دائرته‬
‫عقله وعمله حتي يشهد الشر يعة كلها واقوال علمائها كلهم‪ .‬و يعرف منازعهم ‪ ,‬وذلك كالـكبريت الاحمر ‪ ,‬يتحدث به ولا يري ‪ ,‬فأسال‬
‫الل ّٰه تعالي من فضله ان ينفع بهذه الميزان من شاء الل ّٰه ‪ ,‬ولو واحدا ‪ ,‬ليلزم الادب مع الائمة ومقلديهم حتي يموت‪.‬‬
‫وكذلك نسأل الل ّٰه تعالي من فضله‪ :‬ان يصلح احوالنا ومعاملتنا مع الل ّٰه تعالي ‪ ,‬ومع عباده ‪ ,‬وان ينبت لنا الزرع ويدر لنا الضرع ‪,‬‬
‫و ينزل علينا من بركات السماء ‪ ,‬وان يستر فضائحنا في الدارين ‪ ,‬وان يدخلنا وجميع اخواننا الجنة بفضله وكرمه ‪ ,‬من غير عذاب يسبق ‪,‬‬
‫وان يجعل اخر كلامنا في هذه الدار " اشهد ان لا اله الا الل ّٰه ‪ ,‬واشهد ان محمد رسول الل ّٰه صلي الل ّٰه عليه وسلم " وان يدخلنا في زمرة‬
‫الصالحـين بجاه سيدنا محمد صلي الل ّٰه عليه وسلم ‪ ,‬سيد المرسلين ‪ ,‬ولا حول ولا قوة الا بالل ّٰه العظيم‪ .‬قال ناسخها‪ " :‬وكان فراغ الشيخ رحمه‬
‫الل ّٰه تعالي من تأليفها سنة ‪ ٩٦٣‬بمصر المحروسة ‪ ,‬كما وجد ذلك بخطه رضي الل ّٰه عنه وارضاه ‪ ,‬ونفع بعلومه المسلمين امين‪ .‬وصلي الل ّٰه‬
‫علي سيدنا محمد النبي الامي وعلي اله وصحبه اجمعين‪.‬‬

‫‪Shamela.org‬‬ ‫‪١٩‬‬

You might also like