Professional Documents
Culture Documents
المستوطنة الأخيرة
المستوطنة الأخيرة
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
7
ٍ
وعدد ٍ
بعتاد يف عام ألفني وثالثة وثالثني ،وصل النياندرتال لألرض
َ
يظهرون كوين جيعلهم رب صد ٍع ْ ٍ
انتقال آنية ع َ ِ
بواسطة أجهزة رهيبني ،نقلوهم
ٍ
مساحات يصلون إليهاّ .
احتل النياندرتال يف أيا ٍم قليلة َ فجأة يف األماكن التي
مرص جنو ًبا لرتكيا
َ واسع ًة من دول عدّ ة يف رشق ْ
البحر املتوسط متتدّ من
مرورا ببالد الشام كلها.
ً ً
شامل،
تزعمها يف مرص عمر عوض شعبية ضدّ االحتالل ّ ّ ٌ
مقاومة كانت هناك
اهلل ،بال ّتعاون مع أصدقائه ِمن النياندرتال ا ُملعارضني ،وكان مثله آخرون يف
شعبيون ،يقاتلون بنفس الطريقة .كانت هناكً -
أيضا- ّ كل بلد؛ مقاومونّ
فرق مقاومة مدعومة ِمن خمابرات الدول التي اح ُت ّلت أراضيها ،كان بينها
وسط ّ
كل َ ٌ
تعاون أحيا ًنا ،وصدام أحيا ًنا أخرى. وبني فرق املقاومة الشعبية
االسم األبرز ،وهو الذي َ
بذل املحت ّلون َ هو
هؤالء كان عمر عوض اهلل َ
قصارى جهدهم للقبض عليه. َ ومعاونوهم
ُ
املقاومة ثامين سنوات قبل أن يقبض النياندرتال عىل عمر استمرت تلك ّ
فكر قاد ُةوبعض من رجاله .وبعدَ عامني من ذلك التاريخّ ، ٍ عوض اهلل
ودول أخرى يف ال ّتفاوض مع النياندرتال إلطالق رساح ٍ املخابرات يف مرص
ثم االستعانة به بعدَ ذلك ليكون واجه ًة للمقاومة متهيدً ا َ
مقابل آخرينّ ، عمر
قصتنا.. ُ
أحداث ّ حرب حتري ٍر شاملة .ومن هنا تبدأِ لبدْ ء
***
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 8
األول
القسم ّ
ُ
مقموعون َ
وقتلة ْ
قبح االستيطان، ِ
بالبشاعة َ ونمحو
عار االحتاللْ ،
«نحن نغسل بالدّ ماء َ
ُ
شعارا َ
لعل ٍم جديد» ً ونرسم بجثث القتىل
ُ
ُ
جمهول االسم ٌ
قاتل
1
الكلامت يف رأس (معاذ)
ُ وعيونا» ..تر ّددت تلكِ (ميساء) ُ
«لعنة اهلل عىل ْ
إثر رضبة عنيفة
رح يف حاجبه؛ َ تلو األخرى من ُج ٍ وهو يرى نقط َة د ٍم تتساقط َ
فشل يف اإلجابة عليها .مل ِ
يكن وجهها إليه املح ّقق بعدَ سيلٍ من األسئلة َ ّ
تناثر من شائعات ّ
أن يعرف ممّا َُ املح ّقق من املحت ّلني؛ بل ِمن أهل بلده ،وهو
وأحقر أسلو ًبا.
ُ أكثر عن ًفا
األصليني ُ
ّ املح ّققني من أهل البلد
أمام عينيه ،وأملًا
جعلت األضواء تتناثر َ ِ صفعة ثقيلة عىل وج ِهه ٌ هوت
ْ
صدغه من تلك الناحية بعدَ أن قال« :ال أدري» ّ
للمرة العارشة َ ُم ًّضا يمأل
(ميساء) منه ،وما الذي أعا َدها حلياته بعد أقل من دقيقة .ماذا كانت تريدُ ْ يف ّ
ِ
الطريقة ِ
حقيق معه بتلك عودتا للقبض عليه ،وال ّت
ُ كل تلك السنني ،لتؤ ّدي ّ
َ
داخل احلائط ال ست سنوات يميش أكثر من ّ
املهينة املوجعة؛ هو الذي أمىض َ
(ميساء) ملدّ ة قصرية،
أن قابل ْ ِ
بالتخريب واإلرهاب بعدَ ْ جوارهُ ،ي ّت َهم اآلن
َ
ِ
كامتالك قنبلة أو حيازة سالح! ٌ
شبهة خطرية جمرد مقابلتها وكأن ّ ّ
يسمون أنفسهم الغزاةّ .املرة؛ بل من ُأرضيا هذه ّ
ًّ آخر ،مل يكن َ
دخل حم ّقق ُ
املسموح إطالقها عىل املحت ّلنيّ ،
كل ُ ُ
التسمية الوحيدة باألديتيني ،وهي
ّ
ثامن ِ
بإيقافه ملدّ ة ٍ استخدامها جريم ًة ُيعاقب فاع ُلها
ُ املسميات األخرى يعترب
ُ
ثالثة صنابري تقطر املا َء فوق حديدي ،وفو َقه
ّ وأربعني ساع ًة مثب ًتا إىل ٍ
قائم
ِ
رأسه ببطء.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
11
يسموهنم بالنياندرتال ،وهي ال ّتسمية التي أطلقها عليهم العا ُمل املتع ّلمون ّ
خارج األرايض التي احت ّلوها ح ّتى عام ألفني وثالثة وأربعني .يف هذا َ أمجع
أغلب دول العامل بدولتِهم، ُ اعرتفت
ْ ِ
بتسعة أعوام، َ
االحتالل العام ،الذي َتل
إطالق لفظ نياندرتال عليهم ً
تقليل ُ األمم امل ّتحدة ،وصار
ِ عضوا يف
ً وصارت
البعضُ املسميات األخرى التي تستدعي العقوب َة كثرية، ّ من شأهنم .كانت
لكنسمهم بالقرود ،وهكذاْ .. لقب «املساخيط» ،واآلخر ّ أطلق عليهم َ
ومع تعدّ د العقوبات. ِ
الوقت َ يات ختتفي معاملسم ُ
بدأت تلك ّ
يغادر معه،
ُ ٍ
كلامت للمح ّقق املرصي جعله بضع
َ قال املح ّقق األديتي
واقتياده ِ
لفراشه .قام املساعدُ - ِ بفك قيود (معاذ) من ّ
الطاولة ِ
ملساعده ّ ويشري
الضيقة التي حتوي ً
فراشا ممر طويل إىل زنزانته ّ
رب ّ أيضاِ -
بنقله ع َ وهو مرصي ً
الضامداتبعض ّبكيس صغري فيه ٍُ َ
وقذف له ومر ً
حاضا، عىل قدْ ر رقدته فقطْ ،
ليضعها عىل جرح رأسه.
َ
عام ألفني وأربعة وثالثني ،ومعاذ يف اخلامسة عرشة من عمره؛الغزو َ
ُ بدأ
درايس عادي ،بينام يميض هو
ّ يف السنة األوىل الثانوية .بدأ الغزو يف يو ٍم
َ
ورسائل عن ُ
اهلواتف بفيديوهات تضج
ّ وقت االسرتاحة ،بدأت وميساء َ ْ
ِ
غريبة ومدرعات
ّ وعن أشخاص مق ّنعني تنبت من الفراغْ ،
حواجز وبوابات ُ
الشّ كل تظهر حوهلا.
ُ
معارك تدور بني الغزاة تتوارد أخبار الغزو،
ُ عادوا إىل بيوهتم ،وبدأت
مدن عدة يف احلوض الرشقي وقوات األمن يف ٍ الذين ظهروا من العدم ّ
وغزة ودمشق وإزمري وغريها ،سقط فيها
للبحر املتوسط؛ مدن مثل القاهرة ّ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 12
ود ّمرت ُ
آالف املعدّ ات مئات ّ
الطائراتُ ، وأسى ،سقطت ُ ُ
آالف اجلنود قتىل ْ
يسقط ٌ
قتيل واحد من الغزاة. ْ العسكرية ،بينام مل
مدرع ال يكشف شيئًا من أجسادهم أو وجوههمبزي ّ كان الغزا ُة ّ
حمميني ّ
ُ
قذائفهم التي قطع من احللوى ،يف املقابل كانت
يرتدّ عنه الرصاص كأنّه ٌ
الصغرية تتبع اجلنو َد البرش ّيني وخترتق أجسادهم.
احلراب ّ
َ تشبه
خارج مناطق احلواجز التي َ هرب الكثريون
َ يف األيام األوىل للغزو،
أهل أو سكن يفأنشأها الغزاة ،وجعلوها حدو ًدا لدولتهم ،أولئك الذين هلم ٌ
أي مكان جنوب القاهرة أو غرب اإلسكندرية جلأوا إليه ،أ ّما الباقون فظ ّلوا ّ
يف بيوهتم آملني أن يقوم العا ُمل بنجدهتم كام وعدوا.
لدحر الغزاة؛
طائراتم وأساطيلهم ْ ِ أصيبت ُ
دول العامل باجلنون ،أرسلوا ْ
مهمة ،وأيقن العا ُمل أمجع أنّه ال
أي ّ تتمكن من تنفيذ ّ لكن طائر ًة واحدة مل ّ
ّ
يعرف أحدٌ وقتَها ِمن أين جاؤوا،ْ أمام هؤالء الغزاة الذين مل
سبيل للوقوف َ
وال كيف ظهروا ِمن العدم هكذا؟!
بأنام
كل يشء ،فقد أنبأها أبواها ّ ُ
تعرف ّ األول
(ميساء) من اليوم ّ
كانت ْ
وأن هؤالء الغزاة من ساللة البرش األوائل-أن ذلك الغزو قادمّ ، َ
يعلمن ّ
اسمه كوكب أديتيا ليستوطنوا ٍ
كوكب بعيد ُ إنسان نياندرتال -وقد عادوا من
أن أسال َفهم عاشوا فيهاّ .
كذبا (معاذ) يف البداية، األرايض التي يدّ عون ّ
األول ،وكان
بيانم ّيمر أسبوع ح ّتى أذاع الغزاة َ
لكن مل ّ
واتمها باجلنونْ ، ّ
هبذا املعنى.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
13
ٍ
لغرفة مضيئة، املرة
مرة أخرى ،أخذوه تلك ّ أرسل إليه املح ّقق املرصي ّ
مكتب جيلس خل َفه املحقق األديتي الذي يبدو أنّه يدير مركزَ االستجواب ٌ هبا
لكن
قيظا يف هذه األيامّ ، اجلو ً
املحقق املرصي .كان ّ ُ هذا ،وإىل جوا ِره جيلس
بواحد من تلك األجهزة التي أحرضوها معهم، ٍ مكي ًفا
جو ُها ّ
تلك الغرفة كان ّ
ركن الغرفة فيجعل يوضع يف ِربع مرتَ ،
ارتفاعه َ
ُ مكعب ال يتجاوزوهو ّ
اشرتاه لل ّتو. قامش صو ّ
يف ْ مميز ًةّ ،
تذكره برائحة ٍ حرارتا مناسبة متا ًما ،ورائحتها ّ
َ
اجلميع عىل
َ يفهمها معاذ ،فقد أجربوا الرجل ببطء ٍ
بلغة أديتية ُ ُ حتدّ ث
الرسمي بغريهاْ ،
وإن َ
احلديث ّ تع ّلمها يف السنوات القليلة املاضية ،ومنعوا
ٍ
شعب عندَ احلديث فيام بني أفراده ،وعندَ لكل سمحوا باستخدام ال ّلغة ّ
األم ّ
ممارسة شعائره الدينية.
املخربني،
ّ لست من
بلهجة ودود« :نحن نعرف أنّك َ ٍ ُ
املحقق األديتي قال
بميساء ،لك ّنها انتهت ،لكن ما ال تعرفه وأن هناك عالق ًة قديمة كانت ُ
تربطك ْ ّ
الدهشة وهو يسأل« :كيف استغ ّلتني!؟»
ُ (ميساء) استغ ّلتك» .مألتْه أنت هو ْ
(ميساء)
أن ْ َ
تعرف ّ جيب فقط أن فتطوع املرصي باإلجابة« :ليس من شأنكُ ، ّ
جمرمة خطرية مثل أبيها متا ًما».
ِ
احلكايات عن والد ميساء ،وكيف أنّه بعد ثالثة أعوام من يسمع
ُ كان
ٍ
أرسة رب
جمرد ِّ
عم عمر الذي كان ّ صار من رموز املقاومة ضدّ الغزاةّ .
الغزو َ
نوعا ما،
ناجحا ًعمل ً قصصا ال يقرؤها أحد ،ويدير ً ً هادئ ّ
الطباع يكتب
مرة يراه فيها ،عىل عكس زوجتِه الدّ كتورة زهرة التي
كل ّ ٍ
بجفاء يف ّ ويعامله
عم عمر يكن يصدّ ق ّ
أن ّ ميساء؛ ابنتها الوحيدة .مل ْ كانت حتتفي ّ
بكل زمالء ْ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 14
نفسه ذلك الرجل الذي أسقط العديدَ من جنود الغزاة ،والذي كان جييدُهو ُ
ِ
لدرجة ّ
أن بعض العجائز ل ّقبوه بعمر الزيبق. ال ّتسلل والتخ ّفي،
وخاصة بعد أن أعلنت السلطات ّ الناس حوله،
ُ عم عمر الذي اختلف ّ
األم ،وأنّه ال يدافع عن ٍ
عن َعاملته ملجموعات ختريبية من كوكبهم ّ األديتية ْ
مقابل امتيازات ووعود بالسلطة.َ املخربني
خطط هؤالء ّ َ املرصيني ،وإنّام ين ّفذ
ٌ
رجال مثل يقودها
كل بلد حتت االحتالل كانت هناك جمموعات مقاومة ُ يف ّ
وصاحب العمليات األكثر إيال ًما للغزاة.
َ األكثر مهار ًة،
َ عمر ،لك ّنه دو ًما كان
نفسه(ميساء) تزوره؛ السؤال ُ السبب الذي جعل َْ إن كان يعرف سأله ْ
ٍ
بلهجة يكرره اآلن
حتت وقع الرضب والتهديدّ ، ريا َ كرره اليوم كث ً
الذي ّ
يتغي يف دقائق .كانت إجاب ُته كام
رأي (معاذ) سوف ّ أن َ يظن ّ
ودود ،وكأنّه ّ
ُ
يعمل به، قال من ْقبل أنّه ال يعرف ،وأنّه فوجئ هبا عىل ِ
باب املتجر الذي
كثريين
َ وإنا جلأت ألصدقاء
وأنّه صدّ قها حني قالت ّإنا تبحث عن عملّ ،
يتزوجها.
(ميساء) طلبت منه أن ّ
أن ْلكن ما مل يق ْله هو ّ
ومل يساعدْ ها أحدْ ،
ٍ
بكلامت غري مرتابطة. الطلب مفاجئًا له ،وتلعثم وهو ير ّد عليهاُ كان
رأت ْارتباكه ،وسألته إن كان ري يائس حني ِ وجهها امتأل بتعب ٍ
َ الحظ ّ
أن
حب الطفولة ري من ّ حبها .مل يد ِر كيف جييبها؛ ال ُ
يزال يف قلبه الكث ُ كف عن ّ َّ
أرضي ْي مل يعدْ
ّ الزواج بني
منذ وقتهاّ . لكن مياه كثرية جرت يف ال ّنهر ُ
الطاهرْ ،
السلطات يستغرق وق ًتا للموافقة عليه، إذن ُمسبق من ّ سهل؛ فهو حيتاج إىل ًٍ
زواجهام يف احلال
ُ وقد ُير َفض .يف املقابل ،إذا أرا َد أن يتزوج أديتية فس ُي َ
عتمد
ٍ
معونة كبرية. مع رصف َ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
15
ربه عىل التقديم يف خدمة للتوفيق يفبأن أباه أج َمل جيرؤ عىل إخبارها ّ
ِ
والفتيات األديتيات ،وأنّه عىل موعد مع فتاة الزواج بني الشّ باب املرص ّينيّ
ً
ضئيل إذا أخربها أحس بأنّه سيكون
ّ األسبوع القادم.
َ ّ
رشحتها له األجهز ُة
يبيعون أجسادهم ونس َلهم للغزاة مقابل ٍ
وعد َ أنه من هؤالء الشّ بان الذين
بحياة رغدة.
وأنا كانت فرضت نفسها عليه بتلك الطريقةّ ،
ْ أخربتْه ّأنا آسفة ألهنا
مشاعر املراهقة تلك ال تزال موجودة لليوم .نفى ذلك
َ أنساذج ًُة حني ظ ّنت ّ
َ
عنوان ينس حلظ ًة واحدة ما كان بينهامَ .
قبل أن متيش أعط ْته بشدّ ة ،وقال إنّه مل َ
مهم ال تستطيع أن َ
تناقشه معه اآلن .كاد مطعم قالت إهنا تريدُ أن تقابله ألم ٍر ّ
ليتحمل نظر َة األسى يف عينيها للمرة الثانية.
ّ ُ
يرفض لك ّنه مل يكن
دخل املتجر،برشطيني َ
ّ ٍ
بساعة تقري ًبا فوجئ انرصفت من عنده
ْ بعدَ أن
ِ
بالقبض عليه واقتياده هلذا املكان ال َبغيض الذي كان يف يو ٍم من األيام وقاما
أمر ٍ
مناسبة َ مقرا إلدارة التجنيد .يف هناية االستجواب الذي صار ود ًّيا دونًّ
أن يأيتأن طلب منه ْ احلراس بمرافقته خلارج املبنى بعد ْ
املحقق األديتي أحدَ ّ
َ
تتواصل معه بأي طريقة. (ميساء) أن
حاولت ْ
ْ إليهم إذا
الواقع يف شارع 13يوليو (جرس السويس ساب ًقا) ،وقف
ِ يف خارج املبنى
القطار اهلوائي الذي سيق ّله لبيته ،قبل أن يصل القطار
َ منتظرا
ً يف املحطة
نزل منها شخصان ،رمى أحدُ مها قنبل ًة دخانية ع ّتمت ٍ
بمركبة صغرية َ فوجئ
َ
جعل الدنيا تظلم ْقن يف كتفه ِ
بغرس حم ٍ املكان بسحابة كثيفة ،بينام قام الثاين
أمام عينيه.
َ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 16
2
لفكرة اختطاف (معاذ) ِمن أمام مركز االحتجاز،
ِ ً
معارضا كان (سمري)
كان يرى أنّه من األفضل ُ
تركه يعود إىل بيته ،واختطافه من هناك بسهولة،
ربر واضح. َ
خالف ذلك بال م ّ رأي قادته كان
لكن ُ
ْ
إن قام هو وضياء زمي ُله باختطاف (معاذ) حدث ما كان يتو ّقعه ،ما َْ
دراجات طائرة تطاردهم .انطلقَ ثالث ُّ اندفعت
ْ ووضعه يف َم ْركبتهم ح ّتى ْ
مهم ُتها
قذائف صغرية ّ َ متعرج ،أطلقت عليه كلتَا الدّ راجتني رسيعا يف مسار ّ ً
ٍ
برباعة إطالق شحنة كهربائية تؤ ّدي إىل اختالل ُنظم املركبة ،لك ّنه تفاداها ُ
ويسارا وأعىل وأسفل بقدْ ر ما تسمح به املركبة.
ً بتعرجه يمينًا
ّ
يقودها سمري ،كان ِمن صناعة املركبات الطائرة ،التي ُ النوع من ْ
ُ هذا
استخدام السيارات
َ تدرجييا
ًّ هؤالء القوم الغزاة -النياندرتال -الذين َمنعوا
ُ
استبدالا وجرى
انتهت متا ًما بحلول عا ِم ألفني وتسعة وثالثنيَ ،ْ املعتادة ح ّتى
تؤجرها ملَن حيتاجها ،ومنعوا ٍ
لرشكات ّ تتبع ومر َكبات َ
كتلك ُ بقطارات هوائية ْ
َ
امتالك املركبات لألفراد متا ًما.
ري مألوف لدى ُ
تعمل بنوع من الوقود غ ِ املركبات والقطارات
ُ ِ
كانت
ٍ
أعامق ٍ
طبقات يف باطن األرض عىل ستخرج من
َ البرش وهو ّ
مركب مع ّقد ُي
يلوث البيئة .هذا الوقود
دون أن ّيصدر طاقة صافية َ
ُ تتجاوز املائة كيلومرت،
الثمن الذي جعل
ُ أمام دول العامل ،وهو الرابح َة لدى ُ
الغزاة َ كان هو الورقة ّ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
17
ِ
واستيطانم ،و ُتعطي دولتَهم مقعدً ا يف غزوهم
برشعية ْ
ّ َ
الدول تعرتف هذه
األمم امل ّتحدة مثل أي دولة أخرى.
انعطف (سمري) يف ِ
أحد الشوارع اجلانبية يف منطقة َ بعدَ مسافة قصرية،
الدراجات ماهرين بشكلٍ ّ الزيتون ،والدّ راجتان خل َفه .كان قاد ُة تلك
ّ
أكثر من قدرته عىل ا ُملراوغة
يستطيعون املراوغ َة يف أضيق األماكن َ
َ ملحوظ
خطة تستلزم رسق َة بعض الوقت ح ّتى يصل إىل لكن كان لديه ّ بمركبتهْ ،
مكان حمدد.
مكن قائدَ ها من تصويب قذيفته بدقة اقرتبت منه دراجة بشكلٍ كبري ما ّ
ْ
فتحة هتوية صغرية يف اجلانب األيمنُ ِ
نقطة ضعف املركبة؛ وهي لتستقر يف
ّ
ظل ُم ً
سكا بذراع القيادة مؤخرهتا .ار ّجتت السيارة بعنف ،ولكن (سمري) ّمن ّ
جيلس يف املقعد املجاور -أدا ًة صغرية ّثبتها يف
ُ بقوة ،أخرج ضياء -الذي ّ
ت الشّ حنات التي أطلقتها القذيفة، امتص ِ
فتحة موجودة يف لوحة التحكم ّ ٍ
ِ
وجعلت املركبة تكمل انطال َقها ثانية.
ألنا قد ّ
تعطل املركبة متا ًما ما جعل األمر ال حيتمل قذيف ًة أخرى ُّ كان
تعرجات أكثر صعوبة .يف ال ّنهاية انعطف ُ
وينطلق يف ّ (سمري) يزيدُ من رسعته
ّساعا ،وزا َد من رسعته ،وحنيَ وصل للتقاطع الثالث دخل يف شارع أكثر ات ً
الشفات أسقطت إحداها معدنيتان من إحدى ّ
ّ هوت شبكتان
ثم فجأة ْ يمينًاّ ،
بأن َ
مال بدراجته عىل بمهارة؛ ْ
واستطاع القائدُ الثاين تفادهيا َ
َ دراج ًة مع قائدها
جانبها وانزلق هبا ألسفل ح ّتى كا َد ّ
حيتك جسدُ ه باألرض.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 18
َ
الدخول للشوارع منذ عدّ ة سنوات كان قائدو تلك الدّ راجات خيشون ُ
متاع بيوهتم ويسقطوهنم
تيس من ِ يقذفونم بام ّ
َ ألن الناس كانوا الضيقة؛ ّ
ري
السلطات بإرسال ُمستشعرات تط ُ ِ
قامت ّ ٍ
إصابات بالغة. ويوقعون هبم
أماكن َمن يعتدي عليهم ،ويقومون
َ بمرافقة قائدي الدراجات لتحدّ د بدقة
خارج احلدود ليعيشوا
َ بعدَ ها مبارشة بإخالء البيت من ساكنيه وإرساهلم
ِ
صارت َ
وحول الفيوم التي خارج قرى اجليزة
َ خميامت الالجئني ا ُملتناثرة
يف ّ
العاصم َة املؤقتة اآلن.
َ
خيتالون بدراجاهتم يف الشوارع اصطيادهم وصاروا
ُ تو ّقف بعدَ ذلك
زمالء (سمري) يف
ُ ك ّلها و ُيطاردون َمن شاءوا أينام شاءواُ .
منذ فرتة قصرية قام
بزرع تلك األفخاخ عىل أسطح ِ
بعض سمى بكتائب النرص ْ فصيله املقاوم ا ُمل ّ
ٍ
ملوقف كهذا. حتس ًبا
البيوت ّ
واستمر يف مطاردة (سمري) يف الوقت الذي
ّ ييأس قائدُ الدّ راجة الثانية،
مل ْ
ٍ
لسبب التأوه وهو بنيَ اليقظة والنوم .كان (سمري) ال ُ
يطيقه بدأ فيه (معاذ) يف ّ
صدرت هبا
ْ ألن الطريقة التي ال يعلمه ،رغم أنّه مل ِ
يلتق به من ْقبل ،ر ّبام ّ
األمر قاد ًما من العاصمة
ُ بعض اليشء ،كان األوامر إلحضاره كانت غريب ًة َُ
قيادة املخابرات املرصية مبارشة.ِ من
سمري كان جم ّندً ا يف اجليش املرصي يوم ْ
أن بدأ الغزو ،وكانت كتيبته يف
املعركة خارسة َ
قبل أن تبدأ ،تساقط زمالؤه وقاد ُته ُ رشق القاهرة .كانت ِ
رعب ،ال أحد عدو جمهول ُم ِ
ٍّ واحدً ا تلو اآلخرُ ،مستبسلني يف الدفاع ضدّ
مرص فجأة. قررت أن ّ
حتتل َ ٍ
لدولة ما ّ إرهابيني أو جنو ًدا
ّ يعرف ْ
إن كانوا
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
19
هرب إىل قريته يف البحريةَ ،
وقبل أن يعود للعمل يف أرضه فوجئ -كام َ
أهل ِ
مخسة أبراج سكنية ضخمة؛ ليقيم هبا ُ قرروا بنا َء أهل قريتِهّ -
بأن الغزاة ّ
كل البيوت ،وجعل القرية قطع َة ٍ
أرض زراعية واحدة هدم ّ
القرية ليتس ّنى هلم ُ
برواتب شهرية.
َ كبرية متلكها الدولة ،ويعملون ُهم فيها
ٍ
أرسة ال تعمل ،أو ال تريد العمل ،بالزراعة ُت َّج ُر إىل املدينة أو كلكانت ّ
الذين يك ّلفون باألعامل املساعدة واإلدارية.َ إىل خارج الدّ ولة األديتية ما عدا
املدرعني املقنعني واملس ّلحني
احلراس ّ
َ لكن
جمهر ّ
َ الناس التذ ّمر وال ّت
ُ حاول
لت بإقناعهم .بعدَ شهور قليلة، بآالت شيطانية مل يرها أحدٌ من قبل تك ّف ْ
أكثر من طفلتني من
أي أرسة متلك َ ينص عىل ّ
أن ّ األمر ال ّتايل الذي ّ
ُ صدر
خيار اإلبقاء عىل طفلتني،
َ خارج الدولة ،أو ُي َ
عطى األبوان َ اإلناث ُت َّجر
ّ
التخل عن خارج احلدود ،وبالطبع مل ْ
يقبل (سمري) َ البقية لألقارب
وإرسال ّ
ور ِّح َل مع أرسته للمخيامت.
إحدى بناتهُ ،
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 20
َ
اهلدف منها يقاوم ح ّتى اليوم ،ويقوم بعمليات ال يعرف
ُ ال يزال (سمري)
جندي ين ّفذ األوامر وال يسأل ،وحني يتم ّلكه اليأس ّ
يتذكر ّ ّ
بالضبط؛ فهو
متطوعني ال ينالون رات ًبا وال
ّ وهم يقاتلون َ
يسقطون ُ رفاقه يف املقاومة الذين
محىأرضهم و ُي َمتسخ َُ ألنم يرفضون أنرعاية ألرسهم ،ال يقاتلون ّإل ّ
تارخيها ويرشّ د املاليني من أهلها.
يتبعه بإرصار ،أطلق ُ
ينطلق بمركبته وقائدُ الدراجة الثانية ُ كان ال يزال
مجيعا ،وكان عىل (سمري) اآلنأخطأت هد َفها ً
ْ ثالث قذائف ّاتاه املركبة
ينضم إليه آخرون .كان يسلك باملركبة طري ًقا ُ
يقوده إىل ّ ص منه قبل أنالتخ ّل ُ
جمهزة ليستق ّلها ٌ
مركبة أخرى ّ َحوا ٍر ضيقة يف حدائق ّ
القبة ،والتي ختتبئ فيها
بدل من تلك التي صارت هد ًفا معرو ًفا. ً
أحد الشّ وارع اجلانبية تو ّقف (سمري) فجأة ليجعل مطار َده يصطدميف ِ
يتهيأ
وواجه املركبة وهو ّ
َ ثم ّ
التف قائدها به ،لكن الدراجة تفادتْه وجتاوزته ّ
َ
االنطالق يتمكن من ذلك أعاد (سمري)ليطلق قذيفة عىل مقدّ متها .قبل أن ّ
أرضا يف اللحظة ِ
نفسها التي وأوقعها وقائدَ ها ً
َ باملركبة واصطدم بالدراجة
القذيفة ّ
لتعطل املركبة متا ًما. ُ خرجت فيها
***
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
21
3
عيون كثرية تتط ّلع من خلف النوافذ املغلقة عىل املطاردة ٌ تسمرت ّ
بفراغ ص ٍ
رب ِ بعضها ينظر ِ
الزقاق الضيق .كان ُ الصغرية التي تدور يف ذلك
َ
يأخذ هؤالء املقاومني الذين ينغّ صون أيا َمهم اهلادئة ،ويتمتم ويدعو اهلل أن
تظهر يف تلك املناسبات ُ
وتطر الطائرات الدقيقة التي ُ
ُ بالدّ عوات ّأل تأيت تلك
البعض اآلخر يدْ عو بالنرصُ تسبب اخلراب.املتنوعة التي ّ
الزقاق بقذائفها ّ
ُ
الصنف الثّالث كغريق يتع ّلق بقشّ ة.
ٍ للمقاومني بأملٍ ضئيل يف االستجابة،
تزوجوا ِمن نسائهم ِمن املرصيني، من الناس ُهم املستوطنون اجلدد ،و َمن ّ
وهم ال يسكنون بمثل هذه األز ّقة ،وأغل ُبهم يف تلك رسا خمتلطةُ ،وكونوا ُأ ً
ِّ
استطاع أحد املقاومني
َ إضافيا إلرشاد السلطات إذا
ًّ املواقف يكونون عو ًنا
َ
تضليل أجهزهتم املتقدمة.
فرت احلكومات للمنفى ابتلع الغزو لبنان وفلسطني التارخيي َة بالكاملّ ،
َ
خميامت يف سوريا ،التي اق ُتطع
اآلالف من املواطنني الجئني يف ّ ُ وعاش
للسخريةوانتقلت عاصمتها إىل الر ّقة يف الغرب .من املثري ّ
ْ منها جزء كبري
املستوطن اإلرسائييل والالجئ الفلسطيني
ُ املخيم الواحد كان فيه
َ املريرة ّ
أن
ّ
احتل الغزاةً -
أيضا -أجزا َء واملواطن اللبناين؛ ك ّلهم الجئون بشكل جديد.
ُ
خميامت ال
أيضا يف ّ من مرص وتركيا ال ّلتني تكفلتا بمواطنيهام َ
رغم ّأنم عاشوا ً
تقل سو ًءا عن اآلخرين.ّ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 22
حافلي بمشاهد القتل اليومية ملَن يقاوم أو
ْ ّأو ُل عامني بعد الغزو كانا
ً
أشكال كثرية؛ كتابات، االستغاثات بحكومات العامل ت ّتخذ
ُ يتذمر ،وكانت
ومقاطع فيديو دون فائدةَ .
فرض َ ٍ
روايات طويلة أشعارا باكية وأغا َ
ين حزينة، ً
ِ
زيادة رسيعا ّأنم يسامهون يف
ً حصارا عىل املناطق املحت ّلة لك ّنهم اكتشفوا
ً العا ُمل
اجتمعت حكومات الدول املترضّ رة، ْ معاناة البرش دون أن يتأثر النياندرتال.
املهمة فقط إىل املناطق ا ُملحتلة ،ووافقَ
واتّفقوا عىل السامح بإدخال البضائع ّ
حلسن النوايا بعدَ أن جلس وفدٌ منهم مع ٍ
وفد الغزاة عىل وجود ُمراقبني إثبا ًتا ُ
من البرش للتفاوض ،وسمحوا للعدسات ِ
بنقله عىل اهلواء ،وحتدّ ث مندوهبم
اجلميع ّأنم يعرفون عن البرش وقوانينهم ّ
كل يشء. َ ٍ
بطريقة أنْبأت
ِ
لدرجة أنّه كان الناس يتعلمون لغة الغزاة
ُ تدرجييا ،وبدأ
ًّ األمور
ُ استقرت
ّ
تركيا أو كرد ًّيا كان يتحدّ ث معه باألديتية .بدأوا يعتادون
يب ًّ َ
صادف عر ّ إذا
عىل القوانني اجلديدة واملواصالت اجلديدة والوظائف املستحدثة وامللغية،
وإن مل يستطيعوا االعتيا َد عىل التمييز بينهم وبنيَ النياندرتال و َمن ّ
تزوجوا
من نسائهم.
حركات املقاومة ،وكانت متعدّ دة األنواع ُ تتوقف مع ذلك ْ مل
املدعوم من احلكومات .كان
ُ حرا ،ومنها
واأليديولوجيات؛ منها الذي يعمل ًّ
احلكومات بعمليات يف
ُ ِ
عمليات املقاومة التي تتب ّناها النياندرتال ير ّدون عىل
رب
رسا ،ويف العلن يقاومون ع َ َ
يدعمون املقاومة ًّ عمق تلك الدّ ول ،ما جعلهم
الطرق الدبلوماسية فقط.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
23
يف عرص ذلك اليوم ،كان رجالن من املقاومة (املدْ عومة من احلكومة
تعطلت مركبتهام ،وعليهام ُ
امليش مسافة طويلة زقاق ضيق ،وقد ّ
ٍ املرصية) يف
َجي ْرجران أسريمها النائم للمخبأ الذي ُ
تقبع فيه مركبة بديلة سيستخدموهنا
مقر جمموعتهم ،وهي مسافة كفيلة بأن تكشفهم بسهولة. إلكامل رحلتهم إىل ّ
ترج َل من املركبة كان قائدُ الدّ راجة فاقدً ا للوعي من أثر سقطتِه القوية.
حني ّ
رغم تذ ّمر ضياء ،لك ّنه كان األعىل رتبة.
ريا َ أرص (سمري) عىل ْ
أن يأخذاه أس ً ّ
وأخرج من يده أدا ًة صغرية لتعطيل املعدّ ات
َ اقرتب (سمري) منه بحذر
َ
ِ
موقعه. تسهل تعقب املوجودة يف ز ّيه ،والتي ّ
بقو ٍة أسقطته
ودفعه يف صدره ّ
َ انتفض النياندرتال واق ًفا،
َ يلمسه
َ َ
قبل أن
طعن ٌ
اشتباك باأليدي بينهام .استطاع النياندرتال َ ودار
وهجم عليه َ
َ ً
أرضا،
ُ
نتيجة املعركة خمبئًا يف ز ّيه ،وكادت
ني صغري كان ّ (سمري) يف فخذه بسك ٍ
لوال تدخل (ضياء) الذي ترك (معاذ) عىل األرض ،واستخدم تكون هزيمة ْ
َ
أسفل رقبته جعلته زي النياندرتال
معينة يف ّ
كهربائيا رضب به نقطة ّ
ًّ صاع ًقا
يتص ّلب ويفقد الوعي.
يعرج بفخذه املصاب ،وضياء حيملُ استمروا يف طريقهم؛ (سمري)َّ
َ
خيفون به مركبتَهم .كانت ِ
البيت القديم الذي ريا من
“معاذ” ،اقرتبوا أخ ً
الصاج العتيق الذي يفتح
باب من ّ َ
أسفل البيت ،له ٌ همل
خمبأة يف دكان ُم َ
ّ
منظره ِ
منذ ما يقرب من نصف قرن .كان ُ من أسفل ،والذي بطل استخدامه ُ
ري ٍ
متويه للغرض الذي يستخدَ م ألجله. الرث الصدئ خ َ
ّ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 24
ثم وضع ٍ
جزء من اجلدارّ ، ومسح الغبار من
َ ركبتيه
ْ ج َثا (سمري) عىل
ارتج بعدها الباب وانفتح
ثوان معدودة ّ مضت ٍ ْ ٍ
كاشف للبصمة. أصبعه عىل
َ
ُ
وسيلة انتقاهلم ريا
مظهره الصدئ ،وانكشفت أما َمهم أخ ً
ُ بصمت ال ينبئ به
اجلديدة.
بجر
حيث (ضياء) عىل اإلرساع ّ ركب (سمري) عىل عجلة القيادة وهو ّ َ
أبواب املركبة وانطلقَ هبا برسعة
ُ ووضعه يف املقعد اخللفي .أغلقتِ محله
َ
وصل إىل شارع رمسيس (الذي تركه الغزا ُة شوارع جانبية ح ّتىَ كبرية يف
َ
وأكمل يف شوارع جانبية عبه برسعة
عىل اسمه احرتا ًما لل ّتاريخ الفرعوين)َ َ ،
قاطعا إ ّياه برسعة كبرية. ُ
فيمرق ً ُ
الطريق لعبور شار ٍع رئييس يضطره
ّ ح ّتى
منشية نارص يف سفح جبلِ املقطم ،وحنيَ أوشك عىل عبور ِ كان ي ّتجه إىل
لكن مدلول النرص اختلف) كا َد يصطدم (اسمه ال يزال هكذاّ ، ُ ِ
طريق النرص
نصفُ منتظرا عبور القطار.
ً أن أوقف مركبتَه بمهارة لوال ْ
بالقطار اهلوائي ْ
كانت كافية لتكتش َفه إحدى الدراجات وتنطلق ْ القطار ليعرب
ُ دقيقة يأخذها
وأرسع بسيارته بينها
َ مطارد ًة إ ّياه .عاد أدراجه للخلف ،ودخل بنيَ املقابر
اصطدم يف النهاية بجدا ٍر
َ أربكت قائد الدّ راجة الذي
ْ خذا منحنيات رسيعة م ّت ً
رب طريق النرص، واستمر (سمري) يف طريقه إىل ْ
أن ع َ ّ أفقده تواز َنه فسقط،
وغاص بسيارته يف أعامق األزقة الضيقة التي ال يدخلها النياندرتال ،وال َ
يمدّ ون خدماهتم احلكومية لتصل إليها.
***
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
25
4
ِ
خلبرية ال ّتزيني األرضية التي تعدها جلست هريمني يف توتّر ُمستسلمة
ْ
األو ُل من نوعه ملسئول للظهور عىل شاشة البي يب يس يف ٍ
لقاء تليفزيوين هو ّ ّ
ري ُمعتادة عىل تلك املساحيق واأللوان رفيع من الدولة األديتية .كانت غ َ
ٍ
تتضمن تلك
ّ النساء طر ًقا خمتلفة ّ
للزينة ال ُ األم يستخدم
الزاهية ،ففي كوكبها ّ
ري لون البرشة ،أو حتديد مالمح الوجه.الفجاجة يف تغي ِ
فالسبب كان ذلك الضغطُ سبب توتّرها الوحيد؛ َ يكن هذا بالفعل
مل ْ
رشحها لتلك املهمة،شخصيا؛ هو َمن ّ
ًّ الواقع عليها من حاكم أديتيا األرض
وقال إنّه يثق بقدرهتا عىل إظها ِر اجلانب األفضل من الشّ عب األديتي ،وجعل
مربرات الغزو واالستيطان تبدو مقبول ًة أمام الرأي العام العاملي.
األول يقع يف كوكب أديتيا
تتكون من قسمني؛ القسم ّدولة أديتيا الكربى ّ ُ
ويقع يف كوكب
واسمه املستوطنة ال ّنقية أو “أديتيا األصلية” ،والقسم الثاين ُ
ُ
واسمه املستوطنة األخرية أو “أديتيا األرض” ،وكانت هريمني هي ُ األرض
ُ
تشمل األرايض التي مسئول َة العالقات اخلارجية يف أديتيا األرض التي
احت ّلوها واستوطنوها.
فريق التصوير وقته إلعدادُ َ
وأخذ ريا،
أمام الكامريات أخ ً
جلست َ
ْ
لألرضيني .خبرية ال ّتزيني حاولت
ّ أقرب
َ بأبى صورة يف شكل
املشهد لتبدو ْ
فكيها ٍ
ظالل عىل ّ ّساعا ،وإضافة وفمها ّ
أقل ات ً أرقِ ،
إظهار خدودها ّ
َ بطريقتها
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 26
مريعا ما جعلها تلغي َ
الشكل النهائي كان ً لكن تظهرمها أقل ً
عرضا وحدّ ةّ ،
تضع ملس ًة رقيقة ال ّ
تغي من شكلها. ّ
كل ذلك التزيني ،وجتعلها ُ
أو َل أسئلته طال ًبا منها
بعدَ مقدّ مة افتتاحية قصرية من املحاور ،بدأ ّ
التعريف ِ
بنفسها وشعبها.
ملؤسسة احلكم يف دولة أديتيا األرض ،نحن أحدث “أنا املتحدّ ثة الرسمية ّ
أن اعرتف العا ُمل بحقنا يف احلياة يف وطننا األم”.
عض ٍو يف األمم املتحدة بعدَ ِ
الكل يعرف ذلك؛ هو يريد إن ّ رف ُمصطنع وهو يقول ّ بظ ٍ
ابتسم املحاور ُ
َ
قصت عليه من َ
األرض ،وكيف عادوا؟ وملاذا؟ ّ قص َة شعبهم كيف غادروا ّ
البداية ما يقو ُله التاريخ عن ّأنم كانوا يعيشون يف األرض منذ مائة ألف
وفروا إىل كوكبهم احلايل نتيج َة أسباب غ ِ
ري سنة ،وأقاموا حضار ًة عظيمةّ ،
ريا ّ
ألن نبوءات كتبهم املقدّ سة قرروا العودة أخ ً
ثم ّواضحة بشكل كاملّ ،
حتتم عليهم ذلك.
ُ
خيصكم وحدكم ،وال يلزم الشعوب َ
وكتبكم املقدسة يشء ّ “لكن دينكم
ّ
التي استولي ُتم عىل أرضها وحكمتموها”.
جينيا سيحدُ ث يف الذكور وحينام خلل ًّ أن ً تنبأت بمعجزة ما؛ ّ“كتبنا ّ
فإن علينا العودة إىل كوكب األرض وطنِنا األصيل ..ما فعلناه من حيدث ّ
ريا ،وإذا مل تقنعكم أسبا ُبنا
رب تارخيكم كث ً
تكرر ع َعودتنا إىل هذه األرض يشء ّ
جيني خطري، ّ ٍ
لسبب شعب مهدّ د باالنقراض ٌ فدعني أخربك أنّنا
الدينية ْ
أكثر من نصف سكان كوكبنا ..إذا ك ّنا ومهدّ د بكارثة بيئية قادرة عىل قتل َ
كذلك ،أليس لنا احلقّ يف استيطان أرضنا األصلية”!
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
27
ترصخ به قائلةّ :
“إن َ آخر ُجلة هلا بحدّ ة ،كانت عىل وشك أن قالت َ
يترصفوا طب ًقا
ّ أن معهم القوة ِ
فمن ح ّقهم أن القوة دو ًما؛ وطاملا ّ
احلقّ يتبع ّ
إن كان خاصة ْ
ّ بغض النظر عن صالح اآلخرين، ّ ِ
ومصاحلهم ملعتقداهتم
بعضا باملاليني دون أدنىبعضها ًمتوحشة تقتل ُ ّ اآلخرون كائنات مهجي ًة
أن لدهيا أوامر مشدّ دة بضبط لوال ّ ُ
تقول الكثري ْ إحساس بالذنب” .كادتٍ
النفس ،وإظهار أكرب قد ٍر من الدبلوماسية.
أن شعبكم مل ْ
يعش قط يف املناطق التي “كيف تر ّدين عىل َمن يؤكد ّ
أن النياندرتال كانوا يف مناطق أخرى بل وأن احلفريات ّ
تؤكد ّ استوطنتموهاّ ،
وتزاوجوا مع ب ٍ
رش عاد ّيني يف تلك املناطق”.
ٌ
عنرصية، بغضب رافض ًة كلمة النياندرتالّ ،
ومؤكدة عىل أهنا تسمية ٍ ر ّدت عليه
املحاور عن استخدام تلك ال ّتسمية طال ًبا منها أن تر ّد عىل سؤاله.
ُ فاعتذر
“األسالف الذين كانوا يعيشون يف املناطق التي اكتشفتم فيها تلك ُ
عات عشوائية ال جتمعها دولة ،وليس لدهيم جتم ٍاحلفريات كانوا عبارة عن ّ
ري أدواهتم البدائية ،أ ّما أسالفنا الذينصيادين ال يعرفون غ َجمرد ّ
حضارةّ ،
ٍ
ودين سا ٍم ،كانوا حيرقون أصحاب حضارة
َ هاجروا من األرض فقد كانوا
طقوس َمهيبة ،ولذا مل يرتكوا رفا ًتا ليكتش َفها ح ّفارو القبور
ٍ موتاهم يف
كل أثر حلضارهتم”. لديكم ،وحنيَ هاجروا دمروا ّ
إن هناك آراء ّ
تؤكد أهنم اختاروا حاجبيه يف غري اقتناع ً
قائلّ : ْ رفع املحاور
َ
ألنا غنية بمصدر الطاقة اجلديد الذي اكتشفوه ،والذي كانتلك املنطقة َّ
حث حكومات الدول الكربى عىل االعرتاف بدولتهم. الرئييس يف ِّ
السبب ّ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 28
ابتسمت بسخرية حنيَ قال ذلك ،ور ّدت عليه قائلة“ :إ ًذاَ ،
أنت ت ّتهم
مقابل مصدرَ َ
وحقوق أبناء جنسها حكوماتكم بأهنا مرتشية تبيع مبادئها
قتلت مئاتيظن الكثريون منكم ذلك فحكوما ُتكم ْ للطاقة ..ال أستبعد أن ّ
رب التاريخ من أجل مصادر الثروة والطاقة ،لكنني ّ
أؤكد لك أنّنا اآلالف ع َ
متحض ال يقبل تلك الفظاعات”. ّ شعب
ٍ
جمادالت حول تلك النقطة ْأناها املحاور استمر احلوار بعد ذلك يف
ّ
ري يو ّثق لالحتالل ،وما ارتكبه يف حقّ املواطنني يف البالد
بعرض فيلم قص ٍ
املحاور طال ًبا منها التوضيح ،وهو
ُ التي غزوها .بعدَ هناية الفيلم َ
نظر إليها
املتحض يرتكب الفظاعات ً
أيضا”. ّ أن شعبكم يقول ٍ
بنربة ساخرة“ :يبدو يل ّ
ونقرت عىل الطاولة أما َمها ففتحت شاشة فراغيةْ اعتدلت يف جلستها
ْ
للمصور
ّ أشارت للكامريا أن تتس ّلط عليها .أشار املحاور بأصبعه
ْ صغرية
قائل إنّه يرفض املفاجآت يف ِ
أثناء برناجمه ،وأنّه كان من بعدم اتّباع طلبها ً
أي ٍ
مادة فيلمية تو ّد عرضها قبل بدء اللقاء. املفرتض أن تطلعه عىل ّ
ثم قالت“ :ال عليك ،يبدو أنّك
نقرت بأصبعها ثانية ،فاختفت الشاشة ّ
ْ
ِ
وجهة نظ ٍر واحدة”. َ
عرض احلقائق من تريد
ثم أكملت قائلة“ :دعنياملحاور عن نفسه تلك ال ّتهمة ،فتجاهلته ّ
ُ نفى
أن دولةسؤال وأريد إجابتَك من واقع تارخيكم احلديث .لو ّ ً أسألك
غزت أخرى واستوطنتها وقمع ْتها كام تقولون ،كم سيكون نسبة القتىل بنيْ
اجلانبني!؟”.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
29
وأن حدوث أن هذا خارج عن سياق الربنامجّ ، املحاور ّ
مؤكدً ا ّ ُ ر ّد عليها
ربر أفعاهلم .فقالت له بثبات“ :لقد ُقتل ُ
البرش يف املايض ال ي ّ َمازر ارتكبها
نحو مائة ألف ك ّلهم يف من البرش يف األعوام الثالثة األوىل من عودتنا َ
مواجهات عسكرية ،أو إعدامات ،بعدَ حماكامت عادلة ،ويف املقابل قتل م ّنا
خمربون من قام هبا ّ ٍ
لعمليات إرهابية َ أكثر من عرشين أل ًفا أغلبهم ضحايا
بعضها شديدَ البشاعة كاملثال الذي البرش ،و َمن يساعدوهنم ِمن قومنا ،وكان ُ
خيتطفون عرشين امرأة أديتية ّ
ويعذبوهنم َ سأعرضه لك ...مخسة رجال ُ كنت
ح ّتى املوت بمنتهى البشاعة ،ويوثقون فعلتَهم املفزعة ،ويشاركوهنا للعامل
أن املاليني هللوا هلم ...أدانتهم حكوما ُتكم ّ
ألن أمجع ،واملدهش يا سيدي ّ
َ
يستمتعون بمشاهدة تلك لكن أغلب الناس كانوا الربوتوكول يقتيض ذلكّ ،
ِ
الفظاعة يا سيدي؛ ً
أبطال ...حدّ ثني عن املجزرة ،ويطلقون عىل مرتكبيها
ٍ
خربات مرتاكمة فيها”. أصحاب
ُ فأنتم
مرة
جال الكالمي ّالس ُ
البث لفاصلٍ قصري ،عا َد بعده ّ املحاور ّ
ُ أوقف
أخرى بينَه وبنيَ هريمني ،وبدا ًّ
جليا ّأنا تف ّند كال َمه ُبمنتهى احلرفية لدرجة
ُ
سيقف يف ص ّفها مشاهد بسيط ليس لد ْيه خلفية كافية عن األحداث ِ أي ّ
أن ّ
أعلن عن مداخلة من
َ دور مفاجأة املحاو ِر ال ّتالية حني
بسهولة ،وهنا كان ُ
ضيف ما.
رب األثري ،وخفق تقع وجهها حني قدّ م املحاور ضي َفه الذي يتحدّ ث ع َا ْم َ
آخر شخص تريد ولكن ألنّه كان َْ ِ
بسبب ردوده القو ّية، ٍ
بعنف ليس قلبها
املتحدث أحدَ رموز املقاومة األديتية ا ُملناهضة
ُ ظهوره يف تلك ال ّلحظة .كان
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 30
ينضم للمقاومة شا ًّبا
ّ اسمه ماندريك ،وكان َ
قبل أن للهجرة إىل األرض كان ُ
حتطمت حني أعلن حب ّ
قص ُة ّواعد ،كانت بينهام ّ المعا ذا مستقبل سيايس ِ
ً
ذات يوم خت ّليه عن السياسة وعن العملِ للدّ ولةّ ،
وقرر التمر َد واملقاومة، َ
املصالح وصارت بينهام عداو ٌة
ُ العكس متا ًما .فرقت بينهام
َ واختارت هي
حبها القديم أكثر ممّا تطفئه.
هليب ّ
تذكي َ
أن ُ
بضعة جمانني ،وتنسى ّ ٍ
جمزرة واحدة ارتك َبها “السيدة تتحدّ ث عن
ٍ
واحدة كل ِ
حالة إعدا ٍم مجاعي كان ُ
يقتل يف ّ حكومتَها ن ّفذت َ
أكثر من ألف
عن آخ ِر مذبحة ارتكبتها حكوم ُتهم ٍ
أشخاص عىل األقل! اسأهلا ْ منها عرشة
ذنب هلم ّإل كراهية
أبناء وطنهم ،أديتيني ُملصني ال َيف مائة وتسعني من ِ
الظلم والدفاع عن أصحاب احلقّ ”.
ألنا ال جتدُ جوا ًبا؛ بل ّ
ألن املفاجأة اجتاحتها، مل تر ّد هريمني ليس ّ
ُ
العشق وحتل حم ّلها األنثى التي ال يزال
ّ السياسي َة املح ّنكة ختتفي
ّ وجعلت
سيل اهلجوم اجلارف ،وأكمل: هو عن ْ ذكراه .مل يتو ّقف َ
يوجعها حني تأيت ْ
باألرضيني
ّ يتاجر
ُ عن عالقتها بتنظيم عائلتِها اإلجرامي الذي كان “اسأهلا ْ
ِ
ملامرسة جرائم وجتارات أفراده لألرضِ قبل الغزو ،والذي جاء الكثري من َ
ِ
شقيقها دورها يف هذا التنظيم ،وعن أي قوانني ،اسأهلا عن ْ ري مرشوعة يف ّغ ِ
الذي يديره بعدَ وفاة أبيها”.
ِ
شخصنة احلوار، واعرتضت بشدّ ة عىل أسلوبه وعىل
ْ انتفضت غاضبة،
ْ
الرد
ثم يطلب منها َّ ضيفه التو ّقف عن ذلكّ ،املحاور يطلب من َِ ما جعل
أي أدلة”
اهتامات جزافية ال توجد عليها ُّ
ٌ عىل االهتامات باملَجازر“ :هذه
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
31
شخصيا،
ًّ باتامها
استفزها ّ
ّ ٍ
بثبات وقد استعادت رباط َة جأشها حني قالت
أن األعوام األوىل ِمن اهلجرة لألرض كانت حافل ًة أنكر ّ
وأكملت“ :ال ُ
وأن هناك العديدَ من ضباطنا الطرفنيّ ، بالعنف والتجاوزات من كال ّ
كل ذلك تو ّقف اآلن بعدَ استقرا ِرجرائم ّمتت حماسبتهم عليها ،لكن ّ
َ ارتكبوا
صديق ضيفك ،والذي يل ّقبونه بعمر ُ أبسط ٍ
مثال عىل ذلك هو ُ األوضاع،
ارتكب العديدَ من اجلرائم يف حقّ جنودنا َ الزيبق؛ ذلك اإلرهايب الذي ّ
ومواطنينا ،وبعد أن ُقبض عليه ّمتت حماكمته وسجنُه ،ومل يعدَ ْم ّ
ألن قوانيننا
خسائرها ،واليوم انتهت
ُ الستنيّ ..
كل معركة هلا إعدام َمن جتاوزوا ّ
َ متنع
بمن شئت من تزور أديتيا وتلتقي َ
بالسالم ،ويمكنك أن َ
املعارك وبدأنا ننعم ّ
ظلالسابقة يف ّأكثر من حياهتم ّ َ
سعيدون بحكومتنا َ األرضيني ،وستجد أهنم
ّ
حكوماهتم األرضية”.
املحاور هدّ ده بإيقاف االتصال،
َ احتدّ ماندريك يف ر ِّده عليها لدرجة ّ
أن
تلميع صورهتم ،لقد استضفتَها لتجعل الرأيَ َ
تريدون فقال بحدّ ٍة أكثر“ :أنتم
خطط حكوماتكم ِ يتقبل فكر َة االحتالل واالستيطان ،وإلنجاحالعام لديكم ّ
أمل يف ِ
إنقاذ الطاقة اجلديد َ
أسال لعا َبكم وأعطاكم ً مصدر ّ
ُ يف التعاون معهم،
احلوار بعد
ُ صار َ
املستضعفون إىل داهية”َ . ِ
وليذهب امللوثات،
كوكبكم من ّ
رد املحاور عليه ،وصار الثالثة يتك ّلمون يف
كالمه ذلك شب َه مستحيل بعد أن َّ
املحاور ألخذ فاصلٍ جديد.
َ وقت واحد؛ ما دفع ٍ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 32
ِ
خارصة قنواتم شوكة يف
ُ صداعا يف رأس حكومته ،وصارت
ً هو ومجاع ُته
وأي دولة أخرى يف العامل.
إبرامه بني أديتيا األرض ّ
كل اتفاق جيري ُ ّ
توشك عىل دخول القاهرة حني جا َء اتصال من ُ كانت طائر ُة هريمني
ونحو دورها يف منظمته ،ذلكَ نحوه
تشعر بالضيق الشديد َ
ُ شقيقها .كانت
املنظمة أنشأها أبوها ّ
ومتكن التملص منه ،فتلك ّ
َ تستطيع
ُ الدور الذي ال
ُ
رشعية عليها ،والتغلغل يف أوساط
ّ ِ
إضفاء شقيقها باتّصاالته وطموحه من
ال ّنخبة احلاكمة ،وجعل العديد منهم رشكا َء يف استثامراهتم .كانت حتسدُ
َ
مقابل مبادئه ،وهي بكل يشء مثاليته وقدرته عىل التضحية ّ
ماندريك عىل ّ
نأت بنفسها عنها منذ زمن.
متتلكها ،وقدرة عىل التحكم يف الذات ْجاعة مل ْ
ٌ َش
ريفاديل ،وهي املدينة التي
نزلت هبا الطائرة يف حديقة ڤيلتها يف مدينة م ْ
ْ
بالسادس من أكتوبر والشيخ زايد وحدائق األهرام، ضمت ما كان ُيعرف ّ ّ
تزوجوا من نسائهم.
غالبي ُتها من املستوطنني و َمن ّ
صارت ّْ والتي
مساعدتا األوىل يف انتظارها عىل باب الڤيال ،وقد بدأت بطنُها يف
ُ كانت
التكور بعدَ أن محلت يف طفلٍ ذكر من زوجها األريض .كانت عيناها ّ
مثبتتان ّ
أمطرت به أذنيها وهي
ْ لسيل التقارير الذي ٍ
منصتة ْ عىل ِ
بطن مساعدهتا ،غري
احلمل من أريض هي األخرى.َ وتقرر
حذوها ّ تفكر يف جد ّي ٍة يف أن حتذو ْ
ّ
***
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
33
5
(ميساء) تذرع غرفتَها جيئة وذها ًبا يف توتّر بعدَ أن تأخر (سمري) ظ ّلت ْ
تفرك ك ّفيها وهي تتمتمجلست عىل طرف فراشها ُ ْ وضياء يف إحضار معاذ.
اإلحساس باحلرية .هترب من أفكارها
َ طياهتا ُ
حتمل يف ّ ٍ
مفهومة بكلامت غري
أكلت طالءها ،وجيول ْ إىل تأمل اجلدران البالية لغرفتها ،والرطوبة التي
أناسا يعيشون بمثلِ
جتعل ً كالم عن احلياة غري العادلة التي كانت ُ بخاطرها ٌ
ٍ
بمساحة كتلك ،يف حني كانت غرفتي
ْ تلك البيوت مكدّ سني سبعة أو ثامنية يف
تعيش هي وأبواها ُ
وابنة خالتها يف شقة فارهة تتعدّ ى مساحتها الثالثامئة مرت، ُ
ساوى بني اجلميع فصاروا الجئني أو مذعنني. وكيف ّ
أن ذلك الغزو َ
كل سكان التجمع اخلامس ُه ِّج ُروا من بيوهتم بعدَ الغزو بشهو ٍر قليلة كام ّ
السالم؛ وهي منطقة مل تكن للعيش يف دار ّ ِ والقاهرة اجلديدة؛ أرسلوهم
ذهبت إىل الواييل ،ومعاذ إىل العتبة،
ْ قدْ زارهتا من ْقبل .أرس ُة صديقتها مايا
هجروهم منها ،وجعلوها مدينة قائمة ضم الغزاة تلك املناطقَ التي ّ وهكذاّ .
بذاهتا ،وأسموها شو َن ْرفاديل ،وأسكنوا فيها الصفو َة من جمتمعهم.
مستقل مع أصدقائه منًّ وأرص أن يعمل
ّ انضم عمر -أبوها -للمقاومة،
ّ
ٌ
حكومة مستبدّ ة ال جيب مستقل عن حكومة بلده التي يرى ّأنا ًّ النياندرتال؛
تشعر بغضب شديد ُ ٍ
خالف كبري بينهام .كانت مثار
باسمها ،وكان هذا َالقتال ِ
أرص أن يكون واجه ًة إعالمية ِ
يكتف باملقاومة؛ وإنّام ّ من ترصفات أبيها ،مل
ُ
البطل املقاوم الذي ال ُيادن الغزاة، اسمه يرت ّدد يف ّ
كل مكان عىل أنّه هلاُ ،
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 34
ألالعيب السياسة ِمن ّ
حكام بالده والدول الكربى .أ ّد ْت تلك ِ وال خيضع
الشهرة إىل احتجازها هي وأ ّمها وسلمى ُ
ابنة خالتها ألسابيع ،وال ّتحقيق
غرب قرى اجليزة.
املخيامت َ
األمر برتحيلهم خارج أديتيا إىل ّ
ُ معهم ،وانتهى
قررت أ ّمها زهرة
مع زوجها يف حني ّ هاجرت سلمى ُ
ابنة خالتها إىل أملانيا َ ْ
ٍ
عيادة صغرية خلدمة الالجئني. إنشا َء
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
35
قامت بتمزيق بنطالِه برسعة ،وأخرجت أدا ًة دفعتها يف اجلرح فتوقف
ثم بعدها أمسكت دسته يف كتفهّ ، ثم أخرجت حمقنًا ّ ُ
النزيف عىل الفورّ ،
ثم
األول ّ
الزر ّ
ثالثة أزرار .ضغطت َّ ُ ٍ
شاشة عليها بجهاز صغ ٍ
ري عبارة عن
مرتني بعدَ الضغط
كررت العملية ّثم ّ مرت باجلهاز عىل ِ
فخذه ألعىل وأسفلّ ، ّ
ُ
ثم قالت“ :احلمدُ هلل؛ فخذك سليم” .ابتسم (سمري) عىل الزر ْين اآلخرينّ ،
ري الواجب”. ويقبلها ،فقالت مازحة“ :مل ْ
أفعل غ َ يشكرها ويمسك يدَ ها ّ
ُ وهو
جرحه الذي ختدّ ر بفعل ِ أفلتت يدَ ها من ك ّفه ،وأخذت يف خياطة
أن انتهت ر ّبتت عليه برفق وهي أوقفت ال ّنزيف ،وبعد ِ ِ اآللة األوىل التي
َ
العمل معها أن بدأ (سمري) بتأخرهم .منذ ْ سببه هلا ّ تعات ُبه عىل القلق الذي ّ
أول يوم .بساط ُته تقوده وجدت نفسها ُمنجذب ًة إليه من ّ يف الفصيل الذي ُ
املتكررة؛ كانت سجايا ّ وشهامته وقدر ُته عىل إخراجها من نوبات الكآبة
الوقت الطويل
ُ مهمني؛ األول، عاملي ّ ْ حبه ،إضافة إىل ِ
إليقاعها يف ّ تكفي
الذي قض ْته بصحبتِه؛ فقد كان (سمري) هو ال ّتايل هلا يف ترتيب القيادة،
ري مناسب هلا أكثر من اآلخرين .والثاين ،أنّه غ ُ معا َ وطبيعي أن يمض َيا وق ًتا ً
ناحية اجتامعية حمْضة ،لك ّنها كانت تقول لنفسها ٍ باملرة لو نظرنا إىل األمر من ّ
تنجب فتاة
َ اكا ،ال بدّ أن سب ً
تزوجت ّ جراحة األعصاب التي ّ ّإنا ابنة أ ّمها؛ ّ
األمر
ُ ومتزو ًجا من امرأة أخرى .مل يكن ّ حاصل عىل اإلعدادية، ً حتب ّ
فل ًحا ّ
أغلب الشباب للزواج من ُ فهم صاروا يعيشون يف زمن ي ّتجه فيه يضايقها ُ
فتيات قبيحات من جنس غريب سع ًيا للامل واألمان ،إضاف ًة إىل أنّه ال يزور ٍ
مجة.
بمخاطر ّ
َ ٌ
حمفوفة نادرا ّ
ألن رحلته إليها زوجته ّإل ً
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 36
تركت (سمري) ليسرتيح ،ونزلت للطابق السفيل .كان (ضياء) مع ْ
ضابط رشطة قبلَ (معاذ) حياول إفاقتَه ليبدأ استجوا َبه بنفسه( .ضياء) كان
مرؤوسا هلا ألنّه
ً وصار
َ وضع ذلك يف االعتبار، ينضم إليهم ،لكن مل ُي َ
ّ أن
وألن لديه تار ًخيا يمنع تو ّليه القيادة يف خاليا
انضم للمقاومة بعدها بسنواتّ ، ّ
املقاومة التي ُتديرها املخابرات املرصية.
كل يشء ،ومليكف عن التذ ّمر ،وجمادلتها يف ّ
ريا جلعله ّ
بذلت جمهو ًدا كب ً
ْ
ْ
حتاول يف البداية أن تشكوه للمقدّ م إيادّ -
الضابط املسئول عنهم ،-لك ّنه
جمرد ٍ
فتاة صغرية ال تصلح استفزها للحدّ األقىص حني قالّ :إنا ّ
ّ يف النهاية
ابنة عمر الزيبق نكاي ًة فيه ،أو سع ًيا
ألنا ُ ضموها للمقاومة فقط ّ وإنم ّ ليشءّ ،
املرات التي خالف فيها بكل ّ تقريرا ً
كامل ّ ً الستاملته .عند تلك ال ّنقطة قدّ مت
ُ
يستقيم يف عمله.
ُ أوامرها ،وأ ِّن َب بشدّ ة من ّ
الرؤساء يف الفيوم ،ما جعله َ
ٍ
لغرفة ُمنفردة لتقوم هي ِ
باقتياد معاذ -الذي كان ال يزال خمدّ ًرا- أمرتْه
أقدر عىل
وأكد هلا أنّه ُ يعجب (ضياء) ذلك القرارّ ، ْ باستجوابِه بنفسها .مل
ُ
ضابط رشطة سابق ،وله خرب ٌة يف التعامل مع امل ّتهمني وانتزاع استجوابه ألنه
املعلومات منهم.
ٍ
بلهجة آمرة“ :سيد ضياء، ثم قالت وأرصت عىل رأهياّ ،
ّ (ميساء)
مل توافقْ ْ
املخصصة؛ هذا أمر” .فقال بضيق:
ّ الفور باقتياد امل ّتهم إىل الغرفة
قم عىل ْ ْ
ُ
طريقة قيادة ،ال بدّ أن تستفيدي من ميساء ،هذه ليست “ولكن يا مالزم ْ
ْ
اجلزء الثاين من ُجلته وتأكيده هلا
ُ ّ
األقل” .كان خربات مرؤوسيك عىل
أثارت ضي َقه
ْ ِ
تشكيكه يف قيادهتا؛ حماولة عىل أنّه مرؤوسها حماولة لتخفيف
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
37
وأرصت عليه ،ومل جيد
ّ أمرها،
كررت َ
أكثر من أمرها له ،ومع ذلك ّ
الشخيص َ
بدًّ ا من االنصياع.
حتت ِ
إمرة احلمقى؛ قبل الغزو تاريخ طويل من العمل ٍَ نفسه ذاضياء َيعترب َ
الترصف عمل
ّ ُ
ضعيف غبي
مأمور ّ
ٌ ريا يف قسم رشطة يرأسه ً
ضابطا صغ ً كان
الرابع للغزو سيطر النياندرتال َ
حدث الغزو .يف اليوم ّ حتته مدّ ًة طويلة ح ّتى
كل َمن قاومهمالشطة الذي يعمل به يف دقائق بعدَ أن قتلوا ّ عىل قسم ّ
قادرا عىل املقاومة.
ظن نفسه ًوأوهلم املأمور الذي ّ
بقذائفهم الذكيةّ ،
اجلميع سالحه ،دخل مخسة نياندرتال وأعلنوا أهنم ُ بعدَ أن ألقى
إمرة أحدهمّ ،
وأن ِ مع (ضياء) ورفاقه يف قسم الرشطة حتت سيتعاونون َ
مهمتهم ستكون حفظ األمن العام والسيطرة عىل اللصوص واخلارجني عىل
القانون“ ..نحن نطلب منكم خدم َة شعبكم واحلفاظ عىل أمنه كاملعتاد”.
رب أحدً ا عىل العمل ،لكن َمن
كالم قائدهم الذي قال إنّه لن جي َ
َ كان ذلك
سي َسل للعمل يف مناجم س ُت ْبنَى الستخراج مصدر الطاقة اجلديد.
يرفض ُ
َ
عمل معهم وتن ّقل بني عدّ ة مراكز رشطية يف أنحاء تلك الدولة الغريبة.
ريفية ،وأخرى جبلية يف
عمل يف مدن كالقاهرة وحيفا وأنطاليا ،ويف مناطق ّ
حيب العمل
كرها صار ّ مرص وتركيا وسوريا .بعدَ فرتة قصرية من العمل ُم ً
معهم ونظامهم اجليد وتقنياهتم ْ
املذهلة ،لك ّنه بعدَ عدّ ة أعوام بدأ يكره
جمرد خادم للغزاة يساعدهم يف إحكا ِم قبضتهم عىل البالد التي حقيق َة أنّه ّ
يستعمروهنا.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 38
أمور أديتيا األرض ،بعدَ سبع سنوات من الغزو تقري ًبا، استقرت ُ ّ بعدَ أن
تزوجوا من أديتيات وأنجبوا منهن، أفراد من الرشطة الذين ّ ٍ بدأوا يف جتنيد
السامح ملَن يريد االستقالة من الرشطة ،وكان هو ِمن أوائل وبدأوا يف ّ
عرض للعمل يف املقاومة يف كتائب النرص التابعة ٌ املستقيلني .بعد ذلك جا َءه
يتم العفو عن جريمته املتمثّلة يف عمله يف َ
مقابل أن ّ للمخابرات املرصية،
حتت االختبار ً
ضابطا َ رشطة الغزاة ،ومقابل راتب ُم ٍز ،أخربوه أنّه سيبدأ
أن العمل يف تدرجييا إذ أثبت إخالصه وكفاءته .وافقَ ،وقد شعر ّ ًّ ثم سيرت ّقى
ّ
املقاومة سيكون بالفعل التوب َة املناسبة عن ِ
عمله يف خدمة الغزاة.
تصغره بعرشة أعوام،
ُ مرؤوسا ْمليساء؛ الفتاة التي
ً يتحمل أن يكون
ّ ال
يتم العفو عن يتحمل ً
أمل يف أن ّ ّ ومدنية ال خرب َة هلا بيشء .مع ذلك كان
تارخيه وجعله يرت ّقى يف عمله اجلديد ،ويتخ ّلص من رئاسة ْ
(ميساء) وسمري،
يسميهام “الطفلة والعسكري العادة”.
أو كام ّ
***
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
39
6
صارت
ْ وكأنا تتأكد من ّ
أن مالحمها (ميساء) تتأ ّمل وجهها يف املرآة ّ
وقفت ْ
ْ
حجة يستخدمها (ضياء) يف أكثر مالءمة للقيادةّ ،
وأن وجهها الطفويل مل يعدْ ّ َ
نفسها ً
أيضا ،وحتاول املقارنة بني مالحمها اآلن ومالحمها حتدهيا .كانت تتأ ّمل َ
ُ
حتاول مقرب ًة ملعاذ .أخذت ً
نفسا عمي ًقا وهي منذ عرش سنوات حني كانت ّ
ِ
وشك الدّ خول عليه ،وإخباره أن تتغلب عىل التوتّر الذي يعرتهيا وهي عىل
باحلقيقة.
تنكر ،واحلديثالذهاب إليه دون ّ صدرت هلا هي ّْ األوامر التي
ُ كانت
ٍ
موعد آخر ملقابلته يف اليوم التايل ،وبتكرار تلك املواعيد معه ،واالتّفاق عىل
للمقر طواعية ،وإقناعه بال ّتعاون مع املقدم إياد.ّ َ
السبيل إلحضاره متهد
ّ
أيضا لكنها حني عرفت عارضت الفكرة يف البداية ،وعارضها (سمري) ً
بالتفاصيل وافقت عىل الفور وأقنعت (سمري) دون إخباره بتفاصيل إضافية.
أي طائرة
تم معه ُبمنتهى البساطة ،ومل تلتقطها ُّ
األول ّ
أن لقاءها ّالغريب ّ
ُ
الذهاب والعودة بفضل جهاز التشويش دقيقة ،أو جها ٍز ُمستشعر طيلة طريق ّ
بث املستشعرات. تغي ّ ٍ
موجات ّ الذي حتمله ،والذي ُي ِ
صدر
ينتظرها يف املطعم الذي
ُ وجدت كمينًا
ْ حنيَ ذهبت إىل لقائهام الثاين،
مع (معاذ) عىل ال ّلقاء فيه .كان من ّ
املرجح ّأنم قد التقطوا احلوار اتفقت َ
مكان لقائهام ،أو ّأنم اكتشفوها ُ
منذ َ عريض ،وعرفوا الذي دار بينهام بشكلٍ َ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 40
حوارها مع
َ ور َصدوا
الطائرات الدقيقة ،وراقبوها َالبداية عن طريق أحد ّ
للمقر ،لك ّنهم فقدوها عندَ نقطة دخوهلا ملنشية
ّ تتبعها
ثم حاولوا ّ
“معاذ”ّ ،
أكثر من جهاز تشويش قوي. نارص؛ حيث هناك ُ
لغرفة االحتجاز ،فوجدت (معاذ) راقدً ا عىل ِ الباب احلديدي
َ فتحت
ري مفهوم ،غري ُم ٍ
نتبه ويتمتم بكالم غ ِ
ُ حيدق يف سقف الغرفة، الصغري ُالفراش ّ
“ميساء! ٍ
بلسان ُمتلعثمْ : مشو ًشا ،وقال
فنظر إليها ّ َ ِ
باسمه لدخوهلا .نادت
ابتسمت وهي
ْ يصيب باهلالوس ً
أيضا”. ُ يبدو ّ
أن املخدّ ر الذي حقنوين به
فر ّد وهو ُيطلق
وإنا أما َمه عىل احلقيقة”َ .
“إنا ليست هالوسّ ، تقولّ :
جزء من اهللوسة”. ضحك ًة عبثيةّ :
“كل َمن يزورك يف أثناء اهللوسة ينكر أنّه ٌ
فتأوه وهو ينظر إليها
كتفه ّريا ،وأفرغته يف ِأخرجت من جيبها حمْقنًا صغ ً
ْ
ري مصدّ ق .أجلس ْته عىل املكتب ا ُملجاور للفراش وهو ُيغلق عينيه ويفتحهام
غ َ
زالت من رأسه بقايا املخدّ ر ،واندفع ٌ
سيل نظر إليها وقد ْ ثم َ متكررّ ،
ّ بشكل
تلعثمه .أعطته كو ًبا من عصري الليمون
ُ فمه الذي زال من األسئلة من ِ
وطلبت منه أن هيدأ وسوف ختربه ّ
بكل يشء.
بتعجل وكأنّه حاجزٌ يريد ّ
ختطيه ملعرفة إجابة األسئلة ارتشف العصري َّ
ري املتد ّفق يف فمه وهي
رأسه يف تلك اللحظة .وتأ ّملت هي العص َ التي متأل َ
َ
وتعرف من أين تبدأ َ
لتزيل توتّرها أوىل هبذا العصري تقول يف ِ
نفسها ّإنا ْ
كالمها معه.
اضطرت فيها للقيام بدور
ّ انضمت للمقاومة
ّ مرات نادرة منذ ِ
أن ّ
املرة هي األصعب؛
كل مرة ،وهذه ّ األمر ً
ثقيل عىل قلبِها يف ّ ُ املحقق ،وكان
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
41
الكوب
َ أيام املراهقة .بعد أن وضع ستجوب كان فتى أحالمها َ
َ فالشخص ا ُمل
رس سكوهتا طال ًبا منها أن تبدأ باحلديث. ً
مستفهم عن ِّ الفارغ أمامه نظر إليها
تفلح معهم تلك العمليات يفل احلديدَ ّإل احلديد ،وهؤالء الغزاة لن َ“ال ّ
ٍ
حرب شاملة يو ًما ما تش ّنها دولة قوية تسرت ّد أرضها.. العشوائية؛ ال بدّ من
تصلح للتفاوض عىل حتسني االحتالل أو االعرتاف ُ حرب العصابات قد
مهم ُة دولة بأكملها”.
جزء من الوطن فهي ّ ببعض احلقوق ،أ ّما استعادة ٍ
خيص املقاومة،
مهم ّ ألنا تريده يف أمر ّقبل يومني ّ أخربتْه ّأنا ذهبت إليه َ
كمرصي ُملص حي ّتم عليه أن يساعد بلده .ر ّد عليها بحدّ ة ً
قائل: ّ ّ
وأن واجبه
نظرت إىل
ْ كنت تكذبني ع َّ
يل”! الزواج منيِ .. “إ ًذا ،مل تريدي العود َة يل أو ّ
ختططأنت ومل ختربين أنّك ّكذبت َ
َ ٍ
هبدوء شديد“ :كام عينيه بثبات وهي تر ّد
أن التزاوج معهم خيانة ال يغفرها وأنت تعرف ّ
للزواج من بنات النياندرتال َ
َ
يفعلون ذلك”. أنّك ُمرب ،أو أن اجلميع
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 42
أفضل النفوس وهتبط هبا إىل احلضيض .كانت َ تغي
يعيشوهنا قادرة أن ّ
أن لدهيا معرفة سابقة به متنحها تتعامل مع رجلٍ ُمستهدف يف عملها ،صادف ّ
كل من“إن ّ
قرار زواجه من نياندرتال ،لك ّنها قالتّ :ربر َ أفضلية .حاول أن ي ّ
خطة الغزاة ،ويساعدون يف حمْو ّ
كل يتزاوجون معهم يعرفون أهنم ينفذون ّ
أملٍ يف عودة األرض ألصحاهباُ .هم ّ
خيططون ملا بعدَ ثالثني عا ًما من اآلن،
أرضيني
ّ السكان تقري ًبا من اهلجناء أبناء أديتيات وذكور
نصف ُّ حني يصبح
فاقدين احرتا َمهم ألوطاهنم مثلك ،عندها لن يمكننا حمو ذلك الغزو أو
التخلص منه”
ريا ً
جهازا صغ ً احلوار حني أمسكت
َ أكثر لك ّنها أقفلت َ
حاول أن جيادهلا َ
ُ
تعرض عليه فيديو يظهر مخسة ملثّمني وفتحت به شاشة فراغية ،وبدأت
ْ
بوخزهن بالسكاكني
ّ يقيدون جمموع ًة من الفتيات األديتيات ،ويقومون
بقتلهن واحد ًة تلو
ّ ثم بعدَ فرتة يبدؤون
يف أماكن متفرقة من أجسادهنّ ،
كل عار”.“الدم يغسل ّ
ُ وهم هي ّللون ،وأحدُ هم ير ّدد شعارات مثل
األخرىُ ،
كل عالمات تركز عىل تعابري وجهه وهو يشاهدُ الفيديو ،وترى ّ كانت ّ
وضوحا حني قام واحدٌ
ً حمياه ،لك ّنها كانت أكثر
اخلزي واألمل تتبدّ ى عىل ّ
وغرس ّ
سكينَه ببطء بني َ بكشف صد ِر إحدى الفتيات ِ من الشبان بعينه
صمتت فجأة
ْ ضلوعها ،والفتاه ترصخ بقوة ،والسكنيُ يمتدّ للداخل ح ّتى
مزق قلبها.
حني ّ
ُ
أعرف أنّك واحدٌ منهم ،لك ّنني مل أكن “مل أكن أتو ّقع أنّه أنت ..كنت
تظن أنّه ذلك ومرضا”َ .
قبل أن تر َيه الفيديو كانت ّ ً أختيل أنّك أكثرهم ساد ّية
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
43
الشاب
ّ يكن يستعمل سكينَه ّإل حني ُ
ينهره زمالؤه ،أو ذلك الشاب الذي مل ْ
رسيعا َ
دون ال ّنظر إىل الضحية ،أ ّما ً ويرجه رسيعاُ ،
ً الذي كان يغرس السكني
ضحيتِه
ّ ِ
سحابات األمل عىل وجه أن يكون هو ذلك السادي الذي ّ
يتلذذ برؤية
فلم ير ْد ذلك بخاطرها.
تقوم هي معه بدور الرشطي الطيب؛ حتاول تعليامت (إياد) هلا أن َ
ُ كانت
بتور ِطه يف ذلك الفعل الشنيع إقناعه بأهنا يف ص ّفه ،وتقول ّإنا حني علمت ّ
َ
السلطات بالعفو عنه إذا وافقَ عىل مساعدهتم. ِ
وأقنعت ّ التمست له العذر،
ويكيل له االهتامات بالوحشيةُ فيستخدم ّ
التهيب ُ دور (إياد)
يأيت بعد ذلك ُ
واإلجرام ،وهيدّ ده بأقىص العقاب .كانت تلك هي ّ
اخلطة ،لك ّنها مل تعدْ قادرة
ِ
صفعه. عىل تنفيذها وامتألت برغبة قوية يف
مرة شاهدت الفيديو الذي انترش يف العامل أمجع،أصيبت بالغثيان ّأول ّ
ْ
رين
رب َ
جلرائم فعلها آخرون م ّ
َ واألفظع من عدّ ة فيديوهات
َ َ
األول وكان
يفروا لكوكبهم ثانية .كانت تكره ّ
كل َمن أفعاهلم بأهنم ُيرعبون الغزاة كي ّ
السادي الذي اتّضح
باألخص كانت ترغب يف متزيق ذلك ّ
ّ يف الفيديو لكنها
اآلن أنه هو “معاذ”.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 44
فعلت ّإل بعدها حنيَ
ُ أعرف بشاعة ما ْ ننال (رشف) االنتقام من الغزاة ،مل
تذهب العقل ،وجتعل
ُ إن رؤي َة الدّ م شاهدت نفيس وأنا ُ
أفعل ذلك ..يقولون ّ
أكن أراهن ً
برشا ،لكن ملزيد من الدم ..حسنًا كنت كذلك مل ْ اإلنسان َش ًها ٍ
َ
أن فعل ذلك هو التوحش ح ّتى لو كانأيقنت ّ
ُ شاهدت الفيديو
ُ بعد أن
ريا؛ ال فتاة مسكينة”.
ضبعا حق ً ُ
الضحية ثعبا ًنا أو ً
بنشيج يطغي عىل صوتهٍ الندم يقطر من كلامتِه التي كان يقطعها
ُ كان
أحيا ًنا لك ّنه مل يكن كاف ًيا إلقناعها“ .واآلن تريدُ أن تك ّفر عن ذنبك بالزواج
دورها بواحدة منهن” ،قال ْتها بسخرية حماول ًة أن تتامسكْ ،
وأن تعود إىل ْ ٍ
ُ
حياول أن يتو ّقف عن البكاء“ :صدّ قيني ،أنا كمح ّقق متعاطف .قال وهو
الكوابيس ّ
كل ليلة منذ فعلتها، َ مستعدّ لتلقي العقاب عىل فعلتي؛ أنا أرى
ست سنوات مل ترتكني فيها ليلة واحدة”.
ّ
صوت
ٌ ربه بالغرض احلقيقي من هذا ال ّتحقيق تصاعد َ
قبل أن تر ّد عليه وخت َ
من امليكروفون الداخيل بالغرفة يطلب منها احلضور ملقابلة املقدم (إياد) عىل
هيم بالتحدث ،لك ّنها
األمر فأمسك (معاذ) بذراعها وهو ّ َ لتلبي
الفور .قامت ّ
بالصمت واالنتظار ح ّتى تعود إليه.أشارت إليه ّ
***
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
45
7
ريفاديل
“األهرامات ..ثالثون ألف عا ٍم من التاريخ تقف شاخمة يف م ْ
عاصمة أديتيا ،وتعدكم بالكشف عن مزيد من أرسارها التي استطاع علامؤنا
تدور بني األهرام ،وتقرتب من فتحة ُ األديتيون اكتشافها” .كانت الكامريا
رتا تقري ًبا ،واملع ّلق يكمل باإلنجليزية:
أسفل قمة اهلرم األكرب بعرشين م ً
تكن لتكتشف لوال جهود ٍ
مليئة باألرسار مل ْ “هذه الفتحة تقود إىل غرف
أكثر ممّا تتخيلون” .تبتعد الكامريا
علامئنا الذين يقدرون التاريخ اإلنساين َ
وتكشف منطق َة األهرام بأكملها وهتبط مجلة مكتوبة ير ّددها املعلق“ :زوروا
أديتيا؛ حيث تنصهر احلضارات”.
زرا يف جهاز التحكم تو ّقف العرض ،وضغطت َك ِم ْ
ريدا مساعدة هريمني ًّ
يتجول بني معاملها وشوارعها ّ عرض فيديو آخر ُيظهر مدين َة القدس،ُ فبدأ
صارت مدينة السالم ،مل تعدْْ وصوت املع ّلق نفسه يقول“ :القدسُ القديمة
قبل أن تعود جز ًءا من أديتيا” ،تتداخل مدينة الدماء واحلروب كام كانت َ
ٍ
أديان خمتلفة ،واملع ّلق يكمل “أ ًّيا يف الشاشة صورة مص ّلني يف املدينة من
كان دينك ستنعم بالصالة هنا يف مكانك املقدس بدون حواجز أو حراس
مسلحني ..بدون ضغائن أو أصوات كراهية ..يف أديتيا صارت القدس ح ًّقا
شيخ وحاخام وقس ،يقرتبون من للجميع ،بدون تفرقة” ،يظهر يف الصورة ٌ
شعار ماجوها (شعار ُ كاهن يرتدي معط ًفا جلد ًّيا َ
أمحر اللون ،وقالدة عليها ٍ
وضعية اجلنني)،
ّ دين النياندرتال؛ وهو يد مفرودة ينام يف راحتها شخص يف
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 46
اجلميع بالكاهن ،وهتبط مجلة مكتوبة ير ّددها املعلق“ :زوروا أديتيا؛
ُ حييط
حيث تتعانق األديان”.
ريدا العرض ،ونظرت إىل هريمني تسأهلا رأهيا ،فقالت بابتسامة أغلقت َك ِم ْ
ْ
“التنفيذ أكثر من جيد ،ويناسب طريقة تفكري األرضيني ..أحسنت ُ عريضة:
جم ،وتقول هلا: ٍ
بتأدب ّ وجهها باحلمرة وهي تشكرها يا َكمريدا” .ترضّ ج ُ
وملصة فليجعلك ماجوها “أنا فقط ن ّفذت أفكارك يا سيديت ..إنّك عبقرية ُ
لوحت هريمني بك ّفها يف عدم اكرتاث بذلك التك ّلف يف أعىل الدّ رجات”ّ .
الديني الذي تغرق مساعدهتا نفسها فيه.
ولكن وضعها السيايس ووجودها ّ ٍ
عائلة غري متد ّينة، كانت هريمني من
استخدام الدّ ين يف الكثري
َ ٍ
كواجهة دعائية حي ّتم عليها قلب األحداث يف ِ
شعار ماجوها يف ّ
كل ظهو ٍر ُ من املناسبات ،بل وارتدا َء د ّبوس صد ٍر عليه
فمن ناحية كانت تن ّفذإعالمي هلا .هذه احلملة الدّ عائية كانت فكرهتاِ ،
تطبيع تدرجيي يف العالقات
ٍ توصيات جملس احلكم بابتكار وسائل تؤ ّدي إىل
ُ
ستحصل عىل نصيب ِ
رشكات عائلتها فإن ٍ
ناحية أخرى ّ مع دول العامل ،ومن
َ
من الكعكة ،القانونية منها وغري القانونية.
السفيل للتسويق لنوعشقيقها جيري محل ًة دعائية موازية يف العامل ّ ُ كان
األعشاب املخدّ رة املزروعة يف كوكب أديتيا والتي
ُ ُمتلف من السياحة.
جلعل السياح
خيطط ْالبرش نشوة خمتلفة متا ًما عن ما عهدوه ،وقد كان ّ َ تعطي
وهم عائدون َ
ويأخذون معهم منها ُ سيتذوقون نشوهتا، ّ َ
أول زبائنها؛
ألوطاهنم .ستبدأ سمعة املخدّ رات األديتية يف االنتشار وسيبدأ تصديرها.
هذا بالطبع إضاف ًة إىل جتارة ال ّتقنيات التي متنع حكومة أديتيا إعطاءها للبرش.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
47
ري القانوين يتصاعد باستمرار، ضيق هريمني من عمل عائلتها غ ِ ُ كان
أن موقعها احلايل يسمح هلا بتوسيع األنشطة القانونية ،ولكن يبدو ّ
أن خاصة ّ
ّ
ّ
التخل عنه .مل تكن تستطيع جزء من رشف العائلة ال يمكن ممارسة اجلريمة ٌ
فنقود اجلريمة هي التي أنفقت عىل ُ مهام رفضته ِ
نشاط عائلتها ْ اخلروج من
الرشاوي إليصاهلا إىل مراتب ُعليا يف السلطة. ِ
دفعت ّ تعليمها وهي التي
خيول هلا ٍ
منصب أعىل ّ الوضع مؤق ًتا ح ّتى تصل إىل
َ أي حال كانت تتقبل عىل ّ
شخصيا إذا لزم األمر.
ًّ القضاء عىل نشاط أخيها أو القضاء عليه
ألنا تريد الصالة يف املعبد قبل أن تعود إىل ريدا ّ
للذهاب ّ استأذنت َكم ْ
تضم مناطق اجليزة القريبة من النيل) حيث (اسم مدينة جديدة ّ
ُ جيزافاديل
أذنت هلا هريمني قبل
ْ احلي اخلامس (املهندسني ساب ًقا).
يقع يف ّ كان بيتها ُ
أن ترتك مكتبها الذي يقع يف إحدى الڤيالت إىل بيتها الذي يقع يف الڤيال
َ
تدخل بيتها خطرت املجاورة .كانت متيش اهلوينى بني الڤيلتني ،وقبل أن
حراسها قائلة“ :أتعرف (لؤي) األريض؛ ضابط فكرة بباهلا فسألت أحدَ ّ
هز احلارس رأسه مواف ًقا وهو يقول“ :نعم يا سيدة هريمني.
البوابة الغربية؟” ّ
زواجه حرصي أم مفتوح؟” ُ هو صديقي” .سألته وهي ّ
حتك أذهنا“ :هل
ابتسم احلارس وهو يقول“ :بل مفتوح يا سيديت؛ فهو شديد النشاط مع َ
ال ّنساء من الكوكبني”.
َ
جهاز اتّصاهلا وطلبت من (لؤي) وتوجهت إىل غرفتها وفتحت
ّ تركته
ريا جوار فراشها وأخرجت منه حمقنًا.
درجا صغ ً
فتحت ً
ْ احلضور إىل غرفتها.
َ
عريض الكتفني، حني دخل (لؤي) ووقف أمامها بقامة مشدودة .كان
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 48
قوي البنية ،كأنّه من النياندرتال لك ّنه أطول
خشن املالمحّ ،
َ بارز ّ
الفكني، َ
ٍ
بابتسامة عابثة طلبت منه أن يسرتيح يف وقفتِه ،وسألته
ْ وجها.
قامة وأصغر ً
“إنا شائعات يا سيديت، ً
متلعثم ّ رد
كم امرأة أديتية يف حياته وكم أرضية؟ّ .
أحب
حتركت ،لك ّنني ّ
أطاوع شهويت إذا ّ
ُ أنا ٌ
رجل حمدود العالقات ،أحيا ًنا
زوجتي ،وعالقايت القصرية حتدث ّ
ألن زواجنا مفتوح”.
اقرتبت منه ووضعت يدَ ها عىل صدره وهي تقول“ :حسنًا ،هل لديك ْ
مع امرأة أديتية خمتلفة عن ّ
كل َمن عرفت؟” ر ّد بارتباك وقت إلشباع رغبتك َ
وقد بدأ الدم يتصاعدُ يف رأسه“ :أمرك سيديت” ّ
ضيقت عينيها بحدّ ة وهي
املحقن
َ النظر إليها ،وغرست
َ وعينيه اللتني تتحاشيان
ْ املحمرتني
ّ تتأ ّمل أذنيه
يف كتفه فجأة وهي تقول“ :أحدّ ثك عن الرغبة فتحدّ ثني عن األوام ِر يا أمحق”،
ثم
وأمسكت بتالبيبهّ ،
ْ متألًا حني انغرس املحقن يف كتفه ،لك ّنها مل تعبأ
تأوه ّ ّ
يتخيل أن يامرسه مع سيدتِه املتغطرسة.
طقسا مل يكن ّ
جذبته إليها لتبدأ معه ً
ري بأقىص رسعة يسمح هبا محلها الذي يف ذلك الوقت ،كانت كمريدا تس ُ
تتوجه إىل املعبد إلقامة صالهتا األسبوعية،
ّ َ
وصل لشهره السادس وهي
والستشارة الكاهن يف أم ٍر يقلقها .كانت تريدُ أن جتد وق ًتا كاف ًيا ّ
للصالة
قبل عودة زوجها من عمله( .باسل) الذي لتصل َ
َ ألنا جيب أن تذهب لبيتها
ّ
تزوجته خدمة لوطنها ودينها؛ جز ًءا من الطقس املفروض عىل ِ
بنات جلدهتا ّ
من الزواج من غرباء للحفاظ عىل ِ
نسلهم ،وعىل بقائهم يف األرض ،لك ّنها
بأي طريقة.
أحبته ،وصارت تسعى إلرضائه ّ
مع الوقت ّ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
49
زواجهام حرص ًّيا ،وكان ذلك
ُ أرص أن يكون كانت ُ
بداية إعجاهبا به حني ّ
يعني هلا أنّه جا ّد يف الزواج ،وأنّه يعتربها زوجته ،وليس كالكثريين من
لينال مميزات ٍ
وعاء عليه أن يمأله َ جمر َد َ
يعتربون األديتيات ّ األرضيني الذين
إن كانت له وحدَ ه ْأم كانت مع آخرينُ ،
فهم يعتربون معينة ،وال يضريه ْ
حقيقيا.
ًّ زواجا
ً الزواج باألديتيات ليس
جمر ُد ممارسة برشية
أن العالقة بني الذكر واألنثى ّ األديتيون يعتربون ّ
أي تعقيدات نفسية أو اجتامعية ،وينسبون الطفل ألمه التي ممتعة ال يلبسوهنا ّ
مقابل جمهودها يف رعايته .لكن هناك بعض َ تتلقى من الدولة رات ًبا شهر ًّيا
حرصا بنيَ شخصني،ً َ
تكون تلك العالقة ترص عىل أن املجتمعات األديتية ّ
للزوجني ،ويعاقب َمن ينتسب فيه األبناء ّ
ُ يتم عقدُ زواج حرصي وهنا ّ
الزواج.
خيالف العقد ،ويدخل يف عالقة خارج ّ
نوعي من عقود الزواج
ْ األم وضعوا ِ
لكوكب األرض ّ حني هاجروا
األرضيني واألديتيات ،حرصي وغري حرصي ،وكانت َكمريدا ترى ّ
أن ّ بني
(وهم ق ّلة) هم فقط اجلديرون
يرصون عىل حرصية الزواج ُ
األرضيني الذين ّ
باالحرتام.
ثوبا املعتاد وترتدي ز ًّيا ٍ
غرفة صغرية ،ختلع فيها َ دخلت من باب املعبد إىل
ْ
روحها للدخول هييئ َ وجهها بمسحوق مقدّ س ّ للصالة ،وتدهن َ خمصوصا ّ
ً
وجلست عىل ركبتيها يف
ْ قدسية املكان .دخلت قاعة الصالة الفسيحة
ّ يف
ٍ
بصوت هامس. وأخذت تقرأ منه
ْ وأمسكت بكتاب الصلوات
ْ مربع فارغ
الصلوات الذي وضع يديه عىل كاهن ّ
ُ أحنت رأسها حني وصل عندهاْ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 50
ٍ
بكلامت كهنوتية ومتتم
َ ثم نقل يد ْيه عىل رأسها
ومتتم بكالم مسجوعّ ،َ كتفيها
ووضعت يدهيا
ْ هو ووقفت هي ال يعرف العا ّمة معناها .حني انتهى جلس َ
ِ
تالوة أن انتهت منثم جلست أمامه ثانية .بعد ِ ثم ّقبلت رأسه ّ
عىل كتفيهّ ،
أنالصالة معه يف صوت واحد .قالت“ :أهيا املقدس ،كنت أريد ْ كلامت ِ
إهناء ّ
أشعر أنّني أغضب ماجوها ،وال أعرف هل أنا عىل ُ أستشريك يف أم ٍر مهم..
صواب أم خطأ”.
ظهر ك ّفه اليمنى عىل خدّ ها األيمن وهو يقول“ :العزيزة ُ
الرجل َ وضع
َ
ً
مؤهل للفتوى”. ولست
ُ للصالة فقط أنت تعرفني أنّني كاهن ّريداِ .. َكم ْ
النصح
َ أطلب
ُ متفهمة وهي تقول“ :أعرف ّأيا املقدس لكنني هزت رأسها ّ
ال الفتوى” .ابتسم بو ٍّد وهو ينزل يدَ ه ويمسحها عىل البساط األديتي األمحر
ُ
أفضل “أفضل أن تسأيل الكاهنة الوسطى؛ فهي الذي جيلسان عليه وقالّ :
م ّني ،ويمكنك أن تقابليها اآلن ً
بدل من انتظا ِر كاهن املعبد العلوي فجدو ُله
وخترج من قاعة الصالة
َ أن تقومتقبل ركبته قبل ْ
ثم انحنت ّمزدحم” .شكرته ّ
لتتوجه لغرفة الكاهنة الوسطى.
ّ
كانت غرف ًة فسيحة مفروش ًة بالبساط األديتي األمحر ،ويف وسطها أريكة
زي الكهنة
لون ّ بنية؛ وهو ُجتلس عليها الكاهنة التي ترتدي عباء ًة ّ
ُ صغرية
املتوسطني .جلست القرفصا َء أمام األريكة بعد أن ّقبلت الكاهنة عىل ركبتها
ّ
بصوت ُمضطرب“ :سيديت ،أخشى أن أكون ٍ وتنحنحت َ
قبل أن تتكلم ْ
عقدت الكاهنة حاجبيها وهي ِ مشاركة يف عملٍ قد ال ُيريض ماجوها”.
بصوت كالفحيح“ :وما هو ذلك العمل؟” رشحت هلا احلمل َة الدعائية ٍ تسأهلا
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
51
للصالة فيها،
التي تدعو السياح من أنحاء العامل للمجيء إىل مدينة القدس ّ
ووجهة نظرها من ّأنم يسمحون ألصحاب الدّ يانات (الباطلة) باملجيء
ملامرسة أدياهنم يف ٍ
أرض مقدّ سة.
“نحن نسمح للموجودين عندنا يف دولتنا بمامرسة تلك الشعائر ،ومنهم
ُ
ٍ
رتيب زوجك ،ما الفارق يا عزيزة؟” .كانت الكاهنة تر ّد عليها بصوت
إن كانت تستنكر سؤاهلا أم تسخر ،فقالت“ :هؤالء نحن تفهم منه ْ
مبحوح مل ْ
مضطرون للعيش معهم ،وديننا متف ّتح يسمح لنا ِ
برتكهم عىل أدياهنم ،وعدم ّ
نحرض آخرين إىل أديتيا ونجعل قطع ًة من
َ تقييد حريتهم يف ممارستها ،أ ّما أن
ُ
تلتقط أمر خمتلف” ،أهنت مجلتَها وهي ِ
حلجيجهم فهذا ٌ أرضها املقدسة قبلة
تضطرب يف حرضة الكهنة الكبار.
ُ أنفاسها بصعوبة فهي دو ًما
ظهر يدها اليمنى عىل خدها األيمن انحنت الكاهنة عليها ،ووضعت َ ِ
وهو رضوري لنرش دينهم بني بأن هذا الفعل ُيريض ماجوها َ وهي تطمئنُها ّ
بوجه ملؤه الدهشة وهي تسأهلا“ :كيف؟” فقالت ٍ األرضيني .تط ّلعت إليها
شعب متوحش، ٌ كل األرضيني يظ ّنون أنّنا“إن ّالكاهنة وهي تعتدل ثانيةّ :
نوع من اخلرف ..ال بدّ أن نرهيم دول ورشدنا شعو ًباّ ،
وأن ديننا ٌ وأنّنا اغتصبنا ً
أصحاب
ُ بتقبلنا ...حني يصيلسامحتنا ونرهيم وجهنا األفضل ح ّتى يبدؤوا ّ
ِ
وطريقة صالتنا، جوار كهنتنا سوف يتساءلون عن عقيدتنا َ تلك الديانات
يدين به”.
ستجدين منهم َمن يتقبل ديننا و َمن ُ
َ وهكذا
للتو َ
سؤالا الثاين الذي خطر ّ ثم سألت أسارير َكمريدا لوهلةّ ،
ُ هت ّللت
أحبه وأخشى أن تتو َه
يقتنع زوجي بديننا يو ًما ما ..أنا ّ
بباهلا“ :هل يمكن أن َ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 52
روحه يف ّ
الظالم بعد أن يموت” .ر ّدت عليها الكاهنة وابتسام ُتها ت ّتسع يف
نصف كهنتنا عىل تلك الدرجة من التد ّين ألصبحنا َ حب“ :يا إهلي ..لو ّ
أن
وحبك لذلك ّ أنت خملوق نوراين،حال بكثري ..العزيزة َكمريدا ِ
أفضل ًَ
مات عىل دينه”.ري روحه ويبعدها عن الظالم ح ّتى لو َ
األريض سين ُ
مهت بتقبيل ركبة تسمع هذا الكالم ،و ّ
ُ دمعت عيناها من الفرحة وهي ْ
ٍ
شديد بقوة؛ وهي عالمة عىل رضا الكاهنة لك ّنها قامت واقف ًة واحتضنتها ّ
ال يسبغه الكهنة ّإل عىل أكثر الناس ت ًقىّ ،
ثم قالت هلا“ :أمت ّنى أن تظيل عىل
وأل تتغريي بعدَ أن تصعدي يف مناصب ُعليا يف الدولة” .قفزَ عهدك هكذاّ ،
فرحا من هذه النبوءة وهي تعدُ ها ّأنا لن تتغري أبدً اّ ،
ثم سألتها قلب كمريدا ً
ٌ
معصية لدينه؟ هل برت ّدد“ :سيديت املقدسة ..هل زوجي يعتقد ّ
أن زواجه م ّني
يغي هذا قلبه؟”
يمكن أن ّ
أخذت أكثر ِ جلست الكاهنة ثانية وهي تقول هلا بفراغ صرب“ :لقد ِ
أن زوجك ُ
القليل من املسلمني ،وأعتقد ّ من وقتك أ ّيتها العزيزة َكمريدا..
وإن اعتقدوا أنّه خيانةبأن الزواج من بناتنا صحيح ،ح ّتى ِ منهم ،يعتقدون ّ
ري منهم يظ ّنون أنّنا وثنيون ،والزواج م ّنا
لوطنهم ،لك ّنه زواج صحيح ،والكث ُ
ختمت
ْ وحيبك ً
فعل”. حيرتم زواجكام ُّ باطل وحرام ،وأنا متأكدة أن زوجك
بأن ص ّفقت بك ّفيها أمام صدرها وهي تقول“ :واآلن دعيني أبدأ كالمها ْ
اخلاص بكّ الصالة
رب ًعا جلنينك عند كاهن ّ خلويت ،وال تنيس أن تضعي ت ّ
ح ّتى يكرب مؤمنًا”.
***
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
53
8
غرفة صغرية ال تستحقٌّ (ميساء) لغرفة االجتامعات ،وهي دخلت ْ
عن عرشة أمتار مر ّبعة ،هبا طاولة صغريةهذا االسم؛ فمساح ُتها ال تزيد ْ
ُ
وبضعة مقاعد خشبية عتيقة .كان املقدّ م (إياد) جيلس كطاوالت املقاهي
خلف الطاولة ومعه ٌ
رجل آخر إضاف ًة إىل (سمري) و”ضياء”. َ
ٍ
شارب صغري، مخري البرشة ،ذا
ّ الرابع، ِ
العقد ّ كان (إياد) يف منتصف
يظهر
َ مالبس فقرية تتامشى مع ال ّتمويه الذي ينبغي له أن
َ جمعد ،يرتدي
وشعر ّ
عمرا ْيبدو عليه اإلجهاد .رحلة (إياد) منرجل أكرب ًجيلس إىل جواره ٌ ُ فيه،
رحلة عسرية .يف غالب األحوال تتط ّلب ٌ مقرهم يف منشية نارص
الفيوم إىل ّ
حدود األرض املحت ّلة بخمسة كيلومرتات عىل األقل، ِ منه أن يرتجل قبل
حيمل فيها عىل كتفه حقيبة ثقيل ًة حتوي األجهز َة الالزمة لفتح ٍ
ثغرة يف جدار ُ
عن خارجها ،وأجهزة أخرى لل ّتشويش ُ
يفصل األرض املحتلة ْ الطاقة الذي
ح ّتى ّ
يتمكن من الوصول إىل وجهته.
وعرف الرجل املوجود معه بأنه رئيس (ميساء) اجللوسّ ، طلب من ْ َ
خصيصا
ً َ
حرض الرجل العمليات يف قطاع القاهرة ،وهو رئيس (إياد) املبارش.
املرة ألنّه يريد استجواب (معاذ) بنفسه.
هذه ّ
ٍ
بصوت معتدل ،لك ّنه حيمل الكثري من رنّة خطابية: َ
احلديث ُ
الرجل بدأ
خلف خطوط العدو.”.... َ ِ
شباب مرص الذين يقاومون “أنتم ِمن خرية
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 54
(ميساء) رأسها ُمبتسمة ،ويف داخلها كانت تتم ّنى انتها َء تلك املقدمة
هزت ْ ّ
ري املربرة .بدأ الرجل برشح اهلدف من إحضار “معاذ” ،والتحقيق معه؛ غ ِ
(ميساء) تعرفه وحدَ ها.
وهو اهلدف التي كانت ْ
تطلب م ّنا أن نسلمهم،
ُ رأسه بعدم اقتناع وهو يسأل“ :كيفحك (ضياء) َ ّ
ُ
اجلريمة التي قاموا هبا! ملاذا ال ٌ
جمموعة من شبابنا مهام كانت هؤالء القرود
مثاليني إىل هذه الدرجة؟”
نحن بمحاكمتهم ماد ْمنا ّنشحنهم إىل الفيوم ونقوم ُ
لكن الرجل عدم ال ّتحدث بتلك الطريقةّ ، ٍ
برصامة طال ًبا منه َ ر ّد عليه (إياد)
فهم
كل يشء يا “إياد”ُ ، “من ح ّقهم أن يعرفوا ّ األكرب قاطعه وهو يقولِ :
وهم َمن سيساعدوننا يف تسليم املجموعة التي قبضت عىل ذلك األخرقُ ،
زمالئه”.
ٍ
معلومات قال ّإنا رسية للغاية .قال ّإنم سيسلمون رشح الرجل هلم
َ
َ
مقابل إطالق رساح عمر الزيبق، هؤالء األربعة رشكاء (معاذ) يف تلك اجلريمة
فالنياندرتال مل يوافقوا عىل إطالق رساحه مقابل أرسى منهم ،وحني أرسل
ٍ
وسيط يطلبون منهم حتديدَ املقابل املطلوب لذلك ،كان رب
املرصيون إليهم ع َ
تسليم هؤالء املجرمني ،وأكمل ً
قائل“ :طلبوا َ املقابل الوحيدُ الذي طلبوه هو
وهم ذلك العتقادهم ّ
أن القتلة هاربون عندنا ،لك ّننا سنسلمهم هؤالء الفتيان ُ
داخل حدودهم تتجاوز قدراهتم”. َ لنثبت هلم ّ
أن قدراتنا َ عىل أرضهم
اإلذن باحلديث َ
فأذن الرجل له وهو يقول إن َ تنحنح (سمري) وهو يطلب
َ
احلوار مفتوح ،وال داعي للتح ّفظ ،فقال“ :ال أعتقد ّ
أن السيد عمر سيقبل َ
تدخل (ضياء) يف احلديث ً
قائل بحدّ ة: رساحه بتلك الطريقة”ّ .ِ إطالق
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
55
جمرد مقاوم
خارج سلطات الدولةّ ،
َ رجل يقاومهمُ “يقبل أو ال يقبل ،هذا
عبثي يرضّ َ
أكثر مما ينفع ،ما الفائدة يف إطالق رساحه؟” ّ
(ميساء) حني تك ّلم عن والدها بتلك الطريقة ،لكنها ظلت وجه ْاكفهر ُ
ّ
مقارب لرأيه .ر ّد
ٌ رسها ،رغم ّ
أن رأهيا يف مقاومة أبيها صامت ًة وهي تلعنُه يف ّ
“أو ًل ،عمر لن يعرف بأم ِر تلك الصفقة ،وال بإطالق رساحه قائلّ :الرجل ً
خارج حدود األرض املحت ّلة” .تساءل (ضياء) ثاني ًةَ أصلّ ،إل بعد أن يكون
ً
أن الرجل قد جتاهل إجابة سؤاله. ِ
رساحه ظ ًّنا منه ّ عن أمهية إطالق
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 56
مقيدً ا
(ميساء) أن ترافقه لغرفة (معاذ) الذي كان ّ
وطلب من ْ
َ هنا وقف “عامد”
ِ
االستجواب خبري يف
نفسه للشاب عىل أنّه ٌ إىل كرسيه يف تلك ال ّلحظة .قدّ م َ
خيرج من تلك الغرفة ّإل بعدَ أن حيصل عىل
واستخراج املعلومات ،وأنّه لن َ
ٍ
معلومة يعرفها (معاذ) عن رشكائه يف اجلريمة ،ووعدَ ه أنّه سيمنحه ّ
كل
حصانة ْ
إن ساعدَ يف إمساك الباقني.
معدنية من حقيبة
ّ بقوة ،فأخرج “عامد” أدا ًة ً
رافضا ّ هز (معاذ) رأسه
ّ
صغرية معه ،ووضعها أمامه وقالّ :إنا أدا ٌة تستخدم خللع األظافرّ ،
وأنا
دمعت عينا
ْ تصوره.
ّ حامضا يكوي أسفلها ،ويبعث أملًا ال يمكنً تفرز
متيب ًسا خال ًيا من
وجهها ّ َ متوس ًل ،لك ّنه وجد
ّ (ميساء)
ونظر إىل ْ
َ “معاذ”،
كل َمن يعر ُفهم دون احلاجة لتعذيبِه أو
رسيعا وأرشد عن ّ
ً ال ّتعبريات .اهنار
جمر َد قطعة معدنية ال يشء فيها. ِ
األداة التي كانت ّ الستخدام
قد استطاعوا حتديدَ مكان تواجد صباح اليوم التايل ،كان ال ّتقنيون ِ
وآخر يف
ُ ِ
منطقة السيدة زينب عىل م ْقربة منهم، األربعة؛ واحدٌ موجود يف
هرب من األرايض املحت ّلةِ ،
ومن مرص كلها. والرابع َإمبابة ،وواحدٌ يف طنطاّ ،
وتوجه (ضياء) و”ميساء” إلحضارّ املقر مع (إياد)
انتظر (سمري) يف ّ
َ
ُ
اهلدف يف الثّامنة والعرشين اسمه ِ
اهلدف املوجود يف السيدة زينب .كان
مدرسا ،ويتواجد يف منزله من
ً متزوج من أديتية ،وكان يعمل
ّ “حبيب”،
الباب ،فتحت املرأ ُة فسأهلا عن زوجها ،سألته
َ الرابعة مساء .طرق (ضياء) ّ
جيبها “ضياء” ،دفعها ِ
بيده ودخل، بريبةَ “ :من أنت؟ وماذا تريد منه؟” مل ْ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
57
يفرك عينيه ،ويتساءل نادت عىل “حبيب” الذي خرج من غرفة ِ
نومه ُ
وتطلب منه املغادرة.
ُ وزوج ُته تزعق فيه
سالحه وطلب من الرجل أن يأيت معه؛ ندّ ت من املرأة َ أخرج (ضياء)َ
زوجها .اقرتب (ضياء) من الرجل وإل سيقتل َ بأن تصمت ّ رصخة فأشار هلا ٌْ
مذعورا:
ً ويغي مالبسه ليأيت معه .ر ّد الرجل
يدخل غرفته َّ يطلب منه أن
ُ وهو
وطلب منه أن ين ّفذ األمر
َ هنره (ضياء)“ماذا تريد م ّني؟ أنا رجل ُمسامل”َ .
دعني أحرضها له” .أومأ هلا باملوافقة “مالبسه يف الداخلْ ،
ُ فقالت زوجته:
َ
نصف مفتوح كام أمرها. ِ
وتركت الباب ِ
فدخلت املرأة الغرفة
كان يراها وهي داخل الغرفة يتابعها بع ٍ
ني وعينُه األخرى عىل “حبيب”،
ومهس يف جهاز االتّصال بمعصمه“ :أنا ٍ
آت ،استعدّ ي” .يف تلك اللحظة َ
نحوه ُ
والرجل يقفز َ ين يطري من الغرفة ،ويرتطم بوجهه، ٍ
بتمثال معد ّ فوجئ
استخالص السالح منه.
َ وحياول
ثم حاول أن يدفعه من فوقه استطاع (ضياء) أن يرض َبه يف معدته بعنفّ ،
وتقيده بقوة
تقفز عليه ّ ِ
رضبة وجهه ،لك ّنه فوجئ باملرأة ُ يئن متأملًا من
وهو ّ
وطلب منه
َ َ
اعتدل الرجل واق ًفا ُ
وختتطف السالح من يده ،و ُتعطيه لزوجها.
تطلب املساعدة.
َ ثم طلب من زوجته أن
اجللوس ّ
وقع يف فخ ،وزا َد إحساسه بذلك حني سمعوأحس أنه َ
ّ اضطرب (ضياء)
َ
شخصا يف جهاز اتّصال وتقول“ :هناك ٌ
رجل مس ّلح هنا ،ويبدو ً املرأ َة ختاطب
ً
رشيكا موجو ًدا أسفل املبنى ،حا ِول اإلمساك به” .بدّ ل (ضياء) نظره أن لهّ
بني الرجل وزوجتِه وهو يسأهلمَ “ :من أنتم بالضبط؟!”.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 58
“منذ متى تعمل مع حكومتنا بقوة وهي تسألُ : ِ
اقرتبت املرأة منه ولكم ْته ّ
ٍ
مستوعب وهو يقول :إنّه ال ا ُملجرمة ّأيا اخلائن؟” .نظر إليها (ضياء) غ َ
ري
“أنت
بشك وهو يقولَ : نظر “حبيب” له ّ مع األديتيني؛ بل مع املقاومةَ . يعمل َ
فمه دون أنيف كتائب ال ّنرص ،تعمل مع املخابرات املرصية؟” .أطبق (ضياء) َ
ُ
العمل مع احلكومة املرصية ال للصمت أهيا احلقري،جييب فقال له“ :ال داعي ّ
خسة عن العمل مع الرشطة األديتية ،تريدون طر َد املحت ّلني ،وتنسون ّ
يقل ّ
ً
احتالل أسوأ من الغزو احلايل”. حمتل ِمن حكومته املستبدّ ة
أن هذا البلد كان ًّ ّ
نظر إليه (ضياء) باحتقا ٍر دون أن جييب ،وقال وهو ينظر إىل زوجته َ
بابتسامة ساخرة“ :وهل تعرف زوج ُتك أو زميلتك يف املقاومة أنك قمت ٍ
وجه الرجل وهو بنات جلدهتا ،وقتلهن وال ّتمثيل هبن؟” .اضطرب ُ بتعذيب ِ
ُ
“أعرف ما فعله ..مل يكن خطأ تدخلت وقالت: لكن زوجته ّيأمره بالصمت ّ ُ
َ
اعرتف يل به وساحم ُته ،أ ّما أنت فيل أخالقيا قدر ما كان خطأ تنفيذ ًّيا ،وقد
ًّ
شأن آخر ،لكن بعد أن نتخ ّلص من زميلك”. معك ٌ
***
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
59
9
أن فتحت قنا َة االتصال أول ما فعلته ْ حنيَ دخلت كمريدا غرف َة نومها كان ّ
سيتأخر اليوم،
ّ بزوجها “باسل” ،وجدت أنّه َ
ترك هلا رسال ًة ُيربها فيها بأنّه
خيططون لرسقة أجهزة مهمة من إحدى املخربني ّ ٍ
ملجموعة من ّ فهو ُي ِعدّ كمينًا
أحد األبراج القروية التي ُبنيت كبديلٍ مقر تلك الرشكة يف ِ الرشكات .كان ُّ
سكانالفلحني املتب ّقني من ّتضم ّ
لبيوت القرية رقم مخسة يف القليوبية ،وهي ّ
ثالث قرى شاميل توخابشيل (طوخ ساب ًقا). ِ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 60
ِ
بتثبيت خوذته إىل الدّ رع الذي َ
ضحك (باسل) دون أن يعلق ،وانشغل
رشيطا أسو َد من مادة مقاومة عىل منطقة العنق التي كانت ً يرتديهّ ،
ولف
يتكون من
ّ الدرع الذي
ُ تشكل نقطة ضعف يف ذلك الدّ رع ً
قديم .هذا ّ
موجات طبقة خارجية تقاوم الرصاص وامل ْقذوفات الرسيعة عن طريق ْ
مقوى جيعله
نسيج ّ
ٍ خاصة بينام طبقته الداخلية تتكون من
كهرومغناطيسية ّ
للطعن باألسلحة اليدوية واملقذوفات متوسطة الرسعة كالسهام. مقاو ًما ّ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
61
مع الوقتأن تلك الفروق ستزول َ امليزات اإلضافيةّ ،إل ّأنم كانوا يؤكدون ّ
مدونة إلكرتونية أثارت
يكتب عن ذلك يف ّ ُ تستقر األوضاع .كان
ّ بعد أن
السلطات
ُ ِ
هتديده بالقتل .حني فتحت كراهي َة الكثريين ضدّ ه وصلت إىل حدّ
األديتية الباب لألرضيني للعمل يف الرشطة ،كان ّأو َل املتطوعني ،كانت
اختبارات القبول صعبة لك ّنه اجتازها وصار فر ًدا يف الرشطة ،وكان أشدَّ
ُ
قسوة عىل املقاومني من األديتيني أنفسهم.
التعسف يف البداية” .كان يقول ذلك
ّ أنواعا من
ً مارست
ْ ّ
“كل الثورات
أساه من املقاومني املرصيني
ريه حني يلومه عىل الطريقة التي يعامل هبا ْلضم ِ
أو األديتيني الذين يساعدوهنم ،وكان ال جيدُ غضاضة يف تسمية ذلك الغزو
ثورة ،فقد كان يراه كذلك ،ويرى ّ
أن أديتيا يمكن أن تكون املدينة الفاضلة
لو فقط اختفى هؤالء “املجرمون” منها.
ثم انحرفا يمينًا
ربا مدخل جممع األبراج ّبدراجتيهام وع َ
ْ َ
هبط هو وبرنام
يقود للربج املستهدف ،وتركا الدراجتني يف خمبأ معدّ
عكس االجتاه الذي ُ َ
الطائرات الدقيقة تقوم بدورياهتا املعتادة
ُ سارا يف اجتاه الربج .كانت
ثم َهلام ّ
أن املقاومنيلكن املشكلة ّ ٍ
صورة من كامرياهتاّ ، ُ
احلصول عىل وكان يمكن هلام
يشوشون عليها ويقومون بتغذيتها بصو ٍر كاذبة ،ولذلك كان ال بدّ من ّ
وجودهم عىل األرض يف كثري من األحيان.
َ
مقابل املدخل الرئييس للمبنى ،ووقف زميله عىل مقربة َك َم َن (باسل)
مزود بتقنية ٍ
بشاشة صغرية ّ منظارا
ً من املدْ خل اجلانبي .كان ّ
كل منهم يمسك
للتعرف عىل األشخاص باستخدام ِ
بنية اجلسم وطريقة امليش ودرجة كثافة
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 62
ألنم يستخدمون ّ
تنك ًرا ِ
لرصد املقاومني حلظة وصوهلم ّ العضالت والعظام
خيدع تقنية كشف الوجوه.
ات متقطعة ،وكانت تلك هي مر ٍ َ
ثالث ّ ُ
جهاز االتصال يف معصمه أزّ
اإلشارة امل ّتفق عليها حني يرى أحدُ مها أحد املخربني .تس ّلل بخ ّفة اجتاه
يصل إليه فوجئ بإحدى الطائرات الباب الذي يقف عندَ ه زميله ،وقبل أن َ
مسا أصاهبا. ّ
وكأن ًّ مجه هو
الدقيقة هتا ُ
سالحه وأطلق قذيفة دمرهتا َ تكبله فقد أخرجيسمح للدهشة بأن ّ ْ مل
بواحدة أخرى هتامجه .أطلقَ قذيفة ثانية أخطأت الطائرةٍ برسعة لك ّنه فوجئ
ٍ
دفعات من القذائف مل تؤ ّثر يف ز ّيه ،لك ّنها التي اقرتبت منها وأطلقت عدّ ة
آملته وعطلت تقدّ مه ّاتاه زميله.
جلس عىل األرض واستجمع تركيزَ ه وأطلق عليها عدة قذائف متتالية َ
املخرب الذي استطاع أن يعبث بربنامج
َ ويسب ذلك
ّ يسبها َ
فأسقطها وهو ّ
مقره هو وزميله يف
زرا يف جهازه يطلب توجي َه الطائرات إىل ّ َ
ضغط ًّ تشغيلها.
احلال ملساعدهتم يف التخ ّلص من املهامجني أو تشتيت تركيزهم عىل األقل.
وفهم خطتهام وهي دخول املبنى
َ رجلي،
ْ ُ
يشتبك باأليدي مع رأى برنام
من الباب اجلانبي وتفخيخ الطريق ا ُملفيض إليه بطائرات كتلك ،لك ّنه متأكد
حيرك تلك الطائرات .جرى ّاتاه زميله الذي كان ً
رشيكا هلام ّ من أن هناك
خصميه ح ّتى اآلن عىل األقل ،لك ّنه فوجئ بشخص يقفزْ يبيل بال ًء حسنًا مع
عليه ويشتبك معه.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
63
ظل وجود تلك كان االشتباك باأليدي وسيل َة املقاومني ملحاربتهم يف ّ
َ
الرشيط الذي حيمي الرقبة املدرعة التي يرتدوهنا ،وكانوا هيامجون
األزياء ّ
وقتل الرشطي عن طريق طعنِه يف رقبتهَ .
مات بني يديه َ انتزاعه
َ وحياولون
زمالء سابقون بتلك الطريقة ،وكانت تدريباهتم ّ
تركز دو ًما عىل تفادي ذلك
اهلجوم.
وقوي التحمل واستطاع انتزاعَّ رضب مهامجه بعنف لك ّنه كان صل ًبا
َ
رشيط رقبتِه بالفعل ،وحاول أن يطعنه يف رشيانه السبايت .أمسك (باسل)
بذراع مهامجه وهو حياول إبعا َد السكني عن رقبته وإدارهتا يف االجتاه
يقرتب بالسكني من رقبته يف ال ّلحظة التيَ غريمه أن
ُ املعاكس .استطاع
مجه
أصيب مها ُ
َ اقرتبت فيها إحدى الطائرات وأطلقت قذائ َفها نحومها.
وغرسه يف
َ سكينه َ
وأخذ ّ متألًا فهجم (باسل) عليه ثانيةووقع عىل األرض ّ
قبل أن ينزعه ويقطع به خصل ًة من شعره ويضعها يف جيبه. عنقه َ
غضب (باسل) الذي كان يأخذ عم َله دو ًما عىل حمْمل شخيصُ استشاط
يقيد مهامجه
عرضه .كان يف تلك اللحظة ّ وكأن رسق َة تلك األجهزة ّ
سب ٌة يف ْ ّ
يكن ذا بأس ّ
يمكنه من كرس عنقه. ويضغط عىل رقبتِه بساعده ّ
بقوة ،لك ّنه مل ْ
احلرة ببطء
ثم مدّ يده ّ
أرضا إىل جوار السكني ّ َ
وأسقط نفسه ً جذبه إىل الوراء
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 64
مرميا عىل
ًّ ثم تركه
بقوة يف خارصة الرجلّ ، ودفعها ّ
َ ح ّتى أمسك السكني
ثم أخرجهاوغرس السكني يف عينه ّ َ وهجم عىل غريم “برنام”
َ األرض
خصلتني ْ
يكلف نفسه عنا َء أخذ ْ ً
متعجل بشدّ ة فلم ورض َبه هبا يف صدره .كان
متجها إىل خمبأ الدراجات
ً يتبعه
من شعرهيام لزوجته ،وأشار لصديقه بأن َ
ليالحق الباقني.
***
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
65
10
حقيقة واحدة مطلقة ،وال زيف مطلق ،لك ّنك جتتهدين يف ٌ “ليس يف احلياة
قدر اإلمكان ،وأبعدَ عنترتكزين عليها تكون أقرب إىل احلقيقة َ
َ ِ
إجياد قاعدة
استخرت قلبي ووضعني يف تلك النقطة ُ بنيتي َ
أطول مسافة ،وأنا يا ّ الزيف
(ميساء) لكن
والزيف ،وضمريي مرتاح متا ًما ..قد ال توافقينني يا ْ بني احلقيقة ّ
سيف طاغية آخرَ ري
خري يل من أن أستع َخشبي ٌ
ّ أن أحارب الطاغي َة بسيف
يوم أن
(ميساء) َ
آخر كالم قاله “عمر” البنته ْ أحارب حتت رايته” .كان ذلك َ
املخيم قبل أن يعود لألرض املحت ّلة و ُيكمل كفاحه العبثي من زارها وأ ّمها يف ّ
أقرب إىل
أن ال حقيقة مطلقة لك ّنها كانت تراه َ وجهة نظرها .كانت ُ
توافقه يف ْ ِ
املتحمسني
ّ لنقل تأ ّد ًبا أقرب إىل الغفلة أو ق ّلة البصرية ،وكانت ترى
الزيف ،أو ْ
ني يف الزيف ال قريبني منه.له وحلفاءهم من النياندرتال غارق َ
األرضيني السائرين عىل خطى أبيهاّ فهم دوافع املقاومني
كانت تستطيع َ
دوافع النياندرتال الذين يبيعون
َ تتفهم
(وإن كانت تستنكرها) ،وكانت ّ ْ
ضمنها مرص) ،فعبيدُ املال هنا
حلكومات أرضية (ومن ْ ٍ التقنيات واملعلومات
َ
يكرهون قومهم تفهم ّ
قط هؤالء الثّائرين النياندرتال الذين وهناك لك ّنها مل ْ
يدافعون عن البرش “املساكني” ويرفضونَ ويساعدون يف قتلهم بحجة ّأنم
األم إىل كوكب األرض. اهلجر َة من كوكبهم ّ
ٍ
واحد منهم ،النياندرتال الذين قد انتهت لل ّتو من مواجهة كانت ِ
ُ
الرجل قو ًّيا ،وكان يساعدون املقاومني املرص ّيني ضدّ حكومتهم .كان
ظهوره أمامها مفاجئًا لك ّنها استطاعت أن تتغ ّلب عىل عنرص املفاجأة وتش ّله
ُ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 66
ٍ
كدمة وتسبب يف
ّ رضبا يف البداية
أرضا بعد أن َ َ
أسقطه ً ٍ
بصاعق كهربائي معها
قوية يف وجهها.
ففتحه حبيب الذي كان يتو ّقع زميله لك ّنه فوجئ بميساء د ّقت الباب َ
فتسقطه للخلف ،حاولت زوج ُته األديتية أن تطلق ُ ترك ُله ّ
بقوة يف صدْ ره
ً
حماول نفسه ً
أرضا َ
وأسقط َ ّ
استغل املوقف لكن (ضياء)
(ميساء) ّ سالحها عىل ْ
ِ
ارتبكت املرأة حلظ ًة وهو ما جعل ْ
(ميساء) التم ّلص من الكريس املقيد عليه.
ُ
تشتبك معها يف عراك باأليدي انتهى ثم تقفز عليها وتسقط السالح من ِ
يدها ّ ُ
َ
وإطالق النار عىل َ
اإلمساك بالسالح الواقع جواره عندما استطاع (ضياء)
املرأة.
ونيس وجود (ضياء) و”ميساء” ،وقفزَ نحو َ أصيب “حبيب” بالصدمةَ
ً
حماول أن يمنع لتاعا وهو حياول أن يسع َفها .وضع يدَ ه عىل صدرها
زوجته ُم ً
َ
التقاط أنفاسها اندفاع الدم ِمن مكان اإلصابة ّ
لكن املشكلة كانت ّأنا حتاول
الضائعة بدون جدوى. ُ
حتاول أن تقول كلم ًة من بني أنفاسها ّ بصعوبة وهي
ويعتذر وهو يبكي ،وهي حتاولُ يقبل وجهها ويضغط عىل جرحها أخذ ّ
مرة ً
انتفاخا ،ح ّتى مهدت ّ يزداد زرق ًة ،وأوردة رقبتها تزداد
ُ التنفس ،ووجهها
َ
فكت قيو َد (ضياء) الذي نظر إليها يف (ميساء) قد ّفرغ كانت ْ واحدة .حني َ
امتنان وقال “يبدو أنّني خمطئ يف تقدير مهاراتك القتالية والقيادية يا سيادة
املالزم”
ً
مستسلم ال يتك ّلم بعد أن يأس من امرأته، جلس “حبيب” عىل األرض
َ
وأيقن ّأنا ماتت .أمسكه (ضياء) من ذراعه وأوق َفه عىل قدميه ووضع
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
67
سالحه عىل رأسه وهو يطلب منه مرافقتَهم .تقدّ م “حبيب” خطوتني لك ّنهَ
استدار فجأ ًة وأمسك (ضياء) ِمن حنجرته َ
وقبل أن يعترصها بيد ْيه رضبته
ثم قالت لضياء: مغشيا عليهّ ،
ًّ ِ
األرض ٍ
بعنف فسقط عىل (ميساء) عىل رأسه
ْ
“يبدو أنّك ستعتاد عىل قيامي بإنقاذ حياتك”.
السلم ببطء ،و”ميساء” معه شاهرة محله (ضياء) عىل كتفه ،وبدأ بنزول ّ
السالح
َ سالحها املسدس ا ُملعتاد الكاتم للصوت ،فقد كانت تكره ذلك َ
األديتي الذي يرتديه الواحدُ كقبضة معدنية .كانا هيبطان بحذ ٍر خو ًفا من
كل طابق كانت فسيحا ،ويف ّ
ً رخاميا
ًّ ظهور رشكاء حلبيب .كان سلم العامرة
وكأن قذيفة ستخرجّ لكل ٍ
باب توجدُ أربعة أبواب لشقق سكنية ،كانت تنظر ّ
مرت بسالم ،بعدها السالمل كالدهر ،لك ّنها ّ
مرت الدقائق التي هبطا فيها ّ
منهّ .
ٍ
موكب نحو املركبة يف
أقل من عرشة أمتار َ خرجا من باب البناية ،ومش َيا ّ
َ
الفت لل ّنظر يزيد من احتاملية كشفهام.
(ميساء) أن تق ّلل املخاطرة؛ فطلبت من (ضياء) البقا َء يف مدخل فكرت ْ ّ
وضعت املسدس يف حزامها ِ تذهب هي إلحضار املركبة. َ البِناية عىل أن
الشمس متيل للمغيب،
ُ ومشت يف ّاتاه املركبة متص ّنع ًة َ
عدم االكرتاث ،كانت ْ
ودخلت ّأول
ْ مشت بمحاذاة املبنى
ْ ّ
املحال أضواءها. بعضُ أنارت
ْ وقد
مطعم للمأكوالت األديتية ،وقد ُكتبت َ
حتت ٌ شارع جانبي بعد ناصية حيت ّلها
آخر
ملطعم َ
ٍ فرعا
يوميا من كوكب أديتيا” .كان ً “مكوناتنا نجلبها ًّ
ّ اسمه مجلة؛
ري يف املهندسني مشهور بأنّه مكان ل ّلقاءات األوىل بني الشباب األرضيني كب ٍ
والفتيات األديتيات.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 68
َ
قبل أن تصل إىل املركبة ،وقفت طائر ٌة دقيقة يف مواجهتها عىل مدخل
تتفحص وجهها وعينيها، تسمرت أمامها هبدوء ،والطائرة ّالشّ ارع اجلانبيّ .
ثم ُ
التحقق من اهلوية ،هناك خمالفة واحدة”ّ ، “تم صوت أنثوي ً
قائلّ : ٌ ثم ّ
رن ّ
سهم صغري من املركبة وطار ٍ
جلزء من الثانية قبل أن ينغرز يف عنقها. خرج ٌ
والسهم يفرغ مادة ما يف
ُ تألت حني ّ
شكها السهم ،لك ّنها ظ ّلت واقفة ّ
حقن األمصالُ “تم
الصوت األنثويّ :
ُ وقع عىل األرض ،وقالثم َرقبتها ّ
َ
خالل يومنيّ ،
وإل سداد غرامة التكاسل عن ال ّتطعيم
ُ الوقائية ،عليك
ستعاقبني باجلزاء رقم ١١ب” .تن ّفست الصعدا َء حني انرصفت الطائرة،
نحو مدخل البناية ،وأخذت
وعدت األمتار الباقية نحو املركبة وطارت هبا َ
(ضياء) ومحولته ّ
وات َها عائدين نحو املقر.
وحتسس رقبتَها من جرعة املصل التي تلقتها والتي ّ كانت تقود املركبة
أحست ّأنا عىل وشك أن تفرغ ْ بضع ساعات. َ امحرارا وأملًا يدوم
ً تسبب
ّ
حيدث طارئَ استالم القيادة خشية أن
َ فطلبت من (ضياء)ْ ِ
جوفها ما يف
حسب السلطات األديتية ،هناك نوعان من َ ِ
بمعدتا املقلوبة. وهي منشغلة
ونوع يعطى للنياندرتال ،وذلك لل ّتخفيف ٌ نوع يعطى للبرش، األمصال؛ ٌ
كل عامنيالصنفني ،و ُتكرر اجلرعة ّ
من حدّ ة األمراض التي قد تنتقل بني ّ
ونادرا
ً دائم -مصحوبة بأمل ٍ أو ّ
حكة وقيئ، إجبار ًّيا ،وتكون أحيا ًنا -وليس ً
محى.
تبادلت معه يف البداية
ْ َ
ودون أن تشعر املقر ،ر ّد عليها (سمري)
طلبت ّ
صب ،ويقول: حدي ًثا مشْ حو ًنا بالعاطفة ،ما جعل (ضياء) يزفر يف ِ
نفاد ْ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
69
رصد االتصال”.“ب ّلغيه بتامم املهمة ،والقتيلة التي تركناها ،وأغلقي قبل أن ُي َ
وحتذره ّأل ينسى
ّ شذرا وهي ّ
تذكره ّأنا أنقذت حياته لل ّتو، ً نظرت نحوه ْ
يترصف كقائد ويتحمل
يذكر مرؤسيه بسلطاته ،بل ّ أهنا رئيسته“ .الرئيس ال ّ
رب ًما ،لك ّنها جتاهلته وعادت ملكاملة (سمري) واطمأنّت منه
مسئولياته” قال مت ّ
تم إحضارمها ومل يتبقّ غري واحد فقط. أن االثنني اآلخرين قد ّ ّ
شوارع جانبية من السيدة زينب للدرب َ ري ببطء يف
كانت املركبة تس ُ
رب الشوارع األكرب
ثم تع ُ
شارع األزهر للجاملية فالدراسةّ ،
َ ثم تعرب
األمحر ّ
للمقر الثاين،
ّ حل عندما وصل برسعة عالية لكي ال تكتشف .كان ُ
الليل قد ّ
للرابع ،قبل أن يعطي (إياد)
انتظارا ّ
ً وا ُمل َعدّ الحتجاز الثالثة املقبوض عليهم
أوامره بطريقة وكيفية تسليمهم.
َ
كان “حبيب” قد أفاق حني دخلت غرفتَه لتحقق معه ،وتأخذ منه اعرتا ًفا
للرماد يف وجوه املعارضني الذين سيتهمون احلكومة مفص ًل بام فعل؛ ًّ
ذرا ّ ّ
حتت األرض مقر االحتجاز َالتي س ّلمتهم للنياندرتال باخليانة والظلم .كان ُّ
مهجورة يف الدويقة يف سفح جبل املقطم.
يف مكان بيوت ْ
فانبعثت إضاءة ّ
مركزة باألساس عىل وجهه، ْ زرا يف اجلدار
ضغطت ًّ
ْ
مسجل،
ّ وبدأت باحلديث بشكلٍ رسمي وهي تقول لهّ :
إن ذلك التحقيق
وثمة دمعة
ووجهه جامدّ ،
ُ ينظر إليها
والغرض منه توثيق اعرتافه .كان ُ
متجمدة يف ركن عينه تفكر يف ال ّنزول .سألته عن ِ
اسمه وعمره ،ومن ّ
وإن كان فيها يشء ُمتلف عليك
جيبها فقالت“ :سأتلو بياناتك ْ أين ،مل ْ
االعرتاض”.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 70
ثم سألته“ :أنت
حيرك ساكنًا باإلجياب أو بالرفض ّ
تلت إجابة أسئلتها ومل ّ
ْ
هم بقتل فتيات أديتيات بعدَ تعليقهن عىل أعمدة ،وتعذيبهن لساعات، م ّت ٌ
باالشرتاك مع آخرين ،فام قولك؟” مل ير ّد عليها فسألته بحدّ ٍة ّ
مرة ثانية
هم احلقَّ
فنوع التحقيق هذا ال يعطي امل ّت َ
“إن صمتك يعني موافقتكُ ، وقالتّ :
يفس أنّه إقرار”.
الصمت َّ
َ يف الصمت ،بل ّ
إن
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
71
ِ
هلجرة بحجج كاذبة
ٍ األرضيني فقط؛ بل عن األديتيني الفقراء الذين يساقون
غتصبة تكرههم ويكرههم أهلها”.
ديارهم والعيش يف أرض ُم َ
(ميساء) لك ّنها متاسكت وسألته كأهنا مل تسمعه:
أجفان ُْ اختلجت
ْ
متجه ًم وصمت لوهلة
ّ نظر إليها
ضمنيا باجلريمة”َ .
ًّ ُ
حيمل اعرتا ًفا “كالمك
اسمها صخرة ثم قال“ :باملناسبة ،الصخر ُة الرابضة بالقرب من هذا ّ
املقر ُ ّ
وكررت مجلتها ثانية الدويقة ،هل تعرفنيَ ّ
قصتها؟” .مل تر ّد عىل كالمه ّ
فتجاهلها وأكمل“ :هذه واحد ٌة من قصص الدّ ولة التي تدافعني عنها،
الدولة التي أجلأت أهلها للعيش يف جحو ٍر كتلك التي ختتبئون فيها اآلن،
وهذه الصخر ُة بالذات انفصلت عن اجلبل منذ أربعنيَ عا ًما ،ودفنت أسفلها
حيرك ِ
تعاقبت احلكومات بعدها طيلة ثالثني عا ًما ومل ّ ما يقارب املائة...
احلكومة التي حتاربني من ِ
أجلها ُ حاكم ساكنًا إلصالح حال هؤالء الناس.
ٌ
تدير هذا البلد بشكل أسوأ ممّا يفعل النياندرتال”.
كمرتزقة كانت ُ
تسبه وتطلب منه
بقوة وهي ّفقدت صربها حني نعتَها باملرتزقة ،فصفع ْته ّ
ْ
ّ
والكف عن التفلسف والتنظري .كانت تريد الدفاع اإلجاب َة عىل قدْ ر السؤال،
وإنا ضابط جم ّند برتبة مالزم يف جيش
عن نفسها وتقول ّإنا ليست مرتزقةّ ،
فستموت وهي متي ّقنة من ّ
صحة ما تفعله، ُ وإنا لو ماتت وهي تقاتل
بلدهاّ ،
وإهنا إن ضحت ِ
بنفسها ستكون شهيد ًة يطلق ُ
اسمها عىل ميدان أو مدرسة
قص ُتها للتالميذ ،وحتكي اجلدات عنها
وتدرس ّ
َّ يف القاهرة بعد طرد الغزاة،
األرشار وطردهتم
َ (ميساء) التي هزمت
عن ْألحفادهن حكاية قبل النوم؛ ْ
ّ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 72
من بالدها ،وأعادت ملرص لقب مقربة الغزاة .كانت تريد ْ
أن تدافع عن نفسها
االستجواب ،وأهنا ينبغي أن ّ
تظل أن ذلك من املحرمات يف ْ لك ّنها تعلمت ّ
متحكمة يف املتهمّ ،
وأل تعطيه فرصة الستفزازها وجعلها يف وضع َمن يربر ّ
أفعاله.
***
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
73
11
دراجة (باسل) تطارد مركب ًة هبا ٌ
ثالثة من املقاومني بني األبراج ُ انطلقت
السكنية .أطلق (باسل) قذائفه وأطلقَ زميله قذائف أخرى ،صدرت
هتتز بشدّ ة ،و”باسل” وبرنام يقفان حوهلاأصوات قرقعة من املركبة ،وبدأت ّ
يفجر املركبة
السهل أن ّ بضع طائرات دقيقة .كان من ّ وتكمل احلصار معهام ُ
ريا واحدً ا عىل قيد احلياة. ّ
األقل أس ً بمن فيها ،ولك ّنه كان حيتاج عىل
َ
وترجل منها ثالثة؛ واحد من النياندرتالّ انفتحت أبواب املركبة
ْ
وأرضيان ..حت ّفز (باسل) وهو يتو ّقع األسوأ ففصائل املقاومة التي يكون
تطو ًرا من فيها أفراد من النياندرتال عاد ًة ما تكون معهم ُ
أكثر التقنيات ّ
الكوكب األم.
أن فيها غنيمة ٍ
واحد من الثالثة حيمل حقيب ًة عىل كتفه ،يبدو ّ كان ّ
كل
اختطفها من الدّ اخل من رشكة حكومية يفرتض ّأنا رسية؛ خيتبئ خمزهنا
أي حركة يصوب سالحه نحوهم ّ
حمذ ًرا من ّ ُ ريفيةّ .
فكر ،وهو وسط أبراج ّ
سكان القرية ،وسيكون من ِ
وجود ُعمالء هلم بنيَ ّ مفاجئة ،أنّه ال بدّ من
ُ
معرفة أسامئهم من هؤالء الثالثة. األسهل
ثم النزول عىل األرض ،وعدم اإلتيان أمرهم بإلقاء حقائبهم ببطءّ ، َ
بتوجس نحو الرشطيني .ما
األمر وهم ينظرون ّ َ بحركة مفاجئة ،ون ّفذ الثالثة
ٌ
أسطوانة املقاوم حقيبته ح ّتى رفع يدَ ه أمام وجهه وهبا
ُ إن أفلت النياندرتال
معدنية صغرية مهدّ ًدا بتفعيلها.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 74
كتفيه العريضني وذراعيه زميليه يرتدي ثيا ًبا تكشف ْ ْ كان عىل عكس
املكتظ بالعضالت التي تشبه العبي كاملّ املَفتولني ،وأعىل صدره املشْ عر
األجسام ،يقف يف املنتصف بنيَ األرضيني وسط شارع بني الربجني
ِ
أعواده زراعات القمح األديتي الذي يتميز بارتفاع
ُ األخريين وخل َفه امتدّ ت
ِ
علت الدّ هشة وج َه الضابطني؛ مرتين أو ثالثة“ .بالطبع تعرفان ما هذا”
متطور ًة تقوم عند تفعيلها
ّ دهشة خمتلطة بالقلق؛ فاألداة يف ِ
يده كانت قنبلة
زيم املدرع الذي لنكل األجهزة يف نطاق ثالثة كيلومرتات بام يف ذلك ّ بشل ّ
ّ
يكون مقاو ًما للرصاص بكفاءة.
وإل سأطلقها ،وساعتها سيكون قتالنا نذهب يف طريقنا ّ ُ “اتركانا
سحق رأسيكام” .جتاهل برنام هتديدَ ه وطلب قادرا عىل ْباأليدي ،وسأكون ً
َ
مقابل أن يرتكه يعيش .مل يظهر عىل الرجل منه هبدوء أن يرتك القنبل َة من يده
رفع يديه ببطء ُمعنًا يف هتديده بإطالق القنبلة. أي بادرة لالستسالم ،بل َ ّ
يغي املعادلة فأطلقَ فجأة قذيف ًة عىل قلب النياندرتال الذي حاول (باسل) أن ّ
حاول أن يتفاداها لكنها انغرست يف م ْف َصل كتفه األيمن ،ما جعله يضغط َ
ك ّفه اليمنى بأمل ُم ً
عترصا القنبلة ومطل ًقا إياها.
هبب ٍة إلكرتونات خفيفة تشبه موج ًة من الكهرباء اإلستاتيكية شعر اخلمسة ّ
َ
ِ
ثم تنتهي .سقطت الطائرات الدقيقة تعطي وخز ًة رسيعة ،وتو ّقف الشعر ّ
ِ
وصمتت الدّ راجات .كان كل املباين،األنوار يف ّ
ُ عىل األرض ،وانطفأت
غريمه دون أن يتبني
َ ضوء القمر خاف ًتا يمنح رؤية ليلية تكفي ليبرص الواحدُ
هيجم عىل (باسل)
ُ األرضيني “اهربا” وهو
ّ بزميليه
ْ مالحمه .رصخ النياندرتال
وزميله يف غضب عار ٍم ،فقابله برنام ّأو ًل واشتبك معه.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
75
رسيعا نحو املزروعات .وقف (باسل)
ً َ
اختطف املقاومان حقيبتيهام وجر َيا
حائرا للحظة ..هل يطاردمها أم يساعدُ زميله عىل التغلب عىل ذلك الوحش،
ً
قراره حني هتف به برنام بحزم“ :اذهب خلفهام؛ أنا كفيل به”.
حسم َ َ لكنه
حيب ذلك النوع من القمح الذي استحدث األديتيون كان (باسل) ّ
غذائيا كاف ًيا ّ
لكل أديتيا األرض من ًّ زراعته يف مرص ،والذي ح ّقق خمزو ًنا
يضطر
ّ ينقلب احلب ً
بغضا حني ُ شامل ،ومع ذلك القاهرة جنو ًبا ح ّتى إزمري ً
حقول القمح الذي كان ُيفي َمن يطاردهم ،وجيعلِ أحد يف حقل من ملطاردة ٍ
ريا.
اإلمساك هبم عس ً
تفرق الرجالن ،كالمها ّاته ً
شامل لك ّنه ابتعد عن رفيقه فصارت بينهام ّ
رتا .اختار (باسل) أحدمها وجدّ يف اجلري خلفه تقل عن مخسني م ً ٌ
مسافة ال ّ
وجهه ،واألعواد
َ بالسنابل الناشئة التي ختمش
قوة ،غري عابئ ّ يت من ّبام أو َ
وقت قصري ،فقد كان ٍ اقرتب من املقاوم يف
َ التي يتعثر يف بعضها أحيا ًنا.
نوعا ما.
يعبد له الطريق ً
ألن املقاوم الذي يتقدّ مه ّ َ
أسهل ّ طريقه
ريا استدار فجأ ًة وجرى يف اجتاهه بدنو (باسل) منه كث ً
املقاوم ّ
ُ حنيَ شعر
وهجم
َ بكل عنف .سقط (باسل) عىل األرض ورض َبه بحقيبته يف وج ِهه ّ
صدغه األيمن .شعر ِ ٍ
لكامت متتابعة يف ومتكن من أن َ
يكيل له الشاب عليه ّ
ّ
بدأت تتسلل إىل وعيه ،لك ّنه ٍ
وبدوخة ْ بأمل ٍ شديد يف رأسه ِمن توايل الرضبات،
فتأوه الرجل
املعطلّ ، ِ
سالحه ّ مجه يف صدره بكعباستجمع قواه ورضب مها َ
َ
وحاول ضلعه بشدّ ة ،لك ّنه أمسك برقبة (باسل)
يف أمل ٍ وقد أوجعت الرضبة َ
يب فلسطيني اللهجة. ٍ
بسباب عر ّ اعتصارها يف غيظ وهو هيتف
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 76
فكور قبضته بشدّ ة
أحس (باسل) بأنفاسه ختتنق ،وبأمل ٍ جيتاح قصبتَه اهلوائيةّ ،
ّ
ات متتالية ح ّتى سمع صوت مر ٍبقوة يف املوضع نفسه ّ عىل ِ
كعب سالحه ورض َبه ّ
ُ
الرجل يرصخ من األمل ،ويرخي قبضتَه من عىل رقبته .نام ُ ضلع ينكرس ،والرجل
ٍ
هجم (باسل) عليه َ عىل األرض وهو يتن ّفس بصعوبة من أمل ِ
ضلعه املكسور،
واستمر عراكهام ً
قليل ح ّتى تغ ّلب (باسل) عليه يف النهاية ّ فرض َبه الرجل ِ
بقدمه،
يقيده به فلم جيدْ ّإل الرشيط الذي حيمي به رقبته. َ
وبحث عن يشء ّ
ُ
الرجل فأمره (باسل) جيبه
“أنت فلسطيني؟” سأل (باسل) باستنكار فلم ْ
َ
ُ
يرصخ يف ٍ
بقسوة عىل ضلعه املكسور ما جعله السؤال وهو يرضبه
بالرد عىل ّ
أمل وهو ير ّد باإلجياب .رض َبه (باسل) ثانية وهو يقول“ :هذه ألنّك حق ٌري ،ناكر
ِ
ساوت غبي جاحدٌ فقد
أي فلسطيني يقاوم النياندرتال ّ للجميل” .كان يعت ُرب ّ
أن ّ
ني اإلرسائيليني ،وأعط ْتهم الفرص َة للعيش بسالم دون
احلكومة األديتية بينهم وب َ
أن النياندرتال صادروا حواجز ودون اضطهاد ومصادرة أراض وبيوت .احلقيقة ّ
للزراعة ،وهدموا البيوت ،فقد جعلوا الفالحني يعيشون مجيع األرايض الصاحلة ّ
َ
برواتب ُمزية،
َ أرضهم (التي صارت ً
ملكا للدولة) يف أبراج حديثة ،ويزرعون َ
وجعلت أهل املدن يعيشون بسال ٍم ال فرق بني فلسطيني أو هيودي أو أديتي.
أحرار،
ٌ مجيل ...نحناحلر استعباده ً
“أي مجيلٍ أهيا اخلائن! وهل يعترب ّ
ّ
َ
احتالل النياندرتال” .قال َ
احتالل الصهاينة فنحن لن نقبل وكام مل نقبلِ
صفعه (باسل) َ ِ
ضلعه املكسور. ٍ
بصوت مكتوم من أمل الرجل بحدة لكن
ِ
إطالق تلك الشّ عارات اجلوفاء التي يعلم يقينًا وهو يطلب منه أن ّ
يكف عن
تؤخر.
ّأنا مثل مقاومته الساذجة لن تقدم ولن ّ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
77
وقف ناص ًبا قامتَه ونظر حوله فلم َير ّإل أعواد القمح التي ترتاقص هبدوء َ
السمع لع ّله حيدّ د اجتاه املقاوم الثاين؛ لكنه مل
َ يف نسيم املساء الناعم .أرهف
ُ
الرجل رفس
الفرار بمسافة كافيةَ . َ يسمع شيئًا ِ
فمن الغالب أنّه قد استطاع
الرجل بصوت مكتوم“ :ال ُ ٍ
بعنف طال ًبا منه الوقوف ،فر ّد املكوم عىل األرض
بحسم“ :ستقومضلعه املكسور وهو يقول ْ أستطيع” .رفسه ثانية بالقرب من ِ
هيا”.معي أو سأقتلك وأتركك تتع ّفن هناّ ،
يلكزه بني الفينة واألخرى حيثّه
ُ ً
متثاقل ،وخل َفه (باسل) سار الرجل َ
بيده من أحد أعواد القمح الغليظة املرتفعة وأخذ عىل التقدّ م .التقط سنبل ًة ِ
ً
مستقبل طي ًبا تنتظره يفرط حباهتا متأ ّم ًل حجمها الكبري وهو ّ
يفكر يف ّ
أن
وأن األرض بأكملها ستستفيدُ من وجود النياندرتال فيها ثانية؛هذه البالدّ ،
مصدر الطاقة النظيف التي
ُ سيحافظون عىل موارد هذا الكوكب ،وسيسمح
املناخ الذي تدهورَ الضارة ،ويعدلون استحدثوه بالتقليل من االنبعاثات ّ
كل هذا ويأيت ُ
أمحق مثل الذي يرتنّح أما َمه ويتشدّ ق باحلرية وبمقاومة رياّ .كث ً
إن كان الغزاة عادلون وجيلبون اخلري معهم فمرح ًبا هبم ،واللعنة ّ
كل الغزاةْ ..
ينهب بني وطنه ويسومهم خس ًفا.ابن الوطن الذي ُ اللعنة عىل ِ
قال له أحدُ الشّ يوخ ذات مرة“ :حني كان تيمور لنك املغويل حيكم بال َد
عادل فيجب بأن احلاكم الكافر إذا كان ً
كثري من علامء الدين ّ
املسلمني أفتى ٌ
كافرا وغري ًبا مثل هؤالء القوم
برشعيته ،وتيمور لنك كان ً
ّ طاع ُته واالعرتاف
احا ،ومل يكن ً
عادل، أن تيمور لنك كان س ّف ً متا ًما” .وحني قرأ التاريخ َ
عرف ّ
ومع ذلك وافقَ الكثريون عىل االنْصياع له ،واألخذ بفتوى هؤالء العلامء.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 78
جالسا عىل ركبتيه يسندُ بيدهً ترك زميله فوجد برناموصل إىل حيث َ َ
غريمه جثّة هامدة غارقة
خملوعا ،ورأى َ ً اليرسى كت َفه األيمن الذي كان يبدو
متور ًما مزر ًّقا ،وعينه اليرسى ُمق َفلة ّ
جراء وجه برنام ّ
يف بركة من الدّ ماء .كان ُ
َ
ضحك برنام هائجا”.
ثورا ً كدمة كبرية ،فقال يامزحه“ :يبدو أنّك صارعت ً
ثم فر َد جسده عىل األرض وهو يقول“ :دعني أنام ،وال توقظني ّإل بعدَ ّ
املوجية وعودة
ّ الوقت املطلوب لزوال أث ِر القنبلة
َ ساعتني” وكان هذا هو
األجهزة للعمل.
بكل ما تعرف، ريه عىل األرض ،وقال له“ :سوف ختربين ّ رمى (باسل) أس َ
املركبات التي ستعيدنا” .بصقَ الرجل وهو
ُ سأضطر لتعذيبك ح ّتى تأيت
ّ أو
يسبه ويقول إنّه لن ينطقَ بكلمة ،فام كان من (باسل) ّإل أنه طرحه ً
أرضا ّ
َ
وأسال وأمسك بخصلة من َش ْعره وشدّ ها بعنف ح ّتى َ
اقتلعها من جذورها
أجل زوجتي ..أ ّما بالنسبةالدم من فروة رأسه وهو يقول هبدوء“ :هذه من َْ
بكل يشء”.تلو اآلخر ح ّتى ختربين ّ
سأقتلع أصابعك بأسناين واحدً ا َ
ُ يل فأنا
***
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
79
م ال ّثاني
القس ُ
ْ
مقاومة هجينة
الكفاح المس ّلح ليس غايةّ ،
وأن َ “ينبغي ّأل ُتنسينا نشو ُة القتال ّ
أن
َ
تحصل على أكبر قد ٍر من االستشهاد ليس الهدف؛ إنّما الغاية هي أن
المكاسب لشعبك ،بما ال يتصادم مع العدالة المنشودة”
ماندريك أندام
12
(ميساء) بعد
نتظرا عودة ْ
أريكة قديمة ُمهرتئة كان جيلس (سمري) ُم ً ٍ عىل
ُ
الغرفة أشبه بغرفة قبضت عليه .كانتْ أهنت حتقيقها مع الرجلِ الذيأن ْ
َ
جيلسون هبا حني ال يكون وراءهم شيئًا يفعلونه( .ضياء) ذهب إىل معيشة
َ
واآلخرون خلدوا للنوم ،وبقي منزله يف مرص اجلديدة ليسرتيح الليلة وغدً ا،
منتظرا حبيبته.
ً هو
باحلب ،أو يفكر فيه ،كان يعترب أن ّ يؤمن
ُ (ميساء) مل يكن
قبل أن يعرف ْ َ
مهمته يف احلياة رعاي ُتها هي وبناته قبل أن زوجتَه هي نصي ُبه من الدنياّ ،
وأن ّ
وتفرق الدنيا بينهم ،وتضع يف طريقه امرأ ًة مثل “ميساء”؛ فتاة من يأيت الغزوّ ،
أهنن موجودات يظن ّيشاهدهن يف التلفاز ،وال ّ
ّ الغنية التي كان
بنات األحياء ّ
ٍ
بلهجة قاهرية رقيقة ختالطها أحيا ًنا أصل .فتاة ترتدي ثيا ًبا عرصية ،تتحدّ ثً
ومن تعبريات عينيها يفهم معناها ّإل ِمن سياق الكالمِ ، كلامت أجنبية ال ُ ٌ
شعرها األملس عىل ظه ِرها أحيا ًنا ،وأحيا ًنا العسليتني الساحرتني ،تسدل َ
شالل من العسل. ً أن يشبهإن كان لذيل احلصان ْ تربطه كذيلِ احلصان ْ
يشعر أهنام وجهان
ُ ري منصفة ،لكنه كان ُ
املقارنة بينها وبنيَ زوجته غ َ كانت
تصح العملة ّإل باكتامهلام“ .سمر” زوج ُته األنثى املطيعة ّ ٍ
لعملة واحدة ال
ودخل البيت وغيابه الذي يتع ُبها،خيص األبناء ْ تشاكس فقط فيام ّ ُ التي
َ
الفارق بني و”ميساء” املرأة املستق ّلة املعتدّ ة بنفسها ،املحاربة التي ال تدرك
فمشاعرها ال تظهر ّإل
ُ الرجل واملرأة ،وتعامله معامل َة ال ّند ،ح ّتى يف ّ
احلب
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
83
احلب ّإل حني تراه
ّ مشاعر ُماثلة .ال تف ِرط يف كلامت
َ حني يظهر هو ً
أيضا
َ
خالل ثانيتني يستجب
ْ يقول مثلها أو أكثر ،إذا وضعت رأسها عىل كتفه ومل
أي موضوع
وجتلس قبالته وختاطبه يف ّ
ُ بأن ير ّبت عليها يف املقابل تبعدُ رأسها
جاد.
جيرب ساقه التي بدأت يف التعايف بفعل
كوب ماء وهو ّ
قام ليحرض لنفسه َ
َ
الدّ هان األديتي الذي يستخدمونه لعالج اإلصابات .عا َد وفر َد ظهره عىل
صوتيا يتلو عليه واحدً ا من الكتب ّ
املقرر عليه دراستها، ًّ فتح برناجمًا
األريكةَ ،
كجزء من املنهج التعليمي الذي تفرضه إدار ُة املخابرات عىل ّ
كل املقاتلني
التابعني هلا .كتب ِ
عن التاريخ والسياسة واألدب ...كفاح طيبة لنجيب
حمفوظ ،الرفاعي جلامل الغيطاين ،وا إسالماه لعيل أمحد باكثري ،وغريها من
مئات من تسجل ً
نقاطا يف تاريخ كفاح املرص ّيني ضدّ املحتلٌ . الروايات التي ّ
املحارضات التي جيب عليهم االستامع إليها يف العلوم العسكرية وتكتيكات
القتال وحرب العصابات وتاريخ الغزو.
كانت إحدى ا ُملحارضات تبدأ بتقرير قاعدة أنّك ال بدّ أن تفهم مدى قوة
ُ
املحارض يف بدايتها أن ّ
لتتمكن من التغلب عليه ،ويؤكد عدوك ،وتقدّ ر مميزاته
ّ
مدح األعداء بقدْ ر دراسة نقاط قوهتم وقدرهتم عىل التخطيط. َ
الغرض ليس َ
ِ
بمهامجة التجمعات العسكرية يف الوقت نفسه ّأو ُل يوم يف الغزو بدأوا
ِ
موجات احلامية التي متنع ح ّتى البوابات التي تصدر
ظهرت فيها ّ
ْ الذي
الذباب من املرور .حني تغلبوا عىل جيوش ٍ
دول بأكملها يف أيام قليلة بثّوا
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 84
عدو ال يقهر ،وبدأوا من
االنطباع ّأنم ّ
َ الرعب يف قلوب الكثريين ،وأعطوا
َ
ضباط الرشطة عىل اليوم الرابع السيطرة عىل املنشآت الرشطية ،أجربوا
اهللع اجلامعي ،ومنع انتشار ّ
للتحكم يف الشارع والسيطرة عىل ِ العمل معهم
الفوىض والسلب والنهب.
وطائرات من ّ
كل الدول الكربى تقري ًبا ،كانوا يسقطون ٌ ُ
أساطيل هامجتهم
ّ
الطائرات ويغرقون املدمرات َ
قبل أن تقرتب منهم بأي شكل ح ّتى الصواريخ
بأكثر من ألف كيلومرت.
تنفجر قبل أن تصل إىل حدودهم َ
الباليستية كانت ّ
األهم لدى النياندرتال
ّ تكن هي نقطة التفوق ري ّ
أن التقنية املتقدمة مل ْ “غ َ
بل العمل اجلامعي” .يقول املحارض وكأنّه ُيريس قاعدة من قواعد الكون
ًّ
مستدل ّ
بأن النياندرتال كانوا حيمون ِ
وجهة نظره يستطرد يف رشح
ُ األزلية.
ِ
حدود مستعمرهتم عىل امتداد آالف الكيلومرتات يف الوقت أسوارا عىل
ً
الشطية يف ِ
النقاط ّ نفسه ،ويتحكمون يف الدّ اخل عن طريق إدارة آالف
مجاعي ُمدهش قدّ رت هيئات البحث يف األمم
ّ ري لإلعجاب .عمل تزامن مث ٍ
َ
يعملون يف تناغم ِ
ثالثة ماليني شخص املتحدة عد َد املشاركني فيه بأكثر من
رشحه يف هذه النقطة وينهي املحارضة بقوله“ :إذا أر ْدنا أن
َ كامل .ينهي
كل خالفات املايض هنزمهم فعلينا أن نقوم بالعمل اجلامعي نفسه ،ننسى ّ
ٍ
كفريق واحد، وحروبه ،ننسى أحقا َدنا العرقية والدينية والقومية ،نحارهبم
البرش ضدّ النياندرتال ..ال ّتقنية يسهل رسق ُتها وتقليدها والتغلب عليها ،أ ّما
نقطة التحول التي ستفرق يف حلظات احلسم”.املتوحدة فهي ُ ّ تلك الروح
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
85
ِ
جرحه دخلت عليه “ميساء” ،كان وجهها مغمو ًما ،سألته عن حال ْ
صعوبات ،فر ّدت باقتضاب،
ٌ املهمة ،وهل قابلتها
فأجاب أنّه بخري .سأهلا عن ّ
احلديث عن أي يشء ،ال مشاعرها وال َ تشعر أهنا ال تريد
ُ ثم صمتت كانتّ
مريعا بعدَ التحقيق مع “حبيب”. شعورها ًُ أحداث يومها ،وال أي يشء .كان
متنع
وأنا عىل اجلانب الصحيح ،لك ّنها ال تستطيع أن َ كانت مؤمنة بقضيتهاّ ،
أبعاده .لقد ُقتلت زوجته و ُقبض عليه ،ومل ِ نفسها من جتريد املوقف من ّ
كل
ماتت بني يديه؛ بل ح ّققتْ تعطه فرصة ح ّتى للحزن عىل حبيبة عمره التيِ
مرة ،كانت تشعر ّأنا ذلك املح ّق ٌق احلقري يف معه بعنف ،وصفع ْته أكثر من ّ
ِ
اهتاممه بإمتام عمله. هيتم بحياة الناس قدر
األفالم القديمة الذي ال ّ
سأهلا (سمري) ثاني ًة وهو يمسك بيدها وير ّبت عليها فلم جتب ،ليس لدهيا
نصف ذلك اليقني الذي يتمتع به (سمري) أو “ضياء” ،أحيا ًنا تشعر أن سبب ُ
ثمة نساء أخريات قلق ِ
روحها هو ّأنا األنثى الوحيدة بينهم ،وأنّه لو كان ّ
فال بدّ ّأنن كن سيشاركنَها القلق واهلواجس نفسها .فاجأها (سمري) بقوله:
ِ
بدهشة َمن ينظر نظرت إليه
ْ “نحن ُ
أهل احلق يا “ميساء” ،ال تنيس ذلك”.
“أصعب مواجهة يف جمال عملنا هي
ُ فأكمل ً
قائل: َ عراف يقرأ األفكار، إىل ّ
مواجهة أبناء بلدنا الذين يقاتلون عىل هواهم ،والذين يظ ّنون ّ
أن املقاومة هي
جمرد وسيلة هلدف أسمى”.الغاية ،وليست ّ
أن واضعيه ٍ
كتاب أهنى قراءته منذ أيام قليلة ،ويبدو ّ رضب هلا األمثلة من
َ
وهمقاوم السوفييت جنود النازية ُالشك هذه .لقد َ كانوا ُيعاجلون مسألة ّ
ندافع عن بالدنا
ُ حتت ْني حكم أبشع ما يكون ،ومل ينشقّ منهم ٌ
جيش ويقول َ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 86
أيام االستنزاف ،وكان من
مجيعا َ
حارب املرصيون ً
َ بعيدً ا عن حكم ستالني.
ُ
يعرتف برشعية ثورة يوليو ،وحارب حيب عبد النارص وال اجلنود َمن ال ّ
وحرروا سيناء ،وكان فيهم َمن يمقت السادات بل ّ
إن ّ ّ
الكل يف أكتوبر
أنفسهم يف األعداء
وفجروا َ ٍ
جلنود اقتحموا األهوال ّ رضب ً
أمثال َ الكتاب
أن أهلهم كانوا ُمعتقلني يف سجون الدولة.رغم ّ
نضطر لفعله
ّ نظرت إليه بعني دامعة وهي تقول“ :وما رأ ُيك يف ما ْ
ملجرد أنه ال يتبع تعليامت
مرصي مقاوم ّ
ّ بمرص ّيني مثلنا ..ما رأ ُيك يف قتل
مرصي مثلك لألعداء ليقوموا بإعدامه” .فر ّد عليها وهوّ الدولة ،أو تسليم
يكن حتت لوائنا ،لكن إذا
نحرتم كفاحه ح ّتى لو مل ْ
ُ يقرتب منها أكثر“ :املقاوم
سالح مقاومته ضدّ جنودنا
َ قام بفعل شنيع كهذا فينبغي عقا ُبه ،وإذا استخدم
فعلينا إيقافه أو قتله”.
فانفجرت يف البكاء ،ور ّبت هو عىل ظهرها ح ّتى
ْ ضمها يف تلك اللحظة ّ
هدأت .اعترصتْه بذراعيها هي األخرى وهي تشعر أنّه اجلدار الوحيد
كل يوم بشجاعته يكف عن إدهاشها ّ الذي تستند إليه يف هذا العامل ،إنّه ال ّ
وطيبة قلبه وقدرته عىل االحتواء ،بل وبالثقافة التي يكتسبها يو ًما بعد يوم.
تضع
يذهب فيها لزوجته ،وتقول لنفسها ّإنا ُ ُ تفكر أحيا ًنا يف األوقات التي ّ
رأسها عىل ذلك الصدر الصدر بأرحيية أكثر .زوج ُته تضع َ رأسها عىل ذات ّ
ستتزوجه
ّ تفعل ذلك ،ترى هل بدون حواجز ،وهي ختجل من نفسها حني ُ
اختالسه بني حني
َ نفسه مع امرأة أخرى ً
بدل من وتتقاسم اجلدار َ
ُ يو ًما ما
وآخر؟.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
87
كالم كثري” .أبعدت رأسها عم “عمر” بفارغ الصرب ،فيل معه ٌ “أنتظر لقا َء ّ
“أي كالم ...لن تستطيع تغيري أفكاره عن صدره وهي حتدّ ق فيه وتسألهّ : ْ
ضحك (سمري) بصوت عال وهو َ مهام حاولت”.
وإقناعه بالعمل معنا ْ
ٍ
خاطب لوالد املرأة التي يريدُ ِ
حديث رجال ...حديث يقول“ :أريده يف
أي عام تظ ّننا! كيف ّ
تفكر خطبتها” .ابتعدت عنه وهي تسأله باستنكار“ :يف ّ
يف مفاحتة أيب هبذا األمر َ
دون أن تسألني عن رأيي”.
إعجاب ال ي ّتسق معه ،سب ُبه ّأنا وجدته يقرأٌ استنكارها خيالطه
ُ كان
تساؤل يف رأسها دون أن ً أقل من ساعة؛ جييب للمرة الثانية خالل ّ
أفكارها ّ
ضمنيا
ًّ متفقي
ْ أظن أنّنا
بتلعثم“ :أنا كنت ّ فعلها ،وأجاب ْتسأله .ارتبك لر ّد ِ
أتزوجك هكذا أحبك فهي تعني يف ُعريف أريد أن ّ عىل ذلك ...مادمت قلت ّ
ببساطة ،ولك ّنني أريد أن أطلبك ِمن والدك كام اعتدْ نا قبل الغزو ...ال أعتقدُ
جردونا من معرفتنا باألصول”.أن النياندرتال قد ّّ
ُ
أفضل من منطقها ،لك ّنها كالعادة أن منط َقه
أحست ّ
خجل وقد ّ ً امحر وجهها
ّ
جلست وهي تفكر يف الر ّد عليه ،لكنها
ْ تقر بخطئها بتلك السهولة. مل ْ
تقبل أن ّ
تلعن ذلك الكريس ا ُملهرتئ الذي تنغرس ُزن ُربكاته 1يف
قامت كامل ْلدوغة وهي ُ
دون أن يضع حشوة إضافية؛ “من الغبي مؤخرة َمن خيطئ ،وجيلس عليه َحلم ّ ِ
الذي أخذ احلشوة من عىل الكريس؟” ضحك (سمري) وهو يش ُري إىل األريكة
فوجدت احلشوة عىل املسند الذي يضع رأسه عليه. ِ جيلس عليها
التي كان ُ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 88
املهم أفاتح
وتأسفت ،فر ّد عليها بحبور“ :ال عليكّ ..نظرت إليه بخجل ّ ْ
تأجيل هذا املوضوع ملا بعدَ احلرب الشاملة؟”. َ عم (عمر) ،أم تريدين
ّ
ٍ
وتعقيدات أكثر ،ويف نظرة أبيها وأ ّمها صمتت وهي ّ
تفكر يف احتامالت كثرية ْ
فعل زوجته األوىل .هل ستحدُ ث متزوج ،ور ّد ْ
ّ تقرر الزواج من رجلٍ
حني ّ
تفكر يف عرض احلرب ح ًّقا؟ ومتى؟ وهل سيخرجان منها عىل قيد احلياة؟ّ .
أي احلربني حربي؛ حر ًبا عائلية وحر ًبا عسكرية ،وال تدري ُّ
ْ زواج يواجه
ستقتل تلك الزجية َ
قبل أن حتدث!.
***
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
89
13
خاصة حتافظ عىل حيوية برشهتا، املعطر ا ُمل ّ
جهز بمواد ّ محامها ّ
أهنت َكمريدا ّ
ْ
طبيعيا بعد انتهاء محلها،
ًّ وتساعد جلدَ ها عىل االحتفاظ بمرونته ليعود
وثدييها
ْ احلمم .تأ ّملت بطنها املكور جدارا ً
كامل من ّ ً ووقفت أمام مرآة ّ
حتتل ْ
حلمل ذكر هجني يباركه ماجوها ،والقلق من أن
بمزيج من الفخر ْ
ٍ املنتفخي
ْ
تغي شكلها من رغبة (باسل) هبا.
يقلل ّ
مجاعية مع صديقتني هلا من أيام
ّ ٍ
حمادثة قبل ّ
احلمم ُمنخرطة يف كانت َ
من عن آخر مستجدات حياهتن. رن أيامهن القديمة ،ويتك ّل َ يتذك َ
الطفولةّ ،
يدرس َن يف املعهد ِ
نفسه يف مدينة صغرية يف كوكبهم أديتيا ،مدينة ْ كان الثالث
كاهن
َ ّ
واملوظفني البسطاء .كمريدا كان أبوها سكاهنا من ا ُملزارعني
أغلب ّ
ُ
صديقتيها ال ّلتني تنتميان إىل
ْ رصفة عىل عكس دينية ْ
املدينة ،وكانت تربيتها ّ
وتسمياهنا الكاهنة َكمريدا غ َ
ري ّأنا ّ ِ
تداعبانا، عائالت غري متدينة ،وكانتا
َ
االلتحاق بوظيفة يف عىل خالف املتوقع اجتهدت يف دراستِها ،واستطاعت
أهم ُمساعدات السيدة هريمني
هيئة التحضري للعودة ومنها صارت اآلن من ّ
مسئولة العالقات اخلارجية يف احلكومة.
صديق ُتها األوىل تعيش عىل البحر يف سانيشاَ -فديل (مدينة كبرية عىل البحر
مصب النيل رشق رأس الرب)،
ّ متتدّ من ما كان يعرف بدمياط اجلديدة ح ّتى
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 90
أرضيا تعمل معه يف
ًّ تزوجت سياحيا وجتار ًّيا ًّ
مهم يف دولة أديتياّ . ًّ مركزا
صارت ً
جراء املكافأة إدارة املدينة ،وأنجبت منه ولد ْين وبن ًتا ،وتعيش يف ٍ
رغد من العيش ّ
اهلم
اهلجيني .حياهتا ال ختلو من ّ
ْ التي تتل ّقاها من الدولة لقا َء إنجاب الولدين
أي مشاعر ،وال يعتربها
بأي حال ،كان ال يبادهلا ّ
يكن مثل (باسل) ّ فزوجها مل ْ
أن زواجهام حرصي ،ودار وعرفت أنّه عىل عالقة بأرضية رغم ّ
ْ موجودة ً
أصل،
َ
الرجل الذي يعارش أكثر يرون
األرضيني الذين ْ
ّ النقاش بني الثّالث عن غرابة
أكثر من رجل فهي حمتقرة ومذمومة. من امرأة ً
رجل عاد ًّيا ،أ ّما املرأة التي تعارش َ
أ ّما صديقتها الثانية فقدْ كانت تعيش حياهتا بدون أطفال ،وبدون التزام
ري حرصي ،ومع
زواجا غ َ
ً متزوج منها جتاه رجلٍ بعينه .كان هلا ٌ
زوج أديتيّ ،
الزواج قبل اهلجرة إىل األرض .أ ّما ْ
يعرف أحدمها عالقة خارج ّ ذلك مل
األرضيات بشكل غريب جعلها ّ زوجها ُمنجذ ًبا إىل
بعدها ،فقد وجدت َ
أن تعامله معامل َة ال ّند.
ملجرد ْ
أرضيني ّ
ّ معهي األخرى تنخرط يف عالقات َ
ألنا كانت ِمن معاريض الفكرة ِمن أساسها، ني ّإنجاب هج ٍ
َ كانت ترفض
ألن أحواهلا املعيشية كانت سيئة للغاية يف كوكبِها األمَ ،
ومع وهاجرت فقط ّ
وأنجبت منه طفل ًة
ْ رغدة عىل األرض ،هاجرت مع زوجها ٍ
بحياة ْ الوعد
اإلنجاب من أريض رغم إحلاح زوجها الذي يرى
َ واحدة ،وال تزال ترفض
يف ذلك فرص ًة لزيادة دخلهم كأرسة.
سبب متيز حياهتا
أن َجتمعهن عىل التأكيد عىل ّ
ّ ترص كمريدا يف ّ
كل حمادثة ّ
عنهام هو رضا ماجوها عنها ،وكانتا متزحان معها وتقوالن ّ
إن ماجوها نفسه
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
91
وإن الكون أحيا ًنا يرتّب نفسه لألنقياء ليجزهيم ال يمتلك ًّ
حظا طي ًبا مثلهاّ ،
اخلري حقّ نقائهم.
بأي يشء لتمضية نفسها ّ
محامها أن تشغل َحاولت كمريدا بعدَ انتهاء ّ
ْ
أشباح القلق .جلست عىل مقعد
َ زوجها ،ولتبعد عن ذهنها
الوقت ح ّتى يعود ُ
َ
نصف اجلدار املقابل بأمر حتتل ِ
غرفة نومها ،وفتحت شاشة تلفاز ّ وثري وسط
تأمر الشّ اشة بفتح ٍ
قناة تلو األخرى بمللٍ حقيقي ،وبقلق ال صويت وأخذت ُ
يفارق أنفاسها.
صوت الباب اخلارجي يفتَح ،فقامت ُمبتهجة مرسعة نحو َ سمعت
بالذراع اليمنى بينام كانت الذراع اليرسى مفتوحا ّ
ً حضنه الذي وجدته
ُمسكة بحقيبة كبريةّ .قبلته بعمق ،قبل ًة أفرغت فيها قل َقها عليه وهلفتها لرؤيته
أجلسها عىل كرسيها وفتحَ ثم َ
ارتبطاّ .قبلها بدوره ّ وهي هلفة ال تفارقها منذ
ِ
خصالت َش ْعر أربع
حقيبته وأخرج علبة صغرية ،فتح ْتها فوجدت فيها َ
أسهتم؟” فر ّد
ثم سألته“ :قتلتهم أم َ ْ مغ ّلفة بعنايةّ ،قبلته عىل خدّ ه حني رأهتا ّ
عليها“ :اخلصلة املختلطة بدم هذه ألسري ،أ ّما الباقون فقد قتلتهم”.
لوحا من البالستيكتناولت منه ً
ْ ريا ٍ
بسعادة تفتح دوال ًبا صغ ً قامت
ري من خصالت الشّ عر ،وألصقت عليه اخلصل َة املبطن ،ملصق عليه الكث ُ
تناولت من الدوالب ِ
نفسه وعا ًء يشبه ْ املأخوذة من األسري وهي تتمتم.
الطالسم إىل حدّ كبري ،أزالت غطا َء الوعاء
َ املبخرة مز ّينًا بنقوش أديتية تشبه
رمت فيه
ْ ّ
مزرق اللون، ٍ
بلهب فتوهج داخله
ّ ثم ملست جز ًءا من جداره ّ
ٍ
بتشكيالت أصابع يدها اليمنى
َ ّ
وتشكل تباعا وهي تر ّدد متتامهتا
اخلصالت ً
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 92
ريا كمن يتأمل ً
طفل صغ ً مهمتها ،و(باسل) يتأ ّملها ُم ً
بتسم َ ُمتلفة ح ّتى ْ
أهنت ّ
يعدّ د ألعابه بحرص كأهنا كنوز ثمينة.
اقرتبت منه ببطء وهي تقول يف دالل“ :عزيز القلب ،ماذا تريد من أجل ْ
يلثم شفتيها ويقول“ :أريدُ ك أنت ،ولكن اقرتب منها بدوره وهو ُ
َ العشاء؟”.
بنهم حقيقي غري مصطنع، ُ
أغسل جسدي من آثار املطاردة” .كان يريدُ ها ٍ دعيني
بقوة “ :أنا أريدُ لغبار املعركة أن يكون جز ًءا
تضمه ّ
تشعر به ،قالت وهي ّوكانت ُ
ُ
تنسحق ثانية بيننا”. أشعر ببقايا أرواح قتالك وهي
َ من لقائنا ،أريد أن
كان معتا ًدا عىل ِ
مزاجها الغريب ذلك ،وكان يراه جز ًءا من كينونتها التي تعترب
حبيسا يف تلك
وأن اجلزء األكرب من أرواحهم يكون ً دينياّ ،
قتال املقاومني واج ًبا ًّ
أن طقوس حرقها تلك تأخذ القوة الباقية من اخلصالت التي حترقها ،وتعتقد ّ
وتود ُعها يف جسد (باسل) حبيبها الذي خ ّلص العامل من رشورهم. تلك األرواح ِ
ٍ
امرأة يف حياته؛ عرف قب َلها نساء أخريات ،وكان يف بداية تكن ّأول
مل ْ
وعر ٍق آخر معه يف ٍ
كوكب آخرْ ، ري مستوعب لوجود امرأة من ِ
زواجهام غ َ
واألضواء خافتة تنعكس
ُ بيت واحد؛ بل إنّه أحيا ًنا كان جيفل حني يراها ً
ليل
عىل مالمح وجهها غري املعتادة.
نافر منها ،يتعامل معها كأهنا
شهور تلو األخرى من زواجهام وهو ٌ ٌ مضت
ْ
خاصة ّأنا تعمل يف
ليحتفظ بموقعه بني النياندرتالّ ، َ مهمة مفروضة عليه، ّ
حيركها إعجاهبا
دون أن ختربه ،تصرب عىل جفائهّ ، مهمة .كانت تشعر به َ وظيفة ّ
به ،وأمني ُتها أن يرغب هبا يو ًما ما ح ًّقا ال تص ّن ًعا .اعتادها مع الوقت واستطاعت
األمر هو أنه كان خال ًيا باألساس.
سهل َ أن جتدَ لنفسها مكا ًنا يف قلبه متتلكه ،وما ّ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
93
أحب فكرة أن يكون له ٌ
طفل منها ُ
احلمل ّ أحبها ،وحني وقع شيئًا فشيئًا ّ
سيعزز موقفه يف املجتمع األديتي
ّ ألن الطفل اهلجني ألهنا حبيبته وليس ّ
اهتاممها
ُ وأثار دهشته
َ طقوسها الدينية الكثرية،
ُ ُ
تضايقه الناشئ .كانت
بمواعيد صالته ،وتصوم معه يف ِ
أثناء اليوم يف ِ بطقوسه هو؛ كانت ُت َذكره
رمضان ،واحتفلت معه يوم العيد ،ومت ّنت لو ّ
أن له عائلة يتزاورون معهم يف
هذه األيام.
يو ًما سأهلا كيف تكون مؤمن ًة بدينها هبذا العمق ،وترى أنّه هو احلقيقة
ستضل أرواحهم يف الظلامت، ّ وأن أصحاب الديانات األخرى ا ُملطلقةّ ،
ومع ذلك تساعدُ ه عىل االلتزام بدينه ،فقالت“ :أنا ال أساعدُ ك عىل االلتزام
أطلب من ماجوهاُ أحبك ،وأحيا ًنا
بدينك ،أنا أحرتم دينك وطقوسه ألنّني ّ
ضحك يومها وقال هلا: َ ٍ
لدين آخر”. روحك ويغفر لك اعتنا َقك أن ينري َ
أن يرتكني يف حايل”. “اشكري ماجوها بال ّنيابة ع ّني ،وقويل له ْ
ُ
اختالف الدين يقلقه ،ح ّتى يف بداية زواجهام ،لكن الطقوس الدينية مل ِ
يكن
مسلم من عائلة مسلمة ّإل ّأنا مل
ً الكثرية كانت تضايقه دو ًما؛ فهو ْ
وإن كان
متحر َر
ّ رجل ري حمجبة ،وأبوه ً تكن عائل ًة ملتزمة أو متح ّفظة ،كانت ُّأمه غ َ
دينيا وناقدً ا لاللتزام “الديني الكالسيكي” بقوة للمتشدّ دين ًّ الفكر ،نا ًقدا ّ
سبب ضيقه من التزامها الشديد عىل حدّ تعبريه .ربام كانت تربي ُته تلك هي َ
املسفني يف االلتزام اإلسالمي من معارفه. بدينها ،فقد كان قبل الغزو ينتقد ْ
القادم بقدر ما كان يقلقه أحيا ًنا ّأنا قد
ُ أي دين سيتبعه ابنهيكن يشغل باله ُّ
مل ْ
االلتزام الديني املبالغ فيه.
َ تغرس فيه ذلك
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 94
بعدَ أن نامت عىل ذراعه يف النهاية َ
قام من الفراش بعد أن سحب ذراعه
َ
فتناول لقيامت بسيطة ونصف حتت رأسها ّ
بكل هدوء ،وذهب إىل املطبخ من ِ
ليسجل تقريره عن عمليات
ّ اخلاص به
ّ جلس أمام جهاز األرشفة
َ ثم
تفاحةّ ،
اليوم ونتائج حتقيقه مع األسري.
***
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
95
14
تدخل الغرفة التي أحرضوا فيهاُ نفسا عمي ًقا وهي
(ميساء) ً أخذت ْ
ْ
نجحت بصعوبة
ْ شخصيا منها
ًّ ُ
املقابلة طل ًبا (معاذ) لتتحدّ ث معه .كانت تلك
ِ
فتحت الباب اخلشبي ا ُملفيض للغرفة يف إقناع العقيد (عامد) باملوافقة عليه.
ثامنينيات القرن املايض ،متلؤها
ّ بالطات تعود إىل
ٌ أرضيتَها
ّ العتيقة التي تكسو
الرشوخ والقطع املفقودة.
بساط قديم من الكليم ،ومستندً ا بظهره إىل احلائط ذي ٍ جالسا عىل
ً كان
اخلشبية املوجودة بالغرفة،
ّ جلست أمامه ُمتجاهلة الكرايسْ الدهان اجلريي.
شعرت هبا خترتق
ْ عتاب عميق دون أن يتك ّلم؛ نظرةٌ عينيه
نظر إليها ويف ْ
دماغها وترفع صوت تد ّفق الد ِم داخله ،وتربك ترتي َبها للكلامت التي هيَ
ناتج عن فعل ّ
أقل عينيه ٌ عىل وشك قوهلا ،فذلك العتاب احلزين الذي يمأل ْ
بكثري من ما هي عىل وشك فعله.
حنيَ استدعاها العقيد (عامد) صبيح َة اليوم -وهو اليوم الثامن منذ
وأنم
بأنم فشلوا يف إحضار امل ّتهم الرابعّ ، ربها ّاختطاف (معاذ) -أخ َ
تتم
وإل لن ّ مع الثالثة اآلخرينّ ، ُمربون عىل تسليم (معاذ) للنياندرتال َ
ربها ألنّه يعلم ّأنا تشعر بالذنب ُ
املوافقة عىل إطالق رساح والدها .كان خي ُ
ريا،
أفظع كث ً
شعورها بالذنب َ ُ أن يكونجتا َه اختطاف (معاذ) ،ومن الطبيعي ْ
ريا يف إقناع
يعولون عليها كث ً
فهم ّ
وهو ما ال يريده منها يف املرحلة القادمةُ ،
والدها باالنْضواء حتت لواء الدولة املرصية ومقاومة الغزاة كمقاتلٍ يف جيش
عبثي يرضب هنا وهناك بدون جدوى. بلده ،وليس كمقاوم ّ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 96
أمر ال يعرفه ّإل الصفوة يف قيادة اجليش واملخابرات “ما سأخربك به ٌ
إلثقال كاهلك بذلك الرس” .قال هلا وحاجباه ُمنعقدان يف ِ مضطر
ّ لكنني
تسمعه بالكاد .بدأ كال َمه بمقدّ مة
ُ جد ّية شديدة ،وصو ُته ينخفض إىل مستوى
تقف مكتوفة وأن الدولة ال يمكن أن َ عن عبء احلرب وعن تضحياهتاّ ،
حكم ُمتلّ ،
وأن ٍ وأرضها مغتصبة وأبناؤها مرشّ دوين ،أو حتت ُ األيدي
مهام كان العدو وقدراته.
مفر منها ْ احلرب ال ّ
َ
تنتظر
ُ رب حماول ًة أن حتافظ عىل مالمح وجهها ثابتة وهي
تنهدت يف فراغ ص ٍ
ّ
سيغي وجه َة نظرها يف تسليم (معاذ) بعدَ أن وعدوه بإطالق
ّ الس الذي
ذلك ّ
درجات احلرارة يف أعىل
ُ ِ
الصيف القادم حني تكون ِ
رساحه“ .يف منتصف
سينضمون إلينا ِمن تابعي
ّ معدالهتا سوف نبدأ اهلجوم ..ستقومون أنتم و َمن
والدك وأصدقائه من النياندرتال ُمناهيض الغزو بالتمهيد له”.
حمطة شديدة احلراسة يفنحو ثالث آالف ّ َ
تعطيل ْ ُ
اخلطة تقتيض كانت
جدار احلامية املحيط باألرايض
َ املحطات التي حترس
ُ وقت واحد ،وهي
كل البالد عىل عدّ ة حماور تشاركهجوم ّبري يف ّ
ٌ يتم
املحتلة ،وبعدها مبارشة ّ
أضاف وهو يتأملَ دول كربى.فيه قوات من الدول املحت ّلة ،ومن عدّ ة ٍ
تنتظر اإلفراج عن
ُ إن َ
دول العامل كلها ِ
تعبريات اإلثارة عىل وجهها“ :ال أقول ّ
مهم يف آلة كبرية ،كام أنّنا كمرص ّيني
ترس ّأبيك لتسهيل تلك احلرب ،لك ّنه ٌ
أصحاب أكرب تعداد من الناس يف األرايض املحت ّلة ،ونريد أن يكون هناك
مرصي يف واجهة مقاومي الداخل املحتل”.
ّ
االنتصار بالشعب ،ونسب
َ أيضاّ -
أن الدولة املرصية تريد أخربهاً -
ٍ
بمكسب وأن املوجودين يف مراك ِز صنع القرار ال ّ
هيتمون االنتصار لهّ ،
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
97
منذ فجر التاريخ؛ دول ًة واحدة ِ
بإعادة مرص كام كانت ُ قدر اهتاممهم
سيايس َ
رب ٌر هبذه
للعدو م ّ
ّ تسليم أبنائنا
ُ سيدي ،وهل
كاملة األرض .سألته“ :معذرة ّ
الطريقة” .سأهلا هو يف املقابل عن عدد َمن ماتوا ح ّتى اآلن ،واملقاومني
ضحوا بأرواحهم ،وعن عرشات اآلالف من اجلنود الذين زمالئها الذين ّ
كل ذلك فإننا ثم قال“ :ورغم ّ سيضحون بأرواحهم يف احلرب الكربىّ ،ّ
قاض م ّنا يراقب ٍ
أن خيضعوا ملحاكمة عادلة ،وعىل وجود ٍ اتّفقنا معهم عىل ْ
ّ
ويتأكد من نزاهتها”. املحاكمة
األقل أخربتهّ بكل يشء ،ولك ّنها عىل تكن تقدر عىل إخبار (معاذ) ّ مل ْ
أن (معاذ) بموضوع املحاكمة العادلة والقايض املرصي املراقب .العجيب ّ
أي ر ّد فعل ،فقط تلك النظرة ا ُملعاتبة يف عينيه ،نظر ٌة جامدة مل تتغري
يصدر ّ
ْ مل
التوسل دون
ّ أقرب إىل
َ ٍ
بلهجة طوال حديثها“ .باهلل عليك تك ّلم” قالت له
وموقعه يف تلك املحاورة .ر ّد عليها هبدوء وهو يمسح دمع ًة ِ مراعاة ملوقعها
(ميساء) ،وأنا أستحقّ ما سيحدث يل أ ًّيا يكن ..ما
خان ْته“ :لقد أجرمت يا ْ
الستدراجي هنا؛ أنا طاهرا بريئًا ْ
ً أحزنني فقط هو أنّك استغللت ماض ًيا
أستحقّ أقسى عقاب عىل ما فعلت لكن اغتيال ذكريات طفولتي ليس من
أي إنسان”.
حقّ ّ
إن مسحة من االرتياح خالطت بالذنب ،بل ّ مل يز ْد كالمه من شعورها ّ
أي عقاب يو ّقع عليه ،وأنّه يستح ّقه .اعتذرت له عن
قلبها حنيَ قال إنه يتقبل َّ
وإنا رأت غريها يقومون
أوامر قادهتاّ ،
َ جمرد جندية تطيع
كذبتها وقالت ّإنا ّ
قديم ّ
ضل طريقه. جمرد الكذب عىل حبيب ٍ ريا من ّ ٍ
بتضحيات أكثر كث ً
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 98
خرجت من عنده وهي تتن ّفس الصعداء ،وقفت يف الصالة الصغرية التي ْ
بدل من أن تعود إىل غرفتها ،أن تدخل إىل وقررت ًتطل عىل ثالث غرفّ ، ّ
خشب قديم تفوح ٍ املطبخ لتعدّ ِ
لنفسها كو ًبا من القهوة .كان املطبخ ضي ًقا من
طول الوقت ،وأدوا ُته تعود إىل ما قبل عرشين عا ًما .مل يكن منه رائحة رطبة َ
نظر أحد ،ورغم أهنم تلفت َ مسموحا هلم إحضار ْجتهيزات يف تلك البيوت ُ ً
أن إدخال األثاث كل فرتة قصرية ّإل ّ حيرضون تقنيات متقدمة ملَخابئهم ّ
ُ
اجلريان املساكني الذين بحجة أنه الفت لنظر اجلريان أكثر. ممنوع ّ
ٌ اجلديد
حل لتحسني أوضاعهم. قال عنهم (حبيب) إنّه مل ختلق حكومة تبحث عن ٍّ
بسياج
ٍ كل عشوائيات املدن الكربى ساءت األمور باالحتالل الذي أحاط ّ ِ
أي اهتامم بإدخال خدمات هلا سوى حفظ من طائرات املراقبة فقط دون ّ
يتم عن طريق الطائرات التي تطلق قذائفها عىل أي شخص األمن الذي ّ
اجلسم لبضع
َ كهربائيا ّ
يشل ًّ تيارا
قذائف تطلق ً ُ شتبها به.
فعل ُم ً يرتكب ً
ُ
يستمر اليوم بطوله.
ّ ساعات و ُيصدر أملًا ال ُيطاق
ّ
وتظل كانوا يتعاملون مع تلك املناطق بإمهال ،ومع القاطنني هبا ّ
بشك،
خارج مناطقهم .كانوا يعتربون تلك املناطق قنبلة
َ فرصهم ضئيل ًة يف العمل
ُ
مرة يف هتجري
أكثر من ّ
فكروا َ التعامل معها ،وور َد لعلمها ّأنم ّ
ُ موقوتة ينبغي
سكاهنا خارج األرايض املحت ّلة ،وتسويتها باألرض ،لك ّنهم مل يفعلوا لآلن
لسبب ال تعلمه.
مرة ،وبادرها ً
قائل: بغضب تراه َ
أول ّ ٍ ووجهه يلمع
ُ دخل (سمري) عليهاَ
“ملاذا ِ
كنت تتك ّلمني مع امل ّتهم بتلك الطريقة”؟ فاجأها السؤال فر ّد ْت بارتباك:
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
99
يقول بغلظةِ :
“أنت تعرفني ما أقصد، كتفها وهو ُ “ماذا تقصد؟” أمسكها من ِ
حتركت نحوه؟” .رفعت حاجبيها
مشاعر قديمة ّ
َ هل كان ذلك إشفا ًقا عليه ،أم
وحدقت فيه غري مصدّ قة ملَا تسمعه ،كان أحيا ًنا ُيصدر تعليقات ّ
تنم عن غريته
كأن يطلب منها ّأل َ
تتباسط يف الكالم مع زمالئها ،وكانت تر ّد بابتسامة هادئة،
جمرد ِ
غرية ُم ّب بسيطة يمكن التغايض عنها ،لك ّنه وتنسى تعلي َقه ،وتفرسه بأنّه ّ
ويشكك يفّ َ
العمل بمشاعر سابقة، اآلن يتدخل يف عملها وي ّتهمها بأهنا ُ
ختلط
وهو ما ال تقبله.
مشاعرها جتاهه َ
سألت بجفاء وهي تزيح يدَ ه من عىل كتفها“ :هل تسألني بصفتك ً
زميل ْ
أم بصفتِك األخرى؟” .ر ّد عليها بأنه ال َ
فارق بني احلالني ،فأجابت“ :إذا كنت
كالم يستوجب تسأل كزميلِ عملٍ فأنت ّ
تشكك يف مهنيتي ومصداقيتي ،وهذا ٌ
منك أن تقوله بشكلٍ رسمي ألر ّد عليك بشكل رسمي ،أ ّما إذا كان بصفتك
أساسا” .كانت القهو ُة قد فارت وأطفأت َ
النار، حبي ًبا فأنا ال أقبل أن أر ّد عليك ً
وخرجت دون أن ُتعري ّ
بقية كالمه اهتام ًما. ْ وصبت القهوة
ّ فأغلقت املوقدَ
بقية اليوم دون أن تتك ّلم معه كلم ًة واحدة ،وك ّلام صادف أحدمها
مر ُّ
ري حفيظتها أكثر َ
تبادل ال ّنظرات الغاضبة بدون كالم .كان ذلك يث ُ اآلخر
لكن يبدو أظهر له مدى ِ
محقه ،وفجاجة كالمهْ ، َ رد فعلها قد
تتخيل أن َّ
وهي ّ
يستوعب تلك األمور برسعة.
ُ هلا أنّه ليس من النوع الذي
يف صبيحة اليوم التايل ،استُدْ عوا إىل اجتامع عاجل .كان املقدّ م (إياد)
وهم عىل يمينه ويساره؛ هي وأحد املجندين اجلدد يف ناحية،
جالسا ُ
ً
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 100
ٍ
ناحية أخرى ،ويف مواجهته اثنان من وسمري وضياء وجمندٌ آخر يف
وضع األربعة يف ِ
أحد ُ ال ّتقنيني .بدأ برشح خطة العملية القادمة؛ وهي
ِ
لرشطة النياندرتال مرفق ًة ثم تصويرهم وإرسال الصور
البيوت اآلمنةّ ،
يتم إعطاؤهم
املفصلة ،وبعد أن يقوموا بتسليم عمر ملرص ّ
ّ باعرتافاهتم
إحداثيات املنزل املوجود به األربعة.
وتتم عملية التسليم عند معرب حلوان”.
هنرهبم عرب احلدودّ ،
“وملاذا ال ّ
سأل (ضياء) فأجاب (إياد) ّ
بأن هتريب أربعة عرب احلدود ضدّ رغبتهم أمر
قبل احلدود مكشوفة ،وتتط ّلب من اهلارب أن يكونألن املساحة َ
عسري؛ ّ
الصعب إقناع املتهمني بذلك. ِ
مراوغة املستشعرات ،ومن ّ وقادرا عىل
ً متنكرا
ً
ِ
والسبب الثاين هو إظهار قدرة املخابرات املرصية عىل العمل داخل األرض
ُ
وحتر
بحث ٍٍّ املحتلة ،وقدرهتا عىل خداع أجهزهتم األمنية ،وتنفيذ عمليات
ٍ
دعاية ّ
تبث الثقة يف كل ذلك يف وأس داخل مناطق سيطرهتم ،وتصوير ّ ْ ٍ
حتت ّ
وحتث املقاومني املرت ّددين يف االنضواء َ قلوب املقاومني واملواطنني،
لواء حكومتهم عىل اختاذ القرار الصحيح.
***
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
101
15
حلسن ّ
حظ الغزاة أن حدود منذ أودع ذلك السجنُ . مىض عليه عامان ُ
قرروها كانت جنويب سجن طرة مبارشة ،ممّا أهدى هلم مساحة دولتهم التي ّ
كل قاطني ذلك السجن خارج رحلوا ّ
كبرية لوضع سجنائهم اجلدد بعدَ أن ّ
آليا،
أكثرها ًّ
غيوا يف أنظمة احلراسة واملراقبة ،والتي صار ُ
األرض املحتلةّ .
لكل سجني ،ولكي ال يرهقوا ميزانيتهم كانت هناك فالشعار طائرة دقيقة ّ
أنواع مبتكرة من العقوبات يف قوانينِهم حتتاج من الشّ خص الوجود يف
ٌ
السجن ّ
أقل من أسبوع فقط.
قص ُته مع النياندرتال
واسمه احلقيقي عمر عوض اهلل بدأت ّ
ُ ُع َمر الزيبق؛
نفسه َ
خمتط ًفا يف ذات يوم فوجد َ بعقد ونصف حنيَ استيقظ َ ٍ من ْقبل الغزو
كوكب آخر .يف ذلك الوقت ،كان النياندرتال خيتطفون ٍ مكان غريب عىل
ويْرون عليهم جتار ًبا ليكتشفوا قدر َة البرش عىل التكيف
برشا من األرض ُ ً
لظروف القهر واإلجبار وحيلهم للتغلب عليها .كانت رشيكته يف تلك
أن الشخص العادي متا ًمامعا من إثبات ّ التجربة طبيب ًة من عمره تقري ًبا ،متكنَا ً
القهر مهام بلغ مداه .يف ال ّنهاية استطاع النياندرتال املقاومون
َ يمكنه أن يقاوم
حلكومتهم من هتريبهام وإعادهتام إىل كوكب األرض.
َ
وتواصل املقاومون (ميساء)
تزوج عمر وزهرة وأنجبا ْ بعدَ عودهتام ّ
َ
اشرتك (عمر) معهم أن حدث الغزو معهم وأعلمومها ّ
أن الغزو قادم .بعد ْ
ٍ
قاعدة كبرية من املقاومني من املرص ّيني واألديتيني املعارضني يف تأسيس
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 102
حتقيق عمليات ِ
موجعة حلكومة أديتيا األرض ،وبعد ثامن ِ معا من
ومتكنوا ً
سنوات من الكفاح ُقبض عليه ُ
وسجن.
والقتل ونرش الفوىض ،وإدارة مجاعات مسلحة َ جرائمه التخريب
ُ كانت
ِ
هبدف تقويض النظام ،إىل آخر تلك ال ّتهم ،وكانت عقوب ُته هي اإلعدام ،ولكن
ِ
بعقوبة السجن مدى احلياة. إعدام َمن جاوز الستني ،ويبدله
َ قانون أديتيا يمنع
تسمح بالزيارة ،وال التواصل مع العامل اخلارجي ،والتواصل ُ سجوهنم ال
فالسجن يف أديتيا ليس
ُ أسبوعيا فقط،
ًّ مرات َ
ثالث ّ مع بقية السجناء يكون
أن حارسك طائرة وأصعب يشء فيه ّ
ُ للتهذيب واإلصالح بل للعقوبة فقط،
ٍ
بسيجارة أو قليل من املال. دقيقة ترافقك كظ ّلك ،وال يمكن رشوهتا
نحو طائرته الدقيقة الواقفة يف اهلواء
فتح عينيه ونظر َ بعدَ غفوة مسائيةَ ،
ركن الغرفة البعيد أمام الباب“ .مساء اخلري يا زقلة ..أين الغداء؟” .سأليف ِ
طائرته التي كانت رفي َقه الوحيد يف السجن ،والتي كان ينادهيا هبذا االسم
احلميمية عىل (العالقة) بينهام .ر ّدت عليه طائرته “الغداء
ّ إلضفاء نو ٍع من
جوار رسيرك يا عمر” .نظر إليها وهو ُيعطيها ابتسامتَه
َ موجود عىل األرض
ٌ
املرحة التي تثري حفيظ َة ّ
احلراس الذين يراقبونه من خالل كامرياهتا.
جلس عىل طرف رسيره ،وتناول علب َة الغداء التي تص ُله من فتحة أعىل
َ
جواره .كانت حتوي شطرية
َ الغرفة ،فتلتقطها طائر ُته وتضعها عىل األرض
جوار فراشه ،فقالت
َ وموزتي .أهنى شطري َته ووضع ّ
بقية العلبة ْ وعلبة عص ٍ
ري
طائرته“ :إنّه غداؤك يا عمر ،وخت ّلص من النفايات” .فر َد َ
ظهره عىل الفراش
يتعمد ذلك أحيا ًنا ليخفف من ملله.
غري عابئ بتكرارها لألمر؛ بل إنّه كان ّ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
103
احلراس من النياندرتال،
باب غرفته فجأة ،ودخل عليه اثنان من ّ انفتح ُ
َ
بزيام املختلف عن
استجاب لألمر وهو يتأ ّملهام ّ
َ َ
الوقوف ساكنًا. وطل َبا منه
خارج غرفته إىل
َ يقيدان ذراعيه وقدميه .اقتاداه زي حراس السجن ،و َ
مها ّ ّ
ٌ
مركبة تنتظر ،وهي ّأول مركبة يراها منذ فناء السجن؛ حيث كانت هناك
املركبة التي أتت به إىل هنا منذ عامني.
يشعر باالرتياب وهو ّ
يفكر يف ماهية تلك اخلطوة وإىل أين سيأخذونه، ُ بدأ
ريا أن يتجاوزوا قانوهنم
قرروا أخ ً
سيغيون مكانه لسجن أسوأ؟ أم ّأنم ّّ هل
كل تلك ٍ
بطريقة ما أن خيرتقوا ّ ويعدموه؟ أم ّ
أن أبطاله يف املقاومة استطاعوا
ثم ثبتوا غطاء عىل ِ
دخول املركبة ّ اإلجراءات ويقومون بتهريبه؟! ساعدوه يف
حتركت املركبة وجتاوزت أبواب السجن .مل يرد فور أن ّرأسه ُيغمي عينيه َ
أحدُ احلراس اجلالسني عىل أسئلته ،ومل يصدر أحدُ هم صو ًتا ًّ
ردا عىل مزاحه،
َ
احتامل أن يكونوا من املقاومة. ما جعله يستبعد
إن كانوا قررواوميساء قبل أن يعدموه ْ َ
سيسمحون له برؤية زهرة ْ هل
ويتوجه إىل منصة اإلعدام؛ حيث ّ ذلك ...ماذا سيقول لزهرة وهو يرتكها
ين يرتكونه عليهمثبت إىل قائم معد ّسيطلقون عليه حرب ًة صغرية يف قلبه وهو ّ
انفطار قلب زهرة
ُ قدر ما خييفهيكن املوت ُييفه َ
ملدة يومني بعد وفاته .مل ِ
(ميساء) ،والغضب وهي تشاهد جثته معلقة هكذا ،واأل ُمل الذي سيسيطر عىل ْ
حتارب الغزاة ويضعها يف قلب اخلطر. ُ الذي سيق ّلل من حرصها وهي
َ
طوال سنوات عمره التي جاوزت الستنيَ مل يشعر بذاته ّإل يف حالتني
ويدافع عن زهرة ،وحني كان يقاوم ُ يواجه املوت
ُ حني كان عىل اجلزيرة
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 104
السمع والبرص .روايته التي كت َبها عن جتربته يف اجلزيرة مل
َ اسمه
الغزاة ويمأل ُ
انترشت كالنار
ْ أن حدث الغزو حوظا بعدَ نرشها ،لكن بعد ْ نجاحا م ْل ً
ً حتقق
يتم التحضريأن الغزو كان ّ وعرف العا ُمل ّ
َ كل اللغات،يف اهلشيم و ُترمجت إىل ّ
له منذ نصف قرن تقري ًبا.
الدافع الذي جعل املقاومني من البرش والنياندرتال
َ كانت تلك الشّ هر ُة هي
أن ً
رجل قاوم الغزاة ِ
للمشهد الثّوري .فقد كانت فكرة ّ يصدرون صورته ْ
الرواج بسهولة، يقود املقاومة عىل األرض ضدّ هم فكرة تل َقى ّ
عىل كوكبهم ُ
أظهرها يف العمليات التي قادها ضدّ الغزاة يف
َ الباعة التي
وساعدها بتلك َ
أن تربع يف يشء الأن لديك موهبة دفينةْ ، مواقع كثرية .فكرة غريبة ح ًّقا ّ
ٍ
موقف ما ُ
الظروف يف ثم حني تضعك تعلمه طيلة مخسني عا ًما من ُعمركّ ،
تتفجر املوهبة املختبئة وتظهر براع ُتك للجميع.
ً
حمظوظا، ماهرا؛ بل كان
تاجرا ً
ً يكن كات ًبا موهو ًبا ،وال ح ّتى ً
سباكا أو مل ْ
تنفتح له لسبب ال يعلمه .موهب ُته احلقيقية كانت يف حرب
ُ وأبواب الرزق
ُ
العصابات واملقاومة؛ موهبة كانت ستد َفن معه لوال حدوث الغزو.
ثم رحلوهم
دفعه حني قبضوا عىل عائلته ّ فادحا ًَ ري ّ
أن للشهرة ثمنًا غ َ
أن ما فعله كان حمتو ًماّ ،
وأن االحتالل دمر تفهمت ّ للمخيامت( .زهرة) ّّ
(ميساء)
بغض النظر عن انضام ِم زوجها للمقاومة من عدمه ،لكن ْ حياهتمّ ،
انضمت لكتائب النرص؛ وهي
ّ مل تتفهم وظ ّلت غاضب ًة منه ،ح ّتى فاجأته ّأنا
االنضامم إليها ّ
مفضلني َ قوات مقاومة تدعمها الدّ ولة ،ويرفض هو وزمالؤه
أن يكونوا مقاومني مستقلني ِمن أجل الشعب ،ال ِمن أجل ال ّنخبة التي حتكمه.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
105
الفكر ُة نفسها هي ما حيفز املقاومني من النياندرتال عىل القتال إىل جوارهم
حسب
َ يسمي كتائبه
“كل ّضدّ بني جلدهتم يف كتائب احلرية .كان يقول دو ًماٌّ :
غايته؛ نحن نريد احلرية ،واحلكومة تبحث عن النرص وتكره احلرية”.
عمر وماندريك ،صديقه النياندرتال (أو األديتي كام يفضلون أن يطلق
وج َهي املقاومة األشهر؛ واحدٌ أريض وواحد أديتي ،يظهرانعليهم) ،كا َنا ْ
أس (عمر) كانتلهب محاس اجلميع ،وبعدَ ْ ٍ
لقاءات وأفالم قصرية ُ بالتبادل يف
ري من األرضيني يف
ماندريك هو الوج َه األسايس للمقاومة ،ويتبادل معه الكث ُ
معا
سبع سنوات حياربان فيها ًبدل من (عمر) .أمىض مع ماندريك َ الظهور ً
مرة واحدة قبل أن يموت. أقرب أصدقائه وجعل ْته يتم ّنى رؤيته ولو ّ
َ جعلته
ثم حتركت ثانية .كان موقفه يف شعر باملركبة تتوقف بعدَ نصف ساعة ّ َ
بأول مركبة اختطفته مع (زهرة) يف كوكب أديتيا .آه.. املركبة يذكره ّ تلك ْ
راهن اجلميع يف أول زواجهام عىل أن َ كم يفتقد (زهرة) ،املرأة النادرة التي
انترص عىل ّ
كل َ وقتي ،لكن حبهام ّ جمر ُد افتتان
حبهام ّوأن ّانفصاهلام حمتومّ ،
راق جعل منتقديحي ٍ بيت هلا يف ّالظروف ،وساعدَ ه ازدهار عمله عىل رشاء ٍ
كل فرتة يقيض يف حديقةريا .بعدَ الغزو كان يزورها ّ زهرة يباركون زجيتَها أخ ً
ثم يعود لسالحه ثانية مو ّد ًعا إياها وسط هن ٍر من يوميّ ،
ْ عشقها يو ًما أو
الدموع املتبادلة.
ضوء النهار من عصابة عينه،ُ تو ّقفت املركبة متا ًما ،انفتح باهباَ ،
نفذ
ثم امتدّ ت يدٌ تنزع الغطاء من فوق رأسه .هبره أنزلوه من املركبة هبدوءّ ،
ٍ
مرات فرأى ضوء الشمس يف البداية فلم َير شيئًا ،أغلقَ عينيه وفتحهام عدّ ة
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 106
يفكر كيفشمسا أخرى أكثر هبا ًء من شمس النهار؛ كانت (زهرة) .مل ّ ً
ُ
الرجال الذين الفناء الواسع الذي تقف به ،وال
ُ وأين وملاذا!؟ مل يلفت نظره
صوت املركبة وهي تغادر
َ يرتدون املالبس الرسمية وحييطون هبا ،ومل يسمع
أن أنزلته مل َير غري (زهرة) ..هي وكفى!بعد ْ
كامل من دموع الشوق عىل كتفيها وهو يتمتم احتضنَها وأفرغ خمزو ًنا ً
وحبه وأسفه .مل ينتبه ّإل عىل ٍ
يد ختبط عىل وعن شوقه ّري عنها وعنه ْ بكالم كث ٍ
وصوت مألوف يقول“ :محدً ا هلل عىل السالمة” .التفت فرأى ْ
(ميساء) ٍ كتفه
وامحر
ّ شعرها البني الفاتح،
عقصت َ ْ ً
وبنطال وقد قميصا
ً ابنته واقفة ترتدي
وجهها ،ودمعت عيناها من فرط التأثر.
“أين أنا؟” أجابه أحدُ الرجال الذين يرتدون املالبس الرسمية“ :أنت يف
نظر إىل الرجل
احلوامدية يا سيد (عمر) ،مرح ًبا بك بني أهلك وإخوتك”َ .
رساحك يا
َ وقبل أن ينطق قالت (ميساء)“ :لقد أطلقناحمياهَ ،
واألسئلة متأل ّ
أيب ،واآلن أنت بيننا ،وهذا ما هيم” .عقدَ حاجبيه وهو ينظر إليها وقد زالت
فالتفت وسأل الرجل ذا
َ َ
وشغل باله اآلن كيف تركوه! سكر ُة لقائه بزهرة
الصفقة َ
أعرف اآلن كيف جئتم يب إىل هنا؟ ما ّ الزي الرسمي ً
قائل“ :أريد أن ّ
متوسلة“ :أرجوك يا
ّ بالضبط؟ وكيفـ ”....قاطعته زهرة وهي تقول بلهجة
ثم ضغطت بك ّفها عىل كتفه أول؛ دعنا نشبع منك”ّ ، دعنا نسرتيح ً
عمرْ ...
أشبع منك”.
وقالت هامسة“ :دعني ُ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
107
وأنسته -مؤق ًتا -دوام َة األسئلة التي تدور يف رأسه .دخلوا ً
معا إىل مبنى
الفناء الذي وصل فيه ،وصعدوا إىل الطابق الثاين ِ حيتل اجله َة الرشقية من
ثم إن لدهيا ً
عمل ستنهيه ّ ضمته وهي تقولّ : ثم ّ (ميساء) ّ
عىل األقدام .أوقفته ْ
تعود إليه بعد ساعة عىل األكثر“ ،غرفتكام يف آخ ِر ّ
املمر عىل اليسار ،سأحاول
ثم انرصفت دون ْ
أن تنتظر ر ّدمها. ّأل أتأخر”ّ ،
***
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 108
16
صوت أمر من هريمني بالدخول.
ُ طرقتي عىل الباب ،تبعه
ْ صوت
ُ عل َ
ٌ
طاولة ذات عجالت ،عليها أطباق متعددة، ِ
نصف املفتوح ظهرت من الباب
ْ
ُ
اخلادمة األديتية التي تدفع العربة وهي تلقي حتية الصباح وظهرت بعدَ ها
بأدب عىل سيدهتا التي ال تزال ُ
تفرك يف عينيها بيدها اليرسى ،وتنكز الرجل
الراقد إىل جوارها باليد األخرى.
َ
أخرض مشو ًبا باحلمرة اعتدلت هريمني يف جلستها ،واخلادمة تناوهلا رشا ًبا ْ
إنجاب الذكور .قالت بلهجة حازمة وهي توقظ ِ يصا للراغبات يف خص ً
يعدّ ّ
ثم أردفت وهي النائم إىل جوارها“ :لؤي ،استيقظ لتعدّ يل املوكب”ّ ، َ الرجل
“هيا” .قفز الرجل من الفراش إىل احلوض املوجود بالغرفة رب ّتدفعه بقوة أك َ
ِ
نظرت اخلادمة إىل جسده ثم بدأ بارتداء مالبسه.فغسل وجهه عىل عجلّ ،
أن جيناته ممتازة يا سيديت، املمشوق بإعجاب وهي هتمس لسيدهتا“ :يبدو ّ
طفل قو ًّيا” .ابتسمت هريمني دون أن تر ّد عىل خادمتها التي تعمل وسيهبك ً
لدهيا منذ ربع قرن تقري ًبا.
كان (لؤي) قد غادر الغرفة حني قامت لتجلس يف حوض االستحامم
حيتل ُمنتصف غرفتها ،والذي يشبه أحواض استحامم ملوك العصور الذي ّ
الوسطى بقوائمه اخلشبية املذهبةّ ،إل أنّه كان قطعة من التكنولوجيا املتقدمة
جوار احلوض ،وأمامها
َ اجللوس فيه متعة قصوى .وقفت اخلادمةَ التي تعطي
طاولة صغرية عليها املناشف والثياب منتظرة انتهاء سيدهتا.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
109
اجتامعها مع احلاكم باألمس مشحو ًنا أطلعته فيه عىل تفاصيل ُ كان
زيارهتا للصني ،والتي أجرت فيها مقابالت ووقعت بالنيابة عنه اتفاقات
إقناع الصينيني بافتتاح سفارة هلم يف أديتيا األرض َ مهمة ،واستطاعت
لتكون أول دولة تتبادل التمثيل الدبلومايس معهم ،وهي عىل يقني من أن
رغم ضغوط اليهود داخلها، تلك اخلطوة ستدفع األمريكيني لفعل املثل َ
والتي جتعل أمريكا أكثر تشد ًدا مع أديتيا .اليوم كان لدهيا موعدُ اجتامع هيئة
احلكم ،ذي جدول األعامل املزدحم جدًّ ا ،والذي كان عىل رأسه موضوعان
همن جدًّ ا؛ أوهلام حتديد جدول زمني الفتتاح قناة السويس ،والثاين تفاصيل ُم ّ
حماكمة املتهمني األربعة بتعذيب وقتل فتيات أديتيات.
جاهزا؛ مركبتها الفاخرة التي يرافقها فيها حارسها
ً كان املوكب يف اخلارج
املعي حدي ًثا يف ذلك املنصب ،ومساعدهتا كمريدا ،وأربعة
الشخيص (لؤي) ّ
أي
حتيط باملركبة من اجلهات األربع ،ومركبتان لكشف ّ دراجات طائرة ُ
هتديد ًمتمل؛ واحدة يف األمام واألخرى يف األعىل.
ُ
عازل يف مركبتها جلست كمريدا معها يف املقعد اخللفي يفصلهام زجاج
عن (لؤي) ،والسائق يف األمام .قالت كمريدا وهي تفتح شاشة أمامها“ :هذه
هي قائمة الدول التي أعطت موافقة مبدئية عىل افتتاح بعثات دبلوماسية هلا
عندنا ،و ،”...قاطع ْتها هرمني يف ضجر وهي تطلب منها أن تطبع هلا تلك
قليل وقالت“ :اسمعي..ثم صمتت ً القائمة وهي سوف تراجعها الح ًقاّ ،
ٍ
ثالث ثم رتبي يل زيارات ألهم
أنت بعد مراجعة التقاريرّ ،رتّبي هذه الدول ِ
منها خالل األسبوعني القادمني”.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 110
حتمست كمريدا للمهمة ،وكادت تبدأ فيها من تلك اللحظة لكنها تذكرت ّ
عرضها عىل رئيستها قبل االجتامع .خبطت هريمني مهمة تريد َنقاطا أخرى ّ ً
بطن مساعدهتا التي يزداد حجمهانفاد صرب وهي تتأمل َ عىل فخذها يف ِ
ثم سألتها عن الوقت املتبقي عىل الوصول ،فقالت هلا“ :عرشون دقيقة يوميا ّ
ًّ
تقري ًبا” ،فر ّدت هريمني وهي تفتح احلاجزَ املعتم بينها وبني السائق“ ..خذي
مكان (لؤي) جوار السائق وهاتيه هنا؛ فأنا أريد استغالل ذلك الوقت يف
يشء أفضل من التقارير”.
ابتسمت كمريدا بسعادة وهي تغادر مقعدَ ها بصعوبة وتقول“ :أسأل ْ
طفل يصري ذا شأن كأ ّمه” .كانت تدرك بالطبع أن هريمني أن هيبك ً ماجوها ْ
متر بأيام التبويض؛ وهي أيام ختتلف يف النساء األديتيات عن األرضيات. ّ
األديتية يف أيام تبويضها تكون مثل القطة التي تتوق إىل التزاوج ألسباب
ال تتعلق باحلب أو الرغبة وإنّام جمرد االستجابة الغريزية الرصفة هلرموناهتا؛
يشء يثري استغراب األرضيني الذين يتزوجون من أديتيات لكنهم يعتادونه
مع الوقت.
ثم بعد دقيقة تقري ًبادخل (لؤي) جوارها ،وأغلقت احلاجز عليهامّ ،
ار ّجتت املركبة فجأة بصوت انفجار يف اخلارج .رصخت هريمني فزعة وهي
استطالع ما حيدث خارج املركبة .يف حالة تعرض
َ تدفع (لؤي) وتطلب منه
املوكب هلجوم من املفرتض أن تندفع املركبة الرئيسية بقوة حماولة اخلروج من
بؤرة احلدث وترك املركبات األخرى تشتبك مع املهامجني ،ويكون وظيفة
احلارس الشخيص هو تفعيل األسلحة الدفاعية واهلجومية للمركبة.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
111
فتح (لؤي)” احلاجز ،وجلس عىل كرسيه برسعة ،ويف خضم حركته دفع
كمريدا بقوة فسقطت للخلف .ساعدهتا هريمني وأجلستها جوارها وهي
هجوم كاسح عىل موكبها .أكثر
ٌ تتطلع بقلق للشاشة التي أظهرت ما يبدو أنّه
من مخس دراجات ومركبتني يشتبكون مع حراسة موكبها وقائد مركبتها
حياول تعديل وضعه ليتمكن من الفرار وسط املقذوفات املتبادلة.
أطلق (لؤي) قذيفتني متتاليتني عىل املركبة التي تقف يف مواجهته
أصابت إحدامها إصابة مبارشة جعلت املركبة املهامجة ّ
خيتل توازهنا وهتبط
أقل من مستوى مركبة هريمني .استغل السائق تلك لألسفل يف مستوى ّ
متجها برسعة يف طريقه
ً َ
ومرق باملركبة من منطقة الرتاشق، رسيعا
ً الثغرة
ملجلس احلكم.
تن ّفست هريمني الصعداء وهي ترى ساحة الرصاع املشتعلة تتضاءل
صورهتا عىل الشاشة مؤذن ًة بابتعادها عنها .نظرت يمينها فوجدت كمريدا
دامعة وهي مازالت تنظر للشاشة فربتت عليها بنفاد صرب وهي تسأهلا عن
سبب ذلك البكاء ،فقالت بصوت خفيض“ :لقد رأيت القذيفة األوىل وهي
تفتت احلارس الذي كان عىل يميننا هو ودراجته ملاذا يسكن ّ
كل هذا الرش
يف قلوب هؤالء املخربني” .ابتسمت هريمني وهي تر ّبت عىل كتفها مواسية
ومندهشة من أن جتمع امرأة بني ذلك القلب الطفويل الساذج مع العقل
الالمع الذي هيتم ّ
بكل تفاصيل العمل.
يدهش هريمني عدم قدرة كمريدا عىل رؤية املساحات الرمادية الشاسعة
بني األبيض واألسود ،وال تستطيع فهم عقلية األشخاص الذين يرون فقط
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 112
خيون وأرشار؛ اخلريون هم َمن ننتمي إليهم ،واألرشار هم من أن العامل ّ
كل يشء يف حياهتا عىل ذلك األساس ،ولن يكرهوننا .تراها دو ًما تصنف ّ
أساليب احللفاء واألعداء قد تكون واحدة وال يفرق بينهام
َ خيطر بباهلا أبدً ا أن
غري اختالف الغاية.
بست دراجات تظهر فجأة طويل فقدْ فوجئت ًّ شعورها باالرتياح
ُ يدم
مل ْ
حيرك (لؤي) ساكنًا.
قبل أن ّ وتطلق قذائف ّ
معطلة عىل مركبتها َ ُ من العدم
وترجل أحد قائدي
ّ َ
وحولا الدراجات الستة، هبطت املركبة عىل األرض
ِ
وحلمه. ِ
بشحمه الدراجات ونزع خوذ َته فوجدتْه ماندريك
فتحها من اخلارج ،وبدَ ا هلا أن الغرض مدرع ًة ّ
بقوة يستحيل ُ كانت املركبة ّ
من ذلك اهلجوم كان اختطا َفها وليس قتلهاَ .
أشار ماندريك هلا لتفتح جز ًءا
ثم بدأ باحلديث“ :هريمني ..أعرف الزجاج يسمح ِ
بنفاذ صوته للداخل ّ من ّ
خاصةقتل املوجودين معك ّ أنّك بالداخل َت َف ّضيل باخلروج ،فنحن ال نريد َ
معززةكل ما نريدُ ه هو استضافتك معنا بضع َة أيام ّمساعدتك احلبىلّ ..
ُمكرمة يف مقرنا”.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
113
أن هناك دو ًما خطة طارئة ملثل تلك املواقف، غال ًبا ال يعرف ماندريك ّ
أي اتصال للطوارئ ،وعطلت أن القذائف ا ُملعطلة قد أوقفت َّ ويتخيل ّ
ّ
ثم زر الطوارئ يف جهاز معصمها ّ ضغطت عىل ّ
ْ أجهزة التتبع يف املركبة.
أن ختتطفني هبذه تتخيل يف صغرنا ْبدأت حتدثه لترسق الوقت“ :هل كنت ّ
بصوت عال وهو يقول هلا“ :وهل كنت ٍ الطريقة يا ماندريك؟” ضحك
بكل هذا الفساد والرشّ يا هريمني؟! ال حتاويل أن ترسقي أن تصريي ّ تتخيلني ْ ّ
نشوش عىل أجهزة معصمك ومعصم حارسك الوسيم الذي الوقت فنحن ّ َ
يندم عىل خيانته لبلده
درسا جيعله ُ األرضيني هنا عىل تلقينه ً
ّ يرص أصدقائي ُّ
وهو
متتمت كمريدا بكلامت تستنكر حديثه عن اخليانة َ ْ وخدمتِه للمحتلني”.
االنصياع
َ خيون كوكبه ووطنَه وماجوها بأفعاله ا ُملخزية تلك .رفضت هريمني
مهام فعل ،فر ّد عليها يف
ألمره وهي تقول :إنّه لن يقدر عىل اقتحام مركبتها ْ
حتدٍّ “ :صدّ قيني ،قدراتنا يف املقاومة أكثر ممّا تتخيلون”.
ِ
اهنالت القذائف عىل موقعه من مركبتني ظهرتا مل يكدْ ُيكمل مجلته ح ّتى
مدرعني واشتبكوا مع املقاومنيّ .اته منهم
وترجل منها عدّ ُة رجال ّ
ّ فجأة،
املعطلة من سطحها فعادت للعمل ّ اثنان نحو املركبة وأزالوا القذائف
صوت مألوف يقول“ :سيدة هريمني ،هل أنت ٌ وجاءهم من جهاز االتصال
تكاد تطري من الفرح والفخر“ :نحن بخ ٍ
ري يا عزيزَ بخري؟” ر ّدت كمريدا وهي ُ
القلب” .كان املتحدث هو زوجها (باسل) والذي كان ي ّتجه بصحبة قائده
املميزة بشعار ِ
ملركبة هريمني ّ نحو جملس احلكم ،ورأى حصار الدراجات
فقرر التدخل.
قسم العالقات اخلارجية؛ ّ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 114
“انطلقوا يف طريقكم وسنلحقكم ..صحبتك السالمة يا عزيزة القلب”.
َ
االتصال وعاد ملساعدة زمالئه يف االشتباك مع املقاومني .انطلقت أهنى
املركبة برسعة يف طريقها ،وكمريدا تقول هلريمني“ :أرأيت يا سيديت..
ُ
والقلق يعصف بروحها صلوايت ال ختيب أبدً ا” .أومأت إليها هريمني برأسها
وضع نفسه فيه
َ وهي تتم ّنى أن يستطيع ماندريك النجا َة من هذا املأزق الذي
أن ال جدوى من ذلك. وهو يعلم ْ
الصخر َبحمقه وإرصاره عىل نطح ّ
***
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
115
17
وسكن هبا ،استظ ّلت يف فيئه ونام يف ظلها بعد عامني من
َ سكنت إليه
ْ
القدر دون موعد
ُ وع َطش القلب .مىض ُ
ربع قرن منذ مجع بينهام القيظ والق ْفر َ
وحتت سامء يسكنها قمران ،ومن يومها مل يفرتقا مدّ ة كتلك.
َ يف أرض غريبة،
لكن موجة
حب هناك ُمنحنيات صعود وهبوط ،وكانا كذلكّ ، كل عالقة ّ يف ّ
الصعود عند غريمها من املحبني. ِ
موجة ّ اهلبوط عندمها كانت أعىل من
ِ
واختفت الدّ نيا بأرسها ومل يبقَ منها ّإل عاشقان انغلقَ الباب عليهام
أرواح ظمأى .قالت“ :ا ْفتقدتك” .فقال ٌ يتبادالن كؤوس احلب ،فرتتوي
فتبسمت شفتها ،فأفسدت فقبلتهّ ،هلا“ :وأنا افتقدتني يا أنا” .ضحك قل ُبها ّ
خلص مالينيَ الكلامت التي جتول يف خاطرهيام .مل بعناق ّ
ٍ القبلة ،فاستبدلتها
حبسه
وأن َ حبسه عن زهرةّ ، أن سجنه احلقيقي هو ُ سجاين (عمر) ّ خيطر ببال ّ
ْ
ليهرب به من
َ كل يوممنفر ًدا أو يف مجاعة مل يكن ليختلف .كان يستعيدُ خياهلا ّ
حبهام للطائرة التي تراقبه.
فصل من قصة ّ كل يوم ً قسوة سجنه وحيكي ّ
ور ِّح َلت هي وابنتهام خارج األرض بعدَ الغزو ،وبعدَ أن اشتهر ُ
أمرهُ ،
املقام يف خميم لالجئني رشقي قرى الصف باجليزة .كان أهل
استقر هبا ُ
ّ ا ُملحتلة
املخيم يعيشون عىل املساعدات التي ترسلها احلكومة واملنظامت اإلنسانية،
ّ
الفقر من مساعدة أهل بلدهم ُ وأهايل القرى القريبة الذين مل يمنعهم
ختدم
ريا ُ املنظامت اإلنسانية ،وأنشأت مستشفى صغ ً املنكوبني .تواصلت مع ّ
أطباء آخرون من اهلاربني من األرضٌ أهل املخيم وتطوع للعمل معهابه َ
املحتلة ِ
ومن املتطوعني اآلخرين.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 116
الوقت نفسه؛ هو يقاتل الغزاة وهي حتاول التقليل من ِ كانا يكافحان يف
كل أسبوع املهجرين من أرضهم .كان يزورها مرة ّ الغزو عىل املساكني ّ أثر ْ
رب ويزداد مجوحها ورفضها لطريقته (ميساء) تك ُ
س ،وكانت ْ عىل األقل ح ّتى ُأ ِ َ
وأفكاره ،وعىل عكس ا ُملعتاد كان ُ
األب الكهل ثور ًّيا ،واالبنة الشا ّبة ترى
التوسط بينهام بدون جدوى.ّ الثورية عب ًثا ،واألم حتاول
سجن ال ّ
يقل صعوبة عن سجن عمر؛ سجن ٍ عاشت (زهرة) عامني يف
ْ
ُب ْعده عنها و ُب ْعد ابنتها ،وانقطاع اتّصاالت (سلمى) ربيبتها وابنة شقيقتها
(ميساء) عىل عتبة دارها ُ
احلال هبا يف اخلارج .حني ظهرت ْ استقر
ّ بعد أن
استطاعت إخراج (عمر) من السجن كانت تتقافز فرحةْ وأخربهتا أهنا
وأخذت تستعدّ للقائه كمراهقة خارجة للقاء
ْ كطفلة رغم جتاوزها الستني
فتى أحالمها.
نزلت عىل عينها“ :ما أخبار ميساء؟” شعر رمادية ْ يزيح خصلة ْ سأهلا وهو ُ
الزواج من رجل متواضع التعليم ،ومتزوج”. َ ر ّدت عليه بغيظ“ :تريد
ربك عن زلزال فرفعت حاجبيها بدهشة َمن أخ َ
ْ ٍ
بصوت عال ضحك (عمر)
ري وجهها ضحكه حني رأى تعب َ ُ استمر
ّ فاستجبت بإنكار وجود الزالزل.
عريس يناسب ٍ كأي ّأم عادية ال تفكر ّإل يف زواج ابنتها من وهو يراها ّ
ُ
وتنخرط يف معارك هتدّ د أن ابنتها حتمل السالح ّ
كل يوم طموحها ،وتنسى ّ
حتارب منذ سنني،
ُ حياهتا كلها .ر ّدت عليه بارتباك“ :عندك حقّ ،ولكنها
الغربة ذاك ّإل من أسبوعني فقط ،ومن ساعتها عريس َ
ِ لك ّنها مل ختربين عن
جفن من القهر”. وأنا ال يغمض يل ٌ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
117
(ميساء) جالسة مع (سمري) و(إياد) وآخرين يف الوقت نفسه ،كانت ْ
تفكر يف ر ّد فعل أبيها ا ُملحتمل .قامت خارج ًة من يتحدثون وهي شارد ٌة ّ
ولكن
ّ حوارا
ً الغرفة بعد أن استأذنت ،وتبعها (سمري) .حاول أن يبدأ معها
يطلوقفت ُمستندة عىل حاج ٍز خشبي ّ
ْ ري مرتابط.توتره جعله ُي ِرج كال ًما غ َ
بدوره واق ًفا يف مواجهتِها ،وقال بارتباك“ :ميساء..
عىل هبو املبنى فاستندَ عليه ْ
أريدُ أن أفاتح األستاذ (عمر) يف موضوعنا” .حدّ قت فيه بغضب وهي تراه
يتجاهل خال َفهام األخري الذي مل ُيل ْبعد ،وقالت وهي تضغط حروفها:
اعتذر هلا وهو
َ وحييين”.
كأن ال أعرفك ،وهذا يضايقني ّ أشعر ّ
ُ “لقد جعلتني
يعن ما قالّ ،
وأن الغرية سبقته. أغلظ األيامن أنه مل ِيمسك يدَ ها ،ويقسم َ
وأن غيابك منها معناه ّأن سأموت ..أنا بالفعل أموت “أقسم أنّك حيايتّ ،
مسار
َ حني تغيبنيَ ع ّني وحني تغضبني م ّني” .نظرت إليه وكأهنا تريد أن تقرأ
صدرت من منطقة الصدق أم من منطقة ْ ِ
تالفيف ّخمه ،وترى هل كلامته يف
أن ريا عن لواعج أشواقهِ ،
وعن استعداده ْ الكذب .أكمل كال َمه وحتدث كث ً
ِ
لطوفان مشاعره يأيت إليها بنجوم السامء لو طلبتها .يف النهاية استسلمت
أول ،فأنا أخشى من ثم قالت“ :دعنا نرى أيب ً املتوسلة ّ
ّ اجلياشة واعتذاراته
ر ّد فعله عىل طريقة حتريره”.
وتوجهت إىل غرفة والدهيا ،كان املبنى اسرتاحة ُمعدة لكبار الضباط
ّ ترك ْته
ِ
بالقرب من احلدود مع األرايض املحتلة .طرقت وعائالهتم ،والذين يعملون
ووقفت بعيدً ا ُمنتظرة االستجابة ،فتح أبوها َ
الباب فقالت ،وهي تأخذ ْ الباب
مهمة” .نظر
مهم بعد ربع ساعة مع شخصيات ّ نفسا عمي ًقا“ :لد ْيك اجتامع ًّ
ضمها بني ذراعيه
(ميساء) أمل تفتقدي أباك؟” ّ أبوها بدهشة ،وقال“ :ادخيل يا ْ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 118
ثم سأهلا عن كيفية إطالق َ
أطراف احلديثّ ، ثم أدخلها وتبادل معها بقوة ّ
َ
ضحك رساحه فر ّدت بارتباك“ :غري مرصح يل باحلديث عن تلك األمور”.
ثم قال“ :إ ًذا ،أخربيني ِ
عن العريس ،أم أنّه مل يرصح يقبلها بني عينيهاّ ،
وهو ّ
لك باحلديث ً
أيضا” .نظرت أل ّمها بعتاب فقد كانت تريدُ أن ختربه بنفسها.
قصت عليه حكايتها مع (سمري) ،وقبل أن يتكلم ويقول رأ َيه تعاىلّ
شاب ثالثيني يدعوه إىل القدوم إىل غرفة
ّ ٍ
طرقات عىل الباب .كان صوت
االجتامعات.
يدخل مثلها من قبل ،كانت هناك طاولة اجتامعات ،جلس ْ يف غرفة مل
ُ
مخسة رجال وامرأة واحدة ،اثنان يرتديان أزياء عسكرية مزدانة برتب إليها
كربى .قدّ موا إليه أنفسهم من اجليش واملخابرات ورئاسة اجلمهورية ووزارة
ِ
إطالق رساحه وكيف رجل املخابرات باحلديث عن كيفية ُ اخلارجية .بدأ
ّأنم بادلوه بالشبان الذين قاموا بجريمة شنعاء منذ ِ
عدة سنوات.
الغضب وجه (عمر) وحتدّ ث عن استنكاره لتلك الفعلة ،وأنه كان ُ علَ
يفضل البقا َء يف السجن عىل حتريره بتلك الطريقة ا ُملخزية .حاول الرجل ّ
قاض ُمنصفأي ٍ وأكد له أهنم يستحقون العقوبة ،وأن َّ التهدئة من غضبهّ ،
يف مرص قد حيكم عليهم بالسجن املؤ ّبد أو ح ّتى باإلعدام“ .لقد قلتها أنت،
ثم تس ّلمهم لألعداء
تقبض عىل مرص ّينيّ ، َ “قاض مرصي” ..ال يعقل أن
بحجة حترير شخص أ ًّيا كان”.
مندوب رئاسة اجلمهورية وهو كان قاض ًيا فيام سبق“ :سيد عمر،
ُ ر ّد عليه
غبار عليه،
قاض مرصي ال َ َ
سيخضعون ملحاكمة عادلة يراقبها ٍ هؤالء الشبان
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
119
مندوب عن األمم املتحدة”.
ٌ أي ظلم هلم ،وسيحرضها ً
أيضا يسكت عىل ّ
َ ولن
رجل املخابرات بحزم“ :كم األمر يف رأسه فتك ّلم ُ
َ سكت (عمر) وهو يق ّلب
فنحن ال
ُ وأنت تقاتل الغزاة يا سيد عمر! دعني أجيبك َ شا ًّبا مات معك
شاب مرصي طاهر يقاتل لتحرير ِ
بلده ماتوا ّ ننسى أبناءنا ..ألف وثالثامئة
شباب كتائب
ُ فكر معي لو قام ٍ
سنوات تقري ًباّ ، حتت قيادتك عىل مدى سبع َ
احلرية التابعني لك بمحاولة عنرتية لتحريرك كم سيموت منهم؟” ر ّد (عمر)
َ
فكيف تطلب م ّني أن أقل من عرشين ،لكن ذلك مل حيدث وهو يفكر“ :ليس ّ
أضحي بأربعة!”.
بلغة دبلوماسية ،وأقنعته أهنم جمرمون، ٍ ُ
مندوبة اخلارجية عليه ر ّدت
وسيحاكمون بشكل عادل ،وال داعي للقلق .فر ّد (عمر) متحدّ ًيا“ :وإن َ
الرشط وحكموا عليهم من ّأول يوم باإلعدام بإحدى الوسائل َ خالفوا ذلك
ً
حاسم تلك النقطة: مندوب املخابراتُ البشعة التي لدهيم!؟” .فر ّد عليه
ٍ
بفريق من أفرادنا ملساعدتك، “ساعتها ،سنساعدك يف حتريرهم وسنمدّ ك
األول يف القبض عليهم” .عقد (ميساء) ابنتك صاحبة الفضل ّ وعىل رأسهم ْ
ِ
الغضب من ابنته لفعلها (عمر) حاجبيه غري مصدّ ق ،وخالط قلبه شعور
ألنا صارت عىل هذا القدر من املهارة واخلربة رغم صغر س ّنها. بشعور الفخر ّ
األهم،
ّ دعنا ننتقل للنقطة
قالت مندوبة وزارة اخلارجية“ :سيد عمرْ ، ْ
فلم نرتّب هلذا االجتامع ونتك ّفل عنا َء حتريرك من أجل ذلك اجلدل!” .قال
مجيعا يف حرب شاملة واحدة
نوحد جهودنا ً مندوب املخابرات“ :نريدُ أن ّ
أغي
لتحرير األرايض املحتلة” .ر ّد عليه (عمر) هبدوء“ :ما الذي سيجعلني ّ
غيته أنا فسأفقدُ مصداقيتي بني رجايل”.
رأيي اآلن ،وحتى لو ّ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 120
ُ
الرجل شاشة أمامه ،وبدأ يعرض عىل (عمر) تفاصيل الوضع احلايل فتح
َ
عن عدد الناس يف األرايض املحتلة ،وعدد املستوطنني ،وعدد الزجيات ْ
املختلطة ،واألطفال اهلجائن ،وتقديرات ملا سيحدث بعد ثالثني عا ًما
جيل ً
كامل يتعدّ ى املاليني من أبناء اجلنسني ،وهم سيكونون سيصري فيها ً
أمرا ال فرار منه،
ري كوهنا دولة واحدة ً
األغلبية يف األرايض املحتلة التي سيص ُ
وال عودة للخلف.
السبب الرئييس الذي يقلقك أنت وزمالؤك يا سيد عمر”. َ “أنا أعرف
منتظرا أن تكمل
ً أن انتهى العرض ،فنظر هلا (عمر) مندوبة اخلارجية بعد ِ
ُ قالت
سياسيا ويكون ذلك
ًّ النرص عىل الغزاة
َ ّ
تستغل الدولة “أنت ختشى أن
فقالتَ :
وقمع احلريات” .ر ّد عليها (عمر)“ :وهل هناك ِ
قبضة الدولة ْ حجة لزيادة
بصوت وقور“ :سيد عمر، ٍ سبب يدعو لالطمئنان؟” ر ّد مندوب الرئاسة
مؤسسات، حمل خالف؛ نحن دولة ّ سلطوي هو ّ
ّ كون مرص دولة نظامها ْ
إن كانت بغض النظر عن َمن حيكمهاْ ، دولة عميقة اجلذور ذات نظام راسخ ّ
ُ
التجاوز فإنّه ظروفنا أحيا ًنا حت ّتم أن يكون هناك بعض ال ّتجاوز ْ
لكن مهام كان
ال يوازي تفتيت مرص ،إذا كان البديل ح ّتى لدولة قمعية”.
املرة
احلجة .فقالت مندوبة اخلارجية“ :احلرب هذه ّ مل تعجب (عمر) تلك ّ
جزئيا ،ومعنا مخس دول
ًّ كليا أو
ست دول حمتلة ًّ ستكون حر ًبا عاملية ،نحن ُّ
حجتهم الظاهرة أهنم يساعدوننا ويتخلصون ُ
ستدخل معنا احلربّ ، كربى
ونحن نعلم ّأنم يطمعون يف تقنيات الطاقة اجلديدة”. ُ من هتديد حمتمل،
عرض ورشحت له ٍ ثم فتحت شاش َة تناولت رشف ًة من كوب ماء أما َمهاّ ،
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
121
كل أركان التحالف املشاركة يف اخلطة القادمة ،والتنازالت التي ستقدمها ّ
بعض جبهات املقاومة يف دول أخرى ،ورضبت ً
مثال بفلسطني؛ املقاومون ُ
حلالفلسطينيون واليهود سيقاتلون جن ًبا إىل جنب بعد االتفاق عىل ّ
أن املستوطنات يف الضفة الغربية يسكنها النياندرتال َ
اآلن وخاصة ّ
ّ الدولتني،
بعد أن أخلوا املستوطننيَ اليهود منها .ابتسم (عمر) وهو يقول“ :أكان من
ّ
تستقل فلسطني وخيرج املستوطنون غزو فضائي لكي
الضوري أن حيدث ٌ ّ
ثم قالت“ :ح ّتى األكراد حصلوا عىل ٍ
وعد من سوريا ِ
ابتسمت املرأة ّ منها؟”
يت بمميزات أفضل ،وذلك ك ّله حتت ضغط من الدول وتركيا بحكم ذا ّ
الكربى الصني وأمريكا وروسيا وبريطانيا وفرنسا”.
قال (عمر) وهو خيبط ك ّفيه“ :أال يمكن أن تضغط تلك الدول ً
أيضا
حكومة مرص لتحسني الوضع السيايس!” ر ّد عليه ذو الرتبة العسكرية ِ عىل
الصالح يا سيد عمر ،سوف يكون ٍ
ضغط لتفعل ّ “مرص ال حتتاج إىل
ُ األكرب:
دور كبري يف املرحلة القادمة ،ستتصدّ رون املشهد يف املقاومة،
لك ولقادتك ٌ
ولن نستثنيكم ببساطة من معادلة احلكم بعد التحرير”.
كم األمهية التي
شعر فيها (عمر) ّمطولة َ
االجتامع بعد نقاشات ُّ انتهى
صارت له ولرجاله وحللفائهم من النياندرتال املقاومني .كانت خامتة
االجتامع هي االتفاق عىل أن يتشاور (عمر) مع رفاقه ّ
التاذ القرار املناسب
كل يشء،حارضين لالتفاق عىل ّ
َ عىل وعد باجتامع قريب يكونون فيه
دائم هلم لدى ال ّتحالف الدويل لطرد النياندرتال.
والختيار مندوب ٍ
***
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 122
18
مرت عىل (معاذ) كأهنا مخسة قرون أو أكثر منذ تسليمه ُ
مخسة أيام ّ
مقيدين يف منزل يفوامل ّتهمني اآلخرين إىل النياندرتال .تركهم املقاومون ّ
َ
القبض عليهم حرضت الرشطة وألقت ِ وسط القاهرة ،ومل ِ
متض ساعة ح ّتى
وأخذهتم إىل مرك ِز احتجاز ال يعرفون مكانه .مخسة أيام ُيل َّق ُن اإلجابات التي
سيقوهلا يف املحاكمة.
مؤخرة فخذه اليمنى وفتحوضع املح ّقق يف اليوم األول رشحي ًة صغرية يف ّ
َ
ُ
الرشحية ستساعدك عىل حفظ إجابات األسئلة التي شاش ًة أمامه ،وقال“ :هذه
ٌ
أسئلة باللون األمحر ثم فتح مر ّب ًعا يف الشاشة ،فظهرت
سيسأهلا القايض”ّ ،
واضحا ،وكان معرت ًفا به؛ ّ
لكن طريقة ً جرمه
وأجوبة باللون األزرق .كان ُ ٌ
مستفزة
ّ ً
واعتالل يف نفسيته؛ إجابات إجابة األسئلة تظهر بشاع ًة يف تفكريه،
أي رشكاء غريهم األربعة.واألهم ّأنا تنفي وجو َد ّ
ّ أي أحد، َ
تعاطف ّ تفقده
ُ
املحقق بتغيري تلك الطريقة يف اإلجابة. يسمح له
َ تك ّلم ّ
بتوسلٍ يرجو أن
كتفيه كأنّه يقول إن ما سيحدث الح ًقا هو اختيارك.وهز ْ
مط املحقق شفتيه ّ ّ
يسي يف ِ
فخذه اليمنى يمتدّ ألسفل ح ّتى ٍ
حارق ْ أحس فجأة بتيا ٍر كهربائي
ّ
َ
رصخ من األمل فقال املحقق: ِ
فقرات ظهره السفىل. قدمه ،ولألعىل ح ّتى
ستجرب جرعة كتلك تتزايد
ُ وكل كلمة ختطئ هبا “سآيت لك يف صباح الغدّ ،
مع تزايد أخطائك ..صدقني اجلرعات األعىل من ذلك األمل جتعل فكرة َ
املوت أشبه بنزهة”.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
123
َ
شكل اجلرعة األكرب من هذا يتخيل
يكن يريد أن ّ
مفزعا ،ومل ْ
ً كان األمل
رغم ق ّلة
تكن مهمة سهلة َاألمل ،ولذلك بدأ بح ْفظ اإلجابات كام هي .مل ْ
بدنو األجل كانا يش ّتتان تفكريه .عىل مدى ُ
فاخلوف وإحساسه ّ عدد الكلامت
وجر َب إحساس األمل
ّ عن ظهر قلب، َ
حفظ إجاباته ْ األيام األربعة التالية
جيمع بني اإلحساس بالتيار
ُ مرتني؛ منها واحدة باجلرعة األعىل .كان األ ُملّ
ٍ
زائدة دودية انفجرت احلارق واإلحساس بتق ّلصات داخل أحشائه ّ
كأن مائة
يف بطنِه يف آن واحد.
ري املح ّققني وقال هلمّ :
إن املحاكمة َ
قبل املحاكمة بعدّ ة ساعات أجلسهم كب ُ
وإن اخلروج عىل النص لن يرضَّ غري صاحبه الذي متر بدون مشاكلّ ،جيب أن ّ
س ُيعاين من أمل ٍ رهيب فرت ًة طويلة سيتم ّنى معها املوت ولن جيده ّإل وقت
ٍ
واحد بغرس رشحية دقيقة يف رأس ّ
كل ِ يقرروا ُهم .قام أحدُ الضباط أن ّ
مصم ٍ
مة لتالمس قرش َة املخ ،وتتحكم يف استجابات ّ خاص
ّ منهم بمسدس
الشخص املَ ْحقون هبا.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 124
تتحكم يف االستجابة اجلسدية لألمل فتجعل ّ ُ
“الرشحية يف رؤوسكم
دون أن يظهر عىل وجهه أنه يتأمل” .قال الضحية تعاين من أمل ٍ متضاعف َ
الدور
ُ ري إىل أحد الضباط ويقول“ :التايل” ،وكان ري املحققني قبل أن يش َ
كب ُ
استوعب الدرس ،وإنّه
َ متوس ًل ويقول ..إنّه
ّ عىل (معاذ) الذي أخذ يبكي
جلس قبالة اجلميع، َ لكن توسالته كانت بدون جدوى. لن يغري أقوالهّ ،
ثم بدأ
ثم رأسه ّرسيعا إىل ظهرهّ ،
ً عمود النار يف فخذه ،وامتدّ
ُ وفجأة تصاعد
شخصا كرس عظا َمه ،وأخذ ّ
حيك األجزا َء املكسورة ً كأن ذلك األمل يف ّ
فك ْيه ّ
ببعضها.
أو ملس مكان األمل ،كانت موجعة والتلويْ ،
ّ الصاخعدم قدرته عىل ّ ُ
لكن روحه تتق ّلب عىل
أنفاسه طبيعية وجسدُ ه ساكنّ ،
ُ أكثر من األمل نفسه.
اهللع وبنيَ عيون املحقق
تتجول بني عيون زمالئه التي يملؤها ُ
ّ مجر ،نظراته
ويتلوى من
ّ ريا ،وجدَ نفسه يرصخ ّ
بقوة، اجلامدة كعيون متثال حجري .أخ ً
شعوره باألمل بشكل عجيب.
َ وشعور باالرتياح خيالط
ٌ األمل،
اس جلدية يف منتصف اليوم ،كانوا جالسنيَ يف قاعة فسيحة عىل َك َر ٍ
جلس عليها أربعة من النياندرتال يبدو هلم ّأنم
َ منصة
ُمتقاربني يف مواجهة ّ
السن ،مرتد ًيا
ري ّ ٌ
رجل مرصي كب ُ قضاة تلك اجللسة .عىل يمينهم جلس
يتفحصهم يدون فيها ملحوظاته وهو ّ ٌ
أوراق ّ الروب املميز للقضاة ،وأمامه
حتت تأثري التعذيب أم ال.
كأنه يستطلع إن كانوا َ
وجود لوظيفة املحامي ،بل يتوىل امل ّتهم أو
ٌ ليس يف قانون النياندرتال
قرا َ
احلديث عن نفسه ،ويف اجلرائم البشعة كتلك إذا كان امل ّتهم ُم ًّ ا ُملتقايض
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
125
وتوسله لتخفيف
ّ عن شعوره بالذنب، املتهم باحلديث فقط ْ
ُ بذنبه يقوم
يصدر القضاة ً
حكم خم ّف ًفا بالسجن املؤبد أو باإلعدام ُ العقاب ،وبناء عليه قد
الرسيع رم ًيا بمقذوف يف القلب ،أو ال يقتنعون بند ِم اجلاين ف ُيصدرون ً
حكم
باإلعدام البطيء املؤمل.
فأقروا، ري القضاة عن إقرارهم بالذنب بعد ْ
أن قرأ عليهم االهتام ّ سأهلم كب ُ
ِ
وجود رشكاء هلم خارج قاعة املحكمة، تلو اآلخر .سأل القايض عنواحدً ا َ
هارب خارج أديتيا ،وال أعرف
ٌ بالرد ً
قائل“ :واحد فقط وهو فبدأ (معاذ) ّ
صمت اجلميع ،فأشار القايض
َ عنه شيئًا” .ور ّد الباقون بالطريقة نفسها.
أي إضافة
ري القضاة فسأهلم“ :هل لدى أحدكم ّ
املرصي ليتحدّ ث ،فأذن له كب ُ
حرضكم أو ساعدكم”. ٍ
شخص ّ عن
صمت ومل يكمل َ ثم قال حبيب“ :يف احلقيقة”... تبادلوا النظراتّ ،
َ
التقط يتعرض اآلن ألمل ٍ ُمربح ال يقدر عىل التعبري عنه.
وتوقع (معاذ) أنّه ّ
ثم َ
أوقف كالمه ثانية ّ ثم قال“ :هناك بعض احلـ”... نفسا عمي ًقا ّ
(حبيب) ً
إن زميلنا اهلارب هو َمنتدخل (معاذ) مشف ًقا عليه وقال“ :هو يريد أن يقول ّ
فهو الوحيد الذي يمكن دعم من آخرين َ كان يدير العملية ،وإن كان هناك ٌ
مجيعا كنا نترصف من تلقاء أنفسنا ،ومل خيطر ببالنا ّ
أن هناك أن يعرف ،لك ّننا ً
غرينا”.
ّ
يستشف شيئًا ً
حماول أن النظر لوجه (حبيب)
َ أمعن القايض املرصي َ
كان يو ّد قو َله ،أو تعب ً
ريا عىل وجهه يوحي بأنّه حتت الضغط؛ لكنه مل يستطع
جراء ما فعلوا،
ري القضاة عن شعورهم بالندم واخلزي ّ
حتديد يشء .سأهلم كب ُ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 126
وعدم الندم عليه،
َ اإلرصار عىل الذنب
َ ٍ
إجابات خمتلفة ،ك ّلها حتمل فأجابوا
وقال أحدهم إنّه لو عا َد به الزمن سيكررها ثانية.
“حكمت عليكم عدالة أديتيا باإلعدام البطيء بالتعليق ،وين ّفذ احلكم
ْ
وسط احتجاجَ ثم قام هو وزمالؤه شمس الغدَ ..
قيض األمر”ّ . ِ عند رشوق
مرة حماكمة ين ّفذ حكمها بعد ّ
أقل ألول ٍمن القايض املرصي الذي يرى ّ
من أربع وعرشين ساعة ،ومن ّأول جلسة ،ودون حقّ الستئناف احلكم.
مراقب
ٌ وأنت هنا
َ ر ّد عليه أحد القضاة ً
قائل“ :نحن نحكم بقوانني أديتيا،
سحقت حتت
ْ فقط” .مل ير ّد عليه ،وانرصف غاض ًبا وهو ينعي العدالة التي
األقدام اليوم.
مقر تنفيذ احلكم؛ وهو يف الصباح التايل ،أخذوا معاذ ومعه رفا ُقه َ
نحو ّ
سور القاهرة الفاطمية .كانت عىل أرض امليدان
ُ ميدان واسع ّ
يطل عليه
ارتفاع الواحد منها مرت ْين وأربع طاوالت،
ُ أربعة أعمدة تقف ُمنتصبة يبلغ
ٍ
بآالت حا ّدة خترتقه وتثبت جسده بالكامل شعر
وضعوه عىل واحدة منها َ .
ِ
عرشات املسامري التي تصل عمقَ عظامه ين كبري عن طريق لوح معد ّ
يف ٍ
كأنا عرق، ُ
تسيل ببطء من فتحات املسامري ّ الدماء
ُ باللوح املعدين .كانت
أن تتسارع تلك الدّ ماء ،ويزداد ُ
نزيفه ح ّتى يموت ٍ
بصوت عال ْ دعا اهلل
رسيعا.
ً
مشهد من مشاهد تعذيب يف القرون الوسطى ال ينقصه ّإل ٍ شعر بأنّه يف
َ
وقوف الغوغاء هي ّللون لعملية اإلعدام ،ويقذفون امل ّتهم بأشياء يف أيدهيم.
ُ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
127
َ
وسط رصخات وتوسالت مثب ًتا متا ًما ومفرو ًدا عىل ال ّلوح املعدين
كان جسده ّ
يتعرضون للعملية ذاهتا. ومن زمالئه الذين ّ منه ِ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 128
19
يدخن سيجارة وينفثقاعة اجتامعات صغرية ّ جلس ماندريك وحيدً ا يف ِ َ
أن التبغَ هو احلسنة الوحيدةدخانا ببطء ،ويتأمله وهو يتش ّتت أمامه ،ويفكر ّ
َ
الغزو ألمىض حياته َ
دون ُ لوال ِ
كوكب األرض ،وأنه ْ التي ناهلا من املجيء إىل
يتحسس مكان املقذوف ّ ذراعه أمامه وهو
أن جيرب هذا اإلحساس .فر َد َ
الذي أصابه يف أثناء حماولتِه الفاشلة الختطاف هريمني.
األول مع عمر بعدَ خروجه من السجن، يف اليوم السابق ،كان لقاؤه ّ
يمر عامان منذ ُقبض عىل األخري. معا وجتاذ َبا أطراف احلديث ْ
كأن مل ّ جلسا ً
ِ
عمليات املقاومة التي جتري كان هو و(عمر) عىل َمدار سبع سنوات يديران
ُ
الفضل ُلعمر وحده مادام أن ينسبأي غضاضة يف ْ يف مرص ،ومل يكن لديه ّ
يتم؛ وهو جعل إقامة األديتيني عىل األرض غري مأمونة.
الغرض ّ
وسنتي من العمل بعده،
ْ أن سبع سنوات من العمل مع (عمر)، عىل ّ
ُ
االحتالل أي تقدم ،بل عىل العكس كان
ومئات العمليات؛ مل تفلح يف إظهار ّ
اعرتفت ٌ
دول كثرية ْ يثبت أقدامه يو ًما بعد يوم ،وكانت الطامة الكربى حني
نوعا من العبث ،وبدأ
االستمرار يف املقاومة هبذه الطريقة ً
ُ بدولة أديتيا ،وصار
هو وزمالؤه يف التفكري يف إسرتاتيجيات أخرى.
َ
مندوبون عن احلكومات يتواصلون مع املقاومني جاءهم ّ
احلل حني بدأ
َ
التعاون واالنضامم لتحالف واحد، األديتيني يف ٍ
دول ُمتلفة ،ويعرضون عليهم
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
129
تكمن يف (عمر) وكث ٍ
ري من املؤمنني بفكرته يف الثورة عىل ُ ولكن املشكلة كانت
ّ
هيتم باألساس بإهناء
الغزاة وعىل احلكومات يف الوقت ذاته .ماندريك كان ّ
املتكسبني من تلك املغامرة الذين
ّ ِ
والتوقف عن استنزاف شعبِه لصالح الغزو
خط الفقر ،وأداروا موار َد ضخمةاألم يعيشون حتت ّ
تركوا املاليني يف الكوكب ّ
در األرباح عىل ُط ٍ
غمة منهم، غني بمصدر طاقة ُي ّ
جزء من األرض ّ الحتالل ٍ
ٍ
بمعتقد غريب حي ّتم العود َة لكوكب األرض. ٌ
جمموعة من املهاويس ويعاوهنم
ُح ّر َر (عمر) ،واجتمع به مندوبو حكومته ،وملسوا منه لينًا يف موقفه،
أن (عمر) سعيدٌ يشعر أحيا ًنا ّ
ُ دور ماندريك إلقناعه هو اآلخر .كان وجاء ُ
بغض النظر عن النتيجة ّ بدور املقاوم البطل الذي يتغ ّنى الناس بمآثره
حقيقيا ،وال بدّ
ًّ واقعا
لبعض الوقت لك ّنها ال تبني ًِ النهائية .املثالية قد تصلح
ٍ
لقناعة َ
وصل يف النهاية لقليل من الربامجاتية لضبط الصورة وحتقيق اهلدف.
لكن ضغط فقطّ ، ٍ تصلح كوسيلة
ُ تضم أفرا ًدا هبذا الشكل
أن املقاومة التي ّ ّ
يفل احلديد إال احلديدُاحلكومات يف النهاية هي َمن تقدر عىل املواجهة؛ فال ّ
كام يقول األرضيون.
أن احلكومة تواصلت معه ومع القادة الستة جلس مع (عمر) ،وأخربه ّ
َ
وإنم يميلون إىل التعاون ،لك ّنهم مرتددون وحيتاجون إىل
للمقاومة يف مرصّ ،
(عمر) ليحسم معهم ذلك الرتدد.
حمرجون من إخباري بتلك احلقيقة”. “أعتقدُ أنّكم وافقتم بالفعل ،لك ّنكم َ
ردا رد (عمر) ،ومل ِ
ينف ماندريك ذلك ،لك ّنه أكد أهنم مل يعطوا ًّ كان هذا َّ
أجلوا االتفاق معهم ح ّتى إخراج (عمر) من سجنه.وأنم ّللحكومة املرصيةّ ،
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 130
خطة واضحة إلهناء ألول مرة منذ الغزو هناك ّ“اسمع يا صديقيّ ،ْ
تقدر ِ
جمرد حماوالت إلزعاجهم ح ّتى هيربوا ،خذ القدر التي ُ االحتالل وليس ّ
تتغي معادلة احلكم يف بلدك،
عليه من حقك ،وصدّ قني بعد التحرير سوف ّ
وستكون أنت والثوار ُركنًا ًّ
مهم فيها”.
ظهره ،وقال بتوتّر، صمت ُعمر ،قام من مقعده ومتشّ ى ً
قليل وهو يسند َ َ
أمل الظهر سيجربين عىل املوافقة” .ابتسم ماندريك ِ
ملزاحه، أن َمازحا“ :يبدو ّ
ً
محاس الشباب يا ماندريك ،أخشى ح ّتى لو ظل ينظر مرت ّق ًبا“ .أنت تعرف َ لك ّنه ّ
قائل“ :سوف وينفضوا من حولنا” .أجاب ً ّ وافقت مبدأك ْ
أن يعتربوا أننا نتنازل
ّ
األقل يف الفرتة التي حتت إمرتنا -عىل قوات املقاومة يف الداخل َ ِ تكون ّ
كل
كرر (عمر) الكلمة تسبق احلرب الشاملة -ستكون اسمها املقاومة اهلجينة”ّ .
انطباعا لشبابنا أنّنا
ً فأكمل ماندريك“ :نعم ،سيعطي هذا َ “املقاومة اهلجينة”،
ن ّتحد مع حكومات األرض ّاتا َد ال ّند مع الندّ ،وليس احتا َد التابع مع القائد”
هنائيا بالفكرة ،والتقط
اقتناعا ًّ
ً آخر كالم له قبل أن ُيبدي (عمر) كان هذا َ
يضطر للضغط عليه وإخباره أن
ّ ماندريك ساعتَها َن َف َسه يف ارتياح ألنّه مل
َ
موافقون عىل الفكرة ،وقد هدّ د بعضهم بالتعاون مع ّ
كل املقاومني األديتيني
احلكومات ّ
بغض النظر عن اشرتاك املقاومني األرضيني يف اخلطة من عدمه.
كان ينتظر لقاءه الثاين مع عمر الذي ظل مقيام يف احلوامدية يف املقر
أخذ آخر َن َفس من احلكومي الذي استقبلوه فيه بعد خروجه من السجنَ .
ِ
بالرشفة اآلخرية من كوب القهوة املوضوع أما َمه سيجارته بعمق ،وأتبعه
السجائر يو ًما ما” .ر ّد عليه
ُ صوت ُعمر يقول“ :ستقتلك هذه
َ قبل أن يسمع
ريا منكم ال تؤ ّثر فيها تلك التفاهات” .جلس ُعمر
“أجسادنا أقوى كث ً
ُ بمرح:
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
131
يرحب به ماندريك قال له ُعمر وهو يمسك ِ
بيده كو ًبا من الشاي ،وقبل أن ّ َ
كنت تريد خطفها للضغط باسم“ :حدّ ثني عن لقائك الرسيع هبريمني ..هل َ ً
بأن ُيفض صوته وهو أشار له ماندريك ْ
َ عليهم ح ًّقا ،أم ألنّك افتقدهتا”.
أي شخص ّإل عمر، مع هريمني ال يعرف هبا ّ
إن حكايته القديمة َ يقولّ ..
وإنا قد تق ّلل من مصداقيته أمام البعض. ّ
ً
ضاحكا .فقال ماندريك: وكرر سؤاله
ّ غي ُعمر صو َته للهمس، ّ
أعرف حقيقة شعوري ،لك ّنني كنت ًّ
مغتم جدًّ ا وأنا ُ “أصدقك القول ..ال
مهم ٍة
جمر َد شعور جتاه فشل ّ أن أحرضها معي ،ومل يكن ّ املقر دون ْ
أعود إىل ّ
يذكر هجومه الشديد عليها يف الربنامج التليفزيوين، اعتيادية” .كان ال يزال ُ
وامحرار وجهها حني فوجئت به أما َمها ،ور ّد
َ وسعادته حني رأى ارتباكها
حتبه كام كانت. فعلها املبا َلغ فيه ،والذي ّأكد له أهنا ال ُ
تزال ّ
(ميساء) وهي دامعة العينني ،سأهلا أبوها عن سبب ُ
دخول ْ قطع حديثهام
َ
دموعها ،ففتحت شاش ًة أمامها تنقل املشهدَ الذي أبكاها .كانت الكامريا ِ
ثمشبان تعرف منهم (معاذ) و(حبيب)ّ ، تتجول بني الوجوه ّ
املعذبة ألربعة ّ
كل واحد معدنية حيمل ّ
ّ تبتعد لتظهر امليدان الذي تنتصب فيه أربعة أعمدة
ثم تقرتب وتظهر طريق َة
شاب من األربعةّ ،
معدنيا مصلو ًبا عليه ّ
ًّ منها ّ
مسط ًحا
لوح معدين بعرشات املسامري.
الصلب البشعة بتثبيت اجلسد عىل ٍ
انتفض (عمر) يف غضب وهو يقول هلا بانفعال“ :وملاذا تبكنيَ ! أمل َ
وزمالؤك َمن قام بالقبض عليهم! اذهبي اآلن واستدعي ِ تكوين ِ
أنت
الشبان املساكني” .أهنى ُجلته أحدَ قادتك لنرتب معهم َ
كيف ننقذ هؤالء ّ
أكثر
ثم تأمل َ وجه مألوفّ ،ثم استوقفها ثانية ،وتأ ّمل املشهد فقد بدَ ا له ٌ
ّ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 132
وجها آخر ،فقال بدهشة“ :هذا الفتى( ..معاذ) زمي ُلك َ
أيام الدراسة، فوجد ً
ِ
عليك تسليمه لتلك النهاية البشعة! وهذا الرجل إنّه أليس كذلك؟ َ
هان
أحدُ أشجع َمن قاتلوا معي ،ال أذكر َ
اسمه اآلن لك ّنه مقاتل ُصلب ،وإنسان
طيب ،ال يستحقّ هذا ،ح ّتى لو كان أخطأ يف املايض”.
ثم انرصفت َ
دون أن تتكلم ،وهو ال أغلقت الشاشة قبل أن يكملّ ،ِ
َ
حاول ماندريك هتدئته بالتأكيد ٍ
بعنف من الغيظ. أرضاسه
َ ُ
يضغط يزال
تسعا
وأن هناك ُم ً ّ
األقل ثالثة أيامّ ، ُ
يأخذ عىل عىل ّ
أن اإلعدام بتلك الطريقة
ثم ر ّبت عىل كتفه ُمعات ًبا إ ّياه عىل انفعاله الشديد عىل
من الوقت إلنقاذهمّ ،
حتريره يف الوقت نفسه.
َ وأنا كانت تؤدي عم َلها ،وحتاول
(ميساء)ّ ، ْ
تم االجتامع ،وجلس (عمر) وماندريك مع ضابط كبري ٍ
معدودة ّ يف دقائقَ
(ميساء) و(سمري) .طلب ُعمر منه أن يساعدوهم من ا ُملخابرات ،وإىل جواره ْ
إمكانياتكم وعدد
ّ يف حتري ِر هؤالء الشبان َّ
فرد الرجل“ :سيد (عمر) ،أنتم
أكثر م ّنا ..دورنا يف مساعدتك سيكون ً
دعم رجالكم يف األرض املحتلة ُ
فقط ،لك ّنني لن أخاطر بالرجال عىل األرض”.
“عذرا سيدي ،أعتقد أنّني وزمالئي
ً (ميساء) للضابط بصوت ُمرتدد:
قالت ْ
يف املجموعة نشعر ّ
بالذنب جتا َه هؤالء الشبان ،ونأمل أن توافق عىل ْ
أن نشارك
يف حتريرهم” .ر ّد (عمر) عليها وهو يقول ..إنّه ال يريد منها االشرتاك ،وال
دعم بتقنيات إضافية أو مركبات.وكل ما يريده ً
يريد أفرا ًدا من كتائب النرصّ ،
“عذرا يا سيدي ،أنا أحتدث مع القائد
ً (ميساء) إليه بتحدٍّ وهي تقول:نظرت ْ
أغضبت كلامهتا (عمر) ،وأصابته يف كربيائه
ْ املسئول عني ،وليس معك”.
ٍ
بعنف وهو يفكر أنّه مل يتخيل يو ًما أن ينجب بن ًتا تناطحه هكذا!
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
133
ثم استأذن منهم للتشاور،حك الضابط الكبري ذقنَه وهو يفكر يف قرارهّ ،ّ
ِ
النظرات الغاضبة مع ابنته. وعاد بعدَ بضع دقائق .كان ُعمر خالهلا يتبادل
ِ
وافقت ثم قال“ :اسمع يا سيد عمر ،لقد نفسا عمي ًقا ّ َ
وأخذ ً جلس الرجل
القيادة عىل االشرتاك معك يف العملية ،سوف يشرتك املقدم (إياد) معكم
يف قيادهتا ،وسوف يشرتك أربعة من أفرادنا يف التنفيذ” .ر ّد عليه ماندريك
(ميساء) يف التنفيذ”.
أن تشرتك ْ بارتياح“ :اتفقنا” .فأضاف عمر“ :لكن ال أريد ْ
مهت بالرد عليه،بمزيج من الدهشة والغضب ،و ّ ٍ (ميساء) فيه
حدّ قت ْ
حمذرة من قائدها الذي قال“ :سيد عمر ،نحن ال نختار رجالك، لوال نظر ٌة ّ
وأنت كذلك ال سلط َة لك عىل رجالنا ..سوف يشرتك املقدم (إياد) معك يف
اخلطة وتوزيع رجاله ورجالك ،لكن أنا َمن حيدّ د أسامء األفراد املشرتكني يف
العملية”.
وشاكرا
ً مصافحا الرجل
ً هم ُعمر بالر ّد ،لكن ماندريك استبقه ومدّ يدَ هّ
وتوجه ثالثتهم نحو
ّ (ميساء) وسمري مع قائدمها، إ ّياه عىل التعاون .قامت ْ
كرسيني متقابلني
ّ مكتبه ،جلس عىل أريكة صغرية وأجلسهام أمامه عىل
مجيعا
وقال هلم“ :أنتام و(ضياء) سوف تقومون باالشرتاك ،وأريد منكم ً
توثي ًقا لتلك العملية ألنّنا ال نريد أن ْنبدو يف صورة َمن س ّلم هؤالء الشبان
ثم تقاعس حني رأى معاملتهم بتلك البشاعة ،ودون حماكمة عادلة. للعدوّ ،
مقركم يف منشية نارص وسيلحق بكم (إياد) الليلة”. ستنرصفون اآلن إىل ّ
يؤجل َ
اإلذن أن ّ ثم عاد (سمري) إليه يطلب منه أشار هلام باالنرصاف ،فقاما ّ
سفره آلخر الليل ،لك ّنه مل يوافق.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 134
حمبطا ،فقد وعدَ زوجتَه أن يزورها هي والفتياتجلس (سمري) يف غرفته ً
َ
بوعده .فتحضطر للذهاب دون الوفاء ْ ويبيت معهم الليلة ،لك ّنه اآلن ُم ّ
َ
جتهز الغداء الستقباله .أخربها جهاز االتصال ورأى زوجته ُ
تقف يف املطبخ ّ
الصحن الذي
َ أنه لن يأيت فر ّدت عليه بغضب ،حاول أن هيدئها لك ّنها ِ
ألقت
مر ًة تلو األخرى ح ّتى ر ّدت كانت متسك به عىل األرض َ
دون إجابة ،ناداها ّ
وطبعا
ً مهمة كالعادة،
عليه“ :أنا تعبت من تلك الطريقة ،ستقول يل عملية ّ
(ميساء) هانم”.
سرتافقك فيها ْ
وإن زوجات جمرد زميلةّ ، (ميساء) ّ
إن ْ َ
حاول أن يبتسم وهو يقسم هلا ّ
ثم قال“ :أقسم إنّك حيايت، زمالئه اآلخرين ال َيغارون منها مثلام تفعل هيّ ،
أموت حني تغيبني ع ّني،
ُ وإن خصامك يل يعني ّأن سأموت ..أنا بالفعل ّ
أتبع كالمه باحلديث عن أشواقه ،وعن مقدار ثم َوحني تغضبني م ّني”ّ ،
كل يشء سيتحسن بعدَ عام عىل األكثر .أغلق االتصال، بأن ّحبه ،ووعدها ّ ّ
رب ما بيننا انتهى
بميساء تدخل عليه ،وتنظر إليه بغضب قائلة“ :اعت ْ وفوجئ ْ
تسمح له باالعرتاض.
َ ثم انرصفت دون أن اآلن ..زوج ُتك أوىل بك”ّ .
جلست تبكي يف حضن أ ّمها التي كانت تر ّبت عىل كتفيها وتواسيها وهي
ْ
كنت تعتقدينأن خ ّلصها اهلل من هذا الرجل“ .هل ِ تكاد تطري من الفرح ْ
ُ
أوىل” .ر ّدت عليها
حبّ ..إنا زوجته ّأم أوالده وهي ْ كالم ّأنه ال يقول هلا َ
ذات مرة؛
وأنا سألته َحلوا بالطبعّ ،
(ميساء) بأهنا تعرف أنّه يقول هلا كال ًما ً
ْ
يتغزل يف زوجته و ُيشعرها باحلب ح ّتى لو كان
إن الرجل جيب عليه أن ّ فقال ّ
وأن الكذب الوحيد املباح هو الكذب عىل الزوجة يف تلك األمور. كذ ًباّ ،
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
135
ما آملها أكثر وكش َفها أمام نفسها؛ هو أنّه كان يقول لزوجته اجلملة نفسها
الكلامت نفسها ير ّددها باللهجة نفسها
ُ َ
حاول أن يسرتضيها هبا باألمس، التي
محيميته وهو خياطب زوجته كانت ّ واحلميمة نفسهاّ ،إل ّأنا شعرت ّ
أن
ريا من محيميته معها.أصدق كث ً
***
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 136
20
أن أهنى املصلون ،يف جامع املعز لدين اهلل الفاطمي ،وبعد ْيف شارع ّ
وبعضهم يتهامس عن تلك الفعلة الشنيعة ُ األقمر ،صال َة املغرب؛ خرجوا
مخسيني وسطهم ،كان
ّ ٌ
رجل مسافة قصرية منهم .وقف ٍ التي حتدث عىل
ويضطر
ّ يدرس التاريخ يف اجلامعة قبل أن يق ّلص الغزو عد َد اجلامعات
ُ
الرجل عن الرمزية التي ً
مالحظا يف القطار اهلوائي اجلديد .حتدّ ث للعمل
شبان مرصينيقرروا أن يصلبوا أربعة ّ قصدها هؤالء الغزاة املالعني حني ّ
أمام باب من أبواب القاهرة القديمة.
بدل من بابمتسائل“ :وملاذا صلبوهم عندَ باب الفتوح ً ً شاب
ر ّد عليه ّ
أن هذا إمعانالعارف ببواطن األمور مؤكدً ا ِّ زويلة؟” .ر ّد الرجل بصوت
رمزا ّ
لذل يرمز لنرص جيوش مرص يصبح ً الرمزية حني جيعلون با ًبا كان ُ
يف ّ
كل األرايض املحتلة ،فقدوإن هذه سياسة جديدة بدأوا يف تطبيقها يف ّأبنائهاّ ،
الشهر املايض حني صلبوا جمموعة من املقاومني َ نفسه يف تركيا
فعلوا اليشء َ
عىل أسوار قلعة قديمة ،وتركوا جثثهم تتع ّفن يف اهلواء.
جاهل يتظاهر بالفهم“ :ليست هناك ً الشاب بلهجة َمن يرى ُمدّ ثه
ّ قال
ألن املنطقة أمامه يصعب خيشون من باب زويلة ّ َ رمزية وال حيزنونّ ،إنم
يطل عىل أرض واسعة بعد أن أزالوا صار ّباب الفتوح الذي َ حراستها ،بعكس ِ
للشاب ،مؤكدً ا أنه ال يفهم شيئًا،
ّ ناهرا
املنطقة املواجهة له” .رفع الرجل يد ْيه ً
شاب خيطط للزواج من إحدى النياندرتال. مع ّ ً
ومتسائل عن جدْ وى النقاش َ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
137
شاب ينوي أن ُيقدم عىل ٍ
فعلة كتلك ،فقال ّ تصح صال ُة
ّ تساءل إن كانت
عمي إهياب ،فهو قد
الشاب وابتسامة ساخرة تعلو وجهه“ :اسأل ابنَك يا ّ
ّ
منهن بالفعل ،وحاز عىل موافقتها”.
عروسا ّ
ً قابل
لكن اجلميع صمتوا
وتدخل أناس بينهامّ ، ّ رفع الرجل صو َته ّ
بالسباب، َ
ري ببطء يتبعها جمموعة من امللثّمني املسلحني ال يقل
حني رأوا مركبة تط ُ
عددهم عن العرشين .كانت عملية حترير الشّ بان املصلوبني قد بدأت مع
اهلجوم عىل احلراس من عدّ ة
َ اختفاء ضوء الشمس .كانت اخلطة تقتيض
ٍ
ملجموعات صغرية تقوم بقطع شوارع واالشتباك معهم وإعطاء الفرصة
األعمدة املصلوب عليها هؤالء الشبان والدّ خول هبم إىل الشوارع اخللفية،
ٍ
بمركبة أخرى إىل ثم نقلهم
جزئيا من تلك األعمدة ّ
ًّ وفيها ُ َت َّرر أجسادهم
املقر ا ُمل ّ
جهز بآالت طبية. ّ
الشاب بحامس ّاتاه املجموعة وهو يقول“ :هل أنتم ُمتجهون لتحريرّ قفزَ
هؤالء الرجال؟” .مل ير ّد أحدٌ عليه ،كانوا يمشون بخطوات ثابتة اجتاه نقطة
تول َمن يف املركبة عملية التشويش عىل الطائرات الدقيقة. انتقاهلم وقد ّ
أستطيع املساعدة
ُ بتوسل راج ًيا أن يأخذوه معهم “أنا
أعاد الشاب كالمه ّ
مثل أساعدُ يف قطع األعمدة ،أويف ختليصهم؛ لن أشرتك يف القتال ،دعوين ً
محلهم معكم إن شئتم”.
مل ير ّد عليه أحد ،فمشى إىل جوارهم ّ
مؤكدً ا أنّه سيتبعهم مهام كلف
سالحه ،وأمره بالتوقف عن تلكَ التفت أحدُ امللثّمني اجتاهه ً
رافعا َ األمر.
يود االنضامم للمقاومة فهناك ٌ
طرق أخرى. الصبيانية ،وإذا كان ُّ
اآلالعيب ّ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 138
ً
مهرول، قبل أن يكمل الشاب جدا َله وجدَ ّ
عمه إهياب واق ًفا خلفه وقد َ
تبعه
ناس وضع يدَ ه عىل كتفه وهو حياول ْ
أن يقنعه بالعودة“ :اهدأ يا ولدي ،نحن ٌ
يتحمل والدك أن يراك مصلو ًبا
ّ يف حالنا ال ق َب َل لنا باملقاومة أو السالح ،لن
هكذا”.
ٌ
ورجل يتبعه ،وكان (ضياء) وميساء،
يف املركبة ،كان جيلس ماندريك ْ
املرتجلني( .سمري) كان يف جمموعة أخرى مع ُعمر وإياد الذيّ مع امللثّمني
يتجهزون لبدء العملية انتهزَ ماندريك
ّ أرص عىل ا ُملشاركة بنفسه .حني كانوا
ّ
(ميساء) عن عالقتها بأبيها ليق ّلل من التوتر َ
احلديث مع ْ الفرصة وحاول
توترا”
أكثر ً قائل“ :كانت عالقتي بأيب َ البادي عليها .بدأ حديثه عن ِ
نفسه ً
(ميساء) فهي مل تكن تعلم أن النياندرتال لدهيم ذلك التعقيد يف دهشت ْ
أرص عىل أن يدرس يف عالقاهتم االجتامعية .كان ماندريك طال ًبا متفو ًقا ّ
معهد التاريخ ،وأنظمة احلكم عىل خالف رغبة أبيه الذي كان قاض ًيا وكانِ
يريدُ ه أن يدرس القانون.
سبب توتّر بينهام ،لك ّنه مل يكن كاخلصومة التي حدثت بعد أن
كان ذلك َ
َ
وخططها كل يشء ،وانربى هياجم الدولة ونظا َمها احلاكم هجر ماندريك ّ
متحم ًسا
ّ حتوله كان صدم ًة للجميع ،فقد كان كوكب األرضّ .ِ للعودة إىل
تعرف عىل جمموعة من حتوله حني ّ السيايس الرسيع .بدأ ّ ويطمح يف الصعود ّ
ُ
الطبقة ري لن حيدث ّإل إذا تغريت الشبان املتحمسني الذين أقنعوه ّ
أن التغي َ
احلكم بني املتدينني املتعصبني ورجال وأن ازدواجية ُاحلاكمة بالكاملّ ،
األعامل ال بدّ أن تنتهي .كان أفكاره ترتدد بنيَ الثورية اخلالصة وبنيَ النفعية
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
139
أبرص بعينيه
َ الزمن ح ّتى ّ
وظل هكذا فرتة من ّ الطبقية التي تدين هبا عائلته،
كيف يعيش املاليني من الفقراء يف كوكبه ،والذين يدفعون فاتورة التكاليف
الباهظة لذلك الغزو.
وبدل من التفكري ِ
حدوث كارثة طبيعية كانت تزدادً ، التقديرات باحتامل
ُ
قرر احلكام توجي َه ّ
كل املوارد نحو الغزو فيهاجر لألرض ِ
حلول عملية ّ يف
أغلب األغنياء والطبقة املتوسطة وبعض الفقراء الذين يقومون باألعامل
املتدنية والذين ُيرتكون للحياة يف مناطقَ جتعلهم مهدّ دين من األرضني.
ّ
خططوا للبقاء يف كوكب أديتيا ،والعيش يف مناطق بعض األغنياء وتابعيهم
لن تطاهلا الكارثة ،وترك الفقراء ملواجهة مصريهم .قا َد الكثري من املناظرات
اإلعالمية الناجحة ضدّ احلكام .واحدة منها كانت ضدّ أبيه ..مناظرة قانونية
التغلب عليه بمعرفته القانونية الكبرية ،مل يضايقه ذلك
َ استطاع أبوه بالطبع
األسلوب املزدري الذي كان يسلكه أبوه يف املناظرة.
ُ قدر ما ضايقه
َ
يل أنا ورفاقي بالسجن يف جزيرة معزولة ..أرص أن حيكم حكم ع َّ
َ “أيب
اهلرب ،وأرسلت من خمبئي فيديو أقول له إنّني َ يل بنفسه ،ولك ّني استطعتع َّ
يضم قبضته أمامها مد ّل ًل عىل قدْ ر التحدي
ومن قمعه” .قال وهو ّ أقوى منه ِ
هرب إىل األرض وقاد عمليات َ الذي كان يملؤه .بعدَ حدوث الغزو،
املقاومة يف القطاع اجلنويب الذي يشمل األرايض املحتلة يف مرص .كانت لذ ُة
االنتصار يف ّ
كل عملية خيوضها لذ َة انتصار عىل ازدراء أبيه له ،ال عىل أعدائه.
(ميساء) بالطبع ،أنّه وقادة املقاومة من النياندرتال يريدون أن
رب ْمل خي ْ
يسيطروا يف النهاية عىل احلكم ُمستغ ّلني الفوىض التي ستحدث بعد انتصار
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 140
األرضيني بمعاونتهم وحدوث اهلجرة العكسية إىل كوكبهم األم .ستكون
وصلت للذروة ،واملاليني الذين يسكنون املناطق املقفرة سيكونون
ْ قدرهتم قد
كم ُمتهالك يعاين من خسائر فادحة ُهم َ
جيش دولتهم القادمة ،مقابل نظام ُح ٍ
يف ّ
كل يشء.
“أنا وأيب ك ّنا عىل النقيض يف الغايات والسبل ،أ ّما أنت وأبوك فلكام الغاية
قليل ..صدقيني أنت لكن زاوية الرؤية خمتلفة ًنفسها ،والوسائل متشاهبةّ ،
حمظوظة بأبيك يا ميساء” .انرشحت أساريرها بعدَ كالمه واستق ّلت معه
وصدرها يملؤه االرتياح والصفاء.
ُ املركبة
حنيَ وصلت املركبة هلدفها ،نزل ماندريك وميساء من املركبة بدراجاهتم
مجا نقطة احلراسة املوجودة عىل يمني باب الفتوح يف الوقت ّ
الطائرة ،وها َ
دراجات أخرى يف إطالق قذائفها الفردية عىل احلراس
ٌ نفسه الذي بدأت فيه
يف النقطة املقابلة .بعدها مبارشة ،انطلقت مركبتان؛ واحدة جتاه مدخل
الدراسة مطلقة عدة قذائف متفجرة نحو جمموعة اجلنود امليدان من ناحية ّ
املتمركزين هناك ،واألخرى اجتهت نحو باب الفتوح نفسه مطلقة قذائفها
لتدمر مركبات احلراسة ا ُملتمركزة أسفله.
أربع جمموعات تتكون الواحدة من يف الدقائق التالية ،كانت هناك ُ
ُ
الشبان املصلوبون .كانت ِ
األعمدة املرفوع عليها ثامنية أفراد ،تقوم بقطع
شغلت جمموعات احلراس املوجودة؛ أهلتهم
ْ اجللبة التي أحد َثها اهلجوم قد
مهمتهم األصلية يف حراسةالقذائف املتتالية وذلك اهلجوم الكاسح عن ّ
املحكوم عليهم ،ومل يكن ببال أغلبهم ْ
أن حياول أحدٌ هتريبهم ،فتحريك تلك
قادرا عىل قتل الضحية.
بعنف أو إسقاط أحدها كان عىل األرجح ًٍ األعمدة
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
141
اجلنود حني أطلق أحدُ هم شعلة حتذيري ًة عندما رأى أحدَ األعمدة ُ انتبه
والتحرك عابرين
ّ ِ
بحمله، يميل ببطء ويتل ّقاه الرجال عىل األرض ،ويبدؤون
ٍ
واحد ممّن وم ّتجهني لشارع املعز .أطلقَ أحدُ هم قذيفة ّ
ذكية اجتاه باب الفتوح ُ
اللوح املعدين
ُ َ
وسقط عىل األرض .مال فأصابت خارصته
ْ حيملون (معاذ)
ّ
ويتأكد من جعلت (معاذ) يستفيق
ْ اجتاه الرجل الساقط ُم ً
شعل نوب ًة من األمل
أن هناك من حياول إنقاذه بالفعل ،وأنّه ال هيذي بسبب اجلفاف الذي ّ
حل به. ّ
مكان زميله وعاونه ٌ
ثالث عىل القيام ،وعادوا مرسعني إىل َ رجل آخر َ
أخذ ٌ
وجهتهم ،وزمالء هلم يطلقون قذائفهم عىل اجلنود الذين استهدفوهم .مع ْ
آخر ضحية ،وبعد إعطائهم إشارة ّأنم قد دخلواجمموعة حتمل ٍَ خروج آخر
ري يف ّاتاه نقطة التجمع بدأ املقاومون باالنسحاب يف شارع جانبي صغ ٍ
وهم هيللون لذلك ال ّنجاح الفائق للعملية.
املنسق ُ
ّ
بدراجتها نحو املركبة التي ستق ّلها ،ويف الوقت نفسه ّاتهت (سلمى) ّ
عربت من أمامها عدّ ة
ْ وشك الوصول إليها .فجأة ِ كان ماندريك عىل
فسقطت عىل األرض بدون ْ ّ
وعطلتها مجيعها يف املركبة
قذائف استقرت ُ
تدخل امليدان من رشقه وغربِه، ُ فرأت مركبات كثريةْ حراك .نظرت حوهلا
تفجرة فأسقطت جمموعة من ثم يف اللحظة التالية أطلقت إحداها قذيفة ُم ّ ّ
الثوار .رصخ ماندريك بصوت عال“ :اخلطة البديلة” ،ور ّدد آخرون خلفة
ِ
حزامه، موجية من
ّ أخرج قنبلة
َ اجلملة كأهنم صدى يف أحد اجلبال العالية.
فجرها فانطفأت األنوار وسقطت املركبات والدراجات بام فيها دراجة ثم ّ ّ
(ميساء) التي سقطت من ارتفاع مرت ْين ،والدراجة فوقها. ْ
***
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 142
21
فمه قطعة كبرية من اللحم املشوي وهو جيلس عىل وضع (باسل) يف ِ
َ
صاحب املطعم له ولزوجته ّ
كل أسبوع يف املوعد نفسه. ُ ّ
الطاولة التي حيجزها
ٍ
غضب للنادل األديتي ،وقال وهو خيبط عىل أشار يف
َ ثم
مضغها بصعوبة َّ
ناضجا متا ًما ،هذا اللحم
ً طلبت ً
حلم ُ طبقه بالشّ وكة يف حنق“ :ما هذا ..لقد
سيئ الطعم ،وتعلق أليافه بني أسناين”. ُ
نصف الناضج ّ
املضمومة حتاول هتدئته ،وتقول إن األمر بيدها عىل قبضته ْ ر ّبتت كمريدا ِ
مدير املطعم البدين الذي
لكن أوقفه ُ ُ
النادل أن جيادله ْ ال يستدعي .حاول
يتواجد طيلة اليوم بنيَ زبائنه ورص َفه من أمام (باسل) ،وقال بتأ ّدب“ :العزيز
هز (باسل) رأسه شخصيا عن هذا اخلطأ”ّ .
ًّ أعتذر لك
ُ (باسل) ،بطلنا اهلامم،
أي يشء“لكن اعذرين ..إذا كان لديك شكوى من ّ ْ متفهم فأكمل الرجل: ً
موظفي”ّ ،
ثم رفع يد ْيه أمام أرسل يف طلبي وال داعي لتعنيف ٍ
أحد من ِ
ّ
صدره كناي ًة عن االحرتام قبل أن ينرصف.
نغي هذا املطعم األسبوع القادم” .قال بغيظ لكمريدا التي “سوف ّ
انتظاره لقرار اللجنة
ُ تؤكد ثانية عىل أن سبب توتّره هو ضحكت وهي ّ
ثم ّ
املرشحنيّ ، جديد لرشطة القطاع اجلنويب ،وهو أحدٍُ املخولة باختيار قائد
املطهوة لتضعها يف فمه“ :هذه
ّ ٌ
قطعة من البطاطس قالت وهي متدّ شوكة هبا
أمسيتي األسبوعية ،ونحن م ّتفقون عىل أنني َمن خيتار مكاهنا”.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
143
ُ
النادل نفسه طب ًقا جديدً ا من اللحم ،ووقف جواره ح ّتى بعدَ دقائق وضع
يسب يف
قبل أن ينرصف من أمامه وهو ُّ تأكد من رضا (باسل) عن الطعم َ
أشخاصا ذوي
ً ّ
األريض احلقري والدولة “التي جعلت من أمثاله رسه ذلكّ
غبية”ّ .
رن جهاز االتصال يف نجح يف تلقيح امرأة ّمؤهالته أنه َ شأن وهو ّ
كل ّ
معصم (باسل) وكان زمي ُله خيربه بحدوث هجو ٍم كبري عىل مكان ِ
تنفيذ حكم
التوج ُه إىل هناك اآلن.
ّ اإلعدام البطيء ،وأن عىل (باسل)
ُ
فعمل فمها بكلمة اعرتاض؛ تنهدت كمريدا يف ضيق ،لك ّنها مل تفتح َ ّ
جزء ال يتجزأ منه .ترك واجب مقدّ س ،ودعمها له ٌ ٌ (باسل) بال ّنسبة هلا
يعتذر هلا عن قطع أمسيتها األسبوعية ،فقالت“ :ال ُ (باسل) بقية طبقه وهو
لكن أن ِْه طعا َمك أو
تعتذر يا عزيز القلب ،فعملك هو ما جيعلني فخورةْ ،
ٍ
كزوجة مرصية األقل خذه معك” .ضحك وهو يقول هلا ّإنا تترصف ّ عىل
حرفيا“ .أنا أديتية تنتمي لإلقليم املرصي يف
ًّ وليست كامرأة من كوكب آخر
وطبع قبل ًة عىل باطنه ،فقالت،
َ أديتيا ،فيمكنك أن تقول مرصية” .أمسك ك ّفها
جعد“ :فليعدك ماجوها ساملًا إىل حضني”. وهي مت ّلس بيدها عىل شعره ا ُمل ّ
ربم .فقالت“ :آسفة ،فليحفظك َمن يقدر عىل نظر إليها وهو يلوي شفتَه يف ت َّ
حفظك أ ًّيا كان اسمه” .ابتسم يف حبور ،وطبع قبل ًة ثانية عىل خدّ ها ،وطلب
مرسعا.
ً ثم انرصف مع وعد أن يتناوله معهاّ ،بقية عشائه للمنزل َ منها أن َ
تأخذ ّ
رسها ثانية بصوت خرج من الباب وهي تدعو له يف ّ َ تتبعته بنظرها ح ّتى
ّ
رغم إيامهنا الشديد بدينهاَ “ :من يدري ..يمكن
خفيض .تدعو وهي تقول لنفسها َ
نفسه دون أن ندري ،فقط ندعوه بأسامء خمتلفة، َ
نكون يف احلقيقة نعبد اإلله َ أن
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 144
مرسعا بز ّيه اجللدي
ً أشارت للنادل األديتي فجاء إليها
ْ ونصيل له بطرق شتى”.
األسود املز ّين بعالمة طائ ٍر أسطوري متأل صدر قميصه.
ترص ْ
أن تتناول العشاء مع زوجها يف هذا املطعم سألته إن كان يعرف ملاذا ّ
السبب ّ
ألن البيت ُ ثم قال“ :أيمكن أن يكونفهز رأسه ناف ًيا بتأ ّدبّ ،
أسبوعياّ ،
ًّ
قريب من هنا يا سيديت” .فقالت نافية وعىل وج ِهها رصامة ال تناسبهاّ :
“كل،
أسكن يف الشارع نفسه الذي اقرتحت رئيستي املبارشة اسمه ،كان
ُ رغم أين
يسميه املرصيون شارع (جامعة الدول العربية) ،وأطلقوا عليه بعدَ الغزو
ً
رقم ،لكن سيدة هريمني أسمته “وحدة أديتيا” نكاي ًة فيهم ،وكذلك فعلت
يف شوارع كثرية”.
اصطنع النادل ابتسامة ،وقد بدأ يشعر بامللل من استطرادها يف موضوع َ
كاهن صديق ألبيها ٌ ال فائد َة منه .فقالت ُميبة سؤاهلاّ :
إن هذا املطعم أنشأه
ناد قديم ،وأنشأه سور ٍ حمال جتارية كانت ّ
حتتل َ ِ
عرشة ّ أكثر من
بعد أن هدم َ
َ
وجعل شعار رسول ماجوها الطائر عالم ًة له ،وأهنا مل تتو ّقع عىل طراز ديني،
شخص بذلك اجلحود والقدرة عىل الكراهية.
ٌ أن يعمل يف هذا املطعم
مدهوشا ،وقال بارتباك“ :أنا يا سيديت!” .رفعت صوهتا ً الشاب
ّ حدّ ق
تافه بتلقيحها ،وصار
أريض ٌّ غبية قام
جمرد امرأة ّوهي تقول“ :سيدتك أم ّ
يقسم أنّه مل ْ
يقل هكذا فأخرسته َ ذا شأن نتيجة لذلك!” .حاول النادل أن
جذب انتبا َه صاحب املطعم“ :الَ أصدرت صو ًتا عال ًيا
ْ بخبطة عىل طاولتها
تكذب أنا أعرف لغة أهل األحراش الغربية ..درس ُتها يف مرحلة ِمن تعليمي،
وفهمت ّ
كل كلمة متتمت هبا”.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
145
مدير املطعم وأخذ يعتذر هلا ،لك ّنها جتاهلت اعتذاراته،
ُ َ
وقف أمامها
ِ
النربة ا ُملحتدّ ة“ :هذا األريض مل ينجح يف تلقيحي ِ
بذات وأكملت قائلة
أنت وغريك من الكارهني اجلاحدين ،لقد وحسب ،وإنام حيميك ّ
كل ليلة َ
َ
يكمل عشاءه ح ّتى ،وال أدري إن كان ذهب اآلن لقتال املخربني دون أن
َ
سيعود ليكمله أم ال”.
يف ذلك الوقت كان (باسل) منطل ًقا بأقىص رسعة بمركبته ح ّتى قابل
معا .راع ْته الفوىض
آخرين عىل دراجاهتم فرافقهم ح ّتى دخلوا امليدان ً
الشديدة وجنود الرشطة األديتية الذين يتحركون عىل غري هدى ،أو خيتبئون
ِ
خلف بعض احلواجز ،واملهامجون ينترشون هنا حماولني إطالق قذائف من
ٍ
نصب كان مصلو ًبا آخر ُ
حتمل َ وهناك ،وجمموعة منهم تغادر امليدان وهي
عليه أحد املحكوم عليهم.
أطلقَ قذيفة ذكية يف اجتاه املجموعة لك ّنها أخطأهتم فأطلق سبا ًبا عال ًيا
َ
يبيعون تقنياهتم للمخربني .التفت إىل يلعن اخلونة من األديتيني الذين
وهو ُ
دراجتيهام يف خطوة بدت لهْ يمينه فرأى مركب ًة كبرية يتجه إليها اثنان َ
فوق
رسه ّأل يرتكهام ،ووضع يدَ ه عىل ّ
زر املهمة .أقسم يف ّ
انسحا ًبا منهم بعد إمتام ّ
مجيعا.
نتظرا أن يدخل الدراجان للمركبة فيفجر ركاهبا ً القذائف املتفجرة ُم ً
فوجئ بقذائف معطلة أطلقها أحدُ زمالئه عىل املركبة فسقطت َ
قبل أن يصلها
الدراجان ففتح جهاز اتصاله وقال“ :اقتلوهم ّأيا األغبياء؛ ال أريد أرسى”،
ثم أطلق قذائ َفه املتفجرة اجتاه جمموعة راجلة منهم.
ّ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 146
ٍ
بحركة أخرى سمع أصوا ًتا ّ
تكرر كلمة “اخلطة البديلة”، َ
قبل أن يقوم
ُ
توقف مركبته وسقوطها عىل ٍ
بدفقة من تيار كهرباء إستاتيكية تالها ثم شعر
ّ
يثن ذلك من عزمه ،وإنّام خرج من مركبته األرض من ارتفاع م ٍ
رت واحد .مل ِ
وهو يقسم يف غيظ ْ
أن يقتل َمن جيده بيديه العاريتني.
ّأو ُل ما لفت انتباهه كانت دراجة ساقطة عىل راكبها وهو جياهد لرفعها
شاهر يف يده قطع ًة معدنية أخذها من املركبة.
ٌ َ
فركض نحوه وهو من فوقه،
يده سكني أديتيا يعرتض طريقه ويف ِ
رجل ًّ وصل إىل الدراجة وجد ً
َ عندما
أين رآها .انحنى
وظهرت مالحمه املألوفة التي ال يذكر َ
ْ وقد خلع خوذته
والدم
ُ ثم رض َبه بقطعة املعدن يف صدغه فأوقعه ً
أرضا متفاد ًيا سكني الرجل ّ
ينز من فروة رأسه.
ّ
هجم عىل الدّ راج امللقى عىل األرض ،ونزع خوذته وهو يكافح لتفادي
َ
هبت حني رأى وج َه غريمه؛ كانت فتاة أرضية وهي األوىل التي يراها
لكامتهَ .
وجهها دقيقَ املالمح يشبه وج َه طفلة من
قوة هجومية ألعدائه .كان ُ
ضمن ّ
َ
حيبها وهو صغري .نظر إىل كن يظهرن يف ِ
أحد اإلعالنات التي كان ّ اللوايت ّ
ٍ
بغضب ومجوح مل َيره عىل أنثى من العسليتني املتحديتني اللتني متتلئان
ّ عينيها
ثم كاملربمج
قبل .كبل حركتَها بجسده وهو ال يرفع عينيه من عىل عينيهاّ ،
لكن ذراعه توقفت فجأةآليا رفع يده بالقطعة املعدنية ليهوي هبا عىل رأسهاّ ،
ًّ
عينيها يف فزعّ .
تعطلت ذراعه كأن الربنامج اآليل يف رأسه حني أغلقت الفتاة ْ
أصابه خطأ بالربمجة.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
147
(ميساء) بتحدٍّ
مهمتك أهيا اخلائن احلقري ،ملاذا توقفت” .قالتها ْ
“هيا أمتم ّ
ّ
وحلّ مرت بلحظة من الفزع الوقتي تالشت حنيَ توقفت ذراعه بعد أن ّ
ثمحم ّلها حتدٍّ جمنون .نظرت إىل االسم املطبوع باألديتية عىل ذراع سرتته ّ
نظر إليها يف غضب رمى حل ْمق أهلك”َ . قالت“ :واسمك (باسل)! ..يا ُ
َ
ووقف وهو جيذهبا بعنف ليأخذها أسرية. القطعة املعدنية من يده
فرصخت يف أمل
ْ ِ
بقدمه عىل ساقها املصابة ِ
حاولت التم ّلص منه فرضهبا
إثر رضبة قوية من آلة معدنية
تسبه .يف اللحظة التالية شعر بأمل ٍ يف رأسه َ
وهي ّ
استدار ورأى
َ “دع ابنتي أهيا اللعني”
وصوت رجل مألوف جدًّ ا يقولِ :
نفسه برسعة وهجم عىل (عمر) وقد وتعرف عليه؛ كان (عمر) .مللم َ الرجل ّ
آخر يضمن له الرتقية التي يصبو هلا. وجد صيدً ا ثمينًا َ
قبل أن يستطيع السيطرة عىل (عمر) شعر بسكني خيرتق ظهره ،لكنه مل َ
يستسلم واستدار ّاتاه مهامجه وقبل أن يفعل شيئًا هوى أحدُ هم عىل رأسه
ْ
ِ ٍ
برضبة ثقيلة أدارت الدنيا من حوله ،وجعلت الدم ينزف بغزارة من رأسه.
تنظر له
ُ (ميساء) فوقه
حاول أن يفتح عينيه ويقاوم اإلغامءة لك ّنه وجد ْ
املهمة، ِ
أكملت ّ تكور قبضتها و ُتعطيه لكمة
ثم ّبغضب بعينيها العسليتنيّ ،
وأفقدته الوعي متا ًما.
***
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 148
القسم ال ّثالث
ُ
منشية ناصر
ُ
إنتاج
شر في هذا العالم هو ٌ الناس شياطينًا إلفسادهم؛ ّ
فكل ٍّ ُ “ال يحتاج
إنساني خالص”
كمريدا ً
نقل عن أبيها.
22
تنظر يف الشاشة الفراغية املنصوبة أما َمها،
زفرت (هريمني) يف ضيق وهي ُ ْ
مهام كمريدا مؤق ًتا
مساعدتا الثانية التي أخذت ّ
ُ التقرير الذي أعدّ ته
َ وتشاهد
أغلب التقرير
َ إجازتا القصريةَ .
قبل إجازهتا ،أعدت كمريدا ِ ح ّتى تعود من
عدد العمليات الذي يتحدّ ث عن خطر املناطق العشوائية يف القاهرة ،وعن ِ
وعن كيفية استغالل ذلك للتسويق التخريبية التي حتدُ ث انطال ًقا من هناكْ ،
وهتجر سكاهنا إىل خارج أديتيا .أعدت تلك املناطق ّ كل َ دوليا خلطة ستهدم ًّّ
السياق إىلاملساعدة الثانية النسخة النهائية من التقرير ،والتي جاءت خمت ّل َة ّ
أثار حفيظة هريمني. حدٍّ كبري وهو ما َ
تغي يف ترتيب التقرير وهي تعطي املساعد َة وصلة من التقريع،أخذت ّ
إحراجا هلا يف االجتامع املصغر الذي
ً سبب ذلك التقرير
وهدّ دهتا بالعقاب إذا ّ
جيمعها مع حاكم أديتيا األرض ،ورئيس قسم األمن ،وحاكم القطاع اجلنويب ُ
يضم األرايض املرصية يف أديتيا) .قالت هلا يف غيظ بعد أن أنقذت ما
(الذي ّ
خملصا أليب،
ألن والدك كان خاد ًما ً “أنت تعملني معي فقط ِّ يمكن إنقاذه:
لزم ِ
األحراش اجلنوبية إذا َ أتورع عن إعادتك إىل كوخ عائلتك يف
لك ّنني لن ّ
تتوسل إليها ّأل تفعل ،وتقسم ّأنا لن ختذهلا ّ
مرة األمر” .أخذت املساعدة ّ
تقبل ركبتها لك ّنها دفع ْتها وهي تطلب منها املغادرة.
أخرى ،وانحنت ّ
يف مكتب احلاكم ،جلست عىل يمني مكتبه ،وعىل اليسار جلس رئيس
تبادلت مع األخري حتي ًة فاترة
ْ وجلس حمافظ اجلنوب يف املنتصف.
َ األمن،
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
151
وهو ال يطيقها ألهنا مناملتعصب َ
ّ ألنا من ذلك ال ّنوع الدينيفهي تكرهه ّ
تطمع يف
ُ عائلة مشكوك يف نزاهتِها -طب ًقا لرأيه ،-وألنّه يعرف يقينًا أهنا
رب يف القطاعات الثالث يف فالقطاع اجلنويب هو األك ُ
ُ حقيقيا
ًّ منصبه .كان ذلك
منصب ميلء بالصالحيات الواسعة ،وليس ٌ أديتيا األرض ،وهو بالنسبة هلا
جمرد واجهة للنظام احلاكم أمام األرضيني. كمنصبها احلايل؛ ّ
األول يف هذا االجتامع عن ِ
نقض املرصيني التفاقهم معهم املوضوع ّ
ُ كان
نص االتفاق؛ بل ّإنم أطلقوا رساحهوعد ِم احتجازهم ُلعمر عوض اهلل كام ّ
َ
خيتطف األربعة املحكوم يعود ملامرسة نشاطه ح ّتى استطاع أن
ُ وجعلوه
عليهم باإلعدام وإظهار الرشطة األديتية بمظهر العاجز أمام العامل.
صورا للهجوم من إحدى ً مسئول األمن شاش ًة أمامهم تظهرُ فتح
َ
ثم يبدو وتقتطع صورته ّ
ُ وجه ِ
أحد املهامجني ثم تركز عىل ْ
الطائرات الدّ قيقةّ ،
ثم قال“ :هذا ُ
وتستبدلا بأخرىّ ، تغيريات تزيل َ
بعض املالمح ٌ عىل الصورة
الرجل أحد ضباط ا ُملخابرات املرصية ،بالطبع ُهم ينكرون أنّه أحدهم لك ّننا
نعرف تاريخ حياته بالكامل”.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 152
رأسه ناف ًيا وهو يقول“ :ال أعتقد ذلك؛ ُعمر و َمن معه
حمافظ اجلنوب َُ هز
ّ
سياسيا قبل الغزو..
ًّ ري منهم كانوا ُمضطهدين َ
يكرهون حكومتهم ،والكث ُ
تتابع حوارهم وهي ترصف بمفرده” .كانت هريمني ُ يكون قد َّ يمكن أن
خيططون لإلغارة عىل جمموعة تشعر ّأنم جمموعة من ال ّتالميذ احلمقى ّ
منافسة من احلي املجاور .واحدٌ يعتقد ،وواحدٌ ال يعتقد ،واألمور واضحة
ريهم حلظة ،ح ّتى كالشمس؛ ّإنم ال يساملون أديتيا األرض ،ومل يتوقف تدب ُ
الدول الكربى التي اعرتفت بدولتهم تدبر يف اخلفاء ً
أيضا.
صحيحا فال بدّ أن نخرج تلك األدل َة للعلن” .قال
ً كالمك
ُ “إذا كان
وتقارير تدعم وجهة
َ صورا أخرى
ً ُ
مسئول األمن احلاكم بحزم حنيَ عرض
ُ
مسئول األمن يف نظره يف تورط املرصيني املبارش يف العملية األخرية .ابتسم
ٍ
دستة نرد بعنف يا سيدي ،لقد قتلوا أكثر من ثم قال“ :ال بدّ ً
أيضا أن َّ اعتدادّ ،
جتمعاهتم العسكريةمن رجالنا ..أقرتح أن نطلقَ عد ًدا من القذائف عىل ّ
نظره ملحافظ اجلنوب الذي هز وهو يدير َ
رشق بني سويف” .أهنى مجلته َ
رأسه مؤيدً ا.
أدار نظره إىل
ثم َ كم سرتتِه وهو يدير املسألة يف رأسهّ ، داعب احلاكم َّ
ومستفهم عن سبب صمتِها من ّأول االجتامع .اعتدلت ً رأيا،
هريمني طال ًبا َ
يف جلستِها وهي تبدأ بالكالم متحدّ ثة عن األعداء الذين لن يتحولوا إىل
كل املواقف نستغل ّ
ّ نحو اآلخرين قائلة“ :ال بدّ أن
وجهت نظرها َ ثم ّأصدقاءّ ،
ُ
مسئول األمن عىل طريقتها ،لك ّنها ملجرد انتقا ٍم ساذج” .احتدّ
لصاحلنا وليس ّ
تقريرها عن املناطق العشوائية خمتتمة
َ عرضت عليها
ْ جتاهلته وفتحت شاشة
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
153
إياه بخطة إلخالء منطقة منشية نارص ،وهدمها ،وإنشاء ُمنتجع كبري يف
سياحيا لألرضيني
ًّ جع َله مقصدً ا
فتقرتح ْ
ُ حضن اجلبل ،وتتامدى يف خطتها
من خارج أديتيا.
لغطا ،ر ّد عليها حمافظ اجلنوب بأهنا تتدخل يف صميم اقرتاحها ً
ُ أثار
ِ
باخلطط االستيطانية يا مسئولة عن اخلارجية ،ال شأن لك ٌ ِ
“أنت عمله:
احلاكم ّ
بأن املانع الوحيد من إزالة تلك املنطقة هو ُ سيدة هريمني” .رد عليه
طبعا إىل أهنا ح ّللت
ختصصها ،إضافة ً
صميم ّ
ِ صورهتم أمام العامل ،وهذا من
وهم بالر ّد لكن
الرجل ّوجه ّ
ُ املتخصصْ .اربدّ
ّ املشكلة بطريقة مل يقدر عليها
ثم سأهلا“ :ما ّ
اخلطة التي تقرتحينها؟”. احلاكم أسكته بإشارة من يده ّ
َ
نصا عىل الشاشة أما َمهم يف ثقة وهي تقولً :
“أول جيب أن فتحت هريمني ًّ
َ
يعرتض اجلميع -وهو ما كانت نقدّ م تلك الشكوى يف جملس األمن” .قبل أن
يتم أردفت قائلة“ :بالطبع لن ُتدي الشكوى ً
نفعا ،فال أتوقع أن ّ ْ تتوقعه-
يبي الدول التي قدنصا آخر ّ فتحت ًّ
ْ معاقبة املرصيني عىل ذلك ،ولكن،”...
أن ستنكر ّ
ُ تستنكر الترصف املرصي (وهي ُتعدّ عىل األصابع) ،والدول التي
إن ما حدث نوع من املقاومة احلكومة املرصية هلا عالقة باألمر ،والتي ستقول ّ
وألول مرة -هناك طرفان للمشكلة أديتيا ّ “املهم أنّه-
ّ ثم قالت
املرشوعةّ ،
ثممثلّ .وكل األرض ،أو أديتيا ضدّ الرشق األوسط ً ومرص ،وليس أديتيا ّ
أول”.إن الشكوى ستكون وثيقة تثبت أن أديتيا جلأت للوسائل الدبلوماسية ً ّ
ستتضمن اإلشار َة إىل منشية نارص عىل أهنا
ّ “فهمت ،وأعتقد ّ
أن الشّ كوى
ثم قالت“ :بعدَ ذلك،فهزت رأسها موافقةّ ، احلاكم ّ
ُ خربني” .قال
للم ّ
وكر ُ
ٌ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 154
حتدث عملية إرهابية ِ
بش َعة نستغ ّلها لتكون نقط َة الغليان بالنسبة َ ال بدّ أن
صمت الثالثة
َ ظهر البعري”. َ
يقولون القشّ ة التي قصمت َ لنا ،ونعتربها كام
فقالت بوضوح“ :أنتم ْ متوجسني من قصدها،ّ وتبادلوا النظرات فيام بينهم
تذكرون عملية قتل وتعذيب الفتيات األديتيات ،التي بسببها ُح ِك َم باإلعدام
أثر كالمها عىل وجوههم.. صمتت حلظة وهي تتأمل َ
ْ عىل هؤالء الشبان”
استطاع جتنيد هؤالء
َ رئيس األمن السابق الذي
َ أن مد ّبرها كان“أنا أعرف ّ
الشبان وإهيا َمهم ّأنم يعملون لصالح املقاومة ،وأقنعهم بتصوير تلك الفعلة
ومع األسف مات دون أن خيرب أحدً ا هبوية املن ّفذين”.
ونشها يف العلنَ ، ْ ِ
ُ
وحمافظ اجلنوب كالمها ،فقال احلاكم“ :ال داعي رئيس األمن
ُ استنكر
َ
صارت من دوائر السلطة العليا ،وأعتقد
ْ األعزاء ..هريمني اآلن
ّ لإلنكار ّأيا
ابتلعت ريقها بصعوبة َ
قبل أن تكمل ْ نكرر العملية نفسها”.
ّأنا تقرتح أن ّ
وأنا
اجتامع اليومّ ،
ِ غرضها الكامل منوشك حتقيق ِِ كالمها؛ تشعر ّأنا عىل
قدمة عليه، ِ
حقارة ما هي ُم ٌ أدارته بالكامل لصاحلها ،لكنها ترى اآلن مدى
روحها التي فقدتيبصق عىل وجهها وحيدّ ثها عن بشاعة ِ ُ وترى ماندريك
تتحجج هبا
ّ أي رمادية
كل براءة املايض .كانت اخلطوة التالية هي ما س ُيزيل ّ ّ
لبس فيها.
يف تربير أفعاهلا ،وسيجعلها سوداء خالصة ال َ
هن أعطانا مكاسب تضحيتهن هبا ًء؛ فمقت ُل ّ
ّ قتلن مل تذهب
“الفتيات اللوايت َ
ُ
جلي أكثرً ،
قائل: ريا حفيظ َة ّ
الر ْ حاكم األرض عىل كالمها مث ً
ُ كثرية” .أ ّمن
املتوحشني عديمي
ّ “نعمَ ،
عرف العامل أنّنا ندافع عن أنفسنا ضدّ جمموعة من
أقرتح تكرار
ُ أن ابتلعت ريقها“ :أنا بالفعل قالت هريمني بعد ِ
األخالق”ْ .
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
155
املخطوفات من احلوامل،
ُ ريا ،أقرتح أن يكون
العملية لكن بشكل أكثر تأث ً
ثم يرتكن لينزفن أمام الكامريا ح ّتى
بطوهنن ،وتقتل األجنةّ ،
ّ وأن ُتفتَح
املوت؛ هكذا لن ّ
يفكر أحدٌ يف االعرتاض عىل ّ
أي إجراء انتقامي نقوم به”.
املتقززة من بشاعة الفكرة .تبادلت نظرة حمتقرة
تعبريات وجوههم ِّ تأ ّملت
مع حمافظ اجلنوب الذي قالّ :
“إن الفكرة ُمفزعة ح ّتى بمقاييس عائلتك يا َ
يضغط عىل حروف كلامته ،فاحتدّ ت عليه هريمني ُ هريمني” .قاهلا وهو
ثم قال
مجيعا بالصمتّ ،
احلاكم ً
ُ تطلب عو َنه .أشار هلم
ُ ونظرت للحاكم كأهنا
مهمة يف الدولة” .ابتسمت بظفر،له“ :ينبغي أن ال تقول كال ًما كهذا ملسئولة ّ
احلاكم هلا ،وقال“ :غري ّ
أن عملية كتلك ُ لكن ابتسامتها تالشت حني نظر ّ
أرضيني مأجورين يقومون
ّ ري هلا عىل الطريقة السابقة ..نريدُ
يصعب التحض ُ
ري منهم”.
أن أناندار الصغري شقيقك لديه الكث ُ بالتنفيذ ،وأعتقد ّ
واضحا
ً َ
الرجل مل يمنحها فرصة ،وبدَ ا لكن
حاولت أن ترفض اقرتاحهّ ، ْ
وحل ذلك املستنقع الذي تقرتحه .قال غرس قدميها عمي ًقا يف ْ َ هلا أنّه يريد
ِ
مساعدة منظمة إجرامية يف تنفيذ عملياهتا ٍ
حكومة حتتاج أحيا ًنا إىل هلا :إن ّ
كل
ٍ
حدود ضيقة“ ..أنا عىل دراية وإنم يستأجرون خدمات شقيقها يف القذرةّ ،
بتجارته للتقنيات مع املرصيني ،والتي يقبض ثمنَها من املاس واملعادن
نتغاض عن أفعالهَ بأثامن باهظة ..نحن ٍ األرضية النادرة التي يبيعها يف أديتيا
تلك ألنّنا مل نثبتها ً
أول ،وثان ًيا ألننا نحتاج إليه أحيا ًنا كام قلت”.
وظهر عىل
َ أنت يا سيدي” .ضحك احلاكم ر ّدت هريمني“ :إ ًذا ،استأجره َ
ُ
حتاول التم ّلص بدون جدوى، ِ
حمافظ اجلنوب نظر ُة استمتاع وهو يراها وجه
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 156
ٍ
بطلب منك ،وال يتم
املوضوع بالذات أريده أن ّ
ُ واحلاكم ير ّد ً
قائل“ :هذا ُ
ُ
فامليزانية مفتوحة” .يف النهاية مل جتد بدًّ ا من القبول تقلقي بالنسبة للتكاليف
مهمة كتلك،
تنفيذ ّابتالع كرامتها والطلب من أخيها َ ِ وأنا ُمربة عىل
باألمرّ ،
ليمنعها من مفاحتتِه ثانية يف ترك األعامل
َ وهي تعلم أنّه سيستخدمها ضدّ ها
اإلجرامية واالكتفاء باالستثامرات الرشعية.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
157
23
(ميساء) يف جلستِها بصعوبة وهي مازالت تتعاىف من إصابة اعتدلت ْْ
املقار التابعة لكتائب احلرية يف
أحد ّ ساقها يف العملية األخرية .كانت راقد ًة يف ِ
مقار عملها السابقة.
حديث خيتلف متا ًما عن ما عهدته يف ٌّ شقة نظيفة ،أثا ُثها
لديا إمكانيات أفضل من كتائبها، ُ
املقاومة التابعة ألبيها وماندريك ْ كانت
تفو ٍق كبرية؛ تتدفق
فوجود املئات من ال ّنياندرتال يف صفوفهم ُيعطيهم نقطة ّ
األم ،إضاف ًة إىل قدرهتم عىل
عليهم التقنيات وال ّتجهيزات من كوكبهم ّ
حتت ستا ٍر من مهن أخرى ُمعلنة ،والتزاوج مجيعا َ
املراوغة بفضل عملهم ً
املتكرر بني برش من املقاومة وزميالهتم األديتيات.
ّ
فإن تلك العملية كانت رغم إصابتها يف أثناء حترير (معاذ) وزمالئه؛ ّ َ
أسعد العمليات التي قامت هبا ُ
منذ التحقت باملقاومة .كان معها أبوها ِ من
نجح يف إزالة مرارة سنوات من اخلالف بينهام
يقاتل جن ًبا إىل جنب؛ شعور َ
األزلية يف اخلروج من عباءته .شعرت ً
أيضا ّأنا بقتاهلا ّ وشعورها برغبتها
بالذنب الذي كانت تعاين منه اجتاه ِ
إحساسها ّ ريا منوإصابتها قد قللت كث ً
إحساس
ٌ تسببت يف قتل زوجته.
(معاذ) الذي استدرجته ،و(حبيب) الذي ّ
بالذنب مل تفلح يف إزالته حماوالهتا إقناع نفسها ّأنا يف جانب اخلري ،وتأكيدات
أن مقاومي كتائب احلرية مارقون ح ّتى ْ
وإن كانوا حياربون العدو نفسه. قادهتا ّ
ريا يف تلك العملية ،وقاتلت بشجاعة ومل هتب املوت؛ بل
دورها كب ً
كان ُ
ريها أحيا ًنا تلك النظرة استعدّ ت ملالقاته بع ٍ
ني مفتوحة .مازال يشغل تفك َ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 158
وجه ذلك الضابط ،ذلك اخلائن ألهله وبلده الذي املرتددة التي رأهتا عىل ْ
فأحس
ّ يقاتل حتت راية األعداء .ملاذا تراجع؟ هل دامه ْته دفقة من الشّ هامة
يصح أن يقتل امرأة هكذا؟ إ ًذا ،ما الذي كان سيفع ُله لو نجح يف القبض
أنه ال ّ
عليها هل كان سري ّبت عليها ويطالبها بعدم تكرار محاقاهتا؟.
قص عليها حكاية ذلك الرجل ،وكيف أن باألمس ،حني زارها أبوها ّ
صاحلا فيام مىض ،وأنه كان يعرف والده األستاذ عالء ً (باسل) كان شا ًّبا
الشعراين ا ُملعارض البارز ،والذي قىض نح َبه يف السجن ألنّه كان “يدافع عن
ضحايا النظام ا ُملستبد” طب ًقا ألبيها .يفعل أبوها كام يفعل الكث ُ
ري من الروائيني
ٍ
واحد يوضع يف ظروفه نفسها أي
إن ّأمثاله؛ يتلمس العذر للمجرم ،ويقول ّ
يترصف نفس ترصفه ،وأن شا ًّبا مات أبوه وهو َمسجون ً
ظلم ،وماتت أ ّمه قد ّ
وبمن فيه.
من الفاقة ينبغي أن ال نتوقع منه غري الكفر بالوطن َ
ريا يف تلك النقطة ،فهي ال تريد أن تعكر صفو ْ
حتاول أن جتادل أباها كث ً مل
املرحلة اجلديدة يف عالقتهام ،رغم ّأنا ال تزال تتساءل هل مهادنته ورفاقه
تلك حقيقة ،وهل اقتنعوا فجأ ًة بعد سنني من املامنعة ّأنم ال بدّ أن ينضموا
األسباب التي جعلته يقبل بذلك،
َ ٍ
خندق واحد .رشح هلا أبوها إىل دولتهم يف
عن مناضلني وصلوا يف ال ّنهاية إىل القناعة ّ
بأن ما ال يؤخذ قصصا ْ
ً وحكى هلا
اعرتف بح ّقك ،فال َ
مانع من أن َ غريمك قدُ كله ال يرتك كله ،وأنه مادام
تساحمه وتفتح معه صفحة جديدة يقدّ م كالكام فيها بعض التنازالت.
طمعا يف
تشعر بتناقض يف أفكارها جتا َه أبيها حني خيطر بباهلا أنّه ربام قبل ً
ُ
بغصة ال تدري سببها حني تفكر ّ
أن مثالية تشعر ّ
ُ ٍ
منصب ما بعد إمتام التحرير.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
159
ري حفيظتها باملناسبة -ليست موجودة، أبيها الصافية تلك -والتي كانت تث ُ
األمور بمقياس العقل ،وحيدّ د ما األهداف
َ كأي رجل يزنرجل عاقل ّوأنّه ٌ
ثم تعود ّ
فتذكر نفسها بأهنا كانت دو ًما تقول الواقعية وما األهداف اخلياليةّ ،
نجحت بينه وبني أ ّمها
ْ فن ا ُملمكنّ ،
وأن الرومانسية التي إن السياسة هي ّله ّ
ليست موجودة يف املقاومة واحلرب.
كانت تق ّلب يف القنوات التي تعرض عىل الشاشة الفراغية املنتصبة أمام
أي يشء يسليها حني دخل عليها (سمري) .جلس ُ
تبحث عن ّ فراشها وهي
عىل الكريس املجاور لفراشها وهو يسأل عن حاهلا ،وهل مازالت إصابتها
مؤملة إىل آخ ِر تلك األسئلة العادية ،وهي جتيب ّأنا بخري ،وتنظر إىل ك ّفه
كأنام عادا غريبني ال
ثم ترتاجع ّتقرتب لرت ّبت عىل كتفهاّ ،
ُ املرتعشة وهي
يصح بينهام أكثر من التحية باللسان.
ّ
الشاشات الفراغية تثري دهشتي ،ال أعرف كيف ال ُ “مازالت تلك
ً
حماول أن جيدَ ثغرة جمرد ضوء يف اهلواء” .قاهلا تشف ما وراءها رغم ّأنا ُ ّ
مثل رجلٍ يع ّلق عىل أحوال الطقس أو آخر أخبار يف اجلدار اجلليدي بينهام َ
اعتدلت يف فراشها
ْ ممثيل السينام ،ور ّدت هي بدورها بفتو ٍر مؤ ّمن ًة عىل كالمه.
ري
وشك االستغراق يف النوم ،راجية أن يفهم ّأنا غ ُ ِ بطريقة توحي أهنا عىل
راغبة يف استكامل تلك الزيارة.
واستمر يف حماوالته البائسة
ّ زفرت يف ضيق حني مل تص ْله رسالتها ّ
املبطنة، ْ
وجوده حوهلا يسحب األكسجني من اهلواء ُ لفتح موضو ٍع للحديث .صار
أي يشء يبعدها عنه .يف ال ّنهاية قالت له رصاحة ّإنا
ترغب يف فعل ّ
ُ وجيعلها
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 160
يلملم بقايا كرامته َ
دون أن يتكلم .مل تكرهه لك ّنها ُ تنام فانرصف تريد أن َ
وقت كانت حتتاج فيه للحب؛ ٍ بحبه يف
أومهت نفسها ّ
ْ اكتشفت فجأة أهنا
وقت كانت تعيش فيه وحدة قاتلة ال أب وال أم وال صديقة تفهمها وحتكي
ألنا استندت عليه يف ٍ
وقت مل جتد فيه َمن يسندها، أحبته ّ
معها عن مشاكلهاّ .
جمر ُد امرأة فرضها أه ُله عليه حني
وأن زوجته هي ّوألنا صدّ قت أهنا احلبيبةّ ،
ّ
ً
وحاصل عىل تعليم متواضع. ريا
كان صغ ً
حبها له وجتاهلت بنت عليه ّ
لكن األساس الذي ْ صدّ قته حني قال ذلكّ ،
بسببه ّأنا ستكون زوج ًة ثانية هتدم حنيَ سمعت تلك النربة املتهدّ جة
اجل َ
مل والصوت النابع من القلب الذي كان يتك ّلم به مع زوجته ،ويقول ُ
نفسها التي قاهلا هلا .إذا كان صاد ًقا يف الكلامت اليل كان يقوهلا لزوجته،
امرأتي بالقدر نفسه ،وإذا كان كاذ ًبا
ْ ري ُمقتنعة بأنه يستطيع أن حيب
فهي غ ُ
متثيل تلك اللهجة الصادقة النابعة من القلب ،فتلك مصيبة ،وذلكويستطيع َ
رجل ال يمكن أن َ
يؤتن عىل قلبها. ٌ
قفزَ (باسل) إىل ذهنها فجأة ،وعادت إىل ذهنها نظرته هلا وكأنّه قد ُصدم
وكأن القذائف من حوله توقفت ّ حنيَ رآها .كان حيدّ ق يف عينيها كاملسحور،
نيس ما كان يفعله ،ور ّبام كان تراجعه عن قتلها سببه ّ
أن ثمة مكانا ،وكأنه َيف ِ
ِ
أرضت الفكرة أنوثتها املتوارية ابتسمت وقد
ْ ريه. سحرا يف عينيها ّ
شل تفك َ ً
جمرد خائن خادم للغزاة.
أن ضحية عينيها هو ّ رغم ّ
َ
ورفع إضاء َة الغرفة التي كان (سمري) قد خفضها
َ َ
دخل عليها ماندريك
جلس جوارها عىل املقعد نفسه الذي غادره (سمري) لل ّتو
َ بناء عىل رغبتها.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
161
ري ُم َتعبة ،وأنّك طلبت منه املغادرة”.
وهو يقول هلا بمرح“ :أنا أعرف أنّك غ ُ
يفعلن مثل هذه
َ النساء عندكم
ُ ضحكت وهي تسأله كيف عرفت“ :هل
هز رأسه مؤكدً ا أن هذه هي احلقيقة.
األشياء؟”ّ .
قدر كبري من
أن العالقة بني الرجل واملرأة عندكم فيها ٌ “ما أعرفه هو ّ
احلرية وال ّتعدد” .قالت وهي تفتح الشاش َة ثانية وتق ّلب القنوات لتظهر قناة
نفرق بني
“األمر ليس هبذه البساطة ،نحن فقط ّ ُ األخبار .قال ماندريك:
جمر ُد ممارسة حمبوبة
احلب ..العالقة اجلسدية عندنا ّ
العالقة اجلسدية ومشاعر ّ
احلر فوق السهول ،ليس هلا ذلك َ
مثل تناول طعام لذيذ أو ُمارسة الطريان ّ
ري مقتنعة وهي تقول ّإنم برشرأسها غ َ
هزت َ البعد النفيس املوجود لديكم”ّ .
نحب ،ويكرهون ما نكره.
حيبون ما ّ
مثلناّ ،
نحب هلا إحساس ّ فإن ممارسة العالقة اجلسدية مع َمن “لو أردت الدق َة ّ
مثل يتزاوجنُمتلف ،فهو أكثر خصوصية ..اإلناث عندنا يف أيام التبويض ً
أمامهنّ ،إل إذا كانت يف عالقة حرصية ،عندها هتلك ّ مع أي ذك ٍر يظهر
تضطر لتحمل اآلالم اجلسدية الفظيعة التي تعرتهيا ّ زوجها يف الفراش ،أو
ولدت من
ْ رسها عىل أهنا ِ
ومحدت اهلل يف ِّ إذا كان رجلها غائ ًبا” .مل تر ّد عليه،
علامء ال ّتطور لديكم
ُ قائل“ :ربام كانعرق خمتلف .فأكمل ماندريك كال َمه ً
ُم ّقون ،وأنّنا نوعان خمتلفان؛ نحن هومو نياندرتاليس ،وأنتم هومو سابينز”.
ثم خطر املسميات املعقدة ّ ُ
تشغل باهلا بتلك ّ مطت شفتيها عالم ًة عىل أهنا ال ّ
تزاوج بيننا؟
ٌ نوعي خمتلفني من الكائنات كيف يصري ْ بباهلا سؤال ..إذا ك ّنا
الذئب والكلب..
ُ ُ
احلصان واحلامر ويتزاوج فضحك وهو يقول“ :مثلام يتزاوج
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 162
فإنا تغار عليه أحبت ً
رجل ّ أن املرأة عندنا إذا ّ ُ
اخلالصة ّ دعك من ّ
كل هذا،
امرأة أخرى ،وإذا عرفت ّ
أن حبيبها قد التقى مع أنثى ٍ من أي عاطفة جتاه
تكرار املامرسة مع
َ فإنا تقيم الدنيا وال تقعدها ّ
ألن مرات متتالية ّ أخرى َ
ثالث ّ
الشخص نفسه ينذر باحلب ،و.”..
ظهرت عىل الشاشة ُ
قاعة جملس األمن يف األمم املتحدة، ْ قطع كالمه حني
َ
رئيس اجللسة وهو يعطي الكلم َة هلريمني التي جيلس جوارها مساعد
وظهر ُ
َ
تسميه بانتهاك املرصيني لالتفاقأريض .كانت تتحدّ ث بانفعال عن ما ّ
وتغي مالحمه حني ظهرت هريمني عىل ّ (ميساء) صمته الحظت ْ
ْ بينهم.
سكنت قلبي حني ك ّنا يف مقتبل
ْ السبب ،فقال“ :هذه املرأة الشاشة ،سألته عن ّ
احلب مشهور
أليس هذا النوع من ّ رغم حماواليتَ .. العمر ومل خترج منه لآلن َ
احلب الذي يضعك يف ٍ
حالة من الرصاع الدائم بني لديكم”! كان يعني ذلك ّ
كل أفعالِه ،حني ترى ّ
حبك له وأنت تكره ّ َ حتب إنسا ًنا
أن ّقلبك وعقلك؛ ْ
وكل ما تؤمن به. لكل مبادئكّ ، نوعا من اخليانة ّ
ً
جترب ذلك النوع من املشاعر ،وتعتقد ّ
أن أصحاهبا (ميساء) فهي مل ّ
مل تر ّد ْ
ضعفاء مهزومون من الداخل ،ولذلك مل تر ّد عليه خماف َة أن جترحه .حاولت أن
ُ
جلوس ذلك اخلائن إىل جوارها..
ُ تغي املوضوع فقالت“ :ما يغيظني ح ًّقا هو ّ
صف أعداء وطنه” ضحك اإلنسان حيارب يف ّ َ سبب يف الكون جيعل
ال يوجد ٌ
أن هذا الكالم يقولونه ع ّني يف وطني”. ماندريك وقال هلا“ :الحظي ّ
ارتبكت وهي تقول إن وضعه خمتلف ،وإنه يدافع عن احلق ويقف إىل ْ
جوار الضعفاء يف مواجهة الغزاة فقال هلا“ :لست ً
مالكا ..يل أسبايب أنا ً
أيضا،
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
163
الغزو بطريقة خمتلفة أو حجج أخرى لكنت معهم”. ُ تم هذا
وقناعايت ،ر ّبام لو ّ
مثل والدك ّ
أن قائل“ :أنا أرى َ
وتوجس ،فأكمل ً ّ ٍ
دهشة عقدت حاجبيها يف
وإن كنت أدافع عن مبادئي بدميّ ،إل أنّني ال ٍ
إنسان ظروفه ،وأنّنيْ ، ّ
لكل
ملجرد أنّه عىل الطرف اآلخرِ ،
وإن أفرتض أن َمن خيالفني يستحق القتل ّ
يسعدين”. اضطررت للقتل فينبغي ْ
أن حيزنني ذلك ال أن ْ
***
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 164
24
ً
مطعم جديدً ا لتتناول فيه يف أمسيتها األسبوعية ا ُملعتادة ،اختارت كمريدا
السابق الذي كانا فيه حني العشا َء مع (باسل) بعدَ أن تشاءمت من املطعم ّ
مر عليها يومان َعصيبان مل ْ
ترتك جوار املهمة التي أصيب فيهاّ .
انرصف إىل ّ
األطباء أنّه حمظوظ ،وأنّه لو تأخر
ُ فراشه فيهام ح ّتى َ
متاثل للشّ فاء .أخربها
قض نح َبه. عدة دقائق يف الوصول إىل املستشفى لكان قد َ
حيتل ناصي ًة قريبة منه يف هناية شارع أقل فخام ًة من سابقه ّاملطعم ّ
ُ كان
قديم “البطل أمحد عبد العزيز” .كان أحد تلك الشوارع يطلق عليه ًُ كان
الطبقة الوسطى ،أو أديتيات من ذات غالبية من األديتيني من ّ
ٌ التي تقطنها
الدرج مع (باسل) إىلَ صعدت كمريدا
ْ أرضيني .حني
ّ الطبقة متزوجات من
جلسا
تغيا عىل وجهه ،انتظرت ح ّتى َ الطابق العلوي من املطعم الحظت ّ ً
املطعم ال يعجبك؟”َ .
جال بعينيه يف ُ ثم سألته“ :ما بك ..هل
عىل الطاولة ّ
“تغي ّ
كل ثم قالّ : املكان وهو يتأمل األسقف واجلدران وشكل العاملنيّ ،
خر منالصغر ،ك ّنا ندّ ُيشء هنا ..هذا املطعم كان ُملتقاي أنا وأصحايب أيام ّ
مرصوفنا لنأيت إىل هنا ُ
نأكل البيتزا ونشاغل الفتيات”.
ٍ
بابتسامة اغتصبتها من شفتيها املتوتّرتني“ :ال يشء يبقى عىل حاله”. قالت
أتت من عكا يف زيارة
استضافت صديقتها التي ْ
ْ ّ
تذكرت اليوم السابق حني
حتولت منإن عكا ّتذكرت ضي َقه من صديقتها حني قالت ّ
عمل قصريةّ .
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
165
نموذج للمدن األديتية اجلميلة .ر ّد يو َمها بحدّ ة“ :عكا
ٍ مدينة إرسائيلية إىل
مدينة عربية كانت كذلك َ
قبل جميء اليهود، ٌ مل تكن يو ًما إرسائيلية؛ عكا
إن كان اآلن يعرتف وظ ّلت كذلك بعد احتالهلم هلا” .وقتها سأل ْته صديقتها ْ
ّأنا أديتية أم يعتقد ّأنا ال تزال عربية ،فارتبك وقال“ :أديتيا أمر ُمتلفّ ،إنا
كل َمن عىل أرضها يف كيان واحد وتعامل اجلميع بدون تفرقة”. بوتقة تصهر ّ
إن كان يصدق يف حلظتَها مت ّنت لو كانت تستطيع قراءة أفكاره ،وتعرف ْ
ِ
ملداراة موقفه .ليلتها سأل ْته عىل استحياء عن ما ِ
كالمه عن أديتيا أم يقوله
ٍ
حرف قاله ،وأنّه “تر ّبى عىل تسمية إرسائيل فأكد هلا أنّه كان يعني ّ
كل يقلقها ّ
عروبيا
ًّ َّ
املتوف كان بالكيان الصهيوين وعد ِم االعرتاف بوجودها”ّ ،
وإن أباه
االستعامر يف قلب
ُ ٌ
رسطان زرعه أن إرسائيلالصغر ّ
قوميا غرس فيه منذ ّ ًّ
أديتيون
قائل“ :كان هذا يف املايض ،نحن اآلن ّ ثم ختم كالمه ً اجلسد العريب ّ
كعمر إرسائيل
يمر عىل نشأهتا ثامنني عا ًما ُ ٍ
عادلة حتتوي اجلميع حني ّ يف دولة
أغلب سكاهنا أصحاب أصول ُمتلطة ،ال يوجد عريب وال تركي وال ُ سيكون
هيودي؛ فقط أديتيون”.
بكالمه ليلتها لك ّنه اآلن يعود ف ُيقلقها بكالمه عن املايضِ نامت قانعة
ْ
طمئنًا“ :افهميني أحس (باسل) ِ
بقلقها فقال ُم ْ قبل الغزوّ . وشكل هذا املطعم َ
أي إنسان ،لو مل تقم ٌ
صفة طبيعية يف ّ يا عزيزة القلب ..احلننيُ إىل املايض
وتغي فقط هذا املطعم؛ كنت سأشعر بذات أديتيا وظ ّلت املهندسني كام هيّ ،
وغابت عنه صحبتي القديمة ْ الدرجة من احلنني؛ بل لو ّ
ظل املطعم كام هو
فسأشعر باحلنني ً
أيضا ..املوضوع ال عالقة له بأديتيا”. ُ ون ْفيس القديمة
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 166
ثم قامت من عىل مقعدها وطبعت قبل ًة فرح طفويلّ ،
اتّسعت ابتسامتها يف ٍ
ثم أخذت رشفة عادت جللستها ّْ ضمها بقوة.
بأن ّعىل شفتيه ،أكملها هو ْ
ُ
جهاز االتصال قبل الطعامّ .
رن من الرشاب البارد الذي يتناوله األديتيون َ
معصمها لرت ّد عىل املكاملة .بعدَ حمادثة قصرية اخلاص هبا فضغطت عىل ْ
بقوة لدى رئيس ابتسمت وقالت له“ :السيدة هريمني وعدتني ّأنا ستتدخل ّ
ابتسم يف امتنان وهو يقول إنّه مل يكنَ قسم األمن إلعطائك هذه الرتقية”.
املهم أن تسأل رئيستها معرو ًفا كهذا لكنها أخربتْه بحامس ّأنا هي التيمن ّ
رب يف املستقبل.
وأنا تنوي إعطاءه منص ًبا أك َ ِ
تلقاء نفسهاّ ، فعلت ذلك من
تتحسس بطنها وهي تضحك قائلة: ّ قامت ببطءْ أن انتهت جلستهامبعد ِ
اجللوس بالداخل” .عقدَ حاجبيه بدهشةَ أن عالء الصغري قد ّ
مل “يبدو ّ
مستفهم “عالء؟!” .اتسعت ابتسامتها يف حبور، ً ختالطها ابتسامة وهو ير ّدد
حبا وهي تقول“ :كنت أريدُ أن أفاجئك تفيض ًُّ وامتألت عيناها بنظرة
وطبع قبل ًة عليه
َ باختياري هلذا االسم ،لكن لساين َس َبقني” .أمسك ك ّفها
وهو ُيبادهلا النظر َة نفسها التي تفيض بحب يمتدّ من اخلاليا أشع ًة متفرقة
تتجمع ح ّتى تصل إىل العينني لتخرج منهام وتيضء عىل وجهها. ّ
عرف امتدّ يف قومهم منذ قرون وصاراألم اسم املولودٌ ، ختتار ّ
يف أديتيا ُ
قانو ًنا يرسي عىل أهل األرض الذين يتزوجون من بناهتم .كان يقلقه أن
يعجز أحيا ًنا عن نطقها أو
ُ اسم عجي ًبا من تلك األسامء التي ختتار البنهم ً
دينيا مثل بارماجوها (أي خادم ماجوها) ،أو يشء
اسم ًّ األسوأ أن تطلق عليه ً
ً
عظيم حبها له عىل تراثها“ .أريده أن يكون ً
نبيل بت ّ يتعلق بديانتها لكنها غ ّل ْ
ً
وباسل مثل أبيه”. مثل جدّ ه،
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
167
نزلت معه عىل الدرج ببطء ُمستندة عليه وهي حتدّ ثه عن تفكريها يف ْ
بدل من االستعانة معهد رعاية الطفولة ًِ خرجياتاالستعانة بمر ّبية من ّ
بمجرد خادمة عادية ،وقالت ّإنا ستنفق منح َة املولود الذكر عىل الطفلِ
ُ
أعرف أنّك بالكامل“ .إ ًذا ،لن ننتقل إىل هريدافاديل؟” .سأهلا فقالت“ :أنا
لكن
تفعل ذلك كي تسعدين ّ ُ غري راغب يف االنتقال إىل هناك ،وأنّك كنت
حتب جيزافاديل ففيها
أعرف أنك ّ ُ األمر ال يستحق َ
إنفاق األموال عليه ..وأنا
نشأت”.
االسم الذي يطلق عىل مناطق اجليزة التي كانت جز ًءا
ُ جيزافاديل هو
مثلحي فيها أطلق عليه قطاع؛ فاملهندسني ً مهم ِمن القاهرة الكربىّ ،
وكل ّ ًّ
أماكن يسكن األديتيون
ُ صارت القطاع اخلامس ،والدقي القطاع الرابع ،وهي
يف أغلبها .حني أعا َد النياندرتال تسمي َة املناطق عىل األرض وضعوا يف
مقاطعا تنتمي للغتِهم األصلية ،فاملدن الكبرية تنتهي بمقطع
ً هناية األسامء
والتجمعات القروية تنتهي بمقطع “بشيل” ،أ ّما
ّ “فاديل” ،واملدن الصغرية
ً
حجم فتنتهي باملقطع “بنيل”. والصغرية
شكل ّ التجمعات احلرضية الراقية ً
جهازه الصغري الذي استدعى به َ أمام باب املطعم أفلت يدَ ها وأخرج
َ
ثم عاد يمسك يدَ ها وهو ينتظر املركبةَ .
مال عىل أذهنا فاقرتبت ظ ًّنا مركبته ّ
عض شحمة أذهنا برفق ،فانفجرت يف سيهمس هلا بيشء ما ،لك ّنه ّ
ُ منها أنه
أقع يف هذه اخلدعة” .مل تكدْ ُتكمل مجلتها ح ّتى
الضحك وقالت“ :كالعادة ُ ّ
رجلي ملثّمني خيرجان من مدخل البناية
ْ اتّسعت عيناها يف خوف وهي ترى
فجأة ويقرتبان نحومها.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 168
فالتفت ،ولك ّنه مل جيد الوقت الكايف إلبداء ر ّد فعل
َ انتبه (باسل) لنظرهتا
ً
أسالكا معدنية الت ّفت مناسب .أطلقت شهق ًة عالية حني ألقى عليه امللثّامن
ثم رك َله أحدمها يف رأسهوكبلت حركته ،فسقط عىل األرضّ ، عىل ساقيه ّ
ويكبل ذراعيها من اخللف .حاولت أن ّ بعنف قبل أن هيجم عليها الثاين
جراء الركلة العنيفة.
فمه ّ تقاو َمه وعيناها معلقتان بباسل الذي ينزف من ِ
ملثمي
ْ ٌ
مركبة غريبة ووقفت أما َمها مبارشة ،ورأت داخلها اقرتبت
دفعها امللثم الذي يمسك هبا ّاتاه املركبة .كان يبدو من طوله أنّه
آخرينَ ،
جمال للحركة أو للتملص قوي البنية مل يرتك هلا ً َ
مفتول اجلسم َّ أريض ،وكان
ِ
بجسده عىل امللثّم الثاين ُ
يعتدل ويقذف منه .نظرت اجتاه (باسل) فوجدته
ثم يعترص رقبتَه بذراعه وهو ُ
ويمسكه بكلتا يديهّ ، فيسقطه عىل األرض
يرصخ طال ًبا منهم أن يرتكوها مقابل صديقهم.
نفسه عنا َء االلتفات أو
امللثم الضخم الذي يمسك هبا ،ومل يكلف َ
جيب ُ مل ِ
ِ
استنقاذ زميله من بني ذراعي (باسل) ،وإنّام دفعها يف املركبة ورصخ حماولة
قادر عىل التخلص من (باسل). أن زميلهم ٌ ّ
ومؤكدً ا ّ آمرا قائدَ ها باالنطالق،
ً
التملص بدون جدوى ،ح ّتى أسكتها
َ أخذت ترصخ يف هيسرتيا وهي حتاول
امللثم برضبة عىل رأسها أفقدهتا الوعي.
ُ
رأت نفسها يف كوكب أديتيا تتس ّلق إحدى اهلضاب املعشبة املحيطة
ْ
بمدينتها األم .وصلت يف تس ّلقها إىل أرض فسيحة مرتفعة بام يكفي لرتى
َ
الساحل الذي ُ
أطراف مدينتها تالمس مدينتها بالكامل من أعىل .كانت
العشب
بيدها قبضتني من ُاستقرت عليه ثالثة أهرامات متجاورة .أخذت ِ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
169
رأت نفسهانزلت ُمرسعة .بعد ذلك ْ ثم ْ الذي يكسو األرض التي جتلس فيها ّ
ففلتت
ْ قدمها
سفح اهلرم تتسلق حجارته وهي ترى البحر أما َمها .انزلقت ُ
عند ِ
ّ
اختل توازهنا السقوط.من يدها حزمة من العشب وهي تستند هبا لتتجنب ّ
بيد ويمدّ يده األخرى بحزمة رغم ذلك ،لك ّنها وجدت (باسل) يسندها ٍ َ
العشب بني حجارة اهلرم وقالت له إهنا
َ ِ
غرست العشب التي سقطت منها.
ويغطي اهلرم .فتح (باسل)ّ املطر كي ينبت العشب
ستجلس معه ينتظران َ
ُ
ُ
ترصخ نبتت من العدم قذفت به إىل األسفل وهي لكن يدً ا غليظة ْ
فمه ليتكلم ّ
وتشاهده يرتطم باحلجارة .دفعتها اليدُ الغليظة هي األخرى لك ّنها تشبثت
وجسدها معلق يف اهلواء .ذراعاها متسكان بقوة ،وقدماها حتاوالن الوقوف
آالم ذراعيها ،لكن بدونأي أرض لتتحمالن وزن جسمها وخت ّففان َ عىل ّ
اهلرم والبحر ،وظهر
ُ آالم ذراعيها تتزايد وفجأة انتبهت ،اختفىجدوىُ .
وجه قميء يبتسم يف فظاظة.
أمامها ٌ
ورجحت أنه هو نفسه خاطفها .بدأت تنتبه أرضيا ،ضخم اجلثةّ ، ًّ كان
ملا حوهلا ،كانت واقفة وذراعاها مع ّلقان فوق رأسها بحبلٍ ّ
مثبت إىل جنزير
مدل من السقف .عىل يمينها كانت امرأ ٌة معلقة بالطريقة نفسها، حديدي ّ
جدرانا رمادية
ُ ٍ
قاعة فسيحة وعىل يسارها امرأتان .كان املكان عبارة عن
جلس عليها رجالَ ال يوجد فيها أي تفاصيل ،خالية سوى من عدّ ة مقاعد
تكومت عليها أسلحة منوعة. يتحدثون ،وأمامهم طاولة صغرية ّ
أي تعاطف معك” ،قاهلا وهو “زوجك قتل زمييل ،وهذا ٌ
كفيل بأن يزيل ّ ُ
التقيئ .مت ّلكها الفزع وهي تفكر ُ
توشك عىل ّ يقرتب بأنفاسه من وجهها ما جعلها
ُ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 170
يف ما ينويه هؤالء ،لك ّنها حاولت أن هتدئ نفسها وهي تقول ّإنم اختطفوها
بأسى ،وهي تعرف ّ
أن هريمني لن تتوانى عن لسبب ما ،قد ي ْنتوون استبداهلا ْ
ثم قالت إن (باسل) سوف جيدها َ
قبل أن جيدوا ح ّتى فعل أي يشء إلنقاذهاّ ،
ِ
بجثة َ
سوف يقتلهم واحدً ا واحدً ا ،وسوف يرتكها متثل فرصة لطرح مطالبهم
هذا الضخم البغيض.
حتولت إىل ِ
املرأة عىل يسارها ما لبثت أن ّ صوت أنّة من
ُ تناهى لسمعها
وتوسالت بأن يرتكوها .انتبهت يف تلك اللحظة إىل ّ
أن املرأة ّ ٍ
رصخات فزعة،
مجيعا حوامل،
أهنن ً
ُح ْبىل هي األخرى ،نقلت نظرها لألخريات فوجدت ّ
ومجيعهن من األديتيات.
ّ
انتب َه ُ
بقية النساء وتناو ْب َن األنني والرصاخ والتعبري عن فزعهن ،وحاولت
فكتمن أصواهتن
َ ُ
الرجل فيهن هتدئتهن بدون جدوى ،ح ّتى رصخّ هي
وخاصة أمثالكنّ أصاب بالصداع من رصاخ النساء، ُ داخل حلوقهن“ .أنا
منكن يعلو صوهتا سوف أعاق ُبها بام تستحق” .قاهلا
ّ من القردة ..أي واحدة
بلهجة ُميفة وبصوت خشن َ
أقرب إىل العواء ،وهو يشري بآلة طويلة يف آخرها
إحداهن فرتاجعت يف فزع وهي تتوسل إليه.
ّ قربه من وجه
طرف ُملتهب ّ ٌ
أحد رفاقه فخرج من الباب الوحيد يف القاعة وأحرض أشار الرجل إىل َِ
ثم أشار َ
ضغط عىل عدّ ة أزرار يف جهاز أمامه ّ ثم
كامريا نص َبها عىل الطاولة ّ
أمام الكامريا ،الضخم أمام
الضخم لثامه هو وآخران ،ووقفوا َ بيده فارتدَ ى ّ
ُ
رجل أشار
َ النساء ،واآلخران عىل اليمني واليسار ُمتق ّلدين أسلحة عتيقة.
الكامريا هلم وهو يقول“ :استعدّ وا ،أنتم عىل الشبكة بعدَ ثالثة اثنان واحد.”..
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
171
25
كل مكان تتابع ذلك الفيديو ِ
الشاشات يف ّ مسمرة عىل ُ
العيون ّ كانت
حارسها
ُ الذي يبثه امللث ُّم الضخم .هريمني يف مكتبها وإىل جوارها (لؤي)
لطفلها املستقبيل( ،باسل) وهو يف عمله ِ وفحلها الذي اختارته ليكون أ ًبا
(ميساء) يف
شخصية اخلاطف الذي استطاع قتلهْ ، ّ جيري بح ًثا ليتعرف عىل
رجل أريض وزوجته األديتية التي هتدهد مشفاها وأبوها جيلس إىل جوارهاٌ ،
طف َلها اهلجني الذي ال يكف عن البكاء ،وغريهم كثري.
ينظر للرجل وهو يتحدّ ث عن قسوة الغزو وبشاعتهّ ،
وأن اجلميع كان ُ
يتم الرد عليهم بأبشع الطرق التي يمكن فع ُلها ،عن األجنة
الغزاة ال بدّ أن ّ
ٍ
كائنات ممسوخة ينبغي يف بطون األديتيات الذين يعتربهم هو وزمالؤه
فبدت خلفه وجوه
ْ التخلص منها .كانت بؤر ُة الكامريا ّ
مركز ًة عىل وجهه،
أهنن أربع منتفخات البطون ،واقفات وقدوإن بدا للجميع ّ ال ّنسوة مشوشةْ ،
ع ّلقت أذرعهن إىل األعىل.
ارتشفت هريمني ما تب ّقى من رشاهبا دفع ًة واحدة وهي تتابع املشهدَ يف مجود
ْ
أي خلجة .كانت راضي ًة عن إخراج املشهد وعن أن تظهر عىل وجهها ّ دون ْ
تشعر مع ذلك
ُ طريقة امللثّم يف احلديث التي بدت ُمقنعة متا ًما ،ولكن كانت
معدتا ممّا هو متو ّقع احلدوث اآلن .قال امللث ُّم بلهجة حاسمةِ باضطراب يف
لعهد جديد من ال ّتعامل معكم يا كائناتٍ “ما سنفعله هبؤالء ال ّنساء هو ٌ
بداية
ِ
الواقف عىل يسار النسوة املعلقات. ما َ
قبل التاريخ” .قاهلا وأشار لزميله
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 172
مرره أمامريا ّ
الرجل الذي أخرج من حزامه سكينًا كب ً ِ
اقرتبت الكامريا من ّ
انكتمت رصخاهتا من الصدمة“ .سيذبحها ْ تنظر يف هلع وقد
وجه الفتاة وهي ُ
ْ
امللعون” قاهلا (لؤي) بغضب واشمئزاز ،ومل تر ّد هريمني فهي تعرف أن ما
يمزق بسكينه َ
الرجل ّ حافظت عىل مجود وجهها وهي ترى
ْ سيفعله أسوأ.
حيرك سكينه يف اهلواء يتحسس أسفلها وهو ّ
ّ ثم مالبس املرأة من ِ
فوق بطنها ّ
جمر ُد
ألنا تنال من جدية املشهد ،وتوحي بأنّه َّ
بحركة استعراضية أغاظ ْتها ّ
سادي جمنون.
وأحست بثقل أنفاسها ّ اضطربت مالحمها وتسارع ُ
نبضها ْ رغم عنها ً
َ
وأسقطه عىل األرض، وهي تشاهده يشقّ بطن املرأة ح ّتى أخرج جنينها
والدم ينزف من بطن املرأة بغزارة َ
قبل أن تفقد ُ ورصخات النساء تتصاعد،
ُ
ُ
تقذف ما يف بطنها حني نقلت الكامريا صورة اجلنني الوعي .كادت هريمني
ثم هتمد حرك ُته ،وشعرت حلظتها الذي كان مكتمل املالمح وهو يتق ّلب ً
قليل ّ
عادت تقول لنفسها ّ
إن الرضورة جتيز املمنوع. ْ ِ
بفداحة ما اقرتحته لك ّنها
هلعهن واحدة تلو األخرى،
ّ ِ
انتقلت الكامريا بني وجوه ال ّنساء ل ُتظ ِهر
رصخت هريمني يف هلع حني اكتشفت ّ
أن ْ وصلت للمرأة الثالثة،
ْ وعندما
ُ
أسحقك كمريدا ضمن املخطوفات “كمريدا!! ال ..ال ..أهيا احلقري سوف
بيدي ..أوه كمريدا” .مدّ (لؤي) يدَ ه ليحاول مواساهتا فدفعته بعيدً ا ورصخت
اعتذاره عن خطأ
َ مكررا
ً خرج مستجي ًبا هلا فيه أن خيرج ويغلق الباب وراءهَ .
ال يعرفه ،وضغطت هي جهاز االتّصال يف معصمها حماول ًة التحدث إىل
شقيقها بدون جدوى.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
173
والدموع تنساب من عينيها وهي تقول“ :كمريدا
ُ أخذت تتابع املشهدَ
مسها سوء ،أقسم ّأن سأذبحك بيدي”.
العزيزة ..الربيئة ..سوف أقتلك لو ّ
انتقل املشهدُ إىل الرجل الضخم ثانية ،والذي قال“ :سوف ُ
نقتل امرأة ّ
كل
الزجيات املختلطة،
كل ّأمرا بإلغاء ّ
ست ساعات ما مل تصدر حكوم ُتكم ً ّ
فسنكررها ونقتل غريهن ،وليعرف
ّ ومنع أي زجيات قادمة ،وإذا مل تستجيبوا
ريا ولكن للصرب هناية”.
اجلميع أنّنا انتظرنا كث ً
ُ
تو ّقف الفيديو وأخذت هي ّ
تتجول يف الغرفة كنمرة حبيسة ،تقول لنفسها
“ملاذا اختارها هي بالذات! ّإنا أكثر براءة من اجلنني املوجود يف بطنها ،أليس
مكان يف هذا العامل القذر؟” .جلست عىل كرسيها وأسندت رأسها ٌ لألبرياء
ْ
“أنقذها يا ماجوها ..إن ِ
االنتحاب وهي هتمس: عىل املكتب وأخذت يف
كل ما يف وسعها إلرضائك”. كنت موجو ًدا ح ًّقا أنقذها ،فهذه املرأة تفعل ّ
أط ّلت يف رأسها صورة وجه كمريدا ا ُمللتاع وهي تنظر عىل اجلنني املل َقى عىل
صوت نحيبها أكثر ،ح ّتى فتح
ُ األرض ،وبركة دماء أمه التي ُ
حتيط به ،فارتفع
وأطل منه (لؤي) ً
قائل بصوت خفيض“ :سيديت.”... ّ الباب
نظرت إليه بغضب وهي تسأله“ :أمل أخربك أنّك ترتكني وحدي!”.
ْ
أطمئن عليك” .نظرت
ّ “عذرا سيديت أردت فقط أن
ً تلعثم وهو ير ّد ً
قائل:
ثم رشدت ً
قليل دون أن تتك ّلم أو تأمره إليه ومالحمها مليئة بالغضبّ ،
أكثر ح ّتى
رد فعل ،فاقرتب َ يصدر منها ُّ
ْ باالنرصاف .اقرتب خطوة بحذر ،مل
وضع يده عىل كتفها ور ّبت عليها.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 174
رفعت رأسها نحوه وتأ ّملت وهي شاردة مالمح وجهه القلقة ،انْحنى
ْ
يضمها ،فدفعته بيدها وهي
وهيم أن ّ عليها وهو ّ
يلف يده الثانية عىل رأسها ّ
أنت أمحق ..هل تظ ّنني امرأة عادية تبحث عن رجلٍ ير ّبت
هتتف به“ :هل َ
صور لك ّ
أن ما حيدث بيننا أن خيالك األريض املريض ّ عليها حني تبكي أم ّ
يعطيك ميزة ...اذهب من هنا”.
جير أذيال خيبته ،أغلق الباب خل َفه هبدوء شديد خمافة أن يزيد َ
انرصف ّ
بعصبية للمرة العارشة وهي
ّ َ
جهاز اتّصال معصمها من غضبتِها .ضغطت
تفكر يف ما دفعه لذلك هل يريدُ إغاظتها أو تذكريها تتوعد شقيقها أناندارّ .
ٍ
منصب له. بقوته أو ..تراه يريد أن يساو َمها عىل رشكة من رشكاهتا أو عىل
مصيبة كربى إذا كان يفكر يف ابتزا ِزها لتعطيه منص ًبا صور ًّيا يف احلكومة ،أو
لدعمه يف يشء كهذا ..هل قرر أن ي ّتجه إىل السياسة؟
فتحت برسعة قناة االتصال،
ْ ورود اتّصال من شقيقها،
ُ قطع أفكارهاَ
ُ
الرجل م ّنا جالسا يف حوض استحاممه ،وقال“ :أال يستطيع
ً ورأته أما َمها
إزعاج من امرأة؟” .ر ّدت عليه بغيظ وهي تقذف
ٍ محامه دون
أن يسرتيح يف ّ
ٍ
بصوت عال وهو يتناول “أيا امللعون” .ضحك صور َته بقلم كان يف ِ
يدهاّ :
ثم قال“ :أراهن أنّك تتواصلني معي ْ
لشكري عىل كأس رشاب من خادمته ّ َ
ذلك العرض املؤ ّثر ...لقد نفذنا ّ
خطتك بحذافريها”.
بصوت عال ّ
بكل كلامت السباب التي تعرفها وهي تقول ّإنا ٍ سبته
ّ
مهمة عندها، َ
خيطف كمريدا ألنه يعرف كم هي ّ تفهمه جيدً ا ،وإنّه قصد أن
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
175
كاهن صغري يف إحدى قرى ٍ “مهمة؟! ّإنا جمرد مساعدة ابنة
ّ ساخرا:
ً فقال
حتب أن تشعره بأنه بدل منها” .مل تكن ّ ٍ
بعرشة ً الساحل ..يمكن أن آيت لك
يشجع ينترص ،منذ صغرمها ومها ال يك ّفان عن الشجار والتنافس ،وكان ُ
األب ّ
يؤهل أختهام الكربى أفضل ما فيهام .كان ّ َ تلك العالقة ويرى أهنا ستفرز
فقرر
يد الرشطةّ ، للعمل يف السياسة ،لكنها انضمت للمقاومة و ُقتلت عىل ِ
اها خمتل ًفا ،فتأخذ ٍ
واحد منهام ّات ً أن يفصل بني هريمني وأنادار ويضع ّ
لكل
هريمني طريق السياسة ،ويبقى أناندار الصغري ُيدير املنظمة.
ريا
يطمح للعمل يف السياسة ،فهو يعشق الظهور ،وحاول كث ً ُ كان أناندار
أرصت عىل عدم التخيل عن هذا لكن هريمني ّ ُ
يوافق ّ مع أبيه ،وكاد أبوه
وأثبتت كفاءهتا ،فجعلها أبوها الوج َه الالمع للعائلة ،وأجرب أناندار
ْ الطريق
عىل البقاء يف ّ
الظل ما جعله يمقتها أكثر.
لدي وقت ألالعيبك ،أنت تعلم قالت له بفراغ صرب“ :اسمع ،ليس ّ
مقابل إطالق رساحها؟” .رمى الكأس من يده َ مكانتها عندي ..ماذا تريد
إن ما تفكر به مستحيل ،وإنّه ال يمكن أن يوقف وهو ي ّتهمها باحلمق ويقول هلا ّ
َ
ويكمل إعدام الباقيات ،أو اقرتحت عليه أن يرتكها
ْ عملية تكلفت الكثري.
إن العملية بر ّمتِها ستفشل ،وستفقد مغزاها.
أي يشء آخر ،فرفض وهو يقول ّ ّ
أخذت ختبط بقبضتها عىل فخذها يف توتّر وهي تلعنه وتفكر ،هل فعل ْ
أن يستفزها ،أو يريد شيئًا آخر ويريد أن حيصل أن حيزهنا أو ْ
ملجرد ْ
ذلك ّ
َ
مقابل إطالق رساحها؟”. عىل أقىص استفادة ،فقالت بفراغ صرب“ :ماذا تريد
متظاهرا بالعتاب“ :هل معقول
ً ثم قال
تظاهر بالدهشة وهو ينفي التهمةّ ،
األمر ممكنًا ألطلقت رساحها إرضاء لك”.
ُ ْ
أن أفعل هذا بشقيقتي ..لو كان
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 176
مفكر ًة وهي تشعر ٍ
بيأس عارم وتتمنى لو تقفز يف مل تد ِر ما تقول ،أطرقت ّ
وقرب
أسنانا يف رقبته .اعتدل أما َمها يف حوض استحاممهّ ، َ الشّ اشة فتنشب
وجهه من جها ِز االتّصال وهو يقول“ :هناك طريقة أخرى لك ّنها قد تكلفني
تعوضيني يف تلك احلالة” .ر ّدت بغيظ: رقاب ثالثة من رجايل ،وال بدّ أن ّ
َ
“سألتك من البداية لكنك استنكرت سؤايل ّأيا اخلبيث” .مل يعقب وقال
ِ
بمكان ٍ
امرأة ُتقتَل ،وس ُيب َلغ زوجها إنّه عىل استعداد أن جيعل كمريدا آخر
االحتجاز فيذهب كالفارس املغوار لتحريرها بنفسه.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
177
26
تغي يف القاهرة بعدَ الغزو ّإل عربات املرتو القديم وحمطاتهكل يشء ّ ّ
أن هناية اخلط مل تعدْ تصل إىل حلوان بلظ ّلت كام هي مل تتغري ،فيام عدا ّ
احلدود بني األرايض املحتلة وحلوان .يف حمطة املرج
ُ تتوقف عند طرة؛ حيث
فور فتح األبواب وخروج طوفان البرش خارجا من املرتو َ
ً اندفع (ضياء)
متجهني إىل املرج التي ال يصل إليها أحدٌ من النياندرتال عادة ّإل رجال
الرشطة والقليل جدًّ ا من املوظفني.
ثم ركب إحدى مركبات النقل خارجها ،وهي خرج من املحطةّ ،َ
ري عىل ارتفاع ال يزيد عن نصف مرت ،وت ّتسع الواحدة مركبات صغرية تط ُ
آليا بدون سائق يف خطوط حمدّ دة تغطي منها لستة أشخاص مكدّ سني ،تعمل ًّ
املناطق واألحياء البعيدة عن القطار الكهربائي واملرتو .يف العربة كانت
الشاشة تعرض إعالنات ال ّتوعية نفسها املوجودة يف املرتو .إعالنات تؤكد
تذكر بفائدة الزواج من أديتيات ،إعالنات عىل موعد التطعيامت ،إعالنات ّ
تذكر برضورة أن جتري عملية تعقيم لزوجتك األرضية إذا أنجبت طفلتني
خارج أديتيا ،وإعالنات
َ مجيعا
ألنا لو أنجبت طفلة ثالثة فسيتم ترحيلكم ً ّ
أخرى ّ
توضح فارق التقدم واحلضارة بني أديتيا وباقي دول العامل.
ثم دخل زقا ًقا
وصل إىل ناصية الشارع الذي يريده ،مشى ملسافة قصرية َّ
ثم فتح البوابة احلديدية وانحرف بعدها إىل ٍ
زقاق آخر سار إىل هنايته املسدودة ّ
للبيت املوجود عىل يمينه .صعدَ طاب ًقا واحدً ا ،طرق الباب فانفتح وحده،
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 178
وفتح خزانة املالبس التي دخل منها إىل أنبوب منزلق كانت دخل غرفة النوم َ
ثم وجد نفسهبالثياب املهملة .نزل يف األنبوب مساف َة س ّتة أمتار ّ
ِ فتحته مغطاة
جلس فيها ما يقارب العرشين فر ًدا شاخصني َ يف قاعة حمارضات صغرية
املنصة التي جلس عليها ماندريك وعمر والعقيد عامد. بأبصارهم إىل ّ
جلس عىل أول كريس فارغ قابله ،ورصف انتباهه متا ًما للعقيد عامد الذي
َ
كان يتحدّ ث عن خطورة واقعة اختطاف النساء احلوامل وعن تداعياهتا
ملخططاهتم أو لتربير جريمة جديدة ينتوون وكيف سيستغ ّلها الغزاة للدعاية ّ
يتعرضن
التزام أخالقي جتاه نساء ٌّ أيضا ختم كلمته ً
قائل“ :لدينا ً ثم َ القيام هبا ّ
هلذا ملثل هذا الفعل البشع”.
مفكرا يف جدوى تلك العمليات التي قررت ً عقدَ (ضياء) حاجبيه يف غيظ
إدارة املخابرات القيام هبا بدون سبب ُمقنع له .ال يعقل أن يبذلوا جمهو ًدا
ثم عملية أخرى شبان ّ
خرافيا وخماطرة كربى من أجل القبض عىل أربعة ّ ًّ
ٍ
أسريات من النياندرتال لتسليمهم وثالثة لتحريرهم ،واآلن عملية لتحرير
مجيعا”.
“ما لنا وهذا! فليحرتقوا ً
يطلب تشغيل الفيديو ليس فقط لتذكري ُ انتب َه عىل صوت عامد وهو
مبدئيا .مل يكن (ضياء)
ًّ املجتمعني ببشاعة ما حيدث؛ بل لتحليل حمتوياته
الدم إىل رأسه عندما رأى ما
قد شاهد الفيديو من قبل ،ولذلك تصاعد ُ
يشعر به من قبل ،وأقسم لنفسه أنّه لو استطاع
ْ حيدث ،شعر بغضب عارم مل
ْ
يتعاطف من قبل مع األديتيات ح ّتى اللوايت ملزق هؤالء املالعني بيديه .مل
ضن لتعذيب يف فيديو سابق لكن رؤية هذا الفيديو كانت أشب َه بمشاهدة تعر َ
ّ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
179
ِ
املشاهد التي تثري فأكثر من
َ رعب رخيص مل جيدْ مؤ ّلفه فكرة يطرحها ٍ فيلم
ً
مريضا. أحقر غرائزه ْ
إن كان َ املتفرج ،أو تثري َ
امتعاض ّ
أن هؤالء الرجال حمرتفون، األولية هلذا الفيديو ي ّتضح لنا ّ
ّ ِ
“من الرؤية
وحركاتم حمسوبة ،ويبدو ّأنم من النوع الذي ال يوجد لد ْيه خطوط
ُ كلامتم
ُ
تاريخ إجرامي طويل”.
ٍ أصحاب
ُ املرجح ّأنم
محراء وال خلفية أخالقية ،من ّ
قال عمر ،فع ّقب عامد“ :ولذلك ِ
فقد اخرتنا اثنني من رجالنا الذين هلم خربة
أشار عامد لضياء الذي انتصب واق ًفا
الشطة بعد االحتالل”َ ، يف العمل مع ّ
مخسيني يف الصفوف األوىل ،فقام بدوره.
ّ ثم أشار ُع َمر لرجل
ّ
َ
الرجال يف الفيديو أن ينظروا خيص
كل يشء ّطلب منهم عامد أن يفحصوا َّ
أي يشء قدإىل عيوهنم؛ لغات اجلسد لدهيم ،أيدهيم املكشوفة ،مشيتهمّ ..
َ
أضاف ماندريك“ :سيقوم أحدُ مهندسينا بتعديل التعرف عليهم.
ّ يفيد يف
الرجل عىل الطبيعة ،فقد صوت ّ
َ الصوت إلزالة أي تعديلٍ عليه لتسمعوا
ُيفيد ذلك يف التعرف عليه”.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 180
قبل تنفيذ عملية اإلعدام القادمة نرجو ثالث ساعات فقط َ ُ “أما َمنا
قد اقرتبنا” ،قالالتوصل إىل يشء قبلها ،أو عىل األقل نكون ِ ُ تم
أن يكون ّ
رفيقيه إىل غرفة ُمغلقة لعمل اجتام ٍع
ْ ِ
بصحبة ومتوج ًها
ّ ماندريك ً
خمتتم االجتامع
شاب أديتيوانضم هلام ّ
ّ للرجل اخلمسيني، متوج ًها ّ
آخر تنسيقي .قام (ضياء) ّ
ُ
وثالثة مقاعد. ٍ
غرفة فيها عدّ ُة أجهزة ممر صغري دلفوا منه إىل
نحو ّ
قادهم َ
أفضل أخرج الرجل اخلمسيني ورقة ً
وقلم ،وقال لضياء“ :اعذرين أنا ّ َ
تسهل علينا
ثم نص ّنفها بطريقة ّ
سندون مالحظاتنا هنا ّ
ّ َ
الطرق القديمة،
رأسه مواف ًقا دون أن يعقب.
فهز (ضياء) َ
االستفادة منها”ّ .
ثم طلب من املهندس تكبري بدأ الفيديو وأوق َفه الرجل بعدَ ثانيتني ّ
مره منها ً
قائل إنّه بني األربعني عي الرجل و ّ
مخن ُع َ الصورة ّ
وركزَ عىل ْ
ٍ
مالحظات دقيقة عىل ً
مسجل استمر يف تشغيل الفيديو
ّ واخلامسة واألربعني.
أكثر من
مر ُ إعجاب ضياءّ .
َ ٍ
بطريقة أثارت كل يشء يظهر منهالرجل ختص ّ
كمية مالحظات كبرية عىل الرجال الثالثة ،وعىل
الرجل ُّ ساعتني ح ّتى دون
املكان املتواجدين فيه ،وال ّنساء املخت ََطفات ،بل وماركة ّ
السكني املستخدَ م،
وكان (ضياء) يساعده ببعض امللحوظات هنا وهناك.
دور حتليل الصوت بعدَ إعادته إىل ِ
أصله. بعدَ االنتهاء من حتليل الصورة جاء ُ
ٌ
مألوف لديه ،سمعه من قبل لك ّنه أحس أنّه
حني استمع (ضياء) إىل الصوت ّ
قبل الغزو أو بعده ،يف قسم الرشطة أو يف مكان آخر. يتذكر أين أو متىَ ،
ْ مل
واملسجل عليها
ّ اخلاصة بالرشطة،
ّ َ
الدخول عىل املل ّفات الشاب األديتي
ّ بدأ
بيانات امل ّتهمني يف قضايا يف العرشين سنة األخرية ،والذين يطابقون املواصفات
التي استطاعوا استخالصها من الفيديو.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
181
النتائج جاءهم فيديو جديدٌ للجريمة الثانية .حتملُ قبل أن تصلهم َ
يلوح بسكينه، َ
الرجل ّ بصعوبة وهو يرىٍ (ضياء) مشاهد َة الفيديو
فمه بالقرب من أذهنا كأنّه هيمس هلا .فجأة وحيرك َّ ويقرتب من املرأة،
أنف الرجل ،ومل ترتكه وانقضت بأسناهنا عىل ِ
ّ ِ
رصخت املرأة يف هيسرتيا
أثر جرح يمتدّ من ّإل وهو يدمي ،وقد انكشف جزء من قناعه َ
فبان ُ
واستطاع
َ وكب اللقط َةأسفل جفنه إىل خدّ ه .أوقف الفني األديتي الفيديو ّ
ليستخدمها يف برامج حتديد اهلوية ،إضافة إىل
َ صورة للجرحٍ استخالص
ا ُملعطيات األخرى.
رد فعل الرجل عىل املرأة َ
إكامل الفيديو ،وبدأ يظهر فيه ُّ طلب منه (ضياء)
أن دمعة غلبت (ضياء) وهو املعروف عنه صعوبة بشعا لدرجة ّ
املسكينة .كان ً
فهو ال يقدر عىل إكامل املشاهدة فالتفت الرجل البكاء .استأذن الف ّني منهام َ
َ
إكامل الفيديو معي اخلمسيني إىل (ضياء) وسأله بمالمح جامدة“ :هل تقدر
قليل؟”.أم ”...ر ّد عليه (ضياء) بحنق“ :ماذا ..أال حيقّ يل أن أشعر بالتأثر ً
يتكرر ذلك للمرأتني األخريني
َ فأجاب الرجل“ :بىل ..ولكن إذا أردت ّأل
فعليك أن تتامسك”.
ضغط (ضياء) عىل نفسه ،وحاول الرتكيز أكثر يف الفيديو .كان يأملَ
يد أحدهم،وشم عىل ٌِ حتدث معجزة ما َ
مثل األفالم القديمة فيظهر َ أن
اسم ثم ّ
يتذكر َ أمسك تلك اليد ،ووضع فيها األصفادّ ،َ ويتذكر هو أنه
أناملجرم ،لكن لألسف مل حيدث ذلك ،ما حدث فقط هو أنّه يشعر ّ
الصورة
تضيع مالمح ّ
ُ صوت الرجل مألوف جدًّ ا ،يكاد يرى وجهه لكن َ
يف اللحظة األخرية.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 182
وردت هلم نتائج البحث ،استطاع اخلرباء التعرف
ْ ساعة أخرىٌ مرتّ
عىل املجرم ذي ال ّندبة؛ كانت مواصفاته مطابق ًة ألكثر من مائة وعرشين
صور مجيع
َ تفحص (ضياء)لكن واحدً ا فقط كان لديه ال ّندبة نفسهاّ .
رجلّ ،ً
مع صاحب الصوت ،لك ّنه مل جيد منهم ُ
تنطبق مواصفاهتم َ املجرمني الذين
ألشخاص يشتبه ّ
أن ٍ صورا أخرى
ً أيضاْ -
أن يستطلع وجها مألو ًفا .حاولً -
ً
ُ
الرجل الثالث يف الفيديو بدون جدوى. أحدهم هو
ُ
التعرف عىل شخصيته لكنه قد تم
بدأت عملية البحث عن الرجل الذي ّ ْ
أي خيط يقود إليه .بعد السجالت وليس لديه عائلة أو امرأة أو ّ اختفى من ّ
املهمة ومرو ِر ساعتني عىل إعدا ِم املرأة الثانية
مرور مخس ساعات عىل بدْ ء ّ
مل يتم التوصل إىل يشء غري جمموعة صو ٍر ُملشتبه هبم يستحيل التأكدُ من
مجيعا يف الوقت املناسب.
مكاهنم ً
خرج (ضياء) للقاعة الكربى ،رأى املقدم إياد ،سأله عن آخر املستجدات َ
َ
مكان إرسال الفيديو بمنطقة كبرية متتدّ من منشية نارص فقال لهّ :إنم حدّ دوا
أن املصدر يف منشية نارص“ .هل املرجح ّ
ّ ح ّتى منطقة اخلليفة ،وإن كان
“تأكدنا من شخصية توصلتم إىل يشء” .سأله (إياد) فقال (ضياء) يف يأسّ :
عن تواجده ،ولدينا نحو مائتي ُمشتبه حيت ََمل ّ
أن اثنني أحدهم لكنه ال أدلة ْ
مها ”....مل يكمل مجلته ورش َد ً
قليل فسأله إياد“ :ماذا هناك؟”. منهم َ
وركض نحو الغرفة دون أن يستأذن منه ،وطلب من التقني َ َ
تركه (ضياء)
صور املجرمني الذين حكم عليهم باإلعدام وتنطبق عليهمَ يستخرج له
َ أن
فأخرج له صور تسعة
َ ِ
صاحب الصوت .فعل التقني ما طلبه مواصفات الرجلِ
ثم استخـرج واحدً ا منهم وقال“ :هذا هو .لقد ّ
تذكرته، ملياّ ،
أشخاص تأملهم ًّ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
183
قبل الغزو ..لو بحثنا عن زوجته قضيته وأنا ضابط صغري َ
كنت قد شاركت يف ّ
ُ
تعيش يف دار السالم” .ر ّد عليه التقني“ :لو أمسكنا هبا فسنصل إليه ً
حتم إهنا ُ
فيمكن أن نجربها عىل االتّصال به ،وعندها يمكن حتديد مكانه بسهولة”.
***
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 184
27
ينتقل بني جهاز االتصال وشاشة ُ يدور يف مكتبه كاملجنون
ُ ظل (باسل)ّ
مسار دوريات البحث عن كمريدا والنساء َ ِ
حتديد املواقع التي تكشف له
املخطوفات معها .مل يبقَ من الزمن ّإل ساعة فقط عىل عملية اإلعدام
وبقيت كمريدا وامرأ ٌة أخرى .كان مرعو ًبا
ْ القادمة ،قتل اخلاطفون امرأتني
الدور عليها هذه املرة فقدْ شعر ّ
بأن اهلل أنقذها يف املرة السابقة حني ُ أن يكون
يرتاجع لسبب ما ال يعرفه ،وي ّتجه
ُ ثم
رأى الرجل يف الفيديو يقرتب منها ّ
للمرأة التي بجوارها.
ُ
الرجال يف الرشطة من حتديد منطقة واسعة متكنيف الساعات السابقة ّ
ُ
تشمل جز ًءا من منشية نارص ٍ
نقطة فيها ،كانت املنطقة يبث الفيديو منّ
سي ستة دوريات تسري بني شوارع ومساحة واسعة ِمن منطقة املقطم ،وقد ّ
أي يشء ّ
يدلم عىل مكاهنا ،وقام مديره بتوجيه َ
يلمحون ّ تلك املناطق لعلهم
ٍ
مئات من الطائرات الدقيقة اإلضافية يف تلك املناطق للمساعدة.
بكل هذا احلزن والرعب من أجلها ،كان يعتربها يتخيل أن يشعر ّ
يكن ّ مل ْ
خطر بباله أن
َ أيضا .كان إذاهامشيا موجو ًدا يف حياته هي وجنينها ً
ًّ شيئًا
يصاب بالذعر
ُ وينترص األرضيون ويطردون النياندرتال،
ُ املستحيل قد حيدث
ِ
بتهمة اخليانة ،ومل تضايقه فكرة ُ
يقبض عليه وحياكم فقط لتخيله أنه سوف
شعر أنّه هو َمن يتعرض
أهنا ستختفي وتعود إىل كوكبها هي وابنه منها .اليوم َ
ِ
الغوص يف حلمه، نصل السكني عىل وشكلتعذيب وحيش ،وأنّه هو من يرى َ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
185
كان يشعر بالتصاق حلقه كأنه هو األس ُري املحروم من املاء ،ال هي ،بل كان
يشعر وهو يشاهد الفيديو أن ذراعيه تؤملانِه ّ
كأنام مع ّلقان فوق رأسه .بكى
حني شاهدَ دموعها وبكى أكثر حني ملح يف الفيديو بقع ًة كبرية من البول
فخذيا.
ْ أسف َلهاّ ،
وختيل اإلحساس الذي دفعها إلفراغ مثانتها عىل
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 186
رن جهازه ثانية فسمع ذات الصوتأصحاب االتصالّ ،
َ ويلعن
ُ يسب
وهو ّ
ثم ادخ ْلها حني ينفتح
رس جوارها ّ ٌ
مركبة اآلنْ ، “ستمر من جوارك
ّ يقول:
الباب”.
مرت جواره املركبة وهي تسري ببطء ،بدأ يسري مل يكدْ ينتهي االتصال ح ّتى ّ
باب املركبة فدخلها بدراجته وانغلق الباب خلفه. ببطء إىل جوارها ،انفتح ُ
جيلس يف املركبة ٌ
رجل ثالثيني مألوف املالمح ،وامرأ ٌة فريوزية العينني ُ كان
مزيج بني البني واألشيب ،تبدو يف عقدها اخلامس من العمرً .
“أهل شعرها ٌ
أعمل معك يف الرشطة ُ الرجل“ .أنا (ضياء حاتم) ،كنتيا (باسل)” قال ّ
االسم وإن كانت
َ فهو ال يذكر ّ
بشكَ ، للرجل
تقابلنا عدة مرات” .نظر ّ
اآلن مع املخربني؟ وهل مر ْت عليه من قبل ،سأله بحزم“ :هل أنت َ املالمح ّ
حترير املخطوفات؟”.َ أنتم ح ًّقا كام أعلنتم يف بيانكم حتاولون
قالت املرأة“ :سيد (باسل) ،الوقت قصري جدًّ ا ،نحن اآلن عىل وشك ِ
سريد إلينا موقعها خالل دقائق” .سأهلا ُ مكان احتجاز زوجتك، ِ حتديد
حيرروهن
ماهرين إىل هذه الدرجة ،فلامذا جلأوا إليه؟ ملاذا مل ّ
َ (باسل) إن كانوا
وكيف سيحددون موقعهن .ر ّد عليه (ضياء) بفراغ صرب: َ دون االتصال به،
املهم نريد تعاونك هل ستشارك يف “لنا طرقنا وسنطلعك عليها فيام بعدّ ،
حتريرهن أم ال؟”.
تدخلت املرأة وقالت“ :نريدك أن تشارك معنا
ر ّد عليه (باسل) بحدةّ ،
لتكون شاهدً ا عىل أنّنا بذلنا ما بوسعنا لتحريرهن لو ساءت األمور ال سمح
ثم سأهلا“ :صو ُتك
إهباميه يف عصبية ّ
ْ حيرك
أصابع يديه وأخذ ّ
َ اهلل” .شبك
ردك يبدو مألو ًفا يل” .ر ّدت عليه“ :يمكن أن نناقش هذا األمر الح ًقاّ ،
املهم ُّ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
187
مانع
أحد من رؤسائك فال َ كنت تريد استشارة ٍ اآلن هل أنت معنا ..إذا َ
ثم ،”..قاطعها كالم قائد املركبة“ :لقد حدّ دوا املوقع ،وأرسلوا لنا
لديناّ ،
اإلحداثيات”.
“هيا أنا معكم لكن لن أكون رده ،فقالّ : نظر االثنان لباسل ُمنتظرين َّ
َ
نحررهن ،وبعدها ستعودون كام أنتم مدينًا لكم بيشء ،أنا صديقكم ح ّتى ّ
ضحك (ضياء) وقال بسخرية هو يومئ برأسه ّاتاه َ أهدا ًفا مرشوعة يل”.
أن تقع بأرسك املرأة التي أشارت للسائق بالتحرك“ :لقد كانت عىل وشك ْ
ِ
“أنت متنكرة.. ثم قال:
متفح ًصا ّ
ّ مرة” .هنرته املرأة ونظر هلا (باسل)
ذات ّ
َ
خيرج دراجته من َ طلبت منه أن
ْ ثم
أليس كذلك؟” .ر ّدت عليه باإلجياب ّ
َ
االعرتاض املركبة برسعة ويتخ ّلص من أجهزته التي يمكن هبا ّ
تتبعه ،حاول
أرصت وأوقفت املركبة خمرية إياه بني إنزال دراجتِه وحدها أو النزول لك ّنها ّ
هبا .وافقَ عىل مضض وانطلقت املركبة يف طريق ال ّنرص غ َ
ري مبالية بانكشافها،
مجيع الطائرات يف املنطقة مشغولة بالبحث عن املخطوفات.
فقد كانت ُ
يسارا يف مدخل منشية نارص من جهة ً ِ
انعطفت املركبة بعدَ دقيقتني
سفح اجلبل مبارشة ُمنعطفة يف شوارع ضيقة ِ وتوجهت نحو
ّ الدويقة،
وعندما أصبح عىل مرمى البرص تو ّقفت املركبةّ ،
ثم قالت املرأة“ :لقد اقرتبنا،
ثم سنميش بقية املسافة”.
سننزل هنا ّ
الوقت يف صاحلهم فلم يبقَ أكثر من عرشين دقيقة عىل عملية
ُ مل ِ
يكن
القتل القادمة .مشى ثالث ُتهم ُمرسعني يف أز ّقة ضيقة ،وبعد حوايل مائتي
ومسلحون .كان (باسل) ُم ً
غتاظا ألهنم مدرعون ُ
مرت قابلهم أربعة آخرون ّ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 188
ليحرر زوجته
ّ جردوه من أسلحته لكنه مل جيدْ بدًّ ا من املوافقة ،فهو سيذهب ّ
ولو بيديه العاريتني.
أحد األزقة جمموعة أخرى من مخسة ،وبذلك صار العدد اثني ظهر من ِ َ
أشيب يف العقد اخلامس من عمره،
َ عرش ،وكان بينهم قائدُ العملية ،بدَ ا ً
رجل
البيت املوجود به املختطفات .كانت
َ كل جهة ليحاوطوا وزّ عهم أربع ًة يف ّ
ورجلي آخرين؛ أحدمها من
ْ (ميساء)ّ -
متنكرة مع (باسل) املرأة -وهي ْ
جوار رجلٍ
َ تشعر باضطراب لوجودها
ُ النياندرتال واآلخر أريض .كانت
وتراجع يف اللحظة األخرية لسبب ال تعرفه.
َ حاول قتلها من فرتة قصرية
أرصت عىل االشرتاك يف تلك العملية ،وأقنعت العقيد (عامد)- ّ
إقناع (باسل) بالتواجد معهم يف أثناء حترير
َ يقودهاّ -أنا تستطيع
ُ الذي
صاحب فكرة إحضاره ّ
ألن املهمة تنطوي عىل َ املختطفات .كان ماندريك
اللوم عىل املقاومة ،لكن لو حدث
خماطرة كبرية بفقد الرهائن ،وعندها سيقع ُ
ذلك و”باسل” معهم فسيكون شاهدً ا من أهلها .تل ّقفت ْ
(ميساء) الفكرة،
وطلبت أن حترض (باسل) هي وضياء الذي قال إنّه قد تقابل مع الرجل
مر ٍ
ات قليلة يف دورات تدريبية كان النياندرتال يقيموهنا لألرضيني الذين ّ
يعملون معهم يف الرشطة.
عرش دقائق فقط ،بدأ االقتحام وكانت التعليامت هي تب ّقى من الزمن ُ
قدر اإلمكان ح ّتى ال ينتبه املتواجدون بالداخل ٍ
جلبة َ حماولة عد ِم إصدار
أهنن ُمتجزات
التقديرات ّ
ُ مرة واحدة .كانتفيقدمون عىل قتل املرأتني ّ
ِ
اجلهة الرشقية للبيت، يف الطابق الثاين ولذلك قام اثنان بالتسلق من
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
189
ٌ
مخسة من املدخل، الشفات ،ودخل واثنان من جهتِه الشاملية للتسلل من ّ
كان (باسل) و(عامد) و(ضياء) يف املقدمة خل َفهام ْ
(ميساء) واألديتي.
خرسانيا ال توجد بوابة تغلقه ،بيت من أربعة طوابق،
ًّ ُ
مدخل البيت كان
انطباعا أبدً ا ّ
أن جريمة هبذا احلجم ً كل ٍ
طابق شقتان ،ال يثري الريبة أو يعطي يف ّ
الدرج للطابق األول دون أن يصادفهم أحد فقد َ حتدث داخ َله .صعدوا
مغلقتي .يف الطابق األول فوجئوا
ْ كانت أبواب الشقتني يف الطابق األريض
الصاعد عىل ِ
برؤية املوكب ّ برجلني يقفان أمام باب مفتوح ،فوجئ الرجالن
بالتحرك أطلقَ (عامد) و(ضياء) عليهام قذائف
ّ الدرج وقبل أن يقوم أحدمها
أسقطتهام دون صوت.
خلوها من أحد، ِ
بتمشيط الشقة للتأكد من ّ أشار (عامد) لضياء واألديتي
َ
وأكمل طري َقه للطابق التايل يتبعه (باسل) وميساء .سمعوا صو ًتا لسقوط
أشخاص عىل األرض قاد ًما من الشّ قة بالطابق األول فأجفلت ْ
(ميساء)،
لكن عامد أشار هلام باالستمرار .وقفوا يف الطابق الثاين وحلقَ هبم (ضياء) ْ
أشار عامد لضياء واألديتي للوقوف عىل الباب و(باسل) ،كان هناك بابانَ ،
أمام الباب
متأهبني القتحامه ،ووقف هو وميساء وجواره (باسل) َ األيمن ّ
ِ
معصمه ل ُيعطي اإلشارة للمرت ّبصني زر يف جهاز
ضغط (عامد) عىل ّ َ األيرس.
هبمس وهو يشريٍ ِ
للعرشة عند الرشفات لالقتحام املتزامن معهم .بدأ يعد
ٍ
امرأة من الباب ُ
رصخة دوتبأصابعه ،ولك ّنه عندما وصل لرقم أربعة ّ
املوجود عىل ال ّناحية اليمنى ،فأشار لضياء ببدء االقتحام وأشار ملَن َ
معه برتك
باهبم ،واالشرتاك يف اقتحام الباب اآلخر.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 190
28
قبل ساعة من بدْ ء االقتحام ،كانت كمريدا معلق ًة كام هي تنتظر ما ستأيت َ
االستسالم ملصريها ،وإبعا َد أشباح األمل
َ الساعات التالية وهي حتاول هلا به ّ
هيتم ملصريكن” .قال أحدُ الرجال “بقيت ساعة وال أحد ّ
ْ والفزع من أمامها.
جوار كمريدا ترصخ يف فزع وهي تقول ّإنا ال َ ّ
بتشف ،فأخذت املرأ ُة املعلقة
فم مل يذق
بكلامت خترج بصعوبة من ٍ ٍ حاولت كمريدا هتدئتها
ْ تريد أن متوت.
سيعوض أرواحنا عن هذا العذاب،
ّ طعم املاء منذ ساعات طويلة“ :ماجوها
َ
اهدئي يا صديقتي”.
ر ّدت عليها املرأة وهي تبكي ُمنهارة وتقول“ :وملاذا يرتكنا هلؤالء
تعويضا عن العذاب؛ أريده أن يمنعه ً الوحوش ّ
يعذبوننا ..ال أريد منه
إقناعها بأن تتحىل
ببعض األدعية وهي حتاول َ ِ من البداية” .متتمت كمريدا
سنموت يف النهاية ،فقالت املرأة“ :نعم ،ولكنُ باهلدوء والشجاعة فك ّلنا
أليس من حقّ أوالدنا أن يذوقوا طعم احلياة َ
قبل أن ُي َرموا منها؟!” .مل تقدّ ر
كمريدا عىل الرد ،وانخرطت يف بكاء صامت هي األخرى ،وهي تنظر إىل
بطنها وتتمتم بأدعيتها ثانية.
وفك احلبل من فوق رأسهاّ ،الضخم منها ،ورفع ذراعيه َ ُ
الرجل ّ اقرتب
َ
تشعر هبام،
ُ ذراعيها لألسفل وهي تكاد ال
ْ اجلنزير املع ّلق للسقف .أنزلت
ّ
تستشف ما ينوي فعله هبا .اهنار ِ
بوجه الرجل حتاول أن وعيناها مع ّلقتان
متوسل ًة للرجل
ّ ُ
حتاول االستناد عليه ،وأخذت تبكي جدار التامسك الذي
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
191
مستحلف ًة إ ّياه بر ّبه ّ
ونبيه ْ
أن يعتقها“ :أرجوك ...ماذا ستكسب من قتيل...
أرجوك”.
بغلظة اجتاه باب إحدى الغرف وهي تتوسلٍ وجرها ُ
الرجل ّ مل ير ّد عليها
ٍ
ووهن شديد يف جسمها تشعر بآالم يف ساقيها
ُ مشت خلفه بصعوبة وهي ْ له.
دخلت غرف ًة صغرية كان فيها شاشتان؛ واحدة فيها أناندار
ْ كله ،إىل أن
خال من التفاصيلً .
“أهل يا ضوء أبيض ٍ ٍ الصغري والثانية فارغة عبارة عنّ
لكن ماجوها سيقدّ ر تضحيتك بالتأكيد” .قاهلا
كمريداْ ..اعذريني عىل هذاّ ،
وشبح ابتسامة ساخرة يلوح عىل وجهه فسأل ْته بحرية“ :سيد أناندار ،ماذا
ُ
تقصد؟ وما عالقتك هبؤالء الوحوش!؟”.
حمذرا فكتم ضحكته ً فنظر له أناندار
َ ضحك الضخم ضحك ًة قصرية َ
متت للصغر بِ ِصلة،
مالمح ال ّ
َ ُ
حيمل وعاد لوج ِهه اجلاد .كان أناندار الصغري
ٍ
بأسنان قاسية فمه العريض الذي حييط حتيط بعينيه وزاويتي ُِ فالتجاعيدُ
رشح هلا
َ َ
خالطها الشّ يب. املظهر ،واللحية اخلفيفة ال ّنابتة عىل وجهه قد
وأن الفكرة ك ّلها من ترتيب َ
والغرض املقصود منهاّ ، أناندار فكرة اخلطف
تكذب ،ال يمكن أن يكون ذلك
ُ احلكومة ،نظرت له مصدومة وقالت“ :أنت
أعرف حقيقتك” .ضحك هو هذه ُ حقيقياّ ،إنا فكرة إجرامية منك أنت ..أنا
ًّ
أن عزيزهتا املر َة بصوت عال وهو يسأهلا كيف سيكون ر ّد ِ
فعلها إذا عرفت ّ ّ
ُ
صاحبة الفكرة ،وهي َمن استأجرته للقيام هبا. هريمني هي
ُ
الوقاحة لتلفيق هتمة كهذه صل بك“أهلذه الدرجة حتقدُ عليها ،أ َت ُ
ُ
انفعالا حقيقة املوقف السيئ الذي هي فيه، ألختك” .قالت له وقد أنساها
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 192
خاصة عندما قال:
ّ بان عىل وجهه مألها رع ًبا ثانية، لكن الغضب الذي َ
ُ
صاحبة الفكرة وأنا املقاول فقط”. “اخريس أيتها املرأة احلمقاء ..هريمني هي
أقرب للنحيب“ :ال يمكن أن تفعل َ دمعت عيناها ثانية وهي تر ّد بصوتْ
السيدة هريمني هذا يب ..إهنا حتبني”.
اعتدل الرجل وهو يقول“ :حسنًا ..خطفك أنت بالذات كان فكريت َ
َ
مقابل بعقد ستحصل عليهٍ أنا ،لكن هذا ال يمنع ّأنا ترفض أن تفتديك
ٍ
بحرية وهي تسأله عن قصده ،مل ير ّد عليها نظرت إليه
ْ نجاح هذه العملية”.
ثم ظهرت صور ُة هريمني عىل صوت طنني ّ ُ فع َلوضغط جهاز اتصالهَ ،
ِ
لصورة كمريدا أمامها وقالت“ :كيف بلوعة
الشاشة الثانية .نظرت هريمني ْ
الذ ُ
هول منها مبلغه“ :ال حا ُلك يا عزيزة القلب؟” .قالت كمريدا وقد بلغ ّ
ثم أنت ..مل يبدُ عليك االندهاش ..هل ح ًّقا..أعلم ..إنّه يقول كال ًما غري ًبا ّ
يا إهلي”.
صوت هريمني وهي تر ّد عليها بصوت أناندار ومل تفهم شيئًا ُ َ
اختلط
صوت أناندار وهو يقول“ :ليس هذا موضوعنا.. ُ كليهام ،ح ّتى عال
من ْ
فليس عليك سوى أن َ ِ
أردت أن تنقذهيا صديقتك أمامك يا هريمني إذا
واخلسة،
ّ همه باجلنون توافقي عىل رشطي” .ر ّدت عليه هريمني وهي ت ّت ُ
موضوع ال ّتفاوض بينهام لك ّنها فهمت ّ
أن َ وتكيل له اللعنات .مل تفهم كمريدا
حب هريمني هلا للضغط عليها ،مل تفكر حلظتَها ّإل يف فرجة أناندار يستغل َّ
متوسلة“ :أرجوك يا سيديت ،أعطيه ّ األمل التي الحت هلا وجلنينها ،فهتفت
أتوسل لك”.
ما يريد ،أنقذي طفيل ّ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
193
أحست أن هذا َ
التوسل وقد ّ سكتت هريمني ومل ترد ،وكمريدا تعيد عليها ْ
نوع من الضعف ،رشخ يف جدار رفضها لطلب شقيقها ،وقد يد ّمر الصمت ٌ
َ
توسالهتا وبكاءها“ .أنت ال تتخيلني يا سيديت..
واصلت ّ
ْ هذا اجلدار متا ًما لو
كل َ
األطفال يتحركون قبل أن يموتواّ ، بطن امرأتني ،لقد رأيت لقد شقوا َ
ّأم كانت حتترض وهي تشاهدُ جنينها يموت أمامها ..أرجوك سأساعدك يف
أي خسارة ..سأكون خادمتك لألبد بدون مقابل”. تعويض ّ
ر ّدت هريمني بصعوبة“ :كمريدا ...أنا .”..فضحك أناندار بسخرية وهو
الشخص يقتل أبناءه بيديه أحيا ًنا...
َ ُ
والسلطة جتعل ُ
“املال يا كمريدا يقول:
من ا ُملمكن أن أعطيها فرص ًة للتفكري؛ بضع ساعات أخرى لك ّني أعرف
توسالهتا وقد نسيت أو تناست وأعادت ّ
ْ نظرت هلا كمريدا ثانية
ْ شقيقتي”.
معا؛ مل تتوسل إليها ّ
بكل ذكرى هلام ً فداحة ما أقدمت هريمني عليه ،وأخذت ّ
ري متدينة،أن هريمني غ ُ تتوسل هلا بامجوها أو قدّ يسيه أو كهنتِه؛ فهي تعرف ّ
توسلها.
لك ّنها رغم ذلك ذكرهتا به يف ختام ّ
“أنا آسفة يا كمريدا ،ال أستطيع” .قالتها هريمني وأغلقت االتصال تاركة
بأنا عىل وشك القتل بأبشع تقل سو ًءا عن شعورها ّ كمريدا يف صدمة ال ّ
أيضا ٌ
آسف يا كمريداّ ،إنا مسألة الطرق .قال أناندار وقد بدَ ا عليه التأثر“ :أنا ً
أن الشيطان الذي يفصح عن ِ
أدركت ّ ولكن أرجو أن تكوين قد ْ استثامرات
ٍ
شيطان يتظاهر بالطهر”. نجسا من
أقل ً نفسه ّ
ٍّ
تشف وكأنّه كان خيشى أن تضيع منه الضخم ملكاهنا األول يف
ُ قا َدها
فريسته ،ع ّلق ذراعها يف مكاهنا بدون مقاومة منها ،وقد عادت إىل حالة
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 194
الدور اآلن عىل املرأة الثانية .قال
َ التسليم بقدَ رها ،وإن كانت قد عرفت ّ
أن
الضخم “يبدو عليك أنّك ممّن يؤمنون بوجود خ ٍ
ري يف هذا العامل... هلا الرجل ّ
وقال بصوت عميق“ :ال اقرتب بفمه من أذهنا َ
َ دعيني أقوهلا لك رصحية”..
بعضها فيظهر يتلون ُ الش ّ ٌ
أشكال خمتلفة من ّ يوجد خري يف العامل ...فقط
كائنات حقيقية ،أ ّما املالئكة فهي جمرد
ٌ السذج كأنه خريّ ،
إن الشياطني أمام ّ
َ
خياالت أطفال”.
صمتت وهي تفكر يف كالمه ح ّتى ابتعدَ عنها وجلس عىل مقعده فقالت: ْ
ري والرش يف العامل ،وترك اخللق ليختاروا، وضع اخل َ
َ أؤمن ّ
أن ماجوها ُ “أنا
إن ماجوها مل يرسل ويفضلونه” ،قال أبوها ّ
ّ الش َ
يعشقون ّ وهم لألسف
ألي شخص ِ
املخلوقات عىل االختيار ،ومل يسهل ّ شياطنيَ أو مالئكة ليحثوا
إيامنا ّ
يؤكد طري ًقا من الطريقني ،وإنام تركهم ل ُيامرسوا احلياة فيام بينهم .كان ُ
مها ُ
فعل البرش؛ أرضيني أو أديتيني. أن العذاب واألمل اللذ ْين تعانيهام َ
اآلن َ هلا ّ
إن أمثال أناندار وهريمنيأغمضت عينيها وهي مستسلمة وتقول لنفسها ّ
يتشوق لذبحها هم السبب ّ
أن ماجوها مل خيلق شياطنيَ ؛ الوحش الذي ِّ وذلك
ُ
فالبرش ُمكتفون بام فيهم من الرش.
انتبهت عىل رصخة املرأة جوارها ،وأحدُ اخلاطفني يشقّ بطنها .تعلقت ْ
ثم جننيٌ هيوي
ماء غزير ّ
ثم ٌ تندفع من الشّ قّ ،
ُ عيناها وهي جامد ٌة بالدماء
ثم يقف معل ًقا يف اهلواء حلظة ،وبعدها يكمل السيّ ،يتبعه حب ُله ُّ
إىل أسفل ُ
وجزء من مشيمته .سمعت صوت ٌ رحل َة سقوطه لألرض يتبعه حب ُله،
ص عددهم ،واشتباك بينهم جمموعة من الناس مل ُت ِ
ٍ مدو تاله دخول
انفجار ٍّ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
195
ساحة الرصاع عن (باسل) ،هت ّلل وجهها ِ وبني اخلاطفني .فتشت بعينيها يف
حني رأته وقد أجهزَ عىل أحد اخلاطفني كان واق ًفا بينه وبينهاّ ،
ثم قفزَ نحوها
بيد وهو يقطع احلبل من يدهيا ثم احتضنَها ٍ
الصاع الدائر حوهلام ّ ً
متجاهل ّ
ِ
بيده األخرى بسك ٍ
ني صغري.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 196
أنفاس كافية مللء صدرهاٍ كانت كمريدا تتأمل ،ومشغول ًة بمحاولة التقاط
أن هناك شيئًا غري ًبا ،ملاذا تطلب املرأة من بدون جدوى ،لك ّنها شعرت ّ
قبل جميء الرشطة .سألت (باسل) فقال“ :اسرتحيي اآلن يا زمالئها املغادرة َ
حلت عليه ،فقالّ ..إنم من املقاومة وساعدوه يف إنقاذها. عزيزة القلب” .أ ّ
أي كلمة تناسب تلك املفاجأة ،وهي بقوة قبل أن تتمكن من ِ
قول ّ سعلت ّ
ْ
حتاول بنيَ أنفاسها العسرية أن تقتطع حلظة لل ّتفكري يف تلك املَتاهة العقلية..
تنقذها ،وزوجها ُ
يقبل برش خيتطفوهنا ،وأديتيون استأجروهم ،ومقاومة ُ ٌ
مساعد َة بعض َمن حاولوا قتله من فرتة قريبة ،وأرضية من املقاومة تضع
األكسجنيَ عىل وجهها حماولة إسعافها.
فضمها (باسل) ثانية وهو عاجز عن التفكري، رصخت من نوبة أمل ٍ إضافية ّ
ْ
(ميساء)“ :هل أنت طبيبة ..هل تعرفني ما هبا؟” .قالت ميساء“ :لست َ
وسأل ْ
أن زوجتك تعاين طبيبة ولك ّني ساعدت أ ّمي الطبيبة يف عملها كث ًريا ...أعتقد ّ
(ميساء) وقالتمن جلطة رئوية” .سأهلا بوجل“ :وهل هذه خطرية؟” .طمأنته ْ
جلطات إضافية من
ٌ رسيعاّ ،
وأل تنتقل ً أن يصل الطبيب ِ
برشط ْ إن إذابتها سهلة
يفهم شيئًا لك ّنه اكتفى بمعلومة ّ
أن إذابة تلك اجللطات سهلة. ساقها إىل رئتها .مل ْ
أن طول ٍ
دراية كاملة بخطورة احلالة ،فهي ال تعرف ّ (ميساء) عىل
تكن ْمل ْ
مدّ ة تعليق كمريدا هبذا الشكل -وهي يف أواخر محلها واجلفاف الذي عانت
جلطات ضخمة يف ساقيها ،وحني تنتقل تلك اجللطات ٍ منه -كفيالن بتكوين
متطو ًرا يف إنقاذ
ّ فلن ُيدي ُّ
أي عالج مهام كان الرئوي بكمية كبرية ْ لرشياهنا ّ
مر ْت دقائق عىل انسداد الرشيان الرئييس.
حياهتا ،إذا ّ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
197
وأحست ّأنا حتترض ،مل يمر بباهلا يف
ّ بدأت قوى كمريدا يف ال ّتهاوي،ْ
رشيط ذكرياهتا؛ بل سيطرت عليها فكر ُة إنقاذ جنينها فقالت ُ تلك اللحظة
فاطلب منه أن
ْ َ
وصل الطبيب بعدَ مويت بصعوبة“ :باسلِ ..
أنقذ طفلنا ،لو
تأخر الطبيب” .هنرها (باسل) ودموعه تسبق أخرجه أنت إذا ّْ خيرجه م ّني أو
رأسه مواف ًقا ح ّتى تصمت هز َكلامته ،فقالت“ :أرجوك يا عزيز القلب”ّ .
وتوفر أنفاسها لكنها مل تسكت ،وقالت“ :أنت احلقيقة الوحيدة يف حيايت..
كل يشء زائف ّإل أنت” أخذت وحبك وجنينُناّ ..أنت ّ حيايت ك ّلها زيف ّإل َ
كل يشء زائف إال أنت” ..ح ّتى انقطع آخر نفس هلا. تر ّدد بصوت خفيض” ّ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 198
الرابع
القسم ّ
ُ
عملية برُ َّمانا
ّ
وظننت أنّني أدركت عمقها ،وجدتني
ُ سطح الحياة
َ “ك ّلما خدشت
سطحية أخرى ،لم أدرك بعدُ ما يختبئ تحت تلك
ّ ٍ
طبقة أتخبط في
مازلت ّ
ُ
األسطح”
باسل الشعراين
29
كل كف” .كلامت الدم يف ّ
يد َمن صافحوك وال تبرص َ تنظر يف ِ
“كيف ُ
أمل دنقل التي كان والدُ (باسل) ير ّددها دو ًما عىل أذنيه ك ّلام جاء ٌ
خرب عن
ريا ،ويقول له
عريب يدعو لل ّتطبيع مع إرسائيل .كان ير ّدد الكلمة عىل أذنه كث ً
عدو بالدهم
تدرس للتالميذ ح ّتى ال ينسوا َمن ُّ إن تلك القصيدة ينبغي أن َّ ّ
لنفسه بعدَ مقتل زوجته؛ يسأل نفسه ،كيف ُ
ينظر احلقيقي .اليوم صار يرددها ِ
وهو
وكرموا ذكرى زوجته َ
كرموه ّ
عزوه و َمن ّ
يف يد َمن صافحوه ويف عني َمن ّ
مجيعا.
أن دمها يلطخهم ًيعلم ّ
دموعها الغزيرة وهي تودع جثامهناَ حرضت هريمني ،ورأى
ْ يوم جنازهتا
هاتي العينني ح ّتى يكون لبكائها معنى .كان والدُ قبل حرقه ،ومت ّنى لو فقأ َْ
كاهن مراسم توديع روحها التي يقومون فيها َ حارضا ،كان هوً كمريدا
رخامية يعلوها أعمد ٌة معدنية.
ّ بتسجية جثامهنا باألغصان اجلا ّفة عىل طاولة
خارج كومة األغصانَ الظاهر من اجلثامن
َ يكون ّ
كف اليد هو اجلز َء الوحيد
كليمر ّ
قفازا مز ّينًا من ذلك القامش املصنوع يف كوكبهمّ . اجلافة وقد ألبسوه ً
ويتوجه
ّ يقبل ركبته،
ثم ّ
شخص من املودعني فيأبن امليت بني يدي الكاهنّ ،
يمسح خدّ ه يف ّ
كف امليت املغطاة بالقفاز ُ ثم
للجثامن فيهمس أمامه بصالة ما ّ
ويقوم.
الروح يف يد كمريدا حني كانت هريمني تتمسح فيها
ُ تدب
كان يتم ّنى أن َّ
ُ
وترصخ قائلة ..هذه قاتلتي .حني جاءت تعزيه قالت له: ُ
فتقبض عىل وجهها
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
201
“كمريدا كانت شقيقتي ،وطفلها ولدي ،وإذا شئت أن أتب ّناه فسيكون،”...
هدف يف احلياة غري تربية عالء ،واالنتقام ِمن قاطعها بحدّ ة ً
قائل“ :مل يعدْ يل ٌ
النظر يف عينيه وهي تقول:
َ وعينيها ال ّل ْتي حتاشتا
ْ اضطرابا
َ قاتيل أمه” .الحظ
ري ذلك”. “ال يمكن أن أتو ّقع منك غ َ
يقدر عىل االنتقام من َ األمر بر ّمته؛ لن
َ تراوده نفسه أن ينسى
ُ أحيا ًنا
ُ
الوصول إليه .أحيا ًنا وهو القاتل الفعيل الذي يستحيل عليههريمني وأخيها َ
َ
املستحيل ح ّتى يصل يرسم خطة طويلة األمد؛ يفعل َ يقول إنه يمكن أن
خارج عن القانون يف ٌ ّ
األقل من أناندار ،فهو ملنصب يؤهله النتقامه عىلٍ
ليذكر نفسه أنه أريض، يعود ّ
ُ ثم
أغلب األديتيني الذين حتدث معهم ّ ِ رأي
يفكر يف ابنهوأن له سق ًفا حمدو ًدا يف املناصب ال يمكن أن يتعدّ اه ،عندها ّ ّ
ألي منصب ،ح ّتى ممي ًزا له احلقوق يف الوصول ّ أديتيا ّ
اهلجني الذي سيكون ًّ
ثم ّ
يتذكر ثمّ ...
منصب احلاكم األول ،ويقول إنّه س ُي ْعلمه َمن ُهم قتلة أ ّمهّ ،
يؤهله لألخذ ٍ
ملنصب ّ أن قتلة زوجته يف الغالب سيموتون َ
قبل أن يصل ابنه ّ
بالثأر.
كل تلك األفكار والغضب ملقتل زوجته والتخطيط الفانتازي أن ّري ّ
غ َ
محم من نوع آخر. ٍ
أبخرة بركانية ختفي أسف َلها ً لالنتقام هلا ،ليس ّإل ّ
جمرد
يشك يف ّ
أن قراره باالنحياز وقلب ُمطمئن ،وال ّ ٌ كان قبل احلادثة لد ْيه يقنيٌ
الغزاة تشوبه شائبة .ذلك اليقنيُ اهتز ،تلك الطمأنينةإىل املحتلني وخدمة ُ
َ
الربكان ألن ذلك يعني ّ
أن جتنب ال ّتفكري ّ
حياول َُ تبخرت من قلبه ،وقد كان ّ
كل ما يتكئ عليه للبقاء ً
عاقل. داخله سيلتهم ّ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 202
يركز تفكريه باالنتقام من هريمني وأناندار ،حني يلعنهام يف اليوم حنيَ ّ
صخب تلك اللعنات عىل األصوات يف داخله َ يغطيأن ّمرة ،فإنه يريدُ ْ
ألف ّ
عيب نظام بأكملهّ ،
وإن َمن حيكمون النياندرتال ال العيب ُ
َ التي تقول ّ
إن
قدره أن
كأن َغياهب السجونّ ،ِ عمن ظلموا أباه وتركوه يموت يف خيتلفون ّ
حيب دو ًما عىل يد نظام ظامل أ ًّيا يكون.
يفقد َمن ّ
استأذنت مر ّبية ابنه للذهاب ح ّتى املساء
ْ يف صباح اليوم األخري إلجازته،
أذن هلا باالنرصاف وهو يتم ّنى ّأل تعود ويستبدهلا َ
لتأخذ راحتها األسبوعيةَ .
بامرأة مرص ّية .كان النظام املت َبع إذا ماتت ّأم طفلٍ هجني ،أن ُتعني له امرأة
األب األريض وحده فهم ال يأمتنون َ أديتية تكون مرضع ًة ومر ّبية يف ٍ
آن واحد؛ ُ
األم يف عامه األول، صغارهم غري صدر ّ َ ألنم ال يطعمون عىل تربية الطفل ّ
أن يغرسوا يف الطفل ِمن صغره االنتام َء ألديتيا وتربيته ناط ًقا وألنم يريدون ْ
ّ
بلغتها.
الطفل الذي كان هادئًا يف مهده ،تأمله وهو حياول أن َ جلس يداعبَ
يقسم مالحمَه إىل مالمح ور َثها منه وأخرى ور َثها من أمه دون فائدة ،كان
سبابته
حيرك ّلنقل كان ابنه وهذا يكفي .أخذ ّ مجيل وهذا يكفي ،أو ْالطفل ً
عىل قبضة الصغري ْ
املضمومة وهو يقول“ :د ّبرين يا عالء ماذا أفعل؟ أنا يف
أعود إىل عميل غدً ا ...ما رأيك لو اعتزلت؟” .انفتحت
دوامة ال أعرف كيف ُ
فابتسم وهو يقول“ :إ ًذا توافقني؟!”.
َ سبابته ُّ
كف الصغري وأطبقت عىل ّ
جهاز االتصال الداخيل رنينًا ،فقال بصوت عال“ :ماذا تريد”ُ أصدر
َ
لكن جهاز (باسل)
الرد الداخيل يف العادة ُمربجمًا عىل كلمة نعمّ ،
كان جهاز ّ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
203
الوحيد هو ا ُملربمج عىل كلمة “ماذا تريد؟” ،التي كانت تثري حفيظ َة حارس
ري مهندسني برشكة سيارات شهرية“ .الكبري األمن الذي كان فيام مىض كب َ
واجب
َ وإنا أتت لتقدم
البوابة تقول ّإنا عمتكّ ، (باسل) هناك امرأة عند ّ
زرا ،فتح شاش ًة تعرض له ُ
يضغط ًّ العزاء” .عقد (باسل) حاجبيه وهو
ومتعن فيها
كب الصورة ّ وجها غري ًبا عليهّ ،
عمته؛ كان ً وجه ّوجهها ،مل يكن ْ
ثم قال“ :آه ..عمتي والء.. أكثر ،عيناها فقط مألوفتان جدًّ ا .صمت ثانية ّ
ثم أغلق الصورة.دعها تصعد”ّ .ْ
حارس األمن فرصفه وقالُ ِ
ظهرت املرأة وجوارها فتح الباب ،انتظر ح ّتى
َ
يفسح هلا لتدخل إىل غرفة استقبال الضيوف وقد عرف ُ ّ
“تفضيل” .وهو هلا:
ُ
جهاز االتصال الداخيل ثانية ،ور ّد احلارس رن (ميساء)َ .
قبل أن يتكلم ّ أهنا ْ
(ميساء) بام معناه ْ
أن ضيف آخر يا سيدي” أشارت له ْ ٌ الثاين ً
قائل“ :هناك
يلوح بذراعه ويقول للحارس: بغيظ وهو ّيسمح له بالصعود .حدّ ق فيها ٍ
اسمه
“رجل أديتي ،اسمه السيد كرنـ ..كنرُ .. ٌ “ َمن؟” .فأجاب احلارس
دعه يصعد”. صعب يا سيدي” .ر ّد عليه بلهجة املتفهم “نعم نعم ..أعرفهْ ، ٌ
جلس ُقبالتهام وهو يتحدّ ث غاض ًبا“ :لقد قلت لكام إنّنا سنفرتق بعد َ
(ميساء)
إنقاذ زوجتي ،وإنّني سأقبض عىل َمن أصادفه منكم” .ر ّدت عليه ْ
أن عرفت َمن وراء قتل زوجتك”. أن الوضع اختلف بعد ْ متحدية“ :أعتقد ّ
َ
يتهاون يف املستجدات فهو لن
ُ فمهام كانت
تغيْ ، ر ّد عليها ناف ًيا أن الوضع ّ
وأخطاء أفراد من النخبة ال يعني ّ
أن النظام بر ّمته فاسد“ ..لقد وافقت ُ عمله،
ِ
حاولت إنعاش زوجته. ممتن ملخاطرتك حنيَ
عىل مقابلتك فقط ألنّه ّ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 204
قائل بصوت هادئ“ :العزيز (باسل) ،اسمي ماندريك تدخل األديتي ً ّ
شخصيا ،وأعلم ّأنا
ًّ أندام ،من ِ
قادة املقاومة األديتية ،أنا أعرف هريمني
مصلحتها” .أكملت ميساء: بأقرب الناس هلا ألجل ِْ قادرة عىل التضحية
حتب زوجتك ،وألنّنا نعرف أص َلك الطيب، “نحن هنا ألننا نعرف كم كنت ّ ُ
ريا عن أبيك وكم كان ُمعج ًبا به وبوطنيته”.
أيب حدّ ثني كث ً
صوت بكاء طفله ،فقام ليحمله من مهده
ُ لكن قاطعه
هم بالرد عليهاْ ،
ّ
يسمع منهم ،فقد يكون لدهيم ما يقولونه.
َ ري يف أن وهو ُ
يقول لنفسه ما الض ُ
ٍ
منصب رفيع خاص ،يرسلون ماندريك وهو يف ّ إهنم مهتمون به بشكلٍ
ومعه تلك الفتاة التي حتدّ ثه عن أبيه ومتدح وطنيته.
بينهم ،ويعرف هريمنيَ ،
يغي من أخذ هيدهد الطفل الذي بدأ هيدأ وهو يقول لنفسه ّ
إن اهتاممهم به ال ّ َ
شخص يف مثل موقعه ليكون ٍ ِ
بتجنيد األمر شيئًاِ ،
فمن الطبيعي أن هيتموا
جمر َد عميل هلم.
ّ
“أشكر لكام الزيارة ،وأعتذر منكام
ُ ُ
والطفل عىل ذراعه وقال: َ
دخل عليهام
ألنّني أريد قضا َء الوقت مع طفيل” .ر ّد عليه ماندريك“ :أال تريد معرفة
وهز رأسه
مط (باسل) شفتيه ّ السبب الذي جعلنا نخاطر باحلضو ِر لك؟”ّ .
تثأر لزوجتك يا رجل؟” .اتّسعت ناف ًيا بشدة ،فقال ماندريك“ :أال تريد أن َ
وجهه ،وبدا أنه سريفع صوته ُمتدًّ ا ،لك ّنه ثانية ّ
هز ُ وامحر
ّ عيناه يف غضب
رأسه ناف ًيا دون أن يتكلم.
(ميساء)“ :ما نوعية السائلِ الذي جيري يف عروقك ّ
بالضبط؟!” .نظر قالت ْ
إليها وأطلقَ ضحكة عصبية ُمصطنعة وقالٌ :
“دم يا سيديت دم ..ها قد أجبت
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
205
املهم ..اعذريني فقد َ
حان موعدُ إطعام عالء” .قاهلا وهو يشري هلام سؤالك ّ
بدأت
ْ سمى الصغري عىل اسم والده،ميساء ،التي فهمت أنّه ّباخلروج ،لكن ْ
وكيف وقف يف وجه ّ
كل َمن َ تتحدّ ث عن صاحب االسم ،وكيف كان ً
رجل
ِ
برتبية ابنه ويكتب يف مواضيع حاولوا إقناعه باخلنوع و َمن نصحوه بأن يكتفي
حيا؛ لذهب
جتلب عليه املصائب ومل هيتم“ ،لو كان األستاذ عالء ًّ
أخرى ال ُ
ألم حفيده”.
بنفسه لينتقم ّ
وترا يف داخله حياول دو ًما أن يكتم نغمه.
كالمها ً
ملس ُ زفر يف ضيق وقد َ
َ
إن كان أبوه سريىض عن منهجه يف احلياة أم كان ح ّتى َ
قبل مقتل كمريدا يسأل ْ
ري راضية عن روح أبيه غ ُ
يرجح أن َ حتيه ،كان ّ ُ
اإلجابة ّ ربأ منه ،كانت
كان سيت ّ
لتفهم ما يفعل؛
دوافعه ّ
َ مع الغزاة ،لكنه أحيا ًنا ّ
يؤكد أنّه لو رشح ألبيه عمله َ
ثم لبس فيها .ق ّلب َ
نظره بينهام ّ ُ
اإلجابة واضحة متا ًما ال َ َ
حدث اآلن وبعد ما
جلس وهو يسأل“ :ماذا تريدون مني بالضبط؟”.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 206
هز ماندريك رأسه مواف ًقا ،فنظر (باسل) إىل عالء الذي نام عىل ذراعه ّ
َ
وقال كأنّه يسأله“ :ما رأيك يا أستاذ عالء؟” .أمال أذ َنه عىل وجه الصغري
ً
باسم وقال“ :عالء يريدُ الثأر أل ّمه وليس ثم رفع رأسه متثيليةّ ،
ّ بحركة
ِ
املزيد من األنصار ..يريد قتل هريمني ضم
دعائيا يتيح لكم ّ
ًّ نرصا
إعطاءكم ً
وأنانـ.“ ...
قاطعه ماندريك وهو يضحك ً
قائل“ :ك ّنا ندرس علو ًما عن سلوكيات َ
مذكورا أنّكم ختلطون
ً البرش الذين يعيشون يف مناطق أسالفنا كام يقال ،وكان
حرجا ..مل أفهم هذا السلوك العجيب
ً اجلد باملزاح ح ّتى يف أشدّ اللحظات
إال اآلن”.
نظر له (باسل) بضيق وهو يقول“ :اجلدّ هو أنني لست أداة تستغلوهنا َ
(ميساء) بتحدٍّ ّ ،
ثم نظر إليه ثانية ونظر إىل ْ
َ ألغراضكم السياسية” قاهلا
“سوف أتفاوض معك ..ساعدين يف قتلِ أناندار وأنا أساعدك يف َ ً
مكمل:
ثم نظر إليه كأنّه حياول أن يقرأ صمت ماندريك ّ
مفك ًرا ّ َ خطف هريمني”.
أفكاره .فقال (باسل)“ :ماذا قلت؟”.
ثم قال“ :حسنًا ،ولكن
(ميساء) ّ ِ
النظرات مع ْ َ
تبادل ماندريك
رسميا
ًّ تنضم
ّ ٍ
وقت واحد” .أكملت ميساء“ :وأن نقوم بالعمليتني يف
للمقاومة”.
مهده برفق وهو يفكر ووضع (عالء) يف ِ
َ أدار ظهره هلام
صمت (باسل)َ ،َ
ُ
فسيحكم عىل الصغري أن يعيش مطار ًدا معه ،ولك ّنه يف أنّه لو فعل ذلك
وليس عىل ِ
يد مر ّبية غريبة .عاد هلام وقال: َ سيتم تربيته عىل يده
ّ الوقت نفسه
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
207
أن يصدر “آخر كالم عندي ..أوافق عىل االنضامم للمقاومة عىل رشط ْ
مع احلكومة األديتيةْ ،
وأن تساعدوين يف قتل أناندار عفو رسمي عن عميل ٌَ
نظره مليساء وهو
وجه َ يف الوقت ِ
نفسه الذي ختتطفون فيه هريمني ،وّ ”...
نظر ماندريك هلا
ميساء)َ .يقول“ :ما اسمك؟” قالت دون أن تفكر (اسمي ْ
مستغر ًبا ّأنا أعطته اسمها هبذه السهولة قبل أن يضيف (باسل) ْ
“وأن تشرتك
(ميساء) -أو أنت -معي يف عملية قتل أناندار”.
ْ
ر ّد عليه ماندريك ّ
بأن مسألة العفو تلك ليست بيده ،وأنّه ال بدّ أن يشارك
(ميساء) معه يف قتل أناندار فهو ٌ
رشط ِ
خطف هريمني بنفسه ،وأ ّما اشرتاك ْ يف
خاصة أهنا
بعمليات يأيت من خالل رؤسائهمّ ،ٍ صعب ّ
ألن تكليف املقاومني
ُ
حتقيقه، الرشط بالذات يمكنُ تتبع للحكومة املرصية ،فقالت ميساء“ :هذا
فقاديت يثقون بقدريت عىل تقييم املوقف ،وأنا أرى أنّه من العدل لك ْ
أن
أشارك معك يف عملٍ أنا من َ
أقنعك به”.
***
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 208
30
ً
متثاقل وهو يفكر يف اليوم الطويل الذي ينتظره. قام (سمري) من نومه
َ
مقراهتم يف منشية نارص بعد أن أصدراألوامر هلم بإخالء ّ
ُ ِ
صدرت منذ يومني
ثم ِ
بإخالء هذه املنطقة عىل مراحل تبدأ غدً ا بإخالء الدويقة ّ قرارا
النياندرتال ً
اإلدانات الدولية إلخالء منطقة
ُ تستمر جنو ًبا بعدَ ذلك عىل مراحل .كانتّ
هبذا احلجم يقطنها ما ُيقارب النصف مليون إنسان؛ تتواىل ،لك ّنها كانت
مجيعها جعجع ًة بال طحني ال ُتسمن وال تغني من جوع.
الشقي الذي يقع جوار صخرة املقر ّ
يذهب إىل ّ
َ كان من املفرتض أن
ٍ
حادثة ال ُتنسى منذ ما دهست عرشات املرصيني يف ْ الدّ ويقة الشهرية التي
آالت اتّصال وأجهزة وأسلحة وعدةِ املقر حيوي
نصف قرن .كان ّ ِ يقارب
كل يشء باالشرتاك مع جمموعة منجيهز ّدراجات طائرة .وكانت وظيف ُته أن ّ
الفنيني إلخراجها َ
دون أن يثري الشكوك. ّ
(ميساء) يشعر ّ
بالضيق الشديد من ْ ُ صباحا وهو
ً املقر يف السابعة
وصل إىل ّ َ
وحتججت يقوم هبذه املهمة وحدَ ه دون أن يرافقه (ضياء)ّ ،
أرصت عىل أن َ التي ّ
َ
االنفصال عنه مجيعا يف إخالء املقر الرئييس .منذ أن قررت
بأهنم سيتعاونون ً
غيظه أكثر من قرار االنفصال نفسه ،وكا َدبصلف شديد يثري َ ٍ وهي تعامله
يمس رجولتَه بشكل ما .مل
بأن ذلك ّ مرة للمقدم (إياد) لك ّنه شعر ّ يشْ كوها ّ
ويتغزل فيها ،وما
ّ العذر يف البداية ،فام الغريب يف أن يك ّلم زوجته
َ يلتمس هلا
تتنصت عليه .هل كانت تتوقع أنه
(ميساء) ليتيح هلا أن ّ
احلق الذي ارتضته ْ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
209
واملتحملة عبء أرسته،
ّ يتكلم مع زوجته بشكلٍ رسمي ً
مثل؛ ّإنا ّأم أوالده
أحب (ميساء) فال يعني ذلك أنّه نيس زوجته ،أو أنه سيتعامل وإن كان قل ُبه ّ
كأنا ُ
سقط املتاع إرضا ًء لغرور ابنة املدينة. معها ّ
املقر الذي يقع حتت األرض ِ
حمتويات ّ َ
جيهزون َ
وسط ال ّتقنيني كان واق ًفا
خمتلطا برصاخ نساء وصخب رجال وبكاء أطفال. ً حنيَ سمعوا صو ًتا هدّ ًارا
الصغرية
ثم خرج من البوابة ّ السلم الذي ُيفيض إىل الدور األريض ّ صعدَ ّ
متفرع من شارع أوسع .رأى جمموعة من ال ّناس يطل عىل ٍ
زقاق ّ للبيت الذي ّ
تسري ،وطائرات دقيق ًة حتوم فوقهم ّ
وكأنا تقودهم يف االجتاه الذي يؤدي إىل
خارج املنطقة.
وصل إىل الشارع ورأى عىل مرمى برصه مركب ًة ضخمة خترج منها َ
ّ
األقل ،وقد التصقت ربع مرت عىل
قطر الواحد منها ُ معدنيةُ ،
ّ خراطيم
ُ
تذكر ذلك املشهدَ حني كانت اخلراطيم بقاعدة ٍ
بيت أمامها يف عدّ ة نقاطّ .
هناك آالت مشاهبة يف قريتِه من عرش سنوات ،تلصق اآللة زوائدها يف قاعدة
مبتل ،وتثري الرعب يف ُ
فتجعل البيت يرتعدُ كفرخ ّ البيت ،وتبدأ يف االهتزاز
خارج البيت ليجدوا يف انتظارهم
َ قلوب ساكنيه ،وجتعلهم هيرعون فزعنيَ
أربع طائرات دقيقة تأمرهم بالسري خلف واحدة منها ،بينام البقية يقودون َ
املوكب بعيدً ا عن البيت.
َ
يوم أن وقف أمام الطائرة راج ًيا إ ّياها (أو من يوجهها) أن تعطيه
تذكر َّ
رد الطائرة أن أطلقت عليها َ
ويأخذ بعض املالبس لبناته ،وكان ُّ فرص ًة ليعود
ونرش أملًا حار ًقا يف أرجاء جسده
َ انغرس يف رقبته أسقطه ً
أرضا َ ريا
سهم صغ ًً
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 210
أن الوضع يف قريته أيامها كان أيضاّ -
يذكرً -
ُ استمر لعدّ ة دقائق .غري أنه
ّ
أبراجا ضخمة ليسكن ُ
أهل القرية فيها ً جهزواخمتل ًفا؛ فالغزاة وقتها كانوا قد ّ
فهم يطردون إىل العراء.
بدل من بيوهتم ،أ ّما هؤالء املساكني ُ ً
يظن أنه سيحدث اإلخالء بتلك الطريقة ،ولكنه كان ُّ كان يتو ّقع أن ّ
يتم
أن يغادر الناس بيوهتم قبلها طواعية ً
بدل وأن من املمكن ْ يف اليوم التايلّ ،
اقرتب من أحد احلراس الواقفني جوار املركبة
َ من إيقاظهم مفزوعني هكذا.
أن هذا َ
مصطنع“ :سيدي ..أمل تعلنوا ّ جم
بأدب ٍّ أرضيا فقال له
ًّ اهلادمة وكان
لكن وردت نظر إليه الرجل بقرف ،وقال“ :بىلْ ، اإلخالء سيبدأ غدً ا؟”َ .
سيندسون بني الناس غدً ا ّ
فقرروا التبكري”. ّ أن هناك خمربني للقادة معلومات ّ
خلعهم من بيوهتم ورم ُيهميتم ُ
فقال للرجل“ :ولكن ما ذنب هؤالء الناس أن ّ
بيوت
يف العراء هكذا؟!” .ضحك الرجل يف سخرية وهو يقول“ :وهل هذه ٌ
َ
فسوف نزيل هذا يا رجل؛ هذه مزابل ...اذهب من أمامي اآلن وأخلِ بيتك
املربع بالكامل اليوم”.
عض (سمري) عىل أسنانه يف ٍ
غيظ شديد وهو يتمنى أن يلقن ذلك اخلائن ّ
نفسه يف مشكلة كربى.
درسا لن ينساه ،لك ّنه مل يشأ أن يفعل ح ّتى ال يوقع َ
ً
سار بعيدً ا عن مكان اهلدم يف االجتاه اآلخر ،وصادف عد َة مركبات هدم
ِ
ساوت البيوت أمامها باألرض. تعمل بشكل متزامن ،ورأى اثنتني منها قد
رأسه بعنف من شدّ ة الغضب وهو يبرص أحدَ كان يشعر بالدّ م يتصاعد يف ِ
س الرأس خلف أرسته ري ّ
منك َ البيوت ينهار ،ويرى رجل البيت وهو يس ُ
ثم يقف ويلتفت يف أسى نحو البيت وهو يتهاوى وتنزل من عينيه الكبريةّ ،
بكمه وينظر إىل الطائرة الدقيقة التي اقرتبت منه وهي تطلق
يمسحها ّ
ُ دمعة
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
211
رضبا بك ّفه ً
حماول َ ندا ًء حتذير ًّيا حتثّه عىل امليش فيقفز الرجل يف اهلواء غاض ًبا
سهم يسقطه عىل األرض وهو يرتعد يف حركة يائسة فتطلق طائرة أخرى ً
ويرصخ من األمل.
ٌ
عجوز -يبدو أهنا أ ّمه- رصخت زوجة الرجل وبكى األطفال ،حاولت ْ
بتوسل
فأمسكت هبا الزوجة ،وطلبت منها ّ ْ تقرتب منه رغم حتذير الطائرة
َ ْ
أن
السهم املعذب .كان املنظر الرجل حني يفيق من تأثري ّ ُ أن متيض وسيلحقهم
كل املواقف التي رآها منذ الغزو ،رغم أنّه مل يف عيني (سمري) أشدّ وطأة من ّ
حتمل ،أو ّ
ألن ريا بام ّ
ألن نفسه ضاقت كث ً يكن أبشعها ،وال يدري ملاذا ،هل ّ
يقوم هبا اآلن .هذا
يتحمل املزيد ويريد أن َ ّ احلرب الكربى قد اقرتبت ومل يعدْ
مهمته يف مقاومة هؤالء أن ّالقهر الذي أبرصه يامرس عىل تلك العائلة ذكره ّ
كلواجب عىل ٌّ مهنة يرصف من راتبها عىل أبنائه ،وإنّام الغزاة ليست جمرد ٍ
يتحمل مصاعبه ،ال ليكفل ألرسته ّ حر جيري يف عروقه دم ،وأنه جيب أن ّ
كريم فحسب ،بل لتكون حيا ُته ذات معنى. عيشا ً
ً
األفكار املتالطمة ،وبدأ يفكر فيام ينبغي فعله اآلن .صار
َ نفض عن نفسه َ
وسط تلك الفوىض وكمية احلراس ورجال املوقف أكثر تعقيدً ا ،مل يعدْ بإمكانه َ
ُ
فرجة صغرية بني منزلني وضغطٍ أي يشء من املقر .توارى يف أن خيرج ّاألمن ْ
(ميساء) ليبلغها بالتطورات فطلبت منهعىل جها ِز االتصال يف معصمه ،ك ّلم ْ
زفر يف ضيق وهو يغلق االتصال ويتمتم أن ينتظر دقيق ًة ريثام تستشري (إياد)َ .
ري قادرة عىل القيادةّ ،
وكل ما يميزها أهنا بكلامت تعني ّأنا ال تفقه شيئًا ،وغ ُ
سهلت عىل فميساء من وجهة نظ ِره نقطة الضعف التي ّ ابنة عمر عوض اهللْ ،
احلكومة إقناع (عمر) بالعمل لصاحلهم.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 212
وأحست أهنا ال تستطيع أن تأخذ
ّ رب بقلب ُمنقبض،
ميساء استقبلت اخل َ
ْ
تتحمل مسئولية األجهزة التي ستفقد ،تلك
ّ ٍ
موقف كهذا لكي ال قرارا يف
ً
صحة
إضافيا عىل ّ
ًّ إن وجدَ ها النياندرتال فسي ّتخذوهنا ً
دليل األجهزة التي ْ
بمحو تلك املنطقة من عىل اخلارطة وترشيد سكاهنا .اتّصلت عىل
قرارهم ْ
إن الوقت ِ
خلطاب رؤسائه ،فقالت لهّ : (إياد) فطلب منها هو اآلخر فرصة
أن القرار َ
اآلن يف نطاق صالحياتك”. ال حيتمل االنتظار“ .سيدي ،أنا أعلم ّ
قالت له بحزم .فقال هلا“ :أجل ،ولكن تلك األجهزة تساوي املاليني ،غري
سنعرض
ّ مقر كهذا” .ر ّدت برسعة“ :ولك ّننا
اخلسارة املعنو ّية من كشف ٍّ
ثم قال“ :حسنًا ،أخربهيم أن ينسحبوا”.
الرجال للخطر” .صمت حلظة ّ
تنهدت يف ارتياح ،وطلبت (سمري) وأبلغته بقرار االنسحاب وبالعودة ّ
املقر ْين املتبقيني قبل أن حتدث ّ
ليتمكنوا من مساعدة الباقني يف إفراغ ّ رسيعا
ً
مفاجآت أخرى .دارت يف حجرهتا يف ٍ
قلق وهي تفكر يف ما ستفعل يف األيام
ات تابعة لكتائب احلرية،ملقر ٍ ُ
احلال بعد انتقاهلم ّ القادمة وكيف سيكون
احلل الوحيد إليقاف هذا ،كام ِ
املرحلة القادمةّ . وعن كيفية إدارة األمور يف
ِ
اختطاف هريمني وحماكمتها ،وإجبارها عىل قال ماندريك ،هو اإلرساع يف
ِ
أصحاب االعرتاف بارتكاب تلك اجلريمة وقد تعرتفً -
أيضا -بتواطئ
ُ
إيقاف عمليات التهجري يتم
مناصب أعىل معها .بتلك الطريقة يمكن أن ّ
فتقترص املشكلة فقط عىل الدويقة ،وال متتدّ إىل بقية منشية نارص ،ويمكن
ُ
عندها احلفاظ عىل بقية املقار.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
213
قبل أن تكمل خطتها” .تذكرت خطف تلك اللعينة َ ِ “ال بدّ أن نرسع يف
وخطر بباهلا أن تطلبه اآلن لتحثّه عىل إنجاز مهمته ،وإحضار َ (باسل)
ضغطت عىل معصمها
ْ املعلومات الالزمة التي ستساعدُ يف اختطاف هريمني.
اخلاص بجهاز
ّ فانفتحت شاشة فراغية صغرية ،بدأت بضغط رم ِز االتصال
َ
سخف الفكرة. وأغلقت الشاشة وقد أدركتِ اتصاله املش ّفر ،لكنها مل تكمله
ال تدري ما الذي أصاهبا منذ تعاملت معه ،تصري امرأ ًة أخرى يف وجوده
أن املرات التي رأته فيها قليلة جدًّ ا.رغم ّ
َ
ثم حاولت الرتاجع ،يف النهاية مل تستطع حجة تطلبه هبا ّخطرت بباهلا ّ
ْ
منع نفسها من فتح جهاز االتصال ثانية وطلب رمز االتصال املشفر به. َ
“عذرا ،أنا يف عمل
ً مسجل لباسل.. صوت ٌّ ثم أجاهبا
صوت الطنني ُّ جاءها
أغلقت االتّصال دون ترك رسالة، ِ استدعى األمر”.
َ اآلن ،اترك رسالة إذا
فلم يكن لدهيا يشء حمدّ د لتقوله ،كانت ستك ّلمه عن مقال قرأته ألبيه ّ
الراحل
بحجج
ٍ مأساة هدم منازل الفلسطينينيِ بعنوان “إرهاب اجلرافات” حيكي عن
ثم تقارن بني ما حتدّ ث عنه أبوه وما حيدُ ث اآلن.قوات االحتاللّ ، واهية من ّ
ذكرها هو َمدخل ُمبارش وأن جمر َد ْ
أن كتابات أبيه مقدسة عندهّ ، كانت تشعر ّ
ألعامق روحه وهي حتاول الوصول لتلك األعامق َ
دون أن تدري ملاذا ،ودون
أن جتدَ القوة ملنع نفسها من ذلك الفعل الالمنطقي.
ريا ٍ
هباجس آخر يراودها كث ً انتزعت (باسل) من تيار أفكارها واستبدلته
ْ
أن ماندريك وبقية النياندرتال الثائرين ال هذه األيام .كانت ّ
تفكر يف ما لو ّ
وأنم يطمعون يف السلطة، يتعاونون معهم فقط ألجل نرصة الضعفاءّ ،
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 214
وفضح جرائم احلكام احلاليني س ّل ًم للسيطرة عىل
َ وي ّتخذون إفشال الغزو
السلطة يف كوكبهم.
هيمنا نواياهمّ ..
كل حنيَ صارحت املقدم (إياد) هبواجسها قال هلا“ :ال ّ
وفعل ذلك بأرسع وقت قبل أن يسكن األرض ُ اسرتداد أرضنا،
ُ هيمنا هو
ما ّ
ُ
سيكون من العسري املهجنني مزدوجي الوالء الذين
جيل كامل من ّ املحتلة ٌ
ٍ
لسبب ال تدريه أن يكون تقتنع متا ًما فقد كانت تأمل
ْ التخلص منهم” .مل
طمع يف السلطة؛ تتم ّنى أن يكون يف
ٍ ري دون ماندريك ورفاقه ينارصون اخل َ
هذا العامل أناس حيملون بقايا من املثالية التي جتعلهم يفعلون ذلك.
مل تسأل املقدم (إياد) عن بقية اهلاجس؛ فقد كانت إجابته حاسمة مل
افرتاضا خمي ًفا؛ ماذا لو
ً يتضمن
ّ تسمح هلا باالسرتسال .كان ُ
بقية هاجسها
حتججوا
بالسيطرة عىل احلكم ومل ي ْنهوا الغزو ،ماذا لو ّ
قام الثوار النياندرتال ّ
األم نتيجة تدمري وسائل االنتقال ً
مثل ،أو بصعوبة نقل املاليني إىل الكوكب ّ
املهجنني الذين
األس املختلطة واألبناء ّحتججوا بوجود مئات اآلالف من َ
خيشون عليهم سطوة الدول األصلية حني تسرتد أراضيها؟!
اهلواجس متأل رأسها لك ّنها فعلت كام تفعل دو ًما حني تسقط يفُ كانت
ومضت تكتب عليها
ْ دوامة كتلك؛ أخذت ن َف ًسا عمي ًقا وأخرجت شاشة فراغية
كل ذلك وكتبت ّ
خطتَها لأليام القادمة. ثم حمت ّ
والرد عليهاّ ، تلخيص األفكارّ ،
جهاز االتصال يف معصمها لتطمئن عىل (سمري) َ بعدَ أن فرغت ،ضغطت
ثم تغلق االتصال لتكمل بقي َة استعداداهتا هي األخرى ٍ
لغد حافل ورجالهّ ،
بالتغريات الكربى والتحالفات اجلديدة واألحداث اجلسام ،وهي حتاول أن
تتناسى تلك املآيس األخرية ،والتي يف رأهيا ال بدّ أن تسبق انفراج َة األمل.
َ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
215
31
ثم َ
استئصال آخر قطعة من ورم كبري يف الغدة النخاميةّ ، أهنت (زهرة)
ْ
كل يشء عىل ما يرام قبل أن ختلعأن ّلتطمئن ّ
ّ ِ
أدخلت املنظار للمرة األخرية
يكمل مكاهنا .كانت جهودها قد َ ِ
املساعد أن ق ّفازهيا ،وتطلب من اجلراح
أسفرت يف العام املايض عن استكامل بناء املستشفى الذي كانت تديره يف
ِ
حدود األرض املحتلة ،وصار خميم الالجئني املوجود يف قرى اجليزة جنويب
كل اجلراحات اخلطرة فيه.باإلمكان إجراء ّ
مشاعا لألطباء ،كان
ً خرجت إىل غرفة املكتب الصغرية التي كانت ْ
مهمة سيشارك هبا هو ٍ
عملية ّ ينتظرها ليو ّدعها قبل الذهاب إىل
ُ (عمر)
جوار ابنته
َ أرص عىل االشرتاك يف هذه العملية ليكون
وميساء ،أخربها أنه ّ
مهم ٍة عىل تلك الدرجة من اخلطورة.
التي صممت عىل رأهيا باملشاركة يف ّ
أن ما يفعالنه سيساهم يف عودةقلبها ينفطر قل ًقا عليهام وعزاؤها الوحيد ّ
عددهم بشكل كبري
املخيم إىل بيوهتم ،والذين زاد ُ
هؤالء املساكني املقيمني يف ّ
يف األيام األخرية.
جلست جواره عىل األريكة الصغرية املوجودة يف املكتب ،طلبت من ْ
النعناع األخرض يا أم
َ كوبي من الشاي وقالت“ :ال تنيس ْ العاملة إعداد
ينظر إليها بطريقة أخجلتها،اعتدلت لتواجه (عمر) ثانية فوجدته ُ ْ سيف”.
فقالت يف خجل“ :لقد جتاوزنا الستني يا رجل ،ألن تتغري!” .ضحك وهو
حبنا بدأت متأخر ًة عن موعدها بعرشين مرة ،قصة ّ يقول “ :كام قلت لك َ
ألف ّ
كنت يف اخلامسة عرشة ال يف مرة ِ عا ًما ،حني ضمم ُتك بني ضلوعي َ
أول ّ
الثالثينيات لل ّتو”.
ّ أنظر إليك اآلن كام لو أنّنا نفارق
الثالثينيات ،ولذلك أنا ُ
ّ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 216
امحر وجهها أكثر ،وقالت“ :قلبي خيفق ك ّلام قلت ذلك كأنني ال أزال يفّ
بحنو ً
قائل ..إنّه يتمنى أن يأخذها يف ّ اخلامسة عرشة بالفعل” .أمسك يدها
اآلن لوال خو ُفه عىل صورهتا َ
أمام العاملني باملستشفى .كان يفتقدها حضنه َ
منذ خرج من سجنه ،مل تعدْ تكفيه رؤيتها ّ
كل أسبوع ،وكأنّه ريا هذه األيام ُ
كث ً
يعوض ما فاته معها يف العامني املاضيني.
كان يريد أن ّ
يتوجه معها إىل بورسعيد
معا قبل أن ّ (ميساء) ليتناولوا الغداء ً
كانا ينتظران ْ
القطار اهلوائي الكبري إىل بريوت يف رحلة تستغرق عدة َ ّ
سيستقلن ومنها
يفصح
ْ (ميساء) يف تلك املهمة ،ومل يشعر بالقلق الشديد عىل ُْ ساعات .كان
أقرب إىل القلعة ،وحراستهُ لزهرة عن سببه ،فاملكان الذي سيهامجو َنه
املدربني جيدً ا والبرش املرتزقة ُمرتيف القتل،
مشدّ دة ،مزيج من النياندرتال ّ
إضافة إىل الطائرات الدقيقة التي يمتلك أناندار منها الكثري.
جا َء الشاي ،وسألته زهرة وهي تناوله كو َبه بعدما ق ّلبت ّ
سك َره“ :أال
املهام القتالية تلك؟” .ابتسم يف
ّ إقناع ابنتك بالعدول عن املشاركة يف
حتاول َ
املهمة حتديدً ا .قال هلا ،بعد
إن عرفت طبيعة هذه ّ رد فعلها ْ
يتخيل َّ
توتر وهو ّ
بصوت مرتفع يئست هي ِمن جعله ّ
يكف عنه: ٍ أن تناول رشفة من شايه
رحم اهلل زما ًنا كانت البنت تعترب كلمة األب
ريا بدون جدوىَ ، “حاولت كث ً
أمرا سامو ًّيا ال جيوز نقاشه” .ضحكت وهي تقول“ :نحن يف منتصف القرن ً
مط شفتيهاحلادي والعرشين ..هذه القواعد كانت تصلح يف القرن السابق”ّ .
إن احلداثة ال تعني اخلروج عىل األعراف ولو يف يف غري اقتناع وهو يقول ّ
القرن الثالثني.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
217
مسار احلديث وحكى هلا عن خططه وطموحاته يف الغد بعد أن َ غيّ
وعن حلمه يف أن تستفيدَ بالده من هذه التجربة األليمة،
ينترصوا عىل الغزوْ ،
قطعا حنيَ يعرفون أن أرايض شامل وعن أطامع الدول الكربى التي ستزيد ً
مرص وسيناء هي ِمن أغنى األماكن بمصدر الطاقة اجلديد .أخذ حيكي عن
ٍ
تلميذ ما خطط له يف حال تو ّليه أحد املناصب .كان يتحدّ ث معها بحامس
شعر فجأة بأمل يف ٌ
منهمك يف حكيه َ مر هبا ،وبينام هو
يقص عىل فتاته مغامرة ّ
ّ
جمرد حرقةيعترص داخله وليس ّ
ُ فم معدته يمتدّ إىل أسفل صدره ،أمل قابض
كالتي يشعر هبا من يعاين من معدته بالفعل.
“ماذا بك؟” .سألته زهرة يف قلق ،فقال“ :ال يشء ،يبدو أهنا املعدة”.
التملص منها بدون َ “قم معي” .حاول
ثم قالتْ : نظرت إليه يف شكّ ،
احلبة ّقبة.
جدوى ،قام مترب ًما وهو يتحدّ ث عن األطباء الذين جيعلون من ّ
بمسح لقلبه فقامٍ املمرض أن يقوم
دخلت به إحدى الغرف وطلبت من ّ
جمسات أخذت حتوم حو َله وتصدر ً
أزيزا خاف ًتا، الرجل بتشغيل جهاز ذي ّ
طالعت زهرةْ ُ
ثالث ورقات مطبوعة من اجلهاز. ويف النهاية خرجت
ثم طلبت طبيب القلب.الورقات الثالث ،وبدا التوتر عىل وجهها ّ
يشعر بالقلق وهو يرى جدي َة احلديث الذي دار بينها وبني طبيب ُ بدأ
طبيب القلب
ُ نوعا من اجلدل بينهام .يف النهاية خرج
وأحس أن هناك ً
ّ القلب،
احلديث مرتبكة فقال ُم َط ْمئِنًا“ :حبيبتي تك ّلمي ال ختايف
ِ وبدأت هي يف
جلطة صغرية يف أحد رشايني قلبك ٌ يل” .ابتسمت بتوتر وقالت“ :هناكع َّ
املذيب هلا ،لكن األشعة تظهر ّ
أن َ الفرعية واملمرض اآلن جيهز لك الدواء
ّ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 218
نظر
فورا”َ .
وجيب استبداله ً
ُ أحد الرشايني الرئيسية عىل وشك االنسداد ً
أيضا
ً
مرتبكا“ :أال يمكن أن تنتظر العملية ح ّتى أعو َد إليها وقد فاجأه كالمها فقال
(ميساء) واقف ًة
هزت رأسها نافية بقوة وقبل أن تتكلم وجدت ْ املهمة؟”ّ .
من ّ
بباب الغرفة تتساءل عن ما جرى.
يف دقائق معدودة كان جيري جتهيز (عمر) لغرفة العمليات ،وميساء إىل
جواره ،وزهرة تروح وجتيء حتدّ ث هذا وتناقش ذاك .انتظر (عمر) ح ّتى
مت يا (ميساء) وأوصاها ً
قائل“ :إذا ّ ثم أمسك يدَ ْ ابتعدت زهرة ً
قليلّ ،
تتحمل أمك فقدَ كلينا” .دمعت عيناها وهيّ (ميساء) فال بدّ أن تعتزيل ،فلن
ْ
أيضا،جاوزت الستني ،وأحارب ً
ُ ً
تنهاه عن قول ذلك فضحك قائل“ :أنا
عرض للموت يف أي حلظة اسمعيني هذا هو الشقّ األول من وصيتي ،أ ّما وم ُّ
الشق الثاين فيخصني”.
ريا
حدّ ثها عن قريته التي نشأ هبا ،وعن ندمه أنّه مل يأخذها إىل هناك كث ً
ضموها مع القرى املجاورة ،وأطلقوا عليهم يف صغرها ،قال هلا ّ
إن الغزاة ّ
اسم لعينًا ينتهي بمقطع “بشيل” ،الذي يضعو َنه يف هناية أسامء املدن مجيعا ً
ً
مكانا حمدد ،و َمن بقي
فإن َ الصغرية وجتمعات القرى .قال هلا إنّه رغم ذلك ّ
َ
لتنقل رفاته إىل جوارهم من أهلها فيها سيستطيع إيصاهلا ملكان د ْفن أبويه
أن قيمةبحنو عىل خدها“ :أنا أعرف ّ ّ ثم قال وهو يضع يدَ ه بعد التحريرّ ،
مهم يل فوق ما
هذه األشياء تضاءلت يف زمنكم هذا ،لكن ما أطل ُبه منك ّ
أعز عندي من الدنيا يا
وقبلتها وهي تقول“ :أنت ّ تتصورين” .أمسكت يدَ ه ّ
واجبة رغم أنني أمتنى ّأل أحتاج لتنفيذها” .ابتسم يف امتنان ٌ أيب ،ووصيتك
االسم ح ّتى ال تنسيه” .فقالت وهي تصطنع ضحكة حاولت َ ثم قال“ :اكتبي
ّ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
219
قدر اإلمكان“ :حفظتها واهلل ،اسمها عزبة سيدك تبع”. مرحا َ
أن تكسبها ً
أيضا يا قليل َة األصل ،قويل ثانية رضهبا عىل ك ّفها وهو يقول“ :وسيدك ِ
أنت ً
ما اسمها وما اسم القرى املجاورة هلا” .فقالت ضاحكة“ :سيدي تبع ،شامهلا
قرية الورق وجنوهبا الكفر اجلديد ،ومقربة جدي عىل ُبعد كيلومرتين رشق
تسموهنا اجلعفرية ...ال تقلق يا
خالل سكة صغرية ّ َ الطريق الرئييس تقطعهام
حيا وأنت وزير أو حمافظ”.
أيب سوف تعود إليها ًّ
رسيعا ،رأهتا زهرة فقالت ضاحكة: ً ّقبلته عىل جبينه وهي تتمنى شفاءه
“أظن أنني
ّ ثم سأهلا عمر: مجيعا ّ
أدم علينا هذا الصفاء” .ضحكوا ً “ال ّلهم ِ
َ
اللحاق بمهمتي” .ر ّدت عليه بنفي قاطع اخلروج الليلة ألستطيع
َ سأستطيع
ثم سيحتاج إىل الراحة ملدة أسبوعني عىل مؤكدة أنه لن خيرج َ
قبل ثالثة أيام ّ
أفعال ُمهدة .اعرتض عىل قوهلا ،ودخال يف شدّ وجذب، ً األقل ال يامرس
لصف أمها وقالت“ :اسمع يا أيب ،ال أريد الذهاب إىل ّ (ميساء)
وانضمت ْ
ّ
سيدك بلبع هذا يف أي وقت” .نظر إليها بغيظ وهو يقول“ :بلبع يا ابنة الــ.”...
كرر سؤاله لزهرة عن إمكانية تقليل مدّ ة الراحة ،فقالت بحزم“ :أسبوعان
ّ
أحتمل ثم مهس ً
قائل“ :كيف ّ أي إجهاد” .أشار إليها لتقرتب بأذهنا منهّ ، بال ّ
ً
خجل ورضبته امحر وجهها
بصحبتك”ّ . أسبوعني بال جمهود ،وأنا سأقضيهام ُ
ربك عىل الراحة ال تقلق”. عىل كتفه قائلة“ :سأج ُ
شك وهي تقول“ :لو كان ما أفكر فيه (ميساء) عينيها بينهام يف ّ نقلت ْ
ْ
ثم قال (عمر) ً
باسم“ :بذمتك انفجرا ضاحكنيّ ، َ صحيحا؛ فهذه كارثة”.
ً
تتخيلني وأنت يف س ّنها أن تقويل أل ّمك شيئًا كهذا ..ما رأيك اآلن
هل كنت ّ
أختيل أفالم
األربعينيات!” .فقالت زهرة“ :حني تقول األربعينيات ّ ّ يف بنات
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 220
أربعينيات القرن احلادي
ّ ليىل مراد وأنور وجدي والرحياين ،وال خيطر ببايل
والعرشين”.
ً
اتصال (ميساء) وقالت ّإنا ستذهب ملكان منعزل لتجري استأذنت منهام ْ
باملقدّ م (إياد) وباسل ،وختربمها ّ
بأن أباها لن يكون معهم غدً ا .تابعها بنظره
وهي تبتعدُ وقال لزهرة“ :كنت معرتضة عىل (سمري) ألنّه متزوج ،اآلن هي
ال تتكلم ّإل عن باسل وال أدري ما دهاها” .سألته َمن يكون باسل؟ فقال
هلا إنّه انضم للمقاومة حدي ًثا ،وإنّه يعمل يف الظاهر مع رشطة النياندرتال،
وإنّه كان من عتاة ضباطهم واعت َقلَ ،
وقتل الكثري من الثوار فيام مىض .فقالت
ُ
الرجل معكم بعدَ ثم كيف يعمل هذا
مذعورة“ :يا إهلي هل ج ّنت البنتّ ...
خيانته وعمله مع الغزاة”.
حك يدَ ه مكان مدخل اجلهاز الوريدي طال ًبا منها أن تنزعه لك ّنها نظرت ّ
قائل“ :الرجل أعلن توبتَه عن أفكاره ،وحصل عىل عفو حمذر ًة فرتاجع ً إليه ّ
السلطات مقابل تعاونِه الكامل ،واشرتاكه ّ
الفعال مع املقاومة ،واحلق من ّ
رأسها رافضة لفكرة ارتباط ابنتها به رغمهزت َ أنه صدق متا ًما ح ّتى اآلن”ّ .
ثم أضاف“ :أعتقدُ أنخيم ُن فقط من طريقة اهتاممها بهّ ،
ذلك .فقال عمر إنه ّ
تعرضت له أرسته قبل الغزو معه بعض العذر فيام فعل ساب ًقا ،فالظلم الذي ّ
أي إنسان يفقد بوصلته لكنه عا َد إىل رشده عندما عرف احلقيقة ،وهذا جيعل َّ
ُيسب له”.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
221
تغمز بعينها اليمنى عن ر ّد األستاذ باسل ،وضغطت عىل حروف اسمه،
(ميساء) بضيق ُمتجاهلة التلميح ّ
املبط َن يف كالم أمها“ :مل يستطع فقالت ْ
احلديث ،ر ّد بطريقة مقتضبة ّ
ألن مر ّبية ابنه موجودة بجواره” .حدّ قت زهرة
متزوج هو اآلخر! ما حكايتك أ ّيتها
فيها باستنكار وهي تقول“ :ابنه! هو ّ
جمر ُد زميل ال يعنيني يف
(ميساء) بتوتر قائلة“ :أمي ..هذا ّ
املجنونة” .ردت ْ
تنزع جهاز املحلول
متزوجا” .فقالت أمها وهي ًُ ثم إنّه أرمل وليس يشءّ ،
من ذراع (عمر) بعد أن فرغ الدواء“ :حسنًا سأصدق أنه ال يعنيك يف يشء،
لرتب له ولده” .ضحك عمر لكن اعلمي أنّه عىل جثتي أن تتزوجي أرمل ّ ِ
بصوت عال وهو يقولَ “ :من الذي يعيش يف القرن العرشين اآلن أنا أم أنت
يا ّأم ميساء؟!”.
***
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 222
32
الصغري الذي يربط القاهرة (ميساء) من القطار اهلوائي ّ ترجلت ْ ّ
كل املدنالقطار الكبري الذي يربط ّ
َ ببورسعيد ،وبصحبتِها (باسل) لريكبا
مرورا بعدة
ً الساحلية يف األرايض املحت ّلة ،بداي ًة من اإلسكندرية ح ّتى إزمري،
معا
ربا ًمدن كربى؛ مثل غزة وحيفا وبريوت والالذقية وأنطاليا وغريها .ع َ
متنكرين يف هيئة ٍ
فتاة وأبيها( ،باسل) الشارع نحو رصيف القطار الكبري ،كانا ّ
تغضن وشعره أشيب وجفنُه السفيل منتفخ ً
قليل ،والعلوي متهدّ ل وجهه ُم ّ
ُ
البنية ،ال يمكنك حني تراه ّإل أن
اجللد ،ويداه مغطيتان بالتجاعيد والبقع ّ
(ميساء) فقد طال أنفها ً
قليل ،وزادت حد ُته، جتزم أنّه جتاوز الستني .أما ْ
بروزا ،وامتألت شفتاها ً
قليل ح ّتى بات وفكاها ً وزادت وجنتاها استدارةّ ،
أقرب لعارضة أزياء يف أيام ما قبل االحتالل.
َ وجهها
وكأنا تساعده عىل عبور الطريق ،توقفا أمسكت ذراعه بيدها الصغرية ّ
ْ
ثم قالت رحلة سعيدة بصوهتا تفحصتهامّ ،
أمام إحدى الطائرات الدقيقة التي ّ
دخلت لقاعدة بيانات تعرفت فيهام عىل مالمح ُمستعارة ُأ ِاملميز بعد أن ّ
رشطة النياندرتال بواسطة الثوار .عىل باب القطار أوق َفهام ضابط أديتي،
عن الغرض من رحلتِهام قبل أن يرتكهام يركبان.ثم سأهلام ِ
تفحصهام بحرص ّ ّ
المعا ،عرباته فسيحة ،واملقاعد وثرية ،وكانت أسامؤمهاالقطار نظي ًفا ً
ُ كان
املخصصة هلام.
ّ ا ُملستعارة مكتوبة يف شاشة فراغية صغرية أعىل املقاعد
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
223
مرة واحدة كالريح عىل ثم انطلق ّ ارتفع القطار يف اهلواء َ
أول األمرّ ، َ
ِ
تسعة أمتار فوق سطح األرض ،يف وقت وجيز وصل إىل حمطته التالية ارتفاع
ثم طاروركب البعضّ ،َ َ
ونزل ملستوى الرصيف يف العريش ،وقف أعالها
إىل حمطته التالية يف غزة.
مرة يركب فيها هذا القطارأول ّ إن كانت تلك ّ (ميساء) (باسل) ْ سألت ْ
مرتني من قبل” .قالت“ :كنت يف فأجاب باقتضاب“ :ال ..ركب ُته َّ املبهر،
أوشكت أن تسأله متى وكيف لك ّنها
ْ ِ
بإيامءة موافقة. مهمة عمل؟” فأجاهبا
ٍ
بكلمة عىل األقل. َ
القول الستطرد يف إجابته أو أحاهبا تراجعت فلو كان يريد
قليل وهي تفكر يف فتح ٍ
جمال آخر للحديث معه يكون حم ّف ًزا له صمتت ً
ْ
ثم سألته االقتضاب ا ُملنفر .أخذت ً
نفسا عمي ًقا ّ ِ ليتحدّ ث وال جييبها بذلك
تظن أننا سنستمتع بتلك املواصالت بعد أن يرحل الغزاة” .نظر ثانية“ :هل ّ
قال بصوت هامس“ :وهل تظ ّنني أنّه من املناسب أن ثم َتوجسّ ، حوله يف ّ
أحستمملوء بالناس والطائرات الدقيقة!”ّ . ٍ نتكلم عن رحيلهم يف قطار
وبأنا تكاد تغوص يف كرسيها من اإلحراج.
بالدم هيرب من أطرافهاّ ،
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 224
أصل بوجود حوارا وهو ال يبايل ً
ً ملجرد أن تفتح معه
ترتكب محاقة ّ ُ ها هي
حوا ٍر بينهام .تساءلت هل كانت وامه ًة حني شعرت بانجذابه هلا ّأول ما
ٍ
انجذاب بني رجل وامرأة تصو ُر حدوث
رآها ،كانت حلظة رصاع يصعب ّ
شعورا كاذ ًبا أم
ً خالهلاّ ،إل أهنا تكاد ُتقسم ّأنا شعرت بانجذابه .هل كان
ثم ملا ماتت زوج ُته بني يديه فقدَ الرغبة يف احلب .تقلب أنّه انجذب هلا ً
فعل ّ
افرتاض ذلك محاقة أخرى ،فكيف ينجذب َ ثم تقول إن األمر يف رأسها ثانية ّ
ثم
ثم حني متوت زوج ُته يزول هذا االنجذابّ ، رجل متزوج المرأة ماّ ، ٌ
يترصف أحدُ هم هبذا ُ
“الرجال جمانني ،ويعشقون اخليانة ،وقد ّ تقول لنفسها:
الشكل”.
نظرت من زجاج القطار ،وأخذت تتأ ّمل الساحل وهي تفكر يف مدى ْ
تترسع يف
وتفكر يف السبب الذي جيعلها ّ ومحق خياالهتا وحتليالهتاّ ، ِ سذاجة
وتتخل عن بدهييات ال بدّ أن تكون ّ احلكم عىل مشاعرها ومشاعر َمن حوهلا،
ٍ
صديقات حتكي هلن موجودة يف أي عالقة ُتقدم عليها .ر ّبام أل ّهنا ال متتلك
بلد ُمتلبأن احلياة عىل حا ّف ِة اخلطر يف ٍ وتستمع إىل خرباهتن ،ور ّبام إحساسها ّ
ُ
أرسع ّاتا ًذا وأقل تعقيدً ا.
َ القرارات العاطفية جيب أن تكون ِ تظن أن
جعلها ّ
متشاهبتي إىل حدّ
ْ ثم تل أبيب ،وقد صارت املدينتانتو ّقف القطار يف غزةّ ،
ّ
األقل يف اجلزء الظاهر هلا من حمطة القطار .كان َمن استقلوا القطار كبري ،عىل
وأرضيني ال
ّ جنسهم من سحنتهم املميزة)، من املدينتني نياندرتال (يظهر ُ
وحد بينهم االحتالل تفرق َمن منهم عريب و َمن منهم هيودي ،وقد ّ يمكن أن ّ
فجعلهم حتت نريه سواء .كانت إحدى ال ّنقاط التي يتباهى هبا املحتلون دو ًما
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
225
الصاعات بني األرضيني يف األرايض التي احتلوها ،وعىل أهنم قضوا عىل ّ
رأسها الرصاع العريب اإلرسائييل الذي دام قرابة القرن قبل جميء النياندرتال.
شطر زجاج القطار ،مل تتبادل مع
َ أمضت بقية رحلتها مولي ًة وجهها
ْ
(باسل) كلم ًة أخرى ح ّتى وصال إىل بريوت ،كانت حمطة القطار تطل عىل
الروشة التي ال تزال واقف ًة بقوسها العظيم أمام الشاطئ ِ
صخرة ّ البحر أمام
تنتظرمها مركبة أخذهتام
ُ ال يشغلها من حيكم هناك أو َمن يعيش .هناك كانت
مقرات املقاومة اللبنانية يف ِ
أحد أزقة الضاحية اجلنوبية لبريوت. إىل ِ
أحد ّ
يسمى “حارة
انطلقت هبام يف شارع “باماجوها” والذي كان قبل الغزو ّ
ُ
املطاف هبام حريك” .انعطفت السيارة يف شوارع جانبية ُمتتالية ح ّتى انتهى
إىل اجللوس يف غرفة صغرية يف انتظار التعليامت القادمة من قيادة املهمة التي
كتائب بريوت بصفتهم ُ ُهم عىل وشك االنخراط فيها ،والتي كانت تديرها
مسئولني عن تلك املنطقة.
ثم قال“ :اعذريني فقدنقر (باسل) بأصابعه عىل الطاولة أما َمه يف عصبية ّ
َ
كنت اعتقد أن أمح ًقا أصح ألهنا صفة وليست أفعل تفضيل من ّأول اليوم،
ثم سكت ثانيةلكن ”...سكت وكأنّه يستجمع بقية كلامته ،فتح فمه ليكملّ ،
ويمر بأكثر
ّ فقالت هي“ :لكن ماذا؟” .كان يريد أن يقول هلا إنه مضطرب
كامل من حياته يف كذبة ،أمضاهاأيام حياته تعقيدً ا ،ويشعر أنّه أمىض عقدً ا ً
عمن ظلموا أباه،
خسة ّويلص ألناس ال يق ّلون ّ حيارب يف جبهة خاطئةُ ،ُ
أن يسامح نفسه عىل الدماء التي سالت عىل ِ
يده إن كان سيستطيع ْ وال يعرف ْ
كل مههم كان الدفاع عن أوطاهنم ضدّ الغرباء. ألناس ّ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 226
ِ
وعن ارتباط صورهتا يف ذهنه بوالئه كان يريدُ أن يتكلم عن كمريدا
نجت من تلك األزمة؛ هل كانت
ْ وعن تساؤله ماذا لو كانت قد
للغزاةْ ،
ستؤ ّيد انضاممه للناس الذين حترق خصالت شعرهم بعدَ موهتم وتصيل
جللدهيا!؟ وماذا ستظل ُملصة ّ
ّ إلهلها ليحبس أرواحهم يف الظالم ،أم
تركه للمر ّبية ،وال معا وعن ِ
طفلهام الذي َ حبه هلا ،عن حياهتام الرائعة ً
عن ّ
ري الوالء لقومها يعرف إن كان سيعود لرياه أم ال! لو كان اختذ طري ًقا َ
آخر غ َ
ٌ
احتامل ولو ضئيل بكل ذلك الشغف ،أكان سيوجد ثمة ستحبه ّ
ّ أترى كانت
َ
تعرف هي حقيقة حكامها فتنضم هي للمقاومة ويقعا يف احلب بتلك أن
الطريقة.
يف ال ّنهاية ،قال مليساء“ :أعتقد أننا يمكن أن نستفيدَ من تقنيات األديتيني
وقطاراهتم ح ّتى بعدَ رحيلهم” .ابتسمت لر ِّده وقالت“ :هل أخذت ّ
كل هذا
الوقت لتفكر يف إجابة السؤال؟” .مل ُي ِ
بد أنّه استوعب مزاحها ألنّه استطرد
ً
قائلّ :
إن االستفادة من تقنياهتم ستحدُ ث فقط إذا تعاون اجلميع ،ونسوا
املتعصبون عن
ّ عن استبدادهاّ ،
وختل أحقاد املايض ،إذا ختلت احلكومات ِ
ِ
اغتصاب األرض ُ
الصهاينة ّأنم ال بدّ أن يك ّفوا عن طائفيتهم ،ووجد
ّ
والتوسعية واملؤامرات ،واستطعنا نحن أن نقبل وجو َدهم بيننا إذا احرتموا
ّ
فهم العريب والرتكي والكردي واليهودي ّ
أن اإلنسانية هي وعو َدهم ،وإذا َ
يوضع يف االعتبارّ ،
وأن التعايش هو الدين الذي ينبغي ُ
العرق الوحيد الذي َ
أن يسود.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
227
أن لديه مثل تلك األفكار تنظر إليه مبهور ًة غري مصدقة ّ
ختم حدي َثه وهي ُ
َ
“أنت تتكلم مثل أيب متا ًما
رشطيا يقمع الثائرين ،وقالتَ :
ًّ وهو الذي كان يعمل
هز رأسه مواف ًقا وقال“ :ما دفعني خلدمتهم هو ّأنم يسعون يف تلك النقطة”ّ .
إىل ال ّتعايش بني مجيع األجناس واألديان داخل دولتهم واحرتامهم للجميع،
اكتشفت ّأنم ال حيرتمون ح ّتى حقّ أبناء شعبهم يف احلياة ،وأهنمُ لكنني
الذرائع لتهجري ٍ
مزيد من البرش خارج األرض املحتلة”. يبحثون عن أحقر ّ
نفسه يتأمل عينيها ثانية دون أن يشعر ،كانتا عندما أهنى كال َمه وجد َ
املرة األوىل نظرتا ِ
باختالف نظرهتا لهّ . بالنسبة له حتويان عم ًقا غري ًبا مل خيتلف
إليه بتحدّ ويشء من الكراهية ،يف الثانية حت ّفز وفضول واليوم فيهام إعجاب
كل تلك األحوال كانت العينان تأخذانه بشكل واضح حتاول هي إخفاءه ،يف ّ
النظر إليها أو تبادل احلديث
َ إضافيا لتج ّنبه
ًّ ال يمكن تفسريه ،وكان ذلك سب ًبا
فامحر وجهه هو
ّ معها يف القطار .الحظ امحرار وج ِهها من طول نظ ِره إليها،
أن وجهك به ُحرة خجل ،وأعود اآلخر ،ابتسمت وقالت “أريد أن أقول ّ
أكذب نفيس” ضحك وقال “نفيك لوجود محرة اخلجلِ يف شخص ما تعدّ ّ
(ميساء) أنني ”.... إهانة ،لك ّنني أعرف مقصدك ،احلقيقة يا ْ
َ
األطباق من جير أمامه عرب َة طعام صغرية ،نقل
شاب عرشيني ّ
قاطعه جميء ّ َ
عليها إىل طاولتهم ،نوعان من سلطات اخلضار وحلم ودجاج مشوي وطبق
فاكهة ،ومت ّنى هلم وجبة هنية ،وانرصف دون أن يزيد كلمة .كانا جائعني فلم
بشهية مفتوحة ،بل وهربا به من ٍ
حلظة كالمها غ ُري مستعدّ يت ّرب َما َ
وأقبل عىل األكل ّ
وهم باالنرصاف. الشاب نفسه بكوبني صغريين من القهوة ّ
ّ هلا .بعد ِ
أن انتهيا جاء
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 228
ِ
واجب الضيافة ..ألن جيتمع بنا أحدٌ من “شكرا عىل
ً أمسك ُ
باسل ذراعه وقال:
الشاب ً
جمامل وهو يؤكد ّ
أن االجتامع ّ ابتسم
َ ّ
سنظل هكذا ح ّتى الغد؟”. القادة أم
بعد قليل.
وقت طويل ح ّتى بدأ االجتامع ،كانا جالسني إىل طاولة بيضاوية يمض ٌ مل ِ
ُ
أربعة رجال وامرأة وثالثة من النياندرتال .تبادلوا كبرية ،جلس عليها ً
أيضا
رجل مخسيني ليتوسط اجللسة. ٌ تعار ًفا قص ً
ريا وترحي ًبا ُمقتض ًبا قبل أن يأيت
(ميساء) بحرارة وهي تقول“ :سيد سامر ،رشف يل أن أقابلك سلمت عليه ْ
بادلا الرجل باحلرارة نفسها وهوريا”َ .شخصيا ،لقد حدثني والدي عنك كث ً ًّ
يقول إنّه حيرتم بطولة والدها جدًّ ا ،وقد أسعدَ ه قراره باملوافقة عىل توحيد
املقاومة يف مرص كام هي يف لبنان ،وأنّه مل يبقَ غري السوريني ح ّتى تكتمل جبهة
واحدة داخل األرايض املحتلة.
نظر إىل باسل ،ومدّ يده يسلم عليه وير ّبت عىل كتفه مرح ًبا؛ “لقد قرأت
َ
أقتنع يف البداية بالعمل معك لوال ّ
أن السيد ملفك بعناية ،وأصدقك القول مل ْ
ابتسم باسل وقال له“ :صدقني يا سيدي َ (عمر) ّأكد يل والءك للقضية”.
ثم أشار إىل أحد معاونيهمتفه ًم ّ
الرجل رأسه ُّ هز
يرسك”ّ . سرتى م ّني ما ّ
ً
قائل“ :ابدأ الرشح يا إييل”.
َ
ضغط إييلٌ -
رجل ثالثيني من ُع ْمر (باسل) تقري ًبا ،وسيم ،ذو شعر طويلٍ
أداة يف يده؛ فظهرت شاشة فراغية أمام اجلميع انحرس عن مقدمة رأسه -عىل ٍ
لقص َمنيف عايل األسوار ،به مساحة واسعة من األرض العشبية،
جمسم ْ
فيها ّ
محا َما سباحة ومبنيان صغريان؛ واحد بني البوابة اخلارجية وباب القرص
و ّ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
229
موقع
واضحا ُ
ً ِ
فابتعدت الصورة ،وبدا زرا آخر
واآلخر خلف القرص .ضغط ًّ
ٍ
جرف يرى البحر من بعيد ،ويف سوره الغريب عىل القرص عىل ّتبة عالية ّ
يطل ُ
السور عىل طريق يمتدّ مواز ًيا للجرف املوجود غرب
ُ ناحيته الرشقية ّ
يطل
القرص.
بدأ إييل برشح الرتتيبات األمنية للقرص ،وعدد الرجال القائمني عىل
محايته ،وأماكن املركبات فيه ،واملستشعرات املجهزة بمقذوفات ملهامجة
أي متسلل ،وطريقة توزيع الطائرات الدقيقة التي حترس املكان .فتح بعد
ِ
تواجد أفراده ،وغرفة اجتامعات خمطط للقرص وأماكن ذلك صورة فيها ّ
وقت اهلجوم إىل جانب غرفة نومه وغرفة زوجته
أناندار املتوقع وجوده فيها َ
والغرف املخصصة ملامرسة ال ّلهو الذي يدمنه.
“مهمتنا من ش ّقني؛ ّ
األول قتل أناندار ،والثاين هو القبض عىل ّ قال سامر:
فهم (باسل) من الرشح أنه حيا ل ُيعيننا يف حماكمة هريمني”َ . ِ
مساعده األول ًّ
اخلطة إلحداث أكرب قد ٍر من التأثري الدعائي ملحاكمة هريمني، ُ قد ُعدِّ َلت
كل منهام لالعرتاف عىل ِ
مساعد أخيها معها ،والتأثري عىل ّ وذلك بمحاكمة
كل تلك االعرتافات يف العلن. اآلخر ،ونرش ّ
سأل أحد النياندرتال املوجودين ً
قائل“ :ماذا لو ُقتل املساعد يف أثناء َ
بدل منالعملية؟” .فأجاب سامر“ :سنكون ُمربين عىل اختطاف أناندار ً
فتدخل (باسل) ً
قائل بغضب“ :لقد اتّفقت مع زمالئكم يف مرص عىل قتله”ّ .
رصت من زمالئنا بمجرد
َ شذرا وقالِ :
“من املفرتض أنّك سامر له ً
ُ قتله” .نظر
قبولك االنضامم لنا!” .تدخل إييل ً
قائل“ :سيد باسل ،يمكنك أن حتمي هذا
املساعد ح ّتى ال تفقد فرصتَك يف االنتقام” .فقالت ميساء“ :وبفرض ّأنم
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 230
اضطروا ملحاكمته مع أخته فإنه ُيمكنك بعدَ نرش اعرتافاته أن حترض تنفيذ
ّ
هز سامر رأسه مواف ًقا ْ
(ميساء) وهو يؤ ّمن عىل حكم إعدامه بنفسك”ّ .
وأشار له باجللوس وهو يقول“ :واآلن دعونا
َ ثم وقف مكان إييل كالمهاّ ،
نبدأ بخطة عملية برمانا”.
***
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
231
33
تقارير إعالمية عن إخالء منطقة َ جلست هريمني يف مكتبها تراجع ْ
واملهجرين منها الذين جتاوز عددهم اخلمسني أل ًفا،ّ الدويقة وهد ِم بيوهتا،
مركبات كبرية وأنزلوهم يف صحراء طرة عند احلدود بني األرض ٍ ُه ِّجروا يف
اإلدانات الدولية تتواىل ،وأديتيا تر ّد بأهنا دولة
ُ املحتلة وباقي مرص .كانت
حرة ،وال بدّ هلا من معاجلة (مشكلة اإلرهاب ا ُملستفحلة فيها) ح ّتى ْ
وإن أ ّدى ّ
األمر إىل إخالء ّ
كل املناطق الشبيهة.
وس ًعا يف إدانتها ملقتل النساء األديتيات احلوامل ح ّتى تدخر ُ
دول العامل ْ ْ مل
مثل أدانتا اجلريم َة بأشدّ العباراتّ ،
وأكدتا عىل الدّ ول املحتلة .تركيا ومرص ً
أن املقاوم َة حقّ َمرشوع للشعوبّ ،
لكن املقاومة ال ينبغي أن توجه للمدنيني
جلسة جملس األمن كانتِ وينبغي أن ال ت ّتخذ ذريع ًة جلرائم كتلك .يف
ألي دولة يف
تسمح ّ
َ إن أديتيا سرتد ،ولنثقة وتقول ّ هريمني تتحدث بكل ٍ
العامل بالضغط عليها يف مثل هذا األمر.
كانت منشية نارص هي التجرب َة األوىل ،وإذا نجحت وكانت ذات جدوى
تتبعها مناطق أخرى أوهلا إمبابة ومسطرد ٍ
مادية كبرية وهو املتوقع؛ فسوف ُ
يف مرص وجوبر وبرزة يف دمشق وأجزاء من ضاحية بريوت اجلنوبية وبعض
الضواحي القديمة يف مدينتي أضنة وإزمري برتكيا.
فتسمرت املرأة
ّ طلبت منها بعض األوراق
ْ نادت عىل مساعدهتا اجلديدة،
ْ
تكبت رغبتها يف صفعها.
ُ نفسا عمي ًقا وهي ِ
مكانا كأهنا مل تفهم ،فأخذت ً يف
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 232
ترتحم عىل كمريدا التي كانت يف أواخرغرضها ،وهي ّ َ رشحت هلا ثاني ًة
ريا ّ
تذك ُر كمريدا وتفقد أحوال ولدها يعن هلا كث ً
رجليّ .
ْ احلمل تعمل بطاقة
ري حني ماتت ميتة طبيعية َ
دون أن يقتلها أحدٌ وزوجها ،وشعرت بارتياح كب ٍ
بسكينه ،وحني استطاعوا إنقاذ حياة طفلها.
قصت عىل (باسل) تفاصيل الساعات ارتعبت ً
قليل من احتامل أن تكون ّ ْ
وكل يشء طبيعي ،مقابلة الزوج هلا يف مر ِ
ت األيام ُّ األخرية قبل موهتا ،لكن ّ
وأحست منها
ّ أكثر من عادية ،ومقابالته الالحقة كانت ودية، اجلنازة كانت َ
ًّ
مستغل شفقتَها عىل وفاة زوجته ،بل أنه ربام يريد أن َ
ينال منص ًبا جديدً ا،
وجدته يتو ّدد إىل (لؤي) وإىل مساعدهتا اجلديدة.
زارتا كمريدا يف املنام منذ عدة أيام ،وقالت إهنا
أيضا حني ْ زا َد ارتياحها ً
هبي ،وأوصتها عىل (باسل)، تنعم اآلن يف ملكوت ّوإن روحها ُ ساحم ْتهاّ ،
أقنعت هريمني نفسها ّ
أن احللم ْ وعىل ابنها عالء .رغم ّأنا مل تكن متدينة،
وأنا ساحمتها ،واستد ّلت عىل ذلك زارتا بالفعلّ ،
وأن روح كمريدا ْ حقيقيّ ،
بأنا اختارت ً
اسم لطفلها. بأهنا ال تتذكر أن كمريدا أخربهتا ّ
صوتيا،
ًّ َ
االتصال الذي كان جهاز االتصال يف معصمها ،فتحت ُ ّ
رن
صوت ماندريك ً
قائل بنعومة“ :أمل تفتقديني يا عزيزيت هريمني ..أال ُ فجاءها
بصوت مرتعد“ :كيف وصلت ٍ امتقع وجهها وسألته
َ حت ّنني أليام الشّ باب؟”.
ضاحكا يقول بسخرية“ :أحدّ ثك عن ً ِ
لكود االتّصال يب؟” .جاءها صو ُته
أشواقي فتكرسين بخاطري هكذا ..عمو ًما لن أيأس ،وسأحاول اختطا َفك
فهم ما يرمي إليه .قالت“ :ملاذا؟”.
ثانية ،أتعرفني ملاذا؟” .صمتت وهي حتاول َ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
233
ضمك ُ
أشتاق إليك دو ًما ،وأريدك جانبي ،وأعلم أنّني أستطيع ّ فقال“ :ألنني
أمخاسا يف
ً ترضب
ُ لص ّفي ضدّ حكومتك الفاسدة” .أغلق االتصال وتركها
َ
وسط سيلٍ من األفكار واملشاعر املتناقضة. أسداس،
حاولت االندماج يف عملها ثانية بدون جدوى ،لدرجة ّأنا قررت أن ِ
حتول فكرهتا اليوم وتأخذ (لؤي) وخادمتها العجوز يف نزهة .قبل أن ّ
َ تنهي
فانحنت غريز ًّيا حتتمي
ْ صوت انفجار يأيت من فناء املبنى
ُ أذنا
صم َ
لقرارّ ،
سمعت صوت جلبة يف اخلارج وأزيزَ مركبتني وإطالق ْ ثم
حتت مكتبها ّ
قذائف.
باب مكتبها عنوة ،ودخل (لؤي) وقال“ :سيديت ،هل أنت بخري؟”. انفتح ُ
رسيعا ،يبدو أن هناك
ً فر ّدت باإلجياب وهي تعتدل واقفة“ .ال بدّ أن ننرصف
ريا عىل مكتبك” .قال وهو يمسك يدَ ها وجيذهبا للخارج .اندفعت هجو ًما كب ً
ٌ
واقف وختمن أنّه ال بدّ خاطبها وهو
كالم ماندريكّ ، جتري معه وهي ّ
تتذكر َ
مخنت ّ
أن هناك خطة يطمئن عىل وجودها بالداخل ،و ّ
ّ خارج مكتبها يريد أن
لقتلها أو اختطافها .
خلطة الطوارئ ا ُمل َعدة لتلك الظروف ،تبعت (لؤي) إىل القبو حيث طب ًقا ّ
خمصصة هلا وحلارسها الشخيص ،ومركبتان مركبات اهلروب؛ مركبة ّ
ُ تقبع
واتذت مكاهنا يف اندفعت إىل مركبتها ّ
ْ مسلحتان جيدً ا حلراستها هي.
تسمع أصوا ًتا مكتومة
ُ والسائق .انتظرت قلقة وهي
اخللف وأمامها (لؤي) ّ
هتفت بلؤي حتثّه اإلرساع ،فتح
ْ الوضع ُمضطرب،
َ تصدر من األعىل تنبئ أن
ُ
الرجال يدخلون إىل املركبتني الثانيتني، َ
جهاز اتّصاله وقبل أن يتكلم كان
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 234
ويف حلظات كانت طاقة تنفتح يف األرض وخترج منها املركبات الثالث
منطلقة برسعة.
عىل ُبعد حوايل كيلومرت من الڤيال التي يقبع فيها مكتب هريمني ،كان
وهيم باالنرصاف هو وزميله األديتي .كانت يلملم أجهزة التحكمّ ،
ُ (ضياء)
تلك هي املر َة األوىل التي يعمل فيها جن ًبا إىل جنب مع املقاومني من هؤالء
موضوع التعاون مع كتائب احلرية (غري النظامية والتي يقودها
ُ القوم ،كان
ومع أعضائها من النياندرتال ال يزال ُيربك تفكريه جدًّ ا،
عمر عوض اهلل) َ
ثم عمل مع عمل يف الرشطة قبل االحتاللّ ،فهو رجل نظامي طيلة عم ِرهَ ،
انضم إىل كتائب
ّ املحتلني يف العمل نفسه ،وحني اعتزهلم وأرا َد أن يقاومهم
النرص حتت إمرة ضباط من املخابرات املرصية.
ومعه زميله حيمل حقيبة أخرى أكرب ،وبدءا يمشيان َ
محل حقيبته عىل كتفهَ ،
مقر عملهام .كان دورمها يف يف شوارع فسيحة هبدوء كأهنام ّ
موظفان يغادران ّ
َ
وإحداث أكرب قدر من مقر هريمني، َ
إطالق جمموعة من القذائف عىل ّ اخلطة
ُ
تنفيذ اجلزء الثاين من خطة االرتباك إلجبارها عىل االنْرصاف برسعة ليبدأ
اختطافها.
انطلقت هريمني يف طريقها إىل ِ
أحد املنازل املخصصة ملثل تلك املواقف ْ
اخلطرة ،كان الطريق ُم ً
اطا برس ّية شديدة ،ال يعرفه ّإل حارسها الشخيص وسائقها
َ
قبل االنطالق مبارشة .مل تسلك الطريقَ املبارش من هريدفاديل ( 6أكتوبر) إىل
تضم أجزا ًءا يف القطامية ومدينة نرص؛ بل سلك املوكب طر ًقا
نارافاديل التي ّ
هنر النيل فوق جزيرة الروضة إىل القاهرة.
عابرا َ
صغرية يف قلب اجليزة ً
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
235
يمر عىل كورنيش النيل ليدخل إىل شربا مسار املوكب بعد ذلك ّ ُ كان
يدخل ملدينة نرص من ّاتاه بعيد متا ًما عن تفكري املقاومني ،الذين وال بدّ
ُ ثم
ّ
َ
مسئول األمن، أي نقطة يف الطريق املبارش .خاطبت هريمني يرتبصون يف ّ
مقرها ،فأجاهبا
توصلوا إىل مطلقي القذائف عىل ّ لتسأله إن كان رجا ُله قد ّ
ِ
أغلقت االتصال معه، بالنفي ،وبالتأكيد عىل ّأنم يبذلون قصارى جهدهم.
متض حلظات ح ّتى ارجتت مركب ُتها بفعل انفجا ٍر يف مركبة احلراسة فوقها، ومل ِ
عش دراجات طائرة حتارص موكبها. وظهرت من العدم ما يربو عىل ْ
زا َد سائق مركبتها من رسعته ،واشتبكت مركبتا احلراسة مع الدراجات،
طلب (لؤي) املد َد من أقرب نقطة جتمع ،وجاءه الر ّد باإلجياب .يف دقائق
ست دراجات مهامجة ،وال َذ َ
إسقاط ّ استطاعت مركبتا احلراسة
ْ معدودة،
البقية بالفرار يف شوارع جانبية ،لكن ّ
تعطلت إحدامها ومل تعدْ هلا القدرة عىل
انطلقت هريمني ثانية بمرافقة مركبة واحدة.
ْ مرافقتها ،وبالتايل
طريقه غري عابئ بقوة االنحرافات التيِ ُ
السائق رسعة عالية يف استخدم
جتاوز ثلثي الطريق
بقوة ،وتكاد تسقط .بعد ُ جتعل هريمني تتاميل ّ ُ كانت
ُ
سائق ضعف مسافة الطريق املعتاد ،فوجئ ِ مسافته عن
ُ املرهق ،الذي تزيد
مركبة احلراسة املتب ّقية بمركبة تسدّ الطريق عليه ،وتطلق عدّ ة قذائف متتالية.
َ
إطالق أن استطاععطلتها متا ًما ،لكن بعد ِ ٍ
إصابات كبرية ّ أصيبت مركبته
قذيفة فجرت املركبة ا ُملهامجة ،وجعلتها تسقط مشتعلة عىل األرض.
ترجل قائدُ مركبة احلراسة وأخرج منها دراج ًة طائرة ركبها ووقف هبا
ّ
جوار مركبة هريمني ،وهو يطلب من قائدها االستمرار يف طريقه بمرافقته.
َ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 236
أن مسارنا معروف لدهيمّ ،
وأن استدار (لؤي) هلريمني وقال“ :سيديت ،يبدو ّ
هناك أحدً ا ّ
دلم عليه ،ال بدّ أننا سنجد كمينًا ثال ًثا يف طريقنا” .سألته يف توتر:
“إ ًذا ،ماذا تقرتح؟”.
نأخذ املركبة ومعنا احلارس اإلضايف ون ّتجه إىل منزل أرسيت”. “أقرتح أن َ
ُ
سألته“ :أين؟” .فقال“ :يف وسط القاهرة ،بالقرب من حمطة القطار الكهربائي
الرئيسية”.
بعدَ دقيقة من الرت ّدد حسمت قرارها ووافقت عىل أن تتبع خطة لؤي.
احلارس عىل دراجته الطائرة ،ولؤي يدل
ُ بدأت مركب ُتها يف التحرك يتبعها
طلب منها أن تغلق ّ
كل أجهزة التعقب يف املركبة، قائد املركبة عىل الطريقَ .
سبب
ُ ويف معصمها ،وتلك املوجودة مع احلارس املرافق هلم؛ فقد يكون
فكرت ً
قليل ،مل تسلم اخرتاق املقاومني لتلك األجهزةّ .
َ الترسب األمني هو
لكن كال َمه منطقي؛ وهي إن تركت أجهزة األمان أبدً ا لشخص بتلك ّ
الطريقة ّ
جمرد
أشخاصا كثريين عىل حياهتا ،وليس ّ
ً التعقب تعمل ستكون قد ائتمنت
ووافقت عىل اقرتاحه.
ْ حارس واحد .يف النهاية حسمت أمرها
أن مسار املركبة يميض بسالسة دون كامئن بدأت تطمئن ً
قليل حني رأت ّ ْ
ريه ،فهناك فشل احلاكم وأخربته ّ
أن مسئول األمن ينبغي تغي ُ َ جديدة .طلبت
ومع حمافظ
أيضا -بالتحقيق معه َ ذريع يف محايتها ومحاية أرسارها ،أوصتً -
متعمدً ا ملا بينها وبينهم اجلنوب مدعية ّ
أن ذلك اإلمهال يف محايتها قد يكون ّ
من البغض الظاهر.
مجيعا ُملصون ألديتيا ،وأن مثل
روعها ،وأخربها أهنم ً
احلاكم من ْ
ُ هدّ أ
وارد احلدوث“ .ال تنيس ّ
أن هؤالء املخربني جيمعون بني دراية تلك األخطاء ُ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
237
األرضيني بمدهنم وطرقها وبني دراية األديتيني بطرقنا األمنيةّ ،
وأن هلم
املقص إن وجد”.
لكن ذلك ال يمنع من حماسبة ّ عمالء بيننا بال شكّ ،
أمر (لؤي) القائد أن
بدأت تسري يف شارع جانبي حني َ ْ كانت املركبة قد
طلب منها النزول وهو يقول“ :سوفثم َ ترجل (لؤي) ً
أول ّ َ
يوقف املركبةّ .
ثم سأطلب القيادة وأطمئن إىل أن أحدً ا مل يتبعنا ً
أولّ ، ّ ندخل إىل البيت،
ريا الستخراجك من هنا” .قالت وهي أبلغهم بالعنوان لرتسل لنا مد ًدا كب ً
تصعدُ معه السلم وقد اطمأنّت له متا ًما“ :حسنًا .واطلب من القائد واحلارس
أن ال يقو َما بتشغيل أجهزة التتبع ح ّتى وصول املدد”.
فتح الباب هلا ،وأدخلها إىل استقبال الشقة ،وأجلسها عىل أريكة كبرية َ
وضعه أمامها عىل طاولة صغرية .استأذن منها َ َ
أحرض هلا كو ًبا من العصري ثم
ّ
رسيعا ليقوم بطلب املدد ،فأذنت له. ً ثم العودة هلا
للخروج إىل الرجلني ّ
ِ
النظر نحو احلارس الذي كان
َ خرج إىل مدخلِ البيت ووقف متح ّف ًزا مسرت ًقا
صوبه عىل رقبة احلارس
ثم ّ سالحه هبدوء حذرّ ، َ فعل
ال يزال عىل دراجتهّ .
نحو املركبة مطل ًقا عد َة قذائف نحو قائدها ثم قفز َ وأطلقه فأسقطه ً
أرضاّ ،
رصيعا.
ً خرالذي ّ
ري الذي كان الذع الطعم بشكل يف الداخل ،كانت هريمني ترشب العص َ
إن أكملته ح ّتى سمعت صو ًتا مألو ًفا هلا يقول بأديتية سليمة:
ُم ّبب .ما ْ
التفتت بفزع فوجدت
ْ “مرح ًبا بك يف ضيافة رجال املقاومة يا هريمني”.
أما َمها ماندريك واق ًفا وعىل وج ِهه ابتسامة ظف ٍر عريضة ،فتحت َ
فمها لتتكلم
ٍ
وبسواد يغيش لكنها شعرت بدوار شديد ،وباألرض تنزلق من حتت قدميها،
ثم غرقت يف سبات عميق.عينيهاّ ،
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 238
34
سياحيا يقصده القايص والداين يف
ًّ منتجعا
ً قرص أناندار َ
قبل الغزو كان ُ
صارت جز ًءا من جبلتافاديل ،وهي مدينةْ قلب جبلِ لبنان ،يف برمانا التي
تزوجوا
وصار يسكنها غالبية من النياندرتال و َمن ّ
َ معظم جبل لبنان،
َ ضمت
اخلطة تقتيض التس ّل َل للقرص من اجتاهني؛ األول من جهة
ُ من نسائهم .كانت
سوره الغريب الذي يطل عىل اجلرف ،عن طريق املرو ِر من البيوت التي ّ
حتتل
بيت فارغاملستوى األدنى يف اجلبل ،والثاين من ناحية الشامل حيث يوجد ٌ
من أهله يف هذا الوقت من العام وال يفص ُله عن سور القرص سوى ّ
ممر قصري
ٌ
جمموعة من مخسة عرش من األشجار .يف ذلك البيت جتمع عىل مدى الليل
الثوار النياندرتال.
تقنيني ومعهم (باسل) ،وأغلبهم من ّ ُ
ثالثة ّ فر ًدا ،منهم
وقت
يفصل بني دخوهلم ٌ ُ أزواجا
ً دخل هؤالء الثوار إىل ذلك البيت فرا َدى أو
يقارب النصف ساعة.
صباحا وقد قىض الساعات ً َ
وصل (باسل) ملكان التجمع يف الثانية
معا الكثري من(ميساء) قبل أن يرتكها وينطلق .تبادال ً
الثالث السابقة مع ْ
كل منهام .تشعب األب يف حياة ّ
ِ األحاديث التي بدأت بالنقاش حول دور
احلديث بينهام كام صديقني قديمني التقيا بعدَ فراق ،وحني صمتَا ومل يعدْ
ثمة جمال لنقاش عام استجمعت شجاعتَها وسألته عن السبب الذي جعله ّ
غي طريقته يف التعامل مع الثوار يرتكها تعيش يف ّأول ٍ
مرة تقابال فيها ،ملاذا ّ
حتت يده؟
الذين يقعون َ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
239
يكن متأكدً ا من السبب ،ومل ير ْد أن خيربها
مل يعرف كيف جيي ُبها ،فلم ْ
كب َل ذراعهٌ ،
سهم نفذ إىل داخله ثمة شيئًا يف عينيها ّ مخن بعد احلادثة أن ّ أنه ّ
إحساسه بالوالء لعمله ولكمريدا من االعرتاف به .كان
ُ منعه
واستقر ،لكن َ
ّ
يكن يستقيم
تلقائيا يف قائمة أعدائه ،ومل ْ
ًّ ُ
وجود إنسان ضمن املقاومني جيعله ُ
ٍ
امرأة تناصبه العداء ،وتنعته باخلائن ،وتسخر من له أن يرتك قل َبه يذهب إىل
باسل وهو حيارب يف ّ
صف الغزاة. تسميته ً
ذات العينني اللتني حركتا يف داخلهالليلة ،وهو جالس معها ،كان يطالع َ
ري من الود .هي الفتاة نفسها وحل حم ّله الكث ُ
ّ مانع العداوة
ري ،وقد زال ُ الكث َ
وجود سالح يف يده ،وفارق
ُ يكبلها ،ومل يمنعهاالتي قاوم ْته برشاسة حني كان ّ
ري غضبه .تلك الفتاة التي أثارت وتسخر منه وتث َ
َ القوة بينهام من أن تر ّد عليه
تتحرك عاطفته نحوها فيهمس ّ جتلس اآلن بني يديه،ُ إعجابه وهي عدوة
ينهره بسبب اإلحساس ّ
بالذنب جتاه كمريدا ثم جيد قلبه ُ يعب عنهاّ ،
بكال ٍم ّ
التي فشل يف محايتها ،فيغري الكالم ملوضوع آخر.
غصة يف حلقه حني ينظر ألخرى لو كانت كمريدا عىل ْقيد احلياة ملا وجدَ ّ
يشعر اآلن .بعدَ موهتا بتلك الطريقة ،بعد فشله يف محايتها ،يشعر أنه ال ُ مثلام
حيقّ له أن يسعدَ يف عالقة مع امرأة أخرى؛ شعور جيعل احلديث بينه وبني
لكن ً
حارضا يف نفسهّ ، ريا مقل ًقا حمفو ًفا باملخاطر .كان هذا قيدً ا
(ميساء) عس ًْ
ٍ َ
القيد األسوأ كان هو اخلوف من خذالن امرأة ثانية ،والفشل يف محايتها ،وأن
متوت فيها امرأته بني ذراعيه وهو عاجزٌ عن إنقاذها. يمر بتجربة أخرى ُ ّ
ٍ
بحرارة وقال“ :تكلمنا ثالث ساعات يف الواحدة والنصف و ّدعها
لكنها تساوي عندي ثالث َة أعوام ،أشعر أنني أعر ُفك من زمن بعيد”
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 240
ابتسمت بخجل ومل تر ّد ،فقال“ :كوين حريصة ،ال تثريي قلقي عليك،
قرر فصلهام يفأطلقت سبا ًبا لسامر الذي ّ
ْ ثم
هذا رجاء” اتّسعت ابتسامتها ّ
َ
الضيف يعمل جند ًّيا حتت جمموعتني خمتلفتني وقوانني املقاومني التي جتعل
إمرة قائد املكان األسايس.
عدد
صباحا؛ الوقت الذي ينخفض فيه ُ ً اقرتبت ساعة الصفر ،وهي الثالثة
ْ
االعتامد األسايس عىل الطائرات الدقيقة.ُ احلراس إىل احلد األدنى ،ويصريّ
ّ
وقدرتا عىل املحاورة وات ُاذ القرارات
ُ ذكاء تلك الطائرات االصطناعيكان ُ
اجلميع يتعامل معها كأشخاص معاملة َ يف املراقبة واحلراسة والقتال؛ جيعل
وكانت كافية وحدها لبدْ ء حرب ،والفوز هبا.
ْ الند بالندّ ،
كل الطائرات الدقيقة التي حترس القرص ِ
باخرتاق برجمة ّ بدأ التقنيون
بأن ّ
كل يشء يسري يف جمراه الطبيعي. ٍ
بيانات تفيد ّ وساكنيه ،وجعلها تعطي
بدأت املجموعة بتس ّلق السور الشاميل من ِ
عدة نقاط مقابل أماكن ِ بعد ذلك
حسب ما كانت تنقل هلم كامرياتَ السور من الداخلتواجد حراس ّ
ِ
هببوط كل واحد منهم كان مكل ًفاالطائرات التي سيطر التقنيون عليهاّ .
ٍ
صاعق كهربائي ٍ
جلبة عن طريق السور مقابل حارس وإسقاطه دون إحداث
درع احلارس إىل شحنة قوية تفرغ يف جسمه وتسقطه يف ثوان قليلة.
حيول َ
ثم أدرك ّ
أن َ
إسقاط احلارس الذي اشتبك معهّ ، استطاع (باسل) برسعة
ً
مشتبكا مع احلارس الذي يستهدفه ،فساعده عىل األقرب له ال يزال
َ الرجل
ٌ
جمموعة أخرى من زمالئهم قد تقدّ موا اإلجهاز عليه .يف الوقت نفسه ،كانت
محام السباحة لإلجهاز عىل املجموعة
السور عن ّ ُ
تفصل ّ بني األشجار التي
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
241
ٍ
بسالسة ح ّتى هذه يمر
كل يشء ّ الباقية من احلراس يف هذا اجلزء .كان ّ
اللحظة ،وهو ما جعل (باسل) يشعر أن هناك شيئًا غري طبيعي.
نقاط ُمتقاربة حول مدخل املبنى الرئييس للقرص يف ٍ مجيعا يف
متركزوا ً
انتظا ٍر لتأكيد املجموعة الثانية التي ستهاجم من ناحية السور الرشقي.
كان من ا ُملفرتض أن يتسلقوا مساف ًة صغرية ،ح ّتى يصلوا إىل السور الذي
أقل من ناحيته .أخذ (باسل) يراجع معدّ اته ليرسع مروركان عدد احلراس ّ
مهمة املجموعة
تدل عىل إمتام ّ الدقائق القليلة القادمة ح ّتى تأتيهم إشار ٌة ّ
تضم ميساء.
الثانية التي كانت ّ
(ميساء)
منتظرا يف مكمنه كانت ْ ً ُ
باسل يف الوقت الذي كان جيلس فيه
السور إىل داخل القرص من نقطة خالية من احلراس .تسللت هبدوء َ هتبط
رت يف حدائق رائعة التصميم هي وجمموعتها قاطعنيَ مسافة تقارب املائة م ٍ
بعضهن واقفات
ّ تتخللها نوافري صغرية ومتاثيل فضية اللون لفتيات ِحسان
ّ
وكأن مجيعا برشية
وجوههن ً
ّ يف دالل وأخريات جالسات عىل أرائك .كانت
أشيع عنه .عندما جتاورواحيب اإلناث من بني جلدته كام َصاحب القرص ال ّ
ّ
املطل عىل الباب اخللفي مجيعا عند صف األشجار األخ ِ
ري احلدائق متركزوا ً
للقرص .انتظروا بعض الوقت ح ّتى يصل آخرهم إىل نقطة متركزه ،وقد كانت
كأنم
أمام أحد منهم ّالطائرات الدقيقة حتوم جيئة وذها ًبا دون أن تتوقف َ
ري مرئية هلا ،وهو ُ
دليل كفاءة التقنيني الذين اخرتقوها. أشباح غ ُ
صوت متثال يسقط ُمْد ًثا جلبة فنظرت
َ فجأة سمعت بالقرب منها
ٍ
واحد من جمموعتها وقد دفعه خلفها فإذا واحدٌ من عاميل القرص يشتبك مع
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 242
واضحا ّ
أن ذلك ً دفعة قوية صدمته بال ّتمثال ،فوقع ُمد ًثا ذلك الدوي .كان
َ
تصادف مع وقت اقتحامهم. وقت غري مناسب الشخص كان موجو ًدا يف ٍ
هجم املقاوم عىل ذلك العامل يف القرص ،وقبل أن يرصعه تصاعدت َ
أصوات من رشفات القرص يف طوابقه العليا أشبه بانفجارات مكتومة
واتهت نحو أماكن خرجت منها طائرات صغرية كثيفة العددّ ،
ْ ثم
متتالية ّ
سيطر عليها
َ ارتكازهم .الطائرات التي كانت فوقهم يف البداية والتي
تقنيو املقاومة هتاوت فجأة كاحلجارة متو ّقفة عن العمل ُ
وم ْفسحة الطريق
ُ
تعمل بكامل كفاءهتا بدون للطائرات اجلديدة التي كان من الواضح أهنا
ليست أحادية كام
ْ اخرتاق .اتّضح هلا يف تلك اللحظة أن حراسة أناندار
هاجس حول ما ينتظرهم من
ٌ تبدو ،وإنّام تتكون من عدّ ة مستويات ،وانتاهبا
مفاجآت.
أصوات تلك االنفجارات املكتومة مل ينتظر األمر من
ُ حنيَ وصلت لباسل
قائد جمموعته؛ بل انطلقَ من فوره وسط األشجار املالصقة للسور الشاميل،ِ
قوته يسيطر عىل رأسه فكرة واحدة ربها لل ّتو ،ومىض ْيعدو فيها ّ
بكل ّ التي ع َ
(ميساء) يف خط ٍر ُمدق ،وأنّه لن يسمح بحدوث مكروه هلا .مل يفكر
وهي أن ْ
ِ
بسبب ّأنا جاءت هنا بسبب إرصاره عىل ذلك ،أو ألهنا املرصية إن كان ذلك
(ميساء) دون أسباب.
الوحيدة معه أو ألهنا ْ
وصل للناحية التي يفرتض أن تتواجدَ فيها جمموعة ْ
(ميساء) وما أن َ
ٍ
بمقذوف تفاداه بمهارة فتوقفت اقرتب ح ّتى هامج ْته إحدى الطائرات الدقيقة
ثم أطلقت مقذو ًفا آخر تفاداه،
كأنا غاضبة منهّ ،الطائرة وزامت يف اهلواء ّ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
243
مكو ًرا
سالحا ّ
ً لكن املقذوف دار وتوجه إليه ثانية .يف حلظة واحدة أخرج
وضغط جانبه فخرجت منه كرة مض ّللة ّ
وجهت املقذوف لينغرز يف إحدى
األشجار ،وأطلق سالح قبضته اجتاه الطائرة فأسقطها َ
قبل أن تستطيع تفادي
قذيفته.
متعرج بني األشجار وهو يرى عد ًدا من الطائرات هياجم عدَ ا يف مسار ّ
(ميساء) مبارشة .نادى باسمها أشخاصا من املجموعة ،ومل تقع عيناه عىل ْ ً
أن ذلك سوف جيذب طائرة دقيقة واحدة عىل األقل، ٌ
مدرك ّ بصوت ُمرتفع وهو
اثنتي منها،
اهنالت عليه إحداها بثالث مقذوفات استطاع تفادي ْ ْ وبالفعل
واستقرت الثالثة يف ذراعه ،فرصخ متأملًا ّ
ثم قفزَ ُمتبئًا وراء أحد التامثيل الفضية. ّ
سالح قبضته بمقذوف َ جهزصمت صوهتاّ ، َ ثم ً
دارت الطائرة يف اهلواء قليل ّ
ستظهر أمامه مبارشة ،وبالفعل
ُ معطل ،وهو يعلم أن الطائرة تناوره ،وأهنا
إسقاط الطائرة حني دارت وحاولت مهامجته. َ حدث ما توقعه واستطاع
تساءل بينه وبني نفسه عن ما حدث مليساء ،وملاذا مل تر ّد عليه ..هل أصاهبا
إن تك ّلمت أن تفضح مكاهنا ،وجتذب إحدى مكروه أم ّأنا خمتبئة وختشى ْ
تنبه فجأة إىل ما فعله بدون تفكري ،وما يفرتض أن يفعله الطائرات ملهامجتهاّ .
فكر فيام سيفعله قائد جمموعته حماصة أو جرحيةّ . حماص وهي َ اآلن فهو َ
إن كان هناك دعم سيأيت الباب األمامي مبارشة وهو ال يعلم َْ هل سيهاجم
من الباب اخللفي أم ال ،هل سيدفع بتعزي ٍز من جمموعته لتلك املجموعة أم
ينسق معه و(باسل) ال يدري“ .ال رد قائدها الذي ربام بالفعل كان ّسينتظر َّ
أن جتد ميساء” .قال لنفسه وهو حياول كل يشء سيتضح اآلن املهم ْ تقلق ّ
َ
البحث بعينيه عن أي عالمة تدل عىل مكاهنا.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 244
صوتا من خلف متثال عىل ُبعد عرشين م ً
رتا تقري ًبا، ُ “باسل ”...أتاه
يتبينها ،زحف بجسده اجتاه التمثال الذي اعتقد نظر يف ّاتاه التمثال فلم ّ
صوت طنني من أعىل ،نظر إليه وجدَ طائرة ُ أهنا خلفه ،وقبل ْ
أن يصل جاءه
(ميساء) ا ُملختبئة خلفه.
وكأنا تنوي مهامجة ْ
م ّتجهة نحو التمثال ّ
جالسا عىل ركبتيه وسدّ د مقذو ًفا ُم ً
عطل يف اجتاه ً ريا ،اعتدل
مل يفكر كث ً
صك أسنانه يف غيظ؛ فقد كان ذلك آخر مقذوف الطائرة لك ّنه أخطأهاّ .
توجهت نحوه ،وعال طنينُها الذي ثم ّ تسمرت الطائرة للحظةّ ،
ُمعطل لديهّ .
أي يشء مر ًة واحدة ،وقبل أن خيرج منها ّينبئ بأهنا ستطلق عد َة مقذوفات ّ
أصيبت الطائرة بمقذوف أسقطها.
(ميساء) خترج من خلف التمثال وتشري إليه، تنهد يف ارتياح وهو يرى ْ ّ
وصل إليها وجلس جوارها وهو يقول“ :هذه مفاجأة مل تكن يف احلسبان”. َ
َ
احلديث أمام ٍ
بصعوبة وهي تقول“ :يا لك من أمحق ،أال حتسن ضحكت
ِ
أصبت؟”. ثم قال“ :هلالنساء ...قل إنك ُه ِرعت لنجديت” .ابتسم بتوتر ّ
ر ّدت قائلة بغيظ وهي تكتم آه َة أمل“ :نعم ،أصبت باجلنون حني ّ
ختيلتك
بم جييبها ،وكيف تتكلم ْ
يعرف َ مت من القلق ع َّ
يل” .مل ستقول بلهفة إنّك ّ
ارتباكه ،فضحكت َ معرضني فيه خلطر املوت ،الحظت ٍ
موقف ّ هكذا يف
انقلبت آهة مكتومة وهي تضع يدها جانب صدرها. ْ ضحك ًة قصرية
مغروسا فيها،
ً تفحص مكان يدها فرأى مقذو ًفا عىل شكل حربة صغرية ّ
ريا وعلبة فتحها
ومقصا صغ ًًّ وأخرج منه حمقنًا
َ فتح جي ًبا قري ًبا من حزامه
فهز
بتوجسّ ، فظهر فيها ما ّدة صفراء باهتة“ .هل تعرف ما تفعله؟” .سألته ّ
ثم فتح املحقن وأفرغه يف رقبتها ،فزال أ ُملها ّ
مرة واحدة ّ رأسه مطمئنًا إياهاَ ،
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
245
بسبابته
غرف َّ ثم
ريا ّقطعا صغ ً
مالبسها حول احلربة ًَ أمسك املقص وقطع
نفسا عمي ًقا أمسك احلربة بقوة ِ
بيده اليمنى ،أخذ ً َ اليرسى من املادة الصفراء.
مكان خروجها. َ بقوة وهو يدفع سبابته ّ
املغطاة باملادة الصفراء ثم أخرجها ّ ّ
بسبابته اليمنى من العلبة ثانية ،ونزع
ثم غرف ّ ّثبت سبابته داخل اجلرح ً
قليل ّ
ثم يضع سبابته اليرسى ببطء من اجلرح وهو يغطيه بالكامل باملادة الصفراء ّ ّ
عليه ضامدة.
ثم سألته هامسة“ :أنت خبري كانت تنظر إليه ُمندهشة وهو يعاجلهاّ ،
باستخدام أدوية النياندرتال تلك؟” .ر ّد عليها وهو يمسح يديه“ :نعم،
أنت وزمالؤك من كتائب وكذلك أبوك ورجاله ،وقري ًبا ستكتسبينها ِ
مثلالنرص” .قالت“ :لدينا الكثري من أدوية النيادرتال ولك ّنها ليست متطورة َ
اسمهمتلك” .قال بضيق“ :أريدك أن تكفي عن استخدام كلمة نياندرتالُ ،
نظرت إليه صامتة لوهلة،
ْ األديتيني ،وربع فريقنا تقريبا منهم لو الحظت”
ينصت يف تركيز إىل األصوات من حوله“ .يبدو أنّنا ختلصنا من ُ ثم وجدته
ّ
الطائرات ،ترى ما اخلطو ُة القادمة ،ملاذا مل خيرج لنا حراس آخرون؟” .قال
َ
املكان هامسا إنّه سيتسلل مستكش ًفا
ً أن تلزم مكاهنا وهو يقول ثم طلب منها ْ ّ
هم بالتحرك لكنها أمسكت بذراعه وجذبته لينظر ليعرف األوامر اجلديدةّ .
“شكرا لك”.
ً إليها .قالت هامسة وعيناها العميقتان تكادان خترتقان روحه:
متوجها ناحية القرص وهيً ثم تركها وتس ّلل
رتبكا“ :هذا واجبي”ّ ،فقال ُم ً
تتابعه بنظرات قلقة.
***
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 246
35
الشاب اللبناين الذي كان يرشح هلم
ّ كان قائدُ جمموعة ْ
(ميساء) هو إييل،
تصميم قرص أناندار ،وطريقة حراسته يف االجتامع األول .مل يكن يف حسبانه
َ
وجود تلك الطائرات اخلاملة التي ُف ِّع َلت وهامجتهم وقد كانوا عىل
ُ بالطبع
وشك بدء املرحلة الثانية ومهامجة املبنى الرئييس الذي يقيم فيه أناندار
باسل إليه فوجده ينزع إحدى احلراب من فخذه ويضع ُ ومساعده .وصل
مكاهنا من املرهم نفسه الذي عالج به ميساء.
“ما ّ
اخلطة اآلن؟” .سأله باسل وهو يساعده يف إكامل العناية بجرحه فقال
ألست هناك مع املجموعة األمامية؟”.
َ مدْ ً
هوشا“ :ما الذي أتى بك إىل هنا،
ِ
لنجدة ُ
باسل باإلجياب ،وقال إنّه غادر موقعه وجاء هلذه الناحية ر ّد عليه
وطلب منه بضيق أن يلتزم باخلطط املوضوعة،
َ ميساء .مل يعجب إييل ر ّده،
وأن يس ّلم بأنه يعمل َ
حتت إمرة رجال املقاومة هنا يف لبنان.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
247
واألمر مثري للريبة” سأله باسل بقلق فلم خيرج أحد
ُ “كيف هناجم َ
اآلن
ملالقاهتم غري هذه الطائرات فقط ،وكان من الطبيعي أن تكون صفارات
تعمل يف املكان اآلن ،وأن يكونوا ُماطني بعدد كبري من احلراس ،أو ُ اإلنذار
حتت هجومهم عىل األقل .ر ّد عليه إييل بنفاد صرب“ :سيد باسل ...نحن لدينا
منسقون يف غرفة عمليات يتخذون قرارات بناء ٌ
وخطط بديلة ،ولدينا ّ خطط
حم صديقتك كام تشاء ،وحاول أن ال عىل معطيات عديدة ،من فضلك ا ِ ِ
تعيق عملنا”.
(ميساء) ح ّتى وصل إليها خلف التمثالتركه (باسل) وسار بحذر اجتاه ْ
تركها عنده ،كانت قادر ًة اآلن عىل الوقوف ،وحني رأت (باسل) الذي َ
يتوجه معها إىل نقطة متركزها التي ستنطلق منها عندَ إشارة
مهست له بأن ّ
معصمها إشارات ّ
تدلا عىل خطوهتا ِ بدء اهلجوم .كانت تأيت هلا عىل جهاز
القادمة ،وكذلك باسل ،لك ّنه جتاهل جهازه ألن موقعه تغري اآلن.
ثم رنتان
ثم رنتان طويلتان ّ َ
ثالث رنّات قصرية ّ جاءت إشار ُة اهلجوم
ْ
قصريتان ،رنات أشبه برنّات شفرة مورس التي تستخدم يف التلغراف .بدأت
لكن برسعة نحو الباب اخللفي للقرص ومعها باسل، امليش بحذر ْ َ (ميساء)
ْ
كان بقية األفراد يف املجموعة ي ّتجهون نحو الباب يف اللحظة نفسها ح ّتى
أنواعا خمتلفة
ً وصل اجلميع عنده .وقفوا عىل يمني الباب ويساره شاهرين
ثالثة من الباب ومعهم ما يشبه من األسلحة ،أرضية وأديتية ويدوية ،اقرتب ٌ
مسدّ سات الشمع التي تستخدم للصق األغراض املنزلية ،وبدأوا متريرها عىل
يتكون من احلديد املجدول املقوى.نقاط متفرقة من الباب املعدين الضخم الذي ّ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 248
يمررون تلك املسدسات عليها ،وبدأ
بدأ احلديد يتصدع عند األماكن التي كانوا ّ
صوت ينبئ بأنه سينفصل عن نقاط تثبيته.
ٌ يصدر من الباب
حتس هي األخرى (ميساء) فقد بدأت ّ انتقلت عدوى القلق من باسل إىل ْ
األمور بتلك السالسة ح ّتى جيدوا
ُ أن يف األمر ًّ
فخا ما؛ فال يمكن أن تسري
مهست لباسل وهو يتابع ْ ِ
غرفة نوم أناندار بدون مقاومة تذكر. أنفسهم يف
ُ
القلق نفسه ،لك ّنه يرى باهتامم عملية كرس ذلك الباب ،قال هلا إنّه ساوره
أن هناكاملهمة مع احلذر ،واألخذ يف االعتبار ّ
أن ال بديل عن االستمرار يف ّْ
حدوث طارئ فقالت“ :ماذا ِ فرقة جاهزة للتدخل وإنقاذ املوقف يف حالة
وقت لطلب النجدة” .ابتسم
مثل ..لن يكون هناك ٌ فخاخا مفجرة ً ً لو كانت
وهو يقول مطمئنًا“ :املخاطر ُة موجودة دو ًما وسأتقدمك يف ّ
كل خطوة ح ّتى
تتأكدي من عدم وجود فخاخ ما”.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
249
ملمر يفيض إىل هبو ٌ
مخسة عند الباب حلراسته ،واندفع باقي املجموعة ّ وقف
يتم فيه التقاء أفراد املجموعتني.
القرص الرئييس الذي يفرتض أن ّ
ثمة بقية من أمل ال يزال يف صدرها مكان للبهوّ ،
دخل (باسل) و(ميساء) ْ َ
فسيحا بشكل مبالغ فيه عىل
ً البهو
َ احلربة ،لك ّنه مل حيدّ من حركتها ،وجدَ ا
رتاّ ،
تتدل من سقفه املرتفع ثريات يقل عن مخسة عرش م ًقطرها ال ّ
شكل دائرة ُ
وحيتل جانبه س ّلامن عريضان مقوسان يتالقيان
ّ متنوعة األشكال واألحجام،
ُ
يصل إىل رشفة تعلو عن سلم عريض قصري عند بسطة فسيحة تقود إىل ٍ
األرض أربعة أمتار تقري ًبا ،تز ّين سورها منحوتات غريبة.
أي صوت بدأوا يف صعود السلم دون أن يقابلهم أحد ،ودون أن يصدر ّ
بيت أشباح .عندما وصل أوهلم إىل منتصف أي مكان يف القرص ،وكأنّه ُ من ّ
ٌ
قضبان حديدية خرجت من حوا ّفه ومن أرضية أحد درجاته؛ ْ السلم،
أسطوانية
ّ سميكة متعامدة سدت الطريقَ فجأة .كانت القضبان الرأسية
قممها وانطلقت منها أن انفتحت ُتشبه املواسري ذات القطر الكبري وما لبثت ِ
مقذوفات كروية يف حجم كرة تنس ،طارت ّ
كل واحدة منها جتا َه واحد من ٌ
كل كرة للشخص وصلت ّ
ْ وكأنا تعرف هدفها بالضبط .حنياملوجودين ّ
ثم
وخرجت منها أسالك رفيعة طارت ومتدّ دت ّ
ْ املستهدف ،انفتحت فجأة
التفت به مقيدة إياه بإحكام.
اجلميع راقدين عىل األرض ،مقيدين ،ال يستطيعون ُ يف ثوان معدودة كان
لكن أكثرهم حن ًقا كان (باسل) .ذكره
بمزيج من احلنق واخلوفّ ،
ٍ احلركة ،يشعرون
بلحظة اختطاف كمريدا من بني يديه ،وجعله يشعر بحرقة ف ْق ِدها،
ِ ذلك املوقف
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 250
ذكرته برصاخها وهي تؤخذ منه مرة واحدةّ ،
تستعر فيه ّ
ُ وبنار ِ
رغبة االنتقام التي
مقيد ٌة تنظر لرفيقاهتا بنظرات ملؤها وهو عاجزٌ عن احلركةّ ،
تذكر بكاءها وهي ّ
يقتلن أمامها بمنتهى الوحشية.
وهن َوالرعبّ ، األسى ّ
التملص من قيده،
َ وهم عىل هذا الوضع ،حياول ّ
كل منهم ُ
دقائق ُ مرت
ّ
(ميساء) ْ
أن ال جدوى من َ
حاول أكثر ضاق القيدُ عليه أكثر .أدركت ْ وك ّلام
لفت نظرها الغضب
فاستسلمت ُمنتظرة ما س ُيسفر عنه املوقفَ ،
ْ املقاومة
يتحرك يف قيده حركات ّ الشديد الظاهر عىل (باسل) أكثر من غريه ،كان
قدر ما يبدو أنه ين ّف ُ
س ُ
حياول الفكاك من قيده َ عنيفة عصبية ال يبدو منها أنه
عن غضب شديد يف نفسه.
ما هي ّإل حلظات ،ح ّتى رأت جمموعة من الرجال ضخام اجلثة ،يدخلون
حاملنيَ عىل رقاهبم زمالءها من املقاومة ،وقد ّ
تم تقييدُ هم باألسالك نفسها،
ُ
الرجال الضخام بحملهم عىل القوية التي ال تعطي فرص ًة للتملص .قذف
تم
االقتحام يف البهو وقد ّ
َ األرض ليجتمع ّ
كل املقاومني الذين حاولوا
اس القرص شاهرين أسلحتهم. حر ُمجيعا ،وأحاط هبم ّ
تقييدهم ً
زر يف يدهضغط أحدُ احلراس ،والذي كان يبدو عليه أنه قائدهم ،عىل ّ َ
مرة ثانية مقيدة ثم التفت ّ ُ
األسالك التي تقيد املقاومني يف االرختاءّ ، فبدأت
خلف بعض، َ اس بعد ذلك بإيقافهم يف ص ّفني بعضهم احلر ُ
أيدهيم بقوة .قام ّ
يصو ُبا عىل
ّ مجيعا بآلة تشبه الشّ وكة،
وجوههم ًِ مر أحدُ احلراس عىل
ثم ّ
ّ
الوجه فتمتدّ منها زوائد تنزع ما يغ ّل ُف وجوههم من تنكر ،شيئًا فشيئًا ح ّتى
حارس آخر عىل وجوههم بشاشة
ٌ مر
ظهرت وجوههم احلقيقية .بعد ذلكّ ،
ْ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
251
وظهرت عىل الشاشة صور ُة ّ
كل واحد منهم ،وإىل ْ تعرفت عىل شخصياهتم، ّ
جوارها بياناته كاملة.
أن َمن يتحرك سوف احلراس جامدين بعد ذلكّ ،
وحذروا أرساهم ّ ُ تو ّقف
يلقى حرب ًة بني عينيه ُتهز عليه يف احلال .بعد دقيقتني تقري ًبا ،ويف خروج
ينظر للجميع وإىل جوارهظهر أناندار واق ًفا يف أعىل السلم ُ
مرسحي اهليئةَ ،
ٌ
كوكبة من النساء شبه عرايا ،برش ّيات وقف مساعده الرئييس وقدْ أحاطت هبام
وأديتية واحدة ،ال تزال بقايا ال ّنعاس تسيطر عىل مالحمهن.
ّ من أعراق خمتلفة
السلم الواسع ح ّتى توقف عندَ البسطة الفسيحة درجات ِّ َ
نزل أناندار
اطا بموكبِه الصغري ،كان أطول ً
قليل من السلمني اجلانبينيُ ،م ً
التي تربط ّ
السامت املميزة ِ
تفقد ّ املعتاد بني النياندرتال ،مالحمه أكثر نعومة ،وإن مل
ِ
اجلبهة العريضة املائلة والفم الواسع والوجنات العريضة لبني جلدته ،من
ريا أشبه بالعرش، كرسيا وث ً
ًّ َ
أحرض حارسان املسطحة واألنف الغليظ.
منصة جيلس ِ
بوجود الكريس الوثري كأهنا ّ ووضعوه عىل البسطة التي صارت
عليها ملك ليخاطب رعاياه .جلس أناندار عىل عرشه وعىل يمينه مساعده
تشف ،وعىل يساره املساعدة الثانية ،والفتيات الناعسات واقفات ٍ ً
مبتسم يف
ِ
أسامء املقاومني األرسى، فتح شاشة فراغية أمامه عرضت له يف رسعةخلفهَ .
ثم أشار لرجاله فأجلسوا األرسى عىل األرض.
ّ
ٍ
بصوت َج ْهوري كأنه يتحدّ ث يف ميكروفون قديم“ :ال بدأ باحلديث
متعجبون من السبب الذي جعلني أبقى عىل حياتكم” .ازدردت ّ بد أنكم
ِ
كامللوك املجانني الذين (ميساء) ريقها وهي تتأ ّمل الرجل الذي يبدو هلا
ْ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 252
ّ
ويتلذذون بتعذيب ضحاياهم أو الرشب من يفرطون يف األهبة والرتف
ٌ
رجل ُمستثمر وجوههم ً
قائل“ :أنا َ دمائهم .أكمل كال َمه وهو يتفحص
جمر ُد بضاعة ..سوف أقايضكم مع
كل يشء وبالنسبة يل أنتم ّ أكسب ً
مال من ّ ُ
زمالئكم بأشياء قيمة”.
مههامت بني األرسى توحي باالرتياح ،وجال هو بعينيه يف
ٌ رست
ْ
توجه هبدوء نحو
مبتسم يف ظفر .نزل من عىل كرسيهّ ،
ٌ مجيعا ،وهو
وجوههم ً
ينظر نحو األرسى بابتسامة ساخرة ،نزل عىل السلم ببطء
السلم األيمن وهو ُ
وكأنّه يريد إطالة وقت انتظارهم لقراره.
كأنم غنائم حرب ،استخرج إييل منأمام األرسى يستطلعهم ّ
هتا َدى َ
لكن األخري كان أطول منه قامة َ
حاول أن يضع ذراعه عىل كتف إييل ّ بينهم،
ثم ِ
مواجهة زمالئه ّ حراسه فأجلس إييل يف
فرتاجع عن الفكرة ،وأشار ألحد ّ
ابن شقيقة سامر
أهم رجال املقاومة يف لبنان ،وهو ُ
مثل من ّقال“ :إييل هذا ً
َ
مقابل قائدكم ،ويعرف الكثري من األرسار ،قد أعرضه عىل حاكم الرشق
امتيازات جديدة ،أو أعرضه عىل خالِه مقابل عرش ماسات ال ّ
تقل الواحدة
َ
احلديث يف تلك النقطة ،وأشار ثم صمت وكأنه ّ
مل عن قرياطني أو ّ ”....
لرجله فسحب إييل وأعاده مكانه.
ثم عاد إىل كرسيه ،الذي أنزله احلراس نظر لباسل بسخرية َ
دون أن يتكلم ّ َ
آمرا إياها بأن
أشار إىل فتاة طفولية املالمح ً
َ ووضعوه يف مواجهة األرسى،
َ
أغمض عينيه يف استمتاع بتدليك الفتاة أمام الكريس تد ّلك له قدميه.
جتلس َ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
253
ثم
أساه ،ويزداد مع الوقتّ ، أو بذلك االضطراب الذي يتبدّ ى عىل وجوه ْ
ً
مغمضا ملق ًيا رأسه إىل اخللف“ :ال بدّ أنك وراء اختطاف قال وهو ال يزال
ُ
أعرف أنّك شقيقتي يا باسل ،وال بدّ أنّك جئت هنا بدافع االنتقام لكمريدا..
رغم رفض هريمني افتداءها”.سأعفو عنها َ لن تصدقني لو قلت لك إنّني كنت ْ
معجب بك ،أنت مقاتل من
ٌ فتح عينيه ونظر لباسل وهو يكمل“ :أنا
َ
مقابل أن تعمل معي” .ضغط (باسل) َ َ
سوف أعفو عن حياتك نوع نادر،
ً
انفعال“ :من األفضل لك ْ
أن تقتلني عىل أسنانه يف غيظ َ
وقال بصوت يموج
ٍ
بصوت عال وهو ألنك إن مل تفعل فسأمزق رقبتَك بأسناين” .ضحك أناندار
ِ
الختطاف عالء الصغري، يقول“ :ستعمل معي سأرسل رجايل يف القاهرة
ثمن حياته”.
أنت معي هنا وسيكون والؤك يل هو َ
بينام َ
يلتفت لسيلِ اللعنات والوعيد الذي أطلقه باسل ،والذي أهناه أحدُ ْ مل
صمت قصري تطلع فيه اجلميع ألناندار ٌ عم ٍ
برضبة قوية عىل رأسهّ . احلراس
َ
اعتدل يف كرسيه بعد أن دفع الفتاة أن يكمل وصلتَه املرسحية. منتظرين منه ْ
(ميساء) وقالثم نظر مبارشة إىل ْبقدمه يف رفق معلنًا انتها َء جلسة التدليكّ ،
(ميساء)
وهو يشري بيده نحوها“ :انظروا معي إىل هذه اجلميلة ،جائزة الليلةْ ،
ُ
احلكومة املرصية مقابلك أ ّيتها األمرية، ابنة ُع َمر الزيبق ،ترى كم ستدفع
أن تصريي جاري ًة ضمن أن البديل هو ْسيترصف (عمر) حني يعرف ّ ّ وكيف
هؤالء احلسان” .قاهلا وهو يعيد ضحكته ويتبادل نظر ًة خبيثة مع مساعده،
زاغت عيناها ،وغاض الدم من عروقها. ْ وميساء تنظر نحوه وقد ْ
***
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 254
36
أغلب املقاومني أن تأيت النجد ُة بني دقيقة وأخرى ،عىل الرغم من ُ تو ّقع
مجيعا بتلك الرسعة ،ورؤيتهم لذلك القلق الذي زرعته مفاجأة تقييدهم ً
يشعر ّإل بغضب صاف، ْ االستعراض الذي قدّ مه أناندار .أ ّما (باسل) فلم
فات وما عواقب ما ينوي كل ما حوله وينسيه ما َ نوع يعمي الشخص عن ّ
فعله أو كيف يفعله .كان راقدً ا عىل األرض ،بعدَ أن رضبه أحدُ احلراس
ص من قيده .أخذ ّ
حيك القيدَ حيرك يده يف عصبية حياول التم ّل َ
وأوقعه وهو ّ
وكأنا مس ّننة حديدية يمكنها أن تقطع ذلك القيد ،ومل يعبأ بأنّه يضيق
بأظافره ّ
عليه كلام حاول التخلص منه.
قام أناندار من جلسته ،وهو يدفع بخشونة يدي ٍ
فتاة شقراء كانت تدلك َ
ثم حتدث وكأنّه كان يقرأ أفكارهم“ :بالطبع أنتم تنتظرون عنقه وكتفيهّ ،
ثم أكمل“ :نعم،النجدة التي سيأتيكم هبا سامر” .نظر لعيوهنم املندهشة ّ
ٍ
موجة ثانية من اهلجوم، أن (سامر) ينوي ،ولد ْيه ّ
خطة دو ًما بإرسال أعرف ّ
أعرف خططه منذ توىل القيادة بعدَ مقتل شقيقه ،وأعرف األديتي األمحق
الذي ينسق معه اهلجامت”.
أشار عليه مساعده بالتوقف عن احلديث ،لك ّنه مل هيتم ،استطرد متحد ًثا عن َ
قدراتِه وعن االستفادة ّ
اجلمة التي حيصل عليها من استمرار القتال بني املقاومني
واحلكومة ،حتدّ ث كث ًريا عن قدراته وتنظيم رجاله ،وعن خططه للهرب لو
واضطر قومه للعودة إىل ديارهم،
ّ حدث يف يو ٍم من األيام ،وانترصت املقاومة،
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
255
ثم أردف“ :هكذا يمكنكم إن حدثّ ، قال إنه سيستفيدُ ً
أيضا من ذلك السيناريو ْ
ختطى بكثري عقل أناندار الكبري والدي”. ِ
عظمة هذا العقل الذي ّ أن تفهموا مدى
نظرها بينه وبني الفتيات الواقفات حوله ،وتتخيل
(ميساء) تقلب َ كانت ْ
يد رجل جمنون مثل أناندار. تعر ْت هكذا ،وانتهكت عىل ِ
بينهن وقد ّ
ّ نفسها
باحلب املثايل والرجل املثايل ،هربت ذكرياهتا
ّ أحالمها
ُ خميلتها
ذابت من ّ
البعيدة عن (معاذ) والقريبة البغيضة عن (سمري) وأحالمها بباسل ومتعتها
القصرية التي وجدهتا يف ذلك الوقت الوجيز الذي أمضته بصحبته .ح ّلت
كل هذا خياالت مفزعة ،عن نفسها بعدَ ثالث سنوات ،وقد اعتادت حمل ّّ
ِ
كقطعة زينة يف أثناء اليوم ،وتنتهك عىل احلياة كجارية ألناندار ،تقف حوله
إن ّ
مل منها يو ًما ما. عىل فراشه يف الليل وقد هيادي هبا أحدَ رجاله ْ
نفسها جيدً ا،األفكار السوداوية فهي تعرف َ
َ نفضت عن رأسها تلك
ْ
ري جارية مهانة؛ فقتل ال ّنفس عندها أهون ،ولنلن تسمح أن تص َ
تعرف أهنا ْ
(ميساء) ابنة ُع َمر وزهرة ال ّلذ ْين تأخذ روح خاطفها ً
أولْ . َ يكون ّإل بعد أن
قاوما النياندرتال ومها وحيدان يف كوكب غريب ،لن تكون أ ًبدا ِمن الذين
ظل كأغلب ال ّناس الذين اعتادوا احليا َة يف ّ
ِ والرق ،لن تكون َ
اهلوان ّ يعتادون
ري من الشّ باب االحتالل ،بل وصاروا يلعنون َمن يقاومونه .لن تكون كالكث ِ
حيتفظن
َ ٍ
لنساء غريبات أزواجا
ً الذين اعتادوا أن يبيعوا أجسادهم ويصريون
أي وقت، ألنفسهن بحقِّ إقامة عالقات جانبية مع َمن ير ْدن من الرجال يف ّ
زواج مهام
ٌ حقيقيا ،وهو
ًّ زواجا
ً َ
االرتباط باألديتيات بحجة أهنم ال يعتربون
ّ
وبرروا ألنفسهم تلك الدناءة.
أنكروا ّ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 256
ِ
املتغطرس إىل تعبريات وجهها الغاضبة َ
وسط خطابه انتبه أناندار
واحتقانه الشّ ديد ،فقال بحامسُ “ :تعجبني تلك الرشاسة البادية عىل مالحمك
ثم قال“ :لن بغيظ وهي ُ
تطلق سبا ًبا مكتو ًما ،فضحك ّ يا ميساء” .نظرت إليه ٍ
بضع فتيات هجينات سأتزوجك ،وسأنجب منك َ ّ أطلب فدية من بلدك ،بل
َ
يتم ّتعن هبذا اجلامل وتلك الرباءة التي حتاولنيَ مداراهتا باالنْدساس بني
أتم مجلته وبدأ اهلبوط نحوها وهي تتح ّفز القرتابه ،وقبل أناملقاومني”ّ .
ِ
بموجة كهرباء إحساس
ٌ صوت انفجار مكتوم تالهَ اجلميع
ُ يصل إليها سمع
ظل املكان مضيئًا بضوء الرشوق. وإن ّ ِ
انطفأت األنوار ْ ثم
إستاتيكيةّ ،
صمت اجلميع يف تر ّقب للحظات ،كانت هذه هي املرة األوىل لباسل التي َ
موجية كتلك ،وتو ّقع أن تضعف ّ يشعر فيها باالبتهاج إلحساسه بتفج ِ
ري قنبلة ُ
ُ
تعمل بطاقة إلكرتونية .مل يدُ م القيود املوجودة حول يديه ،والتي هي بالتأكيد
ضحكة مرتفعة من ٌ أكثر من ثوان قليلة إذ ّ
صكت أذنيه إحساسه باالبتهاج َ
أنتظرها ،وأطلقُ ريا قام سامر باحلركة التي كنت أناندار أتبعها بقوله“ :أخ ً
ٍ
ملعركة عىل طراز القرون الفائتة”. أتشوق
قنبلة موجية ..ال يعرف أنني ّ
أساه ،وأحد رجاله يضغط جز ًءا من قفزَ من عىل املنصة واق ًفا أمام ْ
َ
ببنادق رشاشة ُمعتادة تناول واحدً ا منها وثبت كوة ممتلئة
الدرج فتحت به ّ
ثم أطلقَ يف اهلواء دفع ًة من الرصاص جعلت ً
غبارا يتناثر من سقف به خزنته ّ
القرص عىل رؤوس الواقفني.
عم
ثم توجه مع الباقني للخارجَّ . َ
ترك ثالثة من رجاله شاهرين بنادقهم ّ
ٍ
تبادل إلطالق النار تالها صوت انفجار أصوات
ُ ثم تعالت
الصمت لدقيقةّ ،
ُ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
257
ثم عاد تبادل مكتوم بدا صو ُته بعيدً ا ما ّ
يدل عىل أنه حدث يف املبنى الثاينّ ،
أن تلك املعركة ربام أيقظت ّ
كل من يف برمانا. إطالق النار ثانيةّ ،
مخن اجلميع ّ
تنفض عن نفسها تلك األفكار ُ (ميساء) بتفاؤل حذر ،بدأت شعرت ْ
ْ
غرور أناندار ربام
َ غزت عقلها يف الدقائق املاضية .توقعت ّ
أن السوداوية التي ْ
املرجح جدًّ ا ّأل ينترص عىل اللبنانيني يف ٍ
بغباء شديد ،وأنّه من ّ دفعه للترصف
مدربون عليها ،وأغلبهم أل َفها منذ الصغرّ ،
ثم فهم ّ قتال باألسلحة ال ّتقليدية ُ
ري من رجال أناندار أرضيون مرتزقة اعتادوا قل تفاؤهلا حني تذكرت أن الكث َ ّ
تلك األسلحة بالتأكيد ،وقد يكون منهم لبنانيون يعملون معه.
أن قيده وإن كان ال يزال ً
حمكم ،إال أنه مل يعدْ فيه شعر ّ
كام توقع باسلَ ،
ذلك ال ّنشاط التفاعيل ،مل يعد القيدُ يشتدّ عىل يده كلام حاول التملص منه كام
حيرك يده وحياول بأصابعه شدّ أجزاء منقبل إطالق القنبلة .بدأ ّكان حيدث َ
احلبل املعدين لكنه فشل.
احلراس الثالثة يتبادلون
ُ صوت إطالق النار كثي ًفا يف اخلارج ،وبدأُ كان
أحسوا بأن القتال يف اخلارج أكثر صعوبة ٍ
نظرات قلقة ،وقد بدَ ا عليهم ّأنم قد ّ
(ميساء) ،مهس بأذهنا بيشء ما ،وقبل أن يكمل اقرتب باسل من ْ َ ختيلوا.
ممّا ّ
ساخرا“ :أعرفً ثم قال ِ
باالبتعاد عنهاّ ، آمرا إياه كالمه َهن َره أحدُ ّ
احلراس ً
ضحك (باسل)َ ملكا ألناندار العظيم”. صارت اآلن ًِ ّأنا هتمك لكنها
اسمه أناندار الصغري”. أن َ“كنت أعرف ّ ُ بسخرية بصوت عال وهو يقول:
أرضيا -أجزا َء سالحه باحرتافية ،وقالًّ احلارس اآلخر -والذي كانُ شدّ
السبب أنّك
َ سالحه لرأس باسل“ :لو قتلتك اآلن وقلت له ّ
إن َ يوجه
وهو ّ
فلن يلومني”.
قلت عليه أناندار الصغري ْ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 258
ثم فجأة رصخت وسكن يف مكانه متا ًماّ ،
َ ابتعدَ باسل عن ْ
(ميساء)
األول األديتي وهي تقول له ّإنا لن تكون جارية (ميساء) باحلارس ّ ْ
بمزيج من العربية واألديتيةّ .
حذرها احلارس ٍ ثم انطلقت يف سباهبمألحد ّ
رقدت عىل
ْ ثماستمرت بالرصاخ ّّ الصمت بدون جدوى،
َ وطلب منها
وكأنا دخلت يف ٍ
نوبة من ترفس بقدميها وترصخ بصوت مكتومّ ، ُ األرض
رست مههامت بني األرسى يطلبون من احلراس أن يساعدَ ْ التش ّنجات.
أحدُ هم الفتاة.
استغل (باسل) اجللب َة واقرتب من أحد الرجال الواقفني خل َفه وهو ّ
بميساء َمافة أن يراه أحدهم ،غمزَ
يقلب نظره بنيَ احلراس الثالثة املشغولني ْ
ُ
الرجل مقصد (باسل) فهم
فأشار بعينه للقيدَ .
َ ً
ستفهم بيده الرجل فنظر إليه ُم
ُ
الرجل ظهره لباسل الذي وهو أنّه يريد أن يفك ّ
كل م ْنهام قيدَ اآلخر .أعطى
فقام ثم َ
تبادل األدوار َ متكن من ّ
فكهّ ، يتالعب بقيد الرجل برسعة ح ّتى ّ ُ بدأ
بفك ْقيد باسل بدوره. الرجل ّ
قيودهم دون أن يشعر احلراس، فكت ُ يف غضون دقائق كان مخسة قد ّ
كل واحد منهمترتيب ُمسبق ،وزّ عوا أنفسهم بنيَ األرسى ح ّتى صار ّ
ٍ ودون
ميساء قدمي احلارس القريب منها طوقت ْاحلراس .فجأة ّقري ًبا من أحد ّ
َ
االعتدال فناولته ركل ًة أخرى بساقيها وجذبته بشدة فأوقع ْته ً
أرضا ،حاول
هجوم (باسل) واآلخرينُ دوي انفجار قوي يف اخلارج تاله
تزامنت مع ّ
ِ
وأحد عىل احلراس ،ودارت معركة قصرية انتهت بمقتل احلراس الثالثة
املقاومني.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
259
حرر املقاومون زمالءهم والتقطوا بقي َة األسلحة املوجودة يف ذلك ّ
أسفل الدرج وخرجوا بحذ ٍر يستكشفون ساحة املعركة َ الصغري
املخزن ّ
ساترا ،وبدأوا بإطالق النار اجتاه
كل منهم ً التي كانت حامية الوطيسّ .اتذ ّ
بأنم صاروا بني ش ّقي رحى بني املهامجني أناندار ورجاله الذين فوجئوا ّ
اجلدد واملهامجني الذين جاؤوا من داخل املبنى.
حنيَ رأى أناندار ذلك ،طلب من أحد رجاله أن يطلقَ قذيفة عىل مكان
ثم أمر اجلميع بإطالق النار بكثافة ِ
جمموعة املقاومني املهامجني من الداخلّ ،
يف ّ
كل االجتاهات لل ّتغطية عىل انسحابه نحو املبنى اجلانبي من القرص .كان
ِ
أطلقت القذيفة اجتاهها والتي وميساء من ضمن املجموعة التي (باسل) ْ
(ميساء) بأ ًذى سوى أنبجراح بليغة لك ّنها مل تصبه أو ْ
ٍ أصابت واحدً ا
شوشت وع َيه للحظات. ّ
فنبهت باسل الذي َ
ينسحبون ّ (ميساء) أناندار واثنني من رجاله
رأت ْ
أرصت أن ترافقه .جتادال
طلب منها أن تنتظر ،بينام يتبعهم هو ،لك ّنها ّ
معا ،وافقته يتدخل إييل ً
قائلّ :إنم الثالثة سيطاردونه ً ّ للحظات قبل أن
وأمر رجاله
لكن إييل جتاهله َ
باسل االعرتاض ّ ُ (ميساء) عىل الفور ،حاول
ْ
بتكثيف إطالق النار للتغطية عليهم.
ورج َله من مدخل املبنى اجلانبي ،والثالثة خلفهم عىل
اقرتب أناندار ُ
َ
بدأت يف الظهور من األفق ا ُملختفي
ْ الشمس قد ُ
أشعة ّ مسافة آمنة .كانت
النظر
َ ِ
حرس أناندار حني حياولون خلف اجلبل رامية بضوئها يف عيون
خلفهم وهو ما يصعب عليهم رؤية املطاردين َ .
دخل من الباب يتبعه حارساه،
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 260
عدو عشوائيا كأنّه حياول َ
قتل ّ ًّ ثم خرج أحدهم بغتة وأطلق دفقة من ال ّنريان ّ
أصوات
ُ ثم اختفى بالداخل .تقدم الثالثة زاحفنيَ بحذر ،وال تزال ال يراه ّ
الطلقات تأيت من جهة املعركة وإن بدأت تقل.ّ
يكن هنالك أحد ،كان املبنى ً
فارغا متا ًما ،جتولوا بني غرفه دخلوا املبنى ،مل ْ
صوت قرقعة عالية تأيت من األسفلُ .ه ِرعوا نحو السلمَ وممراته ح ّتى سمعوا
ّ
يتوسطها جهاز أشبهّ نحو ْقبو املبنى فوجدوا قاع ًة فسيحة
رسيعا َ
ً ونزلوا
وقف رجالن من مقربة منه َ ٍ يومض بشكل متقطع ،وعىل ُ بالغرفة الزجاجية
النياندرتال بأيدهيم أجهزة َت ّكم.
هرب إىل كوكبه عن طريق هذا الناقل”. قال ُ
باسل بغضب“ :ابن احلقرية َ
(ميساء) بدهشة“ :كيف عرفت؟” .فقال هلا“ :لقد سافرت مع كمريدا
سأل ْته ْ
األم تزورها بني احلني مر ٍ
ات بجهاز شبيه ..كانت مفتون ًة بقريتها ّ عدة ّ
كالم أبوهيا عن ناقلٍ كهذا
َ واآلخر” .تعلقت عيناها بال ّناقل وهي ّ
تتذكر
أعادمها لألرض بعد فرتة اختطافهام يف كوكب أديتيا.
الرجلي املمسكني بأجهزة
ْ وجه
شاهرا أسلحته يف ْ ً اقرتب (باسل)
َ
تشغيل هذا اجلهاز رغم تأثري القنبلة التحكم وسأهلام“ :كيف استطع ُتم
مبطن بطبقات إن هذا القبو ّ ُ
الرجل األديتي ُمرتعدً اّ : املوجية؟” .أجابه
تعزله عن أي يشء حيدث يف العامل اخلارجي ح ّتى لو كانت قنبلة نووية .نظر
ثم قال“ :سوف ِ
بقدمه يف عصبية ّ (باسل) مليساء وإييل وهو خيبط األرض
آخر ما أفعله يف حيايت”. أتبعه يف هذا الناقل ..ال بدّ أن أقتله ولو َ
كان هذا َ ُ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
261
دعم من
ستفعل هناك دون ٍُ نظر له إييل بدهشة وهو يقول“ :هل جننت ماذا
(ميساء) قائلة“ :دعنا ننتظر ونذهب يف مطاردتِه بمساعدة
أحد؟!” .أكملت ْ
الذهاب إىل هناك ،وأمتنى قتله ً
أيضا”. َ ماندريك وزمالئه هناك ،أنا أمتنى
أن هذا قراره وحده فقط ،ر ّدت عليه متحدية نظر إليها بحزم وهو ّ
يؤكد ّ َ
أي يشء حيدث هلا هناك سيكون ذنبه قر َر الذهابّ ،
وإن ّ ستذهب إن ّ
ُ بأهنا
َ
الحظ ّأنام ّ
هيمن باحلركة، الرجلي األديتيني حني
ْ حمذرا ِ
بسالحه ً لوح هوّ .
فأي
أرصيت عىل القدوم معي ّ ثم قال هلا وعيناه عليهام“ :لن يكون ذنبي ،إذا ّّ
بلعت ريقها بصعوبة
ْ يشء حيدث لك هناك سيكون ذنبك أنت وحدك”.
رده ،لكن غلب عليها كربياؤها فقالت بحز ٍم هي األخرى: وقد فاجأها ُّ
“ليكن ما يكون سوف أذهب ..أنا ضابط يف املخابرات ،وأستطيع أن أمحي
نفيس”.
مفكرا
ً تدخل إييل يف احلديث طال ًبا منهام اهلدوء ،صمتا حلظة وأطرق هو
ّ
ننتظر ح ّتى نأخذ اإلذن من القيادة”.
َ ثم قال“ :سآيت أنا ً
أيضا ،لكن جيب أن ّ
ِ
بإعادة تشغيل اجلهاز“ :لن أنتظر وأخاطر ُ
باسل وهو يشري لألديتي رد عليه
بفقدان فرصة مالحقتِه ،ابقَ أنت واتبعني بعدَ ذلك إن شئت” .زفر إييل يف
ً
مستسلم“ :حسنًا ،سأذهب معكام ،لكن يسب محقَ باسلّ ،
ثم يقول حنق وهو ّ
أن زميله لن يعبث باجلهازنطمئن ّ
ّ سنأخذ أحد هذين النياندرتال معنا لكي
ّ
التحكم ،ويضبطه بيده عىل البدء بعدَ فيقتلنا” .ر ّد (باسل) وهو يأخذ جهاز
دقيقتني من ضغط زر التشغيل“ :بل سيأيت كالمها معنا ،اجلهاز يمكن ضبطه
مسب ًقا ،وال حيتاج لوجود ٍ
أحد إىل جواره”.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 262
بعدَ أن أدخل (باسل) اإلعدادات املطلوبة للجهاز ،ضغط الزر ،بدأ
مجيعا فيه ،ومعهام ُ
يومض يف تتابع ُمنتظم ،حني بدأ يف التسارع قفزوا ً اجلهاز
مجيعا ُ
اجلهاز بالعمل وغمرهتم ً األديتيان وأغلقوه بقوة .انتظروا ح ّتى بدأ
ٍ
لوقت ال يعرفون ِ
وغابت التفاصيل ضوء ُمبهر،
ٌ حارة وأعمى عيوهنم ٌ
موجة ّ
حسا َبه بالضبط ،وحني عادت كانوا يف عامل آخر.
***
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
263
القسم الخامس
ُ
مؤجلة
ّ محاكمات
ٌ
ّ
الحكام فقط؛ ال بدّ من طريقة تنفيذ العدل ِ
بيد يترك ُ“ال ينبغي أن َ
قادرين على إنشاء محاكم ُتجابه إراد َة
َ قانونية تجعل عام َة الشّ عب
المحاكم التي تنشئها الدولة عند اللزوم”
ديباجة قانون أديتيا األساسي
37
دسوه يف رشاهبا،غارقة يف نومها بفعل املخدّ ر الذي ّ ٌ نظر إليها وهي
َ
ومركزا حلياته.
ً زمن مىض عنوا ًنا لقلبه
ببرصه يف مالحمها التي كانت يف ٍ ِ جال
ذاب فيهام ذات يوم ،وهو يسأل كيف هلاتني الشفتني أن تأمل شفتيها اللتني َ
ُ
وهيبط بانتظام ،وقال أمرا هبذه البشاعة ،تط ّلع إىل صدرها وهو يعلو تصدران ً
كل القبح ،وي ّتخذ قرارات ال لنفسه كيف هلذا الصد ِر أن حيوي قل ًبا يستبيح ّ
يتخذها ّإل السفاحون!.
“إن اخلوض يف الوحل العميق يبدأ عندما ال تتأ ّفف من اتساخ قدمك ّ
وأنت عىل حافته” ر ّدد ماندريك يف ذهنه ذلك املثل القديم من وطنه األم،
ذكر اسمهاأقبح األفعال التي كان يستنكر َ َ
اإلنسان يرتكب َ والذي يعني أن
فالقبح كاملال ك ّلام
ُ قبحا،
أقل ً ٍ
أفعال ّ ملجرد أنه بدأ باالعتياد عىل ارتكاب
قل شعورك بكثرة ما لديك. استزدت منه ّ
ري مستوعبة ملا جيري أو ملَا تراه. تأوهت هريمني وهي تفتح عينيها غ َ ّ
جالس عىل كريس ٌ كانت هريمني راقد ًة عىل أريكة صغرية ،وأمامها ماندريك
ختص املقاومة يف حي عني شمس. املقار التي ّ
غرفة صغرية يف أحد ّ ٍ جلدي يف
خافت الضوء. ُ مصباح واحد
ٌ كانت الغرفة مستطيل َة الشكل ضيق ًة ،ينريها
تتبي مالمح ماندريك يف البداية ،وظ ّنت كانت الرؤية ضبابية ّأول األمر ،مل ّ
غرفة يف بيتٌ وأن تلك الغرفة القذرة هي ّأنا أغمى عليها من فرط التوتّرّ ،
وتذكرت أهنا قد ّ ِ
وجود ماندريك أمامها، لؤي .فزعت حني انتبهت إىل
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
267
تساءلت عن السبب الذي جعله
ْ اخ ُت ِط َفت عىل يد املقاومني بمساعدة لؤي.
هتم، ثم عادت تقول لنفسها ّ
إن األسباب ال ّ خيوهنا وهي تعدّ د أفضاهلا عليهّ ،
ُ
التعامل مع النتائج. واملهم
ّ
اعتدلت يف جلستها وهي تنتظر ْ
أن يبدأها بالكالم ،كان اجلو بينهام يف ْ
ِ
الكلامت يف صدر َمن يريد الكالم .كانت تريد تلك ال ّلحظة ً
غائم بار ًدا يكتم
أن تسأله عن مصريها؛ أن ختاطب فيه احلبيب القديم ع ّله يرمحها .أ ّما هو
الش اخلالص ،وكيف استباحت حتولت إىل هذا ّ
فكان يريد أن يعرف كيف ّ
أين ُدفنت.. يرصخ فيها ً
سائل عن هريمني القديمة َ َ ما استباحته ،كان يريد أن
أي جحيم جاءت!
وعن اجلديدة من ّ
نفسه يقول متش ّف ًيا“ :مل يكن من لكن ً
رغم عنه وجد َ فمه ليسأل ْ
فتح َ
َ
العسري علينا جتنيد (لؤي) بعدَ إغرائه ببعض امليزات فقد كان الرجل يمقتك
أحقر منه بكثري” .ضغط
ُ يعلم حقيقة أنّك
احتقارك له وهو ُ
َ ح ًّقا ..كان يكره
خرجت منه كبصقة عىل وجهها ،وشعرت هبا هي ْ عىل كلامته األخرية التي
استجامع أكرب قد ٍر
َ كسكني حا ّد يغوص يف قلبها لك ّنها ر ّدت عليه وهي حتاول
قرارا خاطئًا،
اخلاص كان ً
ّ “جعل ذلك احليوان حاريس
من رباطة جأشهاْ :
ابتلعت ري َقها وهي حتاول أن تطر َد
ْ ثم
وخيان ُته يل ال تشغل بايل كام تظن”ّ ،
رب قد ٍر من
ترسم عىل وجهها أك َ
َ عن ذهنها فكرة مصريها القادم ،وحتاول أن
ُ
تضيف ُمتظاهرة باملزاح“ :أنا لست غاضب ًة منه؛ عىل العكس االستهانة وهي
أنا أشكره ألنّه أتاح يل فرص َة رؤية حبيب قديم”.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 268
الساخرة رغم أنه استخدم اللهجة وجهه غض ًبا من طريقتِها ّ
ُ اكفهر
ّ
لكن رؤية ذلك التعبري ا ُملستهني عىل نفسها يف احلديث معها َ
قبيل اختطافهاّ ،
وجهها ضايقه بشدّ ة .صاح فيها يف ٍ
ثورة عارمة وهو ي ّتهمها بأبشع العبارات،
َ
مراحل العار .فتح شاش ًة يشء ُ
يفوق الوصف ،ويتعدّ ى ّ
ويذكرها أن ما فعلته ٌ
صورا ّ
تلخص جريمتها ،ور ّد فعل الضحايا، ً فراغية أمامها ،وعرض فيها
ثم أمسكها من كتفيها وصاح وهو وجوههن من األمل والفزعّ ،
ّ وما ظهر عىل
أديتيا واحدً ا ّإل وصدم ْته بشاعة ما فعلتِه ،من
أرضيا وال ًّ
ًّ هيزمها بقوة“ :مل َأر
أنت بحقّ ماجوها ،أو بحقّ أي يشء تؤمنني به”.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
269
األقوال واحلجج ،تصارع يف داخلها العناد واألنفة مع ُ تضاربت يف عقلها
ْ
حب البقاء والرغبة يف ال ّنجاة ،فانعقد لساهنا ومل تد ِر ماذا تقول ،نظرت إىل ّ
نفسامها ال ّلتان كانتا حتتوياهنا
عينيه ال ّلتني تطفحان غض ًبا ومق ًتاّ ،إنام العينان َ
وشعور بالعجز ،جعلٌ واحتشاد للمشاعر املتضاربة
ٌ ذات يوم ،مفارقة غريبة
رغبة عارمة يف البكاء ،مل تقاومها ٌ كل يشء خيتفي من ذهنِها ،واجتاحتها ّ
فارتفع صوهتا بنحيب ُمرتفع خمتلط بآهات متقطعة.
َ
حلبه هلا ،وألنّه
جزء كبري من غضبه يعود ّ حائرا وهي تنتحبٌ ، ً تأ ّملها
يمس ،وأنّه يفنقيا مل ّ
أن هناك جز ًءا يف روحها ال يزال ًّ كان دو ًما ُيم ّني نفسه ّ
يوم ما سيوقظه وجيع ُله له اليد العليا عىل بقية روحها ،وعندها تعود هريمني
تتلوث يدها ِ
سلكت اآلن طري ًقا ال رجع َة فيه وال توبة منه يف رأيه ،مل ّ القديمة.
أن روحها ٍ
بطريقة ّأكدت له ّ بالدم فقط ،وإنّام بالبشاعة واالستهانة بالبرش
أعمق نقطة يف املحيط ،ال مكان فيها لبقعة ضوء واحدة. ِ صارت أظلم من
ٍ
ملحاكمة علنية عادلة سرياها العامل أمجع هنا عىل األرض ،ويف “ستخضعنيَ
هيم باخلروج وهي ال تزال تبكي .ملكوكبنا األم” ،قاهلا وهو عندَ باب الغرفة ّ
حيصن نفسه ضدّ ضعفها“ :أال جيدْ منها استجاب ًة لكالمه َ
فقال هبدوء وكأنّه ّ
تتوسل لك لتنقذي حياهتاَ ...أل
بكت مثلك هكذا وهي ّ تظننيَ أن كمريدا ْ
فلن توازي دموعك قطر َة دم من هؤالء عرش سنوات ْ تعلمني أنك لو بكيت َ
مرميا عىل ٍ
امرأة جلنينها وهو يموت ًّ ٍ
حرسة من ال ّنسوة أو شهقة أمل أو نظرة
ني دموعها قائلة“ :مل ْ
أفعل ذلك” .فرد األرض حتت قدميها!” .ردت من ب ِ
سمعك حتدثني أناندار وعيناك
بغيظ عليها“ :كمريدا قالت إنّك فعلت ولؤي َ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 270
ينتظر ر ّدها وإنّام
ْ اآلن ت ْفضحانك وتكشفان ّ
رسك ...إنكارك ال قيمة له” ،مل
ثم أغلقه خلفه بعنف.
فتح الباب وخرجّ ،
ثم
أضواء خافتة ،جتاوز ثالثة أبواب ّ
ٌ ملمر طويل تنريه
خرج من غرفتها َّ
الرابع ،قا َده إىل غرفة فسيحة جلس فيها رجالن؛ أريض وأديتي ،إىل َ
دخل ّ
ثم سأل“ :ما لتحيته لك ّنه أشار هلام باجللوس ّ
وقف الرجالن ّ طاولة ُمستديرةَ .
اضطروا القتحام
ّ آخر أخبار عملية أناندار” .ر ّد عليه األريض ً
قائلّ ..إنم
َ
احتجاز املجموعة املهامجة القرص بأسلحة تقليدية بعدَ ما استطاع أناندار
كميات كبرية من األسلحةٍ أن أناندار خيزن ثم أضاف“ :اتّضح ّاألوىلّ ،
َ
رجال املقاومة لكن
ّ التقليدية بنادق آلية ومتعددة الطلقات ،وغريها،
استطاعوا التغلب عليهم يف النهاية”.
يشكره ماندريك لكنَ منتظرا أن
ً بزهو ،وهو ينهي ُجلته
الرجل ْ ابتسم ّ
َ
كل ما وصلناكمل“ :هذا ّأيضا ،فقال ُم ً
نظر إليه كأنه يقول ..وماذا ً
األخري َ
املهمة؟ هل قتلوا أناندار؟
األخبار ّ
ُ ضيق ً
قائل“ :أين منهم” .زفر ماندريك يف ٍ
(ميساء) وباسل بخري؟”.هل قبضوا عىل مساعده؟ هل ْ
ربرا لزميله“ :سيدي ،املكاملة كانت
وم ً تك ّلم اآلخر -األديتيً -
قائل ُ
إن قائدهم سيتواصل معك حني تنتهي من حتقيقك مع رسيعة ،وقالوا ّ
طلب من األريض أن جيري ثم َ مفكراّ ،
ً َ
أطرق ماندريك املتهمة الرئيسية”.
مقر املقاومة يف بريوت ليتحدّ ث مع قائدهم سامر. ً
اتصال مع ّ
شاشة فراغية أظهرت (سامر) وهو جيلس بيده عبو ُة عصري ٌ انفتحت
ْ
ضمدت ذراعه وبدَ ا عىل وجهه اإلجهاد ،وعىل عينيه النعاس.
ْ صغرية وقد
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
271
ثم سأ َله عن األخبار فر ّد ً
قائل“ :لقد استطعنا بادره ماندريك بال ّتحيةّ ،
أشعر بالقلق الشّ ديد من هذا
ُ َ
أصدقك القول أنا التغلب عليهم بصعوبة لكن
َ
اللعني أناندار” ،جتاهل ماندريك ذلك “القلق الشديد” وسأله“ :هل قتل ُتم
أناندار؟ وأين باسل وميساء؟”.
ضم (باسل) لتلك العملية، ُ
الرجل لباسل’ ولليوم الذي وافقَ عىل ّ سب
ّ
يصفه باحلمق والتهور ،وقبل أن يستطر َد قاطعه ماندريك ِ
بنفاد صرب وانربى ُ
قائل“ :العزيز سامر ..أرجوك ّأو ًل أخربين عن نتائج العمليةّ ،
ثم ا ْل َعن َمن ً
جترع بقية عبوة العصري وقذفها بعيدً ا: تشاء بعدها”؛ فقال سامر بعدَ أن ّ
نفسه فقدصباحا ،أ ّما أناندار ُ
ً “قبضنا عىل مساعد أناندار وسأشحنه لك غدً ا
ابن املالعني (باسل) رب أحد أجهزتكم اللعينة إىل كوكبكم ،وقام ُ انتقل ع َ
(ميساء) وإييل ساعدي األيمن”.آخذا معه ْباالنتقال خل َفه ً
أسباب
َ يتفهم
مدهوشا من ذلك الذي حدث .قد ّ ً عقدَ ماندريك حاج َبه
لكن ملاذا
خلف قاتل زوجتهْ ، َ يقفز إىل املجهول هكذا (باسل) التي جتعله ُ
وحماولة إثبات ذاهتا هذا املبلغ ،أم ّأنا هيُ ُ
احلمق تبعته ميساء .هل بلغَ هبا
أيام كان هو ُ
يعرف أناندار َ وشخصيته .هو
ّ جرم أناندار األخرى استفزها ُ
مسا من مرات ،كان يرى ّ
أن به ًّ حب هبريمني ،وحتدّ ث معه عد َة ّ عىل عالقة ّ
مرة إنّه
ذات ّ أفضل إخوته ،بل إنّه قال له َُ جنون العظمة واهلوس بإثبات أنه
َ
جيعل ذكر عائلته خالدً ا يف التاريخ شخصيا ،وإنّه ينوي أن
ًّ أفضل من أبيه
بدل من أناندار الصغري التي يسمي نفسه ً َمقرو ًنا بأجماد أناندار الثاين كام كان ّ
يطلقوهنا عليه يف العائلة.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 272
“اسمع يا ماندريك ،أريد منك أن تعيد
ْ أخذه من أفكاره ُ
قول سامر: َ
مليا وهو ّ
يفكر ترصف” .تأمله ماندريك ًّ أعز عندي من أبنائيّ ،
(سامر) فهو ّ
وألنا فتاة تستحقّ َ
بذل (ميساء) إكرا ًما ألبيهاّ ، أيضا لن ّ
يتخل عن ْ يف ر ٍّد فهو ً
تنظر إ َّيل
صوت سامر احلانق وهو يقول“ :ال ْ
ُ قطع تأمله
اجلهد من أجلهاَ .
هكذا كالتائه ،قل يل ماذا ستفعل الستعادة الفتى؟”.
“هل مازال أحدٌ من رجالك يف القرص؟” .سأل ماندريك ،فر ّد (سامر)
ُ
فرشطة أديتيا عىل ً
طويل، باإلجياب ،لك ّنه أضاف“ :لك ّنهم لن يبقون هناك
اخلاصة
ّ ِ
لوحات التحكم يصور
طلب ماندريك منه أن ّ َ وشك الوصول”.
أشار
ليستطيع التقنيون لديه حتديد املكان الذي هبطوا فيهَ .َ بجهاز التحكم
أن ّ
أذكرك ثم قال“ :أريدُ فقط ْ
وطلب منه تنفيذ األمرّ ، َ سامر ألحد مساعديه
ٍ
كميات كبرية من البنادق واملدافع اخلفيفة خيزن
أن ذلك اللعني أناندار كان ّّ
أخطر
َ ُ
الرجل قد يكون ولوال أننا فاجأناه ملا تغ ّلبنا عليه ..هذا
والذخريةْ ،
ريا ممّا تتصورون قد يكون أخطر من حكومتكم نفسها”.
كث ً
***
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
273
38
أنفاسا ملؤها
ً جلس (عمر) يق ّلب يف أوراقه وهو ُ
يزفر يف عصبية ،خيرج َ
القلق والغيظ ،حياول متضي َة الوقت الثقيل الذي يأبى ّإل أن يعذبه ببطئه ُ
(ميساء) مع هو وزهرة أربع َة أيام عصيبة ُ
منذ أن َ
علم باختفاء ْ ا ُمل ِمض .أمىض َ
كل ما سيطر ِ
ملطاردة أناندار .كان ّ باسل وإييل بعدَ أن ذه َبا إىل كوكب أديتيا
الرعب من ف ْقد طفلته الوحيدة ال يشغل
َ عىل عقله خالل األيام السابقة هو
باله يشء آخر ،وإن حاولت زهرة هتدئته خلشيتِها عىل ّ
صحته ،فهو ال يزال يف
ٍ
نقاهة بعد جراحة القلب التي أجراها.
وأنا
صباح اليوم ّأنا بخريّ ، َ أن أخربه ماندريك حنيَ اطمأن عليها بعد ْ
الفزع من فقدان طفلته الوحيدة إىل ُ ستعود بعد ساعات ،تبدل ّ
كل ذلك ُ
تقفز قفزة كتلك. وهتور ،جعلها ُ غضب شديد م ْنه ملَا وجده من استهتار منهاّ ،
ثالث هلام ،إ ّما أهنا تريد ٍ
لسبب من اثنني ال َ كان جيزم يف داخله ّأنا فعلت ذلك
وإن كان ذلك بإلقاء ِ
حماولة إثبات ذاهتا وبطولتها ،ح ّتى ْ أن تذهب بعيدً ا يف
تبهر
مدد أو متابعة ،وإ ّما أهنا كانت حتاول أن َ نفسها يف أرض العدو دون ٍ
ملس منها اهتام ًما زائدً ا به ّ
كأنا ذلك املدعو باسل ،وتريد أن تثري إعجا َبه ،فقد َ
فشل مرشوعها األمحق للزواج من سمري. تعوض َ ّ
أن هتورها ذلك يستدعي ربه ّ ُ
منذ قليل طلب قائدَ ها املقدم (إياد) وأخ َ
وأنا ليست ُكفئًا الختاذ قرارات مصريية.
استبعادها من العمليات امليدانيةّ ،
كانت خطوة تردد فيها ً
أول ألنّه يعلم أهنا ستغض ُبها بشدة ،وقد تقاطعه ْ
إن
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 274
وصل إىل علمها أنه تكلم عنها بتلك الطريقة ،لك ّنه كان ّ
يفضل أن تكون
ثم ر ّد عليه بجفاء ً
قائل: يف أمان عىل رؤيتها .استمع إليه (إياد) ِ
بنفاد صربّ ،
أب يف عملتدخل ٌ
إهنا ضابط يعمل حتت إمرته وإنه مل يسبقْ يف التاريخ أن ّ
استخدام سلطته األبوية يف ِ
منعها ُ ولده بتلك الطريقة ،وإنه ح ّتى ال حيق له
حتاسب
ُ من العمل فهي عسكرية ،وأمرها ِ
بيد قادهتا فقط وخمالفتهم جريمة
َ
وأخذ يميض مشاعر من االرتياح والضيق والقلق،
ُ عليها .ساعتها داخلته
الوقت وهو يشعر بعقارب الساعة تكاد تطبق عىل رقبته.
َ
َ
أرشق وجهها بعدَ أربعة أيام قضتها يف البكاء دخلت عليه زهرة وقد
ْ
َ
فأفرغ ما يف مكفهرا فسألته عن السبب
ًّ وجهه
واعتزلت فيها العمل ،رأت َ
ابتسمت وهي جتلس إىل جواره وتر ّبت عىل صدره طالبة
ْ قلبه بني يدهيا.
جالسا عىل فراش
ً اجلراحية أسبوع .كان
ّ ِ
يمض عىل عمليته منه أن هيدأ فلم
بسيط يف البيت الذي ّاتذته (زهرة) يف ّ
خميم الالجئني جوار املستشفى.
غرفتي ضيقتني
ْ ٍ
واحد حيوي املخيم من طابق
ّ بيت متواضع كباقي بيوت
بأي حال ببيتها التي كانت تعيش فيه ورده ًة صغرية وأثا ًثا فق ً
ريا ال يقارن ّ
قبل الغزو.
(ميساء) أخربهيا أنّني غاضب منها ،وأنني ِ
“أرجوك يا زهرة ،عندما تصل ْ
يزدرد ريقه بصعوبة،ُ لن أقابلها ّإل بعد أن تصفو نفيس” .قال ُعمر وهو
بخليط من الدهشة واالستنكار وهي تقول: ٍ فرتاجعت زهرة ونظرت إليه
كل هذاّ ،إنا ابنتك الوحيدة” .ر ّد عليها بنربة“عمر ...املوضوع ال يستحقّ ّ ُ
تغاضيت عن الكثري وهي مازالت تعاملني معامل َة
ُ حزينة لكنها حازمة“ :لقد
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
275
ال ّند ال معاملة االبنة لألب ح ّتى وصلنا لليوم الذي تلقي بنفسها يف ال ّتهلكة
بال سبب” .فقالت زهرة حماولة ثن َيه عن ِ
عزمه“ :لكن يا عمر ”..تو ّقف لساهنا
ألنا
سبابته عىل فمها طال ًبا منها الصمت ،فأمسكت ّ ومل يكمل حني وضع ّ
تعرفه يف مثل تلك احلاالت ال يمكن إقناعه بيشء.
كل واحد منهام متى خيفض لآلخر مفاتيح بعضهام ،يعرف ّ
َ كانا يمتلكان
أي اعتبارات إال
أول اعرتاف باحلب ،مل يكن يف عالقتهام ّ جناحه .منذ َِ
ري دهشة ّ
كل َمن حوهلام .كانت تظهر له طاعة معا ،وكان ذلك يث ُلوجودمها ً
الولِه .قصة ّ
حب خمتلفة مل خضوع العاشق َ
َ الزوجة املحبة وكان ُيظهر هلا
تكن لتأخذ ذلك الشكل لوال ّأنا بدأت
حتدث يف جمتمعهام من قبل ،وربام مل ْ
عىل كوكب غريب.
وخرجت تشغل نفسها بتجهيز غداء لثالثتهم .كانت تلك ْ ترك ْته وحده
كأي أرسة عادية منذ حدوث معا ّ
املرات القليلة التي يتاح هلم تناول الغداء ً
من ّ
مرت ساعة اجلو بينهام ح ّتى ال تفسد املناسبةّ .
الغزو؛ كانت تتم ّنى أن يصفو ّ
متعجلة عىل الباب ،طرقات ّ صوت طرقات رسيعة َ أن تسمع ونصف قبل ْ
الباب وأخذت ابنتها
(ميساء) هي صاحبتها .فتحت َ متتابعة خفيفة أنبأهتا ّ
أن ْ
بفرح طاغ،
ٍ قبالتا ملهوفة ممْزوجة
ُ يف حضنها وتبادلتا قبالت كثري ًة كانت
مرة واحدة ،وإىل األبد.مشحونة برغبتها يف التخلص من خوفها عىل ابنتها ّ
“أين بابا؟ لقد أوحشني ..لن تصدّ قي ما حدث ..لقد كنت هناك مشيت
حيث مشيتم ،ورأيت القمر ْين ينريان السامء هناك ،وجيعالن الليل رائع
ثم
أول ّ َ
وتلتقط أنفاسها ً اجلامل و ”.......قاطعتها أ ّمها طالبة منها أن هتدأ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 276
(ميساء)
أن ْ كل يشء .أدركت أ ّمها ّهناك م ّتسع من الوقت لتقص عليها ّ
وغضب أبيها
َ تشعر بأهنا قد أخطأت وأهنا تعرف أن ما فعل ْته سيثري غضبها
فقد كانت يف صغرها تفعل بالضبط ما فعلته اآلن لتداري عىل خطأ ارتكبته.
َ
حدث بطريقة قص حكاية مثرية عن ما تدخل من باب البيت وتندفع يف ُّ
وتترصف بغفلة مل تدرك معها أهنا أخطأت ح ّتى
ّ توحي ّأنا كانت سعيدة
تتعاطف أ ّمها معها وتسامح خطأها يف غمرة ذلك.
قليل؛ فهي تعرف أن اللقاء بني ريا الرتياحها ً ُ
الترصف مث ً كان هذا
ُ
سينفعل عليها ويلومها بشدة .لو (ميساء) وأبيها سيكون مشحو ًنا ،وأنّه ْ
َ
فسوف جتادله الكلمة تكابر وال تدرك أهنا أخطأت ُ (ميساء) مازالتكانت ْ
لكن بام أهنا تعرف خطأها وحتاول ً
اشتعال بينهامْ ، بالكلمة ممّا سيزيد املوقف
ستعتذر
ُ مدارا َة اخلطأ ،بتلك احلامسة املفتعلة عن رحلتها الغريبة ،فهي غال ًبا
رسيعا.
ً ُ
سيقبل االعتذار وينتهي األمر ألبيها وهو
(ميساء)؟ كيف جرؤت عىل إلقاء نفسك يف التهلكة ِ
فعلت ذلك يا ْ “ملاذا
تنظر إليها بعني عاتبة فقالت“ :مل ّ
أفكر بنيتي؟” .سألتها وهي ُ هبذا الشّ كل يا ّ
خطر ببايل أنني سأرى ذلك املكان الذي شهدَ والدة حبكام”.
َ يا أمي ّ
كل ما
ثم
تنظر هلا بتشكك من أسفل نظارهتا ّلوت زاوية فمها غري مصدّ قة وهي ُ
“من األفضل أن تقويل ألبيك شيئًا يصدّ قه وخي ّفف غضبه ،ال داعي قالتِ :
للمراوغة ح ّتى ال يغضب أكثر”.
تقسم عىل ّ
أن هذه هي احلقيقة لكنها َ (ميساء) بر ّدها ففكرت أن
فوجئت ْ
بدل من ذلك سألتها عنه“ :أين هو اآلن؟” فقالت“ :غاضب .وقال إنّه لن ً
ِ
للخلف يف عصبية َ
خصل شعرها وجذبتها (ميساء)
رفعت ْْ يراك اآلن”.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
277
غاضب لدرجة أنه يرفضٌ ري مقتنعة ّ
أن أباها وهي حتاول أن تفهم وهي غ ُ
لقاءها ،فلم حيدث قط أن رفض لقاءها ح ّتى حينام اختلفا وكانت بينهام حدة
يف التعامل.
هتم بالوقوف ،فقالت زهرة هامسة: قالت بحزم وهي ّ “سأدخل إليه” ْ
وفكري ً
أول فيام يمكن أن تقوليه وخي ّفف من غضبته ..اعتذري له “اجليس ّ
“أعتذر ً
أول! أنا كنت يف ُ (ميساء) بدهشة قائلة:
تراجعت ْ
ْ قبل أن تتكلمي”.
تدخن
لست طفلة مراهقة ضبطها أبوها ّ خيص عميل؛ ُ قرارا ّ
مهمة واختذت ًّ
السجائر عىل ناصية الشارع”.
تنظر يف عينها وتقسم أهنا مقتنعة أهنا مل
أمسكت أ ّمها يدها ،طلبت منها أن َ
ْ
ثم بعد غضب أبيها ،فتلعثمت ومل تدر ما تقول ّ
َ ختطئ ،ومل تفعل ما يستدعي
هيدها إىل يشء ،سألت أمها“ :ماذا أقول له إ ًذا؟” .فقالت“ :هو يقولتفكري ،مل ِ
عرضت حياتك خلطر ُمقق ،ولك ّنني أشعر أن أكثر غضبه إنه غاضب ألنك ّ
عرضت حياتك للخطر من أجل أن ُتبهري ذلك الرجل، ناتج عن ظنه أنك ّ
لكنوقررت القفز لكوكب آخر لكي تكوين معه ...قدْ ال تفهمني ما أقول ْ ّ
رجل ريفي ،وال يزال يعترب أن فع َلك هذا ييسء لكرامته ،ال يزال يعت ُرب
أبوك ٌ
ضابطا يف املخابرات”.ً ً
أصول جيب أن تراعيها البنت ح ّتى لو كانت ّ
أن هناك
بأن أباها مل يغضب حني(ميساء) بكالم أ ّمها فجادلتها مستدل ًة ّ
مل تقتنع ْ
بخططها مع (سمري) من ْقبل ،أو حني الحظ اهتاممها بباسل ،فقالت ِ عرف
حمبوسا ملدة عامني ،كان سعيدً ا
ً يبتلع ذلك ً
رغم عنه ألنّه كان زهرة“ :كان ُ
رست بينكام ،ومل يكن يريد أن يفسدها ،كان يعلم ّ
أن ْ بالروح اجلديدة التي
عالقتك بسمري لن تنجح”.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 278
أن عيب (عمر) الوحيد تقل هلا بقي َة ما جيول يف صدرها؛ كانت ترى ّ
مل ْ
أنه أحيا ًنا متلؤه الظنون ،وتذهب به بعيدً ا .تقول لنفسها إنّه قد يتخيل للحظة
(ميساء) وباسل ،وهويتكرر بني ْ
حدث بينها وبينه عىل الكوكب قد ّ َ ما أن ما
َ
حدث بينه وبني حبيبته ،ولن يتكرر مع ابنته ما
كأي رجل عريب ال يرىض أن ّ ّ
تتغي طريقة تفكريه تلك مهام كانت الظروف التي يعيش فيها. ّ
(ميساء) مستأذن ًة عازمة عىل مقابلة أبيها .حاولت زهرة ثن َيها قامت ْ
(ميساء) عزمها حني رأت نظر ًة حازمة عىل وجهها جعلتها تدرك ّ
أن ْ عن ِ
ِ
وطرقت الباب ،مل تسمع (ميساء) لباب الغرفة
توجهت ْ ال تنوي االعتذارّ .
جيبها فكررت فكررت طرقها وهي تقول“ :أنا ميساء ..أدخل؟” .مل ْ ردا ّ ًّ
متجه ًم ال
ّ جالسا
ً ِ
فتحت الباب هبدوء ،وجدتْه سؤاهلا ،وحنيَ مل جتد استجابة
ينظر ناحيتها ،فنادت عليه قائلة“ :بابا ،أنا عدت ..أمل تفتقدين؟ أمل تقلق عيل
ميسائك احللوة؟!”.
اختالج
َ استمر يف جتاهلها ،فقالت“ :أنا آسفة” .مل ينظر إليها وإن الحظتّ
زفر ولوى وجهه فكررت أسفها ،وقالت ّإنا أخطأت ،مل ير ّد؛ وإنام َ وجهه ّ
بأيأقفز يف جهاز الناقل ّ
بحبي لك أنّني مل ْ
“أقسم ّ
ُ للناحية األخرى ،فقالت:
مكان ميالد حبكام ،لك ّنني كنت أكذب، َ أن أرى نية ،قلت أل ّمي إنّني أردت ْ
أفكرقرار يف أثناء عملية قتالية مل ّ
أقل من ثانيةٌ ، قرارا يف ّ
احلقيقة أنني أخذت ً
يف عواقبه ،كذلك فعل إييل زمي ُلنا اللبناين ،قفزَ معي هو اآلخر ،هو مثيل َ
أخذ
صحيحا يف وقتها”.
ً قرارا بدَ ا له
ً
رأسها عىل صدره ،وقالت“ :أنا آسفة ...أقسم
جلست جواره ووضعت َ ْ
تسبب يف غضبك ،أقسم إن غضبتك أشعر بالندم عىل ما فعلته ألنّه ّ
ُ باهلل إنّني
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
279
حيرك
يل رؤسائي” .مل ّ مرة من العقاب الذي قد يوقعه ع ّ عندي أسوأ َ
ألف ّ
متعبة ،وال
ساكنًا فقالت“ :أيب ...أنا ُمرهقة جدًّ ا ،قلبي ُمرهق ،وروحي َ
انخرطت يف البكاء.
ْ شخصا يف هذا العامل يمكنه شفائي ّإل أنت”ّ .
ثم ً أعرف
وضع يدَ ه عليها ور ّبت عىل كتفها وهو يقول“ :ال تبكي ...لقد ساحمتك”.
ممازحا“ :أنت امرأة قوية ُمستق ّلة ينبغي أن ال تبكي
ً استمرت يف البكاء فقال
ّ
ُ
الرجل الوحيد الذي دموعها وتقول“ :أنت
َ أمام أحد” فابتسمت وهي متسحَ
حيقّ له أن يرى دموعي”.
حدث بالتفصيل”.َ واحكي يل ما
بح ّنو“ :دعك من بكاء الفتيات هذاْ ، قال ُ
قصت عليه ما حدث ،كيف ّأنم عندما وجدوا أنفسهم يف قرص أناندار املمتلئ ّ
ثم
انتقل وراءهمّ ،وأن أحد األديتيني من املقاومة َ باحلراس أدركوا خطأهمّ ،
أحد أصدقائه بعد مطاردة ُميفة ،وكيف ظ ّلوا عند صديقه مكان عند ِ
ٍ أخذهم إىل
ملقر
ثم جا َء آخرون من املقاومة يف اليوم الرابع ،وأخذومها ّ ذلك ملدة ِ
ثالثة أيام ّ
تم حتوي ُلها للتحقيق بسبب هلم ،ونقلومها إىل األرض يف الفيوم مبارشة ،وكيف ّ
ما فعلته ذلكْ ،
وإن مل يصدر قرار بإيقافها عن العمل ح ّتى اآلن.
أول ،أو عن إحالتك يقل يل إنّك وصلت عندهم ً “قائدُ ك اللعني مل ْ
زادت من غضبي” .ابتسمت بغموض ْ يل بطريقة رد ع َّ
للتحقيق ..فقط َّ
يل لك ّنني مل أغضب منك” .رفع وقالت“ :أنا أعلم أنك حاولت تغيريه ع ّ
ثم
بالتبجح ّقبلته عىل خدّ ه ّ
ّ حاجبيه بدهشة وقبل أن ير ّد عليها م ّت ً
هم إ ّياها
وهيا للغداء؛
زعيم الثوارّ ،
َ قامت وهي تشدّ ه من ذراعه قائلة“ :كفى كال ًما يا
جوعا”.
فقد أوشكت عىل املوت ً
***
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 280
39
منصة القضاة يف ْقبو رتّبه رجال املقاومة من ِ
مواجهة ّ جلست هريمني يف
ْ
جتلس يف املنتصف،
ُ النياندرتال ليشب َه قاعات املحكمة يف كوكبهم .كانت
جلس (باسل) ولؤي الشّ اهدان الوحيدان عىل جريمتها ويف َ وعىل يمينها
مواجهتها املنصة ا ُملعدّ ة لثالثة قضاة من بني ج ْلدهتا .عىل يسار القاعة جلس
األرضيني واألديتيني يرتقبون بدء
ّ ٌ
وخليط من املقاومني من وعمر
ماندريك ُ
قوي يفيد القضية ،وحيرج حكومة دعائي ّ
ّ املحاكمة آملني أن يكون هلا صدً ى
االحتالل.
أن السبيل الوحيد لنجاهتا من بعدَ تفكري طويل من هريمني ،وجدت ّ
تنكر هتمتها .سرتمي هي بال ُّتهم عليهم ،ستقول ّإنم أن َتلك املحاكمة هو ْ
زورا لتشويه منظ ِر الدولة .القانون األديتي ال
نسب هذه اجلرائم هلا ً يريدون َ
احلر ،أو بوجود ُ
التهمة باعرتافه ّ هم بالقتل ّإل إذا ثبتت عليه
شخصا م ّت ً
ً يعدم
وحلسن ّ
حظ شخص شاهده وهو يفعلها ،أو شاهده وهو يرتّب هلا ويأمر هباُ ،
فإن كال الشاهدين مل يشاهدها مبارشة. هريمني ّ
رأسها احلجج .املقاومون يريدون أنكانت هادئة ،وقد استجمعت يف ِ
يظهروا بمظه ِر املنصف الذي يقيم حماكمة عادلة ،ويريدون أن يستغ ّلوا تلك
أكثر منهم قدرة عىل التالعب ،وحديثها أكثر
دعائيا ،لك ّنها ترى أهنا ُ
ًّ املحاكمة
ستقلب الطاولة عليهم ،وجتعل املحاكمة دعاية هلا
ُ وحجتها حارضة، ّ إقناعا،
ً
مهام كان احلكم النهائي. وحلكومتها ْ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
281
أن األمور كانت معكوس ًة لقامت هي بتعذيب َمن أمسكته وهددته لو ّ
أن تضعه يف حماكمة حتاكمه ،أما ْ
ُ ثم
حلثّه عىل االعرتاف ّهيمونه َ
بكل من ّ
ضغط كافية ،فهذا هو الغباء بعينه؛ٍ علنية أمام الناس مبارشة دون أوراق
احلق بالباطل .ال يعني
خيتلط عىل الناس ُّ َ سينكر ويبكي ويستعطف ح ّتى
ذلك أهنا ستوافق عىل الظهور بذلك الشكلِ ا ُملثري للشفقة لك ّنها ستدير تلك
بالسجن مدى احلياة .كانت وإن حكموا عليها ّ املحاكمة لصاحلها ،ح ّتى ْ
َ
احلفاظ عليه ّ
بكل ما هادئ ًة ذلك اهلدوء الذي يقف عىل حدِّ التوتر حتاول
أوتيت من قوة.
بإهباميه عكس بعضهام
ْ (لؤي) عىل ال ّنقيض منها ،كان شديدَ التوتر؛ يدور
أصاب أم أخطأ حني وافق َ ينفك يسأل نفسه إن كان حركة عصبية ،وال ّ ٍ يف
ذات يوم ،استدرجته فتاة عرض احلكومة املرصية واملقاومني .اختطفوه َ ِ عىل
تعمل مع املقاومة إىل بيتها ،مل يقاوم أنوثتَها كالعادة ،ودخل بيتها كاألبله.
ضابطا ِمن املخابرات املرصية ،وواحدً ا من النياندرتال املقاومنيً هناك وجدَ
ري حياة كريمةسيتم توف ُ
خطف هريمني ،ويف املقابل ّ ِ طلبوا منه مساعدهتم يف
عرض عليه نفس َ وسيتم تعيينُه يف وظيفة ُمزية .لو ّ له وألرسته يف الفيوم،
ويذوق غطرستها واحتقارها له َلر َفض دون َ العرض قبل أن يعايش هريمني
خاصة بعد مقتل كمريدا. ريا ّ تفكري ،لك ّنها كانت تتعمد إهانته كث ً
َ
السبيل الوحيد لنجاته وملستقبل عمله مع الغزاة كان يرى ّ
أن يف بداية ِ
وليتبوأ مكانة
ّ والزواج منهمّ ،
وأن لديه فرصة للرتقي، العمل معهم ُّ طيب هو
رغم تعيينه يف وظيفة جيدة
معقولة يف الدولة الوليدة .مل جيدْ ما كان يصبو إليه َ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 282
يشعر باالزدراء يف عيون األديتيني الرجال ،ويف
ُ قريبة من دوائر احلكم ،كان
جمرد عاهرة تعطي املتعة ملَن يدفع أو ّ
يمن عليه يشعر أنه ّ
ُ عيون نسائهم ،كان
ِ
حلرسها اخلاص ،وأمرتْه ضمته هريمني
أن ّ بفائدة .تغري إحساسه ً
قليل بعد ْ
يمقت
ُ املتكررة جعلته
ّ لكن إساءاهتا
أن يساعدها يف إنجاب طفلها اهلجنيّ ،
وسهلت عليه ْ
أن يوافق عىل االنقالب عليها. وضعه أكثر من ذي ْقبلّ ،
َ
ٍ
معلومات عن دور هريمني ُ
رجال املخابرات املرصيني ،طلبوا منه َ
فاوضه
استمع إىل حوار هريمني مع شقيقها يوم
َ يف ق ْتل كمريدا ورفيقاهتا ،قال هلم إنّه
أيضا ،لك ّنه يف املقابل ال يريد العودة إىل مرصاجلريمة ،وإنّه سيشهد بذلك ً
بل يريد احليا َة يف اليابان التي صارت قبلة للمهاجرين بعد ثالثينيات القرن
احلادي والعرشين.
ريا ،وبي ًتا ً
ومبلغا كب ً مع املحتلني،
كامل من احلكومة عن عمله َ عفوا ً
طلب ًَ
يف كيوتو .وافقوا عىل طلباته لك ّنهم ربطوا حياته باخلارج بقدرته عىل اإليقاع
هبا يف املحاكمة ،كام قال له الضابط“ :سوف نمنحك العفو ،وبي ًتا ووظيف ًة يف
فمرهون بقدرتك عىل ٌ موضوع اهلجرة إىل اليابان
ُ َ
مقابل اختطافها ،أ ّما الفيوم
حمارصهتا يف املحاكمة ،وإثبات التهمة عليها”.
ِ
لالستعداد بكامرياهتم وأجهزهتم الصوتية، أشار ماندريك للتقنني َ
َ
تسجيل املحاكمة ،وليس قرر املقاومون منذ البداية
استعدا ًدا لبدْ ء املحاكمةّ .
ٍ
احتامل ولو ضئيل يف تعقبها .كان لديه هو أي
بثّها بشكل مبارش لتج ّنب ّ
يطمئن مائة يف املائة إىل ما ستئول إليه
ّ سبب آخر خفي؛ وهو أنّه ال
بالذات ٌ
ٍ
بطريقة وأنا قادر ٌة عىل التظاهر واجلدال
أن هريمني داهيةّ ،األمور ،فهو يعلم ّ
ُ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
283
حتي املشاهد وختلط عليه احلق بالباطل ،إضاف ًة إىل ّ
أن مساعد أناندار الذي ّ
َ
انتحر قبل أن يصل إىل القاهرة.
َ كانوا يعتمدون عليه إلثبات التهمة عليها
أن جتعل هدفهم الرئييس من تلك املحاكمة، أن بإمكان هريمني ْيف يقينِه ّ
ً
مشكوكا يف حتقيقه. إظهار حكومة أديتيا يف شكل عصابة إجرامية؛ هد ًفا
ُ وهو
ً
تسجيل للمحاكمة ليعدّ ل فيه بطريقة تربز هد َفه ،ويزيل أراد ً
أول ْ
أن يشاهد
أي نقاش فيها قد يظهرها بريئة.ّ
شك يف أخالقية هذا الفعل ،فهو يعرف ّأنا أجرمت، يساوره أدنى ّ ْ مل
لكن كالمها مع لألسف مل يكن بأنا فعلت ذلكّ ، ضمنيا ّ
ًّ اعرتفت له
ْ وقد
ري بشكلكحج ٍة ضدّ ها .سيرتك املحكمة تس ُ
ّ أن يستخدمرسميا وال ينفع ْ ًّ
قانوين متا ًما لكنه سيأخذ منها ما حي ّقق غرضه ،وحي ّقق أقىص دعاية ُمكنة،
ُ
فسبيل احلقّ عنده اضطر إىل تزييف مقاطع أو إعادة ترتيب كالمها،
ّ ح ّتى لو
يضطره أحيا ًنا إىل امتطاء مركب الباطل.
ّ قد
املطرز بشعار املقاومة ،أعامرهم ترتاوح بني
زيم األمحر ّ َ
دخل القضاة يف ّ
السن أكثر،
ّ أول ،كان أشيب يبدو عليه جلس أحدُ هم ً
َ األربعني والستني.
واقفي عىل يمينه ويساره ح ّتى َتل مقول ًة افتتاحية ّ
متجد يف ْ ّ
ظل اآلخران
فجلسا.
َ ثم أشار لآلخرين
العدل ،ويف أخذ احلقوق ألصحاهباّ ،
زر فانفتحت شاشة فراغية عرضت ضغط القايض اجلالس يمينًا عىل ٍّ َ
ملخ ًصا للقضية صو ًتا وصورة ومستندات .النظام القضائي يف أديتيا ال ّ
املتهم ويتلو عليه القضا ُة قضيته ُ حيتوي عىل ا ّدعاء عام ،أو حمامني ،بل يقف
ثم بعد ذلك حجتهّ ، دور املدّ عي أو قريب القتيل فيقول ّ ثم يأيت ُ وأدلتهاّ ،
ويدافع
ُ هم يف النهاية
ثم يأيت امل ّت ُ
أمام القايضّ ،
الشهود فيقولون ما لدهيم َ
ُ يأيت
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 284
ثم حيكم القايض يف اجللسة ِ
نفسها ،أو يف عن نفسه ويواجه الشهو َد إن أرادّ ،
يقرر احلكم حيث إن تط ّلب األمر .مهمة قايض الوسط هي ْ
أن ّ جلسة تالية ْ
يكون صام ًتا يف أثناء املحاكمة؛ يستمع فقط بينام قضا ُة اليمني واليسار مها َمن
يستجوبان الناس ويتحاوران معهم.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
285
فردت
وخططت لتنفيذ اجلريمة املذكورة؟”ّ . ّ هل تعرتفني بأنك تآمرت
بغطرسة قائلة“ :بالطبع ال ،أنا أحرتم القانون وحيا َة اإلنسان أ ّيا كان عرقه،
جمرد مكيدة من هؤالء املخربني وال دليل عليها”. هذه ّ
يكن هناك حمام ُمضا ّد يقول للقايض إنّه يعرتض عىل إطالق لفظ مل ْ
حدجها بنظرة صارمة وقال َ خمربني عىل الشهود و َمن معهم ،لكن القايض
ّ
خمربني وليست حكومتك عىل صواب ،وهذا ليس موضوع هلا“ :ليسوا ّ
حماكمتنا” .فر ّدت عليه قائلة بتحدّ “ :بل هو أساس حماكمتنا ،هذه املحكمة
هم
عينكم للقضاء يف تلك القضية؟”ّ . ليس هلا صفة من الدولةَ ،من الذي ّ
القايض بالرد ،لكن القايض الكبري اجلالس يف املنتصف قال“ :قانون أديتيا
األسايس يمنح احلقّ ألي عدد من املواطنني يزيد عن مخسني أل ًفا ْ
بتعيني
ري ُمنصف أن قضاء الدولة غ َيرون ّ
حمكمة من ثالثة قضاة للفصل يف قضية ْ
فيها ،ونحن لدينا تلك الصفة سواء رضيت حكومتك أم ال”.
هز ذلك من ثقتها
وهزت رأسها دون أن تعرتض ،وإن ّ ابتسمت يف هدوء ّ
ْ
مرة أخرى عن دفاعها عن نفسها فقالت“ :هذانالزائدة ،سأهلا قايض اليمني ّ
ّ
الشّ اهدان ال يصلحان للشهادة؛ األول كان حاريس لك ّنه كان ً
أيضا حيواين
يطمح يف أكثر من ذلك ،لك ّني دو ًما كنت أضعه يف موضعه ُ األليف وكان
َ
واالشرتاك يف تلك املكيدة قرر االنقالب ع ّ
يل احلقري الذي يستح ّقه ،ولذا ّ
ضدي” .فر ّد (لؤي) ُم ً
نفعلّ :
“كلّ ،إنا كاذبة ،هي احلقرية ليس أنا يا سيدي
ثم ترك هلا
وحذرمها من ذلك األسلوبّ ، القايض” .تدخل القايض وأسكتَه ّ
فرصة مواجهته وتفنيد شهادته.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 286
وكيف سمعه ،واستطاعت بمهارة وذكاء أن َ سألته عن ما سمعه
ري واثق من شهادته.ويغي يف صيغة كالمه ،ما جعله يبدو غ َ جتع َله يتلعثم ّ
واستطاعت أن جتهزَ عىل ما تبقى من ثقته بسهولة،
ْ متوترا
ً مهتزا
ًّ بدا هلا
جمر ُد عضالت ،ووجه أثبت دون قصد ما عايرته به ساب ًقا حني قالت إنّه ّ
طفل منه أن َ
يرث أنجبت ً
ْ دون عقل يستحقّ الذكر ،وحني مت ّنت إن وسيم َ
قوته ووسامته ويرث منها ذكاءها عىل عكس املفرتض حني تقارن ذكاء
النياندرتال باألرضيني .يف النهاية قالت موجهة كالمها لقايض الوسط:
دليل ضدّ ي؛ فهو يبني شهادته عىلفكالمه ال يعدّ ً
ُ “وح ّتى بفرض صدقه،
يل دون وجه حق ،من يتلصص ع ّ
باب ُمغلق وهو ّ كلامت سمعها من خلف ٍ ٍ
ري
متوترا ساعتها خيلط الكالم ببعضه ،وهو كام رأيتم غ ُ ً الطبيعي أن يكون
متأكد من يشء”.
ثم
لكن قايض اليمني أسكته بإشارة من يده ّ حاول (لؤي) أن يقاطعها َّ
سأهلا“ :وبفرض صدقه؟ إ ًذا ..هناك حمادثة بمعنى قريب من الكالم الذي
وكست صوهتا هلجة متأملة وهي تقول“ :لقدْ قاله الشاهد!” تص ّنعت احلزن
مقابل إلطالق رساح كمريدا ً تواصل معي أحد اخلاطفني ،وطلب م ّني َ
ثمة ما
لكنني رفضت ،وليتني وافقت فلر ّبام كانت العزيزة كمريدا هنا لو كان ّ
استهنت بوحشية هؤالء املجرمني”.
ُ أستحقّ املحاكمة عليه فهو أنني
حدجها (باسل) بنظرة تطفح مق ًتا لك ّنه ّ
ظل هادئًا مل يتكلم ،وجلس َ
ذريعا.
فشل ً(لؤي) يف مقعده وهو يوشك عىل البكاء بعدَ أن فشلت شهادته ً
وإنا متأكدة من ّ
أن ما سمعه جاء دور (باسل) وقالت هريمني ّإنا تعذرهّ ،
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
287
ظل الكالم هلعا ُ
يفوق الوصفّ . هو جمرد هذيان من كمريدا التي كانت تعاين ً
مرة لدرجة أن القايض هدّ ده
أكثر من ّ َ
وانفعل باسل َ بينهام يف شدّ وجذب
بالطرد من املحاكمة واستبعاد شهادته.
مههامت يف القاعة قطعتها إشارة من قايض
ٌ رست
ْ حنيَ انتهت مواجهتهام
توصل إىل احلكم“ .هريمني ابنة أناندار من عائلة أعلن أنّه ّ
َ الوسط الذي
فوقفت هريمني وقالت ،وقد تظاهرت ْ بوتار” قال القايض بصوت عميق،
ّأنا سلمت بقانونية املحكمة“ :نعم أهيا املعظم” .فقال القايض“ :أنا متي ّقن
أن أعدمك وإن كنت أمتنى ْ
من أنك فعلت التهمة املنسوبة إليك ،وأنا ْ
أن احلجج املاثلة أمامي ال تعطيني احلقّ يف ذلك” .ابتسمت شخصيا ّإل ّ
ًّ
هريمني يف ظفر ،وازدرد ماندريك ري َقه يف قلق ،وق ّلب (باسل) عينيه يف ٍ
مقت
أن احلكم بإعدامك ُ
يبطل تلك قبل أن يستطرد القايض ً
قائل“ :أعلم ّ شديد َ
قرائن كثرية لدى القايض ّ
فإن القانون يعطيه ُ املحاكمة ،لكن إذا اجتمعت
احلقّ يف احلكم عليك بأقىص عقوبة دون القتل ،مادام متيقنًا من جرمك”.
حزن عارم ،وظ ّلت نظرة باسل
اختفت ابتسام ُتها وبدَ ا عىل وجه ماندريك ٌ
حتمل مقت العامل كله.
لدي من قرائن فقد حكمت أكمل القايض حكمه ً
قائل“ :بنا ًء عىل ما تو ّفر ّ َ
ذراعا ،وحدك بال رفقاءً جب حتت األرض بعرشين عليك باحلبس يف ّ
ِ
سمحت الظروف ثم تنقلني بعدَ ها إىل سجن عادي إذا ملدة مخسة أعوامّ ،
ُ
فيجوز حلكومة املقاومة االستمرار ُ
احلكومة كام هي السياسية ،أما إذا ظ ّلت
وضعك يف اجلب إىل األبد”. يف ْ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 288
تبتسم لتخفي فزعها من ذلك احلكم ،فقد ظ ّنت أنه َ حاولت هريمني أن
ْ
مقار املقاومة ،كانت راضية لو كان القايض متج ّن ًيا فسيحكم بحبسها يف ِ
أحد ّ
جب َ
التحمل ح ّتى ينقذها أحد ،أ ّما البقاء يف ّ بذلك عىل أمل ّأنا تستطيع
ٍ
حفرة عميقة أمر أسوأ من املوت عندها .تنام يف بدائي مخس سنوات فهو ٌ
كل يومني يغيونه هلا ّ ٍ
وعاء ّ كل يوم وتقيض حاجتها يف ّ
يدل هلا األكل بحبل ّ
جتن أو توشك عىل موعد الطعام ،ال ختاطب أحدً ا وال ترى أحدً ا ح ّتى ِّ مع
اجلنون.
بدء انرصاف احلضور، ثم خرجوا ،تالهم ُ اجلميع احرتا ًما ّ
ُ قام القضاة فقام
َ
تتغي تعبرياهتا الكارهة وإن خالطها شبح خارج بنظرة مل ٌّ رم َقها (باسل) وهو
وجهها إليها عامدً ا ،شعرت منها أنّه يعلم فداحة العقوبة ٍ
ابتسامة ساخرة ّ
التي حكم هبا عليها .قامت هي حنيَ وقف حارسان القتيادها ولك ّنها فجأة
شعور باحلرق يرسي من مكان الوخزة ٌ بوخزة مؤملة يف ِ
فخذها تالها ٍ شعرت
ُ
تنتفض بقوة .قل ُبها كان ينقبض برسعة ثم وجدت نفسها كل جسدهاّ ، إىل ّ
ُ
وتدخل بصعوبة كأهنا تتن ّفس حتت املاء، واضطراب ،أنفاسها كانت خترج
لكن أشدّ ما
أفكار مفزعة وخياالت قديمة من حياهتا السابقةْ ، ٌ رأسها
غزت َ ْ
مبقورة وهي جتثم عىل جتسدت أمامها ببطن ْ آملها كانت صورة كمريدا التي ّ
وتتوسل أن
ّ تعتذر هلا
َ صدرها ،وحتاول انتزاع قلبها من صدرها .حاولت أن
ترتك قلبها يف مكانه ،وتقسم ّأنا مل ترتكب ذن ًبا ،لكن عيون كمريدا كانت
مجودها حتمل ّاتا ًما ال يقبل الشك ،كانت عيون جالد ينفذ حكم إعدا ٍم، عىل ِ
واثق من عدالته. ٌ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
289
بمن حوله أن يستدعوا أحدً ا لنجدهتا. ً
صارخا َ نحوها جرى ماندريك َ
وغامت عيناها ،وبدأت خترج من فمها رغا ٍو كثرية جعل
ْ زادت انتفاضاهتا
وجهها ل ّلون األرجواين وبرزت
حتول ُ يتمزق رغم ّ
كل يشءّ . كل ذلك قلبه ّ ّ
كأنا خترج من وحترشجت أنفاسها ،فخرجت عالية الصوت ّ
ْ عروق عنقها
مرة واحدة ومخدت لألبد.
صمتت ّ ْ ثم
أنبوب ضيقّ ،
***
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 290
40
أمام الكامريا فار ًدا قامته يف ّأول ظهو ٍر علني له يف ّ
بث مبارش ،وقف أناندار َ
ناظرا بتحدٍّ ،وبدأ ينعي أختَه بعد أن أعلن املقاومون أهنا انتحرت
القصريةً ،
احلكم عليها بالسجن .بدأ كال َمه بصوت هادئ حزين بالسم بعدَ أربعة أيام من ُ
ّ
ِ
يتكلم عن مدَ ى فجيعته بموت شقيقته الوحيدة“ :هريمني كانت بطلة وقفت
أمام هؤالء ا ُملجرمني يف حماكمتهم اهلزلية ،وأعلنت أهنا أك ُرب من اهتاماهتم
ورغم حماوالهتم تغيري التفاصيل يف الفيديوهات التي أذاعوها ملحاكمتها ّإل
أفحمتهم وجعلتهم ْيبدون كال ُبلهاء ح ّتى فشلوا يف
ُ ّ
وبكل ثقة إهنا أنني أقول
واضطروا إىل احلكم عليها بالسجن”.
ّ إدانتها بتلك اجلريمة املزعومة
وفتح شاشة فراغية تظهر لقطة هلريمني وهي تكلم املحكمةأوقف حديثه َ َ
ثم نظر إىل الكامريا
وقرهبا من مالمح وجههاّ ، ثم أوقف الصورة ّ بتحدٍّ ّ ،
أن امرأة ٌ
عاقل ّ ريا لوجه شقيقته عىل الشاشة“ :هل يصدق وهو يقول مش ً
أكن ألتركها بني
يأسا ،هي تعرف أنّني مل ْ تنتحر ً
ُ بكل هذه القوة والبأس
فإنا
وإن عجزت عن مالحقة خاطفيها ّ أن حكومتنا ح ّتى ْ أيدهيم ،وتعرف ّ
وسعا يف حتريرها مهام طال الزمن .هريمني ُقتلت وأنا أقولمل تكن لتدخر ً
وسأترك الباقني ّ
وإل ُ اآلن هلؤالء املالعني الذين خطفوها ...سلموين قاتليها
فسوف أقتلكم واحدً ا واحدً ا ،سأبدأ هبؤالء املجرمني الذين يدّ عون ّأنم
ولن
ثم سأقتل َمن كانوا يف تلك القاعة ْثم سأقتل ماندريكّ ، قضاة حمكمتهاّ ،
أستثني أحدً ا ،وكام قالت حكمة ماجوها اخلالدة (اقتل َمن أراقوا دم أهلك
ح ّتى متأل اهلواء رائحة الدم ،وحتى تصطبغ احلصباء بلونه القاين)”.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
291
أشار املصور له بأنّه سينهي التصوير ،لك ّنه استمر“ :أمامكم مهلة يومني
َ
ُ
احلكومة ألنّني سأقيض هلم عىل لتسليمي القتلة ،وبعدها سوف تشكرين
املخربني ،ستكون حر ًبا مفتوحة ال هوادة فيها وال رمحة”.
ّ هؤالء
ثم أمر مساعدته ببثّه عرب ّ
كل القنوات أشار للمصور إلهناء املقطعّ ،َ
كل شخص عىل األرض ،وعىل كوكب أديتيا ،أن يسمع املتاحة ً
قائل“ :أريد ّ
لوح
ثم ّ
أن أناندار سوف ينتقم ألخته”ّ ، أن يعلم اجلميع ّ
هذا البيان ،أريد ْ
ُ
وبقية املتواجدين يف الغرفة ما عدا مساعدته هلم بيديه فانرصف املصور
جماورا له وهي تقول“ :سيدي ..هل نرسل
ً شاودريك التي ّاتذت مقعدً ا
ً
متجاهل ثم قال هلم ليأتوك به ،أم ستذهب أنت له؟” .نظر أناندار هلا ّ
مفك ًرا ّ
ً
أغراضا كثرية، ألنا ماتت فموهتا خيدم
أشعر بارتياح حقيقي ّ
ُ السؤال“ :أنا
ويسهل يل الطريق يف خططي املستقبلية ،لكنني ال أستطيع أن أمنع تلك ّ
تعتمل يف داخيل والتي جتعلني أشعر بالضعف ،لقد كانتُ األحاسيس التي
آخر َمن تبقى من عائلتي”.
مستفزة ،ولكنها كانت َ
ّ محقا َء
“إن هذا ال جيعلك ضعي ًفا يا
ثم قالت ُمتمل ًقةّ :تنحنحت شاودريك ّ
ْ
يزداد
ُ العظيم حني يتصف باإلخالص لعائلته
ُ سيدي إنام ُيعيل قيمتَك أكثر،
ً
متأمل كأنه يعيدُ الكلامت يف رأسه ،كان يعلم ّأنا تقصد عظمة” .نظر إليها
عظيم ،ويرى ً التملق لكنها يف الوقت نفسه تقول احلقيقة ،فهو يرى نفسه
ريا من أي عظيم سبقه يف تاريخ أديتيا .قال أنّه سيذهب إىل مدى أبعد كث ً
بعدَ قليل من الصمت“ :شاودريك ..أنا عظيم وأعلم ذلك ،لكنني -كام
املقربني مني عالمة للتملق”.
رب وصفي بذلك من أحد ّ
تعلمني -أعت ُ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 292
فمها لتربر موقفها ،لك ّنه أشار بالصمت لترتكه يكمل:
فتحت شاودريك َ ْ
تترصيف دو ًما معي عىل هذا األساس ال أن ّ
تذكريني به .. “أنا عظيم؛ أريدك أن ّ
ِ
فهمت؟” .ر ّدت عليه وهي تبلع ري َقها“ :لكن يا سيدي .”...فقال بحزم: هل
ني عىل كالم عظيمك ،أم تريدين استدراك يشء مل يفطن “لكن! هل تعرتض َ
شعرت ّأنا قد حورصت ،فضحك أناندار ْ إليه” .صمتت شاودريك وقد
وقال“ :ال عليك أنت تابعتي ا ُملخلصة ،امرأ ٌة أذكى من آالف الرجال الذين
أن عقوهلم خربت بسبب العيب اجليني الذي ظهر فينا ،لقد كنت أنوي يبدو ّ
عن اختطاف هؤالء املخربني ترقيتَك لتكوين كبرية مساعدي بغض النظر ِ
ري مساعدي السابق” .تلعثمت شاودريك وقالت“ :هذا ٌ
رشف ألسنودريك كب ِ
يا سيدي” .فر ّد أناندار يف غطرسة“ :أنت تابعة خملصة وذكية كام قلت لك ،ولو
هيا اذهبي وائتيني باألسري”. التذتك ِ
أنت ّ .. متخذا أصدقا َء ّ
ً كنت
انطلقت شاودريك مهرول ًة كأهنا هترب من حتقيق يف إحدى حماكم ْ
بكل ِجدّ عىل إنجاح خططه ،وكانت التفتيش .كانت ُملص ًة ألناندار ،وتعمل ّ
ري املساعدين السابق لعرضها خططا بديلة عىل أسنودريك كب ِ ً كثريا ما تقرتح
عىل أناندار ،كان عاد ًة ما ينس ُبها لنفسه ،وحياول أن يبعدَ ها عن أناندار قدر
كل يشء يدور بني مساعديه. يعلم ّ
اإلمكان ،لكن األخري كان ُ
أن العمل شاودريك مثلها مثل آخرين ممّن يعملون ألناندار؛ يؤمنون ّ
ٍ
حلياة رغدة ،وللعيش يف اجل ّنة يف هذه الدنيا ،فهو ُ
السبيل الوحيد معه هو
ُ
املختلف فيها هو املقربة منه .اليشء
خاصة الدائرة ّ ال يبخل عليهم بيشءّ ،
أهنا متدينة بشدة ،وترى ّ
أن تد ّينها حيثّها عىل إحداث تغيري يف هذا العامل،
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
293
أن العمل مع أناندار هو خطو ٌة لتحقيق هذا التغيري ،ح ّتى لو كانت تظن ّ
ُ
الوسيلة َمشبوهة .كانت يف درجة دينية ُتعطيها احلقّ يف تفسري الواقع حسب
َ
يعتربون هذا التفسري جز ًءا من رؤيتها اخلاصة ،وجتعل اآلخرين من املتدينني
ألنا أخربهتم بتفسرياهتاإن بعض املتدينني انضم ألناندار ّتعاليم الدين ،بل ّ
بأن صارت كبرية ا ُملساعدين بعدَ اختطاف تلك .حني وات ْتها فرصة ُعمرهاْ ،
ُ
أفضل َمن وعملت بجهد مضاعف لتظهر ألناندار أهنا ْ سلفها ،استغلتها
أن أناندار مل يكن حيتاج ذلك فهو يقدر ذكاءها عمل هبذا املنصب .واحلقيقة ّ
من ناحية ،ومن ناحية أخرى يقدّ ر مكانتها الدينية التي تضيف له تابعني
خملصني.
أقل من دقيقة عادت شاودريك لغرفة أناندار ،وخلفها حارسان بعدَ ّ
بفك قيوده، ٍ
مواجه ألناندار ،أشار هلام ّ مقيدً ا .أجلساه عىل مقعد
رجل ّجيران ً
وجهه ،والنظرة ً
متأمل َ ووجه رأسه لألعىل َ
وأمسكه من َشعره ّ ثم اقرتب منه
ّ
يرتكه وجيلس عىل مقعده يف مواجهته.عينيه قبل أن َ
املتحدية البادية يف ْ
“أهل بك يا (باسل) ..كيف حالك؟” قاهلا أناندار وعىل ِ
فمه ابتسامة ً
عريضة ،لكن (باسل) اكتفى بال ّنظر إليه يف غضب وحتدّ غري عابئ باألسلحة
نارا من رسعة وعمق أنفاسه كأنه حياول أن َ
ينفث ً ُ املصوبة لرأسه .تصاعدت
أي حال كان ّ
أقل من املرة السابقة لكن غض َبه عىل ّ
صدره حيرق أناندار هباّ ،
َ
القليل من ناره. فقد ّبر َد ُ
مقتل هريمني
رسم شبه ابتسامة عىل وجهه وهو يقول: ريا ح ّتى َنفسه كث ً
جاهد (باسل) َ
ُ
“أفضل منك ّأيا احلقري” .صفعه أحدُ اجلند ّيني لكن أناندار َ
أشار إليه باهلدوء
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 294
نظر له باسل
أول ..هل قتلت هريمني؟” َ ثم سأل (باسل) بحزم“ :قل يل ً ّ
بدهشة ً
قائل“ :هل تتوقع إجاب ًة صادقة عىل هذا السؤال؟” .فقال أناندار
ُ
ستقول ذلك الرجال ،أنت بالذات لو قتلتها
“طبعا ،أنا أفهم ّ
بابتسامة واثقةً :
يف وجهي ،وستهددين بأنني سأنال املصري نفسه”.
ثم
أنل هذا الرشف” .قاهلا باسل وهو ينظر له بتحدّ ّ “مع األسف مل َْ
بالسم فأنا لست جبا ًنا؛
أن أقتلك أنت ،ولن يكون ّ أكمل“ :لك ّنني أعدك ْ
مط أنظر يف عينيك”ّ .
سوف أنتزع حنجرتك من عنقك الغليظ هذا وأنا ُ
أناندار شفتيه كأنه مل يسمع هتديد باسل ،قام ِمن مكانه وفتح أحدَ أدراج
حمشو أمام عيني باسل.
ّ مسدسا عتي ًقاّ ،
ثم تأكد من أنّه ً مكتبه وأخرج منه
كل احلق ،فأنا َ
ومعك ّ وجه فوهة املسدس نحو رأسه وقال له“ :تريد قتيل ّ
فدوت فرقعة َ
ضغط الزناد ّ مدين لك بروح ،وعليه ”...مل يكمل مجلته بل
ثممالمح باسل بشكل تلقائي ّ
ُ دخان من املسدس وانقبضت ٌ عالية وتصاعدَ
دوت ضحكة أناندار وهو يقول“ :أنا اآلن أحييتك ،وهلذا فحسا ُبنا خالص؛ ّ
روح بروح ..ما رأيك؟”.ٌ
ثم متالك نفسه
وأنفاسه متالحقة من فرط االنفعالّ ،
ُ نظر له باسل بغضبَ
آخر ما أفعله يف حيايت” .أخذمتزح معي ..سوف أقتلك لو كان هذا َ وقال“ :هل ُ
وقام من كرسيه ومتشّ ى هبدوء يف الغرفة إىل أن وقف جوار نفسا عمي ًقا َ
أناندار ً
ثم وضع يدَ ه عىل كتفها وقال هلا“ :شاودريك ،هل حتفظني حكاية مساعدتِهّ ،
ابتسمت مساعدته بارتباك ور ّدت“ :ك ّلنا نحفظها يا
ْ امللك العظيم دريك”.
واجب
ٌ إن َ
حفظها سيدي منذ الصغر إنّه يف اسمي واسم الكثريين ً
رجال ونسا ًءاّ ،
بيده عىل كتفها وقال“ :احكي لباسل قصته”. من ماجوها” .رضب أناندار ِ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
295
كأنا ستلقي موعظة دينية ،كانت اعتدلت شاودريك يف وقفتها ّ
نحيفة القوام ،ممشوقة رغم قرصها ،وكانت مالحمُها عريضة خشنة كبقية
طويل ،أخذت حتكي قص ًة طويلة عن ً النياندرتالّ ،إل أن َ
شعرها كان ً
ناعم
وحد الشعوب األديتية ،واستطاع أن ملك كان يعيش قبل عرشة ِ
آالف عامّ ،
يتكون من دولة واحدة فقط، زدهرا ّ
وأن جيعل أديتيا كوك ًبا ُم ً َ
ينرش العدلْ ،
ّ
وظل حيكم مخسني عا ًما ح ّتى انتهى دولة ال مكان فيها لفقري أو مظلوم،
ِ
أغلب السكان، الكوكب ثالثة نيازك ضخمة قضت عىل َ رضب
َ حكمه حني
ُ
النيازك عىل دولة امللك دريك وحضارته لكنها مل ُ ومنهم امللك .قضت
ُ
األجيال املتوالية. قصته ،فظلت حكاية تر ّددها
تطمس ّ
ْ
القصة بام حيدث ،ووجد أناندار ينظر لهمل يفهم (باسل) ما عالقة تلك ّ
ري من الناسّ ،
أن امللك ً
مبتسم ويقول“ :ما ال تعرفه مساعديت اجلميلة ،والكث ُ
مذابح يف البداية لكي يستطيع توحيدَ الشعوب املتناحرة؛ َ دريك ارتكب
بداية عهده كانت حافلة بالكثري من األفعال املخجلة لك ّنه يف النهاية رفع
الضيق عىل وجه شاودريك، ُ أديتيا عال ًيا ،وجعل أهلها يعيشون يف نعيم”َ .
بان
فاستفزه
ّ القصة،
باسل يف سخرية وقد فهم ما يرمي إليه أناندار بتلك ّ وابتسم ُ
جمر ُد رجل عصابات”.
ملكا وأنت ّ قائل“ :لكنه كان ً
ً
ٌ
وجمنون أمام ٍ
عصابات اقرتب منه أناندار متحدّ ًثا بحامس“ :أنا رجل
َ
أرسخها يف أذهاهنم عمدً ا ،وهلذا عندما قبضت
الكثريين ،وهذه الصورة أنا ّ
خرجت عليكم بموكب ميلء بالنساء شبه
ُ واللبنانيني املقاومني
ّ أنت
عليك َ
تصورون رجال العصابات يف ثقافتكم” .ابتعدَ عن باسل خطوات العرايا كام ّ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 296
ثم استند عىل مكتبِه وأكمل وهو ّ
يلوح بيديه كأنه عىل املرسح يؤ ّدي قليلة ّ
وحلم كبري ،وأديتيا األرض هي ٌ مشهدً ا شكسبري ًّيا“ :أنا رجل له رؤية
حلمي ،أريد أن أجعلها جنة حيسدها ُ
أهل الكوكبني ،أنا أستطيع أن أكون
عادل مثل امللك دريك ،وعندي من القوة واحلكمة ما يساعدين عىل ملكا ً ً
حتقيق حلمي ،لكن ال بدّ من بعض التضحيات ً
أول”.
كسا مالحمها ،لكنتستمع يف خشوع واقتناع َ
ُ كان يتحدّ ث وشاودريك
حتكم أديتيا
َ مستنكرا وهو يقول“ :أنت! هل تريد أن
ً نظر إىل أناندار
باسل َ
فعل ذلكوتنفصل عن حكومة بلدك بجيش املرتزقة هذا؟! ..ولو استطعت َ
تتخيل أن جمر ًما مث َلك يمكنه حتقيق العدل!”.
فهل ّ
تاريخ كوكبك وسرتى آالف املجرمني الذين َ قائل“ :اقرأر ّد عليه أناندار ً
الشعوب بعظمتهم” .سأله
ُ ثم صاروا حكا ًما تتحاكى أكثر م ّني بكثري ّ
فعلوا َ
قائل“ :أعرفهأنت بتارخينا؟!” .فضحك أناندار ً باسل بتحدّ “ :وما أدراك َ
جيدً ا ،وأعرف العظام َء فيه الذين قتلوا اآلالف ،أعرف اإلسكندر األكرب،
ويوليوس قيرص ،ونبوخذ نرص ،واحلجاج بن يوسف ،وهارون الرشيد،
وأعرف جنكيز خان ،ونابليون ،وامللكة فيكتوريا ،وهتلر ،ومونتجومري
لكن ك ّلهم يشرتكون يفوروزفلت ،تصنفوهنم يف تارخيكم لطيبني وأرشارْ ،
ساخرا“ :وما هو أهيا الفيلسوف؟” .فقال أناندار
ً يشء واحد” .ابتسم باسل
هدف وحيد؛ ٍ “مجيعهم قتلوا اآلالف من البرش من أجلِ
ُ ً
تجاهل سخريته: ُم
وهو رفعة دولتهم وشعبهم” .فقال باسل وقد نفدَ صربه“ :أنت تبني أوها ًما
قائل“ :دعك من لوح أناندار بيده ً ربر لنفسك فظائعك”ّ . عىل أوهام لت ّ
رب ُر أفعال احلكومة األديتية وقتلك
أنت نفسك كنت ت ّ ذلك ال ّنقاش العقيم َ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
297
تظن ّأنا ُ
دولة العدل التي تريد أن حت ّقق فيها ما فشل للمقاومني ألنك كنت ّ
أبوك يف حتقيقه يف مرص”.
عن كيف عرف أباه ،فقال أناندار إنّه فحص قصة حياته كاملةسأله باسل ْ
وأن شجاعته جعلته يعجبوذهب خلفه إىل كوكب أديتياّ ، َ عندما طارده
“اسمع يا باسل ،حني أحكم أديتيا
ْ ثم أضاف: به أكثر ،وأنّه يريده معهّ ،
َ
مسقط سأقسمها ستة أقاليم وسأجع ُلك حتكم اإلقليم الذي ّ
يضم القاهرة
أجهز من اآلن حلكام وقادة يعملون معي ،وأنت ستكون من
رأسك ...أنا ّ
أ ّ
مههم”.
وقل يل كيفثم سأله“ :دعك من هذا ْ تعجبّ ، هز (باسل) رأسه يف ّ ّ
جيب ونظر ملساعدته ،فقالت
ضحك أناندار ومل َْ َ
الوصول إ َّيل؟”. استطعتم
شاودريك“ :زرعنا ماد َة تع ّقب يف جسدك عندما كنت عندنا من خالل القيود
خيطط لرتكك هترب”. التفاعلية ،وهذا بناء عىل أم ِر سيدي أناندار ،فقد كان ّ
رده ،فقال بتحدّ “ :لن أعمل معك ح ّتى وإن
منتظرا َّ
ً نظره لباسل حول أناندار َّ
الثمن حيايت ،فأنا أعرف أنك لن ترتكني أذهب بعدَ أن أطلعتني عىل ُ كان
َ
األمان ثم قال“ :بل سأتركك تذهب ،وسأعطيك ضحك أناندار ّ َ خططك”.
أي امرأة تكون مكاهنا يف حياتك،
هتمك ،أو ّ إن كانت ّ أنت وابنك وميساء ْ
السعادة ً
مشرتكا بتحقيق ّ ذات يوم لنحقق ً
حلم وأنا متأكد من أنك ستأتيني َ
أن الشيطان ثم قال“ :إذا صدقت ّساخرا ّ
ً ُ
باسل لكل َمن يف أديتيا” ابتسم ّ
صوفيا فسوف أصدقك”.
ًّ سيصري قط ًبا
***
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 298
41
يف أحد املنتجعات ا ُملستحدثة عىل شاطئ بحرية قارون ،جلست ْ
(ميساء)
فرش قاميش زاهي األلوان عىل أرض خرضاء يفصلها عن املاء رشيط عىل ٍ
عرضه عن عرشة أمتار .يف نزهة عىل طراز نزهات القرنالرمال ال يزيد ُمن ّ
وترمس شاي وفواكه ومسليات ،وأمامها
َ العرشين كانت تضع سل َة طعام
يلعب أبوها وباسل كر َة املرضب ،وأ ّمها جالسة عىل الرمل متسك (عالء)
الذي يداعب املياه بقدميه الصغريتني.
ستة أشهر عىل عودهتا من مغامرهتا القصرية يف أديتيا ،والتي مرت ُ ّ
نظرا
مع استمرارها يف العمل ً عوقبت بسببِها بخصم شه ٍر كامل من راتبها َ
رحب فقد كان ّ
أخف متقبلة لذلك اجلزاء بصد ٍر ْ
حلرج املرحلة احلالية .كانت ّ
األرضار بعد أن تو ّقعت أن يقوموا بتخفيض رتبتها ً
مثل ،لك ّنهم اعتربوا أهنا
قرارا جانبها التوفيق فيه فقط.
اختذت ً
خضع لتأنيب شديد ،وأخربه القادة أنّه بسبب فعلته تلك فإنه َ (باسل)
يتم االستعانة به فقط عند ٍ
كمتعاقد ّ ضمه للعمل بشكل نظامي ،وإنّام يتم ّلن ّ
وتم هتديدُ ه بإلغاء العفو عنه إذا ّ
كرر مثل هذه األفعال املتهورة .ما احلاجةّ ،
أن السبب الرئييس لتعنيف باسل هكذا كان شكوى عرفته بعد ذلك من أبيها ّ
مع األوامر ونظامسامر قائد املقاومني اللبنانيني من عدم جتاوب باسل َ
القيادة املتبع.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
299
بعض التغريات لكنها مل تكن من الفرت ُة التي تلت موت هريمني شهدت َ
خاصة األديتيني منهم .نشطت الدعاية ذلك ال ّنوع الذي رجاه قاد ُة املقاومةّ ،
الثوار باختطاف هريمني وتلفيق التهم هلا
َ اإلعالمية احلكومية التي ّاتمت
فيلم قصري عن إنجازاهتا وبطولتها كل يوم كان يذاع ٌ ثم قتلها بعد ذلك ،ويف ّ ّ
ورباطة جأشها يف مواجهة “املخربني” ،ومل يصدّ ق مؤ ّيدو احلكومة األديتية
َ
خلف تلك الفعلة الشنعاء. أهنا هي العقل املدبر
فضح جريمتها هي ّأنا زادت املؤ ّيدين ّ
كل ما فعلته حماكمة هريمني وحماولة ْ
لكل فريق حجة إضافية عىل ِ
موقفه رفضا ،وأعطت ّ تأييدً ا ،وزادت الرافضني ً
ٍ
حدث حسب الزاوية التي ينظر منها لنفس احلادثة .مل يتبع حماكمة هريمني أي
كبري غري قيام أناندار باغتيال اثنني من القضاة الذين حاكموها وحماولة فاشلة
الغتيال ماندريك .أ ّدت تلك املحاوالت لظهور شعبية جديدة ألناندار يف
الثوار اكتشاف
ُ صفوف املؤ ّيدين للحكومة .بعده حوادث االغتيال ،استطاع
تم إعدامه مبارشة بدون حماكمة.عميل له بني صفوفهم ّ
(ميساء) غارق ًة يف أفكارها قبل أن تنتبه حنيَ ارتطمت كرة املرضب كانت ْ
هيتف هبا“ :هل ستظ ّلني جالسة هكذا
ثم سمعت ضحكة من أبيها وهو ُ هباّ ،
أنت باللعبتقذف الكرة له ثانية“ :استمتع َُ طوال اليوم!” .فقالت وهي
قال وهو يضحك ويرضب الكرة ثانية بمرضبه ّاتاه مع صديقك اجلديد”َ .
صدرها
َ ِ
استنشقت اهلواء الصايف ومألت به باسل“ :أنت اخلري والربكة”.
ري فيام هو قادم ،وتستمتع باليوم الذيوهي حتاول أن تطرد عن رأسها التفك َ
ريا منذ الغزو.
مل يتكرر يف حياهتا كث ً
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 300
الصغري،
انضم عمر إىل زهرة وعالء ّ
ّ مرضبيهام عىل األرض،
ْ رمى الرجالن
ريا يف وتوجه باسل إليها وعىل وج ِهه ابتسامة عريضة .كانت ترى تغ ً
ريا كب ً ّ
ثم خرجا يتكلامنأكثر من ساعتني ّ
ذات يوم واختىل به َ ِ
روحه منذ جاء إىل أبيها َ
يقص عليها باسل حكاية اختطاف أناندار ويتضاحكان كصديقني قديمني .مل ّ
يقص عليها ما دار بينه وبني والدها ،لك ّنها حني سألته
دار بينهام ،ومل ّ
له وما َ
رس تقارهبام األخري؛ قال هلا إنّه طلب من أبيها أن يكون (عالء) يف رعاية
عن ّ
رب (عالء) حفيدَ ه ،و(باسل) ولده ،ومل يزد عىل ذلك.األرسة ،وأن يعت َ
فمه ليتكلم لكنه تلعثم.
جلس باسل إىل جوارها عىل الفرش نفسه ،وفتح َ َ
خجول هكذا من قبل ،مل يكن يبدو كباسل ً متعجبة ،فهي مل تره
ّ نظرت إليه
ْ
أقرب إىل فتى حياول التقرب من زميلته يف املدرسة. َ الذي تعرفه ،بل كان
ريا بالتوازي مع تقاربه من
اخلاطر فقد تقار َبا الفرتة السابقة كث ً
ُ أسعدها ذلك
جلوسه
ُ تقارب صديقني من الرجال ،ولذا كان َ أبوهيا ،ولكن بطريقة تشبه
عن ذي قبل.متلعثم أمامها حيمل معنى جديدً ا ًْ
ٌ
التفاتة جتاه أبوهيا وكأنّه يطمئن أهنام ال يراقباهنام، نظر إليها وحانت منه
َ
اق يف مقتبل معا يتسامران كعشّ ٍ حظه كانا كعادهتام حني جيلسان ً وحلسن ّ ُ
ثم أطلق رساحي» .قال هبدوء العشق« .لقد اختطفني أناندار ملدّ ة يوم ّ
دهشة وهي تسأله متى وكيف! فأجابُ :
«منذ أربعة أشهر ٍ فاتّسعت عيناها يف
شعرت بالضيق ألنه مل خيربها من ْقبل،ْ يوم أن قدّ م بيانه عن وفاة شقيقته».
فكتمت
ْ تفهم منه ما حدث بالتفصيل، لكن فضوهلا غلب عليها وأرادت أن َ ّ
كل ما حدث. فقص عليها ّ ضيقها وسألته باهتام ٍم عن التفاصيل ّ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
301
اجلملة ،فسألته« :متى عمي عمر» .أهنى كالمه بتلك ُ رب أحدً ا ّإل ّ
«مل أخ ْ
رد فعلها خائ ًفا
أخرب َته؟» .فقال« :بعدَ عوديت مبارشة» .كان ينظر إليها مرتق ًبا َّ
أن صارت لديه رغبة حقيقية يف أن يقرتب منها أكثر ،وأن من إغضاهبا بعد ْ
جراحه بعد وفاة
ُ ري الصداقة .كانت ٍ
خانة أخرى غ ِ ينقل العالقة بينهام إىل
كمريدا قد كفت ع ْنه أذاها وآالمها ،وتركت يف قلبه فسح ًة تسمح بسكنى
امرأة أخرى ،وكانت هي ميساء.
كل يشء، دوامة غريبة من الشك يف ّ رساحه وقع يف ّ َ حنيَ أطلق أناندار
الشك يف اجتاه احلق واجتاه الباطل ،الشك يف ماهية ّ ّ
الشك يف نفسه ومبادئه،
رشا .مل َير أمامه يف هذه اللحظةريا أو ًّ
اخلري والرشّ وأسباب تسمية األشياء خ ً
إنسا ًنا يستحقّ أن يتحدث معه ،ويبوح بمكنون صدره ّإل (عمر) .كان
نقي مل يتلوث باألغراض الدنيئة أو ٌ
إنسان ّ ُ
باسل أنّه هو الوحيد الذي يرى
ٍ
أرسة ترعاه أيضا باقرتابه من (عمر) أن جيدَ البنه مكا ًنا يفالدسائس ،كام أراد ً
وقت غيابه وتتبناه يف حال موته. َ
يثقل كاهله ،بل إنّه ولدهشته بكى بني كل ما ُ جلس مع عمر وحكى له ّ َ
ريه املظلم وطف َله املسكني الذي ال جيد من يرعاه. يديه ،بكى امرأ َته القتيلة ومص َ
نفسه؛ بكى ند ًما عىل السنني التي قضاها سي ًفا يف ِ
يد نظام أكثر طغيا ًنا مما بكى َ
الشود الذي يبيح له أحيا ًنا أن يفكر يف اعتناق الظلم ختيل ،وحرسة عىل عقله ّ
ٍ
لشخص جمنون وجمرم كأناندار. رب ٍ
رات تقنعه باالنضامم دينًا ويسوق له م ّ
يبخل عمر عليه بال ّنصح بل أعطاه حكم َة ستني عا ًما رأى فيها الكثري
ْ مل
وقرأ أكثر .قال له إنّنا برش ،وإنّنا بطبيعتنا قد نخطئ يف احلكم عىل األشياء
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 302
اخلي أو َ
اإلنسان ّ بالترصف عىل أساس ذلك احلكم ،لكن ما يميز ّ ونخطئ
عن غريه هو ذلك القلق الذي جيعله يعيدُ النظر دو ًما كام قال “ابن األصول” ْ
وصحة مربراهتا ،وذلك الندم الذي يعرتيه حنيَ يكتشف ّ يف أخالقية أفعاله
لكن اإلنسان ذا خطاءّ ، كل ابن آدم ّ
يكررهّ .
أنه أخطأ فيتوقف عن خطئه وال ّ
ً
متيقظا مرة فإنّه جيدُ يف نفسه ضم ً
ريا انزلقت قدمه للخطأ ّ
ْ املعدن الطيب لو
صاحب الضمري ُ يمنعه من تكرار اخلطأ والتامدي نحو أخطاء أفدح ،بينام
ٍ
ملرحلة من اخلطأ يتوقف مرة تلو األخرى ح ّتى يصل ِ
املربرات ّ الفاسد خيتلق
فيها عن التربير ألنّه مل يعد بحاجة إليه.
ثم أضاف:طيب ،أصيل املعدنّ ، إن دموعه تلك ٌ
دليل عىل أنه ٌ َ
قال له عمر ّ
عن طريق الصواب فإنك تعود ،الناس معادن “أنت ابن أبيك ،ومهام رشدت َْ
وأنت من معدن نفيس” .فقال باسل“ :اقبلني ولدً ا لك ،واعترب َ يا ولدي
أهل له ّإل أنا ،ال أستطيع أن َ
أتركه يف األرض املحتلة (عالء) حفيدك ،فهو ال َ
يقيم
عمر بطلبه يومها ،واقرتح عليه أن َرحب ُ فقد كان هناك من يتتبعه”ّ .
املخيم ،وتستأجر له مر ّبية مرصية تعتني
الطفل مع زهرة يف بيتهم الصغري يف ّ
أشياء كثرية ،وانفتحت يف
ُ تغيت يف نفس باسل به .انتهى ذلك اللقاء وقد ّ
أبواب كانت مغلقة من قبل.
ٌ قلبه
مضت مخسة أشهر منذ ذلك اللقاء ،وصار باسل واحدً ا من العائلة .زهرةْ
كأنا أ ّمه ،ح ّتى أهنا سألت عمر ذات أكثر ً
تقبل له ،تعامله بو ٍّد ّ أيضا صارت ًَ
(ميساء) ذات يوم ،فقال هلا عمر ْ
أن الزواج من ْ
َ مرة ْ
إن كان الرجل قد ينوي
تؤجل التفكري يف هذا إىل ما بعدَ حرب التحرير املزمعة .اليوم حني خرجوا يف
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
303
(ميساء) متهيدً ا
أن يسمح له بالتقرب من ْ ُ
باسل من عمر ْ نزهتهم تلك طلب
أن ابنته قد ترفض فكرة الزواجمتفه ًم فهو يعرف ّ
لطلب يدها ،ابتسم عمر له ّ
رسميا قبل أن يفاحتها يف يشء.
ًّ من باسل ْ
إن هو تقدّ م ألبيها
التملص من يد زهرة وهي حتاول إبقاءه، َ ري حياول
كان عالء الصغ ُ
ُ
باسل ور ّد إن هذا الولد يبدو عنيدً ا كأبيه .ضحك وهتفت بباسل قائلةّ :
نفسا عمي ًقا ّ
ثم قال هلا شيئًا عن وأخذ ًَ (ميساء)
ثم التفت إىل ْعىل دعابتها ّ
ثم ٍ
بابتسامة رقيقة .سا َد الصمت دقيقة ّ مجال البحرية فأ ّمنت عىل كالمه
فمه ليتكلم لكنه ارتبك فعاو َد السكوت فسألته ميساء“ :باسل ...ملاذا فتح َ
“لست
ُ أنت ُمرتبك هكذا عىل غري عادتك!؟” .ضحك بعصبية وهو يقول:
ٍ
بإحساس خمتلف وأنا أجلس معك اليوم ،أشعر أننا ً
مرتبكا لك ّنني أشعر
قريبان من بعضنا جدًّ ا”.
تضيق عينيها كأهنا تتفحصه؛ “هل استأذنت من ُ نظرت له متأملة وهي
ْ
أدهشه كالمها فسأهلا“ :مل تقولني ذلك؟”. َ أيب َ
قبل أن تقول هذا الكالم؟”.
السادسة” .ابتسم ومل ير ّد ،فعقدت حاجبيها وهي تقول: فقالت“ :حاستي ّ
االقرتاب
َ االقرتاب منك منذ عرفتك ،لك ّنك حني قررت
َ “أتعرف ،أنا أحاول
ضحك فضحكت َ من شخص يف عائلتنا اقرتبت من أيب بشكلٍ أثار غرييت”.
ثم استغرقا يف الضحك حلظات قطعها بقولهُ “ :تعجبني جرأتك” .فقالت ّ
أن أقول ما يرد بخاطري ،مل تص ْفني تلوح بيدها“ :ليست جرأة ْببساطة وهي ّ
أفصحت
ُ سالحا يل وتصفني باجلرأة ألنّني
ً توجه
وأنت ّ
باجلرأة حني شتمتك َ
عن مشاعري ،يا حلمق الرجال!”.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 304
هيز رأسه متعج ًبا من طريقتها ،فقالت له“ :هل ح ًّقا ضحك وهو ّ
أي رجل فهز رأسه مواف ًقا يف خجل .فقالت ّإنا مع ّ استأذنت من أيب؟”ّ .
آخر كانت ستشعر بالغضب وتع ّنفه ،لك ّنها معه ال متانع يف ذلك .حانت منها
كأنا حتاول أن فوجدت أ ّمها تنظر نحومها يف فضول ّ
ْ ٌ
التفاتة اجتاه والدهيا
سألت (باسل)“ :هل أخربك أحدٌ أنّنا سنعود ْ ثم
تقرأ شفتيهام ،فابتسمت ّ
يسمح لنا باخلروج منها ح ّتى موعد
َ إىل األرض املحتلة هناية األسبوع ولن
جمرد احلرب؟” .عقدَ حاجبيه مستغر ًبا ّ
ثم قال يف استسالم“ :بالطبع ال ،فأنا ّ
ٍ
فرد عادي يا سيادة املالزم”.
تتزوجني؟” .نظر إليها تلتفت ملزحته وقالت بجدية“ :هل تريد أن ّ ْ مل
متسائل عن السبب الذي جيعلها مندفعة هكذا! تر ّددً بدهشة وهو يتأ ّملها
للحظة قبل أن جييبها لك ّنه حسم تر ّد َده برسعة وقال“ :نعم” .فقالت“ :ملاذا؟
هل تريد أن تكون هناك امرأة يف حياتك والسالم ،أم ألنّك تراين مميزة
حتبني؟” .ر ّد عليها وهو حيك ذقنَه“ :ما حكايتك اليوم تتك َلمني أم ألنك ّ
“أجب أسئلتي ،أنا لست
ْ باندفاع غريب!” .فأشارت بسبابتها حمذرة وقالت:
الزواج يب؟”.
تتحرج من احلديث عام تريد ،أجبني ملاذا تريد ّ جمر َد فتاة ّ
ّ
فمها وهي تقول“ :أي أنك ال “أنت مميزة ..مميزة جدًّ ا” .ابتسمت بزاوية ِ
ِ
سبابتها عىل شفتيه قبل أن ينطقفمه ليتكلم لكنها وضعت ّ فتح َ
حتبني!”َ . ّ
حبي بسهولة إذا كرسنا احلواجز
هيم ...مادمت معج ًبا يب فستقع يف ّقائلة“ :ال ّ
بيننا ،أنا ً
أيضا ُمعجبة بك ،مشدودة إليك جدًّ ا ،ر ّبام مل أصل معك بعد لدرجة
سأتزوجه ،ولكن”....
ّ احلب التي كنت أحلم بوجودها مع اإلنسان الذي ّ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
305
فو ّت
أموت يف احلرب القادمة فأكون ّ
ُ نفسا عمي ًقا ّ
ثم قالت“ :قد أخذت ً
ضحكت بعصبية
ْ ثم
عىل نفيس فرصة أن أجرب الزواج قبل أن أموت”ّ .
عريسا يف ٍ
زمن يندر فيه ً أنت فأكون قد أضعت
وأضافت“ :وقد متوت َ
العرسان”.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 306
أحبك لكن كربيائي أيضا ّ جنون يقال بعد ّ
كل هذا ....أنا ً ٌ “وهل هناك
ثم أضافت“ :أ ّما بالنسبة منعني من قوهلا قبلك” قالت وهي تنظر ِ
ليده وتبتسم ّ
للجنون :أريد ْ
أن نتزوج الليلة؛ حر ُبنا كمقاومني ستبدأ منذ األسبوع القادم
لنحرض للحرب الكربى ،العمليات القادمة ستكون كلها عنيفة وبعضها
نخوض تلك العمليات” .أومأ برأسه َ انتحاري ،أريد أن نتزوج قبل أن
فابتسمت بفرحة ،وأضافت وهي تتحاشى عينيه ،وتتكلم بخجل ْ مواف ًقا
يل ألقا ًبا مثل ألول ٍ
مرة منذ عر َفها“ :ال أريد أن أموت عذراء فيطلقون ع َّ ّ
فضحك بصوت عال وهو يقول“ :اطمئني َ عذراء الثورة وبتول املقاومة”.
ِمن هذه الناحية”.
***
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
307
السادس
القسم ّ
ُ
معركة ال ّدرع المكسور
ُ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
311
أي تقنياتلثامنينيات القرن العرشين خالية متا ًما من ّ
ّ كانت أسلحة تنتمي
إلكرتونية .كانت احلصون متواجد ًة عىل مسافات ترتاوح من مخسة إىل مخسة
رتا حسب أمهية املنطقة احلدودية ومدى انكشاف ما حييط هبا.وعرشين كيلوم ً
أن األرضيني قد يستطيعون وعي ّ
ٍ كان النياندرتال (األديتيون) عىل
موجية ّ
تعطل قدراهتم اإللكرتونية سواء بابتكارها وتصنيعها ّ التوصل لقنابل
املهربني األديتيني أو من املقاومني املناهضني للحكومة؛
أو برشائها من ّ
ودربوا رجاهلم ٍ
بأسلحة عادية خفيفة وثقيلةّ ، فجهزوا ّ
كل املقار احلدودية ّ
ِ
لتدريب رجاهلم ،وللقتال عليها بشكل جيد ،كام استعانوا بمرتزقة أرضيني
يف صفوفهم ً
أيضا إذا لزم األمر.
عىل مدار الشّ هور الثالثة السابقة للهجوم الشامل ،كان هناك حمارضات
وتدريبات شبه يومية عىل كيفية اقتحام تلك املباين احلصينة والتعامل مع
ٌ
تتم يف داخل األرايض املحتلة وخارجها؛
املوجودين فيها .كانت التدريبات ّ
كل ذلك كان املرحل َة التحضريية التي أطلقت يف مرص وسوريا وتركياّ .
اسم “معركة الدرع املكسور؟”.عليها قوات التحالف َ
يف تلك األثناء ،كانت هناك ُ
بعض العمليات ضدّ القوات املحتلة بالوترية
تتم
وتفخيخ هناك ،ورسقة أجهزة ومعدات ،كام كانت ّ ٌ ا ُملعتادة؛ كمني هنا
ُ
الغرض من تلك العمليات بالضبط َ
قبل الدخول يف املرحلة التحضريية .كان
أن هناك مقاومة نشطة كاملعتاد تقوم بعمليات لزعزعةهو إشعار قادة االحتالل ّ
استقرار احلكومة األديتية ح ّتى ال يفطن القاد ُة لوجود يشء غري طبيعي ،وكذلك
يتم النجاح يف رسقتها. ِ
لزيادة اإلمدادات من املعدّ ات األديتية التي ّ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 312
قبل بدء “معركة الدرع املكسور” بيو ٍم واحد ،كانت هناك حمارضاتَ
مقار املقاومة .يف إحداها ،وقف العقيد عامد يعيد رشح
كل ّتوجيهية يف ّ
ّ
ُ
املجموعة املوجودة جتلس اخلطة عىل أذهان احلارضين .كانت تفاصيل ّ
(ميساء) إىل جوار املقدم (إياد) ،وجمموعة أخرى من ضباط
يف مقدمتها ْ
نحو ثالثني من األفراد املشاركني معهم.
املخابرات وخلفهم َ
كانت أما َمه شاشة فراغية عليها خريطة جلنوب القاهرة ،وبدأ يرشح
فجرا
ً مهمتها بالضبط؛ “ستقوم فرقتنا باهلجوم يف متام الثالثة للفرقة ّ
شارحا
ً عىل النقطة رقم 3وهي املوجودة غرب النيل مبارشة هنا” .قال
وأشار عىل نقطة يف اخلريطة كانت جز ًءا من كورنيش املعادي َ
قبل الغزو َ
رب
ثالث جمموعات ،ستهاجم جمموعتان من ال ّ ِ ثم أكمل“ :ستنقسمون إىل ّ
ً
شامل وغر ًبا ،بينام ستهجم املجموعة الثالثة من النيل بعدَ قيامها بالغطس
مسافة قصرية”.
شارحا أماكن
ً فظهر ّ
خمطط املبنى ،ومىض َ َ
ضغط عىل الشاشة الفراغية
تنبيها باخلطط نقاط معادة ،لكنه أضاف يف ّ
كل نقطة ً االقتحام وكيفيته وهي ٌ
البديلة يف حال حدوث طارئ“ :كام تعلمون سيكون هناك ٌ
فرق مثلكم عىل
كل تلك املباين احلصينة يف التوقيت ِ
نفسه من طول احلدود ستقوم بمهامجة ّ
اإلسكندرية يف مرص وحتى إزمري يف تركيا”.
ثم أضاف“ :بعد وظهرت خريطة للحدود ّ
ْ عدّ ل املشهد يف الشاشة،
القوات جاهزة القتحام احلدود
ُ سيطرة ِ
فرقكم عىل املباين احلصينة ستكون
االقتحام بإطالق قنابل موجية
ُ بعد مخسني دقيقة من بدْ ء عمليتكم ،سيبدأ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
313
قوات املشاة واملدرعات ،ولن يكون
ُ متزامنة عىل طول احلدود بعدَ ها تقتحم
هناك إمكانية للسالح اجلوي يف تلك املرحلة كام تعلمون”.
قائل“ :سيدي ،ماذا لو مل ّ
نتمكن من السيطرة عىل سأل أحدُ احلارضين ً َ
“سيؤخر
ّ ني بأكمله يف ذلك الوقت القصري!؟” .فأجاب العقيد: املبنى احلص ِ
الدبابات بقصف املبنى
ُ ذلك تقدم القوات التي ستع ُرب يف نطاقكم ،وسوف تقوم
تتوجه إىل خطتها املرسومة ولكن متأخرة ..قد
ثم ّ بعنف ح ّتى تسقط دفاعاتهّ ،
أيضا يف مرمى نريان َ
تكونون أنتم ً يكون هناك بعض اخلسائر يف صفوفها وقد
قواتنا” .فسأل ثانية“ :وما ّاتا ُه القوات التي ستعرب من نطاقنا؟”ّ .
مط العقيد
حرب
ٌ أن تعرف ّإل اجلزء ّ
املوكل إليك ...هذه شفتيه وقال بحزم“ :ال هيمك ْ
رب والبحر ،وجيب
عرشين دولة ،ستهاجم من ال ّ
َ عاملية ستشرتك فيها قوات من
وعدم شغل ِ
رأسه بمهمة غريه”. ُ مهمته بدقة، كل ٍ
فرد يشارك فيها تنفيذ ّ عىل ّ
أهنى مجلتَه وأطفأ الشاشة املجاورة له ،وقال“ :لقد انتهى اجلزء التخطيطي
ثم قال “ما سأقوله اآلن َ
وجال بيعينيه يف عيوهنم ّ من هذه املحارضة” .صمت
كالم من قلبي لكم” .بدَ ا التأثر عىل وجهه وهو ما أثار دهشة وترقب هو ٌ
حرب أكتوبر ،واملانع املستحيل
َ ريا كانوا يدرسون لنا
كنت صغ ً
أكثرهم “حني ُ
خط بارليف ،وكانت نقاطه اسمه ّ الذي عربه جنودنا يف ذلك اليوم ،كان ُ
أن ال أحد يمكنه أن يؤذهياَ ،
اآلن يظن الناس ْ
احلصينة كالوحوش الرابضةّ ،
مانع
حرب تبدأ باقتحام ٍ ٍ وأنا أكلمكم أستشعر تلك األجواء بشدة ،أجواء
أثر كالمه عليهم
أمجع الكل عىل استحالة اقتحامه” .تأمل وجوههم لريى َ َ
وأن احلرب خمتلفة متا ًما ،لكن املبدأ واحد،أن الزمن تغريّ ، “أعلم ّ
ُ وأكمل:
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 314
مانعا رغم اختالف طبيعته ...جدودكم منذ سبعني عا ًما رب ً وهو أننا سنع ُ
فعلوها وكانوا متس ّلحني بإيامهنم َ
أكثر من ما كانوا متسلحني ببنادقهم”.
ُ
“املفارقة الغريبة متحمسة بينهم ،فابتسم وهو يضيف: ّ مههامت
ٌ رست
ْ
ٍ
أسلحة عتيقة تشبه تلك التي كانت ِ
موجة اهلجوم األوىل إىل أننا سنلجأ يف
تستخدم أيامها ألنّنا نحتاج إىل ّ
كل ما هو ال يعتمدُ عىل التكنولوجيا احلديثة،
واملفارقة األغرب ّ
أن َمن ك ّنا نحارهبم يف القرن املايض حياربون معنا اليوم
أخطر ما يف معركة الدّ رع املكسور؛ هي مفصل
ُ يف اخلندق نفسه ،مهمتكم
باسم وطنكم مرص،
نجاحها والعامل كله يعتمد عليكم ...أن ُتم حتاربون ْ
وباسم احلق والعدالة”.
وباسم البرشية كلهاْ ،
ْ
أن الوقت مناسب جدًّ ا وخطر مليساء ّ
َ ٌ
سكون مهيب، فعم املكان
صمت ّ
َ
فعل ذلك .كانت دو ًما تشعر أن املقار ُ ٍ
لتصفيق حا ّد لوال أنّه ال جيوز يف تلك ّ
مثل تلك اخلطب احلامسية ختلو من اإلحساس احلقيقي ،وإنّام جمرد كلامت
أحست دون أن يكون هلا ٌ
أصل يف قلبه .يف هذا اليوم ّ يبثها ليحمس مستمعيه َ
ُ
فتنرش فيه قشعريرة حتت جلدها خترتق كياهنا وترسي َ ُ أن الكلامت هتزها،
كل مكان. ِ
الشعرات اخلفيفة ال ّنابتة عليه يف ّ توقف
بعدَ املحارضة رصفهم القائدُ ليستعدّ ّ
كل منهم ملهمته ،يراجع معداته
وأسلحته ،ويأخذ ً
قسطا من الراحة ،ويتناول وجب ًة خفيفة قبل االنطالق
الزي املدرع األديتي بكامل
(ميساء) تراجع معداهتا؛ ّ جلست ْ
ْ نحو اهلدف.
إمكانياته ،جهاز املعصم املعدّ للتشويش عىل الطائرات الدقيقة بطريقة ال
يكتشفها من جيلس يف غرفة التحكم فيها ،السالح األديتي الذي ُيرتدَ ى يف
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
315
ريا مسدسان عاد ّيان، قبضة ِ
اليد والذي متقته ،قذائف تعطيل الدّ روع ،وأخ ً
وذخرية ،وسكني ،وعلبتا طعام جمفف.
فر َد ْت جسدها عىل الفراش الصغري املعدّ هلا ،وأخذت تفرك خاتم
صب
وعن ّ َ
ترصف ذهنها عن التفكري يف (باسل)ْ ، زواجها وهي حتاول أن
لعناهتا عىل القادة الذين مل يسمحوا هلام باالشرتاك يف جمموعة واحدة ،وحتى
وكأنم كانوا ُ
سيلتحق هبا زوجه ّ ِ
ألحدمها بمعرفة املجموعة التي مل يسمحوا
ضدّ فكرة زواجهم من األساس.
فعليا بزواجها ّإل مدّ ة ألسبوع الذي َتل قرارمها بالزواج .أظهر
مل هتنأ ًّ
رغم رغبته فيه ،وأصيبت ِ
بطريقة قبوهلا هلذا الزواج َ رب ًما يف البداية
أبوها ت ّ
أ ّمها بخيبة أملٍ فقد كانت تتم ّنى أن يستعدوا لزفاف ابنتها الوحيدة بشكل
تم ،وعقد قراهنا عىل باسل يف ذات اليوم.(ميساء) ّ
أفضل ،لكن ما أرادته ْ
السخنة ،وتركا (عالء) مع والدهيا ،ومكثا
سافرا يف اليوم التايل إىل العني َّ
توصف .اتفقا ُ
منذ اللحظة األوىل عىل مخسة أيام كانت َ
أمجل يف قلبها من أن َ
ِ
تناول أقراص هلذا الغرض. ّأل يكون هناك ٌ
محل يف تلك الفرتة وبدأت يف
بعدَ تلك اإلجازة الصغرية عادا إىل األرض املحتلة ُ
وض َّم (باسل) ملجموعة
خمتلفة ،وصارت لقاءاهتام متباعد ًة ،يف العادة ساعات قصرية لك ّنها تعوض
ري من حنني البعد.
الكث َ
اليوم الذي د ّبر هلام ماندريك فيه رحلة قصرية إىل
َ ابتسمت وهي تتذكر
ْ
قضت أسابيع قبلها
ْ ختضع بالكامل لرجال املقاومة.
ُ ِ
كوكب أديتيا يف جزيرة
وتوسلت إليه
ّ أسبوعا هناك،
ً ِ
حماولة إقناعه بإرساهلا هي وباسل ليقض َيا يف
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 316
أسبوعا عن األرض
ً تغيب
حتجج هلا بأهنا من املستحيل أن َ ني ّبكل السبل .ح َ
طلبت منه أن يعيدَ مها بطريقة تعيدمها لنفس اليوم الذي
ْ دون أن يالحظ أحد،
قديم .قال يومها“ :هذه فكر ٌة مستحيلة،مع أبوهيا ًانتقال فيه كام فعل املقاومون َ
مهندس عبقري،
ٌ ما حدث مع أبويك كان باستخدام جها ٍز معدّ ل ابتكره
ِ
عودة أبيك ،و ُقتل هذا املهندس يو َمها ُ
اجلهاز يف أثناء ولألسف احرتق ذلك
عىل يد رجال أناندار الكبري ،ومل يستطع أحدٌ أن ّ
يكرر تلك التجربة”.
بعدَ إحلاح شديد وافقَ ماندريك عىل إرساهلام ليومني اثنني دون أن يعرف ّ
أي
شخص ،وبالفعل حت ّقق حلمها وقضت مع (باسل) هناك يومني يف اجلو الذي
تقص عليها أمها مجال املكان هناك.
منذ صغرها حني كانت ّ حلمت به كث ًريا ُ
ْ
ِ
وأطفأت الضو َء وحاولت أن تنام .بدأت عيناها نفسا عمي ًقا
أخذت ًْ
ريا توطئ ًة لالستغراق يف النوم ،وبدأت تتوارد
تغفوان ويصبح فتحهام عس ً
اخلواطر املهزوز ُة عن الغد ،وما ينتظرها فيهْ ،
لكن قبل أن يسبح عقلها يف
طرقات خفيفة عىل باب غرفتها ،فاعتدلت وقالتَ “ :منٌ بح ِر النوم ّنبهتها
مرة واحدة.
وفتح الباب ّ
ينتظر َ
ْ لكن الطارق مل بالباب؟”ّ .
ري مصدقة لتلك املفاجأة ،فهناك عىل باهبااتّسعت عيناها بذهول غ َ
كان (باسل) واق ًفا ،وعىل وجهه ابتسامة عريضة .قالت وهي مل تفقْ من
املفاجأة بعد“ :باسل ..كيف جئت إىل ”...مل تكمل ُجلتها فقد قاطعها حني
ونظر إليها بشوق
َ ِ
إكامل احلديث .أبعدَ وجهه عنها لثم شفتيها ومنعها من
َ
مرة أخرى ُبق ْبلة ملهوفة
جارف ،فحاولت أن تكمل تساؤهلا لك ّنه قاطعها ّ
وجده وشوقه.
ري من ْ وضمة قوية أفرغ فيها الكث َ
ّ غامرة،
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
317
تذكرت شيئًا ُم ًّ
هم: ثم قالت كأهنا ّ األبواب ّ
َ أبعدتْه عنها برفق ،وغ ّلقت
ِ
أتناول األقراص منذ أسبوع” .فقال هلا“ :مل نعدْ نحتاجها ،احلرب بعدَ “أنا مل
ساعات دعينا ْ
إن نجونا منها نعش ثالثة ال اثنني”.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 318
موعد االنطالق” قالت له ثم زفرت بحنق وكأن ِ “بقي ساعتان عىل
تريدين معرفة كيفيةَ انقضاء الوقت خينقها .نظر إليها وسأهلا“ :هل مازلت
وسطت أباك رأسها باإلجياب دون أن تتكلم ،فقال“ :لقد ّ فهزت َ جميئي؟”ّ .
وماندريك وقائدَ جمموعتي الذي أنقذت حيا َته يف آخر مهمة لكي حيصلوا
معاوحجتي هو أننا لو ك ّنا ً
ّ أن أكون معك، يل عىل موافقة ،ويف النهاية وافقوا ْ
ثم قالت وهي وقبلت خدّ ه ّ
ذهنيا كام لو ك ّنا بعيدين” .ابتسمت ّ
فلن نتش ّتت ًّ
تقوم“ :ووافقوا بسهولة؟” .فأجاب“ :مل يقتنع القائدُ ّإل بعد أن سألني عن ما
ٍ
وحش سيتحول اآلخر إىل
ّ سيحدث لو مات أحدُ نا بني يدي اآلخر ،فقلت له
يلتهم أعداءه كام كان حيدُ ث يف األفالم القديمة”.
السبب هل كان خوفها
َ ملجرد ذكر تلك الفكرة ،ومل تعرف َ
انقبض قل ُبها ّ
عليه أم خوفها من املوت ،قالت وهي تعيدُ دفن رأسها يف صدْ ره ملتمسة
قدر ما أخشى عليك من إضافيا“ :أتعرف ..أنا ال أخشى من مويت َ ًّ أما ًنا
للمرة الثانية” .عقدَ بني حاجبيه وهو
ّ صدمتك لف ْقد زوجتك بني يد ْيك
َ
وسطهم ح ّتى متأمل قبل أن يقول“ :لو فقدتك فسألقي بنفيسً ينظر إليها
عن تلك اخلواطر
يكف ْتلوح بيدهيا له أن ّ
فقالت وهي ّ
ْ أموت وأنا أقتلهم”.
حافظا ..لو سمعتنا أ ّمي اآلن ونحن نتحدث لتشاءمت ً خري
السوداء“ :اهلل ٌ
ومنعتني من القتال”.
***
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
319
43
يشعر ماندريك يف حياته بثقلِ أنفاسه كام كان يشعر يف ذلك اليوم .كان ْ مل
وهم يستعدون ،يروحون وجييئون ،يمرحون ً
متأمل اجلنو َد اليافعني ُ جيلس
ُ
ٌ
ضابط برتبة كبري ،وما إن يمر عليهمويصخبون ،يقطعون صخبهم حني ّ ْ
الصخب من جديد .كان يراقب من مكانه
ُ خيتفي من أمام عيوهنم ح ّتى يعود
بدل من أن يكون مث َلهم ً
شاعرا تصطف ،والعربات تتكدس ،وهو ً ّ الدبابات
ٍ
وقلق حياول أن يعرف سب ًبا له غري يشعر بضيق
ُ بذلك احلامس املتوتر ،كان
رائحة احرتاق البنزين اخلانقة التي مل يعتدْ ها من قبل.
كمن يبحث بني األنقاض عن آثار العبوة الناسفة أخذ يق ّلب خبايا نفسه ََ
بيت اليقني والطمأنينة الذي كان يعيش فيه .تساءل إن كان التي هدمت َ
است ّله هو السبب ذلك القرار املؤمل الذي ّاتذه منذ شهور َ
وتركه جر ًحيا بنصلٍ ْ
زرع كبسولة سا ّمة حتت جلدها حني كانت بيده هوَ ،بنفسه .هريمني ماتت ِ
خمدّ رة ح ّتى تكون وسيلته لتنفيذ العدالة يف حال فشلِ القضاة يف إدانتها.
يمكن أن تفلت منُ نفسه قاض ًيا ألهنا اعرتفت له بجريمتِها ،رأى أهنا ال
عي َّ
أن منافسيه يف قيادة املقاومة يعلم ّ
العقاب بعدَ جريمة بتلك البشاعة ،وألنه ُ
ألنا حبيبته القديمة.األديتية سيقولون إنّه هو من جعلها تفلت من القصاص ّ
علم بقراره كان (باسل)؛ رأى ّ
أن من حقّ الرجل أن يشفي الوحيدُ الذي َ
خاصة أنّه أثبت شجاع ًة استثنائية يف طلب الثأر ،وهو ٌ
أمر يعترب ّ غليله،
الس كام جيب أن يصان. أن (باسل) َ
صان ّ مفخرة يف أديتيا ،واحلقّ ّ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 320
“بالتأكيد ليس هذا هو السبب يف شعوري بالضيق اآلن” قال لنفسه؛ هذا
مر بمراحل الندم واألمل والتربير والرشعنة ُ
احلدث أخذ وقته من التفكريّ ،
مر بلحظات احلنني اجلارف ملَن كانت تسكنه يو ًما ،وأهنى حياهتا والشيطنةّ ،
رصخات يف نفسه ختربه أنّه قتلها
ٌ بيديه .ترددت عىل مدار الشهور السابقة
ربه أمله عىل فعل ً
حارضا أمامه ،قد جي ُ جرحا
فستظل ًّ ٍ
سجن ألهنا لو عاشت يف
يزورها يف سجنها وجيدّ د ما بينهام أو يضعف يو ًما ما َ أشياء ال تليق به كأن
عاشت ستكون نقطة ْ وخيون نفسه ويساعد يف هتريبِها من السجن .كانت لو
عن نفسه دو ًماضعف خطرية قد تقيض عىل آمالِه وطموحاته التي تراوده ْ ٍ
وال يبوح هبا ألحد؛ طموحات تراود أي ثائ ٍر يف اجللوس عىل كريس َمن يثور
قصاصا وال عقا ًبا؛ بل
ً بكل وضوح“ :مل تقت ْلها عليهم .تقول الرصخات له ّ
نفسك فقط ،قتلتها ألنّك أجبن من أن تواجهها”. قتلتها من أجل ِ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
321
وعن أخالقيته .حني قاوموا جن ًبا إىل جنب مع األرضيني يف الداخلعن جدواه ْ
جزء من
واليوم بالذاتُ ،هم ٌ ُ لكن اليوم، ّ
الشك يف ْنبل ما يفعلونِ ، مل يساورهم
جيوش نظامية ليس عىل ِ
لسان جنودها وقادهتا من شعا ٍر غري حمْو النياندرتال.
استخدام هذه الكلمة يف وجودَ جت ّنب اجلنود األرضيون بالطبع
اجلنود يتحدّ ثون أو
ُ كانت تصل إىل مسامعهم حني كان ْ األديتيني لكنها
منحه ذلك ٍ
واحد من األديتيني عىل م ْقربةَ . يمزحون غري منتبهني لوجود
بأن هؤالء لن يعاملوا مواطني أديتيا بأدنى قد ٍر من العدالة بعد أن
شعورا ّ
ً
تصري الغلبة هلم.
كان خو ُفه يزداد من احتامل أن تتصاعدَ العنرصية بقوة بعد التحرير وتبيح
لألرضيني َ
فعل الفظائع يف املساملني من أبناء وطنه .األديتيون العاديون الذين ّ
غد أفضل أو طاعة ألمرلألرض بح ًثا عن ٍ
ِ صدّ قوا قادهتم وكهنتهم وهاجروا
النرص سيصربون عىل األديتيني
ُ تم
عن مصريهم ،هل لو ّ ديني .كان يتساءل ْ
إعادتم إىل الكوكب ،أم سيعملون فيهم َ
القتل واالستعباد كام يقول ُ يتم
ح ّتى ّ
بعض املتطرفني عىل اإلنرتنت؟!.
َ
وقف أما َمه فجأة أحدُ اجلنود املرصيني منتص ًبا مؤ ّد ًيا التحية العسكرية
التي مازالت تثري استغرا َبه“ :سيادة اللواء عادل يو ّد مقابلتك يا سيدي ..هل
وسار مع اجلندي إىل غرفةَ ثم قام
رأسه باإلجياب ّ
هز َ تفضلت بمرافقتي؟”ّ .
من تلك التي ُتبنى بشكلٍ مؤقت يف املواقع العسكرية .وقف اجلندي عىل
ٍ
بأدب ليدخل ريا إليه
قدميه مش ً ويضم ّْ الباب دون أن يدخل وهو يشدّ قامته
هو.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 322
فحياه ماندريك“ :يوم
ثم أجلسه أمامه ّاستقب َله اللواء عادل بحرارةّ ،
فابتسم اللواء وقال له“ :ولك ً
أيضا أهيا العزيز َ سعيد أهيا العزيز اللواء”.
رتب عسكرية ..مثلك يعترب
مازحا“ :أال يوجد لديكم ٌ
ثم أكمل ً ماندريك”ّ ،
ً
مبتسم“ :هناك يف العمل الرسمي عميدً ا أو لواء ً
أيضا؟” .فر ّد ماندريك
خارج هيكل
َ درجات وظيفية يف وطننا لك ّننا مقاومون
ٌ بالطبع ،هناك
ً
متفهم وقال“ :نعم لكنكم أناس نبالء ،وتستح ّقون هز الرجل رأسه
الدولة”ّ .
أن حتكموا بالدكم لتطبقوا العدل”.
منتظرا أن حيدثه يف سبب مقابلته .كانً ونظر للرجل
َ مل ير ّد ماندريك
املموه نفسه ،وإن ز ّينت ُ
كتف اللواء رتبته الزي العسكري ّكالمها يرتدي ّ
العسكرية وخال ُ
كتف ماندريك منها ،لكن كان مكتو ًبا عىل صدر ز ّيه عبارة
اسمه ،وشعار ماجوها مصغّ ًرا.
“قوات صديقة” وأسفلها كتب ُ
قال اللواء عادل وهو ينظر يف عيني ماندريك“ :سوف تبدأ عملية
أطمئن عىل معنويات رجالك”. ّ الدرع املكسور بعد ساعات ،وأريد أن
ينظر ل ّلواء يف عينيه بدوره“ :هل
مط ماندريك شفتيه العريضتني وقال وهو ُ ّ
هيز رأسه ناف ًيا:
فأشاح الرجل بعينه وقال وهو ّ
َ أسباب هلذا السؤال؟”.
ٌ لديك
خندق واحد ضدّ حكومتكم، ٍ ّ
“كل بالطبع ،لك ّنه سؤال روتيني فأنتم معنا يف
هبز معنويات الكثريين”.وهذا كفيل ّ
اعتدل ماندريك يف مقعده وقال هبدوء حازم“ :رجايل باألساس يقاتلون َ
واالنتصار يف تلك احلرب هو
ُ من أجلِ وطنهم ،ومن أجل شعبهم املقهور،
ٌ
أساسية يف إسقاط النظام الفاسد الذي خيدم أقلي ًة عىل حساب األغلبية، خطوة
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
323
ُ
نتحالف ولذلك ال َ
ختش شيئًا .نحن لسنا مالئكة لنقاتل من أجلكم ،وإنام
معكم من أجل خري شعبينا”.
متفهم فأكمل ماندريك“ :لكنني أو ّد منك أن تلفت نظرً رأسه
هز الرجل َ ّ
رجالك لتلك احلقيقة ،أعني حقيقة أنّنا نتعاون لصالح شعبينا ،فبعضهم يغفل
ٍ
بطريقة مقلقة فيها الكث ُري من الكراهية والعنرصية”. عنها ويتحدّ ث عن قومنا
أي
اكتشفت ّ
َ نزعجا“ :هذا غ ُري مسموح متا ًما ،وأرجو منك إذافقال اللواء ُم ً
ّ
وسأتذ ضدّ ه إجراء قاس ًيا”. ٍ
فرد يقول شيئًا خمال ًفا أن تبلغني ً
فورا
وقف ماندريك استعدا ًدا لالنرصاف ،فوقف اللواء بدوره ليودعه ،شدّ َ
ماندريك عىل يديه وهو يصافحه ً
قائل“ :أعلم أنّنا اتفقنا مع القادة السياسيني
عىل عدم املَساس بمواطنينا وإعطائنا مهلة بعدَ أن ننترص كي ”...قاطعه
ً
مستفهم ،فقال اللواء: فقطب ماندريك حاجبيه قائل“ :إن شاء اهلل”ّ .
اللواء ً
هز ماندريك نحب تقديم مشيئة اهلل”ّ . ّ “بعد أن ننترص إن شاء اهلل ،نحن
تعلم عىل مهلة تكفي إلعادة قائل“ :اتفقنا كام ُ كتفيه غري مكرتث وأكمل ً
رأسه مواف ًقا
هز اللواء َتقل عن ستة أشهر”ّ . لكوكب أديتيا ال ّ
ِ مواطنينا
فأكمل ماندريك“ :أنا أعلم أنكم ستلتزمون هبا ،لكن اجلنود عىل األرض
محاقات من تلقاء أنفسهم ولذلك فإنني ٍ قد تغمرهم احلامسة ،ويقدمون عىل
امليدانيني مثلك يف السيطرة عليهم”.
ّ أعتمدُ عىل القادة
أيضا أن ّ
يوف قادة املقاومة مطمئنًا وقال“ :وأمتنى ً ابتسم اللواء عادل ْ
َ
بوعدهم ويفعلون تلك األداة التي تزعمون أهنا لديكم ،والتي ستغلق الصدع ِ
ً
مستقبل”. الكوين الذي يسمح باالنتقال بني كوكبينا لنتج ّنب تكرار هذا الغزو
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 324
مطمئنًا فاستطر َد اللواء“ :ستفعلوهنا سواء سيطرتم عىل رأسه ْ هز ماندريك َ
احلكم أم ال ،أليس كذلك؟” .فر ّد ماندريك بحسم“ :بالطبع أهيا العزيز ،هذا
ثم أكمل وهو ينهض هدف أصيل لثورتنا سنلتزم باتفاقنا طاملا التزم ُتم أنتم”ّ ،ٌ
ثم استدرك ً
قائل أن نعرب لألرض املحتلة”ّ ، لقاء آخر بعد ْ
مصافحا اللواء“ :لنا ٌ
ً
وهو يبتسم“ :إن شاء اهلل”.
أول يف املرور عىل رجاله لطمأنتهم والشدفكر ًانرصف إىل مكانه لك ّنه ّ
َ
من أزْ رهم .كانت العمليات التي خاضوها ً
معا من قبل قد أعطتهم خربات
كبرية يف التعامل مع املواقف الصعبة كا ّفة عىل مدار ما يقارب العرش سنوات،
أسلوب خمتلف عن احلرب
ٌ حرب العصابات ،وهو ِ ِ
بأسلوب لكن كانت
وشك خوضها ،كام ّأنم سيكونون حتت قيادة صارمة ِ النظامية التي هم عىل
ال تسمح هلم باالرجتال املعتاد.
بقيت ساعة واحدة عىل بدْ ء املهمة التحضريية لتعطيل النقاط احلصينة عىل
ْ
احلدود (تلك العملية التي يشارك فيها باسل وميساء) والتي سيبدأ بعدها
توجه القوات التي يشارك معها إىل املنطقة احلدودية .سيبدؤون مبارشة ّ
ٍ
أعداد كبرية من القنابل املوجية التي فور وصوهلم للجدار احلدودي بتفج ِ
ري
وتسمح للقوات بالعبور ،وتعطيهم ميز َة املفاجأة التي
ُ ستعطل ذلك اجلدار
ستصدم القادة األديتيني بال شك.
تم
جتهيزها ملعركة اليوم معدات عتيقة ،وقد ّ
ُ تم كانت ّ
كل املعدات التي ّ
وهيدروليكيا ،بعيدً ا عن أي
ًّ ميكانيكيا
ًّ ُ
تعمل ُ
تعديل احلديث منها جلعلها
تكنولوجيا تستخدم الكهرباء واإللكرتونات ،فتعطيهم تلك امليزة تفو ًقا
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
325
مهمته التالية هو ورجاله هي حتديدَ النقاط
ريا عىل القوات األديتية .كانت ّكب ً
القوات
ُ التي سيتم فيها استخدام القنابل املوجية للمرة الثانية بعد ْ
أن تعرب
املدى املؤثر للدفعة األوىل من القنابل.
عىل مدا ِر عقود كاملة أجرى النياندرتال جتارب عىل سلوك البرش
وراقبوهم ليجدوا الوسيلة ا ُملثىل للسيطرة عليهم يف األرايض التي خططوا
مورست عىل ُعمر وزهرة ساب ًقا .كانت أفكارهمَ الحتالهلا مثل ال ّتجربة التي
ِ
طرق التمرد واملقاومة تغطي االحتامالت كا ّفة ،وتتغ ّلب عىل ّ
كل وأبحاثهم ّ
وحب للدَّ َعة
ٍّ ِ
خصالم من أنانية ّ
وتستغل أسوأ عند البرش األرضيني،
بعض البرش من قدرة عىل ّيل ُعنق
يميز َ
واألمان ،ولو عىل حساب احلرية ،وما ّ
احلقائق وتربير الظلم وممارسات املحتلني أ ًّيا كانوا.
مثاليا يف عني قادة احلكومة يف أديتيا ويضمن السيطرة طويل َة كان ّ
كل هذا ًّ
ويضمن النفوذ الكبري لدولة أديتيا
ُ األجل عىل ال َبرش يف املناطق املحتلة ،بل
كل تلك اخلطط لكن ما رضب ّ األرضية عىل دول العامل يف املستقبل البعيدْ .
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 326
تعاون املقاومني األديتيني مع املقاومني من األرضيني .أ ّدى ذلك ُ جزئيا هو
ًّ
كل األرايض إىل انقالب املوازين ،وإبقاء ْ
جذوة الثورة واملقاومة مشتعل ًة يف ّ
املحتلة .املقاومون األديتيون كانوا يو ّفرون أسلحة أديتية للمقاومني
ويمكنوهنم من التغ ّلب عىل احلواجزّ َ
خطط األمن، األرضيني ويكشفون هلم
يقلقه يف تلك اللحظة هو ُ
السؤال الذي كان ُ احلدودية والطائرات الدقيقة.
احتاملية ذلك اهلجوم ِ
تدرس ْ كيف يمكن التأكدُ من أن الدولة األديتية مل
ريا مل
دفاعيا أخ ً
ًّ خطا املشرتك ..وهل يمكن أن يكونوا قد أعدّ وا بدورهم ًّ
حيسب أحد حسابه؟
***
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
327
44
الرتقب عىل ّ
كل الوجوه ُ ربع ساعة فقط ،كانبقي عىل بدء العمليات ُ
َ
ِ
األرض املحتلة وخارجها .يف الداخل كان (عمر) يف أحد خمابئ داخل
ِ
غرف التحكم وأديتي يديرون إحدى
ّ ُ
وضابط خمابرات مرصي املقاومة هو
ُ
مهامجة مخسة مهمتها
مخس جمموعات ّ ُ
الغرفة مسئولة عن ِ واملراقبة .كانت
ٍ
مبان حصينة ،وجمموعة سادسة احتياطية عىل مسافة قريبة مستعدة للتدخل
مهمة إحدى املجموعات اخلمس األساسية.
يف حال تعثرت ّ
قرر َ
قبل البدء يف العملية إجراء اتصال كان قل ًقا عىل ابنته ال ّ
يقر له مقعدّ ،
أرصت عىل احلضور إىل األرض املحتلة والبقاء ثم بزوجته التي ّ ري هباّ ،أخ ٍ
ريا إقناعها
الصغري يف “انتظار النرص” عىل حدّ تعبريها ،حاول كث ً
هي وعالء ّ
يضمن سيناريو األيام القادمة ،لك ّنها قالت“ :نحن
ُ بالبقاء بعيدً ا ،فال أحد
معا ،وما يرسي عليكم سيرسي ع ّ
يل”. ً
(ميساء) وانتظر حلظة فأجابته“ :جمموعة رقم 1 َ
وضغط رقم ْ فتح جهازه
َ
ً
اتصال ابتسم ً
رغم عنه فقد حسب ْته َ الفرد رقم أ 83يف خدمتك يا سيدي”.
رسميا ،فقال هلا“ :كيف حالك يا بطلتي؟” .فر ّدت ببهجة متفاجئة من اتصاله:
ًّ
“بخري يا أيب أنا سعيدة لسامع صوتك يف هذا الوقت احلرج ،لقد خففت من
مهاما
خضت ًِّ توتري” شعر بالقلق عليها وقال“ :ال تتوتّري يا حبيبتي ،لقد
ثم أضاف بلهجة حانية: أعقد من تلك ،ثقتي يف كفاءتك ال حدو َد هلا”ّ ،
أين باسل؟” .فر ّد عليه باسل: “استعيني باهلل ،وضعي ثقتك يف زمالئكَ ..
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 328
ينظر
قائل وهو ُ باسل ً
ُ َ
أوصيك عليها” .فر ّد عليه “هنا يا سيدي” .فقال“ :لن
صمت وأردف: َ ثماطمئن يا ســّ ”...
ّ لزم األمر،
إليها“ :سأفتدهيا بروحي إن َ
واطمأن عليهاَ ،
وقال هلا إنّه ّ “اطمئن يا أيب” .أغلقَ معهام واتّصل بزهرة طمأهنا
ّ
لن يتمكن من التواصل معها يف الساعات املقبلة.
عا َد إىل مقعده ،جلس يف املنتصف بني املقاوم األديتي والضابط املرصي
عرش شاشات يف أزواج ،واحدة تنقل صورة حية عىل مقاعد مرتفعة ،وأمامهم ُ
كل زوج ٍ
كنقاط خرضاء عليها ،وأمام ّ وأخرى تظهر خارطة ،وتظهر رجاهلم
الصعبة يف اإلعداد للحرب
تقني .كانت إحدى املراحل ّ جلس َّ من الشّ اشات
مقار مثل تلك حتت سمع وبرص املحتلني وكالعادة كانت الشاملة هي جتهيز ّ
األزقة الضيقة يف األحياء الفقرية أو العتيقة هي مال َذ املقاومني لتأسيس تلك
الشبكة.
قائل“ :سيد عمر ،أعرف ّ
أن قواعد الضابط املرصي عىل (عمر) ً مال َّ
أن تعلم أنّني رشفت بالعمل إىل تسمح يل بقول ذلك ،لكن أريدك ْ ُ عميل ال
شاكرا وهو ّ
يؤكد ً وهز رأسه ً
باسم جانبك يف هذا اليوم املجيد” .تأ ّمله (عمر) ّ
نفذا تعليامت رؤسائه عىل عكس ما يلمح له.لنفسه أن الضابط يتو ّدد إليه ُم ً
مخري اللون ،حا ّد املالمح،
ّ كان الرجل يف منتصف األربعينيات ِ
برتبة عقيد،
وقارا له“ .أنا بلدياتك من كفر الشيخ ،من
الشيب فوديه فأضاف ً
ُ َّ
وخط
مرح ًبا وقال“ :رشفت سيدي سامل حتديدً ا؛ أي نفس املركز” ابتسم ُ
عمر ّ
معا وقد تطهرت
يتنهد يف حنني“ :أمتنى أن نزورها ً
ثم أضاف وهو ّ بك”ّ ،
من االحتالل”.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
329
برصه عىل الشاشات“ :لقد بدأتيركز َ قاطع األديتي حديثهام ً
قائل وهو ّ َ
ركز الرجالن برصمها عىل الشاشات بدورمها وقد املجموعات يف التحرك”ّ .
ُ
أن (عمر) عينُه كانت تركز عىلتباعا ،غري ّ تومض ٌ
نقاط يف جوانبها ً ُ بدأت
(ميساء) وباسل ال ّلذان شاشة حمددة وعىل نقطتني ُملتصقتني فيها ّ
مخن ّأنام ْ
كانا يقرتبان من ال ّنقطة احلصينة يف إحدى املركبات.
ُ
مركبة باسل وميساء إىل مسافة ثالثامئة مرت تقري ًبا من املبنى اقرتبت
ْ
توهم ّأنا مركبة تابعة لألديتيني .نظرت ُ ٍ
إشارات احلصني وهي تعطي
لتتأكد من نقطة هبوطهم ،وعندها أشارت لقائد املركبة(ميساء) يف شاشتِها ّ
ْ
ترجلت من املركبة مع باسل وشخص ثالث ثم ّباالنخفاض ملستوى اإلنزال ّ
أديتي.
ثم التسلل َ
شويش عىل الطائرات الدقيقة ّ كانت اخلطو ُة األوىل كا ُملعتاد ال ّت
تم حتديدُ ها لالقتحام .كان الثالثة يقرتبون من هبدوء نحو املداخل التي ّ ٍ
ثم َ
قذف ثم فتحها ّ إحدى النوافذ ،بدأوا بتعطيل آلية اإلنذار عىل النافذةّ ،
صنعه األديتيون .دخلوا للغرفة ُمرتدينعبوة غا ٍز خمدر ش ّفاف عديم الرائحة َ
أقنعة للغاز ،مل يكن هناك أحدٌ هبا ،فتحوا باب الغرفة إىل ّ
املمر وخلعوا
واستمروا يف طريقهم إىل غرفة املراقبة الرشقية. ّ األقنعة،
يغي ّ
بث الكامريات التي ٌ
جهاز ّ انطلقَ الثالثة يتقدّ مهم األديتي ِ
وبيده
مهمتهم هي
األفراد املوجودون بغرفة املراقبة املركزية للمبنى .كانت ّ
ُ يراقبها
ّ
تتحكم يف ثالثة مدافع موجودة عىل َ
الوصول لغرفة التحكم الرشقية التي
السطح بنظم حتكم هيدروليكية وظيف ُتها أن ّ
تظل قادرة عىل العمل بعد تعطل
ّ
كل األجهزة اإللكرتونية يف املباين احلصينة يف حال إطالق قنبلة موجية.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 330
أن اجلنود والعاملني ذكر ،ويبدو ّ املمر هادئًا ال ينبئ بمخاطر ُت َ
ّ كان
مع مرور السنني وعدم حدوث بالنقطة قدْ صاروا قلييل اليقظة واالهتامم َ
يمنع الثالثة من االنطالق بحذر، ِ أي حماوالت للهجوم ،لكن ذلك مل
باب الغرفة ،كان مص ّف ًحاوالنظر بتوجس لكل باب أما َمهم .ظهر يف النهاية ُ
ثم وقف ُ
باسل وميساء النظرّ ، مصم ًتا ال أثر فيه ألداة خمصصة ِ
لفتحه .تبادل
ً
جهازا أخرج من جعبته
َ كل منهم يف جهة من الباب وتقدم الفني األديتي، ّ
َ
ووقف إىل ثم تراجع شبيها بزجاجة مياه معدنية لصقه بعناية عىل الباب ّ ً
حتركت بدورها إىل يسار الباب إىل جوار
(ميساء) التي ّ
يمني الباب إىل جوار ْ
باسل.
الباب شاهرين أسلحتهام،
ُ واقفي يف اجلهة التي سينفتح عندها
ْ كانا
ِ
بحقن ما ّدة إلذابة آلية إغالق الباب. وعيونام عىل اجلهاز الذي يقوم ببطء
ُ
ويسة فقال باسل“ :اهدئي يا تنظر يمنة ْ ِ
بنفاد صرب وهي ُ (ميساء)
تنهدت ْ
ربم وهي تومئ برأسها َ
دليل نظرت له بت ّ
ْ حبيبتي بقي مخس دقائق كاملة”.
خففامل عليها وطبع قبلة عىل خدّ ها وهو يقول“ :ها ...هل ّ تفهمهاَ ،
ثم قالت“ :أنا لستتعجبّ ،مطت شفتيها وهي هتز رأسها يف ّ قليل؟” ّ
التوتر ً
أن بالداخل ُ
تعرف ّ متعجلة ،بل مرت ّقبة ملا سنجده خلف هذا الباب أنت ّ
حارسي وثالثة موظفني ونحن ثالثة ،هل سنتغلب عليهم بسهولة ،ماذا لو ْ
وصلهم دعم ما!”.
ابتسم وطبع قبل ًة أخرى رسيعة عىل شفتيها فرضبت بك ّفها عىل صدره وهي
َ
“هم ال هيتمون هبذا...
نحو األديتي الذي ينظر إليهام فقالُ :
ري بوجهها َ تش ُ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
331
قوة استثنائية كالسبانخ بال ّنسبة لباباي” ضيقت
شفتيك متنحانني ّ
ألن ْأنا أقبلك ّ
بح ٌار يف أفالم
عمن يكون باباي هذا ،فقال هلا إنّه ّ
عينيها كأهنا تف ّتش يف ذاكرهتا ّ
وخرج منه
َ كرتونية كان أبوه جيعله يشاهدُ ها .فجأة فتح باب قريب خل َفهم،
ثم أخرج أحدُ هم سالحه ٍ
بدهشة شديدةّ ، نظرا إىل ثالثتهم
حارسان أديتيانَ ،
مهدّ ًدا وطلب منهم عدم احلركة.
ٍ
هبدوء هو وزميله شاهرين أسلحتهام يوزعان اقرتب احلارس من ثالثتهم َ
مهمة وهي ّ
أن الثالثة كانوا ٍ
حقيقة ّ تركيزَ مها بني الثالثة ،لك ّنهام مل يفطنَا إىل
دروعا ومستعدّ ين متا ًما ،بينام كان األديتيان يف يو ِم عملٍ عادي ال
ً يرتدون
سالحيهام مستخدمني
ْ ُ
باسل وميساء نفسه أطلق حيتاج إىل ذلك .يف التوقيت ِ
ورد الرجالن
احلراب الصغريةَّ ،
َ األسلحة األديتية الصامتة التي تقذف تلك
تأثري عىل درعي باسل وميساء.
بإطالق أسلحتهام التي مل يكن هلا ٌ
اآلخر خلف
ُ ٍ
بحربة يف رقبته ،بينام احتمى َ
قتل أحد األديتيني عىل الفور
موجها
ً مضت ثوان َ
قبل أن يربز وجهه ثانية ويطلق سالحه ْ برو ٍز يف اجلدار،
ثم اختبأ ثانية وهو يستعدّ إلطالقدرعهّ ،
عطلت َ لباسل قذيف ًة كهربية ّ
شاهرا ّ
سكينه، ً ُ
باسل قد قفز ناحيته بخ ّفة يظهر كان
َ مقذوفه القاتل ،قبل أن
ثم دفع السكنيَ
مرة أخرى ّ ِ
إطالق سالحه ّ وصل إليه قبل أن يتمكن من
لكمه يف وجهه
ثم َ أن يتفاداها ّ بعنف ّاتاه صدرهّ ،
لكن األديتي استطاع ْ
ري
الغضب التفك َ
ُ ً
مشتبكا معه بذراعه العاري وقد أنْساه هجم عليه
َ ثم
بقوةّ ،
أن (باسل) معه َمن قدْ يساعده.يف استعامل سالحه ،أو ّ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 332
(ميساء) منهام ملساعدة (باسل) ،لك ّنهام كانا متالمحني بطريقة اقرتبت ْ
ْ
جعل ْتها ترت ّدد يف إطالق مقذوف ح ّتى ال تصيبه .حاولت الرتكيزَ أكثر،
زر اإلطالق يف سالح قبضتها ،لك ّنها حسمت ترددها إهبامها عىل ّ
وتوترت ُ
يقرتب من عنق (باسل) فأطلقت مقذو ًفا أسقطه ُ حني وجدت َ
نصل األديتي
وات َذا
فه ِر َعا إليه ّ ِ
وشك أن ينفتح ُ عىل الفور .كان الباب ا ُملستهدف عىل
وجه (باسل) ٌ
التفاتة إىل الكدمة عىل ْ (ميساء)
رسيعا ،وحانت من ْ ً وضعيتهام
أن القفل قد ذاب.لكن قبل أن تع ّلق أشار زميلهام التقني إىل ّ
ْ
وضعت كتفها عىلْ فدرعها كان ال يزال ً
سليم، ُ (ميساء) ّأو ًل؛
تقدّ مت ْ
أرضيني
ّ مسدسي
ْ نفسا عمي ًقا وأخرجت وأخذت ً
ْ استجمعت قواها
ْ الباب،
مرة واحدة وبقوة. الباب بكتفها ّ
َ ثم دفعت بكواتم صوتّ ، ِ آليني مزودينّ
ويسة الرصاص بدون متييز يمنة ْ ُ
تطلق ّ انفتح الباب ،قفزت للداخل وهي
ِ
بنشوة استخدام األسلحة املعتادة تشعر
ُ أفالم األكشن وهي َ بطريقة تشبه
أحد املكاتباحتمى خلف ِ َ بتلك الطريقة ،وتبعها للداخل (باسل) الذي
َ
مقتل األولية
ّ وأطلقَ عدّ ة قذائف من سالحه .كان الناتج لتلك اهلجمة
دروعهام ومل تؤثر رصاصات َ البعض ،لكن تب ّقى حارسان كانا يرتديان
(ميساء) وال قذائف باسل هبام. ْ
ُ
باسل (ميساء) ومعها التقني مع أحد احلارسني ،واشتبك اشتبكت ْ
ْ
احلارسي
ْ مع اآلخر ،وبعدَ عدّ ة دقائق انقشع ُ
غبار املعركة عن ثالثة قتىل؛
(ميساء) إسعا َفه ّ
بكل الطرق حاولت ْ
ْ والتقني األديتي املرافق مليساء وباسل.
لكن املهمة كانت عسرية ،فقد تل ّقى طعنة يف رقبته أصابت رشيا َنه وحنجرته
ّ
جعلت إنقاذ حياته شبه مستحيل.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
333
45
(ميساء) إنقا َذ التقني األديتي باستامته .وضعت حاولت فيهام ْ
ْ مضت دقيقتان
ْ
تضغط اجلرح حماول ًة إيقاف النزيف وهي ال تدري ما تفعل ثانية، ُ يدَ ها عىل رقبته
لنزف ما تبقى من دمه عىل الفور .زاد ٍ
لثوان قليلة َ فلو أزالت يدَ ها من عىل اجلرحْ
التنفس
َ صوت صفري اهلواء اخلارج من ُجرح حنجرته وهو حياول ُ من توتّرها
جلس وقد سال الدم من َ تلتمس مساعدته فوجدته ُ وندّ ت منها نظر ٌة لباسل
ِ
منتصف بطنه .تر ّددت عيناها بني املصابني ،وقبل أن تزدا َد حريهتا شهق جرح يف
َ
وتسعف َ
اإلذن أن ترتكه ثم تو ّقفت ُ
أنفاسه وكأنّه يعطيها األديتي شهقتَه األخرية ّ
َ
شارف عىل اإلغامء. كانت عيناه تدوران وقد
(باسل) الذي ْ
نسيت القتيل الذي كان بني يدهيا ومألهاِ قفزت ّاتاه (باسل) وقد
َ
حاول أن يكسبه نغمة ساخرة: ٍ
بصوت واهن إحساس بالفزع ،لك ّنه قال هلا
تفحص جرحه:
ُ األمر بسيط” .قالت وهي
ُ وجهك هكذا! ُ اصفر
ّ لك“ما ِ
جزء من أمعائك يظهر من اجلرح”.يل ،هناك ٌ ً
بسيطا ال تتذاكى ع َّ “ليس
فضحك بصعوبة وهو يقول“ :ال ختيش عىل أمعائي؛ فهي كاحلديد”. َ
وحركت جسده وهي تكاد تدمع ّ واتهت نحو األديتي القتيل، ترك ْته ّ
ٍ
شخص عرفته لتخرج شيئًا ستحرك جث َة
ّ تتخيل يو ًما أهنا
من فرط ال ّتأثر؛ مل ّ
سيشعر َمن حيبونه بتلك الفعلة.
ُ حرمة امليت أو كيفِ يلزمها ،دون تفك ٍ
ري يف
تتمتم
ُ ثم عدّ لت جثته ثانية بحرص وهي خلعت احلقيبة اجللد ّية من ظهره ّ
بالدعوات القليلة التي حتفظها.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 334
فتحت احلقيبة وأخرجت منها املوا ّد األديتية الساحرة التي تعالج تلك ِ
اإلصابات واستعمل ْتها بمهارة يف عالج جروح باسل .بعد ْ
أن أهنت مهمتها
َ
االتصال بزمالئها يف املجموعة لالطمئنان عىل سري ِ
بدأت واطمأنت عليه
تكن القائدة بل الثالثة يف الرتتيب القيادي يف ّ
املخطط له .مل ِ العملية عىل النحو
ربها عىل ذلك .أبلغت قائدَ جمموعتها بالسيطرة املجموعة لكن قلقها كان جي ُ
ُ
فصل الطاقة عن الغرفة، القيام باجلزء الثاين؛ وهو
َ عىل املوقع فطلب منها
وتشغيل األجهزة اليدوية ،كان ذلك هو اجلز َء العسري الذي يواجهها،
فأمرها القائد باالتصال بغرفة القيادة إلبالغهم واالستعانة ماتَ ،فالتقني قد َ
ِ
بأحد ال ّتقنيني هناك لتوجيهها.
جهاز اتصاهلا برمز غرفة القيادة فأجاهبا أحدُ املراقبني ً
قائل: َ ضغطت
ْ
“غرفة القيادة ..ما الوضع لديك؟” .فقالت“ :لقد سيطرنا عىل غرفة التحكم
ِ
اخلطوات املتبعة سقط ً
قتيل ،ولسنا نعرف َ لكن التقني املرافق لنا
الرشقية ّ
لتشغيل األجهزة اليدوية”.
“أول تأكديأن هناك َمن ماتً : ً
متجاهل ّ ٍ
بصوت آ ّيل، املراقب
ُ ر ّد عليها
أشارت إىل
ْ باب الغرفة بالقفل املوجود يف حقيبة التقني” من إحكا ِم إغالق ِ
َ
وأخذ يف ّتش فيها يستمع معها إىل املحادثة ،ففتح احلقيبةُ باسل الذي كان
حترك ببطء يف اجتاهثم ّ ضعف حجم ّ
كف اليد تقري ًبا ّ َ معدنية
ّ ح ّتى أخرج قطعة
ثم وضع القطع َة املعدنية بني الباب بصعوبة ح ّتى أغلقهّ ،
باب الغرفة .جذب َ
انغرست
ْ فخرجت منها زوائدُ معدنية
ْ الباب وإطاره ،وضغط عىل برو ٍز فيها
بقوة يف الباب وإطاره وأحكمت غلقه. ّ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
335
شاشات عريضة تكشف الداخل واخلارج، ٌ ُ
الغرفة كانت فسيحة ،فيها
حتكم ،إضافة إىل طاولة واحدة شاشة ّ
ُ مثبت بذراعها األيمن
ومقاعد عريضة ّ
حتك ٍم أخرى ،بينام أطرا ُفها كانت خشبية ُمعدّ ة كأهنا حيتل مركزها شاشة ّ ّ
ِ
بإشعال شموع (ميساء)
عن الغرفة ،قامت ْ طاولة عادية .قبل فصل الكهرباء ِ
ثم بعدَ ذلك تبعت تعليامت الفني املكان ك ّلهّ ،
َ من ما ّدة أديتية متوهجة تيضء
املراقب وضغطت عىل لوحة التحكم املوجودة يف مرك ِز الطاولة فانفتحت
ثم اختارت ِ
بإمداد الكهرباءّ ، صفحة هبا أيقونات ،اختارت أيقونة التحكم ٌ
ِ
انطفأت الشاشات، فحيح األجهزة ومراوح التربيد ّأو ًلّ ،
ثم ُ سكت
َ فصلها،
ضوء الشموع األديتية.ُ وبقي ِ
انطفأت األضواء َ ويف النهاية
حتكم موجود عىل يمني ِ
بتحريك ذراع ّ املراقب بعد ذلك
ُ أمرمها التقني
َ
منصة هبا العديدُ من أذرعخرجت منها ّْ طاقة يف األرض الباب ،انفتحت ٌ
مدون أمامه وظيفته باألديتية ،يف وسط واحد منها ّ ٍ الصغريةّ ،
كل التحكم ّ
ِ
شبيهان بمنظار املراقبة املوجود يف أذرع التحكم منظاران َ تلك الغابة من
املراقب ً
قائل“ :هذه كلها ُ رشح هلام
َ الغواصات (البرييسكوب أو املنفاق).
دون احلاجة للكهرباء ،واملنظاران يعمالن بنظام أذرع هيدروليكية تعمل َ
مرايا مع ّقد يتيح للموجود رؤي َة املهامجني واألهداف التي يمكن إصابتها
خارج املبنى احلصني”.
َ
ثم أكمل ٍ
مقعد أمام املنصة كام طلب منهام ّ كل واحد منهام عىلجلس ّ
َ
استخدام تلك األسلحة
ُ مهمتكام األساسية هي
فإن ّ ً
قائل“ :كام تعلمون ّ
يف قصف أي قوات حكومية حتاول استعاد َة السيطرة عىل املبنى” كادت
تصحح وتقول“ :تعني قوات أديتية؟” .لك ّنها تعرف ّ
أن األديتيني ّ (ميساء)
ْ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 336
ويرصون أن يتجنب
ّ يسمون قوات االحتالل بالقوات احلكومية، يف املقاومة ّ
َ
يعرتفون ّأنم حياربون قومهم؛ بل فهم ال
اجلميع تسميتهم بالقوات األديتيةُ ،
ُ
هتتم بمصاحلها عىل حساب الشعب”. حياربون “طغمة حاكمة ظاملة ّ
أكمل املراقب تعليامتِه هلمّ ..
“تذكروا أن تثبتوا عىل األذرع عبوات املواد َ
املذيبة ،وذلك لكي ّ
تتمكنوا من ختريبها إذا ّمتت مهامجة الغرفة وشعرتم أنّكم
قادرين عىل االستمرار يف السيطرة عليها” .فر ّد عليه (باسل) ً
قائل: َ غري
رد ِمن صوت آخر “اطمئن أهيا العزيز ،لن نفقد السيطر َة عليها” .جاءمها ٌّ
روح مقاتلينا ،و ّفقكم اهلل يا شباب”.
قائل“ :هذه هي ًُ
َ
الضابط املرصي قائد غرفة املراقبة الذي جيلس جوار ُ
املتحدث هو كان
(عمر) ،وقال“ :لقد سيطرنا عىل نسبة كبرية من املباين احلصينة ،والفضل
(عمر) يريد حمادثتكم” .دخل (عمر) عىل االتصال لشجاعتِكم ،السيد ُ
وتتحرك قواتنا ،اثبتوا يا أوالد” .فقالت ميساء:
ّ ربع ساعة فقط ً
قائل“ :بقيت ُ
أجواء احلامسة تلك كنت أظ ّنها يف القصص اخليالية فقط،
ُ “أنا متفائلة جدًّ ا...
لكن يبدو أهنا حتدث أحيا ًنا”.
يكبت مشاعره ويمنع نفسه من ُ ر ّد عليها (عمر) بشكل رسمي كأنّام
خماطبتِها بلهجة األب القلق“ :اجلميع عىل قلب رجلٍ واحدْ ،
وإن شاء اهلل
األرض املحتلة” .أغلق االتصال معها والتفت َ اليوم قبل أن نستعيد
يمر ُلن ّ
آخر املستجدات عىل اجلبهات األخرى”. َ
نعرف َ إىل الضابط ً
قائل“ :نريد أن
النتائج ُمبهرة ح ّتى اآلن ،لقد
ُ فقال وهو يفتح شاش ًة فراغية أمامه“ :انظر...
سقط ما يقارب من الثّامنني باملائة من املباين احلصينة يف احلدود اجلنوبية،
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
337
ً
وإمجال فقدْ جتاوزنا احلدَّ املطلوب ونحو سبعني باملائة من املباين يف الشامل،
األوامر للقوات بالتحرك”.
ُ لبدء اهلجوم وصدرت
استأذن منه (عمر) إلجراء اتّصال خاص؛ كان يريد أن يلتقط أنفاسه
قليل بعيدً ا عن ذلك الرجل الذي ال يستطيع ّ
تقبله عىل الرغم من الود الظاهر ً
وقع يف
يسرتح لقول الرجل إنّه بلدياته ،بل َ
ْ يمنحها جتاهه .مل
واحلفاوة التي ُ
وأنم يف املخابرات يعرفون عنه ّ
كل يظهر له مدى معرفتهم بهّ ،
ظ ّنه أنه يريد أن َ
ظن ُمعتاد منه فهو شخصية يشء .بالطبع كان ِمن ا ُملحتمل أن يكون ّ
جمر َد سوء ّ
ري َ
تفاصيل عن حياته ،غ َ َ
يعرف الكث ُري من الناس مشهورة ومن غري ا ُملستبعد أن
إعجاب
َ السنوات الفائتة كانت تثري
أن أفعاله الشجاعة يف مقاومة االحتالل يف ّ ّ
والضباط يف مرصْ ،
وإن كانوا يعارضون الطريقة. الكثريين من اجلنود ّ
ركن ُمنعزل ،وفتح قنا َة اتّصال مع ماندريك ليطمئن عليه وعىل جلس يف ٍ
َ
ثم أضاف َ
التحرك بالفعل”ّ ، بدء التحرك ،ر ّد عليه ماندريك ً
قائل“ :لقد بدأنا ِ
أنت القائد،
“حتت أمرك يا سيادة القائد” .فقال عمر“ :يا صديقي َ َ مازحا:
ً
َ
حاول املتعجرفون يف لوالك أنت ورجالك ملَا قدر هلذا اليوم ْ
أن يأيت مهام
حكوماتنا األرضية جتاهل تلك احلقيقة” .ر ّد عليه ماندريك وجسدُ ه ّ
يرتج
أنت اآلن
“دعك من هذه األوهامَ ، من اهتزازات العربة العتيقة التي يرك ُبهاْ :
أن حتكمحرب التحرير تلك فال أستبعدُ ْ ُ هم يف املعادلة ،وإذا نجحت رقم ُم ّ
هذا البلد ذات يوم”.
َ
ضحك (عمر) وقال“ :يا لك من أمحق” .فقال ماندريك: أثار كالمه
َ
حاكم أديتيا وأنت رئيس مرص،
َ “صدقني سيأيت اليوم الذي أكون أنا فيه
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 338
ُ
سنتواصل بطريقة ورغم أنّنا سنغلق إمكانية العبور بنيَ كوكبينا فإننا
ما ،وحني حيدث ذلك سأذكرك بنقاشنا هذا ،و ”...قاطعه أحدُ الرجال
املوجودين معه يف العربة ً
قائل“ :العزيز ماندريك ،سنتو ّقف اآلن استعدا ًدا
لتفجري القنابل املوجية”.
َ
ضغط فيه السائق َ
االتصال مع عمر يف الوقت نفسه الذي أغلقَ ماندريك
مكابح السيارة املدرعة ،فتو ّقفت بخشونة دفع ْته لألمام ،وجعلته يلعن
َ
اقرتب منه اجلندي
َ املركبات األرضي َة وخمرتعيها .عندما توقف ُ
حمرك السيارة
ٍ
شارب الثالثينيات ،حليقَ الذقن ،ذا
ّ اجلالس خلفه ،كان يف منتصف
ُ املرصي
ً
سؤال؟”. سائل“ :هل يمكن أن َ
أسأل سيادتك أذن ماندريك ً كث ،مهس يف ِ
ّ
تعطل تلك أومأ برأسه مواف ًقا ،فقال اجلندي“ :هل ح ًّقا هذه القنابل املوجية ّ
حدث اهلجوم َ وقت
احلراب التي يطلقها املحتلون ...لقدْ كنت يف اخلدمة َ
تطارد زمالئي وتقتلهم ح ّتى
ُ األول ،وشاهدت تلك احلراب املفزعة وهي
التفت إليه ماندريك وقال مطمئنًا“ :هي توقف متا ًما تقنية
َ وهم خمتبئون!”.
ُ
يصعب عىل
ُ أمر
خط مستقيم ،وهو ٌ املقذوف يسري يف ّ
َ التتبع فيها ،فتجعل
فهم مل يعتادوا عىل التصويب بدقة”. ُ
التعامل معهُ ، احلكوميني
ّ اجلنود
واعتدل يف مقعده ،لك ّنه عاد وسأله ثانية“ :وهل كميةَ شكره اجلندي
َ
أن مدى الواحدة يغطي مساحة قصرية بالنسبة تلك القنابل تكفي ...أعني ّ
“أنت لن حتتاجها ّإل يف مناطق َ ابتسم ماندريك وقال له:
َ لتحركاتنا؟”.
ريا منها ،ال
صنعنا عد ًدا كب ً
ثم إننا يف الفرتة السابقة ْاالشتباك وهي حمددةّ ،
ُ
أخاف عىل حيايت، دافعا عن نفسه صف َة اجلبن“ :أنا ال
ختف” .فقال الرجل ً
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
339
أن تلك احلرب هي فرصتنا األوىل واألخرية السرتداد أرضنا،أشعر ّ
ُ أنا فقط
ثم قال ِ
املكتوب عىل سرتتهّ ، املمزق” .نظر ماندريك لالسم و ّمل ْ
شمل شعبنا ّ
سننترص وستسرتد أرضك”.ُ “اطمئن يا أمحد،
ّ ٍ
هبدوء حازم:
يفكر يف احتامل أن يكون هناكاهلواجس ثانية وهو ّ
ُ قاهلا وعاودته
كل ما ّ
خططوا له .كان لدهيم هو خطة بديلة لدى احلكومة األديتية تفسدُ ّ
فشلت تلك احلرب؛ وهيْ خطة أخرى بديلة يف حال واملقاومون من ِ
قومه ّ
ُ
ستنال من قوهتم َ
انشغال احلكومة باحلرب هنا -والتي بال شك أن يستغلوا
األم ،وتفعيل ذلك االخرتاع اجلديد الذيريا -يف العودة إىل كوكبهم ّ كث ً
توصلوا إليه قبل عامني والذي سيمنع االنتقال بني الكوكبني.
ّ
كانت الفوىض التي ستنشأ نتيج َة احلرب كفيل ًة بإضعاف احلكومة عىل
ريا لدعم
أن احلكومة سرتسل عد ًدا كب ً الكوكب األم ،كام قدّ ر هو وزمالؤه ّ
قواهتم يف ِ
قتالا مع األرضيني ،وسيؤ ّدي هذا إىل سهولة سيطرة املقاومني عىل
َ
استغالل تلك احلرب للسيطرة عىل كوكب أديتيا .كانت خط ُتهم يف احلالتني
اهنزم
َ ُ
املشكلة األكرب إذا انترص األرضيون أو اهنزموا.
َ كوكب أديتيا ،سواء
ِ
بغلق سيضطر إىل خيانتهم ،فسوف يقوم هو وزمالؤهّ األرضيون هي أنه
ّ
ّ
التخل عن حلفائه الصدع الكوين ،وفصل األرض عن أديتيا ،وهذا يعني ّ
ّ
والتخل عن ماليني األديتيني الذين يعيشون عىل كوكب األرض. األرضيني،
ّ
اختيار تلك اخلطة بل والضغط عىل الرافضني هلا من
ُ مل يكن أما َمه ّإل
زمالئه يف املقاومة األديتية؛ ألنه يرى أن األرضيني سينترصون يف النهاية
بعد عزل األرض عن كوكب أديتيا ،وأن األديتيني املتبقني عىل األرض
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 340
سوف يندجمون مع الوقت يف املجتمعات التي يعيشون هبا .خطته قد تبدو
يف ظاهرها انتهازية حتمل الكثري من التساؤل حول أخالقيتها لكن ناجتها
النهائي سيكون مفيدً ا للجميع ولو بعد حني.
ِ
التبعات األخالقية لذلك االنتصار يف احلرب ح ّتى ال يتحمل
َ كان يتمنى
يقض مضجعه ح ّتى هناية تربيره اآلن ،لكنه يعلم أنّه سوف ّ
القرار الذي حياول َ
سبب ضيقه ِمن ّأول اليوم هو خو َفه من ذلك االحتامل ،وكان هيرب ُعمره .كان ُ
ألسباب أخرى ألنّه ال يريد مواجهة ذاته .كانت تلك اخلطة ًّ
رشا ال بدّ ٍ بأفكاره
فإن اضطراره للخيانة العا ّمة لألرضيني وملَن سيرتكوهنم منه ،ويف حال تنفيذها ّ
قدر ما حيزنه خيانته ُلع َمر نفسه ولتلك خلفهم ِمن األديتيني مل ْ
تكن ل ُتحزن قلبه َ
وتعتز به ربام أكثر من أبيها نفسه.
ّ (ميساء) التي تعتربه ً
مثل أعىل الفتاة ْ
ري القنابل
تم فيها تفج ُاألفكار يف اللحظة التي ّ
َ نفض عن عقله تلك َ
حانت منه التفاتة
ْ والدبابات نحو احلدود.
ُ ِ
وانطلقت العربات املوجية،
ارتفعت أصواهتم
ْ ثم بعد ٍ
ثوان لوجوه اجلنود حوله فوجدَ ها مليئة بالرتقبّ ،
َ
األرض نحو تنهب
ُ مدرعاتم ِمن احلدود ،وانطلقت
ُ مرت بالتهليل حني ّ
مهمة بغرض السيطرة عليها. ٍ
قاعدة عسكرية ّ أول
حيارصون القاعدة ويمطروهنا بقذائف من َ بعدَ وقت قصري كانوا
لكن قنبلة موجية انطلقت مركبات طائرة من القاعدة ُملهامجتهم ّ ْ دباباهتم.
قتال باألسلحة ُ
االشتباك املبارشٌ . واحدة كانت كفيلة بإسقاطها ،وبدأ
النارية ،بنادق ورشاشات وقاذفات قنابل ،مشهدٌ ُيشبه متا ًما مشاهدَ احلروب
األرضيني
ّ القديمة ،كان ماندريك يقاتل ويشدّ من أز ِر اجلنود حوله،
يب أصيل.
يتحرج من معاملته كقائد حر ّ ّ وهم حوله ال أحد
واألديتينيُ ،
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
341
ِ
غضون احلرب مفاجئة وخاطفة ،ويف
ُ اجلنود اقتحام القاعدة كانت
ُ حني بدأ
العلم عىل القاعدة وهيتفون“ :اهلل أكرب” بحامسة
َ اجلنود يرفعون
ُ ساعتني كان
هواجسه ،وجعلته يشاركهم اهلتاف.
َ أنست ماندريكْ
األخبار تتوافد عليهم مبرشة بتساقط قواعد املحتلني يف البالد
ُ ِ
بدأت
خاصة
بعض املقاومة يف بعض اجليوبّ ، وإن كان هناك ُ تلو األخرىْ ،واحدة َ
ٌ
تكليف لكتيبة من وصدر
َ يف شامل مرص وجنوب تركيا وغرب سوريا.
متسكت الكتيبة التي
نحو منطقة قتال أخرى ،بينام ّ بالتوجه َ
ّ املشاركني معه
أوامر أخرى.
َ يشارك فيها ماندريك بالتزا ِم مكاهنا ح ّتى
ً
تفصيل ،فر ّد عليه ليطمئن منه عىل الوضع بشكل أكثر ّ اتّصل عىل (عمر)
أروع كث ًريا ممّا ك ّنا نتخيل يا صديقيّ ،إنم يستسلمون يف
متحم ًسا“ :النتائج ُ
ّ عمر
ُ
يمر الغدُ ح ّتى نعلن انتصارنا” .قال ماندريك“ :هل ظهرت ِ
مئات املواقع ،ولن ّ
“ظهرت يف موقع واحد وتعامل معهم اجلنود
ْ إمدادات هلم قادمة من الكوكب؟”.
ٌ
ثم سأله“ :متى يبدأ رجا ُلك هناك باالنقالب؟ أال حيبون أن ال تقلق صدقني” ّ
نقل أكثر من نصف القوات تم ُ
املخطط؟” .فر ّد ماندريك“ :إذا ّّ يبكروا ً
قليل ِ
عن
احلكومية من أديتيا إىل األرض املحتلة فسيقومون باهلجوم بدون انتظار”.
يتجول يف
ّ َ
وأخذ هو أغلقَ معه (عمر) عىل ٍ
وعد بموافاته بالتفاصيل،
ري من
العدد الكبري من األرسى الذين كان بينهم الكث ُ
ُ ولفت انتباهه
َ القاعدة،
اجلنود بإهانتهم ورضْ هبم بقسوة عىل حني كانوا
ُ األرضيني ،والذين كان يقوم
أقل عن ًفا ،وإن كانت صارمة بالطبع.يتعاملون مع األرسى األديتيني بطريقة ّ
باب ّأو ِل غرفة
نحو ُغرف االسرتاحة ،وفتح َ وتوجه َ
ّ دخل إىل مبنى القاعدة
ولكن بحذر. ْ ً
متفائل، يفكر يف الغد ِ
بجسده عىل الفراش وهو ّ قابلته وألقى
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 342
46
القوات املرصية املشاركة يف عملية الدرع املكسور،
ُ ِ
“وقد استطاعت
ٍ
وكفاءة قتالية عالية ،واستطاعت السيطر َة عىل منقطع النظري
ِ تفوق
إثبات ّ
َ
وأس اآلالف منهم عرشات القواعد العسكرية للمحت ّلني النياندرتالِ ْ ،
ِ
صفوفهم ،ومن اجلدير بالذكر ّ
أن أدا َء القوات ِ
ومن اخلونة الذين يقاتلون يف
املرصية هو األعىل بني ّ
كل القوات املحاربة يف التحالف”.
ري يف أحد جالس عىل مقعد وث ٍ
ٌ املذيع املرصي هيتف بحامس ،وأناندار
ُ كان
قرصا رس ًّيا ّ
املحتل من تركيا ،كان ً قصو ِره املنيعة يف جبال هاتاي يف اجلزء
ِ
النرشات اإلخبارية يف الدول ُمتبئًا يف ال ّتضاريس الصعبة للجبل .كان يتابع
أحداث املعارك بني األرضيني واألديتيني ،يشاهد وعىل َ ا ُملختلفة التي تنقل
ابتسامة واسعة ،بينام كانت شاودريك كبري ُة مساعديه واق ًفة جواره
ٌ شفتيه
يبدو عليها القلق.
ُ
أفضل اجليوش املحاربة يف إثبات ّأنا
َ القوات الرتكية
ُ “وقد استطاعت
صوت
َ عملية الدّ رع املكسور عىل طول اجلبهة ضدّ النياندرتال” .كان ذلك
مذيعة تليفزيون تركي ،بعدها ق ّلب أناندار الشاشة لعرض تليفزيون سوري،
وكان املذيع يتحدّ ث عن صعوبة العمليات ،واستبسال اجلنود األشاوس
رأس احلربة يف معركة الدّ رع املكسور ً
أيضا .بعد ما الذين أثبتوا ّأنم هم ُ
انتهى املذيع من كالمه أطلق أناندار ضحك ًة عالية ،فسألته شاودريك:
ِ
“أرأيت؟ أن أسأل ما الذي يضحكك يا سيدي؟” .فقال أناندار: “هل يل ْ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
343
النرص جلامعتهم أو ِ
لع ْرقهم ،هؤالء األرضيون ِ نسب
َ مجيعا يريدون
ّإنم ً
بنيت خطتي”.
التعصب ألعراقهم ،متا ًما كام توقعت وكام ُ
ّ مهووسون بذلك
ْ
ٍ
إعجاب دون أن ترد ،فأشار إليها أناندار ابتسمت شاودريك لسيدها يف
ْ
قائل“ :هايت لنا حمط ًة من خارج تلك الدول ،دعينا أن تقلب املحطة ثانية ً
مذيعا يتحدّ ث عن الوضعنسمع رأ ًيا ُمايدً ا” .قلبت شاودريك املحطة ،رأت ً
يف األرايض املحت ّلة ،وعن االنتصارات ا ُملتتالية التي تتح ّقق عىل األرض يف
الوضع لديه ،فقال:ْ ثم سأل أحد مراسليه من مدينة القدس عن ّ
كل بلد ّ
سيطرتا
َ القوات الصينية املشاركة يف عملية الدّ رع املكسور
ُ “لقد أحكمت
ينتظرون معرف َة
َ للمراقبني الذين كانوا
عىل مدينة القدس ،كانت هذه مفاجأة ُ
جنسية القوات التي ستحرر املدينةّ .أكد يل قائد القوات الصينية أهنم اضطروا
نظرا للخالفات الشديدة بني الدّ ول العربية وإرسائيل يفللقيام هبذه املهمة ً
ترص عىل أنحتديد جنسية القوات التي ستدخل املدينة ،وهو ما جعل الصني ّ
تقوم قواهتا بذلك”.
اخلالفات بينهم
ُ قالت شاودريك معلق ًة عىل اخلرب“ :كام قلت يا سيدي
يصب يف صالح خطتك” .مضت متتدح ّ أن جتعلهم يتفقون ،وهذا أعمق من ْ
تضم إىل جانب األديتيني يف ذكاء سيدها وقيادته احلكيمة ،وكيف ّ
أن منظمتَه ّ
مرة ِ
أن اختلف اثنان منهم بسبب ذلك ،كام حيدث ّ
ْ برشا من ّ
كل األعراق مل ً
أكثر ممّا فعل والده؛ لذا كانت
ري من املتدينني َ ّ
أن أناندار يضم يف رجاله الكث َ
حكمة ماجوها عن طريق حتقيق طموح ِ شاودريك ترى فرص ًة إلعالء
أناندار.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 344
مالت عليه بأدب ،وقالت“ :هل تريد حمادث َة قائد األمن ً
أول أم قائد ْ
ِ
رأيك أنت؟”. ثم سأهلا“ :ما
قليل ّ املقاومني يف كوكب أديتيا؟”ّ .
فكر أناندار ً
فهو اآلن يف وضع ال حيسد أشارت عليه شاودريك أن حيدّ َث قائد األمن ً
أول َ
األرضيون واملقاومون األديتيني حي ّققون انتصارات متتالية ضدّ ه ،وال
ّ عليه؛
جيابه هجمة األرضيني الرشسة عىل
يعرف كيف ُ ُ بدّ أنه شديد االرتباك وال
قواته يف مجيع األرايض املحتلة.
كانت شاودريك هي الوحيد َة املطلعة عىل خطة أناندار ،التي متهد
حلمه يف السيطرة عىل األرايض املحتلة (أو أديتيا األرض كامِ له تنفيذ
كل مكان يف حكومة ِ
وجود عمالء له يف ّ ُ
اخلطة تعتمد عىل يسموهنا) .كانت
األم ،وعمالء بني الثوار هنا وهناك ً
أيضا وبني أديتيا يف األرض ويف الكوكب ّ
احلكومات األرضية .كان أناندار يدير شبك ًة من العمالء ال ُ
تقدر عىل إدارهتا
أعتى أجهزة املخابرات يف العامل.
منصب الرجل
ُ أشارت عليه مساعدته ،كان
ْ طلب قائد األمن ً
أول كام َ
معا ،وكان بينه وبني أناندار
يعادل منصبي وزير الدفاع ووزير الداخلية ً
ختص تسهيل عمل أناندار مقابل هدايا وعموالت،
وعالقات ّ
ٌ اتصاالت
ٍ
عمليات قذرة لصالح ومقابل قيام أناندار باستخدام إمكانياته إلجراء
الدولة عند احلاجة .كان الرجل بالفعل يف حالة ُيرثى هلا ،ور ّد عىل أناندار
ِ
إرسال ال ّنجدة ِ
بنفاد صرب ً
قائل :إن احلكومة املركزية يف الكوكب تتباطأ يف
من هناك ،وإنّه حياول القيام هبجوم مضا ّد باإلمكانيات املتاحة لديه.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
345
لدي خطة ملساعدتك للتغلب عىل األرضيني بدل “العزيز قائد األمنّ ،
أسك” قال أناندار ،فر ّد تصل ّإل بعد قتلك أو ْ
َ انتظار اإلمدادات التي لن
حالة تسمح يلٍ عليه قائد األمن بعصبية“ :اسمع يا أناندار ،أنا لست يف
ألجيب اتّصالك ،إذا
َ مع قادة رجايلبمساوماتك ،لقد خرجت من اجتامعي َ
ثم نتفاوض” .تك ّلم أناندار بجد ّية هذه املرة، كان لديك مساعدة قدمها ً
أول ّ
إن خطة القوات األرضية التالية هي السيطر ُة عىل مراكز الصواريخ وقال له ّ
وأنماملضا ّدة التي تقوم بمنع أي هجوم جوي عىل أديتيا األرضيةّ ،
اخلاصة باحلكومةّ ِ
قصف بقية األماكن املهمة سيقومون هبذا ليتمكنوا من
األديتية وقياداته.
ومراكز الصواريخ تتعدى ُ عصبيته“ :كيف ذلك
ّ زادت
ْ ر ّد قائدُ األمن وقد
األلف ،وك ّلها حتت األرض ،ومنيعة ،ح ّتى ضدّ القنابل املوجية!” .فقال
وإن هناك فر ًقا
بكل هذه األماكنّ ، إن لدى املهامجني خرائط دقيقة ّ أناندار ّ
مدربة عىل اقتحامها من أفضلِ رجال املقاومة األرضيني واألديتيني وقوات
ثم أضاف“ :سنجعل تلك املراكزَ كمينًا هلم، الكوماندوز يف بعض الدولّ ،
ثم صمت الرجل ً
قليل ّ َ وسنقتل اآلالف من خرية رجاهلم يف ٍ
وقت واحد”.
سأله“ :وكيف نح ّقق ذلك؟ وما الثمن الذي تريده؟”.
أن ألنانداريفهم اآلخر متا ًما ،وكان قائدُ األمن يعرف ُّ كان كالمها
طموحات تتع ّلق بتغيري صورته من رجلِ عصابات لرجلِ دولة .قال أناندار:
وكل ما أشرتطه عليك هو أن نقوم “أنتم خمرتقون ِمن املقاومة بشكلٍ كبريّ ،
احلاكم وال قادتك شيئًا عنها”.
ُ َ
تكون يف رس ّية ال يعلم معا ،وأن
بتلك العملية ً
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 346
دور حاكم أديتيا األرضهيمش قائدُ األمن َ ُ
خطة أناندار هي أن ّ كانت
بحجة أنه يشك يف أن هناك اتصاالت بينَه وبني املخربني ،وبعد أن يتح ّققّ
تورطه مع
أن لديه أدلة عىل ّذلك النرص املبدئي يتحفظ عىل احلاكم ويعلن ّ
جننت يا أناندار! كيف
َ بدل منه“ .هل منصب احلاكم ً
َ املخربني ،ويعتيل هو
أهتمه وهو ِمن رموز الدولة من ْقبل الغزو ،وأين تلك األدلةّ ،
ثم أنت مل
ختربين بعدُ بالثمن!”.
هتز صورة أياملروعة ّ
منطقيا وهو يقول“ :تلك اهلزيمة ّ ًّ بدَ ا ّ
رد أناندار
ريا للهزيمة ،وهو مربرا كب ً
ً واتام رجلٍ بحجمه يعطي رم ٍز يف الدولةّ ،
األم ،وسيعطي هلم َ
كبش رب ٌر سيسعد احلكومة املركزية يف الكوكب ّ م ّ
تدين احلاكم “واألدلةثم أضاف وهو يفتح شاش ًة عرضت وثيقة ُ فداء” ّ
موجودة -كام ترى -ومرتبة بعناية ،ولن يد ّقق أحد فيها ،فبعد أن نستعيدَ
زمام األمور وهنزم األرضيني ستكون مصداقية كلينا عالية ،وسيكون َ
إقناع هيئة احلكم العليا بخيانتهّ ...أما الثمن ”..صمت حلظة، من السهل ُ
“أن تعلن للجميع دوري يف التغلب عىل األرضيني واخلونة ثم أضافْ : ّ
استخدام السالح الشامل وتبعاته الكارثية التي
َ من قومنا ،وأنّني ج ّنبتكم
الثمن احلقيقي“ :وماذا ً
أيضا؟”. َ ُ
الرجل طال ًبا منه أن يقول تعرفها” .فقال
أن تصريتعينني قائدً ا لألمن بعد ْ فقال أناندار بعد ضحكة قصريةْ :
“أن ّ
أنت احلاكم”.
استطاع بحنكة أن يقنعه
َ كانت املفاجأة كبري ًة عىل الرجل ،لكن أناندار
حل بديل غري هذا ،وأنّه إذا استطاع األرضيون تعطيل بأنه ال يوجد ّ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
347
َ
السقوط الكامل ألديتيا يف يدهم .أضافت مراكز الصواريخ ّ
فإن هذا يعني
َ
تتوقف “إن خطة سيدي أناندار لنأن أذن هلا أناندارّ : شاودريك قائلة بعد ْ
كل غرف عند هذه املرحلة ،بعد هذا االنتصار املؤ ّقت لديه ٌ
خطة ثانية لتدمري ّ
يعزز
ثم مرحلة ثالثة ّ
ال ّتحكم التي يدير هبا األرضيون معاركهم يف الداخلّ ،
املخربني متا ًما ،وهكذا ح ّتى يتح ّقق النرص الكامل،
ّ هبا النرص ويقيض عىل
وينسب هذا النرص لك ولسيدي أناندار فقط”.
صمت قصري تكلم بعدَ ه الرجل ،وطلب من أناندار أن يطلعه عىل ٌ سا َد
سيقوم هبا لر ْدع اهلجوم عىل مراكز الصواريخ .ترك أناندار ُ اخلطة التي
ُ
املحادثة َ
تفاصيل اخلطة وكيفية تنفيذها ،ومل تنته لشاودريك الفرص َة لترشح
أن مستقبله يف التعاون مع أناندار، مقتنعا متا ًما ّ
ً بينهم ح ّتى كان قائد األمن
ري كاف ،بعد وأعطاه وعدً ا بتنفيذ جانبه من االتّفاق ،فقال أناندار“ :الوعد غ ُ
نردع هذا اهلجوم ستقوم بحبس احلاكم ،وختربهم يف كوكب أديتيا أنّني أن َ
أنا َمن ساعدك عىل ردع اهلجوم ،وأنّني َمن سيتعاون معك يف املراحل التالية،
فضيل من البداية” .وافق الرجل ،وأغلق معه االتصال. أريدهم أن يعرفوا ْ
مقعده الوثري وقال لشاودريك“ :سوف أترك ِ
لك ِ قام أناندار من عىل
َ
أن روحك هي الثمن”. ِ
فشلت فاعلمي ّ املهمة ،وإذا
اإلرشاف عىل هذه ّ
ُ
الرصامة واإلرصار وهي تبلغه وكست مالحمها
ْ شدت شاودريك قامتها
أطلب
ُ ثم قالت“ :هلباملهمة عىل خري وجهّ ،
ّ وأنا ستقوم
ّأنا رهن أمرهّ ،
لك قائد املقاومة يف كوكب أديتيا اآلن أم الح ًقا؟” .فقال أناندار“ :كال،
دعيه بعدَ أن نردع هذا اهلجوم ليكون لنا قوة أكرب يف ِ
أثناء التفاوض معه”.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 348
كل خططك يا سيدي”. فردت شاودريك“ :أدعو ماجوها أن يرعى ّ ّ
َ
فضحك أناندار وقال هلا وهو يتأ ّمل قوامها“ :أنت خسارة يف التب ّتل يا
والصامة ال تفارق ّ نفسك ملاجوها” فقالت شاودريك ،ليتك مل هتبي َ
النرص
َ الغاية العليا ،وصلوايت له ك ّلها ترجو
ُ وجهها“ :خدمة ماجوها هي
لك يا سيدي” أومأ أناندار برأسه وقال“ :حسنًا ،لك ّنني اآلن أريد يقظتَك
ومهارتك أكثر من صلواتك أيتها الكاهنة البتول”.
***
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
349
47
الشقية للمعادي اجلديدة ،يقع أحدُ مراكز الصواريخ عىل األطراف ّ
ُ
الصواريخ األساسية التي أنشأها النياندرتال بعدَ الغزو مبارشة ،وتقع
ُ
حوائطها حتت األرض بالكامل ،وكانت وقاعدة التحكم فيها يف خمابئ َ
املوجية عليها إذا
ّ ري القنابل
ومتنع بالتايل تأث َ
ُ عازلة لإلشعاعات من خارجها،
تم إطال ُقها يف اخلارج .كانت الفرقة ّ
الصغرية املكلفة باقتحا ِم املركز حتتاج ّ
إىل الدخول إىل قاعدة التحكم وتدمريها من الدّ اخل لتتيح للقوات اجلوية
ري مراكزدخول األرايض املحتلة ،وتتيح لصواريخ قوات التحالف تدم َ َ
القيادة ومقار احلكام.
تتكون من سبعة أفراد من ضمنهم (سمري) وضياء، كانت تلك الفرقة ّ
يتم استغاللمتنوعي اخللفيات .كان من املفرتض أن ّ إضافة إىل مقاتلني ّ
الفوىض احلادثة بعدَ اقتحام القوات املرصية لألرض املحتلة ،والسيطرة عىل
العديد من القواعد العسكرية يف تسهيل اقتحا ِم تلك القاعدة .كان (سمري)
ْ
أوشكنا عىل النرص ،وستعود باشا يف الرشطة ثانية، يامزح (ضياء) ً
قائل“ :لقد
سالح قبضته
َ ُ
يعدل وسأحتاج واسطة للحديث معك” .ر ّد (ضياء) وهو
أتوسط لتعيينك أمني رشطة معي”.
ختف؛ سوف ّ ويتأكد من تفعيله“ :ال ْ
ّ
ٍ
كرسالة عىل اهلاتف خالية من ذلك الوجه أثر فيه للمزاح،
جادا ال َ
رده ًّ
كان ُّ
اآلخر برتتيب
ُ الضاحك أو ح ّتى املبتسم .ضايق ذلك (سمري) فانشغل هو ّ
ّ
سيظل يتعامل معه بذات إن (ضياء) لن يتغري،معداته وهو يقول لنفسه ّ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 350
أن (سمري) اآلن يفوقه رتب ًة طب ًقا لقواعد تنظيم القوات
رغم ّ
الطريقة املتكربة َ
وردت له خاطرة ليامرس سلطتَه عىل (ضياء) ولو للمرة ْ التي يعملون هبا .هنا
أنت مع الفتاة التقنية التي ّ
تعطل األخرية فقال بصوت جا ّد“ :سوف تكون َ
ني من النياندرتال من املدخل الطائرات الدقيقة ،وسوف أتقدم أنا مع اثن ِ
“ولكن اخلط َة أن نكون ً
معا ،وأن ّ فقطب (ضياء) حاجبيه وقال: الرشقي”ّ .
قناع
يرسم عىل وجهه َ
ُ حيرس أحدُ األديتيني زميلته التقنية” ،فقال (سمري) وهو
ُ
أفضل يف رأيي ،ن ّفذ األمر وبدّ ل مكانك مع األديتي”. الصامة“ :هذا
ّ
بالتوجه نحو األديتي وبدّ ل مكانه معه وهو يلعن ّ مل يع ّقب (ضياء) وقام
جمرد أيا ٍم وتنتهي تلك املرحلة ،وينتهي ذلك رسه .قال لنفسه ّإنا ّ(سمري) يف ّ
ثم لعامل ذي تعليم ٍ
لطفلة ال تفهم شيئًاّ ، مرؤوسا
ً الوضع املقلوب الذي جعله
ُ
ٍ
مكمن عىل مسافة مائتي مرت متوسط .تأ ّمل املكان ِمن حوله ،كانوا خمتبئني يف
سكني قريب
ّ تقري ًبا من املبنى ،كامننيَ يف أسفل عامرة سكنية يف هناية جممع
َ
الدخول عىل بيانات الطائرات الدقيقة من املركزِ .
أهنت التقنية املرافقة له
ثم أعطت نسبياّ ،
وقت قصري ًّ ٍ واستطاعت تعطيلها يف
ْ املوجودة يف املكان
اإلشارة لبدء العملية.
ِ
انطلقت املجموعة بحذر اجتاه املبنى والطائرات الدقيقة تتحاشاهم
ٌ
جمموعة من حراس املكان. ثم فجأة ظهر يف مواجهتهم مرئينيّ ،
كأهنم غري ّ
ثم توقف ّ
كل َ
إطالق األسلحة مع احلراس ّ انبطح املهامجون ً
أرضا ،وتبادلوا
مهس عن اخلطوة
ثم دار بينهم ٌ ِ
النظرات مع املجموعةّ ، يشء .تبادل (سمري)
رسيعا
ً اجلواب
ُ احلراس عن مهامجتهم .أتى
التالية وعن تفسريهم لتوقف ّ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
351
جمموعة أخرى ِمن الطائرات الدقيقة مل ْ
تكن ضمن ٌ حني ظهرت يف اهلواء
املجموعة التي سيطرت عليها التقنية.
ِ
استعادة التحكم يف تلك املجموعة َ
هتف (ضياء) بالتقنية مستحثًّا إ ّياه عىل
ذات برجمة خمتلفة ،ويبدو ّأنا ُ
التقنية ّإنا جمموعة جديدة ُ من الطائرات .قالت
الطائرات برجمتها خمتلفة متا ًما
ُ ال تنتمي للمنظومة الدّ فاعية هلذا املركز“ .هذه
األقل لتعطيلها” .قالت ّ أحتاج إىل عرش دقائق عىل
ُ عن الطائرات احلكومية،
ينتظر (ضياء)
ْ أصابعها بعصبية عىل شاشة اجلهاز معها .مل
َ بتوتر وهي تنقل
أنت بعملك وحاويلأتدخل ملساعدهتم ،قومي ِ
ريا قبل أن يقول“ :ال بدّ أن ّ
كث ً
أن ترسعي”.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 352
ِ
بأجهزة ّ
فك التشفري فتح األبواب
ألنم لن يتمكنوا من ِ
إهنا فكرة خاطئة ّ
ٍ
طائرة ٍ
بصوت مرتفع وهو يتفادى مقذو ًفا من املوجودة معهم .قال (سمري)
فجرها اآلن”.هيا ّ ويطلق النار عليها“ :لن نتمكن من ِ
فتحها إذا متناّ ،
قليل ،جع َله ذلك ال يرى الطائرة التي اقرتبت منه واحلرب َة
تر ّدد األديتي ً
ثمانطلقت ّاتاه رأسه ،لكن (سمري) قفزَ عليه وأبعده عن مسارها ّ ِ التي
دون أن يتمكن من إسقاطها .اعتدل األديتي وفتح أطلق النار عىل الطائرة َ
جرا َبه برسعة وأطلق قنبلته.
متكن من قتل التقنيةاملهاجم الذي ّ
ِ ً
مشتبكا مع كان (ضياء) ساعتها
تام بعد
هدوء ّ
ٌ عم
متكن من قتلهّ . رسيعا بعدَ أن ّ
ً ِ
انتهت املعركة بينهام األديتية.
الطائرات الدقيقة ،وأخذ املقاومون حياولون
ُ احلراس ومهدت
ُ ذلك ،اختفى
مداوا َة جرحاهم .فكر (ضياء) يف خطوتِه التالية ،هل يتقدّ م ملساعدة زمالئه
ومن احلكمةعنرص املفاجأةِ ،
َ فمن الواضح ّأنم فقدوا أم ينتظر تراجعهم ِ
أن تلك املهمة قد فشلت. اعتبار ّ
ُ
حياول عب ًثا مداوا َة أحد رفاقه وهو يفكر يف اخلطوة التالية (سمري) كان
ممكن يف تلك اللحظة وهو قدْ صار قائد ٍ ري ُ
االتصال بالقيادة غ ُ بدوره.
ْ
ٍ
ومشاورة مع زمالئه العملية اآلن بعدَ مقتل قائدها األديتي .بعدَ تفكري قصري
اختذ القرار ّ
بالتاجع.
ُ
والضابط املرافق له يشاهدان املشهد نفسه يف الوقت نفسه كان (عمر)
مواقع الصواريخ كلها ُمنوا
ِ ِ
عرشة مواقع خمتلفة .املقاومون يف حيدُ ث يف
ُ
الضابط أن يلقي بالالئمة املهمة .حاول ٍ
هبزيمة ،وفشلوا يف حتقيق تلك ّ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
353
ري من ٍ
معلومات خاطئة أ ّدت إىل قتل الكث ِ وأنم اعتمدوا عىل
عليهمّ ،
طبيعي حيدث ،هذه الطائرات ليست
ّ الرجال ،فقال عمر“ :هناك يشء غري
َ
املوقف من خالل ٍ
كامريات تتابع حكومية!” .كانا يتابعان املشهد من خالل
أقامر صناعية ،وكان هناك عىل ُبعد آالف األميال َمن يتابع املشهد نفسه
فرح غامر. ً
أيضا ،ولكن يف ٍ
حتتفل بام تراه من نجاح ّ
خطتها يف ر ّد ذلك اهلجوم عىل ُ كانت شاودريك
ْ
بعض املقاومني ينسحبون من أماكنهممراك ِز الصواريخ ،وحني بدأت ترى َ
ِ
فتحت االتّصال بأناندار وسألته“ :سيدي ،هل أبدأ اجلز َء مهمتهم
بعد فشل ّ
ٌ
فرحة طاغية وهي تعطي الرد باإلجياب .غمرهتا
الثاين من خطتي؟” .فجاءها ُّ
بقية املقاومني .مل يساورها أدنى ّ
شك يف ِ
باصطياد ّ األمر لرجاهلا عىل األرض
َ
ينسحبون ح ّتى حيدث أكرب قد ٍر
َ األفضل ً
بدل من تركهم ُ أن قتلهم هو ُّ
احلل ّ
رشف عظيم ٌ من الصدمة لدى الطرف اآلخر ،كام ّ
أن القتل من أجل ماجوها
ينبغي أن حتظى بأكرب قدْ ٍر منه.
وأشار إىل (ضياء)
َ عىل األرض ،كان (سمري) يستعدّ لالنسحاب،
التحر َك بحذر
ّ قام هو و َمن معه وبدأوا باالنتظار يف ْ
مك َمنه ح ّتى يصلوا إليهَ .
مقرهم الذي انطلقوا منه .الحظ ِ
للعودة إىل ّ عائدين نحو (ضياء) متهيدً ا
ٍ
بصوت عال صاح هبم
َ ترتاقص عىل أجساد زمالئه،
ُ ٍ
ضوء (ضياء) نقاط
طلقات رصاص خارقة
ُ اهنالت عليهم
ْ َ
حدث “انبطحوا” َ
وقبل أن يدركوا ما
يف ٍ
وقت كانت دروعهم قد ّ
تعطلت بفعل القنبلة املوجية التي أطلقوها.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 354
سقط اثنان ،وبقي (سمري) وآخر ،مل يصدّ ق (ضياء) نفسه ،مل يكن يتخيل َ
اصة يعملون بتلك ّ
الطريقة التي تنتمي بشكلٍ كامل للطرق أن الغزا َة لدهيم ق ّن ٌ
ّ
ْ
يصل إىل علمه ّأنم حياولون رشطيا مل
ًّ األرضية .ح ّتى هو حنيَ عمل معهم
الغريب ّ
أن القناصة مل يبدؤوا ُ استخدام قناصة فأسلح ُتهم كانت كافية متا ًما.
الدروع التي تصدّ الرصاص بمجاهلا
ُ إطالق أسلحتهم ّإل بعد أن ّ
تعطلت
فخا ُم ً
كم دخلوه بكامل األمر بر ّمته ًّ
ُ املوجي بعد إطالق القنبلة .لقد كان
إرادهتم ،وساعدوا بأنفسهم عىل إطباقه عليهم بقوة.
بصوت عال“ :سمري ،ابقَ مكانك وال تتحرك ،لقد عرفت مكانٍ نادى
وسوف أذهب للتخ ّلص منه ،ابقَ خمتبئًا أنت و َمن معك”ّ .
حترك َ القناص
يكمن أسفله وهو مس ّل ٌح
ُ برسعة اجتاه املبنى املجاو ِر للمبنى الذي كان
قفزا ح ّتى وصل إىل سطح املبنى ،كان بمسدسني وسكني .صعد السلم ً
مفتوحا كام توقع ،دخل م ْنه بحذرّ ،اته ناحية اجلدار
ً الباب املفيض للسطحُ
يطل عىل موقع (سمري) فوجد ً
رجل برش ًّيا عينُه عىل منظا ِر بندقيته الذي ّ
فالتفت
َ مسدسه وقبل أن يسدّ ده كان الرجل قد انتبه
َ ومنهمك متا ًما .أخرج
ُ
النار عليه يف اللحظة نفسها التي أطلق (ضياء) النار .شعر
نحوه وأطلق َ
وغريمه يقع عىل األرض يف ذات الوقت.
ُ بسيخ ُمشتعل خيرتق بطنَه،
ٍ
ُ
حياول القيام ،فعاجله برصاصتني نحو الرجل فوجده ال يزال
زحف َ َ
أن ِ
تعتليه بندقية القناص وهو يشعر ّ السور الذي
نحو ّ َ
زحف َ أهنى حيا َته هبام.
لكن صوته َ
حاول أن ينادي عىل (سمري) ّ رسيعا.
ً تترسب من جسده
دماءه ّ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
355
ثم قذ َفها عىل األرض .رقد َ
فأمسك البندقية وأطلقَ منها يف اهلواء ّ خرج واهنًا
ولن يدركه أحد.منهكا وهو يفكر أنّه سيموت من النزيف ْ ً
ثم رأى شا ًّبا وفتاة يبدوان يفصوت خطوات تتقدم بحذ ٍرّ ،َ سمع
َ
رضجا يف دمائه حاول الفتى إسعا َفه اخلامسة َ
عرش من عمرمها .حني رأياه ُم ً
وهو يشكره عىل بطولته ،ويقول إنّه كان يتم ّنى لو شارك معهم فقال ضياء:
بطل يوم ما ولكن اآلن ِ
ناد بأعىل صوتك عىل زمييل (سمري) ليصعد “ستكون ً
إلنقاذي”.
َ
وركض هو و َمن يعاونه نحو املبنى حنيَ سمع (سمري) النداء مل يرت ّدد
الذي كان (ضياء) موجو ًدا يف أعاله ،وقبل أن يصال انطلقَ عليهام رصاص
وكأن حراس املبنى كانوا ينتظرون ّ الصواريخ، ِ
ناحية مبنى مركز ّ غزير من
باملهمة .جعل صوت الرصاص ّ فلم فشل قاموا ُهم القناص ليجهز عليهمّ ،
ربه بام حدث ،فقال الفتى وطلب من الفتى أن خي َ َ قلب (ضياء) ينخلع،
َ
“انزل أنت وصاحبتك ْ بحزن“ :لقد سقط زميالك” .فقال (ضياء) برسعة:
يل” .قال الفتى بإباء“ :لن َ
نرتكك” اآلن ،ال بدّ أن هناك من سيصعد ليجهز ع َّ
َ
وحتامل وتبعها الفتى .محاله
وأمسكت الفتاة بذراعه تساعده عىل النهوض َ
َ
سقط عىل معهام عىل نفسه ح ّتى نزال السلم ،وقبل أن يصل لباب شقتِهام
األرض ،وأظلمت الدنيا أمام عينيه.
***
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 356
48
وها يف موقعهام األخبار تتواىل من ّ
كل مكان عىل (باسل) وميساء ُ َ ُ كانت
أخبار االنتصارات املتتالية والسيطرة عىل
ُ يف املبنى احلصني؛ ّأو ًل جاءت
تبش بقرب القواعد العسكرية األديتية يف أرجاء األرض املحتلة ،أخبار ّ
خرب عن فشل البعض يف السيطرةثم بعدَ ذلك ور َدهم ٌ
النرص وهناية املعاناةّ ،
عىل مراكز الصواريخ.
ذكر بخصوص ذلك اخلرب ،فاحلرب أي قلق ُي َ
ينتب كالمها ّ
يف البداية ،مل ْ
األخبار عىل بعض القنوات التليفزيونية
ُ لكن حني ظهرت ٌ
سجال كام يقولونْ ،
يدب يف نفوس الكثريين ُ
القلق ّ حجم اخلسارة يف تلك العملية بدأ َ تصف
وأنا
أن تلك هي خطة أناندارّ ، يكن هناك أحدٌ يدري ّ ومها من بينهم .مل ْ
وأن قتل مجيع َمن شاركوا يف تلك االقتحامات كانت تسري عىل قدم وساقّ ،
تم
بعض الفيديوهات ّ اخلطة .انترشت ُ رئيسيا يف تلك ّ
ًّ الفاشلة كان جز ًءا
ٍ
بتعليق محايس من وهم يتساقطون كالعصافري مصحوب ًة تناق ُلها للمقاومني ُ
واحد ِمن النياندرتال يدّ عي أنّه جندي يشارك يف اصطيادهم.
إن ما حدث- لتطمئن عىل سري العمليات ،فقال هلا ّ
ّ (ميساء) أباهاطلبت ْ
ْ
ريا من مسار املعاركّ ،
وإن تساقط القواعد األديتية عىل فداحتِه -ال ّ
يغي كث ً
تطمئن رغم حماوالت عمر لتبسيط الوضع؛ ّ مستمرا رغم ذلك .مل
ًّ ال يزال
“الوضع ُمربك يل أنا أكثر من
ُ قامت باالتصال عىل ماندريك الذي ر ّد ً
قائل:
تقنيني
أكثر من اتصال من ّ أي أحد يا ميساء” .سأل ْته عن السبب فقال“ :هناك ُّ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
357
ظهرت يف ساحات القتال ْ إن هناك طائرات دقيقة أديتيني قبل سقوطهم ،قالوا ّ
ذات برجمة خمتلفة مل يستطيعوا السيطر َة عليها ،والغريب ّأنا مل تقتل الكثريين
اص ماعطلت دروعهم ،فاستطاع ق ّن ٌ لكنها اضطرهتم إللقاء قنابل موجية ّ
ومكررا يف ّ
كل املواقع ،ومقصو ًدا منه ً فخا ً
حمكم بشدة قتلهم بسهولة ،كان ًّ
قتل أكرب ٍ
عدد من املقاومني واجلنود األرضيني”.
جاهزا
ً نصب الفخ كان
َ ّ
“وكأن َمن أن أنصت باهتامم: قال (باسل) بعد ْ
رب قد ٍر من الدعاية” .فأ ّمن ماندريك عىل كالمه أيضا لتصويره إلحداث أك ًِ
شخص جييد التالعب واخلطط ٌ ري هذا ألناندار..؟
فقال باسل“ :أال يش ُ
(ميساء)
طموحات أكرب منه” استنكرت ٌْ البديلة ،ويعشق الظهور ،ولديه
ً
طويل قبل أن يقول“ :ال الفكر َة ،هي تنتظر ر ّد ماندريك الذي صمت
لكن كيف استطاع أن يقنع احلكومة األديتية ،هذا أستبعدُ أن يكون له دورْ ،
جدال قصري بينهام انتهى بدون نتيجةٌ ودار ِ
انتهت املحادثةَ ، ما ال أفهمه”.
َ
قبل أن يصمتا ويكتف َيا بمراقبة الشاشات التي عادت للعمل بعد زوال تأث ِ
ري
القنابل املوجية.
بأن ّ
تظل القوات يف مواقعها ِ
صدرت األوامر من قيادة التحالف ْ بعدَ قليل،
ني إعادة تقييم املوقف َ
قبل التقدم نحو أهدافهم القادمة .كان املربر الظاهر حل ِ
لكن هناك سبب أن القوات صارت حمروم ًة من الدعم اجلويْ ، لتلك األوامر ّ
ٍ
استعدادات خمتلفة عند الغزاة مل تكن يف احلسبان. وجود
ُ إضايف وهو
قمة زهوه حيتفي بمساعدته التي أدارت العملية
يف قرصه كان أناندار يف ّ
أجلسها عىل كريس جماو ٍر له ،وناوهلا ً
كأسا من َ للمرة األوىل،
ّ بمهارة.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 358
شعور العب
ُ الرشاب ِ
نفسه الذي يرتشف منه .كان يف تلك اللحظة لديه
يعلم اخلطوة التالية يف مصائرهم
العرائس الذي حيرك الدّ مى بخيوطه وهو ُ
التي جيهلون ّ
كل يشء عنها.
مبدئيا عىل حكومة
ًّ انتصارا
ً أن يرتك املقاومني حي ّققون
كانت خط ُته هي ْ
لكن بدرجة تطيل أمدَويقلب اآلية ُْ ثم يتحالف مع قائد األمن أديتياّ ،
رب املقاومني
الفريقي املتحاربني .اخلطوة التالية كانت أن جي َ
ْ املعارك وترهق
عىل فصل كوكب أديتيا عن كوكب األرض باستخدام وسيلتِهم اجلديدة
يف غلق الصدع الكوين الذي ُ
يربط الكوكبني ،وعندها تكون أديتيا األرض
السالح الذي سيضمن له السيطرة جاهز ًة خلطوته التالية وهي إطالق ّ
عليها.
أن تطلب مريدار قائدَ املقاومني يف كوكب أديتيا ،كان أمر شاودريك َْ
ً
اتصال مع قادة املقاومني يف لتوه االت ُ
ّصال مفاجئًا ملريدار الذي أغلق ّ
ابن
أسباب االنتكاسة التي حدثت“ .كيف حالك يا َ َ الكوكبني تناقش معهم
هبت مريدار من مفاجأته ،وقبل أنالعم؟ ما رأيك يف ما فعلته برجالكم؟”َ . ّ
َ
نكون عىل انفراد ،عندي ير ّد قال أناندار“ :قبل أن نكمل حديثنا أريد أن
“ليس هناك أرسار بيننا يمكن أن
عرض ال يمكن رفضه” .ر ّد عليه غاض ًباَ :ٌ
ثغر أناندار عن ابتسامة أخبئها عن رجايل ،يمكنك أن تقول ما تريد” .اف ّ
رت ُ
بالضبط فهو يعلم أن مريدار عنيد ،ويعلم عريضة .فقد كان ذلك ما أراده ّ
بعرضه يف سهولة ،وسيساعدان عىل ِ أن الرجلني املوجودين معه سيقتنعانّ
إقناعه.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
359
عمليتكم األخرية ،وال بدّ أن تعلم أنّني عىل وعي
“أنت رأيت ما فعل ُته يف ّ
َ
وجه الرجل وزا َد تقطيب جبينه وقال: ُ تغي
بكل خططكم القادمة”ّ . تام ّ
شامل بعد أن ننترص؟” .ضحك ً عفوا
الصغري؟ هل تريد ً
“ماذا تريد يا أناندار ّ
لدي للمزاح ،ولن أع ّلقَ عىل نعتك
“اسمع ،ال وقت ّ
ْ ثم قال:
أناندار ساخر ّ
أنت وماندريك يف حال فشل احلرب هنا ْ
أن يل بالصغري ،أنا أعرف خططك َ
تفصال كوكب إديتيا عن كوكب األرض”.
أن القلق ظهر عىل وجهه وهو يفكر يف مصدر تلك مل ير ّد مريدار ،رغم ّ
ٍ
اخرتاق بني املقاومني يف أعىل املستويات ،ترك املعلومة ،واحتامل وجود
َ
آالف اجلنود لدعم قائل“ :بعدَ ساعات سرتسل احلكومة يكمل ً
ُ أناندار
القتال هنا وهي فرص ُتكم للسيطرة عىل أديتيا عندك ،هذه خط ُتكم األساسية
ثم غلق الصدع استغالل الفوىض يف كوكب أديتيا للسيطرة عىل احلكمّ ،
الكوين الذي يسمح باالنتقال بني الكوكبني”.
سئم من طريقتِه املتباهية“ :قل ما تريد ال وقت لديقال مريدار وقد َ
كل الوقت ساخرا وهو يقول“ :بل لديك ّ
ً فابتسم أناندار
َ لالستامع إليك”.
زفر الرجل يف نفاد صرب ،فأكمل أنانداروشك قوله”َ . ِ وتشعر بام أنا عىل
أن ترسل احلكومة مقاتليها مبارشة ،وال تنتظر قائل“ :أغلق الصدع بعد ْ ً
عود َة ماندريك وبقية زمالئك” .فقال مريدار“ :وما الذي جيعلني أفعل
أطلب
ُ مجيعا هنا ،وسوف
ذلك؟” .فقال“ :ألنّك إن مل تفعل فسوف أقتلهم ً
من احلكومة إعادة قواهتا للكوكب عندك ،وترك مهمة التخ ّلص من املقاومني
يف أديتيا األرض يل أنا ،فتخرسون هنا عىل األرض وعندك يف أديتيا”.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 360
النظر مع رجليه ،وقبل أن يتكلم أسقط عليهم
َ َ
وتبادل صمت مريدار
َ
سالح يستعدّ قائد األمن إلطالقه حال ٍ أناندار مفاجأته ،أخربهم عن
السالح سيكفل حتييدَ األرضيني متا ًما ،وسيؤ ّدي إىل
ُ إحساسه باهلزيمة ،وهذا
الكوكبي .كانت تلك الورقة هي
ْ خسارة املقاومني األديتيني للمعركة يف كال
يراهن عليه جلعل مريدار ً
قابل لل ّتفاوض معه ،وإقناعه برتك أديتيا األرض ُ ما
و َمن عليها من أديتيني وأرضيني ألناندار ورجاله.
إقناعه بأن تلك اخلطة ال
وهم حياولون َ ُ
النقاش بني مريدار ورجاله ُ دار
َ
إقناعهم بخبث أناندار وفساد ّنيته .قاطعهم
بديل هلا ،ويف املقابل كان حياول َ
أناندار ً
قائل“ :ما الذي ختشاه ،أنا سأبقى ُمتجزَ ا هنا عىل األرض لن ّ
أمسك
ولك عهدي أنّني سأعطي املقاومني هنا فرص ًة ثمينةوال رجالك بسوءَ ،
أغدر هبم”.
َ للتفاوض ،أقسم برأس أناندار األكربّ ،
وكل أجدادي أنني لن
كل يشء ،وعىل ّأل خيرب أحدً ا من ُ
االتصال وقد اتفق معه أناندار عىل ّ انتهى
تم االتفاق عليه.
املقاومني يف كوكب األرض بام ّ
إقناعه بأن ذلك املأزق
َ َ
االتصال وقد استطاع مساعداه أغلقَ مريدار
حل له ّإل االمتثال خلطة أناندار .إهنم ِ
بصدده ال ّ األخالقي الذي ُهم
َ
مقابل حترير أديتيا (مضطرين) بزمالئهم عىل كوكب األرض
ّ سيضحون
مضطرون لتلك
ّ تعود حلكم الشعب مرة ثانية.
ُ من حكم الطغاة ،وجعلها
ألن أناندار قضيتهم؛ بل من أجل ِ
إنقاذ زمالئهم ّ التضحية ليس فقط من أجل ّ
لو كشف تلك اخلطط وترك احلكومة تفعل سالحها الرسي؛ فسيؤ ّدي ذلك
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
361
مجيعا عىل يد القوات احلكومية املوجودة يف أديتيا األرض .ماندريك
هلالكهم ً
السالح األرضيني ،ومع ِ
رفقاء ّ نفسه كان مواف ًقا عىل فعل اليشء نفسه مع
تطبق خطة مثيلة يف
أن ّ الشعب األديتي املتبقي عىل األرض ،فلامذا يرفض ْ
ح ّقه .كانت حج ُتهم يف املوافقة عىل ما طرحه أناندار هي إنقا َذ ما يمكن
ُ
إنقاذه ،واحلفاظ عىل زمالئهم يف األرض ،باختصار كام قاهلا أحدُ مساعديه:
“سنخوهنم من أجلِ إنقاذ حياهتم”.
***
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 362
49
ِ
اندلعت املعارك ثانية عىل خمتلف اجلبهات داخل األرض املحتلة.
قوات حكومة النياندرتال (األديتية) الرضبة ،ومل ّ
تتمكن القوات ُ امتصت
نظرا لعدم ّ
متكنهم من حتييد قواعد الصواريخ ِ
هجومها ً األرضية من تطوير
َ
داخل أديتيا األرض. ٍ
رضبات جوية أو صاروخية شن
وعدم قدرهتم عىل ّ
اهلجوم العكيس
ُ قوات التحالف ،بدأ
ُ يف بعض القواعد التي سيطرت عليها
ِ
كثيفة العدد ،وبعض األفراد ،ما من النياندرتال باستخدام طائرات دقيقة
عدد
أ ّدى إىل ارتباك يف القوات األرضية التي فوجئت باهلجوم ،واستطاع ٌ
حترير أنفسهم واهلجوم من الداخل ح ّتى استعادوا
َ من األرسى النياندرتال
السيطر َة عىل تلك القواعد.
استمر احلال
ّ هجوم مضا ّد ،وهكذا
ٌ تم صدّ اهلجوم ،وبدأ
يف أماكن أخرىّ ،
عدّ ة أيام ،واإلمدادات تأيت للطرفني من خارج األرض املحتلة .القوات
دعم من أكثر من دولة مشاركة يف التحالف،
األرضية واملقاومون يأتيهم ٌ
قوات عسكرية إضافية من كوكب أديتيا عرب
ٌ والنياندرتال تتدفق عليهم
األجهزة الناقلة .بعد أسبوع من القتال الذي ّ
ظل فيه الوضع عىل األرض
ذهن أحد قادة التحالف عن فكرة تسيري املئات من الطائرات
ثاب ًتا ،تف ّتق ُ
بدون طيار والصواريخ املوجهة إلرهاق دفاعات النياندرتال واستنزاف ما
لدهيم من صواريخ دفاعية.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
363
كل هجمة النتائج كارثية متا ًما ،كان النياندرتال يردون عىل ّ
ُ كانت
ُ
يسقط الطائرة أو املقذوف املهاجم ،وصاروخ آخر يرضب القاعدة بصاروخ
التي انطلق منها بمنتهى الدقة.
متكرر
ّ يف نفس الوقتّ ،
ظل أناندار حيادث مريدار قائدَ املقاومة بشكل
لكن الرجل كان َ
ويفصل الكوكبني متا ًماّ ، ويطلب منه أن يغلقَ الصدع،
مبينًا بذلك
مسجلة دون أن يفاوضهّ ،مرتد ًدا ح ّتى جا َء يوم أرسل له رسال ًة ّ
مل التفاوض. أنه َّ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 364
ثم العودة إىل أديتيا وسيتيح هذا للحكومة القضاء عىل ّ
كل رجالكم هناّ ،
والقضاء عليكم هناكُ .
مالذك الوحيد هو أن تقطع الصل َة بني كوكبنا ّ
األم
وكوكب األرض .أعدُ ك أنّنا هنا حني نكون دولة معزولة سنصل إىل ّ
حل
يضمن احلفاظ عىل أرواح اجلميع ..صحبتك نعامت ماجوها”.
ُ وسط
كانت رسالة أناندار -وما تالها من تواصل بني شاودريك ومريدار-
السبب يف ّاتاذ قرار هنائي بتفجري القنبلة وغلق الصدع الذي يسمح
َ
الصدع الذي تعتمدُ عليه ّ
كل أجهزة االنتقال ُ باالنتقال بني الكوكبني؛ ذلك
يف آلية عملها .صار النياندرتال املوجودون عىل كوكب األرض ُمقيمني فيها
بشكل دائم ولن يتمكنو أبدً ا من العودة إىل كوكب أديتيا؛ كوكبهم ّ
األم.
إبالغ رفاقهم يف كوكب األرض،قبل غلق الصدع -هو َ كان رأي مريدارَ -
لكن ذلك الرأي مل يلقَ ً
قبول ألن مجيعهم اآلن وحماول َة إعادة أكرب قد ٍر منهمّ ،
منخرطون يف معارك متفرقة ،وإبالغهم بذلك س ُيحدث اضطرا ًبا شديدً ا قد
يؤدي إىل مقتلِ الكثريين منهم ،إضافة إىل ّ
أن أجهزة االنتقال لدى الثوار ال
تسمح بنقل أعداد كبرية يف ذلك الوقت القصري.
ري القنبلة مبارشة ،أرسل مريدار رسالة مطولة ملاندريك
يتم تفج ُ
قبل أن ّ َ
شخصيا ُيطلعه فيها عىل األسباب التي جعل ْته يعجل بقراره ،وعن اعتذاره
ًّ
مسجلة
عن ترك زمالئهم يف األرض .كانت الرسالة ّ هو وبقية الثّوار يف أديتيا ْ
التعليامت أن ال
ُ صو ًتا وصورة حتدّ ث فيها ُ
أكثر من عضو يف املقاومة .كانت
سيقرر الطريقة التي خيرب هبا زمالءه،
ّ يطلع عليها أحدٌ إال ماندريك ،وهو َمن
ويقرر خطوته القادمة.
ّ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
365
ٍ
بواحدة من غرف قبل أن تصل الرسالة ملاندريك مبارشة كان موجو ًدا َ
ري املعارك يف املناطق املختلفة وحياولونبصحبة ُعمر .كانوا يتابعون س َ ِ القيادة
ارتياحا لذلك التطور
ً الغريب أنّه أظهر
ُ تنسيق القوات بني اجلبهات املختلفة.
يف سري املعركة ،وحني سأله ُعمر عن سبب ارتياحه كانت إجاب ُته“ :املجهول
تنترص بتلك السهولة التي رأيناها ّأول يوم،
َ دو ًما يرعبني ،مل أتو ّقع يو ًما ما أن
أن أناندار يعاوهنم ضدّ نا ً
أيضا.. نواجهه بالضبط ،وأيقنت ُّ واآلن عرفت ما
كل األوراق عىل الطاولة كام تقولون هنا يف األرض”. اآلن ّ
الغرف املخصصةِ حنيَ وصلته رسالة مريدار ،انتحى جان ًبا يف إحدى
فيم يفكر .أخذ يتحرك ظل بعدها صام ًتا ال يعرف َ وقام بتشغيلهاّ ،
للنوم َ
يف الغرفة جيئة وذها ًبا بقدْ ر ما كانت تسمح له مساح ُتها الضيقة .ال حيقّ
القرار نفسه .كان
َ فهو لو كان يف موقعهم ّ
التذ له أن يغضب من زمالئه َ
السالح البيولوجي الذي ستستخدمه حكومة أيضا عن ّ يف الرسالة تفاصيل ً
أن وجود ذلك أديتيا األرض يف القضاء عىل اجلنود األرضيني .كان يعلم ّ
رب قيادات التحالف عنه فإنّهالسالح قد يكون خدعة من أناندار ،وأنّه إذا أخ َ
سيحدث بلبلة ال داعي هلا.
انرصاف (عمر) من غرفة التحكمُ استدعى (عمر) للحديث معه ،كان َ
ريا للريبة ،لك ّنهام مل يعبئا بتساؤالت الضباط ِ
للحديث معه عىل انفراد مث ً
ثم انتظر رأيه ،سأله
عرض الرسالة كاملة عىل (عمر) ّ َ املوجودين معهم.
الصدع بني الكوكبني ،أم ال يزالون
َ فجروا تلك القنبلة التي تغلق
عمر“ :هل ّ
يف مرحلة التحضري؟” .قال ماندريك“ :أجل ،لقد ّ
تأكد أحدُ رجايل من هذا”.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 366
استيعابا مرة واحدة ،أطرق
ُ كانت املفاجأة كبري ًة عىل (عمر) ،يصعب
اختلطت يف عقله األفكار وتضاربت مشاعره .ابتهج ْ ّ
مفك ًرا دون أن يرد،
ً
إحباطا سبب ذلك ٍ
للحظة فقد كان يعني ذلك انتها َء احلرب ح ّتى لو ّ عمر
تم ذكر موضوع السالح البيولوجي جتهم ملاندريك وزمالئه ،لكن حنيَ ّ
يترصف عىل أساس وجود ذلك اخلطر،ُ وجهه ومألته احلرية .ال يعرف هل
فتبينوا .}..مل يكن
أن أناندار كاذب ينطبق عليه صفة {إن جاءكم فاسق بنبأ ّ أم ّ
أكثر
حقن التطعيم تلك َ يقلقه ْ
أن يؤثر السالح عليه أو عىل عائلته ،فقد تلقوا َ
مرة .
من ّ
أن هناك صفقة جتري بني أناندار وقائد األمن ،وأن أيضاّ -
تأكدتً - “لقد ّ
ثم
احلاكم حمبوس بزعم أنّه يتعاون مع املقاومة” قال ماندريك بصوت حمبط ّ َ
رب حلفاءنا أم ننتظر للمزيد من احلقائق؟” ر ّد عليه تساءل يف تر ّدد“ :هل نخ ُ
جمال لالنتظار ،ال بدّ أن نطلع قادة التحالف عىل تلك (عمر) بحسم“ :ال َ
ِ
فكرة أنّه لن يعود التطورات” .مل يعرتض ماندريك فقد كان مصدو ًما من
َ
نصف عمره تقري ًبا ،النضال َ
ناضل من أجله لوطنه ثانية ،ذلك الوطن الذي
ِ
ومستقبله املرموق ،واختار الذي دفع خالله ثمنًا ً
باهظا حني ختىل عن عائلته
طريقَ املقاومة من أجل املهمشني من شعبه.
كل االحتامالت املمكنة ،صار املستقبل يف حلظة أيضا -خائ ًفا من ّ
كانً -
انترصت حكومة أديتيا باستخدام ذلك السالحْ ٍ
واحدة ُمرع ًبا أمام عينيه .لو
مها من أسوأاحلكم لألقوى ،ألناندار وحليفه قائد األمن ،و َ
ُ املزعوم سيكون
ري هو وكل األديتيني
الرجال ،ولو انترص األرضيون فسوف يص ُ َمن عرف من ّ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
367
املهاجرين إىل األرض أقلية ُمضطهدة يعانون من التمييز واالحتقار ،وهو
يرحم
َ خاصة يف تلك املنطقة من العامل .لن
ّ يشء عرف به البرش دو ًما،
حسب رأيه،
َ األرضيون أحدً ا منهم؛ إن كراهية ا ُملختلف جتري يف دمائهم
ثأرا مع ذلك املختلف. ويزيد عليها ّ
أن هلم ً
أول قبل التشاور معطلب من (عمر) أن يرتك له فرص ًة ليخرب زمالءه ًَ
القادة األرضيني .بعدَ ثالث ساعات من اجتامعه هو و(عمر) كان هناك
ً
حجم .كان يف االجتامع قاد ُة التحالف من عدّ ة دول وثالثة اجتامع آخر أكرب
من قادة املقاومة األديتيني ،وعدد من قادة املقاومة املستقلة مثل ُع َمر .كان
أن األديتيني صاروا بالاهلجوم الكاسح طاملا ّ
َ أول هوالرأي الذي طرح ً
ألن احتامل َ
اعرتض ّ لكن األغلبإمدادات واإلرساع إلهناء تلك احلربّ ،
وجود سالح بيولوجي هو احتامل مرعب للغاية.
وقف أحدُ اجلنراالت األرضيني ،وقال بحزم“ :سنستنز ُفهم ّأيا السادة، َ
كل دفاعاهتم”. َ
نستهلك ّ صواريخ وقذائف بال ٍ
عدد ح ّتى َ دعونا ُ
نطلق عليهم
ري مدن وإسقاط ضحايا كثريين”. أنت ُتاطر بتدم ِ
فقال عمر“ :سيادة اجلنرالَ ،
موجعا ح ّتى لو كان قصري األمد”. ً قائلّ :
“إن ر ّد األديتيني قد يكون ر ّد آخر ً
الطائرات والصواريخ ِ
بآالف ّ فقال اجلنرال“ :لن نعط َيهم فرصة ،سنهاجم
َ
تفعل باألرض املحت ّلة كام مر ًة واحدة” .تدخل ماندريك وقال“ :تريد أن ّ
غضب
ٌ احللفاء بمدينة دريسدن األملانية منذ مائة عام” .انتاب اجلنرال
ُ فعل
بتاريخ احلرب العاملية
ِ ثم ما أدراك أنت شديد وهو يقول“ :كيف جترؤ؟ ّ
الثانية ومالبساهتا؟”
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 368
انسحاب
َ الرؤى وتعدّ دت اآلراء ،اقرتح البعض ِ
اختلطت ّ زا َد ال ّلغط،
ألنم
نظرا ّ
قوات ال ّتحالف ،وترك املقاومني الذين عملوا يف الداخل ً
فريوسات النياندرتال ،واالكتفاء بإمدادهم باألسلحة ِ حمصنون ضدّ
رفض آخرون ذلك َ ككل.واملعدات ،وفرض حصار عىل األرض املحتلة ُ
أن األمر كله قد يكون ُخدعةْ ،
لكن قبل انتهاء االجتامع بحجة ّ
االقرتاح ّ
َ
يصدر من
ُ وأن بيا ًنا سوف
أن هناك انقال ًبا بني األديتينيّ ، خرب ّ
وصل للجميع ٌ َ
ُ
إيقاف االجتامع حلني معرفة ما جيري فتم
خالل ساعةّ ، َ قادة هذا االنقالب
بني قيادات األديتيني.
***
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
369
50
مقار املقاومة بعد أن
أحد ّ يومي بعدَ إصابته العنيفة يف ِ ْ قىض (ضياء)
سكان املبنى الذي كان فيه ِمن هتريبه بعد أن استطاعوا إسعافه بعض ّ متكن ُ
املهمة قد قتلوا ،وأنّه جيب عليه
كل َمن كانوا معه يف ّ أن ّّأو ًل .تأكد بعد ذلك ّ
أن يذهب إىل أرسة (سمري) بعدَ انتهاء القتال ل ُيعطيهم رسالته األخرية التي
مسجل عليها فيديو وداع قصري. ً كانت رشحي ًة ذكية
ريا ،مل يكو َنا ّ
مقربني بل عىل تذكر (سمري) كث ً يف ّأول ليلة بعدَ إصابته ّ
مظهرا للظلم الذي
ً يكره وجو َده ألنّه يرى فيه
العكس؛ كان (ضياء) دو ًما َ
جديرا بالعمل جم ّندً ا حتت إمرته ،فام
ً أن (سمري) ليس يتعرض له ،ويرى دو ًما ّ
ّ
وتذك َر له حلظات كل ذلك يف قلبِه بعدَ مقتل (سمري) تغي ّبالك بالعكسّ .
أن هذا الرجل كان ُيقاتل وهو واألهم أنه ّ
تذكر ّ ّ ً
وخصال محيدة، جيدة،
حمروم من أرسته ،وأوالده حمرومون منه.
ٌ
تم
أن جثامني (سمري) وبقية القتىل قد ّعرف منهم ّ َ بعدَ متاثله الشّ فاء،
اسرتاح
َ َ
مقابل تس ّلم احلكومة األديتية جلثث قتالها. إجالؤهم ِمن املكان
مع زمالئه
أحد املواقع ،واستطاع َثم عاد للقتال جمدّ ًدا يف ِيومني آخرين ّ
السادس من أكتوبر بالقرب من ِ
أطراف مدينة ّ السيطرة عىل قاعدة مهمة عىل
احلدود الغربية لألرض املحتلة.
قوات النياندرتال احلكومية بعدها،
ض القاعدة هلجو ٍم عكيس من ّ تتعر ِ
مل ّ
ورست شائعات ّ
أن النياندرتال قد ْ ٍ
هدوء نسبي، مضت مخسة أيام يف
ْ ولذلك
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 370
ً
خليطا ِ
حوت القاعدة ِ
القواعد األخرى. عن القيام هبجوم عكيس يف توقفوا ِ
نظاميني من
ّ القدر األكرب كان جنو ًدا
َ لكن
من املقاومني املرصيني واألديتيني ّ
وقو ًة صغرية من اجليش السوداين املشارك يف التحالف. اجليش املرصي ّ
ريا َ
قبل إبالغها لك ّنه كان يعلم أن أباها ِ
بوفاة سمري ،تر ّدد كث ً أبلغَ ْ
(ميساء)
ومن حقّ (سمري) عليه أن يبلغ شعر أنّه ِمن واجبه ِ ربا كهذاَ .يمنع عنها خ ً
قد ُ
رد فعلٍ قوي ،فقط ّ
ترحت أحبها بأنّه قد استشهد .مل جيدْ لدهيا ُّاملرأ َة التي ّ
عليه وقالت إنه َ
كان إنسا ًنا طي ًبا ومت ّنت لضياء السالمة يف بقية العمليات.
بكل هذا الضيق من ميساء ،وص َفها يف شعر ساعتها ّ َ ْ
يدرك ملاذا مل
تعرف عليهم يف القاعدة بأهنا امرأة مدللة حديث له مع ِ
أحد اجلنود الذين ّ
رسيعات
ُ إن النساء هكذا قليلة األصل ال خري فيها .قال له اجلندي يو َمها ّ
احلب ،رسيعات النسيان ،فقال ضياء“ :ال أحتدّ ث عن احلب؛ أحتدّ ث عن ّ
رفقة السالح ،إن الوفاء لرفيق السالح أقوى من الوفاء للحبيب ،لقد َ
قاتل
كل عواطف ال ّنساء رسيعة التقلب، “إن ّ
إىل جوارها لسنوات” .فقال زميلهّ :
بغض النظر عن نوعية تلك العواطف”. ّ
وأنا كانت ريا ملقتل (سمري)ّ ، (ميساء) حزنت كث ًأن ْ ما مل يعر ْفه (ضياء) ّ
سبب ر ّدها البارد هو وجو َد (باسل) تعرف هذا من ْقبل أن يطلبها هو .كان ُ ُ
مرأن موت (سمري) ّ معها حنيَ طلبها (ضياء) وهي قدْ أظهرت له من ْقب ُل ّ
َ
احلدث أوحت لباسل ّ
أن ْ عليها كحدث عاب ٍر كي ال تثري ضي َقه أو غريته.
خافت أن يرى (باسل) شعورها احلقيقي جتا َه ْ ُمزن ح ًّقا ،لك ّنه عابر ،ولذلك
الطريقة اجلافة.موت (سمري) حني ر ّدت عىل (ضياء) بتلك ّ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
371
اجتمعت فيه القيادات ُملناقشة ما أبلغهم به ُعمر وماندريك
ْ يف اليوم الذي
ِ
بإطالق فريوس قاتل ،وصلت من فصلِ الكوكبني ،وذلك التهديد الوشيك
مهمة
أخبارا ّ
ً وأنم سيسمعون ريا جيريّ ، األخبار للجنود ّ
أن هناك شيئًا خط ً
ٌ
جمموعة من اجلنود النظاميني بعد قليل .جلس (ضياء) يشاهدُ األخبار َ
ومعه
ِ
انضاممه للقاعدة مبتعدً ا عن املقاومني. اجلنود الذين الزمهم منذ
ُ وهم
ُ
ظهر عىل الشاشة قائد األمن يف دولة أديتيا األرض. َ بعدَ قليل،
حتدث الرجل للمواطنني األديتيني ِمن مجيع األعراق (يقصد ُاألرضيني
أن قوات دولة أديتيا تر ّد املعتدينّ ،
وأن املسألة ربا إياهم ّ
والنياندرتال) خم ً
ِ
وجود خونة يف صفوف عن اكتشاف َ
تطول ح ّتى تنتهي بالنرص .تكلم ِ لن
ِ
احلكومة واجليوش اآلن هو والرجال ا ُملخلصون بتطهري
القيادات ،وإنّه يقوم َ
ُ
القبض عليه ،وسجنُه تم منهمّ ،
وأن عىل رأسهم حاكم أديتيا األرض الذي ّ
حلني حماكمته.
كان يتكلم بلهجة محاسية زادت نربهتا حني بدأ خيتم خطابه ً
قائل“ :إنني
أن أقود املرحلة احلالية ح ّتى نستطيع التغلب ٍ
بتكليف من زمالئي ْ قبلت
قد ُ
ٍ
عتيد من جنراالت عىل أعداء أديتيا العظيمة” .كان يتحدّ ث كديكتاتور
قمت ومعي قادتنا
أمريكا الالتينية يف القرن العرشين وهو يضيف“ :لقد ُ
ِ
كوكب أديتيا وكوكب األرض مؤق ًتا الكبار ّ
باتاذ قرار بمنع االنتقال بني
ِ
وجلنود أديتيا أنّنا سننهي تلك ّ
وأؤكد ملواطنينا العظام حل ِ
ني انْتهاء املعارك،
احلرب بحلول الغد ،دامت عظمة أديتيا والويل ألعدائها”.
َ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 372
ُ
الرجل جمنون ،لقد يضحك ً
قائل لزمالئه“ :هذا ُ اخلطاب وضياء
ُ انتهى
رشعية لنفسه عن طريق هذا
ّ ُ
حياول إكساب ٍ
بانقالب عسكري وهو قام
قام ونظر لزمالئه اجلالسني وهو ُ
ينفخ صدره بطريقة ثم َ
اخلطاب الفارغ”ّ ،
“أبشكم ّأيا الزمالء أنّنا سنمحو النياندرتال ِمن عىل وجههازئة وقالّ :
األرض خالل يوم واحد”.
قطعه جميء أحد الضباط. مزاح َ ٍ انفجر زمالؤه ضاحكني ،ورشعوا يف َ
وتبعهم (ضياء) ،وعندها هنرهم الضابطُ مجيعا ُمنتصبني يف احرتامَ ،وقفوا ً
عمن قال هذا الكالم فرفع ستفرسا ّ
ً عن حديثهم عن حمْو النياندرتال ُم بشدّ ة ْ
“اسمع يا سيد (ضياء) ،أنت هنا تعترب جم ّندً ا ْ (ضياء) يده ،فقال الضابط:
متتثل لألوامر العسكرية واالنضباط ،وعليك االلتزام بتعليامت القيادة بعدم
ينظر
استخدام ذلك املصطلح عند التحدّ ث عن األديتيني” .فقال (ضياء) وهو ُ
موج ًها كالمه للجميع“ :نحن هنا الضابط ّ شذرا“ :حسنًا يا سيدي” .فقال ّ له ً
َ
الوصول إىل هذه استطعنا
ْ األديتيون ملا
ّ ٍ
خندق واحد ،ولوال زمالؤنا مجيعا يف
ً
نكمل حترير أرضنا ونعيدهم إىل كوكبهم بسالم”. ُ املرحلة ،دعونا
يف ذلك الوقت ،كان االجتامع بنيَ القيادات حمتد ًما .طلب قادة املقاومة
األديتيني من القادة األرضيني طمأنتهم جد ًّيا عىل مصري شعبهم املوجودّ
تغيت املعادلة ٌ
سبيل للعودة إىل كوكبهّ . حال ًيا يف األرض ،والذي مل يعدْ له
تطالب بالتوقف عن
ُ أصوات بينهم
ٌ بالنسبة ملاندريك وزمالئه ،وظهرت
مع احلكومة األديتية لالتفاق معهم ،وحماولة مساعدة األرضيني والتواصل َ
لألرضيني
ّ بدل من اخلضوع تشكيل حكومة خمتلطة حتكم أديتيا األرض ً
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
373
وعنرصيتهم .كانوا بني شقي الرحى؛ وضع أنفسهم حتت رمحة األرضيني
َ
جعل هذا وحكوماهتم ِ
ذات الوعود املتقلبة أو االتفاق مع أعداء األمس.
ضامنات جد ّية من احلكومات األرضية بخصوص مص ِ
ري ٍ ماندريك يطلب
قبل ا ُمليض قد ًما يف احلرب أو مناقشة ّ
أي خطوات تالية. شعبهم َ
أقنع بقية زمالئه باالستمرار يف
صف ماندريك بعد أن َ وقف (عمر) يف ّ َ
صف األرضيني بعدَ إعطائهم الضامنات املطلوبة .كان املطلوب احلرب يف ّ
ِ
وضع األديتيني ويق ّنن
َ إصداره خالل ساعات حيدّ د
ُ يتم ِ
جملس األمن ّ قرارا من
ً
وجودهم يف الدّ ول التي يعيشون فيها كمواطنني َ
مثل بقية مواطنيها .بعدَ شدّ
وجذب ومشاورات بنيَ القادة العسكريني وحكوماهتم انعقدَ جملس األمن،
لوضع ّ
خطة االستمرار يف النقاش بالتوازي ْ
َ وطلب من القيادات العسكرية
حربية إلهناء الوضع احلايل.
النقطة األكثر إثارة للجدل بعدَ ذلك هي موضوع الفريوس الذي ُ كانت
غالب القادة األرضيني ُ يزعم أناندار وجو َده لدى قائد األمن .مل يقتنع
املجتمعني بقصة الفريوس تلك ،وقالوا ّإنا لو كانت حقيقية لكانوا أعلنوها.
“إن قائدَ األمن يطمح يف احلكم ،وأنا أعرفه منذ ردا عىل ذلكّ :
قال ماندريك ًّ
أن أناندار طلب نفسيا ،وأعتقد ّ
سوي ًّّ ري
انتهازي وغ ُ
ّ زمن طويل؛ هو شخص
سبب
ُ منه أن يذكر ذلك التهديد لكنه رفض” .فر َد عليه أحدُ القادة“ :ما
يفضل أنيثبت ألناندار أنّه ال يأمتر بأمره كام ّ
رفضه؟” .فقال“ :ألنه يريد أن َ
النرص مصحو ًبا بأكرب
ُ مدو ًيا ،وهذا سوف حيدث فقط إذا كان
انتصاره ّ
ُ يكون
عدد من جثث القتىل ،وهو يعلم أنّكم لن تقتنعوا بكالم أناندار ،وسترتكون ٍ
جنو َدكم فريسة لفريوسه”.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 374
مطولة أهناها القائدُ العام لقوات ّ مههامت ونقاشات جانبية
ٌ رست
ْ
متأكد من وجود الفريوس وقدرهتم عىل بسؤال ماندريك“ :أنت ّ ِ التحالف
إطالقه بنسبة كم باملائة؟” .فقال ماندريك بعدَ تفكري قصري“ :ثامنني باملائة”.
منك حتديد موقع قائد األمن ،هل يستطيع رجا ُلك فقال القائد“ :ولو طلبنا َ
معروف للجميع ،ويمكن ٌ حتديد موقعه؟” .فر ّد أحد قادة املقاومة“ :هذا
موقعه هذا
َ أن نحدّ د لك موقعه بمنتهى الدقة” .فقال القائد“ :إذن ،هناجم
رسيعا” .فقال ُعمر“ :أو نرسل جمموعة ً نوقع به
عدد من القوات ح ّتى َبأكرب ٍ
صغرية الغتياله”.
قطعها القائدُ بقوله“ :أنت رأيت ما حدث رست مههامت أخرى َ ْ
خالل ساعات بأكرب َ الصغرية وفشلها الذريع ،نحن سنهاجم للمجموعات ّ
قام ذلك الرجل سامر قائدُ املقاومني يف لبنان“ :ولو َُ قدر من القوات” ،فقال
خيار ّإل املخاطرة،ٌ ساعتها بإطالق الفريوس!” .فقال القائد“ :ليس لدينا
فالبديل هو أن ننسحب ،وأن نرتك أرضنا حمت ّلة لألبد ألنّنا خائفون من
فريوس مزعوم ،سوف نقوم هبذا اهلجوم خالل ساعات ،وأريد من
مجيع القادة
بطريقة تضمن نجاحه” .وافق ُ ٍ وضع ّ
خطته اجلميع املسامهة يف ِْ
لكن ماندريك وزميليه حتفظا عليها .يف ال ّنهاية األرضيني تقري ًبا عىل الفكرةّ ،
حقيقيا ،فهو سيقتل رجالكم ال رجالنا، ًّ الفريوس
ُ قال ماندريك“ :لو كان
إقناعكم بالعدول عنه أكثر من ذلك ،لك ّننا لن فاالختيار لكم ،ولن نحاول َ
ُ
قبل صدور قرار من جملس األمن حيمي شعبنا”. اهلجوم َ
َ نبدأ هذا
***
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
375
51
أنفاسها بصعوبة وهي جتلس يف غرفتها يف انتظار باسل
َ (ميساء)
التقطت ْ
ْ
قبل اشرتاكه يف اهلجوم املكثف الذي سيحدث خالل الذي جا َء لتوديعها َ
كل هذا ولو لدقائق ،تريد هدن ًة قصريةساعات .كانت تتم ّنى لو يتوقف ّ
سالحها وختلع الدروع ،وجتلس عىل أريكة
َ وسط هذا اجلنون ،تريدُ أن تلقي
تضع عىل شعرها ً
قليل من الزيت، ُ قطنية مزركشة،
عريضة مرتدية عباءة ّ
ِ
مسند األريكة ،وعىل وترتك أ ّمها متشطه هلا برفق وهي تسندُ ظهرها عىل
أي أمور فارغة،وزوجها يتحدّ ثان عن ّ
ُ املقعدين املقابلني هلا جيلس أبوها
زجاجها عىل حديقة
ُ وطفالن يتشاكسان فيام تب ّقى من فراغ الغرفة التي ّ
يطل
بسيطة يف اخلارج.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 376
َ
خيفون واحلكومات األرضية
ُ ساخرة وأناندار يكمل“ :احلكومة األديتية
ٍ
قنبلة ِ
كوكب أديتيا بتفجري عليكم حقيقة األمر ،لقد قام بعض املخربني يف
غلق الصدع الكوين الذي يسمح باالنتقال بنيَ الكوكبني ،ومل َك ِّمية أدت إىل ِ
أصيبَ أكثر من سبعني مليون أديتي إىل كوكبهم”. يعد هناك ٌ
جمال لعودة َ
كالمها بالذهول عندَ سامع تلك احلقيقة فلم تكن تلك األخبار ظهرت للعلن
بعدُ ،وال ح ّتى للمقاتلني ومل حيدثهام عمر باخلرب.
أن قائد زا َد القلق عندما تك ّلم أناندار عن السالح البيولوجيّ ،
وأكد ّ
ِ
واختفت ال ّنظرات كل األحوال .مل يتك ّلم أحدمها،
األمن سيقوم بتفجريه يف ّ
لست داعية حرب، عينيهام ح ّتى أهنى أناندار خطا َبه بقوله“ :أنا ُ
الساخرة من ْ
ألنقذ أرواح عرشات اآلالف من َ حمب للناس وللسالم ،وأقول هذا أنا ّ
محل حكوماهتم املسئولية الكاملة عن ما سيحدث، اجلنود األرضيني ،وأ ّ
يرتاجع عن
َ وأخاطب صديقي قائدَ األمن بلهجة ال ّناصح ،وأطلب منه أن
ِ
القادة األرضيني لينسحبوا إطالق هذا السالح ويفتح املجال للتفاوض مع
نعيش فيها يف سال ٍم نحن واألرضيني مواطني أديتيا، ُ من أديتيا ،ويرتكونا
أرضيني وأديتيني يف دولة واحدة حترتم اجلميع”.
صب لعناته
نوبة غضب عارمةّ ، إن انتهى اخلطاب ،وانتابت (باسل) ُ ما ِ
ينس َ
وصل هلذه الدرجة ،ومل َ ّ
بالتضخم ح ّتى مجيع َمن سمحوا ألناندار
عىل ِ
(ميساء)
اقرتب منه ذات يوم .حاولت ْ
َ يقم بقتله حني
أن يلعن نفسه ألنّه مل ْ
وأنا أن ّ
كل يشء قد وصل إىل هنايتهّ ، هتدئته رغم توترها الشّ ديد ،وشعورها ّ
ال بدّ أن حتزم أمرها وتعو َد إىل الفيوم وسح ًقا للحرب والنضال.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
377
وجدت نفسها تر ّدد كلامت هدأهتا هي نفسها ،وكلام ْ بينام كانت هتدّ ئه
تكلمت وخ ّفت حدّ ة غضبه ،ك ّلام خ ّفت حدّ ة جزعها ح ّتى هدأ كالمها .جلسا
قبل أن تقول ميساء“ :ماذا سنفعل اآلن؟” .فقال هلا“ :وماذا صامتني دقيقة َ
وصبت لنفسها كو ًبا من املاء،
ّ قامت
ْ حيركها قادتنا”.
بيدنا ،نحن جمرد بيادق ّ ِ
لك ّنها ناولته إ ّياه دون أن تدري وهي تقولّ :
“أفكر يف االتصال بأيب ،و”....
واستمع للتعليامت،
َ قبل أن تكمل مجلتها رنّت ُ
نغمة اتصال قاد ٍم لباسل فأجابه َ
اآلن للقاعدة املوجودة يف السادس ثم أغلق االتصال ً
قائل هلا“ :ال بدّ أن أتوجه َ ّ
من أكتوبرّ ...إنم يعجلون موعدَ التحرك نحو ّ
مقر قيادة النياندرتال”.
حارا ،وانطلق يف طريقه ،اتّصلت هي بقائدها وداعا ًّ
و ّدعها عىل عجل ً
أن األوامر صدرت ِ
أرادت النزول .أخربها قائدُ ها ّ تغالب دمعة
ُ وهي
مطلوب منها احلفاظ عىل ٌ بتحريك بعض املجموعاتّ ،
وأن بقية القوات
ٍ
مرات بال َ
الوصول ألبيها عدّ ة ِ
حاولت مواقعها حلني ورود أخبار جديدة.
ربها ّأنم جيهزون للهجوم عىل القيادة فائدة ،ويف النهاية جاءها اتصال منه أخ َ
تطلب التفاوض يف ُ وأنم أرسلوا رسائل للحكومة األديتية
األديتية بالفعلّ ،
مباحا اآلن ح ّتى يف ُعرف عمر أي نوع من اخلداع صار ً ّ
وكأن ّ ذات الوقت،
عوض اهلل.
ألنم قد تلقوا فطمأنا ً
قائل ..إنّه لن يؤثر عليهم ّ َ سألته عن الفريوس
رغم توتره الواضح“ :هناك ً
حماول طمأنتها َ ثم أضاف حتصينًا ضدّ ه من ْ
قبلّ ،
اخلاصة الرتكية واألمريكية وجمموعة من املقاومني األديتيني
ّ ِ
القوات ِف َرق من
اقتحام قرص أناندار يف جبال تركيا ،فقد استطاعوا تأكيدَ أنّه كان
َ حياولون
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 378
لنرتاح من ّ
رشه” .فقال: َ يلقي كلمته من هناك” .فقالت“ :أرجو أن يقتلوه
ِ
التفاوض مع حاكمهم اجلديد، ّ
“كل ،نريد انتزاع معلومات منه تساعدنا يف
حيا أو مي ًتا”.
لكن األوامر الصادرة هلم هي اإلمساك به ًّ
ّ
َ
احلصول عىل قرار من جملس األمن ،مل يتم اإلعالن ربها ّأنم استطاعوا
أخ َ
يتضمن احلفاظ عىل حقوق األديتيني املوجودين يف األرض املحتلة،
ّ ع ْنه بعد،
سوف يتفاوضون مع احلكومة األديتية عىل االستسالم مقابل العفو َ وأنم
ّ
مجيعا مواطنني يف الدول التي يعيشون فيها ح ّتى
كل ما سبق ،واعتبارهم ً عن ّ
العسكريني منهم.
“إ ًذا ،ملاذا تستعدّ ون القتحام قيادهتم؟” .سألته ،فقال“ :حتس ًبا لفشل
مؤكدً ا عىل رسية ّ
كل كلمة فيه ،وأنه ح ّتى ا ُملفاوضات”ّ ،
ثم أهنى حدي َثه معها ّ
رؤساؤها املبارشون ال يعرفون شيئًا عن تلك التفاصيل .حاولت اغتصاب
صوت نفري
ُ دوى ابتسامة وقالت “هذه ميز ٌة ْ
أن أكون ابنة عمر عوض اهلل”ّ .
متر
أن ّ الطابور املسائي للقاعدة ،وهي تدعو ْفخرجت من غرفتِها حلضور ّ
األيام القادمة عىل خري.
ُ
رحب به تضم (ضياء) الذي ما ْ
إن رآه ح ّتى ّ انضم (باسل) للقاعدة التي ّ
ّ
معا من قبل يف عمليتني للمقاومة َ
تعامل ً وعرفه عىل أصدقائه من املجندين.
ّ
َ
يف الفرتة التي تلت اشرتاك (باسل) يف حماولة قتل أناندار .كانت ظروفهام
احلميمية التلقائية بينهام؛ كالمها عمل مع النياندرتال
ّ نوعا من املتقاربة ُ
ختلق ً
وانضم للمقاومة بعدَ ذلك ،وكالمها يعمل ّ ثم انشق
الغزوّ ، ً
ضابطا بعد ْ
أصغر منه س ًّنا ّ
وأقل كفاءة .الغريب ّأنام قبل الغزو َ مرؤوسا آلخرين يراهم
ً
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
379
ابن اليساري السجني عن بعضهام متا ًما( ،باسل) ُ
اجتامعيا وفكر ًّيا ْ
ًّ كانا بعيدين
ٍ
عائلة تعترب من املؤيدين ابن
ضابط الرشطة ُ ُ نظام احلكم ،و(ضياء)الذي يكره َ
صارا أقرب ما
كليهام ح ّتى َ
صهر َْ متا ًما ألنظمة احلكم املتعاقبة ،لكن االحتالل
يكون لبعضهام.
رسيعا اندمج (باسل) مع املجموعة ،وصارت بينهام نقاشات ومزاح ح ّتى ً
لكل القوات بعد ساعات قليلة من وصول جممع ّ
دعامها النف ُري إىل طابور ّ
الشمس قد غربت لل ّتو ،وكان هذا هو املوعدَ املحدد مسب ًقا
ُ باسل .كانت
تم تأجيله حلني صدور أوامر أخرى. لتحركهم نحو قيادة األديتيني ،والذي ّ
ضابطا مرص ًّيا برتبة عميد وأطلعهم عىل ً وقف القائدُ الذي كانَ
أه َبة
بأن يكون اجلميع عىل ْ األوامر صدرت ْ َ إناملستجدات .قال هلم ّ
بدأت بالفعل قدْ وأن هناك مفاوضات قد أي وقتّ ، االستعداد للتحرك يف ّ
تؤ ّدي إىل انفراج األزمة واستسالم األديتيني (مل يقل نياندرتال ّ
بالطبع احرتا ًما
للمقاومني منهم) وقال“ :ال تصدقوا كالم ذلك الكاذب الذي حتدّ ث عن
مجيعا يف خندق واحد ،نحن مستعدّ َ
ون وجود سالح بيولوجي ،اعلموا أنّنا ً
أن هناك أيضا ال يتخىل عن أبنائه ،واعلموا ّ
لكن الوطن ً للشّ هادة فدا ًء للوطنّ ،
حال وجود مثل ٍ
شحنات ضخمة من األقنعة الواقية يف طريقها إلينا حلاميتنا يف ِ
هذا التهديد ،والذي أعلم يقينًا أنّه نوع من احلرب الدعائية ال غري”.
أسارير الكثري من اجلنود لذلك اخلرب ،وهتامس البعض منهم يف
ُ هت ّللت
آمرا“ :انتباه” فاعتدل ٍ
بعنف ً َ
الواقف جوار القائد يرصخ فرح َ
جعل الضابط
ثم ترك الكلم َة للضابط األصغر ليقول هلماجلميع وعاد القائدُ يكمل كلمتهّ ،
ٍ
جمموعة انتقلت معه من رب ٍم وسطبعض التعليامت .كان (باسل) واق ًفا يف ت ّ
َ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 380
َ
الحظ ِ
رصفهم أن الضابط عىل وشك القاعدة التي كان فيها ،وحني بدَ ا له ّ
َ
فسأل اجلندي عن ما دب ُ
القلق يف نفسه أن اجلندي املجاور له بدأ يف السعالّ . ّ
َ
انخرط يف السعال بدوره. َ
الضابط لكنورفع يدَ ه خماط ًبا الضابط ّ
َ به،
السعال بني اجلميع ،تناول القائدُ د ّفة احلديث من الضابط انترشت عدوى ّ
ْ
أنفاسه عىل راحته ،أمرهم القائدِ عاجزا ح ّتى عن أخذ
ً ُ
السعال الذي جعله
ُ
يسعل هو اآلخر. وهو
والراحة يف غرفهم َ ِ مجيعا باالنرصاف وعد ِم القلق
ً
جالسا معهم قبل
ً حيث يقف (ضياء) فوجدَ ه يسند جم ّندً ا كان ذهب باسل إىل ُ
الطابور وهو يقول“ :ال تقلق ،يبدو ّأنا عدوى أنفلونزا” .فابتسم اجلندي
طبيب باملناسبة ،وهذه ليست
ٌ السعة! أنا
“وانترشت هبذه ّ
ْ وقال وهو يسعل:
جمرد أنفلونزا”.
ّ
صح َبه ح ّتى غرفته التي جلس فيها جم ّندان آخران يف إعياء مصحوب
ٍ
بسعال ّ
أقل حدّ ة ممّا حدث يف البداية .جاء أحدُ املقاومني األديتيني ،رجل
ألنا مل ْ
تطل وال واحد تبش بخري ّ أن هذه األعراض ال ّ يعرفه باسل ،وأبلغه ّ
ري يف
من األديتيني أو َمن كانوا يف األرض املحتلة ،فسأله باسل“ :وما اخلط ُ
أن الفريوس ال يؤثر ٍ
شائعات ّ ُ
يطابق ما وصل إلينا من هذا؟” .فقال“ :هذا
ّإل عىل اجلنود القادمني من اخلارج”.
ري بعيدً ا عن أصوات ذهب (باسل) إىل صالة الطعام ليحاول التفك ََ
بعض الرجال جالسني هناك حياولون معرف َة األخبار وقد َ السعال .وجدَ
مجيعا .خطر
نال منهم ً بالسعال واإلعياء الذي َ
انشغل عنهم الضباط والقاد ُة ّ
ُ
إضعاف وأن املقصود منه رضا ال ً
قاتلّ ، بباله ّ
أن هذا الفريوس قد يكون ُم ً
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
381
ِ
خمتلف البقاع ِ
بدأت األخبار تتوارد من املقاتلني ح ّتى يمكن السيطرة عليهم.
ٍ
سعال وإعياء وارتفاع ِ
لنوبات كل اجلنسيات أرسىعن سقوط اجلنود من ّ
إن احلكومة األديتية ّأكدت ّأنا ال تزال عىل
طفيف يف درجة احلرارة .قيل ّ
وأنا مل تطلق أي أسلحة. ٍ
استعداد للتفاوضّ ،
اتصال من ميساء“ :باسل ،كيف حال اجلنود ٌ بعدَ ساعة تقري ًبا جاءه
اإلعياء البسيط ،ال أعتقدُ ّ
أن هذا ُ عندك؟” .فقال“ :مجيعهم بخري ،عدا
“عرفت منذ قليل أنّه كانت هناك حماولة للقبض عىل
ُ فريوس فتاك” .فقالت:
أناندار وقد باءت بالفشل ،وانفجر القرص الذي كانوا يعتقدون أنّه فيه وقتل
كل اجلنود الذين شاركوا يف العملية” .فقال هلا“ :كام كنت أتو ّقع” .فقالت:ّ
حر طليق اآلن ،ويقال إنّه هو َمن أطلق الفريوس”.
“إنّه ّ
الشعب األديتي بلهجة املدافع عن
َ ظهر أناندار عىل الشاشة وهو خياطبَ
ويصب لعناته عىل القادة األرضيني الذين حاولوا اغتياله ،وأنّه عرف اآلن
ّ وطنه،
تم سجنُه ألنّه خان أديتيا ،وكان يريد تسليمها لألرضيني ،وقد ّ
أن قائدَ األمن قد ّ
إن نوايا احلكوماتاحلاكم األصيل ألديتيا العزيز بالدريك إىل موقعه .قال ّ
ُ عاد
قرارا بإطالق َ
يأخذون ً وإن هذا قد جعل القادة األديتينياألرضية خبيثةّ ،
حسم املعركة.
َ وإن الساعات القادمة ستشهدسالحهم الفريويسّ ،
دخل (ضياء) ورصخ ً
قائل“ :باسل، قبل أن يعلق أحدٌ عىل كلمة أناندار َ
َ
وتوج َها عدْ ًوا نحو الغرفة التي تركه
ّ حاول أن تساعدين”ُ .ه ِرع (باسل) إليه
بقوة د ًما صاف ًيا ،وقد سال الدم ً
أيضا من ُ
صديقه يسعل ّ فيها .كان اجلندي
أنفه ،احتقنت عيناه بشدّ ة.
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 382
حائرا ال يدري ماذا يفعل ،يبدّ ل عينه بني (ضياء) اليائس
وقف (باسل) ً َ
نصف وجهه وصدره .سمع َ الدماء
ُ ِ
غطت وبني اجلندي مصطفى الذي
َ
األعراض نفسها قد رصخ ًة من اجلندي اآلخر عىل الفراش املقابل ،ورأى
ري عابئ بنداء ضياء ،رأى يفخارجا من الغرفة غ َ
ً بدأت تظهر عليه .جرى
الغرف آخرين ،خرج إىل الساحةِ املمر جند ّي ْي يسعالن وينزفان ،رأى يف
ّ
ِ
رشبت األرض دماءه .كانت فوجدَ أحدهم ملقى عىل األرض ينتفض وقد
ُ
حتدث أمامه بدون رصاص وال قنابل ،جنود ينزفون ح ّتى املوت بدون جمزرة
َ
يعتذرون جلنودهم جرح واحد ،وقادة راقدون عىل األرض حيترضون وهم ٍ
ّأنم ال يستطيعون إنقاذهم.
صورا بشعة جلنود ينزفون؛
ً عا َد إىل قاعة الطعام ،كانت الشاشة تنقل
أمريكيني ،وغريهم.
ّ صينيني ،روس،
ّ مرص ّيني ،أتراك ،عرب ،هيود ،أكراد،
ِ
اجلنود الذين شاركوا يف التحالف لتحرير أرضهم أو لنرصة البرشية، ّ
كل
كانوا يتساقطون عىل األرض يسعلون د ًما ،وينزفون ،أو ينتفضون انتفاضة
اسمها متا ًما، احتضار أخرية .عرف ساعتَها ّ
أن عملية الدّ رع املكسور تستحقّ َ
أصل. يكن الدّ رع الذي قصدَ ه َمن ّ
خططوا للعملية ً لكن ما انكرس مل ِ
***
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
383
السابع
القسم ّ
ُ
ثمن ال ّنجاة
ُ
وطن واحد ،أو نهلك “يجب أن نتع ّلم كيف نعيش ً
معا كشركا َء في ٍ ُ
معا ،و ُنهلك أهلنا وكأنّنا مجموعة من الحمقى”
ً
عمر عوض اهلل،
نقل -بتص ّرف -عنً
مارتني لوثر كينج
52
بقوة رصخ ًة مل خترج منها حنيَ أصيبت يف أي قتال من(ميساء) ّ
رصخت ْ ْ
متر وتوسل كثري ،ودعاء من القلب ْ
بأن ّ ّ رصخة مصحوبة بدموع قليلة، ٌ ْقبل.
ثم نفسا متالح ًقا قص ً
رياّ ، حظات برسعة .أخذت عرشين أو ثالثني ً ُ تلك ال ّل
بقوة
ثم رصخة مكتومة وهي تدفع ّ ٍ
واحد عميق كتم ْته داخلها ّ ٍ
بنفس أتبعتها
ثم تتوقف يف إجهاد ،وتقول أل ّمها التي كانت عضالت بطنها وحوضهاّ ،
ألست ابنتك؟”
ُ ُ
يوقف هذا األمل أرجوك، جالسة عىل مقعد“ :أعطيني شيئًا
بقوة أكثر ،لقد
هيا ادفعي ّبالساهلّ ،
فتبتسم أ ّمها وتقول“ :األمومة ليست ّ ُ
أوشك عىل اخلروج”. َ
كانت عينا زهرة تدمعان وهي تو ّلد ابنتها بنفسها ،ر ّبام ألنه ال يوجد
املهمة ،ور ّبام ألهنا مل تكن تتم ّنى أن يو َلد هلا حفيدة يف
أحد غريها يقوم بتلك ّ
هذا الزمن ال َبغيض الذي صارت احليا ُة فيه أسوأ من احلياة حتت االحتالل.
َ
معارك ال أحد وعمر منخرطان يف يقف جوارمها؛ فباسل ُ ابن ُتها تلد وال أحد ُ
خميم يف
ضمن َّ صفيحي
ّ تقيامن يف ٍ
بيت ِ يعلم جدواها ،أو متى تنتهي .كانتا
اإلسكندرية عىل حدود األرض املحتلة من الداخل.
السبت األسود الذي انطلق فيه فريوس مرعب من مرت تسع ُة أشهر عىل ّّ
أرواح ما يقارب املائة ألف جندي من عرشين دولة تقري ًبا،
َ مكمنِه حاصدً ا
دول العامل بعملِ حج ٍر صحي كامل عىل مجيع مناطق والذي بسببِه قامت ُ
األرض املحتلة يف مرص وسوريا وتركيا ولبنان وفلسطني التارخيية .ال أحد خيرج
واحلدود مرا َقبة بالكامل من خارجها بالطائرات واجلنود والدوريات.
ُ أو يدخل،
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
387
كل منأن النياندرتال سيسحقون ّ اجلميع ّ
ُ حنيَ ّ
تم تفعيل الفريوس ،أيقن
تبقى ِمن املقاومني ،وقد يفنون َمن تبقى ِمن األرضيني ً
مجيعا داخل أديتيا،
ً
ضباطا يف حلسن ّ
احلظ مل حيدث ذلك .اتّضح يف اليوم التايل ّ
أن هناك لكن ُ
وهم َمن قاموا بتفعيل السالح .انشقّ هؤالء
لصالح أناندار ُ
ِ احلكومة يعملون
قتال ضدّ القوات احلكومية مدعومني برجال أناندار.الضباط وانخرطوا يف ٍ
إن استخدام الفريوس عىل احلاكم األديتي بعدَ ذلك يف خطاب لهّ ..
ُ قال
ٌ
جريمة ش ْنعاء ،وإنّه كان معدًّ ا فقط لالستخدام يف مكان هذا ال ّنطاق الواسع
قو َة َمن حياربون ،فيقومون ُ
الدول املهامجة ّ أماكن معدودة ح ّتى تعلم
َ واحد أو
متحضون يقدّ سون احلياةّ ،
وإن َمن ّ أيضا ّ
إن األديتيني بسحب قواهتم .قال ً
عقابم.
قاموا بتلك اجلريمة سيتم ُ
صاحب التوقيع الوحيد عىل تلك ُ أن أناندار هو َ
عرف اجلميع بعدَ ها ّ
قتل مائة ألف جندي ُمارب حيمل السالح، اجلريمةّ ،برر أفعاله وقال إنّه َ
خيططونإن قادة القوات األرضية كانوا ّ َ
أعزل واحدً ا .قال ّ شخصا
ً ومل يسقط
ري عابئني بعدد األبرياء
لقصف طويل األمد ملناطق أديتيا األرض املختلفة غ َ
أنقذت املاليني عىل حسابُ الذين سيموتون نتيجة ذلك .قال يو َمها“ :أنا
مدججني بالسالح ،أنا أستحقّ جائز َة نوبل ّ
للسالم التي مائة ألف من غزاة ّ
خاصة من النياندرتال
عددهمّ ، أن تابعيه ازداد ُ تعطوهنا يف األرض” .الغريب ّ
املتعصبة.
ّ املتد ّينني نتيجة خطابه وخطابات شاودريك مساعدته
قتال أناندار ضدّ قوات احلكومة ،وحاولوا االستيالء عىل الثوار َ
ُ انتهزَ
احلرب
ُ مناطق واسعة ،والبد َء بإقامة مناطق مستق ّلة حتت إدارهتم .حتولت
قوتني إىل عدّ ِة حروب ،قوات أناندار ضدّ القوات احلكومية، الواحدة بني ّ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 388
ٍ
نفوذ ِ
انقسمت األرض املحتلة إىل مناطق والثوار ضدّ هؤالء وهؤالء.
تتداخل فيها احلدود القديمة فتجد قو ًة تسيطر عىل ٍ
أرض متتدّ من العريش
مرورا بغزة ،وقوة تسيطر عىل دمشق وبريوت وما بينهام ،وأخرى
ً لتل أبيب
عىل أجزاء متداخلة من تركيا وسوريا.
األمور عندَ هذا احلد ،وإنّام اتّسع نطاق احلرب وزادت أنواع
ُ ِ
تتوقف مل
الصينيني املوجودين يف القدس ،سارعت ّ العداوات .حني قتل ّ
كل اجلنود
قوات مشرتكة للثوار أخذها ثانية ثم استطاعت ٌ قوات أناندار للسيطرة عليهاّ ،
القتال بني العرب واليهود يف تلك القوات ،وامتدّ إىل أجزاء واسعة ُ ثم اندلع
ّ
قامت حروب بنيَ أكراد وأتراك ،وحروب أيديولوجية ْ ثم
من فلسطنيّ ،
ديني مس ّلح اسمه
فصيل ٌّ ظهر بينهم
ودينية شملت ح ّتى النياندرتال الذين َ
احا ،وتتظاهر بالتد ّين،“أبناء ماجوها” يرون أن شاودريك زنديقة تساندُ س ّف ً
تقسيامت
ُ وأن احلكومة غري رشعية .كثرت التحزبات والفصائل ،وكثرت ّ
وشح الغذاء والدواء ،يف الوقت الذي زاد فيه تد ّفق السالح. ّ املناطق،
ّساع نطاق املعركة أ ّدى لظهور خميامت الجئني جديدة ،ابتكرت دول ات ُ
عن طريق شاحنات ذاتية القيادة تدخل العامل آلي ًة إلدخال املساعدات ْ
تعقيمها عىل احلدود وإعادة ملئها ثانية.
ُ يتم
ثم ّاملساعدات الغذائية والطبيةّ ،
فعالة لتهريب األسلحة للداخل ،إ ّما أيضا وسيل ًة ّ
كانت تلك الشاحنات ً
دعم
استخرجه النياندرتال ،وإ ّما ملجرد ِ
َ مقابل كتل من معدن الطاقة الذي
فصيلٍ عىل حساب آخر.
بعدَ تسعة أشهر من القتال ،كانت هناك ُ
ثالث عواصم رئيسية للفصائل
األكرب ً
حجم يف هذا الرصاع؛ عاصمة الثوار يف اإلسكندرية ،عاصمة حكومة
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
389
مقرات
األديتيني يف القاهرة ،وعاصمة أناندار يف أنطاليا برتكيا ،إىل جانب ّ
أخرى صغرية للفصائلِ األصغر ،وكان القصف املتبادل والطائرات املسرية
كل العواصم من أعداء حكامها.تغري عىل ّ
فضلت زهرة كعادهتا أن تقيم (عمر) وعائل ُته كانوا يف اإلسكندرية ،وقد ّ
معا االبتعاد
اجلميع منها ً
ُ (ميساء) التي طلب
بني الالجئني وتعاجلهم ومعها ْ
تضع محلها ،واستجابت هلم عىل َمضض .كانت اإلقامة يف عن القتال ح ّتى َ
معرض ًة لقصف أو تفخيخ أو املخيامت ً
أيضا هلا فائد ٌة أخرى وهي ّأنا مل تكن ّ
وجود عمليات عسكرية داخلها أو بالقرب منها.
ِ
الوجه ل ّفتها يف قامط (ميساء) ِ
وبيدها طفلة منرية خرجت زهرة من عند ْ ْ
اجلو املحيط .فوجئت بعمر وباسل وردي اللون ُمزركش ،تطغى هبج ُته عىل ّ ّ
آيات القلق ،فأعطت الطفل َة لباسل وجهيهام ُ
ْ واقفني يف انتظارها ،وعىل
فقبلها وأعادها للزهرة التي صارت جدّ ًة اآلن. ثم ناوهلا جلدّ ها ّ ليقبلها ً
أول ّ ّ
تاركا (عمر) وزهرة ،ومعهام املولود ُة(ميساء) ً استأذن باسل ليدخل عىل ْ
هامسا وهو يقرتب من ً وعالء الصغري الذي بلغ عامه الثّاين .قال (عمر)
ابنأذهنا“ :أوحشتني يا س ّتي زهرة” فرضبته عىل ك ّفه ،وقال“ :اسمها تيتة يا َ
يقبلها ثانية.
كفر الشيخ” فأطلق ضحكته جملجلة وهو يميل عىل الوليدة ّ
تضمه“ :ما
إجهاد حني رأت (باسل) وقالت وهي ّ ٍ (ميساء) يف
ابتسمت ْ
ْ
ً
مبتسم“ :لقد استدعاين القائد هذه املفاجأة اجلميلة ،متى جئت؟” .فقال
حلب أبيها وهي تسأله عن ِ
حال متتمت بكلامت تقدي ٍر ّْ ُعمر عوض اهلل”.
َ
تتعاف برسعة لتعاونه يف القتال. مازحا أن
ً القتال ومستجداته ،فطلب منها
ضاحكا“ :عىلً كان أبوها عىل باب الغرفة حني سمع هذا احلديث ،فقال
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 390
أيامنا كانت املرأ ُة تساعد زوجها يف غيطه أو ّ
دكانه ،أ ّما اليوم فتقاتل جواره”.
عضوا يف جملس احلكم الذي شكله الثوار إلدارة ً كان (عمر) يف تلك األيام
استقرت يف تلك املناطق متا ًما،
ّ األمور
ُ تكن َ
يسيطرون عليها .مل ِ املناطق التي
استقر بعد ،لك ّنهم كانوا يعتربونه
ّ يكن قد
وحتى تشكيل ذلك املجلس مل ْ
مناطق سيطرة الثوار متفرقة ،تشمل اإلسكندرية وشامل ُ نقطة البدء .كانت
ثم منطقة يف الشام تشمل بريوت ودمشق، ووسط دلتا مرص ح ّتى دمياطّ ،
واملشاورات
ُ ُ
املناطق متباعدة ومنطقة يف تركيا تشمل إزمري وما حوهلا .كانت
خليطا من ً ال تزال قائمة لتشكيل حكومة مركزية ،وحكومات حملية ،تكون
مثال عىلالبرش (بأعراقهم املختلفة واملتناحرة) واألديتيني الثوار إلعطاء ٍ
إمكانية قيام دولة مشرتكة.
أرص (عمر) -رغم املحاذير -عىل عملِ سبوع حلفيدته التي أسموها ّ
(ميساء) ليكون قري ًبا من اسم كمريدا
وهو االسم الذي اختارته ْ كاميلياَ ،
استقروا عىل إقامة السبوع يف مسقط رأسه يف كفر الشيخ .كان
ّ وفا ًء لذكراها.
حتت األرض يف منطقة تسمى القنطرة البيضاء من فرتة مقر خمبأ جيدً ا َ
هناك ّ
أرص (عمر)
كتائب النرصّ . ُ تديره
مقرا للمقاومة ُ
ما قبل احلرب الكربى ،كان ًّ
وآخر من املقاومة ،وضياء
ُ عىل دعوة اثنني من ِ
أبناء عمومته ،وجاء ماندريك
املقرب.
صار صديق (باسل) ّ الذي َ
أقبل (ضياء) ومعه فتا ٌة أديتية مليحة الوجه ،عىل غري العادة ،وهنأ َ
وميساء بمولودهتام .كان (ضياء) اآلن يعمل مع املقاومة الداخلية، (باسل) ْ
صار هو وميساء ّ
وكل زمالئهام الذين فبعدَ حصار أديتيا نتيج َة الفريوس َ
كانوا يتبعون املخابرات املرصية ساب ًقا؛ يعملون مع املقاومة التي يقودها عمر
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
391
يعط َل ْ
(ميساء) رسيعا لكي ال ّ
ً اللقاء ودو ًدا ،لك ّنهام أهنياه
ُ وماندريك .كان
وباسل عن تلقي بقية التهاين.
(ميساء) يف أذن باسل قائلةَ “ :من تلك األديتية املعلقة يف ذراع مهست ْ
ْ
“إنا زوجته ،فتاة هجينة ،أبوها أريض ،كان ُمتط ًفا فابتسم ً
قائلّ : َ ضياء؟”.
كوكب أديتيا قبل مخسة وعرشين عا ًما تقري ًبا” .فنظرت مدهوشة وقالت: ِ يف
“ضياء الذي كان ال يطيق رؤي َة األديتيني يتزوج فتاة هجينة ،وهو الذي
تعرف كائنات ملعونة!” .ابتسم (باسل) وقال هلا“ :لقد ّ ٍ كان يعترب اهلجناء
جلنب يف عدة معارك،ٍ انضم إليه ،وقاتال جن ًبا
ّ عليها يف الفصيل املقاوم الذي
بالزواج” .فقالت وهي تلوي فمها“ :وهل حب تكللت ّ قص ُة ّ ونمت بينهام ّ
وقت زواج!”. هذا ُ
يكن رأهيا ليلة أن محلت يفإن هذا مل ْ ً
ضاحكا وهو يقول ّ انفجر (باسل)
َ
خجل وقالت حماولةً وجههاامحر ُ
قبل بدْ ء حرب شاملة بساعاتّ . كاميلياَ ،
نجح يف توحيدناتغيري احلديث“ :هذا الفريوس الذي كان كارث ًة من جهة؛ َ
وحدنا هذا الفريوس؛ الناسمن جهة أخرى” .فقال“ :عندك حقّ ،لقد ّ
يفرقون بني أريض وأديتي ،املشكلةداخل حدود األرض املحتلة مل يعودوا ّ
خالف يف األيديولوجيات وليس خال ًفا ًّ
عرقيا”. ٌ اآلن
(ميساء)
واستقرت العائلة عىل أن تبقى ْ
ّ مر ِ
ت الشهور بعدَ مولد كاميليا، ّ
املخيامت تساعد َّأمها يف تطبيب املرىض ،وترعى الطفلني مؤق ًتا ح ّتى تفطم
يف ّ
ُ
املعارك بني تعود لتويل مها ّمها يف إطار اإلسكندرية فقط .كانت
ثم ُ كاميليا ّ
قوة تتقدّ م
أكثر من مكان ،وال توجد ّأكثر من جبهة ،ويف َجذب وشدّ عىل َ ٍ
أقرب إىل تقسيم
َ األمر
ُ بات يف أرض قوة أخرى دون ْ
أن ترتاجع بعدَ ذلكَ .
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 392
الوضع بالنسبة
ُ وشك أن تنشأ .كان ِ عىل وشك احلدوث ،ودول جديدة عىل
تقل أحيا ًنا ،وكان القتال حنيللناس يزداد سو ًءا ،فقد كانت املساعدات ّ
َ
السكان عىل الرحيل إىل مكان آخر. يشتدّ يف إحدى املناطق جيرب
أي ٍّ
حل يف األفق ،كان تعدّ ُد املعارك وأطرافها املختلفة احلرب مل يكن هلا ّ
ُ
األمور أكثر ،ويزيد األحقا َد يو ًما بعد يوم .بعد ميض عامني عىل عزل
َ يع ّقد
بعثة من منظمة الصحة العاملية حاولت ٌ
ْ األرض املحت ّلة عن بقية العامل
توطن الفريوس يفاستكشاف مدى َّ مكونة من علامء يف األمراض املعدية
ّ
إنسانيا
ًّ السبب
ُ لقاح ضدّ ه .مل يكن ٍ
عينات منه ملحاولة إنتاج ٍ الداخل ،وأخذ
فقط ،ولكن رغبة دول العامل يف االستفادة من مصدر ّ
الطاقة اجلديد ،وطرق
استخراجه كانت هي الدافع األسايس.
ُ
البعثة تعمل يف املناطق التي يسيطر عليها الثوار ،وبعدَ عدّ ة أشهر كانت
مصمم بطريقة ال يمكنّ متوطن بشدّ ة ،وأنّه
ٌ أن الفريوس تبي ألعضاء البعثة ّ ّ
تقنية موجودة عىل كوكب األرض ،وليس من املمكن ٍ بأي
التغلب عليها ّ
كل َمن يقيم عىل األرض املحتلة صار أن ّ
أيضا ّإنتاج لقاح ضدّ ه .اكتشفوا ً ُ
ص ألي إنسان آخر .كان ّ
ملخ ُ نقل العدوى بسهولة ّ حامل للفريوس ،ويمكنه ُ ً
الطب املوجو َد حال ًيا -عىل كوكب األرض -ال ّ شهور من الدراسات أن
وأن األرض املحت ّلة (أو أديتيا األرض) ال بدّ أن حل تلك املشكلةّ ، يمكنه ُّ
ّ
األقل خلمسني عا ًما أخرى. تبقى معزول ًة عىل
***
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
393
53
وجهها ُمتقع ،وهي مرت ّدد ٌة فيام تريد
ُ دخلت شاودريك عىل أناندار، ْ
كانت لل ّتو عائد ًة من جبهة قتالية بنيَ قوات أناندار والقوات احلكومية
قولهْ ،
األديتية يف إحدى القرى الرتكية التي تقع عىل احلدّ الفاصل بني مناطق نفوذ
ُ
القرية بالكامل كام القوتني .قالت يف اضطراب“ :سيدي ،لقد احرتقت
أمرت ،مل يبقَ فيها أحدٌ عىل قيد احلياة ،ال من جنودهم وال من رجالنا وال من
لكن قائدَ
كل املزارعّ ، بمن فيها ،وحرق ّقمنا بتفجري أبراج القرية َ
القروينيْ .
ِ
عودتم قبل أن ُيقتل”. بتلغيم طريق
ِ احلكوميني استطاع القضاء عىل رجالنا
ً
رجال غريهم”. ثم قال“ :ال هيم ،سوف نشرتي قطب أناندار حاجبيه ّ ّ
إن املقاومني يفاوضونتلتقط أنفاسها“ :سيديّ ، ُ فقالت شاودريك وهي
مصم ٌم عىل التفاوض ،ويفعل املستحيل
ّ احلكوميني اآلن ،عمر عوض اهلل
مع رجاله إلنجاح تلك اخلطوة” .فقال أناندار“ :دعيهم جيلسون ،وسوف
َ
املوقف بينهم عىل أكثر من جبهة”. ً
رجال يشعلون أرسل بعدَ ها
“ثم ماذا يا استجمعت شاودريك ما تب ّقى من شجاعتها ،وقالتّ : ْ
هب أناندار واق ًفا
حرب لن يكسبها أحدٌ ولو بعدَ مائة عام”ّ .
ٌ سيدي ،هذه
دولة عظمى “نحن نختلف عنهم ،نحن نسعى إلقامة ٍ ُ وهتف فيها بغضب:
ري حمدود: ينحني العا ُمل أمامها” .فقالت شاودريك وقد امتأل قل ُبها برعب غ ِ
احلرب تأكل ّ
كل يشء، ُ “نعم يا سيدي ،ولكن أديتيا كلها عىل شفا املجاعة،
شحت عن ذي قبل”. واملساعدات ّ
ُ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 394
ً
ضاغطا عىل كتفها وهو ثم وضع يده طويل ًّ صمت أناندار وتأملها
َ
ِ
كفرت برسالتنا يا شاودريك؟” .فر ّدت بتلعثم: يتفحص وجهها ً
قائل“ :هل
ثم نلعب سياس ًة كام يفعل َ
نتفاوضّ ، “مستحيل يا سيدي إنّام أقرتح أن
وانتخابات عىل طريقتهم ،ويف تلك احلالة
ٌ األرضيون ،سيكون هناك أحزاب
ونسيطر عىل أديتيا يف ظروف أفضل”.
َ سنستطيع بأموالنا ورجالنا أن نكسبها
يرتح أناندار للفكرة ،وملَح لشاودريك ّأنا ٌ
دليل عىل نقص والئها ،مل مل ْ
أن ذكاءه ُ
التنازل ح ّتى لو طال أمدُ احلرب ،فهو يرى ّ يكن يرى أنّه جيب عليه
ابح يف النهاية .قالت شاودريك يف يأس“ :تتنازل الر َو ُبعد نظره سيجع ُله ّ
ثمن ال ّنجاة” .فر ّد عليها
لنربح يف النهاية ،التنازل هو ُ
َ اآلن ً
قليل يا سيدي
تكررين كالم العجوز ِ
جننت أ ّيتها اللعينةّ ، أناندار يف غضب ً
قائل“ :هل
تكرر اعتذاراهتا،
أخذت شاودريك ّ ْ املخرف عمر عوض اهلل عىل مسامعي”.
ّ
ِ
وأن اجلملة ربام علقت يف ذهنها بشكلٍ عفوي، وتؤكد ّأنا مل تكن تقصدّ ، ّ
وإن ال ّت َ
عايش يستلزم “إن التعايش هو ثمن النجاةّ ، أن (عمر) قالّ : ُ
واحلقيقة ّ
مجيعا”.
بعض ال ّتنازالت عن أفكار أو مكتسبات ح ّتى ننجو ً ِمن اجلميع َ
بعدَ فاصلٍ من التملق واالعتذار ،قال أناندار يف حسم“ :اسمعي يا
سوف أغفر لك تلك الز ّلة ألنّك أكفأ َمن عاونني ،لك ّنني لن أتردد َ شاودريك،
يف قتلك إذا فعلتِها ثانية” .شكرتْه شاودريك وأهلج َ
لسانا بالشّ كر له والدعاء
ري ُمكرتث ينرصه عىل اجلميع دو ًما ،وحي ّقق آمالهّ .لوح أناندار ِ
بيده غ َ ملاجوها أن َ
يكن متد ّينًا عىل اإلطالق ،ولك ّنه كان حيرتم تدينَها كام
بدعاء مساعدته فهو مل ْ
أكثر
أن املساعد املتدين ُ تدين مساعدهتا ،وكان مثلها يرى ّ كانت شقيقته حترتم َ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
395
تفان ًيا يف خدمة رئيسه تطبي ًقا حلكمة ماجوها“ ..قدّ س مع ّلمك وقائدك كام
تقدّ ُس ربك ،ح ّتى وإن مل يكن متد ّينًا”.
ورأسها يموج باألفكار .دخلت إىل غرفتها انرصفت شاودريك من عنده ُ ْ
وطلب املشورة من ماجوها مبارشة؛ فقد ِ ِ
للصالة والدعاء، وانتحت جان ًبا
ْ
كاهن ،لدرجة ّ
أن رجاهلم املتد ّينني يصلون ٍ متعمق ًة يف الدين ،ويف مرتبة كانت ّ
بني يدهيا حنيَ يكونون بعيدً ا عن املعابد ،وكان ذلك الركن الصغري يف غرفتها
ريا يف حد ذاته.بألوانه احلمراء املميزة يعترب معبدً ا صغ ً
استغرقت شاودريك سننيَ يف التربير ّ
لكل الفظائع التي يرتكبها أناندار ْ
وأن أرض ماجوها املوعودة رجل ذو رؤية ،وأنّه يسعى لألفضلّ ، بحجة أنّه ٌ
قتل عرشات اآلالف من اجلنود ستصري جنة عىل يديهّ .بررت لنفسها َ
ألن رضور َة احلرب اقتضت ذلك ،رغم ّ
أن ٍ
معدودة ّ األرضيني يف ساعات
تربيره هذه األيام هو
تستطع َ
ْ قلبها مل يطمئن لتلك الفعلة بشكل كامل .ما مل
قرى بأكملها ،وحمْوها بسكاهنا بدعوى رضورة احلرب ً
أيضا. إزالة ً
إن األرضيني ،وإن كانوا يف عقيدهتا ّ
أقل شأ ًنا من األديتيني ،إال أهنم ّ
كبقية املخلوقات ،جيب الرت ّف ُق هبم ،وعدم قتلهم ّإل يف
أيضا ّخملوقات ً
ٌ
وقعا عىل نفسها من ْقبل ،فقد رأت الرضورة .كانت املرة األخرية تلك أشدّ ً
أن هناك خطأ جيب تصويبه .من جث ًثا ممزقة لنساء وأطفال ،وشعرت عمي ًقا ّ
خطرا
ً حماوالت (عمر) للتفاوض مع احلكومة ّ
تشكل ِ ناحية أخرى رأت ّ
أن
شديدً ا عليهم وقد تنجح ،وعندها سيصريون حمارصين ،وسيصري أناندار
مهب الريح. ُ
وجيشه ورجاله يف ّ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 396
يؤرقها أحيا ًنا نتيجة تلك املذابح التي
وشعور الذنب الذي كان ّ
ُ ريها
ضم ُ
ريا من شعور اخلوف الذي مت ّلكها حينام فكرت يف َ
أضعف كث ً يرتكبوهنا كان
حتالف احلكوميني واملقاومني .حركها شعور ُ نجح ِ
االحتامالت الواردة إذا َ
يكررها (عمر)
وتعمد استخدام ُجلة ّ
ّ اخلوف ذلك لل ّتحدث مع أناندار،
أن النتيجة كانت عكسيةّ ،
وأن أناندار قد لكن يبدو ّ
يؤرقهْ ،
ليجعل املوضوع ّ
األقل ّ
يشكك يف والئها. ّ يقتلها ،أو عىل
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
397
يضع سيناريوهات لكيفية َ كان أناندار بال أوالد ،وكان يرفض أن
التكوين اهلرمي املعتاد بني رجاله
َ تم قتله .كان يمنع الترصف يف ِ
حال ما إذا ّ
ريه لكنه كان دو ًما ي ّتخذ مساعدً ا يقوم له ّ
بكل املهام ،ويتعمد هو إهانتَه وحتق َ
خاتم يف
ٌ أن ذلك املساعد انطباعا ّ
ً أمام الرجال يف ّ
كل املناسبات ح ّتى يعطي
أصبعه.
ُ
فالرجال الذين يدينون هلا بالوالء كان ذلك يف صالح شاودريك،
سيكونون عىل ِ
قلب رجلٍ واحد يف الوالء هلا ،أ ّما اآلخرون فهم مرتزقة
التحكم هبم لذلك .أهنت
ُ بمجرد موته ،وسيسهلّ سينتهي والؤهم ألناندار
تقرر
صلواهتا وقد وصلت لقرار أنّه ال بدّ أن تنقلب عىل أناندار ،ولكنها مل ّ
بعدُ متى ،وهل جيب أن تتواصل مع ا ُملتفاوضني لتخربهم ّ
بخطتها ،أم عليها
ثم تتواصل معهم. أن تقتله ً
أول ّ
خاصة
تغي عليهاّ ، لوجدت أناندار قد ّ
ْ ر ّبام لو انتظرت عىل تنفيذ خطتها
بأي خري .قد ترى منه
وأن كال َمه معها يف اجللسة األخرية مل يكن يوحي ّ
يدس أحدَ الرجال ليبلغ عن
حتفزا يف األيام القادمة ،ومراقبة لصيقة هلا ،وقد ّ
ً
قرارا فلامذا
كل دقيقة من دقائقها ،وقدْ يلجأ إىل قتلها .مادامت قد اختذت ً ّ
آجل ،واخلطورة التأجيل! هناك خطورة يف التنفيذ ً
حال ،وخطورة يف التنفيذ ً
ألنا ترى ّ
أن املستقبل بالتأكيد ليس ألناندار إذا األكرب يف بقاء الوضع هكذا ّ
ّ
ظل تفكريه كام هو.
وخرجت من الغرفة وهي تنتظر عالم ًة من ماجوها
ْ قامت من جلستها
ْ
متعجل ًة وهي تتجاوز أحدَ رجاهلا
السلم ّ
َ جيب أن تفعل .كانت هتبط
تنبئها بام ُ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 398
تتدحرج عىل السلم
ُ قدمها وكادت
هيبط يف تؤدة ،وفجأة انزلقت ُ الذي كان ُ
فست ذلك احلادث أمسكها ِ
بيده بقوة وأنقذها .عىل الفور ّ َ رج َلها
لوال أن ُ
وجوب تنفيذ قرارها ،وقتل أناندار ِ البسيط عىل أنّه عالمة من ماجوها عىل
َت قرارها املبدئي بالتخ ّلص من أناندار باألساس عىل فورا .الغريب أهنا بن ْ
ً
مستقبل -واحلقيقة ّ
أن أناندار تناسى ً أن أناندار سوف يرتبص هبا فكرة ّ
وفست حاد ًثا عاد ًّيا عىل أنّه عالمة بنت فكر ًة أخرى ّ
ثم ْ املوقف بر ّمتهّ -
حتثّها عىل اإلرساع يف تنفيذ خطتها.
أن انزالقها عىل السلم ٌ
دليل عىل ّأنا تنزلق مع أناندار َ
املوقف ّ تفس
كانت ّ
أن رجاهلا سينقذوهنا بعد أن تقتله. وأن إنقاذ رجلها هلا ٌ
دليل عىل ّ إىل هاويةّ ،
عكس ذلك متا ًما ،فهي متعجلة َ ريه
أن املوقف يمكن تفس ُ ُ
الواضحة ّ احلقيقة
ٌ
عالمة عىل أهنا جيب ْ
أن وتعجلها هو السبب يف انزالقها ،وهذه
ّ لقتل أناندار
يتسق وأفكارها وتلك الشهوة التي ركبت ُ فست احلدث بام ترتوى ،لك ّنها ّ
رأسها ،شهوة السلطة والتخ ّلص من سيد ال يعاملها ّإل باحتقار.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
399
ابتسم برضا ،وقال هلا إنّه ساحمها
َ العفو من أناندار الذي َ بالندم وطالب ًة
ثم
واستمرت يف خطتها ،زحفت عىل ركبتيها ّ ّ بالفعل .مل تصدقه ّ
بالطبع،
املثبت
عن طريق الغشاء ّ السم جللد أناندار ْ
وقبلتها .نقل ّ أمسكت يدَ أناندار ّ
عىل شفتيها وعىل إهبامها ،حتركت اجلزيئات امليكروسكوبية خمرتق ًة طريقها
ظن نفسه خالدً ا ال ُي َ
قهر. لقتلِ َمن ّ
بدأت األعراض يف الظهور عىل أناندار ِ انتظرت شاودريك ً
قليل ح ّتى ْ
تدرجييا،
ًّ اإلحساس بأطرافه
َ وهي تشاهدُ ه يف مجود كامل .كان أناندار يفقد
أن شاودريك قد صدره أ ٌمل رهيب ،ف ِه َم ّ
َ يعرتي قلبه خفقان ،ويعترص
ً
متسائل ،كأنّه يبحث عن تربي ٍر خليانة ً
مذهول قامت بتسميمه ،كان وجهه
ظل يتأ ُمل بأنّات مكتومة
سم كهذاّ .
مساعدته ،أو لضعف جسده عن مقاومة ّ
التعبريات
ُ ح ّتى انقطعت أنفاسه ،ومهدَ متا ًما ،وبقيت عىل وجهه تلك
مرسومة تنبئ بطريقة موته.
فحرضا عىل الفور.َ اثني من الرجال املوالني هلا،طلبت شاودريك ْ ْ
تصارح
َ “اسمعاين ،لقد قتلت أناندار” ،قالتها بحسم ،وقد اختارت أن
أن الكثريين سيستنتجون ّ
أن املرجح ّ
ّ رجليها املقربني بتلك النقطةِ ،
فمن
رسيعا
ً رب عىل الرجلني كالصاعقة ،لك ّنها تداركتهام
الوفاة غري طبيعية .نزل اخل ُ
ودوافعه اإلنسانية والسياسية والدينية .ظ ّلت هبام
َ أسباب قرارها
َ وهي ترشح
ثم السيطرة عىل بخطتها للسيطرة عىل القرصّ ،ثم أبلغتهام ّ
ح ّتى اقتنعا متا ًما ّ
مملكة أناندار بالكامل.
***
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 400
54
كان (عمر) وماندريك يف االجتامع التحضريي األخري قبل الذهاب
ِ
قادة احلكومة األديتية سيجتمع فيها مع
ُ ِ
املفاوضات املبارشة التي إىل
األول ،وممثلني
ورثت إمرباطورية أناندار -ومساعدها ّْ وشاودريك -التي
عن بقية الفصائل الصغرى املتناحرة يف بعض املناطق.
ستة أشهر عىل مرصع أناندار ،وقد خرجت شاودريك بعدها بفرتة مىض ُ
مؤكد ًة ّأنا ورجاهلا قد انقلبوا عىل أناندار من أجل الصالح العام، ٍ
قصرية ّ
استعداد للتفاوض .استطاعت شاودريك السيطر َة عىل ّ
كل ما ٍ وأنم عىل
ّ
ري قليلة من
أن نسبة غ ُ كان أناندار يمتلكه ،فقد كانت تعرف ّ
كل خباياه ،كام ّ
الرجال كانوا حيرتمون خلفيتها الدّ ينية التي متثل هلم قيم ًة كربى.
قبل عدّ ة أشهر ،وكانت ُت َرى عن طريق ِ
بدأت املفاوضات التحضريية َ
كل األطراف الدولية أبدت ّ
أيضاْ . ٌ
أطراف دولية ً ُ
تنخرط فيها اتّصاالت مرئية
االسم الذي سيطلقها
ُ ٍ
بدولة جديدة مكان أديتيا أ ًّيا كان استعدا َدها للقبول
ٍ
صيغة توافقية عليها املتفاوضون ،وأنّه يف حال وصول األطراف املتنازعة إىل
فإن هذه الدّ ول ستساعد الدولة الناشئة وتقيم معها عالقات طبيعية.
تضم األرض املحتلة مثل مرص وتركياّ ِ
عارضت الدّ ول التي يف البداية
وسوريا وغريها فكر َة ّاتاد أجزاء من بالدهم يف ٍ
كيان جديد ،لك ّنهم يف النهاية
حتت حج ٍر
داخل تلك األرض ،والذي يعيش َ َ غ ّلبوا مصلح َة الشّ عب املحارص
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
401
مكو ًنا دولة تستطيع رعاي َة مصالح املوجودين
صحي دويل ،وحيتاج أن ي ّتحدَ ّ
فيها.
ُ
الدول هو املوافق َة عىل قيام الدولة اجلديدة كان االت ُ
ّفاق الذي ارتضته تلك
ُ
الدول أنه يف الصحي موجو ًدا .اشرتطت تلك اخلطر ّ
ُ واستمرارها طاملا ّ
ظل
إجراء
ُ سبب ذلك احلجر الصحي -ولو بعدَ مائة عام -أن ّ
يتم ِ ِ
زوال حال
استفتاء .يعطي َ
ذلك االستفتاء حقَّ تقرير املصري للشعب يف ّ
كل منطقة من
مناطق أديتيا ،واالختيار بني العودة للدولة األصلية واالستمرار يف أديتيا.
يتم ّإل بنسيان أن ّ
احلل لن ّ يف االجتامع ،كان (عمر) ّ
يؤكد جلميع رفاقه ّ
عم جرى خالل أربعة أعوام من القتال الداخيل، املايض ،وذلك بالتغافل ّ
رأي
عرش عا ًما من االحتالل وممارساته .كان لبعض الرجال ٌ َ وأحد
ممارسات قمعية من االنخراط يف احلكم،ٍ َ
شارك يف كل منيف استبعاد ّ
َ
مقابل العفو واستبعاد شاودريك كذلك ،وأن يكون تنازهلا هي ورجاهلا
ِ
باستبعاد عنهم ،والقبول هبم كمواطنني عاديني .قال ماندريك“ :لو بدأنا
َ
ويضعون هم أسامء فلن تنتهي القوائم ،سنضع أسامء نستبعدها
هذا وذاك ْ
ولن ننتهي”.
حماول إعطا َء ماندريك فرصة أكرب فقد كان أغلب ً ّ
ظل (عمر) صام ًتا
ا ُملعرتضني من األديتيني ،بينام كان غالب األرضيني موافقني .كان السبب كام
سامر اللبناينّ :
“إن مشكلتنا األكرب كانت يف تقبل وجود األديتيني بيننا ُ قال
واحلياة معهم جن ًبا إىل جنب -مع احرتامي ألصدقائنا من املقاومة بالطبع-
ٍ
جنس أتى إلينا من الفضاء؛ فال بدّ أن نقبل مادمنا قبلنا بالعيش ا ُملشرتك مع
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 402
بالتعايش مع من أخطأ وال ّتجاوز عن ماضيه” .ر ّدت عليه إحدى األديتيني
ارتكب
َ سامر بحدّ ة“ :مجيعنا
ُ قائلة“ :لكن هناك جرائم ال ُتغتَفر” .فقال
أصابت
ْ فجر قذائف رصاصا ،أو ّ
ً جرائم يف وقت من األوقات ،وكلنا أطلق
َ
املرات ،ال بدّ من التغافل إلهناء هذا الكابوس ،لصالح مدنيني يف إحدى ّ
الناس يا سيديت”.
عمر ً
قائل“ :دعوين أحتدّ ث فلسطيني ُيدعى ّ
ّ ٌ
رجل التقط َ
خيط احلديث َ
تاريخ عريق مع مسألة كتلك .أنتم بالتأكيد تعرفون تارخينا معٌ فأنا من ٍ
بلد هلا
االحتالل واالستيطان الذي سطا عىل بالدنا ،واملوقف اليوم ليس بعيدً ا عن
مجيعا بفريوس جعلنا ُمربين عىل العيشموقفنا مع اإلرسائيليني ،لك ّننا ابتلينا ً
يف مساحة من األرض ُمغلقة علينا بإحكام ،جيب أن ن ّتحد وننسى ما مىض
ألن هذا هو السبيل الوحيد .أيب وجدّ ي ماتا و َ
مها يقاومان االحتالل ،لك ّنني ّ
أجزم ّأنم لو وجدوا فرصة يعيشون فيها بسالم ويسمح بعودة أهاليهم من
نفس احلقوق؛ فلن يامنعوا ،لقد عرضنا عىل أعدائنا الشّ تات ،ويكون هلم ُ
أرضنا وقدسنا وأعيدوا الجئينا ،وسنعيش ذلك يف وقتها ،قلنا أعطونا َ
يتضمن
ّ بغيضا؛ السالم الذي يعرضونه ال ً عدوا
ًّ بسالم ،لك ّنهم كانوا
ري زروعنا ،بل ّإنم كانواأي حقوق لنا ،وال ح ّتى يف املياه التي نريد هبا ّ ّ
يدّ عون ّأنم يعرضون السالم ويف نفس الوقت هيدمون قرا َنا ،ويبنون ً
بدل
شعارا بني
ً جمازا أو ٌ
فرصة للسالم حقيقة ال ً ٍ
مستعمرات هلم .اليوم هناك منها
نفس احلقوق والواجبات ،سيكون األديتي أعراق كثرية سيكون للجميع ُ
والعريب والرتكي وغريهم متساوين ،ماذا نريد غري ذلك؟!”.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
403
خاصة حني رأى
بعض الفخرّ ، نظر إليه (عمر) بابتسامة واسعة يشوهبا ُ
َ
صمت واستجاب لكلمة الرجل التي كانت خطابية بعض اليشء،
َ اجلميع قد
َ
لكن محاسها كان صاد ًقا ً
آرسا.
املخيم ليبيت ليلته َ
قبل الذهاب إىل ّ وتوجه (عمر) إىلّ انتهى االجتامع،
(ميساء) وعىل كتفها طفلتها
وصل واستقبلته ْ َ مقر االجتامع يف بورسعيد. ّ
(ميساء) ّأل ينسى (عالء)
بالغ وهلفة شديدةّ .نبهته ْ التي تلقفها جدّ ها بحنان ٍ
ُ
اإلمهال عىل معتاد عىل تدليله ،وقد يؤثر
ٌ يف غمرة احتفائه بكاميليا ،فعالء
نفسيته وقالت هامسة“ :يكفي أنّه يعيش يف خميم” .فضحك (عمر) وهو
ثم قال هلا“ :يا لك من زوجة يناوهلا كاميليا ويلتقط (عالء) مداع ًبا إ ّياهّ ،
الشيرة” .نظرت أب حنون ،وأنا َمن كان خيشى عىل عالء ِمن زوجة ِ
األب ّ ٍ
ضاحكا“ :أمزح معك ،أين أ ّمك؟” .فقالت“ :ال تزال ً له معاتبة ،فقال هلا
تراجع مرضاها”.
انخرطت يف أعامل داخلية بعيدة عن القتال .أمضت
ْ (ميساء) قد كانت ْ
ثم عادت لتعمل رئيسة لدائرة حفظ األمن ٍ
إجازة للعناية بكاميلياّ ، عا ًما يف
يف غرب اإلسكندرية .وصل (باسل) بعد (عمر) بقليل ،وجلس يناقش معه
ختص التفاوض ،فسألته ميساء“ :هل ستذهب مع أيب إىل هناك؟”. أشياء ّ
نظرت لباسل معاتبة،
ْ عينته مساعدً ا يل”.
ربك باسل ،لقد ّ فسأهلا عمر“ :أمل خي ْ
َ
انشغل يف فأقسم أنّه مل يعرف باخلرب ّإل اليوم ،وأنّه كان سيخربها لوال أنه
نقاش بعض األمور مع أبيها.
امحر هلا وجهها ،وقالت“ :ألن عادت زهرة وتل ّقاها (عمر) بعبارات ّ
غزلية ّ ْ
أوشكت عىل السبعني” .فقال هلا“ :نعم ،والعجوز السبعيني مثيل
َ تعقل أبدً ا،
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 404
مجيعا
صبية حسناء غيداء هيفاء مثلك” .ضحكوا ً عادة ما يفقدُ صوابه حني يرى ّ
(ميساء) لباسل“ :هل تستطيع أن َ
تقول مثل هذا الكالم ،يا لق ّلة حظي”. وقالت ْ
األجواء تدعو للتفاؤل .حني دخلت ُ يف اللقاء التفاويض ،كانت
حيته بشدة، توجهت مبارشة إىل عمرّ . قبل بدء االجتامع ّ ِ
للقاعة َ شاودريك
عجل “أتعرف أهيا العزيز عمر أنّك َمن ّ ُ وس ّلمت عليه بحرارةّ ،
ثم قالت:
“قلت له
ُ ً
مدهوشا“ :وما دخيل أنا؟!” .فقالت: عمر
بقتل أناندار!” .فسأهلا ُ
ثمن
إن التنازل هو ُ ُجلتك األثرية عن ثمن النجاة غري أنّني أخطأت وقلت ّ
“وغضب منك
َ ال ّنجاة ً
بدل من ال ّتعايش” .فقال عمر بلهجة شاب ْتها السخرية:
َ
كشف “كل ّ
بالطبع ،لكنه تفهم السخريةّ : فقمت بقتله!” .فأجابته دون أن َ
كل الشعب عن نواياه بامليضّ إىل أقىص حدّ من أجل طموحاته ح ّتى لو َ
قتل ّ
عايش هوريا فال ّت ُ
جوعا” .فقال عمر“ :عىل العموم ،أنت مل ختطئي كث ًأو أماته ً
نوع من التنازل عىل أي حال”.
دارت جوالت طويلة من املفاوضات العصيبة وكان أكثرها تعقيدً ا هي ْ
ِ
املشكالت األزلية بني األعراق البرشية .كانوا يتساحمون مع النياندرتال وال
طرح ماندريك فكرة أن ّ
كل َ معا يف نقاط اختالفهم ،يف النهاية َ
يتساحمون ً
بحكمها أديتيون ،تكون قوات ِ املناطق ا ُملتنازع عليها بني األرضيني يقوم
حرصا ،والقيادات العليا يف دواوين احلكومة ً الرشطة فيها من األديتيني
واألصعب يف الوقت
َ والبلدية كذلك .كانت القدس َ
املثال األوضح لذلك،
اخلطة يف مدينة القدس صارت ُ
بقية ذاته ،وحني وافق اجلميع عىل تلك ّ
املشكالت يف أماكن أخرى رسيعة احلل.
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
405
االسم الرسمي للدولة ،واتفقوا
ِ َ
أخذ املتفاوضون عد َة أيام ح ّتى اتفقوا عىل
شكلوا جملس حكم انتقايل يف ال ّنهاية عىل تسميتها “مجهورية رشق املتوسط”ّ .
تم التحضري النتخابات عامة. ثم ّ
أدار البال َد طوال فرتة انتقالية مدّ هتا عامّ ،
أرص األرضيون عىل نظا ٍم ديموقراطي ،وأعطوا لألديتيني عدة اختيارات ّ
حكم
ٍ نظام
َ ألنظمة حكم ُمعتادة عىل كوكب األرض ،واختار األديتيون
بعض الصالحيات ،وللوزارة صالحيات أخرى. خمتلط يكون للرئيس فيه ُ
حتت إحلاح من الكثريين ح ّتى ترشح (عمر) لالنتخابات الرئاسية َ ّ
الرتشح .كانت شاودريك حتاول ّ أرسلت إليه رسالة تطلب منه
ْ شاودريك
أن اتّفقت يف املفاوضات االبتعا َد عن املناصب العليا يف املرحلة األوىل بعد ِ
مقابل أن حتتفظ ببعض أعامهلاَ ينضم مقاتلوها للجيش الرسميّ عىل أن
ولكن
ْ حزب سيايس،ٍ ختطط إلنشاء وممتلكاهتا التي ورثتها عن أناندار .كانت ّ
الناس ماضيها مع أناندار.
ُ تستقر األمور وينسى
ّ يف مرحلة الحقة بعد أن
وصار عمر عوض اهلل أول رئيس منتخب َ َ
فاز (عمر) باالنتخابات
ربا أسعدَ اجلميع أرضيني وأديتيني ،فقد
جلمهورية رشق املتوسط .كان خ ً
وحب غالبية َمن يعيشون داخل الدولة اجلديدة.
ِّ كان عمر َ
حيظى باحرتام
مكان ِ
أحد القصور التي َ ومقر إقامته وأرسته يف القاهرة
ّ مقر الرئاسة
كان ّ
شيدها النياندرتال ّأو َل ما وصلوا لألرض ،وجعلوه ًّ
مقرا حلاكمهم. ّ
خطاب تو ّليه احلكم جلس (باسل) معه يراجع بعض
ِ َ
قبل أن يقوم بإلقاء
رب ًما وهو يقول“ :دعك من هذا ،سوف أحتدّ ث
لكن (عمر) قاطعه مت ّ
النقاط ّ
الرسميات” .وضع (باسل) األوراق عىل فخذه، من قلبي ،فأنا ال أجيدُ ّ
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 406
ٍ
حلظة تارخيية مبتسم ،فسأله “ماذا هناك؟” .فقال باسل“ :نحن يف ً ونظر له
أشعر أنّك مثل يارس عرفات حني عا َد
ُ أختيل ح ًّقا أنني أعيشها
كبرية جدًّ ا ،ال ّ
إىل فلسطني ّأول مرة ،أو مثل نيلسون مانديال حنيَ صار حيكم البلدَ الذي
مضطهدً ا”.
َ كان يعيش فيه
خمتلف يا باسل ،أنت زوج ابنتي ٌ مازحا“ :األمر
ً ضحك (عمر) وقال
هز (باسل) رأسه ناف ًيا بشدّ ة تلك وأكثر ِمن ٍ
ابن يل ،وال حتتاج أن تتم ّلقني”ّ .
التهمة رغم ّأنا مزحة ،فقال عمر“ :يارس عرفات كان عائدً ا ليحكم أهله
فقط يف سالم غري مكتملٍ أ ّدى بعد ذلك النتفاضة ثانية كام تعرف ،لك ّننا يف
ختيل معي لو دولة رصنا نحن فيها َمن حيكم املحتلنيّ ، مرحلة خمتلفة ،نحن يف ٍ
كان أبا عامر عائدً ا إىل القدس ليحكم فلسطني التارخيية ك ّلها عر ًبا وهيو ًدا ،هذا
إن أردت رأيي” .رفع (باسل) حاجبيه هو حالنا اآلن ،وهو أقرب إىل مانديال ْ
أمدح
َ مقاطعا“ :ال أقصد ْ
أن ً الرد ،لكن قبل أن يتك ّلم قال ُ
عمر ً
مندهشا من ّ
أوضح لك أنّناالرجلني ،إنّام أردت أن ّ ريا من هذين ّ نفيس يا بني ،أنا ُ
أبسط كث ً
الفريوس الذي أطلقه أناندار ملَا ك ّنا وصلناُ يف موقف خمتلف ،ولوال ذلك
ُ
الظروف لست ً
زعيم يا (باسل) ،أنا رجل عادي وضعتني لتلك النقطة ،أنا ُ
احلقيقيني كانوا
ّ يف هذا املوقف” .فقال باسل بنربة فخرّ :
“كل الزعامء العظام
رس عظمتكم”. يرون أنفسهم ً
برشا عاد ّيني بسطاء ،وربام كان هذا ّ ْ
ثم
توجه (عمر) للمكان الذي سيلقي منه خطابه ،وأخذ زهرة يف يده ّ
ّ
املنصة ،وبدأ خطابه ً
قائل“ :قبل أن أحدّ ثكم عن جواره عىل يمني ّ
َ أوقفها
قصة من املايض .لقد بدأت رحلتي هذه بتحدّ
أقص عليكم ّالغد ،دعوين ّ
األخيرة
َ ُ
توطنةالم ْس
ُ
407
اخليار
ُ تقف جانبي اآلن ،كانوضعني فيه بعض األشخاص أنا وامرأ ٌة مجيلة ُ
صع ًبا بني احلرية العسرية والعبودية املرحية ،واخرتنا احلرية ،وساعدنا عليها
مجيعا رجال رشفاء من األديتيني أخرجونا من تلك املحنة بسالم .أنا وأنتم ً ٌ
نكافح
ُ مرت علينا سنني ْ
خضنا أيا ًما عسرية ،تعاونا وتقاتلنا ،اتفقنا واختلفناّ ،
ٍ
حلكمة احتالل ،وسنني أخرى نتقاتل فيام بيننا ،لكننا يف ال ّنهاية وصلنا ً
احرتام عرق
َ وقبول بعضنا البعض هو ثمن النجاة .أن َ واحدة؛ ّ
أن التعايش
أمر ال غنى عنه من أجل العيش املشرتك وهو اآلخر وأفكا ِره ودينِه هو ٌ
كل األديان أمر ت ّتفق عليه ّ البديل الوحيد للفناءّ ،
أن تقديس حقّ احلياة أكثر ٌ
أرضية وأديتية ،وينبغي أن يكون ً
ماثل أمام عيوننا ،دعونا نبني غدً ا أفضل يف
معا
مجيعا ،نزرع أرضنا ً
نستثمر مصادر طاقتنا وعلومنا ً
ُ دولتنا الوليدة ،دعونا
احلب ليكون وقو َد أيامنا
نستثمر ُّ معا بدون كراهية ،دعونا
ونصنع مستقبلنا ً
القادمة”.
[ ّمتت ْ
بحمد اهلل]
األخيرة
َ ُ
توطنة الم ْس
ُ 408