Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 408

‫ُ‬

‫توطنة‬ ‫الم ْس‬


‫ُ‬
‫األخيرة‬
‫َ‬
‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫رواية‬
‫سراج منير‬
‫إىل رشوق وخلود وزياد؛‬
‫أحبكم‬ ‫لكن ْ‬
‫عذري الوحيد ّأن ّ‬ ‫ُ‬
‫يوشك عىل ال ّتداعي‪ّ ،‬‬ ‫أنجبتُكم يف عامل ٍ‬
‫أكثر من احلياة نفسها‪.‬‬
‫َ‬
‫مق ّدمة تاريخية‬
‫إن هناك مجاع ًة من إنسان‬ ‫ُ‬
‫احلكاية ال ّتارخيية‪ -‬التي يروهيا الكثريون‪ّ -‬‬ ‫تقول‬
‫منذ مائة ومخسني ألف‬‫املتوسط ُ‬
‫ّ‬ ‫الشقي للبحر‬ ‫نياندرتال عاشوا يف احلوض ّ‬
‫رب الكون‪،‬‬
‫السفر ع َ‬‫مكنتهم من ّ‬‫عا ٍم تقري ًبا‪ .‬كانت هلم حضار ٌة متقدّ مة للغاية‪ّ ،‬‬
‫سموه كوكب أديتيا‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫كوكب آخر ّ‬ ‫واستيطان‬
‫إن تلك اهلجر َة جاءت بنا ًء‬ ‫ُ‬
‫احلكاية الدّ ينية التي يؤمن هبا أغل ُبهم ّ‬ ‫تقول‬
‫ِ‬
‫عودتم إذا جا َء عليهم‬ ‫ينص عىل وجوب‬ ‫نفس األمر ّ‬‫وإن َ‬ ‫عىل أم ٍر إهلي‪ّ ،‬‬
‫الذكور بالعطب‪ .‬وقد بدأ املواليدُ الذكور بالفعل يف اإلصابة‬
‫ُ‬ ‫زمن أصيب فيه‬
‫ٌ‬
‫لقية عديدة منذ مائة عام تقري ًبا‪ ،‬وكانت تلك إشار ًة للمتد ّينني‬ ‫بعيوب ِخ ّ‬
‫ٍ‬
‫العودة إىل األرض املقدسة؛ األرض التي سكنَها أسال ُفهم حسب‬ ‫ِ‬ ‫بوجوب‬
‫نقص يف‬ ‫ِ‬
‫العيوب اخللقية هو ٌ‬ ‫أن العلامء ّأكدوا ّ‬
‫أن سبب‬ ‫رغم ّ‬
‫األسطورة‪َ ،‬‬
‫ِ‬
‫حتديد جنس الذكر‪.‬‬ ‫كروموسوم واي ‪ Y‬املسئول عن‬
‫منذ مخسني عا ًما بدأ النياندرتال‪ -‬الذين يعيشون يف أديتيا‪ -‬مراقبة‬ ‫ُ‬
‫أرضيني إلجراء ال ّتجارب عليهم؛ ملعرفة‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫اختطاف‬ ‫ثم بدأوا يف‬
‫األرض‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫واستيطان خارجي‪ .‬كان أحدُ هؤالء‬ ‫ٍ‬
‫الحتالل‬ ‫سلوكهم وكيفية استجابتهم‬
‫أن هيرب هو ورفيق ُته من‬‫رجل مرص ًّيا ُيدعى عمر عوض اهلل‪ ،‬استطاع ْ‬ ‫ً‬
‫َ‬
‫يعارضون اهلجرة لكوكب‬ ‫ِ‬
‫بمساعدة بعض النياندرتال الذين‬ ‫كوكب أديتيا‬
‫أن غزو‬‫لتحذيره من ّ‬‫تواصل معه هؤالء املعارضون بعد ذلك ْ‬ ‫َ‬ ‫األرض‪ ،‬وقد‬
‫قادم ال حمالة‪ ،‬وعليه االستعداد هو وآخرون ملقاومتهم‪.‬‬
‫النياندرتال ٌ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪7‬‬
‫ٍ‬
‫وعدد‬ ‫ٍ‬
‫بعتاد‬ ‫يف عام ألفني وثالثة وثالثني‪ ،‬وصل النياندرتال لألرض‬
‫َ‬
‫يظهرون‬ ‫كوين جيعلهم‬ ‫رب صد ٍع ْ‬ ‫ٍ‬
‫انتقال آنية ع َ‬ ‫ِ‬
‫بواسطة أجهزة‬ ‫رهيبني‪ ،‬نقلوهم‬
‫ٍ‬
‫مساحات‬ ‫يصلون إليها‪ّ .‬‬
‫احتل النياندرتال يف أيا ٍم قليلة‬ ‫َ‬ ‫فجأة يف األماكن التي‬
‫مرص جنو ًبا لرتكيا‬
‫َ‬ ‫واسع ًة من دول عدّ ة يف رشق ْ‬
‫البحر املتوسط متتدّ من‬
‫مرورا ببالد الشام كلها‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫شامل‪،‬‬
‫تزعمها يف مرص عمر عوض‬ ‫شعبية ضدّ االحتالل ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫مقاومة‬ ‫كانت هناك‬
‫اهلل‪ ،‬بال ّتعاون مع أصدقائه ِمن النياندرتال ا ُملعارضني‪ ،‬وكان مثله آخرون يف‬
‫شعبيون‪ ،‬يقاتلون بنفس الطريقة‪ .‬كانت هناك‪ً -‬‬
‫أيضا‪-‬‬ ‫ّ‬ ‫كل بلد؛ مقاومون‬‫ّ‬
‫فرق مقاومة مدعومة ِمن خمابرات الدول التي اح ُت ّلت أراضيها‪ ،‬كان بينها‬
‫وسط ّ‬
‫كل‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬
‫تعاون أحيا ًنا‪ ،‬وصدام أحيا ًنا أخرى‪.‬‬ ‫وبني فرق املقاومة الشعبية‬
‫االسم األبرز‪ ،‬وهو الذي َ‬
‫بذل املحت ّلون‬ ‫َ‬ ‫هو‬
‫هؤالء كان عمر عوض اهلل َ‬
‫قصارى جهدهم للقبض عليه‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ومعاونوهم‬
‫ُ‬
‫املقاومة ثامين سنوات قبل أن يقبض النياندرتال عىل عمر‬ ‫استمرت تلك‬ ‫ّ‬
‫فكر قاد ُة‬‫وبعض من رجاله‪ .‬وبعدَ عامني من ذلك التاريخ‪ّ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫عوض اهلل‬
‫ودول أخرى يف ال ّتفاوض مع النياندرتال إلطالق رساح‬ ‫ٍ‬ ‫املخابرات يف مرص‬
‫ثم االستعانة به بعدَ ذلك ليكون واجه ًة للمقاومة متهيدً ا‬ ‫َ‬
‫مقابل آخرين‪ّ ،‬‬ ‫عمر‬
‫قصتنا‪..‬‬ ‫ُ‬
‫أحداث ّ‬ ‫حرب حتري ٍر شاملة‪ .‬ومن هنا تبدأ‬‫ِ‬ ‫لبدْ ء‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪8‬‬
‫األول‬
‫القسم ّ‬
‫ُ‬
‫مقموعون َ‬
‫وقتلة‬ ‫ْ‬
‫قبح االستيطان‪،‬‬ ‫ِ‬
‫بالبشاعة َ‬ ‫ونمحو‬
‫عار االحتالل‪ْ ،‬‬
‫«نحن نغسل بالدّ ماء َ‬
‫ُ‬
‫شعارا َ‬
‫لعل ٍم جديد»‬ ‫ً‬ ‫ونرسم بجثث القتىل‬
‫ُ‬
‫ُ‬
‫جمهول االسم‬ ‫ٌ‬
‫قاتل‬
‫‪1‬‬
‫الكلامت يف رأس (معاذ)‬
‫ُ‬ ‫وعيونا»‪ ..‬تر ّددت تلك‬‫ِ‬ ‫(ميساء)‬ ‫ُ‬
‫«لعنة اهلل عىل ْ‬
‫إثر رضبة عنيفة‬
‫رح يف حاجبه؛ َ‬ ‫تلو األخرى من ُج ٍ‬ ‫وهو يرى نقط َة د ٍم تتساقط َ‬
‫فشل يف اإلجابة عليها‪ .‬مل ِ‬
‫يكن‬ ‫وجهها إليه املح ّقق بعدَ سيلٍ من األسئلة َ‬ ‫ّ‬
‫تناثر من شائعات ّ‬
‫أن‬ ‫يعرف ممّا َ‬‫ُ‬ ‫املح ّقق من املحت ّلني؛ بل ِمن أهل بلده‪ ،‬وهو‬
‫وأحقر أسلو ًبا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أكثر عن ًفا‬
‫األصليني ُ‬
‫ّ‬ ‫املح ّققني من أهل البلد‬
‫أمام عينيه‪ ،‬وأملًا‬
‫جعلت األضواء تتناثر َ‬ ‫ِ‬ ‫صفعة ثقيلة عىل وج ِهه‬ ‫ٌ‬ ‫هوت‬
‫ْ‬
‫صدغه من تلك الناحية بعدَ أن قال‪« :‬ال أدري» ّ‬
‫للمرة العارشة‬ ‫َ‬ ‫ُم ًّضا يمأل‬
‫(ميساء) منه‪ ،‬وما الذي أعا َدها حلياته بعد‬ ‫أقل من دقيقة‪ .‬ماذا كانت تريدُ ْ‬ ‫يف ّ‬
‫ِ‬
‫الطريقة‬ ‫ِ‬
‫حقيق معه بتلك‬ ‫عودتا للقبض عليه‪ ،‬وال ّت‬
‫ُ‬ ‫كل تلك السنني‪ ،‬لتؤ ّدي‬ ‫ّ‬
‫َ‬
‫داخل احلائط ال‬ ‫ست سنوات يميش‬ ‫أكثر من ّ‬
‫املهينة املوجعة؛ هو الذي أمىض َ‬
‫(ميساء) ملدّ ة قصرية‪،‬‬
‫أن قابل ْ‬ ‫ِ‬
‫بالتخريب واإلرهاب بعدَ ْ‬ ‫جواره‪ُ ،‬ي ّت َهم اآلن‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫كامتالك قنبلة أو حيازة سالح!‬ ‫ٌ‬
‫شبهة خطرية‬ ‫جمرد مقابلتها‬ ‫وكأن ّ‬ ‫ّ‬
‫يسمون أنفسهم‬ ‫الغزاة‪ّ .‬‬‫املرة؛ بل من ُ‬‫أرضيا هذه ّ‬
‫ًّ‬ ‫آخر‪ ،‬مل يكن‬ ‫َ‬
‫دخل حم ّقق ُ‬
‫املسموح إطالقها عىل املحت ّلني‪ّ ،‬‬
‫كل‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫التسمية الوحيدة‬ ‫باألديتيني‪ ،‬وهي‬
‫ّ‬
‫ثامن‬ ‫ِ‬
‫بإيقافه ملدّ ة ٍ‬ ‫استخدامها جريم ًة ُيعاقب فاع ُلها‬
‫ُ‬ ‫املسميات األخرى يعترب‬
‫ُ‬
‫ثالثة صنابري تقطر املا َء فوق‬ ‫حديدي‪ ،‬وفو َقه‬
‫ّ‬ ‫وأربعني ساع ًة مثب ًتا إىل ٍ‬
‫قائم‬
‫ِ‬
‫رأسه ببطء‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪11‬‬
‫يسموهنم بالنياندرتال‪ ،‬وهي ال ّتسمية التي أطلقها عليهم العا ُمل‬ ‫املتع ّلمون ّ‬
‫خارج األرايض التي احت ّلوها ح ّتى عام ألفني وثالثة وأربعني‪ .‬يف هذا‬ ‫َ‬ ‫أمجع‬
‫أغلب دول العامل بدولتِهم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫اعرتفت‬
‫ْ‬ ‫ِ‬
‫بتسعة أعوام‪،‬‬ ‫َ‬
‫االحتالل‬ ‫العام‪ ،‬الذي َتل‬
‫إطالق لفظ نياندرتال عليهم ً‬
‫تقليل‬ ‫ُ‬ ‫األمم امل ّتحدة‪ ،‬وصار‬
‫ِ‬ ‫عضوا يف‬
‫ً‬ ‫وصارت‬
‫البعض‬‫ُ‬ ‫املسميات األخرى التي تستدعي العقوب َة كثرية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫من شأهنم‪ .‬كانت‬
‫لكن‬‫سمهم بالقرود‪ ،‬وهكذا‪ْ ..‬‬ ‫لقب «املساخيط»‪ ،‬واآلخر ّ‬ ‫أطلق عليهم َ‬
‫ومع تعدّ د العقوبات‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الوقت َ‬ ‫يات ختتفي مع‬‫املسم ُ‬
‫بدأت تلك ّ‬
‫يغادر معه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫كلامت للمح ّقق املرصي جعله‬ ‫بضع‬
‫َ‬ ‫قال املح ّقق األديتي‬
‫واقتياده ِ‬
‫لفراشه‪ .‬قام املساعدُ ‪-‬‬ ‫ِ‬ ‫بفك قيود (معاذ) من ّ‬
‫الطاولة‬ ‫ِ‬
‫ملساعده ّ‬ ‫ويشري‬
‫الضيقة التي حتوي ً‬
‫فراشا‬ ‫ممر طويل إىل زنزانته ّ‬
‫رب ّ‬ ‫أيضا‪ِ -‬‬
‫بنقله ع َ‬ ‫وهو مرصي ً‬
‫الضامدات‬‫بعض ّ‬‫بكيس صغري فيه ُ‬‫ٍ‬ ‫َ‬
‫وقذف له‬ ‫ومر ً‬
‫حاضا‪،‬‬ ‫عىل قدْ ر رقدته فقط‪ْ ،‬‬
‫ليضعها عىل جرح رأسه‪.‬‬
‫َ‬
‫عام ألفني وأربعة وثالثني‪ ،‬ومعاذ يف اخلامسة عرشة من عمره؛‬‫الغزو َ‬
‫ُ‬ ‫بدأ‬
‫درايس عادي‪ ،‬بينام يميض هو‬
‫ّ‬ ‫يف السنة األوىل الثانوية‪ .‬بدأ الغزو يف يو ٍم‬
‫َ‬
‫ورسائل عن‬ ‫ُ‬
‫اهلواتف بفيديوهات‬ ‫تضج‬
‫ّ‬ ‫وقت االسرتاحة‪ ،‬بدأت‬ ‫وميساء َ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫غريبة‬ ‫ومدرعات‬
‫ّ‬ ‫وعن أشخاص مق ّنعني‬ ‫تنبت من الفراغ‪ْ ،‬‬
‫حواجز وبوابات ُ‬
‫الشّ كل تظهر حوهلا‪.‬‬
‫ُ‬
‫معارك تدور بني الغزاة‬ ‫تتوارد أخبار الغزو‪،‬‬
‫ُ‬ ‫عادوا إىل بيوهتم‪ ،‬وبدأت‬
‫مدن عدة يف احلوض الرشقي‬ ‫وقوات األمن يف ٍ‬ ‫الذين ظهروا من العدم ّ‬
‫وغزة ودمشق وإزمري وغريها‪ ،‬سقط فيها‬
‫للبحر املتوسط؛ مدن مثل القاهرة ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪12‬‬
‫ود ّمرت ُ‬
‫آالف املعدّ ات‬ ‫مئات ّ‬
‫الطائرات‪ُ ،‬‬ ‫وأسى‪ ،‬سقطت ُ‬ ‫ُ‬
‫آالف اجلنود قتىل ْ‬
‫يسقط ٌ‬
‫قتيل واحد من الغزاة‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫العسكرية‪ ،‬بينام مل‬
‫مدرع ال يكشف شيئًا من أجسادهم أو وجوههم‬‫بزي ّ‬ ‫كان الغزا ُة ّ‬
‫حمميني ّ‬
‫ُ‬
‫قذائفهم التي‬ ‫قطع من احللوى‪ ،‬يف املقابل كانت‬
‫يرتدّ عنه الرصاص كأنّه ٌ‬
‫الصغرية تتبع اجلنو َد البرش ّيني وخترتق أجسادهم‪.‬‬
‫احلراب ّ‬
‫َ‬ ‫تشبه‬
‫خارج مناطق احلواجز التي‬ ‫َ‬ ‫هرب الكثريون‬
‫َ‬ ‫يف األيام األوىل للغزو‪،‬‬
‫أهل أو سكن يف‬‫أنشأها الغزاة‪ ،‬وجعلوها حدو ًدا لدولتهم‪ ،‬أولئك الذين هلم ٌ‬
‫أي مكان جنوب القاهرة أو غرب اإلسكندرية جلأوا إليه‪ ،‬أ ّما الباقون فظ ّلوا‬ ‫ّ‬
‫يف بيوهتم آملني أن يقوم العا ُمل بنجدهتم كام وعدوا‪.‬‬
‫لدحر الغزاة؛‬
‫طائراتم وأساطيلهم ْ‬ ‫ِ‬ ‫أصيبت ُ‬
‫دول العامل باجلنون‪ ،‬أرسلوا‬ ‫ْ‬
‫مهمة‪ ،‬وأيقن العا ُمل أمجع أنّه ال‬
‫أي ّ‬ ‫تتمكن من تنفيذ ّ‬ ‫لكن طائر ًة واحدة مل ّ‬
‫ّ‬
‫يعرف أحدٌ وقتَها ِمن أين جاؤوا‪،‬‬‫ْ‬ ‫أمام هؤالء الغزاة الذين مل‬
‫سبيل للوقوف َ‬
‫وال كيف ظهروا ِمن العدم هكذا؟!‬
‫بأنام‬
‫كل يشء‪ ،‬فقد أنبأها أبواها ّ‬ ‫ُ‬
‫تعرف ّ‬ ‫األول‬
‫(ميساء) من اليوم ّ‬
‫كانت ْ‬
‫وأن هؤالء الغزاة من ساللة البرش األوائل‪-‬‬‫أن ذلك الغزو قادم‪ّ ،‬‬ ‫َ‬
‫يعلمن ّ‬
‫اسمه كوكب أديتيا ليستوطنوا‬ ‫ٍ‬
‫كوكب بعيد ُ‬ ‫إنسان نياندرتال‪ -‬وقد عادوا من‬
‫أن أسال َفهم عاشوا فيها‪ّ .‬‬
‫كذبا (معاذ) يف البداية‪،‬‬ ‫األرايض التي يدّ عون ّ‬
‫األول‪ ،‬وكان‬
‫بيانم ّ‬‫يمر أسبوع ح ّتى أذاع الغزاة َ‬
‫لكن مل ّ‬
‫واتمها باجلنون‪ْ ،‬‬ ‫ّ‬
‫هبذا املعنى‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪13‬‬
‫ٍ‬
‫لغرفة مضيئة‪،‬‬ ‫املرة‬
‫مرة أخرى‪ ،‬أخذوه تلك ّ‬ ‫أرسل إليه املح ّقق املرصي ّ‬
‫مكتب جيلس خل َفه املحقق األديتي الذي يبدو أنّه يدير مركزَ االستجواب‬ ‫ٌ‬ ‫هبا‬
‫لكن‬
‫قيظا يف هذه األيام‪ّ ،‬‬ ‫اجلو ً‬
‫املحقق املرصي‪ .‬كان ّ‬ ‫ُ‬ ‫هذا‪ ،‬وإىل جوا ِره جيلس‬
‫بواحد من تلك األجهزة التي أحرضوها معهم‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫مكي ًفا‬
‫جو ُها ّ‬
‫تلك الغرفة كان ّ‬
‫ركن الغرفة فيجعل‬ ‫يوضع يف ِ‬‫ربع مرت‪َ ،‬‬
‫ارتفاعه َ‬
‫ُ‬ ‫مكعب ال يتجاوز‬‫وهو ّ‬
‫اشرتاه لل ّتو‪.‬‬ ‫قامش صو ّ‬
‫يف ْ‬ ‫مميز ًة‪ّ ،‬‬
‫تذكره برائحة ٍ‬ ‫حرارتا مناسبة متا ًما‪ ،‬ورائحتها ّ‬
‫َ‬
‫اجلميع عىل‬
‫َ‬ ‫يفهمها معاذ‪ ،‬فقد أجربوا‬ ‫الرجل ببطء ٍ‬
‫بلغة أديتية ُ‬ ‫ُ‬ ‫حتدّ ث‬
‫الرسمي بغريها‪ْ ،‬‬
‫وإن‬ ‫َ‬
‫احلديث ّ‬ ‫تع ّلمها يف السنوات القليلة املاضية‪ ،‬ومنعوا‬
‫ٍ‬
‫شعب عندَ احلديث فيام بني أفراده‪ ،‬وعندَ‬ ‫لكل‬ ‫سمحوا باستخدام ال ّلغة ّ‬
‫األم ّ‬
‫ممارسة شعائره الدينية‪.‬‬
‫املخربني‪،‬‬
‫ّ‬ ‫لست من‬
‫بلهجة ودود‪« :‬نحن نعرف أنّك َ‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫املحقق األديتي‬ ‫قال‬
‫بميساء‪ ،‬لك ّنها انتهت‪ ،‬لكن ما ال تعرفه‬ ‫وأن هناك عالق ًة قديمة كانت ُ‬
‫تربطك ْ‬ ‫ّ‬
‫الدهشة وهو يسأل‪« :‬كيف استغ ّلتني!؟»‬
‫ُ‬ ‫(ميساء) استغ ّلتك»‪ .‬مألتْه‬ ‫أنت هو ْ‬
‫(ميساء)‬
‫أن ْ‬ ‫َ‬
‫تعرف ّ‬ ‫جيب فقط أن‬ ‫فتطوع املرصي باإلجابة‪« :‬ليس من شأنك‪ُ ،‬‬ ‫ّ‬
‫جمرمة خطرية مثل أبيها متا ًما»‪.‬‬
‫ِ‬
‫احلكايات عن والد ميساء‪ ،‬وكيف أنّه بعد ثالثة أعوام من‬ ‫يسمع‬
‫ُ‬ ‫كان‬
‫ٍ‬
‫أرسة‬ ‫رب‬
‫جمرد ِّ‬
‫عم عمر الذي كان ّ‬ ‫صار من رموز املقاومة ضدّ الغزاة‪ّ .‬‬
‫الغزو َ‬
‫نوعا ما‪،‬‬
‫ناجحا ً‬‫عمل ً‬ ‫قصصا ال يقرؤها أحد‪ ،‬ويدير ً‬ ‫ً‬ ‫هادئ ّ‬
‫الطباع يكتب‬
‫مرة يراه فيها‪ ،‬عىل عكس زوجتِه الدّ كتورة زهرة التي‬
‫كل ّ‬ ‫ٍ‬
‫بجفاء يف ّ‬ ‫ويعامله‬
‫عم عمر‬ ‫يكن يصدّ ق ّ‬
‫أن ّ‬ ‫ميساء؛ ابنتها الوحيدة‪ .‬مل ْ‬ ‫كانت حتتفي ّ‬
‫بكل زمالء ْ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪14‬‬
‫نفسه ذلك الرجل الذي أسقط العديدَ من جنود الغزاة‪ ،‬والذي كان جييدُ‬‫هو ُ‬
‫ِ‬
‫لدرجة ّ‬
‫أن بعض العجائز ل ّقبوه بعمر الزيبق‪.‬‬ ‫ال ّتسلل والتخ ّفي‪،‬‬
‫وخاصة بعد أن أعلنت السلطات‬ ‫ّ‬ ‫الناس حوله‪،‬‬
‫ُ‬ ‫عم عمر الذي اختلف‬ ‫ّ‬
‫األم‪ ،‬وأنّه ال يدافع عن‬ ‫ٍ‬
‫عن َعاملته ملجموعات ختريبية من كوكبهم ّ‬ ‫األديتية ْ‬
‫مقابل امتيازات ووعود بالسلطة‪.‬‬‫َ‬ ‫املخربني‬
‫خطط هؤالء ّ‬ ‫َ‬ ‫املرصيني‪ ،‬وإنّام ين ّفذ‬
‫ٌ‬
‫رجال مثل‬ ‫يقودها‬
‫كل بلد حتت االحتالل كانت هناك جمموعات مقاومة ُ‬ ‫يف ّ‬
‫وصاحب العمليات األكثر إيال ًما للغزاة‪.‬‬
‫َ‬ ‫األكثر مهار ًة‪،‬‬
‫َ‬ ‫عمر‪ ،‬لك ّنه دو ًما كان‬
‫نفسه‬‫(ميساء) تزوره؛ السؤال ُ‬ ‫السبب الذي جعل ْ‬‫َ‬ ‫إن كان يعرف‬ ‫سأله ْ‬
‫ٍ‬
‫بلهجة‬ ‫يكرره اآلن‬
‫حتت وقع الرضب والتهديد‪ّ ،‬‬ ‫ريا َ‬ ‫كرره اليوم كث ً‬
‫الذي ّ‬
‫يتغي يف دقائق‪ .‬كانت إجاب ُته كام‬
‫رأي (معاذ) سوف ّ‬ ‫أن َ‬ ‫يظن ّ‬
‫ودود‪ ،‬وكأنّه ّ‬
‫ُ‬
‫يعمل به‪،‬‬ ‫قال من ْقبل أنّه ال يعرف‪ ،‬وأنّه فوجئ هبا عىل ِ‬
‫باب املتجر الذي‬
‫كثريين‬
‫َ‬ ‫وإنا جلأت ألصدقاء‬
‫وأنّه صدّ قها حني قالت ّإنا تبحث عن عمل‪ّ ،‬‬
‫يتزوجها‪.‬‬
‫(ميساء) طلبت منه أن ّ‬
‫أن ْ‬‫لكن ما مل يق ْله هو ّ‬
‫ومل يساعدْ ها أحد‪ْ ،‬‬
‫ٍ‬
‫بكلامت غري مرتابطة‪.‬‬ ‫الطلب مفاجئًا له‪ ،‬وتلعثم وهو ير ّد عليها‬‫ُ‬ ‫كان‬
‫رأت ْارتباكه‪ ،‬وسألته إن كان‬ ‫ري يائس حني ِ‬ ‫وجهها امتأل بتعب ٍ‬
‫َ‬ ‫الحظ ّ‬
‫أن‬
‫حب الطفولة‬ ‫ري من ّ‬ ‫حبها‪ .‬مل يد ِر كيف جييبها؛ ال ُ‬
‫يزال يف قلبه الكث ُ‬ ‫كف عن ّ‬ ‫َّ‬
‫أرضي ْي مل يعدْ‬
‫ّ‬ ‫الزواج بني‬
‫منذ وقتها‪ّ .‬‬ ‫لكن مياه كثرية جرت يف ال ّنهر ُ‬
‫الطاهر‪ْ ،‬‬
‫السلطات يستغرق وق ًتا للموافقة عليه‪،‬‬ ‫إذن ُمسبق من ّ‬ ‫سهل؛ فهو حيتاج إىل ٍ‬‫ً‬
‫زواجهام يف احلال‬
‫ُ‬ ‫وقد ُير َفض‪ .‬يف املقابل‪ ،‬إذا أرا َد أن يتزوج أديتية فس ُي َ‬
‫عتمد‬
‫ٍ‬
‫معونة كبرية‪.‬‬ ‫مع رصف‬ ‫َ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪15‬‬
‫ربه عىل التقديم يف خدمة للتوفيق يف‬‫بأن أباه أج َ‬‫مل جيرؤ عىل إخبارها ّ‬
‫ِ‬
‫والفتيات األديتيات‪ ،‬وأنّه عىل موعد مع فتاة‬ ‫الزواج بني الشّ باب املرص ّيني‬‫ّ‬
‫ً‬
‫ضئيل إذا أخربها‬ ‫أحس بأنّه سيكون‬
‫ّ‬ ‫األسبوع القادم‪.‬‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫رشحتها له األجهز ُة‬
‫يبيعون أجسادهم ونس َلهم للغزاة مقابل ٍ‬
‫وعد‬ ‫َ‬ ‫أنه من هؤالء الشّ بان الذين‬
‫بحياة رغدة‪.‬‬
‫وأنا كانت‬ ‫فرضت نفسها عليه بتلك الطريقة‪ّ ،‬‬
‫ْ‬ ‫أخربتْه ّأنا آسفة ألهنا‬
‫مشاعر املراهقة تلك ال تزال موجودة لليوم‪ .‬نفى ذلك‬
‫َ‬ ‫أن‬‫ساذج ًُة حني ظ ّنت ّ‬
‫َ‬
‫عنوان‬ ‫ينس حلظ ًة واحدة ما كان بينهام‪َ .‬‬
‫قبل أن متيش أعط ْته‬ ‫بشدّ ة‪ ،‬وقال إنّه مل َ‬
‫مهم ال تستطيع أن َ‬
‫تناقشه معه اآلن‪ .‬كاد‬ ‫مطعم قالت إهنا تريدُ أن تقابله ألم ٍر ّ‬
‫ليتحمل نظر َة األسى يف عينيها للمرة الثانية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫يرفض لك ّنه مل يكن‬
‫دخل املتجر‪،‬‬‫برشطيني َ‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫بساعة تقري ًبا فوجئ‬ ‫انرصفت من عنده‬
‫ْ‬ ‫بعدَ أن‬
‫ِ‬
‫بالقبض عليه واقتياده هلذا املكان ال َبغيض الذي كان يف يو ٍم من األيام‬ ‫وقاما‬
‫أمر‬ ‫ٍ‬
‫مناسبة َ‬ ‫مقرا إلدارة التجنيد‪ .‬يف هناية االستجواب الذي صار ود ًّيا دون‬‫ًّ‬
‫أن يأيت‬‫أن طلب منه ْ‬ ‫احلراس بمرافقته خلارج املبنى بعد ْ‬
‫املحقق األديتي أحدَ ّ‬
‫َ‬
‫تتواصل معه بأي طريقة‪.‬‬ ‫(ميساء) أن‬
‫حاولت ْ‬
‫ْ‬ ‫إليهم إذا‬
‫الواقع يف شارع ‪ 13‬يوليو (جرس السويس ساب ًقا)‪ ،‬وقف‬
‫ِ‬ ‫يف خارج املبنى‬
‫القطار اهلوائي الذي سيق ّله لبيته‪ ،‬قبل أن يصل القطار‬
‫َ‬ ‫منتظرا‬
‫ً‬ ‫يف املحطة‬
‫نزل منها شخصان‪ ،‬رمى أحدُ مها قنبل ًة دخانية ع ّتمت‬ ‫ٍ‬
‫بمركبة صغرية َ‬ ‫فوجئ‬
‫َ‬
‫جعل الدنيا تظلم‬ ‫ْقن يف كتفه‬ ‫ِ‬
‫بغرس حم ٍ‬ ‫املكان بسحابة كثيفة‪ ،‬بينام قام الثاين‬
‫أمام عينيه‪.‬‬
‫َ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪16‬‬
‫‪2‬‬
‫لفكرة اختطاف (معاذ) ِمن أمام مركز االحتجاز‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ً‬
‫معارضا‬ ‫كان (سمري)‬
‫كان يرى أنّه من األفضل ُ‬
‫تركه يعود إىل بيته‪ ،‬واختطافه من هناك بسهولة‪،‬‬
‫ربر واضح‪.‬‬ ‫َ‬
‫خالف ذلك بال م ّ‬ ‫رأي قادته كان‬
‫لكن ُ‬
‫ْ‬
‫إن قام هو وضياء زمي ُله باختطاف (معاذ)‬ ‫حدث ما كان يتو ّقعه‪ ،‬ما ْ‬‫َ‬
‫دراجات طائرة تطاردهم‪ .‬انطلقَ‬ ‫ثالث ّ‬‫ُ‬ ‫اندفعت‬
‫ْ‬ ‫ووضعه يف َم ْركبتهم ح ّتى‬ ‫ْ‬
‫مهم ُتها‬
‫قذائف صغرية ّ‬ ‫َ‬ ‫متعرج‪ ،‬أطلقت عليه كلتَا الدّ راجتني‬ ‫رسيعا يف مسار ّ‬ ‫ً‬
‫ٍ‬
‫برباعة‬ ‫إطالق شحنة كهربائية تؤ ّدي إىل اختالل ُنظم املركبة‪ ،‬لك ّنه تفاداها‬ ‫ُ‬
‫ويسارا وأعىل وأسفل بقدْ ر ما تسمح به املركبة‪.‬‬
‫ً‬ ‫بتعرجه يمينًا‬
‫ّ‬
‫يقودها سمري‪ ،‬كان ِمن صناعة‬ ‫املركبات الطائرة‪ ،‬التي ُ‬ ‫النوع من ْ‬
‫ُ‬ ‫هذا‬
‫استخدام السيارات‬
‫َ‬ ‫تدرجييا‬
‫ًّ‬ ‫هؤالء القوم الغزاة‪ -‬النياندرتال‪ -‬الذين َمنعوا‬
‫ُ‬
‫استبدالا‬ ‫وجرى‬
‫انتهت متا ًما بحلول عا ِم ألفني وتسعة وثالثني‪َ ،‬‬‫ْ‬ ‫املعتادة ح ّتى‬
‫تؤجرها ملَن حيتاجها‪ ،‬ومنعوا‬ ‫ٍ‬
‫لرشكات ّ‬ ‫تتبع‬ ‫ومر َكبات َ‬
‫كتلك ُ‬ ‫بقطارات هوائية ْ‬
‫َ‬
‫امتالك املركبات لألفراد متا ًما‪.‬‬
‫ري مألوف لدى‬ ‫ُ‬
‫تعمل بنوع من الوقود غ ِ‬ ‫املركبات والقطارات‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫كانت‬
‫ٍ‬
‫أعامق‬ ‫ٍ‬
‫طبقات يف باطن األرض عىل‬ ‫ستخرج من‬
‫َ‬ ‫البرش وهو ّ‬
‫مركب مع ّقد ُي‬
‫يلوث البيئة‪ .‬هذا الوقود‬
‫دون أن ّ‬‫يصدر طاقة صافية َ‬
‫ُ‬ ‫تتجاوز املائة كيلومرت‪،‬‬
‫الثمن الذي جعل‬
‫ُ‬ ‫أمام دول العامل‪ ،‬وهو‬ ‫الرابح َة لدى ُ‬
‫الغزاة َ‬ ‫كان هو الورقة ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪17‬‬
‫ِ‬
‫واستيطانم‪ ،‬و ُتعطي دولتَهم مقعدً ا يف‬ ‫غزوهم‬
‫برشعية ْ‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫الدول تعرتف‬ ‫هذه‬
‫األمم امل ّتحدة مثل أي دولة أخرى‪.‬‬
‫انعطف (سمري) يف ِ‬
‫أحد الشوارع اجلانبية يف منطقة‬ ‫َ‬ ‫بعدَ مسافة قصرية‪،‬‬
‫الدراجات ماهرين بشكلٍ‬ ‫ّ‬ ‫الزيتون‪ ،‬والدّ راجتان خل َفه‪ .‬كان قاد ُة تلك‬
‫ّ‬
‫أكثر من قدرته عىل ا ُملراوغة‬
‫يستطيعون املراوغ َة يف أضيق األماكن َ‬
‫َ‬ ‫ملحوظ‬
‫خطة تستلزم رسق َة بعض الوقت ح ّتى يصل إىل‬ ‫لكن كان لديه ّ‬ ‫بمركبته‪ْ ،‬‬
‫مكان حمدد‪.‬‬

‫مكن قائدَ ها من تصويب قذيفته بدقة‬ ‫اقرتبت منه دراجة بشكلٍ كبري ما ّ‬
‫ْ‬
‫فتحة هتوية صغرية يف اجلانب األيمن‬‫ُ‬ ‫ِ‬
‫نقطة ضعف املركبة؛ وهي‬ ‫لتستقر يف‬
‫ّ‬
‫ظل ُم ً‬
‫سكا بذراع القيادة‬ ‫مؤخرهتا‪ .‬ار ّجتت السيارة بعنف‪ ،‬ولكن (سمري) ّ‬‫من ّ‬
‫جيلس يف املقعد املجاور‪ -‬أدا ًة صغرية ّثبتها يف‬
‫ُ‬ ‫بقوة‪ ،‬أخرج ضياء‪ -‬الذي‬ ‫ّ‬
‫ت الشّ حنات التي أطلقتها القذيفة‪،‬‬ ‫امتص ِ‬
‫فتحة موجودة يف لوحة التحكم ّ‬ ‫ٍ‬
‫ِ‬
‫وجعلت املركبة تكمل انطال َقها ثانية‪.‬‬
‫ألنا قد ّ‬
‫تعطل املركبة متا ًما ما جعل‬ ‫األمر ال حيتمل قذيف ًة أخرى ّ‬‫ُ‬ ‫كان‬
‫تعرجات أكثر صعوبة‪ .‬يف ال ّنهاية انعطف‬ ‫ُ‬
‫وينطلق يف ّ‬ ‫(سمري) يزيدُ من رسعته‬
‫ّساعا‪ ،‬وزا َد من رسعته‪ ،‬وحنيَ وصل للتقاطع الثالث دخل‬ ‫يف شارع أكثر ات ً‬
‫الشفات أسقطت إحداها‬ ‫معدنيتان من إحدى ّ‬
‫ّ‬ ‫هوت شبكتان‬
‫ثم فجأة ْ‬ ‫يمينًا‪ّ ،‬‬
‫بأن َ‬
‫مال بدراجته عىل‬ ‫بمهارة؛ ْ‬
‫واستطاع القائدُ الثاين تفادهيا َ‬
‫َ‬ ‫دراج ًة مع قائدها‬
‫جانبها وانزلق هبا ألسفل ح ّتى كا َد ّ‬
‫حيتك جسدُ ه باألرض‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪18‬‬
‫َ‬
‫الدخول للشوارع‬ ‫منذ عدّ ة سنوات كان قائدو تلك الدّ راجات خيشون‬ ‫ُ‬
‫متاع بيوهتم ويسقطوهنم‬
‫تيس من ِ‬ ‫يقذفونم بام ّ‬
‫َ‬ ‫ألن الناس كانوا‬ ‫الضيقة؛ ّ‬
‫ري‬
‫السلطات بإرسال ُمستشعرات تط ُ‬ ‫ِ‬
‫قامت ّ‬ ‫ٍ‬
‫إصابات بالغة‪.‬‬ ‫ويوقعون هبم‬
‫أماكن َمن يعتدي عليهم‪ ،‬ويقومون‬
‫َ‬ ‫بمرافقة قائدي الدراجات لتحدّ د بدقة‬
‫خارج احلدود ليعيشوا‬
‫َ‬ ‫بعدَ ها مبارشة بإخالء البيت من ساكنيه وإرساهلم‬
‫ِ‬
‫صارت‬ ‫َ‬
‫وحول الفيوم التي‬ ‫خارج قرى اجليزة‬
‫َ‬ ‫خميامت الالجئني ا ُملتناثرة‬
‫يف ّ‬
‫العاصم َة املؤقتة اآلن‪.‬‬
‫َ‬
‫خيتالون بدراجاهتم يف الشوارع‬ ‫اصطيادهم وصاروا‬
‫ُ‬ ‫تو ّقف بعدَ ذلك‬
‫زمالء (سمري) يف‬
‫ُ‬ ‫ك ّلها و ُيطاردون َمن شاءوا أينام شاءوا‪ُ .‬‬
‫منذ فرتة قصرية قام‬
‫بزرع تلك األفخاخ عىل أسطح ِ‬
‫بعض‬ ‫سمى بكتائب النرص ْ‬ ‫فصيله املقاوم ا ُمل ّ‬
‫ٍ‬
‫ملوقف كهذا‪.‬‬ ‫حتس ًبا‬
‫البيوت ّ‬
‫واستمر يف مطاردة (سمري) يف الوقت الذي‬
‫ّ‬ ‫ييأس قائدُ الدّ راجة الثانية‪،‬‬
‫مل ْ‬
‫ٍ‬
‫لسبب‬ ‫التأوه وهو بنيَ اليقظة والنوم‪ .‬كان (سمري) ال ُ‬
‫يطيقه‬ ‫بدأ فيه (معاذ) يف ّ‬
‫صدرت هبا‬
‫ْ‬ ‫ألن الطريقة التي‬ ‫ال يعلمه‪ ،‬رغم أنّه مل ِ‬
‫يلتق به من ْقبل‪ ،‬ر ّبام ّ‬
‫األمر قاد ًما من العاصمة‬
‫ُ‬ ‫بعض اليشء‪ ،‬كان‬ ‫األوامر إلحضاره كانت غريب ًة َ‬‫ُ‬
‫قيادة املخابرات املرصية مبارشة‪.‬‬‫ِ‬ ‫من‬
‫سمري كان جم ّندً ا يف اجليش املرصي يوم ْ‬
‫أن بدأ الغزو‪ ،‬وكانت كتيبته يف‬
‫املعركة خارسة َ‬
‫قبل أن تبدأ‪ ،‬تساقط زمالؤه وقاد ُته‬ ‫ُ‬ ‫رشق القاهرة‪ .‬كانت‬ ‫ِ‬
‫رعب‪ ،‬ال أحد‬ ‫عدو جمهول ُم ِ‬
‫ٍّ‬ ‫واحدً ا تلو اآلخر‪ُ ،‬مستبسلني يف الدفاع ضدّ‬
‫مرص فجأة‪.‬‬ ‫قررت أن ّ‬
‫حتتل َ‬ ‫ٍ‬
‫لدولة ما ّ‬ ‫إرهابيني أو جنو ًدا‬
‫ّ‬ ‫يعرف ْ‬
‫إن كانوا‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪19‬‬
‫هرب إىل قريته يف البحرية‪َ ،‬‬
‫وقبل أن يعود للعمل يف أرضه فوجئ‪ -‬كام‬ ‫َ‬
‫أهل‬ ‫ِ‬
‫مخسة أبراج سكنية ضخمة؛ ليقيم هبا ُ‬ ‫قرروا بنا َء‬ ‫أهل قريتِه‪ّ -‬‬
‫بأن الغزاة ّ‬
‫كل البيوت‪ ،‬وجعل القرية قطع َة ٍ‬
‫أرض زراعية واحدة‬ ‫هدم ّ‬
‫القرية ليتس ّنى هلم ُ‬
‫برواتب شهرية‪.‬‬
‫َ‬ ‫كبرية متلكها الدولة‪ ،‬ويعملون ُهم فيها‬
‫ٍ‬
‫أرسة ال تعمل‪ ،‬أو ال تريد العمل‪ ،‬بالزراعة ُت َّج ُر إىل املدينة أو‬ ‫كل‬‫كانت ّ‬
‫الذين يك ّلفون باألعامل املساعدة واإلدارية‪.‬‬‫َ‬ ‫إىل خارج الدّ ولة األديتية ما عدا‬
‫املدرعني املقنعني واملس ّلحني‬
‫احلراس ّ‬
‫َ‬ ‫لكن‬
‫جمهر ّ‬
‫َ‬ ‫الناس التذ ّمر وال ّت‬
‫ُ‬ ‫حاول‬
‫لت بإقناعهم‪ .‬بعدَ شهور قليلة‪،‬‬ ‫بآالت شيطانية مل يرها أحدٌ من قبل تك ّف ْ‬
‫أكثر من طفلتني من‬
‫أي أرسة متلك َ‬ ‫ينص عىل ّ‬
‫أن ّ‬ ‫األمر ال ّتايل الذي ّ‬
‫ُ‬ ‫صدر‬
‫خيار اإلبقاء عىل طفلتني‪،‬‬
‫َ‬ ‫خارج الدولة‪ ،‬أو ُي َ‬
‫عطى األبوان‬ ‫َ‬ ‫اإلناث ُت َّجر‬
‫ّ‬
‫التخل عن‬ ‫خارج احلدود‪ ،‬وبالطبع مل ْ‬
‫يقبل (سمري)‬ ‫َ‬ ‫البقية لألقارب‬
‫وإرسال ّ‬
‫ور ِّح َل مع أرسته للمخيامت‪.‬‬
‫إحدى بناته‪ُ ،‬‬

‫بعدَ ما يقارب العامني من احلياة البائسة يف ّ‬


‫خميم الالجئني جاءه مندوب‬
‫وينضم لكتائب‬
‫ّ‬ ‫من ا ُملخابرات‪ ،‬وطلب منه أن يتس ّلل للدّ اخل املحتل‪،‬‬
‫مقابل ذلك‪ ،‬ستمنح‬ ‫َ‬ ‫النرص‪ ،‬وهي املقاومة املدْ عومة من الدولة املرصية‪.‬‬
‫يضمن هلم حياة كريمة‪ .‬كانت املخاطر ُة كبرية‪،‬‬
‫ُ‬ ‫عائل ُته مسكنًا مناس ًبا ورات ًبا‬
‫األرس التي تعيش‬ ‫تعج بمئات اآلالف من ُ‬ ‫فاملخيامت ّ‬ ‫لكن األمر يستحقّ ؛‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫حيا ًة غري آدمية عىل اإلطالق‪ .‬بعدَ تدريب قصري ُه ِّر َب إىل الدّ اخل مع آخرين‬
‫ٍ‬
‫بحرية داخل األرايض املحتلة‪.‬‬ ‫متكنهم من التنقل‬ ‫مع هو ّيات هلم ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪20‬‬
‫َ‬
‫اهلدف منها‬ ‫يقاوم ح ّتى اليوم‪ ،‬ويقوم بعمليات ال يعرف‬
‫ُ‬ ‫ال يزال (سمري)‬
‫جندي ين ّفذ األوامر وال يسأل‪ ،‬وحني يتم ّلكه اليأس ّ‬
‫يتذكر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بالضبط؛ فهو‬
‫متطوعني ال ينالون رات ًبا وال‬
‫ّ‬ ‫وهم يقاتلون‬ ‫َ‬
‫يسقطون ُ‬ ‫رفاقه يف املقاومة الذين‬
‫محى‬‫أرضهم و ُي َ‬‫متسخ ُ‬‫َ‬ ‫ألنم يرفضون أن‬‫رعاية ألرسهم‪ ،‬ال يقاتلون ّإل ّ‬
‫تارخيها ويرشّ د املاليني من أهلها‪.‬‬
‫يتبعه بإرصار‪ ،‬أطلق‬ ‫ُ‬
‫ينطلق بمركبته وقائدُ الدراجة الثانية ُ‬ ‫كان ال يزال‬
‫مجيعا‪ ،‬وكان عىل (سمري) اآلن‬‫أخطأت هد َفها ً‬
‫ْ‬ ‫ثالث قذائف ّاتاه املركبة‬
‫ينضم إليه آخرون‪ .‬كان يسلك باملركبة طري ًقا ُ‬
‫يقوده إىل‬ ‫ّ‬ ‫ص منه قبل أن‬‫التخ ّل ُ‬
‫جمهزة ليستق ّلها‬ ‫ٌ‬
‫مركبة أخرى ّ‬ ‫َحوا ٍر ضيقة يف حدائق ّ‬
‫القبة‪ ،‬والتي ختتبئ فيها‬
‫بدل من تلك التي صارت هد ًفا معرو ًفا‪.‬‬ ‫ً‬

‫أحد الشّ وارع اجلانبية تو ّقف (سمري) فجأة ليجعل مطار َده يصطدم‬‫يف ِ‬
‫يتهيأ‬
‫وواجه املركبة وهو ّ‬
‫َ‬ ‫ثم ّ‬
‫التف قائدها‬ ‫به‪ ،‬لكن الدراجة تفادتْه وجتاوزته ّ‬
‫َ‬
‫االنطالق‬ ‫يتمكن من ذلك أعاد (سمري)‬‫ليطلق قذيفة عىل مقدّ متها‪ .‬قبل أن ّ‬
‫أرضا يف اللحظة ِ‬
‫نفسها التي‬ ‫وأوقعها وقائدَ ها ً‬
‫َ‬ ‫باملركبة واصطدم بالدراجة‬
‫القذيفة ّ‬
‫لتعطل املركبة متا ًما‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫خرجت فيها‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪21‬‬
‫‪3‬‬
‫عيون كثرية تتط ّلع من خلف النوافذ املغلقة عىل املطاردة‬ ‫ٌ‬ ‫تسمرت‬ ‫ّ‬
‫بفراغ ص ٍ‬
‫رب‬ ‫ِ‬ ‫بعضها ينظر‬ ‫ِ‬
‫الزقاق الضيق‪ .‬كان ُ‬ ‫الصغرية التي تدور يف ذلك‬
‫َ‬
‫يأخذ هؤالء املقاومني الذين ينغّ صون أيا َمهم اهلادئة‪ ،‬ويتمتم‬ ‫ويدعو اهلل أن‬
‫تظهر يف تلك املناسبات ُ‬
‫وتطر‬ ‫الطائرات الدقيقة التي ُ‬
‫ُ‬ ‫بالدّ عوات ّأل تأيت تلك‬
‫البعض اآلخر يدْ عو بالنرص‬‫ُ‬ ‫تسبب اخلراب‪.‬‬‫املتنوعة التي ّ‬
‫الزقاق بقذائفها ّ‬
‫ُ‬
‫الصنف الثّالث‬ ‫كغريق يتع ّلق بقشّ ة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫للمقاومني بأملٍ ضئيل يف االستجابة‪،‬‬
‫تزوجوا ِمن نسائهم ِمن املرصيني‪،‬‬ ‫من الناس ُهم املستوطنون اجلدد‪ ،‬و َمن ّ‬
‫وهم ال يسكنون بمثل هذه األز ّقة‪ ،‬وأغل ُبهم يف تلك‬ ‫رسا خمتلطة‪ُ ،‬‬‫وكونوا ُأ ً‬
‫ِّ‬
‫استطاع أحد املقاومني‬
‫َ‬ ‫إضافيا إلرشاد السلطات إذا‬
‫ًّ‬ ‫املواقف يكونون عو ًنا‬
‫َ‬
‫تضليل أجهزهتم املتقدمة‪.‬‬
‫فرت احلكومات للمنفى‬ ‫ابتلع الغزو لبنان وفلسطني التارخيي َة بالكامل‪ّ ،‬‬
‫َ‬
‫خميامت يف سوريا‪ ،‬التي اق ُتطع‬
‫اآلالف من املواطنني الجئني يف ّ‬ ‫ُ‬ ‫وعاش‬
‫للسخرية‬‫وانتقلت عاصمتها إىل الر ّقة يف الغرب‪ .‬من املثري ّ‬
‫ْ‬ ‫منها جزء كبري‬
‫املستوطن اإلرسائييل والالجئ الفلسطيني‬
‫ُ‬ ‫املخيم الواحد كان فيه‬
‫َ‬ ‫املريرة ّ‬
‫أن‬
‫ّ‬
‫احتل الغزاة‪ً -‬‬
‫أيضا‪ -‬أجزا َء‬ ‫واملواطن اللبناين؛ ك ّلهم الجئون بشكل جديد‪.‬‬
‫ُ‬
‫خميامت ال‬
‫أيضا يف ّ‬ ‫من مرص وتركيا ال ّلتني تكفلتا بمواطنيهام َ‬
‫رغم ّأنم عاشوا ً‬
‫تقل سو ًءا عن اآلخرين‪.‬‬‫ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪22‬‬
‫حافلي بمشاهد القتل اليومية ملَن يقاوم أو‬
‫ْ‬ ‫ّأو ُل عامني بعد الغزو كانا‬
‫ً‬
‫أشكال كثرية؛ كتابات‪،‬‬ ‫االستغاثات بحكومات العامل ت ّتخذ‬
‫ُ‬ ‫يتذمر‪ ،‬وكانت‬
‫ومقاطع فيديو دون فائدة‪َ .‬‬
‫فرض‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬
‫روايات طويلة‬ ‫أشعارا باكية وأغا َ‬
‫ين حزينة‪،‬‬ ‫ً‬
‫ِ‬
‫زيادة‬ ‫رسيعا ّأنم يسامهون يف‬
‫ً‬ ‫حصارا عىل املناطق املحت ّلة لك ّنهم اكتشفوا‬
‫ً‬ ‫العا ُمل‬
‫اجتمعت حكومات الدول املترضّ رة‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫معاناة البرش دون أن يتأثر النياندرتال‪.‬‬
‫املهمة فقط إىل املناطق ا ُملحتلة‪ ،‬ووافقَ‬
‫واتّفقوا عىل السامح بإدخال البضائع ّ‬
‫حلسن النوايا بعدَ أن جلس وفدٌ منهم مع ٍ‬
‫وفد‬ ‫الغزاة عىل وجود ُمراقبني إثبا ًتا ُ‬
‫من البرش للتفاوض‪ ،‬وسمحوا للعدسات ِ‬
‫بنقله عىل اهلواء‪ ،‬وحتدّ ث مندوهبم‬
‫اجلميع ّأنم يعرفون عن البرش وقوانينهم ّ‬
‫كل يشء‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬
‫بطريقة أنْبأت‬
‫ِ‬
‫لدرجة أنّه كان‬ ‫الناس يتعلمون لغة الغزاة‬
‫ُ‬ ‫تدرجييا‪ ،‬وبدأ‬
‫ًّ‬ ‫األمور‬
‫ُ‬ ‫استقرت‬
‫ّ‬
‫تركيا أو كرد ًّيا كان يتحدّ ث معه باألديتية‪ .‬بدأوا يعتادون‬
‫يب ًّ‬ ‫َ‬
‫صادف عر ّ‬ ‫إذا‬
‫عىل القوانني اجلديدة واملواصالت اجلديدة والوظائف املستحدثة وامللغية‪،‬‬
‫وإن مل يستطيعوا االعتيا َد عىل التمييز بينهم وبنيَ النياندرتال و َمن ّ‬
‫تزوجوا‬
‫من نسائهم‪.‬‬
‫حركات املقاومة‪ ،‬وكانت متعدّ دة األنواع‬ ‫ُ‬ ‫تتوقف مع ذلك‬ ‫ْ‬ ‫مل‬
‫املدعوم من احلكومات‪ .‬كان‬
‫ُ‬ ‫حرا‪ ،‬ومنها‬
‫واأليديولوجيات؛ منها الذي يعمل ًّ‬
‫احلكومات بعمليات يف‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫عمليات املقاومة التي تتب ّناها‬ ‫النياندرتال ير ّدون عىل‬
‫رب‬
‫رسا‪ ،‬ويف العلن يقاومون ع َ‬ ‫َ‬
‫يدعمون املقاومة ًّ‬ ‫عمق تلك الدّ ول‪ ،‬ما جعلهم‬
‫الطرق الدبلوماسية فقط‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪23‬‬
‫يف عرص ذلك اليوم‪ ،‬كان رجالن من املقاومة (املدْ عومة من احلكومة‬
‫تعطلت مركبتهام‪ ،‬وعليهام ُ‬
‫امليش مسافة طويلة‬ ‫زقاق ضيق‪ ،‬وقد ّ‬
‫ٍ‬ ‫املرصية) يف‬
‫َجي ْرجران أسريمها النائم للمخبأ الذي ُ‬
‫تقبع فيه مركبة بديلة سيستخدموهنا‬
‫مقر جمموعتهم‪ ،‬وهي مسافة كفيلة بأن تكشفهم بسهولة‪.‬‬ ‫إلكامل رحلتهم إىل ّ‬
‫ترج َل من املركبة كان قائدُ الدّ راجة فاقدً ا للوعي من أثر سقطتِه القوية‪.‬‬
‫حني ّ‬
‫رغم تذ ّمر ضياء‪ ،‬لك ّنه كان األعىل رتبة‪.‬‬
‫ريا َ‬ ‫أرص (سمري) عىل ْ‬
‫أن يأخذاه أس ً‬ ‫ّ‬
‫وأخرج من يده أدا ًة صغرية لتعطيل املعدّ ات‬
‫َ‬ ‫اقرتب (سمري) منه بحذر‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫موقعه‪.‬‬ ‫تسهل تعقب‬ ‫املوجودة يف ز ّيه‪ ،‬والتي ّ‬
‫بقو ٍة أسقطته‬
‫ودفعه يف صدره ّ‬
‫َ‬ ‫انتفض النياندرتال واق ًفا‪،‬‬
‫َ‬ ‫يلمسه‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫قبل أن‬
‫طعن‬ ‫ٌ‬
‫اشتباك باأليدي بينهام‪ .‬استطاع النياندرتال َ‬ ‫ودار‬
‫وهجم عليه َ‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫أرضا‪،‬‬
‫ُ‬
‫نتيجة املعركة‬ ‫خمبئًا يف ز ّيه‪ ،‬وكادت‬
‫ني صغري كان ّ‬ ‫(سمري) يف فخذه بسك ٍ‬
‫لوال تدخل (ضياء) الذي ترك (معاذ) عىل األرض‪ ،‬واستخدم‬ ‫تكون هزيمة ْ‬
‫َ‬
‫أسفل رقبته جعلته‬ ‫زي النياندرتال‬
‫معينة يف ّ‬
‫كهربائيا رضب به نقطة ّ‬
‫ًّ‬ ‫صاع ًقا‬
‫يتص ّلب ويفقد الوعي‪.‬‬
‫يعرج بفخذه املصاب‪ ،‬وضياء حيمل‬‫ُ‬ ‫استمروا يف طريقهم؛ (سمري)‬‫َّ‬
‫َ‬
‫خيفون به مركبتَهم‪ .‬كانت‬ ‫ِ‬
‫البيت القديم الذي‬ ‫ريا من‬
‫“معاذ”‪ ،‬اقرتبوا أخ ً‬
‫الصاج العتيق الذي يفتح‬
‫باب من ّ‬ ‫َ‬
‫أسفل البيت‪ ،‬له ٌ‬ ‫همل‬
‫خمبأة يف دكان ُم َ‬
‫ّ‬
‫منظره‬ ‫ِ‬
‫منذ ما يقرب من نصف قرن‪ .‬كان ُ‬ ‫من أسفل‪ ،‬والذي بطل استخدامه ُ‬
‫ري ٍ‬
‫متويه للغرض الذي يستخدَ م ألجله‪.‬‬ ‫الرث الصدئ خ َ‬
‫ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪24‬‬
‫ثم وضع‬ ‫ٍ‬
‫جزء من اجلدار‪ّ ،‬‬ ‫ومسح الغبار من‬
‫َ‬ ‫ركبتيه‬
‫ْ‬ ‫ج َثا (سمري) عىل‬
‫ارتج بعدها الباب وانفتح‬
‫ثوان معدودة ّ‬ ‫مضت ٍ‬ ‫ْ‬ ‫ٍ‬
‫كاشف للبصمة‪.‬‬ ‫أصبعه عىل‬
‫َ‬
‫ُ‬
‫وسيلة انتقاهلم‬ ‫ريا‬
‫مظهره الصدئ‪ ،‬وانكشفت أما َمهم أخ ً‬
‫ُ‬ ‫بصمت ال ينبئ به‬
‫اجلديدة‪.‬‬
‫بجر‬
‫حيث (ضياء) عىل اإلرساع ّ‬ ‫ركب (سمري) عىل عجلة القيادة وهو ّ‬ ‫َ‬
‫أبواب املركبة وانطلقَ هبا برسعة‬
‫ُ‬ ‫ووضعه يف املقعد اخللفي‪ .‬أغلقت‬‫ِ‬ ‫محله‬
‫َ‬
‫وصل إىل شارع رمسيس (الذي تركه الغزا ُة‬ ‫شوارع جانبية ح ّتى‬‫َ‬ ‫كبرية يف‬
‫َ‬
‫وأكمل يف شوارع جانبية‬ ‫عبه برسعة‬
‫عىل اسمه احرتا ًما لل ّتاريخ الفرعوين)‪َ َ ،‬‬
‫قاطعا إ ّياه برسعة كبرية‪.‬‬ ‫ُ‬
‫فيمرق ً‬ ‫ُ‬
‫الطريق لعبور شار ٍع رئييس‬ ‫يضطره‬
‫ّ‬ ‫ح ّتى‬
‫منشية نارص يف سفح جبلِ املقطم‪ ،‬وحنيَ أوشك عىل عبور‬ ‫ِ‬ ‫كان ي ّتجه إىل‬
‫لكن مدلول النرص اختلف) كا َد يصطدم‬ ‫(اسمه ال يزال هكذا‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫طريق النرص‬
‫نصف‬‫ُ‬ ‫منتظرا عبور القطار‪.‬‬
‫ً‬ ‫أن أوقف مركبتَه بمهارة‬ ‫لوال ْ‬
‫بالقطار اهلوائي ْ‬
‫كانت كافية لتكتش َفه إحدى الدراجات وتنطلق‬ ‫ْ‬ ‫القطار ليعرب‬
‫ُ‬ ‫دقيقة يأخذها‬
‫وأرسع بسيارته بينها‬
‫َ‬ ‫مطارد ًة إ ّياه‪ .‬عاد أدراجه للخلف‪ ،‬ودخل بنيَ املقابر‬
‫اصطدم يف النهاية بجدا ٍر‬
‫َ‬ ‫أربكت قائد الدّ راجة الذي‬
‫ْ‬ ‫خذا منحنيات رسيعة‬ ‫م ّت ً‬
‫رب طريق النرص‪،‬‬ ‫واستمر (سمري) يف طريقه إىل ْ‬
‫أن ع َ‬ ‫ّ‬ ‫أفقده تواز َنه فسقط‪،‬‬
‫وغاص بسيارته يف أعامق األزقة الضيقة التي ال يدخلها النياندرتال‪ ،‬وال‬ ‫َ‬
‫يمدّ ون خدماهتم احلكومية لتصل إليها‪.‬‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪25‬‬
‫‪4‬‬
‫ِ‬
‫خلبرية ال ّتزيني األرضية التي تعدها‬ ‫جلست هريمني يف توتّر ُمستسلمة‬
‫ْ‬
‫األو ُل من نوعه ملسئول‬ ‫للظهور عىل شاشة البي يب يس يف ٍ‬
‫لقاء تليفزيوين هو ّ‬ ‫ّ‬
‫ري ُمعتادة عىل تلك املساحيق واأللوان‬ ‫رفيع من الدولة األديتية‪ .‬كانت غ َ‬
‫ٍ‬
‫تتضمن تلك‬
‫ّ‬ ‫النساء طر ًقا خمتلفة ّ‬
‫للزينة ال‬ ‫ُ‬ ‫األم يستخدم‬
‫الزاهية‪ ،‬ففي كوكبها ّ‬
‫ري لون البرشة‪ ،‬أو حتديد مالمح الوجه‪.‬‬‫الفجاجة يف تغي ِ‬
‫فالسبب كان ذلك الضغط‬‫ُ‬ ‫سبب توتّرها الوحيد؛‬ ‫َ‬ ‫يكن هذا بالفعل‬
‫مل ْ‬
‫رشحها لتلك املهمة‪،‬‬‫شخصيا؛ هو َمن ّ‬
‫ًّ‬ ‫الواقع عليها من حاكم أديتيا األرض‬
‫وقال إنّه يثق بقدرهتا عىل إظها ِر اجلانب األفضل من الشّ عب األديتي‪ ،‬وجعل‬
‫مربرات الغزو واالستيطان تبدو مقبول ًة أمام الرأي العام العاملي‪.‬‬
‫األول يقع يف كوكب أديتيا‬
‫تتكون من قسمني؛ القسم ّ‬‫دولة أديتيا الكربى ّ‬ ‫ُ‬
‫ويقع يف كوكب‬
‫واسمه املستوطنة ال ّنقية أو “أديتيا األصلية”‪ ،‬والقسم الثاين ُ‬
‫ُ‬
‫واسمه املستوطنة األخرية أو “أديتيا األرض”‪ ،‬وكانت هريمني هي‬ ‫ُ‬ ‫األرض‬
‫ُ‬
‫تشمل األرايض التي‬ ‫مسئول َة العالقات اخلارجية يف أديتيا األرض التي‬
‫احت ّلوها واستوطنوها‪.‬‬
‫فريق التصوير وقته إلعداد‬‫ُ‬ ‫َ‬
‫وأخذ‬ ‫ريا‪،‬‬
‫أمام الكامريات أخ ً‬
‫جلست َ‬
‫ْ‬
‫لألرضيني‪ .‬خبرية ال ّتزيني حاولت‬
‫ّ‬ ‫أقرب‬
‫َ‬ ‫بأبى صورة يف شكل‬
‫املشهد لتبدو ْ‬
‫فكيها‬ ‫ٍ‬
‫ظالل عىل ّ‬ ‫ّساعا‪ ،‬وإضافة‬ ‫وفمها ّ‬
‫أقل ات ً‬ ‫أرق‪ِ ،‬‬
‫إظهار خدودها ّ‬
‫َ‬ ‫بطريقتها‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪26‬‬
‫مريعا ما جعلها تلغي‬ ‫َ‬
‫الشكل النهائي كان ً‬ ‫لكن‬ ‫تظهرمها أقل ً‬
‫عرضا وحدّ ة‪ّ ،‬‬
‫تضع ملس ًة رقيقة ال ّ‬
‫تغي من شكلها‪.‬‬ ‫ّ‬
‫كل ذلك التزيني‪ ،‬وجتعلها ُ‬
‫أو َل أسئلته طال ًبا منها‬
‫بعدَ مقدّ مة افتتاحية قصرية من املحاور‪ ،‬بدأ ّ‬
‫التعريف ِ‬
‫بنفسها وشعبها‪.‬‬
‫ملؤسسة احلكم يف دولة أديتيا األرض‪ ،‬نحن أحدث‬ ‫“أنا املتحدّ ثة الرسمية ّ‬
‫أن اعرتف العا ُمل بحقنا يف احلياة يف وطننا األم”‪.‬‬
‫عض ٍو يف األمم املتحدة بعدَ ِ‬
‫الكل يعرف ذلك؛ هو يريد‬ ‫إن ّ‬ ‫رف ُمصطنع وهو يقول ّ‬ ‫بظ ٍ‬
‫ابتسم املحاور ُ‬
‫َ‬
‫قصت عليه من‬ ‫َ‬
‫األرض‪ ،‬وكيف عادوا؟ وملاذا؟ ّ‬ ‫قص َة شعبهم كيف غادروا‬ ‫ّ‬
‫البداية ما يقو ُله التاريخ عن ّأنم كانوا يعيشون يف األرض منذ مائة ألف‬
‫وفروا إىل كوكبهم احلايل نتيج َة أسباب غ ِ‬
‫ري‬ ‫سنة‪ ،‬وأقاموا حضار ًة عظيمة‪ّ ،‬‬
‫ريا ّ‬
‫ألن نبوءات كتبهم املقدّ سة‬ ‫قرروا العودة أخ ً‬
‫ثم ّ‬‫واضحة بشكل كامل‪ّ ،‬‬
‫حتتم عليهم ذلك‪.‬‬
‫ُ‬
‫خيصكم وحدكم‪ ،‬وال يلزم الشعوب‬ ‫َ‬
‫وكتبكم املقدسة يشء ّ‬ ‫“لكن دينكم‬
‫ّ‬
‫التي استولي ُتم عىل أرضها وحكمتموها”‪.‬‬
‫جينيا سيحدُ ث يف الذكور وحينام‬ ‫خلل ًّ‬ ‫أن ً‬ ‫تنبأت بمعجزة ما؛ ّ‬‫“كتبنا ّ‬
‫فإن علينا العودة إىل كوكب األرض وطنِنا األصيل‪ ..‬ما فعلناه من‬ ‫حيدث ّ‬
‫ريا‪ ،‬وإذا مل تقنعكم أسبا ُبنا‬
‫رب تارخيكم كث ً‬
‫تكرر ع َ‬‫عودتنا إىل هذه األرض يشء ّ‬
‫جيني خطري‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫لسبب‬ ‫شعب مهدّ د باالنقراض‬ ‫ٌ‬ ‫فدعني أخربك أنّنا‬
‫الدينية ْ‬
‫أكثر من نصف سكان كوكبنا‪ ..‬إذا ك ّنا‬ ‫ومهدّ د بكارثة بيئية قادرة عىل قتل َ‬
‫كذلك‪ ،‬أليس لنا احلقّ يف استيطان أرضنا األصلية”!‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪27‬‬
‫ترصخ به قائلة‪ّ :‬‬
‫“إن‬ ‫َ‬ ‫آخر ُجلة هلا بحدّ ة‪ ،‬كانت عىل وشك أن‬ ‫قالت َ‬
‫يترصفوا طب ًقا‬
‫ّ‬ ‫أن معهم القوة ِ‬
‫فمن ح ّقهم أن‬ ‫القوة دو ًما؛ وطاملا ّ‬
‫احلقّ يتبع ّ‬
‫إن كان‬ ‫خاصة ْ‬
‫ّ‬ ‫بغض النظر عن صالح اآلخرين‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬
‫ومصاحلهم‬ ‫ملعتقداهتم‬
‫بعضا باملاليني دون أدنى‬‫بعضها ً‬‫متوحشة تقتل ُ‬ ‫ّ‬ ‫اآلخرون كائنات مهجي ًة‬
‫أن لدهيا أوامر مشدّ دة بضبط‬ ‫لوال ّ‬ ‫ُ‬
‫تقول الكثري ْ‬ ‫إحساس بالذنب”‪ .‬كادت‬‫ٍ‬
‫النفس‪ ،‬وإظهار أكرب قد ٍر من الدبلوماسية‪.‬‬
‫أن شعبكم مل ْ‬
‫يعش قط يف املناطق التي‬ ‫“كيف تر ّدين عىل َمن يؤكد ّ‬
‫أن النياندرتال كانوا يف مناطق أخرى بل‬ ‫وأن احلفريات ّ‬
‫تؤكد ّ‬ ‫استوطنتموها‪ّ ،‬‬
‫وتزاوجوا مع ب ٍ‬
‫رش عاد ّيني يف تلك املناطق”‪.‬‬
‫ٌ‬
‫عنرصية‪،‬‬ ‫بغضب رافض ًة كلمة النياندرتال‪ّ ،‬‬
‫ومؤكدة عىل أهنا تسمية‬ ‫ٍ‬ ‫ر ّدت عليه‬
‫املحاور عن استخدام تلك ال ّتسمية طال ًبا منها أن تر ّد عىل سؤاله‪.‬‬
‫ُ‬ ‫فاعتذر‬
‫“األسالف الذين كانوا يعيشون يف املناطق التي اكتشفتم فيها تلك‬ ‫ُ‬
‫عات عشوائية ال جتمعها دولة‪ ،‬وليس لدهيم‬ ‫جتم ٍ‬‫احلفريات كانوا عبارة عن ّ‬
‫ري أدواهتم البدائية‪ ،‬أ ّما أسالفنا الذين‬‫صيادين ال يعرفون غ َ‬‫جمرد ّ‬
‫حضارة‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫ودين سا ٍم‪ ،‬كانوا حيرقون‬ ‫أصحاب حضارة‬
‫َ‬ ‫هاجروا من األرض فقد كانوا‬
‫طقوس َمهيبة‪ ،‬ولذا مل يرتكوا رفا ًتا ليكتش َفها ح ّفارو القبور‬
‫ٍ‬ ‫موتاهم يف‬
‫كل أثر حلضارهتم”‪.‬‬ ‫لديكم‪ ،‬وحنيَ هاجروا دمروا ّ‬
‫إن هناك آراء ّ‬
‫تؤكد أهنم اختاروا‬ ‫حاجبيه يف غري اقتناع ً‬
‫قائل‪ّ :‬‬ ‫ْ‬ ‫رفع املحاور‬
‫َ‬
‫ألنا غنية بمصدر الطاقة اجلديد الذي اكتشفوه‪ ،‬والذي كان‬‫تلك املنطقة ّ‬‫َ‬
‫حث حكومات الدول الكربى عىل االعرتاف بدولتهم‪.‬‬ ‫الرئييس يف ِّ‬
‫السبب ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪28‬‬
‫ابتسمت بسخرية حنيَ قال ذلك‪ ،‬ور ّدت عليه قائلة‪“ :‬إ ًذا‪َ ،‬‬
‫أنت ت ّتهم‬
‫مقابل مصدر‬‫َ‬ ‫َ‬
‫وحقوق أبناء جنسها‬ ‫حكوماتكم بأهنا مرتشية تبيع مبادئها‬
‫قتلت مئات‬‫يظن الكثريون منكم ذلك فحكوما ُتكم ْ‬ ‫للطاقة‪ ..‬ال أستبعد أن ّ‬
‫رب التاريخ من أجل مصادر الثروة والطاقة‪ ،‬لكنني ّ‬
‫أؤكد لك أنّنا‬ ‫اآلالف ع َ‬
‫متحض ال يقبل تلك الفظاعات”‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫شعب‬
‫ٍ‬
‫جمادالت حول تلك النقطة ْأناها املحاور‬ ‫استمر احلوار بعد ذلك يف‬
‫ّ‬
‫ري يو ّثق لالحتالل‪ ،‬وما ارتكبه يف حقّ املواطنني يف البالد‬
‫بعرض فيلم قص ٍ‬
‫املحاور طال ًبا منها التوضيح‪ ،‬وهو‬
‫ُ‬ ‫التي غزوها‪ .‬بعدَ هناية الفيلم َ‬
‫نظر إليها‬
‫املتحض يرتكب الفظاعات ً‬
‫أيضا”‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أن شعبكم‬ ‫يقول ٍ‬
‫بنربة ساخرة‪“ :‬يبدو يل ّ‬
‫ونقرت عىل الطاولة أما َمها ففتحت شاشة فراغية‬‫ْ‬ ‫اعتدلت يف جلستها‬
‫ْ‬
‫للمصور‬
‫ّ‬ ‫أشارت للكامريا أن تتس ّلط عليها‪ .‬أشار املحاور بأصبعه‬
‫ْ‬ ‫صغرية‬
‫قائل إنّه يرفض املفاجآت يف ِ‬
‫أثناء برناجمه‪ ،‬وأنّه كان من‬ ‫بعدم اتّباع طلبها ً‬
‫أي ٍ‬
‫مادة فيلمية تو ّد عرضها قبل بدء اللقاء‪.‬‬ ‫املفرتض أن تطلعه عىل ّ‬
‫ثم قالت‪“ :‬ال عليك‪ ،‬يبدو أنّك‬
‫نقرت بأصبعها ثانية‪ ،‬فاختفت الشاشة ّ‬
‫ْ‬
‫ِ‬
‫وجهة نظ ٍر واحدة”‪.‬‬ ‫َ‬
‫عرض احلقائق من‬ ‫تريد‬
‫ثم أكملت قائلة‪“ :‬دعني‬‫املحاور عن نفسه تلك ال ّتهمة‪ ،‬فتجاهلته ّ‬
‫ُ‬ ‫نفى‬
‫أن دولة‬‫سؤال وأريد إجابتَك من واقع تارخيكم احلديث‪ .‬لو ّ‬ ‫ً‬ ‫أسألك‬
‫غزت أخرى واستوطنتها وقمع ْتها كام تقولون‪ ،‬كم سيكون نسبة القتىل بني‬‫ْ‬
‫اجلانبني!؟”‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪29‬‬
‫وأن حدوث‬ ‫أن هذا خارج عن سياق الربنامج‪ّ ،‬‬ ‫املحاور ّ‬
‫مؤكدً ا ّ‬ ‫ُ‬ ‫ر ّد عليها‬
‫ربر أفعاهلم‪ .‬فقالت له بثبات‪“ :‬لقد ُقتل‬ ‫ُ‬
‫البرش يف املايض ال ي ّ‬ ‫َمازر ارتكبها‬
‫نحو مائة ألف ك ّلهم يف‬ ‫من البرش يف األعوام الثالثة األوىل من عودتنا َ‬
‫مواجهات عسكرية‪ ،‬أو إعدامات‪ ،‬بعدَ حماكامت عادلة‪ ،‬ويف املقابل قتل م ّنا‬
‫خمربون من‬ ‫قام هبا ّ‬ ‫ٍ‬
‫لعمليات إرهابية َ‬ ‫أكثر من عرشين أل ًفا أغلبهم ضحايا‬
‫بعضها شديدَ البشاعة كاملثال الذي‬ ‫البرش‪ ،‬و َمن يساعدوهنم ِمن قومنا‪ ،‬وكان ُ‬
‫خيتطفون عرشين امرأة أديتية ّ‬
‫ويعذبوهنم‬ ‫َ‬ ‫سأعرضه لك‪ ...‬مخسة رجال‬ ‫ُ‬ ‫كنت‬
‫ح ّتى املوت بمنتهى البشاعة‪ ،‬ويوثقون فعلتَهم املفزعة‪ ،‬ويشاركوهنا للعامل‬
‫أن املاليني هللوا هلم‪ ...‬أدانتهم حكوما ُتكم ّ‬
‫ألن‬ ‫أمجع‪ ،‬واملدهش يا سيدي ّ‬
‫َ‬
‫يستمتعون بمشاهدة تلك‬ ‫لكن أغلب الناس كانوا‬ ‫الربوتوكول يقتيض ذلك‪ّ ،‬‬
‫ِ‬
‫الفظاعة يا سيدي؛‬ ‫ً‬
‫أبطال‪ ...‬حدّ ثني عن‬ ‫املجزرة‪ ،‬ويطلقون عىل مرتكبيها‬
‫ٍ‬
‫خربات مرتاكمة فيها”‪.‬‬ ‫أصحاب‬
‫ُ‬ ‫فأنتم‬
‫مرة‬
‫جال الكالمي ّ‬‫الس ُ‬
‫البث لفاصلٍ قصري‪ ،‬عا َد بعده ّ‬ ‫املحاور ّ‬
‫ُ‬ ‫أوقف‬
‫أخرى بينَه وبنيَ هريمني‪ ،‬وبدا ًّ‬
‫جليا ّأنا تف ّند كال َمه ُبمنتهى احلرفية لدرجة‬
‫ُ‬
‫سيقف يف ص ّفها‬ ‫مشاهد بسيط ليس لد ْيه خلفية كافية عن األحداث‬ ‫ِ‬ ‫أي‬ ‫ّ‬
‫أن ّ‬
‫أعلن عن مداخلة من‬
‫َ‬ ‫دور مفاجأة املحاو ِر ال ّتالية حني‬
‫بسهولة‪ ،‬وهنا كان ُ‬
‫ضيف ما‪.‬‬
‫رب األثري‪ ،‬وخفق‬ ‫تقع وجهها حني قدّ م املحاور ضي َفه الذي يتحدّ ث ع َ‬‫ا ْم َ‬
‫آخر شخص تريد‬ ‫ولكن ألنّه كان َ‬‫ْ‬ ‫ِ‬
‫بسبب ردوده القو ّية‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫بعنف ليس‬ ‫قلبها‬
‫املتحدث أحدَ رموز املقاومة األديتية ا ُملناهضة‬
‫ُ‬ ‫ظهوره يف تلك ال ّلحظة‪ .‬كان‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪30‬‬
‫ينضم للمقاومة شا ًّبا‬
‫ّ‬ ‫اسمه ماندريك‪ ،‬وكان َ‬
‫قبل أن‬ ‫للهجرة إىل األرض كان ُ‬
‫حتطمت حني أعلن‬ ‫حب ّ‬
‫قص ُة ّ‬‫واعد‪ ،‬كانت بينهام ّ‬ ‫المعا ذا مستقبل سيايس ِ‬
‫ً‬
‫ذات يوم خت ّليه عن السياسة وعن العملِ للدّ ولة‪ّ ،‬‬
‫وقرر التمر َد واملقاومة‪،‬‬ ‫َ‬
‫املصالح وصارت بينهام عداو ٌة‬
‫ُ‬ ‫العكس متا ًما‪ .‬فرقت بينهام‬
‫َ‬ ‫واختارت هي‬
‫حبها القديم أكثر ممّا تطفئه‪.‬‬
‫هليب ّ‬
‫تذكي َ‬
‫أن‬ ‫ُ‬
‫بضعة جمانني‪ ،‬وتنسى ّ‬ ‫ٍ‬
‫جمزرة واحدة ارتك َبها‬ ‫“السيدة تتحدّ ث عن‬
‫ٍ‬
‫واحدة‬ ‫كل‬ ‫ِ‬
‫حالة إعدا ٍم مجاعي كان ُ‬
‫يقتل يف ّ‬ ‫حكومتَها ن ّفذت َ‬
‫أكثر من ألف‬
‫عن آخ ِر مذبحة ارتكبتها حكوم ُتهم‬ ‫ٍ‬
‫أشخاص عىل األقل! اسأهلا ْ‬ ‫منها عرشة‬
‫ذنب هلم ّإل كراهية‬
‫أبناء وطنهم‪ ،‬أديتيني ُملصني ال َ‬‫يف مائة وتسعني من ِ‬
‫الظلم والدفاع عن أصحاب احلقّ ”‪.‬‬
‫ألنا ال جتدُ جوا ًبا؛ بل ّ‬
‫ألن املفاجأة اجتاحتها‪،‬‬ ‫مل تر ّد هريمني ليس ّ‬
‫ُ‬
‫العشق‬ ‫وحتل حم ّلها األنثى التي ال يزال‬
‫ّ‬ ‫السياسي َة املح ّنكة ختتفي‬
‫ّ‬ ‫وجعلت‬
‫سيل اهلجوم اجلارف‪ ،‬وأكمل‪:‬‬ ‫هو عن ْ‬ ‫ذكراه‪ .‬مل يتو ّقف َ‬
‫يوجعها حني تأيت ْ‬
‫باألرضيني‬
‫ّ‬ ‫يتاجر‬
‫ُ‬ ‫عن عالقتها بتنظيم عائلتِها اإلجرامي الذي كان‬ ‫“اسأهلا ْ‬
‫ِ‬
‫ملامرسة جرائم وجتارات‬ ‫أفراده لألرض‬‫ِ‬ ‫قبل الغزو‪ ،‬والذي جاء الكثري من‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫شقيقها‬ ‫دورها يف هذا التنظيم‪ ،‬وعن‬ ‫أي قوانني‪ ،‬اسأهلا عن ْ‬ ‫ري مرشوعة يف ّ‬‫غ ِ‬
‫الذي يديره بعدَ وفاة أبيها”‪.‬‬
‫ِ‬
‫شخصنة احلوار‪،‬‬ ‫واعرتضت بشدّ ة عىل أسلوبه وعىل‬
‫ْ‬ ‫انتفضت غاضبة‪،‬‬
‫ْ‬
‫الرد‬
‫ثم يطلب منها َّ‬ ‫ضيفه التو ّقف عن ذلك‪ّ ،‬‬‫املحاور يطلب من ِ‬‫َ‬ ‫ما جعل‬
‫أي أدلة”‬
‫اهتامات جزافية ال توجد عليها ُّ‬
‫ٌ‬ ‫عىل االهتامات باملَجازر‪“ :‬هذه‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪31‬‬
‫شخصيا‪،‬‬
‫ًّ‬ ‫باتامها‬
‫استفزها ّ‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫بثبات وقد استعادت رباط َة جأشها حني‬ ‫قالت‬
‫أن األعوام األوىل ِمن اهلجرة لألرض كانت حافل ًة‬ ‫أنكر ّ‬
‫وأكملت‪“ :‬ال ُ‬
‫وأن هناك العديدَ من ضباطنا‬ ‫الطرفني‪ّ ،‬‬ ‫بالعنف والتجاوزات من كال ّ‬
‫كل ذلك تو ّقف اآلن بعدَ استقرا ِر‬‫جرائم ّمتت حماسبتهم عليها‪ ،‬لكن ّ‬
‫َ‬ ‫ارتكبوا‬
‫صديق ضيفك‪ ،‬والذي يل ّقبونه بعمر‬ ‫ُ‬ ‫أبسط ٍ‬
‫مثال عىل ذلك هو‬ ‫ُ‬ ‫األوضاع‪،‬‬
‫ارتكب العديدَ من اجلرائم يف حقّ جنودنا‬ ‫َ‬ ‫الزيبق؛ ذلك اإلرهايب الذي‬ ‫ّ‬
‫ومواطنينا‪ ،‬وبعد أن ُقبض عليه ّمتت حماكمته وسجنُه‪ ،‬ومل يعدَ ْم ّ‬
‫ألن قوانيننا‬
‫خسائرها‪ ،‬واليوم انتهت‬
‫ُ‬ ‫الستني‪ّ ..‬‬
‫كل معركة هلا‬ ‫إعدام َمن جتاوزوا ّ‬
‫َ‬ ‫متنع‬
‫بمن شئت من‬ ‫تزور أديتيا وتلتقي َ‬
‫بالسالم‪ ،‬ويمكنك أن َ‬
‫املعارك وبدأنا ننعم ّ‬
‫ظل‬‫السابقة يف ّ‬‫أكثر من حياهتم ّ‬ ‫َ‬
‫سعيدون بحكومتنا َ‬ ‫األرضيني‪ ،‬وستجد أهنم‬
‫ّ‬
‫حكوماهتم األرضية”‪.‬‬
‫املحاور هدّ ده بإيقاف االتصال‪،‬‬
‫َ‬ ‫احتدّ ماندريك يف ر ِّده عليها لدرجة ّ‬
‫أن‬
‫تلميع صورهتم‪ ،‬لقد استضفتَها لتجعل الرأي‬‫َ‬ ‫َ‬
‫تريدون‬ ‫فقال بحدّ ٍة أكثر‪“ :‬أنتم‬
‫خطط حكوماتكم‬ ‫ِ‬ ‫يتقبل فكر َة االحتالل واالستيطان‪ ،‬وإلنجاح‬‫العام لديكم ّ‬
‫أمل يف ِ‬
‫إنقاذ‬ ‫الطاقة اجلديد َ‬
‫أسال لعا َبكم وأعطاكم ً‬ ‫مصدر ّ‬
‫ُ‬ ‫يف التعاون معهم‪،‬‬
‫احلوار بعد‬
‫ُ‬ ‫صار‬ ‫َ‬
‫املستضعفون إىل داهية”‪َ .‬‬ ‫ِ‬
‫وليذهب‬ ‫امللوثات‪،‬‬
‫كوكبكم من ّ‬
‫رد املحاور عليه‪ ،‬وصار الثالثة يتك ّلمون يف‬
‫كالمه ذلك شب َه مستحيل بعد أن َّ‬
‫املحاور ألخذ فاصلٍ جديد‪.‬‬
‫َ‬ ‫وقت واحد؛ ما دفع‬ ‫ٍ‬

‫يشكرها عىل قدرهتا عىل‬


‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫حمادثة من احلاكم وهو‬ ‫يف طريقها للعودة‪ ،‬جاءهتا‬
‫َ‬
‫الوصول إىل ماندريك الذي ال يزال‬ ‫ِ‬
‫إدارة تلك املحاورة‪ ،‬ويعدُ ها بأن حياول‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪32‬‬
‫ِ‬
‫خارصة‬ ‫قنواتم شوكة يف‬
‫ُ‬ ‫صداعا يف رأس حكومته‪ ،‬وصارت‬
‫ً‬ ‫هو ومجاع ُته‬
‫وأي دولة أخرى يف العامل‪.‬‬
‫إبرامه بني أديتيا األرض ّ‬
‫كل اتفاق جيري ُ‬ ‫ّ‬

‫توشك عىل دخول القاهرة حني جا َء اتصال من‬ ‫ُ‬ ‫كانت طائر ُة هريمني‬
‫ونحو دورها يف منظمته‪ ،‬ذلك‬‫َ‬ ‫نحوه‬
‫تشعر بالضيق الشديد َ‬
‫ُ‬ ‫شقيقها‪ .‬كانت‬
‫املنظمة أنشأها أبوها ّ‬
‫ومتكن‬ ‫التملص منه‪ ،‬فتلك ّ‬
‫َ‬ ‫تستطيع‬
‫ُ‬ ‫الدور الذي ال‬
‫ُ‬
‫رشعية عليها‪ ،‬والتغلغل يف أوساط‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫إضفاء‬ ‫شقيقها باتّصاالته وطموحه من‬
‫ال ّنخبة احلاكمة‪ ،‬وجعل العديد منهم رشكا َء يف استثامراهتم‪ .‬كانت حتسدُ‬
‫َ‬
‫مقابل مبادئه‪ ،‬وهي‬ ‫بكل يشء‬ ‫مثاليته وقدرته عىل التضحية ّ‬
‫ماندريك عىل ّ‬
‫نأت بنفسها عنها منذ زمن‪.‬‬
‫متتلكها‪ ،‬وقدرة عىل التحكم يف الذات ْ‬‫جاعة مل ْ‬
‫ٌ‬ ‫َش‬
‫ريفاديل‪ ،‬وهي املدينة التي‬
‫نزلت هبا الطائرة يف حديقة ڤيلتها يف مدينة م ْ‬
‫ْ‬
‫بالسادس من أكتوبر والشيخ زايد وحدائق األهرام‪،‬‬ ‫ضمت ما كان ُيعرف ّ‬ ‫ّ‬
‫تزوجوا من نسائهم‪.‬‬
‫غالبي ُتها من املستوطنني و َمن ّ‬
‫صارت ّ‬‫ْ‬ ‫والتي‬
‫مساعدتا األوىل يف انتظارها عىل باب الڤيال‪ ،‬وقد بدأت بطنُها يف‬
‫ُ‬ ‫كانت‬
‫التكور بعدَ أن محلت يف طفلٍ ذكر من زوجها األريض‪ .‬كانت عيناها ّ‬
‫مثبتتان‬ ‫ّ‬
‫أمطرت به أذنيها وهي‬
‫ْ‬ ‫لسيل التقارير الذي‬ ‫ٍ‬
‫منصتة ْ‬ ‫عىل ِ‬
‫بطن مساعدهتا‪ ،‬غري‬
‫احلمل من أريض هي األخرى‪.‬‬‫َ‬ ‫وتقرر‬
‫حذوها ّ‬ ‫تفكر يف جد ّي ٍة يف أن حتذو ْ‬
‫ّ‬

‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪33‬‬
‫‪5‬‬
‫(ميساء) تذرع غرفتَها جيئة وذها ًبا يف توتّر بعدَ أن تأخر (سمري)‬ ‫ظ ّلت ْ‬
‫تفرك ك ّفيها وهي تتمتم‬‫جلست عىل طرف فراشها ُ‬ ‫ْ‬ ‫وضياء يف إحضار معاذ‪.‬‬
‫اإلحساس باحلرية‪ .‬هترب من أفكارها‬
‫َ‬ ‫طياهتا‬ ‫ُ‬
‫حتمل يف ّ‬ ‫ٍ‬
‫مفهومة‬ ‫بكلامت غري‬
‫أكلت طالءها‪ ،‬وجيول‬ ‫ْ‬ ‫إىل تأمل اجلدران البالية لغرفتها‪ ،‬والرطوبة التي‬
‫أناسا يعيشون بمثلِ‬
‫جتعل ً‬ ‫كالم عن احلياة غري العادلة التي كانت ُ‬ ‫بخاطرها ٌ‬
‫ٍ‬
‫بمساحة كتلك‪ ،‬يف حني كانت‬ ‫غرفتي‬
‫ْ‬ ‫تلك البيوت مكدّ سني سبعة أو ثامنية يف‬
‫تعيش هي وأبواها ُ‬
‫وابنة خالتها يف شقة فارهة تتعدّ ى مساحتها الثالثامئة مرت‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ساوى بني اجلميع فصاروا الجئني أو مذعنني‪.‬‬ ‫وكيف ّ‬
‫أن ذلك الغزو َ‬
‫كل سكان التجمع اخلامس‬ ‫ُه ِّج ُروا من بيوهتم بعدَ الغزو بشهو ٍر قليلة كام ّ‬
‫السالم؛ وهي منطقة مل تكن‬ ‫للعيش يف دار ّ‬ ‫ِ‬ ‫والقاهرة اجلديدة؛ أرسلوهم‬
‫ذهبت إىل الواييل‪ ،‬ومعاذ إىل العتبة‪،‬‬
‫ْ‬ ‫قدْ زارهتا من ْقبل‪ .‬أرس ُة صديقتها مايا‬
‫هجروهم منها‪ ،‬وجعلوها مدينة قائمة‬ ‫ضم الغزاة تلك املناطقَ التي ّ‬ ‫وهكذا‪ّ .‬‬
‫بذاهتا‪ ،‬وأسموها شو َن ْرفاديل‪ ،‬وأسكنوا فيها الصفو َة من جمتمعهم‪.‬‬
‫مستقل مع أصدقائه من‬‫ًّ‬ ‫وأرص أن يعمل‬
‫ّ‬ ‫انضم عمر‪ -‬أبوها‪ -‬للمقاومة‪،‬‬
‫ّ‬
‫ٌ‬
‫حكومة مستبدّ ة ال جيب‬ ‫مستقل عن حكومة بلده التي يرى ّأنا‬ ‫ًّ‬ ‫النياندرتال؛‬
‫تشعر بغضب شديد‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫خالف كبري بينهام‪ .‬كانت‬ ‫مثار‬
‫باسمها‪ ،‬وكان هذا َ‬‫القتال ِ‬
‫أرص أن يكون واجه ًة إعالمية‬ ‫ِ‬
‫يكتف باملقاومة؛ وإنّام ّ‬ ‫من ترصفات أبيها‪ ،‬مل‬
‫ُ‬
‫البطل املقاوم الذي ال ُيادن الغزاة‪،‬‬ ‫اسمه يرت ّدد يف ّ‬
‫كل مكان عىل أنّه‬ ‫هلا‪ُ ،‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪34‬‬
‫ألالعيب السياسة ِمن ّ‬
‫حكام بالده والدول الكربى‪ .‬أ ّد ْت تلك‬ ‫ِ‬ ‫وال خيضع‬
‫الشهرة إىل احتجازها هي وأ ّمها وسلمى ُ‬
‫ابنة خالتها ألسابيع‪ ،‬وال ّتحقيق‬
‫غرب قرى اجليزة‪.‬‬
‫املخيامت َ‬
‫األمر برتحيلهم خارج أديتيا إىل ّ‬
‫ُ‬ ‫معهم‪ ،‬وانتهى‬
‫قررت أ ّمها زهرة‬
‫مع زوجها يف حني ّ‬ ‫هاجرت سلمى ُ‬
‫ابنة خالتها إىل أملانيا َ‬ ‫ْ‬
‫ٍ‬
‫عيادة صغرية خلدمة الالجئني‪.‬‬ ‫إنشا َء‬

‫قضت نص َفها يف حياة كرهية يف املخيم‪ ،‬مل‬


‫ْ‬ ‫ثالث سنوات من الغزو‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫بعدَ‬
‫نفسه باسم إياد‪ ،‬وأخربها‬‫عرف َ‬ ‫رجل ّ‬‫ري أبيها‪ .‬زارها ٌ‬ ‫تكن تلوم أحدً ا عليها غ َ‬
‫ْ‬
‫ضمها لوحدة مقاومة‬ ‫وأنم يريدون ّ‬ ‫ٌ‬
‫ضابط يف املخابرات العا ّمة املرصية‪ّ ،‬‬ ‫أنه‬
‫وكأنا تفعل ذلك نكاي ًة يف أبيها‪ّ ،‬‬
‫تدربت‬ ‫تعمل يف القاهرة‪ .‬وافقت بدون تر ّدد ّ‬
‫ٍ‬
‫ضابط‬ ‫خترجت برتبة‬ ‫ثم ّ‬‫املقررات‪ّ ،‬‬ ‫َ‬
‫خاللا تدرس جمموع ًة من ّ‬ ‫ملدّ ة سنة كانت‬
‫عرش عا ًما فقط‪ .‬تر ّق ْت بعدَ‬
‫أن عمرها وقتها كان تسعة َ‬
‫حتت التدريب رغم ّ‬
‫ٍ‬
‫ملجموعة صغرية من املقاومني‬ ‫صارت قائدة‬
‫ْ‬ ‫ثم‬ ‫ٍ‬
‫سنوات لرتبة مالزم ّ‬ ‫بضع‬
‫التقنيني واملساعدين‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تضم (سمري) و”ضياء”‪ ،‬واثنني من املقاتلني وبعض‬
‫ّ‬
‫صوت جلبة يف الغرفة املجاورة خرجت عىل إثرها؛ فوجدت‬
‫َ‬ ‫سمعت‬
‫يتأل ِمن جرح فخذه يف حني جيرجر‬
‫جالسا عىل األرض ُمهدً ا وهو ّ‬
‫ً‬ ‫(سمري)‬
‫فهرعت نحوه‪ ،‬وأمسكت‬ ‫ريمها‪ .‬سقط قل ُبها لرؤية إصابة (سمري) ُ‬‫زميله أس َ‬
‫السلم العتيق للدّ ور الثاين من ذلك املنزل‪ .‬كان‬ ‫ِ‬
‫وصعود ّ‬ ‫به تعينُه عىل القيام‬
‫ترتطم بفخذ (سمري) ا ُملصابة عدّ ة‬
‫ُ‬ ‫السلم ضي ًقا بالكاد ي ّتسع هلام؛ ما جعلها‬
‫ُ‬
‫جمهزة بأدوات اإلسعاف‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫غرفة نظيفة ّ‬ ‫مرات‪ ،‬لك ّنها يف النهاية أدخلته إىل‬
‫ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪35‬‬
‫قامت بتمزيق بنطالِه برسعة‪ ،‬وأخرجت أدا ًة دفعتها يف اجلرح فتوقف‬
‫ثم بعدها أمسكت‬ ‫دسته يف كتفه‪ّ ،‬‬ ‫ثم أخرجت حمقنًا ّ‬ ‫ُ‬
‫النزيف عىل الفور‪ّ ،‬‬
‫ثم‬
‫األول ّ‬
‫الزر ّ‬
‫ثالثة أزرار‪ .‬ضغطت َّ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫شاشة عليها‬ ‫بجهاز صغ ٍ‬
‫ري عبارة عن‬
‫مرتني بعدَ الضغط‬
‫كررت العملية ّ‬‫ثم ّ‬ ‫مرت باجلهاز عىل ِ‬
‫فخذه ألعىل وأسفل‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫ُ‬
‫ثم قالت‪“ :‬احلمدُ هلل؛ فخذك سليم”‪ .‬ابتسم (سمري)‬ ‫عىل الزر ْين اآلخرين‪ّ ،‬‬
‫ري الواجب”‪.‬‬ ‫ويقبلها‪ ،‬فقالت مازحة‪“ :‬مل ْ‬
‫أفعل غ َ‬ ‫يشكرها ويمسك يدَ ها ّ‬
‫ُ‬ ‫وهو‬
‫جرحه الذي ختدّ ر بفعل‬ ‫ِ‬ ‫أفلتت يدَ ها من ك ّفه‪ ،‬وأخذت يف خياطة‬
‫أن انتهت ر ّبتت عليه برفق وهي‬ ‫أوقفت ال ّنزيف‪ ،‬وبعد ِ‬ ‫ِ‬ ‫اآللة األوىل التي‬
‫َ‬
‫العمل معها‬ ‫أن بدأ (سمري)‬ ‫بتأخرهم‪ .‬منذ ْ‬ ‫سببه هلا ّ‬ ‫تعات ُبه عىل القلق الذي ّ‬
‫أول يوم‪ .‬بساط ُته‬ ‫تقوده وجدت نفسها ُمنجذب ًة إليه من ّ‬ ‫يف الفصيل الذي ُ‬
‫املتكررة؛ كانت سجايا‬ ‫ّ‬ ‫وشهامته وقدر ُته عىل إخراجها من نوبات الكآبة‬
‫الوقت الطويل‬
‫ُ‬ ‫مهمني؛ األول‪،‬‬ ‫عاملي ّ‬ ‫ْ‬ ‫حبه‪ ،‬إضافة إىل‬ ‫ِ‬
‫إليقاعها يف ّ‬ ‫تكفي‬
‫الذي قض ْته بصحبتِه؛ فقد كان (سمري) هو ال ّتايل هلا يف ترتيب القيادة‪،‬‬
‫ري مناسب هلا‬ ‫أكثر من اآلخرين‪ .‬والثاين‪ ،‬أنّه غ ُ‬ ‫معا َ‬ ‫وطبيعي أن يمض َيا وق ًتا ً‬
‫ناحية اجتامعية حمْضة‪ ،‬لك ّنها كانت تقول لنفسها‬ ‫ٍ‬ ‫باملرة لو نظرنا إىل األمر من‬ ‫ّ‬
‫تنجب فتاة‬
‫َ‬ ‫اكا‪ ،‬ال بدّ أن‬ ‫سب ً‬
‫تزوجت ّ‬ ‫جراحة األعصاب التي ّ‬ ‫ّإنا ابنة أ ّمها؛ ّ‬
‫األمر‬
‫ُ‬ ‫ومتزو ًجا من امرأة أخرى‪ .‬مل يكن‬ ‫ّ‬ ‫حاصل عىل اإلعدادية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫حتب ّ‬
‫فل ًحا‬ ‫ّ‬
‫أغلب الشباب للزواج من‬ ‫ُ‬ ‫فهم صاروا يعيشون يف زمن ي ّتجه فيه‬ ‫يضايقها ُ‬
‫فتيات قبيحات من جنس غريب سع ًيا للامل واألمان‪ ،‬إضاف ًة إىل أنّه ال يزور‬ ‫ٍ‬
‫مجة‪.‬‬
‫بمخاطر ّ‬
‫َ‬ ‫ٌ‬
‫حمفوفة‬ ‫نادرا ّ‬
‫ألن رحلته إليها‬ ‫زوجته ّإل ً‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪36‬‬
‫تركت (سمري) ليسرتيح‪ ،‬ونزلت للطابق السفيل‪ .‬كان (ضياء) مع‬ ‫ْ‬
‫ضابط رشطة قبل‬‫َ‬ ‫(معاذ) حياول إفاقتَه ليبدأ استجوا َبه بنفسه‪( .‬ضياء) كان‬
‫مرؤوسا هلا ألنّه‬
‫ً‬ ‫وصار‬
‫َ‬ ‫وضع ذلك يف االعتبار‪،‬‬ ‫ينضم إليهم‪ ،‬لكن مل ُي َ‬
‫ّ‬ ‫أن‬
‫وألن لديه تار ًخيا يمنع تو ّليه القيادة يف خاليا‬
‫انضم للمقاومة بعدها بسنوات‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫املقاومة التي ُتديرها املخابرات املرصية‪.‬‬
‫كل يشء‪ ،‬ومل‬‫يكف عن التذ ّمر‪ ،‬وجمادلتها يف ّ‬
‫ريا جلعله ّ‬
‫بذلت جمهو ًدا كب ً‬
‫ْ‬
‫ْ‬
‫حتاول يف البداية أن تشكوه للمقدّ م إياد‪ّ -‬‬
‫الضابط املسئول عنهم‪ ،-‬لك ّنه‬
‫جمرد ٍ‬
‫فتاة صغرية ال تصلح‬ ‫استفزها للحدّ األقىص حني قال‪ّ :‬إنا ّ‬
‫ّ‬ ‫يف النهاية‬
‫ابنة عمر الزيبق نكاي ًة فيه‪ ،‬أو سع ًيا‬
‫ألنا ُ‬ ‫ضموها للمقاومة فقط ّ‬ ‫وإنم ّ‬ ‫ليشء‪ّ ،‬‬
‫املرات التي خالف فيها‬ ‫بكل ّ‬ ‫تقريرا ً‬
‫كامل ّ‬ ‫ً‬ ‫الستاملته‪ .‬عند تلك ال ّنقطة قدّ مت‬
‫ُ‬
‫يستقيم يف عمله‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أوامرها‪ ،‬وأ ِّن َب بشدّ ة من ّ‬
‫الرؤساء يف الفيوم‪ ،‬ما جعله‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫لغرفة ُمنفردة لتقوم هي‬ ‫ِ‬
‫باقتياد معاذ‪ -‬الذي كان ال يزال خمدّ ًرا‪-‬‬ ‫أمرتْه‬
‫أقدر عىل‬
‫وأكد هلا أنّه ُ‬ ‫يعجب (ضياء) ذلك القرار‪ّ ،‬‬ ‫ْ‬ ‫باستجوابِه بنفسها‪ .‬مل‬
‫ُ‬
‫ضابط رشطة سابق‪ ،‬وله خرب ٌة يف التعامل مع امل ّتهمني وانتزاع‬ ‫استجوابه ألنه‬
‫املعلومات منهم‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بلهجة آمرة‪“ :‬سيد ضياء‪،‬‬ ‫ثم قالت‬ ‫وأرصت عىل رأهيا‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫(ميساء)‬
‫مل توافقْ ْ‬
‫املخصصة؛ هذا أمر”‪ .‬فقال بضيق‪:‬‬
‫ّ‬ ‫الفور باقتياد امل ّتهم إىل الغرفة‬
‫قم عىل ْ‬ ‫ْ‬
‫ُ‬
‫طريقة قيادة‪ ،‬ال بدّ أن تستفيدي من‬ ‫ميساء‪ ،‬هذه ليست‬ ‫“ولكن يا مالزم ْ‬
‫ْ‬
‫اجلزء الثاين من ُجلته وتأكيده هلا‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫األقل”‪ .‬كان‬ ‫خربات مرؤوسيك عىل‬
‫أثارت ضي َقه‬
‫ْ‬ ‫ِ‬
‫تشكيكه يف قيادهتا؛ حماولة‬ ‫عىل أنّه مرؤوسها حماولة لتخفيف‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪37‬‬
‫وأرصت عليه‪ ،‬ومل جيد‬
‫ّ‬ ‫أمرها‪،‬‬
‫كررت َ‬
‫أكثر من أمرها له‪ ،‬ومع ذلك ّ‬
‫الشخيص َ‬
‫بدًّ ا من االنصياع‪.‬‬
‫حتت ِ‬
‫إمرة احلمقى؛ قبل الغزو‬ ‫تاريخ طويل من العمل َ‬‫ٍ‬ ‫نفسه ذا‬‫ضياء َيعترب َ‬
‫الترصف عمل‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ضعيف‬ ‫غبي‬
‫مأمور ّ‬
‫ٌ‬ ‫ريا يف قسم رشطة يرأسه‬ ‫ً‬
‫ضابطا صغ ً‬ ‫كان‬
‫الرابع للغزو سيطر النياندرتال‬ ‫َ‬
‫حدث الغزو‪ .‬يف اليوم ّ‬ ‫حتته مدّ ًة طويلة ح ّتى‬
‫كل َمن قاومهم‬‫الشطة الذي يعمل به يف دقائق بعدَ أن قتلوا ّ‬ ‫عىل قسم ّ‬
‫قادرا عىل املقاومة‪.‬‬
‫ظن نفسه ً‬‫وأوهلم املأمور الذي ّ‬
‫بقذائفهم الذكية‪ّ ،‬‬
‫اجلميع سالحه‪ ،‬دخل مخسة نياندرتال وأعلنوا أهنم‬ ‫ُ‬ ‫بعدَ أن ألقى‬
‫إمرة أحدهم‪ّ ،‬‬
‫وأن‬ ‫ِ‬ ‫مع (ضياء) ورفاقه يف قسم الرشطة حتت‬ ‫سيتعاونون َ‬
‫مهمتهم ستكون حفظ األمن العام والسيطرة عىل اللصوص واخلارجني عىل‬
‫القانون‪“ ..‬نحن نطلب منكم خدم َة شعبكم واحلفاظ عىل أمنه كاملعتاد”‪.‬‬
‫رب أحدً ا عىل العمل‪ ،‬لكن َمن‬
‫كالم قائدهم الذي قال إنّه لن جي َ‬
‫َ‬ ‫كان ذلك‬
‫سي َسل للعمل يف مناجم س ُت ْبنَى الستخراج مصدر الطاقة اجلديد‪.‬‬
‫يرفض ُ‬
‫َ‬
‫عمل معهم وتن ّقل بني عدّ ة مراكز رشطية يف أنحاء تلك الدولة الغريبة‪.‬‬
‫ريفية‪ ،‬وأخرى جبلية يف‬
‫عمل يف مدن كالقاهرة وحيفا وأنطاليا‪ ،‬ويف مناطق ّ‬
‫حيب العمل‬
‫كرها صار ّ‬ ‫مرص وتركيا وسوريا‪ .‬بعدَ فرتة قصرية من العمل ُم ً‬
‫معهم ونظامهم اجليد وتقنياهتم ْ‬
‫املذهلة‪ ،‬لك ّنه بعدَ عدّ ة أعوام بدأ يكره‬
‫جمرد خادم للغزاة يساعدهم يف إحكا ِم قبضتهم عىل البالد التي‬ ‫حقيق َة أنّه ّ‬
‫يستعمروهنا‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪38‬‬
‫أمور أديتيا األرض‪ ،‬بعدَ سبع سنوات من الغزو تقري ًبا‪،‬‬ ‫استقرت ُ‬ ‫ّ‬ ‫بعدَ أن‬
‫تزوجوا من أديتيات وأنجبوا منهن‪،‬‬ ‫أفراد من الرشطة الذين ّ‬ ‫ٍ‬ ‫بدأوا يف جتنيد‬
‫السامح ملَن يريد االستقالة من الرشطة‪ ،‬وكان هو ِمن أوائل‬ ‫وبدأوا يف ّ‬
‫عرض للعمل يف املقاومة يف كتائب النرص التابعة‬ ‫ٌ‬ ‫املستقيلني‪ .‬بعد ذلك جا َءه‬
‫يتم العفو عن جريمته املتمثّلة يف عمله يف‬ ‫َ‬
‫مقابل أن ّ‬ ‫للمخابرات املرصية‪،‬‬
‫حتت االختبار‬ ‫ً‬
‫ضابطا َ‬ ‫رشطة الغزاة‪ ،‬ومقابل راتب ُم ٍز‪ ،‬أخربوه أنّه سيبدأ‬
‫أن العمل يف‬ ‫تدرجييا إذ أثبت إخالصه وكفاءته‪ .‬وافقَ ‪ ،‬وقد شعر ّ‬ ‫ًّ‬ ‫ثم سيرت ّقى‬
‫ّ‬
‫املقاومة سيكون بالفعل التوب َة املناسبة عن ِ‬
‫عمله يف خدمة الغزاة‪.‬‬
‫تصغره بعرشة أعوام‪،‬‬
‫ُ‬ ‫مرؤوسا ْمليساء؛ الفتاة التي‬
‫ً‬ ‫يتحمل أن يكون‬
‫ّ‬ ‫ال‬
‫يتم العفو عن‬ ‫يتحمل ً‬
‫أمل يف أن ّ‬ ‫ّ‬ ‫ومدنية ال خرب َة هلا بيشء‪ .‬مع ذلك كان‬
‫تارخيه وجعله يرت ّقى يف عمله اجلديد‪ ،‬ويتخ ّلص من رئاسة ْ‬
‫(ميساء) وسمري‪،‬‬
‫يسميهام “الطفلة والعسكري العادة”‪.‬‬
‫أو كام ّ‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪39‬‬
‫‪6‬‬
‫صارت‬
‫ْ‬ ‫وكأنا تتأكد من ّ‬
‫أن مالحمها‬ ‫(ميساء) تتأ ّمل وجهها يف املرآة ّ‬
‫وقفت ْ‬
‫ْ‬
‫حجة يستخدمها (ضياء) يف‬ ‫أكثر مالءمة للقيادة‪ّ ،‬‬
‫وأن وجهها الطفويل مل يعدْ ّ‬ ‫َ‬
‫نفسها ً‬
‫أيضا‪ ،‬وحتاول املقارنة بني مالحمها اآلن ومالحمها‬ ‫حتدهيا‪ .‬كانت تتأ ّمل َ‬
‫ُ‬
‫حتاول‬ ‫مقرب ًة ملعاذ‪ .‬أخذت ً‬
‫نفسا عمي ًقا وهي‬ ‫منذ عرش سنوات حني كانت ّ‬
‫ِ‬
‫وشك الدّ خول عليه‪ ،‬وإخباره‬ ‫أن تتغلب عىل التوتّر الذي يعرتهيا وهي عىل‬
‫باحلقيقة‪.‬‬
‫تنكر‪ ،‬واحلديث‬‫الذهاب إليه دون ّ‬ ‫صدرت هلا هي ّ‬‫ْ‬ ‫األوامر التي‬
‫ُ‬ ‫كانت‬
‫ٍ‬
‫موعد آخر ملقابلته يف اليوم التايل‪ ،‬وبتكرار تلك املواعيد‬ ‫معه‪ ،‬واالتّفاق عىل‬
‫للمقر طواعية‪ ،‬وإقناعه بال ّتعاون مع املقدم إياد‪.‬‬‫ّ‬ ‫َ‬
‫السبيل إلحضاره‬ ‫متهد‬
‫ّ‬
‫أيضا لكنها حني عرفت‬ ‫عارضت الفكرة يف البداية‪ ،‬وعارضها (سمري) ً‬
‫بالتفاصيل وافقت عىل الفور وأقنعت (سمري) دون إخباره بتفاصيل إضافية‪.‬‬
‫أي طائرة‬
‫تم معه ُبمنتهى البساطة‪ ،‬ومل تلتقطها ُّ‬
‫األول ّ‬
‫أن لقاءها ّ‬‫الغريب ّ‬
‫ُ‬
‫الذهاب والعودة بفضل جهاز التشويش‬ ‫دقيقة‪ ،‬أو جها ٍز ُمستشعر طيلة طريق ّ‬
‫بث املستشعرات‪.‬‬ ‫تغي ّ‬ ‫ٍ‬
‫موجات ّ‬ ‫الذي حتمله‪ ،‬والذي ُي ِ‬
‫صدر‬
‫ينتظرها يف املطعم الذي‬
‫ُ‬ ‫وجدت كمينًا‬
‫ْ‬ ‫حنيَ ذهبت إىل لقائهام الثاين‪،‬‬
‫مع (معاذ) عىل ال ّلقاء فيه‪ .‬كان من ّ‬
‫املرجح ّأنم قد التقطوا احلوار‬ ‫اتفقت َ‬
‫مكان لقائهام‪ ،‬أو ّأنم اكتشفوها ُ‬
‫منذ‬ ‫َ‬ ‫عريض‪ ،‬وعرفوا‬ ‫الذي دار بينهام بشكلٍ َ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪40‬‬
‫حوارها مع‬
‫َ‬ ‫ور َصدوا‬
‫الطائرات الدقيقة‪ ،‬وراقبوها َ‬‫البداية عن طريق أحد ّ‬
‫للمقر‪ ،‬لك ّنهم فقدوها عندَ نقطة دخوهلا ملنشية‬
‫ّ‬ ‫تتبعها‬
‫ثم حاولوا ّ‬
‫“معاذ”‪ّ ،‬‬
‫أكثر من جهاز تشويش قوي‪.‬‬ ‫نارص؛ حيث هناك ُ‬
‫لغرفة االحتجاز‪ ،‬فوجدت (معاذ) راقدً ا عىل‬ ‫ِ‬ ‫الباب احلديدي‬
‫َ‬ ‫فتحت‬
‫ري مفهوم‪ ،‬غري ُم ٍ‬
‫نتبه‬ ‫ويتمتم بكالم غ ِ‬
‫ُ‬ ‫حيدق يف سقف الغرفة‪،‬‬ ‫الصغري ُ‬‫الفراش ّ‬
‫“ميساء!‬ ‫ٍ‬
‫بلسان ُمتلعثم‪ْ :‬‬ ‫مشو ًشا‪ ،‬وقال‬
‫فنظر إليها ّ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫باسمه‬ ‫لدخوهلا‪ .‬نادت‬
‫ابتسمت وهي‬
‫ْ‬ ‫يصيب باهلالوس ً‬
‫أيضا”‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫يبدو ّ‬
‫أن املخدّ ر الذي حقنوين به‬
‫فر ّد وهو ُيطلق‬
‫وإنا أما َمه عىل احلقيقة”‪َ .‬‬
‫“إنا ليست هالوس‪ّ ،‬‬ ‫تقول‪ّ :‬‬
‫جزء من اهللوسة”‪.‬‬ ‫ضحك ًة عبثية‪ّ :‬‬
‫“كل َمن يزورك يف أثناء اهللوسة ينكر أنّه ٌ‬
‫فتأوه وهو ينظر إليها‬
‫كتفه ّ‬‫ريا‪ ،‬وأفرغته يف ِ‬‫أخرجت من جيبها حمْقنًا صغ ً‬
‫ْ‬
‫ري مصدّ ق‪ .‬أجلس ْته عىل املكتب ا ُملجاور للفراش وهو ُيغلق عينيه ويفتحهام‬
‫غ َ‬
‫زالت من رأسه بقايا املخدّ ر‪ ،‬واندفع ٌ‬
‫سيل‬ ‫نظر إليها وقد ْ‬ ‫ثم َ‬ ‫متكرر‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫بشكل‬
‫تلعثمه‪ .‬أعطته كو ًبا من عصري الليمون‬
‫ُ‬ ‫فمه الذي زال‬ ‫من األسئلة من ِ‬
‫وطلبت منه أن هيدأ وسوف ختربه ّ‬
‫بكل يشء‪.‬‬
‫بتعجل وكأنّه حاجزٌ يريد ّ‬
‫ختطيه ملعرفة إجابة األسئلة‬ ‫ارتشف العصري ّ‬‫َ‬
‫ري املتد ّفق يف فمه وهي‬
‫رأسه يف تلك اللحظة‪ .‬وتأ ّملت هي العص َ‬ ‫التي متأل َ‬
‫َ‬
‫وتعرف من أين تبدأ‬ ‫َ‬
‫لتزيل توتّرها‬ ‫أوىل هبذا العصري‬ ‫تقول يف ِ‬
‫نفسها ّإنا ْ‬
‫كالمها معه‪.‬‬
‫اضطرت فيها للقيام بدور‬
‫ّ‬ ‫انضمت للمقاومة‬
‫ّ‬ ‫مرات نادرة منذ ِ‬
‫أن‬ ‫ّ‬
‫املرة هي األصعب؛‬
‫كل مرة‪ ،‬وهذه ّ‬ ‫األمر ً‬
‫ثقيل عىل قلبِها يف ّ‬ ‫ُ‬ ‫املحقق‪ ،‬وكان‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪41‬‬
‫الكوب‬
‫َ‬ ‫أيام املراهقة‪ .‬بعد أن وضع‬ ‫ستجوب كان فتى أحالمها َ‬
‫َ‬ ‫فالشخص ا ُمل‬
‫رس سكوهتا طال ًبا منها أن تبدأ باحلديث‪.‬‬ ‫ً‬
‫مستفهم عن ِّ‬ ‫الفارغ أمامه نظر إليها‬

‫تنظر يف عينيه وأخربته‬‫كرسيها بتباطئ‪ ،‬وحتدّ ثت دون أن َ‬ ‫ّ‬ ‫قامت من عىل‬


‫ْ‬
‫متفهام وهو يقول‪“ :‬نعم‪ ،‬تكملني‬ ‫رأسه ً‬ ‫فهز َ‬‫فعل‪ّ .‬‬ ‫ّأنا تعمل مع املقاومة ً‬
‫بقوة نافي ًة عنها تلك الصفة وهي ترشح‬ ‫هزت رأسها ٍ‬ ‫مسرية أبيك بال ّتأكيد”‪ّ .‬‬
‫له ّأنا تعمل مع املخابرات املرصية‪ ،‬وأهنا مل تساعد أباها يو ًما ما‪ ،‬بل ّإنا غري‬
‫مقتنعة بطريقته يف املقاومة‪.‬‬

‫تفلح معهم تلك العمليات‬ ‫يفل احلديدَ ّإل احلديد‪ ،‬وهؤالء الغزاة لن َ‬‫“ال ّ‬
‫ٍ‬
‫حرب شاملة يو ًما ما تش ّنها دولة قوية تسرت ّد أرضها‪..‬‬ ‫العشوائية؛ ال بدّ من‬
‫تصلح للتفاوض عىل حتسني االحتالل أو االعرتاف‬ ‫ُ‬ ‫حرب العصابات قد‬
‫مهم ُة دولة بأكملها”‪.‬‬
‫جزء من الوطن فهي ّ‬ ‫ببعض احلقوق‪ ،‬أ ّما استعادة ٍ‬

‫خيص املقاومة‪،‬‬
‫مهم ّ‬ ‫ألنا تريده يف أمر ّ‬‫قبل يومني ّ‬ ‫أخربتْه ّأنا ذهبت إليه َ‬
‫كمرصي ُملص حي ّتم عليه أن يساعد بلده‪ .‬ر ّد عليها بحدّ ة ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وأن واجبه‬
‫نظرت إىل‬
‫ْ‬ ‫كنت تكذبني ع َّ‬
‫يل”!‬ ‫الزواج مني‪ِ ..‬‬ ‫“إ ًذا‪ ،‬مل تريدي العود َة يل أو ّ‬
‫ختطط‬‫أنت ومل ختربين أنّك ّ‬‫كذبت َ‬
‫َ‬ ‫ٍ‬
‫هبدوء شديد‪“ :‬كام‬ ‫عينيه بثبات وهي تر ّد‬
‫أن التزاوج معهم خيانة ال يغفرها‬ ‫وأنت تعرف ّ‬
‫للزواج من بنات النياندرتال َ‬
‫َ‬
‫يفعلون ذلك”‪.‬‬ ‫أنّك ُمرب‪ ،‬أو أن اجلميع‬

‫وأحست أنّه يشعر اآلن بالضآلة أمامها‪.‬‬


‫ّ‬ ‫امتقع وجهه وانعقدَ لسانه‪،‬‬
‫َ‬
‫الصغر حارضة اآلن فهي تع ّلمت أن أحدا ًثا كتلك التي‬ ‫ذكريات ّ‬
‫ُ‬ ‫مل تكن‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪42‬‬
‫أفضل النفوس وهتبط هبا إىل احلضيض‪ .‬كانت‬ ‫َ‬ ‫تغي‬
‫يعيشوهنا قادرة أن ّ‬
‫أن لدهيا معرفة سابقة به متنحها‬ ‫تتعامل مع رجلٍ ُمستهدف يف عملها‪ ،‬صادف ّ‬
‫كل من‬‫“إن ّ‬
‫قرار زواجه من نياندرتال‪ ،‬لك ّنها قالت‪ّ :‬‬‫ربر َ‬ ‫أفضلية‪ .‬حاول أن ي ّ‬
‫خطة الغزاة‪ ،‬ويساعدون يف حمْو ّ‬
‫كل‬ ‫يتزاوجون معهم يعرفون أهنم ينفذون ّ‬
‫أملٍ يف عودة األرض ألصحاهبا‪ُ .‬هم ّ‬
‫خيططون ملا بعدَ ثالثني عا ًما من اآلن‪،‬‬
‫أرضيني‬
‫ّ‬ ‫السكان تقري ًبا من اهلجناء أبناء أديتيات وذكور‬
‫نصف ّ‬‫ُ‬ ‫حني يصبح‬
‫فاقدين احرتا َمهم ألوطاهنم مثلك‪ ،‬عندها لن يمكننا حمو ذلك الغزو أو‬
‫التخلص منه”‬

‫ريا‬ ‫ً‬
‫جهازا صغ ً‬ ‫احلوار حني أمسكت‬
‫َ‬ ‫أكثر لك ّنها أقفلت‬ ‫َ‬
‫حاول أن جيادهلا َ‬
‫ُ‬
‫تعرض عليه فيديو يظهر مخسة ملثّمني‬ ‫وفتحت به شاشة فراغية‪ ،‬وبدأت‬
‫ْ‬
‫بوخزهن بالسكاكني‬
‫ّ‬ ‫يقيدون جمموع ًة من الفتيات األديتيات‪ ،‬ويقومون‬
‫بقتلهن واحد ًة تلو‬
‫ّ‬ ‫ثم بعدَ فرتة يبدؤون‬
‫يف أماكن متفرقة من أجسادهن‪ّ ،‬‬
‫كل عار”‪.‬‬‫“الدم يغسل ّ‬
‫ُ‬ ‫وهم هي ّللون‪ ،‬وأحدُ هم ير ّدد شعارات مثل‬
‫األخرى‪ُ ،‬‬
‫كل عالمات‬ ‫تركز عىل تعابري وجهه وهو يشاهدُ الفيديو‪ ،‬وترى ّ‬ ‫كانت ّ‬
‫وضوحا حني قام واحدٌ‬
‫ً‬ ‫حمياه‪ ،‬لك ّنها كانت أكثر‬
‫اخلزي واألمل تتبدّ ى عىل ّ‬
‫وغرس ّ‬
‫سكينَه ببطء بني‬ ‫َ‬ ‫بكشف صد ِر إحدى الفتيات‬ ‫ِ‬ ‫من الشبان بعينه‬
‫صمتت فجأة‬
‫ْ‬ ‫ضلوعها‪ ،‬والفتاه ترصخ بقوة‪ ،‬والسكنيُ يمتدّ للداخل ح ّتى‬
‫مزق قلبها‪.‬‬
‫حني ّ‬
‫ُ‬
‫أعرف أنّك واحدٌ منهم‪ ،‬لك ّنني مل أكن‬ ‫“مل أكن أتو ّقع أنّه أنت‪ ..‬كنت‬
‫تظن أنّه ذلك‬ ‫ومرضا”‪َ .‬‬
‫قبل أن تر َيه الفيديو كانت ّ‬ ‫ً‬ ‫أختيل أنّك أكثرهم ساد ّية‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪43‬‬
‫الشاب‬
‫ّ‬ ‫يكن يستعمل سكينَه ّإل حني ُ‬
‫ينهره زمالؤه‪ ،‬أو ذلك‬ ‫الشاب الذي مل ْ‬
‫رسيعا َ‬
‫دون ال ّنظر إىل الضحية‪ ،‬أ ّما‬ ‫ً‬ ‫ويرجه‬ ‫رسيعا‪ُ ،‬‬
‫ً‬ ‫الذي كان يغرس السكني‬
‫ضحيتِه‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫سحابات األمل عىل وجه‬ ‫أن يكون هو ذلك السادي الذي ّ‬
‫يتلذذ برؤية‬
‫فلم ير ْد ذلك بخاطرها‪.‬‬
‫تقوم هي معه بدور الرشطي الطيب؛ حتاول‬ ‫تعليامت (إياد) هلا أن َ‬
‫ُ‬ ‫كانت‬
‫بتور ِطه يف ذلك الفعل الشنيع‬ ‫إقناعه بأهنا يف ص ّفه‪ ،‬وتقول ّإنا حني علمت ّ‬
‫َ‬
‫السلطات بالعفو عنه إذا وافقَ عىل مساعدهتم‪.‬‬ ‫ِ‬
‫وأقنعت ّ‬ ‫التمست له العذر‪،‬‬
‫ويكيل له االهتامات بالوحشية‬‫ُ‬ ‫فيستخدم ّ‬
‫التهيب‬ ‫ُ‬ ‫دور (إياد)‬
‫يأيت بعد ذلك ُ‬
‫واإلجرام‪ ،‬وهيدّ ده بأقىص العقاب‪ .‬كانت تلك هي ّ‬
‫اخلطة‪ ،‬لك ّنها مل تعدْ قادرة‬
‫ِ‬
‫صفعه‪.‬‬ ‫عىل تنفيذها وامتألت برغبة قوية يف‬
‫مرة شاهدت الفيديو الذي انترش يف العامل أمجع‪،‬‬‫أصيبت بالغثيان ّأول ّ‬
‫ْ‬
‫رين‬
‫رب َ‬
‫جلرائم فعلها آخرون م ّ‬
‫َ‬ ‫واألفظع من عدّ ة فيديوهات‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫األول‬ ‫وكان‬
‫يفروا لكوكبهم ثانية‪ .‬كانت تكره ّ‬
‫كل َمن‬ ‫أفعاهلم بأهنم ُيرعبون الغزاة كي ّ‬
‫السادي الذي اتّضح‬
‫باألخص كانت ترغب يف متزيق ذلك ّ‬
‫ّ‬ ‫يف الفيديو لكنها‬
‫اآلن أنه هو “معاذ”‪.‬‬

‫وجهه مغرور ًقا بالدموع غ َ‬


‫ري قادر‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫أغلقت الشّ اشة‪ ،‬ونظرت إليه‪ ،‬كان‬
‫رصخت فيه بعنف ليتكلم وهي تشعر ّأنا عىل وشك توجيه‬ ‫ْ‬ ‫عىل ال ّنطق‪.‬‬
‫مضت عىل هذا الفيديو” قال وهو يمسح َ‬
‫خماطه‬ ‫ْ‬ ‫“ست سنوات‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫لكمة لوجهه‪.‬‬
‫عضوا يف‬
‫ً‬ ‫ٍ‬
‫برغبة قو ّية باالنتقام‪ ..‬كنت‬ ‫مدفوعا‬
‫ً‬ ‫ريا‬
‫بكمه ويكمل‪“ :‬كنت صغ ً‬ ‫ّ‬
‫نصور الفيديو ونحن‬ ‫ٍ‬
‫جمموعة يديرها رجال كبار ال نعرفهم‪ ،‬طلبوا م ّنا أن ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪44‬‬
‫فعلت ّإل بعدها حنيَ‬
‫ُ‬ ‫أعرف بشاعة ما‬ ‫ْ‬ ‫ننال (رشف) االنتقام من الغزاة‪ ،‬مل‬
‫تذهب العقل‪ ،‬وجتعل‬
‫ُ‬ ‫إن رؤي َة الدّ م‬ ‫شاهدت نفيس وأنا ُ‬
‫أفعل ذلك‪ ..‬يقولون ّ‬
‫أكن أراهن ً‬
‫برشا‪ ،‬لكن‬ ‫ملزيد من الدم‪ ..‬حسنًا كنت كذلك مل ْ‬ ‫اإلنسان َش ًها ٍ‬
‫َ‬
‫أن فعل ذلك هو التوحش ح ّتى لو كان‬‫أيقنت ّ‬
‫ُ‬ ‫شاهدت الفيديو‬
‫ُ‬ ‫بعد أن‬
‫ريا؛ ال فتاة مسكينة”‪.‬‬
‫ضبعا حق ً‬ ‫ُ‬
‫الضحية ثعبا ًنا أو ً‬
‫بنشيج يطغي عىل صوته‬‫ٍ‬ ‫الندم يقطر من كلامتِه التي كان يقطعها‬
‫ُ‬ ‫كان‬
‫أحيا ًنا لك ّنه مل يكن كاف ًيا إلقناعها‪“ .‬واآلن تريدُ أن تك ّفر عن ذنبك بالزواج‬
‫دورها‬ ‫بواحدة منهن”‪ ،‬قال ْتها بسخرية حماول ًة أن تتامسك‪ْ ،‬‬
‫وأن تعود إىل ْ‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬
‫حياول أن يتو ّقف عن البكاء‪“ :‬صدّ قيني‪ ،‬أنا‬ ‫كمح ّقق متعاطف‪ .‬قال وهو‬
‫الكوابيس ّ‬
‫كل ليلة منذ فعلتها‪،‬‬ ‫َ‬ ‫مستعدّ لتلقي العقاب عىل فعلتي؛ أنا أرى‬
‫ست سنوات مل ترتكني فيها ليلة واحدة”‪.‬‬
‫ّ‬
‫صوت‬
‫ٌ‬ ‫ربه بالغرض احلقيقي من هذا ال ّتحقيق تصاعد‬ ‫َ‬
‫قبل أن تر ّد عليه وخت َ‬
‫من امليكروفون الداخيل بالغرفة يطلب منها احلضور ملقابلة املقدم (إياد) عىل‬
‫هيم بالتحدث‪ ،‬لك ّنها‬
‫األمر فأمسك (معاذ) بذراعها وهو ّ‬ ‫َ‬ ‫لتلبي‬
‫الفور‪ .‬قامت ّ‬
‫بالصمت واالنتظار ح ّتى تعود إليه‪.‬‬‫أشارت إليه ّ‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪45‬‬
‫‪7‬‬
‫ريفاديل‬
‫“األهرامات‪ ..‬ثالثون ألف عا ٍم من التاريخ تقف شاخمة يف م ْ‬
‫عاصمة أديتيا‪ ،‬وتعدكم بالكشف عن مزيد من أرسارها التي استطاع علامؤنا‬
‫تدور بني األهرام‪ ،‬وتقرتب من فتحة‬ ‫ُ‬ ‫األديتيون اكتشافها”‪ .‬كانت الكامريا‬
‫رتا تقري ًبا‪ ،‬واملع ّلق يكمل باإلنجليزية‪:‬‬
‫أسفل قمة اهلرم األكرب بعرشين م ً‬
‫تكن لتكتشف لوال جهود‬ ‫ٍ‬
‫مليئة باألرسار مل ْ‬ ‫“هذه الفتحة تقود إىل غرف‬
‫أكثر ممّا تتخيلون”‪ .‬تبتعد الكامريا‬
‫علامئنا الذين يقدرون التاريخ اإلنساين َ‬
‫وتكشف منطق َة األهرام بأكملها وهتبط مجلة مكتوبة ير ّددها املعلق‪“ :‬زوروا‬
‫أديتيا؛ حيث تنصهر احلضارات”‪.‬‬
‫زرا يف جهاز التحكم‬ ‫تو ّقف العرض‪ ،‬وضغطت َك ِم ْ‬
‫ريدا مساعدة هريمني ًّ‬
‫يتجول بني معاملها وشوارعها‬ ‫ّ‬ ‫عرض فيديو آخر ُيظهر مدين َة القدس‪،‬‬‫ُ‬ ‫فبدأ‬
‫صارت مدينة السالم‪ ،‬مل تعدْ‬‫ْ‬ ‫وصوت املع ّلق نفسه يقول‪“ :‬القدس‬‫ُ‬ ‫القديمة‬
‫قبل أن تعود جز ًءا من أديتيا”‪ ،‬تتداخل‬ ‫مدينة الدماء واحلروب كام كانت َ‬
‫ٍ‬
‫أديان خمتلفة‪ ،‬واملع ّلق يكمل “أ ًّيا‬ ‫يف الشاشة صورة مص ّلني يف املدينة من‬
‫كان دينك ستنعم بالصالة هنا يف مكانك املقدس بدون حواجز أو حراس‬
‫مسلحني‪ ..‬بدون ضغائن أو أصوات كراهية‪ ..‬يف أديتيا صارت القدس ح ًّقا‬
‫شيخ وحاخام وقس‪ ،‬يقرتبون من‬ ‫للجميع‪ ،‬بدون تفرقة”‪ ،‬يظهر يف الصورة ٌ‬
‫شعار ماجوها (شعار‬ ‫ُ‬ ‫كاهن يرتدي معط ًفا جلد ًّيا َ‬
‫أمحر اللون‪ ،‬وقالدة عليها‬ ‫ٍ‬
‫وضعية اجلنني)‪،‬‬
‫ّ‬ ‫دين النياندرتال؛ وهو يد مفرودة ينام يف راحتها شخص يف‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪46‬‬
‫اجلميع بالكاهن‪ ،‬وهتبط مجلة مكتوبة ير ّددها املعلق‪“ :‬زوروا أديتيا؛‬
‫ُ‬ ‫حييط‬
‫حيث تتعانق األديان”‪.‬‬
‫ريدا العرض‪ ،‬ونظرت إىل هريمني تسأهلا رأهيا‪ ،‬فقالت بابتسامة‬ ‫أغلقت َك ِم ْ‬
‫ْ‬
‫“التنفيذ أكثر من جيد‪ ،‬ويناسب طريقة تفكري األرضيني‪ ..‬أحسنت‬ ‫ُ‬ ‫عريضة‪:‬‬
‫جم‪ ،‬وتقول هلا‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫بتأدب ّ‬ ‫وجهها باحلمرة وهي تشكرها‬ ‫يا َكمريدا”‪ .‬ترضّ ج ُ‬
‫وملصة فليجعلك ماجوها‬ ‫“أنا فقط ن ّفذت أفكارك يا سيديت‪ ..‬إنّك عبقرية ُ‬
‫لوحت هريمني بك ّفها يف عدم اكرتاث بذلك التك ّلف‬ ‫يف أعىل الدّ رجات”‪ّ .‬‬
‫الديني الذي تغرق مساعدهتا نفسها فيه‪.‬‬
‫ولكن وضعها السيايس ووجودها‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫عائلة غري متد ّينة‪،‬‬ ‫كانت هريمني من‬
‫استخدام الدّ ين يف الكثري‬
‫َ‬ ‫ٍ‬
‫كواجهة دعائية حي ّتم عليها‬ ‫قلب األحداث‬ ‫يف ِ‬
‫شعار ماجوها يف ّ‬
‫كل ظهو ٍر‬ ‫ُ‬ ‫من املناسبات‪ ،‬بل وارتدا َء د ّبوس صد ٍر عليه‬
‫فمن ناحية كانت تن ّفذ‬‫إعالمي هلا‪ .‬هذه احلملة الدّ عائية كانت فكرهتا‪ِ ،‬‬
‫تطبيع تدرجيي يف العالقات‬
‫ٍ‬ ‫توصيات جملس احلكم بابتكار وسائل تؤ ّدي إىل‬
‫ُ‬
‫ستحصل عىل نصيب‬ ‫ِ‬
‫رشكات عائلتها‬ ‫فإن‬ ‫ٍ‬
‫ناحية أخرى ّ‬ ‫مع دول العامل‪ ،‬ومن‬
‫َ‬
‫من الكعكة‪ ،‬القانونية منها وغري القانونية‪.‬‬
‫السفيل للتسويق لنوع‬‫شقيقها جيري محل ًة دعائية موازية يف العامل ّ‬ ‫ُ‬ ‫كان‬
‫األعشاب املخدّ رة املزروعة يف كوكب أديتيا والتي‬
‫ُ‬ ‫ُمتلف من السياحة‪.‬‬
‫جلعل السياح‬
‫خيطط ْ‬‫البرش نشوة خمتلفة متا ًما عن ما عهدوه‪ ،‬وقد كان ّ‬ ‫َ‬ ‫تعطي‬
‫وهم عائدون‬ ‫َ‬
‫ويأخذون معهم منها ُ‬ ‫سيتذوقون نشوهتا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫أول زبائنها؛‬
‫ألوطاهنم‪ .‬ستبدأ سمعة املخدّ رات األديتية يف االنتشار وسيبدأ تصديرها‪.‬‬
‫هذا بالطبع إضاف ًة إىل جتارة ال ّتقنيات التي متنع حكومة أديتيا إعطاءها للبرش‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪47‬‬
‫ري القانوين يتصاعد باستمرار‪،‬‬ ‫ضيق هريمني من عمل عائلتها غ ِ‬ ‫ُ‬ ‫كان‬
‫أن موقعها احلايل يسمح هلا بتوسيع األنشطة القانونية‪ ،‬ولكن يبدو ّ‬
‫أن‬ ‫خاصة ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫التخل عنه‪ .‬مل تكن تستطيع‬ ‫جزء من رشف العائلة ال يمكن‬ ‫ممارسة اجلريمة ٌ‬
‫فنقود اجلريمة هي التي أنفقت عىل‬ ‫ُ‬ ‫مهام رفضته‬ ‫ِ‬
‫نشاط عائلتها ْ‬ ‫اخلروج من‬
‫الرشاوي إليصاهلا إىل مراتب ُعليا يف السلطة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫دفعت ّ‬ ‫تعليمها وهي التي‬
‫خيول هلا‬ ‫ٍ‬
‫منصب أعىل ّ‬ ‫الوضع مؤق ًتا ح ّتى تصل إىل‬
‫َ‬ ‫أي حال كانت تتقبل‬ ‫عىل ّ‬
‫شخصيا إذا لزم األمر‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫القضاء عىل نشاط أخيها أو القضاء عليه‬
‫ألنا تريد الصالة يف املعبد قبل أن تعود إىل‬ ‫ريدا ّ‬
‫للذهاب ّ‬ ‫استأذنت َكم ْ‬
‫تضم مناطق اجليزة القريبة من النيل) حيث‬ ‫(اسم مدينة جديدة ّ‬
‫ُ‬ ‫جيزافاديل‬
‫أذنت هلا هريمني قبل‬
‫ْ‬ ‫احلي اخلامس (املهندسني ساب ًقا)‪.‬‬
‫يقع يف ّ‬ ‫كان بيتها ُ‬
‫أن ترتك مكتبها الذي يقع يف إحدى الڤيالت إىل بيتها الذي يقع يف الڤيال‬
‫َ‬
‫تدخل بيتها خطرت‬ ‫املجاورة‪ .‬كانت متيش اهلوينى بني الڤيلتني‪ ،‬وقبل أن‬
‫حراسها قائلة‪“ :‬أتعرف (لؤي) األريض؛ ضابط‬ ‫فكرة بباهلا فسألت أحدَ ّ‬
‫هز احلارس رأسه مواف ًقا وهو يقول‪“ :‬نعم يا سيدة هريمني‪.‬‬
‫البوابة الغربية؟” ّ‬
‫زواجه حرصي أم مفتوح؟”‬ ‫ُ‬ ‫هو صديقي”‪ .‬سألته وهي ّ‬
‫حتك أذهنا‪“ :‬هل‬
‫ابتسم احلارس وهو يقول‪“ :‬بل مفتوح يا سيديت؛ فهو شديد النشاط مع‬ ‫َ‬
‫ال ّنساء من الكوكبني”‪.‬‬
‫َ‬
‫جهاز اتّصاهلا وطلبت من (لؤي)‬ ‫وتوجهت إىل غرفتها وفتحت‬
‫ّ‬ ‫تركته‬
‫ريا جوار فراشها وأخرجت منه حمقنًا‪.‬‬
‫درجا صغ ً‬
‫فتحت ً‬
‫ْ‬ ‫احلضور إىل غرفتها‪.‬‬
‫َ‬
‫عريض الكتفني‪،‬‬ ‫حني دخل (لؤي) ووقف أمامها بقامة مشدودة‪ .‬كان‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪48‬‬
‫قوي البنية‪ ،‬كأنّه من النياندرتال لك ّنه أطول‬
‫خشن املالمح‪ّ ،‬‬
‫َ‬ ‫بارز ّ‬
‫الفكني‪،‬‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫بابتسامة عابثة‬ ‫طلبت منه أن يسرتيح يف وقفتِه‪ ،‬وسألته‬
‫ْ‬ ‫وجها‪.‬‬
‫قامة وأصغر ً‬
‫“إنا شائعات يا سيديت‪،‬‬ ‫ً‬
‫متلعثم ّ‬ ‫رد‬
‫كم امرأة أديتية يف حياته وكم أرضية؟‪ّ .‬‬
‫أحب‬
‫حتركت‪ ،‬لك ّنني ّ‬
‫أطاوع شهويت إذا ّ‬
‫ُ‬ ‫أنا ٌ‬
‫رجل حمدود العالقات‪ ،‬أحيا ًنا‬
‫زوجتي‪ ،‬وعالقايت القصرية حتدث ّ‬
‫ألن زواجنا مفتوح”‪.‬‬
‫اقرتبت منه ووضعت يدَ ها عىل صدره وهي تقول‪“ :‬حسنًا‪ ،‬هل لديك‬ ‫ْ‬
‫مع امرأة أديتية خمتلفة عن ّ‬
‫كل َمن عرفت؟” ر ّد بارتباك‬ ‫وقت إلشباع رغبتك َ‬
‫وقد بدأ الدم يتصاعدُ يف رأسه‪“ :‬أمرك سيديت” ّ‬
‫ضيقت عينيها بحدّ ة وهي‬
‫املحقن‬
‫َ‬ ‫النظر إليها‪ ،‬وغرست‬
‫َ‬ ‫وعينيه اللتني تتحاشيان‬
‫ْ‬ ‫املحمرتني‬
‫ّ‬ ‫تتأ ّمل أذنيه‬
‫يف كتفه فجأة وهي تقول‪“ :‬أحدّ ثك عن الرغبة فتحدّ ثني عن األوام ِر يا أمحق”‪،‬‬
‫ثم‬
‫وأمسكت بتالبيبه‪ّ ،‬‬
‫ْ‬ ‫متألًا حني انغرس املحقن يف كتفه‪ ،‬لك ّنها مل تعبأ‬
‫تأوه ّ‬ ‫ّ‬
‫يتخيل أن يامرسه مع سيدتِه املتغطرسة‪.‬‬
‫طقسا مل يكن ّ‬
‫جذبته إليها لتبدأ معه ً‬
‫ري بأقىص رسعة يسمح هبا محلها الذي‬ ‫يف ذلك الوقت‪ ،‬كانت كمريدا تس ُ‬
‫تتوجه إىل املعبد إلقامة صالهتا األسبوعية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫وصل لشهره السادس وهي‬
‫والستشارة الكاهن يف أم ٍر يقلقها‪ .‬كانت تريدُ أن جتد وق ًتا كاف ًيا ّ‬
‫للصالة‬
‫قبل عودة زوجها من عمله‪( .‬باسل) الذي‬ ‫لتصل َ‬
‫َ‬ ‫ألنا جيب أن تذهب لبيتها‬
‫ّ‬
‫تزوجته خدمة لوطنها ودينها؛ جز ًءا من الطقس املفروض عىل ِ‬
‫بنات جلدهتا‬ ‫ّ‬
‫من الزواج من غرباء للحفاظ عىل ِ‬
‫نسلهم‪ ،‬وعىل بقائهم يف األرض‪ ،‬لك ّنها‬
‫بأي طريقة‪.‬‬
‫أحبته‪ ،‬وصارت تسعى إلرضائه ّ‬
‫مع الوقت ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪49‬‬
‫زواجهام حرص ًّيا‪ ،‬وكان ذلك‬
‫ُ‬ ‫أرص أن يكون‬ ‫كانت ُ‬
‫بداية إعجاهبا به حني ّ‬
‫يعني هلا أنّه جا ّد يف الزواج‪ ،‬وأنّه يعتربها زوجته‪ ،‬وليس كالكثريين من‬
‫لينال مميزات‬ ‫ٍ‬
‫وعاء عليه أن يمأله َ‬ ‫جمر َد‬ ‫َ‬
‫يعتربون األديتيات ّ‬ ‫األرضيني الذين‬
‫إن كانت له وحدَ ه ْأم كانت مع آخرين‪ُ ،‬‬
‫فهم يعتربون‬ ‫معينة‪ ،‬وال يضريه ْ‬
‫حقيقيا‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫زواجا‬
‫ً‬ ‫الزواج باألديتيات ليس‬
‫جمر ُد ممارسة برشية‬
‫أن العالقة بني الذكر واألنثى ّ‬ ‫األديتيون يعتربون ّ‬
‫أي تعقيدات نفسية أو اجتامعية‪ ،‬وينسبون الطفل ألمه التي‬ ‫ممتعة ال يلبسوهنا ّ‬
‫مقابل جمهودها يف رعايته‪ .‬لكن هناك بعض‬ ‫َ‬ ‫تتلقى من الدولة رات ًبا شهر ًّيا‬
‫حرصا بنيَ شخصني‪،‬‬‫ً‬ ‫َ‬
‫تكون تلك العالقة‬ ‫ترص عىل أن‬ ‫املجتمعات األديتية ّ‬
‫للزوجني‪ ،‬ويعاقب َمن‬ ‫ينتسب فيه األبناء ّ‬
‫ُ‬ ‫يتم عقدُ زواج حرصي‬ ‫وهنا ّ‬
‫الزواج‪.‬‬
‫خيالف العقد‪ ،‬ويدخل يف عالقة خارج ّ‬
‫نوعي من عقود الزواج‬
‫ْ‬ ‫األم وضعوا‬ ‫ِ‬
‫لكوكب األرض ّ‬ ‫حني هاجروا‬
‫األرضيني واألديتيات‪ ،‬حرصي وغري حرصي‪ ،‬وكانت َكمريدا ترى ّ‬
‫أن‬ ‫ّ‬ ‫بني‬
‫(وهم ق ّلة) هم فقط اجلديرون‬
‫يرصون عىل حرصية الزواج ُ‬
‫األرضيني الذين ّ‬
‫باالحرتام‪.‬‬
‫ثوبا املعتاد وترتدي ز ًّيا‬ ‫ٍ‬
‫غرفة صغرية‪ ،‬ختلع فيها َ‬ ‫دخلت من باب املعبد إىل‬
‫ْ‬
‫روحها للدخول‬ ‫هييئ َ‬ ‫وجهها بمسحوق مقدّ س ّ‬ ‫للصالة‪ ،‬وتدهن َ‬ ‫خمصوصا ّ‬
‫ً‬
‫وجلست عىل ركبتيها يف‬
‫ْ‬ ‫قدسية املكان‪ .‬دخلت قاعة الصالة الفسيحة‬
‫ّ‬ ‫يف‬
‫ٍ‬
‫بصوت هامس‪.‬‬ ‫وأخذت تقرأ منه‬
‫ْ‬ ‫وأمسكت بكتاب الصلوات‬
‫ْ‬ ‫مربع فارغ‬
‫الصلوات الذي وضع يديه عىل‬ ‫كاهن ّ‬
‫ُ‬ ‫أحنت رأسها حني وصل عندها‬‫ْ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪50‬‬
‫ٍ‬
‫بكلامت كهنوتية‬ ‫ومتتم‬
‫َ‬ ‫ثم نقل يد ْيه عىل رأسها‬
‫ومتتم بكالم مسجوع‪ّ ،‬‬‫َ‬ ‫كتفيها‬
‫ووضعت يدهيا‬
‫ْ‬ ‫هو ووقفت هي‬ ‫ال يعرف العا ّمة معناها‪ .‬حني انتهى جلس َ‬
‫ِ‬
‫تالوة‬ ‫أن انتهت من‬‫ثم جلست أمامه ثانية‪ .‬بعد ِ‬ ‫ثم ّقبلت رأسه ّ‬
‫عىل كتفيه‪ّ ،‬‬
‫أن‬‫الصالة معه يف صوت واحد‪ .‬قالت‪“ :‬أهيا املقدس‪ ،‬كنت أريد ْ‬ ‫كلامت ِ‬
‫إهناء ّ‬
‫أشعر أنّني أغضب ماجوها‪ ،‬وال أعرف هل أنا عىل‬ ‫ُ‬ ‫أستشريك يف أم ٍر مهم‪..‬‬
‫صواب أم خطأ”‪.‬‬
‫ظهر ك ّفه اليمنى عىل خدّ ها األيمن وهو يقول‪“ :‬العزيزة‬ ‫ُ‬
‫الرجل َ‬ ‫وضع‬
‫َ‬
‫ً‬
‫مؤهل للفتوى”‪.‬‬ ‫ولست‬
‫ُ‬ ‫للصالة فقط‬ ‫أنت تعرفني أنّني كاهن ّ‬‫ريدا‪ِ ..‬‬ ‫َكم ْ‬
‫النصح‬
‫َ‬ ‫أطلب‬
‫ُ‬ ‫متفهمة وهي تقول‪“ :‬أعرف ّأيا املقدس لكنني‬ ‫هزت رأسها ّ‬
‫ال الفتوى”‪ .‬ابتسم بو ٍّد وهو ينزل يدَ ه ويمسحها عىل البساط األديتي األمحر‬
‫ُ‬
‫أفضل‬ ‫“أفضل أن تسأيل الكاهنة الوسطى؛ فهي‬ ‫الذي جيلسان عليه وقال‪ّ :‬‬
‫م ّني‪ ،‬ويمكنك أن تقابليها اآلن ً‬
‫بدل من انتظا ِر كاهن املعبد العلوي فجدو ُله‬
‫وخترج من قاعة الصالة‬
‫َ‬ ‫أن تقوم‬‫تقبل ركبته قبل ْ‬
‫ثم انحنت ّ‬‫مزدحم”‪ .‬شكرته ّ‬
‫لتتوجه لغرفة الكاهنة الوسطى‪.‬‬
‫ّ‬
‫كانت غرف ًة فسيحة مفروش ًة بالبساط األديتي األمحر‪ ،‬ويف وسطها أريكة‬
‫زي الكهنة‬
‫لون ّ‬ ‫بنية؛ وهو ُ‬‫جتلس عليها الكاهنة التي ترتدي عباء ًة ّ‬
‫ُ‬ ‫صغرية‬
‫املتوسطني‪ .‬جلست القرفصا َء أمام األريكة بعد أن ّقبلت الكاهنة عىل ركبتها‬
‫ّ‬
‫بصوت ُمضطرب‪“ :‬سيديت‪ ،‬أخشى أن أكون‬ ‫ٍ‬ ‫وتنحنحت َ‬
‫قبل أن تتكلم‬ ‫ْ‬
‫عقدت الكاهنة حاجبيها وهي‬ ‫ِ‬ ‫مشاركة يف عملٍ قد ال ُيريض ماجوها”‪.‬‬
‫بصوت كالفحيح‪“ :‬وما هو ذلك العمل؟” رشحت هلا احلمل َة الدعائية‬ ‫ٍ‬ ‫تسأهلا‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪51‬‬
‫للصالة فيها‪،‬‬
‫التي تدعو السياح من أنحاء العامل للمجيء إىل مدينة القدس ّ‬
‫ووجهة نظرها من ّأنم يسمحون ألصحاب الدّ يانات (الباطلة) باملجيء‬
‫ملامرسة أدياهنم يف ٍ‬
‫أرض مقدّ سة‪.‬‬
‫“نحن نسمح للموجودين عندنا يف دولتنا بمامرسة تلك الشعائر‪ ،‬ومنهم‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫رتيب‬ ‫زوجك‪ ،‬ما الفارق يا عزيزة؟”‪ .‬كانت الكاهنة تر ّد عليها بصوت‬
‫إن كانت تستنكر سؤاهلا أم تسخر‪ ،‬فقالت‪“ :‬هؤالء نحن‬ ‫تفهم منه ْ‬
‫مبحوح مل ْ‬
‫مضطرون للعيش معهم‪ ،‬وديننا متف ّتح يسمح لنا ِ‬
‫برتكهم عىل أدياهنم‪ ،‬وعدم‬ ‫ّ‬
‫نحرض آخرين إىل أديتيا ونجعل قطع ًة من‬
‫َ‬ ‫تقييد حريتهم يف ممارستها‪ ،‬أ ّما أن‬
‫ُ‬
‫تلتقط‬ ‫أمر خمتلف”‪ ،‬أهنت مجلتَها وهي‬ ‫ِ‬
‫حلجيجهم فهذا ٌ‬ ‫أرضها املقدسة قبلة‬
‫تضطرب يف حرضة الكهنة الكبار‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أنفاسها بصعوبة فهي دو ًما‬
‫ظهر يدها اليمنى عىل خدها األيمن‬ ‫انحنت الكاهنة عليها‪ ،‬ووضعت َ‬ ‫ِ‬
‫وهو رضوري لنرش دينهم بني‬ ‫بأن هذا الفعل ُيريض ماجوها َ‬ ‫وهي تطمئنُها ّ‬
‫بوجه ملؤه الدهشة وهي تسأهلا‪“ :‬كيف؟” فقالت‬ ‫ٍ‬ ‫األرضيني‪ .‬تط ّلعت إليها‬
‫شعب متوحش‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫كل األرضيني يظ ّنون أنّنا‬‫“إن ّ‬‫الكاهنة وهي تعتدل ثانية‪ّ :‬‬
‫نوع من اخلرف‪ ..‬ال بدّ أن نرهيم‬ ‫دول ورشدنا شعو ًبا‪ّ ،‬‬
‫وأن ديننا ٌ‬ ‫وأنّنا اغتصبنا ً‬
‫أصحاب‬
‫ُ‬ ‫بتقبلنا‪ ...‬حني يصيل‬‫سامحتنا ونرهيم وجهنا األفضل ح ّتى يبدؤوا ّ‬
‫ِ‬
‫وطريقة صالتنا‪،‬‬ ‫جوار كهنتنا سوف يتساءلون عن عقيدتنا‬ ‫َ‬ ‫تلك الديانات‬
‫يدين به”‪.‬‬
‫ستجدين منهم َمن يتقبل ديننا و َمن ُ‬
‫َ‬ ‫وهكذا‬
‫للتو‬ ‫َ‬
‫سؤالا الثاين الذي خطر ّ‬ ‫ثم سألت‬ ‫أسارير َكمريدا لوهلة‪ّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫هت ّللت‬
‫أحبه وأخشى أن تتو َه‬
‫يقتنع زوجي بديننا يو ًما ما‪ ..‬أنا ّ‬
‫بباهلا‪“ :‬هل يمكن أن َ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪52‬‬
‫روحه يف ّ‬
‫الظالم بعد أن يموت”‪ .‬ر ّدت عليها الكاهنة وابتسام ُتها ت ّتسع يف‬
‫نصف كهنتنا عىل تلك الدرجة من التد ّين ألصبحنا‬ ‫َ‬ ‫حب‪“ :‬يا إهلي‪ ..‬لو ّ‬
‫أن‬
‫وحبك لذلك‬ ‫ّ‬ ‫أنت خملوق نوراين‪،‬‬‫حال بكثري‪ ..‬العزيزة َكمريدا ِ‬
‫أفضل ً‬‫َ‬
‫مات عىل دينه”‪.‬‬‫ري روحه ويبعدها عن الظالم ح ّتى لو َ‬
‫األريض سين ُ‬
‫مهت بتقبيل ركبة‬ ‫تسمع هذا الكالم‪ ،‬و ّ‬
‫ُ‬ ‫دمعت عيناها من الفرحة وهي‬ ‫ْ‬
‫ٍ‬
‫شديد‬ ‫بقوة؛ وهي عالمة عىل رضا‬ ‫الكاهنة لك ّنها قامت واقف ًة واحتضنتها ّ‬
‫ال يسبغه الكهنة ّإل عىل أكثر الناس ت ًقى‪ّ ،‬‬
‫ثم قالت هلا‪“ :‬أمت ّنى أن تظيل عىل‬
‫وأل تتغريي بعدَ أن تصعدي يف مناصب ُعليا يف الدولة”‪ .‬قفزَ‬ ‫عهدك هكذا‪ّ ،‬‬
‫فرحا من هذه النبوءة وهي تعدُ ها ّأنا لن تتغري أبدً ا‪ّ ،‬‬
‫ثم سألتها‬ ‫قلب كمريدا ً‬
‫ٌ‬
‫معصية لدينه؟ هل‬ ‫برت ّدد‪“ :‬سيديت املقدسة‪ ..‬هل زوجي يعتقد ّ‬
‫أن زواجه م ّني‬
‫يغي هذا قلبه؟”‬
‫يمكن أن ّ‬
‫أخذت أكثر‬ ‫ِ‬ ‫جلست الكاهنة ثانية وهي تقول هلا بفراغ صرب‪“ :‬لقد‬ ‫ِ‬
‫أن زوجك‬ ‫ُ‬
‫القليل من املسلمني‪ ،‬وأعتقد ّ‬ ‫من وقتك أ ّيتها العزيزة َكمريدا‪..‬‬
‫وإن اعتقدوا أنّه خيانة‬‫بأن الزواج من بناتنا صحيح‪ ،‬ح ّتى ِ‬ ‫منهم‪ ،‬يعتقدون ّ‬
‫ري منهم يظ ّنون أنّنا وثنيون‪ ،‬والزواج م ّنا‬
‫لوطنهم‪ ،‬لك ّنه زواج صحيح‪ ،‬والكث ُ‬
‫ختمت‬
‫ْ‬ ‫وحيبك ً‬
‫فعل”‪.‬‬ ‫حيرتم زواجكام ّ‬‫ُ‬ ‫باطل وحرام‪ ،‬وأنا متأكدة أن زوجك‬
‫بأن ص ّفقت بك ّفيها أمام صدرها وهي تقول‪“ :‬واآلن دعيني أبدأ‬ ‫كالمها ْ‬
‫اخلاص بك‬‫ّ‬ ‫الصالة‬
‫رب ًعا جلنينك عند كاهن ّ‬ ‫خلويت‪ ،‬وال تنيس أن تضعي ت ّ‬
‫ح ّتى يكرب مؤمنًا”‪.‬‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪53‬‬
‫‪8‬‬
‫غرفة صغرية ال تستحقّ‬‫ٌ‬ ‫(ميساء) لغرفة االجتامعات‪ ،‬وهي‬ ‫دخلت ْ‬
‫عن عرشة أمتار مر ّبعة‪ ،‬هبا طاولة صغرية‬‫هذا االسم؛ فمساح ُتها ال تزيد ْ‬
‫ُ‬
‫وبضعة مقاعد خشبية عتيقة‪ .‬كان املقدّ م (إياد) جيلس‬ ‫كطاوالت املقاهي‬
‫خلف الطاولة ومعه ٌ‬
‫رجل آخر إضاف ًة إىل (سمري) و”ضياء”‪.‬‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫شارب صغري‪،‬‬ ‫مخري البرشة‪ ،‬ذا‬
‫ّ‬ ‫الرابع‪،‬‬ ‫ِ‬
‫العقد ّ‬ ‫كان (إياد) يف منتصف‬
‫يظهر‬
‫َ‬ ‫مالبس فقرية تتامشى مع ال ّتمويه الذي ينبغي له أن‬
‫َ‬ ‫جمعد‪ ،‬يرتدي‬
‫وشعر ّ‬
‫عمرا ْيبدو عليه اإلجهاد‪ .‬رحلة (إياد) من‬‫رجل أكرب ً‬‫جيلس إىل جواره ٌ‬ ‫ُ‬ ‫فيه‪،‬‬
‫رحلة عسرية‪ .‬يف غالب األحوال تتط ّلب‬ ‫ٌ‬ ‫مقرهم يف منشية نارص‬
‫الفيوم إىل ّ‬
‫حدود األرض املحت ّلة بخمسة كيلومرتات عىل األقل‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫منه أن يرتجل قبل‬
‫حيمل فيها عىل كتفه حقيبة ثقيل ًة حتوي األجهز َة الالزمة لفتح ٍ‬
‫ثغرة يف جدار‬ ‫ُ‬
‫عن خارجها‪ ،‬وأجهزة أخرى لل ّتشويش‬ ‫ُ‬
‫يفصل األرض املحتلة ْ‬ ‫الطاقة الذي‬
‫ح ّتى ّ‬
‫يتمكن من الوصول إىل وجهته‪.‬‬
‫وعرف الرجل املوجود معه بأنه رئيس‬ ‫(ميساء) اجللوس‪ّ ،‬‬ ‫طلب من ْ‬ ‫َ‬
‫خصيصا‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫حرض الرجل‬ ‫العمليات يف قطاع القاهرة‪ ،‬وهو رئيس (إياد) املبارش‪.‬‬
‫املرة ألنّه يريد استجواب (معاذ) بنفسه‪.‬‬
‫هذه ّ‬
‫ٍ‬
‫بصوت معتدل‪ ،‬لك ّنه حيمل الكثري من رنّة خطابية‪:‬‬ ‫َ‬
‫احلديث‬ ‫ُ‬
‫الرجل‬ ‫بدأ‬
‫خلف خطوط العدو‪.”....‬‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫شباب مرص الذين يقاومون‬ ‫“أنتم ِمن خرية‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪54‬‬
‫(ميساء) رأسها ُمبتسمة‪ ،‬ويف داخلها كانت تتم ّنى انتها َء تلك املقدمة‬
‫هزت ْ‬ ‫ّ‬
‫ري املربرة‪ .‬بدأ الرجل برشح اهلدف من إحضار “معاذ”‪ ،‬والتحقيق معه؛‬ ‫غ ِ‬
‫(ميساء) تعرفه وحدَ ها‪.‬‬
‫وهو اهلدف التي كانت ْ‬
‫تطلب م ّنا أن نسلمهم‪،‬‬
‫ُ‬ ‫رأسه بعدم اقتناع وهو يسأل‪“ :‬كيف‬‫حك (ضياء) َ‬ ‫ّ‬
‫ُ‬
‫اجلريمة التي قاموا هبا! ملاذا ال‬ ‫ٌ‬
‫جمموعة من شبابنا مهام كانت‬ ‫هؤالء القرود‬
‫مثاليني إىل هذه الدرجة؟”‬
‫نحن بمحاكمتهم ماد ْمنا ّ‬‫نشحنهم إىل الفيوم ونقوم ُ‬
‫لكن الرجل‬ ‫عدم ال ّتحدث بتلك الطريقة‪ّ ،‬‬ ‫ٍ‬
‫برصامة طال ًبا منه َ‬ ‫ر ّد عليه (إياد)‬
‫فهم‬
‫كل يشء يا “إياد”‪ُ ،‬‬ ‫“من ح ّقهم أن يعرفوا ّ‬ ‫األكرب قاطعه وهو يقول‪ِ :‬‬
‫وهم َمن سيساعدوننا يف تسليم‬ ‫املجموعة التي قبضت عىل ذلك األخرق‪ُ ،‬‬
‫زمالئه”‪.‬‬
‫ٍ‬
‫معلومات قال ّإنا رسية للغاية‪ .‬قال ّإنم سيسلمون‬ ‫رشح الرجل هلم‬
‫َ‬
‫َ‬
‫مقابل إطالق رساح عمر الزيبق‪،‬‬ ‫هؤالء األربعة رشكاء (معاذ) يف تلك اجلريمة‬
‫فالنياندرتال مل يوافقوا عىل إطالق رساحه مقابل أرسى منهم‪ ،‬وحني أرسل‬
‫ٍ‬
‫وسيط يطلبون منهم حتديدَ املقابل املطلوب لذلك‪ ،‬كان‬ ‫رب‬
‫املرصيون إليهم ع َ‬
‫تسليم هؤالء املجرمني‪ ،‬وأكمل ً‬
‫قائل‪“ :‬طلبوا‬ ‫َ‬ ‫املقابل الوحيدُ الذي طلبوه هو‬
‫وهم‬ ‫ذلك العتقادهم ّ‬
‫أن القتلة هاربون عندنا‪ ،‬لك ّننا سنسلمهم هؤالء الفتيان ُ‬
‫داخل حدودهم تتجاوز قدراهتم”‪.‬‬ ‫َ‬ ‫لنثبت هلم ّ‬
‫أن قدراتنا‬ ‫َ‬ ‫عىل أرضهم‬
‫اإلذن باحلديث َ‬
‫فأذن الرجل له وهو يقول إن‬ ‫َ‬ ‫تنحنح (سمري) وهو يطلب‬
‫َ‬
‫احلوار مفتوح‪ ،‬وال داعي للتح ّفظ‪ ،‬فقال‪“ :‬ال أعتقد ّ‬
‫أن السيد عمر سيقبل‬ ‫َ‬
‫تدخل (ضياء) يف احلديث ً‬
‫قائل بحدّ ة‪:‬‬ ‫رساحه بتلك الطريقة”‪ّ .‬‬‫ِ‬ ‫إطالق‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪55‬‬
‫جمرد مقاوم‬
‫خارج سلطات الدولة‪ّ ،‬‬
‫َ‬ ‫رجل يقاومهم‬‫ُ‬ ‫“يقبل أو ال يقبل‪ ،‬هذا‬
‫عبثي يرضّ َ‬
‫أكثر مما ينفع‪ ،‬ما الفائدة يف إطالق رساحه؟”‬ ‫ّ‬
‫(ميساء) حني تك ّلم عن والدها بتلك الطريقة‪ ،‬لكنها ظلت‬ ‫وجه ْ‬‫اكفهر ُ‬
‫ّ‬
‫مقارب لرأيه‪ .‬ر ّد‬
‫ٌ‬ ‫رسها‪ ،‬رغم ّ‬
‫أن رأهيا يف مقاومة أبيها‬ ‫صامت ًة وهي تلعنُه يف ّ‬
‫“أو ًل‪ ،‬عمر لن يعرف بأم ِر تلك الصفقة‪ ،‬وال بإطالق رساحه‬ ‫قائل‪ّ :‬‬‫الرجل ً‬
‫خارج حدود األرض املحت ّلة”‪ .‬تساءل (ضياء) ثاني ًة‬‫َ‬ ‫أصل‪ّ ،‬إل بعد أن يكون‬
‫ً‬
‫أن الرجل قد جتاهل إجابة سؤاله‪.‬‬ ‫ِ‬
‫رساحه ظ ًّنا منه ّ‬ ‫عن أمهية إطالق‬

‫نوعا ما‪ ..‬حمارضة يف العلوم السياسية وأمهية أن‬ ‫ُ‬


‫إجابة الرجل طويلة ً‬ ‫كانت‬
‫ُ‬
‫حقائق‬ ‫ِ‬
‫بطاعة األوامر دون التفكري يف العواقب‪ ،‬فالقادة أمامهم‬ ‫يقوم اجلنود‬
‫َ‬
‫تؤكد وجود أكثر‬ ‫ُ‬
‫املقاتل عىل األرض‪ .‬املعلومات املخابراتية ّ‬ ‫كثرية ال يعرفها‬
‫ٍ‬
‫بإشارة من “عمر”‪ ،‬ومثلهم‬ ‫للتحرك‬
‫ّ‬ ‫متحمس جاهز‬‫ّ‬ ‫من مخسة آالف مقاوم‬
‫ويرون ّ‬
‫أن املقاومة‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬
‫حكوماتم األصلية‪،‬‬ ‫كثريون يف دول أخرى يعارضون‬
‫أيضا له ٌ‬
‫قيمة معنوية كبرية‪ ،‬إضافة إىل‬ ‫ينبغي أن تكون للشعب‪“ .‬عمر” ً‬
‫مهم جدًّ ا‬
‫دور ّ‬
‫ريه من رموز املقاومة يف البالد األخرى‪ ،‬وسوف يكون هلم ٌ‬ ‫غ ِ‬
‫ري هلا بمساعدة الدّ ِ‬
‫ول‬ ‫ثمة حر ًبا شاملة جيري التحض ُ‬ ‫يف الفرتة املقبلة؛ ّ‬
‫ألن ّ‬
‫يستخرجه النياندرتال‪،‬‬
‫ُ‬ ‫لعابا عىل مصدر الطاقة الذي‬ ‫الكربى التي َ‬
‫سال ُ‬
‫وعىل تقنياهتم يف استخراجه‪.‬‬

‫لكن الرجل‪ -‬العقيد عامد‪-‬‬


‫مجيعا عىل حدّ سواء‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬
‫احلامسة يف قلوهبم ً‬ ‫د ّبت‬
‫وأن حيافظوا عىل رس ّية تلك املعلومات‪ ،‬وأخربهم ّ‬
‫أن‬ ‫طلب منهم أن يصربوا‪ْ ،‬‬
‫َ‬
‫وأنم سيكونون جز ًءا منه‪.‬‬
‫سيتم حتض ُريه لتلك احلرب‪ّ ،‬‬‫ّ‬ ‫ً‬
‫ضخم‬ ‫هناك ً‬
‫عمل‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪56‬‬
‫مقيدً ا‬
‫(ميساء) أن ترافقه لغرفة (معاذ) الذي كان ّ‬
‫وطلب من ْ‬
‫َ‬ ‫هنا وقف “عامد”‬
‫ِ‬
‫االستجواب‬ ‫خبري يف‬
‫نفسه للشاب عىل أنّه ٌ‬ ‫إىل كرسيه يف تلك ال ّلحظة‪ .‬قدّ م َ‬
‫خيرج من تلك الغرفة ّإل بعدَ أن حيصل عىل‬
‫واستخراج املعلومات‪ ،‬وأنّه لن َ‬
‫ٍ‬
‫معلومة يعرفها (معاذ) عن رشكائه يف اجلريمة‪ ،‬ووعدَ ه أنّه سيمنحه‬ ‫ّ‬
‫كل‬
‫حصانة ْ‬
‫إن ساعدَ يف إمساك الباقني‪.‬‬

‫معدنية من حقيبة‬
‫ّ‬ ‫بقوة‪ ،‬فأخرج “عامد” أدا ًة‬ ‫ً‬
‫رافضا ّ‬ ‫هز (معاذ) رأسه‬
‫ّ‬
‫صغرية معه‪ ،‬ووضعها أمامه وقال‪ّ :‬إنا أدا ٌة تستخدم خللع األظافر‪ّ ،‬‬
‫وأنا‬
‫دمعت عينا‬
‫ْ‬ ‫تصوره‪.‬‬
‫ّ‬ ‫حامضا يكوي أسفلها‪ ،‬ويبعث أملًا ال يمكن‬‫ً‬ ‫تفرز‬
‫متيب ًسا خال ًيا من‬
‫وجهها ّ‬ ‫َ‬ ‫متوس ًل‪ ،‬لك ّنه وجد‬
‫ّ‬ ‫(ميساء)‬
‫ونظر إىل ْ‬
‫َ‬ ‫“معاذ”‪،‬‬
‫كل َمن يعر ُفهم دون احلاجة لتعذيبِه أو‬
‫رسيعا وأرشد عن ّ‬
‫ً‬ ‫ال ّتعبريات‪ .‬اهنار‬
‫جمر َد قطعة معدنية ال يشء فيها‪.‬‬ ‫ِ‬
‫األداة التي كانت ّ‬ ‫الستخدام‬
‫قد استطاعوا حتديدَ مكان تواجد‬ ‫صباح اليوم التايل‪ ،‬كان ال ّتقنيون ِ‬
‫وآخر يف‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫منطقة السيدة زينب عىل م ْقربة منهم‪،‬‬ ‫األربعة؛ واحدٌ موجود يف‬
‫هرب من األرايض املحت ّلة‪ِ ،‬‬
‫ومن مرص كلها‪.‬‬ ‫والرابع َ‬‫إمبابة‪ ،‬وواحدٌ يف طنطا‪ّ ،‬‬
‫وتوجه (ضياء) و”ميساء” إلحضار‬‫ّ‬ ‫املقر مع (إياد)‬
‫انتظر (سمري) يف ّ‬
‫َ‬
‫ُ‬
‫اهلدف يف الثّامنة والعرشين اسمه‬ ‫ِ‬
‫اهلدف املوجود يف السيدة زينب‪ .‬كان‬
‫مدرسا‪ ،‬ويتواجد يف منزله من‬
‫ً‬ ‫متزوج من أديتية‪ ،‬وكان يعمل‬
‫ّ‬ ‫“حبيب”‪،‬‬
‫الباب‪ ،‬فتحت املرأ ُة فسأهلا عن زوجها‪ ،‬سألته‬
‫َ‬ ‫الرابعة مساء‪ .‬طرق (ضياء)‬ ‫ّ‬
‫جيبها “ضياء”‪ ،‬دفعها ِ‬
‫بيده ودخل‪،‬‬ ‫بريبة‪َ “ :‬من أنت؟ وماذا تريد منه؟” مل ْ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪57‬‬
‫يفرك عينيه‪ ،‬ويتساءل‬ ‫نادت عىل “حبيب” الذي خرج من غرفة ِ‬
‫نومه ُ‬
‫وتطلب منه املغادرة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وزوج ُته تزعق فيه‬
‫سالحه وطلب من الرجل أن يأيت معه؛ ندّ ت من املرأة‬ ‫َ‬ ‫أخرج (ضياء)‬‫َ‬
‫زوجها‪ .‬اقرتب (ضياء) من الرجل‬ ‫وإل سيقتل َ‬ ‫بأن تصمت ّ‬ ‫رصخة فأشار هلا ْ‬‫ٌ‬
‫مذعورا‪:‬‬
‫ً‬ ‫ويغي مالبسه ليأيت معه‪ .‬ر ّد الرجل‬
‫يدخل غرفته ّ‬‫َ‬ ‫يطلب منه أن‬
‫ُ‬ ‫وهو‬
‫وطلب منه أن ين ّفذ األمر‬
‫َ‬ ‫هنره (ضياء)‬‫“ماذا تريد م ّني؟ أنا رجل ُمسامل”‪َ .‬‬
‫دعني أحرضها له”‪ .‬أومأ هلا باملوافقة‬ ‫“مالبسه يف الداخل‪ْ ،‬‬
‫ُ‬ ‫فقالت زوجته‪:‬‬
‫َ‬
‫نصف مفتوح كام أمرها‪.‬‬ ‫ِ‬
‫وتركت الباب‬ ‫ِ‬
‫فدخلت املرأة الغرفة‬
‫كان يراها وهي داخل الغرفة يتابعها بع ٍ‬
‫ني وعينُه األخرى عىل “حبيب”‪،‬‬
‫ومهس يف جهاز االتّصال بمعصمه‪“ :‬أنا ٍ‬
‫آت‪ ،‬استعدّ ي”‪ .‬يف تلك اللحظة‬ ‫َ‬
‫نحوه‬ ‫ُ‬
‫والرجل يقفز َ‬ ‫ين يطري من الغرفة‪ ،‬ويرتطم بوجهه‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫بتمثال معد ّ‬ ‫فوجئ‬
‫استخالص السالح منه‪.‬‬
‫َ‬ ‫وحياول‬
‫ثم حاول أن يدفعه من فوقه‬ ‫استطاع (ضياء) أن يرض َبه يف معدته بعنف‪ّ ،‬‬
‫وتقيده بقوة‬
‫تقفز عليه ّ‬ ‫ِ‬
‫رضبة وجهه‪ ،‬لك ّنه فوجئ باملرأة ُ‬ ‫يئن متأملًا من‬
‫وهو ّ‬
‫وطلب منه‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫اعتدل الرجل واق ًفا‬ ‫ُ‬
‫وختتطف السالح من يده‪ ،‬و ُتعطيه لزوجها‪.‬‬
‫تطلب املساعدة‪.‬‬
‫َ‬ ‫ثم طلب من زوجته أن‬
‫اجللوس ّ‬
‫وقع يف فخ‪ ،‬وزا َد إحساسه بذلك حني سمع‬‫وأحس أنه َ‬
‫ّ‬ ‫اضطرب (ضياء)‬
‫َ‬
‫شخصا يف جهاز اتّصال وتقول‪“ :‬هناك ٌ‬
‫رجل مس ّلح هنا‪ ،‬ويبدو‬ ‫ً‬ ‫املرأ َة ختاطب‬
‫ً‬
‫رشيكا موجو ًدا أسفل املبنى‪ ،‬حا ِول اإلمساك به”‪ .‬بدّ ل (ضياء) نظره‬ ‫أن له‬‫ّ‬
‫بني الرجل وزوجتِه وهو يسأهلم‪َ “ :‬من أنتم بالضبط؟!”‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪58‬‬
‫“منذ متى تعمل مع حكومتنا‬ ‫بقوة وهي تسأل‪ُ :‬‬ ‫ِ‬
‫اقرتبت املرأة منه ولكم ْته ّ‬
‫ٍ‬
‫مستوعب وهو يقول‪ :‬إنّه ال‬ ‫ا ُملجرمة ّأيا اخلائن؟”‪ .‬نظر إليها (ضياء) غ َ‬
‫ري‬
‫“أنت‬
‫بشك وهو يقول‪َ :‬‬ ‫نظر “حبيب” له ّ‬ ‫مع األديتيني؛ بل مع املقاومة‪َ .‬‬ ‫يعمل َ‬
‫فمه دون أن‬‫يف كتائب ال ّنرص‪ ،‬تعمل مع املخابرات املرصية؟”‪ .‬أطبق (ضياء) َ‬
‫ُ‬
‫العمل مع احلكومة املرصية ال‬ ‫للصمت أهيا احلقري‪،‬‬‫جييب فقال له‪“ :‬ال داعي ّ‬
‫خسة عن العمل مع الرشطة األديتية‪ ،‬تريدون طر َد املحت ّلني‪ ،‬وتنسون‬ ‫ّ‬
‫يقل ّ‬
‫ً‬
‫احتالل أسوأ من الغزو احلايل”‪.‬‬ ‫حمتل ِمن حكومته املستبدّ ة‬
‫أن هذا البلد كان ًّ‬ ‫ّ‬
‫نظر إليه (ضياء) باحتقا ٍر دون أن جييب‪ ،‬وقال وهو ينظر إىل زوجته‬ ‫َ‬
‫بابتسامة ساخرة‪“ :‬وهل تعرف زوج ُتك أو زميلتك يف املقاومة أنك قمت‬ ‫ٍ‬
‫وجه الرجل وهو‬ ‫بنات جلدهتا‪ ،‬وقتلهن وال ّتمثيل هبن؟”‪ .‬اضطرب ُ‬ ‫بتعذيب ِ‬
‫ُ‬
‫“أعرف ما فعله‪ ..‬مل يكن خطأ‬ ‫تدخلت وقالت‪:‬‬ ‫لكن زوجته ّ‬‫يأمره بالصمت ّ‬ ‫ُ‬
‫َ‬
‫اعرتف يل به وساحم ُته‪ ،‬أ ّما أنت فيل‬ ‫أخالقيا قدر ما كان خطأ تنفيذ ًّيا‪ ،‬وقد‬
‫ًّ‬
‫شأن آخر‪ ،‬لكن بعد أن نتخ ّلص من زميلك”‪.‬‬ ‫معك ٌ‬

‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪59‬‬
‫‪9‬‬
‫أن فتحت قنا َة االتصال‬ ‫أول ما فعلته ْ‬ ‫حنيَ دخلت كمريدا غرف َة نومها كان ّ‬
‫سيتأخر اليوم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بزوجها “باسل”‪ ،‬وجدت أنّه َ‬
‫ترك هلا رسال ًة ُيربها فيها بأنّه‬
‫خيططون لرسقة أجهزة مهمة من إحدى‬ ‫املخربني ّ‬ ‫ٍ‬
‫ملجموعة من ّ‬ ‫فهو ُي ِعدّ كمينًا‬
‫أحد األبراج القروية التي ُبنيت كبديلٍ‬ ‫مقر تلك الرشكة يف ِ‬ ‫الرشكات‪ .‬كان ُّ‬
‫سكان‬‫الفلحني املتب ّقني من ّ‬‫تضم ّ‬
‫لبيوت القرية رقم مخسة يف القليوبية‪ ،‬وهي ّ‬
‫ثالث قرى شاميل توخابشيل (طوخ ساب ًقا)‪.‬‬ ‫ِ‬

‫وبأنا ستنتظره عىل العشاء‪ .‬ر ّد عليها‬


‫طلبت زوجها لتعلمه بوصوهلا‪ّ ،‬‬ ‫ْ‬
‫“أهل يا عزيزة القلب‪ ،‬أنا يف مركبتي‪ ،‬وقد أوشكت‬ ‫صوتيا فقط وهو يقول‪ً :‬‬ ‫ًّ‬
‫مكان الكمني”‪ .‬خفقَ قلبها لسامع كلمة عزيزة القلب كام‬‫ِ‬ ‫عىل الوصول إىل‬
‫للمرة املليون‪ ،‬ور ّدت عليه‪“ :‬باسل عزيز قلبي‪..‬‬
‫كررها ّ‬ ‫ولو ّ‬
‫هو احلال دو ًما ْ‬
‫تطلب منه‬
‫ُ‬ ‫قائل‪“ :‬أعدُ ك يا ورديت”‪ .‬مهست وهي‬‫أرجوك ُعدْ يل ساملًا”‪ .‬ر ّد ً‬
‫كل ّ‬
‫رشير تقتله أو تأرسه”‪.‬‬ ‫أن حترض يل خصل َة شع ٍر من ّ‬
‫تنس ْ‬‫طل َبها املعتاد‪“ :‬ال َ‬
‫مبتسم وهو يسأله‪“ :‬هل‬‫ً‬ ‫أغلقَ االتصال معها والتفت إىل زميله فوجده‬
‫طلبت م ْنك خصالت الشّ عر كالعادة؟” أومأ (باسل) ِ‬
‫برأسه مواف ًقا صدي َقه‬ ‫ْ‬
‫منذ ثالث سنوات‪.‬‬ ‫قوات الرشطة اجلوالة ُ‬ ‫األديتي برنام الذي يعمل معه يف ّ‬
‫هيبط هبا من املركبة بصحبة‬ ‫قال برنام وهو يعدّ دراجته التي يوشك أن َ‬
‫مع‬
‫ذكية‪ ،‬وتعليمها مرتفع‪ ،‬وتعمل َ‬ ‫أن زوجتك ّ‬ ‫“باسل”‪“ :‬ما يثري الدهش َة ّ‬
‫ِعلية القوم‪ ،‬ومع ذلك تصدّ ق خرافات أكثر من جدّ يت”‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪60‬‬
‫ِ‬
‫بتثبيت خوذته إىل الدّ رع الذي‬ ‫َ‬
‫ضحك (باسل) دون أن يعلق‪ ،‬وانشغل‬
‫رشيطا أسو َد من مادة مقاومة عىل منطقة العنق التي كانت‬ ‫ً‬ ‫يرتديه‪ّ ،‬‬
‫ولف‬
‫يتكون من‬
‫ّ‬ ‫الدرع الذي‬
‫ُ‬ ‫تشكل نقطة ضعف يف ذلك الدّ رع ً‬
‫قديم‪ .‬هذا‬ ‫ّ‬
‫موجات‬ ‫طبقة خارجية تقاوم الرصاص وامل ْقذوفات الرسيعة عن طريق ْ‬
‫مقوى جيعله‬
‫نسيج ّ‬
‫ٍ‬ ‫خاصة بينام طبقته الداخلية تتكون من‬
‫كهرومغناطيسية ّ‬
‫للطعن باألسلحة اليدوية واملقذوفات متوسطة الرسعة كالسهام‪.‬‬ ‫مقاو ًما ّ‬

‫حديث التخرج يبدأ مسريته املهنية يف‬‫َ‬ ‫كان (باسل) َ‬


‫قبل االحتالل شا ًّبا‬
‫الصحافة‪ .‬كان أبوه أستا ًذا يف العلوم السياسية وكات ًبا شه ً‬
‫ريا معرو ًفا‬ ‫عامل ّ‬
‫أكثر من‬
‫احلكم املتعاقبة يف مرص‪ ،‬ودخل السجن َ‬ ‫بمعارضته الشّ ديدة ألنظمة ُ‬
‫مقال يف‬‫وكتب هو ً‬
‫َ‬ ‫مات أبوه يف السجن‬
‫لكن األخرية كانت القاضية‪َ .‬‬ ‫مرة ّ‬‫ّ‬
‫أبواب‬
‫ُ‬ ‫السلطات أكثر‪ ،‬فأغلقت يف وجهه‬ ‫َ‬
‫موقع إلكرتوين جلب عليه سخط ّ‬
‫الرزق والسفر‪.‬‬
‫مرضت أ ّمه وماتت بني يديه وهو عاجزٌ عن عالجها‪ ،‬دخل بعدها يف‬ ‫ْ‬
‫عزلة لشهو ٍر مل يفقْ منها ّإل عىل الغزو‪ .‬مىض عليه ُ‬
‫أكثر من عامني بعد الغزو‬
‫الغزو يف صالح املرصيني‪ّ ،‬‬
‫وأن‬ ‫َ‬ ‫ال يكرتث ليشء‪ ،‬ويرى عىل عكس اجلميع ّ‬
‫أن‬
‫وأن القوانني ا ُملجحفة حتقق‬
‫خري من الوطني الظامل‪ّ ،‬‬
‫احلاكم األجنبي العادل ٌ‬
‫العدل حني ُيلتَزم هبا أكثر من القوانني املثالية التي يرضب هبا عرض احلائط‪.‬‬
‫بأدق التفاصيل عن‬ ‫ُ‬
‫واملعرفة الغريبة ّ‬ ‫التقنيات املذهلة‪ ،‬والتنظيم الشديد‬
‫ُ‬
‫أمور أثارت إعجا َبه القوي بالنياندرتال‪ .‬كان مؤمنًا بدولتهم‬
‫البرش‪ ،‬كلها ٌ‬
‫ِ‬
‫أعطت النياندرتال بعض‬ ‫الوليدة التي تساوي بنيَ مجيع البرش‪ ،‬ح ّتى وإن‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪61‬‬
‫مع الوقت‬‫أن تلك الفروق ستزول َ‬ ‫امليزات اإلضافية‪ّ ،‬إل ّأنم كانوا يؤكدون ّ‬
‫مدونة إلكرتونية أثارت‬
‫يكتب عن ذلك يف ّ‬ ‫ُ‬ ‫تستقر األوضاع‪ .‬كان‬
‫ّ‬ ‫بعد أن‬
‫السلطات‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫هتديده بالقتل‪ .‬حني فتحت‬ ‫كراهي َة الكثريين ضدّ ه وصلت إىل حدّ‬
‫األديتية الباب لألرضيني للعمل يف الرشطة‪ ،‬كان ّأو َل املتطوعني‪ ،‬كانت‬
‫اختبارات القبول صعبة لك ّنه اجتازها وصار فر ًدا يف الرشطة‪ ،‬وكان أشدَّ‬
‫ُ‬
‫قسوة عىل املقاومني من األديتيني أنفسهم‪.‬‬
‫التعسف يف البداية”‪ .‬كان يقول ذلك‬
‫ّ‬ ‫أنواعا من‬
‫ً‬ ‫مارست‬
‫ْ‬ ‫ّ‬
‫“كل الثورات‬
‫أساه من املقاومني املرصيني‬
‫ريه حني يلومه عىل الطريقة التي يعامل هبا ْ‬‫لضم ِ‬
‫أو األديتيني الذين يساعدوهنم‪ ،‬وكان ال جيدُ غضاضة يف تسمية ذلك الغزو‬
‫ثورة‪ ،‬فقد كان يراه كذلك‪ ،‬ويرى ّ‬
‫أن أديتيا يمكن أن تكون املدينة الفاضلة‬
‫لو فقط اختفى هؤالء “املجرمون” منها‪.‬‬
‫ثم انحرفا يمينًا‬
‫ربا مدخل جممع األبراج ّ‬‫بدراجتيهام وع َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫هبط هو وبرنام‬
‫يقود للربج املستهدف‪ ،‬وتركا الدراجتني يف خمبأ معدّ‬
‫عكس االجتاه الذي ُ‬ ‫َ‬
‫الطائرات الدقيقة تقوم بدورياهتا املعتادة‬
‫ُ‬ ‫سارا يف اجتاه الربج‪ .‬كانت‬
‫ثم َ‬‫هلام ّ‬
‫أن املقاومني‬‫لكن املشكلة ّ‬ ‫ٍ‬
‫صورة من كامرياهتا‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬
‫احلصول عىل‬ ‫وكان يمكن هلام‬
‫يشوشون عليها ويقومون بتغذيتها بصو ٍر كاذبة‪ ،‬ولذلك كان ال بدّ من‬ ‫ّ‬
‫وجودهم عىل األرض يف كثري من األحيان‪.‬‬
‫َ‬
‫مقابل املدخل الرئييس للمبنى‪ ،‬ووقف زميله عىل مقربة‬ ‫َك َم َن (باسل)‬
‫مزود بتقنية‬ ‫ٍ‬
‫بشاشة صغرية ّ‬ ‫منظارا‬
‫ً‬ ‫من املدْ خل اجلانبي‪ .‬كان ّ‬
‫كل منهم يمسك‬
‫للتعرف عىل األشخاص باستخدام ِ‬
‫بنية اجلسم وطريقة امليش ودرجة كثافة‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪62‬‬
‫ألنم يستخدمون ّ‬
‫تنك ًرا‬ ‫ِ‬
‫لرصد املقاومني حلظة وصوهلم ّ‬ ‫العضالت والعظام‬
‫خيدع تقنية كشف الوجوه‪.‬‬
‫ات متقطعة‪ ،‬وكانت تلك هي‬ ‫مر ٍ‬ ‫َ‬
‫ثالث ّ‬ ‫ُ‬
‫جهاز االتصال يف معصمه‬ ‫أزّ‬
‫اإلشارة امل ّتفق عليها حني يرى أحدُ مها أحد املخربني‪ .‬تس ّلل بخ ّفة اجتاه‬
‫يصل إليه فوجئ بإحدى الطائرات‬ ‫الباب الذي يقف عندَ ه زميله‪ ،‬وقبل أن َ‬
‫مسا أصاهبا‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وكأن ًّ‬ ‫مجه هو‬
‫الدقيقة هتا ُ‬
‫سالحه وأطلق قذيفة دمرهتا‬ ‫َ‬ ‫تكبله فقد أخرج‬‫يسمح للدهشة بأن ّ‬ ‫ْ‬ ‫مل‬
‫بواحدة أخرى هتامجه‪ .‬أطلقَ قذيفة ثانية أخطأت الطائرة‬‫ٍ‬ ‫برسعة لك ّنه فوجئ‬
‫ٍ‬
‫دفعات من القذائف مل تؤ ّثر يف ز ّيه‪ ،‬لك ّنها‬ ‫التي اقرتبت منها وأطلقت عدّ ة‬
‫آملته وعطلت تقدّ مه ّاتاه زميله‪.‬‬
‫جلس عىل األرض واستجمع تركيزَ ه وأطلق عليها عدة قذائف متتالية‬ ‫َ‬
‫املخرب الذي استطاع أن يعبث بربنامج‬
‫َ‬ ‫ويسب ذلك‬
‫ّ‬ ‫يسبها‬ ‫َ‬
‫فأسقطها وهو ّ‬
‫مقره هو وزميله يف‬
‫زرا يف جهازه يطلب توجي َه الطائرات إىل ّ‬ ‫َ‬
‫ضغط ًّ‬ ‫تشغيلها‪.‬‬
‫احلال ملساعدهتم يف التخ ّلص من املهامجني أو تشتيت تركيزهم عىل األقل‪.‬‬
‫وفهم خطتهام وهي دخول املبنى‬
‫َ‬ ‫رجلي‪،‬‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫يشتبك باأليدي مع‬ ‫رأى برنام‬
‫من الباب اجلانبي وتفخيخ الطريق ا ُملفيض إليه بطائرات كتلك‪ ،‬لك ّنه متأكد‬
‫حيرك تلك الطائرات‪ .‬جرى ّاتاه زميله الذي كان‬ ‫ً‬
‫رشيكا هلام ّ‬ ‫من أن هناك‬
‫خصميه ح ّتى اآلن عىل األقل‪ ،‬لك ّنه فوجئ بشخص يقفز‬‫ْ‬ ‫يبيل بال ًء حسنًا مع‬
‫عليه ويشتبك معه‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪63‬‬
‫ظل وجود تلك‬ ‫كان االشتباك باأليدي وسيل َة املقاومني ملحاربتهم يف ّ‬
‫َ‬
‫الرشيط الذي حيمي الرقبة‬ ‫املدرعة التي يرتدوهنا‪ ،‬وكانوا هيامجون‬
‫األزياء ّ‬
‫وقتل الرشطي عن طريق طعنِه يف رقبته‪َ .‬‬
‫مات بني يديه‬ ‫َ‬ ‫انتزاعه‬
‫َ‬ ‫وحياولون‬
‫زمالء سابقون بتلك الطريقة‪ ،‬وكانت تدريباهتم ّ‬
‫تركز دو ًما عىل تفادي ذلك‬
‫اهلجوم‪.‬‬
‫وقوي التحمل واستطاع انتزاع‬‫َّ‬ ‫رضب مهامجه بعنف لك ّنه كان صل ًبا‬
‫َ‬
‫رشيط رقبتِه بالفعل‪ ،‬وحاول أن يطعنه يف رشيانه السبايت‪ .‬أمسك (باسل)‬
‫بذراع مهامجه وهو حياول إبعا َد السكني عن رقبته وإدارهتا يف االجتاه‬
‫يقرتب بالسكني من رقبته يف ال ّلحظة التي‬‫َ‬ ‫غريمه أن‬
‫ُ‬ ‫املعاكس‪ .‬استطاع‬
‫مجه‬
‫أصيب مها ُ‬
‫َ‬ ‫اقرتبت فيها إحدى الطائرات وأطلقت قذائ َفها نحومها‪.‬‬
‫وغرسه يف‬
‫َ‬ ‫سكينه‬ ‫َ‬
‫وأخذ ّ‬ ‫متألًا فهجم (باسل) عليه ثانية‬‫ووقع عىل األرض ّ‬
‫قبل أن ينزعه ويقطع به خصل ًة من شعره ويضعها يف جيبه‪.‬‬ ‫عنقه َ‬

‫فتوجه نحوه ملساعدته‬ ‫ً‬


‫مشتبكا مع مهامجيه ّ‬ ‫التفت إىل برنام فوجدَ ه ال يزال‬
‫َ‬
‫أحد املهامجني‪ .‬كانت معرك ًة حامي َة الوطيس‪ .‬حني بدأت ُ‬
‫متيل‬ ‫واشتبك مع ِ‬‫َ‬
‫صوت معدين ً‬
‫قائل‪“ :‬حتذير؛ لقد‬ ‫ٌ‬ ‫جهاز معصم (باسل) وانطلقَ منه‬ ‫ُ‬ ‫رن‬ ‫هلام‪ّ ،‬‬
‫شخصي بحملٍ كبري من األجهزة”‪.‬‬
‫ْ‬ ‫رصدت ا ُملستشعرات َ‬
‫فرار‬ ‫ِ‬

‫غضب (باسل) الذي كان يأخذ عم َله دو ًما عىل حمْمل شخيص‬‫ُ‬ ‫استشاط‬
‫يقيد مهامجه‬
‫عرضه‪ .‬كان يف تلك اللحظة ّ‬ ‫وكأن رسق َة تلك األجهزة ّ‬
‫سب ٌة يف ْ‬ ‫ّ‬
‫يكن ذا بأس ّ‬
‫يمكنه من كرس عنقه‪.‬‬ ‫ويضغط عىل رقبتِه بساعده ّ‬
‫بقوة‪ ،‬لك ّنه مل ْ‬
‫احلرة ببطء‬
‫ثم مدّ يده ّ‬
‫أرضا إىل جوار السكني ّ‬ ‫َ‬
‫وأسقط نفسه ً‬ ‫جذبه إىل الوراء‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪64‬‬
‫مرميا عىل‬
‫ًّ‬ ‫ثم تركه‬
‫بقوة يف خارصة الرجل‪ّ ،‬‬ ‫ودفعها ّ‬
‫َ‬ ‫ح ّتى أمسك السكني‬
‫ثم أخرجها‬‫وغرس السكني يف عينه ّ‬ ‫َ‬ ‫وهجم عىل غريم “برنام”‬
‫َ‬ ‫األرض‬
‫خصلتني‬ ‫ْ‬
‫يكلف نفسه عنا َء أخذ ْ‬ ‫ً‬
‫متعجل بشدّ ة فلم‬ ‫ورض َبه هبا يف صدره‪ .‬كان‬
‫متجها إىل خمبأ الدراجات‬
‫ً‬ ‫يتبعه‬
‫من شعرهيام لزوجته‪ ،‬وأشار لصديقه بأن َ‬
‫ليالحق الباقني‪.‬‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪65‬‬
‫‪10‬‬
‫حقيقة واحدة مطلقة‪ ،‬وال زيف مطلق‪ ،‬لك ّنك جتتهدين يف‬ ‫ٌ‬ ‫“ليس يف احلياة‬
‫قدر اإلمكان‪ ،‬وأبعدَ عن‬‫ترتكزين عليها تكون أقرب إىل احلقيقة َ‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫إجياد قاعدة‬
‫استخرت قلبي ووضعني يف تلك النقطة‬ ‫ُ‬ ‫بنيتي‬ ‫َ‬
‫أطول مسافة‪ ،‬وأنا يا ّ‬ ‫الزيف‬
‫(ميساء) لكن‬
‫والزيف‪ ،‬وضمريي مرتاح متا ًما‪ ..‬قد ال توافقينني يا ْ‬ ‫بني احلقيقة ّ‬
‫سيف طاغية آخر‬‫َ‬ ‫ري‬
‫خري يل من أن أستع َ‬‫خشبي ٌ‬
‫ّ‬ ‫أن أحارب الطاغي َة بسيف‬
‫يوم أن‬
‫(ميساء) َ‬
‫آخر كالم قاله “عمر” البنته ْ‬ ‫أحارب حتت رايته”‪ .‬كان ذلك َ‬
‫املخيم قبل أن يعود لألرض املحت ّلة و ُيكمل كفاحه العبثي من‬ ‫زارها وأ ّمها يف ّ‬
‫أقرب إىل‬
‫أن ال حقيقة مطلقة لك ّنها كانت تراه َ‬ ‫وجهة نظرها‪ .‬كانت ُ‬
‫توافقه يف ْ‬ ‫ِ‬
‫املتحمسني‬
‫ّ‬ ‫لنقل تأ ّد ًبا أقرب إىل الغفلة أو ق ّلة البصرية‪ ،‬وكانت ترى‬
‫الزيف‪ ،‬أو ْ‬
‫ني يف الزيف ال قريبني منه‪.‬‬‫له وحلفاءهم من النياندرتال غارق َ‬
‫األرضيني السائرين عىل خطى أبيها‬‫ّ‬ ‫فهم دوافع املقاومني‬
‫كانت تستطيع َ‬
‫دوافع النياندرتال الذين يبيعون‬
‫َ‬ ‫تتفهم‬
‫(وإن كانت تستنكرها)‪ ،‬وكانت ّ‬ ‫ْ‬
‫ضمنها مرص)‪ ،‬فعبيدُ املال هنا‬
‫حلكومات أرضية (ومن ْ‬ ‫ٍ‬ ‫التقنيات واملعلومات‬
‫َ‬
‫يكرهون قومهم‬ ‫تفهم ّ‬
‫قط هؤالء الثّائرين النياندرتال الذين‬ ‫وهناك لك ّنها مل ْ‬
‫يدافعون عن البرش “املساكني” ويرفضون‬‫َ‬ ‫ويساعدون يف قتلهم بحجة ّأنم‬
‫األم إىل كوكب األرض‪.‬‬ ‫اهلجر َة من كوكبهم ّ‬
‫ٍ‬
‫واحد منهم‪ ،‬النياندرتال الذين‬ ‫قد انتهت لل ّتو من مواجهة‬ ‫كانت ِ‬
‫ُ‬
‫الرجل قو ًّيا‪ ،‬وكان‬ ‫يساعدون املقاومني املرص ّيني ضدّ حكومتهم‪ .‬كان‬
‫ظهوره أمامها مفاجئًا لك ّنها استطاعت أن تتغ ّلب عىل عنرص املفاجأة وتش ّله‬
‫ُ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪66‬‬
‫ٍ‬
‫كدمة‬ ‫وتسبب يف‬
‫ّ‬ ‫رضبا يف البداية‬
‫أرضا بعد أن َ‬ ‫َ‬
‫أسقطه ً‬ ‫ٍ‬
‫بصاعق كهربائي معها‬
‫قوية يف وجهها‪.‬‬
‫ففتحه حبيب الذي كان يتو ّقع زميله لك ّنه فوجئ بميساء‬ ‫د ّقت الباب َ‬
‫فتسقطه للخلف‪ ،‬حاولت زوج ُته األديتية أن تطلق‬ ‫ُ‬ ‫ترك ُله ّ‬
‫بقوة يف صدْ ره‬
‫ً‬
‫حماول‬ ‫نفسه ً‬
‫أرضا‬ ‫َ‬
‫وأسقط َ‬ ‫ّ‬
‫استغل املوقف‬ ‫لكن (ضياء)‬
‫(ميساء) ّ‬ ‫سالحها عىل ْ‬
‫ِ‬
‫ارتبكت املرأة حلظ ًة وهو ما جعل ْ‬
‫(ميساء)‬ ‫التم ّلص من الكريس املقيد عليه‪.‬‬
‫ُ‬
‫تشتبك معها يف عراك باأليدي انتهى‬ ‫ثم‬ ‫تقفز عليها وتسقط السالح من ِ‬
‫يدها ّ‬ ‫ُ‬
‫َ‬
‫وإطالق النار عىل‬ ‫َ‬
‫اإلمساك بالسالح الواقع جواره‬ ‫عندما استطاع (ضياء)‬
‫املرأة‪.‬‬
‫ونيس وجود (ضياء) و”ميساء”‪ ،‬وقفزَ نحو‬ ‫َ‬ ‫أصيب “حبيب” بالصدمة‬‫َ‬
‫ً‬
‫حماول أن يمنع‬ ‫لتاعا وهو حياول أن يسع َفها‪ .‬وضع يدَ ه عىل صدرها‬
‫زوجته ُم ً‬
‫َ‬
‫التقاط أنفاسها‬ ‫اندفاع الدم ِمن مكان اإلصابة ّ‬
‫لكن املشكلة كانت ّأنا حتاول‬
‫الضائعة بدون جدوى‪.‬‬ ‫ُ‬
‫حتاول أن تقول كلم ًة من بني أنفاسها ّ‬ ‫بصعوبة وهي‬
‫ويعتذر وهو يبكي‪ ،‬وهي حتاول‬‫ُ‬ ‫يقبل وجهها ويضغط عىل جرحها‬ ‫أخذ ّ‬
‫مرة‬ ‫ً‬
‫انتفاخا‪ ،‬ح ّتى مهدت ّ‬ ‫يزداد زرق ًة‪ ،‬وأوردة رقبتها تزداد‬
‫ُ‬ ‫التنفس‪ ،‬ووجهها‬
‫َ‬
‫فكت قيو َد (ضياء) الذي نظر إليها يف‬ ‫(ميساء) قد ّ‬‫فرغ كانت ْ‬ ‫واحدة‪ .‬حني َ‬
‫امتنان وقال “يبدو أنّني خمطئ يف تقدير مهاراتك القتالية والقيادية يا سيادة‬
‫املالزم”‬
‫ً‬
‫مستسلم ال يتك ّلم بعد أن يأس من امرأته‪،‬‬ ‫جلس “حبيب” عىل األرض‬
‫َ‬
‫وأيقن ّأنا ماتت‪ .‬أمسكه (ضياء) من ذراعه وأوق َفه عىل قدميه ووضع‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪67‬‬
‫سالحه عىل رأسه وهو يطلب منه مرافقتَهم‪ .‬تقدّ م “حبيب” خطوتني لك ّنه‬‫َ‬
‫استدار فجأ ًة وأمسك (ضياء) ِمن حنجرته َ‬
‫وقبل أن يعترصها بيد ْيه رضبته‬
‫ثم قالت لضياء‪:‬‬ ‫مغشيا عليه‪ّ ،‬‬
‫ًّ‬ ‫ِ‬
‫األرض‬ ‫ٍ‬
‫بعنف فسقط عىل‬ ‫(ميساء) عىل رأسه‬
‫ْ‬
‫“يبدو أنّك ستعتاد عىل قيامي بإنقاذ حياتك”‪.‬‬
‫السلم ببطء‪ ،‬و”ميساء” معه شاهرة‬ ‫محله (ضياء) عىل كتفه‪ ،‬وبدأ بنزول ّ‬
‫السالح‬
‫َ‬ ‫سالحها املسدس ا ُملعتاد الكاتم للصوت‪ ،‬فقد كانت تكره ذلك‬ ‫َ‬
‫األديتي الذي يرتديه الواحدُ كقبضة معدنية‪ .‬كانا هيبطان بحذ ٍر خو ًفا من‬
‫كل طابق كانت‬ ‫فسيحا‪ ،‬ويف ّ‬
‫ً‬ ‫رخاميا‬
‫ًّ‬ ‫ظهور رشكاء حلبيب‪ .‬كان سلم العامرة‬
‫وكأن قذيفة ستخرج‬‫ّ‬ ‫لكل ٍ‬
‫باب‬ ‫توجدُ أربعة أبواب لشقق سكنية‪ ،‬كانت تنظر ّ‬
‫مرت بسالم‪ ،‬بعدها‬ ‫السالمل كالدهر‪ ،‬لك ّنها ّ‬
‫مرت الدقائق التي هبطا فيها ّ‬
‫منه‪ّ .‬‬
‫ٍ‬
‫موكب‬ ‫نحو املركبة يف‬
‫أقل من عرشة أمتار َ‬ ‫خرجا من باب البناية‪ ،‬ومش َيا ّ‬
‫َ‬
‫الفت لل ّنظر يزيد من احتاملية كشفهام‪.‬‬
‫(ميساء) أن تق ّلل املخاطرة؛ فطلبت من (ضياء) البقا َء يف مدخل‬ ‫فكرت ْ‬ ‫ّ‬
‫وضعت املسدس يف حزامها‬ ‫ِ‬ ‫تذهب هي إلحضار املركبة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫البِناية عىل أن‬
‫الشمس متيل للمغيب‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ومشت يف ّاتاه املركبة متص ّنع ًة َ‬
‫عدم االكرتاث‪ ،‬كانت‬ ‫ْ‬
‫ودخلت ّأول‬
‫ْ‬ ‫مشت بمحاذاة املبنى‬
‫ْ‬ ‫ّ‬
‫املحال أضواءها‪.‬‬ ‫بعض‬‫ُ‬ ‫أنارت‬
‫ْ‬ ‫وقد‬
‫مطعم للمأكوالت األديتية‪ ،‬وقد ُكتبت َ‬
‫حتت‬ ‫ٌ‬ ‫شارع جانبي بعد ناصية حيت ّلها‬
‫آخر‬
‫ملطعم َ‬
‫ٍ‬ ‫فرعا‬
‫يوميا من كوكب أديتيا”‪ .‬كان ً‬ ‫“مكوناتنا نجلبها ًّ‬
‫ّ‬ ‫اسمه مجلة؛‬
‫ري يف املهندسني مشهور بأنّه مكان ل ّلقاءات األوىل بني الشباب األرضيني‬ ‫كب ٍ‬
‫والفتيات األديتيات‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪68‬‬
‫َ‬
‫قبل أن تصل إىل املركبة‪ ،‬وقفت طائر ٌة دقيقة يف مواجهتها عىل مدخل‬
‫تتفحص وجهها وعينيها‪،‬‬ ‫تسمرت أمامها هبدوء‪ ،‬والطائرة ّ‬‫الشّ ارع اجلانبي‪ّ .‬‬
‫ثم‬ ‫ُ‬
‫التحقق من اهلوية‪ ،‬هناك خمالفة واحدة”‪ّ ،‬‬ ‫“تم‬ ‫صوت أنثوي ً‬
‫قائل‪ّ :‬‬ ‫ٌ‬ ‫ثم ّ‬
‫رن‬ ‫ّ‬
‫سهم صغري من املركبة وطار ٍ‬
‫جلزء من الثانية قبل أن ينغرز يف عنقها‪.‬‬ ‫خرج ٌ‬
‫والسهم يفرغ مادة ما يف‬
‫ُ‬ ‫تألت حني ّ‬
‫شكها السهم‪ ،‬لك ّنها ظ ّلت واقفة‬ ‫ّ‬
‫حقن األمصال‬‫ُ‬ ‫“تم‬
‫الصوت األنثوي‪ّ :‬‬
‫ُ‬ ‫وقع عىل األرض‪ ،‬وقال‬‫ثم َ‬‫رقبتها ّ‬
‫َ‬
‫خالل يومني‪ّ ،‬‬
‫وإل‬ ‫سداد غرامة التكاسل عن ال ّتطعيم‬
‫ُ‬ ‫الوقائية‪ ،‬عليك‬
‫ستعاقبني باجلزاء رقم ‪ ١١‬ب”‪ .‬تن ّفست الصعدا َء حني انرصفت الطائرة‪،‬‬
‫نحو مدخل البناية‪ ،‬وأخذت‬
‫وعدت األمتار الباقية نحو املركبة وطارت هبا َ‬
‫(ضياء) ومحولته ّ‬
‫وات َها عائدين نحو املقر‪.‬‬
‫وحتسس رقبتَها من جرعة املصل التي تلقتها والتي‬ ‫ّ‬ ‫كانت تقود املركبة‬
‫أحست ّأنا عىل وشك أن تفرغ‬ ‫ْ‬ ‫بضع ساعات‪.‬‬ ‫َ‬ ‫امحرارا وأملًا يدوم‬
‫ً‬ ‫تسبب‬
‫ّ‬
‫حيدث طارئ‬‫َ‬ ‫استالم القيادة خشية أن‬
‫َ‬ ‫فطلبت من (ضياء)‬‫ْ‬ ‫ِ‬
‫جوفها‬ ‫ما يف‬
‫حسب السلطات األديتية‪ ،‬هناك نوعان من‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫بمعدتا املقلوبة‪.‬‬ ‫وهي منشغلة‬
‫ونوع يعطى للنياندرتال‪ ،‬وذلك لل ّتخفيف‬ ‫ٌ‬ ‫نوع يعطى للبرش‪،‬‬ ‫األمصال؛ ٌ‬
‫كل عامني‬‫الصنفني‪ ،‬و ُتكرر اجلرعة ّ‬
‫من حدّ ة األمراض التي قد تنتقل بني ّ‬
‫ونادرا‬
‫ً‬ ‫دائم‪ -‬مصحوبة بأمل ٍ أو ّ‬
‫حكة وقيئ‪،‬‬ ‫إجبار ًّيا‪ ،‬وتكون أحيا ًنا‪ -‬وليس ً‬
‫محى‪.‬‬
‫تبادلت معه يف البداية‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ودون أن تشعر‬ ‫املقر‪ ،‬ر ّد عليها (سمري)‬
‫طلبت ّ‬
‫صب‪ ،‬ويقول‪:‬‬ ‫حدي ًثا مشْ حو ًنا بالعاطفة‪ ،‬ما جعل (ضياء) يزفر يف ِ‬
‫نفاد ْ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪69‬‬
‫رصد االتصال”‪.‬‬‫“ب ّلغيه بتامم املهمة‪ ،‬والقتيلة التي تركناها‪ ،‬وأغلقي قبل أن ُي َ‬
‫وحتذره ّأل ينسى‬
‫ّ‬ ‫شذرا وهي ّ‬
‫تذكره ّأنا أنقذت حياته لل ّتو‪،‬‬ ‫ً‬ ‫نظرت نحوه‬ ‫ْ‬
‫يترصف كقائد ويتحمل‬
‫يذكر مرؤسيه بسلطاته‪ ،‬بل ّ‬ ‫أهنا رئيسته‪“ .‬الرئيس ال ّ‬
‫رب ًما‪ ،‬لك ّنها جتاهلته وعادت ملكاملة (سمري) واطمأنّت منه‬
‫مسئولياته” قال مت ّ‬
‫تم إحضارمها ومل يتبقّ غري واحد فقط‪.‬‬ ‫أن االثنني اآلخرين قد ّ‬ ‫ّ‬
‫شوارع جانبية من السيدة زينب للدرب‬ ‫َ‬ ‫ري ببطء يف‬
‫كانت املركبة تس ُ‬
‫رب الشوارع األكرب‬
‫ثم تع ُ‬
‫شارع األزهر للجاملية فالدراسة‪ّ ،‬‬
‫َ‬ ‫ثم تعرب‬
‫األمحر ّ‬
‫للمقر الثاين‪،‬‬
‫ّ‬ ‫حل عندما وصل‬ ‫برسعة عالية لكي ال تكتشف‪ .‬كان ُ‬
‫الليل قد ّ‬
‫للرابع‪ ،‬قبل أن يعطي (إياد)‬
‫انتظارا ّ‬
‫ً‬ ‫وا ُمل َعدّ الحتجاز الثالثة املقبوض عليهم‬
‫أوامره بطريقة وكيفية تسليمهم‪.‬‬
‫َ‬
‫كان “حبيب” قد أفاق حني دخلت غرفتَه لتحقق معه‪ ،‬وتأخذ منه اعرتا ًفا‬
‫للرماد يف وجوه املعارضني الذين سيتهمون احلكومة‬ ‫مفص ًل بام فعل؛ ًّ‬
‫ذرا ّ‬ ‫ّ‬
‫حتت األرض‬ ‫مقر االحتجاز َ‬‫التي س ّلمتهم للنياندرتال باخليانة والظلم‪ .‬كان ُّ‬
‫مهجورة يف الدويقة يف سفح جبل املقطم‪.‬‬
‫يف مكان بيوت ْ‬
‫فانبعثت إضاءة ّ‬
‫مركزة باألساس عىل وجهه‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫زرا يف اجلدار‬
‫ضغطت ًّ‬
‫ْ‬
‫مسجل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وبدأت باحلديث بشكلٍ رسمي وهي تقول له‪ّ :‬‬
‫إن ذلك التحقيق‬
‫وثمة دمعة‬
‫ووجهه جامد‪ّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫ينظر إليها‬
‫والغرض منه توثيق اعرتافه‪ .‬كان ُ‬
‫متجمدة يف ركن عينه تفكر يف ال ّنزول‪ .‬سألته عن ِ‬
‫اسمه وعمره‪ ،‬ومن‬ ‫ّ‬
‫وإن كان فيها يشء ُمتلف عليك‬
‫جيبها فقالت‪“ :‬سأتلو بياناتك ْ‬ ‫أين‪ ،‬مل ْ‬
‫االعرتاض”‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪70‬‬
‫ثم سألته‪“ :‬أنت‬
‫حيرك ساكنًا باإلجياب أو بالرفض ّ‬
‫تلت إجابة أسئلتها ومل ّ‬
‫ْ‬
‫هم بقتل فتيات أديتيات بعدَ تعليقهن عىل أعمدة‪ ،‬وتعذيبهن لساعات‪،‬‬ ‫م ّت ٌ‬
‫باالشرتاك مع آخرين‪ ،‬فام قولك؟” مل ير ّد عليها فسألته بحدّ ٍة ّ‬
‫مرة ثانية‬
‫هم احلقَّ‬
‫فنوع التحقيق هذا ال يعطي امل ّت َ‬
‫“إن صمتك يعني موافقتك‪ُ ،‬‬ ‫وقالت‪ّ :‬‬
‫يفس أنّه إقرار”‪.‬‬
‫الصمت َّ‬
‫َ‬ ‫يف الصمت‪ ،‬بل ّ‬
‫إن‬

‫املتجمدة تتغلب عليه وتسيل‬


‫ّ‬ ‫ُ‬
‫والدمعة‬ ‫قتلتم احلياة يف عيني”‪ .‬قال‬
‫ُ‬ ‫“لقد‬
‫َ‬
‫فقال هلا‪“ :‬لقد كانت‬ ‫ِ‬
‫نطاق السؤال”‪.‬‬ ‫عىل خدّ ه‪ ،‬فقالت‪“ :‬ال خترج عن‬
‫حبيبتي‪ ،‬كانت هي إجاب َة السؤال‪ ،‬وبعدَ قتلها مل يعدْ هناك مغزى من ّ‬
‫أي‬
‫سؤال أو جواب”‪.‬‬
‫ِ‬
‫دموعه‪“ :‬كانت هي َمن‬ ‫ً‬
‫حماول متالك‬ ‫قال وهو ينظر بعيدً ا عن ّ‬
‫الضوء‪،‬‬
‫أن أسامح نفيس‪ ،‬كنت َّ‬
‫حمط ًم يقتلني اإلحساس بالذنب‪ ،‬حاولت أن‬ ‫ع ّلمني ْ‬
‫تعرفت عليها‪ ،‬حاربنا‬ ‫أك ّفر عن ذنبي باالنضامم إىل املقاومة َ‬
‫مع عمر الزيبق‪ّ .‬‬
‫يمنع اقرتايب منها ح ّتى احتوتني يف‬
‫جن ًبا إىل جنب‪ ،‬وكان إحسايس بالذنب ُ‬
‫َ‬ ‫ٍ‬
‫ليلة جعلتني أ ُخر باك ًيا عىل صدرها‪ ،‬مل تسألني ملاذا‪ ،‬قالت ّإنا ّ‬
‫حتبني مهام كان‬
‫ُ‬
‫أعيش بني الناس كالغريب‪ ،‬وقالت ّإنا ال تبايل حني‬ ‫السبب الذي جيعلني‬
‫اعرتفت‬
‫ُ‬ ‫أكون عىل صدرها وعيناي هائمتان يف الفراغ ّ‬
‫تفكران يف يشء جتهله‪.‬‬
‫بكل يشء‪ ،‬وطلبت منها املغفرة‪ ،‬فقالت ّإنا ال متلك َّ‬
‫صك مغفرة‪ ،‬لكن‬ ‫هلا ّ‬
‫مرور سنوات‬
‫َ‬ ‫إن‬‫َمن جيب أن يغفر يل هو أنا‪ ..‬هل تصدّ قني هذا! كانت تقول ّ‬
‫دفاعا عن‬
‫املسكينات يكفي‪ ،‬وأنّنا ال نقاتل ً‬
‫من إحسايس بالذنب جتاه هؤالء ْ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪71‬‬
‫ِ‬
‫هلجرة‬ ‫بحجج كاذبة‬
‫ٍ‬ ‫األرضيني فقط؛ بل عن األديتيني الفقراء الذين يساقون‬
‫غتصبة تكرههم ويكرههم أهلها”‪.‬‬
‫ديارهم والعيش يف أرض ُم َ‬
‫(ميساء) لك ّنها متاسكت وسألته كأهنا مل تسمعه‪:‬‬
‫أجفان ْ‬‫ُ‬ ‫اختلجت‬
‫ْ‬
‫متجه ًم وصمت لوهلة‬
‫ّ‬ ‫نظر إليها‬
‫ضمنيا باجلريمة”‪َ .‬‬
‫ًّ‬ ‫ُ‬
‫حيمل اعرتا ًفا‬ ‫“كالمك‬
‫اسمها صخرة‬ ‫ثم قال‪“ :‬باملناسبة‪ ،‬الصخر ُة الرابضة بالقرب من هذا ّ‬
‫املقر ُ‬ ‫ّ‬
‫وكررت مجلتها ثانية‬ ‫الدويقة‪ ،‬هل تعرفنيَ ّ‬
‫قصتها؟”‪ .‬مل تر ّد عىل كالمه ّ‬
‫فتجاهلها وأكمل‪“ :‬هذه واحد ٌة من قصص الدّ ولة التي تدافعني عنها‪،‬‬
‫الدولة التي أجلأت أهلها للعيش يف جحو ٍر كتلك التي ختتبئون فيها اآلن‪،‬‬
‫وهذه الصخر ُة بالذات انفصلت عن اجلبل منذ أربعنيَ عا ًما‪ ،‬ودفنت أسفلها‬
‫حيرك‬ ‫ِ‬
‫تعاقبت احلكومات بعدها طيلة ثالثني عا ًما ومل ّ‬ ‫ما يقارب املائة‪...‬‬
‫احلكومة التي حتاربني من ِ‬
‫أجلها‬ ‫ُ‬ ‫حاكم ساكنًا إلصالح حال هؤالء الناس‪.‬‬
‫ٌ‬
‫تدير هذا البلد بشكل أسوأ ممّا يفعل النياندرتال”‪.‬‬
‫كمرتزقة كانت ُ‬
‫تسبه وتطلب منه‬
‫بقوة وهي ّ‬‫فقدت صربها حني نعتَها باملرتزقة‪ ،‬فصفع ْته ّ‬
‫ْ‬
‫ّ‬
‫والكف عن التفلسف والتنظري‪ .‬كانت تريد الدفاع‬ ‫اإلجاب َة عىل قدْ ر السؤال‪،‬‬
‫وإنا ضابط جم ّند برتبة مالزم يف جيش‬
‫عن نفسها وتقول ّإنا ليست مرتزقة‪ّ ،‬‬
‫فستموت وهي متي ّقنة من ّ‬
‫صحة ما تفعله‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وإنا لو ماتت وهي تقاتل‬
‫بلدها‪ّ ،‬‬
‫وإهنا إن ضحت ِ‬
‫بنفسها ستكون شهيد ًة يطلق ُ‬
‫اسمها عىل ميدان أو مدرسة‬
‫قص ُتها للتالميذ‪ ،‬وحتكي اجلدات عنها‬
‫وتدرس ّ‬
‫َّ‬ ‫يف القاهرة بعد طرد الغزاة‪،‬‬
‫األرشار وطردهتم‬
‫َ‬ ‫(ميساء) التي هزمت‬
‫عن ْ‬‫ألحفادهن حكاية قبل النوم؛ ْ‬
‫ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪72‬‬
‫من بالدها‪ ،‬وأعادت ملرص لقب مقربة الغزاة‪ .‬كانت تريد ْ‬
‫أن تدافع عن نفسها‬
‫االستجواب‪ ،‬وأهنا ينبغي أن ّ‬
‫تظل‬ ‫أن ذلك من املحرمات يف ْ‬ ‫لك ّنها تعلمت ّ‬
‫متحكمة يف املتهم‪ّ ،‬‬
‫وأل تعطيه فرصة الستفزازها وجعلها يف وضع َمن يربر‬ ‫ّ‬
‫أفعاله‪.‬‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪73‬‬
‫‪11‬‬
‫دراجة (باسل) تطارد مركب ًة هبا ٌ‬
‫ثالثة من املقاومني بني األبراج‬ ‫ُ‬ ‫انطلقت‬
‫السكنية‪ .‬أطلق (باسل) قذائفه وأطلقَ زميله قذائف أخرى‪ ،‬صدرت‬
‫هتتز بشدّ ة‪ ،‬و”باسل” وبرنام يقفان حوهلا‬‫أصوات قرقعة من املركبة‪ ،‬وبدأت ّ‬
‫يفجر املركبة‬
‫السهل أن ّ‬ ‫بضع طائرات دقيقة‪ .‬كان من ّ‬ ‫وتكمل احلصار معهام ُ‬
‫ريا واحدً ا عىل قيد احلياة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫األقل أس ً‬ ‫بمن فيها‪ ،‬ولك ّنه كان حيتاج عىل‬
‫َ‬
‫وترجل منها ثالثة؛ واحد من النياندرتال‬‫ّ‬ ‫انفتحت أبواب املركبة‬
‫ْ‬
‫وأرضيان‪ ..‬حت ّفز (باسل) وهو يتو ّقع األسوأ ففصائل املقاومة التي يكون‬
‫تطو ًرا من‬ ‫فيها أفراد من النياندرتال عاد ًة ما تكون معهم ُ‬
‫أكثر التقنيات ّ‬
‫الكوكب األم‪.‬‬
‫أن فيها غنيمة‬ ‫ٍ‬
‫واحد من الثالثة حيمل حقيب ًة عىل كتفه‪ ،‬يبدو ّ‬ ‫كان ّ‬
‫كل‬
‫اختطفها من الدّ اخل من رشكة حكومية يفرتض ّأنا رسية؛ خيتبئ خمزهنا‬
‫أي حركة‬ ‫يصوب سالحه نحوهم ّ‬
‫حمذ ًرا من ّ‬ ‫ُ‬ ‫ريفية‪ّ .‬‬
‫فكر‪ ،‬وهو‬ ‫وسط أبراج ّ‬
‫سكان القرية‪ ،‬وسيكون من‬ ‫ِ‬
‫وجود ُعمالء هلم بنيَ ّ‬ ‫مفاجئة‪ ،‬أنّه ال بدّ من‬
‫ُ‬
‫معرفة أسامئهم من هؤالء الثالثة‪.‬‬ ‫األسهل‬
‫ثم النزول عىل األرض‪ ،‬وعدم اإلتيان‬ ‫أمرهم بإلقاء حقائبهم ببطء‪ّ ،‬‬ ‫َ‬
‫بتوجس نحو الرشطيني‪ .‬ما‬
‫األمر وهم ينظرون ّ‬ ‫َ‬ ‫بحركة مفاجئة‪ ،‬ون ّفذ الثالثة‬
‫ٌ‬
‫أسطوانة‬ ‫املقاوم حقيبته ح ّتى رفع يدَ ه أمام وجهه وهبا‬
‫ُ‬ ‫إن أفلت النياندرتال‬
‫معدنية صغرية مهدّ ًدا بتفعيلها‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪74‬‬
‫كتفيه العريضني وذراعيه‬ ‫زميليه يرتدي ثيا ًبا تكشف ْ‬ ‫ْ‬ ‫كان عىل عكس‬
‫املكتظ بالعضالت التي تشبه العبي كامل‬‫ّ‬ ‫املَفتولني‪ ،‬وأعىل صدره املشْ عر‬
‫األجسام‪ ،‬يقف يف املنتصف بنيَ األرضيني وسط شارع بني الربجني‬
‫ِ‬
‫أعواده‬ ‫زراعات القمح األديتي الذي يتميز بارتفاع‬
‫ُ‬ ‫األخريين وخل َفه امتدّ ت‬
‫ِ‬
‫علت الدّ هشة وج َه الضابطني؛‬ ‫مرتين أو ثالثة‪“ .‬بالطبع تعرفان ما هذا”‬
‫متطور ًة تقوم عند تفعيلها‬
‫ّ‬ ‫دهشة خمتلطة بالقلق؛ فاألداة يف ِ‬
‫يده كانت قنبلة‬
‫زيم املدرع الذي لن‬‫كل األجهزة يف نطاق ثالثة كيلومرتات بام يف ذلك ّ‬ ‫بشل ّ‬
‫ّ‬
‫يكون مقاو ًما للرصاص بكفاءة‪.‬‬
‫وإل سأطلقها‪ ،‬وساعتها سيكون قتالنا‬ ‫نذهب يف طريقنا ّ‬ ‫ُ‬ ‫“اتركانا‬
‫سحق رأسيكام”‪ .‬جتاهل برنام هتديدَ ه وطلب‬ ‫قادرا عىل ْ‬‫باأليدي‪ ،‬وسأكون ً‬
‫َ‬
‫مقابل أن يرتكه يعيش‪ .‬مل يظهر عىل الرجل‬ ‫منه هبدوء أن يرتك القنبل َة من يده‬
‫رفع يديه ببطء ُمعنًا يف هتديده بإطالق القنبلة‪.‬‬ ‫أي بادرة لالستسالم‪ ،‬بل َ‬ ‫ّ‬
‫يغي املعادلة فأطلقَ فجأة قذيف ًة عىل قلب النياندرتال الذي‬ ‫حاول (باسل) أن ّ‬
‫حاول أن يتفاداها لكنها انغرست يف م ْف َصل كتفه األيمن‪ ،‬ما جعله يضغط‬ ‫َ‬
‫ك ّفه اليمنى بأمل ُم ً‬
‫عترصا القنبلة ومطل ًقا إياها‪.‬‬
‫هبب ٍة إلكرتونات خفيفة تشبه موج ًة من الكهرباء اإلستاتيكية‬ ‫شعر اخلمسة ّ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫ثم تنتهي‪ .‬سقطت الطائرات الدقيقة‬ ‫تعطي وخز ًة رسيعة‪ ،‬وتو ّقف الشعر ّ‬
‫ِ‬
‫وصمتت الدّ راجات‪ .‬كان‬ ‫كل املباين‪،‬‬‫األنوار يف ّ‬
‫ُ‬ ‫عىل األرض‪ ،‬وانطفأت‬
‫غريمه دون أن يتبني‬
‫َ‬ ‫ضوء القمر خاف ًتا يمنح رؤية ليلية تكفي ليبرص الواحدُ‬
‫هيجم عىل (باسل)‬
‫ُ‬ ‫األرضيني “اهربا” وهو‬
‫ّ‬ ‫بزميليه‬
‫ْ‬ ‫مالحمه‪ .‬رصخ النياندرتال‬
‫وزميله يف غضب عار ٍم‪ ،‬فقابله برنام ّأو ًل واشتبك معه‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪75‬‬
‫رسيعا نحو املزروعات‪ .‬وقف (باسل)‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫اختطف املقاومان حقيبتيهام وجر َيا‬
‫حائرا للحظة‪ ..‬هل يطاردمها أم يساعدُ زميله عىل التغلب عىل ذلك الوحش‪،‬‬
‫ً‬
‫قراره حني هتف به برنام بحزم‪“ :‬اذهب خلفهام؛ أنا كفيل به”‪.‬‬
‫حسم َ‬ ‫َ‬ ‫لكنه‬
‫حيب ذلك النوع من القمح الذي استحدث األديتيون‬ ‫كان (باسل) ّ‬
‫غذائيا كاف ًيا ّ‬
‫لكل أديتيا األرض من‬ ‫ًّ‬ ‫زراعته يف مرص‪ ،‬والذي ح ّقق خمزو ًنا‬
‫يضطر‬
‫ّ‬ ‫ينقلب احلب ً‬
‫بغضا حني‬ ‫ُ‬ ‫شامل‪ ،‬ومع ذلك‬ ‫القاهرة جنو ًبا ح ّتى إزمري ً‬
‫حقول القمح الذي كان ُيفي َمن يطاردهم‪ ،‬وجيعل‬‫ِ‬ ‫أحد يف حقل من‬ ‫ملطاردة ٍ‬
‫ريا‪.‬‬
‫اإلمساك هبم عس ً‬
‫تفرق الرجالن‪ ،‬كالمها ّاته ً‬
‫شامل لك ّنه ابتعد عن رفيقه فصارت بينهام‬ ‫ّ‬
‫رتا‪ .‬اختار (باسل) أحدمها وجدّ يف اجلري خلفه‬ ‫تقل عن مخسني م ً‬ ‫ٌ‬
‫مسافة ال ّ‬
‫وجهه‪ ،‬واألعواد‬
‫َ‬ ‫بالسنابل الناشئة التي ختمش‬
‫قوة‪ ،‬غري عابئ ّ‬ ‫يت من ّ‬‫بام أو َ‬
‫وقت قصري‪ ،‬فقد كان‬ ‫ٍ‬ ‫اقرتب من املقاوم يف‬
‫َ‬ ‫التي يتعثر يف بعضها أحيا ًنا‪.‬‬
‫نوعا ما‪.‬‬
‫يعبد له الطريق ً‬
‫ألن املقاوم الذي يتقدّ مه ّ‬ ‫َ‬
‫أسهل ّ‬ ‫طريقه‬
‫ريا استدار فجأ ًة وجرى يف اجتاهه‬ ‫بدنو (باسل) منه كث ً‬
‫املقاوم ّ‬
‫ُ‬ ‫حنيَ شعر‬
‫وهجم‬
‫َ‬ ‫بكل عنف‪ .‬سقط (باسل) عىل األرض‬ ‫ورض َبه بحقيبته يف وج ِهه ّ‬
‫صدغه األيمن‪ .‬شعر‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫لكامت متتابعة يف‬ ‫ومتكن من أن َ‬
‫يكيل له‬ ‫الشاب عليه ّ‬
‫ّ‬
‫بدأت تتسلل إىل وعيه‪ ،‬لك ّنه‬ ‫ٍ‬
‫وبدوخة ْ‬ ‫بأمل ٍ شديد يف رأسه ِمن توايل الرضبات‪،‬‬
‫فتأوه الرجل‬
‫املعطل‪ّ ،‬‬ ‫ِ‬
‫سالحه ّ‬ ‫مجه يف صدره بكعب‬‫استجمع قواه ورضب مها َ‬
‫َ‬
‫وحاول‬ ‫ضلعه بشدّ ة‪ ،‬لك ّنه أمسك برقبة (باسل)‬
‫يف أمل ٍ وقد أوجعت الرضبة َ‬
‫يب فلسطيني اللهجة‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بسباب عر ّ‬ ‫اعتصارها يف غيظ وهو هيتف‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪76‬‬
‫فكور قبضته بشدّ ة‬
‫أحس (باسل) بأنفاسه ختتنق‪ ،‬وبأمل ٍ جيتاح قصبتَه اهلوائية‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫ات متتالية ح ّتى سمع صوت‬ ‫مر ٍ‬‫بقوة يف املوضع نفسه ّ‬ ‫عىل ِ‬
‫كعب سالحه ورض َبه ّ‬
‫ُ‬
‫الرجل‬ ‫يرصخ من األمل‪ ،‬ويرخي قبضتَه من عىل رقبته‪ .‬نام‬ ‫ُ‬ ‫ضلع ينكرس‪ ،‬والرجل‬
‫ٍ‬
‫هجم (باسل) عليه‬ ‫َ‬ ‫عىل األرض وهو يتن ّفس بصعوبة من أمل ِ‬
‫ضلعه املكسور‪،‬‬
‫واستمر عراكهام ً‬
‫قليل ح ّتى تغ ّلب (باسل) عليه يف النهاية‬ ‫ّ‬ ‫فرض َبه الرجل ِ‬
‫بقدمه‪،‬‬
‫يقيده به فلم جيدْ ّإل الرشيط الذي حيمي به رقبته‪.‬‬ ‫َ‬
‫وبحث عن يشء ّ‬
‫ُ‬
‫الرجل فأمره (باسل)‬ ‫جيبه‬
‫“أنت فلسطيني؟” سأل (باسل) باستنكار فلم ْ‬
‫َ‬
‫ُ‬
‫يرصخ يف‬ ‫ٍ‬
‫بقسوة عىل ضلعه املكسور ما جعله‬ ‫السؤال وهو يرضبه‬
‫بالرد عىل ّ‬
‫أمل وهو ير ّد باإلجياب‪ .‬رض َبه (باسل) ثانية وهو يقول‪“ :‬هذه ألنّك حق ٌري‪ ،‬ناكر‬
‫ِ‬
‫ساوت‬ ‫غبي جاحدٌ فقد‬
‫أي فلسطيني يقاوم النياندرتال ّ‬ ‫للجميل”‪ .‬كان يعت ُرب ّ‬
‫أن ّ‬
‫ني اإلرسائيليني‪ ،‬وأعط ْتهم الفرص َة للعيش بسالم دون‬
‫احلكومة األديتية بينهم وب َ‬
‫أن النياندرتال صادروا‬ ‫حواجز ودون اضطهاد ومصادرة أراض وبيوت‪ .‬احلقيقة ّ‬
‫للزراعة‪ ،‬وهدموا البيوت‪ ،‬فقد جعلوا الفالحني يعيشون‬ ‫مجيع األرايض الصاحلة ّ‬
‫َ‬
‫برواتب ُمزية‪،‬‬
‫َ‬ ‫أرضهم (التي صارت ً‬
‫ملكا للدولة)‬ ‫يف أبراج حديثة‪ ،‬ويزرعون َ‬
‫وجعلت أهل املدن يعيشون بسال ٍم ال فرق بني فلسطيني أو هيودي أو أديتي‪.‬‬
‫أحرار‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫مجيل‪ ...‬نحن‬‫احلر استعباده ً‬
‫“أي مجيلٍ أهيا اخلائن! وهل يعترب ّ‬
‫ّ‬
‫َ‬
‫احتالل النياندرتال”‪ .‬قال‬ ‫َ‬
‫احتالل الصهاينة فنحن لن نقبل‬ ‫وكام مل نقبلِ‬
‫صفعه (باسل)‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫ضلعه املكسور‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بصوت مكتوم من أمل‬ ‫الرجل بحدة لكن‬
‫ِ‬
‫إطالق تلك الشّ عارات اجلوفاء التي يعلم يقينًا‬ ‫وهو يطلب منه أن ّ‬
‫يكف عن‬
‫تؤخر‪.‬‬
‫ّأنا مثل مقاومته الساذجة لن تقدم ولن ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪77‬‬
‫وقف ناص ًبا قامتَه ونظر حوله فلم َير ّإل أعواد القمح التي ترتاقص هبدوء‬ ‫َ‬
‫السمع لع ّله حيدّ د اجتاه املقاوم الثاين؛ لكنه مل‬
‫َ‬ ‫يف نسيم املساء الناعم‪ .‬أرهف‬
‫ُ‬
‫الرجل‬ ‫رفس‬
‫الفرار بمسافة كافية‪َ .‬‬ ‫َ‬ ‫يسمع شيئًا ِ‬
‫فمن الغالب أنّه قد استطاع‬
‫الرجل بصوت مكتوم‪“ :‬ال‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫بعنف طال ًبا منه الوقوف‪ ،‬فر ّد‬ ‫املكوم عىل األرض‬
‫بحسم‪“ :‬ستقوم‬‫ضلعه املكسور وهو يقول ْ‬ ‫أستطيع”‪ .‬رفسه ثانية بالقرب من ِ‬
‫هيا”‪.‬‬‫معي أو سأقتلك وأتركك تتع ّفن هنا‪ّ ،‬‬
‫يلكزه بني الفينة واألخرى حيثّه‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫متثاقل‪ ،‬وخل َفه (باسل)‬ ‫سار الرجل‬ ‫َ‬
‫بيده من أحد أعواد القمح الغليظة املرتفعة وأخذ‬ ‫عىل التقدّ م‪ .‬التقط سنبل ًة ِ‬
‫ً‬
‫مستقبل طي ًبا تنتظره‬ ‫يفرط حباهتا متأ ّم ًل حجمها الكبري وهو ّ‬
‫يفكر يف ّ‬
‫أن‬
‫وأن األرض بأكملها ستستفيدُ من وجود النياندرتال فيها ثانية؛‬‫هذه البالد‪ّ ،‬‬
‫مصدر الطاقة النظيف التي‬
‫ُ‬ ‫سيحافظون عىل موارد هذا الكوكب‪ ،‬وسيسمح‬
‫املناخ الذي تدهور‬‫َ‬ ‫الضارة‪ ،‬ويعدلون‬ ‫استحدثوه بالتقليل من االنبعاثات ّ‬
‫كل هذا ويأيت ُ‬
‫أمحق مثل الذي يرتنّح أما َمه ويتشدّ ق باحلرية وبمقاومة‬ ‫ريا‪ّ .‬‬‫كث ً‬
‫إن كان الغزاة عادلون وجيلبون اخلري معهم فمرح ًبا هبم‪ ،‬واللعنة ّ‬
‫كل‬ ‫الغزاة‪ْ ..‬‬
‫ينهب بني وطنه ويسومهم خس ًفا‪.‬‬‫ابن الوطن الذي ُ‬ ‫اللعنة عىل ِ‬
‫قال له أحدُ الشّ يوخ ذات مرة‪“ :‬حني كان تيمور لنك املغويل حيكم بال َد‬
‫عادل فيجب‬ ‫بأن احلاكم الكافر إذا كان ً‬
‫كثري من علامء الدين ّ‬
‫املسلمني أفتى ٌ‬
‫كافرا وغري ًبا مثل هؤالء القوم‬
‫برشعيته‪ ،‬وتيمور لنك كان ً‬
‫ّ‬ ‫طاع ُته واالعرتاف‬
‫احا‪ ،‬ومل يكن ً‬
‫عادل‪،‬‬ ‫أن تيمور لنك كان س ّف ً‬ ‫متا ًما”‪ .‬وحني قرأ التاريخ َ‬
‫عرف ّ‬
‫ومع ذلك وافقَ الكثريون عىل االنْصياع له‪ ،‬واألخذ بفتوى هؤالء العلامء‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪78‬‬
‫جالسا عىل ركبتيه يسندُ بيده‬‫ً‬ ‫ترك زميله فوجد برنام‬‫وصل إىل حيث َ‬ ‫َ‬
‫غريمه جثّة هامدة غارقة‬
‫خملوعا‪ ،‬ورأى َ‬ ‫ً‬ ‫اليرسى كت َفه األيمن الذي كان يبدو‬
‫متور ًما مزر ًّقا‪ ،‬وعينه اليرسى ُمق َفلة ّ‬
‫جراء‬ ‫وجه برنام ّ‬
‫يف بركة من الدّ ماء‪ .‬كان ُ‬
‫َ‬
‫ضحك برنام‬ ‫هائجا”‪.‬‬
‫ثورا ً‬ ‫كدمة كبرية‪ ،‬فقال يامزحه‪“ :‬يبدو أنّك صارعت ً‬
‫ثم فر َد جسده عىل األرض وهو يقول‪“ :‬دعني أنام‪ ،‬وال توقظني ّإل بعدَ‬ ‫ّ‬
‫املوجية وعودة‬
‫ّ‬ ‫الوقت املطلوب لزوال أث ِر القنبلة‬
‫َ‬ ‫ساعتني” وكان هذا هو‬
‫األجهزة للعمل‪.‬‬
‫بكل ما تعرف‪،‬‬ ‫ريه عىل األرض‪ ،‬وقال له‪“ :‬سوف ختربين ّ‬ ‫رمى (باسل) أس َ‬
‫املركبات التي ستعيدنا”‪ .‬بصقَ الرجل وهو‬
‫ُ‬ ‫سأضطر لتعذيبك ح ّتى تأيت‬
‫ّ‬ ‫أو‬
‫يسبه ويقول إنّه لن ينطقَ بكلمة‪ ،‬فام كان من (باسل) ّإل أنه طرحه ً‬
‫أرضا‬ ‫ّ‬
‫َ‬
‫وأسال‬ ‫وأمسك بخصلة من َش ْعره وشدّ ها بعنف ح ّتى َ‬
‫اقتلعها من جذورها‬
‫أجل زوجتي‪ ..‬أ ّما بالنسبة‬‫الدم من فروة رأسه وهو يقول هبدوء‪“ :‬هذه من ْ‬‫َ‬
‫بكل يشء”‪.‬‬‫تلو اآلخر ح ّتى ختربين ّ‬
‫سأقتلع أصابعك بأسناين واحدً ا َ‬
‫ُ‬ ‫يل فأنا‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪79‬‬
‫م ال ّثاني‬
‫القس ُ‬
‫ْ‬
‫مقاومة هجينة‬
‫الكفاح المس ّلح ليس غاية‪ّ ،‬‬
‫وأن‬ ‫َ‬ ‫“ينبغي ّأل ُتنسينا نشو ُة القتال ّ‬
‫أن‬
‫َ‬
‫تحصل على أكبر قد ٍر من‬ ‫االستشهاد ليس الهدف؛ إنّما الغاية هي أن‬
‫المكاسب لشعبك‪ ،‬بما ال يتصادم مع العدالة المنشودة”‬
‫ماندريك أندام‬
‫‪12‬‬
‫(ميساء) بعد‬
‫نتظرا عودة ْ‬
‫أريكة قديمة ُمهرتئة كان جيلس (سمري) ُم ً‬ ‫ٍ‬ ‫عىل‬
‫ُ‬
‫الغرفة أشبه بغرفة‬ ‫قبضت عليه‪ .‬كانت‬‫ْ‬ ‫أهنت حتقيقها مع الرجلِ الذي‬‫أن ْ‬
‫َ‬
‫جيلسون هبا حني ال يكون وراءهم شيئًا يفعلونه‪( .‬ضياء) ذهب إىل‬ ‫معيشة‬
‫َ‬
‫واآلخرون خلدوا للنوم‪ ،‬وبقي‬ ‫منزله يف مرص اجلديدة ليسرتيح الليلة وغدً ا‪،‬‬
‫منتظرا حبيبته‪.‬‬
‫ً‬ ‫هو‬
‫باحلب‪ ،‬أو يفكر فيه‪ ،‬كان يعترب أن‬ ‫ّ‬ ‫يؤمن‬
‫ُ‬ ‫(ميساء) مل يكن‬
‫قبل أن يعرف ْ‬ ‫َ‬
‫مهمته يف احلياة رعاي ُتها هي وبناته قبل أن‬ ‫زوجتَه هي نصي ُبه من الدنيا‪ّ ،‬‬
‫وأن ّ‬
‫وتفرق الدنيا بينهم‪ ،‬وتضع يف طريقه امرأ ًة مثل “ميساء”؛ فتاة من‬ ‫يأيت الغزو‪ّ ،‬‬
‫أهنن موجودات‬ ‫يظن ّ‬‫يشاهدهن يف التلفاز‪ ،‬وال ّ‬
‫ّ‬ ‫الغنية التي كان‬
‫بنات األحياء ّ‬
‫ٍ‬
‫بلهجة قاهرية رقيقة ختالطها أحيا ًنا‬ ‫أصل‪ .‬فتاة ترتدي ثيا ًبا عرصية‪ ،‬تتحدّ ث‬‫ً‬
‫ومن تعبريات عينيها‬ ‫يفهم معناها ّإل ِمن سياق الكالم‪ِ ،‬‬ ‫كلامت أجنبية ال ُ‬ ‫ٌ‬
‫شعرها األملس عىل ظه ِرها أحيا ًنا‪ ،‬وأحيا ًنا‬ ‫العسليتني الساحرتني‪ ،‬تسدل َ‬
‫شالل من العسل‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أن يشبه‬‫إن كان لذيل احلصان ْ‬ ‫تربطه كذيلِ احلصان ْ‬
‫يشعر أهنام وجهان‬
‫ُ‬ ‫ري منصفة‪ ،‬لكنه كان‬ ‫ُ‬
‫املقارنة بينها وبنيَ زوجته غ َ‬ ‫كانت‬
‫تصح العملة ّإل باكتامهلام‪“ .‬سمر” زوج ُته األنثى املطيعة‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫لعملة واحدة ال‬
‫ودخل البيت وغيابه الذي يتع ُبها‪،‬‬‫خيص األبناء ْ‬ ‫تشاكس فقط فيام ّ‬ ‫ُ‬ ‫التي‬
‫َ‬
‫الفارق بني‬ ‫و”ميساء” املرأة املستق ّلة املعتدّ ة بنفسها‪ ،‬املحاربة التي ال تدرك‬
‫فمشاعرها ال تظهر ّإل‬
‫ُ‬ ‫الرجل واملرأة‪ ،‬وتعامله معامل َة ال ّند‪ ،‬ح ّتى يف ّ‬
‫احلب‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪83‬‬
‫احلب ّإل حني تراه‬
‫ّ‬ ‫مشاعر ُماثلة‪ .‬ال تف ِرط يف كلامت‬
‫َ‬ ‫حني يظهر هو ً‬
‫أيضا‬
‫َ‬
‫خالل ثانيتني‬ ‫يستجب‬
‫ْ‬ ‫يقول مثلها أو أكثر‪ ،‬إذا وضعت رأسها عىل كتفه ومل‬
‫أي موضوع‬
‫وجتلس قبالته وختاطبه يف ّ‬
‫ُ‬ ‫بأن ير ّبت عليها يف املقابل تبعدُ رأسها‬
‫جاد‪.‬‬
‫جيرب ساقه التي بدأت يف التعايف بفعل‬
‫كوب ماء وهو ّ‬
‫قام ليحرض لنفسه َ‬
‫َ‬
‫الدّ هان األديتي الذي يستخدمونه لعالج اإلصابات‪ .‬عا َد وفر َد ظهره عىل‬
‫صوتيا يتلو عليه واحدً ا من الكتب ّ‬
‫املقرر عليه دراستها‪،‬‬ ‫ًّ‬ ‫فتح برناجمًا‬
‫األريكة‪َ ،‬‬
‫كجزء من املنهج التعليمي الذي تفرضه إدار ُة املخابرات عىل ّ‬
‫كل املقاتلني‬
‫التابعني هلا‪ .‬كتب ِ‬
‫عن التاريخ والسياسة واألدب‪ ...‬كفاح طيبة لنجيب‬
‫حمفوظ‪ ،‬الرفاعي جلامل الغيطاين‪ ،‬وا إسالماه لعيل أمحد باكثري‪ ،‬وغريها من‬
‫مئات من‬ ‫تسجل ً‬
‫نقاطا يف تاريخ كفاح املرص ّيني ضدّ املحتل‪ٌ .‬‬ ‫الروايات التي ّ‬
‫املحارضات التي جيب عليهم االستامع إليها يف العلوم العسكرية وتكتيكات‬
‫القتال وحرب العصابات وتاريخ الغزو‪.‬‬
‫كانت إحدى ا ُملحارضات تبدأ بتقرير قاعدة أنّك ال بدّ أن تفهم مدى قوة‬
‫ُ‬
‫املحارض يف بدايتها أن‬ ‫ّ‬
‫لتتمكن من التغلب عليه‪ ،‬ويؤكد‬ ‫عدوك‪ ،‬وتقدّ ر مميزاته‬
‫ّ‬
‫مدح األعداء بقدْ ر دراسة نقاط قوهتم وقدرهتم عىل التخطيط‪.‬‬ ‫َ‬
‫الغرض ليس َ‬
‫ِ‬
‫بمهامجة التجمعات العسكرية يف الوقت نفسه‬ ‫ّأو ُل يوم يف الغزو بدأوا‬
‫ِ‬
‫موجات احلامية التي متنع ح ّتى‬ ‫البوابات التي تصدر‬
‫ظهرت فيها ّ‬
‫ْ‬ ‫الذي‬
‫الذباب من املرور‪ .‬حني تغلبوا عىل جيوش ٍ‬
‫دول بأكملها يف أيام قليلة بثّوا‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪84‬‬
‫عدو ال يقهر‪ ،‬وبدأوا من‬
‫االنطباع ّأنم ّ‬
‫َ‬ ‫الرعب يف قلوب الكثريين‪ ،‬وأعطوا‬
‫َ‬
‫ضباط الرشطة عىل‬ ‫اليوم الرابع السيطرة عىل املنشآت الرشطية‪ ،‬أجربوا‬
‫اهللع اجلامعي‪ ،‬ومنع انتشار‬ ‫ّ‬
‫للتحكم يف الشارع والسيطرة عىل ِ‬ ‫العمل معهم‬
‫الفوىض والسلب والنهب‪.‬‬
‫وطائرات من ّ‬
‫كل الدول الكربى تقري ًبا‪ ،‬كانوا يسقطون‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫أساطيل‬ ‫هامجتهم‬
‫ّ‬
‫الطائرات ويغرقون املدمرات َ‬
‫قبل أن تقرتب منهم بأي شكل ح ّتى الصواريخ‬
‫بأكثر من ألف كيلومرت‪.‬‬
‫تنفجر قبل أن تصل إىل حدودهم َ‬
‫الباليستية كانت ّ‬
‫األهم لدى النياندرتال‬
‫ّ‬ ‫تكن هي نقطة التفوق‬ ‫ري ّ‬
‫أن التقنية املتقدمة مل ْ‬ ‫“غ َ‬
‫بل العمل اجلامعي”‪ .‬يقول املحارض وكأنّه ُيريس قاعدة من قواعد الكون‬
‫ًّ‬
‫مستدل ّ‬
‫بأن النياندرتال كانوا حيمون‬ ‫ِ‬
‫وجهة نظره‬ ‫يستطرد يف رشح‬
‫ُ‬ ‫األزلية‪.‬‬
‫ِ‬
‫حدود مستعمرهتم عىل امتداد آالف الكيلومرتات يف الوقت‬ ‫أسوارا عىل‬
‫ً‬
‫الشطية يف‬ ‫ِ‬
‫النقاط ّ‬ ‫نفسه‪ ،‬ويتحكمون يف الدّ اخل عن طريق إدارة آالف‬
‫مجاعي ُمدهش قدّ رت هيئات البحث يف األمم‬
‫ّ‬ ‫ري لإلعجاب‪ .‬عمل‬ ‫تزامن مث ٍ‬
‫َ‬
‫يعملون يف تناغم‬ ‫ِ‬
‫ثالثة ماليني شخص‬ ‫املتحدة عد َد املشاركني فيه بأكثر من‬
‫رشحه يف هذه النقطة وينهي املحارضة بقوله‪“ :‬إذا أر ْدنا أن‬
‫َ‬ ‫كامل‪ .‬ينهي‬
‫كل خالفات املايض‬ ‫هنزمهم فعلينا أن نقوم بالعمل اجلامعي نفسه‪ ،‬ننسى ّ‬
‫ٍ‬
‫كفريق واحد‪،‬‬ ‫وحروبه‪ ،‬ننسى أحقا َدنا العرقية والدينية والقومية‪ ،‬نحارهبم‬
‫البرش ضدّ النياندرتال‪ ..‬ال ّتقنية يسهل رسق ُتها وتقليدها والتغلب عليها‪ ،‬أ ّما‬
‫نقطة التحول التي ستفرق يف حلظات احلسم”‪.‬‬‫املتوحدة فهي ُ‬ ‫ّ‬ ‫تلك الروح‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪85‬‬
‫ِ‬
‫جرحه‬ ‫دخلت عليه “ميساء”‪ ،‬كان وجهها مغمو ًما‪ ،‬سألته عن حال‬ ‫ْ‬
‫صعوبات‪ ،‬فر ّدت باقتضاب‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫املهمة‪ ،‬وهل قابلتها‬
‫فأجاب أنّه بخري‪ .‬سأهلا عن ّ‬
‫احلديث عن أي يشء‪ ،‬ال مشاعرها وال‬ ‫َ‬ ‫تشعر أهنا ال تريد‬
‫ُ‬ ‫ثم صمتت كانت‬‫ّ‬
‫مريعا بعدَ التحقيق مع “حبيب”‪.‬‬ ‫شعورها ً‬‫ُ‬ ‫أحداث يومها‪ ،‬وال أي يشء‪ .‬كان‬
‫متنع‬
‫وأنا عىل اجلانب الصحيح‪ ،‬لك ّنها ال تستطيع أن َ‬ ‫كانت مؤمنة بقضيتها‪ّ ،‬‬
‫أبعاده‪ .‬لقد ُقتلت زوجته و ُقبض عليه‪ ،‬ومل‬ ‫ِ‬ ‫نفسها من جتريد املوقف من ّ‬
‫كل‬
‫ماتت بني يديه؛ بل ح ّققت‬‫ْ‬ ‫تعطه فرصة ح ّتى للحزن عىل حبيبة عمره التي‬‫ِ‬
‫مرة‪ ،‬كانت تشعر ّأنا ذلك املح ّق ٌق احلقري يف‬ ‫معه بعنف‪ ،‬وصفع ْته أكثر من ّ‬
‫ِ‬
‫اهتاممه بإمتام عمله‪.‬‬ ‫هيتم بحياة الناس قدر‬
‫األفالم القديمة الذي ال ّ‬
‫سأهلا (سمري) ثاني ًة وهو يمسك بيدها وير ّبت عليها فلم جتب‪ ،‬ليس لدهيا‬
‫نصف ذلك اليقني الذي يتمتع به (سمري) أو “ضياء”‪ ،‬أحيا ًنا تشعر أن سبب‬ ‫ُ‬
‫ثمة نساء أخريات‬ ‫قلق ِ‬
‫روحها هو ّأنا األنثى الوحيدة بينهم‪ ،‬وأنّه لو كان ّ‬
‫فال بدّ ّأنن كن سيشاركنَها القلق واهلواجس نفسها‪ .‬فاجأها (سمري) بقوله‪:‬‬
‫ِ‬
‫بدهشة َمن ينظر‬ ‫نظرت إليه‬
‫ْ‬ ‫“نحن ُ‬
‫أهل احلق يا “ميساء”‪ ،‬ال تنيس ذلك”‪.‬‬
‫“أصعب مواجهة يف جمال عملنا هي‬
‫ُ‬ ‫فأكمل ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫َ‬ ‫عراف يقرأ األفكار‪،‬‬ ‫إىل ّ‬
‫مواجهة أبناء بلدنا الذين يقاتلون عىل هواهم‪ ،‬والذين يظ ّنون ّ‬
‫أن املقاومة هي‬
‫جمرد وسيلة هلدف أسمى”‪.‬‬‫الغاية‪ ،‬وليست ّ‬
‫أن واضعيه‬ ‫ٍ‬
‫كتاب أهنى قراءته منذ أيام قليلة‪ ،‬ويبدو ّ‬ ‫رضب هلا األمثلة من‬
‫َ‬
‫وهم‬‫قاوم السوفييت جنود النازية ُ‬‫الشك هذه‪ .‬لقد َ‬ ‫كانوا ُيعاجلون مسألة ّ‬
‫ندافع عن بالدنا‬
‫ُ‬ ‫حتت ْني حكم أبشع ما يكون‪ ،‬ومل ينشقّ منهم ٌ‬
‫جيش ويقول‬ ‫َ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪86‬‬
‫أيام االستنزاف‪ ،‬وكان من‬
‫مجيعا َ‬
‫حارب املرصيون ً‬
‫َ‬ ‫بعيدً ا عن حكم ستالني‪.‬‬
‫ُ‬
‫يعرتف برشعية ثورة يوليو‪ ،‬وحارب‬ ‫حيب عبد النارص وال‬ ‫اجلنود َمن ال ّ‬
‫وحرروا سيناء‪ ،‬وكان فيهم َمن يمقت السادات بل ّ‬
‫إن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الكل يف أكتوبر‬
‫أنفسهم يف األعداء‬
‫وفجروا َ‬ ‫ٍ‬
‫جلنود اقتحموا األهوال ّ‬ ‫رضب ً‬
‫أمثال‬ ‫َ‬ ‫الكتاب‬
‫أن أهلهم كانوا ُمعتقلني يف سجون الدولة‪.‬‬‫رغم ّ‬
‫نضطر لفعله‬
‫ّ‬ ‫نظرت إليه بعني دامعة وهي تقول‪“ :‬وما رأ ُيك يف ما‬ ‫ْ‬
‫ملجرد أنه ال يتبع تعليامت‬
‫مرصي مقاوم ّ‬
‫ّ‬ ‫بمرص ّيني مثلنا‪ ..‬ما رأ ُيك يف قتل‬
‫مرصي مثلك لألعداء ليقوموا بإعدامه”‪ .‬فر ّد عليها وهو‬‫ّ‬ ‫الدولة‪ ،‬أو تسليم‬
‫يكن حتت لوائنا‪ ،‬لكن إذا‬
‫نحرتم كفاحه ح ّتى لو مل ْ‬
‫ُ‬ ‫يقرتب منها أكثر‪“ :‬املقاوم‬
‫سالح مقاومته ضدّ جنودنا‬
‫َ‬ ‫قام بفعل شنيع كهذا فينبغي عقا ُبه‪ ،‬وإذا استخدم‬
‫فعلينا إيقافه أو قتله”‪.‬‬
‫فانفجرت يف البكاء‪ ،‬ور ّبت هو عىل ظهرها ح ّتى‬
‫ْ‬ ‫ضمها يف تلك اللحظة‬ ‫ّ‬
‫هدأت‪ .‬اعترصتْه بذراعيها هي األخرى وهي تشعر أنّه اجلدار الوحيد‬
‫كل يوم بشجاعته‬ ‫يكف عن إدهاشها ّ‬ ‫الذي تستند إليه يف هذا العامل‪ ،‬إنّه ال ّ‬
‫وطيبة قلبه وقدرته عىل االحتواء‪ ،‬بل وبالثقافة التي يكتسبها يو ًما بعد يوم‪.‬‬
‫تضع‬
‫يذهب فيها لزوجته‪ ،‬وتقول لنفسها ّإنا ُ‬ ‫ُ‬ ‫تفكر أحيا ًنا يف األوقات التي‬ ‫ّ‬
‫رأسها عىل ذلك الصدر‬ ‫الصدر بأرحيية أكثر‪ .‬زوج ُته تضع َ‬ ‫رأسها عىل ذات ّ‬
‫ستتزوجه‬
‫ّ‬ ‫تفعل ذلك‪ ،‬ترى هل‬ ‫بدون حواجز‪ ،‬وهي ختجل من نفسها حني ُ‬
‫اختالسه بني حني‬
‫َ‬ ‫نفسه مع امرأة أخرى ً‬
‫بدل من‬ ‫وتتقاسم اجلدار َ‬
‫ُ‬ ‫يو ًما ما‬
‫وآخر؟‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪87‬‬
‫كالم كثري”‪ .‬أبعدت رأسها‬ ‫عم “عمر” بفارغ الصرب‪ ،‬فيل معه ٌ‬ ‫“أنتظر لقا َء ّ‬
‫“أي كالم‪ ...‬لن تستطيع تغيري أفكاره‬ ‫عن صدره وهي حتدّ ق فيه وتسأله‪ّ :‬‬ ‫ْ‬
‫ضحك (سمري) بصوت عال وهو‬ ‫َ‬ ‫مهام حاولت”‪.‬‬
‫وإقناعه بالعمل معنا ْ‬
‫ٍ‬
‫خاطب لوالد املرأة التي يريدُ‬ ‫ِ‬
‫حديث رجال‪ ...‬حديث‬ ‫يقول‪“ :‬أريده يف‬
‫أي عام تظ ّننا! كيف ّ‬
‫تفكر‬ ‫خطبتها”‪ .‬ابتعدت عنه وهي تسأله باستنكار‪“ :‬يف ّ‬
‫يف مفاحتة أيب هبذا األمر َ‬
‫دون أن تسألني عن رأيي”‪.‬‬
‫إعجاب ال ي ّتسق معه‪ ،‬سب ُبه ّأنا وجدته يقرأ‬‫ٌ‬ ‫استنكارها خيالطه‬
‫ُ‬ ‫كان‬
‫تساؤل يف رأسها دون أن‬ ‫ً‬ ‫أقل من ساعة؛ جييب‬ ‫للمرة الثانية خالل ّ‬
‫أفكارها ّ‬
‫ضمنيا‬
‫ًّ‬ ‫متفقي‬
‫ْ‬ ‫أظن أنّنا‬
‫بتلعثم‪“ :‬أنا كنت ّ‬ ‫فعلها‪ ،‬وأجاب ْ‬‫تسأله‪ .‬ارتبك لر ّد ِ‬
‫أتزوجك هكذا‬ ‫أحبك فهي تعني يف ُعريف أريد أن ّ‬ ‫عىل ذلك‪ ...‬مادمت قلت ّ‬
‫ببساطة‪ ،‬ولك ّنني أريد أن أطلبك ِمن والدك كام اعتدْ نا قبل الغزو‪ ...‬ال أعتقدُ‬
‫جردونا من معرفتنا باألصول”‪.‬‬‫أن النياندرتال قد ّ‬‫ّ‬
‫ُ‬
‫أفضل من منطقها‪ ،‬لك ّنها كالعادة‬ ‫أن منط َقه‬
‫أحست ّ‬
‫خجل وقد ّ‬ ‫ً‬ ‫امحر وجهها‬
‫ّ‬
‫جلست وهي تفكر يف الر ّد عليه‪ ،‬لكنها‬
‫ْ‬ ‫تقر بخطئها بتلك السهولة‪.‬‬ ‫مل ْ‬
‫تقبل أن ّ‬
‫تلعن ذلك الكريس ا ُملهرتئ الذي تنغرس ُزن ُربكاته‪ 1‬يف‬
‫قامت كامل ْلدوغة وهي ُ‬
‫دون أن يضع حشوة إضافية؛ “من الغبي‬ ‫مؤخرة َمن خيطئ‪ ،‬وجيلس عليه َ‬‫حلم ّ‬ ‫ِ‬
‫الذي أخذ احلشوة من عىل الكريس؟” ضحك (سمري) وهو يش ُري إىل األريكة‬
‫فوجدت احلشوة عىل املسند الذي يضع رأسه عليه‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫جيلس عليها‬
‫التي كان ُ‬

‫ملوي بشكل حلزوين‪ ،‬ي َّتخذ يف ُمتلف اآلالت و َمراتب‬


‫ّ‬ ‫ْبك أو الرفاص‪ُ :‬‬
‫سلك‬ ‫الزن ُ ُ‬
‫((( ّ‬
‫ِ َّ‬
‫األسة‪ ،‬وغريها‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪88‬‬
‫املهم أفاتح‬
‫وتأسفت‪ ،‬فر ّد عليها بحبور‪“ :‬ال عليك‪ّ ..‬‬‫نظرت إليه بخجل ّ‬ ‫ْ‬
‫تأجيل هذا املوضوع ملا بعدَ احلرب الشاملة؟”‪.‬‬ ‫َ‬ ‫عم (عمر)‪ ،‬أم تريدين‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫وتعقيدات أكثر‪ ،‬ويف نظرة أبيها وأ ّمها‬ ‫صمتت وهي ّ‬
‫تفكر يف احتامالت كثرية‬ ‫ْ‬
‫فعل زوجته األوىل‪ .‬هل ستحدُ ث‬ ‫متزوج‪ ،‬ور ّد ْ‬
‫ّ‬ ‫تقرر الزواج من رجلٍ‬
‫حني ّ‬
‫تفكر يف عرض‬ ‫احلرب ح ًّقا؟ ومتى؟ وهل سيخرجان منها عىل قيد احلياة؟‪ّ .‬‬
‫أي احلربني‬ ‫حربي؛ حر ًبا عائلية وحر ًبا عسكرية‪ ،‬وال تدري ُّ‬
‫ْ‬ ‫زواج يواجه‬
‫ستقتل تلك الزجية َ‬
‫قبل أن حتدث!‪.‬‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪89‬‬
‫‪13‬‬
‫خاصة حتافظ عىل حيوية برشهتا‪،‬‬ ‫املعطر ا ُمل ّ‬
‫جهز بمواد ّ‬ ‫محامها ّ‬
‫أهنت َكمريدا ّ‬
‫ْ‬
‫طبيعيا بعد انتهاء محلها‪،‬‬
‫ًّ‬ ‫وتساعد جلدَ ها عىل االحتفاظ بمرونته ليعود‬
‫وثدييها‬
‫ْ‬ ‫احلمم‪ .‬تأ ّملت بطنها املكور‬ ‫جدارا ً‬
‫كامل من ّ‬ ‫ً‬ ‫ووقفت أمام مرآة ّ‬
‫حتتل‬ ‫ْ‬
‫حلمل ذكر هجني يباركه ماجوها‪ ،‬والقلق من أن‬
‫بمزيج من الفخر ْ‬
‫ٍ‬ ‫املنتفخي‬
‫ْ‬
‫تغي شكلها من رغبة (باسل) هبا‪.‬‬
‫يقلل ّ‬
‫مجاعية مع صديقتني هلا من أيام‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫حمادثة‬ ‫قبل ّ‬
‫احلمم ُمنخرطة يف‬ ‫كانت َ‬
‫من عن آخر مستجدات حياهتن‪.‬‬ ‫رن أيامهن القديمة‪ ،‬ويتك ّل َ‬ ‫يتذك َ‬
‫الطفولة‪ّ ،‬‬
‫يدرس َن يف املعهد ِ‬
‫نفسه يف مدينة صغرية يف كوكبهم أديتيا‪ ،‬مدينة‬ ‫ْ‬ ‫كان الثالث‬
‫كاهن‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫واملوظفني البسطاء‪ .‬كمريدا كان أبوها‬ ‫سكاهنا من ا ُملزارعني‬
‫أغلب ّ‬
‫ُ‬
‫صديقتيها ال ّلتني تنتميان إىل‬
‫ْ‬ ‫رصفة عىل عكس‬ ‫دينية ْ‬
‫املدينة‪ ،‬وكانت تربيتها ّ‬
‫وتسمياهنا الكاهنة َكمريدا غ َ‬
‫ري ّأنا‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬
‫تداعبانا‪،‬‬ ‫عائالت غري متدينة‪ ،‬وكانتا‬
‫َ‬
‫االلتحاق بوظيفة يف‬ ‫عىل خالف املتوقع اجتهدت يف دراستِها‪ ،‬واستطاعت‬
‫أهم ُمساعدات السيدة هريمني‬
‫هيئة التحضري للعودة ومنها صارت اآلن من ّ‬
‫مسئولة العالقات اخلارجية يف احلكومة‪.‬‬

‫صديق ُتها األوىل تعيش عىل البحر يف سانيشا‪َ -‬فديل (مدينة كبرية عىل البحر‬
‫مصب النيل رشق رأس الرب)‪،‬‬
‫ّ‬ ‫متتدّ من ما كان يعرف بدمياط اجلديدة ح ّتى‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪90‬‬
‫أرضيا تعمل معه يف‬
‫ًّ‬ ‫تزوجت‬ ‫سياحيا وجتار ًّيا ًّ‬
‫مهم يف دولة أديتيا‪ّ .‬‬ ‫ًّ‬ ‫مركزا‬
‫صارت ً‬
‫جراء املكافأة‬ ‫إدارة املدينة‪ ،‬وأنجبت منه ولد ْين وبن ًتا‪ ،‬وتعيش يف ٍ‬
‫رغد من العيش ّ‬
‫اهلم‬
‫اهلجيني‪ .‬حياهتا ال ختلو من ّ‬
‫ْ‬ ‫التي تتل ّقاها من الدولة لقا َء إنجاب الولدين‬
‫أي مشاعر‪ ،‬وال يعتربها‬
‫بأي حال‪ ،‬كان ال يبادهلا ّ‬
‫يكن مثل (باسل) ّ‬ ‫فزوجها مل ْ‬
‫أن زواجهام حرصي‪ ،‬ودار‬ ‫وعرفت أنّه عىل عالقة بأرضية رغم ّ‬
‫ْ‬ ‫موجودة ً‬
‫أصل‪،‬‬
‫َ‬
‫الرجل الذي يعارش أكثر‬ ‫يرون‬
‫األرضيني الذين ْ‬
‫ّ‬ ‫النقاش بني الثّالث عن غرابة‬
‫أكثر من رجل فهي حمتقرة ومذمومة‪.‬‬ ‫من امرأة ً‬
‫رجل عاد ًّيا‪ ،‬أ ّما املرأة التي تعارش َ‬
‫أ ّما صديقتها الثانية فقدْ كانت تعيش حياهتا بدون أطفال‪ ،‬وبدون التزام‬
‫ري حرصي‪ ،‬ومع‬
‫زواجا غ َ‬
‫ً‬ ‫متزوج منها‬ ‫جتاه رجلٍ بعينه‪ .‬كان هلا ٌ‬
‫زوج أديتي‪ّ ،‬‬
‫الزواج قبل اهلجرة إىل األرض‪ .‬أ ّما‬ ‫ْ‬
‫يعرف أحدمها عالقة خارج ّ‬ ‫ذلك مل‬
‫األرضيات بشكل غريب جعلها‬ ‫ّ‬ ‫زوجها ُمنجذ ًبا إىل‬
‫بعدها‪ ،‬فقد وجدت َ‬
‫أن تعامله معامل َة ال ّند‪.‬‬
‫ملجرد ْ‬
‫أرضيني ّ‬
‫ّ‬ ‫مع‬‫هي األخرى تنخرط يف عالقات َ‬
‫ألنا كانت ِمن معاريض الفكرة ِمن أساسها‪،‬‬ ‫ني ّ‬‫إنجاب هج ٍ‬
‫َ‬ ‫كانت ترفض‬
‫ألن أحواهلا املعيشية كانت سيئة للغاية يف كوكبِها األم‪َ ،‬‬
‫ومع‬ ‫وهاجرت فقط ّ‬
‫وأنجبت منه طفل ًة‬
‫ْ‬ ‫رغدة عىل األرض‪ ،‬هاجرت مع زوجها‬ ‫ٍ‬
‫بحياة ْ‬ ‫الوعد‬
‫اإلنجاب من أريض رغم إحلاح زوجها الذي يرى‬
‫َ‬ ‫واحدة‪ ،‬وال تزال ترفض‬
‫يف ذلك فرص ًة لزيادة دخلهم كأرسة‪.‬‬
‫سبب متيز حياهتا‬
‫أن َ‬‫جتمعهن عىل التأكيد عىل ّ‬
‫ّ‬ ‫ترص كمريدا يف ّ‬
‫كل حمادثة‬ ‫ّ‬
‫عنهام هو رضا ماجوها عنها‪ ،‬وكانتا متزحان معها وتقوالن ّ‬
‫إن ماجوها نفسه‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪91‬‬
‫وإن الكون أحيا ًنا يرتّب نفسه لألنقياء ليجزهيم‬ ‫ال يمتلك ًّ‬
‫حظا طي ًبا مثلها‪ّ ،‬‬
‫اخلري حقّ نقائهم‪.‬‬
‫بأي يشء لتمضية‬ ‫نفسها ّ‬
‫محامها أن تشغل َ‬‫حاولت كمريدا بعدَ انتهاء ّ‬
‫ْ‬
‫أشباح القلق‪ .‬جلست عىل مقعد‬
‫َ‬ ‫زوجها‪ ،‬ولتبعد عن ذهنها‬
‫الوقت ح ّتى يعود ُ‬
‫َ‬
‫نصف اجلدار املقابل بأمر‬ ‫حتتل‬ ‫ِ‬
‫غرفة نومها‪ ،‬وفتحت شاشة تلفاز ّ‬ ‫وثري وسط‬
‫تأمر الشّ اشة بفتح ٍ‬
‫قناة تلو األخرى بمللٍ حقيقي‪ ،‬وبقلق ال‬ ‫صويت وأخذت ُ‬
‫يفارق أنفاسها‪.‬‬
‫صوت الباب اخلارجي يفتَح‪ ،‬فقامت ُمبتهجة مرسعة نحو‬ ‫َ‬ ‫سمعت‬
‫بالذراع اليمنى بينام كانت الذراع اليرسى‬ ‫مفتوحا ّ‬
‫ً‬ ‫حضنه الذي وجدته‬
‫ُمسكة بحقيبة كبرية‪ّ .‬قبلته بعمق‪ ،‬قبل ًة أفرغت فيها قل َقها عليه وهلفتها لرؤيته‬
‫أجلسها عىل كرسيها وفتح‬‫َ‬ ‫ثم‬ ‫َ‬
‫ارتبطا‪ّ .‬قبلها بدوره ّ‬ ‫وهي هلفة ال تفارقها منذ‬
‫ِ‬
‫خصالت َش ْعر‬ ‫أربع‬
‫حقيبته وأخرج علبة صغرية‪ ،‬فتح ْتها فوجدت فيها َ‬
‫أسهتم؟” فر ّد‬
‫ثم سألته‪“ :‬قتلتهم أم َ ْ‬ ‫مغ ّلفة بعناية‪ّ ،‬قبلته عىل خدّ ه حني رأهتا ّ‬
‫عليها‪“ :‬اخلصلة املختلطة بدم هذه ألسري‪ ،‬أ ّما الباقون فقد قتلتهم”‪.‬‬
‫لوحا من البالستيك‬‫تناولت منه ً‬
‫ْ‬ ‫ريا‬ ‫ٍ‬
‫بسعادة تفتح دوال ًبا صغ ً‬ ‫قامت‬
‫ري من خصالت الشّ عر‪ ،‬وألصقت عليه اخلصل َة‬ ‫املبطن‪ ،‬ملصق عليه الكث ُ‬
‫تناولت من الدوالب ِ‬
‫نفسه وعا ًء يشبه‬ ‫ْ‬ ‫املأخوذة من األسري وهي تتمتم‪.‬‬
‫الطالسم إىل حدّ كبري‪ ،‬أزالت غطا َء الوعاء‬
‫َ‬ ‫املبخرة مز ّينًا بنقوش أديتية تشبه‬
‫رمت فيه‬
‫ْ‬ ‫ّ‬
‫مزرق اللون‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫بلهب‬ ‫فتوهج داخله‬
‫ّ‬ ‫ثم ملست جز ًءا من جداره‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫بتشكيالت‬ ‫أصابع يدها اليمنى‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫وتشكل‬ ‫تباعا وهي تر ّدد متتامهتا‬
‫اخلصالت ً‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪92‬‬
‫ريا‬ ‫كمن يتأمل ً‬
‫طفل صغ ً‬ ‫مهمتها‪ ،‬و(باسل) يتأ ّملها ُم ً‬
‫بتسم َ‬ ‫ُمتلفة ح ّتى ْ‬
‫أهنت ّ‬
‫يعدّ د ألعابه بحرص كأهنا كنوز ثمينة‪.‬‬
‫اقرتبت منه ببطء وهي تقول يف دالل‪“ :‬عزيز القلب‪ ،‬ماذا تريد من أجل‬ ‫ْ‬
‫يلثم شفتيها ويقول‪“ :‬أريدُ ك أنت‪ ،‬ولكن‬ ‫اقرتب منها بدوره وهو ُ‬
‫َ‬ ‫العشاء؟”‪.‬‬
‫بنهم حقيقي غري مصطنع‪،‬‬ ‫ُ‬
‫أغسل جسدي من آثار املطاردة”‪ .‬كان يريدُ ها ٍ‬ ‫دعيني‬
‫بقوة ‪“ :‬أنا أريدُ لغبار املعركة أن يكون جز ًءا‬
‫تضمه ّ‬
‫تشعر به‪ ،‬قالت وهي ّ‬‫وكانت ُ‬
‫ُ‬
‫تنسحق ثانية بيننا”‪.‬‬ ‫أشعر ببقايا أرواح قتالك وهي‬
‫َ‬ ‫من لقائنا‪ ،‬أريد أن‬
‫كان معتا ًدا عىل ِ‬
‫مزاجها الغريب ذلك‪ ،‬وكان يراه جز ًءا من كينونتها التي تعترب‬
‫حبيسا يف تلك‬
‫وأن اجلزء األكرب من أرواحهم يكون ً‬ ‫دينيا‪ّ ،‬‬
‫قتال املقاومني واج ًبا ًّ‬
‫أن طقوس حرقها تلك تأخذ القوة الباقية من‬ ‫اخلصالت التي حترقها‪ ،‬وتعتقد ّ‬
‫وتود ُعها يف جسد (باسل) حبيبها الذي خ ّلص العامل من رشورهم‪.‬‬ ‫تلك األرواح ِ‬
‫ٍ‬
‫امرأة يف حياته؛ عرف قب َلها نساء أخريات‪ ،‬وكان يف بداية‬ ‫تكن ّأول‬
‫مل ْ‬
‫وعر ٍق آخر معه يف‬ ‫ٍ‬
‫كوكب آخر‪ْ ،‬‬ ‫ري مستوعب لوجود امرأة من‬ ‫ِ‬
‫زواجهام غ َ‬
‫واألضواء خافتة تنعكس‬
‫ُ‬ ‫بيت واحد؛ بل إنّه أحيا ًنا كان جيفل حني يراها ً‬
‫ليل‬
‫عىل مالمح وجهها غري املعتادة‪.‬‬
‫نافر منها‪ ،‬يتعامل معها كأهنا‬
‫شهور تلو األخرى من زواجهام وهو ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫مضت‬
‫ْ‬
‫خاصة ّأنا تعمل يف‬
‫ليحتفظ بموقعه بني النياندرتال‪ّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫مهمة مفروضة عليه‪،‬‬ ‫ّ‬
‫حيركها إعجاهبا‬
‫دون أن ختربه‪ ،‬تصرب عىل جفائه‪ّ ،‬‬ ‫مهمة‪ .‬كانت تشعر به َ‬ ‫وظيفة ّ‬
‫به‪ ،‬وأمني ُتها أن يرغب هبا يو ًما ما ح ًّقا ال تص ّن ًعا‪ .‬اعتادها مع الوقت واستطاعت‬
‫األمر هو أنه كان خال ًيا باألساس‪.‬‬
‫سهل َ‬ ‫أن جتدَ لنفسها مكا ًنا يف قلبه متتلكه‪ ،‬وما ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪93‬‬
‫أحب فكرة أن يكون له ٌ‬
‫طفل منها‬ ‫ُ‬
‫احلمل ّ‬ ‫أحبها‪ ،‬وحني وقع‬ ‫شيئًا فشيئًا ّ‬
‫سيعزز موقفه يف املجتمع األديتي‬
‫ّ‬ ‫ألن الطفل اهلجني‬ ‫ألهنا حبيبته وليس ّ‬
‫اهتاممها‬
‫ُ‬ ‫وأثار دهشته‬
‫َ‬ ‫طقوسها الدينية الكثرية‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تضايقه‬ ‫الناشئ‪ .‬كانت‬
‫بمواعيد صالته‪ ،‬وتصوم معه يف ِ‬
‫أثناء اليوم يف‬ ‫ِ‬ ‫بطقوسه هو؛ كانت ُت َذكره‬
‫رمضان‪ ،‬واحتفلت معه يوم العيد‪ ،‬ومت ّنت لو ّ‬
‫أن له عائلة يتزاورون معهم يف‬
‫هذه األيام‪.‬‬
‫يو ًما سأهلا كيف تكون مؤمن ًة بدينها هبذا العمق‪ ،‬وترى أنّه هو احلقيقة‬
‫ستضل أرواحهم يف الظلامت‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وأن أصحاب الديانات األخرى‬ ‫ا ُملطلقة‪ّ ،‬‬
‫ومع ذلك تساعدُ ه عىل االلتزام بدينه‪ ،‬فقالت‪“ :‬أنا ال أساعدُ ك عىل االلتزام‬
‫أطلب من ماجوها‬‫ُ‬ ‫أحبك‪ ،‬وأحيا ًنا‬
‫بدينك‪ ،‬أنا أحرتم دينك وطقوسه ألنّني ّ‬
‫ضحك يومها وقال هلا‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬
‫لدين آخر”‪.‬‬ ‫روحك ويغفر لك اعتنا َقك‬ ‫أن ينري َ‬
‫أن يرتكني يف حايل”‪.‬‬ ‫“اشكري ماجوها بال ّنيابة ع ّني‪ ،‬وقويل له ْ‬
‫ُ‬
‫اختالف الدين يقلقه‪ ،‬ح ّتى يف بداية زواجهام‪ ،‬لكن الطقوس الدينية‬ ‫مل ِ‬
‫يكن‬
‫مسلم من عائلة مسلمة ّإل ّأنا مل‬
‫ً‬ ‫الكثرية كانت تضايقه دو ًما؛ فهو ْ‬
‫وإن كان‬
‫متحر َر‬
‫ّ‬ ‫رجل‬ ‫ري حمجبة‪ ،‬وأبوه ً‬ ‫تكن عائل ًة ملتزمة أو متح ّفظة‪ ،‬كانت ُّأمه غ َ‬
‫دينيا وناقدً ا لاللتزام “الديني الكالسيكي”‬ ‫بقوة للمتشدّ دين ًّ‬ ‫الفكر‪ ،‬نا ًقدا ّ‬
‫سبب ضيقه من التزامها الشديد‬ ‫عىل حدّ تعبريه‪ .‬ربام كانت تربي ُته تلك هي َ‬
‫املسفني يف االلتزام اإلسالمي من معارفه‪.‬‬ ‫بدينها‪ ،‬فقد كان قبل الغزو ينتقد ْ‬
‫القادم بقدر ما كان يقلقه أحيا ًنا ّأنا قد‬
‫ُ‬ ‫أي دين سيتبعه ابنه‬‫يكن يشغل باله ُّ‬
‫مل ْ‬
‫االلتزام الديني املبالغ فيه‪.‬‬
‫َ‬ ‫تغرس فيه ذلك‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪94‬‬
‫بعدَ أن نامت عىل ذراعه يف النهاية َ‬
‫قام من الفراش بعد أن سحب ذراعه‬
‫َ‬
‫فتناول لقيامت بسيطة ونصف‬ ‫حتت رأسها ّ‬
‫بكل هدوء‪ ،‬وذهب إىل املطبخ‬ ‫من ِ‬
‫ليسجل تقريره عن عمليات‬
‫ّ‬ ‫اخلاص به‬
‫ّ‬ ‫جلس أمام جهاز األرشفة‬
‫َ‬ ‫ثم‬
‫تفاحة‪ّ ،‬‬
‫اليوم ونتائج حتقيقه مع األسري‪.‬‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪95‬‬
‫‪14‬‬
‫تدخل الغرفة التي أحرضوا فيها‬‫ُ‬ ‫نفسا عمي ًقا وهي‬
‫(ميساء) ً‬ ‫أخذت ْ‬
‫ْ‬
‫نجحت بصعوبة‬
‫ْ‬ ‫شخصيا منها‬
‫ًّ‬ ‫ُ‬
‫املقابلة طل ًبا‬ ‫(معاذ) لتتحدّ ث معه‪ .‬كانت تلك‬
‫ِ‬
‫فتحت الباب اخلشبي ا ُملفيض للغرفة‬ ‫يف إقناع العقيد (عامد) باملوافقة عليه‪.‬‬
‫ثامنينيات القرن املايض‪ ،‬متلؤها‬
‫ّ‬ ‫بالطات تعود إىل‬
‫ٌ‬ ‫أرضيتَها‬
‫ّ‬ ‫العتيقة التي تكسو‬
‫الرشوخ والقطع املفقودة‪.‬‬
‫بساط قديم من الكليم‪ ،‬ومستندً ا بظهره إىل احلائط ذي‬ ‫ٍ‬ ‫جالسا عىل‬
‫ً‬ ‫كان‬
‫اخلشبية املوجودة بالغرفة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫جلست أمامه ُمتجاهلة الكرايس‬‫ْ‬ ‫الدهان اجلريي‪.‬‬
‫شعرت هبا خترتق‬
‫ْ‬ ‫عتاب عميق دون أن يتك ّلم؛ نظرة‬‫ٌ‬ ‫عينيه‬
‫نظر إليها ويف ْ‬
‫دماغها وترفع صوت تد ّفق الد ِم داخله‪ ،‬وتربك ترتي َبها للكلامت التي هي‬‫َ‬
‫ناتج عن فعل ّ‬
‫أقل‬ ‫عينيه ٌ‬ ‫عىل وشك قوهلا‪ ،‬فذلك العتاب احلزين الذي يمأل ْ‬
‫بكثري من ما هي عىل وشك فعله‪.‬‬
‫حنيَ استدعاها العقيد (عامد) صبيح َة اليوم‪ -‬وهو اليوم الثامن منذ‬
‫وأنم‬
‫بأنم فشلوا يف إحضار امل ّتهم الرابع‪ّ ،‬‬ ‫ربها ّ‬‫اختطاف (معاذ)‪ -‬أخ َ‬
‫تتم‬
‫وإل لن ّ‬ ‫مع الثالثة اآلخرين‪ّ ،‬‬ ‫ُمربون عىل تسليم (معاذ) للنياندرتال َ‬
‫ربها ألنّه يعلم ّأنا تشعر بالذنب‬ ‫ُ‬
‫املوافقة عىل إطالق رساح والدها‪ .‬كان خي ُ‬
‫ريا‪،‬‬
‫أفظع كث ً‬
‫شعورها بالذنب َ‬ ‫ُ‬ ‫أن يكون‬‫جتا َه اختطاف (معاذ)‪ ،‬ومن الطبيعي ْ‬
‫ريا يف إقناع‬
‫يعولون عليها كث ً‬
‫فهم ّ‬
‫وهو ما ال يريده منها يف املرحلة القادمة‪ُ ،‬‬
‫والدها باالنْضواء حتت لواء الدولة املرصية ومقاومة الغزاة كمقاتلٍ يف جيش‬
‫عبثي يرضب هنا وهناك بدون جدوى‪.‬‬ ‫بلده‪ ،‬وليس كمقاوم ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪96‬‬
‫أمر ال يعرفه ّإل الصفوة يف قيادة اجليش واملخابرات‬ ‫“ما سأخربك به ٌ‬
‫إلثقال كاهلك بذلك الرس”‪ .‬قال هلا وحاجباه ُمنعقدان يف‬ ‫ِ‬ ‫مضطر‬
‫ّ‬ ‫لكنني‬
‫تسمعه بالكاد‪ .‬بدأ كال َمه بمقدّ مة‬
‫ُ‬ ‫جد ّية شديدة‪ ،‬وصو ُته ينخفض إىل مستوى‬
‫تقف مكتوفة‬ ‫وأن الدولة ال يمكن أن َ‬ ‫عن عبء احلرب وعن تضحياهتا‪ّ ،‬‬
‫حكم ُمتل‪ّ ،‬‬
‫وأن‬ ‫ٍ‬ ‫وأرضها مغتصبة وأبناؤها مرشّ دوين‪ ،‬أو حتت‬ ‫ُ‬ ‫األيدي‬
‫مهام كان العدو وقدراته‪.‬‬
‫مفر منها ْ‬ ‫احلرب ال ّ‬
‫َ‬
‫تنتظر‬
‫ُ‬ ‫رب حماول ًة أن حتافظ عىل مالمح وجهها ثابتة وهي‬
‫تنهدت يف فراغ ص ٍ‬
‫ّ‬
‫سيغي وجه َة نظرها يف تسليم (معاذ) بعدَ أن وعدوه بإطالق‬
‫ّ‬ ‫الس الذي‬
‫ذلك ّ‬
‫درجات احلرارة يف أعىل‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫الصيف القادم حني تكون‬ ‫ِ‬
‫رساحه‪“ .‬يف منتصف‬
‫سينضمون إلينا ِمن تابعي‬
‫ّ‬ ‫معدالهتا سوف نبدأ اهلجوم‪ ..‬ستقومون أنتم و َمن‬
‫والدك وأصدقائه من النياندرتال ُمناهيض الغزو بالتمهيد له”‪.‬‬
‫حمطة شديدة احلراسة يف‬‫نحو ثالث آالف ّ‬ ‫َ‬
‫تعطيل ْ‬ ‫ُ‬
‫اخلطة تقتيض‬ ‫كانت‬
‫جدار احلامية املحيط باألرايض‬
‫َ‬ ‫املحطات التي حترس‬
‫ُ‬ ‫وقت واحد‪ ،‬وهي‬
‫كل البالد عىل عدّ ة حماور تشارك‬‫هجوم ّبري يف ّ‬
‫ٌ‬ ‫يتم‬
‫املحتلة‪ ،‬وبعدها مبارشة ّ‬
‫أضاف وهو يتأمل‬‫َ‬ ‫دول كربى‪.‬‬‫فيه قوات من الدول املحت ّلة‪ ،‬ومن عدّ ة ٍ‬
‫تنتظر اإلفراج عن‬
‫ُ‬ ‫إن َ‬
‫دول العامل كلها‬ ‫ِ‬
‫تعبريات اإلثارة عىل وجهها‪“ :‬ال أقول ّ‬
‫مهم يف آلة كبرية‪ ،‬كام أنّنا كمرص ّيني‬
‫ترس ّ‬‫أبيك لتسهيل تلك احلرب‪ ،‬لك ّنه ٌ‬
‫أصحاب أكرب تعداد من الناس يف األرايض املحت ّلة‪ ،‬ونريد أن يكون هناك‬
‫مرصي يف واجهة مقاومي الداخل املحتل”‪.‬‬
‫ّ‬
‫االنتصار بالشعب‪ ،‬ونسب‬
‫َ‬ ‫أيضا‪ّ -‬‬
‫أن الدولة املرصية تريد‬ ‫أخربها‪ً -‬‬
‫ٍ‬
‫بمكسب‬ ‫وأن املوجودين يف مراك ِز صنع القرار ال ّ‬
‫هيتمون‬ ‫االنتصار له‪ّ ،‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪97‬‬
‫منذ فجر التاريخ؛ دول ًة واحدة‬ ‫ِ‬
‫بإعادة مرص كام كانت ُ‬ ‫قدر اهتاممهم‬
‫سيايس َ‬
‫رب ٌر هبذه‬
‫للعدو م ّ‬
‫ّ‬ ‫تسليم أبنائنا‬
‫ُ‬ ‫سيدي‪ ،‬وهل‬
‫كاملة األرض‪ .‬سألته‪“ :‬معذرة ّ‬
‫الطريقة”‪ .‬سأهلا هو يف املقابل عن عدد َمن ماتوا ح ّتى اآلن‪ ،‬واملقاومني‬
‫ضحوا بأرواحهم‪ ،‬وعن عرشات اآلالف من اجلنود الذين‬ ‫زمالئها الذين ّ‬
‫كل ذلك فإننا‬ ‫ثم قال‪“ :‬ورغم ّ‬ ‫سيضحون بأرواحهم يف احلرب الكربى‪ّ ،‬‬‫ّ‬
‫قاض م ّنا يراقب‬ ‫ٍ‬
‫أن خيضعوا ملحاكمة عادلة‪ ،‬وعىل وجود ٍ‬ ‫اتّفقنا معهم عىل ْ‬
‫ّ‬
‫ويتأكد من نزاهتها”‪.‬‬ ‫املحاكمة‬
‫األقل أخربته‬‫ّ‬ ‫بكل يشء‪ ،‬ولك ّنها عىل‬ ‫تكن تقدر عىل إخبار (معاذ) ّ‬ ‫مل ْ‬
‫أن (معاذ)‬ ‫بموضوع املحاكمة العادلة والقايض املرصي املراقب‪ .‬العجيب ّ‬
‫أي ر ّد فعل‪ ،‬فقط تلك النظرة ا ُملعاتبة يف عينيه‪ ،‬نظر ٌة جامدة مل تتغري‬
‫يصدر ّ‬
‫ْ‬ ‫مل‬
‫التوسل دون‬
‫ّ‬ ‫أقرب إىل‬
‫َ‬ ‫ٍ‬
‫بلهجة‬ ‫طوال حديثها‪“ .‬باهلل عليك تك ّلم” قالت له‬
‫وموقعه يف تلك املحاورة‪ .‬ر ّد عليها هبدوء وهو يمسح دمع ًة‬ ‫ِ‬ ‫مراعاة ملوقعها‬
‫(ميساء)‪ ،‬وأنا أستحقّ ما سيحدث يل أ ًّيا يكن‪ ..‬ما‬
‫خان ْته‪“ :‬لقد أجرمت يا ْ‬
‫الستدراجي هنا؛ أنا‬ ‫طاهرا بريئًا ْ‬
‫ً‬ ‫أحزنني فقط هو أنّك استغللت ماض ًيا‬
‫أستحقّ أقسى عقاب عىل ما فعلت لكن اغتيال ذكريات طفولتي ليس من‬
‫أي إنسان”‪.‬‬
‫حقّ ّ‬
‫إن مسحة من االرتياح خالطت‬ ‫بالذنب‪ ،‬بل ّ‬ ‫مل يز ْد كالمه من شعورها ّ‬
‫أي عقاب يو ّقع عليه‪ ،‬وأنّه يستح ّقه‪ .‬اعتذرت له عن‬
‫قلبها حنيَ قال إنه يتقبل َّ‬
‫وإنا رأت غريها يقومون‬
‫أوامر قادهتا‪ّ ،‬‬
‫َ‬ ‫جمرد جندية تطيع‬
‫كذبتها وقالت ّإنا ّ‬
‫قديم ّ‬
‫ضل طريقه‪.‬‬ ‫جمرد الكذب عىل حبيب ٍ‬ ‫ريا من ّ‬ ‫ٍ‬
‫بتضحيات أكثر كث ً‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪98‬‬
‫خرجت من عنده وهي تتن ّفس الصعداء‪ ،‬وقفت يف الصالة الصغرية التي‬ ‫ْ‬
‫بدل من أن تعود إىل غرفتها‪ ،‬أن تدخل إىل‬ ‫وقررت ً‬‫تطل عىل ثالث غرف‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫خشب قديم تفوح‬ ‫ٍ‬ ‫املطبخ لتعدّ ِ‬
‫لنفسها كو ًبا من القهوة‪ .‬كان املطبخ ضي ًقا من‬
‫طول الوقت‪ ،‬وأدوا ُته تعود إىل ما قبل عرشين عا ًما‪ .‬مل يكن‬ ‫منه رائحة رطبة َ‬
‫نظر أحد‪ ،‬ورغم أهنم‬ ‫تلفت َ‬ ‫مسموحا هلم إحضار ْجتهيزات يف تلك البيوت ُ‬ ‫ً‬
‫أن إدخال األثاث‬ ‫كل فرتة قصرية ّإل ّ‬ ‫حيرضون تقنيات متقدمة ملَخابئهم ّ‬
‫ُ‬
‫اجلريان املساكني الذين‬ ‫بحجة أنه الفت لنظر اجلريان أكثر‪.‬‬ ‫ممنوع ّ‬
‫ٌ‬ ‫اجلديد‬
‫حل لتحسني أوضاعهم‪.‬‬ ‫قال عنهم (حبيب) إنّه مل ختلق حكومة تبحث عن ٍّ‬
‫بسياج‬
‫ٍ‬ ‫كل عشوائيات املدن الكربى‬ ‫ساءت األمور باالحتالل الذي أحاط ّ‬ ‫ِ‬
‫أي اهتامم بإدخال خدمات هلا سوى حفظ‬ ‫من طائرات املراقبة فقط دون ّ‬
‫يتم عن طريق الطائرات التي تطلق قذائفها عىل أي شخص‬ ‫األمن الذي ّ‬
‫اجلسم لبضع‬
‫َ‬ ‫كهربائيا ّ‬
‫يشل‬ ‫ًّ‬ ‫تيارا‬
‫قذائف تطلق ً‬ ‫ُ‬ ‫شتبها به‪.‬‬
‫فعل ُم ً‬ ‫يرتكب ً‬
‫ُ‬
‫يستمر اليوم بطوله‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ساعات و ُيصدر أملًا ال ُيطاق‬
‫ّ‬
‫وتظل‬ ‫كانوا يتعاملون مع تلك املناطق بإمهال‪ ،‬ومع القاطنني هبا ّ‬
‫بشك‪،‬‬
‫خارج مناطقهم‪ .‬كانوا يعتربون تلك املناطق قنبلة‬
‫َ‬ ‫فرصهم ضئيل ًة يف العمل‬
‫ُ‬
‫مرة يف هتجري‬
‫أكثر من ّ‬
‫فكروا َ‬ ‫التعامل معها‪ ،‬وور َد لعلمها ّأنم ّ‬
‫ُ‬ ‫موقوتة ينبغي‬
‫سكاهنا خارج األرايض املحت ّلة‪ ،‬وتسويتها باألرض‪ ،‬لك ّنهم مل يفعلوا لآلن‬
‫لسبب ال تعلمه‪.‬‬
‫مرة‪ ،‬وبادرها ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫بغضب تراه َ‬
‫أول ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ووجهه يلمع‬
‫ُ‬ ‫دخل (سمري) عليها‬‫َ‬
‫“ملاذا ِ‬
‫كنت تتك ّلمني مع امل ّتهم بتلك الطريقة”؟ فاجأها السؤال فر ّد ْت بارتباك‪:‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪99‬‬
‫يقول بغلظة‪ِ :‬‬
‫“أنت تعرفني ما أقصد‪،‬‬ ‫كتفها وهو ُ‬ ‫“ماذا تقصد؟” أمسكها من ِ‬
‫حتركت نحوه؟”‪ .‬رفعت حاجبيها‬
‫مشاعر قديمة ّ‬
‫َ‬ ‫هل كان ذلك إشفا ًقا عليه‪ ،‬أم‬
‫وحدقت فيه غري مصدّ قة ملَا تسمعه‪ ،‬كان أحيا ًنا ُيصدر تعليقات ّ‬
‫تنم عن غريته‬
‫كأن يطلب منها ّأل َ‬
‫تتباسط يف الكالم مع زمالئها‪ ،‬وكانت تر ّد بابتسامة هادئة‪،‬‬
‫جمرد ِ‬
‫غرية ُم ّب بسيطة يمكن التغايض عنها‪ ،‬لك ّنه‬ ‫وتنسى تعلي َقه‪ ،‬وتفرسه بأنّه ّ‬
‫ويشكك يف‬‫ّ‬ ‫َ‬
‫العمل بمشاعر سابقة‪،‬‬ ‫اآلن يتدخل يف عملها وي ّتهمها بأهنا ُ‬
‫ختلط‬
‫وهو ما ال تقبله‪.‬‬
‫مشاعرها جتاهه َ‬
‫سألت بجفاء وهي تزيح يدَ ه من عىل كتفها‪“ :‬هل تسألني بصفتك ً‬
‫زميل‬ ‫ْ‬
‫أم بصفتِك األخرى؟”‪ .‬ر ّد عليها بأنه ال َ‬
‫فارق بني احلالني‪ ،‬فأجابت‪“ :‬إذا كنت‬
‫كالم يستوجب‬ ‫تسأل كزميلِ عملٍ فأنت ّ‬
‫تشكك يف مهنيتي ومصداقيتي‪ ،‬وهذا ٌ‬
‫منك أن تقوله بشكلٍ رسمي ألر ّد عليك بشكل رسمي‪ ،‬أ ّما إذا كان بصفتك‬
‫أساسا”‪ .‬كانت القهو ُة قد فارت وأطفأت َ‬
‫النار‪،‬‬ ‫حبي ًبا فأنا ال أقبل أن أر ّد عليك ً‬
‫وخرجت دون أن ُتعري ّ‬
‫بقية كالمه اهتام ًما‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫وصبت القهوة‬
‫ّ‬ ‫فأغلقت املوقدَ‬
‫بقية اليوم دون أن تتك ّلم معه كلم ًة واحدة‪ ،‬وك ّلام صادف أحدمها‬
‫مر ُ‬‫ّ‬
‫ري حفيظتها أكثر‬ ‫َ‬
‫تبادل ال ّنظرات الغاضبة بدون كالم‪ .‬كان ذلك يث ُ‬ ‫اآلخر‬
‫لكن يبدو‬ ‫أظهر له مدى ِ‬
‫محقه‪ ،‬وفجاجة كالمه‪ْ ،‬‬ ‫َ‬ ‫رد فعلها قد‬
‫تتخيل أن َّ‬
‫وهي ّ‬
‫يستوعب تلك األمور برسعة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫هلا أنّه ليس من النوع الذي‬
‫يف صبيحة اليوم التايل‪ ،‬استُدْ عوا إىل اجتامع عاجل‪ .‬كان املقدّ م (إياد)‬
‫وهم عىل يمينه ويساره؛ هي وأحد املجندين اجلدد يف ناحية‪،‬‬
‫جالسا ُ‬
‫ً‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪100‬‬
‫ٍ‬
‫ناحية أخرى‪ ،‬ويف مواجهته اثنان من‬ ‫وسمري وضياء وجمندٌ آخر يف‬
‫وضع األربعة يف ِ‬
‫أحد‬ ‫ُ‬ ‫ال ّتقنيني‪ .‬بدأ برشح خطة العملية القادمة؛ وهي‬
‫ِ‬
‫لرشطة النياندرتال مرفق ًة‬ ‫ثم تصويرهم وإرسال الصور‬
‫البيوت اآلمنة‪ّ ،‬‬
‫يتم إعطاؤهم‬
‫املفصلة‪ ،‬وبعد أن يقوموا بتسليم عمر ملرص ّ‬
‫ّ‬ ‫باعرتافاهتم‬
‫إحداثيات املنزل املوجود به األربعة‪.‬‬
‫وتتم عملية التسليم عند معرب حلوان”‪.‬‬
‫هنرهبم عرب احلدود‪ّ ،‬‬
‫“وملاذا ال ّ‬
‫سأل (ضياء) فأجاب (إياد) ّ‬
‫بأن هتريب أربعة عرب احلدود ضدّ رغبتهم أمر‬
‫قبل احلدود مكشوفة‪ ،‬وتتط ّلب من اهلارب أن يكون‬‫ألن املساحة َ‬
‫عسري؛ ّ‬
‫الصعب إقناع املتهمني بذلك‪.‬‬ ‫ِ‬
‫مراوغة املستشعرات‪ ،‬ومن ّ‬ ‫وقادرا عىل‬
‫ً‬ ‫متنكرا‬
‫ً‬
‫ِ‬
‫والسبب الثاين هو إظهار قدرة املخابرات املرصية عىل العمل داخل األرض‬
‫ُ‬
‫وحتر‬
‫بحث ٍّ‬‫ٍ‬ ‫املحتلة‪ ،‬وقدرهتا عىل خداع أجهزهتم األمنية‪ ،‬وتنفيذ عمليات‬
‫ٍ‬
‫دعاية ّ‬
‫تبث الثقة يف‬ ‫كل ذلك يف‬ ‫وأس داخل مناطق سيطرهتم‪ ،‬وتصوير ّ‬ ‫ْ ٍ‬
‫حتت‬ ‫ّ‬
‫وحتث املقاومني املرت ّددين يف االنضواء َ‬ ‫قلوب املقاومني واملواطنني‪،‬‬
‫لواء حكومتهم عىل اختاذ القرار الصحيح‪.‬‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪101‬‬
‫‪15‬‬
‫حلسن ّ‬
‫حظ الغزاة أن حدود‬ ‫منذ أودع ذلك السجن‪ُ .‬‬ ‫مىض عليه عامان ُ‬
‫قرروها كانت جنويب سجن طرة مبارشة‪ ،‬ممّا أهدى هلم مساحة‬ ‫دولتهم التي ّ‬
‫كل قاطني ذلك السجن خارج‬ ‫رحلوا ّ‬
‫كبرية لوضع سجنائهم اجلدد بعدَ أن ّ‬
‫آليا‪،‬‬
‫أكثرها ًّ‬
‫غيوا يف أنظمة احلراسة واملراقبة‪ ،‬والتي صار ُ‬
‫األرض املحتلة‪ّ .‬‬
‫لكل سجني‪ ،‬ولكي ال يرهقوا ميزانيتهم كانت هناك‬ ‫فالشعار طائرة دقيقة ّ‬
‫أنواع مبتكرة من العقوبات يف قوانينِهم حتتاج من الشّ خص الوجود يف‬
‫ٌ‬
‫السجن ّ‬
‫أقل من أسبوع فقط‪.‬‬
‫قص ُته مع النياندرتال‬
‫واسمه احلقيقي عمر عوض اهلل بدأت ّ‬
‫ُ‬ ‫ُع َمر الزيبق؛‬
‫نفسه َ‬
‫خمتط ًفا يف‬ ‫ذات يوم فوجد َ‬ ‫بعقد ونصف حنيَ استيقظ َ‬ ‫ٍ‬ ‫من ْقبل الغزو‬
‫كوكب آخر‪ .‬يف ذلك الوقت‪ ،‬كان النياندرتال خيتطفون‬ ‫ٍ‬ ‫مكان غريب عىل‬
‫ويْرون عليهم جتار ًبا ليكتشفوا قدر َة البرش عىل التكيف‬
‫برشا من األرض ُ‬ ‫ً‬
‫لظروف القهر واإلجبار وحيلهم للتغلب عليها‪ .‬كانت رشيكته يف تلك‬
‫أن الشخص العادي متا ًما‬‫معا من إثبات ّ‬ ‫التجربة طبيب ًة من عمره تقري ًبا‪ ،‬متكنَا ً‬
‫القهر مهام بلغ مداه‪ .‬يف ال ّنهاية استطاع النياندرتال املقاومون‬
‫َ‬ ‫يمكنه أن يقاوم‬
‫حلكومتهم من هتريبهام وإعادهتام إىل كوكب األرض‪.‬‬
‫َ‬
‫وتواصل املقاومون‬ ‫(ميساء)‬
‫تزوج عمر وزهرة وأنجبا ْ‬ ‫بعدَ عودهتام ّ‬
‫َ‬
‫اشرتك (عمر) معهم‬ ‫أن حدث الغزو‬ ‫معهم وأعلمومها ّ‬
‫أن الغزو قادم‪ .‬بعد ْ‬
‫ٍ‬
‫قاعدة كبرية من املقاومني من املرص ّيني واألديتيني املعارضني‬ ‫يف تأسيس‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪102‬‬
‫حتقيق عمليات ِ‬
‫موجعة حلكومة أديتيا األرض‪ ،‬وبعد ثامن‬ ‫ِ‬ ‫معا من‬
‫ومتكنوا ً‬
‫سنوات من الكفاح ُقبض عليه ُ‬
‫وسجن‪.‬‬
‫والقتل ونرش الفوىض‪ ،‬وإدارة مجاعات مسلحة‬ ‫َ‬ ‫جرائمه التخريب‬
‫ُ‬ ‫كانت‬
‫ِ‬
‫هبدف تقويض النظام‪ ،‬إىل آخر تلك ال ّتهم‪ ،‬وكانت عقوب ُته هي اإلعدام‪ ،‬ولكن‬
‫ِ‬
‫بعقوبة السجن مدى احلياة‪.‬‬ ‫إعدام َمن جاوز الستني‪ ،‬ويبدله‬
‫َ‬ ‫قانون أديتيا يمنع‬
‫تسمح بالزيارة‪ ،‬وال التواصل مع العامل اخلارجي‪ ،‬والتواصل‬ ‫ُ‬ ‫سجوهنم ال‬
‫فالسجن يف أديتيا ليس‬
‫ُ‬ ‫أسبوعيا فقط‪،‬‬
‫ًّ‬ ‫مرات‬ ‫َ‬
‫ثالث ّ‬ ‫مع بقية السجناء يكون‬
‫أن حارسك طائرة‬ ‫وأصعب يشء فيه ّ‬
‫ُ‬ ‫للتهذيب واإلصالح بل للعقوبة فقط‪،‬‬
‫ٍ‬
‫بسيجارة أو قليل من املال‪.‬‬ ‫دقيقة ترافقك كظ ّلك‪ ،‬وال يمكن رشوهتا‬
‫نحو طائرته الدقيقة الواقفة يف اهلواء‬
‫فتح عينيه ونظر َ‬ ‫بعدَ غفوة مسائية‪َ ،‬‬
‫ركن الغرفة البعيد أمام الباب‪“ .‬مساء اخلري يا زقلة‪ ..‬أين الغداء؟”‪ .‬سأل‬‫يف ِ‬
‫طائرته التي كانت رفي َقه الوحيد يف السجن‪ ،‬والتي كان ينادهيا هبذا االسم‬
‫احلميمية عىل (العالقة) بينهام‪ .‬ر ّدت عليه طائرته “الغداء‬
‫ّ‬ ‫إلضفاء نو ٍع من‬
‫جوار رسيرك يا عمر”‪ .‬نظر إليها وهو ُيعطيها ابتسامتَه‬
‫َ‬ ‫موجود عىل األرض‬
‫ٌ‬
‫املرحة التي تثري حفيظ َة ّ‬
‫احلراس الذين يراقبونه من خالل كامرياهتا‪.‬‬
‫جلس عىل طرف رسيره‪ ،‬وتناول علب َة الغداء التي تص ُله من فتحة أعىل‬
‫َ‬
‫جواره‪ .‬كانت حتوي شطرية‬
‫َ‬ ‫الغرفة‪ ،‬فتلتقطها طائر ُته وتضعها عىل األرض‬
‫جوار فراشه‪ ،‬فقالت‬
‫َ‬ ‫وموزتي‪ .‬أهنى شطري َته ووضع ّ‬
‫بقية العلبة‬ ‫ْ‬ ‫وعلبة عص ٍ‬
‫ري‬
‫طائرته‪“ :‬إنّه غداؤك يا عمر‪ ،‬وخت ّلص من النفايات”‪ .‬فر َد َ‬
‫ظهره عىل الفراش‬
‫يتعمد ذلك أحيا ًنا ليخفف من ملله‪.‬‬
‫غري عابئ بتكرارها لألمر؛ بل إنّه كان ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪103‬‬
‫احلراس من النياندرتال‪،‬‬
‫باب غرفته فجأة‪ ،‬ودخل عليه اثنان من ّ‬ ‫انفتح ُ‬
‫َ‬
‫بزيام املختلف عن‬
‫استجاب لألمر وهو يتأ ّملهام ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫الوقوف ساكنًا‪.‬‬ ‫وطل َبا منه‬
‫خارج غرفته إىل‬
‫َ‬ ‫يقيدان ذراعيه وقدميه‪ .‬اقتاداه‬ ‫زي حراس السجن‪ ،‬و َ‬
‫مها ّ‬ ‫ّ‬
‫ٌ‬
‫مركبة تنتظر‪ ،‬وهي ّأول مركبة يراها منذ‬ ‫فناء السجن؛ حيث كانت هناك‬
‫املركبة التي أتت به إىل هنا منذ عامني‪.‬‬
‫يشعر باالرتياب وهو ّ‬
‫يفكر يف ماهية تلك اخلطوة وإىل أين سيأخذونه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫بدأ‬
‫ريا أن يتجاوزوا قانوهنم‬
‫قرروا أخ ً‬
‫سيغيون مكانه لسجن أسوأ؟ أم ّأنم ّ‬‫ّ‬ ‫هل‬
‫كل تلك‬ ‫ٍ‬
‫بطريقة ما أن خيرتقوا ّ‬ ‫ويعدموه؟ أم ّ‬
‫أن أبطاله يف املقاومة استطاعوا‬
‫ثم ثبتوا غطاء عىل‬ ‫ِ‬
‫دخول املركبة ّ‬ ‫اإلجراءات ويقومون بتهريبه؟! ساعدوه يف‬
‫حتركت املركبة وجتاوزت أبواب السجن‪ .‬مل يرد‬ ‫فور أن ّ‬‫رأسه ُيغمي عينيه َ‬
‫أحدُ احلراس اجلالسني عىل أسئلته‪ ،‬ومل يصدر أحدُ هم صو ًتا ًّ‬
‫ردا عىل مزاحه‪،‬‬
‫َ‬
‫احتامل أن يكونوا من املقاومة‪.‬‬ ‫ما جعله يستبعد‬
‫إن كانوا قرروا‬‫وميساء قبل أن يعدموه ْ‬ ‫َ‬
‫سيسمحون له برؤية زهرة ْ‬ ‫هل‬
‫ويتوجه إىل منصة اإلعدام؛ حيث‬ ‫ّ‬ ‫ذلك‪ ...‬ماذا سيقول لزهرة وهو يرتكها‬
‫ين يرتكونه عليه‬‫مثبت إىل قائم معد ّ‬‫سيطلقون عليه حرب ًة صغرية يف قلبه وهو ّ‬
‫انفطار قلب زهرة‬
‫ُ‬ ‫قدر ما خييفه‬‫يكن املوت ُييفه َ‬
‫ملدة يومني بعد وفاته‪ .‬مل ِ‬
‫(ميساء)‪ ،‬والغضب‬ ‫وهي تشاهد جثته معلقة هكذا‪ ،‬واأل ُمل الذي سيسيطر عىل ْ‬
‫حتارب الغزاة ويضعها يف قلب اخلطر‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الذي سيق ّلل من حرصها وهي‬
‫َ‬
‫طوال سنوات عمره التي جاوزت الستنيَ مل يشعر بذاته ّإل يف حالتني‬
‫ويدافع عن زهرة‪ ،‬وحني كان يقاوم‬ ‫ُ‬ ‫يواجه املوت‬
‫ُ‬ ‫حني كان عىل اجلزيرة‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪104‬‬
‫السمع والبرص‪ .‬روايته التي كت َبها عن جتربته يف اجلزيرة مل‬
‫َ‬ ‫اسمه‬
‫الغزاة ويمأل ُ‬
‫انترشت كالنار‬
‫ْ‬ ‫أن حدث الغزو‬ ‫حوظا بعدَ نرشها‪ ،‬لكن بعد ْ‬ ‫نجاحا م ْل ً‬
‫ً‬ ‫حتقق‬
‫يتم التحضري‬‫أن الغزو كان ّ‬ ‫وعرف العا ُمل ّ‬
‫َ‬ ‫كل اللغات‪،‬‬‫يف اهلشيم و ُترمجت إىل ّ‬
‫له منذ نصف قرن تقري ًبا‪.‬‬
‫الدافع الذي جعل املقاومني من البرش والنياندرتال‬
‫َ‬ ‫كانت تلك الشّ هر ُة هي‬
‫أن ً‬
‫رجل قاوم الغزاة‬ ‫ِ‬
‫للمشهد الثّوري‪ .‬فقد كانت فكرة ّ‬ ‫يصدرون صورته‬ ‫ْ‬
‫الرواج بسهولة‪،‬‬ ‫يقود املقاومة عىل األرض ضدّ هم فكرة تل َقى ّ‬
‫عىل كوكبهم ُ‬
‫أظهرها يف العمليات التي قادها ضدّ الغزاة يف‬
‫َ‬ ‫الباعة التي‬
‫وساعدها بتلك َ‬
‫أن تربع يف يشء ال‬‫أن لديك موهبة دفينة‪ْ ،‬‬ ‫مواقع كثرية‪ .‬فكرة غريبة ح ًّقا ّ‬
‫ٍ‬
‫موقف ما‬ ‫ُ‬
‫الظروف يف‬ ‫ثم حني تضعك‬ ‫تعلمه طيلة مخسني عا ًما من ُعمرك‪ّ ،‬‬
‫تتفجر املوهبة املختبئة وتظهر براع ُتك للجميع‪.‬‬
‫ً‬
‫حمظوظا‪،‬‬ ‫ماهرا؛ بل كان‬
‫تاجرا ً‬
‫ً‬ ‫يكن كات ًبا موهو ًبا‪ ،‬وال ح ّتى ً‬
‫سباكا أو‬ ‫مل ْ‬
‫تنفتح له لسبب ال يعلمه‪ .‬موهب ُته احلقيقية كانت يف حرب‬
‫ُ‬ ‫وأبواب الرزق‬
‫ُ‬
‫العصابات واملقاومة؛ موهبة كانت ستد َفن معه لوال حدوث الغزو‪.‬‬
‫ثم رحلوهم‬
‫دفعه حني قبضوا عىل عائلته ّ‬ ‫فادحا َ‬‫ً‬ ‫ري ّ‬
‫أن للشهرة ثمنًا‬ ‫غ َ‬
‫أن ما فعله كان حمتو ًما‪ّ ،‬‬
‫وأن االحتالل دمر‬ ‫تفهمت ّ‬ ‫للمخيامت‪( .‬زهرة) ّ‬‫ّ‬
‫(ميساء)‬
‫بغض النظر عن انضام ِم زوجها للمقاومة من عدمه‪ ،‬لكن ْ‬ ‫حياهتم‪ّ ،‬‬
‫انضمت لكتائب النرص؛ وهي‬
‫ّ‬ ‫مل تتفهم وظ ّلت غاضب ًة منه‪ ،‬ح ّتى فاجأته ّأنا‬
‫االنضامم إليها ّ‬
‫مفضلني‬ ‫َ‬ ‫قوات مقاومة تدعمها الدّ ولة‪ ،‬ويرفض هو وزمالؤه‬
‫أن يكونوا مقاومني مستقلني ِمن أجل الشعب‪ ،‬ال ِمن أجل ال ّنخبة التي حتكمه‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪105‬‬
‫الفكر ُة نفسها هي ما حيفز املقاومني من النياندرتال عىل القتال إىل جوارهم‬
‫حسب‬
‫َ‬ ‫يسمي كتائبه‬
‫“كل ّ‬‫ضدّ بني جلدهتم يف كتائب احلرية‪ .‬كان يقول دو ًما‪ٌّ :‬‬
‫غايته؛ نحن نريد احلرية‪ ،‬واحلكومة تبحث عن النرص وتكره احلرية”‪.‬‬
‫عمر وماندريك‪ ،‬صديقه النياندرتال (أو األديتي كام يفضلون أن يطلق‬
‫وج َهي املقاومة األشهر؛ واحدٌ أريض وواحد أديتي‪ ،‬يظهران‬‫عليهم)‪ ،‬كا َنا ْ‬
‫أس (عمر) كان‬‫تلهب محاس اجلميع‪ ،‬وبعدَ ْ‬ ‫ٍ‬
‫لقاءات وأفالم قصرية ُ‬ ‫بالتبادل يف‬
‫ري من األرضيني يف‬
‫ماندريك هو الوج َه األسايس للمقاومة‪ ،‬ويتبادل معه الكث ُ‬
‫معا‬
‫سبع سنوات حياربان فيها ً‬‫بدل من (عمر)‪ .‬أمىض مع ماندريك َ‬ ‫الظهور ً‬
‫مرة واحدة قبل أن يموت‪.‬‬ ‫أقرب أصدقائه وجعل ْته يتم ّنى رؤيته ولو ّ‬
‫َ‬ ‫جعلته‬
‫ثم حتركت ثانية‪ .‬كان موقفه يف‬ ‫شعر باملركبة تتوقف بعدَ نصف ساعة ّ‬ ‫َ‬
‫بأول مركبة اختطفته مع (زهرة) يف كوكب أديتيا‪ .‬آه‪..‬‬ ‫املركبة يذكره ّ‬ ‫تلك ْ‬
‫راهن اجلميع يف أول زواجهام عىل أن‬ ‫َ‬ ‫كم يفتقد (زهرة)‪ ،‬املرأة النادرة التي‬
‫انترص عىل ّ‬
‫كل‬ ‫َ‬ ‫وقتي‪ ،‬لكن حبهام‬ ‫ّ‬ ‫جمر ُد افتتان‬
‫حبهام ّ‬‫وأن ّ‬‫انفصاهلام حمتوم‪ّ ،‬‬
‫راق جعل منتقدي‬‫حي ٍ‬ ‫بيت هلا يف ّ‬‫الظروف‪ ،‬وساعدَ ه ازدهار عمله عىل رشاء ٍ‬
‫كل فرتة يقيض يف حديقة‬‫ريا‪ .‬بعدَ الغزو كان يزورها ّ‬ ‫زهرة يباركون زجيتَها أخ ً‬
‫ثم يعود لسالحه ثانية مو ّد ًعا إياها وسط هن ٍر من‬ ‫يومي‪ّ ،‬‬
‫ْ‬ ‫عشقها يو ًما أو‬
‫الدموع املتبادلة‪.‬‬
‫ضوء النهار من عصابة عينه‪،‬‬‫ُ‬ ‫تو ّقفت املركبة متا ًما‪ ،‬انفتح باهبا‪َ ،‬‬
‫نفذ‬
‫ثم امتدّ ت يدٌ تنزع الغطاء من فوق رأسه‪ .‬هبره‬ ‫أنزلوه من املركبة هبدوء‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫مرات فرأى‬ ‫ضوء الشمس يف البداية فلم َير شيئًا‪ ،‬أغلقَ عينيه وفتحهام عدّ ة‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪106‬‬
‫يفكر كيف‬‫شمسا أخرى أكثر هبا ًء من شمس النهار؛ كانت (زهرة)‪ .‬مل ّ‬ ‫ً‬
‫ُ‬
‫الرجال الذين‬ ‫الفناء الواسع الذي تقف به‪ ،‬وال‬
‫ُ‬ ‫وأين وملاذا!؟ مل يلفت نظره‬
‫صوت املركبة وهي تغادر‬
‫َ‬ ‫يرتدون املالبس الرسمية وحييطون هبا‪ ،‬ومل يسمع‬
‫أن أنزلته مل َير غري (زهرة)‪ ..‬هي وكفى!‬‫بعد ْ‬
‫كامل من دموع الشوق عىل كتفيها وهو يتمتم‬ ‫احتضنَها وأفرغ خمزو ًنا ً‬
‫وحبه وأسفه‪ .‬مل ينتبه ّإل عىل ٍ‬
‫يد ختبط عىل‬ ‫وعن شوقه ّ‬‫ري عنها وعنه ْ‬ ‫بكالم كث ٍ‬
‫وصوت مألوف يقول‪“ :‬محدً ا هلل عىل السالمة”‪ .‬التفت فرأى ْ‬
‫(ميساء)‬ ‫ٍ‬ ‫كتفه‬
‫وامحر‬
‫ّ‬ ‫شعرها البني الفاتح‪،‬‬
‫عقصت َ‬ ‫ْ‬ ‫ً‬
‫وبنطال وقد‬ ‫قميصا‬
‫ً‬ ‫ابنته واقفة ترتدي‬
‫وجهها‪ ،‬ودمعت عيناها من فرط التأثر‪.‬‬
‫“أين أنا؟” أجابه أحدُ الرجال الذين يرتدون املالبس الرسمية‪“ :‬أنت يف‬
‫نظر إىل الرجل‬
‫احلوامدية يا سيد (عمر)‪ ،‬مرح ًبا بك بني أهلك وإخوتك”‪َ .‬‬
‫رساحك يا‬
‫َ‬ ‫وقبل أن ينطق قالت (ميساء)‪“ :‬لقد أطلقنا‬‫حمياه‪َ ،‬‬
‫واألسئلة متأل ّ‬
‫أيب‪ ،‬واآلن أنت بيننا‪ ،‬وهذا ما هيم”‪ .‬عقدَ حاجبيه وهو ينظر إليها وقد زالت‬
‫فالتفت وسأل الرجل ذا‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وشغل باله اآلن كيف تركوه!‬ ‫سكر ُة لقائه بزهرة‬
‫الصفقة‬ ‫َ‬
‫أعرف اآلن كيف جئتم يب إىل هنا؟ ما ّ‬ ‫الزي الرسمي ً‬
‫قائل‪“ :‬أريد أن‬ ‫ّ‬
‫متوسلة‪“ :‬أرجوك يا‬
‫ّ‬ ‫بالضبط؟ وكيفـ‪ ”....‬قاطعته زهرة وهي تقول بلهجة‬
‫ثم ضغطت بك ّفها عىل كتفه‬ ‫أول؛ دعنا نشبع منك”‪ّ ،‬‬ ‫دعنا نسرتيح ً‬
‫عمر‪ْ ...‬‬
‫أشبع منك”‪.‬‬
‫وقالت هامسة‪“ :‬دعني ُ‬

‫املتوسلة تنزل عىل قلبه كأم ٍر ّ‬


‫إهلي ال جيوز خمالفته‪ ،‬وكانت‬ ‫ّ‬ ‫كانت هلج ُتها‬
‫احلب أدخلته يف ْ‬
‫سكرة جديدة‪،‬‬ ‫مخر ّ‬ ‫نظر ُة عينيها املشتاقة جرع ًة إضافية من ْ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪107‬‬
‫وأنسته‪ -‬مؤق ًتا‪ -‬دوام َة األسئلة التي تدور يف رأسه‪ .‬دخلوا ً‬
‫معا إىل مبنى‬
‫الفناء الذي وصل فيه‪ ،‬وصعدوا إىل الطابق الثاين‬ ‫ِ‬ ‫حيتل اجله َة الرشقية من‬
‫ثم‬ ‫إن لدهيا ً‬
‫عمل ستنهيه ّ‬ ‫ضمته وهي تقول‪ّ :‬‬ ‫ثم ّ‬ ‫(ميساء) ّ‬
‫عىل األقدام‪ .‬أوقفته ْ‬
‫تعود إليه بعد ساعة عىل األكثر‪“ ،‬غرفتكام يف آخ ِر ّ‬
‫املمر عىل اليسار‪ ،‬سأحاول‬
‫ثم انرصفت دون ْ‬
‫أن تنتظر ر ّدمها‪.‬‬ ‫ّأل أتأخر”‪ّ ،‬‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪108‬‬
‫‪16‬‬
‫صوت أمر من هريمني بالدخول‪.‬‬
‫ُ‬ ‫طرقتي عىل الباب‪ ،‬تبعه‬
‫ْ‬ ‫صوت‬
‫ُ‬ ‫عل‬ ‫َ‬
‫ٌ‬
‫طاولة ذات عجالت‪ ،‬عليها أطباق متعددة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫نصف املفتوح‬ ‫ظهرت من الباب‬
‫ْ‬
‫ُ‬
‫اخلادمة األديتية التي تدفع العربة وهي تلقي حتية الصباح‬ ‫وظهرت بعدَ ها‬
‫بأدب عىل سيدهتا التي ال تزال ُ‬
‫تفرك يف عينيها بيدها اليرسى‪ ،‬وتنكز الرجل‬
‫الراقد إىل جوارها باليد األخرى‪.‬‬
‫َ‬
‫أخرض مشو ًبا باحلمرة‬ ‫اعتدلت هريمني يف جلستها‪ ،‬واخلادمة تناوهلا رشا ًبا‬ ‫ْ‬
‫إنجاب الذكور‪ .‬قالت بلهجة حازمة وهي توقظ‬ ‫ِ‬ ‫يصا للراغبات يف‬ ‫خص ً‬
‫يعدّ ّ‬
‫ثم أردفت وهي‬ ‫النائم إىل جوارها‪“ :‬لؤي‪ ،‬استيقظ لتعدّ يل املوكب”‪ّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫الرجل‬
‫“هيا”‪ .‬قفز الرجل من الفراش إىل احلوض املوجود بالغرفة‬ ‫رب ّ‬‫تدفعه بقوة أك َ‬
‫ِ‬
‫نظرت اخلادمة إىل جسده‬ ‫ثم بدأ بارتداء مالبسه‪.‬‬‫فغسل وجهه عىل عجل‪ّ ،‬‬
‫أن جيناته ممتازة يا سيديت‪،‬‬ ‫املمشوق بإعجاب وهي هتمس لسيدهتا‪“ :‬يبدو ّ‬
‫طفل قو ًّيا”‪ .‬ابتسمت هريمني دون أن تر ّد عىل خادمتها التي تعمل‬ ‫وسيهبك ً‬
‫لدهيا منذ ربع قرن تقري ًبا‪.‬‬
‫كان (لؤي) قد غادر الغرفة حني قامت لتجلس يف حوض االستحامم‬
‫حيتل ُمنتصف غرفتها‪ ،‬والذي يشبه أحواض استحامم ملوك العصور‬ ‫الذي ّ‬
‫الوسطى بقوائمه اخلشبية املذهبة‪ّ ،‬إل أنّه كان قطعة من التكنولوجيا املتقدمة‬
‫جوار احلوض‪ ،‬وأمامها‬
‫َ‬ ‫اجللوس فيه متعة قصوى‪ .‬وقفت اخلادمة‬‫َ‬ ‫التي تعطي‬
‫طاولة صغرية عليها املناشف والثياب منتظرة انتهاء سيدهتا‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪109‬‬
‫اجتامعها مع احلاكم باألمس مشحو ًنا أطلعته فيه عىل تفاصيل‬ ‫ُ‬ ‫كان‬
‫زيارهتا للصني‪ ،‬والتي أجرت فيها مقابالت ووقعت بالنيابة عنه اتفاقات‬
‫إقناع الصينيني بافتتاح سفارة هلم يف أديتيا األرض‬ ‫َ‬ ‫مهمة‪ ،‬واستطاعت‬
‫لتكون أول دولة تتبادل التمثيل الدبلومايس معهم‪ ،‬وهي عىل يقني من أن‬
‫رغم ضغوط اليهود داخلها‪،‬‬ ‫تلك اخلطوة ستدفع األمريكيني لفعل املثل َ‬
‫والتي جتعل أمريكا أكثر تشد ًدا مع أديتيا‪ .‬اليوم كان لدهيا موعدُ اجتامع هيئة‬
‫احلكم‪ ،‬ذي جدول األعامل املزدحم جدًّ ا‪ ،‬والذي كان عىل رأسه موضوعان‬
‫همن جدًّ ا؛ أوهلام حتديد جدول زمني الفتتاح قناة السويس‪ ،‬والثاين تفاصيل‬ ‫ُم ّ‬
‫حماكمة املتهمني األربعة بتعذيب وقتل فتيات أديتيات‪.‬‬
‫جاهزا؛ مركبتها الفاخرة التي يرافقها فيها حارسها‬
‫ً‬ ‫كان املوكب يف اخلارج‬
‫املعي حدي ًثا يف ذلك املنصب‪ ،‬ومساعدهتا كمريدا‪ ،‬وأربعة‬
‫الشخيص (لؤي) ّ‬
‫أي‬
‫حتيط باملركبة من اجلهات األربع‪ ،‬ومركبتان لكشف ّ‬ ‫دراجات طائرة ُ‬
‫هتديد ًمتمل؛ واحدة يف األمام واألخرى يف األعىل‪.‬‬
‫ُ‬
‫عازل‬ ‫يف مركبتها جلست كمريدا معها يف املقعد اخللفي يفصلهام زجاج‬
‫عن (لؤي)‪ ،‬والسائق يف األمام‪ .‬قالت كمريدا وهي تفتح شاشة أمامها‪“ :‬هذه‬
‫هي قائمة الدول التي أعطت موافقة مبدئية عىل افتتاح بعثات دبلوماسية هلا‬
‫عندنا‪ ،‬و‪ ،”...‬قاطع ْتها هرمني يف ضجر وهي تطلب منها أن تطبع هلا تلك‬
‫قليل وقالت‪“ :‬اسمعي‪..‬‬‫ثم صمتت ً‬ ‫القائمة وهي سوف تراجعها الح ًقا‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫ثالث‬ ‫ثم رتبي يل زيارات ألهم‬
‫أنت بعد مراجعة التقارير‪ّ ،‬‬‫رتّبي هذه الدول ِ‬
‫منها خالل األسبوعني القادمني”‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪110‬‬
‫حتمست كمريدا للمهمة‪ ،‬وكادت تبدأ فيها من تلك اللحظة لكنها تذكرت‬ ‫ّ‬
‫عرضها عىل رئيستها قبل االجتامع‪ .‬خبطت هريمني‬ ‫مهمة تريد َ‬‫نقاطا أخرى ّ‬ ‫ً‬
‫بطن مساعدهتا التي يزداد حجمها‬‫نفاد صرب وهي تتأمل َ‬ ‫عىل فخذها يف ِ‬
‫ثم سألتها عن الوقت املتبقي عىل الوصول‪ ،‬فقالت هلا‪“ :‬عرشون دقيقة‬ ‫يوميا ّ‬
‫ًّ‬
‫تقري ًبا”‪ ،‬فر ّدت هريمني وهي تفتح احلاجزَ املعتم بينها وبني السائق‪“ ..‬خذي‬
‫مكان (لؤي) جوار السائق وهاتيه هنا؛ فأنا أريد استغالل ذلك الوقت يف‬
‫يشء أفضل من التقارير”‪.‬‬
‫ابتسمت كمريدا بسعادة وهي تغادر مقعدَ ها بصعوبة وتقول‪“ :‬أسأل‬ ‫ْ‬
‫طفل يصري ذا شأن كأ ّمه”‪ .‬كانت تدرك بالطبع أن هريمني‬ ‫أن هيبك ً‬ ‫ماجوها ْ‬
‫متر بأيام التبويض؛ وهي أيام ختتلف يف النساء األديتيات عن األرضيات‪.‬‬ ‫ّ‬
‫األديتية يف أيام تبويضها تكون مثل القطة التي تتوق إىل التزاوج ألسباب‬
‫ال تتعلق باحلب أو الرغبة وإنّام جمرد االستجابة الغريزية الرصفة هلرموناهتا؛‬
‫يشء يثري استغراب األرضيني الذين يتزوجون من أديتيات لكنهم يعتادونه‬
‫مع الوقت‪.‬‬
‫ثم بعد دقيقة تقري ًبا‬‫دخل (لؤي) جوارها‪ ،‬وأغلقت احلاجز عليهام‪ّ ،‬‬
‫ار ّجتت املركبة فجأة بصوت انفجار يف اخلارج‪ .‬رصخت هريمني فزعة وهي‬
‫استطالع ما حيدث خارج املركبة‪ .‬يف حالة تعرض‬
‫َ‬ ‫تدفع (لؤي) وتطلب منه‬
‫املوكب هلجوم من املفرتض أن تندفع املركبة الرئيسية بقوة حماولة اخلروج من‬
‫بؤرة احلدث وترك املركبات األخرى تشتبك مع املهامجني‪ ،‬ويكون وظيفة‬
‫احلارس الشخيص هو تفعيل األسلحة الدفاعية واهلجومية للمركبة‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪111‬‬
‫فتح (لؤي)” احلاجز‪ ،‬وجلس عىل كرسيه برسعة‪ ،‬ويف خضم حركته دفع‬
‫كمريدا بقوة فسقطت للخلف‪ .‬ساعدهتا هريمني وأجلستها جوارها وهي‬
‫هجوم كاسح عىل موكبها‪ .‬أكثر‬
‫ٌ‬ ‫تتطلع بقلق للشاشة التي أظهرت ما يبدو أنّه‬
‫من مخس دراجات ومركبتني يشتبكون مع حراسة موكبها وقائد مركبتها‬
‫حياول تعديل وضعه ليتمكن من الفرار وسط املقذوفات املتبادلة‪.‬‬
‫أطلق (لؤي) قذيفتني متتاليتني عىل املركبة التي تقف يف مواجهته‬
‫أصابت إحدامها إصابة مبارشة جعلت املركبة املهامجة ّ‬
‫خيتل توازهنا وهتبط‬
‫أقل من مستوى مركبة هريمني‪ .‬استغل السائق تلك‬ ‫لألسفل يف مستوى ّ‬
‫متجها برسعة يف طريقه‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫ومرق باملركبة من منطقة الرتاشق‪،‬‬ ‫رسيعا‬
‫ً‬ ‫الثغرة‬
‫ملجلس احلكم‪.‬‬
‫تن ّفست هريمني الصعداء وهي ترى ساحة الرصاع املشتعلة تتضاءل‬
‫صورهتا عىل الشاشة مؤذن ًة بابتعادها عنها‪ .‬نظرت يمينها فوجدت كمريدا‬
‫دامعة وهي مازالت تنظر للشاشة فربتت عليها بنفاد صرب وهي تسأهلا عن‬
‫سبب ذلك البكاء‪ ،‬فقالت بصوت خفيض‪“ :‬لقد رأيت القذيفة األوىل وهي‬
‫تفتت احلارس الذي كان عىل يميننا هو ودراجته ملاذا يسكن ّ‬
‫كل هذا الرش‬
‫يف قلوب هؤالء املخربني”‪ .‬ابتسمت هريمني وهي تر ّبت عىل كتفها مواسية‬
‫ومندهشة من أن جتمع امرأة بني ذلك القلب الطفويل الساذج مع العقل‬
‫الالمع الذي هيتم ّ‬
‫بكل تفاصيل العمل‪.‬‬
‫يدهش هريمني عدم قدرة كمريدا عىل رؤية املساحات الرمادية الشاسعة‬
‫بني األبيض واألسود‪ ،‬وال تستطيع فهم عقلية األشخاص الذين يرون فقط‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪112‬‬
‫خيون وأرشار؛ اخلريون هم َمن ننتمي إليهم‪ ،‬واألرشار هم من‬ ‫أن العامل ّ‬
‫كل يشء يف حياهتا عىل ذلك األساس‪ ،‬ولن‬ ‫يكرهوننا‪ .‬تراها دو ًما تصنف ّ‬
‫أساليب احللفاء واألعداء قد تكون واحدة وال يفرق بينهام‬
‫َ‬ ‫خيطر بباهلا أبدً ا أن‬
‫غري اختالف الغاية‪.‬‬
‫بست دراجات تظهر فجأة‬ ‫طويل فقدْ فوجئت ّ‬‫ً‬ ‫شعورها باالرتياح‬
‫ُ‬ ‫يدم‬
‫مل ْ‬
‫حيرك (لؤي) ساكنًا‪.‬‬
‫قبل أن ّ‬ ‫وتطلق قذائف ّ‬
‫معطلة عىل مركبتها َ‬ ‫ُ‬ ‫من العدم‬
‫وترجل أحد قائدي‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫وحولا الدراجات الستة‪،‬‬ ‫هبطت املركبة عىل األرض‬
‫ِ‬
‫وحلمه‪.‬‬ ‫ِ‬
‫بشحمه‬ ‫الدراجات ونزع خوذ َته فوجدتْه ماندريك‬
‫فتحها من اخلارج‪ ،‬وبدَ ا هلا أن الغرض‬ ‫مدرع ًة ّ‬
‫بقوة يستحيل ُ‬ ‫كانت املركبة ّ‬
‫من ذلك اهلجوم كان اختطا َفها وليس قتلها‪َ .‬‬
‫أشار ماندريك هلا لتفتح جز ًءا‬
‫ثم بدأ باحلديث‪“ :‬هريمني‪ ..‬أعرف‬ ‫الزجاج يسمح ِ‬
‫بنفاذ صوته للداخل ّ‬ ‫من ّ‬
‫خاصة‬‫قتل املوجودين معك ّ‬ ‫أنّك بالداخل َت َف ّضيل باخلروج‪ ،‬فنحن ال نريد َ‬
‫معززة‬‫كل ما نريدُ ه هو استضافتك معنا بضع َة أيام ّ‬‫مساعدتك احلبىل‪ّ ..‬‬
‫ُمكرمة يف مقرنا”‪.‬‬

‫هرب السائق هبا‪ ،‬وبدَ ا ًّ‬


‫جليا أن‬ ‫َ‬ ‫الفخ الذي سارت إليه حني‬ ‫ِ‬
‫أدركت ّ‬
‫ُ‬
‫الغرض منه استدراجها إىل هذا املكان بعيدً ا عن حراستها‬ ‫األول كان‬
‫اهلجوم ّ‬
‫الختطافها‪ .‬كانت ال ختشى من االختطاف عىل يده‪ ،‬فهي تعلم يقينًا أنّه‬
‫أهون عليها من أن ُتساق ذليلة بني رجاله‪،‬‬‫ُ‬ ‫سيحسن معاملتها لكن املوت‬
‫ثم مبادلتها ببعض األرسى‪ ،‬وبعد عودهتا‬
‫وجيري تصويرها عىل الشاشات ّ‬
‫ستصري ورق ًة حمرتقة‪ ،‬ويموت مستقبلها السيايس‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪113‬‬
‫أن هناك دو ًما خطة طارئة ملثل تلك املواقف‪،‬‬ ‫غال ًبا ال يعرف ماندريك ّ‬
‫أي اتصال للطوارئ‪ ،‬وعطلت‬ ‫أن القذائف ا ُملعطلة قد أوقفت َّ‬ ‫ويتخيل ّ‬
‫ّ‬
‫ثم‬ ‫زر الطوارئ يف جهاز معصمها ّ‬ ‫ضغطت عىل ّ‬
‫ْ‬ ‫أجهزة التتبع يف املركبة‪.‬‬
‫أن ختتطفني هبذه‬ ‫تتخيل يف صغرنا ْ‬‫بدأت حتدثه لترسق الوقت‪“ :‬هل كنت ّ‬
‫بصوت عال وهو يقول هلا‪“ :‬وهل كنت‬ ‫ٍ‬ ‫الطريقة يا ماندريك؟” ضحك‬
‫بكل هذا الفساد والرشّ يا هريمني؟! ال حتاويل أن ترسقي‬ ‫أن تصريي ّ‬ ‫تتخيلني ْ‬ ‫ّ‬
‫نشوش عىل أجهزة معصمك ومعصم حارسك الوسيم الذي‬ ‫الوقت فنحن ّ‬ ‫َ‬
‫يندم عىل خيانته لبلده‬
‫درسا جيعله ُ‬ ‫األرضيني هنا عىل تلقينه ً‬
‫ّ‬ ‫يرص أصدقائي‬ ‫ُّ‬
‫وهو‬
‫متتمت كمريدا بكلامت تستنكر حديثه عن اخليانة َ‬ ‫ْ‬ ‫وخدمتِه للمحتلني”‪.‬‬
‫االنصياع‬
‫َ‬ ‫خيون كوكبه ووطنَه وماجوها بأفعاله ا ُملخزية تلك‪ .‬رفضت هريمني‬
‫مهام فعل‪ ،‬فر ّد عليها يف‬
‫ألمره وهي تقول‪ :‬إنّه لن يقدر عىل اقتحام مركبتها ْ‬
‫حتدٍّ ‪“ :‬صدّ قيني‪ ،‬قدراتنا يف املقاومة أكثر ممّا تتخيلون”‪.‬‬
‫ِ‬
‫اهنالت القذائف عىل موقعه من مركبتني ظهرتا‬ ‫مل يكدْ ُيكمل مجلته ح ّتى‬
‫مدرعني واشتبكوا مع املقاومني‪ّ .‬اته منهم‬
‫وترجل منها عدّ ُة رجال ّ‬
‫ّ‬ ‫فجأة‪،‬‬
‫املعطلة من سطحها فعادت للعمل‬ ‫ّ‬ ‫اثنان نحو املركبة وأزالوا القذائف‬
‫صوت مألوف يقول‪“ :‬سيدة هريمني‪ ،‬هل أنت‬ ‫ٌ‬ ‫وجاءهم من جهاز االتصال‬
‫تكاد تطري من الفرح والفخر‪“ :‬نحن بخ ٍ‬
‫ري يا عزيزَ‬ ‫بخري؟” ر ّدت كمريدا وهي ُ‬
‫القلب”‪ .‬كان املتحدث هو زوجها (باسل) والذي كان ي ّتجه بصحبة قائده‬
‫املميزة بشعار‬ ‫ِ‬
‫ملركبة هريمني ّ‬ ‫نحو جملس احلكم‪ ،‬ورأى حصار الدراجات‬
‫فقرر التدخل‪.‬‬
‫قسم العالقات اخلارجية؛ ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪114‬‬
‫“انطلقوا يف طريقكم وسنلحقكم‪ ..‬صحبتك السالمة يا عزيزة القلب”‪.‬‬
‫َ‬
‫االتصال وعاد ملساعدة زمالئه يف االشتباك مع املقاومني‪ .‬انطلقت‬ ‫أهنى‬
‫املركبة برسعة يف طريقها‪ ،‬وكمريدا تقول هلريمني‪“ :‬أرأيت يا سيديت‪..‬‬
‫ُ‬
‫والقلق يعصف بروحها‬ ‫صلوايت ال ختيب أبدً ا”‪ .‬أومأت إليها هريمني برأسها‬
‫وضع نفسه فيه‬
‫َ‬ ‫وهي تتم ّنى أن يستطيع ماندريك النجا َة من هذا املأزق الذي‬
‫أن ال جدوى من ذلك‪.‬‬ ‫وهو يعلم ْ‬
‫الصخر َ‬‫بحمقه وإرصاره عىل نطح ّ‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪115‬‬
‫‪17‬‬
‫وسكن هبا‪ ،‬استظ ّلت يف فيئه ونام يف ظلها بعد عامني من‬
‫َ‬ ‫سكنت إليه‬
‫ْ‬
‫القدر دون موعد‬
‫ُ‬ ‫وع َطش القلب‪ .‬مىض ُ‬
‫ربع قرن منذ مجع بينهام‬ ‫القيظ والق ْفر َ‬
‫وحتت سامء يسكنها قمران‪ ،‬ومن يومها مل يفرتقا مدّ ة كتلك‪.‬‬
‫َ‬ ‫يف أرض غريبة‪،‬‬
‫لكن موجة‬
‫حب هناك ُمنحنيات صعود وهبوط‪ ،‬وكانا كذلك‪ّ ،‬‬ ‫كل عالقة ّ‬ ‫يف ّ‬
‫الصعود عند غريمها من املحبني‪.‬‬ ‫ِ‬
‫موجة ّ‬ ‫اهلبوط عندمها كانت أعىل من‬
‫ِ‬
‫واختفت الدّ نيا بأرسها ومل يبقَ منها ّإل عاشقان‬ ‫انغلقَ الباب عليهام‬
‫أرواح ظمأى‪ .‬قالت‪“ :‬ا ْفتقدتك”‪ .‬فقال‬ ‫ٌ‬ ‫يتبادالن كؤوس احلب‪ ،‬فرتتوي‬
‫فتبسمت شفتها‪ ،‬فأفسدت‬ ‫فقبلته‪ّ ،‬‬‫هلا‪“ :‬وأنا افتقدتني يا أنا”‪ .‬ضحك قل ُبها ّ‬
‫خلص مالينيَ الكلامت التي جتول يف خاطرهيام‪ .‬مل‬ ‫بعناق ّ‬
‫ٍ‬ ‫القبلة‪ ،‬فاستبدلتها‬
‫حبسه‬
‫وأن َ‬ ‫حبسه عن زهرة‪ّ ،‬‬ ‫أن سجنه احلقيقي هو ُ‬ ‫سجاين (عمر) ّ‬ ‫خيطر ببال ّ‬
‫ْ‬
‫ليهرب به من‬
‫َ‬ ‫كل يوم‬‫منفر ًدا أو يف مجاعة مل يكن ليختلف‪ .‬كان يستعيدُ خياهلا ّ‬
‫حبهام للطائرة التي تراقبه‪.‬‬
‫فصل من قصة ّ‬ ‫كل يوم ً‬ ‫قسوة سجنه وحيكي ّ‬
‫ور ِّح َلت هي وابنتهام خارج األرض‬ ‫بعدَ الغزو‪ ،‬وبعدَ أن اشتهر ُ‬
‫أمره‪ُ ،‬‬
‫املقام يف خميم لالجئني رشقي قرى الصف باجليزة‪ .‬كان أهل‬
‫استقر هبا ُ‬
‫ّ‬ ‫ا ُملحتلة‬
‫املخيم يعيشون عىل املساعدات التي ترسلها احلكومة واملنظامت اإلنسانية‪،‬‬
‫ّ‬
‫الفقر من مساعدة أهل بلدهم‬ ‫ُ‬ ‫وأهايل القرى القريبة الذين مل يمنعهم‬
‫ختدم‬
‫ريا ُ‬ ‫املنظامت اإلنسانية‪ ،‬وأنشأت مستشفى صغ ً‬ ‫املنكوبني‪ .‬تواصلت مع ّ‬
‫أطباء آخرون من اهلاربني من األرض‬‫ٌ‬ ‫أهل املخيم وتطوع للعمل معها‬‫به َ‬
‫املحتلة ِ‬
‫ومن املتطوعني اآلخرين‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪116‬‬
‫الوقت نفسه؛ هو يقاتل الغزاة وهي حتاول التقليل من‬ ‫ِ‬ ‫كانا يكافحان يف‬
‫كل أسبوع‬ ‫املهجرين من أرضهم‪ .‬كان يزورها مرة ّ‬ ‫الغزو عىل املساكني ّ‬ ‫أثر ْ‬
‫رب ويزداد مجوحها ورفضها لطريقته‬ ‫(ميساء) تك ُ‬
‫س‪ ،‬وكانت ْ‬ ‫عىل األقل ح ّتى ُأ ِ َ‬
‫وأفكاره‪ ،‬وعىل عكس ا ُملعتاد كان ُ‬
‫األب الكهل ثور ًّيا‪ ،‬واالبنة الشا ّبة ترى‬
‫التوسط بينهام بدون جدوى‪.‬‬‫ّ‬ ‫الثورية عب ًثا‪ ،‬واألم حتاول‬
‫سجن ال ّ‬
‫يقل صعوبة عن سجن عمر؛ سجن‬ ‫ٍ‬ ‫عاشت (زهرة) عامني يف‬
‫ْ‬
‫ُب ْعده عنها و ُب ْعد ابنتها‪ ،‬وانقطاع اتّصاالت (سلمى) ربيبتها وابنة شقيقتها‬
‫(ميساء) عىل عتبة دارها‬ ‫ُ‬
‫احلال هبا يف اخلارج‪ .‬حني ظهرت ْ‬ ‫استقر‬
‫ّ‬ ‫بعد أن‬
‫استطاعت إخراج (عمر) من السجن كانت تتقافز فرحة‬‫ْ‬ ‫وأخربهتا أهنا‬
‫وأخذت تستعدّ للقائه كمراهقة خارجة للقاء‬
‫ْ‬ ‫كطفلة رغم جتاوزها الستني‬
‫فتى أحالمها‪.‬‬
‫نزلت عىل عينها‪“ :‬ما أخبار ميساء؟”‬ ‫شعر رمادية ْ‬ ‫يزيح خصلة ْ‬ ‫سأهلا وهو ُ‬
‫الزواج من رجل متواضع التعليم‪ ،‬ومتزوج”‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ر ّدت عليه بغيظ‪“ :‬تريد‬
‫ربك عن زلزال‬ ‫فرفعت حاجبيها بدهشة َمن أخ َ‬
‫ْ‬ ‫ٍ‬
‫بصوت عال‬ ‫ضحك (عمر)‬
‫ري وجهها‬ ‫ضحكه حني رأى تعب َ‬ ‫ُ‬ ‫استمر‬
‫ّ‬ ‫فاستجبت بإنكار وجود الزالزل‪.‬‬
‫عريس يناسب‬ ‫ٍ‬ ‫كأي ّأم عادية ال تفكر ّإل يف زواج ابنتها من‬ ‫وهو يراها ّ‬
‫ُ‬
‫وتنخرط يف معارك هتدّ د‬ ‫أن ابنتها حتمل السالح ّ‬
‫كل يوم‬ ‫طموحها‪ ،‬وتنسى ّ‬
‫حتارب منذ سنني‪،‬‬
‫ُ‬ ‫حياهتا كلها‪ .‬ر ّدت عليه بارتباك‪“ :‬عندك حقّ ‪ ،‬ولكنها‬
‫الغربة ذاك ّإل من أسبوعني فقط‪ ،‬ومن ساعتها‬ ‫عريس َ‬
‫ِ‬ ‫لك ّنها مل ختربين عن‬
‫جفن من القهر”‪.‬‬ ‫وأنا ال يغمض يل ٌ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪117‬‬
‫(ميساء) جالسة مع (سمري) و(إياد) وآخرين‬ ‫يف الوقت نفسه‪ ،‬كانت ْ‬
‫تفكر يف ر ّد فعل أبيها ا ُملحتمل‪ .‬قامت خارج ًة من‬ ‫يتحدثون وهي شارد ٌة ّ‬
‫ولكن‬
‫ّ‬ ‫حوارا‬
‫ً‬ ‫الغرفة بعد أن استأذنت‪ ،‬وتبعها (سمري)‪ .‬حاول أن يبدأ معها‬
‫يطل‬‫وقفت ُمستندة عىل حاج ٍز خشبي ّ‬
‫ْ‬ ‫ري مرتابط‪.‬‬‫توتره جعله ُي ِرج كال ًما غ َ‬
‫بدوره واق ًفا يف مواجهتِها‪ ،‬وقال بارتباك‪“ :‬ميساء‪..‬‬
‫عىل هبو املبنى فاستندَ عليه ْ‬
‫أريدُ أن أفاتح األستاذ (عمر) يف موضوعنا”‪ .‬حدّ قت فيه بغضب وهي تراه‬
‫يتجاهل خال َفهام األخري الذي مل ُيل ْبعد‪ ،‬وقالت وهي تضغط حروفها‪:‬‬
‫اعتذر هلا وهو‬
‫َ‬ ‫وحييين”‪.‬‬
‫كأن ال أعرفك‪ ،‬وهذا يضايقني ّ‬ ‫أشعر ّ‬
‫ُ‬ ‫“لقد جعلتني‬
‫يعن ما قال‪ّ ،‬‬
‫وأن الغرية سبقته‪.‬‬ ‫أغلظ األيامن أنه مل ِ‬‫يمسك يدَ ها‪ ،‬ويقسم َ‬
‫وأن غيابك منها معناه ّأن سأموت‪ ..‬أنا بالفعل أموت‬ ‫“أقسم أنّك حيايت‪ّ ،‬‬
‫مسار‬
‫َ‬ ‫حني تغيبنيَ ع ّني وحني تغضبني م ّني”‪ .‬نظرت إليه وكأهنا تريد أن تقرأ‬
‫صدرت من منطقة الصدق أم من منطقة‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬
‫تالفيف ّخمه‪ ،‬وترى هل‬ ‫كلامته يف‬
‫أن‬ ‫ريا عن لواعج أشواقه‪ِ ،‬‬
‫وعن استعداده ْ‬ ‫الكذب‪ .‬أكمل كال َمه وحتدث كث ً‬
‫ِ‬
‫لطوفان مشاعره‬ ‫يأيت إليها بنجوم السامء لو طلبتها‪ .‬يف النهاية استسلمت‬
‫أول‪ ،‬فأنا أخشى من‬ ‫ثم قالت‪“ :‬دعنا نرى أيب ً‬ ‫املتوسلة ّ‬
‫ّ‬ ‫اجلياشة واعتذاراته‬
‫ر ّد فعله عىل طريقة حتريره”‪.‬‬
‫وتوجهت إىل غرفة والدهيا‪ ،‬كان املبنى اسرتاحة ُمعدة لكبار الضباط‬
‫ّ‬ ‫ترك ْته‬
‫ِ‬
‫بالقرب من احلدود مع األرايض املحتلة‪ .‬طرقت‬ ‫وعائالهتم‪ ،‬والذين يعملون‬
‫ووقفت بعيدً ا ُمنتظرة االستجابة‪ ،‬فتح أبوها َ‬
‫الباب فقالت‪ ،‬وهي تأخذ‬ ‫ْ‬ ‫الباب‬
‫مهمة”‪ .‬نظر‬
‫مهم بعد ربع ساعة مع شخصيات ّ‬ ‫نفسا عمي ًقا‪“ :‬لد ْيك اجتامع ّ‬‫ً‬
‫ضمها بني ذراعيه‬
‫(ميساء) أمل تفتقدي أباك؟” ّ‬ ‫أبوها بدهشة‪ ،‬وقال‪“ :‬ادخيل يا ْ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪118‬‬
‫ثم سأهلا عن كيفية إطالق‬ ‫َ‬
‫أطراف احلديث‪ّ ،‬‬ ‫ثم أدخلها وتبادل معها‬ ‫بقوة ّ‬
‫َ‬
‫ضحك‬ ‫رساحه فر ّدت بارتباك‪“ :‬غري مرصح يل باحلديث عن تلك األمور”‪.‬‬
‫ثم قال‪“ :‬إ ًذا‪ ،‬أخربيني ِ‬
‫عن العريس‪ ،‬أم أنّه مل يرصح‬ ‫يقبلها بني عينيها‪ّ ،‬‬
‫وهو ّ‬
‫لك باحلديث ً‬
‫أيضا”‪ .‬نظرت أل ّمها بعتاب فقد كانت تريدُ أن ختربه بنفسها‪.‬‬
‫قصت عليه حكايتها مع (سمري)‪ ،‬وقبل أن يتكلم ويقول رأ َيه تعاىل‬‫ّ‬
‫شاب ثالثيني يدعوه إىل القدوم إىل غرفة‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫طرقات عىل الباب‪ .‬كان‬ ‫صوت‬
‫االجتامعات‪.‬‬
‫يدخل مثلها من قبل‪ ،‬كانت هناك طاولة اجتامعات‪ ،‬جلس‬ ‫ْ‬ ‫يف غرفة مل‬
‫ُ‬
‫مخسة رجال وامرأة واحدة‪ ،‬اثنان يرتديان أزياء عسكرية مزدانة برتب‬ ‫إليها‬
‫كربى‪ .‬قدّ موا إليه أنفسهم من اجليش واملخابرات ورئاسة اجلمهورية ووزارة‬
‫ِ‬
‫إطالق رساحه وكيف‬ ‫رجل املخابرات باحلديث عن كيفية‬ ‫ُ‬ ‫اخلارجية‪ .‬بدأ‬
‫ّأنم بادلوه بالشبان الذين قاموا بجريمة شنعاء منذ ِ‬
‫عدة سنوات‪.‬‬
‫الغضب وجه (عمر) وحتدّ ث عن استنكاره لتلك الفعلة‪ ،‬وأنه كان‬ ‫ُ‬ ‫عل‬‫َ‬
‫يفضل البقا َء يف السجن عىل حتريره بتلك الطريقة ا ُملخزية‪ .‬حاول الرجل‬ ‫ّ‬
‫قاض ُمنصف‬‫أي ٍ‬ ‫وأكد له أهنم يستحقون العقوبة‪ ،‬وأن َّ‬ ‫التهدئة من غضبه‪ّ ،‬‬
‫يف مرص قد حيكم عليهم بالسجن املؤ ّبد أو ح ّتى باإلعدام‪“ .‬لقد قلتها أنت‪،‬‬
‫ثم تس ّلمهم لألعداء‬
‫تقبض عىل مرص ّيني‪ّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫“قاض مرصي”‪ ..‬ال يعقل أن‬
‫بحجة حترير شخص أ ًّيا كان”‪.‬‬
‫مندوب رئاسة اجلمهورية وهو كان قاض ًيا فيام سبق‪“ :‬سيد عمر‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ر ّد عليه‬
‫غبار عليه‪،‬‬
‫قاض مرصي ال َ‬ ‫َ‬
‫سيخضعون ملحاكمة عادلة يراقبها ٍ‬ ‫هؤالء الشبان‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪119‬‬
‫مندوب عن األمم املتحدة”‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫أي ظلم هلم‪ ،‬وسيحرضها ً‬
‫أيضا‬ ‫يسكت عىل ّ‬
‫َ‬ ‫ولن‬
‫رجل املخابرات بحزم‪“ :‬كم‬ ‫األمر يف رأسه فتك ّلم ُ‬
‫َ‬ ‫سكت (عمر) وهو يق ّلب‬
‫فنحن ال‬
‫ُ‬ ‫وأنت تقاتل الغزاة يا سيد عمر! دعني أجيبك‬ ‫َ‬ ‫شا ًّبا مات معك‬
‫شاب مرصي طاهر يقاتل لتحرير ِ‬
‫بلده ماتوا‬ ‫ّ‬ ‫ننسى أبناءنا‪ ..‬ألف وثالثامئة‬
‫شباب كتائب‬
‫ُ‬ ‫فكر معي لو قام‬ ‫ٍ‬
‫سنوات تقري ًبا‪ّ ،‬‬ ‫حتت قيادتك عىل مدى سبع‬ ‫َ‬
‫احلرية التابعني لك بمحاولة عنرتية لتحريرك كم سيموت منهم؟” ر ّد (عمر)‬
‫َ‬
‫فكيف تطلب م ّني أن‬ ‫أقل من عرشين‪ ،‬لكن ذلك مل حيدث‬ ‫وهو يفكر‪“ :‬ليس ّ‬
‫أضحي بأربعة!”‪.‬‬
‫بلغة دبلوماسية‪ ،‬وأقنعته أهنم جمرمون‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫مندوبة اخلارجية عليه‬ ‫ر ّدت‬
‫وسيحاكمون بشكل عادل‪ ،‬وال داعي للقلق‪ .‬فر ّد (عمر) متحدّ ًيا‪“ :‬وإن‬ ‫َ‬
‫الرشط وحكموا عليهم من ّأول يوم باإلعدام بإحدى الوسائل‬ ‫َ‬ ‫خالفوا ذلك‬
‫ً‬
‫حاسم تلك النقطة‪:‬‬ ‫مندوب املخابرات‬‫ُ‬ ‫البشعة التي لدهيم!؟”‪ .‬فر ّد عليه‬
‫ٍ‬
‫بفريق من أفرادنا ملساعدتك‪،‬‬ ‫“ساعتها‪ ،‬سنساعدك يف حتريرهم وسنمدّ ك‬
‫األول يف القبض عليهم”‪ .‬عقد‬ ‫(ميساء) ابنتك صاحبة الفضل ّ‬ ‫وعىل رأسهم ْ‬
‫ِ‬
‫الغضب من ابنته لفعلها‬ ‫(عمر) حاجبيه غري مصدّ ق‪ ،‬وخالط قلبه شعور‬
‫ألنا صارت عىل هذا القدر من املهارة واخلربة رغم صغر س ّنها‪.‬‬ ‫بشعور الفخر ّ‬
‫األهم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫دعنا ننتقل للنقطة‬
‫قالت مندوبة وزارة اخلارجية‪“ :‬سيد عمر‪ْ ،‬‬ ‫ْ‬
‫فلم نرتّب هلذا االجتامع ونتك ّفل عنا َء حتريرك من أجل ذلك اجلدل!”‪ .‬قال‬
‫مجيعا يف حرب شاملة واحدة‬
‫نوحد جهودنا ً‬ ‫مندوب املخابرات‪“ :‬نريدُ أن ّ‬
‫أغي‬
‫لتحرير األرايض املحتلة”‪ .‬ر ّد عليه (عمر) هبدوء‪“ :‬ما الذي سيجعلني ّ‬
‫غيته أنا فسأفقدُ مصداقيتي بني رجايل”‪.‬‬
‫رأيي اآلن‪ ،‬وحتى لو ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪120‬‬
‫ُ‬
‫الرجل شاشة أمامه‪ ،‬وبدأ يعرض عىل (عمر) تفاصيل الوضع احلايل‬ ‫فتح‬
‫َ‬
‫عن عدد الناس يف األرايض املحتلة‪ ،‬وعدد املستوطنني‪ ،‬وعدد الزجيات‬ ‫ْ‬
‫املختلطة‪ ،‬واألطفال اهلجائن‪ ،‬وتقديرات ملا سيحدث بعد ثالثني عا ًما‬
‫جيل ً‬
‫كامل يتعدّ ى املاليني من أبناء اجلنسني‪ ،‬وهم سيكونون‬ ‫سيصري فيها ً‬
‫أمرا ال فرار منه‪،‬‬
‫ري كوهنا دولة واحدة ً‬
‫األغلبية يف األرايض املحتلة التي سيص ُ‬
‫وال عودة للخلف‪.‬‬
‫السبب الرئييس الذي يقلقك أنت وزمالؤك يا سيد عمر”‪.‬‬ ‫َ‬ ‫“أنا أعرف‬
‫منتظرا أن تكمل‬
‫ً‬ ‫أن انتهى العرض‪ ،‬فنظر هلا (عمر)‬ ‫مندوبة اخلارجية بعد ِ‬
‫ُ‬ ‫قالت‬
‫سياسيا ويكون ذلك‬
‫ًّ‬ ‫النرص عىل الغزاة‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫تستغل الدولة‬ ‫“أنت ختشى أن‬
‫فقالت‪َ :‬‬
‫وقمع احلريات”‪ .‬ر ّد عليها (عمر)‪“ :‬وهل هناك‬ ‫ِ‬
‫قبضة الدولة ْ‬ ‫حجة لزيادة‬
‫بصوت وقور‪“ :‬سيد عمر‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫سبب يدعو لالطمئنان؟” ر ّد مندوب الرئاسة‬
‫مؤسسات‪،‬‬ ‫حمل خالف؛ نحن دولة ّ‬ ‫سلطوي هو ّ‬
‫ّ‬ ‫كون مرص دولة نظامها‬ ‫ْ‬
‫إن كانت‬ ‫بغض النظر عن َمن حيكمها‪ْ ،‬‬ ‫دولة عميقة اجلذور ذات نظام راسخ ّ‬
‫ُ‬
‫التجاوز فإنّه‬ ‫ظروفنا أحيا ًنا حت ّتم أن يكون هناك بعض ال ّتجاوز ْ‬
‫لكن مهام كان‬
‫ال يوازي تفتيت مرص‪ ،‬إذا كان البديل ح ّتى لدولة قمعية”‪.‬‬
‫املرة‬
‫احلجة‪ .‬فقالت مندوبة اخلارجية‪“ :‬احلرب هذه ّ‬ ‫مل تعجب (عمر) تلك ّ‬
‫جزئيا‪ ،‬ومعنا مخس دول‬
‫ًّ‬ ‫كليا أو‬
‫ست دول حمتلة ًّ‬ ‫ستكون حر ًبا عاملية‪ ،‬نحن ُّ‬
‫حجتهم الظاهرة أهنم يساعدوننا ويتخلصون‬ ‫ُ‬
‫ستدخل معنا احلرب‪ّ ،‬‬ ‫كربى‬
‫ونحن نعلم ّأنم يطمعون يف تقنيات الطاقة اجلديدة”‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫من هتديد حمتمل‪،‬‬
‫عرض ورشحت له‬ ‫ٍ‬ ‫ثم فتحت شاش َة‬ ‫تناولت رشف ًة من كوب ماء أما َمها‪ّ ،‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪121‬‬
‫كل أركان التحالف املشاركة يف اخلطة القادمة‪ ،‬والتنازالت التي ستقدمها‬ ‫ّ‬
‫بعض جبهات املقاومة يف دول أخرى‪ ،‬ورضبت ً‬
‫مثال بفلسطني؛ املقاومون‬ ‫ُ‬
‫حل‬‫الفلسطينيون واليهود سيقاتلون جن ًبا إىل جنب بعد االتفاق عىل ّ‬
‫أن املستوطنات يف الضفة الغربية يسكنها النياندرتال َ‬
‫اآلن‬ ‫وخاصة ّ‬
‫ّ‬ ‫الدولتني‪،‬‬
‫بعد أن أخلوا املستوطننيَ اليهود منها‪ .‬ابتسم (عمر) وهو يقول‪“ :‬أكان من‬
‫ّ‬
‫تستقل فلسطني وخيرج املستوطنون‬ ‫غزو فضائي لكي‬
‫الضوري أن حيدث ٌ‬ ‫ّ‬
‫ثم قالت‪“ :‬ح ّتى األكراد حصلوا عىل ٍ‬
‫وعد من سوريا‬ ‫ِ‬
‫ابتسمت املرأة ّ‬ ‫منها؟”‬
‫يت بمميزات أفضل‪ ،‬وذلك ك ّله حتت ضغط من الدول‬ ‫وتركيا بحكم ذا ّ‬
‫الكربى الصني وأمريكا وروسيا وبريطانيا وفرنسا”‪.‬‬
‫قال (عمر) وهو خيبط ك ّفيه‪“ :‬أال يمكن أن تضغط تلك الدول ً‬
‫أيضا‬
‫حكومة مرص لتحسني الوضع السيايس!” ر ّد عليه ذو الرتبة العسكرية‬ ‫ِ‬ ‫عىل‬
‫الصالح يا سيد عمر‪ ،‬سوف يكون‬ ‫ٍ‬
‫ضغط لتفعل ّ‬ ‫“مرص ال حتتاج إىل‬
‫ُ‬ ‫األكرب‪:‬‬
‫دور كبري يف املرحلة القادمة‪ ،‬ستتصدّ رون املشهد يف املقاومة‪،‬‬
‫لك ولقادتك ٌ‬
‫ولن نستثنيكم ببساطة من معادلة احلكم بعد التحرير”‪.‬‬
‫كم األمهية التي‬
‫شعر فيها (عمر) ّ‬‫مطولة َ‬
‫االجتامع بعد نقاشات ّ‬‫ُ‬ ‫انتهى‬
‫صارت له ولرجاله وحللفائهم من النياندرتال املقاومني‪ .‬كانت خامتة‬
‫االجتامع هي االتفاق عىل أن يتشاور (عمر) مع رفاقه ّ‬
‫التاذ القرار املناسب‬
‫كل يشء‪،‬‬‫حارضين لالتفاق عىل ّ‬
‫َ‬ ‫عىل وعد باجتامع قريب يكونون فيه‬
‫دائم هلم لدى ال ّتحالف الدويل لطرد النياندرتال‪.‬‬
‫والختيار مندوب ٍ‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪122‬‬
‫‪18‬‬
‫مرت عىل (معاذ) كأهنا مخسة قرون أو أكثر منذ تسليمه‬ ‫ُ‬
‫مخسة أيام ّ‬
‫مقيدين يف منزل يف‬‫وامل ّتهمني اآلخرين إىل النياندرتال‪ .‬تركهم املقاومون ّ‬
‫َ‬
‫القبض عليهم‬ ‫حرضت الرشطة وألقت‬ ‫ِ‬ ‫وسط القاهرة‪ ،‬ومل ِ‬
‫متض ساعة ح ّتى‬
‫وأخذهتم إىل مرك ِز احتجاز ال يعرفون مكانه‪ .‬مخسة أيام ُيل َّق ُن اإلجابات التي‬
‫سيقوهلا يف املحاكمة‪.‬‬
‫مؤخرة فخذه اليمنى وفتح‬‫وضع املح ّقق يف اليوم األول رشحي ًة صغرية يف ّ‬
‫َ‬
‫ُ‬
‫الرشحية ستساعدك عىل حفظ إجابات األسئلة التي‬ ‫شاش ًة أمامه‪ ،‬وقال‪“ :‬هذه‬
‫ٌ‬
‫أسئلة باللون األمحر‬ ‫ثم فتح مر ّب ًعا يف الشاشة‪ ،‬فظهرت‬
‫سيسأهلا القايض”‪ّ ،‬‬
‫واضحا‪ ،‬وكان معرت ًفا به؛ ّ‬
‫لكن طريقة‬ ‫ً‬ ‫جرمه‬
‫وأجوبة باللون األزرق‪ .‬كان ُ‬ ‫ٌ‬
‫مستفزة‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫واعتالل يف نفسيته؛ إجابات‬ ‫إجابة األسئلة تظهر بشاع ًة يف تفكريه‪،‬‬
‫أي رشكاء غريهم األربعة‪.‬‬‫واألهم ّأنا تنفي وجو َد ّ‬
‫ّ‬ ‫أي أحد‪،‬‬ ‫َ‬
‫تعاطف ّ‬ ‫تفقده‬
‫ُ‬
‫املحقق بتغيري تلك الطريقة يف اإلجابة‪.‬‬ ‫يسمح له‬
‫َ‬ ‫تك ّلم ّ‬
‫بتوسلٍ يرجو أن‬
‫كتفيه كأنّه يقول إن ما سيحدث الح ًقا هو اختيارك‪.‬‬‫وهز ْ‬
‫مط املحقق شفتيه ّ‬ ‫ّ‬
‫يسي يف ِ‬
‫فخذه اليمنى يمتدّ ألسفل ح ّتى‬ ‫ٍ‬
‫حارق ْ‬ ‫أحس فجأة بتيا ٍر كهربائي‬
‫ّ‬
‫َ‬
‫رصخ من األمل فقال املحقق‪:‬‬ ‫ِ‬
‫فقرات ظهره السفىل‪.‬‬ ‫قدمه‪ ،‬ولألعىل ح ّتى‬
‫ستجرب جرعة كتلك تتزايد‬
‫ُ‬ ‫وكل كلمة ختطئ هبا‬ ‫“سآيت لك يف صباح الغد‪ّ ،‬‬
‫مع تزايد أخطائك‪ ..‬صدقني اجلرعات األعىل من ذلك األمل جتعل فكرة‬ ‫َ‬
‫املوت أشبه بنزهة”‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪123‬‬
‫َ‬
‫شكل اجلرعة األكرب من هذا‬ ‫يتخيل‬
‫يكن يريد أن ّ‬
‫مفزعا‪ ،‬ومل ْ‬
‫ً‬ ‫كان األمل‬
‫رغم ق ّلة‬
‫تكن مهمة سهلة َ‬‫األمل‪ ،‬ولذلك بدأ بح ْفظ اإلجابات كام هي‪ .‬مل ْ‬
‫بدنو األجل كانا يش ّتتان تفكريه‪ .‬عىل مدى‬ ‫ُ‬
‫فاخلوف وإحساسه ّ‬ ‫عدد الكلامت‬
‫وجر َب إحساس األمل‬
‫ّ‬ ‫عن ظهر قلب‪،‬‬ ‫َ‬
‫حفظ إجاباته ْ‬ ‫األيام األربعة التالية‬
‫جيمع بني اإلحساس بالتيار‬
‫ُ‬ ‫مرتني؛ منها واحدة باجلرعة األعىل‪ .‬كان األ ُمل‬‫ّ‬
‫ٍ‬
‫زائدة دودية انفجرت‬ ‫احلارق واإلحساس بتق ّلصات داخل أحشائه ّ‬
‫كأن مائة‬
‫يف بطنِه يف آن واحد‪.‬‬
‫ري املح ّققني وقال هلم‪ّ :‬‬
‫إن املحاكمة‬ ‫َ‬
‫قبل املحاكمة بعدّ ة ساعات أجلسهم كب ُ‬
‫وإن اخلروج عىل النص لن يرضَّ غري صاحبه الذي‬ ‫متر بدون مشاكل‪ّ ،‬‬‫جيب أن ّ‬
‫س ُيعاين من أمل ٍ رهيب فرت ًة طويلة سيتم ّنى معها املوت ولن جيده ّإل وقت‬
‫ٍ‬
‫واحد‬ ‫بغرس رشحية دقيقة يف رأس ّ‬
‫كل‬ ‫ِ‬ ‫يقرروا ُهم‪ .‬قام أحدُ الضباط‬ ‫أن ّ‬
‫مصم ٍ‬
‫مة لتالمس قرش َة املخ‪ ،‬وتتحكم يف استجابات‬ ‫ّ‬ ‫خاص‬
‫ّ‬ ‫منهم بمسدس‬
‫الشخص املَ ْحقون هبا‪.‬‬

‫إن خرجتم عن النص”‪.‬‬ ‫توضح لكم ما سيحدث ْ‬


‫“اآلن‪ ،‬سنُجري جتربة ّ‬
‫كرسيا واحدً ا من املتهمني‬
‫ًّ‬ ‫فجر‬ ‫ري املح ّققني‪ ،‬وأشار إىل ِ‬
‫أحد رجاله‪َّ ،‬‬ ‫قال كب ُ‬
‫نظر املتهمون إىل‬
‫زر صغري يف يده‪َ .‬‬ ‫َ‬
‫ضغط عىل ّ‬ ‫ثم‬
‫ليجلس قبالة زمالئه‪ّ ،‬‬
‫لكن نظرته كان تيش‬
‫حيرك ساكنًا‪ّ ،‬‬ ‫دون أن ّ‬ ‫عينيه بينهم َ‬
‫زميلهم كان ينقل ْ‬
‫فانطلقت رصخة عالية من‬
‫ْ‬ ‫زرا آخر‬ ‫َ‬
‫ضغط املح ّقق ًّ‬ ‫بمزيج من األمل والرجاء‪.‬‬
‫ٍ‬
‫الرجل‪ ،‬وتق ّلص وجهه ّ‬
‫وتلوى جسدُ ه وهو ْيرجو منهم التوقف‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪124‬‬
‫تتحكم يف االستجابة اجلسدية لألمل فتجعل‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫“الرشحية يف رؤوسكم‬
‫دون أن يظهر عىل وجهه أنه يتأمل”‪ .‬قال‬ ‫الضحية تعاين من أمل ٍ متضاعف َ‬
‫الدور‬
‫ُ‬ ‫ري إىل أحد الضباط ويقول‪“ :‬التايل”‪ ،‬وكان‬ ‫ري املحققني قبل أن يش َ‬
‫كب ُ‬
‫استوعب الدرس‪ ،‬وإنّه‬
‫َ‬ ‫متوس ًل ويقول‪ ..‬إنّه‬
‫ّ‬ ‫عىل (معاذ) الذي أخذ يبكي‬
‫جلس قبالة اجلميع‪،‬‬ ‫َ‬ ‫لكن توسالته كانت بدون جدوى‪.‬‬ ‫لن يغري أقواله‪ّ ،‬‬
‫ثم بدأ‬
‫ثم رأسه ّ‬‫رسيعا إىل ظهره‪ّ ،‬‬
‫ً‬ ‫عمود النار يف فخذه‪ ،‬وامتدّ‬
‫ُ‬ ‫وفجأة تصاعد‬
‫شخصا كرس عظا َمه‪ ،‬وأخذ ّ‬
‫حيك األجزا َء املكسورة‬ ‫ً‬ ‫كأن‬ ‫ذلك األمل يف ّ‬
‫فك ْيه ّ‬
‫ببعضها‪.‬‬
‫أو ملس مكان األمل‪ ،‬كانت موجعة‬ ‫والتلوي‪ْ ،‬‬
‫ّ‬ ‫الصاخ‬‫عدم قدرته عىل ّ‬ ‫ُ‬
‫لكن روحه تتق ّلب عىل‬
‫أنفاسه طبيعية وجسدُ ه ساكن‪ّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫أكثر من األمل نفسه‪.‬‬
‫اهللع وبنيَ عيون املحقق‬
‫تتجول بني عيون زمالئه التي يملؤها ُ‬
‫ّ‬ ‫مجر‪ ،‬نظراته‬
‫ويتلوى من‬
‫ّ‬ ‫ريا‪ ،‬وجدَ نفسه يرصخ ّ‬
‫بقوة‪،‬‬ ‫اجلامدة كعيون متثال حجري‪ .‬أخ ً‬
‫شعوره باألمل بشكل عجيب‪.‬‬
‫َ‬ ‫وشعور باالرتياح خيالط‬
‫ٌ‬ ‫األمل‪،‬‬
‫اس جلدية‬ ‫يف منتصف اليوم‪ ،‬كانوا جالسنيَ يف قاعة فسيحة عىل َك َر ٍ‬
‫جلس عليها أربعة من النياندرتال يبدو هلم ّأنم‬
‫َ‬ ‫منصة‬
‫ُمتقاربني يف مواجهة ّ‬
‫السن‪ ،‬مرتد ًيا‬
‫ري ّ‬ ‫ٌ‬
‫رجل مرصي كب ُ‬ ‫قضاة تلك اجللسة‪ .‬عىل يمينهم جلس‬
‫يتفحصهم‬ ‫يدون فيها ملحوظاته وهو ّ‬ ‫ٌ‬
‫أوراق ّ‬ ‫الروب املميز للقضاة‪ ،‬وأمامه‬
‫حتت تأثري التعذيب أم ال‪.‬‬
‫كأنه يستطلع إن كانوا َ‬
‫وجود لوظيفة املحامي‪ ،‬بل يتوىل امل ّتهم أو‬
‫ٌ‬ ‫ليس يف قانون النياندرتال‬
‫قرا‬ ‫َ‬
‫احلديث عن نفسه‪ ،‬ويف اجلرائم البشعة كتلك إذا كان امل ّتهم ُم ًّ‬ ‫ا ُملتقايض‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪125‬‬
‫وتوسله لتخفيف‬
‫ّ‬ ‫عن شعوره بالذنب‪،‬‬ ‫املتهم باحلديث فقط ْ‬
‫ُ‬ ‫بذنبه يقوم‬
‫يصدر القضاة ً‬
‫حكم خم ّف ًفا بالسجن املؤبد أو باإلعدام‬ ‫ُ‬ ‫العقاب‪ ،‬وبناء عليه قد‬
‫الرسيع رم ًيا بمقذوف يف القلب‪ ،‬أو ال يقتنعون بند ِم اجلاين ف ُيصدرون ً‬
‫حكم‬
‫باإلعدام البطيء املؤمل‪.‬‬
‫فأقروا‪،‬‬ ‫ري القضاة عن إقرارهم بالذنب بعد ْ‬
‫أن قرأ عليهم االهتام ّ‬ ‫سأهلم كب ُ‬
‫ِ‬
‫وجود رشكاء هلم خارج قاعة املحكمة‪،‬‬ ‫تلو اآلخر‪ .‬سأل القايض عن‬‫واحدً ا َ‬
‫هارب خارج أديتيا‪ ،‬وال أعرف‬
‫ٌ‬ ‫بالرد ً‬
‫قائل‪“ :‬واحد فقط وهو‬ ‫فبدأ (معاذ) ّ‬
‫صمت اجلميع‪ ،‬فأشار القايض‬
‫َ‬ ‫عنه شيئًا”‪ .‬ور ّد الباقون بالطريقة نفسها‪.‬‬
‫أي إضافة‬
‫ري القضاة فسأهلم‪“ :‬هل لدى أحدكم ّ‬
‫املرصي ليتحدّ ث‪ ،‬فأذن له كب ُ‬
‫حرضكم أو ساعدكم”‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫شخص ّ‬ ‫عن‬
‫صمت ومل يكمل‬ ‫َ‬ ‫ثم قال حبيب‪“ :‬يف احلقيقة‪”...‬‬ ‫تبادلوا النظرات‪ّ ،‬‬
‫َ‬
‫التقط‬ ‫يتعرض اآلن ألمل ٍ ُمربح ال يقدر عىل التعبري عنه‪.‬‬
‫وتوقع (معاذ) أنّه ّ‬
‫ثم‬ ‫َ‬
‫أوقف كالمه ثانية ّ‬ ‫ثم قال‪“ :‬هناك بعض احلـ‪”...‬‬ ‫نفسا عمي ًقا ّ‬
‫(حبيب) ً‬
‫إن زميلنا اهلارب هو َمن‬‫تدخل (معاذ) مشف ًقا عليه وقال‪“ :‬هو يريد أن يقول ّ‬
‫فهو الوحيد الذي يمكن‬ ‫دعم من آخرين َ‬ ‫كان يدير العملية‪ ،‬وإن كان هناك ٌ‬
‫مجيعا كنا نترصف من تلقاء أنفسنا‪ ،‬ومل خيطر ببالنا ّ‬
‫أن هناك‬ ‫أن يعرف‪ ،‬لك ّننا ً‬
‫غرينا”‪.‬‬
‫ّ‬
‫يستشف شيئًا‬ ‫ً‬
‫حماول أن‬ ‫النظر لوجه (حبيب)‬
‫َ‬ ‫أمعن القايض املرصي‬ ‫َ‬
‫كان يو ّد قو َله‪ ،‬أو تعب ً‬
‫ريا عىل وجهه يوحي بأنّه حتت الضغط؛ لكنه مل يستطع‬
‫جراء ما فعلوا‪،‬‬
‫ري القضاة عن شعورهم بالندم واخلزي ّ‬
‫حتديد يشء‪ .‬سأهلم كب ُ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪126‬‬
‫وعدم الندم عليه‪،‬‬
‫َ‬ ‫اإلرصار عىل الذنب‬
‫َ‬ ‫ٍ‬
‫إجابات خمتلفة‪ ،‬ك ّلها حتمل‬ ‫فأجابوا‬
‫وقال أحدهم إنّه لو عا َد به الزمن سيكررها ثانية‪.‬‬

‫“حكمت عليكم عدالة أديتيا باإلعدام البطيء بالتعليق‪ ،‬وين ّفذ احلكم‬
‫ْ‬
‫وسط احتجاج‬‫َ‬ ‫ثم قام هو وزمالؤه‬ ‫شمس الغد‪َ ..‬‬
‫قيض األمر”‪ّ .‬‬ ‫ِ‬ ‫عند رشوق‬
‫مرة حماكمة ين ّفذ حكمها بعد ّ‬
‫أقل‬ ‫ألول ٍ‬‫من القايض املرصي الذي يرى ّ‬
‫من أربع وعرشين ساعة‪ ،‬ومن ّأول جلسة‪ ،‬ودون حقّ الستئناف احلكم‪.‬‬
‫مراقب‬
‫ٌ‬ ‫وأنت هنا‬
‫َ‬ ‫ر ّد عليه أحد القضاة ً‬
‫قائل‪“ :‬نحن نحكم بقوانني أديتيا‪،‬‬
‫سحقت حتت‬
‫ْ‬ ‫فقط”‪ .‬مل ير ّد عليه‪ ،‬وانرصف غاض ًبا وهو ينعي العدالة التي‬
‫األقدام اليوم‪.‬‬

‫مقر تنفيذ احلكم؛ وهو‬ ‫يف الصباح التايل‪ ،‬أخذوا معاذ ومعه رفا ُقه َ‬
‫نحو ّ‬
‫سور القاهرة الفاطمية‪ .‬كانت عىل أرض امليدان‬
‫ُ‬ ‫ميدان واسع ّ‬
‫يطل عليه‬
‫ارتفاع الواحد منها مرت ْين وأربع طاوالت‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أربعة أعمدة تقف ُمنتصبة يبلغ‬
‫ٍ‬
‫بآالت حا ّدة خترتقه وتثبت جسده بالكامل‬ ‫شعر‬
‫وضعوه عىل واحدة منها ‪َ .‬‬
‫ِ‬
‫عرشات املسامري التي تصل عمقَ عظامه‬ ‫ين كبري عن طريق‬ ‫لوح معد ّ‬
‫يف ٍ‬
‫كأنا عرق‪،‬‬ ‫ُ‬
‫تسيل ببطء من فتحات املسامري ّ‬ ‫الدماء‬
‫ُ‬ ‫باللوح املعدين‪ .‬كانت‬
‫أن تتسارع تلك الدّ ماء‪ ،‬ويزداد ُ‬
‫نزيفه ح ّتى يموت‬ ‫ٍ‬
‫بصوت عال ْ‬ ‫دعا اهلل‬
‫رسيعا‪.‬‬
‫ً‬
‫مشهد من مشاهد تعذيب يف القرون الوسطى ال ينقصه ّإل‬ ‫ٍ‬ ‫شعر بأنّه يف‬
‫َ‬
‫وقوف الغوغاء هي ّللون لعملية اإلعدام‪ ،‬ويقذفون امل ّتهم بأشياء يف أيدهيم‪.‬‬
‫ُ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪127‬‬
‫َ‬
‫وسط رصخات وتوسالت‬ ‫مثب ًتا متا ًما ومفرو ًدا عىل ال ّلوح املعدين‬
‫كان جسده ّ‬
‫يتعرضون للعملية ذاهتا‪.‬‬ ‫ومن زمالئه الذين ّ‬ ‫منه ِ‬

‫وثبتت ال ّلوح املعدين بجسده امللتصق‬ ‫ٌ‬


‫رافعة كبرية ّ‬ ‫يف النهاية‪ ،‬جاءت‬
‫مراسم موته البطيء بعد أن تو ّقف النزيف من‬
‫ُ‬ ‫عليه إىل العمود‪ ،‬وبدأت‬
‫دخل جسده فيها مسامري تثبيت‪ .‬كان األ ُمل ينبعث من ّ‬
‫كل‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫كل النقاط التي‬
‫ضوء الشّ مس احلارق الذي يدخل عينيه‪ ،‬وهو حياول‬‫ُ‬ ‫نقطة منها‪ ،‬وزاد عليها‬
‫َ‬
‫حتريك رأسه بعيدً ا لكن بدون جدوى‪.‬‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪128‬‬
‫‪19‬‬
‫يدخن سيجارة وينفث‬‫قاعة اجتامعات صغرية ّ‬ ‫جلس ماندريك وحيدً ا يف ِ‬ ‫َ‬
‫أن التبغَ هو احلسنة الوحيدة‬‫دخانا ببطء‪ ،‬ويتأمله وهو يتش ّتت أمامه‪ ،‬ويفكر ّ‬
‫َ‬
‫الغزو ألمىض حياته َ‬
‫دون‬ ‫ُ‬ ‫لوال‬ ‫ِ‬
‫كوكب األرض‪ ،‬وأنه ْ‬ ‫التي ناهلا من املجيء إىل‬
‫يتحسس مكان املقذوف‬ ‫ّ‬ ‫ذراعه أمامه وهو‬
‫أن جيرب هذا اإلحساس‪ .‬فر َد َ‬
‫الذي أصابه يف أثناء حماولتِه الفاشلة الختطاف هريمني‪.‬‬
‫األول مع عمر بعدَ خروجه من السجن‪،‬‬ ‫يف اليوم السابق‪ ،‬كان لقاؤه ّ‬
‫يمر عامان منذ ُقبض عىل األخري‪.‬‬ ‫معا وجتاذ َبا أطراف احلديث ْ‬
‫كأن مل ّ‬ ‫جلسا ً‬
‫ِ‬
‫عمليات املقاومة التي جتري‬ ‫كان هو و(عمر) عىل َمدار سبع سنوات يديران‬
‫ُ‬
‫الفضل ُلعمر وحده مادام‬ ‫أن ينسب‬‫أي غضاضة يف ْ‬ ‫يف مرص‪ ،‬ومل يكن لديه ّ‬
‫يتم؛ وهو جعل إقامة األديتيني عىل األرض غري مأمونة‪.‬‬
‫الغرض ّ‬
‫وسنتي من العمل بعده‪،‬‬
‫ْ‬ ‫أن سبع سنوات من العمل مع (عمر)‪،‬‬ ‫عىل ّ‬
‫ُ‬
‫االحتالل‬ ‫أي تقدم‪ ،‬بل عىل العكس كان‬
‫ومئات العمليات؛ مل تفلح يف إظهار ّ‬
‫اعرتفت ٌ‬
‫دول كثرية‬ ‫ْ‬ ‫يثبت أقدامه يو ًما بعد يوم‪ ،‬وكانت الطامة الكربى حني‬
‫نوعا من العبث‪ ،‬وبدأ‬
‫االستمرار يف املقاومة هبذه الطريقة ً‬
‫ُ‬ ‫بدولة أديتيا‪ ،‬وصار‬
‫هو وزمالؤه يف التفكري يف إسرتاتيجيات أخرى‪.‬‬
‫َ‬
‫مندوبون عن احلكومات يتواصلون مع املقاومني‬ ‫جاءهم ّ‬
‫احلل حني بدأ‬
‫َ‬
‫التعاون واالنضامم لتحالف واحد‪،‬‬ ‫األديتيني يف ٍ‬
‫دول ُمتلفة‪ ،‬ويعرضون عليهم‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪129‬‬
‫تكمن يف (عمر) وكث ٍ‬
‫ري من املؤمنني بفكرته يف الثورة عىل‬ ‫ُ‬ ‫ولكن املشكلة كانت‬
‫ّ‬
‫هيتم باألساس بإهناء‬
‫الغزاة وعىل احلكومات يف الوقت ذاته‪ .‬ماندريك كان ّ‬
‫املتكسبني من تلك املغامرة الذين‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫والتوقف عن استنزاف شعبِه لصالح‬ ‫الغزو‬
‫خط الفقر‪ ،‬وأداروا موار َد ضخمة‬‫األم يعيشون حتت ّ‬
‫تركوا املاليني يف الكوكب ّ‬
‫در األرباح عىل ُط ٍ‬
‫غمة منهم‪،‬‬ ‫غني بمصدر طاقة ُي ّ‬
‫جزء من األرض ّ‬ ‫الحتالل ٍ‬
‫ٍ‬
‫بمعتقد غريب حي ّتم العود َة لكوكب األرض‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫جمموعة من املهاويس‬ ‫ويعاوهنم‬
‫ُح ّر َر (عمر)‪ ،‬واجتمع به مندوبو حكومته‪ ،‬وملسوا منه لينًا يف موقفه‪،‬‬
‫أن (عمر) سعيدٌ‬ ‫يشعر أحيا ًنا ّ‬
‫ُ‬ ‫دور ماندريك إلقناعه هو اآلخر‪ .‬كان‬ ‫وجاء ُ‬
‫بغض النظر عن النتيجة‬ ‫ّ‬ ‫بدور املقاوم البطل الذي يتغ ّنى الناس بمآثره‬
‫حقيقيا‪ ،‬وال بدّ‬
‫ًّ‬ ‫واقعا‬
‫لبعض الوقت لك ّنها ال تبني ً‬‫ِ‬ ‫النهائية‪ .‬املثالية قد تصلح‬
‫ٍ‬
‫لقناعة‬ ‫َ‬
‫وصل يف النهاية‬ ‫لقليل من الربامجاتية لضبط الصورة وحتقيق اهلدف‪.‬‬
‫لكن‬ ‫ضغط فقط‪ّ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫تصلح كوسيلة‬
‫ُ‬ ‫تضم أفرا ًدا هبذا الشكل‬
‫أن املقاومة التي ّ‬ ‫ّ‬
‫يفل احلديد إال احلديدُ‬‫احلكومات يف النهاية هي َمن تقدر عىل املواجهة؛ فال ّ‬
‫كام يقول األرضيون‪.‬‬
‫أن احلكومة تواصلت معه ومع القادة الستة‬ ‫جلس مع (عمر)‪ ،‬وأخربه ّ‬
‫َ‬
‫وإنم يميلون إىل التعاون‪ ،‬لك ّنهم مرتددون وحيتاجون إىل‬
‫للمقاومة يف مرص‪ّ ،‬‬
‫(عمر) ليحسم معهم ذلك الرتدد‪.‬‬
‫حمرجون من إخباري بتلك احلقيقة”‪.‬‬ ‫“أعتقدُ أنّكم وافقتم بالفعل‪ ،‬لك ّنكم َ‬
‫ردا‬ ‫رد (عمر)‪ ،‬ومل ِ‬
‫ينف ماندريك ذلك‪ ،‬لك ّنه أكد أهنم مل يعطوا ًّ‬ ‫كان هذا َّ‬
‫أجلوا االتفاق معهم ح ّتى إخراج (عمر) من سجنه‪.‬‬‫وأنم ّ‬‫للحكومة املرصية‪ّ ،‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪130‬‬
‫خطة واضحة إلهناء‬ ‫ألول مرة منذ الغزو هناك ّ‬‫“اسمع يا صديقي‪ّ ،‬‬‫ْ‬
‫تقدر‬ ‫ِ‬
‫جمرد حماوالت إلزعاجهم ح ّتى هيربوا‪ ،‬خذ القدر التي ُ‬ ‫االحتالل وليس ّ‬
‫تتغي معادلة احلكم يف بلدك‪،‬‬
‫عليه من حقك‪ ،‬وصدّ قني بعد التحرير سوف ّ‬
‫وستكون أنت والثوار ُركنًا ًّ‬
‫مهم فيها”‪.‬‬
‫ظهره‪ ،‬وقال بتوتّر‪،‬‬ ‫صمت ُعمر‪ ،‬قام من مقعده ومتشّ ى ً‬
‫قليل وهو يسند َ‬ ‫َ‬
‫أمل الظهر سيجربين عىل املوافقة”‪ .‬ابتسم ماندريك ِ‬
‫ملزاحه‪،‬‬ ‫أن َ‬‫مازحا‪“ :‬يبدو ّ‬
‫ً‬
‫محاس الشباب يا ماندريك‪ ،‬أخشى ح ّتى لو‬ ‫ظل ينظر مرت ّق ًبا‪“ .‬أنت تعرف َ‬ ‫لك ّنه ّ‬
‫قائل‪“ :‬سوف‬ ‫وينفضوا من حولنا”‪ .‬أجاب ً‬ ‫ّ‬ ‫وافقت مبدأك ْ‬
‫أن يعتربوا أننا نتنازل‬
‫ّ‬
‫األقل يف الفرتة التي‬ ‫حتت إمرتنا‪ -‬عىل‬ ‫قوات املقاومة يف الداخل َ‬ ‫ِ‬ ‫تكون ّ‬
‫كل‬
‫كرر (عمر) الكلمة‬ ‫تسبق احلرب الشاملة‪ -‬ستكون اسمها املقاومة اهلجينة”‪ّ .‬‬
‫انطباعا لشبابنا أنّنا‬
‫ً‬ ‫فأكمل ماندريك‪“ :‬نعم‪ ،‬سيعطي هذا‬ ‫َ‬ ‫“املقاومة اهلجينة”‪،‬‬
‫ن ّتحد مع حكومات األرض ّاتا َد ال ّند مع الندّ ‪ ،‬وليس احتا َد التابع مع القائد”‬
‫هنائيا بالفكرة‪ ،‬والتقط‬
‫اقتناعا ًّ‬
‫ً‬ ‫آخر كالم له قبل أن ُيبدي (عمر)‬ ‫كان هذا َ‬
‫يضطر للضغط عليه وإخباره أن‬
‫ّ‬ ‫ماندريك ساعتَها َن َف َسه يف ارتياح ألنّه مل‬
‫َ‬
‫موافقون عىل الفكرة‪ ،‬وقد هدّ د بعضهم بالتعاون مع‬ ‫ّ‬
‫كل املقاومني األديتيني‬
‫احلكومات ّ‬
‫بغض النظر عن اشرتاك املقاومني األرضيني يف اخلطة من عدمه‪.‬‬
‫كان ينتظر لقاءه الثاين مع عمر الذي ظل مقيام يف احلوامدية يف املقر‬
‫أخذ آخر َن َفس من‬ ‫احلكومي الذي استقبلوه فيه بعد خروجه من السجن‪َ .‬‬
‫ِ‬
‫بالرشفة اآلخرية من كوب القهوة املوضوع أما َمه‬ ‫سيجارته بعمق‪ ،‬وأتبعه‬
‫السجائر يو ًما ما”‪ .‬ر ّد عليه‬
‫ُ‬ ‫صوت ُعمر يقول‪“ :‬ستقتلك هذه‬
‫َ‬ ‫قبل أن يسمع‬
‫ريا منكم ال تؤ ّثر فيها تلك التفاهات”‪ .‬جلس ُعمر‬
‫“أجسادنا أقوى كث ً‬
‫ُ‬ ‫بمرح‪:‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪131‬‬
‫يرحب به ماندريك قال له ُعمر‬ ‫وهو يمسك ِ‬
‫بيده كو ًبا من الشاي‪ ،‬وقبل أن ّ‬ ‫َ‬
‫كنت تريد خطفها للضغط‬ ‫باسم‪“ :‬حدّ ثني عن لقائك الرسيع هبريمني‪ ..‬هل َ‬ ‫ً‬
‫بأن ُيفض صوته وهو‬ ‫أشار له ماندريك ْ‬
‫َ‬ ‫عليهم ح ًّقا‪ ،‬أم ألنّك افتقدهتا”‪.‬‬
‫أي شخص ّإل عمر‪،‬‬ ‫مع هريمني ال يعرف هبا ّ‬
‫إن حكايته القديمة َ‬ ‫يقول‪ّ ..‬‬
‫وإنا قد تق ّلل من مصداقيته أمام البعض‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫ضاحكا‪ .‬فقال ماندريك‪:‬‬ ‫وكرر سؤاله‬
‫ّ‬ ‫غي ُعمر صو َته للهمس‪،‬‬ ‫ّ‬
‫أعرف حقيقة شعوري‪ ،‬لك ّنني كنت ًّ‬
‫مغتم جدًّ ا وأنا‬ ‫ُ‬ ‫“أصدقك القول‪ ..‬ال‬
‫مهم ٍة‬
‫جمر َد شعور جتاه فشل ّ‬ ‫أن أحرضها معي‪ ،‬ومل يكن ّ‬ ‫املقر دون ْ‬
‫أعود إىل ّ‬
‫يذكر هجومه الشديد عليها يف الربنامج التليفزيوين‪،‬‬ ‫اعتيادية”‪ .‬كان ال يزال ُ‬
‫وامحرار وجهها حني فوجئت به أما َمها‪ ،‬ور ّد‬
‫َ‬ ‫وسعادته حني رأى ارتباكها‬
‫حتبه كام كانت‪.‬‬ ‫فعلها املبا َلغ فيه‪ ،‬والذي ّأكد له أهنا ال ُ‬
‫تزال ّ‬
‫(ميساء) وهي دامعة العينني‪ ،‬سأهلا أبوها عن سبب‬ ‫ُ‬
‫دخول ْ‬ ‫قطع حديثهام‬
‫َ‬
‫دموعها‪ ،‬ففتحت شاش ًة أمامها تنقل املشهدَ الذي أبكاها‪ .‬كانت الكامريا‬ ‫ِ‬
‫ثم‬‫شبان تعرف منهم (معاذ) و(حبيب)‪ّ ،‬‬ ‫تتجول بني الوجوه ّ‬
‫املعذبة ألربعة ّ‬
‫كل واحد‬ ‫معدنية حيمل ّ‬
‫ّ‬ ‫تبتعد لتظهر امليدان الذي تنتصب فيه أربعة أعمدة‬
‫ثم تقرتب وتظهر طريق َة‬
‫شاب من األربعة‪ّ ،‬‬
‫معدنيا مصلو ًبا عليه ّ‬
‫ًّ‬ ‫منها ّ‬
‫مسط ًحا‬
‫لوح معدين بعرشات املسامري‪.‬‬
‫الصلب البشعة بتثبيت اجلسد عىل ٍ‬
‫انتفض (عمر) يف غضب وهو يقول هلا بانفعال‪“ :‬وملاذا تبكنيَ ! أمل‬ ‫َ‬
‫وزمالؤك َمن قام بالقبض عليهم! اذهبي اآلن واستدعي‬ ‫ِ‬ ‫تكوين ِ‬
‫أنت‬
‫الشبان املساكني”‪ .‬أهنى ُجلته‬ ‫أحدَ قادتك لنرتب معهم َ‬
‫كيف ننقذ هؤالء ّ‬
‫أكثر‬
‫ثم تأمل َ‬ ‫وجه مألوف‪ّ ،‬‬‫ثم استوقفها ثانية‪ ،‬وتأ ّمل املشهد فقد بدَ ا له ٌ‬
‫ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪132‬‬
‫وجها آخر‪ ،‬فقال بدهشة‪“ :‬هذا الفتى‪( ..‬معاذ) زمي ُلك َ‬
‫أيام الدراسة‪،‬‬ ‫فوجد ً‬
‫ِ‬
‫عليك تسليمه لتلك النهاية البشعة! وهذا الرجل إنّه‬ ‫أليس كذلك؟ َ‬
‫هان‬
‫أحدُ أشجع َمن قاتلوا معي‪ ،‬ال أذكر َ‬
‫اسمه اآلن لك ّنه مقاتل ُصلب‪ ،‬وإنسان‬
‫طيب‪ ،‬ال يستحقّ هذا‪ ،‬ح ّتى لو كان أخطأ يف املايض”‪.‬‬
‫ثم انرصفت َ‬
‫دون أن تتكلم‪ ،‬وهو ال‬ ‫أغلقت الشاشة قبل أن يكمل‪ّ ،‬‬‫ِ‬
‫َ‬
‫حاول ماندريك هتدئته بالتأكيد‬ ‫ٍ‬
‫بعنف من الغيظ‪.‬‬ ‫أرضاسه‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫يضغط‬ ‫يزال‬
‫تسعا‬
‫وأن هناك ُم ً‬ ‫ّ‬
‫األقل ثالثة أيام‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬
‫يأخذ عىل‬ ‫عىل ّ‬
‫أن اإلعدام بتلك الطريقة‬
‫ثم ر ّبت عىل كتفه ُمعات ًبا إ ّياه عىل انفعاله الشديد عىل‬
‫من الوقت إلنقاذهم‪ّ ،‬‬
‫حتريره يف الوقت نفسه‪.‬‬
‫َ‬ ‫وأنا كانت تؤدي عم َلها‪ ،‬وحتاول‬
‫(ميساء)‪ّ ،‬‬ ‫ْ‬
‫تم االجتامع‪ ،‬وجلس (عمر) وماندريك مع ضابط كبري‬ ‫ٍ‬
‫معدودة ّ‬ ‫يف دقائقَ‬
‫(ميساء) و(سمري)‪ .‬طلب ُعمر منه أن يساعدوهم‬ ‫من ا ُملخابرات‪ ،‬وإىل جواره ْ‬
‫إمكانياتكم وعدد‬
‫ّ‬ ‫يف حتري ِر هؤالء الشبان َّ‬
‫فرد الرجل‪“ :‬سيد (عمر)‪ ،‬أنتم‬
‫أكثر م ّنا‪ ..‬دورنا يف مساعدتك سيكون ً‬
‫دعم‬ ‫رجالكم يف األرض املحتلة ُ‬
‫فقط‪ ،‬لك ّنني لن أخاطر بالرجال عىل األرض”‪.‬‬
‫“عذرا سيدي‪ ،‬أعتقد أنّني وزمالئي‬
‫ً‬ ‫(ميساء) للضابط بصوت ُمرتدد‪:‬‬
‫قالت ْ‬
‫يف املجموعة نشعر ّ‬
‫بالذنب جتا َه هؤالء الشبان‪ ،‬ونأمل أن توافق عىل ْ‬
‫أن نشارك‬
‫يف حتريرهم”‪ .‬ر ّد (عمر) عليها وهو يقول‪ ..‬إنّه ال يريد منها االشرتاك‪ ،‬وال‬
‫دعم بتقنيات إضافية أو مركبات‪.‬‬‫وكل ما يريده ً‬
‫يريد أفرا ًدا من كتائب النرص‪ّ ،‬‬
‫“عذرا يا سيدي‪ ،‬أنا أحتدث مع القائد‬
‫ً‬ ‫(ميساء) إليه بتحدٍّ وهي تقول‪:‬‬‫نظرت ْ‬
‫أغضبت كلامهتا (عمر)‪ ،‬وأصابته يف كربيائه‬
‫ْ‬ ‫املسئول عني‪ ،‬وليس معك”‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بعنف وهو يفكر أنّه مل يتخيل يو ًما أن ينجب بن ًتا تناطحه هكذا!‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪133‬‬
‫ثم استأذن منهم للتشاور‪،‬‬‫حك الضابط الكبري ذقنَه وهو يفكر يف قراره‪ّ ،‬‬‫ّ‬
‫ِ‬
‫النظرات الغاضبة مع ابنته‪.‬‬ ‫وعاد بعدَ بضع دقائق‪ .‬كان ُعمر خالهلا يتبادل‬
‫ِ‬
‫وافقت‬ ‫ثم قال‪“ :‬اسمع يا سيد عمر‪ ،‬لقد‬ ‫نفسا عمي ًقا ّ‬ ‫َ‬
‫وأخذ ً‬ ‫جلس الرجل‬
‫القيادة عىل االشرتاك معك يف العملية‪ ،‬سوف يشرتك املقدم (إياد) معكم‬
‫يف قيادهتا‪ ،‬وسوف يشرتك أربعة من أفرادنا يف التنفيذ”‪ .‬ر ّد عليه ماندريك‬
‫(ميساء) يف التنفيذ”‪.‬‬
‫أن تشرتك ْ‬ ‫بارتياح‪“ :‬اتفقنا”‪ .‬فأضاف عمر‪“ :‬لكن ال أريد ْ‬
‫مهت بالرد عليه‪،‬‬‫بمزيج من الدهشة والغضب‪ ،‬و ّ‬ ‫ٍ‬ ‫(ميساء) فيه‬
‫حدّ قت ْ‬
‫حمذرة من قائدها الذي قال‪“ :‬سيد عمر‪ ،‬نحن ال نختار رجالك‪،‬‬ ‫لوال نظر ٌة ّ‬
‫وأنت كذلك ال سلط َة لك عىل رجالنا‪ ..‬سوف يشرتك املقدم (إياد) معك يف‬
‫اخلطة وتوزيع رجاله ورجالك‪ ،‬لكن أنا َمن حيدّ د أسامء األفراد املشرتكني يف‬
‫العملية”‪.‬‬
‫وشاكرا‬
‫ً‬ ‫مصافحا الرجل‬
‫ً‬ ‫هم ُعمر بالر ّد‪ ،‬لكن ماندريك استبقه ومدّ يدَ ه‬‫ّ‬
‫وتوجه ثالثتهم نحو‬
‫ّ‬ ‫(ميساء) وسمري مع قائدمها‪،‬‬ ‫إ ّياه عىل التعاون‪ .‬قامت ْ‬
‫كرسيني متقابلني‬
‫ّ‬ ‫مكتبه‪ ،‬جلس عىل أريكة صغرية وأجلسهام أمامه عىل‬
‫مجيعا‬
‫وقال هلم‪“ :‬أنتام و(ضياء) سوف تقومون باالشرتاك‪ ،‬وأريد منكم ً‬
‫توثي ًقا لتلك العملية ألنّنا ال نريد أن ْنبدو يف صورة َمن س ّلم هؤالء الشبان‬
‫ثم تقاعس حني رأى معاملتهم بتلك البشاعة‪ ،‬ودون حماكمة عادلة‪.‬‬ ‫للعدو‪ّ ،‬‬
‫مقركم يف منشية نارص وسيلحق بكم (إياد) الليلة”‪.‬‬ ‫ستنرصفون اآلن إىل ّ‬
‫يؤجل‬ ‫َ‬
‫اإلذن أن ّ‬ ‫ثم عاد (سمري) إليه يطلب منه‬ ‫أشار هلام باالنرصاف‪ ،‬فقاما ّ‬
‫سفره آلخر الليل‪ ،‬لك ّنه مل يوافق‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪134‬‬
‫حمبطا‪ ،‬فقد وعدَ زوجتَه أن يزورها هي والفتيات‬‫جلس (سمري) يف غرفته ً‬
‫َ‬
‫بوعده‪ .‬فتح‬‫ضطر للذهاب دون الوفاء ْ‬ ‫ويبيت معهم الليلة‪ ،‬لك ّنه اآلن ُم ّ‬
‫َ‬
‫جتهز الغداء الستقباله‪ .‬أخربها‬ ‫جهاز االتصال ورأى زوجته ُ‬
‫تقف يف املطبخ ّ‬
‫الصحن الذي‬
‫َ‬ ‫أنه لن يأيت فر ّدت عليه بغضب‪ ،‬حاول أن هيدئها لك ّنها ِ‬
‫ألقت‬
‫مر ًة تلو األخرى ح ّتى ر ّدت‬ ‫كانت متسك به عىل األرض َ‬
‫دون إجابة‪ ،‬ناداها ّ‬
‫وطبعا‬
‫ً‬ ‫مهمة كالعادة‪،‬‬
‫عليه‪“ :‬أنا تعبت من تلك الطريقة‪ ،‬ستقول يل عملية ّ‬
‫(ميساء) هانم”‪.‬‬
‫سرتافقك فيها ْ‬
‫وإن زوجات‬ ‫جمرد زميلة‪ّ ،‬‬ ‫(ميساء) ّ‬
‫إن ْ‬ ‫َ‬
‫حاول أن يبتسم وهو يقسم هلا ّ‬
‫ثم قال‪“ :‬أقسم إنّك حيايت‪،‬‬ ‫زمالئه اآلخرين ال َيغارون منها مثلام تفعل هي‪ّ ،‬‬
‫أموت حني تغيبني ع ّني‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وإن خصامك يل يعني ّأن سأموت‪ ..‬أنا بالفعل‬ ‫ّ‬
‫أتبع كالمه باحلديث عن أشواقه‪ ،‬وعن مقدار‬ ‫ثم َ‬‫وحني تغضبني م ّني”‪ّ ،‬‬
‫كل يشء سيتحسن بعدَ عام عىل األكثر‪ .‬أغلق االتصال‪،‬‬ ‫بأن ّ‬‫حبه‪ ،‬ووعدها ّ‬ ‫ّ‬
‫رب ما بيننا انتهى‬
‫بميساء تدخل عليه‪ ،‬وتنظر إليه بغضب قائلة‪“ :‬اعت ْ‬ ‫وفوجئ ْ‬
‫تسمح له باالعرتاض‪.‬‬
‫َ‬ ‫ثم انرصفت دون أن‬ ‫اآلن‪ ..‬زوج ُتك أوىل بك”‪ّ .‬‬
‫جلست تبكي يف حضن أ ّمها التي كانت تر ّبت عىل كتفيها وتواسيها وهي‬
‫ْ‬
‫كنت تعتقدين‬‫أن خ ّلصها اهلل من هذا الرجل‪“ .‬هل ِ‬ ‫تكاد تطري من الفرح ْ‬
‫ُ‬
‫أوىل”‪ .‬ر ّدت عليها‬
‫حب‪ّ ..‬إنا زوجته ّأم أوالده وهي ْ‬ ‫كالم ّ‬‫أنه ال يقول هلا َ‬
‫ذات مرة؛‬
‫وأنا سألته َ‬‫حلوا بالطبع‪ّ ،‬‬
‫(ميساء) بأهنا تعرف أنّه يقول هلا كال ًما ً‬
‫ْ‬
‫يتغزل يف زوجته و ُيشعرها باحلب ح ّتى لو كان‬
‫إن الرجل جيب عليه أن ّ‬ ‫فقال ّ‬
‫وأن الكذب الوحيد املباح هو الكذب عىل الزوجة يف تلك األمور‪.‬‬ ‫كذ ًبا‪ّ ،‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪135‬‬
‫ما آملها أكثر وكش َفها أمام نفسها؛ هو أنّه كان يقول لزوجته اجلملة نفسها‬
‫الكلامت نفسها ير ّددها باللهجة نفسها‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫حاول أن يسرتضيها هبا باألمس‪،‬‬ ‫التي‬
‫محيميته وهو خياطب زوجته كانت‬ ‫ّ‬ ‫واحلميمة نفسها‪ّ ،‬إل ّأنا شعرت ّ‬
‫أن‬
‫ريا من محيميته معها‪.‬‬‫أصدق كث ً‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪136‬‬
‫‪20‬‬
‫أن أهنى املصلون‪ ،‬يف جامع‬ ‫املعز لدين اهلل الفاطمي‪ ،‬وبعد ْ‬‫يف شارع ّ‬
‫وبعضهم يتهامس عن تلك الفعلة الشنيعة‬ ‫ُ‬ ‫األقمر‪ ،‬صال َة املغرب؛ خرجوا‬
‫مخسيني وسطهم‪ ،‬كان‬
‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫رجل‬ ‫مسافة قصرية منهم‪ .‬وقف‬ ‫ٍ‬ ‫التي حتدث عىل‬
‫ويضطر‬
‫ّ‬ ‫يدرس التاريخ يف اجلامعة قبل أن يق ّلص الغزو عد َد اجلامعات‬
‫ُ‬
‫الرجل عن الرمزية التي‬ ‫ً‬
‫مالحظا يف القطار اهلوائي اجلديد‪ .‬حتدّ ث‬ ‫للعمل‬
‫شبان مرصيني‬‫قرروا أن يصلبوا أربعة ّ‬ ‫قصدها هؤالء الغزاة املالعني حني ّ‬
‫أمام باب من أبواب القاهرة القديمة‪.‬‬
‫بدل من باب‬‫متسائل‪“ :‬وملاذا صلبوهم عندَ باب الفتوح ً‬ ‫ً‬ ‫شاب‬
‫ر ّد عليه ّ‬
‫أن هذا إمعان‬‫العارف ببواطن األمور مؤكدً ا ّ‬‫ِ‬ ‫زويلة؟”‪ .‬ر ّد الرجل بصوت‬
‫رمزا ّ‬
‫لذل‬ ‫يرمز لنرص جيوش مرص يصبح ً‬ ‫الرمزية حني جيعلون با ًبا كان ُ‬
‫يف ّ‬
‫كل األرايض املحتلة‪ ،‬فقد‬‫وإن هذه سياسة جديدة بدأوا يف تطبيقها يف ّ‬‫أبنائها‪ّ ،‬‬
‫الشهر املايض حني صلبوا جمموعة من املقاومني‬ ‫َ‬ ‫نفسه يف تركيا‬
‫فعلوا اليشء َ‬
‫عىل أسوار قلعة قديمة‪ ،‬وتركوا جثثهم تتع ّفن يف اهلواء‪.‬‬
‫جاهل يتظاهر بالفهم‪“ :‬ليست هناك‬ ‫ً‬ ‫الشاب بلهجة َمن يرى ُمدّ ثه‬
‫ّ‬ ‫قال‬
‫ألن املنطقة أمامه يصعب‬ ‫خيشون من باب زويلة ّ‬ ‫َ‬ ‫رمزية وال حيزنون‪ّ ،‬إنم‬
‫يطل عىل أرض واسعة بعد أن أزالوا‬ ‫صار ّ‬‫باب الفتوح الذي َ‬ ‫حراستها‪ ،‬بعكس ِ‬
‫للشاب‪ ،‬مؤكدً ا أنه ال يفهم شيئًا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ناهرا‬
‫املنطقة املواجهة له”‪ .‬رفع الرجل يد ْيه ً‬
‫شاب خيطط للزواج من إحدى النياندرتال‪.‬‬ ‫مع ّ‬ ‫ً‬
‫ومتسائل عن جدْ وى النقاش َ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪137‬‬
‫شاب ينوي أن ُيقدم عىل ٍ‬
‫فعلة كتلك‪ ،‬فقال‬ ‫ّ‬ ‫تصح صال ُة‬
‫ّ‬ ‫تساءل إن كانت‬
‫عمي إهياب‪ ،‬فهو قد‬
‫الشاب وابتسامة ساخرة تعلو وجهه‪“ :‬اسأل ابنَك يا ّ‬
‫ّ‬
‫منهن بالفعل‪ ،‬وحاز عىل موافقتها”‪.‬‬
‫عروسا ّ‬
‫ً‬ ‫قابل‬
‫لكن اجلميع صمتوا‬
‫وتدخل أناس بينهام‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫رفع الرجل صو َته ّ‬
‫بالسباب‪،‬‬ ‫َ‬
‫ري ببطء يتبعها جمموعة من امللثّمني املسلحني ال يقل‬
‫حني رأوا مركبة تط ُ‬
‫عددهم عن العرشين‪ .‬كانت عملية حترير الشّ بان املصلوبني قد بدأت مع‬
‫اهلجوم عىل احلراس من عدّ ة‬
‫َ‬ ‫اختفاء ضوء الشمس‪ .‬كانت اخلطة تقتيض‬
‫ٍ‬
‫ملجموعات صغرية تقوم بقطع‬ ‫شوارع واالشتباك معهم وإعطاء الفرصة‬
‫األعمدة املصلوب عليها هؤالء الشبان والدّ خول هبم إىل الشوارع اخللفية‪،‬‬
‫ٍ‬
‫بمركبة أخرى إىل‬ ‫ثم نقلهم‬
‫جزئيا من تلك األعمدة ّ‬
‫ًّ‬ ‫وفيها ُ َت َّرر أجسادهم‬
‫املقر ا ُمل ّ‬
‫جهز بآالت طبية‪.‬‬ ‫ّ‬
‫الشاب بحامس ّاتاه املجموعة وهو يقول‪“ :‬هل أنتم ُمتجهون لتحرير‬‫ّ‬ ‫قفزَ‬
‫هؤالء الرجال؟”‪ .‬مل ير ّد أحدٌ عليه‪ ،‬كانوا يمشون بخطوات ثابتة اجتاه نقطة‬
‫تول َمن يف املركبة عملية التشويش عىل الطائرات الدقيقة‪.‬‬ ‫انتقاهلم وقد ّ‬
‫أستطيع املساعدة‬
‫ُ‬ ‫بتوسل راج ًيا أن يأخذوه معهم “أنا‬
‫أعاد الشاب كالمه ّ‬
‫مثل أساعدُ يف قطع األعمدة‪ ،‬أو‬‫يف ختليصهم؛ لن أشرتك يف القتال‪ ،‬دعوين ً‬
‫محلهم معكم إن شئتم”‪.‬‬
‫مل ير ّد عليه أحد‪ ،‬فمشى إىل جوارهم ّ‬
‫مؤكدً ا أنّه سيتبعهم مهام كلف‬
‫سالحه‪ ،‬وأمره بالتوقف عن تلك‬‫َ‬ ‫التفت أحدُ امللثّمني اجتاهه ً‬
‫رافعا‬ ‫َ‬ ‫األمر‪.‬‬
‫يود االنضامم للمقاومة فهناك ٌ‬
‫طرق أخرى‪.‬‬ ‫الصبيانية‪ ،‬وإذا كان ُّ‬
‫اآلالعيب ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪138‬‬
‫ً‬
‫مهرول‪،‬‬ ‫قبل أن يكمل الشاب جدا َله وجدَ ّ‬
‫عمه إهياب واق ًفا خلفه وقد َ‬
‫تبعه‬
‫ناس‬ ‫وضع يدَ ه عىل كتفه وهو حياول ْ‬
‫أن يقنعه بالعودة‪“ :‬اهدأ يا ولدي‪ ،‬نحن ٌ‬
‫يتحمل والدك أن يراك مصلو ًبا‬
‫ّ‬ ‫يف حالنا ال ق َب َل لنا باملقاومة أو السالح‪ ،‬لن‬
‫هكذا”‪.‬‬
‫ٌ‬
‫ورجل يتبعه‪ ،‬وكان (ضياء)‬ ‫وميساء‪،‬‬
‫يف املركبة‪ ،‬كان جيلس ماندريك ْ‬
‫املرتجلني‪( .‬سمري) كان يف جمموعة أخرى مع ُعمر وإياد الذي‬‫ّ‬ ‫مع امللثّمني‬
‫يتجهزون لبدء العملية انتهزَ ماندريك‬
‫ّ‬ ‫أرص عىل ا ُملشاركة بنفسه‪ .‬حني كانوا‬
‫ّ‬
‫(ميساء) عن عالقتها بأبيها ليق ّلل من التوتر‬ ‫َ‬
‫احلديث مع ْ‬ ‫الفرصة وحاول‬
‫توترا”‬
‫أكثر ً‬ ‫قائل‪“ :‬كانت عالقتي بأيب َ‬ ‫البادي عليها‪ .‬بدأ حديثه عن ِ‬
‫نفسه ً‬
‫(ميساء) فهي مل تكن تعلم أن النياندرتال لدهيم ذلك التعقيد يف‬ ‫دهشت ْ‬
‫أرص عىل أن يدرس يف‬ ‫عالقاهتم االجتامعية‪ .‬كان ماندريك طال ًبا متفو ًقا ّ‬
‫معهد التاريخ‪ ،‬وأنظمة احلكم عىل خالف رغبة أبيه الذي كان قاض ًيا وكان‬‫ِ‬
‫يريدُ ه أن يدرس القانون‪.‬‬
‫سبب توتّر بينهام‪ ،‬لك ّنه مل يكن كاخلصومة التي حدثت بعد أن‬
‫كان ذلك َ‬
‫َ‬
‫وخططها‬ ‫كل يشء‪ ،‬وانربى هياجم الدولة ونظا َمها احلاكم‬ ‫هجر ماندريك ّ‬
‫متحم ًسا‬
‫ّ‬ ‫حتوله كان صدم ًة للجميع‪ ،‬فقد كان‬ ‫كوكب األرض‪ّ .‬‬‫ِ‬ ‫للعودة إىل‬
‫تعرف عىل جمموعة من‬ ‫حتوله حني ّ‬ ‫السيايس الرسيع‪ .‬بدأ ّ‬ ‫ويطمح يف الصعود ّ‬
‫ُ‬
‫الطبقة‬ ‫ري لن حيدث ّإل إذا تغريت‬ ‫الشبان املتحمسني الذين أقنعوه ّ‬
‫أن التغي َ‬
‫احلكم بني املتدينني املتعصبني ورجال‬ ‫وأن ازدواجية ُ‬‫احلاكمة بالكامل‪ّ ،‬‬
‫األعامل ال بدّ أن تنتهي‪ .‬كان أفكاره ترتدد بنيَ الثورية اخلالصة وبنيَ النفعية‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪139‬‬
‫أبرص بعينيه‬
‫َ‬ ‫الزمن ح ّتى‬ ‫ّ‬
‫وظل هكذا فرتة من ّ‬ ‫الطبقية التي تدين هبا عائلته‪،‬‬
‫كيف يعيش املاليني من الفقراء يف كوكبه‪ ،‬والذين يدفعون فاتورة التكاليف‬
‫الباهظة لذلك الغزو‪.‬‬
‫وبدل من التفكري‬ ‫ِ‬
‫حدوث كارثة طبيعية كانت تزداد‪ً ،‬‬ ‫التقديرات باحتامل‬
‫ُ‬
‫قرر احلكام توجي َه ّ‬
‫كل املوارد نحو الغزو فيهاجر لألرض‬ ‫ِ‬
‫حلول عملية ّ‬ ‫يف‬
‫أغلب األغنياء والطبقة املتوسطة وبعض الفقراء الذين يقومون باألعامل‬
‫املتدنية والذين ُيرتكون للحياة يف مناطقَ جتعلهم مهدّ دين من األرضني‪.‬‬
‫ّ‬
‫خططوا للبقاء يف كوكب أديتيا‪ ،‬والعيش يف مناطق‬ ‫بعض األغنياء وتابعيهم‬
‫لن تطاهلا الكارثة‪ ،‬وترك الفقراء ملواجهة مصريهم‪ .‬قا َد الكثري من املناظرات‬
‫اإلعالمية الناجحة ضدّ احلكام‪ .‬واحدة منها كانت ضدّ أبيه‪ ..‬مناظرة قانونية‬
‫التغلب عليه بمعرفته القانونية الكبرية‪ ،‬مل يضايقه ذلك‬
‫َ‬ ‫استطاع أبوه بالطبع‬
‫األسلوب املزدري الذي كان يسلكه أبوه يف املناظرة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫قدر ما ضايقه‬
‫َ‬
‫يل أنا ورفاقي بالسجن يف جزيرة معزولة‪ ..‬أرص أن حيكم‬ ‫حكم ع َّ‬
‫َ‬ ‫“أيب‬
‫اهلرب‪ ،‬وأرسلت من خمبئي فيديو أقول له إنّني‬ ‫َ‬ ‫يل بنفسه‪ ،‬ولك ّني استطعت‬‫ع َّ‬
‫يضم قبضته أمامها مد ّل ًل عىل قدْ ر التحدي‬
‫ومن قمعه”‪ .‬قال وهو ّ‬ ‫أقوى منه ِ‬
‫هرب إىل األرض وقاد عمليات‬ ‫َ‬ ‫الذي كان يملؤه‪ .‬بعدَ حدوث الغزو‪،‬‬
‫املقاومة يف القطاع اجلنويب الذي يشمل األرايض املحتلة يف مرص‪ .‬كانت لذ ُة‬
‫االنتصار يف ّ‬
‫كل عملية خيوضها لذ َة انتصار عىل ازدراء أبيه له‪ ،‬ال عىل أعدائه‪.‬‬
‫(ميساء) بالطبع‪ ،‬أنّه وقادة املقاومة من النياندرتال يريدون أن‬
‫رب ْ‬‫مل خي ْ‬
‫يسيطروا يف النهاية عىل احلكم ُمستغ ّلني الفوىض التي ستحدث بعد انتصار‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪140‬‬
‫األرضيني بمعاونتهم وحدوث اهلجرة العكسية إىل كوكبهم األم‪ .‬ستكون‬
‫وصلت للذروة‪ ،‬واملاليني الذين يسكنون املناطق املقفرة سيكونون‬
‫ْ‬ ‫قدرهتم قد‬
‫كم ُمتهالك يعاين من خسائر فادحة‬ ‫ُهم َ‬
‫جيش دولتهم القادمة‪ ،‬مقابل نظام ُح ٍ‬
‫يف ّ‬
‫كل يشء‪.‬‬
‫“أنا وأيب ك ّنا عىل النقيض يف الغايات والسبل‪ ،‬أ ّما أنت وأبوك فلكام الغاية‬
‫قليل‪ ..‬صدقيني أنت‬ ‫لكن زاوية الرؤية خمتلفة ً‬‫نفسها‪ ،‬والوسائل متشاهبة‪ّ ،‬‬
‫حمظوظة بأبيك يا ميساء”‪ .‬انرشحت أساريرها بعدَ كالمه واستق ّلت معه‬
‫وصدرها يملؤه االرتياح والصفاء‪.‬‬
‫ُ‬ ‫املركبة‬
‫حنيَ وصلت املركبة هلدفها‪ ،‬نزل ماندريك وميساء من املركبة بدراجاهتم‬
‫مجا نقطة احلراسة املوجودة عىل يمني باب الفتوح يف الوقت‬ ‫ّ‬
‫الطائرة‪ ،‬وها َ‬
‫دراجات أخرى يف إطالق قذائفها الفردية عىل احلراس‬
‫ٌ‬ ‫نفسه الذي بدأت فيه‬
‫يف النقطة املقابلة‪ .‬بعدها مبارشة‪ ،‬انطلقت مركبتان؛ واحدة جتاه مدخل‬
‫الدراسة مطلقة عدة قذائف متفجرة نحو جمموعة اجلنود‬ ‫امليدان من ناحية ّ‬
‫املتمركزين هناك‪ ،‬واألخرى اجتهت نحو باب الفتوح نفسه مطلقة قذائفها‬
‫لتدمر مركبات احلراسة ا ُملتمركزة أسفله‪.‬‬
‫أربع جمموعات تتكون الواحدة من‬ ‫يف الدقائق التالية‪ ،‬كانت هناك ُ‬
‫ُ‬
‫الشبان املصلوبون‪ .‬كانت‬ ‫ِ‬
‫األعمدة املرفوع عليها‬ ‫ثامنية أفراد‪ ،‬تقوم بقطع‬
‫شغلت جمموعات احلراس املوجودة؛ أهلتهم‬
‫ْ‬ ‫اجللبة التي أحد َثها اهلجوم قد‬
‫مهمتهم األصلية يف حراسة‬‫القذائف املتتالية وذلك اهلجوم الكاسح عن ّ‬
‫املحكوم عليهم‪ ،‬ومل يكن ببال أغلبهم ْ‬
‫أن حياول أحدٌ هتريبهم‪ ،‬فتحريك تلك‬
‫قادرا عىل قتل الضحية‪.‬‬
‫بعنف أو إسقاط أحدها كان عىل األرجح ً‬‫ٍ‬ ‫األعمدة‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪141‬‬
‫اجلنود حني أطلق أحدُ هم شعلة حتذيري ًة عندما رأى أحدَ األعمدة‬ ‫ُ‬ ‫انتبه‬
‫والتحرك عابرين‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫بحمله‪،‬‬ ‫يميل ببطء ويتل ّقاه الرجال عىل األرض‪ ،‬ويبدؤون‬
‫ٍ‬
‫واحد ممّن‬ ‫وم ّتجهني لشارع املعز‪ .‬أطلقَ أحدُ هم قذيفة ّ‬
‫ذكية اجتاه‬ ‫باب الفتوح ُ‬
‫اللوح املعدين‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫وسقط عىل األرض‪ .‬مال‬ ‫فأصابت خارصته‬
‫ْ‬ ‫حيملون (معاذ)‬
‫ّ‬
‫ويتأكد من‬ ‫جعلت (معاذ) يستفيق‬
‫ْ‬ ‫اجتاه الرجل الساقط ُم ً‬
‫شعل نوب ًة من األمل‬
‫أن هناك من حياول إنقاذه بالفعل‪ ،‬وأنّه ال هيذي بسبب اجلفاف الذي ّ‬
‫حل به‪.‬‬ ‫ّ‬
‫مكان زميله وعاونه ٌ‬
‫ثالث عىل القيام‪ ،‬وعادوا مرسعني إىل‬ ‫َ‬ ‫رجل آخر‬ ‫َ‬
‫أخذ ٌ‬
‫وجهتهم‪ ،‬وزمالء هلم يطلقون قذائفهم عىل اجلنود الذين استهدفوهم‪ .‬مع‬ ‫ْ‬
‫آخر ضحية‪ ،‬وبعد إعطائهم إشارة ّأنم قد دخلوا‬‫جمموعة حتمل َ‬‫ٍ‬ ‫خروج آخر‬
‫ري يف ّاتاه نقطة التجمع بدأ املقاومون باالنسحاب‬ ‫يف شارع جانبي صغ ٍ‬
‫وهم هيللون لذلك ال ّنجاح الفائق للعملية‪.‬‬
‫املنسق ُ‬
‫ّ‬
‫بدراجتها نحو املركبة التي ستق ّلها‪ ،‬ويف الوقت نفسه‬ ‫ّاتهت (سلمى) ّ‬
‫عربت من أمامها عدّ ة‬
‫ْ‬ ‫وشك الوصول إليها‪ .‬فجأة‬ ‫ِ‬ ‫كان ماندريك عىل‬
‫فسقطت عىل األرض بدون‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬
‫وعطلتها‬ ‫مجيعها يف املركبة‬
‫قذائف استقرت ُ‬
‫تدخل امليدان من رشقه وغربِه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فرأت مركبات كثرية‬‫ْ‬ ‫حراك‪ .‬نظرت حوهلا‬
‫تفجرة فأسقطت جمموعة من‬ ‫ثم يف اللحظة التالية أطلقت إحداها قذيفة ُم ّ‬ ‫ّ‬
‫الثوار‪ .‬رصخ ماندريك بصوت عال‪“ :‬اخلطة البديلة”‪ ،‬ور ّدد آخرون خلفة‬
‫ِ‬
‫حزامه‪،‬‬ ‫موجية من‬
‫ّ‬ ‫أخرج قنبلة‬
‫َ‬ ‫اجلملة كأهنم صدى يف أحد اجلبال العالية‪.‬‬
‫فجرها فانطفأت األنوار وسقطت املركبات والدراجات بام فيها دراجة‬ ‫ثم ّ‬ ‫ّ‬
‫(ميساء) التي سقطت من ارتفاع مرت ْين‪ ،‬والدراجة فوقها‪.‬‬ ‫ْ‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪142‬‬
‫‪21‬‬
‫فمه قطعة كبرية من اللحم املشوي وهو جيلس عىل‬ ‫وضع (باسل) يف ِ‬
‫َ‬
‫صاحب املطعم له ولزوجته ّ‬
‫كل أسبوع يف املوعد نفسه‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫الطاولة التي حيجزها‬
‫ٍ‬
‫غضب للنادل األديتي‪ ،‬وقال وهو خيبط عىل‬ ‫أشار يف‬
‫َ‬ ‫ثم‬
‫مضغها بصعوبة ّ‬‫َ‬
‫ناضجا متا ًما‪ ،‬هذا اللحم‬
‫ً‬ ‫طلبت ً‬
‫حلم‬ ‫ُ‬ ‫طبقه بالشّ وكة يف حنق‪“ :‬ما هذا‪ ..‬لقد‬
‫سيئ الطعم‪ ،‬وتعلق أليافه بني أسناين”‪.‬‬ ‫ُ‬
‫نصف الناضج ّ‬
‫املضمومة حتاول هتدئته‪ ،‬وتقول إن األمر‬ ‫بيدها عىل قبضته ْ‬ ‫ر ّبتت كمريدا ِ‬
‫مدير املطعم البدين الذي‬
‫لكن أوقفه ُ‬ ‫ُ‬
‫النادل أن جيادله ْ‬ ‫ال يستدعي‪ .‬حاول‬
‫يتواجد طيلة اليوم بنيَ زبائنه ورص َفه من أمام (باسل)‪ ،‬وقال بتأ ّدب‪“ :‬العزيز‬
‫هز (باسل) رأسه‬ ‫شخصيا عن هذا اخلطأ”‪ّ .‬‬
‫ًّ‬ ‫أعتذر لك‬
‫ُ‬ ‫(باسل)‪ ،‬بطلنا اهلامم‪،‬‬
‫أي يشء‬‫“لكن اعذرين‪ ..‬إذا كان لديك شكوى من ّ‬ ‫ْ‬ ‫متفهم فأكمل الرجل‪:‬‬ ‫ً‬
‫موظفي”‪ّ ،‬‬
‫ثم رفع يد ْيه أمام‬ ‫أرسل يف طلبي وال داعي لتعنيف ٍ‬
‫أحد من‬ ‫ِ‬
‫ّ‬
‫صدره كناي ًة عن االحرتام قبل أن ينرصف‪.‬‬
‫نغي هذا املطعم األسبوع القادم”‪ .‬قال بغيظ لكمريدا التي‬ ‫“سوف ّ‬
‫انتظاره لقرار اللجنة‬
‫ُ‬ ‫تؤكد ثانية عىل أن سبب توتّره هو‬ ‫ضحكت وهي ّ‬
‫ثم‬ ‫ّ‬
‫املرشحني‪ّ ،‬‬ ‫جديد لرشطة القطاع اجلنويب‪ ،‬وهو أحدُ‬‫ٍ‬ ‫املخولة باختيار قائد‬
‫املطهوة لتضعها يف فمه‪“ :‬هذه‬
‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫قطعة من البطاطس‬ ‫قالت وهي متدّ شوكة هبا‬
‫أمسيتي األسبوعية‪ ،‬ونحن م ّتفقون عىل أنني َمن خيتار مكاهنا”‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪143‬‬
‫ُ‬
‫النادل نفسه طب ًقا جديدً ا من اللحم‪ ،‬ووقف جواره ح ّتى‬ ‫بعدَ دقائق وضع‬
‫يسب يف‬
‫قبل أن ينرصف من أمامه وهو ُّ‬ ‫تأكد من رضا (باسل) عن الطعم َ‬
‫أشخاصا ذوي‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫األريض احلقري والدولة “التي جعلت من أمثاله‬ ‫رسه ذلك‬‫ّ‬
‫غبية”‪ّ .‬‬
‫رن جهاز االتصال يف‬ ‫نجح يف تلقيح امرأة ّ‬‫مؤهالته أنه َ‬ ‫شأن وهو ّ‬
‫كل ّ‬
‫معصم (باسل) وكان زمي ُله خيربه بحدوث هجو ٍم كبري عىل مكان ِ‬
‫تنفيذ حكم‬
‫التوج ُه إىل هناك اآلن‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اإلعدام البطيء‪ ،‬وأن عىل (باسل)‬
‫ُ‬
‫فعمل‬ ‫فمها بكلمة اعرتاض؛‬ ‫تنهدت كمريدا يف ضيق‪ ،‬لك ّنها مل تفتح َ‬ ‫ّ‬
‫جزء ال يتجزأ منه‪ .‬ترك‬ ‫واجب مقدّ س‪ ،‬ودعمها له ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫(باسل) بال ّنسبة هلا‬
‫يعتذر هلا عن قطع أمسيتها األسبوعية‪ ،‬فقالت‪“ :‬ال‬ ‫ُ‬ ‫(باسل) بقية طبقه وهو‬
‫لكن أن ِْه طعا َمك أو‬
‫تعتذر يا عزيز القلب‪ ،‬فعملك هو ما جيعلني فخورة‪ْ ،‬‬
‫ٍ‬
‫كزوجة مرصية‬ ‫األقل خذه معك”‪ .‬ضحك وهو يقول هلا ّإنا تترصف‬ ‫ّ‬ ‫عىل‬
‫حرفيا‪“ .‬أنا أديتية تنتمي لإلقليم املرصي يف‬
‫ًّ‬ ‫وليست كامرأة من كوكب آخر‬
‫وطبع قبل ًة عىل باطنه‪ ،‬فقالت‪،‬‬
‫َ‬ ‫أديتيا‪ ،‬فيمكنك أن تقول مرصية”‪ .‬أمسك ك ّفها‬
‫جعد‪“ :‬فليعدك ماجوها ساملًا إىل حضني”‪.‬‬ ‫وهي مت ّلس بيدها عىل شعره ا ُمل ّ‬
‫ربم‪ .‬فقالت‪“ :‬آسفة‪ ،‬فليحفظك َمن يقدر عىل‬ ‫نظر إليها وهو يلوي شفتَه يف ت ّ‬‫َ‬
‫حفظك أ ًّيا كان اسمه”‪ .‬ابتسم يف حبور‪ ،‬وطبع قبل ًة ثانية عىل خدّ ها‪ ،‬وطلب‬
‫مرسعا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ثم انرصف‬ ‫مع وعد أن يتناوله معها‪ّ ،‬‬‫بقية عشائه للمنزل َ‬ ‫منها أن َ‬
‫تأخذ ّ‬
‫رسها ثانية بصوت‬ ‫خرج من الباب وهي تدعو له يف ّ‬ ‫َ‬ ‫تتبعته بنظرها ح ّتى‬
‫ّ‬
‫رغم إيامهنا الشديد بدينها‪َ “ :‬من يدري‪ ..‬يمكن‬
‫خفيض‪ .‬تدعو وهي تقول لنفسها َ‬
‫نفسه دون أن ندري‪ ،‬فقط ندعوه بأسامء خمتلفة‪،‬‬ ‫َ‬
‫نكون يف احلقيقة نعبد اإلله َ‬ ‫أن‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪144‬‬
‫مرسعا بز ّيه اجللدي‬
‫ً‬ ‫أشارت للنادل األديتي فجاء إليها‬
‫ْ‬ ‫ونصيل له بطرق شتى”‪.‬‬
‫األسود املز ّين بعالمة طائ ٍر أسطوري متأل صدر قميصه‪.‬‬
‫ترص ْ‬
‫أن تتناول العشاء مع زوجها يف هذا املطعم‬ ‫سألته إن كان يعرف ملاذا ّ‬
‫السبب ّ‬
‫ألن البيت‬ ‫ُ‬ ‫ثم قال‪“ :‬أيمكن أن يكون‬‫فهز رأسه ناف ًيا بتأ ّدب‪ّ ،‬‬
‫أسبوعيا‪ّ ،‬‬
‫ًّ‬
‫قريب من هنا يا سيديت”‪ .‬فقالت نافية وعىل وج ِهها رصامة ال تناسبها‪ّ :‬‬
‫“كل‪،‬‬
‫أسكن يف الشارع نفسه الذي اقرتحت رئيستي املبارشة اسمه‪ ،‬كان‬
‫ُ‬ ‫رغم أين‬
‫يسميه املرصيون شارع (جامعة الدول العربية)‪ ،‬وأطلقوا عليه بعدَ الغزو‬
‫ً‬
‫رقم‪ ،‬لكن سيدة هريمني أسمته “وحدة أديتيا” نكاي ًة فيهم‪ ،‬وكذلك فعلت‬
‫يف شوارع كثرية”‪.‬‬
‫اصطنع النادل ابتسامة‪ ،‬وقد بدأ يشعر بامللل من استطرادها يف موضوع‬ ‫َ‬
‫كاهن صديق ألبيها‬ ‫ٌ‬ ‫ال فائد َة منه‪ .‬فقالت ُميبة سؤاهلا‪ّ :‬‬
‫إن هذا املطعم أنشأه‬
‫ناد قديم‪ ،‬وأنشأه‬ ‫سور ٍ‬ ‫حمال جتارية كانت ّ‬
‫حتتل َ‬ ‫ِ‬
‫عرشة ّ‬ ‫أكثر من‬
‫بعد أن هدم َ‬
‫َ‬
‫وجعل شعار رسول ماجوها الطائر عالم ًة له‪ ،‬وأهنا مل تتو ّقع‬ ‫عىل طراز ديني‪،‬‬
‫شخص بذلك اجلحود والقدرة عىل الكراهية‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫أن يعمل يف هذا املطعم‬
‫مدهوشا‪ ،‬وقال بارتباك‪“ :‬أنا يا سيديت!”‪ .‬رفعت صوهتا‬ ‫ً‬ ‫الشاب‬
‫ّ‬ ‫حدّ ق‬
‫تافه بتلقيحها‪ ،‬وصار‬
‫أريض ٌ‬‫ّ‬ ‫غبية قام‬
‫جمرد امرأة ّ‬‫وهي تقول‪“ :‬سيدتك أم ّ‬
‫يقسم أنّه مل ْ‬
‫يقل هكذا فأخرسته‬ ‫َ‬ ‫ذا شأن نتيجة لذلك!”‪ .‬حاول النادل أن‬
‫جذب انتبا َه صاحب املطعم‪“ :‬ال‬‫َ‬ ‫أصدرت صو ًتا عال ًيا‬
‫ْ‬ ‫بخبطة عىل طاولتها‬
‫تكذب أنا أعرف لغة أهل األحراش الغربية‪ ..‬درس ُتها يف مرحلة ِمن تعليمي‪،‬‬
‫وفهمت ّ‬
‫كل كلمة متتمت هبا”‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪145‬‬
‫مدير املطعم وأخذ يعتذر هلا‪ ،‬لك ّنها جتاهلت اعتذاراته‪،‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫وقف أمامها‬
‫ِ‬
‫النربة ا ُملحتدّ ة‪“ :‬هذا األريض مل ينجح يف تلقيحي‬ ‫ِ‬
‫بذات‬ ‫وأكملت قائلة‬
‫أنت وغريك من الكارهني اجلاحدين‪ ،‬لقد‬ ‫وحسب‪ ،‬وإنام حيميك ّ‬
‫كل ليلة َ‬
‫َ‬
‫يكمل عشاءه ح ّتى‪ ،‬وال أدري إن كان‬ ‫ذهب اآلن لقتال املخربني دون أن‬
‫َ‬
‫سيعود ليكمله أم ال”‪.‬‬

‫يف ذلك الوقت كان (باسل) منطل ًقا بأقىص رسعة بمركبته ح ّتى قابل‬
‫معا‪ .‬راع ْته الفوىض‬
‫آخرين عىل دراجاهتم فرافقهم ح ّتى دخلوا امليدان ً‬
‫الشديدة وجنود الرشطة األديتية الذين يتحركون عىل غري هدى‪ ،‬أو خيتبئون‬
‫ِ‬
‫خلف بعض احلواجز‪ ،‬واملهامجون ينترشون هنا‬ ‫حماولني إطالق قذائف من‬
‫ٍ‬
‫نصب كان مصلو ًبا‬ ‫آخر‬ ‫ُ‬
‫حتمل َ‬ ‫وهناك‪ ،‬وجمموعة منهم تغادر امليدان وهي‬
‫عليه أحد املحكوم عليهم‪.‬‬

‫أطلقَ قذيفة ذكية يف اجتاه املجموعة لك ّنها أخطأهتم فأطلق سبا ًبا عال ًيا‬
‫َ‬
‫يبيعون تقنياهتم للمخربني‪ .‬التفت إىل‬ ‫يلعن اخلونة من األديتيني الذين‬
‫وهو ُ‬
‫دراجتيهام يف خطوة بدت له‬‫ْ‬ ‫يمينه فرأى مركب ًة كبرية يتجه إليها اثنان َ‬
‫فوق‬
‫رسه ّأل يرتكهام‪ ،‬ووضع يدَ ه عىل ّ‬
‫زر‬ ‫املهمة‪ .‬أقسم يف ّ‬
‫انسحا ًبا منهم بعد إمتام ّ‬
‫مجيعا‪.‬‬
‫نتظرا أن يدخل الدراجان للمركبة فيفجر ركاهبا ً‬ ‫القذائف املتفجرة ُم ً‬
‫فوجئ بقذائف معطلة أطلقها أحدُ زمالئه عىل املركبة فسقطت َ‬
‫قبل أن يصلها‬
‫الدراجان ففتح جهاز اتصاله وقال‪“ :‬اقتلوهم ّأيا األغبياء؛ ال أريد أرسى”‪،‬‬
‫ثم أطلق قذائ َفه املتفجرة اجتاه جمموعة راجلة منهم‪.‬‬
‫ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪146‬‬
‫ٍ‬
‫بحركة أخرى سمع أصوا ًتا ّ‬
‫تكرر كلمة “اخلطة البديلة”‪،‬‬ ‫َ‬
‫قبل أن يقوم‬
‫ُ‬
‫توقف مركبته وسقوطها عىل‬ ‫ٍ‬
‫بدفقة من تيار كهرباء إستاتيكية تالها‬ ‫ثم شعر‬
‫ّ‬
‫يثن ذلك من عزمه‪ ،‬وإنّام خرج من مركبته‬ ‫األرض من ارتفاع م ٍ‬
‫رت واحد‪ .‬مل ِ‬
‫وهو يقسم يف غيظ ْ‬
‫أن يقتل َمن جيده بيديه العاريتني‪.‬‬
‫ّأو ُل ما لفت انتباهه كانت دراجة ساقطة عىل راكبها وهو جياهد لرفعها‬
‫شاهر يف يده قطع ًة معدنية أخذها من املركبة‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫فركض نحوه وهو‬ ‫من فوقه‪،‬‬
‫يده سكني‬ ‫أديتيا يعرتض طريقه ويف ِ‬
‫رجل ًّ‬ ‫وصل إىل الدراجة وجد ً‬
‫َ‬ ‫عندما‬
‫أين رآها‪ .‬انحنى‬
‫وظهرت مالحمه املألوفة التي ال يذكر َ‬
‫ْ‬ ‫وقد خلع خوذته‬
‫والدم‬
‫ُ‬ ‫ثم رض َبه بقطعة املعدن يف صدغه فأوقعه ً‬
‫أرضا‬ ‫متفاد ًيا سكني الرجل ّ‬
‫ينز من فروة رأسه‪.‬‬
‫ّ‬
‫هجم عىل الدّ راج امللقى عىل األرض‪ ،‬ونزع خوذته وهو يكافح لتفادي‬
‫َ‬
‫هبت حني رأى وج َه غريمه؛ كانت فتاة أرضية وهي األوىل التي يراها‬
‫لكامته‪َ .‬‬
‫وجهها دقيقَ املالمح يشبه وج َه طفلة من‬
‫قوة هجومية ألعدائه‪ .‬كان ُ‬
‫ضمن ّ‬
‫َ‬
‫حيبها وهو صغري‪ .‬نظر إىل‬ ‫كن يظهرن يف ِ‬
‫أحد اإلعالنات التي كان ّ‬ ‫اللوايت ّ‬
‫ٍ‬
‫بغضب ومجوح مل َيره عىل أنثى من‬ ‫العسليتني املتحديتني اللتني متتلئان‬
‫ّ‬ ‫عينيها‬
‫ثم كاملربمج‬
‫قبل‪ .‬كبل حركتَها بجسده وهو ال يرفع عينيه من عىل عينيها‪ّ ،‬‬
‫لكن ذراعه توقفت فجأة‬‫آليا رفع يده بالقطعة املعدنية ليهوي هبا عىل رأسها‪ّ ،‬‬
‫ًّ‬
‫عينيها يف فزع‪ّ .‬‬
‫تعطلت ذراعه كأن الربنامج اآليل يف رأسه‬ ‫حني أغلقت الفتاة ْ‬
‫أصابه خطأ بالربمجة‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪147‬‬
‫(ميساء) بتحدٍّ‬
‫مهمتك أهيا اخلائن احلقري‪ ،‬ملاذا توقفت”‪ .‬قالتها ْ‬
‫“هيا أمتم ّ‬
‫ّ‬
‫وحل‬‫ّ‬ ‫مرت بلحظة من الفزع الوقتي تالشت حنيَ توقفت ذراعه‬ ‫بعد أن ّ‬
‫ثم‬‫حم ّلها حتدٍّ جمنون‪ .‬نظرت إىل االسم املطبوع باألديتية عىل ذراع سرتته ّ‬
‫نظر إليها يف غضب رمى‬ ‫حل ْمق أهلك”‪َ .‬‬ ‫قالت‪“ :‬واسمك (باسل)!‪ ..‬يا ُ‬
‫َ‬
‫ووقف وهو جيذهبا بعنف ليأخذها أسرية‪.‬‬ ‫القطعة املعدنية من يده‬
‫فرصخت يف أمل‬
‫ْ‬ ‫ِ‬
‫بقدمه عىل ساقها املصابة‬ ‫ِ‬
‫حاولت التم ّلص منه فرضهبا‬
‫إثر رضبة قوية من آلة معدنية‬
‫تسبه‪ .‬يف اللحظة التالية شعر بأمل ٍ يف رأسه َ‬
‫وهي ّ‬
‫استدار ورأى‬
‫َ‬ ‫“دع ابنتي أهيا اللعني”‬
‫وصوت رجل مألوف جدًّ ا يقول‪ِ :‬‬
‫نفسه برسعة وهجم عىل (عمر) وقد‬ ‫وتعرف عليه؛ كان (عمر)‪ .‬مللم َ‬ ‫الرجل ّ‬
‫آخر يضمن له الرتقية التي يصبو هلا‪.‬‬ ‫وجد صيدً ا ثمينًا َ‬
‫قبل أن يستطيع السيطرة عىل (عمر) شعر بسكني خيرتق ظهره‪ ،‬لكنه مل‬ ‫َ‬
‫يستسلم واستدار ّاتاه مهامجه وقبل أن يفعل شيئًا هوى أحدُ هم عىل رأسه‬
‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫برضبة ثقيلة أدارت الدنيا من حوله‪ ،‬وجعلت الدم ينزف بغزارة من رأسه‪.‬‬
‫تنظر له‬
‫ُ‬ ‫(ميساء) فوقه‬
‫حاول أن يفتح عينيه ويقاوم اإلغامءة لك ّنه وجد ْ‬
‫املهمة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫أكملت ّ‬ ‫تكور قبضتها و ُتعطيه لكمة‬
‫ثم ّ‬‫بغضب بعينيها العسليتني‪ّ ،‬‬
‫وأفقدته الوعي متا ًما‪.‬‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪148‬‬
‫القسم ال ّثالث‬
‫ُ‬
‫منشية ناصر‬
‫ُ‬

‫إنتاج‬
‫شر في هذا العالم هو ٌ‬ ‫الناس شياطينًا إلفسادهم؛ ّ‬
‫فكل ٍّ‬ ‫ُ‬ ‫“ال يحتاج‬
‫إنساني خالص”‬
‫كمريدا ً‬
‫نقل عن أبيها‪.‬‬
‫‪22‬‬
‫تنظر يف الشاشة الفراغية املنصوبة أما َمها‪،‬‬
‫زفرت (هريمني) يف ضيق وهي ُ‬ ‫ْ‬
‫مهام كمريدا مؤق ًتا‬
‫مساعدتا الثانية التي أخذت ّ‬
‫ُ‬ ‫التقرير الذي أعدّ ته‬
‫َ‬ ‫وتشاهد‬
‫أغلب التقرير‬
‫َ‬ ‫إجازتا القصرية‪َ .‬‬
‫قبل إجازهتا‪ ،‬أعدت كمريدا‬ ‫ِ‬ ‫ح ّتى تعود من‬
‫عدد العمليات‬ ‫الذي يتحدّ ث عن خطر املناطق العشوائية يف القاهرة‪ ،‬وعن ِ‬
‫وعن كيفية استغالل ذلك للتسويق‬ ‫التخريبية التي حتدُ ث انطال ًقا من هناك‪ْ ،‬‬
‫وهتجر سكاهنا إىل خارج أديتيا‪ .‬أعدت‬ ‫تلك املناطق ّ‬ ‫كل َ‬ ‫دوليا خلطة ستهدم ّ‬‫ًّ‬
‫السياق إىل‬‫املساعدة الثانية النسخة النهائية من التقرير‪ ،‬والتي جاءت خمت ّل َة ّ‬
‫أثار حفيظة هريمني‪.‬‬ ‫حدٍّ كبري وهو ما َ‬
‫تغي يف ترتيب التقرير وهي تعطي املساعد َة وصلة من التقريع‪،‬‬‫أخذت ّ‬
‫إحراجا هلا يف االجتامع املصغر الذي‬
‫ً‬ ‫سبب ذلك التقرير‬
‫وهدّ دهتا بالعقاب إذا ّ‬
‫جيمعها مع حاكم أديتيا األرض‪ ،‬ورئيس قسم األمن‪ ،‬وحاكم القطاع اجلنويب‬ ‫ُ‬
‫يضم األرايض املرصية يف أديتيا)‪ .‬قالت هلا يف غيظ بعد أن أنقذت ما‬
‫(الذي ّ‬
‫خملصا أليب‪،‬‬
‫ألن والدك كان خاد ًما ً‬ ‫“أنت تعملني معي فقط ّ‬‫ِ‬ ‫يمكن إنقاذه‪:‬‬
‫لزم‬ ‫ِ‬
‫األحراش اجلنوبية إذا َ‬ ‫أتورع عن إعادتك إىل كوخ عائلتك يف‬
‫لك ّنني لن ّ‬
‫تتوسل إليها ّأل تفعل‪ ،‬وتقسم ّأنا لن ختذهلا ّ‬
‫مرة‬ ‫األمر”‪ .‬أخذت املساعدة ّ‬
‫تقبل ركبتها لك ّنها دفع ْتها وهي تطلب منها املغادرة‪.‬‬
‫أخرى‪ ،‬وانحنت ّ‬
‫يف مكتب احلاكم‪ ،‬جلست عىل يمني مكتبه‪ ،‬وعىل اليسار جلس رئيس‬
‫تبادلت مع األخري حتي ًة فاترة‬
‫ْ‬ ‫وجلس حمافظ اجلنوب يف املنتصف‪.‬‬
‫َ‬ ‫األمن‪،‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪151‬‬
‫وهو ال يطيقها ألهنا من‬‫املتعصب َ‬
‫ّ‬ ‫ألنا من ذلك ال ّنوع الديني‬‫فهي تكرهه ّ‬
‫تطمع يف‬
‫ُ‬ ‫عائلة مشكوك يف نزاهتِها‪ -‬طب ًقا لرأيه‪ ،-‬وألنّه يعرف يقينًا أهنا‬
‫رب يف القطاعات الثالث يف‬ ‫فالقطاع اجلنويب هو األك ُ‬
‫ُ‬ ‫حقيقيا‬
‫ًّ‬ ‫منصبه‪ .‬كان ذلك‬
‫منصب ميلء بالصالحيات الواسعة‪ ،‬وليس‬ ‫ٌ‬ ‫أديتيا األرض‪ ،‬وهو بالنسبة هلا‬
‫جمرد واجهة للنظام احلاكم أمام األرضيني‪.‬‬ ‫كمنصبها احلايل؛ ّ‬
‫األول يف هذا االجتامع عن ِ‬
‫نقض املرصيني التفاقهم معهم‬ ‫املوضوع ّ‬
‫ُ‬ ‫كان‬
‫نص االتفاق؛ بل ّإنم أطلقوا رساحه‬‫وعد ِم احتجازهم ُلعمر عوض اهلل كام ّ‬
‫َ‬
‫خيتطف األربعة املحكوم‬ ‫يعود ملامرسة نشاطه ح ّتى استطاع أن‬
‫ُ‬ ‫وجعلوه‬
‫عليهم باإلعدام وإظهار الرشطة األديتية بمظهر العاجز أمام العامل‪.‬‬

‫صورا للهجوم من إحدى‬ ‫ً‬ ‫مسئول األمن شاش ًة أمامهم تظهر‬‫ُ‬ ‫فتح‬
‫َ‬
‫ثم يبدو‬ ‫وتقتطع صورته ّ‬
‫ُ‬ ‫وجه ِ‬
‫أحد املهامجني‬ ‫ثم تركز عىل ْ‬
‫الطائرات الدّ قيقة‪ّ ،‬‬
‫ثم قال‪“ :‬هذا‬ ‫ُ‬
‫وتستبدلا بأخرى‪ّ ،‬‬ ‫تغيريات تزيل َ‬
‫بعض املالمح‬ ‫ٌ‬ ‫عىل الصورة‬
‫الرجل أحد ضباط ا ُملخابرات املرصية‪ ،‬بالطبع ُهم ينكرون أنّه أحدهم لك ّننا‬
‫نعرف تاريخ حياته بالكامل”‪.‬‬

‫استخدمها لتكبري الكلامت املكتوبة حتت‬ ‫أمسك احلاكم بأداة يف ِ‬


‫يده ْ‬ ‫َ‬
‫أن املخابرات املرصية هي َمن د ّبر‬ ‫ثم سأله بتح ّفظ‪“ :‬هل تعني ّ‬ ‫الصورة‪ّ ،‬‬
‫بأن األرجح‬ ‫ُ‬
‫مسئول األمن ّ‬ ‫وأنم ج ّندوا عمر عوض اهلل؟”‪ .‬ر ّد عليه‬ ‫اهلجوم‪ّ ،‬‬
‫ّأنم يدعمونه‪ ،‬وأنّه ِمن املحتمل جدًّ ا أن ّ‬
‫يضموا كتائب النرص التابعة هلم إىل‬
‫كتائب احلرية التابعة ُلعمر‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪152‬‬
‫رأسه ناف ًيا وهو يقول‪“ :‬ال أعتقد ذلك؛ ُعمر و َمن معه‬
‫حمافظ اجلنوب َ‬‫ُ‬ ‫هز‬
‫ّ‬
‫سياسيا قبل الغزو‪..‬‬
‫ًّ‬ ‫ري منهم كانوا ُمضطهدين‬ ‫َ‬
‫يكرهون حكومتهم‪ ،‬والكث ُ‬
‫تتابع حوارهم وهي‬ ‫ترصف بمفرده”‪ .‬كانت هريمني ُ‬ ‫يكون قد ّ‬‫َ‬ ‫يمكن أن‬
‫خيططون لإلغارة عىل جمموعة‬ ‫تشعر ّأنم جمموعة من ال ّتالميذ احلمقى ّ‬
‫منافسة من احلي املجاور‪ .‬واحدٌ يعتقد‪ ،‬وواحدٌ ال يعتقد‪ ،‬واألمور واضحة‬
‫ريهم حلظة‪ ،‬ح ّتى‬ ‫كالشمس؛ ّإنم ال يساملون أديتيا األرض‪ ،‬ومل يتوقف تدب ُ‬
‫الدول الكربى التي اعرتفت بدولتهم تدبر يف اخلفاء ً‬
‫أيضا‪.‬‬
‫صحيحا فال بدّ أن نخرج تلك األدل َة للعلن”‪ .‬قال‬
‫ً‬ ‫كالمك‬
‫ُ‬ ‫“إذا كان‬
‫وتقارير تدعم وجهة‬
‫َ‬ ‫صورا أخرى‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫مسئول األمن‬ ‫احلاكم بحزم حنيَ عرض‬
‫ُ‬
‫مسئول األمن يف‬ ‫نظره يف تورط املرصيني املبارش يف العملية األخرية‪ .‬ابتسم‬
‫ٍ‬
‫دستة‬ ‫نرد بعنف يا سيدي‪ ،‬لقد قتلوا أكثر من‬ ‫ثم قال‪“ :‬ال بدّ ً‬
‫أيضا أن َّ‬ ‫اعتداد‪ّ ،‬‬
‫جتمعاهتم العسكرية‬‫من رجالنا‪ ..‬أقرتح أن نطلقَ عد ًدا من القذائف عىل ّ‬
‫نظره ملحافظ اجلنوب الذي هز‬ ‫وهو يدير َ‬
‫رشق بني سويف”‪ .‬أهنى مجلته َ‬
‫رأسه مؤيدً ا‪.‬‬
‫أدار نظره إىل‬
‫ثم َ‬ ‫كم سرتتِه وهو يدير املسألة يف رأسه‪ّ ،‬‬ ‫داعب احلاكم ّ‬‫َ‬
‫ومستفهم عن سبب صمتِها من ّأول االجتامع‪ .‬اعتدلت‬ ‫ً‬ ‫رأيا‪،‬‬
‫هريمني طال ًبا َ‬
‫يف جلستِها وهي تبدأ بالكالم متحدّ ثة عن األعداء الذين لن يتحولوا إىل‬
‫كل املواقف‬ ‫نستغل ّ‬
‫ّ‬ ‫نحو اآلخرين قائلة‪“ :‬ال بدّ أن‬
‫وجهت نظرها َ‬ ‫ثم ّ‬‫أصدقاء‪ّ ،‬‬
‫ُ‬
‫مسئول األمن عىل طريقتها‪ ،‬لك ّنها‬ ‫ملجرد انتقا ٍم ساذج”‪ .‬احتدّ‬
‫لصاحلنا وليس ّ‬
‫تقريرها عن املناطق العشوائية خمتتمة‬
‫َ‬ ‫عرضت عليها‬
‫ْ‬ ‫جتاهلته وفتحت شاشة‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪153‬‬
‫إياه بخطة إلخالء منطقة منشية نارص‪ ،‬وهدمها‪ ،‬وإنشاء ُمنتجع كبري يف‬
‫سياحيا لألرضيني‬
‫ًّ‬ ‫جع َله مقصدً ا‬
‫فتقرتح ْ‬
‫ُ‬ ‫حضن اجلبل‪ ،‬وتتامدى يف خطتها‬
‫من خارج أديتيا‪.‬‬
‫لغطا‪ ،‬ر ّد عليها حمافظ اجلنوب بأهنا تتدخل يف صميم‬ ‫اقرتاحها ً‬
‫ُ‬ ‫أثار‬
‫ِ‬
‫باخلطط االستيطانية يا‬ ‫مسئولة عن اخلارجية‪ ،‬ال شأن لك‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫“أنت‬ ‫عمله‪:‬‬
‫احلاكم ّ‬
‫بأن املانع الوحيد من إزالة تلك املنطقة هو‬ ‫ُ‬ ‫سيدة هريمني”‪ .‬رد عليه‬
‫طبعا إىل أهنا ح ّللت‬
‫ختصصها‪ ،‬إضافة ً‬
‫صميم ّ‬
‫ِ‬ ‫صورهتم أمام العامل‪ ،‬وهذا من‬
‫وهم بالر ّد لكن‬
‫الرجل ّ‬‫وجه ّ‬
‫ُ‬ ‫املتخصص‪ْ .‬اربدّ‬
‫ّ‬ ‫املشكلة بطريقة مل يقدر عليها‬
‫ثم سأهلا‪“ :‬ما ّ‬
‫اخلطة التي تقرتحينها؟”‪.‬‬ ‫احلاكم أسكته بإشارة من يده ّ‬
‫َ‬
‫نصا عىل الشاشة أما َمهم يف ثقة وهي تقول‪ً :‬‬
‫“أول جيب أن‬ ‫فتحت هريمني ًّ‬
‫َ‬
‫يعرتض اجلميع‪ -‬وهو ما كانت‬ ‫نقدّ م تلك الشكوى يف جملس األمن”‪ .‬قبل أن‬
‫يتم‬ ‫أردفت قائلة‪“ :‬بالطبع لن ُتدي الشكوى ً‬
‫نفعا‪ ،‬فال أتوقع أن ّ‬ ‫ْ‬ ‫تتوقعه‪-‬‬
‫يبي الدول التي قد‬‫نصا آخر ّ‬ ‫فتحت ًّ‬
‫ْ‬ ‫معاقبة املرصيني عىل ذلك‪ ،‬ولكن‪،”...‬‬
‫أن‬ ‫ستنكر ّ‬
‫ُ‬ ‫تستنكر الترصف املرصي (وهي ُتعدّ عىل األصابع)‪ ،‬والدول التي‬
‫إن ما حدث نوع من املقاومة‬ ‫احلكومة املرصية هلا عالقة باألمر‪ ،‬والتي ستقول ّ‬
‫وألول مرة‪ -‬هناك طرفان للمشكلة أديتيا‬ ‫ّ‬ ‫“املهم أنّه‪-‬‬
‫ّ‬ ‫ثم قالت‬
‫املرشوعة‪ّ ،‬‬
‫ثم‬‫مثل‪ّ .‬‬‫وكل األرض‪ ،‬أو أديتيا ضدّ الرشق األوسط ً‬ ‫ومرص‪ ،‬وليس أديتيا ّ‬
‫أول”‪.‬‬‫إن الشكوى ستكون وثيقة تثبت أن أديتيا جلأت للوسائل الدبلوماسية ً‬ ‫ّ‬
‫ستتضمن اإلشار َة إىل منشية نارص عىل أهنا‬
‫ّ‬ ‫“فهمت‪ ،‬وأعتقد ّ‬
‫أن الشّ كوى‬
‫ثم قالت‪“ :‬بعدَ ذلك‪،‬‬‫فهزت رأسها موافقة‪ّ ،‬‬ ‫احلاكم ّ‬
‫ُ‬ ‫خربني”‪ .‬قال‬
‫للم ّ‬
‫وكر ُ‬
‫ٌ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪154‬‬
‫حتدث عملية إرهابية ِ‬
‫بش َعة نستغ ّلها لتكون نقط َة الغليان بالنسبة‬ ‫َ‬ ‫ال بدّ أن‬
‫صمت الثالثة‬
‫َ‬ ‫ظهر البعري”‪.‬‬ ‫َ‬
‫يقولون القشّ ة التي قصمت َ‬ ‫لنا‪ ،‬ونعتربها كام‬
‫فقالت بوضوح‪“ :‬أنتم‬ ‫ْ‬ ‫متوجسني من قصدها‪،‬‬‫ّ‬ ‫وتبادلوا النظرات فيام بينهم‬
‫تذكرون عملية قتل وتعذيب الفتيات األديتيات‪ ،‬التي بسببها ُح ِك َم باإلعدام‬
‫أثر كالمها عىل وجوههم‪..‬‬ ‫صمتت حلظة وهي تتأمل َ‬
‫ْ‬ ‫عىل هؤالء الشبان”‬
‫استطاع جتنيد هؤالء‬
‫َ‬ ‫رئيس األمن السابق الذي‬
‫َ‬ ‫أن مد ّبرها كان‬‫“أنا أعرف ّ‬
‫الشبان وإهيا َمهم ّأنم يعملون لصالح املقاومة‪ ،‬وأقنعهم بتصوير تلك الفعلة‬
‫ومع األسف مات دون أن خيرب أحدً ا هبوية املن ّفذين”‪.‬‬
‫ونشها يف العلن‪َ ،‬‬ ‫ْ ِ‬
‫ُ‬
‫وحمافظ اجلنوب كالمها‪ ،‬فقال احلاكم‪“ :‬ال داعي‬ ‫رئيس األمن‬
‫ُ‬ ‫استنكر‬
‫َ‬
‫صارت من دوائر السلطة العليا‪ ،‬وأعتقد‬
‫ْ‬ ‫األعزاء‪ ..‬هريمني اآلن‬
‫ّ‬ ‫لإلنكار ّأيا‬
‫ابتلعت ريقها بصعوبة َ‬
‫قبل أن تكمل‬ ‫ْ‬ ‫نكرر العملية نفسها”‪.‬‬
‫ّأنا تقرتح أن ّ‬
‫وأنا‬
‫اجتامع اليوم‪ّ ،‬‬
‫ِ‬ ‫غرضها الكامل من‬‫وشك حتقيق ِ‬‫ِ‬ ‫كالمها؛ تشعر ّأنا عىل‬
‫قدمة عليه‪،‬‬ ‫ِ‬
‫حقارة ما هي ُم ٌ‬ ‫أدارته بالكامل لصاحلها‪ ،‬لكنها ترى اآلن مدى‬
‫روحها التي فقدت‬‫يبصق عىل وجهها وحيدّ ثها عن بشاعة ِ‬ ‫ُ‬ ‫وترى ماندريك‬
‫تتحجج هبا‬
‫ّ‬ ‫أي رمادية‬
‫كل براءة املايض‪ .‬كانت اخلطوة التالية هي ما س ُيزيل ّ‬ ‫ّ‬
‫لبس فيها‪.‬‬
‫يف تربير أفعاهلا‪ ،‬وسيجعلها سوداء خالصة ال َ‬
‫هن أعطانا مكاسب‬ ‫تضحيتهن هبا ًء؛ فمقت ُل ّ‬
‫ّ‬ ‫قتلن مل تذهب‬
‫“الفتيات اللوايت َ‬
‫ُ‬
‫جلي أكثر‪ً ،‬‬
‫قائل‪:‬‬ ‫ريا حفيظ َة ّ‬
‫الر ْ‬ ‫حاكم األرض عىل كالمها مث ً‬
‫ُ‬ ‫كثرية”‪ .‬أ ّمن‬
‫املتوحشني عديمي‬
‫ّ‬ ‫“نعم‪َ ،‬‬
‫عرف العامل أنّنا ندافع عن أنفسنا ضدّ جمموعة من‬
‫أقرتح تكرار‬
‫ُ‬ ‫أن ابتلعت ريقها‪“ :‬أنا بالفعل‬ ‫قالت هريمني بعد ِ‬
‫األخالق”‪ْ .‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪155‬‬
‫املخطوفات من احلوامل‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ريا‪ ،‬أقرتح أن يكون‬
‫العملية لكن بشكل أكثر تأث ً‬
‫ثم يرتكن لينزفن أمام الكامريا ح ّتى‬
‫بطوهنن‪ ،‬وتقتل األجنة‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫وأن ُتفتَح‬
‫املوت؛ هكذا لن ّ‬
‫يفكر أحدٌ يف االعرتاض عىل ّ‬
‫أي إجراء انتقامي نقوم به”‪.‬‬
‫املتقززة من بشاعة الفكرة‪ .‬تبادلت نظرة حمتقرة‬
‫تعبريات وجوههم ّ‬‫ِ‬ ‫تأ ّملت‬
‫مع حمافظ اجلنوب الذي قال‪ّ :‬‬
‫“إن الفكرة ُمفزعة ح ّتى بمقاييس عائلتك يا‬ ‫َ‬
‫يضغط عىل حروف كلامته‪ ،‬فاحتدّ ت عليه هريمني‬ ‫ُ‬ ‫هريمني”‪ .‬قاهلا وهو‬
‫ثم قال‬
‫مجيعا بالصمت‪ّ ،‬‬
‫احلاكم ً‬
‫ُ‬ ‫تطلب عو َنه‪ .‬أشار هلم‬
‫ُ‬ ‫ونظرت للحاكم كأهنا‬
‫مهمة يف الدولة”‪ .‬ابتسمت بظفر‪،‬‬‫له‪“ :‬ينبغي أن ال تقول كال ًما كهذا ملسئولة ّ‬
‫احلاكم هلا‪ ،‬وقال‪“ :‬غري ّ‬
‫أن عملية كتلك‬ ‫ُ‬ ‫لكن ابتسامتها تالشت حني نظر‬ ‫ّ‬
‫أرضيني مأجورين يقومون‬
‫ّ‬ ‫ري هلا عىل الطريقة السابقة‪ ..‬نريدُ‬
‫يصعب التحض ُ‬
‫ري منهم”‪.‬‬
‫أن أناندار الصغري شقيقك لديه الكث ُ‬ ‫بالتنفيذ‪ ،‬وأعتقد ّ‬
‫واضحا‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫الرجل مل يمنحها فرصة‪ ،‬وبدَ ا‬ ‫لكن‬
‫حاولت أن ترفض اقرتاحه‪ّ ،‬‬ ‫ْ‬
‫وحل ذلك املستنقع الذي تقرتحه‪ .‬قال‬ ‫غرس قدميها عمي ًقا يف ْ‬ ‫َ‬ ‫هلا أنّه يريد‬
‫ِ‬
‫مساعدة منظمة إجرامية يف تنفيذ عملياهتا‬ ‫ٍ‬
‫حكومة حتتاج أحيا ًنا إىل‬ ‫هلا‪ :‬إن ّ‬
‫كل‬
‫ٍ‬
‫حدود ضيقة‪“ ..‬أنا عىل دراية‬ ‫وإنم يستأجرون خدمات شقيقها يف‬ ‫القذرة‪ّ ،‬‬
‫بتجارته للتقنيات مع املرصيني‪ ،‬والتي يقبض ثمنَها من املاس واملعادن‬
‫نتغاض عن أفعاله‬‫َ‬ ‫بأثامن باهظة‪ ..‬نحن‬ ‫ٍ‬ ‫األرضية النادرة التي يبيعها يف أديتيا‬
‫تلك ألنّنا مل نثبتها ً‬
‫أول‪ ،‬وثان ًيا ألننا نحتاج إليه أحيا ًنا كام قلت”‪.‬‬
‫وظهر عىل‬
‫َ‬ ‫أنت يا سيدي”‪ .‬ضحك احلاكم‬ ‫ر ّدت هريمني‪“ :‬إ ًذا‪ ،‬استأجره َ‬
‫ُ‬
‫حتاول التم ّلص بدون جدوى‪،‬‬ ‫ِ‬
‫حمافظ اجلنوب نظر ُة استمتاع وهو يراها‬ ‫وجه‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪156‬‬
‫ٍ‬
‫بطلب منك‪ ،‬وال‬ ‫يتم‬
‫املوضوع بالذات أريده أن ّ‬
‫ُ‬ ‫واحلاكم ير ّد ً‬
‫قائل‪“ :‬هذا‬ ‫ُ‬
‫ُ‬
‫فامليزانية مفتوحة”‪ .‬يف النهاية مل جتد بدًّ ا من القبول‬ ‫تقلقي بالنسبة للتكاليف‬
‫مهمة كتلك‪،‬‬
‫تنفيذ ّ‬‫ابتالع كرامتها والطلب من أخيها َ‬ ‫ِ‬ ‫وأنا ُمربة عىل‬
‫باألمر‪ّ ،‬‬
‫ليمنعها من مفاحتتِه ثانية يف ترك األعامل‬
‫َ‬ ‫وهي تعلم أنّه سيستخدمها ضدّ ها‬
‫اإلجرامية واالكتفاء باالستثامرات الرشعية‪.‬‬

‫مرص ًة عىل امليضّ ُقد ًما يف ذلك الطريق آلخره‪ّ ،‬‬


‫ثم‬ ‫غدت ّ‬ ‫ْ‬ ‫وافقت وقد‬
‫ْ‬
‫رشط واحد”‪ .‬عقد‬ ‫لدي ٌ‬ ‫فرصة الستغالل املوقف‪ ،‬فقالت‪“ :‬لكن ّ‬‫ٌ‬ ‫الحت هلا‬
‫أنت ختدمني وطنَك بال‬ ‫ٍ‬
‫رشط يا هريمني ِ‬ ‫“أي‬
‫احلاكم حاجبيه وهو يسأهلا‪ّ :‬‬
‫ُ‬
‫أرشف عىل عملية هد ِم منشية نارص‪،‬‬ ‫َ‬ ‫رشوط”‪ .‬ردت عليه قائلة‪“ :‬أريد أن‬
‫ٍ‬
‫واحدة من‬ ‫وعىل بناء املنتجع‪ ،‬وأن يكون إنشاؤه وإدار ُته حتت إرشاف‬
‫حمافظ اجلنوب َ‬
‫رشطها‪ ،‬فقالت له بتحدٍّ ‪“ :‬إ ًذا‪ ،‬ن ّفذ‬ ‫ُ‬ ‫رشكات عائلتي”‪ .‬استنكر‬
‫ينظر للحاكم الذي‬ ‫يقدر عىل إجابتها وهو ُ‬
‫فغص حلقه ومل ْ‬ ‫العملية أنت”‪ّ .‬‬
‫أومأ هلا باملوافقة عىل رشطها‪.‬‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪157‬‬
‫‪23‬‬
‫(ميساء) يف جلستِها بصعوبة وهي مازالت تتعاىف من إصابة‬ ‫اعتدلت ْ‬‫ْ‬
‫املقار التابعة لكتائب احلرية يف‬
‫أحد ّ‬ ‫ساقها يف العملية األخرية‪ .‬كانت راقد ًة يف ِ‬
‫مقار عملها السابقة‪.‬‬
‫حديث خيتلف متا ًما عن ما عهدته يف ّ‬‫ٌ‬ ‫شقة نظيفة‪ ،‬أثا ُثها‬
‫لديا إمكانيات أفضل من كتائبها‪،‬‬ ‫ُ‬
‫املقاومة التابعة ألبيها وماندريك ْ‬ ‫كانت‬
‫تفو ٍق كبرية؛ تتدفق‬
‫فوجود املئات من ال ّنياندرتال يف صفوفهم ُيعطيهم نقطة ّ‬
‫األم‪ ،‬إضاف ًة إىل قدرهتم عىل‬
‫عليهم التقنيات وال ّتجهيزات من كوكبهم ّ‬
‫حتت ستا ٍر من مهن أخرى ُمعلنة‪ ،‬والتزاوج‬ ‫مجيعا َ‬
‫املراوغة بفضل عملهم ً‬
‫املتكرر بني برش من املقاومة وزميالهتم األديتيات‪.‬‬
‫ّ‬
‫فإن تلك العملية كانت‬ ‫رغم إصابتها يف أثناء حترير (معاذ) وزمالئه؛ ّ‬ ‫َ‬
‫أسعد العمليات التي قامت هبا ُ‬
‫منذ التحقت باملقاومة‪ .‬كان معها أبوها‬ ‫ِ‬ ‫من‬
‫نجح يف إزالة مرارة سنوات من اخلالف بينهام‬
‫يقاتل جن ًبا إىل جنب؛ شعور َ‬
‫األزلية يف اخلروج من عباءته‪ .‬شعرت ً‬
‫أيضا ّأنا بقتاهلا‬ ‫ّ‬ ‫وشعورها برغبتها‬
‫بالذنب الذي كانت تعاين منه اجتاه‬ ‫ِ‬
‫إحساسها ّ‬ ‫ريا من‬‫وإصابتها قد قللت كث ً‬
‫إحساس‬
‫ٌ‬ ‫تسببت يف قتل زوجته‪.‬‬
‫(معاذ) الذي استدرجته‪ ،‬و(حبيب) الذي ّ‬
‫بالذنب مل تفلح يف إزالته حماوالهتا إقناع نفسها ّأنا يف جانب اخلري‪ ،‬وتأكيدات‬
‫أن مقاومي كتائب احلرية مارقون ح ّتى ْ‬
‫وإن كانوا حياربون العدو نفسه‪.‬‬ ‫قادهتا ّ‬
‫ريا يف تلك العملية‪ ،‬وقاتلت بشجاعة ومل هتب املوت؛ بل‬
‫دورها كب ً‬
‫كان ُ‬
‫ريها أحيا ًنا تلك النظرة‬ ‫استعدّ ت ملالقاته بع ٍ‬
‫ني مفتوحة‪ .‬مازال يشغل تفك َ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪158‬‬
‫وجه ذلك الضابط‪ ،‬ذلك اخلائن ألهله وبلده الذي‬ ‫املرتددة التي رأهتا عىل ْ‬
‫فأحس‬
‫ّ‬ ‫يقاتل حتت راية األعداء‪ .‬ملاذا تراجع؟ هل دامه ْته دفقة من الشّ هامة‬
‫يصح أن يقتل امرأة هكذا؟ إ ًذا‪ ،‬ما الذي كان سيفع ُله لو نجح يف القبض‬
‫أنه ال ّ‬
‫عليها هل كان سري ّبت عليها ويطالبها بعدم تكرار محاقاهتا؟‪.‬‬
‫قص عليها حكاية ذلك الرجل‪ ،‬وكيف أن‬ ‫باألمس‪ ،‬حني زارها أبوها ّ‬
‫صاحلا فيام مىض‪ ،‬وأنه كان يعرف والده األستاذ عالء‬ ‫ً‬ ‫(باسل) كان شا ًّبا‬
‫الشعراين ا ُملعارض البارز‪ ،‬والذي قىض نح َبه يف السجن ألنّه كان “يدافع عن‬
‫ضحايا النظام ا ُملستبد” طب ًقا ألبيها‪ .‬يفعل أبوها كام يفعل الكث ُ‬
‫ري من الروائيني‬
‫ٍ‬
‫واحد يوضع يف ظروفه نفسها‬ ‫أي‬
‫إن ّ‬‫أمثاله؛ يتلمس العذر للمجرم‪ ،‬ويقول ّ‬
‫يترصف نفس ترصفه‪ ،‬وأن شا ًّبا مات أبوه وهو َمسجون ً‬
‫ظلم‪ ،‬وماتت أ ّمه‬ ‫قد ّ‬
‫وبمن فيه‪.‬‬
‫من الفاقة ينبغي أن ال نتوقع منه غري الكفر بالوطن َ‬
‫ريا يف تلك النقطة‪ ،‬فهي ال تريد أن تعكر صفو‬ ‫ْ‬
‫حتاول أن جتادل أباها كث ً‬ ‫مل‬
‫املرحلة اجلديدة يف عالقتهام‪ ،‬رغم ّأنا ال تزال تتساءل هل مهادنته ورفاقه‬
‫تلك حقيقة‪ ،‬وهل اقتنعوا فجأ ًة بعد سنني من املامنعة ّأنم ال بدّ أن ينضموا‬
‫األسباب التي جعلته يقبل بذلك‪،‬‬
‫َ‬ ‫ٍ‬
‫خندق واحد‪ .‬رشح هلا أبوها‬ ‫إىل دولتهم يف‬
‫عن مناضلني وصلوا يف ال ّنهاية إىل القناعة ّ‬
‫بأن ما ال يؤخذ‬ ‫قصصا ْ‬
‫ً‬ ‫وحكى هلا‬
‫اعرتف بح ّقك‪ ،‬فال َ‬
‫مانع من أن‬ ‫َ‬ ‫غريمك قد‬‫ُ‬ ‫كله ال يرتك كله‪ ،‬وأنه مادام‬
‫تساحمه وتفتح معه صفحة جديدة يقدّ م كالكام فيها بعض التنازالت‪.‬‬
‫طمعا يف‬
‫تشعر بتناقض يف أفكارها جتا َه أبيها حني خيطر بباهلا أنّه ربام قبل ً‬
‫ُ‬
‫بغصة ال تدري سببها حني تفكر ّ‬
‫أن مثالية‬ ‫تشعر ّ‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫منصب ما بعد إمتام التحرير‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪159‬‬
‫ري حفيظتها باملناسبة‪ -‬ليست موجودة‪،‬‬ ‫أبيها الصافية تلك‪ -‬والتي كانت تث ُ‬
‫األمور بمقياس العقل‪ ،‬وحيدّ د ما األهداف‬
‫َ‬ ‫كأي رجل يزن‬‫رجل عاقل ّ‬‫وأنّه ٌ‬
‫ثم تعود ّ‬
‫فتذكر نفسها بأهنا كانت دو ًما تقول‬ ‫الواقعية وما األهداف اخليالية‪ّ ،‬‬
‫نجحت بينه وبني أ ّمها‬
‫ْ‬ ‫فن ا ُملمكن‪ّ ،‬‬
‫وأن الرومانسية التي‬ ‫إن السياسة هي ّ‬‫له ّ‬
‫ليست موجودة يف املقاومة واحلرب‪.‬‬
‫كانت تق ّلب يف القنوات التي تعرض عىل الشاشة الفراغية املنتصبة أمام‬
‫أي يشء يسليها حني دخل عليها (سمري)‪ .‬جلس‬ ‫ُ‬
‫تبحث عن ّ‬ ‫فراشها وهي‬
‫عىل الكريس املجاور لفراشها وهو يسأل عن حاهلا‪ ،‬وهل مازالت إصابتها‬
‫مؤملة إىل آخ ِر تلك األسئلة العادية‪ ،‬وهي جتيب ّأنا بخري‪ ،‬وتنظر إىل ك ّفه‬
‫كأنام عادا غريبني ال‬
‫ثم ترتاجع ّ‬‫تقرتب لرت ّبت عىل كتفها‪ّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫املرتعشة وهي‬
‫يصح بينهام أكثر من التحية باللسان‪.‬‬
‫ّ‬
‫الشاشات الفراغية تثري دهشتي‪ ،‬ال أعرف كيف ال‬ ‫ُ‬ ‫“مازالت تلك‬
‫ً‬
‫حماول أن جيدَ ثغرة‬ ‫جمرد ضوء يف اهلواء”‪ .‬قاهلا‬ ‫تشف ما وراءها رغم ّأنا ُ‬ ‫ّ‬
‫مثل رجلٍ يع ّلق عىل أحوال الطقس أو آخر أخبار‬ ‫يف اجلدار اجلليدي بينهام َ‬
‫اعتدلت يف فراشها‬
‫ْ‬ ‫ممثيل السينام‪ ،‬ور ّدت هي بدورها بفتو ٍر مؤ ّمن ًة عىل كالمه‪.‬‬
‫ري‬
‫وشك االستغراق يف النوم‪ ،‬راجية أن يفهم ّأنا غ ُ‬ ‫ِ‬ ‫بطريقة توحي أهنا عىل‬
‫راغبة يف استكامل تلك الزيارة‪.‬‬
‫واستمر يف حماوالته البائسة‬
‫ّ‬ ‫زفرت يف ضيق حني مل تص ْله رسالتها ّ‬
‫املبطنة‪،‬‬ ‫ْ‬
‫وجوده حوهلا يسحب األكسجني من اهلواء‬ ‫ُ‬ ‫لفتح موضو ٍع للحديث‪ .‬صار‬
‫أي يشء يبعدها عنه‪ .‬يف ال ّنهاية قالت له رصاحة ّإنا‬
‫ترغب يف فعل ّ‬
‫ُ‬ ‫وجيعلها‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪160‬‬
‫يلملم بقايا كرامته َ‬
‫دون أن يتكلم‪ .‬مل تكرهه لك ّنها‬ ‫ُ‬ ‫تنام فانرصف‬ ‫تريد أن َ‬
‫وقت كانت حتتاج فيه للحب؛‬ ‫ٍ‬ ‫بحبه يف‬
‫أومهت نفسها ّ‬
‫ْ‬ ‫اكتشفت فجأة أهنا‬
‫وقت كانت تعيش فيه وحدة قاتلة ال أب وال أم وال صديقة تفهمها وحتكي‬
‫ألنا استندت عليه يف ٍ‬
‫وقت مل جتد فيه َمن يسندها‪،‬‬ ‫أحبته ّ‬
‫معها عن مشاكلها‪ّ .‬‬
‫جمر ُد امرأة فرضها أه ُله عليه حني‬
‫وأن زوجته هي ّ‬‫وألنا صدّ قت أهنا احلبيبة‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫ً‬
‫وحاصل عىل تعليم متواضع‪.‬‬ ‫ريا‬
‫كان صغ ً‬
‫حبها له وجتاهلت‬ ‫بنت عليه ّ‬
‫لكن األساس الذي ْ‬ ‫صدّ قته حني قال ذلك‪ّ ،‬‬
‫بسببه ّأنا ستكون زوج ًة ثانية هتدم حنيَ سمعت تلك النربة املتهدّ جة‬
‫اجل َ‬
‫مل‬ ‫والصوت النابع من القلب الذي كان يتك ّلم به مع زوجته‪ ،‬ويقول ُ‬
‫نفسها التي قاهلا هلا‪ .‬إذا كان صاد ًقا يف الكلامت اليل كان يقوهلا لزوجته‪،‬‬
‫امرأتي بالقدر نفسه‪ ،‬وإذا كان كاذ ًبا‬
‫ْ‬ ‫ري ُمقتنعة بأنه يستطيع أن حيب‬
‫فهي غ ُ‬
‫متثيل تلك اللهجة الصادقة النابعة من القلب‪ ،‬فتلك مصيبة‪ ،‬وذلك‬‫ويستطيع َ‬
‫رجل ال يمكن أن َ‬
‫يؤتن عىل قلبها‪.‬‬ ‫ٌ‬

‫قفزَ (باسل) إىل ذهنها فجأة‪ ،‬وعادت إىل ذهنها نظرته هلا وكأنّه قد ُصدم‬
‫وكأن القذائف من حوله توقفت‬ ‫ّ‬ ‫حنيَ رآها‪ .‬كان حيدّ ق يف عينيها كاملسحور‪،‬‬
‫نيس ما كان يفعله‪ ،‬ور ّبام كان تراجعه عن قتلها سببه ّ‬
‫أن ثمة‬ ‫مكانا‪ ،‬وكأنه َ‬‫يف ِ‬
‫ِ‬
‫أرضت الفكرة أنوثتها املتوارية‬ ‫ابتسمت وقد‬
‫ْ‬ ‫ريه‪.‬‬ ‫سحرا يف عينيها ّ‬
‫شل تفك َ‬ ‫ً‬
‫جمرد خائن خادم للغزاة‪.‬‬
‫أن ضحية عينيها هو ّ‬ ‫رغم ّ‬
‫َ‬
‫ورفع إضاء َة الغرفة التي كان (سمري) قد خفضها‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫دخل عليها ماندريك‬
‫جلس جوارها عىل املقعد نفسه الذي غادره (سمري) لل ّتو‬
‫َ‬ ‫بناء عىل رغبتها‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪161‬‬
‫ري ُم َتعبة‪ ،‬وأنّك طلبت منه املغادرة”‪.‬‬
‫وهو يقول هلا بمرح‪“ :‬أنا أعرف أنّك غ ُ‬
‫يفعلن مثل هذه‬
‫َ‬ ‫النساء عندكم‬
‫ُ‬ ‫ضحكت وهي تسأله كيف عرفت‪“ :‬هل‬
‫هز رأسه مؤكدً ا أن هذه هي احلقيقة‪.‬‬
‫األشياء؟”‪ّ .‬‬
‫قدر كبري من‬
‫أن العالقة بني الرجل واملرأة عندكم فيها ٌ‬ ‫“ما أعرفه هو ّ‬
‫احلرية وال ّتعدد”‪ .‬قالت وهي تفتح الشاش َة ثانية وتق ّلب القنوات لتظهر قناة‬
‫نفرق بني‬
‫“األمر ليس هبذه البساطة‪ ،‬نحن فقط ّ‬ ‫ُ‬ ‫األخبار‪ .‬قال ماندريك‪:‬‬
‫جمر ُد ممارسة حمبوبة‬
‫احلب‪ ..‬العالقة اجلسدية عندنا ّ‬
‫العالقة اجلسدية ومشاعر ّ‬
‫احلر فوق السهول‪ ،‬ليس هلا ذلك‬ ‫َ‬
‫مثل تناول طعام لذيذ أو ُمارسة الطريان ّ‬
‫ري مقتنعة وهي تقول ّإنم برش‬‫رأسها غ َ‬
‫هزت َ‬ ‫البعد النفيس املوجود لديكم”‪ّ .‬‬
‫نحب‪ ،‬ويكرهون ما نكره‪.‬‬
‫حيبون ما ّ‬
‫مثلنا‪ّ ،‬‬
‫نحب هلا إحساس‬ ‫ّ‬ ‫فإن ممارسة العالقة اجلسدية مع َمن‬ ‫“لو أردت الدق َة ّ‬
‫مثل يتزاوجن‬‫ُمتلف‪ ،‬فهو أكثر خصوصية‪ ..‬اإلناث عندنا يف أيام التبويض ً‬
‫أمامهن‪ّ ،‬إل إذا كانت يف عالقة حرصية‪ ،‬عندها هتلك‬ ‫ّ‬ ‫مع أي ذك ٍر يظهر‬
‫تضطر لتحمل اآلالم اجلسدية الفظيعة التي تعرتهيا‬ ‫ّ‬ ‫زوجها يف الفراش‪ ،‬أو‬
‫ولدت من‬
‫ْ‬ ‫رسها عىل أهنا‬ ‫ِ‬
‫ومحدت اهلل يف ِّ‬ ‫إذا كان رجلها غائ ًبا”‪ .‬مل تر ّد عليه‪،‬‬
‫علامء ال ّتطور لديكم‬
‫ُ‬ ‫قائل‪“ :‬ربام كان‬‫عرق خمتلف‪ .‬فأكمل ماندريك كال َمه ً‬
‫ُم ّقون‪ ،‬وأنّنا نوعان خمتلفان؛ نحن هومو نياندرتاليس‪ ،‬وأنتم هومو سابينز”‪.‬‬
‫ثم خطر‬ ‫املسميات املعقدة ّ‬ ‫ُ‬
‫تشغل باهلا بتلك ّ‬ ‫مطت شفتيها عالم ًة عىل أهنا ال‬ ‫ّ‬
‫تزاوج بيننا؟‬
‫ٌ‬ ‫نوعي خمتلفني من الكائنات كيف يصري‬ ‫ْ‬ ‫بباهلا سؤال‪ ..‬إذا ك ّنا‬
‫الذئب والكلب‪..‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫احلصان واحلامر ويتزاوج‬ ‫فضحك وهو يقول‪“ :‬مثلام يتزاوج‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪162‬‬
‫فإنا تغار عليه‬ ‫أحبت ً‬
‫رجل ّ‬ ‫أن املرأة عندنا إذا ّ‬ ‫ُ‬
‫اخلالصة ّ‬ ‫دعك من ّ‬
‫كل هذا‪،‬‬
‫امرأة أخرى‪ ،‬وإذا عرفت ّ‬
‫أن حبيبها قد التقى مع أنثى‬ ‫ٍ‬ ‫من أي عاطفة جتاه‬
‫تكرار املامرسة مع‬
‫َ‬ ‫فإنا تقيم الدنيا وال تقعدها ّ‬
‫ألن‬ ‫مرات متتالية ّ‬ ‫أخرى َ‬
‫ثالث ّ‬
‫الشخص نفسه ينذر باحلب‪ ،‬و‪.”..‬‬
‫ظهرت عىل الشاشة ُ‬
‫قاعة جملس األمن يف األمم املتحدة‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫قطع كالمه حني‬
‫َ‬
‫رئيس اجللسة وهو يعطي الكلم َة هلريمني التي جيلس جوارها مساعد‬
‫وظهر ُ‬
‫َ‬
‫تسميه بانتهاك املرصيني لالتفاق‬‫أريض‪ .‬كانت تتحدّ ث بانفعال عن ما ّ‬
‫وتغي مالحمه حني ظهرت هريمني عىل‬ ‫ّ‬ ‫(ميساء) صمته‬ ‫الحظت ْ‬
‫ْ‬ ‫بينهم‪.‬‬
‫سكنت قلبي حني ك ّنا يف مقتبل‬
‫ْ‬ ‫السبب‪ ،‬فقال‪“ :‬هذه املرأة‬ ‫الشاشة‪ ،‬سألته عن ّ‬
‫احلب مشهور‬
‫أليس هذا النوع من ّ‬ ‫رغم حماواليت‪َ ..‬‬ ‫العمر ومل خترج منه لآلن َ‬
‫احلب الذي يضعك يف ٍ‬
‫حالة من الرصاع الدائم بني‬ ‫لديكم”! كان يعني ذلك ّ‬
‫كل أفعالِه‪ ،‬حني ترى ّ‬
‫حبك له‬ ‫وأنت تكره ّ‬ ‫َ‬ ‫حتب إنسا ًنا‬
‫أن ّ‬‫قلبك وعقلك؛ ْ‬
‫وكل ما تؤمن به‪.‬‬ ‫لكل مبادئك‪ّ ،‬‬ ‫نوعا من اخليانة ّ‬
‫ً‬
‫جترب ذلك النوع من املشاعر‪ ،‬وتعتقد ّ‬
‫أن أصحاهبا‬ ‫(ميساء) فهي مل ّ‬
‫مل تر ّد ْ‬
‫ضعفاء مهزومون من الداخل‪ ،‬ولذلك مل تر ّد عليه خماف َة أن جترحه‪ .‬حاولت أن‬
‫ُ‬
‫جلوس ذلك اخلائن إىل جوارها‪..‬‬
‫ُ‬ ‫تغي املوضوع فقالت‪“ :‬ما يغيظني ح ًّقا هو‬ ‫ّ‬
‫صف أعداء وطنه” ضحك‬ ‫اإلنسان حيارب يف ّ‬ ‫َ‬ ‫سبب يف الكون جيعل‬
‫ال يوجد ٌ‬
‫أن هذا الكالم يقولونه ع ّني يف وطني”‪.‬‬ ‫ماندريك وقال هلا‪“ :‬الحظي ّ‬
‫ارتبكت وهي تقول إن وضعه خمتلف‪ ،‬وإنه يدافع عن احلق ويقف إىل‬ ‫ْ‬
‫جوار الضعفاء يف مواجهة الغزاة فقال هلا‪“ :‬لست ً‬
‫مالكا‪ ..‬يل أسبايب أنا ً‬
‫أيضا‪،‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪163‬‬
‫الغزو بطريقة خمتلفة أو حجج أخرى لكنت معهم”‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫تم هذا‬
‫وقناعايت‪ ،‬ر ّبام لو ّ‬
‫مثل والدك ّ‬
‫أن‬ ‫قائل‪“ :‬أنا أرى َ‬
‫وتوجس‪ ،‬فأكمل ً‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫دهشة‬ ‫عقدت حاجبيها يف‬
‫وإن كنت أدافع عن مبادئي بدمي‪ّ ،‬إل أنّني ال‬ ‫ٍ‬
‫إنسان ظروفه‪ ،‬وأنّني‪ْ ،‬‬ ‫ّ‬
‫لكل‬
‫ملجرد أنّه عىل الطرف اآلخر‪ِ ،‬‬
‫وإن‬ ‫أفرتض أن َمن خيالفني يستحق القتل ّ‬
‫يسعدين”‪.‬‬ ‫اضطررت للقتل فينبغي ْ‬
‫أن حيزنني ذلك ال أن ْ‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪164‬‬
‫‪24‬‬
‫ً‬
‫مطعم جديدً ا لتتناول فيه‬ ‫يف أمسيتها األسبوعية ا ُملعتادة‪ ،‬اختارت كمريدا‬
‫السابق الذي كانا فيه حني‬ ‫العشا َء مع (باسل) بعدَ أن تشاءمت من املطعم ّ‬
‫مر عليها يومان َعصيبان مل ْ‬
‫ترتك جوار‬ ‫املهمة التي أصيب فيها‪ّ .‬‬
‫انرصف إىل ّ‬
‫األطباء أنّه حمظوظ‪ ،‬وأنّه لو تأخر‬
‫ُ‬ ‫فراشه فيهام ح ّتى َ‬
‫متاثل للشّ فاء‪ .‬أخربها‬
‫قض نح َبه‪.‬‬ ‫عدة دقائق يف الوصول إىل املستشفى لكان قد َ‬

‫حيتل ناصي ًة قريبة منه يف هناية شارع‬ ‫أقل فخام ًة من سابقه ّ‬‫املطعم ّ‬
‫ُ‬ ‫كان‬
‫قديم “البطل أمحد عبد العزيز”‪ .‬كان أحد تلك الشوارع‬ ‫يطلق عليه ً‬‫ُ‬ ‫كان‬
‫الطبقة الوسطى‪ ،‬أو أديتيات من ذات‬ ‫غالبية من األديتيني من ّ‬
‫ٌ‬ ‫التي تقطنها‬
‫الدرج مع (باسل) إىل‬‫َ‬ ‫صعدت كمريدا‬
‫ْ‬ ‫أرضيني‪ .‬حني‬
‫ّ‬ ‫الطبقة متزوجات من‬
‫جلسا‬
‫تغيا عىل وجهه‪ ،‬انتظرت ح ّتى َ‬ ‫الطابق العلوي من املطعم الحظت ّ ً‬
‫املطعم ال يعجبك؟”‪َ .‬‬
‫جال بعينيه يف‬ ‫ُ‬ ‫ثم سألته‪“ :‬ما بك‪ ..‬هل‬
‫عىل الطاولة ّ‬
‫“تغي ّ‬
‫كل‬ ‫ثم قال‪ّ :‬‬ ‫املكان وهو يتأمل األسقف واجلدران وشكل العاملني‪ّ ،‬‬
‫خر من‬‫الصغر‪ ،‬ك ّنا ندّ ُ‬‫يشء هنا‪ ..‬هذا املطعم كان ُملتقاي أنا وأصحايب أيام ّ‬
‫مرصوفنا لنأيت إىل هنا ُ‬
‫نأكل البيتزا ونشاغل الفتيات”‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بابتسامة اغتصبتها من شفتيها املتوتّرتني‪“ :‬ال يشء يبقى عىل حاله”‪.‬‬ ‫قالت‬
‫أتت من عكا يف زيارة‬
‫استضافت صديقتها التي ْ‬
‫ْ‬ ‫ّ‬
‫تذكرت اليوم السابق حني‬
‫حتولت من‬‫إن عكا ّ‬‫تذكرت ضي َقه من صديقتها حني قالت ّ‬
‫عمل قصرية‪ّ .‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪165‬‬
‫نموذج للمدن األديتية اجلميلة‪ .‬ر ّد يو َمها بحدّ ة‪“ :‬عكا‬
‫ٍ‬ ‫مدينة إرسائيلية إىل‬
‫مدينة عربية كانت كذلك َ‬
‫قبل جميء اليهود‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫مل تكن يو ًما إرسائيلية؛ عكا‬
‫إن كان اآلن يعرتف‬ ‫وظ ّلت كذلك بعد احتالهلم هلا”‪ .‬وقتها سأل ْته صديقتها ْ‬
‫ّأنا أديتية أم يعتقد ّأنا ال تزال عربية‪ ،‬فارتبك وقال‪“ :‬أديتيا أمر ُمتلف‪ّ ،‬إنا‬
‫كل َمن عىل أرضها يف كيان واحد وتعامل اجلميع بدون تفرقة”‪.‬‬ ‫بوتقة تصهر ّ‬

‫إن كان يصدق يف‬ ‫حلظتَها مت ّنت لو كانت تستطيع قراءة أفكاره‪ ،‬وتعرف ْ‬
‫ِ‬
‫ملداراة موقفه‪ .‬ليلتها سأل ْته عىل استحياء عن ما‬ ‫ِ‬
‫كالمه عن أديتيا أم يقوله‬
‫ٍ‬
‫حرف قاله‪ ،‬وأنّه “تر ّبى عىل تسمية إرسائيل‬ ‫فأكد هلا أنّه كان يعني ّ‬
‫كل‬ ‫يقلقها ّ‬
‫عروبيا‬
‫ًّ‬ ‫َّ‬
‫املتوف كان‬ ‫بالكيان الصهيوين وعد ِم االعرتاف بوجودها”‪ّ ،‬‬
‫وإن أباه‬
‫االستعامر يف قلب‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫رسطان زرعه‬ ‫أن إرسائيل‬‫الصغر ّ‬
‫قوميا غرس فيه منذ ّ‬ ‫ًّ‬
‫أديتيون‬
‫قائل‪“ :‬كان هذا يف املايض‪ ،‬نحن اآلن ّ‬ ‫ثم ختم كالمه ً‬ ‫اجلسد العريب ّ‬
‫كعمر إرسائيل‬
‫يمر عىل نشأهتا ثامنني عا ًما ُ‬ ‫ٍ‬
‫عادلة حتتوي اجلميع حني ّ‬ ‫يف دولة‬
‫أغلب سكاهنا أصحاب أصول ُمتلطة‪ ،‬ال يوجد عريب وال تركي وال‬ ‫ُ‬ ‫سيكون‬
‫هيودي؛ فقط أديتيون”‪.‬‬
‫بكالمه ليلتها لك ّنه اآلن يعود ف ُيقلقها بكالمه عن املايض‬‫ِ‬ ‫نامت قانعة‬
‫ْ‬
‫طمئنًا‪“ :‬افهميني‬ ‫أحس (باسل) ِ‬
‫بقلقها فقال ُم ْ‬ ‫قبل الغزو‪ّ .‬‬ ‫وشكل هذا املطعم َ‬
‫أي إنسان‪ ،‬لو مل تقم‬ ‫ٌ‬
‫صفة طبيعية يف ّ‬ ‫يا عزيزة القلب‪ ..‬احلننيُ إىل املايض‬
‫وتغي فقط هذا املطعم؛ كنت سأشعر بذات‬ ‫أديتيا وظ ّلت املهندسني كام هي‪ّ ،‬‬
‫وغابت عنه صحبتي القديمة‬ ‫ْ‬ ‫الدرجة من احلنني؛ بل لو ّ‬
‫ظل املطعم كام هو‬
‫فسأشعر باحلنني ً‬
‫أيضا‪ ..‬املوضوع ال عالقة له بأديتيا”‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ون ْفيس القديمة‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪166‬‬
‫ثم قامت من عىل مقعدها وطبعت قبل ًة‬ ‫فرح طفويل‪ّ ،‬‬
‫اتّسعت ابتسامتها يف ٍ‬
‫ثم أخذت رشفة‬ ‫عادت جللستها ّ‬‫ْ‬ ‫ضمها بقوة‪.‬‬
‫بأن ّ‬‫عىل شفتيه‪ ،‬أكملها هو ْ‬
‫ُ‬
‫جهاز االتصال‬ ‫قبل الطعام‪ّ .‬‬
‫رن‬ ‫من الرشاب البارد الذي يتناوله األديتيون َ‬
‫معصمها لرت ّد عىل املكاملة‪ .‬بعدَ حمادثة قصرية‬ ‫اخلاص هبا فضغطت عىل ْ‬
‫بقوة لدى رئيس‬ ‫ابتسمت وقالت له‪“ :‬السيدة هريمني وعدتني ّأنا ستتدخل ّ‬
‫ابتسم يف امتنان وهو يقول إنّه مل يكن‬‫َ‬ ‫قسم األمن إلعطائك هذه الرتقية”‪.‬‬
‫املهم أن تسأل رئيستها معرو ًفا كهذا لكنها أخربتْه بحامس ّأنا هي التي‬‫من ّ‬
‫رب يف املستقبل‪.‬‬
‫وأنا تنوي إعطاءه منص ًبا أك َ‬ ‫ِ‬
‫تلقاء نفسها‪ّ ،‬‬ ‫فعلت ذلك من‬
‫تتحسس بطنها وهي تضحك قائلة‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫قامت ببطء‬‫ْ‬ ‫أن انتهت جلستهام‬‫بعد ِ‬
‫اجللوس بالداخل”‪ .‬عقدَ حاجبيه بدهشة‬‫َ‬ ‫أن عالء الصغري قد ّ‬
‫مل‬ ‫“يبدو ّ‬
‫مستفهم “عالء؟!”‪ .‬اتسعت ابتسامتها يف حبور‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ختالطها ابتسامة وهو ير ّدد‬
‫حبا وهي تقول‪“ :‬كنت أريدُ أن أفاجئك‬ ‫تفيض ًّ‬‫ُ‬ ‫وامتألت عيناها بنظرة‬
‫وطبع قبل ًة عليه‬
‫َ‬ ‫باختياري هلذا االسم‪ ،‬لكن لساين َس َبقني”‪ .‬أمسك ك ّفها‬
‫وهو ُيبادهلا النظر َة نفسها التي تفيض بحب يمتدّ من اخلاليا أشع ًة متفرقة‬
‫تتجمع ح ّتى تصل إىل العينني لتخرج منهام وتيضء عىل وجهها‪.‬‬ ‫ّ‬
‫عرف امتدّ يف قومهم منذ قرون وصار‬‫األم اسم املولود‪ٌ ،‬‬ ‫ختتار ّ‬
‫يف أديتيا ُ‬
‫قانو ًنا يرسي عىل أهل األرض الذين يتزوجون من بناهتم‪ .‬كان يقلقه أن‬
‫يعجز أحيا ًنا عن نطقها أو‬
‫ُ‬ ‫اسم عجي ًبا من تلك األسامء التي‬ ‫ختتار البنهم ً‬
‫دينيا مثل بارماجوها (أي خادم ماجوها)‪ ،‬أو يشء‬
‫اسم ًّ‬ ‫األسوأ أن تطلق عليه ً‬
‫ً‬
‫عظيم‬ ‫حبها له عىل تراثها‪“ .‬أريده أن يكون ً‬
‫نبيل‬ ‫بت ّ‬ ‫يتعلق بديانتها لكنها غ ّل ْ‬
‫ً‬
‫وباسل مثل أبيه”‪.‬‬ ‫مثل جدّ ه‪،‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪167‬‬
‫نزلت معه عىل الدرج ببطء ُمستندة عليه وهي حتدّ ثه عن تفكريها يف‬ ‫ْ‬
‫بدل من االستعانة‬ ‫معهد رعاية الطفولة ً‬‫ِ‬ ‫خرجيات‬‫االستعانة بمر ّبية من ّ‬
‫بمجرد خادمة عادية‪ ،‬وقالت ّإنا ستنفق منح َة املولود الذكر عىل الطفلِ‬
‫ُ‬
‫أعرف أنّك‬ ‫بالكامل‪“ .‬إ ًذا‪ ،‬لن ننتقل إىل هريدافاديل؟”‪ .‬سأهلا فقالت‪“ :‬أنا‬
‫لكن‬
‫تفعل ذلك كي تسعدين ّ‬ ‫ُ‬ ‫غري راغب يف االنتقال إىل هناك‪ ،‬وأنّك كنت‬
‫حتب جيزافاديل ففيها‬
‫أعرف أنك ّ‬ ‫ُ‬ ‫األمر ال يستحق َ‬
‫إنفاق األموال عليه‪ ..‬وأنا‬
‫نشأت”‪.‬‬
‫االسم الذي يطلق عىل مناطق اجليزة التي كانت جز ًءا‬
‫ُ‬ ‫جيزافاديل هو‬
‫مثل‬‫حي فيها أطلق عليه قطاع؛ فاملهندسني ً‬ ‫مهم ِمن القاهرة الكربى‪ّ ،‬‬
‫وكل ّ‬ ‫ًّ‬
‫أماكن يسكن األديتيون‬
‫ُ‬ ‫صارت القطاع اخلامس‪ ،‬والدقي القطاع الرابع‪ ،‬وهي‬
‫يف أغلبها‪ .‬حني أعا َد النياندرتال تسمي َة املناطق عىل األرض وضعوا يف‬
‫مقاطعا تنتمي للغتِهم األصلية‪ ،‬فاملدن الكبرية تنتهي بمقطع‬
‫ً‬ ‫هناية األسامء‬
‫والتجمعات القروية تنتهي بمقطع “بشيل”‪ ،‬أ ّما‬
‫ّ‬ ‫“فاديل”‪ ،‬واملدن الصغرية‬
‫ً‬
‫حجم فتنتهي باملقطع “بنيل”‪.‬‬ ‫والصغرية‬
‫شكل ّ‬ ‫التجمعات احلرضية الراقية ً‬

‫جهازه الصغري الذي استدعى به‬ ‫َ‬ ‫أمام باب املطعم أفلت يدَ ها وأخرج‬
‫َ‬
‫ثم عاد يمسك يدَ ها وهو ينتظر املركبة‪َ .‬‬
‫مال عىل أذهنا فاقرتبت ظ ًّنا‬ ‫مركبته ّ‬
‫عض شحمة أذهنا برفق‪ ،‬فانفجرت يف‬ ‫سيهمس هلا بيشء ما‪ ،‬لك ّنه ّ‬
‫ُ‬ ‫منها أنه‬
‫أقع يف هذه اخلدعة”‪ .‬مل تكدْ ُتكمل مجلتها ح ّتى‬
‫الضحك وقالت‪“ :‬كالعادة ُ‬ ‫ّ‬
‫رجلي ملثّمني خيرجان من مدخل البناية‬
‫ْ‬ ‫اتّسعت عيناها يف خوف وهي ترى‬
‫فجأة ويقرتبان نحومها‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪168‬‬
‫فالتفت‪ ،‬ولك ّنه مل جيد الوقت الكايف إلبداء ر ّد فعل‬
‫َ‬ ‫انتبه (باسل) لنظرهتا‬
‫ً‬
‫أسالكا معدنية الت ّفت‬ ‫مناسب‪ .‬أطلقت شهق ًة عالية حني ألقى عليه امللثّامن‬
‫ثم رك َله أحدمها يف رأسه‬‫وكبلت حركته‪ ،‬فسقط عىل األرض‪ّ ،‬‬ ‫عىل ساقيه ّ‬
‫ويكبل ذراعيها من اخللف‪ .‬حاولت أن‬ ‫ّ‬ ‫بعنف قبل أن هيجم عليها الثاين‬
‫جراء الركلة العنيفة‪.‬‬
‫فمه ّ‬ ‫تقاو َمه وعيناها معلقتان بباسل الذي ينزف من ِ‬

‫ملثمي‬
‫ْ‬ ‫ٌ‬
‫مركبة غريبة ووقفت أما َمها مبارشة‪ ،‬ورأت داخلها‬ ‫اقرتبت‬
‫دفعها امللثم الذي يمسك هبا ّاتاه املركبة‪ .‬كان يبدو من طوله أنّه‬
‫آخرين‪َ ،‬‬
‫جمال للحركة أو للتملص‬ ‫قوي البنية مل يرتك هلا ً‬ ‫َ‬
‫مفتول اجلسم َّ‬ ‫أريض‪ ،‬وكان‬
‫ِ‬
‫بجسده عىل امللثّم الثاين‬ ‫ُ‬
‫يعتدل ويقذف‬ ‫منه‪ .‬نظرت اجتاه (باسل) فوجدته‬
‫ثم يعترص رقبتَه بذراعه وهو‬ ‫ُ‬
‫ويمسكه بكلتا يديه‪ّ ،‬‬ ‫فيسقطه عىل األرض‬
‫يرصخ طال ًبا منهم أن يرتكوها مقابل صديقهم‪.‬‬
‫نفسه عنا َء االلتفات أو‬
‫امللثم الضخم الذي يمسك هبا‪ ،‬ومل يكلف َ‬
‫جيب ُ‬ ‫مل ِ‬
‫ِ‬
‫استنقاذ زميله من بني ذراعي (باسل)‪ ،‬وإنّام دفعها يف املركبة ورصخ‬ ‫حماولة‬
‫قادر عىل التخلص من (باسل)‪.‬‬ ‫أن زميلهم ٌ‬ ‫ّ‬
‫ومؤكدً ا ّ‬ ‫آمرا قائدَ ها باالنطالق‪،‬‬
‫ً‬
‫التملص بدون جدوى‪ ،‬ح ّتى أسكتها‬
‫َ‬ ‫أخذت ترصخ يف هيسرتيا وهي حتاول‬
‫امللثم برضبة عىل رأسها أفقدهتا الوعي‪.‬‬
‫ُ‬
‫رأت نفسها يف كوكب أديتيا تتس ّلق إحدى اهلضاب املعشبة املحيطة‬
‫ْ‬
‫بمدينتها األم‪ .‬وصلت يف تس ّلقها إىل أرض فسيحة مرتفعة بام يكفي لرتى‬
‫َ‬
‫الساحل الذي‬ ‫ُ‬
‫أطراف مدينتها تالمس‬ ‫مدينتها بالكامل من أعىل‪ .‬كانت‬
‫العشب‬
‫بيدها قبضتني من ُ‬‫استقرت عليه ثالثة أهرامات متجاورة‪ .‬أخذت ِ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪169‬‬
‫رأت نفسها‬‫نزلت ُمرسعة‪ .‬بعد ذلك ْ‬ ‫ثم ْ‬ ‫الذي يكسو األرض التي جتلس فيها ّ‬
‫ففلتت‬
‫ْ‬ ‫قدمها‬
‫سفح اهلرم تتسلق حجارته وهي ترى البحر أما َمها‪ .‬انزلقت ُ‬
‫عند ِ‬
‫ّ‬
‫اختل توازهنا‬ ‫السقوط‪.‬‬‫من يدها حزمة من العشب وهي تستند هبا لتتجنب ّ‬
‫بيد ويمدّ يده األخرى بحزمة‬ ‫رغم ذلك‪ ،‬لك ّنها وجدت (باسل) يسندها ٍ‬ ‫َ‬
‫العشب بني حجارة اهلرم وقالت له إهنا‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫غرست‬ ‫العشب التي سقطت منها‪.‬‬
‫ويغطي اهلرم‪ .‬فتح (باسل)‬‫ّ‬ ‫املطر كي ينبت العشب‬
‫ستجلس معه ينتظران َ‬
‫ُ‬
‫ُ‬
‫ترصخ‬ ‫نبتت من العدم قذفت به إىل األسفل وهي‬ ‫لكن يدً ا غليظة ْ‬
‫فمه ليتكلم ّ‬
‫وتشاهده يرتطم باحلجارة‪ .‬دفعتها اليدُ الغليظة هي األخرى لك ّنها تشبثت‬
‫وجسدها معلق يف اهلواء‪ .‬ذراعاها متسكان بقوة‪ ،‬وقدماها حتاوالن الوقوف‬
‫آالم ذراعيها‪ ،‬لكن بدون‬‫أي أرض لتتحمالن وزن جسمها وخت ّففان َ‬ ‫عىل ّ‬
‫اهلرم والبحر‪ ،‬وظهر‬
‫ُ‬ ‫آالم ذراعيها تتزايد وفجأة انتبهت‪ ،‬اختفى‬‫جدوى‪ُ .‬‬
‫وجه قميء يبتسم يف فظاظة‪.‬‬
‫أمامها ٌ‬
‫ورجحت أنه هو نفسه خاطفها‪ .‬بدأت تنتبه‬ ‫أرضيا‪ ،‬ضخم اجلثة‪ّ ،‬‬ ‫ًّ‬ ‫كان‬
‫ملا حوهلا‪ ،‬كانت واقفة وذراعاها مع ّلقان فوق رأسها بحبلٍ ّ‬
‫مثبت إىل جنزير‬
‫مدل من السقف‪ .‬عىل يمينها كانت امرأ ٌة معلقة بالطريقة نفسها‪،‬‬ ‫حديدي ّ‬
‫جدرانا رمادية‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫قاعة فسيحة‬ ‫وعىل يسارها امرأتان‪ .‬كان املكان عبارة عن‬
‫جلس عليها رجال‬‫َ‬ ‫ال يوجد فيها أي تفاصيل‪ ،‬خالية سوى من عدّ ة مقاعد‬
‫تكومت عليها أسلحة منوعة‪.‬‬ ‫يتحدثون‪ ،‬وأمامهم طاولة صغرية ّ‬
‫أي تعاطف معك”‪ ،‬قاهلا وهو‬ ‫“زوجك قتل زمييل‪ ،‬وهذا ٌ‬
‫كفيل بأن يزيل ّ‬ ‫ُ‬
‫التقيئ‪ .‬مت ّلكها الفزع وهي تفكر‬ ‫ُ‬
‫توشك عىل ّ‬ ‫يقرتب بأنفاسه من وجهها ما جعلها‬
‫ُ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪170‬‬
‫يف ما ينويه هؤالء‪ ،‬لك ّنها حاولت أن هتدئ نفسها وهي تقول ّإنم اختطفوها‬
‫بأسى‪ ،‬وهي تعرف ّ‬
‫أن هريمني لن تتوانى عن‬ ‫لسبب ما‪ ،‬قد ي ْنتوون استبداهلا ْ‬
‫ثم قالت إن (باسل) سوف جيدها َ‬
‫قبل أن جيدوا ح ّتى‬ ‫فعل أي يشء إلنقاذها‪ّ ،‬‬
‫ِ‬
‫بجثة‬ ‫َ‬
‫سوف يقتلهم واحدً ا واحدً ا‪ ،‬وسوف يرتكها متثل‬ ‫فرصة لطرح مطالبهم‬
‫هذا الضخم البغيض‪.‬‬
‫حتولت إىل‬ ‫ِ‬
‫املرأة عىل يسارها ما لبثت أن ّ‬ ‫صوت أنّة من‬
‫ُ‬ ‫تناهى لسمعها‬
‫وتوسالت بأن يرتكوها‪ .‬انتبهت يف تلك اللحظة إىل ّ‬
‫أن املرأة‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫رصخات فزعة‪،‬‬
‫مجيعا حوامل‪،‬‬
‫أهنن ً‬
‫ُح ْبىل هي األخرى‪ ،‬نقلت نظرها لألخريات فوجدت ّ‬
‫ومجيعهن من األديتيات‪.‬‬
‫ّ‬
‫انتب َه ُ‬
‫بقية النساء وتناو ْب َن األنني والرصاخ والتعبري عن فزعهن‪ ،‬وحاولت‬
‫فكتمن أصواهتن‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫الرجل فيهن‬ ‫هتدئتهن بدون جدوى‪ ،‬ح ّتى رصخ‬‫ّ‬ ‫هي‬
‫وخاصة أمثالكن‬‫ّ‬ ‫أصاب بالصداع من رصاخ النساء‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫داخل حلوقهن‪“ .‬أنا‬
‫منكن يعلو صوهتا سوف أعاق ُبها بام تستحق”‪ .‬قاهلا‬
‫ّ‬ ‫من القردة‪ ..‬أي واحدة‬
‫بلهجة ُميفة وبصوت خشن َ‬
‫أقرب إىل العواء‪ ،‬وهو يشري بآلة طويلة يف آخرها‬
‫إحداهن فرتاجعت يف فزع وهي تتوسل إليه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫قربه من وجه‬
‫طرف ُملتهب ّ‬ ‫ٌ‬

‫أحد رفاقه فخرج من الباب الوحيد يف القاعة وأحرض‬ ‫أشار الرجل إىل ِ‬‫َ‬
‫ثم أشار‬ ‫َ‬
‫ضغط عىل عدّ ة أزرار يف جهاز أمامه ّ‬ ‫ثم‬
‫كامريا نص َبها عىل الطاولة ّ‬
‫أمام الكامريا‪ ،‬الضخم أمام‬
‫الضخم لثامه هو وآخران‪ ،‬ووقفوا َ‬ ‫بيده فارتدَ ى ّ‬
‫ُ‬
‫رجل‬ ‫أشار‬
‫َ‬ ‫النساء‪ ،‬واآلخران عىل اليمني واليسار ُمتق ّلدين أسلحة عتيقة‪.‬‬
‫الكامريا هلم وهو يقول‪“ :‬استعدّ وا‪ ،‬أنتم عىل الشبكة بعدَ ثالثة اثنان واحد‪.”..‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪171‬‬
‫‪25‬‬
‫كل مكان تتابع ذلك الفيديو‬ ‫ِ‬
‫الشاشات يف ّ‬ ‫مسمرة عىل‬ ‫ُ‬
‫العيون ّ‬ ‫كانت‬
‫حارسها‬
‫ُ‬ ‫الذي يبثه امللث ُّم الضخم‪ .‬هريمني يف مكتبها وإىل جوارها (لؤي)‬
‫لطفلها املستقبيل‪( ،‬باسل) وهو يف عمله‬ ‫ِ‬ ‫وفحلها الذي اختارته ليكون أ ًبا‬
‫(ميساء) يف‬
‫شخصية اخلاطف الذي استطاع قتله‪ْ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫جيري بح ًثا ليتعرف عىل‬
‫رجل أريض وزوجته األديتية التي هتدهد‬ ‫مشفاها وأبوها جيلس إىل جوارها‪ٌ ،‬‬
‫طف َلها اهلجني الذي ال يكف عن البكاء‪ ،‬وغريهم كثري‪.‬‬
‫ينظر للرجل وهو يتحدّ ث عن قسوة الغزو وبشاعته‪ّ ،‬‬
‫وأن‬ ‫اجلميع كان ُ‬
‫يتم الرد عليهم بأبشع الطرق التي يمكن فع ُلها‪ ،‬عن األجنة‬
‫الغزاة ال بدّ أن ّ‬
‫ٍ‬
‫كائنات ممسوخة ينبغي‬ ‫يف بطون األديتيات الذين يعتربهم هو وزمالؤه‬
‫فبدت خلفه وجوه‬
‫ْ‬ ‫التخلص منها‪ .‬كانت بؤر ُة الكامريا ّ‬
‫مركز ًة عىل وجهه‪،‬‬
‫أهنن أربع منتفخات البطون‪ ،‬واقفات وقد‬‫وإن بدا للجميع ّ‬ ‫ال ّنسوة مشوشة‪ْ ،‬‬
‫ع ّلقت أذرعهن إىل األعىل‪.‬‬
‫ارتشفت هريمني ما تب ّقى من رشاهبا دفع ًة واحدة وهي تتابع املشهدَ يف مجود‬
‫ْ‬
‫أي خلجة‪ .‬كانت راضي ًة عن إخراج املشهد وعن‬ ‫أن تظهر عىل وجهها ّ‬ ‫دون ْ‬
‫تشعر مع ذلك‬
‫ُ‬ ‫طريقة امللثّم يف احلديث التي بدت ُمقنعة متا ًما‪ ،‬ولكن كانت‬
‫معدتا ممّا هو متو ّقع احلدوث اآلن‪ .‬قال امللث ُّم بلهجة حاسمة‬‫ِ‬ ‫باضطراب يف‬
‫لعهد جديد من ال ّتعامل معكم يا كائنات‬‫ٍ‬ ‫“ما سنفعله هبؤالء ال ّنساء هو ٌ‬
‫بداية‬
‫ِ‬
‫الواقف عىل يسار النسوة املعلقات‪.‬‬ ‫ما َ‬
‫قبل التاريخ”‪ .‬قاهلا وأشار لزميله‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪172‬‬
‫مرره أمام‬‫ريا ّ‬
‫الرجل الذي أخرج من حزامه سكينًا كب ً‬ ‫ِ‬
‫اقرتبت الكامريا من ّ‬
‫انكتمت رصخاهتا من الصدمة‪“ .‬سيذبحها‬ ‫ْ‬ ‫تنظر يف هلع وقد‬
‫وجه الفتاة وهي ُ‬
‫ْ‬
‫امللعون” قاهلا (لؤي) بغضب واشمئزاز‪ ،‬ومل تر ّد هريمني فهي تعرف أن ما‬
‫يمزق بسكينه‬ ‫َ‬
‫الرجل ّ‬ ‫حافظت عىل مجود وجهها وهي ترى‬
‫ْ‬ ‫سيفعله أسوأ‪.‬‬
‫حيرك سكينه يف اهلواء‬ ‫يتحسس أسفلها وهو ّ‬
‫ّ‬ ‫ثم‬ ‫مالبس املرأة من ِ‬
‫فوق بطنها ّ‬
‫جمر ُد‬
‫ألنا تنال من جدية املشهد‪ ،‬وتوحي بأنّه َّ‬
‫بحركة استعراضية أغاظ ْتها ّ‬
‫سادي جمنون‪.‬‬
‫وأحست بثقل أنفاسها‬ ‫ّ‬ ‫اضطربت مالحمها وتسارع ُ‬
‫نبضها‬ ‫ْ‬ ‫رغم عنها‬ ‫ً‬
‫َ‬
‫وأسقطه عىل األرض‪،‬‬ ‫وهي تشاهده يشقّ بطن املرأة ح ّتى أخرج جنينها‬
‫والدم ينزف من بطن املرأة بغزارة َ‬
‫قبل أن تفقد‬ ‫ُ‬ ‫ورصخات النساء تتصاعد‪،‬‬
‫ُ‬
‫ُ‬
‫تقذف ما يف بطنها حني نقلت الكامريا صورة اجلنني‬ ‫الوعي‪ .‬كادت هريمني‬
‫ثم هتمد حرك ُته‪ ،‬وشعرت حلظتها‬ ‫الذي كان مكتمل املالمح وهو يتق ّلب ً‬
‫قليل ّ‬
‫عادت تقول لنفسها ّ‬
‫إن الرضورة جتيز املمنوع‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬
‫بفداحة ما اقرتحته لك ّنها‬
‫هلعهن واحدة تلو األخرى‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫انتقلت الكامريا بني وجوه ال ّنساء ل ُتظ ِهر‬
‫رصخت هريمني يف هلع حني اكتشفت ّ‬
‫أن‬ ‫ْ‬ ‫وصلت للمرأة الثالثة‪،‬‬
‫ْ‬ ‫وعندما‬
‫ُ‬
‫أسحقك‬ ‫كمريدا ضمن املخطوفات “كمريدا!! ال‪ ..‬ال‪ ..‬أهيا احلقري سوف‬
‫بيدي‪ ..‬أوه كمريدا”‪ .‬مدّ (لؤي) يدَ ه ليحاول مواساهتا فدفعته بعيدً ا ورصخت‬
‫اعتذاره عن خطأ‬
‫َ‬ ‫مكررا‬
‫ً‬ ‫خرج مستجي ًبا هلا‬ ‫فيه أن خيرج ويغلق الباب وراءه‪َ .‬‬
‫ال يعرفه‪ ،‬وضغطت هي جهاز االتّصال يف معصمها حماول ًة التحدث إىل‬
‫شقيقها بدون جدوى‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪173‬‬
‫والدموع تنساب من عينيها وهي تقول‪“ :‬كمريدا‬
‫ُ‬ ‫أخذت تتابع املشهدَ‬
‫مسها سوء‪ ،‬أقسم ّأن سأذبحك بيدي”‪.‬‬
‫العزيزة‪ ..‬الربيئة‪ ..‬سوف أقتلك لو ّ‬
‫انتقل املشهدُ إىل الرجل الضخم ثانية‪ ،‬والذي قال‪“ :‬سوف ُ‬
‫نقتل امرأة ّ‬
‫كل‬
‫الزجيات املختلطة‪،‬‬
‫كل ّ‬‫أمرا بإلغاء ّ‬
‫ست ساعات ما مل تصدر حكوم ُتكم ً‬ ‫ّ‬
‫فسنكررها ونقتل غريهن‪ ،‬وليعرف‬
‫ّ‬ ‫ومنع أي زجيات قادمة‪ ،‬وإذا مل تستجيبوا‬
‫ريا ولكن للصرب هناية”‪.‬‬
‫اجلميع أنّنا انتظرنا كث ً‬
‫ُ‬
‫تو ّقف الفيديو وأخذت هي ّ‬
‫تتجول يف الغرفة كنمرة حبيسة‪ ،‬تقول لنفسها‬
‫“ملاذا اختارها هي بالذات! ّإنا أكثر براءة من اجلنني املوجود يف بطنها‪ ،‬أليس‬
‫مكان يف هذا العامل القذر؟”‪ .‬جلست عىل كرسيها وأسندت رأسها‬ ‫ٌ‬ ‫لألبرياء‬
‫ْ‬
‫“أنقذها يا ماجوها‪ ..‬إن‬ ‫ِ‬
‫االنتحاب وهي هتمس‪:‬‬ ‫عىل املكتب وأخذت يف‬
‫كل ما يف وسعها إلرضائك”‪.‬‬ ‫كنت موجو ًدا ح ًّقا أنقذها‪ ،‬فهذه املرأة تفعل ّ‬
‫أط ّلت يف رأسها صورة وجه كمريدا ا ُمللتاع وهي تنظر عىل اجلنني املل َقى عىل‬
‫صوت نحيبها أكثر‪ ،‬ح ّتى فتح‬
‫ُ‬ ‫األرض‪ ،‬وبركة دماء أمه التي ُ‬
‫حتيط به‪ ،‬فارتفع‬
‫وأطل منه (لؤي) ً‬
‫قائل بصوت خفيض‪“ :‬سيديت‪.”...‬‬ ‫ّ‬ ‫الباب‬
‫نظرت إليه بغضب وهي تسأله‪“ :‬أمل أخربك أنّك ترتكني وحدي!”‪.‬‬
‫ْ‬
‫أطمئن عليك”‪ .‬نظرت‬
‫ّ‬ ‫“عذرا سيديت أردت فقط أن‬
‫ً‬ ‫تلعثم وهو ير ّد ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫ثم رشدت ً‬
‫قليل دون أن تتك ّلم أو تأمره‬ ‫إليه ومالحمها مليئة بالغضب‪ّ ،‬‬
‫أكثر ح ّتى‬
‫رد فعل‪ ،‬فاقرتب َ‬ ‫يصدر منها ُّ‬
‫ْ‬ ‫باالنرصاف‪ .‬اقرتب خطوة بحذر‪ ،‬مل‬
‫وضع يده عىل كتفها ور ّبت عليها‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪174‬‬
‫رفعت رأسها نحوه وتأ ّملت وهي شاردة مالمح وجهه القلقة‪ ،‬انْحنى‬
‫ْ‬
‫يضمها‪ ،‬فدفعته بيدها وهي‬
‫وهيم أن ّ‬ ‫عليها وهو ّ‬
‫يلف يده الثانية عىل رأسها ّ‬
‫أنت أمحق‪ ..‬هل تظ ّنني امرأة عادية تبحث عن رجلٍ ير ّبت‬
‫هتتف به‪“ :‬هل َ‬
‫صور لك ّ‬
‫أن ما حيدث بيننا‬ ‫أن خيالك األريض املريض ّ‬ ‫عليها حني تبكي أم ّ‬
‫يعطيك ميزة‪ ...‬اذهب من هنا”‪.‬‬
‫جير أذيال خيبته‪ ،‬أغلق الباب خل َفه هبدوء شديد خمافة أن يزيد‬ ‫َ‬
‫انرصف ّ‬
‫بعصبية للمرة العارشة وهي‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫جهاز اتّصال معصمها‬ ‫من غضبتِها‪ .‬ضغطت‬
‫تفكر يف ما دفعه لذلك هل يريدُ إغاظتها أو تذكريها‬ ‫تتوعد شقيقها أناندار‪ّ .‬‬
‫ٍ‬
‫منصب له‪.‬‬ ‫بقوته أو‪ ..‬تراه يريد أن يساو َمها عىل رشكة من رشكاهتا أو عىل‬
‫مصيبة كربى إذا كان يفكر يف ابتزا ِزها لتعطيه منص ًبا صور ًّيا يف احلكومة‪ ،‬أو‬
‫لدعمه يف يشء كهذا‪ ..‬هل قرر أن ي ّتجه إىل السياسة؟‬
‫فتحت برسعة قناة االتصال‪،‬‬
‫ْ‬ ‫ورود اتّصال من شقيقها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫قطع أفكارها‬‫َ‬
‫ُ‬
‫الرجل م ّنا‬ ‫جالسا يف حوض استحاممه‪ ،‬وقال‪“ :‬أال يستطيع‬
‫ً‬ ‫ورأته أما َمها‬
‫إزعاج من امرأة؟”‪ .‬ر ّدت عليه بغيظ وهي تقذف‬
‫ٍ‬ ‫محامه دون‬
‫أن يسرتيح يف ّ‬
‫ٍ‬
‫بصوت عال وهو يتناول‬ ‫“أيا امللعون”‪ .‬ضحك‬ ‫صور َته بقلم كان يف ِ‬
‫يدها‪ّ :‬‬
‫ثم قال‪“ :‬أراهن أنّك تتواصلني معي ْ‬
‫لشكري عىل‬ ‫كأس رشاب من خادمته ّ‬ ‫َ‬
‫ذلك العرض املؤ ّثر‪ ...‬لقد نفذنا ّ‬
‫خطتك بحذافريها”‪.‬‬
‫بصوت عال ّ‬
‫بكل كلامت السباب التي تعرفها وهي تقول ّإنا‬ ‫ٍ‬ ‫سبته‬
‫ّ‬
‫مهمة عندها‪،‬‬ ‫َ‬
‫خيطف كمريدا ألنه يعرف كم هي ّ‬ ‫تفهمه جيدً ا‪ ،‬وإنّه قصد أن‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪175‬‬
‫كاهن صغري يف إحدى قرى‬ ‫ٍ‬ ‫“مهمة؟! ّإنا جمرد مساعدة ابنة‬
‫ّ‬ ‫ساخرا‪:‬‬
‫ً‬ ‫فقال‬
‫حتب أن تشعره بأنه‬ ‫بدل منها”‪ .‬مل تكن ّ‬ ‫ٍ‬
‫بعرشة ً‬ ‫الساحل‪ ..‬يمكن أن آيت لك‬
‫يشجع‬ ‫ينترص‪ ،‬منذ صغرمها ومها ال يك ّفان عن الشجار والتنافس‪ ،‬وكان ُ‬
‫األب ّ‬
‫يؤهل أختهام الكربى‬ ‫أفضل ما فيهام‪ .‬كان ّ‬ ‫َ‬ ‫تلك العالقة ويرى أهنا ستفرز‬
‫فقرر‬
‫يد الرشطة‪ّ ،‬‬ ‫للعمل يف السياسة‪ ،‬لكنها انضمت للمقاومة و ُقتلت عىل ِ‬
‫اها خمتل ًفا‪ ،‬فتأخذ‬ ‫ٍ‬
‫واحد منهام ّات ً‬ ‫أن يفصل بني هريمني وأنادار ويضع ّ‬
‫لكل‬
‫هريمني طريق السياسة‪ ،‬ويبقى أناندار الصغري ُيدير املنظمة‪.‬‬
‫ريا‬
‫يطمح للعمل يف السياسة‪ ،‬فهو يعشق الظهور‪ ،‬وحاول كث ً‬ ‫ُ‬ ‫كان أناندار‬
‫أرصت عىل عدم التخيل عن هذا‬ ‫لكن هريمني ّ‬ ‫ُ‬
‫يوافق ّ‬ ‫مع أبيه‪ ،‬وكاد أبوه‬
‫وأثبتت كفاءهتا‪ ،‬فجعلها أبوها الوج َه الالمع للعائلة‪ ،‬وأجرب أناندار‬
‫ْ‬ ‫الطريق‬
‫عىل البقاء يف ّ‬
‫الظل ما جعله يمقتها أكثر‪.‬‬
‫لدي وقت ألالعيبك‪ ،‬أنت تعلم‬ ‫قالت له بفراغ صرب‪“ :‬اسمع‪ ،‬ليس ّ‬
‫مقابل إطالق رساحها؟”‪ .‬رمى الكأس من يده‬ ‫َ‬ ‫مكانتها عندي‪ ..‬ماذا تريد‬
‫إن ما تفكر به مستحيل‪ ،‬وإنّه ال يمكن أن يوقف‬ ‫وهو ي ّتهمها باحلمق ويقول هلا ّ‬
‫َ‬
‫ويكمل إعدام الباقيات‪ ،‬أو‬ ‫اقرتحت عليه أن يرتكها‬
‫ْ‬ ‫عملية تكلفت الكثري‪.‬‬
‫إن العملية بر ّمتِها ستفشل‪ ،‬وستفقد مغزاها‪.‬‬
‫أي يشء آخر‪ ،‬فرفض وهو يقول ّ‬ ‫ّ‬
‫أخذت ختبط بقبضتها عىل فخذها يف توتّر وهي تلعنه وتفكر‪ ،‬هل فعل‬ ‫ْ‬
‫أن يستفزها‪ ،‬أو يريد شيئًا آخر ويريد أن حيصل‬ ‫أن حيزهنا أو ْ‬
‫ملجرد ْ‬
‫ذلك ّ‬
‫َ‬
‫مقابل إطالق رساحها؟”‪.‬‬ ‫عىل أقىص استفادة‪ ،‬فقالت بفراغ صرب‪“ :‬ماذا تريد‬
‫متظاهرا بالعتاب‪“ :‬هل معقول‬
‫ً‬ ‫ثم قال‬
‫تظاهر بالدهشة وهو ينفي التهمة‪ّ ،‬‬
‫األمر ممكنًا ألطلقت رساحها إرضاء لك”‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫أن أفعل هذا بشقيقتي‪ ..‬لو كان‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪176‬‬
‫مفكر ًة وهي تشعر ٍ‬
‫بيأس عارم وتتمنى لو تقفز يف‬ ‫مل تد ِر ما تقول‪ ،‬أطرقت ّ‬
‫وقرب‬
‫أسنانا يف رقبته‪ .‬اعتدل أما َمها يف حوض استحاممه‪ّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫الشّ اشة فتنشب‬
‫وجهه من جها ِز االتّصال وهو يقول‪“ :‬هناك طريقة أخرى لك ّنها قد تكلفني‬
‫تعوضيني يف تلك احلالة”‪ .‬ر ّدت بغيظ‪:‬‬ ‫رقاب ثالثة من رجايل‪ ،‬وال بدّ أن ّ‬
‫َ‬
‫“سألتك من البداية لكنك استنكرت سؤايل ّأيا اخلبيث”‪ .‬مل يعقب وقال‬
‫ِ‬
‫بمكان‬ ‫ٍ‬
‫امرأة ُتقتَل‪ ،‬وس ُيب َلغ زوجها‬ ‫إنّه عىل استعداد أن جيعل كمريدا آخر‬
‫االحتجاز فيذهب كالفارس املغوار لتحريرها بنفسه‪.‬‬

‫“وكيف إذا أمسك أحدُ رجالك وأخربه ْ‬


‫باسم َمن يعمل له؟”‪ .‬ابتسم يف‬
‫ظفر وقد شعر ّأنا صارت طوع بنانه وقال‪“ :‬سيهرب القائمون بالتنفيذ قبل‬
‫حراس يعطلونه ويسهل عليه قتلهم ح ّتى إذا‬
‫وصوله ولك ّني سأترك له ثالثة ّ‬
‫وقت اشتباكه مع اآلخرين”‪.‬‬ ‫ظن ّ‬
‫أن املنفذين هربوا َ‬ ‫وجدها وحدها ّ‬
‫“أن آخذ عقد‬ ‫ثم سألته‪“ :‬وما الثمن؟”‪ .‬فقال‪ْ :‬‬ ‫مفكرة ّ‬‫أطرقت برأسها ّ‬
‫ْ‬
‫هدم منشية نارص‪ ،‬وإعادة بنائها‪ ،‬وإدارة املنتجع بعد بنائه”‪ .‬اتسعت عيناها يف‬
‫عرف بذلك االتفاق‪ ،‬ولكن قبل أن تسأله أكمل ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫تفكر كيف َ‬ ‫دهشة وهي ّ‬
‫هيم اآلن هو أن تقرري‪ ،‬لديك‬‫“ال حتاويل معرفة كيف وصلتني املعلومة‪ ،‬ما ّ‬
‫وافقت سنتواصل عىل ِ‬
‫قناة العقود‪ ،‬وتتنازلني يل‬ ‫ِ‬ ‫اثنتا عرشة ساعة للتفكري إذا‬
‫وتتعهدين‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫خالل الثالث السنوات القادمة‪،‬‬ ‫أي عقد تفوز به رشكاتك‬ ‫عن ّ‬
‫صمتت‬
‫ْ‬ ‫بأن يكون ضمنها عقد إنشاء وإدارة منتجع سياحي بذات املساحة”‪.‬‬
‫قائل‪“ :‬فكري هل تساوي مساعدتك‬ ‫وقد عقدت لساهنا املفاجأة‪ ،‬فأكمل ً‬
‫ثم أخربيني”‪.‬‬ ‫هذا املبلغ أم ال؟ ّ‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪177‬‬
‫‪26‬‬
‫تغي يف القاهرة بعدَ الغزو ّإل عربات املرتو القديم وحمطاته‬‫كل يشء ّ‬ ‫ّ‬
‫أن هناية اخلط مل تعدْ تصل إىل حلوان بل‬‫ظ ّلت كام هي مل تتغري‪ ،‬فيام عدا ّ‬
‫احلدود بني األرايض املحتلة وحلوان‪ .‬يف حمطة املرج‬
‫ُ‬ ‫تتوقف عند طرة؛ حيث‬
‫فور فتح األبواب وخروج طوفان البرش‬ ‫خارجا من املرتو َ‬
‫ً‬ ‫اندفع (ضياء)‬
‫متجهني إىل املرج التي ال يصل إليها أحدٌ من النياندرتال عادة ّإل رجال‬
‫الرشطة والقليل جدًّ ا من املوظفني‪.‬‬
‫ثم ركب إحدى مركبات النقل خارجها‪ ،‬وهي‬ ‫خرج من املحطة‪ّ ،‬‬‫َ‬
‫ري عىل ارتفاع ال يزيد عن نصف مرت‪ ،‬وت ّتسع الواحدة‬ ‫مركبات صغرية تط ُ‬
‫آليا بدون سائق يف خطوط حمدّ دة تغطي‬ ‫منها لستة أشخاص مكدّ سني‪ ،‬تعمل ًّ‬
‫املناطق واألحياء البعيدة عن القطار الكهربائي واملرتو‪ .‬يف العربة كانت‬
‫الشاشة تعرض إعالنات ال ّتوعية نفسها املوجودة يف املرتو‪ .‬إعالنات تؤكد‬
‫تذكر بفائدة الزواج من أديتيات‪ ،‬إعالنات‬ ‫عىل موعد التطعيامت‪ ،‬إعالنات ّ‬
‫تذكر برضورة أن جتري عملية تعقيم لزوجتك األرضية إذا أنجبت طفلتني‬
‫خارج أديتيا‪ ،‬وإعالنات‬
‫َ‬ ‫مجيعا‬
‫ألنا لو أنجبت طفلة ثالثة فسيتم ترحيلكم ً‬ ‫ّ‬
‫أخرى ّ‬
‫توضح فارق التقدم واحلضارة بني أديتيا وباقي دول العامل‪.‬‬
‫ثم دخل زقا ًقا‬
‫وصل إىل ناصية الشارع الذي يريده‪ ،‬مشى ملسافة قصرية ّ‬‫َ‬
‫ثم فتح البوابة احلديدية‬ ‫وانحرف بعدها إىل ٍ‬
‫زقاق آخر سار إىل هنايته املسدودة ّ‬
‫للبيت املوجود عىل يمينه‪ .‬صعدَ طاب ًقا واحدً ا‪ ،‬طرق الباب فانفتح وحده‪،‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪178‬‬
‫وفتح خزانة املالبس التي دخل منها إىل أنبوب منزلق كانت‬ ‫دخل غرفة النوم َ‬
‫ثم وجد نفسه‬‫بالثياب املهملة‪ .‬نزل يف األنبوب مساف َة س ّتة أمتار ّ‬
‫ِ‬ ‫فتحته مغطاة‬
‫جلس فيها ما يقارب العرشين فر ًدا شاخصني‬ ‫َ‬ ‫يف قاعة حمارضات صغرية‬
‫املنصة التي جلس عليها ماندريك وعمر والعقيد عامد‪.‬‬ ‫بأبصارهم إىل ّ‬
‫جلس عىل أول كريس فارغ قابله‪ ،‬ورصف انتباهه متا ًما للعقيد عامد الذي‬
‫َ‬
‫كان يتحدّ ث عن خطورة واقعة اختطاف النساء احلوامل وعن تداعياهتا‬
‫ملخططاهتم أو لتربير جريمة جديدة ينتوون‬ ‫وكيف سيستغ ّلها الغزاة للدعاية ّ‬
‫يتعرضن‬
‫التزام أخالقي جتاه نساء ّ‬‫ٌ‬ ‫أيضا‬ ‫ختم كلمته ً‬
‫قائل‪“ :‬لدينا ً‬ ‫ثم َ‬ ‫القيام هبا ّ‬
‫هلذا ملثل هذا الفعل البشع”‪.‬‬
‫مفكرا يف جدوى تلك العمليات التي قررت‬ ‫ً‬ ‫عقدَ (ضياء) حاجبيه يف غيظ‬
‫إدارة املخابرات القيام هبا بدون سبب ُمقنع له‪ .‬ال يعقل أن يبذلوا جمهو ًدا‬
‫ثم عملية أخرى‬ ‫شبان ّ‬
‫خرافيا وخماطرة كربى من أجل القبض عىل أربعة ّ‬ ‫ًّ‬
‫ٍ‬
‫أسريات من النياندرتال‬ ‫لتسليمهم وثالثة لتحريرهم‪ ،‬واآلن عملية لتحرير‬
‫مجيعا”‪.‬‬
‫“ما لنا وهذا! فليحرتقوا ً‬
‫يطلب تشغيل الفيديو ليس فقط لتذكري‬ ‫ُ‬ ‫انتب َه عىل صوت عامد وهو‬
‫مبدئيا‪ .‬مل يكن (ضياء)‬
‫ًّ‬ ‫املجتمعني ببشاعة ما حيدث؛ بل لتحليل حمتوياته‬
‫الدم إىل رأسه عندما رأى ما‬
‫قد شاهد الفيديو من قبل‪ ،‬ولذلك تصاعد ُ‬
‫يشعر به من قبل‪ ،‬وأقسم لنفسه أنّه لو استطاع‬
‫ْ‬ ‫حيدث‪ ،‬شعر بغضب عارم مل‬
‫ْ‬
‫يتعاطف من قبل مع األديتيات ح ّتى اللوايت‬ ‫ملزق هؤالء املالعني بيديه‪ .‬مل‬
‫ضن لتعذيب يف فيديو سابق لكن رؤية هذا الفيديو كانت أشب َه بمشاهدة‬ ‫تعر َ‬
‫ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪179‬‬
‫ِ‬
‫املشاهد التي تثري‬ ‫فأكثر من‬
‫َ‬ ‫رعب رخيص مل جيدْ مؤ ّلفه فكرة يطرحها‬ ‫ٍ‬ ‫فيلم‬
‫ً‬
‫مريضا‪.‬‬ ‫أحقر غرائزه ْ‬
‫إن كان‬ ‫َ‬ ‫املتفرج‪ ،‬أو تثري‬ ‫َ‬
‫امتعاض ّ‬
‫أن هؤالء الرجال حمرتفون‪،‬‬ ‫األولية هلذا الفيديو ي ّتضح لنا ّ‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫“من الرؤية‬
‫وحركاتم حمسوبة‪ ،‬ويبدو ّأنم من النوع الذي ال يوجد لد ْيه خطوط‬
‫ُ‬ ‫كلامتم‬
‫ُ‬
‫تاريخ إجرامي طويل”‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫أصحاب‬
‫ُ‬ ‫املرجح ّأنم‬
‫محراء وال خلفية أخالقية‪ ،‬من ّ‬
‫قال عمر‪ ،‬فع ّقب عامد‪“ :‬ولذلك ِ‬
‫فقد اخرتنا اثنني من رجالنا الذين هلم خربة‬
‫أشار عامد لضياء الذي انتصب واق ًفا‬
‫الشطة بعد االحتالل”‪َ ،‬‬ ‫يف العمل مع ّ‬
‫مخسيني يف الصفوف األوىل‪ ،‬فقام بدوره‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ثم أشار ُع َمر لرجل‬
‫ّ‬
‫َ‬
‫الرجال يف الفيديو أن ينظروا‬ ‫خيص‬
‫كل يشء ّ‬‫طلب منهم عامد أن يفحصوا ّ‬‫َ‬
‫أي يشء قد‬‫إىل عيوهنم؛ لغات اجلسد لدهيم‪ ،‬أيدهيم املكشوفة‪ ،‬مشيتهم‪ّ ..‬‬
‫َ‬
‫أضاف ماندريك‪“ :‬سيقوم أحدُ مهندسينا بتعديل‬ ‫التعرف عليهم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يفيد يف‬
‫الرجل عىل الطبيعة‪ ،‬فقد‬ ‫صوت ّ‬
‫َ‬ ‫الصوت إلزالة أي تعديلٍ عليه لتسمعوا‬
‫ُيفيد ذلك يف التعرف عليه”‪.‬‬

‫تم تعدي ُله بتقنيات ّ‬


‫أديتية‪ ،‬وسيستطيع‬ ‫أيضا‪ّ -‬‬
‫أن الصوت قد ّ‬ ‫وضح‪ً -‬‬
‫مهندسوهم بفصل املكونات الصوتية املختلفة للفيديو‪ ،‬وبالتعاون مع‬
‫صوت أو أصوات تساهم يف حتديد‬ ‫ٍ‬ ‫استخالص‬
‫ُ‬ ‫خمتصني مرصيني قد يمكنهم‬‫ّ‬
‫َ‬
‫يذيعون‬ ‫املرة التي‬
‫البث يف ّ‬‫تتبع ّ‬ ‫مكان التصوير‪ .‬هناك آخرون سيحاولون ّ‬
‫البث يكون مش ّف ًرا بطرق ُمعقدة ّ‬
‫فإن‬ ‫بأن مصدر ّ‬ ‫فيها ثانية‪ ،‬ورغم معرفتهم ّ‬
‫ّ‬
‫األقل‪ -‬يف تضييق‬ ‫الرجال يف املقاومة لدهيم تقنيات متطورة قد تساعدُ ‪ -‬عىل‬
‫نطاق البحث‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪180‬‬
‫قبل تنفيذ عملية اإلعدام القادمة نرجو‬ ‫ثالث ساعات فقط َ‬ ‫ُ‬ ‫“أما َمنا‬
‫قد اقرتبنا”‪ ،‬قال‬‫التوصل إىل يشء قبلها‪ ،‬أو عىل األقل نكون ِ‬ ‫ُ‬ ‫تم‬
‫أن يكون ّ‬
‫رفيقيه إىل غرفة ُمغلقة لعمل اجتام ٍع‬
‫ْ‬ ‫ِ‬
‫بصحبة‬ ‫ومتوج ًها‬
‫ّ‬ ‫ماندريك ً‬
‫خمتتم االجتامع‬
‫شاب أديتي‬‫وانضم هلام ّ‬
‫ّ‬ ‫للرجل اخلمسيني‪،‬‬ ‫متوج ًها ّ‬
‫آخر تنسيقي‪ .‬قام (ضياء) ّ‬
‫ُ‬
‫وثالثة مقاعد‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫غرفة فيها عدّ ُة أجهزة‬ ‫ممر صغري دلفوا منه إىل‬
‫نحو ّ‬
‫قادهم َ‬
‫أفضل‬ ‫أخرج الرجل اخلمسيني ورقة ً‬
‫وقلم‪ ،‬وقال لضياء‪“ :‬اعذرين أنا ّ‬ ‫َ‬
‫تسهل علينا‬
‫ثم نص ّنفها بطريقة ّ‬
‫سندون مالحظاتنا هنا ّ‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫الطرق القديمة‪،‬‬
‫رأسه مواف ًقا دون أن يعقب‪.‬‬
‫فهز (ضياء) َ‬
‫االستفادة منها”‪ّ .‬‬
‫ثم طلب من املهندس تكبري‬ ‫بدأ الفيديو وأوق َفه الرجل بعدَ ثانيتني ّ‬
‫مره منها ً‬
‫قائل إنّه بني األربعني‬ ‫عي الرجل و ّ‬
‫مخن ُع َ‬ ‫الصورة ّ‬
‫وركزَ عىل ْ‬
‫ٍ‬
‫مالحظات دقيقة عىل‬ ‫ً‬
‫مسجل‬ ‫استمر يف تشغيل الفيديو‬
‫ّ‬ ‫واخلامسة واألربعني‪.‬‬
‫أكثر من‬
‫مر ُ‬ ‫إعجاب ضياء‪ّ .‬‬
‫َ‬ ‫ٍ‬
‫بطريقة أثارت‬ ‫كل يشء يظهر منه‬‫الرجل ختص ّ‬
‫كمية مالحظات كبرية عىل الرجال الثالثة‪ ،‬وعىل‬
‫الرجل ّ‬‫ُ‬ ‫ساعتني ح ّتى دون‬
‫املكان املتواجدين فيه‪ ،‬وال ّنساء املخت ََطفات‪ ،‬بل وماركة ّ‬
‫السكني املستخدَ م‪،‬‬
‫وكان (ضياء) يساعده ببعض امللحوظات هنا وهناك‪.‬‬
‫دور حتليل الصوت بعدَ إعادته إىل ِ‬
‫أصله‪.‬‬ ‫بعدَ االنتهاء من حتليل الصورة جاء ُ‬
‫ٌ‬
‫مألوف لديه‪ ،‬سمعه من قبل لك ّنه‬ ‫أحس أنّه‬
‫حني استمع (ضياء) إىل الصوت ّ‬
‫قبل الغزو أو بعده‪ ،‬يف قسم الرشطة أو يف مكان آخر‪.‬‬ ‫يتذكر أين أو متى‪َ ،‬‬
‫ْ‬ ‫مل‬
‫واملسجل عليها‬
‫ّ‬ ‫اخلاصة بالرشطة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫الدخول عىل املل ّفات‬ ‫الشاب األديتي‬
‫ّ‬ ‫بدأ‬
‫بيانات امل ّتهمني يف قضايا يف العرشين سنة األخرية‪ ،‬والذين يطابقون املواصفات‬
‫التي استطاعوا استخالصها من الفيديو‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪181‬‬
‫النتائج جاءهم فيديو جديدٌ للجريمة الثانية‪ .‬حتمل‬‫ُ‬ ‫قبل أن تصلهم‬ ‫َ‬
‫يلوح بسكينه‪،‬‬ ‫َ‬
‫الرجل ّ‬ ‫بصعوبة وهو يرى‬‫ٍ‬ ‫(ضياء) مشاهد َة الفيديو‬
‫فمه بالقرب من أذهنا كأنّه هيمس هلا‪ .‬فجأة‬ ‫وحيرك َ‬‫ّ‬ ‫ويقرتب من املرأة‪،‬‬
‫أنف الرجل‪ ،‬ومل ترتكه‬ ‫وانقضت بأسناهنا عىل ِ‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫رصخت املرأة يف هيسرتيا‬
‫أثر جرح يمتدّ من‬ ‫ّإل وهو يدمي‪ ،‬وقد انكشف جزء من قناعه َ‬
‫فبان ُ‬
‫واستطاع‬
‫َ‬ ‫وكب اللقط َة‬‫أسفل جفنه إىل خدّ ه‪ .‬أوقف الفني األديتي الفيديو ّ‬
‫ليستخدمها يف برامج حتديد اهلوية‪ ،‬إضافة إىل‬
‫َ‬ ‫صورة للجرح‬‫ٍ‬ ‫استخالص‬
‫ا ُملعطيات األخرى‪.‬‬
‫رد فعل الرجل عىل املرأة‬ ‫َ‬
‫إكامل الفيديو‪ ،‬وبدأ يظهر فيه ُّ‬ ‫طلب منه (ضياء)‬
‫أن دمعة غلبت (ضياء) وهو املعروف عنه صعوبة‬ ‫بشعا لدرجة ّ‬
‫املسكينة‪ .‬كان ً‬
‫فهو ال يقدر عىل إكامل املشاهدة فالتفت الرجل‬ ‫البكاء‪ .‬استأذن الف ّني منهام َ‬
‫َ‬
‫إكامل الفيديو معي‬ ‫اخلمسيني إىل (ضياء) وسأله بمالمح جامدة‪“ :‬هل تقدر‬
‫قليل؟”‪.‬‬‫أم‪ ”...‬ر ّد عليه (ضياء) بحنق‪“ :‬ماذا‪ ..‬أال حيقّ يل أن أشعر بالتأثر ً‬
‫يتكرر ذلك للمرأتني األخريني‬
‫َ‬ ‫فأجاب الرجل‪“ :‬بىل‪ ..‬ولكن إذا أردت ّأل‬
‫فعليك أن تتامسك”‪.‬‬
‫ضغط (ضياء) عىل نفسه‪ ،‬وحاول الرتكيز أكثر يف الفيديو‪ .‬كان يأمل‬‫َ‬
‫يد أحدهم‪،‬‬‫وشم عىل ِ‬‫ٌ‬ ‫حتدث معجزة ما َ‬
‫مثل األفالم القديمة فيظهر‬ ‫َ‬ ‫أن‬
‫اسم‬ ‫ثم ّ‬
‫يتذكر َ‬ ‫أمسك تلك اليد‪ ،‬ووضع فيها األصفاد‪ّ ،‬‬‫َ‬ ‫ويتذكر هو أنه‬
‫أن‬‫املجرم‪ ،‬لكن لألسف مل حيدث ذلك‪ ،‬ما حدث فقط هو أنّه يشعر ّ‬
‫الصورة‬
‫تضيع مالمح ّ‬
‫ُ‬ ‫صوت الرجل مألوف جدًّ ا‪ ،‬يكاد يرى وجهه لكن‬ ‫َ‬
‫يف اللحظة األخرية‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪182‬‬
‫وردت هلم نتائج البحث‪ ،‬استطاع اخلرباء التعرف‬
‫ْ‬ ‫ساعة أخرى‬‫ٌ‬ ‫مرت‬‫ّ‬
‫عىل املجرم ذي ال ّندبة؛ كانت مواصفاته مطابق ًة ألكثر من مائة وعرشين‬
‫صور مجيع‬
‫َ‬ ‫تفحص (ضياء)‬‫لكن واحدً ا فقط كان لديه ال ّندبة نفسها‪ّ .‬‬
‫رجل‪ّ ،‬‬‫ً‬
‫مع صاحب الصوت‪ ،‬لك ّنه مل جيد منهم‬ ‫ُ‬
‫تنطبق مواصفاهتم َ‬ ‫املجرمني الذين‬
‫ألشخاص يشتبه ّ‬
‫أن‬ ‫ٍ‬ ‫صورا أخرى‬
‫ً‬ ‫أيضا‪ْ -‬‬
‫أن يستطلع‬ ‫وجها مألو ًفا‪ .‬حاول‪ً -‬‬
‫ً‬
‫ُ‬
‫الرجل الثالث يف الفيديو بدون جدوى‪.‬‬ ‫أحدهم هو‬
‫ُ‬
‫التعرف عىل شخصيته لكنه قد‬ ‫تم‬
‫بدأت عملية البحث عن الرجل الذي ّ‬ ‫ْ‬
‫أي خيط يقود إليه‪ .‬بعد‬ ‫السجالت وليس لديه عائلة أو امرأة أو ّ‬ ‫اختفى من ّ‬
‫املهمة ومرو ِر ساعتني عىل إعدا ِم املرأة الثانية‬
‫مرور مخس ساعات عىل بدْ ء ّ‬
‫مل يتم التوصل إىل يشء غري جمموعة صو ٍر ُملشتبه هبم يستحيل التأكدُ من‬
‫مجيعا يف الوقت املناسب‪.‬‬
‫مكاهنم ً‬
‫خرج (ضياء) للقاعة الكربى‪ ،‬رأى املقدم إياد‪ ،‬سأله عن آخر املستجدات‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫مكان إرسال الفيديو بمنطقة كبرية متتدّ من منشية نارص‬ ‫فقال له‪ّ :‬إنم حدّ دوا‬
‫أن املصدر يف منشية نارص‪“ .‬هل‬ ‫املرجح ّ‬
‫ّ‬ ‫ح ّتى منطقة اخلليفة‪ ،‬وإن كان‬
‫“تأكدنا من شخصية‬ ‫توصلتم إىل يشء”‪ .‬سأله (إياد) فقال (ضياء) يف يأس‪ّ :‬‬
‫عن تواجده‪ ،‬ولدينا نحو مائتي ُمشتبه حيت ََمل ّ‬
‫أن اثنني‬ ‫أحدهم لكنه ال أدلة ْ‬
‫مها‪ ”....‬مل يكمل مجلته ورش َد ً‬
‫قليل فسأله إياد‪“ :‬ماذا هناك؟”‪.‬‬ ‫منهم َ‬
‫وركض نحو الغرفة دون أن يستأذن منه‪ ،‬وطلب من التقني‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫تركه (ضياء)‬
‫صور املجرمني الذين حكم عليهم باإلعدام وتنطبق عليهم‬‫َ‬ ‫يستخرج له‬
‫َ‬ ‫أن‬
‫فأخرج له صور تسعة‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫صاحب الصوت‪ .‬فعل التقني ما طلبه‬ ‫مواصفات الرجلِ‬
‫ثم استخـرج واحدً ا منهم وقال‪“ :‬هذا هو‪ .‬لقد ّ‬
‫تذكرته‪،‬‬ ‫مليا‪ّ ،‬‬
‫أشخاص تأملهم ًّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪183‬‬
‫قبل الغزو‪ ..‬لو بحثنا عن زوجته‬ ‫قضيته وأنا ضابط صغري َ‬
‫كنت قد شاركت يف ّ‬
‫ُ‬
‫تعيش يف دار السالم”‪ .‬ر ّد عليه التقني‪“ :‬لو أمسكنا هبا‬ ‫فسنصل إليه ً‬
‫حتم إهنا‬ ‫ُ‬
‫فيمكن أن نجربها عىل االتّصال به‪ ،‬وعندها يمكن حتديد مكانه بسهولة”‪.‬‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪184‬‬
‫‪27‬‬
‫ينتقل بني جهاز االتصال وشاشة‬ ‫ُ‬ ‫يدور يف مكتبه كاملجنون‬
‫ُ‬ ‫ظل (باسل)‬‫ّ‬
‫مسار دوريات البحث عن كمريدا والنساء‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫حتديد املواقع التي تكشف له‬
‫املخطوفات معها‪ .‬مل يبقَ من الزمن ّإل ساعة فقط عىل عملية اإلعدام‬
‫وبقيت كمريدا وامرأ ٌة أخرى‪ .‬كان مرعو ًبا‬
‫ْ‬ ‫القادمة‪ ،‬قتل اخلاطفون امرأتني‬
‫الدور عليها هذه املرة فقدْ شعر ّ‬
‫بأن اهلل أنقذها يف املرة السابقة حني‬ ‫ُ‬ ‫أن يكون‬
‫يرتاجع لسبب ما ال يعرفه‪ ،‬وي ّتجه‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫رأى الرجل يف الفيديو يقرتب منها ّ‬
‫للمرأة التي بجوارها‪.‬‬
‫ُ‬
‫الرجال يف الرشطة من حتديد منطقة واسعة‬ ‫متكن‬‫يف الساعات السابقة ّ‬
‫ُ‬
‫تشمل جز ًءا من منشية نارص‬ ‫ٍ‬
‫نقطة فيها‪ ،‬كانت املنطقة‬ ‫يبث الفيديو من‬‫ّ‬
‫سي ستة دوريات تسري بني شوارع‬ ‫ومساحة واسعة ِمن منطقة املقطم‪ ،‬وقد ّ‬
‫أي يشء ّ‬
‫يدلم عىل مكاهنا‪ ،‬وقام مديره بتوجيه‬ ‫َ‬
‫يلمحون ّ‬ ‫تلك املناطق لعلهم‬
‫ٍ‬
‫مئات من الطائرات الدقيقة اإلضافية يف تلك املناطق للمساعدة‪.‬‬
‫بكل هذا احلزن والرعب من أجلها‪ ،‬كان يعتربها‬ ‫يتخيل أن يشعر ّ‬
‫يكن ّ‬ ‫مل ْ‬
‫خطر بباله أن‬
‫َ‬ ‫أيضا‪ .‬كان إذا‬‫هامشيا موجو ًدا يف حياته هي وجنينها ً‬
‫ًّ‬ ‫شيئًا‬
‫يصاب بالذعر‬
‫ُ‬ ‫وينترص األرضيون ويطردون النياندرتال‪،‬‬
‫ُ‬ ‫املستحيل قد حيدث‬
‫ِ‬
‫بتهمة اخليانة‪ ،‬ومل تضايقه فكرة‬ ‫ُ‬
‫يقبض عليه وحياكم‬ ‫فقط لتخيله أنه سوف‬
‫شعر أنّه هو َمن يتعرض‬
‫أهنا ستختفي وتعود إىل كوكبها هي وابنه منها‪ .‬اليوم َ‬
‫ِ‬
‫الغوص يف حلمه‪،‬‬ ‫نصل السكني عىل وشك‬‫لتعذيب وحيش‪ ،‬وأنّه هو من يرى َ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪185‬‬
‫كان يشعر بالتصاق حلقه كأنه هو األس ُري املحروم من املاء‪ ،‬ال هي‪ ،‬بل كان‬
‫يشعر وهو يشاهد الفيديو أن ذراعيه تؤملانِه ّ‬
‫كأنام مع ّلقان فوق رأسه‪ .‬بكى‬
‫حني شاهدَ دموعها وبكى أكثر حني ملح يف الفيديو بقع ًة كبرية من البول‬
‫فخذيا‪.‬‬
‫ْ‬ ‫أسف َلها‪ّ ،‬‬
‫وختيل اإلحساس الذي دفعها إلفراغ مثانتها عىل‬

‫ُفتح بابه فجأة‪َ ،‬‬


‫فنه َر اجلندي الذي فتحه ومل يستأذن‪ ،‬لكن اجلندي أقسم‬
‫مرة‪“ .‬ماذا تريد؟” قال بضيق وهو جيلس‪ ،‬فر ّد‬‫أكثر من ّ‬‫طرق الباب َ‬‫َ‬ ‫أنه‬
‫ِ‬
‫اتصلت امرأ ٌة عىل اهلاتف املركزي‬ ‫عليه اجلندي وهو يمدّ له ورقة صغرية؛‬
‫لوح بيديه‬ ‫وطلبت أن تكلمها ِمن جهازك الشخيص عىل هذا ّ‬
‫الرمز لألمهية”‪ّ .‬‬
‫إن املوضوع مسألة حياة أو‬‫بام يوحي بعدم االكرتاث فقال اجلندي‪“ :‬قالت ّ‬
‫يمكن إنقاذه لو مل ت ّتصل خالل دقائق”‪.‬‬
‫ُ‬ ‫موت‪ ،‬وستضيع فرصة إلنقاذ ما‬

‫تتبعتم مصدر املكاملة؟” تلعثم اجلندي‬ ‫انتفض من عىل كرسيه ً‬


‫قائل‪“ :‬هل ّ‬ ‫َ‬
‫ثم‬ ‫إن مصدر املكاملة كان مش ّف ًرا وال يمكن تتبعه‪ ،‬تر ّدد ً‬
‫قليل ّ‬ ‫وهو يقول ّ‬
‫أشار إليه باخلروج‬
‫َ‬ ‫تتبعها حني تتصل هبا”‪.‬‬ ‫أضاف‪“ :‬قالت ً‬
‫أيضا ال حتاول ّ‬
‫صوت أنثوي‪“ :‬إذا‬
‫ٌ‬ ‫ثم فتح شاشة االتّصال وضغط رمزَ االتصال‪ ،‬ر ّد عليه‬
‫ّ‬
‫أمام ال ّنصب املوجود يف تقاطع شارع النرص‬
‫أردت أن تنقذ زوجتك قابلني َ‬
‫مع امتداد شارع رمسيس‪َ ..‬‬
‫تعال وحدك‪ ،‬لو أبرصنا أحدً ا معك أو ّ‬
‫أن هناك‬
‫من يتبعك فسنختفي وستفقد فرصتك”‪.‬‬

‫عي أحد زمالئه‬ ‫ِ‬


‫نقطة اللقاء بعد أن ّ‬ ‫انطلقَ عىل دراجته من ْ‬
‫فوره اجتاه‬
‫ويسارا‬
‫ً‬ ‫ينظر يمينًا‬ ‫َ‬
‫وصل هناك فوجد املكان خال ًيا‪ .‬أخذ ُ‬ ‫مكانه يف العمل‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪186‬‬
‫رن جهازه ثانية فسمع ذات الصوت‬‫أصحاب االتصال‪ّ ،‬‬
‫َ‬ ‫ويلعن‬
‫ُ‬ ‫يسب‬
‫وهو ّ‬
‫ثم ادخ ْلها حني ينفتح‬
‫رس جوارها ّ‬ ‫ٌ‬
‫مركبة اآلن‪ْ ،‬‬ ‫“ستمر من جوارك‬
‫ّ‬ ‫يقول‪:‬‬
‫الباب”‪.‬‬
‫مرت جواره املركبة وهي تسري ببطء‪ ،‬بدأ يسري‬ ‫مل يكدْ ينتهي االتصال ح ّتى ّ‬
‫باب املركبة فدخلها بدراجته وانغلق الباب خلفه‪.‬‬ ‫ببطء إىل جوارها‪ ،‬انفتح ُ‬
‫جيلس يف املركبة ٌ‬
‫رجل ثالثيني مألوف املالمح‪ ،‬وامرأ ٌة فريوزية العينني‬ ‫ُ‬ ‫كان‬
‫مزيج بني البني واألشيب‪ ،‬تبدو يف عقدها اخلامس من العمر‪ً .‬‬
‫“أهل‬ ‫شعرها ٌ‬
‫أعمل معك يف الرشطة‬ ‫ُ‬ ‫الرجل‪“ .‬أنا (ضياء حاتم) ‪ ،‬كنت‬‫يا (باسل)” قال ّ‬
‫االسم وإن كانت‬
‫َ‬ ‫فهو ال يذكر‬ ‫ّ‬
‫بشك‪َ ،‬‬ ‫للرجل‬
‫تقابلنا عدة مرات”‪ .‬نظر ّ‬
‫اآلن مع املخربني؟ وهل‬ ‫مر ْت عليه من قبل‪ ،‬سأله بحزم‪“ :‬هل أنت َ‬ ‫املالمح ّ‬
‫حترير املخطوفات؟”‪.‬‬‫َ‬ ‫أنتم ح ًّقا كام أعلنتم يف بيانكم حتاولون‬
‫قالت املرأة‪“ :‬سيد (باسل)‪ ،‬الوقت قصري جدًّ ا‪ ،‬نحن اآلن عىل وشك‬ ‫ِ‬
‫سريد إلينا موقعها خالل دقائق”‪ .‬سأهلا‬ ‫ُ‬ ‫مكان احتجاز زوجتك‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫حتديد‬
‫حيرروهن‬
‫ماهرين إىل هذه الدرجة‪ ،‬فلامذا جلأوا إليه؟ ملاذا مل ّ‬
‫َ‬ ‫(باسل) إن كانوا‬
‫وكيف سيحددون موقعهن‪ .‬ر ّد عليه (ضياء) بفراغ صرب‪:‬‬ ‫َ‬ ‫دون االتصال به‪،‬‬
‫املهم نريد تعاونك هل ستشارك يف‬ ‫“لنا طرقنا وسنطلعك عليها فيام بعد‪ّ ،‬‬
‫حتريرهن أم ال؟”‪.‬‬
‫تدخلت املرأة وقالت‪“ :‬نريدك أن تشارك معنا‬
‫ر ّد عليه (باسل) بحدة‪ّ ،‬‬
‫لتكون شاهدً ا عىل أنّنا بذلنا ما بوسعنا لتحريرهن لو ساءت األمور ال سمح‬
‫ثم سأهلا‪“ :‬صو ُتك‬
‫إهباميه يف عصبية ّ‬
‫ْ‬ ‫حيرك‬
‫أصابع يديه وأخذ ّ‬
‫َ‬ ‫اهلل”‪ .‬شبك‬
‫ردك‬ ‫يبدو مألو ًفا يل”‪ .‬ر ّدت عليه‪“ :‬يمكن أن نناقش هذا األمر الح ًقا‪ّ ،‬‬
‫املهم ُّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪187‬‬
‫مانع‬
‫أحد من رؤسائك فال َ‬ ‫كنت تريد استشارة ٍ‬ ‫اآلن هل أنت معنا‪ ..‬إذا َ‬
‫ثم‪ ،”..‬قاطعها كالم قائد املركبة‪“ :‬لقد حدّ دوا املوقع‪ ،‬وأرسلوا لنا‬
‫لدينا‪ّ ،‬‬
‫اإلحداثيات”‪.‬‬
‫“هيا أنا معكم لكن لن أكون‬ ‫رده‪ ،‬فقال‪ّ :‬‬ ‫نظر االثنان لباسل ُمنتظرين َّ‬
‫َ‬
‫نحررهن‪ ،‬وبعدها ستعودون كام أنتم‬ ‫مدينًا لكم بيشء‪ ،‬أنا صديقكم ح ّتى ّ‬
‫ضحك (ضياء) وقال بسخرية هو يومئ برأسه ّاتاه‬ ‫َ‬ ‫أهدا ًفا مرشوعة يل”‪.‬‬
‫أن تقع بأرسك‬ ‫املرأة التي أشارت للسائق بالتحرك‪“ :‬لقد كانت عىل وشك ْ‬
‫ِ‬
‫“أنت متنكرة‪..‬‬ ‫ثم قال‪:‬‬
‫متفح ًصا ّ‬
‫ّ‬ ‫مرة”‪ .‬هنرته املرأة ونظر هلا (باسل)‬
‫ذات ّ‬
‫َ‬
‫خيرج دراجته من‬ ‫َ‬ ‫طلبت منه أن‬
‫ْ‬ ‫ثم‬
‫أليس كذلك؟”‪ .‬ر ّدت عليه باإلجياب ّ‬
‫َ‬
‫االعرتاض‬ ‫املركبة برسعة ويتخ ّلص من أجهزته التي يمكن هبا ّ‬
‫تتبعه‪ ،‬حاول‬
‫أرصت وأوقفت املركبة خمرية إياه بني إنزال دراجتِه وحدها أو النزول‬ ‫لك ّنها ّ‬
‫هبا‪ .‬وافقَ عىل مضض وانطلقت املركبة يف طريق ال ّنرص غ َ‬
‫ري مبالية بانكشافها‪،‬‬
‫مجيع الطائرات يف املنطقة مشغولة بالبحث عن املخطوفات‪.‬‬
‫فقد كانت ُ‬
‫يسارا يف مدخل منشية نارص من جهة‬ ‫ً‬ ‫ِ‬
‫انعطفت املركبة‬ ‫بعدَ دقيقتني‬
‫سفح اجلبل مبارشة ُمنعطفة يف شوارع ضيقة‬ ‫ِ‬ ‫وتوجهت نحو‬
‫ّ‬ ‫الدويقة‪،‬‬
‫وعندما أصبح عىل مرمى البرص تو ّقفت املركبة‪ّ ،‬‬
‫ثم قالت املرأة‪“ :‬لقد اقرتبنا‪،‬‬
‫ثم سنميش بقية املسافة”‪.‬‬
‫سننزل هنا ّ‬
‫الوقت يف صاحلهم فلم يبقَ أكثر من عرشين دقيقة عىل عملية‬
‫ُ‬ ‫مل ِ‬
‫يكن‬
‫القتل القادمة‪ .‬مشى ثالث ُتهم ُمرسعني يف أز ّقة ضيقة‪ ،‬وبعد حوايل مائتي‬
‫ومسلحون‪ .‬كان (باسل) ُم ً‬
‫غتاظا ألهنم‬ ‫مدرعون ُ‬
‫مرت قابلهم أربعة آخرون ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪188‬‬
‫ليحرر زوجته‬
‫ّ‬ ‫جردوه من أسلحته لكنه مل جيدْ بدًّ ا من املوافقة‪ ،‬فهو سيذهب‬ ‫ّ‬
‫ولو بيديه العاريتني‪.‬‬
‫أحد األزقة جمموعة أخرى من مخسة‪ ،‬وبذلك صار العدد اثني‬ ‫ظهر من ِ‬ ‫َ‬
‫أشيب يف العقد اخلامس من عمره‪،‬‬
‫َ‬ ‫عرش‪ ،‬وكان بينهم قائدُ العملية‪ ،‬بدَ ا ً‬
‫رجل‬
‫البيت املوجود به املختطفات‪ .‬كانت‬
‫َ‬ ‫كل جهة ليحاوطوا‬ ‫وزّ عهم أربع ًة يف ّ‬
‫ورجلي آخرين؛ أحدمها من‬
‫ْ‬ ‫(ميساء)‪ّ -‬‬
‫متنكرة مع (باسل)‬ ‫املرأة‪ -‬وهي ْ‬
‫جوار رجلٍ‬
‫َ‬ ‫تشعر باضطراب لوجودها‬
‫ُ‬ ‫النياندرتال واآلخر أريض‪ .‬كانت‬
‫وتراجع يف اللحظة األخرية لسبب ال تعرفه‪.‬‬
‫َ‬ ‫حاول قتلها من فرتة قصرية‬
‫أرصت عىل االشرتاك يف تلك العملية‪ ،‬وأقنعت العقيد (عامد)‪-‬‬ ‫ّ‬
‫إقناع (باسل) بالتواجد معهم يف أثناء حترير‬
‫َ‬ ‫يقودها‪ّ -‬أنا تستطيع‬
‫ُ‬ ‫الذي‬
‫صاحب فكرة إحضاره ّ‬
‫ألن املهمة تنطوي عىل‬ ‫َ‬ ‫املختطفات‪ .‬كان ماندريك‬
‫اللوم عىل املقاومة‪ ،‬لكن لو حدث‬
‫خماطرة كبرية بفقد الرهائن‪ ،‬وعندها سيقع ُ‬
‫ذلك و”باسل” معهم فسيكون شاهدً ا من أهلها‪ .‬تل ّقفت ْ‬
‫(ميساء) الفكرة‪،‬‬
‫وطلبت أن حترض (باسل) هي وضياء الذي قال إنّه قد تقابل مع الرجل‬
‫مر ٍ‬
‫ات قليلة يف دورات تدريبية كان النياندرتال يقيموهنا لألرضيني الذين‬ ‫ّ‬
‫يعملون معهم يف الرشطة‪.‬‬
‫عرش دقائق فقط‪ ،‬بدأ االقتحام وكانت التعليامت هي‬ ‫تب ّقى من الزمن ُ‬
‫قدر اإلمكان ح ّتى ال ينتبه املتواجدون بالداخل‬ ‫ٍ‬
‫جلبة َ‬ ‫حماولة عد ِم إصدار‬
‫أهنن ُمتجزات‬
‫التقديرات ّ‬
‫ُ‬ ‫مرة واحدة‪ .‬كانت‬‫فيقدمون عىل قتل املرأتني ّ‬
‫ِ‬
‫اجلهة الرشقية للبيت‪،‬‬ ‫يف الطابق الثاين ولذلك قام اثنان بالتسلق من‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪189‬‬
‫ٌ‬
‫مخسة من املدخل‪،‬‬ ‫الشفات‪ ،‬ودخل‬ ‫واثنان من جهتِه الشاملية للتسلل من ّ‬
‫كان (باسل) و(عامد) و(ضياء) يف املقدمة خل َفهام ْ‬
‫(ميساء) واألديتي‪.‬‬
‫خرسانيا ال توجد بوابة تغلقه‪ ،‬بيت من أربعة طوابق‪،‬‬
‫ًّ‬ ‫ُ‬
‫مدخل البيت‬ ‫كان‬
‫انطباعا أبدً ا ّ‬
‫أن جريمة هبذا احلجم‬ ‫ً‬ ‫كل ٍ‬
‫طابق شقتان‪ ،‬ال يثري الريبة أو يعطي‬ ‫يف ّ‬
‫الدرج للطابق األول دون أن يصادفهم أحد فقد‬ ‫َ‬ ‫حتدث داخ َله‪ .‬صعدوا‬
‫مغلقتي‪ .‬يف الطابق األول فوجئوا‬
‫ْ‬ ‫كانت أبواب الشقتني يف الطابق األريض‬
‫الصاعد عىل‬ ‫ِ‬
‫برؤية املوكب ّ‬ ‫برجلني يقفان أمام باب مفتوح‪ ،‬فوجئ الرجالن‬
‫بالتحرك أطلقَ (عامد) و(ضياء) عليهام قذائف‬
‫ّ‬ ‫الدرج وقبل أن يقوم أحدمها‬
‫أسقطتهام دون صوت‪.‬‬
‫خلوها من أحد‪،‬‬ ‫ِ‬
‫بتمشيط الشقة للتأكد من ّ‬ ‫أشار (عامد) لضياء واألديتي‬
‫َ‬
‫وأكمل طري َقه للطابق التايل يتبعه (باسل) وميساء‪ .‬سمعوا صو ًتا لسقوط‬
‫أشخاص عىل األرض قاد ًما من الشّ قة بالطابق األول فأجفلت ْ‬
‫(ميساء)‪،‬‬
‫لكن عامد أشار هلام باالستمرار‪ .‬وقفوا يف الطابق الثاين وحلقَ هبم (ضياء)‬ ‫ْ‬
‫أشار عامد لضياء واألديتي للوقوف عىل الباب‬ ‫و(باسل)‪ ،‬كان هناك بابان‪َ ،‬‬
‫أمام الباب‬
‫متأهبني القتحامه‪ ،‬ووقف هو وميساء وجواره (باسل) َ‬ ‫األيمن ّ‬
‫ِ‬
‫معصمه ل ُيعطي اإلشارة للمرت ّبصني‬ ‫زر يف جهاز‬
‫ضغط (عامد) عىل ّ‬ ‫َ‬ ‫األيرس‪.‬‬
‫هبمس وهو يشري‬‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫للعرشة‬ ‫عند الرشفات لالقتحام املتزامن معهم‪ .‬بدأ يعد‬
‫ٍ‬
‫امرأة من الباب‬ ‫ُ‬
‫رصخة‬ ‫دوت‬‫بأصابعه‪ ،‬ولك ّنه عندما وصل لرقم أربعة ّ‬
‫املوجود عىل ال ّناحية اليمنى‪ ،‬فأشار لضياء ببدء االقتحام وأشار ملَن َ‬
‫معه برتك‬
‫باهبم‪ ،‬واالشرتاك يف اقتحام الباب اآلخر‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪190‬‬
‫‪28‬‬
‫قبل ساعة من بدْ ء االقتحام‪ ،‬كانت كمريدا معلق ًة كام هي تنتظر ما ستأيت‬ ‫َ‬
‫االستسالم ملصريها‪ ،‬وإبعا َد أشباح األمل‬
‫َ‬ ‫الساعات التالية وهي حتاول‬ ‫هلا به ّ‬
‫هيتم ملصريكن”‪ .‬قال أحدُ الرجال‬ ‫“بقيت ساعة وال أحد ّ‬
‫ْ‬ ‫والفزع من أمامها‪.‬‬
‫جوار كمريدا ترصخ يف فزع وهي تقول ّإنا ال‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫بتشف‪ ،‬فأخذت املرأ ُة املعلقة‬
‫فم مل يذق‬
‫بكلامت خترج بصعوبة من ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫حاولت كمريدا هتدئتها‬
‫ْ‬ ‫تريد أن متوت‪.‬‬
‫سيعوض أرواحنا عن هذا العذاب‪،‬‬
‫ّ‬ ‫طعم املاء منذ ساعات طويلة‪“ :‬ماجوها‬
‫َ‬
‫اهدئي يا صديقتي”‪.‬‬
‫ر ّدت عليها املرأة وهي تبكي ُمنهارة وتقول‪“ :‬وملاذا يرتكنا هلؤالء‬
‫تعويضا عن العذاب؛ أريده أن يمنعه‬ ‫ً‬ ‫الوحوش ّ‬
‫يعذبوننا‪ ..‬ال أريد منه‬
‫إقناعها بأن تتحىل‬
‫ببعض األدعية وهي حتاول َ‬ ‫ِ‬ ‫من البداية”‪ .‬متتمت كمريدا‬
‫سنموت يف النهاية‪ ،‬فقالت املرأة‪“ :‬نعم‪ ،‬ولكن‬‫ُ‬ ‫باهلدوء والشجاعة فك ّلنا‬
‫أليس من حقّ أوالدنا أن يذوقوا طعم احلياة َ‬
‫قبل أن ُي َرموا منها؟!”‪ .‬مل تقدّ ر‬
‫كمريدا عىل الرد‪ ،‬وانخرطت يف بكاء صامت هي األخرى‪ ،‬وهي تنظر إىل‬
‫بطنها وتتمتم بأدعيتها ثانية‪.‬‬
‫وفك احلبل من‬ ‫فوق رأسها‪ّ ،‬‬‫الضخم منها‪ ،‬ورفع ذراعيه َ‬ ‫ُ‬
‫الرجل ّ‬ ‫اقرتب‬
‫َ‬
‫تشعر هبام‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ذراعيها لألسفل وهي تكاد ال‬
‫ْ‬ ‫اجلنزير املع ّلق للسقف‪ .‬أنزلت‬
‫ّ‬
‫تستشف ما ينوي فعله هبا‪ .‬اهنار‬ ‫ِ‬
‫بوجه الرجل حتاول أن‬ ‫وعيناها مع ّلقتان‬
‫متوسل ًة للرجل‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫حتاول االستناد عليه‪ ،‬وأخذت تبكي‬ ‫جدار التامسك الذي‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪191‬‬
‫مستحلف ًة إ ّياه بر ّبه ّ‬
‫ونبيه ْ‬
‫أن يعتقها‪“ :‬أرجوك‪ ...‬ماذا ستكسب من قتيل‪...‬‬
‫أرجوك”‪.‬‬
‫بغلظة اجتاه باب إحدى الغرف وهي تتوسل‬‫ٍ‬ ‫وجرها‬ ‫ُ‬
‫الرجل ّ‬ ‫مل ير ّد عليها‬
‫ٍ‬
‫ووهن شديد يف جسمها‬ ‫تشعر بآالم يف ساقيها‬
‫ُ‬ ‫مشت خلفه بصعوبة وهي‬ ‫ْ‬ ‫له‪.‬‬
‫دخلت غرف ًة صغرية كان فيها شاشتان؛ واحدة فيها أناندار‬
‫ْ‬ ‫كله‪ ،‬إىل أن‬
‫خال من التفاصيل‪ً .‬‬
‫“أهل يا‬ ‫ضوء أبيض ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫الصغري والثانية فارغة عبارة عن‬‫ّ‬
‫لكن ماجوها سيقدّ ر تضحيتك بالتأكيد”‪ .‬قاهلا‬
‫كمريدا‪ْ ..‬اعذريني عىل هذا‪ّ ،‬‬
‫وشبح ابتسامة ساخرة يلوح عىل وجهه فسأل ْته بحرية‪“ :‬سيد أناندار‪ ،‬ماذا‬
‫ُ‬
‫تقصد؟ وما عالقتك هبؤالء الوحوش!؟”‪.‬‬
‫حمذرا فكتم ضحكته‬ ‫ً‬ ‫فنظر له أناندار‬
‫َ‬ ‫ضحك الضخم ضحك ًة قصرية‬ ‫َ‬
‫متت للصغر بِ ِصلة‪،‬‬
‫مالمح ال ّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫حيمل‬ ‫وعاد لوج ِهه اجلاد‪ .‬كان أناندار الصغري‬
‫ٍ‬
‫بأسنان قاسية‬ ‫فمه العريض الذي حييط‬ ‫حتيط بعينيه وزاويتي ِ‬‫ُ‬ ‫فالتجاعيدُ‬
‫رشح هلا‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫خالطها الشّ يب‪.‬‬ ‫املظهر‪ ،‬واللحية اخلفيفة ال ّنابتة عىل وجهه قد‬
‫وأن الفكرة ك ّلها من ترتيب‬ ‫َ‬
‫والغرض املقصود منها‪ّ ،‬‬ ‫أناندار فكرة اخلطف‬
‫تكذب‪ ،‬ال يمكن أن يكون ذلك‬
‫ُ‬ ‫احلكومة‪ ،‬نظرت له مصدومة وقالت‪“ :‬أنت‬
‫أعرف حقيقتك”‪ .‬ضحك هو هذه‬ ‫ُ‬ ‫حقيقيا‪ّ ،‬إنا فكرة إجرامية منك أنت‪ ..‬أنا‬
‫ًّ‬
‫أن عزيزهتا‬ ‫املر َة بصوت عال وهو يسأهلا كيف سيكون ر ّد ِ‬
‫فعلها إذا عرفت ّ‬ ‫ّ‬
‫ُ‬
‫صاحبة الفكرة‪ ،‬وهي َمن استأجرته للقيام هبا‪.‬‬ ‫هريمني هي‬
‫ُ‬
‫الوقاحة لتلفيق هتمة كهذه‬ ‫صل بك‬‫“أهلذه الدرجة حتقدُ عليها‪ ،‬أ َت ُ‬
‫ُ‬
‫انفعالا حقيقة املوقف السيئ الذي هي فيه‪،‬‬ ‫ألختك”‪ .‬قالت له وقد أنساها‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪192‬‬
‫خاصة عندما قال‪:‬‬
‫ّ‬ ‫بان عىل وجهه مألها رع ًبا ثانية‪،‬‬ ‫لكن الغضب الذي َ‬
‫ُ‬
‫صاحبة الفكرة وأنا املقاول فقط”‪.‬‬ ‫“اخريس أيتها املرأة احلمقاء‪ ..‬هريمني هي‬
‫أقرب للنحيب‪“ :‬ال يمكن أن تفعل‬ ‫َ‬ ‫دمعت عيناها ثانية وهي تر ّد بصوت‬‫ْ‬
‫السيدة هريمني هذا يب‪ ..‬إهنا حتبني”‪.‬‬
‫اعتدل الرجل وهو يقول‪“ :‬حسنًا‪ ..‬خطفك أنت بالذات كان فكريت‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫مقابل‬ ‫بعقد ستحصل عليه‬‫ٍ‬ ‫أنا‪ ،‬لكن هذا ال يمنع ّأنا ترفض أن تفتديك‬
‫ٍ‬
‫بحرية وهي تسأله عن قصده‪ ،‬مل ير ّد عليها‬ ‫نظرت إليه‬
‫ْ‬ ‫نجاح هذه العملية”‪.‬‬
‫ثم ظهرت صور ُة هريمني عىل‬ ‫صوت طنني ّ‬ ‫ُ‬ ‫فع َل‬‫وضغط جهاز اتصاله‪َ ،‬‬
‫ِ‬
‫لصورة كمريدا أمامها وقالت‪“ :‬كيف‬ ‫بلوعة‬
‫الشاشة الثانية‪ .‬نظرت هريمني ْ‬
‫الذ ُ‬
‫هول منها مبلغه‪“ :‬ال‬ ‫حا ُلك يا عزيزة القلب؟”‪ .‬قالت كمريدا وقد بلغ ّ‬
‫ثم أنت‪ ..‬مل يبدُ عليك االندهاش‪ ..‬هل ح ًّقا‪..‬‬‫أعلم‪ ..‬إنّه يقول كال ًما غري ًبا ّ‬
‫يا إهلي”‪.‬‬
‫صوت هريمني وهي تر ّد عليها بصوت أناندار ومل تفهم شيئًا‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫اختلط‬
‫صوت أناندار وهو يقول‪“ :‬ليس هذا موضوعنا‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫كليهام‪ ،‬ح ّتى عال‬
‫من ْ‬
‫فليس عليك سوى أن‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫أردت أن تنقذهيا‬ ‫صديقتك أمامك يا هريمني إذا‬
‫واخلسة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫همه باجلنون‬ ‫توافقي عىل رشطي”‪ .‬ر ّدت عليه هريمني وهي ت ّت ُ‬
‫موضوع ال ّتفاوض بينهام لك ّنها فهمت ّ‬
‫أن‬ ‫َ‬ ‫وتكيل له اللعنات‪ .‬مل تفهم كمريدا‬
‫حب هريمني هلا للضغط عليها‪ ،‬مل تفكر حلظتَها ّإل يف فرجة‬ ‫أناندار يستغل َّ‬
‫متوسلة‪“ :‬أرجوك يا سيديت‪ ،‬أعطيه‬ ‫ّ‬ ‫األمل التي الحت هلا وجلنينها‪ ،‬فهتفت‬
‫أتوسل لك”‪.‬‬
‫ما يريد‪ ،‬أنقذي طفيل ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪193‬‬
‫أحست أن هذا‬ ‫َ‬
‫التوسل وقد ّ‬ ‫سكتت هريمني ومل ترد‪ ،‬وكمريدا تعيد عليها‬ ‫ْ‬
‫نوع من الضعف‪ ،‬رشخ يف جدار رفضها لطلب شقيقها‪ ،‬وقد يد ّمر‬ ‫الصمت ٌ‬
‫َ‬
‫توسالهتا وبكاءها‪“ .‬أنت ال تتخيلني يا سيديت‪..‬‬
‫واصلت ّ‬
‫ْ‬ ‫هذا اجلدار متا ًما لو‬
‫كل‬ ‫َ‬
‫األطفال يتحركون قبل أن يموتوا‪ّ ،‬‬ ‫بطن امرأتني‪ ،‬لقد رأيت‬ ‫لقد شقوا َ‬
‫ّأم كانت حتترض وهي تشاهدُ جنينها يموت أمامها‪ ..‬أرجوك سأساعدك يف‬
‫أي خسارة‪ ..‬سأكون خادمتك لألبد بدون مقابل”‪.‬‬ ‫تعويض ّ‬
‫ر ّدت هريمني بصعوبة‪“ :‬كمريدا‪ ...‬أنا‪ .”..‬فضحك أناندار بسخرية وهو‬
‫الشخص يقتل أبناءه بيديه أحيا ًنا‪...‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫والسلطة جتعل‬ ‫ُ‬
‫“املال يا كمريدا‬ ‫يقول‪:‬‬
‫من ا ُملمكن أن أعطيها فرص ًة للتفكري؛ بضع ساعات أخرى لك ّني أعرف‬
‫توسالهتا وقد نسيت أو تناست‬ ‫وأعادت ّ‬
‫ْ‬ ‫نظرت هلا كمريدا ثانية‬
‫ْ‬ ‫شقيقتي”‪.‬‬
‫معا؛ مل‬ ‫تتوسل إليها ّ‬
‫بكل ذكرى هلام ً‬ ‫فداحة ما أقدمت هريمني عليه‪ ،‬وأخذت ّ‬
‫ري متدينة‪،‬‬‫أن هريمني غ ُ‬ ‫تتوسل هلا بامجوها أو قدّ يسيه أو كهنتِه؛ فهي تعرف ّ‬
‫توسلها‪.‬‬
‫لك ّنها رغم ذلك ذكرهتا به يف ختام ّ‬
‫“أنا آسفة يا كمريدا‪ ،‬ال أستطيع”‪ .‬قالتها هريمني وأغلقت االتصال تاركة‬
‫بأنا عىل وشك القتل بأبشع‬ ‫تقل سو ًءا عن شعورها ّ‬ ‫كمريدا يف صدمة ال ّ‬
‫أيضا ٌ‬
‫آسف يا كمريدا‪ّ ،‬إنا مسألة‬ ‫الطرق‪ .‬قال أناندار وقد بدَ ا عليه التأثر‪“ :‬أنا ً‬
‫أن الشيطان الذي يفصح عن‬ ‫ِ‬
‫أدركت ّ‬ ‫ولكن أرجو أن تكوين قد‬ ‫ْ‬ ‫استثامرات‬
‫ٍ‬
‫شيطان يتظاهر بالطهر”‪.‬‬ ‫نجسا من‬
‫أقل ً‬ ‫نفسه ّ‬
‫ٍّ‬
‫تشف وكأنّه كان خيشى أن تضيع منه‬ ‫الضخم ملكاهنا األول يف‬
‫ُ‬ ‫قا َدها‬
‫فريسته‪ ،‬ع ّلق ذراعها يف مكاهنا بدون مقاومة منها‪ ،‬وقد عادت إىل حالة‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪194‬‬
‫الدور اآلن عىل املرأة الثانية‪ .‬قال‬
‫َ‬ ‫التسليم بقدَ رها‪ ،‬وإن كانت قد عرفت ّ‬
‫أن‬
‫الضخم “يبدو عليك أنّك ممّن يؤمنون بوجود خ ٍ‬
‫ري يف هذا العامل‪...‬‬ ‫هلا الرجل ّ‬
‫وقال بصوت عميق‪“ :‬ال‬ ‫اقرتب بفمه من أذهنا َ‬
‫َ‬ ‫دعيني أقوهلا لك رصحية”‪..‬‬
‫بعضها فيظهر‬ ‫يتلون ُ‬ ‫الش ّ‬ ‫ٌ‬
‫أشكال خمتلفة من ّ‬ ‫يوجد خري يف العامل‪ ...‬فقط‬
‫كائنات حقيقية‪ ،‬أ ّما املالئكة فهي جمرد‬
‫ٌ‬ ‫السذج كأنه خري‪ّ ،‬‬
‫إن الشياطني‬ ‫أمام ّ‬
‫َ‬
‫خياالت أطفال”‪.‬‬
‫صمتت وهي تفكر يف كالمه ح ّتى ابتعدَ عنها وجلس عىل مقعده فقالت‪:‬‬ ‫ْ‬
‫ري والرش يف العامل‪ ،‬وترك اخللق ليختاروا‪،‬‬ ‫وضع اخل َ‬
‫َ‬ ‫أؤمن ّ‬
‫أن ماجوها‬ ‫ُ‬ ‫“أنا‬
‫إن ماجوها مل يرسل‬ ‫ويفضلونه”‪ ،‬قال أبوها ّ‬
‫ّ‬ ‫الش‬ ‫َ‬
‫يعشقون ّ‬ ‫وهم لألسف‬
‫ألي شخص‬ ‫ِ‬
‫املخلوقات عىل االختيار‪ ،‬ومل يسهل ّ‬ ‫شياطنيَ أو مالئكة ليحثوا‬
‫إيامنا ّ‬
‫يؤكد‬ ‫طري ًقا من الطريقني‪ ،‬وإنام تركهم ل ُيامرسوا احلياة فيام بينهم‪ .‬كان ُ‬
‫مها ُ‬
‫فعل البرش؛ أرضيني أو أديتيني‪.‬‬ ‫أن العذاب واألمل اللذ ْين تعانيهام َ‬
‫اآلن َ‬ ‫هلا ّ‬
‫إن أمثال أناندار وهريمني‬‫أغمضت عينيها وهي مستسلمة وتقول لنفسها ّ‬
‫يتشوق لذبحها هم السبب ّ‬
‫أن ماجوها مل خيلق شياطنيَ ؛‬ ‫الوحش الذي ّ‬‫ِ‬ ‫وذلك‬
‫ُ‬
‫فالبرش ُمكتفون بام فيهم من الرش‪.‬‬
‫انتبهت عىل رصخة املرأة جوارها‪ ،‬وأحدُ اخلاطفني يشقّ بطنها‪ .‬تعلقت‬ ‫ْ‬
‫ثم جننيٌ هيوي‬
‫ماء غزير ّ‬
‫ثم ٌ‬ ‫تندفع من الشّ ق‪ّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫عيناها وهي جامد ٌة بالدماء‬
‫ثم يقف معل ًقا يف اهلواء حلظة‪ ،‬وبعدها يكمل‬ ‫السي‪ّ ،‬‬‫يتبعه حب ُله ُّ‬
‫إىل أسفل ُ‬
‫وجزء من مشيمته‪ .‬سمعت صوت‬ ‫ٌ‬ ‫رحل َة سقوطه لألرض يتبعه حب ُله‪،‬‬
‫ص عددهم‪ ،‬واشتباك بينهم‬ ‫جمموعة من الناس مل ُت ِ‬
‫ٍ‬ ‫مدو تاله دخول‬
‫انفجار ٍّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪195‬‬
‫ساحة الرصاع عن (باسل)‪ ،‬هت ّلل وجهها‬ ‫ِ‬ ‫وبني اخلاطفني‪ .‬فتشت بعينيها يف‬
‫حني رأته وقد أجهزَ عىل أحد اخلاطفني كان واق ًفا بينه وبينها‪ّ ،‬‬
‫ثم قفزَ نحوها‬
‫بيد وهو يقطع احلبل من يدهيا‬ ‫ثم احتضنَها ٍ‬
‫الصاع الدائر حوهلام ّ‬ ‫ً‬
‫متجاهل ّ‬
‫ِ‬
‫بيده األخرى بسك ٍ‬
‫ني صغري‪.‬‬

‫وأخذها يف حضنِه كام متسك ّ‬


‫األم بطفلها وأخذ يم ّلس‬ ‫َ‬ ‫جلس عىل األرض‬
‫َ‬
‫حاولت أن تطيلها‬
‫ْ‬ ‫ويعتذر عن التأخري‪ .‬أسكت ْته ُبقبلة عىل شفتيه‬
‫ُ‬ ‫شعرها‬
‫عىل ْ‬
‫ٍ‬
‫بصوت واهن‪“ :‬هريمني وأخوها‬ ‫أنفاسها املتالحقة‪ .‬قالت‬
‫ُ‬ ‫قدر ما تسمح به‬
‫هم َمن استأجر هؤالء خلطفي يا (باسل)‪ ،‬أنا مذهولة! أشعر أنّني كنت‬
‫رشحت‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫تفعل هريمني بك هذا؟!”‪.‬‬ ‫ً‬
‫مدهوشا‪“ :‬كيف‬ ‫يف كابوس”‪ .‬سأهلا‬
‫ٍ‬
‫بطريقة ال‬ ‫ً‬
‫مذهول ومصدو ًما‬ ‫بكلامت واهنة حقيق َة ما حدث وهو يستمع‬
‫قص ْته‬
‫صوتا أكثر وهي تعقب عىل ما ّ‬‫ُ‬ ‫تقل عن صدمته الختطافها‪َ .‬و ِهن‬ ‫ّ‬
‫حان‪:‬‬ ‫َ‬
‫إكامل ُجلة دون أن تأخذ ن َف َسها‪ ،‬قال بصوت ٍ‬ ‫عليه‪ ،‬مل تعدْ تستطيع‬
‫َ‬
‫فأحرض هلا ماء‪،‬‬ ‫أشار ألحد الواقفني‬
‫“اسرتحيي اآلن”‪ .‬طلبت منه أن يسقيها‪َ ،‬‬
‫صدرها‪.‬‬
‫َ‬ ‫شعرت بقبضة قاسية تعترص‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫وقبل أن تكمل رشفة‬
‫يشل‬ ‫َ‬
‫التقاط أنفاسها‪ .‬كان األمل رهي ًبا ّ‬ ‫رصخت من األمل وهي حتاول‬
‫ْ‬
‫قبل أن‬ ‫ٍ‬
‫بعنف أن تلتقطها‪َ .‬‬ ‫صدرها ك ّله‪ّ ،‬‬
‫ويقيد أنفاسها التي أخذت حتاول‬
‫(ميساء)‪ -‬التي كانت تتابع حدي َثهام يف صمت‪-‬‬‫وجدت ْ‬
‫ْ‬ ‫يفعل (باسل) شيئًا‬
‫ُ‬
‫أسطوانة أكسجني صغرية وضع ْتها عىل وجهها وهي‬ ‫تقفز اجتاهها‪ ،‬ويف يدها‬
‫تقول ألحدهم أن يستدعي اإلسعاف‪ ،‬وتطلب من اجلميع املغادر َة ّ‬
‫ألن‬
‫اإلسعاف والرشطة سيصلون اآلن‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪196‬‬
‫أنفاس كافية مللء صدرها‬‫ٍ‬ ‫كانت كمريدا تتأمل‪ ،‬ومشغول ًة بمحاولة التقاط‬
‫أن هناك شيئًا غري ًبا‪ ،‬ملاذا تطلب املرأة من‬ ‫بدون جدوى‪ ،‬لك ّنها شعرت ّ‬
‫قبل جميء الرشطة‪ .‬سألت (باسل) فقال‪“ :‬اسرتحيي اآلن يا‬ ‫زمالئها املغادرة َ‬
‫حلت عليه‪ ،‬فقال‪ّ ..‬إنم من املقاومة وساعدوه يف إنقاذها‪.‬‬ ‫عزيزة القلب”‪ .‬أ ّ‬
‫أي كلمة تناسب تلك املفاجأة‪ ،‬وهي‬ ‫بقوة قبل أن تتمكن من ِ‬
‫قول ّ‬ ‫سعلت ّ‬
‫ْ‬
‫حتاول بنيَ أنفاسها العسرية أن تقتطع حلظة لل ّتفكري يف تلك املَتاهة العقلية‪..‬‬
‫تنقذها‪ ،‬وزوجها ُ‬
‫يقبل‬ ‫برش خيتطفوهنا‪ ،‬وأديتيون استأجروهم‪ ،‬ومقاومة ُ‬ ‫ٌ‬
‫مساعد َة بعض َمن حاولوا قتله من فرتة قريبة‪ ،‬وأرضية من املقاومة تضع‬
‫األكسجنيَ عىل وجهها حماولة إسعافها‪.‬‬
‫فضمها (باسل) ثانية وهو عاجز عن التفكري‪،‬‬ ‫رصخت من نوبة أمل ٍ إضافية ّ‬
‫ْ‬
‫(ميساء)‪“ :‬هل أنت طبيبة‪ ..‬هل تعرفني ما هبا؟”‪ .‬قالت ميساء‪“ :‬لست‬ ‫َ‬
‫وسأل ْ‬
‫أن زوجتك تعاين‬ ‫طبيبة ولك ّني ساعدت أ ّمي الطبيبة يف عملها كث ًريا‪ ...‬أعتقد ّ‬
‫(ميساء) وقالت‬‫من جلطة رئوية”‪ .‬سأهلا بوجل‪“ :‬وهل هذه خطرية؟”‪ .‬طمأنته ْ‬
‫جلطات إضافية من‬
‫ٌ‬ ‫رسيعا‪ّ ،‬‬
‫وأل تنتقل‬ ‫ً‬ ‫أن يصل الطبيب‬ ‫ِ‬
‫برشط ْ‬ ‫إن إذابتها سهلة‬
‫يفهم شيئًا لك ّنه اكتفى بمعلومة ّ‬
‫أن إذابة تلك اجللطات سهلة‪.‬‬ ‫ساقها إىل رئتها‪ .‬مل ْ‬
‫أن طول‬ ‫ٍ‬
‫دراية كاملة بخطورة احلالة‪ ،‬فهي ال تعرف ّ‬ ‫(ميساء) عىل‬
‫تكن ْ‬‫مل ْ‬
‫مدّ ة تعليق كمريدا هبذا الشكل‪ -‬وهي يف أواخر محلها واجلفاف الذي عانت‬
‫جلطات ضخمة يف ساقيها‪ ،‬وحني تنتقل تلك اجللطات‬ ‫ٍ‬ ‫منه‪ -‬كفيالن بتكوين‬
‫متطو ًرا يف إنقاذ‬
‫ّ‬ ‫فلن ُيدي ُّ‬
‫أي عالج مهام كان‬ ‫الرئوي بكمية كبرية ْ‬ ‫لرشياهنا ّ‬
‫مر ْت دقائق عىل انسداد الرشيان الرئييس‪.‬‬
‫حياهتا‪ ،‬إذا ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪197‬‬
‫وأحست ّأنا حتترض‪ ،‬مل يمر بباهلا يف‬
‫ّ‬ ‫بدأت قوى كمريدا يف ال ّتهاوي‪،‬‬‫ْ‬
‫رشيط ذكرياهتا؛ بل سيطرت عليها فكر ُة إنقاذ جنينها فقالت‬ ‫ُ‬ ‫تلك اللحظة‬
‫فاطلب منه أن‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫وصل الطبيب بعدَ مويت‬ ‫بصعوبة‪“ :‬باسل‪ِ ..‬‬
‫أنقذ طفلنا‪ ،‬لو‬
‫تأخر الطبيب”‪ .‬هنرها (باسل) ودموعه تسبق‬ ‫أخرجه أنت إذا ّ‬‫ْ‬ ‫خيرجه م ّني أو‬
‫رأسه مواف ًقا ح ّتى تصمت‬ ‫هز َ‬‫كلامته‪ ،‬فقالت‪“ :‬أرجوك يا عزيز القلب”‪ّ .‬‬
‫وتوفر أنفاسها لكنها مل تسكت‪ ،‬وقالت‪“ :‬أنت احلقيقة الوحيدة يف حيايت‪..‬‬
‫كل يشء زائف ّإل أنت” أخذت‬ ‫وحبك وجنينُنا‪ّ ..‬‬‫أنت ّ‬ ‫حيايت ك ّلها زيف ّإل َ‬
‫كل يشء زائف إال أنت”‪ ..‬ح ّتى انقطع آخر نفس هلا‪.‬‬ ‫تر ّدد بصوت خفيض” ّ‬

‫ثم بركت فوقها‬ ‫وفردت جسدَ كمريدا عىل األرض ّ‬


‫ْ‬ ‫(ميساء) بقوة‬
‫دفع ْته ْ‬
‫استمرت عدة دقائق ح ّتى وصل الطبيب الذي حاول‬ ‫ّ‬ ‫حماول ًة إنعاش قلبها‪.‬‬
‫لكن صوت‬ ‫إنعاشها بدون جدوى‪ ،‬فنظر لباسل وقال‪“ :‬لقد ماتت‪ّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫بدوره‬
‫فتح‬
‫مسموعا”‪ ،‬قال باسل‪“ :‬أخرجه‪ ...‬هذه رغبتها”‪َ .‬‬
‫ً‬ ‫قلب اجلنني ال ُ‬
‫يزال‬
‫وأشار إىل مساعدته فعاونته يف كشف بطنِها‪ ،‬وبدأ‬
‫َ‬ ‫الطبيب حقيبة إضافية‬
‫وجهه بني ك ّفيه‪ ،‬وقد‬
‫يف إخراج اجلنني و(باسل) جالس عىل األرض دافنًا َ‬
‫غادرت ميساء‪.‬‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪198‬‬
‫الرابع‬
‫القسم ّ‬
‫ُ‬
‫عملية برُ َّمانا‬
‫ّ‬
‫وظننت أنّني أدركت عمقها‪ ،‬وجدتني‬
‫ُ‬ ‫سطح الحياة‬
‫َ‬ ‫“ك ّلما خدشت‬
‫سطحية أخرى‪ ،‬لم أدرك بعدُ ما يختبئ تحت تلك‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫طبقة‬ ‫أتخبط في‬
‫مازلت ّ‬
‫ُ‬
‫األسطح”‬
‫باسل الشعراين‬
‫‪29‬‬
‫كل كف”‪ .‬كلامت‬ ‫الدم يف ّ‬
‫يد َمن صافحوك وال تبرص َ‬ ‫تنظر يف ِ‬
‫“كيف ُ‬
‫أمل دنقل التي كان والدُ (باسل) ير ّددها دو ًما عىل أذنيه ك ّلام جاء ٌ‬
‫خرب عن‬
‫ريا‪ ،‬ويقول له‬
‫عريب يدعو لل ّتطبيع مع إرسائيل‪ .‬كان ير ّدد الكلمة عىل أذنه كث ً‬
‫عدو بالدهم‬
‫تدرس للتالميذ ح ّتى ال ينسوا َمن ُّ‬ ‫إن تلك القصيدة ينبغي أن َّ‬ ‫ّ‬
‫لنفسه بعدَ مقتل زوجته؛ يسأل نفسه‪ ،‬كيف ُ‬
‫ينظر‬ ‫احلقيقي‪ .‬اليوم صار يرددها ِ‬
‫وهو‬
‫وكرموا ذكرى زوجته َ‬
‫كرموه ّ‬
‫عزوه و َمن ّ‬
‫يف يد َمن صافحوه ويف عني َمن ّ‬
‫مجيعا‪.‬‬
‫أن دمها يلطخهم ً‬‫يعلم ّ‬
‫دموعها الغزيرة وهي تودع جثامهنا‬‫َ‬ ‫حرضت هريمني‪ ،‬ورأى‬
‫ْ‬ ‫يوم جنازهتا‬
‫هاتي العينني ح ّتى يكون لبكائها معنى‪ .‬كان والدُ‬ ‫قبل حرقه‪ ،‬ومت ّنى لو فقأ ْ‬‫َ‬
‫كاهن مراسم توديع روحها التي يقومون فيها‬ ‫َ‬ ‫حارضا‪ ،‬كان هو‬‫ً‬ ‫كمريدا‬
‫رخامية يعلوها أعمد ٌة معدنية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بتسجية جثامهنا باألغصان اجلا ّفة عىل طاولة‬
‫خارج كومة األغصان‬‫َ‬ ‫الظاهر من اجلثامن‬
‫َ‬ ‫يكون ّ‬
‫كف اليد هو اجلز َء الوحيد‬
‫كل‬‫يمر ّ‬
‫قفازا مز ّينًا من ذلك القامش املصنوع يف كوكبهم‪ّ .‬‬ ‫اجلافة وقد ألبسوه ً‬
‫ويتوجه‬
‫ّ‬ ‫يقبل ركبته‪،‬‬
‫ثم ّ‬
‫شخص من املودعني فيأبن امليت بني يدي الكاهن‪ّ ،‬‬
‫يمسح خدّ ه يف ّ‬
‫كف امليت املغطاة بالقفاز‬ ‫ُ‬ ‫ثم‬
‫للجثامن فيهمس أمامه بصالة ما ّ‬
‫ويقوم‪.‬‬
‫الروح يف يد كمريدا حني كانت هريمني تتمسح فيها‬
‫ُ‬ ‫تدب‬
‫كان يتم ّنى أن َّ‬
‫ُ‬
‫وترصخ قائلة‪ ..‬هذه قاتلتي‪ .‬حني جاءت تعزيه قالت له‪:‬‬ ‫ُ‬
‫فتقبض عىل وجهها‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪201‬‬
‫“كمريدا كانت شقيقتي‪ ،‬وطفلها ولدي‪ ،‬وإذا شئت أن أتب ّناه فسيكون‪،”...‬‬
‫هدف يف احلياة غري تربية عالء‪ ،‬واالنتقام ِمن‬ ‫قاطعها بحدّ ة ً‬
‫قائل‪“ :‬مل يعدْ يل ٌ‬
‫النظر يف عينيه وهي تقول‪:‬‬
‫َ‬ ‫وعينيها ال ّل ْتي حتاشتا‬
‫ْ‬ ‫اضطرابا‬
‫َ‬ ‫قاتيل أمه”‪ .‬الحظ‬
‫ري ذلك”‪.‬‬ ‫“ال يمكن أن أتو ّقع منك غ َ‬
‫يقدر عىل االنتقام من‬ ‫َ‬ ‫األمر بر ّمته؛ لن‬
‫َ‬ ‫تراوده نفسه أن ينسى‬
‫ُ‬ ‫أحيا ًنا‬
‫ُ‬
‫الوصول إليه‪ .‬أحيا ًنا‬ ‫وهو القاتل الفعيل الذي يستحيل عليه‬‫هريمني وأخيها َ‬
‫َ‬
‫املستحيل ح ّتى يصل‬ ‫يرسم خطة طويلة األمد؛ يفعل‬ ‫َ‬ ‫يقول إنه يمكن أن‬
‫خارج عن القانون يف‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬
‫األقل من أناندار‪ ،‬فهو‬ ‫ملنصب يؤهله النتقامه عىل‬‫ٍ‬
‫ليذكر نفسه أنه أريض‪،‬‬ ‫يعود ّ‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫أغلب األديتيني الذين حتدث معهم ّ‬ ‫ِ‬ ‫رأي‬
‫يفكر يف ابنه‬‫وأن له سق ًفا حمدو ًدا يف املناصب ال يمكن أن يتعدّ اه‪ ،‬عندها ّ‬ ‫ّ‬
‫ألي منصب‪ ،‬ح ّتى‬ ‫ممي ًزا له احلقوق يف الوصول ّ‬ ‫أديتيا ّ‬
‫اهلجني الذي سيكون ًّ‬
‫ثم ّ‬
‫يتذكر‬ ‫ثم‪ّ ...‬‬
‫منصب احلاكم األول‪ ،‬ويقول إنّه س ُي ْعلمه َمن ُهم قتلة أ ّمه‪ّ ،‬‬
‫يؤهله لألخذ‬ ‫ٍ‬
‫ملنصب ّ‬ ‫أن قتلة زوجته يف الغالب سيموتون َ‬
‫قبل أن يصل ابنه‬ ‫ّ‬
‫بالثأر‪.‬‬
‫كل تلك األفكار والغضب ملقتل زوجته والتخطيط الفانتازي‬ ‫أن ّ‬‫ري ّ‬
‫غ َ‬
‫محم من نوع آخر‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫أبخرة بركانية ختفي أسف َلها ً‬ ‫لالنتقام هلا‪ ،‬ليس ّإل ّ‬
‫جمرد‬
‫يشك يف ّ‬
‫أن قراره باالنحياز‬ ‫وقلب ُمطمئن‪ ،‬وال ّ‬ ‫ٌ‬ ‫كان قبل احلادثة لد ْيه يقنيٌ‬
‫الغزاة تشوبه شائبة‪ .‬ذلك اليقنيُ اهتز‪ ،‬تلك الطمأنينة‬‫إىل املحتلني وخدمة ُ‬
‫َ‬
‫الربكان‬ ‫ألن ذلك يعني ّ‬
‫أن‬ ‫جتنب ال ّتفكري ّ‬
‫حياول َ‬‫ُ‬ ‫تبخرت من قلبه‪ ،‬وقد كان‬ ‫ّ‬
‫كل ما يتكئ عليه للبقاء ً‬
‫عاقل‪.‬‬ ‫داخله سيلتهم ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪202‬‬
‫يركز تفكريه باالنتقام من هريمني وأناندار‪ ،‬حني يلعنهام يف اليوم‬ ‫حنيَ ّ‬
‫صخب تلك اللعنات عىل األصوات يف داخله‬ ‫َ‬ ‫يغطي‬‫أن ّ‬‫مرة‪ ،‬فإنه يريدُ ْ‬
‫ألف ّ‬
‫عيب نظام بأكمله‪ّ ،‬‬
‫وإن َمن حيكمون النياندرتال ال‬ ‫العيب ُ‬
‫َ‬ ‫التي تقول ّ‬
‫إن‬
‫قدره أن‬
‫كأن َ‬‫غياهب السجون‪ّ ،‬‬‫ِ‬ ‫عمن ظلموا أباه وتركوه يموت يف‬ ‫خيتلفون ّ‬
‫حيب دو ًما عىل يد نظام ظامل أ ًّيا يكون‪.‬‬
‫يفقد َمن ّ‬
‫استأذنت مر ّبية ابنه للذهاب ح ّتى املساء‬
‫ْ‬ ‫يف صباح اليوم األخري إلجازته‪،‬‬
‫أذن هلا باالنرصاف وهو يتم ّنى ّأل تعود ويستبدهلا‬ ‫َ‬
‫لتأخذ راحتها األسبوعية‪َ .‬‬
‫بامرأة مرص ّية‪ .‬كان النظام املت َبع إذا ماتت ّأم طفلٍ هجني‪ ،‬أن ُتعني له امرأة‬
‫األب األريض وحده‬ ‫فهم ال يأمتنون َ‬ ‫أديتية تكون مرضع ًة ومر ّبية يف ٍ‬
‫آن واحد؛ ُ‬
‫األم يف عامه األول‪،‬‬ ‫صغارهم غري صدر ّ‬ ‫َ‬ ‫ألنم ال يطعمون‬ ‫عىل تربية الطفل ّ‬
‫أن يغرسوا يف الطفل ِمن صغره االنتام َء ألديتيا وتربيته ناط ًقا‬ ‫وألنم يريدون ْ‬
‫ّ‬
‫بلغتها‪.‬‬
‫الطفل الذي كان هادئًا يف مهده‪ ،‬تأمله وهو حياول أن‬ ‫َ‬ ‫جلس يداعب‬‫َ‬
‫يقسم مالحمَه إىل مالمح ور َثها منه وأخرى ور َثها من أمه دون فائدة‪ ،‬كان‬
‫سبابته‬
‫حيرك ّ‬‫لنقل كان ابنه وهذا يكفي‪ .‬أخذ ّ‬ ‫مجيل وهذا يكفي‪ ،‬أو ْ‬‫الطفل ً‬
‫عىل قبضة الصغري ْ‬
‫املضمومة وهو يقول‪“ :‬د ّبرين يا عالء ماذا أفعل؟ أنا يف‬
‫أعود إىل عميل غدً ا‪ ...‬ما رأيك لو اعتزلت؟”‪ .‬انفتحت‬
‫دوامة ال أعرف كيف ُ‬
‫فابتسم وهو يقول‪“ :‬إ ًذا توافقني؟!”‪.‬‬
‫َ‬ ‫سبابته‬ ‫ُّ‬
‫كف الصغري وأطبقت عىل ّ‬
‫جهاز االتصال الداخيل رنينًا‪ ،‬فقال بصوت عال‪“ :‬ماذا تريد”‬‫ُ‬ ‫أصدر‬
‫َ‬
‫لكن جهاز (باسل)‬
‫الرد الداخيل يف العادة ُمربجمًا عىل كلمة نعم‪ّ ،‬‬
‫كان جهاز ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪203‬‬
‫الوحيد هو ا ُملربمج عىل كلمة “ماذا تريد؟”‪ ،‬التي كانت تثري حفيظ َة حارس‬
‫ري مهندسني برشكة سيارات شهرية‪“ .‬الكبري‬ ‫األمن الذي كان فيام مىض كب َ‬
‫واجب‬
‫َ‬ ‫وإنا أتت لتقدم‬
‫البوابة تقول ّإنا عمتك‪ّ ،‬‬ ‫(باسل) هناك امرأة عند ّ‬
‫زرا‪ ،‬فتح شاش ًة تعرض له‬ ‫ُ‬
‫يضغط ًّ‬ ‫العزاء”‪ .‬عقد (باسل) حاجبيه وهو‬
‫ومتعن فيها‬
‫كب الصورة ّ‬ ‫وجها غري ًبا عليه‪ّ ،‬‬
‫عمته؛ كان ً‬ ‫وجه ّ‬‫وجهها‪ ،‬مل يكن ْ‬
‫ثم قال‪“ :‬آه‪ ..‬عمتي والء‪..‬‬ ‫أكثر‪ ،‬عيناها فقط مألوفتان جدًّ ا‪ .‬صمت ثانية ّ‬
‫ثم أغلق الصورة‪.‬‬‫دعها تصعد”‪ّ .‬‬‫ْ‬
‫حارس األمن فرصفه وقال‬‫ُ‬ ‫ِ‬
‫ظهرت املرأة وجوارها‬ ‫فتح الباب‪ ،‬انتظر ح ّتى‬
‫َ‬
‫يفسح هلا لتدخل إىل غرفة استقبال الضيوف وقد عرف‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫“تفضيل”‪ .‬وهو‬ ‫هلا‪:‬‬
‫ُ‬
‫جهاز االتصال الداخيل ثانية‪ ،‬ور ّد احلارس‬ ‫رن‬ ‫(ميساء)‪َ .‬‬
‫قبل أن يتكلم ّ‬ ‫أهنا ْ‬
‫(ميساء) بام معناه ْ‬
‫أن‬ ‫ضيف آخر يا سيدي” أشارت له ْ‬ ‫ٌ‬ ‫الثاين ً‬
‫قائل‪“ :‬هناك‬
‫يلوح بذراعه ويقول للحارس‪:‬‬ ‫بغيظ وهو ّ‬‫يسمح له بالصعود‪ .‬حدّ ق فيها ٍ‬
‫اسمه‬
‫“رجل أديتي‪ ،‬اسمه السيد كرنـ‪ ..‬كنر‪ُ ..‬‬ ‫ٌ‬ ‫“ َمن؟”‪ .‬فأجاب احلارس‬
‫دعه يصعد”‪.‬‬ ‫صعب يا سيدي”‪ .‬ر ّد عليه بلهجة املتفهم “نعم نعم‪ ..‬أعرفه‪ْ ،‬‬ ‫ٌ‬
‫جلس ُقبالتهام وهو يتحدّ ث غاض ًبا‪“ :‬لقد قلت لكام إنّنا سنفرتق بعد‬ ‫َ‬
‫(ميساء)‬
‫إنقاذ زوجتي‪ ،‬وإنّني سأقبض عىل َمن أصادفه منكم”‪ .‬ر ّدت عليه ْ‬
‫أن عرفت َمن وراء قتل زوجتك”‪.‬‬ ‫أن الوضع اختلف بعد ْ‬ ‫متحدية‪“ :‬أعتقد ّ‬
‫َ‬
‫يتهاون يف‬ ‫املستجدات فهو لن‬
‫ُ‬ ‫فمهام كانت‬
‫تغي‪ْ ،‬‬ ‫ر ّد عليها ناف ًيا أن الوضع ّ‬
‫وأخطاء أفراد من النخبة ال يعني ّ‬
‫أن النظام بر ّمته فاسد‪“ ..‬لقد وافقت‬ ‫ُ‬ ‫عمله‪،‬‬
‫ِ‬
‫حاولت إنعاش زوجته‪.‬‬ ‫ممتن ملخاطرتك حنيَ‬
‫عىل مقابلتك فقط ألنّه ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪204‬‬
‫قائل بصوت هادئ‪“ :‬العزيز (باسل)‪ ،‬اسمي ماندريك‬ ‫تدخل األديتي ً‬ ‫ّ‬
‫شخصيا‪ ،‬وأعلم ّأنا‬
‫ًّ‬ ‫أندام‪ ،‬من ِ‬
‫قادة املقاومة األديتية‪ ،‬أنا أعرف هريمني‬
‫مصلحتها”‪ .‬أكملت ميساء‪:‬‬ ‫بأقرب الناس هلا ألجل ْ‬‫ِ‬ ‫قادرة عىل التضحية‬
‫حتب زوجتك‪ ،‬وألنّنا نعرف أص َلك الطيب‪،‬‬ ‫“نحن هنا ألننا نعرف كم كنت ّ‬ ‫ُ‬
‫ريا عن أبيك وكم كان ُمعج ًبا به وبوطنيته”‪.‬‬
‫أيب حدّ ثني كث ً‬
‫صوت بكاء طفله‪ ،‬فقام ليحمله من مهده‬
‫ُ‬ ‫لكن قاطعه‬
‫هم بالرد عليها‪ْ ،‬‬
‫ّ‬
‫يسمع منهم‪ ،‬فقد يكون لدهيم ما يقولونه‪.‬‬
‫َ‬ ‫ري يف أن‬ ‫وهو ُ‬
‫يقول لنفسه ما الض ُ‬
‫ٍ‬
‫منصب رفيع‬ ‫خاص‪ ،‬يرسلون ماندريك وهو يف‬ ‫ّ‬ ‫إهنم مهتمون به بشكلٍ‬
‫ومعه تلك الفتاة التي حتدّ ثه عن أبيه ومتدح وطنيته‪.‬‬
‫بينهم‪ ،‬ويعرف هريمني‪َ ،‬‬
‫يغي من‬ ‫أخذ هيدهد الطفل الذي بدأ هيدأ وهو يقول لنفسه ّ‬
‫إن اهتاممهم به ال ّ‬ ‫َ‬
‫شخص يف مثل موقعه ليكون‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫بتجنيد‬ ‫األمر شيئًا‪ِ ،‬‬
‫فمن الطبيعي أن هيتموا‬
‫جمر َد عميل هلم‪.‬‬
‫ّ‬
‫“أشكر لكام الزيارة‪ ،‬وأعتذر منكام‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫والطفل عىل ذراعه وقال‪:‬‬ ‫َ‬
‫دخل عليهام‬
‫ألنّني أريد قضا َء الوقت مع طفيل”‪ .‬ر ّد عليه ماندريك‪“ :‬أال تريد معرفة‬
‫وهز رأسه‬
‫مط (باسل) شفتيه ّ‬ ‫السبب الذي جعلنا نخاطر باحلضو ِر لك؟”‪ّ .‬‬
‫تثأر لزوجتك يا رجل؟”‪ .‬اتّسعت‬ ‫ناف ًيا بشدة‪ ،‬فقال ماندريك‪“ :‬أال تريد أن َ‬
‫وجهه‪ ،‬وبدا أنه سريفع صوته ُمتدًّ ا‪ ،‬لك ّنه ثانية ّ‬
‫هز‬ ‫ُ‬ ‫وامحر‬
‫ّ‬ ‫عيناه يف غضب‬
‫رأسه ناف ًيا دون أن يتكلم‪.‬‬
‫(ميساء)‪“ :‬ما نوعية السائلِ الذي جيري يف عروقك ّ‬
‫بالضبط؟!”‪ .‬نظر‬ ‫قالت ْ‬
‫إليها وأطلقَ ضحكة عصبية ُمصطنعة وقال‪ٌ :‬‬
‫“دم يا سيديت دم‪ ..‬ها قد أجبت‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪205‬‬
‫املهم‪ ..‬اعذريني فقد َ‬
‫حان موعدُ إطعام عالء”‪ .‬قاهلا وهو يشري هلام‬ ‫سؤالك ّ‬
‫بدأت‬
‫ْ‬ ‫سمى الصغري عىل اسم والده‪،‬‬‫ميساء‪ ،‬التي فهمت أنّه ّ‬‫باخلروج‪ ،‬لكن ْ‬
‫وكيف وقف يف وجه ّ‬
‫كل َمن‬ ‫َ‬ ‫تتحدّ ث عن صاحب االسم‪ ،‬وكيف كان ً‬
‫رجل‬
‫ِ‬
‫برتبية ابنه ويكتب يف مواضيع‬ ‫حاولوا إقناعه باخلنوع و َمن نصحوه بأن يكتفي‬
‫حيا؛ لذهب‬
‫جتلب عليه املصائب ومل هيتم‪“ ،‬لو كان األستاذ عالء ًّ‬
‫أخرى ال ُ‬
‫ألم حفيده”‪.‬‬
‫بنفسه لينتقم ّ‬
‫وترا يف داخله حياول دو ًما أن يكتم نغمه‪.‬‬
‫كالمها ً‬
‫ملس ُ‬ ‫زفر يف ضيق وقد َ‬
‫َ‬
‫إن كان أبوه سريىض عن منهجه يف احلياة أم‬ ‫كان ح ّتى َ‬
‫قبل مقتل كمريدا يسأل ْ‬
‫ري راضية عن‬ ‫روح أبيه غ ُ‬
‫يرجح أن َ‬ ‫حتيه‪ ،‬كان ّ‬ ‫ُ‬
‫اإلجابة ّ‬ ‫ربأ منه‪ ،‬كانت‬
‫كان سيت ّ‬
‫لتفهم ما يفعل؛‬
‫دوافعه ّ‬
‫َ‬ ‫مع الغزاة‪ ،‬لكنه أحيا ًنا ّ‬
‫يؤكد أنّه لو رشح ألبيه‬ ‫عمله َ‬
‫ثم‬ ‫لبس فيها‪ .‬ق ّلب َ‬
‫نظره بينهام ّ‬ ‫ُ‬
‫اإلجابة واضحة متا ًما ال َ‬ ‫َ‬
‫حدث‬ ‫اآلن وبعد ما‬
‫جلس وهو يسأل‪“ :‬ماذا تريدون مني بالضبط؟”‪.‬‬

‫“نريد مساعد َتك يف االنتقام لزوجتك من هريمني وشقيقها” قال‬


‫ماندريك‪ .‬فر ّد عليه (باسل)‪“ :‬حسنًا أنا أوافق‪ ...‬قو َما باغتيال تلك العقربة‬
‫ري بيده ناف ًيا ّنية القتل‬
‫وأخيها ولكم الشكر م ّني”‪ .‬ضحك ماندريك وهو يش ُ‬
‫َ‬
‫اختطاف هريمني وحماكمتها يف حمكمة أديتية ُينشئها‬ ‫ثم قال‪“ :‬نحن نريد‬
‫ّ‬
‫ُ‬
‫يكمل ما مل يق ْله ماندريك وهو ّأنم‬ ‫ً‬
‫متفهم وهو‬ ‫هز (باسل) رأسه‬
‫الثوار”‪ّ .‬‬
‫ِ‬
‫والوقت األنسب الختطافها‪،‬‬ ‫َ‬
‫تفاصيل أكثر عن حراسة هريمني‬ ‫يريدون‬
‫ضمن موظفي قسمها‪.‬‬
‫َ‬ ‫خاصة بعد القبض عىل اثنني من عمالء الثوار‬
‫ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪206‬‬
‫هز ماندريك رأسه مواف ًقا‪ ،‬فنظر (باسل) إىل عالء الذي نام عىل ذراعه‬ ‫ّ‬
‫َ‬
‫وقال كأنّه يسأله‪“ :‬ما رأيك يا أستاذ عالء؟”‪ .‬أمال أذ َنه عىل وجه الصغري‬
‫ً‬
‫باسم وقال‪“ :‬عالء يريدُ الثأر أل ّمه وليس‬ ‫ثم رفع رأسه‬ ‫متثيلية‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫بحركة‬
‫ِ‬
‫املزيد من األنصار‪ ..‬يريد قتل هريمني‬ ‫ضم‬
‫دعائيا يتيح لكم ّ‬
‫ًّ‬ ‫نرصا‬
‫إعطاءكم ً‬
‫وأنانـ‪.“ ...‬‬
‫قاطعه ماندريك وهو يضحك ً‬
‫قائل‪“ :‬ك ّنا ندرس علو ًما عن سلوكيات‬ ‫َ‬
‫مذكورا أنّكم ختلطون‬
‫ً‬ ‫البرش الذين يعيشون يف مناطق أسالفنا كام يقال‪ ،‬وكان‬
‫حرجا‪ ..‬مل أفهم هذا السلوك العجيب‬
‫ً‬ ‫اجلد باملزاح ح ّتى يف أشدّ اللحظات‬
‫إال اآلن”‪.‬‬
‫نظر له (باسل) بضيق وهو يقول‪“ :‬اجلدّ هو أنني لست أداة تستغلوهنا‬ ‫َ‬
‫(ميساء) بتحدٍّ ‪ّ ،‬‬
‫ثم نظر إليه ثانية‬ ‫ونظر إىل ْ‬
‫َ‬ ‫ألغراضكم السياسية” قاهلا‬
‫“سوف أتفاوض معك‪ ..‬ساعدين يف قتلِ أناندار وأنا أساعدك يف‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫مكمل‪:‬‬
‫ثم نظر إليه كأنّه حياول أن يقرأ‬ ‫صمت ماندريك ّ‬
‫مفك ًرا ّ‬ ‫َ‬ ‫خطف هريمني”‪.‬‬
‫أفكاره‪ .‬فقال (باسل)‪“ :‬ماذا قلت؟”‪.‬‬
‫ثم قال‪“ :‬حسنًا‪ ،‬ولكن‬
‫(ميساء) ّ‬ ‫ِ‬
‫النظرات مع ْ‬ ‫َ‬
‫تبادل ماندريك‬
‫رسميا‬
‫ًّ‬ ‫تنضم‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫وقت واحد”‪ .‬أكملت ميساء‪“ :‬وأن‬ ‫نقوم بالعمليتني يف‬
‫للمقاومة”‪.‬‬
‫مهده برفق وهو يفكر‬ ‫ووضع (عالء) يف ِ‬
‫َ‬ ‫أدار ظهره هلام‬
‫صمت (باسل)‪َ ،‬‬‫َ‬
‫ُ‬
‫فسيحكم عىل الصغري أن يعيش مطار ًدا معه‪ ،‬ولك ّنه يف‬ ‫أنّه لو فعل ذلك‬
‫وليس عىل ِ‬
‫يد مر ّبية غريبة‪ .‬عاد هلام وقال‪:‬‬ ‫َ‬ ‫سيتم تربيته عىل يده‬
‫ّ‬ ‫الوقت نفسه‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪207‬‬
‫أن يصدر‬ ‫“آخر كالم عندي‪ ..‬أوافق عىل االنضامم للمقاومة عىل رشط ْ‬
‫مع احلكومة األديتية‪ْ ،‬‬
‫وأن تساعدوين يف قتل أناندار‬ ‫عفو رسمي عن عميل َ‬‫ٌ‬
‫نظره مليساء وهو‬
‫وجه َ‬ ‫يف الوقت ِ‬
‫نفسه الذي ختتطفون فيه هريمني‪ ،‬و‪ّ ”...‬‬
‫نظر ماندريك هلا‬
‫ميساء)‪َ .‬‬‫يقول‪“ :‬ما اسمك؟” قالت دون أن تفكر (اسمي ْ‬
‫مستغر ًبا ّأنا أعطته اسمها هبذه السهولة قبل أن يضيف (باسل) ْ‬
‫“وأن تشرتك‬
‫(ميساء)‪ -‬أو أنت‪ -‬معي يف عملية قتل أناندار”‪.‬‬
‫ْ‬
‫ر ّد عليه ماندريك ّ‬
‫بأن مسألة العفو تلك ليست بيده‪ ،‬وأنّه ال بدّ أن يشارك‬
‫(ميساء) معه يف قتل أناندار فهو ٌ‬
‫رشط‬ ‫ِ‬
‫خطف هريمني بنفسه‪ ،‬وأ ّما اشرتاك ْ‬ ‫يف‬
‫خاصة أهنا‬
‫بعمليات يأيت من خالل رؤسائهم‪ّ ،‬‬‫ٍ‬ ‫صعب ّ‬
‫ألن تكليف املقاومني‬
‫ُ‬
‫حتقيقه‪،‬‬ ‫الرشط بالذات يمكن‬‫ُ‬ ‫تتبع للحكومة املرصية‪ ،‬فقالت ميساء‪“ :‬هذا‬
‫فقاديت يثقون بقدريت عىل تقييم املوقف‪ ،‬وأنا أرى أنّه من العدل لك ْ‬
‫أن‬
‫أشارك معك يف عملٍ أنا من َ‬
‫أقنعك به”‪.‬‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪208‬‬
‫‪30‬‬
‫ً‬
‫متثاقل وهو يفكر يف اليوم الطويل الذي ينتظره‪.‬‬ ‫قام (سمري) من نومه‬
‫َ‬
‫مقراهتم يف منشية نارص بعد أن أصدر‬‫األوامر هلم بإخالء ّ‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫صدرت‬ ‫منذ يومني‬
‫ثم‬ ‫ِ‬
‫بإخالء هذه املنطقة عىل مراحل تبدأ غدً ا بإخالء الدويقة ّ‬ ‫قرارا‬
‫النياندرتال ً‬
‫اإلدانات الدولية إلخالء منطقة‬
‫ُ‬ ‫تستمر جنو ًبا بعدَ ذلك عىل مراحل‪ .‬كانت‬‫ّ‬
‫هبذا احلجم يقطنها ما ُيقارب النصف مليون إنسان؛ تتواىل‪ ،‬لك ّنها كانت‬
‫مجيعها جعجع ًة بال طحني ال ُتسمن وال تغني من جوع‪.‬‬
‫الشقي الذي يقع جوار صخرة‬ ‫املقر ّ‬
‫يذهب إىل ّ‬
‫َ‬ ‫كان من املفرتض أن‬
‫ٍ‬
‫حادثة ال ُتنسى منذ ما‬ ‫دهست عرشات املرصيني يف‬ ‫ْ‬ ‫الدّ ويقة الشهرية التي‬
‫آالت اتّصال وأجهزة وأسلحة وعدة‬‫ِ‬ ‫املقر حيوي‬
‫نصف قرن‪ .‬كان ّ‬ ‫ِ‬ ‫يقارب‬
‫كل يشء باالشرتاك مع جمموعة من‬‫جيهز ّ‬‫دراجات طائرة‪ .‬وكانت وظيف ُته أن ّ‬
‫الفنيني إلخراجها َ‬
‫دون أن يثري الشكوك‪.‬‬ ‫ّ‬
‫(ميساء)‬ ‫يشعر ّ‬
‫بالضيق الشديد من ْ‬ ‫ُ‬ ‫صباحا وهو‬
‫ً‬ ‫املقر يف السابعة‬
‫وصل إىل ّ‬ ‫َ‬
‫وحتججت‬ ‫يقوم هبذه املهمة وحدَ ه دون أن يرافقه (ضياء)‪ّ ،‬‬
‫أرصت عىل أن َ‬ ‫التي ّ‬
‫َ‬
‫االنفصال عنه‬ ‫مجيعا يف إخالء املقر الرئييس‪ .‬منذ أن قررت‬
‫بأهنم سيتعاونون ً‬
‫غيظه أكثر من قرار االنفصال نفسه‪ ،‬وكا َد‬‫بصلف شديد يثري َ‬ ‫ٍ‬ ‫وهي تعامله‬
‫يمس رجولتَه بشكل ما‪ .‬مل‬
‫بأن ذلك ّ‬ ‫مرة للمقدم (إياد) لك ّنه شعر ّ‬ ‫يشْ كوها ّ‬
‫ويتغزل فيها‪ ،‬وما‬
‫ّ‬ ‫العذر يف البداية‪ ،‬فام الغريب يف أن يك ّلم زوجته‬
‫َ‬ ‫يلتمس هلا‬
‫تتنصت عليه‪ .‬هل كانت تتوقع أنه‬
‫(ميساء) ليتيح هلا أن ّ‬
‫احلق الذي ارتضته ْ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪209‬‬
‫واملتحملة عبء أرسته‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يتكلم مع زوجته بشكلٍ رسمي ً‬
‫مثل؛ ّإنا ّأم أوالده‬
‫أحب (ميساء) فال يعني ذلك أنّه نيس زوجته‪ ،‬أو أنه سيتعامل‬ ‫وإن كان قل ُبه ّ‬
‫كأنا ُ‬
‫سقط املتاع إرضا ًء لغرور ابنة املدينة‪.‬‬ ‫معها ّ‬
‫املقر الذي يقع حتت األرض‬ ‫ِ‬
‫حمتويات ّ‬ ‫َ‬
‫جيهزون‬ ‫َ‬
‫وسط ال ّتقنيني‬ ‫كان واق ًفا‬
‫خمتلطا برصاخ نساء وصخب رجال وبكاء أطفال‪.‬‬ ‫ً‬ ‫حنيَ سمعوا صو ًتا هدّ ًارا‬
‫الصغرية‬
‫ثم خرج من البوابة ّ‬ ‫السلم الذي ُيفيض إىل الدور األريض ّ‬ ‫صعدَ ّ‬
‫متفرع من شارع أوسع‪ .‬رأى جمموعة من ال ّناس‬ ‫يطل عىل ٍ‬
‫زقاق ّ‬ ‫للبيت الذي ّ‬
‫تسري‪ ،‬وطائرات دقيق ًة حتوم فوقهم ّ‬
‫وكأنا تقودهم يف االجتاه الذي يؤدي إىل‬
‫خارج املنطقة‪.‬‬
‫وصل إىل الشارع ورأى عىل مرمى برصه مركب ًة ضخمة خترج منها‬ ‫َ‬
‫ّ‬
‫األقل‪ ،‬وقد التصقت‬ ‫ربع مرت عىل‬
‫قطر الواحد منها ُ‬ ‫معدنية‪ُ ،‬‬
‫ّ‬ ‫خراطيم‬
‫ُ‬
‫تذكر ذلك املشهدَ حني كانت‬ ‫اخلراطيم بقاعدة ٍ‬
‫بيت أمامها يف عدّ ة نقاط‪ّ .‬‬
‫هناك آالت مشاهبة يف قريتِه من عرش سنوات‪ ،‬تلصق اآللة زوائدها يف قاعدة‬
‫مبتل‪ ،‬وتثري الرعب يف‬ ‫ُ‬
‫فتجعل البيت يرتعدُ كفرخ ّ‬ ‫البيت‪ ،‬وتبدأ يف االهتزاز‬
‫خارج البيت ليجدوا يف انتظارهم‬
‫َ‬ ‫قلوب ساكنيه‪ ،‬وجتعلهم هيرعون فزعنيَ‬
‫أربع طائرات دقيقة تأمرهم بالسري خلف واحدة منها‪ ،‬بينام البقية يقودون‬ ‫َ‬
‫املوكب بعيدً ا عن البيت‪.‬‬
‫َ‬
‫يوم أن وقف أمام الطائرة راج ًيا إ ّياها (أو من يوجهها) أن تعطيه‬
‫تذكر َ‬‫ّ‬
‫رد الطائرة أن أطلقت عليها‬ ‫َ‬
‫ويأخذ بعض املالبس لبناته‪ ،‬وكان ُّ‬ ‫فرص ًة ليعود‬
‫ونرش أملًا حار ًقا يف أرجاء جسده‬
‫َ‬ ‫انغرس يف رقبته أسقطه ً‬
‫أرضا‬ ‫َ‬ ‫ريا‬
‫سهم صغ ً‬‫ً‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪210‬‬
‫أن الوضع يف قريته أيامها كان‬ ‫أيضا‪ّ -‬‬
‫يذكر‪ً -‬‬
‫ُ‬ ‫استمر لعدّ ة دقائق‪ .‬غري أنه‬
‫ّ‬
‫أبراجا ضخمة ليسكن ُ‬
‫أهل القرية فيها‬ ‫ً‬ ‫جهزوا‬‫خمتل ًفا؛ فالغزاة وقتها كانوا قد ّ‬
‫فهم يطردون إىل العراء‪.‬‬
‫بدل من بيوهتم‪ ،‬أ ّما هؤالء املساكني ُ‬ ‫ً‬
‫يظن أنه سيحدث‬ ‫اإلخالء بتلك الطريقة‪ ،‬ولكنه كان ّ‬‫ُ‬ ‫كان يتو ّقع أن ّ‬
‫يتم‬
‫أن يغادر الناس بيوهتم قبلها طواعية ً‬
‫بدل‬ ‫وأن من املمكن ْ‬ ‫يف اليوم التايل‪ّ ،‬‬
‫اقرتب من أحد احلراس الواقفني جوار املركبة‬
‫َ‬ ‫من إيقاظهم مفزوعني هكذا‪.‬‬
‫أن هذا‬ ‫َ‬
‫مصطنع‪“ :‬سيدي‪ ..‬أمل تعلنوا ّ‬ ‫جم‬
‫بأدب ّ‬‫ٍ‬ ‫أرضيا فقال له‬
‫ًّ‬ ‫اهلادمة وكان‬
‫لكن وردت‬ ‫نظر إليه الرجل بقرف‪ ،‬وقال‪“ :‬بىل‪ْ ،‬‬ ‫اإلخالء سيبدأ غدً ا؟”‪َ .‬‬
‫سيندسون بني الناس غدً ا ّ‬
‫فقرروا التبكري”‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أن هناك خمربني‬ ‫للقادة معلومات ّ‬
‫خلعهم من بيوهتم ورم ُيهم‬‫يتم ُ‬
‫فقال للرجل‪“ :‬ولكن ما ذنب هؤالء الناس أن ّ‬
‫بيوت‬
‫يف العراء هكذا؟!”‪ .‬ضحك الرجل يف سخرية وهو يقول‪“ :‬وهل هذه ٌ‬
‫َ‬
‫فسوف نزيل هذا‬ ‫يا رجل؛ هذه مزابل‪ ...‬اذهب من أمامي اآلن وأخلِ بيتك‬
‫املربع بالكامل اليوم”‪.‬‬
‫عض (سمري) عىل أسنانه يف ٍ‬
‫غيظ شديد وهو يتمنى أن يلقن ذلك اخلائن‬ ‫ّ‬
‫نفسه يف مشكلة كربى‪.‬‬
‫درسا لن ينساه‪ ،‬لك ّنه مل يشأ أن يفعل ح ّتى ال يوقع َ‬
‫ً‬
‫سار بعيدً ا عن مكان اهلدم يف االجتاه اآلخر‪ ،‬وصادف عد َة مركبات هدم‬
‫ِ‬
‫ساوت البيوت أمامها باألرض‪.‬‬ ‫تعمل بشكل متزامن‪ ،‬ورأى اثنتني منها قد‬
‫رأسه بعنف من شدّ ة الغضب وهو يبرص أحدَ‬ ‫كان يشعر بالدّ م يتصاعد يف ِ‬
‫س الرأس خلف أرسته‬ ‫ري ّ‬
‫منك َ‬ ‫البيوت ينهار‪ ،‬ويرى رجل البيت وهو يس ُ‬
‫ثم يقف ويلتفت يف أسى نحو البيت وهو يتهاوى وتنزل من عينيه‬ ‫الكبرية‪ّ ،‬‬
‫بكمه وينظر إىل الطائرة الدقيقة التي اقرتبت منه وهي تطلق‬
‫يمسحها ّ‬
‫ُ‬ ‫دمعة‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪211‬‬
‫رضبا بك ّفه‬ ‫ً‬
‫حماول َ‬ ‫ندا ًء حتذير ًّيا حتثّه عىل امليش فيقفز الرجل يف اهلواء غاض ًبا‬
‫سهم يسقطه عىل األرض وهو يرتعد‬ ‫يف حركة يائسة فتطلق طائرة أخرى ً‬
‫ويرصخ من األمل‪.‬‬
‫ٌ‬
‫عجوز‪ -‬يبدو أهنا أ ّمه‪-‬‬ ‫رصخت زوجة الرجل وبكى األطفال‪ ،‬حاولت‬ ‫ْ‬
‫بتوسل‬
‫فأمسكت هبا الزوجة‪ ،‬وطلبت منها ّ‬ ‫ْ‬ ‫تقرتب منه رغم حتذير الطائرة‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫أن‬
‫السهم املعذب‪ .‬كان املنظر‬ ‫الرجل حني يفيق من تأثري ّ‬ ‫ُ‬ ‫أن متيض وسيلحقهم‬
‫كل املواقف التي رآها منذ الغزو‪ ،‬رغم أنّه مل‬ ‫يف عيني (سمري) أشدّ وطأة من ّ‬
‫حتمل‪ ،‬أو ّ‬
‫ألن‬ ‫ريا بام ّ‬
‫ألن نفسه ضاقت كث ً‬ ‫يكن أبشعها‪ ،‬وال يدري ملاذا‪ ،‬هل ّ‬
‫يقوم هبا اآلن‪ .‬هذا‬
‫يتحمل املزيد ويريد أن َ‬ ‫ّ‬ ‫احلرب الكربى قد اقرتبت ومل يعدْ‬
‫مهمته يف مقاومة هؤالء‬ ‫أن ّ‬‫القهر الذي أبرصه يامرس عىل تلك العائلة ذكره ّ‬
‫كل‬‫واجب عىل ّ‬‫ٌ‬ ‫مهنة يرصف من راتبها عىل أبنائه‪ ،‬وإنّام‬ ‫الغزاة ليست جمرد ٍ‬
‫يتحمل مصاعبه‪ ،‬ال ليكفل ألرسته‬ ‫ّ‬ ‫حر جيري يف عروقه دم‪ ،‬وأنه جيب أن‬ ‫ّ‬
‫كريم فحسب‪ ،‬بل لتكون حيا ُته ذات معنى‪.‬‬ ‫عيشا ً‬
‫ً‬
‫األفكار املتالطمة‪ ،‬وبدأ يفكر فيام ينبغي فعله اآلن‪ .‬صار‬
‫َ‬ ‫نفض عن نفسه‬ ‫َ‬
‫وسط تلك الفوىض وكمية احلراس ورجال‬ ‫املوقف أكثر تعقيدً ا‪ ،‬مل يعدْ بإمكانه َ‬
‫ُ‬
‫فرجة صغرية بني منزلني وضغط‬‫ٍ‬ ‫أي يشء من املقر‪ .‬توارى يف‬ ‫أن خيرج ّ‬‫األمن ْ‬
‫(ميساء) ليبلغها بالتطورات فطلبت منه‬‫عىل جها ِز االتصال يف معصمه‪ ،‬ك ّلم ْ‬
‫زفر يف ضيق وهو يغلق االتصال ويتمتم‬ ‫أن ينتظر دقيق ًة ريثام تستشري (إياد)‪َ .‬‬
‫ري قادرة عىل القيادة‪ّ ،‬‬
‫وكل ما يميزها أهنا‬ ‫بكلامت تعني ّأنا ال تفقه شيئًا‪ ،‬وغ ُ‬
‫سهلت عىل‬ ‫فميساء من وجهة نظ ِره نقطة الضعف التي ّ‬ ‫ابنة عمر عوض اهلل‪ْ ،‬‬
‫احلكومة إقناع (عمر) بالعمل لصاحلهم‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪212‬‬
‫وأحست أهنا ال تستطيع أن تأخذ‬
‫ّ‬ ‫رب بقلب ُمنقبض‪،‬‬
‫ميساء استقبلت اخل َ‬
‫ْ‬
‫تتحمل مسئولية األجهزة التي ستفقد‪ ،‬تلك‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫موقف كهذا لكي ال‬ ‫قرارا يف‬
‫ً‬
‫صحة‬
‫إضافيا عىل ّ‬
‫ًّ‬ ‫إن وجدَ ها النياندرتال فسي ّتخذوهنا ً‬
‫دليل‬ ‫األجهزة التي ْ‬
‫بمحو تلك املنطقة من عىل اخلارطة وترشيد سكاهنا‪ .‬اتّصلت عىل‬
‫قرارهم ْ‬
‫إن الوقت‬ ‫ِ‬
‫خلطاب رؤسائه‪ ،‬فقالت له‪ّ :‬‬ ‫(إياد) فطلب منها هو اآلخر فرصة‬
‫أن القرار َ‬
‫اآلن يف نطاق صالحياتك”‪.‬‬ ‫ال حيتمل االنتظار‪“ .‬سيدي‪ ،‬أنا أعلم ّ‬
‫قالت له بحزم‪ .‬فقال هلا‪“ :‬أجل‪ ،‬ولكن تلك األجهزة تساوي املاليني‪ ،‬غري‬
‫سنعرض‬
‫ّ‬ ‫مقر كهذا”‪ .‬ر ّدت برسعة‪“ :‬ولك ّننا‬
‫اخلسارة املعنو ّية من كشف ٍّ‬
‫ثم قال‪“ :‬حسنًا‪ ،‬أخربهيم أن ينسحبوا”‪.‬‬
‫الرجال للخطر”‪ .‬صمت حلظة ّ‬
‫تنهدت يف ارتياح‪ ،‬وطلبت (سمري) وأبلغته بقرار االنسحاب وبالعودة‬ ‫ّ‬
‫املقر ْين املتبقيني قبل أن حتدث‬ ‫ّ‬
‫ليتمكنوا من مساعدة الباقني يف إفراغ ّ‬ ‫رسيعا‬
‫ً‬
‫مفاجآت أخرى‪ .‬دارت يف حجرهتا يف ٍ‬
‫قلق وهي تفكر يف ما ستفعل يف األيام‬
‫ات تابعة لكتائب احلرية‪،‬‬‫ملقر ٍ‬ ‫ُ‬
‫احلال بعد انتقاهلم ّ‬ ‫القادمة وكيف سيكون‬
‫احلل الوحيد إليقاف هذا‪ ،‬كام‬ ‫ِ‬
‫املرحلة القادمة‪ّ .‬‬ ‫وعن كيفية إدارة األمور يف‬
‫ِ‬
‫اختطاف هريمني وحماكمتها‪ ،‬وإجبارها عىل‬ ‫قال ماندريك‪ ،‬هو اإلرساع يف‬
‫ِ‬
‫أصحاب‬ ‫االعرتاف بارتكاب تلك اجلريمة وقد تعرتف‪ً -‬‬
‫أيضا‪ -‬بتواطئ‬
‫ُ‬
‫إيقاف عمليات التهجري‬ ‫يتم‬
‫مناصب أعىل معها‪ .‬بتلك الطريقة يمكن أن ّ‬
‫فتقترص املشكلة فقط عىل الدويقة‪ ،‬وال متتدّ إىل بقية منشية نارص‪ ،‬ويمكن‬
‫ُ‬
‫عندها احلفاظ عىل بقية املقار‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪213‬‬
‫قبل أن تكمل خطتها”‪ .‬تذكرت‬ ‫خطف تلك اللعينة َ‬ ‫ِ‬ ‫“ال بدّ أن نرسع يف‬
‫وخطر بباهلا أن تطلبه اآلن لتحثّه عىل إنجاز مهمته‪ ،‬وإحضار‬ ‫َ‬ ‫(باسل)‬
‫ضغطت عىل معصمها‬
‫ْ‬ ‫املعلومات الالزمة التي ستساعدُ يف اختطاف هريمني‪.‬‬
‫اخلاص بجهاز‬
‫ّ‬ ‫فانفتحت شاشة فراغية صغرية‪ ،‬بدأت بضغط رم ِز االتصال‬
‫َ‬
‫سخف الفكرة‪.‬‬ ‫وأغلقت الشاشة وقد أدركت‬‫ِ‬ ‫اتصاله املش ّفر‪ ،‬لكنها مل تكمله‬
‫ال تدري ما الذي أصاهبا منذ تعاملت معه‪ ،‬تصري امرأ ًة أخرى يف وجوده‬
‫أن املرات التي رأته فيها قليلة جدًّ ا‪.‬‬‫رغم ّ‬
‫َ‬
‫ثم حاولت الرتاجع‪ ،‬يف النهاية مل تستطع‬ ‫حجة تطلبه هبا ّ‬‫خطرت بباهلا ّ‬
‫ْ‬
‫منع نفسها من فتح جهاز االتصال ثانية وطلب رمز االتصال املشفر به‪.‬‬ ‫َ‬
‫“عذرا‪ ،‬أنا يف عمل‬
‫ً‬ ‫مسجل لباسل‪..‬‬ ‫صوت ّ‬‫ٌ‬ ‫ثم أجاهبا‬
‫صوت الطنني ّ‬‫ُ‬ ‫جاءها‬
‫أغلقت االتّصال دون ترك رسالة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫استدعى األمر”‪.‬‬
‫َ‬ ‫اآلن‪ ،‬اترك رسالة إذا‬
‫فلم يكن لدهيا يشء حمدّ د لتقوله‪ ،‬كانت ستك ّلمه عن مقال قرأته ألبيه ّ‬
‫الراحل‬
‫بحجج‬
‫ٍ‬ ‫مأساة هدم منازل الفلسطينيني‬‫ِ‬ ‫بعنوان “إرهاب اجلرافات” حيكي عن‬
‫ثم تقارن بني ما حتدّ ث عنه أبوه وما حيدُ ث اآلن‪.‬‬‫قوات االحتالل‪ّ ،‬‬ ‫واهية من ّ‬
‫ذكرها هو َمدخل ُمبارش‬ ‫وأن جمر َد ْ‬
‫أن كتابات أبيه مقدسة عنده‪ّ ،‬‬ ‫كانت تشعر ّ‬
‫ألعامق روحه وهي حتاول الوصول لتلك األعامق َ‬
‫دون أن تدري ملاذا‪ ،‬ودون‬
‫أن جتدَ القوة ملنع نفسها من ذلك الفعل الالمنطقي‪.‬‬
‫ريا‬ ‫ٍ‬
‫هباجس آخر يراودها كث ً‬ ‫انتزعت (باسل) من تيار أفكارها واستبدلته‬
‫ْ‬
‫أن ماندريك وبقية النياندرتال الثائرين ال‬ ‫هذه األيام‪ .‬كانت ّ‬
‫تفكر يف ما لو ّ‬
‫وأنم يطمعون يف السلطة‪،‬‬ ‫يتعاونون معهم فقط ألجل نرصة الضعفاء‪ّ ،‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪214‬‬
‫وفضح جرائم احلكام احلاليني س ّل ًم للسيطرة عىل‬
‫َ‬ ‫وي ّتخذون إفشال الغزو‬
‫السلطة يف كوكبهم‪.‬‬
‫هيمنا نواياهم‪ّ ..‬‬
‫كل‬ ‫حنيَ صارحت املقدم (إياد) هبواجسها قال هلا‪“ :‬ال ّ‬
‫وفعل ذلك بأرسع وقت قبل أن يسكن األرض‬ ‫ُ‬ ‫اسرتداد أرضنا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫هيمنا هو‬
‫ما ّ‬
‫ُ‬
‫سيكون من العسري‬ ‫املهجنني مزدوجي الوالء الذين‬
‫جيل كامل من ّ‬ ‫املحتلة ٌ‬
‫ٍ‬
‫لسبب ال تدريه أن يكون‬ ‫تقتنع متا ًما فقد كانت تأمل‬
‫ْ‬ ‫التخلص منهم”‪ .‬مل‬
‫طمع يف السلطة؛ تتم ّنى أن يكون يف‬
‫ٍ‬ ‫ري دون‬ ‫ماندريك ورفاقه ينارصون اخل َ‬
‫هذا العامل أناس حيملون بقايا من املثالية التي جتعلهم يفعلون ذلك‪.‬‬
‫مل تسأل املقدم (إياد) عن بقية اهلاجس؛ فقد كانت إجابته حاسمة مل‬
‫افرتاضا خمي ًفا؛ ماذا لو‬
‫ً‬ ‫يتضمن‬
‫ّ‬ ‫تسمح هلا باالسرتسال‪ .‬كان ُ‬
‫بقية هاجسها‬
‫حتججوا‬
‫بالسيطرة عىل احلكم ومل ي ْنهوا الغزو‪ ،‬ماذا لو ّ‬
‫قام الثوار النياندرتال ّ‬
‫األم نتيجة تدمري وسائل االنتقال ً‬
‫مثل‪ ،‬أو‬ ‫بصعوبة نقل املاليني إىل الكوكب ّ‬
‫املهجنني الذين‬
‫األس املختلطة واألبناء ّ‬‫حتججوا بوجود مئات اآلالف من َ‬
‫خيشون عليهم سطوة الدول األصلية حني تسرتد أراضيها؟!‬
‫اهلواجس متأل رأسها لك ّنها فعلت كام تفعل دو ًما حني تسقط يف‬‫ُ‬ ‫كانت‬
‫ومضت تكتب عليها‬
‫ْ‬ ‫دوامة كتلك؛ أخذت ن َف ًسا عمي ًقا وأخرجت شاشة فراغية‬
‫كل ذلك وكتبت ّ‬
‫خطتَها لأليام القادمة‪.‬‬ ‫ثم حمت ّ‬
‫والرد عليها‪ّ ،‬‬ ‫تلخيص األفكار‪ّ ،‬‬
‫جهاز االتصال يف معصمها لتطمئن عىل (سمري)‬ ‫َ‬ ‫بعدَ أن فرغت‪ ،‬ضغطت‬
‫ثم تغلق االتصال لتكمل بقي َة استعداداهتا هي األخرى ٍ‬
‫لغد حافل‬ ‫ورجاله‪ّ ،‬‬
‫بالتغريات الكربى والتحالفات اجلديدة واألحداث اجلسام‪ ،‬وهي حتاول أن‬
‫تتناسى تلك املآيس األخرية‪ ،‬والتي يف رأهيا ال بدّ أن تسبق انفراج َة األمل‪.‬‬
‫َ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪215‬‬
‫‪31‬‬
‫ثم‬ ‫َ‬
‫استئصال آخر قطعة من ورم كبري يف الغدة النخامية‪ّ ،‬‬ ‫أهنت (زهرة)‬
‫ْ‬
‫كل يشء عىل ما يرام قبل أن ختلع‬‫أن ّ‬‫لتطمئن ّ‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫أدخلت املنظار للمرة األخرية‬
‫يكمل مكاهنا‪ .‬كانت جهودها قد‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫املساعد أن‬ ‫ق ّفازهيا‪ ،‬وتطلب من اجلراح‬
‫أسفرت يف العام املايض عن استكامل بناء املستشفى الذي كانت تديره يف‬
‫ِ‬
‫حدود األرض املحتلة‪ ،‬وصار‬ ‫خميم الالجئني املوجود يف قرى اجليزة جنويب‬
‫كل اجلراحات اخلطرة فيه‪.‬‬‫باإلمكان إجراء ّ‬
‫مشاعا لألطباء‪ ،‬كان‬
‫ً‬ ‫خرجت إىل غرفة املكتب الصغرية التي كانت‬ ‫ْ‬
‫مهمة سيشارك هبا هو‬ ‫ٍ‬
‫عملية ّ‬ ‫ينتظرها ليو ّدعها قبل الذهاب إىل‬
‫ُ‬ ‫(عمر)‬
‫جوار ابنته‬
‫َ‬ ‫أرص عىل االشرتاك يف هذه العملية ليكون‬
‫وميساء‪ ،‬أخربها أنه ّ‬
‫مهم ٍة عىل تلك الدرجة من اخلطورة‪.‬‬
‫التي صممت عىل رأهيا باملشاركة يف ّ‬
‫أن ما يفعالنه سيساهم يف عودة‬‫قلبها ينفطر قل ًقا عليهام وعزاؤها الوحيد ّ‬
‫عددهم بشكل كبري‬
‫املخيم إىل بيوهتم‪ ،‬والذين زاد ُ‬
‫هؤالء املساكني املقيمني يف ّ‬
‫يف األيام األخرية‪.‬‬
‫جلست جواره عىل األريكة الصغرية املوجودة يف املكتب‪ ،‬طلبت من‬ ‫ْ‬
‫النعناع األخرض يا أم‬
‫َ‬ ‫كوبي من الشاي وقالت‪“ :‬ال تنيس‬ ‫ْ‬ ‫العاملة إعداد‬
‫ينظر إليها بطريقة أخجلتها‪،‬‬‫اعتدلت لتواجه (عمر) ثانية فوجدته ُ‬ ‫ْ‬ ‫سيف”‪.‬‬
‫فقالت يف خجل‪“ :‬لقد جتاوزنا الستني يا رجل‪ ،‬ألن تتغري!”‪ .‬ضحك وهو‬
‫حبنا بدأت متأخر ًة عن موعدها بعرشين‬ ‫مرة‪ ،‬قصة ّ‬ ‫يقول‪ “ :‬كام قلت لك َ‬
‫ألف ّ‬
‫كنت يف اخلامسة عرشة ال يف‬ ‫مرة ِ‬ ‫عا ًما‪ ،‬حني ضمم ُتك بني ضلوعي َ‬
‫أول ّ‬
‫الثالثينيات لل ّتو”‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أنظر إليك اآلن كام لو أنّنا نفارق‬
‫الثالثينيات‪ ،‬ولذلك أنا ُ‬
‫ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪216‬‬
‫امحر وجهها أكثر‪ ،‬وقالت‪“ :‬قلبي خيفق ك ّلام قلت ذلك كأنني ال أزال يف‬‫ّ‬
‫بحنو ً‬
‫قائل‪ ..‬إنّه يتمنى أن يأخذها يف‬ ‫ّ‬ ‫اخلامسة عرشة بالفعل”‪ .‬أمسك يدها‬
‫اآلن لوال خو ُفه عىل صورهتا َ‬
‫أمام العاملني باملستشفى‪ .‬كان يفتقدها‬ ‫حضنه َ‬
‫منذ خرج من سجنه‪ ،‬مل تعدْ تكفيه رؤيتها ّ‬
‫كل أسبوع‪ ،‬وكأنّه‬ ‫ريا هذه األيام ُ‬
‫كث ً‬
‫يعوض ما فاته معها يف العامني املاضيني‪.‬‬
‫كان يريد أن ّ‬
‫يتوجه معها إىل بورسعيد‬
‫معا قبل أن ّ‬ ‫(ميساء) ليتناولوا الغداء ً‬
‫كانا ينتظران ْ‬
‫القطار اهلوائي الكبري إىل بريوت يف رحلة تستغرق عدة‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫سيستقلن‬ ‫ومنها‬
‫يفصح‬
‫ْ‬ ‫(ميساء) يف تلك املهمة‪ ،‬ومل‬ ‫يشعر بالقلق الشديد عىل ْ‬‫ُ‬ ‫ساعات‪ .‬كان‬
‫أقرب إىل القلعة‪ ،‬وحراسته‬‫ُ‬ ‫لزهرة عن سببه‪ ،‬فاملكان الذي سيهامجو َنه‬
‫املدربني جيدً ا والبرش املرتزقة ُمرتيف القتل‪،‬‬
‫مشدّ دة‪ ،‬مزيج من النياندرتال ّ‬
‫إضافة إىل الطائرات الدقيقة التي يمتلك أناندار منها الكثري‪.‬‬
‫جا َء الشاي‪ ،‬وسألته زهرة وهي تناوله كو َبه بعدما ق ّلبت ّ‬
‫سك َره‪“ :‬أال‬
‫املهام القتالية تلك؟”‪ .‬ابتسم يف‬
‫ّ‬ ‫إقناع ابنتك بالعدول عن املشاركة يف‬
‫حتاول َ‬
‫املهمة حتديدً ا‪ .‬قال هلا‪ ،‬بعد‬
‫إن عرفت طبيعة هذه ّ‬ ‫رد فعلها ْ‬
‫يتخيل َّ‬
‫توتر وهو ّ‬
‫بصوت مرتفع يئست هي ِمن جعله ّ‬
‫يكف عنه‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫أن تناول رشفة من شايه‬
‫رحم اهلل زما ًنا كانت البنت تعترب كلمة األب‬
‫ريا بدون جدوى‪َ ،‬‬ ‫“حاولت كث ً‬
‫أمرا سامو ًّيا ال جيوز نقاشه”‪ .‬ضحكت وهي تقول‪“ :‬نحن يف منتصف القرن‬ ‫ً‬
‫مط شفتيه‬‫احلادي والعرشين‪ ..‬هذه القواعد كانت تصلح يف القرن السابق”‪ّ .‬‬
‫إن احلداثة ال تعني اخلروج عىل األعراف ولو يف‬ ‫يف غري اقتناع وهو يقول ّ‬
‫القرن الثالثني‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪217‬‬
‫مسار احلديث وحكى هلا عن خططه وطموحاته يف الغد بعد أن‬ ‫َ‬ ‫غي‬‫ّ‬
‫وعن حلمه يف أن تستفيدَ بالده من هذه التجربة األليمة‪،‬‬
‫ينترصوا عىل الغزو‪ْ ،‬‬
‫قطعا حنيَ يعرفون أن أرايض شامل‬ ‫وعن أطامع الدول الكربى التي ستزيد ً‬
‫مرص وسيناء هي ِمن أغنى األماكن بمصدر الطاقة اجلديد‪ .‬أخذ حيكي عن‬
‫ٍ‬
‫تلميذ‬ ‫ما خطط له يف حال تو ّليه أحد املناصب‪ .‬كان يتحدّ ث معها بحامس‬
‫شعر فجأة بأمل يف‬ ‫ٌ‬
‫منهمك يف حكيه َ‬ ‫مر هبا‪ ،‬وبينام هو‬
‫يقص عىل فتاته مغامرة ّ‬
‫ّ‬
‫جمرد حرقة‬‫يعترص داخله وليس ّ‬
‫ُ‬ ‫فم معدته يمتدّ إىل أسفل صدره‪ ،‬أمل قابض‬
‫كالتي يشعر هبا من يعاين من معدته بالفعل‪.‬‬
‫“ماذا بك؟”‪ .‬سألته زهرة يف قلق‪ ،‬فقال‪“ :‬ال يشء‪ ،‬يبدو أهنا املعدة”‪.‬‬
‫التملص منها بدون‬ ‫َ‬ ‫“قم معي”‪ .‬حاول‬
‫ثم قالت‪ْ :‬‬ ‫نظرت إليه يف شك‪ّ ،‬‬
‫احلبة ّقبة‪.‬‬
‫جدوى‪ ،‬قام مترب ًما وهو يتحدّ ث عن األطباء الذين جيعلون من ّ‬
‫بمسح لقلبه فقام‬‫ٍ‬ ‫املمرض أن يقوم‬
‫دخلت به إحدى الغرف وطلبت من ّ‬
‫جمسات أخذت حتوم حو َله وتصدر ً‬
‫أزيزا خاف ًتا‪،‬‬ ‫الرجل بتشغيل جهاز ذي ّ‬
‫طالعت زهرة‬‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ثالث ورقات مطبوعة من اجلهاز‪.‬‬ ‫ويف النهاية خرجت‬
‫ثم طلبت طبيب القلب‪.‬‬‫الورقات الثالث‪ ،‬وبدا التوتر عىل وجهها ّ‬
‫يشعر بالقلق وهو يرى جدي َة احلديث الذي دار بينها وبني طبيب‬ ‫ُ‬ ‫بدأ‬
‫طبيب القلب‬
‫ُ‬ ‫نوعا من اجلدل بينهام‪ .‬يف النهاية خرج‬
‫وأحس أن هناك ً‬
‫ّ‬ ‫القلب‪،‬‬
‫احلديث مرتبكة فقال ُم َط ْمئِنًا‪“ :‬حبيبتي تك ّلمي ال ختايف‬
‫ِ‬ ‫وبدأت هي يف‬
‫جلطة صغرية يف أحد رشايني قلبك‬ ‫ٌ‬ ‫يل”‪ .‬ابتسمت بتوتر وقالت‪“ :‬هناك‬‫ع َّ‬
‫املذيب هلا‪ ،‬لكن األشعة تظهر ّ‬
‫أن‬ ‫َ‬ ‫الفرعية واملمرض اآلن جيهز لك الدواء‬
‫ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪218‬‬
‫نظر‬
‫فورا”‪َ .‬‬
‫وجيب استبداله ً‬
‫ُ‬ ‫أحد الرشايني الرئيسية عىل وشك االنسداد ً‬
‫أيضا‬
‫ً‬
‫مرتبكا‪“ :‬أال يمكن أن تنتظر العملية ح ّتى أعو َد‬ ‫إليها وقد فاجأه كالمها فقال‬
‫(ميساء) واقف ًة‬
‫هزت رأسها نافية بقوة وقبل أن تتكلم وجدت ْ‬ ‫املهمة؟”‪ّ .‬‬
‫من ّ‬
‫بباب الغرفة تتساءل عن ما جرى‪.‬‬
‫يف دقائق معدودة كان جيري جتهيز (عمر) لغرفة العمليات‪ ،‬وميساء إىل‬
‫جواره‪ ،‬وزهرة تروح وجتيء حتدّ ث هذا وتناقش ذاك‪ .‬انتظر (عمر) ح ّتى‬
‫مت يا‬ ‫(ميساء) وأوصاها ً‬
‫قائل‪“ :‬إذا ّ‬ ‫ثم أمسك يدَ ْ‬ ‫ابتعدت زهرة ً‬
‫قليل‪ّ ،‬‬
‫تتحمل أمك فقدَ كلينا”‪ .‬دمعت عيناها وهي‬‫ّ‬ ‫(ميساء) فال بدّ أن تعتزيل‪ ،‬فلن‬
‫ْ‬
‫أيضا‪،‬‬‫جاوزت الستني‪ ،‬وأحارب ً‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫تنهاه عن قول ذلك فضحك قائل‪“ :‬أنا‬
‫عرض للموت يف أي حلظة اسمعيني هذا هو الشقّ األول من وصيتي‪ ،‬أ ّما‬ ‫وم ّ‬‫ُ‬
‫الشق الثاين فيخصني”‪.‬‬
‫ريا‬
‫حدّ ثها عن قريته التي نشأ هبا‪ ،‬وعن ندمه أنّه مل يأخذها إىل هناك كث ً‬
‫ضموها مع القرى املجاورة‪ ،‬وأطلقوا عليهم‬ ‫يف صغرها‪ ،‬قال هلا ّ‬
‫إن الغزاة ّ‬
‫اسم لعينًا ينتهي بمقطع “بشيل”‪ ،‬الذي يضعو َنه يف هناية أسامء املدن‬ ‫مجيعا ً‬
‫ً‬
‫مكانا حمدد‪ ،‬و َمن بقي‬
‫فإن َ‬ ‫الصغرية وجتمعات القرى‪ .‬قال هلا إنّه رغم ذلك ّ‬
‫َ‬
‫لتنقل رفاته إىل جوارهم‬ ‫من أهلها فيها سيستطيع إيصاهلا ملكان د ْفن أبويه‬
‫أن قيمة‬‫بحنو عىل خدها‪“ :‬أنا أعرف ّ‬ ‫ّ‬ ‫ثم قال وهو يضع يدَ ه‬ ‫بعد التحرير‪ّ ،‬‬
‫مهم يل فوق ما‬
‫هذه األشياء تضاءلت يف زمنكم هذا‪ ،‬لكن ما أطل ُبه منك ّ‬
‫أعز عندي من الدنيا يا‬
‫وقبلتها وهي تقول‪“ :‬أنت ّ‬ ‫تتصورين”‪ .‬أمسكت يدَ ه ّ‬
‫واجبة رغم أنني أمتنى ّأل أحتاج لتنفيذها”‪ .‬ابتسم يف امتنان‬ ‫ٌ‬ ‫أيب‪ ،‬ووصيتك‬
‫االسم ح ّتى ال تنسيه”‪ .‬فقالت وهي تصطنع ضحكة حاولت‬ ‫َ‬ ‫ثم قال‪“ :‬اكتبي‬
‫ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪219‬‬
‫قدر اإلمكان‪“ :‬حفظتها واهلل‪ ،‬اسمها عزبة سيدك تبع”‪.‬‬ ‫مرحا َ‬
‫أن تكسبها ً‬
‫أيضا يا قليل َة األصل‪ ،‬قويل ثانية‬ ‫رضهبا عىل ك ّفها وهو يقول‪“ :‬وسيدك ِ‬
‫أنت ً‬
‫ما اسمها وما اسم القرى املجاورة هلا”‪ .‬فقالت ضاحكة‪“ :‬سيدي تبع‪ ،‬شامهلا‬
‫قرية الورق وجنوهبا الكفر اجلديد‪ ،‬ومقربة جدي عىل ُبعد كيلومرتين رشق‬
‫تسموهنا اجلعفرية‪ ...‬ال تقلق يا‬
‫خالل سكة صغرية ّ‬ ‫َ‬ ‫الطريق الرئييس تقطعهام‬
‫حيا وأنت وزير أو حمافظ”‪.‬‬
‫أيب سوف تعود إليها ًّ‬
‫رسيعا‪ ،‬رأهتا زهرة فقالت ضاحكة‪:‬‬ ‫ً‬ ‫ّقبلته عىل جبينه وهي تتمنى شفاءه‬
‫“أظن أنني‬
‫ّ‬ ‫ثم سأهلا عمر‪:‬‬ ‫مجيعا ّ‬
‫أدم علينا هذا الصفاء”‪ .‬ضحكوا ً‬ ‫“ال ّلهم ِ‬
‫َ‬
‫اللحاق بمهمتي”‪ .‬ر ّدت عليه بنفي قاطع‬ ‫اخلروج الليلة ألستطيع‬
‫َ‬ ‫سأستطيع‬
‫ثم سيحتاج إىل الراحة ملدة أسبوعني عىل‬ ‫مؤكدة أنه لن خيرج َ‬
‫قبل ثالثة أيام ّ‬
‫أفعال ُمهدة‪ .‬اعرتض عىل قوهلا‪ ،‬ودخال يف شدّ وجذب‪،‬‬ ‫ً‬ ‫األقل ال يامرس‬
‫لصف أمها وقالت‪“ :‬اسمع يا أيب‪ ،‬ال أريد الذهاب إىل‬ ‫ّ‬ ‫(ميساء)‬
‫وانضمت ْ‬
‫ّ‬
‫سيدك بلبع هذا يف أي وقت”‪ .‬نظر إليها بغيظ وهو يقول‪“ :‬بلبع يا ابنة الــ‪.”...‬‬
‫كرر سؤاله لزهرة عن إمكانية تقليل مدّ ة الراحة‪ ،‬فقالت بحزم‪“ :‬أسبوعان‬
‫ّ‬
‫أحتمل‬ ‫ثم مهس ً‬
‫قائل‪“ :‬كيف ّ‬ ‫أي إجهاد”‪ .‬أشار إليها لتقرتب بأذهنا منه‪ّ ،‬‬ ‫بال ّ‬
‫ً‬
‫خجل ورضبته‬ ‫امحر وجهها‬
‫بصحبتك”‪ّ .‬‬ ‫أسبوعني بال جمهود‪ ،‬وأنا سأقضيهام ُ‬
‫ربك عىل الراحة ال تقلق”‪.‬‬ ‫عىل كتفه قائلة‪“ :‬سأج ُ‬
‫شك وهي تقول‪“ :‬لو كان ما أفكر فيه‬ ‫(ميساء) عينيها بينهام يف ّ‬ ‫نقلت ْ‬
‫ْ‬
‫ثم قال (عمر) ً‬
‫باسم‪“ :‬بذمتك‬ ‫انفجرا ضاحكني‪ّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫صحيحا؛ فهذه كارثة”‪.‬‬
‫ً‬
‫تتخيلني وأنت يف س ّنها أن تقويل أل ّمك شيئًا كهذا‪ ..‬ما رأيك اآلن‬
‫هل كنت ّ‬
‫أختيل أفالم‬
‫األربعينيات!”‪ .‬فقالت زهرة‪“ :‬حني تقول األربعينيات ّ‬ ‫ّ‬ ‫يف بنات‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪220‬‬
‫أربعينيات القرن احلادي‬
‫ّ‬ ‫ليىل مراد وأنور وجدي والرحياين‪ ،‬وال خيطر ببايل‬
‫والعرشين”‪.‬‬
‫ً‬
‫اتصال‬ ‫(ميساء) وقالت ّإنا ستذهب ملكان منعزل لتجري‬ ‫استأذنت منهام ْ‬
‫باملقدّ م (إياد) وباسل‪ ،‬وختربمها ّ‬
‫بأن أباها لن يكون معهم غدً ا‪ .‬تابعها بنظره‬
‫وهي تبتعدُ وقال لزهرة‪“ :‬كنت معرتضة عىل (سمري) ألنّه متزوج‪ ،‬اآلن هي‬
‫ال تتكلم ّإل عن باسل وال أدري ما دهاها”‪ .‬سألته َمن يكون باسل؟ فقال‬
‫هلا إنّه انضم للمقاومة حدي ًثا‪ ،‬وإنّه يعمل يف الظاهر مع رشطة النياندرتال‪،‬‬
‫وإنّه كان من عتاة ضباطهم واعت َقل‪َ ،‬‬
‫وقتل الكثري من الثوار فيام مىض‪ .‬فقالت‬
‫ُ‬
‫الرجل معكم بعدَ‬ ‫ثم كيف يعمل هذا‬
‫مذعورة‪“ :‬يا إهلي هل ج ّنت البنت‪ّ ...‬‬
‫خيانته وعمله مع الغزاة”‪.‬‬
‫حك يدَ ه مكان مدخل اجلهاز الوريدي طال ًبا منها أن تنزعه لك ّنها نظرت‬ ‫ّ‬
‫قائل‪“ :‬الرجل أعلن توبتَه عن أفكاره‪ ،‬وحصل عىل عفو‬ ‫حمذر ًة فرتاجع ً‬ ‫إليه ّ‬
‫السلطات مقابل تعاونِه الكامل‪ ،‬واشرتاكه ّ‬
‫الفعال مع املقاومة‪ ،‬واحلق‬ ‫من ّ‬
‫رأسها رافضة لفكرة ارتباط ابنتها به رغم‬‫هزت َ‬ ‫أنه صدق متا ًما ح ّتى اآلن”‪ّ .‬‬
‫ثم أضاف‪“ :‬أعتقدُ أن‬‫خيم ُن فقط من طريقة اهتاممها به‪ّ ،‬‬
‫ذلك‪ .‬فقال عمر إنه ّ‬
‫تعرضت له أرسته قبل الغزو‬ ‫معه بعض العذر فيام فعل ساب ًقا‪ ،‬فالظلم الذي ّ‬
‫أي إنسان يفقد بوصلته لكنه عا َد إىل رشده عندما عرف احلقيقة‪ ،‬وهذا‬ ‫جيعل َّ‬
‫ُيسب له”‪.‬‬

‫بدَ ا عىل وجه زهرة االقتناع‪ ،‬وإن مل ّ‬


‫ترصح به‪ ،‬وقالت يف نفسها إنه ليس‬
‫(ميساء) سألت وهي‬ ‫أي حال‪ .‬حني عادت ْ‬ ‫متزوج عىل ّ‬‫ّ‬ ‫أسوأ من رجل‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪221‬‬
‫تغمز بعينها اليمنى عن ر ّد األستاذ باسل‪ ،‬وضغطت عىل حروف اسمه‪،‬‬
‫(ميساء) بضيق ُمتجاهلة التلميح ّ‬
‫املبط َن يف كالم أمها‪“ :‬مل يستطع‬ ‫فقالت ْ‬
‫احلديث‪ ،‬ر ّد بطريقة مقتضبة ّ‬
‫ألن مر ّبية ابنه موجودة بجواره”‪ .‬حدّ قت زهرة‬
‫متزوج هو اآلخر! ما حكايتك أ ّيتها‬
‫فيها باستنكار وهي تقول‪“ :‬ابنه! هو ّ‬
‫جمر ُد زميل ال يعنيني يف‬
‫(ميساء) بتوتر قائلة‪“ :‬أمي‪ ..‬هذا ّ‬
‫املجنونة”‪ .‬ردت ْ‬
‫تنزع جهاز املحلول‬
‫متزوجا”‪ .‬فقالت أمها وهي ُ‬‫ً‬ ‫ثم إنّه أرمل وليس‬ ‫يشء‪ّ ،‬‬
‫من ذراع (عمر) بعد أن فرغ الدواء‪“ :‬حسنًا سأصدق أنه ال يعنيك يف يشء‪،‬‬
‫لرتب له ولده”‪ .‬ضحك عمر‬ ‫لكن اعلمي أنّه عىل جثتي أن تتزوجي أرمل ّ‬ ‫ِ‬
‫بصوت عال وهو يقول‪َ “ :‬من الذي يعيش يف القرن العرشين اآلن أنا أم أنت‬
‫يا ّأم ميساء؟!”‪.‬‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪222‬‬
‫‪32‬‬
‫الصغري الذي يربط القاهرة‬ ‫(ميساء) من القطار اهلوائي ّ‬ ‫ترجلت ْ‬ ‫ّ‬
‫كل املدن‬‫القطار الكبري الذي يربط ّ‬
‫َ‬ ‫ببورسعيد‪ ،‬وبصحبتِها (باسل) لريكبا‬
‫مرورا بعدة‬
‫ً‬ ‫الساحلية يف األرايض املحت ّلة‪ ،‬بداي ًة من اإلسكندرية ح ّتى إزمري‪،‬‬
‫معا‬
‫ربا ً‬‫مدن كربى؛ مثل غزة وحيفا وبريوت والالذقية وأنطاليا وغريها‪ .‬ع َ‬
‫متنكرين يف هيئة ٍ‬
‫فتاة وأبيها‪( ،‬باسل)‬ ‫الشارع نحو رصيف القطار الكبري‪ ،‬كانا ّ‬
‫تغضن وشعره أشيب وجفنُه السفيل منتفخ ً‬
‫قليل‪ ،‬والعلوي متهدّ ل‬ ‫وجهه ُم ّ‬
‫ُ‬
‫البنية‪ ،‬ال يمكنك حني تراه ّإل أن‬
‫اجللد‪ ،‬ويداه مغطيتان بالتجاعيد والبقع ّ‬
‫(ميساء) فقد طال أنفها ً‬
‫قليل‪ ،‬وزادت حد ُته‪،‬‬ ‫جتزم أنّه جتاوز الستني‪ .‬أما ْ‬
‫بروزا‪ ،‬وامتألت شفتاها ً‬
‫قليل ح ّتى بات‬ ‫وفكاها ً‬ ‫وزادت وجنتاها استدارة‪ّ ،‬‬
‫أقرب لعارضة أزياء يف أيام ما قبل االحتالل‪.‬‬
‫َ‬ ‫وجهها‬

‫وكأنا تساعده عىل عبور الطريق‪ ،‬توقفا‬ ‫أمسكت ذراعه بيدها الصغرية ّ‬
‫ْ‬
‫ثم قالت رحلة سعيدة بصوهتا‬ ‫تفحصتهام‪ّ ،‬‬
‫أمام إحدى الطائرات الدقيقة التي ّ‬
‫دخلت لقاعدة بيانات‬ ‫تعرفت فيهام عىل مالمح ُمستعارة ُأ ِ‬‫املميز بعد أن ّ‬
‫رشطة النياندرتال بواسطة الثوار‪ .‬عىل باب القطار أوق َفهام ضابط أديتي‪،‬‬
‫عن الغرض من رحلتِهام قبل أن يرتكهام يركبان‪.‬‬‫ثم سأهلام ِ‬
‫تفحصهام بحرص ّ‬ ‫ّ‬
‫المعا‪ ،‬عرباته فسيحة‪ ،‬واملقاعد وثرية‪ ،‬وكانت أسامؤمها‬‫القطار نظي ًفا ً‬
‫ُ‬ ‫كان‬
‫املخصصة هلام‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ا ُملستعارة مكتوبة يف شاشة فراغية صغرية أعىل املقاعد‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪223‬‬
‫مرة واحدة كالريح عىل‬ ‫ثم انطلق ّ‬ ‫ارتفع القطار يف اهلواء َ‬
‫أول األمر‪ّ ،‬‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫تسعة أمتار فوق سطح األرض‪ ،‬يف وقت وجيز وصل إىل حمطته التالية‬ ‫ارتفاع‬
‫ثم طار‬‫وركب البعض‪ّ ،‬‬‫َ‬ ‫َ‬
‫ونزل ملستوى الرصيف‬ ‫يف العريش‪ ،‬وقف أعالها‬
‫إىل حمطته التالية يف غزة‪.‬‬

‫(ميساء) مبهور ًة بالقطار وقدّ رت أنه حيتاج يف تشغيله إىل عرشة‬


‫كانت ْ‬
‫ّ‬
‫األقل من معدن الطاقة اجلديد‪ .‬كان ذلك املعدن موجو ًدا‬ ‫كيلوجرامات عىل‬
‫ْ‬
‫يصل إىل البرش إىل ربعها قبل الغزو‪ ،‬كان‬ ‫ٍ‬
‫عميقة يف األرض مل‬ ‫يف مسافة‬
‫مستمر‬
‫ّ‬ ‫محضية معتادة تطلق منه طاقة كهربائية كبرية بشكل‬
‫ّ‬ ‫يتفاعل مع مواد‬
‫كأنّه بطارية ضخمة ال حتتاج إعادة شحن‪.‬‬

‫مرة يركب فيها هذا القطار‬‫أول ّ‬ ‫إن كانت تلك ّ‬ ‫(ميساء) (باسل) ْ‬ ‫سألت ْ‬
‫مرتني من قبل”‪ .‬قالت‪“ :‬كنت يف‬ ‫فأجاب باقتضاب‪“ :‬ال‪ ..‬ركب ُته ّ‬‫َ‬ ‫املبهر‪،‬‬
‫أوشكت أن تسأله متى وكيف لك ّنها‬
‫ْ‬ ‫ِ‬
‫بإيامءة موافقة‪.‬‬ ‫مهمة عمل؟” فأجاهبا‬
‫ٍ‬
‫بكلمة عىل األقل‪.‬‬ ‫َ‬
‫القول الستطرد يف إجابته أو أحاهبا‬ ‫تراجعت فلو كان يريد‬
‫قليل وهي تفكر يف فتح ٍ‬
‫جمال آخر للحديث معه يكون حم ّف ًزا له‬ ‫صمتت ً‬
‫ْ‬
‫ثم سألته‬ ‫االقتضاب ا ُملنفر‪ .‬أخذت ً‬
‫نفسا عمي ًقا ّ‬ ‫ِ‬ ‫ليتحدّ ث وال جييبها بذلك‬
‫تظن أننا سنستمتع بتلك املواصالت بعد أن يرحل الغزاة”‪ .‬نظر‬ ‫ثانية‪“ :‬هل ّ‬
‫قال بصوت هامس‪“ :‬وهل تظ ّنني أنّه من املناسب أن‬ ‫ثم َ‬‫توجس‪ّ ،‬‬ ‫حوله يف ّ‬
‫أحست‬‫مملوء بالناس والطائرات الدقيقة!”‪ّ .‬‬ ‫ٍ‬ ‫نتكلم عن رحيلهم يف قطار‬
‫وبأنا تكاد تغوص يف كرسيها من اإلحراج‪.‬‬
‫بالدم هيرب من أطرافها‪ّ ،‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪224‬‬
‫أصل بوجود‬ ‫حوارا وهو ال يبايل ً‬
‫ً‬ ‫ملجرد أن تفتح معه‬
‫ترتكب محاقة ّ‬ ‫ُ‬ ‫ها هي‬
‫حوا ٍر بينهام‪ .‬تساءلت هل كانت وامه ًة حني شعرت بانجذابه هلا ّأول ما‬
‫ٍ‬
‫انجذاب بني رجل وامرأة‬ ‫تصو ُر حدوث‬
‫رآها‪ ،‬كانت حلظة رصاع يصعب ّ‬
‫شعورا كاذ ًبا أم‬
‫ً‬ ‫خالهلا‪ّ ،‬إل أهنا تكاد ُتقسم ّأنا شعرت بانجذابه‪ .‬هل كان‬
‫ثم ملا ماتت زوج ُته بني يديه فقدَ الرغبة يف احلب‪ .‬تقلب‬ ‫أنّه انجذب هلا ً‬
‫فعل ّ‬
‫افرتاض ذلك محاقة أخرى‪ ،‬فكيف ينجذب‬ ‫َ‬ ‫ثم تقول إن‬ ‫األمر يف رأسها ثانية ّ‬
‫ثم‬
‫ثم حني متوت زوج ُته يزول هذا االنجذاب‪ّ ،‬‬ ‫رجل متزوج المرأة ما‪ّ ،‬‬ ‫ٌ‬
‫يترصف أحدُ هم هبذا‬ ‫ُ‬
‫“الرجال جمانني‪ ،‬ويعشقون اخليانة‪ ،‬وقد ّ‬ ‫تقول لنفسها‪:‬‬
‫الشكل”‪.‬‬
‫نظرت من زجاج القطار‪ ،‬وأخذت تتأ ّمل الساحل وهي تفكر يف مدى‬ ‫ْ‬
‫تترسع يف‬
‫وتفكر يف السبب الذي جيعلها ّ‬ ‫ومحق خياالهتا وحتليالهتا‪ّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫سذاجة‬
‫وتتخل عن بدهييات ال بدّ أن تكون‬ ‫ّ‬ ‫احلكم عىل مشاعرها ومشاعر َمن حوهلا‪،‬‬
‫ٍ‬
‫صديقات حتكي هلن‬ ‫موجودة يف أي عالقة ُتقدم عليها‪ .‬ر ّبام أل ّهنا ال متتلك‬
‫بلد ُمتل‬‫بأن احلياة عىل حا ّف ِة اخلطر يف ٍ‬ ‫وتستمع إىل خرباهتن‪ ،‬ور ّبام إحساسها ّ‬
‫ُ‬
‫أرسع ّاتا ًذا وأقل تعقيدً ا‪.‬‬
‫َ‬ ‫القرارات العاطفية جيب أن تكون‬ ‫ِ‬ ‫تظن أن‬
‫جعلها ّ‬
‫متشاهبتي إىل حدّ‬
‫ْ‬ ‫ثم تل أبيب‪ ،‬وقد صارت املدينتان‬‫تو ّقف القطار يف غزة‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫األقل يف اجلزء الظاهر هلا من حمطة القطار‪ .‬كان َمن استقلوا القطار‬ ‫كبري‪ ،‬عىل‬
‫وأرضيني ال‬
‫ّ‬ ‫جنسهم من سحنتهم املميزة)‪،‬‬ ‫من املدينتني نياندرتال (يظهر ُ‬
‫وحد بينهم االحتالل‬ ‫تفرق َمن منهم عريب و َمن منهم هيودي‪ ،‬وقد ّ‬ ‫يمكن أن ّ‬
‫فجعلهم حتت نريه سواء‪ .‬كانت إحدى ال ّنقاط التي يتباهى هبا املحتلون دو ًما‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪225‬‬
‫الصاعات بني األرضيني يف األرايض التي احتلوها‪ ،‬وعىل‬ ‫أهنم قضوا عىل ّ‬
‫رأسها الرصاع العريب اإلرسائييل الذي دام قرابة القرن قبل جميء النياندرتال‪.‬‬
‫شطر زجاج القطار‪ ،‬مل تتبادل مع‬
‫َ‬ ‫أمضت بقية رحلتها مولي ًة وجهها‬
‫ْ‬
‫(باسل) كلم ًة أخرى ح ّتى وصال إىل بريوت‪ ،‬كانت حمطة القطار تطل عىل‬
‫الروشة التي ال تزال واقف ًة بقوسها العظيم أمام الشاطئ‬ ‫ِ‬
‫صخرة ّ‬ ‫البحر أمام‬
‫تنتظرمها مركبة أخذهتام‬
‫ُ‬ ‫ال يشغلها من حيكم هناك أو َمن يعيش‪ .‬هناك كانت‬
‫مقرات املقاومة اللبنانية يف ِ‬
‫أحد أزقة الضاحية اجلنوبية لبريوت‪.‬‬ ‫إىل ِ‬
‫أحد ّ‬
‫يسمى “حارة‬
‫انطلقت هبام يف شارع “باماجوها” والذي كان قبل الغزو ّ‬
‫ُ‬
‫املطاف هبام‬ ‫حريك”‪ .‬انعطفت السيارة يف شوارع جانبية ُمتتالية ح ّتى انتهى‬
‫إىل اجللوس يف غرفة صغرية يف انتظار التعليامت القادمة من قيادة املهمة التي‬
‫كتائب بريوت بصفتهم‬ ‫ُ‬ ‫ُهم عىل وشك االنخراط فيها‪ ،‬والتي كانت تديرها‬
‫مسئولني عن تلك املنطقة‪.‬‬
‫ثم قال‪“ :‬اعذريني فقد‬‫نقر (باسل) بأصابعه عىل الطاولة أما َمه يف عصبية ّ‬
‫َ‬
‫كنت اعتقد أن أمح ًقا أصح ألهنا صفة وليست أفعل تفضيل من ّأول اليوم‪،‬‬
‫ثم سكت ثانية‬‫لكن‪ ”...‬سكت وكأنّه يستجمع بقية كلامته‪ ،‬فتح فمه ليكمل‪ّ ،‬‬
‫ويمر بأكثر‬
‫ّ‬ ‫فقالت هي‪“ :‬لكن ماذا؟”‪ .‬كان يريد أن يقول هلا إنه مضطرب‬
‫كامل من حياته يف كذبة‪ ،‬أمضاها‬‫أيام حياته تعقيدً ا‪ ،‬ويشعر أنّه أمىض عقدً ا ً‬
‫عمن ظلموا أباه‪،‬‬
‫خسة ّ‬‫ويلص ألناس ال يق ّلون ّ‬ ‫حيارب يف جبهة خاطئة‪ُ ،‬‬‫ُ‬
‫أن يسامح نفسه عىل الدماء التي سالت عىل ِ‬
‫يده‬ ‫إن كان سيستطيع ْ‬ ‫وال يعرف ْ‬
‫كل مههم كان الدفاع عن أوطاهنم ضدّ الغرباء‪.‬‬ ‫ألناس ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪226‬‬
‫ِ‬
‫وعن ارتباط صورهتا يف ذهنه بوالئه‬ ‫كان يريدُ أن يتكلم عن كمريدا‬
‫نجت من تلك األزمة؛ هل كانت‬
‫ْ‬ ‫وعن تساؤله ماذا لو كانت قد‬
‫للغزاة‪ْ ،‬‬
‫ستؤ ّيد انضاممه للناس الذين حترق خصالت شعرهم بعدَ موهتم وتصيل‬
‫جللدهيا!؟ وماذا‬ ‫ستظل ُملصة ّ‬
‫ّ‬ ‫إلهلها ليحبس أرواحهم يف الظالم‪ ،‬أم‬
‫تركه للمر ّبية‪ ،‬وال‬ ‫معا وعن ِ‬
‫طفلهام الذي َ‬ ‫حبه هلا‪ ،‬عن حياهتام الرائعة ً‬
‫عن ّ‬
‫ري الوالء لقومها‬ ‫يعرف إن كان سيعود لرياه أم ال! لو كان اختذ طري ًقا َ‬
‫آخر غ َ‬
‫ٌ‬
‫احتامل ولو ضئيل‬ ‫بكل ذلك الشغف‪ ،‬أكان سيوجد ثمة‬ ‫ستحبه ّ‬
‫ّ‬ ‫أترى كانت‬
‫َ‬
‫تعرف هي حقيقة حكامها فتنضم هي للمقاومة ويقعا يف احلب بتلك‬ ‫أن‬
‫الطريقة‪.‬‬
‫يف ال ّنهاية‪ ،‬قال مليساء‪“ :‬أعتقد أننا يمكن أن نستفيدَ من تقنيات األديتيني‬
‫وقطاراهتم ح ّتى بعدَ رحيلهم”‪ .‬ابتسمت لر ِّده وقالت‪“ :‬هل أخذت ّ‬
‫كل هذا‬
‫الوقت لتفكر يف إجابة السؤال؟”‪ .‬مل ُي ِ‬
‫بد أنّه استوعب مزاحها ألنّه استطرد‬
‫ً‬
‫قائل‪ّ :‬‬
‫إن االستفادة من تقنياهتم ستحدُ ث فقط إذا تعاون اجلميع‪ ،‬ونسوا‬
‫املتعصبون عن‬
‫ّ‬ ‫عن استبدادها‪ّ ،‬‬
‫وختل‬ ‫أحقاد املايض‪ ،‬إذا ختلت احلكومات ِ‬
‫ِ‬
‫اغتصاب األرض‬ ‫ُ‬
‫الصهاينة ّأنم ال بدّ أن يك ّفوا عن‬ ‫طائفيتهم‪ ،‬ووجد‬
‫ّ‬
‫والتوسعية واملؤامرات‪ ،‬واستطعنا نحن أن نقبل وجو َدهم بيننا إذا احرتموا‬
‫ّ‬
‫فهم العريب والرتكي والكردي واليهودي ّ‬
‫أن اإلنسانية هي‬ ‫وعو َدهم‪ ،‬وإذا َ‬
‫يوضع يف االعتبار‪ّ ،‬‬
‫وأن التعايش هو الدين الذي ينبغي‬ ‫ُ‬
‫العرق الوحيد الذي َ‬
‫أن يسود‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪227‬‬
‫أن لديه مثل تلك األفكار‬ ‫تنظر إليه مبهور ًة غري مصدقة ّ‬
‫ختم حدي َثه وهي ُ‬
‫َ‬
‫“أنت تتكلم مثل أيب متا ًما‬
‫رشطيا يقمع الثائرين‪ ،‬وقالت‪َ :‬‬
‫ًّ‬ ‫وهو الذي كان يعمل‬
‫هز رأسه مواف ًقا وقال‪“ :‬ما دفعني خلدمتهم هو ّأنم يسعون‬ ‫يف تلك النقطة”‪ّ .‬‬
‫إىل ال ّتعايش بني مجيع األجناس واألديان داخل دولتهم واحرتامهم للجميع‪،‬‬
‫اكتشفت ّأنم ال حيرتمون ح ّتى حقّ أبناء شعبهم يف احلياة‪ ،‬وأهنم‬‫ُ‬ ‫لكنني‬
‫الذرائع لتهجري ٍ‬
‫مزيد من البرش خارج األرض املحتلة”‪.‬‬ ‫يبحثون عن أحقر ّ‬

‫نفسه يتأمل عينيها ثانية دون أن يشعر‪ ،‬كانتا‬ ‫عندما أهنى كال َمه وجد َ‬
‫املرة األوىل نظرتا‬ ‫ِ‬
‫باختالف نظرهتا له‪ّ .‬‬ ‫بالنسبة له حتويان عم ًقا غري ًبا مل خيتلف‬
‫إليه بتحدّ ويشء من الكراهية‪ ،‬يف الثانية حت ّفز وفضول واليوم فيهام إعجاب‬
‫كل تلك األحوال كانت العينان تأخذانه بشكل‬ ‫واضح حتاول هي إخفاءه‪ ،‬يف ّ‬
‫النظر إليها أو تبادل احلديث‬
‫َ‬ ‫إضافيا لتج ّنبه‬
‫ًّ‬ ‫ال يمكن تفسريه‪ ،‬وكان ذلك سب ًبا‬
‫فامحر وجهه هو‬
‫ّ‬ ‫معها يف القطار‪ .‬الحظ امحرار وج ِهها من طول نظ ِره إليها‪،‬‬
‫أن وجهك به ُحرة خجل‪ ،‬وأعود‬ ‫اآلخر‪ ،‬ابتسمت وقالت “أريد أن أقول ّ‬
‫أكذب نفيس” ضحك وقال “نفيك لوجود محرة اخلجلِ يف شخص ما تعدّ‬ ‫ّ‬
‫(ميساء) أنني ‪”....‬‬ ‫إهانة‪ ،‬لك ّنني أعرف مقصدك‪ ،‬احلقيقة يا ْ‬
‫َ‬
‫األطباق من‬ ‫جير أمامه عرب َة طعام صغرية‪ ،‬نقل‬
‫شاب عرشيني ّ‬
‫قاطعه جميء ّ‬ ‫َ‬
‫عليها إىل طاولتهم‪ ،‬نوعان من سلطات اخلضار وحلم ودجاج مشوي وطبق‬
‫فاكهة‪ ،‬ومت ّنى هلم وجبة هنية‪ ،‬وانرصف دون أن يزيد كلمة‪ .‬كانا جائعني فلم‬
‫بشهية مفتوحة‪ ،‬بل وهربا به من ٍ‬
‫حلظة كالمها غ ُري مستعدّ‬ ‫يت ّرب َما َ‬
‫وأقبل عىل األكل ّ‬
‫وهم باالنرصاف‪.‬‬ ‫الشاب نفسه بكوبني صغريين من القهوة ّ‬
‫ّ‬ ‫هلا‪ .‬بعد ِ‬
‫أن انتهيا جاء‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪228‬‬
‫ِ‬
‫واجب الضيافة‪ ..‬ألن جيتمع بنا أحدٌ من‬ ‫“شكرا عىل‬
‫ً‬ ‫أمسك ُ‬
‫باسل ذراعه وقال‪:‬‬
‫الشاب ً‬
‫جمامل وهو يؤكد ّ‬
‫أن االجتامع‬ ‫ّ‬ ‫ابتسم‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫سنظل هكذا ح ّتى الغد؟”‪.‬‬ ‫القادة أم‬
‫بعد قليل‪.‬‬
‫وقت طويل ح ّتى بدأ االجتامع‪ ،‬كانا جالسني إىل طاولة بيضاوية‬ ‫يمض ٌ‬ ‫مل ِ‬
‫ُ‬
‫أربعة رجال وامرأة وثالثة من النياندرتال‪ .‬تبادلوا‬ ‫كبرية‪ ،‬جلس عليها ً‬
‫أيضا‬
‫رجل مخسيني ليتوسط اجللسة‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫تعار ًفا قص ً‬
‫ريا وترحي ًبا ُمقتض ًبا قبل أن يأيت‬
‫(ميساء) بحرارة وهي تقول‪“ :‬سيد سامر‪ ،‬رشف يل أن أقابلك‬ ‫سلمت عليه ْ‬
‫بادلا الرجل باحلرارة نفسها وهو‬‫ريا”‪َ .‬‬‫شخصيا‪ ،‬لقد حدثني والدي عنك كث ً‬ ‫ًّ‬
‫يقول إنّه حيرتم بطولة والدها جدًّ ا‪ ،‬وقد أسعدَ ه قراره باملوافقة عىل توحيد‬
‫املقاومة يف مرص كام هي يف لبنان‪ ،‬وأنّه مل يبقَ غري السوريني ح ّتى تكتمل جبهة‬
‫واحدة داخل األرايض املحتلة‪.‬‬
‫نظر إىل باسل‪ ،‬ومدّ يده يسلم عليه وير ّبت عىل كتفه مرح ًبا؛ “لقد قرأت‬
‫َ‬
‫أقتنع يف البداية بالعمل معك لوال ّ‬
‫أن السيد‬ ‫ملفك بعناية‪ ،‬وأصدقك القول مل ْ‬
‫ابتسم باسل وقال له‪“ :‬صدقني يا سيدي‬ ‫َ‬ ‫(عمر) ّأكد يل والءك للقضية”‪.‬‬
‫ثم أشار إىل أحد معاونيه‬‫متفه ًم ّ‬
‫الرجل رأسه ّ‬‫ُ‬ ‫هز‬
‫يرسك”‪ّ .‬‬ ‫سرتى م ّني ما ّ‬
‫ً‬
‫قائل‪“ :‬ابدأ الرشح يا إييل”‪.‬‬
‫َ‬
‫ضغط إييل‪ٌ -‬‬
‫رجل ثالثيني من ُع ْمر (باسل) تقري ًبا‪ ،‬وسيم‪ ،‬ذو شعر طويلٍ‬
‫أداة يف يده؛ فظهرت شاشة فراغية أمام اجلميع‬ ‫انحرس عن مقدمة رأسه‪ -‬عىل ٍ‬
‫لقص َمنيف عايل األسوار‪ ،‬به مساحة واسعة من األرض العشبية‪،‬‬
‫جمسم ْ‬
‫فيها ّ‬
‫محا َما سباحة ومبنيان صغريان؛ واحد بني البوابة اخلارجية وباب القرص‬
‫و ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪229‬‬
‫موقع‬
‫واضحا ُ‬
‫ً‬ ‫ِ‬
‫فابتعدت الصورة‪ ،‬وبدا‬ ‫زرا آخر‬
‫واآلخر خلف القرص‪ .‬ضغط ًّ‬
‫ٍ‬
‫جرف يرى البحر من بعيد‪ ،‬ويف‬ ‫سوره الغريب عىل‬ ‫القرص عىل ّتبة عالية ّ‬
‫يطل ُ‬
‫السور عىل طريق يمتدّ مواز ًيا للجرف املوجود غرب‬
‫ُ‬ ‫ناحيته الرشقية ّ‬
‫يطل‬
‫القرص‪.‬‬
‫بدأ إييل برشح الرتتيبات األمنية للقرص‪ ،‬وعدد الرجال القائمني عىل‬
‫محايته‪ ،‬وأماكن املركبات فيه‪ ،‬واملستشعرات املجهزة بمقذوفات ملهامجة‬
‫أي متسلل‪ ،‬وطريقة توزيع الطائرات الدقيقة التي حترس املكان‪ .‬فتح بعد‬
‫ِ‬
‫تواجد أفراده‪ ،‬وغرفة اجتامعات‬ ‫خمطط للقرص وأماكن‬ ‫ذلك صورة فيها ّ‬
‫وقت اهلجوم إىل جانب غرفة نومه وغرفة زوجته‬
‫أناندار املتوقع وجوده فيها َ‬
‫والغرف املخصصة ملامرسة ال ّلهو الذي يدمنه‪.‬‬
‫“مهمتنا من ش ّقني؛ ّ‬
‫األول قتل أناندار‪ ،‬والثاين هو القبض عىل‬ ‫ّ‬ ‫قال سامر‪:‬‬
‫فهم (باسل) من الرشح أنه‬ ‫حيا ل ُيعيننا يف حماكمة هريمني”‪َ .‬‬ ‫ِ‬
‫مساعده األول ًّ‬
‫اخلطة إلحداث أكرب قد ٍر من التأثري الدعائي ملحاكمة هريمني‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫قد ُعدِّ َلت‬
‫كل منهام لالعرتاف عىل‬ ‫ِ‬
‫مساعد أخيها معها‪ ،‬والتأثري عىل ّ‬ ‫وذلك بمحاكمة‬
‫كل تلك االعرتافات يف العلن‪.‬‬ ‫اآلخر‪ ،‬ونرش ّ‬
‫سأل أحد النياندرتال املوجودين ً‬
‫قائل‪“ :‬ماذا لو ُقتل املساعد يف أثناء‬ ‫َ‬
‫بدل من‬‫العملية؟”‪ .‬فأجاب سامر‪“ :‬سنكون ُمربين عىل اختطاف أناندار ً‬
‫فتدخل (باسل) ً‬
‫قائل بغضب‪“ :‬لقد اتّفقت مع زمالئكم يف مرص عىل‬ ‫قتله”‪ّ .‬‬
‫رصت من زمالئنا بمجرد‬
‫َ‬ ‫شذرا وقال‪ِ :‬‬
‫“من املفرتض أنّك‬ ‫سامر له ً‬
‫ُ‬ ‫قتله”‪ .‬نظر‬
‫قبولك االنضامم لنا!”‪ .‬تدخل إييل ً‬
‫قائل‪“ :‬سيد باسل‪ ،‬يمكنك أن حتمي هذا‬
‫املساعد ح ّتى ال تفقد فرصتَك يف االنتقام”‪ .‬فقالت ميساء‪“ :‬وبفرض ّأنم‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪230‬‬
‫اضطروا ملحاكمته مع أخته فإنه ُيمكنك بعدَ نرش اعرتافاته أن حترض تنفيذ‬
‫ّ‬
‫هز سامر رأسه مواف ًقا ْ‬
‫(ميساء) وهو يؤ ّمن عىل‬ ‫حكم إعدامه بنفسك”‪ّ .‬‬
‫وأشار له باجللوس وهو يقول‪“ :‬واآلن دعونا‬
‫َ‬ ‫ثم وقف مكان إييل‬ ‫كالمها‪ّ ،‬‬
‫نبدأ بخطة عملية برمانا”‪.‬‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪231‬‬
‫‪33‬‬
‫تقارير إعالمية عن إخالء منطقة‬ ‫َ‬ ‫جلست هريمني يف مكتبها تراجع‬ ‫ْ‬
‫واملهجرين منها الذين جتاوز عددهم اخلمسني أل ًفا‪،‬‬‫ّ‬ ‫الدويقة وهد ِم بيوهتا‪،‬‬
‫مركبات كبرية وأنزلوهم يف صحراء طرة عند احلدود بني األرض‬ ‫ٍ‬ ‫ُه ِّجروا يف‬
‫اإلدانات الدولية تتواىل‪ ،‬وأديتيا تر ّد بأهنا دولة‬
‫ُ‬ ‫املحتلة وباقي مرص‪ .‬كانت‬
‫حرة‪ ،‬وال بدّ هلا من معاجلة (مشكلة اإلرهاب ا ُملستفحلة فيها) ح ّتى ْ‬
‫وإن أ ّدى‬ ‫ّ‬
‫األمر إىل إخالء ّ‬
‫كل املناطق الشبيهة‪.‬‬
‫وس ًعا يف إدانتها ملقتل النساء األديتيات احلوامل ح ّتى‬ ‫تدخر ُ‬
‫دول العامل ْ‬ ‫ْ‬ ‫مل‬
‫مثل أدانتا اجلريم َة بأشدّ العبارات‪ّ ،‬‬
‫وأكدتا عىل‬ ‫الدّ ول املحتلة‪ .‬تركيا ومرص ً‬
‫أن املقاوم َة حقّ َمرشوع للشعوب‪ّ ،‬‬
‫لكن املقاومة ال ينبغي أن توجه للمدنيني‬
‫جلسة جملس األمن كانت‬‫ِ‬ ‫وينبغي أن ال ت ّتخذ ذريع ًة جلرائم كتلك‪ .‬يف‬
‫ألي دولة يف‬
‫تسمح ّ‬
‫َ‬ ‫إن أديتيا سرتد‪ ،‬ولن‬‫ثقة وتقول ّ‬ ‫هريمني تتحدث بكل ٍ‬
‫العامل بالضغط عليها يف مثل هذا األمر‪.‬‬
‫كانت منشية نارص هي التجرب َة األوىل‪ ،‬وإذا نجحت وكانت ذات جدوى‬
‫تتبعها مناطق أخرى أوهلا إمبابة ومسطرد‬ ‫ٍ‬
‫مادية كبرية وهو املتوقع؛ فسوف ُ‬
‫يف مرص وجوبر وبرزة يف دمشق وأجزاء من ضاحية بريوت اجلنوبية وبعض‬
‫الضواحي القديمة يف مدينتي أضنة وإزمري برتكيا‪.‬‬
‫فتسمرت املرأة‬
‫ّ‬ ‫طلبت منها بعض األوراق‬
‫ْ‬ ‫نادت عىل مساعدهتا اجلديدة‪،‬‬
‫ْ‬
‫تكبت رغبتها يف صفعها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫نفسا عمي ًقا وهي‬ ‫ِ‬
‫مكانا كأهنا مل تفهم‪ ،‬فأخذت ً‬ ‫يف‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪232‬‬
‫ترتحم عىل كمريدا التي كانت يف أواخر‬‫غرضها‪ ،‬وهي ّ‬ ‫َ‬ ‫رشحت هلا ثاني ًة‬
‫ريا ّ‬
‫تذك ُر كمريدا وتفقد أحوال ولدها‬ ‫يعن هلا كث ً‬
‫رجلي‪ّ .‬‬
‫ْ‬ ‫احلمل تعمل بطاقة‬
‫ري حني ماتت ميتة طبيعية َ‬
‫دون أن يقتلها أحدٌ‬ ‫وزوجها‪ ،‬وشعرت بارتياح كب ٍ‬
‫بسكينه‪ ،‬وحني استطاعوا إنقاذ حياة طفلها‪.‬‬
‫قصت عىل (باسل) تفاصيل الساعات‬ ‫ارتعبت ً‬
‫قليل من احتامل أن تكون ّ‬ ‫ْ‬
‫وكل يشء طبيعي‪ ،‬مقابلة الزوج هلا يف‬ ‫مر ِ‬
‫ت األيام ُّ‬ ‫األخرية قبل موهتا‪ ،‬لكن ّ‬
‫وأحست منها‬
‫ّ‬ ‫أكثر من عادية‪ ،‬ومقابالته الالحقة كانت ودية‪،‬‬ ‫اجلنازة كانت َ‬
‫ًّ‬
‫مستغل شفقتَها عىل وفاة زوجته‪ ،‬بل‬ ‫أنه ربام يريد أن َ‬
‫ينال منص ًبا جديدً ا‪،‬‬
‫وجدته يتو ّدد إىل (لؤي) وإىل مساعدهتا اجلديدة‪.‬‬
‫زارتا كمريدا يف املنام منذ عدة أيام‪ ،‬وقالت إهنا‬
‫أيضا حني ْ‬ ‫زا َد ارتياحها ً‬
‫هبي‪ ،‬وأوصتها عىل (باسل)‪،‬‬ ‫تنعم اآلن يف ملكوت ّ‬‫وإن روحها ُ‬ ‫ساحم ْتها‪ّ ،‬‬
‫أقنعت هريمني نفسها ّ‬
‫أن احللم‬ ‫ْ‬ ‫وعىل ابنها عالء‪ .‬رغم ّأنا مل تكن متدينة‪،‬‬
‫وأنا ساحمتها‪ ،‬واستد ّلت عىل ذلك‬ ‫زارتا بالفعل‪ّ ،‬‬
‫وأن روح كمريدا ْ‬ ‫حقيقي‪ّ ،‬‬
‫بأنا اختارت ً‬
‫اسم لطفلها‪.‬‬ ‫بأهنا ال تتذكر أن كمريدا أخربهتا ّ‬
‫صوتيا‪،‬‬
‫ًّ‬ ‫َ‬
‫االتصال الذي كان‬ ‫جهاز االتصال يف معصمها‪ ،‬فتحت‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫رن‬
‫صوت ماندريك ً‬
‫قائل بنعومة‪“ :‬أمل تفتقديني يا عزيزيت هريمني‪ ..‬أال‬ ‫ُ‬ ‫فجاءها‬
‫بصوت مرتعد‪“ :‬كيف وصلت‬ ‫ٍ‬ ‫امتقع وجهها وسألته‬
‫َ‬ ‫حت ّنني أليام الشّ باب؟”‪.‬‬
‫ضاحكا يقول بسخرية‪“ :‬أحدّ ثك عن‬ ‫ً‬ ‫ِ‬
‫لكود االتّصال يب؟”‪ .‬جاءها صو ُته‬
‫أشواقي فتكرسين بخاطري هكذا‪ ..‬عمو ًما لن أيأس‪ ،‬وسأحاول اختطا َفك‬
‫فهم ما يرمي إليه‪ .‬قالت‪“ :‬ملاذا؟”‪.‬‬
‫ثانية‪ ،‬أتعرفني ملاذا؟”‪ .‬صمتت وهي حتاول َ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪233‬‬
‫ضمك‬ ‫ُ‬
‫أشتاق إليك دو ًما‪ ،‬وأريدك جانبي‪ ،‬وأعلم أنّني أستطيع ّ‬ ‫فقال‪“ :‬ألنني‬
‫أمخاسا يف‬
‫ً‬ ‫ترضب‬
‫ُ‬ ‫لص ّفي ضدّ حكومتك الفاسدة”‪ .‬أغلق االتصال وتركها‬
‫َ‬
‫وسط سيلٍ من األفكار واملشاعر املتناقضة‪.‬‬ ‫أسداس‪،‬‬
‫حاولت االندماج يف عملها ثانية بدون جدوى‪ ،‬لدرجة ّأنا قررت أن‬ ‫ِ‬
‫حتول فكرهتا‬ ‫اليوم وتأخذ (لؤي) وخادمتها العجوز يف نزهة‪ .‬قبل أن ّ‬
‫َ‬ ‫تنهي‬
‫فانحنت غريز ًّيا حتتمي‬
‫ْ‬ ‫صوت انفجار يأيت من فناء املبنى‬
‫ُ‬ ‫أذنا‬
‫صم َ‬
‫لقرار‪ّ ،‬‬
‫سمعت صوت جلبة يف اخلارج وأزيزَ مركبتني وإطالق‬ ‫ْ‬ ‫ثم‬
‫حتت مكتبها ّ‬
‫قذائف‪.‬‬
‫باب مكتبها عنوة‪ ،‬ودخل (لؤي) وقال‪“ :‬سيديت‪ ،‬هل أنت بخري؟”‪.‬‬ ‫انفتح ُ‬
‫رسيعا‪ ،‬يبدو أن هناك‬
‫ً‬ ‫فر ّدت باإلجياب وهي تعتدل واقفة‪“ .‬ال بدّ أن ننرصف‬
‫ريا عىل مكتبك”‪ .‬قال وهو يمسك يدَ ها وجيذهبا للخارج‪ .‬اندفعت‬ ‫هجو ًما كب ً‬
‫ٌ‬
‫واقف‬ ‫وختمن أنّه ال بدّ خاطبها وهو‬
‫كالم ماندريك‪ّ ،‬‬ ‫جتري معه وهي ّ‬
‫تتذكر َ‬
‫مخنت ّ‬
‫أن هناك خطة‬ ‫يطمئن عىل وجودها بالداخل‪ ،‬و ّ‬
‫ّ‬ ‫خارج مكتبها يريد أن‬
‫لقتلها أو اختطافها ‪.‬‬
‫خلطة الطوارئ ا ُمل َعدة لتلك الظروف‪ ،‬تبعت (لؤي) إىل القبو حيث‬ ‫طب ًقا ّ‬
‫خمصصة هلا وحلارسها الشخيص‪ ،‬ومركبتان‬ ‫مركبات اهلروب؛ مركبة ّ‬
‫ُ‬ ‫تقبع‬
‫واتذت مكاهنا يف‬ ‫اندفعت إىل مركبتها ّ‬
‫ْ‬ ‫مسلحتان جيدً ا حلراستها هي‪.‬‬
‫تسمع أصوا ًتا مكتومة‬
‫ُ‬ ‫والسائق‪ .‬انتظرت قلقة وهي‬
‫اخللف وأمامها (لؤي) ّ‬
‫هتفت بلؤي حتثّه اإلرساع‪ ،‬فتح‬
‫ْ‬ ‫الوضع ُمضطرب‪،‬‬
‫َ‬ ‫تصدر من األعىل تنبئ أن‬
‫ُ‬
‫الرجال يدخلون إىل املركبتني الثانيتني‪،‬‬ ‫َ‬
‫جهاز اتّصاله وقبل أن يتكلم كان‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪234‬‬
‫ويف حلظات كانت طاقة تنفتح يف األرض وخترج منها املركبات الثالث‬
‫منطلقة برسعة‪.‬‬
‫عىل ُبعد حوايل كيلومرت من الڤيال التي يقبع فيها مكتب هريمني‪ ،‬كان‬
‫وهيم باالنرصاف هو وزميله األديتي‪ .‬كانت‬ ‫يلملم أجهزة التحكم‪ّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫(ضياء)‬
‫تلك هي املر َة األوىل التي يعمل فيها جن ًبا إىل جنب مع املقاومني من هؤالء‬
‫موضوع التعاون مع كتائب احلرية (غري النظامية والتي يقودها‬
‫ُ‬ ‫القوم‪ ،‬كان‬
‫ومع أعضائها من النياندرتال ال يزال ُيربك تفكريه جدًّ ا‪،‬‬
‫عمر عوض اهلل) َ‬
‫ثم عمل مع‬ ‫عمل يف الرشطة قبل االحتالل‪ّ ،‬‬‫فهو رجل نظامي طيلة عم ِره‪َ ،‬‬
‫انضم إىل كتائب‬
‫ّ‬ ‫املحتلني يف العمل نفسه‪ ،‬وحني اعتزهلم وأرا َد أن يقاومهم‬
‫النرص حتت إمرة ضباط من املخابرات املرصية‪.‬‬
‫ومعه زميله حيمل حقيبة أخرى أكرب‪ ،‬وبدءا يمشيان‬ ‫َ‬
‫محل حقيبته عىل كتفه‪َ ،‬‬
‫مقر عملهام‪ .‬كان دورمها يف‬ ‫يف شوارع فسيحة هبدوء كأهنام ّ‬
‫موظفان يغادران ّ‬
‫َ‬
‫وإحداث أكرب قدر من‬ ‫مقر هريمني‪،‬‬ ‫َ‬
‫إطالق جمموعة من القذائف عىل ّ‬ ‫اخلطة‬
‫ُ‬
‫تنفيذ اجلزء الثاين من خطة‬ ‫االرتباك إلجبارها عىل االنْرصاف برسعة ليبدأ‬
‫اختطافها‪.‬‬
‫انطلقت هريمني يف طريقها إىل ِ‬
‫أحد املنازل املخصصة ملثل تلك املواقف‬ ‫ْ‬
‫اخلطرة‪ ،‬كان الطريق ُم ً‬
‫اطا برس ّية شديدة‪ ،‬ال يعرفه ّإل حارسها الشخيص وسائقها‬
‫َ‬
‫قبل االنطالق مبارشة‪ .‬مل تسلك الطريقَ املبارش من هريدفاديل (‪ 6‬أكتوبر) إىل‬
‫تضم أجزا ًءا يف القطامية ومدينة نرص؛ بل سلك املوكب طر ًقا‬
‫نارافاديل التي ّ‬
‫هنر النيل فوق جزيرة الروضة إىل القاهرة‪.‬‬
‫عابرا َ‬
‫صغرية يف قلب اجليزة ً‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪235‬‬
‫يمر عىل كورنيش النيل ليدخل إىل شربا‬ ‫مسار املوكب بعد ذلك ّ‬ ‫ُ‬ ‫كان‬
‫يدخل ملدينة نرص من ّاتاه بعيد متا ًما عن تفكري املقاومني‪ ،‬الذين وال بدّ‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫ّ‬
‫َ‬
‫مسئول األمن‪،‬‬ ‫أي نقطة يف الطريق املبارش‪ .‬خاطبت هريمني‬ ‫يرتبصون يف ّ‬
‫مقرها‪ ،‬فأجاهبا‬
‫توصلوا إىل مطلقي القذائف عىل ّ‬ ‫لتسأله إن كان رجا ُله قد ّ‬
‫ِ‬
‫أغلقت االتصال معه‪،‬‬ ‫بالنفي‪ ،‬وبالتأكيد عىل ّأنم يبذلون قصارى جهدهم‪.‬‬
‫متض حلظات ح ّتى ارجتت مركب ُتها بفعل انفجا ٍر يف مركبة احلراسة فوقها‪،‬‬ ‫ومل ِ‬
‫عش دراجات طائرة حتارص موكبها‪.‬‬ ‫وظهرت من العدم ما يربو عىل ْ‬
‫زا َد سائق مركبتها من رسعته‪ ،‬واشتبكت مركبتا احلراسة مع الدراجات‪،‬‬
‫طلب (لؤي) املد َد من أقرب نقطة جتمع‪ ،‬وجاءه الر ّد باإلجياب‪ .‬يف دقائق‬
‫ست دراجات مهامجة‪ ،‬وال َذ‬ ‫َ‬
‫إسقاط ّ‬ ‫استطاعت مركبتا احلراسة‬
‫ْ‬ ‫معدودة‪،‬‬
‫البقية بالفرار يف شوارع جانبية‪ ،‬لكن ّ‬
‫تعطلت إحدامها ومل تعدْ هلا القدرة عىل‬
‫انطلقت هريمني ثانية بمرافقة مركبة واحدة‪.‬‬
‫ْ‬ ‫مرافقتها‪ ،‬وبالتايل‬
‫طريقه غري عابئ بقوة االنحرافات التي‬‫ِ‬ ‫ُ‬
‫السائق رسعة عالية يف‬ ‫استخدم‬
‫جتاوز ثلثي الطريق‬
‫بقوة‪ ،‬وتكاد تسقط‪ .‬بعد ُ‬ ‫جتعل هريمني تتاميل ّ‬ ‫ُ‬ ‫كانت‬
‫ُ‬
‫سائق‬ ‫ضعف مسافة الطريق املعتاد‪ ،‬فوجئ‬ ‫ِ‬ ‫مسافته عن‬
‫ُ‬ ‫املرهق‪ ،‬الذي تزيد‬
‫مركبة احلراسة املتب ّقية بمركبة تسدّ الطريق عليه‪ ،‬وتطلق عدّ ة قذائف متتالية‪.‬‬
‫َ‬
‫إطالق‬ ‫أن استطاع‬‫عطلتها متا ًما‪ ،‬لكن بعد ِ‬ ‫ٍ‬
‫إصابات كبرية ّ‬ ‫أصيبت مركبته‬
‫قذيفة فجرت املركبة ا ُملهامجة‪ ،‬وجعلتها تسقط مشتعلة عىل األرض‪.‬‬
‫ترجل قائدُ مركبة احلراسة وأخرج منها دراج ًة طائرة ركبها ووقف هبا‬
‫ّ‬
‫جوار مركبة هريمني‪ ،‬وهو يطلب من قائدها االستمرار يف طريقه بمرافقته‪.‬‬
‫َ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪236‬‬
‫أن مسارنا معروف لدهيم‪ّ ،‬‬
‫وأن‬ ‫استدار (لؤي) هلريمني وقال‪“ :‬سيديت‪ ،‬يبدو ّ‬
‫هناك أحدً ا ّ‬
‫دلم عليه‪ ،‬ال بدّ أننا سنجد كمينًا ثال ًثا يف طريقنا”‪ .‬سألته يف توتر‪:‬‬
‫“إ ًذا‪ ،‬ماذا تقرتح؟”‪.‬‬
‫نأخذ املركبة ومعنا احلارس اإلضايف ون ّتجه إىل منزل أرسيت”‪.‬‬ ‫“أقرتح أن َ‬
‫ُ‬
‫سألته‪“ :‬أين؟”‪ .‬فقال‪“ :‬يف وسط القاهرة‪ ،‬بالقرب من حمطة القطار الكهربائي‬
‫الرئيسية”‪.‬‬
‫بعدَ دقيقة من الرت ّدد حسمت قرارها ووافقت عىل أن تتبع خطة لؤي‪.‬‬
‫احلارس عىل دراجته الطائرة‪ ،‬ولؤي يدل‬
‫ُ‬ ‫بدأت مركب ُتها يف التحرك يتبعها‬
‫طلب منها أن تغلق ّ‬
‫كل أجهزة التعقب يف املركبة‪،‬‬ ‫قائد املركبة عىل الطريق‪َ .‬‬
‫سبب‬
‫ُ‬ ‫ويف معصمها‪ ،‬وتلك املوجودة مع احلارس املرافق هلم؛ فقد يكون‬
‫فكرت ً‬
‫قليل‪ ،‬مل تسلم‬ ‫اخرتاق املقاومني لتلك األجهزة‪ّ .‬‬
‫َ‬ ‫الترسب األمني هو‬
‫لكن كال َمه منطقي؛ وهي إن تركت أجهزة‬ ‫األمان أبدً ا لشخص بتلك ّ‬
‫الطريقة ّ‬
‫جمرد‬
‫أشخاصا كثريين عىل حياهتا‪ ،‬وليس ّ‬
‫ً‬ ‫التعقب تعمل ستكون قد ائتمنت‬
‫ووافقت عىل اقرتاحه‪.‬‬
‫ْ‬ ‫حارس واحد‪ .‬يف النهاية حسمت أمرها‬
‫أن مسار املركبة يميض بسالسة دون كامئن‬ ‫بدأت تطمئن ً‬
‫قليل حني رأت ّ‬ ‫ْ‬
‫ريه‪ ،‬فهناك فشل‬ ‫احلاكم وأخربته ّ‬
‫أن مسئول األمن ينبغي تغي ُ‬ ‫َ‬ ‫جديدة‪ .‬طلبت‬
‫ومع حمافظ‬
‫أيضا‪ -‬بالتحقيق معه َ‬ ‫ذريع يف محايتها ومحاية أرسارها‪ ،‬أوصت‪ً -‬‬
‫متعمدً ا ملا بينها وبينهم‬ ‫اجلنوب مدعية ّ‬
‫أن ذلك اإلمهال يف محايتها قد يكون ّ‬
‫من البغض الظاهر‪.‬‬
‫مجيعا ُملصون ألديتيا‪ ،‬وأن مثل‬
‫روعها‪ ،‬وأخربها أهنم ً‬
‫احلاكم من ْ‬
‫ُ‬ ‫هدّ أ‬
‫وارد احلدوث‪“ .‬ال تنيس ّ‬
‫أن هؤالء املخربني جيمعون بني دراية‬ ‫تلك األخطاء ُ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪237‬‬
‫األرضيني بمدهنم وطرقها وبني دراية األديتيني بطرقنا األمنية‪ّ ،‬‬
‫وأن هلم‬
‫املقص إن وجد”‪.‬‬
‫لكن ذلك ال يمنع من حماسبة ّ‬ ‫عمالء بيننا بال شك‪ّ ،‬‬
‫أمر (لؤي) القائد أن‬
‫بدأت تسري يف شارع جانبي حني َ‬ ‫ْ‬ ‫كانت املركبة قد‬
‫طلب منها النزول وهو يقول‪“ :‬سوف‬‫ثم َ‬ ‫ترجل (لؤي) ً‬
‫أول ّ‬ ‫َ‬
‫يوقف املركبة‪ّ .‬‬
‫ثم سأطلب القيادة‬ ‫وأطمئن إىل أن أحدً ا مل يتبعنا ً‬
‫أول‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ندخل إىل البيت‪،‬‬
‫ريا الستخراجك من هنا”‪ .‬قالت وهي‬ ‫أبلغهم بالعنوان لرتسل لنا مد ًدا كب ً‬
‫تصعدُ معه السلم وقد اطمأنّت له متا ًما‪“ :‬حسنًا‪ .‬واطلب من القائد واحلارس‬
‫أن ال يقو َما بتشغيل أجهزة التتبع ح ّتى وصول املدد”‪.‬‬
‫فتح الباب هلا‪ ،‬وأدخلها إىل استقبال الشقة‪ ،‬وأجلسها عىل أريكة كبرية‬ ‫َ‬
‫وضعه أمامها عىل طاولة صغرية‪ .‬استأذن منها‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫أحرض هلا كو ًبا من العصري‬ ‫ثم‬
‫ّ‬
‫رسيعا ليقوم بطلب املدد‪ ،‬فأذنت له‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ثم العودة هلا‬
‫للخروج إىل الرجلني ّ‬
‫ِ‬
‫النظر نحو احلارس الذي كان‬
‫َ‬ ‫خرج إىل مدخلِ البيت ووقف متح ّف ًزا مسرت ًقا‬
‫صوبه عىل رقبة احلارس‬
‫ثم ّ‬ ‫سالحه هبدوء حذر‪ّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫فعل‬
‫ال يزال عىل دراجته‪ّ .‬‬
‫نحو املركبة مطل ًقا عد َة قذائف نحو قائدها‬ ‫ثم قفز َ‬ ‫وأطلقه فأسقطه ً‬
‫أرضا‪ّ ،‬‬
‫رصيعا‪.‬‬
‫ً‬ ‫خر‬‫الذي ّ‬
‫ري الذي كان الذع الطعم بشكل‬ ‫يف الداخل‪ ،‬كانت هريمني ترشب العص َ‬
‫إن أكملته ح ّتى سمعت صو ًتا مألو ًفا هلا يقول بأديتية سليمة‪:‬‬
‫ُم ّبب‪ .‬ما ْ‬
‫التفتت بفزع فوجدت‬
‫ْ‬ ‫“مرح ًبا بك يف ضيافة رجال املقاومة يا هريمني”‪.‬‬
‫أما َمها ماندريك واق ًفا وعىل وج ِهه ابتسامة ظف ٍر عريضة‪ ،‬فتحت َ‬
‫فمها لتتكلم‬
‫ٍ‬
‫وبسواد يغيش‬ ‫لكنها شعرت بدوار شديد‪ ،‬وباألرض تنزلق من حتت قدميها‪،‬‬
‫ثم غرقت يف سبات عميق‪.‬‬‫عينيها‪ّ ،‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪238‬‬
‫‪34‬‬
‫سياحيا يقصده القايص والداين يف‬
‫ًّ‬ ‫منتجعا‬
‫ً‬ ‫قرص أناندار َ‬
‫قبل الغزو‬ ‫كان ُ‬
‫صارت جز ًءا من جبلتافاديل‪ ،‬وهي مدينة‬‫ْ‬ ‫قلب جبلِ لبنان‪ ،‬يف برمانا التي‬
‫تزوجوا‬
‫وصار يسكنها غالبية من النياندرتال و َمن ّ‬
‫َ‬ ‫معظم جبل لبنان‪،‬‬
‫َ‬ ‫ضمت‬
‫اخلطة تقتيض التس ّل َل للقرص من اجتاهني؛ األول من جهة‬
‫ُ‬ ‫من نسائهم‪ .‬كانت‬
‫سوره الغريب الذي يطل عىل اجلرف‪ ،‬عن طريق املرو ِر من البيوت التي ّ‬
‫حتتل‬
‫بيت فارغ‬‫املستوى األدنى يف اجلبل‪ ،‬والثاين من ناحية الشامل حيث يوجد ٌ‬
‫من أهله يف هذا الوقت من العام وال يفص ُله عن سور القرص سوى ّ‬
‫ممر قصري‬
‫ٌ‬
‫جمموعة من مخسة عرش‬ ‫من األشجار‪ .‬يف ذلك البيت جتمع عىل مدى الليل‬
‫الثوار النياندرتال‪.‬‬
‫تقنيني ومعهم (باسل)‪ ،‬وأغلبهم من ّ‬ ‫ُ‬
‫ثالثة ّ‬ ‫فر ًدا‪ ،‬منهم‬
‫وقت‬
‫يفصل بني دخوهلم ٌ‬ ‫ُ‬ ‫أزواجا‬
‫ً‬ ‫دخل هؤالء الثوار إىل ذلك البيت فرا َدى أو‬
‫يقارب النصف ساعة‪.‬‬
‫صباحا وقد قىض الساعات‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫وصل (باسل) ملكان التجمع يف الثانية‬
‫معا الكثري من‬‫(ميساء) قبل أن يرتكها وينطلق‪ .‬تبادال ً‬
‫الثالث السابقة مع ْ‬
‫كل منهام‪ .‬تشعب‬ ‫األب يف حياة ّ‬
‫ِ‬ ‫األحاديث التي بدأت بالنقاش حول دور‬
‫احلديث بينهام كام صديقني قديمني التقيا بعدَ فراق‪ ،‬وحني صمتَا ومل يعدْ‬
‫ثمة جمال لنقاش عام استجمعت شجاعتَها وسألته عن السبب الذي جعله‬ ‫ّ‬
‫غي طريقته يف التعامل مع الثوار‬ ‫يرتكها تعيش يف ّأول ٍ‬
‫مرة تقابال فيها‪ ،‬ملاذا ّ‬
‫حتت يده؟‬
‫الذين يقعون َ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪239‬‬
‫يكن متأكدً ا من السبب‪ ،‬ومل ير ْد أن خيربها‬
‫مل يعرف كيف جيي ُبها‪ ،‬فلم ْ‬
‫كب َل ذراعه‪ٌ ،‬‬
‫سهم نفذ إىل داخله‬ ‫ثمة شيئًا يف عينيها ّ‬ ‫مخن بعد احلادثة أن ّ‬ ‫أنه ّ‬
‫إحساسه بالوالء لعمله ولكمريدا من االعرتاف به‪ .‬كان‬
‫ُ‬ ‫منعه‬
‫واستقر‪ ،‬لكن َ‬
‫ّ‬
‫يكن يستقيم‬
‫تلقائيا يف قائمة أعدائه‪ ،‬ومل ْ‬
‫ًّ‬ ‫ُ‬
‫وجود إنسان ضمن املقاومني جيعله‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫امرأة تناصبه العداء‪ ،‬وتنعته باخلائن‪ ،‬وتسخر من‬ ‫له أن يرتك قل َبه يذهب إىل‬
‫باسل وهو حيارب يف ّ‬
‫صف الغزاة‪.‬‬ ‫تسميته ً‬
‫ذات العينني اللتني حركتا يف داخله‬‫الليلة‪ ،‬وهو جالس معها‪ ،‬كان يطالع َ‬
‫ري من الود‪ .‬هي الفتاة نفسها‬ ‫وحل حم ّله الكث ُ‬
‫ّ‬ ‫مانع العداوة‬
‫ري‪ ،‬وقد زال ُ‬ ‫الكث َ‬
‫وجود سالح يف يده‪ ،‬وفارق‬
‫ُ‬ ‫يكبلها‪ ،‬ومل يمنعها‬‫التي قاوم ْته برشاسة حني كان ّ‬
‫ري غضبه‪ .‬تلك الفتاة التي أثارت‬ ‫وتسخر منه وتث َ‬
‫َ‬ ‫القوة بينهام من أن تر ّد عليه‬
‫تتحرك عاطفته نحوها فيهمس‬ ‫ّ‬ ‫جتلس اآلن بني يديه‪،‬‬‫ُ‬ ‫إعجابه وهي عدوة‬
‫ينهره بسبب اإلحساس ّ‬
‫بالذنب جتاه كمريدا‬ ‫ثم جيد قلبه ُ‬ ‫يعب عنها‪ّ ،‬‬
‫بكال ٍم ّ‬
‫التي فشل يف محايتها‪ ،‬فيغري الكالم ملوضوع آخر‪.‬‬
‫غصة يف حلقه حني ينظر ألخرى‬ ‫لو كانت كمريدا عىل ْقيد احلياة ملا وجدَ ّ‬
‫يشعر اآلن‪ .‬بعدَ موهتا بتلك الطريقة‪ ،‬بعد فشله يف محايتها‪ ،‬يشعر أنه ال‬ ‫ُ‬ ‫مثلام‬
‫حيقّ له أن يسعدَ يف عالقة مع امرأة أخرى؛ شعور جيعل احلديث بينه وبني‬
‫لكن‬ ‫ً‬
‫حارضا يف نفسه‪ّ ،‬‬ ‫ريا مقل ًقا حمفو ًفا باملخاطر‪ .‬كان هذا قيدً ا‬
‫(ميساء) عس ً‬‫ْ‬
‫ٍ‬ ‫َ‬
‫القيد األسوأ كان هو اخلوف من خذالن امرأة ثانية‪ ،‬والفشل يف محايتها‪ ،‬وأن‬
‫متوت فيها امرأته بني ذراعيه وهو عاجزٌ عن إنقاذها‪.‬‬ ‫يمر بتجربة أخرى ُ‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫بحرارة وقال‪“ :‬تكلمنا ثالث ساعات‬ ‫يف الواحدة والنصف و ّدعها‬
‫لكنها تساوي عندي ثالث َة أعوام‪ ،‬أشعر أنني أعر ُفك من زمن بعيد”‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪240‬‬
‫ابتسمت بخجل ومل تر ّد‪ ،‬فقال‪“ :‬كوين حريصة‪ ،‬ال تثريي قلقي عليك‪،‬‬
‫قرر فصلهام يف‬‫أطلقت سبا ًبا لسامر الذي ّ‬
‫ْ‬ ‫ثم‬
‫هذا رجاء” اتّسعت ابتسامتها ّ‬
‫َ‬
‫الضيف يعمل جند ًّيا حتت‬ ‫جمموعتني خمتلفتني وقوانني املقاومني التي جتعل‬
‫إمرة قائد املكان األسايس‪.‬‬
‫عدد‬
‫صباحا؛ الوقت الذي ينخفض فيه ُ‬ ‫ً‬ ‫اقرتبت ساعة الصفر‪ ،‬وهي الثالثة‬
‫ْ‬
‫االعتامد األسايس عىل الطائرات الدقيقة‪.‬‬‫ُ‬ ‫احلراس إىل احلد األدنى‪ ،‬ويصري‬‫ّ‬
‫ّ‬
‫وقدرتا عىل املحاورة وات ُاذ القرارات‬
‫ُ‬ ‫ذكاء تلك الطائرات االصطناعي‬‫كان ُ‬
‫اجلميع يتعامل معها كأشخاص معاملة‬ ‫َ‬ ‫يف املراقبة واحلراسة والقتال؛ جيعل‬
‫وكانت كافية وحدها لبدْ ء حرب‪ ،‬والفوز هبا‪.‬‬
‫ْ‬ ‫الند بالندّ ‪،‬‬
‫كل الطائرات الدقيقة التي حترس القرص‬ ‫ِ‬
‫باخرتاق برجمة ّ‬ ‫بدأ التقنيون‬
‫بأن ّ‬
‫كل يشء يسري يف جمراه الطبيعي‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بيانات تفيد ّ‬ ‫وساكنيه‪ ،‬وجعلها تعطي‬
‫بدأت املجموعة بتس ّلق السور الشاميل من ِ‬
‫عدة نقاط مقابل أماكن‬ ‫ِ‬ ‫بعد ذلك‬
‫حسب ما كانت تنقل هلم كامريات‬‫َ‬ ‫السور من الداخل‬‫تواجد حراس ّ‬
‫ِ‬
‫هببوط‬ ‫كل واحد منهم كان مكل ًفا‬‫الطائرات التي سيطر التقنيون عليها‪ّ .‬‬
‫ٍ‬
‫صاعق كهربائي‬ ‫ٍ‬
‫جلبة عن طريق‬ ‫السور مقابل حارس وإسقاطه دون إحداث‬
‫درع احلارس إىل شحنة قوية تفرغ يف جسمه وتسقطه يف ثوان قليلة‪.‬‬
‫حيول َ‬
‫ثم أدرك ّ‬
‫أن‬ ‫َ‬
‫إسقاط احلارس الذي اشتبك معه‪ّ ،‬‬ ‫استطاع (باسل) برسعة‬
‫ً‬
‫مشتبكا مع احلارس الذي يستهدفه‪ ،‬فساعده عىل‬ ‫األقرب له ال يزال‬
‫َ‬ ‫الرجل‬
‫ٌ‬
‫جمموعة أخرى من زمالئهم قد تقدّ موا‬ ‫اإلجهاز عليه‪ .‬يف الوقت نفسه‪ ،‬كانت‬
‫محام السباحة لإلجهاز عىل املجموعة‬
‫السور عن ّ‬ ‫ُ‬
‫تفصل ّ‬ ‫بني األشجار التي‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪241‬‬
‫ٍ‬
‫بسالسة ح ّتى هذه‬ ‫يمر‬
‫كل يشء ّ‬ ‫الباقية من احلراس يف هذا اجلزء‪ .‬كان ّ‬
‫اللحظة‪ ،‬وهو ما جعل (باسل) يشعر أن هناك شيئًا غري طبيعي‪.‬‬
‫نقاط ُمتقاربة حول مدخل املبنى الرئييس للقرص يف‬ ‫ٍ‬ ‫مجيعا يف‬
‫متركزوا ً‬
‫انتظا ٍر لتأكيد املجموعة الثانية التي ستهاجم من ناحية السور الرشقي‪.‬‬
‫كان من ا ُملفرتض أن يتسلقوا مساف ًة صغرية‪ ،‬ح ّتى يصلوا إىل السور الذي‬
‫أقل من ناحيته‪ .‬أخذ (باسل) يراجع معدّ اته ليرسع مرور‬‫كان عدد احلراس ّ‬
‫مهمة املجموعة‬
‫تدل عىل إمتام ّ‬ ‫الدقائق القليلة القادمة ح ّتى تأتيهم إشار ٌة ّ‬
‫تضم ميساء‪.‬‬
‫الثانية التي كانت ّ‬
‫(ميساء)‬
‫منتظرا يف مكمنه كانت ْ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫باسل‬ ‫يف الوقت الذي كان جيلس فيه‬
‫السور إىل داخل القرص من نقطة خالية من احلراس‪ .‬تسللت هبدوء‬ ‫َ‬ ‫هتبط‬
‫رت يف حدائق رائعة التصميم‬ ‫هي وجمموعتها قاطعنيَ مسافة تقارب املائة م ٍ‬
‫بعضهن واقفات‬
‫ّ‬ ‫تتخللها نوافري صغرية ومتاثيل فضية اللون لفتيات ِحسان‬
‫ّ‬
‫وكأن‬ ‫مجيعا برشية‬
‫وجوههن ً‬
‫ّ‬ ‫يف دالل وأخريات جالسات عىل أرائك‪ .‬كانت‬
‫أشيع عنه‪ .‬عندما جتاوروا‬‫حيب اإلناث من بني جلدته كام َ‬‫صاحب القرص ال ّ‬
‫ّ‬
‫املطل عىل الباب اخللفي‬ ‫مجيعا عند صف األشجار األخ ِ‬
‫ري‬ ‫احلدائق متركزوا ً‬
‫للقرص‪ .‬انتظروا بعض الوقت ح ّتى يصل آخرهم إىل نقطة متركزه‪ ،‬وقد كانت‬
‫كأنم‬
‫أمام أحد منهم ّ‬‫الطائرات الدقيقة حتوم جيئة وذها ًبا دون أن تتوقف َ‬
‫ري مرئية هلا‪ ،‬وهو ُ‬
‫دليل كفاءة التقنيني الذين اخرتقوها‪.‬‬ ‫أشباح غ ُ‬
‫صوت متثال يسقط ُمْد ًثا جلبة فنظرت‬
‫َ‬ ‫فجأة سمعت بالقرب منها‬
‫ٍ‬
‫واحد من جمموعتها وقد دفعه‬ ‫خلفها فإذا واحدٌ من عاميل القرص يشتبك مع‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪242‬‬
‫واضحا ّ‬
‫أن ذلك‬ ‫ً‬ ‫دفعة قوية صدمته بال ّتمثال‪ ،‬فوقع ُمد ًثا ذلك الدوي‪ .‬كان‬
‫َ‬
‫تصادف مع وقت اقتحامهم‪.‬‬ ‫وقت غري مناسب‬ ‫الشخص كان موجو ًدا يف ٍ‬

‫هجم املقاوم عىل ذلك العامل يف القرص‪ ،‬وقبل أن يرصعه تصاعدت‬ ‫َ‬
‫أصوات من رشفات القرص يف طوابقه العليا أشبه بانفجارات مكتومة‬
‫واتهت نحو أماكن‬ ‫خرجت منها طائرات صغرية كثيفة العدد‪ّ ،‬‬
‫ْ‬ ‫ثم‬
‫متتالية ّ‬
‫سيطر عليها‬
‫َ‬ ‫ارتكازهم‪ .‬الطائرات التي كانت فوقهم يف البداية والتي‬
‫تقنيو املقاومة هتاوت فجأة كاحلجارة متو ّقفة عن العمل ُ‬
‫وم ْفسحة الطريق‬
‫ُ‬
‫تعمل بكامل كفاءهتا بدون‬ ‫للطائرات اجلديدة التي كان من الواضح أهنا‬
‫ليست أحادية كام‬
‫ْ‬ ‫اخرتاق‪ .‬اتّضح هلا يف تلك اللحظة أن حراسة أناندار‬
‫هاجس حول ما ينتظرهم من‬
‫ٌ‬ ‫تبدو‪ ،‬وإنّام تتكون من عدّ ة مستويات‪ ،‬وانتاهبا‬
‫مفاجآت‪.‬‬
‫أصوات تلك االنفجارات املكتومة مل ينتظر األمر من‬
‫ُ‬ ‫حنيَ وصلت لباسل‬
‫قائد جمموعته؛ بل انطلقَ من فوره وسط األشجار املالصقة للسور الشاميل‪،‬‬‫ِ‬
‫قوته يسيطر عىل رأسه فكرة واحدة‬ ‫ربها لل ّتو‪ ،‬ومىض ْيعدو فيها ّ‬
‫بكل ّ‬ ‫التي ع َ‬
‫(ميساء) يف خط ٍر ُمدق‪ ،‬وأنّه لن يسمح بحدوث مكروه هلا‪ .‬مل يفكر‬
‫وهي أن ْ‬
‫ِ‬
‫بسبب ّأنا جاءت هنا بسبب إرصاره عىل ذلك‪ ،‬أو ألهنا املرصية‬ ‫إن كان ذلك‬
‫(ميساء) دون أسباب‪.‬‬
‫الوحيدة معه أو ألهنا ْ‬
‫وصل للناحية التي يفرتض أن تتواجدَ فيها جمموعة ْ‬
‫(ميساء) وما أن‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫بمقذوف تفاداه بمهارة فتوقفت‬ ‫اقرتب ح ّتى هامج ْته إحدى الطائرات الدقيقة‬
‫ثم أطلقت مقذو ًفا آخر تفاداه‪،‬‬
‫كأنا غاضبة منه‪ّ ،‬‬‫الطائرة وزامت يف اهلواء ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪243‬‬
‫مكو ًرا‬
‫سالحا ّ‬
‫ً‬ ‫لكن املقذوف دار وتوجه إليه ثانية‪ .‬يف حلظة واحدة أخرج‬
‫وضغط جانبه فخرجت منه كرة مض ّللة ّ‬
‫وجهت املقذوف لينغرز يف إحدى‬
‫األشجار‪ ،‬وأطلق سالح قبضته اجتاه الطائرة فأسقطها َ‬
‫قبل أن تستطيع تفادي‬
‫قذيفته‪.‬‬
‫متعرج بني األشجار وهو يرى عد ًدا من الطائرات هياجم‬ ‫عدَ ا يف مسار ّ‬
‫(ميساء) مبارشة‪ .‬نادى باسمها‬ ‫أشخاصا من املجموعة‪ ،‬ومل تقع عيناه عىل ْ‬ ‫ً‬
‫أن ذلك سوف جيذب طائرة دقيقة واحدة عىل األقل‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫مدرك ّ‬ ‫بصوت ُمرتفع وهو‬
‫اثنتي منها‪،‬‬
‫اهنالت عليه إحداها بثالث مقذوفات استطاع تفادي ْ‬ ‫ْ‬ ‫وبالفعل‬
‫واستقرت الثالثة يف ذراعه‪ ،‬فرصخ متأملًا ّ‬
‫ثم قفزَ ُمتبئًا وراء أحد التامثيل الفضية‪.‬‬ ‫ّ‬
‫سالح قبضته بمقذوف‬ ‫َ‬ ‫جهز‬‫صمت صوهتا‪ّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫ثم‬ ‫ً‬
‫دارت الطائرة يف اهلواء قليل ّ‬
‫ستظهر أمامه مبارشة‪ ،‬وبالفعل‬
‫ُ‬ ‫معطل‪ ،‬وهو يعلم أن الطائرة تناوره‪ ،‬وأهنا‬
‫إسقاط الطائرة حني دارت وحاولت مهامجته‪.‬‬ ‫َ‬ ‫حدث ما توقعه واستطاع‬
‫تساءل بينه وبني نفسه عن ما حدث مليساء‪ ،‬وملاذا مل تر ّد عليه‪ ..‬هل أصاهبا‬
‫إن تك ّلمت أن تفضح مكاهنا‪ ،‬وجتذب إحدى‬ ‫مكروه أم ّأنا خمتبئة وختشى ْ‬
‫تنبه فجأة إىل ما فعله بدون تفكري‪ ،‬وما يفرتض أن يفعله‬ ‫الطائرات ملهامجتها‪ّ .‬‬
‫فكر فيام سيفعله قائد جمموعته‬ ‫حماصة أو جرحية‪ّ .‬‬ ‫حماص وهي َ‬ ‫اآلن فهو َ‬
‫إن كان هناك دعم سيأيت‬ ‫الباب األمامي مبارشة وهو ال يعلم ْ‬‫َ‬ ‫هل سيهاجم‬
‫من الباب اخللفي أم ال‪ ،‬هل سيدفع بتعزي ٍز من جمموعته لتلك املجموعة أم‬
‫ينسق معه و(باسل) ال يدري‪“ .‬ال‬ ‫رد قائدها الذي ربام بالفعل كان ّ‬‫سينتظر َّ‬
‫أن جتد ميساء”‪ .‬قال لنفسه وهو حياول‬ ‫كل يشء سيتضح اآلن املهم ْ‬ ‫تقلق ّ‬
‫َ‬
‫البحث بعينيه عن أي عالمة تدل عىل مكاهنا‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪244‬‬
‫صوتا من خلف متثال عىل ُبعد عرشين م ً‬
‫رتا تقري ًبا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫“باسل‪ ”...‬أتاه‬
‫يتبينها‪ ،‬زحف بجسده اجتاه التمثال الذي اعتقد‬ ‫نظر يف ّاتاه التمثال فلم ّ‬
‫صوت طنني من أعىل‪ ،‬نظر إليه وجدَ طائرة‬ ‫ُ‬ ‫أهنا خلفه‪ ،‬وقبل ْ‬
‫أن يصل جاءه‬
‫(ميساء) ا ُملختبئة خلفه‪.‬‬
‫وكأنا تنوي مهامجة ْ‬
‫م ّتجهة نحو التمثال ّ‬
‫جالسا عىل ركبتيه وسدّ د مقذو ًفا ُم ً‬
‫عطل يف اجتاه‬ ‫ً‬ ‫ريا‪ ،‬اعتدل‬
‫مل يفكر كث ً‬
‫صك أسنانه يف غيظ؛ فقد كان ذلك آخر مقذوف‬ ‫الطائرة لك ّنه أخطأها‪ّ .‬‬
‫توجهت نحوه‪ ،‬وعال طنينُها الذي‬ ‫ثم ّ‬ ‫تسمرت الطائرة للحظة‪ّ ،‬‬
‫ُمعطل لديه‪ّ .‬‬
‫أي يشء‬ ‫مر ًة واحدة‪ ،‬وقبل أن خيرج منها ّ‬‫ينبئ بأهنا ستطلق عد َة مقذوفات ّ‬
‫أصيبت الطائرة بمقذوف أسقطها‪.‬‬
‫(ميساء) خترج من خلف التمثال وتشري إليه‪،‬‬ ‫تنهد يف ارتياح وهو يرى ْ‬ ‫ّ‬
‫وصل إليها وجلس جوارها وهو يقول‪“ :‬هذه مفاجأة مل تكن يف احلسبان”‪.‬‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫احلديث أمام‬ ‫ٍ‬
‫بصعوبة وهي تقول‪“ :‬يا لك من أمحق‪ ،‬أال حتسن‬ ‫ضحكت‬
‫ِ‬
‫أصبت؟”‪.‬‬ ‫ثم قال‪“ :‬هل‬‫النساء‪ ...‬قل إنك ُه ِرعت لنجديت”‪ .‬ابتسم بتوتر ّ‬
‫ر ّدت قائلة بغيظ وهي تكتم آه َة أمل‪“ :‬نعم‪ ،‬أصبت باجلنون حني ّ‬
‫ختيلتك‬
‫بم جييبها‪ ،‬وكيف تتكلم‬ ‫ْ‬
‫يعرف َ‬ ‫مت من القلق ع َّ‬
‫يل”‪ .‬مل‬ ‫ستقول بلهفة إنّك ّ‬
‫ارتباكه‪ ،‬فضحكت‬ ‫َ‬ ‫معرضني فيه خلطر املوت‪ ،‬الحظت‬ ‫ٍ‬
‫موقف ّ‬ ‫هكذا يف‬
‫انقلبت آهة مكتومة وهي تضع يدها جانب صدرها‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫ضحك ًة قصرية‬
‫مغروسا فيها‪،‬‬
‫ً‬ ‫تفحص مكان يدها فرأى مقذو ًفا عىل شكل حربة صغرية‬ ‫ّ‬
‫ريا وعلبة فتحها‬
‫ومقصا صغ ً‬‫ًّ‬ ‫وأخرج منه حمقنًا‬
‫َ‬ ‫فتح جي ًبا قري ًبا من حزامه‬
‫فهز‬
‫بتوجس‪ّ ،‬‬ ‫فظهر فيها ما ّدة صفراء باهتة‪“ .‬هل تعرف ما تفعله؟”‪ .‬سألته ّ‬
‫ثم‬ ‫فتح املحقن وأفرغه يف رقبتها‪ ،‬فزال أ ُملها ّ‬
‫مرة واحدة ّ‬ ‫رأسه مطمئنًا إياها‪َ ،‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪245‬‬
‫بسبابته‬
‫غرف ّ‬‫َ‬ ‫ثم‬
‫ريا ّ‬‫قطعا صغ ً‬
‫مالبسها حول احلربة ً‬‫َ‬ ‫أمسك املقص وقطع‬
‫نفسا عمي ًقا‬ ‫أمسك احلربة بقوة ِ‬
‫بيده اليمنى‪ ،‬أخذ ً‬ ‫َ‬ ‫اليرسى من املادة الصفراء‪.‬‬
‫مكان خروجها‪.‬‬ ‫َ‬ ‫بقوة وهو يدفع سبابته ّ‬
‫املغطاة باملادة الصفراء‬ ‫ثم أخرجها ّ‬ ‫ّ‬
‫بسبابته اليمنى من العلبة ثانية‪ ،‬ونزع‬
‫ثم غرف ّ‬ ‫ّثبت سبابته داخل اجلرح ً‬
‫قليل ّ‬
‫ثم يضع‬ ‫سبابته اليرسى ببطء من اجلرح وهو يغطيه بالكامل باملادة الصفراء ّ‬ ‫ّ‬
‫عليه ضامدة‪.‬‬
‫ثم سألته هامسة‪“ :‬أنت خبري‬ ‫كانت تنظر إليه ُمندهشة وهو يعاجلها‪ّ ،‬‬
‫باستخدام أدوية النياندرتال تلك؟”‪ .‬ر ّد عليها وهو يمسح يديه‪“ :‬نعم‪،‬‬
‫أنت وزمالؤك من كتائب‬ ‫وكذلك أبوك ورجاله‪ ،‬وقري ًبا ستكتسبينها ِ‬
‫مثل‬‫النرص”‪ .‬قالت‪“ :‬لدينا الكثري من أدوية النيادرتال ولك ّنها ليست متطورة َ‬
‫اسمهم‬‫تلك”‪ .‬قال بضيق‪“ :‬أريدك أن تكفي عن استخدام كلمة نياندرتال‪ُ ،‬‬
‫نظرت إليه صامتة لوهلة‪،‬‬
‫ْ‬ ‫األديتيني‪ ،‬وربع فريقنا تقريبا منهم لو الحظت”‬
‫ينصت يف تركيز إىل األصوات من حوله‪“ .‬يبدو أنّنا ختلصنا من‬ ‫ُ‬ ‫ثم وجدته‬
‫ّ‬
‫الطائرات‪ ،‬ترى ما اخلطو ُة القادمة‪ ،‬ملاذا مل خيرج لنا حراس آخرون؟”‪ .‬قال‬
‫َ‬
‫املكان‬ ‫هامسا إنّه سيتسلل مستكش ًفا‬
‫ً‬ ‫أن تلزم مكاهنا وهو يقول‬ ‫ثم طلب منها ْ‬ ‫ّ‬
‫هم بالتحرك لكنها أمسكت بذراعه وجذبته لينظر‬ ‫ليعرف األوامر اجلديدة‪ّ .‬‬
‫“شكرا لك”‪.‬‬
‫ً‬ ‫إليها‪ .‬قالت هامسة وعيناها العميقتان تكادان خترتقان روحه‪:‬‬
‫متوجها ناحية القرص وهي‬‫ً‬ ‫ثم تركها وتس ّلل‬
‫رتبكا‪“ :‬هذا واجبي”‪ّ ،‬‬‫فقال ُم ً‬
‫تتابعه بنظرات قلقة‪.‬‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪246‬‬
‫‪35‬‬
‫الشاب اللبناين الذي كان يرشح هلم‬
‫ّ‬ ‫كان قائدُ جمموعة ْ‬
‫(ميساء) هو إييل‪،‬‬
‫تصميم قرص أناندار‪ ،‬وطريقة حراسته يف االجتامع األول‪ .‬مل يكن يف حسبانه‬
‫َ‬
‫وجود تلك الطائرات اخلاملة التي ُف ِّع َلت وهامجتهم وقد كانوا عىل‬
‫ُ‬ ‫بالطبع‬
‫وشك بدء املرحلة الثانية ومهامجة املبنى الرئييس الذي يقيم فيه أناندار‬
‫باسل إليه فوجده ينزع إحدى احلراب من فخذه ويضع‬ ‫ُ‬ ‫ومساعده‪ .‬وصل‬
‫مكاهنا من املرهم نفسه الذي عالج به ميساء‪.‬‬
‫“ما ّ‬
‫اخلطة اآلن؟”‪ .‬سأله باسل وهو يساعده يف إكامل العناية بجرحه فقال‬
‫ألست هناك مع املجموعة األمامية؟”‪.‬‬
‫َ‬ ‫مدْ ً‬
‫هوشا‪“ :‬ما الذي أتى بك إىل هنا‪،‬‬
‫ِ‬
‫لنجدة‬ ‫ُ‬
‫باسل باإلجياب‪ ،‬وقال إنّه غادر موقعه وجاء هلذه الناحية‬ ‫ر ّد عليه‬
‫وطلب منه بضيق أن يلتزم باخلطط املوضوعة‪،‬‬
‫َ‬ ‫ميساء‪ .‬مل يعجب إييل ر ّده‪،‬‬
‫وأن يس ّلم بأنه يعمل َ‬
‫حتت إمرة رجال املقاومة هنا يف لبنان‪.‬‬

‫منسق العملية عرب‬


‫صوت ّ‬
‫ُ‬ ‫ونص َحه لباسل‪ ،‬جاءه‬ ‫َ‬
‫قبل أن يكمل تقريعه ْ‬
‫جهاز اتّصاله‪“ :‬إييل‪ ..‬ما الوضع لديك اآلن؟”‪ .‬ر ّد إييل‪“ :‬قتيل وستة مصابني‬
‫وقد أوشكوا عىل إهناء عالجهم”‪ .‬ر ّد املتصل‪“ :‬حسنًا‪ ،‬استعدّ للهجوم بعد‬
‫أربعامئة ثانية”‪ .‬أمسك إييل بمؤ ّقت صغري ووضع إهبا َمه عىل ّ‬
‫الزر‪ ،‬واملتصل‬
‫املؤقت العد‪.‬‬
‫ُ‬ ‫الزر وبدأ‬
‫ثم ضغط ّ‬
‫يقول‪“ :‬تبدأ يف ثالثة‪ ..‬اثنني‪ ..‬واحد” ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪247‬‬
‫واألمر مثري للريبة” سأله باسل بقلق فلم خيرج أحد‬
‫ُ‬ ‫“كيف هناجم َ‬
‫اآلن‬
‫ملالقاهتم غري هذه الطائرات فقط‪ ،‬وكان من الطبيعي أن تكون صفارات‬
‫تعمل يف املكان اآلن‪ ،‬وأن يكونوا ُماطني بعدد كبري من احلراس‪ ،‬أو‬ ‫ُ‬ ‫اإلنذار‬
‫حتت هجومهم عىل األقل‪ .‬ر ّد عليه إييل بنفاد صرب‪“ :‬سيد باسل‪ ...‬نحن لدينا‬
‫منسقون يف غرفة عمليات يتخذون قرارات بناء‬ ‫ٌ‬
‫وخطط بديلة‪ ،‬ولدينا ّ‬ ‫خطط‬
‫حم صديقتك كام تشاء‪ ،‬وحاول أن ال‬ ‫عىل معطيات عديدة‪ ،‬من فضلك ا ِ ِ‬
‫تعيق عملنا”‪.‬‬
‫(ميساء) ح ّتى وصل إليها خلف التمثال‬‫تركه (باسل) وسار بحذر اجتاه ْ‬
‫تركها عنده‪ ،‬كانت قادر ًة اآلن عىل الوقوف‪ ،‬وحني رأت (باسل)‬ ‫الذي َ‬
‫يتوجه معها إىل نقطة متركزها التي ستنطلق منها عندَ إشارة‬
‫مهست له بأن ّ‬
‫معصمها إشارات ّ‬
‫تدلا عىل خطوهتا‬ ‫ِ‬ ‫بدء اهلجوم‪ .‬كانت تأيت هلا عىل جهاز‬
‫القادمة‪ ،‬وكذلك باسل‪ ،‬لك ّنه جتاهل جهازه ألن موقعه تغري اآلن‪.‬‬
‫ثم رنتان‬
‫ثم رنتان طويلتان ّ‬ ‫َ‬
‫ثالث رنّات قصرية ّ‬ ‫جاءت إشار ُة اهلجوم‬
‫ْ‬
‫قصريتان‪ ،‬رنات أشبه برنّات شفرة مورس التي تستخدم يف التلغراف‪ .‬بدأت‬
‫لكن برسعة نحو الباب اخللفي للقرص ومعها باسل‪،‬‬ ‫امليش بحذر ْ‬ ‫َ‬ ‫(ميساء)‬
‫ْ‬
‫كان بقية األفراد يف املجموعة ي ّتجهون نحو الباب يف اللحظة نفسها ح ّتى‬
‫أنواعا خمتلفة‬
‫ً‬ ‫وصل اجلميع عنده‪ .‬وقفوا عىل يمني الباب ويساره شاهرين‬
‫ثالثة من الباب ومعهم ما يشبه‬ ‫من األسلحة‪ ،‬أرضية وأديتية ويدوية‪ ،‬اقرتب ٌ‬
‫مسدّ سات الشمع التي تستخدم للصق األغراض املنزلية‪ ،‬وبدأوا متريرها عىل‬
‫يتكون من احلديد املجدول املقوى‪.‬‬‫نقاط متفرقة من الباب املعدين الضخم الذي ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪248‬‬
‫يمررون تلك املسدسات عليها‪ ،‬وبدأ‬
‫بدأ احلديد يتصدع عند األماكن التي كانوا ّ‬
‫صوت ينبئ بأنه سينفصل عن نقاط تثبيته‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫يصدر من الباب‬
‫حتس هي األخرى‬ ‫(ميساء) فقد بدأت ّ‬ ‫انتقلت عدوى القلق من باسل إىل ْ‬
‫األمور بتلك السالسة ح ّتى جيدوا‬
‫ُ‬ ‫أن يف األمر ًّ‬
‫فخا ما؛ فال يمكن أن تسري‬
‫مهست لباسل وهو يتابع‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬
‫غرفة نوم أناندار بدون مقاومة تذكر‪.‬‬ ‫أنفسهم يف‬
‫ُ‬
‫القلق نفسه‪ ،‬لك ّنه يرى‬ ‫باهتامم عملية كرس ذلك الباب‪ ،‬قال هلا إنّه ساوره‬
‫أن هناك‬‫املهمة مع احلذر‪ ،‬واألخذ يف االعتبار ّ‬
‫أن ال بديل عن االستمرار يف ّ‬‫ْ‬
‫حدوث طارئ فقالت‪“ :‬ماذا‬ ‫ِ‬ ‫فرقة جاهزة للتدخل وإنقاذ املوقف يف حالة‬
‫وقت لطلب النجدة”‪ .‬ابتسم‬
‫مثل‪ ..‬لن يكون هناك ٌ‬ ‫فخاخا مفجرة ً‬ ‫ً‬ ‫لو كانت‬
‫وهو يقول مطمئنًا‪“ :‬املخاطر ُة موجودة دو ًما وسأتقدمك يف ّ‬
‫كل خطوة ح ّتى‬
‫تتأكدي من عدم وجود فخاخ ما”‪.‬‬

‫أسعدَ ها كالمه دون أدنى قد ٍر من غضاضة‪ .‬كث ً‬


‫ريا ما أغضبتها فكرة أن‬
‫جمرد امرأة حتتاج للحامية كانت تغضب من أبيها وتعانده‬‫أي رجلٍ ّ‬ ‫ربها ّ‬
‫يعت َ‬
‫ِ‬
‫إثبات العكس‪ ،‬وكانت تنهر (سمري) وتع ّنفه إذا ملح فقط جمرد تلميح‬ ‫ملجرد‬
‫أنه يريد محايتَها‪ ،‬لكنها مع (باسل) شعرت بفرحة صافية ربام ألهنا كانت‬
‫تتمنى من أعامقها أن جتدَ الشخص الذي ترتك َ‬
‫نفسها معه عىل طبيعتها دون‬
‫حماولة إلظهار قوة أو عناد‪.‬‬
‫ريا‪ ،‬أرسل إييل نغم ًة لقائد املجموعة األوىل تدل عىل فتح‬
‫انفتح الباب أخ ً‬
‫َ‬
‫ثم بعدها مبارشة بدأ‬ ‫ٍ‬
‫بنغمة مماثلة بعد ثوان معدودة‪ّ ،‬‬ ‫الباب‪ ،‬ور ّد عليه اآلخر‬
‫الباب اخلشبي الرقيق الذي كان يوجد خلف الباب احلديدي‪،‬‬ ‫االقتحام‪ .‬انخلع ُ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪249‬‬
‫ملمر يفيض إىل هبو‬ ‫ٌ‬
‫مخسة عند الباب حلراسته‪ ،‬واندفع باقي املجموعة ّ‬ ‫وقف‬
‫يتم فيه التقاء أفراد املجموعتني‪.‬‬
‫القرص الرئييس الذي يفرتض أن ّ‬
‫ثمة بقية من أمل ال يزال يف صدرها مكان‬ ‫للبهو‪ّ ،‬‬
‫دخل (باسل) و(ميساء) ْ‬ ‫َ‬
‫فسيحا بشكل مبالغ فيه عىل‬
‫ً‬ ‫البهو‬
‫َ‬ ‫احلربة‪ ،‬لك ّنه مل حيدّ من حركتها‪ ،‬وجدَ ا‬
‫رتا‪ّ ،‬‬
‫تتدل من سقفه املرتفع ثريات‬ ‫يقل عن مخسة عرش م ً‬‫قطرها ال ّ‬
‫شكل دائرة ُ‬
‫وحيتل جانبه س ّلامن عريضان مقوسان يتالقيان‬
‫ّ‬ ‫متنوعة األشكال واألحجام‪،‬‬
‫ُ‬
‫يصل إىل رشفة تعلو عن‬ ‫سلم عريض قصري‬ ‫عند بسطة فسيحة تقود إىل ٍ‬
‫األرض أربعة أمتار تقري ًبا‪ ،‬تز ّين سورها منحوتات غريبة‪.‬‬
‫أي صوت‬ ‫بدأوا يف صعود السلم دون أن يقابلهم أحد‪ ،‬ودون أن يصدر ّ‬
‫بيت أشباح‪ .‬عندما وصل أوهلم إىل منتصف‬ ‫أي مكان يف القرص‪ ،‬وكأنّه ُ‬ ‫من ّ‬
‫ٌ‬
‫قضبان حديدية‬ ‫خرجت من حوا ّفه ومن أرضية أحد درجاته؛‬ ‫ْ‬ ‫السلم‪،‬‬
‫أسطوانية‬
‫ّ‬ ‫سميكة متعامدة سدت الطريقَ فجأة‪ .‬كانت القضبان الرأسية‬
‫قممها وانطلقت منها‬ ‫أن انفتحت ُ‬‫تشبه املواسري ذات القطر الكبري وما لبثت ِ‬
‫مقذوفات كروية يف حجم كرة تنس‪ ،‬طارت ّ‬
‫كل واحدة منها جتا َه واحد من‬ ‫ٌ‬
‫كل كرة للشخص‬ ‫وصلت ّ‬
‫ْ‬ ‫وكأنا تعرف هدفها بالضبط‪ .‬حني‬‫املوجودين ّ‬
‫ثم‬
‫وخرجت منها أسالك رفيعة طارت ومتدّ دت ّ‬
‫ْ‬ ‫املستهدف‪ ،‬انفتحت فجأة‬
‫التفت به مقيدة إياه بإحكام‪.‬‬
‫اجلميع راقدين عىل األرض‪ ،‬مقيدين‪ ،‬ال يستطيعون‬ ‫ُ‬ ‫يف ثوان معدودة كان‬
‫لكن أكثرهم حن ًقا كان (باسل)‪ .‬ذكره‬
‫بمزيج من احلنق واخلوف‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬ ‫احلركة‪ ،‬يشعرون‬
‫بلحظة اختطاف كمريدا من بني يديه‪ ،‬وجعله يشعر بحرقة ف ْق ِدها‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ذلك املوقف‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪250‬‬
‫ذكرته برصاخها وهي تؤخذ منه‬ ‫مرة واحدة‪ّ ،‬‬
‫تستعر فيه ّ‬
‫ُ‬ ‫وبنار ِ‬
‫رغبة االنتقام التي‬
‫مقيد ٌة تنظر لرفيقاهتا بنظرات ملؤها‬ ‫وهو عاجزٌ عن احلركة‪ّ ،‬‬
‫تذكر بكاءها وهي ّ‬
‫يقتلن أمامها بمنتهى الوحشية‪.‬‬
‫وهن َ‬‫والرعب‪ّ ،‬‬ ‫األسى ّ‬
‫التملص من قيده‪،‬‬
‫َ‬ ‫وهم عىل هذا الوضع‪ ،‬حياول ّ‬
‫كل منهم‬ ‫ُ‬
‫دقائق ُ‬ ‫مرت‬
‫ّ‬
‫(ميساء) ْ‬
‫أن ال جدوى من‬ ‫َ‬
‫حاول أكثر ضاق القيدُ عليه أكثر‪ .‬أدركت ْ‬ ‫وك ّلام‬
‫لفت نظرها الغضب‬
‫فاستسلمت ُمنتظرة ما س ُيسفر عنه املوقف‪َ ،‬‬
‫ْ‬ ‫املقاومة‬
‫يتحرك يف قيده حركات‬ ‫ّ‬ ‫الشديد الظاهر عىل (باسل) أكثر من غريه‪ ،‬كان‬
‫قدر ما يبدو أنه ين ّف ُ‬
‫س‬ ‫ُ‬
‫حياول الفكاك من قيده َ‬ ‫عنيفة عصبية ال يبدو منها أنه‬
‫عن غضب شديد يف نفسه‪.‬‬
‫ما هي ّإل حلظات‪ ،‬ح ّتى رأت جمموعة من الرجال ضخام اجلثة‪ ،‬يدخلون‬
‫حاملنيَ عىل رقاهبم زمالءها من املقاومة‪ ،‬وقد ّ‬
‫تم تقييدُ هم باألسالك نفسها‪،‬‬
‫ُ‬
‫الرجال الضخام بحملهم عىل‬ ‫القوية التي ال تعطي فرص ًة للتملص‪ .‬قذف‬
‫تم‬
‫االقتحام يف البهو وقد ّ‬
‫َ‬ ‫األرض ليجتمع ّ‬
‫كل املقاومني الذين حاولوا‬
‫اس القرص شاهرين أسلحتهم‪.‬‬ ‫حر ُ‬‫مجيعا‪ ،‬وأحاط هبم ّ‬
‫تقييدهم ً‬
‫زر يف يده‬‫ضغط أحدُ احلراس‪ ،‬والذي كان يبدو عليه أنه قائدهم‪ ،‬عىل ّ‬ ‫َ‬
‫مرة ثانية مقيدة‬ ‫ثم التفت ّ‬ ‫ُ‬
‫األسالك التي تقيد املقاومني يف االرختاء‪ّ ،‬‬ ‫فبدأت‬
‫خلف بعض‪،‬‬ ‫َ‬ ‫اس بعد ذلك بإيقافهم يف ص ّفني بعضهم‬ ‫احلر ُ‬
‫أيدهيم بقوة‪ .‬قام ّ‬
‫يصو ُبا عىل‬
‫ّ‬ ‫مجيعا بآلة تشبه الشّ وكة‪،‬‬
‫وجوههم ً‬‫ِ‬ ‫مر أحدُ احلراس عىل‬
‫ثم ّ‬
‫ّ‬
‫الوجه فتمتدّ منها زوائد تنزع ما يغ ّل ُف وجوههم من تنكر‪ ،‬شيئًا فشيئًا ح ّتى‬
‫حارس آخر عىل وجوههم بشاشة‬
‫ٌ‬ ‫مر‬
‫ظهرت وجوههم احلقيقية‪ .‬بعد ذلك‪ّ ،‬‬
‫ْ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪251‬‬
‫وظهرت عىل الشاشة صور ُة ّ‬
‫كل واحد منهم‪ ،‬وإىل‬ ‫ْ‬ ‫تعرفت عىل شخصياهتم‪،‬‬ ‫ّ‬
‫جوارها بياناته كاملة‪.‬‬
‫أن َمن يتحرك سوف‬ ‫احلراس جامدين بعد ذلك‪ّ ،‬‬
‫وحذروا أرساهم ّ‬ ‫ُ‬ ‫تو ّقف‬
‫يلقى حرب ًة بني عينيه ُتهز عليه يف احلال‪ .‬بعد دقيقتني تقري ًبا‪ ،‬ويف خروج‬
‫ينظر للجميع وإىل جواره‬‫ظهر أناندار واق ًفا يف أعىل السلم ُ‬
‫مرسحي اهليئة‪َ ،‬‬
‫ٌ‬
‫كوكبة من النساء شبه عرايا‪ ،‬برش ّيات‬ ‫وقف مساعده الرئييس وقدْ أحاطت هبام‬
‫وأديتية واحدة‪ ،‬ال تزال بقايا ال ّنعاس تسيطر عىل مالحمهن‪.‬‬
‫ّ‬ ‫من أعراق خمتلفة‬
‫السلم الواسع ح ّتى توقف عندَ البسطة الفسيحة‬ ‫درجات ّ‬‫ِ‬ ‫َ‬
‫نزل أناندار‬
‫اطا بموكبِه الصغري‪ ،‬كان أطول ً‬
‫قليل من‬ ‫السلمني اجلانبيني‪ُ ،‬م ً‬
‫التي تربط ّ‬
‫السامت املميزة‬ ‫ِ‬
‫تفقد ّ‬ ‫املعتاد بني النياندرتال‪ ،‬مالحمه أكثر نعومة‪ ،‬وإن مل‬
‫ِ‬
‫اجلبهة العريضة املائلة والفم الواسع والوجنات العريضة‬ ‫لبني جلدته‪ ،‬من‬
‫ريا أشبه بالعرش‪،‬‬ ‫كرسيا وث ً‬
‫ًّ‬ ‫َ‬
‫أحرض حارسان‬ ‫املسطحة واألنف الغليظ‪.‬‬
‫منصة جيلس‬ ‫ِ‬
‫بوجود الكريس الوثري كأهنا ّ‬ ‫ووضعوه عىل البسطة التي صارت‬
‫عليها ملك ليخاطب رعاياه‪ .‬جلس أناندار عىل عرشه وعىل يمينه مساعده‬
‫تشف‪ ،‬وعىل يساره املساعدة الثانية‪ ،‬والفتيات الناعسات واقفات‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬
‫مبتسم يف‬
‫ِ‬
‫أسامء املقاومني األرسى‪،‬‬ ‫فتح شاشة فراغية أمامه عرضت له يف رسعة‬‫خلفه‪َ .‬‬
‫ثم أشار لرجاله فأجلسوا األرسى عىل األرض‪.‬‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫بصوت َج ْهوري كأنه يتحدّ ث يف ميكروفون قديم‪“ :‬ال‬ ‫بدأ باحلديث‬
‫متعجبون من السبب الذي جعلني أبقى عىل حياتكم”‪ .‬ازدردت‬ ‫ّ‬ ‫بد أنكم‬
‫ِ‬
‫كامللوك املجانني الذين‬ ‫(ميساء) ريقها وهي تتأ ّمل الرجل الذي يبدو هلا‬
‫ْ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪252‬‬
‫ّ‬
‫ويتلذذون بتعذيب ضحاياهم أو الرشب من‬ ‫يفرطون يف األهبة والرتف‬
‫ٌ‬
‫رجل ُمستثمر‬ ‫وجوههم ً‬
‫قائل‪“ :‬أنا‬ ‫َ‬ ‫دمائهم‪ .‬أكمل كال َمه وهو يتفحص‬
‫جمر ُد بضاعة‪ ..‬سوف أقايضكم مع‬
‫كل يشء وبالنسبة يل أنتم ّ‬ ‫أكسب ً‬
‫مال من ّ‬ ‫ُ‬
‫زمالئكم بأشياء قيمة”‪.‬‬
‫مههامت بني األرسى توحي باالرتياح‪ ،‬وجال هو بعينيه يف‬
‫ٌ‬ ‫رست‬
‫ْ‬
‫توجه هبدوء نحو‬
‫مبتسم يف ظفر‪ .‬نزل من عىل كرسيه‪ّ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫مجيعا‪ ،‬وهو‬
‫وجوههم ً‬
‫ينظر نحو األرسى بابتسامة ساخرة‪ ،‬نزل عىل السلم ببطء‬
‫السلم األيمن وهو ُ‬
‫وكأنّه يريد إطالة وقت انتظارهم لقراره‪.‬‬
‫كأنم غنائم حرب‪ ،‬استخرج إييل من‬‫أمام األرسى يستطلعهم ّ‬
‫هتا َدى َ‬
‫لكن األخري كان أطول منه قامة‬ ‫َ‬
‫حاول أن يضع ذراعه عىل كتف إييل ّ‬ ‫بينهم‪،‬‬
‫ثم‬ ‫ِ‬
‫مواجهة زمالئه ّ‬ ‫حراسه فأجلس إييل يف‬
‫فرتاجع عن الفكرة‪ ،‬وأشار ألحد ّ‬
‫ابن شقيقة سامر‬
‫أهم رجال املقاومة يف لبنان‪ ،‬وهو ُ‬
‫مثل من ّ‬‫قال‪“ :‬إييل هذا ً‬
‫َ‬
‫مقابل‬ ‫قائدكم‪ ،‬ويعرف الكثري من األرسار‪ ،‬قد أعرضه عىل حاكم الرشق‬
‫امتيازات جديدة‪ ،‬أو أعرضه عىل خالِه مقابل عرش ماسات ال ّ‬
‫تقل الواحدة‬
‫َ‬
‫احلديث يف تلك النقطة‪ ،‬وأشار‬ ‫ثم صمت وكأنه ّ‬
‫مل‬ ‫عن قرياطني أو ‪ّ ”....‬‬
‫لرجله فسحب إييل وأعاده مكانه‪.‬‬
‫ثم عاد إىل كرسيه‪ ،‬الذي أنزله احلراس‬ ‫نظر لباسل بسخرية َ‬
‫دون أن يتكلم ّ‬ ‫َ‬
‫آمرا إياها بأن‬
‫أشار إىل فتاة طفولية املالمح ً‬
‫َ‬ ‫ووضعوه يف مواجهة األرسى‪،‬‬
‫َ‬
‫أغمض عينيه يف استمتاع بتدليك الفتاة‬ ‫أمام الكريس تد ّلك له قدميه‪.‬‬
‫جتلس َ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪253‬‬
‫ثم‬
‫أساه‪ ،‬ويزداد مع الوقت‪ّ ،‬‬ ‫أو بذلك االضطراب الذي يتبدّ ى عىل وجوه ْ‬
‫ً‬
‫مغمضا ملق ًيا رأسه إىل اخللف‪“ :‬ال بدّ أنك وراء اختطاف‬ ‫قال وهو ال يزال‬
‫ُ‬
‫أعرف أنّك‬ ‫شقيقتي يا باسل‪ ،‬وال بدّ أنّك جئت هنا بدافع االنتقام لكمريدا‪..‬‬
‫رغم رفض هريمني افتداءها”‪.‬‬‫سأعفو عنها َ‬ ‫لن تصدقني لو قلت لك إنّني كنت ْ‬
‫معجب بك‪ ،‬أنت مقاتل من‬
‫ٌ‬ ‫فتح عينيه ونظر لباسل وهو يكمل‪“ :‬أنا‬
‫َ‬
‫مقابل أن تعمل معي”‪ .‬ضغط (باسل)‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫سوف أعفو عن حياتك‬ ‫نوع نادر‪،‬‬
‫ً‬
‫انفعال‪“ :‬من األفضل لك ْ‬
‫أن تقتلني‬ ‫عىل أسنانه يف غيظ َ‬
‫وقال بصوت يموج‬
‫ٍ‬
‫بصوت عال وهو‬ ‫ألنك إن مل تفعل فسأمزق رقبتَك بأسناين”‪ .‬ضحك أناندار‬
‫ِ‬
‫الختطاف عالء الصغري‪،‬‬ ‫يقول‪“ :‬ستعمل معي سأرسل رجايل يف القاهرة‬
‫ثمن حياته”‪.‬‬
‫أنت معي هنا وسيكون والؤك يل هو َ‬
‫بينام َ‬
‫يلتفت لسيلِ اللعنات والوعيد الذي أطلقه باسل‪ ،‬والذي أهناه أحدُ‬ ‫ْ‬ ‫مل‬
‫صمت قصري تطلع فيه اجلميع ألناندار‬ ‫ٌ‬ ‫عم‬ ‫ٍ‬
‫برضبة قوية عىل رأسه‪ّ .‬‬ ‫احلراس‬
‫َ‬
‫اعتدل يف كرسيه بعد أن دفع الفتاة‬ ‫أن يكمل وصلتَه املرسحية‪.‬‬ ‫منتظرين منه ْ‬
‫(ميساء) وقال‬‫ثم نظر مبارشة إىل ْ‬‫بقدمه يف رفق معلنًا انتها َء جلسة التدليك‪ّ ،‬‬
‫(ميساء)‬
‫وهو يشري بيده نحوها‪“ :‬انظروا معي إىل هذه اجلميلة‪ ،‬جائزة الليلة‪ْ ،‬‬
‫ُ‬
‫احلكومة املرصية مقابلك أ ّيتها األمرية‪،‬‬ ‫ابنة ُع َمر الزيبق‪ ،‬ترى كم ستدفع‬
‫أن تصريي جاري ًة ضمن‬ ‫أن البديل هو ْ‬‫سيترصف (عمر) حني يعرف ّ‬ ‫ّ‬ ‫وكيف‬
‫هؤالء احلسان”‪ .‬قاهلا وهو يعيد ضحكته ويتبادل نظر ًة خبيثة مع مساعده‪،‬‬
‫زاغت عيناها‪ ،‬وغاض الدم من عروقها‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫وميساء تنظر نحوه وقد‬ ‫ْ‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪254‬‬
‫‪36‬‬
‫أغلب املقاومني أن تأيت النجد ُة بني دقيقة وأخرى‪ ،‬عىل الرغم من‬ ‫ُ‬ ‫تو ّقع‬
‫مجيعا بتلك الرسعة‪ ،‬ورؤيتهم لذلك‬ ‫القلق الذي زرعته مفاجأة تقييدهم ً‬
‫يشعر ّإل بغضب صاف‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫االستعراض الذي قدّ مه أناندار‪ .‬أ ّما (باسل) فلم‬
‫فات وما عواقب ما ينوي‬ ‫كل ما حوله وينسيه ما َ‬ ‫نوع يعمي الشخص عن ّ‬
‫فعله أو كيف يفعله‪ .‬كان راقدً ا عىل األرض‪ ،‬بعدَ أن رضبه أحدُ احلراس‬
‫ص من قيده‪ .‬أخذ ّ‬
‫حيك القيدَ‬ ‫حيرك يده يف عصبية حياول التم ّل َ‬
‫وأوقعه وهو ّ‬
‫وكأنا مس ّننة حديدية يمكنها أن تقطع ذلك القيد‪ ،‬ومل يعبأ بأنّه يضيق‬
‫بأظافره ّ‬
‫عليه كلام حاول التخلص منه‪.‬‬
‫قام أناندار من جلسته‪ ،‬وهو يدفع بخشونة يدي ٍ‬
‫فتاة شقراء كانت تدلك‬ ‫َ‬
‫ثم حتدث وكأنّه كان يقرأ أفكارهم‪“ :‬بالطبع أنتم تنتظرون‬ ‫عنقه وكتفيه‪ّ ،‬‬
‫ثم أكمل‪“ :‬نعم‪،‬‬‫النجدة التي سيأتيكم هبا سامر”‪ .‬نظر لعيوهنم املندهشة ّ‬
‫ٍ‬
‫موجة ثانية من اهلجوم‪،‬‬ ‫أن (سامر) ينوي‪ ،‬ولد ْيه ّ‬
‫خطة دو ًما بإرسال‬ ‫أعرف ّ‬
‫أعرف خططه منذ توىل القيادة بعدَ مقتل شقيقه‪ ،‬وأعرف األديتي األمحق‬
‫الذي ينسق معه اهلجامت”‪.‬‬
‫أشار عليه مساعده بالتوقف عن احلديث‪ ،‬لك ّنه مل هيتم‪ ،‬استطرد متحد ًثا عن‬ ‫َ‬
‫قدراتِه وعن االستفادة ّ‬
‫اجلمة التي حيصل عليها من استمرار القتال بني املقاومني‬
‫واحلكومة‪ ،‬حتدّ ث كث ًريا عن قدراته وتنظيم رجاله‪ ،‬وعن خططه للهرب لو‬
‫واضطر قومه للعودة إىل ديارهم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫حدث يف يو ٍم من األيام‪ ،‬وانترصت املقاومة‪،‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪255‬‬
‫ثم أردف‪“ :‬هكذا يمكنكم‬ ‫إن حدث‪ّ ،‬‬ ‫قال إنه سيستفيدُ ً‬
‫أيضا من ذلك السيناريو ْ‬
‫ختطى بكثري عقل أناندار الكبري والدي”‪.‬‬ ‫ِ‬
‫عظمة هذا العقل الذي ّ‬ ‫أن تفهموا مدى‬
‫نظرها بينه وبني الفتيات الواقفات حوله‪ ،‬وتتخيل‬
‫(ميساء) تقلب َ‬ ‫كانت ْ‬
‫يد رجل جمنون مثل أناندار‪.‬‬ ‫تعر ْت هكذا‪ ،‬وانتهكت عىل ِ‬
‫بينهن وقد ّ‬
‫ّ‬ ‫نفسها‬
‫باحلب املثايل والرجل املثايل‪ ،‬هربت ذكرياهتا‬
‫ّ‬ ‫أحالمها‬
‫ُ‬ ‫خميلتها‬
‫ذابت من ّ‬
‫البعيدة عن (معاذ) والقريبة البغيضة عن (سمري) وأحالمها بباسل ومتعتها‬
‫القصرية التي وجدهتا يف ذلك الوقت الوجيز الذي أمضته بصحبته‪ .‬ح ّلت‬
‫كل هذا خياالت مفزعة‪ ،‬عن نفسها بعدَ ثالث سنوات‪ ،‬وقد اعتادت‬ ‫حمل ّ‬‫ّ‬
‫ِ‬
‫كقطعة زينة يف أثناء اليوم‪ ،‬وتنتهك‬ ‫عىل احلياة كجارية ألناندار‪ ،‬تقف حوله‬
‫إن ّ‬
‫مل منها يو ًما ما‪.‬‬ ‫عىل فراشه يف الليل وقد هيادي هبا أحدَ رجاله ْ‬
‫نفسها جيدً ا‪،‬‬‫األفكار السوداوية فهي تعرف َ‬
‫َ‬ ‫نفضت عن رأسها تلك‬
‫ْ‬
‫ري جارية مهانة؛ فقتل ال ّنفس عندها أهون‪ ،‬ولن‬‫لن تسمح أن تص َ‬
‫تعرف أهنا ْ‬
‫(ميساء) ابنة ُع َمر وزهرة ال ّلذ ْين‬ ‫تأخذ روح خاطفها ً‬
‫أول‪ْ .‬‬ ‫َ‬ ‫يكون ّإل بعد أن‬
‫قاوما النياندرتال ومها وحيدان يف كوكب غريب‪ ،‬لن تكون أ ًبدا ِمن الذين‬
‫ظل‬ ‫كأغلب ال ّناس الذين اعتادوا احليا َة يف ّ‬
‫ِ‬ ‫والرق‪ ،‬لن تكون‬ ‫َ‬
‫اهلوان ّ‬ ‫يعتادون‬
‫ري من الشّ باب‬ ‫االحتالل‪ ،‬بل وصاروا يلعنون َمن يقاومونه‪ .‬لن تكون كالكث ِ‬
‫حيتفظن‬
‫َ‬ ‫ٍ‬
‫لنساء غريبات‬ ‫أزواجا‬
‫ً‬ ‫الذين اعتادوا أن يبيعوا أجسادهم ويصريون‬
‫أي وقت‪،‬‬ ‫ألنفسهن بحقِّ إقامة عالقات جانبية مع َمن ير ْدن من الرجال يف ّ‬
‫زواج مهام‬
‫ٌ‬ ‫حقيقيا‪ ،‬وهو‬
‫ًّ‬ ‫زواجا‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫االرتباط باألديتيات‬ ‫بحجة أهنم ال يعتربون‬
‫ّ‬
‫وبرروا ألنفسهم تلك الدناءة‪.‬‬
‫أنكروا ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪256‬‬
‫ِ‬
‫املتغطرس إىل تعبريات وجهها الغاضبة‬ ‫َ‬
‫وسط خطابه‬ ‫انتبه أناندار‬
‫واحتقانه الشّ ديد‪ ،‬فقال بحامس‪ُ “ :‬تعجبني تلك الرشاسة البادية عىل مالحمك‬
‫ثم قال‪“ :‬لن‬ ‫بغيظ وهي ُ‬
‫تطلق سبا ًبا مكتو ًما‪ ،‬فضحك ّ‬ ‫يا ميساء”‪ .‬نظرت إليه ٍ‬
‫بضع فتيات هجينات‬ ‫سأتزوجك‪ ،‬وسأنجب منك َ‬ ‫ّ‬ ‫أطلب فدية من بلدك‪ ،‬بل‬
‫َ‬
‫يتم ّتعن هبذا اجلامل وتلك الرباءة التي حتاولنيَ مداراهتا باالنْدساس بني‬
‫أتم مجلته وبدأ اهلبوط نحوها وهي تتح ّفز القرتابه‪ ،‬وقبل أن‬‫املقاومني”‪ّ .‬‬
‫ِ‬
‫بموجة كهرباء‬ ‫إحساس‬
‫ٌ‬ ‫صوت انفجار مكتوم تاله‬‫َ‬ ‫اجلميع‬
‫ُ‬ ‫يصل إليها سمع‬
‫ظل املكان مضيئًا بضوء الرشوق‪.‬‬ ‫وإن ّ‬ ‫ِ‬
‫انطفأت األنوار ْ‬ ‫ثم‬
‫إستاتيكية‪ّ ،‬‬
‫صمت اجلميع يف تر ّقب للحظات‪ ،‬كانت هذه هي املرة األوىل لباسل التي‬ ‫َ‬
‫موجية كتلك‪ ،‬وتو ّقع أن تضعف‬ ‫ّ‬ ‫يشعر فيها باالبتهاج إلحساسه بتفج ِ‬
‫ري قنبلة‬ ‫ُ‬
‫ُ‬
‫تعمل بطاقة إلكرتونية‪ .‬مل يدُ م‬ ‫القيود املوجودة حول يديه‪ ،‬والتي هي بالتأكيد‬
‫ضحكة مرتفعة من‬ ‫ٌ‬ ‫أكثر من ثوان قليلة إذ ّ‬
‫صكت أذنيه‬ ‫إحساسه باالبتهاج َ‬
‫أنتظرها‪ ،‬وأطلق‬‫ُ‬ ‫ريا قام سامر باحلركة التي كنت‬ ‫أناندار أتبعها بقوله‪“ :‬أخ ً‬
‫ٍ‬
‫ملعركة عىل طراز القرون الفائتة”‪.‬‬ ‫أتشوق‬
‫قنبلة موجية‪ ..‬ال يعرف أنني ّ‬
‫أساه‪ ،‬وأحد رجاله يضغط جز ًءا من‬ ‫قفزَ من عىل املنصة واق ًفا أمام ْ‬
‫َ‬
‫ببنادق رشاشة ُمعتادة تناول واحدً ا منها وثبت‬ ‫كوة ممتلئة‬
‫الدرج فتحت به ّ‬
‫ثم أطلقَ يف اهلواء دفع ًة من الرصاص جعلت ً‬
‫غبارا يتناثر من سقف‬ ‫به خزنته ّ‬
‫القرص عىل رؤوس الواقفني‪.‬‬
‫عم‬
‫ثم توجه مع الباقني للخارج‪َّ .‬‬ ‫َ‬
‫ترك ثالثة من رجاله شاهرين بنادقهم ّ‬
‫ٍ‬
‫تبادل إلطالق النار تالها صوت انفجار‬ ‫أصوات‬
‫ُ‬ ‫ثم تعالت‬
‫الصمت لدقيقة‪ّ ،‬‬
‫ُ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪257‬‬
‫ثم عاد تبادل‬ ‫مكتوم بدا صو ُته بعيدً ا ما ّ‬
‫يدل عىل أنه حدث يف املبنى الثاين‪ّ ،‬‬
‫أن تلك املعركة ربام أيقظت ّ‬
‫كل من يف برمانا‪.‬‬ ‫إطالق النار ثانية‪ّ ،‬‬
‫مخن اجلميع ّ‬
‫تنفض عن نفسها تلك األفكار‬ ‫ُ‬ ‫(ميساء) بتفاؤل حذر‪ ،‬بدأت‬ ‫شعرت ْ‬
‫ْ‬
‫غرور أناندار ربام‬
‫َ‬ ‫غزت عقلها يف الدقائق املاضية‪ .‬توقعت ّ‬
‫أن‬ ‫السوداوية التي ْ‬
‫املرجح جدًّ ا ّأل ينترص عىل اللبنانيني يف‬ ‫ٍ‬
‫بغباء شديد‪ ،‬وأنّه من ّ‬ ‫دفعه للترصف‬
‫مدربون عليها‪ ،‬وأغلبهم أل َفها منذ الصغر‪ّ ،‬‬
‫ثم‬ ‫فهم ّ‬ ‫قتال باألسلحة ال ّتقليدية ُ‬
‫ري من رجال أناندار أرضيون مرتزقة اعتادوا‬ ‫قل تفاؤهلا حني تذكرت أن الكث َ‬ ‫ّ‬
‫تلك األسلحة بالتأكيد‪ ،‬وقد يكون منهم لبنانيون يعملون معه‪.‬‬
‫أن قيده وإن كان ال يزال ً‬
‫حمكم‪ ،‬إال أنه مل يعدْ فيه‬ ‫شعر ّ‬
‫كام توقع باسل‪َ ،‬‬
‫ذلك ال ّنشاط التفاعيل‪ ،‬مل يعد القيدُ يشتدّ عىل يده كلام حاول التملص منه كام‬
‫حيرك يده وحياول بأصابعه شدّ أجزاء من‬‫قبل إطالق القنبلة‪ .‬بدأ ّ‬‫كان حيدث َ‬
‫احلبل املعدين لكنه فشل‪.‬‬
‫احلراس الثالثة يتبادلون‬
‫ُ‬ ‫صوت إطالق النار كثي ًفا يف اخلارج‪ ،‬وبدأ‬‫ُ‬ ‫كان‬
‫أحسوا بأن القتال يف اخلارج أكثر صعوبة‬ ‫ٍ‬
‫نظرات قلقة‪ ،‬وقد بدَ ا عليهم ّأنم قد ّ‬
‫(ميساء)‪ ،‬مهس بأذهنا بيشء ما‪ ،‬وقبل أن يكمل‬ ‫اقرتب باسل من ْ‬ ‫َ‬ ‫ختيلوا‪.‬‬
‫ممّا ّ‬
‫ساخرا‪“ :‬أعرف‬‫ً‬ ‫ثم قال‬ ‫ِ‬
‫باالبتعاد عنها‪ّ ،‬‬ ‫آمرا إياه‬ ‫كالمه َهن َره أحدُ ّ‬
‫احلراس ً‬
‫ضحك (باسل)‬‫َ‬ ‫ملكا ألناندار العظيم”‪.‬‬ ‫صارت اآلن ً‬‫ِ‬ ‫ّأنا هتمك لكنها‬
‫اسمه أناندار الصغري”‪.‬‬ ‫أن َ‬‫“كنت أعرف ّ‬ ‫ُ‬ ‫بسخرية بصوت عال وهو يقول‪:‬‬
‫أرضيا‪ -‬أجزا َء سالحه باحرتافية‪ ،‬وقال‬‫ًّ‬ ‫احلارس اآلخر‪ -‬والذي كان‬‫ُ‬ ‫شدّ‬
‫السبب أنّك‬
‫َ‬ ‫سالحه لرأس باسل‪“ :‬لو قتلتك اآلن وقلت له ّ‬
‫إن‬ ‫َ‬ ‫يوجه‬
‫وهو ّ‬
‫فلن يلومني”‪.‬‬
‫قلت عليه أناندار الصغري ْ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪258‬‬
‫ثم فجأة رصخت‬ ‫وسكن يف مكانه متا ًما‪ّ ،‬‬
‫َ‬ ‫ابتعدَ باسل عن ْ‬
‫(ميساء)‬
‫األول األديتي وهي تقول له ّإنا لن تكون جارية‬ ‫(ميساء) باحلارس ّ‬ ‫ْ‬
‫بمزيج من العربية واألديتية‪ّ .‬‬
‫حذرها احلارس‬ ‫ٍ‬ ‫ثم انطلقت يف سباهبم‬‫ألحد ّ‬
‫رقدت عىل‬
‫ْ‬ ‫ثم‬‫استمرت بالرصاخ ّ‬‫ّ‬ ‫الصمت بدون جدوى‪،‬‬
‫َ‬ ‫وطلب منها‬
‫وكأنا دخلت يف ٍ‬
‫نوبة من‬ ‫ترفس بقدميها وترصخ بصوت مكتوم‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫األرض‬
‫رست مههامت بني األرسى يطلبون من احلراس أن يساعدَ‬ ‫ْ‬ ‫التش ّنجات‪.‬‬
‫أحدُ هم الفتاة‪.‬‬
‫استغل (باسل) اجللب َة واقرتب من أحد الرجال الواقفني خل َفه وهو‬ ‫ّ‬
‫بميساء َمافة أن يراه أحدهم‪ ،‬غمزَ‬
‫يقلب نظره بنيَ احلراس الثالثة املشغولني ْ‬
‫ُ‬
‫الرجل مقصد (باسل)‬ ‫فهم‬
‫فأشار بعينه للقيد‪َ .‬‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫ستفهم‬ ‫بيده الرجل فنظر إليه ُم‬
‫ُ‬
‫الرجل ظهره لباسل الذي‬ ‫وهو أنّه يريد أن يفك ّ‬
‫كل م ْنهام قيدَ اآلخر‪ .‬أعطى‬
‫فقام‬ ‫ثم َ‬
‫تبادل األدوار َ‬ ‫متكن من ّ‬
‫فكه‪ّ ،‬‬ ‫يتالعب بقيد الرجل برسعة ح ّتى ّ‬ ‫ُ‬ ‫بدأ‬
‫بفك ْقيد باسل بدوره‪.‬‬ ‫الرجل ّ‬

‫قيودهم دون أن يشعر احلراس‪،‬‬ ‫فكت ُ‬ ‫يف غضون دقائق كان مخسة قد ّ‬
‫كل واحد منهم‬‫ترتيب ُمسبق‪ ،‬وزّ عوا أنفسهم بنيَ األرسى ح ّتى صار ّ‬
‫ٍ‬ ‫ودون‬
‫ميساء قدمي احلارس القريب منها‬ ‫طوقت ْ‬‫احلراس‪ .‬فجأة ّ‬‫قري ًبا من أحد ّ‬
‫َ‬
‫االعتدال فناولته ركل ًة أخرى‬ ‫بساقيها وجذبته بشدة فأوقع ْته ً‬
‫أرضا‪ ،‬حاول‬
‫هجوم (باسل) واآلخرين‬‫ُ‬ ‫دوي انفجار قوي يف اخلارج تاله‬
‫تزامنت مع ّ‬
‫ِ‬
‫وأحد‬ ‫عىل احلراس‪ ،‬ودارت معركة قصرية انتهت بمقتل احلراس الثالثة‬
‫املقاومني‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪259‬‬
‫حرر املقاومون زمالءهم والتقطوا بقي َة األسلحة املوجودة يف ذلك‬ ‫ّ‬
‫أسفل الدرج وخرجوا بحذ ٍر يستكشفون ساحة املعركة‬ ‫َ‬ ‫الصغري‬
‫املخزن ّ‬
‫ساترا‪ ،‬وبدأوا بإطالق النار اجتاه‬
‫كل منهم ً‬ ‫التي كانت حامية الوطيس‪ّ .‬اتذ ّ‬
‫بأنم صاروا بني ش ّقي رحى بني املهامجني‬ ‫أناندار ورجاله الذين فوجئوا ّ‬
‫اجلدد واملهامجني الذين جاؤوا من داخل املبنى‪.‬‬
‫حنيَ رأى أناندار ذلك‪ ،‬طلب من أحد رجاله أن يطلقَ قذيفة عىل مكان‬
‫ثم أمر اجلميع بإطالق النار بكثافة‬ ‫ِ‬
‫جمموعة املقاومني املهامجني من الداخل‪ّ ،‬‬
‫يف ّ‬
‫كل االجتاهات لل ّتغطية عىل انسحابه نحو املبنى اجلانبي من القرص‪ .‬كان‬
‫ِ‬
‫أطلقت القذيفة اجتاهها والتي‬ ‫وميساء من ضمن املجموعة التي‬ ‫(باسل) ْ‬
‫(ميساء) بأ ًذى سوى أن‬‫بجراح بليغة لك ّنها مل تصبه أو ْ‬
‫ٍ‬ ‫أصابت واحدً ا‬
‫شوشت وع َيه للحظات‪.‬‬ ‫ّ‬
‫فنبهت باسل الذي‬ ‫َ‬
‫ينسحبون ّ‬ ‫(ميساء) أناندار واثنني من رجاله‬
‫رأت ْ‬
‫أرصت أن ترافقه‪ .‬جتادال‬
‫طلب منها أن تنتظر‪ ،‬بينام يتبعهم هو‪ ،‬لك ّنها ّ‬
‫معا‪ ،‬وافقته‬ ‫يتدخل إييل ً‬
‫قائل‪ّ :‬إنم الثالثة سيطاردونه ً‬ ‫ّ‬ ‫للحظات قبل أن‬
‫وأمر رجاله‬
‫لكن إييل جتاهله َ‬
‫باسل االعرتاض ّ‬ ‫ُ‬ ‫(ميساء) عىل الفور‪ ،‬حاول‬
‫ْ‬
‫بتكثيف إطالق النار للتغطية عليهم‪.‬‬
‫ورج َله من مدخل املبنى اجلانبي‪ ،‬والثالثة خلفهم عىل‬
‫اقرتب أناندار ُ‬
‫َ‬
‫بدأت يف الظهور من األفق ا ُملختفي‬
‫ْ‬ ‫الشمس قد‬ ‫ُ‬
‫أشعة ّ‬ ‫مسافة آمنة‪ .‬كانت‬
‫النظر‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫حرس أناندار حني حياولون‬ ‫خلف اجلبل رامية بضوئها يف عيون‬
‫خلفهم وهو ما يصعب عليهم رؤية املطاردين ‪َ .‬‬
‫دخل من الباب يتبعه حارساه‪،‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪260‬‬
‫عدو‬ ‫عشوائيا كأنّه حياول َ‬
‫قتل ّ‬ ‫ًّ‬ ‫ثم خرج أحدهم بغتة وأطلق دفقة من ال ّنريان‬ ‫ّ‬
‫أصوات‬
‫ُ‬ ‫ثم اختفى بالداخل‪ .‬تقدم الثالثة زاحفنيَ بحذر‪ ،‬وال تزال‬ ‫ال يراه ّ‬
‫الطلقات تأيت من جهة املعركة وإن بدأت تقل‪.‬‬‫ّ‬
‫يكن هنالك أحد‪ ،‬كان املبنى ً‬
‫فارغا متا ًما‪ ،‬جتولوا بني غرفه‬ ‫دخلوا املبنى‪ ،‬مل ْ‬
‫صوت قرقعة عالية تأيت من األسفل‪ُ .‬ه ِرعوا نحو السلم‬‫َ‬ ‫وممراته ح ّتى سمعوا‬
‫ّ‬
‫يتوسطها جهاز أشبه‬‫ّ‬ ‫نحو ْقبو املبنى فوجدوا قاع ًة فسيحة‬
‫رسيعا َ‬
‫ً‬ ‫ونزلوا‬
‫وقف رجالن من‬ ‫مقربة منه َ‬ ‫ٍ‬ ‫يومض بشكل متقطع‪ ،‬وعىل‬ ‫ُ‬ ‫بالغرفة الزجاجية‬
‫النياندرتال بأيدهيم أجهزة َت ّكم‪.‬‬
‫هرب إىل كوكبه عن طريق هذا الناقل”‪.‬‬ ‫قال ُ‬
‫باسل بغضب‪“ :‬ابن احلقرية َ‬
‫(ميساء) بدهشة‪“ :‬كيف عرفت؟”‪ .‬فقال هلا‪“ :‬لقد سافرت مع كمريدا‬
‫سأل ْته ْ‬
‫األم تزورها بني احلني‬ ‫مر ٍ‬
‫ات بجهاز شبيه‪ ..‬كانت مفتون ًة بقريتها ّ‬ ‫عدة ّ‬
‫كالم أبوهيا عن ناقلٍ كهذا‬
‫َ‬ ‫واآلخر”‪ .‬تعلقت عيناها بال ّناقل وهي ّ‬
‫تتذكر‬
‫أعادمها لألرض بعد فرتة اختطافهام يف كوكب أديتيا‪.‬‬
‫الرجلي املمسكني بأجهزة‬
‫ْ‬ ‫وجه‬
‫شاهرا أسلحته يف ْ‬ ‫ً‬ ‫اقرتب (باسل)‬
‫َ‬
‫تشغيل هذا اجلهاز رغم تأثري القنبلة‬ ‫التحكم وسأهلام‪“ :‬كيف استطع ُتم‬
‫مبطن بطبقات‬ ‫إن هذا القبو ّ‬ ‫ُ‬
‫الرجل األديتي ُمرتعدً ا‪ّ :‬‬ ‫املوجية؟”‪ .‬أجابه‬
‫تعزله عن أي يشء حيدث يف العامل اخلارجي ح ّتى لو كانت قنبلة نووية‪ .‬نظر‬
‫ثم قال‪“ :‬سوف‬ ‫ِ‬
‫بقدمه يف عصبية ّ‬ ‫(باسل) مليساء وإييل وهو خيبط األرض‬
‫آخر ما أفعله يف حيايت”‪.‬‬ ‫أتبعه يف هذا الناقل‪ ..‬ال بدّ أن أقتله ولو َ‬
‫كان هذا َ‬ ‫ُ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪261‬‬
‫دعم من‬
‫ستفعل هناك دون ٍ‬‫ُ‬ ‫نظر له إييل بدهشة وهو يقول‪“ :‬هل جننت ماذا‬
‫(ميساء) قائلة‪“ :‬دعنا ننتظر ونذهب يف مطاردتِه بمساعدة‬
‫أحد؟!”‪ .‬أكملت ْ‬
‫الذهاب إىل هناك‪ ،‬وأمتنى قتله ً‬
‫أيضا”‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ماندريك وزمالئه هناك‪ ،‬أنا أمتنى‬
‫أن هذا قراره وحده فقط‪ ،‬ر ّدت عليه متحدية‬ ‫نظر إليها بحزم وهو ّ‬
‫يؤكد ّ‬ ‫َ‬
‫أي يشء حيدث هلا هناك سيكون ذنبه‬ ‫قر َر الذهاب‪ّ ،‬‬
‫وإن ّ‬ ‫ستذهب إن ّ‬
‫ُ‬ ‫بأهنا‬
‫َ‬
‫الحظ ّأنام ّ‬
‫هيمن باحلركة‪،‬‬ ‫الرجلي األديتيني حني‬
‫ْ‬ ‫حمذرا‬ ‫ِ‬
‫بسالحه ً‬ ‫لوح‬ ‫هو‪ّ .‬‬
‫فأي‬
‫أرصيت عىل القدوم معي ّ‬ ‫ثم قال هلا وعيناه عليهام‪“ :‬لن يكون ذنبي‪ ،‬إذا ّ‬‫ّ‬
‫بلعت ريقها بصعوبة‬
‫ْ‬ ‫يشء حيدث لك هناك سيكون ذنبك أنت وحدك”‪.‬‬
‫رده‪ ،‬لكن غلب عليها كربياؤها فقالت بحز ٍم هي األخرى‪:‬‬ ‫وقد فاجأها ُّ‬
‫“ليكن ما يكون سوف أذهب‪ ..‬أنا ضابط يف املخابرات‪ ،‬وأستطيع أن أمحي‬
‫نفيس”‪.‬‬
‫مفكرا‬
‫ً‬ ‫تدخل إييل يف احلديث طال ًبا منهام اهلدوء‪ ،‬صمتا حلظة وأطرق هو‬
‫ّ‬
‫ننتظر ح ّتى نأخذ اإلذن من القيادة”‪.‬‬
‫َ‬ ‫ثم قال‪“ :‬سآيت أنا ً‬
‫أيضا‪ ،‬لكن جيب أن‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫بإعادة تشغيل اجلهاز‪“ :‬لن أنتظر وأخاطر‬ ‫ُ‬
‫باسل وهو يشري لألديتي‬ ‫رد عليه‬
‫بفقدان فرصة مالحقتِه‪ ،‬ابقَ أنت واتبعني بعدَ ذلك إن شئت”‪ .‬زفر إييل يف‬
‫ً‬
‫مستسلم‪“ :‬حسنًا‪ ،‬سأذهب معكام‪ ،‬لكن‬ ‫يسب محقَ باسل‪ّ ،‬‬
‫ثم يقول‬ ‫حنق وهو ّ‬
‫أن زميله لن يعبث باجلهاز‬‫نطمئن ّ‬
‫ّ‬ ‫سنأخذ أحد هذين النياندرتال معنا لكي‬
‫ّ‬
‫التحكم‪ ،‬ويضبطه بيده عىل البدء بعدَ‬ ‫فيقتلنا”‪ .‬ر ّد (باسل) وهو يأخذ جهاز‬
‫دقيقتني من ضغط زر التشغيل‪“ :‬بل سيأيت كالمها معنا‪ ،‬اجلهاز يمكن ضبطه‬
‫مسب ًقا‪ ،‬وال حيتاج لوجود ٍ‬
‫أحد إىل جواره”‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪262‬‬
‫بعدَ أن أدخل (باسل) اإلعدادات املطلوبة للجهاز‪ ،‬ضغط الزر‪ ،‬بدأ‬
‫مجيعا فيه‪ ،‬ومعهام‬ ‫ُ‬
‫يومض يف تتابع ُمنتظم‪ ،‬حني بدأ يف التسارع قفزوا ً‬ ‫اجلهاز‬
‫مجيعا‬ ‫ُ‬
‫اجلهاز بالعمل وغمرهتم ً‬ ‫األديتيان وأغلقوه بقوة‪ .‬انتظروا ح ّتى بدأ‬
‫ٍ‬
‫لوقت ال يعرفون‬ ‫ِ‬
‫وغابت التفاصيل‬ ‫ضوء ُمبهر‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫حارة وأعمى عيوهنم‬ ‫ٌ‬
‫موجة ّ‬
‫حسا َبه بالضبط‪ ،‬وحني عادت كانوا يف عامل آخر‪.‬‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪263‬‬
‫القسم الخامس‬
‫ُ‬
‫مؤجلة‬
‫ّ‬ ‫محاكمات‬
‫ٌ‬
‫ّ‬
‫الحكام فقط؛ ال بدّ من طريقة‬ ‫تنفيذ العدل ِ‬
‫بيد‬ ‫يترك ُ‬‫“ال ينبغي أن َ‬
‫قادرين على إنشاء محاكم ُتجابه إراد َة‬
‫َ‬ ‫قانونية تجعل عام َة الشّ عب‬
‫المحاكم التي تنشئها الدولة عند اللزوم”‬
‫ديباجة قانون أديتيا األساسي‬
‫‪37‬‬
‫دسوه يف رشاهبا‪،‬‬‫غارقة يف نومها بفعل املخدّ ر الذي ّ‬ ‫ٌ‬ ‫نظر إليها وهي‬
‫َ‬
‫ومركزا حلياته‪.‬‬
‫ً‬ ‫زمن مىض عنوا ًنا لقلبه‬
‫ببرصه يف مالحمها التي كانت يف ٍ‬ ‫ِ‬ ‫جال‬
‫ذاب فيهام ذات يوم‪ ،‬وهو يسأل كيف هلاتني الشفتني أن‬ ‫تأمل شفتيها اللتني َ‬
‫ُ‬
‫وهيبط بانتظام‪ ،‬وقال‬ ‫أمرا هبذه البشاعة‪ ،‬تط ّلع إىل صدرها وهو يعلو‬ ‫تصدران ً‬
‫كل القبح‪ ،‬وي ّتخذ قرارات ال‬ ‫لنفسه كيف هلذا الصد ِر أن حيوي قل ًبا يستبيح ّ‬
‫يتخذها ّإل السفاحون!‪.‬‬
‫“إن اخلوض يف الوحل العميق يبدأ عندما ال تتأ ّفف من اتساخ قدمك‬ ‫ّ‬
‫وأنت عىل حافته” ر ّدد ماندريك يف ذهنه ذلك املثل القديم من وطنه األم‪،‬‬
‫ذكر اسمها‬‫أقبح األفعال التي كان يستنكر َ‬ ‫َ‬
‫اإلنسان يرتكب َ‬ ‫والذي يعني أن‬
‫فالقبح كاملال ك ّلام‬
‫ُ‬ ‫قبحا‪،‬‬
‫أقل ً‬ ‫ٍ‬
‫أفعال ّ‬ ‫ملجرد أنه بدأ باالعتياد عىل ارتكاب‬
‫قل شعورك بكثرة ما لديك‪.‬‬ ‫استزدت منه ّ‬

‫ري مستوعبة ملا جيري أو ملَا تراه‪.‬‬ ‫تأوهت هريمني وهي تفتح عينيها غ َ‬ ‫ّ‬
‫جالس عىل كريس‬ ‫ٌ‬ ‫كانت هريمني راقد ًة عىل أريكة صغرية‪ ،‬وأمامها ماندريك‬
‫ختص املقاومة يف حي عني شمس‪.‬‬ ‫املقار التي ّ‬
‫غرفة صغرية يف أحد ّ‬ ‫ٍ‬ ‫جلدي يف‬
‫خافت الضوء‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫مصباح واحد‬
‫ٌ‬ ‫كانت الغرفة مستطيل َة الشكل ضيق ًة‪ ،‬ينريها‬
‫تتبي مالمح ماندريك يف البداية‪ ،‬وظ ّنت‬ ‫كانت الرؤية ضبابية ّأول األمر‪ ،‬مل ّ‬
‫غرفة يف بيت‬‫ٌ‬ ‫وأن تلك الغرفة القذرة هي‬ ‫ّأنا أغمى عليها من فرط التوتّر‪ّ ،‬‬
‫وتذكرت أهنا قد‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬
‫وجود ماندريك أمامها‪،‬‬ ‫لؤي‪ .‬فزعت حني انتبهت إىل‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪267‬‬
‫تساءلت عن السبب الذي جعله‬
‫ْ‬ ‫اخ ُت ِط َفت عىل يد املقاومني بمساعدة لؤي‪.‬‬
‫هتم‪،‬‬ ‫ثم عادت تقول لنفسها ّ‬
‫إن األسباب ال ّ‬ ‫خيوهنا وهي تعدّ د أفضاهلا عليه‪ّ ،‬‬
‫ُ‬
‫التعامل مع النتائج‪.‬‬ ‫واملهم‬
‫ّ‬
‫اعتدلت يف جلستها وهي تنتظر ْ‬
‫أن يبدأها بالكالم‪ ،‬كان اجلو بينهام يف‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫الكلامت يف صدر َمن يريد الكالم‪ .‬كانت تريد‬ ‫تلك ال ّلحظة ً‬
‫غائم بار ًدا يكتم‬
‫أن تسأله عن مصريها؛ أن ختاطب فيه احلبيب القديم ع ّله يرمحها‪ .‬أ ّما هو‬
‫الش اخلالص‪ ،‬وكيف استباحت‬ ‫حتولت إىل هذا ّ‬
‫فكان يريد أن يعرف كيف ّ‬
‫أين ُدفنت‪..‬‬ ‫يرصخ فيها ً‬
‫سائل عن هريمني القديمة َ‬ ‫َ‬ ‫ما استباحته‪ ،‬كان يريد أن‬
‫أي جحيم جاءت!‬
‫وعن اجلديدة من ّ‬
‫نفسه يقول متش ّف ًيا‪“ :‬مل يكن من‬ ‫لكن ً‬
‫رغم عنه وجد َ‬ ‫فمه ليسأل ْ‬
‫فتح َ‬
‫َ‬
‫العسري علينا جتنيد (لؤي) بعدَ إغرائه ببعض امليزات فقد كان الرجل يمقتك‬
‫أحقر منه بكثري”‪ .‬ضغط‬
‫ُ‬ ‫يعلم حقيقة أنّك‬
‫احتقارك له وهو ُ‬
‫َ‬ ‫ح ًّقا‪ ..‬كان يكره‬
‫خرجت منه كبصقة عىل وجهها‪ ،‬وشعرت هبا هي‬ ‫ْ‬ ‫عىل كلامته األخرية التي‬
‫استجامع أكرب قد ٍر‬
‫َ‬ ‫كسكني حا ّد يغوص يف قلبها لك ّنها ر ّدت عليه وهي حتاول‬
‫قرارا خاطئًا‪،‬‬
‫اخلاص كان ً‬
‫ّ‬ ‫“جعل ذلك احليوان حاريس‬
‫من رباطة جأشها‪ْ :‬‬
‫ابتلعت ري َقها وهي حتاول أن تطر َد‬
‫ْ‬ ‫ثم‬
‫وخيان ُته يل ال تشغل بايل كام تظن”‪ّ ،‬‬
‫رب قد ٍر من‬
‫ترسم عىل وجهها أك َ‬
‫َ‬ ‫عن ذهنها فكرة مصريها القادم‪ ،‬وحتاول أن‬
‫ُ‬
‫تضيف ُمتظاهرة باملزاح‪“ :‬أنا لست غاضب ًة منه؛ عىل العكس‬ ‫االستهانة وهي‬
‫أنا أشكره ألنّه أتاح يل فرص َة رؤية حبيب قديم”‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪268‬‬
‫الساخرة رغم أنه استخدم اللهجة‬ ‫وجهه غض ًبا من طريقتِها ّ‬
‫ُ‬ ‫اكفهر‬
‫ّ‬
‫لكن رؤية ذلك التعبري ا ُملستهني عىل‬ ‫نفسها يف احلديث معها َ‬
‫قبيل اختطافها‪ّ ،‬‬
‫وجهها ضايقه بشدّ ة‪ .‬صاح فيها يف ٍ‬
‫ثورة عارمة وهو ي ّتهمها بأبشع العبارات‪،‬‬
‫َ‬
‫مراحل العار‪ .‬فتح شاش ًة‬ ‫يشء ُ‬
‫يفوق الوصف‪ ،‬ويتعدّ ى‬ ‫ّ‬
‫ويذكرها أن ما فعلته ٌ‬
‫صورا ّ‬
‫تلخص جريمتها‪ ،‬ور ّد فعل الضحايا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫فراغية أمامها‪ ،‬وعرض فيها‬
‫ثم أمسكها من كتفيها وصاح وهو‬ ‫وجوههن من األمل والفزع‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫وما ظهر عىل‬
‫أديتيا واحدً ا ّإل وصدم ْته بشاعة ما فعلتِه‪ ،‬من‬
‫أرضيا وال ًّ‬
‫ًّ‬ ‫هيزمها بقوة‪“ :‬مل َأر‬
‫أنت بحقّ ماجوها‪ ،‬أو بحقّ أي يشء تؤمنني به”‪.‬‬

‫أرسه هلا جمرد حركة يقوم هبا‬


‫أن َ‬‫تظن ّ‬
‫أصابا الفزع من غضبته‪ ،‬كانت ّ‬
‫َ‬
‫ثائر ضدّ مسئول يف احلكومة التي ُيعادهيا‪ ،‬لكن عيناه الغاضبتان الكارهتان‬
‫ٌ‬
‫بتوسل‪:‬‬
‫تتلعثم وتنظر له ّ‬
‫ُ‬ ‫تفوق ذلك بكثري‪ .‬قالت وهي‬ ‫ُ‬ ‫عن مشاعر‬
‫أفصحتا ْ‬
‫أرتكب تلك الفظاعة التي تدعيها”‪.‬‬
‫ْ‬ ‫“أنا مل أفعل شيئًا‪ ،‬مل‬
‫ً‬
‫ضاغطا بيديه بقوة‬ ‫هنرها بشدّ ة وهو ي ّتهمها بالكذب واالستهانة بعقله‬
‫َ‬
‫رصخت ُمتأملة فأفلتها بعنف‪ ،‬وهو يدفعها لتنطرح عىل‬
‫ْ‬ ‫كتفيها ح ّتى‬
‫عىل ْ‬
‫اعتدلت من سقطتها وهي تفكر ّأنا‬
‫ْ‬ ‫أريكتها‪ .‬حاولت ْ‬
‫أن تتاملك نفسها‪،‬‬
‫املتوسل املدافع عن نفسه‪ ،‬ح ّتى وإن‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫موقف‬ ‫شخصا ضعي ًفا لتقف‬‫ً‬ ‫ليست‬
‫أن تتحدّ اه وتقول ّإنا فعلت ما‬ ‫َ‬
‫سبيل النجاة الوحيد‪ ،‬فكرت ْ‬ ‫كان هذا هو‬
‫وألنا تريد أن تؤسس دول ًة قوية ال مكان‬ ‫فعلت ّ‬
‫ألن قوانني العامل هكذا‪ّ ،‬‬ ‫ْ‬
‫فيها للضعفاء وال للشحاذين‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪269‬‬
‫األقوال واحلجج‪ ،‬تصارع يف داخلها العناد واألنفة مع‬ ‫ُ‬ ‫تضاربت يف عقلها‬
‫ْ‬
‫حب البقاء والرغبة يف ال ّنجاة‪ ،‬فانعقد لساهنا ومل تد ِر ماذا تقول‪ ،‬نظرت إىل‬ ‫ّ‬
‫نفسامها ال ّلتان كانتا حتتوياهنا‬
‫عينيه ال ّلتني تطفحان غض ًبا ومق ًتا‪ّ ،‬إنام العينان َ‬
‫وشعور بالعجز‪ ،‬جعل‬‫ٌ‬ ‫واحتشاد للمشاعر املتضاربة‬
‫ٌ‬ ‫ذات يوم‪ ،‬مفارقة غريبة‬
‫رغبة عارمة يف البكاء‪ ،‬مل تقاومها‬ ‫ٌ‬ ‫كل يشء خيتفي من ذهنِها‪ ،‬واجتاحتها‬ ‫ّ‬
‫فارتفع صوهتا بنحيب ُمرتفع خمتلط بآهات متقطعة‪.‬‬
‫َ‬
‫حلبه هلا‪ ،‬وألنّه‬
‫جزء كبري من غضبه يعود ّ‬ ‫حائرا وهي تنتحب‪ٌ ،‬‬ ‫ً‬ ‫تأ ّملها‬
‫يمس‪ ،‬وأنّه يف‬‫نقيا مل ّ‬
‫أن هناك جز ًءا يف روحها ال يزال ًّ‬ ‫كان دو ًما ُيم ّني نفسه ّ‬
‫يوم ما سيوقظه وجيع ُله له اليد العليا عىل بقية روحها‪ ،‬وعندها تعود هريمني‬
‫تتلوث يدها‬ ‫ِ‬
‫سلكت اآلن طري ًقا ال رجع َة فيه وال توبة منه يف رأيه‪ ،‬مل ّ‬ ‫القديمة‪.‬‬
‫أن روحها‬ ‫ٍ‬
‫بطريقة ّأكدت له ّ‬ ‫بالدم فقط‪ ،‬وإنّام بالبشاعة واالستهانة بالبرش‬
‫أعمق نقطة يف املحيط‪ ،‬ال مكان فيها لبقعة ضوء واحدة‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫صارت أظلم من‬
‫ٍ‬
‫ملحاكمة علنية عادلة سرياها العامل أمجع هنا عىل األرض‪ ،‬ويف‬ ‫“ستخضعنيَ‬
‫هيم باخلروج وهي ال تزال تبكي‪ .‬مل‬‫كوكبنا األم”‪ ،‬قاهلا وهو عندَ باب الغرفة ّ‬
‫حيصن نفسه ضدّ ضعفها‪“ :‬أال‬ ‫جيدْ منها استجاب ًة لكالمه َ‬
‫فقال هبدوء وكأنّه ّ‬
‫تتوسل لك لتنقذي حياهتا‪َ ...‬أل‬
‫بكت مثلك هكذا وهي ّ‬ ‫تظننيَ أن كمريدا ْ‬
‫فلن توازي دموعك قطر َة دم من هؤالء‬ ‫عرش سنوات ْ‬ ‫تعلمني أنك لو بكيت َ‬
‫مرميا عىل‬ ‫ٍ‬
‫امرأة جلنينها وهو يموت ًّ‬ ‫ٍ‬
‫حرسة من‬ ‫ال ّنسوة أو شهقة أمل أو نظرة‬
‫ني دموعها قائلة‪“ :‬مل ْ‬
‫أفعل ذلك”‪ .‬فرد‬ ‫األرض حتت قدميها!”‪ .‬ردت من ب ِ‬
‫سمعك حتدثني أناندار وعيناك‬
‫بغيظ عليها‪“ :‬كمريدا قالت إنّك فعلت ولؤي َ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪270‬‬
‫ينتظر ر ّدها وإنّام‬
‫ْ‬ ‫اآلن ت ْفضحانك وتكشفان ّ‬
‫رسك‪ ...‬إنكارك ال قيمة له”‪ ،‬مل‬
‫ثم أغلقه خلفه بعنف‪.‬‬
‫فتح الباب وخرج‪ّ ،‬‬
‫ثم‬
‫أضواء خافتة‪ ،‬جتاوز ثالثة أبواب ّ‬
‫ٌ‬ ‫ملمر طويل تنريه‬
‫خرج من غرفتها ّ‬‫َ‬
‫الرابع‪ ،‬قا َده إىل غرفة فسيحة جلس فيها رجالن؛ أريض وأديتي‪ ،‬إىل‬ ‫َ‬
‫دخل ّ‬
‫ثم سأل‪“ :‬ما‬ ‫لتحيته لك ّنه أشار هلام باجللوس ّ‬
‫وقف الرجالن ّ‬ ‫طاولة ُمستديرة‪َ .‬‬
‫اضطروا القتحام‬
‫ّ‬ ‫آخر أخبار عملية أناندار”‪ .‬ر ّد عليه األريض ً‬
‫قائل‪ّ ..‬إنم‬
‫َ‬
‫احتجاز املجموعة املهامجة‬ ‫القرص بأسلحة تقليدية بعدَ ما استطاع أناندار‬
‫كميات كبرية من األسلحة‬‫ٍ‬ ‫أن أناندار خيزن‬ ‫ثم أضاف‪“ :‬اتّضح ّ‬‫األوىل‪ّ ،‬‬
‫َ‬
‫رجال املقاومة‬ ‫لكن‬
‫ّ‬ ‫التقليدية بنادق آلية ومتعددة الطلقات‪ ،‬وغريها‪،‬‬
‫استطاعوا التغلب عليهم يف النهاية”‪.‬‬
‫يشكره ماندريك لكن‬‫َ‬ ‫منتظرا أن‬
‫ً‬ ‫بزهو‪ ،‬وهو ينهي ُجلته‬
‫الرجل ْ‬ ‫ابتسم ّ‬
‫َ‬
‫كل ما وصلنا‬‫كمل‪“ :‬هذا ّ‬‫أيضا‪ ،‬فقال ُم ً‬
‫نظر إليه كأنه يقول‪ ..‬وماذا ً‬
‫األخري َ‬
‫املهمة؟ هل قتلوا أناندار؟‬
‫األخبار ّ‬
‫ُ‬ ‫ضيق ً‬
‫قائل‪“ :‬أين‬ ‫منهم”‪ .‬زفر ماندريك يف ٍ‬
‫(ميساء) وباسل بخري؟”‪.‬‬‫هل قبضوا عىل مساعده؟ هل ْ‬
‫ربرا لزميله‪“ :‬سيدي‪ ،‬املكاملة كانت‬
‫وم ً‬ ‫تك ّلم اآلخر‪ -‬األديتي‪ً -‬‬
‫قائل ُ‬
‫إن قائدهم سيتواصل معك حني تنتهي من حتقيقك مع‬ ‫رسيعة‪ ،‬وقالوا ّ‬
‫طلب من األريض أن جيري‬ ‫ثم َ‬ ‫مفكرا‪ّ ،‬‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫أطرق ماندريك‬ ‫املتهمة الرئيسية”‪.‬‬
‫مقر املقاومة يف بريوت ليتحدّ ث مع قائدهم سامر‪.‬‬ ‫ً‬
‫اتصال مع ّ‬
‫شاشة فراغية أظهرت (سامر) وهو جيلس بيده عبو ُة عصري‬ ‫ٌ‬ ‫انفتحت‬
‫ْ‬
‫ضمدت ذراعه وبدَ ا عىل وجهه اإلجهاد‪ ،‬وعىل عينيه النعاس‪.‬‬
‫ْ‬ ‫صغرية وقد‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪271‬‬
‫ثم سأ َله عن األخبار فر ّد ً‬
‫قائل‪“ :‬لقد استطعنا‬ ‫بادره ماندريك بال ّتحية‪ّ ،‬‬
‫أشعر بالقلق الشّ ديد من هذا‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫أصدقك القول أنا‬ ‫التغلب عليهم بصعوبة لكن‬
‫َ‬
‫اللعني أناندار”‪ ،‬جتاهل ماندريك ذلك “القلق الشديد” وسأله‪“ :‬هل قتل ُتم‬
‫أناندار؟ وأين باسل وميساء؟”‪.‬‬
‫ضم (باسل) لتلك العملية‪،‬‬ ‫ُ‬
‫الرجل لباسل’ ولليوم الذي وافقَ عىل ّ‬ ‫سب‬
‫ّ‬
‫يصفه باحلمق والتهور‪ ،‬وقبل أن يستطر َد قاطعه ماندريك ِ‬
‫بنفاد صرب‬ ‫وانربى ُ‬
‫قائل‪“ :‬العزيز سامر‪ ..‬أرجوك ّأو ًل أخربين عن نتائج العملية‪ّ ،‬‬
‫ثم ا ْل َعن َمن‬ ‫ً‬
‫جترع بقية عبوة العصري وقذفها بعيدً ا‪:‬‬ ‫تشاء بعدها”؛ فقال سامر بعدَ أن ّ‬
‫نفسه فقد‬‫صباحا‪ ،‬أ ّما أناندار ُ‬
‫ً‬ ‫“قبضنا عىل مساعد أناندار وسأشحنه لك غدً ا‬
‫ابن املالعني (باسل)‬ ‫رب أحد أجهزتكم اللعينة إىل كوكبكم‪ ،‬وقام ُ‬ ‫انتقل ع َ‬
‫(ميساء) وإييل ساعدي األيمن”‪.‬‬‫آخذا معه ْ‬‫باالنتقال خل َفه ً‬

‫أسباب‬
‫َ‬ ‫يتفهم‬
‫مدهوشا من ذلك الذي حدث‪ .‬قد ّ‬ ‫ً‬ ‫عقدَ ماندريك حاج َبه‬
‫لكن ملاذا‬
‫خلف قاتل زوجته‪ْ ،‬‬ ‫َ‬ ‫يقفز إىل املجهول هكذا‬ ‫(باسل) التي جتعله ُ‬
‫وحماولة إثبات ذاهتا هذا املبلغ‪ ،‬أم ّأنا هي‬‫ُ‬ ‫ُ‬
‫احلمق‬ ‫تبعته ميساء‪ .‬هل بلغَ هبا‬
‫أيام كان هو‬ ‫ُ‬
‫يعرف أناندار َ‬ ‫وشخصيته‪ .‬هو‬
‫ّ‬ ‫جرم أناندار‬ ‫األخرى استفزها ُ‬
‫مسا من‬ ‫مرات‪ ،‬كان يرى ّ‬
‫أن به ًّ‬ ‫حب هبريمني‪ ،‬وحتدّ ث معه عد َة ّ‬ ‫عىل عالقة ّ‬
‫مرة إنّه‬
‫ذات ّ‬ ‫أفضل إخوته‪ ،‬بل إنّه قال له َ‬‫ُ‬ ‫جنون العظمة واهلوس بإثبات أنه‬
‫َ‬
‫جيعل ذكر عائلته خالدً ا يف التاريخ‬ ‫شخصيا‪ ،‬وإنّه ينوي أن‬
‫ًّ‬ ‫أفضل من أبيه‬
‫بدل من أناندار الصغري التي‬ ‫يسمي نفسه ً‬ ‫َمقرو ًنا بأجماد أناندار الثاين كام كان ّ‬
‫يطلقوهنا عليه يف العائلة‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪272‬‬
‫“اسمع يا ماندريك‪ ،‬أريد منك أن تعيد‬
‫ْ‬ ‫أخذه من أفكاره ُ‬
‫قول سامر‪:‬‬ ‫َ‬
‫مليا وهو ّ‬
‫يفكر‬ ‫ترصف”‪ .‬تأمله ماندريك ًّ‬ ‫أعز عندي من أبنائي‪ّ ،‬‬
‫(سامر) فهو ّ‬
‫وألنا فتاة تستحقّ َ‬
‫بذل‬ ‫(ميساء) إكرا ًما ألبيها‪ّ ،‬‬ ‫أيضا لن ّ‬
‫يتخل عن ْ‬ ‫يف ر ٍّد فهو ً‬
‫تنظر إ َّيل‬
‫صوت سامر احلانق وهو يقول‪“ :‬ال ْ‬
‫ُ‬ ‫قطع تأمله‬
‫اجلهد من أجلها‪َ .‬‬
‫هكذا كالتائه‪ ،‬قل يل ماذا ستفعل الستعادة الفتى؟”‪.‬‬
‫“هل مازال أحدٌ من رجالك يف القرص؟”‪ .‬سأل ماندريك‪ ،‬فر ّد (سامر)‬
‫ُ‬
‫فرشطة أديتيا عىل‬ ‫ً‬
‫طويل‪،‬‬ ‫باإلجياب‪ ،‬لك ّنه أضاف‪“ :‬لك ّنهم لن يبقون هناك‬
‫اخلاصة‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫لوحات التحكم‬ ‫يصور‬
‫طلب ماندريك منه أن ّ‬ ‫َ‬ ‫وشك الوصول”‪.‬‬
‫أشار‬
‫ليستطيع التقنيون لديه حتديد املكان الذي هبطوا فيه‪َ .‬‬‫َ‬ ‫بجهاز التحكم‬
‫أن ّ‬
‫أذكرك‬ ‫ثم قال‪“ :‬أريدُ فقط ْ‬
‫وطلب منه تنفيذ األمر‪ّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫سامر ألحد مساعديه‬
‫ٍ‬
‫كميات كبرية من البنادق واملدافع اخلفيفة‬ ‫خيزن‬
‫أن ذلك اللعني أناندار كان ّ‬‫ّ‬
‫أخطر‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫الرجل قد يكون‬ ‫ولوال أننا فاجأناه ملا تغ ّلبنا عليه‪ ..‬هذا‬
‫والذخرية‪ْ ،‬‬
‫ريا ممّا تتصورون قد يكون أخطر من حكومتكم نفسها”‪.‬‬
‫كث ً‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪273‬‬
‫‪38‬‬
‫أنفاسا ملؤها‬
‫ً‬ ‫جلس (عمر) يق ّلب يف أوراقه وهو ُ‬
‫يزفر يف عصبية‪ ،‬خيرج‬ ‫َ‬
‫القلق والغيظ‪ ،‬حياول متضي َة الوقت الثقيل الذي يأبى ّإل أن يعذبه ببطئه‬ ‫ُ‬
‫(ميساء) مع‬ ‫هو وزهرة أربع َة أيام عصيبة ُ‬
‫منذ أن َ‬
‫علم باختفاء ْ‬ ‫ا ُمل ِمض‪ .‬أمىض َ‬
‫كل ما سيطر‬ ‫ِ‬
‫ملطاردة أناندار‪ .‬كان ّ‬ ‫باسل وإييل بعدَ أن ذه َبا إىل كوكب أديتيا‬
‫الرعب من ف ْقد طفلته الوحيدة ال يشغل‬
‫َ‬ ‫عىل عقله خالل األيام السابقة هو‬
‫باله يشء آخر‪ ،‬وإن حاولت زهرة هتدئته خلشيتِها عىل ّ‬
‫صحته‪ ،‬فهو ال يزال يف‬
‫ٍ‬
‫نقاهة بعد جراحة القلب التي أجراها‪.‬‬
‫وأنا‬
‫صباح اليوم ّأنا بخري‪ّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫أن أخربه ماندريك‬ ‫حنيَ اطمأن عليها بعد ْ‬
‫الفزع من فقدان طفلته الوحيدة إىل‬ ‫ُ‬ ‫ستعود بعد ساعات‪ ،‬تبدل ّ‬
‫كل ذلك‬ ‫ُ‬
‫تقفز قفزة كتلك‪.‬‬ ‫وهتور‪ ،‬جعلها ُ‬ ‫غضب شديد م ْنه ملَا وجده من استهتار منها‪ّ ،‬‬
‫ثالث هلام‪ ،‬إ ّما أهنا تريد‬ ‫ٍ‬
‫لسبب من اثنني ال َ‬ ‫كان جيزم يف داخله ّأنا فعلت ذلك‬
‫وإن كان ذلك بإلقاء‬ ‫ِ‬
‫حماولة إثبات ذاهتا وبطولتها‪ ،‬ح ّتى ْ‬ ‫أن تذهب بعيدً ا يف‬
‫تبهر‬
‫مدد أو متابعة‪ ،‬وإ ّما أهنا كانت حتاول أن َ‬ ‫نفسها يف أرض العدو دون ٍ‬
‫ملس منها اهتام ًما زائدً ا به ّ‬
‫كأنا‬ ‫ذلك املدعو باسل‪ ،‬وتريد أن تثري إعجا َبه‪ ،‬فقد َ‬
‫فشل مرشوعها األمحق للزواج من سمري‪.‬‬ ‫تعوض َ‬ ‫ّ‬
‫أن هتورها ذلك يستدعي‬ ‫ربه ّ‬ ‫ُ‬
‫منذ قليل طلب قائدَ ها املقدم (إياد) وأخ َ‬
‫وأنا ليست ُكفئًا الختاذ قرارات مصريية‪.‬‬
‫استبعادها من العمليات امليدانية‪ّ ،‬‬
‫كانت خطوة تردد فيها ً‬
‫أول ألنّه يعلم أهنا ستغض ُبها بشدة‪ ،‬وقد تقاطعه ْ‬
‫إن‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪274‬‬
‫وصل إىل علمها أنه تكلم عنها بتلك الطريقة‪ ،‬لك ّنه كان ّ‬
‫يفضل أن تكون‬
‫ثم ر ّد عليه بجفاء ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫يف أمان عىل رؤيتها‪ .‬استمع إليه (إياد) ِ‬
‫بنفاد صرب‪ّ ،‬‬
‫أب يف عمل‬‫تدخل ٌ‬
‫إهنا ضابط يعمل حتت إمرته وإنه مل يسبقْ يف التاريخ أن ّ‬
‫استخدام سلطته األبوية يف ِ‬
‫منعها‬ ‫ُ‬ ‫ولده بتلك الطريقة‪ ،‬وإنه ح ّتى ال حيق له‬
‫حتاسب‬
‫ُ‬ ‫من العمل فهي عسكرية‪ ،‬وأمرها ِ‬
‫بيد قادهتا فقط وخمالفتهم جريمة‬
‫َ‬
‫وأخذ يميض‬ ‫مشاعر من االرتياح والضيق والقلق‪،‬‬
‫ُ‬ ‫عليها‪ .‬ساعتها داخلته‬
‫الوقت وهو يشعر بعقارب الساعة تكاد تطبق عىل رقبته‪.‬‬
‫َ‬
‫َ‬
‫أرشق وجهها بعدَ أربعة أيام قضتها يف البكاء‬ ‫دخلت عليه زهرة وقد‬
‫ْ‬
‫َ‬
‫فأفرغ ما يف‬ ‫مكفهرا فسألته عن السبب‬
‫ًّ‬ ‫وجهه‬
‫واعتزلت فيها العمل‪ ،‬رأت َ‬
‫ابتسمت وهي جتلس إىل جواره وتر ّبت عىل صدره طالبة‬
‫ْ‬ ‫قلبه بني يدهيا‪.‬‬
‫جالسا عىل فراش‬
‫ً‬ ‫اجلراحية أسبوع‪ .‬كان‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫يمض عىل عمليته‬ ‫منه أن هيدأ فلم‬
‫بسيط يف البيت الذي ّاتذته (زهرة) يف ّ‬
‫خميم الالجئني جوار املستشفى‪.‬‬
‫غرفتي ضيقتني‬
‫ْ‬ ‫ٍ‬
‫واحد حيوي‬ ‫املخيم من طابق‬
‫ّ‬ ‫بيت متواضع كباقي بيوت‬
‫بأي حال ببيتها التي كانت تعيش فيه‬ ‫ورده ًة صغرية وأثا ًثا فق ً‬
‫ريا ال يقارن ّ‬
‫قبل الغزو‪.‬‬
‫(ميساء) أخربهيا أنّني غاضب منها‪ ،‬وأنني‬ ‫ِ‬
‫“أرجوك يا زهرة‪ ،‬عندما تصل ْ‬
‫يزدرد ريقه بصعوبة‪،‬‬‫ُ‬ ‫لن أقابلها ّإل بعد أن تصفو نفيس”‪ .‬قال ُعمر وهو‬
‫بخليط من الدهشة واالستنكار وهي تقول‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫فرتاجعت زهرة ونظرت إليه‬
‫كل هذا‪ّ ،‬إنا ابنتك الوحيدة”‪ .‬ر ّد عليها بنربة‬‫“عمر‪ ...‬املوضوع ال يستحقّ ّ‬ ‫ُ‬
‫تغاضيت عن الكثري وهي مازالت تعاملني معامل َة‬
‫ُ‬ ‫حزينة لكنها حازمة‪“ :‬لقد‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪275‬‬
‫ال ّند ال معاملة االبنة لألب ح ّتى وصلنا لليوم الذي تلقي بنفسها يف ال ّتهلكة‬
‫بال سبب”‪ .‬فقالت زهرة حماولة ثن َيه عن ِ‬
‫عزمه‪“ :‬لكن يا عمر‪ ”..‬تو ّقف لساهنا‬
‫ألنا‬
‫سبابته عىل فمها طال ًبا منها الصمت‪ ،‬فأمسكت ّ‬ ‫ومل يكمل حني وضع ّ‬
‫تعرفه يف مثل تلك احلاالت ال يمكن إقناعه بيشء‪.‬‬
‫كل واحد منهام متى خيفض لآلخر‬ ‫مفاتيح بعضهام‪ ،‬يعرف ّ‬
‫َ‬ ‫كانا يمتلكان‬
‫أي اعتبارات إال‬
‫أول اعرتاف باحلب‪ ،‬مل يكن يف عالقتهام ّ‬ ‫جناحه‪ .‬منذ ِ‬‫َ‬
‫ري دهشة ّ‬
‫كل َمن حوهلام‪ .‬كانت تظهر له طاعة‬ ‫معا‪ ،‬وكان ذلك يث ُ‬‫لوجودمها ً‬
‫الولِه‪ .‬قصة ّ‬
‫حب خمتلفة مل‬ ‫خضوع العاشق َ‬
‫َ‬ ‫الزوجة املحبة وكان ُيظهر هلا‬
‫تكن لتأخذ ذلك الشكل لوال ّأنا بدأت‬
‫حتدث يف جمتمعهام من قبل‪ ،‬وربام مل ْ‬
‫عىل كوكب غريب‪.‬‬
‫وخرجت تشغل نفسها بتجهيز غداء لثالثتهم‪ .‬كانت تلك‬ ‫ْ‬ ‫ترك ْته وحده‬
‫كأي أرسة عادية منذ حدوث‬ ‫معا ّ‬
‫املرات القليلة التي يتاح هلم تناول الغداء ً‬
‫من ّ‬
‫مرت ساعة‬ ‫اجلو بينهام ح ّتى ال تفسد املناسبة‪ّ .‬‬
‫الغزو؛ كانت تتم ّنى أن يصفو ّ‬
‫متعجلة عىل الباب‪ ،‬طرقات‬ ‫ّ‬ ‫صوت طرقات رسيعة‬ ‫َ‬ ‫أن تسمع‬ ‫ونصف قبل ْ‬
‫الباب وأخذت ابنتها‬
‫(ميساء) هي صاحبتها‪ .‬فتحت َ‬ ‫متتابعة خفيفة أنبأهتا ّ‬
‫أن ْ‬
‫بفرح طاغ‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫قبالتا ملهوفة ممْزوجة‬
‫ُ‬ ‫يف حضنها وتبادلتا قبالت كثري ًة كانت‬
‫مرة واحدة‪ ،‬وإىل األبد‪.‬‬‫مشحونة برغبتها يف التخلص من خوفها عىل ابنتها ّ‬
‫“أين بابا؟ لقد أوحشني‪ ..‬لن تصدّ قي ما حدث‪ ..‬لقد كنت هناك مشيت‬
‫حيث مشيتم‪ ،‬ورأيت القمر ْين ينريان السامء هناك‪ ،‬وجيعالن الليل رائع‬
‫ثم‬
‫أول ّ‬ ‫َ‬
‫وتلتقط أنفاسها ً‬ ‫اجلامل و‪ ”.......‬قاطعتها أ ّمها طالبة منها أن هتدأ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪276‬‬
‫(ميساء)‬
‫أن ْ‬ ‫كل يشء‪ .‬أدركت أ ّمها ّ‬‫هناك م ّتسع من الوقت لتقص عليها ّ‬
‫وغضب أبيها‬
‫َ‬ ‫تشعر بأهنا قد أخطأت وأهنا تعرف أن ما فعل ْته سيثري غضبها‬
‫فقد كانت يف صغرها تفعل بالضبط ما فعلته اآلن لتداري عىل خطأ ارتكبته‪.‬‬
‫َ‬
‫حدث بطريقة‬ ‫قص حكاية مثرية عن ما‬ ‫تدخل من باب البيت وتندفع يف ّ‬‫ُ‬
‫وتترصف بغفلة مل تدرك معها أهنا أخطأت ح ّتى‬
‫ّ‬ ‫توحي ّأنا كانت سعيدة‬
‫تتعاطف أ ّمها معها وتسامح خطأها يف غمرة ذلك‪.‬‬
‫قليل؛ فهي تعرف أن اللقاء بني‬ ‫ريا الرتياحها ً‬ ‫ُ‬
‫الترصف مث ً‬ ‫كان هذا‬
‫ُ‬
‫سينفعل عليها ويلومها بشدة‪ .‬لو‬ ‫(ميساء) وأبيها سيكون مشحو ًنا‪ ،‬وأنّه‬ ‫ْ‬
‫َ‬
‫فسوف جتادله الكلمة‬ ‫تكابر وال تدرك أهنا أخطأت‬ ‫ُ‬ ‫(ميساء) مازالت‬‫كانت ْ‬
‫لكن بام أهنا تعرف خطأها وحتاول‬ ‫ً‬
‫اشتعال بينهام‪ْ ،‬‬ ‫بالكلمة ممّا سيزيد املوقف‬
‫ستعتذر‬
‫ُ‬ ‫مدارا َة اخلطأ‪ ،‬بتلك احلامسة املفتعلة عن رحلتها الغريبة‪ ،‬فهي غال ًبا‬
‫رسيعا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫سيقبل االعتذار وينتهي األمر‬ ‫ألبيها وهو‬
‫(ميساء)؟ كيف جرؤت عىل إلقاء نفسك يف التهلكة‬ ‫ِ‬
‫فعلت ذلك يا ْ‬ ‫“ملاذا‬
‫تنظر إليها بعني عاتبة فقالت‪“ :‬مل ّ‬
‫أفكر‬ ‫بنيتي؟”‪ .‬سألتها وهي ُ‬ ‫هبذا الشّ كل يا ّ‬
‫خطر ببايل أنني سأرى ذلك املكان الذي شهدَ والدة حبكام”‪.‬‬
‫َ‬ ‫يا أمي ّ‬
‫كل ما‬
‫ثم‬
‫تنظر هلا بتشكك من أسفل نظارهتا ّ‬‫لوت زاوية فمها غري مصدّ قة وهي ُ‬
‫“من األفضل أن تقويل ألبيك شيئًا يصدّ قه وخي ّفف غضبه‪ ،‬ال داعي‬ ‫قالت‪ِ :‬‬
‫للمراوغة ح ّتى ال يغضب أكثر”‪.‬‬
‫تقسم عىل ّ‬
‫أن هذه هي احلقيقة لكنها‬ ‫َ‬ ‫(ميساء) بر ّدها ففكرت أن‬
‫فوجئت ْ‬
‫بدل من ذلك سألتها عنه‪“ :‬أين هو اآلن؟” فقالت‪“ :‬غاضب‪ .‬وقال إنّه لن‬ ‫ً‬
‫ِ‬
‫للخلف يف عصبية‬ ‫َ‬
‫خصل شعرها وجذبتها‬ ‫(ميساء)‬
‫رفعت ْ‬‫ْ‬ ‫يراك اآلن”‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪277‬‬
‫غاضب لدرجة أنه يرفض‬‫ٌ‬ ‫ري مقتنعة ّ‬
‫أن أباها‬ ‫وهي حتاول أن تفهم وهي غ ُ‬
‫لقاءها‪ ،‬فلم حيدث قط أن رفض لقاءها ح ّتى حينام اختلفا وكانت بينهام حدة‬
‫يف التعامل‪.‬‬
‫هتم بالوقوف‪ ،‬فقالت زهرة هامسة‪:‬‬ ‫قالت بحزم وهي ّ‬ ‫“سأدخل إليه” ْ‬
‫وفكري ً‬
‫أول فيام يمكن أن تقوليه وخي ّفف من غضبته‪ ..‬اعتذري له‬ ‫“اجليس ّ‬
‫“أعتذر ً‬
‫أول! أنا كنت يف‬ ‫ُ‬ ‫(ميساء) بدهشة قائلة‪:‬‬
‫تراجعت ْ‬
‫ْ‬ ‫قبل أن تتكلمي”‪.‬‬
‫تدخن‬
‫لست طفلة مراهقة ضبطها أبوها ّ‬ ‫خيص عميل؛ ُ‬ ‫قرارا ّ‬
‫مهمة واختذت ً‬‫ّ‬
‫السجائر عىل ناصية الشارع”‪.‬‬
‫تنظر يف عينها وتقسم أهنا مقتنعة أهنا مل‬
‫أمسكت أ ّمها يدها‪ ،‬طلبت منها أن َ‬
‫ْ‬
‫ثم بعد‬ ‫غضب أبيها‪ ،‬فتلعثمت ومل تدر ما تقول ّ‬
‫َ‬ ‫ختطئ‪ ،‬ومل تفعل ما يستدعي‬
‫هيدها إىل يشء‪ ،‬سألت أمها‪“ :‬ماذا أقول له إ ًذا؟”‪ .‬فقالت‪“ :‬هو يقول‬‫تفكري‪ ،‬مل ِ‬
‫عرضت حياتك خلطر ُمقق‪ ،‬ولك ّنني أشعر أن أكثر غضبه‬ ‫إنه غاضب ألنك ّ‬
‫عرضت حياتك للخطر من أجل أن ُتبهري ذلك الرجل‪،‬‬ ‫ناتج عن ظنه أنك ّ‬
‫لكن‬‫وقررت القفز لكوكب آخر لكي تكوين معه‪ ...‬قدْ ال تفهمني ما أقول ْ‬ ‫ّ‬
‫رجل ريفي‪ ،‬وال يزال يعترب أن فع َلك هذا ييسء لكرامته‪ ،‬ال يزال يعت ُرب‬
‫أبوك ٌ‬
‫ضابطا يف املخابرات”‪.‬‬‫ً‬ ‫ً‬
‫أصول جيب أن تراعيها البنت ح ّتى لو كانت‬ ‫ّ‬
‫أن هناك‬
‫بأن أباها مل يغضب حني‬‫(ميساء) بكالم أ ّمها فجادلتها مستدل ًة ّ‬
‫مل تقتنع ْ‬
‫بخططها مع (سمري) من ْقبل‪ ،‬أو حني الحظ اهتاممها بباسل‪ ،‬فقالت‬ ‫ِ‬ ‫عرف‬
‫حمبوسا ملدة عامني‪ ،‬كان سعيدً ا‬
‫ً‬ ‫يبتلع ذلك ً‬
‫رغم عنه ألنّه كان‬ ‫زهرة‪“ :‬كان ُ‬
‫رست بينكام‪ ،‬ومل يكن يريد أن يفسدها‪ ،‬كان يعلم ّ‬
‫أن‬ ‫ْ‬ ‫بالروح اجلديدة التي‬
‫عالقتك بسمري لن تنجح”‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪278‬‬
‫أن عيب (عمر) الوحيد‬ ‫تقل هلا بقي َة ما جيول يف صدرها؛ كانت ترى ّ‬
‫مل ْ‬
‫أنه أحيا ًنا متلؤه الظنون‪ ،‬وتذهب به بعيدً ا‪ .‬تقول لنفسها إنّه قد يتخيل للحظة‬
‫(ميساء) وباسل‪ ،‬وهو‬‫يتكرر بني ْ‬
‫حدث بينها وبينه عىل الكوكب قد ّ‬ ‫َ‬ ‫ما أن ما‬
‫َ‬
‫حدث بينه وبني حبيبته‪ ،‬ولن‬ ‫يتكرر مع ابنته ما‬
‫كأي رجل عريب ال يرىض أن ّ‬ ‫ّ‬
‫تتغي طريقة تفكريه تلك مهام كانت الظروف التي يعيش فيها‪.‬‬ ‫ّ‬
‫(ميساء) مستأذن ًة عازمة عىل مقابلة أبيها‪ .‬حاولت زهرة ثن َيها‬ ‫قامت ْ‬
‫(ميساء)‬ ‫عزمها حني رأت نظر ًة حازمة عىل وجهها جعلتها تدرك ّ‬
‫أن ْ‬ ‫عن ِ‬
‫ِ‬
‫وطرقت الباب‪ ،‬مل تسمع‬ ‫(ميساء) لباب الغرفة‬
‫توجهت ْ‬ ‫ال تنوي االعتذار‪ّ .‬‬
‫جيبها فكررت‬ ‫فكررت طرقها وهي تقول‪“ :‬أنا ميساء‪ ..‬أدخل؟”‪ .‬مل ْ‬ ‫ردا ّ‬ ‫ًّ‬
‫متجه ًم ال‬
‫ّ‬ ‫جالسا‬
‫ً‬ ‫ِ‬
‫فتحت الباب هبدوء‪ ،‬وجدتْه‬ ‫سؤاهلا‪ ،‬وحنيَ مل جتد استجابة‬
‫ينظر ناحيتها‪ ،‬فنادت عليه قائلة‪“ :‬بابا‪ ،‬أنا عدت‪ ..‬أمل تفتقدين؟ أمل تقلق عيل‬
‫ميسائك احللوة؟!”‪.‬‬
‫اختالج‬
‫َ‬ ‫استمر يف جتاهلها‪ ،‬فقالت‪“ :‬أنا آسفة”‪ .‬مل ينظر إليها وإن الحظت‬‫ّ‬
‫زفر ولوى وجهه‬ ‫فكررت أسفها‪ ،‬وقالت ّإنا أخطأت‪ ،‬مل ير ّد؛ وإنام َ‬ ‫وجهه ّ‬
‫بأي‬‫أقفز يف جهاز الناقل ّ‬
‫بحبي لك أنّني مل ْ‬
‫“أقسم ّ‬
‫ُ‬ ‫للناحية األخرى‪ ،‬فقالت‪:‬‬
‫مكان ميالد حبكام‪ ،‬لك ّنني كنت أكذب‪،‬‬ ‫َ‬ ‫أن أرى‬ ‫نية‪ ،‬قلت أل ّمي إنّني أردت ْ‬
‫أفكر‬‫قرار يف أثناء عملية قتالية مل ّ‬
‫أقل من ثانية‪ٌ ،‬‬ ‫قرارا يف ّ‬
‫احلقيقة أنني أخذت ً‬
‫يف عواقبه‪ ،‬كذلك فعل إييل زمي ُلنا اللبناين‪ ،‬قفزَ معي هو اآلخر‪ ،‬هو مثيل َ‬
‫أخذ‬
‫صحيحا يف وقتها”‪.‬‬
‫ً‬ ‫قرارا بدَ ا له‬
‫ً‬
‫رأسها عىل صدره‪ ،‬وقالت‪“ :‬أنا آسفة‪ ...‬أقسم‬
‫جلست جواره ووضعت َ‬ ‫ْ‬
‫تسبب يف غضبك‪ ،‬أقسم إن غضبتك‬ ‫أشعر بالندم عىل ما فعلته ألنّه ّ‬
‫ُ‬ ‫باهلل إنّني‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪279‬‬
‫حيرك‬
‫يل رؤسائي”‪ .‬مل ّ‬ ‫مرة من العقاب الذي قد يوقعه ع ّ‬ ‫عندي أسوأ َ‬
‫ألف ّ‬
‫متعبة‪ ،‬وال‬
‫ساكنًا فقالت‪“ :‬أيب‪ ...‬أنا ُمرهقة جدًّ ا‪ ،‬قلبي ُمرهق‪ ،‬وروحي َ‬
‫انخرطت يف البكاء‪.‬‬
‫ْ‬ ‫شخصا يف هذا العامل يمكنه شفائي ّإل أنت”‪ّ .‬‬
‫ثم‬ ‫ً‬ ‫أعرف‬
‫وضع يدَ ه عليها ور ّبت عىل كتفها وهو يقول‪“ :‬ال تبكي‪ ...‬لقد ساحمتك”‪.‬‬
‫ممازحا‪“ :‬أنت امرأة قوية ُمستق ّلة ينبغي أن ال تبكي‬
‫ً‬ ‫استمرت يف البكاء فقال‬
‫ّ‬
‫ُ‬
‫الرجل الوحيد الذي‬ ‫دموعها وتقول‪“ :‬أنت‬
‫َ‬ ‫أمام أحد” فابتسمت وهي متسح‬‫َ‬
‫حيقّ له أن يرى دموعي”‪.‬‬
‫حدث بالتفصيل”‪.‬‬‫َ‬ ‫واحكي يل ما‬
‫بح ّنو‪“ :‬دعك من بكاء الفتيات هذا‪ْ ،‬‬ ‫قال ُ‬
‫قصت عليه ما حدث‪ ،‬كيف ّأنم عندما وجدوا أنفسهم يف قرص أناندار املمتلئ‬ ‫ّ‬
‫ثم‬
‫انتقل وراءهم‪ّ ،‬‬‫وأن أحد األديتيني من املقاومة َ‬ ‫باحلراس أدركوا خطأهم‪ّ ،‬‬
‫أحد أصدقائه بعد مطاردة ُميفة‪ ،‬وكيف ظ ّلوا عند صديقه‬ ‫مكان عند ِ‬
‫ٍ‬ ‫أخذهم إىل‬
‫ملقر‬
‫ثم جا َء آخرون من املقاومة يف اليوم الرابع‪ ،‬وأخذومها ّ‬ ‫ذلك ملدة ِ‬
‫ثالثة أيام ّ‬
‫تم حتوي ُلها للتحقيق بسبب‬ ‫هلم‪ ،‬ونقلومها إىل األرض يف الفيوم مبارشة‪ ،‬وكيف ّ‬
‫ما فعلته ذلك‪ْ ،‬‬
‫وإن مل يصدر قرار بإيقافها عن العمل ح ّتى اآلن‪.‬‬
‫أول‪ ،‬أو عن إحالتك‬ ‫يقل يل إنّك وصلت عندهم ً‬ ‫“قائدُ ك اللعني مل ْ‬
‫زادت من غضبي”‪ .‬ابتسمت بغموض‬ ‫ْ‬ ‫يل بطريقة‬ ‫رد ع َّ‬
‫للتحقيق‪ ..‬فقط َّ‬
‫يل لك ّنني مل أغضب منك”‪ .‬رفع‬ ‫وقالت‪“ :‬أنا أعلم أنك حاولت تغيريه ع ّ‬
‫ثم‬
‫بالتبجح ّقبلته عىل خدّ ه ّ‬
‫ّ‬ ‫حاجبيه بدهشة وقبل أن ير ّد عليها م ّت ً‬
‫هم إ ّياها‬
‫وهيا للغداء؛‬
‫زعيم الثوار‪ّ ،‬‬
‫َ‬ ‫قامت وهي تشدّ ه من ذراعه قائلة‪“ :‬كفى كال ًما يا‬
‫جوعا”‪.‬‬
‫فقد أوشكت عىل املوت ً‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪280‬‬
‫‪39‬‬
‫منصة القضاة يف ْقبو رتّبه رجال املقاومة من‬ ‫ِ‬
‫مواجهة ّ‬ ‫جلست هريمني يف‬
‫ْ‬
‫جتلس يف املنتصف‪،‬‬
‫ُ‬ ‫النياندرتال ليشب َه قاعات املحكمة يف كوكبهم‪ .‬كانت‬
‫جلس (باسل) ولؤي الشّ اهدان الوحيدان عىل جريمتها ويف‬ ‫َ‬ ‫وعىل يمينها‬
‫مواجهتها املنصة ا ُملعدّ ة لثالثة قضاة من بني ج ْلدهتا‪ .‬عىل يسار القاعة جلس‬
‫األرضيني واألديتيني يرتقبون بدء‬
‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫وخليط من املقاومني من‬ ‫وعمر‬
‫ماندريك ُ‬
‫قوي يفيد القضية‪ ،‬وحيرج حكومة‬ ‫دعائي ّ‬
‫ّ‬ ‫املحاكمة آملني أن يكون هلا صدً ى‬
‫االحتالل‪.‬‬
‫أن السبيل الوحيد لنجاهتا من‬ ‫بعدَ تفكري طويل من هريمني‪ ،‬وجدت ّ‬
‫تنكر هتمتها‪ .‬سرتمي هي بال ُّتهم عليهم‪ ،‬ستقول ّإنم‬ ‫أن َ‬‫تلك املحاكمة هو ْ‬
‫زورا لتشويه منظ ِر الدولة‪ .‬القانون األديتي ال‬
‫نسب هذه اجلرائم هلا ً‬ ‫يريدون َ‬
‫احلر‪ ،‬أو بوجود‬ ‫ُ‬
‫التهمة باعرتافه ّ‬ ‫هم بالقتل ّإل إذا ثبتت عليه‬
‫شخصا م ّت ً‬
‫ً‬ ‫يعدم‬
‫وحلسن ّ‬
‫حظ‬ ‫شخص شاهده وهو يفعلها‪ ،‬أو شاهده وهو يرتّب هلا ويأمر هبا‪ُ ،‬‬
‫فإن كال الشاهدين مل يشاهدها مبارشة‪.‬‬ ‫هريمني ّ‬
‫رأسها احلجج‪ .‬املقاومون يريدون أن‬‫كانت هادئة‪ ،‬وقد استجمعت يف ِ‬
‫يظهروا بمظه ِر املنصف الذي يقيم حماكمة عادلة‪ ،‬ويريدون أن يستغ ّلوا تلك‬
‫أكثر منهم قدرة عىل التالعب‪ ،‬وحديثها أكثر‬
‫دعائيا‪ ،‬لك ّنها ترى أهنا ُ‬
‫ًّ‬ ‫املحاكمة‬
‫ستقلب الطاولة عليهم‪ ،‬وجتعل املحاكمة دعاية هلا‬
‫ُ‬ ‫وحجتها حارضة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫إقناعا‪،‬‬
‫ً‬
‫مهام كان احلكم النهائي‪.‬‬ ‫وحلكومتها ْ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪281‬‬
‫أن األمور كانت معكوس ًة لقامت هي بتعذيب َمن أمسكته وهددته‬ ‫لو ّ‬
‫أن تضعه يف حماكمة‬ ‫حتاكمه‪ ،‬أما ْ‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫حلثّه عىل االعرتاف ّ‬‫هيمونه َ‬
‫بكل من ّ‬
‫ضغط كافية‪ ،‬فهذا هو الغباء بعينه؛‬‫ٍ‬ ‫علنية أمام الناس مبارشة دون أوراق‬
‫احلق بالباطل‪ .‬ال يعني‬
‫خيتلط عىل الناس ُّ‬ ‫َ‬ ‫سينكر ويبكي ويستعطف ح ّتى‬
‫ذلك أهنا ستوافق عىل الظهور بذلك الشكلِ ا ُملثري للشفقة لك ّنها ستدير تلك‬
‫بالسجن مدى احلياة‪ .‬كانت‬ ‫وإن حكموا عليها ّ‬ ‫املحاكمة لصاحلها‪ ،‬ح ّتى ْ‬
‫َ‬
‫احلفاظ عليه ّ‬
‫بكل ما‬ ‫هادئ ًة ذلك اهلدوء الذي يقف عىل حدِّ التوتر حتاول‬
‫أوتيت من قوة‪.‬‬
‫بإهباميه عكس بعضهام‬
‫ْ‬ ‫(لؤي) عىل ال ّنقيض منها‪ ،‬كان شديدَ التوتر؛ يدور‬
‫أصاب أم أخطأ حني وافق‬ ‫َ‬ ‫ينفك يسأل نفسه إن كان‬ ‫حركة عصبية‪ ،‬وال ّ‬ ‫ٍ‬ ‫يف‬
‫ذات يوم‪ ،‬استدرجته فتاة‬ ‫عرض احلكومة املرصية واملقاومني‪ .‬اختطفوه َ‬ ‫ِ‬ ‫عىل‬
‫تعمل مع املقاومة إىل بيتها‪ ،‬مل يقاوم أنوثتَها كالعادة‪ ،‬ودخل بيتها كاألبله‪.‬‬
‫ضابطا ِمن املخابرات املرصية‪ ،‬وواحدً ا من النياندرتال املقاومني‬‫ً‬ ‫هناك وجدَ‬
‫ري حياة كريمة‬‫سيتم توف ُ‬
‫خطف هريمني‪ ،‬ويف املقابل ّ‬ ‫ِ‬ ‫طلبوا منه مساعدهتم يف‬
‫عرض عليه نفس‬ ‫َ‬ ‫وسيتم تعيينُه يف وظيفة ُمزية‪ .‬لو‬ ‫ّ‬ ‫له وألرسته يف الفيوم‪،‬‬
‫ويذوق غطرستها واحتقارها له َلر َفض دون‬ ‫َ‬ ‫العرض قبل أن يعايش هريمني‬
‫خاصة بعد مقتل كمريدا‪.‬‬ ‫ريا ّ‬ ‫تفكري‪ ،‬لك ّنها كانت تتعمد إهانته كث ً‬
‫َ‬
‫السبيل الوحيد لنجاته وملستقبل‬ ‫عمله مع الغزاة كان يرى ّ‬
‫أن‬ ‫يف بداية ِ‬
‫وليتبوأ مكانة‬
‫ّ‬ ‫والزواج منهم‪ّ ،‬‬
‫وأن لديه فرصة للرتقي‪،‬‬ ‫العمل معهم ّ‬‫ُ‬ ‫طيب هو‬
‫رغم تعيينه يف وظيفة جيدة‬
‫معقولة يف الدولة الوليدة‪ .‬مل جيدْ ما كان يصبو إليه َ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪282‬‬
‫يشعر باالزدراء يف عيون األديتيني الرجال‪ ،‬ويف‬
‫ُ‬ ‫قريبة من دوائر احلكم‪ ،‬كان‬
‫جمرد عاهرة تعطي املتعة ملَن يدفع أو ّ‬
‫يمن عليه‬ ‫يشعر أنه ّ‬
‫ُ‬ ‫عيون نسائهم‪ ،‬كان‬
‫ِ‬
‫حلرسها اخلاص‪ ،‬وأمرتْه‬ ‫ضمته هريمني‬
‫أن ّ‬ ‫بفائدة‪ .‬تغري إحساسه ً‬
‫قليل بعد ْ‬
‫يمقت‬
‫ُ‬ ‫املتكررة جعلته‬
‫ّ‬ ‫لكن إساءاهتا‬
‫أن يساعدها يف إنجاب طفلها اهلجني‪ّ ،‬‬
‫وسهلت عليه ْ‬
‫أن يوافق عىل االنقالب عليها‪.‬‬ ‫وضعه أكثر من ذي ْقبل‪ّ ،‬‬
‫َ‬
‫ٍ‬
‫معلومات عن دور هريمني‬ ‫ُ‬
‫رجال املخابرات املرصيني‪ ،‬طلبوا منه‬ ‫َ‬
‫فاوضه‬
‫استمع إىل حوار هريمني مع شقيقها يوم‬
‫َ‬ ‫يف ق ْتل كمريدا ورفيقاهتا‪ ،‬قال هلم إنّه‬
‫أيضا‪ ،‬لك ّنه يف املقابل ال يريد العودة إىل مرص‬‫اجلريمة‪ ،‬وإنّه سيشهد بذلك ً‬
‫بل يريد احليا َة يف اليابان التي صارت قبلة للمهاجرين بعد ثالثينيات القرن‬
‫احلادي والعرشين‪.‬‬
‫ريا‪ ،‬وبي ًتا‬ ‫ً‬
‫ومبلغا كب ً‬ ‫مع املحتلني‪،‬‬
‫كامل من احلكومة عن عمله َ‬ ‫عفوا ً‬
‫طلب ً‬‫َ‬
‫يف كيوتو‪ .‬وافقوا عىل طلباته لك ّنهم ربطوا حياته باخلارج بقدرته عىل اإليقاع‬
‫هبا يف املحاكمة‪ ،‬كام قال له الضابط‪“ :‬سوف نمنحك العفو‪ ،‬وبي ًتا ووظيف ًة يف‬
‫فمرهون بقدرتك عىل‬ ‫ٌ‬ ‫موضوع اهلجرة إىل اليابان‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫مقابل اختطافها‪ ،‬أ ّما‬ ‫الفيوم‬
‫حمارصهتا يف املحاكمة‪ ،‬وإثبات التهمة عليها”‪.‬‬
‫ِ‬
‫لالستعداد بكامرياهتم وأجهزهتم الصوتية‪،‬‬ ‫أشار ماندريك للتقنني‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫تسجيل املحاكمة‪ ،‬وليس‬ ‫قرر املقاومون منذ البداية‬
‫استعدا ًدا لبدْ ء املحاكمة‪ّ .‬‬
‫ٍ‬
‫احتامل ولو ضئيل يف تعقبها‪ .‬كان لديه هو‬ ‫أي‬
‫بثّها بشكل مبارش لتج ّنب ّ‬
‫يطمئن مائة يف املائة إىل ما ستئول إليه‬
‫ّ‬ ‫سبب آخر خفي؛ وهو أنّه ال‬
‫بالذات ٌ‬
‫ٍ‬
‫بطريقة‬ ‫وأنا قادر ٌة عىل التظاهر واجلدال‬
‫أن هريمني داهية‪ّ ،‬‬‫األمور‪ ،‬فهو يعلم ّ‬
‫ُ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪283‬‬
‫حتي املشاهد وختلط عليه احلق بالباطل‪ ،‬إضاف ًة إىل ّ‬
‫أن مساعد أناندار الذي‬ ‫ّ‬
‫َ‬
‫انتحر قبل أن يصل إىل القاهرة‪.‬‬
‫َ‬ ‫كانوا يعتمدون عليه إلثبات التهمة عليها‬
‫أن جتعل هدفهم الرئييس من تلك املحاكمة‪،‬‬ ‫أن بإمكان هريمني ْ‬‫يف يقينِه ّ‬
‫ً‬
‫مشكوكا يف حتقيقه‪.‬‬ ‫إظهار حكومة أديتيا يف شكل عصابة إجرامية؛ هد ًفا‬
‫ُ‬ ‫وهو‬
‫ً‬
‫تسجيل للمحاكمة ليعدّ ل فيه بطريقة تربز هد َفه‪ ،‬ويزيل‬ ‫أراد ً‬
‫أول ْ‬
‫أن يشاهد‬
‫أي نقاش فيها قد يظهرها بريئة‪.‬‬‫ّ‬
‫شك يف أخالقية هذا الفعل‪ ،‬فهو يعرف ّأنا أجرمت‪،‬‬ ‫يساوره أدنى ّ‬ ‫ْ‬ ‫مل‬
‫لكن كالمها مع لألسف مل يكن‬ ‫بأنا فعلت ذلك‪ّ ،‬‬ ‫ضمنيا ّ‬
‫ًّ‬ ‫اعرتفت له‬
‫ْ‬ ‫وقد‬
‫ري بشكل‬‫كحج ٍة ضدّ ها‪ .‬سيرتك املحكمة تس ُ‬
‫ّ‬ ‫أن يستخدم‬‫رسميا وال ينفع ْ‬ ‫ًّ‬
‫قانوين متا ًما لكنه سيأخذ منها ما حي ّقق غرضه‪ ،‬وحي ّقق أقىص دعاية ُمكنة‪،‬‬
‫ُ‬
‫فسبيل احلقّ عنده‬ ‫اضطر إىل تزييف مقاطع أو إعادة ترتيب كالمها‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ح ّتى لو‬
‫يضطره أحيا ًنا إىل امتطاء مركب الباطل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫قد‬
‫املطرز بشعار املقاومة‪ ،‬أعامرهم ترتاوح بني‬
‫زيم األمحر ّ‬ ‫َ‬
‫دخل القضاة يف ّ‬
‫السن أكثر‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أول‪ ،‬كان أشيب يبدو عليه‬ ‫جلس أحدُ هم ً‬
‫َ‬ ‫األربعني والستني‪.‬‬
‫واقفي عىل يمينه ويساره ح ّتى َتل مقول ًة افتتاحية ّ‬
‫متجد يف‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬
‫ظل اآلخران‬
‫فجلسا‪.‬‬
‫َ‬ ‫ثم أشار لآلخرين‬
‫العدل‪ ،‬ويف أخذ احلقوق ألصحاهبا‪ّ ،‬‬
‫زر فانفتحت شاشة فراغية عرضت‬ ‫ضغط القايض اجلالس يمينًا عىل ٍّ‬ ‫َ‬
‫ملخ ًصا للقضية صو ًتا وصورة ومستندات‪ .‬النظام القضائي يف أديتيا ال‬ ‫ّ‬
‫املتهم ويتلو عليه القضا ُة قضيته‬ ‫ُ‬ ‫حيتوي عىل ا ّدعاء عام‪ ،‬أو حمامني‪ ،‬بل يقف‬
‫ثم بعد ذلك‬ ‫حجته‪ّ ،‬‬ ‫دور املدّ عي أو قريب القتيل فيقول ّ‬ ‫ثم يأيت ُ‬ ‫وأدلتها‪ّ ،‬‬
‫ويدافع‬
‫ُ‬ ‫هم يف النهاية‬
‫ثم يأيت امل ّت ُ‬
‫أمام القايض‪ّ ،‬‬
‫الشهود فيقولون ما لدهيم َ‬
‫ُ‬ ‫يأيت‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪284‬‬
‫ثم حيكم القايض يف اجللسة ِ‬
‫نفسها‪ ،‬أو يف‬ ‫عن نفسه ويواجه الشهو َد إن أراد‪ّ ،‬‬
‫يقرر احلكم حيث‬ ‫إن تط ّلب األمر‪ .‬مهمة قايض الوسط هي ْ‬
‫أن ّ‬ ‫جلسة تالية ْ‬
‫يكون صام ًتا يف أثناء املحاكمة؛ يستمع فقط بينام قضا ُة اليمني واليسار مها َمن‬
‫يستجوبان الناس ويتحاوران معهم‪.‬‬

‫نفسه وقال إنّه سيتحدّ ث بصفته مدع ًيا ألنه زوج‬


‫أول‪ ،‬عرف َ‬ ‫قام (باسل) ً‬
‫َ‬
‫يقص عىل القضاة ما سمعه من كمريدا‪،‬‬ ‫أيضا‪ .‬بدأ ّ‬‫القتيلة‪ ،‬وبصفته شاهدً ا ً‬
‫وما سمعه من أناندار‪ ،‬عندما كان يف قرصه‪ ،‬تك ّلم بعد ذلك واستفاض عن‬
‫حبه لزوجته وبكائه عليها‪ ،‬وعن حزنه ملا ّ‬
‫حل هبا‪ ،‬ورغبته يف القصاص من‬ ‫ّ‬
‫قاتليها‪ ،‬وعىل رأسهم هريمني وأخوها‪.‬‬
‫نفسا عمي ًقا بني ّ‬
‫كل‬ ‫ُ‬
‫يأخذ ً‬ ‫متوترا‬
‫ً‬ ‫جا َء بعدها دور (لؤي) الذي كان‬
‫مجلة والتي تليها‪ .‬تكلم عن يو ِم احلادث ِ‬
‫وعن احلوار الذي دار بني هريمني‬
‫خدمت‬
‫ُ‬ ‫ختم كالمه ً‬
‫قائل‪“ :‬لقد‬ ‫ثم َ‬ ‫وشقيقها‪ ،‬وعن صدمتِه حلدوث ذلك ك ّله‪ّ ،‬‬
‫ووجدتا دولة عادلة‪ ،‬ولكن ّ‬
‫كل‬ ‫ُ‬ ‫دولة أديتيا ألنني آمنت بح ّقها يف الوجود‪،‬‬
‫وقررت‬
‫تغيت حني سمعت ما سمعت‪ ،‬ولذلك اتّصلت باملقاومة‪ّ ،‬‬
‫قناعايت ّ‬
‫املساعدة يف إرجاع احلق ألصحابه”‪.‬‬

‫تعالت ضحكة ساخرة من هريمني‪ ،‬فأشار هلا‬


‫ْ‬ ‫ما كا َد ُينهي مجلته ح ّتى‬
‫القايض عىل اليسار ّ‬
‫حمذ ًرا إياها من السخرية من املحكمة‪ .‬نظر إىل (لؤي)‬
‫ٌ‬
‫أقوال أخرى‪ ،‬وبعدها قام قايض اليمني باستجواب‬ ‫متأكدً ا أنّه ليس لديه‬
‫هريمني‪ .‬تال عليها هتمتَها ً‬
‫قائل‪“ :‬هريمني ابنة أناندار من عائلة بوتار‪،‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪285‬‬
‫فردت‬
‫وخططت لتنفيذ اجلريمة املذكورة؟”‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫هل تعرتفني بأنك تآمرت‬
‫بغطرسة قائلة‪“ :‬بالطبع ال‪ ،‬أنا أحرتم القانون وحيا َة اإلنسان أ ّيا كان عرقه‪،‬‬
‫جمرد مكيدة من هؤالء املخربني وال دليل عليها”‪.‬‬ ‫هذه ّ‬
‫يكن هناك حمام ُمضا ّد يقول للقايض إنّه يعرتض عىل إطالق لفظ‬ ‫مل ْ‬
‫حدجها بنظرة صارمة وقال‬ ‫َ‬ ‫خمربني عىل الشهود و َمن معهم‪ ،‬لكن القايض‬
‫ّ‬
‫خمربني وليست حكومتك عىل صواب‪ ،‬وهذا ليس موضوع‬ ‫هلا‪“ :‬ليسوا ّ‬
‫حماكمتنا”‪ .‬فر ّدت عليه قائلة بتحدّ ‪“ :‬بل هو أساس حماكمتنا‪ ،‬هذه املحكمة‬
‫هم‬
‫عينكم للقضاء يف تلك القضية؟”‪ّ .‬‬ ‫ليس هلا صفة من الدولة‪َ ،‬من الذي ّ‬
‫القايض بالرد‪ ،‬لكن القايض الكبري اجلالس يف املنتصف قال‪“ :‬قانون أديتيا‬
‫األسايس يمنح احلقّ ألي عدد من املواطنني يزيد عن مخسني أل ًفا ْ‬
‫بتعيني‬
‫ري ُمنصف‬ ‫أن قضاء الدولة غ َ‬‫يرون ّ‬
‫حمكمة من ثالثة قضاة للفصل يف قضية ْ‬
‫فيها‪ ،‬ونحن لدينا تلك الصفة سواء رضيت حكومتك أم ال”‪.‬‬
‫هز ذلك من ثقتها‬
‫وهزت رأسها دون أن تعرتض‪ ،‬وإن ّ‬ ‫ابتسمت يف هدوء ّ‬
‫ْ‬
‫مرة أخرى عن دفاعها عن نفسها فقالت‪“ :‬هذان‬‫الزائدة‪ ،‬سأهلا قايض اليمني ّ‬
‫ّ‬
‫الشّ اهدان ال يصلحان للشهادة؛ األول كان حاريس لك ّنه كان ً‬
‫أيضا حيواين‬
‫يطمح يف أكثر من ذلك‪ ،‬لك ّني دو ًما كنت أضعه يف موضعه‬ ‫ُ‬ ‫األليف وكان‬
‫َ‬
‫واالشرتاك يف تلك املكيدة‬ ‫قرر االنقالب ع ّ‬
‫يل‬ ‫احلقري الذي يستح ّقه‪ ،‬ولذا ّ‬
‫ضدي”‪ .‬فر ّد (لؤي) ُم ً‬
‫نفعل‪ّ :‬‬
‫“كل‪ّ ،‬إنا كاذبة‪ ،‬هي احلقرية ليس أنا يا سيدي‬
‫ثم ترك هلا‬
‫وحذرمها من ذلك األسلوب‪ّ ،‬‬ ‫القايض”‪ .‬تدخل القايض وأسكتَه ّ‬
‫فرصة مواجهته وتفنيد شهادته‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪286‬‬
‫وكيف سمعه‪ ،‬واستطاعت بمهارة وذكاء أن‬ ‫َ‬ ‫سألته عن ما سمعه‬
‫ري واثق من شهادته‪.‬‬‫ويغي يف صيغة كالمه‪ ،‬ما جعله يبدو غ َ‬ ‫جتع َله يتلعثم ّ‬
‫واستطاعت أن جتهزَ عىل ما تبقى من ثقته بسهولة‪،‬‬
‫ْ‬ ‫متوترا‬
‫ً‬ ‫مهتزا‬
‫ًّ‬ ‫بدا هلا‬
‫جمر ُد عضالت‪ ،‬ووجه‬ ‫أثبت دون قصد ما عايرته به ساب ًقا حني قالت إنّه ّ‬
‫طفل منه أن َ‬
‫يرث‬ ‫أنجبت ً‬
‫ْ‬ ‫دون عقل يستحقّ الذكر‪ ،‬وحني مت ّنت إن‬ ‫وسيم َ‬
‫قوته ووسامته ويرث منها ذكاءها عىل عكس املفرتض حني تقارن ذكاء‬
‫النياندرتال باألرضيني‪ .‬يف النهاية قالت موجهة كالمها لقايض الوسط‪:‬‬
‫دليل ضدّ ي؛ فهو يبني شهادته عىل‬‫فكالمه ال يعدّ ً‬
‫ُ‬ ‫“وح ّتى بفرض صدقه‪،‬‬
‫يل دون وجه حق‪ ،‬من‬ ‫يتلصص ع ّ‬
‫باب ُمغلق وهو ّ‬ ‫كلامت سمعها من خلف ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ري‬
‫متوترا ساعتها خيلط الكالم ببعضه‪ ،‬وهو كام رأيتم غ ُ‬ ‫ً‬ ‫الطبيعي أن يكون‬
‫متأكد من يشء”‪.‬‬
‫ثم‬
‫لكن قايض اليمني أسكته بإشارة من يده ّ‬ ‫حاول (لؤي) أن يقاطعها ّ‬‫َ‬
‫سأهلا‪“ :‬وبفرض صدقه؟ إ ًذا‪ ..‬هناك حمادثة بمعنى قريب من الكالم الذي‬
‫وكست صوهتا هلجة متأملة وهي تقول‪“ :‬لقد‬‫ْ‬ ‫قاله الشاهد!” تص ّنعت احلزن‬
‫مقابل إلطالق رساح كمريدا‬ ‫ً‬ ‫تواصل معي أحد اخلاطفني‪ ،‬وطلب م ّني‬ ‫َ‬
‫ثمة ما‬
‫لكنني رفضت‪ ،‬وليتني وافقت فلر ّبام كانت العزيزة كمريدا هنا لو كان ّ‬
‫استهنت بوحشية هؤالء املجرمني”‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أستحقّ املحاكمة عليه فهو أنني‬
‫حدجها (باسل) بنظرة تطفح مق ًتا لك ّنه ّ‬
‫ظل هادئًا مل يتكلم‪ ،‬وجلس‬ ‫َ‬
‫ذريعا‪.‬‬
‫فشل ً‬‫(لؤي) يف مقعده وهو يوشك عىل البكاء بعدَ أن فشلت شهادته ً‬
‫وإنا متأكدة من ّ‬
‫أن ما سمعه‬ ‫جاء دور (باسل) وقالت هريمني ّإنا تعذره‪ّ ،‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪287‬‬
‫ظل الكالم‬ ‫هلعا ُ‬
‫يفوق الوصف‪ّ .‬‬ ‫هو جمرد هذيان من كمريدا التي كانت تعاين ً‬
‫مرة لدرجة أن القايض هدّ ده‬
‫أكثر من ّ‬ ‫َ‬
‫وانفعل باسل َ‬ ‫بينهام يف شدّ وجذب‬
‫بالطرد من املحاكمة واستبعاد شهادته‪.‬‬
‫مههامت يف القاعة قطعتها إشارة من قايض‬
‫ٌ‬ ‫رست‬
‫ْ‬ ‫حنيَ انتهت مواجهتهام‬
‫توصل إىل احلكم‪“ .‬هريمني ابنة أناندار من عائلة‬ ‫أعلن أنّه ّ‬
‫َ‬ ‫الوسط الذي‬
‫فوقفت هريمني وقالت‪ ،‬وقد تظاهرت‬ ‫ْ‬ ‫بوتار” قال القايض بصوت عميق‪،‬‬
‫ّأنا سلمت بقانونية املحكمة‪“ :‬نعم أهيا املعظم”‪ .‬فقال القايض‪“ :‬أنا متي ّقن‬
‫أن أعدمك‬ ‫وإن كنت أمتنى ْ‬
‫من أنك فعلت التهمة املنسوبة إليك‪ ،‬وأنا ْ‬
‫أن احلجج املاثلة أمامي ال تعطيني احلقّ يف ذلك”‪ .‬ابتسمت‬ ‫شخصيا ّإل ّ‬
‫ًّ‬
‫هريمني يف ظفر‪ ،‬وازدرد ماندريك ري َقه يف قلق‪ ،‬وق ّلب (باسل) عينيه يف ٍ‬
‫مقت‬
‫أن احلكم بإعدامك ُ‬
‫يبطل تلك‬ ‫قبل أن يستطرد القايض ً‬
‫قائل‪“ :‬أعلم ّ‬ ‫شديد َ‬
‫قرائن كثرية لدى القايض ّ‬
‫فإن القانون يعطيه‬ ‫ُ‬ ‫املحاكمة‪ ،‬لكن إذا اجتمعت‬
‫احلقّ يف احلكم عليك بأقىص عقوبة دون القتل‪ ،‬مادام متيقنًا من جرمك”‪.‬‬
‫حزن عارم‪ ،‬وظ ّلت نظرة باسل‬
‫اختفت ابتسام ُتها وبدَ ا عىل وجه ماندريك ٌ‬
‫حتمل مقت العامل كله‪.‬‬
‫لدي من قرائن فقد حكمت‬ ‫أكمل القايض حكمه ً‬
‫قائل‪“ :‬بنا ًء عىل ما تو ّفر ّ‬ ‫َ‬
‫ذراعا‪ ،‬وحدك بال رفقاء‬‫ً‬ ‫جب حتت األرض بعرشين‬ ‫عليك باحلبس يف ّ‬
‫ِ‬
‫سمحت الظروف‬ ‫ثم تنقلني بعدَ ها إىل سجن عادي إذا‬ ‫ملدة مخسة أعوام‪ّ ،‬‬
‫ُ‬
‫فيجوز حلكومة املقاومة االستمرار‬ ‫ُ‬
‫احلكومة كام هي‬ ‫السياسية‪ ،‬أما إذا ظ ّلت‬
‫وضعك يف اجلب إىل األبد”‪.‬‬ ‫يف ْ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪288‬‬
‫تبتسم لتخفي فزعها من ذلك احلكم‪ ،‬فقد ظ ّنت أنه‬ ‫َ‬ ‫حاولت هريمني أن‬
‫ْ‬
‫مقار املقاومة‪ ،‬كانت راضية‬ ‫لو كان القايض متج ّن ًيا فسيحكم بحبسها يف ِ‬
‫أحد ّ‬
‫جب‬ ‫َ‬
‫التحمل ح ّتى ينقذها أحد‪ ،‬أ ّما البقاء يف ّ‬ ‫بذلك عىل أمل ّأنا تستطيع‬
‫ٍ‬
‫حفرة عميقة‬ ‫أمر أسوأ من املوت عندها‪ .‬تنام يف‬ ‫بدائي مخس سنوات فهو ٌ‬
‫كل يومني‬ ‫يغيونه هلا ّ‬ ‫ٍ‬
‫وعاء ّ‬ ‫كل يوم وتقيض حاجتها يف‬ ‫ّ‬
‫يدل هلا األكل بحبل ّ‬
‫جتن أو توشك عىل‬ ‫موعد الطعام‪ ،‬ال ختاطب أحدً ا وال ترى أحدً ا ح ّتى ّ‬‫ِ‬ ‫مع‬
‫اجلنون‪.‬‬
‫بدء انرصاف احلضور‪،‬‬ ‫ثم خرجوا‪ ،‬تالهم ُ‬ ‫اجلميع احرتا ًما ّ‬
‫ُ‬ ‫قام القضاة فقام‬
‫َ‬
‫تتغي تعبرياهتا الكارهة وإن خالطها شبح‬ ‫خارج بنظرة مل ّ‬‫ٌ‬ ‫رم َقها (باسل) وهو‬
‫وجهها إليها عامدً ا‪ ،‬شعرت منها أنّه يعلم فداحة العقوبة‬ ‫ٍ‬
‫ابتسامة ساخرة ّ‬
‫التي حكم هبا عليها‪ .‬قامت هي حنيَ وقف حارسان القتيادها ولك ّنها فجأة‬
‫شعور باحلرق يرسي من مكان الوخزة‬ ‫ٌ‬ ‫بوخزة مؤملة يف ِ‬
‫فخذها تالها‬ ‫ٍ‬ ‫شعرت‬
‫ُ‬
‫تنتفض بقوة‪ .‬قل ُبها كان ينقبض برسعة‬ ‫ثم وجدت نفسها‬ ‫كل جسدها‪ّ ،‬‬ ‫إىل ّ‬
‫ُ‬
‫وتدخل بصعوبة كأهنا تتن ّفس حتت املاء‪،‬‬ ‫واضطراب‪ ،‬أنفاسها كانت خترج‬
‫لكن أشدّ ما‬
‫أفكار مفزعة وخياالت قديمة من حياهتا السابقة‪ْ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫رأسها‬
‫غزت َ‬ ‫ْ‬
‫مبقورة وهي جتثم عىل‬ ‫جتسدت أمامها ببطن ْ‬ ‫آملها كانت صورة كمريدا التي ّ‬
‫وتتوسل أن‬
‫ّ‬ ‫تعتذر هلا‬
‫َ‬ ‫صدرها‪ ،‬وحتاول انتزاع قلبها من صدرها‪ .‬حاولت أن‬
‫ترتك قلبها يف مكانه‪ ،‬وتقسم ّأنا مل ترتكب ذن ًبا‪ ،‬لكن عيون كمريدا كانت‬
‫مجودها حتمل ّاتا ًما ال يقبل الشك‪ ،‬كانت عيون جالد ينفذ حكم إعدا ٍم‪،‬‬ ‫عىل ِ‬
‫واثق من عدالته‪.‬‬ ‫ٌ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪289‬‬
‫بمن حوله أن يستدعوا أحدً ا لنجدهتا‪.‬‬ ‫ً‬
‫صارخا َ‬ ‫نحوها‬ ‫جرى ماندريك َ‬
‫وغامت عيناها‪ ،‬وبدأت خترج من فمها رغا ٍو كثرية جعل‬
‫ْ‬ ‫زادت انتفاضاهتا‬
‫وجهها ل ّلون األرجواين وبرزت‬
‫حتول ُ‬ ‫يتمزق رغم ّ‬
‫كل يشء‪ّ .‬‬ ‫كل ذلك قلبه ّ‬ ‫ّ‬
‫كأنا خترج من‬ ‫وحترشجت أنفاسها‪ ،‬فخرجت عالية الصوت ّ‬
‫ْ‬ ‫عروق عنقها‬
‫مرة واحدة ومخدت لألبد‪.‬‬
‫صمتت ّ‬ ‫ْ‬ ‫ثم‬
‫أنبوب ضيق‪ّ ،‬‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪290‬‬
‫‪40‬‬
‫أمام الكامريا فار ًدا قامته‬ ‫يف ّأول ظهو ٍر علني له يف ّ‬
‫بث مبارش‪ ،‬وقف أناندار َ‬
‫ناظرا بتحدٍّ ‪ ،‬وبدأ ينعي أختَه بعد أن أعلن املقاومون أهنا انتحرت‬
‫القصرية‪ً ،‬‬
‫احلكم عليها بالسجن‪ .‬بدأ كال َمه بصوت هادئ حزين‬ ‫بالسم بعدَ أربعة أيام من ُ‬
‫ّ‬
‫ِ‬
‫يتكلم عن مدَ ى فجيعته بموت شقيقته الوحيدة‪“ :‬هريمني كانت بطلة وقفت‬
‫أمام هؤالء ا ُملجرمني يف حماكمتهم اهلزلية‪ ،‬وأعلنت أهنا أك ُرب من اهتاماهتم‬
‫ورغم حماوالهتم تغيري التفاصيل يف الفيديوهات التي أذاعوها ملحاكمتها ّإل‬
‫أفحمتهم وجعلتهم ْيبدون كال ُبلهاء ح ّتى فشلوا يف‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫وبكل ثقة إهنا‬ ‫أنني أقول‬
‫واضطروا إىل احلكم عليها بالسجن”‪.‬‬
‫ّ‬ ‫إدانتها بتلك اجلريمة املزعومة‬
‫وفتح شاشة فراغية تظهر لقطة هلريمني وهي تكلم املحكمة‬‫أوقف حديثه َ‬ ‫َ‬
‫ثم نظر إىل الكامريا‬
‫وقرهبا من مالمح وجهها‪ّ ،‬‬ ‫ثم أوقف الصورة ّ‬ ‫بتحدٍّ ‪ّ ،‬‬
‫أن امرأة‬ ‫ٌ‬
‫عاقل ّ‬ ‫ريا لوجه شقيقته عىل الشاشة‪“ :‬هل يصدق‬ ‫وهو يقول مش ً‬
‫أكن ألتركها بني‬
‫يأسا‪ ،‬هي تعرف أنّني مل ْ‬ ‫تنتحر ً‬
‫ُ‬ ‫بكل هذه القوة والبأس‬
‫فإنا‬
‫وإن عجزت عن مالحقة خاطفيها ّ‬ ‫أن حكومتنا ح ّتى ْ‬ ‫أيدهيم‪ ،‬وتعرف ّ‬
‫وسعا يف حتريرها مهام طال الزمن‪ .‬هريمني ُقتلت وأنا أقول‬‫مل تكن لتدخر ً‬
‫وسأترك الباقني ّ‬
‫وإل‬ ‫ُ‬ ‫اآلن هلؤالء املالعني الذين خطفوها‪ ...‬سلموين قاتليها‬
‫فسوف أقتلكم واحدً ا واحدً ا‪ ،‬سأبدأ هبؤالء املجرمني الذين يدّ عون ّأنم‬
‫ولن‬
‫ثم سأقتل َمن كانوا يف تلك القاعة ْ‬‫ثم سأقتل ماندريك‪ّ ،‬‬ ‫قضاة حمكمتها‪ّ ،‬‬
‫أستثني أحدً ا‪ ،‬وكام قالت حكمة ماجوها اخلالدة (اقتل َمن أراقوا دم أهلك‬
‫ح ّتى متأل اهلواء رائحة الدم‪ ،‬وحتى تصطبغ احلصباء بلونه القاين)”‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪291‬‬
‫أشار املصور له بأنّه سينهي التصوير‪ ،‬لك ّنه استمر‪“ :‬أمامكم مهلة يومني‬
‫َ‬
‫ُ‬
‫احلكومة ألنّني سأقيض هلم عىل‬ ‫لتسليمي القتلة‪ ،‬وبعدها سوف تشكرين‬
‫املخربني‪ ،‬ستكون حر ًبا مفتوحة ال هوادة فيها وال رمحة”‪.‬‬
‫ّ‬ ‫هؤالء‬
‫ثم أمر مساعدته ببثّه عرب ّ‬
‫كل القنوات‬ ‫أشار للمصور إلهناء املقطع‪ّ ،‬‬‫َ‬
‫كل شخص عىل األرض‪ ،‬وعىل كوكب أديتيا‪ ،‬أن يسمع‬ ‫املتاحة ً‬
‫قائل‪“ :‬أريد ّ‬
‫لوح‬
‫ثم ّ‬
‫أن أناندار سوف ينتقم ألخته”‪ّ ،‬‬ ‫أن يعلم اجلميع ّ‬
‫هذا البيان‪ ،‬أريد ْ‬
‫ُ‬
‫وبقية املتواجدين يف الغرفة ما عدا مساعدته‬ ‫هلم بيديه فانرصف املصور‬
‫جماورا له وهي تقول‪“ :‬سيدي‪ ..‬هل نرسل‬
‫ً‬ ‫شاودريك التي ّاتذت مقعدً ا‬
‫ً‬
‫متجاهل‬ ‫ثم قال‬ ‫هلم ليأتوك به‪ ،‬أم ستذهب أنت له؟”‪ .‬نظر أناندار هلا ّ‬
‫مفك ًرا ّ‬
‫ً‬
‫أغراضا كثرية‪،‬‬ ‫ألنا ماتت فموهتا خيدم‬
‫أشعر بارتياح حقيقي ّ‬
‫ُ‬ ‫السؤال‪“ :‬أنا‬
‫ويسهل يل الطريق يف خططي املستقبلية‪ ،‬لكنني ال أستطيع أن أمنع تلك‬ ‫ّ‬
‫تعتمل يف داخيل والتي جتعلني أشعر بالضعف‪ ،‬لقد كانت‬‫ُ‬ ‫األحاسيس التي‬
‫آخر َمن تبقى من عائلتي”‪.‬‬
‫مستفزة‪ ،‬ولكنها كانت َ‬
‫ّ‬ ‫محقا َء‬
‫“إن هذا ال جيعلك ضعي ًفا يا‬
‫ثم قالت ُمتمل ًقة‪ّ :‬‬‫تنحنحت شاودريك ّ‬
‫ْ‬
‫يزداد‬
‫ُ‬ ‫العظيم حني يتصف باإلخالص لعائلته‬
‫ُ‬ ‫سيدي إنام ُيعيل قيمتَك أكثر‪،‬‬
‫ً‬
‫متأمل كأنه يعيدُ الكلامت يف رأسه‪ ،‬كان يعلم ّأنا تقصد‬ ‫عظمة”‪ .‬نظر إليها‬
‫عظيم‪ ،‬ويرى‬ ‫ً‬ ‫التملق لكنها يف الوقت نفسه تقول احلقيقة‪ ،‬فهو يرى نفسه‬
‫ريا من أي عظيم سبقه يف تاريخ أديتيا‪ .‬قال‬ ‫أنّه سيذهب إىل مدى أبعد كث ً‬
‫بعدَ قليل من الصمت‪“ :‬شاودريك‪ ..‬أنا عظيم وأعلم ذلك‪ ،‬لكنني‪ -‬كام‬
‫املقربني مني عالمة للتملق”‪.‬‬
‫رب وصفي بذلك من أحد ّ‬
‫تعلمني‪ -‬أعت ُ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪292‬‬
‫فمها لتربر موقفها‪ ،‬لك ّنه أشار بالصمت لترتكه يكمل‪:‬‬
‫فتحت شاودريك َ‬ ‫ْ‬
‫تترصيف دو ًما معي عىل هذا األساس ال أن ّ‬
‫تذكريني به ‪..‬‬ ‫“أنا عظيم؛ أريدك أن ّ‬
‫ِ‬
‫فهمت؟”‪ .‬ر ّدت عليه وهي تبلع ري َقها‪“ :‬لكن يا سيدي‪ .”...‬فقال بحزم‪:‬‬ ‫هل‬
‫ني عىل كالم عظيمك‪ ،‬أم تريدين استدراك يشء مل يفطن‬ ‫“لكن! هل تعرتض َ‬
‫شعرت ّأنا قد حورصت‪ ،‬فضحك أناندار‬ ‫ْ‬ ‫إليه”‪ .‬صمتت شاودريك وقد‬
‫وقال‪“ :‬ال عليك أنت تابعتي ا ُملخلصة‪ ،‬امرأ ٌة أذكى من آالف الرجال الذين‬
‫أن عقوهلم خربت بسبب العيب اجليني الذي ظهر فينا‪ ،‬لقد كنت أنوي‬ ‫يبدو ّ‬
‫عن اختطاف هؤالء املخربني‬ ‫ترقيتَك لتكوين كبرية مساعدي بغض النظر ِ‬
‫ري مساعدي السابق”‪ .‬تلعثمت شاودريك وقالت‪“ :‬هذا ٌ‬
‫رشف‬ ‫ألسنودريك كب ِ‬
‫يا سيدي”‪ .‬فر ّد أناندار يف غطرسة‪“ :‬أنت تابعة خملصة وذكية كام قلت لك‪ ،‬ولو‬
‫هيا اذهبي وائتيني باألسري”‪.‬‬ ‫التذتك ِ‬
‫أنت ‪ّ ..‬‬ ‫متخذا أصدقا َء ّ‬
‫ً‬ ‫كنت‬
‫انطلقت شاودريك مهرول ًة كأهنا هترب من حتقيق يف إحدى حماكم‬ ‫ْ‬
‫بكل ِجدّ عىل إنجاح خططه‪ ،‬وكانت‬ ‫التفتيش‪ .‬كانت ُملص ًة ألناندار‪ ،‬وتعمل ّ‬
‫ري املساعدين السابق لعرضها‬ ‫خططا بديلة عىل أسنودريك كب ِ‬ ‫ً‬ ‫كثريا ما تقرتح‬
‫عىل أناندار‪ ،‬كان عاد ًة ما ينس ُبها لنفسه‪ ،‬وحياول أن يبعدَ ها عن أناندار قدر‬
‫كل يشء يدور بني مساعديه‪.‬‬ ‫يعلم ّ‬
‫اإلمكان‪ ،‬لكن األخري كان ُ‬
‫أن العمل‬ ‫شاودريك مثلها مثل آخرين ممّن يعملون ألناندار؛ يؤمنون ّ‬
‫ٍ‬
‫حلياة رغدة‪ ،‬وللعيش يف اجل ّنة يف هذه الدنيا‪ ،‬فهو‬ ‫ُ‬
‫السبيل الوحيد‬ ‫معه هو‬
‫ُ‬
‫املختلف فيها هو‬ ‫املقربة منه‪ .‬اليشء‬
‫خاصة الدائرة ّ‬ ‫ال يبخل عليهم بيشء‪ّ ،‬‬
‫أهنا متدينة بشدة‪ ،‬وترى ّ‬
‫أن تد ّينها حيثّها عىل إحداث تغيري يف هذا العامل‪،‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪293‬‬
‫أن العمل مع أناندار هو خطو ٌة لتحقيق هذا التغيري‪ ،‬ح ّتى لو كانت‬ ‫تظن ّ‬
‫ُ‬
‫الوسيلة َمشبوهة‪ .‬كانت يف درجة دينية ُتعطيها احلقّ يف تفسري الواقع حسب‬
‫َ‬
‫يعتربون هذا التفسري جز ًءا من‬ ‫رؤيتها اخلاصة‪ ،‬وجتعل اآلخرين من املتدينني‬
‫ألنا أخربهتم بتفسرياهتا‬‫إن بعض املتدينني انضم ألناندار ّ‬‫تعاليم الدين‪ ،‬بل ّ‬
‫بأن صارت كبرية ا ُملساعدين بعدَ اختطاف‬ ‫تلك‪ .‬حني وات ْتها فرصة ُعمرها‪ْ ،‬‬
‫ُ‬
‫أفضل َمن‬ ‫وعملت بجهد مضاعف لتظهر ألناندار أهنا‬ ‫ْ‬ ‫سلفها‪ ،‬استغلتها‬
‫أن أناندار مل يكن حيتاج ذلك فهو يقدر ذكاءها‬ ‫عمل هبذا املنصب‪ .‬واحلقيقة ّ‬
‫من ناحية‪ ،‬ومن ناحية أخرى يقدّ ر مكانتها الدينية التي تضيف له تابعني‬
‫خملصني‪.‬‬
‫أقل من دقيقة عادت شاودريك لغرفة أناندار‪ ،‬وخلفها حارسان‬ ‫بعدَ ّ‬
‫بفك قيوده‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫مواجه ألناندار‪ ،‬أشار هلام ّ‬ ‫مقيدً ا‪ .‬أجلساه عىل مقعد‬
‫رجل ّ‬‫جيران ً‬
‫وجهه‪ ،‬والنظرة‬ ‫ً‬
‫متأمل َ‬ ‫ووجه رأسه لألعىل‬ ‫َ‬
‫وأمسكه من َشعره ّ‬ ‫ثم اقرتب منه‬
‫ّ‬
‫يرتكه وجيلس عىل مقعده يف مواجهته‪.‬‬‫عينيه قبل أن َ‬
‫املتحدية البادية يف ْ‬
‫“أهل بك يا (باسل)‪ ..‬كيف حالك؟” قاهلا أناندار وعىل ِ‬
‫فمه ابتسامة‬ ‫ً‬
‫عريضة‪ ،‬لكن (باسل) اكتفى بال ّنظر إليه يف غضب وحتدّ غري عابئ باألسلحة‬
‫نارا من‬ ‫رسعة وعمق أنفاسه كأنه حياول أن َ‬
‫ينفث ً‬ ‫ُ‬ ‫املصوبة لرأسه‪ .‬تصاعدت‬
‫أي حال كان ّ‬
‫أقل من املرة السابقة‬ ‫لكن غض َبه عىل ّ‬
‫صدره حيرق أناندار هبا‪ّ ،‬‬
‫َ‬
‫القليل من ناره‪.‬‬ ‫فقد ّبر َد ُ‬
‫مقتل هريمني‬
‫رسم شبه ابتسامة عىل وجهه وهو يقول‪:‬‬ ‫ريا ح ّتى َ‬‫نفسه كث ً‬
‫جاهد (باسل) َ‬
‫ُ‬
‫“أفضل منك ّأيا احلقري”‪ .‬صفعه أحدُ اجلند ّيني لكن أناندار َ‬
‫أشار إليه باهلدوء‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪294‬‬
‫نظر له باسل‬
‫أول‪ ..‬هل قتلت هريمني؟” َ‬ ‫ثم سأل (باسل) بحزم‪“ :‬قل يل ً‬ ‫ّ‬
‫بدهشة ً‬
‫قائل‪“ :‬هل تتوقع إجاب ًة صادقة عىل هذا السؤال؟”‪ .‬فقال أناندار‬
‫ُ‬
‫ستقول ذلك‬ ‫الرجال‪ ،‬أنت بالذات لو قتلتها‬
‫“طبعا‪ ،‬أنا أفهم ّ‬
‫بابتسامة واثقة‪ً :‬‬
‫يف وجهي‪ ،‬وستهددين بأنني سأنال املصري نفسه”‪.‬‬
‫ثم‬
‫أنل هذا الرشف”‪ .‬قاهلا باسل وهو ينظر له بتحدّ ّ‬ ‫“مع األسف مل ْ‬‫َ‬
‫بالسم فأنا لست جبا ًنا؛‬
‫أن أقتلك أنت‪ ،‬ولن يكون ّ‬ ‫أكمل‪“ :‬لك ّنني أعدك ْ‬
‫مط‬ ‫أنظر يف عينيك”‪ّ .‬‬
‫سوف أنتزع حنجرتك من عنقك الغليظ هذا وأنا ُ‬
‫أناندار شفتيه كأنه مل يسمع هتديد باسل‪ ،‬قام ِمن مكانه وفتح أحدَ أدراج‬
‫حمشو أمام عيني باسل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مسدسا عتي ًقا‪ّ ،‬‬
‫ثم تأكد من أنّه‬ ‫ً‬ ‫مكتبه وأخرج منه‬
‫كل احلق‪ ،‬فأنا‬ ‫َ‬
‫ومعك ّ‬ ‫وجه فوهة املسدس نحو رأسه وقال له‪“ :‬تريد قتيل‬ ‫ّ‬
‫فدوت فرقعة‬ ‫َ‬
‫ضغط الزناد ّ‬ ‫مدين لك بروح‪ ،‬وعليه‪ ”...‬مل يكمل مجلته بل‬
‫ثم‬‫مالمح باسل بشكل تلقائي ّ‬
‫ُ‬ ‫دخان من املسدس وانقبضت‬ ‫ٌ‬ ‫عالية وتصاعدَ‬
‫دوت ضحكة أناندار وهو يقول‪“ :‬أنا اآلن أحييتك‪ ،‬وهلذا فحسا ُبنا خالص؛‬ ‫ّ‬
‫روح بروح‪ ..‬ما رأيك؟”‪.‬‬‫ٌ‬
‫ثم متالك نفسه‬
‫وأنفاسه متالحقة من فرط االنفعال‪ّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫نظر له باسل بغضب‬‫َ‬
‫آخر ما أفعله يف حيايت”‪ .‬أخذ‬‫متزح معي‪ ..‬سوف أقتلك لو كان هذا َ‬ ‫وقال‪“ :‬هل ُ‬
‫وقام من كرسيه ومتشّ ى هبدوء يف الغرفة إىل أن وقف جوار‬ ‫نفسا عمي ًقا َ‬
‫أناندار ً‬
‫ثم وضع يدَ ه عىل كتفها وقال هلا‪“ :‬شاودريك‪ ،‬هل حتفظني حكاية‬ ‫مساعدتِه‪ّ ،‬‬
‫ابتسمت مساعدته بارتباك ور ّدت‪“ :‬ك ّلنا نحفظها يا‬
‫ْ‬ ‫امللك العظيم دريك”‪.‬‬
‫واجب‬
‫ٌ‬ ‫إن َ‬
‫حفظها‬ ‫سيدي منذ الصغر إنّه يف اسمي واسم الكثريين ً‬
‫رجال ونسا ًءا‪ّ ،‬‬
‫بيده عىل كتفها وقال‪“ :‬احكي لباسل قصته”‪.‬‬ ‫من ماجوها”‪ .‬رضب أناندار ِ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪295‬‬
‫كأنا ستلقي موعظة دينية‪ ،‬كانت‬ ‫اعتدلت شاودريك يف وقفتها ّ‬
‫نحيفة القوام‪ ،‬ممشوقة رغم قرصها‪ ،‬وكانت مالحمُها عريضة خشنة كبقية‬
‫طويل‪ ،‬أخذت حتكي قص ًة طويلة عن‬ ‫ً‬ ‫النياندرتال‪ّ ،‬إل أن َ‬
‫شعرها كان ً‬
‫ناعم‬
‫وحد الشعوب األديتية‪ ،‬واستطاع أن‬ ‫ملك كان يعيش قبل عرشة ِ‬
‫آالف عام‪ّ ،‬‬
‫يتكون من دولة واحدة فقط‪،‬‬ ‫زدهرا ّ‬
‫وأن جيعل أديتيا كوك ًبا ُم ً‬ ‫َ‬
‫ينرش العدل‪ْ ،‬‬
‫ّ‬
‫وظل حيكم مخسني عا ًما ح ّتى انتهى‬ ‫دولة ال مكان فيها لفقري أو مظلوم‪،‬‬
‫ِ‬
‫أغلب السكان‪،‬‬ ‫الكوكب ثالثة نيازك ضخمة قضت عىل‬ ‫َ‬ ‫رضب‬
‫َ‬ ‫حكمه حني‬
‫ُ‬
‫النيازك عىل دولة امللك دريك وحضارته لكنها مل‬ ‫ُ‬ ‫ومنهم امللك‪ .‬قضت‬
‫ُ‬
‫األجيال املتوالية‪.‬‬ ‫قصته‪ ،‬فظلت حكاية تر ّددها‬
‫تطمس ّ‬
‫ْ‬
‫القصة بام حيدث‪ ،‬ووجد أناندار ينظر له‬‫مل يفهم (باسل) ما عالقة تلك ّ‬
‫ري من الناس‪ّ ،‬‬
‫أن امللك‬ ‫ً‬
‫مبتسم ويقول‪“ :‬ما ال تعرفه مساعديت اجلميلة‪ ،‬والكث ُ‬
‫مذابح يف البداية لكي يستطيع توحيدَ الشعوب املتناحرة؛‬ ‫َ‬ ‫دريك ارتكب‬
‫بداية عهده كانت حافلة بالكثري من األفعال املخجلة لك ّنه يف النهاية رفع‬
‫الضيق عىل وجه شاودريك‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أديتيا عال ًيا‪ ،‬وجعل أهلها يعيشون يف نعيم”‪َ .‬‬
‫بان‬
‫فاستفزه‬
‫ّ‬ ‫القصة‪،‬‬
‫باسل يف سخرية وقد فهم ما يرمي إليه أناندار بتلك ّ‬ ‫وابتسم ُ‬
‫جمر ُد رجل عصابات”‪.‬‬
‫ملكا وأنت ّ‬ ‫قائل‪“ :‬لكنه كان ً‬
‫ً‬
‫ٌ‬
‫وجمنون أمام‬ ‫ٍ‬
‫عصابات‬ ‫اقرتب منه أناندار متحدّ ًثا بحامس‪“ :‬أنا رجل‬
‫َ‬
‫أرسخها يف أذهاهنم عمدً ا‪ ،‬وهلذا عندما قبضت‬
‫الكثريين‪ ،‬وهذه الصورة أنا ّ‬
‫خرجت عليكم بموكب ميلء بالنساء شبه‬
‫ُ‬ ‫واللبنانيني املقاومني‬
‫ّ‬ ‫أنت‬
‫عليك َ‬
‫تصورون رجال العصابات يف ثقافتكم”‪ .‬ابتعدَ عن باسل خطوات‬ ‫العرايا كام ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪296‬‬
‫ثم استند عىل مكتبِه وأكمل وهو ّ‬
‫يلوح بيديه كأنه عىل املرسح يؤ ّدي‬ ‫قليلة ّ‬
‫وحلم كبري‪ ،‬وأديتيا األرض هي‬ ‫ٌ‬ ‫مشهدً ا شكسبري ًّيا‪“ :‬أنا رجل له رؤية‬
‫حلمي‪ ،‬أريد أن أجعلها جنة حيسدها ُ‬
‫أهل الكوكبني‪ ،‬أنا أستطيع أن أكون‬
‫عادل مثل امللك دريك‪ ،‬وعندي من القوة واحلكمة ما يساعدين عىل‬ ‫ملكا ً‬ ‫ً‬
‫حتقيق حلمي‪ ،‬لكن ال بدّ من بعض التضحيات ً‬
‫أول”‪.‬‬
‫كسا مالحمها‪ ،‬لكن‬‫تستمع يف خشوع واقتناع َ‬
‫ُ‬ ‫كان يتحدّ ث وشاودريك‬
‫حتكم أديتيا‬
‫َ‬ ‫مستنكرا وهو يقول‪“ :‬أنت! هل تريد أن‬
‫ً‬ ‫نظر إىل أناندار‬
‫باسل َ‬
‫فعل ذلك‬‫وتنفصل عن حكومة بلدك بجيش املرتزقة هذا؟!‪ ..‬ولو استطعت َ‬
‫تتخيل أن جمر ًما مث َلك يمكنه حتقيق العدل!”‪.‬‬
‫فهل ّ‬
‫تاريخ كوكبك وسرتى آالف املجرمني الذين‬ ‫َ‬ ‫قائل‪“ :‬اقرأ‬‫ر ّد عليه أناندار ً‬
‫الشعوب بعظمتهم”‪ .‬سأله‬
‫ُ‬ ‫ثم صاروا حكا ًما تتحاكى‬ ‫أكثر م ّني بكثري ّ‬
‫فعلوا َ‬
‫قائل‪“ :‬أعرفه‬‫أنت بتارخينا؟!”‪ .‬فضحك أناندار ً‬ ‫باسل بتحدّ ‪“ :‬وما أدراك َ‬
‫جيدً ا‪ ،‬وأعرف العظام َء فيه الذين قتلوا اآلالف‪ ،‬أعرف اإلسكندر األكرب‪،‬‬
‫ويوليوس قيرص‪ ،‬ونبوخذ نرص‪ ،‬واحلجاج بن يوسف‪ ،‬وهارون الرشيد‪،‬‬
‫وأعرف جنكيز خان‪ ،‬ونابليون‪ ،‬وامللكة فيكتوريا‪ ،‬وهتلر‪ ،‬ومونتجومري‬
‫لكن ك ّلهم يشرتكون يف‬‫وروزفلت‪ ،‬تصنفوهنم يف تارخيكم لطيبني وأرشار‪ْ ،‬‬
‫ساخرا‪“ :‬وما هو أهيا الفيلسوف؟”‪ .‬فقال أناندار‬
‫ً‬ ‫يشء واحد”‪ .‬ابتسم باسل‬
‫هدف وحيد؛‬ ‫ٍ‬ ‫“مجيعهم قتلوا اآلالف من البرش من أجلِ‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫تجاهل سخريته‪:‬‬ ‫ُم‬
‫وهو رفعة دولتهم وشعبهم”‪ .‬فقال باسل وقد نفدَ صربه‪“ :‬أنت تبني أوها ًما‬
‫قائل‪“ :‬دعك من‬ ‫لوح أناندار بيده ً‬ ‫ربر لنفسك فظائعك”‪ّ .‬‬ ‫عىل أوهام لت ّ‬
‫رب ُر أفعال احلكومة األديتية وقتلك‬
‫أنت نفسك كنت ت ّ‬ ‫ذلك ال ّنقاش العقيم َ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪297‬‬
‫تظن ّأنا ُ‬
‫دولة العدل التي تريد أن حت ّقق فيها ما فشل‬ ‫للمقاومني ألنك كنت ّ‬
‫أبوك يف حتقيقه يف مرص”‪.‬‬
‫عن كيف عرف أباه‪ ،‬فقال أناندار إنّه فحص قصة حياته كاملة‬‫سأله باسل ْ‬
‫وأن شجاعته جعلته يعجب‬‫وذهب خلفه إىل كوكب أديتيا‪ّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫عندما طارده‬
‫“اسمع يا باسل‪ ،‬حني أحكم أديتيا‬
‫ْ‬ ‫ثم أضاف‪:‬‬ ‫به أكثر‪ ،‬وأنّه يريده معه‪ّ ،‬‬
‫َ‬
‫مسقط‬ ‫سأقسمها ستة أقاليم وسأجع ُلك حتكم اإلقليم الذي ّ‬
‫يضم القاهرة‬
‫أجهز من اآلن حلكام وقادة يعملون معي‪ ،‬وأنت ستكون من‬
‫رأسك‪ ...‬أنا ّ‬
‫أ ّ‬
‫مههم”‪.‬‬
‫وقل يل كيف‬‫ثم سأله‪“ :‬دعك من هذا ْ‬ ‫تعجب‪ّ ،‬‬ ‫هز (باسل) رأسه يف ّ‬ ‫ّ‬
‫جيب ونظر ملساعدته‪ ،‬فقالت‬
‫ضحك أناندار ومل ْ‬‫َ‬ ‫َ‬
‫الوصول إ َّيل؟”‪.‬‬ ‫استطعتم‬
‫شاودريك‪“ :‬زرعنا ماد َة تع ّقب يف جسدك عندما كنت عندنا من خالل القيود‬
‫خيطط لرتكك هترب”‪.‬‬ ‫التفاعلية‪ ،‬وهذا بناء عىل أم ِر سيدي أناندار‪ ،‬فقد كان ّ‬
‫رده‪ ،‬فقال بتحدّ ‪“ :‬لن أعمل معك ح ّتى وإن‬
‫منتظرا َّ‬
‫ً‬ ‫نظره لباسل‬ ‫حول أناندار َ‬‫ّ‬
‫الثمن حيايت‪ ،‬فأنا أعرف أنك لن ترتكني أذهب بعدَ أن أطلعتني عىل‬ ‫ُ‬ ‫كان‬
‫َ‬
‫األمان‬ ‫ثم قال‪“ :‬بل سأتركك تذهب‪ ،‬وسأعطيك‬ ‫ضحك أناندار ّ‬ ‫َ‬ ‫خططك”‪.‬‬
‫أي امرأة تكون مكاهنا يف حياتك‪،‬‬
‫هتمك‪ ،‬أو ّ‬ ‫إن كانت ّ‬ ‫أنت وابنك وميساء ْ‬
‫السعادة‬ ‫ً‬
‫مشرتكا بتحقيق ّ‬ ‫ذات يوم لنحقق ً‬
‫حلم‬ ‫وأنا متأكد من أنك ستأتيني َ‬
‫أن الشيطان‬ ‫ثم قال‪“ :‬إذا صدقت ّ‬‫ساخرا ّ‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫باسل‬ ‫لكل َمن يف أديتيا” ابتسم‬ ‫ّ‬
‫صوفيا فسوف أصدقك”‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫سيصري قط ًبا‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪298‬‬
‫‪41‬‬
‫يف أحد املنتجعات ا ُملستحدثة عىل شاطئ بحرية قارون‪ ،‬جلست ْ‬
‫(ميساء)‬
‫فرش قاميش زاهي األلوان عىل أرض خرضاء يفصلها عن املاء رشيط‬ ‫عىل ٍ‬
‫عرضه عن عرشة أمتار‪ .‬يف نزهة عىل طراز نزهات القرن‬‫الرمال ال يزيد ُ‬‫من ّ‬
‫وترمس شاي وفواكه ومسليات‪ ،‬وأمامها‬
‫َ‬ ‫العرشين كانت تضع سل َة طعام‬
‫يلعب أبوها وباسل كر َة املرضب‪ ،‬وأ ّمها جالسة عىل الرمل متسك (عالء)‬
‫الذي يداعب املياه بقدميه الصغريتني‪.‬‬
‫ستة أشهر عىل عودهتا من مغامرهتا القصرية يف أديتيا‪ ،‬والتي‬ ‫مرت ُ‬ ‫ّ‬
‫نظرا‬
‫مع استمرارها يف العمل ً‬ ‫عوقبت بسببِها بخصم شه ٍر كامل من راتبها َ‬
‫رحب فقد كان ّ‬
‫أخف‬ ‫متقبلة لذلك اجلزاء بصد ٍر ْ‬
‫حلرج املرحلة احلالية‪ .‬كانت ّ‬
‫األرضار بعد أن تو ّقعت أن يقوموا بتخفيض رتبتها ً‬
‫مثل‪ ،‬لك ّنهم اعتربوا أهنا‬
‫قرارا جانبها التوفيق فيه فقط‪.‬‬
‫اختذت ً‬
‫خضع لتأنيب شديد‪ ،‬وأخربه القادة أنّه بسبب فعلته تلك فإنه‬ ‫َ‬ ‫(باسل)‬
‫يتم االستعانة به فقط عند‬ ‫ٍ‬
‫كمتعاقد ّ‬ ‫ضمه للعمل بشكل نظامي‪ ،‬وإنّام‬ ‫يتم ّ‬‫لن ّ‬
‫وتم هتديدُ ه بإلغاء العفو عنه إذا ّ‬
‫كرر مثل هذه األفعال املتهورة‪ .‬ما‬ ‫احلاجة‪ّ ،‬‬
‫أن السبب الرئييس لتعنيف باسل هكذا كان شكوى‬ ‫عرفته بعد ذلك من أبيها ّ‬
‫مع األوامر ونظام‬‫سامر قائد املقاومني اللبنانيني من عدم جتاوب باسل َ‬
‫القيادة املتبع‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪299‬‬
‫بعض التغريات لكنها مل تكن من‬ ‫الفرت ُة التي تلت موت هريمني شهدت َ‬
‫خاصة األديتيني منهم‪ .‬نشطت الدعاية‬ ‫ذلك ال ّنوع الذي رجاه قاد ُة املقاومة‪ّ ،‬‬
‫الثوار باختطاف هريمني وتلفيق التهم هلا‬
‫َ‬ ‫اإلعالمية احلكومية التي ّاتمت‬
‫فيلم قصري عن إنجازاهتا وبطولتها‬ ‫كل يوم كان يذاع ٌ‬ ‫ثم قتلها بعد ذلك‪ ،‬ويف ّ‬ ‫ّ‬
‫ورباطة جأشها يف مواجهة “املخربني”‪ ،‬ومل يصدّ ق مؤ ّيدو احلكومة األديتية‬
‫َ‬
‫خلف تلك الفعلة الشنعاء‪.‬‬ ‫أهنا هي العقل املدبر‬
‫فضح جريمتها هي ّأنا زادت املؤ ّيدين‬ ‫ّ‬
‫كل ما فعلته حماكمة هريمني وحماولة ْ‬
‫لكل فريق حجة إضافية عىل ِ‬
‫موقفه‬ ‫رفضا‪ ،‬وأعطت ّ‬ ‫تأييدً ا‪ ،‬وزادت الرافضني ً‬
‫ٍ‬
‫حدث‬ ‫حسب الزاوية التي ينظر منها لنفس احلادثة‪ .‬مل يتبع حماكمة هريمني أي‬
‫كبري غري قيام أناندار باغتيال اثنني من القضاة الذين حاكموها وحماولة فاشلة‬
‫الغتيال ماندريك‪ .‬أ ّدت تلك املحاوالت لظهور شعبية جديدة ألناندار يف‬
‫الثوار اكتشاف‬
‫ُ‬ ‫صفوف املؤ ّيدين للحكومة‪ .‬بعده حوادث االغتيال‪ ،‬استطاع‬
‫تم إعدامه مبارشة بدون حماكمة‪.‬‬‫عميل له بني صفوفهم ّ‬
‫(ميساء) غارق ًة يف أفكارها قبل أن تنتبه حنيَ ارتطمت كرة املرضب‬ ‫كانت ْ‬
‫هيتف هبا‪“ :‬هل ستظ ّلني جالسة هكذا‬
‫ثم سمعت ضحكة من أبيها وهو ُ‬ ‫هبا‪ّ ،‬‬
‫أنت باللعب‬‫تقذف الكرة له ثانية‪“ :‬استمتع َ‬‫ُ‬ ‫طوال اليوم!”‪ .‬فقالت وهي‬
‫قال وهو يضحك ويرضب الكرة ثانية بمرضبه ّاتاه‬ ‫مع صديقك اجلديد”‪َ .‬‬
‫صدرها‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫استنشقت اهلواء الصايف ومألت به‬ ‫باسل‪“ :‬أنت اخلري والربكة”‪.‬‬
‫ري فيام هو قادم‪ ،‬وتستمتع باليوم الذي‬‫وهي حتاول أن تطرد عن رأسها التفك َ‬
‫ريا منذ الغزو‪.‬‬
‫مل يتكرر يف حياهتا كث ً‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪300‬‬
‫الصغري‪،‬‬
‫انضم عمر إىل زهرة وعالء ّ‬
‫ّ‬ ‫مرضبيهام عىل األرض‪،‬‬
‫ْ‬ ‫رمى الرجالن‬
‫ريا يف‬ ‫وتوجه باسل إليها وعىل وج ِهه ابتسامة عريضة‪ .‬كانت ترى تغ ً‬
‫ريا كب ً‬ ‫ّ‬
‫ثم خرجا يتكلامن‬‫أكثر من ساعتني ّ‬
‫ذات يوم واختىل به َ‬ ‫ِ‬
‫روحه منذ جاء إىل أبيها َ‬
‫يقص عليها باسل حكاية اختطاف أناندار‬ ‫ويتضاحكان كصديقني قديمني‪ .‬مل ّ‬
‫يقص عليها ما دار بينه وبني والدها‪ ،‬لك ّنها حني سألته‬
‫دار بينهام‪ ،‬ومل ّ‬
‫له وما َ‬
‫رس تقارهبام األخري؛ قال هلا إنّه طلب من أبيها أن يكون (عالء) يف رعاية‬
‫عن ّ‬
‫رب (عالء) حفيدَ ه‪ ،‬و(باسل) ولده‪ ،‬ومل يزد عىل ذلك‪.‬‬‫األرسة‪ ،‬وأن يعت َ‬
‫فمه ليتكلم لكنه تلعثم‪.‬‬
‫جلس باسل إىل جوارها عىل الفرش نفسه‪ ،‬وفتح َ‬ ‫َ‬
‫خجول هكذا من قبل‪ ،‬مل يكن يبدو كباسل‬ ‫ً‬ ‫متعجبة‪ ،‬فهي مل تره‬
‫ّ‬ ‫نظرت إليه‬
‫ْ‬
‫أقرب إىل فتى حياول التقرب من زميلته يف املدرسة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫الذي تعرفه‪ ،‬بل كان‬
‫ريا بالتوازي مع تقاربه من‬
‫اخلاطر فقد تقار َبا الفرتة السابقة كث ً‬
‫ُ‬ ‫أسعدها ذلك‬
‫جلوسه‬
‫ُ‬ ‫تقارب صديقني من الرجال‪ ،‬ولذا كان‬ ‫َ‬ ‫أبوهيا‪ ،‬ولكن بطريقة تشبه‬
‫عن ذي قبل‪.‬‬‫متلعثم أمامها حيمل معنى جديدً ا ْ‬‫ً‬
‫ٌ‬
‫التفاتة جتاه أبوهيا وكأنّه يطمئن أهنام ال يراقباهنام‪،‬‬ ‫نظر إليها وحانت منه‬
‫َ‬
‫اق يف مقتبل‬ ‫معا يتسامران كعشّ ٍ‬ ‫حظه كانا كعادهتام حني جيلسان ً‬ ‫وحلسن ّ‬ ‫ُ‬
‫ثم أطلق رساحي»‪ .‬قال هبدوء‬ ‫العشق‪« .‬لقد اختطفني أناندار ملدّ ة يوم ّ‬
‫دهشة وهي تسأله متى وكيف! فأجاب‪ُ :‬‬
‫«منذ أربعة أشهر‬ ‫ٍ‬ ‫فاتّسعت عيناها يف‬
‫شعرت بالضيق ألنه مل خيربها من ْقبل‪،‬‬‫ْ‬ ‫يوم أن قدّ م بيانه عن وفاة شقيقته»‪.‬‬
‫فكتمت‬
‫ْ‬ ‫تفهم منه ما حدث بالتفصيل‪،‬‬ ‫لكن فضوهلا غلب عليها وأرادت أن َ‬ ‫ّ‬
‫كل ما حدث‪.‬‬ ‫فقص عليها ّ‬ ‫ضيقها وسألته باهتام ٍم عن التفاصيل ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪301‬‬
‫اجلملة‪ ،‬فسألته‪« :‬متى‬ ‫عمي عمر»‪ .‬أهنى كالمه بتلك ُ‬ ‫رب أحدً ا ّإل ّ‬
‫«مل أخ ْ‬
‫رد فعلها خائ ًفا‬
‫أخرب َته؟»‪ .‬فقال‪« :‬بعدَ عوديت مبارشة»‪ .‬كان ينظر إليها مرتق ًبا َّ‬
‫أن صارت لديه رغبة حقيقية يف أن يقرتب منها أكثر‪ ،‬وأن‬ ‫من إغضاهبا بعد ْ‬
‫جراحه بعد وفاة‬
‫ُ‬ ‫ري الصداقة‪ .‬كانت‬ ‫ٍ‬
‫خانة أخرى غ ِ‬ ‫ينقل العالقة بينهام إىل‬
‫كمريدا قد كفت ع ْنه أذاها وآالمها‪ ،‬وتركت يف قلبه فسح ًة تسمح بسكنى‬
‫امرأة أخرى‪ ،‬وكانت هي ميساء‪.‬‬
‫كل يشء‪،‬‬ ‫دوامة غريبة من الشك يف ّ‬ ‫رساحه وقع يف ّ‬ ‫َ‬ ‫حنيَ أطلق أناندار‬
‫الشك يف اجتاه احلق واجتاه الباطل‪ ،‬الشك يف ماهية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الشك يف نفسه ومبادئه‪،‬‬
‫رشا‪ .‬مل َير أمامه يف هذه اللحظة‬‫ريا أو ًّ‬
‫اخلري والرشّ وأسباب تسمية األشياء خ ً‬
‫إنسا ًنا يستحقّ أن يتحدث معه‪ ،‬ويبوح بمكنون صدره ّإل (عمر)‪ .‬كان‬
‫نقي مل يتلوث باألغراض الدنيئة أو‬ ‫ٌ‬
‫إنسان ّ‬ ‫ُ‬
‫باسل أنّه‬ ‫هو الوحيد الذي يرى‬
‫ٍ‬
‫أرسة ترعاه‬ ‫أيضا باقرتابه من (عمر) أن جيدَ البنه مكا ًنا يف‬‫الدسائس‪ ،‬كام أراد ً‬
‫وقت غيابه وتتبناه يف حال موته‪.‬‬ ‫َ‬
‫يثقل كاهله‪ ،‬بل إنّه ولدهشته بكى بني‬ ‫كل ما ُ‬ ‫جلس مع عمر وحكى له ّ‬ ‫َ‬
‫ريه املظلم وطف َله املسكني الذي ال جيد من يرعاه‪.‬‬ ‫يديه‪ ،‬بكى امرأ َته القتيلة ومص َ‬
‫نفسه؛ بكى ند ًما عىل السنني التي قضاها سي ًفا يف ِ‬
‫يد نظام أكثر طغيا ًنا مما‬ ‫بكى َ‬
‫الشود الذي يبيح له أحيا ًنا أن يفكر يف اعتناق الظلم‬ ‫ختيل‪ ،‬وحرسة عىل عقله ّ‬
‫ٍ‬
‫لشخص جمنون وجمرم كأناندار‪.‬‬ ‫رب ٍ‬
‫رات تقنعه باالنضامم‬ ‫دينًا ويسوق له م ّ‬
‫يبخل عمر عليه بال ّنصح بل أعطاه حكم َة ستني عا ًما رأى فيها الكثري‬
‫ْ‬ ‫مل‬
‫وقرأ أكثر‪ .‬قال له إنّنا برش‪ ،‬وإنّنا بطبيعتنا قد نخطئ يف احلكم عىل األشياء‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪302‬‬
‫اخلي أو‬ ‫َ‬
‫اإلنسان ّ‬ ‫بالترصف عىل أساس ذلك احلكم‪ ،‬لكن ما يميز‬ ‫ّ‬ ‫ونخطئ‬
‫عن غريه هو ذلك القلق الذي جيعله يعيدُ النظر دو ًما‬ ‫كام قال “ابن األصول” ْ‬
‫وصحة مربراهتا‪ ،‬وذلك الندم الذي يعرتيه حنيَ يكتشف‬ ‫ّ‬ ‫يف أخالقية أفعاله‬
‫لكن اإلنسان ذا‬ ‫خطاء‪ّ ،‬‬ ‫كل ابن آدم ّ‬
‫يكرره‪ّ .‬‬
‫أنه أخطأ فيتوقف عن خطئه وال ّ‬
‫ً‬
‫متيقظا‬ ‫مرة فإنّه جيدُ يف نفسه ضم ً‬
‫ريا‬ ‫انزلقت قدمه للخطأ ّ‬
‫ْ‬ ‫املعدن الطيب لو‬
‫صاحب الضمري‬ ‫ُ‬ ‫يمنعه من تكرار اخلطأ والتامدي نحو أخطاء أفدح‪ ،‬بينام‬
‫ٍ‬
‫ملرحلة من اخلطأ يتوقف‬ ‫مرة تلو األخرى ح ّتى يصل‬ ‫ِ‬
‫املربرات ّ‬ ‫الفاسد خيتلق‬
‫فيها عن التربير ألنّه مل يعد بحاجة إليه‪.‬‬
‫ثم أضاف‪:‬‬‫طيب‪ ،‬أصيل املعدن‪ّ ،‬‬ ‫إن دموعه تلك ٌ‬
‫دليل عىل أنه ٌ‬ ‫َ‬
‫قال له عمر ّ‬
‫عن طريق الصواب فإنك تعود‪ ،‬الناس معادن‬ ‫“أنت ابن أبيك‪ ،‬ومهام رشدت ْ‬‫َ‬
‫وأنت من معدن نفيس”‪ .‬فقال باسل‪“ :‬اقبلني ولدً ا لك‪ ،‬واعترب‬ ‫َ‬ ‫يا ولدي‬
‫أهل له ّإل أنا‪ ،‬ال أستطيع أن َ‬
‫أتركه يف األرض املحتلة‬ ‫(عالء) حفيدك‪ ،‬فهو ال َ‬
‫يقيم‬
‫عمر بطلبه يومها‪ ،‬واقرتح عليه أن َ‬‫رحب ُ‬ ‫فقد كان هناك من يتتبعه”‪ّ .‬‬
‫املخيم‪ ،‬وتستأجر له مر ّبية مرصية تعتني‬
‫الطفل مع زهرة يف بيتهم الصغري يف ّ‬
‫أشياء كثرية‪ ،‬وانفتحت يف‬
‫ُ‬ ‫تغيت يف نفس باسل‬ ‫به‪ .‬انتهى ذلك اللقاء وقد ّ‬
‫أبواب كانت مغلقة من قبل‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫قلبه‬
‫مضت مخسة أشهر منذ ذلك اللقاء‪ ،‬وصار باسل واحدً ا من العائلة‪ .‬زهرة‬‫ْ‬
‫كأنا أ ّمه‪ ،‬ح ّتى أهنا سألت عمر ذات‬ ‫أكثر ً‬
‫تقبل له‪ ،‬تعامله بو ٍّد ّ‬ ‫أيضا صارت َ‬‫ً‬
‫(ميساء) ذات يوم‪ ،‬فقال هلا عمر ْ‬
‫أن‬ ‫الزواج من ْ‬
‫َ‬ ‫مرة ْ‬
‫إن كان الرجل قد ينوي‬
‫تؤجل التفكري يف هذا إىل ما بعدَ حرب التحرير املزمعة‪ .‬اليوم حني خرجوا يف‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪303‬‬
‫(ميساء) متهيدً ا‬
‫أن يسمح له بالتقرب من ْ‬ ‫ُ‬
‫باسل من عمر ْ‬ ‫نزهتهم تلك طلب‬
‫أن ابنته قد ترفض فكرة الزواج‬‫متفه ًم فهو يعرف ّ‬
‫لطلب يدها‪ ،‬ابتسم عمر له ّ‬
‫رسميا قبل أن يفاحتها يف يشء‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫من باسل ْ‬
‫إن هو تقدّ م ألبيها‬
‫التملص من يد زهرة وهي حتاول إبقاءه‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ري حياول‬
‫كان عالء الصغ ُ‬
‫ُ‬
‫باسل ور ّد‬ ‫إن هذا الولد يبدو عنيدً ا كأبيه‪ .‬ضحك‬ ‫وهتفت بباسل قائلة‪ّ :‬‬
‫نفسا عمي ًقا ّ‬
‫ثم قال هلا شيئًا عن‬ ‫وأخذ ً‬‫َ‬ ‫(ميساء)‬
‫ثم التفت إىل ْ‬‫عىل دعابتها ّ‬
‫ثم‬ ‫ٍ‬
‫بابتسامة رقيقة‪ .‬سا َد الصمت دقيقة ّ‬ ‫مجال البحرية فأ ّمنت عىل كالمه‬
‫فمه ليتكلم لكنه ارتبك فعاو َد السكوت فسألته ميساء‪“ :‬باسل‪ ...‬ملاذا‬ ‫فتح َ‬
‫“لست‬
‫ُ‬ ‫أنت ُمرتبك هكذا عىل غري عادتك!؟”‪ .‬ضحك بعصبية وهو يقول‪:‬‬
‫ٍ‬
‫بإحساس خمتلف وأنا أجلس معك اليوم‪ ،‬أشعر أننا‬ ‫ً‬
‫مرتبكا لك ّنني أشعر‬
‫قريبان من بعضنا جدًّ ا”‪.‬‬
‫تضيق عينيها كأهنا تتفحصه؛ “هل استأذنت من‬ ‫ُ‬ ‫نظرت له متأملة وهي‬
‫ْ‬
‫أدهشه كالمها فسأهلا‪“ :‬مل تقولني ذلك؟”‪.‬‬ ‫َ‬ ‫أيب َ‬
‫قبل أن تقول هذا الكالم؟”‪.‬‬
‫السادسة”‪ .‬ابتسم ومل ير ّد‪ ،‬فعقدت حاجبيها وهي تقول‪:‬‬ ‫فقالت‪“ :‬حاستي ّ‬
‫االقرتاب‬
‫َ‬ ‫االقرتاب منك منذ عرفتك‪ ،‬لك ّنك حني قررت‬
‫َ‬ ‫“أتعرف‪ ،‬أنا أحاول‬
‫ضحك فضحكت‬ ‫َ‬ ‫من شخص يف عائلتنا اقرتبت من أيب بشكلٍ أثار غرييت”‪.‬‬
‫ثم استغرقا يف الضحك حلظات قطعها بقوله‪ُ “ :‬تعجبني جرأتك”‪ .‬فقالت‬ ‫ّ‬
‫أن أقول ما يرد بخاطري‪ ،‬مل تص ْفني‬ ‫تلوح بيدها‪“ :‬ليست جرأة ْ‬‫ببساطة وهي ّ‬
‫أفصحت‬
‫ُ‬ ‫سالحا يل وتصفني باجلرأة ألنّني‬
‫ً‬ ‫توجه‬
‫وأنت ّ‬
‫باجلرأة حني شتمتك َ‬
‫عن مشاعري‪ ،‬يا حلمق الرجال!”‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪304‬‬
‫هيز رأسه متعج ًبا من طريقتها‪ ،‬فقالت له‪“ :‬هل ح ًّقا‬ ‫ضحك وهو ّ‬
‫أي رجل‬ ‫فهز رأسه مواف ًقا يف خجل‪ .‬فقالت ّإنا مع ّ‬ ‫استأذنت من أيب؟”‪ّ .‬‬
‫آخر كانت ستشعر بالغضب وتع ّنفه‪ ،‬لك ّنها معه ال متانع يف ذلك‪ .‬حانت منها‬
‫كأنا حتاول أن‬ ‫فوجدت أ ّمها تنظر نحومها يف فضول ّ‬
‫ْ‬ ‫ٌ‬
‫التفاتة اجتاه والدهيا‬
‫سألت (باسل)‪“ :‬هل أخربك أحدٌ أنّنا سنعود‬ ‫ْ‬ ‫ثم‬
‫تقرأ شفتيهام‪ ،‬فابتسمت ّ‬
‫يسمح لنا باخلروج منها ح ّتى موعد‬
‫َ‬ ‫إىل األرض املحتلة هناية األسبوع ولن‬
‫جمرد‬ ‫احلرب؟”‪ .‬عقدَ حاجبيه مستغر ًبا ّ‬
‫ثم قال يف استسالم‪“ :‬بالطبع ال‪ ،‬فأنا ّ‬
‫ٍ‬
‫فرد عادي يا سيادة املالزم”‪.‬‬
‫تتزوجني؟”‪ .‬نظر إليها‬ ‫تلتفت ملزحته وقالت بجدية‪“ :‬هل تريد أن ّ‬ ‫ْ‬ ‫مل‬
‫متسائل عن السبب الذي جيعلها مندفعة هكذا! تر ّدد‬‫ً‬ ‫بدهشة وهو يتأ ّملها‬
‫للحظة قبل أن جييبها لك ّنه حسم تر ّد َده برسعة وقال‪“ :‬نعم”‪ .‬فقالت‪“ :‬ملاذا؟‬
‫هل تريد أن تكون هناك امرأة يف حياتك والسالم‪ ،‬أم ألنّك تراين مميزة‬
‫حتبني؟”‪ .‬ر ّد عليها وهو حيك ذقنَه‪“ :‬ما حكايتك اليوم تتك َلمني‬ ‫أم ألنك ّ‬
‫“أجب أسئلتي‪ ،‬أنا لست‬
‫ْ‬ ‫باندفاع غريب!”‪ .‬فأشارت بسبابتها حمذرة وقالت‪:‬‬
‫الزواج يب؟”‪.‬‬
‫تتحرج من احلديث عام تريد‪ ،‬أجبني ملاذا تريد ّ‬ ‫جمر َد فتاة ّ‬
‫ّ‬
‫فمها وهي تقول‪“ :‬أي أنك ال‬ ‫“أنت مميزة‪ ..‬مميزة جدًّ ا”‪ .‬ابتسمت بزاوية ِ‬
‫ِ‬
‫سبابتها عىل شفتيه قبل أن ينطق‬‫فمه ليتكلم لكنها وضعت ّ‬ ‫فتح َ‬
‫حتبني!”‪َ .‬‬ ‫ّ‬
‫حبي بسهولة إذا كرسنا احلواجز‬
‫هيم‪ ...‬مادمت معج ًبا يب فستقع يف ّ‬‫قائلة‪“ :‬ال ّ‬
‫بيننا‪ ،‬أنا ً‬
‫أيضا ُمعجبة بك‪ ،‬مشدودة إليك جدًّ ا‪ ،‬ر ّبام مل أصل معك بعد لدرجة‬
‫سأتزوجه‪ ،‬ولكن‪”....‬‬
‫ّ‬ ‫احلب التي كنت أحلم بوجودها مع اإلنسان الذي‬ ‫ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪305‬‬
‫فو ّت‬
‫أموت يف احلرب القادمة فأكون ّ‬
‫ُ‬ ‫نفسا عمي ًقا ّ‬
‫ثم قالت‪“ :‬قد‬ ‫أخذت ً‬
‫ضحكت بعصبية‬
‫ْ‬ ‫ثم‬
‫عىل نفيس فرصة أن أجرب الزواج قبل أن أموت”‪ّ .‬‬
‫عريسا يف ٍ‬
‫زمن يندر فيه‬ ‫ً‬ ‫أنت فأكون قد أضعت‬
‫وأضافت‪“ :‬وقد متوت َ‬
‫العرسان”‪.‬‬

‫شعور غامر نحوها فجأة‬


‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫“أنت جمنونة!”‪ .‬قاهلا وهو يضحك وقد مأله‬
‫تسمع اجلنون بعد”‪ .‬نظر ّاتاه أبوهيا فوجدمها ينظران‬
‫ِ‬ ‫فقالت له‪“ :‬أنت مل‬
‫بحنو‪“ :‬أريد أن أستزيد من‬
‫ّ‬ ‫ناحية البحرية فمدّ يدَ ه وأمسك يدها‪ ،‬وقال‬
‫لكن قلبي خفق لك‬
‫إن كنت ستصدقينني‪ّ ،‬‬ ‫جنونك يا ميساء‪ ،‬ال أعرف ْ‬
‫ٍ‬
‫امرأة مثلام أرتبك أمامك‪،‬‬ ‫بعنف ُ‬
‫منذ رأيتك أول مرة‪ ،‬مل أرتبك أمام‬
‫أعود أقول‬
‫ُ‬ ‫نفس املشاعر‪ ،‬لكنني كنت‬
‫أشعر أنك تبادلينني َ‬
‫ُ‬ ‫أحيا ًنا كنت‬
‫ّ‬
‫مايض املخزي‪ ...‬أنا أحبك يا ميساء‪ ،‬لست‬ ‫لنفيس إنك لن تغفري يل‬
‫كائن خمتلف‪ ،‬صهرتك ظروف‬
‫جمرد فتاة تعجبني أو مناسبة للزواج‪ ،‬أنت ٌ‬
‫ّ‬
‫واستمرت بعد ذلك”‬
‫ّ‬ ‫بدأت منذ تعارف أبواك خارج كوكبنا‬
‫ْ‬ ‫استثنائية؛‬
‫ّ‬
‫ليتمكن من إكامل حديثه‪ ،‬وهي ُمنصتة وعىل‬ ‫صمت وكأنه يأخذ نفسه‬
‫دموع التأثر‪“ ..‬ميساء‪ ،‬لست‬
‫ُ‬ ‫وجهها محر ُة اخلجل واالنبهار‪ ،‬ويف عينيها‬
‫فقط فتاة مجيلة العينني‪ ،‬عذبة القسامت موفورة األنوثة‪ ،‬والمقاتلة صلبة‬
‫عنيدة وذكية فحسب‪ ،‬أنت اجتامع لصفات حلمت هبا‪ ،‬ومل أختيل أن‬
‫أجدَ ها يف امرأة‪ ،‬أنا أحبك ‪ ...‬واآلن زيديني من جنونك ماذا كنت‬
‫ستقولني؟”‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪306‬‬
‫أحبك لكن كربيائي‬ ‫أيضا ّ‬ ‫جنون يقال بعد ّ‬
‫كل هذا‪ ....‬أنا ً‬ ‫ٌ‬ ‫“وهل هناك‬
‫ثم أضافت‪“ :‬أ ّما بالنسبة‬ ‫منعني من قوهلا قبلك” قالت وهي تنظر ِ‬
‫ليده وتبتسم ّ‬
‫للجنون‪ :‬أريد ْ‬
‫أن نتزوج الليلة؛ حر ُبنا كمقاومني ستبدأ منذ األسبوع القادم‬
‫لنحرض للحرب الكربى‪ ،‬العمليات القادمة ستكون كلها عنيفة وبعضها‬
‫نخوض تلك العمليات”‪ .‬أومأ برأسه‬ ‫َ‬ ‫انتحاري‪ ،‬أريد أن نتزوج قبل أن‬
‫فابتسمت بفرحة‪ ،‬وأضافت وهي تتحاشى عينيه‪ ،‬وتتكلم بخجل‬ ‫ْ‬ ‫مواف ًقا‬
‫يل ألقا ًبا مثل‬ ‫ألول ٍ‬
‫مرة منذ عر َفها‪“ :‬ال أريد أن أموت عذراء فيطلقون ع َّ‬ ‫ّ‬
‫فضحك بصوت عال وهو يقول‪“ :‬اطمئني‬ ‫َ‬ ‫عذراء الثورة وبتول املقاومة”‪.‬‬
‫ِمن هذه الناحية”‪.‬‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪307‬‬
‫السادس‬
‫القسم ّ‬
‫ُ‬
‫معركة ال ّدرع المكسور‬
‫ُ‬

‫لما بنوا‬ ‫َ‬


‫يحتفلون به؛ َ‬ ‫الناس ما فعلناه من أجل النصر الذي‬
‫ُ‬ ‫يعلم‬
‫“لو ِ‬
‫الرؤوس المقطوعة واألطراف‬ ‫النصب ال ّتذكاري من الصخور؛ بل من ّ‬
‫َ‬ ‫هذا‬
‫المنتزَ َعة”‬
‫المبتورة واألحشاء ُ‬
‫امللك العظيم دريك‬
‫‪42‬‬
‫األرض املحتلة (التي أسامها الغزا ُة بدولة أديتيا األرض) كانت مفصولة‬ ‫ُ‬
‫بحدود مع ّقدة شديدة املناعة‪ .‬كانت تلك احلدود‬ ‫ٍ‬ ‫عن ما ُييط هبا من العامل‬
‫ٍ‬
‫واحد‬ ‫ارتفاع الواحد منها مخسة أمتار‪ ،‬ويبعد ّ‬
‫كل‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫أعمدة يبلغ‬ ‫عبارة عن‬
‫تشكل مع موجات العمود‬ ‫ويبث موجات قوية ّ‬ ‫ّ‬ ‫عن اآلخر بخمسني م ً‬
‫رتا‪،‬‬
‫جسم مادي‪ -‬سواء كان إنسا ًنا أو حيوا ًنا‬‫ٍ‬ ‫أي‬
‫حاجزا ال يسمح بعبور ّ‬
‫ً‬ ‫املجاور‬
‫املقوى‪ .‬كانت الفرصة الوحيدة لعبوره‬ ‫حجرا‪ -‬كأنّه حاجز من الزجاج ّ‬ ‫ً‬ ‫أو‬
‫يمر من خالهلا‬ ‫ٍ‬
‫ثوان ّ‬ ‫استخدام جهاز يفتح فجوة صغرية تدوم عدّ ة‬‫َ‬ ‫هي‬
‫املقاومون وهيربون منها ما يريدون‪.‬‬
‫ٍ‬
‫مسافات متساوية تقدّ ر بكيلومرت تقري ًبا كانت توجدُ نقاط حراسة‬ ‫عىل‬
‫ومزودان بمركبة رسيعة وأسلحة بعضها أريض‬ ‫ّ‬ ‫صغرية ُ‬
‫يقف فيها جنديان‪،‬‬
‫موجية ّ‬
‫تعطل أجهزهتم‬ ‫ّ‬ ‫يستخدم يف حالة ما إذا قام أحدُ هم بإطالق قنبلة‬
‫كل عدة كيلومرتات كان يوجد ّ‬
‫خط الدفاع األسايس‬ ‫وأسلحتهم املتقدمة‪ّ .‬‬
‫فداني عىل األقل‪،‬‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫مساحة الواحد منها‬ ‫عن تلك احلدود‪ٍ ،‬‬
‫مبان ُم ّصنة تبلغ‬
‫مدرعة تقليدية‬
‫جمهزة بأطقم من املقاتلني املدربني ومركبات طائرة وعربات ّ‬ ‫ّ‬
‫تعمل بالوقود العادي‪.‬‬
‫احلصون مس ّلح ًة بمزيج من األسلحة األديتية اإللكرتونية‬
‫ُ‬ ‫كانت تلك‬
‫أيضا‪ ،‬وعىل أسطح‬ ‫ِ‬
‫وجود القنابل املوجية ً‬ ‫وأسلحة نارية تقليدية تعمل يف‬
‫أي أهداف متحركة‬ ‫ات تعمل بالذخرية التقليدية لقصف ّ‬ ‫مدفعي ٌ‬
‫ّ‬ ‫تلك املباين‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪311‬‬
‫أي تقنيات‬‫لثامنينيات القرن العرشين خالية متا ًما من ّ‬
‫ّ‬ ‫كانت أسلحة تنتمي‬
‫إلكرتونية‪ .‬كانت احلصون متواجد ًة عىل مسافات ترتاوح من مخسة إىل مخسة‬
‫رتا حسب أمهية املنطقة احلدودية ومدى انكشاف ما حييط هبا‪.‬‬‫وعرشين كيلوم ً‬
‫أن األرضيني قد يستطيعون‬ ‫وعي ّ‬
‫ٍ‬ ‫كان النياندرتال (األديتيون) عىل‬
‫موجية ّ‬
‫تعطل قدراهتم اإللكرتونية سواء بابتكارها وتصنيعها‬ ‫ّ‬ ‫التوصل لقنابل‬
‫املهربني األديتيني أو من املقاومني املناهضني للحكومة؛‬
‫أو برشائها من ّ‬
‫ودربوا رجاهلم‬ ‫ٍ‬
‫بأسلحة عادية خفيفة وثقيلة‪ّ ،‬‬ ‫فجهزوا ّ‬
‫كل املقار احلدودية‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫لتدريب رجاهلم‪ ،‬وللقتال‬ ‫عليها بشكل جيد‪ ،‬كام استعانوا بمرتزقة أرضيني‬
‫يف صفوفهم ً‬
‫أيضا إذا لزم األمر‪.‬‬
‫عىل مدار الشّ هور الثالثة السابقة للهجوم الشامل‪ ،‬كان هناك حمارضات‬
‫وتدريبات شبه يومية عىل كيفية اقتحام تلك املباين احلصينة والتعامل مع‬
‫ٌ‬
‫تتم يف داخل األرايض املحتلة وخارجها؛‬
‫املوجودين فيها‪ .‬كانت التدريبات ّ‬
‫كل ذلك كان املرحل َة التحضريية التي أطلقت‬ ‫يف مرص وسوريا وتركيا‪ّ .‬‬
‫اسم “معركة الدرع املكسور؟”‪.‬‬‫عليها قوات التحالف َ‬
‫يف تلك األثناء‪ ،‬كانت هناك ُ‬
‫بعض العمليات ضدّ القوات املحتلة بالوترية‬
‫تتم‬
‫وتفخيخ هناك‪ ،‬ورسقة أجهزة ومعدات‪ ،‬كام كانت ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ا ُملعتادة؛ كمني هنا‬
‫ُ‬
‫الغرض من تلك العمليات‬ ‫بالضبط َ‬
‫قبل الدخول يف املرحلة التحضريية‪ .‬كان‬
‫أن هناك مقاومة نشطة كاملعتاد تقوم بعمليات لزعزعة‬‫هو إشعار قادة االحتالل ّ‬
‫استقرار احلكومة األديتية ح ّتى ال يفطن القاد ُة لوجود يشء غري طبيعي‪ ،‬وكذلك‬
‫يتم النجاح يف رسقتها‪.‬‬ ‫ِ‬
‫لزيادة اإلمدادات من املعدّ ات األديتية التي ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪312‬‬
‫قبل بدء “معركة الدرع املكسور” بيو ٍم واحد‪ ،‬كانت هناك حمارضات‬‫َ‬
‫مقار املقاومة‪ .‬يف إحداها‪ ،‬وقف العقيد عامد يعيد رشح‬
‫كل ّ‬‫توجيهية يف ّ‬
‫ّ‬
‫ُ‬
‫املجموعة املوجودة جتلس‬ ‫اخلطة عىل أذهان احلارضين‪ .‬كانت‬ ‫تفاصيل ّ‬
‫(ميساء) إىل جوار املقدم (إياد)‪ ،‬وجمموعة أخرى من ضباط‬
‫يف مقدمتها ْ‬
‫نحو ثالثني من األفراد املشاركني معهم‪.‬‬
‫املخابرات وخلفهم َ‬
‫كانت أما َمه شاشة فراغية عليها خريطة جلنوب القاهرة‪ ،‬وبدأ يرشح‬
‫فجرا‬
‫ً‬ ‫مهمتها بالضبط؛ “ستقوم فرقتنا باهلجوم يف متام الثالثة‬ ‫للفرقة ّ‬
‫شارحا‬
‫ً‬ ‫عىل النقطة رقم ‪ 3‬وهي املوجودة غرب النيل مبارشة هنا”‪ .‬قال‬
‫وأشار عىل نقطة يف اخلريطة كانت جز ًءا من كورنيش املعادي َ‬
‫قبل الغزو‬ ‫َ‬
‫رب‬
‫ثالث جمموعات‪ ،‬ستهاجم جمموعتان من ال ّ‬ ‫ِ‬ ‫ثم أكمل‪“ :‬ستنقسمون إىل‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫شامل وغر ًبا‪ ،‬بينام ستهجم املجموعة الثالثة من النيل بعدَ قيامها بالغطس‬
‫مسافة قصرية”‪.‬‬
‫شارحا أماكن‬
‫ً‬ ‫فظهر ّ‬
‫خمطط املبنى‪ ،‬ومىض‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ضغط عىل الشاشة الفراغية‬
‫تنبيها باخلطط‬ ‫نقاط معادة‪ ،‬لكنه أضاف يف ّ‬
‫كل نقطة ً‬ ‫االقتحام وكيفيته وهي ٌ‬
‫البديلة يف حال حدوث طارئ‪“ :‬كام تعلمون سيكون هناك ٌ‬
‫فرق مثلكم عىل‬
‫كل تلك املباين احلصينة يف التوقيت ِ‬
‫نفسه من‬ ‫طول احلدود ستقوم بمهامجة ّ‬
‫اإلسكندرية يف مرص وحتى إزمري يف تركيا”‪.‬‬
‫ثم أضاف‪“ :‬بعد‬ ‫وظهرت خريطة للحدود ّ‬
‫ْ‬ ‫عدّ ل املشهد يف الشاشة‪،‬‬
‫القوات جاهزة القتحام احلدود‬
‫ُ‬ ‫سيطرة ِ‬
‫فرقكم عىل املباين احلصينة ستكون‬
‫االقتحام بإطالق قنابل موجية‬
‫ُ‬ ‫بعد مخسني دقيقة من بدْ ء عمليتكم‪ ،‬سيبدأ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪313‬‬
‫قوات املشاة واملدرعات‪ ،‬ولن يكون‬
‫ُ‬ ‫متزامنة عىل طول احلدود بعدَ ها تقتحم‬
‫هناك إمكانية للسالح اجلوي يف تلك املرحلة كام تعلمون”‪.‬‬
‫قائل‪“ :‬سيدي‪ ،‬ماذا لو مل ّ‬
‫نتمكن من السيطرة عىل‬ ‫سأل أحدُ احلارضين ً‬ ‫َ‬
‫“سيؤخر‬
‫ّ‬ ‫ني بأكمله يف ذلك الوقت القصري!؟”‪ .‬فأجاب العقيد‪:‬‬ ‫املبنى احلص ِ‬
‫الدبابات بقصف املبنى‬
‫ُ‬ ‫ذلك تقدم القوات التي ستع ُرب يف نطاقكم‪ ،‬وسوف تقوم‬
‫تتوجه إىل خطتها املرسومة ولكن متأخرة‪ ..‬قد‬
‫ثم ّ‬ ‫بعنف ح ّتى تسقط دفاعاته‪ّ ،‬‬
‫أيضا يف مرمى نريان‬ ‫َ‬
‫تكونون أنتم ً‬ ‫يكون هناك بعض اخلسائر يف صفوفها وقد‬
‫قواتنا”‪ .‬فسأل ثانية‪“ :‬وما ّاتا ُه القوات التي ستعرب من نطاقنا؟”‪ّ .‬‬
‫مط العقيد‬
‫حرب‬
‫ٌ‬ ‫أن تعرف ّإل اجلزء ّ‬
‫املوكل إليك‪ ...‬هذه‬ ‫شفتيه وقال بحزم‪“ :‬ال هيمك ْ‬
‫رب والبحر‪ ،‬وجيب‬
‫عرشين دولة‪ ،‬ستهاجم من ال ّ‬
‫َ‬ ‫عاملية ستشرتك فيها قوات من‬
‫وعدم شغل ِ‬
‫رأسه بمهمة غريه”‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫مهمته بدقة‪،‬‬ ‫كل ٍ‬
‫فرد يشارك فيها تنفيذ ّ‬ ‫عىل ّ‬

‫أهنى مجلتَه وأطفأ الشاشة املجاورة له‪ ،‬وقال‪“ :‬لقد انتهى اجلزء التخطيطي‬
‫ثم قال “ما سأقوله اآلن‬ ‫َ‬
‫وجال بيعينيه يف عيوهنم ّ‬ ‫من هذه املحارضة”‪ .‬صمت‬
‫كالم من قلبي لكم”‪ .‬بدَ ا التأثر عىل وجهه وهو ما أثار دهشة وترقب‬ ‫هو ٌ‬
‫حرب أكتوبر‪ ،‬واملانع املستحيل‬
‫َ‬ ‫ريا كانوا يدرسون لنا‬
‫كنت صغ ً‬
‫أكثرهم “حني ُ‬
‫خط بارليف‪ ،‬وكانت نقاطه‬ ‫اسمه ّ‬ ‫الذي عربه جنودنا يف ذلك اليوم‪ ،‬كان ُ‬
‫أن ال أحد يمكنه أن يؤذهيا‪َ ،‬‬
‫اآلن‬ ‫يظن الناس ْ‬
‫احلصينة كالوحوش الرابضة‪ّ ،‬‬
‫مانع‬
‫حرب تبدأ باقتحام ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫وأنا أكلمكم أستشعر تلك األجواء بشدة‪ ،‬أجواء‬
‫أثر كالمه عليهم‬
‫أمجع الكل عىل استحالة اقتحامه”‪ .‬تأمل وجوههم لريى َ‬ ‫َ‬
‫وأن احلرب خمتلفة متا ًما‪ ،‬لكن املبدأ واحد‪،‬‬‫أن الزمن تغري‪ّ ،‬‬ ‫“أعلم ّ‬
‫ُ‬ ‫وأكمل‪:‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪314‬‬
‫مانعا رغم اختالف طبيعته‪ ...‬جدودكم منذ سبعني عا ًما‬ ‫رب ً‬ ‫وهو أننا سنع ُ‬
‫فعلوها وكانوا متس ّلحني بإيامهنم َ‬
‫أكثر من ما كانوا متسلحني ببنادقهم”‪.‬‬
‫ُ‬
‫“املفارقة الغريبة‬ ‫متحمسة بينهم‪ ،‬فابتسم وهو يضيف‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫مههامت‬
‫ٌ‬ ‫رست‬
‫ْ‬
‫ٍ‬
‫أسلحة عتيقة تشبه تلك التي كانت‬ ‫ِ‬
‫موجة اهلجوم األوىل إىل‬ ‫أننا سنلجأ يف‬
‫تستخدم أيامها ألنّنا نحتاج إىل ّ‬
‫كل ما هو ال يعتمدُ عىل التكنولوجيا احلديثة‪،‬‬
‫واملفارقة األغرب ّ‬
‫أن َمن ك ّنا نحارهبم يف القرن املايض حياربون معنا اليوم‬
‫أخطر ما يف معركة الدّ رع املكسور؛ هي مفصل‬
‫ُ‬ ‫يف اخلندق نفسه‪ ،‬مهمتكم‬
‫باسم وطنكم مرص‪،‬‬
‫نجاحها والعامل كله يعتمد عليكم‪ ...‬أن ُتم حتاربون ْ‬
‫وباسم احلق والعدالة”‪.‬‬
‫وباسم البرشية كلها‪ْ ،‬‬
‫ْ‬
‫أن الوقت مناسب جدًّ ا‬ ‫وخطر مليساء ّ‬
‫َ‬ ‫ٌ‬
‫سكون مهيب‪،‬‬ ‫فعم املكان‬
‫صمت ّ‬
‫َ‬
‫فعل ذلك‪ .‬كانت دو ًما تشعر أن‬ ‫املقار ُ‬ ‫ٍ‬
‫لتصفيق حا ّد لوال أنّه ال جيوز يف تلك ّ‬
‫مثل تلك اخلطب احلامسية ختلو من اإلحساس احلقيقي‪ ،‬وإنّام جمرد كلامت‬
‫أحست‬ ‫دون أن يكون هلا ٌ‬
‫أصل يف قلبه‪ .‬يف هذا اليوم ّ‬ ‫يبثها ليحمس مستمعيه َ‬
‫ُ‬
‫فتنرش فيه قشعريرة‬ ‫حتت جلدها‬ ‫خترتق كياهنا وترسي َ‬ ‫ُ‬ ‫أن الكلامت هتزها‪،‬‬
‫كل مكان‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الشعرات اخلفيفة ال ّنابتة عليه يف ّ‬ ‫توقف‬
‫بعدَ املحارضة رصفهم القائدُ ليستعدّ ّ‬
‫كل منهم ملهمته‪ ،‬يراجع معداته‬
‫وأسلحته‪ ،‬ويأخذ ً‬
‫قسطا من الراحة‪ ،‬ويتناول وجب ًة خفيفة قبل االنطالق‬
‫الزي املدرع األديتي بكامل‬
‫(ميساء) تراجع معداهتا؛ ّ‬ ‫جلست ْ‬
‫ْ‬ ‫نحو اهلدف‪.‬‬
‫إمكانياته‪ ،‬جهاز املعصم املعدّ للتشويش عىل الطائرات الدقيقة بطريقة ال‬
‫يكتشفها من جيلس يف غرفة التحكم فيها‪ ،‬السالح األديتي الذي ُيرتدَ ى يف‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪315‬‬
‫ريا مسدسان عاد ّيان‪،‬‬ ‫قبضة ِ‬
‫اليد والذي متقته‪ ،‬قذائف تعطيل الدّ روع‪ ،‬وأخ ً‬
‫وذخرية‪ ،‬وسكني‪ ،‬وعلبتا طعام جمفف‪.‬‬
‫فر َد ْت جسدها عىل الفراش الصغري املعدّ هلا‪ ،‬وأخذت تفرك خاتم‬
‫صب‬
‫وعن ّ‬ ‫َ‬
‫ترصف ذهنها عن التفكري يف (باسل)‪ْ ،‬‬ ‫زواجها وهي حتاول أن‬
‫لعناهتا عىل القادة الذين مل يسمحوا هلام باالشرتاك يف جمموعة واحدة‪ ،‬وحتى‬
‫وكأنم كانوا‬ ‫ُ‬
‫سيلتحق هبا زوجه ّ‬ ‫ِ‬
‫ألحدمها بمعرفة املجموعة التي‬ ‫مل يسمحوا‬
‫ضدّ فكرة زواجهم من األساس‪.‬‬
‫فعليا بزواجها ّإل مدّ ة ألسبوع الذي َتل قرارمها بالزواج‪ .‬أظهر‬
‫مل هتنأ ًّ‬
‫رغم رغبته فيه‪ ،‬وأصيبت‬ ‫ِ‬
‫بطريقة قبوهلا هلذا الزواج َ‬ ‫رب ًما يف البداية‬
‫أبوها ت ّ‬
‫أ ّمها بخيبة أملٍ فقد كانت تتم ّنى أن يستعدوا لزفاف ابنتها الوحيدة بشكل‬
‫تم‪ ،‬وعقد قراهنا عىل باسل يف ذات اليوم‪.‬‬‫(ميساء) ّ‬
‫أفضل‪ ،‬لكن ما أرادته ْ‬
‫السخنة‪ ،‬وتركا (عالء) مع والدهيا‪ ،‬ومكثا‬
‫سافرا يف اليوم التايل إىل العني ّ‬‫َ‬
‫توصف‪ .‬اتفقا ُ‬
‫منذ اللحظة األوىل عىل‬ ‫مخسة أيام كانت َ‬
‫أمجل يف قلبها من أن َ‬
‫ِ‬
‫تناول أقراص هلذا الغرض‪.‬‬ ‫ّأل يكون هناك ٌ‬
‫محل يف تلك الفرتة وبدأت يف‬
‫بعدَ تلك اإلجازة الصغرية عادا إىل األرض املحتلة ُ‬
‫وض َّم (باسل) ملجموعة‬
‫خمتلفة‪ ،‬وصارت لقاءاهتام متباعد ًة‪ ،‬يف العادة ساعات قصرية لك ّنها تعوض‬
‫ري من حنني البعد‪.‬‬
‫الكث َ‬
‫اليوم الذي د ّبر هلام ماندريك فيه رحلة قصرية إىل‬
‫َ‬ ‫ابتسمت وهي تتذكر‬
‫ْ‬
‫قضت أسابيع قبلها‬
‫ْ‬ ‫ختضع بالكامل لرجال املقاومة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫كوكب أديتيا يف جزيرة‬
‫وتوسلت إليه‬
‫ّ‬ ‫أسبوعا هناك‪،‬‬
‫ً‬ ‫ِ‬
‫حماولة إقناعه بإرساهلا هي وباسل ليقض َيا‬ ‫يف‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪316‬‬
‫أسبوعا عن األرض‬
‫ً‬ ‫تغيب‬
‫حتجج هلا بأهنا من املستحيل أن َ‬ ‫ني ّ‬‫بكل السبل‪ .‬ح َ‬
‫طلبت منه أن يعيدَ مها بطريقة تعيدمها لنفس اليوم الذي‬
‫ْ‬ ‫دون أن يالحظ أحد‪،‬‬
‫قديم‪ .‬قال يومها‪“ :‬هذه فكر ٌة مستحيلة‪،‬‬‫مع أبوهيا ً‬‫انتقال فيه كام فعل املقاومون َ‬
‫مهندس عبقري‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ما حدث مع أبويك كان باستخدام جها ٍز معدّ ل ابتكره‬
‫ِ‬
‫عودة أبيك‪ ،‬و ُقتل هذا املهندس يو َمها‬ ‫ُ‬
‫اجلهاز يف أثناء‬ ‫ولألسف احرتق ذلك‬
‫عىل يد رجال أناندار الكبري‪ ،‬ومل يستطع أحدٌ أن ّ‬
‫يكرر تلك التجربة”‪.‬‬
‫بعدَ إحلاح شديد وافقَ ماندريك عىل إرساهلام ليومني اثنني دون أن يعرف ّ‬
‫أي‬
‫شخص‪ ،‬وبالفعل حت ّقق حلمها وقضت مع (باسل) هناك يومني يف اجلو الذي‬
‫تقص عليها أمها مجال املكان هناك‪.‬‬
‫منذ صغرها حني كانت ّ‬ ‫حلمت به كث ًريا ُ‬
‫ْ‬
‫ِ‬
‫وأطفأت الضو َء وحاولت أن تنام‪ .‬بدأت عيناها‬ ‫نفسا عمي ًقا‬
‫أخذت ً‬‫ْ‬
‫ريا توطئ ًة لالستغراق يف النوم‪ ،‬وبدأت تتوارد‬
‫تغفوان ويصبح فتحهام عس ً‬
‫اخلواطر املهزوز ُة عن الغد‪ ،‬وما ينتظرها فيه‪ْ ،‬‬
‫لكن قبل أن يسبح عقلها يف‬
‫طرقات خفيفة عىل باب غرفتها‪ ،‬فاعتدلت وقالت‪َ “ :‬من‬‫ٌ‬ ‫بح ِر النوم ّنبهتها‬
‫مرة واحدة‪.‬‬
‫وفتح الباب ّ‬
‫ينتظر َ‬
‫ْ‬ ‫لكن الطارق مل‬ ‫بالباب؟”‪ّ .‬‬
‫ري مصدقة لتلك املفاجأة‪ ،‬فهناك عىل باهبا‬‫اتّسعت عيناها بذهول غ َ‬
‫كان (باسل) واق ًفا‪ ،‬وعىل وجهه ابتسامة عريضة‪ .‬قالت وهي مل تفقْ من‬
‫املفاجأة بعد‪“ :‬باسل‪ ..‬كيف جئت إىل‪ ”...‬مل تكمل ُجلتها فقد قاطعها حني‬
‫ونظر إليها بشوق‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫إكامل احلديث‪ .‬أبعدَ وجهه عنها‬ ‫لثم شفتيها ومنعها من‬
‫َ‬
‫مرة أخرى ُبق ْبلة ملهوفة‬
‫جارف‪ ،‬فحاولت أن تكمل تساؤهلا لك ّنه قاطعها ّ‬
‫وجده وشوقه‪.‬‬
‫ري من ْ‬ ‫وضمة قوية أفرغ فيها الكث َ‬
‫ّ‬ ‫غامرة‪،‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪317‬‬
‫تذكرت شيئًا ُم ًّ‬
‫هم‪:‬‬ ‫ثم قالت كأهنا ّ‬ ‫األبواب ّ‬
‫َ‬ ‫أبعدتْه عنها برفق‪ ،‬وغ ّلقت‬
‫ِ‬
‫أتناول األقراص منذ أسبوع”‪ .‬فقال هلا‪“ :‬مل نعدْ نحتاجها‪ ،‬احلرب بعدَ‬ ‫“أنا مل‬
‫ساعات دعينا ْ‬
‫إن نجونا منها نعش ثالثة ال اثنني”‪.‬‬

‫كالمه ومألها بسعادة مل تتو ّقعها‪ّ ،‬‬


‫ثم استسلمت‬ ‫نظرت له وقد فاجأها ُ‬
‫ْ‬
‫مؤجلة تساؤالهتا عن كيف ومتى جاء‪ .‬خلعت عنها ردا َء‬
‫للحظتها معه ّ‬
‫ِ‬
‫حضن نشوة عارمة‬ ‫وارمتت معه يف‬
‫ْ‬ ‫املقاتلة اجلادة وارتدت جلدَ العاشقة‬
‫قوس كامنه‬
‫بدأها هو وأكملتها هي وكأهنام عازفان منفردان يشدّ أحدمها َ‬
‫جواب منها وقرار منه‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ثم‬
‫وتر عوده‪ ،‬جواب منه وقرار منها‪ّ ،‬‬ ‫فيفلت اآلخر َ‬
‫ُ‬
‫صمت قصري ال‬
‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫يعزفانا بنغمة مرتفعة سا َد بعدها‬ ‫السوناتا التي‬ ‫ِ‬
‫انتهت ّ‬ ‫ح ّتى‬
‫يسمع فيه ّإل أنفاسهام‪.‬‬
‫بصوت خفيض‪“ :‬كيف جئت‬ ‫ٍ‬ ‫دفنت رأسها يف صدره وهي تتساءل‬
‫ْ‬
‫ً‬
‫متأمل عينيها كأنه‬ ‫ومسح بعينيه عىل وجهها‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫مبتسم‬ ‫نظر إليها‬
‫إىل هنا؟!”‪َ .‬‬
‫نفسا عمي ًقا دون أن يتكلم‪.‬‬ ‫َ‬
‫وأخذ ً‬ ‫ثم ّقبلها عىل جبينها‬
‫مرة‪ّ ،‬‬
‫يرامها ألول ّ‬
‫جيبه‪،‬ا لدرجة ّأنا قالت‪:‬‬
‫فقالت له بإحلاح‪“ :‬ألن ختربين كيف جئت هنا؟”‪ .‬مل ْ‬
‫“أنا أحلم‪ ..‬أليس كذلك؟!”‪ .‬داعبها ِ‬
‫بيده بطريقة عابثة وهو يقول‪“ :‬ها‪...‬‬
‫هل حتلمني‪ ..‬أعتقد أن هذه طريقة ّ‬
‫للتأكد أفضل من القرص”‪ .‬ر ّدت عليه‬
‫عمت‬
‫الرعشة اجلذلة التي ّ‬
‫وهي جتعد أنفها وما بني عينيها كأهنا تتغلب عىل ّ‬
‫فتنهدت وجذبته من‬
‫“كف عن هذا وأجبني”‪ .‬داعبها ثانية ّ‬ ‫جسدَ ها قائلة‪َّ :‬‬
‫ثم غابا ثانية يف سوناتا جديدة‪.‬‬
‫رأسه‪ّ ،‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪318‬‬
‫موعد االنطالق” قالت له ثم زفرت بحنق وكأن‬ ‫ِ‬ ‫“بقي ساعتان عىل‬
‫تريدين معرفة كيفية‬‫َ‬ ‫انقضاء الوقت خينقها‪ .‬نظر إليها وسأهلا‪“ :‬هل مازلت‬
‫وسطت أباك‬ ‫رأسها باإلجياب دون أن تتكلم‪ ،‬فقال‪“ :‬لقد ّ‬ ‫فهزت َ‬ ‫جميئي؟”‪ّ .‬‬
‫وماندريك وقائدَ جمموعتي الذي أنقذت حيا َته يف آخر مهمة لكي حيصلوا‬
‫معا‬‫وحجتي هو أننا لو ك ّنا ً‬
‫ّ‬ ‫أن أكون معك‪،‬‬ ‫يل عىل موافقة‪ ،‬ويف النهاية وافقوا ْ‬
‫ثم قالت وهي‬ ‫وقبلت خدّ ه ّ‬
‫ذهنيا كام لو ك ّنا بعيدين”‪ .‬ابتسمت ّ‬
‫فلن نتش ّتت ًّ‬
‫تقوم‪“ :‬ووافقوا بسهولة؟”‪ .‬فأجاب‪“ :‬مل يقتنع القائدُ ّإل بعد أن سألني عن ما‬
‫ٍ‬
‫وحش‬ ‫سيتحول اآلخر إىل‬
‫ّ‬ ‫سيحدث لو مات أحدُ نا بني يدي اآلخر‪ ،‬فقلت له‬
‫يلتهم أعداءه كام كان حيدُ ث يف األفالم القديمة”‪.‬‬
‫السبب هل كان خوفها‬
‫َ‬ ‫ملجرد ذكر تلك الفكرة‪ ،‬ومل تعرف‬ ‫َ‬
‫انقبض قل ُبها ّ‬
‫عليه أم خوفها من املوت‪ ،‬قالت وهي تعيدُ دفن رأسها يف صدْ ره ملتمسة‬
‫قدر ما أخشى عليك من‬ ‫إضافيا‪“ :‬أتعرف‪ ..‬أنا ال أخشى من مويت َ‬ ‫ًّ‬ ‫أما ًنا‬
‫للمرة الثانية”‪ .‬عقدَ بني حاجبيه وهو‬
‫ّ‬ ‫صدمتك لف ْقد زوجتك بني يد ْيك‬
‫َ‬
‫وسطهم ح ّتى‬ ‫متأمل قبل أن يقول‪“ :‬لو فقدتك فسألقي بنفيس‬‫ً‬ ‫ينظر إليها‬
‫عن تلك اخلواطر‬
‫يكف ْ‬‫تلوح بيدهيا له أن ّ‬
‫فقالت وهي ّ‬
‫ْ‬ ‫أموت وأنا أقتلهم”‪.‬‬
‫حافظا‪ ..‬لو سمعتنا أ ّمي اآلن ونحن نتحدث لتشاءمت‬ ‫ً‬ ‫خري‬
‫السوداء‪“ :‬اهلل ٌ‬
‫ومنعتني من القتال”‪.‬‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪319‬‬
‫‪43‬‬
‫يشعر ماندريك يف حياته بثقلِ أنفاسه كام كان يشعر يف ذلك اليوم‪ .‬كان‬ ‫ْ‬ ‫مل‬
‫وهم يستعدون‪ ،‬يروحون وجييئون‪ ،‬يمرحون‬ ‫ً‬
‫متأمل اجلنو َد اليافعني ُ‬ ‫جيلس‬
‫ُ‬
‫ٌ‬
‫ضابط برتبة كبري‪ ،‬وما إن‬ ‫يمر عليهم‬‫ويصخبون‪ ،‬يقطعون صخبهم حني ّ‬ ‫ْ‬
‫الصخب من جديد‪ .‬كان يراقب من مكانه‬
‫ُ‬ ‫خيتفي من أمام عيوهنم ح ّتى يعود‬
‫بدل من أن يكون مث َلهم ً‬
‫شاعرا‬ ‫تصطف‪ ،‬والعربات تتكدس‪ ،‬وهو ً‬ ‫ّ‬ ‫الدبابات‬
‫ٍ‬
‫وقلق حياول أن يعرف سب ًبا له غري‬ ‫يشعر بضيق‬
‫ُ‬ ‫بذلك احلامس املتوتر‪ ،‬كان‬
‫رائحة احرتاق البنزين اخلانقة التي مل يعتدْ ها من قبل‪.‬‬
‫كمن يبحث بني األنقاض عن آثار العبوة الناسفة‬ ‫أخذ يق ّلب خبايا نفسه َ‬‫َ‬
‫بيت اليقني والطمأنينة الذي كان يعيش فيه‪ .‬تساءل إن كان‬ ‫التي هدمت َ‬
‫است ّله هو‬ ‫السبب ذلك القرار املؤمل الذي ّاتذه منذ شهور َ‬
‫وتركه جر ًحيا بنصلٍ ْ‬
‫زرع كبسولة سا ّمة حتت جلدها حني كانت‬ ‫بيده هو‪َ ،‬‬‫بنفسه‪ .‬هريمني ماتت ِ‬
‫خمدّ رة ح ّتى تكون وسيلته لتنفيذ العدالة يف حال فشلِ القضاة يف إدانتها‪.‬‬
‫يمكن أن تفلت من‬‫ُ‬ ‫نفسه قاض ًيا ألهنا اعرتفت له بجريمتِها‪ ،‬رأى أهنا ال‬
‫عي َ‬‫ّ‬
‫أن منافسيه يف قيادة املقاومة‬ ‫يعلم ّ‬
‫العقاب بعدَ جريمة بتلك البشاعة‪ ،‬وألنه ُ‬
‫ألنا حبيبته القديمة‪.‬‬‫األديتية سيقولون إنّه هو من جعلها تفلت من القصاص ّ‬
‫علم بقراره كان (باسل)؛ رأى ّ‬
‫أن من حقّ الرجل أن يشفي‬ ‫الوحيدُ الذي َ‬
‫خاصة أنّه أثبت شجاع ًة استثنائية يف طلب الثأر‪ ،‬وهو ٌ‬
‫أمر يعترب‬ ‫ّ‬ ‫غليله‪،‬‬
‫الس كام جيب أن يصان‪.‬‬ ‫أن (باسل) َ‬
‫صان ّ‬ ‫مفخرة يف أديتيا‪ ،‬واحلقّ ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪320‬‬
‫“بالتأكيد ليس هذا هو السبب يف شعوري بالضيق اآلن” قال لنفسه؛ هذا‬
‫مر بمراحل الندم واألمل والتربير والرشعنة‬ ‫ُ‬
‫احلدث أخذ وقته من التفكري‪ّ ،‬‬
‫مر بلحظات احلنني اجلارف ملَن كانت تسكنه يو ًما‪ ،‬وأهنى حياهتا‬ ‫والشيطنة‪ّ ،‬‬
‫رصخات يف نفسه ختربه أنّه قتلها‬
‫ٌ‬ ‫بيديه‪ .‬ترددت عىل مدار الشهور السابقة‬
‫ربه أمله عىل فعل‬ ‫ً‬
‫حارضا أمامه‪ ،‬قد جي ُ‬ ‫جرحا‬
‫فستظل ً‬‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫سجن‬ ‫ألهنا لو عاشت يف‬
‫يزورها يف سجنها وجيدّ د ما بينهام أو يضعف يو ًما ما‬ ‫َ‬ ‫أشياء ال تليق به كأن‬
‫عاشت ستكون نقطة‬ ‫ْ‬ ‫وخيون نفسه ويساعد يف هتريبِها من السجن‪ .‬كانت لو‬
‫عن نفسه دو ًما‬‫ضعف خطرية قد تقيض عىل آمالِه وطموحاته التي تراوده ْ‬ ‫ٍ‬
‫وال يبوح هبا ألحد؛ طموحات تراود أي ثائ ٍر يف اجللوس عىل كريس َمن يثور‬
‫قصاصا وال عقا ًبا؛ بل‬
‫ً‬ ‫بكل وضوح‪“ :‬مل تقت ْلها‬ ‫عليهم‪ .‬تقول الرصخات له ّ‬
‫نفسك فقط‪ ،‬قتلتها ألنّك أجبن من أن تواجهها”‪.‬‬ ‫قتلتها من أجل ِ‬

‫سبب انقباض روحه‬


‫اهلواجس هي َ‬
‫ُ‬ ‫عا َد يتساءل؛ هل يعقل أن تكون تلك‬
‫روح هريمني وتزوره يف هذا الوقت احلرج قبل‬ ‫ِ‬
‫وضيق صدره‪ ،‬هل تنتقم منه ُ‬
‫هدير مركبة مرتفع وسحابة من الدخان‬
‫سيل أفكاره ُ‬ ‫حرب شاملة! قطع َ‬‫ٍ‬ ‫بدء‬
‫ويسب قائدها‬
‫ّ‬ ‫وجهه وجعلته يسعل‬
‫ماسورة عادمها‪ ،‬وغمرت َ‬‫ِ‬ ‫خرجت من‬
‫احلممات ليغسل وجهه وعينيه‬ ‫ثم يقوم من مكانه وي ّتجه إىل ّ‬
‫بلغته األديتية ّ‬
‫من أثر الدخان‪.‬‬
‫نفسه ثانية ويقلب األنقاض باح ًثا عن‬
‫عا َد إىل جلسته بعد قليل‪ ،‬وعاد يسأل َ‬
‫وهم داخلون للمعركة‬ ‫منظره هو واألديتيني من املقاومة‪ُ ،‬‬ ‫ِ‬
‫سبب انقباضه وقلقه‪ُ .‬‬
‫عىل دبابات األرضيني وبني صفوفهم؛‪ ،‬يثري التساؤل عن حقيقة ما يفعلونه؛‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪321‬‬
‫وعن أخالقيته‪ .‬حني قاوموا جن ًبا إىل جنب مع األرضيني يف الداخل‬‫عن جدواه ْ‬
‫جزء من‬
‫واليوم بالذات‪ُ ،‬هم ٌ‬ ‫ُ‬ ‫لكن اليوم‪،‬‬ ‫ّ‬
‫الشك يف ْنبل ما يفعلون‪ِ ،‬‬ ‫مل يساورهم‬
‫جيوش نظامية ليس عىل ِ‬
‫لسان جنودها وقادهتا من شعا ٍر غري حمْو النياندرتال‪.‬‬
‫استخدام هذه الكلمة يف وجود‬‫َ‬ ‫جت ّنب اجلنود األرضيون بالطبع‬
‫اجلنود يتحدّ ثون أو‬
‫ُ‬ ‫كانت تصل إىل مسامعهم حني كان‬ ‫ْ‬ ‫األديتيني لكنها‬
‫منحه ذلك‬ ‫ٍ‬
‫واحد من األديتيني عىل م ْقربة‪َ .‬‬ ‫يمزحون غري منتبهني لوجود‬
‫بأن هؤالء لن يعاملوا مواطني أديتيا بأدنى قد ٍر من العدالة بعد أن‬
‫شعورا ّ‬
‫ً‬
‫تصري الغلبة هلم‪.‬‬
‫كان خو ُفه يزداد من احتامل أن تتصاعدَ العنرصية بقوة بعد التحرير وتبيح‬
‫لألرضيني َ‬
‫فعل الفظائع يف املساملني من أبناء وطنه‪ .‬األديتيون العاديون الذين‬ ‫ّ‬
‫غد أفضل أو طاعة ألمر‬‫لألرض بح ًثا عن ٍ‬
‫ِ‬ ‫صدّ قوا قادهتم وكهنتهم وهاجروا‬
‫النرص سيصربون عىل األديتيني‬
‫ُ‬ ‫تم‬
‫عن مصريهم‪ ،‬هل لو ّ‬ ‫ديني‪ .‬كان يتساءل ْ‬
‫إعادتم إىل الكوكب‪ ،‬أم سيعملون فيهم َ‬
‫القتل واالستعباد كام يقول‬ ‫ُ‬ ‫يتم‬
‫ح ّتى ّ‬
‫بعض املتطرفني عىل اإلنرتنت؟!‪.‬‬
‫َ‬
‫وقف أما َمه فجأة أحدُ اجلنود املرصيني منتص ًبا مؤ ّد ًيا التحية العسكرية‬
‫التي مازالت تثري استغرا َبه‪“ :‬سيادة اللواء عادل يو ّد مقابلتك يا سيدي‪ ..‬هل‬
‫وسار مع اجلندي إىل غرفة‬‫َ‬ ‫ثم قام‬
‫رأسه باإلجياب ّ‬
‫هز َ‬ ‫تفضلت بمرافقتي؟”‪ّ .‬‬
‫من تلك التي ُتبنى بشكلٍ مؤقت يف املواقع العسكرية‪ .‬وقف اجلندي عىل‬
‫ٍ‬
‫بأدب ليدخل‬ ‫ريا إليه‬
‫قدميه مش ً‬ ‫ويضم ْ‬‫ّ‬ ‫الباب دون أن يدخل وهو يشدّ قامته‬
‫هو‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪322‬‬
‫فحياه ماندريك‪“ :‬يوم‬
‫ثم أجلسه أمامه ّ‬‫استقب َله اللواء عادل بحرارة‪ّ ،‬‬
‫فابتسم اللواء وقال له‪“ :‬ولك ً‬
‫أيضا أهيا العزيز‬ ‫َ‬ ‫سعيد أهيا العزيز اللواء”‪.‬‬
‫رتب عسكرية‪ ..‬مثلك يعترب‬
‫مازحا‪“ :‬أال يوجد لديكم ٌ‬
‫ثم أكمل ً‬ ‫ماندريك”‪ّ ،‬‬
‫ً‬
‫مبتسم‪“ :‬هناك يف العمل الرسمي‬ ‫عميدً ا أو لواء ً‬
‫أيضا؟”‪ .‬فر ّد ماندريك‬
‫خارج هيكل‬
‫َ‬ ‫درجات وظيفية يف وطننا لك ّننا مقاومون‬
‫ٌ‬ ‫بالطبع‪ ،‬هناك‬
‫ً‬
‫متفهم وقال‪“ :‬نعم لكنكم أناس نبالء‪ ،‬وتستح ّقون‬ ‫هز الرجل رأسه‬
‫الدولة”‪ّ .‬‬
‫أن حتكموا بالدكم لتطبقوا العدل”‪.‬‬
‫منتظرا أن حيدثه يف سبب مقابلته‪ .‬كان‬‫ً‬ ‫ونظر للرجل‬
‫َ‬ ‫مل ير ّد ماندريك‬
‫املموه نفسه‪ ،‬وإن ز ّينت ُ‬
‫كتف اللواء رتبته‬ ‫الزي العسكري ّ‬‫كالمها يرتدي ّ‬
‫العسكرية وخال ُ‬
‫كتف ماندريك منها‪ ،‬لكن كان مكتو ًبا عىل صدر ز ّيه عبارة‬
‫اسمه‪ ،‬وشعار ماجوها مصغّ ًرا‪.‬‬
‫“قوات صديقة” وأسفلها كتب ُ‬
‫قال اللواء عادل وهو ينظر يف عيني ماندريك‪“ :‬سوف تبدأ عملية‬
‫أطمئن عىل معنويات رجالك”‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الدرع املكسور بعد ساعات‪ ،‬وأريد أن‬
‫ينظر ل ّلواء يف عينيه بدوره‪“ :‬هل‬
‫مط ماندريك شفتيه العريضتني وقال وهو ُ‬ ‫ّ‬
‫هيز رأسه ناف ًيا‪:‬‬
‫فأشاح الرجل بعينه وقال وهو ّ‬
‫َ‬ ‫أسباب هلذا السؤال؟”‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫لديك‬
‫خندق واحد ضدّ حكومتكم‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬
‫“كل بالطبع‪ ،‬لك ّنه سؤال روتيني فأنتم معنا يف‬
‫هبز معنويات الكثريين”‪.‬‬‫وهذا كفيل ّ‬
‫اعتدل ماندريك يف مقعده وقال هبدوء حازم‪“ :‬رجايل باألساس يقاتلون‬ ‫َ‬
‫واالنتصار يف تلك احلرب هو‬
‫ُ‬ ‫من أجلِ وطنهم‪ ،‬ومن أجل شعبهم املقهور‪،‬‬
‫ٌ‬
‫أساسية يف إسقاط النظام الفاسد الذي خيدم أقلي ًة عىل حساب األغلبية‪،‬‬ ‫خطوة‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪323‬‬
‫ُ‬
‫نتحالف‬ ‫ولذلك ال َ‬
‫ختش شيئًا‪ .‬نحن لسنا مالئكة لنقاتل من أجلكم‪ ،‬وإنام‬
‫معكم من أجل خري شعبينا”‪.‬‬
‫متفهم فأكمل ماندريك‪“ :‬لكنني أو ّد منك أن تلفت نظر‬‫ً‬ ‫رأسه‬
‫هز الرجل َ‬ ‫ّ‬
‫رجالك لتلك احلقيقة‪ ،‬أعني حقيقة أنّنا نتعاون لصالح شعبينا‪ ،‬فبعضهم يغفل‬
‫ٍ‬
‫بطريقة مقلقة فيها الكث ُري من الكراهية والعنرصية”‪.‬‬ ‫عنها ويتحدّ ث عن قومنا‬
‫أي‬
‫اكتشفت ّ‬
‫َ‬ ‫نزعجا‪“ :‬هذا غ ُري مسموح متا ًما‪ ،‬وأرجو منك إذا‬‫فقال اللواء ُم ً‬
‫ّ‬
‫وسأتذ ضدّ ه إجراء قاس ًيا”‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫فرد يقول شيئًا خمال ًفا أن تبلغني ً‬
‫فورا‬
‫وقف ماندريك استعدا ًدا لالنرصاف‪ ،‬فوقف اللواء بدوره ليودعه‪ ،‬شدّ‬ ‫َ‬
‫ماندريك عىل يديه وهو يصافحه ً‬
‫قائل‪“ :‬أعلم أنّنا اتفقنا مع القادة السياسيني‬
‫عىل عدم املَساس بمواطنينا وإعطائنا مهلة بعدَ أن ننترص كي‪ ”...‬قاطعه‬
‫ً‬
‫مستفهم‪ ،‬فقال اللواء‪:‬‬ ‫فقطب ماندريك حاجبيه‬ ‫قائل‪“ :‬إن شاء اهلل”‪ّ .‬‬
‫اللواء ً‬
‫هز ماندريك‬ ‫نحب تقديم مشيئة اهلل”‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫“بعد أن ننترص إن شاء اهلل‪ ،‬نحن‬
‫تعلم عىل مهلة تكفي إلعادة‬ ‫قائل‪“ :‬اتفقنا كام ُ‬ ‫كتفيه غري مكرتث وأكمل ً‬
‫رأسه مواف ًقا‬
‫هز اللواء َ‬‫تقل عن ستة أشهر”‪ّ .‬‬ ‫لكوكب أديتيا ال ّ‬
‫ِ‬ ‫مواطنينا‬
‫فأكمل ماندريك‪“ :‬أنا أعلم أنكم ستلتزمون هبا‪ ،‬لكن اجلنود عىل األرض‬
‫محاقات من تلقاء أنفسهم ولذلك فإنني‬ ‫ٍ‬ ‫قد تغمرهم احلامسة‪ ،‬ويقدمون عىل‬
‫امليدانيني مثلك يف السيطرة عليهم”‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أعتمدُ عىل القادة‬
‫أيضا أن ّ‬
‫يوف قادة املقاومة‬ ‫مطمئنًا وقال‪“ :‬وأمتنى ً‬ ‫ابتسم اللواء عادل ْ‬
‫َ‬
‫بوعدهم ويفعلون تلك األداة التي تزعمون أهنا لديكم‪ ،‬والتي ستغلق الصدع‬ ‫ِ‬
‫ً‬
‫مستقبل”‪.‬‬ ‫الكوين الذي يسمح باالنتقال بني كوكبينا لنتج ّنب تكرار هذا الغزو‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪324‬‬
‫مطمئنًا فاستطر َد اللواء‪“ :‬ستفعلوهنا سواء سيطرتم عىل‬ ‫رأسه ْ‬ ‫هز ماندريك َ‬
‫احلكم أم ال‪ ،‬أليس كذلك؟”‪ .‬فر ّد ماندريك بحسم‪“ :‬بالطبع أهيا العزيز‪ ،‬هذا‬
‫ثم أكمل وهو ينهض‬ ‫هدف أصيل لثورتنا سنلتزم باتفاقنا طاملا التزم ُتم أنتم”‪ّ ،‬‬‫ٌ‬
‫ثم استدرك ً‬
‫قائل‬ ‫أن نعرب لألرض املحتلة”‪ّ ،‬‬ ‫لقاء آخر بعد ْ‬
‫مصافحا اللواء‪“ :‬لنا ٌ‬
‫ً‬
‫وهو يبتسم‪“ :‬إن شاء اهلل”‪.‬‬
‫أول يف املرور عىل رجاله لطمأنتهم والشد‬‫فكر ً‬‫انرصف إىل مكانه لك ّنه ّ‬
‫َ‬
‫من أزْ رهم‪ .‬كانت العمليات التي خاضوها ً‬
‫معا من قبل قد أعطتهم خربات‬
‫كبرية يف التعامل مع املواقف الصعبة كا ّفة عىل مدار ما يقارب العرش سنوات‪،‬‬
‫أسلوب خمتلف عن احلرب‬
‫ٌ‬ ‫حرب العصابات‪ ،‬وهو‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بأسلوب‬ ‫لكن كانت‬
‫وشك خوضها‪ ،‬كام ّأنم سيكونون حتت قيادة صارمة‬ ‫ِ‬ ‫النظامية التي هم عىل‬
‫ال تسمح هلم باالرجتال املعتاد‪.‬‬
‫بقيت ساعة واحدة عىل بدْ ء املهمة التحضريية لتعطيل النقاط احلصينة عىل‬
‫ْ‬
‫احلدود (تلك العملية التي يشارك فيها باسل وميساء) والتي سيبدأ بعدها‬
‫توجه القوات التي يشارك معها إىل املنطقة احلدودية‪ .‬سيبدؤون‬ ‫مبارشة ّ‬
‫ٍ‬
‫أعداد كبرية من القنابل املوجية التي‬ ‫فور وصوهلم للجدار احلدودي بتفج ِ‬
‫ري‬
‫وتسمح للقوات بالعبور‪ ،‬وتعطيهم ميز َة املفاجأة التي‬
‫ُ‬ ‫ستعطل ذلك اجلدار‬
‫ستصدم القادة األديتيني بال شك‪.‬‬
‫تم‬
‫جتهيزها ملعركة اليوم معدات عتيقة‪ ،‬وقد ّ‬
‫ُ‬ ‫تم‬ ‫كانت ّ‬
‫كل املعدات التي ّ‬
‫وهيدروليكيا‪ ،‬بعيدً ا عن أي‬
‫ًّ‬ ‫ميكانيكيا‬
‫ًّ‬ ‫ُ‬
‫تعمل‬ ‫ُ‬
‫تعديل احلديث منها جلعلها‬
‫تكنولوجيا تستخدم الكهرباء واإللكرتونات‪ ،‬فتعطيهم تلك امليزة تفو ًقا‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪325‬‬
‫مهمته التالية هو ورجاله هي حتديدَ النقاط‬
‫ريا عىل القوات األديتية‪ .‬كانت ّ‬‫كب ً‬
‫القوات‬
‫ُ‬ ‫التي سيتم فيها استخدام القنابل املوجية للمرة الثانية بعد ْ‬
‫أن تعرب‬
‫املدى املؤثر للدفعة األوىل من القنابل‪.‬‬

‫بعدَ أن أهنى حديثه مع رجاله وطمأهنم عىل الرتتيبات واالتفاقيات‬


‫ريا‪ .‬كانت ّ‬
‫خطة اهلجوم مثالية وتغطي احتامالت‬ ‫سبب ضيقه أخ ً‬
‫ُ‬ ‫أدرك ما‬
‫لكن‬
‫كل اخلطط الدفاعية لدى احلكومة األديتية‪ّ ،‬‬ ‫كثرية وتأخذ يف احلسبان ّ‬
‫املفاجآت دو ًما واردة‪ .‬هل يمكن أن يكونوا قد استعدّ وا هلجوم كاسح من‬
‫ٍ‬
‫لظرف كهذا‪ ،‬أم‬ ‫وتم إعداده‬ ‫ْ‬
‫يكشف عنه ّ‬ ‫هذا النوع؟ هل هناك سالح ما مل‬
‫ّأنم مطمئ ّنون الستحالة حدوث احتاد هبذا احلجم ضدّ هم؟‪.‬‬

‫عىل مدا ِر عقود كاملة أجرى النياندرتال جتارب عىل سلوك البرش‬
‫وراقبوهم ليجدوا الوسيلة ا ُملثىل للسيطرة عليهم يف األرايض التي خططوا‬
‫مورست عىل ُعمر وزهرة ساب ًقا‪ .‬كانت أفكارهم‬‫َ‬ ‫الحتالهلا مثل ال ّتجربة التي‬
‫ِ‬
‫طرق التمرد واملقاومة‬ ‫تغطي االحتامالت كا ّفة‪ ،‬وتتغ ّلب عىل ّ‬
‫كل‬ ‫وأبحاثهم ّ‬
‫وحب للدَّ َعة‬
‫ٍّ‬ ‫ِ‬
‫خصالم من أنانية‬ ‫ّ‬
‫وتستغل أسوأ‬ ‫عند البرش األرضيني‪،‬‬
‫بعض البرش من قدرة عىل ّيل ُعنق‬
‫يميز َ‬
‫واألمان‪ ،‬ولو عىل حساب احلرية‪ ،‬وما ّ‬
‫احلقائق وتربير الظلم وممارسات املحتلني أ ًّيا كانوا‪.‬‬

‫مثاليا يف عني قادة احلكومة يف أديتيا ويضمن السيطرة طويل َة‬ ‫كان ّ‬
‫كل هذا ًّ‬
‫ويضمن النفوذ الكبري لدولة أديتيا‬
‫ُ‬ ‫األجل عىل ال َبرش يف املناطق املحتلة‪ ،‬بل‬
‫كل تلك اخلطط‬ ‫لكن ما رضب ّ‬ ‫األرضية عىل دول العامل يف املستقبل البعيد‪ْ .‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪326‬‬
‫تعاون املقاومني األديتيني مع املقاومني من األرضيني‪ .‬أ ّدى ذلك‬ ‫ُ‬ ‫جزئيا هو‬
‫ًّ‬
‫كل األرايض‬ ‫إىل انقالب املوازين‪ ،‬وإبقاء ْ‬
‫جذوة الثورة واملقاومة مشتعل ًة يف ّ‬
‫املحتلة‪ .‬املقاومون األديتيون كانوا يو ّفرون أسلحة أديتية للمقاومني‬
‫ويمكنوهنم من التغ ّلب عىل احلواجز‬‫ّ‬ ‫َ‬
‫خطط األمن‪،‬‬ ‫األرضيني ويكشفون هلم‬
‫يقلقه يف تلك اللحظة هو‬ ‫ُ‬
‫السؤال الذي كان ُ‬ ‫احلدودية والطائرات الدقيقة‪.‬‬
‫احتاملية ذلك اهلجوم‬ ‫ِ‬
‫تدرس ْ‬ ‫كيف يمكن التأكدُ من أن الدولة األديتية مل‬
‫ريا مل‬
‫دفاعيا أخ ً‬
‫ًّ‬ ‫خطا‬ ‫املشرتك‪ ..‬وهل يمكن أن يكونوا قد أعدّ وا بدورهم ًّ‬
‫حيسب أحد حسابه؟‬

‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪327‬‬
‫‪44‬‬
‫الرتقب عىل ّ‬
‫كل الوجوه‬ ‫ُ‬ ‫ربع ساعة فقط‪ ،‬كان‬‫بقي عىل بدء العمليات ُ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫األرض املحتلة وخارجها‪ .‬يف الداخل كان (عمر) يف أحد خمابئ‬ ‫داخل‬
‫ِ‬
‫غرف التحكم‬ ‫وأديتي يديرون إحدى‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫وضابط خمابرات مرصي‬ ‫املقاومة هو‬
‫ُ‬
‫مهامجة مخسة‬ ‫مهمتها‬
‫مخس جمموعات ّ‬ ‫ُ‬
‫الغرفة مسئولة عن ِ‬ ‫واملراقبة‪ .‬كانت‬
‫ٍ‬
‫مبان حصينة‪ ،‬وجمموعة سادسة احتياطية عىل مسافة قريبة مستعدة للتدخل‬
‫مهمة إحدى املجموعات اخلمس األساسية‪.‬‬
‫يف حال تعثرت ّ‬
‫قرر َ‬
‫قبل البدء يف العملية إجراء اتصال‬ ‫كان قل ًقا عىل ابنته ال ّ‬
‫يقر له مقعد‪ّ ،‬‬
‫أرصت عىل احلضور إىل األرض املحتلة والبقاء‬ ‫ثم بزوجته التي ّ‬ ‫ري هبا‪ّ ،‬‬‫أخ ٍ‬
‫ريا إقناعها‬
‫الصغري يف “انتظار النرص” عىل حدّ تعبريها‪ ،‬حاول كث ً‬
‫هي وعالء ّ‬
‫يضمن سيناريو األيام القادمة‪ ،‬لك ّنها قالت‪“ :‬نحن‬
‫ُ‬ ‫بالبقاء بعيدً ا‪ ،‬فال أحد‬
‫معا‪ ،‬وما يرسي عليكم سيرسي ع ّ‬
‫يل”‪.‬‬ ‫ً‬
‫(ميساء) وانتظر حلظة فأجابته‪“ :‬جمموعة رقم ‪1‬‬ ‫َ‬
‫وضغط رقم ْ‬ ‫فتح جهازه‬
‫َ‬
‫ً‬
‫اتصال‬ ‫ابتسم ً‬
‫رغم عنه فقد حسب ْته‬ ‫َ‬ ‫الفرد رقم أ ‪ 83‬يف خدمتك يا سيدي”‪.‬‬
‫رسميا‪ ،‬فقال هلا‪“ :‬كيف حالك يا بطلتي؟”‪ .‬فر ّدت ببهجة متفاجئة من اتصاله‪:‬‬
‫ًّ‬
‫“بخري يا أيب أنا سعيدة لسامع صوتك يف هذا الوقت احلرج‪ ،‬لقد خففت من‬
‫مهاما‬
‫خضت ًّ‬‫ِ‬ ‫توتري” شعر بالقلق عليها وقال‪“ :‬ال تتوتّري يا حبيبتي‪ ،‬لقد‬
‫ثم أضاف بلهجة حانية‪:‬‬ ‫أعقد من تلك‪ ،‬ثقتي يف كفاءتك ال حدو َد هلا”‪ّ ،‬‬
‫أين باسل؟”‪ .‬فر ّد عليه باسل‪:‬‬ ‫“استعيني باهلل‪ ،‬وضعي ثقتك يف زمالئك‪َ ..‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪328‬‬
‫ينظر‬
‫قائل وهو ُ‬ ‫باسل ً‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫أوصيك عليها”‪ .‬فر ّد عليه‬ ‫“هنا يا سيدي”‪ .‬فقال‪“ :‬لن‬
‫صمت وأردف‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ثم‬‫اطمئن يا ســ‪ّ ”...‬‬
‫ّ‬ ‫لزم األمر‪،‬‬
‫إليها‪“ :‬سأفتدهيا بروحي إن َ‬
‫واطمأن عليها‪َ ،‬‬
‫وقال هلا إنّه‬ ‫ّ‬ ‫“اطمئن يا أيب”‪ .‬أغلقَ معهام واتّصل بزهرة طمأهنا‬
‫ّ‬
‫لن يتمكن من التواصل معها يف الساعات املقبلة‪.‬‬
‫عا َد إىل مقعده‪ ،‬جلس يف املنتصف بني املقاوم األديتي والضابط املرصي‬
‫عرش شاشات يف أزواج‪ ،‬واحدة تنقل صورة حية‬ ‫عىل مقاعد مرتفعة‪ ،‬وأمامهم ُ‬
‫كل زوج‬ ‫ٍ‬
‫كنقاط خرضاء عليها‪ ،‬وأمام ّ‬ ‫وأخرى تظهر خارطة‪ ،‬وتظهر رجاهلم‬
‫الصعبة يف اإلعداد للحرب‬
‫تقني‪ .‬كانت إحدى املراحل ّ‬ ‫جلس ّ‬‫َ‬ ‫من الشّ اشات‬
‫مقار مثل تلك حتت سمع وبرص املحتلني وكالعادة كانت‬ ‫الشاملة هي جتهيز ّ‬
‫األزقة الضيقة يف األحياء الفقرية أو العتيقة هي مال َذ املقاومني لتأسيس تلك‬
‫الشبكة‪.‬‬
‫قائل‪“ :‬سيد عمر‪ ،‬أعرف ّ‬
‫أن قواعد‬ ‫الضابط املرصي عىل (عمر) ً‬ ‫مال ّ‬‫َ‬
‫أن تعلم أنّني رشفت بالعمل إىل‬ ‫تسمح يل بقول ذلك‪ ،‬لكن أريدك ْ‬ ‫ُ‬ ‫عميل ال‬
‫شاكرا وهو ّ‬
‫يؤكد‬ ‫ً‬ ‫وهز رأسه ً‬
‫باسم‬ ‫جانبك يف هذا اليوم املجيد”‪ .‬تأ ّمله (عمر) ّ‬
‫نفذا تعليامت رؤسائه عىل عكس ما يلمح له‪.‬‬‫لنفسه أن الضابط يتو ّدد إليه ُم ً‬
‫مخري اللون‪ ،‬حا ّد املالمح‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كان الرجل يف منتصف األربعينيات ِ‬
‫برتبة عقيد‪،‬‬
‫وقارا له‪“ .‬أنا بلدياتك من كفر الشيخ‪ ،‬من‬
‫الشيب فوديه فأضاف ً‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫وخط‬
‫مرح ًبا وقال‪“ :‬رشفت‬ ‫سيدي سامل حتديدً ا؛ أي نفس املركز” ابتسم ُ‬
‫عمر ّ‬
‫معا وقد تطهرت‬
‫يتنهد يف حنني‪“ :‬أمتنى أن نزورها ً‬
‫ثم أضاف وهو ّ‬ ‫بك”‪ّ ،‬‬
‫من االحتالل”‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪329‬‬
‫برصه عىل الشاشات‪“ :‬لقد بدأت‬‫يركز َ‬ ‫قاطع األديتي حديثهام ً‬
‫قائل وهو ّ‬ ‫َ‬
‫ركز الرجالن برصمها عىل الشاشات بدورمها وقد‬ ‫املجموعات يف التحرك”‪ّ .‬‬
‫ُ‬
‫أن (عمر) عينُه كانت تركز عىل‬‫تباعا‪ ،‬غري ّ‬ ‫تومض ٌ‬
‫نقاط يف جوانبها ً‬ ‫ُ‬ ‫بدأت‬
‫(ميساء) وباسل ال ّلذان‬ ‫شاشة حمددة وعىل نقطتني ُملتصقتني فيها ّ‬
‫مخن ّأنام ْ‬
‫كانا يقرتبان من ال ّنقطة احلصينة يف إحدى املركبات‪.‬‬
‫ُ‬
‫مركبة باسل وميساء إىل مسافة ثالثامئة مرت تقري ًبا من املبنى‬ ‫اقرتبت‬
‫ْ‬
‫توهم ّأنا مركبة تابعة لألديتيني‪ .‬نظرت‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫إشارات‬ ‫احلصني وهي تعطي‬
‫لتتأكد من نقطة هبوطهم‪ ،‬وعندها أشارت لقائد املركبة‬‫(ميساء) يف شاشتِها ّ‬
‫ْ‬
‫ترجلت من املركبة مع باسل وشخص ثالث‬ ‫ثم ّ‬‫باالنخفاض ملستوى اإلنزال ّ‬
‫أديتي‪.‬‬
‫ثم التسلل‬ ‫َ‬
‫شويش عىل الطائرات الدقيقة ّ‬ ‫كانت اخلطو ُة األوىل كا ُملعتاد ال ّت‬
‫تم حتديدُ ها لالقتحام‪ .‬كان الثالثة يقرتبون من‬ ‫هبدوء نحو املداخل التي ّ‬ ‫ٍ‬
‫ثم َ‬
‫قذف‬ ‫ثم فتحها ّ‬ ‫إحدى النوافذ‪ ،‬بدأوا بتعطيل آلية اإلنذار عىل النافذة‪ّ ،‬‬
‫صنعه األديتيون‪ .‬دخلوا للغرفة ُمرتدين‬‫عبوة غا ٍز خمدر ش ّفاف عديم الرائحة َ‬
‫أقنعة للغاز‪ ،‬مل يكن هناك أحدٌ هبا‪ ،‬فتحوا باب الغرفة إىل ّ‬
‫املمر وخلعوا‬
‫واستمروا يف طريقهم إىل غرفة املراقبة الرشقية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫األقنعة‪،‬‬
‫يغي ّ‬
‫بث الكامريات التي‬ ‫ٌ‬
‫جهاز ّ‬ ‫انطلقَ الثالثة يتقدّ مهم األديتي ِ‬
‫وبيده‬
‫مهمتهم هي‬
‫األفراد املوجودون بغرفة املراقبة املركزية للمبنى‪ .‬كانت ّ‬
‫ُ‬ ‫يراقبها‬
‫ّ‬
‫تتحكم يف ثالثة مدافع موجودة عىل‬ ‫َ‬
‫الوصول لغرفة التحكم الرشقية التي‬
‫السطح بنظم حتكم هيدروليكية وظيف ُتها أن ّ‬
‫تظل قادرة عىل العمل بعد تعطل‬
‫ّ‬
‫كل األجهزة اإللكرتونية يف املباين احلصينة يف حال إطالق قنبلة موجية‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪330‬‬
‫أن اجلنود والعاملني‬ ‫ذكر‪ ،‬ويبدو ّ‬ ‫املمر هادئًا ال ينبئ بمخاطر ُت َ‬
‫ّ‬ ‫كان‬
‫مع مرور السنني وعدم حدوث‬ ‫بالنقطة قدْ صاروا قلييل اليقظة واالهتامم َ‬
‫يمنع الثالثة من االنطالق بحذر‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫أي حماوالت للهجوم‪ ،‬لكن ذلك مل‬
‫باب الغرفة‪ ،‬كان مص ّف ًحا‬‫والنظر بتوجس لكل باب أما َمهم‪ .‬ظهر يف النهاية ُ‬
‫ثم وقف‬ ‫ُ‬
‫باسل وميساء النظر‪ّ ،‬‬ ‫مصم ًتا ال أثر فيه ألداة خمصصة ِ‬
‫لفتحه‪ .‬تبادل‬
‫ً‬
‫جهازا‬ ‫أخرج من جعبته‬
‫َ‬ ‫كل منهم يف جهة من الباب وتقدم الفني األديتي‪،‬‬ ‫ّ‬
‫َ‬
‫ووقف إىل‬ ‫ثم تراجع‬ ‫شبيها بزجاجة مياه معدنية لصقه بعناية عىل الباب ّ‬ ‫ً‬
‫حتركت بدورها إىل يسار الباب إىل جوار‬
‫(ميساء) التي ّ‬
‫يمني الباب إىل جوار ْ‬
‫باسل‪.‬‬
‫الباب شاهرين أسلحتهام‪،‬‬
‫ُ‬ ‫واقفي يف اجلهة التي سينفتح عندها‬
‫ْ‬ ‫كانا‬
‫ِ‬
‫بحقن ما ّدة إلذابة آلية إغالق الباب‪.‬‬ ‫وعيونام عىل اجلهاز الذي يقوم ببطء‬
‫ُ‬
‫ويسة فقال باسل‪“ :‬اهدئي يا‬ ‫تنظر يمنة ْ‬ ‫ِ‬
‫بنفاد صرب وهي ُ‬ ‫(ميساء)‬
‫تنهدت ْ‬
‫ربم وهي تومئ برأسها َ‬
‫دليل‬ ‫نظرت له بت ّ‬
‫ْ‬ ‫حبيبتي بقي مخس دقائق كاملة”‪.‬‬
‫خف‬‫فامل عليها وطبع قبلة عىل خدّ ها وهو يقول‪“ :‬ها‪ ...‬هل ّ‬ ‫تفهمها‪َ ،‬‬
‫ثم قالت‪“ :‬أنا لست‬‫تعجب‪ّ ،‬‬‫مطت شفتيها وهي هتز رأسها يف ّ‬ ‫قليل؟” ّ‬
‫التوتر ً‬
‫أن بالداخل‬ ‫ُ‬
‫تعرف ّ‬ ‫متعجلة‪ ،‬بل مرت ّقبة ملا سنجده خلف هذا الباب أنت‬ ‫ّ‬
‫حارسي وثالثة موظفني ونحن ثالثة‪ ،‬هل سنتغلب عليهم بسهولة‪ ،‬ماذا لو‬ ‫ْ‬
‫وصلهم دعم ما!”‪.‬‬
‫ابتسم وطبع قبل ًة أخرى رسيعة عىل شفتيها فرضبت بك ّفها عىل صدره وهي‬
‫َ‬
‫“هم ال هيتمون هبذا‪...‬‬
‫نحو األديتي الذي ينظر إليهام فقال‪ُ :‬‬
‫ري بوجهها َ‬ ‫تش ُ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪331‬‬
‫قوة استثنائية كالسبانخ بال ّنسبة لباباي” ضيقت‬
‫شفتيك متنحانني ّ‬
‫ألن ْ‬‫أنا أقبلك ّ‬
‫بح ٌار يف أفالم‬
‫عمن يكون باباي هذا‪ ،‬فقال هلا إنّه ّ‬
‫عينيها كأهنا تف ّتش يف ذاكرهتا ّ‬
‫وخرج منه‬
‫َ‬ ‫كرتونية كان أبوه جيعله يشاهدُ ها‪ .‬فجأة فتح باب قريب خل َفهم‪،‬‬
‫ثم أخرج أحدُ هم سالحه‬ ‫ٍ‬
‫بدهشة شديدة‪ّ ،‬‬ ‫نظرا إىل ثالثتهم‬
‫حارسان أديتيان‪َ ،‬‬
‫مهدّ ًدا وطلب منهم عدم احلركة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫هبدوء هو وزميله شاهرين أسلحتهام يوزعان‬ ‫اقرتب احلارس من ثالثتهم‬ ‫َ‬
‫مهمة وهي ّ‬
‫أن الثالثة كانوا‬ ‫ٍ‬
‫حقيقة ّ‬ ‫تركيزَ مها بني الثالثة‪ ،‬لك ّنهام مل يفطنَا إىل‬
‫دروعا ومستعدّ ين متا ًما‪ ،‬بينام كان األديتيان يف يو ِم عملٍ عادي ال‬
‫ً‬ ‫يرتدون‬
‫سالحيهام مستخدمني‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫باسل وميساء‬ ‫نفسه أطلق‬ ‫حيتاج إىل ذلك‪ .‬يف التوقيت ِ‬
‫ورد الرجالن‬
‫احلراب الصغرية‪َّ ،‬‬
‫َ‬ ‫األسلحة األديتية الصامتة التي تقذف تلك‬
‫تأثري عىل درعي باسل وميساء‪.‬‬
‫بإطالق أسلحتهام التي مل يكن هلا ٌ‬
‫اآلخر خلف‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫بحربة يف رقبته‪ ،‬بينام احتمى‬ ‫َ‬
‫قتل أحد األديتيني عىل الفور‬
‫موجها‬
‫ً‬ ‫مضت ثوان َ‬
‫قبل أن يربز وجهه ثانية ويطلق سالحه‬ ‫ْ‬ ‫برو ٍز يف اجلدار‪،‬‬
‫ثم اختبأ ثانية وهو يستعدّ إلطالق‬‫درعه‪ّ ،‬‬
‫عطلت َ‬ ‫لباسل قذيف ًة كهربية ّ‬
‫شاهرا ّ‬
‫سكينه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫باسل قد قفز ناحيته بخ ّفة‬ ‫يظهر كان‬
‫َ‬ ‫مقذوفه القاتل‪ ،‬قبل أن‬
‫ثم دفع السكنيَ‬
‫مرة أخرى ّ‬ ‫ِ‬
‫إطالق سالحه ّ‬ ‫وصل إليه قبل أن يتمكن من‬
‫لكمه يف وجهه‬
‫ثم َ‬ ‫أن يتفاداها ّ‬ ‫بعنف ّاتاه صدره‪ّ ،‬‬
‫لكن األديتي استطاع ْ‬
‫ري‬
‫الغضب التفك َ‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫مشتبكا معه بذراعه العاري وقد أنْساه‬ ‫هجم عليه‬
‫َ‬ ‫ثم‬
‫بقوة‪ّ ،‬‬
‫أن (باسل) معه َمن قدْ يساعده‪.‬‬‫يف استعامل سالحه‪ ،‬أو ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪332‬‬
‫(ميساء) منهام ملساعدة (باسل)‪ ،‬لك ّنهام كانا متالمحني بطريقة‬ ‫اقرتبت ْ‬
‫ْ‬
‫جعل ْتها ترت ّدد يف إطالق مقذوف ح ّتى ال تصيبه‪ .‬حاولت الرتكيزَ أكثر‪،‬‬
‫زر اإلطالق يف سالح قبضتها‪ ،‬لك ّنها حسمت ترددها‬ ‫إهبامها عىل ّ‬
‫وتوترت ُ‬
‫يقرتب من عنق (باسل) فأطلقت مقذو ًفا أسقطه‬ ‫ُ‬ ‫حني وجدت َ‬
‫نصل األديتي‬
‫وات َذا‬
‫فه ِر َعا إليه ّ‬ ‫ِ‬
‫وشك أن ينفتح ُ‬ ‫عىل الفور‪ .‬كان الباب ا ُملستهدف عىل‬
‫وجه (باسل)‬ ‫ٌ‬
‫التفاتة إىل الكدمة عىل ْ‬ ‫(ميساء)‬
‫رسيعا‪ ،‬وحانت من ْ‬ ‫ً‬ ‫وضعيتهام‬
‫أن القفل قد ذاب‪.‬‬‫لكن قبل أن تع ّلق أشار زميلهام التقني إىل ّ‬
‫ْ‬
‫وضعت كتفها عىل‬‫ْ‬ ‫فدرعها كان ال يزال ً‬
‫سليم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫(ميساء) ّأو ًل؛‬
‫تقدّ مت ْ‬
‫أرضيني‬
‫ّ‬ ‫مسدسي‬
‫ْ‬ ‫نفسا عمي ًقا وأخرجت‬ ‫وأخذت ً‬
‫ْ‬ ‫استجمعت قواها‬
‫ْ‬ ‫الباب‪،‬‬
‫مرة واحدة وبقوة‪.‬‬ ‫الباب بكتفها ّ‬
‫َ‬ ‫ثم دفعت‬ ‫بكواتم صوت‪ّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫آليني مزودين‬‫ّ‬
‫ويسة‬ ‫الرصاص بدون متييز يمنة ْ‬ ‫ُ‬
‫تطلق ّ‬ ‫انفتح الباب‪ ،‬قفزت للداخل وهي‬
‫ِ‬
‫بنشوة استخدام األسلحة املعتادة‬ ‫تشعر‬
‫ُ‬ ‫أفالم األكشن وهي‬ ‫َ‬ ‫بطريقة تشبه‬
‫أحد املكاتب‬‫احتمى خلف ِ‬ ‫َ‬ ‫بتلك الطريقة‪ ،‬وتبعها للداخل (باسل) الذي‬
‫َ‬
‫مقتل‬ ‫األولية‬
‫ّ‬ ‫وأطلقَ عدّ ة قذائف من سالحه‪ .‬كان الناتج لتلك اهلجمة‬
‫دروعهام ومل تؤثر رصاصات‬ ‫َ‬ ‫البعض‪ ،‬لكن تب ّقى حارسان كانا يرتديان‬
‫(ميساء) وال قذائف باسل هبام‪.‬‬ ‫ْ‬
‫ُ‬
‫باسل‬ ‫(ميساء) ومعها التقني مع أحد احلارسني‪ ،‬واشتبك‬ ‫اشتبكت ْ‬
‫ْ‬
‫احلارسي‬
‫ْ‬ ‫مع اآلخر‪ ،‬وبعدَ عدّ ة دقائق انقشع ُ‬
‫غبار املعركة عن ثالثة قتىل؛‬
‫(ميساء) إسعا َفه ّ‬
‫بكل الطرق‬ ‫حاولت ْ‬
‫ْ‬ ‫والتقني األديتي املرافق مليساء وباسل‪.‬‬
‫لكن املهمة كانت عسرية‪ ،‬فقد تل ّقى طعنة يف رقبته أصابت رشيا َنه وحنجرته‬
‫ّ‬
‫جعلت إنقاذ حياته شبه مستحيل‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪333‬‬
‫‪45‬‬
‫(ميساء) إنقا َذ التقني األديتي باستامته‪ .‬وضعت‬ ‫حاولت فيهام ْ‬
‫ْ‬ ‫مضت دقيقتان‬
‫ْ‬
‫تضغط اجلرح حماول ًة إيقاف النزيف وهي ال تدري ما تفعل ثانية‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫يدَ ها عىل رقبته‬
‫لنزف ما تبقى من دمه عىل الفور‪ .‬زاد‬ ‫ٍ‬
‫لثوان قليلة َ‬ ‫فلو أزالت يدَ ها من عىل اجلرح‬‫ْ‬
‫التنفس‬
‫َ‬ ‫صوت صفري اهلواء اخلارج من ُجرح حنجرته وهو حياول‬ ‫ُ‬ ‫من توتّرها‬
‫جلس وقد سال الدم من‬ ‫َ‬ ‫تلتمس مساعدته فوجدته‬ ‫ُ‬ ‫وندّ ت منها نظر ٌة لباسل‬
‫ِ‬
‫منتصف بطنه‪ .‬تر ّددت عيناها بني املصابني‪ ،‬وقبل أن تزدا َد حريهتا شهق‬ ‫جرح يف‬
‫َ‬
‫وتسعف‬ ‫َ‬
‫اإلذن أن ترتكه‬ ‫ثم تو ّقفت ُ‬
‫أنفاسه وكأنّه يعطيها‬ ‫األديتي شهقتَه األخرية ّ‬
‫َ‬
‫شارف عىل اإلغامء‪.‬‬ ‫كانت عيناه تدوران وقد‬
‫(باسل) الذي ْ‬
‫نسيت القتيل الذي كان بني يدهيا ومألها‬‫ِ‬ ‫قفزت ّاتاه (باسل) وقد‬
‫َ‬
‫حاول أن يكسبه نغمة ساخرة‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫بصوت واهن‬ ‫إحساس بالفزع‪ ،‬لك ّنه قال هلا‬
‫تفحص جرحه‪:‬‬
‫ُ‬ ‫األمر بسيط”‪ .‬قالت وهي‬
‫ُ‬ ‫وجهك هكذا!‬ ‫ُ‬ ‫اصفر‬
‫ّ‬ ‫لك‬‫“ما ِ‬
‫جزء من أمعائك يظهر من اجلرح”‪.‬‬‫يل‪ ،‬هناك ٌ‬ ‫ً‬
‫بسيطا ال تتذاكى ع َّ‬ ‫“ليس‬
‫فضحك بصعوبة وهو يقول‪“ :‬ال ختيش عىل أمعائي؛ فهي كاحلديد”‪.‬‬ ‫َ‬

‫وحركت جسده وهي تكاد تدمع‬ ‫ّ‬ ‫واتهت نحو األديتي القتيل‪،‬‬ ‫ترك ْته ّ‬
‫ٍ‬
‫شخص عرفته لتخرج شيئًا‬ ‫ستحرك جث َة‬
‫ّ‬ ‫تتخيل يو ًما أهنا‬
‫من فرط ال ّتأثر؛ مل ّ‬
‫سيشعر َمن حيبونه بتلك الفعلة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫حرمة امليت أو كيف‬‫ِ‬ ‫يلزمها‪ ،‬دون تفك ٍ‬
‫ري يف‬
‫تتمتم‬
‫ُ‬ ‫ثم عدّ لت جثته ثانية بحرص وهي‬ ‫خلعت احلقيبة اجللد ّية من ظهره ّ‬
‫بالدعوات القليلة التي حتفظها‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪334‬‬
‫فتحت احلقيبة وأخرجت منها املوا ّد األديتية الساحرة التي تعالج تلك‬ ‫ِ‬
‫اإلصابات واستعمل ْتها بمهارة يف عالج جروح باسل‪ .‬بعد ْ‬
‫أن أهنت مهمتها‬
‫َ‬
‫االتصال بزمالئها يف املجموعة لالطمئنان عىل سري‬ ‫ِ‬
‫بدأت‬ ‫واطمأنت عليه‬
‫تكن القائدة بل الثالثة يف الرتتيب القيادي يف‬ ‫ّ‬
‫املخطط له‪ .‬مل ِ‬ ‫العملية عىل النحو‬
‫ربها عىل ذلك‪ .‬أبلغت قائدَ جمموعتها بالسيطرة‬ ‫املجموعة لكن قلقها كان جي ُ‬
‫ُ‬
‫فصل الطاقة عن الغرفة‪،‬‬ ‫القيام باجلزء الثاين؛ وهو‬
‫َ‬ ‫عىل املوقع فطلب منها‬
‫وتشغيل األجهزة اليدوية‪ ،‬كان ذلك هو اجلز َء العسري الذي يواجهها‪،‬‬
‫فأمرها القائد باالتصال بغرفة القيادة إلبالغهم واالستعانة‬ ‫مات‪َ ،‬‬‫فالتقني قد َ‬
‫ِ‬
‫بأحد ال ّتقنيني هناك لتوجيهها‪.‬‬
‫جهاز اتصاهلا برمز غرفة القيادة فأجاهبا أحدُ املراقبني ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ضغطت‬
‫ْ‬
‫“غرفة القيادة‪ ..‬ما الوضع لديك؟”‪ .‬فقالت‪“ :‬لقد سيطرنا عىل غرفة التحكم‬
‫ِ‬
‫اخلطوات املتبعة‬ ‫سقط ً‬
‫قتيل‪ ،‬ولسنا نعرف‬ ‫َ‬ ‫لكن التقني املرافق لنا‬
‫الرشقية ّ‬
‫لتشغيل األجهزة اليدوية”‪.‬‬
‫“أول تأكدي‬‫أن هناك َمن مات‪ً :‬‬ ‫ً‬
‫متجاهل ّ‬ ‫ٍ‬
‫بصوت آ ّيل‪،‬‬ ‫املراقب‬
‫ُ‬ ‫ر ّد عليها‬
‫أشارت إىل‬
‫ْ‬ ‫باب الغرفة بالقفل املوجود يف حقيبة التقني”‬ ‫من إحكا ِم إغالق ِ‬
‫َ‬
‫وأخذ يف ّتش فيها‬ ‫يستمع معها إىل املحادثة‪ ،‬ففتح احلقيبة‬‫ُ‬ ‫باسل الذي كان‬
‫حترك ببطء يف اجتاه‬‫ثم ّ‬ ‫ضعف حجم ّ‬
‫كف اليد تقري ًبا ّ‬ ‫َ‬ ‫معدنية‬
‫ّ‬ ‫ح ّتى أخرج قطعة‬
‫ثم وضع القطع َة املعدنية بني‬ ‫الباب بصعوبة ح ّتى أغلقه‪ّ ،‬‬
‫باب الغرفة‪ .‬جذب َ‬
‫انغرست‬
‫ْ‬ ‫فخرجت منها زوائدُ معدنية‬
‫ْ‬ ‫الباب وإطاره‪ ،‬وضغط عىل برو ٍز فيها‬
‫بقوة يف الباب وإطاره وأحكمت غلقه‪.‬‬ ‫ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪335‬‬
‫شاشات عريضة تكشف الداخل واخلارج‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫الغرفة كانت فسيحة‪ ،‬فيها‬
‫حتكم‪ ،‬إضافة إىل طاولة واحدة‬ ‫شاشة ّ‬
‫ُ‬ ‫مثبت بذراعها األيمن‬
‫ومقاعد عريضة ّ‬
‫حتك ٍم أخرى‪ ،‬بينام أطرا ُفها كانت خشبية ُمعدّ ة كأهنا‬ ‫حيتل مركزها شاشة ّ‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫بإشعال شموع‬ ‫(ميساء)‬
‫عن الغرفة‪ ،‬قامت ْ‬ ‫طاولة عادية‪ .‬قبل فصل الكهرباء ِ‬
‫ثم بعدَ ذلك تبعت تعليامت الفني‬ ‫املكان ك ّله‪ّ ،‬‬
‫َ‬ ‫من ما ّدة أديتية متوهجة تيضء‬
‫املراقب وضغطت عىل لوحة التحكم املوجودة يف مرك ِز الطاولة فانفتحت‬
‫ثم اختارت‬ ‫ِ‬
‫بإمداد الكهرباء‪ّ ،‬‬ ‫صفحة هبا أيقونات‪ ،‬اختارت أيقونة التحكم‬ ‫ٌ‬
‫ِ‬
‫انطفأت الشاشات‪،‬‬ ‫فحيح األجهزة ومراوح التربيد ّأو ًل‪ّ ،‬‬
‫ثم‬ ‫ُ‬ ‫سكت‬
‫َ‬ ‫فصلها‪،‬‬
‫ضوء الشموع األديتية‪.‬‬‫ُ‬ ‫وبقي‬ ‫ِ‬
‫انطفأت األضواء َ‬ ‫ويف النهاية‬
‫حتكم موجود عىل يمني‬ ‫ِ‬
‫بتحريك ذراع ّ‬ ‫املراقب بعد ذلك‬
‫ُ‬ ‫أمرمها التقني‬
‫َ‬
‫منصة هبا العديدُ من أذرع‬‫خرجت منها ّ‬‫ْ‬ ‫طاقة يف األرض‬ ‫الباب‪ ،‬انفتحت ٌ‬
‫مدون أمامه وظيفته باألديتية‪ ،‬يف وسط‬ ‫واحد منها ّ‬ ‫ٍ‬ ‫الصغرية‪ّ ،‬‬
‫كل‬ ‫التحكم ّ‬
‫ِ‬
‫شبيهان بمنظار املراقبة املوجود يف‬ ‫أذرع التحكم منظاران‬ ‫َ‬ ‫تلك الغابة من‬
‫املراقب ً‬
‫قائل‪“ :‬هذه كلها‬ ‫ُ‬ ‫رشح هلام‬
‫َ‬ ‫الغواصات (البرييسكوب أو املنفاق)‪.‬‬
‫دون احلاجة للكهرباء‪ ،‬واملنظاران يعمالن بنظام‬ ‫أذرع هيدروليكية تعمل َ‬
‫مرايا مع ّقد يتيح للموجود رؤي َة املهامجني واألهداف التي يمكن إصابتها‬
‫خارج املبنى احلصني”‪.‬‬
‫َ‬
‫ثم أكمل‬ ‫ٍ‬
‫مقعد أمام املنصة كام طلب منهام ّ‬ ‫كل واحد منهام عىل‬‫جلس ّ‬
‫َ‬
‫استخدام تلك األسلحة‬
‫ُ‬ ‫مهمتكام األساسية هي‬
‫فإن ّ‬ ‫ً‬
‫قائل‪“ :‬كام تعلمون ّ‬
‫يف قصف أي قوات حكومية حتاول استعاد َة السيطرة عىل املبنى” كادت‬
‫تصحح وتقول‪“ :‬تعني قوات أديتية؟”‪ .‬لك ّنها تعرف ّ‬
‫أن األديتيني‬ ‫ّ‬ ‫(ميساء)‬
‫ْ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪336‬‬
‫ويرصون أن يتجنب‬
‫ّ‬ ‫يسمون قوات االحتالل بالقوات احلكومية‪،‬‬ ‫يف املقاومة ّ‬
‫َ‬
‫يعرتفون ّأنم حياربون قومهم؛ بل‬ ‫فهم ال‬
‫اجلميع تسميتهم بالقوات األديتية‪ُ ،‬‬
‫ُ‬
‫هتتم بمصاحلها عىل حساب الشعب”‪.‬‬ ‫حياربون “طغمة حاكمة ظاملة ّ‬
‫أكمل املراقب تعليامتِه هلم‪ّ ..‬‬
‫“تذكروا أن تثبتوا عىل األذرع عبوات املواد‬ ‫َ‬
‫املذيبة‪ ،‬وذلك لكي ّ‬
‫تتمكنوا من ختريبها إذا ّمتت مهامجة الغرفة وشعرتم أنّكم‬
‫قادرين عىل االستمرار يف السيطرة عليها”‪ .‬فر ّد عليه (باسل) ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫َ‬ ‫غري‬
‫رد ِمن صوت آخر‬ ‫“اطمئن أهيا العزيز‪ ،‬لن نفقد السيطر َة عليها”‪ .‬جاءمها ٌّ‬
‫روح مقاتلينا‪ ،‬و ّفقكم اهلل يا شباب”‪.‬‬
‫قائل‪“ :‬هذه هي ُ‬‫ً‬
‫َ‬
‫الضابط املرصي قائد غرفة املراقبة الذي جيلس جوار‬ ‫ُ‬
‫املتحدث هو‬ ‫كان‬
‫(عمر)‪ ،‬وقال‪“ :‬لقد سيطرنا عىل نسبة كبرية من املباين احلصينة‪ ،‬والفضل‬
‫(عمر) يريد حمادثتكم”‪ .‬دخل (عمر) عىل االتصال‬ ‫لشجاعتِكم‪ ،‬السيد ُ‬
‫وتتحرك قواتنا‪ ،‬اثبتوا يا أوالد”‪ .‬فقالت ميساء‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ربع ساعة فقط‬ ‫ً‬
‫قائل‪“ :‬بقيت ُ‬
‫أجواء احلامسة تلك كنت أظ ّنها يف القصص اخليالية فقط‪،‬‬
‫ُ‬ ‫“أنا متفائلة جدًّ ا‪...‬‬
‫لكن يبدو أهنا حتدث أحيا ًنا”‪.‬‬
‫يكبت مشاعره ويمنع نفسه من‬ ‫ُ‬ ‫ر ّد عليها (عمر) بشكل رسمي كأنّام‬
‫خماطبتِها بلهجة األب القلق‪“ :‬اجلميع عىل قلب رجلٍ واحد‪ْ ،‬‬
‫وإن شاء اهلل‬
‫األرض املحتلة”‪ .‬أغلق االتصال معها والتفت‬ ‫َ‬ ‫اليوم قبل أن نستعيد‬
‫يمر ُ‬‫لن ّ‬
‫آخر املستجدات عىل اجلبهات األخرى”‪.‬‬ ‫َ‬
‫نعرف َ‬ ‫إىل الضابط ً‬
‫قائل‪“ :‬نريد أن‬
‫النتائج ُمبهرة ح ّتى اآلن‪ ،‬لقد‬
‫ُ‬ ‫فقال وهو يفتح شاش ًة فراغية أمامه‪“ :‬انظر‪...‬‬
‫سقط ما يقارب من الثّامنني باملائة من املباين احلصينة يف احلدود اجلنوبية‪،‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪337‬‬
‫ً‬
‫وإمجال فقدْ جتاوزنا احلدَّ املطلوب‬ ‫ونحو سبعني باملائة من املباين يف الشامل‪،‬‬
‫األوامر للقوات بالتحرك”‪.‬‬
‫ُ‬ ‫لبدء اهلجوم وصدرت‬
‫استأذن منه (عمر) إلجراء اتّصال خاص؛ كان يريد أن يلتقط أنفاسه‬
‫قليل بعيدً ا عن ذلك الرجل الذي ال يستطيع ّ‬
‫تقبله عىل الرغم من الود الظاهر‬ ‫ً‬
‫وقع يف‬
‫يسرتح لقول الرجل إنّه بلدياته‪ ،‬بل َ‬
‫ْ‬ ‫يمنحها جتاهه‪ .‬مل‬
‫واحلفاوة التي ُ‬
‫وأنم يف املخابرات يعرفون عنه ّ‬
‫كل‬ ‫يظهر له مدى معرفتهم به‪ّ ،‬‬
‫ظ ّنه أنه يريد أن َ‬
‫ظن ُمعتاد منه فهو شخصية‬ ‫يشء‪ .‬بالطبع كان ِمن ا ُملحتمل أن يكون ّ‬
‫جمر َد سوء ّ‬
‫ري‬ ‫َ‬
‫تفاصيل عن حياته‪ ،‬غ َ‬ ‫َ‬
‫يعرف الكث ُري من الناس‬ ‫مشهورة ومن غري ا ُملستبعد أن‬
‫إعجاب‬
‫َ‬ ‫السنوات الفائتة كانت تثري‬
‫أن أفعاله الشجاعة يف مقاومة االحتالل يف ّ‬ ‫ّ‬
‫والضباط يف مرص‪ْ ،‬‬
‫وإن كانوا يعارضون الطريقة‪.‬‬ ‫الكثريين من اجلنود ّ‬
‫ركن ُمنعزل‪ ،‬وفتح قنا َة اتّصال مع ماندريك ليطمئن عليه وعىل‬ ‫جلس يف ٍ‬
‫َ‬
‫ثم أضاف‬ ‫َ‬
‫التحرك بالفعل”‪ّ ،‬‬ ‫بدء التحرك‪ ،‬ر ّد عليه ماندريك ً‬
‫قائل‪“ :‬لقد بدأنا‬ ‫ِ‬
‫أنت القائد‪،‬‬
‫“حتت أمرك يا سيادة القائد”‪ .‬فقال عمر‪“ :‬يا صديقي َ‬ ‫َ‬ ‫مازحا‪:‬‬
‫ً‬
‫َ‬
‫حاول املتعجرفون يف‬ ‫لوالك أنت ورجالك ملَا قدر هلذا اليوم ْ‬
‫أن يأيت مهام‬
‫حكوماتنا األرضية جتاهل تلك احلقيقة”‪ .‬ر ّد عليه ماندريك وجسدُ ه ّ‬
‫يرتج‬
‫أنت اآلن‬
‫“دعك من هذه األوهام‪َ ،‬‬ ‫من اهتزازات العربة العتيقة التي يرك ُبها‪ْ :‬‬
‫أن حتكم‬‫حرب التحرير تلك فال أستبعدُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫هم يف املعادلة‪ ،‬وإذا نجحت‬ ‫رقم ُم ّ‬
‫هذا البلد ذات يوم”‪.‬‬
‫َ‬
‫ضحك (عمر) وقال‪“ :‬يا لك من أمحق”‪ .‬فقال ماندريك‪:‬‬ ‫أثار كالمه‬
‫َ‬
‫حاكم أديتيا وأنت رئيس مرص‪،‬‬
‫َ‬ ‫“صدقني سيأيت اليوم الذي أكون أنا فيه‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪338‬‬
‫ُ‬
‫سنتواصل بطريقة‬ ‫ورغم أنّنا سنغلق إمكانية العبور بنيَ كوكبينا فإننا‬
‫ما‪ ،‬وحني حيدث ذلك سأذكرك بنقاشنا هذا‪ ،‬و‪ ”...‬قاطعه أحدُ الرجال‬
‫املوجودين معه يف العربة ً‬
‫قائل‪“ :‬العزيز ماندريك‪ ،‬سنتو ّقف اآلن استعدا ًدا‬
‫لتفجري القنابل املوجية”‪.‬‬
‫َ‬
‫ضغط فيه السائق‬ ‫َ‬
‫االتصال مع عمر يف الوقت نفسه الذي‬ ‫أغلقَ ماندريك‬
‫مكابح السيارة املدرعة‪ ،‬فتو ّقفت بخشونة دفع ْته لألمام‪ ،‬وجعلته يلعن‬
‫َ‬
‫اقرتب منه اجلندي‬
‫َ‬ ‫املركبات األرضي َة وخمرتعيها‪ .‬عندما توقف ُ‬
‫حمرك السيارة‬
‫ٍ‬
‫شارب‬ ‫الثالثينيات‪ ،‬حليقَ الذقن‪ ،‬ذا‬
‫ّ‬ ‫اجلالس خلفه‪ ،‬كان يف منتصف‬
‫ُ‬ ‫املرصي‬
‫ً‬
‫سؤال؟”‪.‬‬ ‫سائل‪“ :‬هل يمكن أن َ‬
‫أسأل سيادتك‬ ‫أذن ماندريك ً‬ ‫كث‪ ،‬مهس يف ِ‬
‫ّ‬
‫تعطل تلك‬ ‫أومأ برأسه مواف ًقا‪ ،‬فقال اجلندي‪“ :‬هل ح ًّقا هذه القنابل املوجية ّ‬
‫حدث اهلجوم‬ ‫َ‬ ‫وقت‬
‫احلراب التي يطلقها املحتلون‪ ...‬لقدْ كنت يف اخلدمة َ‬
‫تطارد زمالئي وتقتلهم ح ّتى‬
‫ُ‬ ‫األول‪ ،‬وشاهدت تلك احلراب املفزعة وهي‬
‫التفت إليه ماندريك وقال مطمئنًا‪“ :‬هي توقف متا ًما تقنية‬
‫َ‬ ‫وهم خمتبئون!”‪.‬‬
‫ُ‬
‫يصعب عىل‬
‫ُ‬ ‫أمر‬
‫خط مستقيم‪ ،‬وهو ٌ‬ ‫املقذوف يسري يف ّ‬
‫َ‬ ‫التتبع فيها‪ ،‬فتجعل‬
‫فهم مل يعتادوا عىل التصويب بدقة”‪.‬‬ ‫ُ‬
‫التعامل معه‪ُ ،‬‬ ‫احلكوميني‬
‫ّ‬ ‫اجلنود‬
‫واعتدل يف مقعده‪ ،‬لك ّنه عاد وسأله ثانية‪“ :‬وهل كمية‬‫َ‬ ‫شكره اجلندي‬
‫َ‬
‫أن مدى الواحدة يغطي مساحة قصرية بالنسبة‬ ‫تلك القنابل تكفي‪ ...‬أعني ّ‬
‫“أنت لن حتتاجها ّإل يف مناطق‬ ‫َ‬ ‫ابتسم ماندريك وقال له‪:‬‬
‫َ‬ ‫لتحركاتنا؟”‪.‬‬
‫ريا منها‪ ،‬ال‬
‫صنعنا عد ًدا كب ً‬
‫ثم إننا يف الفرتة السابقة ْ‬‫االشتباك وهي حمددة‪ّ ،‬‬
‫ُ‬
‫أخاف عىل حيايت‪،‬‬ ‫دافعا عن نفسه صف َة اجلبن‪“ :‬أنا ال‬
‫ختف”‪ .‬فقال الرجل ً‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪339‬‬
‫أن تلك احلرب هي فرصتنا األوىل واألخرية السرتداد أرضنا‪،‬‬‫أشعر ّ‬
‫ُ‬ ‫أنا فقط‬
‫ثم قال‬ ‫ِ‬
‫املكتوب عىل سرتته‪ّ ،‬‬ ‫املمزق”‪ .‬نظر ماندريك لالسم‬ ‫و ّمل ْ‬
‫شمل شعبنا ّ‬
‫سننترص وستسرتد أرضك”‪.‬‬‫ُ‬ ‫“اطمئن يا أمحد‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫هبدوء حازم‪:‬‬
‫يفكر يف احتامل أن يكون هناك‬‫اهلواجس ثانية وهو ّ‬
‫ُ‬ ‫قاهلا وعاودته‬
‫كل ما ّ‬
‫خططوا له‪ .‬كان لدهيم هو‬ ‫خطة بديلة لدى احلكومة األديتية تفسدُ ّ‬
‫فشلت تلك احلرب؛ وهي‬‫ْ‬ ‫خطة أخرى بديلة يف حال‬ ‫واملقاومون من ِ‬
‫قومه ّ‬
‫ُ‬
‫ستنال من قوهتم‬ ‫َ‬
‫انشغال احلكومة باحلرب هنا‪ -‬والتي بال شك‬ ‫أن يستغلوا‬
‫األم‪ ،‬وتفعيل ذلك االخرتاع اجلديد الذي‬‫ريا‪ -‬يف العودة إىل كوكبهم ّ‬ ‫كث ً‬
‫توصلوا إليه قبل عامني والذي سيمنع االنتقال بني الكوكبني‪.‬‬
‫ّ‬
‫كانت الفوىض التي ستنشأ نتيج َة احلرب كفيل ًة بإضعاف احلكومة عىل‬
‫ريا لدعم‬
‫أن احلكومة سرتسل عد ًدا كب ً‬ ‫الكوكب األم‪ ،‬كام قدّ ر هو وزمالؤه ّ‬
‫قواهتم يف ِ‬
‫قتالا مع األرضيني‪ ،‬وسيؤ ّدي هذا إىل سهولة سيطرة املقاومني عىل‬
‫َ‬
‫استغالل تلك احلرب للسيطرة عىل‬ ‫كوكب أديتيا‪ .‬كانت خط ُتهم يف احلالتني‬
‫اهنزم‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫املشكلة األكرب إذا‬ ‫انترص األرضيون أو اهنزموا‪.‬‬
‫َ‬ ‫كوكب أديتيا‪ ،‬سواء‬
‫ِ‬
‫بغلق‬ ‫سيضطر إىل خيانتهم‪ ،‬فسوف يقوم هو وزمالؤه‬‫ّ‬ ‫األرضيون هي أنه‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫التخل عن حلفائه‬ ‫الصدع الكوين‪ ،‬وفصل األرض عن أديتيا‪ ،‬وهذا يعني‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫والتخل عن ماليني األديتيني الذين يعيشون عىل كوكب األرض‪.‬‬ ‫األرضيني‪،‬‬
‫ّ‬
‫اختيار تلك اخلطة بل والضغط عىل الرافضني هلا من‬
‫ُ‬ ‫مل يكن أما َمه ّإل‬
‫زمالئه يف املقاومة األديتية؛ ألنه يرى أن األرضيني سينترصون يف النهاية‬
‫بعد عزل األرض عن كوكب أديتيا‪ ،‬وأن األديتيني املتبقني عىل األرض‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪340‬‬
‫سوف يندجمون مع الوقت يف املجتمعات التي يعيشون هبا‪ .‬خطته قد تبدو‬
‫يف ظاهرها انتهازية حتمل الكثري من التساؤل حول أخالقيتها لكن ناجتها‬
‫النهائي سيكون مفيدً ا للجميع ولو بعد حني‪.‬‬
‫ِ‬
‫التبعات األخالقية لذلك‬ ‫االنتصار يف احلرب ح ّتى ال يتحمل‬
‫َ‬ ‫كان يتمنى‬
‫يقض مضجعه ح ّتى هناية‬ ‫تربيره اآلن‪ ،‬لكنه يعلم أنّه سوف ّ‬
‫القرار الذي حياول َ‬
‫سبب ضيقه ِمن ّأول اليوم هو خو َفه من ذلك االحتامل‪ ،‬وكان هيرب‬ ‫ُعمره‪ .‬كان ُ‬
‫ألسباب أخرى ألنّه ال يريد مواجهة ذاته‪ .‬كانت تلك اخلطة ًّ‬
‫رشا ال بدّ‬ ‫ٍ‬ ‫بأفكاره‬
‫فإن اضطراره للخيانة العا ّمة لألرضيني وملَن سيرتكوهنم‬ ‫منه‪ ،‬ويف حال تنفيذها ّ‬
‫قدر ما حيزنه خيانته ُلع َمر نفسه ولتلك‬ ‫خلفهم ِمن األديتيني مل ْ‬
‫تكن ل ُتحزن قلبه َ‬
‫وتعتز به ربام أكثر من أبيها نفسه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫(ميساء) التي تعتربه ً‬
‫مثل أعىل‬ ‫الفتاة ْ‬
‫ري القنابل‬
‫تم فيها تفج ُ‬‫األفكار يف اللحظة التي ّ‬
‫َ‬ ‫نفض عن عقله تلك‬ ‫َ‬
‫حانت منه التفاتة‬
‫ْ‬ ‫والدبابات نحو احلدود‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫وانطلقت العربات‬ ‫املوجية‪،‬‬
‫ارتفعت أصواهتم‬
‫ْ‬ ‫ثم بعد ٍ‬
‫ثوان‬ ‫لوجوه اجلنود حوله فوجدَ ها مليئة بالرتقب‪ّ ،‬‬
‫َ‬
‫األرض نحو‬ ‫تنهب‬
‫ُ‬ ‫مدرعاتم ِمن احلدود‪ ،‬وانطلقت‬
‫ُ‬ ‫مرت‬ ‫بالتهليل حني ّ‬
‫مهمة بغرض السيطرة عليها‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫قاعدة عسكرية ّ‬ ‫أول‬
‫حيارصون القاعدة ويمطروهنا بقذائف من‬ ‫َ‬ ‫بعدَ وقت قصري كانوا‬
‫لكن قنبلة موجية‬ ‫انطلقت مركبات طائرة من القاعدة ُملهامجتهم ّ‬ ‫ْ‬ ‫دباباهتم‪.‬‬
‫قتال باألسلحة‬ ‫ُ‬
‫االشتباك املبارش‪ٌ .‬‬ ‫واحدة كانت كفيلة بإسقاطها‪ ،‬وبدأ‬
‫النارية‪ ،‬بنادق ورشاشات وقاذفات قنابل‪ ،‬مشهدٌ ُيشبه متا ًما مشاهدَ احلروب‬
‫األرضيني‬
‫ّ‬ ‫القديمة‪ ،‬كان ماندريك يقاتل ويشدّ من أز ِر اجلنود حوله‪،‬‬
‫يب أصيل‪.‬‬
‫يتحرج من معاملته كقائد حر ّ‬ ‫ّ‬ ‫وهم حوله ال أحد‬
‫واألديتيني‪ُ ،‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪341‬‬
‫ِ‬
‫غضون‬ ‫احلرب مفاجئة وخاطفة‪ ،‬ويف‬
‫ُ‬ ‫اجلنود اقتحام القاعدة كانت‬
‫ُ‬ ‫حني بدأ‬
‫العلم عىل القاعدة وهيتفون‪“ :‬اهلل أكرب” بحامسة‬
‫َ‬ ‫اجلنود يرفعون‬
‫ُ‬ ‫ساعتني كان‬
‫هواجسه‪ ،‬وجعلته يشاركهم اهلتاف‪.‬‬
‫َ‬ ‫أنست ماندريك‬‫ْ‬
‫األخبار تتوافد عليهم مبرشة بتساقط قواعد املحتلني يف البالد‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫بدأت‬
‫خاصة‬
‫بعض املقاومة يف بعض اجليوب‪ّ ،‬‬ ‫وإن كان هناك ُ‬ ‫تلو األخرى‪ْ ،‬‬‫واحدة َ‬
‫ٌ‬
‫تكليف لكتيبة من‬ ‫وصدر‬
‫َ‬ ‫يف شامل مرص وجنوب تركيا وغرب سوريا‪.‬‬
‫متسكت الكتيبة التي‬
‫نحو منطقة قتال أخرى‪ ،‬بينام ّ‬ ‫بالتوجه َ‬
‫ّ‬ ‫املشاركني معه‬
‫أوامر أخرى‪.‬‬
‫َ‬ ‫يشارك فيها ماندريك بالتزا ِم مكاهنا ح ّتى‬
‫ً‬
‫تفصيل‪ ،‬فر ّد عليه‬ ‫ليطمئن منه عىل الوضع بشكل أكثر‬ ‫ّ‬ ‫اتّصل عىل (عمر)‬
‫أروع كث ًريا ممّا ك ّنا نتخيل يا صديقي‪ّ ،‬إنم يستسلمون يف‬
‫متحم ًسا‪“ :‬النتائج ُ‬
‫ّ‬ ‫عمر‬
‫ُ‬
‫يمر الغدُ ح ّتى نعلن انتصارنا”‪ .‬قال ماندريك‪“ :‬هل ظهرت‬ ‫ِ‬
‫مئات املواقع‪ ،‬ولن ّ‬
‫“ظهرت يف موقع واحد وتعامل معهم اجلنود‬
‫ْ‬ ‫إمدادات هلم قادمة من الكوكب؟”‪.‬‬
‫ٌ‬
‫ثم سأله‪“ :‬متى يبدأ رجا ُلك هناك باالنقالب؟ أال حيبون أن‬ ‫ال تقلق صدقني” ّ‬
‫نقل أكثر من نصف القوات‬ ‫تم ُ‬
‫املخطط؟”‪ .‬فر ّد ماندريك‪“ :‬إذا ّ‬‫ّ‬ ‫يبكروا ً‬
‫قليل ِ‬
‫عن‬
‫احلكومية من أديتيا إىل األرض املحتلة فسيقومون باهلجوم بدون انتظار”‪.‬‬
‫يتجول يف‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫وأخذ هو‬ ‫أغلقَ معه (عمر) عىل ٍ‬
‫وعد بموافاته بالتفاصيل‪،‬‬
‫ري من‬
‫العدد الكبري من األرسى الذين كان بينهم الكث ُ‬
‫ُ‬ ‫ولفت انتباهه‬
‫َ‬ ‫القاعدة‪،‬‬
‫اجلنود بإهانتهم ورضْ هبم بقسوة عىل حني كانوا‬
‫ُ‬ ‫األرضيني‪ ،‬والذين كان يقوم‬
‫أقل عن ًفا‪ ،‬وإن كانت صارمة بالطبع‪.‬‬‫يتعاملون مع األرسى األديتيني بطريقة ّ‬
‫باب ّأو ِل غرفة‬
‫نحو ُغرف االسرتاحة‪ ،‬وفتح َ‬ ‫وتوجه َ‬
‫ّ‬ ‫دخل إىل مبنى القاعدة‬
‫ولكن بحذر‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫ً‬
‫متفائل‪،‬‬ ‫يفكر يف الغد‬ ‫ِ‬
‫بجسده عىل الفراش وهو ّ‬ ‫قابلته وألقى‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪342‬‬
‫‪46‬‬
‫القوات املرصية املشاركة يف عملية الدرع املكسور‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫“وقد استطاعت‬
‫ٍ‬
‫وكفاءة قتالية عالية‪ ،‬واستطاعت السيطر َة عىل‬ ‫منقطع النظري‬
‫ِ‬ ‫تفوق‬
‫إثبات ّ‬
‫َ‬
‫وأس اآلالف منهم‬ ‫عرشات القواعد العسكرية للمحت ّلني النياندرتال‪ِ ْ ،‬‬
‫ِ‬
‫صفوفهم‪ ،‬ومن اجلدير بالذكر ّ‬
‫أن أدا َء القوات‬ ‫ِ‬
‫ومن اخلونة الذين يقاتلون يف‬
‫املرصية هو األعىل بني ّ‬
‫كل القوات املحاربة يف التحالف”‪.‬‬
‫ري يف أحد‬ ‫جالس عىل مقعد وث ٍ‬
‫ٌ‬ ‫املذيع املرصي هيتف بحامس‪ ،‬وأناندار‬
‫ُ‬ ‫كان‬
‫قرصا رس ًّيا‬ ‫ّ‬
‫املحتل من تركيا‪ ،‬كان ً‬ ‫قصو ِره املنيعة يف جبال هاتاي يف اجلزء‬
‫ِ‬
‫النرشات اإلخبارية يف الدول‬ ‫ُمتبئًا يف ال ّتضاريس الصعبة للجبل‪ .‬كان يتابع‬
‫أحداث املعارك بني األرضيني واألديتيني‪ ،‬يشاهد وعىل‬ ‫َ‬ ‫ا ُملختلفة التي تنقل‬
‫ابتسامة واسعة‪ ،‬بينام كانت شاودريك كبري ُة مساعديه واق ًفة جواره‬
‫ٌ‬ ‫شفتيه‬
‫يبدو عليها القلق‪.‬‬
‫ُ‬
‫أفضل اجليوش املحاربة يف‬ ‫إثبات ّأنا‬
‫َ‬ ‫القوات الرتكية‬
‫ُ‬ ‫“وقد استطاعت‬
‫صوت‬
‫َ‬ ‫عملية الدّ رع املكسور عىل طول اجلبهة ضدّ النياندرتال”‪ .‬كان ذلك‬
‫مذيعة تليفزيون تركي‪ ،‬بعدها ق ّلب أناندار الشاشة لعرض تليفزيون سوري‪،‬‬
‫وكان املذيع يتحدّ ث عن صعوبة العمليات‪ ،‬واستبسال اجلنود األشاوس‬
‫رأس احلربة يف معركة الدّ رع املكسور ً‬
‫أيضا‪ .‬بعد ما‬ ‫الذين أثبتوا ّأنم هم ُ‬
‫انتهى املذيع من كالمه أطلق أناندار ضحك ًة عالية‪ ،‬فسألته شاودريك‪:‬‬
‫ِ‬
‫“أرأيت؟‬ ‫أن أسأل ما الذي يضحكك يا سيدي؟”‪ .‬فقال أناندار‪:‬‬ ‫“هل يل ْ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪343‬‬
‫النرص جلامعتهم أو ِ‬
‫لع ْرقهم‪ ،‬هؤالء األرضيون‬ ‫ِ‬ ‫نسب‬
‫َ‬ ‫مجيعا يريدون‬
‫ّإنم ً‬
‫بنيت خطتي”‪.‬‬
‫التعصب ألعراقهم‪ ،‬متا ًما كام توقعت وكام ُ‬
‫ّ‬ ‫مهووسون بذلك‬
‫ْ‬
‫ٍ‬
‫إعجاب دون أن ترد‪ ،‬فأشار إليها أناندار‬ ‫ابتسمت شاودريك لسيدها يف‬
‫ْ‬
‫قائل‪“ :‬هايت لنا حمط ًة من خارج تلك الدول‪ ،‬دعينا‬ ‫أن تقلب املحطة ثانية ً‬
‫مذيعا يتحدّ ث عن الوضع‬‫نسمع رأ ًيا ُمايدً ا”‪ .‬قلبت شاودريك املحطة‪ ،‬رأت ً‬
‫يف األرايض املحت ّلة‪ ،‬وعن االنتصارات ا ُملتتالية التي تتح ّقق عىل األرض يف‬
‫الوضع لديه‪ ،‬فقال‪:‬‬‫ْ‬ ‫ثم سأل أحد مراسليه من مدينة القدس عن‬ ‫ّ‬
‫كل بلد ّ‬
‫سيطرتا‬
‫َ‬ ‫القوات الصينية املشاركة يف عملية الدّ رع املكسور‬
‫ُ‬ ‫“لقد أحكمت‬
‫ينتظرون معرف َة‬
‫َ‬ ‫للمراقبني الذين كانوا‬
‫عىل مدينة القدس‪ ،‬كانت هذه مفاجأة ُ‬
‫جنسية القوات التي ستحرر املدينة‪ّ .‬أكد يل قائد القوات الصينية أهنم اضطروا‬
‫نظرا للخالفات الشديدة بني الدّ ول العربية وإرسائيل يف‬‫للقيام هبذه املهمة ً‬
‫ترص عىل أن‬‫حتديد جنسية القوات التي ستدخل املدينة‪ ،‬وهو ما جعل الصني ّ‬
‫تقوم قواهتا بذلك”‪.‬‬
‫اخلالفات بينهم‬
‫ُ‬ ‫قالت شاودريك معلق ًة عىل اخلرب‪“ :‬كام قلت يا سيدي‬
‫يصب يف صالح خطتك”‪ .‬مضت متتدح‬ ‫ّ‬ ‫أن جتعلهم يتفقون‪ ،‬وهذا‬ ‫أعمق من ْ‬
‫تضم إىل جانب األديتيني‬ ‫يف ذكاء سيدها وقيادته احلكيمة‪ ،‬وكيف ّ‬
‫أن منظمتَه ّ‬
‫مرة ِ‬
‫أن اختلف اثنان منهم بسبب ذلك‪ ،‬كام‬ ‫حيدث ّ‬
‫ْ‬ ‫برشا من ّ‬
‫كل األعراق مل‬ ‫ً‬
‫أكثر ممّا فعل والده؛ لذا كانت‬
‫ري من املتدينني َ‬ ‫ّ‬
‫أن أناندار يضم يف رجاله الكث َ‬
‫حكمة ماجوها عن طريق حتقيق طموح‬ ‫ِ‬ ‫شاودريك ترى فرص ًة إلعالء‬
‫أناندار‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪344‬‬
‫مالت عليه بأدب‪ ،‬وقالت‪“ :‬هل تريد حمادث َة قائد األمن ً‬
‫أول أم قائد‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫رأيك أنت؟”‪.‬‬ ‫ثم سأهلا‪“ :‬ما‬
‫قليل ّ‬ ‫املقاومني يف كوكب أديتيا؟”‪ّ .‬‬
‫فكر أناندار ً‬
‫فهو اآلن يف وضع ال حيسد‬ ‫أشارت عليه شاودريك أن حيدّ َث قائد األمن ً‬
‫أول َ‬
‫األرضيون واملقاومون األديتيني حي ّققون انتصارات متتالية ضدّ ه‪ ،‬وال‬
‫ّ‬ ‫عليه؛‬
‫جيابه هجمة األرضيني الرشسة عىل‬
‫يعرف كيف ُ‬ ‫ُ‬ ‫بدّ أنه شديد االرتباك وال‬
‫قواته يف مجيع األرايض املحتلة‪.‬‬
‫كانت شاودريك هي الوحيد َة املطلعة عىل خطة أناندار‪ ،‬التي متهد‬
‫حلمه يف السيطرة عىل األرايض املحتلة (أو أديتيا األرض كام‬‫ِ‬ ‫له تنفيذ‬
‫كل مكان يف حكومة‬ ‫ِ‬
‫وجود عمالء له يف ّ‬ ‫ُ‬
‫اخلطة تعتمد عىل‬ ‫يسموهنا)‪ .‬كانت‬
‫األم‪ ،‬وعمالء بني الثوار هنا وهناك ً‬
‫أيضا وبني‬ ‫أديتيا يف األرض ويف الكوكب ّ‬
‫احلكومات األرضية‪ .‬كان أناندار يدير شبك ًة من العمالء ال ُ‬
‫تقدر عىل إدارهتا‬
‫أعتى أجهزة املخابرات يف العامل‪.‬‬
‫منصب الرجل‬
‫ُ‬ ‫أشارت عليه مساعدته‪ ،‬كان‬
‫ْ‬ ‫طلب قائد األمن ً‬
‫أول كام‬ ‫َ‬
‫معا‪ ،‬وكان بينه وبني أناندار‬
‫يعادل منصبي وزير الدفاع ووزير الداخلية ً‬
‫ختص تسهيل عمل أناندار مقابل هدايا وعموالت‪،‬‬
‫وعالقات ّ‬
‫ٌ‬ ‫اتصاالت‬
‫ٍ‬
‫عمليات قذرة لصالح‬ ‫ومقابل قيام أناندار باستخدام إمكانياته إلجراء‬
‫الدولة عند احلاجة‪ .‬كان الرجل بالفعل يف حالة ُيرثى هلا‪ ،‬ور ّد عىل أناندار‬
‫ِ‬
‫إرسال ال ّنجدة‬ ‫ِ‬
‫بنفاد صرب ً‬
‫قائل‪ :‬إن احلكومة املركزية يف الكوكب تتباطأ يف‬
‫من هناك‪ ،‬وإنّه حياول القيام هبجوم مضا ّد باإلمكانيات املتاحة لديه‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪345‬‬
‫لدي خطة ملساعدتك للتغلب عىل األرضيني بدل‬ ‫“العزيز قائد األمن‪ّ ،‬‬
‫أسك” قال أناندار‪ ،‬فر ّد‬ ‫تصل ّإل بعد قتلك أو ْ‬
‫َ‬ ‫انتظار اإلمدادات التي لن‬
‫حالة تسمح يل‬‫ٍ‬ ‫عليه قائد األمن بعصبية‪“ :‬اسمع يا أناندار‪ ،‬أنا لست يف‬
‫ألجيب اتّصالك‪ ،‬إذا‬
‫َ‬ ‫مع قادة رجايل‬‫بمساوماتك‪ ،‬لقد خرجت من اجتامعي َ‬
‫ثم نتفاوض”‪ .‬تك ّلم أناندار بجد ّية هذه املرة‪،‬‬ ‫كان لديك مساعدة قدمها ً‬
‫أول ّ‬
‫إن خطة القوات األرضية التالية هي السيطر ُة عىل مراكز الصواريخ‬ ‫وقال له ّ‬
‫وأنم‬‫املضا ّدة التي تقوم بمنع أي هجوم جوي عىل أديتيا األرضية‪ّ ،‬‬
‫اخلاصة باحلكومة‬‫ّ‬ ‫ِ‬
‫قصف بقية األماكن املهمة‬ ‫سيقومون هبذا ليتمكنوا من‬
‫األديتية وقياداته‪.‬‬
‫ومراكز الصواريخ تتعدى‬ ‫ُ‬ ‫عصبيته‪“ :‬كيف ذلك‬
‫ّ‬ ‫زادت‬
‫ْ‬ ‫ر ّد قائدُ األمن وقد‬
‫األلف‪ ،‬وك ّلها حتت األرض‪ ،‬ومنيعة‪ ،‬ح ّتى ضدّ القنابل املوجية!”‪ .‬فقال‬
‫وإن هناك فر ًقا‬
‫بكل هذه األماكن‪ّ ،‬‬ ‫إن لدى املهامجني خرائط دقيقة ّ‬ ‫أناندار ّ‬
‫مدربة عىل اقتحامها من أفضلِ رجال املقاومة األرضيني واألديتيني وقوات‬
‫ثم أضاف‪“ :‬سنجعل تلك املراكزَ كمينًا هلم‪،‬‬ ‫الكوماندوز يف بعض الدول‪ّ ،‬‬
‫ثم‬ ‫صمت الرجل ً‬
‫قليل ّ‬ ‫َ‬ ‫وسنقتل اآلالف من خرية رجاهلم يف ٍ‬
‫وقت واحد”‪.‬‬
‫سأله‪“ :‬وكيف نح ّقق ذلك؟ وما الثمن الذي تريده؟”‪.‬‬
‫أن ألناندار‬‫يفهم اآلخر متا ًما‪ ،‬وكان قائدُ األمن يعرف ّ‬‫ُ‬ ‫كان كالمها‬
‫طموحات تتع ّلق بتغيري صورته من رجلِ عصابات لرجلِ دولة‪ .‬قال أناندار‪:‬‬
‫وكل ما أشرتطه عليك هو أن نقوم‬ ‫“أنتم خمرتقون ِمن املقاومة بشكلٍ كبري‪ّ ،‬‬
‫احلاكم وال قادتك شيئًا عنها”‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫تكون يف رس ّية ال يعلم‬ ‫معا‪ ،‬وأن‬
‫بتلك العملية ً‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪346‬‬
‫دور حاكم أديتيا األرض‬‫هيمش قائدُ األمن َ‬ ‫ُ‬
‫خطة أناندار هي أن ّ‬ ‫كانت‬
‫بحجة أنه يشك يف أن هناك اتصاالت بينَه وبني املخربني‪ ،‬وبعد أن يتح ّقق‬‫ّ‬
‫تورطه مع‬
‫أن لديه أدلة عىل ّ‬‫ذلك النرص املبدئي يتحفظ عىل احلاكم ويعلن ّ‬
‫جننت يا أناندار! كيف‬
‫َ‬ ‫بدل منه‪“ .‬هل‬ ‫منصب احلاكم ً‬
‫َ‬ ‫املخربني‪ ،‬ويعتيل هو‬
‫أهتمه وهو ِمن رموز الدولة من ْقبل الغزو‪ ،‬وأين تلك األدلة‪ّ ،‬‬
‫ثم أنت مل‬
‫ختربين بعدُ بالثمن!”‪.‬‬
‫هتز صورة أي‬‫املروعة ّ‬
‫منطقيا وهو يقول‪“ :‬تلك اهلزيمة ّ‬ ‫ًّ‬ ‫بدَ ا ّ‬
‫رد أناندار‬
‫ريا للهزيمة‪ ،‬وهو‬ ‫مربرا كب ً‬
‫ً‬ ‫واتام رجلٍ بحجمه يعطي‬ ‫رم ٍز يف الدولة‪ّ ،‬‬
‫األم‪ ،‬وسيعطي هلم َ‬
‫كبش‬ ‫رب ٌر سيسعد احلكومة املركزية يف الكوكب ّ‬ ‫م ّ‬
‫تدين احلاكم “واألدلة‬‫ثم أضاف وهو يفتح شاش ًة عرضت وثيقة ُ‬ ‫فداء” ّ‬
‫موجودة‪ -‬كام ترى‪ -‬ومرتبة بعناية‪ ،‬ولن يد ّقق أحد فيها‪ ،‬فبعد أن نستعيدَ‬
‫زمام األمور وهنزم األرضيني ستكون مصداقية كلينا عالية‪ ،‬وسيكون‬ ‫َ‬
‫إقناع هيئة احلكم العليا بخيانته‪ّ ...‬أما الثمن‪ ”..‬صمت حلظة‪،‬‬ ‫من السهل ُ‬
‫“أن تعلن للجميع دوري يف التغلب عىل األرضيني واخلونة‬ ‫ثم أضاف‪ْ :‬‬ ‫ّ‬
‫استخدام السالح الشامل وتبعاته الكارثية التي‬
‫َ‬ ‫من قومنا‪ ،‬وأنّني ج ّنبتكم‬
‫الثمن احلقيقي‪“ :‬وماذا ً‬
‫أيضا؟”‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫الرجل طال ًبا منه أن يقول‬ ‫تعرفها”‪ .‬فقال‬
‫أن تصري‬‫تعينني قائدً ا لألمن بعد ْ‬ ‫فقال أناندار بعد ضحكة قصرية‪ْ :‬‬
‫“أن ّ‬
‫أنت احلاكم”‪.‬‬
‫استطاع بحنكة أن يقنعه‬
‫َ‬ ‫كانت املفاجأة كبري ًة عىل الرجل‪ ،‬لكن أناندار‬
‫حل بديل غري هذا‪ ،‬وأنّه إذا استطاع األرضيون تعطيل‬ ‫بأنه ال يوجد ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪347‬‬
‫َ‬
‫السقوط الكامل ألديتيا يف يدهم‪ .‬أضافت‬ ‫مراكز الصواريخ ّ‬
‫فإن هذا يعني‬
‫َ‬
‫تتوقف‬ ‫“إن خطة سيدي أناندار لن‬‫أن أذن هلا أناندار‪ّ :‬‬ ‫شاودريك قائلة بعد ْ‬
‫كل غرف‬ ‫عند هذه املرحلة‪ ،‬بعد هذا االنتصار املؤ ّقت لديه ٌ‬
‫خطة ثانية لتدمري ّ‬
‫يعزز‬
‫ثم مرحلة ثالثة ّ‬
‫ال ّتحكم التي يدير هبا األرضيون معاركهم يف الداخل‪ّ ،‬‬
‫املخربني متا ًما‪ ،‬وهكذا ح ّتى يتح ّقق النرص الكامل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫هبا النرص ويقيض عىل‬
‫وينسب هذا النرص لك ولسيدي أناندار فقط”‪.‬‬
‫صمت قصري تكلم بعدَ ه الرجل‪ ،‬وطلب من أناندار أن يطلعه عىل‬ ‫ٌ‬ ‫سا َد‬
‫سيقوم هبا لر ْدع اهلجوم عىل مراكز الصواريخ‪ .‬ترك أناندار‬ ‫ُ‬ ‫اخلطة التي‬
‫ُ‬
‫املحادثة‬ ‫َ‬
‫تفاصيل اخلطة وكيفية تنفيذها‪ ،‬ومل تنته‬ ‫لشاودريك الفرص َة لترشح‬
‫أن مستقبله يف التعاون مع أناندار‪،‬‬ ‫مقتنعا متا ًما ّ‬
‫ً‬ ‫بينهم ح ّتى كان قائد األمن‬
‫ري كاف‪ ،‬بعد‬ ‫وأعطاه وعدً ا بتنفيذ جانبه من االتّفاق‪ ،‬فقال أناندار‪“ :‬الوعد غ ُ‬
‫نردع هذا اهلجوم ستقوم بحبس احلاكم‪ ،‬وختربهم يف كوكب أديتيا أنّني‬ ‫أن َ‬
‫أنا َمن ساعدك عىل ردع اهلجوم‪ ،‬وأنّني َمن سيتعاون معك يف املراحل التالية‪،‬‬
‫فضيل من البداية”‪ .‬وافق الرجل‪ ،‬وأغلق معه االتصال‪.‬‬ ‫أريدهم أن يعرفوا ْ‬
‫مقعده الوثري وقال لشاودريك‪“ :‬سوف أترك ِ‬
‫لك‬ ‫ِ‬ ‫قام أناندار من عىل‬
‫َ‬
‫أن روحك هي الثمن”‪.‬‬ ‫ِ‬
‫فشلت فاعلمي ّ‬ ‫املهمة‪ ،‬وإذا‬
‫اإلرشاف عىل هذه ّ‬
‫ُ‬
‫الرصامة واإلرصار وهي تبلغه‬ ‫وكست مالحمها‬
‫ْ‬ ‫شدت شاودريك قامتها‬
‫أطلب‬
‫ُ‬ ‫ثم قالت‪“ :‬هل‬‫باملهمة عىل خري وجه‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫وأنا ستقوم‬
‫ّأنا رهن أمره‪ّ ،‬‬
‫لك قائد املقاومة يف كوكب أديتيا اآلن أم الح ًقا؟”‪ .‬فقال أناندار‪“ :‬كال‪،‬‬
‫دعيه بعدَ أن نردع هذا اهلجوم ليكون لنا قوة أكرب يف ِ‬
‫أثناء التفاوض معه”‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪348‬‬
‫كل خططك يا سيدي”‪.‬‬ ‫فردت شاودريك‪“ :‬أدعو ماجوها أن يرعى ّ‬ ‫ّ‬
‫َ‬
‫فضحك أناندار وقال هلا وهو يتأ ّمل قوامها‪“ :‬أنت خسارة يف التب ّتل يا‬
‫والصامة ال تفارق‬ ‫ّ‬ ‫نفسك ملاجوها” فقالت‬ ‫شاودريك‪ ،‬ليتك مل هتبي َ‬
‫النرص‬
‫َ‬ ‫الغاية العليا‪ ،‬وصلوايت له ك ّلها ترجو‬
‫ُ‬ ‫وجهها‪“ :‬خدمة ماجوها هي‬
‫لك يا سيدي” أومأ أناندار برأسه وقال‪“ :‬حسنًا‪ ،‬لك ّنني اآلن أريد يقظتَك‬
‫ومهارتك أكثر من صلواتك أيتها الكاهنة البتول”‪.‬‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪349‬‬
‫‪47‬‬
‫الشقية للمعادي اجلديدة‪ ،‬يقع أحدُ مراكز الصواريخ‬ ‫عىل األطراف ّ‬
‫ُ‬
‫الصواريخ‬ ‫األساسية التي أنشأها النياندرتال بعدَ الغزو مبارشة‪ ،‬وتقع‬
‫ُ‬
‫حوائطها‬ ‫حتت األرض بالكامل‪ ،‬وكانت‬ ‫وقاعدة التحكم فيها يف خمابئ َ‬
‫املوجية عليها إذا‬
‫ّ‬ ‫ري القنابل‬
‫ومتنع بالتايل تأث َ‬
‫ُ‬ ‫عازلة لإلشعاعات من خارجها‪،‬‬
‫تم إطال ُقها يف اخلارج‪ .‬كانت الفرقة ّ‬
‫الصغرية املكلفة باقتحا ِم املركز حتتاج‬ ‫ّ‬
‫إىل الدخول إىل قاعدة التحكم وتدمريها من الدّ اخل لتتيح للقوات اجلوية‬
‫ري مراكز‬‫دخول األرايض املحتلة‪ ،‬وتتيح لصواريخ قوات التحالف تدم َ‬ ‫َ‬
‫القيادة ومقار احلكام‪.‬‬
‫تتكون من سبعة أفراد من ضمنهم (سمري) وضياء‪،‬‬ ‫كانت تلك الفرقة ّ‬
‫يتم استغالل‬‫متنوعي اخللفيات‪ .‬كان من املفرتض أن ّ‬ ‫إضافة إىل مقاتلني ّ‬
‫الفوىض احلادثة بعدَ اقتحام القوات املرصية لألرض املحتلة‪ ،‬والسيطرة عىل‬
‫العديد من القواعد العسكرية يف تسهيل اقتحا ِم تلك القاعدة‪ .‬كان (سمري)‬
‫ْ‬
‫أوشكنا عىل النرص‪ ،‬وستعود باشا يف الرشطة ثانية‪،‬‬ ‫يامزح (ضياء) ً‬
‫قائل‪“ :‬لقد‬
‫سالح قبضته‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫يعدل‬ ‫وسأحتاج واسطة للحديث معك”‪ .‬ر ّد (ضياء) وهو‬
‫أتوسط لتعيينك أمني رشطة معي”‪.‬‬
‫ختف؛ سوف ّ‬ ‫ويتأكد من تفعيله‪“ :‬ال ْ‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫كرسالة عىل اهلاتف خالية من ذلك الوجه‬ ‫أثر فيه للمزاح‪،‬‬
‫جادا ال َ‬
‫رده ًّ‬
‫كان ُّ‬
‫اآلخر برتتيب‬
‫ُ‬ ‫الضاحك أو ح ّتى املبتسم‪ .‬ضايق ذلك (سمري) فانشغل هو‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫سيظل يتعامل معه بذات‬ ‫إن (ضياء) لن يتغري‪،‬‬‫معداته وهو يقول لنفسه ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪350‬‬
‫أن (سمري) اآلن يفوقه رتب ًة طب ًقا لقواعد تنظيم القوات‬
‫رغم ّ‬
‫الطريقة املتكربة َ‬
‫وردت له خاطرة ليامرس سلطتَه عىل (ضياء) ولو للمرة‬ ‫ْ‬ ‫التي يعملون هبا‪ .‬هنا‬
‫أنت مع الفتاة التقنية التي ّ‬
‫تعطل‬ ‫األخرية فقال بصوت جا ّد‪“ :‬سوف تكون َ‬
‫ني من النياندرتال من املدخل‬ ‫الطائرات الدقيقة‪ ،‬وسوف أتقدم أنا مع اثن ِ‬
‫“ولكن اخلط َة أن نكون ً‬
‫معا‪ ،‬وأن‬ ‫ّ‬ ‫فقطب (ضياء) حاجبيه وقال‪:‬‬ ‫الرشقي”‪ّ .‬‬
‫قناع‬
‫يرسم عىل وجهه َ‬
‫ُ‬ ‫حيرس أحدُ األديتيني زميلته التقنية”‪ ،‬فقال (سمري) وهو‬
‫ُ‬
‫أفضل يف رأيي‪ ،‬ن ّفذ األمر وبدّ ل مكانك مع األديتي”‪.‬‬ ‫الصامة‪“ :‬هذا‬
‫ّ‬
‫بالتوجه نحو األديتي وبدّ ل مكانه معه وهو يلعن‬ ‫ّ‬ ‫مل يع ّقب (ضياء) وقام‬
‫جمرد أيا ٍم وتنتهي تلك املرحلة‪ ،‬وينتهي ذلك‬ ‫رسه‪ .‬قال لنفسه ّإنا ّ‬‫(سمري) يف ّ‬
‫ثم لعامل ذي تعليم‬ ‫ٍ‬
‫لطفلة ال تفهم شيئًا‪ّ ،‬‬ ‫مرؤوسا‬
‫ً‬ ‫الوضع املقلوب الذي جعله‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫مكمن عىل مسافة مائتي مرت‬ ‫متوسط‪ .‬تأ ّمل املكان ِمن حوله‪ ،‬كانوا خمتبئني يف‬
‫سكني قريب‬
‫ّ‬ ‫تقري ًبا من املبنى‪ ،‬كامننيَ يف أسفل عامرة سكنية يف هناية جممع‬
‫َ‬
‫الدخول عىل بيانات الطائرات الدقيقة‬ ‫من املركز‪ِ .‬‬
‫أهنت التقنية املرافقة له‬
‫ثم أعطت‬ ‫نسبيا‪ّ ،‬‬
‫وقت قصري ًّ‬ ‫ٍ‬ ‫واستطاعت تعطيلها يف‬
‫ْ‬ ‫املوجودة يف املكان‬
‫اإلشارة لبدء العملية‪.‬‬
‫ِ‬
‫انطلقت املجموعة بحذر اجتاه املبنى والطائرات الدقيقة تتحاشاهم‬
‫ٌ‬
‫جمموعة من حراس املكان‪.‬‬ ‫ثم فجأة ظهر يف مواجهتهم‬ ‫مرئيني‪ّ ،‬‬
‫كأهنم غري ّ‬
‫ثم توقف ّ‬
‫كل‬ ‫َ‬
‫إطالق األسلحة مع احلراس ّ‬ ‫انبطح املهامجون ً‬
‫أرضا‪ ،‬وتبادلوا‬
‫مهس عن اخلطوة‬
‫ثم دار بينهم ٌ‬ ‫ِ‬
‫النظرات مع املجموعة‪ّ ،‬‬ ‫يشء‪ .‬تبادل (سمري)‬
‫رسيعا‬
‫ً‬ ‫اجلواب‬
‫ُ‬ ‫احلراس عن مهامجتهم‪ .‬أتى‬
‫التالية وعن تفسريهم لتوقف ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪351‬‬
‫جمموعة أخرى ِمن الطائرات الدقيقة مل ْ‬
‫تكن ضمن‬ ‫ٌ‬ ‫حني ظهرت يف اهلواء‬
‫املجموعة التي سيطرت عليها التقنية‪.‬‬
‫ِ‬
‫استعادة التحكم يف تلك املجموعة‬ ‫َ‬
‫هتف (ضياء) بالتقنية مستحثًّا إ ّياه عىل‬
‫ذات برجمة خمتلفة‪ ،‬ويبدو ّأنا‬ ‫ُ‬
‫التقنية ّإنا جمموعة جديدة ُ‬ ‫من الطائرات‪ .‬قالت‬
‫الطائرات برجمتها خمتلفة متا ًما‬
‫ُ‬ ‫ال تنتمي للمنظومة الدّ فاعية هلذا املركز‪“ .‬هذه‬
‫األقل لتعطيلها”‪ .‬قالت‬ ‫ّ‬ ‫أحتاج إىل عرش دقائق عىل‬
‫ُ‬ ‫عن الطائرات احلكومية‪،‬‬
‫ينتظر (ضياء)‬
‫ْ‬ ‫أصابعها بعصبية عىل شاشة اجلهاز معها‪ .‬مل‬
‫َ‬ ‫بتوتر وهي تنقل‬
‫أنت بعملك وحاويل‬‫أتدخل ملساعدهتم‪ ،‬قومي ِ‬
‫ريا قبل أن يقول‪“ :‬ال بدّ أن ّ‬
‫كث ً‬
‫أن ترسعي”‪.‬‬

‫اقرتب (ضياء) بحذ ٍر من املجموعة مساف ًة كافية‪ّ ،‬‬


‫ثم أخرج مسدسه العادي‬ ‫َ‬
‫وصوبه عىل إحدى الطائرات‪ ،‬واستجمع تركيزه كله‬
‫ّ‬ ‫كاتم صوت‪،‬‬
‫املثبت به ُ‬
‫ّ‬
‫وتوجهت عىل الفور طائرة أخرى نحوه‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫سقطت الطائرة‬ ‫ثم أطلقَ َ‬
‫النار عليها‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫مقذوف منها‪ ،‬وارتطم‬ ‫متعرج صعب عليه إسقاطها‪ .‬استطاع تفادي‬ ‫يف مسار ّ‬
‫َ‬
‫وحاول ح ّتى استطاع إسقاطها‪.‬‬ ‫مقذوف آخر ِ‬
‫بدرعه‪ ،‬فآمله بشدّ ة‪ ،‬لك ّنه مل ييأس‬
‫ٍ‬
‫بشخص يقرتب منها‬ ‫التفت نحو التقنية فوجدَ ها تعمل برتكيز‪ّ ،‬‬
‫ثم فوجئ‬
‫دون أن تراه‪ .‬حاول حتذيرها بدون جدوى؛ فأطلق سالحه عىل املهاجم‪ ،‬مل‬
‫املهاجم فاشتبكت معه‪.‬‬
‫َ‬ ‫يصبه لك ّنه أثار انتبا َه التقنية التي رأت‬
‫ْ‬
‫الطائرات عىل املجموعة وسقط منهم قتيالن‬
‫ُ‬ ‫يف الوقت ِ‬
‫نفسه تكاثرت‬
‫موجية‪ .‬قال مرافقه األديتي‬
‫ّ‬ ‫اضطر (سمري) للتفكري يف استخدام قنبلة‬
‫ّ‬ ‫ما‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪352‬‬
‫ِ‬
‫بأجهزة ّ‬
‫فك التشفري‬ ‫فتح األبواب‬
‫ألنم لن يتمكنوا من ِ‬
‫إهنا فكرة خاطئة ّ‬
‫ٍ‬
‫طائرة‬ ‫ٍ‬
‫بصوت مرتفع وهو يتفادى مقذو ًفا من‬ ‫املوجودة معهم‪ .‬قال (سمري)‬
‫فجرها اآلن”‪.‬‬‫هيا ّ‬ ‫ويطلق النار عليها‪“ :‬لن نتمكن من ِ‬
‫فتحها إذا متنا‪ّ ،‬‬
‫قليل‪ ،‬جع َله ذلك ال يرى الطائرة التي اقرتبت منه واحلرب َة‬
‫تر ّدد األديتي ً‬
‫ثم‬‫انطلقت ّاتاه رأسه‪ ،‬لكن (سمري) قفزَ عليه وأبعده عن مسارها ّ‬ ‫ِ‬ ‫التي‬
‫دون أن يتمكن من إسقاطها‪ .‬اعتدل األديتي وفتح‬ ‫أطلق النار عىل الطائرة َ‬
‫جرا َبه برسعة وأطلق قنبلته‪.‬‬
‫متكن من قتل التقنية‬‫املهاجم الذي ّ‬
‫ِ‬ ‫ً‬
‫مشتبكا مع‬ ‫كان (ضياء) ساعتها‬
‫تام بعد‬
‫هدوء ّ‬
‫ٌ‬ ‫عم‬
‫متكن من قتله‪ّ .‬‬ ‫رسيعا بعدَ أن ّ‬
‫ً‬ ‫ِ‬
‫انتهت املعركة بينهام‬ ‫األديتية‪.‬‬
‫الطائرات الدقيقة‪ ،‬وأخذ املقاومون حياولون‬
‫ُ‬ ‫احلراس ومهدت‬
‫ُ‬ ‫ذلك‪ ،‬اختفى‬
‫مداوا َة جرحاهم‪ .‬فكر (ضياء) يف خطوتِه التالية‪ ،‬هل يتقدّ م ملساعدة زمالئه‬
‫ومن احلكمة‬‫عنرص املفاجأة‪ِ ،‬‬
‫َ‬ ‫فمن الواضح ّأنم فقدوا‬ ‫أم ينتظر تراجعهم ِ‬
‫أن تلك املهمة قد فشلت‪.‬‬ ‫اعتبار ّ‬
‫ُ‬
‫حياول عب ًثا مداوا َة أحد رفاقه وهو يفكر يف اخلطوة التالية‬ ‫(سمري) كان‬
‫ممكن يف تلك اللحظة وهو قدْ صار قائد‬ ‫ٍ‬ ‫ري‬ ‫ُ‬
‫االتصال بالقيادة غ ُ‬ ‫بدوره‪.‬‬
‫ْ‬
‫ٍ‬
‫ومشاورة مع زمالئه‬ ‫العملية اآلن بعدَ مقتل قائدها األديتي‪ .‬بعدَ تفكري قصري‬
‫اختذ القرار ّ‬
‫بالتاجع‪.‬‬
‫ُ‬
‫والضابط املرافق له يشاهدان املشهد نفسه‬ ‫يف الوقت نفسه كان (عمر)‬
‫مواقع الصواريخ كلها ُمنوا‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عرشة مواقع خمتلفة‪ .‬املقاومون يف‬ ‫حيدُ ث يف‬
‫ُ‬
‫الضابط أن يلقي بالالئمة‬ ‫املهمة‪ .‬حاول‬ ‫ٍ‬
‫هبزيمة‪ ،‬وفشلوا يف حتقيق تلك ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪353‬‬
‫ري من‬ ‫ٍ‬
‫معلومات خاطئة أ ّدت إىل قتل الكث ِ‬ ‫وأنم اعتمدوا عىل‬
‫عليهم‪ّ ،‬‬
‫طبيعي حيدث‪ ،‬هذه الطائرات ليست‬
‫ّ‬ ‫الرجال‪ ،‬فقال عمر‪“ :‬هناك يشء غري‬
‫َ‬
‫املوقف من خالل‬ ‫ٍ‬
‫كامريات تتابع‬ ‫حكومية!”‪ .‬كانا يتابعان املشهد من خالل‬
‫أقامر صناعية‪ ،‬وكان هناك عىل ُبعد آالف األميال َمن يتابع املشهد نفسه‬
‫فرح غامر‪.‬‬ ‫ً‬
‫أيضا‪ ،‬ولكن يف ٍ‬
‫حتتفل بام تراه من نجاح ّ‬
‫خطتها يف ر ّد ذلك اهلجوم عىل‬ ‫ُ‬ ‫كانت شاودريك‬
‫ْ‬
‫بعض املقاومني ينسحبون من أماكنهم‬‫مراك ِز الصواريخ‪ ،‬وحني بدأت ترى َ‬
‫ِ‬
‫فتحت االتّصال بأناندار وسألته‪“ :‬سيدي‪ ،‬هل أبدأ اجلز َء‬ ‫مهمتهم‬
‫بعد فشل ّ‬
‫ٌ‬
‫فرحة طاغية وهي تعطي‬ ‫الرد باإلجياب‪ .‬غمرهتا‬
‫الثاين من خطتي؟”‪ .‬فجاءها ُّ‬
‫بقية املقاومني‪ .‬مل يساورها أدنى ّ‬
‫شك يف‬ ‫ِ‬
‫باصطياد ّ‬ ‫األمر لرجاهلا عىل األرض‬
‫َ‬
‫ينسحبون ح ّتى حيدث أكرب قد ٍر‬
‫َ‬ ‫األفضل ً‬
‫بدل من تركهم‬ ‫ُ‬ ‫أن قتلهم هو ُّ‬
‫احلل‬ ‫ّ‬
‫رشف عظيم‬ ‫ٌ‬ ‫من الصدمة لدى الطرف اآلخر‪ ،‬كام ّ‬
‫أن القتل من أجل ماجوها‬
‫ينبغي أن حتظى بأكرب قدْ ٍر منه‪.‬‬
‫وأشار إىل (ضياء)‬
‫َ‬ ‫عىل األرض‪ ،‬كان (سمري) يستعدّ لالنسحاب‪،‬‬
‫التحر َك بحذر‬
‫ّ‬ ‫قام هو و َمن معه وبدأوا‬ ‫باالنتظار يف ْ‬
‫مك َمنه ح ّتى يصلوا إليه‪َ .‬‬
‫مقرهم الذي انطلقوا منه‪ .‬الحظ‬ ‫ِ‬
‫للعودة إىل ّ‬ ‫عائدين نحو (ضياء) متهيدً ا‬
‫ٍ‬
‫بصوت عال‬ ‫صاح هبم‬
‫َ‬ ‫ترتاقص عىل أجساد زمالئه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫ضوء‬ ‫(ضياء) نقاط‬
‫طلقات رصاص خارقة‬
‫ُ‬ ‫اهنالت عليهم‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫حدث‬ ‫“انبطحوا” َ‬
‫وقبل أن يدركوا ما‬
‫يف ٍ‬
‫وقت كانت دروعهم قد ّ‬
‫تعطلت بفعل القنبلة املوجية التي أطلقوها‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪354‬‬
‫سقط اثنان‪ ،‬وبقي (سمري) وآخر‪ ،‬مل يصدّ ق (ضياء) نفسه‪ ،‬مل يكن يتخيل‬ ‫َ‬
‫اصة يعملون بتلك ّ‬
‫الطريقة التي تنتمي بشكلٍ كامل للطرق‬ ‫أن الغزا َة لدهيم ق ّن ٌ‬
‫ّ‬
‫ْ‬
‫يصل إىل علمه ّأنم حياولون‬ ‫رشطيا مل‬
‫ًّ‬ ‫األرضية‪ .‬ح ّتى هو حنيَ عمل معهم‬
‫الغريب ّ‬
‫أن القناصة مل يبدؤوا‬ ‫ُ‬ ‫استخدام قناصة فأسلح ُتهم كانت كافية متا ًما‪.‬‬
‫الدروع التي تصدّ الرصاص بمجاهلا‬
‫ُ‬ ‫إطالق أسلحتهم ّإل بعد أن ّ‬
‫تعطلت‬
‫فخا ُم ً‬
‫كم دخلوه بكامل‬ ‫األمر بر ّمته ًّ‬
‫ُ‬ ‫املوجي بعد إطالق القنبلة‪ .‬لقد كان‬
‫إرادهتم‪ ،‬وساعدوا بأنفسهم عىل إطباقه عليهم بقوة‪.‬‬
‫بصوت عال‪“ :‬سمري‪ ،‬ابقَ مكانك وال تتحرك‪ ،‬لقد عرفت مكان‬‫ٍ‬ ‫نادى‬
‫وسوف أذهب للتخ ّلص منه‪ ،‬ابقَ خمتبئًا أنت و َمن معك”‪ّ .‬‬
‫حترك‬ ‫َ‬ ‫القناص‬
‫يكمن أسفله وهو مس ّل ٌح‬
‫ُ‬ ‫برسعة اجتاه املبنى املجاو ِر للمبنى الذي كان‬
‫قفزا ح ّتى وصل إىل سطح املبنى‪ ،‬كان‬ ‫بمسدسني وسكني‪ .‬صعد السلم ً‬
‫مفتوحا كام توقع‪ ،‬دخل م ْنه بحذر‪ّ ،‬اته ناحية اجلدار‬
‫ً‬ ‫الباب املفيض للسطح‬‫ُ‬
‫يطل عىل موقع (سمري) فوجد ً‬
‫رجل برش ًّيا عينُه عىل منظا ِر بندقيته‬ ‫الذي ّ‬
‫فالتفت‬
‫َ‬ ‫مسدسه وقبل أن يسدّ ده كان الرجل قد انتبه‬
‫َ‬ ‫ومنهمك متا ًما‪ .‬أخرج‬
‫ُ‬
‫النار عليه يف اللحظة نفسها التي أطلق (ضياء) النار‪ .‬شعر‬
‫نحوه وأطلق َ‬
‫وغريمه يقع عىل األرض يف ذات الوقت‪.‬‬
‫ُ‬ ‫بسيخ ُمشتعل خيرتق بطنَه‪،‬‬
‫ٍ‬
‫ُ‬
‫حياول القيام‪ ،‬فعاجله برصاصتني‬ ‫نحو الرجل فوجده ال يزال‬
‫زحف َ‬ ‫َ‬
‫أن‬ ‫ِ‬
‫تعتليه بندقية القناص وهو يشعر ّ‬ ‫السور الذي‬
‫نحو ّ‬ ‫َ‬
‫زحف َ‬ ‫أهنى حيا َته هبام‪.‬‬
‫لكن صوته‬ ‫َ‬
‫حاول أن ينادي عىل (سمري) ّ‬ ‫رسيعا‪.‬‬
‫ً‬ ‫تترسب من جسده‬
‫دماءه ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪355‬‬
‫ثم قذ َفها عىل األرض‪ .‬رقد‬ ‫َ‬
‫فأمسك البندقية وأطلقَ منها يف اهلواء ّ‬ ‫خرج واهنًا‬
‫ولن يدركه أحد‪.‬‬‫منهكا وهو يفكر أنّه سيموت من النزيف ْ‬ ‫ً‬

‫ثم رأى شا ًّبا وفتاة يبدوان يف‬‫صوت خطوات تتقدم بحذ ٍر‪ّ ،‬‬‫َ‬ ‫سمع‬
‫َ‬
‫رضجا يف دمائه حاول الفتى إسعا َفه‬ ‫اخلامسة َ‬
‫عرش من عمرمها‪ .‬حني رأياه ُم ً‬
‫وهو يشكره عىل بطولته‪ ،‬ويقول إنّه كان يتم ّنى لو شارك معهم فقال ضياء‪:‬‬
‫بطل يوم ما ولكن اآلن ِ‬
‫ناد بأعىل صوتك عىل زمييل (سمري) ليصعد‬ ‫“ستكون ً‬
‫إلنقاذي”‪.‬‬
‫َ‬
‫وركض هو و َمن يعاونه نحو املبنى‬ ‫حنيَ سمع (سمري) النداء مل يرت ّدد‬
‫الذي كان (ضياء) موجو ًدا يف أعاله‪ ،‬وقبل أن يصال انطلقَ عليهام رصاص‬
‫وكأن حراس املبنى كانوا ينتظرون‬ ‫ّ‬ ‫الصواريخ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ناحية مبنى مركز ّ‬ ‫غزير من‬
‫باملهمة‪ .‬جعل صوت الرصاص‬ ‫ّ‬ ‫فلم فشل قاموا ُهم‬ ‫القناص ليجهز عليهم‪ّ ،‬‬
‫ربه بام حدث‪ ،‬فقال الفتى‬ ‫وطلب من الفتى أن خي َ‬ ‫َ‬ ‫قلب (ضياء) ينخلع‪،‬‬
‫َ‬
‫“انزل أنت وصاحبتك‬ ‫ْ‬ ‫بحزن‪“ :‬لقد سقط زميالك”‪ .‬فقال (ضياء) برسعة‪:‬‬
‫يل”‪ .‬قال الفتى بإباء‪“ :‬لن َ‬
‫نرتكك”‬ ‫اآلن‪ ،‬ال بدّ أن هناك من سيصعد ليجهز ع َّ‬
‫َ‬
‫وحتامل‬ ‫وتبعها الفتى‪ .‬محاله‬
‫وأمسكت الفتاة بذراعه تساعده عىل النهوض َ‬
‫َ‬
‫سقط عىل‬ ‫معهام عىل نفسه ح ّتى نزال السلم‪ ،‬وقبل أن يصل لباب شقتِهام‬
‫األرض‪ ،‬وأظلمت الدنيا أمام عينيه‪.‬‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪356‬‬
‫‪48‬‬
‫وها يف موقعهام‬ ‫األخبار تتواىل من ّ‬
‫كل مكان عىل (باسل) وميساء ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫كانت‬
‫أخبار االنتصارات املتتالية والسيطرة عىل‬
‫ُ‬ ‫يف املبنى احلصني؛ ّأو ًل جاءت‬
‫تبش بقرب‬ ‫القواعد العسكرية األديتية يف أرجاء األرض املحتلة‪ ،‬أخبار ّ‬
‫خرب عن فشل البعض يف السيطرة‬‫ثم بعدَ ذلك ور َدهم ٌ‬
‫النرص وهناية املعاناة‪ّ ،‬‬
‫عىل مراكز الصواريخ‪.‬‬
‫ذكر بخصوص ذلك اخلرب‪ ،‬فاحلرب‬ ‫أي قلق ُي َ‬
‫ينتب كالمها ّ‬
‫يف البداية‪ ،‬مل ْ‬
‫األخبار عىل بعض القنوات التليفزيونية‬
‫ُ‬ ‫لكن حني ظهرت‬ ‫ٌ‬
‫سجال كام يقولون‪ْ ،‬‬
‫يدب يف نفوس الكثريين‬ ‫ُ‬
‫القلق ّ‬ ‫حجم اخلسارة يف تلك العملية بدأ‬ ‫َ‬ ‫تصف‬
‫وأنا‬
‫أن تلك هي خطة أناندار‪ّ ،‬‬ ‫يكن هناك أحدٌ يدري ّ‬ ‫ومها من بينهم‪ .‬مل ْ‬
‫وأن قتل مجيع َمن شاركوا يف تلك االقتحامات‬ ‫كانت تسري عىل قدم وساق‪ّ ،‬‬
‫تم‬
‫بعض الفيديوهات ّ‬ ‫اخلطة‪ .‬انترشت ُ‬ ‫رئيسيا يف تلك ّ‬
‫ًّ‬ ‫الفاشلة كان جز ًءا‬
‫ٍ‬
‫بتعليق محايس من‬ ‫وهم يتساقطون كالعصافري مصحوب ًة‬ ‫تناق ُلها للمقاومني ُ‬
‫واحد ِمن النياندرتال يدّ عي أنّه جندي يشارك يف اصطيادهم‪.‬‬
‫إن ما حدث‪-‬‬ ‫لتطمئن عىل سري العمليات‪ ،‬فقال هلا ّ‬
‫ّ‬ ‫(ميساء) أباها‬‫طلبت ْ‬
‫ْ‬
‫ريا من مسار املعارك‪ّ ،‬‬
‫وإن تساقط القواعد األديتية‬ ‫عىل فداحتِه‪ -‬ال ّ‬
‫يغي كث ً‬
‫تطمئن رغم حماوالت عمر لتبسيط الوضع؛‬ ‫ّ‬ ‫مستمرا رغم ذلك‪ .‬مل‬
‫ًّ‬ ‫ال يزال‬
‫“الوضع ُمربك يل أنا أكثر من‬
‫ُ‬ ‫قامت باالتصال عىل ماندريك الذي ر ّد ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫تقنيني‬
‫أكثر من اتصال من ّ‬ ‫أي أحد يا ميساء”‪ .‬سأل ْته عن السبب فقال‪“ :‬هناك ُ‬‫ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪357‬‬
‫ظهرت يف ساحات القتال‬ ‫ْ‬ ‫إن هناك طائرات دقيقة‬ ‫أديتيني قبل سقوطهم‪ ،‬قالوا ّ‬
‫ذات برجمة خمتلفة مل يستطيعوا السيطر َة عليها‪ ،‬والغريب ّأنا مل تقتل الكثريين‬
‫اص ما‬‫عطلت دروعهم‪ ،‬فاستطاع ق ّن ٌ‬ ‫لكنها اضطرهتم إللقاء قنابل موجية ّ‬
‫ومكررا يف ّ‬
‫كل املواقع‪ ،‬ومقصو ًدا منه‬ ‫ً‬ ‫فخا ً‬
‫حمكم بشدة‬ ‫قتلهم بسهولة‪ ،‬كان ًّ‬
‫قتل أكرب ٍ‬
‫عدد من املقاومني واجلنود األرضيني”‪.‬‬
‫جاهزا‬
‫ً‬ ‫نصب الفخ كان‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫“وكأن َمن‬ ‫أن أنصت باهتامم‪:‬‬ ‫قال (باسل) بعد ْ‬
‫رب قد ٍر من الدعاية”‪ .‬فأ ّمن ماندريك عىل كالمه‬ ‫أيضا لتصويره إلحداث أك ِ‬‫ً‬
‫شخص جييد التالعب واخلطط‬ ‫ٌ‬ ‫ري هذا ألناندار‪..‬؟‬
‫فقال باسل‪“ :‬أال يش ُ‬
‫(ميساء)‬
‫طموحات أكرب منه” استنكرت ْ‬‫ٌ‬ ‫البديلة‪ ،‬ويعشق الظهور‪ ،‬ولديه‬
‫ً‬
‫طويل قبل أن يقول‪“ :‬ال‬ ‫الفكر َة‪ ،‬هي تنتظر ر ّد ماندريك الذي صمت‬
‫لكن كيف استطاع أن يقنع احلكومة األديتية‪ ،‬هذا‬ ‫أستبعدُ أن يكون له دور‪ْ ،‬‬
‫جدال قصري بينهام انتهى بدون نتيجة‬‫ٌ‬ ‫ودار‬ ‫ِ‬
‫انتهت املحادثة‪َ ،‬‬ ‫ما ال أفهمه”‪.‬‬
‫َ‬
‫قبل أن يصمتا ويكتف َيا بمراقبة الشاشات التي عادت للعمل بعد زوال تأث ِ‬
‫ري‬
‫القنابل املوجية‪.‬‬
‫بأن ّ‬
‫تظل القوات يف مواقعها‬ ‫ِ‬
‫صدرت األوامر من قيادة التحالف ْ‬ ‫بعدَ قليل‪،‬‬
‫ني إعادة تقييم املوقف َ‬
‫قبل التقدم نحو أهدافهم القادمة‪ .‬كان املربر الظاهر‬ ‫حل ِ‬
‫لكن هناك سبب‬ ‫أن القوات صارت حمروم ًة من الدعم اجلوي‪ْ ،‬‬ ‫لتلك األوامر ّ‬
‫ٍ‬
‫استعدادات خمتلفة عند الغزاة مل تكن يف احلسبان‪.‬‬ ‫وجود‬
‫ُ‬ ‫إضايف وهو‬
‫قمة زهوه حيتفي بمساعدته التي أدارت العملية‬
‫يف قرصه كان أناندار يف ّ‬
‫أجلسها عىل كريس جماو ٍر له‪ ،‬وناوهلا ً‬
‫كأسا من‬ ‫َ‬ ‫للمرة األوىل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بمهارة‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪358‬‬
‫شعور العب‬
‫ُ‬ ‫الرشاب ِ‬
‫نفسه الذي يرتشف منه‪ .‬كان يف تلك اللحظة لديه‬
‫يعلم اخلطوة التالية يف مصائرهم‬
‫العرائس الذي حيرك الدّ مى بخيوطه وهو ُ‬
‫التي جيهلون ّ‬
‫كل يشء عنها‪.‬‬
‫مبدئيا عىل حكومة‬
‫ًّ‬ ‫انتصارا‬
‫ً‬ ‫أن يرتك املقاومني حي ّققون‬
‫كانت خط ُته هي ْ‬
‫لكن بدرجة تطيل أمدَ‬‫ويقلب اآلية ْ‬‫ُ‬ ‫ثم يتحالف مع قائد األمن‬ ‫أديتيا‪ّ ،‬‬
‫رب املقاومني‬
‫الفريقي املتحاربني‪ .‬اخلطوة التالية كانت أن جي َ‬
‫ْ‬ ‫املعارك وترهق‬
‫عىل فصل كوكب أديتيا عن كوكب األرض باستخدام وسيلتِهم اجلديدة‬
‫يف غلق الصدع الكوين الذي ُ‬
‫يربط الكوكبني‪ ،‬وعندها تكون أديتيا األرض‬
‫السالح الذي سيضمن له السيطرة‬ ‫جاهز ًة خلطوته التالية وهي إطالق ّ‬
‫عليها‪.‬‬
‫أن تطلب مريدار قائدَ املقاومني يف كوكب أديتيا‪ ،‬كان‬ ‫أمر شاودريك ْ‬‫َ‬
‫ً‬
‫اتصال مع قادة املقاومني يف‬ ‫لتوه‬ ‫االت ُ‬
‫ّصال مفاجئًا ملريدار الذي أغلق ّ‬
‫ابن‬
‫أسباب االنتكاسة التي حدثت‪“ .‬كيف حالك يا َ‬ ‫َ‬ ‫الكوكبني تناقش معهم‬
‫هبت مريدار من مفاجأته‪ ،‬وقبل أن‬‫العم؟ ما رأيك يف ما فعلته برجالكم؟”‪َ .‬‬ ‫ّ‬
‫َ‬
‫نكون عىل انفراد‪ ،‬عندي‬ ‫ير ّد قال أناندار‪“ :‬قبل أن نكمل حديثنا أريد أن‬
‫“ليس هناك أرسار بيننا يمكن أن‬
‫عرض ال يمكن رفضه”‪ .‬ر ّد عليه غاض ًبا‪َ :‬‬‫ٌ‬
‫ثغر أناندار عن ابتسامة‬ ‫أخبئها عن رجايل‪ ،‬يمكنك أن تقول ما تريد”‪ .‬اف ّ‬
‫رت ُ‬
‫بالضبط فهو يعلم أن مريدار عنيد‪ ،‬ويعلم‬ ‫عريضة‪ .‬فقد كان ذلك ما أراده ّ‬
‫بعرضه يف سهولة‪ ،‬وسيساعدان عىل‬ ‫ِ‬ ‫أن الرجلني املوجودين معه سيقتنعان‬‫ّ‬
‫إقناعه‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪359‬‬
‫عمليتكم األخرية‪ ،‬وال بدّ أن تعلم أنّني عىل وعي‬
‫“أنت رأيت ما فعل ُته يف ّ‬
‫َ‬
‫وجه الرجل وزا َد تقطيب جبينه وقال‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫تغي‬
‫بكل خططكم القادمة”‪ّ .‬‬ ‫تام ّ‬
‫شامل بعد أن ننترص؟”‪ .‬ضحك‬ ‫ً‬ ‫عفوا‬
‫الصغري؟ هل تريد ً‬
‫“ماذا تريد يا أناندار ّ‬
‫لدي للمزاح‪ ،‬ولن أع ّلقَ عىل نعتك‬
‫“اسمع‪ ،‬ال وقت ّ‬
‫ْ‬ ‫ثم قال‪:‬‬
‫أناندار ساخر ّ‬
‫أنت وماندريك يف حال فشل احلرب هنا ْ‬
‫أن‬ ‫يل بالصغري‪ ،‬أنا أعرف خططك َ‬
‫تفصال كوكب إديتيا عن كوكب األرض”‪.‬‬
‫أن القلق ظهر عىل وجهه وهو يفكر يف مصدر تلك‬ ‫مل ير ّد مريدار‪ ،‬رغم ّ‬
‫ٍ‬
‫اخرتاق بني املقاومني يف أعىل املستويات‪ ،‬ترك‬ ‫املعلومة‪ ،‬واحتامل وجود‬
‫َ‬
‫آالف اجلنود لدعم‬ ‫قائل‪“ :‬بعدَ ساعات سرتسل احلكومة‬ ‫يكمل ً‬
‫ُ‬ ‫أناندار‬
‫القتال هنا وهي فرص ُتكم للسيطرة عىل أديتيا عندك‪ ،‬هذه خط ُتكم األساسية‬
‫ثم غلق الصدع‬ ‫استغالل الفوىض يف كوكب أديتيا للسيطرة عىل احلكم‪ّ ،‬‬
‫الكوين الذي يسمح باالنتقال بني الكوكبني”‪.‬‬
‫سئم من طريقتِه املتباهية‪“ :‬قل ما تريد ال وقت لدي‬‫قال مريدار وقد َ‬
‫كل الوقت‬ ‫ساخرا وهو يقول‪“ :‬بل لديك ّ‬
‫ً‬ ‫فابتسم أناندار‬
‫َ‬ ‫لالستامع إليك”‪.‬‬
‫زفر الرجل يف نفاد صرب‪ ،‬فأكمل أناندار‬‫وشك قوله”‪َ .‬‬ ‫ِ‬ ‫وتشعر بام أنا عىل‬
‫أن ترسل احلكومة مقاتليها مبارشة‪ ،‬وال تنتظر‬ ‫قائل‪“ :‬أغلق الصدع بعد ْ‬ ‫ً‬
‫عود َة ماندريك وبقية زمالئك”‪ .‬فقال مريدار‪“ :‬وما الذي جيعلني أفعل‬
‫أطلب‬
‫ُ‬ ‫مجيعا هنا‪ ،‬وسوف‬
‫ذلك؟”‪ .‬فقال‪“ :‬ألنّك إن مل تفعل فسوف أقتلهم ً‬
‫من احلكومة إعادة قواهتا للكوكب عندك‪ ،‬وترك مهمة التخ ّلص من املقاومني‬
‫يف أديتيا األرض يل أنا‪ ،‬فتخرسون هنا عىل األرض وعندك يف أديتيا”‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪360‬‬
‫النظر مع رجليه‪ ،‬وقبل أن يتكلم أسقط عليهم‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وتبادل‬ ‫صمت مريدار‬
‫َ‬
‫سالح يستعدّ قائد األمن إلطالقه حال‬ ‫ٍ‬ ‫أناندار مفاجأته‪ ،‬أخربهم عن‬
‫السالح سيكفل حتييدَ األرضيني متا ًما‪ ،‬وسيؤ ّدي إىل‬
‫ُ‬ ‫إحساسه باهلزيمة‪ ،‬وهذا‬
‫الكوكبي‪ .‬كانت تلك الورقة هي‬
‫ْ‬ ‫خسارة املقاومني األديتيني للمعركة يف كال‬
‫يراهن عليه جلعل مريدار ً‬
‫قابل لل ّتفاوض معه‪ ،‬وإقناعه برتك أديتيا األرض‬ ‫ُ‬ ‫ما‬
‫و َمن عليها من أديتيني وأرضيني ألناندار ورجاله‪.‬‬
‫إقناعه بأن تلك اخلطة ال‬
‫وهم حياولون َ‬ ‫ُ‬
‫النقاش بني مريدار ورجاله ُ‬ ‫دار‬
‫َ‬
‫إقناعهم بخبث أناندار وفساد ّنيته‪ .‬قاطعهم‬
‫بديل هلا‪ ،‬ويف املقابل كان حياول َ‬
‫أناندار ً‬
‫قائل‪“ :‬ما الذي ختشاه‪ ،‬أنا سأبقى ُمتجزَ ا هنا عىل األرض لن ّ‬
‫أمسك‬
‫ولك عهدي أنّني سأعطي املقاومني هنا فرص ًة ثمينة‬‫وال رجالك بسوء‪َ ،‬‬
‫أغدر هبم”‪.‬‬
‫َ‬ ‫للتفاوض‪ ،‬أقسم برأس أناندار األكرب‪ّ ،‬‬
‫وكل أجدادي أنني لن‬
‫كل يشء‪ ،‬وعىل ّأل خيرب أحدً ا من‬ ‫ُ‬
‫االتصال وقد اتفق معه أناندار عىل ّ‬ ‫انتهى‬
‫تم االتفاق عليه‪.‬‬
‫املقاومني يف كوكب األرض بام ّ‬
‫إقناعه بأن ذلك املأزق‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫االتصال وقد استطاع مساعداه‬ ‫أغلقَ مريدار‬
‫حل له ّإل االمتثال خلطة أناندار‪ .‬إهنم‬ ‫ِ‬
‫بصدده ال ّ‬ ‫األخالقي الذي ُهم‬
‫َ‬
‫مقابل حترير أديتيا‬ ‫(مضطرين) بزمالئهم عىل كوكب األرض‬
‫ّ‬ ‫سيضحون‬
‫مضطرون لتلك‬
‫ّ‬ ‫تعود حلكم الشعب مرة ثانية‪.‬‬
‫ُ‬ ‫من حكم الطغاة‪ ،‬وجعلها‬
‫ألن أناندار‬ ‫قضيتهم؛ بل من أجل ِ‬
‫إنقاذ زمالئهم ّ‬ ‫التضحية ليس فقط من أجل ّ‬
‫لو كشف تلك اخلطط وترك احلكومة تفعل سالحها الرسي؛ فسيؤ ّدي ذلك‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪361‬‬
‫مجيعا عىل يد القوات احلكومية املوجودة يف أديتيا األرض‪ .‬ماندريك‬
‫هلالكهم ً‬
‫السالح األرضيني‪ ،‬ومع‬ ‫ِ‬
‫رفقاء ّ‬ ‫نفسه كان مواف ًقا عىل فعل اليشء نفسه مع‬
‫تطبق خطة مثيلة يف‬
‫أن ّ‬ ‫الشعب األديتي املتبقي عىل األرض‪ ،‬فلامذا يرفض ْ‬
‫ح ّقه‪ .‬كانت حج ُتهم يف املوافقة عىل ما طرحه أناندار هي إنقا َذ ما يمكن‬
‫ُ‬
‫إنقاذه‪ ،‬واحلفاظ عىل زمالئهم يف األرض‪ ،‬باختصار كام قاهلا أحدُ مساعديه‪:‬‬
‫“سنخوهنم من أجلِ إنقاذ حياهتم”‪.‬‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪362‬‬
‫‪49‬‬
‫ِ‬
‫اندلعت املعارك ثانية عىل خمتلف اجلبهات داخل األرض املحتلة‪.‬‬
‫قوات حكومة النياندرتال (األديتية) الرضبة‪ ،‬ومل ّ‬
‫تتمكن القوات‬ ‫ُ‬ ‫امتصت‬
‫نظرا لعدم ّ‬
‫متكنهم من حتييد قواعد الصواريخ‬ ‫ِ‬
‫هجومها ً‬ ‫األرضية من تطوير‬
‫َ‬
‫داخل أديتيا األرض‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫رضبات جوية أو صاروخية‬ ‫شن‬
‫وعدم قدرهتم عىل ّ‬
‫اهلجوم العكيس‬
‫ُ‬ ‫قوات التحالف‪ ،‬بدأ‬
‫ُ‬ ‫يف بعض القواعد التي سيطرت عليها‬
‫ِ‬
‫كثيفة العدد‪ ،‬وبعض األفراد‪ ،‬ما‬ ‫من النياندرتال باستخدام طائرات دقيقة‬
‫عدد‬
‫أ ّدى إىل ارتباك يف القوات األرضية التي فوجئت باهلجوم‪ ،‬واستطاع ٌ‬
‫حترير أنفسهم واهلجوم من الداخل ح ّتى استعادوا‬
‫َ‬ ‫من األرسى النياندرتال‬
‫السيطر َة عىل تلك القواعد‪.‬‬
‫استمر احلال‬
‫ّ‬ ‫هجوم مضا ّد‪ ،‬وهكذا‬
‫ٌ‬ ‫تم صدّ اهلجوم‪ ،‬وبدأ‬
‫يف أماكن أخرى‪ّ ،‬‬
‫عدّ ة أيام‪ ،‬واإلمدادات تأيت للطرفني من خارج األرض املحتلة‪ .‬القوات‬
‫دعم من أكثر من دولة مشاركة يف التحالف‪،‬‬
‫األرضية واملقاومون يأتيهم ٌ‬
‫قوات عسكرية إضافية من كوكب أديتيا عرب‬
‫ٌ‬ ‫والنياندرتال تتدفق عليهم‬
‫األجهزة الناقلة‪ .‬بعد أسبوع من القتال الذي ّ‬
‫ظل فيه الوضع عىل األرض‬
‫ذهن أحد قادة التحالف عن فكرة تسيري املئات من الطائرات‬
‫ثاب ًتا‪ ،‬تف ّتق ُ‬
‫بدون طيار والصواريخ املوجهة إلرهاق دفاعات النياندرتال واستنزاف ما‬
‫لدهيم من صواريخ دفاعية‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪363‬‬
‫كل هجمة‬ ‫النتائج كارثية متا ًما‪ ،‬كان النياندرتال يردون عىل ّ‬
‫ُ‬ ‫كانت‬
‫ُ‬
‫يسقط الطائرة أو املقذوف املهاجم‪ ،‬وصاروخ آخر يرضب القاعدة‬ ‫بصاروخ‬
‫التي انطلق منها بمنتهى الدقة‪.‬‬
‫متكرر‬
‫ّ‬ ‫يف نفس الوقت‪ّ ،‬‬
‫ظل أناندار حيادث مريدار قائدَ املقاومة بشكل‬
‫لكن الرجل كان‬ ‫َ‬
‫ويفصل الكوكبني متا ًما‪ّ ،‬‬ ‫ويطلب منه أن يغلقَ الصدع‪،‬‬
‫مبينًا بذلك‬
‫مسجلة دون أن يفاوضه‪ّ ،‬‬‫مرتد ًدا ح ّتى جا َء يوم أرسل له رسال ًة ّ‬
‫مل التفاوض‪.‬‬ ‫أنه َّ‬

‫وصل تعدادث القوات احلكومية‬‫َ‬ ‫نص الرسالة؛ “العزيز مريدار‪ ،‬لقد‬


‫كان ُّ‬
‫رقم منخفض جدًّ ا‪ ،‬هذه فرص ُتكم الوحيدة للسيطرة عىل الدولة‬ ‫عندك إىل ٍ‬
‫األم‪ ،‬وترك أديتيا األرضية لنا‪ ،‬سوف يقوم قائدُ األمن هنا بعد‬‫يف كوكبنا ّ‬
‫أربع وعرشين ساعة أرضية بتفجري قنابل بيولوجية يف مجيع أنحاء أديتيا‪،‬‬
‫أريض غريب داخل أديتيا؛ أعني‬ ‫ّ‬ ‫قاتل يقيض عىل ّ‬
‫كل‬ ‫فريوسا ً‬
‫ً‬ ‫سوف تطلق‬
‫هؤالء اجلنود األرضيني الذين دخلوا أديتيا يف اهلجوم احلايل‪ .‬لقد كانت‬
‫ً‬
‫تطعيم ضدّ‬ ‫ُ‬
‫احلكومة منذ بدء الغزو تعطي األرضيني املقيمني داخل أديتيا‬
‫هذا الفريوس وهو ال يؤ ّثر عىل األديتيني بأي حال‪.‬‬
‫خيارا اآلن؛ األرضيون استجمعوا ّ‬
‫كل‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫إطالق هذا الفريوس مل يعدْ‬
‫عتادا‪ ،‬ولو‬
‫أكثر من عرشين دولة ضدّ نا فيها أقوى الدول ً‬
‫واتدت ُ‬ ‫قواهم ّ‬
‫سيفجر فرينام‬
‫ّ‬ ‫احلرب أعوا ًما‪ ،‬ولذلك‬
‫ُ‬ ‫تستمر‬
‫ّ‬ ‫استمر الوضع هكذا فقد‬
‫ّ‬
‫ِ‬
‫اجلنود األرضيني داخل أديتيا األرض‪،‬‬ ‫هذا السالح‪ .‬سوف يقتل ّ‬
‫كل‬
‫وسيجعل الدول األرضية تعزل أديتيا خشية انتشا ِر الفريوس خارجها‪،‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪364‬‬
‫ثم العودة إىل أديتيا‬ ‫وسيتيح هذا للحكومة القضاء عىل ّ‬
‫كل رجالكم هنا‪ّ ،‬‬
‫والقضاء عليكم هناك‪ُ .‬‬
‫مالذك الوحيد هو أن تقطع الصل َة بني كوكبنا ّ‬
‫األم‬
‫وكوكب األرض‪ .‬أعدُ ك أنّنا هنا حني نكون دولة معزولة سنصل إىل ّ‬
‫حل‬
‫يضمن احلفاظ عىل أرواح اجلميع‪ ..‬صحبتك نعامت ماجوها”‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وسط‬
‫كانت رسالة أناندار‪ -‬وما تالها من تواصل بني شاودريك ومريدار‪-‬‬
‫السبب يف ّاتاذ قرار هنائي بتفجري القنبلة وغلق الصدع الذي يسمح‬
‫َ‬
‫الصدع الذي تعتمدُ عليه ّ‬
‫كل أجهزة االنتقال‬ ‫ُ‬ ‫باالنتقال بني الكوكبني؛ ذلك‬
‫يف آلية عملها‪ .‬صار النياندرتال املوجودون عىل كوكب األرض ُمقيمني فيها‬
‫بشكل دائم ولن يتمكنو أبدً ا من العودة إىل كوكب أديتيا؛ كوكبهم ّ‬
‫األم‪.‬‬
‫إبالغ رفاقهم يف كوكب األرض‪،‬‬‫قبل غلق الصدع‪ -‬هو َ‬ ‫كان رأي مريدار‪َ -‬‬
‫لكن ذلك الرأي مل يلقَ ً‬
‫قبول ألن مجيعهم اآلن‬ ‫وحماول َة إعادة أكرب قد ٍر منهم‪ّ ،‬‬
‫منخرطون يف معارك متفرقة‪ ،‬وإبالغهم بذلك س ُيحدث اضطرا ًبا شديدً ا قد‬
‫يؤدي إىل مقتلِ الكثريين منهم‪ ،‬إضافة إىل ّ‬
‫أن أجهزة االنتقال لدى الثوار ال‬
‫تسمح بنقل أعداد كبرية يف ذلك الوقت القصري‪.‬‬
‫ري القنبلة مبارشة‪ ،‬أرسل مريدار رسالة مطولة ملاندريك‬
‫يتم تفج ُ‬
‫قبل أن ّ‬ ‫َ‬
‫شخصيا ُيطلعه فيها عىل األسباب التي جعل ْته يعجل بقراره‪ ،‬وعن اعتذاره‬
‫ًّ‬
‫مسجلة‬
‫عن ترك زمالئهم يف األرض‪ .‬كانت الرسالة ّ‬ ‫هو وبقية الثّوار يف أديتيا ْ‬
‫التعليامت أن ال‬
‫ُ‬ ‫صو ًتا وصورة حتدّ ث فيها ُ‬
‫أكثر من عضو يف املقاومة‪ .‬كانت‬
‫سيقرر الطريقة التي خيرب هبا زمالءه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يطلع عليها أحدٌ إال ماندريك‪ ،‬وهو َمن‬
‫ويقرر خطوته القادمة‪.‬‬
‫ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪365‬‬
‫ٍ‬
‫بواحدة من غرف‬ ‫قبل أن تصل الرسالة ملاندريك مبارشة كان موجو ًدا‬ ‫َ‬
‫ري املعارك يف املناطق املختلفة وحياولون‬‫بصحبة ُعمر‪ .‬كانوا يتابعون س َ‬ ‫ِ‬ ‫القيادة‬
‫ارتياحا لذلك التطور‬
‫ً‬ ‫الغريب أنّه أظهر‬
‫ُ‬ ‫تنسيق القوات بني اجلبهات املختلفة‪.‬‬
‫يف سري املعركة‪ ،‬وحني سأله ُعمر عن سبب ارتياحه كانت إجاب ُته‪“ :‬املجهول‬
‫تنترص بتلك السهولة التي رأيناها ّأول يوم‪،‬‬
‫َ‬ ‫دو ًما يرعبني‪ ،‬مل أتو ّقع يو ًما ما أن‬
‫أن أناندار يعاوهنم ضدّ نا ً‬
‫أيضا‪..‬‬ ‫نواجهه بالضبط‪ ،‬وأيقنت ّ‬‫ُ‬ ‫واآلن عرفت ما‬
‫كل األوراق عىل الطاولة كام تقولون هنا يف األرض”‪.‬‬ ‫اآلن ّ‬

‫الغرف املخصصة‬‫ِ‬ ‫حنيَ وصلته رسالة مريدار‪ ،‬انتحى جان ًبا يف إحدى‬
‫فيم يفكر‪ .‬أخذ يتحرك‬ ‫ظل بعدها صام ًتا ال يعرف َ‬ ‫وقام بتشغيلها‪ّ ،‬‬
‫للنوم َ‬
‫يف الغرفة جيئة وذها ًبا بقدْ ر ما كانت تسمح له مساح ُتها الضيقة‪ .‬ال حيقّ‬
‫القرار نفسه‪ .‬كان‬
‫َ‬ ‫فهو لو كان يف موقعهم ّ‬
‫التذ‬ ‫له أن يغضب من زمالئه َ‬
‫السالح البيولوجي الذي ستستخدمه حكومة‬ ‫أيضا عن ّ‬ ‫يف الرسالة تفاصيل ً‬
‫أن وجود ذلك‬ ‫أديتيا األرض يف القضاء عىل اجلنود األرضيني‪ .‬كان يعلم ّ‬
‫رب قيادات التحالف عنه فإنّه‬‫السالح قد يكون خدعة من أناندار‪ ،‬وأنّه إذا أخ َ‬
‫سيحدث بلبلة ال داعي هلا‪.‬‬
‫انرصاف (عمر) من غرفة التحكم‬‫ُ‬ ‫استدعى (عمر) للحديث معه‪ ،‬كان‬ ‫َ‬
‫ريا للريبة‪ ،‬لك ّنهام مل يعبئا بتساؤالت الضباط‬ ‫ِ‬
‫للحديث معه عىل انفراد مث ً‬
‫ثم انتظر رأيه‪ ،‬سأله‬
‫عرض الرسالة كاملة عىل (عمر) ّ‬ ‫َ‬ ‫املوجودين معهم‪.‬‬
‫الصدع بني الكوكبني‪ ،‬أم ال يزالون‬
‫َ‬ ‫فجروا تلك القنبلة التي تغلق‬
‫عمر‪“ :‬هل ّ‬
‫يف مرحلة التحضري؟”‪ .‬قال ماندريك‪“ :‬أجل‪ ،‬لقد ّ‬
‫تأكد أحدُ رجايل من هذا”‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪366‬‬
‫استيعابا مرة واحدة‪ ،‬أطرق‬
‫ُ‬ ‫كانت املفاجأة كبري ًة عىل (عمر)‪ ،‬يصعب‬
‫اختلطت يف عقله األفكار وتضاربت مشاعره‪ .‬ابتهج‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬
‫مفك ًرا دون أن يرد‪،‬‬
‫ً‬
‫إحباطا‬ ‫سبب ذلك‬ ‫ٍ‬
‫للحظة فقد كان يعني ذلك انتها َء احلرب ح ّتى لو ّ‬ ‫عمر‬
‫تم ذكر موضوع السالح البيولوجي جتهم‬ ‫ملاندريك وزمالئه‪ ،‬لكن حنيَ ّ‬
‫يترصف عىل أساس وجود ذلك اخلطر‪،‬‬‫ُ‬ ‫وجهه ومألته احلرية‪ .‬ال يعرف هل‬
‫فتبينوا‪ .}..‬مل يكن‬
‫أن أناندار كاذب ينطبق عليه صفة {إن جاءكم فاسق بنبأ ّ‬ ‫أم ّ‬
‫أكثر‬
‫حقن التطعيم تلك َ‬ ‫يقلقه ْ‬
‫أن يؤثر السالح عليه أو عىل عائلته‪ ،‬فقد تلقوا َ‬
‫مرة ‪.‬‬
‫من ّ‬
‫أن هناك صفقة جتري بني أناندار وقائد األمن‪ ،‬وأن‬ ‫أيضا‪ّ -‬‬
‫تأكدت‪ً -‬‬ ‫“لقد ّ‬
‫ثم‬
‫احلاكم حمبوس بزعم أنّه يتعاون مع املقاومة” قال ماندريك بصوت حمبط ّ‬ ‫َ‬
‫رب حلفاءنا أم ننتظر للمزيد من احلقائق؟” ر ّد عليه‬ ‫تساءل يف تر ّدد‪“ :‬هل نخ ُ‬
‫جمال لالنتظار‪ ،‬ال بدّ أن نطلع قادة التحالف عىل تلك‬ ‫(عمر) بحسم‪“ :‬ال َ‬
‫ِ‬
‫فكرة أنّه لن يعود‬ ‫التطورات”‪ .‬مل يعرتض ماندريك فقد كان مصدو ًما من‬
‫َ‬
‫نصف عمره تقري ًبا‪ ،‬النضال‬ ‫َ‬
‫ناضل من أجله‬ ‫لوطنه ثانية‪ ،‬ذلك الوطن الذي‬
‫ِ‬
‫ومستقبله املرموق‪ ،‬واختار‬ ‫الذي دفع خالله ثمنًا ً‬
‫باهظا حني ختىل عن عائلته‬
‫طريقَ املقاومة من أجل املهمشني من شعبه‪.‬‬
‫كل االحتامالت املمكنة‪ ،‬صار املستقبل يف حلظة‬ ‫أيضا‪ -‬خائ ًفا من ّ‬
‫كان‪ً -‬‬
‫انترصت حكومة أديتيا باستخدام ذلك السالح‬‫ْ‬ ‫ٍ‬
‫واحدة ُمرع ًبا أمام عينيه‪ .‬لو‬
‫مها من أسوأ‬‫احلكم لألقوى‪ ،‬ألناندار وحليفه قائد األمن‪ ،‬و َ‬
‫ُ‬ ‫املزعوم سيكون‬
‫ري هو وكل األديتيني‬
‫الرجال‪ ،‬ولو انترص األرضيون فسوف يص ُ‬ ‫َمن عرف من ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪367‬‬
‫املهاجرين إىل األرض أقلية ُمضطهدة يعانون من التمييز واالحتقار‪ ،‬وهو‬
‫يرحم‬
‫َ‬ ‫خاصة يف تلك املنطقة من العامل‪ .‬لن‬
‫ّ‬ ‫يشء عرف به البرش دو ًما‪،‬‬
‫حسب رأيه‪،‬‬
‫َ‬ ‫األرضيون أحدً ا منهم؛ إن كراهية ا ُملختلف جتري يف دمائهم‬
‫ثأرا مع ذلك املختلف‪.‬‬ ‫ويزيد عليها ّ‬
‫أن هلم ً‬
‫أول قبل التشاور مع‬‫طلب من (عمر) أن يرتك له فرص ًة ليخرب زمالءه ً‬‫َ‬
‫القادة األرضيني‪ .‬بعدَ ثالث ساعات من اجتامعه هو و(عمر) كان هناك‬
‫ً‬
‫حجم‪ .‬كان يف االجتامع قاد ُة التحالف من عدّ ة دول وثالثة‬ ‫اجتامع آخر أكرب‬
‫من قادة املقاومة األديتيني‪ ،‬وعدد من قادة املقاومة املستقلة مثل ُع َمر‪ .‬كان‬
‫أن األديتيني صاروا بال‬‫اهلجوم الكاسح طاملا ّ‬
‫َ‬ ‫أول هو‬‫الرأي الذي طرح ً‬
‫ألن احتامل‬ ‫َ‬
‫اعرتض ّ‬ ‫لكن األغلب‬‫إمدادات واإلرساع إلهناء تلك احلرب‪ّ ،‬‬
‫وجود سالح بيولوجي هو احتامل مرعب للغاية‪.‬‬
‫وقف أحدُ اجلنراالت األرضيني‪ ،‬وقال بحزم‪“ :‬سنستنز ُفهم ّأيا السادة‪،‬‬ ‫َ‬
‫كل دفاعاهتم”‪.‬‬ ‫َ‬
‫نستهلك ّ‬ ‫صواريخ وقذائف بال ٍ‬
‫عدد ح ّتى‬ ‫َ‬ ‫دعونا ُ‬
‫نطلق عليهم‬
‫ري مدن وإسقاط ضحايا كثريين”‪.‬‬ ‫أنت ُتاطر بتدم ِ‬
‫فقال عمر‪“ :‬سيادة اجلنرال‪َ ،‬‬
‫موجعا ح ّتى لو كان قصري األمد”‪.‬‬ ‫ً‬ ‫قائل‪ّ :‬‬
‫“إن ر ّد األديتيني قد يكون‬ ‫ر ّد آخر ً‬
‫الطائرات والصواريخ‬ ‫ِ‬
‫بآالف ّ‬ ‫فقال اجلنرال‪“ :‬لن نعط َيهم فرصة‪ ،‬سنهاجم‬
‫َ‬
‫تفعل باألرض املحت ّلة كام‬ ‫مر ًة واحدة”‪ .‬تدخل ماندريك وقال‪“ :‬تريد أن‬ ‫ّ‬
‫غضب‬
‫ٌ‬ ‫احللفاء بمدينة دريسدن األملانية منذ مائة عام”‪ .‬انتاب اجلنرال‬
‫ُ‬ ‫فعل‬
‫بتاريخ احلرب العاملية‬
‫ِ‬ ‫ثم ما أدراك أنت‬ ‫شديد وهو يقول‪“ :‬كيف جترؤ؟ ّ‬
‫الثانية ومالبساهتا؟”‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪368‬‬
‫انسحاب‬
‫َ‬ ‫الرؤى وتعدّ دت اآلراء‪ ،‬اقرتح البعض‬ ‫ِ‬
‫اختلطت ّ‬ ‫زا َد ال ّلغط‪،‬‬
‫ألنم‬
‫نظرا ّ‬
‫قوات ال ّتحالف‪ ،‬وترك املقاومني الذين عملوا يف الداخل ً‬
‫فريوسات النياندرتال‪ ،‬واالكتفاء بإمدادهم باألسلحة‬ ‫ِ‬ ‫حمصنون ضدّ‬
‫رفض آخرون ذلك‬ ‫َ‬ ‫ككل‪.‬‬‫واملعدات‪ ،‬وفرض حصار عىل األرض املحتلة ُ‬
‫أن األمر كله قد يكون ُخدعة‪ْ ،‬‬
‫لكن قبل انتهاء االجتامع‬ ‫بحجة ّ‬
‫االقرتاح ّ‬
‫َ‬
‫يصدر من‬
‫ُ‬ ‫وأن بيا ًنا سوف‬
‫أن هناك انقال ًبا بني األديتيني‪ّ ،‬‬ ‫خرب ّ‬
‫وصل للجميع ٌ‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫إيقاف االجتامع حلني معرفة ما جيري‬ ‫فتم‬
‫خالل ساعة‪ّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫قادة هذا االنقالب‬
‫بني قيادات األديتيني‪.‬‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪369‬‬
‫‪50‬‬
‫مقار املقاومة بعد أن‬
‫أحد ّ‬ ‫يومي بعدَ إصابته العنيفة يف ِ‬ ‫ْ‬ ‫قىض (ضياء)‬
‫سكان املبنى الذي كان فيه ِمن هتريبه بعد أن استطاعوا إسعافه‬ ‫بعض ّ‬ ‫متكن ُ‬
‫املهمة قد قتلوا‪ ،‬وأنّه جيب عليه‬
‫كل َمن كانوا معه يف ّ‬ ‫أن ّ‬‫ّأو ًل‪ .‬تأكد بعد ذلك ّ‬
‫أن يذهب إىل أرسة (سمري) بعدَ انتهاء القتال ل ُيعطيهم رسالته األخرية التي‬
‫مسجل عليها فيديو وداع قصري‪.‬‬ ‫ً‬ ‫كانت رشحي ًة ذكية‬
‫ريا‪ ،‬مل يكو َنا ّ‬
‫مقربني بل عىل‬ ‫تذكر (سمري) كث ً‬ ‫يف ّأول ليلة بعدَ إصابته ّ‬
‫مظهرا للظلم الذي‬
‫ً‬ ‫يكره وجو َده ألنّه يرى فيه‬
‫العكس؛ كان (ضياء) دو ًما َ‬
‫جديرا بالعمل جم ّندً ا حتت إمرته‪ ،‬فام‬
‫ً‬ ‫أن (سمري) ليس‬ ‫يتعرض له‪ ،‬ويرى دو ًما ّ‬
‫ّ‬
‫وتذك َر له حلظات‬ ‫كل ذلك يف قلبِه بعدَ مقتل (سمري)‬ ‫تغي ّ‬‫بالك بالعكس‪ّ .‬‬
‫أن هذا الرجل كان ُيقاتل وهو‬ ‫واألهم أنه ّ‬
‫تذكر ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫وخصال محيدة‪،‬‬ ‫جيدة‪،‬‬
‫حمروم من أرسته‪ ،‬وأوالده حمرومون منه‪.‬‬
‫ٌ‬
‫تم‬
‫أن جثامني (سمري) وبقية القتىل قد ّ‬‫عرف منهم ّ‬ ‫َ‬ ‫بعدَ متاثله الشّ فاء‪،‬‬
‫اسرتاح‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫مقابل تس ّلم احلكومة األديتية جلثث قتالها‪.‬‬ ‫إجالؤهم ِمن املكان‬
‫مع زمالئه‬
‫أحد املواقع‪ ،‬واستطاع َ‬‫ثم عاد للقتال جمدّ ًدا يف ِ‬‫يومني آخرين ّ‬
‫السادس من أكتوبر بالقرب من‬ ‫ِ‬
‫أطراف مدينة ّ‬ ‫السيطرة عىل قاعدة مهمة عىل‬
‫احلدود الغربية لألرض املحتلة‪.‬‬
‫قوات النياندرتال احلكومية بعدها‪،‬‬
‫ض القاعدة هلجو ٍم عكيس من ّ‬ ‫تتعر ِ‬
‫مل ّ‬
‫ورست شائعات ّ‬
‫أن النياندرتال قد‬ ‫ْ‬ ‫ٍ‬
‫هدوء نسبي‪،‬‬ ‫مضت مخسة أيام يف‬
‫ْ‬ ‫ولذلك‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪370‬‬
‫ً‬
‫خليطا‬ ‫ِ‬
‫حوت القاعدة‬ ‫ِ‬
‫القواعد األخرى‪.‬‬ ‫عن القيام هبجوم عكيس يف‬ ‫توقفوا ِ‬
‫نظاميني من‬
‫ّ‬ ‫القدر األكرب كان جنو ًدا‬
‫َ‬ ‫لكن‬
‫من املقاومني املرصيني واألديتيني ّ‬
‫وقو ًة صغرية من اجليش السوداين املشارك يف التحالف‪.‬‬ ‫اجليش املرصي ّ‬
‫ريا َ‬
‫قبل إبالغها لك ّنه كان يعلم أن أباها‬ ‫ِ‬
‫بوفاة سمري‪ ،‬تر ّدد كث ً‬ ‫أبلغَ ْ‬
‫(ميساء)‬
‫ومن حقّ (سمري) عليه أن يبلغ‬ ‫شعر أنّه ِمن واجبه ِ‬ ‫ربا كهذا‪َ .‬‬‫يمنع عنها خ ً‬
‫قد ُ‬
‫رد فعلٍ قوي‪ ،‬فقط ّ‬
‫ترحت‬ ‫أحبها بأنّه قد استشهد‪ .‬مل جيدْ لدهيا ُّ‬‫املرأ َة التي ّ‬
‫عليه وقالت إنه َ‬
‫كان إنسا ًنا طي ًبا ومت ّنت لضياء السالمة يف بقية العمليات‪.‬‬
‫بكل هذا الضيق من ميساء‪ ،‬وص َفها يف‬ ‫شعر ساعتها ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫يدرك ملاذا‬ ‫مل‬
‫تعرف عليهم يف القاعدة بأهنا امرأة مدللة‬ ‫حديث له مع ِ‬
‫أحد اجلنود الذين ّ‬
‫رسيعات‬
‫ُ‬ ‫إن النساء هكذا‬ ‫قليلة األصل ال خري فيها‪ .‬قال له اجلندي يو َمها ّ‬
‫احلب‪ ،‬رسيعات النسيان‪ ،‬فقال ضياء‪“ :‬ال أحتدّ ث عن احلب؛ أحتدّ ث عن‬ ‫ّ‬
‫رفقة السالح‪ ،‬إن الوفاء لرفيق السالح أقوى من الوفاء للحبيب‪ ،‬لقد َ‬
‫قاتل‬
‫كل عواطف ال ّنساء رسيعة التقلب‪،‬‬ ‫“إن ّ‬
‫إىل جوارها لسنوات”‪ .‬فقال زميله‪ّ :‬‬
‫بغض النظر عن نوعية تلك العواطف”‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وأنا كانت‬ ‫ريا ملقتل (سمري)‪ّ ،‬‬ ‫(ميساء) حزنت كث ً‬‫أن ْ‬ ‫ما مل يعر ْفه (ضياء) ّ‬
‫سبب ر ّدها البارد هو وجو َد (باسل)‬ ‫تعرف هذا من ْقبل أن يطلبها هو‪ .‬كان ُ‬ ‫ُ‬
‫مر‬‫أن موت (سمري) ّ‬ ‫معها حنيَ طلبها (ضياء) وهي قدْ أظهرت له من ْقب ُل ّ‬
‫َ‬
‫احلدث‬ ‫أوحت لباسل ّ‬
‫أن‬ ‫ْ‬ ‫عليها كحدث عاب ٍر كي ال تثري ضي َقه أو غريته‪.‬‬
‫خافت أن يرى (باسل) شعورها احلقيقي جتا َه‬ ‫ْ‬ ‫ُمزن ح ًّقا‪ ،‬لك ّنه عابر‪ ،‬ولذلك‬
‫الطريقة اجلافة‪.‬‬‫موت (سمري) حني ر ّدت عىل (ضياء) بتلك ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪371‬‬
‫اجتمعت فيه القيادات ُملناقشة ما أبلغهم به ُعمر وماندريك‬
‫ْ‬ ‫يف اليوم الذي‬
‫ِ‬
‫بإطالق فريوس قاتل‪ ،‬وصلت‬ ‫من فصلِ الكوكبني‪ ،‬وذلك التهديد الوشيك‬
‫مهمة‬
‫أخبارا ّ‬
‫ً‬ ‫وأنم سيسمعون‬ ‫ريا جيري‪ّ ،‬‬ ‫األخبار للجنود ّ‬
‫أن هناك شيئًا خط ً‬
‫ٌ‬
‫جمموعة من اجلنود النظاميني‬ ‫بعد قليل‪ .‬جلس (ضياء) يشاهدُ األخبار َ‬
‫ومعه‬
‫ِ‬
‫انضاممه للقاعدة مبتعدً ا عن املقاومني‪.‬‬ ‫اجلنود الذين الزمهم منذ‬
‫ُ‬ ‫وهم‬
‫ُ‬
‫ظهر عىل الشاشة قائد األمن يف دولة أديتيا األرض‪.‬‬ ‫َ‬ ‫بعدَ قليل‪،‬‬
‫حتدث الرجل للمواطنني األديتيني ِمن مجيع األعراق (يقصد ُاألرضيني‬
‫أن قوات دولة أديتيا تر ّد املعتدين‪ّ ،‬‬
‫وأن املسألة‬ ‫ربا إياهم ّ‬
‫والنياندرتال) خم ً‬
‫ِ‬
‫وجود خونة يف صفوف‬ ‫عن اكتشاف‬ ‫َ‬
‫تطول ح ّتى تنتهي بالنرص‪ .‬تكلم ِ‬ ‫لن‬
‫ِ‬
‫احلكومة واجليوش‬ ‫اآلن هو والرجال ا ُملخلصون بتطهري‬
‫القيادات‪ ،‬وإنّه يقوم َ‬
‫ُ‬
‫القبض عليه‪ ،‬وسجنُه‬ ‫تم‬ ‫منهم‪ّ ،‬‬
‫وأن عىل رأسهم حاكم أديتيا األرض الذي ّ‬
‫حلني حماكمته‪.‬‬
‫كان يتكلم بلهجة محاسية زادت نربهتا حني بدأ خيتم خطابه ً‬
‫قائل‪“ :‬إنني‬
‫أن أقود املرحلة احلالية ح ّتى نستطيع التغلب‬ ‫ٍ‬
‫بتكليف من زمالئي ْ‬ ‫قبلت‬
‫قد ُ‬
‫ٍ‬
‫عتيد من جنراالت‬ ‫عىل أعداء أديتيا العظيمة”‪ .‬كان يتحدّ ث كديكتاتور‬
‫قمت ومعي قادتنا‬
‫أمريكا الالتينية يف القرن العرشين وهو يضيف‪“ :‬لقد ُ‬
‫ِ‬
‫كوكب أديتيا وكوكب األرض مؤق ًتا‬ ‫الكبار ّ‬
‫باتاذ قرار بمنع االنتقال بني‬
‫ِ‬
‫وجلنود أديتيا أنّنا سننهي تلك‬ ‫ّ‬
‫وأؤكد ملواطنينا العظام‬ ‫حل ِ‬
‫ني انْتهاء املعارك‪،‬‬
‫احلرب بحلول الغد‪ ،‬دامت عظمة أديتيا والويل ألعدائها”‪.‬‬
‫َ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪372‬‬
‫ُ‬
‫الرجل جمنون‪ ،‬لقد‬ ‫يضحك ً‬
‫قائل لزمالئه‪“ :‬هذا‬ ‫ُ‬ ‫اخلطاب وضياء‬
‫ُ‬ ‫انتهى‬
‫رشعية لنفسه عن طريق هذا‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫حياول إكساب‬ ‫ٍ‬
‫بانقالب عسكري وهو‬ ‫قام‬
‫قام ونظر لزمالئه اجلالسني وهو ُ‬
‫ينفخ صدره بطريقة‬ ‫ثم َ‬
‫اخلطاب الفارغ”‪ّ ،‬‬
‫“أبشكم ّأيا الزمالء أنّنا سنمحو النياندرتال ِمن عىل وجه‬‫هازئة وقال‪ّ :‬‬
‫األرض خالل يوم واحد”‪.‬‬
‫قطعه جميء أحد الضباط‪.‬‬ ‫مزاح َ‬ ‫ٍ‬ ‫انفجر زمالؤه ضاحكني‪ ،‬ورشعوا يف‬ ‫َ‬
‫وتبعهم (ضياء)‪ ،‬وعندها هنرهم الضابطُ‬ ‫مجيعا ُمنتصبني يف احرتام‪َ ،‬‬‫وقفوا ً‬
‫عمن قال هذا الكالم فرفع‬ ‫ستفرسا ّ‬
‫ً‬ ‫عن حديثهم عن حمْو النياندرتال ُم‬ ‫بشدّ ة ْ‬
‫“اسمع يا سيد (ضياء)‪ ،‬أنت هنا تعترب جم ّندً ا‬ ‫ْ‬ ‫(ضياء) يده‪ ،‬فقال الضابط‪:‬‬
‫متتثل لألوامر العسكرية واالنضباط‪ ،‬وعليك االلتزام بتعليامت القيادة بعدم‬
‫ينظر‬
‫استخدام ذلك املصطلح عند التحدّ ث عن األديتيني”‪ .‬فقال (ضياء) وهو ُ‬
‫موج ًها كالمه للجميع‪“ :‬نحن هنا‬ ‫الضابط ّ‬ ‫شذرا‪“ :‬حسنًا يا سيدي”‪ .‬فقال ّ‬ ‫له ً‬
‫َ‬
‫الوصول إىل هذه‬ ‫استطعنا‬
‫ْ‬ ‫األديتيون ملا‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫خندق واحد‪ ،‬ولوال زمالؤنا‬ ‫مجيعا يف‬
‫ً‬
‫نكمل حترير أرضنا ونعيدهم إىل كوكبهم بسالم”‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫املرحلة‪ ،‬دعونا‬
‫يف ذلك الوقت‪ ،‬كان االجتامع بنيَ القيادات حمتد ًما‪ .‬طلب قادة املقاومة‬
‫األديتيني من القادة األرضيني طمأنتهم جد ًّيا عىل مصري شعبهم املوجود‬‫ّ‬
‫تغيت املعادلة‬ ‫ٌ‬
‫سبيل للعودة إىل كوكبه‪ّ .‬‬ ‫حال ًيا يف األرض‪ ،‬والذي مل يعدْ له‬
‫تطالب بالتوقف عن‬
‫ُ‬ ‫أصوات بينهم‬
‫ٌ‬ ‫بالنسبة ملاندريك وزمالئه‪ ،‬وظهرت‬
‫مع احلكومة األديتية لالتفاق معهم‪ ،‬وحماولة‬ ‫مساعدة األرضيني والتواصل َ‬
‫لألرضيني‬
‫ّ‬ ‫بدل من اخلضوع‬ ‫تشكيل حكومة خمتلطة حتكم أديتيا األرض ً‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪373‬‬
‫وعنرصيتهم‪ .‬كانوا بني شقي الرحى؛ وضع أنفسهم حتت رمحة األرضيني‬
‫َ‬
‫جعل هذا‬ ‫وحكوماهتم ِ‬
‫ذات الوعود املتقلبة أو االتفاق مع أعداء األمس‪.‬‬
‫ضامنات جد ّية من احلكومات األرضية بخصوص مص ِ‬
‫ري‬ ‫ٍ‬ ‫ماندريك يطلب‬
‫قبل ا ُمليض قد ًما يف احلرب أو مناقشة ّ‬
‫أي خطوات تالية‪.‬‬ ‫شعبهم َ‬
‫أقنع بقية زمالئه باالستمرار يف‬
‫صف ماندريك بعد أن َ‬ ‫وقف (عمر) يف ّ‬ ‫َ‬
‫صف األرضيني بعدَ إعطائهم الضامنات املطلوبة‪ .‬كان املطلوب‬ ‫احلرب يف ّ‬
‫ِ‬
‫وضع األديتيني ويق ّنن‬
‫َ‬ ‫إصداره خالل ساعات حيدّ د‬
‫ُ‬ ‫يتم‬ ‫ِ‬
‫جملس األمن ّ‬ ‫قرارا من‬
‫ً‬
‫وجودهم يف الدّ ول التي يعيشون فيها كمواطنني َ‬
‫مثل بقية مواطنيها‪ .‬بعدَ شدّ‬
‫وجذب ومشاورات بنيَ القادة العسكريني وحكوماهتم انعقدَ جملس األمن‪،‬‬
‫لوضع ّ‬
‫خطة‬ ‫االستمرار يف النقاش بالتوازي ْ‬
‫َ‬ ‫وطلب من القيادات العسكرية‬
‫حربية إلهناء الوضع احلايل‪.‬‬
‫النقطة األكثر إثارة للجدل بعدَ ذلك هي موضوع الفريوس الذي‬ ‫ُ‬ ‫كانت‬
‫غالب القادة األرضيني‬ ‫ُ‬ ‫يزعم أناندار وجو َده لدى قائد األمن‪ .‬مل يقتنع‬
‫املجتمعني بقصة الفريوس تلك‪ ،‬وقالوا ّإنا لو كانت حقيقية لكانوا أعلنوها‪.‬‬
‫“إن قائدَ األمن يطمح يف احلكم‪ ،‬وأنا أعرفه منذ‬ ‫ردا عىل ذلك‪ّ :‬‬
‫قال ماندريك ًّ‬
‫أن أناندار طلب‬ ‫نفسيا‪ ،‬وأعتقد ّ‬
‫سوي ًّ‬‫ّ‬ ‫ري‬
‫انتهازي وغ ُ‬
‫ّ‬ ‫زمن طويل؛ هو شخص‬
‫سبب‬
‫ُ‬ ‫منه أن يذكر ذلك التهديد لكنه رفض”‪ .‬فر َد عليه أحدُ القادة‪“ :‬ما‬
‫يفضل أن‬‫يثبت ألناندار أنّه ال يأمتر بأمره كام ّ‬
‫رفضه؟”‪ .‬فقال‪“ :‬ألنه يريد أن َ‬
‫النرص مصحو ًبا بأكرب‬
‫ُ‬ ‫مدو ًيا‪ ،‬وهذا سوف حيدث فقط إذا كان‬
‫انتصاره ّ‬
‫ُ‬ ‫يكون‬
‫عدد من جثث القتىل‪ ،‬وهو يعلم أنّكم لن تقتنعوا بكالم أناندار‪ ،‬وسترتكون‬ ‫ٍ‬
‫جنو َدكم فريسة لفريوسه”‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪374‬‬
‫مطولة أهناها القائدُ العام لقوات‬ ‫ّ‬ ‫مههامت ونقاشات جانبية‬
‫ٌ‬ ‫رست‬
‫ْ‬
‫متأكد من وجود الفريوس وقدرهتم عىل‬ ‫بسؤال ماندريك‪“ :‬أنت ّ‬ ‫ِ‬ ‫التحالف‬
‫إطالقه بنسبة كم باملائة؟”‪ .‬فقال ماندريك بعدَ تفكري قصري‪“ :‬ثامنني باملائة”‪.‬‬
‫منك حتديد موقع قائد األمن‪ ،‬هل يستطيع رجا ُلك‬ ‫فقال القائد‪“ :‬ولو طلبنا َ‬
‫معروف للجميع‪ ،‬ويمكن‬ ‫ٌ‬ ‫حتديد موقعه؟”‪ .‬فر ّد أحد قادة املقاومة‪“ :‬هذا‬
‫موقعه هذا‬
‫َ‬ ‫أن نحدّ د لك موقعه بمنتهى الدقة”‪ .‬فقال القائد‪“ :‬إذن‪ ،‬هناجم‬
‫رسيعا”‪ .‬فقال ُعمر‪“ :‬أو نرسل جمموعة‬ ‫ً‬ ‫نوقع به‬
‫عدد من القوات ح ّتى َ‬‫بأكرب ٍ‬
‫صغرية الغتياله”‪.‬‬
‫قطعها القائدُ بقوله‪“ :‬أنت رأيت ما حدث‬ ‫رست مههامت أخرى َ‬ ‫ْ‬
‫خالل ساعات بأكرب‬ ‫َ‬ ‫الصغرية وفشلها الذريع‪ ،‬نحن سنهاجم‬ ‫للمجموعات ّ‬
‫قام ذلك الرجل‬ ‫سامر قائدُ املقاومني يف لبنان‪“ :‬ولو َ‬‫ُ‬ ‫قدر من القوات”‪ ،‬فقال‬
‫خيار ّإل املخاطرة‪،‬‬‫ٌ‬ ‫ساعتها بإطالق الفريوس!”‪ .‬فقال القائد‪“ :‬ليس لدينا‬
‫فالبديل هو أن ننسحب‪ ،‬وأن نرتك أرضنا حمت ّلة لألبد ألنّنا خائفون من‬
‫فريوس مزعوم‪ ،‬سوف نقوم هبذا اهلجوم خالل ساعات‪ ،‬وأريد من‬
‫مجيع القادة‬
‫بطريقة تضمن نجاحه”‪ .‬وافق ُ‬ ‫ٍ‬ ‫وضع ّ‬
‫خطته‬ ‫اجلميع املسامهة يف ْ‬‫ِ‬
‫لكن ماندريك وزميليه حتفظا عليها‪ .‬يف ال ّنهاية‬ ‫األرضيني تقري ًبا عىل الفكرة‪ّ ،‬‬
‫حقيقيا‪ ،‬فهو سيقتل رجالكم ال رجالنا‪،‬‬ ‫ًّ‬ ‫الفريوس‬
‫ُ‬ ‫قال ماندريك‪“ :‬لو كان‬
‫إقناعكم بالعدول عنه أكثر من ذلك‪ ،‬لك ّننا لن‬ ‫فاالختيار لكم‪ ،‬ولن نحاول َ‬
‫ُ‬
‫قبل صدور قرار من جملس األمن حيمي شعبنا”‪.‬‬ ‫اهلجوم َ‬
‫َ‬ ‫نبدأ هذا‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪375‬‬
‫‪51‬‬
‫أنفاسها بصعوبة وهي جتلس يف غرفتها يف انتظار باسل‬
‫َ‬ ‫(ميساء)‬
‫التقطت ْ‬
‫ْ‬
‫قبل اشرتاكه يف اهلجوم املكثف الذي سيحدث خالل‬ ‫الذي جا َء لتوديعها َ‬
‫كل هذا ولو لدقائق‪ ،‬تريد هدن ًة قصرية‬‫ساعات‪ .‬كانت تتم ّنى لو يتوقف ّ‬
‫سالحها وختلع الدروع‪ ،‬وجتلس عىل أريكة‬
‫َ‬ ‫وسط هذا اجلنون‪ ،‬تريدُ أن تلقي‬
‫تضع عىل شعرها ً‬
‫قليل من الزيت‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫قطنية مزركشة‪،‬‬
‫عريضة مرتدية عباءة ّ‬
‫ِ‬
‫مسند األريكة‪ ،‬وعىل‬ ‫وترتك أ ّمها متشطه هلا برفق وهي تسندُ ظهرها عىل‬
‫أي أمور فارغة‪،‬‬‫وزوجها يتحدّ ثان عن ّ‬
‫ُ‬ ‫املقعدين املقابلني هلا جيلس أبوها‬
‫زجاجها عىل حديقة‬
‫ُ‬ ‫وطفالن يتشاكسان فيام تب ّقى من فراغ الغرفة التي ّ‬
‫يطل‬
‫بسيطة يف اخلارج‪.‬‬

‫تريدُ أن خيتفي من رأسها ذلك الطننيُ الذي ّ‬


‫خيص احلرب و َمن فيها‪،‬‬
‫مثل متى هنجم‪ ..‬وكيف نتغلب‪ ..‬ومتى ننسحب؟ وتبدأ‬ ‫مشكالت َ‬
‫ٌ‬ ‫وتنتهي‬
‫مشكالت مثل متى سنتناول الغداء‪ ..‬و َمن سندعوه حلفل عيد ميالد‪ ..‬وأين‬
‫يوم تكون‬ ‫كثري عليها؟ هل سيأيت ٌ‬
‫سنذهب يف العطلة الصيفية‪ ..‬هل هذا ٌ‬
‫ٍ‬
‫امتحان ما‪ ،‬أم‬ ‫ٍ‬
‫درجات منخفضة يف‬ ‫أن أحد أبنائها حصل عىل‬‫أزم ُتها الكربى ّ‬
‫ستبقى تلك احلرب إىل األبد!‬

‫حياها ُبقبلة رسيعة عىل خدّ ها‪ّ ،‬‬


‫ثم‬ ‫متعج ًل‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫دخل (باسل) الغرفة‬‫َ‬
‫ِ‬
‫القنوات اإلخبارية‪ .‬كان أناندار واق ًفا‬ ‫شاشة تعرض إحدى‬ ‫ٍ‬ ‫قام بتشغيل‬
‫ٍ‬
‫نظرات‬ ‫رجل يؤمن بحقّ الناس يف املعرفة”‪ .‬تبادل هو وهي‬ ‫ٌ‬ ‫يتحدث‪“ :‬أنا‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪376‬‬
‫َ‬
‫خيفون‬ ‫واحلكومات األرضية‬
‫ُ‬ ‫ساخرة وأناندار يكمل‪“ :‬احلكومة األديتية‬
‫ٍ‬
‫قنبلة‬ ‫ِ‬
‫كوكب أديتيا بتفجري‬ ‫عليكم حقيقة األمر‪ ،‬لقد قام بعض املخربني يف‬
‫غلق الصدع الكوين الذي يسمح باالنتقال بنيَ الكوكبني‪ ،‬ومل‬ ‫َك ِّمية أدت إىل ِ‬
‫أصيب‬‫َ‬ ‫أكثر من سبعني مليون أديتي إىل كوكبهم”‪.‬‬ ‫يعد هناك ٌ‬
‫جمال لعودة َ‬
‫كالمها بالذهول عندَ سامع تلك احلقيقة فلم تكن تلك األخبار ظهرت للعلن‬
‫بعدُ ‪ ،‬وال ح ّتى للمقاتلني ومل حيدثهام عمر باخلرب‪.‬‬
‫أن قائد‬ ‫زا َد القلق عندما تك ّلم أناندار عن السالح البيولوجي‪ّ ،‬‬
‫وأكد ّ‬
‫ِ‬
‫واختفت ال ّنظرات‬ ‫كل األحوال‪ .‬مل يتك ّلم أحدمها‪،‬‬
‫األمن سيقوم بتفجريه يف ّ‬
‫لست داعية حرب‪،‬‬ ‫عينيهام ح ّتى أهنى أناندار خطا َبه بقوله‪“ :‬أنا ُ‬
‫الساخرة من ْ‬
‫ألنقذ أرواح عرشات اآلالف من‬ ‫َ‬ ‫حمب للناس وللسالم‪ ،‬وأقول هذا‬ ‫أنا ّ‬
‫محل حكوماهتم املسئولية الكاملة عن ما سيحدث‪،‬‬ ‫اجلنود األرضيني‪ ،‬وأ ّ‬
‫يرتاجع عن‬
‫َ‬ ‫وأخاطب صديقي قائدَ األمن بلهجة ال ّناصح‪ ،‬وأطلب منه أن‬
‫ِ‬
‫القادة األرضيني لينسحبوا‬ ‫إطالق هذا السالح ويفتح املجال للتفاوض مع‬
‫نعيش فيها يف سال ٍم نحن واألرضيني مواطني أديتيا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫من أديتيا‪ ،‬ويرتكونا‬
‫أرضيني وأديتيني يف دولة واحدة حترتم اجلميع”‪.‬‬
‫صب لعناته‬
‫نوبة غضب عارمة‪ّ ،‬‬ ‫إن انتهى اخلطاب‪ ،‬وانتابت (باسل) ُ‬ ‫ما ِ‬
‫ينس‬ ‫َ‬
‫وصل هلذه الدرجة‪ ،‬ومل َ‬ ‫ّ‬
‫بالتضخم ح ّتى‬ ‫مجيع َمن سمحوا ألناندار‬
‫عىل ِ‬
‫(ميساء)‬
‫اقرتب منه ذات يوم‪ .‬حاولت ْ‬
‫َ‬ ‫يقم بقتله حني‬
‫أن يلعن نفسه ألنّه مل ْ‬
‫وأنا‬ ‫أن ّ‬
‫كل يشء قد وصل إىل هنايته‪ّ ،‬‬ ‫هتدئته رغم توترها الشّ ديد‪ ،‬وشعورها ّ‬
‫ال بدّ أن حتزم أمرها وتعو َد إىل الفيوم وسح ًقا للحرب والنضال‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪377‬‬
‫وجدت نفسها تر ّدد كلامت هدأهتا هي نفسها‪ ،‬وكلام‬ ‫ْ‬ ‫بينام كانت هتدّ ئه‬
‫تكلمت وخ ّفت حدّ ة غضبه‪ ،‬ك ّلام خ ّفت حدّ ة جزعها ح ّتى هدأ كالمها‪ .‬جلسا‬
‫قبل أن تقول ميساء‪“ :‬ماذا سنفعل اآلن؟”‪ .‬فقال هلا‪“ :‬وماذا‬ ‫صامتني دقيقة َ‬
‫وصبت لنفسها كو ًبا من املاء‪،‬‬
‫ّ‬ ‫قامت‬
‫ْ‬ ‫حيركها قادتنا”‪.‬‬
‫بيدنا‪ ،‬نحن جمرد بيادق ّ‬ ‫ِ‬
‫لك ّنها ناولته إ ّياه دون أن تدري وهي تقول‪ّ :‬‬
‫“أفكر يف االتصال بأيب‪ ،‬و‪”....‬‬
‫واستمع للتعليامت‪،‬‬
‫َ‬ ‫قبل أن تكمل مجلتها رنّت ُ‬
‫نغمة اتصال قاد ٍم لباسل فأجابه‬ ‫َ‬
‫اآلن للقاعدة املوجودة يف السادس‬ ‫ثم أغلق االتصال ً‬
‫قائل هلا‪“ :‬ال بدّ أن أتوجه َ‬ ‫ّ‬
‫من أكتوبر‪ّ ...‬إنم يعجلون موعدَ التحرك نحو ّ‬
‫مقر قيادة النياندرتال”‪.‬‬
‫حارا‪ ،‬وانطلق يف طريقه‪ ،‬اتّصلت هي بقائدها‬ ‫وداعا ًّ‬
‫و ّدعها عىل عجل ً‬
‫أن األوامر صدرت‬ ‫ِ‬
‫أرادت النزول‪ .‬أخربها قائدُ ها ّ‬ ‫تغالب دمعة‬
‫ُ‬ ‫وهي‬
‫مطلوب منها احلفاظ عىل‬ ‫ٌ‬ ‫بتحريك بعض املجموعات‪ّ ،‬‬
‫وأن بقية القوات‬
‫ٍ‬
‫مرات بال‬ ‫َ‬
‫الوصول ألبيها عدّ ة‬ ‫ِ‬
‫حاولت‬ ‫مواقعها حلني ورود أخبار جديدة‪.‬‬
‫ربها ّأنم جيهزون للهجوم عىل القيادة‬ ‫فائدة‪ ،‬ويف النهاية جاءها اتصال منه أخ َ‬
‫تطلب التفاوض يف‬ ‫ُ‬ ‫وأنم أرسلوا رسائل للحكومة األديتية‬
‫األديتية بالفعل‪ّ ،‬‬
‫مباحا اآلن ح ّتى يف ُعرف عمر‬ ‫أي نوع من اخلداع صار ً‬ ‫ّ‬
‫وكأن ّ‬ ‫ذات الوقت‪،‬‬
‫عوض اهلل‪.‬‬
‫ألنم قد تلقوا‬ ‫فطمأنا ً‬
‫قائل‪ ..‬إنّه لن يؤثر عليهم ّ‬ ‫َ‬ ‫سألته عن الفريوس‬
‫رغم توتره الواضح‪“ :‬هناك‬ ‫ً‬
‫حماول طمأنتها َ‬ ‫ثم أضاف‬ ‫حتصينًا ضدّ ه من ْ‬
‫قبل‪ّ ،‬‬
‫اخلاصة الرتكية واألمريكية وجمموعة من املقاومني األديتيني‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫القوات‬ ‫ِف َرق من‬
‫اقتحام قرص أناندار يف جبال تركيا‪ ،‬فقد استطاعوا تأكيدَ أنّه كان‬
‫َ‬ ‫حياولون‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪378‬‬
‫لنرتاح من ّ‬
‫رشه”‪ .‬فقال‪:‬‬ ‫َ‬ ‫يلقي كلمته من هناك”‪ .‬فقالت‪“ :‬أرجو أن يقتلوه‬
‫ِ‬
‫التفاوض مع حاكمهم اجلديد‪،‬‬ ‫ّ‬
‫“كل‪ ،‬نريد انتزاع معلومات منه تساعدنا يف‬
‫حيا أو مي ًتا”‪.‬‬
‫لكن األوامر الصادرة هلم هي اإلمساك به ًّ‬
‫ّ‬
‫َ‬
‫احلصول عىل قرار من جملس األمن‪ ،‬مل يتم اإلعالن‬ ‫ربها ّأنم استطاعوا‬
‫أخ َ‬
‫يتضمن احلفاظ عىل حقوق األديتيني املوجودين يف األرض املحتلة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ع ْنه بعد‪،‬‬
‫سوف يتفاوضون مع احلكومة األديتية عىل االستسالم مقابل العفو‬ ‫َ‬ ‫وأنم‬
‫ّ‬
‫مجيعا مواطنني يف الدول التي يعيشون فيها ح ّتى‬
‫كل ما سبق‪ ،‬واعتبارهم ً‬ ‫عن ّ‬
‫العسكريني منهم‪.‬‬
‫“إ ًذا‪ ،‬ملاذا تستعدّ ون القتحام قيادهتم؟”‪ .‬سألته‪ ،‬فقال‪“ :‬حتس ًبا لفشل‬
‫مؤكدً ا عىل رسية ّ‬
‫كل كلمة فيه‪ ،‬وأنه ح ّتى‬ ‫ا ُملفاوضات”‪ّ ،‬‬
‫ثم أهنى حدي َثه معها ّ‬
‫رؤساؤها املبارشون ال يعرفون شيئًا عن تلك التفاصيل‪ .‬حاولت اغتصاب‬
‫صوت نفري‬
‫ُ‬ ‫دوى‬ ‫ابتسامة وقالت “هذه ميز ٌة ْ‬
‫أن أكون ابنة عمر عوض اهلل”‪ّ .‬‬
‫متر‬
‫أن ّ‬ ‫الطابور املسائي للقاعدة‪ ،‬وهي تدعو ْ‬‫فخرجت من غرفتِها حلضور ّ‬
‫األيام القادمة عىل خري‪.‬‬
‫ُ‬
‫رحب به‬ ‫تضم (ضياء) الذي ما ْ‬
‫إن رآه ح ّتى ّ‬ ‫انضم (باسل) للقاعدة التي ّ‬
‫ّ‬
‫معا من قبل يف عمليتني للمقاومة‬ ‫َ‬
‫تعامل ً‬ ‫وعرفه عىل أصدقائه من املجندين‪.‬‬
‫ّ‬
‫َ‬
‫يف الفرتة التي تلت اشرتاك (باسل) يف حماولة قتل أناندار‪ .‬كانت ظروفهام‬
‫احلميمية التلقائية بينهام؛ كالمها عمل مع النياندرتال‬
‫ّ‬ ‫نوعا من‬ ‫املتقاربة ُ‬
‫ختلق ً‬
‫وانضم للمقاومة بعدَ ذلك‪ ،‬وكالمها يعمل‬ ‫ّ‬ ‫ثم انشق‬
‫الغزو‪ّ ،‬‬ ‫ً‬
‫ضابطا بعد ْ‬
‫أصغر منه س ًّنا ّ‬
‫وأقل كفاءة‪ .‬الغريب ّأنام قبل الغزو‬ ‫َ‬ ‫مرؤوسا آلخرين يراهم‬
‫ً‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪379‬‬
‫ابن اليساري السجني‬ ‫عن بعضهام متا ًما‪( ،‬باسل) ُ‬
‫اجتامعيا وفكر ًّيا ْ‬
‫ًّ‬ ‫كانا بعيدين‬
‫ٍ‬
‫عائلة تعترب من املؤيدين‬ ‫ابن‬
‫ضابط الرشطة ُ‬ ‫ُ‬ ‫نظام احلكم‪ ،‬و(ضياء)‬‫الذي يكره َ‬
‫صارا أقرب ما‬
‫كليهام ح ّتى َ‬
‫صهر ْ‬‫َ‬ ‫متا ًما ألنظمة احلكم املتعاقبة‪ ،‬لكن االحتالل‬
‫يكون لبعضهام‪.‬‬
‫رسيعا اندمج (باسل) مع املجموعة‪ ،‬وصارت بينهام نقاشات ومزاح ح ّتى‬ ‫ً‬
‫لكل القوات بعد ساعات قليلة من وصول‬ ‫جممع ّ‬
‫دعامها النف ُري إىل طابور ّ‬
‫الشمس قد غربت لل ّتو‪ ،‬وكان هذا هو املوعدَ املحدد مسب ًقا‬
‫ُ‬ ‫باسل‪ .‬كانت‬
‫تم تأجيله حلني صدور أوامر أخرى‪.‬‬ ‫لتحركهم نحو قيادة األديتيني‪ ،‬والذي ّ‬
‫ضابطا مرص ًّيا برتبة عميد وأطلعهم عىل‬ ‫ً‬ ‫وقف القائدُ الذي كان‬‫َ‬
‫أه َبة‬
‫بأن يكون اجلميع عىل ْ‬ ‫األوامر صدرت ْ‬ ‫َ‬ ‫إن‬‫املستجدات‪ .‬قال هلم ّ‬
‫بدأت بالفعل قد‬‫ْ‬ ‫وأن هناك مفاوضات قد‬ ‫أي وقت‪ّ ،‬‬ ‫االستعداد للتحرك يف ّ‬
‫تؤ ّدي إىل انفراج األزمة واستسالم األديتيني (مل يقل نياندرتال ّ‬
‫بالطبع احرتا ًما‬
‫للمقاومني منهم) وقال‪“ :‬ال تصدقوا كالم ذلك الكاذب الذي حتدّ ث عن‬
‫مجيعا يف خندق واحد‪ ،‬نحن مستعدّ َ‬
‫ون‬ ‫وجود سالح بيولوجي‪ ،‬اعلموا أنّنا ً‬
‫أن هناك‬ ‫أيضا ال يتخىل عن أبنائه‪ ،‬واعلموا ّ‬
‫لكن الوطن ً‬ ‫للشّ هادة فدا ًء للوطن‪ّ ،‬‬
‫حال وجود مثل‬ ‫ٍ‬
‫شحنات ضخمة من األقنعة الواقية يف طريقها إلينا حلاميتنا يف ِ‬
‫هذا التهديد‪ ،‬والذي أعلم يقينًا أنّه نوع من احلرب الدعائية ال غري”‪.‬‬
‫أسارير الكثري من اجلنود لذلك اخلرب‪ ،‬وهتامس البعض منهم يف‬
‫ُ‬ ‫هت ّللت‬
‫آمرا‪“ :‬انتباه” فاعتدل‬ ‫ٍ‬
‫بعنف ً‬ ‫َ‬
‫الواقف جوار القائد يرصخ‬ ‫فرح َ‬
‫جعل الضابط‬
‫ثم ترك الكلم َة للضابط األصغر ليقول هلم‬‫اجلميع وعاد القائدُ يكمل كلمته‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫جمموعة انتقلت معه من‬ ‫رب ٍم وسط‬‫بعض التعليامت‪ .‬كان (باسل) واق ًفا يف ت ّ‬
‫َ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪380‬‬
‫َ‬
‫الحظ‬ ‫ِ‬
‫رصفهم‬ ‫أن الضابط عىل وشك‬ ‫القاعدة التي كان فيها‪ ،‬وحني بدَ ا له ّ‬
‫َ‬
‫فسأل اجلندي عن ما‬ ‫دب ُ‬
‫القلق يف نفسه‬ ‫أن اجلندي املجاور له بدأ يف السعال‪ّ .‬‬ ‫ّ‬
‫َ‬
‫انخرط يف السعال بدوره‪.‬‬ ‫َ‬
‫الضابط‬ ‫لكن‬‫ورفع يدَ ه خماط ًبا الضابط ّ‬
‫َ‬ ‫به‪،‬‬
‫السعال بني اجلميع‪ ،‬تناول القائدُ د ّفة احلديث من الضابط‬ ‫انترشت عدوى ّ‬
‫ْ‬
‫أنفاسه عىل راحته‪ ،‬أمرهم القائد‬‫ِ‬ ‫عاجزا ح ّتى عن أخذ‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫السعال‬ ‫الذي جعله‬
‫ُ‬
‫يسعل هو اآلخر‪.‬‬ ‫وهو‬
‫والراحة يف غرفهم َ‬ ‫ِ‬ ‫مجيعا باالنرصاف وعد ِم القلق‬
‫ً‬
‫جالسا معهم قبل‬
‫ً‬ ‫حيث يقف (ضياء) فوجدَ ه يسند جم ّندً ا كان‬ ‫ذهب باسل إىل ُ‬
‫الطابور وهو يقول‪“ :‬ال تقلق‪ ،‬يبدو ّأنا عدوى أنفلونزا”‪ .‬فابتسم اجلندي‬
‫طبيب باملناسبة‪ ،‬وهذه ليست‬
‫ٌ‬ ‫السعة! أنا‬
‫“وانترشت هبذه ّ‬
‫ْ‬ ‫وقال وهو يسعل‪:‬‬
‫جمرد أنفلونزا”‪.‬‬
‫ّ‬
‫صح َبه ح ّتى غرفته التي جلس فيها جم ّندان آخران يف إعياء مصحوب‬
‫ٍ‬
‫بسعال ّ‬
‫أقل حدّ ة ممّا حدث يف البداية‪ .‬جاء أحدُ املقاومني األديتيني‪ ،‬رجل‬
‫ألنا مل ْ‬
‫تطل وال واحد‬ ‫تبش بخري ّ‬ ‫أن هذه األعراض ال ّ‬ ‫يعرفه باسل‪ ،‬وأبلغه ّ‬
‫ري يف‬
‫من األديتيني أو َمن كانوا يف األرض املحتلة‪ ،‬فسأله باسل‪“ :‬وما اخلط ُ‬
‫أن الفريوس ال يؤثر‬ ‫ٍ‬
‫شائعات ّ‬ ‫ُ‬
‫يطابق ما وصل إلينا من‬ ‫هذا؟”‪ .‬فقال‪“ :‬هذا‬
‫ّإل عىل اجلنود القادمني من اخلارج”‪.‬‬
‫ري بعيدً ا عن أصوات‬ ‫ذهب (باسل) إىل صالة الطعام ليحاول التفك َ‬‫َ‬
‫بعض الرجال جالسني هناك حياولون معرف َة األخبار وقد‬ ‫َ‬ ‫السعال‪ .‬وجدَ‬
‫مجيعا‪ .‬خطر‬
‫نال منهم ً‬ ‫بالسعال واإلعياء الذي َ‬
‫انشغل عنهم الضباط والقاد ُة ّ‬
‫ُ‬
‫إضعاف‬ ‫وأن املقصود منه‬ ‫رضا ال ً‬
‫قاتل‪ّ ،‬‬ ‫بباله ّ‬
‫أن هذا الفريوس قد يكون ُم ً‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪381‬‬
‫ِ‬
‫خمتلف البقاع‬ ‫ِ‬
‫بدأت األخبار تتوارد من‬ ‫املقاتلني ح ّتى يمكن السيطرة عليهم‪.‬‬
‫ٍ‬
‫سعال وإعياء وارتفاع‬ ‫ِ‬
‫لنوبات‬ ‫كل اجلنسيات أرسى‬‫عن سقوط اجلنود من ّ‬
‫إن احلكومة األديتية ّأكدت ّأنا ال تزال عىل‬
‫طفيف يف درجة احلرارة‪ .‬قيل ّ‬
‫وأنا مل تطلق أي أسلحة‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫استعداد للتفاوض‪ّ ،‬‬
‫اتصال من ميساء‪“ :‬باسل‪ ،‬كيف حال اجلنود‬ ‫ٌ‬ ‫بعدَ ساعة تقري ًبا جاءه‬
‫اإلعياء البسيط‪ ،‬ال أعتقدُ ّ‬
‫أن هذا‬ ‫ُ‬ ‫عندك؟”‪ .‬فقال‪“ :‬مجيعهم بخري‪ ،‬عدا‬
‫“عرفت منذ قليل أنّه كانت هناك حماولة للقبض عىل‬
‫ُ‬ ‫فريوس فتاك”‪ .‬فقالت‪:‬‬
‫أناندار وقد باءت بالفشل‪ ،‬وانفجر القرص الذي كانوا يعتقدون أنّه فيه وقتل‬
‫كل اجلنود الذين شاركوا يف العملية”‪ .‬فقال هلا‪“ :‬كام كنت أتو ّقع”‪ .‬فقالت‪:‬‬‫ّ‬
‫حر طليق اآلن‪ ،‬ويقال إنّه هو َمن أطلق الفريوس”‪.‬‬
‫“إنّه ّ‬
‫الشعب األديتي بلهجة املدافع عن‬
‫َ‬ ‫ظهر أناندار عىل الشاشة وهو خياطب‬‫َ‬
‫ويصب لعناته عىل القادة األرضيني الذين حاولوا اغتياله‪ ،‬وأنّه عرف اآلن‬
‫ّ‬ ‫وطنه‪،‬‬
‫تم سجنُه ألنّه خان أديتيا‪ ،‬وكان يريد تسليمها لألرضيني‪ ،‬وقد‬ ‫ّ‬
‫أن قائدَ األمن قد ّ‬
‫إن نوايا احلكومات‬‫احلاكم األصيل ألديتيا العزيز بالدريك إىل موقعه‪ .‬قال ّ‬
‫ُ‬ ‫عاد‬
‫قرارا بإطالق‬ ‫َ‬
‫يأخذون ً‬ ‫وإن هذا قد جعل القادة األديتيني‬‫األرضية خبيثة‪ّ ،‬‬
‫حسم املعركة‪.‬‬
‫َ‬ ‫وإن الساعات القادمة ستشهد‬‫سالحهم الفريويس‪ّ ،‬‬
‫دخل (ضياء) ورصخ ً‬
‫قائل‪“ :‬باسل‪،‬‬ ‫قبل أن يعلق أحدٌ عىل كلمة أناندار َ‬
‫َ‬
‫وتوج َها عدْ ًوا نحو الغرفة التي تركه‬
‫ّ‬ ‫حاول أن تساعدين”‪ُ .‬ه ِرع (باسل) إليه‬
‫بقوة د ًما صاف ًيا‪ ،‬وقد سال الدم ً‬
‫أيضا من‬ ‫ُ‬
‫صديقه يسعل ّ‬ ‫فيها‪ .‬كان اجلندي‬
‫أنفه‪ ،‬احتقنت عيناه بشدّ ة‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪382‬‬
‫حائرا ال يدري ماذا يفعل‪ ،‬يبدّ ل عينه بني (ضياء) اليائس‬
‫وقف (باسل) ً‬ ‫َ‬
‫نصف وجهه وصدره‪ .‬سمع‬ ‫َ‬ ‫الدماء‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫غطت‬ ‫وبني اجلندي مصطفى الذي‬
‫َ‬
‫األعراض نفسها قد‬ ‫رصخ ًة من اجلندي اآلخر عىل الفراش املقابل‪ ،‬ورأى‬
‫ري عابئ بنداء ضياء‪ ،‬رأى يف‬‫خارجا من الغرفة غ َ‬
‫ً‬ ‫بدأت تظهر عليه‪ .‬جرى‬
‫الغرف آخرين‪ ،‬خرج إىل الساحة‬‫ِ‬ ‫املمر جند ّي ْي يسعالن وينزفان‪ ،‬رأى يف‬
‫ّ‬
‫ِ‬
‫رشبت األرض دماءه‪ .‬كانت‬ ‫فوجدَ أحدهم ملقى عىل األرض ينتفض وقد‬
‫ُ‬
‫حتدث أمامه بدون رصاص وال قنابل‪ ،‬جنود ينزفون ح ّتى املوت بدون‬ ‫جمزرة‬
‫َ‬
‫يعتذرون جلنودهم‬ ‫جرح واحد‪ ،‬وقادة راقدون عىل األرض حيترضون وهم‬ ‫ٍ‬
‫ّأنم ال يستطيعون إنقاذهم‪.‬‬
‫صورا بشعة جلنود ينزفون؛‬
‫ً‬ ‫عا َد إىل قاعة الطعام‪ ،‬كانت الشاشة تنقل‬
‫أمريكيني‪ ،‬وغريهم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫صينيني‪ ،‬روس‪،‬‬
‫ّ‬ ‫مرص ّيني‪ ،‬أتراك‪ ،‬عرب‪ ،‬هيود‪ ،‬أكراد‪،‬‬
‫ِ‬
‫اجلنود الذين شاركوا يف التحالف لتحرير أرضهم أو لنرصة البرشية‪،‬‬ ‫ّ‬
‫كل‬
‫كانوا يتساقطون عىل األرض يسعلون د ًما‪ ،‬وينزفون‪ ،‬أو ينتفضون انتفاضة‬
‫اسمها متا ًما‪،‬‬ ‫احتضار أخرية‪ .‬عرف ساعتَها ّ‬
‫أن عملية الدّ رع املكسور تستحقّ َ‬
‫أصل‪.‬‬ ‫يكن الدّ رع الذي قصدَ ه َمن ّ‬
‫خططوا للعملية ً‬ ‫لكن ما انكرس مل ِ‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪383‬‬
‫السابع‬
‫القسم ّ‬
‫ُ‬
‫ثمن ال ّنجاة‬
‫ُ‬
‫وطن واحد‪ ،‬أو نهلك‬ ‫“يجب أن نتع ّلم كيف نعيش ً‬
‫معا كشركا َء في ٍ‬ ‫ُ‬
‫معا‪ ،‬و ُنهلك أهلنا وكأنّنا مجموعة من الحمقى”‬
‫ً‬
‫عمر عوض اهلل‪،‬‬
‫نقل‪ -‬بتص ّرف‪ -‬عن‬‫ً‬
‫مارتني لوثر كينج‬
‫‪52‬‬
‫بقوة رصخ ًة مل خترج منها حنيَ أصيبت يف أي قتال من‬‫(ميساء) ّ‬
‫رصخت ْ‬ ‫ْ‬
‫متر‬ ‫وتوسل كثري‪ ،‬ودعاء من القلب ْ‬
‫بأن ّ‬ ‫ّ‬ ‫رصخة مصحوبة بدموع قليلة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ْقبل‪.‬‬
‫ثم‬ ‫نفسا متالح ًقا قص ً‬
‫ريا‪ّ ،‬‬ ‫حظات برسعة‪ .‬أخذت عرشين أو ثالثني ً‬ ‫ُ‬ ‫تلك ال ّل‬
‫بقوة‬
‫ثم رصخة مكتومة وهي تدفع ّ‬ ‫ٍ‬
‫واحد عميق كتم ْته داخلها ّ‬ ‫ٍ‬
‫بنفس‬ ‫أتبعتها‬
‫ثم تتوقف يف إجهاد‪ ،‬وتقول أل ّمها التي كانت‬ ‫عضالت بطنها وحوضها‪ّ ،‬‬
‫ألست ابنتك؟”‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫يوقف هذا األمل أرجوك‪،‬‬ ‫جالسة عىل مقعد‪“ :‬أعطيني شيئًا‬
‫بقوة أكثر‪ ،‬لقد‬
‫هيا ادفعي ّ‬‫بالساهل‪ّ ،‬‬
‫فتبتسم أ ّمها وتقول‪“ :‬األمومة ليست ّ‬ ‫ُ‬
‫أوشك عىل اخلروج”‪.‬‬ ‫َ‬

‫كانت عينا زهرة تدمعان وهي تو ّلد ابنتها بنفسها‪ ،‬ر ّبام ألنه ال يوجد‬
‫املهمة‪ ،‬ور ّبام ألهنا مل تكن تتم ّنى أن يو َلد هلا حفيدة يف‬
‫أحد غريها يقوم بتلك ّ‬
‫هذا الزمن ال َبغيض الذي صارت احليا ُة فيه أسوأ من احلياة حتت االحتالل‪.‬‬
‫َ‬
‫معارك ال أحد‬ ‫وعمر منخرطان يف‬ ‫يقف جوارمها؛ فباسل ُ‬ ‫ابن ُتها تلد وال أحد ُ‬
‫خميم يف‬
‫ضمن ّ‬‫َ‬ ‫صفيحي‬
‫ّ‬ ‫تقيامن يف ٍ‬
‫بيت‬ ‫ِ‬ ‫يعلم جدواها‪ ،‬أو متى تنتهي‪ .‬كانتا‬
‫اإلسكندرية عىل حدود األرض املحتلة من الداخل‪.‬‬
‫السبت األسود الذي انطلق فيه فريوس مرعب من‬ ‫مرت تسع ُة أشهر عىل ّ‬‫ّ‬
‫أرواح ما يقارب املائة ألف جندي من عرشين دولة تقري ًبا‪،‬‬
‫َ‬ ‫مكمنِه حاصدً ا‬
‫دول العامل بعملِ حج ٍر صحي كامل عىل مجيع مناطق‬ ‫والذي بسببِه قامت ُ‬
‫األرض املحتلة يف مرص وسوريا وتركيا ولبنان وفلسطني التارخيية‪ .‬ال أحد خيرج‬
‫واحلدود مرا َقبة بالكامل من خارجها بالطائرات واجلنود والدوريات‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أو يدخل‪،‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪387‬‬
‫كل من‬‫أن النياندرتال سيسحقون ّ‬ ‫اجلميع ّ‬
‫ُ‬ ‫حنيَ ّ‬
‫تم تفعيل الفريوس‪ ،‬أيقن‬
‫تبقى ِمن املقاومني‪ ،‬وقد يفنون َمن تبقى ِمن األرضيني ً‬
‫مجيعا داخل أديتيا‪،‬‬
‫ً‬
‫ضباطا يف‬ ‫حلسن ّ‬
‫احلظ مل حيدث ذلك‪ .‬اتّضح يف اليوم التايل ّ‬
‫أن هناك‬ ‫لكن ُ‬
‫وهم َمن قاموا بتفعيل السالح‪ .‬انشقّ هؤالء‬
‫لصالح أناندار ُ‬
‫ِ‬ ‫احلكومة يعملون‬
‫قتال ضدّ القوات احلكومية مدعومني برجال أناندار‪.‬‬‫الضباط وانخرطوا يف ٍ‬
‫إن استخدام الفريوس عىل‬ ‫احلاكم األديتي بعدَ ذلك يف خطاب له‪ّ ..‬‬
‫ُ‬ ‫قال‬
‫ٌ‬
‫جريمة ش ْنعاء‪ ،‬وإنّه كان معدًّ ا فقط لالستخدام يف مكان‬ ‫هذا ال ّنطاق الواسع‬
‫قو َة َمن حياربون‪ ،‬فيقومون‬ ‫ُ‬
‫الدول املهامجة ّ‬ ‫أماكن معدودة ح ّتى تعلم‬
‫َ‬ ‫واحد أو‬
‫متحضون يقدّ سون احلياة‪ّ ،‬‬
‫وإن َمن‬ ‫ّ‬ ‫أيضا ّ‬
‫إن األديتيني‬ ‫بسحب قواهتم‪ .‬قال ً‬
‫عقابم‪.‬‬
‫قاموا بتلك اجلريمة سيتم ُ‬
‫صاحب التوقيع الوحيد عىل تلك‬ ‫ُ‬ ‫أن أناندار هو‬ ‫َ‬
‫عرف اجلميع بعدَ ها ّ‬
‫قتل مائة ألف جندي ُمارب حيمل السالح‪،‬‬ ‫اجلريمة‪ّ ،‬برر أفعاله وقال إنّه َ‬
‫خيططون‬‫إن قادة القوات األرضية كانوا ّ‬ ‫َ‬
‫أعزل واحدً ا‪ .‬قال ّ‬ ‫شخصا‬
‫ً‬ ‫ومل يسقط‬
‫ري عابئني بعدد األبرياء‬
‫لقصف طويل األمد ملناطق أديتيا األرض املختلفة غ َ‬
‫أنقذت املاليني عىل حساب‬‫ُ‬ ‫الذين سيموتون نتيجة ذلك‪ .‬قال يو َمها‪“ :‬أنا‬
‫مدججني بالسالح‪ ،‬أنا أستحقّ جائز َة نوبل ّ‬
‫للسالم التي‬ ‫مائة ألف من غزاة ّ‬
‫خاصة من النياندرتال‬
‫عددهم‪ّ ،‬‬ ‫أن تابعيه ازداد ُ‬ ‫تعطوهنا يف األرض”‪ .‬الغريب ّ‬
‫املتعصبة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫املتد ّينني نتيجة خطابه وخطابات شاودريك مساعدته‬
‫قتال أناندار ضدّ قوات احلكومة‪ ،‬وحاولوا االستيالء عىل‬ ‫الثوار َ‬
‫ُ‬ ‫انتهزَ‬
‫احلرب‬
‫ُ‬ ‫مناطق واسعة‪ ،‬والبد َء بإقامة مناطق مستق ّلة حتت إدارهتم‪ .‬حتولت‬
‫قوتني إىل عدّ ِة حروب‪ ،‬قوات أناندار ضدّ القوات احلكومية‪،‬‬ ‫الواحدة بني ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪388‬‬
‫ٍ‬
‫نفوذ‬ ‫ِ‬
‫انقسمت األرض املحتلة إىل مناطق‬ ‫والثوار ضدّ هؤالء وهؤالء‪.‬‬
‫تتداخل فيها احلدود القديمة فتجد قو ًة تسيطر عىل ٍ‬
‫أرض متتدّ من العريش‬
‫مرورا بغزة‪ ،‬وقوة تسيطر عىل دمشق وبريوت وما بينهام‪ ،‬وأخرى‬
‫ً‬ ‫لتل أبيب‬
‫عىل أجزاء متداخلة من تركيا وسوريا‪.‬‬
‫األمور عندَ هذا احلد‪ ،‬وإنّام اتّسع نطاق احلرب وزادت أنواع‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫تتوقف‬ ‫مل‬
‫الصينيني املوجودين يف القدس‪ ،‬سارعت‬ ‫ّ‬ ‫العداوات‪ .‬حني قتل ّ‬
‫كل اجلنود‬
‫قوات مشرتكة للثوار أخذها ثانية‬ ‫ثم استطاعت ٌ‬ ‫قوات أناندار للسيطرة عليها‪ّ ،‬‬
‫القتال بني العرب واليهود يف تلك القوات‪ ،‬وامتدّ إىل أجزاء واسعة‬ ‫ُ‬ ‫ثم اندلع‬
‫ّ‬
‫قامت حروب بنيَ أكراد وأتراك‪ ،‬وحروب أيديولوجية‬ ‫ْ‬ ‫ثم‬
‫من فلسطني‪ّ ،‬‬
‫ديني مس ّلح اسمه‬
‫فصيل ّ‬‫ٌ‬ ‫ظهر بينهم‬
‫ودينية شملت ح ّتى النياندرتال الذين َ‬
‫احا‪ ،‬وتتظاهر بالتد ّين‪،‬‬‫“أبناء ماجوها” يرون أن شاودريك زنديقة تساندُ س ّف ً‬
‫تقسيامت‬
‫ُ‬ ‫وأن احلكومة غري رشعية‪ .‬كثرت التحزبات والفصائل‪ ،‬وكثرت‬ ‫ّ‬
‫وشح الغذاء والدواء‪ ،‬يف الوقت الذي زاد فيه تد ّفق السالح‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫املناطق‪،‬‬
‫ّساع نطاق املعركة أ ّدى لظهور خميامت الجئني جديدة‪ ،‬ابتكرت دول‬ ‫ات ُ‬
‫عن طريق شاحنات ذاتية القيادة تدخل‬ ‫العامل آلي ًة إلدخال املساعدات ْ‬
‫تعقيمها عىل احلدود وإعادة ملئها ثانية‪.‬‬
‫ُ‬ ‫يتم‬
‫ثم ّ‬‫املساعدات الغذائية والطبية‪ّ ،‬‬
‫فعالة لتهريب األسلحة للداخل‪ ،‬إ ّما‬ ‫أيضا وسيل ًة ّ‬
‫كانت تلك الشاحنات ً‬
‫دعم‬
‫استخرجه النياندرتال‪ ،‬وإ ّما ملجرد ِ‬
‫َ‬ ‫مقابل كتل من معدن الطاقة الذي‬
‫فصيلٍ عىل حساب آخر‪.‬‬
‫بعدَ تسعة أشهر من القتال‪ ،‬كانت هناك ُ‬
‫ثالث عواصم رئيسية للفصائل‬
‫األكرب ً‬
‫حجم يف هذا الرصاع؛ عاصمة الثوار يف اإلسكندرية‪ ،‬عاصمة حكومة‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪389‬‬
‫مقرات‬
‫األديتيني يف القاهرة‪ ،‬وعاصمة أناندار يف أنطاليا برتكيا‪ ،‬إىل جانب ّ‬
‫أخرى صغرية للفصائلِ األصغر‪ ،‬وكان القصف املتبادل والطائرات املسرية‬
‫كل العواصم من أعداء حكامها‪.‬‬‫تغري عىل ّ‬
‫فضلت زهرة كعادهتا أن تقيم‬ ‫(عمر) وعائل ُته كانوا يف اإلسكندرية‪ ،‬وقد ّ‬
‫معا االبتعاد‬
‫اجلميع منها ً‬
‫ُ‬ ‫(ميساء) التي طلب‬
‫بني الالجئني وتعاجلهم ومعها ْ‬
‫تضع محلها‪ ،‬واستجابت هلم عىل َمضض‪ .‬كانت اإلقامة يف‬ ‫عن القتال ح ّتى َ‬
‫معرض ًة لقصف أو تفخيخ أو‬ ‫املخيامت ً‬
‫أيضا هلا فائد ٌة أخرى وهي ّأنا مل تكن ّ‬
‫وجود عمليات عسكرية داخلها أو بالقرب منها‪.‬‬
‫ِ‬
‫الوجه ل ّفتها يف قامط‬ ‫(ميساء) ِ‬
‫وبيدها طفلة منرية‬ ‫خرجت زهرة من عند ْ‬ ‫ْ‬
‫اجلو املحيط‪ .‬فوجئت بعمر وباسل‬ ‫وردي اللون ُمزركش‪ ،‬تطغى هبج ُته عىل ّ‬ ‫ّ‬
‫آيات القلق‪ ،‬فأعطت الطفل َة لباسل‬ ‫وجهيهام ُ‬
‫ْ‬ ‫واقفني يف انتظارها‪ ،‬وعىل‬
‫فقبلها وأعادها للزهرة التي صارت جدّ ًة اآلن‪.‬‬ ‫ثم ناوهلا جلدّ ها ّ‬ ‫ليقبلها ً‬
‫أول ّ‬ ‫ّ‬
‫تاركا (عمر) وزهرة‪ ،‬ومعهام املولود ُة‬‫(ميساء) ً‬ ‫استأذن باسل ليدخل عىل ْ‬
‫هامسا وهو يقرتب من‬ ‫ً‬ ‫وعالء الصغري الذي بلغ عامه الثّاين‪ .‬قال (عمر)‬
‫ابن‬‫أذهنا‪“ :‬أوحشتني يا س ّتي زهرة” فرضبته عىل ك ّفه‪ ،‬وقال‪“ :‬اسمها تيتة يا َ‬
‫يقبلها ثانية‪.‬‬
‫كفر الشيخ” فأطلق ضحكته جملجلة وهو يميل عىل الوليدة ّ‬
‫تضمه‪“ :‬ما‬
‫إجهاد حني رأت (باسل) وقالت وهي ّ‬ ‫ٍ‬ ‫(ميساء) يف‬
‫ابتسمت ْ‬
‫ْ‬
‫ً‬
‫مبتسم‪“ :‬لقد استدعاين القائد‬ ‫هذه املفاجأة اجلميلة‪ ،‬متى جئت؟”‪ .‬فقال‬
‫حلب أبيها وهي تسأله عن ِ‬
‫حال‬ ‫متتمت بكلامت تقدي ٍر ّ‬‫ْ‬ ‫ُعمر عوض اهلل”‪.‬‬
‫َ‬
‫تتعاف برسعة لتعاونه يف القتال‪.‬‬ ‫مازحا أن‬
‫ً‬ ‫القتال ومستجداته‪ ،‬فطلب منها‬
‫ضاحكا‪“ :‬عىل‬‫ً‬ ‫كان أبوها عىل باب الغرفة حني سمع هذا احلديث‪ ،‬فقال‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪390‬‬
‫أيامنا كانت املرأ ُة تساعد زوجها يف غيطه أو ّ‬
‫دكانه‪ ،‬أ ّما اليوم فتقاتل جواره”‪.‬‬
‫عضوا يف جملس احلكم الذي شكله الثوار إلدارة‬ ‫ً‬ ‫كان (عمر) يف تلك األيام‬
‫استقرت يف تلك املناطق متا ًما‪،‬‬
‫ّ‬ ‫األمور‬
‫ُ‬ ‫تكن‬ ‫َ‬
‫يسيطرون عليها‪ .‬مل ِ‬ ‫املناطق التي‬
‫استقر بعد‪ ،‬لك ّنهم كانوا يعتربونه‬
‫ّ‬ ‫يكن قد‬
‫وحتى تشكيل ذلك املجلس مل ْ‬
‫مناطق سيطرة الثوار متفرقة‪ ،‬تشمل اإلسكندرية وشامل‬ ‫ُ‬ ‫نقطة البدء‪ .‬كانت‬
‫ثم منطقة يف الشام تشمل بريوت ودمشق‪،‬‬ ‫ووسط دلتا مرص ح ّتى دمياط‪ّ ،‬‬
‫واملشاورات‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫املناطق متباعدة‬ ‫ومنطقة يف تركيا تشمل إزمري وما حوهلا‪ .‬كانت‬
‫خليطا من‬ ‫ً‬ ‫ال تزال قائمة لتشكيل حكومة مركزية‪ ،‬وحكومات حملية‪ ،‬تكون‬
‫مثال عىل‬‫البرش (بأعراقهم املختلفة واملتناحرة) واألديتيني الثوار إلعطاء ٍ‬
‫إمكانية قيام دولة مشرتكة‪.‬‬
‫أرص (عمر)‪ -‬رغم املحاذير‪ -‬عىل عملِ سبوع حلفيدته التي أسموها‬ ‫ّ‬
‫(ميساء) ليكون قري ًبا من اسم كمريدا‬
‫وهو االسم الذي اختارته ْ‬ ‫كاميليا‪َ ،‬‬
‫استقروا عىل إقامة السبوع يف مسقط رأسه يف كفر الشيخ‪ .‬كان‬
‫ّ‬ ‫وفا ًء لذكراها‪.‬‬
‫حتت األرض يف منطقة تسمى القنطرة البيضاء من فرتة‬ ‫مقر خمبأ جيدً ا َ‬
‫هناك ّ‬
‫أرص (عمر)‬
‫كتائب النرص‪ّ .‬‬ ‫ُ‬ ‫تديره‬
‫مقرا للمقاومة ُ‬
‫ما قبل احلرب الكربى‪ ،‬كان ًّ‬
‫وآخر من املقاومة‪ ،‬وضياء‬
‫ُ‬ ‫عىل دعوة اثنني من ِ‬
‫أبناء عمومته‪ ،‬وجاء ماندريك‬
‫املقرب‪.‬‬
‫صار صديق (باسل) ّ‬ ‫الذي َ‬
‫أقبل (ضياء) ومعه فتا ٌة أديتية مليحة الوجه‪ ،‬عىل غري العادة‪ ،‬وهنأ‬ ‫َ‬
‫وميساء بمولودهتام‪ .‬كان (ضياء) اآلن يعمل مع املقاومة الداخلية‪،‬‬ ‫(باسل) ْ‬
‫صار هو وميساء ّ‬
‫وكل زمالئهام الذين‬ ‫فبعدَ حصار أديتيا نتيج َة الفريوس َ‬
‫كانوا يتبعون املخابرات املرصية ساب ًقا؛ يعملون مع املقاومة التي يقودها عمر‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪391‬‬
‫يعط َل ْ‬
‫(ميساء)‬ ‫رسيعا لكي ال ّ‬
‫ً‬ ‫اللقاء ودو ًدا‪ ،‬لك ّنهام أهنياه‬
‫ُ‬ ‫وماندريك‪ .‬كان‬
‫وباسل عن تلقي بقية التهاين‪.‬‬
‫(ميساء) يف أذن باسل قائلة‪َ “ :‬من تلك األديتية املعلقة يف ذراع‬ ‫مهست ْ‬
‫ْ‬
‫“إنا زوجته‪ ،‬فتاة هجينة‪ ،‬أبوها أريض‪ ،‬كان ُمتط ًفا‬ ‫فابتسم ً‬
‫قائل‪ّ :‬‬ ‫َ‬ ‫ضياء؟”‪.‬‬
‫كوكب أديتيا قبل مخسة وعرشين عا ًما تقري ًبا”‪ .‬فنظرت مدهوشة وقالت‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫يف‬
‫“ضياء الذي كان ال يطيق رؤي َة األديتيني يتزوج فتاة هجينة‪ ،‬وهو الذي‬
‫تعرف‬ ‫كائنات ملعونة!”‪ .‬ابتسم (باسل) وقال هلا‪“ :‬لقد ّ‬ ‫ٍ‬ ‫كان يعترب اهلجناء‬
‫جلنب يف عدة معارك‪،‬‬‫ٍ‬ ‫انضم إليه‪ ،‬وقاتال جن ًبا‬
‫ّ‬ ‫عليها يف الفصيل املقاوم الذي‬
‫بالزواج”‪ .‬فقالت وهي تلوي فمها‪“ :‬وهل‬ ‫حب تكللت ّ‬ ‫قص ُة ّ‬ ‫ونمت بينهام ّ‬
‫وقت زواج!”‪.‬‬ ‫هذا ُ‬
‫يكن رأهيا ليلة أن محلت يف‬‫إن هذا مل ْ‬ ‫ً‬
‫ضاحكا وهو يقول ّ‬ ‫انفجر (باسل)‬
‫َ‬
‫خجل وقالت حماولة‬‫ً‬ ‫وجهها‬‫امحر ُ‬
‫قبل بدْ ء حرب شاملة بساعات‪ّ .‬‬ ‫كاميليا‪َ ،‬‬
‫نجح يف توحيدنا‬‫تغيري احلديث‪“ :‬هذا الفريوس الذي كان كارث ًة من جهة؛ َ‬
‫وحدنا هذا الفريوس؛ الناس‬‫من جهة أخرى”‪ .‬فقال‪“ :‬عندك حقّ ‪ ،‬لقد ّ‬
‫يفرقون بني أريض وأديتي‪ ،‬املشكلة‬‫داخل حدود األرض املحتلة مل يعودوا ّ‬
‫خالف يف األيديولوجيات وليس خال ًفا ًّ‬
‫عرقيا”‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫اآلن‬
‫(ميساء)‬
‫واستقرت العائلة عىل أن تبقى ْ‬
‫ّ‬ ‫مر ِ‬
‫ت الشهور بعدَ مولد كاميليا‪،‬‬ ‫ّ‬
‫املخيامت تساعد َّأمها يف تطبيب املرىض‪ ،‬وترعى الطفلني مؤق ًتا ح ّتى تفطم‬
‫يف ّ‬
‫ُ‬
‫املعارك بني‬ ‫تعود لتويل مها ّمها يف إطار اإلسكندرية فقط‪ .‬كانت‬
‫ثم ُ‬ ‫كاميليا ّ‬
‫قوة تتقدّ م‬
‫أكثر من مكان‪ ،‬وال توجد ّ‬‫أكثر من جبهة‪ ،‬ويف َ‬‫جذب وشدّ عىل َ‬ ‫ٍ‬
‫أقرب إىل تقسيم‬
‫َ‬ ‫األمر‬
‫ُ‬ ‫بات‬ ‫يف أرض قوة أخرى دون ْ‬
‫أن ترتاجع بعدَ ذلك‪َ .‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪392‬‬
‫الوضع بالنسبة‬
‫ُ‬ ‫وشك أن تنشأ‪ .‬كان‬ ‫ِ‬ ‫عىل وشك احلدوث‪ ،‬ودول جديدة عىل‬
‫تقل أحيا ًنا‪ ،‬وكان القتال حني‬‫للناس يزداد سو ًءا‪ ،‬فقد كانت املساعدات ّ‬
‫َ‬
‫السكان عىل الرحيل إىل مكان آخر‪.‬‬ ‫يشتدّ يف إحدى املناطق جيرب‬
‫أي ٍّ‬
‫حل يف األفق‪ ،‬كان تعدّ ُد املعارك وأطرافها املختلفة‬ ‫احلرب مل يكن هلا ّ‬
‫ُ‬
‫األمور أكثر‪ ،‬ويزيد األحقا َد يو ًما بعد يوم‪ .‬بعد ميض عامني عىل عزل‬
‫َ‬ ‫يع ّقد‬
‫بعثة من منظمة الصحة العاملية‬ ‫حاولت ٌ‬
‫ْ‬ ‫األرض املحت ّلة عن بقية العامل‬
‫توطن الفريوس يف‬‫استكشاف مدى ّ‬‫َ‬ ‫مكونة من علامء يف األمراض املعدية‬
‫ّ‬
‫إنسانيا‬
‫ًّ‬ ‫السبب‬
‫ُ‬ ‫لقاح ضدّ ه‪ .‬مل يكن‬ ‫ٍ‬
‫عينات منه ملحاولة إنتاج ٍ‬ ‫الداخل‪ ،‬وأخذ‬
‫فقط‪ ،‬ولكن رغبة دول العامل يف االستفادة من مصدر ّ‬
‫الطاقة اجلديد‪ ،‬وطرق‬
‫استخراجه كانت هي الدافع األسايس‪.‬‬
‫ُ‬
‫البعثة تعمل يف املناطق التي يسيطر عليها الثوار‪ ،‬وبعدَ عدّ ة أشهر‬ ‫كانت‬
‫مصمم بطريقة ال يمكن‬‫ّ‬ ‫متوطن بشدّ ة‪ ،‬وأنّه‬
‫ٌ‬ ‫أن الفريوس‬ ‫تبي ألعضاء البعثة ّ‬ ‫ّ‬
‫تقنية موجودة عىل كوكب األرض‪ ،‬وليس من املمكن‬ ‫ٍ‬ ‫بأي‬
‫التغلب عليها ّ‬
‫كل َمن يقيم عىل األرض املحتلة صار‬ ‫أن ّ‬
‫أيضا ّ‬‫إنتاج لقاح ضدّ ه‪ .‬اكتشفوا ً‬ ‫ُ‬
‫ص‬ ‫ألي إنسان آخر‪ .‬كان ّ‬
‫ملخ ُ‬ ‫نقل العدوى بسهولة ّ‬ ‫حامل للفريوس‪ ،‬ويمكنه ُ‬ ‫ً‬
‫الطب املوجو َد حال ًيا‪ -‬عىل كوكب األرض‪ -‬ال‬ ‫ّ‬ ‫شهور من الدراسات أن‬
‫وأن األرض املحت ّلة (أو أديتيا األرض) ال بدّ أن‬ ‫حل تلك املشكلة‪ّ ،‬‬ ‫يمكنه ُّ‬
‫ّ‬
‫األقل خلمسني عا ًما أخرى‪.‬‬ ‫تبقى معزول ًة عىل‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪393‬‬
‫‪53‬‬
‫وجهها ُمتقع‪ ،‬وهي مرت ّدد ٌة فيام تريد‬
‫ُ‬ ‫دخلت شاودريك عىل أناندار‪،‬‬ ‫ْ‬
‫كانت لل ّتو عائد ًة من جبهة قتالية بنيَ قوات أناندار والقوات احلكومية‬
‫قوله‪ْ ،‬‬
‫األديتية يف إحدى القرى الرتكية التي تقع عىل احلدّ الفاصل بني مناطق نفوذ‬
‫ُ‬
‫القرية بالكامل كام‬ ‫القوتني‪ .‬قالت يف اضطراب‪“ :‬سيدي‪ ،‬لقد احرتقت‬
‫أمرت‪ ،‬مل يبقَ فيها أحدٌ عىل قيد احلياة‪ ،‬ال من جنودهم وال من رجالنا وال من‬
‫لكن قائدَ‬
‫كل املزارع‪ّ ،‬‬ ‫بمن فيها‪ ،‬وحرق ّ‬‫قمنا بتفجري أبراج القرية َ‬
‫القرويني‪ْ .‬‬
‫ِ‬
‫عودتم قبل أن ُيقتل”‪.‬‬ ‫بتلغيم طريق‬
‫ِ‬ ‫احلكوميني استطاع القضاء عىل رجالنا‬
‫ً‬
‫رجال غريهم”‪.‬‬ ‫ثم قال‪“ :‬ال هيم‪ ،‬سوف نشرتي‬ ‫قطب أناندار حاجبيه ّ‬ ‫ّ‬
‫إن املقاومني يفاوضون‬‫تلتقط أنفاسها‪“ :‬سيدي‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫فقالت شاودريك وهي‬
‫مصم ٌم عىل التفاوض‪ ،‬ويفعل املستحيل‬
‫ّ‬ ‫احلكوميني اآلن‪ ،‬عمر عوض اهلل‬
‫مع رجاله إلنجاح تلك اخلطوة”‪ .‬فقال أناندار‪“ :‬دعيهم جيلسون‪ ،‬وسوف‬
‫َ‬
‫املوقف بينهم عىل أكثر من جبهة”‪.‬‬ ‫ً‬
‫رجال يشعلون‬ ‫أرسل بعدَ ها‬
‫“ثم ماذا يا‬ ‫استجمعت شاودريك ما تب ّقى من شجاعتها‪ ،‬وقالت‪ّ :‬‬ ‫ْ‬
‫هب أناندار واق ًفا‬
‫حرب لن يكسبها أحدٌ ولو بعدَ مائة عام”‪ّ .‬‬
‫ٌ‬ ‫سيدي‪ ،‬هذه‬
‫دولة عظمى‬ ‫“نحن نختلف عنهم‪ ،‬نحن نسعى إلقامة ٍ‬ ‫ُ‬ ‫وهتف فيها بغضب‪:‬‬
‫ري حمدود‪:‬‬ ‫ينحني العا ُمل أمامها”‪ .‬فقالت شاودريك وقد امتأل قل ُبها برعب غ ِ‬
‫احلرب تأكل ّ‬
‫كل يشء‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫“نعم يا سيدي‪ ،‬ولكن أديتيا كلها عىل شفا املجاعة‪،‬‬
‫شحت عن ذي قبل”‪.‬‬ ‫واملساعدات ّ‬
‫ُ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪394‬‬
‫ً‬
‫ضاغطا عىل كتفها وهو‬ ‫ثم وضع يده‬ ‫طويل ّ‬‫ً‬ ‫صمت أناندار وتأملها‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫كفرت برسالتنا يا شاودريك؟”‪ .‬فر ّدت بتلعثم‪:‬‬ ‫يتفحص وجهها ً‬
‫قائل‪“ :‬هل‬
‫ثم نلعب سياس ًة كام يفعل‬ ‫َ‬
‫نتفاوض‪ّ ،‬‬ ‫“مستحيل يا سيدي إنّام أقرتح أن‬
‫وانتخابات عىل طريقتهم‪ ،‬ويف تلك احلالة‬
‫ٌ‬ ‫األرضيون‪ ،‬سيكون هناك أحزاب‬
‫ونسيطر عىل أديتيا يف ظروف أفضل”‪.‬‬
‫َ‬ ‫سنستطيع بأموالنا ورجالنا أن نكسبها‬
‫يرتح أناندار للفكرة‪ ،‬وملَح لشاودريك ّأنا ٌ‬
‫دليل عىل نقص والئها‪ ،‬مل‬ ‫مل ْ‬
‫أن ذكاءه‬ ‫ُ‬
‫التنازل ح ّتى لو طال أمدُ احلرب‪ ،‬فهو يرى ّ‬ ‫يكن يرى أنّه جيب عليه‬
‫ابح يف النهاية‪ .‬قالت شاودريك يف يأس‪“ :‬تتنازل‬ ‫الر َ‬‫و ُبعد نظره سيجع ُله ّ‬
‫ثمن ال ّنجاة”‪ .‬فر ّد عليها‬
‫لنربح يف النهاية‪ ،‬التنازل هو ُ‬
‫َ‬ ‫اآلن ً‬
‫قليل يا سيدي‬
‫تكررين كالم العجوز‬ ‫ِ‬
‫جننت أ ّيتها اللعينة‪ّ ،‬‬ ‫أناندار يف غضب ً‬
‫قائل‪“ :‬هل‬
‫تكرر اعتذاراهتا‪،‬‬
‫أخذت شاودريك ّ‬ ‫ْ‬ ‫املخرف عمر عوض اهلل عىل مسامعي”‪.‬‬
‫ّ‬
‫ِ‬
‫وأن اجلملة ربام علقت يف ذهنها بشكلٍ عفوي‪،‬‬ ‫وتؤكد ّأنا مل تكن تقصد‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫وإن ال ّت َ‬
‫عايش يستلزم‬ ‫“إن التعايش هو ثمن النجاة‪ّ ،‬‬ ‫أن (عمر) قال‪ّ :‬‬ ‫ُ‬
‫واحلقيقة ّ‬
‫مجيعا”‪.‬‬
‫بعض ال ّتنازالت عن أفكار أو مكتسبات ح ّتى ننجو ً‬ ‫ِمن اجلميع َ‬
‫بعدَ فاصلٍ من التملق واالعتذار‪ ،‬قال أناندار يف حسم‪“ :‬اسمعي يا‬
‫سوف أغفر لك تلك الز ّلة ألنّك أكفأ َمن عاونني‪ ،‬لك ّنني لن أتردد‬ ‫َ‬ ‫شاودريك‪،‬‬
‫يف قتلك إذا فعلتِها ثانية”‪ .‬شكرتْه شاودريك وأهلج َ‬
‫لسانا بالشّ كر له والدعاء‬
‫ري ُمكرتث‬ ‫ينرصه عىل اجلميع دو ًما‪ ،‬وحي ّقق آماله‪ّ .‬لوح أناندار ِ‬
‫بيده غ َ‬ ‫ملاجوها أن َ‬
‫يكن متد ّينًا عىل اإلطالق‪ ،‬ولك ّنه كان حيرتم تدينَها كام‬
‫بدعاء مساعدته فهو مل ْ‬
‫أكثر‬
‫أن املساعد املتدين ُ‬ ‫تدين مساعدهتا‪ ،‬وكان مثلها يرى ّ‬ ‫كانت شقيقته حترتم َ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪395‬‬
‫تفان ًيا يف خدمة رئيسه تطبي ًقا حلكمة ماجوها‪“ ..‬قدّ س مع ّلمك وقائدك كام‬
‫تقدّ ُس ربك‪ ،‬ح ّتى وإن مل يكن متد ّينًا”‪.‬‬
‫ورأسها يموج باألفكار‪ .‬دخلت إىل غرفتها‬ ‫انرصفت شاودريك من عنده ُ‬ ‫ْ‬
‫وطلب املشورة من ماجوها مبارشة؛ فقد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫للصالة والدعاء‪،‬‬ ‫وانتحت جان ًبا‬
‫ْ‬
‫كاهن‪ ،‬لدرجة ّ‬
‫أن رجاهلم املتد ّينني يصلون‬ ‫ٍ‬ ‫متعمق ًة يف الدين‪ ،‬ويف مرتبة‬ ‫كانت ّ‬
‫بني يدهيا حنيَ يكونون بعيدً ا عن املعابد‪ ،‬وكان ذلك الركن الصغري يف غرفتها‬
‫ريا يف حد ذاته‪.‬‬‫بألوانه احلمراء املميزة يعترب معبدً ا صغ ً‬
‫استغرقت شاودريك سننيَ يف التربير ّ‬
‫لكل الفظائع التي يرتكبها أناندار‬ ‫ْ‬
‫وأن أرض ماجوها املوعودة‬ ‫رجل ذو رؤية‪ ،‬وأنّه يسعى لألفضل‪ّ ،‬‬ ‫بحجة أنّه ٌ‬
‫قتل عرشات اآلالف من اجلنود‬ ‫ستصري جنة عىل يديه‪ّ .‬بررت لنفسها َ‬
‫ألن رضور َة احلرب اقتضت ذلك‪ ،‬رغم ّ‬
‫أن‬ ‫ٍ‬
‫معدودة ّ‬ ‫األرضيني يف ساعات‬
‫تربيره هذه األيام هو‬
‫تستطع َ‬
‫ْ‬ ‫قلبها مل يطمئن لتلك الفعلة بشكل كامل‪ .‬ما مل‬
‫قرى بأكملها‪ ،‬وحمْوها بسكاهنا بدعوى رضورة احلرب ً‬
‫أيضا‪.‬‬ ‫إزالة ً‬
‫إن األرضيني‪ ،‬وإن كانوا يف عقيدهتا ّ‬
‫أقل شأ ًنا من األديتيني‪ ،‬إال أهنم‬ ‫ّ‬
‫كبقية املخلوقات‪ ،‬جيب الرت ّف ُق هبم‪ ،‬وعدم قتلهم ّإل يف‬
‫أيضا ّ‬‫خملوقات ً‬
‫ٌ‬
‫وقعا عىل نفسها من ْقبل‪ ،‬فقد رأت‬ ‫الرضورة‪ .‬كانت املرة األخرية تلك أشدّ ً‬
‫أن هناك خطأ جيب تصويبه‪ .‬من‬ ‫جث ًثا ممزقة لنساء وأطفال‪ ،‬وشعرت عمي ًقا ّ‬
‫خطرا‬
‫ً‬ ‫حماوالت (عمر) للتفاوض مع احلكومة ّ‬
‫تشكل‬ ‫ِ‬ ‫ناحية أخرى رأت ّ‬
‫أن‬
‫شديدً ا عليهم وقد تنجح‪ ،‬وعندها سيصريون حمارصين‪ ،‬وسيصري أناندار‬
‫مهب الريح‪.‬‬ ‫ُ‬
‫وجيشه ورجاله يف ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪396‬‬
‫يؤرقها أحيا ًنا نتيجة تلك املذابح التي‬
‫وشعور الذنب الذي كان ّ‬
‫ُ‬ ‫ريها‬
‫ضم ُ‬
‫ريا من شعور اخلوف الذي مت ّلكها حينام فكرت يف‬ ‫َ‬
‫أضعف كث ً‬ ‫يرتكبوهنا كان‬
‫حتالف احلكوميني واملقاومني‪ .‬حركها شعور‬ ‫ُ‬ ‫نجح‬ ‫ِ‬
‫االحتامالت الواردة إذا َ‬
‫يكررها (عمر)‬
‫وتعمد استخدام ُجلة ّ‬
‫ّ‬ ‫اخلوف ذلك لل ّتحدث مع أناندار‪،‬‬
‫أن النتيجة كانت عكسية‪ّ ،‬‬
‫وأن أناندار قد‬ ‫لكن يبدو ّ‬
‫يؤرقه‪ْ ،‬‬
‫ليجعل املوضوع ّ‬
‫األقل ّ‬
‫يشكك يف والئها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يقتلها‪ ،‬أو عىل‬

‫نبتت يف رأسه الفكر ُة لدرجة أهنا ظ ّنتها وح ًيا ًُّ‬


‫إهليا من ماجوها أو‬ ‫ٍ‬
‫حلظة ْ‬ ‫يف‬
‫أمرا مقدّ ًسا‪ .‬ال بدّ من قتل أناندار‪ ،‬إهنا لن تكون مرتكب ًة لذلك الذنب الفظيع‬
‫ً‬
‫ضل طريقه‪ ،‬وهي‬‫سيد ّ‬ ‫سيدها‪ ،‬بل ستكون ُمنقذ ًة للناس من ٍ‬ ‫وهو خيانة ّ‬
‫ً‬
‫صاحلا‪.‬‬ ‫تاريخ أديتيا من ْقبل‪ ،‬ومرتكبها كان ً‬
‫رجل متد ّينًا‬ ‫ِ‬ ‫سابقة حدثت يف‬
‫وتورد وجهها‪ ،‬وهي‬
‫وبدأت تشعر بحرارة جلدها‪ّ ،‬‬ ‫ْ‬ ‫تسارعت رضبات قلبها‬
‫طمعا‬ ‫نفسها إن كانت ح ًّقا إهلا ًما من ّ‬
‫ربا‪ ،‬أم ً‬ ‫ّ‬
‫تفكر يف تلك اخلاطرة‪ ،‬وتسأل َ‬
‫من نفسها‪.‬‬
‫األفكار وهي تعدّ د الرجال املوجودين يف القرص اآلن الذين‬
‫ُ‬ ‫امتدّ ت هبا‬
‫أكثر من أناندار‪ .‬أكثر من نصفهم تقري ًبا متدينون ينظرون‬ ‫َ‬
‫يدينون هلا بالوالء َ‬
‫ٍ‬
‫ككاهنة وقائدة يف الوقت نفسه‪ ،‬ولو طلبت منهم إلقا َء أنفسهم يف النار‬ ‫إليها‬
‫رسيعا بدون‬
‫ً‬ ‫ثم تقتله‬ ‫َ‬
‫تدخل إىل أناندار وتنفر َد به‪ّ ،‬‬ ‫لفعلوا‪ .‬يمكنها َ‬
‫اآلن أن‬
‫أول‪ ،‬وتستويل عىل حكم إمرباطورية‬ ‫املقربني ً‬
‫ثم تستدعي رجاهلا ّ‬
‫تر ّدد‪ّ ،‬‬
‫أناندار‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪397‬‬
‫يضع سيناريوهات لكيفية‬ ‫َ‬ ‫كان أناندار بال أوالد‪ ،‬وكان يرفض أن‬
‫التكوين اهلرمي املعتاد بني رجاله‬
‫َ‬ ‫تم قتله‪ .‬كان يمنع‬ ‫الترصف يف ِ‬
‫حال ما إذا ّ‬
‫ريه‬ ‫لكنه كان دو ًما ي ّتخذ مساعدً ا يقوم له ّ‬
‫بكل املهام‪ ،‬ويتعمد هو إهانتَه وحتق َ‬
‫خاتم يف‬
‫ٌ‬ ‫أن ذلك املساعد‬ ‫انطباعا ّ‬
‫ً‬ ‫أمام الرجال يف ّ‬
‫كل املناسبات ح ّتى يعطي‬
‫أصبعه‪.‬‬
‫ُ‬
‫فالرجال الذين يدينون هلا بالوالء‬ ‫كان ذلك يف صالح شاودريك‪،‬‬
‫سيكونون عىل ِ‬
‫قلب رجلٍ واحد يف الوالء هلا‪ ،‬أ ّما اآلخرون فهم مرتزقة‬
‫التحكم هبم لذلك‪ .‬أهنت‬
‫ُ‬ ‫بمجرد موته‪ ،‬وسيسهل‬‫ّ‬ ‫سينتهي والؤهم ألناندار‬
‫تقرر‬
‫صلواهتا وقد وصلت لقرار أنّه ال بدّ أن تنقلب عىل أناندار‪ ،‬ولكنها مل ّ‬
‫بعدُ متى‪ ،‬وهل جيب أن تتواصل مع ا ُملتفاوضني لتخربهم ّ‬
‫بخطتها‪ ،‬أم عليها‬
‫ثم تتواصل معهم‪.‬‬ ‫أن تقتله ً‬
‫أول ّ‬
‫خاصة‬
‫تغي عليها‪ّ ،‬‬ ‫لوجدت أناندار قد ّ‬
‫ْ‬ ‫ر ّبام لو انتظرت عىل تنفيذ خطتها‬
‫بأي خري‪ .‬قد ترى منه‬
‫وأن كال َمه معها يف اجللسة األخرية مل يكن يوحي ّ‬
‫يدس أحدَ الرجال ليبلغ عن‬
‫حتفزا يف األيام القادمة‪ ،‬ومراقبة لصيقة هلا‪ ،‬وقد ّ‬
‫ً‬
‫قرارا فلامذا‬
‫كل دقيقة من دقائقها‪ ،‬وقدْ يلجأ إىل قتلها‪ .‬مادامت قد اختذت ً‬ ‫ّ‬
‫آجل‪ ،‬واخلطورة‬ ‫التأجيل! هناك خطورة يف التنفيذ ً‬
‫حال‪ ،‬وخطورة يف التنفيذ ً‬
‫ألنا ترى ّ‬
‫أن املستقبل بالتأكيد ليس ألناندار إذا‬ ‫األكرب يف بقاء الوضع هكذا ّ‬
‫ّ‬
‫ظل تفكريه كام هو‪.‬‬
‫وخرجت من الغرفة وهي تنتظر عالم ًة من ماجوها‬
‫ْ‬ ‫قامت من جلستها‬
‫ْ‬
‫متعجل ًة وهي تتجاوز أحدَ رجاهلا‬
‫السلم ّ‬
‫َ‬ ‫جيب أن تفعل‪ .‬كانت هتبط‬
‫تنبئها بام ُ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪398‬‬
‫تتدحرج عىل السلم‬
‫ُ‬ ‫قدمها وكادت‬
‫هيبط يف تؤدة‪ ،‬وفجأة انزلقت ُ‬ ‫الذي كان ُ‬
‫فست ذلك احلادث‬ ‫أمسكها ِ‬
‫بيده بقوة وأنقذها‪ .‬عىل الفور ّ‬ ‫َ‬ ‫رج َلها‬
‫لوال أن ُ‬
‫وجوب تنفيذ قرارها‪ ،‬وقتل أناندار‬ ‫ِ‬ ‫البسيط عىل أنّه عالمة من ماجوها عىل‬
‫َت قرارها املبدئي بالتخ ّلص من أناندار باألساس عىل‬ ‫فورا‪ .‬الغريب أهنا بن ْ‬
‫ً‬
‫مستقبل‪ -‬واحلقيقة ّ‬
‫أن أناندار تناسى‬ ‫ً‬ ‫أن أناندار سوف يرتبص هبا‬ ‫فكرة ّ‬
‫وفست حاد ًثا عاد ًّيا عىل أنّه عالمة‬ ‫بنت فكر ًة أخرى ّ‬
‫ثم ْ‬ ‫املوقف بر ّمته‪ّ -‬‬
‫حتثّها عىل اإلرساع يف تنفيذ خطتها‪.‬‬
‫أن انزالقها عىل السلم ٌ‬
‫دليل عىل ّأنا تنزلق مع أناندار‬ ‫َ‬
‫املوقف ّ‬ ‫تفس‬
‫كانت ّ‬
‫أن رجاهلا سينقذوهنا بعد أن تقتله‪.‬‬ ‫وأن إنقاذ رجلها هلا ٌ‬
‫دليل عىل ّ‬ ‫إىل هاوية‪ّ ،‬‬
‫عكس ذلك متا ًما‪ ،‬فهي متعجلة‬ ‫َ‬ ‫ريه‬
‫أن املوقف يمكن تفس ُ‬ ‫ُ‬
‫الواضحة ّ‬ ‫احلقيقة‬
‫ٌ‬
‫عالمة عىل أهنا جيب ْ‬
‫أن‬ ‫وتعجلها هو السبب يف انزالقها‪ ،‬وهذه‬
‫ّ‬ ‫لقتل أناندار‬
‫يتسق وأفكارها وتلك الشهوة التي ركبت‬ ‫ُ‬ ‫فست احلدث بام‬ ‫ترتوى‪ ،‬لك ّنها ّ‬
‫رأسها‪ ،‬شهوة السلطة والتخ ّلص من سيد ال يعاملها ّإل باحتقار‪.‬‬

‫عادت شاودريك إىل غرفتها‪ ،‬وفتحت خزان ًة رس ّية أسفل فراشها ّ‬


‫ثم‬ ‫ْ‬
‫توجهت إىل‬‫ثم ّ‬ ‫أخرج منها غشاء ش ّفا ًفا ّثبتته عىل شفتيها وإهبامها بحذر‪ّ ،‬‬
‫سم‬‫سم يف اجلهة اخلارجية منه‪ًّ ،‬‬‫غرفة أناندار‪ .‬كان ذلك الغشاء الرقيق حيوي ًّ‬
‫ُ‬
‫اخرتاق املسافات بني خاليا اجللد‬ ‫يتكون من دقائق ميكروسكوبية يمكنها‬
‫والوصول إىل جمرى الدم يف ثوان‪.‬‬
‫جالسا وحدَ ه يتابع األخبار باهتامم‪ ،‬فاستأذنت منه بأن حتدثه‬
‫ً‬ ‫كان أناندار‬
‫فسمح هلا‪ .‬ركعت عىل ركبتها واستحرضت دموعها وأخذت تبكي متظاهر ًة‬ ‫َ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪399‬‬
‫ابتسم برضا‪ ،‬وقال هلا إنّه ساحمها‬
‫َ‬ ‫العفو من أناندار الذي‬ ‫َ‬ ‫بالندم وطالب ًة‬
‫ثم‬
‫واستمرت يف خطتها‪ ،‬زحفت عىل ركبتيها ّ‬ ‫ّ‬ ‫بالفعل‪ .‬مل تصدقه ّ‬
‫بالطبع‪،‬‬
‫املثبت‬
‫عن طريق الغشاء ّ‬ ‫السم جللد أناندار ْ‬
‫وقبلتها‪ .‬نقل ّ‬ ‫أمسكت يدَ أناندار ّ‬
‫عىل شفتيها وعىل إهبامها‪ ،‬حتركت اجلزيئات امليكروسكوبية خمرتق ًة طريقها‬
‫ظن نفسه خالدً ا ال ُي َ‬
‫قهر‪.‬‬ ‫لقتلِ َمن ّ‬
‫بدأت األعراض يف الظهور عىل أناندار‬ ‫ِ‬ ‫انتظرت شاودريك ً‬
‫قليل ح ّتى‬ ‫ْ‬
‫تدرجييا‪،‬‬
‫ًّ‬ ‫اإلحساس بأطرافه‬
‫َ‬ ‫وهي تشاهدُ ه يف مجود كامل‪ .‬كان أناندار يفقد‬
‫أن شاودريك قد‬ ‫صدره أ ٌمل رهيب‪ ،‬ف ِه َم ّ‬
‫َ‬ ‫يعرتي قلبه خفقان‪ ،‬ويعترص‬
‫ً‬
‫متسائل‪ ،‬كأنّه يبحث عن تربي ٍر خليانة‬ ‫ً‬
‫مذهول‬ ‫قامت بتسميمه‪ ،‬كان وجهه‬
‫ظل يتأ ُمل بأنّات مكتومة‬
‫سم كهذا‪ّ .‬‬
‫مساعدته‪ ،‬أو لضعف جسده عن مقاومة ّ‬
‫التعبريات‬
‫ُ‬ ‫ح ّتى انقطعت أنفاسه‪ ،‬ومهدَ متا ًما‪ ،‬وبقيت عىل وجهه تلك‬
‫مرسومة تنبئ بطريقة موته‪.‬‬
‫فحرضا عىل الفور‪.‬‬‫َ‬ ‫اثني من الرجال املوالني هلا‪،‬‬‫طلبت شاودريك ْ‬ ‫ْ‬
‫تصارح‬
‫َ‬ ‫“اسمعاين‪ ،‬لقد قتلت أناندار”‪ ،‬قالتها بحسم‪ ،‬وقد اختارت أن‬
‫أن الكثريين سيستنتجون ّ‬
‫أن‬ ‫املرجح ّ‬
‫ّ‬ ‫رجليها املقربني بتلك النقطة‪ِ ،‬‬
‫فمن‬
‫رسيعا‬
‫ً‬ ‫رب عىل الرجلني كالصاعقة‪ ،‬لك ّنها تداركتهام‬
‫الوفاة غري طبيعية‪ .‬نزل اخل ُ‬
‫ودوافعه اإلنسانية والسياسية والدينية‪ .‬ظ ّلت هبام‬
‫َ‬ ‫أسباب قرارها‬
‫َ‬ ‫وهي ترشح‬
‫ثم السيطرة عىل‬ ‫بخطتها للسيطرة عىل القرص‪ّ ،‬‬‫ثم أبلغتهام ّ‬
‫ح ّتى اقتنعا متا ًما ّ‬
‫مملكة أناندار بالكامل‪.‬‬
‫***‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪400‬‬
‫‪54‬‬
‫كان (عمر) وماندريك يف االجتامع التحضريي األخري قبل الذهاب‬
‫ِ‬
‫قادة احلكومة األديتية‬ ‫سيجتمع فيها مع‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫املفاوضات املبارشة التي‬ ‫إىل‬
‫األول‪ ،‬وممثلني‬
‫ورثت إمرباطورية أناندار‪ -‬ومساعدها ّ‬‫ْ‬ ‫وشاودريك‪ -‬التي‬
‫عن بقية الفصائل الصغرى املتناحرة يف بعض املناطق‪.‬‬
‫ستة أشهر عىل مرصع أناندار‪ ،‬وقد خرجت شاودريك بعدها بفرتة‬ ‫مىض ُ‬
‫مؤكد ًة ّأنا ورجاهلا قد انقلبوا عىل أناندار من أجل الصالح العام‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫قصرية ّ‬
‫استعداد للتفاوض‪ .‬استطاعت شاودريك السيطر َة عىل ّ‬
‫كل ما‬ ‫ٍ‬ ‫وأنم عىل‬
‫ّ‬
‫ري قليلة من‬
‫أن نسبة غ ُ‬ ‫كان أناندار يمتلكه‪ ،‬فقد كانت تعرف ّ‬
‫كل خباياه‪ ،‬كام ّ‬
‫الرجال كانوا حيرتمون خلفيتها الدّ ينية التي متثل هلم قيم ًة كربى‪.‬‬
‫قبل عدّ ة أشهر‪ ،‬وكانت ُت َرى عن طريق‬ ‫ِ‬
‫بدأت املفاوضات التحضريية َ‬
‫كل األطراف الدولية‬ ‫أبدت ّ‬
‫أيضا‪ْ .‬‬ ‫ٌ‬
‫أطراف دولية ً‬ ‫ُ‬
‫تنخرط فيها‬ ‫اتّصاالت مرئية‬
‫االسم الذي سيطلقها‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫بدولة جديدة مكان أديتيا أ ًّيا كان‬ ‫استعدا َدها للقبول‬
‫ٍ‬
‫صيغة توافقية‬ ‫عليها املتفاوضون‪ ،‬وأنّه يف حال وصول األطراف املتنازعة إىل‬
‫فإن هذه الدّ ول ستساعد الدولة الناشئة وتقيم معها عالقات طبيعية‪.‬‬
‫تضم األرض املحتلة مثل مرص وتركيا‬‫ّ‬ ‫ِ‬
‫عارضت الدّ ول التي‬ ‫يف البداية‬
‫وسوريا وغريها فكر َة ّاتاد أجزاء من بالدهم يف ٍ‬
‫كيان جديد‪ ،‬لك ّنهم يف النهاية‬
‫حتت حج ٍر‬
‫داخل تلك األرض‪ ،‬والذي يعيش َ‬ ‫َ‬ ‫غ ّلبوا مصلح َة الشّ عب املحارص‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪401‬‬
‫مكو ًنا دولة تستطيع رعاي َة مصالح املوجودين‬
‫صحي دويل‪ ،‬وحيتاج أن ي ّتحدَ ّ‬
‫فيها‪.‬‬
‫ُ‬
‫الدول هو املوافق َة عىل قيام الدولة اجلديدة‬ ‫كان االت ُ‬
‫ّفاق الذي ارتضته تلك‬
‫ُ‬
‫الدول أنه يف‬ ‫الصحي موجو ًدا‪ .‬اشرتطت تلك‬ ‫اخلطر ّ‬
‫ُ‬ ‫واستمرارها طاملا ّ‬
‫ظل‬
‫إجراء‬
‫ُ‬ ‫سبب ذلك احلجر الصحي‪ -‬ولو بعدَ مائة عام‪ -‬أن ّ‬
‫يتم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫زوال‬ ‫حال‬
‫استفتاء‪ .‬يعطي َ‬
‫ذلك االستفتاء حقَّ تقرير املصري للشعب يف ّ‬
‫كل منطقة من‬
‫مناطق أديتيا‪ ،‬واالختيار بني العودة للدولة األصلية واالستمرار يف أديتيا‪.‬‬
‫يتم ّإل بنسيان‬ ‫أن ّ‬
‫احلل لن ّ‬ ‫يف االجتامع‪ ،‬كان (عمر) ّ‬
‫يؤكد جلميع رفاقه ّ‬
‫عم جرى خالل أربعة أعوام من القتال الداخيل‪،‬‬ ‫املايض‪ ،‬وذلك بالتغافل ّ‬
‫رأي‬
‫عرش عا ًما من االحتالل وممارساته‪ .‬كان لبعض الرجال ٌ‬ ‫َ‬ ‫وأحد‬
‫ممارسات قمعية من االنخراط يف احلكم‪،‬‬‫ٍ‬ ‫َ‬
‫شارك يف‬ ‫كل من‬‫يف استبعاد ّ‬
‫َ‬
‫مقابل العفو‬ ‫واستبعاد شاودريك كذلك‪ ،‬وأن يكون تنازهلا هي ورجاهلا‬
‫ِ‬
‫باستبعاد‬ ‫عنهم‪ ،‬والقبول هبم كمواطنني عاديني‪ .‬قال ماندريك‪“ :‬لو بدأنا‬
‫َ‬
‫ويضعون هم أسامء‬ ‫فلن تنتهي القوائم‪ ،‬سنضع أسامء نستبعدها‬
‫هذا وذاك ْ‬
‫ولن ننتهي”‪.‬‬
‫حماول إعطا َء ماندريك فرصة أكرب فقد كان أغلب‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫ظل (عمر) صام ًتا‬
‫ا ُملعرتضني من األديتيني‪ ،‬بينام كان غالب األرضيني موافقني‪ .‬كان السبب كام‬
‫سامر اللبناين‪ّ :‬‬
‫“إن مشكلتنا األكرب كانت يف تقبل وجود األديتيني بيننا‬ ‫ُ‬ ‫قال‬
‫واحلياة معهم جن ًبا إىل جنب‪ -‬مع احرتامي ألصدقائنا من املقاومة بالطبع‪-‬‬
‫ٍ‬
‫جنس أتى إلينا من الفضاء؛ فال بدّ أن نقبل‬ ‫مادمنا قبلنا بالعيش ا ُملشرتك مع‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪402‬‬
‫بالتعايش مع من أخطأ وال ّتجاوز عن ماضيه”‪ .‬ر ّدت عليه إحدى األديتيني‬
‫ارتكب‬
‫َ‬ ‫سامر بحدّ ة‪“ :‬مجيعنا‬
‫ُ‬ ‫قائلة‪“ :‬لكن هناك جرائم ال ُتغتَفر”‪ .‬فقال‬
‫أصابت‬
‫ْ‬ ‫فجر قذائف‬ ‫رصاصا‪ ،‬أو ّ‬
‫ً‬ ‫جرائم يف وقت من األوقات‪ ،‬وكلنا أطلق‬
‫َ‬
‫املرات‪ ،‬ال بدّ من التغافل إلهناء هذا الكابوس‪ ،‬لصالح‬ ‫مدنيني يف إحدى ّ‬
‫الناس يا سيديت”‪.‬‬
‫عمر ً‬
‫قائل‪“ :‬دعوين أحتدّ ث‬ ‫فلسطيني ُيدعى ّ‬
‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫رجل‬ ‫التقط َ‬
‫خيط احلديث‬ ‫َ‬
‫تاريخ عريق مع مسألة كتلك‪ .‬أنتم بالتأكيد تعرفون تارخينا مع‬‫ٌ‬ ‫فأنا من ٍ‬
‫بلد هلا‬
‫االحتالل واالستيطان الذي سطا عىل بالدنا‪ ،‬واملوقف اليوم ليس بعيدً ا عن‬
‫مجيعا بفريوس جعلنا ُمربين عىل العيش‬‫موقفنا مع اإلرسائيليني‪ ،‬لك ّننا ابتلينا ً‬
‫يف مساحة من األرض ُمغلقة علينا بإحكام‪ ،‬جيب أن ن ّتحد وننسى ما مىض‬
‫ألن هذا هو السبيل الوحيد‪ .‬أيب وجدّ ي ماتا و َ‬
‫مها يقاومان االحتالل‪ ،‬لك ّنني‬ ‫ّ‬
‫أجزم ّأنم لو وجدوا فرصة يعيشون فيها بسالم ويسمح بعودة أهاليهم من‬
‫نفس احلقوق؛ فلن يامنعوا‪ ،‬لقد عرضنا عىل أعدائنا‬ ‫الشّ تات‪ ،‬ويكون هلم ُ‬
‫أرضنا وقدسنا وأعيدوا الجئينا‪ ،‬وسنعيش‬ ‫ذلك يف وقتها‪ ،‬قلنا أعطونا َ‬
‫يتضمن‬
‫ّ‬ ‫بغيضا؛ السالم الذي يعرضونه ال‬ ‫ً‬ ‫عدوا‬
‫ًّ‬ ‫بسالم‪ ،‬لك ّنهم كانوا‬
‫ري زروعنا‪ ،‬بل ّإنم كانوا‬‫أي حقوق لنا‪ ،‬وال ح ّتى يف املياه التي نريد هبا ّ‬ ‫ّ‬
‫يدّ عون ّأنم يعرضون السالم ويف نفس الوقت هيدمون قرا َنا‪ ،‬ويبنون ً‬
‫بدل‬
‫شعارا بني‬
‫ً‬ ‫جمازا أو‬ ‫ٌ‬
‫فرصة للسالم حقيقة ال ً‬ ‫ٍ‬
‫مستعمرات هلم‪ .‬اليوم هناك‬ ‫منها‬
‫نفس احلقوق والواجبات‪ ،‬سيكون األديتي‬ ‫أعراق كثرية سيكون للجميع ُ‬
‫والعريب والرتكي وغريهم متساوين‪ ،‬ماذا نريد غري ذلك؟!”‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪403‬‬
‫خاصة حني رأى‬
‫بعض الفخر‪ّ ،‬‬ ‫نظر إليه (عمر) بابتسامة واسعة يشوهبا ُ‬
‫َ‬
‫صمت واستجاب لكلمة الرجل التي كانت خطابية بعض اليشء‪،‬‬
‫َ‬ ‫اجلميع قد‬
‫َ‬
‫لكن محاسها كان صاد ًقا ً‬
‫آرسا‪.‬‬
‫املخيم ليبيت ليلته َ‬
‫قبل الذهاب إىل‬ ‫ّ‬ ‫وتوجه (عمر) إىل‬‫ّ‬ ‫انتهى االجتامع‪،‬‬
‫(ميساء) وعىل كتفها طفلتها‬
‫وصل واستقبلته ْ‬ ‫َ‬ ‫مقر االجتامع يف بورسعيد‪.‬‬ ‫ّ‬
‫(ميساء) ّأل ينسى (عالء)‬
‫بالغ وهلفة شديدة‪ّ .‬نبهته ْ‬ ‫التي تلقفها جدّ ها بحنان ٍ‬
‫ُ‬
‫اإلمهال عىل‬ ‫معتاد عىل تدليله‪ ،‬وقد يؤثر‬
‫ٌ‬ ‫يف غمرة احتفائه بكاميليا‪ ،‬فعالء‬
‫نفسيته وقالت هامسة‪“ :‬يكفي أنّه يعيش يف خميم”‪ .‬فضحك (عمر) وهو‬
‫ثم قال هلا‪“ :‬يا لك من زوجة‬ ‫يناوهلا كاميليا ويلتقط (عالء) مداع ًبا إ ّياه‪ّ ،‬‬
‫الشيرة”‪ .‬نظرت‬ ‫أب حنون‪ ،‬وأنا َمن كان خيشى عىل عالء ِمن زوجة ِ‬
‫األب ّ‬ ‫ٍ‬
‫ضاحكا‪“ :‬أمزح معك‪ ،‬أين أ ّمك؟”‪ .‬فقالت‪“ :‬ال تزال‬ ‫ً‬ ‫له معاتبة‪ ،‬فقال هلا‬
‫تراجع مرضاها”‪.‬‬
‫انخرطت يف أعامل داخلية بعيدة عن القتال‪ .‬أمضت‬
‫ْ‬ ‫(ميساء) قد‬ ‫كانت ْ‬
‫ثم عادت لتعمل رئيسة لدائرة حفظ األمن‬ ‫ٍ‬
‫إجازة للعناية بكاميليا‪ّ ،‬‬ ‫عا ًما يف‬
‫يف غرب اإلسكندرية‪ .‬وصل (باسل) بعد (عمر) بقليل‪ ،‬وجلس يناقش معه‬
‫ختص التفاوض‪ ،‬فسألته ميساء‪“ :‬هل ستذهب مع أيب إىل هناك؟”‪.‬‬ ‫أشياء ّ‬
‫نظرت لباسل معاتبة‪،‬‬
‫ْ‬ ‫عينته مساعدً ا يل”‪.‬‬
‫ربك باسل‪ ،‬لقد ّ‬ ‫فسأهلا عمر‪“ :‬أمل خي ْ‬
‫َ‬
‫انشغل يف‬ ‫فأقسم أنّه مل يعرف باخلرب ّإل اليوم‪ ،‬وأنّه كان سيخربها لوال أنه‬
‫نقاش بعض األمور مع أبيها‪.‬‬
‫امحر هلا وجهها‪ ،‬وقالت‪“ :‬ألن‬ ‫عادت زهرة وتل ّقاها (عمر) بعبارات ّ‬
‫غزلية ّ‬ ‫ْ‬
‫أوشكت عىل السبعني”‪ .‬فقال هلا‪“ :‬نعم‪ ،‬والعجوز السبعيني مثيل‬
‫َ‬ ‫تعقل أبدً ا‪،‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪404‬‬
‫مجيعا‬
‫صبية حسناء غيداء هيفاء مثلك”‪ .‬ضحكوا ً‬ ‫عادة ما يفقدُ صوابه حني يرى ّ‬
‫(ميساء) لباسل‪“ :‬هل تستطيع أن َ‬
‫تقول مثل هذا الكالم‪ ،‬يا لق ّلة حظي”‪.‬‬ ‫وقالت ْ‬
‫األجواء تدعو للتفاؤل‪ .‬حني دخلت‬ ‫ُ‬ ‫يف اللقاء التفاويض‪ ،‬كانت‬
‫حيته بشدة‪،‬‬ ‫توجهت مبارشة إىل عمر‪ّ .‬‬ ‫قبل بدء االجتامع ّ‬ ‫ِ‬
‫للقاعة َ‬ ‫شاودريك‬
‫عجل‬ ‫“أتعرف أهيا العزيز عمر أنّك َمن ّ‬ ‫ُ‬ ‫وس ّلمت عليه بحرارة‪ّ ،‬‬
‫ثم قالت‪:‬‬
‫“قلت له‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫مدهوشا‪“ :‬وما دخيل أنا؟!”‪ .‬فقالت‪:‬‬ ‫عمر‬
‫بقتل أناندار!”‪ .‬فسأهلا ُ‬
‫ثمن‬
‫إن التنازل هو ُ‬ ‫ُجلتك األثرية عن ثمن النجاة غري أنّني أخطأت وقلت ّ‬
‫“وغضب منك‬
‫َ‬ ‫ال ّنجاة ً‬
‫بدل من ال ّتعايش”‪ .‬فقال عمر بلهجة شاب ْتها السخرية‪:‬‬
‫َ‬
‫كشف‬ ‫“كل ّ‬
‫بالطبع‪ ،‬لكنه‬ ‫تفهم السخرية‪ّ :‬‬ ‫فقمت بقتله!”‪ .‬فأجابته دون أن َ‬
‫كل الشعب‬ ‫عن نواياه بامليضّ إىل أقىص حدّ من أجل طموحاته ح ّتى لو َ‬
‫قتل ّ‬
‫عايش هو‬‫ريا فال ّت ُ‬
‫جوعا”‪ .‬فقال عمر‪“ :‬عىل العموم‪ ،‬أنت مل ختطئي كث ً‬‫أو أماته ً‬
‫نوع من التنازل عىل أي حال”‪.‬‬
‫دارت جوالت طويلة من املفاوضات العصيبة وكان أكثرها تعقيدً ا هي‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫املشكالت األزلية بني األعراق البرشية‪ .‬كانوا يتساحمون مع النياندرتال وال‬
‫طرح ماندريك فكرة أن ّ‬
‫كل‬ ‫َ‬ ‫معا يف نقاط اختالفهم‪ ،‬يف النهاية‬ ‫َ‬
‫يتساحمون ً‬
‫بحكمها أديتيون‪ ،‬تكون قوات‬ ‫ِ‬ ‫املناطق ا ُملتنازع عليها بني األرضيني يقوم‬
‫حرصا‪ ،‬والقيادات العليا يف دواوين احلكومة‬ ‫ً‬ ‫الرشطة فيها من األديتيني‬
‫واألصعب يف الوقت‬
‫َ‬ ‫والبلدية كذلك‪ .‬كانت القدس َ‬
‫املثال األوضح لذلك‪،‬‬
‫اخلطة يف مدينة القدس صارت ُ‬
‫بقية‬ ‫ذاته‪ ،‬وحني وافق اجلميع عىل تلك ّ‬
‫املشكالت يف أماكن أخرى رسيعة احلل‪.‬‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪405‬‬
‫االسم الرسمي للدولة‪ ،‬واتفقوا‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫أخذ املتفاوضون عد َة أيام ح ّتى اتفقوا عىل‬
‫شكلوا جملس حكم انتقايل‬ ‫يف ال ّنهاية عىل تسميتها “مجهورية رشق املتوسط”‪ّ .‬‬
‫تم التحضري النتخابات عامة‪.‬‬ ‫ثم ّ‬
‫أدار البال َد طوال فرتة انتقالية مدّ هتا عام‪ّ ،‬‬
‫أرص األرضيون عىل نظا ٍم ديموقراطي‪ ،‬وأعطوا لألديتيني عدة اختيارات‬ ‫ّ‬
‫حكم‬
‫ٍ‬ ‫نظام‬
‫َ‬ ‫ألنظمة حكم ُمعتادة عىل كوكب األرض‪ ،‬واختار األديتيون‬
‫بعض الصالحيات‪ ،‬وللوزارة صالحيات أخرى‪.‬‬ ‫خمتلط يكون للرئيس فيه ُ‬
‫حتت إحلاح من الكثريين ح ّتى‬ ‫ترشح (عمر) لالنتخابات الرئاسية َ‬ ‫ّ‬
‫الرتشح‪ .‬كانت شاودريك حتاول‬ ‫ّ‬ ‫أرسلت إليه رسالة تطلب منه‬
‫ْ‬ ‫شاودريك‬
‫أن اتّفقت يف املفاوضات‬ ‫االبتعا َد عن املناصب العليا يف املرحلة األوىل بعد ِ‬
‫مقابل أن حتتفظ ببعض أعامهلا‬‫َ‬ ‫ينضم مقاتلوها للجيش الرسمي‬‫ّ‬ ‫عىل أن‬
‫ولكن‬
‫ْ‬ ‫حزب سيايس‪،‬‬‫ٍ‬ ‫ختطط إلنشاء‬ ‫وممتلكاهتا التي ورثتها عن أناندار‪ .‬كانت ّ‬
‫الناس ماضيها مع أناندار‪.‬‬
‫ُ‬ ‫تستقر األمور وينسى‬
‫ّ‬ ‫يف مرحلة الحقة بعد أن‬
‫وصار عمر عوض اهلل أول رئيس منتخب‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫فاز (عمر) باالنتخابات‬
‫ربا أسعدَ اجلميع أرضيني وأديتيني‪ ،‬فقد‬
‫جلمهورية رشق املتوسط‪ .‬كان خ ً‬
‫وحب غالبية َمن يعيشون داخل الدولة اجلديدة‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫كان عمر َ‬
‫حيظى باحرتام‬
‫مكان ِ‬
‫أحد القصور التي‬ ‫َ‬ ‫ومقر إقامته وأرسته يف القاهرة‬
‫ّ‬ ‫مقر الرئاسة‬
‫كان ّ‬
‫شيدها النياندرتال ّأو َل ما وصلوا لألرض‪ ،‬وجعلوه ًّ‬
‫مقرا حلاكمهم‪.‬‬ ‫ّ‬
‫خطاب تو ّليه احلكم جلس (باسل) معه يراجع بعض‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫قبل أن يقوم بإلقاء‬
‫رب ًما وهو يقول‪“ :‬دعك من هذا‪ ،‬سوف أحتدّ ث‬
‫لكن (عمر) قاطعه مت ّ‬
‫النقاط ّ‬
‫الرسميات”‪ .‬وضع (باسل) األوراق عىل فخذه‪،‬‬ ‫من قلبي‪ ،‬فأنا ال أجيدُ ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪406‬‬
‫ٍ‬
‫حلظة تارخيية‬ ‫مبتسم‪ ،‬فسأله “ماذا هناك؟”‪ .‬فقال باسل‪“ :‬نحن يف‬ ‫ً‬ ‫ونظر له‬
‫أشعر أنّك مثل يارس عرفات حني عا َد‬
‫ُ‬ ‫أختيل ح ًّقا أنني أعيشها‬
‫كبرية جدًّ ا‪ ،‬ال ّ‬
‫إىل فلسطني ّأول مرة‪ ،‬أو مثل نيلسون مانديال حنيَ صار حيكم البلدَ الذي‬
‫مضطهدً ا”‪.‬‬
‫َ‬ ‫كان يعيش فيه‬
‫خمتلف يا باسل‪ ،‬أنت زوج ابنتي‬ ‫ٌ‬ ‫مازحا‪“ :‬األمر‬
‫ً‬ ‫ضحك (عمر) وقال‬
‫هز (باسل) رأسه ناف ًيا بشدّ ة تلك‬ ‫وأكثر ِمن ٍ‬
‫ابن يل‪ ،‬وال حتتاج أن تتم ّلقني”‪ّ .‬‬
‫التهمة رغم ّأنا مزحة‪ ،‬فقال عمر‪“ :‬يارس عرفات كان عائدً ا ليحكم أهله‬
‫فقط يف سالم غري مكتملٍ أ ّدى بعد ذلك النتفاضة ثانية كام تعرف‪ ،‬لك ّننا يف‬
‫ختيل معي لو‬ ‫دولة رصنا نحن فيها َمن حيكم املحتلني‪ّ ،‬‬ ‫مرحلة خمتلفة‪ ،‬نحن يف ٍ‬
‫كان أبا عامر عائدً ا إىل القدس ليحكم فلسطني التارخيية ك ّلها عر ًبا وهيو ًدا‪ ،‬هذا‬
‫إن أردت رأيي”‪ .‬رفع (باسل) حاجبيه‬ ‫هو حالنا اآلن‪ ،‬وهو أقرب إىل مانديال ْ‬
‫أمدح‬
‫َ‬ ‫مقاطعا‪“ :‬ال أقصد ْ‬
‫أن‬ ‫ً‬ ‫الرد‪ ،‬لكن قبل أن يتك ّلم قال ُ‬
‫عمر‬ ‫ً‬
‫مندهشا من ّ‬
‫أوضح لك أنّنا‬‫الرجلني‪ ،‬إنّام أردت أن ّ‬ ‫ريا من هذين ّ‬ ‫نفيس يا بني‪ ،‬أنا ُ‬
‫أبسط كث ً‬
‫الفريوس الذي أطلقه أناندار ملَا ك ّنا وصلنا‬‫ُ‬ ‫يف موقف خمتلف‪ ،‬ولوال ذلك‬
‫ُ‬
‫الظروف‬ ‫لست ً‬
‫زعيم يا (باسل)‪ ،‬أنا رجل عادي وضعتني‬ ‫لتلك النقطة‪ ،‬أنا ُ‬
‫احلقيقيني كانوا‬
‫ّ‬ ‫يف هذا املوقف”‪ .‬فقال باسل بنربة فخر‪ّ :‬‬
‫“كل الزعامء العظام‬
‫رس عظمتكم”‪.‬‬ ‫يرون أنفسهم ً‬
‫برشا عاد ّيني بسطاء‪ ،‬وربام كان هذا ّ‬ ‫ْ‬
‫ثم‬
‫توجه (عمر) للمكان الذي سيلقي منه خطابه‪ ،‬وأخذ زهرة يف يده ّ‬
‫ّ‬
‫املنصة‪ ،‬وبدأ خطابه ً‬
‫قائل‪“ :‬قبل أن أحدّ ثكم عن‬ ‫جواره عىل يمني ّ‬
‫َ‬ ‫أوقفها‬
‫قصة من املايض‪ .‬لقد بدأت رحلتي هذه بتحدّ‬
‫أقص عليكم ّ‬‫الغد‪ ،‬دعوين ّ‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬‫الم ْس‬
‫ُ‬
‫‪407‬‬
‫اخليار‬
‫ُ‬ ‫تقف جانبي اآلن‪ ،‬كان‬‫وضعني فيه بعض األشخاص أنا وامرأ ٌة مجيلة ُ‬
‫صع ًبا بني احلرية العسرية والعبودية املرحية‪ ،‬واخرتنا احلرية‪ ،‬وساعدنا عليها‬
‫مجيعا‬ ‫رجال رشفاء من األديتيني أخرجونا من تلك املحنة بسالم‪ .‬أنا وأنتم ً‬ ‫ٌ‬
‫نكافح‬
‫ُ‬ ‫مرت علينا سنني‬ ‫ْ‬
‫خضنا أيا ًما عسرية‪ ،‬تعاونا وتقاتلنا‪ ،‬اتفقنا واختلفنا‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫حلكمة‬ ‫احتالل‪ ،‬وسنني أخرى نتقاتل فيام بيننا‪ ،‬لكننا يف ال ّنهاية وصلنا‬ ‫ً‬
‫احرتام عرق‬
‫َ‬ ‫وقبول بعضنا البعض هو ثمن النجاة‪ .‬أن‬ ‫َ‬ ‫واحدة؛ ّ‬
‫أن التعايش‬
‫أمر ال غنى عنه من أجل العيش املشرتك وهو‬ ‫اآلخر وأفكا ِره ودينِه هو ٌ‬
‫كل األديان‬ ‫أمر ت ّتفق عليه ّ‬ ‫البديل الوحيد للفناء‪ّ ،‬‬
‫أن تقديس حقّ احلياة أكثر ٌ‬
‫أرضية وأديتية‪ ،‬وينبغي أن يكون ً‬
‫ماثل أمام عيوننا‪ ،‬دعونا نبني غدً ا أفضل يف‬
‫معا‬
‫مجيعا‪ ،‬نزرع أرضنا ً‬
‫نستثمر مصادر طاقتنا وعلومنا ً‬
‫ُ‬ ‫دولتنا الوليدة‪ ،‬دعونا‬
‫احلب ليكون وقو َد أيامنا‬
‫نستثمر ّ‬‫ُ‬ ‫معا بدون كراهية‪ ،‬دعونا‬
‫ونصنع مستقبلنا ً‬
‫القادمة”‪.‬‬

‫[ ّمتت ْ‬
‫بحمد اهلل]‬

‫األخيرة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫توطنة‬ ‫الم ْس‬
‫ُ‬ ‫‪408‬‬

You might also like