Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 84

‫مقرر‬

‫تفسير آيات األحكام‬


‫(دراسة مقارنة املذاىب الفقهية يف آيات األحكاـ)‬
‫للسنة األوذل‬
‫املعهد العارل دار النحاة‬

‫صبع وترتيب‬
‫جوكو نور سيو وردي‬
‫مدير معهد دار النحاة المونغاف جاوى الشرقية‬

‫‪ 1‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫‪ 2‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫ِ‬
‫الفاربة‬ ‫سورةُ‬
‫الرِحي ِم (ٖ) مالِ ِ‬ ‫اْلم ُد لِلَّ ِو ر ِّ ِ‬ ‫الر ْضب ِن َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫بِ ْس ِم اللَّو َّ َ‬
‫ك‬ ‫َ‬ ‫الر ْضبَ ِن َّ‬
‫ُت (ٕ) َّ‬ ‫ب الْ َعالَم َ‬ ‫َ‬ ‫الرحي ِم (ٔ) َْ ْ‬
‫يم (‪ِ )ٙ‬صَرا َط‬ ‫ِ‬ ‫ُت (٘) ْاى ِدنَا ِّ‬ ‫اؾ نػَعب ُد وإِيَّ َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الصَرا َط الْ ُم ْستَق َ‬ ‫اؾ نَ ْستَع ُ‬ ‫يػَ ْوـ الدِّي ِن (ٗ) إيَّ َ ْ ُ َ‬
‫ض ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ُت (‪)ٚ‬‬ ‫وب َعلَْي ِه ْم َوَال الضَّالِّ َ‬ ‫ت َعلَْي ِه ْم َغ َِْت الْ َم ْغ ُ‬
‫ين أَنْػ َع ْم َ‬
‫الذ َ‬
‫التحليل اللفظي‬
‫{اْلمد للَّ ِو} ‪ :‬اْلمد ىو الثناء باجلميل على جهة التعظيم والتبجيل‪ .‬قاؿ القرطيب‪:‬‬
‫اْلمد يف كبلـ العرب معناه‪ :‬الثناء الكامل‪ ،‬واأللف والبلـ الستغراؽ اجلنس‪ ،‬فهو ‪-‬‬
‫سبحانو ‪ -‬يستحق اْلمد بأصبعو‪ ،‬والثناء املطلق‪ .‬واْلمد نقيض الذـ‪ .‬وىو أعم من‬
‫الشكر‪ ،‬ألف الشكر يكوف مقابل النعمة خببلؼ اْلمد‪ ،‬تقوؿ‪ :‬ضبدت الرجل على‬
‫شجاعتو‪ ،‬وعلى علمو‪ ،‬وتقوؿ‪ :‬شكرتو على إحسانو‪ .‬واْلمد يكوف باللساف‪ ،‬و ّأما‬
‫الشكر فيكوف بالقلب‪ ،‬واللساف‪ ،‬واجلوارح‪ .‬قاؿ الشاعر‪:‬‬
‫أفادتكم النعماء منّي ثالثة ‪ ...‬يدي ولساني والضمير المحجبّا‬
‫وذىب الطربي‪ :‬إذل أف اْلمد والشكر دبعٌت واحد سواء‪ ،‬ألنك تقوؿ‪ :‬اْلمد هلل‬
‫شكراً‪.‬‬
‫قاؿ القرطيب‪ :‬وما ذىب إليو الطربي ليس دبرضي‪ ،‬ألف اْلمد ثناء على املمدوح بصفاتو‬
‫الشكر ثناءٌ على املمدوح دبا أوذل من اإلحساف‪ ،‬وعلى ىذا‬ ‫من غَت سبق إحساف‪ ،‬و ُ‬
‫أعم من الشكر‪.‬‬ ‫يكوف {اْلمد} ّ‬
‫الرب يف اللغة‪ :‬مصد دبعٌت الًتبية‪ ،‬وىي إصبلح شؤوف الغَت‪ ،‬ورعاية‬ ‫ب العاملُت} ‪ّ :‬‬ ‫{ر ِّ‬
‫َ‬
‫مسي (الربانيوف)‬
‫أمره‪ ،‬قاؿ اهلروي‪ :‬يقاؿ ملن أقاـ بإصبلح شيء وإسبامو‪ :‬قد ربّو‪ ،‬ومنو ّ‬
‫رب فبل ٌف ولده يربّو تربية أي ربّاه‪ ،‬واملربوف‪ :‬صبع‬ ‫الصحاح» ‪ّ :‬‬ ‫لقيامهم بالكتب‪ .‬ويف « ّ‬
‫املرّب‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪ 3‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫الرب على‬
‫مشتق من الًتبية‪ ،‬فهو سبحانو وتعاذل مدبّر خللقو ومربيّهم‪ ،‬ويطلق ّ‬ ‫الرب‪ٌ :‬‬ ‫وّ‬
‫ورب‬
‫رب اإلبل‪ّ ،‬‬ ‫معاف وىي‪( :‬املَالك‪ ،‬واملصلح‪ ،‬واملعبود‪ ،‬والسيّد املطاع) تقوؿ‪ :‬ىذا ّ‬
‫الدار‪ ،‬أي مالكها‪ ،‬وال يقاؿ يف غَت اهلل إال باإلضافة‪ ،‬ففي اْلديث الشريف‪« :‬ال يقل‬
‫دي وموالي» ‪.‬‬‫رّب‪ ،‬وليقل سيّ ّ‬
‫وض ْيء ربّك‪ ،‬وال يقل أحدكم ّ‬ ‫أطعم ربّك‪ّ ،‬‬
‫أح ُدكم‪ْ :‬‬
‫الرب‪ :‬املعبود‪،‬‬
‫و ّ‬
‫{العاملُت} ‪ :‬صبع عا َدل‪ ،‬والعادل‪ :‬اسم جنس ال واحد لو من لفظو كالرىط واألناـ‪ .‬قاؿ‬
‫أبو السعود‪ :‬العا َدل‪ :‬اسم ملا يعلم بو كاخلامت والقالب‪ ،‬غلب فيما يعلم بو الصانع تبارؾ‬
‫وتعاذل من املصنوعات‪.‬‬
‫فأما‬
‫قاؿ ابن اجلوزي‪ :‬العادل عند أىل العربية‪ :‬اسم للخلق من مبدئهم إذل منتهاىم‪ّ ،‬‬
‫أىل النظر‪ ،‬فالعا َدل عندىم‪ :‬اسم يقع على الكوف الكلّي املحدث من فلَك‪ٍ ،‬‬
‫ومساء‪،‬‬ ‫َْ‬ ‫ٌ‬
‫ُ‬
‫أرض وما بُت ذلك ويف اشتقاؽ العا َدل قوالف‪:‬‬‫و ٍ‬
‫يقوي قوؿ أىل اللغة‪.‬‬ ‫أحدشما‪ :‬أنو من العلم‪ ،‬وىو ّ‬
‫يقوي قوؿ أىل النظر‪.‬‬ ‫والثاين‪ :‬أنو من العبلمة‪ ،‬وىو ّ‬
‫داؿ على وجود الصانع‪ ،‬املدبّر‪ ،‬اْلكيم كما قاؿ الشاعر‪:‬‬ ‫فكل ما يف ىذا الكوف ّ‬ ‫ُ‬
‫فيا عجباً كيف يػُ ْعصى اإللو ‪ ...‬أـ كيف َْصمحده اجلاحد‬
‫ٍ‬
‫وتسكينة أبداً شاىد‬ ‫وهلل يف كل ربريكة ‪...‬‬
‫تدؿ على أنّو واحد‬
‫ويف كل شيء لو آية ‪ّ ...‬‬
‫الفراء وأبو‬
‫اجلن‪ ،‬واملبلئكة) ‪ .‬وقاؿ ّ‬
‫رب اإلنس‪ ،‬و ّ‬ ‫(رب العاملُت أي ّ‬ ‫قاؿ ابن عباس‪ّ :‬‬
‫اجلن‪ ،‬واملبلئكة‪،‬‬
‫عبيدة‪ :‬العا َدلُ عبارة عمن يعقل‪ ،‬وىم أربعة أمم‪( :‬اإلنس‪ ،‬و ّ‬
‫والشياطُت) وال يقاؿ للبهائم‪ :‬عا َدل ألف ىذا اجلمع صبع من يعقل خاصةً‪ ،‬قاؿ‬
‫األعشى‪( :‬ما إف مسعت دبثلهم يف العاملُت) ‪.‬‬

‫‪ 4‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫اجلن عادل‪،‬‬
‫كل صنف من أصناؼ اخلبلئق عادلٌ‪ ،‬فاإلنس عادل‪ ،‬و ّ‬ ‫وقاؿ بعض العلماء‪ّ :‬‬
‫رب العاملُت‬
‫واملبلئكة عادل‪ ،‬والطَت عادل‪ ،‬والنبات عادل‪ ،‬واجلماد عادل‪ . .‬اخل فقيل‪ّ :‬‬
‫ليشمل صبيع ىذه األصناؼ من العوادل‪.‬‬
‫{الرضبن الرحيم} ‪ :‬امساف من أمسائو تعاذل مشتقاف من الرضبة‪ ،‬ومعٌت{الرضبن} ‪ :‬املنعم‬
‫مبٍت على املبالغة‪،‬‬
‫جببلئل النعم‪ ،‬ومعٌت {الرحيم} ‪ :‬املنعم بدقائقها‪ .‬ولفظ {الرضبن} ّ‬
‫ومعناه‪ :‬ذو الرضبة اليت ال نظَت لو فيها‪ ،‬ألف بناء (فعبلف) يف كبلمهم للمبالغة‪ ،‬فإهنم‬
‫يقولوف للشديد االمتبلء‪ :‬مآلف‪ ،‬وللشديد الشبَع‪ :‬شبعاف‪.‬‬
‫قاؿ اخلطّاّب‪ :‬ؼ {الرضبن} ذو الرضبة الشاملة اليت وسعت اخللق يف أرزاقهم‬
‫وعمت املؤمن والكافر‪.‬‬
‫ومصاْلهم‪ّ ،‬‬
‫{وَكا َف باملؤمنُت َرِحيماً} [األحزاب‪:‬‬ ‫و {الرحيم} خاص للمؤمنُت كما قاؿ تعاذل‪َ :‬‬
‫ٖٗ] ‪.‬‬
‫جل وعبل‪ ،‬خببلؼ‬ ‫وال صموز إطبلؽ اسم (الرضبن) على غَت اهلل تعاذل ألنو خمتص بو ّ‬
‫يم} [التوبة‪:‬‬ ‫الرحيم فإنو يطلق على املخلوؽ أيضاً قاؿ تعاذل‪{ :‬باملؤمنُت رء ٌ ِ‬
‫وؼ َّرح ٌ‬ ‫َُ‬
‫خمتص باهلل َعَّز َو َج َّل‪ ،‬ال صموز أف‬
‫أكثر العلماء على أف الرضبن ّ‬ ‫‪ ]ٕٔٛ‬قاؿ القرطيب‪« :‬و ُ‬
‫يسمى بو غَته‪ ،‬أال تراه قاؿ‪{ :‬قُ ِل ادعوا اهلل أَ ِو ادعوا الرضبن} [اإلسراء‪َ ]ٔٔٓ :‬‬
‫فعادؿ‬ ‫ّ‬
‫وف الرضبن ِآهلَةً يػُ ْعبَ ُدو َف} [الزخرؼ‪:‬‬
‫االسم الذي ال ي ْشركو فيو غَته‪{ :‬أَجع ْلنَا ِمن د ِ‬
‫ُ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬
‫وعز‪ ،‬وقد ذباسر (مسيلمة الكذاب) لعنو‬ ‫جل ّ‬ ‫٘ٗ] فأخرب الرضبن ىو املستحق للعبادة ّ‬
‫مسامعو نعت الك ّذاب‪ ،‬فألزمو‬ ‫يتسم بو حىت قرع َ‬ ‫اهلل فتسمى ب (رضباف اليمامة) ودل ّ‬
‫اهلل ذلك حىت صار ىذا الوصف ملسيلمة َعلَماً يُعرؼ بو» ‪.‬‬
‫تصرؼ‬ ‫ِ‬
‫املتصرؼ يف يوـ الدين‪ّ ،‬‬ ‫{يَػ ْوـ الدين} ‪ :‬يوـ اجلزاء واْلساب‪ ،‬أي أنو سبحانو ّ‬
‫الدين يف اللغة‪ :‬اجلزاءُ‪ ،‬ومنو قولو عليو السبلـ‪« :‬إفعل ما شئت كما‬ ‫املالك يف ملكو‪ ،‬و ُ‬
‫‪ 5‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫ويوـ‬
‫الدين‪ :‬اجلزاء واملكافأة‪ُ ،‬‬ ‫تدين تداف» أي كما تفعل ذبزى‪ .‬قاؿ يف «اللساف» ‪ :‬و ُ‬
‫الدين‪ :‬يوـ اجلزاء‪ .‬وقولو تعاذل‪{ :‬أَإِنَّا لَ َم ِدينُو َف} [الصافات‪ ]ٖ٘ :‬أي جمزيّوف‬
‫حماسبوف‪ ،‬ومنو الديّاف يف صفة اهلل َعَّز َو َج َّل قاؿ لبيد‪:‬‬
‫حصادؾ يوماً ما زرعت وإسما ‪ ...‬يُداف الفىت يوماً كما ىو دائن‬
‫نذؿ وزمشع ونستكُت‪ ،‬ألف العبودية معناىا‪ :‬الذلّة واالستعانة‪،‬‬ ‫نعبد‪ّ :‬‬ ‫{إِيَّ َ‬
‫اؾ نَػ ْعبُ ُد} ‪ُ :‬‬
‫مأخوذ من قوهلم‪ :‬طريق معبّد أي مذلّل وطئتو األقداـ‪ ،‬وذلّلتو بكثرة الوطء‪ ،‬حىت‬
‫أصبح دمهداً‪.‬‬
‫ثوب ذو َعبَدة إذا كاف يف‬ ‫قاؿ الزخمشري‪ :‬العبادة أقصى غاية اخلضوع والتذلل‪ ،‬ومنو ٌ‬
‫غاية الصفاقة وقوة النسج‪ ،‬ولذلك دل تستعمل إالّ يف اخلضوع هلل تعاذل‪ ،‬ألنو موذل‬
‫أعظم النعم‪ .‬فكاف حقيقاً بأقصى غاية اخلضوع‪.‬‬
‫اللهم نذؿ وزمضع وزمصك بالعبادة ألنك املستحق لكل تعظيم وإجبلؿ‪،‬‬ ‫واملعٌت‪ :‬لك ّ‬
‫وال نعبد أحداً سواؾ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫{وإِيَّ َ‬
‫ُت} ‪ :‬االستعانة‪ :‬طلب العوف‪ ،‬قاؿ الفراء‪ :‬أعنتوُ إعانةً‪ ،‬واستعنتوُ‬ ‫اؾ نَ ْستَع ُ‬ ‫َ‬
‫علي‪ ،‬ورجل معواف‪ :‬كثَت اإلعانة للناس‪،‬‬ ‫ن‬ ‫واستعنت بو‪ ،‬ويف الدعاء‪ :‬رب أعٍت وال تُعِ‬
‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ّ ّ‬
‫ويف حديث ابن عباس‪( :‬إذا سألت فاسأؿ اهلل‪ ،‬وإذا استعنت فاستعن باهلل)‬
‫واملعٌت‪ :‬إيّاؾ ربنا نستعُت على طاعتك وعبادتك يف أمورنا كلها‪ ،‬فبل ظملك القدرة على‬
‫عوننا أحد سواؾ‪ ،‬وإذا كاف من يكفر بك يستعُت بسواؾ‪ ،‬فنحن ال نستعُت إال بك‪.‬‬
‫{اىدنا} ‪ :‬فعل دعاء ومعناه‪ :‬دلّنا على الصراط املستقيم‪ ،‬وأرشدنا إليو‪ ،‬وأرنا طريق‬
‫ىدايتك املوصلة إذل أنْسك وقُربك‪.‬‬
‫اى ْم فاستحبوا العمى‬‫ود فَػ َه َديْػنَ ُ‬
‫{وأ ََّما َشبُ ُ‬
‫واهلداية يف اللغة‪ :‬تأيت دبعٌت الداللة كقولو تعاذل‪َ :‬‬
‫َعلَى اهلدى} [فصلت‪ ]ٔٚ :‬وتأيت دبعٌت اإلرشاد وسبكُت اإلظماف يف القلب كما قاؿ‬

‫‪ 6‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫ت ولكن اهلل يَػ ْه ِدي َمن يَ َشآءُ ‪[ } ...‬القصص‪:‬‬ ‫َحبَْب َ‬
‫ِ‬
‫ك الَ تَػ ْهدي َم ْن أ ْ‬‫تعاذل‪{ :‬إِنَّ َ‬
‫‪. ]٘ٙ‬‬
‫ك لتهدي إذل ِصر ٍ‬ ‫فالرسوؿ صلَّى اللَّو علَي ِو وسلَّمَ ٍ‬
‫اط‬ ‫َ‬ ‫{وإِنَّ َ‬
‫داؿ على اهلل َ‬
‫ىاد دبعٌت أنو ّ‬ ‫ُ َْ ََ‬ ‫َ‬
‫ُّم ْستَ ِقي ٍم} [الشورى‪ ]ٕ٘ :‬ولكنو ال يضع اإلظماف يف قلب اإلنساف‪ .‬وفعل ىدى يتعدى‬
‫اط اجلحيم} [الصافات‪]ٕٖ :‬‬ ‫ب (إذل) وب (البلـ) كقولو تعاذل‪{ :‬فاىدوىم إذل ِصر ِ‬
‫َ‬
‫وقولو‪{ :‬اْلمد للَّ ِو الذي َى َدانَا هلذا} [األعراؼ‪ ]ٖٗ :‬وقد يتع ّدى بنفسو كما ىنا‬
‫{اىدنا الصراط} ‪.‬‬
‫(السراط) من االسًتاط دبعٌت‬ ‫يق‪ ،‬وأصلو بالسُت ّ‬ ‫الصراط‪ :‬الطر ُ‬ ‫{الصراط املستقيم} ‪ّ :‬‬
‫مسي بذلك أل ّف الطريق كأنو يبتلع السالك‪.‬‬ ‫االبتبلع‪ّ ،‬‬
‫الزراط‪ :‬الطريق قاؿ الشاعر‪:‬‬
‫السراط‪ ،‬و ّ‬ ‫الصراط‪ ،‬و ّ‬‫قاؿ «اجلوىري» ‪ّ :‬‬
‫الصراط ‪ ...‬أي على وضح الطريق‪.‬‬ ‫ِ‬
‫وأضبلهم على َوضح ّ‬
‫{وأ َّ‬
‫َف‬ ‫{املستقيم} ‪ :‬الذي ال عوج فيو وال ارمراؼ‪ ،‬ومنو قولو تعاذل‪َ :‬‬
‫يسمى‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫كل ما ليس فيو اعوجاج ّ‬ ‫ىذا صَراطي ُم ْستَقيماً فاتبعوه ‪[ } ...‬األنعاـ‪ ]ٖٔ٘ :‬و ّ‬
‫مستقيماً‪.‬‬
‫ومعٌت اآلية‪ :‬ثبّتنا يا أهلل على اإلظماف‪ ،‬ووفقنا لصاحل األعماؿ‪ ،‬واجعلنا دمن سلك طريق‬
‫اإلسبلـ‪ ،‬املوصل إذل جنّات النعيم‪.‬‬
‫أنعمت عينَو أي سررهتا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫تقوؿ‪:‬‬
‫لُت العيش ورغده‪ُ ،‬‬ ‫ت َعلَْي ِه ْم} ‪ :‬النعمةُ‪ُ :‬‬ ‫{أَنْػ َع ْم َ‬
‫بالغت يف التفضيل عليو‪ ،‬واألصل فيو أف يتع ّدى بنفسو‪ ،‬تقوؿ‪( :‬أنعمتُو)‬ ‫أنعمت عليو ُ‬ ‫و ُ‬
‫ت‬‫أي جعلتو صاحب نعمة‪ ،‬إالّ أنو ملّا ضم ِن معٌت التفضل عليو ع ّدي بعلى {أَنْػ َع ْم َ‬
‫َعلَْي ِه ْم} ‪.‬‬

‫‪ 7‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫قاؿ ابن عباس‪ :‬ىم النبيّوف‪ ،‬والص ّديقوف‪ ،‬والشهداء‪ ،‬والصاْلوف‪ ،‬وإذل ىذا ذىب‬
‫{وَمن يُ ِط ِع اهلل والرسوؿ فأولئك َم َع‬ ‫املفسرين‪ ،‬وانتزعوا ذلك من قولو تعاذل‪َ :‬‬ ‫صبهور ّ‬
‫الذين أَنْػ َع َم اهلل َعلَْي ِهم ِّم َن النبيُت والصديقُت والشهدآء والصاْلُت َو َح ُس َن أولئك‬
‫َرفِيقاً} [النساء‪. ]ٜٙ :‬‬
‫ب ِّم َن اهلل} [آؿ‬ ‫ضٍ‬‫{وبَآءُوا بِغَ َ‬
‫{املغضوب َعلَْيهم} ‪ :‬ىم اليهود لقولو تعاذل فيهم‪َ :‬‬
‫ِ‬
‫ب َعلَْي ِو َو َج َع َل ِمْنػ ُه ُم القردة واخلنازير‬ ‫ِ‬ ‫عمراف‪ ]ٕٔٔ :‬وقولو تعاذل‪َّ َ :‬‬
‫{من ل َعنَوُ اهلل َو َغض َ‬
‫‪[ } ...‬املائدة‪. ]ٙٓ :‬‬
‫{الضآلُت} ‪ :‬الضبلّؿ يف كبلـ العرب ىو الذىاب عن َسنَن القصد‪ ،‬وطريق اْلق‪،‬‬
‫ضل اللنب يف املاء أي غاب‪ ،‬قاؿ تعاذل‪:‬‬ ‫واالرمراؼ عن النهج القوًن‪ ،‬ومنو قوهلم‪ّ :‬‬
‫ضلَلْنَا ِيف األرض ‪[ } ...‬السجدة‪ ]ٔٓ :‬أي غبنا باملوت فيها وصرنا‬ ‫ِ‬
‫{وقالوا أَءذَا َ‬
‫تراباً‪ ،‬وقاؿ الشاعر‪:‬‬
‫اْلي املضلّل أين ساروا‬ ‫يار ‪ ...‬عن ّ‬ ‫فتخربؾ ال ّد ُ‬
‫أدل تسأؿ ْ‬
‫ضلُّواْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َضلُّواْ َكثَتاً َو َ‬
‫ضلُّواْ من قَػْب ُل َوأ َ‬
‫واملراد بالضالُت (النّصارى) لقولو تعاذل فيهم‪{ :‬قَ ْد َ‬
‫املفسرين‪ :‬األوذل أف ُضممل {املغضوب‬ ‫بعض‬ ‫وقاؿ‬ ‫‪.‬‬ ‫]‬‫‪ٚٚ‬‬ ‫[املائدة‪:‬‬ ‫السبيل}‬ ‫عن س و ِ‬
‫آء‬
‫ّ‬ ‫َ ََ‬
‫وضممل {الضالّوف}‬ ‫كل من أخطأ يف األعماؿ الظاىرة وىم ال ُفساؽ‪ُ ،‬‬ ‫ِ‬
‫َعلَْيهم} على ّ‬
‫عاـ‪ ،‬والتقييد خبلؼ األصل‪ ،‬واملنكروف‬ ‫على كل من أخطأ يف االعتقاد‪ ،‬أل ّف اللفظ ٌ‬
‫أخبث ديناً من اليهود والنّصارى‪ ،‬فكاف االحًتاز عن دينهم أوذل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫للصانع واملشركوف‬
‫وىذا اختيار اإلماـ الفخر‪.‬‬
‫املفسرين أف املغضوب عليهم اليهود‪ ،‬والضالُت النصارى‪ ،‬وجاء‬ ‫وقاؿ القرطيب‪« :‬صبهور ّ‬
‫(عدي بن حامت) وقصة‬ ‫ّ‬ ‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ يف حديث‬ ‫مفسراً عن النيب َ‬ ‫ذلك ّ‬
‫إسبلمو» ‪.‬‬

‫‪ 8‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ وجب املصَت إليو‪.‬‬
‫صح ىذا عن رسوؿ اهلل َ‬ ‫وقاؿ أبو حياف‪ :‬وإذا ّ‬
‫(آمُت) ‪ :‬كلمة دعاء وليست من القرآف الكرًن إصباعاً‪ ،‬بدليل أهنا ال تكتب يف‬
‫املصحف الشريف‪ ،‬ومعناىا‪ :‬استجب دعاءنا يا رب‪.‬‬
‫سن بعد اخلتاـ أف يقوؿ القارئ (آمُت) ْلديث أّب ميسرة» أ ّف جربيل‬ ‫قاؿ األلوسي‪ :‬ويُ ّ‬
‫ِ‬
‫{والَ الضآلُت} قاؿ لو‪ :‬قل‪:‬‬ ‫صلَّى اللَّوُ َعلَْيو َو َسلَّمَ فاربة الكتاب‪ ،‬فلما قاؿ‪َ :‬‬ ‫أقرأ النيب َ‬
‫آمُت فقاؿ آمُت «‪.‬‬
‫قاؿ ابن األنباري‪ :‬و ّأما (آمُت) فدعاء‪ ،‬وليس من القرآف‪ ،‬وىو اسم من أمساء األفعاؿ‬
‫اللهم استجب‪ ،‬وفيو لغتاف‪ :‬القصُر (أمُت) وامل ّد (آمُت) فاألوؿ على وزف‬ ‫ومعناه‪ّ :‬‬
‫(فاعل) ‪.‬‬‫(فعيل) والثاين على وزف ِ‬
‫قاؿ الشاعر‪:‬‬
‫ويرحم اهللُ عبداً قاؿ آميناً‬ ‫ُ‬ ‫أبداً ‪...‬‬
‫رب ال تسلُبَػ ٍّت حبها َ‬ ‫يا ّ‬
‫وقاؿ ابن زيدوف‪:‬‬
‫ص فقاؿ الدىر‪ِ :‬آمنا‬ ‫غيظ العِ َدى من تساقينا اهلََوى فَ َد َع ْوا ‪ ...‬بأف نَػغَ َّ‬

‫وجوه اإلعراب‬
‫الرِحي ِم} اجلار واجملرور يف {بِس ِم اهلل} اختلف فيو النحويوف‬
‫أوالً‪{ :‬بِس ِم اهلل الرضبن َّ‬
‫على وجهُت‪:‬‬
‫أ ‪ -‬مذىب البصريُت‪ :‬أنو يف موضع رفع‪ ،‬ألنو خرب مبتدأ حمذوؼ‪ ،‬وتقديره‪ :‬ابتدائي‬
‫بسم اهلل‪.‬‬
‫ابتدأت بسم اهلل‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ب ‪ -‬مذىب الكوفيُت‪ :‬أنو يف موضع نصب بفعل مق ّدر وتقديره‪:‬‬

‫‪ 9‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫اْلمد مبتدأ ولفظ اجلبللة خربه تقديره‪:‬‬ ‫ب العاملُت} ُ‬ ‫ثانياً‪ :‬قولو تعاذل‪{ :‬اْلمد للَّ ِو َر ِّ‬
‫ب العاملُت} صفة‪ ،‬ومثلو {الرضبن الرحيم} و {مالك يَػ ْوِـ‬ ‫{ر ِّ‬
‫اْلمد مستحق هلل‪ ،‬و َ‬
‫الدين} كلها صفات السم اجلبللة‪.‬‬
‫اؾ} فذىب‬ ‫املفسروف يف {إِيَّ َ‬ ‫اؾ نَػعب ُد وإِيَّ َ ِ‬ ‫ِ‬
‫ُت} اختلف ّ‬ ‫اؾ نَ ْستَع ُ‬ ‫ثالثاً‪ :‬قولو تعاذل‪{ :‬إيَّ َ ْ ُ َ‬
‫احملققوف إذل أنو ضمَت منفصل منصوب بالفعل بعده وأصلو (نعبدؾ) و (نستعينك)‬
‫فلما قُ ّدـ الضمَت املتصل أصبح ضمَتاً منفصبلً‪ ،‬والكاؼ للخطاب وال موضع هلا من‬
‫اإلعراب‪.‬‬
‫وذىب آخروف إذل أنو ضمَت مضاؼ إذل ما بعده‪ ،‬وال يعلم ضمَت أضيف إذل غَته‪.‬‬
‫قاؿ أبو السعود‪ :‬وما ّادعاه اخلليل من اإلضافة‪ ،‬حمتجاً عليو دبا حكاه عن بعض‬
‫يعوؿ عليو‪ .‬وذكر ابن‬ ‫فمما ال ّ‬ ‫اب‪ّ ،‬‬ ‫العرب‪ :‬إذا بلغ الرجل الستُت فإيّاه وإيّا الشو ّ‬
‫األنباري وجوىاً عديدة مثّ قاؿ‪ :‬والذي اختاره األوؿ‪ ،‬وقد بيّنا ذلك مستوىف يف كتابنا‬
‫املوسوـ ب «االنصاؼ يف مسائل اخلبلؼ» ‪.‬‬
‫ت َعلَْي ِه ْم ‪} ...‬‬ ‫ِ‬
‫رابعاً‪ :‬قولو تعاذل‪{ :‬اىدنا الصراط املستقيم صَرا َط الذين أَنْػ َع ْم َ‬
‫{اىدنا} فعل دعاء وىو يتعدى إذل مفعولُت املفعوؿ األوؿ ىو ضمَت اجلماعة (ف) يف‬
‫إىدنا‪ ،‬و {الصراط} ىو املفعوؿ الثاين‪ ،‬و {املستقيم} صفة للصراط‪ ،‬و { ِصَرا َط}‬
‫بدؿ من الصراط األوؿ‪.‬‬
‫خامساً‪ :‬آمُت‪ :‬اسم فعل أمر دبعٌت استجب‪.‬‬

‫األحكام الشرعية‬

‫الحكم األول‪ :‬ىل البسملة آية من القرآن؟‬

‫‪ 11‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫أصبع العلماء على أف البسملة الواردة يف سورة النمل [ٖٓ] ىي جزء من آية يف قولو‬
‫تعاذل‪{ :‬إِنَّوُ ِمن ُسلَْي َما َف َوإِنَّوُ بِ ْس ِم اهلل الرضبن الرحيم} ولكنهم اختلفوا ىل ىي آية من‬
‫الفاربة‪ ،‬ومن أوؿ كل سورة أـ ال؟ على أقواؿ عديدة‪:‬‬
‫األوؿ‪ :‬ىي آية من الفاربة‪ ،‬ومن كل سورة‪ ،‬وىو مذىب الشافعي َرِضبَوُ اللَّوُ‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬ليست آية ال من الفاربة‪ ،‬وال من شيء من سور القرآف‪ ،‬وىو مذىب مالك‬
‫َرِضبَوُ اللَّوُ‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬ىي آية تامة من القرآف أُنزلت للفصل بُت السور‪ ،‬وليست آية من الفاربة وىو‬
‫مذىب أبو حنيفة َرِضبَوُ اللَّوُ‪.‬‬
‫دليل الشافعية‪:‬‬
‫استدؿ الشافعية على مذىبهم بعدة أدلة نوجزىا فيما يلي‪:‬‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ أنو قاؿ‪« :‬إذا قرأمت اْلمد هلل‬‫أوالً ‪ -‬حديث أّب ىريرة عن النيب َ‬
‫السبع‬
‫رب العاملُت‪ ،‬فاقرؤوا بسم اهلل الرضبن الرحيم‪ ،‬إهنا ّأـ القرآف‪ ،‬و ّأـ الكتاب‪ ،‬و ُ‬
‫أحد آياهتا» ‪.‬‬
‫املثاين‪ ،‬وبسم اهلل الرضبن الرحيم ُ‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ كاف‬ ‫ِ‬
‫ثانياً ‪ -‬حديث ابن عباس َرض َي اللَّوُ َعْنهما «أ ّف رسوؿ اهلل َ‬
‫يفتتح الصبلة ببسم اهلل الرضبن الرحيم» ‪.‬‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ‬ ‫ِ‬
‫ثالثاً ‪ -‬حديث أنس َرض َي اللَّوُ َعْنو أنو سئل عن قراءة رسوؿ اهلل َ‬
‫ب العاملُت‬ ‫الرِحي ِم اْلمد للَِّو َر ِّ‬
‫فقاؿ‪ :‬كانت قراءتو م ّداً‪ . .‬مثّ قرأ {بِس ِم اهلل الرضبن َّ‬
‫الرضبن الرحيم مالك يَػ ْوِـ الدين ‪. } ...‬‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ ذات‬ ‫ِ‬
‫رابعاً‪ :‬حديث أنس َرض َي اللَّوُ َعْنو أنو قاؿ‪( :‬بينا رسوؿ اهلل َ‬
‫متبسماً‪ ،‬فقلنا ما أضحكك يا رسوؿ‬ ‫يوـ بُت أظهرنا إذ أغفى إغفاؤة‪ ،‬مثّ رفع رأسو ّ‬

‫‪ 11‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫الرِحي ِم إِنَّآ أ َْعطَْيػنَ َ‬
‫اؾ الكوثر‬ ‫علي آنفاً سورة‪ ،‬فقرأ‪{ :‬بِس ِم اهلل الرضبن َّ‬ ‫اهلل؟ قاؿ‪ :‬نزلت ّ‬
‫فَ ِ‬
‫ك ُى َو األبًت} [الكوثر‪. ]ٖ - ٔ :‬‬ ‫ك وارمر إِ َّف َشانِئَ َ‬
‫ص ِّل لَربِّ َ‬
‫َ‬
‫قالوا‪ :‬فهذا اْلديث يدؿ على أف البسملة آية من كل سورة من سور القرآف أيضاً‪،‬‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ قرأىا يف سورة الكوثر‪.‬‬
‫بدليل أف الرسوؿ َ‬
‫خامساً‪ :‬واستدلوا أيضاً بدليل معقوؿ‪ ،‬وىو أف املصحف اإلماـ ُكتبت فيو البسملة يف‬
‫أوؿ الفاربة‪ ،‬ويف أوؿ كل سورة من سور القرآف‪ ،‬ما عدا سورة (براءة) ‪ ،‬وكتبت كذلك‬
‫يف مصاحف األمصار املنقولة عنو‪ ،‬وتواتر ذلك مع العلم بأهنم كانوا ال يكتبوف يف‬
‫املصحف ما ليس من القرآف‪ ،‬وكانوا يتش ّددوف يف ذلك‪ ،‬حىت إهنم منعوا من كتابة‬
‫السور‪ ،‬ومن اإلعجاـ‪ ،‬وما ُوِجد من ذلك أخَتاً فقد كتب بغَت‬ ‫التعشَت‪ ،‬ومن أمساء ّ‬
‫يتسرب إليو ما ليس منو‪ ،‬فلما‬ ‫ط املصحف‪ ،‬ودبداد غَت املداد‪ ،‬حفظاً للقرآف أف ّ‬ ‫خّ‬
‫دؿ على أنو آية من كل سورة من‬ ‫وجدت البسملة يف سورة الفاربة‪ ،‬ويف أوائل السور ّ‬
‫سور القرآف‪.‬‬
‫دليل المالكية‪:‬‬
‫واستدؿ املالكية على أف البسملة ليست آية من الفاربة‪ ،‬وال من القرآف وإسما ىي للتربؾ‬
‫بأدلة نوجزىا فيما يلي‪:‬‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ‬ ‫ِ‬
‫أوالً‪ :‬حديث عائشة َرض َي اللَّوُ َعْنها قالت‪« :‬كاف رسوؿ اهلل َ‬
‫رب العاملُت»‬
‫يفتتح الصبلة بالتكبَت‪ ،‬والقراءة باْلمد هلل ِّ‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو‬‫يت خلف النيب َ‬ ‫ثانياً‪ :‬حديث أنس كما يف «الصحيحُت» قاؿ‪« :‬صلّ ُ‬
‫َو َسلَّمَ وأّب بكر‪ ،‬وعمر‪ ،‬وعثماف‪ ،‬فكانوا يستفتحوف باْلمد هلل رب العاملُت» ‪.‬‬
‫ويف رواية ملسلم‪( :‬ال يذكروف (بسم اهلل الرضبن الرحيم) ال يف أوؿ قراءة وال يف آخرىا)‬
‫‪.‬‬

‫‪ 12‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫ثالثاً‪ :‬ومن الدليل أهنا ليست آية من الفاربة حديث أّب ىريرة قاؿ‪ :‬مسعت رسوؿ اهلل‬
‫ِ‬
‫عز وجل‪« :‬قسمت الصبلة بيٍت وبُت عبدي‬ ‫صلَّى اللَّوُ َعلَْيو َو َسلَّمَ يقوؿ‪ :‬قاؿ اهلل ّ‬ ‫َ‬
‫نصفُت‪ ،‬ولعبدي ما سأؿ‪.‬‬
‫ب العاملُت} ‪ .‬قاؿ اهلل تعاذل‪ :‬ضبدين عبدي‪ .‬وإذا قاؿ‬ ‫فإذا قاؿ العبد‪{ :‬اْلمد للَّ ِو َر ِّ‬
‫علي عبدي‪ .‬وإذا قاؿ العبد‪{ :‬مالك‬ ‫العبد‪{ :‬الرضبن الرحيم} ‪ .‬قاؿ اهلل تعاذل‪ :‬أثٌت ّ‬
‫إرل عبدي ‪ .-‬فإذا قاؿ‪:‬‬ ‫ض‬ ‫فو‬ ‫مرة‬ ‫وقاؿ‬ ‫‪-‬‬ ‫عبدي‬ ‫ين‬ ‫د‬ ‫جم‬ ‫تعاذل‪:‬‬ ‫اهلل‬ ‫قاؿ‬ ‫‪.‬‬ ‫الدين}‬ ‫ـ‬‫يػوِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َْ‬
‫ُت} ‪ .‬قاؿ‪ :‬ىذا بيٍت وبُت عبدي‪ ،‬ولعبدي ما سأؿ‪ .‬فإذا قاؿ‪:‬‬ ‫اؾ نَػعب ُد وإِيَّ َ ِ‬ ‫ِ‬
‫اؾ نَ ْستَع ُ‬ ‫{إيَّ َ ْ ُ َ‬
‫ت َعلَْي ِه ْم َغ َِْت املغضوب َعلَْي ِهم َوالَ‬ ‫ِ‬
‫{اىدنا الصراط املستقيم صَرا َط الذين أَنْػ َع ْم َ‬
‫الضآلُت} ‪ .‬قاؿ‪ :‬ىذا لعبدي ولعبدي ما سأؿ» ‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬فقولو سبحانو‪« :‬قسمت الصبلة» يريد الفاربة‪ ،‬ومسّاىا صبلة ألف الصبلة ال‬
‫تصح إال هبا‪ ،‬فلو كانت البسملة آية من الفاربة لذكرت يف اْلديث القدسي‪.‬‬
‫رابعاً‪ :‬لو كانت البسملة من الفاربة لكاف ىناؾ تكرار يف {الرضبن الرحيم} يف وصفُت‬
‫وأصبحت السورة كاآليت‪( :‬بسم اهلل الرضبن الرحيم‪ ،‬اْلد هلل رب العاملُت‪ ،‬الرضبن‬
‫خمل بببلغة النظم اجلليل‪.‬‬ ‫الرحيم) وذلك ّ‬
‫خامساً‪ :‬كتابتها يف أوائل السور إسما ىو للتربؾ‪ ،‬والمتثاؿ األمر بطلبها والبدء هبا يف‬
‫أوائل األمور‪ ،‬وىي وإف تواتر كتبُها يف أوائل السور‪ ،‬فلم يتواتر كوهنا قرآناً فيها‪.‬‬
‫الصحيح من ىذه األقواؿ قوؿ مالك‪ ،‬ألف القرآف ال يثبت بأخبار‬ ‫ُ‬ ‫قاؿ القرطيب‪« :‬‬
‫اآلحاد وإسما طريقوُ التواتر القطعي الذي ال طمتلف فيو‪.‬‬
‫قاؿ ابن العرّب‪ :‬ويكفيك أهنا ليست من القرآف اختبلؼ الناس فيها‪ ،‬والقرآف ال طمتلف‬
‫فيو‪ .‬واألخبار الصحاح اليت ال مطعن فيها دالة على أف (البسملة) ليست بآية من‬
‫الفاربة وال غَتىا إالَّ يف النمل وحدىا‪.‬‬

‫‪ 13‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫يًتجح يف ذلك بوجو عظيم وىو املعقوؿ‪ ،‬وذلك أف مسجد النيب‬ ‫مث قاؿ‪ :‬إ ّف مذىبنا ّ‬
‫ومرت عليو األزمنة‪ ،‬والدىور من‬ ‫َ َّ َّ ِ َّ‬
‫صلى اللوُ َعلَْيو َو َسلمَ باملدينة انقضت عليو العصور‪ّ ،‬‬
‫ط (بسم اهلل‬ ‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ إذل زماف مالك‪ ،‬ودل يقرأ أحد فيو ق ّ‬
‫لدف رسوؿ اهلل َ‬
‫يرد ما ذكرسبوه‪ ،‬بيد أف أصحابنا استحبوا قراءهتا يف‬
‫للسنّة‪ ،‬وىذا ّ‬ ‫الرضبن الرحيم) اتّباعاً ُ‬
‫النفل‪ ،‬وعليو ُربمل اآلثار الواردة يف قراءهتا أو على‬
‫السعة يف ذلك «‪.‬‬
‫دليل الحنفية‪:‬‬
‫وأما اْلنفية‪ :‬فقد رأوا أ ّف كتابتها يف (املصحف) يدؿ على أهنا قرآف ولكن ال يدؿ على‬
‫أهنا آية من سورة‪ ،‬واألحاديث الواردة اليت تدؿ على عدـ قراءهتا جهراً يف الصبلة مع‬
‫الفاربة تدؿ على أهنا ليست من الفاربة‪ ،‬فحكموا بأهنا آية من القرآف تامة ‪ -‬يف غَت‬
‫سورة النمل ‪ -‬أنزلت للفصل بُت السور‪.‬‬
‫ودما يؤيد مذىبهم‪ :‬ما روي عن الصحابة أهنم قالوا‪ »:‬كنا ال نعرؼ انقضاء السور‬
‫حىت تنزؿ (بسم اهلل الرضبن الرحيم) ‪ ،‬وكذلك ما روي عن ابن عباس َر ِض َي اللَّوُ َعْنهما‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ كاف ال يعرؼ فصل السورة حىت ينزؿ عليو «بسم‬
‫أف رسوؿ اهلل َ‬
‫اهلل الرضبن الرحيم» ‪.‬‬
‫قاؿ اإلماـ أبو بكر الرازي‪« :‬وقد اختلف يف أهنا آية من فاربة الكتاب أـ ال‪ ،‬فع ّدىا‬
‫ّقراء الكوفة آية منها‪ ،‬ودل يع ّدىا ّقراء البصريُت‪ ،‬وقاؿ الشافعي‪ :‬ىي آية منها وإ ْف تركها‬
‫أعاد الصبلة‪ ،‬وحكى شيخنا (أبو اْلسن الكرخي) عدـ اجلهر هبا‪ ،‬وألهنا إذا دل تكن‬
‫من فاربة الكتاب فكذلك حكمها يف غَتىا‪ ،‬وزعم الشافعي أهنا آية من كل سورة‪،‬‬
‫وما سبقو إذل ىذا القوؿ أحد‪ ،‬ألف اخلبلؼ بُت السلف إسما ىو يف‬

‫‪ 14‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫أهنا آية من (فاربة الكتاب) أو ليست بآية منها‪ ،‬ودل يع ّدىا أحد آية من سائر السور»‬
‫‪.‬‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو‬
‫مث قاؿ‪« :‬ودما يدؿ على أهنا ليست من أوائل السور‪ ،‬ما روي عن النيب َ‬
‫َو َسلَّمَ أنو قاؿ‪ :‬سورة يف القرآف ثبلثوف آية شفعت لصاحبها حىت غفر لو {تَػبَ َارَؾ‬
‫القراء وغَتىم أهنا ثبلثوف سوى (بسم اهلل‬ ‫ِ ِِ‬
‫الذي بيَده امللك} [امللك‪ » ]ٔ :‬واتفق ّ‬
‫صلَّى‬ ‫الرضبن الرحيم) فلو كانت منها كانت إحدى وثبلثُت وذلك خبلؼ قوؿ النيب َ‬
‫اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ ‪ .‬ويدؿ عليو أيضاً اتفاؽ صبيع ّقراء األمصار وفقهائهم على أف سورة‬
‫(الكوثر) ثبلث آيات‪ ،‬وسورة (اإلخبلص) أربع آيات‪ ،‬فلو كانت منها لكانت أكثر‬
‫دمّا ع ّدوا «‪.‬‬

‫الحكم الثاني‪ :‬ما ىو حكم قراءة البسملة في الصالة؟‬


‫اختلف الفقهاء يف قراءة البسملة يف الصبلة على أقواؿ عديدة‪:‬‬
‫سراً‪،‬‬ ‫ِ َّ‬
‫أ ‪ -‬فذىب مالك َرضبَوُ اللوُ‪ :‬إذل منع قراءهتا يف الصبلة املكتوبة‪ ،‬جهراً كانت أو ّ‬
‫ال يف استفتاح أـ القرآف‪ ،‬وال يف غَتىا من السور‪ ،‬وأجاز قراءهتا يف النافلة‪.‬‬
‫ب ‪ -‬وذىب أبو حنيفة َرِضبَوُ اللَّوُ‪ :‬إذل أف املصلي يقرؤىا سراً مع الفاربة يف كل ركعة‬
‫من ركعات الصبلة‪ ،‬وإف قرأىا مع كل سورة فحسن‪.‬‬
‫السر سراً‪.‬‬ ‫ِ َّ‬
‫ج ‪ -‬وقاؿ الشافعي َرضبَوُ اللوُ‪ :‬يقرؤىا املصلي وجوباً‪ .‬يف اجلهر جهراً‪ ،‬ويف ّ‬
‫يسن اجلهر هبا‪.‬‬ ‫وال‬ ‫ا‬
‫سر‬
‫ً‬ ‫يقرؤىا‬ ‫و‪:‬‬‫ن‬‫ْ‬ ‫ع‬ ‫و‬ ‫َّ‬
‫ل‬ ‫ال‬ ‫ي‬‫ض‬‫د ‪ -‬وقاؿ أضبد بن حنبل ر ِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬
‫وسبب اخلبلؼ‪ :‬ىو اختبلفهم يف (بسم اهلل الرضبن الرحيم) ىل ىي آية من الفاربة‬
‫ومن أوؿ كل سورة أـ ال؟ وقد تقدـ الكبلـ على ذلك يف اْلكم األوؿ‪.‬‬
‫وشيء آخر‪ :‬ىو اختبلؼ آراء السلف يف ىذا الباب‪.‬‬

‫‪ 15‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫قاؿ ابن اجلوزي يف «زاد املسَت» ‪ :‬وقد اختلف العلماء ىل البسملة‪ ،‬من الفاربة أـ ال؟‬
‫فأما من قاؿ‪ :‬إهنا من الفاربة‪ ،‬فإنو يوجب قراءهتا يف الصبلة إذا‬
‫فيو عن أضبد روايتاف‪ّ ،‬‬
‫قاؿ بوجوب الفاربة‪ ،‬و ّأما من دل يرىا من الفاربة فإنو يقوؿ‪ :‬قراءهتا يف الصبلة سنّة‪ ،‬ما‬
‫عدا مالكاً َرِضبَوُ اللَّوُ فإنو ال يستحب قراءهتا يف الصبلة‪.‬‬
‫يسن‬‫واختلفوا يف اجلهر هبا يف الصبلة فيما صمهر بو‪ ،‬فنقل صباعة عن أضبد‪ :‬أنو ال ُ‬
‫اجلهر هبا‪ ،‬وىو قوؿ أّب بكر‪ ،‬وعمر‪ ،‬وعثماف‪ ،‬وعلي‪ ،‬وابن مسعود‪ ،‬ومذىب الثوري‪،‬‬
‫ومالك‪ ،‬وأّب حنيفة‪.‬‬
‫مروي عن معاوية‪ ،‬وعطاء‪ ،‬وطاووس‪.‬‬‫وذىب الشافعي‪ :‬إذل أف اجلهر هبا مسنوف‪ ،‬وىو ّ‬

‫الحكم الثالث‪ :‬ىل تجب قراءة الفاتحة في الصالة؟‬


‫اختلف الفقهاء يف حكم قراءة فاربة الكتاب يف الصبلة على مذىبُت‪:‬‬
‫أ ‪ -‬مذىب اجلمهور (مالك والشافعي وأضبد) أف قراءة الفاربة شرط لصحة الصبلة‪،‬‬
‫تصح صبلتو‪.‬‬
‫فمن تركها مع القدرة عليها دل ّ‬
‫ب ‪ -‬مذىب الثوري وأّب حنيفة‪ :‬أف الصبلة ذبزئ بدوف فاربة الكتاب مع اإلساءة وال‬
‫تبطل صبلتو‪ ،‬بل الواجب مطلق القراءة وأقلو ثبلث آيات قصار‪ ،‬أو آية طويلة‪.‬‬
‫أدلة الجمهور‪:‬‬
‫استدؿ اجلمهور على وجوب قراءة الفاربة دبا يلي‪:‬‬
‫الس َبلـُ ‪« :‬ال صبلة ملن دل‬ ‫أوالً‪ :‬حديث عُبادة بن الصامت وىو قولو َعلَْي ِو َّ‬
‫الص َبلة َو َّ‬
‫يقرأ بفاربة الكتاب» ‪.‬‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ ‪« :‬قاؿ من صلّى صبلة دل‬
‫ثانياً‪ :‬حديث أّب ىريرة أف رسوؿ اهلل َ‬
‫بأـ الكتاب فه ِي ِخداج فهي ِخداج‪ ،‬فهي خداج غَت سباـ» ‪.‬‬ ‫يقرأ فيها ّ‬
‫‪ 16‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫تيسر» ‪.‬‬
‫ثالثاً‪ :‬حديث أّب سعيد اخلدري‪« :‬أمرنا أف نقرأ بفاربة الكتاب وما ّ‬
‫صلَّى اللَّوُ‬
‫قالوا‪ :‬فهذه اآلثار كلّها تدؿ على وجوب قراءة الفاربة يف الصبلة‪ ،‬فإ ّف قولو َ‬
‫َعلَْي ِو َو َسلَّمَ ‪« :‬ال صبلة ملن دل يقرأ بفاربة الكتاب» يدؿ على نفي الصحة‪ ،‬وكذلك‬
‫الس َبلـُ ثبلثاً يدؿ على النقص‬ ‫حديث أّب ىريرة فهي ِخداج قاهلا َعلَْي ِو َّ‬
‫الص َبلة َو َّ‬
‫والفساد‪ ،‬فوجب أف تكوف قراءة الفاربة شرطاً لصحة الصبلة‪.‬‬
‫أدلة الحنفية‪:‬‬
‫استدؿ الثوري وفقهاء اْلنفية على صحة الصبلة بغَت قراءة الفاربة بأدلة من الكتاب‬
‫والسنّة‪.‬‬
‫ّأما الكتاب‪ :‬فقولو تعاذل‪{ :‬فاقرءوا َما تَػيَ َّسَر ِم َن القرآف} [املزمل‪ ]ٕٓ :‬قالوا‪ :‬فهذا‬
‫تيسر من القرآف‪ ،‬ألف اآلية وردت يف القراءة‬ ‫يدؿ على أف الواجب أف يقرأ أي شيء ّ‬
‫وـ أدىن ِمن ثػُلُثَ ِي الليل} إذل قولو‪:‬‬ ‫يف الصبلة بدليل قولو تعاذل‪{ :‬إِ َّف َربَّ َ‬
‫ك يَػ ْعلَ ُم أَنَّ َ‬
‫ك تَػ ُق ُ‬
‫{فاقرءوا َما تَػيَ َّسَر ِم َن القرآف} [املزمل‪ ]ٕٓ :‬ودل زبتلف األمة أف ذلك يف شأف الصبلة‬
‫يف الليل‪ ،‬وذلك عموـ عندنا يف صبلة الليل وغَتىا من النوافل والفرائض لعموـ اللفظ‪.‬‬
‫وأما السنّة‪ :‬فما روي عن أّب ىريرة َر ِض َي اللَّوُ َعْنو «أف رجبلً دخل املسجد فصلّى‪ ،‬مث‬
‫ِ‬
‫فصل فإنك‬
‫فرد عليو السبلـ وقاؿ‪ »:‬ارجع ّ‬ ‫صلَّى اللَّوُ َعلَْيو َو َسلَّمَ ّ‬ ‫النيب َ‬
‫جاء فسلّم على ّ‬
‫دل تصل «فصلّى مث جاء فأمره بالرجوع‪ ،‬حىت فعل ذلك ثبلث مرات‪ ،‬فقاؿ‪ :‬والذي‬
‫قمت إذل الصبلة‬‫الس َبلـُ ‪ »:‬إذا َ‬ ‫سن غَته‪ ،‬فقاؿ َعلَْي ِو َّ‬
‫الص َبلة َو َّ‬ ‫ُح ُ‬ ‫بعثك باْلق ما أ ْ‬
‫فكرب‪ ،‬مث اسجد حىت تطمئن ساجداً‪ ،‬مث ارفع حىت‬ ‫فأسبغ الوضوء‪ ،‬مثّ استقبل القبلة ّ‬
‫تطمئن جالساً‪ ،‬مث اسجد حىت تطمئن ساجداً‪ ،‬مث ارفع حىت تستوي قائماً‪ ،‬مثّ فاعل‬
‫ذلك يف صبلتك كلها «» ‪.‬‬

‫‪ 17‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫تيسر معك‬ ‫قالوا‪ :‬فحديث أّب ىريرة يف تعليم الرجل صبلتو يدؿ على التخيَت (اقرأ ما ّ‬
‫ويقوي ما ذىبنا إليو‪ ،‬وما دلت عليو اآلية الكرظمة من جواز قراءة أي شيء‬ ‫من القرآف) ّ‬
‫من القرآف‪.‬‬
‫وأما حديث عبادة بن الصامت‪ :‬فقد ضبلوه على نفي الكماؿ‪ ،‬ال على نفي اْلقيقة‪،‬‬
‫ومعناه عندىم (ال صبلة كاملة ملن دل يقرأ بفاربة الكتاب) ولذلك قالوا‪ :‬تصح الصبلة‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ ‪« :‬ال صبلة جلار‬
‫مع الكراىية‪ ،‬وقالوا ىذا اْلديث يشبو قولو َ‬
‫املسجد إالّ يف املسجد» ‪.‬‬
‫يدؿ لنا أل ّف‬‫وأما حديث أّب ىريرة‪( :‬فهي خداج‪ ،‬فهي خداج) اخل فقالوا‪ :‬فيو ما ّ‬
‫(اخلداج) الناقصة‪ ،‬وىذا يدؿ على جوازىا مع النقصاف‪ ،‬ألهنا لو دل تكن جائزة ملا‬
‫أُطلق عليها اسم النقصاف‪ ،‬ألف إثباهتا ناقصة ينفي بطبلهنا‪ ،‬إذ ال صموز الوصف‬
‫بالنقصاف للشيء الباطل الذي دل يثبت منو شيء‪.‬‬
‫أمعنت النظر‪ ،‬رأيت أ ّف‬ ‫َ‬ ‫ىذه ىي خبلصة أدلة الفريقُت‪ :‬سردناىا لك بإصماز‪ ،‬وأنت إذا‬
‫الس َبلـُ‬ ‫ما ذىب إليو اجلمهور أقوى دليبلً‪ ،‬وأقوى قيبلً‪ ،‬فإ ّف مواظبتو َعلَْي ِو َّ‬
‫الص َبلة َو َّ‬
‫على قراءهتا يف الفريضة والنفل‪ ،‬ومواظبة أصحابو الكراـ عليها دليل على أنو ال ذبزئ‬
‫الصبلة بدوهنا‪ ،‬وقد عضد ذلك األحاديث الصرضمة الصحيحة‪ ،‬والنيب َعلَْي ِو َّ‬
‫الص َبلة‬
‫حجة لفريضتها‬ ‫الس َبلـُ مهمتو التوضيح والبياف‪ ،‬ملا أصبل من معاين القرآف‪ ،‬فيكفي ّ‬ ‫َو َّ‬
‫ووجوهبا قولُو وفعلو عليو السبلـ‪.‬‬
‫صلَّى‬‫ودمّا يؤيد رأي اجلمهور ما رواه مسلم عن أّب قتادة أنو قاؿ‪« :‬كاف رسوؿ اهلل َ‬
‫اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ يصلّي بنا فيقرأ يف الظهر والعصر يف الركعتُت األوليَػ ُْت بفاربة الكتاب‬
‫يطوؿ يف الركعة األوذل من الظهر‪ ،‬ويقصر‬ ‫وسورتُت‪ ،‬ويُسمعنا اآلية أحياناً‪ ،‬وكاف ّ‬
‫الثانية‪ ،‬وكذلك يف الصبح» ‪ .‬ويف رواية‪« :‬ويقرأ يف الركعتُت األخريُت بفاربة الكتاب» ‪.‬‬

‫‪ 18‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫قاؿ الطربي‪ :‬يقرأ بأـ القرأف يف كل ركعة‪ ،‬فإف دل يقرأ هبا دل صمزه إال مثلها من القرآف‬
‫قوؿ الشافعي وأضبد‬ ‫عدد آياهتا وحروفها‪ .‬قاؿ القرطيب‪ :‬والصحيح من ىذه األقواؿ‪ُ ،‬‬
‫ومالك‬
‫كعة لكل ٍ‬
‫أحد على العموـ لقولو َعلَْي ِو‬ ‫يف القوؿ اآلخر‪ ،‬وأف الفاربة متعينة يف كل ر ٍ‬
‫الس َبلـُ ‪:‬‬
‫الص َبلة َو َّ‬
‫َّ‬
‫«ال صبلة ملن دل يقرأ بفاربة الكتاب» وقد روي عن عمر بن اخلطاب‪ ،‬وعبد اهلل بن‬
‫ُّب بن كعب‪ ،‬وأّب أيوب األنصاري‪ ،‬وعبادة بن الصامت‪ ،‬وأّب‬ ‫عباس‪ ،‬وأّب ىريرة‪ ،‬وأِ ّ‬
‫سعيد اخلدري أهنم قالوا‪« :‬ال صبلة إال بفاربة الكتاب» فهؤالء الصحابة ال ُقدرة‪،‬‬
‫وفيهم األسوة‪ُ ،‬كلّهم يوحبوف الفاربة يف كل ركعة‪.‬‬

‫الحكم الرابع‪ :‬ىل يقرأ المأموم خلف اإلمام؟‬


‫اتفق العلماء على أف املأموـ إذا أدرؾ اإلماـ راكعاً فإنو ضممل عنو القراءة‪ ،‬إلصباعهم‬
‫على سقوط القراءة عنو بركوع اإلماـ‪ ،‬و ّأما إذا أدركو قائماً فهل يقرأ خلفو أـ تكفيو‬
‫قراءة اإلماـ؟ اختلف العلماء يف ذلك على أقواؿ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬فذىب الشافعي وأضبد‪ :‬إذل وجوب قراءة الفاربة خلف اإلماـ سواء كانت الصبلة‬
‫سرية أـ جهرية‪.‬‬
‫ّ‬
‫سرية قرأ خلف اإلماـ‪ ،‬وال يقرأ يف‬ ‫ب ‪ -‬وذىب مالك إذل أف الصبلة إذا كانت ّ‬
‫اجلهرية‪.‬‬
‫ج ‪ -‬وذىب أبو حنيفة‪ :‬إذل أنو ال يقرأ خلف اإلماـ ال يف السرية وال يف اجلهرية‪.‬‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ ‪« :‬ال صبلة‬
‫استدؿ الشافعية واْلنابلة باْلديث املتقدـ وىو قولو َ‬
‫ملن دل يقرأ بفاربة الكتاب» ‪.‬‬

‫‪ 19‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫فإف اللفظ عاـ يشمل اإلماـ واملأموـ‪ ،‬سواء كانت الصبلة سرية جهرية‪ ،‬فمن دل يقرأ‬
‫تصح صبلتو‪.‬‬ ‫بفاربة الكتاب دل ّ‬
‫سرية باْلديث املذكور‪،‬‬ ‫واستدؿ اإلماـ مالك‪ :‬على قراءة الفاربة إذا كانت الصبلة ّ‬
‫{وإِ َذا قُِرىءَ القرآف‬
‫ومنع من القراءة خلف اإلماـ إذا كانت الصبلة جهرية لقولو تعاذل‪َ :‬‬
‫فاستمعوا لَو وأ ِ‬
‫َنصتُواْ لَ َعلَّ ُك ْم تُػْر َضبُو َف} [األعراؼ‪. ]ٕٓٗ :‬‬ ‫َُ‬
‫وقد نقل القرطيب‪ :‬عن اإلماـ مالك أنو ال يقرأ يف اجلهرية بشيء من القرآف خلف‬
‫السرية فيقرأ بفاربة الكتاب‪ ،‬فإف ترؾ قراءهتا فقد أساء وال شيء عليو‪.‬‬ ‫اإلماـ‪ ،‬و ّأما يف ّ‬
‫و ّأما اإلماـ أبو حنيفة‪ :‬فقد منع من القراءة خلف اإلماـ مطلقاً عمبلً باآلية الكرظمة‬
‫{وإِ َذا قُِرىءَ القرآف فاستمعوا} [األعراؼ‪ ]ٕٓٗ :‬وْلديث «من كاف لو إماـ فقراءة‬ ‫َ‬
‫اإلماـ لو قراءة» ‪.‬‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ أنو قاؿ‪« :‬إسما جعل اإلماـ‬
‫واستدؿ أيضاً دبا روي عن النيب َ‬
‫كرب فكربوا‪ ،‬وإذا قرأ فأنصتوا» ‪.‬‬ ‫ليؤمت بو‪ ،‬فإذا ّ‬

‫‪ 21‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫موقف الشريعة من السحر‬
‫ين أُوتُوا‬ ‫ذ‬‫ِّؽ لِما معهم نػَب َذ فَ ِريق ِمن الَّ ِ‬ ‫د‬ ‫ص‬ ‫م‬ ‫و‬‫وؿ ِمن ِعْن ِد اللَّ ِ‬
‫َ َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫َ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َولَ َّما َجاءَ ُى ْم َر ُس ٌ ْ‬
‫اب اللَّ ِو َوَراءَ ظُ ُهوِرِى ْم َكأَنػَّ ُه ْم َال يػَ ْعلَ ُمو َف (ٔٓٔ) َواتَّػبَػعُوا َما تَػْتػلُو‬ ‫اب كتَ َ‬
‫الْ ِكتَ ِ‬
‫َ‬
‫ُت َك َف ُروا يػُ َعلِّ ُمو َف‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُت َعلَى ُم ْلك ُسلَْي َما َف َوَما َك َفَر ُسلَْي َما ُف َولَك َّن الشَّيَاط َ‬ ‫الشَّيَاط ُ‬
‫َح ٍد‬ ‫ِِ‬
‫وت َوَما يػُ َعلِّ َماف م ْن أ َ‬ ‫وت َوَم ُار َ‬ ‫ُت بِبَابِ َل َى ُار َ‬ ‫الس ْحر وَما أُنْ ِزَؿ َعلَى الْملَ َك ْ ِ‬
‫َ‬ ‫َّاس ِّ َ َ‬ ‫الن َ‬
‫ُت الْ َم ْرِء َوَزْوِج ِو‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َح َّىت يػَ ُق َوال إَِّسمَا َْرم ُن فْتػنَةٌ فَ َبل تَ ْك ُف ْر فَػيَتَػ َعلَّ ُمو َف مْنػ ُه َما َما يػُ َفِّرقُو َف بِو بػَ ْ َ‬
‫ِ‬ ‫وما ىم بِض ِّارين بِِو ِمن أ ٍ‬
‫ضُّرُى ْم َوَال يػَْنػ َفعُ ُه ْم َولََق ْد‬‫َحد إَِّال بِِإ ْذ ِف اللَّو َويػَتَػ َعلَّ ُمو َف َما يَ ُ‬ ‫ْ َ‬ ‫ََ ُ ْ َ َ‬
‫س َما َشَرْوا بِِو أَنْػ ُف َس ُه ْم لَ ْو َكانُوا‬ ‫ئ‬
‫ْ‬‫َعلِموا لَم ِن ا ْشتَػراهُ َما لَوُ ِيف ْاآل ِخرةِ ِم ْن َخ َبل ٍؽ ولَبِ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬
‫يػَ ْعلَ ُمو َف (ٕٓٔ) َولَ ْو أَنػَّ ُه ْم َآمنُوا َواتَّػ َق ْوا لَ َمثُوبَةٌ ِم ْن ِعْن ِد اللَّ ِو َخْيػٌر لَ ْو َكانُوا يػَ ْعلَ ُمو َف‬
‫(ٖٓٔ)‬
‫التحليل اللفظي‬
‫اى ْم ِيف اليم} [القصص‪ ]ٗٓ :‬ومنو‬ ‫{نَػبَ َذ} ‪ :‬النبذ‪ :‬الطرح واإللقاء قاؿ تعاذل‪{ :‬فَػنَبَ ْذنَ ُ‬
‫ومسي نبيذاً‪ ،‬ألف الذي يتخذه يأخذ سبراً أو زبيباً فينبذه يف وعاء‬ ‫النبيذ للشيء املسكر‪َ ،‬‬
‫أو سقاء‪ ،‬ويًتكو حىت يصَت مسكراً‪ ،‬واملنبوذُ‪ :‬ولد الزىن‪ ،‬ألنوُ يػُْنب ُذ على الطريق‪ ،‬قاؿ‬
‫أبو األسود‪.‬‬
‫أخذت كتاّب معرضاً بشمالكا‬ ‫َ‬ ‫أرسلت أسما ‪...‬‬ ‫ُ‬ ‫كنت‬
‫وخربين من ُ‬ ‫ّ‬
‫لقت من نعالكا‬ ‫أخ ْ‬ ‫كنبذؾ نعبلً ْ‬ ‫نظرت إذل عنوانو فنبذتَو ‪َ ...‬‬ ‫َ‬
‫استخف بالشيء وأعرض عنو صبلة‪ ،‬تقوؿ‬ ‫ّ‬ ‫{وَرآءَ ظُ ُهوِرِى ْم} ‪ :‬ىذا مثل يضرب ملن‬ ‫َ‬
‫العرب‪ :‬جعل ىذا األمر وراء ظهره‪ ،‬ودبر أذنو‪.‬‬
‫واملعٌت‪ :‬نبذوا كتاب اهلل وتركوا العمل بو‪ ،‬على سبيل العناد واملابرة‪ ،‬كأهنم ال يعلموف أنو‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ ‪.‬‬ ‫املنزؿ على رسولو الكرًن َ‬ ‫كتاب اهلل ّ‬
‫‪ 21‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫{واتبعوا} الضمَت لفريق من الذين أوتوا الكتاب وىم اليهود‪ .‬قاؿ الزخمشري‪ :‬أي نبذوا‬
‫كتاب اهلل واتبعوا ما تتلو الشياطُت‪.‬‬
‫{تَػْتػلُواْ} ‪ :‬دبعٌت تلت مضارع دبعٌت املاضي‪ ،‬فهو حكاية ْلاؿ ماضية‪ ،‬قاؿ الشاعر‪:‬‬
‫وذبائح‬
‫ِ‬ ‫انب قربه بدمائها ‪ ...‬فلقد يكو ُف أخا ٍدـ‬ ‫انضح جو َ‬‫و ْ‬
‫أي فلقد كاف‪.‬‬
‫وتتلو يعٍت‪ُ :‬رب ّدث‪ ،‬وتروي‪ ،‬وتتكلم بو من التبلوة دبعٌت القراءة‪.‬‬
‫واملعٌت‪ :‬طرحوا كتاب اهلل وراء ظهورىم‪ ،‬واتّبعوا كتب السحر والشعوذة اليت كانت‬
‫تقرؤىا الشياطُت ورب ّدث وتروي هبا يف عهد سليماف‪.‬‬
‫بعض‬
‫{الشياطُت} ‪ :‬املتبادر من لفظ (الشياطُت) أف املراد هبم مردة اجلن‪ ،‬وبو قاؿ ُ‬
‫املفسرين وقاؿ بعضهم‪ :‬املراد هبم شياطُت اإلنس‪ ،‬واألرجح أف املراد هبم شياطُت‬
‫ض‬‫ض ُه ْم إذل بَػ ْع ٍ‬ ‫ِ‬ ‫(اإلنس واجلن) كما قاؿ تعاذل‪ِ َ :‬‬
‫ُت اإلنس واجلن يُوحي بَػ ْع ُ‬ ‫{شيَاط َ‬
‫ؼ القوؿ غُُروراً} [األنعاـ‪. ]ٕٔٔ :‬‬ ‫ُز ْخُر َ‬
‫ك سليماف} ‪ :‬أي على عهد مكلو ويف زمانو‪ ،‬فهو على حذؼ مضاؼ‪.‬‬ ‫{على م ْل ِ‬
‫ُ‬
‫املربد‪« :‬على» دبعٌت «يف» أي يف عهد ملكو‪ ،‬كما أ ّف «يف» دبعٌت «على» كما‬ ‫قاؿ ّ‬
‫وع النخل} [طو‪ ]ٚٔ :‬أي على جذوع النخل‪.‬‬ ‫ُصلِّبَػنَّ ُك ْم ِيف ُج ُذ ِ‬
‫{وأل َ‬
‫يف قولو تعاذل‪َ :‬‬
‫(سليماف) اسم عرباين‪ ،‬وقد تكلمت بو العرب يف اجلاىلية‪ ،‬واستعملو اْلطيئة‪ ،‬اضطراراً‬
‫فجعلو بلفظ (سبلّـ) حُت قاؿ‪:‬‬
‫فيو الرماح وفيو كل سابغة ‪ ...‬جدالء حمكمة من نسج سبلّـ‬
‫قاؿ األلوسي‪ :‬وسليماف اسم أعجمي‪ ،‬وامتنع من الصرؼ للعلمية والعجمة‪ ،‬ونظَته‬
‫(ىاماف) و (ماىاف) و (شاماف) وليس امتناعو من الصرؼ للعلمية وزيادة األلف‬
‫والنوف‪.‬‬

‫‪ 22‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫صرؼ‬
‫السحر ُ‬ ‫ودؽ‪ ،‬قاؿ األزىري‪ :‬وأصل ّ‬ ‫كل ما لطف مأخذه ّ‬ ‫{السحر} ‪ :‬يف اللغة‪ّ :‬‬
‫اْلق‪ ،‬وخيّل‬ ‫الشيء عن حقيقتو إذل غَته‪ ،‬فكأ ّف الساحر ملّا أرى الباطل يف سورة ّ‬
‫الشيء على غَت حقيقتو‪ ،‬قد سحر الشيء عن وجهو اي صرفو‪.‬‬
‫السحر أصلُو التمويوُ باْليل‪ ،‬وىو أف يفعل الساحر أشياء ومعاين‪،‬‬ ‫وقاؿ القرطيب‪ّ :‬‬
‫السراب من بعيد فيخيّل إليو أنو‬ ‫فيُخيّل للمسحور أهنا خببلؼ ما ىي بو‪ ،‬كالذي يرى ّ‬
‫سحرت الصيب إذا خدعتو‬
‫ُ‬ ‫ماء‪ ،‬وىو مشتق من‬
‫فتنت الذىب يف النار‪ ،‬إذا امتحنتو‬ ‫ِ‬
‫{فْتػنَةٌ} ‪ :‬الفتنةُ االختبار واالبتبلء‪ ،‬ومنو قوهلم‪ُ :‬‬
‫لتعرؼ جودتو من رداءتو‪.‬‬
‫قاؿ األزىري‪ِ :‬صباعُ معٌت الفتنة‪ :‬االبتبلء واالمتحاف‪ ،‬واالختبار‪ ،‬قاؿ تعاذل‪{ :‬أََّسمَآ‬
‫{ولََق ْد فَػتَػنَّا الذين ِمن قَػْبلِ ِه ْم}‬
‫َ‬ ‫تعاذل‬ ‫وقاؿ‬ ‫]‬‫‪ٕٛ‬‬ ‫[األنفاؿ‪:‬‬ ‫}‬ ‫ٌ‬‫ة‬‫ن‬
‫َ‬ ‫ػ‬‫ت‬‫ْ‬‫أَموالُ ُكم وأَوالَ ُد ُكم فِ‬
‫َْ ْ َ ْ ْ‬
‫[العنكبوت‪ ]ٖ :‬أي اختربنا وابتلينا‪.‬‬
‫كفر‪.‬‬
‫السحر ٌ‬ ‫السحر واستعمالو‪ ،‬ويف اآلية إشارة إذل أ ّف تعلم ّ‬ ‫{فَبلَ تَ ْك ُفْر} ‪ :‬أي بتعلم ّ‬
‫السحر معتقداً أنو حق فتكفر‪.‬‬ ‫قاؿ الزخمشري‪{ :‬فَبلَ تَ ْك ُفْر} أي فبل تتعلم ّ‬
‫{بِِإ ْذ ِف اهلل} ‪ :‬أي بإرادتو ومشيئتو‪ ،‬وفيو دليل على أف يف السحر ضرراً مودعاً‪ ،‬إذا‬
‫شاء اهلل تعاذل حاؿ بينو وبُت املسحور‪ ،‬وإذا شاء خبلّه حىت يصيبو ما ق ّدره اهلل تعاذل‬
‫لو‪ ،‬وىذا مذىب السلف يف األسباب واملسببات‪.‬‬
‫{لَ َم ِن اشًتاه} ‪ :‬قاؿ األلوسي‪ :‬أي استبدؿ ما تتلو الشياطُت بكتاب اهلل‪ ،‬والبلـ‬
‫لبلبتداء وتدخل على املبتدأ وعلى املضارع‪ ،‬ودخوهلا على املاضي مع (قد) كثَت‪ ،‬كقولو‬
‫تعاذل‪{ :‬لََّق ْد َِمس َع اهلل قَػ ْوَؿ الذين قالوا إِ َّف اهلل فَِقَتٌ َوَْرم ُن أَ ْغنِيَآءُ} [آؿ عمراف‪. ]ٔٛٔ :‬‬
‫اخلبلؽ يف اللغة دبعٌت النصيب قاؿ تعاذل‪{ :‬أولئك الَ َخبلَ َؽ َهلُ ْم ِيف‬ ‫ُ‬ ‫{خبلؽ} ‪:‬‬
‫اآلخرة} [آؿ عمراف‪]ٚٚ :‬‬

‫‪ 23‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫{شَرْواْ} ‪ :‬أي باعوا أنفسهم بو‪ ،‬يقاؿ‪ :‬شرى دبعٌت اشًتى‪ ،‬وشرى دبعٌت باع من‬ ‫َ‬
‫األضداد‪،‬‬
‫{لَ َمثُوبَةٌ} ‪ :‬املثوبة‪ :‬الثواب واجلزاء‪ ،‬أي لثواب وجزاء عظيم من اهلل تعاذل على إظماهنم‬
‫وتقواىم‪.‬‬

‫سبب النزول‬
‫قاؿ ابن اجلوزي َرِضبَوُ اللَّوُ‪ :‬يف سبب نزوؿ ىذه اآلية قوالف‪:‬‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ عن شيء من التوراة‬
‫أحدشما‪ :‬أف اليهود كانوا ال يسألوف النيب َ‬
‫إالّ أجاهبم‪ ،‬فسألوه عن السحر وخاصموه بو فنزلت ىذه اآلية‪ ،‬قالو أبو العالية‪.‬‬
‫والثاين‪ :‬أنو ملا ذكر سليماف يف القرآف قالت يهود املدينة‪ :‬أال تعجبوف حملمد يزعم أف‬
‫{وَما َك َفَر سليماف‬
‫(ابن داود) كاف نبيّاً؟ واهلل ما كاف إال ساحراً فنزلت ىذه اآلية َ‬
‫ولكن الشياطُت َك َفُرواْ ‪ } ...‬ذكره ابن إسحاؽ‪.‬‬

‫األحكام الشرعية‬

‫للسحر حقيقة وتأثير في الواقع؟‬


‫الحكم األول‪ :‬ىل ّ‬
‫اختلف العلماء يف أمر (السحر) ىل لو حقيقة أـ ىو شعوذة وزبييل؟‬
‫فذىب صبهور العلماء‪ :‬من أىل السنة واجلماعة إذل أف السحر لو حقيقة وتأثَت‪.‬‬
‫السنّة‪ :‬إذل أ ّف السحر ليس لو حقيقة يف الواقع وإسما ىو‬
‫وذىب املعتزلة وبعض أىل ُ‬
‫خداع‪ ،‬وسبويو‪ ،‬وتضليل‪ ،‬وأنو باب من أبواب الشعوذة‪ ،‬وىو عندىم على ضروب‪.‬‬
‫ضروب السحر‪:‬‬

‫‪ 24‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫أوالً‪ :‬التخييل واخلداع‪ :‬وذلك كما يفعلو بعض املشعوذين‪ ،‬حيث يريك أنو ذبح‬
‫املذبوح غَت الذي‬
‫عصفوراً‪ ،‬مث يريك العصفور بعد ذحبو قد طار‪ ،‬وذلك خلفة حركتو‪ ،‬و ُ‬
‫طار ألنو يكوف معو اثناف‪ ،‬قد خبأ أحدشما وىو املذبوح وأظهر اآلخر‪ .‬قالوا‪ :‬وقد كاف‬
‫جموفة‪ ،‬قد ملئت زئبقاً‪ ،‬وكذلك‬ ‫العصي َّ‬
‫ّ‬ ‫سحر سحرة فرعوف من ىذا النوع‪ ،‬فقد كانت‬
‫حمشوة زئبقاً‪ ،‬وقد حفروا ربت املواضع أسراباً وملؤىا ناراً‪،‬‬
‫اْلباؿ كانت من أدـ (جلد) ّ‬
‫العصي وضبى الزئبق ربركت‪ ،‬أل ّف من شأف الزئبق إذا أصابتو‬
‫فلما طرحت عليها اْلباؿ و ّ‬ ‫ّ‬
‫اْلرارة أف يتم ّدد‪ ،‬فتخيّل الناس أ ّف ىذه اْلباؿ والعصي تتحرؾ وتسَت‪.‬‬
‫ثانياً‪ :‬الكهانة والعرافة بطريق التواطؤ وذلك كما يفعلو بعض َ‬
‫العّرافُت وال ُكهاف حيث‬
‫يوكلوف أناساً باالطبلع على أسرار الناس‪ ،‬حىت إذا جاء أصحاهبا أخربوىم هبا‪،‬‬
‫اجلن والشياطُت هلم‪ ،‬وأهنم يتصلوف هبم ويطيعوهنم بواسطة‬ ‫ويزعموف أهنا من حديث ّ‬
‫الرقي‪ ،‬والعزائم‪ ،‬وأف الشياطُت زبربىم باملغيبات فيصدقهم الناس‪ ،‬وما ىي إال مواطأة‬ ‫ّ‬
‫مع أشخاص قد أع ّدوىم لذلك‪.‬‬
‫قاؿ اجلصاص‪ :‬كانت أكثر خماريق اْلبلّج باملواطأة‪ ،‬فكاف يتفق مع صباعة فيضعوف لو‬
‫خبزاً وْلماً وفاكهة يف مواضع يعيّنها هلم‪ ،‬مثّ ظمشي مع أصحابو يف الربية‪ ،‬مث يأمر حبفر‬
‫ىذه املواضع‪ ،‬فيخرج ما خبئ من اخلبز واللحم والفاكهة‪ ،‬فيع ّدوهنا من الكرامات‪.‬‬
‫السحر عن طريق النميمة‪ ،‬والوشاية‪ ،‬واإلفساد من وجوه خفيّة‬ ‫وضرب آخر من ّ‬
‫ٌ‬ ‫ثالثاً‪:‬‬
‫لطيفة‪ ،‬وذلك عاـ شائع يف كثَت من الناس‪ . .‬وقد ُحكي أ ّف امرأة أرادت إفساد ما بُت‬
‫معرض عنك‪ ،‬وىو يريد أف يتزوج‬ ‫ٌ‬ ‫زوجُت‪ ،‬فجاءت إذل الزوجة فقالت هلا‪ :‬إ ّف زوجك‬
‫عليك‪ ،‬وسأسحره لك حىت ال يرغب عنك‪ ،‬وال يريد سواؾ‪ ،‬ولكن ال بد أف تأخذي‬
‫حىت يتم سحره‪ ،‬فاغًتت املرأة‬
‫من شعر حلقو باملوسى ثبلث شعرات إذا ناـ وتعطينيها ّ‬
‫بقوهلا وصدقتها‪ ،‬مثّ ذىبت إذل الرجل وقالت لو‪ :‬إف امرأتك قد أحبّت رجبلً وقد‬

‫‪ 25‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫عزمت على أف تذحبك باملوسى عند النوـ لتتخلص منك‪ ،‬وقد أشفقت عليك ولزمٍت‬
‫نصحك‪ ،‬فتي ّقظ هلا ىذه الليلة وتظاىر بالنوـ فستعرؼ صدؽ كبلمي‪ ،‬فلما جاء الليل‬
‫تناوـ الرجل يف بيتو فجاءت زوجتو باملوسى لتحلق بعض شعرات من حلقو‪ ،‬ففتح‬
‫يشك يف أهنا أرادت قتلو فقاـ‬
‫الرجل عينو فرآىا وقد أىوت باملوسى إذل حلقو‪ ،‬فلم ّ‬
‫إليها فقتلها‪ ،‬فبلغ اخلرب إذل أىلها فجاءوا فقتلوه‪ ،‬وىكذا كاف الفساد بسبب الوشاية‬
‫والنميمة‪.‬‬
‫رابعاً‪ :‬وضرب آخر من السحر وىو االحتياؿ وذلك بإطعاـ اإلنساف بعض األدوية‬
‫املؤثرة يف العقل‪ ،‬أو إعطائو بعض األغذية اليت هلا تأثَت على الفكر والذكاء‪ ،‬كإطعامو‬
‫(دماغ اْلمار) الذي إذا أطعمو إنساف تبلّد عقلو‪ ،‬وقلّت فطنتو مع أدوية أخرى معروفة‬
‫مس أو‬‫تصرؼ تصرفاً غَت سليم فيقوؿ الناس‪ :‬بو ّ‬ ‫يف كتب الطب‪ ،‬فإذا أكلو اإلنساف ّ‬
‫أنو مسحور‪.‬‬
‫وإما إذل سعي‬
‫وإما إذل مواطأة‪ّ ،‬‬‫فأنت ترى أهنم يُرجعوف السحر ّإما إذل سبويو وزبييل‪ّ ،‬‬
‫وإما إذل احتياؿ‪ ،‬وال يروف الساحر يقدر على شيء دمّا يثبتو لو اآلخروف من‬ ‫وسميمة‪ّ ،‬‬
‫التأثَت يف األجساـ‪ ،‬ومن قطع املسافات البعيدة يف الزمن اليسَت‪.‬‬
‫تبُت لك أف ىذا كلو خماريق وحيل‪ ،‬ال حقيقة ملا‬ ‫قاؿ أبو بكر اجلصاص‪ :‬وحكمةٌ كافية ّ‬
‫املعزـ لو قدرا على ما يدعيانو من النفع والضرر‪ ،‬وأمكنهما‬ ‫ي ّدعوف هلا أ ّف الساحر و ّ‬
‫السَرؽ‪ ،‬واإلضرار بالناس‬
‫الطَتاف‪ ،‬والعلم بالغيوب‪ ،‬وأخبار البلداف النائية‪ ،‬واخلبيثات و ّ‬
‫من غَت الوجوه اليت ذكرنا‪ ،‬لقدروا على إزالة املمالك واستخراج الكنوز‪ ،‬والغلبة على‬
‫البلداف بقتل امللوؾ حبيث ال يناهلم مكروه‪ ،‬وال ستغنوا عن الطلب ملا يف أيدي الناس‪.‬‬

‫‪ 26‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫فإذا دل يكن كذلك‪ ،‬وكاف امل ّدعوف لذلك أسوأ الناس حاالً‪ ،‬وأكثرىم طمعاً واحتياالً‪،‬‬
‫علمت أهنم ال يقدروف على شيء‬ ‫َ‬ ‫وتوصبلً ألخذ دراىم الناس وأظهرىم فقراً وإمبلقاً‬
‫من ذلك «‪.‬‬
‫أدلة المعزلة‪:‬‬
‫استدؿ املعتزلة على أف السحر ليس لو حقيقة بعدة أدلة نوجزىا‪:‬‬
‫ُت الناس واسًتىبوىم} [األعراؼ‪. ]ٔٔٙ :‬‬ ‫أ ‪ -‬قولو تعاذل‪{ :‬سحروا أ َْع َُ‬
‫{طمَيَّ ُل إِلَْي ِو ِمن ِس ْح ِرِى ْم أَنػَّ َها تسعى} [طو‪. ]ٙٙ :‬‬
‫ب ‪ -‬قولو تعاذل‪ُ :‬‬
‫ث أتى} [طو‪. ]ٜٙ :‬‬ ‫ِ‬
‫{والَ يػُ ْفل ُح الساحر َحْي ُ‬ ‫ج ‪ -‬قولو تعاذل‪َ :‬‬
‫فاآلية األوذل‪ :‬تدؿ على أف السحر إسما كاف لؤلعُت فحسب‪ ،‬والثانية‪ :‬تؤكد َّ‬
‫أف ىذا‬
‫السحر كاف زبييبلً ال حقيقة‪ ،‬والثالثة‪ :‬تثبت أف الساحر ال ظمكن أف يكوف على حق‬
‫لنفي الفبلح عنو‪.‬‬
‫د ‪ -‬وقالوا‪ :‬لو قدر الساحر أف ظمشي على املاء‪ ،‬أو يطَت يف اهلواء‪ ،‬أو يقلب الًتاب‬
‫إذل ذىب على اْلقيقة‪ ،‬لبطل التصديق دبعجزات األنبياء‪ ،‬والتبس اْلق بالباطل‪ ،‬فلم‬
‫يعد يعرؼ (النيب) من (الساحر) ألنو ال فرؽ بُت معجزات األنبياء‪ ،‬وفعل السحرة‪،‬‬
‫وأنو صبيعو من نوع واحد‪.‬‬
‫أدلة الجمهور‪:‬‬
‫واستدؿ اجلمهور من العلماء على أ ّف السحر لو حقيقة ولو تأثَت بعدة أدلة نوجزىا فيما‬
‫يلي‪:‬‬
‫ُت الناس واسًتىبوىم َو َجآءُوا بِ ِس ْح ٍر َع ِظي ٍم} [األعراؼ‪:‬‬ ‫أ ‪ -‬قولو تعاذل‪{ :‬سحروا أ َْع َُ‬
‫‪. ]ٔٙٙ‬‬
‫ُت املرء َوَزْوِج ِو} [البقرة‪. ]ٕٔٓ :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب ‪ -‬قولو تعاذل‪{ :‬فَػيَتَػ َعلَّ ُمو َف مْنػ ُه َما َما يػُ َفِّرقُو َف بِو بَػ ْ َ‬
‫‪ 27‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫َح ٍد إِالَّ بِِإ ْذ ِف اهلل} [البقرة‪. ]ٕٔٓ :‬‬ ‫آر ِِ ِ‬
‫ين بو م ْن أ َ‬ ‫{وَما ُىم بِ َ‬
‫ض ِّ َ‬ ‫ج ‪ -‬قولو تعاذل‪َ :‬‬
‫{وِمن َشِّر النفاثات ِيف العقد} [الفلق‪. ]ٗ :‬‬ ‫د ‪ -‬قولو تعاذل‪َ :‬‬
‫{و َجآءُوا بِ ِس ْح ٍر‬
‫فاآلية األوذل دلّت على إثبات حقيقة السحر بدليل قولو تعاذل‪َ :‬‬
‫َع ِظي ٍم} [األعراؼ‪ ]ٔٙٙ :‬واآلية الثانية أثبتت أف السحر كاف حقيقياً حيث أمكنهم‬
‫يفرقوا بُت الرجل وزوجو‪ ،‬وأف يوقعوا العداوة والبغضاء بُت الزوجُت فدلت‬ ‫بواسطتو أف ّ‬
‫على أثره وحقيقتو‪ ،‬واآلية الثالثة أثبتت الضرر للسحر‪ ،‬ولكنّو متعلق دبشيئة اهلل‪ ،‬واآلية‬
‫السحرة الذين‬ ‫شر ّ‬ ‫الرابعة تدؿ على عظيم أثر السحر حىت أمرنا أف نتعوذ باهلل من ّ‬
‫ينفثوف يف العقد‪.‬‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ فاشتكى لذلك‬ ‫ىػ ‪ -‬واستدلوا دبا روي «أف يهودياً سحر النيب َ‬
‫أياماً‪،‬‬
‫فأتاه جربيل فقاؿ‪ :‬إ ّف رجبلً من اليهود سحرؾ‪ ،‬عقد لك عقداً يف بئر كذا وكذا‪،‬‬
‫ط من عقاؿ» ‪.‬‬ ‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ فاستخرجها فحلّها‪ ،‬فقاـ كأّسما نَ ِش َ‬
‫فأرسل َ‬
‫الًتجيح‪ :‬ومن استعراض األدلة نرى أ ّف ما ذىب إليو اجلمهور أقوى دليبلً فإف السحر‬
‫لو حقيقة ولو تأثَت على النفس‪ ،‬فإف إلقاء البغضاء بُت الزوجُت‪ ،‬والتفريق بُت املرء‬
‫وأىلو الذي أثبتو القرآف الكرًن ليس إال أثراً من آثار السحر‪ ،‬ولو دل يكن للسحر تأثَت‬
‫لكن كثَتاً ما يكوف ىذا السحر‬ ‫شر النفاثات يف العقد‪ ،‬و ْ‬ ‫ملا أمر القرآف بالتعوذ من ّ‬
‫لكن أثره وضرره ال يصل إذل‬ ‫باالستعانة بأرواح شيطانية فنحن نقر بأ ّف لو أثراً وضرراً و ّ‬
‫الشخص إالّ بإذف اهلل‪ ،‬فهو سبب من األسباب الظاىرة‪ ،‬اليت تتوقف على مشيئة‬
‫رب العاملُت جل وعبل‪.‬‬ ‫مسبّب األسباب‪ّ ،‬‬
‫وأما استدالهلم‪ :‬بأنو يلتبس األمر بُت (املعجزة) و (السحر) إذا أثبتنا لل ّسحر حقيقة‬
‫فنقوؿ‪ :‬إ ّف الفرؽ بينهما واضح فإ ّف معجزات األنبياء عليهم السبلـ ىي على حقائقها‪،‬‬

‫‪ 28‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫السحر فظاىره غَت‬ ‫وظاىرىا كباطنها‪ ،‬وّكلما تأملتها ازددت بصَتة يف صحتها‪ ،‬وأما ّ‬ ‫ُ‬
‫باطنو‪ ،‬وصورتو غَت حقيقتو‪ ،‬يعرؼ ذلك بالتأمل والبحث‪ ،‬وهلذا أثبت القرآف الكرًن‬
‫للسحرة أهنم اسًتىبوا الناس وجاءوا بسح ٍر عظيم‪ ،‬مع إثباتو أَ ّف ما جاءوا بو إسما كاف‬
‫عن طريق التمويو والتخييل‪.‬‬
‫قاؿ العبلمة القرطيب‪« :‬ال ينكر أح ٌد أف يظهر على يد الساحر خرؽ العادات‪ ،‬دبا ليس‬
‫مرض‪ ،‬وتفريق‪ ،‬وزواؿ عقل‪ ،‬وتعويج عضو‪ ،‬إذل غَت ذلك دمّا قاـ‬ ‫يف مقدور البشر‪ ،‬من ٍ‬
‫الدليل على استحالة كونو من مقدورات البشر‪.‬‬
‫يستدؽ جسم الساحر حىت يلج يف ال ُك ّوات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫قالوا‪ :‬وال يبعد يف السحر أف‬
‫واخلوخات‪ ،‬واالنتصاب على رأس قصبة‪ ،‬واجلري على خيط مستدؽ‪ ،‬والطَتاف يف‬
‫اهلواء‪ ،‬واملشي على املاء‪ ،‬وركوب كلب وغَت ذلك‪ ،‬ومع ذلك فبل يكوف السحر‬
‫موجباً لذلك‪ ،‬وال علةً لوقوعو‪ ،‬وال سبباً مولوداً‪ ،‬وال يكوف الساحر مستقبلً بو‪ ،‬وإسما‬
‫طملق اهلل تعاذل ىذه األشياء‪ ،‬وضمدثها عند وجود السحر‪ ،‬كما طملق الشبع عند األكل‪،‬‬
‫ي عند شرب املاء‪.‬‬ ‫الر ّ‬
‫وّ‬
‫مث قاؿ‪ :‬قد أصبع املسلموف على أنو ليس يف السحر ما يفعل اهلل عنده من إنزاؿ اجلراد‪،‬‬
‫والقمل‪ ،‬والضفادع وفلق البحر‪ ،‬وقلب العصا‪ ،‬وإحياء املوتى‪ ،‬وإنطاؽ العجماء‪ ،‬وأمثاؿ‬
‫ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم السبلـ‪ ،‬فهذا ورموه دما صمب القطع بأنو ال يكوف‬
‫وال يفعلو اهلل عند إرادة الساحر‪.‬‬
‫وقاؿ أبو حياف‪ :‬واختلف يف حقيقة السحر على أقواؿ‪:‬‬
‫األوؿ‪ :‬أنو قلب األعياف واخًتاعها دبا يشبو املعجزات والكرامات كالطَتاف‪ ،‬وقطع‬
‫املسافات يف ليلة‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬أنو خدع وسبويهات وشعوذة ال حقيقة هلا وىو قوؿ املعتزلة‪.‬‬

‫‪ 29‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫أمر يأخذ بالعُت على جهة اْليلة‪ ،‬كما كاف فعل سحرة فرعوف حيث‬ ‫الثالث‪ :‬أنو ٌ‬
‫فجروا ربتها ناراً فحميت اْلباؿ والعصي‬ ‫كانت حباهلم وعصيّهم دملوءة زئبقاً‪ّ ،‬‬
‫فتحركت وسعت‪.‬‬
‫ّ‬
‫الرابع‪ :‬أنو نوع من خدمة اجلن واالستعانة هبم‪ ،‬وىم الذين استخرجوه من جنس لطيف‬
‫فلطف ودؽ وخفي‪.‬‬
‫اخلامس‪ :‬أنو مركب من أجساـ ُذبمع وربرؽ‪ ،‬ويتلى عليها أمساء وعزائم‪ ،‬مث تستعمل يف‬
‫أمور السحر‪.‬‬
‫السادس‪ :‬أف أصلو طلسمات تبٌت على تأثَت خصائص الكواكب‪ ،‬أو استخداـ‬
‫عسر‪.‬‬
‫الشياطُت لتسهيل ما ُ‬
‫ضم إليها أنواع من الشعبذة‪،‬‬‫السابع‪ :‬أنو مرّكب من كلمات دمزوجة بكفر‪ ،‬وقد ّ‬
‫والنازذميات‪ ،‬والعزائم‪ ،‬وما صمري جمرى ذلك‪ .‬مث قاؿ‪ :‬وأما يف زماننا اآلف فكلما وقفنا‬
‫عليو يف الكتب فهو كذب وافًتاء‪ ،‬وال يًتتب عليو شيء‪ ،‬وال يصح منو شيء البتة‪،‬‬
‫وكذلك العزائم وضرب املندؿ‪ ،‬والناس يصدقوف هبذه األشياء ويصغوف إذل مساعها‪.‬‬

‫الحكم الثاني‪ :‬ىل يباح تعلّم السحر وتعليمو؟‬


‫ذىب بعض العلماء‪ :‬إذل أف تعلُّم السحر مباح‪ ،‬بدليل تعليم املبلئكة السحر للناس‬
‫كما حكاه القرآف الكرًن عنهم‪ ،‬وإذل ىذا الرأي ذىب (الفخر الرازي) من علماء أىل‬
‫السنة‪.‬‬
‫وذىب اجلمهور‪ :‬إذل حرمة تعلم السحر‪ ،‬أو تعليمو‪ ،‬أل ّف القرآف الكرًن قد ذكره يف‬
‫وبُت أنو كفر فكيف يكوف حبلالً؟‬
‫الذـ‪ّ ،‬‬
‫معرض ّ‬
‫‪ 31‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫الس َبلـُ ع ّده من الكبائر املوبقات كما يف اْلديث‬ ‫كما أف الرسوؿ َعلَْي ِو َّ‬
‫الص َبلة َو َّ‬
‫ىن يا رسوؿ‬ ‫الصحيح وىو قولو صلوات اهلل عليو‪« :‬اجتنبوا السبع املوبقات‪ ،‬قالوا وما ّ‬
‫حرـ اهلل إال باْلق‪ ،‬وأكل الربا‪،‬‬ ‫اهلل؟ قاؿ‪ :‬الشرؾ باهلل‪ ،‬والسحر‪ ،‬وقتل النفس اليت ّ‬
‫وأكل ماؿ اليتيم‪ ،‬والتورل يوـ الزحف‪ ،‬وقذؼ احملصنات الغافبلت املؤمنات» ‪.‬‬
‫قاؿ األلوسي‪« :‬وقيل إ ّف تعلمو مباح‪ ،‬وإليو ماؿ اإلماـ الرازي قائبلً‪ :‬اتفق احمل ّققوف على‬
‫أف العلم بالسحر ليس بقبيح وال حمظور‪ ،‬ألف العلم لذاتو شريف لعموـ قولو تعاذل‪:‬‬
‫{ى ْل يَ ْستَ ِوي الذين يَػ ْعلَ ُمو َف والذين الَ يَػ ْعلَ ُمو َف} [الزمر‪]ٜ :‬‬
‫َ‬
‫ولو دل يػُ ْعرؼ السحر ملا أمكن الفرؽ بينو وبُت املعجزة‪ ،‬فكيف يكوف تعلمو حراماً‬
‫وقبيحاً؟‬
‫ونقل بعضهم وجوب تعلمو على املفيت حىت يعلم ما يقتل بو وما ال يقتل بو‪ ،‬فيفيت بو‬
‫يف وجوب القصاص» ‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫لداع شرعي‪ ،‬وفيما قالو‬ ‫مث قاؿ األلوسي‪« :‬واْلق عندي اْلرمة تبعاً للجمهور‪ ،‬إالّ ٍ‬
‫اإلماـ الرازي َرِضبَوُ اللَّوُ نظر‪:‬‬
‫ّأما أوالً‪ :‬فؤلنا ال ن ّدعي أنو قبيح لذاتو‪ ،‬وإسما قبحو باعتبار ما يًتتب عليو‪ ،‬فتحرظمو من‬
‫باب (سد الذرائع) وكم من أم ٍر َحُرـ لذلك‪.‬‬
‫و ّأما ثانياً‪ :‬فؤل ّف توقف الفرؽ بينو وبُت املعجزة على العلم بو دمنوعٌ‪ ،‬أال ترى أف أكثر‬
‫العلماء ‪ -‬أو كلّهم ‪ -‬عرفوا الفرؽ بينهما ودل يعرفوا علم السحر‪ ،‬ولو كاف تعلمو واجباً‬
‫لرأيت أعلم الناس بو الصدر األوؿ‪.‬‬
‫وأما ثالثاً‪ :‬فؤلف ما نُقل عن بعضهم غَت صحيح‪ ،‬أل ّف إفتاء املفيت بوجوب ال َق َود أو‬
‫عدمو ال يستلزـ معرفتو علم السحر‪ ،‬ألف صورة إفتائو ‪ -‬على ما ذكره العبلمة ابن‬

‫‪ 31‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫حجر ‪ -‬إ ْف شهد عدالف عرفا السحر وتابا منو أنو يقتل غالباً قُتل الساحر‪ ،‬وإالّ دل‬
‫يُقتل‪.‬‬
‫وقاؿ أبو حياف‪ :‬وأما حكم السحر‪ ،‬فما كاف منو يُعظّم بو غَت اهلل من الكواكب‪،‬‬
‫ضمل تعلمو وال العمل بو‪،‬‬
‫والشياطُت‪ ،‬وإضافة ما ُضمدثو اهلل إليها فهو كفر إصباعاً‪ ،‬ال ّ‬
‫وكذا ما قصد بتعلمو سفك الدماء‪ ،‬والتفريق بُت الزوجُت واألصدقاء‪.‬‬
‫وأما إذا كاف ال يعلم منو شيء من ذلك بل ضمتمل فالظاىر أنو ال ضمل تعلمو‪ ،‬وال‬
‫العمل بو‪ ،‬وما كاف من نوع التخييل‪ ،‬وال ّدجل‪ ،‬والشعبذة فبل ينبغي تعلمو ألنو من باب‬
‫الباطل‪ ،‬وإف قصد بو اللهو واللعب وتفريج الناس على خفة صنعتو فيكره‪.‬‬

‫الحكم الثالث‪ :‬ىل يُقتل الساحر؟‬


‫ونص بعضهم على‬ ‫قاؿ أبو بكر اجلصاص‪ :‬اتفق السلف على وجوب قتل الساحر‪َّ ،‬‬
‫الس َبلـُ ‪« :‬من أتى كاىناً أو عرافاً أو ساحراً فص ّدقو دبا‬ ‫كفره لقولو َعلَْي ِو َّ‬
‫الص َبلة َو َّ‬
‫يقوؿ‪ ،‬فقد كفر دبا أُنزؿ على حممد» ‪ .‬واختلف فقهاء األمصار يف حكمو‪:‬‬
‫الساحر يُقتل إذا عُلم أنو ساحر وال يستتاب‪ ،‬وال يقبل‬
‫ُ‬ ‫فروي عن أّب حنيفة أنو قاؿ‪:‬‬
‫حل دمو‪ ،‬وكذلك العبد املسلم‪،‬‬ ‫قولو إين أترؾ السحر منو‪ ،‬فإذا أقر أنو ساحر فقد ّ‬
‫حل دمو‪ ،‬وىذا كلو قوؿ أّب حنيفة‪.‬‬‫الذمي من أقر منهم أنو ساحر فقد ّ‬ ‫واْلر ّ‬
‫فح َك َم يف الساحر والساحرة حكم املرتد واملرتدة‪ ،‬وقاؿ ‪ -‬نقبلً عن‬ ‫قاؿ ابن شجاع‪َ :‬‬
‫السعي يف األرض بالفساد‪ ،‬والساعي‬ ‫َ‬ ‫أّب حنيفة ‪ -‬إ ّف الساحر قد صبع مع كفره‬
‫بالفساد إذا قتَ َل قُتل‪.‬‬

‫‪ 32‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫توذل عمل السحر قتل وال يستتاب‪ ،‬أل ّف املسلم إذا ارتد‬ ‫وروي عن مالك يف املسلم إذا ّ‬
‫فأما ساحر أىل الكتاب فإنو ال يقتل عند‬ ‫باطناً دل تعرؼ توبتو بإظهاره اإلسبلـ‪ّ ،‬‬
‫مالك إالّ أف يضر املسلمُت فيقتل‪.‬‬
‫وقاؿ الشافعي‪ :‬ال يكفر بسحره‪ ،‬فإف قتَل بسحره وقاؿ‪ :‬سحري يقتل مثلو‪ ،‬وتعمدت‬
‫ذلك قتل قوداً‪ ،‬وإف قاؿ‪ :‬قد يقتل‪ ،‬وقد طمطئ دل يُقتل وفيو الدية‪.‬‬
‫وقاؿ اإلماـ أضبد‪ :‬يكفر بسحره قتل بو أو دل يقتل‪ ،‬وىل تقبل توبتو؟ على روايتُت‪،‬‬
‫فأما ساحر أىل الكتاب فإنو ال يُقتل إال أف يضر باملسلمُت‪.‬‬
‫ّ‬

‫واخلبلصة‪ :‬فإ ّف أبا حنيفة يذىب إذل كفر الساحر‪ ،‬ويبيح قتلو وال يستتاب عنده‪،‬‬
‫والساحر الكتاّب حكمو كالساحر املسلم‪ .‬والشافعي يقوؿ‪ :‬بعدـ كفره وال يقتل عنده‬
‫تعمد القتل‪.‬‬
‫إال إذا ّ‬
‫ومالك يرى قتل الساحر املسلم ال ساحر أىل الكتاب وضمكم بكفر الساحر و ٍ‬
‫لكل‬
‫وجهو ىو مولّيها‪.‬‬

‫‪ 33‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫التوجو إلى الكعبة في الصالة‬
‫َّاس َما َوَّال ُى ْم َع ْن قِْبػلَتِ ِه ُم الَِّيت َكانُوا َعلَْيػ َها قُ ْل لِلَّ ِو الْ َم ْش ِر ُؽ‬ ‫الس َف َهاءُ ِم َن الن ِ‬ ‫وؿ ُّ‬ ‫َسيَػ ُق ُ‬
‫ِ‬ ‫والْم ْغ ِرب يػه ِدي من يشاء إِ َذل ِصر ٍ ِ‬
‫ك َج َع ْلنَا ُك ْم أ َُّمةً َو َسطًا‬ ‫اط ُم ْستَقي ٍم (ٕٗٔ) َوَك َذل َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ َْ َ ْ َ َ ُ‬
‫يدا َوَما َج َع ْلنَا الْ ِقْبػلَةَ الَِّيت‬ ‫وؿ َعلَْي ُك ْم َش ِه ً‬ ‫الر ُس ُ‬‫َّاس َويَ ُكو َف َّ‬ ‫لِتَ ُكونُوا ُش َه َداءَ َعلَى الن ِ‬
‫ِ ِ‬ ‫وؿ ِدمَّن يػْنػ َقلِ‬ ‫ت َعلَْيػ َها إَِّال لِنَػ ْعلَم َم ْن يػَتَّبِ‬
‫ت لَ َكبِ ََتًة‬ ‫ب َعلَى َعقبَػْيو َوإِ ْف َكانَ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫س‬
‫ُ‬ ‫ر‬‫َّ‬ ‫ال‬ ‫ع‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُكْن َ‬
‫َّاس لَرء ٌ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ض ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫يم‬
‫وؼ َرح ٌ‬ ‫يع إظمَانَ ُك ْم إ َّف اللَّوَ بالن ِ َ ُ‬ ‫ين َى َدى اللَّوُ َوَما َكا َف اللَّوُ ليُ َ‬ ‫إَّال َعلَى الذ َ‬
‫السم ِاء فَػلَنػولِّيػن ِ‬
‫ك‬ ‫اىا فَػ َوِّؿ َو ْج َه َ‬ ‫ضَ‬ ‫ك ِيف َّ َ ُ َ َ َ‬
‫َّك قْبػلَةً تَػ ْر َ‬ ‫ب َو ْج ِه َ‬ ‫(ٖٗٔ) قَ ْد نػََرى تَػ َقلُّ َ‬
‫ِ َّ ِ‬ ‫َشطَْر الْ َم ْس ِج ِد ْ‬
‫ين أُوتُوا‬ ‫وى ُك ْم َشطَْرهُ َوإ َّف الذ َ‬ ‫ث َما ُكْنتُ ْم فَػ َولُّوا ُو ُج َ‬ ‫اْلََرِاـ َو َحْي ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الْ ِكتَاب لَيػعلَمو َف أَنَّو ْ ِ ِ‬
‫ت‬ ‫اْلَ ُّق م ْن َرِّهب ْم َوَما اللَّوُ بِغَاف ٍل َع َّما يػَ ْع َملُو َف (ٗٗٔ) َولَئ ْن أَتَػْي َ‬ ‫َ َْ ُ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الَّ ِذين أُوتُوا الْ ِ‬
‫ض ُه ْم‬ ‫ت بِتَابِ ٍع قْبػلَتَػ ُه ْم َوَما بػَ ْع ُ‬ ‫ك َوَما أَنْ َ‬ ‫اب بِ ُك ِّل آيٍَة َما تَبِعُوا قْبػلَتَ َ‬ ‫َ‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫ك‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫بِتَابِ ٍع قِبػلَةَ بػع ٍ ِ‬
‫ك إِذًا لَ ِم َن‬ ‫ت أ َْى َواءَ ُى ْم ِم ْن بػَ ْعد َما َجاءَ َؾ ِم َن الْعِْل ِم إِنَّ َ‬ ‫ض َولَئ ِن اتَّػبَػ ْع َ‬ ‫ْ َْ‬
‫ِِ‬
‫ُت (٘ٗٔ)‬ ‫الظَّالم َ‬

‫التحليل اللفظي‬
‫{السفهآء} ‪ :‬أصل السفو يف كبلـ العرب‪ :‬اخلفة والرقة‪ ،‬يقاؿ‪ :‬ثوب سفيو إذا كاف‬
‫رديء النسخ خفيفو‪ ،‬أو كاف بالياً رقيقاً‪ ،‬وس ّفهتو الرياح أي أمالتو ‪.‬‬
‫السفو‪ :‬ضد اْللم وىو خفة وسخافة يقتضيها نقصاف العقل‪ ،‬وهلذا مسّى اهلل الصبياف‬ ‫و ّ‬
‫{والَ تُػ ْؤتُواْ السفهآء أ َْم َوالَ ُك ُم اليت َج َع َل اهلل لَ ُك ْم قياما} [النساء‪. ]٘ :‬‬
‫سفهاء َ‬
‫وتوذل عنو أي انصرؼ‪ ،‬وىو استفهاـ‬ ‫وذل عن الشيء ّ‬ ‫{والىم} ‪ :‬يعٍت صرفهم‪ ،‬يقاؿ‪ّ :‬‬
‫على جهة االستهزاء والتعجب‪.‬‬

‫‪ 34‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫{قِْبػلَتِ ِو} ‪ :‬القبلة من املقابلة وىي املواجهة‪ ،‬وأصلها اْلالة اليت يكوف عليها املقابل‪ ،‬مث‬
‫خصت باجلهة اليت يستقبلها اإلنساف يف الصبلة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫اؿ أ َْو َسطُ ُه ْم أَ َدلْ أَقُ ْل لَّ ُك ْم لَْوالَ‬
‫{و َسطاً} ‪ :‬أي عدوالً خياراً‪ ،‬ومنو قولو تعاذل‪{ :‬قَ َ‬ ‫َ‬
‫تُ َسبِّ ُحو َف} [القلم‪ ]ٕٛ :‬أي خَتىم أو عدهلم‪ .‬وأصل ىذا أ ّف خَت األشياء أوساطها‪،‬‬
‫الغلو والتقصَت مذموماف‪.‬‬ ‫وأف ّ‬
‫ك َج َع ْلنَا ُك ْم أ َُّمةً َو َسطاً} أي عدالً‪ ،‬وكذلك‬ ‫ِ‬
‫{وَك َذل َ‬
‫قاؿ اجلوىري يف «الصحاح» ‪َ :‬‬
‫روي عن األخفش‪ ،‬واخلليل‪.‬‬
‫االنقبلب عليهما دبعٌت‬ ‫ُ‬ ‫{ع ِقبَػْي ِو} ‪ :‬العقباف‪ :‬تثنية عقب‪ ،‬وىو مؤخر القدـ‪ ،‬و‬ ‫َ‬
‫االنصراؼ والرجوع‪ ،‬يُقاؿ‪ :‬انقلب على عقبيو إذا انصرؼ عنو بالرجوع إذل الوراء‪.‬‬
‫واملعٌت‪ :‬لنعلم من يثبت على اإلظماف‪ ،‬دمّن يرتد عن دين اإلسبلـ‪ ،‬ويرجع إذل ما كاف‬
‫عليو من ضبلؿ‪ ،‬والكبلـ فيو استعارة ‪.‬‬
‫{لَ َكبِ ََتةً} ‪ :‬أي شاقة ثقيلة تقوؿ‪ :‬كرب عليو األمر أي اشتد وثقل‪.‬‬
‫يم} ‪ :‬الرأفة ىي الرضبة‪ ،‬إالّ أف الرأفة يف دفع املكروه‪ ،‬والرضبة أعم تشمل‬ ‫{لَرء ٌ ِ‬
‫وؼ َّرح ٌ‬ ‫َُ‬
‫املكروه واحملبوب‪.‬‬
‫ب الوجو يف السماء‪ّ :‬تردده املرة بعد املرة فيها‪ ،‬والسماءُ مصدر‬ ‫ك} ‪ :‬تقلّ ُ‬‫ب َو ْج ِه َ‬‫{تَػ َقلُّ َ‬
‫الوحي‪ ،‬وقبلة الدعاء‪.‬‬
‫وتصرؼ نظرؾ يف جهة السماء متشوقاً لنزوؿ‬ ‫تردد وجهك‪ّ ،‬‬ ‫ومعٌت اآلية‪ :‬كثَتاً ما نرى ّ‬
‫الوحي بتحويل القبلة إذل الكعبة‪.‬‬
‫َّك قِْبػلَةً} ‪ :‬أي لنمكننّك من استقباهلا‪ ،‬من قولك‪ :‬وليّتُو كذا إذا جعلتو والياً‬ ‫{فَػلَنُػ َولِّيَػن َ‬
‫لو‪ ،‬فيكوف من الوالية‪ ،‬أو من التورل‪ ،‬واملعٌت‪ :‬فلنجعلنّك متولياً جهتها‪ ،‬وىذه بشارة‬
‫من اهلل تعاذل لرسولو الكرًن بتوجيهو إذل القبلة اليت ضمب‪.‬‬

‫‪ 35‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫الشطر يف اللغة يكوف دبعٌت اجلهة والناحية كما يف ىذه اآلية ‪.‬‬ ‫{شطَْر املسجد} ‪ :‬و ُ‬ ‫َ‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ ‪:‬‬
‫ويكوف دبعٌت النصف من الشيء واجلزء منو‪ ،‬ومنو قولو َ‬
‫«الطهور شطر اإلظماف»‬
‫فوؿ وجهك جهة املسجد اْلراـ أي جهة الكعبة‪.‬‬‫ومعٌت اآلية‪ّ :‬‬
‫الكتاب‪ :‬التوراةُ‬
‫{أُوتُواْ الكتاب} ‪ :‬املراد هبم أحبار اليهود‪ ،‬وعلماء النصارى‪ ،‬و ُ‬
‫واإلذميل‪.‬‬

‫سبب النزول‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ كاف‬‫أ ‪ -‬أخرج البخاري ومسلم عن الرباء بن عازب أف النيب َ‬
‫أوؿ ما نزؿ املدينة نزؿ على أخوالو من األنصار‪ ،‬وأنو صلى إذل بيت املقدس ستة عشر‬
‫شهراً‪ ،‬وكاف يعجبو أف تكوف قبلتو إذل البيت‪ ،‬وأنو صلى أوؿ صبلة صبلىا (صبلة‬
‫العصر) وصلى معو قوـ‪ ،‬فخرج رجل دمن كاف صلى معو فمر على أىل املسجد وىم‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ قبل مكة‪،‬‬ ‫راكعوف‪ ،‬فقاؿ‪ :‬أشهد باهلل لقد صليت مع النيب َ‬
‫فداروا كما ىم قبل البيت‪ ،‬وكاف الذي قد مات على القبلة قبل أف ربوؿ قبل البيت‬
‫يع إِظمَانَ ُك ْم} ‪.‬‬ ‫ض‬‫رجاالً قتلوا دل ندر ما نقوؿ فيهم فأنزؿ اهلل‪{ :‬وما َكا َف اهلل لِي ِ‬
‫ُ َ‬ ‫ََ‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ كاف يصلي رمو بيت املقدس‪،‬‬ ‫ب ‪ -‬وعن الرباء أف رسوؿ اهلل َ‬
‫ك ِيف السمآء}‬ ‫ب َو ْج ِه َ‬ ‫ويكثر النظر إذل السماء ينتظر أمر اهلل فأنزؿ اهلل‪{ :‬قَ ْد نرى تَػ َقلُّ َ‬
‫فقاؿ رجاؿ من املسلمُت‪ :‬وددنا لو علمنا علم من مات منا قبل أف تصرؼ إذل القبلة‪،‬‬
‫يع إِظمَانَ ُك ْم} ‪.‬‬ ‫وكيف بصبلتنا رمو بيت املقدس فأنزؿ اهلل‪{ :‬وما َكا َف اهلل لِي ِ‬
‫ض‬
‫ُ َ‬ ‫ََ‬
‫وجوه اإلعراب‬

‫‪ 36‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫ك َج َع ْلنَا ُك ْم أ َُّمةً َو َسطاً} الكاؼ للتشبيو وىي يف موضع‬ ‫ِ‬
‫{وَك َذل َ‬
‫أوالً‪ :‬قولو تعاذل‪َ :‬‬
‫نصب صفة ملصدر حمذوؼ تقديره‪ :‬كما ىديناكم جعلناكم أمة وسطاً‪ ،‬أي مثل‬
‫ثاف جلعلنا‪ ،‬و (وسطاً) صفة‬ ‫ىدايتنا لكم كذلك جعلناكم أمة وسطاً‪ ،‬و (أمة) مفعوؿ ٍ‬
‫هلا‪.‬‬
‫ت لَ َكبِ ََتًة إِالَّ َعلَى الذين َى َدى اهلل} (إ ْف) خمففة من (إ ّف)‬
‫{وإِف َكانَ ْ‬
‫ثانياً‪ :‬قولو تعاذل‪َ :‬‬
‫الثقيلة وامسها ضمَت الشأف‪ ،‬والبلـ يف قولو (الكبَتة) للفرؽ بُت املخففة والنافية‪ ،‬كما‬
‫يف قولو تعاذل‪{ :‬إِف َكا َف َو ْع ُد َربِّػنَا لَ َم ْفعُوالً} [اإلسراء‪ ]ٔٓٛ :‬وزعم الكوفيوف أهنا‬
‫نافية‪ ،‬والبلـ دبعٌت إالّ‪ ،‬أي ما كانت إال كبَتة‪ ،‬قاؿ العكربي‪ :‬وىو ضعيف جداً من‬
‫جهة أف وقوع البلـ دبعٌت إال ال يشهد لو مساع وال قياس‪.‬‬

‫األحكام الشرعية‬

‫الحكم األول‪ :‬ما المراد بالمسجد الحرام في القرآن الكريم؟‬


‫ورد ذكر {املسجد اْلراـ} يف آيات متفرقة من القرآف الكرًن‪ ،‬ويف السنة املطهرة أيضاً‪،‬‬
‫وقصد بو عدة معاف‪:‬‬
‫ك َشطَْر املسجد اْلراـ} أي جهة‬ ‫األوؿ‪ :‬الكعبة‪ ،‬ومنو قولو تعاذل‪{ :‬فَػ َوِّؿ َو ْج َه َ‬
‫الكعبة‪.‬‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ ‪« :‬صبلةٌ يف مسجدي ىذا خَت‬ ‫الثاين‪ :‬املسجد كلّو‪ ،‬ومنو قولو َ‬
‫الس َبلـُ ‪« :‬ال تُش ّد‬ ‫من ألف صبلة فيما سواه إال املسجد اْلراـ» وقولو َعلَْي ِو َّ‬
‫الص َبلة َو َّ‬
‫الرحاؿ إالّ إذل ثبلثة مساجد‪ :‬املسجد اْلراـ‪ ،‬ومسجدي ىذا‪ ،‬واملسجد األقصى» ‪.‬‬ ‫ُ‬

‫‪ 37‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫{سْب َحا َف الذي أسرى بِ َعْب ِدهِ لَْيبلً ِّم َن املسجد‬
‫الثالث‪ :‬مكة املكرمة كما يف قولو تعاذل‪ُ :‬‬
‫اْلراـ إذل املسجد األقصى} [اإلسراء‪ ]ٔ :‬وكاف اإلسراء من مكة املكرمة‪ ،‬وقولو تعاذل‪:‬‬
‫صدُّوُك ْم َع ِن املسجد اْلراـ} [الفتح‪ ]ٕ٘ :‬وقد صدورىم عن‬ ‫{ى ُم الذين َك َفُرواْ َو َ‬
‫ُ‬
‫دخوؿ مكة‪.‬‬
‫س‬ ‫َِّ‬
‫الرابع‪ :‬اْلرـ كلو (مكة وما حوهلا من اْلرـ) كما يف قولو تعاذل‪{ :‬إسمَا املشركوف َذمَ ٌ‬
‫فَبلَ يَػ ْقَربُواْ املسجد اْلراـ بَػ ْع َد َع ِام ِه ْم ىذا} [التوبة‪ ]ٕٛ :‬واملراد منعهم من دخوؿ‬
‫فوؿ وجهك شطر‬ ‫اْلرـ‪ .‬واملراد باملسجد اْلراـ ىنا ىو املعٌت األوؿ (الكعبة) واملعٌت‪ّ :‬‬
‫الكعبة‪.‬‬

‫الحكم الثاني‪ :‬ىل يجب استقبال عين الكعبة أم يكفي استقبال جهتها؟‬
‫استقباؿ القبلة فرض من فروض الصبلة‪ ،‬ال تصح الصبلة بدونو‪ ،‬إال ما جاء يف صبلة‬
‫اخلوؼ والفزع‪ ،‬ويف صبلة النافلة على الدابة أو السفينة‪ ،‬فلو أف يتوجو حيث توجهت‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ كاف يصلي‬ ‫بو دابتو‪ ،‬ملا رواه أضبد ومسلم والًتمذي‪ :‬أف النيب َ‬
‫على راحلتو حيثما توجهت بو‪ ،‬وفيو نزلت {فَأَيْػنَ َما تُػ َولُّواْ فَػثَ َّم َو ْجوُ اهلل} [البقرة‪:‬‬
‫٘ٔٔ] ‪.‬‬
‫وىذا ال خبلؼ فيو بُت العلماء‪ ،‬إسما اخلبلؼ ىل الواجب استقباؿ عُت الكعبة أـ‬
‫استقباؿ اجلهة؟‬
‫فذىب الشافعية واْلنابلة إذل أف الواجب استقباؿ عُت الكعبة‪.‬‬
‫وذىب اْلنفية واملالكية إذل أ ّف الواجب استقباؿ جهة الكعبة‪،‬‬
‫ىذا إذا دل يكن املصلي مشاىداً هلا‪ّ ،‬أما إذا كاف مشاىداً هلا فقد أصبعوا أنو ال صمزيو إال‬
‫إصابة عُت الكعبة‪ ،‬والفريق األوؿ يقولوف‪ :‬ال ب ّد للمشاىد من إصابة العُت‪ ،‬والغائب‬

‫‪ 38‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫ال بد لو من قصد اإلصابة مع التوجو إذل اجلهة‪ ،‬والفريق الثاين يقولوف‪ :‬يكفي للغائب‬
‫التوجو إذل جهة الكعبة‪.‬‬
‫أدلة الشافعية واْلنابلة‪:‬‬
‫استدؿ الشافعية واْلنابلة على مذىبهم بالكتاب‪ ،‬والسنة‪ ،‬والقياس‪.‬‬
‫ك َشطَْر املسجد اْلراـ} ووجو‬ ‫أ ‪ -‬أما الكتاب‪ ،‬فهو ظاىر ىذه اآلية {فَػ َوِّؿ َو ْج َه َ‬
‫االستدالؿ‪ :‬أف املراد من الشطر اجلهة احملاذية للمصلي والواقعة يف مستو‪ ،‬فثبت أف‬
‫استقباؿ عُت الكعبة واجب‪.‬‬
‫وأما السنة‪ :‬فما روي يف «الصحيحُت» عن أسامة بن زيد َر ِض َي اللَّوُ َعْنو أنو قاؿ‪« :‬ملا‬
‫ّ‬
‫يصل حىت خرج منو‪،‬‬ ‫دل‬
‫و‬ ‫ها‪،‬‬ ‫ل‬
‫ّ‬ ‫ك‬ ‫احيو‬ ‫و‬ ‫ن‬ ‫يف‬ ‫دعا‬ ‫البيت‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّ‬
‫دخل النيب َ‬
‫ّ‬
‫فلما خرج صلى ركعتُت من قِبَل الكعبة‪ ،‬وقاؿ‪ :‬ىذه القبلة» ‪.‬‬ ‫ّ‬
‫قالوا‪ :‬فهذه الكلمة تفيد اْلصر‪ ،‬فثبت أنو ال قبلة إال عُت الكعبة‪.‬‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ يف تعظيم الكعبة‪ ،‬أمر‬ ‫ج ‪ -‬وأما القياس‪ :‬فهو أ ّف مبالغة الرسوؿ َ‬
‫وتوقيف صحتها على استقباؿ عُت‬ ‫ُ‬ ‫بلغ مبلغ التواتر‪ ،‬والصبلة من أعظم شعائر الدين‪،‬‬
‫الكعبة يوجب مزيد الشرؼ‪ ،‬فوجب أف يكوف مشروعاً‪.‬‬
‫وقالوا أيضاً‪ :‬كو ُف الكعبة قبلة أمر مقطوع بو‪ ،‬وكوف غَتىا قبلة أمر مشكوؾ فيو‪ ،‬ورعايةُ‬
‫االحتياط يف الصبلة أمر واجب‪ ،‬فوجب توقيف صحة الصبلة على استقباؿ عُت‬
‫الكعبة‪.‬‬
‫أدلة املالكية واْلنفية‪:‬‬
‫واستدؿ املالكية واْلنفية على مذىبهم بالكتاب‪ ،‬والسنة وعمل الصحابة‪ ،‬واملعقوؿ‪.‬‬

‫‪ 39‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫ك َشطَْر املسجد اْلراـ} ودل يقل‪:‬‬ ‫أ ‪ -‬أما الكتاب‪ :‬فظاىر قولو تعاذل‪{ :‬فَػ َوِّؿ َو ْج َه َ‬
‫شطر الكعبة‪ ،‬فإ ّف من استقبل اجلانب الذي فيو املسجد اْلراـ‪ ،‬فقد أتى دبا أمر بو‬
‫أصاب عُت الكعبة أـ ال‪.‬‬‫َ‬ ‫سواء‬
‫الس َبلـُ ‪« :‬ما بُت املشرؽ واملغرب قِْبلةٌ» ‪.‬‬ ‫ب ‪ -‬وأما السنة‪ :‬فقولو َعلَْي ِو َّ‬
‫الص َبلة َو َّ‬
‫املسجد قبلةٌ ألىل اْلرـ‪ ،‬واْلر ُاـ قبلةٌ ألىل‬ ‫البيت قبلةٌ ألىل املسجد و ُ‬ ‫وحديث‪ُ « :‬‬
‫األرض يف مشارقها ومغارهبا من أميت» ‪.‬‬
‫ج ‪ -‬وأما عمل الصحابة‪ :‬فهو أ ّف أىل (مسجد قباء) كانوا يف صبلة الصبح باملدينة‪،‬‬
‫حولت إذل الكعبة‪،‬‬ ‫مستقبلُت لبيت املقدس‪ ،‬مستدبرين الكعبة‪ ،‬فقيل هلم‪ :‬إف القبلة قد ّ‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ‬
‫فاستداروا يف أثناء الصبلة من غَت طلب داللة‪ ،‬ودل ينكر النيب َ‬
‫ومسّي مسجدىم (بذي القبلتُت) ‪ .‬ومعرفةُ عُت الكعبة ال تعرؼ إال بأدلة‬ ‫عليهم‪ُ ،‬‬
‫ىندسية يطوؿ النظر فيها‪ ،‬فكيف أدركوىا على البديهة يف أثناء الصبلة‪ ،‬ويف ظلمة‬
‫الليل؟‬
‫د ‪ -‬وأما املعقوؿ‪ :‬فإنو يتعذر ضبط (عُت الكعبة) على القريب من مكة‪ ،‬فكيف‬
‫بالذي ىو يف أقاصي الدنيا من مشارؽ األرض ومغارهبا؟ ولو كاف استقباؿ عُت الكعبة‬
‫أحد قط‪ ،‬ألف أىل املشرؽ واملغرب يستحيل أف يقفوا‬ ‫واجباً‪ ،‬لوجب أال تصح صبلة ٍ‬
‫ّ‬
‫توجو إذل جهة‬ ‫يف حماذاة نيّف وعشرين ذراعاً من الكعبة‪ ،‬وال ب ّد أف يكوف بعضهم قد ّ‬
‫الكعبة ودل يصب عينها‪ ،‬وحيث اجتمعت األمة على صحة صبلة الكل علمنا أ ّف‬
‫ف اهلل نػَ ْفساً إِالَّ ُو ْس َع َها} [البقرة‪]ٕٛٙ :‬‬ ‫إصابة عينها على البعيد غَت واجبة {الَ يُ َكلِّ ُ‬
‫‪.‬‬
‫الس َبلـُ بنوا املساجد‪ ،‬ودل‬ ‫ومن جهة أخرى‪ :‬فإف الناس من عهد النيب َعلَْي ِو َّ‬
‫الص َبلة َو َّ‬
‫ضمضروا مهندساً عند تسوية احملراب‪ ،‬ومقابلةُ العُت ال تُدرؾ إال بدقيق نظر اهلندسة‪ ،‬ودل‬

‫‪ 41‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫يقل أحد من العلماء إ ّف تعلم الدالئل اهلندسية واجب‪ ،‬فعلمنا أف استقباؿ عُت الكعبة‬
‫غَت واجب‪.‬‬
‫الًتجيح‪ :‬ىذه خبلصة أدلة الفريقُت سقناىا لك‪ ،‬وأنت إذا أمعنت النظر رأيت أف أدلة‬
‫الفريق الثاين (املالكية واألحناؼ) أقوى برىاناً‪ ،‬وأنصع بياناً‪ ،‬ال سيما للبعيد الذي يف‬
‫أقاصي الدنيا‪ ،‬وأصوؿ الشريعة السمحة تأىب التكليف دبا ال يطاؽ‪ ،‬وكأ ّف الفريق األوؿ‬
‫حُت أحسوا صعوبة مذىبهم‪ ،‬خصوصاً من غَت املشاىد هلا قالوا‪« :‬إف فرض املشاىد‬
‫حساً‪ ،‬وفرض الغائب عنها إصابة عينها قصداً» وبعد ىذا يكاد‬ ‫للكعبة إصابةُ عينها ّ‬
‫يكوف اخلبلؼ بُت الفريقُت شكلياً‪ ،‬ألهنم صرحوا بأ ّف غَت املشاىد هلا يكفي أف يعتقد‬
‫أنو متوجو إذل عُت الكعبة‪ ،‬حبيث لو أزيلت اْلواجز يرى أنو متوجو يف صبلتو إذل‬
‫عينها‪ ،‬ويف ىذا الرأي جنوح إذل االعتداؿ‪ ،‬واهلل اهلادي إذل سواء السبيل‪.‬‬
‫نصو‪« :‬واختلفوا ىل‬ ‫قاؿ العبلمة القرطيب‪ :‬يف تفسَته «اجلامع ألحكاـ القرآف» ما ّ‬
‫فرض الغائب استقباؿ العُت‪ ،‬أو اجلهة‪ ،‬فمنهم من قاؿ باألوؿ‪ ،‬قاؿ ابن العرّب‪ :‬وىو‬
‫ضعيف ألنو تكليف ملا ال يصل إليو‪ ،‬ومنهم من قاؿ باجلهة وىو الصحيح لثبلثة‬
‫أوجو‪:‬‬
‫األوؿ‪ :‬أنو املمكن الذي يرتبط بو التكليف‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬أنو املأمور بو يف القرآف لقولو تعاذل‪{ :‬فَػ َوِّؿ َو ْج َه َ‬
‫ك َشطَْر املسجد اْلراـ} ‪.‬‬
‫الثالث‪ »:‬أ ّف العلماء احتجوا بالصف الطويل الذي يُعلم قطعاً أنو أضعاؼ عرض‬
‫البيت «‪.‬‬

‫‪ 41‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫اْلكم الثالث‪ :‬ىل تصح الصبلة فوؽ ظهر الكعبة؟‬
‫وبناءً على اخلبلؼ السابق‪ :‬ىل القبلة عُت الكعبة أـ جهتها؟ انبٌت خبلؼ آخر يف‬
‫حكم الصبلة فوؽ الكعبة‪ ،‬ىل تصح أـ ال؟‬
‫فذىب الشافعية واْلنابلة‪ :‬إذل عدـ صحة الصبلة فوقها‪ ،‬ألف املستعلي عليها ال‬
‫يستقبلها إسما يستقبل شيئاً آخر‪.‬‬
‫وأجاز اْلنفية‪ :‬الصبلة فوقها مع الكراىية‪ ،‬ملا يف االستعبلء عليها من سوء األدب‪ ،‬إال‬
‫تصح بناء على مذىبهم من أف القبلة ىي اجلهة‪ :‬من قرار األرض إذل عناف‬ ‫أ ّف الصبلة ّ‬
‫السماء‪ ،‬واهلل تعاذل أعلم‪.‬‬

‫اْلكم الرابع‪ :‬أين ينظر املصلي وقت الصبلة؟‬


‫ذىب املالكية‪ :‬إذل أف املصلي ينظر يف الصبلة أمامو‪.‬‬
‫يستحب أف يكوف نظره إذل موضع سجوده‪ ،‬وقاؿ شريك القاضي‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫وقاؿ اجلمهور‪:‬‬
‫ينظر يف القياـ إذل موضع السجود‪ ،‬ويف الركوع إذل موضع قدميو‪ ،‬ويف السجود إذل‬
‫حجره‪.‬‬
‫موضع أنفو‪ ،‬ويف القعود إذل ْ‬
‫قاؿ القرطيب‪ :‬يف ىذه اآلية حجة واضحة ملا ذىب إليو مالك ومن وافقو‪ ،‬يف أ ّف‬
‫حكمو أف ينظر أمامو ال إذل موضع سجوده لقولو تعاذل‪{ :‬فَػ َوِّؿ َو ْج َه َ‬
‫ك َشطَْر‬ ‫املصلي ُ‬
‫املسجد اْلراـ} ‪.‬‬
‫قاؿ ابن العرّب‪« :‬إسما ينظر أمامو‪ ،‬فإنو إف حٌت رأسو ذىب بعض القياـ املفًتض عليو‬
‫يف الرأس‪ ،‬وىو أشرؼ األعضاء‪ ،‬وإف أقاـ رأسو وتكلّف النظر ببصره إذل األرض فتلك‬
‫مشقة عظيمة وحرج‪ ،‬وما جعل علينا يف الدين من حرج» ‪.‬‬

‫‪ 42‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫السعي بين الصفا والمروة‬
‫اح َعلَْي ِو أَ ْف‬‫َ‬
‫ُ َ‬‫ن‬‫ج‬ ‫بل‬
‫َ‬ ‫ف‬
‫َ‬ ‫ر‬ ‫م‬
‫ََ‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫اع‬
‫ْ‬ ‫و‬‫ِ‬ ‫َ‬
‫أ‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫ي‬
‫ْ‬ ‫ػ‬‫ب‬
‫َ‬‫ْ‬‫ل‬‫ا‬ ‫ج‬
‫َّ‬ ‫ح‬ ‫ن‬
‫َْ َ‬ ‫م‬‫َ‬‫ف‬ ‫الص َفا والْمروةَ ِمن َشعائِِر اللَّ ِ‬
‫و‬ ‫إِ َّف َّ َ َ ْ َ ْ َ‬
‫يم (‪)ٔ٘ٛ‬‬ ‫ؼ هبِِما ومن تَطََّوع خيػرا فَِإ َّف اللَّو شاكِر علِ‬ ‫َّ‬
‫َ َ ٌ َ ٌ‬ ‫يَط َّو َ َ َ َ ْ َ َ ْ ً‬

‫التحليل اللفظي‬
‫اْلجر األملس‪ ،‬واشتقاقو من صفا إذا‬ ‫ُ‬ ‫{الصفا واملروة} ‪ :‬الصفا يف أصل اللغة‪:‬‬
‫ص ْف َو ٍاف}‬
‫خلص‪ ،‬ومنو الصفواف وىو اْلجر األملس الصلب قاؿ تعاذل‪{ :‬فَ َمثَػلُوُ َك َمثَ ِل َ‬
‫صبع مفردة (صفاة) قاؿ جرير‪:‬‬ ‫[البقرة‪ ، ]ٕٙٗ :‬والصفا ٌ‬
‫أصم صلودا‬ ‫إنّا إذا قرع العدو صفاتنا ‪ ...‬القوالنا حجراً ّ‬
‫املربد‪ :‬الصفا كل حجر ال طمالطو غَته من تراب أو طُت‪.‬‬ ‫قاؿ ّ‬
‫وأما املروة‪ :‬فقاؿ اخلليل‪ :‬ىي من اْلجارة ما كاف أبيض أملس صلباً شديد الصبلبة‪،‬‬
‫سبر قاؿ أبو ذؤيب‪:‬‬ ‫وصبعها (مرو) مثل سبرة و ٌ‬
‫كل يوـ يُقرع‬ ‫حىت كأين للحوادث َمْروةٌ ‪ ...‬بصفا املشاعر ّ‬
‫قاؿ األلوسي‪ :‬وقد صار يف العُرؼ علمُت ملوضعُت (جبلُت) معروفُت دبكة‬
‫{ش َعآئِِر اهلل} ‪ :‬صبع شعَتة وىي يف اللغة العبلمة‪ ،‬ومنو الشعار للعبلمة‪ ،‬وأشعر اهلدي‬ ‫َ‬
‫ىدي قاؿ الشاعر‪:‬‬ ‫أي جعل لو عبلمة ليعرؼ أنو ٌ‬
‫هبم يتقرب‬ ‫لهم جيبلً فجيبلً تر ُاى ُم ‪ ...‬شعائر قُربا َف ُ‬
‫نقتّ ْ‬
‫واملراد أف ىذين املوضعُت من عبلمات دين اهلل‪ ،‬ومن معاملو ومواضع عباداتو‪.‬‬
‫والشعائر تطلق على كل معادل الدين اليت تعبدنا اهلل تعاذل هبا كالطواؼ‪ ،‬والسعي‬
‫واألذاف اخل‪....‬‬
‫الًتدد إذل الشيء‪ ،‬قاؿ الشاعر‪:‬‬ ‫القصد وإكثار ّ‬ ‫ُ‬ ‫اْلج يف اللغة‪:‬‬
‫{ح َّج} ‪ّ :‬‬‫َ‬
‫‪ 43‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫يب الزماف ألكربا‬ ‫أدل تعلمي يا ّأـ عمرَة أنٍت ‪ ...‬زباطأين ر ُ‬
‫الزبرقاف املزغفرا‬ ‫ٍ‬
‫بيت ّ‬‫ضمجوف َ‬ ‫وأشهد من عوؼ حلوالً كثَتة ‪ّ ...‬‬
‫يعٍت يكثروف الًتدد إليو لسؤدده ورياستو‪.‬‬
‫ويف الشرع‪ :‬ىو قصد البيت العتيق ألداء املناسك من الطواؼ‪ ،‬والسعي‪ ،‬والوقوؼ‬
‫بعرفة وسائر األعماؿ‪.‬‬
‫{اعتمر} ‪ :‬العمرة يف اللغة‪ :‬الزيارة‪ ،‬واملعتمر‪ :‬الزائر ألنو يعمر املكاف بزيارتو لو قاؿ‬
‫الشاعر‪:‬‬
‫ابن َم ْعم ٍر حُت اعتمر» ‪ ...‬ويف الشرع‪ :‬زيارة البيت ألداء نُسك معُت من‬ ‫«لقد َمسَا ُ‬
‫الطواؼ‪ ،‬والسعي بُت الصفا واملروة واْللق أو التقصَت‪ .‬وليس يف العمرة وقوؼ بعرفة‪،‬‬
‫وال مبيت دبزدلفة‪ ،‬وال رمي صبار إذل آخر ما ىو معروؼ يف الفقو‪.‬‬
‫امليل إذل اإلمث‪ ،‬وقيل‪ :‬ىو اإلمث نفسو‪ ،‬مسي جناحاً ألنو ميل‬ ‫اح} ‪ :‬اجلناح بالضم‪ُ :‬‬ ‫{جنَ َ‬
‫ُ‬
‫إذل الباطل‪.‬‬
‫قاؿ يف «لساف العرب» ‪ :‬جنح‪ :‬ماؿ‪ .‬وجنحت الناقة‪ :‬إذا مالت على أحد شقيها‪،‬‬
‫وجنحت السفينة إذا انتهت إذل املاء القليل فلزقت باألرض فلم سبض‪.‬‬
‫قاؿ ابن األثَت‪ :‬وقد تكرر اجلناح يف اْلديث فأين ورد فمعناه اإلمث وامليل‪ .‬واملعٌت‪ :‬ال‬
‫إمث عليكم وال حرج وال تضييق يف السعي بُت الصفا واملروة‪.‬‬
‫(املزمل) و (امل ّدثر) أصلو املتزمل‬
‫يتطوؼ أدغمت التاء يف الطاء‪ ،‬مثل ّ‬ ‫ؼ} ‪ :‬أي ّ‬ ‫{يَطََّّو َ‬
‫واملتدثر‪ ،‬وطاؼ وأطاؼ دبعٌت واحد‪.‬‬

‫‪ 44‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫سبب النزوؿ‬
‫أيت قوؿ اهلل تعاذل‪{ :‬إِ َّف‬ ‫أ ‪ -‬عن عائشة ر ِضي اللَّو عْنها أف عروة بن الزبَت قاؿ هلا‪ :‬أر ِ‬
‫ُ‬ ‫َ َ ُ َ‬
‫ؼ‬ ‫اح َعلَْي ِو أَف يَطََّّو َ‬
‫َ‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫ج‬
‫ُ‬ ‫بل‬
‫َ‬ ‫َ‬‫ف‬ ‫اعتمر‬ ‫ِ‬
‫و‬ ‫َ‬
‫أ‬ ‫البيت‬ ‫ج‬
‫َّ‬ ‫ح‬
‫َ‬ ‫ن‬
‫ْ‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫ف‬
‫َ‬ ‫اهلل‬ ‫ِ‬
‫ر‬ ‫الصفا واملروة ِمن َشعآئِ‬
‫َ‬
‫أحد ُجناحاً أالّ يطّوؼ هبما‪ ،‬فقالت عائشة‪ :‬بئسما قلت يا ابن‬ ‫هبِِما} فما أرى على ٍ‬
‫َ‬
‫أخيت‪ ،‬إهنا لو كانت على ما ّأولتها كانت «فبل جناح عليو أف ال يطّوؼ هبما» ولكنها‬
‫إسما نزلت أف األنصار قبل أف يسلموا كانوا يهلّوف ملناة الطاغية اليت كانوا يعبدوهنا‪ ،‬وكاف‬
‫صلَّى اللَّوُ‬ ‫أىل هلا يتحرج أف يطوؼ بالصفا واملروة‪ ،‬فسألوا عن ذلك رسوؿ اهلل َ‬ ‫من ّ‬
‫َعلَْي ِو َو َسلَّمَ فقالوا يا رسوؿ اهلل‪ :‬إنّا كنا نتحرج أف نطوؼ بالصفا واملروة يف اجلاىلية‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫سن رسوؿ اهلل‬ ‫فأنزؿ اهلل‪{ :‬إ َّف الصفا واملروة من َش َعآئ ِر اهلل ‪ } ...‬قالت عائشة مثّ قد ّ‬
‫ألحد أف يدع الطواؼ هبما‪.‬‬ ‫صلَّى اللَّو علَي ِو وسلَّمَ الطواؼ هبما فليس ٍ‬
‫ُ َْ ََ‬ ‫َ‬
‫ب ‪ -‬وأخرج البخاري والًتمذي عن أنس َر ِض َي اللَّوُ َعْنو أنو سئل عن الصفا واملروة‬
‫فقاؿ‪« :‬كنّا نرى أهنما من أمر اجلاىلية‪ ،‬فلما جاء اإلسبلـ أمسكنا عنهما‪ ،‬فأنزؿ اهلل‪:‬‬
‫{إِ َّف الصفا واملروة ِمن َش َعآئِِر اهلل‪. }. .‬‬

‫األحكام الشرعية‬

‫اْلكم األوؿ‪ :‬ىل السعي بُت الصفا واملروة فرض أو تطوع؟‬


‫اختلف الفقهاء يف حكم السعي بُت الصفا واملروة على ثبلثة أقواؿ‪:‬‬
‫ٔ ‪ -‬القوؿ األوؿ‪ :‬أنو ركن من أركاف اْلج‪ ،‬من تركو يبطل حجو وىو مذىب‬
‫(الشافعية واملالكية) وإحدى الروايتُت عن اإلماـ أضبد‪ ،‬وىو مروي عن ابن عمر‪،‬‬
‫وجابر‪ ،‬وعائشة من الصحابة‪.‬‬

‫‪ 45‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫ٕ ‪ -‬القوؿ الثاين‪ :‬أنو واجب وليس بركن‪ ،‬وإذا تركو وجب عليو دـ‪ ،‬وىو مذىب (أّب‬
‫حنيفة والثوري) ‪.‬‬
‫ٖ ‪ -‬القوؿ الثالث‪ :‬أنو تطوع (سنّة) ال صمب بًتكو شيء‪ ،‬وىو مذىب ابن عباس‪،‬‬
‫وأنس‪ ،‬ورواية عن اإلماـ أضبد‪.‬‬
‫دليل املذىب األوؿ‪:‬‬
‫استدؿ القائلُت بأف السعي ركن وىم (اجلمهور) دبا يلي‪:‬‬
‫الس َبلـُ ‪« :‬اسعوا فإ ّف اهلل كتب عليكم السعي» ‪.‬‬ ‫أ ‪ -‬قولو َعلَْي ِو َّ‬
‫الص َبلة َو َّ‬
‫الس َبلـُ سعي يف حجة الوداع‪ ،‬فلما دنا من الصفا قرأ‬ ‫ب ‪ -‬ما ثبت أنو َعلَْي ِو َّ‬
‫الص َبلة َو َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫{إِ َّف الصفا واملروة من َش َعآئ ِر اهلل} فبدأ بالصفا وقاؿ‪« :‬أبدؤوا دبا بدأ اهلل بو» مث أمتّ‬
‫السعي سبعة أشواط وأمر الصحابة أف يقتدروا بو فقاؿ‪« :‬خذوا عٍت مناسككم»‬
‫واألمر للوجوب فدؿ على أنو ركن‪.‬‬
‫حج من دل يطف بُت الصفا واملروة) ‪.‬‬ ‫ج ‪ -‬حديث عائشة‪( :‬لعمري ما أمتّ اهلل ّ‬
‫د ‪ -‬وقالوا‪ :‬إنو أشواط شرعت يف بقعة من بقاع اْلرـ‪ ،‬وىو نسك يف اْلج والعمرة‪،‬‬
‫فكاف ركناً فيهما كالطواؼ بالبيت‪.‬‬
‫دليل املذىب الثاين‪:‬‬
‫استدؿ (أبو حنيفة والثوري) على أنو واجب وليس بركن دبا يلي‪:‬‬ ‫و ّ‬
‫ؼ هبِِ َما}‬ ‫اح َعلَْي ِو أَف يَطََّّو َ‬
‫عمن تطّوؼ هبما {فَبلَ ُجنَ َ‬‫أ ‪ -‬إف اآلية الكرظمة رفعت اإلمث ّ‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ‬
‫لكن فعل النيب َ‬ ‫ورفع اجلناح يدؿ على اإلباحة ال على أنو ركن‪ ،‬و ّ‬ ‫ُ‬
‫جعلو واجباً فصار كالوقوؼ باملزدلفة‪ ،‬ورمي اجلمار‪ ،‬وطواؼ الصدر‪ ،‬صمزئ عنو دـ إذا‬
‫تركو‪.‬‬

‫‪ 46‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫ب ‪ -‬واستدؿ دبا روى الشعيب عن (عروة بن مضرس الطائي) قاؿ‪« :‬أتيت رسوؿ اهلل‬
‫ِ‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْيو َو َسلَّمَ باملزدلفة فقلت يا رسوؿ اهلل‪ :‬جئت من جبل طي‪ ،‬ما تر ُ‬
‫كت‬ ‫َ‬
‫الس َبلـُ ‪ :‬من صلى معنا‬ ‫جببلً إال وقفت عليو‪ ،‬فهل رل من حج؟ فقاؿ َعلَْي ِو َّ‬
‫الص َبلة َو َّ‬
‫ىذه الصبلة‪ ،‬ووقف معنا ىذا املوقف‪ ،‬وقد أدرؾ عرفة قبل ليبلً أو هناراً فقد مت حجو‪،‬‬
‫وقضى تفثو» ‪.‬‬
‫ووجو االستدالؿ يف اْلديث من وجهُت‪:‬‬
‫أحدشما‪ :‬إخباره بتماـ اْلج وليس فيو السعي بُت الصفا واملروة‪.‬‬
‫والثاين‪ :‬أنو لو كاف من فروضو وأركانو لبيّنو للسائل لعلمو جبهلو باْلكم‪.‬‬
‫دليل املذىب الثالث‪:‬‬
‫واستدؿ من قاؿ بأنو تطوع وليس برك ٍن وال واجب دبا يلي‪:‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫فبُت أنو تطوع وليس بواجب‪،‬‬ ‫يم} ّ‬ ‫ع َخ َْتاً فَإ َّف اهلل َشاكٌر َعل ٌ‬
‫{وَمن تَطََّو َ‬
‫أ ‪ -‬قولو تعاذل‪َ :‬‬
‫فمن تركو ال شيء عليو عمبلً بظاىر اآلية‪.‬‬
‫ب ‪ -‬حديث (اْلج عرفة) قالوا‪ :‬فهذا اْلديث يدؿ على أ ّف من أدرؾ عرفة فقد متّ‬
‫حجو‪ ،‬وىذا يقتضي التماـ من صبيع الوجوه‪ ،‬العمل ترؾ بو يف بعض األشياء‪ ،‬فبقي‬
‫العمل معموالً بو يف السعي‪.‬‬
‫قاؿ ابن اجلوزي‪« :‬واختلفت الرواية عن إمامنا أضبد يف السعي بُت الصفا واملروة‪ ،‬فنقل‬
‫األثرـ أ ّف من ترؾ السعي دل صمزه حجو‪ ،‬ونقل أبو طالب‪ :‬ال شيء يف تركو عمداً أو‬
‫سهواً‪ ،‬وال ينبغي أف يًتكو‪ ،‬ونقل امليموين أنو تطوع» ‪.‬‬
‫ورجح صاحب «املغٍت» املذىب الثاين وقاؿ‪ :‬ىو أوذل ألف دليل من أوجبو‬ ‫الًتجيح‪ّ :‬‬
‫ض‬‫دؿ على مطلق الوجوب‪ ،‬ال على كونو ال يتم الواجب إال بو‪ ،‬وقوؿ عائشة ُم َع َار ٌ‬ ‫ّ‬
‫بقوؿ من خالفها من الصحابة‪.‬‬

‫‪ 47‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫الس َبلـُ سعى بُت الصفا واملروة‬ ‫أقوؿ‪ :‬الصحيح قوؿ اجلمهور ألف النيب َعلَْي ِو َّ‬
‫الص َبلة َو َّ‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ واجب‬
‫وقاؿ‪« :‬خذوا عٍت مناسككم» واالقتداء بالرسوؿ َ‬
‫ودعوى من قاؿ‪ :‬إنو تطوع أخذاً باآلية غَت ظاىر ألف معناىا كما قاؿ الطربي‪ :‬أف‬
‫يتطوع باْلج والعمرة مرة أخرى واهلل أعلم‪.‬‬

‫‪ 48‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫إباحة الطيبات وتحريم الخبائث‬
‫ات َما َرَزقْػنَا ُك ْم َوا ْش ُك ُروا لِلَّ ِو إِ ْف ُكْنتُ ْم إِيَّاهُ تَػ ْعبُ ُدو َف‬‫ياأَيػُّها الَّ ِذين آمنُوا ُكلُوا ِمن طَيِّب ِ‬
‫ْ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫ِ ِ‬
‫اضطَُّر‬‫اخلِْن ِزي ِر َوَما أُى َّل بِِو لغَ َِْت اللَّ ِو فَ َم ِن ْ‬ ‫َّـ َو َْلْ َم ْ‬ ‫(ٕ‪ )ٔٚ‬إَِّسمَا َحَّرَـ َعلَْي ُك ُم الْ َمْيتَةَ َوالد َ‬
‫يم (ٖ‪)ٔٚ‬‬ ‫ح‬ ‫َغيػر ب ٍاغ وَال ع ٍاد فَ َبل إِ ْمث علَي ِو إِ َّف اللَّو َغ ُفور رِ‬
‫َ ٌَ ٌ‬ ‫َ َْ‬ ‫َْ َ َ َ‬

‫التحليل اللفظي‬
‫ضرب من التعظيم ويكوف على‬ ‫{واشكروا للَّ ِو} ‪ :‬الشكر ىو االعًتاؼ بالنعمة مع ٍ‬
‫وجهُت‪:‬‬
‫أحدشما‪ :‬االعًتاؼ بالنعمة وذلك بالثناء على املنعم {لَئِن َش َكْرُْمت ألَ ِز َ‬
‫يدنَّ ُك ْم} [إبراىيم‪:‬‬
‫‪.]ٚ‬‬
‫والثاين‪ :‬صرؼ النعمة فيما يرضي اهلل وذلك باستعماؿ السمع والبصر وسائر اْلواس‬
‫فيما خلقت لو‪.‬‬
‫أىل بكذا أي رفع صوتو‪ ،‬ومنو‬ ‫يقاؿ‪:‬‬ ‫الصوت‪،‬‬ ‫رفع‬ ‫اإلىبلؿ‬ ‫‪:‬‬ ‫اهلل}‬ ‫{أ ُِى َّل بِِو لِغَ ِْ‬
‫َت‬
‫ّ‬
‫أىل اْلاج رفع صوتو بالتلبية قاؿ الشاعر‪:‬‬ ‫إىبلؿ الصيب وىو صياحو عند الوالدة‪ ،‬و ّ‬
‫اكب املعتمر‬ ‫هل الر ُ‬‫هل بالفرقد ركبا ُهنا ‪ ...‬كما يُ ْ‬
‫يُ ّ‬
‫وأصل اإلىبلؿ‪ :‬رفع الصوت عند رؤية اهلبلؿ‪ ،‬مث استعمل يف رفع الصوت مطلقاً‪،‬‬
‫العزى ورفعوا بذلك أصواهتم‪.‬‬ ‫وكاف املشركوف إذا ذحبوا ذكروا اسم البلت و ّ‬
‫حرـ عليكم ما ذبح لؤلصناـ والطواغيت‪ ،‬وذكر عليو اسم غَت اهلل‪ .‬قاؿ‬ ‫واملعٌت‪ّ :‬‬
‫العزى‪.‬‬
‫الزخمشري‪ :‬وذلك قوؿ أىل اجلاىلية‪ :‬باسم البلت و ّ‬
‫حرـ اهلل‪.‬‬‫{اضطر} ‪ :‬أي حلّت بو الضرورة وأجلأتو إذل أكل ما ّ‬

‫‪ 49‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫قاؿ القرطيب‪ :‬فيو إضمار أي فمن اضطر إذل شيء من ىذه احملرمات أي أحوج إليها‬
‫فهو (افتعل) من الضرورة وأصلو (اضطرر) ‪.‬‬
‫{بَ ٍاغ} ‪ :‬الباغي يف اللغة‪ :‬الطالب خلَت أو لشر ومنو حديث «يا باغي اخلَت أقبل»‬
‫ص ىنا بطالب الشر‪.‬‬ ‫وخ ّ‬‫ُ‬
‫قصد الفساد‪ ،‬يقاؿ‪ :‬بغى اجلرح إذا ترامى للفساد‪ .‬وبغت املرأة إذا‬ ‫قاؿ الزجاج‪ :‬البغي ُ‬
‫{ع ٍاد} ‪ :‬اسم فاعل أصلو من العدواف وىو الظلم وجماوزة اْلد‪.‬‬ ‫فجرت‪َ .‬‬
‫واملراد بالباغي من يأكل فوؽ حاجتو‪ ،‬والعادي من يأكل ىذه احملرمات وىو صمد‬
‫غَتىا‪.‬‬
‫قاؿ الطربي‪« :‬وأوذل ىذه األقواؿ قوؿ من قاؿ‪{ :‬فَ َم ِن اضطر َغْيػَر بَ ٍاغ} بأكلو ما حرـ‬
‫عليو من أكلو { َوالَ َع ٍاد} يف أكلو ولو يف غَته دما أحلو اهلل لو مندوحة وغٌت»‬

‫األحكام الشرعية‬

‫األكل أـ االنتفاع؟‬ ‫ُ‬ ‫احملرـ يف آية امليتة‬


‫اْلكم األوؿ‪ :‬ىل ّ‬
‫احملرـ‬
‫ورد التحرًن يف ىذه اآلية مسنداً إذل أعياف امليتة والدـ‪ ،‬وقد اختلف الفقهاء ىل ّ‬
‫األكل فقط‪ ،‬أـ ضمرـ سائر وجوه االنتفاع‪ ،‬ألنو ملا حرـ األكل حرـ البيع واالنتفاع‬
‫بشيء منها ألهنا ميتة‪ ،‬إال ما استثناه الدليل‪ ،‬وذىب بعض العلماء إذل أف احملرـ إسما ىو‬
‫األكل فقط بدليل قولو تعاذل‪ُ { :‬كلُواْ ِمن طَيِّب ِ‬
‫ات َما َرَزقْػنَا ُك ْم} وبدليل ما بعده يف قولو‬‫َ‬
‫تعاذل‪{ :‬فَ َم ِن اضطر َغْيػَر بَ ٍاغ} أي اضطر إذل األكل‪.‬‬
‫قاؿ اجلصاص‪ »:‬والتحرًن يتناوؿ سائر وجوه املنافع‪ ،‬فبل صموز االنتفاع بامليتة على وجو‬
‫وال يطعمها الكبلب واجلوارح‪ ،‬ألف ذلك ضرب من االنتفاع‬

‫‪ 51‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫حرـ اهلل امليتة ربرظماً مطلقاً معلقاً بعينها‪ ،‬فبل صموز االنتفاع بشيء منها إال أف‬
‫هبا‪ ،‬وقد ّ‬
‫طمص بدليل صمب التسليم لو «‪.‬‬

‫اْلكم الثاين‪ :‬ما ىو حكم امليتة من السمك واجلراد؟‬


‫فأما امليتة فهي ما‬ ‫تضمنت اآلية ربرًن (امليتة‪ ،‬والدـ‪ ،‬وْلم اخلنزير‪ ،‬وما أ ُّىل لغَت اهلل) ‪ّ .‬‬
‫مات من اْليواف حتف أنفو من غَت قتل‪ ،‬أو مقتوالً بغَت ذكاة شرعية‪ ،‬وكاف العرب يف‬
‫اجلاىلية يستبيحوف امليتة‪ ،‬فلما حرمها اهلل تعاذل جادلوا يف فلك املؤمنُت وقالوا‪ :‬ال‬
‫تأكلوف دما قتلو اهلل‪ ،‬وتأكلوف دما تذحبوف بأيديكم!! فأنزؿ اهلل يف سورة األنعاـ‪:‬‬
‫وى ْم إِنَّ ُك ْم‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬
‫وحو َف إذل أ َْوليَآئ ِه ْم ليُ َجادلُوُك ْم َوإِ ْف أَطَ ْعتُ ُم ُ‬ ‫[ٕٔٔ] ِ‬
‫{وإ َّف الشياطُت لَيُ ُ‬
‫َ‬
‫لَ ُم ْش ِرُكو َف} فامليتة حراـ بالنص القاطع‪ ،‬وقد وردت أحاديث كثَتة تفيد زبصيص امليتة‬
‫منها األحاديث التالية‪:‬‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ ‪« :‬أ ُِح ّل لنا ميتتاف ودماف‪ :‬السمك واجلراد‪ ،‬والكبد‬ ‫أ ‪ -‬قولو َ‬
‫والطحاؿ» ‪.‬‬
‫اْلل ميتتو» ‪.‬‬ ‫ب ‪ -‬وقولو َ َّ َّ ِ َّ‬
‫صلى اللوُ َعلَْيو َو َسلمَ يف البحر‪« :‬ىو الطهور ماؤه‪ّ ،‬‬
‫ج ‪ -‬ويف «الصحيحُت» عن جابر بن عبد اهلل أنو خرج مع (أّب عبيدة بن اجلراح)‬
‫يتلقى عَتاً لقريش‪ ،‬وزودنا جراباً من سبر‪ ،‬فانطلقنا على ساحل البحر‪ ،‬فرفع لنا على‬
‫ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم‪ ،‬فأتيناه فإذا ىي دابة تدعى (العنرب) قاؿ أبو‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ وقد اضطررمت‬ ‫عبيدة‪ :‬ميتةٌ‪ ،‬مث قاؿ‪ :‬بل رمن ُر ُسل رسوؿ اهلل َ‬
‫فكلوا‪ ،‬قاؿ‪ :‬فأقمنا عليو شهراً حىت مسنّا‪ . .‬وذكر اْلديث قاؿ‪ :‬فلما قدمنا املدينة أتينا‬
‫رزؽ أخرجو اهلل لكم‪ ،‬فهل‬ ‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ فذكرنا ذلك لو‪ ،‬فقاؿ‪ :‬ىو ٌ‬ ‫رسوؿ اهلل َ‬

‫‪ 51‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو‬
‫َو َسلَّمَ‬ ‫معكم من ْلمو شيء فتطعموننا؟ قاؿ‪ :‬فأرسلنا إذل رسوؿ اهلل َ‬
‫منو فأكلو‪.‬‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ سبع غزوات‬
‫د ‪ -‬وحديث ابن أّب أوىف «غزونا مع رسوؿ اهلل َ‬
‫نأكل اجلراد» ‪.‬‬
‫خصص صبهور الفقهاء من اآلية ميتة البحر لؤلحاديث السابقة الذكر‪ ،‬كما أباحوا‬ ‫فقد َّ‬
‫أكل اجلراد‪ ،‬إالّ أف اْلنفية حرموا الطايف من السمك وأحلّوا ما جزر عنو البحر ْلديث‬
‫«ما ألقى البحر أو جزر عنو فكلوه‪ ،‬وما مات فيو وطفا فبل تأكلوه» ‪.‬‬
‫إالّ أف املالكية أباحوا أكل ميتة السمك‪ ،‬وبقي اجلراد امليت على ربرًن امليتة‪ :‬ألنو دل‬
‫يصح فيو عندىم شيء‪.‬‬

‫اْلكم الثالث‪ :‬ما ىي ذكاة اجلنُت بعد ذبح أمو؟‬


‫اختلف العلماء يف اجلنُت الذي ذحبت أمو وخرج ميتاً ىل يؤكل أـ ال؟‬
‫ذىب أبو حنيفة‪ :‬إذل أنو ال يؤكل إال أف طمرج حياً فيذبح‪ ،‬ألنو ميتة وقد قاؿ تعاذل‪:‬‬
‫{إَِّسمَا َحَّرَـ َعلَْي ُك ُم امليتة} ‪.‬‬
‫وذىب الشافعي وأبو يوسف وحممد إذل أنو يؤكل‪ ،‬ألنو مذكى بذكاة أمو‪ ،‬واستدلوا‬
‫حبديث «ذكاة اجلنُت ذكاة أمو» ‪.‬‬
‫وقاؿ مالك َرِضبَوُ اللَّوُ‪ :‬إ ْف متّ خل ُقو ونبت شعره أُكل وإالّ فبل‪.‬‬
‫قاؿ القرطيب‪« :‬إف اجلنُت إذا خرج بعد الذبح ميتاً يؤكل ألنو جرى جمرى العضو من‬
‫أعضائها» ‪.‬‬

‫‪ 52‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫وقاؿ من ينتصر ألّب حنيفة‪ :‬إف اْلديث ضمتمل معٌت آخر ىو أف ذكاة اجلنُت كذكاة‬
‫أمو على حد قوؿ القائل قورل قولُك‪ ،‬ومذىيب مذىبك أي كقولك وكمذىبك وعلى‬
‫حد قوؿ الشاعر‪:‬‬
‫جيدىا ‪ ...‬سوى أ ّف عظم الساؽ منك دقيق‬
‫وجيدؾ ُ‬ ‫ِ‬
‫فعيناؾ عيناىا ُ‬

‫اْلكم الرابع‪ :‬ىل يباح االنتفاع بامليتة يف غَت األكل؟‬


‫ذىب عطاء إذل أنو صموز االنتفاع بشحم امليتة وجلدىا‪ ،‬كطبلء السفن ودبغ اجللود‪،‬‬
‫{حمََّرماً على‬
‫وحجتو أف اآلية إسما ىي يف ربرًن األكل خاصة‪ ،‬ويدؿ عليو قولو تعاذل‪ُ :‬‬
‫طَ ِ‬
‫اع ٍم يَطْ َع ُموُ} [األنعاـ‪. ]ٔٗ٘ :‬‬
‫ت َعلَْي ُك ُم امليتة} [املائدة‪]ٖ :‬‬
‫{حِّرَم ْ‬
‫وذىب اجلمهور‪ :‬إذل ربرظمو واستدلوا باآلية الكرظمة ُ‬
‫بأكل أو غَته‪ ،‬فجعلوا الفعل املقدر ىو االنتفاع‪ ،‬واستدلوا كذلك بقولو‬ ‫أي االنتفاع هبا ٍ‬
‫عليو السبلـ‪« :‬لعن اهلل اليهود‪ُ ،‬حّرمت عليهم الشحوـ فجملوىا فباعوىا وأكلوا‬
‫حرـ شبنو‪ ،‬فبل صموز البيع وال‬ ‫حرـ شيئاً ّ‬‫أشباهنا» فهذا اْلديث يدؿ على أف اهلل إذا ّ‬
‫االنتفاع بشيء من امليتة إال ما ورد بو النص‪.‬‬

‫اْلكم اخلامس‪ :‬ما ىو حكم الدـ الذي يبقى يف العروؽ واللحم؟‬


‫اتفق العلماء على أف الدـ حراـ ذمس‪ ،‬ال يؤكل وال ينتفع بو‪ ،‬وقد ذكر تعاذل الدـ‬
‫ىاىنا مطلقاً وقيّده يف األنعاـ بقولو‪{ :‬أَو َدماً َّم ْس ُفوحاً} [األنعاـ‪ ]ٔٗ٘ :‬وضبل‬
‫ِ‬
‫العلماء املطلق على املقيد‪ ،‬ودل ضمرموا إال ما كاف مسفوحاً‪ ،‬وورد عن عائشة َرض َي اللَّوُ‬
‫َعْنها أهنا قالت‪( :‬لوال أ ّف اهلل قاؿ أو دماً مسفوحاً لتتبّع الناس ما يف العروؽ) فما‬

‫‪ 53‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫خالط اللحم غَت حمرـ بإصباع‪ ،‬وكذلك الكبد والطحاؿ جممع على عدـ حرمتو وإف‬
‫كاف يف األصل دماً‪.‬‬
‫فمحرـ ما دل تعم بو البلوى‪ ،‬والذي تعم بو البلوى ىو الدـ يف‬
‫قاؿ القرطيب‪« :‬و ّأما الدـ ّ‬
‫اللحم والعروؽ‪ ،‬وروي عن عائشة أهنا قالت‪ »:‬كنا نطبخ الربمة على عهد رسوؿ اهلل‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ تعلوىا الصفرة من الدـ‪ ،‬فنأكل وال ننكره «‪.‬‬
‫َ‬

‫اْلكم السادس‪ :‬ماذا ضمرـ من اخلنزير؟‬


‫نصت اآلية على ربرًن ْلم اخلنزير‪ ،‬وقد ذىب بعض الظاىرية إذل أف احملرـ ْلمو ال‬
‫{و َْلْ َم اخلنزير} وذىب اجلمهور إذل أ ّف شحمو حراـ أيضاً‪ ،‬ألف‬ ‫شحمو‪ ،‬ألف اهلل قاؿ‪َ :‬‬
‫خص اهلل تعاذل ذكر اللحم من اخلنزير‬ ‫اللحم يشمل الشحم‪ ،‬وىو الصحيح‪ ،‬وإسما ّ‬
‫ذؾ‪.‬‬‫ليدؿ على ربرًن عينو‪ ،‬سواء ذُ ّكى ذكاةً شرعية أو دل يُ ّ‬
‫وقد اختلف الفقهاء يف جواز االنتفاع بشعر اخلنزير‪.‬‬
‫فذىب أبو حنيفة ومالك إذل أنو ال صموز اخلرازة بو‪.‬‬
‫وقاؿ الشافعي‪ :‬ال صموز االنتفاع بشعر اخلنزير‪.‬‬
‫وقاؿ أبو يوسف‪ :‬أكره اخلرز بو‪.‬‬
‫حمرمة إال الشعر فإنو صموز اخلرازة بو‪ ،‬ألف‬ ‫قاؿ القرطيب‪ »:‬ال خبلؼ أف صبلة اخلنزير ّ‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ وبعده‪ ،‬ال نعلم أنو أنكرىا‬ ‫اخلرازة كانت على عهد رسوؿ اهلل َ‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ فهو كابتداء الشرع‬
‫وال أحد من األئمة بعده‪ ،‬وما أجازه الرسوؿ َ‬
‫منو «‪.‬‬
‫وقد اختلف أىل العلم يف خنزير املاء فقاؿ أبو حنيفة‪ :‬ال يؤكل لعموـ اآلية‪.‬‬

‫‪ 54‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫وقاؿ مالك والشافعي واألوزاعي‪ :‬ال بأس بأكل كل شيء يكوف يف البحر‪ ،‬وتفصيل‬
‫األدلة ينظر يف كتب الفروع‪.‬‬

‫اْلكم السابع‪ :‬ما الذي يباح للمضطر من امليتة؟‬


‫اختلف العلماء يف املضطر‪ ،‬أيأكل من امليتة حىت يشبع‪ ،‬أـ يأكل على قدر س ّد الرمق؟‬
‫ذىب مالك إذل األوؿ‪ ،‬ألف الضرورة ترفع التحرًن فتعود امليتة مباحة‪.‬‬
‫وذىب اجلمهور‪ :‬إذل الثاين‪ ،‬ألف اإلباحة ضرورة فتقدر بقدرىا‪ ،‬وسبب اخلبلؼ يرجع‬
‫إذل مفهوـ قولو تعاذل { َغْيػَر بَ ٍاغ َوالَ َع ٍاد} فاجلمهور فسروا البغي باألكل من امليتة لغَت‬
‫حاجة‪ ،‬والعاد ىو املعتدي حد الضرورة‪.‬‬
‫ومالك فسره بالبغي والعدواف على اإلماـ‪ ،‬ولكل وجهة واهلل أعلم‪.‬‬

‫‪ 55‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫يف القصاص حياة النفوس‬
‫اْلُِّر َوالْ َعْب ُد بِالْ َعْب ِد‬
‫اْلُُّر بِ ْ‬
‫اص ِيف الْ َقْتػلَى ْ‬ ‫ص‬
‫َ َْ ُ َ ُ‬‫ق‬‫ياأَيػُّها الَّ ِذين آمنوا ُكتِب علَي ُكم الْ ِ‬
‫َ َُ‬ ‫َ َ‬
‫وؼ وأَداء إِلَي ِو بِِإحس ٍ‬
‫اف‬ ‫َخ ِيو َشيء فَاتػِّباع بِالْمعر ِ‬ ‫و ْاألُنْػثَى بِ ْاألُنْػثَى فَمن ع ِفي لَو ِمن أ ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫َُ َ ٌ‬ ‫ْ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌْ َ‬ ‫َْ ُ َ ُ ْ‬ ‫َ‬
‫يم (‪)ٔٚٛ‬‬ ‫ذَلِك َزبْ ِفيف ِمن ربِّ ُكم ور ْضبةٌ فَم ِن اعت َدى بػع َد ذَلِك فَػلَو ع َذاب أَلِ‬
‫َ ُ َ ٌ ٌ‬ ‫ٌ ْ َ ْ َ َ َ َ َْ َ ْ‬ ‫َ‬
‫ُورل ْاألَلْب ِ‬ ‫ِ‬
‫اب لَ َعلَّ ُك ْم تَػتَّػ ُقو َف (‪)ٜٔٚ‬‬ ‫اص َحيَاةٌ يَاأ ِ َ‬
‫ص ِ‬‫َولَ ُك ْم ِيف الْق َ‬

‫التحليل اللفظي‬
‫ب َعلَْي ُك ُم} معناه يف كل القرآف‪ :‬فرض عليكم قاؿ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب} ‪ :‬قاؿ الفراء { ُكت َ‬ ‫{ ُكت َ‬
‫القصاص‪ ،‬وىو يف أشعارىم‬ ‫ب َعلَْي ُك ُم القصاص} دبعٌت فُرض عليكم‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫الطربي‪ُ { :‬كت َ‬
‫مستفيض‪ ،‬ويف كبلمهم موجود‪ ،‬وىو أكثر من أف ضمصى‪.‬‬
‫قتص أثر فبلف إذا فعل مثل فعلو‪.‬‬ ‫{القصاص} ‪ :‬أف يفعل بو مثل فعلو من قوهلم‪ :‬ا ّ‬
‫القص وىو تتبع األثر قاؿ تعاذل‪{ :‬فارتدا على‬ ‫ّ‬ ‫قاؿ الراغب‪ :‬القصاص مأخوذ من‬
‫ِ‬
‫تتبع الدـ بال َق َود قاؿ تعاذل‪{ :‬واجلروح‬
‫القصاص‪ُ :‬‬
‫ُ‬ ‫صصاً} [الكهف‪ ]ٙٗ :‬و‬ ‫آثَا ِرشمَا قَ َ‬
‫اص} [املائدة‪. ]ٗ٘ :‬‬ ‫ِ‬
‫ص ٌ‬ ‫قَ‬
‫قصصت الشيء إذا تتبعت أثره شيئاً بعد شيء ومنو قولو تعاذل‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫قاؿ يف اللساف‪:‬‬
‫القصاص‪ :‬ال َق َود وىو القتل‬
‫ُ‬ ‫ص ِيو} [القصص‪ ]ٔٔ :‬أي اتبعي أثره‪ ،‬و‬ ‫ُختِ ِو قُ ِّ‬
‫ت أل ْ‬ ‫{وقَالَ ْ‬
‫َ‬
‫بالقتل ‪.‬‬
‫{القتلى} ‪ :‬صبع قتيل ويستوي فيو املذكر واملؤنث‪ ،‬كصرعى صبع صريع‪ ،‬وجرحى صبع‬
‫جريح‪.‬‬
‫ورجل قتيل أي مقتوؿ‪ ،‬وامرأة قتيل أي مقتولة‪ ،‬فإذا قلت‪( :‬قتيلة‬
‫قاؿ يف «اللساف» ‪ٌ :‬‬
‫بٍت فبلف) قلت باهلاء‪.‬‬
‫‪ 56‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫وقاؿ الطربي‪ :‬وإسما صممع (فعيل) على (فَػ ْعلى) إذا كاف وصفاً داالً على الزمانة حبيث ال‬
‫الرباح من موضعو وأصل القتل إزالة الروح عن اجلسد كاملوت‪،‬‬ ‫يقدر معو صاحبو على ُ‬
‫موت‪ ،‬قاؿ‬
‫قتل‪ ،‬وإذا عترب بفوت اْلياة يقاؿ‪ٌ :‬‬ ‫ولكن إذا اعترب بفعل الشخص يقاؿ‪ٌ :‬‬
‫ات أ َْو قُتِ َل} [آؿ عمراف‪. ]ٔٗٗ :‬‬
‫تعاذل‪{ :‬أَفِإ ْف َّم َ‬
‫صفحت عنو ومنو‬
‫ُ‬ ‫{عُ ِف َي} ‪ :‬العفو معناه الصفح‪ ،‬واإلسقاط‪ ،‬تقوؿ‪ :‬عفوت عنو أي‬
‫{ع َفا اهلل َع َّما َسلَف} [املائدة‪ ]ٜ٘ :‬وقولو‪{ :‬واعف َعنَّا} [البقرة‪:‬‬ ‫قولو تعاذل‪َ :‬‬
‫وعفوت لكم عن صدقة اخليل والرقيق أي أسقطتها عنكم‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫‪]ٕٛٙ‬‬
‫ورضي منو بالدية‪.‬‬ ‫واملعٌت‪ :‬فمن تُِرؾ لو من جهة أخيو شيءٌ أي ترؾ لو القتل‪ُ ،‬‬
‫ورل القتيل بالرفق واملعروؼ‪،‬‬ ‫{فاتباع باملعروؼ} ‪ :‬مطالبتو باملعروؼ‪ ،‬أي يطالبو ّ‬
‫ويؤدي إليو القاتل الدية بإحساف‪ ،‬بدوف دماطلة أو خبس أو إساءة يف األداء‪.‬‬
‫{فَ َم ِن اعتدى} ‪ :‬أي ظلم فقتل القاتل بعد أخذ الدية فلو عند اهلل عذاب أليم‪.‬‬
‫{األلباب} ‪ :‬العقوؿ صبع لب‪ ،‬مأخوذ من لب النخلة‪.‬‬

‫سبب النزوؿ‬
‫بغي وطاعة‬
‫أف أىل اجلاىلية كاف فيهم ٌ‬ ‫أ ‪ -‬روي يف سبب نزوؿ ىذه اآلية عن قتادة َّ‬
‫عبد آخرين‪ ،‬قالوا‪:‬‬
‫عبدىم َ‬ ‫للشيطاف‪ ،‬وكاف اْلي منهم إذا كاف فيهم عدة ومنعة‪ ،‬فقتل ُ‬
‫تعززاً لفضلهم على غَتىم‪ ،‬وإذا قتلت امرأةٌ منهم امرأ ًة من آخرين‬ ‫لن نقتل بو إال حراً‪ّ ،‬‬
‫قالوا‪ :‬لن نقتل هبا إال رجبلً‪ ،‬فأنزؿ اهلل {اْلر بِا ْْلُِّر والعبد بالعبد واألنثى باألنثى} ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬وروي عن (سعيد بن جبَت) أف حيُّت من العرب اقتتلوا يف اجلاىلية قبل اإلسبلـ‬
‫قتل وجراحات حىت قتلوا العبيد والنساء‪ ،‬فلم يأخذ بعضهم من‬ ‫بقليل‪ ،‬فكاف بينهم ٌ‬
‫بعض حىت أسلموا‪ ،‬فكاف أحد اْليُت يتطاوؿ على اآلخر يف العدة واألمواؿ‪ ،‬فحلفوا‬

‫‪ 57‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫أال يرضوا حىت يقتل بالعبد منا اْلر منهم‪ ،‬وباملرأة منا الرجل منهم فنزؿ فيهم‪{ :‬ياأيها‬
‫ب َعلَْي ُك ُم القصاص ِيف القتلى ‪. } ...‬‬ ‫ِ‬
‫الذين َآمنُواْ ُكت َ‬

‫األحكام الشرعية‬

‫اْلكم األوؿ‪ :‬ىل يقتل اْلر بالعبد‪ ،‬واملسلم بالذمي؟‬


‫اختلف الفقهاء يف اْلر إذا قتل عبداً‪ ،‬واملسلم إذا قتل ذمياً ىل يقتبلف هبما أـ ال؟‬
‫فذىب اجلمهور‪( :‬املالكية والشافعية واْلنابلة) إذل أف اْلر ال يقتل بالعبد‪ ،‬وال املسلم‬
‫بالذمي‪.‬‬
‫وذىب اْلنفية‪ :‬إذل أف اْلر يقتل بالعبد‪ ،‬وكذلك املسلم يقتل بالذمي‪.‬‬
‫أدلة اجلمهور‪:‬‬
‫استدؿ اجلمهور على مذىبهم بالكتاب‪ ،‬والسنة‪ ،‬واملعقوؿ‪.‬‬
‫ب َعلَْي ُك ُم القصاص ِيف القتلى} فقد أوجب اهلل‬ ‫ِ‬
‫أ ‪ -‬أما الكتاب فقولو تعاذل‪ُ { :‬كت َ‬
‫املساواة‪ ،‬مثّ ّبُت ىذه املساواة بقولو‪{ :‬اْلر بِا ْْلُِّر والعبد بالعبد واألنثى باألنثى} ‪.‬‬
‫فاْلر يساويو اْلر‪ ،‬والعبد يساويو العبد‪ ،‬واألنثى تساويها األنثى‪ ،‬فكأنو تعاذل يقوؿ‪:‬‬ ‫ّ‬
‫اقتلوا القاتل إذا كاف مساوياً للمقتوؿ‪ ،‬قالوا‪ :‬وال مساواة بُت اْلر والعبد فبل يقتل بو‪،‬‬
‫وكذلك ال مساواة بُت املسلم والكافر فبل يقتل بو‪.‬‬
‫صلَّى اللَّوُ‬‫ب ‪ -‬وأما السنة‪ :‬فما رواه البخاري عن علي كرـ اهلل وجهو أف رسوؿ اهلل َ‬
‫َعلَْي ِو َو َسلَّمَ قاؿ‪« :‬ال يُقتل مسلم بكافر» ‪.‬‬
‫كالسلعة واملتاع بسبب الرؽ الذي ىو من آثار‬ ‫ج ‪ -‬وأما املعقوؿ‪ :‬فقالوا‪ :‬إف العبد ِّ‬
‫الكفر‪ ،‬والكافر كالدابة بسبب الكفر الذي طغى عليو‪ ،‬وقد قاؿ تعاذل‪{ :‬إِ َّف َشَّر‬

‫‪ 58‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫ند اهلل الذين َك َفُرواْ فَػ ُه ْم الَ يػُ ْؤِمنُو َف} [األنفاؿ‪ ]٘٘ :‬فكيف يُساوى املؤمن‬ ‫الدواب عِ َ‬
‫بالكافر‪ ،‬وكيف يقتل بو؟ ‪.‬‬
‫أدلة اْلنفية‪:‬‬
‫واستدؿ اْلنفية على مذىبهم ببضعة أدلة نوجزىا فيما يلي‪:‬‬
‫ب َعلَْي ُك ُم القصاص ِيف القتلى ‪ } ...‬إ ّف اهلل‬ ‫ِ‬
‫أوالً‪ :‬قولو تعاذل‪{ :‬ياأيها الذين َآمنُواْ ُكت َ‬
‫أوجب قتل القاتل بصدر اآلية‪ ،‬وىي عامة تعم كل قاتل سواءً كاف حراً أو عبداً‪،‬‬
‫اْلُِّر والعبد بالعبد ‪ } ...‬إخل فإسما ىو إلبطاؿ‬ ‫مسلماً أو ذمياً‪ ،‬وأما قولو تعاذل‪{ :‬اْلر بِ ْ‬
‫الظلم الذي كاف عليو أىل اجلاىلية‪ ،‬حيث كانوا يقتلوف باْلر أحراراً‪ ،‬وبالعبد حراً‪،‬‬
‫وباألنثى يقتلوف الرجل تعدياً وطغياناً‪ ،‬فأبطل اهلل ما كاف من الظلم‪ ،‬وأكد القصاص‬
‫على القاتل دوف غَته كما فهم ذلك من سبب النزوؿ وقد تقدـ‪.‬‬
‫َف النفس‬ ‫{وَكتَْبػنَا َعلَْي ِه ْم فِ َيهآ أ َّ‬
‫ثانياً‪ :‬واستدلوا بقولو تعاذل يف سورة [املائدة‪َ : ]ٗ٘ :‬‬
‫بالنفس ‪ } ...‬قالوا‪ :‬وىو عموـ يف إصماب القصاص يف سائر املقتولُت‪ ،‬وشرع من قبلنا‬
‫شرعٌ لنا ما دل يرد ناسخ‪ ،‬ودل ذمد ناسخاً‪.‬‬
‫{وَمن قُتِ َل َمظْلُوماً فَػ َق ْد َج َع ْلنَا لَِولِيِّ ِو ُس ْلطَاناً}‬
‫ثالثاً‪ :‬واستدلوا كذلك بقولو تعاذل‪َ :‬‬
‫[اإلسراء‪ ]ٖٖ :‬فإف ىذه اآلية انتظمت صبيع املقتولُت ظلماً‪ ،‬عبيداً كانوا أو أحراراً‪،‬‬
‫وجعل لوليهم سلطاف وىو (القود) أي القصاص‪.‬‬ ‫ذميُت‪ُ ،‬‬‫مسلمُت أو ّ‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ ‪« :‬املسلموف تتكافأ دماؤىم‪ ،‬ويسعى‬ ‫رابعاً‪ :‬واستدلوا بقولو َ‬
‫بذمتهم أدناىم‪ ،‬وىم ي ٌد على من سواىم» فيكن العبد مساوياً للحر‪.‬‬
‫خامساً‪ :‬واستدلوا حبديث‪« :‬من قتل عبده قتلناه‪ ،‬ومن جدعو جدعناه‪ ،‬ومن خصاه‬
‫خصيناه» ‪.‬‬
‫يفرؽ بُت حر وعبد‪.‬‬ ‫قالوا‪ :‬فهذا نص على أف اْلر يقتل بالعبد‪ ،‬ألف اإلسبلـ دل ّ‬
‫‪ 59‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫سادساً‪ :‬واستدلوا دبا رواه البيهقي من حديث عبد الرضبن البيلماين «أف رسوؿ اهلل‬
‫وىف بذمتو «» ‪.‬‬‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ قتل مسلماً دبعاىد وقاؿ‪ »:‬أنا أكرـ َمن ّ‬
‫َ‬
‫سابعاً‪ :‬قالوا‪ :‬ودما يدؿ على قتل املسلم بالذمي اتفاؽ اجلميع على أنو يقطع إذا سرقو‪،‬‬
‫فوجب أف يقاد منو‪ ،‬ألف حرمة دمو أعظم من حرمة مالو‪.‬‬
‫ىذه ىي خبلصة أدلة الفريقُت‪ :‬عرضناىا باختصار‪ ،‬وسبب اخلبلؼ يف اْلقيقة يرجع‬
‫إذل اختبلؼ العلماء يف فهم اآلية‪ ،‬فاْلنفية يقولوف‪ :‬إف صدر اآلية مكتف بنفسو‪ ،‬وقد‬
‫ب َعلَْي ُك ُم القصاص ِيف القتلى} وسائر األئمة يقولوف‪ :‬ال يتم‬ ‫ِ‬
‫مت الكبلـ عند قولو‪ُ { :‬كت َ‬
‫الكبلـ ىاىنا‪ ،‬وإسما يتم عند قولو‪{ :‬واألنثى باألنثى} فهو تفسَت لو وتتميم ملعناه‪،‬‬
‫واآلية وردت لبياف التنويع والتقسيم‪.‬‬
‫وقد اعًتض اْلنفية على اجلمهور بأنو ينبغي أال يُقتل الرجل إذا قتل أنثى؟ وكذلك‬
‫العبد إذا قتل حراً؟ مع أهنم يقولوف أنو يقتل العبد باْلر‪ ،‬والرجل باملرأة!!‬
‫أجاب اجلمهور‪ :‬بأف ظاىر اآلية يفيد أال يقتل العبد باْلر‪ ،‬ولكننا نظرنا إذل املعٌت‬
‫فرأينا أف العبد يُقتل بالعبد‪ ،‬فأوذل أف يقتل باْلر‪ ،‬وأما قتل الرجل باملرأة فذلك ثابت‬
‫خصص اآلية الكرظمة ولوال اإلصباع لقلنا ال يقتل الذكر‬ ‫باإلصباع‪ ،‬وىو دليل آخر ّ‬
‫باألنثى‪.‬‬
‫يقوؿ فضيلة الشيخ السايس يف كتابة «تفسَت آيات األحكاـ» ما نصو‪:‬‬
‫«والعقل ظميل إذل تأييد قوؿ أّب حنيفة يف ىذه املسألة‪ ،‬ألف ىذا التنويع والتقسيم الذي‬
‫جعلو الشافعية واملالكية دبثابة بياف (املساواة) املعتربة‪ ،‬قد أخرجوا منو طردا وعكساً‬
‫الرجل يقتل باألنثى‪ ،‬واألنثى تقتل بالرجل‪ ،‬وذىبوا إذل أ ّف‬
‫األنثى بالرجل‪ ،‬فذىبوا إذل أف ُ‬
‫اْلر ال يقتل بالعبد‪ ،‬ولكنهم أجازوا قتل العبد باْلر‪ ،‬فهذا كلو يُضعف مسلكهم يف‬

‫‪ 61‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫ٍ‬
‫وحينئذ يكوف العبد مساوياً‬ ‫اآلية‪ .‬أما مسلك أّب حنيفة فيها فليس فيو ىذا الضعف‪،‬‬
‫للحر‪ ،‬ويكوف املسلم مساوياً للذمي يف اْلرمة‪ ،‬حمقوف الدـ على التأييد» ‪.‬‬
‫الًتجيح‪:‬‬
‫أقوؿ‪ :‬مذىب أّب حنيفة يف قتل اْلر بالعبد معقوؿ املعٌت‪ ،‬مؤيد «من قتل عبده قتلناه‬
‫‪ » ...‬فاإلسبلـ قد ساوى بُت األحرار والعبيد يف الدماء‪ ،‬فحرمة العبد كحرمة اْلر‪،‬‬
‫ونفس العبد كنفس اْلر‪ ،‬وهلذا يقتل بو‪ .‬أما قتل املؤمن بالكافر‪ :‬ففي النفس من قوؿ‬
‫أّب حنيفة شيء‪ ،‬والراجح فيو رأي اجلمهور ال سيما بعد أف تأكد بالدليل الثابت «ال‬
‫يُقتل مسلم بكافر» أخرجو البخاري‪.‬‬
‫تأويل طمالف ىذا‪.‬‬ ‫ِ َّ‬
‫وكما يقوؿ ابن كثَت َرضبَوُ اللوُ‪ :‬ال يصح حديث وال ٌ‬
‫شر عند اهلل من الدابة؟ واملؤمن‬ ‫مثّ كيف يتساوى املؤمن مع الكافر‪ ،‬مع أف الكافر ّ‬
‫س} [التوبة‪ ]ٕٛ :‬ويقوؿ‪{ :‬قُل الَّ‬ ‫َِّ‬
‫طيّب طاىر واهلل تعاذل يقوؿ‪{ :‬إسمَا املشركوف َذمَ ٌ‬
‫يَ ْستَ ِوي اخلبيث والطيب} [املائدة‪ ، ]ٔٓٓ :‬فكيف نقتل مؤمناً طاىراً دبشرؾ ذمس؟!‬
‫فالراجح إف شاء اهلل يف ىذه املسألة قوؿ اجلمهور‪ .‬وقد رأيت يف بعض مراجعايت قصة‬
‫لطيفة وىي أف (أبا يوسف) القاضي من تبلمذة اإلماـ أّب حنيفة‪ ،‬رفعت إليو قضية‪،‬‬
‫تتلخص يف أف مسلماً قتل ذمياً كافراً‪ ،‬فحكم عليو أبو يوسف بالقصاص‪ ،‬فبينما ىو‬
‫جالس ذات يوـ‪ ،‬إذ جاءه رجل ٍ‬
‫برقعة فألقاىا إليو مث خرج‪ ،‬فإذا فيها ىذه األبيات‪:‬‬
‫العادؿ كاجلائر‬
‫جرت وما ُ‬ ‫قاتل املسلم بالكاف ِر ‪َ ...‬‬‫يا َ‬
‫ببغداد وأطرافِها ‪ ...‬من علماء ِ‬
‫الناس أو شاع ِر‬ ‫َ‬ ‫يا َم ْن‬
‫فاألجر للصابر‬
‫ُ‬ ‫اسًتجعوا واب ُكوا على دينكم ‪ ...‬واصطربوا‬ ‫ُ‬
‫جار على الدين أبو يوسف ‪ ...‬بقتلو املؤمن بالكافر‬

‫‪ 61‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫فدخل أبو يوسف على الرشيد وأخربه اخلرب‪ ،‬وأقرأه الرقعة فقاؿ لو الرشيد‪ :‬تدارؾ ىذا‬
‫األمر لئبل تكوف فتنة‪ . .‬فدعا أبو يوسف أولياء القتيل وطالبهم بالبينة على صحة‬
‫الذمة وثبوهتا‪ ،‬فلم يستطيعوا أف يثبتوا فأسقط القود وأمر بدفع الدية‪.‬‬

‫اْلكم الثاين‪ :‬ىل يقتل الوالد إذا قتل ولده؟‬


‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ أنو‬
‫قاؿ اجلمهور‪ :‬ال يقتل الوالد إذا قتل ولده‪ ،‬ملا روي عن النيب َ‬
‫قاؿ‪« :‬ال يُقتل ِوال ٌد بولده» ‪.‬‬
‫قاؿ اجلصاص‪« :‬وىذا خربٌ مستفيض مشهور‪ ،‬وقد حكم بو عمر بن اخلطاب حبضرة‬
‫الصحابة من غَت خبلؼ من واحد منهم عليو‪ ،‬فكاف يف حيّز املتواتر» ‪.‬‬
‫تعمد قتلو بأف أضجعو وذحبو‪.‬‬ ‫وقاؿ مالك‪ :‬يُقتل إذا ّ‬
‫قاؿ القرطيب‪« :‬ال خبلؼ يف مذىب مالك أنو إذا قتل الرجل ابنو متعمداً‪ ،‬مثل أف‬
‫فأما إف رماه بالسبلح أدباً وحنقاً‬ ‫يضجعو ويذحبو‪ ،‬أو يصربه‪ ،‬أنو يُقتل بو قوالً واحداً‪ّ ،‬‬
‫دل يقتل بو وتغلّظ الدية» ‪.‬‬
‫للنص الوارد الذي أسلفناه‪ ،‬وأل ّف الشفقة‬ ‫الًتجيح‪ :‬وما ذىب إليو اجلمهور ىو األرجح ّ‬
‫سبنعو من اإلقداـ على قتل ولده متعمداً‪ ،‬خببلؼ االبن إذا قتل أباه فإنو يقتل بو من‬
‫غَت خبلؼ‪ ،‬قاؿ فخر اإلسبلـ الشاشي‪ :‬إف األب كاف سبب وجود االبن‪ ،‬فكيف‬
‫يكوف ىو سبب عدمو؟!‬

‫اْلكم الثالث‪ :‬ىل يقتل اجلماعة بالواحد؟‬


‫اختلف الفقهاء يف اجلماعة إذا اشًتكوا يف قتل إنساف ىل يقتلوف بو؟ على مذىبُت‪:‬‬
‫مذىب اجلمهور واألئمة األربعة‪ :‬أف اجلماعة يقتلوف بالواحد‪.‬‬

‫‪ 62‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫مذىب الظاىرية‪ :‬ورواية عن اإلماـ أضبد‪ :‬أف اجلماعة ال تقتل بالواحد‪.‬‬
‫دليل الظاىرية‪:‬‬
‫ب َعلَْي ُك ُم القصاص ِيف القتلى} فقد‬ ‫ِ‬
‫أ ‪ -‬استدؿ أىل الظاىر بآية القصاص { ُكت َ‬
‫شرطت املساواة واملماثلة‪ ،‬قالوا‪ :‬وال مساواة بُت الواحد واجلماعة‪.‬‬
‫َف النفس بالنفس} [املائدة‪]ٗ٘ :‬‬ ‫{وَكتَْبػنَا َعلَْي ِه ْم فِ َيهآ أ َّ‬
‫ب ‪ -‬واستدلوا بقولو تعاذل‪َ :‬‬
‫فالنفس تقابلها النفس‪ ،‬وال تقتل األنفس بالنفس الواحدة ألنو خمالف لنص اآلية‪.‬‬
‫دليل اجلمهور‪:‬‬
‫أوالً ما روي أف عمر َر ِض َي اللَّوُ َعْنو قتل سبعة يف غبلـ قتل بصنعاء وقاؿ‪ :‬لو سباأل عليو‬
‫أىل صنعاء لقتلتهم‪.‬‬
‫قاؿ ابن كثَت‪ :‬وال يُعرؼ لو يف زمانو خمالف من الصحابة وذلك كاإلصباع‪.‬‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ أنو قاؿ‪« :‬لو أ ّف أىل السماء وأىل‬ ‫ثانياً‪ :‬ما روي عن رسوؿ اهلل َ‬
‫األرض اشًتكوا يف دـ مؤمن لكبّهم اهلل يف النار» قالوا‪ :‬فإذا اشًتكوا يف العقوبة‬
‫األخروية‪ ،‬فإهنم يشًتكوف يف العقوبة الدنيوية أيضاً‪.‬‬
‫{ولَ ُك ْم ِيف القصاص حياوة} ولو‬
‫ثالثاً‪ :‬قالوا إف الشارع شرع القصاص ْلفظ األنفس َ‬
‫علم الناس أف اجلماعة ال تقتل بالواحد لتعاوف األعداء على قتل أعدائهم‪ ،‬مث دل يقتلوا‬
‫فتضيع دماء الناس‪ ،‬وينتشر البغي والفساد يف األرض‪.‬‬
‫ب َعلَْي ُك ُم القصاص} على أضبد بن‬ ‫ِ‬
‫قاؿ ابن العرّب‪« :‬احتج علماؤنا هبذه اآلية { ُكت َ‬
‫حنبل يف قولو‪ :‬ال تُقتل اجلماعة بالواحد‪ ،‬ألف اهلل شرط يف القصاص املساواة‪ ،‬وال‬
‫مساواة بُت الواحد واجلماعة‪.‬‬
‫واجلواب‪ :‬أف مراعاة القاعدة أوذل من مراعاة األلفاظ‪ ،‬ولو علم اجلماعة‬

‫‪ 63‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫أهنم إذا قتلوا واحداً دل يقتلوا بو‪ ،‬لتعاوف األعداء على قتل أعدائهم‪ ،‬وبلغوا األمل من‬
‫التشفي منهم‪.‬‬
‫وجواب آخر‪ :‬أف املراد بالقصاص قَػْت ُل من قَػتَل‪ ،‬كائناً من كاف‪ ،‬رداً على العرب اليت‬
‫كانت تريد أف تقتل دبن قُتل من دل يَػ ْقتُل يف مقابلو الواحد دبائة افتخاراً واستظهاراً‬
‫باجلاه واملقدرة‪ ،‬فأمر اهلل باملساواة والعدؿ‪ ،‬وذلك بقتل من قتل» ‪.‬‬

‫اْلكم الرابع‪ :‬كيف يُقتل اجلاين عند القصاص؟‬


‫اختلف الفقهاء يف كيفية القتل على مذىبُت‪:‬‬
‫فذىب مالك والشافعي‪ :‬ورواية عن أضبد‪ ،‬أف القصاص يكوف على الصفة اليت قَػتَل‬
‫هبا‪ ،‬فمن قتل تغريقاً قُتل تغريقاً‪ ،‬ومن رضخ رأس إنساف حبجر‪ ،‬قُتل برضخ رأسو‬
‫ب َعلَْي ُك ُم القصاص} حيث أوجبت املماثلة‬ ‫ِ‬
‫باْلجر‪ ،‬واحتجوا باآلية الكرظمة { ُكت َ‬
‫فيقتص منو كما فعل‪.‬‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو‬
‫واحتجوا حبديث أنس‪« :‬أف يهودياً رضخ رأس امرأة حبجر‪ ،‬فرضخ النيب َ‬
‫َو َسلَّمَ رأسو حبجر» ‪.‬‬
‫وذىب أبو حنيفة وأضبد يف الرواية األخرى عنو‪ :‬إذل أف القتل ال يكوف إال بالسيف‪،‬‬
‫نفس بنفس‪ ،‬واستدلوا حبديث‪« :‬ال قود إالَّ بالسيف»‬ ‫ألف املطلوب بالقصاص إتبلؼ ٍ‬
‫وحديث «النهي عن املثْلة» وحديث «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة‪ ،‬وإذا ذحبتم فأحسنوا‬
‫ُ‬
‫الذحبة» وقالوا‪ :‬إذا ثبت حديث أنس كاف منسوخاً بالنهي عن املثْلة‪.‬‬
‫ُ‬
‫وقالوا‪ :‬إف القتل بغَت السيف من التحريق‪ ،‬والتفريق‪ ،‬والرضخ باْلجارة‪ ،‬واْلبس حىت‬
‫املوت ردبا زاد على املثل فكاف اعتداءً واهلل تعاذل يقوؿ‪{ :‬فَ َم ِن اعتدى بَػ ْع َد ذلك فَػلَوُ‬
‫ع َذ ِ‬
‫يم} وقد حكي أف (القاسم بن معن) حضر مع (شريك بن عبد اهلل) عند‬ ‫اب أَل ٌ‬
‫َ ٌ‬
‫‪ 64‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫بعض السبلطُت‪ ،‬فسألو ما تقوؿ‪ :‬فيمن رمى رجبلً بسه ٍم فقتلو؟ قاؿ‪ :‬يُرمى فيقتل‪،‬‬
‫قاؿ‪ :‬فإف دل ظمت بالرمية األوذل؟ قاؿ‪ :‬يُرمى ثانياً‪ ،‬قاؿ‪ :‬أفتتخذونو غرضاً وقد هنى‬
‫لعل ما ذىب إليو‬ ‫رسوؿ اهلل َ َّ َّ ِ َّ‬
‫صلى اللوُ َعلَْيو َو َسلمَ أف يُتخذ شيء من اْليواف غراً؟ و ّ‬
‫اْلنفية واْلنابلة يكوف أرجح واهلل أعلم‪.‬‬
‫اْلكم اخلامس‪ :‬من الذي يتوذل أمر القصاص؟‬
‫ألحد أف يقتص من ٍ‬
‫أحد حقو دوف‬ ‫قاؿ القرطيب‪« :‬اتفق أئمة الفتوى على أنو ال صموز ٍ‬
‫َ‬
‫السلطاف‪ ،‬وليس للناس أف يقتص بعضهم من بعض‪ ،‬وإسما ذلك للسلطاف‪ ،‬أو من‬
‫نصبو السلطاف لذلك‪ ،‬وهلذا جعل اهلل السلطاف ليقيض أيدي الناس بعضهم عن‬
‫بعض» ‪.‬‬

‫‪ 65‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫فريضة الصيام على المسلمين‬
‫ين ِم ْن قَػْبلِ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم‬ ‫َّ ِ‬
‫ب َعلَى الذ َ‬
‫ِ‬
‫الصيَ ُاـ َك َما ُكت َ‬ ‫ب َعلَْي ُك ُم ِّ‬ ‫ِ‬
‫ين َآمنُوا ُكت َ‬
‫َّ ِ‬
‫يَاأَيػُّ َها الذ َ‬
‫يضا أ َْو َعلَى َس َف ٍر فَعِ َّدةٌ ِم ْن أَيَّ ٍاـ‬ ‫ِ‬
‫ودات فَ َم ْن َكا َف مْن ُك ْم َم ِر ً‬
‫تَػتَّػ ُقو َف (ٖ‪ )ٔٛ‬أَيَّاما مع ُد ٍ‬
‫ً َْ َ‬
‫ع َخْيػًرا فَػ ُه َو َخْيػٌر لَوُ َوأَ ْف‬ ‫ُت فَ َم ْن تَطََّو َ‬ ‫ُخر و َعلَى الَّ ِذين يُ ِطي ُقونَوُ فِ ْديَةٌ طَ َع ُاـ ِمس ِك ٍ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫أ ََ َ‬
‫ضا َف الَّ ِذي أُنْ ِزَؿ فِ ِيو الْ ُق ْرآ ُف‬ ‫وموا َخْيػٌر لَ ُك ْم إِ ْف ُكْنتُ ْم تَػ ْعلَ ُمو َف (ٗ‪َ )ٔٛ‬ش ْه ُر َرَم َ‬ ‫صُ‬ ‫تَ ُ‬
‫ص ْموُ َوَم ْن‬ ‫َّهَر فَػ ْليَ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ ِ‬
‫َّاس َوبػَيِّػنَات م َن ا ْهلَُدى َوالْ ُف ْرقَاف فَ َم ْن َش ِه َد مْن ُك ُم الش ْ‬ ‫ُى ًدى لِلن ِ‬
‫ِ ِ‬
‫يد بِ ُك ُم‬ ‫يد اللَّوُ بِ ُك ُم الْيُ ْسَر َوَال يُِر ُ‬ ‫ُخَر يُِر ُ‬‫يضا أ َْو َعلَى َس َف ٍر فَع َّدةٌ م ْن أَيَّ ٍاـ أ َ‬ ‫َكا َف َم ِر ً‬
‫الْعُ ْسَر َولِتُ ْك ِملُوا الْعِ َّد َة َولِتُ َكبِّػ ُروا اللَّوَ َعلَى َما َى َدا ُك ْم َولَ َعلَّ ُك ْم تَ ْش ُك ُرو َف (٘‪َ )ٔٛ‬وإِ َذا‬
‫اف فَػ ْليَ ْستَ ِجيبُوا ِرل َولْيُػ ْؤِمنُوا‬ ‫َّاع إِ َذا دع ِ‬
‫يب َد ْع َوَة الد ِ َ َ‬ ‫يب أُج ُ‬
‫سأَلَك ِعب ِادي ع ٍِّت فَِإ ِّين قَ ِر ِ‬
‫ٌ‬ ‫َ َ َ َ‬
‫اس‬ ‫ب‬‫الرفَث إِ َذل نِسائِ ُكم ى َّن لِ‬ ‫َّ‬ ‫الصي ِ‬
‫اـ‬ ‫ِّ‬ ‫ة‬
‫َ‬ ‫ل‬
‫َ‬ ‫ػ‬‫ي‬ ‫َ‬‫ل‬ ‫م‬ ‫ك‬‫ُ‬ ‫ل‬
‫َ‬ ‫ل‬
‫َّ‬ ‫ِّب لَعلَّهم يػر ُش ُدو َف (‪ )ٔٛٙ‬أ ِ‬
‫ُح‬
‫َ ٌ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ ْ َْ‬
‫ِ‬ ‫لَ ُكم وأَنْػتم لِ‬
‫اب َعلَْي ُك ْم َو َع َفا‬ ‫اس َهلُ َّن َعل َم اللَّوُ أَنَّ ُك ْم ُكْنتُ ْم َزبْتَانُو َف أَنْػ ُف َس ُك ْم فَػتَ َ‬ ‫ب‬
‫ْ َ ُْ ٌ‬
‫َ‬
‫عْن ُكم فَ ْاآل َف ب ِ‬
‫ُت لَ ُك ُم‬‫ب اللَّوُ لَ ُك ْم َوُكلُوا َوا ْشَربُوا َح َّىت يػَتَبَػ َّ َ‬ ‫َ‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫ك‬
‫َ‬ ‫ا‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫ا‬
‫و‬ ‫غ‬
‫ُ‬ ‫ػ‬‫ت‬
‫َ‬ ‫ػ‬
‫ْ‬‫ب‬ ‫ا‬
‫و‬ ‫ن‬
‫َّ‬
‫َ ُ َ‬ ‫وى‬
‫ُ‬ ‫ر‬ ‫اش‬ ‫َ ْ‬
‫وى َّن‬ ‫ِ‬
‫الصيَ َاـ إِ َذل اللَّْي ِل َوَال تُػبَاش ُر ُ‬ ‫َس َوِد ِم َن الْ َف ْج ِر ُمثَّ أَِسبُّوا ِّ‬ ‫ط ْاألَبػيض ِمن ْ ِ‬
‫اخلَْيط ْاأل ْ‬ ‫اخلَْي ُ َْ ُ َ‬ ‫ْ‬
‫ُت اللَّوُ آيَاتِِو‬ ‫ِ‬ ‫ك ح ُد ِ‬ ‫ِِِ‬ ‫ِ‬
‫ك يػُبَػ ِّ ُ‬
‫وىا َك َذل َ‬ ‫ود اللَّو فَ َبل تَػ ْقَربُ َ‬‫َوأَنْػتُ ْم َعاك ُفو َف ِيف الْ َم َساجد ت ْل َ ُ ُ‬
‫َّاس لَ َعلَّ ُه ْم يػَتَّػ ُقو َف (‪)ٔٛٚ‬‬ ‫لِلن ِ‬

‫التحليل اللفظي‬
‫الًتؾ لو‪ ،‬يقاؿ‪ :‬صامت اخليل إذا‬
‫اإلمساؾ عن الشيء و ُ‬
‫ُ‬ ‫{الصياـ} ‪ :‬الصم يف اللغة‪:‬‬
‫أمسكت عن السَت‪ ،‬وصامت الريح إذا أمسكت عن اهلبوب‪.‬‬
‫قاؿ الراغب‪ :‬الصوـ‪ :‬اإلمساؾ عن الفعل مطعماً كاف أو كبلماً أو مشياً‪،‬‬

‫‪ 66‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫دمسك عن طعاـ‪ ،‬أو كبلـ‪ ،‬أو سَت فهو صائم‪.‬‬ ‫قاؿ أبو عبيدة‪ :‬كل ٍ‬
‫ويف الشرع‪ :‬ىو اإلمساؾ عن الطعاـ‪ ،‬والشراب‪ ،‬واجلماع‪ ،‬مع النيّة من طلوع الفجر إذل‬
‫غروب الشمس‪ .‬وكمالُو باجتناب احملظورات‪ ،‬وعدـ الوقوع يف احملرمات‪.‬‬
‫ِ‬
‫{فَع َّدةٌ} ‪ :‬قاؿ الراغب‪ :‬الع ّدةُ ىي الشيء املعدود‪ ،‬ومنو قولو تعاذل َ‬
‫{وَما َج َع ْلنَا‬
‫ِع َّدتَػ ُه ْم} [املدثر‪ ]ٖٔ :‬أي عددىم‪ .‬واملعٌت‪ :‬عليو أياـ عدد ما قد فاتو من رمضاف‪.‬‬
‫كالطحن دبعٌت املطحوف‪،‬‬ ‫قاؿ القرطيب‪« :‬والعِ ّدةُ فِع ٍلة من الع ّد وىي دبعٌت املعدود‪ِ ،‬‬
‫ْ‬
‫تقوؿ‪ :‬أمسع جعجعةً وال أرى ِطحناً‪ ،‬ومنو عدة املرأة» ‪.‬‬
‫ُخَر} ‪ :‬صبع أخرى‪ ،‬أي أياماً أخرى‪ ،‬وىي دمنوعة من الصرؼ ألهنا معدولة عن آخر‬ ‫{أ َ‬
‫الصغَر‪ ،‬وال ُك َرب‪ .‬وإسما‬
‫على رأي الكسائي‪ ،‬وعن األلف والبلـ على رأي سيبويو‪ ،‬مثل‪ُ :‬‬
‫وصف‬
‫ٌ‬ ‫أوثر ىنا اجلمع ألنو لو جيء بو مفرداً فقيل‪ :‬عدة من ٍ‬
‫أياـ أخرى ألوىم أنو‬
‫لعدة فيفوت املقصود‪.‬‬
‫{يُ ِطي ُقونَوُ} ‪ :‬أي يصومونو دبشقة وعسر‪ .‬قاؿ يف «اللساف» ‪ :‬واإلطاقة القدرة على‬
‫الشيء‪ ،‬وىو يف طوقي أي وسعي‪ ،‬وأطاؽ وإطاقة إذا قوي عليو‪.‬‬
‫وقاؿ الراغب‪ :‬والطاقة اسم ملقدار ما ظمكن لئلنساف أف يفعلو دبشقة‪ ،‬وشبّو بالطوؽ‬
‫احمليط بالشيء‪.‬‬
‫{فِ ْديَةٌ} ‪ :‬الفدية ما يفدي بو اإلنساف نفسو من ماؿ وغَته‪ ،‬بسبب تقصَت وقع منو يف‬
‫عبادة من العبادات‪ ،‬وىي تشبو الك ّفارة من بعض الوجوه‪.‬‬
‫الشهر معروؼ‪ ،‬وأصلو من االشتهار وىو الظهور‪ ،‬يقاؿ‪ :‬شهر األمر‬ ‫ُ‬ ‫{ش ْهُر} ‪:‬‬
‫َ‬
‫أظهره‪ ،‬وشهرالسيف استلّو‪ ،‬ومسي الشهر شهراً لشهرة أمره‪ ،‬لكونو ميقاتاً للعبادات‬
‫واملعامبلت‪ ،‬فصار مشتهراً بُت الناس‪.‬‬

‫‪ 67‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫الرمض أي شدة وقع الشمس‪ ،‬والرمضاء شدة‬ ‫ضا َف} ‪ :‬قاؿ الراغب‪ :‬رمضاف ىو ّ‬ ‫{رَم َ‬
‫َ‬
‫حر الشمس‪ ،‬ورمضت الغنم‪ :‬رعت يف الرمضاء فقرحت أكبادنا‪ .‬ومسي رمضاف ألنو‬
‫يرمض الذنوب أي ضمرقها‪.‬‬
‫مسوىا باألزموة اليت وقعت‬ ‫قاؿ الزخمشري‪« :‬ملا نقلوا أمساء الشهور عن اللغة القدظمة‪ّ ،‬‬
‫اْلر فسمي رمضاف» ‪.‬‬ ‫فيها‪ ،‬فوافق ىذا الشهر أياـ رمض ّ‬
‫وقيل‪ :‬إسما مسّي رمضاف ألنو يرمض الذنوب أي ضمرقها باألعماؿ الصاْلة‪.‬‬
‫متضمن ملا يُستقبح ذكره من‬ ‫ٌ‬ ‫كبلـ‬
‫{الرفث} ‪ :‬اجلماع ودواعيو‪ ،‬قاؿ الراغب‪ :‬الرفث‪ٌ :‬‬
‫ذكر اجلماع ودواعيو‪ ،‬وقد جعل كناية عن اجلماع يف قولو تعاذل‪{ :‬أ ُِح َّل لَ ُك ْم لَْيػلَةَ‬
‫الصياـ الرفث إذل نِ َسآئِ ُك ْم} تنبيهاً إذل جواز دعائهن إذل ذلك ومكاملتهن فيو‪.‬‬
‫كٍت بو عن اجلماع قاؿ الشاعر‪:‬‬ ‫وأصل الرفث‪ :‬قوؿ الفحش مث ّ‬
‫وهبن عن رفث الرجاؿ نَِفار‬ ‫ويػَُريْن من أُنْس اْلديث زوانياً ‪ّ ...‬‬
‫قاؿ ابن عباس‪ :‬الرفث ىو اجلماع‪ ،‬إف اهلل َعَّز َو َج َّل كرًن حليم يكٍت‪.‬‬
‫{زبْتانُو َف} ‪ :‬االختياف من اخليانة‪ ،‬كاالكتساب من الكسب‪ ،‬ومعناه‪ :‬مراودة اخليانة‪.‬‬ ‫َ‬
‫{عاكفوف} ‪ :‬العكوؼ واالعتكاؼ أصلو اللزوـ‪ ،‬يقاؿ‪ :‬عكفت باملكاف أي أقمت بو‬
‫ُت حىت يَػْرِج َع إِلَْيػنَا موسى} [طو‪]ٜٔ :‬‬ ‫ِ ِِ‬
‫مبلزماً قاؿ تعاذل‪{ :‬لَن نػَّْبػَر َح َعلَْيو َعاكف َ‬
‫ويف الشرع ىو املكث يف املسجد للعبادة بنيّة القربة هلل تعاذل‪.‬‬
‫ود اهلل} ‪ :‬اْلدود صبع ح ّد‪ ،‬واْل ّد يف اللغة‪ :‬املنع‪ ،‬ومنو مسي اْلديد حديداً ألنو‬ ‫{ح ُد ُ‬
‫ُ‬
‫البواب ح ّداداً ألنو ظمنع من الدخوؿ أو اخلروج إال بإذف‪،‬‬ ‫ظمتنع بو من األعداء‪ ،‬ومسي ّ‬
‫اْلدود ما منع‬ ‫وأح ّدث املرأة على زوجها إذا تركت الزينة وامتنعت منها‪ .‬قاؿ الزجاج‪ُ « :‬‬
‫اهلل تعاذل من خمالفتها‪ ،‬فبل صموز جمازوهتا» ‪.‬‬

‫‪ 68‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫سبب النزوؿ‬
‫صلَّى‬ ‫ِ‬
‫ٔ ‪ -‬روى ابن جرير عن معاذ بن جبل َرض َي اللَّوُ َعْنو أنو قاؿ‪« :‬إ ّف رسوؿ اهلل َ‬
‫اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ قدـ املدينة فصاـ يوـ عاشوراء‪ ،‬وثبلثة أياـ من كل شهر» ‪ ،‬مث إف اهلل‬
‫ب َعلَْي ُك ُم‬ ‫ِ‬
‫َعَّز َو َج َّل فرض شهر رمضاف‪ ،‬فأنزؿ اهلل تعاذل ذكره {ياأيها الذين َآمنُواْ ُكت َ‬
‫ُت} فكاف من شاء صاـ‪،‬‬ ‫الصياـ} حىت بلغ {و َعلَى الذين يُ ِطي ُقونَوُ فِ ْديَةٌ طَ َع ُاـ ِمس ِك ٍ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ومن شاء أفطر وأطعم مسكيناً‪ ،‬مث إف اهلل َعَّز َو َج َّل أوجب الصياـ على الصحيح‬
‫املقيم‪ ،‬وثبت اإلطعاـ للكبَت الذي ال يستطيع الصوـ‪ ،‬فأنزؿ اهلل َعَّز َو َج َّل {فَ َمن َش ِه َد‬
‫ص ْموُ ‪. } ...‬‬ ‫ِ‬
‫َّهَر فَػ ْليَ ُ‬
‫من ُك ُم الش ْ‬
‫ِ‬
‫{و َعلَى الذين يُطي ُقونَوُ‬ ‫وروي عن سلمة بن األكوع أنو قاؿ «ملا نزلت ىذه اآلية َ‬ ‫ٕ‪ُ -‬‬
‫ُت} كاف من شاء منا صاـ‪ ،‬ومن شاء أف يفطلر ويفتدي فعل ذلك‪،‬‬ ‫فِ ْديَةٌ طَ َع ُاـ ِمس ِك ٍ‬
‫ْ‬
‫ِ‬
‫ص ْموُ} ‪.‬‬ ‫حىت نزلت اآلية اليت بعدىا فنسختها {فَ َمن َش ِه َد من ُك ُم الش ْ‬
‫َّهَر فَػ ْليَ ُ‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ فقالوا‪ :‬يا حممد‬ ‫ٖ ‪ -‬وروي أف صباعة من األعراب سألوا النيب َ‬
‫ِ‬ ‫أقريب ربنا فنناجيو؟ أـ بعي ٌد فنناديو؟ فأنزؿ اهلل {وإِذَا سأَلَ ِ ِ‬
‫ك عبَادي َع ٍِّت فَإ ِّين قَ ِر ٌ‬
‫يب‬ ‫َ َ َ‬ ‫ٌ‬
‫‪ } ...‬اآلية‪.‬‬
‫صلَّى اللَّوُ‬ ‫ٗ ‪ -‬وروي البخاري عن (الرباء بن عازب) أنو قاؿ‪ »:‬كاف أصحاب حممد َ‬
‫َعلَْي ِو َو َسلَّمَ إذا كاف الرجل صائماً فحضر اإلفطار فناـ قبل أف يفطر‪ ،‬دل يأكل ليلتو‬
‫وال يومو حىت ظمسي‪ ،‬وإ ّف (قيس بن صرمة) األنصاري كاف صائماً‪ ،‬وكاف يعمل‬
‫طعاـ؟ قالت‪ :‬ال‪،‬‬ ‫ِ‬
‫بالنخيل يف النهار‪ ،‬فلما حضر اإلفطار أتى امرأتو فقاؿ هلا‪ :‬أعندؾ ٌ‬
‫أنطلق فأطلب لك‪ ،‬وكاف يومو يعمل‪ ،‬فغلبتو عيناه فجاءتو امرأتو فلما رأتو‬ ‫ُ‬ ‫ولكن‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو‬
‫قالت‪ :‬خيبةً لك‪ ،‬فلما انتصف النهار غشي عليو‪ ،‬فذكر ذلك للنيب َ‬

‫‪ 69‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫َو َسلَّمَ فنزلت ىذه اآلية {أ ُِح َّل لَ ُك ْم لَْيػلَةَ الصياـ الرفث إذل نِ َسآئِ ُك ْم} ففرحوا فرحاً‬
‫ُت لَ ُك ُم اخليط األبيض ِم َن اخليط األسود} ‪.‬‬ ‫{وُكلُواْ واشربوا حىت يَػتَبَػ َّ َ‬
‫شديداً‪ ،‬فنزلت َ‬

‫األحكام الشرعية‬

‫صياـ قبل رمضاف؟‬ ‫اْلكم األوؿ‪ :‬ىل فرض على املسلمُت ٌ‬


‫ات} على أف املفروض على املسلمُت من الصياـ‬ ‫يدؿ ظاىر قولو تعاذل‪{ :‬أَيَّاماً َّمع ُدود ٍ‬
‫ْ َ‬
‫إسما ىو ىذه األياـ (أياـ رمضاف) وإذل ىذا ذىب أكثر املفسرين‪ ،‬وىو مروي عن ابن‬
‫عباس واْلسن‪ ،‬واختاره ابن جرير الطربي‪.‬‬
‫وروي عن قتادة وعطاء أف املفروض على املسلمُت كاف ثبلثة أياـ من كل شهر‪ ،‬مث‬
‫{و َعلَى الذين يُ ِطي ُقونَوُ فِ ْديَةٌ}‬ ‫فرض عليهم صوـ رمضاف‪ ،‬وحجتهم أف قولو تعاذل‪َ :‬‬
‫يدؿ على أنو واجب على التخيَت‪ ،‬و ّأما صوـ رمضاف فإنو واجب على التعيُت‪ ،‬فوجب‬
‫أف يكوف صوـ ىذه األياـ غَت صوـ رمضاف‪.‬‬
‫ب َعلَْي ُك ُم الصياـ} جممل ضمتمل أف يكوف يوماً‬ ‫واستدؿ اجلمهور بأف قولو تعاذل‪ُ { :‬كتِ‬
‫َ‬
‫ات} وىذا أيضاً‬ ‫أو يومُت أو أكثر من ذلك فبينو بعض البياف بقولو‪{ :‬أَيَّاماً َّمع ُدود ٍ‬
‫ْ َ‬
‫ضا َف} فكاف ذلك‬ ‫{ش ْهُر َرَم َ‬
‫ضمتمل أف يكوف أسبوعاً أو شهراً‪ ،‬فبيّنو تعاذل بقولو‪َ :‬‬
‫حجة واضحة على أ ّف الذي فرضو على املسلمُت ىو شهر رمضاف‪.‬‬
‫قاؿ ابن جرير الطربي‪« :‬وأوذل األقواؿ بالصواب عندي قوؿ من قاؿ‪ :‬عٌت جل ثناؤه‬
‫ات} أياـ شهر رمضاف‪ ،‬وذلك أنو دل يأت خرب تقوـ بو حجة بأف‬ ‫بقولو‪{ :‬أَيَّاماً َّمع ُدود ٍ‬
‫ْ َ‬
‫صوماً فرض على أىل اإلسبلـ غَت صوـ شهر رمضاف مث نسخ بصوـ رمضاف‪ ،‬ألف اهلل‬
‫تعاذل قد ّبُت يف سياؽ اآلية أف الصوـ الذي أوجبو علينا ىو صوـ شهر رمضاف دوف‬

‫‪ 71‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫ضا َف‬
‫{ش ْهُر َرَم َ‬
‫غَته من األوقات‪ ،‬بإبانتو عن األياـ اليت كتب علينا صومها بقولو‪َ :‬‬
‫الذي أُنْ ِزَؿ فِ ِيو القرآف} فتأويل اآلية كتب عليكم أيها املؤمنوف الصياـ‪ ،‬كما كتب على‬
‫من قبلكم لعلكم تتقوف‪ ،‬أياماً معدودات ىي شهر رمضاف» ‪.‬‬

‫اْلكم الثاين‪ :‬ما ىو املرض والسفر املبيح لئلفطار؟‬


‫أباح اهلل تعاذل للمريض واملسافر الفطر يف رمضاف‪ ،‬رضبة بالعباد وتيسَتاً عليهم‪ ،‬وقد‬
‫اختلف الفقهاء يف املرض املبيح للفطر على أقواؿ‪:‬‬
‫أوالً ‪ -‬قاؿ أىل الظاىر‪ :‬مطلق املرض والسفر يبيح لئلنساف اإلفطار حىت ولو كاف‬
‫السفر قصَتاً واملرض يسَتاً حىت من وجع اإلصبع والضرس‪ ،‬وروي ىذا عن عطاء وابن‬
‫سَتين‪.‬‬
‫ثانياً ‪ -‬وقاؿ بعض العلماء إف ىذه الرخصة خمتصة باملريض الذي لو صاـ لوقع يف‬
‫وصمهده‪ ،‬وىو قوؿ األصم‪.‬‬ ‫وجهد‪ ،‬وكذلك املسافر الذي يُضينو السفر ُ‬ ‫مشقة ُ‬
‫ثالثاً ‪ -‬وذىب أكثر الفقهاء إذل أف املرض املبيح للفطر‪ ،‬ىو املرض الشديد الذي‬
‫يؤدي إذل ضرر يف النفس‪ ،‬أو زيادةٍ يف العلة‪ ،‬أو ُطمشى معو تأخر الربء‪ ،‬والسفر الطويل‬
‫الذي يؤدي إذل مشقةً يف الغالب‪ ،‬وىذا مذىب األئمة األربعة‪.‬‬
‫دليل الظاىرية‪:‬‬
‫استدؿ أىل الظاىر بعموـ اآلية الكرظمة {فَ َمن َكا َف ِمن ُكم َّم ِريضاً أ َْو على َس َف ٍر} حيث‬
‫أُطلق اللفظ ودل يُقيّد املرض بالشديد‪ ،‬وال السفر بالبعيد‪ ،‬فمطلق املرض والسفر يبيح‬
‫فاعتل بوجع‬
‫ّ‬ ‫اإلفطار‪ ،‬حكي أهنم دخلوا على (ابن سَتين) يف رمضاف وىو يأكل‪،‬‬
‫أصبعو‪.‬‬

‫‪ 71‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫وقاؿ داود‪ :‬الرخصة حاصلة يف كل سفر‪ ،‬ولو كاف السفر فرسخاً ألنو يقاؿ لو‪:‬‬
‫مسافر‪ ،‬وىذا ما دؿ عليو ظاىر القرآف‪.‬‬
‫دليل اجلمهور‪:‬‬
‫استدؿ صبهور الفقهاء على أف املرض اليسَت الذي ال كلفة معو ال يبيح اإلفطار بقولو‬
‫يد بِ ُك ُم العسر} فاآلية قد دلت على‬‫يد اهلل بِ ُك ُم اليسر َوالَ يُِر ُ‬
‫تعاذل يف آية الصياـ {يُِر ُ‬
‫أف الفرض من الًتخيص‪.‬‬
‫املرض خفيفاً والسفر قريباً فبل يقاؿ إف ىناؾ مشقة رفعت عن الصائم‪ ،‬فأي مشقة من‬
‫وجع األصبع والضرس؟‬
‫الًتجيح‪ :‬أقوؿ ما ذىب إليو اجلمهور ىو الصحيح الذي يتقبلو العقل بقبوؿ حسن‪،‬‬
‫فإف اْلكمة اليت من أجلها ُر ّخص للمريض يف اإلفطار ىي إرادة اليسر‪ ،‬وال يراد اليسر‬
‫مشقة يف وجع األصبع‪ ،‬أو الصداع اخلفيف واملرض اليسَت‪،‬‬ ‫إالّ عند وجود املشقة‪ ،‬فأي ٍ‬
‫الذي ال كلفة معو يف الصياـ؟ مثّ إف من األمراض ما ال يكوف شفاؤه إال بالصياـ‪،‬‬
‫جل وعبل إالّ على حسب ما‬ ‫فكيف يباح الفطر ملن كاف مرضو كذلك؟ ودل يكلفنا اهلل ّ‬
‫العلة‪،‬‬
‫يكوف يف غالب الظن‪ ،‬فيكفي أف يظهر أف الصوـ يكوف سبباً للمرض‪ ،‬أو زيادة ّ‬
‫فأمر يتناىف مع إرادة اليسر باملكلفُت‪.‬‬ ‫أما اإلطبلؽ فيو أو التضييق ٌ‬
‫قاؿ القرطيب‪« :‬للمريض حالتاف‪ :‬إحداشما ‪ -‬أالّ يطيق الصوـ حباؿ فعليو الفطر واجباً‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬أف يقدر على الصوـ بضرر ومشقة‪ ،‬فهذا يستحب لو الفطر‪ ،‬وال يصوـ إال‬
‫مرض يؤملو ويؤذيو‪ ،‬أو طماؼ سباديو‪ ،‬أو طماؼ‬ ‫جاىل وقاؿ صبهور العلماء‪ :‬إذا كاف بو ٌ‬
‫صح لو الفطر‪ ،‬واختلفت الرواية عن مالك يف املرض املبيح للفطر‪ ،‬فقاؿ مرة‪:‬‬ ‫زيادتو ّ‬
‫ىو خوؼ التلف من الصياـ‪ ،‬وقاؿ مرة‪ :‬ىو شدة املرض‪ ،‬والزيادة فيو‪ ،‬واملشقة‬
‫الفادحة‪ ،‬وىذا صحيح مذىبو وىو مقتضى الظاىر» ‪.‬‬

‫‪ 72‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫اْلكم الثالث‪ :‬ما ىو السفر املبيح لئلفطار؟‬
‫وأما السفر املبيح لئلفطار فقد اختلف الفقهاء فيو بعد اتفاقهم على أنو ال ب ّد أف‬
‫يكوف سفراً طويبلً على أقواؿ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬قاؿ األوزاعي‪ :‬السفر املبيح للفطر مسافة يوـ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬وقاؿ الشافعي وأضبد‪ :‬ىو مسَتة يومُت وليلتُت‪ ،‬ويقدر بستة عشر فرسخاً‪.‬‬
‫ج ‪ -‬وقاؿ أبو حنيفة والثوري‪ :‬مسَتة ثبلثة أياـ بلياليها ويقدر بأربعة وعشرين فرسخاً‪.‬‬
‫حجة األوزاعي‪:‬‬
‫سفر قصَت قد يتفق للمقيم‪ ،‬والغالب أف املسافر ىو الذي ال‬ ‫أ ّف السفر أقل من يوـ ٌ‬
‫يوـ واحد‬
‫يتمكن من الرجوع إذل أىلو يف ذلك اليوـ‪ ،‬فبل ب ّد أف يكوف أقل مدة للسفر ٌ‬
‫حىت يباح لو الفطر‪.‬‬
‫حجة الشافعي وأضبد‪:‬‬
‫وتعب اليوـ الواحد يسهل ربملو‪،‬‬
‫أوالً‪ :‬أف السفر الشرعي ىو الذي تُقصر فيو الصبلة‪ُ ،‬‬
‫ّأما إذا تكرر التعب يف اليومُت فإنو يشق ربملو فيناسب الرخصة‪.‬‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ أنو قاؿ‪« :‬يا أىل مكة ال تقصروا يف‬
‫ثانياً‪ :‬ما روي عن النيب َ‬
‫أدىن من أربعة بُرد من مكة إذل عسفاف» ‪.‬‬
‫قاؿ أىل اللغة‪ :‬وكل بريد أربعة فراسخ‪ ،‬فيكوف جمموعة ستة عشر فرسخاً‪.‬‬
‫مر‬
‫ثالثاً‪ :‬ما روي عن عطاء أنو قاؿ البن عباس‪ :‬أقصر إذل عرفة؟ فقاؿ‪ :‬ال‪ ،‬فقاؿ‪ :‬إذل ّ‬
‫الظهراف؟ فقاؿ‪ :‬ال‪ ،‬ولكن أقصر إذل جدة‪ ،‬وعسفاف‪ ،‬والطائف‪.‬‬
‫قاؿ القرطيب‪ :‬والذي يف «البخاري» ‪« :‬وكاف ابن عمر وابن عباس يفطراف ويقصراف يف‬
‫أربعة برد‪ ،‬وىي ستة عشر فرسخاً» ‪.‬‬

‫‪ 73‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫وىذا ىو املشهور من مذىب مالك َرِضبَوُ اللَّوُ‪ ،‬وقد روي عنو أنو قاؿ‪ :‬أقلو يوـ وليلة‪،‬‬
‫يوـ وليلة إال‬ ‫واستدؿ حبديث «ال ضمل المرأة تؤمن باهلل واليوـ اآلخر تسافر مسَتة ٍ‬
‫ومعها ذو حمرـ» رواه البخاري‪.‬‬
‫حجة أّب حنيفة والثوري‪:‬‬
‫ِ‬
‫ص ْموُ} يوجب‬ ‫أوالً‪ :‬واحتج أبو حنيفة بأف قولو تعاذل‪{ :‬فَ َمن َش ِه َد من ُك ُم الش ْ‬
‫َّهَر فَػ ْليَ ُ‬
‫الصوـ‪ ،‬ولكنّا تركناه يف ثبلثة األياـ لئلصباع على الرخصة فيها‪ ،‬أما فيما دوهنا‬
‫فمختلف فيو فوجب الصوـ احتياطياً‪.‬‬
‫ثانياً‪ :‬واحتج بقولو عليو السبلـ‪« :‬ظمسح املقيم يوماً وليلة‪ ،‬واملسافر ثبلثة أياـ ولياليها»‬
‫السفر‪ ،‬والرخص ال تعلم إالّ من الشرع‪ ،‬فوجب‬ ‫فقد جعل الشارع علة املسح ثبلثة أياـ ُ‬
‫اعتبار الثبلث سفراً شرعياً‪.‬‬
‫الس َبلـُ ‪« :‬ال تسافر امرأة فوؽ ثبلثة أياـ إال ومعها ذو‬ ‫ثالثاً‪ :‬وبقولو َعلَْي ِو َّ‬
‫الص َبلة َو َّ‬
‫فتبُت أف الثبلثة قد تعلق هبا حكم شرعي‪ ،‬وغَتىا دل يتعلق فوجب تقديرىا يف‬ ‫حمرـ» ّ‬
‫إباحة الفطر‪.‬‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ‬‫قاؿ ابن العرّب يف تفسَته «أحكاـ القرآف» ‪« :‬وثبت عن النيب َ‬
‫أنو قاؿ‪ »:‬ال ضمل المرأة تؤمن باهلل واليوـ اآلخر أف تسافر مسَتة يوـ وليلة إالّ ومعها‬
‫ذو حمرـ «ويف حديث (سفر ثبلثة أياـ) فرأى أبو حنيفة أف السفر يتحقق يف أياـ‪ :‬يوـ‬
‫يتحمل فيو عن أىلو‪ ،‬ويوـ ينزؿ فيو يف مستقره‪ ،‬واليوـ األوسط ىو الذي يتحقق فيو‬
‫تقصر» ‪.‬‬‫ترخص‪ ،‬ورجل ّ‬ ‫السَت اجملرد‪ ،‬فرجل احتاط وزاد‪ ،‬ورجل ّ‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ منع املرأة‬ ‫أقوؿ‪ :‬أمور العبادة ينبغي فيها االحتياط‪ ،‬وملا ثبت عنو َ‬
‫من السفر مسَتة ثبلثة أياـ‪ ،‬وثبت يوـ وليلة وكبلشما يف الصحيح‪ ،‬لذا كاف العمل‬
‫بالثبلث أحوط‪ ،‬فلعل ما ذىب إليو أبو حنيفة يكوف أرجح واهلل أعلم‪.‬‬

‫‪ 74‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫اْلكم الرابع‪ :‬ىل اإلفطار للمريض واملسافر رخصة أـ عزظمة؟‬
‫ذىب أىل الظاىر إذل أنو صمب على املريض واملسافر أف يفطرا‪ ،‬ويصوما عدة من أياـ‬
‫أخرى‪ ،‬وأهنما لو صاما ال صمزئ صومهما لقولو تعاذل‪{ :‬فَ َمن َكا َف ِمن ُكم َّم ِريضاً أ َْو‬
‫ِ‬
‫ُخَر} واملعٌت‪ :‬فعليو عدة من أياـ أخر‪ ،‬وىذا يقتضي‬ ‫على َس َف ٍر فَع َّدةٌ ِّم ْن أَيَّ ٍاـ أ َ‬
‫الوجوب‪ .‬وبقولو عليو السبلـ‪« :‬ليس من الرب الصياـ يف السفر» وقد روي ىذا عن‬
‫بعض علماء السلف‪.‬‬
‫وذىب اجلمهور وفقهاء األمصار إذل أف اإلفطار رخصة‪ ،‬فإف شاء أفطر وإف شاء صاـ‬
‫واستدلوا دبا يلي‪:‬‬
‫ٔ ‪ -‬قالوا‪ :‬إف يف اآلية إضماراً تقديره‪ :‬فأفطر فعليو عدة من أياـ أخر‪ ،‬وىو نظَت قولو‬
‫اؾ اْلجر فانفجرت} [البقرة‪ ]ٙٓ :‬والتقدير‪ :‬فضرب‬ ‫صَ‬‫تعاذل‪{ :‬فَػ ُق ْلنَا اضرب بِّػ َع َ‬
‫فانفجرت‪ ،‬وكذلك قولو تعاذل‪{ :‬فَ َمن َكا َف ِمن ُكم َّم ِريضاً أ َْو بِِو أَذًى ِّمن َّرأْ ِس ِو فَِف ْديَةٌ}‬
‫[البقرة‪ ]ٜٔٙ :‬أي فحلق فعليو فدية واإلضمار يف القرآف كثَت ال ينكره إال جاىل‪.‬‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ باخلرب املستفيض أنو صاـ يف‬ ‫ب ‪ -‬واستدلوا دبا ثبت عن النيب َ‬
‫السفر‪.‬‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ يف‬ ‫ج ‪ -‬ودبا ثبت عن أنس قاؿ‪« :‬سافرنا مع رسوؿ اهلل َ‬
‫رمضاف‪ ،‬فلم يعب الصائم على املفطر‪ ،‬وال املفطر على الصائم» ‪.‬‬
‫د ‪ -‬وقالوا‪ :‬إف املرض والسفر من موجبات اليسر شرعاً وعقبلً‪ ،‬فبل يصح أف يكونا‬
‫سبباً للعسر‪.‬‬

‫‪ 75‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫وأما ما استدؿ بو أىل الظاىر من قولو عليو السبلـ «ليس من الرب الصياـ يف السفر»‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ رأى رجبلً يظلّل‬‫ارد على سبب خاص وىو أف النيب َ‬ ‫فهذا و ٌ‬
‫والزحاـ عليو شديد فسأؿ عنو فقالوا‪ :‬صائم أجهده العطش فذكر اْلديث‪.‬‬
‫قاؿ ابن العرّب يف تفسَته «أحكاـ القرآف» ‪« :‬وقد عُزي إذل قوـ‪ :‬إف سافر يف رمضاف‬
‫قضاه‪ ،‬صامو أو أفطره‪ ،‬وىذا ال يقوؿ بو إال الضعاء األعاجم‪ ،‬فإف جزالة القوؿ‪ ،‬وقوة‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ الصوـ يف‬
‫الفصاحة‪ ،‬تقتضي تقدير (فأفطر) وقد ثبت عن النيب َ‬
‫السفر قوالً وفعبلً‪ ،‬وقد بينا ذلك يف شرح الصحيح وغَته» ‪.‬‬

‫اْلكم اخلامس‪ :‬ىل الصياـ أفضل أـ اإلفطار؟‬


‫وقد اختلف الفقهاء القائلوف بأف اإلفطار رخصة يف أيهما أفضل؟‬
‫فذىب أبو حنيفة‪ ،‬والشافعي‪ ،‬ومالك إذل أف الصياـ أفضل ملن قوي عليو‪ ،‬ومن دل يقو‬
‫ومواْ َخْيػٌر لَّ ُك ْم}‬
‫صُ‬‫{وأَف تَ ُ‬
‫على الصياـ كاف الفطر لو أفضل‪ ،‬أما األوؿ فلقولو تعاذل‪َ :‬‬
‫يد بِ ُك ُم العسر} ‪.‬‬
‫يد اهلل بِ ُك ُم اليسر َوالَ يُِر ُ‬
‫وأما الثاين فلقولو تعاذل‪{ :‬يُِر ُ‬
‫وذىب أضبد َرِضبَوُ اللَّوُ إذل أف الفطر أفضل أخذاً بالرخصة‪ ،‬فإف اهلل تعاذل ضمب أف‬
‫تؤتى رخصو‪ ،‬كما ضمب أف تؤتى عزائمو‪.‬‬
‫وذىب عمر بن عبد العزيز َر ِض َي اللَّوُ َعْنو إذل أ ّف أفضلهما أيسرشما على املرء‪.‬‬
‫الًتجيح‪ :‬وما ذىب إليو اجلمهور ىو األرجح لقوة أدلتهم واهلل تعاذل أعلم‪.‬‬
‫اْلكم السادس‪ :‬ىل صمب قضاء الصياـ متتابعاً؟‬
‫كمرض أو سفر قضاه متتابعاً‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ذىب علي‪ ،‬وابن عمر‪ ،‬والشعيب إذل أ ّف من أفطر لعذ ٍر‬
‫وحجتهم أف القضاء نظَت األداء‪ ،‬فلما كاف األداء متتابعاً‪ ،‬فكذلك القضاء‪.‬‬

‫‪ 76‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫وذىب اجلمهور إذل أف القضاء صموز فيو كيف ما كاف‪ ،‬متفرقاً أو متتابعاً‪ ،‬وحجتهم‬
‫ِ‬
‫قولو تعاذل‪{ :‬فَع َّدةٌ ِّم ْن أَيَّ ٍاـ أ َ‬
‫ُخَر} فاآلية دل تشًتط إالّ صياـ أياـ بقدر األياـ اليت‬
‫أفطرىا‪ ،‬وليس فيها ما يدؿ على التتابع فهي نكرة يف سياؽ اإلثبات‪ ،‬فأي ٍ‬
‫يوـ صامو‬
‫قضاءً أجزأه‪.‬‬
‫واستدلوا دبا روى عن أّب عبيدة بن اجلراح أنو قاؿ‪« :‬إ ّف اهلل دل يرخص لكم يف فطره‬
‫ففرؽ» ‪.‬‬
‫وىو يريد أف يشق عليكم يف قضائو‪ ،‬إف شئت فواصل وإف شئت ّ‬
‫الًتجيح‪ :‬والراجح ما ذىب إليو اجلمهور لوضوح أدلتهم واهلل أعلم‪.‬‬

‫{و َعلَى الذين يُ ِطي ُقونَوُ فِ ْديَةٌ} ؟‬


‫اْلكم السابع‪ :‬ما املراد من قولو تعاذل‪َ :‬‬
‫يرى بعض العلماء أف الصياـ كاف قد شرع ابتداءً على التخيَت‪ ،‬فكاف من شاء صاـ‪،‬‬
‫ومن شاء أفطر وافتدى‪ ،‬يطعم عن كل يوـ مسكيناً‪ ،‬مث نسخ ذلك بقولو تعاذل‪{ :‬فَ َمن‬
‫ِ‬
‫ص ْموُ} وىذا رأي األكثرين واستدلوا ملا رواه البخاري ومسلم عن‬ ‫َش ِه َد من ُك ُم الش ْ‬
‫َّهَر فَػ ْليَ ُ‬
‫{و َعلَى الذين يُ ِطي ُقونَوُ} كاف من شاء‬ ‫(سلمة بن األكوع) أنو قاؿ‪ :‬ملا نزلت ىذه اآلية َ‬
‫منّا صاـ‪ ،‬ومن شاء أفطر ويفتدي حىت نزلت اآلية اليت بعدىا فنسختها {فَ َمن َش ِه َد‬
‫ص ْموُ} وىذا مروي عن ابن مسعود‪ ،‬ومعاذ‪ ،‬وابن عمر وغَتىم‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َّهَر فَػ ْليَ ُ‬
‫من ُك ُم الش ْ‬
‫ويرى آخرو َف أف اآلية غَت منسوخة‪ ،‬وأهنا نزلت يف الشيخ الكبَت‪ ،‬واملرأة العجوز‪،‬‬
‫واملريض الذي ُصمهده الصوـ‪ ،‬وىذا مروي عن ابن عباس‪.‬‬
‫(رخص للشيخ الكبَت أف يفطر‪ ،‬ويطعم عن كل يوـ مسكيناً‪ ،‬وال‬ ‫قاؿ ابن عباس‪ّ :‬‬
‫قضاء عليو) ‪.‬‬

‫‪ 77‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫ِ‬
‫{و َعلَى الذين‬ ‫وروى البخاري عن عطاء أنو مسع ابن عباس َرض َي اللَّوُ َعْنهما يقرأ‪َ :‬‬
‫ُت} قاؿ ابن عباس‪ :‬ليست دبنسوخة‪ ،‬ىي للشيخ الكبَت‪،‬‬ ‫يُ ِطي ُقونَوُ فِ ْديَةٌ طَ َع ُاـ ِمس ِك ٍ‬
‫ْ‬
‫واملرأة الكبَتة‪ ،‬ال يستطيعاف أف يصوما فيطعماف مكاف كل يوـ مسكيناً‪.‬‬
‫{و َعلَى الذين يُ ِطي ُقونَوُ}‬
‫وعلى ىذا تكوف اآلية غَت منسوخة‪ ،‬ويكوف معٌت قولو تعاذل‪َ :‬‬
‫{يطوقونو} أي‬ ‫أي وعلى الذين يقدروف على الصوـ مع الش ّدة واملشقة‪ ،‬ويؤيده قراءة ّ‬
‫يكلّفونو مع املشقة‪.‬‬

‫اْلكم الثامن‪ :‬ما ىو حكم اْلامل واملرضع؟‬


‫اْلبلى واملرضع إذا خافتا على أنفسهما أو على ولديهما أفطرتا‪ ،‬ألف حكمهما حكم‬
‫املريض‪ ،‬وقد سئل اْلسن البصري عن اْلامل واملرضع إذا خافتا على أنفسهما أو‬
‫مرض أشد من اْلمل؟ تفطر وتقضي‪.‬‬ ‫أي ٍ‬ ‫ولدشما فقاؿ‪ّ :‬‬
‫وىذا باتفاؽ الفقهاء‪ ،‬ولكنهم اختلفوا ىل صمب عليهما القضاء مع الفدية‪ ،‬أـ صمب‬
‫القضاء فقط؟‬
‫ذىب أبو حنيفة إذل أف الواجب عليهما ىو القضاء فقط‪ ،‬وذىب الشافعي وأضبد إذل‬
‫أف عليهما القضاء مع الفدية‪.‬‬
‫حجة الشافعي وأضبد‪:‬‬
‫{و َعلَى الذين يُ ِطي ُقونَوُ فِ ْديَةٌ} ألهنا‬
‫أف اْلامل واملرضع داخلتاف يف منطوؽ اآلية الكرظمة َ‬
‫تشمل الشيخ الكبَت‪ ،‬واملرأة الفانية‪ ،‬وكل من ُصمهده الصوـ فعليهما الفدية كما ذبب‬
‫على الشيخ الكبَت‪.‬‬
‫حجة أّب حنيفة‪:‬‬

‫‪ 78‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫أوالً‪ :‬أف اْلامل واملرضع يف حكم املريض‪ ،‬أال ترى إذل قوؿ اْلسن البصري‪ :‬أي ٍ‬
‫مرض‬
‫أش ّد من اْلمل؟ يفطراف ويقضياف‪ ،‬فلم يوجب عليهما غَت القضاء‪.‬‬
‫ثانياً‪ :‬الشيخ اهلرـ ال ظمكن إصماب القضاء عليو‪ ،‬ألنو إسما سقط عنو الصوـ إذل الفدية‬
‫لشيخوختو ومانتو‪ ،‬فلن يأتيو يوـ يستطيع فيو الصياـ‪ ،‬أما اْلامل واملرضع فإهنما من‬
‫أصحاب األعذار الطارئة املنتظرة للزواؿ‪ ،‬فالقضاء واجب عليهما‪ ،‬فلو أجبنا الفدية‬
‫عليهما أيضاً كاف ذلك صبعاً بُت البدلُت وىو غَت جائز‪ ،‬ألف القضاء بدؿ‪ ،‬والفدية‬
‫بدؿ‪ ،‬وال ظمكن اجلمع بينهما ألف الواجب أحدشما‪.‬‬
‫وقد روي عن اإلماـ أضبد والشافعي أهنما إف خافتا على الولد فقط وأفطرتا فعليهما‬
‫القضاء والفدية‪ ،‬وإف خافتا على أنفسهما فقط‪ ،‬أو على أنفسهما وعلى ولدشما‪،‬‬
‫فعليهما القضاء ال غَت‪.‬‬

‫اْلكم التاسع‪ :‬مب يثبت شهر رمضاف؟‬


‫يثبت شهر رمضاف برؤية اهلبلؿ‪ ،‬ولو من واحد عدؿ أو إكماؿ عدة شعباف ثبلثُت‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ ‪« :‬صوموا لرؤيتو‪،‬‬‫يوماً‪ ،‬وال عربة باْلساب وعلم النجوـ‪ ،‬لقولو َ‬
‫وأفطروا لرؤيتو‪ ،‬فإف غُ ّم عليكم فأكملوا عدة شعباف ثبلثُت يوماً» ‪.‬‬
‫ك َع ِن األىلة قُ ْل‬ ‫فبواسطة اهلبلؿ تعرؼ أوقات الصياـ واْلج كما قاؿ تعاذل‪{ :‬يَ ْسأَلُونَ َ‬
‫َّاس واْلج} [البقرة‪ ]ٜٔٛ :‬فبل ب ّد من االعتماد على الرؤية‪ ،‬ويكفي‬ ‫يت لِلن ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ى َي َم َواق ُ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫إلثبات رمضاف شهادة واحد عدؿ عند اجلمهور‪ ،‬ملا روي عن ابن عمر َرض َي اللَّوُ‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ أين‬‫َعْنهما أنو قاؿ‪« :‬تراءى الناس اهلبلؿ‪ ،‬فأخربت رسوؿ اهلل َ‬
‫رأيتو‪ ،‬فصاـ وأمر الناس بصيامو» وأما ىبلؿ شواؿ فيثبت بإكماؿ عدة رمضاف ثبلثُت‬
‫يوماً‪ ،‬وال تقبل فيو شهادة العدؿ الواحد عند عامة الفقهاء‪.‬‬

‫‪ 79‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫وقاؿ مالك‪ :‬ال ب ّد من شهادة رجلُت عدلُت‪ ،‬ألنو شهادة وىو يشبو إثبات ىبلؿ‬
‫شواؿ‪ ،‬ال ب ّد فيو من اثنُت على األقل‪.‬‬
‫قاؿ الًتمذي‪ :‬والعمل عند أكثر أىل العلم على أنو تقبل شهادة و ٍ‬
‫احد يف الصياـ‪.‬‬
‫روى الدارقطٍت‪ :‬أ ّف رجبلً شهد عند علي بن أّب طالب على رؤية ىبلؿ رمضاف فصاـ‬
‫وأمر الناس أف يصوموا‪ ،‬وقاؿ‪ :‬أصوـ يوماً من شعباف أحب إرل من أف أفطر يوماً من‬
‫رمضاف‪.‬‬

‫اْلكم العاشر‪ :‬ىل يعترب اختبلؼ املطالع يف وجوب الصياـ؟‬


‫ذىب اْلنيفة واملالكية واْلنابلة‪ :‬إذل أنو ال عربة باختبلؼ املطالع‪ ،‬فإذا رأى اهلبلؿ‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ ‪« :‬صوموا لرؤيتو‬
‫أىل بلد وجب الصوـ على بقية الببلد لقولو َ‬
‫وافطروا لرؤيتو» وىو خطاب عاـ جلميع األمة‪ ،‬فمن رآه منهم يف أي مكاف كاف ذلك‬
‫رؤية هلم صبيعاً‪.‬‬
‫وذىب الشافعية إذل أنو يعترب ألىل كل بلد رؤيتهم‪ ،‬وال تكفي رؤية البلد اآلخر‪،‬‬
‫واألدلة تطلب من كتب الفروع فارجع إليها ىناؾ‪.‬‬

‫اْلكم اْلادي عشر‪ :‬حكم اخلطأ يف اإلفطار‪.‬‬


‫تسحر يظن عدـ طلوع‬ ‫ّ‬ ‫اختلف العلماء فيمن أكل أو شرب ظاناً غروب الشمس‪ ،‬أو‬
‫الفجر‪ ،‬فظهر خبلؼ ذلك‪ ،‬ىل عليو القضاء أـ ال؟‬
‫فذىب اجلمهور وىو مذىب (األئمة األربعة) إذل أ ّف صيامو غَت صحيح وصمب عليو‬
‫ُت لَ ُك ُم اخليط‬
‫القضاء‪ ،‬ألف املطلوب من الصائم التثبت‪ ،‬لقولو تعاذل‪{ :‬حىت يَػتَبَػ َّ َ‬

‫‪ 81‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫األبيض ِم َن اخليط األسود} فأمر بإسباـ الصياـ إذل غروب الشمس‪ ،‬فإذا ظهر خبلفو‬
‫وجب القضاء‪.‬‬
‫وذىب أىل الظاىر واْلسن البصري إذل أف صومو صحيح وال قضاء عليو لقولو تعاذل‪:‬‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ ‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫{ولَيس علَي ُكم جناح فِ‬
‫َخطَأْ ُْمت بِو} [األحزاب‪ ]٘ :‬وقولو َ‬
‫يمآ أ ْ‬
‫َ ْ َ َ ْ ْ َُ ٌ َ‬
‫«رفع عن أميت اخلطأ والنسياف وما استكرىوا عليو» وقالوا‪ :‬ىو كالناسي ال يفسد‬
‫صومو‪.‬‬
‫الًتجيح‪ :‬وما ذىب إليو اجلمهور ىو الصحيح ألف املقصود من رفع اجلناح رفع اإلمث ال‬
‫رفع اْلكم‪ ،‬فبل كفارة عليو لعدـ قصد اإلفطار‪ ،‬ولكن يلزمو القضاء للتقصَت‪ ،‬أال ترى‬
‫أف القتل اخلطأ فيو الكفارة والدية مع أنو ليس بعمد‪ ،‬وقياسو على الناسي غَت سليم‪،‬‬
‫ألف الناسي قد ورد فيو النص الصريح فبل يقاس عليو واهلل أعلم‪.‬‬

‫اْلكم الثاين عشر‪ :‬ىل اجلنابة تنايف الصوـ؟‬


‫ب اهلل لَ ُك ْم ‪ } ...‬اآلية على أف‬ ‫دلت اآلية الكرظمة وىي {فاآلف باشروىن وابتغوا َما َكتَ َ‬
‫اجلنابة ال تنايف صحة الصوـ‪ ،‬ملا فيو من إباحة األكل والشرب واجلماع من أوؿ الليل‬
‫إذل آخره‪ ،‬مع العلم أف اجملامع يف آخر الليل إذا صادؼ فراغو من اجلماع طلوع الفجر‬
‫{مثَّ أَِسبُّواْ الصياـ إِ َذل الليل} ّ‬
‫فدؿ على‬ ‫يصبح جنباً‪ ،‬وقد أمر اهلل بإسباـ صومو إذل الليل ُ‬
‫صحة صومو‪ ،‬ولو دل يكن الصوـ صحيحاً ملا أمره بإسبامو‪.‬‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ كاف‬ ‫ِ‬
‫ويف «الصحيحُت» عن عائشة َرض َي اللَّوُ َعْنها‪« :‬أف النيب َ‬
‫يصبح جنباً وىو صائم مثّ يغتسل» فاجلنابة ال تأثَت هلا على الصوـ‪ ،‬وصمب االغتساؿ‬
‫من أجل الصبلة‪.‬‬

‫‪ 81‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫اْلكم الثالث عشر‪ :‬ىل صمب قضاء صوـ النفل إذا أفسده؟‬
‫اختلف الفقهاء يف حكم صوـ النفل إذا أفسده ىل صمب فيو القضاء أـ ال؟ على‬
‫مذاىب‪.‬‬
‫مذىب اْلنفية‪ :‬صمب عليو القضاء ألنو بالشروع يلزمو اإلسباـ‪.‬‬
‫املتطوع أمَت نفسو‪.‬‬
‫مذىب الشافعية واْلنابلة‪ :‬ال صمب عليو القضاء ألف ّ‬
‫وذىب املالكية‪ :‬أنو إف أبطلو فعليو القضاء‪ ،‬وإف كاف طرأ عليو ما يفسده فبل قضاء‬
‫عليو‪.‬‬
‫دليل اْلنفية‪:‬‬
‫{مثَّ أَِسبُّواْ الصياـ إِ َذل الليل} قالوا‪ :‬فهذه اآلية عامة يف كل صوـ‪ ،‬فكل‬ ‫أ ‪ -‬قولو تعاذل‪ُ :‬‬
‫ٍ‬
‫صوـ شرع فيو لزمو إسبامو‪.‬‬
‫{والَ تبطلوا أ َْع َمالَ ُك ْم} [حممد‪ ]ٖٖ :‬والنفل الذي شرع فيو عمل‬ ‫ب ‪ -‬قولو تعاذل‪َ :‬‬
‫من األعماؿ‪ ،‬فإذا أبطلو فقد ترؾ واجباً‪ ،‬وال تربأ ذمتو إال بإعادتو‪.‬‬
‫أصبحت أنا وحفصة صائمتُت متطوعتُت‪ ،‬فأىدي‬ ‫ُ‬ ‫ج ‪ -‬حديث عائشة أهنا قالت‪« :‬‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ بدرتٍت حفصة‬ ‫إلينا طعاـ فأعجبنا فأفطرنا‪ ،‬فلما جاء النيب َ‬
‫فسألتو ‪ -‬وىي ابنة أبيها ‪ -‬فقاؿ عليو السبلـ‪ :‬صوما يوماً مكانو» ‪.‬‬
‫دليل الشافعية واْلنابلة‪:‬‬
‫ِ ِ‬
‫املتطوع حمسن فليس‬ ‫{ما َعلَى احملسنُت من َسب ٍيل} [التوبة‪ ]ٜٔ :‬و ّ‬ ‫أ ‪ -‬قولو تعاذل‪َ :‬‬
‫عليو حرج يف اإلفطار‪.‬‬
‫ب ‪ -‬حديث «الصائم املتطوع أمَت نفسو‪ ،‬إف شاء صاـ وإف شاء أفطر» ‪.‬‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ أمر‬
‫لعل ما ذىب إليو اْلنفية يكوف أرجح ألف النيب َ‬ ‫الًتجيح‪ :‬و ّ‬
‫عائشة وحفصة بصياـ يوـ مكانو وىو نص يف وجوب القضاء واهلل أعلم‪.‬‬

‫‪ 82‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫اْلكم الرابع عشر‪ :‬ما ىو االعتكاؼ ويف أي املساجد يعتكف؟‬
‫وحبس نفسو عليو‪ ،‬براً‬ ‫للشيء‬ ‫املرء‬ ‫ة‬
‫ُ‬ ‫مبلزم‬ ‫اللغوي‪:‬‬ ‫االعتكاؼ‬ ‫‪:‬‬‫و‬
‫ُ‬ ‫قاؿ الشافعي َرِضبَوُ اللَّ‬
‫ُ‬
‫َصنَ ٍاـ َّهلُ ْم} [األعراؼ‪. ]ٖٔٛ :‬‬
‫كاف أو إشباً قاؿ تعاذل‪{ :‬يَػ ْع ُك ُفو َف على أ ْ‬
‫واالعتكاؼ الشرعي‪ :‬املكث يف بيت اهلل بنيّة العبادة‪ ،‬وىو من الشرائع القدظمة قاؿ اهلل‬
‫تعاذل‪{ :‬وطَ ِّهر بػي ِ ِ ِِ‬
‫{والَ تباشروىن‬
‫ُت والقآئمُت} [اْلج‪ ]ٕٙ :‬وقاؿ تعاذل‪َ :‬‬ ‫يت للطَّآئف َ‬ ‫َ ْ َْ َ‬
‫َوأَنْػتُ ْم عاكفوف ِيف املساجد} ويشًتط يف االعتكاؼ أف يكوف يف املسجد لقولو تعاذل‪:‬‬
‫{وأَنْػتُ ْم عاكفوف ِيف املساجد} وقد وقع االختبلؼ يف املسجد الذي يكوف فيو‬ ‫َ‬
‫االعتكاؼ على أقواؿ‪:‬‬
‫خاص باملساجد الثبلثة (املسجد اْلراـ‪ ،‬واملسجد‬ ‫ٌ‬ ‫أ ‪ -‬فقاؿ بعضهم‪ :‬االعتكاؼ‬
‫النبوي‪ ،‬واملسجد األقصى) وىي مساجد األنبياء عليهم السبلـ‪ ،‬واستدلوا حبديث‪« :‬ال‬
‫تشد الرحاؿ إالّ إذل ثبلثة مساجد‪ ». .‬اْلديث وىذا قوؿ سعيد بن املسيّب‪.‬‬
‫ٕ ‪ -‬وقاؿ بعضهم‪ :‬ال اعتكاؼ إال يف مسجد ذبمع فيو اجلماعة‪ ،‬وىو قوؿ ابن‬
‫مسعود وبو أخذ اإلماـ مالك َرِضبَوُ اللَّوُ يف أحد قوليو‪.‬‬
‫ٖ ‪ -‬وقاؿ اجلمهور‪ :‬صموز االعتكاؼ يف كل مسجد من املساجد لعموـ قولو تعاذل‪:‬‬
‫تعُت مسجداً خمصوصاً‬ ‫{وأَنْػتُ ْم عاكفوف ِيف املساجد} وىو الصحيح ألف اآلية دل ّ‬ ‫َ‬
‫فيبقى اللفظ على عمومو‪.‬‬
‫قاؿ أبو بكر اجلصاص‪« :‬حصل اتفاؽ صبيع السلف أ ّف من شرط االعتكاؼ أف يكوف‬
‫يف املسجد‪ ،‬على اختبلؼ منهم يف عموـ املساجد وخصوصها‪ ،‬وظاىر قولو تعاذل‪:‬‬
‫{وأَنْػتُ ْم عاكفوف ِيف املساجد} يبيح االعتكاؼ يف سائر املساجد لعموـ اللفظ‪ ،‬ومن‬ ‫َ‬
‫اقتصر بو على بعضها فعليو بإقامة الدليل‪ ،‬وزبصيصو دبساجد اجلماعات ال داللة‬

‫‪ 83‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬
‫خصو دبساجد األنبياء ملا دل يكن عليو دليل سقط اعتباره»‬
‫ّ‬ ‫عليو‪ ،‬كما أف زبصيص من‬
‫ّ‬
‫‪.‬‬
‫وأما املرأة فيجوز هلا أف تعتكف يف بيتها لعدـ دخوهلا يف النص السابق‪:‬‬

‫اْلكم اخلامس عشر‪ :‬ما ىي مدة االعتكاؼ وىل يشًتط فيو الصياـ؟‬
‫اختلف الفقهاء يف املدة اليت تلزـ يف االعتكاؼ على أقواؿ‪:‬‬
‫أ ‪ -‬قلة يوـ وليلة‪ ،‬وىو مذىب األحناؼ‪.‬‬
‫ب ‪ -‬أقلو عشرة أياـ‪ ،‬وىو أحد قورل اإلماـ مالك‪.‬‬
‫ج ‪ -‬أقلو ْلظة وال ح ّد ألكثره وىو مذىب الشافعي‪.‬‬
‫وصموز عند الشافعي وأضبد (يف أحد قوليو) االعتكاؼ بغَت صوـ‪.‬‬
‫وقاؿ اجلمهور (أبو حنيفة ومالك وأضبد) يف القوؿ اآلخر‪ :‬ال يصح االعتكاؼ إال‬
‫صلَّى اللَّوُ َعلَْي ِو َو َسلَّمَ قاؿ‪« :‬ال اعتكاؼ إال‬
‫بصوـ‪ .‬واحتجوا دبا روتو عائشة أف النيب َ‬
‫بصياـ» ‪.‬‬
‫{وُكلُواْ‬
‫وحديث «اعتكف وصم» وقالوا‪ :‬إف اهلل ذكر االعتكاؼ مع الصياـ يف قولو‪َ :‬‬
‫{وأَنْػتُ ْم عاكفوف ِيف املساجد} فدؿ على أنو ال اعتكاؼ إال‬ ‫واشربوا} إذل قولو‪َ :‬‬
‫بصياـ‪.‬‬
‫قاؿ اإلماـ الفخر‪« :‬صموز االعتكاؼ بغَت صوـ‪ ،‬واألفضل أف يصوـ معو وىو مذىب‬
‫الشافعي‪ ،‬وقاؿ أبو حنيفة‪ :‬ال صموز إال بالصوـ‪.‬‬
‫حجةُ الشافعي َر ِض َي اللَّوُ َعْنو ىذه اآلية‪ ،‬ألنو بغَت الصوـ عاكف‪ ،‬واهلل تعاذل منع‬
‫العاكف من مباشرة املرأة» ‪.‬‬

‫‪ 84‬مقرر تفسير آيات األحكام للسنة األولى ‪ :‬المعهد العالى دار النحاة‬

You might also like