اطروحة الدكتوره جلايلية صبيحة

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 228

‫الجمهوري ــة الجزائريــة الديمقراطيــة الشعبيــة‬

‫وزارة التعليـم العالـي والبحـث العلمـي‬


‫جامعة ‪ 8‬ماي ‪ 5491‬قالمـ ــة‬

‫الكلية‪ :‬اآلداب واللغات‬


‫القسم‪ :‬اللغة واألدب العربي‬
‫مخبر التوطين‪ :‬الدراسات اللغوية واألدبية‬
‫أطروحـة‬
‫لنيل شهــادة الدكتــوراه علوم‬
‫الشعبـة‪ :‬اللغة العربية‬ ‫الميـدان‪ :‬اللغة واألدب العربي‬
‫االختصاص‪ :‬بالغة ونقد أدبي‬
‫من إعـداد‪ :‬صبيحة جاليلية‬
‫بعنـوان‬
‫رسائل ابن حزم األندلسي (‪)354-483‬ه‬
‫‪-‬دراسة في السياقات الثقافية‪-‬‬
‫أمام لجنة المناقشة المكونة من‪:‬‬ ‫‪1112-51-51‬‬ ‫بتاريخ‪:‬‬

‫الصفة‬ ‫الجامعة‬ ‫الرتبة‬ ‫االسم واللقب‬


‫رئيسا‬ ‫جامعة ‪ 8‬ماي ‪ 5491‬قالمة‬ ‫أستاذ محاضرأ‬ ‫السيدة‪ :‬زيتون زوليخة‬
‫مشرفا‬ ‫جامعة ‪ 8‬ماي ‪ 5491‬قالمة‬ ‫أستاذ التعليم العالي‬ ‫السيدة‪ :‬زرقين فريدة‬
‫ممتحنا‬ ‫جامعة ‪ 8‬ماي ‪ 5491‬قالمة‬ ‫أستاذ محاضر أ‬ ‫السيد‪ :‬سعدوني العايش‬
‫ممتحنا‬ ‫جامعة األمير عبد القادر قسنطينة‬ ‫أستاذ التعليم العالي‬ ‫السيدة‪ :‬لواتي آمال‬
‫ممتحنا‬ ‫جامعة باجي مختار عنابة‬ ‫أستاذ التعليم العالي‬ ‫السيد‪ :‬عمر لحسن‬
‫ممتحنا‬ ‫جامعة ‪ 8‬ماي ‪ 5491‬قالمة‬ ‫أستاذ محاضر أ‬ ‫السيد‪ :‬زقادة شوقي‬
‫السنة الجامعية‪1112/1111 :‬‬
‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬
‫شكر وتقدير‬

‫أمحد اهلل سبحانه وتعاىل على منّه وكرمه وتوفيقه‪ ،‬كما أتوجه جبزيل الشكر إىل أستاذتنا الفاضلة‬
‫"زرقني فريدة" اليت أشرفت على إجناز هذا العمل فلها كل الشكر واالمتنان‪.‬‬

‫كما أتق ّدم جبزيل الشكر والتقدير والعرفان إىل كل أساتذة قسم اللغة العربية وآداهبا‪ ،‬وكل من‬
‫ساعدين يف إجناز حبثين‪.‬‬

‫كما أتقدم جبزيل االمتنان إىل األساتذة أعضاء جلنة املناقشة لتفضلهم بقراءة هذا العمل وإبداء‬
‫مالحظاهتم‪.‬‬
‫مقدمة‬
‫مقدمة‬

‫إن اللغة العربية واحدة من الظواهر االجتماعية اليت تأثرت ومل تزل تتأثر بالعادات واألعراف‬
‫والنظم االجتماعية منذ أن وجدت‪ ،‬وهي كغريها من اللغات ليست سوى نظام من العالقات‬
‫الوظيفية والداللية اليت تعكس هذا التأثر باحلياة االجتماعية‪ ،‬واليت تتحكم فيها قوانني وقواعد معينة‪.‬‬
‫واللغة ليست جمرد ألفاظ مرتاصة بقدر ما هي شبكة من العالقات اليت تتضافر فيما بينها لتؤدي‬
‫الغاية اليت ينشدها املتكلمون على اختالف اجتاهاهتم‪ ،‬كما أولوا اهتماما بالغا بقضية "السياق"‪ ،‬اليت‬
‫جعلوها قمة انشغاهلم‪ .‬وقد اكتظت حقول املعرفة اللغوية بالكثري من املقوالت اللغوية اليت امتزجت‬
‫فيها أصالة الرتاث بالبحث اللغوي املعاصر‪ ،‬ولعل نظرية السياق واحدة من النظريات اللغوية اليت‬
‫أثّرت يف الدرس اللغوي‪ ،‬واليت اهتمت باجلانب االجتماعي للغة‪ ،‬اهتماما كشفت عنه الدراسات‬
‫اللغوية املعاصرة يف الغرب‪ ،‬وقد كان تناول هذه النظرية باعثا للكشف عن مقوالت لعلمائنا العرب‪،‬‬
‫بالرغم من ورود لفظة السياق يف الرتاث العريب هبذه الصيغة‪ ،‬وبصيغ أخرى‪ ،‬سواء كان وروده عند‬
‫اللغويني أو البالغيني أو املفسرين أو األصوليني‪ ،‬إال أنه يستعمل استعماالت سياقية خمتلفة وقابلة‬
‫لتعدد الفهم‪ .‬مع أن القدماء قد اعتمدوا على السياق يف فهم النصوص وبنائها‪ ،‬إال أهنم مل يعتدوا به‬
‫مصطلحا قائما بذاته‪ ،‬بدليل أهنم مل يضعوا له تعريفا خاصا به‪ ،‬ومل جير له يف كتب االصطالح ذكر‪.‬‬
‫وليست اللسانيات النصية وحدها اليت اهتمت بالسياق‪ ،‬بل كان احملور الذي تقوم عليه‬
‫اللسانيات بصفة عامة‪ ،‬ومصطلح السياق يعين الرتكيب والسياق الذي ترد فيه الكلمة‪.‬‬
‫إذن السياق موجود بالصوت أو الكلمة اليت تقدمها عناصر اللغة وتتبعها يف العبارة‪ ،‬وهو ما يؤثر‬
‫يف معىن الكلمة أو العبارة وظيفيا‪ ،‬وللسياق نوعان اثنتان مها‪ :‬السياق اللغوي والسياق غري اللغوي‪،‬‬
‫أما السياق اللغوي فيدل على املعىن الظاهر يف تركيب اجلمل أو العبارات‪ ،‬وينتمي إىل الدراسات‬
‫الداللية‪ ،‬وأما السياق غري اللغوي فمن الدراسات الرباغماتية‪.‬‬
‫والسياق مؤثر يف املعىن‪ ،‬فإذا كان شخص يتواصل مع شخص آخر باستخدام كلمة غري مناسبة‬
‫يف السياق‪ -،‬إما يف السياق اللغوي‪ ،‬أو املوقف‪ ،‬أو العاطفي أو الثقايف‪- ،‬ومعناها خمتلف فاملخاطب‬
‫سيسيئ الفهم يف تلك العبارة‪ ،‬وهنا البد من معرفة معىن السياق يف علم الداللة‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫مقدمة‬

‫أما عن دراسة النظريات يف علم الداللة فال تقتصر على النظريات السياقية‪ ،‬بل تتجاوزها إىل‬
‫نظريات أخرى منها النظرية اإلشارية والتصورية والسلوكية‪ ،‬ولكن اقتصر استخدامنا يف هذا البحث على‬
‫النظرية السياقية اليت تنقسم إىل أربعة أقسام هي‪ :‬السياق اللغوي‪ ،‬والسياق العاطفي‪ ،‬وسياق املوقف‪،‬‬
‫والسياق الثقايف‪.‬‬
‫والسياق هو الذي حيدد معىن الكلمة املناسب ويعمد إىل إبعاد كل ما خال من معان ذهنية‬
‫مرتبطة هبذه الكلمة دون السياق‪ ،‬ولذلك عندما نسمع كلمة أو نقرؤها نرى الكلمات اليت تشتمل‬
‫عليها يفسر بعضها بعضا‪ ،‬فإذا كانت منها واحدة غري مألوفة لنا‪-‬والواقع أن هناك دائما فرتة يف‬
‫حياتنا نسمع فيها الكلمة ألول مرة‪-‬حاولنا بطبيعة احلال تفسريها معتمدين على سياق النص‪.‬‬
‫فالكلمة تكتسب داللتها من موقعها يف السياق‪ ،‬وارتباط عناصر بعضها ببعض مما يزيد يف دقة املعىن‬
‫وهو الذي يساعدنا على إدراك التبادل بني املعاين املوضوعية واملعاين العاطفية واالنفعالية‪.‬‬
‫أما السياق الثقايف موضوع حبثنا فيقتضي حتديد احمليط الثقايف منها‪ :‬النفسي واالجتماعي‬
‫والتارخيي‪ ،‬ومن العناصر السياقية اليت تنبه إليها البالغيون األثر الذي خيلفه اخلطاب يف النفس‪ ،‬وهلذا‬
‫فقد أوجبوا على الكاتب أو الشاعر أن يراعي مسألة هامة وهي مالءمة هذا األثر ملا يقتضيه حال‬
‫اخلطاب‪ ،‬ومن الطبيعي أن يراعى يف الكالم نفسية املخاطب ومستوى إدراكه‪ ،‬وظروف اخلطاب‪،‬‬
‫حىت يستطيع الكالم أن يؤثر يف السامع‪.‬‬
‫أما اجتماعيا فيقصد به املفعول الذي حتدثه النصوص يف مستعملي اللغة سواء فرديا أو مجاعيا‪،‬‬
‫فاألمر مل يعد متعلقا بالتساؤل عن ماذا يفعل القارئ أو املستمع بالنص؟ وإمنا ما هي العوامل‬
‫االجتماعية اليت تؤدي دورا يف فهم النص؟ أوما هي مظاهر فهم النص اليت حتتوي على إحياءات‬
‫اجتماعية؟‬
‫فالرتكيز أصبح منصبا على العوامل احمليطة واملساعدة على فهم النص واليت حتمل صبغة اجتماعية‪،‬‬
‫واالهتمام بالعالقات القائمة بني السياق االجتماعي واستعمال اللغة‪ ،‬كما أن هذه املواقف‬
‫االجتماعية اليت تنتج فيها النصوص فريدة حبد ذاهتا‪ ،‬لكن مع ذلك تتمتع خبصائص ذات طابع أعم‬
‫فهي مقامات خاضعة ملعايري معينة وتتكرر باستمرار‪ ،‬وهكذا فثمة مقامات ذات طبيعة عامة أو‬
‫خاصة تأخذ فيها امللفوظات قيمة الفعل الكالمي‪ ،‬فالنص فعل كالمي ال حيدده املقام االجتماعي‬

‫‪2‬‬
‫مقدمة‬

‫فقط وإمنا املقام االجتماعي نفسه حتدده كيفية استعمال اللغة‪ .‬فاملقامات ختتلف من نوع إىل آخر‬
‫وفيها تتحدد قيمة النص‪ ،‬إذ أن كل من النص واملقام االجتماعي حيدد بعضه بعضا‪ ،‬ويؤثر كل‬
‫منهما يف اآلخر‪.‬‬
‫أما تارخييا فاهلدف الرئيسي للنقاد هو فهم مدى تأثري العمل األديب يف القراء‪ ،‬باعتباره نسقا نوعيا‬
‫من التواصل‪ ،‬ليكون التاريخ على إثر هذا عملية ثالثية األبعاد‪ :‬تاريخ اإلنتاج (التكوين واإلنشاء)‪،‬‬
‫وتاريخ البنيات األدبية اليت حتتل مكانة عليا يف هذا الرتتيب‪ ،‬إضافة إىل أنّه يقوم بشرح األثر بالعودة‬
‫إىل التاريخ‪ ،‬وكأن األثر يفصح عن زمان تأليفه وأحوال عصره‪ ،‬لذلك يعتمد عليه الناقد يف‬
‫استخالص هذا الواقع من الظاهرة األدبية‪ ،‬إميانا منه أهنا حتوي مضمون زماهنا يف كل أبعادها‬
‫احلضارية واإلنسانية‪ .‬والتاريخ يساعدنا للوصول إىل حقائق وتعميمات ال تساعدنا على فهم املاضي‬
‫فحسب‪ ،‬وإمنا تساعدنا أيضا على فهم احلاضر‪ ،‬بل والتنبؤ باملستقبل‪ ،‬ما يؤكد على البعد العلمي‬
‫للتاريخ‪.‬‬
‫إذا يع ّد النص ظاهرة ثقافية‪ ،‬ألنه مي ّكننا من استخراج بعض اخلالصات اليت هتم البنية االجتماعية‬
‫للمجموعات الثقافية‪ ،‬كما ميكننا من استخالص احملادثات املستعملة يف مقامات خاصة ودور‬
‫أعضاء اجملتمع وحقوقهم وواجباهتم‪...‬‬
‫وانطالقا مما سبق جاءت فكرة موضوعنا املوسوم بـ‪ " :‬رسائل ابن حزم األندلسي (‪)354-383‬‬
‫هـ‪.‬دراسة يف السياقات الثقافية‪( .‬طوق احلمامة يف األلفة واألالف‪ ،‬رسالة يف مداواة النفوس‪ ،‬رسالة‬
‫الغناء امللهي أمباح هو أم حمظور‪ ،‬فصل يف معرفة النفس بغريها) والذي صيغت إشكاليته يف التساؤل‬
‫التايل‪ :‬إىل أي مدى أسهم السياق الثقايف يف حتليل رسائل ابن حزم األندلسي و فهمها؟‬
‫وانبثق عن هذا السؤال أسئلة فرعية هي‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا نقصد بالسياق؟‬
‫‪ -‬إىل أي مدى اهتم الرتاث العريب بالسياق؟‬
‫‪ -‬ما الدواعي الذاتية و املوضوعية لتأليف هذه الرسالة؟‬
‫‪ -‬ما خصوصية الكتابة عند ابن حزم؟‬

‫‪3‬‬
‫مقدمة‬

‫‪-‬و ما هي القضايا األدبية املطروحة يف هذه الرسائل؟‬


‫‪ -‬ما أوجه الشبه واالختالف بني أطروحات النظرية السياقية ومنجزات الدرس اللغوي القدمي‪.‬‬
‫‪ -‬ما صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم؟‬
‫‪-‬ماذا نقصد بالسياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي؟‬
‫‪ -‬ماذا نقصد بالسياق االجتماعي‪ ،‬والسياق النفسي والسياق التارخيي؟‬
‫‪ -‬إىل أي مدى طبق ابن حزم السياق التارخيي يف نقده للتوراة؟‬
‫‪ -‬كيف نقل لنا السياق الثقايف صورة عن احلياة األندلسية يف عصر ابن حزم األندلسي؟‬
‫ويتمثل سبب اختيارنا هلذا املوضوع‪ ،‬يف معرفة تلك السمات النفسية واالجتماعية والتارخيية‬
‫السائدة يف األندلس يف عصر ملوك الطوائف‪ ،‬ومدى انعكاس تلك السمات على أدب تلك احلقبة‬
‫التارخيية مبا فيها رسائل ابن حزم األندلسي‪ ،‬الذي جنده يف "كتاب طوق احلمامة" يتح ّدث عن احلب‬
‫كعاطفة إنسانية‪ ،‬معتمدا يف حديثه على التجربة واملالحظة والتحليل النفسي واستخالص النتائج‪.‬‬
‫ويف "رسالة الغناء امللهي أمباح هو أم حمظور" طبق فيها ابن حزم السياق التارخيي كما فعل بتوراة‬
‫اليهود‪ .‬أما السياق الثقايف فيظهر جليا يف ثنايا الرسائل األربعة‪( .‬طوق احلمامة يف األلفة واألالف‪،‬‬
‫رسالة يف مداواة النفوس‪ ،‬رسالة الغناء امللهي أمباح هو أم حمضور‪ ،‬فصل يف معرفة النفس بغريها)‪.‬‬
‫وال ننكر أن اختيار املوضوع كان نابعا من سبب ذايت مباشر هو رغبتنا يف خدمة البحث‬
‫اللغوي‪ ،‬خاصة وأنه يتعلق بطرح له امتداد يف الرتاث الذي ما يزال حباجة إىل السواعد اليت تكشف‬
‫عنه وبالتايل بعث مساره اإلبداعي الذي سطّره علماؤنا‪ ،‬وله حضور خاص يف الدراسات املعاصرة‪،‬‬
‫واليت ما تزال حتتاج إىل توضيح طبيعة الدراسة‪.‬‬
‫وقد اعتمدنا يف هذا البحث على املنهج الوصفي الذي يتخلله املنهج النفسي‪ ،‬واملنهج‬
‫االجتماعي‪ ،‬واملنهج التارخيي‪ ،‬ولرصد مدى جناعة آليات هذا املنهج يف إماطة اللثام عن السياق‬
‫الثقايف وكيف نقل لنا صورة عن حياة األندلسيني يف زمن ابن حزم‪.‬‬
‫أما عن األسباب املوضوعية اليت جعلتنا ننتقي هذا املوضوع فقد تعددت وتنوعت منها‪:‬‬

‫‪3‬‬
‫مقدمة‬

‫*‪ -‬أن لغة ابن حزم تتفرد بقدرهتا على تفعيل عملية التلقي‪ ،‬وتثري فضول املتلقي من أجل البحث‬
‫عن مكنوناهتا وخباياها واملقصود من ورائها ك‪:‬‬
‫*‪-‬التأكيد على املنابع النفسية للرسائل‪ ،‬ودورها يف إضفاء القيمة اجلمالية عليها‪ ،‬فالتحليل‬
‫النفسي للنصوص يتضمن اجلانب االنفعايل‪ ،‬فهو يقوم على دالالت األلفاظ ومعانيها النفسية عند‬
‫املتلقني‪.‬‬
‫*‪ -‬معرفة الواقع االجتماعي‪ ،‬والذي هو ضروري لفهم الرسائل فهما صحيحا‪ ،‬فال ميكن قبول‬
‫املعىن أو فهمه‪ ،‬دون اإلحاطة بسياقه االجتماعي‪ ،‬الذي ولد فيه‪ .‬فالكلمة تكتسب داللتها وإحياءها‬
‫من التجارب واألحداث االجتماعية اليت متر هبا‪.‬‬
‫*‪-‬الربط املباشر بني رسائل ابن حزم وحميطها السياقي‪ ،‬واعتبار األوىل وثيقة للثانية‪ ،‬ويقصد به‬
‫االهتمام بالرسائل املمتدة تارخييا‪ ،‬مع الرتكيز على الرسائل األكثر متثيال لتلك احلقبة التارخيية‪.‬‬
‫*‪-‬إن هذا املوضوع يندرج ضمن تلك الدعوة اليت يدعو فيها أصحاهبا إىل ضرورة قراءة الرتاث‬
‫اللغوي بوسائل منهجية حديثة من أجل استنباط األسس املعرفية اليت انبىن عليها الفكر املوروث‪.‬‬
‫وبالتايل اإلسهام يف تفعيل البحث اللساين‪-‬النقدي املعاصر وتطويره‪.‬‬
‫*‪-‬بيان األسس املنهجية واملعرفية واللغوية اليت ارتكز عليها رواد النظرية السياقية يف دراسة السياق‬
‫حل اإلشكاليات‬
‫الثقايف من جهة‪ ،‬ومقارنتها مبا قدمه علماؤنا من جهة أخرى‪ ،‬وكل ذلك من أجل ّ‬
‫اليت طرحتها هذه النظرية وباخلصوص يف تأويل السياق الثقايف‪ ،‬وحتقيق إجنازاته‪.‬‬
‫*‪-‬الوقوف على اإلشكاالت الكربى اليت ما تزال تعرتض هذه الفكرة عند اللسانيني‪ ،‬فطبيعتها‬
‫املتجددة واملتنوعة أشكلت عليهم تقنني السياق الثقايف ضمن قواعد خاصة‪.‬‬
‫وككل حبث مل خيل هذا البحث من صعوبات نذكر منها‪:‬‬
‫‪ -‬انفتاح الدراسة على جماالت ع ّدة‪ ،‬منها‪ :‬علم النفس علم االجتماع والتاريخ‪ ،‬فضال عن صعوبة‬
‫استدراك مضمرات السياق الثقايف‪ ،‬على الرغم من بساطته‪ ،‬إال أنه يضمر أكثر مما يظهر‪ ،‬وله أبعاد‬
‫تأثريية يف املتلقي‪.‬‬
‫‪5‬‬
‫مقدمة‬

‫‪ -‬اتساع دائرة البحث فكان من الصعب حصر هذا املوضوع نظرا لتشعب القضايا الواردة فيه‪ ،‬بالرغم من‬
‫توفر املصادر بالنسبة للمراجع احلديثة‪ .‬إال أهنا تبقى ضبابية يف مسألة السياق الثقايف‪ ،‬وحتت أي نوع‬
‫يندرج‪.‬‬
‫‪ -‬قلة الدراسات اخلاصة بالسياق الثقايف‪ ،‬والسيما ما خيص اجلانب التطبيقي‪.‬‬
‫‪ -‬اتساع كلمة ثقافة‪ ،‬فصعب حصرها يف عناصر ثالثة هي‪ ،‬التاريخ وعلم االجتماع وعلم النفس‪.‬‬
‫‪ -‬ظهور مصطلحات نقدية جديدة‪ ،‬هي السياق االجتماعي والسياق النفسي والسياق التارخيي‪ ،‬وصعوبة‬
‫حتديد ماهيتها بدقة‪.‬‬
‫ويف احلقيقة هناك دراسات سابقة تناولت موضوع "السياق" بوجه عام‪ ،‬حاولت أن تشرحه وتبني‬
‫عالقته بالكالم‪ ،‬مثل صنيع عبد النعيم خليل‪ ،‬الذي ومسه بـ"نظرية السياق بين القدماء‬
‫والمحدثين‪-‬دراسة لغوية نحوية داللية‪"-‬حيث عمد إىل تبيني أصل السياق ومفهومه‪ ،‬وكذا‬
‫عناصره‪ ،‬مث تناول فيه نظرية السياق عند القدماء‪ ،‬وبعد ذلك طرحه عند احملدثني واملعاصرين العرب‬
‫والغربيني‪ ،‬ورسالة دكتوراه للباحث عبد الفتاح عبد العليم الربكاوي‪ ،‬وعنوهنا بـ"داللة السياق بين‬

‫التراث وعلم اللغة الحديث" وقد ّ‬


‫تعرض فيها للبداية احلقيقية للسياق عند "مالينوفسكي" مث ق ّدم‬
‫أهم األسس السياقية يف الرتاث العريب من خالل عالقتها بعلم األصوات والنحو‪ ،‬وهو نفسه ما‬
‫وجدناه ماثال يف رسالة الدكتوراه للباحث ردة اهلل بن ردة بن ضيف اهلل الطلحي املعنونة بـ"داللة‬
‫السياق"‪ ،‬وقد أضاف إىل هذه األفكار عالقة علم النص بالسياق‪ .‬كما عثرنا على رسالة دكتوراه‬
‫للباحث إبراهيم حممود خليل املوسومة بـ" السياق وأثره في الدرس اللغوي دراسة في ضوء علم‬

‫اللغة الحديث" ّ‬
‫تطرق فيها إىل العالقة الوثيقة بني السياق والدرس اللغوي‪ ،‬حبكم أنّه أضحى من‬
‫املرتكزات اليت عولت عليها كل املدارس اللغوية‪ ،‬كما عمد إىل تبيان أثر السياق يف كل من البحث‬
‫الصويت والداليل والنحوي؛ مث رسالة للباحث عبد القادر بوزبوجة املوسومة بـ" نظرية السياق عند‬
‫اللغويين والبالغيين العرب" واليت ق ّدم فيها جهود اللغويني والنحويني والبالغيني يف السياق‪ .‬كما‬
‫وجدنا رسالة للباحثة سامية بن يامنة معنونة ب "سياق الحال في الفعل الكالمي‪-‬مقاربة تداولية‪-‬‬

‫‪4‬‬
‫مقدمة‬

‫" كشفت فيها عن دور املعطيات غري اللغوية وأمهيتها يف تأطري الكالم؛ كما عثرنا على رسالة‬
‫دكتوراه للباحثة إيكا خري النداء حتمل عنوان " السياق العاطفي في الرواية "حكاية الحب"‬
‫ومعانيها –دراسة تحليلية داللية‪ "-‬وعمدت فيها إىل الرتكيز على الكلمات اليت تتضمن السياق‬
‫العاطفي للتمييز بني قوة الكلمة وضعفها خاصة املستخدمة منها يف هذا السياق‪.‬‬
‫واتضح لنا أن كل هذه البحوث حول السياق كانت يف جوهرها إسهامات عامة‪ ،‬حىت وإن‬
‫كانت متقاربة فيما بينها‪ ،‬وهذا ما حفزنا أكثر للخوض يف عمق هذا املوضوع‪ ،‬متخصصني يف‬
‫"السياق الثقايف" يف رسائل ابن حزم‪ ،‬وحنسب أن الدراسات فيها ما تزال حتتاج ملن يستوضحها‬
‫أكثر‪ ،‬وقد الحظنا أن النظرية السياقية‪ ،‬قد طرحت املوضوع حيث يغدو فيها "السياق الثقايف" املركز‬
‫الذي يتحقق فيه املعىن املطلوب وبدقة‪ ،‬وقد اقتضت طبيعة املوضوع أن نوزع البحث إىل أربعة‬
‫فصول‪ ،‬مصدرة مبقدمة‪ ،‬مث مدخل وضحنا فيه املالمح العامة لألندلس خالل القرن اخلامس اهلجري‪،‬‬
‫مركزين على احلياة الثقافية واحلياة االجتماعية ملا هلما من تأثري يف احلياة األدبية‪.‬‬
‫أما الفصل األول فومسناه بـ" السياق وعالقته بالنقد الثقافي و النظرية السياقية" تطرقنا فيه إىل‬
‫مصطلح "السياق" بوصفه مفهوما‪ ،‬أين أدركنا ذلك التنوع املفاهيمي الذي كان سائدا عند الباحثني‬
‫املعاصرين‪ ،‬مث انتقلنا إىل "السياق الثقايف" فضبطنا مفهومه ومكوناته األساسية من متكلم ومتلق‪،‬‬
‫وكذا مالبسات الكالم والزمان واملكان‪ ،‬وحاولنا استجالء جممل خصائصه اليت يتميز هبا من دينامية‬
‫حمركة وواقعية و غريمها‪ .‬كما أبرزنا كيفية معاجلة العلماء له‪ ،‬انطالقا من الرتاث العريب خاصة عند‬
‫البالغيني‪ ،‬مث وضحنا الفرق بينه وبني النقد الثقايف والدراسات الثقافية‪ ،‬مث قاربنا بني هذه املفاهيم مبا‬
‫هو ماثل يف الدراسات الغربية‪ ،‬مث عرجنا على النظرية السياقية مربزين تعريفها وظهورها وأنواعها‬
‫األربعة كالتايل‪ :‬السياق اللغوي والسياق العاطفي وسياق املوقف وأخريا السياق الثقايف‪ ،‬مث تناولنا‬
‫خطوات التحليل السياقي‪.‬‬
‫وقد بينا ضمن هذا الفصل أن العرب القدامى قد أولوه عناية خاصة‪ ،‬واعتربوه قطب الرحى الذي‬
‫يعول عليه يف صنعة الكالم‪ ،‬وكل ما يتصل به من ظروف ومالبسات وقت القول الفعلي‪ ،‬من مثل‬ ‫ّ‬
‫شخصية املتكلم والسامع وتكوينهما الثقايف وغري ذلك‪ ،‬فالكلمة ختضع لبعدين أساسيني‪:‬‬

‫‪7‬‬
‫مقدمة‬

‫‪ -‬أوهلما‪ :‬البعد الواقعي اإلخباري الذي تستعمل فيه الكلمات‪.‬‬


‫‪ -‬ثانيهما‪ :‬البعد السياقي هلا‪ ،‬ويرتبط بالرتكيب واملعطيات االجتماعية والنفسية والتارخيية اليت تؤثر يف‬
‫كل ذلك‪.‬‬
‫أما الفصل الثاني فعنوناه بـ" السياق العام لرسائل ابن حزم األندلسي زاوجنا فيه بني اجلانب‬
‫النظري واجلانب التطبيقي‪ ،‬وتناولنا يف اجلانب النظري تعريف السياق التارخيي واملنطلقات الفكرية‬
‫للسياق التارخيي وجتليات السياق التارخيي وحقوله وخصائصه ومستويات النقد فيه ونقد السياق‬
‫التارخيي والسياق العام عند ابن حزم خاصة على املستويني السياسي و االنتاج األديب ومعايري النقد‬
‫التارخيي عند ابن حزم‪.‬ومنهج النقد التارخيي عند ابن حزم ويف اجلانب التطبيقي تناولنا السياق العام‬
‫يف رسائل ابن حزم األندلسي وأبرزنا اجلانب التارخيي هلذه الرسائل يف نصوصها‪ ،‬اليت حتدثت عن‬
‫بعض الشخصيات التارخيية اليت التقى هبا ابن حزم أو مسع عنها من ثقاة و حتدثنا أيضا عن الدواعي‬
‫الذاتية و املوضوعية لكتابة هذه الرسائل‪،‬كما نقل لنا صورة عن األندلس زمن حياته ومدى تأثري‬
‫ذلك يف ابن حزم‪ ،‬كما بينا السياق التارخيي معتمدين على النقد التارخيي الذي مارسه ابن حزم يف‬
‫نقده لتوراة اليهود وجتلى ذلك يف رسالة الغناء امللهي أمباح هو أم حمظور؟‬
‫أما الفصل الثالث‪ :‬فدرسنا فيه" صورة السياق الثقافي في رسائل ابن حزم األندلسي" وزاوجنا‬
‫فيه أيضا بني اجلانب النظري والتطبيقي‪ ،‬وتناولنا يف اجلانب النظري منه عالقة املنهج االجتماعي‬
‫لنبني أهم الفروق بينهما وليتضح‬
‫باملنهج التارخيي وقارنا بني املنهج االجتماعي والسياق االجتماعي‪ّ ،‬‬
‫معىن كل منهما فال خنلط بينهما‪ ،‬كما تناولنا مبادئ السياق االجتماعي ومنطلقاته الفكرية وكذا‬
‫خطواته مث عرجنا على مالمح السياق االجتماعي وخصائصه وكذا اجيابياته ومآخذه ‪ ،‬كما تناولنا‬
‫نسق التلقي عند ابن حزم وخصوصية الكتابة عنده ‪ ،‬و كذا القضايا األدبية املطروحة يف الرسائل أما‬
‫اجلانب التطبيقي فتناولنا فيه‪ :‬السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‪ ،‬ركزنا فيه على احمليط‬
‫االجتماعي و الثقايف وأثره يف هذه الرسائل‪ ،‬وكيف كان لقيم اجملتمع األندلسي دور يف كتابات ابن‬
‫حزم‪ ،‬وبينا كيف نقل لنا ابن حزم صورة عن احلياة االجتماعية و الثقافية لألندلسيني يف زمانه‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫مقدمة‬

‫وكان الفصل الرابع واألخري بعنوان‪ " :‬رسائل ابن حزم األندلسي في سياقها النفسي " وزاوجنا‬
‫فيه أيضا بني اجلانب النظري والتطبيقي‪ ،‬وركزنا يف اجلانب النظري على‪ :‬تعريف املنهج النفسي‬
‫وتعريف السياق النفسي مث تناولنا بنية السياق والقراءة وتفسري السياق النفسي للنص واحلب وفلسفته‬
‫عند ابن حزم وابن حزم الرجل احملب وكيف كان حلب ابن حزم دافع لتأليف رسالة طوق احلمامة‬
‫وكيف اعترب احلب دافعا لالستقرار النفسي‪ ،‬ويف اجلانب التطبيقي تناولنا‪ :‬السياق النفسي يف‪:‬‬
‫‪ .1‬كتاب طوق احلمامة‪.‬‬
‫‪ .2‬رسالة مداواة النفوس‪.‬‬
‫‪ .3‬رسالة يف الغناء امللهي أمباح هو أم حمضور‪.‬‬
‫‪ .3‬فصل يف معرفة النفس بغريها‪.‬‬
‫وختمنا حبثنا خبامتة ضمناها جممل النتائج اليت خلصنا إليها‪.‬‬
‫ويف األخري ال يسعنا إال أن نتقدم بالشكر اجلزيل إىل املشرفة األستاذة الدكتورة "زرقني فريدة" اليت‬
‫رعتنا يف هذا العمل‪ ،‬فصرفت معنا وقتها وجهدها الثمينني من أجل إخراجه يف أفضل وأهبى حلة‪،‬‬
‫فلم تبخل علينا مبالحظاهتا الدقيقة ونصائحها السديدة وآرائها النرية وتعديالهتا املستوفية‪ ،‬فيسرت لنا‬
‫الكثري من املعضالت اليت واجهتنا‪ ،‬نسأل اهلل هلا حسن اجلزاء والثواب‪.‬‬
‫وإنه ملن دواعي الفخر واالعتزاز أن نسرتشد ونستضيء أكثر من مالحظات السادة األساتذة‬
‫اعوج من هذه‬
‫أعضاء جلنة املناقشة‪ ،‬نشكرهم مسبقا على اقتطاعهم من وقتهم وجهدهم لتصويب ما ّ‬
‫الرسالة‪ ،‬وال يفوتنا أن نشكر كذلك جامعتنا اليت يسرت وهيأت لنا الفرصة للتسجيل واملناقشة‪.‬‬
‫ويف األخري نقول قد بذلنا جهدا كبريا من أجل اإلحاطة جبميع مقتضيات املوضوع‪ ،‬فإن وفقنا‬
‫فهذا من فضل اهلل تعاىل علينا‪ ،‬وإن أخطأنا فحسبنا أننا اجتهدنا ونرضى باألجر الواحد‪ ،‬فالكمال‬
‫وأخريا‪.‬‬ ‫واحلمد هلل أوال‬ ‫للواحد الصمد‪.‬‬
‫الطالبة‪ :‬جاليلية صبيحة‬ ‫‪2822-89-88‬‬ ‫قاملة يوم‪:‬‬

‫‪9‬‬
‫المدخل‪:‬‬
‫المالمح العامة لألندلس خالل القرن‬
‫الخامس الهجري‪.‬‬
‫املدخل‪ :‬املالمح العامة لألندلس خالل القرن اخلامس‬

‫تمهيــــــــــد‪:‬‬

‫حبب املعرفة‬
‫كانت األندلس‪ ،‬كغريها من البالد اإلسالمية‪ ،‬غنية بعلمائها وأدبائها الذين اتصفوا ّ‬
‫وأسهموا يف دفع احلركة األدبية قدما‪ ،‬وتنافس امللوك واألمراء على جعل ممالكهم وجمالسهم ملتقى‬
‫للشعراء واألدباء‪ ،‬ومتيّز اجملتمع األندلسي بكثرة التأليف وهذا راجع حلركيته الزمنية املتوترة‪ ،‬خاصة يف‬
‫مكونة حقال تراكميا‬
‫زمن اخلالفة وعصر الفتنة وملوك الطوائف‪ ،‬ولتفاعالته الثقافية املتنوعة واملستمرة‪ّ ،‬‬
‫الجتاه معريف مميز‪ ،‬اجتمعت فيه كل املنطلقات واملعطيات يف العلوم االجتماعية واإلنسانية‪ ،‬للبحث‬
‫يف احلقل التارخيي‪ ،‬ومعرفة خباياه‪.‬‬
‫تعج بالنشاط العلمي‪ ،‬وامللوك يتنافسون يف اقتناء الكتب النفيسة‪ ،‬كما كان‬
‫وكانت جمالس األمراء ّ‬
‫للمسجد يف األندلس دور باد‪ ،‬إذ انتشرت حلقات الدرس يف اجملالس وحضرها عدد كبري من‬
‫الطالّب‪ ،‬فكانت احلياة العلمية واألدبية والدينية مزدهرة‪ ،‬بالرغم من سوء األوضاع السياسية يف ذلك‬
‫الوقت‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫املدخل‪ :‬املالمح العامة لألندلس خالل القرن اخلامس‬

‫أوال‪ :‬الحياة الثقافية‪ :‬وأكثر ما مييزها‪:‬‬


‫أ‪ -‬بناء المساجد‪:‬‬
‫لقد كان بناء املساجد أولوية العرب‪ ،‬بعد استقرارهم يف األندلس ألسباب عدة نذكر منها‪:‬‬
‫‪ -‬باعتبارها أماكن للعبادة واإلفتاء يف املسائل الدينية‪ ،‬وباعتبار الدين اإلسالمي هو دين أهل‬
‫األندلس األصليني (اإلسبان)‪.‬‬
‫‪ -‬تعليم أهل البالد املفتوحة تعاليم هذا الدين اجلديد (اإلسالم) وبعد فراغهم من بناء املساجد‬
‫(اجلانب الديين)‪ ،‬التفتوا إىل العلوم األخرى " وكانت هلم وسائلهم اخلاصة يف اكتساب العلم‬
‫وتأسيس حركته يف بالدهم"(‪ ،)1‬ومن هذه السبل‪ :‬دعوة بعض أدباء املشرق إىل األندلس ليفيد‬
‫أهلها من علمهم وأدهبم كرحيل" أيب علي القايل" صاحب كتاب " األمايل" من بغداد إىل األندلس‬
‫استجابة لدعوة اخلليفة "عبد الرمحان الناصر‪ ،‬ورحيل عامل اللغة واألدب واألخبار "أبو العالء صاعد‬
‫بن احلسن البغدادي"‪ ،‬حيث كانا عاملني يف اللغة وحافظني ألشعار العرب‪ ،‬األمر الذي ساعدمها يف‬
‫نقل أكرب عدد ممكن من األدب املشرقي إىل األندلسيني حيث يعترب االثنان من أوائل واضعي‬
‫أساس الثقافة املشرقية يف األندلس‪ ،‬وقد كان مثار أعماهلما كتاب "العقد الفريد" لصاحبه " ابن عبد‬
‫ربه"‪.‬‬
‫ويف املقابل‪ ،‬فإن هناك رحلة موازية لألوىل تتمثل يف رحيل بعض األندلسيني إىل املشرق‪ ،‬ألخذ‬
‫العلم من املشارقة‪ ،‬مث العودة مبا محلوه من علوم ومعارف‪ ،‬وتلقينها لألندلسيني الذين كانوا متعطشني‪،‬‬
‫لألدب والعلم املشرقي‪ ،‬ومن بني هؤالء الذين محلوا على عاتقهم هذه املهمة الصعبة" حيي بن حيي‬
‫الليثي" حيث أخذ عن اإلمام مالك من "موطئه" كما أخذ من أكابر علماء مصر وأدبائها‪ ،‬ومثله‬
‫كثريون من أهل األندلس الذين رحلوا إىل املشرق مالئني جعبهم بالكثري من العلوم واآلداب‪ ،‬مثّ تولوا‬
‫مهمة نشرها يف األندلس (‪.)2‬‬
‫ب‪ -‬وجود حركة نقدية مزدهرة‪:‬‬

‫(‪ -)1‬المقري‪ ،‬نفح الطيب من غصن األندلس الرطيب‪ ،‬ج‪ ،1‬دار الشروق‪ ،‬عمان‪ ،‬األردن‪،‬ص ‪.342‬‬
‫(‪ -)2‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.342‬‬

‫‪12‬‬
‫املدخل‪ :‬املالمح العامة لألندلس خالل القرن اخلامس‬

‫اهتم األندلسيون جبمع الكتب وإقامة املكتبات العامة‪ ،‬وكان هلذا دور كبري يف تنشيط احلركة‬
‫العلمية األدبية‪ ،‬وكذا تشجيع الناس على القراءة – ومل ال التأليف – وقد أوىل اخلليفة " عبد الرمحان‬
‫الناصر" وابنه " احلكم املستنصر" عناية كبرية هبذا الشأن‪ ،‬فاألول قام باقتناء أمهات ونوادر الكتب‪،‬‬
‫عد وال حيصى من الكتب النفيسة‪.‬‬ ‫والثاين قام ببناء مكتبة ضخمة تضم ما ال يُ ُّ‬
‫إضافة إىل اهتمام األمراء واخللفاء بتنشيط احلركة العلمية – األدبية‪ ،‬ألن أغلبهم إن مل يكن‬
‫يروجون بأنفسهم‬ ‫كل هاته الصفات‪ ،‬وهذا ما جعلهم ّ‬ ‫شاعرا فهو أديبا أو عاملا‪ ،‬ومنهم من جيمع بني ّ‬
‫هلذه احلركة‪ ،‬وأحيانا كثرية هم الذين يكونون فرسان حلبتها‪ ،‬وهذا ما جيعلها أكثر ثراءً ومناءً وإفادةً‪،‬‬
‫ومنهم‪ " :‬األمري عبد الرمحن الداخل "شاعرا‪ ،‬و"مروان بن عبد الرمحن بن عبد امللك بن الناصر"‬
‫شاعر أيضا‪ ،‬و" املعتصم بن صماد" صاحب املرية‪ ،‬وأوالده‪ :‬الواثق‪ ،‬حيي و أبو جعفر و أم إكرام‪ ،‬مث‬
‫"املقتدر بن هود" الذي نبغ يف علم النجوم واهلندسة والفلسفة(‪.)1‬‬
‫كل ملك أندلسي‪ ،‬بإثراء وإمناء احلياة الفكرية والثقافية يف البالد‪،‬‬
‫كل خليفة‪ ،‬و ّ‬
‫كل أمري‪ ،‬و ّ‬
‫لقد اهتم ّ‬
‫حب اإلبداع‪ ،‬والتنافس يف خلق‬ ‫وهذا ما رفع من شأن األدب والعلم يف أعني العامة وشجعهم على ّ‬
‫كل ما هو جديد إنشاءً أو تأليفاً‪ ،‬وهو األمر الذي وضع احلياة األدبية والعلمية يف طريق النمو‬ ‫ّ‬
‫واالزدهار‪.‬‬
‫حجاهبم ووزراءهم‬
‫كما كان هؤالء امللوك هم أنفسهم رعاة هلذه احلركة‪ ،‬ألهنم كانوا يتخذون ّ‬
‫كل عصر‪ ،‬يف نيل‬ ‫ِ‬
‫وح ّذاقه‪ ،‬ويف ذلك ميدان جديد للتنافس بني أدباء ّ‬‫وكتاهبم من مشاهري األدب ُ‬
‫حظوة امللوك والتودد إليهم باألدب أو بالعلم‪ ،‬وامللوك من جهتهم كانوا جييدون العطاء وحيسنون‬
‫االستماع‪ ،‬يف جمالسهم األدبية‪ ،‬وهذا ما كان يزيد من محاسة الشعراء واألدباء على اجلودة واإلبداع‬
‫والتفنن‪.‬‬
‫بكل هاته الوسائل والظروف واملعايري‪ ،‬ازدهرت آداب األندلس وعلومها وتطورت حىت بلغت ذروة‬ ‫ّ‬
‫كماهلا‪ ،‬بفنوهنا وألواهنا وطابعها‪ ،‬وهذا ما جعلها تضيف إىل أدبنا العريب تراثا أندلسيا نعتز ونفتخر به‪.‬‬

‫(‪-)1‬ينظر‪ ،‬محمد سعيد محمد‪ ،‬دراسات في األدب األندلسي‪ ،‬منشورات جامعة سبها‪ ،‬ليبيا‪ ،‬ص ‪.28‬‬

‫‪13‬‬
‫املدخل‪ :‬املالمح العامة لألندلس خالل القرن اخلامس‬

‫ووجود حركة أدبية عظيمة نشطة يف األندلس أدى إىل ظهور حركة نقدية تقييمية لتلك املادة‬
‫األدبية‪ ،‬وهناك عدة عوامل ساعدت على ظهور تلك احلركة النقدية واستقوائها‪ ،‬أمهها‪:‬‬
‫انشاء حركة نقدية (‪358‬هـ ‪344 -‬هـ)‪ :‬من طرف احلكم املستنصر أضافت هذه احلركة شعورا‬ ‫‪.1‬‬
‫بالثقة يف نفوس األندلسيني‪ ،‬حيث فرقت بني التبعية للمشرق‪ ،‬واالستقالل الذايت‪ ،‬ونظرت إىل‬
‫شعر األندلسيني على أنّه شعر مستقل عن شعر املشارقة‪ ،‬وإن كان متصال‪ ،‬فهو متصل باحلركة‬
‫الشعرية عامة‪ ،‬يف البالد اإلسالمية كلّها‪ ،‬كما ساعدت احلركة اليت أوجدها املستنصر قوام وعي‬
‫عميق من خالل املفارقة واملقارنة‪ ،‬الّيت ُّ‬
‫تعد أوىل احلوافز للنقد يف العصر األندلسي‪.‬‬
‫وهب عطاءً‪ ،‬ومع أ ّن تلك املقاييس‬‫تفوقه يقيّد امسه ليُ َ‬
‫تأسيس ديوان للشعر‪ ،‬وحني يثبت الشاعر ّ‬ ‫‪.2‬‬
‫النقدية اليت ُحيَ َّكم هبا الشعر كانت ساذجة وسطحية‪ ،‬وخاضعة للذوق الشخصي‪ ،‬فإ ّهنا كانت‬
‫قادرة على خلق روح املنافسة بني الشعراء‪ ،‬وهوما أدى فيما بعد إىل اكتمال نضوج النقد‪.‬‬
‫االهنيار الذي أصاب قرطبة(‪399‬هـ)‪ :‬والذي رمى بالشعر إىل الكساد ويف املقابل ظهرت طبقة‬ ‫‪.3‬‬
‫من دعاة الثقافة‪ ،‬األمر الذي ّأدى إىل انتفاض الشعراء إزاء أوضاعهم حماولني املوازنة بني حاهلم‬
‫يف املاضي واحلاضر‪ ،‬وبغية اسرتجاع قيم باتت عرضة للضعف واالندثار‪ ،‬فنتج عن ذلك كلّه‬
‫ظهور " النقد األديب"‬
‫استجابة العقول ملنبهات نوعية من املنطق والفلسفة‪ :‬يرجع أمر انفتاح التّفكري ضمن هذا اجملال‬ ‫‪.3‬‬
‫إىل ممارسة نوع من احلرية املعتربة‪ ،‬وهذا ّأدى إىل تدقيق النظر وتعميقه يف الظواهر اإلنسانية مثل‪:‬‬
‫األدب عامة والشعر خاصة‪.‬‬
‫األدب املشرقي‪ :‬بلغت أيدي األندلسيني كتب بعض النقاد _بعد النهضة النقدية املشرقية_ أمههم‪:‬‬ ‫‪.5‬‬
‫ابن طباطبا‪ ،‬اآلمدي‪ ،‬احلامتي‪ ،‬واجلرجاين؛ فساعدت على فتح جمال القول يف النقد(‪.)1‬‬

‫(‪-)1‬ينظر‪ ،‬احسان عباس‪ ،‬تاريخ النقد األدبي عند العرب‪ ،‬نقد الشعر من القرن الثاني إلى القرن الثامن‬
‫الهجري‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬ط‪ ،2881 ،1‬ص ‪.388 ،379‬‬

‫‪13‬‬
‫املدخل‪ :‬املالمح العامة لألندلس خالل القرن اخلامس‬

‫قبل القرن اخلامس اهلجري مل يستطع النقد األديب يف األندلس االرتقاء إىل احلديث عن كربى‬
‫املشكالت املثارة لدى النقاد املشارقة‪ ،‬من حنو‪ :‬الكالم يف الطبع والصنعة‪ ،‬وكذلك اللّفظ واملعىن‪،‬‬
‫ظل بسيطا ساذجا خاضعا للذوق الشخصي‪ ،‬وقد كان القائمون‬ ‫والنظم‪ ،‬والصدق والكذب‪ ،‬بل ّ‬
‫على تدريس الشعر‪ ،‬ال ينفكون يشريون إىل بعض األخطاء اللغوية والنحوية فقط‪ ،‬وهذا ما دفع‬
‫إحسان عباس إىل القول‪ :‬إ ّن نظرة األندلسيني إىل حياة الشعر وإىل الشعر يف احلياة‪ ،‬جعلهم ال‬
‫يركزون على كربى مشكالت النقد اليت أثارها أهل املشرق(‪.)1‬‬
‫إذاً لقد ترىب الشعر األندلسي بصدر الذوق احملدث‪ ،‬والشيء الذي منحه القوة وساعده يف النمو‬
‫والتطور يف هذا االجتاه هو احلضارة األندلسية‪ ،‬حبيث ركز اهتمامه ‪-‬كما حال شعر املشارقة‬
‫احملدثني‪ -‬على وصف اجلمال يف الطبيعة‪ ،‬واإلنسان‪ ،‬من طريق اإلبداع يف نقل الصورة واإلكثار من‬
‫التشبيهات‪ ،‬اليت لفتت إليها النقاد املتذوقني لشعر اجلمال‪ ،‬ولذا جند يف بداية القرن اخلامس اهلجري‬
‫كتابني يتحدثان يف التشبيه األندلسي ال غري‪ ،‬أحدمها "أليب احلسن علي الكاتب" والثاين "البن‬
‫الكتاين الطبيب"‪ ،‬وهي حماولة كانت قاعدة هامة يف الذوق النقدي يف القرن اخلامس اهلجري؛ مث إ ّن‬
‫املذهب املسمى "طريقة العرب"‪ ،‬يف أثناء جماورته لـ" مذهب احملدثني"‪ ،‬تعايشا معا‪ ،‬متوازيني دون‬
‫يدل على مدى النضج الفكري‬ ‫صراع‪ ،‬بل أحيانا جند التيارين معا يف شعر الشاعر الواحد‪ ،‬وهذا إمنا ّ‬
‫الذي وصل إليه هؤالء الشعراء‪.‬‬
‫أما اجملاالت الكربى اليت حت ّدث عنها النقد يف األندلس فكثرية ومتنوعة نذكر منها‪:‬‬
‫الدفاع عن األندلس وأدهبا‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫اللجوء إىل محى األخالق‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫التشبث بالصورة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫قوانني األخذ والسرقة‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫(‪– )1‬ينظر‪ ،‬إحسان عباس‪ ،‬تاريخ النقد األدبي عند العرب‪ ،‬ص ‪.381‬‬

‫‪15‬‬
‫املدخل‪ :‬املالمح العامة لألندلس خالل القرن اخلامس‬

‫وهي نفسها القضايا اليت كانت تشغل بال النقاد األندلسيني يف القرن اخلامس اهلجري‪ ،‬ويع ُّد يف‬
‫مقدمة حركة النّقد كال من‪ :‬ابن شهيد‪ ،‬وابن حزم‪ ،‬ألهنما أعظم من مترس النقد يف أثناء القرن‬
‫وظل نقدمها ساريا إىل قرون تالية‪.‬‬
‫اخلامس اهلجري‪ ،‬بل ّ‬
‫الناقدان كانا صديقني يتفقان يف بعض شؤون احلياة وخيتلفان يف بعضها‪ ،‬كالمها أرستقراطي‬
‫وحين إىل ذلك املاضي اجلميل فيها‪ ،‬إذ يكتب كالمها الرتمجة الذاتية‬ ‫حيب قرطبة‪ّ ،‬‬ ‫األصل‪ ،‬وكالمها ّ‬
‫كل واحد معجب مبا ميلكه اآلخر من ملكات‪ ،‬فهما شاعران فرقتهما دروب احلياة‪ ،‬فابن‬ ‫اخلاصة به ‪ ،‬و ّ‬
‫حزم غاص داخل الصراع املذهيب قاصداً اآلخرة‪ ،‬يتنقل يف األندلس لي ّكره التالمذة التقليد والقياس‪،‬‬
‫كما أنّنا نراه مدرسا ومناقشا وداعيا إىل رحاب الفلسفة واملنطق بشكل محاسي كبري‪ ،‬أما "ابن شهيد"‬
‫فإنّه ال جيرؤ على مغادرة قرطبة‪ ،‬ملا هلا من مكانة يف قلبه‪ ،‬إذ يقبل على الل ّذات الدنيوية‪ ،‬يغامر يف‬
‫الصراع األديب قانعا بالقليل اليسري من املعرفة‪.‬‬
‫ترسخ هذه الصفة إعجابه الكبري بذاته‪ ،‬فهو‬ ‫ويعد "ابن شهيد" ناقدا أكثر من صديقه‪ ،‬وما زاد من ّ‬
‫كان ينظر إىل اللغويني نظرة فوقية (من عل)؛ األمر الذي ولّد الصراع بينه وبينهم ألهنم أ ّكدوا بأ ّهنم‬
‫يستطيعون تعليم البيان مثله‪ ،‬لكنّه أثبت هلم البعد بني" املوهبة واالكتساب"‪ ،‬ولذلك قادته وجهة‬
‫املذهب النقدي اخلاص به إىل اإلميان بطريقته الشعرية والنثرية‪ ،‬ومن طريق إميانه هذا قاس شعر‬
‫االخرين‪.‬‬
‫و"البن شهيد" عدة مؤلفات ميكن القول ّإهنا حتوي أحكاما نقدية منها‪ :‬كتاب "حانوت عطّار"‬
‫لكنّه مل يصل إلينا‪ ،‬غري أ ّن "احلميدي" نقل يف جذوة املقتبس" ومما نقله جند أ ّن الكتاب تراجم وسري‬
‫ختص شعراء األندلس‪ ،‬كما حيوي أحكاما نقدية عامة ومناذج ممّا اختاره حبسب تلك األحكام‪ ،‬وقد‬
‫التعرف على أحكام " ابن شهيد" النقدية‪ ،‬كما حال دون معرفة أخبار كثرية‬
‫حرمنا ضياع هذا الكتاب‪ّ ،‬‬
‫ومفيدة عن حياة األدباء األندلسيني‪ ،‬واملؤلف الثاين هو‪ " :‬رسالة التوابع والزوابع"(‪ ،)1‬وهذه األخرية‬
‫موجهة من "ابن شهيد" إىل "أيب بكر حيي بن حزم" الصديق والصاحب‪ ،‬عرض فيها نتاجه الفكري‪،‬‬

‫(‪-)1‬احسان عباس‪ ،‬تاريخ النقد األدبي عند العرب‪ ،‬ص ‪.383 ،383‬‬

‫‪14‬‬
‫املدخل‪ :‬املالمح العامة لألندلس خالل القرن اخلامس‬

‫اجلن يُلهمه‬ ‫ِ‬


‫وهت ّكم فيها على من كان يُكاي َده من أهل قرطبة‪ ،‬كما أخرب فيها بأ ّن لكل شاعر تابعا من ّ‬
‫الشعر‪ ،‬كما أبطل ما قاله املرزوقي‪ ،‬عن عدم اتفاق درجة النثر والشعر جودة إذا كانا للشخص نفسه ؛‬
‫اجلن عرض شعره على "امرئ القيس" و" طرفة" و"قيس بن اخلطيم" و"أيب‬
‫فهو أثناء زيارته إىل ديار ّ‬
‫الكل وشهد له باجلودة‪.‬‬
‫نواس" فأجازه ّ‬
‫وفعل بنثره ما فعله بشعره فعرضه على " اجلاحظ" و"عبد احلميد"‪ ،‬فأجازاه كذلك‪ ،‬وبذلك جاز‬
‫له التق ّدم يف الصناعتني معا‪ ،‬وهذا عمال بقوهلما‪ " :‬اذهب فإنّك شاعر خطيب"‬
‫(‪)1‬‬

‫أما ابن حزم (‪354 -383‬هـ) فإن حياته كانت رمزا حلياة األندلس‪ ،‬فهو ينتمي إىل بيت رفيع‬
‫من موايل بين أمية‪ ،‬وهوما ساعده على دخول عامل السياسة يف ريعان الشباب‪ ،‬أما ولوجه جمال النقد‬
‫فكان من منطلق اطالعه الواسع ومتسكه بالرتاث الشعري األندلسي‪ ،‬وكذا ذكاؤه‪ ،‬وتذوقه املرهف‪،‬‬
‫لحب الذي ي ّكنه لألندلس‪ ،‬ومعرفته بطرق النقد املشرقية‪ ،‬فضال كبريا‬
‫وتعلمه الفلسفة واملنطق‪ ،‬وكان ل ّ‬
‫يف تنامي ملكة النقد عنده‪ ،‬إىل أن أصبح يف آخر األمر "مف ّكرا‪ ،‬خصب اللسان يُنازل العلماء‬
‫والفقهاء‪ ،‬ويتح ّدى جبدله العنيف آراءً كانت متأصلةً يف عقول الناس‪ ،‬فقهاً وفلسفةً وديناً"(‪ ،)2‬وهو‬
‫يستقر يف‬
‫ّ‬ ‫اجلوال" وهذا نظرا ألنّه ال‬
‫األمر الذي جعله يطلق على نفسه "الرجل اجلديل" و"اجلديل ّ‬
‫مكان‪.‬‬
‫و حيوز ابن حزم على ع ّدة مؤلفات منها‪ :‬مؤلفه العلمي يف تاريخ األديان حتت عنوان " الفصل"‬
‫وهو مرتجم إىل اإلسبانية‪ ،‬ومن آثاره األدبية كتاب " اخلصال"‪ ،‬وأفضل تأليفه كتابه عن احلب املسمى‬
‫" طوق احلمامة يف األلفة واألالّف"‪.‬‬

‫(‪ -)1‬شهاب الدين القرافي‪ ،‬الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة‪ ،‬ج‪ ،1‬تح محمد حجي وآخرون‪ ،‬دار الغرب‬
‫اإلسالمي‪ ،‬ط‪ ،1993 ،1‬ص‪.238‬‬
‫(‪ -)2‬إم يليو جارثياجوميث‪ ،‬الشعر األندلسي‪ ،‬بحث في تطوره و خصائصه‪ ،‬ترجمة حسين مؤنس‪ ،‬دار الرشاد‪،‬‬
‫القاهرة‪ ،‬ط‪ ،2885 ،2‬ص‪.38‬‬

‫‪17‬‬
‫املدخل‪ :‬املالمح العامة لألندلس خالل القرن اخلامس‬

‫العامي كفهم اخلاصي‪ ،‬وكان بلفظ يَـتَـنَبَّهُ له‬


‫ّ‬ ‫ويف تعريفه للبالغة يقول ابن حزم‪ " :‬البالغة ما فهمه‬
‫العامي‪ ،‬ألنه ال عهد له مبثل نظمه ومعناه‪ ،‬واستوعب املراد كلّه‪ ،‬ومل يزد فيه ما ليس منه‪ ،‬وال حذف‬
‫ما حيتاج من ذلك املطلوب شيئا‪ ،‬وقرب على املخاطب به فهمه‪ُ ،‬لوضوحه وتقريبه ما بعُد‪ ،‬وكثر من‬
‫املعاين وسهل عليه حفظه لقصره وسهولة ألفاظه"(‪ ،)1‬وهو يقصد من ذلك‪ :‬تركيب األلفاظ لتوضيح‬
‫املعىن‪ ،‬وتيسريه للمتلقي‪ ،‬شرط أن تكون تلك األلفاظ سهلة‪ ،‬سلسة غري مبهمة‪ ،‬وتؤدي معىن مفيدا‪.‬‬
‫وجعل للبالغة أربع مراتب هي‪:‬‬
‫بالغة ألفاظها مألوفة لدى العامة‪ ،‬من حنو‪ :‬البالغة عند "اجلاحظ"‬ ‫‪.1‬‬
‫البالغة ذات ألفاظ ال يألفها العامة‪ ،‬من حنو‪ :‬البالغة لدى "احلسن البصري"‪ ،‬و"سهل بن‬ ‫‪.2‬‬
‫هارون"‪.‬‬
‫‪ .3‬البالغة املركبة من املرتبة األوىل والثانية‪ ،‬مثل‪ :‬البالغة عند "ابن املقفع"؛ فهي متزج بني بالغة‬
‫اخلطب ممتزجة ببالغة الرسائل‪ ،‬وذلك ما جنده عند " ابن الدراج القسطلي"‪.‬‬
‫‪ .3‬البالغة العادية‪( :‬عساها النثر العادي واملراد منه اإلفهام فقط)(‪.)2‬‬
‫تعودنا عليه بأنّه إما مطبوع أو مصنوع‪ ،‬غري أ ّن‬
‫قسم ابن حزم الشعر ثالثة أقسام‪ ،‬غري ما ّ‬ ‫كما ّ‬
‫ابن حزم يضيف عليهما نوعا ثالثا هو شعر الرباعة‪.‬‬
‫شعر الصنعة‪ :‬ويكون جبمع االستعارة مع التحليق باملعاين‪ ،‬من حنو‪ :‬شعر "زهري"‪ ،‬و"أيب متام"‪.‬‬ ‫‪.1‬‬
‫الطبع‪ :‬يشبه الطبع املنثور تأليفا وسهولةً ‪ ،‬حبيث ال يقع فيه التكلّف‪ ،‬مثل‪ :‬شعر "جرير"‪ ،‬و"أيب‬ ‫‪.2‬‬
‫نواس"‪.‬‬
‫التصرف إزاء املعاين الدقيقة البعيدة‪ ،‬وإكثار القول فيما مل يعهده الناس‪،‬‬
‫الرباعة‪ :‬تتمثل الرباعة يف ّ‬ ‫‪.3‬‬
‫وكذا اإلصابة يف التشبيه‪ ،‬وحتسني املعىن اللطيف‪ ،‬من حنو‪ :‬شعر "امرئ القيس" و"ابن الرومي"‪.3‬‬

‫(‪ -)1‬الحافظ أحمد بن علي العسقالني‪ ،‬تقريب التهذيب‪ ،‬تحقيق أبو األشبال الباكستاني‪ ،‬دار العاصمة للنشر‬
‫و التوزيع‪ ،‬ص ‪.283‬‬
‫(‪-)2‬ينظر‪ ،‬احسان عباس‪ ،‬تاريخ النقد األدبي عند العرب من ق‪ 2‬إلى ق‪8‬هـ‪ ،‬ص ‪.393‬‬
‫(‪-)3‬ينظر‪ ،‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.393‬‬

‫‪18‬‬
‫املدخل‪ :‬املالمح العامة لألندلس خالل القرن اخلامس‬

‫كما يَع ّد ابن حزم أ ّن "أحسن الشعر أكذبه"‪ ،‬ألن الشاعر إذا أخذ يف الصدق قال‪ " :‬الليل ليل‪،‬‬
‫ط‬
‫الكل يُدرك بأ ّن الليل ليل‪ ،‬وهذا ما سيجعله حم ّ‬
‫والنهار هنار"‪ ،‬مل يأت جبديد وال حبسن أل ّن ّ‬
‫قر أن ح ّد الشعر ال ينضوي على كل من‪ :‬املواعظ‪ ،‬واحلكم‪ ،‬واملدائح الدينية‪ ،‬كون‬ ‫سخرية‪ ،‬كما يُ ّ‬
‫قوامها الصدق‪ ،‬بينما الشعر يقوم على الكذب‪ ،‬لذا فهو ينصح باستبعاد الشعر يف املنهج الرتبوي‪،‬‬
‫حيث على الصبابة والشهوة‪ ،‬ويدعو إىل الفتنة‪ ،‬كما هنى عن األشعار اليت‬ ‫فقد هنى عن الغزل ألنّه ّ‬
‫متجد احلروب وتدعو إىل التصعلك‪ ،‬ألهنا تثري النفس وهتيّجها مما يسبب هالكها‪ ،‬كما هنى عن‬ ‫ّ‬
‫التغرب واهلجاء‪ ،‬أما املدح والرثاء فهما من املباح املكروه عنده‪ ،‬ألن فيهما كثريا من الفضائل‪،‬‬
‫أشعار ّ‬
‫وتذكريا باملوت‪ ،‬ومن املكروه‪ ،‬ألن فيهما بعضا من الكذب‪ ،‬وال خري يف الكذب‪.‬‬
‫ويتفق ابن حزم مع القائلني إ ّن معجز القرآن نظمه ومحله األخبار الغيبية‪ ،‬لذا جنده يرد على من‬
‫يذهب إىل أن إعجاز القرآن يتجلى يف أعلى مراتب البالغة‪ ،‬إذ يرجح سبب ذلك أنّه يطال كل من‬
‫كان أعلى مرتبة‪ ،1‬ويُضيف حبديثه عن ارجاح إعجاز القرآن إىل أعلى درج بالغي لكان األمر مبنزلة‬
‫كالم كل من‪ :‬احلسن البصري‪ ،‬وسهل بن هارون‪ ،‬وشعر كل من‪ :‬امرئ القيس‪ ،‬ومعاذ اهلل من هذا؛‬
‫أل ّن كل سابق يف طبقته مامل يؤمن باإلتيان من مياثله‪ ،‬ضرورة‪.2‬وهو بذلك يرى أن القرآن أعلى من‬
‫درجات البالغة يف كالم اخللق‪ ،‬كونه ال ينتمي إىل كالم املخلوقني‪ ،‬وبذلك من غري املمكن قياسه ال‬
‫بالبالغة وال بغريها‪ .‬فهو أعلى منهم درجة‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬الحياة االجتماعية‬
‫تمهيد‪:‬‬

‫كان اجملتمع األندلسي يف القرن اخلامس اهلجري‪ ،‬مزجيا من األجناس‪ ،‬إذ امتزج العرب باملولدين‬
‫والصقالبة والرببر والزنوج واليهود‪ ،‬ورغم هذا االختالف العرقي فقد استطاعت الثقافة العربية أن حتافظ‬
‫على وحدهتا‪.‬‬

‫(‪-)1‬ينظر‪ ،‬ابن حزم‪ ،‬الفصل في الملل و األهواء و النحل‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.15‬‬


‫(‪-)2‬ينظر‪ ،‬احسان عباس‪ ،‬تاريخ النقد األدبي عند العرب‪ ،‬ص ‪.397 ،394‬‬

‫‪19‬‬
‫املدخل‪ :‬املالمح العامة لألندلس خالل القرن اخلامس‬

‫ومن مظاهر من احلياة اليومية ألهل األندلس أهنم اشتهروا بولعهم بنظافة اللباس واألكل والفراش‬
‫كل شيء خيصهم‪ ،‬كما تعود معظم الناس السري برؤوس عارية يف األزقة والشوارع‪ ،‬على غري عادة‬ ‫و ّ‬
‫الفقهاء والقضاة الّذين غالبا ما يضعون عمائم على رؤوسهم‪.‬‬
‫تتجلى بعض مظاهر احلياة االجتماعية يف األندلس فيما يلي‪:‬‬
‫أ‪ -‬الجالء‪:‬‬

‫ونقصد به اهلروب أو االنتقال من مكان املعيشة إىل أي مكان آخر غريه‪ ،‬وقد بدأ هذا اجلالء‬
‫أثناء الفتنة الرببرية وانزياح كثري من أهل قرطبة فرارا بأرواحهم‪ ،‬وتزايد إثر سقوط بعض املدن يف‬
‫احلروب الداخلية‪ ،‬ومن بعض مسبباته أيضا‪ :‬طلب الرزق أو اهلرب من الضرائب والظلم مثلما حدث‬
‫يف " بلنسية" و"شاطبة"‪.‬‬
‫ومن أسباب اجلالء أيضا‪ :‬الصراع العنصري‪ ،‬فلما تغلب الرببر بعد الفتنة على مناطق واسعة أخرج‬
‫(‪)1‬‬
‫أهل تلك املناطق وأزاحهم عن ملكيتها‬
‫كما استبد اجلند بكثري من األمور‪ ،‬األمر الذي جعلهم يتجاوزون كل احلدود " حىت فشا يف‬
‫املواشي ما ترون من الغارات ومثار الزيتون وما تشاهدون من استيالء الرببر واملتغلبني على ما بأيديهم‬
‫إال القليل التافه "‪ )2(2‬وبفقدان األمن واالطمئنان اضطر املضطهدون إىل اهلروب والفرار بأرواحهم‬
‫وممتلكاهتم‪.‬‬
‫ويف ظل هذه الظروف املتقلبة ظهرت شخصية الرجل القلق املغامر‪ ،‬مهما كانت صفته جندي أو‬
‫شاعر أو أديب فهو يتجول من بلد إىل بلد يعرض خدماته على من يقدرها‪ ،‬ومل يكن الدين عائقا يف‬
‫هذا األمر ألن إيثار املصلحة الفردية من أولوية اهتماماته‪ ،‬فنجده تارة حيارب مع أمري مسلم وتارة‬
‫حيارب من أجل آخر نصراين‪ ،‬وهذا إن دل على شيء إمنا يدل على التهاون يف املقاييس العامة إن‬
‫هي تعارضت مع مصلحة الفرد‪ ،‬ويقول الدكتور صالح خالص يف تصويره لظاهرة انتشار املغامرين‪" :‬‬

‫(‪ -)1‬احسان عباس‪ ،‬تاريخ األدب األندلسي‪ ،‬عصر الطوائف والمرابطين‪ ،‬دار الشروق للنشر والتوزيع‪ ،‬عمان‬
‫األردن‪ ،‬ط‪ ،2881 ،1‬ص‪.28‬‬
‫(‪ -)2‬احسان عباس‪ ،‬تاريخ األدب األندلسي‪ ،‬عصر الطوائف والمرابطين‪ ،‬ص ‪.28‬‬

‫‪28‬‬
‫املدخل‪ :‬املالمح العامة لألندلس خالل القرن اخلامس‬

‫لقد كان هؤالء املغامرون منتشرين آنذاك يف كل جوانب األندلس‪ ،‬والسيما يف بالطات امللوك وقصور‬
‫األمراء‪ ،‬يتلمظون بانتظار فرصة ساحنة وصفقة راحبة ولقمة سائغة"(‪.)1‬‬
‫ب‪ -‬طبقة الفقهاء‪:‬‬

‫كان للفقهاء شأن كبري يف احلياة األندلسية‪ ،‬إال أن صفة االنتهاز كانت صفة لصيقة هبم‪ ،‬حىت‬
‫عندما كان الفقيه مشهودا له بسالمة اليد واللسان‪ ،‬مل يكونوا يف طليعة املغامرين عندما سقطت‬
‫الدولة األموية‪ ،‬وهذا ليس معناه أهنم ختلفوا عن مراكزهم األوىل بعد الفتنة الرببرية‪ ،‬أو تنازلوا عنها‪،‬‬
‫وهذا الشرتاك مصاحلهم مع مصاحل الثائرين يف غري مكان‪ ،‬يقول "ابن اخلطيب" يف خرب "زهري‬
‫العامري"‪" :‬إنه كان يشاور الفقهاء ويعمل بقوهلم‪ )2(".‬وهو هبذا يبني لنا املكانة اخلاصة اليت حظي هبا‬
‫الفقهاء لدى امللوك واخللفاء‪ ،‬ومن أجل ذلك محلهم "ابن حيان" مسؤولية التضييع وأشركهم يف ذلك‬
‫مع األمراء حني قال‪ " :‬ومل تزل آفة الناس منذ خلقوا يف صنفني هم كامللح فيهم‪ :‬األمراء والفقهاء‬
‫قلما تتنافر أشكاهلم‪ ،‬بصالحهم يصلحون‪ ،‬وبفسادهم يفسدون‪ ...‬فاألمراء القاسطون قد نكبوا هبم‬
‫عن هنج الطريق ذيادا عن اجلماعة وجريا إىل الفرقة‪ ،‬والفقهاء أئمتهم صموت عنهم‪ ،‬صدوف عما‬
‫أكده اهلل تعاىل عليهم من التبيني هلم‪ ،‬قد أصبحوا بني آكل من حلوائهم‪ ،‬وخابط يف أهوائهم‪ ،‬وبني‬
‫مستشعر خمافتهم‪ ،‬آخذ يف التقية يف صدقهم‪".‬‬
‫(‪)3‬‬

‫ففي نظره فإن الفقهاء واألمراء وجهان لعملة واحدة‪ ،‬األمري يقرر والفقيه يوافق خوفا من ردة فعله‬
‫أو انقطاع رزقه‪ .‬وملا كان األساس الذي بنيت عليه الدولة املرابطية ديين‪ ،‬فال عجب أن جند خلفاءها‬
‫يقربون منهم الفقهاء‪ ،‬فعال شأن هؤالء أكثر من ذي قبل‪ ،‬وجازوا على ثروات ضخمة جزاء وعطاء‬
‫من خلفائهم‪ ،‬إال أن هذا قد أثار حفيظة العامة فأعلنوا عليهم وعلى أسيادهم حربا كالمية‪ ،‬إىل أن‬
‫ضعفت الدولة املرابطية‪ ،‬فما كان للفقهاء بد إال أن يكونوا أول املغامرين‪.‬‬

‫(‪ -)1‬صالح خالص‪ ،‬محمد بن عمار األندلسي‪ ،‬دراسة أدبية تاريخية‪ ،‬دارالهدى‪ ،‬بغداد‪ ،‬ط‪ ،1957 ،1‬ص‬
‫‪.81‬‬
‫(‪ -)2‬احسان عباس‪ ،‬تاريخ األدب األندلسي‪ ،‬ص‪.38‬‬
‫(‪ -)3‬المقري‪ ،‬نفح الطيب من غصن األندلس الرطيب‪ ،‬ج‪ ،1‬تح احسان عباس‪،‬دار صادر‬
‫بيروت‪،‬ط‪،8811‬ص‪.342‬‬

‫‪21‬‬
‫املدخل‪ :‬املالمح العامة لألندلس خالل القرن اخلامس‬

‫ج‪ -‬مظاهر الترف في عهد الطوائف‬

‫فرضت على العامة يف األندلس ثالثة أنواع من الضرائب وهي‪:‬‬


‫الضريبة السنوية‪ :‬وهي اليت يدفعها األمراء "لألذوفونش" وهي ال حتمل قيمة حمددة‪ ،‬بل خاصة‬ ‫‪.1‬‬
‫ملدى رضى هؤالء أو غضبهم‪.‬‬
‫الضريبة املفروضة لدفع مرتبات اجلند‪ :‬وتزيد عن قيمتها األصلية كلما كان هناك حروب أو فنت‪،‬‬ ‫‪.2‬‬
‫وهي يف الظروف العادية "جزية" على الرؤوس تسمى ‪-‬القطيع‪ -‬وتُـ َؤَّدى مشاهرة‪.‬‬
‫ضريبة على األموال من الغنم والبقر والدواب والنحل‪...‬و على كل ما يُباع يف األسواق‪ ،‬وعلى‬ ‫‪.3‬‬
‫إباحة بيع اخلمر من املسلمني يف بعض البالد(‪.)1‬‬
‫ومن هذه الضرائب يُنفق األمراء على بناء القصور واقتناء فاخر األثاث‪ ،‬ورفيع الرياش‪ ،‬وسائر‬
‫صنوف الرتف‪ ،‬واملتأمل يف هذه الطبقة يرى ثراء فاحشا ال يضاهيه ثراء‪ ،‬وهذا مل يكن مقتصرا على‬
‫وغىن‪ ،‬ويتجلى اجلانب املرتف يف األندلس يف تشييد أروع‬ ‫امللوك فقط‪ ،‬فالتجار كانوا أكثر ثراء ً‬
‫القصور وبناء أمجل احلدائق حىت أ ّن األمراء كانوا يتنافسون فيما بينهم يف بناء القصور واختاذ األُهبة‬
‫يلتف حوهلم فئتان‪:‬‬
‫وانتحال ضروب التفخيم‪ ،‬وأثناء ذلك كان ّ‬
‫فئة الكبار من رجال الدولة (الوزراء واحلاشية)‪ :‬الحتاد املنفعة واالشرتاك يف طرائق الكسب‬ ‫‪.1‬‬
‫واجلمع‪.‬‬
‫فئة جتار الكماليات‪ :‬الذين تُنفق سلعهم يف مثل هذه األحوال‪ ،‬مبا يقدمونه من فاخر األثاث‬ ‫‪.2‬‬
‫واملالبس املزخرفة والعطور واجلواري(‪.)2‬‬
‫فاملتأمل يف الشعر األندلسي جيد فيه وصفا مفصال جلمال تلك القصور‪ ،‬وحدائقها الرائعة‪ ،‬وكيف‬
‫كان األمراء يتفننون يف زخرفة قصورهم واالعتناء حبدائقهم‪ ،‬فرتاها على مدار السنة خضراء مزهرة‪،‬‬
‫وتلك كانت مظاهر الرتف يف احلياة األندلسية‪.‬‬

‫(‪ -)1‬احسان عباس‪ ،‬تاريخ األدب األندلسي‪ ،‬ص ‪.33‬‬


‫(‪-)2‬المرجع نفسه‪ ،‬ص نفسها‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫املدخل‪ :‬املالمح العامة لألندلس خالل القرن اخلامس‬

‫ثالثا‪ :‬صورة من عهد المرابطين‬

‫أقبل "يوسف بن تاشفني" املرابطي إىل األندلس ِجبمالِه‪ ،‬فرعب منها أهل األندلس ألهنم مل‬
‫يكونوا قد رأوها من قبل‪ ،‬والسبب وراء هذا اإلقبال غري املتوقع ليوسف بن تاشفني‪ ،‬أنّه مسع بأن أمراء‬
‫األندلس قد أرهقوا العامة بوضع الضرائب‪ ،‬فتوعدهم بالنيل منهم‪ ،‬وقد وىف مبا وعد‪ ،‬ألنّه ملا تويف مل‬
‫جيد يف حوزته إال القليل من الدراهم والذهب(‪.)1‬‬
‫وقد قامت الدولة املرابطية بالعديد من احلروب‪ ،‬األمر الذي جعلها ال تتخلى عن ضريبة‬
‫احلروب‪ ،‬أضف إىل ذلك أ ّن أمراء املرابطني كانوا جشعني‪ ،‬وكانوا يتصيدون الفرص لنهب ثروات‬
‫وأموال الناس‪ ،‬ولذا مل يشعر اإلنسان العادي القاطن باألندلس أثناء العهد املرابطي بتحسن يف‬
‫أحس بذلك هم الفقهاء‪ ،‬ملشاركتهم يف السلطة‪ ،‬ويف مجع‬ ‫مستوى الدخل واملعيشة‪ ،‬وإمنا الذي ّ‬
‫الثروات‪ ،‬ويذكر "ابن عبدون" يف رسالته عن غياب "الرئيس العادل الساعي إىل اخلري املرتبط‬
‫بالناموس‪ ،‬أصبح يُلتَ َمس فال يوجد"(‪ .)2‬وينص على أ ّن هناك طبقة من املوظفني‪ ،‬هم صاحب‬
‫املدينة‪ ،‬وصاحب املواريث‪ ،‬والقاضي‪ ،‬واحملتسب وهم أندلسيو األصل‪ ،‬ألهنم أعرف بأمور الناس‬
‫وأحواهلم‪ ،‬وبذلك يكونون أنفع للسلطان وأوثق من املرابطني الذين كانوا أكثر نفوذا وتبجحا‪ ،‬بسبب‬
‫السلطة واملكانة اللتني منحها هلم أمريهم‪.‬‬
‫كما تق ّدم لنا رسالة "ابن عبدون" أخبارا هامة عن بعض املظاهر العمرانية واالجتماعية فللمدن‬
‫أسوار تغلق ليال‪ ،‬وأبواب يدفع الناس لبوابيها الجتيازها‪ ،‬وخارج تلك األسوار‪ ،‬مجوع من العامة‪ ،‬تبيع‬
‫كل من‬‫جلود البقر وحلومها ليقتاتوا هبا‪ ،‬وللمدينة حرس جيوبوهنا ليال وهنارا ويُلقون القبض على ّ‬
‫يرتابون فيه‪ ،‬وهم ميتازون بالشدة واخلشونة‪.‬‬

‫(‪ -)1‬إميليوجارثياجوميث‪ ،‬الشعر األندلسي‪ ،‬ص ‪.31‬‬


‫(‪ -)2‬احسان عباس‪ ،‬تاريخ األدب األندلسي‪33 ،‬‬

‫‪23‬‬
‫املدخل‪ :‬املالمح العامة لألندلس خالل القرن اخلامس‬

‫ويويل األندلسيون أمهية بالغة للزراعة "فالفالحة هي العمران ومنها العيش كلّه‪ ،‬والصالح جلّه‪ ،‬ويف‬
‫كل‬
‫وينحل ّ‬
‫ّ‬ ‫احلنطة تذهب النفوس واألموال وهبا ُمتلك املدائن والرجال‪ ،‬وببطالتها تفسد األحوال‪،‬‬
‫نظام"(‪.)1‬‬
‫رابعا‪ :‬الغنــاء‪:‬‬
‫كان الغناء وسيلة من وسائل نقل األحلان العربية إىل ما وراء احلدود اإلسالمية‪ ،‬وطريقة للتأثري‬
‫العريب عامة‪ ،‬فاألحلان العربية والغناء العريب كان يُسمع ويُستساغ لدى األجانب(‪ ،)2‬مث إ ّن األصول‬
‫التلحينية اليت وضعها زرياب وتالمذته ظلّت أساسا للغناء األندلسي‪ ،‬وفيما بعد اقتضت طبيعة‬
‫املوشح‬
‫املوشحات واألزجال تفريعات جديدة لألحلان‪ ،‬ويعرف ابن سناء امللك يف كتابه‪" :‬دار الطراز" ّ‬
‫بقوله‪" :‬املوشح كالم منظوم‪ ،‬على وزن خمصوص‪ ،‬بقواف خمتلفة‪ ،‬وهو يتألف يف األكثر من ستة‬
‫أقفال ومخسة أبيات ويقال له‪ :‬التام ويف األقل من مخسة أقفال ومخسة أبيات‪ ،‬ويقال له‪ :‬األقرع‪"...‬‬
‫(‪)3‬ويشري إىل أن أكثرها مبين على تأليف األرغن‪ ،‬وأن الغناء على غري األرغن مستعار‪ ،‬وعلى سواه‬
‫خترج‪" :‬‬
‫جماز‪ ،‬ويعترب ابن ماجة فيلسوف األندلس وإمامها يف األحلان يف عصر املرابطني‪ ،‬وعلى يده ّ‬
‫أبو عامر حممد بن احلمارة الغرناطي" الذي برع يف علم األحلان وإسحاق بن مشعون اليهودي القرطيب‪،‬‬
‫" أحد عجائب الزمان يف االقتدار على األحلان" وكان يغين ويضرب بالعود‪.‬‬
‫وكان اقتناء القيان أمرا متصال بطبيعة الرتف يف قصور األمراء‪ ،‬ودور األثرياء‪ ،‬وهم يغالون يف‬
‫أمثاهنن إذا أحسنت اجلارية فنونا متنوعة من علم وخط وشعر‪...‬‬
‫ملس هذا األثر الغنائي املوسيقي الباحثون الذين اعتمدوا املقارنة بني الطريقة العربية وما تأثر هبا‪،‬‬
‫و َ‬
‫فذهب "األب خوان اندريس" منذ ق ‪ 18‬إىل أ ّن موسيقى الرتوبادور‪ ،‬وأراء "ألفونسو" العامل يف هذا‬
‫الفن عربية كلّها وهذا يُبني أمهية " النوبة" الغنائية اليت استحدثها زرياب يف األندلس ويُعطينا تفسريا‬

‫(‪ -)1‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪.33‬‬


‫(‪- )2‬محمد سعيد محمد‪ :‬دراسات في األدب األندلسي‪ ،‬منشورات جامعة سبها‪ ،‬ليبيا ص ‪.39‬‬
‫(‪ -)3‬ابن سناء الملك‪ ،‬دار الطراز‪ ،‬دار الشروق العربي‪ ،‬ص ‪.33‬‬

‫‪23‬‬
‫املدخل‪ :‬املالمح العامة لألندلس خالل القرن اخلامس‬

‫لبعض التطورات اليت حدثت يف املوشحات‪ ،‬واألزجال لدى العرب أنفسهم‪ ،‬لتشابه احلالتني(‪()1‬العربية‬
‫واألندلسية)‪.‬‬

‫(‪ -)1‬احسان عباس‪ ،‬تاريخ النقد األندلسي‪ ،‬ص ‪.35‬‬

‫‪25‬‬
‫الفصل األول‪:‬‬
‫السياق وعالقته‬
‫بالنقد الثقافي و‬
‫النظرية السياقية‬
‫الفصل األول‪:‬السياق و عالقته بالنقد الثقافي و النظريةالسياقية‬

‫عرب البالغيون القدماء عن مفهوم السياق بقوهلم‪ " :‬لكل مقام مقال‪ ،‬ولكل كلمة مع صاحبتها‬
‫ّ‬
‫مقام"‪ ،‬وهبذا ربطوا مفهوم الصياغة بالسياق‪ ،‬فأصبح بذلك معيار حسن الكالم‪ :‬مناسبة الكالم ملا‬
‫عربوا عنه فيما بعد بـ"مقتضى احلال"‪" ،‬وإن كان مقتضى احلال إطالق احلكم‪،‬‬
‫يليق به‪ ،‬وهو ما ّ‬
‫فحسن الكالم جتريده من مؤكدات احلكم‪ ،‬وإن كان مقتضى احلال خبالف ذلك‪ ،‬فحسن الكالم‬ ‫ُ‬
‫طي ذكر املسند إليه‪،‬‬
‫حتلّيه بشيء من ذلك حبسب املقتضى ضعفا وقوة‪ ،‬وإن كان مقتضى احلال ّ‬
‫سن الكالم تركه‪ ،‬وإن كان املقتضى إثباته على وجه من الوجوه املذكورة‪ ،‬فحسن الكالم ُوُروده‬
‫فح ُ‬
‫ُ‬
‫فحسن الكالم ُوروده عاريا عن ذكره‪ ،‬وإن‬
‫على االعتبار املناسب‪ ،‬وكذا إذا كان املقتضى ترك املسند ُ‬
‫كان املقتضى إثباته خمصصا بشيء من التخصيصات‪ ،‬فحسن الكالم نظمه على الوجوه املناسبة من‬
‫االعتبارات املق ّدم ذكرها‪"...‬‬
‫(‪)1‬‬

‫ويذكر السكاكي يف هذه الفقرة مقتضيات األحوال‪ ،‬أو ما يُطلق عليه بالسياقات‪ ،‬اليت تتضمن‬
‫خصائص تركيبات ُمجلية مناسبة حسب نوعية الصياغة ووجه الكالم‪ ،‬وإذا اعتربنا أن الصياغة هلا‬
‫مستويان خيتلفان باختالف السياق الذي يردان فيه‪ ،‬فاملستوى األول حتما سيكون املستوى اللغوي‬
‫ألنّه يُعىن فقط بإيصال املقتضى‪ ،‬أما املستوى الثاين‪ ،‬فهو املستوى البياين الذي يتميّز بطبيعته‬
‫اجلمالية(‪.)2‬‬
‫لكل حدث بعدا زمانيا وآخر مكانيا‪ ،‬كان البد أن ترتبط فكرة احلال واملقام باملقال‪ ،‬فإذا‬
‫ومبا أن ّ‬
‫باحملل ُمس ّي مقاما‪ ،‬وباختالف املقال خيتلف احلال‬
‫اتصل هذا احلدث بالزمن ُمس ّي حاال وإذا اتصل ّ‬
‫"لكل كلمة مع صاحبتها مقام"‪ :‬أهنا نظام يتصل باألنسقة اخلاصة‪،‬‬
‫واملقام‪ ،‬وقال البالغيون عن فكرة ّ‬

‫(‪ -)1‬السكاكي‪ ،‬مفتاح العلوم‪ ،‬تح‪ ،‬نعيم زرزور‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬ط ‪ 2،8811‬ص ‪.73‬‬
‫(‪ -)2‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.73‬‬

‫‪27‬‬
‫الفصل األول‪ :‬السياق وعالقته بالنقد الثقايف و النظرية السياقية‬

‫وختضع العتبارات تتحكم يف عالقاهتا‪ ،‬وهو ما ميكن أن جند له ما يقابله عند "دي سوسري" يف‬
‫عالقته السياقية واإلحيائية"(‪.)1‬‬
‫فالكلمة إذا تكسب قيمتها من مقابلتها مع السابقة أو الالحقة من كلمات الرتكيب اجلملي‪،‬‬
‫ويكون هلا يف الوقت نفسه دور تأثريي بالتداعي واإلحياء‪ ،‬ومن هنا ندرك أ ّن فكرة املقام متثّل مركز‬
‫الداللة وأساسها بِ َعدها الوجه االجتماعي املتضمن للعالقات واألحداث والظروف املتحكمة يف وجه‬
‫الكالم بصيغة خاصة‪" ،‬ومن املؤكد أ ّن افتقاد املقام يؤدي إىل ورود مفردات متناثرة ال متثّل مقاال‬
‫باملعىن اللغوي‪ ،‬أو باملعىن البالغي‪ ،‬ألهنا مل توضع يف سياق يربط بني أجزائها حبيث تؤدي يف النهاية‬
‫معىن معينا‪ ،‬وعلى هذا لو قمنا بتحليل هذه املفردات من حيث مستوى الصوت أو الصرف أو‬
‫النحو‪ ،‬أومن حيث عالقة اللفظ مبدلوله‪ ،‬فلن تصل أبدا إىل داللة حمددة الفتقاد السياق‪ ،‬أو املقام‬
‫(‪)2‬‬
‫الذي يعطي البعد املكاين‪ ،‬وافتقاد احلال الذي يعطي البعد الزماين للصياغة"‬
‫التصور دقيقا‬
‫ولفهم املقال جيّدا كان البد من ختيّل املقام الذي حدث فيه املقال‪ ،‬فكلّما كان ّ‬
‫كان إدراك املقال وفهمه أيسر‪ ،‬وهلذا كان يصعب علينا أحيانا إدراك املقال لبعده الزماين واملكاين عن‬
‫املقام‪.‬‬
‫ويذكر "ابن األثري" أ ّن لفهم السياق املتصل باملقام حنتاج إىل أشياء ثالثة؛ تتضمن أوهلا انتقاء‬
‫األلفاظ املفردة مماثلة يف ذلك عملية انتقاء الآللئ املبددة‪ ،‬ويكون ذلك قبل عملية النظم‪ّ ،‬أما الوجه‬
‫الثاين فيُجسد نظم الكلمات‪ ،‬مبا تتناسب مع بعضها حىت ال يكون الكالم متنافرا‪ ،‬وحكم ذلك مبا‬
‫يُشبه انتظام حبات اللؤلؤ وتناسقها يف العقد‪ ،‬وكذلك جند وجهاً ثالثاً‪ :‬يتمثل يف الغرض املقصود من‬
‫وراء وجه الكالم باختالف صياغته‪ ،‬وهذا األمر يكون مماثالً حلكم إجادة املوضع املناسب للعقد‬

‫(‪ -)1‬محمد عبد المطلب‪ ،‬البالغة و األسلوبية‪ ،‬الشركة العالمية المصرية للنشر‪ ،1993 ،‬ص‪.387‬‬
‫(‪ -)2‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.388‬‬

‫‪28‬‬
‫الفصل األول‪ :‬السياق وعالقته بالنقد الثقايف و النظرية السياقية‬

‫املنظوم؛ بني أن ُجيعل تاجا على الرأس‪ ،‬أو ُجيعل قالدة تزين العنق‪ ،‬أو يوضع شنقا يف األذن‪ ،‬وبذلك‬
‫يأخذ العقد هيئة مميّزة من اجلمال واحلسن ختتلف باختالف املواضع(‪.)1‬‬
‫وهذا يعين بأن ابن األثري يويل أمهية بالغة الختيار األلفاظ وكذا مشاكلتها وتناسقها مع ما قبلها‬
‫فحسن نظمها وتركيبها ال يزيدها إالّ روعة ومجاال‪ ،‬وكذا‬
‫وما بعدها‪ ،‬وقد شبّه ذلك بآللئ العقد‪ُ ،‬‬
‫وحي ُسن الفهم‪.‬‬
‫ُحسن ترتيبها يؤدي إىل حسن املعىن الذي تؤديه‪ ،‬وبذلك تكرب الفائدة واإلدراك َ‬
‫وأورد "ابن سنان اخلفاجي" شروطا وجب توافرها يف األلفاظ حىت تؤدي املعىن املقصود وبدقة‬
‫منها‪ :‬أن تكون متباعدة املخارج نطقاً‪ ،‬متآلفة السمع‪ ،‬بعيدة عن الوحشي والوعر‪ ،‬وال من الساقط‬
‫وال من العامي‪ ،‬تكون من العرف العريب الفصيح وليست من الشاذ‪ ،‬وأال تُستعمل للتعبري عن املكروه‬
‫مسعا؛ برتادف الكلمات املنتقاة وتواترها‪ ،‬وأن‬
‫ذكره‪ ،‬وال كثرية احلروف بل معتدلة‪ ،‬حسنة التأليف ً‬
‫توضع موضعها حقيقة أو جمازا‪ ،‬إذ يتناسب االستعمال مع وضعها(‪.)2‬‬
‫وهذا ما أطلق عليه علماء البالغة "الفصاحة"‪ ،‬وهو فصاحة الكلمة املفردة من حيث األداء‬
‫فحسن اختيار‬
‫والتشكيل الصويت‪ ،‬وفصاحتها يف النظم وأثناء مشاكلتها ملا قبلها وبعدها من مفردات‪ُ ،‬‬
‫اللفظة –الفصيحة‪ -‬يُعطي للصياغة األدبية بعدا لغويا ينطلق من العالقات السياقية الّيت تُبىن من‬
‫خالهلا املفردات يف مفهوم جزئياهتا‪ ،‬ليأيت بعدها مستوى أرقى متمثل يف السياق العام‪ ،‬وهو ما يُعرف‬
‫عند البالغيني بلفظ "املقام"‪.‬‬
‫وهذا مفهوم السياق يف الدراسات العربية‪ ،‬وأما مفهومه لدى الغرب فال خيتلف كثريا عن املفهوم‬
‫العريب فـ "هاليداي" يرى أ ّن" السياق هو النص اآلخر‪ ،‬أو النص املصاحب للنص الظاهر‪ ،‬والنص‬
‫اآلخر ال يشرتط يكون قوليا إذ هو ميثّل البيئة اخلارجية للبيئة اللغوية بأسرها‪ ،‬وهو مبثابة اجلسر الذي‬

‫(‪ -)1‬ينظر‪ ،‬ابن األثير‪ ،‬المثل السائر في أدب الكاتب و الشاعر‪ ،‬ج‪.1‬تح‪،‬أحمد الحوفي‪،‬دار نهضة‬
‫مصر‪،‬الفجالة القاهرة‪ ،‬ص ‪.218‬‬
‫(‪ -)2‬ينظر‪ ،‬ابن سنان الخفاجي‪ ،‬سر الفصاحة‪ ،‬دار الكتب العلمية‪،‬مصر‪،‬ط‪.8‬ص‪.189-187‬‬

‫‪29‬‬
‫الفصل األول‪ :‬السياق وعالقته بالنقد الثقايف و النظرية السياقية‬

‫يربط التمثّل اللغوي ببيئته اخلارجية‪ ،‬ونظرا ألن السياق يسبق يف الواقع العملي النص الظاهر أو‬
‫اخلطاب املتصل به"(‪ )1‬فقد رأى "هاليداي" أن يعاجل موضوع السياق قبل أن يعاجل موضوع النص‪،‬‬
‫من هذا القول نرى أن "هاليداي" قد أوىل أمهية كبرية للسياق خاصة إذا ما ربطه بالنص فهو يرى‬
‫أهنما يشكالن معا وجهان لعملة واحدة فال ميكن ألحدمها أن يستغين عن اآلخر ووجود أحدمها‬
‫ضروري لآلخر‪ .‬فال مقال دون مقام‪ ،‬وال مقام من غري مقال‪.‬‬
‫كما َع ّد "هاليداي" أن نشوء نظرية السياق جاء بعد نظرية النص‪ ،‬وذلك مفهوم سياق املوقف‪،‬‬
‫أو ما اعتربه البيئة الشاملة اليت يدور عليها النص‪ ،‬وجعل للغوي مهمة ترتّكز على معرفة الوسائل اليت‬
‫مت ّكن من تأسيس التوقعات بالنسبة للمشاركني يف اخلطاب اللغوي‪ ،‬ويأيت على رأس هذه الوسائل‬
‫_من وجهة نظره_"سياق املوقف" الذي يُسهم يف جعل عملية االتصال ممكنة وسهلة‪.‬‬
‫ويف نظر "هاليداي" هناك ثالثة مقومات أساسة لسياق املوقف‪ ،‬إذ يتمثل أوهلا يف اجملال ‪،Field‬‬
‫الّذي يقصد به املوضوع األساس للخطاب‪ ،‬إذ يتخاطب ضمنه املشاركون‪ ،‬حبيث يقوم التعبري عنه‬
‫على أساس مهم أالّ وهو اللّغة‪ ،‬و ّأما ثانيها؛ فهو نوع اخلطاب "‪"Mode‬؛ الّذي يتجسد يف نوع النص‬
‫املستعمل إلمتام عملية االتصال‪ ،‬وهنا يقف "هاليداي" على خطوات بناء النص وعلى ما تستعمله‬
‫من شكل بالغي‪ ،‬وإذا ما جاء مكتوبا أو منطوقا‪ ،‬وإذا ما جاء نصا سرديا أم أمريا أم جدليا وما على‬
‫شاكلة ذلك‪ ،‬ليأيت بعدمها املقوم الثالث متمثالً يف املشرتكني يف اخلطاب "‪ ،"Tenor‬ويقصد هذا‬
‫املفهوم طبيعة العالقة املوجودة بني املشاركني يف اخلطاب‪ ،‬إضافة إىل ذلك يتضمن نوع العالقة الّيت‬
‫جتمع فيما بينها‪ ،‬وإذا ما كانت عالقة رمسية أم غري رمسية‪ ،‬وإذا ما كانت عارضة أم غري عارضة‪ ،‬وما‬
‫إىل ذلك(‪.)2‬‬

‫(‪ -)1‬يوسف نور عوض‪ ،‬علم النص و نظرية الترجمة‪ ،‬دار الثقة للنشر و التوزيع‪ ،‬ط‪1318 ،1‬هـ‪ ،‬ص ‪.29‬‬
‫(‪-)2‬ينظر‪ ،‬يوسف نور عوض‪ ،‬علم النص و نظرية الترجمة ‪ ،‬ص ‪.32‬‬

‫‪38‬‬
‫الفصل األول‪ :‬السياق وعالقته بالنقد الثقايف و النظرية السياقية‬

‫وهي مبادئ ثالثة حكمت معظم التطورات الالحقة يف مفهوم النصانية وتأثر هبا أميا تأثر‪ ،‬بل‬
‫كل القضايا اليت عاجلوها خاصة تلك املتعلقة بالبنية السيميولوجية‬
‫وحىت تالمذته إذ جند هلا حيزا يف ّ‬
‫واالتصالية‪...‬‬
‫أوال‪ :‬مفهوم السياق ‪.Context‬‬

‫أخذ السياق يف اللسانيات _بصفة عامة_ حمور اهتمامها وتركيزها‪ ،‬إذ يُقصد من مصطلح‬
‫السياق بذلك الرتكيب‪ ،‬أو السياق ا لّذي جاءت فيه الكلمة‪ ،‬وهو يسهم يف تعيني إطار الداللة‬
‫‪...‬وحتديدها‬
‫(‪)1‬‬

‫يعرف السياق بأنّه" احمليط اللغوي الذي تقع فيه الوحدة اللغوية سواء أكانت كلمة أو مجلة يف‬
‫(‪)2‬‬
‫إطار من العناصر اللغوية والغري لغوية"‬
‫للسياق أمهية بالغة يف دراسة النص واخلطاب بوصفه رسالة موجهة من جهة ما (املؤلف) إىل‬
‫جهة ما (املتلقي)‪ ،‬بقصد التأثري واإلقناع‪.‬‬
‫ويتكون مصطلح السياق (‪ )context‬من مقطني "‪ "text‬و"‪ ،"con‬ويعين بذلك "مع النسيج"‬
‫أو "مع النص"‪ ،‬حبيث استعمل املصطلح األول"‪ "text‬للداللة على الكلمات املصاحبة للمقطوعات‬
‫عرب عن معىن النص؛ ومنه جنده متجسدا يف جمموع الكلمات املنظّمة‬
‫املوسيقية‪ ،‬وبعدها تطور فبات يُ ّ‬
‫بعضها إىل بعض سواء كانت مكتوبة أو مسموعة‪ ،‬إضافة إىل ذلك جند معىن جديدا تتحكمه‬
‫مالبسات لغوية وغري لغوية واحمليطة بالكلمة املستعملة ضمن النّص‪ ،‬ومنه يكون السياق مركبا من‬
‫سابقة "‪ "con‬يُقصد هبا املشاركة واملصاحبة؛ مما يعين وجود أشياء مشرتكة توضح النّص‪ ،‬حبيث إ ّهنا‬

‫(‪ -)1‬ينظر‪ ،‬سامي عياد حنا وآخرون‪ ،‬معجم اللسانيات الحديثة‪ ،‬مكتبة لبنان‪ ،‬ط‪ ،1997 ،1‬بيروت‪ ،‬لبنان‪،‬‬
‫ص ‪.28‬‬
‫(‪ -)2‬ردة هللا بن ردة بن ضيف هللا الطلحي‪ ،‬داللة السياق‪ ،‬سلسلة الرسائل العلمية الموصى بطبعها ‪،33‬‬
‫ط‪ ،1‬مكة المكرمة‪ ،‬جامعة أم القرى معهد البحوث العلمية‪ ،‬مكة‪ ،2883 ،‬ص ‪.38‬‬

‫‪31‬‬
‫الفصل األول‪ :‬السياق وعالقته بالنقد الثقايف و النظرية السياقية‬

‫عد فكرة تتضمن أمورا غري ذلك حميطة بالنّص‪ ،‬من حنو‪ :‬البنية المحيطة‪ ،‬اليت ميكن أ ّن توصف‬
‫تُ ُّ‬
‫جبسر العبور بني النص واحلل(‪.)1‬‬
‫والسياق يقصد به أيضا‪ ،‬سياق الرسالة اللغوية‪ ،‬وبه تتعلق الوظيفة املرجعية أو اإلحالة أو الداللية‪،‬‬
‫وهي اليت حتدد العالقات بني الرسالة واملوضع الذي تدل عليه‪ ،‬ويرى جاكبسون أن لكل رسالة مرجع‬
‫حييل عليه سياق معني قيلت فيه‪ ،‬وال تفهم مكوناهتا اجلزئية أو تفكك رموزها النسبية إال باإلحالة‬
‫على املالبسات اليت أخربت فيها الرسالة‪ ،‬وتشكله أبنية خطاهبا اللفظي‪ ،‬فيتضمن املوقع أو اإلطار‬
‫الزمكاين واهلدف واملشاركني يف العملية التواصلية‪.‬‬
‫وفكرة العالقة بني اإلطار اخلارجي واإلطار الداخلي‪ ،‬لتحقيق املقصود هي من املسلمات اليت‬
‫توصل إليها البالغيون القدماء وأكدوها‪ ،‬ويوجد يف الرتاث البالغي العريب ما ميكن أن يوضع حتت‬
‫سياق املقال (السياق اللغوي) أو حتت سياق املقام (السياق املقامي) فقد اهتم البالغيون العرب‬
‫بالعالقة بني الرسالة اللغوية واإلطار غري اللغوي احمليط بالرسالة‪ ،‬فأرسوا بذلك قاعدة عابرة حلدود‬
‫الثقافات واللغات‪ ،‬حني أ ّكدت البالغة أ ّن ليس كل مقال صاحلا لكل مقال‪ ،‬وأن املقال ينبغي أن‬
‫يوافق مقتضى احلال‪ ،‬بل إن هذه املقولة لتتسع حىت تتطابق مع التعريف الذي ارتضاه كثريا من علماء‬
‫البالغة‪ ،‬يف تعريفها بأهنا املوافقة ملقتضى احلال‪ :‬وعلى ذلك ميكن القول بأن نظرية السياق مبفهومها‬
‫العام والشامل هي الفكرة اليت قامت عليها بنية البالغة العربية(‪.)2‬‬
‫ويقسم رشيد بن مالك السياق إىل ثالث مستويات هي(‪:)3‬‬

‫(‪ -)1‬ينظر‪ ،‬رشيد بن مالك‪ ،‬قاموس مصطلحات التحليل السيميائي للنصوص‪ ،‬دارا لحكمة‪ ،‬ص‪.33‬‬
‫(‪ -)2‬عبير صالح الدين األيوبي‪ ،‬الخطاب اإلعالني في الصحافة المعاصرة في ضوء اللسانيات النصية‪ ،‬عالم الكتب‪،‬‬
‫ط‪ ،2815 ،1‬القاهرة‪ ،‬ص‪.34‬‬
‫(‪ -)3‬رشيد بن مالك‪ ،‬قاموس مصطلحات السيميائي للنصوص‪ ،‬دار الحكمة‪ ،‬ص ‪.35‬‬

‫‪32‬‬
‫الفصل األول‪ :‬السياق وعالقته بالنقد الثقايف و النظرية السياقية‬

‫‪ -1‬املستوى األول يظهر على مستوى الكالم‪ ،‬الّذي يشتمل فيه احمليط األلسين جمموعة من العناصر‬
‫املوجودة يف النص‪ ،‬سواء كانت جماورة للوحدة املدروسة أو مبتعدة عنها‪.‬‬
‫‪-2‬املستوى الثاين يتضح من طريق مستوى اللغة‪ ،‬حبيث تكون كل وحدة ألسنية مبثل السياق‬
‫للوحدات ذات رتبة أدىن‪ ،‬ويف الوحدة ضمن املستوى األعلى يأخذ سياقها موضعا‪.‬‬
‫‪ -3‬املستوى الثالث خاص باحمليط األلسين أو غري األلسين حيث تتحقق الوحدة فيه‪.‬‬
‫وقد استمر هذا التقليد يف الدراسة احلديثة يف صورة دراسة للتوافق بني الرسالة اللغوية واإلطار‬
‫اخلارجي (غري اللغوي) حتقيقا ملقصود الرسالة‪.‬‬
‫ومنه نستنتج أن السياق يتجزأ إىل قسمني مهمني يتمثالن يف‪:‬‬
‫أوهلما سياق لغوي خاص بالرتكيب اجلملي‪.‬‬
‫وثانيا السياق غري اللغوي‪ ،‬الذي نقصد به جمرى كل ما حييل على احمليط اخلارجي لوجود النص‬
‫وكيانه‪ ،‬أو ما يرتبط باملؤثرات البيئية (تارخيية واجتماعية ونفسية) الّيت تسهم يف انبناء شاكلة النّص‪.‬‬
‫وأمناط السياق هي‪:‬‬
‫‪ -‬املوجودات مع تعبريها اللغوي‪.‬‬
‫‪ -‬األحداث املعرب عنها بواسطة الفعل‪.‬‬
‫‪ -‬كيفيات الوجود واحلدوث املعرب عنها بواسطة الصفة واحلال‪.‬‬
‫‪ -‬فضاء األحداث واملوجودات املعرب عنها بواسطة الظروف الزمكانية واحلروف اليت تساعد على‬
‫موقعة األحداث‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬النقد الثقافي‪.‬‬

‫يعد النقد الثقايف فرعاً من النقد النصوصي العام‪ ،‬وبذلك يكون ضمن علوم اللّغة وحقول‬ ‫ُّ‬
‫األلسنية‪ ،‬وهو يهتم بنقد األنساق املضمرة‪ ،‬اليت تندرج حتت وترية اخلطاب الثقايف بكل جتلياته وأمناطه‬

‫‪33‬‬
‫الفصل األول‪ :‬السياق وعالقته بالنقد الثقايف و النظرية السياقية‬

‫وصيغه‪ ،‬ومنه جنده يبحث يف الالمجايل شأنه يف ذلك شأن النقد األديب‪ ،‬بل إ ّن مركز اهتمامه‬
‫(‪)1‬‬
‫الكشف عن املخفي وراء حجاب البالغة اجلمالية‬
‫والنقد الثقايف يُعىن بالكشف عن اجلوانب اجلمالية يف النص األديب‪ ،‬كما يشري إىل تلك املواطن‬
‫اليت أخفق الكاتب أو الشاعر يف التعبري عنها‪ ،‬أو خانته األلفاظ يف توضيحها وشرحها‪.‬‬
‫وكما توجد نظريات يف اجلماليات‪ ،‬فإن املطلوب إجياد نظريات "القبحيات" ال مبعىن البحث عن‬
‫مجاليات القبح‪ ،‬مما هو إعادة صياغة وإعادة تكريس للمعهود البالغي يف تدشني اجلمايل وتعزيزه‪،‬‬
‫وإمنا املقصود بنظرية القبحيات هو كشف حركة األنساق وفعلها املضاد للوعي وللحس النقدي(‪.)2‬‬
‫وهذا ألن اجلماليات البالغية تضمر أضرارها وقبحياهتا‪ ،‬واحلاجة إىل كشف ذلك من مهام الناقد‪،‬‬
‫فقد نتساءل أحيانا عن سبب شهرة خطاب ما أو ظاهرة ما‪ ،‬وقد نرجع ذلك إىل مجال املقروء أو‬
‫كل مجيل‬
‫لفائدته العملية أو بساطته وسهولة أسلوبه‪ ،‬ولكن هذا ليس صحيحا دائما‪ ،‬وإال لشاع ّ‬
‫كل بسيط‪.‬‬‫وساء ّ‬
‫ثالثا ‪ :‬السياق الثقافي‪.‬‬

‫السياق الثقايف‪ُّ :‬‬


‫يعد هذا املصطلح حديث‪ ،‬وإنّه ال ميكننا القول عليه بأنه منهج من املناهج‬
‫املعروفة‪ ،‬أو يندرج ضمن املذاهب أو النظريات‪ ،‬إضافة إىل ذلك فهو ليس مبجال متخصص أو فرع‬
‫ما ينضوي حتت املعرفة وجماالهتا‪ ،‬إّمنا هو ميثل ممارسة تستويف درس كل ما تنتجه الثقافة من نصوص‬
‫مادية وفكرية‪ ،‬وبذلك ميكننا ع ّد النص كل ممارسة قولية أو فعلية ينتج عنها معىن أو داللة"‬
‫(‪)3‬‬

‫(‪ -)1‬ينظر‪ ،‬عبد هللا محمد الغذامي‪ ،‬النقد الثقافي‪ ،‬قراءة في األنساق الثقافية العربية‪ ،‬المركز الثقافي‬
‫العربي‪ ،‬ط‪ ،2885 ،3‬المغرب‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬ص‪.83‬‬
‫(‪ -)2‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.83‬‬
‫(‪-)3‬ينظر‪ ،‬صالح قنصوة‪ ،‬تمارين في النقد‪ ،‬دار ميريت‪ ،‬ط‪ ،2887‬القاهرة‪ ،‬ص ‪.85‬‬

‫‪33‬‬
‫الفصل األول‪ :‬السياق وعالقته بالنقد الثقايف و النظرية السياقية‬

‫وبذلك يكون مفهوم السياق الثقايف هو املمارسة الفعلية لكل مل تنتجه الثقافة‪ ،‬ويكون ذا معىن‬
‫وداللة‪ ،‬ومبعىن آخر هو ممارسة نقدية للنص األديب‪ ،‬إذ يتضمن النقد الفلسفي أو النفسي أو‬
‫االجتماعي للنصوص األدبية بشكل أو بآخر ممارسات تشكل بداية للتفكري بالنقد الثقايف‪.‬‬
‫أما اجلديد يف النقد الثقايف هو رفع احلواجز بني التخصصات واملستويات يف املمارسات اإلنسانية‬
‫ألهنا تنتمي مجيعا إىل الثقافة اليت هي جممل صنيع اإلنسان يف البيئة الطبيعية‪.‬‬
‫وال يعين "النقد كشف اإلجيابيات والسلبيات‪ ،‬بل يشري إىل ما يقصده الفيلسوف كانط وهو بيان‬
‫اإلمكانيات املتاحة‪ ،‬واحلدود اليت ينبغي الوقوف عندها يف إنتاج أو استقبال الدالالت للممارسات‬
‫اليت حتمل معىن يف كل السياقات الثقافية‪ ،‬ويتبدى ذلك يف إجراءات التفكيك والتحليل والتفسري"(‪.)1‬‬
‫إذا فقد محل رؤية خاصة والسيما يف التعامل مع النصوص األدبية واخلطابات بأنواعها عرب‬
‫سياقات ثقافية تكشف كل ما هو مجايل وغري مجايل‪.‬‬
‫وتكمن أمهية السياق الثقايف يف جرأته وإمكانياته على التجدد واإلنتاج إذ يواكب روح العصر‪،‬‬
‫ويستلهم الواقع‪ ،‬لذا حيتاج إىل تأين ودقة وعمق ومراجعة جادة‪ ،‬وهذا ما جعل السياق الثقايف يعد‬
‫نشاطا فكريا يتخذ من الثقافة موضوعا له‪ ،‬فلم يكن بديال عن النقد األديب والبالغي بقدر ما كان‬
‫حماولة منهجية تتمحور حول استكشاف السياقات الثقافية الواردة يف النص‪.‬‬
‫كما تتجلى أمهية السياق الثقايف يف أنّه‪" :‬فرع من فروع النقد النصوصي ومن مث فهو أحد علوم‬
‫اللغة وحول األلسنية‪ ،‬معين بنقد األنساق املضمرة‪ ،‬اليت ينطوي عليها اخلطاب الثقايف بكل جتلياته‬
‫وأمناطه وصيغه‪ ،‬وما هو غري رمسي ومؤسسايت‪ ،‬وما هو كذلك سواء بسواء‪...‬وهو هبذا معين بكشف‬
‫الالمجايل‪ ،‬كما هو شأن النقد األديب‪ ،‬وإمنا مهّه كشف املخبوء من حتت أقنعة البالغي اجلمايل"(‪.)2‬‬

‫(‪-)1‬صالح قنصوة‪ ،‬تمارين في النقد ‪ ،‬ص ‪.85‬‬


‫(‪ -)2‬حفناوي رشيد بعلي‪ ،‬مسارات النقد و مدارات ما بعد الحداثة في ترويص النص و تقويض الخطاب‪،‬‬
‫دروب للنشر و التوزيع‪ ،‬ط‪ ،2811 ،1‬عمان‪ ،‬ص ‪.154‬‬

‫‪35‬‬
‫الفصل األول‪ :‬السياق وعالقته بالنقد الثقايف و النظرية السياقية‬

‫وبذلك تكون مهمة الناقد الثقايف قد اختلفت كما كانت عليه يف النقد األديب‪ ،‬فهو يعتمد على‬
‫السياقات الثقافية ويربطها باملرجعيات الثقافية الفكرية والتارخيية‪ ،‬االجتماعية‪ ،‬النفسية‪ ،‬األخالقية‬
‫واجلمالية‪.‬‬
‫واعترب "مالينوفسكي" أن سياق الثقافة يشكل مع سياق املوقف ضرورة لفهم اللغات والثقافات‬
‫البدائية‪ ،‬وال يشكالن نفس األمهية بالنسبة باللغات اليت تستخدمها اجملتمعات احلضارية‪ ،‬ولكنه‬
‫تراجع فيما بعد عن اعتقاده هذا‪ ،‬واعترب نوعي السياق‪-‬املذكورين آنفا‪ -‬مهمني لسائر أنواع اللغات‬
‫واملستويات احلضارية‪.‬‬
‫طور "فريث" فيما بعد هذا املفهوم وجعله يدرس السياق بصفة عامة وهنا اختلف مع‬‫وقد ّ‬
‫"مالينوفسكي" ألنه حصر سياق املوقف يف نصوص خاصة استقاها من بعض رحالته األنثروبولوجية‬
‫بينما اعتربه "فريث" أساسيا يف نظرية اللغة‪ ،‬كما اهتم باملشاركني يف اخلطاب وبالفعل سواء كانت‬
‫أشياء أم حوادث‪ ،‬واآلثار اليت حيدثها اخلطاب يف املشاركني فيه‪.‬‬
‫أما "هاليداي" فقد ظل يتساءل دائما عن األسباب اليت جتعل االتصال بواسطة اللغة ممكنا على‬
‫الرغم من العقبات اليت تقف يف طريقها‪ ،‬ويف األخري وصل إىل مسلمة أساسية‪ ،‬هي أننا بالتعامل مع‬
‫اللغات ال نتوقع يف الواقع املفاجآت وإمنا نتوقع ما سيقوله لنا اآلخرون‪ ،‬وال ينفي بذلك حدوث‬
‫املفاجآت يف بعض األحيان‪ ،‬وقد اتسمت هذه الرحلة اليت وصل إليها "هاليداي" بأهنا عملية‬
‫وبرامجاسية(‪.)1‬‬
‫وجند "فان دايك" انتهى إىل أ ّن دراسة النص األديب ضمن أطر الظاهرة الثقافية‪ ،‬يعد منطلقا لرأس‬
‫هرم دراسات سياقية أخرى؛ ابتداءً من السياق التداويل ليتواىل كالً من السياق املعريف‪ ،‬والسياق‬
‫كل دراسة سياقية‬
‫االجتماعي‪ -‬النفسي‪ ،‬وختاما السياق االجتماعي‪ -‬الثقايف‪ ،‬حبيث ربط هدف ّ‬

‫(‪ -)1‬يوسف نور عوض‪ ،‬علم النص و نظرية الترجمة‪ ،‬ص ‪.38 ،29‬‬

‫‪34‬‬
‫الفصل األول‪ :‬السياق وعالقته بالنقد الثقايف و النظرية السياقية‬

‫بعالقة مع النّص األديب‪ ،‬إذ تبدأ هذه العالقة بالنص على أنّه فعل لغوي‪ ،‬لتنتقل بعد ذلك إىل عملية‬
‫فهمه وتأثريه‪ ،‬لتبلغ يف هناية األمر إىل التفاعالت احلاصلة بني النّص واملؤسسة االجتماعية‪ ،‬ومنه ميكن‬
‫للسياق االجتماعي أن حيدد نوع اخلصوصيات الغالبة يف النصوص واألمناط الشائعة هلا‪ ،‬وقدرهتا على‬
‫اإلفصاح عن مرجعيات تتعلق بعصورها(‪.)1‬‬

‫وبذلك يتعدى التّفاعل الكائن بني النّص والسياق االجتماعي‪-‬الثقايف حتديد القواعد واملعايري‬
‫الضرورية‪ ،‬إىل حتديد مضمون النّصوص ووظائفها‪ ،‬انطالقاً من أطر واضحة‪.‬‬

‫كما يُرجح "فان دايك" االختالف املوجود بني الظواهر الثّقافية من ثقافة إىل أخرى‪ ،‬وكذا انتشار‬
‫أنواعا من النصوص بعينها‪ ،‬وذيوع بنيات نسقية وأسلوبية وبالغية حبد ذاهتا؛ إىل طبيعة التّفاعل‬
‫وجمموع خصائصه من النوع ‪ ،‬والشروط والعصر (‪.)2‬‬

‫يتم الرتاسل بني املرجعيات _بكل مكوناهتا_ والنّصوص وف ًقا لضروب التّواصل والتّفاعل الكثرية‬
‫واملعقدة‪ ،‬إذ إنّه ليس املرجعيات وحدها اليت تتحكم يف صياغة اخلصائص النوعية للنصوص‪ ،‬بل جند‬
‫كذلك تقاليد النصوص تؤثر فيها‪ ،‬كما ّأهنا تسهم يف إشاعة أنواع أدبية ما وقبوهلا‪ ،‬حبيث ييسر حال‬
‫الرتاسل بني املرجعيات والنّصوص يف ظل هذا التفاعل املطرد داخل منظومة اتصالية شاملة‪ ،‬وذلك مبا‬
‫حيافظ على متايز األبنية املتناظرة لكل منهما‪ ،‬وغالبا ما تدفع تقاليد خاصة كالً من املرجعيات‬
‫والنصوص‪ ،‬تتمثل يف األنساق واألبنية الّيت ترتتب إزاءها العالقات واألفكار السائدة‪ ،‬وكذلك‬
‫خصائص النصوص وأساليبها وموضوعاهتا‪ ،‬وهذه األنساق واألبنية سرعان ما تتطلب مستوى جتريدي‬
‫مهيمن على الظواهر االجتماعية واألدبية‪ ،‬وحىت قبل إعادة تشكيل العالقات وفقاً ألنساق جديدة‬

‫(‪ -)1‬عبد هللا إبراهيم‪ ،‬التلقي و السياقات الثقافية‪ ،‬دار أويا للنشر و التوزيع‪ ،‬ط‪ ،2888 ،1‬ص ‪.13‬‬
‫(‪ -)2‬ينظر‪ ،‬إلرودإبش وفوكيما وآخرون‪ ،‬نظرية األدب في القرن العشرين‪ ،‬أفريقيا الشرق‪ ،‬ط‪ ،1994‬الدار‬
‫البيضاء‪ ،‬ص ‪.78‬‬

‫‪37‬‬
‫الفصل األول‪ :‬السياق وعالقته بالنقد الثقايف و النظرية السياقية‬

‫ُحيدث ذلك انفصاالً وتضييقاً بني هذه النماذج التجريدية من األنساق ودينامية األفعال االجتماعية‬
‫(‪)1‬‬
‫واألدبية‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬الدراسات الثقافية‪.‬‬
‫نشأ مصطلح الدراسات الثقافية عام ‪ 1971‬عندما بدأ نشر مركز الدراسات الثقافية املعاصرة‬
‫جبامعة "بريمنجهام" لصحيفة "أوراق عمل يف الدراسات الثقافية" ولكنها مل تستمر طويال‪ ،‬ولقد سبق‬
‫ذلك ما استخدمه عامل االجتماع "برينباوم" وهو من اليسار اجلديد يف ستينات القرن املاضي‪ ،‬من‬
‫مصطلح التحليل الثقايف‪ ،‬وقصد به "دراسة التعبريات أو التمثالت الرمزية واإليديولوجية‪ ،‬عن موقف‬
‫تارخيي معني‪ ،‬بوصفها جزءا متكامال وحمددا هلذا املوقف"(‪.)2‬‬
‫وهي حقل أكادميي يستهدف دراسة الظاهرة الثقافية يف جمتمع معني‪ ،‬عن طريق دراسة كيفية قيام‬
‫هذا اجملتمع بإنتاج ونشر األفكار واملعاين‪ ،‬ويوظف من أجل ذلك عددا هائال من األدوات‪ ،‬كعلم‬
‫االجتماع‪ ،‬وعلم النفس‪ ،‬واألدب والتاريخ‪.‬‬
‫ويف الدراسات الثقافية يعترب اجملتمع هو الواقع املوجود أما الظاهرة الثقافية فهي تصورات عن هذا‬
‫الواقع‪ ،‬وآمال عما سيكون‪.‬‬
‫وشهدت الدراسات الثقافية ازدهارا ملحوظا وحظيت مبساحة واسعة من االهتمام يف السنوات‬
‫األخرية للقرن املاضي‪ ،‬حبيث اختذهتا كثري من الدراسات خلفية معرفية هلا‪ ،‬ومشلت يف ذلك‬
‫موضوعات متعددة‪ ،‬من حنو ما تتصل بقضايا متعددة منها‪ :‬الذات‪ ،‬واهلوية واملرأة‪...‬اخل‪ ،‬إضافة إىل‬
‫ذلك أدت دورا حامسا يف املمارسات النقدية األدبية التقليدية‪ ،‬واملمارسات النظرية اجلمالية‪ ،‬وكذلك‬
‫تبنت َمتثُل املسائل للعلوم املنضوية حتت احلقل االجتماعي والعلوم اإلنسانية‪ ،‬مما جعلها إفراز للنظرية‬
‫(‪)3‬‬
‫البنيوية وما بعدها‬

‫(‪-)1‬ينظر‪ ،‬عبد هللا إبراهيم‪ ،‬التلقي و السياقات الثقافية‪ ،‬ص ‪.13‬‬


‫(‪ -)2‬صالح قلنصوة‪ ،‬تمارين في النقد الثقافي‪ ،‬دارميريت‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،2887‬ص‪.85‬‬
‫(‪ -)3‬ينظر‪ ،‬مجلة كلية التربية‪ ،‬واسط‪ ،‬العدد‪1 ،13‬نيسان‪ ،2813‬ص‪.11-18‬‬

‫‪38‬‬
‫الفصل األول‪ :‬السياق وعالقته بالنقد الثقايف و النظرية السياقية‬

‫وتعترب "جملة الرتبية" أن الدراسات الثقافية والنقد الثقايف مصطلحان متداخالن يدالن حتديدا على‬
‫الدراسات الثقافية اليت تشتغل بصورة مركزة على تفكيك البىن الثقافية وحتيني عالقاهتا واإلحاطة‬
‫بأنساقها ومهيمنات إنتاج املعاين اإليديولوجية وتشريح إيديولوجي‪ ،‬وكشف السياقات الثقافية‬
‫والسياسية واالجتماعية ومعرفة مرجعيات اخلطاب الثقايف‪ ،‬فالفرق بني مصطلحي الدراسات الثقافية‬
‫والنقد الثقايف هو كالفرق بني مصطلحي "الدراسات األدبية والنقد األديب" األول يعين حقول املمارسة‬
‫النقدية ومناهجها‪ ،‬والثاين يعين املمارسة نفسها‪ ،‬وما الفصل بينهما إال لغرض التنظيم املنهجي‬
‫والتوسع باملفاهيم أو للتفريق بني الدراسات الثقافية عموما وبني تلك املوضوعة بقصدية النقد‬
‫الثقايف(‪.)1‬‬
‫وبصورة عامة ميكن القول إن مصطلح الدراسات الثقافية يطلق أحيانا على جممل الدراسات‬
‫الوظيفية والتحليلية والنظرية والنقدية‪ ،‬بينما يشري مصطلح النقد الثقايف إىل هوية املنهج الذي يتعامل‬
‫مع النصوص واخلطابات األدبية واجلمالية والفنية‪.‬‬
‫خامسا‪ :‬النظرية السياقية‪.‬‬

‫أول من استعمل مصطلح "سياق" هم األنثروبولوجيون‪ ،‬إال أن هناك من يرجع أصل استعماله إىل‬
‫(‪ )1939-1883‬يف جملة "الشخصية واللغة‬ ‫هوكارت"‪HOCART‬‬ ‫مقال لألستاذ "أرثر موريس‬
‫واجملتمع" سنة‪ ،1912‬وفيه أبرز الدور االجتماعي للمتكلم وسائر املشرتكني يف املوقف الكالمي‪ ،‬وأ ّن‬
‫سياق احلال يشمل مجيع الوظائف الكالمية(‪.)2‬‬

‫إال أن الظهور احلقيقي للنظرية السياقية باملعىن املطلوب اليوم كان على يد العامل األنثروبولوجي‬
‫االجتماعي "مالينوفسكي"(‪ )1932-1883‬بسبب تلقيه مشاكل يف ترمجة اللغات القدمية أثناء‬
‫دراسته لبعض االجتماعات البدائية من الناحية األنثروبولوجية؛ كما وجد نفسه عاجزا أمام الكثري من‬

‫(‪- )1‬مجلة كلية التربية‪ ،‬واسط‪ ،‬العدد ‪ 1 ،13‬نيسان ‪ ،2813‬ص ‪.11‬‬


‫‪(2)Revue Journal of the institutional sociology. University Ledbery Herfordshire England VXl. Personality and‬‬
‫‪Language in Society Socillogical. 1950. p75.‬‬

‫‪39‬‬
‫الفصل األول‪ :‬السياق وعالقته بالنقد الثقايف و النظرية السياقية‬

‫املشاكل اللّغوية اليت مل جيد هلا تفسريا منطقيا‪ ،‬وهذا ما أدى به إىل الربط بني العبارات والتعبريات‪،‬‬
‫حماوال إسقاطها على املواقف املرتبطة هبا‪ ،‬وما يصاحبها من حيثيات‪ ،‬أين توصل إىل وضع الكلمات‬
‫ضمن تركيبها السياقي للعبارة الكامنة للموقف‪ ،‬مبعىن سياق املوقف(‪.)1‬‬
‫وهبذا يكون قد وجد احلل يف "سياق املوقف" الذي أنقذه من الصعوبات اليت واجهها‪ ،‬والّيت ورد‬
‫ذكرها يف املقال اخلاص به‪" :‬مشكلة املعىن يف اللغات البدائية" ‪،1923‬حيث مت نشره على أساس أنّه‬
‫‪ ،The meaning‬وعنده جوهر اللغة‬ ‫‪of meaning‬‬ ‫ملحق لكتاب (أوجرن وريتشارز)"معىن املعىن‬
‫متأصل يف حقيقة الثقافة اخلاصة بكل مجاعة ونظمها احلياتية وعباراهتا‪ ،‬حبيث ميكن إيضاح اللّغة‬
‫واإلمساك هبا من طريق العودة إىل حميط أوسع متمثالً يف الظروف املتحكمة يف عملية النطق(‪.)2‬‬
‫‪"JOHN‬‬ ‫فريث‪FIRTH‬‬ ‫وأول من جعل اللسانيات علما معرتفا به يف بريطانيا هو "جون‬
‫(‪ ،)1948-1898‬الذي اهتم ب األصوات الوظيفية والداللة وهوما عرف فيما بعد بـ"النظرية‬
‫السياقية"‪ ،‬واليت أسسها بـ‪:‬‬
‫‪ -‬رفض ثنائيات دي سوسري‪ :‬ألنه رأى استحالة حتقيقها‪ ،‬يقول‪" :‬مبا أننا نعرف القليل عن العقل‪،‬‬
‫أكف عن احرتام ثنائية اجلسم والعقل‪،‬‬
‫ودراستنا هي دراسة اجتماعية يف جوهرها‪ ،‬فسوف ّ‬
‫التفكري والكالم‪ ،‬وأكون راضيا باإلنسان ككل‪ ،‬يفكر ويتصرف وسط أصدقائه كوحدة‬
‫كاملة‪...‬إن اجت نايب استعمال هذه الثنائيات ال ينبغي أن يفهم على أنين أقصيت مفهوم العقل‬
‫متاما‪ ،‬أو احتضنت اجلانب املادي احتضانا تاما"(‪ )3‬وهو بذلك اعترب أن اللغة هي نشاط معنوي‬
‫يف سياق اجتماعي معني‪.‬‬

‫‪, Archi belda Hill. Linguistics (Voice of America Forum Lectures) 1969. p250.‬ينظر)‪(1‬‬
‫(‪-)2‬ينظر‪ ،‬تمام حسان‪ ،‬اللغة العربية معناها و مبناها‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪،1984‬‬
‫ص ‪83‬‬
‫(‪ -)3‬فوزي حسن الشايب‪ ،‬محاضرات في اللسانيات‪ ،‬وزارة الثقافة‪ ،‬عمان‪ ،‬ط‪ ،1999‬ص ‪.183‬‬

‫‪38‬‬
‫الفصل األول‪ :‬السياق وعالقته بالنقد الثقايف و النظرية السياقية‬

‫‪ -‬االهتمام باللغة من ناحية مكوهنا االجتماعي ال من ناحية جانبها التجريدي الذهين‪ :‬وفيه رّكز‬
‫دراسته على املكون االجتماعي ملختلف اللّغات اإلنسانية‪ ،‬ورأى أنّه وجب دراسة اللّغة بعيداً عن‬
‫وضعها يف صورة جمموع العالمات االعتباطية أو اإلشارات‪ ،‬بل بوضعها جزءاً من اجملرى‬
‫االجتماعي‪ ،‬مبعىن أ ّهنا تأخذ شكال للحياة اإلنسانية(‪.)1‬‬
‫‪ -‬البحث يف اللّغة من منطلق العالقة القائمة بينها وبني اجملتمع‪ :‬وهنا َّ‬
‫عد اللّغة وسيلة للتواصل‬
‫االجتماعي‪ ،‬حبيث البد منها لفهم نِتاج املواقف االجتماعية املختلفة من معاين متعددة‪ ،‬كما‬
‫درس مكوناهتا وفقاً ملكونات اجتماعية صرفة‪ ،‬من طريق الرتكيز على العالقات املختلفة حبيث هلا‬
‫إمكانية ربط اللغة باجملتمع(‪.)2‬‬
‫وعلى هذه املنطلقات قامت النظرية السياقية‪ ،‬اليت اعتربت أن املوضوع األساس للسانيات هو تتبع‬
‫الدالالت‪ ،‬وانصرفت إىل األحوال واحمليط الذي يتضمن اللغة‪ ،‬مسلما بأن وظيفة اللغة هي التواصل‪.‬‬
‫ويرى فريث أن الوقت قدحان للتخلي عن البحث يف املعىن بوصفه عمليات ذهنية كامنة‪ ،‬والنظر‬
‫إليه على أنه مركب من العالقات السياقية‪ ،‬وهذا‪ -‬حسب رأيه‪ -‬ال يتأتى إال يف سياق املوقف‪ ،‬فبدال‬
‫من احلديث عن العالقة الثنائية بني اللفظ واملعىن‪ ،‬صار احلديث يف املدرسة السياقية عن مركب بني‬
‫اللفظ واملعىن يف عالقته بغريه من املركبات اليت ميكن أن حتل حمله يف نفس السياق‪ .‬وهنا ظهر ما‬
‫يسميه فريث" التوزيع السياقي" الذي يقتضي أن الكلمة ماهي إال مقابل إبدال املعىن لكلمات أخرى‬
‫ميكن أن حتل حملها يف ذات السياق‪ ،‬ويتحدد معناها مبقدار ما حيدثه هذا املعىن من تغيري(‪.)3‬‬
‫وتبنت هذه النظرية أمرين اثنني مها‪:‬‬

‫(‪-)1‬ينظر‪ ،‬فوزي حسن الشايب‪ ،‬محاضرات في اللسانيات ‪ ،‬ص ‪.183‬‬


‫(‪ -)2‬ينظر‪ ،‬شفيقة العلوي‪ ،‬محاضرات في المدارس اللسانية المعاصرة‪ ،‬ج‪ ،1‬أبحاث الترجمة و النشر‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬ص ‪.87‬‬
‫‪(3) John Firth. Papers in Linguistic. Oxford University. Press New york Toronto. 1957. p20.‬‬

‫‪31‬‬
‫الفصل األول‪ :‬السياق وعالقته بالنقد الثقايف و النظرية السياقية‬

‫السياق اللغوي أو حتليل النص حبسب مستوياته اللّغوية‪ ،‬واإلفادة من القرائن املتتالية املتوفرة‪.‬‬ ‫‪.1‬‬

‫السياق احلايل أو املقامي أو املوقف‪.‬‬ ‫‪.2‬‬

‫كما َّ‬
‫عد فريث املعىن جمموعة من خصائص الكلمة اليت ال استقاللية هلا وال ذاتية لداللتها فهي‬
‫"ليست بذات معىن مستقل قائم بذاته‪ ،‬وأن وجودها ومعناها شيئا نسبيا‪ ،‬ميكن مالحظة كل منهما‬
‫يف سياق غريمها من الكلمات واملعاين أوعن طريق التقابل بينهما‪ ،‬وعلى ذلك فإن ما تدل عليه‬
‫الكلمة ينحصر يف وظيفتها اليت ال تعرف إال مبعرفة وظائف غريها من الكلمات‪ ،)1("...‬وعنده سياق‬
‫احلال يتضمن العناصر التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬األشخاص والشخصيات اليت هلا عالقة باملوضوع‪.‬‬
‫‪ -3‬تأثري األفعال املصحوبة باألقوال‪.‬‬ ‫‪ -2‬األشياء اليت هلا عالقة باملوضوع‪.‬‬
‫إالّ أ ّن جمموعة من الدارسني الذين حبثوا يف هذه النظرية وسعوا نطاق العناصر السابقة‪ ،‬لتشمل‪:‬‬

‫‪ -5‬عدد املشاركني‪.‬‬ ‫‪ -1‬طبيعة املشاركني وعالقتهم ببعضهم‪.‬‬


‫‪ -4‬وظيفة فعل الكالم‪.‬‬ ‫ض‪.‬وار‪#‬املشاركني وصفاهتم‪.‬‬
‫‪2‬البع‪ -‬أد‬
‫‪ -7‬صنف اخلطاب‪.‬‬ ‫‪ -3‬طبيعة الوسيلة (كالم‪-‬كتابة)‪.‬‬
‫‪ -8‬الوضعية احلالية (ضجيج‪ -‬هدوء)‪.‬‬ ‫‪ -3‬موضوع اخلطاب‪.‬‬
‫ويف نظر فريث ال يتحقق املعىن إال بربط نتائج حتليل العناصر اللّغوية ضمن سياق ما بعد حتليل‬
‫اإلرث الكالمي إىل العناصر املكونة له‪ ،‬وحبسب املستويات اللغوية اخلاصة به‪ ،‬إذ يقرتح إزاء ذلك‬
‫لتعرف كل وظيفة مبقتضى استعماهلا شكال‪ ،‬أو عنصرا يف لغة معينة من طريق العالقة القائمة بينها وبني‬
‫تقسيم املعىن إىل سالسل من الوظائف اجلزئية‪ ،‬ومنه يرى أ ّن املعىن مجلة من عالقات سياقية‬
‫َ‬ ‫نص ما؛‬

‫(‪ -)1‬بالمر‪ ،‬علم الداللة‪ ،‬ترجمة صبري ابراهيم السيد‪ ،‬دار المعرفة الجامعية‪ ،‬اإلسكندرية‪ ،‬ط ‪ ،1995‬ص‬
‫‪.77‬‬

‫‪32‬‬
‫الفصل األول‪ :‬السياق وعالقته بالنقد الثقايف و النظرية السياقية‬

‫معقدة‪ ،‬ويأخذ أجزاء كل واحد من علم األصوات والقواعد واملعاجم والداللة يف النص املناسب‬
‫املعقد‪.)1(...‬‬
‫ويف حني "أندريه مارتيين ‪ "Andre Martinet‬يؤكد قيمة السياق‪ ،‬حبيث جعل اختالف مدلول‬
‫الوحدة الدالة حبسب السياق‪ ،‬مماثالً شأن ذلك األداء اللفظي إلحدى الوحدات الصوتية‪ ،‬فيقول‬
‫معىن خارج السياق(‪.)2‬‬
‫هبذا الصدد كون الكلمة ال حتمل ً‬
‫واهتم "أندري مارتيين" يف نظرية السياق بالرتكيز على احلركات واألفعال املصاحبة للكالم‪ ،‬وهي‬
‫ليست لغوية صرفة‪ ،‬وإّمنا هلا دور مهم لفهم اخلطاب‪.‬‬
‫سادسا‪ :‬أنواع السياق‪:‬‬
‫قسم السياق إىل أربعة أقسام هي‪:‬‬
‫أ‪ -‬السياق اللغوي ‪ :Context linguistique‬ويتمثل يف األصوات والكلمات واجلمل‪ ،‬متتابعة يف حدث‬
‫كالمي معني‪ ،‬أو نص لغوي‪ ،‬فاألصوات تكون عادة خاضعة للسياق الذي ترتكب فيه‪ ،‬فيتأثر كل‬
‫صوت مبا يتقدمه أو يأيت بعده من أصوات(‪.)3‬حبيث ال يتحدد معىن وحدة داللية معينة دون النظر‬
‫إىل ما يصاهبا ضمن الرتكيب‪ ،‬كون الكلمات حني تدرج داخل تركيب معني تشكل نسقاً لغويا‬
‫يستند كل جزء منه على اآلخر‪.‬‬
‫ويعين كذلك السياق اللّغوي دراسة النّص وفهمه من طريق استعمال املفردة داخل النّظام اجلملي‪،‬‬
‫وما يربطها من عالقات باملفردات السابقة والالحقة هلا‪ ،‬كون اللفظ له استعماالت متعددة ضمن‬
‫اجلملة‪ ،‬وتكون هذه االستعماالت متعلقة بوضع املفردة وفهمها يف مجيع نواحيها سواء اللغوية أو‬

‫(‪-)1‬ينظر‪ ،‬علي زوين‪ ،‬منهج البحث اللغوي بين التراث و علم اللغة الحديث‪ ،‬دار الشؤون الثقافية العامة‪،‬‬
‫ط‪ ،1‬بغداد‪ ،1984 ،‬ص ‪.173‬‬
‫(‪ -)2‬ينظر‪ ،‬أندريه مارتينيه‪ ،‬مبادئ اللسانيات العامة‪ ،‬ترجمة أحمد الحمو‪ ،‬الطبعة الجديدة‪ ،‬ط‪،1983‬‬
‫دمشق‪ ،‬ص ‪.183‬‬
‫(‪ -)3‬أحمد مختار عمر‪ ،‬علم الداللة‪ ،‬مكتبة لسان العرب‪ ،‬ط‪ ،1998 ،5‬ص ‪.49‬‬

‫‪33‬‬
‫الفصل األول‪ :‬السياق وعالقته بالنقد الثقايف و النظرية السياقية‬

‫الداللية‪ ،‬ومنه فاملعىن املقدَّم من طريق السياق اللغوي يكون معني حلدود ومسات حمددة قابلة للتعداد‬
‫(‪)1‬‬
‫واالشرتاك أو التعميم‬
‫ينظم السياق اللغوي العالقات الداللية بني األلفاظ فيما بينها‪ ،‬وهذا األمر ال خيص اللّفظ‬
‫املشرتك فحسب‪ ،‬بل يتماشى مع كل األلفاظ‪ ،‬وقد ال يكفي السياق اللغوي لفهم املعىن الداليل‬
‫والوصول إليه‪ ،‬لذلك قد يشرتك مع سياقات أخرى‪.‬‬
‫إذا يشرف السياق اللغوي على تغيري داللة الكلمة تبعا لتغري ميس الرتكيب اللغوي‪ ،‬كالتقدمي‬
‫والتأخري يف عناصر اجلملة‪ ،‬فقولنا‪" :‬زيد أمت قراءة الكتاب" ختتلف داللتها اللغوية عن مجلة‪ " :‬قراءة‬
‫الكتاب أمتمها زيد"(‪.)2‬‬
‫وميكن التمثيل للسياق اللغوي بكلمة‪" :‬عني" اّليت تأخذ معان ع ّدة منها‪ :‬العني الناظرة‪ ،‬العني‬
‫اجلارية‪ ،‬أو احلارسة أو اجلاسوس؛ فحني قولنا‪" :‬تدمع عني اليتيم" نقصد هنا "العني الناظرة"‪ ،‬ولكن‬
‫حينما نقول "هذه العني جارية" نقصد هبا "املاء"‪ ،‬أما إذا قلنا "ذلك عني امللك" فنعين به "اجلاسوس"‬
‫وهو احلال مع كلمة "يد" والّيت تقع يف سياقات لغوية خمتلفة‪ ،‬منها‪" :‬يد املمشار" أي "موضع‬
‫املقبض"‪" ،‬يد الطائر" ونقصد "جناحه"‪ ،‬أما "يد الدهر" فنعين بذلك " مد زمانه"‪ .‬ومنه فاستعمال‬
‫مفردة واحدة يف سياقات خمتلفة أعطى دالالت خمتلفة‪.‬‬
‫وللسياق اللّغوي مكونات أساسة‪ ،‬تتمثل يف‪:‬‬
‫‪ -‬املستوى الصويت‪ :‬يدرس هذا املستوى الصوت ضمن السياق اخلاص به‪ ،‬إذ الكلمات بفضله يتم‬
‫توزيعها حبسب توافق سياقها‪ ،‬فتوزيع لفظ "نام" ضمن السياق خمتلفا عن توزيع لفظ "ناب"‪،‬‬
‫ذلك أ ّن نام السياق الفونيمي اخلاص هبا يتألف من ترتيب جمموع الفونيمات (ن‪ ،‬ا‪ ،‬م) هبذه‬

‫(‪ -)1‬ينظر‪ ،‬نسيم عون‪ :‬األلسنية محاضرات في علم الداللة‪ ،‬دار الفارابي‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪ ،2885‬ص ‪.159‬‬
‫(‪ -)2‬منقور عبد الجليل‪ ،‬علم الداللة‪ ،‬منشورات اتحاد الكتاب العربي‪ ،‬دمشق‪ ،‬ط‪ ،2881‬ص ‪.89‬‬

‫‪33‬‬
‫الفصل األول‪ :‬السياق وعالقته بالنقد الثقايف و النظرية السياقية‬

‫تغري‬
‫أي تغيري حاصل على مستوى حد هذه الفونيمات أو اختالف ترتيبها يلحقه ّ‬
‫الطريقة‪ ،‬و ُّ‬
‫املعىن واختالفه‪.‬‬
‫الصريف‪ :‬ويف هذا املستوى ُّ‬
‫تعد ال قيمة للمورفيمات (احلرة أو املقيدة) إال إذا كانت ضمن‬ ‫‪ -‬املستوى ّ‬
‫سياق تركييب ما‪ ،‬الّذي جيعلها متارس وظيفتها السياقية‪ ،‬املتمثلة يف متايز تركيبة صيغتها الصرفية من‬
‫باقي الصيغ الصرفية واختالفها عنها‪ ،‬مما يتبع ذلك اختالف الدالالت املنبثقة عن كل صيغة (‪.)1‬‬
‫يعد السياق النحوي شبكة من العالقات القواعدية املتحكمة يف بناء الوحدات‬‫السياق النّحوي‪ُّ :‬‬
‫‪ّ -‬‬
‫اللغوية ضمن النّص‪ ،‬إذ تقوم مبهمة وظيفية تسهم يف إيضاح الداللة من طريق جمموعة من القرائن‬
‫النحوية‪ ،‬مثل‪ :‬اإلعراب‪ ،‬والتقدمي والتأخري‪.‬‬
‫‪ -‬السياق املعجمي‪ :‬يتمثل يف جمموعة العالقات الصوتية املتظافرة من أجل ح ّد الوحدة اللّغوية يف‬
‫إطار داليل معني‪ ،‬حبيث مي ّكنها من قدرة الرتكيب وفقاً ألنظمة لغة معينة‪ ،‬وذلك بغية إنتاج املعىن‬
‫السياقي العام له؛ إذ يسهم اجتماع معاين املفردات والعالقات القائمة فيما بينها والّيت تندرج‬
‫ضمن السياق يف إنتاج املعىن العام ملختف الرتاكيب‪.‬‬
‫‪ -‬السياق األسلويب‪ :‬يتجسد باألسلوب البالغي الذي ألف فيه اخلطاب‪ ،‬وأكثر ما يظهر هذا‬
‫املستوى من السياق يف النصوص الشعرية والنثرية‪.‬‬
‫‪ -‬املصاحبة‪ :‬تتمثل يف األثر الّذي تبصمه الكلمات املصاحبة يف معىن الكلمة(‪ )2‬وترسم معامله‪ ،‬من‬
‫حنو‪ :‬كلمة "يد" تكتسب معاين خمتلفة باختالف السياقات الّيت ترد فيها‪.‬‬
‫ب‪ -‬السياق العاطفي ‪:Emmotional Context‬‬

‫يقصد به جمموعة من االنفعاالت اليت حتملها معاين األلفاظ‪ ،‬والسياق هو الذي حيدد درجة القوة‬
‫والضعف‪ ،‬فكلمة "يكره" غري كلمة "يبغض" رغم اشرتاكهما يف أصل املعىن‪ ،‬وإذا قلنا "اغتال" "قتل"‬

‫(‪-)1‬ينظر‪ ،‬عبد القادر عبد الجليل‪ ،‬األسلوبية و ثالثية الدوائر البالغية‪ ،‬دار الصفاء‪ ،‬عمان‪ ،‬ص ‪.213‬‬
‫(‪ -)2‬ينظر‪ ،‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.213‬‬

‫‪35‬‬
‫الفصل األول‪ :‬السياق وعالقته بالنقد الثقايف و النظرية السياقية‬

‫باإلضافة إىل القيم االجتماعية اليت تؤديها الكلمتان‪ ،‬إال أن هناك نوعا من العاطفة واالنفعال الذي‬
‫يصاحب الفعل‪ ،‬فإذا كان األول يدل على أن املغتال ذو مكانة اجتماعية عالية‪ ،‬فإن الفعل الثاين‬
‫حيمل معىن غري معىن الفعل األول‪ ،‬وهو ما يشري إىل أن القتل يكون بوحشية‪ ،‬وأن آلة القتل قد‬
‫ختتلف عن آلة االغتيال‪ ،‬واملقتول ال يتمتع مبكانة عالية(‪ .)1‬إذا السياق حيدد طبيعة االستعمال سواء‬
‫ما خيص الداللة املوضوعية أو الداللة العاطفية للكلمة(‪ ،)2‬وهو الذي يكشف عن الداللة الوجدانية‪،‬‬
‫الّيت قد ختتلف باختالف األشخاص(‪.)3‬‬
‫فالكلمة قد توقظ يف الذهن شحنة مرتبطة حباالت نفسية متباينة الداللة حيددها السياق العاطفي‬
‫فيما بعد‪ ،‬وهو الذي يكشف عن مكنوناهتا بواسطة القرائن‪ ،‬عن طريق اجلريان والتحول املصاحب‪.‬‬
‫كما أن لألداء الصويت دورا يف جعل املفردات مشحونة باملعاين العاطفية‪ ،‬كما أن لإلشارات غري‬
‫اللغوية أمهية يف إبراز املعاين العاطفية‪.‬‬
‫وختضع درجات االنفعال إىل مقاييس‪ ،‬تصنف وفقاً للقوة والضعف‪ ،‬مما يتطلب قرائن توضيحية‬
‫تثبت عمق أو ظاهر هذا الشكل االنفعايل‪ ،‬وميثل الرتادف صورة عن هذا النوع من السياقات‪.‬‬
‫كما أن القيمة العاطفية تسهم كذلك يف حتديد معىن الكلمة‪ ،‬خاصة الكلمات الفلسفية‬
‫والسياسية والدينية كالوجودية واالشرتاكية‪ ،‬واملسيحية‪ ،‬ومن مثل‪ :‬سارتر‪ ،‬ماركس املسيح‪ ،‬وكذلك‬
‫الكلمات اليت تشري إىل األشياء املادية‪ ،‬كالكتاب‪ ،‬الزجاجة‪ ،‬الكرسي‪ ،‬بالنسبة لرجل الدين‪ ،‬ومدمن‬
‫اخلمر‪ ،‬وأستاذ اجلامعة(‪ .)4‬فمثل هذه الكلمات حتمل قيمة عاطفية‪ ،‬عند أشخاص بعينهم‪ ،‬وتتخذ‬
‫دالالت معينة لديهم دون سواهم‪ ،‬وقد حيدث أن جيتمع شخصان يف مكان واحد ويف زمان واحد‪،‬‬

‫(‪ -)1‬منقور عبد الجليل‪ ،‬علم الداللة‪ ،‬ص ‪.98‬‬


‫(‪ -)2‬ينظر‪ ،‬أحمد قدور‪ ،‬مبادئ اللسانيات‪ ،‬دار الفكر المعاصرة‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪ ،1994 ،1‬ص‪.297‬‬
‫(‪-)3‬ينظر‪ ،‬محمد علي الخولي‪ ،‬معجم اللغة النظري‪ ،‬مكتبة لبنان‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪ ،1982‬ص ‪.38‬‬
‫(‪ -)4‬الصادق محمد آدم‪ ،‬توظيف السياق في الدرس اللغوي (رسالة دكتوراه) الخرطوم‪ ،‬السودان‪،2887 ،‬‬
‫ص ‪.57‬‬

‫‪34‬‬
‫الفصل األول‪ :‬السياق وعالقته بالنقد الثقايف و النظرية السياقية‬

‫ويسمعان كلمة واحدة‪ ،‬من شخص واحد‪ ،‬ويف أحوال مشرتكة‪ ،‬لكن استجابة أحدمها ال تكون‬
‫متطابقة الستجابة اآلخر‪ ،‬ومرجع هذا إىل أن لكليهما تكوينه النفسي وظرفه العاطفي‪ ،‬الذي يتميز‬
‫به عن من سواه‪.‬‬
‫وانتبه علماء البالغة إىل هذا املعىن من طريق توضيحهم لألغراض داخل السياقات الكالمية‪،‬‬
‫وكون أن اللّغة تتعلق _بشكل وثيق_ بإدراك اإلنسان‪ ،‬لذلك يُوىل االهتمام بالناحية العاطفية حتت‬
‫أطر السياق الداليل العاطفي‪ ،‬وهو ما أكده "تشومسكي" هبذا الصدد يف كالمه الّذي قد مت املقارنة‬
‫بينه وبني كالم "بعبد القاهر اجلرجاين؛ فقد ربط "تشومسكي" اللّغة بالعقل كذلك فعل "عبد القاهر‬
‫الجرجاني" سالفاً‪ ،‬ولذلك جند يف أغلب األحيان ارتباط مفهومه للغة باإلدراك –وفقاً لتعبريه‪،-‬‬
‫وذلك يف كوهنا ملكة لغوية خاصة متجذرة تقوم بتحويل اخلربة قواعد‪ ،‬ومنه فإ ّن البحث يف اللّغة‬
‫يسهم يف دراسة اإلدراك اإلنساين(‪.)1‬‬
‫ولدراسة السياق العاطفي البد من الرتكيز على طريقة الكالم وأدائه ونربه‪ ،‬وحالة املتكلم النفسية‪.‬‬
‫ج‪ -‬سياق الموقف ‪:Situational Context‬‬

‫تعود نشأة مصطلح سياق املوقف إىل علماء األنثروبولوجيا‪ ،‬حبيث يعود األصل يف استعماله إىل‬
‫متضمناً ذلك مقاله مبجلة علم النفس الربيطانية سنة‬ ‫‪A.M. Hokart‬‬ ‫األستاذ أ‪.‬م هوكارت‪،‬‬
‫(‪ .1914)2‬مث ظهر املصطلح مرة أخرى على يد بلومفيد الرائد يف املدرسة السلوكية‪ ،‬الّيت ُّ‬
‫تعد من‬
‫كربى املدارس اللّغوية الوظيفيّة‪ ،‬حبيث يصب انشغاهلا على ربط الداللة والسياق بالنواحي النفسية‬
‫(‪)3‬‬
‫واملادية‪ ،‬إذ ينظر هذا املنهج إىل أنه ال قيمة لأللفاظ مستقلة أو بعيداً عن استعماهلا وتداوهلا‬

‫(‪ -)1‬ينظر‪ ،‬زكريا ميشال‪ ،‬األلسنية التوليدية التحويلية و قواعد اللغة العربية‪ ،‬المؤسسة الجامعية للدراسات و‬
‫النشر‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪ ،1982‬ص‪.71‬‬
‫(‪-)2‬ينظر‪ ،‬محمد السعران‪ ،‬علم اللغة مقدمة للقارئ الغربي‪ ،‬دار الفكر العربي‪ ،‬ص ‪.338‬‬
‫(‪-)3‬ينظر‪ ،‬مصطفى عواطف كنوس‪ ،‬الداللة السياقة عند اللغويين‪ ،‬دار الشباب‪ ،‬لندن‪ ،‬ط‪ ،2887‬ص‪.72‬‬

‫‪37‬‬
‫الفصل األول‪ :‬السياق وعالقته بالنقد الثقايف و النظرية السياقية‬

‫ويعرف السياق احلايل بأنه املوقف اخلارجي الذي جرى فيه التفاهم بني شخصني أو أكثر‪ ،‬ويشمل‬
‫ذلك زمن احملادثة ومكاهنا والعالقة بني املتحادثني‪ ،‬والقيم املشرتكة بينهم والكالم السابق‬
‫للمحادثة(‪.)1‬ويدل على العالقات الزمنية واملكانية اليت جتري فيها الكالم(‪.)2‬‬
‫وأحيا "فريث" فكرة سياق احلال؛ أل ّهنا فكرة قدمية انتبه إليها "أفالطون" وكذلك العلماء القدامى‬
‫العرب والبالغيون‪ ،‬إالّ أن فريث مت ّكن من صياغة نظرية علمية ختصها‪ ،‬وال ننكر أ ّن هذه النّظرية كثرياً‬
‫ما تلتقي يف بعض نواحيها مع آراء القدمى وأفكارهم وتوجهاهتم‪ ،‬غري أهنا خمتلفة من حيث املنهج‬
‫والتطبيق والتحليل‪.‬‬
‫يعد "فيرث"سياق املوقف أو سياق احلال نوعاً من أنواع التجريد من البيئة اللّفظية أو الوسط‬
‫و ُّ‬
‫الكالمي‪ ،‬كما يتضمن سياق احلال أنواع النّشاط اللّغوي كلها سواء أكانت كالما أم كتابة‪ ،‬إالّ أ ّن‬
‫"بلومفيد" قام بتحديد سياق احلال بناء على ظواهر ميكن أ ّن تقرر يف إطار األحداث العلمية‪.‬‬
‫ويتكون سياق املوقف من عناصر ثالثة‪ ،‬هي‪:‬‬
‫شخصية املتكلم والسامع ومشاهد الكالم‪ ،‬ودوره يف املراقبة واملشاركة‪.‬‬ ‫‪)1‬‬

‫العوامل وخمتلف األوضاع االجتماعية واالقتصادية املقرتنة باحلدث اللغوي‪.‬‬ ‫‪)2‬‬


‫(‪)3‬‬
‫األثر الّذي يرتكه احلدث اللّغوي يف مشاركي الكالم‪ ،‬من حنو‪ :‬اإلقناع‪ ،‬والفرح‪ ،‬واألمل واإلغراء‪.‬‬ ‫‪)3‬‬

‫ويعين أيضا املوقف اخلارجي الذي ميكن أن تقع فيه الكلمة مثل‪ :‬استعمال كلمة "يرحم" يف مقام‬
‫تشميت العاطس‪" :‬يرمحك اهلل" (البدء بالفعل)‪ ،‬ويف مقام الرتحم بعد املوت‪ " :‬اهلل يرمحه" (البدء‬
‫باالسم)‪ ،‬فاألوىل تعين طلب الرمحة يف الدنيا‪ ،‬والثانية طلب الرمحة لآلخرة(‪ ،)4‬وقد دل على هذا‬
‫سياق املوقف إىل جانب السياق اللغوي املتمثل يف التقدمي والتأخري‪.‬‬

‫(‪ -)1‬محمد علي الخولي‪ ،‬معجم اللغة النظري‪ ،‬ص ‪.83‬‬


‫(‪ -)2‬أحمد قدور‪ ،‬مبادئ اللسانيات‪ ،‬ص‪.298‬‬
‫(‪ -)3‬ينظر‪ ،‬تمام حسان‪ ،‬األصول‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬ط‪ ،1981‬ص ‪.33‬‬
‫(‪ -)4‬أحمد مختار عمر‪ ،‬علم الداللة‪ ،‬ص ‪.71‬‬

‫‪38‬‬
‫الفصل األول‪ :‬السياق وعالقته بالنقد الثقايف و النظرية السياقية‬

‫د‪ -‬السياق الثقافي ‪:Cultural Context‬‬

‫السياق الثقايف هو السياق الذي يكشف عن املعىن االجتماعي‪ ،‬وذلك املعىن الذي توحي به‬
‫الكلمة أو اجلملة‪ ،‬واملرتبط حبضارة معينة أو جمتمع معني‪ ،‬ويدعى أيضا املعىن الثقايف(‪ ،)1‬والسياق‬
‫الثقايف حيدده الواقع االجتماعي‪ ،‬ومفاهيمه املختلفة باختالف الطبقات‪ ،‬فإذا أخذنا كلمة "جذر"‬
‫جند معناها لدى املزارع خيتلف عن معناها لدى أصحاب اللّغة‪ ،‬وكذلك يتمايز عن معناها يف علم‬
‫الرياضيات(‪ ،)2‬إال أنّه يف حالة وضع الكلمة يف سياقها‪ ،‬جند مفهومها متفقا عليه حىت لو اختلفت‬
‫الطبقات‪ ،‬كون السياق ينضوي على القرائن‪.‬‬
‫وال ميكن االستغناء عن السياق الثقايف يف عملية الرتمجة‪ ،‬ألن بفضله يقارب املرتجم الصواب يف‬
‫ترمجة حمتوى النصوص‪ ،‬والسيما املقدسة والفلسفية واألدبية‪ .‬ومنه فلو أخذ املرتجم بالرتمجة احلرفية‬
‫السياق الثقايف‪،‬‬
‫للغة قذلك ال يوصله إىل مبتغاه من املعىن‪ ،‬حبيث ال يكون ذلك إال باعتماده على ّ‬
‫وعليه ميكن القول إ ّن اللّغة استعمال‪ ،‬واملعىن ضبايب ويكون بعيدا عن السياقات املختلفة‪ ،‬ولكن ما‬
‫إن يسبق الكالم حىت يتقطر املعىن فيه‪ ،‬وينجز السياق الثقايف بالديناميكية احملركة لتعدد املعىن‪ .‬وليس‬
‫السياق الثقايف جمرد ألفاظ ساكنة‪ ،‬وإمنا متوالية ال هنائية من املعاين ألنه يتصل بثقافات أخرى"(‪.)3‬‬
‫ومنه جند السياق يرتكز على معيارين أساسني‪ ،‬مها‪:‬‬
‫املقام‪ :‬ويقصد به املوقف أو احلال‪.‬‬ ‫‪)1‬‬

‫املقال‪ :‬وهو النص‪.‬‬ ‫‪)2‬‬

‫و ُّ‬
‫تعد فكرة املقال نواة علم الداللة الوصفية وحمورها يف احلاضر‪ ،‬إذ جنده أساس انبناء النسق أو‬
‫الوجه االجتماعي‪ ،‬ذلك الوجه املمثلة داخله العالقات واألحداث والظروف االجتماعية السائدة يف‬

‫(‪-)1‬ينظر‪ ،‬محمد علي الخولي‪ ،‬معجم اللغة النظري‪ ،‬ص ‪.241‬‬


‫(‪ -)2‬أحمد مختار عمر‪ ،‬علم الداللة‪ ،‬ص ‪.71‬‬
‫(‪ -)3‬يوسف عبد الفتاح أحمد‪ ،‬قراءة النص و سؤال الثقافة‪ ،‬عالم الكتب الحديث‪ ،‬عمان‪ ،‬ط‪ ،1999‬ص ‪.31‬‬

‫‪39‬‬
‫الفصل األول‪ :‬السياق وعالقته بالنقد الثقايف و النظرية السياقية‬

‫حني أداء املقال للسياق املوقفي‪ ،‬واألثر اجللي يف الفهم الداليل‪ ،‬وقد أخذ التّعبري عن املوقف أشكاالً‬
‫خمتلفة‪ ،‬منها‪ :‬املقام واحلال‪.‬‬

‫سابعا‪ :‬خطوات التحليل السياقي‪.‬‬


‫من أجل التعرف على الوظائف اللغوية ومواقفها املختلفة‪ ،‬البد من السري يف مراحل وخطوات‬
‫التحليل اآلتية‪:‬‬
‫أ‪ -‬االعتماد على سياق احلال أو املقام وكل ما يتصل به من عناصر الكالم الفعلي وظروفه‬
‫ومالبساته‪ ،‬من حنو‪ :‬شخصية كل من املتكلم والسامع وتّكوينهما الثّقايف ‪ ،‬إضافة إىل غريمها من‬
‫املشاركني يف احلدث الكالمي إن وجدوا‪...‬‬
‫والعوامل ذات العالقة باللّغة والسلوك اللّغوي وقت الكالم‪ ،‬واألثر الكالمي يف مشاركيه‪ ،‬من حنو‪:‬‬
‫االقتناع أو األمل أو اإلغراء أو الضحك‪...‬وما إىل ذلك؛ مما يربز ما يقوم به املتكلم وسائر املشاركني‬
‫من دور اجتماعي يف املوقف الكالمي‪.‬‬
‫ب‪ -‬حتديد بيئة الكالم املدروس لضمان عدم اخللط بني املستويات اللّغوية‪.‬‬
‫ج‪ -‬حتليل الكالم إىل مكوناته األوىل بغية الكشف عن العالقات الداخلية الكائنة بينها للوصول إىل‬
‫املعىن املتصل أيضا مبستويات خمتلفة للتحليل‪:‬‬
‫املستوى الصويت‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫املستوى املعجمي‬ ‫‪‬‬

‫املستوى النحوي‬ ‫‪‬‬

‫املستوى الداليل(‪)1‬وهبذا املنهج التحليلي يتضح مفهوم النّظرية السياقية لـ"فريث" من تعدد عناصر‬ ‫‪‬‬

‫لغوية متشابكة‪ ،‬اليت تؤدي هناية املطاف إىل املعىن أو معرفة الداللة احلقيقية للكالم عرب وهكذا‬

‫(‪ -)1‬كريم زكي حسام الدين‪ ،‬أصول تراثية في علم اللغة‪ ،‬ص ‪.75-73‬‬

‫‪58‬‬
‫الفصل األول‪ :‬السياق وعالقته بالنقد الثقايف و النظرية السياقية‬

‫ميكن القول إ ّن اللّغويني قد أدركوا يف حتليالهتم اللغوية للغة‪ ،‬أمهية السياق بقرائنه املختلفة‪ ،‬اللغوية‬
‫والغري اللغوية يف توجيه املعىن وتعيينه‪.‬‬
‫يعرب عن خارج النص‪،‬‬
‫أما يف السياق الثقايف‪ ،‬الذي ينتمي إىل السياق غري اللغوي فإننا ندرس ما ّ‬
‫أو املؤثرات البيئية امللتفة به‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫السياق االجتماعي‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫السياق التارخيي‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫السياق النفسي‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫‪51‬‬
‫الفصل الثاني‪:‬‬
‫السياق العام لرسائل ابن حزم‬
‫األندلسي‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫تمهيـ ــد‪:‬‬

‫جملرد الكالم فقط‪ ،‬إمنا كان اهلدف منه إبالغ‬


‫إن دافع الناس من الكالم مل يكن اعتباطيا وال ّ‬
‫شيء ما‪ ،‬وحتقيق التواصل من خالله‪ ،‬ألن هذا األخري ال يتحقق إال بوجود طرفني‪:‬‬
‫أ‪ -‬املتكلم الذي يرسل الرسالة‪.‬‬
‫ب‪ -‬املتلقي الذي يقوم بعملية حتليل وتفسري الرسالة انطالقا من السياق الذي وردت فيه‪.‬‬
‫أما عملية البحث عن متاسك النص فتُل ِزُمنا بالعودة إىل العناصر اللغوية‪ ،‬وغري اللغوية‪ ،‬متمثلة يف‬
‫السياق بنوعيه؛ كما أ ّن فهم النص وتفسريه ال يتأتّى إالّ بالرجوع إىل السياق باعتباره ذا أمهية بالغة‬
‫يف وضوح معىن النص و جالئه‪ ،‬غري أ ّن مصطلح "السياق " قد يتداخل مع مصطلح "املقام" وهذا‬
‫التداخل وااللتباس ممتد بني ثقافتني و زمنني خمتلفني ‪ ،‬فبلغاء العرب قدميا استعملوا مصطلح "املقام"‪،‬‬
‫عكس احملدثني الذين فضلوا مصطلح "السياق" خاصة الغربيني منهم ‪.‬‬
‫يفضل الدكتور "متام حسان" مصطلح "السياق" على مصطلح "املقام"‪ ،‬ألن السياق يع ّد‬ ‫و ّ‬
‫اجملرد بالكالم يقول‪ :‬قد وعى‬
‫األفضل واألنسب الرتباطه باملمارسة اللغوية اليت تتجاوز التل ّفظ ّ‬
‫جمردا‪ ،‬واعتربوا‪ :‬لكل مقام مقال‪...‬؛ فهذه‬
‫البالغيون املقام‪ ،‬أو مقتضى احلال باعتبارمها سكونيا منطيا ّ‬
‫املقامات مناذج بسيطة‪ ،‬وأحوال ساكنة‪ ،‬وأطر عامة‪ ،...‬وهذا يؤكد أ ّن املقام عند البالغيني سكوينّ‬
‫(‪ ،)static‬و املقصود به –عند متام حسان‪ :-‬ليس إطارا وال قالبا؛ وإمنا هو مجلة املواقف و الظروف‬
‫املتحركة اجتماعيا و اليت تعترب املتكلم جزءًا منها‪ ،‬كما يعترب السامع هو الكالم نفسه‪ ،‬وكل الظروف‬
‫احمليطة اليت هلا اتصال بالتكلّم (‪)speech events‬؛ وذلك أمر يتخطى التفكري يف موقف منوذجي –‬
‫قاعدة أو قانون‪-‬ليشمل كل عملية اتصال‪ ،...‬و رغم وجود فارق بني فهم "متام حسان" وفهم‬
‫البالغيني هلذا املصطلح ‪ ،‬إالّ أنّه يع ّد لفظ املقام أصلح ما يعرب به عما يفهم من املصطلح احلديث‬
‫(‪ )context of situation‬الذي يستعمله احملدثون‪.‬‬
‫ويعد السياق من أهم اآلليات املعرفية اإلجرائية احلديثة اليت حازت على قدر مهم من الدراسة‬
‫العلمية الضرورية‪ ،‬فحققت جناحا معتربا يف دراسة النصوص‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫واملنهج السياقي وإن كانت له إشارات عدة يف تراثنا البالغي والنقدي‪ ،‬فإن التطورات املعرفية‬
‫النوعية اليت شهدها عصرنا قد طبعت هذه املفاهيم بطابع علمي متقدم‪ ،‬وارتقت هبا إىل خطوات‬
‫جمرد مفاهيم بسيطة إىل إجراءات منهجية دقيقة‪.‬‬
‫نوعية‪ ،‬وانتقلت من ّ‬
‫أوال‪ :‬تعريف السياق التاريخي‪:‬‬

‫يعد السياق التارخيي من املناهج النقدية احلديثة‪ ،‬ألنه‪ :‬يتخذ من حوادث التاريخ السياسي‬
‫واالجتماعي آليات إجرائية لتفسري األدب وحتليل ظواهره (‪ ،)1‬وقد استخدمه الدارسون يف "دراسة‬
‫مرت باألمة منذ‬
‫األدب العريب يف األزمنة التارخيية املختلفة‪ ،‬واصلني بينه وبني العصور السياسية اليت َّ‬
‫العصر اجلاهلي حىت العصر احلديث (‪ ،)2‬ويقوم هذا املنهج على العالقة الوثيقة بني األدب والتاريخ‪،‬‬
‫فأدب األمم‪ ،‬يعد تعبريا واقعيا عن حياهتا االجتماعية و السياسية‪ ،‬ومصدرا مهذبا من مصادرها‬
‫فيصورها مث يتأثر هبا (‪ ،)3‬إذ يدرس‬
‫كل احلوادث واألطر املتعاقبة ّ‬
‫يسجل ّ‬
‫التارخيية‪ ،‬وذلك ألن األدب ّ‬
‫الظاهرة األدبية على ّأهنا حدث تارخيي‪ ،‬ويبحث يف" الدوافع اليت محلت األديب على اإلبداع‪ ،‬متحريا‬
‫التطابق الوارد بني الروايات واألخبار من جهة والواقع التارخيي من جهة أخرى‪ ،‬وبذلك جيعل من‬
‫النقد وعاءً للتاريخ‪ ،‬وكأن األعمال األدبية ُكتبت لدعم الواقع التارخيي ال العكس (‪ ،)4‬كونه يرمي إىل‬
‫فهم هذه األعمال من خالل" السياق االجتماعي والثقايف والفكري الذي يتضمن بالضرورة سرية‬
‫الفنان وحميطه"(‪.)5‬‬

‫(‪ -)1‬يوسف وغليسي‪ ،‬مناهج النقد األدبي‪ ،‬جسور للنشر و التوزيع‪ ،‬المحمدية‪ ،‬الجزائر ‪ ،2889‬ص ‪.15‬‬
‫(‪-)2‬أحمد الرقب‪ ،‬نقد النقد‪ ،‬يوسف بكار ناقدا‪ ،‬دار اليازوري للنشر‪ ،‬عمان‪ ،‬األردن ‪ ،2887‬ص‪.83‬‬
‫(‪-)3‬أحمد الشايب‪ ،‬أصول النقد األدبي‪ ،‬مكتبة النهضة المصرية للنشر و التوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪،1993 ،‬‬
‫ص ‪.93‬‬
‫(‪ -)4‬عبد هللا محمد عبد الرحمان‪ ،‬محمد علي بدوي‪ ،‬مناهج و طرق البحث االجتماعي‪ ،‬دار المعرفة الجامعية‪،‬‬
‫مصر‪ ،2882 ،‬ص‪.191‬‬
‫(‪ -)5‬طراد الكبيسي‪ ،‬مدخل في النقد األدبي‪ ،‬دار اليازوري للنشر‪ ،‬عمان األردن‪ ،‬ص‪.21‬‬

‫‪53‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫جند أن هذا السياق يعطي أولوية إىل الظروف التارخيية واالجتماعية اليت كتب فيها النص‪ ،‬مع‬
‫إمهال املستويات الداللية األخرى‪ ،‬و هذا يعين أ ّن التاريخ يف هذه احلالة خادم للنص‪ ،‬ودراسته ال‬
‫النص‪.‬‬ ‫تكون هلدف حمدد‪ ،‬بل يتعلق خبدمة هذا‬
‫إ ّن العامل بالبيئة االجتماعية والتطورات اليت طرأت على األمة وتارخيها علما تاما‪ ،‬يستطيع أن يرى‬
‫أي بلد هو‪،‬‬
‫وي عليه شعر مل يسبق له مساعه استطاع أن يعرف من ّ‬
‫تأثري ذلك كلّه يف آداهبا‪ ،‬وإذا ُر َ‬
‫(‪)1‬‬
‫ويف أي عصر كتب‪...‬‬
‫بني عن زمن تأليفه‬
‫إ ّن السياق التارخيي يُعىن بشرح األثر‪ ،‬و ذلك بالعودة إىل التاريخ وكأن األثر يُ ُ‬
‫وظروف عصره و أحواله‪ ،‬لذلك يعتمد الناقد يف استخراج هذه الوقائع من األعمال األدبية‪ ،‬إميانا منه‬
‫كل أبعادها احلضارية واإلنسانية‪ ،‬لذلك يعتمد املؤرخ والباحث‬
‫أ ّهنا حتوي مضمون زماهنا يف ّ‬
‫االجتماعي يف "مجع املادة من املعلومات و حقائق وتصنيفها وترتيبها وربطها باملوضوع الذي يريد‬
‫البحث فيه والتخصص به"(‪ )2‬معتمدا يف ذلك كلّه على املنهج التارخيي الذي تستقى منه األحداث‬
‫والوقائع التارخيية‪ ،‬وتصنيف البيانات واملعلومات وتنظيمها بصورة علمية يسهل الرجوع إليها‪ ،‬من أجل‬
‫استخدام النتائج العامة والتنبؤ والتخطيط للمستقبل‪ ،‬باسترياد ما مضى من أحداث ووقائع‪ ،‬للتوصل‬
‫إىل معرفة شاملة بشكل إبداعي أكثر‪.‬‬
‫ويذهب السياق التارخيي يف النقد خاصة إىل التنبيه إىل خارج النص و أمهيته ومعرفة سياقاته‪،‬‬
‫وهذا ما جعل النقاد ِ‬
‫يلجون إىل جمموعة من الرتاكيب والتأويالت‪.‬‬
‫مما سبق نتوصل إىل أن البحث التارخيي يتساءل عن احلقيقة و يبحث عنها باتباع أسلوب علمي‪،‬‬
‫يبدأ من حتديد املعضلة‪ ،‬مرورا بوضع الفرضيات املناسبة بعد مجع البيانات واملعلومات‪ ،‬مث إخضاعها‬

‫(‪-)1‬أحمد أمين‪ ،‬النقد األدبي‪ ،‬ج‪ ،1‬مكتبة النهضة المصرية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،1943 ،‬ص‪.84‬‬
‫(‪-)2‬احسان محمد الحسن‪ ،‬مناهج البحث االجتماعي‪ ،‬دار وائل للنشر‪ ،‬عمان‪ ،‬األردن‪ ،‬ط ‪ ،2885‬ص ‪.75‬‬

‫‪55‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫لالختبارات‪ ،‬دارسا إياها على أسس منطقية وعلمية دقيقة‪ ،‬للوصول إىل حقائق وتعميمات تساعدنا‬
‫على فهم املاضي‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬المنطلقات الفكرية للسياق التاريخي‪:‬‬
‫أ‪ -‬لفهم أدب ما و دراسته‪ ،‬البد من البحث يف تارخيه االجتماعي و السياسي‪ ،‬ويستحيل فهم‬
‫النص األديب قبل الدراسة التارخيية املوسعة للوقائع والظروف االجتماعية والسياسية واالقتصادية‬
‫اليت كانت وراءه‪.‬‬
‫(‪)1‬‬

‫ب‪ -‬النص وثيقة تارخيية بالغة األمهية‪ ،‬فهو مصدر من مصادر دراسة التاريخ وحبثه‪ ،‬إذ هو مليء‬
‫باملعارف اخلاصة باملؤلف ومعاصريه من الكتّاب واحلكام والشخصيات املختلفة‪ .‬فالناقد يستعني‬
‫بتاريخ عصر ما و أحداثه ونظمه السائدة آنذاك على فهم النص األديب‪ ،‬ومعرفة ما خبأه الزمن‬
‫(‪)2‬‬
‫خلف حروفه‪ ،‬أو أشار إليه من وقائع وأحداث و أماكن وأعالم‬
‫إذن هناك عالقة وثيقة تربط بني األدب والتاريخ‪ ،‬فكل منهما يف حاجة إىل اآلخر‪ ،‬وسالح من‬
‫ِ‬
‫عتادهِ‪ ،‬وسنُشوه معىن النصوص‪،‬إذا جهلنا تارخيها (‪ )3‬أضف إىل ذلك أننا لن نفهمها جيدا‪ ،‬لذلك ال‬
‫مستقل‪ ،‬قائم بذاته‪ ،‬أو أنّه بناء لغوي جمرد‪ُ ،‬مكتَف‬
‫ّ‬ ‫يرى أنصار هذا املنهج أن النص األديب عامل‬
‫بعناصره اللغوية ‪ ،‬بل يرونه حقيقة تارخيية واجتماعية‪.‬‬
‫جل ما نستطيع فعله هو مجع النصوص‬
‫أما إذا أردنا دراسة غرض من أغراض الشعر العريب‪ ،‬فإ ّن ّ‬
‫املتعلقة هبذا الغرض‪ ،‬مث ترتيبها مع مراعاة الزمن الذي قيلت فيه و نسبتها لقائلها‪ ،‬و يلي ذلك مجع‬
‫آراء النقاد و أقواهلم على اختالف عصورهم‪ ،‬وأخريا ندرس مجيع الظروف واملالبسات اخلارجية اليت‬

‫(‪ -)1‬وليد قصاب‪ ،‬مناهج النقد األدبي‪ ،‬رؤية اسالمية‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬دمشق‪ ،‬ط‪ ،2889 ،2‬ص‪.22‬‬
‫(‪-)2‬علي جواد الطاهر‪ ،‬مقدمة في النقد األدبي‪ ،‬المؤسسة العربية للدراسات و النشر‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪،1979 ،1‬‬
‫ص ‪.398‬‬
‫(‪-)3‬انريك أندرسون امبرت‪ ،‬مناهج النقد األدبي‪ ،‬ترجمة الطاهر أحمد مكي‪ ،‬مكتبة اآلداب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص‬
‫‪.14‬‬

‫‪54‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫أثّرت يف أطوارها املختلفة‪ ،‬ويف هذا يقول "ديفيدبشبندر"‪ :‬إ ّن القصيدة مع تسليمنا بأهنا حقيقة‬
‫أدبية‪ ،‬فهي حقيقة اجتماعية كذلك‪.‬‬
‫و هذا يعين أن القصيدة تولد يف سياق حيوي حياة املؤلف‪ ،‬والقارئ الذي تُكتب له‪ ،‬والعالقات‬
‫املختلفة املتضمنة للعوامل االجتماعية والتارخيية والسياسية اليت ُمتثّل اخللفية‪ ،‬أين تقع القصيدة يف‬
‫شبكة الظروف اخلارجية‪ ،‬حني ينتجها الشاعر واملتلقي؛ والسياق االجتماعي‪ ،‬والطبيعة اإليديولوجية‬
‫والسياسية هلم‪ ،‬ووضعهم يف تتايل األحداث و اليت تُسمى‪ :‬التاريخ؛ و وجود مثل هذه العالقات يف‬
‫جمرد نسق ضمين – فإنّه يثري العديد من القضايا اليت تعاجلها‬
‫القطعة الشعرية – حىت لو اعتربناه ّ‬
‫(‪)1‬‬
‫نظريات األدب املختلفة بطرق متنوعة‪...‬‬
‫لقد أخذت املقاربة التارخيية لألدب والنص األديب شكلني رئيسيني‪:‬‬
‫‪ )1‬وميكن أن ندعوها املقاربة اجلينية‪ :‬اعتربت النص األديب ينحدر من نصوص سابقة عليه‪ ،‬فاهتمت‬
‫بتتبع الروابط النوعية بني النصوص‪ ،‬مكونة عائالت يف عالقاهتا بالنصوص السابقة عليها واملنحدرة‬
‫تطور النوع األديب الناشئ؛ وتوضح هذه الدراسة العالقة العائلية بني النصوص بصورة‬
‫منها موضحة ّ‬
‫أكرب ألهنا تبحث عن مصادر بعينها لألفكار والصور الذهنية‪ ،‬أو حىت عن حتوالت األسلوب يف‬
‫أحد هاته النصوص‪ ،‬واليت قد تكون مشتقة من نص آخر أو أكثر‪ ،‬وتطرح اجلينية فرضيتني‬
‫أساسيتان مها‪:‬‬
‫‪ .1-1‬فرضية التماس‪ :‬سواء كان مباشرا بالتقاء مؤلف العمل مع الكتّاب اآلخرين‪ ،‬ومعرفتهم معرفة‬
‫شخصية فتأثّر هبم تأثّرا مباشرا‪ ،‬أو بطريقة غري مباشرة عن طريق قراءة أعمال كتّاب ومؤلفني‬
‫سابقني‪.‬‬
‫‪ .2-1‬فرضية االنقسام إىل عصور‪ :‬تفرتض أن كل النصوص اليت ُكتِبت يف عصر النهضة مثال تتمتع‬
‫بسمات مشرتكة‪ ،‬وختتلف اختالفا واضحا عن النصوص اليت كتبت يف فرتة زمنية خمتلفة‪.‬‬

‫‪)1(-‬ديفيد بشبندر‪ ،‬نظرية األدب المعاصر و قراءة الشعر‪ ،‬ترجمة عبد المقصود عبد الكريم‪ ،‬مكتبة األثر‪،‬‬
‫ط‪ ،2885‬ص ‪.121‬‬

‫‪57‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫مقاربة التحليل النصي أو البيبلوغرايف‪ :‬هي دراسة تسعى القتفاء تاريخ النص مبفرده‪ ،‬وإقرار‬ ‫‪)2‬‬

‫النسخة الصحيحة منه‪.‬‬


‫يستخدم هذا الشكل التحليلي أيضا يف حتديد املؤلف يف األعمال املشكوك يف نسبها‪ ،‬أويف‬
‫األعمال جمهولة املؤلف‪ .‬وهبذا تكون هذه الفرضية قد وضعت النص األديب يف سياقه‪ ،‬ومت هذا الوضع‬
‫يف طريقتني‪:‬‬
‫‪ .1-2‬رأت أ ّن العمل األديب جزء من حياة الكاتب‪ ،‬وحيمل بالتايل عالقة خاصة به‪ ،‬وافرتضت أن‬
‫الكاتب يكتب عمله من خربة رآها‪ ،‬أو اكتسبها حتما‪ ،‬ويقرأ العمل األديب بالتايل‪ ،‬باعتباره وثيقة‬
‫بيليوغرافية‪.‬‬
‫‪ .2-2‬ترى بأنّه ميكن رؤية العمل األديب باعتباره أحداثا تعكس جمتمع الكاتب وعصره‪ ،‬وتكون هذه‬
‫املقاربة أحيانا‪ ،‬تارخيية بصورة صرحية تبحث عن مفاتيح تتعلق بالفرتة اليت يتناوهلا النص(‪.)1‬‬
‫ثالثا‪ :‬تجليات السياق التاريخي وحقوله‪:‬‬
‫يتجلى الدرس األديب يف السياق التارخيي من خالل‪:‬‬
‫خلوها‬
‫‪ -‬حترير النصوص‪ :‬وذلك عن طريق التأكد من نسبتها إىل أصحاهبا‪ ،‬والتثبت من صحتها‪ ،‬و ّ‬
‫من التحريف و التشويه‪ ،‬أو الزيادة أو النقصان‪ ،‬مع التحقق من تاريخ النص‪ ،‬وزمان تأليفه‪،‬‬
‫والعصر الذي ينتمي إليه‪.‬‬
‫‪ -‬دراسة أدب معني‪ :‬وذلك ملعرفة خصائصه العامة‪ ،‬واإلضافة اليت ق ّدمها على ما قبله‪ ،‬وذلك من‬
‫مس األدب يف هذه الفرتة‬
‫التطور الذي ّ‬
‫أجل وضع احلركة األدبية يف سياقها التارخيي العام‪ ،‬إلدراك ّ‬
‫الزمنية‪.‬‬
‫‪ -‬دراسة نوع من أنواع األدب و فنونه يف فرتة تارخيية حمددة‪ ،‬أو اجتاه من اجتاهات هذا الفن‪ ،‬أو‬
‫مدرسة من مدارسه الفكرية و الفنية‪.‬‬

‫(‪-)1‬ديفيد بشبندر‪ ،‬نظرية األدب المعاصر و قراءة الشعر‪ ،‬ص ‪.128‬‬

‫‪58‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫‪ -‬دراسة أديب من أدباء عصر ما‪ ،‬وإبراز مميزات أدبه‪ ،‬وذلك باالستعانة بسريته الذاتية ووقائع‬
‫عصره‪ ،‬والظروف االجتماعية واالقتصادية و السياسية اليت سادت ذلك العصر‪.‬‬
‫‪ -‬دراسة نص من نصوص األدب وتلمس خصائصه‪ ،‬وذلك من خالل معرفة تاريخ هذا العمل‪،‬‬
‫وسبب تأليفه‪ ،‬وحياة مؤلِفه وظروف نشأته‪ ،‬وما إىل غري ذلك من ظروف وعوامل حميطة خاصة‬
‫بذلك العصر‪.‬‬
‫‪ -‬املقاربة بني النصوص األدبية و املقارنة بينها‪ :‬وذلك ملعرفة النص األصيل من املقلّد‪.‬‬
‫‪ -‬تصنيف النصوص يف مدارس وأنواع ومذاهب‪ :‬وذلك من خالل‪ :‬املوازنة واملقارنة فيما بينها(‪.)1‬‬
‫كل عصر‪ ،‬كما نسبت النصوص إىل‬
‫وكل هذه العوامل ساعدت يف معرفة خصائص أدب ّ‬
‫أصحاهبا احلقيقية‪ ،‬وبفضلها ميّزنا بني النص األصيل والنص املقلّد‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬خصائص السياق التاريخي‪:‬‬
‫يتميز السياق التارخيي بعدة خصائص منها‪:‬‬
‫‪ -‬التطور يف أحضان البحوث األكادميية خاصة املتخصصة منها و اليت بالغت يف جعله منهجا ليس له‬
‫بديال‪.‬‬
‫‪ -‬الوصل بني النص وحميطه السياقي آليا ‪.‬‬
‫‪ -‬االهتمام بدراسة املدونات التارخيية‪ ،‬مع الرتكيز على النصوص األكثر متثيال للحقبة التارخيية‬
‫املدروسة‪.‬‬
‫‪ -‬االستقراء الناقص مع املبالغة يف التعميم‪.‬‬
‫‪ -‬االهتمام ِ‬
‫باملبدع و بيئته اإلبداعية‪ ،‬على حساب العمل اإلبداعي‪ ،‬وحتويل كثري من األعمال‬
‫اإلبداعية إىل وثائق تُستغل يف تأكيد بعض احلقائق التارخيية أو نفيها‪.‬‬
‫‪ -‬الرتكيز على (املضمون) املنت وسياقاته اخلارجية‪ ،‬على حساب اخلصوصية األدبية للنص‪.‬‬

‫(‪-)1‬وليد قصاب‪ ،‬مناهج النقد األدبي الحديث‪ ،‬ص ‪.29 ،28‬‬

‫‪59‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫‪ -‬التعامل مع األعمال املدروسة على أ ّهنا خمطوطات حباجة إىل توثيق‪ ،‬وحماولة مجع أجزائها وتثبيتها‬
‫بالوثائق والفهارس واملالحق‬
‫(‪)1‬‬

‫وكل هذه اخلصائص جعلت السياق التارخيي مينح جهودا جبّارة من أجل تقدمي املادة األدبية‬
‫اخلام‪ ،‬وهبذا ميكن القول بأن السياق التارخيي يعتمد على سلسلة من املعادالت السببية‪ ،‬فالنص نتاج‬
‫صاحبه و مثرته‪ ،‬واألديب انعكاس لثقافته‪ ،‬والثقافة صورة عن البيئة‪ ،‬والبيئة حيّز من التاريخ‪ ،‬و هذا‬
‫يعين أ ّن النقد هو "تأريخ لألديب بفضل بيئته"‪.‬‬

‫(‪-)1‬يوسف وغليسي‪ ،‬مناهج النقد األدبي‪ ،‬جسور للنشر و التوزيع‪ ،‬الجزائر‪ ،‬ط‪ ،2889 ،2‬ص ‪.21 ،28‬‬

‫‪48‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫خامسا‪ :‬مستويات النقد في السياق التاريخي‪:‬‬


‫نظرا لعدم معايشة املؤرخ للحدث التارخيي مباشرة‪ ،‬فإنّه يعتمد على املالحظة غري املباشرة يف‬
‫فحص مصادر املعرفة‪ ،‬خصوصا وأهنا عرضة للتعديل والتحريف عرب الزمن‪ ،‬وليتأكد الباحث من‬
‫صدق املعلومات املتحصل عليها‪ ،‬والوثوق يف مصداقيتها‪ ،‬يقوم بنقدها على مستويني‪:‬‬
‫أ‪ -‬المستوى الخارجي‪:‬‬

‫يرتبط النقد اخلارجي للوثائق التارخيية مبدى صدق وأصالة املعلومات حيث" يركز على حتقيق‬
‫شخصية املؤلف‪ ،‬وزمن الوثيقة ومكان صدورها بطرح جمموعة من األسئلة اليت حياول املؤرخ خالل‬
‫حبثه إجياد إجابات مقنعة هلا مثل‪ :‬يف أي عصر ظهرت الوثيقة أو املصدر؟ من هو الكاتب أو املؤلف؟‬
‫وهل هو الذي ميلك النسخة األصلية من الوثيقة؟ مىت ظهرت الوثيقة ألول مرة"(‪ ،)1‬ولكي جييب‬
‫الباحث على هذه التساؤالت‪ ،‬عليه التحقق من أصول الوثائق‪ ،‬ليكتشف ما هبا من تزوير أو حتريف‬
‫أو تعديل‪ ،‬وذلك بالفحص الدقيق حملتواها ولغتها بناءً على معايري وأسس علمية‪ ،‬أل ّن تعدد املصادر‬
‫كل النسخ األخرى‪ ،‬وهنا‬
‫يشكك يف إمكانية احلصول على نسخ أصلية‪ ،‬فوجب بذلك احلصول على ّ‬
‫تواجه الباحث املؤرخ مشكلة جديدة تتمثل يف كيفية التأكد من صاحب الوثيقة‪ ،‬ألن هناك وثائق‬
‫كتبت من أكثر من مؤلف‪ ،‬وبالرجوع إىل املكان الذي وجدت فيه الوثيقة أمكن حتديد دائرة من‬
‫املؤلفني‪ ،‬رمبا يكون أحدهم صاحب هذه الوثيقة‪ ،‬فالوثيقة اليت ال يعرف من أين أتت وما هو‬
‫عصرها‪ ،‬ومن هو مؤلفها‪ ،‬وما هو تارخيها‪ ،‬هي وثيقة ال تفيد يف شيء‪ ،‬لذلك نقوم جبمع كل‬
‫املعلومات اخلارجية املتعلقة بالوثيقة‪ ،‬واليت توجد متفرقة يف وثائق من نفس العصر أومن عصر أحدث‪.‬‬
‫ب‪ -‬المستوى الداخلي‪:‬‬

‫يركز على مدى صحة حمتوى املادة اليت حتملها الوثيقة‪ ،‬أو املصدر ويتم ذلك " من خالل‬
‫اإلجابة عن عدد من األسئلة ذات العالقة باملوضوع مثل‪ :‬هل هناك أي تناقض يف حمتوى الوثيقة أو‬
‫موضوعها؟ هل ق ّدم املؤلف احلقيقة كاملة‪ ،‬أم حاول تشويهها وحتريفها؟ ملاذا قام بكتابتها؟ هل توجد‬

‫(‪ -)1‬محمد عبد الجبار خندقي‪ ،‬نواف عبد الجبار خندقي‪ ،‬مناهج البحث العلمي‪ ،‬عالم الكتب الحديث للنشر‪،‬‬
‫عمان‪ ،‬األردن‪ ،‬ط‪ ،2812 ،1‬ص ‪.188‬‬

‫‪41‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫وثائق أخرى تعود لنفس العصر‪ ،‬وتتفق مع الوثيقة يف حمتواها؟ "(‪ )1‬وهذا يعين أن الباحث املؤرخ يقوم‬
‫مبحاولة حتديد ما قاله النص األصلي قبل تغيريه باخلطأ‪ ،‬أو العمد‪ ،‬ألنّه من املمكن وجود التناقض‬
‫على مستوى الوثيقة الواحدة‪ ،‬كوجود أحداث غري ممكنة‪ ،‬فينتبه البحث هلا إما بالرفض أو العمل هبا‪.‬‬
‫أما إن كان لدينا مثال عشرون نسخة من نص ما‪ ،‬وكانت القراءة (أ) تشهد عليها مثانية عشرة‬
‫خمطوطة والقراءة (ب) تشهد عليها خمطوطتان‪ ،‬فإن تفضيل (أ) على هذا األساس معناه أ ّن كل‬
‫النسخ هلا نفس القيمة‪ ،‬ومل يراع فيها أ ّهنا نقلت عن بعضها‪ ،‬أو نقلت كلّها نسخة كانت توجد فيها‬
‫أغالطا‪.‬‬
‫إضافة إىل تقييم الشخص الذي كتب اجلمل إن كان مالحظا كفءً‪ ،‬وإن كان معاصرا‬
‫لألحداث‪ ،‬أم ال‪ ،‬حىت تكون أراؤه البحثية موضوعية بعيدة عن الذاتية كأن يكون متعصبا أو متحيزا‬
‫جلانب من اجلوانب‪ ،‬واجلدير بالذكر أن عملية النقد بشقيها الداخلي واخلارجي ليست عشوائية‪" ،‬‬
‫وإمنا تتم وفق أصول وقواعد عديدة‪ ،‬منها على سبيل املثال ال احلصر‪ :‬عدم مشول الوثائق القدمية‬
‫أحداثا تارخيية حدثت يف عصور الحقة‪ ،‬وال جيب تبخيس قيمة أي مصدر‪ ،‬كما ال جيب إعطاؤه‬
‫أكثر مما يستحق من أمهية‪ ،‬إضافة إىل أنّه يتوجب االعتماد على أكثر من مصدر للتأكد من احلقائق‬
‫(‪)2‬‬
‫واألحداث ومقارنتها مع بعضها البعض والتأكد من تطابقها"‬
‫وهكذا خنلص إىل أن النقد الداخلي واخلارجي للوثائق التارخيية‪ ،‬هو مبثابة اختبار لفرضيات‬
‫الدراسة يف البحث التارخيي‪ ،‬وقد ينتج عنه إثبات هلذه املعلومات والوثائق‪ ،‬أوقد يكون عكس ذلك‬
‫بنفيها ودحضها وعدم االستعانة هبا‪.‬‬
‫سادسا‪ :‬نقد السياق التاريخي‪:‬‬
‫إن السياق التارخيي كغريه من السياقات له جوانب إجيابية وأخرى سلبية‪:‬‬
‫أ‪ -‬الجوانب اإليجابية (المزايا) ‪:‬‬

‫خيل عصر من العصور‪ ،‬من حضور كثيف للتاريخ يف األدب‪ ،‬ومن آثار واضحة يف صياغته أو‬
‫مل ُ‬ ‫‪)1‬‬
‫كل نظريات‬
‫عرب عن هذا "ديفيد بشبندر" قائال‪ " :‬حيتل التاريخ دورا يف ّ‬
‫درسه ونقده‪ ،‬وقد ّ‬

‫(‪ )1‬محمد عبد الجبار خندقي‪ ،...‬مناهج البحث العلمي‪ ،‬ص ‪.189‬‬
‫(‪)2‬المرجع نفسه‪ ،‬ص نفسها‬

‫‪42‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫األدب‪ ،‬سواء بتجسده الواضح يف اإلطار النظري‪ ،‬أو مبحاولة استبعاده‪ ،‬ومع أنّه ميكن استنتاج‬
‫حيتل وجوده‬
‫معان كثرية من بعض النصوص باعتبارها تعلو على التاريخ‪ ،‬إالّ أن العمل األديب ّ‬
‫أوال‪ ،‬ضمن تاريخ حياة املؤلف‪ ،‬وثانيا‪ ،‬ضمن الثقافة وتارخيها‪"...‬‬
‫(‪)1‬‬

‫إن رؤية ماهية األثر الفين ال تتم إالّ إذا اهتم الناقد باملوروث الذي نشأ األثر يف نطاقه‪...‬وإننا‬ ‫‪)2‬‬

‫كلما تناولنا نتاج عصر سابق كان اإلحساس باملاضي ماثال دائما لدينا‪...‬‬
‫(‪)2‬‬

‫تتطور دالالهتا من زمن إىل زمن‪،‬‬


‫إن اللغة ظاهرة تتجلى يف التاريخ‪ ،‬وهي ليست شيئا ثابتا‪ ،‬بل ّ‬ ‫‪)3‬‬

‫ومن عصر إىل عصر‪ ،‬بل إن اللفظة الواحدة قد يكون هلا داللة يف عصر ما غري داللتها يف عصر‬
‫آخر‪.‬‬
‫إن صلة األدب بالتاريخ واجملتمع صلة مؤكدة ال ريب فيها‪ ،‬وال نستطيع أبدا أن نستغين عن عون‬ ‫‪)3‬‬

‫يفسر لنا كثريا من خفايا العمل األديب‪ ،‬وإن مل يكن عند الناقد‬ ‫املؤرخ وعامل االجتماع‪ ،‬لكي ّ‬
‫التارخيي شيء يقوله عن فنية العمل األديب‪ ،‬وأسراره اجلمالية‪ ،‬فإنه يق ّدم لنا األثر األديب على‬
‫حقيقته‪ ،‬مما يعيننا على فهمه‪ ،‬ويكون حكما عليه‪ ،‬وتقومينا له أدق وأمشل(‪.)3‬‬
‫إن هدف االستعانة بالتاريخ أو بالسياق التارخيي ال يرتكز يف التأكيد على احلوادث الفردية‪ ،‬أو‬ ‫‪)5‬‬

‫تصور أحداث املاضي‪ ،‬وشخصياهتا بقدر ما هتدف إىل حتديد الظروف اليت أحاطت بظهور هذه‬
‫احلوادث والشخصيات‪ ،‬وجمموعة من العوامل اليت أثرت فيها ونتائجها على اجملتمعات اليت كانت‬
‫(‪)4‬‬
‫موجودة معها‬
‫ب‪ -‬الجوانب السلبية (العيوب)‪ :‬من عيوب المنهج التاريخي‪:‬‬

‫(‪ -)1‬ديفيد بشبندر‪ :‬نظرية األدب المعاصر و قراءة الشعر‪ ،‬ص‪.122 ،‬‬
‫(‪ -)2‬ديفيد ديتش‪ :‬مناهج النقد األدبي‪ ،‬دار صادر للطباعة و النشر‪ ،‬ط‪ ،1947 ،1‬ص‪.588-585 ،‬‬
‫(‪ -)3‬وليد قصاب‪ :‬مناهج النقد األدبي الحديث‪ ،‬رؤية إسالمية‪ ،‬ص‪.38 ،‬‬
‫(‪- )4‬عبد هللا محمد عبد الرحمان‪ ،‬مناهج و طرق البحث االجتماعي‪ ،‬ص ‪.173 ،172‬‬

‫‪43‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫‪ )1‬االستقراء الناقص واألحكام اجلازمة‪ ،‬واملبالغة يف التعميم‪ ،‬فاالستقراء الناقص يؤدي بنا إىل اخلطأ‬
‫(‪)1‬‬
‫يف احلكم واالعتماد على احلوادث البارزة والظواهر الفذة اليت ال متثل سري احلياة الطبيعي‬
‫‪ )2‬السياق التارخيي يقتضي دراسة املوقف من مجيع زواياه‪ ،‬فللفرد أصالته‪ ،‬وللمجموعة أصالتها‪،‬‬
‫وعلينا أن نفرز بني هاتني األصالتني وأن نبحث عن املشرتك بينهما وعلينا أن ندرك أن األدب‬
‫خصوصية فردية تتأثر بالتيار العام وال تندمج معه‬
‫(‪)2‬‬

‫رد كل شيء أديب إىل ما جيري يف عصره‪،‬‬


‫‪ )3‬الوقوف عند هذا السياق يدفع الباحث إىل االخنداع و ّ‬
‫"ناهيك مبعاملته النص األديب كوثيقة من الدرجة الثانية‪ ،‬مهمتها دعم الوثيقة األوىل (البيئة) ناسيا‬
‫أو متناسيا أن اإلبداع يتجاوز املألوف‪ ،‬ضمن رؤية إبداعية ومجالية تشكيلية"(‪.)3‬‬
‫‪ )3‬قلة االهتمام بالنص األديب من داخله‪ ،‬واالهتمام بأشياء خارجة عن هذا النص‪ ،‬كسرية مؤلفه‪،‬‬
‫تفرده‪.‬‬
‫ومالبسات تأليفه‪ ،‬وبيئته‪ ،‬وهذا يبعدنا عن لب املوضوع‪ ،‬وهو الكشف عن متيّز النص و ّ‬
‫يفسر األدب تفسريا عاما‪ ،‬وال يتغلغل إىل باطنه الستخراج مجاله وتأثريه ألنّه يستخدم " يف ذلك‬
‫‪ّ )5‬‬
‫(‪)4‬‬
‫املصادر الثانوية اليت يفشل أحيانا يف إخضاعها للنقد بشقيه الداخلي واخلارجي"‬
‫ورث هذا املنهج النقدي كثريا من األحكام التعميمية على بعض عصور األدب واألدباء َفوقَـَر يف‬
‫‪ّ )4‬‬
‫األذهان‪ ،‬أن التدهور التارخيي خيلف أدبا منحطا‪ ،‬وأ ّن االزدهار الفكري مقرون باالزدهار‬
‫السياسي‪...‬‬
‫‪ )7‬أمهل السياق التارخيي األدباء والعلماء الذين مل يكن هلم حضور أو ارتباط بالسالطني واحلكام‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫ورّكز اهتمامه على الشخصيات املشهورة اليت كان هلا مثل هذا احلضور‬

‫(‪ -)1‬سيد قطب‪ ،‬النقد األدبي أصوله ومناهجه‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،2883 ،8‬ص ‪.147‬‬
‫(‪-)2‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.171‬‬
‫(‪ -)3‬بسام قطوس‪ ،‬المدخل إلى مناهج النقد المعاصر‪ ،‬دار الوفاء للنشر‪ ،‬االسكندرية‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪،2884 ،1‬‬
‫ص ‪.37‬‬
‫(‪ -)4‬ثائر أحمد غباري‪ ،‬خالد محمد أبو شعيرة‪ ،‬مناهج البحث التربوي‪ ،‬دار االعصار العلمي‪ ،‬ط‪،2815 ،1‬‬
‫ص ‪.159‬‬

‫‪43‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫سابعا‪ :‬السياق العام لرسائل ابن حزم األندلسي‪:‬‬

‫أ‪ -‬على مستوى السياق التاريخي ‪:‬‬


‫يف كل الدراسات اليت أجريت عند ابن حزم استوقفت الباحثني وجود منهج حمدد لديه‪ ،‬وإصراره‬
‫تعرض هلا بالبحث‪ ،‬وهذا املنهج واضح متاما يف الفقه‪،‬‬ ‫املستمر على تطبيقه يف كل اجملاالت اليت ّ‬
‫وأصوله‪ ،‬وعلم الكالم والتاريخ واجلدل‪ ،‬ومقارنة األديان‪ ،‬وحىت يف اللغة واألدب‪.‬‬
‫ووجود املنهج لدى ابن حزم جعله يضيف إىل حركة العلوم اإلسالمية شيئا جديدا‪ ،‬ألن وجود‬
‫املنهج ووضوحه جيعل منه لبنة حقيقية تضاف إىل صرح العلم‪ ،‬ومنوذجا واضحا لتق ّدم املسلمني يف‬
‫جمال نقد النصوص القدمية ويعترب السياق التارخيي أفضل هذه السياقات هلذه النصوص‪ ،‬فقد طبقه‬
‫ابن حزم يف نقد األديان منها نقد التوراة فتتبع خطوات‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫‪ -‬مجع ما أمكن من نسخ التوراة اليت كانت مرتمجة إىل العربية على عهده وكذا كتب األنبياء‬
‫األخرى‪ ،‬والشروح والتعليقات عليها‪.‬‬
‫‪ -‬السعي إىل كثري من علماء اليهود لالستفسار عن معىن غامض أو مبهم‪ ،‬والدخول مع بعضهم‬
‫أحيانا يف مناقشات شفوية‪.‬‬
‫‪ -‬االطالع الواسع واملتعمق يف تاريخ اليهود السياسي والديين‪ ،‬مع اإلملام الكايف جبغرافية بالدهم‪.‬‬
‫وقد حاول من خالل تطبيق هذا السياق‪:‬‬
‫‪ -‬بيان حتريف التوراة اليت بأيدي اليهود‪ ،‬وإظهار ما فيها من كذب وتناقض‪.‬‬
‫‪ -‬إثبات أن اإلسالم هو الدين احلقيقي الذي ينبغي التمسك به(‪.)2‬‬

‫(‪ -)1‬وليد قصاب‪ ،‬مناهج النقد األدبي الحديث‪ ،‬ص ‪.33‬‬


‫(‪-)2‬حامد طاهر‪ ،‬منهج النقد التاريخي عند ابن حزم‪ ،‬نموذج من نقد التوراة‪ ،‬ص ‪.487‬‬

‫‪45‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫وحىت لو مل يستخدم ابن حزم مصطلحات السياق التارخيي احلديث‪ ،‬إالّ أنّه يف الواقع كان على‬
‫وعي كامل خبطوات هذا السياق‪ ،‬وذلك من طريقة تطبيقه على املادة اليت كانت بني يديه‪.‬‬
‫يعتمد السياق التارخيي عند ابن حزم على عناصر كثرية مستمدة أساسا من منهج علماء احلديث‬
‫املسلمني‪ ،‬وخاصة فيما يتعلق بأصول الرواية‪ ،‬وضرورة اتصاهلا‪ ،‬والتثبت من أحوال الناقلني لألخبار‪.‬‬
‫ميثل منهج ابن حزم يف " نقد النصوص" خطوة هامة من جمال حتليل املضمون‪ ،‬مع عدم إغفال‬
‫ّ‬
‫عالقته بالكاتب‪ ،‬وبظروف العصر الذي كتبت فيه(‪.)1‬‬
‫باإلضافة إىل حتقيق " اجلمع بني نقد السند ونقد املنت"‪ ،‬استعان ابن حزم مبجموعة متنوعة من‬
‫املعارف‪-‬أوما يطلق عليه يف مناهج البحث احلديثة‪ ،‬العلوم املساعدة‪-‬وهي العلوم اليت تساعد الباحث‬
‫على بلورة املوضوع الذي يتناوله‪ ،‬من أجل الوصول إىل نتيجة مقبولة‪.‬‬
‫يع ّد قياس املاضي على احلاضر يف جمال التاريخ بصفة خاصة هاما لدى ابن حزم‪ ،‬فقد ظلت‬
‫النتائج اليت توصل إليها‪ ،‬يف جمال نقد التوراة‪ ،‬صحيحة حىت اليوم‪.‬‬
‫ولعل األمر الذي جعل ابن حزم يتقن تطبيق السياق التارخيي هو" سعة اطالعه‪ ،‬وحفظه لرتاث‬
‫األندلس الشعري‪ ،‬وذكاؤه الذايت‪ ،‬وذوقه املرهف‪ ،‬ودراسته للفلسفة واملنطق‪ ،‬وشعوره باألندلس وحبّه‬
‫(‪)2‬‬
‫هلا‪ ،‬ودفاعه دوهنا‪ ،‬واطالعه على طريقة النقد عند املشارقة"‬
‫إال أ ّن التوسع يف السياق التارخيي ال خيلُو من مزالق‪ ،‬ألن التاريخ ليس علما دقيقا‪ ،‬قواعده‬
‫مطردة ال تتخلّف‪ ،‬والبشر ليسوا أغبياء ال يفقهون‪ ،‬أو أذكياء حذقون‪ ،‬لذا وجب التبسيط قدر‬
‫املستطاع‪ .‬وهذا ما اتبعه "ابن حزم"‪.‬‬

‫(‪-)1‬حامد طاهر‪ ،‬منهج النقد التاريخي عند ابن حزم ‪ ،‬ص ‪.487‬‬
‫(‪ - )2‬احسان عباس‪ ،‬تاريخ النقد األدبي عند العرب‪ ،‬نقد الشعر من القرن الثاني حتى القرن الثامن‬
‫الهجري‪ ،‬دار الثقافة بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪ ،1983 ،3‬ص ‪.383‬‬

‫‪44‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫فيما خيص التاريخ واألخبار‪ ،‬فابن حزم مؤرخ‪ ،‬واسع االطالع‪ ،‬عميق املعرفة‪ ،‬درس خمتلف العلوم‬
‫يف املشرق واملغرب‪ ،‬وكان له إملام جيّد حبوادث األندلس‪ ،‬وهذا ما جعل "آسني بالثيوس" يصف‬
‫دون فيه ابن حزم‬
‫كتابه "األخالق والسري يف مداواة النفوس" بقوله‪ " :‬إنّه أشبه بسجل يوميات‪ّ ،‬‬
‫مالحظات أو اعرتافات تتصل بسرية حياته‪ ،‬وهذه املالحظات ترد يف الكتاب دون ترتيب يقصد به‬
‫سجلها رجل يقظ‬
‫إىل التعليم والرتبية‪ ،‬ومل يُراع يف تنسيقها منطق‪ ،‬وحنن إذ نقرؤه جند فيه الوقائع كما ّ‬
‫دقيق املالحظة أثناء جتاربه الواسعة‪ ،‬وصاغها يف قالب مبادئ عامة وحكم‪".‬‬
‫(‪)1‬‬

‫و يق ّدم ابن حزم بذلك صورة حقيقية حية عن حياة مسلمي األندلس يف القرن اخلامس اهلجري‪،‬‬
‫وقواعد األخالق اليت كانت سائدة يف جمتمعهم‪ ،‬واليت يتخللها أيضا حديث متناثر يف ثنايا الكتاب‬
‫عن احلياة االجتماعية والسياسية والنفسية البن حزم نفسه‪.‬‬
‫ب –على مستوى اإلنتاج األدبي‪:‬‬
‫ويف جمال التاريخ خلّف لنا ابن حزم جمموعة من الكتب منها‪ :‬كتاب "مجهرة أنساب العرب"‪،‬‬
‫وهو كتاب عظيم الفائدة ملن يدرسون تاريخ اإلسالم يف املشرق واألندلس؛ وكتاب "نقط العروس"‬
‫وهو كتاب يضم معلومات مقتضبة جافة عن خلفاء املشرق واألندلس وحكامها‪ ،‬وله كذلك الرسالة‬
‫املشهورة يف "بيان فضل األندلس وذكر علمائه"‪ ،‬وقد احتفظ املقري بنصها يف نفح الطيب‪ ،‬وقد‬
‫كتب ابن حزم هذه الرسالة جوابا على ما ورد يف خطاب بعث به أبوعلي احلسن بن حممد بن أمحد‬
‫ابن الربيب التميمي القريواين إىل أيب املغرية عبد الوهاب بن أمحد بن عبد الرمحان بن حزم‪ " ،‬يذكر‬
‫تقصري أهل األندلس يف ختليد أخبار علمائهم ومآثر فضلهم وسري ملوكهم "وفيها يذكر ابن حزم‬
‫(‪)2‬‬
‫علماء األندلس ويعدد أفضاهلم ومؤلفاهتم يف محاس بالغ لوطنه"‪.‬‬
‫وجيمع املؤرخون على أن ابن حزم من أكثر أهل اإلسالم تصنيفا‪ ،‬ويؤكد هذه احلقيقة التارخيية‬
‫تلميذه "صاعد"‪ ،‬وكذا "عبد الواحد املراكشي" يف كتابه يقول‪" :‬إن ابن حزم كان أكثر علماء‬

‫(‪ -)1‬آنجل جنثالث بالنثيا‪ ،‬تاريخ الفكر األندلسي‪ ،‬ترجمة حسين مؤنس‪ ، ،‬مكتبة الثقافة الدينية‪ ،‬ص ‪.217‬‬
‫(‪ – )2‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪.221 ،228‬‬

‫‪47‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫اإلسالم تصنيفا‪ ،‬وإنّه صنف يف الفقه واحلديث‪ ،‬واألصول‪ ،‬وامللل‪ ،‬والنحل‪ ،‬وغري ذلك من التاريخ‬
‫الرد على املخالفني له‪ ،‬حنو أربعمائة جملدا تشمل على قريب من مثانني ألف ورقة‪ ،‬وهذا‬
‫والكتب‪ ،‬و ّ‬
‫شيء ما علمناه ألحد ممن كان يف مدة اإلسالم قبله‪ ،‬إالّ البن جرير الطربي "(‪.)1‬‬
‫وهذا راجع التساع آفاق فكره‪ ،‬فقد درس الفلسفة‪ ،‬واألخبار‪ ،‬واألنساب‪ ،‬واللغة واألدب‪،‬‬
‫واحلديث‪ِ ،‬‬
‫وحفظ الشعر القدمي واإلسالمي‪.‬‬
‫كون أتباع ابن حزم ممن أخذوا عنه مباشرة فرقة مسوها " احلزمية" منهم "صاعد الطليطلي" والفقيه‬
‫وّ‬
‫احملدث " ابن عبد الرب"‪ ،‬و"أبا النحاة سامل بن أمحد بن فتح القرطيب"‪ ،‬و"احلميدي احملدث املؤرخ"‪،‬‬
‫وشريح بن حممد بن شريح الرعيين املقري احملدث‪ ،‬و"أبا حممد بن العريب" والد الفقيه املعروف "بأيب‬
‫بكر بن العريب"‪.‬‬
‫مث انتقل "املذهب احلزمي" إىل املشرق وذاع بني أهله‪ ،‬وأثىن أبو حامد الغزايل وياقوت احلموي‬
‫على بعض كتبه‪ ،‬أما يف املغرب واألندلس فنجد عددا من املؤلفني محلت مؤلفاهتم طابع "املذهب‬
‫احلزمي"‪ ،‬كما وصل نفر ال بأس به ممن اتبعوا املذهب احلزمي إىل كبار املناصب يف الدولة‪ ،‬وهذا إن‬
‫دل على شيء إمنا يدل على قوة ابن حزم وعلو مذهبه(‪.)2‬‬
‫ّ‬
‫وخالل القرن الثالث عشر ميالدي ال جند إالّ عددا قليال من أتباع املذهب احلزمي و بعد‬
‫انقضاء أمر املوحدين‪ .‬وأما يف مصر فيجتهد "أمحد الربهان" يف إحياء معامل ذلك املذهب على غري‬
‫(‪)3‬‬
‫جدوى‪.‬‬
‫أما ألقاب ابن حزم العلمية فكثرية ومتنوعة‪ ،‬حفظتها الكتب اليت حتدثت عن سريته منها‪ :‬الفقيه‬
‫واإلمام‪ ،‬واحلافظ واحملدث‪ ،‬والشيخ‪ ،‬والظاهري‪ ،‬والعالّمة‪ ،‬واجملتهد‪ ،‬والعامل‪ ،‬واألديب‪ ،‬والوزير‪ ،‬وعامل‬

‫(‪ -)1‬المراكشي عبد الواحد‪ ،‬المعجب في أخبار المغرب‪ ،‬تح شوقي ضيف‪ ،‬دار المعرفة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،1‬ص‬
‫‪.35‬‬
‫(‪-)2‬حامد طاهر‪ ،‬منهج النقد التاريخي عند ابن حزم‪ ،‬نموذج من نقد التوراة‪ ،‬ص ‪.487‬‬
‫(‪-)3‬آنجل جنثالث بالنثيا‪ ،‬ترجمة حسين مؤنس‪ ،‬تاريخ الفكر األندلسي ص‪.238-237‬‬

‫‪48‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫األندلس يف عصره‪ ،‬وأحد أئمة اإلسالم‪ ،‬وهذه األلقاب العديدة واملختلفة تدل على عمق علم ابن‬
‫حزم و سعته‪ ،‬ومعارفه وثقافته‪ ،‬وهي اليت جعلته موسوعة متشي على قدمني‪.‬‬
‫كما اهتمت الكتب اليت ترمجت لسرية ابن حزم بتوضيح هذه األلقاب العلمية والفكرية اليت‬
‫اشتهر هبا كقول "احلميدي"‪ " :‬إنّه كان مستنبطا لألحكام من الكتاب والسنة"(‪ ،)1‬وما كتبه "ابن‬
‫خاقان" بأنّه‪ " :‬فقيه مستنبط‪ ،‬ونبيه بقياسه مرتبط‪ ،‬ما تكلّم تقليدا‪ ،‬وال تعدى اخرتاعاً وتوليداً"(‪،)2‬‬
‫وهذا يدل على متسك ابن حزم مبا جاء به القرآن الكرمي‪ ،‬والسنة النبوية؛ كما عُ ِرف حبدة الذكاء‪،‬‬
‫وسرعة احلفظ‪ ،‬لدرجة وصفه من طرف " الضيب" له من الذكاء وسرعة احلفظ ما مل يكن لغريه"(‪،)3‬‬
‫(‪)4‬‬
‫كما أيده " الذهيب" يف قوله هذا حني قال‪ " :‬كان يف منتهى الذكاء واحلفظ"‬
‫ثامنا‪ :‬معايير النقد عند ابن حزم‪:‬‬
‫اختذ ابن حزم مرجعيته اإلسالمية اخلاصة معيارا عاما لكل ما خالفها من آراء ومعتقدات‪ .‬إالّ أنّه‬
‫وفضل أن حيدد معايري النقد بطريقة تبدو حمايدة أمام خمالفيه‪ ،‬وأدعى القبول‬
‫يصرح هبذه املرجعية‪ّ ،‬‬
‫مل ّ‬
‫واألخذ هبا‪.‬‬
‫عرج على نقد أعمال سابقيه يف نقد‬ ‫وقبل أن خيوض ابن حزم يف حتديد معايري النقد لديه‪ّ ،‬‬
‫األديان واملذاهب‪ ،‬مبنيا أنّه على الرغم من كثرة التأليف يف هذا اجملال‪ ،‬فإن النزر اليسري منه فقط اتبّع‬
‫الطريقة السوية يف النقد؛ أما معظم التأليف فهو‪ :‬إما مطولة مسهبة‪ ،‬استعملت األغاليط والشغب‪،‬‬
‫وإما خمتصرة خملة إىل درجة اإللغاز‪ ،‬فأتت غري حميطة بكافة وجوه النقد(‪.)5‬‬

‫(‪- )1‬الحميدي‪ ،‬جذوة المقتبس‪ ،‬ج‪ ،2‬تح محمد بن تاويت الطنجي‪ ،‬القاهرة‪،‬ص ‪.389‬‬
‫(‪- )2‬ابن خاقان‪ ،‬مطمح األنفس‪،‬دار عمار مؤسسة الرسالة‪،‬ط‪8341‬هـ‪ ،‬ص ‪.279‬‬
‫(‪ -)3‬الضبي‪ ،‬بغية الملتمس‪ ،‬ج‪،2‬تح ابراهيم األبياري‪،‬دار الكتاب المصري‪،‬القاهرة دار الكتاب‬
‫اللبناني‪،‬بيروتط‪ .8881 ،8‬ص‪.533‬‬
‫(‪- )4‬الذهبي‪ ،‬تذكرة الحفاظ‪ ،‬ج‪ ،3‬دائرة المعارف العثمانية‪،‬ط ‪8413‬هـ‪،‬ص ‪.1143‬‬
‫(‪ -)5‬عدنان المقراني‪ ،‬نقد األديان عند ابن حزم األندلسي‪ ،‬المعهد العالمي للفكر اإلسالمي‪ ،‬هرندن‪ ،‬فرجينيا‪ ،‬الو م‬
‫أ‪ ،‬ط‪ ،1981 ،‬ص ‪.48‬‬

‫‪49‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫بني هذين السبيلني اختار ابن حزم طريقا ثالثة‪ ،‬تتميز من منطلقه بالوضوح والبساطة‪ ،‬والرجوع‬
‫إىل الربهان القائم على املقدمات احلسية أو الراجعة إىل احلس من قريب أومن بعيد‪ .‬فهو يع ّد اجلدل‬
‫وحده من دون برهان يبني الصواب ويطرح البديل‪ ،‬إمنا هو جمرد شغب ال طائل منه‪ ،‬كثريا ما وقع فيه‬
‫املتكلمون(‪.)1‬‬
‫خلص ابن حزم الرباهني اجلامعة املوصلة إىل معرفة احلق‪ ،‬واليت تقوم على معطيات احلواس اخلمس‪،‬‬
‫وعلى أوليات العقل وبديهياته منها‪:‬‬
‫‪ -‬اجلزء أقل من الكل‪.‬‬
‫‪ -‬ال جيتمع املتضادان‪.‬‬
‫‪ -‬ال يكون اجلسم الواحد يف مكانني‪ ،‬وال يكون اجلسمان يف مكان واحد‪.‬‬
‫‪ -‬ال يكون شيء إال يف زمان‪.‬‬
‫‪ -‬لألشياء طبائع وماهيات ال تتجاوزها‪.‬‬
‫‪ -‬ال يكون فعل إال من فاعل (مبدأ السببية)‪.‬‬
‫‪ -‬ال أحد يعلم الغيب إال من طريق اخلرب الصادق‪.‬‬
‫‪ -‬اخلرب إما صادق وإما كاذب أو متوقف فيه(‪.)2‬‬
‫وما مييز هذه املعرفة احلسية والعقلية األولية كوهنا‪:‬‬
‫عالمية‪ :‬طبعها اهلل يف نفوس البشر مجيعا‪ ،‬والدليل على ذلك أهنا مغروسة يف نفس الطفل‪ ،‬الذي‬ ‫‪)1‬‬

‫ميثل اإلنسان يف أصل براءته وطهره‪.‬‬


‫حدسية إلهامية‪ :‬يستدل هبا وال يستدل عليها‪ ،‬فهي تصلح مقدمات لغريها‪ ،‬وكلما كانت النتائج‬ ‫‪)2‬‬

‫أقرب إليها‪ ،‬كانت أوضح للذهن وأسهل للفهم‪.‬‬

‫(‪)1‬عدنان المقراني‪ ،‬نقد األديان عند ابن حزم األندلسي‪ ،‬ص ‪.48‬‬
‫(‪-)2‬ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.313-335‬‬

‫‪78‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫‪ )3‬صحيحة‪ :‬ال يشك فيها إال مريض‪ :‬إما مبرض جسماين كاجلنون‪ ،‬أو بعض األمراض اليت تفسد‬
‫احلواس‪ .‬وإما مبرض فكري كاجلهل واآلراء الفاسدة(‪...)1‬‬
‫وهذه اخلصائص تصلح حكما بني البشر فيما خيتلفون فيه من أفكار ومعتقدات‪ ،‬فهي األرضية‬
‫املشرتكة اليت يقف عليها اجلميع‪ ،‬وال ينكرها إال جاحد‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فإن املتمعن يف ردود ابن حزم‬
‫ونقده لألديان‪ ،‬يدرك أمهية املرجعية اإلسالمية لديه‪.‬‬
‫تاسعا‪ :‬منهج النقد التاريخي عند ابن حزم‪:‬‬
‫كل شيء يف اإلسالم يبدأ من القرآن الكرمي‪ ،‬وهو الذي ّزود املسلمني مبنهج‬‫حنن نعلم أ ّن ّ‬
‫للمعرفة يعتمد أساسا على مشاهدة احلس‪ ،‬وبداهة العقل‪ ،‬ويتميّز بالبساطة والوضوح‪.‬‬
‫وتتنوع املناهج القرآنية بتنوع اجملاالت‪ ،‬لكن الثابت تارخييا أ ّن املسلمني األوائل قد استوعبوا جيدا‬
‫ّ‬
‫هذه املناهج وقاموا بتطبيقها على حنو يدعو لإلعجاب يف خمتلف اجملاالت‪ ،‬ففي جمال التشريع مثال‬
‫يطبّق منهج االستنباط القائم على استخراج األحكام الفرعية‪ ،‬لكل ما يتعرض له اإلنسان يف حياته‬
‫اليومية‪ ،‬من أصول الشريعة اإلسالمية‪.‬‬
‫ويف جمال املعامالت‪ ،‬هناك منهج اإلثبات واإلشهاد‪ ،‬وتسجيل العقود من طريق الكتابة‪.‬‬
‫ويف جمال األخبار املنقولة‪ ،‬هناك منهج التثبت والتحري والتمحيص والبحث عن حال الناقلني‬
‫لألخبار‪ .‬فمنهج توثيق النص القرآين على عهد أيب بكر الصديق واجلهد العلمي الذي قام به زيد بن‬
‫ثابت وأصحابه‪ ،‬الذين كلّفوا جبمع صحائف القرآن الكرمي عقب وفاة الرسول صلى اهلل عليه وسلّم‬
‫مباشرة؛ وما قاموا به يف عهد عثمان بن عفان يف تدوين املصحف الشريف؛ وما مت بعد ذلك من‬
‫وضع علم القراءات القرآنية‪ ،‬بغرض احلفاظ على سالمة األداء القرآين الصحيح‪ ،‬لكي يستمر اتصال‬
‫نطقه بنطق الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وصحابته الكرام‪ ،.‬ومل تكن عملية التوثيق هذه عشوائية‪،‬‬

‫(‪-)1‬عدنان المقراني‪ ،‬نقد األديان عند ابن حزم األندلسي‪ ،‬ص‪.49‬‬

‫‪71‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫بل كانت حبثا علميا متكامال‪ ،‬فلم يكونوا يقبلون نصا بدون شهود‪ ،‬وال شهودا بدون أن تتوافر فيهم‬
‫العدالة واألمانة والثقة(‪...)1‬‬
‫عاشرا‪ :‬المنهج التاريخي ونقد التوراة عند ابن حزم‪:‬‬
‫وهو املنهج الذي كثريا ما اعتمد عليه املسلمون سابقا‪ ،‬يف نقد النصوص الدينية‪-‬خاصة‪-‬‬
‫والتثبت من صحتها‪ ،‬وهو يعتمد على دعامتني رئيسيتني مها‪:‬‬
‫‪ -‬النقد اخلارجي‪.‬‬
‫‪ -‬النقد الداخلي‪.‬‬
‫أما األول فيشمل‪:‬‬
‫نقد مصدر الوثيقة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫تاريخ انتقال الوثيقة عرب العصور‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫طريقة وصول الوثيقة إلينا‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫احلالة اليت وصلت هبا إلينا‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫أما النقد الداخلي فيعتمد على حتليل مضمون الوثيقة حتليال يبدأ من‪:‬‬
‫‪ -‬خط الوثيقة‪.‬‬
‫‪ -‬لغة الوثيقة‪.‬‬
‫‪ -‬قياس ما حتتوي عليه الوثيقة من معلومات باملقياس التارخيي‪ ،‬أو العقلي‪ ،‬أو املقياس املقارن‪.‬‬
‫وقد طبق ابن حزم املنهج التارخيي يف نقد التوراة‪ ،‬وهذا ال يعين استخدامه للمصطلحات احلديثة‪،‬‬
‫ولكن يف احلقيقة كان على وعي تام خبطوات هذا املنهج‪ ،‬وكذا الطريقة اليت جيب تطبيقها على‬
‫الوثيقة اليت كانت لديه حيث‪:‬‬
‫‪ -‬مجع ما أمكن من نسخ التوراة املرتمجة إىل العربية‪.‬‬
‫‪ -‬االطالع الواسع على تاريخ اليهود السياسي والديين‪.‬‬

‫(‪ )1‬حامد طاهر‪ ،‬منهج النقد التاريخي عند ابن حزم‪-‬نموذج من نقد التوراة‪-‬ص ‪.289-287‬‬

‫‪72‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫‪ -‬االستفسار لدى علماء اليهود على كل ما هو مبهم أو غامض يف توراهتم‪.‬‬


‫أ‪ -‬التطبيق الخارجي للنقد التاريخي عند ابن حزم‪( :‬التوراة أمنوذجا)‬
‫‪ )1‬اطلع ابن حزم على نسختني خمتلفتني للتوراة حيث يصفها بقوله‪" :‬وإمنا هي (التوراة) مقدار مائة‬
‫ورقة وعشرة أوراق يف كل صفحة منها ثالثة وعشرون سطرا إىل حنو ذلك خبط هو إىل االنفتاح‬
‫(‪)1‬‬
‫أقرب‪ ،‬يكون يف السطر بضعة عشرة كلمة"‬
‫دون؟ وهنا كان على ابن حزم لكي جييب على هذا السؤال‪،‬‬ ‫‪ )2‬لكن ماذا كان حال التوراة قبل أن تُ ّ‬
‫أن يتتبع التاريخ السياسي والديين لليهود‪...‬‬
‫‪ )3‬يقول ابن حزم‪ " :‬وحنن نصف – إن شاء اهلل تعاىل –حال كون التوراة عند بين إسرائيل من أول‬
‫دولتهم‪ ،‬إثر موت موسى‪ ،‬إىل انقراض دولتهم‪ ،‬إىل رجوعهم إىل بيت املقدس‪ ،‬إىل أن كتبها هلم‬
‫الوراق‪ ،‬بإمجاع من كتبهم‪ ،‬واتفاق من علمائهم‪ ،‬دون خالف يوجد من أحد منهم يف‬ ‫عزار ّ‬
‫ذلك‪ .‬وما اختلفوا فيه من ذلك نبّهنا عليه"‪.‬‬
‫‪ )3‬ومنذ وفاة موسى‪ ،‬عليه السالم‪ ،‬إىل والية أول ملك هلم‪ ،‬وقع لبين إسرائيل سبع ِرّدات‪ ،‬فارقوا فيها‬
‫(‪)2‬‬
‫اإلميان‪ ،‬وأعلنوا عبادة األصنام‪.‬‬
‫وبرجوع ابن حزم للتاريخ الديين والسياسي لليهود وصل إىل ما يلي‪:‬‬
‫تعرض للتحريف والتغيري‪،‬‬
‫‪ -‬نص التوراة األصلي‪ ،‬الذي نزل على سيدنا موسى عليه السالم‪ ،‬قد ّ‬
‫وهذا بسبب تداول امللوك على احلكم واختالف دياناهتم فمنهم من كان مؤمنا ومنهم من قتل‬
‫األنبياء‪ ،‬ورفض هذا الدين‪ ،‬وأحيانا تطول فرتة الكفر‪ ،‬وهذا جيعل أي دين ال يصمد أمام هذه‬
‫الظروف‪.‬‬
‫‪ -‬ومن جهة أخرى فإن الكهنة أنفسهم‪ ،‬فيهم املؤمن وفيهم الكافر والفاسق وعبدة األوثان‪ ،‬وهذا‬
‫جيعلنا ال نثق يف ما يقولون‪ ،‬كما ال يؤمتنون على التوراة‪.‬‬

‫(‪ -)1‬حامد طاهر‪ ،‬منهج النقد التاريخي عند ابن حزم‪-‬نموذج من نقد التوراة‪-‬ص ‪.287‬‬
‫(‪ – )2‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص‪.413 ،‬‬

‫‪73‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫كل كتاب وشريعة كانا مقصورين على رجال من أهلها وكانا حمظورين على من سواهم‪،‬‬
‫‪ -‬كما أن ّ‬
‫فالتبديل والتحريف مضمون فيهما‪.‬‬
‫ب‪ -‬التطبيق الداخلي للنقد التاريخي عند ابن حزم‪( :‬التوراة أمنوذجا)‬
‫قسم ابن حزم النقد الذي وجهه إىل نص التوراة املوجودة يف عصره‪ ،‬إىل أربعة عناصر هي‪:‬‬
‫(احملرف) اإلله بصفات ال ينبغي أن توصف هبا الذات اإلهلية‬
‫‪ )5‬فيما يتعلق بالذات اإللهية‪ :‬وصف التوراة ّ‬
‫منها‪ :‬التشبيه والبدء‪ ،‬وكما تصفه بأوصاف بشرية‪ ،‬وتضيف إليه األبناء‪ ،‬وتذكر نبوءات مل‬
‫تتحقق‪.‬‬
‫تصور األنبياء وهذا ما ال يتفق وعصمتهم‪،‬‬
‫‪ )1‬فيما يتعلق باألنبياء‪ :‬متتلئ التوراة بالعديد من النصوص اليت ّ‬
‫أو مقامهم الديين اجلليل‪ ،‬بل نسبت إليهم العديد من الكبائر‪ ،‬وهنا أ ّكد ابن حزم أن هذا‬
‫االعرتاض ليس من قبيل طلب إبراهيم رؤية إحياء املوتى املذكور يف القرآن‪.‬‬
‫‪ )2‬تناقض النصوص‪ :‬اكتشف ابن حزم كثريا من وجوه التناقض يف توراة اليهود‪ ،‬منها‪ :‬تناقض النص مع‬
‫نفسه‪ ،‬وتناقض النص مع نص آخر يف النسخة نفسها من التوراة‪ ،‬وتناقضه مع نص آخر يف‬
‫نسخة أخرى من نسخ التوراة‪ ،‬وتناقض نص توراة اليهود مع نص قرآين ثابت‪.‬‬
‫‪ )9‬أخطاء علمية‪ :‬رصد ابن حزم جمموعة من األخطاء العلمية اليت تثبت حتريف توراة اليهود منها‪ :‬أخطاء‬
‫يف احلساب والتاريخ واجلغرافيا‪ ،‬واجلغرافيا االقتصادية‪ ،‬ويف العمران(‪.)1‬‬
‫أحد عشر‪ :‬الدواعي الذاتية و الموضوعية لكتابة الرسائل‬
‫التزم "ابن حزم" يف رسالته بأن ال يورد إال جتارب واقعية‪ ،‬مما وقع له هو نفسه‪ ،‬أو مما وقع لغريه‪،‬‬
‫قصاص ذوو‬
‫و ح ّدثه به الثقات‪ ،‬و هذه الواقعية قد أبعدت عن رسالته حكايات األمسار اليت أدارها ّ‬
‫الرتدي يف املبالغات‪ ،‬ألن غايتها‬
‫اخليال‪ ،‬وأنقذت رسالته من اجلنوح إىل اخلياالت مثلما أنقذهتا من ّ‬
‫تصور لقارئها كيف يعيش احلب يف الواقع‪،‬و يف الواقع األندلسي بشكل خاص‪ ،‬و هذه النزعة‬
‫هي أن ّ‬

‫(‪ )1‬حامد طاهر‪ ،‬منهج النقد التاريخي عند ابن حزم‪-‬نموذج من نقد التوراة‪-‬ص ‪.431 -418‬‬

‫‪73‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫القائمة على التجريب تعين أن الرسالة ليست ذات غايات أخالقية أبدا‪ ،‬و كل ما حيميها من‬
‫التهاوي يف بعض الفجاجات الواقعية‪ ،‬إمنا هي أخالقية كاتبها‪ ،‬اليت أكيد سيكون هلا أثر واضح يف‬
‫الرسالة‪،‬و ملا كان احلديث املتصل بالواقع قد يتناول أشخاصا أحياءً‪ ،‬أو أشخاصا ذوي مقام‬
‫اجتماعي مرموق‪ ،‬فإن ذكر أمساءهم متصال بتلك األحداث قد يسيء إىل مسعتهم‪ ،‬أو يُع ّد تشهريا‬
‫هبم‪ ،‬و هلذا اقتصر ذكر األمساء على من ال ضرر يف تسميتهم‪ ،‬إما ألن احلادثة مشهورة قد تناقلها‬
‫الناس‪ ،‬وعرفوا صاحبها‪ ،‬فلم يعد ذكر امسه زائد يف جلب األذى لسمعته‪ ،‬و خاصة إذا كان هؤالء‬
‫الناس قد أصبحوا يف ذمة التاريخ‪ ،‬كما أن "ابن حزم" كان خيفي امسه أحيانا‪ ،‬لتتم له الرواية على وجه‬
‫مقبول‪ ،‬حلساسية خاصة يف طبيعة القصة‪ ،‬كما التزم يف استشهاده بأشعاره هو‪ ،‬ال بأشعار غريه ألنّه‬
‫اعتقد بأنه لو استشهد بأشعار غريه البتعد عن الواقع واستسلم للخيال‪ ،‬و هذا االلتزام مرتبط بطبيعة‬
‫املؤلف ال بطبيعة الرسالة‪.‬‬
‫و بعد التقيّد هبذه االلتزامات أصبح وضع منهج الرسالة أقرب إىل التحقيق و البد لذلك‬
‫فقسم ابن حزم رسالته إىل ثالثة فصول و‬
‫املنهج من أن يكون دقيقا قائما على تصور واضح مكتمل‪ّ ،‬‬
‫خامتة‪ :‬فصل يف أصول احلب‪ ،‬و هي عشرة‪ ،‬و فصل يف أعراض احلب و هي اثنا عشرة‪ ،‬و فصل يف‬
‫اآلفات الداخلة على احلب وهي جتيء يف ستة أبواب‪ ،‬ثالثة منها لألشخاص‪ :‬العاذل‪ ،‬الرقيب و‬
‫السلو‪ ،‬و خامتة من فصلني‪:‬يف قبح املعصية و فضل‬
‫الواشي‪ ،‬و ثالثة لألحوال‪:‬وهي اهلجر‪ ،‬البني و ّ‬
‫التع ّفف‪.1‬‬
‫و قد حتّم عليه هذا املنهج املنطقي‪ ،‬أن يستبعد موضوعات تتصل باحلب‪ ،‬أو جيعلها هامشية‪،‬‬
‫ومع أنّه حت ّدث عن هذه املوضوعات‪ ،‬إال أنّه رآها تفريعا على مواضيع أكرب منها‪ ،‬فجعل البكاء من‬
‫عالمات احلب‪ ،‬وملح للعتاب يف مواطن معينة‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪ 1‬ينظر ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.57-52‬‬

‫‪75‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫"خلق" و لكنّه قد يتح ّدث‬


‫فابن حزم إذن ال ميكن أن يفرد للغرية بابا يف رسالة عن احلب‪ ،‬ألهنا ُ‬
‫احلب‪.‬‬
‫عنها يف معرض احلديث عن ظواهر معينة من ّ‬
‫أ‪ -‬دواعي تأليف الرسالة‪:‬‬
‫رسالة" طوق احلمامة" بدأت تسلية لصديق ذي ُوٍّد صحيح البن حزم كان يستوطن"املرية"‪،‬‬
‫سره ابن حزم‪ ،‬يسأله يف كتاب زادت معاينة على ما يف سائر كتبه من‬
‫فكتب إىل صديقه و موضع ّ‬
‫قبل‪ ،‬رأيه يف هذا الذي نشب فيه‪ ،‬و يتح ّدث إليه حبديث احلب‪ ،‬و يسأله أن يطب له‪ ...‬و فيما‬
‫رده يسافر من املرية إىل شاطبة ليلقى صاحبه‬
‫ابن حزم يقلّب وجوه الرأي إذا بصديقه‪ ،‬و قد استبطأ ّ‬
‫ابتلي به صديقه‪،‬‬
‫ابتلي مبثل ما ّ‬
‫يبث إليه ما يف نفسه‪ ...‬فال جيد ابن حزم خريا من قصص من ّ‬ ‫و ّ‬
‫يسلّيه عما أملّ به‪ ،‬ويضرب له املثل باألئمة الراشدين و اخللفاء املهديني‪ ،‬و يذ ّكره مبا عرفه من‬
‫أحاديث العشاق احملبني يف قرطبة وغريها‪ ،‬بل يق ّدم له نفسه منوذجا عجيبا لتصاريف احلب و شؤونه‪.‬‬
‫إذن هناك صديق كلّف ابن حزم أن يؤلف"رسالة يف صفة احلب و معانيه وأعراضه‪ ،‬و أسبابه‪،‬‬
‫وما يقع فيه و له على سبيل احلقيقة"‪ ...‬و ما كانت تسلية الصديق إال انقداح الشرارة األوىل‪،‬اليت‬
‫بعثت املاضي كلّه حيا يف نفسه؛ فانتقل األمر من تسلية الصديق إىل تعزية النفس‪ ،‬فكان يرحيه أن‬
‫يعود إىل املاضي‪،‬ألنه ال ميثّل املاضي و حسب‪ ،‬بل ميثّل اجملد و اجلاه و الغىن‪ ،‬و الراحة و احلياة‬
‫الرغيدة‪ ،‬و هلو أيام الصبا‪ ،‬و لذة احملادثة مع اإلخوان‪ ،‬قبل أن يغريهم الزمان؛ فاستغل الفرصة لكي‬
‫خيلّد فرتة الشباب و الصبا يف كتاب‪ ،‬و هو قد عرف الناس و َخبَـَر نفسياهتم‪ ،‬و أدرك مدى سيطرة‬
‫احلب على نفوسهم‪ ،‬فليس هو و صديقه اثنني من أولئك الناس و حسب‪ ،‬يرضيهما أن يكونا يف‬
‫تعرضا له‪ ،‬بل إ ّن ابن حزم ينفرد عن صديقه مث عن سائر الناس‬
‫انسجام مع مناذج عديدة تعرضت ملا ّ‬
‫بأنّه يستطيع أن يستوعب تلك التجارب‪ ،‬و أن ُخيضعها للدراسة و التحليل‪ ،‬ليتجاوز هبا تسلية‬
‫صديقه و تعزية ذاته‪ ،‬فتصبح رصدا حلركات النفوس و طبيعة العالقات العاطفية و االجتماعية‪ ،‬أي‬
‫أحس أنّه قادر على أن يقوم بدور السيكولوجي‬
‫أ ّن ابن حزم من خالل تلك النماذج و التجارب‪ّ ،‬‬
‫التعمق يف الدراسة‪ ،‬جرأة على "االعرتاف" و تلك ميزة و‬
‫االجتماعي‪ ،‬و ذلك كلّه يتطلب إىل جانب ّ‬
‫ص هبا ابن حزم‪.‬‬
‫تلك ميزة ُخ ّ‬

‫‪74‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫و من حاله‪ ،‬و حال صديقه‪ ،‬و حال قرطبة‪ ،‬وجد "ابن حزم" احلوافز قوية لكتابة هذه الرسالة‪،‬‬
‫أحس أنه يريد أن يق ّدم جتربة أو صورة أندلسية خالصة‪ ،‬و لعل هذا الذي دعاه أن يقول وهو‬ ‫و ّ‬
‫حيدد برناجمه يف التأليف‪ ،‬يقول " و دعين من أخبار األعراب و املتقدمني فسبيلهم غري سبيلنا"‪ .‬فابن‬
‫حزم كان خري مثرة لتلك احلركة الثقافية‪ ،‬اليت حاول هبا احلكم املستنصر بلورة الشخصية األندلسية يف‬
‫مجيع اجملاالت الثقافية و احلضارية‪ ،‬و لذلك كان لألندلس يف نفسه وجودها احملدد‪ ،‬و طبيعتها‬
‫املشخصة‪ ،‬و قد أمدته ثقافته بكثري من جتارب احلب يف املشرق‪.1‬‬
‫ب ‪-‬طوق الحمامة‬
‫ب‪1-‬سبب التسمية‪:‬‬
‫إن الطوق للحمامة زينة منحت هلا بدعاء "نوح عليه السالم "‪ ،‬حني أرسلها لتستكشف‬
‫املدى الذي سرتسو عنده سفينته‪ ،‬فطوق احلمامة هنا كناية عن استلهام اجلمال الذي هو مثار‬
‫احلب‪ ،‬أعين مجال الطوق ألنه حلية متميزة‪ ،‬عن سائر لون احلمامة‪ ،‬و"اجلمال و التميز"‪ ،‬هو سر‬
‫هذه التسمية‪ ،‬و يف هذا يقول ابن حزم "هذا كتاب يتح ّدث عن العالقة السريّة بني اجلمال و احلب‪،‬‬
‫أو هذا كتاب من الكتب كطوق احلمامة بالنسبة للحمامة"‪ ،‬و يقول الثعاليب‪ ":‬إن احلمامة إمنا‬
‫أُعطيت طوقها من "حسن الداللة و الطاعة" فأضيف إىل اجلمال و التميّز عنصر الطاعة‪ ،‬و هو‬
‫عنصر هام يف مفهوم اجلب‪.‬‬
‫‪-‬ومع أن ابن حزم يقول يف رسالته‪":‬و كلفتين‪-‬أعزك اهلل‪ -‬أن أصنّف لك رسالة يف صفة احلب‪،‬‬
‫و أسبابه و أعراضه‪ ،‬و ما يقع فيه‪ ،‬و له على سبيل احلقيقة‪ ،‬فإن العنوان الذي اختاره لرسالته هو‪":‬‬
‫ف"يعين أنّه جتاوز يف رسالته ما كلّفه به صديقه ألن " األلفة" كلمة أعم من "احلب"‬
‫األال ّ‬
‫يف األلفة و ّ‬

‫‪1‬ينظرابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.32-38‬‬

‫‪77‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫و هي ناضرة إىل احلديث الشريف يف األرواح ‪":‬فما توافق منها ائتلف"؛ و بسبب هذه العمومية جنده‬
‫أحيانا خيرج يف أمثلتبه اليت يوردها عن دائرة العشق‪.‬‬
‫ب‪2 -‬تاريخ تأليف الرسالة‪:‬‬
‫ُكتبت الرسالة يف "شاطبة"‪ ،‬و الب ّد أن يكون ذلك قد مت يف وقت ما بني سنيت (‪381‬هـ‬
‫‪381‬هـ)‪ ،‬و مما يزيد األمر حتديدا قول "ابن حزم" يف "حكم بن املنذر بن سعيد‬
‫كف بصره و أسن جدا"‪،‬‬
‫البلوطي"‪":‬و حكم املذكور يف احلياة حني كتابيت إليك هبذه الرسالة‪ ،‬قد ّ‬
‫و قد ذكر "ابن بشكوال نقال عن ابن مدير" أن وفاة "حكم" كانت يف حنو عشرين و أبعمائة‪ ،‬و‬
‫هذا يعين أن وفاته متت يف(‪)388-381‬هـ‪ ،‬أو أوائل سنة عشرين و أربعمائة‪.‬‬
‫و قد ذكر اسم الرسالة و نسبتها إىل ابن حزم يف "روضة احملبني" "البن قيم اجلوزية"‪ ،‬و إذا كان‬
‫التاريخ الذي ق ّدر لتأليف الرسالة صوابا أو قريبا من الصواب‪ ،‬فإن ابن حزم عندما كتبها كان يف‬
‫حدود الرابعة و الثالثني من عمره‪ ،‬و كان قد حصل ضروبا من الثقافات كالفقه و احلديث‪ ،‬و املنطق‬
‫و الفلسفة و النجوم‪،‬و شهر بقوة عارضته يف اجلدل‪،‬و بالتفنن يف ضروب حمتلفة من الشعر‪.1‬‬
‫و لكن منهج "ابن حزم" على منطقيته‪ ،‬بل بسبب منها‪ ،‬مل يستطع أن يتالىف التداخل و‬
‫كيف ميكن ذلك يف موضوع عاطفي مثل احلب‪ ،‬تولته املصطلحات اللغوية املتداخلة املتقاربة‬
‫بالتحديد‪ ،‬قبل أن حياول العقل رسم حدود له‪ ،‬و هلذا أمكن احلديث عن امللل و اهلجر و الغدر‪،‬‬
‫وما أشبه يف غري موطن واحد من طوق احلمامة ‪ ،‬و لكن الذي خيفف من التكرار و التداخل أن‬
‫ابن حزم مل يكن غافال عنه‪ ،‬بل كان وعيه الدقيق للمبىن الكلّي مسيطرا يف كل مرحلة‪.‬‬
‫ب‪4-‬بين النظرية و التطبيق‪:‬‬

‫‪ 1‬ينظر ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪،‬ص‪.39-34‬‬

‫‪78‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫كانت البداية مصدر اضطراب لدى ابن حزم‪ ،‬فبعد أن أك ّد أن انقسام النفوس يتم يف هذه‬
‫اخلليقة‪ ،‬عاد يقول قوله املسطّر يف صدر الرسالة هو "إن احلب اتصال بني النفوس املتشاكلة‪ ،‬و أنّه‬
‫أحب امرؤ صورة ناقصة؛ و عاد فيما بعد خيربنا أن‬
‫ليس استحسانا جسديا و لو كان كذلك ملا ّ‬
‫احلب يقع يف األكثر على الصورة احلسنة ألن النفس احلسنة تولع بكل شيء حسن و متيل إىل‬
‫صحت احملبة‪ ،‬و هذا‬
‫التصاوير املتقنة‪ ،‬فإذا وجدت وراء الصورة اجلسدية احلسنة مشاكلة اتصلت و ّ‬
‫يعين أن احلب يبدأ باستحسان الصورة اجلسدية احلسنة‪،‬و أن حمبة الصورة الناقصة‪ ،‬أمر نادر‪.‬‬
‫و هذا الفهم يؤكد البن حزم أن احلب عملية تتطلب زمنا متطاوال‪،‬و تكرارا يف إيقاظ نفس‬
‫الصنو‪ ،‬فأما ما يتم بسرعة من جراء االستحسان اجلدي‪ ،‬أو ما يسمى احلب من النظرة األوىل فذلك‬
‫هو الشهوة‪ ،‬و هلذا التجاذب بني الصنوين ال يصح أن حيب املرء اثنني يف آن معا‪،‬و لكن الشهوة‬
‫نفسها قد تتحول إىل حب‪ ،‬إذا زادت عن ح ّد الرضى اجلسدي‪ ،‬واجتمعت تلك الزيادة مع اتصال‬
‫نفساين تشرتك فيه الطبائع مع النفس؛ إذن فنحن إزاء نظريتني يف احلب‪ ،‬ال نظرية واحدة و قد لفهما‬
‫ابن حزم لفا سريعا‪ ،‬و كأهنما ظاهرة واحدة و كأن احدامها تكمل األخرى؛ و الواقع أن هناك حبا‬
‫بني نفسني‪ ،‬وهو حب علوي‪ ،‬ال مدخل فيه لالستحسان اجلسدي‪ ،‬و هناك حب يبدأ باالستحسان‬
‫اجلسدي‪ ،‬و هو شهوة‪ ،‬مث تصعد الشهوة بالرضى اجلنسي أو ما أشبه لدى احملب و احملبوب‪.‬‬
‫و ابن حزم نفسه الذي يسمى عشقا عن سائر ضروب احملبة‪-‬عند ابن حزم‪ -‬بأنه ال يفىن إال‬
‫‪1‬‬
‫باملوت‪ ،‬بينما تنقضي ضروب احملبة األخرى بانقضاء عللها‬
‫و يف هذا يأخذ "ابن حزم" بنظرة املؤرخ االجتماعي‪ ،‬دون أن يتخلى عن ح ّد هام يف املوقف‬
‫الديين‪ ،‬و هو البعد عن الكبرية‪ ،‬و ما عداها فقد يكون من اللمم الذي يشمله الغفران و لوال‬
‫الفصل‪ ،‬الذي عقده ابن حزم عن " قبح املعصية" ملا اضطر إىل أن يظهر مبظهر املتناقض أحيانا يف‬
‫رسالته‪ ،‬فهي رسالة ترصد العالقات العاطفية و املواقف النفسية‪.‬‬

‫‪ 1‬ينظر ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪،‬ص‪.41-58‬‬

‫‪79‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫و قد رصد "إحسان عباس"ظاهرة احلب كما تتمثل يف اجملتمع األندلسي باجلدول اآليت‪:‬‬
‫‪ .8‬حب بني ذكر و أنثى‪:‬أربعون حالة (منها ست حاالت تعد املرأة فيها طالبة‪،‬و منها احدى‬
‫عشر حالة تتح ّدث عن زوج و زوجته)‪.‬‬
‫احملب و احملبوب‪،‬‬
‫‪ .2‬حب بني ذكر و ذكر‪ :‬سبع حاالت ( ثالث حاالت منها ذُكر فيها ّ‬
‫احملب فقط‪ ،‬وحالتان أُهبم فيهما اسم احملب و احملبوب‪.‬‬
‫وحالتان ذكر فيهما ّ‬
‫‪ .4‬حاالت مبهمة‪ :‬و هي ثالث و عشرون حالة‪.‬‬

‫ب ‪3-‬صورة ابن حزم في الطوق‪:‬‬


‫لقد كان لصلة ابن حزم بالنساء منذ الطفولة حىت الصبا‪ ،‬عن طريق املعاشرة و الثقافة أثر كبري‬
‫يف ذوقه و شخصيته‪ ،‬كما أكسبته تلك العشرة حمبة االنفراد بالعطف‪ ،‬فنشأ شديد الغرية‪ ،‬و اكتسب‬
‫من البيئة اليت ساعد عليها ذوق والده‪ ،‬يف حمبة الشقراوات‪ ،‬و قد أرهفت تلك البيئة البيتية إحساسه‬
‫كل حسن الئح‪ ،‬أن احملبة البد من أن‬
‫جبمال األنثى‪ ،‬و علمته التجارب األوىل يف تنقل امليل مع ّ‬
‫تكون خلقة جمبولة يف فطرة اإلنسان‪ ،‬و لعله‪ -‬صونا لذلك التعفف‪ -‬تزوج "نعما" يف سن مبكرة‪ ،‬و‬
‫كانت أمنية املتبىن و غاية احلسن َخلقاً و ُخلقاً‪ ،‬و كان هو أبا عذرها‪ ،‬فكان فقدها فاجعا ألنه أبرز‬
‫إىل العيان ما انطوت عليه نفسه من ح ّدة رومنطقية كامنة‪ ،‬كان يداريها من قبل باالستحسان و‬
‫األلفة و التودد‪ ،‬فلم تعد هذه كافية لص ّد تيار احلزن اجلارف املتدفق من نفسه‪ ،‬فقد أقام بعدها سبعة‬
‫أشهر دون أن يغتسل‪ ،‬و هو آخذ يف بكاء متواصل؛ و مما يزيد يف األمل الناشئ عنه اقرتانه بعزة‬
‫حتمل الضيم من الصديق‪ ،‬و عزة النفس ال تقر على الضيم‪ ،‬و من صراعهما‬
‫النفس‪ ،‬فالوفاء يتطلب ّ‬
‫التصرب و حتمل األمل املمض‪ ،‬و كل هذا حيمل على اكتنان مقت‬
‫يتولد قهر الذات و محلها على ّ‬
‫شديد للغدر و الكذب و التلون‪ ،‬و ذلك أيضا مبعث أمل آخر‪ ،‬و قد يسامح "ابن حزم" يف كل‬
‫عيب جيده يف من حوله من معارفه و أصدقائه إال يف الكذب‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫فحينئذ يكون هو البادي إىل القطيعة و املتاركة‪ ،‬و كأنّه يقول‪ :‬إن وفائي يضيق عن الكذب‬
‫مهما انبسط نطاقه و اتساعه‪ ،‬و بقيت تلك " احلدة الرومنطقية" يف معايشة املاضي حمور شخصية‬
‫"ابن حزم" حىت بعد سنوات من كتابة الطوق‪.1‬‬
‫و أما الغرية و سوء الظن املتأتيان من جتاربه مع اجلواري‪،‬فقد ظال يالزمانه‪ ،‬أما الغرية و األنفة‬
‫الشديدة فقد محلته على بغضه النكاح احلرم مجلة‪ ،‬و أما سوء الظن فإنه امتد حىت مشل الرجال‪ ،‬و‬
‫قد ظل يراه حزما ما مل خيرج عن حدود الدين – و اهتم ابن حزم‪ -‬بأنه مذل بأسرار إخوانه‪ ،‬و لعل‬
‫يف هذا إشارة إىل كتاب الطوق نفسه‪ ،‬إذ كشف فيه أسرار كثريين ممن عرفهم‪ ،‬و كان الناس يف أيامه‬
‫يعرفوهنم حىت و إن مل يذكر أمساءهم‪ ،‬كما اهتموه بأنه يسمع الذم يف إخوانه‪ ،‬وال ميتعض هلم‪ ،‬و يرد‬
‫حيمل الذام على الندم و االعتذار و اخلجل‪،‬و أ ُِخ َذ عليه‬
‫على هذه التهمة بأنه ميتعض امتعاضا رقيقا‪ّ ،‬‬
‫أنه متلف ملا له‪ ،‬و البد أن تكون هذه التهمة بعد إذ أصبح يستطيع احلصول على مال ميكن التوفري‬
‫فيه‪ ،‬و هذه احلال غري مستنكرة يف من عاىن شظف العيش بعد استقرار و رفاهية‪ ،‬و لكن "ابن حزم"‬
‫يعتذر عنها بأنه ال يتلف من ماله إال ما فيه حفظ دينه من النقص و عرضه من االخالق‪ ،‬و نفسه‬
‫من التعب‪ ،‬و كأين به يقر بتلك اخلصلة على حنو غري مباشر‪.‬‬
‫كما خيربنا "ابن حزم" خبصلة كانت فيه‪ ،‬و هي دعابة غالبة‪ ،‬و تلك صفة حاول فيها‬
‫االعتدال بتجنّب ما يغضب املمازح‪ ،‬و قد حنمل عليه ثالثة مواقف يف الطوق‪:‬‬

‫‪ ‬أوهلا‪ :‬أن ابن حزم توقف يف موقف جاد ليقول لنا إن أحد املنتسبني إىل العلم ‪ّ :‬‬
‫فسر القبقب‬
‫بأنه البطيخ‪ ،‬و هذا قد أضحك ابن حزم‪.‬‬
‫‪ ‬و الثاين‪:‬تلك الروح الفضولية اليت دفعته‪ ،‬و هو يف جملس رأى فيه غمزا و خلوات أن ينبّه‬
‫صاحب املنزل بإنشاد بيتني من الشعر‪ ،‬نوعا من التن ّذر‪ ،‬و لكنه وجد تنذره ال يؤثر يف ذلك‬
‫البليد‪.‬‬

‫‪ 1‬ينظر ابن حزم‪،‬الرسائل‪،‬ص‪.74-73‬‬

‫‪81‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫‪ ‬و الثالث‪ :‬حني دعا أحدهم حمبا كان متأنسا فرحا جبلوسه مع حمبوبه ليحضر إىل منزله‪،‬فلم‬
‫يفعل‪ ،‬فلما قابله الداعي بعد مدة المه بشدة‪ ،‬فقال له "ابن حزم" أنا أكشف عذره‬
‫صحيحا من كتاب اهلل عزوجل إذ يقول‪ ":‬ما أخلفنا موعدك مبلكنا و لكنا محلنا أوزاراً من‬
‫زينة القول"‪ ،‬و هي دعابة هلا معىن عميق‪.1‬‬
‫ج‪-‬رسالة في مدواة النفوس‬
‫تبدو هذه الرسالة نوعا من املذكرات و اخلواطر‪ ،‬و هي حصيلة التجربة املتدرجة‪ ،‬و لعل أكثرها‬
‫إمنا دون يف سن كبرية‪ ،‬ألهنا تشري إىل اهلدوء و النضج يف حماكمة الناس و األشياء‪ ،‬و متثل مفارقة و‬
‫تكملة لطوق احلمامة‪ ،‬و خروجا على بعض األحكام اليت جاءت يف الطوق أو تطويرا هلا؛ففي هذه‬
‫الرسالة يق ّدم ابن حزم نظرته يف احلياة على حنو فلسفي أو فكري؛ و يف نظره فإن احلياة االجتماعية‬
‫تقوم على حمور واحد‪ ،‬أحد طرفيه موجب والثاين سالب‪ ،‬أما الطرف املوجب فامسه " الطمع" و معناه‬
‫هبذا التعميم‪ :‬احملرك أو الدافع الداخلي الذي يوجه الفرد حنو هذا الشيء أو ذاك؛ فالطمع أصل يف‬
‫كل املظاهر االجتماعية اليت نراها من حب و طموح و حياة مادية و غري ذلك؛ فاحلب مثال إذا ما‬
‫فسر على مبدأ الطمع‪ ،‬و جدنا للحب أنواعا ختتلف ظاهريا و لكن أصلها واحد هو " الطمع فيما‬
‫ّ‬
‫ميكن نيله من احملبوب"‪ ،‬و معىن ذلك أن هذه الظاهرة اإلنسانية اليت تسمى "احلب" ليس هلا وجود‬
‫إجيايب –يف نظر ابن حزم‪ -‬إال عندما يدفعها الطمع إىل الوجود فتوجد و تتشكل و تصبح فعالة يف‬

‫‪ 1‬ينظر ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪،‬ص ‪.78-73‬‬

‫‪82‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫حياة صاحبها؛ و ال يقتصر الطمع على توجيه احلياة االجتماعية حنو اخلري‪ ،‬بل هو سبب للشر‪ ،‬ألنه‬
‫يفضل نفسه على نفوس اآلخرين يف‬
‫هو الذي حيرك يف األفراد األنانية العمياء فيجعل بعض الناس ّ‬
‫سبيل ما حيدوه من الطمع‪.‬‬
‫فإذا كان الطمع هبذه القوة يف حياة األفراد فمن الطبيعي أن ينشأ عنه "اهلم" و هو الظرف‬
‫السالب يف حمور احلياة االجتماعية‪.‬‬
‫و يصف " ابن حزم" مجيع أدوار احلياة و مظاهرها بأهنا حماولة لطرد اهلم‪ ،‬وأن الناس مجيعا يتفقون‬
‫يف هذه الغاية سواء يف ذلك املتدين و من ال دين له‪ ،‬واخلامل و الزاهد و الفيلسوف العازف عن‬
‫اللذات و غريهم‪.‬‬
‫أما الشيء الذي يقتلع اهلم من جذوره دون أن يثري بني عناصر اجملتمع مها جديدا فهو التوجه‬
‫إىل اهلل تعاىل‪ ،‬فتلك هي الغاية السليمة اليت ميكن أن يسعى إليها الفرد مطمئنا‪.1‬‬
‫و ابن حزم يؤمن بقوة الطمع يف تكبري جانب الشر يف احلياة ‪،‬و من مث آمن بأن اهلم دائما‬
‫شر‪ ،‬و يف هذا يقرتب "ابن حزم" يف بعض نظراته االجتماعية من رجال املدرسة النفسية‪ ،‬فنظرية‬
‫"الطمع" تشبه إىل حد كبري ما يقال عن الغرائز و أثرها‪ ،‬بل اختاذ اسم واحد للدوافع يف نفس الفرد‬
‫يقرتب من رأي "فرويد" يف حصره مجيع الطاقات الغريزية يف اإلنسان حتت اسم " لبيدو" و اختاذه‬
‫غريزة اجلنس ممثلة لكل الطاقات و القوى‪.‬أما طرد اهلم فيمكن أن يشمل ما يسمى يف علم النفس‬
‫اجلماعي"‪ "،‬الصراع النفسي و االجتماعي" و هذان النوعان من الصراع قد حيتوي أحدمها اآلخر‪ ،‬و‬
‫قد يستقل عنه‪ ،‬و لكن يف الربط بني طرد اهلم و فكرة التوجه إىل اهلل يقرتب ابن حزم من فكرة "‬
‫الصراع االجتماعي" الذي يتمثل يف توجيه الرغبات الدنيوية حنو غاية مثالية‪.‬‬

‫‪1‬ينظر ابن حزم ‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.327-325‬‬

‫‪83‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫إ ّن بعض اآلراء االجتماعية اليت أوردها "ابن حزم" قريبة إىل نفوسنا ألننا نشعر أن ابن حزم‬
‫يتح ّدث عن مشكالتنا احلاضرة وهو يقول‪ :‬أشد األشياء على الناس اخلوف و اهلم و املرض و الفقر‪،‬‬
‫وحنن أيضا نعجب إعجابا بالغا بنفاذ نظرته يف اجملموعة البشرية وشؤوهنا‪.‬‬
‫و إذا كان البن حزم نظرات اجتماعية صادقة أو فلسفة أخالقية موضحة احلدود فال بد أن‬
‫تدرس هذه النواحي عنده يف ظل فكرته الدينية‪ ،‬فهي اليت كانت توجهه و تأخذ بيده يف كل سبيل‪،‬‬
‫و إن مل خيل من تأثر عام ببعض مبادئ الفلسفة األخالقية عند أفالطون و أرسطو طاليس كمحاولته‬
‫يفسر قيام الفضائل على أربعة عناصر و هي العدل و الفهم والنجدة و اجلود و هذا يذكرنا برأي‬
‫أن ّ‬
‫أفالطون‪ ،‬كما يذكرنا مبدأ التوسط بني طرفني بتعريف الفضيلة عند أرسطو طاليس؛ و الشك أن‬
‫كثريا من حماكمات ابن حزم تظهر تأثره بالفلسفة و املنطق‪ ،‬و هو الشيء الذي عابه به خصومه و‬
‫شنعوا عليه بسببه‪.‬‬
‫وقد نبهت هذه املذكرات إىل أن "ابن حزم" رمبا كان من أولئك الرواد الذين مهدوا " البن‬
‫خلدون" طريقة لوضع علم االجتماع‪ ،‬و يف مقارنة بني الرجلني وجد اتفاقهما على أن التاريخ علم‬
‫‪1‬‬
‫شريف الغاية " ألنه يوفقنا على أحوال املاضني من األمم يف أخالقهم و األنبياء يف سريهم ‪"...‬‬
‫و يف هذه الرسالة توقف " ابن حزم" عند درج احملبة‪ ،‬و هو موضوع مل يتح له منهجه يف الطوق‬
‫أن يعاجله‪ ،‬فقال‪ ":‬درج احملبة مخسة أوهلا االستحسان و هو أن يتمثّل الناظر صورة املنظور إليه حسنة‬
‫أو يستحسن أخالقه‪،‬وهذا يدخل يف باب التصادق‪ ،‬مث اإلعجاب وهو رغبة الناظر يف املنظور إليه يف‬
‫قربه‪ ،‬مث األلفة وهي الوحشة إليه مىت غاب‪ ،‬مث الكلف وهو غلبة شغل البال به‪ ،‬و هذا النوع يسمى‬
‫يف باب الغزل بالعشق‪ ،‬مث الشغف وهو امتناع النوم و األكل و الشرب إال اليسري من ذلك و رمبا‬
‫أدى ذلك إىل املرض أو التوسوس أو إىل املوت‪ ،‬و ليس وراء هذا منزلة يف تناهي احلب أصال؛ و‬
‫احلق أ ّن هذا التدرج أمر ضمين يف تلك الفصول اليت حت ّدث فيها "ابن حزم" عن التعريض مث‬

‫‪ 1‬ينظر ابن حزم ‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.331-327‬‬

‫‪83‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫لتعرض‬
‫اإلشارة بالعني مث املراسلة مث إرسال سفري‪ ،‬مث يف املوت‪ ،‬فلو أفرد احلديث عن درج احملبة هناك ّ‬
‫بعض أجزاء رسالته للتكرار و التداخل‪.‬‬
‫مث قال ‪ :‬إن احملبة ليست ضروبا و إمنا هي جنس واحد‪ ،‬و إمنا ق ّدر الناس أهنا ختتلف الختالف‬
‫األغراض‪ ،‬و اختالف األغراض فيها ناشئ عن اختالف األطماع‪ ،‬و عُ ّد هنالك ضروبا منها مث‬
‫قال‪":‬فهذا كلّه جنس واحد على قدر الطمع فيما ينال"‪.1‬‬
‫د‪-‬رسالة في الغناء الملهي أمباح هو أم محظور‬
‫إ ّن رسالة ابن حزم يف "الغناء امللهي أمباح هو أم حمظور"‪،‬جتيء يف سلسلة طويلة من‬
‫املؤلفات اليت كتبت قبلها و بعدها‪ ،‬و هي على بساطتها تع ّد ذات قيمة هامة يف فتح الباب أمام‬
‫توهني األحاديث اليت وردت يف ذم الغناء و النهي عنه‪.‬‬
‫و لكن الشيء الذي يستوقف النظر هو افرتاق املتمسكني باحلديث أنفسهم يف فريقني‪ :‬فريق يربز‬
‫دور األحاديث اليت تنحو حنو حترمي السماع‪ ،‬و فريق ثان يربز هذه األحاديث نفسها و يضعفها و‬
‫يتشبّث بأحاديث أخرى‪.‬‬
‫و ال يدعنا ابن حزم يف حرية حول أي أنواع الغناء يعين‪ ،‬فهو و أن مل يطنب يف القول‪ ،‬قد و‬
‫صف الغناء بأنّه ُم ْله‪ ،‬و أنّه مصاحب بالعود‪ ،‬و بأنّه يسمع من القينة‪ ،‬و معىن ذلك أنّه يرى كل‬
‫مراحل الغناء حالال ابتداء من احلداء و النصب حىت الغناء املتقن الذي يقوم على النشيد و البسيط‬
‫و اهلزج‪ ،‬أو ما يسمى "النوبة" ذات األدوار الثالثة‪،‬وال ميكن أن نعرف كيف كان يتجه "ابن حزم" يف‬
‫هذه القضية لو عرف ارتباط السماع بالتصوف‪ ،‬و ارتباطهما بالرقص‪ ،‬هل كان موقفه يقرتب من‬
‫موقف "ابن القيسراين" أو من موقف "ابن اجلوزي"و"ابن تيمية" و "ابن القيم"‪.2‬‬

‫‪ 1‬ينظر ابن حزم ‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.42-57‬‬


‫‪ 2‬ينظر ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪،‬ص ‪.329-328‬‬

‫‪85‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫اثنا عشر‪ :‬السياق التاريخي في رسائل ابن حزم‪:‬‬


‫أما عن السياق التارخيي يف رسائل ابن حزم فقد اكتفى يف "طوق احلمامة" بذكر بعض‬
‫الشخصيات التارخيية‪ ،‬اليت كان له شرف لقائها‪ ،‬أو اليت مسع عنها من الثقاة‪ ،‬أو اليت قرأ عنها وحبث‬
‫عن أصوهلا من مثل قوله‪" :‬أدركت سعيدا هذا وقد قتله الرببر يوم دخوهلم قرطبة عنوة وانتهاهبم إياها‪،‬‬
‫وحكم املذكور أخوه هو رأس املعتزلة باألندلس وكبريهم وأستاذهم‪ ،‬ومتكلمهم وناسكهم‪ ،‬وهو مع‬
‫الرد‬
‫ذلك شاعر طيّب وفقيه‪ ،‬وكان أخوه عبد امللك بن منذر متهما هبذا املذهب أيضا‪ ،‬ويل خطة ّ‬
‫أيام احلكم رضي اهلل عنه‪ ،‬وهو الذي صلبه املنصور ابن أيب عامر إذ اهتمه هو ومجاعة من الفقهاء‬
‫والقضاة بقرطبة أهنم يبايعون سراً عبد الرمحن بن عبيد اهلل ابن أمري املؤمنني الناصر رضي اهلل عنهم‪،‬‬
‫ف َقتَ َل عبد الرمحن وصلب عبد امللك بن منذر وب ّدد مشل من اهتم‪ .‬وكان أبوهم قاضي القضاة منذر بن‬
‫(‪)1‬‬
‫سعيد متهماً مبذهب االعتزال أيضا‪"...‬‬
‫وسعيد هذا الذي يتح ّدث عنه ابن حزم‪ ،‬هو "سعيد بن منذر بن سعيد البلوطي‪ ،‬وكان خطيبا‪،‬‬
‫بليغا‪ ،‬ذكيا‪ ،‬نبيها‪ ،‬قُتل كما قال ابن حزم يوم تغلّب الربابرة على قرطبة‪ ،‬يف السادس من شوال من‬
‫سنة ‪ 383‬هجري‪ .‬وهذا ما ذكره أيضا صاحب الصلة(‪.)2‬وثاين الشخصيات املذكورة فهو حكم أبو‬
‫‪328‬‬ ‫العاصي‪ ،‬وهو أخو سعيد وكان من أهل األدب والذكاء‪ ،‬تويف مبدينة سامل حنو سنة‬

‫(‪-)1‬ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.157‬‬


‫(‪-)2‬ابن باشكوال‪ ،‬الصلة‪ ،‬دار الكتاب للطباعة و النشر و التوزيع‪ ،1989 ،‬ص‪.288‬‬

‫‪84‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫الرد والذي حلقته هتمة إتباعه املذهب املعتزيل‪،‬‬


‫ويل خطة ّ‬
‫هجري ‪.‬أما أخوه عبد امللك أبو مروان‪ّ ،‬‬
‫(‪)1‬‬

‫فصلِب على باب س ّدة السلطان‪ ،‬وهو الباب الرئيسي لقصر اخلالفة بقرطبة سنة ‪348‬هـ‪ ،‬وهو يف‬
‫ُ‬
‫حدود األربعني من عمره(‪ .)2‬ووالد هؤالء مجيعا هو منذر بن سعيد البلوطي من أبرز فقهاء عصره‪،‬‬
‫فن‬
‫بكل ّ‬
‫وتوىل قضاء اجلماعة بقرطبة‪ ،‬وكان أخطب الناس وأعلمهم ّ‬ ‫ومييل إىل مذهب الظاهر‪ّ ،‬‬
‫الرد‪ ،‬تويف سنة ‪ 355‬هجري‪.‬‬
‫وأروعهم وأكثرهم هزال ودعابة ‪ ،‬وله كتب كثرية يف الفقه والقرآن و ّ‬
‫(‪)3‬‬

‫ومن الشخصيات اليت ذكرها أيضا‪ ،‬صديقه "أبو املطرف" وهومن أقرب الناس إىل ابن حزم‬
‫ويسمى "عبد الرمحن بن أمحد بن بشر" قاضي اجلماعة بقرطبة‪.‬‬
‫ومن الشخوص اليت قرأ عنها دون أن يلتقي هبا ملوك السودان حيث يقول‪ " :‬وقرأت يف سري‬
‫عليهن ضريبةً من غزل الصوف يشتغلن هبا‬
‫ّ‬ ‫ملوك السودان أن امللك منهم يوكل ثقةً له بنسائه يُلقي‬
‫حتن إىل النكاح‪".‬‬
‫(‪)4‬‬
‫تتشوف إىل الرجال‪ ،‬و ّ‬
‫بد الدهر‪ ،‬ألهنم يقولون‪ :‬إن املرأة إذا بقيت بغري ُشغل إمنا ّ‬
‫أَ‬
‫وهذه قصة تارخيية عن ملوك السودان الذين كانوا يشغلون نسائهم بغزل الصوف حىت ال يطلنب‬
‫النكاح‪.‬‬
‫وأما عن متام السند فيذكر لنا ابن حزم قول أحد احلكماء‪" :‬آخ من شئت واجتنب ثالثة‪ :‬األمحق‬
‫فيضرك‪ ،‬وامللول فإنه أوثق ما تكون به لطول الصحبة وتأكدها خيذلك‪ ،‬والك ّذاب‬
‫فإنه يريد أن ينفعك ّ‬
‫فإنّه جيين عليك آمن ما كنت فيه من حيث ال تشعر" وابن حزم يقول‪" :‬حدثنا أبو عمر أمحد بن‬
‫حممد عن حممد بن عيسى بن رفاعة عن علي بن عبد العزيز عن أيب عبيد القاسم بن سالّم عن‬
‫شيوخه‪ ،‬واآلخر منهما موصول مسند إىل عمر بن اخلطاب وابنه عبد اهلل رضي اهلل عنهما عن‬

‫(‪- )1‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.134‬‬


‫(‪-)2‬ابن البار‪ ،‬الحلّة السيراء‪ ،‬ج‪ ،1‬تح‪ ،‬حسين مؤنس‪ ،‬القاهرة‪ ،1943 ،‬ص‪.288 ،279‬‬
‫(‪- )3‬الحميدي‪ ،‬جذوة المقتبس‪ ،‬تح محمد بن تاويت الطنجي‪ ،‬القاهرة‪ ،1952 ،‬ص ‪.324‬‬
‫(‪- )4‬ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.144‬‬

‫‪87‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬حسن العهد من اإلميان"‪ ،‬وعنه عليه السالم‪ " :‬ال يؤمن الرجل‬
‫باإلميان كله حىت يدع الكذب يف املزاح"(‪.)1‬‬
‫السند‪:‬‬ ‫‪‬‬

‫‪ -‬أمحد بن حممد بن أمحد‪ ،‬املعروف بابن اجلسور األموي‪ ،‬هو أول شيخ مسع عنه ابن حزم قبل سنة‬
‫‪ 388‬هـو تويف سنة ‪381‬هـ‪ ،‬وكان من أهل العلم متق ّدما يف الفهم حافظا للحديث والرأي‪.‬‬
‫‪ -‬حممد بن عيسى بن رفاعة‪ :‬هوا لقالس تويف سنة ‪337‬هـ‪.‬‬
‫كل بيت منه بقسيم من‬
‫ويف السياق نفسه يقول‪ " :‬قلت على سبيل املزاح شعرا بديهيا ختمت ّ‬
‫أول قصيدة طرفة بن العبد املعلقة‪ ،‬وهي اليت قرأناها مشروحة على أيب سعيد الفىت اجلعفري عن أيب‬
‫بكر املقرئ عن أيب جعفر النحاس‪ ،‬رمحهم اهلل‪ ،‬يف املسجد اجلامع بقرطبة‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫خلولَـ ـ ـ ـ ـ ـ ــة أطـ ـ ـ ـ ـ ـ ــالل بربق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِـة ثهم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِد‬ ‫ـذكرت ُوداً للحبيـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــب كأنّـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه‬
‫تـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫يل ــوح كب ــاقي الوش ــم يف ظ ــاهر الي ـ ِـد‬ ‫وعه ــدي بعه ــد ك ــان يل من ــه ثاب ــت‬
‫َ‬
‫وال آيس ـ ـ ـاً أَبك ـ ــي وأُبك ـ ــي إىل الغ ـ ـ ِـد‬ ‫ـت ب ـ ـ ـ ـ ــه ال موقن ـ ـ ـ ـ ـ ـاً برجوع ـ ـ ـ ـ ــه‬
‫وقف ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫َّ (‪)2‬‬
‫يقولـ ـ ــون ال هتلـ ـ ــك أسـ ـ ـ ًـى وجتلـ ـ ــد‬ ‫إىل أن أط ــال الن ــاس َع ـ ـ ْذيل وأكث ــروا‬
‫ويتمثل السياق التارخيي هنا يف استعانة ابن حزم مبعلّقة "طرفة بن العبد" وتوظيفه إياها يف أعجاز‬
‫أبيات شعرية من تأليفه‪ ،‬وهو تناص واضح‪ ،‬فاملعلقة كتبت يف العصر اجلاهلي‪ ،‬يف حني أبيات ابن‬
‫حزم كتبها يف القرن اخلامس اهلجري‪ .‬وهذا تأثر واضح البن حزم بطرفة بن العبد‪.‬‬
‫والسند هنا هو‪:‬‬ ‫‪‬‬

‫(‪-)1‬ابن حزم‪ ،‬الرسائل ‪ ،‬ص ‪.173‬‬


‫(‪-)2‬ابن حزم‪،‬الرسائل ‪ ،‬ص ‪.193‬‬

‫‪88‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫‪" -‬ابن النحاس" ألنه هو الذي نقل املعلقات إىل األندلسيني‪ ،‬وهو شارحها‪ .‬وهو بدوره أخذها عن‬
‫أيب بكر حممد بن علي األذفوي‪ ،‬وهو أخذها عن أيب سعيد خلف‪ ،‬موىل احلاجب جعفر‪ ،‬الفىت‬
‫املقرئ املعروف باجلعفري‪،‬‬
‫مفسرا مقرئا ثقة‪ ،‬وكان يتجر‬
‫‪ -‬أبوبكر األذفوي‪ :‬نسبة إىل أذفو بصعيد مصر‪ ،‬وقد كان حنويا ّ‬
‫باخلشب‪ ،‬وله كتاب يف تفسري القرآن من مائة وعشرين جملّدا‪ ،‬تويف مبصر سنة ‪ 388‬هجري(‪.)1‬‬
‫‪ -‬الفىت اجلعفري‪ :‬الذي سكن قرطبة‪ ،‬مث رحل إىل املشرق وسكن مكة‪ ،‬ولقي األذفوي مبصر وأخذ‬
‫‪325‬‬ ‫عن علماء القريوان‪ ،‬وقد خرج من قرطبة زمن الفتنة قاصدا طرطوشة اليت تويف هبا سنة‬
‫هجري‪ ،‬وكان من أهل القرآن والعلم‪ ،‬نبيال من أهل الفهم‪ ،‬مائال إىل الزهد واإلنقباض(‪.)2‬‬
‫ومن الشخصيات اليت ذكرها ابن حزم مادحا إياها يف أشعاره‪ :‬أبوبكر هشام بن حممد‪ ،‬أخو أمري‬
‫املؤمنني عبد الرمحن املرتضي‪ ،‬رمحه اهلل‪ ،‬وهو بذلك يذكر لنا حقبة تارخيية زمن إمارة املرتضي بقوله‪:‬‬
‫ب الصدر‬ ‫دنا وتناءى وهو يف ُح ُج ِ‬ ‫بكل ما‬
‫أليس حييط الروح فينا ّ‬
‫(‪)3‬‬
‫فاستقر‬
‫ُحميط مبا فيه وإ ْن شئت ْ‬ ‫كذا الدهر جسم وهو يف ال ّدهر‬
‫السند‪ :‬روحه‬ ‫‪‬‬
‫‪ -‬هشام بن حممد هو‪ :‬الذي اتفق أهل قرطبة على تقدميه لألمويني لرد اخلالفة إليهم وقد بايعوه‬
‫عليها سنة ‪318‬هـ‪ ،‬ولقبوه‪ " :‬املعتد باهلل"‪ ،‬ودخل قرطبة سنة ‪328‬هـ‪ ،‬ومل يبق إال يسريا حىت‬
‫قامت عليه فرقة من اجلند‪ ،‬فخلع‪ ،‬وانقطعت الدولة األموية واستوىل على أمر قرطبة أبو احلزم ابن‬
‫مجهور(‪.)4‬‬

‫(‪- )1‬ابن الجزري‪ ،‬غاية النهاية‪ ،‬ج‪ ،2‬تح ‪،‬برجشتراسر‪ ،‬القاهرة‪ ،1933 ،1932 ،‬ص ‪.198‬‬
‫(‪-)2‬ابن بشكوال‪ ،‬الصلة‪ ،‬ص ‪.143‬‬
‫(‪- )3‬ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.283‬‬
‫(‪-)4‬الحميدي‪ ،‬الجذوة‪ ،‬ص ‪.27 ،24‬‬

‫‪89‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫‪ -‬املرتضي عبد الرمحن بن حممد بن عبد اهلل بن الناصر‪ :‬قام سنة ‪387‬هـ‪ ،‬بشرق األندلس‪ ،‬والتف‬
‫حوله املوايل العامريون وغريهم وزحفوا إىل قرطبة وأمريها القاسم بن محود‪ ،‬ويف الطريق حاولوا‬
‫االستيالء على غرناطة‪ ،‬وفيها زاوي بن زيري‪ ،‬فاهنزم أتباع املرتضى وقتل هو(‪.)1‬‬
‫ويذكر لنا ابن حزم يف باب القنوع قصة تارخيية دينية‪ ،‬حدثت زمن النيب يعقوب عليه السالم‪:‬‬
‫يقول‪ " :‬ومن القنوع أن يسعد اإلنسان ويرضى ببعض أشياء حمبوبه‪ ،‬وإ ّن له مكانا يف النفس حسناً‬
‫وإن مل يكن فيه إالّ ملل‪َ ،‬م ُّن اهلل تعاىل علينا‪ ،‬من عودة البصر إىل يعقوب عندما وضع قميص‬
‫يوسف على عينه‪ ،‬عليهما السالم يقول‪:‬‬
‫إذ شـ ـ ـ ـ ـ ـ ّفه احل ـ ـ ـ ـ ــزن عل ـ ـ ـ ـ ــى يوس ـ ـ ـ ـ ــف‬ ‫ـيب اهل ـ ـ ـ ـ ـ ــدى‬
‫ـوب ن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ّ‬
‫ك ـ ـ ـ ـ ـ ــذاك يعق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ‬
‫(‪)2‬‬
‫وكـ ـ ـ ـ ــان مكفوفـ ـ ـ ـ ــا فمنـ ـ ـ ـ ــه شـ ـ ـ ـ ــفي‬ ‫ش ـ ـ ـ ـ ّـم قميص ـ ـ ـ ــا ج ـ ـ ـ ــاء م ـ ـ ـ ــن عن ـ ـ ـ ــده‬
‫وهذه قصة معروفة‪ ،‬مألوفة‪ ،‬ذكرت يف القرآن الكرمي تسمى قصة سيدنا يوسف عليه السالم‬
‫الذي فارق والده وهو صغري بعد أن اتفق إخوته على رميه يف اجلب‪ ،‬ومن شدة حزن يعقوب وبكائه‬
‫على فلذة كبده ابيضت عيناه‪ ،‬ولكن اهلل أراد اللقاء‪ ،‬فبعث يوسف بعد أن أصبح عزيز مصر‪،‬‬
‫بقميصه لنيب اهلل يعقوب فوضعه على عينيه‪ ،‬فارت ّد بصريا‪.‬‬
‫السري‬
‫ويف باب املوت من الطوق يذكر لنا ابن حزم رواية غريبة عجيبة يقول‪ " :‬ولقد ح ّدثين أبو ّ‬
‫عمن يثق به‪ :‬أن الكاتب ابن قزمان امتُ ِحن مبحبة أسلم (بن أمحد بن سعيد بن‬
‫عمار بن زياد صاحبنا ّ‬
‫قاضي اجلماعة أسلم) بن عبد العزيز أخي احلاجب هاشم بن عبد العزيز‪ .‬وكان أسلم غاية يف‬
‫اجلمال‪ ،‬حىت أضجره ملا به وأوقعه يف أسباب املنية‪ .‬وكان أسلم كثري اإلملام به والزيارة له وال علم له‬
‫(‪)3‬‬
‫بأنّه أصل دائه إىل أن تويف أسفاً ودنفاً‪".‬‬
‫السند‪:‬‬ ‫‪‬‬

‫(‪-)1‬ابن عذارى‪ ،‬البيان المغرب‪ ،‬ج‪ ،3‬تح كوالن و بروفنسال‪ ،‬ص ‪.124 ،121‬‬
‫(‪- )2‬ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.232‬‬
‫(‪ – )3‬ابن حزم‪،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.258‬‬

‫‪98‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫‪ -‬ابن قزمان الكاتب‪ :‬هو أمحد بن كليب النحوي‪ :‬أديب وشاعر مشهور الشعر‪ ،‬والسيما شعره يف‬
‫(‪)1‬‬
‫"أسلم" وكان قد أفرط يف حبّه حىت ّأداه ذلك إىل موته وتاريخ وفاته كان سنة ‪324‬هـ‪.‬‬
‫‪ -‬أسلم بن أمحد بن سعيد بن أسلم بن عبد العزيز‪ :‬ج ّده أسلم بن عبد العزيز كان قاضي اجلماعة‬
‫باألندلس‪ ،‬أيام عبد الرمحن الناصر‪ ،‬وتويف سنة ‪319‬هـ‪ ،‬وهذا اجل ّد هو أخو هاشم احلاجب‪ ،‬كان‬
‫له أدب وشعر‪ ،‬واشتهر بتأليفه ألغاين زرياب(‪.)2‬‬
‫‪ -‬والزيادة بين القوسين‪ :‬ضرورية وإالّ ذهب الظن بأن ابن كليب النحوي عشق أسلم قاضي اجلماعة‪،‬‬
‫واحلقيقة أنّه عشق أسلم احلفيد‪ ،‬والذي كان معاصرا حملمد بن حسن املذحجي‪ ،‬وهو أستاذ ابن‬
‫حزم يف الفلسفة‪.‬‬
‫‪ -‬هاشم بن عبد العزيز‪ :‬كان خاصا باألمري حممد بن عبد الرمحن يؤثره بالوزارة ويرشحه مع بنيه‬
‫ومفردا للقيادة واإلمارة‪ ،‬وكان ذا صفات محيدة من بأس وجود وفروسية وكتابة وشعر(‪.)3‬‬
‫ويف خامتة الرسالة حتدث ابن حزم عن حدث تارخيي‪ ،‬هو سقوط دولة بين مروان‪ ،‬وموت قائدها‪،‬‬
‫وقيام دولة بين محود‪ :‬يقول‪ " :‬فكنا على ذلك إىل أن انقطعت دولة بين مروان وقُتِل سليمان الظافر‬
‫أمري املؤمنني‪ ،‬وظهرت دولة الطالبية وبُويِع علي بن محود احلسين املسمى بالناصر باخلالفة‪ ،‬وتغلّب‬
‫(‪)4‬‬
‫على قرطبة ومتلّكها واستم ّد يف قتاله إياها جبيوش املتغلبني والثوار يف أقطار األندلس"‬
‫والوقائع املذكورة يف هذه الرواية تفيد بقيام الدولة الطالبية‪ ،‬وتارخييا مل تكن هناك دولة حتمل هذا‬
‫االسم يف األندلس‪ ،‬فما هي هذه الدولة؟‬
‫‪ ‬الدولة الطالبية‪ :‬هي دولة بين محود‪ ،‬نسبة إىل مؤسسها علي بن حممود احلسين‪ ،‬والذي اشتهر‬
‫بلقب "الناصر باخلالفة‪ ،‬وتويف سنة ‪388‬هـ(‪ ،)5‬ومسيت هذه الدولة بالطالبية نسبة إىل علي بن أيب‬
‫طالب‪.‬‬

‫(‪- )1‬الحميدي‪ ،‬الجذوة‪ ،‬ص ‪.133‬‬


‫(‪-)2‬المصدر نفسه ‪ ،‬ص ‪.142‬‬
‫(‪-)3‬ابن البار‪ ،‬الحلّة السيراء‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.137‬‬
‫(‪-)4‬ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.241‬‬
‫(‪- )5‬ابن عذارى‪ ،‬البيان المغرب‪ ،‬ج‪ ،3‬ص ‪.119‬‬

‫‪91‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫أما عن السياق التارخيي يف رسالة الغناء امللهي أمباح هو أم حمظور‪ ،‬فلم جيعلنا ابن حزم يف حرية‬
‫سل و ُمله‪ ،‬خاصة إذا‬
‫عن أي أنواع الغناء يتحدث‪ ،‬فهو وإن مل يُطل القول‪ ،‬قد وصف الغناء بأنّه ُم ّ‬
‫صاحب العود‪ُ ،‬مسع من اآللة‪.‬‬
‫مث أورد بعض األحاديث املانعة للغناء منها‪:‬‬
‫‪ -‬ما روى سعيد بن أيب رزين عن أخيه عن ليث بن أيب سليم عن عبد الرمحن بن سابط عن عائشة‬
‫حرم املغنية وبيعها ومثنها وتعليمها واالستماع‬
‫أم املؤمنني عن النيب عليه السالم أنّه قال‪" :‬إ ّن اهلل ّ‬
‫(‪)1‬‬
‫إليها"‬
‫وهذا احلديث مرفوض النقطاع السند‪ ،‬حيث‪:‬‬
‫‪ -‬فيه سعيد بن أيب رزين عن أخيه (ويف رواية‪ :‬عن أبيه) وكالمها جمهوالن‪ ،‬وال يعرف أحد من‬
‫مها(‪.)2‬‬
‫‪ -‬أما عبد الرمحن بن سابط فهو تابعي‪ ،‬كان ثقة‪ ،‬تويف سنة ‪118‬هـ(‪.)3‬‬
‫‪ -‬وروى الحق بن حسني بن عمر أن ابن أيب الورد املقدسي قال‪ :‬ثنا أبو املَر َّجى ضرار بن علي بن‬
‫ُ‬
‫عمري القاضي اجليالين‪ ،‬ثنا أمحد بن سعيد عن حممد بن كثري احلمصي ثنا فرج (بن) فضالة عن‬
‫حيي بن سعيد عن حممد بن احلنفية عن علي بن أيب طالب قال‪" :‬قال رسول اهلل إذا عملت أميت‬
‫حل هبا البالء‪ :‬إذا كان املال دوال واألمانة مغنما‪ ،‬والزكاة مغرما وأطاع الرجل‬
‫مخس عشرة خصلة ّ‬
‫عق ّأمه وجفا أباه‪ ،‬وارتفعت األصوات يف املساجد‪ ،‬وكان زعيم القوم أذهلم‪ ،‬وأُك ِرم‬ ‫زوجته‪ ،‬و ّ‬
‫شره‪ ،‬ولبست احلرير واختذت القينات واملعازف‪ ،‬و َلعن آخر هذه األمة أوهلا فليتوقعوا‬ ‫الرجل خمافة ّ‬
‫عند ذلك رحياً محراء ومسخاً وخسفاً"(‪.)4‬‬
‫وأما هذا احلديث فموضوع أيضا وذلك بسبب‪:‬‬

‫(‪-)1‬ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.338‬‬


‫(‪- )2‬ابن حجر العسقالني‪ ،‬لسان الميزان‪ ،‬تح حيدر أباد الدكن‪ ،1331 ،‬ص ‪.98‬‬
‫(‪- )3‬ابن حجر العسقالني‪ ،‬تهذيب التهذيب‪ ،‬ج‪ ،4‬تح حيدر أباد الدكن‪ ،1327 ،1325 ،‬ص ‪.188‬‬
‫(‪- )4‬ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.331 ،338‬‬

‫‪92‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫‪ -‬أ ّن مجيع من فيه إىل حيي بن سعيد ال يُدرى من هم‪ ،‬كما أ ّن حيي بن سعيد مل يروعن حممد ابن‬
‫احلنفية كلمةً‪ ،‬وال أدركه أصال(‪.)1‬‬
‫‪ -‬أما ابن أيب الورد املقدسي‪ :‬فهو عمران بن عبد اهلل(‪.)2‬‬
‫املرجى ضرار بن علي بن عمري القاضي اجليالين‪ :‬فهو جمهول‪ ،‬وقد حكى النبايت عن ابن حزم‬ ‫‪ -‬أبو ّ‬
‫(‪)3‬‬
‫أنّه قال ال يُدرى من هو‪ ،‬قال النبايت‪ ،‬هو كما قال‪.‬‬
‫‪ -‬وروى أبو عبيدة بن فضيل بن عيّاض ثنا أبوسعيد موىل بين هاشم هو عبد الرمحن بن عبد اهلل بن‬
‫عبد الرمحن بن العالء عن حممد بن املهاجر عن الكيسان موىل معاوية ثنا معاوية أن رسول اهلل‬
‫(صلى اهلل عليه وسلم) هنى عن تسع وأنا أهناكم عنهن‪ :‬أال إن منهن الغناء والنوح والتصاوير‬
‫(‪)4‬‬
‫والشعر والذهب وجلود السباع واخلز واحلرير‪".‬‬
‫وهذا موضوع بسبب أن‪:‬‬
‫سم وال يعرفه أحد‪ .‬وبذلك يكون السند مقطوعا‬ ‫‪ -‬حديث ابن مسعود رضي اهلل عنه فيه شيخ مل يُ َّ‬
‫فريفض احلديث ويُرد على قائله‪ ،‬وهذا ما فعله ابن حزم هبذا احلديث‪ ،‬على الرغم من معرفته ببعض‬
‫من ورد ذكرهم فيه‪ ،‬إالّ أن انقطاع السند بذكر شخصية غري معروفة ومل يتم ذكرها سابقا يف مصادر‬
‫العرب‪ ،‬جعله يرفض احلديث ويصفه باحلديث املوضوع وهذا راجع إىل متكنه من تطبيق املنهج‬
‫التارخيي‪.‬‬
‫‪ -‬ورابع األحاديث اليت رفضها ابن حزم بسبب انقطاع السند أو غموض قائله وعدم معرفته به ‪:‬‬
‫النفاق يف‬
‫َ‬ ‫بت‬
‫قول‪ " :‬سالّم بن مسكني عن شيخ شهد ابن مسعود‪ :‬يقول‪ " :‬الغناء ين ُ‬
‫القلب"(‪.)5‬‬
‫والسند مقطوع عند‪:‬‬

‫(‪– )1‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.333‬‬


‫(‪-)2‬ابن حجر العسقالني‪ ،‬لسان الميزان‪ ،‬ص ‪.1738‬‬
‫(‪- )3‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.913‬‬
‫(‪-)4‬ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.331‬‬
‫(‪-)5‬ابن حزم‪،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.331‬‬

‫‪93‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫‪ -‬مسكني‪ :‬وال يعلم من هو‪ ،‬فهو جمهول‪ ،‬ومل يتم ذكره من قبل يف مصادر العرب‪.‬‬
‫‪ -‬شيخ شهد ابن مسعود‪ :‬هو حممد بن مهاجر‪ ،‬وأحاديثه ضعيفة‪.‬‬
‫‪ -‬وفيه النهي عن الشعر‪ ،‬والشعر مباح‪.‬‬
‫ومن األحاديث املوضوعة أيضا يف نظر ابن حزم قول‪ " :‬عبد امللك بن حبيب ثنا عبد العزيز‬
‫األويسي عن إمساعيل بن عياش عن علي بن زيد عن القاسم عن أيب أمامة قال‪ :‬مسعت رسول اهلل‬
‫حيل تعليم املغنيات وال شراؤهن وال بيعهن وال اختاذهن‪ .‬ومثنهن حرام‪ ،‬وقد أنزل اهلل ذلك يف‬
‫يقول‪ " :‬ال ُّ‬
‫كتابه‪( :‬ومن الناس من يشرتي هلو احلديث لِي ِ‬
‫ض َّل عن سبيل اهلل بغري علم) سورة لقمان اآلية ‪ ،4‬والذي‬ ‫ُ‬
‫نفسي بيده ما رفع رجل عقريته بالغناء إال ارتدفه شيطانان يضربان بأرجلهما صدره وظهره حىت‬
‫(‪)1‬‬
‫يسكت‪".‬‬
‫السند‪:‬‬ ‫‪‬‬

‫‪ -‬عبد امللك بن حبيب‪ :‬تويف سنة ‪238‬هـ‪ ،‬قال ابن حجر‪ :‬وقد أفحش ابن حزم القول فيه ونسبه‬
‫إىل الكذب وتعقبه مجاعة بأنه مل يسبقه أحد إىل رميه بالكذب(‪.)2‬‬
‫‪ -‬األوسي‪ :‬هو عبد العزيز بن عبد اهلل بن حيي القرشي املدين الفقيه‪ ،‬روى عن عبد اهلل بن عمر‬
‫(‪)3‬‬
‫العمري‬
‫‪ -‬إمساعيل بن عياش‪ :‬تكلّم فيه قوم‪ ،‬ووثقه آخرون‪ ،‬وسئل عنه حيي بن معني فقال‪ :‬ليس به يف أهل‬
‫الشام بأس‪ ،‬والعراقيون يكرهون حديثه‪ ،‬وقال آخر‪ :‬وأما روايته عن أهل احلجاز فإن كتابه ضاع‬
‫فخلط يف حفظه عنهم‪.‬‬
‫(‪)4‬‬

‫(‪– )1‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.332‬‬


‫(‪-)2‬ابن حجر العسقالني‪ ،‬تهذيب التهذيب‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.734‬‬
‫(‪ – )3‬المرجع نفسه‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪.442‬‬
‫(‪ - )4‬ابن حزم‪ ،‬الرسائل ‪ ،‬ص ‪.58‬‬

‫‪93‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫أما حديث "عبد امللك بن حبيب عن األوسي عن عبد اهلل بن عمر بن حفص بن عاصم أ ّن‬
‫رسول اهلل قال‪" :‬إ ّن املغين أذنه بيد شيطان يرعشه حىت يسكت" فهو موضوع بسبب‪:‬‬
‫جل أحاديثه هالكة كما قال ابن حزم(‪.)1‬‬
‫‪ -‬عبد امللك بن حبيب‪ :‬بسبب أن ّ‬
‫‪ -‬األوسي‪ :‬سبق ذكره‪.‬‬
‫‪ -‬عبد اهلل بن عمر‪ :‬هو عبد اهلل بن عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنهما‪.‬‬
‫‪ -‬عمر بن حفص بن عاصم‪ :‬هو أمري املؤمنني عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫وقد رفض احلديث التايل للسبب نفسه الذي رفض به احلديث السابق‪ ،‬ألن راويهما واحد هو‪:‬‬
‫عبد امللك بن حبيب‪ .‬يروى عنه أنّه "ثىن ابن معني عن موسى بن أعني عن القاسم عن أيب أمامة أ ّن‬
‫أمثاهنن"(‪ .)2‬وهو يعرف عنه أنّه راو‬
‫بيعهن وأكل ّ‬
‫اءهن و ّ‬
‫حرم تعليم املغنيات وشر َّ‬
‫رسول اهلل قال‪ :‬إ ّن اهلل ّ‬
‫ضعيف ليس من الثقاة‪.‬‬
‫وذكر البخاري قال‪" :‬قال هشام بن عمار ثنا صدقة بن خالد ثنا عبد الرمحن بن يزيد بن جابر‬
‫ثنا عطية بن قيس الكالّيب ثنا عبد الرمحن بن غنم األشعري ثين أبو عمار أو أبو مالك األشعري (أنّه)‬
‫مسع النيب عليه السالم يقول‪ :‬ليكونن من أميت قوم يستحلون احلِّر واحلرير واخلمر واملعازف"(‪.)3‬‬
‫‪ -‬والسند هنا مشكوك فيه ألن الراوي مل يكن متيقنا ِم َن الذي مسع عن الرسول مباشرة‪ ،‬أبو عمار‬
‫بغض النظر‬
‫هو الذي مسع مباشرة عن رسول اهلل أم أبو مالك وهذا ال يقبل يف السند الصحيح‪ّ ،‬‬
‫عن بقية الرواة الوارد ذكرهم يف سند هذا احلديث‪.‬‬
‫‪ -‬كما أن هذا احلديث يف صحيح البخاري مل يرو مسندا وإمنا قال فيه‪ " :‬قال هشام بن عمار مث‬
‫هو إىل أيب عامر أو إىل أيب مالك‪ ،‬ومل يعرف من أبو عامر هذا(‪.)4‬‬

‫(‪-)1‬المصدر السابق ‪ ،‬ص ‪.333‬‬


‫(‪ - )2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.332‬‬
‫(‪ - )3‬ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.333 ،332‬‬
‫(‪ -)4‬القسطالني‪ ،‬إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري‪ ،‬ج‪ ،8‬تح‪ ،‬بوالق‪1383 ،‬هـ‪ ،‬ص ‪.318‬‬

‫‪95‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫كما "روى ابن شعبان ثىن إبراهيم بن عثمان بن سعيد ثىن أمحد بن الغمر بن أيب محّاد حبمص‬
‫ويزيد بن عبد الصمد قاال ثنا عبيد بن هاشم احلليب هو أبو نعيم‪ ،‬ثنا عبد اهلل بن املبارك عن مالك‬
‫ب يف أذنيه األُنك يوم‬
‫ص َّ‬
‫عن حممد بن املنكدر عن أنس قال‪ ،‬قال رسول اهلل‪ :‬من جلس إىل قينة ُ‬
‫القيامة"(‪.)1‬‬
‫السند‪:‬‬ ‫‪‬‬

‫‪ -‬والسند مقطوع يف بدايته‪ ،‬ألن أحاديث ابن شعبان كلّها هالكة وضعيفة(‪.)2‬‬
‫‪ -‬كما أن حديث أنس هذا مروي قبله يف السند عن اثنني جمهولني‪ ،‬ومل تتم روايته أبدا عن مالك‬
‫من أصحابه الثقات‪.‬‬
‫وهو ما ينطبق على احلديث التايل‪ " :‬و به إىل ابن شعبان ثين عمي ثنا أبو عبد اهلل الدوري ثنا‬
‫عبد اهلل القواريري ثنا عمران بن عبيد عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبري عن ابن عباس يف‬
‫ليضل عن سبيل اهلل) قال‪ :‬الغناء‪.‬‬
‫قول اهلل عز وجل (ومن الناس من يشرتي هلو احلديث ّ‬
‫السند‪:‬‬ ‫‪‬‬

‫‪ -‬احلديث راويه ابن شعبان وأحاديثه هالكة ومردودة عليه‪.‬‬


‫‪ -‬أبوعبد اهلل الدوري‪ :‬غري معروف وال يُدرى من هو‪ .‬ومل يسبق له أن روى حديثا قط‪.‬‬
‫‪ -‬وأما تفسري قوله عز وجل‪( :‬ومن الناس من يشرتي هلو احلديث) بأنّه الغناء فليس عن الرسول‬
‫صلى اهلل عليه و سلم‪ ،‬وال مسع من أحد من أصحابه‪ ،‬وإمنا هو حديث بعض املفسرين الذين ال‬
‫صح ملا كان فيه ُمتَـ َعلَّق‪،‬‬
‫حجة هلم‪ ،‬ومن كان هبذه الصفات فال جيوز احلكم به و قبوله‪ ،‬و لو ّ‬
‫كل شيء يُفعل ليضل به عن سبيل اهلل‪،‬‬
‫ضل عن سبيل اهلل) و ّ‬
‫ألن اهلل سبحانه و تعاىل يقول‪( :‬ليُ ّ‬
‫فهو إمث وحرام‪ ،‬حىت ولو كان شراء مصحف أو تعليم قرآن(‪،)3‬و كان ذلك ألغراض أخرى‪.‬‬

‫(‪ -)1‬ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.332‬‬


‫(‪ - )2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.333‬‬
‫(‪ - )3‬ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.335‬‬

‫‪94‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫أما حديث "ابن أيب شيبة أبوبكر عن زيد بن احلباب عن معاوية بن صاحل عن حامت بن حريث‬
‫عن ابن أيب مرمي قال‪ :‬جاءنا عبد الرمحن بن غنم فقال‪ :‬أنبأنا أبو مالك األشعري أنّه مسع رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه و سلم يقول‪ :‬يشرب أناس من أميت اخلمر يسموهنا بغري امسها‪ ،‬تضرب على رؤوسهم‬
‫املعازف والقينات خيسف اهلل هبم األرض‪ )1(".‬فهو موضوع بسبب‪:‬‬
‫‪ -‬حديث معاوية بن صاحل ضعيف‪ :‬و يعتقد أنّه مسع معاوية مبكة ألن معاوية أندلسي‬
‫‪ -‬مالك بن أيب مرمي‪ ،‬جمهول وغري معروف‪ ،‬ووافق ابن الذهيب يف هذا ابن حزم ‪ ،‬فقال حني سئل‬
‫عنه‪ :‬ال يعرف‪.‬‬
‫وآخر األحاديث املوضوعة يف حترمي الغناء يف هذه الرسالة هو‪:‬‬
‫و قول فيه‪ " :‬أ ّن اهلل تعاىل هنى عن صوت النائحة‪ ،‬وصوت املغنية‪،‬ألهنما صوتان ملعونان(‪.)2‬‬
‫كل ما يف هذا الباب مجلة وتفصيال‪.‬‬
‫مبا أنّه ال يدري من روى هذا احلديث‪ ،‬يسقط بذلك ّ‬
‫وخالصة القول إن النقد التارخيي يف نظر ابن حزم يعتمد على عناصر عديدة مستلة أساسا من‬
‫علماء احلديث و منهجهم‪ ،‬خاصة ما يتعلق بأصل الرواية ونقد السند‪.‬‬
‫ويع ّد ما قام به ابن حزم يف هذا اجملال خطوة هامة يف حتليل املضمون‪ ،‬وبظروف العصر الذي‬
‫كتبت فيه الرواية‪.‬‬
‫كما مجع بني نقد املنت و نقد السند‪ ،‬و استعان يف هذا ببعض العلوم اليت ساعدته على بلورة‬
‫حبثه‪.‬‬
‫وما حيسب البن حزم قياسه املاضي على احلاضر يف جمال التاريخ‪ ،‬وهذا ما جعل تطبيقه ملنهج‬
‫نقد النصوص صحيحا ونتائجه مقبولة إىل يومنا‪.‬‬

‫(‪ -)1‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.333‬‬


‫(‪ - )2‬ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.333‬‬

‫‪97‬‬
‫الفصل الثالث‪:‬‬
‫صورة السياق الثقافي في‬
‫رسائل ابن حزم األندلسي‪.‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫تمهــيــــد‪:‬‬

‫سجال لتارخيها املطّرد‪ ،‬ومعرضا لبيئاهتا املختلفة‪ ،‬يستحيل‬


‫يع ّد األدب صورة للحياة اإلنسانية‪ ،‬و ّ‬
‫باستحالتها‪ ،‬وتنطبع فيه آثار عقائدها الدينية‪ ،‬ومظاهر حضارهتا السياسية والعلمية والفنية حىت يعود‬
‫حكاية ألطوارها‪ ،‬ومرجعا ملاضيها‪ ،‬فكان لزاما علينا أن نتحرى عن أسباب تغري احلياة‪ ،‬ونشوء‬
‫أطوارها املتعاقبة‪ ،‬فيؤدي ذلك إىل تغري األدب وتغري أطواره وتارخيه‪ ،‬تبعا لذلك؛ لكننا وجدنا أهنا‬
‫أسباب عديدة ولكنها مرتبطة كلها بسبب رئيسي واحد هو "البيئة"‪ ،‬أو "اهليئة االجتماعية"‪ ،‬واليت‬
‫تطبع كل ما يتصل هبا بطابعها اخلاص‪ ،‬فيكون بذلك األدب الذي يصورها تارخيها الصادق‪ ،‬يدوهنا‬
‫يف مجيع حاالهتا‪ ،‬هادئة مستقرة‪ ،‬أو ثائرة مضطربة‪ ،‬تنزع إىل املثل العليا والصاحلة‪ ،‬أو ترتدى يف مهاوي‬
‫الذلة واالحنطاط‪ ،‬ألن أي أثر يف احلياة سيبدو جليا يف أدهبا‪ ،‬ألن األدب ترمجاهنا الدقيق العميق‪،‬‬
‫وتارخيها الصحيح‪ ،‬ومستقبلها اجملهول‪.‬‬
‫فاألدب إذن يعرب عن احلياة بأحواهلا االجتماعية‪ ،‬وآثارها يف نفوس األفراد‪ ،‬ومن هنا اختلفت‬
‫اآلداب باختالف األقاليم‪ ،‬فإذا انتقل الشعب إىل بيئة أخرى ختالف بيئته األوىل‪ ،‬وقضى فيها مدة‬
‫كافية‪ ،‬تغريت كثري من نظم حياته ومالبساهتا فيأخذ يف تصويرها بأدب آخر خيتلف عن السابق‪،‬‬
‫مبقدار ما حدث يف حياته من استحالة وتغيري‪ ،‬فلما زايل العرب بالدهم إىل غريها كالشام والعراق‬
‫ومصر واألندلس وخضعوا ملؤثرات طبيعية جديدة ووقعت أبصارهم ووقعت أبصارهم على مشاهد‬
‫أخرى‪ ،‬تأثر األدب عامة فَال َن أسلوبه‪ ،‬وجتددت أخيلته‪ ،‬واتسعت أغراضه ومعانيه‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫وتعين "‬ ‫و)‪(con‬‬ ‫ويعين "النص"‬ ‫(‪(text‬‬ ‫ومصطلح السياق يتكون يف اللغة األجنبية من مقطعني‬
‫املشاركة"‪ ،‬أي وجود أمور مشرتكة تعمل على توضيح النص‪،‬و إزالة إهبامه‪ ،‬وهي فكرة تتخللها أموراً‬
‫أخرى خارج النص كالبنية احمليطة‪ ،‬واليت ميكن اعتبارها جسر بني النص واحلل (‪.)1‬‬
‫أوال‪ :‬عالقة المنهج االجتماعي بالمنهج التاريخي‪:‬‬
‫إن الفصل بني النقد االجتماعي والنقد التارخيي يف دراسة األدب أمر صعب جداً‪ ،‬إذ مها معا‬
‫يعنيان ارتباط األدب واألديب باحلياة يف حاالهتا كافة‪ ،‬وبظروفها السياسية واالجتماعية واالقتصادية‪،‬‬
‫وخصائص البيئة اجلغرافية واملعيشية وسرية األديب وحياته العامة واخلاصة وما تقلب فيه من أحداث‬
‫وظروف ومالبسات‪ ،‬وحنو ذلك‪.‬‬
‫ولد النقد االجتماعي يف أحضان النقد التارخيي‪ ،‬عند أنصار فكرة تارخيية األدب وارتباطها بتطور‬
‫اجملتمعات‪ ،‬فمنهم من اعتربه جزء من النقد التارخيي‪ ،‬ألن التاريخ السياسي واالجتماعي ضرورية‬
‫حتمية لفهم األدب‪ ،‬وتفسريه‪ ،‬واحلكم عليه‪ ،‬وهذا يعين أن املنطق كان هو املؤسس الفعلي للمنهج‬
‫االجتماعي‪ ،‬عرب ظريف الزمان واملكان‪ ،‬وهو منهج متصل باألدب و طبقات اجملتمع املختلفة‪ ،‬فيصبح‬
‫بذلك األدب ناقال للحياة االجتماعية على املستوى اجلماعي ‪ ،‬باعتبار أن اجملتمع هو املنتج املنطقي‬
‫للنصوص األدبية‪ ،‬إىل جانب حضور املتلقي يف ذهن املؤلف وهو سببه و هدفه يف آن واحد‪.‬‬
‫وهناك اتفاق كبري على أن البدايات األوىل للنقد االجتماعي يف دراسة األدب ونقده برزت مع "‬
‫مدام دوستايل "من خالل كتاهبا "األدب يف عالقته باألنظمة االجتماعية" متبنية فيه فكرة أن األدب‬
‫تعبري عن اجملتمع‪ ،‬ومع الناقد "هيبوليت تني" من خالل كتابه‪ " :‬تاريخ األدب وحتليله" الذي طبق‬
‫فيه املنهج االجتماعي‪.‬‬
‫إال أن هناك من يفرق بني املنهجني معتربين أن الدرس األديب إذا درس األعمال الرتاثية كان‬
‫(‪)2‬‬
‫تارخييا‪ ،‬وإذا تناول النصوص األدبية احلديثة كان نقدا اجتماعيا‬

‫‪ )1(-‬فطومة لحمادي‪ ،‬السياق و النص‪ ،‬استقصاء دور السياق في تحقيق التماسك النصي‪ ،‬جامعة محمد‬
‫خيضر‪ ،‬بسكرة‪ ،‬الجزائر‪ ،‬العدد ‪ 2‬و‪ ،3‬جانفي‪ ،‬جوان ‪ ،2888‬ص ‪.272-233‬‬
‫(‪ -)2‬وليد قصاب‪ ،‬مناهج النقد األدبي الحديث‪ ،‬ص ‪.34‬‬

‫‪188‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫أن االجتاه االجتماعي يف النقد و األدب ‪ ،‬قد ذاع أمره‪ ،‬وانتشر صيته يف ميدان الدراسات‬
‫االجتماعية‪ ،‬وصار قوي احلضور فيها‪ ،‬بسبب زيادة الوعي بأمهية املكانة االجتماعية والتارخيية‬
‫لألدب‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬تعريف المنهج االجتماعي‪:‬‬
‫املنهج االجتماعي من املناهج األساسية و اهلامة يف الدراسات النقدية و األدبية‪ ،‬حيث ولد و‬
‫ترعرع يف أحضان املنهج التارخيي‪ ،‬وانبثق عنه‪ ،‬وأخذ املنطلقات األوىل منه(‪)1‬؛ فإذا كان علم‬
‫االجتماع األديب يبحث يف أشكال النشاط املتبادل بني كل األفراد الذين ينتمون إىل عامل األدب‪،‬‬
‫فإن النقد االجتماعي يثبت كيف أن الكتابة حدث ذو طبيعة اجتماعية و يفسر ذلك نوعيا(‪.)2‬‬
‫نعرب يف األدب عن املنهج االجتماعي بذاك املنهج التقليدي الذي يبحث يف األعمال الفنية‬
‫وحيلل النصوص اإلبداعية من منظور اجتماعي‪ ،‬و هذا يعين أنّه يتعامل مع الظاهرة الفنية األدبية‬
‫باعتبارها حالة اجتماعية‪ ،‬و يسعى هذا االجتاه النقدي التقليدي إىل بيان الصلة بني النص واجملتمع‬
‫الذي نشأ فيه‪،‬حماوال ربطهما ببعضها وتأثري كل منهما يف اآلخر‪.‬‬
‫وتنطلق فكرة املنهج االجتماعي يف رأي "باربريس" من النظرية اليت تنظر إىل األدب على أنّه‬
‫ظاهرة اجتماعية‪ ،‬وأن املبدع ال ينتج أدبا لنفسه وإمنا يكتبه جملتمعه منذ تفكريه يف الكتابة وإىل أن‬
‫وهذا يعين أن الكاتب ميارس الظاهرة االجتماعية كلما أراد الكتابة‪ ،‬فهو‬ ‫(‪)3‬‬
‫ميارسها وينتهي منها‬
‫يتأثر كل التأثّر ببيئته االجتماعية ويظهر ذلك جليا يف كتاباته ويف أدبه‪ ،‬ويتغري أسلوبه يف الكتابة‬
‫بتغري الظروف االجتماعية ألن اجملتمع هو املنتج األساسي والفعلي هلذه النصوص اإلبداعية و‬
‫األعمال الفنية (‪ )4‬ألنه يدفعه إىل اخللق اإلبداعي والفين‪ ،‬ويف األخري ما يسعنا إال القول أن "األدب‬

‫(‪ -)1‬صالح فضل‪ ،‬في النقد األدبي‪ ،‬منشورات اتحاد الكتاب العرب‪ ،‬دمشق‪ ،‬سورياط‪ ،2887 ،1‬ص ‪.27‬‬
‫(‪ -)2‬أنريك أنبرسونإمبرت‪ ،‬مناهج النقد األدبي‪ ،‬ص‪.117‬‬
‫(‪ -)3‬بسام قطوس‪ ،‬مدخل إلى مناهج النقد المعاصر‪ ،‬دار الوفاء لدنيا للطباعة و النشر‪ ،‬اإلسكندرية‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪ ،2884‬ص‪.45‬‬
‫(‪ -)4‬صالح فضل‪ ،‬مناهج النقد المعاصر‪ ،‬افريقيا الشرق‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪ ،2884 ،1‬ص‪.38‬‬

‫‪181‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫كل أزمنته‪ ،‬وبفضله نتعرف عن باقي‬


‫يعرب عنه يف مجيع حاالته ويف ّ‬ ‫تعبري عن اجملتمع" فهو ّ‬
‫(‪)1‬‬

‫اجملتمعات وعن آداهبا‪ ،‬وبفضله نعرف طريقة تفكريها وأسلوهبا يف احلياة‪.‬‬


‫واملنهج االجتماعي منهج يـُ ْعىن بدراسة اجملتمع‪ ،‬ويهتم باألعمال األدبية اليت تنقل صورة اجملتمع‪،‬‬
‫طوره‪ ،‬ويع ّد هذا املنهج املنبع األصلي للنظرية الواقعية‪ ،‬وقد بدأ تطبيقه يف‬‫شره وتدعوا إىل ت ّ‬
‫خبريه و ّ‬
‫كتاب " مدام دوستايل" حني تناول األدب يف عالقته باملؤسسات االجتماعية الذي صدر يف األعوام‬
‫(‪)2‬‬
‫األوىل من القرن التاسع عشر‬
‫ويعد "باختني" أول املؤسسني لعلم اجتماع النص األديب و علم اجتماع الشكل األديب‪ ،‬وقد تناول‬
‫"باختني" أثناء دراسته لنظرية االنعكاس املباشر‪ ،‬واليت كانت رائجة يف الثالثينات يف االحتاد‬
‫يعرب‬
‫السوفيايت‪ ،‬وأ ّكد أن األدب االجتماعي ليس انعكاسا مباشرا للمجتمع بقدر ما يكون فنا ّ‬
‫اجتماعيا عما هو خارج الوعي الفردي‪،‬و مرتبطا به‪ ،‬وأن الوعي الذايت‪-‬الفردي‪ -‬ال يتحقق إال من‬
‫خالل الوعي اجلماعي‪ -‬ومنه ميكن القول أ ّن "باختني" أدرك أمهية الرواية كإبداع أديب و عمل فين‬
‫ندرك من خالله فئات اجملتمع الدنيا‪ ،‬وهو ما جعله يرى قيمة األشكال الشعبية والدونية كمادة خام‬
‫توضح قواعد الصراع املتغلغل يف اجملتمع(‪.)3‬‬
‫إذن يرتبط املنهج االجتماعي ارتباطا وثيقا باجملتمع وما حيدث فيه من متغريات تثري األدب‬
‫وتنوعه‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬مفهوم السياق االجتماعي ومبادئه‪:‬‬
‫أ‪ -‬المفهوم‪:‬‬

‫(‪ -)1‬رينيه ويليك‪ ،‬نظرية األدب‪ ،‬ترجمة عادل سالمة‪ ،‬دار المريخ للنشر‪ ،‬الرياض‪ ،‬السعودية‪ ،‬ط ‪،1992‬‬
‫ص ‪.132‬‬
‫(‪ -)2‬سامي فضل بوزيد‪ ،‬تذوق النص األدبي‪ ،‬دار المسيرة للنشر و التوزيع‪ ،‬ط‪ ،2812 ،1‬ص‪.37‬‬
‫(‪ -)3‬ميخائيل باختين‪ ،‬الخطاب الروائي‪ ،‬ترجمة محمد برادة‪ ،‬دار الفكر للدراسات و النشر و التوزيع‪،‬‬
‫القاهرة‪ ،‬ط‪ ،1987 ،1‬ص‪.39‬‬

‫‪182‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫إن اجملتمع يشكل إطارا للغة حبيث تنطبع بطابعه‪ ،‬ويتوقف فهمها على اإلحاطة بظروفه‪ ،‬وهذا‬
‫اإلطار هوما يعرف بالسياق االجتماعي(‪ )1‬ونقصد به كافة العناصر املرتبطة باجملتمع وثقافته‪ ،‬والنظام‬
‫االجتماعي العام السائد فيه‪ ،‬وهو أيضا‪ ،‬البيئة االجتماعية‪ ،‬ومتغريات البناء االجتماعي‪ ،‬وعناصر‬
‫الثقافة‪ ،‬والنظم االجتماعية‪ ،‬والرتكيب الثقايف مبعىن‪ :‬كل مكونات اجملتمع من عادات وتقاليد‬
‫وثقافات‪...‬اخل‪.‬‬
‫ومبا أن املبدع على صلة دائمة مبجتمعه‪ ،‬فإنه يقدم ما هم يف حاجة إليه مع وجود تفاوت يف‬
‫األذواق واملدلول مع تطور الزمن؛ وتعاقب العصور‪ ،‬يقول "ابن رشيق"‪ :‬ختتلف املقامات باختالف‬
‫األزمنة والبلدان فيحسن يف زمن ما ال حيسن يف زمن آخر‪ ،‬ويستحسن عند أمة ما ال يستحسن عند‬
‫ُستُحدث فيه‪ ،‬وكثر استعماله عند أصحابه بعد أن‬ ‫غريها‪ ،‬وجند حذاق الشعراء يقابل كل وقت مبا أ ْ‬
‫خترج من حسن االستواء‪ ،‬و َح ِد االعتدال ومجال الصنعة‪ ،‬ورمبا استخدمت أمة ألفاظا ال تستعمل كثريا‬
‫يف غريها (‪.)2‬‬
‫بتغري األزمنة وبتغري األشخاص والبيئة‪ ،‬فقد نستحسن أمرا يف زماننا‪ ،‬كان‬ ‫إذا تتغري األذواق ّ‬
‫عرب عنه ابن رشيق يف املقولة السابقة‪.‬‬
‫أجدادنا يف زمن سابق ال حيبذونه‪ ،‬وهذا ما ّ‬
‫أما "دوركامي" فيؤكد أن معىن املوضوعات ال يشتق من خصائص أساسية وإمنا من كوهنا رموزا‬
‫إلظهار مجعية اجملتمع‪ ،‬ومنه فسبب السلوك ال يكمن يف ذاته أو ذات اإلنسان‪ ،‬إمنا يف السياق‬
‫االجتماعي‪ ،‬ومن مثة فتفسري وجوده ينبغي أن يكون بالنظر إىل الوظيفة اليت يؤديها‪ ،‬أو الغاية اليت‬
‫يهدف إىل حتقيقها‪ ،‬ويف إطار ذلك يؤكد "دوركامي" أنه حينما حناول حتديد السبب األساسي وراءها‪،‬‬
‫فإننا ينبغي أن نتعرف على الوظيفة اليت تنجزها‪ ،‬وإذا كنا قد قلنا أن العامل احملتم لوجود حقيقة‬
‫اجتماعية ينبغي أن نبحث عنه يف احلقائق االجتماعية السابقة عليها(‪.)3‬‬

‫(‪ -)1‬المهدي إبراهيم الغويل‪ ،‬السياق وأثره في المعنى‪ ،‬دراسة أسلوبية‪ ،‬ص ‪.137‬‬
‫(‪ -)2‬ابن رشيق القيرواني‪ ،‬العمدة في محاسن الشعر وآدابه‪ ،‬الجزء ‪ ،1‬ص ‪.39‬‬
‫(‪-)3‬علي محمود أبو ليلة‪ ،‬بناء النظرية االجتماعية (دراسة عالقة اإلنسان بالمجتمع‪ ،‬األنساق الكالسيكية)‬
‫دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،1991 ،3‬ص‪.279-272‬‬

‫‪183‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫والسياق االجتماعي عند " دوركامي" ال يتكون من فرد وآخر فقط‪ ،‬كما هي احلال بالنسبة‬
‫لتكوين السياق االجتماعي عند باقي املنظرين‪ ،‬أما عنده فيتكون من اجملتمع أوما يدعى بالضمري‬
‫اجلمعي‪ ،‬الذي قد يكون هو اآلخر أو يتضمن اآلخر‪ ،‬مث اإلنسان الفرد‪ ،‬مث البناء املعياري‪ ،‬والسلوك‬
‫التنظيمي واألدايت‪ ،‬أي الذي يؤديه اإلنسان هبدف حتقيق غاية حمددة‪.‬‬
‫وحيتوي السياق االجتماعي عند " دوركامي" على جمموعة من الشروط اليت تعين فاعليتها حرمان‬
‫السلوك من أية إرادة قد تكون لإلنسان‪ ،‬بالنظر إىل ذلك جند أن " دوركامي" يضع ثالثة أنواع من‬
‫الشروط اليت ينبثق بعضها من بناء الشخصية حيث الوراثة كشرط أو عامل لضبط السلوك يف اجملال‬
‫االجتماعي‪ ،‬أما البعض اآلخر فينبثق بعضها ينطلق من البيئة االجتماعية‪ ،‬واآلخر من البيئة الطبيعية‪،‬‬
‫باإلضافة إىل ذلك النوع الثالث من الشروط الذي ينبثق أساسا من بناء الثقافة والقيم‪ ،‬حيث جند‬
‫(‪)1‬‬
‫العنصر املعياري كشرط ضابط للموقف األساسي‬
‫إذن البيئة االجتماعية والثقافية هلا دور هام يف ترسيخ القيم واألفكار العامة لدى األفراد‪ ،‬كما هلا‬
‫دور يف اختيار طرق التعبري والتفكري اخلاصة بكل فرد‪ ،‬وذلك حسب طبيعة تكوينه الثقايف‪ ،‬وهلذا فإن‬
‫مرده إىل‬
‫اإلبداع األديب خيضع هلذه احلقيقة‪ ،‬ألن تفاوت طرائق التعبري وتباين أفق اخليال بني املبدعني ُّ‬
‫التجارب الشخصية املكتسبة من البيئة‪ ،‬حيث تنعكس هذه التجارب واخلريات على جودة العمل‬
‫األديب‪.‬‬
‫"إن الظروف االجتماعية احمليطة بالنص األديب أمر ال ميكن جتاهله ألن األدب بطبيعته ال ميكن‬
‫أن يكون مبعزل عن احلياة االجتماعية‪ ،‬وما ينشأ فيها‬

‫(‪ -)1‬ينظر علي حممود أبو لبلة‪ ،‬بناء النظرية االجتماعية‪ ،‬ص‪.433-281‬‬

‫‪183‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫من تيارات فكرية فهو ميثل لوحة ترتسم عليها هذه املؤثرات‪ ،‬وقد يصبح فهم معىن النص األديب‬
‫مبنأى عن ظروفها االجتماعية نوعا من العبث ألن النصوص تعرب يف بعض األحيان عما كان سائدا‬
‫من أعراف وتقاليد داخل اجملتمع"(‪.)1‬‬
‫إذن الظروف اخلارجية احمليطة باألديب أوما يطلق عليه " البيئة االجتماعية" هلا تأثري على‬
‫األديب أوال وعلى أدبه ثانيا‪ ،‬وبذلك ال ميكن جتاهلها أثناء دراستنا ألدب أمة ما أو أديب ما يف أي‬
‫عصر كان‪ ،‬وال جيب أن نعزل أدبه عن احمليط االجتماعي الذي عاش فيه الكاتب‪ ،‬ألننا لو فعلنا‬
‫ذلك سنقصر من جهد األديب وسنظلم أدبه‪ ،‬إال إذا كنا سندرس النسق النصي فسنستغين عن هذه‬
‫الظروف االجتماعية‪.‬‬
‫ويُعىن أيضا السياق االجتماعي بالعالقات بني السياق االجتماعي يف استعماله للغة‪ ،‬ولألحداث‬
‫االجتماعية د ور مهم و بارز يف إنتاج النصوص ‪ ،‬و مع ذلك فهي تتمتع خبصائص ذات طابع أعم‬
‫ألهنا مقامات خاضعة ملعايري و قواعد معينة تتكرر باستمرار‪ ،‬مع وجود مقامات ذات طبيعة خاصة‬
‫أو عامة‪ ،‬تأخذ فيها امللفوظات درجة فعل كالمي‪ ،‬فالعمل األديب كفعل كالمي ال حيدده احلدث‬
‫االجتماعي فقط‪ ،‬وإمنا احلدث االجتماعي نفسه حتدده كيفية استخدام اللغة‪ ،‬فاملقامات ختتلف‬
‫باختالف املقاالت‪ ،‬وفيها تتحدد مكانة النص‪ ،‬إذ حيدد النص املقام االجتماعي و العكس صحيح‪،‬‬
‫ويؤثر كل منهما يف اآلخر و يتأثر به(‪.)2‬‬
‫أي أن التأثري مزدوج ومتوازي فاألديب يؤثر يف البيئة من خالل كتاباته وهي تؤثر فيه من خالل‬
‫ظروفها ومواقفها وتعاقب أزمنتها‪.‬‬

‫(‪ -)1‬المهدي إبراهيم غويل‪ ،‬السياق وأثره في المعنى‪ ،‬ص‪.134‬‬


‫(‪ -)2‬ينظرفطومة لحمادي‪ ،‬السياق و النص‪ ،‬جامعة محمد خيضر‪ ،‬بسكرة‪ ،‬العدد ‪ ،3-2‬جانفي‪-‬جوان‬
‫‪ ،2888‬ص ‪.272-233‬‬

‫‪185‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫ب‪ -‬المبادئ‪ :‬يقوم املنهج االجتماعي عن جمموعة من املنطلقات واملبادئ أمهها‪:‬‬


‫‪ )1‬ربط األدب باجملتمع‪ ،‬والنظر إليه على أنه لسان حال اجملتمع‪ ،‬و املرتجم للحياة االجتماعية‪،‬‬
‫فاحلياة هي مادة األدب‪ ،‬و منها يستمد موضوعاته‪ ،‬ويغرتف أفكاره ‪ ،‬كما أنه يوجه خطابه‬
‫إليها‪ ،‬وقد خلدت األعمال األدبية و دامت ألهنا نقلت احلياة‪ ،‬وعربت عنها‪ ،‬وصورت مشاكل‬
‫اإلنسان ومهومه(‪.)1‬‬
‫‪ )2‬تتكون احلياة االجتماعية من بنيتني‪ ،‬بنية دنيا وبنية عليا‪ ،‬ونعين هبذه بالبنية العليا‪ :‬اجلوانب‬
‫السياسية والثقافية‪ ،‬وهي على األرجح ناتج البنية الدنيا يف اجملتمع‪ ،‬وهي اليت حتدد العالقات‬
‫واالقتصادية و االجتماعية والفكرية يف اجملتمع(‪ ،)2‬واألدب حمتوي يف البُـْنيا العليا اليت هي جزء من‬
‫املذهب الفكري لكل فئة من فئات اجملتمع‪ ،‬ويُعد من القوى االجتماعية اليت لعبت دورا إجيابيا يف‬
‫اجملتمع‪.‬‬
‫‪ )3‬األدب كسائر الفنون‪ ،‬جزء من النظام االجتماعي أي أنه ظاهرة ووظيفة اجتماعية‪.‬‬
‫‪ )3‬و ألن األديب يتأثر مبجتمعه ويؤثر فيه؛فإن العالقة بينهما عالقة جدلية‬
‫‪ )5‬األدب ضرورة من ضروريات احلياة‪ ،‬وهو عمل اجتماعي خاص‪ ،‬فهو ليس تسلية وال هلوا‪ ،‬بل هو‬
‫حاجة ملحة‪ ،‬وتزدهر األمة بازدهار أدهبا‪ ،‬وتتطور احلضارات إذا حتقق التكامل بني احلاجات‬
‫املادية والروحية‪ ،‬واألدب من الروحيات‪.‬‬
‫‪ )4‬إن األديب يف املنهج االجتماعي مزيج من ثالثة عوامل وهي اليت أخرب عنها "تني" وهي العصر‪،‬‬
‫اجلنس والبيئة‪ ،‬و قد قدمت املاركسية ‪-‬أشهر متبين هلذا املنهج النقدي‪ -‬عامال اجتماعيا آخر هو‬
‫وسائل اإلنتاج و هو من العوامل املؤثرة يف تشكيل األدب‪.‬‬
‫‪ )7‬ال ينقل األدب حالة اجملتمع حرفيا‪،‬حىت و إن قلنا بأنّه يعكس اجملتمع‪ ،‬أو يصوره فوتوغرافيا و إمنا‬
‫ينقله من خالل موقفه منه‪ ،‬أو فهمه له‪.‬‬

‫(‪ -)1‬ينظر وليد قصاب‪ ،‬مناهج النقد األدبي‪ ،‬ص ‪.34‬‬


‫(‪ -)2‬ينظر محمد صايل حمدان‪ ،‬قضايا النقد الحديث‪ ،‬دار األمر للنشر و التوزيع‪ ،‬األردن ط‪ ،1991 ،1‬ص‬
‫‪.188‬‬

‫‪184‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫وصل املنهج االجتماعي النقدي بني األدب واجلماهري يف صورة املتلقي‪ ،‬معتربا إياها غاية خطابه‪،‬‬ ‫‪)8‬‬
‫وبذلك رفع من شأن اجلماهري‪ ،‬وحبث عن تأثري األدب فيها‪ ،‬حىت اعترب أن القيمة اجلمالية‬
‫(‪)1‬‬
‫لألدب تنبع من قدرته يف التعبري عن أحوال اجلماعة‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬خطوات المنهج االجتماعي‪:‬‬
‫املنهج االجتماعي يعكس صورة األدب يف اجملتمع‪ ،‬و ذلك من خالل اخلطة التالية‪:‬‬
‫تقسيم النص إىل أربع قضايا فرعية تتحدد أوىل هذه القضايا يف توضيح الناقد للسياق التارخيي‬
‫لربوز املنهج االجتماعي؛ أما القضية الثانية فتكشف أن تبلور النظرية السوسيولوجية يف األدب مل يبلغ‬
‫أوجه إال باجتهادات "جورج لوكاتش" و" ولوسيان غولدمان" بعد ذلك‪ ،‬أفرد لنا الناقد "نبيل راغب"‬
‫مساحة نصية كبرية‪ ،‬للقضية الثالثة‪ ،‬ليشرح فيها الفرضيات اخلمس اليت ينهض عليها املنهج البنيوي‬
‫تفسر املضمون‬
‫التكويين عند "لوسيان غوملان" فرضيات دجمت البنيوية والسوسيولوجية يف بوتقة نقدية ّ‬
‫االجتماعي يف ضوء الشكل الفين‪ ،‬وميكن جرد هذه الفرضيات فيما يلي‪:‬‬
‫‪ )1‬الفرضية األولى‪ :‬ترتكز على مفهوم رؤية العامل‪ ،‬واملقصود برؤية العامل‪ ،‬جمموع الطموحات واملشاعر‬
‫اليت توحد فئة اجتماعية‪ ،‬أوهي انسجام يف التفكري يفرض نفسه ‪ ،‬على فئة من الناس‪ ،‬توحدها‬
‫األوضاع االجتماعية و االقتصادية املتشاهبة‪.‬‬
‫‪ )2‬الفرضية الثانية‪ :‬تعترب البنية العقلية أساس احلياة اإلنسانية واالجتماعية‪ ،‬وهذه البنية الذهنية تشكل‬
‫مقوالت دالة تعكس الظواهر االجتماعية‪.‬‬
‫‪ )3‬الفرضية الثالثة‪ :‬هناك متاثل بني العمل األديب و وعي اجملموعة االجتماعية‪.‬‬
‫‪ )3‬الفرضية الرابعة‪ :‬إن البنيات اليت يدرسها علم االجتماع األديب‪ ،‬هي من يعطي الوحدة العضوية‬
‫والبنيوية للعمل األديب‪.‬‬
‫‪ )5‬الفرضية الخامسة‪ :‬ال تقبل البنيوية التكوينية التفسريات اليت اقرتحها "فرويد" للعمل األديب ألنه‬
‫اعتربها َكْبت للمشاعر أو عمليات الواعية(ال شعورية)(‪.)2‬‬

‫(‪ -)1‬ينظر وليد قصاب‪ ،‬مناهج النقد األدبي الحديث‪ ،‬ص‪.38‬‬


‫(‪ -)2‬ينظر أنريك أندرسون إمبرت‪ ،‬مناهج النقد األدبي‪ ،‬ص ‪.118‬‬

‫‪187‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫وهناك ثالث خطط يتبعها املنهج االجتماعي هي‪:‬‬


‫أوال‪:‬االهتمام باجملتمع الواقعي‪ ،‬أين عاش الكاتب وأين ألف عمله‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫ثانيا‪:‬الرتكيز على اجملتمع املثايل الذي يتضمن العمل على شكل نصائح و إرشادات‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫االهتمام بأدب العادات و التقاليد‪،‬سواء كان ذلك سياسيا أو أخالقيا أو اجتماعيا أو خطة إصالح‬ ‫‪‬‬
‫(‪)1‬‬
‫اجتماعي يف اإلبداع األديب‪.‬‬
‫خامسا‪ :‬مميزات النقد االجتماعي‪:‬‬
‫هناك عدة مميزات للنقد االجتماعي نذكر منها‪:‬‬
‫‪ )1‬ال يُعلمنا النقد االجتماعي قراءة النصوص فقط‪ ،‬بل يُعيننا ويَفتح أعيننا على قراءة حياتنا‬
‫وعالقاتنا بالعامل من حولنا‪.‬‬
‫‪ )2‬مل يعد يف خضم هذا املنهج "املعين" هو املوجود فقط‪ ،‬أو احملصور يف النصوص‪ ،‬وإمنا جعل مكانا‬
‫للقارئ‪ ،‬من خالل إبراز ذاته االجتماعية‪.‬‬
‫جمرد إضافة لسلطة معرفية أخرى‪.‬‬
‫التحول إىل ّ‬‫‪ )3‬هو منهج َمحى النص من التالشي و ّ‬
‫‪ )3‬القراءة النقدية االجتماعية قراءة للمسرية والتق ّدم بوصفهما حاملي التغيريات اإلجيابية‪.‬‬
‫‪ )5‬وظيفة الكتابة‪ :‬الكشف والتعبري عن التاريخ االجتماعي‪ ،‬باعتباره حقل املسائل املتكررة‪.‬‬
‫تُع ّد القراءة النقدية االجتماعية ابتكاراً وحبثاً وتأويالً‪ ،‬ألهنا تش ّكل تركيباً جديداً بني البُىن التحتية‬ ‫‪)4‬‬
‫والفوقية‪ ،‬وبني الفرد والعامل‪ ،‬وبني األشياء املتوارثة واملبتكرة(‪.)2‬‬
‫من خالل هذه اخلصائص نرى أن للنقد االجتماعي دور مهم يف دراسة األعمال األدبية‪ ،‬فهو مل‬
‫كل هذه العناصر متالمحة‬
‫يهمل ال املؤلّف وال القارئ‪ ،‬وال البيئة احمليطة يف عملية النقد والبناء‪ ،‬واعترب ّ‬
‫رقي األدب وازدهاره‪.‬‬‫هلا دور مهم يف ّ‬

‫(‪ -)1‬ينظر أنريك أندرسون إمبرت‪ ،‬مناهج النقد األدبي‪ ،‬ص ‪.118‬‬
‫(‪ -)2‬ينظر عثمان موافي‪ ،‬مناهج النقد المعاصر‪ ،‬دار المعرفة للطباعة و النشر و التوزيع‪ ،‬األزاريطة‪،‬‬
‫ط‪ ،1‬ص‪.87‬‬

‫‪188‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫سادسا‪ :‬مالمح النقد االجتماعي ‪:‬‬


‫للنقد االجتماعي مالمح كثرية وله آراء خاصة يف كثري من قضايا األدب نذكر‪:‬‬
‫‪ )1‬النقد االجتماعي يرى أن الرسالة االجتماعية لألدب‪،‬ذات غاية أو واقعا ذا طبيعة اجتماعية‪.‬‬
‫‪ )2‬النقد االجتماعي املضموين لألدب ينقل األفكار السياسية والفلسفية واجلمالية ‪ ،...‬ألفراد اجملتمع‬
‫أو طبقة منه‪ ،‬وهو يوجهها ضمن ايديولوجيا خاصة‪ ،‬يتبناها املؤلف‪ ،‬لذلك ُمسي هذا النقد ب "‬
‫النقد االيديولوجي" أي نقد األفكار واملواقف‪.‬‬
‫‪ )3‬النقد االجتماعي هو" نقد تفسريي"‪ ،‬حياول الناقد من خالله استجالء الدالالت و العالمات‬
‫االجتماعية أو التارخيية أو النفسية ‪ ،...‬و املتضمنة يف العمل األديب باعتبار أن األدب انعكاس‬
‫لصورة اجملتمع‪.‬‬
‫‪ )3‬النقد االجتماعي هو" نقد حكمي" تقوميي‪ ،‬وهو يرفع من قيمة الكاتب امللتزم بقضايا جمتمعه‪،‬‬
‫والذي يعاجل كتاباته جيدا عن عروق اجملتمع‪ ...‬ويتوقف الناقد االجتماعي كثريا ليُظهر ماذا متثل‬
‫أمال الكاتب الفالين؟ وما موضوعها؟ ما مدى تأثريها يف اجلمهور ؟ وتبدو أمهية العمل األديب يف‬
‫مدى قدرته على التأثري يف املتلقي‪.‬‬
‫‪ )5‬االلتزام‪ :‬يتوافق رواد املنهج االجتماعي للنقد يف الدعوة إىل التزام املبدع مبعضالت جمتمعه‪ ،‬و‬
‫املشاركة يف حلها‪ ،‬بدل العزلة‪ ،‬و الوقوف موقف املتفرج‪ ،‬و يرفضون فكرة " الفن للفن" الذي‬
‫خلع للفن ثوب الوظيفة‪ ،‬ومل يطالب الكاتب بأي دور اجتماعي أو خلقي أو سياسي‪.‬‬
‫همل‬
‫‪ )4‬يرّكز االجتاه االجتماعي يف النقد األديب على األعمال األدبية الواقعية بشكل خاص و يُ ُ‬
‫اإلبداعات اليت تنحو حنو أدب الرمز‪ ،‬أو السريالية‪.‬‬
‫‪ )7‬حكمت املاركسية "االيديولوجيا" على األدب بشكل صارم‪ ،‬ويف تفسريه ودراسته‪ ،‬و ظهر هذا ذا‬
‫نزعة صارمة يف الظلم والتعسف‪.‬‬
‫‪ )8‬ترى املاركسية أن الشكل الفين تابع للمضمون الفكري(‪ ،)1‬يقول "ماركس"‪" :‬ال قيمة للشكل إذا‬

‫(‪ -)1‬ينظر وليد قصاب‪ ،‬مناهج النقد األدبي الحديث‪ ،‬ص ‪.32-38‬‬

‫‪189‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫مل يكن شكال للمضمون كذلك"(‪" )1‬ويعلق "فيشر" على قول ماركس يقول‪ " :‬إذا كان هذا مل‬
‫يتحقق كما يدعي املاركسيون‪ ،‬فإهنم يقولون يف تعليل ذلك‪ :‬إ ّن هذا عائد إىل أن تطور الشكل حيتاج‬
‫إىل زمن طويل‪ ،‬إذ هو بطبيعته حمافظ‪ ،‬على خالف املضمون الذي هو ثوري متغري‪.‬‬
‫سابعا‪ :‬نقد النقد االجتماعي‪:‬‬
‫أ‪ -‬اإليجابيات‪:‬‬

‫األدب نوع من أنواع النشاط االجتماعي‪ ،‬وهو بالدرجة األوىل تعبري عن حياة الناس يف اجملتمع‬ ‫‪)1‬‬
‫واألديب ترمجان جمتمعه‪ ،‬وهو املصور حلاالته كلها‪ ،‬والناقل ملشكالته يف كل حال من األحوال‪.‬‬
‫صلة األدب باجملتمع صلة حتمية قائمة بالضرورة‪ ،‬وهي عالقة تأثّر وتأثري‪ ،‬إذ األديب يؤثر يف‬ ‫‪)2‬‬
‫جمتمعه‪ ،‬ولكنه خاضع يف نفس الوقت لتأثري الظروف االجتماعية و غريها كاالقتصادية و‬
‫السياسية من حوله‪ ،‬وهي اليت تتحكم ‪ -‬بشكل أو بآخر‪ -‬يف تلوين إنتاجه الفكري بصبغة ما‪.‬‬
‫يسجل للمنهج االجتماعي موقفه الشجاع حني وقف يف وجه تيار " الفن للفن" و أيضا يف وجه‬ ‫‪)3‬‬
‫جردت األدب من الوظيفة والغاية‪ ،‬وأنكرت عليه أن حتقيق أية غاية‬ ‫التيارات الشكالنية اليت ّ‬
‫نفعية‪.‬‬
‫إن التصور اإلسالمي لألدب يقول هبذه الصلة املوجودة بني األدب واجملتمع‪ ،‬وهو يدعو األدباء‬ ‫‪)3‬‬
‫إىل االنطالق يف احلياة والتعبري عنها‪ ،‬وتصوير مهوم الناس ومشكالهتم‪.‬‬
‫االلتزام‪ ،‬هو من صميم النظرة اإلسالمية للفن و األدب‪ ،‬فاألديب مسؤول‪ ،‬واللفظة أمانة‪.‬‬ ‫‪)5‬‬
‫إن النقد االجتماعي عون على تفسري العمل األديب وفهمه‪ ،‬وإدراك الظروف اخلارجية لتأليفه‪.‬‬ ‫‪)4‬‬
‫يلتقي علم االجتماع يف وظيفته مع التاريخ‪ ،‬وهي وظيفة ذات أمهية بالغة‪ ،‬تضع اإلبداع األديب يف‬ ‫‪)7‬‬
‫جو إبداعه‪ ،‬وظروف نشأته‪ ،‬مما يساعد على فهمه و استيعابه‪ ،‬ومعرفة أصله و طبيعته‪ ،‬يقول‬
‫ديتش‪" :‬كثرياً ما حنتاج – يف الواقع‪ -‬إىل املؤرخ االجتماعي ليفسر لنا ما هو األثر األديب يف‬
‫نقوم شيئاً البد من أن نعرف حقيقته‪ ،‬وإن كان القصد األول للناقد األديب‬ ‫حقيقته‪ ...‬وقبل أن ّ‬

‫(‪) 1‬عبد الرحمان نصرة‪،‬في النقد الحديث‪،‬دراسة المذاهب النقدية الحديثة و أصولها الفكرية‪،‬مكتبة‬
‫األقصى‪،‬عمان‪،‬ط‪،1979‬ص‪.95‬‬

‫‪118‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫أن جيد األثر األديب على طبيعته فإن عامل االجتماع ‪-‬كاملؤرخ‪ -‬يستطيع أن مينح له عونا يف‬
‫الغالب‪.)1( ...‬‬
‫يقول "ديتش"‪ " :‬كثريا ما يكون الناقد املاركسي ذا بصرية بالغة‪،‬خاصة عندما يتكلّم عن الدوافع‪،‬‬ ‫‪)8‬‬
‫مثال‪ ،‬كأن يقول‪" :‬إن نزعة "ديفو" يف رواياته إمنا نشأت من مصاحله الطبقية و االقتصادية‪ .‬و‬
‫علم االجتماع يستطيع أن يعيننا لكي نرى "جويس" كما كتب؟ ومل كان كثري من أشد الشعر‬
‫احلديث حساسية شعرا غامضا"(‪.)2‬‬
‫إن هذه املميزات جعلت من املنهج االجتماعي حياول إظهار األبعاد احلقيقية للواقع يف‬
‫اإلبداعات األدبية وذلك باعتبار أن األدب حماكاة للحياة على حاهلا‪ ،‬و بشكل خاص احلياة‬
‫االجتماعية‪.‬‬
‫ب‪ -‬المآخذ‪:‬‬

‫للمنهج االجتماعي كغريه من املناهج جوانب تقصري عديدة نوجزها يف اآليت‪:‬‬


‫املنهج االجتماعي غري قادر عن حتديد اخلواص النوعية لإلبداعات األدبية ‪،‬و يكتفي فقط برصد‬ ‫‪)1‬‬
‫يتعمق يف حتليلها(‪.)3‬‬
‫الظواهر وال ّ‬
‫االهتمام باجلماعة فقط‪ ،‬وانعدام الرتكيز على الفرد‪.‬‬ ‫‪)2‬‬
‫يركز أصحاب هذه االجتاه على أسلوب اللغة اخلطابية ألن غاياهتم هو التأثري يف اجملتمع‪ ،‬وال‬ ‫‪)3‬‬

‫يركزون على التصوير الفين(‪.)4‬‬


‫عجل بزوال حرية األديب‪ ،‬يف هذا املنهج‪.‬‬
‫سيطرة التوجهات املادية و احلسية ‪،‬مما ّ‬ ‫‪)3‬‬

‫يهتم هذا املنهج باألعمال النثرية عامة مثل‪:‬القصص واملسرحيات‪ ،‬وفيه يركز الناقد على شخصية‬ ‫‪)5‬‬

‫البطل‪.‬‬

‫(‪ -)1‬ينظر وليد قصاب‪ ،‬مناهج النقد األدبي الحديث‪ ،‬ص‪.33‬‬


‫(‪ -)2‬ينظر المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.35‬‬
‫(‪ -)3‬ينظر شكري عزيز ماضي‪ ،‬في نظرية األدب‪ ،‬دارالفاس للنشر والتوزيع‪ ،‬عمان‪ ،‬ط‪ ،2885 ،1‬ص‪34‬‬
‫(‪ -)4‬ينظر صالح فضل‪ ،‬في النقد األدبي‪ ،‬اتحاد الكتاب العرب‪ ،‬ط‪ ،2887 ،1‬ص‪.38‬‬

‫‪111‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫إصرارهم الشديد على رؤية األدب على أنه انعكاس للظروف االجتماعية لألديب ألن العامل‬ ‫‪)4‬‬

‫الذي يدفع الفنان إىل اخللق‪ ،‬هو االندماج يف الصراع االجتماعي‪ ،‬ولكن قد تكون هناك عوامل‬
‫أخرى غري هذا العامل‪.‬‬
‫إن األصل يف العمل األديب شعرا أو نثرا‪ ،‬هو حتقيق املتعة الفنية واجلمالية‪ ،‬لذلك ال ينبغي إمهال‬ ‫‪)7‬‬

‫اجلانب الفين اجلمايل ألن "األدب رسالة فنية وأهدافه إنسانية أخالقية"(‪.)1‬‬
‫يغلب أصحاب هذا االجتاه إفراطهم يف االهتمام مبضمون العمل األديب على حساب الشكل(‪.)2‬‬ ‫‪)8‬‬

‫اشتق املاركسيون كل شيء من أمناط اإلنتاج فذهبوا إىل أن التطور املادي يؤدي إىل تطور ذهين‬ ‫‪)9‬‬

‫وهذا رأي حيمل قدراً معينا من احلقيقة ولكن ليس باألمر املطلق يقول "ماركس"‪" :‬إن العالقة اليت‬
‫تربط األبنية االجتماعية باألبنية اإلبداعية ليست مباشرة ونتائجها ال تظهر بسرعة‪".‬‬
‫(‪)3‬‬

‫‪ )18‬هناك من ينكر تأثري اجملتمع تأثريا مباشرا يف املبدع واإلبداع لذلك رفضوا املرجعية االجتماعية‪ ،‬وال‬
‫يعرتفون بغري املرجعية اللغوية للعمل األديب‪ ،‬تقول "ناتايل ساروت"‪" :‬ال شيء يوجد خارج‬
‫اللغة"(‪.)4‬‬
‫ثامنا‪ :‬النقد االجتماعي العربي‪:‬‬
‫لقد طبق العرب النقد االجتماعي‪ ،‬دون أن يصرحوا أو أن ينتبهوا إىل ذلك‪ ،‬فالشعر العريب القدمي‬
‫كان "يتخذ أداة للتعبري عن جمتمعه العريب البدوي الذي كان ميثل آنذاك القبيلة مبا لديها من عادات‬
‫عرب ُكتاب النثر عن هذا اجملتمع اجلديد‪ ،‬ومشكالته‬ ‫وتقاليد وقيم خلقية واجتماعية " كما ّ‬
‫(‪)5‬‬

‫وقضاياه‪ ،‬ويبدو هذا واضحا يف كتابات أعالم النثر العريب يف أزهى عصوره األدبية‪ ،‬والعصر العباسي‬

‫(‪ -)1‬أحمد ربيع‪ ،‬في تاريخ األدب العربي الحديث‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬ط‪ ،2884 ،2‬ص‪.115‬‬
‫(‪ -)2‬ينظر سعد أبو رضا‪ ،‬النقد األدبي الحديث‪ ،‬أسسه الجمالية و مناهجه المعاصرة‪ ،‬رابطة األدب اإلسالمي‬
‫العالمية‪ ،‬السعودية‪ ،‬ط‪ ،2888‬ص‪.73‬‬
‫(‪ -)3‬صالح فضل‪ ،‬مناهج النقد المعاصر‪ ،‬ص ‪.38‬‬
‫(‪-)4‬مراد عبد المالك‪ ،‬الدراسة النقدية المعاصرة‪ ،‬دار الكتاب الحديث‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،2889 ،1‬ص‪.192‬‬
‫(‪ -)5‬يوسف خليف‪ ،‬مناهج البحث األدبي‪ ،‬دار غريب للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،2883 ،1‬ص‪.38‬‬

‫‪112‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫عربوا يف كتاباهتم النثرية عن الكثري من القضايا‬


‫خاصة‪ ،‬منهم‪" :‬اجلاحظ‪ ،‬اهلمذاين‪ ،‬التوحيدي‪ ،‬الذين ّ‬
‫االجتماعية يف عصورهم"(‪.)1‬‬
‫وعندما شهد العامل العريب تطورات اجتماعية وسياسية‪ ،‬خاصة حركات التحرر القومي‪ ،‬فطُبِق يف‬
‫صور بدقة اجملتمع‬
‫كتابات رواد احلركة األدبية احلديثة يف مصر‪ ،‬مثلما فعل "طه حسني" الذي ّ‬
‫العباسي من خالل دراسته لبعض شعراء هذا العصر‪ ،‬كما صور اجملتمع املصري‪ ،‬وما يعانيه من‬
‫تفاوت طبقي من خالل كتابه‪ " :‬املعذبون يف األرض"(‪.)2‬‬
‫جسد النقد االجتماعي يف كتاباته خاصة كتاب "يوميات‬ ‫وجند كذلك "توفيق احلكيم" الذي ّ‬
‫صور فيه كثريا من املشكالت االجتماعية كما كتب مقال بعنوان‪:‬‬ ‫نائب يف األرياف" الذي ّ‬
‫(‪)3‬‬

‫"األدب طريق إىل إيقاظ العقل"‪.‬‬


‫ومن أبرز األعالم اليت ميكن أن نذكرها أيضا يف هذا الشأن "حممود أمني" و"عبد العظيم أنيس"‬
‫يف كتاهبما الذي حيمل عنوان "يف الثقافة املصرية" والذي كانت له الريادة يف النقد املاركسي‪،‬أو ما‬
‫يطلق عليه بالنقد الواقعي‪ ،‬مث برز "حسني مروة" الناقد اللبناين الذي أصدر كتابا حتت تسمية‬
‫"دراسات يف ضوء املنهج الواقعي" (‪ )4‬مث ظهر املنهج االجتماعي يف النقد األديب يف كتابات "أمحد‬
‫أمني" و"سالمة موسى" متجليا يف تفاعل الرؤيتني التارخيية واالجتماعية تفاعال بسيطا‪.‬‬
‫مث ظهرت على يد "لويس عوض" عدة حبوث هتتم أساسا بإبراز تأثري الوسط االجتماعي على‬
‫األثر األديب‪ ،‬فهو حياول الربط بني األدب والسياق االجتماعي‪ ،‬فهو يرى أن نشاط ال ينفصل عن‬
‫اجملتمع وأن وظيفته تتمثل يف جتديد احلياة‪.‬‬
‫كما أخذ النقد االجتماعي حيزا كبريا من الكتابات النقدية اجلزائرية‪ ،‬جتلت هيمنته الشاملة‬
‫عليها خالل السبعينات بصورة الفتة‪ ،‬ومن رواده يف اجلزائر‪ :‬عبد اهلل الركييب‪ ،‬حممد مصايف‪ ،‬زينب‬

‫(‪-)1‬يوسف خليف‪ ،‬مناهج البحث األدبي ‪ ،‬ص ‪.39‬‬


‫(‪ -)2‬عثمان موافي‪ ،‬مناهج النقد المعاصر‪ ،‬ص‪.91‬‬
‫(‪-)3‬أحمد أبو حاقة‪ ،‬االلتزام في الشعر العربي‪ ،‬دار العلم للماليين‪ ،‬ط‪ ،1979 ،1‬ص ‪.342‬‬
‫(‪ -)4‬بسام قطوس‪ ،‬مدخل إلى مناهج النقد المعاصر‪ ،‬ص‪.91‬‬

‫‪113‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫األعوج يف كتاب " السمات الواقعية للتجربة الشعرية يف اجلزائر" وكذلك خملوف عامر وأمحد‬
‫طالب(‪.)1‬‬

‫(‪-)1‬صالح فضل‪ ،‬في النقد األدبي‪ ،‬ص‪.112‬‬

‫‪113‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫تاسعا‪ :‬نسق التلقي عند ابن حزم‬

‫امتدادا للتقاليد املشرقية يف تصنيف العلوم؛ وهو تقليد مل خيرج‬


‫ً‬ ‫ُّ‬
‫تعد رسالة ابن حزم يف مراتب العلوم‬
‫عن "التقليد املشائي" يف ترتيب العلوم مع تقييدات‪ ،‬فقد سار ابن حزم يف مراتب العلوم على خطى‬
‫مهد هلا فالسفة املشرق‪.‬‬
‫معرفية ّ‬
‫إال أ ّن تصنيف ابن حزم حسب إحسان عباس مل يكن وفيا لسلطة أرسطو وال لسلطة ابن سينا‪،‬‬
‫ودليله يف ذلك هو أ ّن الفقيه الظاهري "اكتفى بتسمية العلوم الدائرة بني الناس يف زمنه فوجدها على‬
‫طريق احلصر اثين عشر علما (ينتج عنها علمان) فع ّدها دون أن يراعي _إال قليال_ ثنائية االنقسام‬
‫بني العلوم اإلسالمية‪ ،‬وعلوم األوائل"‪.‬‬
‫ويبني إحسان عباس أ ّن الفالسفة العرب قد ساروا يف تصنيفهم للعلوم على منوذج الرتاث‬
‫اليوناين (أرسطو خصوصا) فهل كان البن حزم أن يقبل هبذا اإلرث؟ أو أنّه يوظفه مبا خيدم العلوم‬
‫الدينية؟‬
‫رغم اطالع ابن حزم على أعمال وكتابات اليونان املرتمجة من احلضارة الالتينية القدمية‪ ،‬أو الكتب‬
‫اليت وجدت يف املشرق وأبرزها‪ :‬رسائل إخوان الصفا‪ ،‬وأعمال الفارايب (ت‪448‬ه‪813 /‬م) غري أ ّن‬
‫املناخ الثقايف الذي عايشه الرجل تطلب منه إعادة قراءة وتأويل يتواءم والظروف السياسية‬
‫واالجتماعية أنذاك يف منطقة األندلس‪.‬‬
‫وقد عُين بعلم املنطق‪ ،‬وألف كتابا عنونه ب "التقريب حلدود املنطق"‪ ،‬وكان أغلب تأليفه يف العلوم‬
‫ط من قبله ببالد األندلس‪.‬‬
‫الدينية حىت نال منها ما مل ينله أحد ق ّ‬
‫وكان تصنيفه للعلوم قائما على قسمني‪ :‬علوم نافعة يف مقابل علوم غري نافعة‪ .‬وهذه العلوم‬
‫ذات األصول اليونانية‪ ،‬حيث كانت من هذا األصل ومل يثبت نفعها‪ ،‬أو قد تلحق الضرر حسبه‬
‫بالناس؛ فهي علوم مرفوضة لدى ابن حزم متاما‪ ،‬كما هو األمر مع علم الكيمياء واملوسيقى‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫وقد ّاختذ لنفسه مسلكا مغايرا يف تصنيف العلوم‪ ،‬وقد تبىن معيارا واحدا لتصنيف العلوم‬
‫يتمثل يف معيار النفع الذي يثبت األفضلية والتمايز للعلوم الشرعية‪ ،‬والصنائع العلمية‪ ،‬وقد رفض كل‬
‫ما فيه ضرر‪ ،‬وال ينفع الناس؛ فالنافع عنده ما ينفع ليوم األخرة؛ فحسبه العلوم املفيدة واملهمة تلك‬
‫اليت تقودنا إىل طريق اخلالص‪ ،‬والنجاة‪.‬‬
‫حيث أخرج ابن حزم املوسيقى من العلوم النافعة‪ ،‬وجعلها ضارة ألنّه يراها تدخل يف باب‬
‫اللهو فقد أراد ابن حزم تصنيف العلوم َوفق ما يتماشى ومنطق املنفعة االجتماعية‪ ،‬غري أنّه مل خيرج‬
‫عن املعايري املعمول هبا من قِبل الفارايب‪ ،‬غري أنّه اكتفى مبعايري املنفعة واجلدوى‪.‬‬
‫صنف ابن حزم العلوم إىل نوعني‪ :‬األول غرض وصفي للربنامج التعليمي الذي البد أن يلتزم‬
‫حيث يقصد ابن حزم‬ ‫به املتعلم يف مسريته التعليمية‪ ،‬والثاين هو وصف بنيوي ملنظومة العلوم‪.‬‬
‫بالربنامج التعليمي الذي يستوجب على كل متعلم اتباعه لتحصيل العلوم واملعارف‪ ،‬والذي يقوم على‬
‫التوفيق بني العلوم العقلية والدينية معا‪ ،‬بشرط أن تكون األوىل خادمة للثانية‪.‬‬
‫حيث إ ّن ابن حزم يلزم املتعلم يف بدايته أن يتعلم (علم اللغة)؛ أي أ ّن الغاية من هذا العلم‬
‫حتقيق التواصل فيما بني الناس من طريق توظيف النحو بالقدر الكايف‪ ،‬دون التبحر يف تفاصيل علم‬
‫اللغة‪.‬‬
‫كما يدعو إىل تعلم الشعر الذي تتمحور موضوعاته حول احلِكم واخلري‪.‬‬
‫مث يضع ابن حزم علم العدد مباشرة بعد علم اللغة؛ وهو قدرة املتعلم على (ضرب‪ ،‬والقسمة‪،‬‬
‫واجلمع‪ ،‬والطرح‪ ،‬والتسمية)‪ .‬وحسبه فإ ّن علم العدد يضم علم احلساب‪ ،‬وعلم الفلك دون أحكام‬
‫النجوم‪.‬‬
‫بعد هذا يأيت االهتمام بالطبيعيات‪ ،‬وعوارض اجلو‪ ،‬وتركيب العناصر‪ ،‬ويف احليوان‪ ،‬والنبات‪،‬‬
‫واملعادن‪ .‬وحسب ابن حزم جيب على املتعلم قراءة كتب التشريح ليقف على حمكم الصنعة‪ ،‬وتأثري‬
‫الصانع‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫وعليه فإ ّن هذا الربنامج العلمي الذي وضعه ابن حزم قائم على مبدأ التدرج‪ ،‬وهدفه اخلالص‬
‫والنجاة يف اآلخرة‪.‬‬
‫كما صنّف العلوم بنيويا كما يلي‪:‬‬
‫أ_ الطب‪ ،‬جعل الطب فرض كفاية؛ وقسمه إىل نوعني‪ :‬علم النفس‪ ،‬وطب األجسام‪.‬‬
‫ب_ التنجيم‪ :‬فرأى أ ّن االشتغال بأحكام التنجيم ال طائل منه‪ ،‬وال فائدة ترجى منه‪ ،‬وال معىن له‪.‬‬
‫ت_ املوسيقى‪ :‬ح ّذر ابن حزم من علمني اثنني شديد التحذير ألنّه ال فائدة منهما‪ ،‬ومها‪ :‬التنجيم‬
‫واملوسيقى‪.‬‬
‫عاشرا‪:‬خصوصية الكتابة عند ابن حزم‬

‫تعد رسالة طوق احلمامة البن حزم االندلسي من أروع ما خط يف القرن اخلامس‬ ‫أ‪ -‬في رسالة طوق الحمامة‪:‬‬

‫اهلجري‪ ،‬يف دراسة األلفة ‪،‬و حتليلها لظاهرة احلب بأبعادها اإلنسانية الواسعة‪ ،‬و لقدرهتا على سرب‬
‫أغوار طبائع البشر‪ ،‬و الرسالة سرية ذاتية لكاتبها‪ ،‬ألنه مجع فيها بني الفكرة مبفهومها الفلسفي ‪،‬و‬
‫بني الواقع التارخيي‪ ،‬حملقا بأفكاره‪ ،‬بصراحة و جرأة‪ ،‬داعما إياها بقصص مسعها أو عاشها‪ ،‬خمتارا هلا‬
‫ما يناسبها من أشعاره‪.‬‬
‫و يرتبط رمز احلمامة بالسالم‪ ،‬وذلك أهنا ظهرت على سفينة نوح عليه السالم‪ ،‬حتمل غصن‬
‫السالم‪ ،‬وعرفت هذه الرمزية يف عصرنا‪ ،‬حظا‬
‫زيتون مبنقارها‪ ،‬ومنذ ذلك الوقت‪ ،‬وصفت بأهنا رسول ّ‬
‫كبريا وجندها يف سوق اإلعالنات والطوابع الربيدية‪ ،‬وأنصار السالم‪ ،‬أو أولئك الذين يسموهنم‬
‫احلمائم‪.‬‬
‫نرى أن ابن حزم أراد لرسالته" طوق احلمامة" االستمرار على مر العصور‪ ،‬فومسها كالطوق‬
‫للحمامة‪ ،‬لينتقل من عصر آلخر ويرحل من بلد آلخر‪ ،‬مع هجرة احلمام‪ ،‬وبالتايل خيلد هذا املؤلف‬
‫متداوال عرب األزمنة‪ ،‬وتبقى النصائح والقيم اليت أدرجها ابن حزم يف مؤلفه حاضرة من خالل موضوع‬

‫‪117‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫ترغبه النفوس ومتيل إليه‪ ،‬أال وهو موضوع احلب‪ ،‬فهو تشريح علمي لعاطفة احلب يبقى كالطوق‬
‫الذي حيمل العنق‪.‬‬
‫و"طوق احلمامة" ينتمي إىل الرسائل الديوانية‪ ،‬وهي نوع قريب من فن املقال يف عصرنا‪ ،‬خلوضه‬
‫يف موضوع من املوضوعات األدبية أو االجتماعية‪ ،‬شأن رسائل اجلاحظ‪ ،‬ورسالة الغفران أليب العالء‬
‫املعري‪ ،‬وحتمل طريقة التناول يف هذه الرسائل‪ ،‬ضروبا من البيان والبديع‪.‬‬
‫واستهل ابن حزم رسالته بطبيعة العالقة بينه وبني خماطبه‪ ،‬وهي كما يبدو‪ ،‬صداقة قدمية تَ ّبني ذلك‬
‫من خالل أسلوب التودد والشوق الذي استعملته يف خماطبة صديقه‪ .‬ويف ثنايا الرسالة كما يف‬
‫خامتتها يبدأ يف ضرب من الشكوى‪ ،‬والبوح‪ ،‬أو االعرتاف لصديقه؛ وهذا أمر ال يكون إال إذا كانت‬
‫عرى الصداقة قوية ووثيقة‪ ،‬بني املرسل واملرسل إليه‪.‬‬
‫إذن "طوق احلمامة" يندرج ضمن الرسائل األدبية ملا توفر عليه من مقومات هذا اجلنس‪ ،‬ذلك‬
‫أ ّن ابن حزم التزم فيه مبوضوع خمصوص هو "العشق"‪ ،‬ومجع مادته من األخبار أساسا‪ ،‬وهوما فرض‬
‫عليه جهدا مضاعفا من البحث والتذكر والتبويب‪ ،‬باعتبار أنّه أخضع مادة دراسته إىل قانون دقيق يف‬
‫احلب دراسة كاملة‪.‬‬
‫التصنيف والرتتيب‪ ،‬مرجعا لكل من رام دراسة موضوع ّ‬
‫أما عن شعر ابن حزم يف الطوق فقد خال من التعقيد الذي يهلك املعىن و من الغرابة اليت تفسد‬
‫اللفظ و توحشه‪ ،‬ومن الغموض الذي ال يوصل إىل املراد؛ و هذا راجع لصراحة الرجل يف‬
‫التعبري‪،‬ووضوح املراد و امتالك املعىن‪.‬‬
‫ب‪ -‬الحياة االجتماعية البن حزم التي ترجمها في الطوق‪:‬‬

‫مترن‬
‫كانت حياة ابن حزم موسوعة معرفية‪ ،‬ففي صباه حفظ أجزاء من القرآن‪ ،‬والسنة والشعر‪ ،‬و ّ‬
‫على اإلمالء و اخلط‪ ،‬فقد استطاع اجلمع بني علوم الفقه من جهة‪ ،‬و فنون األدب من جهة ثانية‪ ،‬مث‬

‫‪118‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫انصرف لدراسة العلوم الرائجة يف زمانه‪ ،‬حىت بلغ مرتبة يقول فيها إحسان عباس‪ :‬من الصعب أن‬
‫يصور الباحث مدى ثقافة ابن حزم‪ ،‬لتشعب هذه الثقافة و احتوائها على مجيع أنواع املعرفة يف‬
‫ّ‬
‫(‪)1‬‬
‫زمنه‬
‫كما اشتهر ابن حزم بكثرة مساعه‪ ،‬فأمجع العديد من املؤرخني بأنّه مستمعا جيّدا سواء يف قرطبة‬
‫شاطبة(‪.)2‬‬ ‫أو املرية أو بلنسية‪ ،‬أو‬
‫إذن اشتهر ابن حزم بعلمه الغزير‪ ،‬وثقافته املوسوعية‪ ،‬وأحاط بعلوم عصره إحاطة شاملة‪،‬‬
‫وشكلت مؤلفاته‪ ،‬حبق‪ ،‬دائرة معارف القرن اخلامس اهلجري‪.‬‬
‫ويبدو أن ابن حزم كان واعيا أشد الوعي باجلنس الذي يكتب فيه‪ ،‬وهو الرسالة‪ ،‬لقد أعلن من‬
‫مقدمة الرسالة عن ذلك‪ ،‬وهو يوجه الكالم ألحد أصدقائه‪ ،‬فصاحبه هذا ليس من حمض خياله‪ ،‬إمنا‬
‫هو شخص حيظى بوجود فعلي‪ ،‬فإن توجيه اخلطاب على األغلب يف الكتابة إىل شخص بعينه‬
‫يش ّده‪ ،‬ويشعره بنوع من الصلة الوجدانية بينه وبني املتلقي‪ ،‬يتصور أنّه يصغي إليه‪ ،‬ويشاركه حلظة‬
‫الكتابة تلك‪.‬‬
‫ولعل من الالفت للنظر يف حياة ابن حزم أنّه رحل إىل مدن أندلسية كثرية‪ ،‬ومل يرحل إىل خارج‬
‫األندلس‪ ،‬ال إىل العراق الذي كان طالّب العلم يقصدونه من خمتلف أحناء العامل اإلسالمي لطلب‬
‫الفقه واحلديث واألدب والشعر‪ ،‬وشىت صنوف املعرفة‪ ،‬وال لغريه من بلدان املشرق اإلسالمي؛ ولكن‬
‫جتول كثريا يف األندلس‪ ،‬منها رحلته إىل إشبيلية اليت واجهته فيها حمن كثرية ّأدت إىل‬
‫عرف عنه بأنّه ّ‬
‫إحراق كتبه‪ ،‬فغادرها متجها إىل قرية أجداده(منت ليشم) واستقر هبا حىت وفاته يوم‬

‫(‪ -)1‬ينظر إحسان عباس‪ ،‬العصر األندلسي في عهد سيادة قرطبة‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪،1994 ،8‬‬
‫ص‪.33‬‬
‫(‪-)2‬ينظر ابن بشكوال‪ ،‬الصلة‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.314‬‬

‫‪119‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫(‪28‬شعبان‪354‬هـ‪1838-‬م)‪ ،‬تاركا وراءه مؤلفات كثرية وآراء أكثر جرأة تنبئ عن فكر عميق‬
‫واستيعاب شامل للمسائل الفقهية‪.‬‬
‫حادي عشر ‪ -:‬القضايا األدبية المطروحة في الطوق‪:‬‬
‫على الرغم من اختالف سكان األندلس يف القرن اخلامس اهلجري يف مستوى حياهتم ويف تركيبهم‬
‫ويف نظمهم السياسية إخل‪ ...‬فإهنم شكلوا جمتمعا امتاز بالتحام ثقايف ولغوي وتارخيي والذي كان‬
‫يطبعه التكامل االقتصادي على عدة مستويات؛ وكانت املواصالت بني دول الطوائف متطورة كما‬
‫كانت حركة التنقل ذات أمهية‪ ،‬ومل يكتف األندلسيون بالسفر إىل دول طائفية أخرى هبدف احلصول‬
‫على العلم أو ملمارسة جتارهتم‪ ،‬بل كثريا ما استقروا يف املدن اليت جلبتهم إليها‪ ،‬إال أن املسألة اليت‬
‫جيب اإلحلاح عليها هي أن األندلسيني كانوا يعتربون أنفسهم جزءا من جمتمع أندلسي واحد‪ ،‬ولعل‬
‫تفسر ملاذا مل يدم تقسيم األندلس خالل مدة أطول مما كانت عليه‪.‬‬
‫ذلك من األسباب الرئيسية اليت ّ‬
‫وقد كان تصور األندلسيني للرتكيب االجتماعي يف األندلس مزدوجا‪ ،‬فلقد استعملوا مصطلح‬
‫"اخلاصة "لتمييز الفئة االجتماعية احملظوظة واليت مشلت الطبقة احلاكمة والعائالت ذات النفوذ من‬
‫األعيان والتجار واملالّكني الكبار‪ ،‬أما باقي أفراد اجملتمع من الفالحني والعمال والعبيد والطبقة‬
‫الوسطى الصغرية فأطلِق عليها اسم "العامة"(‪.)1‬‬
‫ولكن هل توجد هاتان الطبقتان فقط؟ أال توجد هناك طبقة وسطى؟‬
‫ليجيبنا املستشرق الفرنسي "ليفي بروفنصال" يف دراسة حول اجملتمع األندلسي امتدت إىل حدود‬
‫القرن العاشر ميالدي أي ما يقابل القرن الرابع اهلجري‪ ،‬حتدث فيها عن وجود طبقة أندلسية وسطى‪.‬‬

‫(‪ -)1‬ينظر امحمد بن عبود‪ ،‬جوانب من الواقع األندلسي في القرن الخامس الهجري‪ ،‬مطبعة النور‪ ،‬تطوان‪،‬‬
‫المغرب‪ ،‬ط‪.1987‬ص‪.19-18‬‬

‫‪128‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫ويف ما خيص عهد دول الطوائف‪ ،‬هناك إشارات قوية إىل عناصر الطبقة الوسطى‪ ،‬كما يبدو أن‬
‫التطور والرشد يف املراكز احلضرية‪ ،‬حيث‬
‫الطبقة الوسطى األندلسية‪ ،‬قد وصلت إىل درجة كبرية من ّ‬
‫(‪)1‬‬
‫متيزت بدور هام يف اجملال االقتصادي‪.‬‬
‫وختاما‪ ،‬على الرغم من تعدد عناصر اجملتمع األندلسي وتنوعها‪ ،‬فإن هذا األخري ش ّكل جزءا‬
‫موحدا تطبعه بنية اجتماعية شاملة‪.‬‬
‫واألندلس كغريها من البالد اإلسالمية‪ ،‬غنية بعلمائها وأدبائها الذين اتصفوا حبب املعرفة وأسهموا‬
‫يف دفع احلركة األدبية قدما‪ ،‬خاصة يف زمن اخلالفة وعصر الفتنة وملوك الطوائف‪ ،‬إذ كان كل ملك‬
‫من أولئك امللوك حياول أن جيعل من مملكته ملتقى للشعراء واألدباء‪ ،‬وقد أشار املقري يف كتابه "نفح‬
‫الطيب" إىل ذلك فقال‪" :‬وملا ثار بعد انتشار هذا النظام ملوك الطوائف‪ ،‬وتفرقوا يف البالد‪ ،‬كان يف‬
‫تفرقهم اجتماع على النعم لفضالء العباد إذ أنفقوا سوق العلوم‪ ،‬وتباروا يف املثوبة على املنشور‬
‫واملنظوم‪ ،‬فما كان أعظم مباهاهتم إالّ قول‪ :‬العامل الفالين عند امللك الفالين‪ ،‬والشاعر خمتص بامللك‬
‫الفالين‪ ،‬وليس منهم إالّ من بذل وسعه يف املكارم ونبهت األمداح من مآثره ما ليس طول الدهر‬
‫بنائم"(‪.)2‬‬
‫تعج بالنشاط العلمي‪ ،‬وامللوك‬
‫ويقول "حممد عبد املنعم خفاجي"‪" :‬كانت جمالس األمراء ّ‬
‫يتنافسون يف اقتناء الكتب النفيسة‪ ،‬كما كان للمسجد يف األندلس دور بادي‪ ،‬إذ انتشرت حلقات‬
‫الدرس يف اجملالس وقصدها عدد كبري من الطالب‪ ،‬فكانت احلياة االجتماعية العلمية مزدهرة‪ ،‬بالرغم‬
‫(‪)3‬‬
‫من سوء األوضاع السياسية يف ذلك الوقت"‬

‫(‪ -)1‬ينظر المرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪.19‬‬


‫(‪ -)2‬المقري‪ ،‬أحمد بن محمد المقري‪ :‬نفح الطيب في غصن األندلس الرطيب‪ ،‬تحقيق‪ ،‬احسان عباس‪ ،‬دار‬
‫صادر بيروت‪ ،‬ط‪ ،1988‬ص‪.189.198‬‬
‫(‪ -)3‬خفاجي محمد عبد المنعم‪ :‬الحياة األدبية في األندلس‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬ط‪ ،1‬ص ‪.27-24‬‬

‫‪121‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫ويف هذا اجلو من احلضارة املصقولة‪ ،‬والثقافة املزدهرة ولد ابن حزم ونشأ‪ ،‬وتفاعل معها‪ ،‬غالما‬
‫يافعا‪ ،‬وصبيا دارسا‪ ،‬وشابا قلقا‪ ،‬ورجال يعمل بكل ما أتيح له لكي يوقف احندار اخلالفة وتالشيها‪.‬‬
‫فكيف جتلت ثقافة ابن حزم االجتماعية يف رسالة طوق احلمامة وكيف أثرت نظرته االجتماعية يف‬
‫تدوين هذه الرسالة وما أثر اجلانب االجتماعي لنشأة ابن حزم فيها‪ ،‬وهوما سنجيب عنه يف ما يأيت‪:‬‬
‫باب السفري‪ :‬يف باب السفري حت ّدث عن الشروط الواجب توافرها فيه وهي‪ :‬أن يكون ذا هيبة‪،‬‬ ‫‪‬‬

‫فطنا‪ ،‬يفهم باإلشارة‪ ،... ،‬وُحيسن من حالته وهيئته‪ ،‬ويطرد من باله ما أغفله باعثه‪ ،‬ويؤدي إىل‬
‫كل ما يشاهد على عينه‪ ،‬حافظا لألسرار‪ ،‬وفيا للعهد‪ ،‬قنوعا ناصحا (‪ .)1‬وهذه‬
‫الذي أرسله ّ‬
‫كل اجملتمع‪،‬‬
‫الصفات احلميدة ال جيب أن يتحلى هبا السفري فقط‪ ،‬بل وجب أن تعم فائدهتا على ّ‬
‫وأن يتحلى هبا العامة‪ ،‬فهي من الصفات احلميدة اليت أوصى هبا رسولنا الكرمي‪ .‬كما حت ّدث فيه‬
‫عن صورة املرأة األندلسية السفرية واصفا إياها ب " ذوات العكاكيز والتسابيح والثوبني األمحرين "‬
‫وهذا يدل على أهنا امرأة مسنة أو "إمرأة عجوز" ألن العجوز هي من تستعني يف مشيتها‬
‫بالعكاز‪ ،‬وهي اليت حتمل يف يدها مسبحة‪ ،‬أما ذات ثوبني أمحرين فهذا زي أندلسي تلبسه املرأة‬
‫املسنّة األندلسية‪ .‬ويف هذا املثال ينقل لنا ابن حزم صورة املرأة األندلسية العجوز‪ ،‬واصفا مشيتها‬
‫وثوهبا وبذلك يقرب لنا الصورة من أجل معرفة حياة املرأة األندلسية من زاوية "ابن حزم"‪.‬‬
‫طي السر حت ّدث عن خوف احملب من أن يُكتشف أمره بني الناس فيُفتضح يقول‪:‬‬
‫ويف باب ّ‬ ‫‪‬‬

‫ف ويبتعد عن حمارم اهلل عز وجل اليت يأتيها باختياره‪،‬و إرادته‪ ،‬واليت‬‫على املرء املسلم أن يك ّ‬
‫سيعاقب عليها يوم القيامة؛ وأما االفتتان باجلمال ومت ّكن احلب فطبع ال يُنهى عنه‪،‬كما ال يؤمر‬
‫به‪ ،‬ألن أمر القلوب عند مقلّبها (‪ .)2‬فكتمان السر من القيم النبيلة اليت وجب التحلي هبا؛ ليس‬
‫كل األمكنة‪ .‬وهذا من دالئل الوفاء وكرم‬
‫فقط يف اجملتمع األندلسي بل يف كل األزمان و ّ‬
‫الطبع‪.‬كما حت ّدث يف هذا الباب عن صفة احلياء‪ ،‬واعترب أن من أهم األسباب يف كتمان السر‬

‫(‪ -)1‬ينظر ابن حزم األندلسي‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.131‬‬


‫(‪ -)2‬ينظر ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪،‬ص ‪.133‬‬

‫‪122‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫هو ذلك احلياء الذي يتمتع به احملب‪ ،‬والذي مينعه من البوح مبا يف صدره‪ ،‬واحلياء أيضا شعبة من‬
‫شعب اإلميان‪ ،‬كما قال رسولنا الكرمي‪ ،‬وهذه الصفة غالبة يف املرأة عن الرجل‪ ،‬فلو صدر احلياء‬
‫منه كان مجيال‪ ،‬ولو صدر عنها لكان أمجل‪.‬‬
‫ويف باب اإلذاعة‪ ،‬حت ّدث عن شيوع خرب احلب بني الناس‪ ،‬وهومن منكر ما حيدث‪ ،‬وتشوه لصورة‬ ‫‪‬‬

‫احلب واحملبني يف اجملتمع‪ ،‬فاألصل يف احلب أن يبقى سرا بني احملبني وأال يتجاوزهم‪ ،‬ألن ذلك‬
‫سيؤدي إىل إذاعة خربمها وافتضاح أمرمها‪ .‬ويف هذا يقول ابن حزم‪ :‬وعهدي بفىت من عموم الرجال‬
‫و ِعلية إخواين قد ابتلي مبحبة جارية مقصورة ففنت هبا وقطعه ُوّدها عن كثري من مصاحله‪ ،‬وظهرت‬
‫لكل بصري‪ ،‬إىل أن كانت هي تلومه على ما بدا منه‪ ،‬وما يأخذه إليه هواه و حبه‬
‫عالمات هواه ّ‬
‫هلا (‪.)1‬‬
‫وبفعلته هذه يكون قد فضح نفسه وحمبوبه‪ ،‬وبذلك يكون سر احلب الذي كان بينهما قد‬
‫ُك ِشف وانتهكت أستاره‪.‬‬
‫ويف باب الطاعة حت ّدث باستغراب عن ما يقع يف احلب من طاعةُ احملب حملبوبه‪ ،‬وتصيري طباعه‬ ‫‪‬‬

‫وصفة الطاعة أيضا من اخللق احلميدة اليت حيث عليها اجملتمع والدين‪،‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫إىل طباع من حيبه‬
‫وأمجلها طاعة اهلل و طاعة الولد لوالديه‪ ،‬و طاعة احملب حملبوبه‪.‬‬
‫باب العاذل‪ :‬إن من الناس من ينظر إىل احلب‪ ،‬على أنّه حالة من ضعف اإلرادة‪ ،‬أو حالة‬ ‫‪‬‬

‫إنسانية سوية‪ ،‬ومن هذه املواقف تربز مواقف خلقية متباينة‪ ،‬يشري ابن حزم إىل بعضها ومنها‬
‫تغري‪ ،‬وهوال يدين يف الوقت نفسه باحلب‪ ،‬فيبدأ مبعاتبة‬
‫"العذل" فالعاذل يالحظ ما باحملب من ّ‬
‫احملب على حاله‪ ،‬ويقرر له سوء موقفه‪ ،‬وهلذا العاذل صورتان‪:‬‬

‫(‪ -)1‬ينظر المصدر نفسه ‪ ،‬ص ‪.158-139‬‬


‫(‪ -)2‬ينظر ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص‪.153‬‬

‫‪123‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫اعوجت‪ ،‬وجتاوزاً حصل‪ .‬وهذا إنسان يسعى إىل اإلبقاء على‬ ‫ِ‬
‫‪ -‬األوىل ‪َ :‬م ْن يعذل ليُصحح حالة ّ‬
‫حالة من التوازن لذا" أسقطت مؤونة التحفظ بينك وبينه‪ ،‬فعذله أفضل من كثري من املساعدات‪،‬‬
‫وهو بني احلث والنهي‪ ،‬ويف ذلك زجر عجيب للنفس ‪ ،‬وتقوية لطيفة هلا‪.‬‬
‫أما النوع الثاين من العذال فريمي إىل قتل احلب لذا نراه دائما " زاجرا ال يفيق أبدا من املالمة‪،‬‬ ‫‪-‬‬

‫وذلك خطب شديد وعبء ثقيل"(‪ ،)1‬ويف هذا الباب حي ّدثنا ابن حزم عن جتربته مع صديقه أبا‬
‫السري عمار بن زياد أكثر العذال على حنو ما رأى ابن حزم‪ ،،‬ألنه أعان بعض من المه (عذله)‬ ‫ّ‬
‫عليه ‪ ،...‬وقد اعتقدت أنّه سيكون معي و يف صفي‪ ،‬سواء أخطأت أم أصبت‪ ،‬لقوة صداقيت له‬
‫أخويت به‪ )2( .‬وهذا كما يقول املثل‪ " :‬على قدر احملبة تكون املالمة"‪.‬‬
‫وشدة ّ‬
‫باب مساعدة اإلخوان‪ :‬يتح ّدث فيه عن الصديق وجعل له صفات منها‪ :‬أن يكون‪" :‬خملصاً‪،‬‬ ‫‪‬‬

‫لطيف القول‪ ،‬بسيط الطول‪ ،‬حسن املآخذ‪ ،‬دقيق املنفذ‪ ،‬متم ّكن البيان‪ ،‬مرهف اللسان‪ ،‬جليل‬
‫جم‬
‫احللم‪ ،‬واسع العلم‪ ،‬قليل املخالفة‪ ،‬عظيم املساعفة‪ ،‬شديد االحتمال‪ ،‬صابرا على اإلدالل‪ّ ،‬‬
‫حممود اخلالئق‪ ،‬مكفوف البوائق‪ ،‬حمتوم املساعدة‪،‬‬
‫َ‬ ‫مستوي املطابقة‪،‬‬
‫َ‬ ‫املوافقة‪ ،‬مجيل املخالفة‪،‬‬
‫كارها للمباعدة‪ ،‬نبيل املداخل‪ ،‬مصروف الغوائل‪ ،‬غامض املعاين‪ ،‬عارفا باألماين‪ ،‬طيّب‬
‫سري األعراق مكتوم السر‪ ،‬كثري الرب‪ ،‬صحيح األمانة‪ ،‬مأمون اخليانة‪ ،‬كرمي النفس‪،‬‬ ‫األخالق‪ّ ،‬‬
‫الص ْو ِن‪ ،‬مشهور الوفاء‪ ،‬ظاهر الغَناء‪ ،‬ثابت القرحية‪،‬‬
‫صحيح احلدس‪ ،‬مضمون العون‪ ،‬كامل َّ‬
‫حسن االعتقاد‪ ،‬صادق اللهجة‪ ،‬خفيف‬ ‫َ‬ ‫مستَـْي ِق َن الوداد‪ ،‬سهل االنقياد‪،‬‬
‫مبذول النصيحة‪ْ ،‬‬
‫رحب الذراع‪ ،‬واسع الصدر‪ ،‬متخلّقا بالصرب‪ ،‬يألف اإلحماض‪ ،‬وال يعرف‬
‫املهجة‪ ،‬عفيف الطباع‪َ ،‬‬

‫(‪-)1‬حامد أحمد الدباس‪ ،‬فلسفة الحب و األخالق عند ابن حزم األندلسي‪ ،‬دار اإلبداع للنشر و التوزيع‪ ،‬عمان‪،‬‬
‫األردن‪ ،1993 ،‬ص‪.189‬‬
‫(‪ -)2‬ينظر ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.142-141‬‬

‫‪123‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫للمحب‬
‫ّ‬ ‫اإلعراض‪ ،‬يسرتيح إليه ببالبله‪ ،‬ويشاركه يف خلوة فك ِرهِ‪ ،‬ويفاوضه يف مكتوماته‪ ،‬وإن فيه‬
‫(‪)1‬‬
‫ألعظم الراحات‪".‬‬
‫وهذه من أمجل الصفات الواجب توفرها يف صديق حىت نستطيع أن نطلق عليه اسم‪" :‬الصديق‬
‫األخ" ويف نظر ابن حزم فإن النساء أكثر صداقة من الرجال خاصة األكرب عمرا منهن يقول‪ :‬وما‬
‫هن األكثر حمافظة على األسرار‪ ،‬والتواصي بكتماهنا‬
‫وجدت الصداقة أكثر منها عند النساء‪ ،‬ف ّ‬
‫واالتفاق على طيّها‪ ،‬وهن األكثر اطالعا عليها من الرجال‪ ،‬وما علمت امرأةً أباحت سر حبيب ِ‬
‫ني‪ ،‬إال‬ ‫ّ‬
‫رأيتها عند النساء مكروهة‪،‬ممقوتة و مستثقلة اجمللس‪ ،‬ويوجد هذا األمر عند املسنات أكثر منه عند‬
‫وهذا راجع يف نظره إىل أن العجائز قد يئسن من أنفسهن فصرفن هذا الشيء عن‬ ‫(‪)2‬‬
‫الفتيات"‪.‬‬
‫أنفسهن‪.‬‬
‫كما حت ّدث عن جور بعض النساء يف معاملة جواريهن يقول‪" :‬وقد شاهدت امرأة ميسورة احلال‬
‫فىت من أهلها وحيبها‪ ،‬وكانت‬
‫ب ً‬ ‫ذات جوار وخدم و حشم ‪،‬و قد شاع عن إحدى جواريها أ ّهنا حت ُ‬
‫املرأة تكره جاريتها‪ ،‬وقيل هلا‪ :‬إ ّن جاريتك فالنة حتب فالنا‪ ،‬وكانت ولية أمرها‪ ،‬فأخذهتا وكانت‬
‫غليضةَ القلب فأذاقتها من أنواع اجللد واإليذاء ما ال يطيقه فحول الرجال‪،‬وال يصرب عليه‪ ،‬رجاء أن‬
‫(‪)3‬‬
‫تقر هلا بفعلتها لكنها أبت ذلك وتقل شيئا‪.‬‬
‫بسرها‪ ،‬متثّل منوذجا للنساء يف التكتّم على احملبني‪.‬‬
‫ضربت ضرب الرجال ومل تبح ّ‬
‫وهذه اجلارية اليت ُ‬
‫تصرف سيّدهتا‪ ،‬كيف المرأة أن تفعل ذلك بامرأة مثلها‪ ،‬حىت وإن‬‫ولكن الذي يدعو للحرية هو ّ‬
‫كانت جارية عندها‪ .‬وهذه صورة من صور احلياة االجتماعية يف األندلس واليت أراد ابن حزم أن‬
‫يبني لنا بأن النساء متشاهبات يف كل األزمان وكل األمكنة‪.‬‬
‫ينقلها إلينا حىت ّ‬

‫(‪ -)1‬ابن حزم‪،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.143‬‬


‫(‪– )2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.143‬‬
‫(‪ -)3‬ينظر ابن حزم‪،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.145‬‬

‫‪125‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫اجملرب وخربة األديب يف فهم طبيعة املرأة بوجه عام وما فُطرت عليه من أمور‬
‫مث حي ّدثنا حبنكة ّ‬
‫وذلك يف قوله‪ :‬حىت أنك ترى املرأة الصاحلة املسنة ‪ ،...‬أحب ما يكون أعماهلا ورجاؤها هو السعي‬
‫يف تزويج يتيمة‪ ،‬أو إعارة حليّها و ثياهبا لفتاة مقبلة على الزواج‪،‬وال متلك من أمرها شيئا‪ ،‬وقد غلب‬
‫ود‬
‫كل شيء إالّ اجلماع وأسبابه‪ ،‬والغزل ودوافعه‪ ،‬وال ّ‬
‫هذا الطبع على النساء أل ّهنن مرتاحات البال من ّ‬
‫قن لغريه‪.‬‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ووجوهه ال شغل هلُ َن سواه وال ُخل َ‬
‫(‪)1‬‬

‫فصور لنا هنا صورة املرة‬


‫وهذه صورة مغايرة للصورة اليت نقلها ابن حزم يف املثال السابق‪ّ ،‬‬
‫األندلسية املثال اليت جيب أن حيتذى هبا‪ ،‬ألن متثل املرأة الواعية اليت هلا خربة يف احلياة واليت حتب‬
‫مساعدة اآلخرين والوقوف جبانبهم يف حمنهم وأوقاهتم الصعبة‪ ،‬وهدفها من وراء كل ذلك هو نيل‬
‫األجر عند اهلل ودخول اجلنة‪.‬‬
‫والذي ساعد ابن حزم يف معرفة كل هذه التجارب واخلربات هو أن " تربيته يف حجر النساء‬
‫ف أسباهبن وحبث عن أخبارهن‪...‬وأنّه‬ ‫فتعر َ‬
‫ارهن مما مل يتوافر لسواه‪ّ ..‬‬
‫أطلعته على الكثري من أسر ّ‬
‫لقوي احلافظة ملا يرى ويسمع‪ ،‬فكان يطبعه يف ذاكرته وال ينساه‪ ..‬على أن غريته الشديدة اليت طُبع‬
‫ّ‬
‫دون عن‬
‫بدخائلهن‪ ،‬واطّلع من أسرارهن على الكثري‪...‬و ّ‬
‫ّ‬ ‫جرته إىل سوء الظن بالنساء‪ ،‬فاهتم‬
‫عليها‪ّ ،‬‬
‫املرأة حبنكة الراصد وخربة األريب بعد أن فهمها فهماً رمبا ال يتوافر للكثري من الناس حىت من‬
‫(‪)2‬‬
‫النساء‪"..‬‬
‫وهذا يعين أن رعاية األطفال وتربيتهم يف األندلس كان يوكل يف أحيان كثرية إىل النسوة ‪ ،‬وأن‬
‫النسوة يف قصور الوزراء‪ ،‬كما هو احلال يف العديد من األمم‪ ،‬كن يقمن بأفعال تثري الريبة و تلفت‬
‫أنظار األطفال و انتباههم‪ ،‬وتدعوهم إىل الظن السيئ والشك‪ ،‬والطفل كثري التطلع والفضول‪ ،‬وقد‬

‫(‪ -)1‬ينظر المصدر نفسه ‪ ،‬ص‪.145‬‬


‫(‪ -)2‬مصطفى محمد أحمد علي السيوفي‪ ،‬مالمح التجديد في النثر األندلسي‪ ،‬ص ‪.513‬‬

‫‪124‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫ساعده سنّه لإلحتفاظ بكل ما كان جيري حوله‪ ،‬ويدور أمامه‪ ،‬من قصص وحكايات يف ثنايا قصر‬
‫الوزير‪.‬‬
‫آنسن هن منه الكتمان‪ ،‬فكشفن له عن أسرارهن‪ ،‬وأطلعنه‬
‫وقد اهتم هو بالبحث عن أخبارهن‪ ،‬و َ‬
‫فشب يعرف عنهن مؤامرات النساء‪ ،‬وحيل اجلواري‪ .‬وأول ما نالحظه يف‬ ‫أمورهن‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫على غوامض‬
‫حديث ابن حزم أنّه يقف عند نساء الطبقة العالية‪ ،‬أي فتيات القصر اليت ينتمي إىل طبقتها‪ ،‬وحىت‬
‫يتعرض للمرأة يف الطبقة الوسطى أو الدنيا‪.‬‬
‫اجلواري منهن من يتصل حديثهن برجال هذه الطبقة‪ ،‬ومل ّ‬
‫ولو حىت بإشارة من بعيد‪ .‬وما يثبت ذلك قوله‪" :‬ولقد عاينت النساء وعرفت من أسرارهن ماال يكاد‬
‫غريهن‪ ،‬وال خالطت الرجال‬
‫ّ‬ ‫يعرفه غريي‪ ،‬ألين نشأت يف حجورهن‪ ،‬وتربيت على أيديهن‪ ،‬ومل أعرف‬
‫هن من حفظنين القرآن وعلمنين كثرياً من األشعار‬‫امحر وجهي؛ ف ّ‬
‫إالّ وأنا يف سن الشباب وحني ّ‬
‫تعرف‬
‫سن الطفولة ج ّدا إال ّ‬
‫دربنين على اخلط ‪ ،‬ومل يكن وْكدي وإعمال ذهين مذ ّأول فهمي وأنا يف ّ‬
‫وّ‬
‫أسباهبن‪ ،‬والبحث عن أخبارهن‪ ،‬وحتصيل ذلك‪ .‬وأنا ال أنسى شيئا مما أراه منهن‪ ،‬وأصل ذلك غرية‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫فأشرفت من أسباهبن على غري قليل‪".‬‬ ‫ت به‪،‬‬ ‫شديدة طُبِ ْع ُ‬
‫ت عليها‪ ،‬وسوء ظن يف جهتهن فُط ْر ُ‬
‫(‪)1‬‬
‫ُ‬
‫إن رقابة اجملتمع يف جتربة احلب ال تقتصر على "العاذل"‪ ،‬بل تأخذ صورة أخرى أكثر قسوة‪،‬‬
‫وهي اليت ميثلها الرقيب أو الواشي‪ ،‬أما الرقيب فمن شأنه أن يباعد بني احملبني‪ ،‬ويتسبب يف إيالمهم‬
‫وهو أنواع‪:‬‬
‫‪" -‬فأوهلم ألِف اجللوس‪ ،‬يف مكان اجتمع فيه املرء مع حمبوبه‪ ،‬غري َّ‬
‫متعمد ذلك‪ ،‬وعزما على البوح‬
‫سرمها وإظهار الوجد لبعضهما واالنعزال باحلديث (‪ .)2‬وهذا شخص ال ضرر كبري منه‪،‬‬
‫بشيء من ّ‬
‫ألن رقابته عرضية‪ ،‬وغري مقصودة‪ ،‬فهو خايل البال من السعي إىل التفريق‪ ،‬وإمنا صادف وجوده‬
‫"اخللوة" بني احملبني‪.‬‬

‫(‪ -)1‬ينظر ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.144‬‬


‫(‪ -)2‬ينظر ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.147‬‬

‫‪127‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫‪ -‬والثاين‪ " :‬رقيب قد فطن من أمرمها بطرف‪ ،‬وأحس بشيء من مذهبهما ‪ ،‬فهو يريد أن يستطلع‬
‫حقيقة ذلك‪ ،‬فيكثر اجللوس‪ ،‬ويطيل القعود‪ ،‬ويتحرى احلركات‪ ،‬ويراقب الوجوه‪ ،‬ويعد األنفاس‪،‬‬
‫وهذا شخص يراقب عمدا‪ ،‬قاصدا احليلولة دون لقاء احملبني وهذا‬ ‫(‪)1‬‬
‫وهذا أعدى من اجلرب‪".‬‬
‫"أشنع ما يكون‪...‬إذا كان ممن امتحن بالعشق قدميا‪ ،‬ودهي به‪ ،‬وطالت مدته فيه‪ ،‬مث عُري عنه‬
‫بعد إحكامه ملعانيه‪ ،‬فكان راغبا يف صيانته من رقيب عليه"(‪ ،)2‬فهذا الرقيب يعلم التفاصيل‪،‬‬
‫وحيب االنتقام واألذى‪.‬‬
‫رضي فتلك أل ّذ الغايات‪ ،‬وهذا املراقب‬
‫‪ -‬والثالث مراقب للمحبوب‪ ،‬وال ميلك بدا إال بإرضائه‪ ،‬وإذا َ‬
‫هو من حتدث عنه الشعراء يف دواوينهم‪ ،‬ولقد عاينت من تلطّف يف اسرتضاء الرقيب حىت صار‬
‫الرقيب عليه رقيبا له‪ ،‬متغافال وقت التغافل‪ ،‬ودافعا عنه وساعيا له وقت اجل ّد‪.‬‬
‫وأما الواشي‪ ،‬أو الوشاة فهم من أرذل القوم يسعون إىل كل سوء‪ ،‬وهم شر اخللق " وهم‬
‫النمامون‪ ،‬وأن النميمة لَطَْبع يدل على ننت األصل‪ ،‬ورداءة الفرع‪ ،‬وفساد الطبع‪ ،‬وخبث النشأة‪ ،‬والبد‬
‫لصاحبه من الكذب"(‪ ،)3‬والواشي على نوعني‪:‬‬
‫‪ -‬أوهلما "واش يريد القطع بني املتحابني فقط‪ ،‬و هذا من أبشع األعمال و أسوئها ‪ ،‬ألنه يدس‬
‫مسومه و أكاذيبه يف احملبوب‪،‬ليحرضه على حمبوبه‪،‬و يغري من شعوره اجتاهه ؛ وأكثر من يقنع‬
‫احملب فهيهات و بعُد ما يريد"‪ .‬وهذا دليل على سوء خلقه‪ ،‬ورذالة‬
‫الواشي فهو احملبوب‪ ،‬وأما ّ‬
‫طبعه‪ ،‬ألنه يسعى للتفريق و الضرر‪ ،‬دون هدف حمدد‪،‬و إمنا يفعل ذلك من باب التسلية‪.‬‬
‫‪ -‬وثانيهما "واش يسعى للتفريق بني احملبني‪ ،‬ليخلو له اجلو و يستأثر باحملبوب وينفرد به‪ ،‬وهذا أمر‬
‫فظيع وال يوجد ما هو أعظم منه ‪...‬و هذا ما يسعى الواشي أن يستفيد منه"‪.‬‬

‫(‪ -)1‬ينظر المصدر نفسه ‪ ،‬ص‪..861‬‬


‫(‪ -)2‬حامد أحمد الدباس‪ ،‬فلسفة الحب و األخالق‪ ،‬ص‪.189‬‬
‫(‪-)3‬حامد أحمد الدباس‪ ،‬فلسفة الحب و األخالق ‪ ،‬ص ‪.198‬‬

‫‪128‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫‪ -‬فاألول يريد قطع العالقة بني املتحابني فقط‪ ،‬وهذا حلاجة يف نفسه‪ ،‬ودون هدف معني‪ ،‬والثاين‬
‫يسعى لقطع العالقة بينهما لينفرد باحملبوب‪ ،‬ويستأثر به‪.‬‬
‫باب الكذب‪ :‬مث عاد ابن حزم يذكر أهم الصفات االجتماعية املكروهة يف الرجال خصوصا‬ ‫‪‬‬

‫كل سوء‪ ،‬وجالب ملقلت اهلل‬ ‫كل بالء‪ ،‬وأصل ّ‬‫وذكر منها الكذب يقول‪" :‬الكذب سبب ّ‬
‫"كل اخلالل يُطبع عليها املؤمن الّ‬
‫سبحانه وتعاىل‪ .‬وعن أيب بكر الصديق رضي اهلل عنه قال‪ّ :‬‬
‫اخليانة والكذب"(‪ ،)1‬فأسوأ الرجال مسعة من اشتهر بالكذب‪ ،‬وشاع عنه بأنّه ك ّذاب‪.‬‬
‫وهناك من يعترب الكذب خيانة عظمى‪ ،‬وهناك من اعتربه كفرا وخروجا من امللة ألن اهلل هو‬
‫احلق‪ ،‬وباحلق قامت السماوات واألرض‪.‬‬
‫وقد ذكر ابن حزم هذا يف رسالته يف مداواة النفوس‪ ،‬حيث قال‪" :‬ال فعل أسوأ من الكذب‪ ،‬وما‬
‫حسبك بعيب يكون الكفر نوع من أنواعه‪ ،‬فكل كذب كفر‪ ،‬فالكذب جنس والكفر نوع‬
‫دونه‪".‬‬
‫الصداقة‪ :‬الصداقة عالقة اجتماعية خاصة تقوم على نوع من التجانس األخالقي والشعوري بني‬ ‫‪‬‬
‫األصدقاء‪ ،‬وللصداقة شروط ال تقوم إال هبا‪ ،‬وأوهلا العالقة املتبادلة بني الصديقني‪ ،‬فإذا كان احلب‬
‫واإليثار من أحدمها‪ ،‬وليس اآلخر كذلك‪ ،‬مل حيصل إال على "اخليبة واخلزي" ومن جهة أخرى‪،‬‬
‫فإنّه إذا زهدت "فيمن يريدك ويرغب فيك‪ ،‬فإنّه وجه من وجوه الظلم‪ ،‬وترك مقايضة االحسان"‬
‫ومن هنا فتبادل العالقة الشعورية أساس وهام ويغفل هذا التعاطف اخلاص(‪.)2‬‬
‫والصداقة كالعشق‪ ،‬إال أهنا لنفس اجلنس‪ ،‬وهي عند ابن حزم نوعان‪:‬‬
‫‪ -‬األول‪ :‬صداقة إخوان الصفاء وعلتها حمبة اخلري‪ ،‬وهي عالقة منزهة عن املنفعة والغرض‪ ،‬وهلا‬
‫صورتان‪:‬‬

‫(‪ -)1‬ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.175‬‬


‫(‪ -)2‬ينظر حامد أحمد الدباس‪ :‬فلسفة الحب األخالق‪ ،‬ص‪.193‬‬

‫‪129‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫‪ -‬صداقة هلل فقط‪ ،‬فيتصادق القوم يف حمبة اهلل‪ ،‬والسعي إلقامة شرائعه‪ ،‬ويتناصرون على إجياد‬
‫الفضائل‪.‬‬
‫‪ -‬صداقة للمحبة اجملردة عينها‪.‬‬
‫‪ -‬الثاين‪ :‬صداقة املنفعة‪ ،‬وال تسمى هذه العالقة صداقة‪ ،‬إال جمازا‪ ،‬وعلة اجتماع األفراد فيها املنفعة‪،‬‬
‫ومن هنا فإهنا صور كثرية‪ ،‬يُربز ابن حزم منها‪-‬ومن خالل جتربته صورتني‪-‬‬
‫‪ -‬مصادقة من أقبلت عليه الدنيا‪ ،‬فصار ذا منصب‪ ،‬أو ثراء‪...‬وتدوم هذه العالقة ما دام السبب‪،‬‬
‫وتزول بزواله‪ .‬وهذه صداقة زائفة وغري حقيقية وهوما نطلق عليه صداقة املصلحة‪ ،‬فمادام‬
‫الشخص حباجة إىل اآلخر فهو يصادقه وتنتهي بزوال احلاجة إىل اآلخر‪.‬‬
‫‪ -‬مصادقة األرذال وجيسدها املتصادقون "لبعض األطماع (أو)‪...‬املتنادمون على اخلمر أو‬
‫اجملتمعون على الذنوب و املعاصي‪ ،‬و أرذل األعمال واملتآلفون على هتك أعراض الناس"‪.‬‬
‫وهؤالء قوم جيمعهم الظرف‪ ،‬والغرض الالأخالقي‪ ،‬فإذا انقضى غرضهم تفرقوا‪ ،‬ورمبا تعادوا‪،‬‬
‫حصل أحدهم قدرا من املنفعة أكرب مما حصل غريه‪.‬‬
‫إذا ّ‬
‫‪ -‬وينصح ابن حزم باحلرص على الصديق من النوع األول‪ ،‬مثلما ينصح باالبتعاد عن الصديق من‬
‫النوع الثاين‪ ،‬ألن االرتباط به يقود إما إىل إغضاب اهلل مبسايرته يف ضالله‪ ،‬وإما التعرض للومه‪،‬‬
‫ذمه باالبتعاد عنه‪ ،‬وال تساوي هذه الصداقة‪ ،‬ما حيصل من اهلم واحلزن بسببها‪ ،‬أو بسبب منها‬
‫وّ‬
‫كالغدر‪ ،‬فإن أهلها ينكثون العهد فتحل باإلنسان مصائب كثرية‪ ،‬من جراء هذا ويعترب ابن حزم‬
‫(‪)1‬‬
‫" املصيبة يف الصديق الغادر الناكث للوعد‪ ،‬أعظم من مصائب الدنيا كلها"‪.‬‬
‫وابن حزم حافظ للمودة‪ ،‬متمسك بالصداقة احلقة‪ ،‬جاهدا ما استطاع لتقوية أواصر احملبة بينه‬
‫وبني أصدقائه‪ ،‬فهو احلافظ ألخبارهم‪ ،‬واألمني ألسرارهم‪.‬‬

‫(‪ -)1‬حامد أحمد الدباس‪ ،‬فلسفة الحب و األخالق‪ ،‬ص‪.193‬‬

‫‪138‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫باب الوصل‪ :‬ويعترب ابن حزم الوصل هو احلياة املتجددة والعيش الرغيد والفرح الدائم والطمأنينة‬ ‫‪‬‬
‫املرحية‪ ،‬وهومن القيم االجتماعية النبيلة‪ ،‬ومن األخالق احلميدة‪ ،‬وليس شرطا أن يكون الوصل‬
‫بني املتحابني‪ ،‬فزيارة األهل وصل‪ ،‬وزيارة املريض وصل‪ ،‬وزيارة املقابر وصل‪.‬‬
‫‪ -‬يقول ابن حزم‪" :‬ولقد جربت اللّذات (الشهوات) على اختالفها‪ ،‬وعرفت احلظوظ على تنوعها‪،‬‬
‫فما للقرب من السلطان‪ ،‬وال للجاه املنشود‪ ،‬وال الوجود بعد الفناء‪ ،‬وال اللقاء بعد طول الغياب‪،‬‬
‫الرتوح على املال‪ ،‬من املوقع على النفس بعد الوصال‪ ،‬والسيما إن‬
‫وال الطمأنينة بعد اهللع‪ ،‬وال ّ‬
‫كان بعد طول امتناع (‪.)1‬‬
‫‪ -‬وهنا يتح ّدث ابن حزم عن الراحة والطمأنينة واحلالوة اليت تصيب النفس بعد الوصل‪ ،‬وذلك‬
‫الشعور اجلميل الذي يشبه نزول املطر بعد جفاف‪.‬‬
‫يلمح ابن حزم إىل حالته النفسية بفقدانه األمن ونزوحه عن وطنه وآله‪ ،‬بعد الفتنة‪.‬‬
‫وهنا ّ‬
‫باب الوفاء‪ :‬هو "من محيد الصفات وكرمي ألخالق وفاضل الشيم يف احلب وغريه‪ ... ،‬وابن‬ ‫‪‬‬
‫يروض نفسه على الوفاء لكل من عرف‪ ،‬فهو حافظ للمودة متمسك بالصداقة احلقة جاهد‬
‫حزم ّ‬
‫ما استطاع لتقوية أواصرها بينه وبني أصدقائه‪ ،‬ومن قوله يف ذلك‪" :‬لقد وهبين اهلل عز وجل الوفاء‬
‫يتذمر مين‬
‫لكل امرئ و لو مل ألتق به إال مرة واحدة‪ ،‬ومنحنيي اهلل احلظ يف احملافظة على من ّ‬
‫ولو مبحاورته ساعة‪،...‬‬
‫‪ -‬والوفاء عنده فضيلة جيدر بكل أريب عاقل أن يأخذ نفسه هبا‪ ،‬وأنّه ليزهي هبذه الصفة لنفسه‬
‫ود أخذ نفسه به حىت ألولئك الذين أساءوا إليه‪.‬‬
‫لوفاء طُبع عليه‪ ،‬و ّ‬
‫‪ -‬يقول ابن حزم‪" :‬و أعرف كثريا ممن يقول‪ :‬الوفاء عند الرجال يف قمع الشهوات أكثر منه عند‬
‫النساء‪ ،‬فأحتار من ذلك و أطيل العجب فيه‪ ،‬وإن يل قوال ال أحيد عنه‪،‬أن الرجال والنساء يف‬
‫ت له امرأة ‪ ...‬نفسها باحلب ‪ ، ...‬ومل‬
‫ضْ‬‫اجلنوح إىل الشهوة و الرغبة سواء‪ ،‬وما من رجل َعَّر َ‬

‫(‪ -)1‬ينظر ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.188‬‬

‫‪131‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫يكن مثّة مانع أو حائل‪ ،‬إال وقع يف شرك الشيطان‪ ،‬واستهوته ملعاصي‪ ... ،‬و غلبه الطمع‪ ،‬وما‬
‫من امرأة دعاها رجل إىل مثل هكذا حالة إالّ وأمكنته‪.)1("... ،‬‬
‫‪ -‬وهنا يتجاوز ابن حزم موقف "اجلاحظ" الذي جعل سهولة االنقياد من نصيب املرأة وحدها‪،‬‬
‫يرد عليه(‪.)2‬‬
‫وكأنّه ّ‬
‫‪ -‬وللوفاء بني احملبني أمور وجب مراعاهتا وقواعد وجب العمل هبا منها‪ :‬حفظ عهد احملبوب ورعاية‬
‫ميجد‬
‫شره‪ ،‬ويتغاضى عن عيوبه و ّ‬
‫غيبته‪ ،‬وتستوي عند احملب عالنيته وسريرته‪ ،‬ينشر خريه ويطوي ّ‬
‫أفعاله و أعماله‪ ،‬ويتغافل عن سقطاته‪ ،‬ويرضى منه بكل شيء‪ ،‬وال يطلب منه ما ينفره منه‪ ،‬و‬
‫يبعده عنه ‪...‬‬
‫باب الغدر‪ :‬هو صفة اجتماعية‪ ،‬وليس شرطا أن حيدث بني املتحابني‪ ،‬فالصديق قد يغدر‬ ‫‪‬‬
‫بصديقه‪ ،‬واألخ قد يغدر بأخيه‪ ،‬والزوج قد يغدر بزوجته أو العكس‪ ،‬وهي من أبشع الظواهر اليت‬
‫قد حتدث يف اجملتمع‪ ،‬وهو من مكروهها و مذمومها و أسوئها‪ ،‬و البادئ به يسمى غادرا أو‬
‫مغدرا‪ ،‬وأما املقارض بالغدر على مثله‪-‬وإن تساوى معه يف فعل الغدر‪ -‬وال ينعت بالغادر وال هو‬
‫معيبا بذلك‪ ،‬واهلل عز وجل يقول‪َ ( " :‬و َج َزا ُء َس ِّي َئ ٍة َس ِّي َئ ٌة م ِْثلُ َها) [الشورى‪ ." ]04:‬ألن الغدر يف‬
‫احلالة الثانية جاء نتيجة ملا قام به الغادر يف احلالة األوىل‪ ،‬ولكن ملا جانس الفعل األول الفعل‬
‫الثاين يف الشبه أطلق عليها نفس امسه"(‪.)3‬‬
‫علي من الغدر"‪.‬‬
‫ويقول أيضا‪" :‬وما شيء أثقل ّ‬
‫باب التعفف‪ :‬وهو ترك املعصية والفاحشة‪ ،‬واالبتعاد عنهما قدر املستطاع‪ .‬وهو من الصفات‬ ‫‪‬‬
‫األخالقية اجلميلة اليت جيب أن يتحلى هبا كل شاب وكل فتاة‪ ،‬وهي من الصفات االجتماعية‬
‫اليت كانت سائدة يف شباب األندلس‪ ،‬وقد نقل لنا ابن حزم صورة عن امرأة عفيفة دعاها شاب‬
‫هبن‪ ،‬أنه فنت هبا فىت شديد احلُسن‬
‫إىل املعصية فأبت يقول‪ :‬أخربتين امرأة من النساء اللوايت أثق ّ‬

‫(‪ -)1‬ينظر ابن حزم‪ ،‬الرسائل ‪ ،‬ص ‪.249‬‬


‫(‪)2‬الجاحظ‪ ،‬الحيوان‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪178-149‬‬
‫(‪ -)3‬ابن حزم الرسائل‪ ،‬ص ‪.213‬‬

‫‪132‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫وفتنت به وشاع اخلرب عليهما‪ ،‬وملا اختليا يوما ببعضهما قال هلا‪ :‬تعايل حنقق ما يشاع عنا‪.‬‬
‫"األَخِال ُء َي ْو َمئِ ٍذ َب ْع ُ‬
‫ض ُه ْم لِ َب ْع ٍ‬
‫ض َعد ٌُّو إِال‬ ‫فقالت‪ :‬ال واهلل لن أفعل هذا أبدا‪ ،‬وأنا أتلو قوله تعاىل‪:‬‬
‫"‪-‬الزخرف )‪ (67‬قالت‪ :‬فما لبثنا أن تزوجنا و اجتمعنا يف احلالل"(‪.)1‬‬ ‫ا ْل ُم َّتقِينَ‬

‫تتكون منها الرسالة‪ ،‬يف‬


‫إن املتأمل يف "طوق احلمامة" جيد أن اخلرب ميثل تقريبا نصف املادة‪ ،‬اليت ّ‬
‫حني ميثّل الشعر النصف اآلخر‪ ،‬ذلك أ ّن ابن حزم يالحق اخلرب بالشعر‪ ،‬ويسعى يف أغلب األحوال‬
‫تضمنه اخلرب سردا‪.‬‬
‫إىل جعل الشعر ما كان ّ‬
‫ونالحظ أن هذه األخبار غري متجانسة من حيث الكم‪ ،‬فبعضها كان شديد اإلجياز ال يتجاوز‬
‫اجلملة أحيانا‪ ،‬يوردها دون تفصيل يذكر‪ ،‬وبعض هذه األخبار طويل ميتد على صفحات‪ ،‬كاخلرب‬
‫الذي أورده ابن حزم عن عشقه جلارية أيام صباه‪ ،‬وميتد ذلك من الصفحة السابعة بعد املائة‪ ،‬إىل‬
‫الصفحة العاشرة بعد املائة‪ ،‬كما يبدو أن بنية هذه األخبار تأثرت باملبدأ الذي ألزم به ابن حزم‬
‫نفسه‪ ،‬يف مقدمة الكتاب واملتمثل يف أنّه يورد يف هذه األخبار‪ ،‬ما شاهده وعاينه‪ ،‬أو ورد عن ثقة‬
‫يعرفه‪ ،‬وال يشك يف صدقه‪ ،‬لذلك فإن كثري من هذه األخبار مل تكن يف حاجة إىل سند‪ ،‬فابن حزم‬
‫هو الذي يرويها باعتباره شاهدها أو عاشها‪.‬‬
‫ولقد اقتصرنا يف "الطوق" على هذه العينات‪ ،‬ألهنا األبرز‪ ،‬وألهنا تستجيب لالختيار الذي ألزم‬
‫"ابن حزم" نفسه يف ابتداء الكتاب ويف خامتته‪ ،‬وانطالقا من هذا فإ ّن رصيد ابن حزم كان التجربة‬
‫واملشاهدة‪ ،‬وهوكما يبدو كثري األصحاب‪ ،‬شديد االختالط بالناس وبشرائح خمتلفة منهم‪ ،‬وهذا من‬
‫شأنه أن جيعله واسع التجربة واملشاهدة‪ ،‬كثري االطالع قادر على مجع مادة كتابه بنفسه‪ ،‬وال يكمن‬
‫يف األسلوب الذي يق ّدم فيه املوضوع‪،‬بل يف اختيار املوضوع أيضا‪.‬‬

‫(‪ -)1‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.297‬‬

‫‪133‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫و هذا يعين أن ابن حزم بفضل تلك القصص والتجارب‪ ،‬صار بإمكانه ممارسة دور املعاجل‬
‫النفسي‪ -‬االجتماعي‪ ،‬وذلك يتطلب بعد التعمق يف الدراسة جرأة على "االعرتاف" وتلك خاصية‬
‫امتاز هبا ابن حزم‪ ،‬ومل تكن لتنقصه‪.‬‬
‫إ ّن الطوق حافل باملعلومات الثمينة عن حياة ابن حزم‪ ،‬واليت من خالهلا نتعرف على شيء من‬
‫أخالقه وآرائه‪ ،‬وما تعرض له من احلب‪ ،‬وندرك الكثري عن أصحابه و حياته السياسية‪ ،‬واالجتماعية؛‬
‫أضف إىل ذلك حتليله لعاطفة احلب وما يتصل هبا حتليال نفسيا لطيفا‪ ،‬فضال عما يضمه الكتاب من‬
‫مقاطع شعرية من شعره‪.‬‬
‫كما استطاع ابن حزم أن يق ّدم لنا صورة لواقع حياة الناس يف موضوع "احلب"‪ ،‬كما أن الرسالة‬
‫حتتوي على نظرة يف احلب تشبه فلسفة أفالطونية‪ ،‬وهي نوع من احلب العفيف أو ما يطلق عليه‬
‫باحلب العذري و الذي كان قليل االنتشار يف الشعر األندلسي من قبل‪ ،‬إذ إ ّن شرح احلب على هذه‬
‫الطريقة يعترب أمرا نادر احلدوث يف األندلس‪ ،‬وهو ما جعل بعض الباحثني املستشرقني يبحث يف‬
‫الصلة بني هذه الرؤية األندلسية و ما طرأ على شعر احلب يف أوروبا من تغيري خالل القرن الثاين عشر‬
‫امليالدي‪.‬‬
‫ب‪ -‬رسالة في مداواة النفوس‪:‬‬
‫تمهيد‪:‬‬

‫يقول "آسني بالثيوس"‪ :‬عاش ابن حزم ألوانا من الظلم ما جعل عني الرقة واللني ينضب يف‬
‫نفسه‪ ،‬وشاهد من تلك الفوضى السياسية اليت ضربت األندلس يف أيامه ما أنفر نفسه‪ ،‬وأوذي يف‬
‫كرامته و نفسه مبا لقى من االضطهاد‪ ،‬ورأى كيف أنكر الناس قدره‪ ،‬وكيف كانوا يتجهمون له‬
‫ويقاطعون مذهبه الديين وحيرمونه‪ ،‬فقرر أن يعتزل الناس و احلياة ويستقر وحيدا منفردا يف موطن أسرته‬
‫ت لِ َش ْم‪ ،‬وهي بلدة على مقربة من َولْبَة ‪،‬و قد تكون قرية كازا مونتيخا املعروفة اآلن – وذلك بعد‬
‫مْن ِ‬
‫ُ‬

‫‪133‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫أن صادر املعتمد بن عباد مؤلفاته وأحرقها – ويف انعزاله هذا ألّف كتابه " األخالق والسري يف مداواة‬
‫(‪)1‬‬
‫النفوس"‪ ،‬وهو أشبه باعرتافات تفيض بالتشاؤم العميق‬
‫و يقدم لنا ابن حزم يف هذه الرسالة رؤيته يف احلياة على حنو فلسفي أو عقلي حيث تقوم احلياة‬
‫االجتماعية يف نظره على حمور واحد‪ ،‬أحد طرفيه موجب واآلخر سالب‪ ،‬أما الطرف املوجب فامسه‬
‫يوجه املرء حنو هذا األمر أو ذاك؛ فالطمع موجود‬
‫"الطمع" و هو ذلك احملرك أو الدافع الداخلي الذي ّ‬
‫يف كل مظاهر احلياة االجتماعية من حب وطموح و أمل وحياة مادية‪...‬وإذا كان الطمع يف هذه‬
‫املكانة من حياة األفراد فمن الطبيعي أن ينجم عنه "اهلم"‪ ،‬وهذا األخري هو الطرف السالب يف حمور‬
‫احلياة االجتماعية"(‪.)2‬‬
‫ويقول ابن حزم‪:‬وكل ما نسعى إليه يف هذه احلياة هو حماولة لطرد اهلم‪ ،‬وأن الناس مجيعا يتفقون‬
‫يف هذه الغاية‪،‬و يسعون إليها سواء يف ذلك املتدين ومن ال دين له‪ ،‬واملتصوف والزاهد والفيلسوف‬
‫والعازف عن اللذات وامللحد وغريهم‪.‬‬
‫ويعترب ابن حزم أن القتالع اهلم من جذوره دون أن يولد بني عناصر اجملتمع مها جديدا فهو‬
‫التوجه إىل اهلل تعاىل‪ ،‬فتلك هي الغاية املنشودة اليت يسعى إليها الفرد مطمئنا‪،‬مرتاح البال‪ .‬يقول ابن‬
‫حزم‪" :‬فاعلم أن طرد اهلم‪،‬هو الرجاء املطلوب‪ ،‬وليس إليه إال سبيل واحد وهو العمل هلل تعاىل‪ ،‬فما‬
‫عدا ذلك فضالل وبعد عن اهلل(‪.)3‬‬
‫وابن حزم يقول بقوة الطمع يف تعظيم جانب الشر يف احلياة‪ ،‬ومنه استخلص بأن اهلم دائما شر‪.‬‬
‫و يقرتب ابن حزم يف بعض آرائه االجتماعية من أصحاب املدرسة النفسية‪ ،‬فنظرية "الطمع" أقل‬
‫ما يقال عنها أهنا تشبه ما يقال عن الغرائز وأثرها‪ ،‬ويف هذا يتوافق مع رأي "فرويد" الذي حصر مجيع‬
‫طاقات الغريزة يف اإلنسان حتت مسمى "ليبدو" واختاذه اجلنس ممثال لكل القوى والطاقات‪.‬‬

‫(‪ -)1‬ينظر آنجل جنثالث بالنثيا‪ ،‬تاريخ الفكر األندلسي‪ ،‬مكتبة الثقافة الدينية‪ ،‬ص‪.214‬‬
‫(‪ -)2‬ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.324-325‬‬
‫(‪ -)3‬ينظر المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.327‬‬

‫‪135‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫ومهما يكن يف اآلراء االجتماعية اليت أوردها "ابن حزم" من نقد إال أهنا تعرب عن مشكالتنا‬
‫اليوم‪ ،‬خاصة عندما يقول‪ :‬أعظم ما مير على اإلنسان اخلوف واهلم واملرض والفقر"‪.‬‬
‫مث انتقل بعدها ابن حزم للحديث عن اضمحالل مجيع أحوال الدنيا ولن تبقى إال حقيقة واحدة‬
‫وهي املوت‪ ،‬فمآلنا إىل اآلخرة عاجال أو آجال وحينها لن جند إال عمل اخلري الذي قدمناه ألنفسنا؛‬
‫يقول‪" :‬العاقل ال يرى إال اجلنة جزاء له"‪.‬‬
‫مث يعود إىل النصيحة فيقول‪ :‬باب من أبواب راحة العقل‪ :‬وهو ترك االهتمام بكالم الناس‪،‬‬
‫االهتمام بكالم اخلالق عزوجل‪ )1( .‬وفيه ينصحنا بطرح املباالة بكالم الناس واستغالل هذه املباالة يف‬
‫طاعة اهلل عزوجل‪.‬‬
‫مث عاد ينصحنا بأن القوة هلل وحده‪ ،‬والفضل هلل وحده‪ ،‬وامللك هلل وحده‪ ،‬وخرينا من ق ّدم لنفسه‬
‫اليوم ما ينفعه غدا يقول‪ :‬من اتبع دينه(االسالم) ‪ ،‬واتسع علمه وحسن عمله‪ ،‬فليسعد بذلك‪ ،‬فإنّه‬
‫سيكون أقرب إىل املالئكة وخيار الناس‪.‬‬
‫ويستقصي معاين الفضيلة عند البشر مستدال بآية من التنزيل احلكيم وحديث الرسول عليه‬
‫الصالة والسالم مشريا إىل املزاج الشخصي الذي يكون لصاحبها‪ ،‬مرسخا بعض املفاهيم السلوكية‬
‫" ‪َ :‬وأَمَّا َمنْ َخ َ‬
‫اف َم َقا َم َر ِّب ِه َو َن َهى ال َّن ْف َ‬
‫س َع ِن‬ ‫اليت عرفت يف العصور املتأخرة‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪:‬‬
‫ِي ْال َمأْ َوى[النازعات‪-04:‬‬
‫ْال َه َوى ۝ َفإِنَّ ْال َج َّن َة ه َ‬
‫" وهذا جل الفضل‪ ،‬ألن هني النفس عما تريد و تشتهي هو ردعها‪.‬‬
‫مث عاد "ابن حزم" للحديث عن ظاهرة اجتماعية دينية منتشرة بكثرة يف جمتمعاتنا وهي البغض‬
‫واحلسد‪ ،‬فلو طلب املسلم من اهلل أن مينحه مثل ما منح من حيسده كان خريا له من أن يبغضه‬
‫ويدعو عليه يقول‪" :‬متين الغالء املهلك للناس ‪ ...‬وملن ال ذنب له‪ ،‬ومتين وقوع البالء ملن يبغضونه‪،‬‬

‫(‪ -)1‬ينظر ابن حزم‪ ،‬الرسائل ‪ ،‬ص ‪.338‬‬

‫‪134‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫مع يقينهم أن تلك النيات الفاسدة ال جتلب هلم شيئا مما يتمنونه أو حيدثه‪ ،‬وأهنم لو صفوا نياهتم‬
‫وأحسنوا الظن ألرادوا الراحة ألنفسهم وتفرغوا ملصاحلهم‪".‬‬
‫يقول رسولنا الكرمي‪ " :‬خريكم خريكم ألهله" ويقول أيضا‪" :‬مازال جربيل يوصيين باجلار حىت‬
‫ظننت أنه سيورثه‪".‬ويقول ابن حزم‪ :‬من جار على أهله وجريانه فهو أسقطهم‪ ،‬ومن سكت على‬
‫اجلور منهم فهو مثله‪ ،‬ومن مل يرضى عن اإلساءة فهو أفضلهم و خريهم و سيدهم‪ .‬وفيه خيربنا أن‬
‫حنسن معاملة أهلنا وجرياننا وأن ال نقابل السيئة بالسيئة‪ ،‬وأن نعفو عند املقدرة‪.‬‬
‫ويف فصل العلم حت ّدث ابن حزم عن فضل العلم ومرتبة املعلم ودوره يف اجملتمع‪ ،‬وأن األمم ترقى‬
‫برقي علمائها وعلومها‪ ،‬كما اعترب العلم سببا لدخول اجلنة ورفع اجلهل عن األمم يقول‪ :‬بفضل العلم‬
‫يهابك اجلهال وحيبك العلماء‪ ،‬ويكرمونك‪ ،‬و هذا سبب وجيه لطلبه‪ .‬فكيف بسائر فضائله يف الدنيا‬
‫واآلخرة‪.‬‬
‫(‪)1‬‬

‫يقول الرسول صلى اهلل عليه و سلم‪":‬اطلبوا العلم من املهد إىل اللحد"‪،‬وهذا ملا للعلم من مكانة‬
‫يف الدين اإلسالمي ألنه يفتح العقول و ينري الوجوه‪.‬‬
‫أما عن أحق العلوم وأجدرها بالتعليم والتعلم يف نظره وعند العقالء تلك احلالة اليت يتوصل هبا‬
‫ويتقرب إىل اخلالق العظيم‪ ،‬وتعينك على الوصول إىل رضاه‪ ،‬ويف هذا يقول‪" :‬أفضل العلوم ما قربك‬
‫من خالقك سبحانه و تعاىل‪ ،‬وما ساعدك يف الوصول إىل رضاه"(‪.)2‬‬
‫حث على دراسة سرية الرسول الكرمي ألن هبا من العلم ما ليس بغريها ومنها تؤخذ األخالق‬
‫كما ّ‬
‫والفضائل يقول‪ :‬من أراد جنة اآلخرة وحكمة احلياة وعدل السرية و االتصاف مبحاسن األخالق‬
‫كلها واالستحواذ على الفضائل بأسرها فلتكن أسوته حممدا رسول اهلل‪ -‬صلى اهلل عليه وسلم‪-‬‬
‫وليظهر أخالقه وسريه ما أمكنه (‪.)3‬‬

‫(‪ -)1‬ينظر ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.333‬‬


‫(‪-)2‬المصدر نفسه ‪ ،‬ص ‪.333‬‬
‫(‪ -)3‬ينظر ابن حزم‪ ،‬الرسائل ‪ ،‬ص ‪.335‬‬

‫‪137‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫ويف فصل األخالق والسري حت ّدث عن الصرب والدهاء والثقة ومعرفة عيوب النفس والكرم والعفة‬
‫والعدل والتسامح وكلها صفات محيدة وجب على املسلم أن يتحلى هبا ويعلمها ألبنائه؛ كما حت ّدث‬
‫عن الصفات اليت جيب على املؤمن أن يبعدها عنه ويبتعد عنها منه‪ :‬الظن بالسوء‪ ،‬وتقريب األعداء‬
‫من النفس‪ ،‬والظلم‪ ،‬وغفلة النفس ونسياهنا‪ ،‬واإلفراط يف األنفة‪ .‬يقول‪:‬‬
‫"احرص على أن توصف بسالمة اجلانب‪ ،‬واحذر أن توصف بالدهاء فيكثر احملتاطون منك‪،‬‬
‫حىت ال يضرك ذلك‪ ،‬وال يزعجك"‬
‫عود نفسك على ما تكره‪ ،‬ينقص مهك ‪...‬ويكرب سرورك ويتضاعف إذا أتاك ما تريد مما مل تكن‬
‫" ّ‬
‫ق ّدرتَه وال توقعت منه ذلك"‪.‬‬
‫"الغادر يفي باحملدود والويف يفي باحملدود والسعيد يف دنياه هو الذي مل يضطره الزمان إىل امتحان‬
‫اإلخوان"(‪.)1‬‬
‫ويف هذا السياق يذهب ابن حزم لالعرتاف "بوجود قيمة لتديُّن اآلخرين‪ ،‬فهم ال يدينون بالباطل‬
‫احملض‪ ،‬بل يف تدينهم شيء من احلقيقة وجزء من اإلسالم‪ ،‬يتفاوتان من دين إىل آخر‪ .‬وال عجب أن‬
‫يصدر هذا املوقف من ابن حزم‪ ،‬وهو القائل يف إحدى حكمه"(‪ :)2‬ثق باملتدين حىت ولو علمت أنّه‬
‫(‪)3‬‬
‫على غري دينك‪ ،‬وال تثق باملستخف وإن كان على دينك"‬
‫ولعل هذا املوقف اإلنساين خيفف شيئا ما من الطبع احلاد الذي الزم ابن حزم‪ ،‬ومحله على جتريح‬
‫خمالفيه‪.‬‬

‫(‪ -)1‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.337‬‬


‫(‪- )2‬عدنان المقراني‪ ،‬نقد األديان عند ابن حزم األندلسي‪ ،‬المعهد العالمي للفكر اإلسالمي‪ ،‬ط‪،2888 ،1‬‬
‫ص‪.47‬‬
‫(‪ -)3‬ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.358‬‬

‫‪138‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫ويف فصل اإلخوان والصداقة والنصيحة‪ :‬حتدث ابن حزم عن فضل اإلخوان والصداقة الطيبة احلقة‬
‫الدائمة‪ ،‬فالصديق وقت الضيق والصداقة احلقة هي اليت "يشاركك صديقك فيها نفسه وماله ال‬
‫لسبب معني ‪،‬بل ألنه فضلك وآثرك على من سواك حبب صادق‪".‬‬
‫أما عند حتليله لألمناط اخللقية السلوكية‪ ،‬فيطلعنا ابن حزم على مراتب النصيحة ومىت يتأكد فعلها‬
‫ومىت يذم؟ يقول‪ " :‬النصيحة مرتان‪ :‬فاألوىل فرض وديانة‪ ،‬والثانية تذكري و تنبيه‪ ،‬وأما الثالثة فتوبيخ‬
‫وتقريع‪ ،‬وليس وراء ذلك إالّ الرتّكل (الضرب بالرجل) واللطام‪ ،‬اللهم إال يف معاين الديانة‪ ،‬فواجب‬
‫رضي املنصوح أو سخط‪ ،‬تأذّى الناصح بذلك أومل يتأذّ‪.)1("..‬‬
‫على املرء إال أن يزيد النصح فيها َّ‬
‫التلون‬
‫كما حت ّدث ابن حزم عن بعض الظواهر االجتماعية السائدة يف اجملتمع األندلسي منها‪ّ " :‬‬
‫املذموم‪ ،‬هو التكلف الذي ال معىن له‪ ،‬و انتقاله إىل تكلّف آخر أعظم منه يف عدم الفائدة‪ ،‬ومن‬
‫حال ال معىن هلا‪ ،‬إىل حال ال فائدة منها بال سبب يدعو إىل ذلك‪".‬‬
‫(‪)2‬‬

‫واعترب الثبات من املظاهر واألخالق اليت وجب على املسلم التحلي هبا‪ ،‬كما أمرنا أن نُشغِل‬
‫فكرنا وعقلنا يف الطاعات والفضائل واجتناب املعاصي والرذائل‪ ،‬كما هنانا عن احلمق يف ارتكاب‬
‫املعاصي والرذائل ألن احلُمق ضد العقل وال واسطة بينهما إال السخف‪ ،‬وهو والقول و العمل مبا ال‬
‫حيتاجه ‪ ،‬وهو من األخالق الذميمة‪ ،‬كما هنى عن التعدي وقذف بيوت الناس باحلجارة والتخليط‬
‫يف القول‪.‬‬
‫وعن الغرور يقول‪" :‬للمعجب‪ :‬عُد إىل نفسك‪ ،‬فإن عرفت عيوهبا فقد داويت غرورك‪...‬وإن‬
‫متر خبيالك ويف األمنيات السيئة الدائرة بفكرك‪ ،‬فستعرف‬
‫أُعجبت بفكرك‪ ،‬فخمن يف كل فكرة سوء ّ‬
‫نقص عقلك حينئذ‪ ..‬وإن أعجبت بأرائك فتذكر سقطاتك وال تنسها‪ ...‬وإن أُعجبت بعطائك‬
‫لك فيه‬
‫فتف ّكر يف ذنوبك وتقصريك ويف عيوبك ووجوهها‪ ..‬وإن أُعجبت بعلمك‪ ،‬فاعلم أنّه ال فضل َ‬

‫(‪-)1‬ابن حزم‪ ،‬الرسائل ‪ ،‬ص ‪.343‬‬


‫(‪ -)2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.377‬‬

‫‪139‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫وأنّه موهبة و عطاء من اهلل وهبك إياها ربّك تعاىل فال تقابلها مبا يغضبه‪ ..‬وان أعجبت بشجاعتك‬
‫فتفكر فيمن هوا أشجع منك‪ ..‬وان أعجبت بسلطانك يف دنياك فتفكر يف معارضيك ومن هم يف‬
‫مثل سنك ونظائرك ولعلهم وضعاء و ضعفاء‪ ..‬وإن أُعجبت مبا لديك من مال فهذه أسوا مراتب‬
‫العجب فانظر يف كل وضيع خسيس فهوا أغىن منك فال تفرح حبالة يفوقك فيها من ذكرت‪ ..‬وإن‬
‫أعجبت حبسنك و مجالك ففكر فيه يولد عليك مما نستحي حنن من إثباته وتستحي أنت منه‪ ..‬وإن‬
‫أعجبت بإعجاب إخوانك بك فتذكر ذم أعدائك لك‪..‬وإن أعجبت حبسبك فهذه أسوأ من كل ما‬
‫ذكرنا آنفا‪ ،‬فهذا الذي أعجبت به ال فائدة ترجى منه‪ ،‬يف دنيا وال يف آخرة‪،‬ذلك ألنك مل ختتاره‬
‫بيدك‪ ...‬فإن أعجبت بوالدة الفضالء إياك فما أخلى يدك من فضلهم إن مل تكن أنت فاضال‪ ،‬وما‬
‫اقل غناءهم عنك يف الدنيا واآلخرة إن مل تكن حمسنا‪"...‬‬
‫(‪)1‬‬

‫تغرنك احلياة الدنيا ونعمها‪ ،‬فاجلنة أنعم‬


‫وهنا ينبه ابن حزم الناس أن كل شيء زائل ومنتهي‪ ،‬فال َّ‬
‫وأبقى‪.‬‬
‫كما أمرنا بالدهاء واحلزم والوقار والرزانة والسالمة‪ ،‬وهنانا عن الغفلة والتضييع والسخف‪.‬‬
‫ويف نظره فإن أصول الفضائل أربعة هي‪ :‬العدل واجلود والفهم و النجدة‪ ،‬أما منابع الرذائل فأربعة‬
‫أيضا هي‪ :‬اجلور واجلهل واجلنب والشح‪.‬‬
‫واعترب الكذب من أقبح الصفات مجيعا‪ ،‬ألهنا نوع من أنواع الكفر يقول‪" :‬ال خلق أسوأ من‬
‫الكذب‪ ،‬وما حسبك بعيب يكون الكفر منطا من أمناطه‪ .‬فكل كفر كذب‪...‬والكذب ناتج من‬
‫(‪)2‬‬
‫الظلم واجلنب واجلهل‪ ،‬ألن اجلنب يؤدي إىل إذالل النفس‪ ،‬و الدجل يبعد النفس عن عزهتا‬
‫كل ابتالء لذا اعتربه ابن حزم كفر ألنه جير صاحبه إىل معاصي عديدة‪.‬‬
‫والكذب أصل ّ‬

‫(‪ -)1‬ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص‪.392‬‬


‫(‪-)2‬ينظر المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.381‬‬

‫‪138‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقايف يف رسائل ابن حزم األندلسي‬

‫ويف خامتة هذه الرسالة ال يسعنا أن نقول إالّ كما قال "آسني بالثيوس"‪ :‬إنّه أشبه بدفرت‬
‫يوميات‪ ،‬كتب فيه ابن حزم جتارب أو اعرتافات و حقائق تتصل بسرية حياته‪ ،‬و تأيت هذه‬
‫املالحظات دون ترتيب‪ ،‬ذلك أ ّن القصد منه الرتبية و التعليم‪ ،‬ومل يهتم يف تسلسلها مبنطق معني‪.‬‬
‫مر بتجارب كثرية‪ ،‬صائغا إياها‬
‫فعند قراءتنا له جند فيه الوقائع كما دوهنا رجل فطن شديد املالحظة ّ‬
‫يف شكل حكم و مبادئ عامة (‪.)1‬‬
‫كما اتبع ابن حزم األسلوب الوعظي احلكمي‪ ،‬مع عدم مراعاة الرتتيب والتنسيق‪ ،‬فكلما خطرت‬
‫دوهنا ومل يراع ما قبلها وال ما بعدها‪ ،‬كما ال خيلو الكتاب من الفقرات الطوال‪ ،‬مثل‬
‫يف باله فكرة ّ‬
‫ذم فيها اخليالء و الغرور‪ ،‬أو تلك اليت خيربنا فيها ببعض الصفات أخالقية الذميمة اليت‬
‫الفقرة اليت ّ‬
‫يراها يف نفسه‪ ،‬ويقر هبا يف تواضع وإخالص‪ ،‬و يصف ابن حزم أخالق البشر يف أسلوب سلس‬
‫وبسيط‪،‬يف مواضع أخرى من الكتاب‪.‬‬
‫التصوف‪ :‬هي أهنا تق ّدم لنا‬
‫وأعظم قيمة هلذه الرسالة اليت صدرت عن نفس يشوهبا التشاؤم و ّ‬
‫صورة واقعية ملسلمي األندلس و حاالهتم النفسية يف القرن اخلامس اهلجري‪ ،‬وأهم الصفات‬
‫واألخالق اليت كانت منتشرة يف جمتمعهم؛ خاصة ما تعلق منها حبياة ابن حزم نفسه‪.‬‬

‫(‪-)1‬آنجل جنثالث بالنثيا‪ ،‬تاريخ الفكر االندلسي‪ ،‬مكتبة الثقافة الدينية‪ ،‬ص ‪.217‬‬

‫‪131‬‬
‫الفصل الرابع‪:‬‬
‫رسائل ابن حزم األندلسي في‬
‫سياقها النفسي‪.‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫تمهيد‪:‬‬

‫شهدت احلركة النقدية حديثا العديد من املناهج‪ ،‬ومن بني هذه املناهج نذكر‪ :‬املنهج النفسي‬
‫بدع‬
‫الذي يهدف إىل حتليل النصوص ومقاربتها من اجلانب النفسي للمبدع وما مدى تأثر العمل امل َ‬
‫ُ‬
‫بنفسية الكاتب‪.‬‬
‫والقراءة النفسية واحدة من القراءات النقدية اليت استهدفت قراءة النص األديب‪ ،‬وهي تنطلق من‬
‫منهج نفسي متقن‪ ،‬وذلك يف استخدام األدوات املناسبة من أجل الوصول إىل الغاية املرجوة من‬
‫النص‪.‬‬
‫ويتناول املنهج النفسي عند دراسته لألدب ثالثة اجتاهات هي‪ :‬املبدع و اإلبداع و متلقي االبداع‬
‫أو قارئه‪ ،‬فيقدم عن كل اجتاه من هذه االجتاهات تصورا‪ ،‬ملا ميكن أن يكون قد حت ّدث عنه الكاتب‬
‫مبد ِعه‪.‬‬
‫يف َ‬
‫وهناك من النقاد من اعترب املنهج النفسي يف دراسته للفنون واآلداب‪-‬وما ق ّدمه من أفكار وآراء‬
‫– أقرب إىل التحليل النفسي منه إىل النقد األديب أو الدراسة األدبية‪.‬‬

‫‪133‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫أوال‪ :‬تعريف المنهج النفسي‪:‬‬


‫األدب ترمجان احلياة‪ ،‬ومنه يستلهم األديب جتاربه العقلية والنفسية و يرتمجها نشاطا أدبيا‪ ،‬وهلذا‬
‫فاألدب بعبارة أخرى مرآة عاكسة لعقل األديب ونفسيته(‪ ،)1‬ويقوم املنهج النفسي على ربط األدب‬
‫باحلالة النفسية لألديب‪ ،‬ويعمل بالضرورة على دراسة األمناط النفسية الناقلة لألعمال األدبية‬
‫والوقوف على القوانني اليت على أساسها حت ّكم هذه األعمال يف دراسة األدب‪ ،‬ومن أهم رواده‪:‬‬
‫(‪)2‬‬
‫"سيغمون فرويد‪ ،‬كارل يونغ‪ ،‬وأدلر‬
‫ويف أبسط تعريفات املنهج النفسي‪ :‬هو ذلك املنهج الذي ُخي ِ‬
‫ض ُع النص األديب للدراسة النفسية‪،‬‬
‫حماوال االستفادة من النظريات النفسية يف تفسري الظواهر األدبية‪ ،‬والكشف عن أسباهبا وعلَلِها‪،‬‬
‫وأصوهلا اخلفية‪ ،‬و ُخيوطها الرفيعة‪ ،‬وما هلا من أبعاد وآثار‪ )3(.‬وهو املنهج الذي يبحث يف املؤلفات‬
‫عن احلالة النفسية ملؤلفيها‪ ،‬ومدى تأثري احلياة النفسية على سلوكه وكتاباته‪.‬‬
‫ويستمد املنهج النفسي آلياتِه من نظرية التحليل النفسي أو "التحلسفي" على ح ّد حنت "عبد‬
‫املالك مرتاض"‪ ،‬واليت أسسها "سيغموند فرويد"(‪ )1939 -1854‬يف مطلع القرن العشرين‪ُ ،‬فرد على‬
‫(‪)4‬‬
‫أساسها السلوك اإلنساين إىل منطقة الالوعي (الالشعور)‪.‬‬
‫كل امرىء رغبات مكبوتة ومدفونة ‪ ،‬تصارع دوما إلشباعها‪ ،‬حيث تظهر يف أشكال‬ ‫ففي نفس ّ‬
‫خمتلفة كاألحالم‪ ،‬اهلذيان واألعمال الفنية ؛ والفن هنا تصور ملا مل يستطع الفنان حتقيقه يف واقعه‬
‫االجتماعي‪ ،‬واستجابة تلقائية للمثريات النائمة يف األعماق النفسية‪ ،‬واليت قد تكون رغبات‬

‫(‪ -)1‬ينظر عبد العزيز عتيق‪ :‬في النقد األدبي‪ ،‬دار النهضة العربية للطباعة و النشر‪ ،‬بيروت لبنان‪،‬‬
‫ط‪.1972‬ص‪.295‬‬
‫(‪ -)2‬ينظر أحمد الرقب‪ :‬نقد النقد‪ ،‬يوسف يكاد يكون ناقدا‪ ،‬دار اليازوري العلمية للنشر والتوزيع‪،‬‬
‫عمان‪ ،2887‬ص‪.91‬‬
‫(‪ -)3‬ينظر عبد هللا عبد الجواد‪ :‬المنهج النفسي في النقد‪ ،‬دراسة تطبيقية على شعر أبو الوفاء‪ ،‬مجلة الحرس‬
‫الوطني‪ ،‬العدد‪ ،14‬ص ‪.87‬‬
‫(‪-)4‬ينظر يوسف وغليسي‪ :‬مناهج النقد األدبي‪ ،‬ص ‪.22‬‬

‫‪133‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫جنسية(حسب فرويد)‪ ،‬أو شعور بالنقص يقتضي التعويض(حسب أدلر)‪ ،‬أو جمموعة من التجارب‬
‫واألفكار املوروثة املخزنة يف الالشعور اجلمعي (حسب يونغ) وهذا النوع الثالث جنده الغالب عند ابن‬
‫حزم يف رسائله‪ ،‬فمعظم ما كتبه هو خالصة جتاربه يف احلياة‪ ،‬أوما وجد أهله وأقرباؤه يفعلونه أوهي‬
‫أفكار وقصص عاشها أصحابه‪.‬‬
‫وتعود بدايات املنهج النفسي يف النقد األديب إىل تلك املالحظات اليت ميكن أن تتجلى من بعض‬
‫سياقات نظرية أفالطون عن مدى تأثري الشعر على العواطف اإلنسانية‪ ،‬حيث أنه وصل بني اإلبداع‬
‫(العمل األديب)ونفسية املبدع (األديب)‪ ،‬وذلك من خالل نظرية التطهري باستثارة شعور اخلوف‬
‫والشفقة يف آن واحد‬
‫(‪)1‬‬

‫ويبدو أن نظرية التطهري مرتبطة بالعمل األديب وبوظائفه النفسية‪ ،‬والتحليل النفسي يف األدب‬
‫والنقد ظهر حقيقة مع "سيغموند فرويد" الذي يعترب أن اإلبداع األديب ثري بطبقات مرتاكمة من‬
‫الداللة‪ ،‬فهو يكون حماولة مللء رغبات أساسية متخيلة كانت‪ ،‬أم وليدة عامل الفانتازيا‪ ،‬وال يكون‬
‫الشغف شغفا ما مل َحيُ ْل بينه وبني اإلشباع حائل مثل التحرمي الديين‪ ،‬أو املنع االجتماعي(‪.)2‬‬
‫واملنهج النفسي من وجهة نظر اجتاهات النقد احلديثة‪ ،‬يهدف إىل حتليل لغة النص األديب‪ ،‬ليصل‬
‫إىل مكامن النفس الالشعورية لألديب‪ ،‬من طريق حتليل جل اإلشعارات والصور البالغية املضمرة يف‬
‫بنية العمل األديب‪ ،‬وهذا ما جيعله جيمع بني األسس النفسية ومثيالهتا النقدية ليقف على حقيقة‬
‫منطق الالوعي من خالل حتليل لغة اإلبداع ولغة الالشعور‪.‬‬
‫إذا يهتم املنهج النفسي بنفسية األديب وتأثري هذه النفسية أو احلالة الالشعورية على أدبه وآثاره‬
‫وذلك عن طريق تطبيق آليات وإجراءات املنهج النفسي على األعمال األدبية وذلك من خالل‬
‫إسقاط احلالة النفسية لألديب على عمله وأدبه‪.‬‬

‫(‪ -)1‬ينظر صالح هويدي‪ :‬النقد األدبي الحديث‪ ،‬قضاياه و مناهجه‪ ،‬دار اآلداب‪ ،‬ص ‪.88‬‬
‫(‪-)2‬ينظر ميجان الرويلي‪ ،‬سعد اليازغي‪ :‬دليل الناقد األدبي‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء‪،‬‬
‫المغرب‪ ،‬ط‪ ،32882‬ص‪.333‬‬

‫‪135‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫‪-‬أما التحليل النفسي فهو الدراسة العلمية لبعض أوجه نشاط الفرد وما يتضمن من سلوك ظاهر‬
‫وجتارب ذاتية شعورية أوال شعورية‪ ،‬وميكن القول أن موضوع السياق النفسي ليس هو الشعور‬
‫والالشعور‪ ،‬بل هو اإلنسان يف مشوله و إنسانيته و مشاعره‪ ،‬من حيث هو وحده بيولوجية اجتماعية‬
‫ذات تاريخ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬

‫ثانيا‪ :‬مفهوم السياق النفسي وبنيته‪:‬‬


‫أ‪ -‬مفهومه‪:‬‬

‫إن الغاية من دراسة السياق النفسي‪ ،‬تتمثل يف التمييز بني املعىن النفسي‪ ،‬واملعىن املنطقي‪ ،‬فاملعىن‬
‫النفسي خيتلف باختالف األفراد‪ ،‬فهو ذايت خبالف املعىن املنطقي الذي يتميز باملوضوعية‪ ،‬ويُع ّد‬
‫املنهج النفسي أحد املذاهب املعروفة يف جمال الدراسة األدبية‪ ،‬والذي يعترب أ ّن التعبري الفين صياغة‬
‫لتجربة حتكمها مثريات وحوافز داخلية وخارجية‪ ،‬كما أ ّن هذا التعبري أو العمل ال ينفصل عن‬
‫يعرب عن نفسه أو فكره‪ ،‬من خالل النص‪ ،‬فإنّه ال يستطيع‬
‫شخصية مبدعه‪ ،‬لكن املبدع عندما ّ‬
‫اخلروج عن اإلطار اللغوي الذي يش ّكل وسيطا بني املبدع واملتلقي‪ ،‬فللغة وجودها املوضوعي‪ ،‬الذي‬
‫ال يستطيع املبدع بدونه بناء النص األديب‪ ،‬مع إجراء بعض التعديالت يف معطياته(‪.)2‬‬
‫‪ -‬وتؤكد دراسة السياق النفسي‪ ،‬على املنابع النفسية للنص األديب‪ ،‬ودورها يف إضفاء القيمة‬
‫اجلمالية عليه‪ ،‬فالتحليل النفسي للنصوص يتضمن اجلانب االنفعايل فهو يقوم على دالالت األلفاظ‬
‫ومعانيها النفسية عند األفراد‪ ،‬فاللغة ال حتتكم إىل العقل فقط‪ ،‬بل متتزج أحيانا بالعاطفة‪ ،‬فاألديب‬
‫عندما يستعمل اللغة فإنّه يقوم بتوظيفها واستغالل إمكاناهتا للتعبري عن أغوار نفسه‪ ،‬وهو يف حتقيق‬
‫عمد إىل تسخري ما يستطيع تسخريه من قدرات اللغة وفنوهنا؛ كما أ ّن فهم املعاين‬
‫هذه الغاية يَ ُ‬
‫يتفاوت بني الناس حبسب استعدادهم وقدراهتم‪ ،‬فصور األشياء تتلون يف األذهان حبسب كيفية‬

‫(‪ -)1‬ينظر سيغمون فرويد‪ :‬الموجز في التحليل النفسي‪ ،‬ترجمة سامي محمود علي‪ ،‬مكتبة األسرة‪،‬‬
‫ط‪ ،2888‬ص ‪.29‬‬
‫(‪ -)2‬ينظر المهدي إبراهيم الغويل‪ ،‬السياق وأثره في المعنى‪ ،‬دار الكتاب للنشر و التوزيع‪ ،‬ص‪.113-112‬‬

‫‪134‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫إدراكهم هلا‪ ،‬ويف هذا يقول "حازم القرطاجين"‪" :‬إ ّن املعاين هي الصور احلاصلة يف األذهان عن‬
‫فكل "موجود" خارج الذهن إذا أدرك صارت له صورة يف ال ّذهن‪،‬‬ ‫األشياء املوجودة يف األعيان‪ّ ،‬‬
‫املعرب عن‬
‫عرب عن تلك الصورة الذهنية احلاصلة عن اإلدراك‪ ،‬اختار اللفظ ّ‬‫تطابق ما تصوره ‪ ،‬فإذا ّ‬
‫تلك الصورة إلفهام السامعني‪ ،‬فصار يف أذهاهنم وجود آخر للمعىن‪ ،‬من جهة داللة األلفاظ‪ .‬فإذا‬
‫تدل على األلفاظ ملن مل يتهيّأ له مسعها من املتلفظ هبا‪ ،‬صارت‬
‫أُحتيج إىل وضع رسوم من اخلط ّ‬
‫رسوم اخلط تقيم يف اإلفهام هيآت األلفاظ فتقوم هبا يف األذهان صور املعاين فيكون هلا أيضا وجود‬
‫من جهة داللة اخلط على األلفاظ الدالة عليها"‬
‫(‪)1‬‬

‫وهذا يعين أ ّن املعاين والصور املوجودة يف ال ّذهن ليست نقال حرفيا للواقع –االجتماعي أو‬
‫النفسي‪ -‬ألهنا خاضعة للعقل واملنطق والعاطفة‪ ،‬وهلذا فإ ّن التعبري عن األشياء يكون تعبريا عن الصور‬
‫بتفاوت املدركني هلا‪.‬‬
‫تكوهنا‪ ،‬ودرجة الفهم تتفاوت ُ‬
‫واملعاين اليت ّ‬
‫‪-‬إ ّن املعىن األديب ليس معىن موضوعيا ثابتا ألنّه ليس له وجود موضوعي خارج ال ّذهن يف احلقيقة‪،‬‬
‫ومادام هذا املعىن يتكون داخل الذهن من خالل الصور املدركة‪ ،‬فإنه ال مناص من الرجوع واالستناد‬
‫إىل الشخص املدرك نفسه عند عملية تفسري النص(‪)2‬؛ وهلذا يرى بعض الفالسفة أن األشياء ال حتمل‬
‫معىن ولكن املعىن يف عقولنا‪ ،‬فالفنان يقصد من عمله الفين معىن‪ ،‬وكل منّا يقدر هذا املعىن تقديرا‬
‫(‪)3‬‬
‫خاصا‪ ،‬فيحدث لذلك التفاوت‬

‫(‪- )1‬حازم القرطاجني‪ ،‬منهاج البلغاء و سراج األدباء‪ ،‬تحقيق محمد الحبيب بن خوجة‪ ،‬دار العرب‬
‫اإلسالمي‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪ ،.1981 ،2‬ص‪.19-18‬‬
‫(‪ -)2‬ينظر المهدي إبراهيم الغويل‪ ،‬السياق وأثره في المعنى‪ ،‬ص‪.115‬‬
‫(‪ -)3‬ينظرعز الدين اسماعيل‪ ،‬األسس الجمالية في النقد األدبي‪ ،‬دار الفكر العربي‪ ،‬ط‪ ،1955 ،1‬ص‪.88‬‬

‫‪137‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫فالشعر بوصفه بناء لغويا متميزا‪ ،‬ال يعين أنه انعكاس مباشر للواقع‪،‬أو أنّه ينقل لنا الواقع حبذافريه‪،‬‬
‫بل هو بنية موحدة متنحنا رؤية فنية للحياة وتعبريا رمزيا عنها‪ ،‬وبفضله يُكشف اتصال اإلنسان‬
‫(‪)1‬‬
‫مبظاهر الوجود اخلارجي‬
‫‪-‬إن العامل املشرتك بني األدب وعلم النفس‪ ،‬هو دراسة األفكار والعواطف واملشاعر‪ ،‬إال أ ّهنا‬
‫تفرق عنها يف أن علم النفس ال يقصد من وراء هذه الدراسة الكشف عن العقد النفسية ألن جمرد‬
‫الداللة على هذه العقد أمر خارج عن نطاق األدب‪ ،‬والذي ُيهمنا يف هذا اجلانب بيان قدرة الشاعر‬
‫على حتويل هذه الصور الذاتية الفردية إىل صور عامة ظاهرة(‪.)2‬‬
‫‪ -‬ومن اجلدير بالذكر أن السياق النفسي وتفاوته بني املتلقني يكشف لنا عن مسو القرآن الكرمي‬
‫من الناحية األدبية‪ ،‬ومن مظاهر هذا السمو اتساعه ألكثر من معىن حبيث يصعب علينا يف كثري من‬
‫املواضع ختصيص املعىن لوجه دون آخر‪ ،‬وهلذا فإن تعدد املفاهيم حبسب قدرة املتلقني وتوجههم أمر‬
‫البد من التسليم به‪ ،‬ففي القرآن ما يرضي أهل العلم واحلكماء إىل جانب عامة الناس‪ ،‬وقدرة القارئ‬
‫على أن يأخذ لنفسه شيئا من القرآن ليست دليال على أنّه يفهمه فهما كامال‪ ،‬فهو يُفهم منه ما‬
‫وسعه عقله وإدراكه‪ ،‬ويرتك لغريه‪...‬أن يفهموا منه أشياء أخرى ولذا فإنه ينبغي أن ال نزعم أن النص‬
‫ملك لعقولنا وأنفسنا‪ ،‬ألن عملية التحليل أوالفهم الكامل عملية مجاعية البد أن يشرتك فيها كثري‬
‫من اجملتهدين(‪.)3‬‬
‫ب‪ -‬بنية السياق‪:‬‬

‫ِ‬
‫ين باهتمام بالغ يف حتليل اخلطاب‪" ،‬ألنّه املرجع الذي‬
‫نال السياق مكانة مهمة‪،‬ودرجة رفيعة‪ ،‬وعُ َ‬
‫يعود إليه املتلقي حىت يتمكن من فهم مادة القول‪ ،‬ويكون لفظيا أو قابال للشرح اللفظي" ولتذوق‬

‫(‪-)1‬ينظر ريتا عوض‪ ،‬بنية القصيدة الجاهلية‪ ،‬دار اآلداب‪ ،‬ط‪ ،1992 ،1‬ص‪.175‬‬
‫(‪-)2‬ينظر محمد غنيمي هالل‪ ،‬النقد األدبي الحديث‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬ط‪ ،1973‬ص‪.327‬‬
‫(‪ -)3‬ينظر المهدي إبراهيم الغويل‪ ،‬السياق وأثره في المعنى‪ ،‬ص ‪.124‬‬

‫‪138‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫النص األديب وتفسريه‪،‬البد من معرفة السياق وإدراكه‪ ،‬وهناك عدة عوامل ساعدت يف بناء السياق‬
‫منها‪:‬‬
‫وجود شخصني على األقل‪ :‬أحدمها فاعل حقيقي‪،‬أي موجود فعال‪ ،‬واآلخر فاعل على جهة‬ ‫‪)1‬‬

‫اإلمكان‪ ،‬ومها املتكلم أو املخاطب على التوايل‪ ،‬ويشرتط أن ينتميا إىل مجاعة لسانية على األقل‪،‬‬
‫أي جمموعة من األشخاص هلا نفس اللسان(اللغة)‪ ،‬واتصال ُسبل االتفاق واالنسجام للقيام‬
‫بالفعل املشرتك" اإلجناز"‪.‬‬
‫الديناميكية احملركة‪ ،‬و يعترب أن السياق عبارة عن متوالية من أحوال اللفظ‪ ،‬و ليس جمرد لفظ فكل‬ ‫‪)2‬‬

‫سياق هو يعرب عن اجتاه جمرى األحداث‪ ،‬وملا كان ينبغي أن تتحدد السياقات من الوجهة‬
‫النظرية‪ ،‬كان من الواجب أن تكون هلا هنايات‪ :‬إذ يتعني أن نعرف أية شروط جيب أن يستوفيها‬
‫العامل املمكن حىت نصف احلالة االبتدائية أو النهائية للسياق‪ .‬ويتحدد السياق الواقعي بظريف‬
‫الزمان واملكان أين تتحقق النشاطات املتداخلة بني املتكلم واملخاطب واملشرتكة بينهما‪ ،‬وحبيث‬
‫تستويف خواص "اآلن " و" هنا" معرفيا و منطقيا‪ ،‬وفيزيائيا ؛و هذا ال ينفي وجود جمموعة من‬
‫البدائل يف كل سياق واقعي‪ ،‬وكل جزء من أحواله الوسطى ‪ ،‬فبعضها قد يكون معتادا عليه‪،‬‬
‫وبعضها اآلخر قد يكون ممكنا ومتخيّال(‪.)1‬‬
‫ظهور عالقات جديدة تتطلب موضوعات جديدة وأشخاص جدد‪ ،‬يطلق عليها اسم الفاعلني‪،‬‬ ‫‪)3‬‬

‫فيهم فئة صغرى يعتربون املشاركني احلقيقيني وهؤالء يتم اختيارهم حسب خصائصهم املميزة‪ ،‬أي‬
‫أحوال إجناز أفعاهلم يف السياق الواقعي‪ ،‬وهوما ينجر عنه ظهور وظيفتني‪ :‬وظيفة حال التكلم‪،‬‬
‫ووظيفة حال املخاطَب‪ ،‬أي وجود متكلم ومستمع‪ ،‬وتتمايز قيم هذه الوظائف يف كل حالة من‬
‫السياق‪ ،‬وهذا ال يتحقق إال بـ‪:‬‬

‫(‪-)1‬ينظر فان دايك‪ ،‬النص والسياق‪ ،‬استقصاء البحث في الخطاب الداللي و التداولي‪ ،‬ترجمة عبد القادر‬
‫قنيني‪ ،‬أفريقيا الشرق‪ ،‬المغرب‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬ط‪ ،2888‬ص‪.258.248‬‬

‫‪139‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫‪ -‬معرفة العام الذي تؤول فيه العبارة‪.‬‬


‫‪ -‬معرفة املقامات املتنوعة للسياق‪.‬‬
‫‪ -‬معرفة اللغة املستعملة ومعرفة أنساق أخرى لضروب مواضع الفعل املشرتك "اإلجناز" إذ بدون هذه‬
‫املعرفة ال ميكن معاملة العبارة معاملة لفظية‪ ،‬وال ميكن إنتاجها وال تأويلها‪.‬‬
‫يبدو أن املفاهيم املدرجة هنا على حنو اصطناعي تكون أساسية يف السياق إال أنه يبقى علينا أن‬ ‫‪)3‬‬

‫نرى ما إذا كانت هذه املفاهيم كافية لتحديد شروط صفة املناسبة حتديدا كامال‪ .‬ذلك أ ّن مهمة‬
‫النظرية التداولية معقدة غاية التعقيد حىت إنّه ال يقاس هبا التعقيد الداليل املتعدد العناصر اليت تقوم‬
‫العبارات بالنظر إليها ‪ ،‬وتظهر هذه التعقيدات بوجه خاص يف تركيب أفعال الكالم والفعل‬
‫(‪)1‬‬
‫املشرتك اإلجناز‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬القراءة وتفسير السياق النفسي للنص‪:‬‬
‫إذا كانت القراءة النفسية‪ ،‬تعىن بالوظيفة النفسية للنص‪ ،‬فإهنا تبين مقوالهتا على السياق‪ ،‬والنص‬
‫املقروء ‪ -‬نفسيا‪ -‬هو الذي حيقق قصدية صاحبه‪ ،‬وذلك فيما ميتلك من التعبري والدالالت‪ ،‬وهي‬
‫دالالت " يتعني على القراءات النقدية حتديد مكوناهتا وتفسريها(‪ ،)2‬وهذا يفضي إىل القول بأن‬
‫القراءة النفسية تتضمن التحليل والتأويل وتفسري السياق‪ ،‬كما تسعى القراءة النفسية إىل مواجهة‬
‫النص بافرتاضات معرفية‪ ،‬انسجاما مع طبيعة انتماءاهتا العلمية هبدف الوصول إىل تصور نفسي للنص‬
‫األديب‪ ،‬وهي يف ذلك غاية التنظري "الذي يريد أن يصل إليه‪ ،‬انطالقا من معرفة النص من داخله"‬
‫(‪)3‬‬

‫والنص يتكون من العديد من السياقات التارخيية واالجتماعية والنفسية‪ ،‬واليت متكن اآلليات‬
‫النقدية املتقنة من حتديد طبيعته وإىل أي نوع ينتمي‪ ،‬وكذلك دالالت رموزه و شفراته ونظامه‬
‫يدل على أن النص األديب خاضع الحتماالت‪ ،‬وليس شيئا ثابتا‪ ،‬وينظر إىل السياق‬
‫اللغوي‪ ،‬وهذا ّ‬

‫(‪ -)1‬ينظر فان دايك‪ ،‬النص والسياق‪ ،‬ص‪.242‬‬


‫(‪ -)2‬ينظر سامي الدروبي‪ ،‬علم النفس و األدب‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬مصر‪ ،1971 ،‬ص‪.88‬‬
‫(‪ -)3‬يمنى العيد‪ ،‬في معرفة النص‪ ،‬دار اآلفاق الجديدة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪ ،3‬ص‪.17‬‬

‫‪158‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫النفسي من منطلق معريف‪ ،‬والعلم الذي يعيننا على فهم وحتليل هذا النوع من السياقات هو علم‬
‫النفس‪ ،‬معتمدا على األدوات النفسية‪ ،‬ومقوالت املنظرين النفسيني الذين يعتربون أن جمال هذا العلم‬
‫هو الذي جيعله يتصل حبقول الوظائف النفسية األشد تركيبا وتعقيدا‪ ،‬مثل الكالم و االستيعاب‬
‫والتفكري والتخطيط والبحث عن حلول للمشكالت املختلفة‪.‬‬
‫وهذا يعين أن القراءة النفسية اجليدة لسياق النص تساعد صاحبها يف الربط بني متلقي النص‬
‫وقارئه و مدى التفاعل بينهما على أساس مبدأ القصدية‪ ،‬وبذلك تصبح جتربة استيعاب النص و‬
‫فهمه أكثر غىن‪ ،‬ويصبح النص املقروء أكثر داللة ووضوحا مما كان عليه سابقا‪ ،‬األمر الذي يؤكد‬
‫على أمهية السياق النفسي الذي يتم من خالله إنتاج النص وفهمه‪ ،‬مث إعادة تكوينه لدى القارئ و‬
‫املتلقي‪ ،‬مما جيعل األساس و اجلوهر الذي يرتكز عليها البحث هي تأويل النصوص‪.‬‬
‫والقراءة هبذا الشكل تدعو إىل مزيد من الدراسة السياقية‪ ،‬وهي مرهونة باستجابة القارئ‪،‬‬
‫وحنكته يف الكشف عن مكنونات السياق‪ ،‬ووضع االحتماالت اخلاصة به‪ ،‬ألن القارئ هو من‬
‫يُضفي على النص أبعاداً جديدة مل تكن موجودة يف النص سابقا(‪ ،)1‬ويهدف إىل احتواء النص‬
‫(‪)2‬‬
‫والسيطرة عليه‪ ،‬وهذا ال يتم إال بقارئ متميّز ذي ذخرية غنية تعادل السياق املنشود يف النص‬
‫والتعامل مع النص من وجهة نظر نفسية‪ ،‬يعين احتواء النص على قيم كامنة‪ ،‬ولذلك متكن عملية‬
‫قراءة السياق أبعادا من التخصيص والتأويل‪ ،‬وللنص األديب تراكيبه و أشكاله وسياقاته العملية‬
‫اإلدراكية والنفسية والتداولية والثقافية‪ ،‬كما له جهتان‪ :‬استقبال وتلقي‪ ،‬ومها عمليتني ضروريتني ليتم‬
‫اكتماله وحتققه فنيا‪.‬‬

‫(‪ -)1‬ينظر نبيلة إبراهيم‪ ،‬القارئ في النص‪ ،‬نظرية التأثير واالتصال‪ ،‬مجلة فصول‪ ،‬المجلد الخامس‪ ،‬العدد‬
‫األول‪ ،‬ط‪ ،1983‬ص‪.128‬‬
‫(‪ -)2‬ينظر محمد عيسى‪ ،‬القراءة النفسية للنص األدبي العربي‪ ،‬مجلة جامعة دمشق‪ ،‬المجلد ‪ ،19‬العدد‪،2+1‬‬
‫ط‪ ،2883‬ص‪.29‬‬

‫‪151‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫وإذا كان التداعي أساسا مهما يف تفسري النص‪ ،‬فإن صياغة السياق الصياغة النفسية املطلوبة‪،‬‬
‫هي أبرز غايات القراءة النفسية‪ ،‬وليس األمر متاهيا من جانب القارئ النفسي‪ ،‬بل هو االنسجام مع‬
‫أدوات القراءة ذاهتا‪ ،‬إذ أن الناقد النفسي ال يكتفي‪ ،‬باستنطاق الدالالت النص الكامنة ‪ ،‬بل‬
‫يستضيف تأويالهتا‪ ،‬ويتتبع دوافعها و أسباهبا‪ ،‬فيعيدها إىل مرجعياهتا الالشعورية يف احلياة الباطنية‪ ،‬و‬
‫يرجعها لقضايا الغرائز والالوعي اجلمعي‪ ،‬وغري ذلك‪ ،‬حماوال الكشف عن العالقات اليت تربط بني‬
‫تلك الدالالت‪،‬و الصلة بينها والعناصر األخرى املكونة لسياق النص‪ ،‬وهذا ما جيعل القارئ النفسي‬
‫يظن أ ّن النص يق ّدم له مادة نفسية غنية‪ ،‬طاملا حبث عنها يف أثناء تتبعه لقضايا اإلبداع والفن‪ ،‬ويغدو‬
‫تأويله له شكال من أشكال فهم املغزى العام للنص من منظور نفسي‪ ،‬ويقوم على الدالالت اليت عُثِر‬
‫(‪)1‬‬
‫عليها يف النص‪ ،‬وعمل على تأويلها تأويال مناسبا‬
‫وهذا يعين أ ّن فهم سياق النص يؤدي إىل قراءات خمتلفة على الرغم من بنائها على منهج واحد‪،‬‬
‫هو املنهج النفسي‪ ،‬ألن العربة تكون يف تفسري السياق وفهم طبيعة النص وتأويالته املختلفة‪ ،‬والقارئ‬
‫النفسي هومن يكتشف سيمات نفسية يف سياق النص‪ ،‬وهذه السمات ال تكون إالّ يف عيين الناقد‬
‫النفسي الف ّذ‪.‬‬
‫وهلذا فقد أولينا أمهية بالغة للحب وفلسفته عند ابن حزم األندلسي ومدى تأثري هذا احلب يف‬
‫نفسيته ومن مثة يف كتاباته‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬الحب وفلسفته عند ابن حزم‪:‬‬
‫يعترب كتاب "طوق احلمامة" كتابا يف احلب‪ ،‬وأيضا يف السرية الذاتية‪ ،‬ويقرتب كثريا من حياة‬
‫ابن حزم خاصة اجلانب العاطفي منها ‪ ،‬وكذا احلياة الوجدانية لكثري من رفاقه ومعاصريه‪ ،‬الذين شغلوا‬
‫وظائف رفيعة يف القضاء و اإلدارة ‪ ،‬كما مجع "ابن حزم" يف كتابه ما بني الواقع التارخيي وبني‬

‫(‪ -)1‬ينظر محمد عيسى‪ ،‬القراءة النفسية للنص األدبي العربي‪ ،‬ص‪.35‬‬

‫‪152‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫الفكرة مبفهومها الفلسفي‪ ،‬وقد دعم أفكاره حبكايات عاشها أو مسعها من ثقاة‪ ،‬واختار هلا العديد‬
‫من األشعار املناسبة لكل حالة‪.‬‬
‫واعترب ابن حزم التوافق والتنافر بني النفوس مولود مع والدة البشر‪ ،‬فقد حتب شخصا بدون سبب‬
‫واضح‪ ،‬كما قد تستثقل آخر حىت ولو مل تره‪ ،‬وما هذا يف نظره إال أ ّن األرواح قد تالقت من قبل يف‬
‫امللكوت األعلى‪ ،‬فحدث هلا يف هذا العامل اجنذاب إىل قرنائها‪ ،‬أي إذا لقيت الروح نصفها الثاين أو‬
‫شقيقها أحبته‪ ،‬التفاق القسمني وازدواج اجلزأين‪ ،‬وهذا تبعا لقوله تعاىل‪" :‬هو الذي خلقكم من نفس‬
‫واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها"‪ .‬وهذا يعين أن احلب ال يكون إال إذا وجد التحابب السابق‬
‫بني الطرفني‪ ،‬أي قبل حلول الروح يف اجلسد‪.‬‬
‫واحلب عنده تقارب بني األنفس‪ ،‬ناتج عن سعي الشبيه وراء شبيهه‪ ،‬ملا يرى أو يتصور أو يتخيل‬
‫فيه من مجال و حسن‪ ،‬أوملا يبدو عليه من صور الكمال‪ .‬وهذا التحليل الذي يعطيه لنا ابن حزم‪،‬‬
‫يذكرنا مبناظرة أفالطون‪" :‬لوفيدر" وفيها أن النفس مجيلة حتب كل ما هو مجيل و تشتاق إليه‪،‬‬
‫وتنجذب حنو األشكال الكاملة فيقع احلب احلقيقي و بأمت معىن الكلمة‪ ،‬بل إنّه عندما خيرب عن‬
‫االجنذاب القائم بني احملب واحملبوب‪ ،‬يقول بأنّه يقوم على أساس االستحسان‪.‬‬
‫واملتحابان عند ابن حزم البد أن يكون بينهما تشابه واتفاق يف الصفات الطبيعية(‪ ،)1‬مستدال‬
‫باآليات واألحاديث‪ ،‬ومنها قول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬الذي رواه الشيخان‪ :‬البخاري‬
‫ومسلم‪" :‬األرواح جنود جمنّدة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف"‬
‫(‪)2‬‬

‫استهل"ابن حزم" الرسالة بتعريف احلب فيقول‪ " :‬احلب أوله هزل وآخره ج ّد"‪،‬و قد تسابقت‬
‫املعاين يف وصفه ‪ ،‬مع أنّه ال يدرك إال باملعاناة‪ ،‬وهو ليس مبنكر يف الشريعة‪ ،‬وال حمظور يف الدين‪ ،‬إذ‬

‫(‪ -)1‬ينظر سعد عبد السالم‪ ،‬مسألة الحب بين الدين و الفلسفة عند اإلمام الفيلسوف ابن حزم الظاهري‪،‬‬
‫جامعة الجلفة‪ ،‬دراسات في العلوم اإلنسانية واالجتماعية‪ ،‬مجلد‪ ،21‬سنة‪ ،2821‬ص‪ ،179-283‬ص‪.189‬‬
‫(‪-)2‬ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.117‬‬

‫‪153‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫القلوب بيد اهلل عز وجل يقلبها كيفما يشاء؛ وقد وقع يف شباكه كثري من اخللفاء واألئمة ‪ ،‬منهم‬
‫بأندلسنا عبد الرمحان بن معاوية و حبه "دعجاء"‪ ،‬واحلكم بن هشام بن عبد الرمحان بن احلكم ووهله‬
‫بـ"طروب أم عبد اهلل"‪،‬و منهم حممد بن عبد الرمحان وقصة غرامه لـ" غزالن" أم بنيه عثمان والقاسم‬
‫واملطرف معلوم‪ ،‬وكذا احلكم املستنصر وهيامه "بصبح" أم هشام املؤيد باهلل رضي اهلل عنه‪ ،‬وامتناعه‬
‫عن اإلجناب من غريها‪...‬ومثل قصص احلب هذه كثري‪.‬ولوال أن للمسلمني حقوق يف رقاهبم و‬
‫واجب عليهم أداؤه على أحسن وجه‪ ،‬لذكر نا من أخبارهم ما فيه احلزم وإحياء الدين‪...‬‬
‫و هو أمر كانوا ينفردون به يف قصورهم مع عياهلم ال ينبغي أن خنرب عنه وال أن نشيعه‪،‬و لوال‬
‫أعزك اهلل‪ ،‬داء عياء‪،‬‬
‫ذلك‪ ،‬ألوردت من أخبارهم يف هذا الشأن غري قليل "ويستطرد قائال‪ " :‬واحلب‪ّ ،‬‬
‫وفيه الدواء منه على قدر املعاملة‪ ،‬ومقام مستل ّذ‪ ،‬وعلّة مشتهاة‪ ،‬ال يود سليمها الربء‪ ،‬وال يتمىن‬
‫عليلها اإلفاقة‪".‬‬
‫(‪)1‬‬

‫وللحب مراحل فصل فيها "ابن حزم"‪ ،‬منها أ ّن لكل مراحل احلب جانبان ال ثالث هلما‪ :‬جانب‬
‫مضيء تفرح به النفس ويسر به القلب‪ ،‬وجانب مظلم تكره به احلياة وتضيق به الروح وسعيد احلظ‬
‫من يكون من أصحاب النوع األول‪.‬‬
‫خامسا‪ :‬ابن حزم الرجل المحب‪:‬‬
‫اعترب ابن حزم احلب" وضعا إنسانيا له القدرة على تغيري اإلنسان احملب حلظة احلب‪ ،‬وبعد‬
‫التغري حصل يف عامل‬
‫التجربة‪ ،‬إذ البد من أن خيرج اإلنسان بنوع جديد من اخلربة اخللقية‪ ،‬ألن ّ‬
‫النفس‪ ،‬مث انعكس بالتايل على اجلسم فحركت النفس اجلسم كيفما تريد حتت نشوة علوية‪ ،‬سهلت‬
‫(‪)2‬‬
‫االنتقال من حالة إىل حالة‪".‬‬

‫(‪ -)1‬ابن حزم‪،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.183‬‬


‫(‪-)2‬أحمد حامد الدباس‪ ،‬فلسفة الحب و األخالق عند ابن حزم األندلسي‪ ،‬دار اإلبداع للنشر و التوزيع‪ ،‬عمان‪،‬‬
‫األردن‪ ،‬ط‪ ،1993‬ص‪.122‬‬

‫‪153‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫أحد أهم املالمح والسمات اليت من املمكن أن نلحظها يف شخصية فقيه األندلس ومفكرها‬
‫حبسه املرهف ومشاعره الرومانسية الرقيقة‪ ،‬اليت يؤثّر فيها احلب والغرام‪،‬‬
‫األشهر‪ ،‬تلك السمة املتعلقة ّ‬
‫فالبيئة الثرية املرتفة اليت نشأ فيها ابن حزم وترىب فيها‪ ،‬ساعدت كثريا يف صياغة رومنسيته املفرطة‪،‬‬
‫وأسهمت يف تشكيل شخصيته احلساسة امليالة للمشاعر اجلياشة‪" ،‬فابن حزم" ولد وعاش يف قرطبة‪،‬‬
‫حاضرة األندلس الكربى يف عهد األمويني‪ ،‬وترىب يف جنبات قصورها العامرة الفخمة‪ ،‬وترعرع يف‬
‫حجرات وخمادع النساء واجلواري الاليت مألن قصر أبيه وأقربائه‪ ،‬ولذلك فقد كان ميله املبكر‬
‫تفجرت‬
‫للحديث عن احلب واهلوى‪ ،‬أمرا طبيعيا ال استغراب فيه وال تعجب‪ ،‬كل تلك الرومانسية‪ّ ،‬‬
‫بشكل واضح يف رسالة "ابن حزم" الشهرية‪ ،‬املعروفة باسم " طوق احلمامة يف األلفة واإليالّف"‪،‬‬
‫والذي يع ّده النقاد األدبيني و الكتب –خاصة منها ‪-‬اليت شرحت أبعاد احلب اإلنساين يف احلضارة‬
‫العربية اإلسالمية‪ ،‬ويتناول فيه ابن حزم الفقيه ‪ ،‬عددا من قصص احلب العفيف العذري‪ ،‬سواء تلك‬
‫اليت وقعت معه هو يف حد ذاته‪ ،‬أو مع غريه من األدباء و الشعراء واألعيان‪.‬‬
‫ويرجح الدكتور‪" :‬إحسان عباس" يف كتابه "ظاهرة ابن حزم يف تاريخ الفكر األندلسي"‪ ،‬أن‬
‫الفقيه الشاب قد كتب هذا الكتاب يف مرحلة مبكرة من حياته‪ ،‬وبالتحديد عقب خروجه من قرطبة‪،‬‬
‫حيث تظهر نصوص الكتاب‪ ،‬مشاعر "ابن حزم" احلزينة على نكبة أسرته ومصري األمويني‪ ،‬وتبدو‬
‫(‪)1‬‬
‫شجونه واضحة جلية‬
‫ولكن الذي يدعو للتساؤل كيف استطاع ابن حزم التوفيق بني اجتاهه السلفي الظاهري وبني‬
‫دراسته ملسألة احلب‪ ،‬وبصيغة أخرى‪ :‬كيف استطاع ابن حزم وهو الفقيه والعامل بالدين أن يتكلم‬
‫ويكتب يف موضوع احلب‪ ،‬الذي يعترب من مواضيع الشعراء والعامة؟ وهل اتبعه يف طريقه هذا فقهاء‬
‫املتفرد يف هذا اجملال؟‬
‫آخرون أو أنّه ّ‬

‫(‪ -)1‬ينظر احسان عباس‪ ،‬ظاهرة ابن حزم في تاريخ الفكر األندلسي‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬عمان‪ ،‬ط‪ ،1997‬ص‬
‫‪.39‬‬

‫‪155‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫لقد عىن جمموعة من الفقهاء الظاهرية واحلنابلة عناية كبرية مبسألة احلب كابن حزم‪ ،‬وابن القيم‬
‫والغزايل‪ ،‬مع أن هؤالء الفقهاء عُرف عنهم الوقوف مع ظاهر النص الديين‪ ،‬كما اهتموا باجلمود‬
‫التزمت‪ ،‬ومع ذلك انطلقوا يف هذا امليدان اإلنساين وأشبعوه حبثا وكتبوا فيه الكتب الكثرية‪،‬‬
‫التحجر و ّ‬
‫و ّ‬
‫كما اهتم مفكرو اإلسالم به وكانوا على وعي تام وفهم عميق جبزئياته‪ ،‬فأكثروا فيه التأليف وصنّفوا‬
‫فيه النظريات‪ ،‬واعتربوا أن احلب أشكال وضروب‪ ،‬أفضلها احملبة يف اهلل وحمبة العباد هلل‪ ،‬أو حمبة الناس‬
‫بعضهم البعض‪ ،...‬وحمبة العشق الذي ال دواء له إال باتصال األجساد و النفوس‪ ،‬وابن حزم يؤكد‬
‫على أن كل هذه األشكال من احلب تنتهي بانتهاء الغرض منها‪ ،‬إال حمبة العشق الصحيح فهي ال‬
‫تنتهي إال بالفناء واملوت؛ ولذلك فإن كتابات ابن حزم يف احلب‪ ،‬أختصت بكوهنا كتابة الفيلسوف‬
‫واحمللل النفسي الذي يعتمد اإلستقصاء والبحث‪ ،‬متكال على املالحظة واالستقراء‪ ،‬ليستنبط األحكام‬
‫والقواعد العلمية‪.‬‬
‫(‪)1‬‬

‫سادسا‪ :‬الحب دافع لإلستقرار النفسي عند ابن حزم األندلسي‪:‬‬

‫إن احلب عند "ابن حزم" عمل تربوي أخالقي‪" ،‬فكم من خبيل جاد‪ ،‬وقطوب تطلق‪ ،‬وجبان‬
‫تفىت‪ ،‬وناسك تفتل(‪ "...)2‬فاحلب‬ ‫تأدب‪ ،...‬وذي شيخوخة ّ‬ ‫بسل‪ ،‬وخشن الطبع تظرف‪ ،‬وجاهل ّ‬ ‫ت ّ‬
‫عنده ينطوي على قيم إجيابية عديدة خاصة ما تعلق منها باألخالق‪ ،‬فاحملبة تولّد الوفاء والصرب‬
‫تطور جانبه‬
‫تفجر طاقة اإلنسان فتحرك فاعليته لإلبداع‪ ،‬وترفع من ذاته اإلنسانية‪ ،‬كما ّ‬
‫والكرم‪ ،‬و ّ‬
‫خرية‪ ،‬وبذلك يصبح اجلبان شجاعا‪ ،‬والبخيل‬
‫الروحي‪ ،‬وتب ّدل السلوكيات الشائنة إىل أفعال حسنة ّ‬
‫متأدبا وهذا ما يؤّكده قوله‪ " :‬من عجيب ما يقع يف احلب أن يكون املرء شرس اخللق‬
‫كرميا واجلاهل ّ‬

‫(‪ -)1‬ينظرسعد عبد السالم‪ ،‬مسألة الحب بين الدين و الفلسفة عند اإلمام الفيلسوف ابن حزم الظاهري‪،‬‬
‫جامعة الجلفة‪ ،‬دراسات في العلوم اإلنسانية واالجتماعية‪ ،‬مجلد‪ ،21‬سنة‪ ،2821‬ص‪ ،179-283‬ص‪-183‬‬
‫‪.182‬‬
‫(‪ -)2‬ينظر ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.185‬‬

‫‪154‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫تنسم نسيم احلب ‪ ،...‬وغرق يف حبره‪ ،‬حىت تعود الشراسة‬


‫صعب املنال حمبا للقيادة‪...‬فما هو إال أن ّ‬
‫(‪)1‬‬
‫احملب أنذاك خيفي حزنه ويكتم أسفه‪.‬‬
‫لينا‪ ،‬والصعوبة سهالة‪...‬فرتى ّ‬
‫ويرى ابن حزم أن الزواج هو النتيجة احلتمية للحب‪ ،‬فاحلب عنده وسيلة للزواج والسعادة‪ ،‬بل‬
‫(‪)2‬‬
‫وهي غاية أيضا‪ ،‬وهلذا مل يستطع ابن حزم إخراج احلب عن إطاره الديين‪.‬‬

‫وقد أشاد ابن حزم بكرامة احملبني وبالعفاف يف احلب‪ ،‬فهو عنده وجدانية وليس عبث مراهقني أو‬
‫يتحرج ابن حزم على من ينكر احلديث عنه‬
‫هلو غلمان‪ ،‬واإلفصاح عنه من شيم الواثق اآلمن‪ ،‬كما مل ّ‬
‫بأن ذلك اإلنكار من نسك األعاجم‪ ،‬ألن اإلسالم هو دين الدعوة إىل الشعور مبا يف الوجود من‬
‫مي البصرية‪ ،‬وال متلبّدي املشاعر‬
‫طيب ومجال‪" .‬فما كان رجال الدين يوما ‪...‬غُلف القلوب‪ ،‬وال عُ َ‬
‫‪ ،‬بل إن ثقافتهم بطبيعتها هتديهم إىل معجزات اهلل يف اجلمال‪ ،‬وتدعوهم إىل تقديرها واالستمتاع‬
‫بنعمها ومحد املبدع على صنعها (‪.)3‬‬

‫وهلذا جنده يقيم النكري على الذين يكتمون احلب تصاونا‪ ،‬وي ّدعون أنّه غري جائز يف الشريعة‪ ،‬وما‬
‫يرد قائال على من اهتمه‬
‫ذاك إال ألن احلب عنده اضطراري ال اختياري‪ ،‬فهومن قدر اهلل‪ ،‬حيث ّ‬
‫باالمنياع(‪ )4‬يقول‪:‬‬

‫الح وس ــاكت‬
‫وس ــيان عن ــدي في ــك َ‬ ‫ـوم رجـ ــال فيـ ــك مل يعرف ـ ـوا اهلـ ــوى‬
‫يلـ ـ ُ‬
‫(‪)5‬‬
‫وهــل خببايــا اللّفـ ِـظ يؤخــذ صــامت‬ ‫وهـ ـ ـ ــل يُلـ ـ ـ ــزم االنسـ ـ ـ ــا َن إال اختيـ ـ ـ ــارهُ‬
‫‪mmmm‬‬
‫(‪-)1‬ينظر المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.153-153‬‬
‫(‪-)2‬ينظر حامد الدباس‪ ،‬فلسفة الحب و األخالق عند ابن حزم‪ ،‬دار اإلبداع والنشر عمان‪ ،‬ط‪،1993‬‬
‫ص‪.177-174‬‬
‫(‪-)3‬ينظر سعيد األفغاني ابن حزم ورسالته في المفاضلة بين الصحابة‪ ،‬المطبعة الهاشمية‪ ،‬دمشق‪،‬‬
‫ط‪ ،1938‬ص‪.97‬‬
‫(‪ -)4‬اإلنمياع‪ ،‬من الميوعة‬
‫(‪-)5‬ينظر ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪155‬‬

‫‪157‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫سابعا‪ :‬السياق النفسي في رسائل ابن حزم األندلسي‪:‬‬


‫أ‪ -‬في رسالة طوق الحمامة‪:‬‬

‫إن احلب حالة وجدانية نفسية‪ ،‬ترتبط بالقوى الكامنة يف اإلنسان أوما يصطلح عليه بالطبع‪،‬‬
‫وهو شعور خفي خيتلج يف النفس يدفع املرء للعمل من أجل بلوغ هدفه و مراده‪ ،‬وبذلك تكون‬
‫الطبيعة البشرية مصدرا للسلوك اخللقي‪ ،‬ألن احلب دافع فطري ال أثر فيه للدين‪ ،‬ويرتتب عنه حبث‬
‫اإلنسان عن املنفعة و اللذة حىت ولو كان فيها خمالفة للدين‪ ،‬ويصبح األهم حتقيقها استنادا لقاعدة‪:‬‬
‫"الغاية تربر الوسيلة"‪ ،‬زد على ذلك أن ‪" :‬اللّذة عند أغلب اللّذيني(‪ )1‬واحدة‪ -،‬أي ال تفاضل يف‬
‫تفضل يف لذهتا على ل ّذة أخرى…"‬
‫(‪)2‬‬
‫اللّذات – و هذا يعين أنّه ليس مثة لذة ّ‬
‫وملا كانت أخالق املنفعة نسبية وظرفية و ختتلف من شخص آلخر‪ ،‬فإن املنفعة واللذة يف‬
‫األخالق عند ابن حزم تستند إىل العقل و الدين معا‪.‬‬
‫وأمثلة هذا الباب كلّها تنتمي إىل الفئة األوىل من تقسيم "فرويد" للغرائز‪،‬‬ ‫‪ ‬باب عالمات الحب‪:‬‬

‫لكل مثال على حدى‪:‬‬


‫وسنق ّدم شرحا ّ‬
‫حتدث فيه عن احلب واحلب يقع يف النفس عن طريق النظر وللحب دالالت يدركها الفطن‪،‬‬ ‫‪)1‬‬

‫ويهتدي إليها الذكي‪ .‬ومبا أن العني باب النفس‪ ،‬فأول هذه العالمات‪ :‬إدمان النظر؛ وهذا املثال‬
‫يندرج ضمن الفئة األوىل من تقسيم "فرويد" للغرائز‪ ،‬فاحلب غريزة من الغرائز اجلنسية هتدف إىل‬
‫استمرار احلياة‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬اإلبتداء باحلديث‪ ،‬فال يقبل إال على حمبوبه حىت ولو أراد غري ذلك‪ ،‬واإلنصات حلديثه إذا‬ ‫‪)2‬‬
‫تكلم‪ ،‬ومقاومة النفس حىت ال يبتعد عن حمبوبه ويف ذلك يقول شعرا‪:‬‬

‫(‪ -)1‬اللّذيين‪ :‬أصحاب اللّذة‪.‬‬


‫(‪ -)2‬ينظر حامد أحمد الدباس‪ ،‬فلسفة الحب و األخالق عند ابن حزم‪ ،‬دار االبداع‪ ،‬عمان‪ ،‬األردن‪،‬‬
‫ط‪ ،1993‬ص ‪.125‬‬

‫‪158‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫ليـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِـة الثابتـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِ‬


‫ـات يف اإلبطـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاء‬ ‫ـت ك ـ ـ ــاألجن ِم العـ ـ ـ ــا‬ ‫ِ‬
‫وقي ـ ـ ــامي إن قم ـ ـ ـ ُ‬
‫(‪)1‬‬

‫وهذا أيضا يندرج ضمن غرائز األنا والغرائز اجلنسية لدى تقسيم "فرويد" للغرائز واليت هتدف إىل‬
‫استمرار احلياة‪ ،‬ألنه يتح ّدث فيه عن احلب‪ ،‬واحلب جيلب السعادة واإلقبال على احلياة‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬اضطراب نفسي وتسارع دقات القلب عند مساع اسم احملبوب أو رؤيته ومنها هبت وروعة‬ ‫‪)3‬‬
‫تظهر على احملب عند رؤية حمبوبه فجأة وظهوره بغتة؛ وكذلك اضطراب يبدو على احملب عند حمله‬
‫شبيه حمبوبه وحىت عند مساع اسم كامسه فجأة‪.‬‬
‫احملب من اضطرابات أثناء رؤية حمبوبه أو‬
‫ويف هذا املثال يتحدث عن غريزة احلب وما يعرتي ّ‬
‫مساع صوته‪ ،‬وهي غريزة جنسية‪ ،‬وهتدف إىل االستمرار؛ فحب اجللوس مع احلبيب ومناجاته‬
‫ألنه يرى فيه كل صفات احلب والدالل‪ ،‬فما إن متكن احلب وتغلغل حينها ال ترى احلديث‬
‫إال سرا‪ ،‬واإلعراض عن كل احلضور إال جهرا‪،‬باستثناء احلبيب‪.‬‬
‫ومن شواهده الظاهرة لكل مبصر‪ :‬اإلنشراح الكثري و االنبساط الزائد يف املكان الضيق‬ ‫‪)3‬‬
‫والقلق و االنزعاج يف املكان الواسع‪ ،‬واجملادلة على الشيء أيهما يأخذه‪ ،‬وكثرة الغمز ‪،‬‬
‫وامليل باالتكاء‪ ،‬وتعمد ملس اليد أو اجلسم أثناء احملادثة‪ ،‬وحتسس ما ميكن من أعضاء‬
‫اجلسم الظاهرة‪ ،‬وشرب ما أبقى احملبوب يف اإلناء‪ ،‬مع حتري املكان الذي وضع عليه‬
‫شفتيه‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن جتد احملب يستعذب مساع اسم من حيب ويستلذ احلديث عن أخباره وجيعلها حمور‬
‫الكالم و أساسه‪ ،‬وال يرتاح لشيء ارتياحه حملبوبته‪ ،‬وال ينهيهه عن ذلك خوفه من أن يفهم‬
‫السامع ويفطن احلاضر‪ ،‬ألن احلب يعمي ويصم‪ .‬فلو أمكن احملب أن يكون حديث إال عن‬
‫حمبوبه ما خاض يف موضوع غريه‪،‬وملا تعداه‪.‬‬

‫(‪ -)1‬ابن حزم‪،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.183‬‬

‫‪159‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫ومن دالالته حب االنعزال و الوحدة‪ ،‬واألنس باإلنفراد ‪،‬وهذا يسبب حنول اجلسم و‬ ‫‪)5‬‬

‫ذبوله دون سقم يكون فيه وال أمل مانع للحركة واملشي؛ وهذا دليل قاطع ال يرد وخمرب ال‬
‫يكذب وال خيون عن وقوع النفس يف علة ال مفر منها‪.‬‬
‫وعالماته‪ :‬تسارع دقات القلب واضطراب وقلق سببه انتظار احملبوب وزيارته إياه فيقضي‬ ‫‪)4‬‬

‫وقت االنتظار ذهابا وجيئة أو حدوث عتاب ولوم بينهما؛ وينزعج حملب و تبدو عليه‬
‫عالمات القلق و الغضب يف آن واحد‪،‬و ذلك عند رجائه لقاء من حيب فيعرض عند‬
‫ذلك أمر طارئ‪،‬أو أي حائل حال دون لقائهما‪.‬‬
‫وكل هذه األمثلة تتحدث عن غريزة احلب اليت اعتربها "فرويد" من الغرائز اجلنسية اليت هتدف‬
‫عرب عنه "أدلر" بـ"األنا الشعوري" ذو الفاعلية‬
‫إىل استمرار احلياة‪ .‬ويف نفس الوقت هذا هوما ّ‬
‫القوية يف حتقيق األهداف اليت يسعى إليها املرء يف احلياة األوىل‪ .‬ونعين بـ"األنا الشعوري"‬
‫شعور املرء باحلب واحلياة وبكل الغرائز اجلنسية‪.‬‬

‫و يذكر ابن حزم معرفته مبن كان يعده حمبوبه الزيارة‪ ،‬فما كنت جتده إال غاديا آتيا‪،‬جيئة‬
‫وذاهبا ال ميكنه أن يثبت يف مكان واحد‪،‬وأن يستقر بقرار‪ ،‬مقبال مدبرا قد بانت عليه الغبطة‬
‫بعد أن كان حزينا‪ ،‬وصار نشيطا بعد أن كان هادئا‪.‬‬
‫ومن أعراضه‪ :‬اهللع الشديد واحلسرة القاتلة اليت تغلب صاحبها عندما يرى نفار حمبوبه منه‬
‫وإعراضه عنه‪ ،‬وآية ذالك ‪ :‬قلة احلركة‪ ،‬و كثرة الزفري والتأوه‪ ،‬والتنفس الغري منتظم و بصوت عايل‪.‬‬
‫وهنا يتحدث ابن حزم عن غريزة خيبة األمل والغضب من احملبوب‪ ،‬وهي غرائز تأيت يف صورة‬
‫العدوان والتدمري‪ ،‬كما أطلق عليها " فرويد" "غرائز التدمري"‪ ،‬وهي غرائز تتجه خارج الشخص‪،‬‬
‫وجتعله يفكر يف أذية الطرف اآلخر‪.‬‬
‫ومن عالمات احلب‪ :‬البكاء‪:‬مع أ ّن الناس يتفاضلون فيه‪ ،‬كثرة وقلة‪ ،‬فمنهم كثري الدمع ‪ ...‬جتيبه‬ ‫‪)7‬‬

‫عينه وحتضره عربته إذا شاء‪ ،‬ومن الناس جامد الدمع قليل العربات‪ ..‬وجيعل ابن حزم حاله مع‬

‫‪148‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫الصنف الثاين‪ ،‬ويعلل لذلك بإدمانه ألكل الكْن ُد ِر خلفقان القلب الذي أصيب به فإذا بعينه‬
‫(‪)1‬‬
‫أمر من العلقم‪..‬‬
‫غصة ّ‬
‫اجلمود ال جتيبه إال يف الندرة بقليل الدمع ولو كان يف قلبه ّ‬
‫ومن دالالته أنك ُوّد احملب ألهل حمبوبته وأقربائها و أصحاهبا و أصدقائها حىت يكونوا لديه أقرمبن‬
‫أهله ونفسه و خاصته‪ .‬والبكاء من عالمات احملب ولكن يتفاضلون فيه‪.‬‬
‫وهنا أيضا حت ّدث عن غريزة احلب‪ ،‬هذه الغريزة اجلنسية املهمة يف حياة كل شخص‪ ،‬وهو يندرج‬
‫ضمن غرائز األنا‪ ،‬اليت هتدف إىل االستمرارية‪ .‬كما صنّفها "فرويد"؛ فاحلب هومن جيعل املرء‬
‫يبكي وهومن جيعله سعيدا‪ ،‬وهومن جيعله حيب دائرة احملبوب من األهل واألقارب واألصحاب‪.‬‬
‫ود‬
‫كما حتدث فيه عن سوء الظن يف احملبوب وإبعاد كل كلمة عن وجهتها ومقصدها ويعرض يف ال ّ‬ ‫‪)8‬‬

‫سوء الظن وتوجيه كل كلمة إىل غري وجهها‪،‬و اهتام كل منهما صاحبه مبا ليس فيه وهذا أصل‬
‫العتاب بني احملبني‪.‬يقول‪" :‬وإين ألعلم من كان أحسن الناس ظنا‪ ،‬وأوسعهم نفسا‪ ،‬وأكثرهم‬
‫صربا‪ ،‬وأشدهم احتماال‪ ،‬وأرحبهم صربا‪ ،‬مث ال حيتمل ممن حيب شيئا‪ ،‬وال يقع له معه أيسر خمالفة‬
‫حىت يبدي من التعربد فنونا‪ ،‬ومن سوء الظن وجوها"‪.2‬‬
‫وهنا ينقل لنا "ابن حزم" جتربة غري شخصية‪ ،‬حيث يقول‪ :‬و إين أعرف من كان حيسن الظن‬
‫بالناس‪ ،‬وذا نفس واسعة‪ ،‬وذا صرب وجتلّد‪"..‬‬
‫مرت يف حياته‬
‫يعرب دائما عن جتارب عاشها‪ ،‬أو ّ‬
‫وهذا ما يؤخذ على املنهج النفسي‪ ،‬فاألديب ال ّ‬
‫هو‪.‬‬
‫وفيه أيضا حديث عن غريزة جنسية تتمثل يف غريزة احلب‪ ،‬وهدفها استمرار احلياة‪.‬‬

‫(‪ -)1‬ينظر مصطفى محمد أحمد علي السيوفي‪ :‬مالمح التجديد في النثر األندلسي خالل القرن الخامس‬
‫الهجري‪ ،‬عالم الكتب‪ ،‬ط‪ ،1975 ،1‬ص‪.511‬‬
‫(‪)1‬ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص‪.113‬‬

‫‪141‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫كما أفاض ابن حزم احلديث عن أعراض وعالمات احلب الكثرية‪ ،‬مثل كثرة البكاء وفرط الغرية‬
‫وسوء الظن‪ ،‬واصفرار الوجه‪ ،‬وحماولة كتمان احلب رغم االضطراب الذي يبدو على وجه احملب‪ ،‬مع‬
‫اللوعة املنبثقة من صبابة العاشقني‪ ،‬واليت تشتعل يف جوانح احملب‪ ،‬مث حماولة احملب تتبّع وتقصي أخبار‬
‫احملبني السابقني‪ ،‬ومعرفة ما حدث هلم‪ ،‬وحنو ذلك من الدالالت اليت تكون قبل وأثناء اشتعال هليب‬
‫احلب‪ ،‬وتأجج ناره‪ ،‬فيؤدي ذلك إىل تقلبات حادة يف مزاج احملب‪ ،‬فتجده حزينا مكتئبا متشائما‬
‫حينا‪ ،‬وضاحكا مستبشرا ومنتشيا حينا آخر‪.‬‬
‫ما ميكن أن نقوله عن باب عالمات احلب غري ما أفاض به ابن حزم يف بيان عالمات وأعراض‬
‫احلب اليت ميكن قبوهلا كما هي‪ ،‬لكوهنا ترسم لنا إطارا حمددا ودقيقا ملسألة احلب‪ ،‬وإن كانت هذه‬
‫األعراض والعالمات ليست دائمة الظهور وبنفس القوة والوضوح عند مجيع الناس طيلة مراحل‬
‫أوجه‪ ،‬أو حىت عند خفوته تدرجييا ليصل إىل هناياته‪ ،‬إال أهنا‬
‫حدوث احلب‪ ،‬سواء يف بداياته أويف ّ‬
‫غالبا ما حتدث للمتحابني بصمت‪ ،‬أوما يسمى "باحلب الصامت"‪ ،‬والذي قد يكون أغزر وأشد‬
‫تأثريا يف النفس على املدى الطويل‪ ،‬حيث ميكن هذه األعراض كأساس لصحة حدوث أي عالقة‬
‫حب‪.‬‬
‫‪ ‬باب من أحب في النوم‪:‬‬

‫يتحدث عن هيام النفس وحبها وعشقها وهي نائمة وهذا داخل يف باب التمين والتخييل و عن‬
‫ت قط‪ .‬قلت‪ :‬وما ذاك؟ قال‪ :‬رأيت يف نومي الليلة‬ ‫ِ‬
‫ذلك يقول ابن حزم‪ :‬قيل يل " أعجوبة ما ُمس َع ْ‬
‫جارية فاستيقظت وقد ذهب قليب فيها ِومهت هبا‪ ،‬وإين لفي أصعب حال من حبها"(‪.)1‬‬
‫وهذا من حديث النفس وأضغاثها‪ ،‬وداخل يف باب التمين وختييل الفكر‪.‬‬
‫وهذا املثال ينتمي إىل "اهلو" أو الالشعور يف الثالوث الدينامي للحياة الباطنية اإلنسانية‪ ،‬لدى‬
‫تقسيم "فرويد" للنشاط النفسي‪ ،‬مع أنه يف ظاهره ينتمي لغريزة األنا اليت تتحدث عن احلب‪ ،‬ولكن‬

‫(‪-)1‬ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.115‬‬

‫‪142‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫أحب وهو نائم فهذا ما جعل الالشعور هو من يعمل لديه‪ .‬ألن حياة‬ ‫مبا أن هذا الشخص قد ّ‬
‫نعرب عنها بـ "اخلياالت واألحالم"‪.‬‬
‫الشخص الالشعورية هي ما ّ‬
‫أحب بالوصف‪:‬‬
‫‪ ‬باب من ّ‬
‫فالنفس تعشق بالوصف ويف هذا يقول‪" :‬واألذن تعشق قبل العني أحيانا " وهو يف باب من أحب‬ ‫‪)1‬‬

‫بالوصف وهذا شيء غريب يف أصول العشق ألن العشق يكون بالنظر ال بالوصف وال باألذن‪،‬‬
‫وهذا أمر غريب عن احلب و لوعاته‪ ،‬فيكون العشق والوهم والوجد واهليام من دون اإلبصار‪ ،‬فإن‬
‫للحكايات ووصف احملاسن ‪ ...‬تأثري ظاهر يف النفس ؛ فلو يسمع صوهتا من وراء اجلدران‪،‬‬
‫يكون ذلك سببا للحب واشتغال البال‪ .‬وقد حدث هذا لكثري من احملبني‪ ،‬فريسم يف ذهنه صورة‬
‫المرأة يتومهها ‪.‬فتصري له هاجسا‪ ،‬وال يتصور نفسه حيب غريها‪.‬‬
‫والعشق أيضا غريزة من غرائز اجلنس‪ ،‬مثله مثل احلب واحلياة‪ ،‬وهو أيضا يدفع بصاحبه إىل‬
‫السعادة املفرطة واإلقبال على كل ما هو مجيل‪.‬‬
‫وكما يوجد احلب بالوصف يوجد أيضا الكره بالوصف‪ :‬يقول ابن حزم‪ :‬وحدث يل ضد هذا مع‬ ‫‪)2‬‬

‫"أيب عامر بن أيب عامر" ‪ ،...‬فإين كنت له على كراهية شديدة وهو يل كذلك مع أننا مل نلتق‪،‬‬
‫وإيل عنه‪ ،‬ويؤكده تنافس أبوينا على صحبة السلطان‬
‫وكان أصل ذلك كالما ُحيمل إليه عين ّ‬
‫أودهم‪ ،‬إىل أن‬
‫رت له ّ‬ ‫ِ‬
‫ووجاهة الدنيا‪ ،‬إىل أن وفق اهلل الجتماع بيننا فصار يل أحب الناس وص ُ‬
‫حال املوت بيننا‪.1‬‬
‫أما هذا املثال فيحمل الفئتني معا لتصنيف "فرويد" للغرائز‪ ،‬فعند الكره جند الفئة الثانية اليت حتمل‬
‫اسم "الثاناتوس" واليت مبدؤها اهلدم والتدمري والعدوان‪ ،‬ألن كل منهما كان يكره اآلخر ويتمىن دماره‬
‫وانتهاءه‪ ،‬ويف الشطر الثاين‪ ،‬وبعد أن حتابا تظهر غريزة احلب واحلياة واليت هتدف إىل استمرارية احلياة‪.‬‬
‫أحب من نظرة واحدة‪:‬‬
‫‪ ‬باب من ّ‬

‫(‪ -)1‬ينظر ابن حزم‪:‬الرسائل‪،‬ص ‪.119‬‬

‫‪143‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫وهنا وقف ابن حزم موقف املتعجب من ذلك احملب الذي يدعي احلب من النظرة األوىل‪ ،‬ويرميه‬
‫بالكذب‪ ،‬ويقرر أ ّن هذا ليس سوى نوعا من الشهوة الطارئة لالستحسان املوقوت‪..‬‬
‫ويف ذلك يقول‪ :‬وأما ما حيدث من ّأول وهلة ما هو إال استحسان جسدي‪ ،‬واستطراف للنظر‬
‫(‪)1‬‬
‫سر الشهوة‪ ،‬ومعناها احلقيقي‪.‬‬
‫الذي ال جياوز الظاهر‪ ،‬و هذا ّ‬
‫وعن هذا يقول ابن حزم‪" :‬وأعرف من كان أول عالقته تعلقه جبارية مائلة إىل ِ‬
‫القص ِر فما أحب‬
‫طويلة بعد هذا‪ ..‬وأعرف أيضا من هوى جارية يف فمها فَـ َوه لطيف فلقد كان يتقذر كل فم صغري‬
‫(‪)2‬‬
‫ويذمه ويكرهه‪".‬‬
‫وهذه كلّها قصص عن احلب والذي يعترب غريزة فينا مثله مثل احلياة‪ ،‬فكل منهم ينقل لنا جتربته‬
‫مع احلب‪ ،‬هذا األخري الذي ينتمي إىل الغرائز اجلنسية‪ ،‬واليت حت ّدث عنها "فرويد" يف اخلرائط‬
‫الطبوغرافية‪.‬‬
‫يتعجب من كل من ي ّدعي احلب من نظرة واحدة وال يكاد يص ّدقه‪ ،‬وال جيعل حبّه إال‬
‫فابن حزم ّ‬
‫ضربا من الرغبة‪ ،‬ألن احلب ال يلتصق باألحشاء إال مع الزمن الطويل‪ ،‬ويؤكد هذه املعاين مرة أخرى‬
‫حينما يؤكد على أن من أحب من حملة خاطرة و من نظرة واحدة‪ ،‬و يعترب هذا دليل على قلة الصرب‪،‬‬
‫ومؤدي ال حمالة إىل السلو و امللل‪ ،‬وهذا ينطبق على كل األشياء‪ ،‬أسرعها منوا أسرعها فناءً‪.‬‬
‫وبني ابن حزم أن احلب من نظرة واحدة ال يكون حبا قويا راسخا‪ ،‬ألن النظرة الواحدة الواقعة‬ ‫ّ‬
‫على استحسان جسدي تكون مدفوعة من النفس الشهوانية‪ ،‬ألن النظرة الواحدة دليل على قلة‬
‫الصرب‪ ،‬فاحلب حيتاج إىل زمن متطاول لتخترب فيه الصفات‪ ،‬وعن نفسه يقول ابن حزم‪" :‬ما لصق‬

‫(‪ -)1‬ينظرمصطفى محمد السيوفي‪ ،‬مالمح التجديد في النثر األندلسي‪ ،‬ص‪ .518‬وينظر ابن حزم األندلسي‪،‬‬
‫الرسائل‪ ،‬ص‪.124‬‬
‫(‪ -)2‬مصطفى محمد السيوفي‪ ،‬مالمح التجديد في النثر األندلسي‪ ،‬ص‪ .511‬وينظر ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص‬
‫‪.138‬‬

‫‪143‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫بأحشائي حب أبدا‪ ،‬إال مع الزمن الطويل‪ ،‬وال يكون هذا إال مبالزمة الشخص يل زمنا و مشاركيت له‬
‫يف كل ج ّد وهزل"(‪.)1‬‬
‫‪ ‬باب من أحب بالمطاولة‪:‬‬

‫وهو مذهب ابن حزم مثلما يوضح يف مواضع من الرسالة يقول‪" :‬وهذا مذهيب"‪ 2‬وهناك من‬
‫ضل اهلجران‬
‫أصحاب هذه الصفة من إن أحس باجنذابه أو ميله اجتاه شخص ما أو اجتاه صفة فيه‪،‬ف ّ‬
‫وترك املالزمة‪ ،‬حىت ال خيرج األمر عن طوعه‪...‬‬
‫كما يتعجب ابن حزم و يستغرب يف من يدعي أنه حيب من أول نظرة ومن وهلة واحدة‪ ،‬وال‬
‫يكاد يص ّدقه‪ ،‬وال يعترب حبه إال ضربا من الشهوة اجلنسية‪ ،‬اليت تنتمي إىل غرائز األنا‪ ،‬يف تقسيم‬
‫فرويد‪.‬‬
‫ما ميكننا قوله هنا هو أن ابن حزم ممّن يؤمن باملطاولة يف العشق‪ ،‬فال يأيت دفعة واحدة ومن أول‬
‫نظرة‪ ،‬فهنا تتضح العقلية السيكولوجية البن حزم عند ربطه العاطفة بالزمان وبتعدد التجارب‪ ،‬فهو‬
‫يرى أن العاطفة البطيئة اليت تولّدها املعاشرة والتعامل‪ ،‬أبقى من هذا العشق السريع الذي يراه أقرب‬
‫إىل الشهوة منه إىل احلب‪.‬‬
‫‪ ‬باب من أحب صفة لم يستحسن بعدها غيرها‪:‬‬

‫هناك من األنفس من إذا وله بصفة يف حمبوبه األول جعلها معيارا ومنوذجا تقاس عليه يف باقي‬
‫من أحب‪" ،‬وللحب سلطان على النفوس ال يـَُرُد حكمه‪ ،‬وأمر ال خيالف‪ ،‬وحد ال يُعصى‪ ،‬وطاعة ال‬
‫صرف‪ ،‬ونفاذ ال يُ ُّرد‪ ،... ،‬ويزلزل الثابت‪ ،... ،‬وحيل املمنوع ومع كل ذلك فرمبا استحسن احملب‬
‫تُ ُ‬

‫(‪ -)1‬ينظرحامد أحمد الدباس‪ ،‬فلسفة الحب و األخالق‪ ،‬ص ‪.171‬‬


‫( )‪ -‬ابن حزم‪،‬الرسائل‪،‬ص ‪.123‬‬
‫‪2‬‬

‫‪145‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫من حمبوبه صفة يستقبحها آخرون‪ ..‬وصارت تلك الصنعة هجري ُاهم‪ ،‬وعرضه ألهوائهم ومنتهى‬
‫استحساهنم‪.)1("..‬‬
‫فما‬ ‫(‪)2‬‬
‫التدليل والقصة على ذلك قوله‪ :‬وإين ألعرف من كان عنق حمبوبته فيه بعض الوقص‬
‫استحسن بعد ذلك من كانت ذات جيد طويل؛ و‪ ...‬من كانت عالقته األوىل جبارية مائلة إىل‬
‫القصر ‪...‬ما أحب طويلة بعدها‪...‬؛ وأعرف ‪ ...‬من أحب جارية يف فمها فوه(‪)3‬لطيف ‪...‬وقد كان‬
‫يشمئز من كل فم صغري ويذمه ويكرهه أميا كراهية‪.‬‬
‫وهنا ينقل لنا ابن حزم جتارب غري شخصية ملن عاشوا احلب وعايشوه‪ ،‬ومن أحبوا صفة يف‬
‫لكل حمبوب‪ ،‬أتى بعده‪ .‬وهذا املثال أيضا ينتمي إىل الغرائز‬
‫حمبوهبم األول‪ ،‬جعلوها معياراً ومنوذجاً ّ‬
‫اجلنسية‪ ،‬ألنّه يتح ّدث عن احلب واحملبني‪.‬‬
‫ومع ذلك فإنّه ينقل لنا جتربته الشخصية يف من أحب صفة مل حيب صفة أخرى بعدها يقول‪:‬‬
‫"وعين أخربك أين أحببت يف صباي جارية يل شقراء الشعر‪ ،‬فما استحسنت من ذلك الوقت سواد‬
‫ّ‬
‫(‪)4‬‬
‫الشعر‪ ...‬وإين ألجد هذا يف أصل تركييب من ذلك الوقت‪".‬‬
‫فاحلب يف بعده الذوقي اجلمايل ناتج عن تلك اجلاذبية احليوية‪ ،‬والعشق املتجلي يف اجلانب الذي‬
‫متارسه األعضاء‪ ،‬وإمنا هو النفس مبا تشع به من حيوية وما تضفيه من فاعلية وجدانية على هذه‬
‫احملبة‪.‬‬
‫هنا يتح ّدث ابن حزم عن فكرة "التثبيت" وهي تعين ارتباط املرء يف طفولته أو صباه بشخص أو‬
‫بشيء أو بفكرة ما ارتباطا وثيقا‪ ،‬وال يزول عنه هذا االرتباط حىت بعد انتقاله من مرحلة الطفولة إىل‬

‫(‪ -)1‬مصطفى محمد السيوفي‪ ،‬مالمح التجديد في النثر األندلسي‪ ،‬ص‪ .511‬وينظر ابن حزم األندلسي‪،‬‬
‫الرسائل‪ ،‬ص‪.129‬‬
‫(‪- )2‬الوقص‪ :‬قصر العنق‪.‬‬
‫(‪ -)3‬الفوه‪ :‬سعة في الفم‬
‫(‪-)4‬ينظر ابن حزم‪ ،‬الرسائل ‪ ،‬ص ‪.138‬‬

‫‪144‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫مرحلة النضج اجلسمي والبلوغ العاطفي النفسي‪ ،‬وهوما أ ّكده علماء التحليل النفسي حديثا‪ :‬يقول‬
‫"وعين ‪ ...‬أين أحببت يف صباي جارية ‪ ...‬شقراء ‪ ...‬فما استحسنت من ذلك الوقت‬ ‫ابن حزم‪ّ :‬‬
‫إذ ثبت أن كثريا من صور‬ ‫(‪)1‬‬
‫سواد الشعر‪ ...‬وإين ألجد هذا ‪ ...‬أصل تركييب يف ذلك الوقت‪"...‬‬
‫احلب األوىل ختتفي يف العقل الباطن "الالشعور" وهوما اصطلح عليه عند مدرسة التحليل النفسي ب‬
‫"رد الفعل العكسي"‪.‬‬
‫‪ ‬باب التعريض بالقول‪:‬‬

‫احملب يشغل عقله وفكره يف الطريقة اليت يصل هبا إىل حمبوبه وهوما يسمى التعريض وهو نوعان‪:‬‬
‫التعريض قبل االتفاق‪ :‬وذلك بالقول‪ ،‬إما بإنشاد بعض األبيات الشعرية‪ ،‬أو بإرسال مثل‪ ،‬أو‬ ‫‪)1‬‬

‫‪ ،...‬أو طرح لغز‪ ،‬أو تسليط مكان وعن هذا يقول ابن حزم‪ :‬وإين ألعرف من ابتدأ بكشف‬
‫حمبته إىل من حيب بأبيات شعرية قلتها‪.2‬‬
‫التعريض بعد االتفاق‪ :‬التعريض بالقول جنس ثان‪ ،‬ويكون بعد االتفاق وإدراك احملبة من احملبوب‪،‬‬ ‫‪)2‬‬

‫فعندئذ تكون الشكوى وعقد املواعيد بالتغرير‪ ،‬وإحكام املودة بالتعريض‪ ،‬ويفهم من الكالم غري‬
‫ماقيل له ‪ ،‬فيجيب السامع جبواب غري ما كان يقصد من الكالم‪ ،‬وحبسب ما مسع هو وما فهم‬
‫منه ‪ ،‬ويف احلقيقة قد فهم كل منهما عن صاحبه وكانت اإلجابة مبا ال يفهمه غريمها‪ .‬وعن هذا‬
‫يقول‪" :‬وأنا أعرف فىت وجارية كانا يتحابان‪ ،‬فأراد وصلها مبا ال يرضي اهلل و ما ال حيل‪ ،‬فردتق‬
‫قائلة‪ :‬واهلل ألشكونّك يف املأل عالنية وألفضحنّك فضيحة مستورة"(‪.)3‬وقد رفض ابن حزم‬
‫التعريض مجلة وتفصيال سواء قبل االتفاق وبعده ألنه يتناىف وتعاليم الدين اإلسالمي‪.‬‬

‫(‪-)1‬ينظر المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.138‬‬


‫(‪ -)2‬ينظر ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص‪.133‬‬
‫(‪ -)3‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.135‬‬

‫‪147‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫كما نقل لنا ابن حزم هنا أيضا جتربة غري شخصية يقول‪" :‬وأنا أعرف فىت وجارية‪ ."...‬فاألديب‬
‫أومرت به‪ ،‬وأصال حياته ال تتسع لكل ما يكتب من قصص‬ ‫يعرب دائما عن جتارب عاشها ّ‬ ‫ال ّ‬
‫وأحداث‪ ،‬وهذا ما يعاب على املنهج النفسي‪ ،‬فاإلنسان مهما كان ال ميكن أن يعيش التجارب كلّها‬
‫وإمنا يعيش بعضها ويسمع عن بعضها اآلخر‪.‬‬
‫وهذا املثال يندرج ضمن الفئة األوىل لتقسيم "فرويد" للغرائز‪ ،‬والذي يعترب احلب واحلياة من الغرائز‬
‫اجلنسية وغرائز األنا‪.‬‬
‫‪ ‬باب اإلشارة بالعين‪:‬‬

‫العني هي قائدة النفس الصادقة ودليلها القاطع‪ ،‬ومرآهتا العاكسة ملا بداخلها و هبا تستجلي‬
‫احلقائق وتتعرف على الصفات وتعي احملسوسات‪ ،‬وقد قيل ليس امل ِ‬
‫خرب كاملعاين‪ ".‬وهو أنواع‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪ )1‬اإلشارة بطرف العني‪ :‬هني عن األمر‪ ،‬وإسداهلا إعالم بالقبول‪.‬‬
‫‪ )2‬إدامة النظر‪ :‬تعين التأسف و التأمل‪.‬‬
‫‪ )3‬كسر النظر‪ :‬يعين الفرح‪.‬‬
‫إطباق العني باإلشارة‪ :‬يعين التهديد‪.‬‬ ‫‪)3‬‬

‫قلب احلدقة إىل جهة ما مث صرفها بسرعة‪ :‬تعين التنبيه على ما يشري إليه‪.‬‬ ‫‪)5‬‬

‫اإلشارة مبوجز العينني ‪:‬تعين السؤال عن شيء ما‪.‬‬ ‫‪)4‬‬

‫‪ )7‬قلب احلدقة بسرعة من وسط العني إىل املوق تعين املنع‬


‫ترعيد احلدقتني من وسط العينني ‪:‬تعين النهي عموما‪ ،‬ومادون ذلك ال يدرك إال باملشاهدة(‪.)1‬‬ ‫‪)8‬‬

‫كما يتواصل املتحابان أيضا باإلشارة خصوصا اإلشارة بالعني والعني هي باب النفس ومرآهتا اليت‬
‫تبصر هبا والعني حتل حمل الرسول‪ ،‬وهبا يدرك املراد‪ ،‬أما باقي احلواس –األربع‪ -‬فهي أبواب إىل القلب‬

‫(‪-)1‬ينظر ابن حزم ‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.134‬‬

‫‪148‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫ومنافذ إىل النفس‪ ،‬أما العني فأبلغها مجيعا وأصحها داللة وأوعاها عمال(‪ ،)1‬وهي مقنعة دائما وعند‬
‫كل الشعوب‪ .‬وتنوب يف كثري من األحيان عن الكتب وتقطع الشك باليقني ألن أساسها املالحظة‪.‬‬
‫ّ‬
‫إن احلواس خمتلفة منها ما يدرك باجملاورة مثل‪ :‬الذوق واللمس ومنها ما يدرك بالقرب مثل‪ :‬السمع‬
‫‪ ،‬إال العني فهي ذات ميزة خاصة فهي تدرك القريب والبعيد والباهت وامللون والطري والصلب‪ ،‬وهي‬
‫تندرج يف باب الغريزة اجلنسية‪ ،‬ألن بفضلها يتواصل املتحابان‪.‬‬
‫‪ ‬باب المراسلة‪:‬‬

‫وبعد الرتاسل بالعني واإلشارة تتطور العالقة للرتاسل بالكتب أوما يسمى بالرسائل وهي قطعة‬
‫ورقية مستطيلة أو مربعة تكتب فيها الرسالة مث تطوى على شكل أسطوانة وتربط خبيط غالبا ما يكون‬
‫وعلِمه أنه قد وقع بني‬
‫أمحر اللون داللة على احلب والعشق مث إن خرب وصول الكتاب إىل احملبوب َ‬
‫(‪)2‬‬

‫يديه ورآه –هذا األخري‪ -‬للذة جيدها احملب تعادل مقام الرؤية‪.‬‬
‫كما أن لرد اجلواب والنظر إليه هبجة تقوم مقام اللقاء‪ ،‬ومن شدة هلفة احملب جتده يضع هذا‬
‫الكتاب على عينيه أو على قلبه‪،‬مث ما يلبث أن يعانقه‪.‬‬
‫وعن هذا يقول‪ " :‬ولقد رأيت كتابا من حمب حملبوبه‪ ،‬وقد قطع يده‪ ...‬بسكني ‪ ...‬فسال الدم‬
‫‪ ...‬وكتب به الكتاب أمجع"(‪.)3‬وهذا دليل على قوة احلب بينهما‪ ،‬وعن مكانة احلبيب يف قلب‬
‫احملب‪ .‬مع أن هذا مبالغ فيه بعض الشيء‪ ،‬فال نقبله يف زماننا هذا‪.‬‬
‫وأما عن سقي احلرب بالدمع فيذكر ابن حزم أنه عرف من كان يفعل ذلك‪،‬وكان يرد عليه حمبوبه‬
‫بسقي احلرب بالريق‪.‬‬
‫باب السفير‪:‬‬

‫(‪-)1‬ينظر المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.137‬‬


‫(‪-)2‬ينظر ابن حزم‪ ،‬الرسائل ‪ ،‬ص ‪.139‬‬
‫(‪– )3‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.138‬‬

‫‪149‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫السفري هو الذي يقوم باملراسلة بني احملب وحبيبه "وجيب ختريه ‪ ،...‬فهو دليل عقل املرء‪ ،‬وبيده‬
‫(‪)1‬‬
‫حياته وموته‪ ،‬وسرته وفضيحته‪".‬‬
‫ويشرتط ابن حزم يف السفري شروطا‪ ،‬أمهها‪:‬‬
‫أن تكون هيئته الئقة باملهمة اليت أوكلت له‪.‬‬ ‫‪)1‬‬

‫‪ )2‬فطنا‪ ،‬يكتفي باإلشارة‪.‬‬


‫يقرطس(‪ )2‬عن الغائب‪.‬‬ ‫‪)3‬‬

‫حيسن من نفسه وحياول أال يغفل عن باعثه شيئا‪.‬‬ ‫‪)3‬‬

‫يؤدي للذي أرسله‪ ،‬كل ما يرى من احملبوب‪،‬كأمنا كان لألسرار حافظا‪.‬‬ ‫‪)5‬‬

‫ويف العهد‪.‬‬ ‫‪)4‬‬

‫نصوحا‪.‬‬ ‫‪)7‬‬

‫وال يشرتط أن يكون السفري إنسانا فقد يكون طائرا كاحلمامة مثال‪ ،‬يقول ابن حزم‪:‬‬
‫‪3‬‬
‫" وإين ألعرف من كانت الرسول بينهما محامة مؤدبة‪ ،‬ويعقد الكتاب يف جناحها"‬
‫وشخصية السفري هي أساس نظرية التحليل النفسي‪ ،‬نظرا لتأكيدها للعمليات الشعورية‪ ،‬وهي‬
‫تعرب عن ذلك الشعور اجلمعي أو اجلماعي الذي حيتفظ بطفولة اجلنس‬ ‫مصدر اإلبداع الفين‪ ،‬ألهنا ّ‬
‫البشري‪ ،‬وهوما يطلق عليه "كوستافيونغ" اسم النماذج العليا"‪ ،‬نظرا ملا حيوز عليه السفري من صفات‬
‫يتخريه لنقل رسالته إىل حمبوبه‪.‬‬
‫احملب ّ‬
‫محيدة جعلت ّ‬
‫‪ ‬باب طي السر‪:‬‬

‫(‪-)1‬المصدرالسابق نفسه‪ ،‬ص‪.131‬‬


‫(‪-)2‬يقرطس‪ :‬يصيب المرمى‬
‫(‪ )3‬ابن حزم‪ ،‬الرسائل ‪ ،‬ص ‪.133‬‬

‫‪178‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫مهما حاول احملب كتم السر فإن السر يأىب "إالّ ظهورا يف احلركات والعني "(‪ ،)1‬ويعود سبب‬
‫تسرت‪ ،‬وال‬
‫تصاو ُن احملب عن أن يسم نفسه هبذه السمة عند الناس‪ .‬ولن خيفى املخب وإن ّ‬
‫الكتمان ُ‬
‫تصرب‪.‬‬
‫ينكتم هواه وإن ّ‬
‫ومن بعض صفات احلب "الكتمان باللسان‪ ،‬وجحود احملب إن ُسئل‪ ،‬والتصنّ ُع بإظهار الصرب‪،‬‬
‫بسر حبها لنفسها‪ ،‬وال تبوح به لغريها‪ ،‬وهذا من‬
‫خلي"‪ .‬فالنفس جيب أن حتتفظ ّ‬
‫وأن يُري أنّه عزهاة ّ‬
‫عالمات احلب‪ ،‬وكلّه من أجل احملافظة على احملبوب وعن العالقة اليت تربطه به‪.‬‬
‫وهناك عدة أسباب لكتمان سر احلب منها‪:‬‬
‫ت جنومها؛‬
‫أالّ ينفر احملبوب أو يُنفر به‪ ،‬فلو باح بأقل سبب أنّه يهواه لكان منه مناط الثريا قد تعلّ ْ‬ ‫‪)1‬‬
‫وهذا ضرب من السياسة‪.‬‬
‫احلياء الغالب على اإلنسان‪.‬‬ ‫‪)2‬‬
‫احملب حمبوبه و منعه منه‪ ،‬ويكون ذا نفس عزيزة أبية‪ ،‬فيخفي ويسرت ما صدر عن حمبوبه‬
‫أن يصد ّ‬ ‫‪)3‬‬
‫حىت ال يشمت به األعداء‪.)2(...‬‬
‫يقول ابن حزم‪" :‬وإين ألعرف بعض من امتُحن بشيء من هذا فسكن الوجد بني جواحنه‪...،‬و‬
‫إذا به يوم جالسا مع ثلة يسألونه عما أشيع عنه بأنه حيب فالنة‪ ،‬وهو حياول أن ينفي يف تزمت ما‬
‫أشيع عنه‪ ،‬إذ مير بالقرب منهم ذلك الشخص الذي اهتم بوجود عالقة بينهما‪ ،‬فما إن وقعت عينه‬
‫اصفر لونُه‪ ،‬وتفاوتت معاين الكلمات يف حلقه‪،‬‬
‫على حمبوبه‪ ،‬حىت اظطرب ومل يعرف كيف يتصرف‪ ،‬و ّ‬
‫املتكلم معه قلقا فانكفأ واستدعى ‪...‬فقيل له‪ :‬ما عدا عما بدا؟ فقال‪ :‬هو ما‬
‫ُ‬ ‫و هنا قطع كالمه‬
‫(‪)3‬‬
‫تعتقدون‪ ،‬عذر من عذر‪ ،‬وعذل من عذل‪".‬‬

‫(‪-)1‬المصدر نفسه ‪ ،‬ص ‪.133‬‬


‫(‪-)2‬ينظر ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪138‬‬
‫(‪-)3‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.135‬‬

‫‪171‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫احملب حياول أن يسرت حمبوبه‪ ،‬وحيافظ عليه‬


‫وهذا املثال أيضا ميكن أن نعتربه من النماذج العليا ألن ّ‬
‫بكتم سر حبّه وألن لديه حس املسؤولية اجتاه من حيب؛ حسب "يونغ"‬
‫‪ ‬باب اإلذاعة‪:‬‬

‫وهناك من مل يتمالك نفسه عند رؤية حمبوبه فلم يأبه ألبيه وال ملن معه ورمى ما بيده وذهب حنو‬
‫حمبوبته وهذا لكثرة حبه وهيامه هبا‪ .‬ويف هذا يقول ابن حزم‪" :‬حدثين موسى بن عاصم بن عمرو‬
‫قائال‪ :‬كنت بني يدي أيب ‪ ...‬وقد أمرين بكتاب أكتبه‪ ،‬إذ حملت عيين جارية كنت أكلف هبا‪ ،‬فلم‬
‫أملك نفسي ورميت الكتاب عن يدي وبادرت حنوها‪ .‬ودهش أيب وظن أنه –قد أصابين مس‪-‬أو‬
‫عارض؛ مث –عدت إىل رشدي‪ -‬فمسحت وجهي مث عدت واعتذرت بأن الدم قد سال من‬
‫أنفي"(‪.)1‬‬
‫أما هذا الباب فيندرج حتت غريزة احلب‪ ،‬هذه الغريزة اجلنسية‪ ،‬اليت جعلت من احملب يذيع ما يف‬
‫قلبه دون أن ينتبه ملا يقوم به‪.‬‬
‫‪ ‬باب الطاعة‪:‬‬

‫فالنفس تويل الطاعة ملن حتب طوعا واحملب يطيع حمبوبه يف كل أمر يطلبه منه مهما كان صغريا‬
‫أو كبريا فكلما كانت درجة احلب كبرية زادت طاعة احلبيب حملبوبه‪ ،‬ويف هذا يقول ابن حزم‪" :‬ومن‬
‫عجيب طاعة احملب حملبوبه أين أعرف من كان سهر الليايل الكثرية ولقي اجلهد اجلاهد فقطعت قلبه‬
‫ضروب الوجد ‪ ،...‬فحني رأى منه بعض الكراهة ملا نواه تركه وانصرف عنه‪ .،‬وإين ألعرف من فعل‬
‫هذا الفعل مث تندم لعذر ظهر من احملبوب"(‪.)2‬‬
‫كما كتب أبياتا حت ّدث فيها عن حالوة الطاعة للمحبوب‪ ،‬وطلب أن ال نعترب ذلك مذلّة‪ ،‬وأن‬
‫نتفهم ذلك الشعور الذي مل يسلم منه حىت امللوك والسالطني‬

‫(‪-)1‬ابن حزم‪ ،‬الرسائل ‪ ،‬ص‪.158‬‬


‫(‪-)2‬المصدر نفسه ‪ ،‬ص ‪.153‬‬

‫‪172‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫والطاعة من الصفات احلميدة‪ ،‬وهوما جيعلها من النماذج العليا كما يسميها "يونغ"‪ ،‬ويوصف‬
‫صاحبها بـ"األنا الواعية"‪ ،‬ألنه ذو وعي مبا يصلح وينفع‪ ،‬وحياول أن يتحلى بصفة الطاعة اليت‬
‫اكتسبها يف طفولته من طاعته لوالديه‪ .‬ألن الطفل حيتفظ يف ذاكرته بالقليل من السنوات األوىل من‬
‫عمره‪ ،‬وهذا ما يقول به "يونغ"‪.‬‬
‫يصري اإلنسان من حال إىل حال يف حال أوىل الطاعة حملبوبه يقول‪" :‬‬
‫مث يذكر لنا كيف ميكن أن ّ‬
‫طاعة احملب حملبوبه‪،‬من أعجب ما يقع يف احلب‪ ،‬وجعل طباعه أشبه ما تكون طباع حمبوبه‪ ،‬فيتحول‬
‫محي األنف‪ ،... ،‬فما هو إالّ أن‬
‫املرء من مرء شرس‪ ،‬صعب الطباع‪ ،‬حمب للسيطرة‪ ،‬قوي العزمية‪ّ ،‬‬
‫يتنسم بنسيم احلب‪ ،‬و يتغلغل احلب يف أعماقه‪ ،‬حىت تعود الشراسة لياناً والصعوبة سهولة‪،... ،‬‬
‫ّ‬
‫واحلميّة استسالماً"‬
‫(‪)1‬‬

‫يتدرج أسلوب ابن حزم من احلديث عن الطاعة( طاعة احملب حملبوبه) ‪ ،‬إىل تصوير احملب‬ ‫فهنا ّ‬
‫‪(،‬شرس الطباع) إىل وصف احلالة عند الوقوع يف احلب(تصري الشراسة ليونة) ‪ ،‬إىل النتيجة (الوقوع يف‬
‫احلب)‪.‬‬
‫ويف هذا الباب يذكر العالمات اليت تصاحب احملبني يقول‪ " :‬وللحب عالمات‪ :‬أوهلا إدمان‬
‫النظر‪ ، ...‬وفيها اإلقبال باحلديث‪ :‬فال حيدث إال حمبوبه‪ ،‬وال ينصت إال له‪،‬وال يهتم إال حلديثه‬
‫وتصديقه حىت ولو كذب‪ ،‬ومساندته إذا ظلم‪ ،‬والوقوف معه وإن جار‪ ،‬وإتباعه كيف‬
‫سلك‪...‬واإلسراع بالسري حنو املكان الذي يكون فيه‪...‬واالستهانة بكل اخلطب اليت تدعوا إىل‬
‫مفارقته‪ ،‬ويتكاسل كلما أراد تركه‪...‬وفرحته و ابتهاجه عند رؤية من يشبه حمبوبه‪ ،‬أو عند مساع امسه‬
‫فجأة"(‪.)2‬‬
‫‪ ‬باب المخالفة‪:‬‬

‫(‪-)1‬ينظر ابن حزم‪ ،‬الرسائل ‪ ،‬ص‪.81‬‬


‫(‪-)2‬سالم يفوت‪ ،‬مقال" األسس الميتافيزيقية لنظرية الحب لدى ابن حزم‪ ،‬مجلة "تكاملية المعرفة"‪ ،‬جمعية‬
‫الفلسفة المغربية‪ ،‬عدد‪ ،1983 ،1982 ،8-7‬ص ‪.32 ،12‬‬

‫‪173‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫وهو أن خيالف احملب طلب حمبوبه و أن خيضعه لرغبته‪ ،‬دون أن يأخذ موافقته‪،‬و يرغمه على فعل‬
‫ما ال يريد‪،‬وهو تصرف مكروه وغري مقبول‪ ،‬وهو ما يسرع إىل قطع العالقة بني املتحابني‪،‬يقول‬
‫ابن حزم‪ " :‬وهناك حاالت اتبع احملب فيها شهوته وركب رأسه إىل أن يبلغ مراده من حمبوبه‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫ط أو رضي‪."...‬‬ ‫وتعمد إسعاد نفسه منه على كل الوجوه‪- ،‬سواء قبل أو رفض‪َ -‬س ِخ َ‬
‫ّ‬
‫وهذا ما حتدث عنه فرويد‪ ،‬إشباع رغبة احملب وشهوته من حمبوبه‪ ،‬وهذا نابع من الغريزة اجلنسية‬
‫لديه ألنه حيبه ومولع به‪ .‬وما يعاب على فرويد هنا هو اإلفراط يف التفسري اجلنسي للرموز الفنية‪.‬‬
‫‪ ‬باب الوصل‪:‬‬

‫حد ما نزول املطر بعد‬


‫ومن وجوه العشق‪ :‬الوصل‪ :‬وهو ذلك الشعور اجلميل الذي يشبه إىل ٍّ‬
‫جفاف‪ ،‬وتلك الراحة والطمأنينة اليت تصيب النفس السيما بعد طول امتناع‪ .‬كما أن حالوة الوصل‬
‫بعد اهلجر ألذ من العسل يف ريق احملبوب ملا هلا من أثر نفسي بليغ‪ ،‬فهي ترفع املعنويات وتزيد من‬
‫هرمونات السعادة‪.‬‬
‫ومن لذيذ معاين الوصل‪ ،‬املواعيد‪ ،‬وما للقلب من شغف ملوعد مع حمبوبه وهو نوعان‪:‬‬
‫ب حملبوبه‪.‬‬
‫الوعد بزيارة احمل ّ‬ ‫‪)1‬‬

‫انتظار الزيارة بعد وعد قطع بينهما‪،‬أي أن يعد احملب حمبوبه بزيارة قريبة إليه‪.‬‬ ‫‪)2‬‬

‫وعن الوصل يقول‪ " :‬أدركت بنت زكريا بن حيىي التميمي ‪ ،...‬وكانت متزوجة بيحىي بن حممد بن‬
‫الوزير حيىي بن إسحاق‪ ،‬فعاجلته املنية ومها أغض عيشهما وأنظر سرورمها‪ ،‬فبلغ من أسفها عليه أن‬
‫باتت معه يف دثار واحد ليلة مات‪ ،‬وجعلته آخر العهد به وبوصله‪ ،‬مث مل يفارقها األسف بعده إىل‬
‫حني موهتا"(‪ .)2‬فهي من كثرة حبها له‪ ،‬تغطت معه يف نفس الرداء وهو ميت‪.‬‬

‫(‪ -)1‬ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص‪.148‬‬


‫(‪-)2‬ينظر ابن حزم‪ ،‬الرسائل ‪ ،‬ص‪.188‬‬

‫‪173‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫وهذا املثال ال ميكن إال أن يكون ضمن الفئة األوىل من تقسيم "فرويد" للغرائز‪ ،‬ألنه يتحدث عن‬
‫الوصل وحالوة اللقاء بني احملبني‪ ،‬وما للقلب من شغف وهلفة ملوعد يظفر به من حمبوبه‪ ،‬وما زاد‬
‫املثال مجاال القصة اليت أوردها ابن حزم يف النهاية عن الوفاء بني احملبني‪ ،‬فاحلبيبة من شدة حبها‬
‫حملبوهبا تغطّت معه نفس الرداء وهو ميت‪.‬‬
‫وترى احملب حيب من حمبوبه أهله وكل حميطه وكل شخص له عالقة –قريبة كانت أم بعيدة‪ -‬به‪،‬‬
‫وينالوا بذلك حظوة لديه فتجده حيبهم أكثر من نفسه و أهله و أصحابه‪ ،‬ومن آياته خوف احملب‬
‫على حمبوبه‪ ،‬وحفظ كل شاردة وواردة يقوم هبا‪،‬و تتبع كل أخباره وتذكر حركاته و كلماته‪.‬‬
‫‪ ‬باب الهجر‪:‬‬

‫له تبعيات سلبية على نفس احلبيب وممكن أن يدخل يف اكتئاب‪ ،‬وقد يصل إىل حد املوت وهو‬
‫أنواع‪:‬‬
‫‪ )1‬هجر يكون حذرا من مراقب هلما و حلركاهتما؛ وخوفا من انتشار و شيوع سرمها‪،‬و يوصف هذا‬
‫النوع من اهلجران بأنه أكثر حالوة من الوصال‪.‬‬
‫هجر الدالل أو التدلل وهو يف النفس ألذ من الوصال‪ ،‬وال يكون إال بعد أن يثق كل واحد من‬ ‫‪)2‬‬

‫املتحابني بصاحبه‪ ،‬وعلمه املسبق مبدى حبه له‪ ،‬وهنا يهجر احملب حمبوبه لريى مدى صربه على‬
‫هجرانه وفراقه‪.‬‬
‫هجر العتاب‪،‬و العتاب يكون لذنب يقع من احملب‪ ،‬وهو أشد على احملب‪ ،‬لكن الفرحة اليت‬ ‫‪)3‬‬

‫تعرتي نفسه بالرجوع ميكنها أن تبطل و متحي ما مضى‪ ،‬وهذا ألن رضى احملبوب بعد غضبه للذة‬
‫ما بعدها لذة‪ ،‬وارتياح ما بعده ارتياح‪.‬‬
‫هجر يوجبه الوشاة‪.‬‬ ‫‪)3‬‬

‫‪175‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫هجر امللل‪ ،‬وامللل مطبوع يف اإلنسان‪ ،‬وصاحبه ال يصفو له صديق‪ ،‬وال تصح له األخوة وال‬ ‫‪)5‬‬

‫يثبت على عهد‪ ،... ،‬وال تطول مساعدته حملب‪ ،‬وال يعتقد منه ود ‪.)1(...‬‬
‫‪ )4‬هجر يكون من طرف احملب‪ ،‬ويكون عندما مييل احملبوب إىل غريه‪ ،‬أو لسبب جعله يثقل عنه ‪،‬‬
‫فشربه ملاء احلنظل املر أوهن عنده من رؤية هذا املنظر املميت‪ ،‬فيشعر و كأن قلبه هو الذي‬
‫يتقطع‪.‬‬
‫هجر القلى‪،‬فمن دهي هبذه الداهية فليتصد حملبوب حمبوبه‪ ،‬وليتعمد ما يعرف أنه يستحسنه‪.‬‬ ‫‪)7‬‬

‫ومن عالمات احملب‪ :‬اإلطراق وكثرة االنغالق‪ ،‬فبينما كان بشوشا ضاحكا كثري احلديث و اللهو‪،‬‬
‫صار منطويا منغلقا على نفسه قليل الكالم كثري السهو‪ ،‬حمبا للوحدة ‪،‬مستأنسا بالسهر و االنفراد و‬
‫الظلمة‪.‬‬
‫‪ ‬باب الغدر‪:‬‬

‫من أبشع أنواع الغدر أن ينقلب السفري عن مهنته و خيون أمانته فيسعى حىت يَقلب احملب عن‬
‫احملب‪ ،‬ومن حدث معه هذا مرة جتده ال يثق‬
‫حمبوبه ويستخلصه لنفسه‪ ،‬وهلذا بالغ األثر على نفسية ّ‬
‫أبداً يف أي أحد‪ ،‬مهما بلغ التقارب بينهما‪.‬‬
‫‪ ‬باب البين‪:‬‬

‫حتدث ابن حزم عن أثر الفراق على احملب وما يعرتي القلب من غصة‪ ،‬وهم لفراق حمبوبه وعلة‬
‫يف القلب وغصة يف النفس ال هتدأ إال بالرجعة‪.‬‬
‫فاألثر النفسي الذي حيدثه الوداع وحلظاته يف نفس احملب وما يتبعه من حزن وهم وزفرات ودموع‬
‫والوداع يعين رحيل أحد احملبني وهو من املناظر اهلائلة واملواقف الصعبة اليت تفتضح فيها قوة الرجال‬
‫وعزمية النساء‪ .‬والوداع ينقسم إىل قسمني‪:‬‬
‫وداع بالنظر واإلشارة‪.‬‬ ‫‪)1‬‬

‫(‪ -)1‬ينظر ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص‪.198-191‬‬

‫‪174‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫وداع بالعناق واألحضان‪.‬‬ ‫‪)2‬‬

‫يقول ابن حزم‪ " :‬وأعرف من أتى ليودع حمبوبه يوم الفراق فوجده قد فات‪ ،‬فوقف على آثاره‬
‫ساعة ‪ ...‬مث انصرف كئيبا ‪ ،...‬فما كان بعد أيام قالئل حىت اعتل ومات‪.)1(".‬‬
‫أمر وأهلك للنفس من‬
‫األمرين أشد اهلجر أم الفراق؟ ووجدوا أن الفراق ّ‬
‫أي ّ‬ ‫وتساءل الناس عن ّ‬
‫اهلجر ومن الغدر ومن أي شيء آخر ‪.‬‬
‫وأما ذو النفس التواقة الكثرية النزوع والتطلع فاهلجر دواءه وجالب حتفه‪ ،‬والبني له مسالة‬
‫ومنساة‪.‬‬
‫وأما أنا فاملوت عندي أهون من الفراق‪ ،‬وما اهلجر إال جالب لألمل فقط‪.،‬‬
‫(‪)2‬‬

‫وهذه األبواب الثالثة – باب اهلجر‪ ،‬باب الغدر‪ ،‬باب البني‪ -‬كلها تندرج ضمن الفئة الثانية يف‬
‫تقسيم "فرويد" للغرائز‪ ،‬واليت تقول ب "غرائز املوت" واليت تقوم على اهلدم وإهناء احلياة مبدأ هلا‪،‬‬
‫وتعترب تدمري األشخاص أساسا هلا‪.‬‬
‫‪ ‬باب القنوع‪:‬‬

‫جيب على النفس أن تقتنع مبا لديها ومبا هو موجود‪ ،‬وعلى احملب أن يرضى من حمبوبه باليسري‬
‫القليل‪ ،‬وهو أنواع‪:‬‬
‫الزيارة‪ ،‬وهي على ضربني‪:‬‬ ‫‪)1‬‬

‫حملبوبه‪.‬‬ ‫أ‪ .‬زيارة احملب‬


‫(‪)3‬‬
‫ب‪ .‬زيارة احملب حملبوبه‪ ،‬شرط االكتفاء بالنظر و احلديث الظاهر‪.‬‬
‫سر اإلنسان ويرضى ببعض آالت حمبوبه‪ ،‬وإ ّن له من النفس ملوقعا حسنا‪.‬‬
‫ومن القنوع أن يُ ّ‬ ‫‪)2‬‬

‫(‪-)1‬ابن حزم‪ ،‬الرسائل ‪ ،‬ص‪.222‬‬


‫(‪-)2‬ينظر ابن حزم‪،‬الرسائل‪ ،‬ص‪.225‬‬
‫(‪-)3‬ينظر المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.238‬‬

‫‪177‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫الرضى مبزار الطيف وتسليم اخليال‪،‬‬ ‫‪)3‬‬

‫احملب بالنظر إىل اجلدران و البيت الذي حيوي على من حيب‪.‬‬


‫‪ )3‬كما يقتنع ّ‬
‫ومن مجال القنوع أن يرتاح احملب‪ ،‬لرؤية من رأى حمبوبه ويأنس به‪ ،‬ويفرح لكل من أتى من موطن‬ ‫‪)5‬‬

‫حمبوبه‪.‬‬
‫كما اهتم الشعراء بفن القنوع حيث أرادوا من خالله إظهار متكنهم وإبانةَ اقتدارهم على تشكيل‬ ‫‪)4‬‬

‫املعاين املبهمة واألغراض البعيدة‪.‬‬


‫التمييز ويسهل الصعب‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ومن أسوأ أنواع القنوع أن يغيب العقل هنائيا‪ ،‬وتفسد طبيعته‪ ،‬ويصعب‬ ‫‪)7‬‬

‫وتنعدم الغرية‪ ،‬وتذهب األنفة‪ ،‬فريضى اإلنسان مبشاركة مين حيب(‪ .)1‬و العياذ باهلل منه ومن أهله‪.‬‬
‫أما باب القنوع‪ ،‬فيندرج ضمن غريزة احلب‪.‬‬
‫‪ -‬باب الضنى‪:‬‬

‫وحيدث نتيجة اهلجر أو الفراق فتسقم النفس وتتعرض ألنواع األمراض ومع أن األعراض جسدية‬
‫أو ظاهرة للعيان إال أن املرض نفسي وحسي وداخلي أكثر منه جسدي والبد لكل حمب صادق‬
‫املودة ممنوع الوصل‪ -‬إما ببني وإما هبجر وإما بكتمان واقع املعىن – من أن يؤول إىل حد السقام‬
‫والضىن والنحول‪ ،‬ورمبا أضجعه ذلك‪ .‬ويف هذا يقول‪ " :‬أن الضين يؤدي باحملب إىل اجلنون‪ :‬وأخربين‬
‫أبو العافية موىل حممد بن عباس بن أيب عبدةّ‪ ،‬أن سبب جنون "حيىي بن حممد بن عباس بن أيب‬
‫عبدة" بيع جارية له كان جيد هبا وجدا شديدا‪ ،‬كانت أمه أباعتها وذهبت إىل إنكاحه من بعض‬
‫العامريات"(‪.)2‬‬
‫أما هذا الباب فيندرج ضمن غرائز املوت‪ ،‬ألن اهلجر قد يؤدي بصاحبه إىل األسقام‪ ،‬أو التفكري‬
‫يف أذيّة حمبوبه‪.‬‬

‫(‪-)1‬ينظر ابن حزم‪،‬الرسائل ‪ ،‬ص ‪.239-233‬‬


‫(‪-)2‬ينظر ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.233‬‬

‫‪178‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫السلو‪:‬‬
‫‪ -‬باب ّ‬
‫تطيب النفس من اهلجران والنسيان والسلوان والسلو املتولد من اهلجر وطوله إمنا هو كاليأس‬
‫يدخل على النفس من بلوغها إىل أملها‪ ،‬فيفرت نزاعها وال تقوى رغبتها والسلو يف التجزئة ينقسم‬
‫قسمني‪:‬‬
‫‪ )1‬السلو الطبيعي ويقابله النسيان‪ ،‬و يعين خلو القلب و العقل من احلب و احملبوب‪ ،‬وكأن االنسان‬
‫مل يدرك هذا الشعور ومل يعرفه يوما‪.‬‬
‫سلو تطبعي‪ ،‬ويقال له أيضا التصرب‪،‬و هو أيضا قهر النفس فأحيانا ترى املرء ولو أظهر الصرب و‬ ‫‪)2‬‬

‫القوة إال أن قلبه ينزف دما ‪،‬إال أنه ال حيب أن يظهر أنه ضعيف و هذا لكي يظهر حملبوبه قوة‬
‫شخصيته‪.)1(.‬‬
‫والفرق العامي بني املتصرب والناسي‪ ،‬هو أن الصابر ولو أظهر أنه متحمال و متجلدا حملبوبه فقط‬
‫فهو ال حيتمل ذلك من غريه‪.‬‬

‫واألسباب املوجبة للسلو املنقسم هذين القسمني كثرية‪ ،‬وعلى حسبها ومبقدار الواقع منها يعذر‬
‫السايل ويذم‪:‬‬
‫فمنها امللل‪ :‬وهذا يعترب أن احلب جمرد تسلية وهلو‪.،‬‬ ‫‪)1‬‬

‫االستبدال‪ :‬وهو أكثر من امللل بدرجة‪ ،‬بل أقبح منه‪ ،‬وفاعله أحق بالذم‪.‬‬ ‫‪)2‬‬

‫‪ )3‬احلياء‪ :‬سواء كان من احملب او احملبوب وهو الذي جيعل عالقة احلب ترتاخى وتطول‪،‬بسبب حياء‬
‫كل واحد منهما من اآلخر ‪،‬فكلما أراد التعبري عنمشاعره غلبه احلياء وهذا ما يدخل السلو يف‬
‫احملبة‪،‬و جيعلها فاترة‪.‬‬
‫وهذه األسباب الثالثة أصلها من احملب وابتداؤها من قبله‪.‬‬

‫(‪-)1‬ينظر المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.235‬‬

‫‪179‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫وهناك سبب رابع متعلق باحملبوب وهو‪:‬‬


‫اهلجر‪ ،‬واهلجر إذا تطاول وكثر العتاب واتصلت املفارقة‪ ،‬يكون بابا إىل السلو(‪.)1‬‬ ‫‪)3‬‬

‫أما األسباب الثالثة الباقية فهي من قبل احملبوب‪ ،‬واملتصرب من الناس فيها غري مذموم‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫نفار يكون يف احملبوب وانزواء قاطع لألطماع؛ وهذا النفار جيعل احملب له احلق يف قطع هذه‬ ‫‪)5‬‬

‫العالقة ‪،‬اليت مل تقم إال قليال واليت مل يكتب هلا االستمرار لنفور احملبوب من حمبوبه‬
‫اجلفاء خاصة عندما يكون من احملبوب‪ ،‬و الذي ال ميكن أن نغض الطرف عنه ‪،‬سواء صدر من‬ ‫‪)4‬‬

‫احملب فما بالك لو صدر من احملبوب‪،‬وهنا ال ميكن أن نلوم احملب إذا نسي حمبوبه الذي بالغ و‬
‫أسرف يف اجلفاء‪.‬‬
‫الغدر‪ ،‬وهو صفة قبيحة ال ميكن لإلنسان العاقل حتملها‪،‬كما ال ميكن للمحب جتاوزها عن‬ ‫‪)7‬‬

‫حمبوبه‬
‫مث سبب ثامن‪ :‬وهوال من احملب وال من احملبوب ‪...‬وهو اليأس(‪)2‬؛ وفروعه ثالثة هي‪:‬‬ ‫‪)8‬‬

‫‪ -‬املوت‪.‬‬
‫‪ -‬أو فراق ال ترجى العودة منه‪.‬‬
‫‪ -‬أو سبب يدخل على ثقة املتحابني ببعضهم فيُغريها؛ وهذه الفروع الثالثة من أسباب السلو‬
‫التصرب(‪.)3‬‬
‫و ُّ‬
‫مث إ ّن لليأس عمال يف النفوس عجيبا‪ ،‬وثلجا حلر األكباد كبرياً؛ لذا وجب التأين يف النظر إليها‪،‬‬
‫فإذا انقطعت األطماع واحنسمت اآلمال فحينئذ يقوم العذر‪.‬‬

‫(‪ -)1‬ينظر ابن حزم‪،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.237-234‬‬


‫(‪-)2‬المصدر نفسه ‪ ،‬ص ‪.153-139‬‬
‫(‪-)3‬ينظر المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.153‬‬

‫‪188‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫عرب عنه "أدلر" بـ "أن الشعور بالنقص هو السبب الرئيس يف نشأة العصبية‪ ،‬مما أوجب‬
‫وهذا ما ّ‬
‫السيطرة وحب التملك‪ ،‬وهذا ما جعله يستنتج أن الشعور بالقصور الذي يوحي به أحد أعضاء‬
‫منوه النفسي"؛ وهذا ما جعله يسلي نفسه بالوصال واللقاء‪.‬‬
‫الفرد‪ ،‬يصري دائما عامال يف ضوء ّ‬
‫‪ ‬باب الموت‪:‬‬

‫واملوت هو آخر مرحلة يف احلب الذي يبدأ مودة مث هجرا أو بينا مث سقما وضىن ورمبا إزداد األمر‬
‫ورق الطبع فكان سببا للموت ‪ ،‬وقد جاء يف اآلثار‪" :‬من عشق فعف فمات فهو شهيد"(‪ .)1‬ويقول‬
‫"وأنا أخربك عن أيب بكر أخي رمحه اهلل‪ ،‬وكان متزوجا بعاتكة بنت قند‪... ،‬فكانا مل يزاال يف تغاضب‬
‫وتعاتب مدة مثانية أعوام‪ ،‬وكانت قد ‪...‬أحنلها شدة كلفها به‪ ،‬حىت صارت كاخليال املتوهم دنفا‪،‬‬
‫‪...‬إىل أن تويف أخي رمحه اهلل يف الطاعون ‪...‬وهو ابن اثنتني وعشرين سنة‪ ،‬فما انفكت منذ بان‬
‫(‪)2‬‬
‫عنها من السقم الدخيل واملرض والذبول إىل أن ماتت بعده بعام "‬
‫ويضيف قائال‪" :‬فقد رأينا من مات على ولده كما ميوت العاشق أسفا على معشوقه‪" ،‬‬
‫(‪)3‬‬

‫يف هذا الباب حاول ابن حزم حماولة جادة يف تعداد ووصف وبيان أعراض وعالمات احلب اليت‬
‫قد تؤدي باحملب إىل املوت‪ ،‬وأمهها ما يعرف ب "اهلوس اإلكتئايب" ثنائي القطبية‪ ،‬و" قد أرجع‬
‫الربوفيسور "بيرت غيبسون" أمراض اجلهاز اهلضمي‪ ،‬وأعراض مرض القولون العصيب إىل تغريات يف‬
‫(‪)4‬‬
‫نسبة السريوتون‪ ،‬وكل ذلك مماثل ملا ذكره ابن حزم"‬

‫(‪ -)1‬يروى " من عشق فعف فكتم فمات‪ ،‬مات شهيدا " و يروى " من عشق فعف ثم مات‪ ،‬مات شهيدا" و‬
‫يروى " فهو شهيد"‪.‬‬
‫(‪-)2‬ابن حزم‪،‬الرسائل‪ ،‬ص‪.248.259‬‬
‫(‪-)3‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.242‬‬
‫(‪- )4‬سعد عبد السالم‪ ،‬مسألة الحب بين الدين و الفلسفة‪ ،‬ص‪.193‬‬

‫‪181‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫حيث تتضح أمهية هذه املادة وانتظام عملها يف جسم اإلنسان‪ ،‬وأعراض نقصها وزيادهتا وتغري‬
‫نسبتها يف الدم‪ ،‬تشبه إىل ح ّد كبري األعراض والعالمات اليت تصيب احملب واليت توصل صاحبه إىل‬
‫حنول اجلسم بال وجع‪ ،‬وأحيانا إىل املرض والوسوسة بل وحىت املوت أحيانا(‪.)1‬‬
‫‪ ‬باب قبح المعصية‪:‬‬

‫س َألَ َّم َارةٌ ِبالسُّوءِ "(سورة يوسف اآلية ‪)53‬‬


‫قال اهلل تعاىل‪" :‬إِنَّ ال َّن ْف َ‬

‫فالنفس بطبيعتها ميالة للسوء‪ ،‬وفعل الفواحش واملنكرات‪ ،‬والعني هي أوىل أبواب الفنت‪،‬‬
‫والشيطان هو حمركها‪.‬‬
‫كما أورد ابن حزم آيات قرآنية من سور متعددة يثبت فيها أن النفس هي األمارة بالسوء وهي‬
‫أصل كل بلوى‪ ،‬وسبب كل ذنب‪.‬‬
‫ويقول أيضا عن قبح املعاصي‪ " :‬حدثين القاضي محام بن أمحد عن حيي بن مالك بن عائذ‬
‫بإسناد يرفعه إىل أيب الدرداء أنه قال‪" :‬أمجّوا النفوس بشيء من الباطل ليكون عونا هلا على‬

‫احلق"(‪.)2‬ويف بعض األثر‪" :‬أرحيوا النفوس فإهنا تصدأ كما يصدأ احلديد"(‪.)3‬‬
‫وهذان البابان األخريان من رسالة "طوق احلمامة"‪ :‬ومها يندرجان ضمن الفئة الثانية لغرائز املوت‪،‬‬
‫احلب ما قتل"‪ ،‬فهناك َمن ِمن شدة ولعه مبحبوبه‬ ‫اليت مبدؤها اهلدم وإهناء احلياة‪ .‬يقال‪ " :‬ومن ّ‬
‫وإعراض األخري عنه‪ ،‬جعله طريح الفراش‪ ،‬وال يفكر يف احلياة بقدر املوت‪ ،‬ومبا أن النفس أصل كل‬
‫بلوى‪ ،‬فهي أقرب لصورة العدوان والتدمري‪.‬‬
‫ولعل الذي ساعد ابن حزم يف تأليف هذه الرسالة وهبذه الدقة وهذا األسلوب وهذه املعرفة‬
‫الدقيقة بتفاصيل احلب‪ ،‬واليت ال ميكن أن يعرفتها إالّ من عاش وعايش النساء‪ ،‬حيث أنّه نشأ وترىب‬

‫(‪ -)1‬ينظر ابن القيم‪ ،‬في روضة المحبين‪ ،‬مكتبة الثقافة الدينية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ‪.88‬‬
‫(‪-)2‬ابن حزم‪ ،‬الرسائل ‪ ،‬ص ‪.84‬‬
‫(‪-)3‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.87‬‬

‫‪182‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫فهن من ه ّذبنه‪ ،‬وربينه‪ ،‬حيث قال‪ " :‬لقد شاهدت النساء وعلمت من أسرارهن‪ ،‬ماال‬ ‫على أيديهن‪ّ ،‬‬
‫‪...،‬وهن علمنين القرآن‪ ،‬وروينين كثريا من األشعار ودربنين‬
‫ّ‬ ‫حجورهن‬
‫ّ‬ ‫بيت يف‬
‫يكاد يعلمه غريي‪ ،‬ألين ُر ُ‬
‫سكن القصر ‪ ،‬وقد‬‫على اخلط‪...‬وأنا يف سن الطفولة‪ ".‬وهذا جعله ال خيالط غري املربيات الاليت ّ‬
‫(‪)1‬‬

‫تلقى العلوم املختلفة من عندهن ومن هنا نالحظ التأثري النفسي للمرأة يف حياته‪ ،‬وقوة معرفته هبا‪،‬‬
‫فهذه املرحلة كان هلا الدور األكرب يف تشكيل شخصية ابن حزم‪ ،‬ألنه استطاع الولوج إىل عامل النساء‬
‫اهلن‪ ،‬من خالل‬‫ويتعرف أحو ّ‬
‫ارهن‪ ،‬مما جعله العامل اخلبري بالنساء‪ ،‬إذ كان يتتبع أخبارهن ّ‬
‫ومعرفة أسر ّ‬
‫كن يأنسن إليه‪ ،‬وال جيدن حرجا أن يفضني إليه بأحاديثه فيقول‪" :‬‬ ‫إقامته يف القصر‪ ،‬والنساء أيضا ّ‬
‫فكن يطلعنين على‬
‫كن قد أنسن مين الكتمان‪ّ ،‬‬ ‫ارهن‪ ،‬و ّ‬
‫أخبارهن‪ ،‬كاشفا عن أسر ّ‬
‫ّ‬ ‫فلم أزل باحثا عن‬
‫أمورهن"‪ .‬فهذه النشأة الفريدة من نوعها‪ ،‬ومعرفته باملرأة عن كثب جعلته أقدر على تأليف‬
‫ّ‬ ‫غوامض‬
‫كتاب موضوعه احلب ورواية أخبار احملبني‪.‬‬
‫كما ربط ابن حزم احلب يف رسالة "طوق احلمامة" ربطا وثيقا باألخالق والدين‪ ،‬داعيا يف نفس‬
‫الوقت للتحلي بالعفة والطهارة‪ ،‬حىت أنّه ختم رسالته ببابني هامني عن "قبح املعصية" و" فضيلة‬
‫التعفف"‪ ،‬وأراد أن يكون كالمه يف احلب طاعة هلل وآمرا باملعروف‪ ،‬ناهيا عن املنكر‪ ،‬رابطا يف ذلك‬
‫"متوجا رسالته اجلميلة يف احلب بنصائح أخالقية‪ ،‬وكذلك األمر عند حديثه عن‬ ‫بني احلب والدين ّ‬
‫اجلمال‪ ،‬فهذا املف ّكر األندلسي العظيم كان من أعلم وأفقه الناس مبا يف فلسفة احلب من خري‪،‬‬
‫(‪)2‬‬
‫وخصوصا يف الفضائل فليس بدعا أن جند ابن حزم يربطه بالدين‪"...‬‬
‫كما ق ّدم يف رسالته هذه أفكارا فلسفية ونفسية عن عالمات احلب‪ ،‬حققت فيها الدراسات‬
‫الفلسفية والنفسية إجنازات كبرية‪ ،‬وظهرت فيها نظريات ومدارس نفسية أ ّكدت كلّها صحة ما جاء‬
‫به ابن حزم" حىت أننا نلتقي يف تضاعيف دراسته للحب بكثري من املالحظات النفسية الدقيقة‪،‬‬
‫واألراء الفلسفية العميقة متبعا يف هذه الدراسة منهجي‪ :‬االستبطان واالستقراء‪ ،‬فجاءت رسالته حافلة‬

‫(‪-)1‬ينظر المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.78‬‬


‫(‪-)2‬زكريا إبراهيم‪ ،‬ابن حزم األندلسي المفكر الظاهري الموسوعي‪ ،‬الدار المصرية‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫ط‪.1944‬ص‪.247 ،244‬‬

‫‪183‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫باملالحظات النفسية الدقيقة واخلربات احلية‪ ،‬واألمثلة التارخيية الصادقة‪ ،‬وهذا ما جعل منها دراسة‬
‫(‪)1‬‬
‫فذة‪"...‬‬
‫كما مل يقف عند حدود النظرة املثالية األفالطونية‪ ،‬ومل يغرق يف فلسفة احلب التجريدية إمنا اعتمد‬
‫على الواقع والتجربة وما شاهده من حوادث‪ ،‬وما استقرأه من ظواهر سلوكية‪ ،‬ومع أن كثريين كتبوا‬
‫قبله وبعده يف احلب‪ ،‬إال أنّه قد فاقهم وسبقهم بدقّة منهجه‪ ،‬وتسلسل أفكاره‪ ،‬وترابطها‪.‬‬
‫وقد إلتزم ابن حزم يف رسالة "طوق احلمامة" بأن ال يورد إال جتارب واقعية‪ ،‬مما وقع له هو نفسه‪،‬‬
‫يصور احلب كيف يُعاش يف الواقع‪،‬‬
‫أو مما وقع لغريه‪ ،‬وح ّدثه به الثقات‪ ،‬وكان هدفه من الرسالة أن ّ‬
‫تتجسد املشاعر واألحاسيس والشهوات والنزوات يف احلياة‬
‫ويف الواقع األندلسي بصفة خاصة‪ ،‬وكيف ّ‬
‫الواقعية‪ ،‬وتكون جانبا من النشاط االجتماعي‪ .‬هذا بالنسبة للجانب النفسي يف طوق احلمامة‪،‬‬
‫والذي جيعلنا نتساءل عن ماهيته يف رسالة "مداواة النفوس" وعما حتدث عنه ابن حزم يف هذه الرسالة‬
‫والذي ميكن أن نصنّفه يف السياق النفسي‪.‬‬
‫ب‪ -‬فصل في مداواة النفوس وإصالح األخالق الذميمة ‪:‬‬

‫يقول ابن حزم عن سبب تأليفه هلذه الرسالة‪" :‬فإين قد مجعت يف كتايب هذا معاين كثرية أفادنيها‬
‫واهب التمييز تعاىل‪ ، ...‬وآثرت تقييد ذلك باملطالعة‪ ،‬ورقّمت ما سربت من ذلك هبذا الكتاب‪،‬‬
‫لينفع اهلل تعاىل به من شاء من عباده‪...‬وإصالح ما فسد من أخالقهم‪"...‬‬
‫(‪)2‬‬

‫إذا لقد تناول ابن حزم يف هذه الرسالة الغاية من احلياة كلّها‪ ،‬وأوىل عناية كبرية ملسألة " طرد‬
‫اهلم"‪ ،‬إذ افتتح هبا رسالته هذه‪ ،‬ومتحورت كل آرائه اخللقية حوهلا‪ ،‬وحت ّدث عنها بشكل مستفيض‪،‬‬

‫(‪-)1‬ابن حزم الرسائل ‪ ،‬ص ‪.257-232‬‬


‫(‪-)2‬المصدر نفسه ‪ ،‬ص ‪.333-333‬‬

‫‪183‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫ألهنا جوهر وماهية اإلنسان دينيا ونفسيا وأخالقيا‪ ،‬إهنا أمسى خري يتطلّع اإلنسان لتحقيقه‪ ،‬ويف نفس‬
‫شر يسعى املرء للتخلص منه‪.‬‬
‫الوقت يكون اهلم أعظم ّ‬
‫أما عن سبب اهلم وعلّة حدوثه يف نظر ابن حزم فهو" الطمع"‪ ،‬حيث أ ّن شراهة اإلنسان وطمعه‬
‫يف حتقيق املستحيل‪ ،‬جتلب له املتاعب واهلموم‪ ،‬وهذا ما جيعله بعمل جاهدا للتخلص منها‪ ،‬غري أ ّن‬
‫كل هم‪ ،‬وهو خلق ذميم وهو عكس نزاهة النفس‪...‬والطمع مكون‬
‫هم‪...‬وأصل ّ‬
‫"الطمع سبب لكل ّ‬
‫ذل أحد ألحد‪".‬‬
‫(‪)1‬‬
‫من أربع صفات وهي اجلنب والشح واجلور واجلهل‪ ،‬ولوال الطمع ما ّ‬
‫شر يتوجب طرده‪ ،‬خبالف جلب الرضا الذي ينتهي باإلنسان حتما إىل‬ ‫وهذا يستلزم أن اهلم ّ‬
‫اخلري‪ ،‬ومن مثة إىل السعادة‪ ،‬فطرد اهلم هو الطبيعة السلبية للسعادة‪ ،‬والناس مجيعا على اختالف‬
‫(‪)2‬‬
‫اعتقاداهتم وأجناسهم وأمصارهم يسعون إليها‪ ،‬هذه السعادة اليت تُتصف بأن قيمتها كامنة فيها‪.‬‬
‫ذلك أن اهلم مصدر اآلالم والغموم‪ ،‬ومبعث اهلموم واألحزان ‪ ،‬يقول ابن حزم‪ :‬عن أنواع اآلالم‪:‬‬
‫"أش ّد األالم على الناس‪ :‬اخلوف واهلم واملرض والفقر‪ ،‬وأش ّدها كلّها ‪ ،...‬اهلم لفقد احملبوب وتوقّع‬
‫املكروه‪ ،‬مث املرض‪...‬وأش ّد األمراض كلّها أملا‪ ،‬وجع مالزم يف عضو ما بعينه‪ ،‬وأما النفوس الكرمية‬
‫(‪)3‬‬
‫فالذل عندها أشد من كل ما ذكرنا‪".‬‬
‫إ ّن املراد بطرد اهلم هو دفع اآلالم اجلسمية و النفسية عن االنسان‪ ،‬وهذا يف سبيل حتقيق الل ّذة‬
‫حب التل ّذذ باألشياء‪ ،‬لشعوره وإحساسه حبالوهتا‪ ،‬بل‬‫املادية و املعنوية‪ ،‬فكل إنسان جمبول على ّ‬
‫وإدراكه لكوهنا مالئمة له‪ ،‬ونفوره من األمل لكونه مؤملا ومؤذيا له‪ ،‬فالكل يتلذذ بطرد اهلم ألجل حتقيق‬
‫احلياة السعيدة‪.‬‬

‫(‪-)1‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.372 ،371‬‬


‫(‪-)2‬ينظر حامد أحمد الدباس‪ ،‬فلسفة الحب و األخالق عند ابن حزم‪ ،‬دار اإلبداع‪ ،‬عمان‪ ،‬ط‪،1993‬‬
‫ص‪.124‬‬
‫(‪-)3‬ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.383‬‬

‫‪185‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫ويقول أيضا‪..." :‬وإمنا حيكم يف الشيئني من عرفها ال من عرف أحدمها ومل يعرف اآلخر‪"...‬‬
‫(‪)1‬‬

‫وحسنا ما‪ ،‬استشعر ل ّذة روحية ال ميكن أن يعدهلا مبا يقابلها من لذائذ مادية‬
‫أي أ ّن من ذاق حالوة ُ‬
‫الذي قرره أبيقور(ت‬ ‫(‪)2‬‬
‫مهما بلغ شأهنا‪ ،‬و"الشك أن دفع اهلم له صلة وثيقة مبذهب املنفعة"‬
‫‪ 278‬ق‪.‬م)حيث يرى أن املعيار الذي جيب أن تقاس به األفعال اخلرية هوما جتلبه من منفعة‪ ،‬أوما‬
‫خريا وحسنا‪ ،‬وأما إن‬
‫يعود على املرء من لذات مع إبعاد اآلالم عنه‪ ،‬فالفعل اجلالب للمنفعة يعترب ّ‬
‫جلب أملا أو عاد بالضرر على صاحبه فهو شر وسوء‪ ،‬لكونه مل حيقق املنفعة والسعادة لصاحبه ومل‬
‫يطرد عنه اهلم تبعا لذلك‪ ،‬فدفع اهلم فيه منفعة وخري‪ ،‬وباملقابل يكون اهلم شرا وأملا جيب دفعه‬
‫وإزالته(‪.)3‬‬
‫اللذة عند ابن حزم حسب حاجة احملتاج إليها "فلذة العاقل بتمييزه‪ ،‬ولذة العامل بعلمه ولذة‬
‫احلكيم حبكمته‪"... ،‬‬
‫(‪)4‬‬

‫يفضل اللّذات املعنوية النفسية على اجلسمية املادية‪ ،‬ألهنا أكمل وأطول‬
‫وهذا يعين أن ابن حزم ّ‬
‫م ّدة‪ ،‬وأش ّد أثرا يف اللّذات املادية الزائلة بزوال ما يلت ّذ به‪ ،‬بل هي خري وأبقى‪ ،‬معتمدا على مقياس‬
‫وفضلوها وأناخوا بباهبا رحاهلم‪ ،‬السيما وأهنم قد‬
‫واقعي جترييب‪ ،‬وهم اللذين جلأوا إىل اللذات الروحية ّ‬
‫ذاقوا من قبل اللذات املادية وعرفوها‪ ،‬وسربوا أغوارها فأدركوا كنهها وماهيتها‪ ،‬وقارنوا بينهما‪ ،‬فوصلوا‬
‫جيرب أصحاب اللذات‬
‫إىل حقيقة باسقة مفادها تفضيل اللذات الروحية على املادية‪ ،‬وباملقابل مل ّ‬
‫املادية أي ل ّذات روحية‪ ،‬ومل يعلموا عنها شيئا‪ ،‬وليس من رأى كمن مسع‪.‬‬

‫(‪-)1‬المصدر السابق ‪ ،‬ص ‪.335‬‬


‫(‪-)2‬توفيق الطويل‪ ،‬مذهب المنفعة في فلسفة األخالق‪ ،‬دار النهضة المصرية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط ‪ ،1953‬ص ‪.22‬‬
‫(‪ -)3‬ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.179‬‬
‫(‪ -)4‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.335‬‬

‫‪184‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫عرب عنه ابن‬


‫وهذا سياق نفسي مفاده أ ّن سعادة النفس وراحتها يف اكتمال ما ينقصها‪ ،‬وهوما ّ‬
‫حزم بالل ّذة‪ ،‬ويقصد هبا‪ :‬إدراك املالئم من حيث إنّه مالئم‪ ،‬كطعم احللو عند حاسة الذوق‪ ،‬والنور‬
‫عند البصر‪...‬والل ّذة طيب طعم الشيء‪.‬‬
‫يقول ابن حزم‪ " :‬ليس من الفضائل والرذائل وال بني الطاعات واملعاصي إال نفار النفس وأنسها‬
‫فقط‪ .‬فالسعيد من أنست نفسه بالفضائل والطاعات ونفرت من الرذائل واملعاصي‪ ،‬والشقي من‬
‫أنست نفسه بالرذائل واملعاصي ونفرت من الفضائل والطاعات‪.)1(".‬‬
‫يعرض نفسه للتفريط والتقصري يف أداء الواجبات‪ ،‬وال يشتط أو يبالغ‬
‫فاإلنسان الفاضل من ال ّ‬
‫حلد اإلفراط‪ ،‬بل هو على استعداد ألن يضحي بنفسه كما يف حال الشجاعة يف املواطن اليت تتطلّب‬
‫منه ذلك‪ ،‬فيقدم يف حال اإلقدام وحيجم يف حال اإلحجام‪ ،‬فالفضيلة وسط بني اإلفراط والتقصري‪،‬‬
‫ألن كال الطرفني مذموم‪ ،‬والوسطية املميزة للفضيلة تنتج عن تعادل قوى العقل والشهوة‪ ،‬ألن هناك‬
‫جمردا‬
‫صراعا بينهما‪ ،‬فإذا سيطر العقل أصبح اإلنسان زاهدا‪ ،‬وإذا سيطرت الشهوة‪ ،‬جعلت اإلنسان ّ‬
‫من القيم اإلنسانية‪.‬‬
‫وهو سياق نفسي يتحدث فيه عن السعادة النفسية اليت سببها ترك الرذائل واملعاصي‪ ،‬وترك كل‬
‫ما يؤدي بالنفس إىل اهلاوية‪.‬‬
‫كما حتدث عن سبب دخول اجلنة والنار وهذا السبب هي النفس‪ ،‬فما علينا إالّ هني النفس عن‬
‫ِي ْال َمأْ َوى"‪-‬‬
‫س َع ِن ْال َه َوى ۝ َفإِنَّ ْال َج َّن َة ه َ‬ ‫‪َ :‬وأَمَّا َمنْ َخ َ‬
‫اف َم َقا َم َر ِّب ِه َو َن َهى ال َّن ْف َ‬ ‫اهلوى يقول تعاىل‪" :‬‬
‫النازعات‪ 04:‬وهو كل الفضل‪ ،‬فنهي النفس عن اهلوى هو ردعها "(‪ .)2‬وعلى هذا األساس يصنّف‬
‫ابن حزم النفس إىل ثالثة أصناف‪ :‬شهوانية وغضبية وناطقة (عاقلة)‪ ،‬فذو القوة الغضبية ال يرى من‬
‫ذلك ما يراه ذو القوة الشهوانية الغالبة على نفسه‪ ،‬وكالمها ال يرى من ذلك ما يراه ذو القوة الناطقة‬

‫(‪-)1‬المصدر نفسه ‪ ،‬ص ‪.338‬‬


‫(‪-)2‬ابن حزم‪ ،‬الرسائل ‪ ،‬ص‪331‬‬

‫‪187‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫الغالبة على نفسه‪ ،‬ويقول الرسول صلى اهلل عليه وسلّم للذي استوصاه‪" :‬ال تغضب"‪ ،‬وأمره أن حيب‬
‫لغريه ما حيب لنفسه‪ ،‬ففي هنيه عن الغضب ردعا للنفس عن هواها‪ ،‬ويف أمره عليه السالم بأن ُحيب‬
‫القوة الشهوانية‪.)1( ،‬‬
‫لنفسه‪ ،‬ردعا للنفس عن ّ‬
‫وهذا سياق نفسي حت ّدث فيه الرسول صلى اهلل عليه وسلم عن‪ :‬ردع النفس عن القوة الشهوانية‪،‬‬
‫كما أوصانا بأن حيب املسلم لنفسه ما حيب لغريه‪.‬‬
‫يقل مهّك إذا أتاك ويعظم سرورك‬
‫وطبّق السياق النفسي حني قال‪" :‬وطّن نفسك على ما تكره‪ّ ،‬‬
‫ويتضاعف إذا أتاك ما حتب مما مل تكن قدرته‪"..‬‬
‫‪"-‬إذا تكاثرت اهلموم سقطت كلّها"‪.‬‬
‫يظطره الزمان إىل اختبار اإلخوان"‪.‬‬
‫كل السعيد يف دنياه من مل ّ‬
‫‪"-‬السعيد ّ‬
‫‪" -‬طوىب ملن علم من عيوب نفسه أكثر مما يعلم الناس منها"‬
‫(‪)2‬‬

‫ليقل مهه‪ ،‬ويتضاعف سروره إذا أتاها ما حتب؛ وأ ّن اهلموم‬


‫حتمل ما تكره‪ّ ،‬‬
‫حيث النفس على ّ‬
‫وفيها ّ‬
‫مهما تكاثرت على النفس فستفرج بإذن اهلل‪ ،‬كما يقول ابن النحوي ت‪513‬هـ‪ :‬اشتدي أزمة تنفرجي‬
‫قد آذن ليلك بالبلج‪.‬‬
‫كما اعترب السعيد يف دنياه ذلك الذي مل خيتربه الزمان يف إخوانه وأقاربه؛ وذلك الذي عرف من‬
‫عيوبه أكثر من يعلم الناس‪ ،‬فيصلح من نفسه ما استطاع‪ ،‬وهذه األقوال تشبه "عقود اليواقيت وقد‬
‫حليت هبا احلسان استكماال للزينة‪ ،‬فريوعك مجاهلا وفتنتها فتعاود النظر مرات ومرات‪"...‬‬
‫(‪)3‬‬

‫كما حت ّدث عن صفات جيب على املؤمن أن يبعدها عنه وهي‪ :‬الظن بالسوء‪ ،‬وتقريب األعداء‬
‫من النفس والظلم وغفلة النفس ونسياهنا واإلفراط يف األنفة‪.‬‬

‫(‪ -)1‬مصطفى محمد السيوفي‪ ،‬التجديد في النثر األندلسي‪ ،‬ص ‪.383‬‬


‫(‪-)2‬ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.337‬‬
‫(‪ -)3‬مصطفى محمد السيوفي‪ ،‬مالمح التجديد في النثر األندلسي‪ ،‬ص ‪.387‬‬

‫‪188‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫‪-‬ويقول عن النفس‪" :‬غفلة النفس ونسياهنا ما كانت فيه يف دار االبتداء قبل حلوهلا يف اجلسد‬
‫كل ما عهد وعرف قبل ذلك‪ .‬مث أطلت الفكر أيضا يف ذلك فالح‬ ‫كغفلة من وقع يف طني غمر عن ّ‬
‫يل ِش ْعب زائد من البيان‪ .‬وهو أين رأيت النائم إذ مهّت نفسه بالتخلي من جسده وقوي حسها حىت‬
‫تشاهد الغيوب قد نسيت ما كان فيه قبيل نومها نسيانا تاما البتة على قرب عهدها به‪ ،‬وحدثت هلا‬
‫حساسة متلذذة آمله‪ ،‬ول ّذة النوم حمسوسة يف حاله‪ ،‬ألن النائم‬
‫أحوال أخر‪ ،‬وهي يف كل ذلك ذاكرة ّ‬
‫يلت ّذ وحيتلم وخياف وحيزن يف حال نومه"(‪.)1‬‬
‫‪ -‬ويقول "إمنا تأنس النفس بالنفس‪ .‬فأما اجلسد فمستثقل مربوم به‪ ،‬ودليل ذلك استعجال املرء‬
‫(‪)2‬‬
‫بدفن جسد حبيبه إذا فارقته نفسه‪ ،‬وأسفه لذهاب النفس وان كانت اجلثة حاضرة بني يديه‪".‬‬
‫فالنفس أفضل من اجلسد‪ ،‬ألن الروح هي األصل واجلسد هو الفرع‪ ،‬وألن النفس عند املوت ترتك‬
‫جسدها وتصعد إىل السماء‪ ،‬يف حني يدفن اجلسد يف الرتاب‪ ،‬وشتاّن بني الثرى والثريا‪.‬‬
‫وطبّق السياق النفسي حني حت ّدث ابن حزم عن احملبّة وهي‪" :‬الرغبة يف احملبوب وعدم منافرته‪".‬‬
‫كما حت ّدث عن مراتب احملبّة تلك اليت تبدأ باالستحسان مث االعجاب مث األلفة مث الكلف مث‬
‫الشغف‪ .‬وحيدد كل مرتبة من هذه املراتب بتعريف ال يتعداه؛ فاالستحسان‪ :‬أن يتمثّل الناظر صورة‬
‫املنظور ويستحسنها أو يعجب بأخالقه وهو يدخل إىل باب التصادق…‬
‫واالعجاب‪ :‬يتمثل يف رغبة الناظر إىل املنظور إليه وما يلقاه من سعادة يف قرية منه…‬
‫واأللفة‪ :‬وهي الوحشة إليه إذا افرتق عنه…‬
‫والكلف‪ :‬وهو أن يغلب شغل البال به‪ ،‬وهذا الكلف يف باب الغزل يعرف بالعشق…‬
‫والشغف‪ :‬يتمثل يف االمتناع عن كل الشهوات إال اليسري من ذلك على أنّه رمبا ّأدى إىل املرض‬
‫أو التوسوس أو إىل املوت‪ ..‬وليس وراء ذلك من منزلة يف تناهي احملبّة‬
‫(‪)1‬‬

‫(‪-)1‬ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.351‬‬


‫(‪-)2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.351‬‬

‫‪189‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫وحت ّدث عن خاصية التأمل حيث متيل النفس أحيانا إىل التأمل يف قدرة اهلل سبحانه وتعاىل ويف‬
‫ملكوته ويف مسائه فيزداد إميانا ويقينا بأن اهلل موجود وأ ّن هذا الكون البديع هومن صنع واحد أحد‬
‫يقول‪" :‬ومن عجيب قدرة اهلل تعاىل كثرة اخللق‪ ،‬مث ال نرى أحدا يشبه آخر‪".‬‬
‫(‪)2‬‬

‫(‪- )1‬مصطفى محمد السيوفي‪ ،‬مالمح التجديد في النثر األندلسي‪ ،‬ص ‪.392‬‬
‫(‪- )2‬ابن حزم األندلسي‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.383‬‬

‫‪198‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫خالصة‪:‬‬
‫حت ّدث ابن حزم يف هذه الرسالة عن اإلنسان وكيف يداوي نفسه بنفسه من املعاصي والذنوب‬
‫وحث على أن يف ّكر اإلنسان يف عيوبه‬
‫والرذائل وكيف يعاجلها من الصفات املنبوذة والغري حمببة‪ّ ،‬‬
‫وحياول إصالحها "ألن العاقل هومن ميّز عيوب نفسه فغالبها وسعى يف قمعها‪ .‬واألمحق هو الذي‬
‫جيهل عيوب نفسه‪ "...‬لذا وجب على اإلنسان أن ُحي ّسن من صورته أمام نفسه وبينه وبني خالقه‬
‫أوال‪ ،‬وبينه وبني الناس ثانياً‪.‬‬
‫ويقول‪" :‬واعلم أ ّن رياضة النفس أصعب من رياضة األسد‪ ،‬ألن األسد إذا ُسجنت يف البيوت‬
‫اليت تتخذها هلا امللوك‪ ،‬أُمن شرها‪ ،‬والنفس إن سجنت مل يُؤمن شرها"(‪)1‬وهذا داللة على أن النفس‬
‫شرها‪.‬‬
‫شر وكل بليّة‪ .‬فحىت حبسها ال يغين عن ّ‬
‫أصل كل ّ‬
‫مث يعود ويقول‪" :‬من جهل معرفة الفضائل فليعتمد على ما أمره اهلل ورسوله صلى اهلل عليه وسلم‬
‫(‪)2‬‬
‫فإنّه حيتوي على مجيع الفضائل"‬
‫وفيه يعود ويؤكد على حكومة العقل يف حالة نضجه وكماله مما يدلك من خالله على نظره فيما‬
‫كتب علماء األخالق من مسلمني وغري مسلمني كاحلسن البصري وأفالطون وبزر مجهر وذلك حني‬
‫يقول‪" :‬كشف العلوم الناقصة يزيد العقل جودة وتصفية من كل آفة ويهلك ذا العقل الضعيف‪ ،‬ومن‬
‫(‪)3‬‬
‫الغوص على اجلنون‪".‬‬
‫مقوماته من مصدرين‪:‬‬
‫وهذا يعين أن التحليل اخللقي عند ابن حزم استمد ّ‬
‫‪ -‬األول‪ :‬تلك الدراسات الفلسفية املبنية على العقل اليت عرفت ألمم اليونان واهلند والفرس بعد أن‬
‫ترمجت إىل اللغة العربية وعرفت باألندلس‬
‫‪ -‬الثاين‪ :‬مشاهداته احليوية وجتاربه اخلاصة اليت قامت على االستقراء والتتبع…‬

‫(‪-)1‬ابن حزم‪ ،‬الرسائل ‪ ،‬ص‪.393‬‬


‫(‪-)2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.393‬‬
‫(‪-)3‬مصطفى محمد السيوفي‪ ،‬مالمح التجديد في النثر الجزائري‪ ،‬ص ‪.379‬‬

‫‪191‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫ويبدو املصدر األول جليا يف رسالته "األخالق والسري يف مداواة النفوس "ذلك أنّه اعتمد املقياس‬
‫اخللقي للفضيلة والرذيلة على الضابط الذي وصفه أرسطو‪ ،‬وهو أ ّن الفضيلة وسط بني رذيلتني حيث‬
‫يقول‪" :‬الفضيلة وسيطة بني اإلفراط والتفريط‪ ،‬فكال الطرفني مذموم‪ ،‬والفضيلة بينهما حممودة‪"....‬‬
‫وحت ّدث عن عجائب الدنيا فكل حالل مع أنه مستحسن إالّ أنه مستثقل وصعب‪ ،‬واحلرام رغم‬
‫أنّه مستقبح إالّ أنه خفيف وسهل ويف هذا يقول‪" :‬من العجائب أن الفضائل مستحسنة ومستثقلة‪،‬‬
‫والرذائل مستقبحة ومستخفة"(‪.)1‬‬
‫مث أورد الفصل التاسع من الرسالة (رسالة يف مداواة النفوس) يف غرائب أخالق النفس يقول‪" :‬من‬
‫عجائب األخالق أن الغفلة مذمومة‪ ،‬وأن استعماهلا حممود‪ .‬وكذلك القول يف إظهار اجلزع وإبطانه‪،‬‬
‫وإظهار الصرب وإبطانه‪".،‬‬
‫(‪)2‬‬

‫فالغفلة رغم أهنا من الصفات املذمومة‪ ،‬إالّ أهنا يف بعض استعماالهتا حممودة فالغفلة عن املسيء‬
‫حممودة‪ ،‬والغفلة عند اإلساءة حممودة‪.‬‬
‫وهذا يندرج ضمن السياق النفسي ألن النفس هي املسؤولة عن هذه األحاسيس كالغضب‬
‫والغفلة والفرح والسعادة‪" .‬وأما من علق ومهه وفكره بأن يبعد امسه يف البالد ويبقى ذكره على الدهور‪،‬‬
‫بتصرف بسيط وال‬
‫فليتف ّكر يف نفسه ‪ ،‬وال جيهدها من أجل أن ينال إعجاب اآلخرين‪ ،‬ألنه قد يقوم ّ‬
‫يبايل به وينال إعجاهبم واستحساهنم؛ على عكس لو بذل النفس والنفيس من أجل ذلك‪ .‬وكذلك‬
‫من سعى إىل ختليد امسه يف كل أرجاء املعمورة ونال ُمراده ولكن مل يعلم هو بذلك فال لذة وال متعة‬
‫لذلك‪ ،‬وهو نفس إحساس امليّت الذي ترك علما وامسا متداوالن ولكنه ليس سعيدا بذلك‪ .‬ألن ال‬
‫حياة ملن تنادي‪.‬‬

‫(‪-)1‬ابن حزم‪ :‬الرسائل‪ ،‬ص‪.381‬‬


‫(‪-)2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.384 ،‬‬

‫‪192‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫مل يعدم ابن حزم النظرية الفلسفية وال التحليل العلمي للنفس اإلنسانية‪ ،‬فق ّدم لنا مذهبا أخالقيا‬
‫متكامال‪ ،‬متناسقا‪ ،‬ومل يكتف باجلانب النظري التجريدي‪ ،‬حيث البحث عن ماهية الفضائل وبيان‬
‫طبيعة الرذائل‪ ،‬ومعرفة حقيقة اخلري من الشر‪ ،‬وإمنا سعى إىل حتقيق غاية تربوية عملية تطبيقية‪ ،‬هتدف‬
‫إىل تربية السلوك الفاضل‪ ،‬وغرس القيم يف النفس البشرية لتصلح وتته ّذب فتسعد وتُسعد‪ ،‬كما يتجلى‬
‫تفرد ابن حزم الظاهري‪ ،‬بتوظيفه للمنهج الظاهري يف معاجلته ملسألة‬
‫لنا من أفكاره األخالقية؛ كما ّ‬
‫بلوغ السعادة وطرد اهلم‪ ،‬معتمدا على النص والعقل والتجربة‪ ،‬معاجلا هذه القضية النفسية اخللقية‬
‫الكبرية‪ .‬وما ميكنا استنباطه من كالم ابن حزم‪ ،‬أن اإلنسان ال ميكن أن حيصل على حقيقة السعادة‪،‬‬
‫التمسك هبا‪ ،‬ومعرفة الرذائل مث جتنبها‪ ،‬ولن تدرك حقيقة الفضيلة‪ ،‬إال إذا مت إدراك‬
‫إال مبعرفة الفضائل و ّ‬
‫مسألة طرد اهلم‪ ،‬ألن هذا املبدأ هوما يسعى الناس مجيعا للتخلص منه‪ ،‬لكنهم مل ولن يتخلصوا منه‪،‬‬
‫ألن وعيهم بالفضيلة ومن مثة بالسعادة وما يتعلق مبسألة طرد اهلم‪ ،‬ال يزال بعيد املنال عن فهمهم‬
‫وإدراكهم حىت يتمكنوا من التخلص منه‪ ،‬وهو بعد كل هذا جيعل السالمة والراحة النفسية يف العزلة‬
‫واالنفراد عن الناس‪.‬‬
‫ج‪ -‬فصل في معرفة النفس بغيرها وجهلها بذاتها‪:‬‬

‫اعتربت مسألة النفس من أهم املشاكل امليتافيزيقية الصعبة‪ ،‬اليت شغلت بال الفالسفة والعلماء‬
‫مر العصور‪ ،‬وقد ذكر األشعري (ت ‪338‬هـ) أ ّن‪" :‬الناس اختلفوا يف الروح والنفس واحلياة‪ ،‬وهل‬
‫على ّ‬
‫الروح هي احلياة أم غريها؟ وهل الروح جسم أم ال؟ "‬
‫(‪)1‬‬

‫وتظهر األحباث أن أرسطو رفض موقف أفالطون‪،‬و ذلك من خالل إنكاره الستقالل النفس عن‬
‫البدن‪ ،‬ألن اإلنسان عنده جوهر واحد‪ :‬اجلسد مادته والنفس صورته‪ ،‬حيث ال ميكن الفصل بينهما ‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫"فالنفس جوهر مبعىن صورة‪ ،‬أي ماهية جسم ذي صفة معيّنة"‬

‫(‪- )1‬األشعري‪ ،‬مقاالت اإلسالميين‪ ،‬تح‪ ،‬محي الدين عبد الحميد‪ ،‬مكتبة النهضة المصرية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪ ،1953‬ص ‪.28‬‬

‫‪193‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫أقر"الكندي"(ت ‪252‬هـ) أن النفس مستقلة عن البدن باعتبارها‬ ‫أما عند فالسفة اإلسالم فقد ّ‬
‫جوهرا روحيا بسيطا‪ ،‬نابعا من جوهر اهلل تعاىل‪ ،‬وإذا فارقت البدن انكشفت هلا األشياء‪ ،‬وقد ذهب‬
‫الفارايب وابن سينا والغزايل وغريهم إىل أن الروح " جوهر روحاين منفصل عن البدن ومتميّز‪ ،‬وأ ّهنا‬
‫تدرك وتعقل املفاهيم الكلية والعامة"(‪ ،)2‬بينما ذهب العالّف واألشعري والباقالين إىل أن الروح عرض‬
‫مكونة من جوهر مادي‪ ،‬وهذا بناء على مذهبهم القائل باجلوهر الفرد‪ ،‬وأ ّن اهلل خيلق األجسام‬ ‫ّ‬
‫وأرواحها اليت هي عرض هلا خلقا مستمرا بال انقطاع‪ ،‬وما ذلك إالّ ألن العامل لديهم مؤلف من‬
‫الذرات وتنعدم يف كل آن باستمرار‪.‬‬ ‫جواهر وأعراض ال تستمر ْ ِ‬
‫آنني‪ ،‬وهكذا ُختلق النفس مثل ّ‬ ‫ّ‬
‫كل هذه اآلراء أشار إليها ابن حزم‪ ،‬عارضا ألدلتها‪ ،‬متسائال عن ماهية النفس وحقيقتها‪ ،‬وعن‬ ‫و ّ‬
‫سبب عجزها عن معرفة حقائق وأسرار ذاهتا‪ ،‬وجهلها بنفسها على الرغم من توغلها يف تاريخ األمم‪،‬‬
‫الغابرة‪ " ،‬فهي ال تعرف حقيقة ذاهتا وال حملّها من اجلسد‪ ،‬وال حتريكها لألعضاء اجلسدية‪ ،‬وال تتذ ّكر‬
‫(‪)3‬‬
‫أين كانت قبل حلوهلا من اجلسد‪ ،‬وال من أين أقبلت‪"...‬‬
‫‪ ‬عالقة النفس بالجسد‬

‫يرى ابن حزم أن العالقة القائمة بني النفس واجلسد ال خترج عن أوجه ثالثة‪ :‬وميكن للنفس وفق‬
‫تسري اجلسد وتسيطر عليه وهي‪:‬‬
‫هذه احلاالت الثالثة أن ّ‬
‫إما ّأهنا متغلغلة جلميع اجلسد من اخلارج وحمتوية له كالرداء‪.‬‬
‫املدرة‪.‬‬
‫وإما أهنا متغلغلة فيه من الداخل كاملاء يف ّ‬

‫(‪-)1‬أرسطو‪ ،‬النفس‪ ،‬ترجمة‪ ،‬فؤاد األهواني‪ ،‬مراجعة جورج قنواتي‪ ،‬دار إحياء الكتب العربية‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫ط‪ ،1942‬ص ‪.33‬‬
‫(‪-)2‬محمود قاسم‪ ،‬في النفس و العقل لفالسفة اإلغريق و اإلسالم‪ ،‬مكتبة األنجلو مصرية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪،1953‬‬
‫ص‪.113‬‬
‫(‪-)3‬ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص‪.334-335‬‬

‫‪193‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫وإما أن تكون يف مكان واحد من اجلسد كالقلب أو الدماغ وتكون قواها مبثوثة يف اجلسد ويف‬
‫(‪)1‬‬
‫أحنائه مجيعها‬
‫تتصرف فيه وتسيطر عليه‬
‫ستحرك اجلسد كما تريد‪ ،‬ومع أهنا ّ‬
‫ّ‬ ‫فأي هذه الوجوه كان‪ ،‬فإن النفس‬
‫إالّ أن ابن حزم مل يقطع بوجه حمدد للعالقة القائمة بني النفس واجلسد‪ ،‬لكنّه أشار إىل حقيقة‬
‫اتصاهلا باجلسد‪ ،‬وأنه على سبيل اجملاورة ال املمازجة‪ ،‬لكوهنما معا جسمني‪ ،‬وعلى هذا فاجملاورة هي‬
‫اليت جتعل النفس متصلة باجلسد‪ ،‬يف حني ترفض وبشكل قاطع فكرة املداخلة‪.‬‬
‫كما ذكر ابن حزم جمموعة من اخلصائص اليت تتميز هبا النفس وهي‪ :‬اخلفة‪ ،‬الذاكرة‪ ،‬العقل‪،‬‬
‫التمييز‪ ،‬التجزؤ‪ ،‬حساسة ال حمسوسة‪ ،‬يقول‪" :‬نعم هي خفيفة يف غاية اخلفة‪ ،‬ذاكرة‪ ،‬عاقلة مميزة‪،‬‬
‫(‪)2‬‬
‫حية‪ ،‬هذه خواصها وحدودها اليت بانت هبا على سائر األجسام‪"...‬‬
‫وأشار إىل أن لفظ اإلنسان ال يطلق على كل جزء أو عضومن األعضاء وحده‪ ،‬أو منفردا‪ ،‬بل‬
‫ف منها إنسانا‪ ،‬يقول‪" :‬كأعضاء اإلنسان‬ ‫على كل هذه األجزاء واألعضاء إذا تألفت ُمسي املُتَأَلَّ ُ‬
‫الرجل‪...‬واملعدة‪...‬فإذا اجتمع كل ذلك‬ ‫فليس شيء منها يسمى إنسانا‪...‬واليد ليست إنسانا‪ ،‬و ّ‬
‫ال َكا ْل َف َّخ ِ‬
‫ار)‬ ‫ص ٍ‬‫ص ْل َ‬ ‫حدث له حينئذ اسم اإلنسان"(‪.)3‬وهذا استنادا لقوله تعاىل‪َ ( " :‬خ َل َق اإل ْن َ‬
‫سانَ مِنْ َ‬
‫سانَ ُخل َِق َهلُو ًعا (‪ )٩١‬إِ َذا‬
‫﴿إِنَّ اإل ْن َ‬ ‫"(سورة الرمحان اآلية ‪)13‬وهذه صفة اجلسد‪ ،‬يف حني يف قوله‪" :‬‬
‫"(سورة املعارج اآلية ‪ )21-19‬وهذه بال شك‬ ‫س ُه ْال َخ ْي ُر َم ُنوعًا (‪)٠٩‬‬
‫ش ُّر َج ُزو ًعا(‪َ )٠٢‬وإِ َذا َم َّ‬
‫س ُه ال َّ‬
‫َم َّ‬
‫الفعالة‪.‬‬
‫صفات النفس ال اجلسد‪ ،‬ألن اجلسد موات‪ ،‬والنفس هي ّ‬
‫الصراع النفسي الذاتي‪:‬‬ ‫‪‬‬

‫(‪-)1‬ابن حزم‪ ،‬الفصل في الملل و األهواء و النحل‪ ،‬تح‪ ،‬يوسف البقاعي‪ ،‬دار إحياء التراث العربي‪ ،‬لبنان‪،‬‬
‫ط‪ ،2882‬ص‪.218‬‬
‫(‪-)2‬ابن حزم‪ ،‬الرسائل ‪ ،‬ص ‪.219‬‬
‫(‪-)3‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.174-175‬‬

‫‪195‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫كما حت ّدث عن الصراع النفسي الذايت أوما يعرف بازدواج الشخصية‪ :‬وهو حوار بني النفس‬
‫املدبرة للجسد ونفسه‪ ،‬استهله بسؤاهلا‪ :‬يا أيتها النفس املدبرة هلذا اجلسد‪ :‬ألست اليت قد عرفت‬
‫صفات جسدك الذي واليت تدبريه‪ ،‬وحققتها وضبطتها؟‬
‫قالت‪ :‬بلى‬
‫ِ‬
‫ألست اليت جتاوزت جسدك املضاف تدبريه إليك‬ ‫قالت‪ :‬يا أيتها النفس املدبرة هلذا اجلسد‪:‬‬
‫فخلص فهمك وحبثك إىل سائر ما يليك من األرض واملاء واهلواء وسائر األجرام‪...‬فميزت أجناس‬
‫كل ذلك الذاتية والغريية‪...‬‬
‫كل ذلك وأنواعه وأشخاصه‪ ،‬وحققت صفات ّ‬
‫ّ‬
‫قالت‪ :‬بلى‬
‫‪.......‬‬
‫قالت‪ :‬فما قطع بك عن معرفة ذاتك وصفاتك‪ ،‬ومكانك وبدء شانك وحملك وتنقلك‪ ،‬وكيف‬
‫تعلّقت هبذا اجلسد وكيف تصريفك له‪ ،‬وكيف تنقلك عنه؟‬
‫فاعرتفت بأن هلا مدبراً علّمها ما علمت من البعيدات فعلمته‪ ،‬وجهلت ما مل يُطلعها طَلعه من‬
‫القريبات فجهلته(‪.)1‬‬
‫وهذا برهان واضح على عجز املخلوق ومهانته‪ ،‬وقلة حيلته أمام أمر اهلل‪ ،‬وهو دليل على أ ّن‬
‫بقوة وإرادة من قبل غريها ال تتجاوزها وال‬
‫النفس متح ّكم هبا‪ ،‬فكل ما تفعله وما مل تفعله مرهون ّ‬
‫تتعداها‪ .‬وهلل األمر أوالً وأخرياً‪.‬‬
‫ق ّدم لنا ابن حزم دراسة فلسفية علمية‪ ،‬مؤسسة من جهة على أصول العقيدة اإلسالمية‪ ،‬وعلى‬
‫أسس النظر العقلي والفلسفي من جهة أخرى‪ ،‬حيث أراد من خالهلا ابن حزم بيان رأيه يف مسألة‬

‫(‪-)1‬ينظر ابن حزم‪ ،‬الرسائل‪ ،‬ص ‪.333.335.334‬‬

‫‪194‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي يف سياقها النفسي‬

‫النفس اليت شغلت وال تزال تشغل الفكر اإلنساين برمته‪ ،‬وهي حماولة يسرية جتعلنا ندرك ما متتع به‬
‫ابن حزم من وعي باحلياة النفسية لإلنسان‪.‬‬

‫‪197‬‬
‫الخاتمـة‬
‫اخلامتة‬

‫إن السياق يف الدرس اللغوي ال يقف عند حدود التحليل اللغوي على مستوى البنية اللغوية بل‬
‫يذهب إىل أبعد من ذلك‪ ،‬حيث يأخذ يف اعتباره أيضا الظروف واملالبسات اليت هي يف صميمها‬
‫جزء من األحداث اللغوية عند التحليل والتطبيق‪ ،‬وكل ما يتعلق باملنتج واملتلقي‪.‬‬
‫وقد أدرك علماء اللغة قدميا وحديثا هذه الوظيفة املهمة للسياق‪ ،‬بل إن فكرة السياق وداللته على‬
‫املعاين احلقيقية للكالم مطروحة يف الفكر اإلنساين منذ أفالطون وأرسطو‪.‬‬
‫ولعل أهم شيء قد توصلنا إليه يف هذه الرسالة هو أن السياق الثقايف ليس له قواعد أو قوانني‬
‫مضبوطة‪ ،‬شأهنا شأن القوانني الصوتية والنحوية‪ ،‬بل يقوم على ضوابط من نوع خاص‪ ،‬تغذيها‬
‫جمموعة من املعطيات اخلاصة اليت ال تتضح إال بتجسيدها يف موقف حي‪ ،‬وهلا صلة يف جوهرها‬
‫مبكان اإلنتاج الكالمي وزمانه وظروف إنتاجه‪ ،‬وطبيعة منتجه ومتلقيه ومستوياهتما االجتماعية‬
‫والثقافية والنفسية‪.‬‬
‫وقد خلصنا بعد البحث يف قضايا هذا املوضوع إىل جمموعة من النتائج جنملها فيما يأيت‪:‬‬
‫نعين بالسياق الثقايف دراسة اجلوانب الثقافية من لغة وعادات وتقاليد‪ ،‬وسلوك وفكر‪ ،‬وعقائد‪،‬‬ ‫‪)1‬‬
‫ونظم اجتماعية سواء كانت متعلقة بـ‪:‬‬
‫‪ -‬النص باعتباره وثيقة تعرب عن اجملتمع املنتمي إليه‪.‬‬
‫‪ -‬ومؤلفه باعتباره فردا من أفراد اجملتمع الذي ينتمي إليه النص‪،‬‬
‫‪ -‬أم بالقارئ باعتباره فردا من أفراد اجملتمع الذي ينتمي إليه عصر التحليل والتفسري‪.‬‬
‫‪ )2‬حتاول القراءة الثقافية أن تنظر إىل النص األديب يف ضوء سياقاته التارخيية واالجتماعية والنفسية‪،‬‬
‫معتربة إياه حادثة ثقافية‪.‬‬
‫‪ )3‬السياق الثقايف يشري إىل التوقعات واملواقف االجتماعية اليت كانت تع ّد طبيعية بالنسبة للزمان‬
‫واملكان اللذين حدث فيهما التأليف أو اخلطاب‪.‬‬
‫تعددت املصطلحات املتعلقة بـ"السياق الثقايف" حيث الحظنا أ ّن مفهومه تردد بني مصطلح‬ ‫‪)3‬‬

‫"السياق غري اللغوي" و "السياق االجتماعي" وغري ذلك‪.‬‬

‫‪199‬‬
‫اخلامتة‬

‫‪ )5‬السياق الثقايف عند البالغيني العرب‪ ،‬ينطلق من حال املتخاطبني‪ ،‬ليعم مالبسات اخلطاب كلّه‪،‬‬
‫أما عند التداوليني فيستوعب باإلضافة إىل ذلك مستدعيات املكان والزمان وطبيعة القول‪ ،‬وما‬
‫ميكن أن حيققه من إجنازية معينة‪.‬‬
‫انطالقا من الشروط اليت أقرهتا النظرية السياقية‪ ،‬لتحقيق احلدث الكالمي‪ ،‬أرادوا حتديد مفهوم‬ ‫‪)4‬‬

‫"السياق الثقايف" يف إطار معطيات اجملال الذي جيري فيه اخلطاب‪ ،‬ولكن طبيعة هذه املعطيات‬
‫املرنة واملتغرية جعلتهم يضطربون يف احتوائها وتقنينها‪ ،‬وهذا على عكس ما نراه يف القوانني اليت‬
‫تقتضيها املستويات اللغوية‪.‬‬
‫تتنوع قوانني تأويل السياق الثقايف‪ ،‬والسر يف ذلك يعود إىل التنوع الثقايف واالجتماعي الذي‬ ‫‪)7‬‬

‫يطبع أفراد البيئة اللغوية املعينة‪.‬‬


‫‪ )8‬إن القواعد اليت حاولت أن خترج الدراسة اللسانية من التحليل الشكلي الداخلي للغة إىل التحليل‬
‫اخلارجي كأقوال هلا صالت وثيقة مبعطياهتا احلالية املتعددة‪ ،‬واليت تسهم بسمة تكاملية ومنسجمة‬
‫يف بناء احلدث الكالمي‪ ،‬ولذلك ال ميكن الفصل بني الفعل القويل والسياق الذي حيتضنه‪.‬‬
‫‪ )9‬حيدد السياق الثقايف (السياق التارخيي والسياق النفسي والسياق االجتماعي) القواسم املشرتكة‬
‫واالختالفات يف املعتقدات والسلوكيات اليت حتدث يف اجملتمعات‪.‬‬
‫السياق الثقايف حيدد كيف ميكن لثقافة الشخص وخلفيته أن تؤثر على الطريقة اليت خيتار أن‬ ‫‪)18‬‬

‫يتصرف هبا‪.‬‬
‫والسياق الثقايف يشري يف فكرة اللغة‪ ،‬أنه بدل أن تكون اللغة منعزلة‪ ،‬جيعلها مرتبطة ارتباطا‬ ‫‪)11‬‬

‫وثيقا بالثقافة واجملتمع الذي تستخدم فيه‪.‬‬


‫يساعد السياق الثقايف النقاد على فهم األفكار واحلركات الثقافية واالجتماعية السائدة يف‬ ‫‪)12‬‬

‫اجملتمع وقت كتابة الرسائل مثال‪.‬‬


‫السياق الثقايف للنص هو الطريقة اليت يتم هبا حتديد مسات اجملتمع يف التأثري على معناه‪،‬‬ ‫‪)13‬‬

‫وهناك جانبان وجب االنتباه هلما مها‪ :‬نوع اجملتمع الذي تعيش فيه الشخصيات‪ ،‬واجلانب الذي‬
‫مت فيه إنتاج نص املؤلف‪.‬‬

‫‪288‬‬
‫اخلامتة‬

‫كشف البحث عن العناية الواضحة من املدارس والنظريات اللسانية بالسياق قبل "فريث" وبعده‪،‬‬
‫طرح البحث أهم مواطن البحث يف السياق الثقايف واليت ميكن أن جنملها يف السياق التارخيي والسياق‬
‫النفسي والسياق االجتماعي‪ ،‬وهوما يساعد الباحث على التعرف على احلقبة الزمنية اليت عاش فيها‬
‫املؤلف‪ ،‬ويف نفس الوقت ينقل لنا صورة عن تلك احلقبة‪ ،‬ويبني لنا مدى تأثر الكاتب بتلك الظروف‬
‫اخلارجية‪ ،‬ويف نفس الوقت تأثري تلك الظروف على أدب الكاتب‪.‬‬
‫وعلى أي حال‪ ،‬فإن هذا البحث حلقة تفتقر إىل املزيد من احللقات املتتالية‪ ،‬يكمل بعضها‬
‫بعضا‪ ،‬فأرجو أن أكون أصبت به شيئا من التوفيق‪ .‬وصدق قول الشاعر أيب البقاء الرندي إذ قال‪:‬‬
‫ف ـ ــال يَـغُ ـ ـ َّـر َن بطي ـ ــب الع ـ ـ ِ‬
‫ـيش إنس ـ ــا ُن‬ ‫لك ـ ـ ـ ــل ش ـ ـ ـ ــيء إذا م ـ ـ ـ ــا مت نقص ـ ـ ـ ــا ُن‬
‫ويف اخلتام أسأل اهلل تعاىل أن ينفع مبا جاء يف هذا البحث‪ ،‬وصلى اهلل وسلم على سيدنا حممد‬
‫املختار وعلى آله الطيبني األطهار‪.‬‬
‫واحلمد هلل أوال وأخريا‪.‬‬

‫‪281‬‬
‫قائمة المصادر‬
‫والمراجع‬
‫قائمة املصادر واملراجع‬

‫القرآن الكريم برواية ورش عن نافع‬


‫المصادر‪:‬‬
‫ابن حزم األندلسي‪،‬رسائل ابن حزم األندلسي‪،‬ج‪،5‬تح‪ ،‬احسان عباس‪،‬المؤسسة العربية‬
‫للدراسات و النشر‪،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪،‬ط‪.548891‬‬
‫المراجع العربية‪:‬‬
‫‪ .1‬إبراهيم السلطي‪ ،‬التحليل النفسي يف النص األديب‪ ،‬دار جليس الزمان‪ ،‬عمان‪ ،‬ط‪.2818 ،1‬‬
‫‪ .2‬ابن األثري‪ ،‬املثل السائر يف أدب الكاتب و الشاعر‪،‬ج‪،1‬تح أمحد احلويف‪ ،‬دار هنضة مصر‪،‬‬
‫الفجالة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دط‪ ،‬دت‪.‬‬
‫‪ .3‬ابن البار‪ ،‬احللّة السرياء‪ ،‬ج‪ ،1‬تح‪ ،‬حسني مؤنس‪ ،‬القاهرة‪.1943 ،‬‬
‫‪ .3‬ابن اجلزري‪ ،‬غاية النهاية‪ ،‬ج‪ ،2‬حتربجشرتاسر‪ ،‬القاهرة‪.1933 ،1932 ،‬‬
‫‪ .5‬ابن حجر العسقالين‪ ،‬هتذيب التهذيب‪ ،‬ج‪ ،4‬تح حيدر أباد الدكن‪،‬مطبعة دائرة املعارف‬
‫النظامية‪،‬اهلند‪،‬ط‪1،1324‬هـ‪.‬‬
‫‪ .4‬ابن حزم األندلسي‪ ،‬رسائل ابن حزم األندلسي‪،‬ج‪،1‬تح احسان عباس‪،‬املؤسسة العربية للدراسات‬
‫و النشر‪،‬ط‪،2،1987‬بريوت‪،‬لبنان‪.‬‬
‫‪ .1‬ابن حزم األندلسي‪ ،‬الفصل يف امللل واألهواء والنحل‪ ،‬ج‪،3‬دار الكتب العلمية‪،‬بريوت‪،‬لبنان‪.‬دت‪.‬‬
‫‪ .8‬ابن خاقان‪ ،‬مطمح األنفس و مسرح التانس يف ملح أهل األندلس‪،‬دار عمار مؤسسة‬
‫الرسالة‪،‬ط‪1335‬هـ‪.‬‬
‫‪ .8‬ابن رشيق القريواين‪ ،‬العمدة يف حماسن الشعر وآدابه‪ ،‬اجلزء ‪،1‬دار الكتب العلمية‪،‬بريوت‪،‬لبنان‪.‬‬
‫‪ .18‬ابن سناء امللك‪ ،‬دار الطراز‪ ،‬دار الفكر‪،‬ط‪.3،1988‬د‪.‬ت‪.‬‬
‫‪ .11‬ابن سنان اخلفاجي‪ ،‬سر الفصاحة‪،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬مصر‪،‬ط‪.1‬‬
‫‪ .12‬ابن بشكوال‪ ،‬الصلة‪ ،‬ج‪.2‬دار الكتاب للطباعة و النشر و التوزيع‪،‬ط‪.1989‬‬
‫‪ .13‬ابن عذارى‪ ،‬البيان املغرب‪ ،‬ج‪ ،3‬تح كوالن وبروفنسال‪،‬مكتبة صادر‪،‬بريوت لبنان‪.1958،‬‬
‫‪ .13‬إحسان عباس‪ ،‬العصر األندلسي يف عهد سيادة قرطبة‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪،8‬‬
‫‪.1994‬‬
‫‪283‬‬
‫قائمة املصادر واملراجع‬

‫‪ .15‬احسان عباس‪ ،‬تاريخ األدب األندلسي‪ ،‬عصر الطوائف واملرابطني‪ ،‬دار الشروق للنشر والتوزيع‪،‬‬
‫عمان األردن‪ ،‬ط‪.2881 ،1‬‬
‫‪ .14‬احسان عباس‪ ،‬تاريخ النقد األديب عند العرب‪ ،‬نقد الشعر من القرن الثاين حىت القرن الثامن‬
‫اهلجري‪ ،‬دار الثقافة بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪.1983 ،3‬‬
‫‪ .17‬احسان حممد احلسن‪ ،‬مناهج البحث االجتماعي‪ ،‬دار وائل للنشر‪ ،‬عمان‪ ،‬األردن‪ ،‬ط ‪.2885‬‬
‫‪ .18‬أمحد أبوحاقة‪ ،‬االلتزام يف الشعر العريب‪ ،‬دار العلم للماليني‪ ،‬ط‪.1979 ،1‬‬
‫‪ .19‬أمحد الرقب‪ :‬نقد النقد‪ ،‬يوسف يكاد يكون ناقدا‪ ،‬دار اليازوري العلمية للنشر والتوزيع‪ ،‬عمان‬
‫‪.2887‬‬
‫‪ .28‬أمحد الشايب‪ ،‬أصول النقد األديب‪ ،‬مكتبة النهضة املصرية للنشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪،‬‬
‫‪.1993‬‬
‫‪ .21‬أمحد أمني‪ ،‬النقد األديب‪ ،‬ج‪ ،1‬مكتبة النهضة املصرية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪.1943 ،‬‬
‫‪ .22‬أمحد ربيع‪ ،‬يف تاريخ األدب العريب احلديث‪ ،‬دارالفكر‪ ،‬ط‪.2884 ،2‬‬
‫‪ .23‬أمحد قدور‪ ،‬مبادئ اللسانيات‪ ،‬دار الفكر املعاصرة‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪.1994 ،1‬‬
‫‪ .23‬أمحد خمتار عمر‪ ،‬علم الداللة‪ ،‬مكتبة لسان العرب‪ ،‬ط‪.1998 ،5‬‬
‫‪ .25‬احممد بن عبود‪ ،‬جوانب من الواقع األندلسي يف القرن اخلامس اهلجري‪ ،‬مطبعةالنور‪ ،‬تطوان‪،‬‬
‫املغرب‪ ،‬ط‪.1987‬‬
‫‪ .24‬أمينة فزلزي‪ ،‬مناهج دراسة األدب الشعيب‪ ،‬املناهج التارخيية األنرتوبولوجية والنفسية واملرفولوجية‪،‬‬
‫دار الكتاب احلديث‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪.2811 ،1‬‬
‫‪ .27‬بسام قطوس‪ ،‬املدخل إىل مناهج النقد املعاصر‪ ،‬دار الوفاء للنشر‪ ،‬االسكندرية‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪.2884‬‬
‫‪ .28‬بسام قطوس‪ ،‬املنهج النفسي يف النقد احلديث‪ ،‬النقاد املصريون أمنوذجا‪ ،‬جملس النشر العلمي‪،‬‬
‫جامعة الكويت‪ ،‬ط‪.2883 ،1‬‬
‫‪ .29‬متام حسان‪ ،‬األصول‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬ط ‪.1981‬‬
‫‪ .38‬متام حسان‪ ،‬اللغة العربية معناها ومبناها‪ ،‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط ‪.1984‬‬

‫‪283‬‬
‫قائمة املصادر واملراجع‬

‫‪ .31‬ثائر أمحد غباري‪ ،‬خالد حممد أبوشعرية‪ ،‬مناهج البحث الرتبوي‪ ،‬دار اإلعصار العلمي‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪.2815‬‬
‫‪ .32‬حازم القرطاجين‪ ،‬منهاج البلغاء وسراج األدباء‪ ،‬حتقيق حممد احلبيب بن خوجة‪ ،‬دار العرب‬
‫اإلسالمي‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪.1981 ،2‬‬
‫‪ .33‬احلافظ أمحد بن علي العسقالين‪ ،‬تقريب التهذيب‪ ،‬حتقيق أبو األشبال الباكستاين‪ ،‬دار العاصمة‬
‫للنشر والتوزيع‪.‬‬
‫‪ .33‬حامد أمحد الدباس‪ ،‬فلسفة احلب واألخالق عند ابن حزم األندلسي‪ ،‬دار اإلبداع للنشر‬
‫والتوزيع‪ ،‬عمان‪ ،‬األردن‪.1993 ،‬‬
‫‪ .35‬حامد طاهر‪ ،‬منهج النقد التارخيي عند ابن حزم‪ ،‬منوذج من نقد التوراة‪،‬مكتبة عني‬
‫اجلامعة‪،‬مصر‪،‬دط‪،‬دت‪.‬‬
‫‪ .34‬حفناوي رشيد بعلي‪ ،‬مسارات النقد ومدارات ما بعد احلداثة يف ترويص النص وتقويض اخلطاب‪،‬‬
‫دروب للنشر والتوزيع‪ ،‬ط‪ ،2811 ،1‬عمان‪.‬‬
‫‪ .37‬حلمي املليحي‪ :‬علم نفس الشخصية‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪.2881 ،1‬‬
‫‪ .38‬احلميدي‪ ،‬جذوة املقتبس‪ ،‬تح حممد بن تاويت الطنجي‪ ،‬القاهرة‪.1952 ،‬‬
‫‪ .39‬خريستو جنم‪ ،‬يف النقد األديب والتحليل النفسي‪ ،‬دار اجليل‪ ،‬بريوت‪.1991 ،‬‬
‫‪ .38‬خفاجي حممد عبد املنعم‪ :‬احلياة األدبية يف األندلس‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬ط‪.1‬‬
‫‪ .31‬الذهيب مشس الدين‪ ،‬تذكرة احلفاظ‪ ،‬ج‪ ،3‬دائرة املعارف العثمانية‪،‬ط‪1373‬هـ‪،‬دط‪.‬‬
‫‪ .32‬ردة اهلل بن ردة بن ضيف اهلل الطلحي‪ ،‬داللة السياق‪ ،‬سلسلة الرسائل العلمية املوصى‬
‫بطبعها‪ ،33‬ط‪ ،1‬مكة املكرمة‪ ،‬جامعة أم القرى معهد البحوث العلمية‪.2883 ،‬‬
‫‪ .33‬رشيد بن مالك‪ ،‬قاموس مصطلحات السيميائي للنصوص‪ ،‬دار احلكمة‪.‬‬
‫‪ .33‬ريتا عوض‪ ،‬بنية القصيدة اجلاهلية‪ ،‬دار اآلداب‪ ،‬ط‪.1992 ،1‬‬
‫‪ .35‬زكريا ميشال‪ ،‬األلسنية التوليدية التحويلية وقواعد اللغة العربية‪ ،‬املؤسسة اجلامعية للدراسات‬
‫والنشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪.1982‬‬
‫‪ .34‬زين الدين املختاري‪ :‬املدخل إىل نظرية النقد النفسي‪ :‬سيكولوجية الصورة الشعرية يف نقد العقاد‪،‬‬
‫أمنوذجا‪ ،‬منشورات احتاد الكتاب‪ ،‬ط ‪.1997‬‬
‫‪285‬‬
‫قائمة املصادر واملراجع‬

‫‪ .37‬سامي الدرويب‪ ،‬علم النفس واألدب‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬مصر‪.1971 ،‬‬


‫‪ .38‬سامي عياد حنا‪ ،‬وآخرون‪ ،‬معجم اللسانيات احلديثة‪ ،‬مكتبة لبنان‪ ،‬ط‪ ،1‬بريوت‪ ،‬لبنان‪.1997،‬‬
‫‪ .39‬سامي فضل بوزيد‪ ،‬تذوق النص األديب‪ ،‬دار املسرية للنشر والتوزيع‪ ،‬ط‪.2812 ،1‬‬
‫‪ .58‬سعد أبو رضا‪ ،‬النقد األديب احلديث‪ ،‬أسسه اجلمالية ومناهجه املعاصرة‪ ،‬رابطة األدب اإلسالمي‬
‫العاملية‪ ،‬السعودية‪ ،‬ط‪.2888‬‬
‫‪ .51‬السكاكي‪ ،‬مفتاح العلوم‪،‬تح نعيم زرزور‪،‬دار الكتب العلمية‪،‬ط‪.2،1987‬‬
‫‪ .52‬مسري حجازي‪ :‬النقد األديب املعاصر‪ ،‬دار الكتاب للنشر والتوزيع‪.‬دط‪،‬دت‪.‬‬
‫‪ .53‬سيد قطب‪ ،‬النقد األديب أصوله ومناهجه‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪.2883 ،8‬‬
‫‪ .53‬شفيقة العلوي‪ ،‬حماضرات يف املدارس اللسانية املعاصرة‪ ،‬ج‪ ،1‬أحباث الرتمجة والنشر‪ ،‬بريوت‪.‬دط‪.‬‬
‫‪ .55‬شكري عزيز ماضي‪ ،‬يف نظرية األدب‪ ،‬دارالفاس للنشر والتوزيع‪ ،‬عمان‪ ،‬ط‪.2885 ،1‬‬
‫‪ .54‬شهاب الدين القرايف‪ ،‬الذخرية يف حماسن أهل اجلزيرة‪ ،‬ج‪ ،1‬تح حممد حجي وآخرون‪ ،‬دار الغرب‬
‫اإلسالمي‪ ،‬ط‪.1993 ،1‬‬
‫‪ .57‬الصادق حممد آدم‪ ،‬توظيف السياق يف الدرس اللغوي (رسالة دكتوراه) اخلرطوم‪ ،‬السودان‪،‬‬
‫‪.2887‬‬
‫‪ .58‬صاحل هويدي‪ ،‬النقد األديب احلديث‪ ،‬قضاياه ومناهجه‪ ،‬دار اآلداب‪،‬دط‪،‬دت‪.‬‬
‫‪ .59‬صالح خالص‪ ،‬حممد بن عمار األندلسي‪ ،‬دراسة أدبية تارخيية‪ ،‬دار اهلدى‪ ،‬بغداد‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪.1957‬‬
‫‪ .48‬صالح فضل‪ ،‬يف النقد األديب‪ ،‬منشورات احتاد الكتاب العرب‪ ،‬دمشق‪ ،‬سورياط‪.2887 ،1‬‬
‫‪ .41‬صالح فضل‪ ،‬مناهج النقد املعاصر‪ ،‬إفريقيا الشرق‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪.2884 ،1‬‬
‫‪ .42‬صالح قلنصوة‪ ،‬متارين يف النقد الثقايف‪ ،‬دار مرييت‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪.2887‬‬
‫‪ .43‬الضيب‪ ،‬بغية امللتمس يف تاريخ رجال أهل األندلس‪،‬تح ابراهيم األبياري‪ ،‬ج‪،2‬دار الكتاب‬
‫املصري‪،‬القاهرة‪،‬دار الكتاب اللبناين بريوت‪،‬ط‪.1998، 1‬‬
‫‪ .43‬طراد الكبيسي‪ ،‬مدخل يف النقد األديب‪ ،‬دار اليازوري للنشر‪ ،‬عمان األردن‪،‬دط‪.‬‬
‫‪ .45‬عبد الرمحان نصرة‪ ،‬يف النقد احلديث‪ ،‬دراسة املذاهب النقدية احلديثة وأصوهلا الفكرية‪ ،‬مكتبة‬
‫األقصى‪ ،‬عمان‪ ،‬ط ‪.1979‬‬
‫‪284‬‬
‫قائمة املصادر واملراجع‬

‫‪ .44‬عبد العزيز عتيق‪ :‬يف النقد األديب‪ ،‬دار النهضة العربية للطباعة والنشر‪ ،‬بريوت لبنان‪ ،‬ط‪.1972‬‬
‫‪ .47‬عبد القادر عبد اجلليل‪ ،‬األسلوبية وثالثية الدوائر البالغية‪ ،‬دار الصفاء‪ ،‬عمان‪،‬دط‪.‬‬
‫‪ .48‬عبد اهلل حممد عبد الرمحان‪ ،‬مناهج وطرق البحث االجتماعي‪،‬مطبعة البحرية‪،‬البحرية‪،‬ط‪.2،2887‬‬
‫‪ .49‬عبد اهلل ابراهيم‪ ،‬التلقي والسياقات الثقافية‪ ،‬دار أويا للنشر والتوزيع‪ ،‬ط‪.2888 ،1‬‬
‫‪ .78‬عبد اهلل حممد الغذامي‪ ،‬النقد الثقايف‪ ،‬قراءة يف األنساق الثقافية العربية‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪،‬‬
‫ط‪ ،2885 ،3‬املغرب‪ ،‬الدار البيضاء‪.‬‬
‫‪ .71‬عبد اهلل حممد عبد الرمحان‪ ،‬حممد علي بدوي‪ ،‬مناهج وطرق البحث االجتماعي‪ ،‬دار املعرفة‬
‫اجلامعية‪ ،‬مصر‪.2882 ،‬‬
‫‪ .72‬عبري صالح الدين األيويب‪ ،‬اخلطاب االعالين يف الصحافة املعاصرة يف ضوء اللسانيات النصية‪،‬‬
‫عامل الكتب‪ ،‬ط‪ ،2815 ،1‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ .73‬عثمان موايف‪ ،‬مناهج النقد األديب والدراسة األدبية‪.‬دار املعرفة اجلامعية‪،‬ط‪.1،2812‬‬
‫‪ .73‬عثمان موايف‪ ،‬مناهج النقد املعاصر‪ ،‬دار املعرفة للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬األزاريطة‪ ،‬ط‪.1‬دت‪.‬‬
‫‪ .75‬عدنان املقراين‪ ،‬نقد األديان عند ابن حزم األندلسي‪ ،‬املعهد العاملي للفكر اإلسالمي‪ ،‬هرندن‪،‬‬
‫فرجينيا‪ ،‬الوم أ‪ ،‬ط‪.1981 ،‬‬
‫‪ .74‬عز الدين امساعيل‪ ،‬األسس اجلمالية يف النقد األديب‪ ،‬دار الفكر العريب‪ ،‬ط‪.1955 ،1‬‬
‫‪ .77‬علي امساعيل علي‪ ،‬نظرية التحليل النفسي واجتاهاهتا احلديثة يف خدمة الفرد‪ ،‬دار املعرفة اجلامعية‪،‬‬
‫مصر‪ ،‬ط‪.1995‬‬
‫‪ .78‬علي جواد الطاهر‪ ،‬مقدمة يف النقد األديب‪ ،‬املؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪.1979‬‬
‫‪ .79‬علي زوين‪ ،‬منهج البحث اللغوي بني الرتاث وعلم اللغة احلديث‪ ،‬دار الشؤون الثقافية العامة‪،‬‬
‫ط‪ ،1‬بغداد‪.1984 ،‬‬
‫‪ .88‬علي حممود أبو ليلة‪ ،‬بناء النظرية االجتماعية (دراسة عالقة اإلنسان باجملتمع‪ ،‬األنساق‬
‫الكالسيكية) دار املعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪.1991 ،3‬‬
‫‪ .81‬فوزي حسن الشايب‪ ،‬حماضرات يف اللسانيات‪ ،‬وزارة الثقافة‪ ،‬عمان‪ ،‬ط‪.1999‬‬
‫‪ .82‬القسطالين‪ ،‬إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري‪ ،‬ج‪ ،8‬تح‪ ،‬بوالق‪1383 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪287‬‬
‫قائمة املصادر واملراجع‬

‫‪ .83‬كرمي زكي حسام الدين‪ ،‬أصول تراثية يف علم اللغة‪،‬مكتبة األجنلومصرية‪،‬القاهرة‪،‬ط‪.1985‬‬


‫‪ .83‬حممد السعران‪ ،‬علم اللغة مقدمة للقارئ الغريب‪ ،‬دار النهضة العربية‪،‬بريوت‪،‬لبنان‪،‬دط‪،‬دت‪.‬‬
‫‪ .85‬حممد سعيد حممد‪ :‬دراسات يف األدب األندلسي‪ ،‬منشورات جامعة سبها‪ ،‬ليبيا‪.‬‬
‫‪ .84‬حممد صايل محدان‪ ،‬قضايا النقد احلديث‪ ،‬دار األمر للنشر والتوزيع‪ ،‬األردن ط‪.1991 ،1‬‬
‫‪ .87‬حممد عبد اجلبار خندقي‪ ،‬نواف عبد اجلبار خندقي‪ ،‬مناهج البحث العلمي‪ ،‬عامل الكتب‬
‫احلديث للنشر‪ ،‬عمان‪ ،‬األردن‪ ،‬ط‪.2812 ،1‬‬
‫‪ .88‬حممد عبد املطلب‪ ،‬البالغة واألسلوبية‪ ،‬الشركة العاملية املصرية للنشر‪.1993 ،‬‬
‫‪ .89‬حممد علي اخلويل‪ ،‬معجم اللغة النظري‪ ،‬مكتبة لبنان‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪.1982‬‬
‫‪ .98‬حممد غنيمي هالل‪ ،‬النقد األديب احلديث‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬ط‪.1973‬‬
‫‪ .91‬حممد مسباعي‪ ،‬تفسري السلوك اإلنساين يف روايات جنيب حمفوظ‪ ،‬دار هومة‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪.2883‬‬
‫‪ .92‬حممد مندور‪ ،‬يف امليزان اجلديد‪ ،‬دار هنضة مصر‪ ،‬الفجالة‪ ،‬القاهرة‪،‬دط‪.‬‬
‫‪ .93‬مراد عبد املالك‪ ،‬الدراسة النقدية املعاصرة‪ ،‬دار الكتاب احلديث‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪.2889 ،1‬‬
‫‪ .93‬املراكشي عبد الواحد‪ ،‬املعجب يف أخبار املغرب‪ ،‬تح شوقي ضيف‪ ،‬دار املعرفة‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫ط‪،1‬دت‪.‬‬
‫‪ .95‬مصطفى عواطف كنوس‪ ،‬الداللة السياقة عند اللغويني‪ ،‬دار الشباب‪ ،‬لندن‪ ،‬ط‪.2887‬‬
‫‪ .94‬مصطفى حممد أمحد علي السيويف‪ :‬مالمح التجديد يف النثر األندلسي خالل القرن اخلامس‬
‫اهلجري‪ ،‬عامل الكتب‪ ،‬ط‪.1975 ،1‬‬
‫‪ .97‬مصطفى حممد أمحد علي السيويف‪ ،‬مالمح التجديد يف النثر األندلسي خالل القرن اخلامس‬
‫اهلجري‪،‬عامل الكتب للطباعة و النشر و التوزيع‪،‬ط‪.1985 ،1‬‬
‫‪ .98‬املقري‪ ،‬أمحد بن حممد املقري‪ :‬نفح الطيب يف غصن األندلس الرطيب‪ ،‬حتقيق‪ ،‬احسان عباس‪،‬‬
‫دار صادر بريوت‪ ،‬ط‪.1988‬‬
‫‪ .99‬املقري‪ ،‬نفح الطيب من غصن األندلس الرطيب‪،‬ج‪،1‬دار الكتب الوطنية‪،‬ط‪.2813.1،‬‬
‫‪ .188‬منقور عبد اجلليل‪ ،‬علم الداللة‪ ،‬منشورات احتاد الكتاب العريب‪ ،‬دمشق‪ ،‬ط ‪.2881‬‬
‫‪ .181‬املهدي إبراهيم الغويل‪ ،‬السياق وأثره يف املعىن‪ ،‬دار الكتاب للنشر والتوزيع‪.‬دط‪،‬دت‪.‬‬
‫‪288‬‬
‫قائمة املصادر واملراجع‬

‫‪ .182‬ميجان الرويلي‪ ،‬سعد اليازغي‪ :‬دليل الناقد األديب‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬املغرب‪،‬‬
‫ط‪.2882 3‬‬
‫‪ .183‬ميخائيل باختني‪ ،‬اخلطاب الروائي‪ ،‬ترمجة حممد برادة‪ ،‬دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع‪،‬‬
‫القاهرة‪ ،‬ط‪.1987 ،1‬‬
‫‪ .183‬نسيم عون‪ :‬األلسنية حماضرات يف علم الداللة‪ ،‬دار الفارايب‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪.2885‬‬
‫‪ .185‬وليد قصاب‪ ،‬مناهج النقد األديب‪ ،‬رؤية إسالمية‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬دمشق‪ ،‬ط‪.2889 ،2‬‬
‫‪ .184‬ميىن العيد‪ ،‬يف معرفة النص‪ ،‬دار اآلفاق اجلديدة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪.3‬دت‪.‬‬
‫‪ .187‬يوسف بن حسن حلجازي‪ :‬املنهج النفسي يف النقد‪ ،‬غزة‪ ،‬ط‪.2818‬‬
‫‪ .188‬يوسف خليف‪ ،‬مناهج البحث األديب‪ ،‬دار غريب للطباعة والنشر‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪.2883 ،1‬‬
‫‪ .189‬يوسف عبد الفتاح أمحد‪ ،‬قراءة النص وسؤال الثقافة‪ ،‬عامل الكتب احلديث‪ ،‬عمان‪ ،‬ط ‪.1999‬‬
‫‪ .118‬يوسف نور عوض‪ ،‬علم النص ونظرية الرتمجة‪ ،‬دار الثقة للنشر والتوزيع‪ ،‬ط‪1318 ،1‬هـ‪.‬‬
‫‪ .111‬يوسف وغليسي‪ ،‬مناهج النقد األديب‪ ،‬جسور للنشر والتوزيع‪ ،‬اجلزائر‪ ،‬ط‪.2889 ،2‬‬

‫المراجع المترجمة‪:‬‬
‫‪.1‬إلرود إبش وفوكيما وآخرون‪ ،‬نظرية األدب يف القرن العشرين‪ ،‬أفريقيا الشرق‪ ،‬ط‪ ،1994‬الدار‬
‫البيضاء‪.‬‬
‫‪.2‬ألفرد أدلر‪ ،‬سيكولوجيتك يف احلياة كيف حتياها‪ ،‬ترمجة عبد العلي اجلسماين‪ ،‬املؤسسة العربية‬
‫للدراسات والنشر‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪1997 ،1‬‬
‫‪.3‬إليزابيث درو‪ ،‬الشعر كيف نفهمه ونتذوقه‪ ،‬ترمجة حممد ابراهيم الشوش‪ ،‬منشورات مكتبة منيمنة‪،‬‬
‫لبنان‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪.1941‬‬
‫‪.4‬إميليوجارثياجوميث‪ ،‬الشعر األندلسي‪ ،‬حبث يف تطوره وخصائصه‪ ،‬ترمجة حسني مؤنس‪ ،‬دار‬
‫الرشاد‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪.2885 ،2‬‬
‫‪ .5‬آجنل جنثالث بالنثيا‪ ،‬ترمجة حسني مؤنس‪ ،‬تاريخ الفكر األندلسي‪ ،‬مكتبة الثقافة‬
‫الدينية‪.‬‬
‫‪.4‬أندريه مارتينيه‪ ،‬مبادئ اللسانيات العامة‪ ،‬ترمجة أمحد احلمو‪ ،‬الطبعة اجلديدة‪ ،‬ط‪ ،1983‬دمشق‪.‬‬
‫‪289‬‬
‫قائمة املصادر واملراجع‬

‫‪.7‬انريك أندرسون امربت‪ ،‬مناهج النقد األديب‪ ،‬ترمجة الطاهر أمحد مكي‪ ،‬مكتبة اآلداب‪ ،‬القاهرة‪.‬‬

‫‪.8‬باملر‪ ،‬علم الداللة‪ ،‬ترمجة صربي ابراهيم السيد‪ ،‬دار املعرفة اجلامعية‪ ،‬اإلسكندرية‪ ،‬ط ‪1995.‬‬
‫‪.9‬جان بيلمان نوبل‪ ،‬التحليل النفسي واألدب‪ ،‬ترمجة حسن املودن‪ ،‬اجمللس األعلى للثقافة‪1998. ،‬‬
‫‪.18‬ديفيد بشبندر‪ ،‬نظرية األدب املعاصر وقراءة الشعر‪ ،‬ترمجة عبد املقصود عبد الكرمي‪ ،‬مكتبة‬
‫األثر‪ ،‬ط‪2885.‬‬
‫‪.11‬ديفيد ديتش‪ :‬مناهج النقد األديب‪ ،‬دار صادر للطباعة والنشر‪ ،‬ط‪1947. ،1‬‬
‫‪.12‬فان دايك‪ ،‬النص والسياق‪ ،‬استقصاء البحث يف اخلطاب الداليل والتداويل‪ ،‬ترمجة عبد القادر‬
‫قنيين‪ ،‬أفريقيا الشرق‪ ،‬املغرب‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬ط‪2888.‬‬
‫‪.13‬رينيه ويليك‪ ،‬نظرية األدب‪ ،‬ترمجة عادل سالمة‪ ،‬دار املريخ للنشر‪ ،‬الرياض‪ ،‬السعودية‪ ،‬ط‬
‫‪1992.‬‬
‫‪.13‬سيغمون فرويد‪ :‬املوجز يف التحليل النفسي‪ ،‬ترمجة سامي حممود علي‪ ،‬مكتبة األسرة‪ ،‬ط‪2888.‬‬
‫‪.15‬كارل كوستافيونغ‪ ،‬علم النفس التحليلي‪ ،‬ترمجة هناد خياطة‪ ،‬احلوار للنشر والتوزيع‪ ،‬سوريا‪ ،‬ط‪،2‬‬
‫‪.1997‬‬
‫المراجع األجنبية‪:‬‬
‫‪1. John Firth. Papers in Linguistic. Oxford University. Press New York Toronto 1957.‬‬
‫‪2. Revenue Journal of the institutional sociology. University Ledbury Herford shire England‬‬
‫‪VXl. Personality and Language in Society Socillogical 1950.‬‬
‫‪3. Archibald Hill. Linguistics (Voice of America Forum Lectures) 1969.‬‬

‫المجالت‪:‬‬
‫‪ .1‬جملة احلرس الوطين‪ ،‬عبد اهلل عبد اجلواد‪ :‬املنهج النفسي يف النقد‪ ،‬دراسة تطبيقية على شعر‬
‫أبو الوفاء‪ ،‬العدد‪.14‬‬
‫‪ .2‬جملة جامعة حممد خيضر‪،‬بسكرة‪ ،‬فطومة حلمادي‪ ،‬السياق والنص‪ ، ،‬العدد ‪ ،3-2‬جانفي‪-‬جوان‬
‫‪.2888‬‬

‫‪218‬‬
‫قائمة املصادر واملراجع‬

‫‪ .3‬جملة جامعة دمشق‪ ،‬حممد عيسى‪ ،‬القراءة النفسية للنص األديب العريب‪ ،‬اجمللد ‪ ،19‬العدد‬
‫‪ ،2+1‬ط‪.2883‬‬
‫‪ .3‬جملة فصول‪ ،‬نبيلة ابراهيم‪ ،‬القارئ يف النص‪ ،‬نظرية التأثري واالتصال‪ ،‬اجمللد اخلامس‪،‬‬
‫العدد األول‪ ،‬ط‪.1983‬‬
‫‪ .5‬جملة كلية الرتبية‪ ،‬واسط‪ ،‬العدد‪1 ،13‬نيسان‪.2813‬‬

‫‪211‬‬
‫فهرس‬
‫الموضوعات‬
‫فهرس املوضوعات‬

‫المقدمة ‪Erreur ! Signet non défini. ..........................................................‬‬

‫المدخل‪ :‬المالمح العامة لألندلس خالل القرن الخامس الهجري‪18 .......................... .‬‬
‫متهيـ ـ ـ ـ ــد‪11 ...................................................................................... :‬‬
‫أوال‪ :‬احلياة الثقافية‪ :‬وأكثر ما مييزها‪12 ........................................................... :‬‬
‫أ‪ -‬بناء املساجد‪12 ..............................................................................:‬‬
‫ب‪ -‬وجود حركة نقدية مزدهرة‪12 ............................................................... :‬‬
‫ثانيا‪ :‬احلياة االجتماعية ‪19 ........................................................................‬‬
‫أ‪ -‬اجلالء‪28 .................................................................................... :‬‬
‫ب‪ -‬طبقة الفقهاء‪21 ........................................................................... :‬‬
‫ج‪ -‬مظاهر الرتف يف عهد الطوائف ‪22 ...........................................................‬‬
‫ثالثا‪ :‬صورة من عهد املرابطني‪23 ..................................................................‬‬
‫رابعا‪ :‬الغنــاء‪23 ..................................................................................:‬‬
‫الفصل األول‪ :‬السياق و عالقته بالنقد الثقافي و النظرية السياقية ‪24 ..........................‬‬
‫متهيـ ــد‪Erreur ! Signet non défini. ......................................................... :‬‬

‫أوال‪ :‬مفهوم السياق ‪31 ...........................................................................‬‬


‫ثانيا ‪ :‬النقد الثقايف‪33 ........................................................................... .‬‬
‫ثالثا ‪ :‬السياق الثقايف‪33 ......................................................................... .‬‬
‫رابعا‪ :‬الدراسات الثقافية‪38 ...................................................................... .‬‬
‫خامسا‪ :‬النظرية السياقية‪39 ...................................................................... .‬‬
‫سادسا‪ :‬أنواع السياق‪33 ........................................................................ :‬‬

‫‪213‬‬
‫فهرس املوضوعات‬

‫أ‪ -‬السياق اللغوي ‪33 .............................................................................‬‬


‫ب‪ -‬السياق العاطفي ‪35 .........................................................................‬‬
‫ج‪ -‬سياق املوقف‪37 .............................................................................‬‬
‫د‪ -‬السياق الثقايف ‪39 ............................................................................‬‬
‫سابعا‪ :‬خطوات التحليل السياقي‪58 ............................................................. .‬‬

‫الفصل الثاني‪ :‬السياق العام في رسائل ابن حزم األندلسي‪52 ................................. .‬‬
‫متهيـ ــد‪53 ........................................................................................:‬‬
‫أوال‪ :‬تعريف السياق التارخيي‪53 ................................................................. :‬‬
‫ثانيا‪ :‬املنطلقات الفكرية للسياق التارخيي ‪54 .......................................................‬‬
‫ثالثا‪ :‬جتليات السياق التارخيي وحقوله‪58 ......................................................... .‬‬
‫رابعا‪ :‬خصائص السياق التارخيي ‪59 ...............................................................‬‬
‫خامسا‪ :‬مستويات النقد يف السياق التارخيي ‪41 ...................................................‬‬
‫أ‪ -‬املستوى اخلارجي‪41 ......................................................................... :‬‬
‫ب‪ -‬املستوى الداخلي‪41 ....................................................................... :‬‬
‫سادسا‪ :‬نقد السياق التارخيي ‪42 ..................................................................‬‬
‫أ‪ -‬اجلوانب اإلجيابية (املزايا) ‪42 ................................................................. :‬‬
‫ب‪ -‬اجلوانب السلبية (العيوب)‪43 ...............................................................:‬‬
‫سابعا‪ :‬السياق العام يف رسائل ابن حزم األندلسي‪45 ..............................................‬‬
‫أ‪ -‬على مستوى السياق التارخيي ‪45.........................................................‬‬

‫‪213‬‬
‫فهرس املوضوعات‬

‫ب‪ -‬على مستوى اإلنتاج األديب ‪47.........................................................‬‬


‫ثامنا‪ :‬معايري النقد عند ابن حزم ‪49 ...............................................................‬‬
‫تاسعا‪ :‬منهج النقد التارخيي عند ابن حزم ‪71 ......................................................‬‬
‫عاشرا‪ :‬املنهج التارخيي ونقد التوراة عند ابن حزم‪72 .............................................. :‬‬
‫أحد عشر‪ :‬الدواعي الذاتية واملوضوعية لكتابة الرسائل ‪73......................................‬‬
‫أ‪ -‬دواعي تأليف الرسائل‪75................................................................‬‬
‫ب‪ -‬طوق احلمامة‪74... ..................................................................‬‬
‫ب‪ -1‬سبب التسمية‪74...................................................................‬‬
‫ب‪ -2‬تاريخ تأليف الرسالة‪74..............................................................‬‬
‫ب‪ -3‬بني النظرية والتطبيق‪74..............................................................‬‬
‫ب‪ -3‬صورة ابن حزم يف الطوق‪78.........................................................‬‬
‫ج‪ -‬رسالة يف مداواة النفوس‪79.............................................................‬‬
‫رسالة يف الغناء امللهي‪81...................................................................‬‬
‫أ‪ -‬التطبيق اخلارجي للنقد التارخيي عند ابن حزم‪73 .............................................. :‬‬
‫ب‪ -‬التطبيق الداخلي للنقد التارخيي عند ابن حزم‪73 ............................................ :‬‬
‫اثنا عشر‪ :‬السياق التارخيي يف رسائل ابن حزم‪82 .................................................:‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬صورة السياق الثقافي في رسائل ابن حزم األندلسي‪98 ....................... .‬‬
‫مته ـيـ ــد‪99 ....................................................................................... :‬‬
‫أوال‪ :‬عالقة املنهج االجتماعي باملنهج التارخيي ‪188 ...............................................‬‬
‫ثانيا‪ :‬تعريف املنهج االجتماعي ‪181 ..............................................................‬‬

‫‪215‬‬
‫فهرس املوضوعات‬

‫ثالثا‪ :‬مفهوم السياق االجتماعي ومبادئه ‪182 .....................................................‬‬


‫أ‪ -‬املفهوم‪182 ................................................................................. :‬‬
‫ب‪ -‬املبادئ‪184 ............................................................................... :‬‬
‫رابعا‪ :‬خطوات املنهج االجتماعي ‪187 ............................................................‬‬
‫خامسا‪ :‬مميزات النقد االجتماعي ‪188 ............................................................‬‬
‫سادسا‪ :‬مالمح النقد االجتماعي ‪189 ............................................................‬‬
‫سابعا‪ :‬نقد النقد االجتماعي ‪118 ................................................................‬‬
‫أ‪ -‬اإلجيابيات‪118 .............................................................................. :‬‬
‫ب‪ -‬املآخذ‪111 ................................................................................ :‬‬
‫ثامنا‪ :‬النقد االجتماعي العريب ‪112 ...............................................................‬‬
‫تاسعا‪ :‬نسق التلقي عند ابن حزم‪115.......................................................‬‬
‫عاشرا‪ :‬خصوصية الكتابة عند ابن حزم ‪117 ......................................................‬‬
‫أ‪ -‬يف رسالة طوق احلمامة‪117 .................................................................. :‬‬
‫ب‪ -‬احلياة االجتماعية البن حزم ‪118 ............................................................‬‬
‫إحدى عشر‪ :‬القضايا األدبية املطروحة‪.‬يف طوق احلمامة ‪128..................................‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬رسائل ابن حزم األندلسي في سياقها النفسي‪591 ............................. .‬‬
‫متهيد‪133 ...................................................................................... :‬‬
‫أوال‪ :‬تعريف املنهج النفسي ‪133 ..................................................................‬‬
‫ثانيا‪ :‬مفهوم السياق النفسي وبنيته ‪134 ...........................................................‬‬
‫أ‪ -‬مفهومه‪134 ................................................................................. :‬‬

‫‪214‬‬
‫فهرس املوضوعات‬

‫ب‪ -‬بنية السياق‪138 ........................................................................... :‬‬


‫ثالثا‪ :‬القراءة وتفسري السياق النفسي للنص‪158 ...................................................‬‬
‫رابعا‪ :‬احلب وفلسفته عند ابن حزم ‪152 ...........................................................‬‬
‫خامسا‪ :‬ابن حزم الرجل احملب ‪153 ...............................................................‬‬
‫سادسا‪ :‬احلب دافع لإلستقرار النفسي عند ابن حزم األندلسي ‪154 ...............................‬‬
‫سابعا‪ :‬السياق النفسي يف رسائل ابن حزم األندلسي ‪158 .........................................‬‬
‫أ‪ -‬يف رسالة طوق احلمامة‪158 .................................................................. :‬‬
‫ب‪ -‬فصل يف مداواة النفوس وإصالح األخالق الذميمة ‪183 .....................................‬‬
‫ج‪ -‬فصل يف معرفة النفس بغريها وجهلها بذاهتا ‪193 .............................................‬‬
‫الخاتمـة‪548 ................................................................................... :‬‬
‫قائمة المصادر والمراجع ‪111 ...................................................................‬‬
‫فهرس الموضوعات ‪151 ........................................................................‬‬
‫الملخص ‪158 ...................................................................................‬‬
‫‪111 .................................................................................. Résumé‬‬
‫‪222 ................................................................................. Abstract‬‬

‫‪217‬‬
‫الملخص‬
‫امللخص‬

‫تناولت هذه الدراسة نظرية السياق يف مفهوم بعض اللسانيني العرب والغرب الذين آمنوا بفكرة‬
‫السياق ودوره الفعال بآلية من آليات حيازة املعىن وتقومي الداللة‪ ،‬وشرط أساسي يف فهم اخلطاب‬
‫وميثل السياق اللغوي أول شقي النظرية السياقية‪ ،‬أما النوع اآلخر هو السياق غري اللغوي‪ ،‬كما حدد‬
‫ذلك اللغوي اإلجنليزي ومؤسس هذا االجتاه "جون فريث" وتسليط الضوء على جهود العرب يف وضع‬
‫مجلة من القوانني اهلامة املتعلقة بالنظرية السياقية‪ ،‬ويهدف هذا البحث إىل جتلية معامل هذه النظرية‬
‫وحدود انتشارها مع الرتكيز على اجلانب الذي يتوافق وعنوان الدراسة‪ ،‬إضافة إىل حماولة رصد وتبيني‬
‫ما آلت إليه على أيدي متبنيها ومؤيديها فيما بعد‪.‬‬
‫وقد بذل البحث من األدلة القاطعة مبا ال يدع جماال للشك‪ ،‬ما يثبت أن علماء العرب القدامى‬
‫قد احتكموا إىل السياق الثقايف واالجتماعي‪ ،‬من منطلق إمياهنم باجتماعية اللغة‪ ،‬يف تعيني احلدث‬
‫اللغوي‪ ،‬وحتديد املعاين وبيان الدالالت املناسبة لكل مقام‪ ،‬من ذلك احتكامهم للظروف احمليطة‬
‫والعالقات االجتماعية‪ ،‬عالوة على العادات والتقاليد واملعتقدات وغريها مما ميكن أن ينضوي حتت ما‬
‫يعرف بالسياق الثقايف‪.‬‬
‫وميكن القول بأن احلقائق العلمية اليت أقرها علماء اللغة والبالغة العرب هبذا الصدد‪ ،‬والسيما ما‬
‫يتصل منها بالطبيعة االجتماعية للغة‪ ،‬وموضوع مناسبة اللغة للمقام من حيث تشكلها أو حتليلها‪،‬‬
‫تكشف باألدلة القاطعة اليت ال تثري شكا وال تقبل نقضا‪ ،‬تفوقهم على غريهم وحيازهتم قصب السبق‬
‫يف جمال حبث املعىن والداللة‪ ،‬حبثا علميا تطبيقيا‪ ،‬األمر الذي مل تعرفه الدراسات اللغوية االجتماعية‬
‫املعاصرة إال حديثا‪.‬‬
‫وقد محل البحث يف طياته ردودا على الذين اهتموا العلماء القدامى‪ ،‬بإغفال اجلانب اهلام يف‬
‫أحباثهم‪ ،‬وأهنم أمهلوا االعتماد على السياق الثقايف يف حتليالهتم‪.‬‬

‫‪-219-‬‬
Résumé
Résumé

Cette étude traitait de la théorie du contexte dans le concept de haine des


linguistes arabes et occidentaux qui croyaient à l'idée de contexte et à son rôle
effectif dans l'un des mécanismes de possession de sens et d'évaluation
sémantique et condition préalable à la compréhension du discours. Cette
tendance est "John Firth" et de faire la lumière sur les efforts des Arabes dans
l'élaboration d'un certain nombre de lois importantes liées à la théorie
contextuelle aux mains de ses adoptants et partisans ultérieurs. La recherche a
fourni des preuves concluantes¡ hors de tout doute¡ qui prouvent que les anciens
savants arabes faisaient appel au contexte culturel et social¡ de leur croyance en
la sociabilité de la langue pour déterminer l'événement linguistique¡ définir les
significations et clarifier les indications appropriées pour chaque station¡ y
compris leur attrait pour les circonstances environnantes et les relations sociales¡
en plus des coutumes¡ traditions¡ croyances et autres choses qui peuvent être
incluses dans ce que l'on appelle le contexte culturel. On peut dire que les faits
scientifiques endossés par les linguistes¡ les rhéteurs et les Arabes à cet égard¡
en particulier ceux liés à la nature sociale de la langue¡ et au sujet de
l'adéquation de la langue au lieu en termes de formation et d'analyse¡ révèlent
avec force évidence qui ne soulève pas de doute et n'accepte pas la carence¡ leur
supériorité sur les autres et leur possession du premier Dans le domaine de la
recherche de sens et de signification¡ une recherche scientifique appliquée¡ qui
n'est connue que depuis peu des études sociolinguistiques contemporaines. La
recherche a apporté avec elle des réponses à ceux qui accusaient les anciens
savants de négliger l'aspect important de leur recherche¡ et qu'ils négligeaient de
s'appuyer sur le contexte culturel dans leurs analyses.

221
Abstract
Abstract

This study dealt with context theory in the concept of hating Arab and
Western linguists who believed in the idea of context and its effective role in
one of the mechanisms of meaning possession and semantic evaluation and a
prerequisite for understanding discourse. And the founder of this trend is "John
Firth" and to shed light on the efforts of the Arabs in developing a number of
important laws related to contextual theory. Toit at the hands of its adopters and
later supporters. The research provided conclusive evidence¡ beyond any doubt¡
which proves that the ancient Arab scholars appealed to the cultural and social
context¡ out of their belief in the sociability of language in determining the
linguistic event¡ defining the meanings and clarifying the appropriate indications
for each station¡ including their appeal to the surrounding circumstances and
social relations. In addition to the customs¡ traditions¡ beliefs and others things
that can be included under what is known as the cultural context. It can be said
that the scientific facts endorsed by linguists¡ rhetoricians and Arabs in this
regard¡ especially those related to the social nature of language¡ and the subject
of the language’s appropriateness to the place in terms of its formation and
analysis¡ reveal with conclusive evidence that does not raise doubt and does not
accept deficiency¡ their superiority over others and their possession of the first
in the field of meaning and significance research¡ an applied scientific research¡
which is only recently known to contemporary sociolinguistic studies. The
research carried with it responses to those who accused the old scholars of
neglecting the important aspect of their research¡ and that they neglected relying
on the cultural context in their analyses.
République Algérienne Démocratique et Populaire
Ministère de l’Enseignement Supérieur et de la Recherche Scientifique
Université 8 Mai 1945 Guelma

Faculté : Des lettres et des langues


Département : Langue et littérature arabe
Laboratoire de domiciliation : Etudes linguistique et littéraires

THÈSE
EN VUE DE L’OBTENTION DU DIPLOME DE
DOCTORAT EN SIENCE
Domaine : Langue et littérature Arabe Filière : Etudes littératures
Spécialité : Littératures Algérienne
Présentée par
SABIHA DJELAILIA
Intitulée
Les lettres d’Ibn Hazem Al-Andalussi(384-456)
-etude dans les contxtes cultureles -

Soutenue le :10-12-2023 Devant le Jury composé de :

Nom et Grade Université Qualité


Prénom
Mrs Zitoune Zoulikha Maître de conférence -A‫ـ‬ Univ. de 8 Mai 1945 Guelma Président
Mrs Zerguine Farida Professseur Univ. de 8 Mai 1945 Guelma Encadreur
Mrs Rouabhia Hada Maître de conférence -A‫ـ‬ Univ. de 8 Mai 1945 Guelma Examinateur
Mrs Lowati Amel Professseur Univ. de el amir abdelkader Constantin Examinateur
Mr Omar Lahssen Professseur Univ .de badji Mokhtar Annaba Examinateur

Année Universitaire :2022/2023

You might also like