Professional Documents
Culture Documents
مسرح الطفل ورهانات التنشئة الاجتماعية والثقافية من خلال مسرحية - سليمة واللقلق -
مسرح الطفل ورهانات التنشئة الاجتماعية والثقافية من خلال مسرحية - سليمة واللقلق -
"مسرح الطفل ورهاانت التنشئة االجتماعية والثقافية من خالل مسرحية "سليمة واللقلق
Children's Theater And The Challenges Of Social And Cultural Education
Through "Salima And The Stork" Play
الدكتورة إميان الصامت عروس
)imen3rouss@gmail.com( ،)معهد املوسيقى واملسرح الكاف بتونس (تونس
5553/55/55 : ؛ اتريخ النشر5553/50/52 : ؛ اتريخ القبول5553/52/52 : اتريخ االستالم
Abstract الملخص
Through the educational dimension of theater, حيلو للتنشئة االجتماعية والثقافية،عرب البعد الرتبوي للمسرح
social education deepens in the psychological
system of the child as a coalition project that الغوص يف أغوار النفس والنفاذ إىل اجلهاز النفسي للطفل بكل
accompanies the path of his life, considering that جتلياته كمشروع ائتاليف يرافق مسار حياته ابعتبار أن عملية تنشئة
the process of education and preparation of the
child, and the refinement of his talents and his وإعداد الطفل وصقل مواهبه وأتهيله فكراي ومعرفيا واجتماعيا
intellectual, cognitive, social and psychological
rehabilitation does not stop at a certain stage, but ونفسيا ال تتوقف عند مرحلة معينة بل إن الطفل يف حاجة إىل
rather the child needs continuous socialization
according to the changing stages of growth he التنشئة االجتماعية املتواصلة املستمرة واملتصلة تبعا لتغري مراحل
experiences and the conditions in which he ويسعى.النمو اليت مير هبا و تبعا لتغري الظروف اليت يعايشها
lives.Children's theater seeks to promote
imagination and memory in the child's social مسرح الطفل لتزكية اخليال والذاكرة يف منظومة التعلم االجتماعي
learning system by storing actions and words that
appear in the axis of imitation from everyday
عند الطفل بتخزين األفعال واألقوال اليت تظهر ضمن املمارسات
practices, considering that what the The child اليومية ابعتبار أن ما يكتسبه الطفل ما هو إال متثيل رمزي لنماذج
acquires is only a symbolic representation of
action patterns and what he learns is stored in األفعال و ما يتعلمه خيتزن يف الذاكرة لكي يستخدم كمرشد أو
memory to be used as a guide in future behavior. فالطفل يتسم ابلدافعية اليت حتفزه. موجه يف السلوك املستقبلي
The child is characterized by the motivation that
urges him to learn sustainably from society and على التعلم املستدمي من اجملتمع ومن الفن و بذل اجلهد يف
art, and to strive to discover the learning intention االكتشاف بقصدية التعلم اليت تستكنه حركة الواقع الدائمة و
that is inhabited by the permanent movement of
reality and psychological convulsions. and اختالجات الفرد النفسية و السلوكية ليسهم الطفل يف تنشئة
behavior of the individual, so that the child
contributes to his education by his integration in نفسه عرب اندماجه داخل منظومة الفعل والتلقي
the system of action and theatrical reception.As a
practical approach, we will analyze a Tunisian وكمقاربة ممارستية سنستحضر عمال مسرحيا تونسيا.املسرحي
theatrical work entitled "Salima and the stork", بعنوان "سليمة واللقلق" نص بشري بوعلي اخراج دمحم الصاحل
text by Bachir Bouali, directed by Mohamed
Saleh Arous, the scenography is carried out by عروس سينوغرافيا اميان الصامت انتاج مركز الفنون الدرامية
Imen Samet, produced by the Center for Dramatic
and Scenic Art, Beja, with the support of the
حيث.2222 والركحية ابجة بدعم من وزارة الثقافة التونسية
Tunisian Ministry of Culture 2022. This piece تطرح املسرحية مسألة العالقات األسرية والرجوع إىل العادات
asks the question about family relationships,
customs and social traditions in an educational موجه للطفل ّ تصور بيداغوجي ّ والتقاليد االجتماعية ضمن
design directed towards children and young لتنصهر يف داخله العادات والتقاليد ويتناقلها بشكل،والناشئة
audiences, to transmit these customs and
traditions in an evolutionary and sustainable way تطوري ومستدمي إضافة إىل ما تلعبه من دور متجذر يف النمو
that affirms their role in the development.
sensory, mental and moral, while recovering the وذلك، احلسي و العقلي و األخالقي على نطاق ذهين و حيوي
basic ideas of this tangible and intangible visual من خالل اسرتجاع األفكار األساسية هلذا املوروث البصري
heritage and encouraging the child to think of it as
a creative path of action through an artistic املادي والالمادي ودفع الطفل للتفكري فيه كمسار للفعل
revision of the system of cultural and heritage
consumption that has been absent from the االبداعي من خالل مراجعة فنية ملنظومة االستهالك الثقايف
children of today. .والرتاثي الىت غابت عن أطفال اليوم
Keywords : Children's theater - socialization - التنشئة- التنشئة االجتماعية- مسرح الطفل:كلمات مفتاحية
cultural upbringing
الثقافية
227
إيمان الصامت عروس
.1مقدمة:
يشكل مسرح الطفل مادة خصبة ينهل منها الفرد والمجتمع تعلمات وتجارب ومعارف تؤثر على
الذات الفردية في تكونها وبناء شخصيتها وعلى الذات الجماعية كانتماء ومقاربات تضمن التعلم
المتنوع وتنمية القدرات والقيم حيث يوطد وجود المسرح في الحياة الجماعية العالقات داخل المجتمع
ويصحح تدرج مسار االنتماء الجماعي .فمسرح الطفل يعمل على تشكيل وتنمية الجوانب الوجدانية
والفكرية والثقافية وفقا لما تقتضيه الداللة والرؤية الفنية ،لتنطلق من حاجات الفرد نحو متطلبات
المجموعة ،التي تسمح من خالل الموازنة بين ما هو نفعي وما هو جمالي ،بتحقيق التنشئة
االجتماعية والثقافية ضمن مقاربات عالئقية تربط بين الفرد ومحيطه انتماءا وتفاعال ،وتحول الفرجة
والمشاركة إلى عناصر للتنمية البشرية التي تتيح للطفل التعبير عن فرديته وأصالته ،باإلفادة
المعرفية ،التي تتوخى غرس القيم الخلقية والتعليمية كسبيل لممارسة تأويل نقدي لنظريات الوعي
الجمالي التي تنطلق من الخصوصيات النفسية للطفل نحو حاجاته االجتماعية.
فالعمل المسرحي بقدر ما يسعى إلى المحافظة على طابعه الفني والجمالي ،بقدر ما يساهم في دعم
النشاط الحسي والفكري الذي يجمع بين المتعة واإلفادة كمجاالت قابلة لالنفتاح وتحقيق التكامل،
ليسمح ببلورة المكانة الذاتية واالجتماعية التي تمكن الطفل من أن يكون ممثال ومتمثال لذاته وحياته
وانتمائه ،بغاية احراز االفضلية والتميز الذاتي والجماعي ،لهذا حاولنا التركيز على التنشئة
االجتماعية والثقافية لمسرح الطفل كمحفز ينطلق من الفني ليغوص في أعماق الواقع االجتماعي
بمختلف تفاعالته وعالقاته التي تبني أسس االنتماء داخل المجموعة وتؤثر في بناء شخصية الفرد
منذ الطفولة.
-2اإلشكالية:
كيف للمسرح كفعل تشاركي ثقافي واجتماعي أن يحمل توجهات تفكير للعالم وللطفل كجيل
للمستقبل ،وما هي رهاناته السلوكية والفكرية والذهنية والنفسية وتأثيرها على التنشئة االجتماعية
والثقافية بالرجوع الى مسرحية سليمة اللقلق كنموذج.
-3األهمية العلمية:
228
مسرح الطفل ورهانات التنشئة االجتماعية والثقافية من خالل مسرحية "سليمة واللقلق"
التطرق إلى أهمية الممارسة المسرحية الموجهة للطفل كرهان للتنشئة االجتماعية والثقافية في ظل
ما خلفته الرقمنة والعولمة من تجميد للعقول وهيمنة على الخيال ،ودرها في العودة بالطفل الى واقعه
االجتماعي والثقافي والتشبث بالعادات التي تبني هويته الذاتية والجماعية.
-4األهداف:
أهمية الطفل كعنصر فعال في بناء مجتمع المستقبل ،ودور المسرح في الرقي بشخصية الطفل
وتنمية خياله وربط صلته بواقعه الثقافي واالجتماعي بالرجوع إلى نموذج مسرحي راهن نجمع فيه
بين التنظير والممارسة ورصد أهم التأثيرات التي يحدثها العرض في عملية التلقي وتفاعل الطفل مع
المحتوى الفكري واالجتماعي والثقافي للعمل.
-5منهج البحث:
اعتمد البحث على المنهج الوصفي التحليلي الذي ينطلق من التنشئة االجتماعية والثقافية كمجال
عام وربطه بمسرح الطفل من خالل تحليل عرض مسرحي موجه لألطفال بعنوان سليمة واللقلق
الجمالية والنظرية التي تساهم في تحقيق التنشئة االجتماعية والثقافية
ّ واستعراض مختلف المقاربات
للطفل.
-6جسد البحث:
-1-6مسرح الطفل بين الظاهرة الجمالية والرهانات االجتماعية:
يحمل مسرح الطفل في طياته فعال انسانيا اجتماعيا يقتحم الفضاء الواقعي المعيش والفضاء الرمزي
التخيلي لبناء المعرفة للطفل والناشئة ضمن تسلسل منطقي يراعي أفق التلقي الفكري والعاطفي،
باعتبار أن " تنمية الوعي الجمالي كطاقة والعمل على فاعليته مع بقية الملكات يعمل على تنشئة
مواطن مبدع في مجاله الخاص" (ابراهيم ، )2002 ،فالمسرح يلعب دو اًر هاما في تحديد خلجات
المتلقي الشعورية والفكريـة والمعرفيـة وتلبيـة احتياجاته الجمالية ،باعتباره انعكاسا للواقع االجتماعي،
كما يساهم في تأكيد الدور الثقافي والفكري واالجتماعي للطفل ويعمل على إرشاده للتنشئة
االجتماعية السليمة حتى يعانق أغوار نفس الطفل و هياكله الذهنية السيكولوجية والحسية من الفعلية
الرامزة الى التفاعل االجتماعي المباشر كآلية لنحت الكيان.
229
إيمان الصامت عروس
فالطفل هو عصارة تجربة حياتية نفسية واجتماعية ،ويعتبر المسرح هو الناقل لهذه التجربة ليفتح
للطفل أفق االصغاء والتمعن والتركيز واالنتباه والتحاور والنقاش بما يكتسبه من ألفاظ و مفردات
كالمية ووصفية وحركية وبصرية يوظفها للتعبير عن ذاته لتثري خياله الجمالي وتؤسس واقعه
وتفاعله االجتماعي باعتبار أن الوعي الجمالي ال ينفصل عن الوعي بالواقع بشكل عام ،فالقيمة
الجمالية للعمل المسرحي هي "قيمة ثرية متسعة المجال ،متعددة الخصائص والسمات كثيرة
االرتباطات فهي ترتبط بالتراث وبالوعي الجمعي وبالمستوى الثقافي وبالمناخ االجتماعي والنضج
النفسي" (ابراهيم ،2002 ،الصفحات ،)51-51لتتكون للطفل شخصية فصيحة تعبر عن ذاته
العموميات الثقافية و العادات وعن حاجاته كهوية مستقلة قادرة على االستفادة والتفاعل مع
االجتماعية التي يمكن أن يالمسها العرض المسرحي.
ينبني العمل المسرحي على منطلقات معرفية وسيكولوجية وثقافية تغوص في مسارب الذات
اإلنسانية داخل حراك اجتماعي يختزن الوجود بأسره في صلب مالمح التغيير والتجديد لينحت بفعل
العبر واألهداف التي يسعى لترسيخها وجوده الفني الخاص ضمن تراكيب فنية متنوعة تتكامل في ما
بينها لتشكيل رؤية جمالية تحفز الفكر والعقل والحواس إلى االرتقاء بالذوق العام ،فالطفل "يتعرف
الى العالم حوله من خالل وقع الجمال عليه" (ابراهيم ،2002 ،صفحة ، )51وبالتالي فإن جمالية
العمل المسرحي ال تتحقق إال في شموليته الجمالية والفكرية والداللية وفي قدرته على التأثير نفسيا
وسلوكيا واجتماعيا في المتلقي.فمسرح الطفل يكتسب دو ار هاما في تنشئة الفرد و"اتاحة الفرصة
للطفل كي يلتقط خيط الحياة في مجتمعه" (ابراهيم ،2002 ،صفحة ،)22لتشكيل شخصيته،
وتفجير طاقاته اإلبداعية وتحقيق انضباطه السلوكي وفق مقاربات توليدية راهنت على التفاعل بين
الجمالي واالجتماعي إلكساب المتلقي زادا معرفيا للفهم والتعمق والتحليل من خالل القوة اإلقناعية
والتخيلية التي تراوح بين المتعة الجمالية والبعد التثقيفي ليصبح بمثابة االستنطاق التأويلي للعرض
لخلق المعنى واإلبداع التفكيري وتحقيق اإلفادة النفعية التي تتوخى غرس القيم ُ
الخلقية والتعليمية.
لذلك تعتبر عروض مسرح الطفل من الرهانات االجتماعية التي تسعى إلى التوعية والتثقيف
والترفيه ،لترفع قدرة الطفل على التعامل مع ذاته ومع محيطه وليكون "جزء من عملية تربوية تهدف
إلى تحريض خيال الطفل و تنمية مواهبه" (إلياس )5795 ،ووسيلة تنشئة ترتقي بفكره و تطور ذاته
230
مسرح الطفل ورهانات التنشئة االجتماعية والثقافية من خالل مسرحية "سليمة واللقلق"
وتساهم في بناء شخصية مبدعة خالقة ال تتابع الجديد فقط بل تؤثر فيه و تخلق لنفسها حظوة في
عالم اإلبداع ،ألنه "ليس علينا أن نجعل البشر أذكياء فهم يخلقون كذلك و كل ما علينا أن نفعله هو
التوقف عن ممارسة ما يجعلهم أغبياء" (جون )2051 ،وما يحد من نحت كيانهم على مستوى
جوانبهم الشعورية و القيمية و التربوية.
فالمسرح يسعى إلى تقوية العالقات االجتماعية بين األفراد من خالل خلق سجل فني ابداعي
يتماشى مع متطلبات التجربة االنسانية في مجتمعنا الحالي ،لذلك يعمل على تعميق الفعل
االندماجي والتطوري داخل المجتمع وفق متتاليات سلوكية تعمق الفعل االنساني وتجدد تفاعله
باعتبار أن المسرح بطبعه متجدد في أهدافه وغاياته ووسائله ،فهو يعطي الفرصة للمتلقي أو الممثل
لخوض تجارب اجتماعية ومعايشة مواقف حياتية والتعامل معها بحكمة واستقاللية "من خالل
العروض و ما تتخللها من أفكار ومواضيع اجتماعية زاخرة بالمعنى والحكم والقيم االجتماعية التي
يسعى إلى ترسيخها في أذهان المشاهدين" (مغلي )2002 ،فيعمل على إكساب المشاهد الصغير
صفات اخالقية وسلوكية ترسخ قيم التعاون واالنفتاح الفني والثقافي واالجتماعي على اآلخر ليعتبر
"وسيلة جديدة إليصال تجارب الحياة و خبراتها بأسلوب مسرحي مرح" (قشوة.)2001 ،
-2-6مسرح الطفل والتنشئة االجتماعية والثقافية
" ان المجتمع يهدف الى احداث تأثير بل تشكيل ،لسلوك أعضائه الصغار ومشاعرهم واتجاهاتهم ،
فيطبع فيهم ما يراه الزما الستمرار بقائه ،وما هذا إال عملية التنشئة االجتماعية" (فهد)5775 ،حيث
تسعى الثقافة الفنية الحديثة ،إلى مراعاة متطلبات المجتمع و تطوره و ربط الحاضر بالماضي حتى
يتفاعل الفني مع الثقافي واالجتماعي وصوال إلى التنشئة االجتماعية كجزء من الحياة الذاتية
واالجتماعية وكفعل ديناميكي متحول يربط بين تغيرات الواقع والفعل االبداعي ضمن رهان جمالي
يعكس منحى احتفاليا بالواقع وبالحياة داخل المجتمع وداخل جذور الفرد بمعاييره ومرجعياته فتجتمع
الظاهرة عناصره وهواجسه المتباعدة في عالقات تخلق وحدة منتظمة متجددة ،تجمع بين
اإلستيتيقية وديناميكية الظاهرة الواقعية فالتعلمات والمعارف التي يكتسبها الفرد عند تلقي أو ممارسة
الفعل الفني هي في حد ذاتها مرتبطة بالتربية فـ"عندما نتحدث عن التنشئة االجتماعية ،فنحن
نتحدث عن تنشئة ،أو تربية االنسان ككائن حي" (فهد ،5775 ،صفحة . )52
231
إيمان الصامت عروس
وبالرجوع إلى مختلف األهداف واألبعاد التي تالمس شخصية الطفل سواء كانت جمالية أو تربوية أو
سيكولوجية أو اجتماعية ،تسقط الحواجز وتتضاءل المسافات بين الذاتي والموضوعي و اآلني
والماضوي في رؤية جامعة ضمن مقاربة تربوية تعليمية يكون فيها المسرح عالمة تربوية على
الهوية التي "تحيل في عموميتها على التنشئة االجتماعية والتدريب الفكري واألخالقي و خاصة عن
طريق التلقين المنظم والمستمر" (بدوي ،)5771 ،حيث يسعى الفعل والتفاعل الفني واالجتماعي
إلى تشكيل مالمح الطفل وذاتيته الفردية والجماعية في خطاب يجمع بين الشمولي والتفصيلي ،من
منطلق أن كل ما يعيشه الطفل في جل أطوار طفولته و مراهقته هو نتاج للتنشئة االجتماعية
لتأسيس مبدأ قبول الذات داخل مجتمعه عبر تعزيز قوام االنتماء و فلسفة الجماعة وفق معادل
رمزي لمختلف مظاهر التعاون االجتماعي والتبادل الثقافي بين الماضي والحاضر والمستقبل.
فالمسرح كممارسة وكفرجة هو رهان أساسي يرتد وميضه إلى تخوم التنشئة في بعديها الثقافي
واالجتماعي كلمحة عن الحياة الذاتية و كفعل ديناميكي متحول ،يخضع لقاعدة االختالف بين العالم
الخارجي والعالم الداخلي" ،فالمخرجات النهائية لهذه العملية هو ذلك الراشد الذي امتلك خبرات
واسعة في مجال المعرفة والقيم والمعايير واالتجاهات ،المدرك لمسؤوليته االجتماعية وقيم مجتمعه
والملتزم بهما" (فهد ،5775 ،صفحة )52ليكتسب بذلك رهانا جماليا وفنيا يعكس منحى احتفاليا
بالحياة داخل المجتمع وداخل جذور الفرد بمعاييره ومرجعياته ،فالمسرح تتداخل فيه إيقاعات الفكر
والفعل في عالقات فريدة تذيب التنافر وتخلق الوحدة ليس من خالل الظاهرة االستيتيقية وحدها بل
من خالل المسرح كممارسة وكفرجة ديناميكية وكظاهرة اجتماعية سيكولوجية.
فالتنشئة االجتماعية هي "عملية نمو يتحول من خاللها الطفل من كائن بيولوجي يعتمد على غيره،
متمركز حول ذاته ،ال يهدف في حياته اال اشباع حاجاته الفيزيولوجية إلى فرد راشد اجتماعيا "
(فهد .)5775 ،وبالرجوع إلى البعد التربوي للمسرح ،يحلو للتنشئة االجتماعية الغوص في أغوار
النفس والنفاذ إل ى الجهاز النفسي للطفل بكل تجلياته كمشروع ائتالفي يرافق مسار حياته باعتبار أن
عملية تنشئة وإعداد الطفل نفسيا وفكريا واجتماعيا ال تتوقف عند مرحلة معينة بل إن الطفل في
حاجة إلى التنشئة االجتماعية المتواصلة تبعا لتغير مراحل نموه ولتطور شخصيته وكيانه النفسي
232
مسرح الطفل ورهانات التنشئة االجتماعية والثقافية من خالل مسرحية "سليمة واللقلق"
واالجتماعي .هذه الحاجة هي محرك الوعي الجمالي في الواقع االجتماعي الذي يشكل الطاقة
الدافعة لتناغم ملكات الطفل حسا وتصو ار.
فالمسرح يسعى لتزكية الخيال والذاكرة في منظومة التعلم االجتماعي عند الطفل باعتبار أن ما
يكتسبه وما يخزنه الطفل ما هو إال تمثيل رمزي لنماذج األفعال واألقوال ،وما يتعلمه يختزن في
الذاكرة لكي يستخدم كمرشد أو موجه في السلوك المستقبلي ،فتعامل الطفل مع العمل الفني عموما
يكتسب نوعا من المداعبة بما هي " ذلك السلوك الحركي الذي يقترب به الطفل من االشياء ومن ثم
من العالم الخارجي ،ليأنس إليها ويفهمها وينفتح عليها ثم ينفتح على ذاته من خاللها" (ابراهيم،
،2002صفحة )12فالطفل يتسم بالدافعية التي تحفزه على التعلم المستديم من المجتمع ومن الفن
وبذل الجهد في االكتشاف بقصدية التعلم التي تستكنه حركة الواقع الدائمة و اختالجات الفرد النفسية
والسلوكية ليسهم الطفل في تنشئة نفسه عبر اندماجه داخل منظومة الفعل والتلقي المسرحي .حيث
يحيلنا العرض المسرحي الى نوع من الثقافة التكوينية التي تنقل المعرفة بين ثنايا المتعة الفرجوية .
تعد التنشئة الثقافية واالجتماعية لألطفال من أهم األساسيات الفعالة في بناء مجتمع حضاري
متطور على جميع المجاالت والنواحي االجتماعية واألخالقية والفكرية .وتلعب الثقافة دو ار متجذ ار
في تكوين شخصية الطفل لتجمع في خضمها عناصر متباعدة في عالقات فريدة ومتجددة تمنح
نوعا من اإلستقاللية ،فالثقافة " هي التي تمكن الفرد المثقف من أن يتأقلم ويستوعب ويفهم ويدمج
كل ألوان المعرفة في ثقافته الخاصة" (حاجي ،تاريخ الفكر البيداغوجي )2000 ،فثقافة الطفل هي
ثقافة مكتسبة من الواقع ومن المجتمع و"هي كل ما يتلقاه من بيئته فهي تبدأ قبل والدته ألنها وثيقة
الصلة بثقافة الوالدين وثقافة المكان والزمان اللذين يستقبالنه" (حاجي ،2000 ،صفحة )19
لتحضر كتدفقات انفعالية تجسد وتشكل شخصيته الفردية واالجتماعية ومدى حضوره وتفاعله مع
المجتمع باعتباره مدرسة حياتية تحقق له التعايش الناجح والتكيف مع حياته العملية والشخصية،
وتساهم في اكسابه وامتالكه لمهارات حياتيه تجعله يتواصل مع اآلخرين ويتفاعل معهم .فالطفل "ال
يمكن أن تتوقف عملية تنشئته و إعداده و صقله وتأهيله عند مرحلة معينة بل هو في حاجة إلى
التنشئة االجتماعية المتواصلة المستمرة و المتصلة تبعا لتغير مراحل النمو التي يمر بها و تبعا
لتغير الظروف االجتماعية واالقتصادية والسياسية التي يعيش في وسطها " (قاموس.)5712 ،
233
إيمان الصامت عروس
234
مسرح الطفل ورهانات التنشئة االجتماعية والثقافية من خالل مسرحية "سليمة واللقلق"
235
إيمان الصامت عروس
236
مسرح الطفل ورهانات التنشئة االجتماعية والثقافية من خالل مسرحية "سليمة واللقلق"
اليومية ودورها في توطيد العالقات االنسانية واألسرية والقيم االخالقية وفهم الذات والتفاعل مع
اآلخر ،لدفع األطفال والناشئة إلى التفكير في االندماج مع الحياة والواقع وفهم العادات والتقاليد التي
نشأنا عليها ،خاصة وأن مثل هذه العالقات يتم بناؤها اجتماعيا أو ثقافيا ويتم تنفيذها بواسطة
عمليات رمزية وداللية.
-2-3-6مسرحة العادات والتقاليد بين التنشئة الثقافية والتنشئة االجتماعية:
إن الهدف األساسي من مسرحية "سليمة واللقلق" ليس تركيب نسخة مصغرة لعادات هذا العالم
الخارجي على خشبة المسرح ،ولكن أن نجد الحافز الذي يدفع بالجمهور لخلق سلسلة من الصور
التخيلية ،المرتبطة مع واقعه وموروثه الثقافي واالجتماعي وتقديمها ضمن رؤية تتجاوز المفردات
المسرحية ذاتها إلى بناء متعة بصرية ذهنية يؤلف ضمنها المشاهد صوره وأفكاره وامتدادات عالمه
الخيالي الذي يعد بمثابة المحرك الديناميكي للتطور الحاصل في الحدث وأفعال الشخصيات لتقديم
وسط اجتماعي تفاعلي يتفاعل فيه المشاهد مع االخر من خالل توظيف الخيال بقوى خفية
وعناصر فانتازية مستمدة من الخرافات والحكايات الشعبية والعادات والتقاليد اليومية وهنا "ال يقتصر
دور التنشئة االجتماعية على نقل الموروث الثقافي ونقده ..وإنما يمتد الى مساعدة الفرد على
تمحيص هذه المتغيرات أو البدائل الثقافية ونقدها وبيان ايجابيتها وسلبياتها ،ومساعته على فهمها
والتكيف معها" (فهد ،5775 ،صفحة .)34
فالحكايات الشعبية والخرافية والخياالت واألحداث والشخصيات التاريخية والوقائع اليومية تعتبر مادة
خصبة ينهل منها مسرح الطفل .هذا الثراء يشمل مختلف العناصر المسرحية ،من لغة وأحداث
وديكور وموسيقى وشخصيات ،حيث يسمح المسرح بشخصنة أو أنسنة كائنات وظواهر حياتية
وطبيعية وخيالية تدعيماً للجانب الجمالي في المسرحية ،في تفاعله مع الجانب الفكري ،ليحول هذه
العناصر إلى خطاب داخل عالم خيالي يحث المتلقي على الغوص عميقا في اكتشاف وقراءة سعة
التخيل فيما يحيط به من موجودات طبيعية وموروث فولكلوري وعادات حياتية واجتماعية بكل ما
تحمله من دالالت مكتومة بوهجها البصري الدرامي.
ترتكز المقاربة الفنية لمسرحية "سليمة واللقلق" على تضمين الصورة الركحية معاني التفاعل
االجتماعي والتنوع الثقافي ،بما هي مراوحة بين الشكل الظاهر والمعنى الخفي وما تتضمنه من
237
إيمان الصامت عروس
أحداث ورموز ومعاني مستمدة من العادات والتقاليد اليومية محملة في النص وفي األغاني وفي
الحركة البصرية للفضاء والشخصيات ،ليساعد ذلك على دفع طاقة إيجابية لدى المتلقي لدعم
الشخصيات المحبة للتفاعل االجتماعي بالرجوع إلى مشاركة العادات والتقاليد وإعادة استثمارها
وإحيائها فوق الركح باعتبار أن "التنشئة االجتماعية تتجسد في تمثل الفرد ثقافة مجتمعه ،مما يساعد
في نقل الفكر الثقافي من جيل إلى جيل ،وبالتالي تخليد الحضارة أو سرمديتها" .
فالفن المسرحي هو نظام و تناسق فني وفكري قائم على التناسب والتفاعل مع معطيات الواقع الذي
ّ
نعيش فيه ليعيد العمل المسرحي بنائها وفق رؤية فنية وجمالية لها مدلوالتها الفكرية وقيمها اإلبداعية
في إطار كتابة ركحية تسعى للتوليد والتجسيد والخلق واإلبداع لتعرض العمل ضمن سياق بصري
يتكامل مع مقومات النص والرؤية االخراجية وما يمكن أن تعكسه تفاعالتها من وعي وإحساس
بركائز وجماليات العرض المسرحي المفتوح على التأويل واالجتهاد الالمحدود من منطلقات الموروث
البصري والشفوي في تقاطعه مع ثقافة ومعطيات فنون العصر وذلك بالرجوع إلى "دور التنشئة
االجتماعية في االخذ بيد الفرد وإرشاده وتوجيهه في مواجهة المتغيرات والبدائل الثقافية".
تحملنا فكرة مسرحية "سليمة واللقلق" نحو توجه فولكلوري شعري يستثمر طرق التعايش مع الطبيعة
الفالحية وما يرافقها من عادات اجتماعية وتقاليد ثقافية ،باعتماد فاعلية الخيال وقدرته على تحويل
الموروث المادي للواقع االجتماعي والحياتي إلى شخصيات درامية مليئة بالعبرة والمغامرة والفرجة،
ليكون النص نتاجاً لرؤية خيالة تنبثق من الواقع المعيش الذي نعي به ونحس بوجوده ولكن ال
نستطيع التحاور معه إال ضمن مثل هذه المقاربات الفنية التي تحيلنا إلى الواقعية الخيالية أو
الواقعية العجائبية كتوجه فنى مرجعي وكطريقة لمساءلة المجتمع والطبيعة والواقع والبيئة التي
نعيش فيها عموما ،حيث "تلعب عوامل البيئة دو ار هاما في نمو الفرد وتشكيل شخصيته وتحديد
أنماط سلوكه" (فهد ،5775 ،صفحة )42سواء كانت بيئة أسرية أو مدرسية أو اجتماعية أو
طبيعية ،خاصة وأن " للبيئة الطبيعية دو ار مهما في نمو االنسان وتشكيل شخصيته ..وتشكيل جانب
من خلقه وطباعه .
فالرؤية االخراجية لهذا العمل هي باألساس معـالجة مسرحية لتداخـل العالم الطبيعي بالعالم
االنساني ،العالم الفردي بالعالم الجماعي ،العالم الواقعي بالعالم الخيالي ،هي معالجة قائمة على
238
مسرح الطفل ورهانات التنشئة االجتماعية والثقافية من خالل مسرحية "سليمة واللقلق"
التخيل ونشاط المسرحة في إطار ثنائية الخيالي والواقعي ،من خالل تسليط
ّ الجمع بين نشاط
الضوء على الرؤى الخيالية والفانتازية التي تعطي مثل هذه األعمال طابعا فريدا من الغموض
والسحر الخاص ،عبر تنافذ قصص التراث والشخصيات الرمزية وتقريبها كموضوعات عاملة على
كشف بنية الواقع اآلني العميقة بكل ما فيها من ارتباطات وعالقات مادية وحسية ،ليحضر الخيالي
بما فيه من شخصيات فانتازية مستوحاة من القصص العالمية أو المحلية لألطفال ،والواقعي من
خالل نقد الواقع االجتماعي والفكري والثقافي الذي يؤثر على فكر وحس طفل اليوم .
فهذا العمل يسعى إلى بناء صورة بصرية متوازنة من خالل البعد الدرامي في تفاعله مع الجانب
التشكيلي والجمالي الذي تكتسبه مكونات العرض باعتبارها تساهم و بقوة في خلق التعبيرية البصرية
والمتعة الحسية لدى المتلقي وهو بالضبط ما نحتاجه في مسرح الطفل الذي يبحث عن اإلثارة
البصرية بقدر ما يسعى إلى شد انتباه الطفل .هذه المتعة البصرية هي المساهم األول في إبراز
خصوصية مسرح الطفل وذلك لما يحتويه من عناصر تشكيلية قائمة عن طريق ارتكازه على جملة
من األشكال واأللوان المنسجمة فيما بينها والتي تساهم في بناء صورة بسيطة ومثيرة تنمي المعرفة
وتساهم في التنشئة وفي "تعويد الطفل على عادات وتقاليد مجتمعه" (العناني)5777 ،
الجيل والمجتمع .وترتبط هذه النظريات بسيكولوجية التحليل النفسي وأهميته في بناء شخصية الفرد،
كذلك بأولويات التعلم االجتماعي التي يكتسب من خاللها الفرد اساليب المجتمع وثقافته التي تساعده
على بناء ذاته والمشا ركة في الحياة االجتماعية ،كما ترتبط أيضا بأهمية الدور االجتماعي والمكانة
التي يحتلها ومدى ارتباطها بالعالقات والمواقف تجاه اآلخر ،إضافة إلى مختلف طرق التفاعل
الرمزي مع مكونات الواقع خاصة بالرجوع الى قدرة الفرد على التواصل من خالل الرموز لنختم بفكرة
التعاهد االجتماعي القائم أساسا على التفاعل والتبادل االيجابي بين األفراد .وسنحاول من خالل هذا
البحث أن نتبين مختلف مظاهر هذه النظريات داخل مضمون العرض المسرحي "سليمة واللقلق".
240
مسرح الطفل ورهانات التنشئة االجتماعية والثقافية من خالل مسرحية "سليمة واللقلق"
ترتبط نظرية التحليل النفسي في التنشئة االجتماعية بالنمو النفسي لشخصية الطفل باعتبارها عملية
دينامية تشمل مختلف الصراعات ،بين الرغبات الذاتية أو الدوافع الغريزية التي ترتبط في مرحلة
أولى بالهو الطفولية في حالتها الفطرية وفي انفصالها عن المجتمع والمحيط الذي تنتمي إليه ،وبين
الحاجات الضرورية لألنا الواعية في مرحلة ثانية ،بانتمائها وظروفها وواجباتها التي تؤطر رغباتها
بحسب المقبول والمرفوض ،وبين متطلبات المجتمع بما هو األنا األعلى كمرحلة ثالثة تمثل القيم
االخالقية والمعايير االجتماعية التي تصبح في هذه المرحلة جزءا من الذات االنسانية .هذا التدرج
بي ن الهو واألنا واألنا األعلى هو ما لمسناه في تطور مسار الشخصية البطلة -سليمة -في
المسرحية ،بين الهو الطفولية التي تنزع في أول العرض نحو رغباتها الطفولية وميلها للعب مع
صديقاتها متناسية مسؤولياتها ،وبين الحاجة الضرورية والواجب األسري والعاطفي الذي حفز فيها
ا ألنا الواعية لالهتمام بأخيها الصغير ،وبين متطلبات الضرورة االجتماعية واالخالقية التي تحفز
فيها األنا األعلى وتدفعها لتحمل المسؤولية والبحث عن أخيها وإرجاعه إلى حضن العائلة.
لذلك يعتبر المسرح فاعال سيكولوجيا ومؤث ار نفسيا في شخصية الطفل المتلقي ،فهو من أبرز
الوسائل الفنية التي يحقق من خاللها التواصل مع ذاته واآلخر .فالمسرح يساعد الطفل على تجاوز
العديد من السلوكات والغرائز األنانية والسلبية التي تعيق تفاعالته االجتماعية ،ليضفي عليه طابعا
من االستقرار النفسي و الذهني ،الذي يساعده على اإلشباع الحسي والفني و "ينمي في األطفال
االعتماد على النفس وتحمل المسؤولية تجاه نفسه و اآلخرون وتقوية العالقات االجتماعية"
(العناني ،5777 ،صفحة .)232
242
مسرح الطفل ورهانات التنشئة االجتماعية والثقافية من خالل مسرحية "سليمة واللقلق"
أما مرحلة االحتفاظ فترتبط أساسا بالتمثل واالستحضار الذهني للمواقف واألحداث و"تمثلها في ذاكرة
المتعلم المالحظ واالحتفاظ بها هناك في شكل رموز أو عبرة أو فائدة وقد كانت مسرحية "سليمة
واللقلق" مليئة بالعبر المتعلقة أساسا بالمعرفة المكتسبة من العادات والتقاليد االجتماعية والبيئية التي
تشكل أساس العالقات االنسانية لنتعلم معها تقنيات تجميع الزيتون بالطريقة التقليدية وطريقة صناعة
الزبدة باستعمال الشكوة التقليدية وكيفية استخراج الدقيق من سنابل القمح باعتماد الرحى اليدوية
ضمن صياغة درامية تجمع واقعيا ورمزيا بين اللعب والصورة والحركة والعبرة ،ليكون االحتفاظ هنا
مهاريا ومعرفيا وسلوكيا.
لننتقل إلى مرحلة إعادة االنتاج "وفيها يوجه الترميز اللفظي والبصري في الذاكرة ،األداء الحقيقي
للسلوكات المكتسبة حديثا" (فهد ،5775 ،صفحة )12وذلك من خالل استثمار المعارف والمهارات
المكتسبة في مواجهة متطلبات الحياة ،كاستثمار القيم الرمزية واالنسانية والتراثية والغذائية في
مواجهة قساوة البرد المجسدة في شخصية سيدي البارد الذي سرق أخ سليمة ليعيد العرض انتاج هذه
القيم الرمزية والفوائد والمهارات المكتسبة سواء من شخصية الزيتونة أو القمحة أو الحليب وتحويلها
إلى أداة مواجهة ذكية باعتبار القيمة الغذائية والصحية لهذه العناصر التي تساعد على تحصيل القوة
البدنية والذهنية لمواجهة برودة جبال الثلج ،فإعادة االنتاج هنا هي قيم مكتسبة تستفيد منها
الشخصيات ليتعلم الطفل ايحائيا كيفية استثمارها في واقعه المعيشي.
أما مرحلة الدافعية فترتبط أساسا بتثمين النتيجة ايجابيا وتحصيل العبرة والفائدة " وفي هذا األمر
تتشابه نظرية التعلم االجتماعي مع نظرية االشراط االجرائي ،فكليهما يعترف بأهمية التعزيز والعقاب
في تشكيل السلوك واستم ارريته" (فهد ،5775 ،صفحة )17وهي عوامل تؤثر على دافعية التعلم
والرغبة في االقبال على العبرة والمعرفة وتثمين عملية التعلم التي برزت في العرض في أكثر من
صورة ،فضياع االخ أو اختطافه هو النتيجة العقابية إلهمال البطلة لمسؤولياتها والتزاماتها العائلية،
خاصة وأن والدتها أكدت عليها عدم ترك أخيها بمفرده ،وهو جزء من التعلم .ومن جهة اخرى فإن
كل الشخصيات التي التقت بها سليمة اشترطت المساعدة أو باألحرى التعلم كشرط إجرائي مقابل
تقديم العون ،ليدعم هذا العرض العبرة والفائدة من خالل تثمين كل شخصية وكل دافع ،كما أن
243
إيمان الصامت عروس
نجاح سليمة في استرجاع أخيها هي المكافئة التي حصلت عليها وقد ثمنت ذلك بإعطاء هدية
كبديل هو تثمين لعمل المجموعة وللتفاعل االيجابي بينهم.
وبذلك فإن تزكية الذاكرة الذهنية والبصرية ضمن منظومة التعلم االجتماعي للطفل تعمل باألساس
على تخزين األفعال و األقوال حيث "أن ما يكتسبه الفرد المالحظ ما هو إال تمثيل رمزي لألفعال أو
لنماذج األفعال و ما يتعلمه اإلنسان يختزن في الذاكرة بشفرة معينة لكي يستخدم كمرشد أو موجه في
السلوك المستقبلي (فهد ،5775 ،صفحة . ")17فالفعل التحفيزي الذي برز في أجزاء مختلفة من
العرض اتسم بالدافعية التي تدفع الطفل للتعلم المستديم من المجتمع ولتنشئة نفسه من خالل
التجارب الحياتية البسيطة واليومية.
244
مسرح الطفل ورهانات التنشئة االجتماعية والثقافية من خالل مسرحية "سليمة واللقلق"
الفردية" (المرعي ،5729 ،صفحة ،)13وهو ما يساهم في تثمين دور الفرد في تحقيق البناء
االجتماعي والحفاظ على القيم والمعايير االجتماعية "وهي عبارة عن توقعات مشتركة يتقاسمها أفراد
النظام االجتما عي الواحد وتحدد أنماط السلوك المناسب أو المقبول بالنسبة لموقف اجتماعي معين
يحين دوره من خالل مركزه االجتماعي الذي
(فهد ،5775 ،صفحة )91وبالتالي فإن كل فرد ّ
يتناسب مع أدائه ومهامه ودوره وسط المجموعة.
إن عملية اكتساب األدوار االجتماعية ليست مسألة معرفية فقط بل هي ارتباط عاطفي يوفر عوامل
التعلم االجتماعي ،ويتم اكتساب األدوار االجتماعية من خالل ثالثة طرق هي :التعاطف مع األفراد،
والبحث في دوافع وبواعث التعلم واإلحساس باألمن والطمأنينة (الشاوي ،صفحة )13وهي طرق
تمظهرت في عرض "سليمة واللقلق" بمتمثالت مختلفة ثمنت الدور االجتماعي ومكانته داخل
المجموعة ،ليتجلى التعاطف في تفاعله مع الدور االجتماعي من خالل تعاطف سليمة مع أخيها
الصغير في مرحلة أولى ،حيث تأثرت منذ بداية العرض باختفاء أخيها وأبدت تعاطفها وتفاعلها
معه ،كما تعاطفت الشخصيات المساعدة وحتى الشخصيات الساردة للحدث مع الفتاة وحاولت
مساعدتها بطرق مباشرة وغير مباشرة ،هذا إضافة إلى تعاطف الجمهور معها من خالل مسار
الحبكة الدرامية وخصوصية األداء وتأثيره العاطفي على المتلقي .أما عن دوافع وبواعث الفعل فقد
ارتبطت أساسا بالروابط االسرية والعائلية بما هي دوافع أساسية الكتساب دور األخت الحامية
المسئولة والشجاعة .في حين سعت الشخصيات الصديقة والمساندة التي وفرتها عناصر الطبيعة،
إلى توفير االحساس باألمان والطمأنينة كداعم نفسي وعاطفي وجسدي ساعد الفتاة سليمة على
تخطي رحلة البحث بنجاح.
وهنا ال يمكن التحدث عن الدور االجتماعي في العمل المسرحي دون ربطه بالدور المسرحي ذاته
باعتبار ان الشخصية في المسرح هي شخصية اجتماعية باألساس وأن الممثل يشخص الدور
باعتباره صفة اجتماعية وذاتية ،فمن خالل الدور تتمكن الشخصية المسرحية من التحكم في أدواتها
االبداعية والسيطرة األدائية على التجسيد العضوي للشخصية .فالدور المسرحي كالدور االجتماعي
يحدده سلوك الشخصية في تفاعلها مع المواقف الدرامية حسب ما تفرضه شبكة العالقات
االجتماعية والسلوكية والنفسية داخل العرض.
يعتمد الدور المسرحي على بالغة األداء التمثيلي في اكتشاف المسار الدرامي للشخصية وتحديد
دوافعها وعالقاتها ،كما يعتمد أيضا على قدرة الممثل على تحقيق التوازن والتناغم بين مختلف أبعاد
الشخصية السيكولوجية والفيزيولوجية وموقع الدور والمكانة االجتماعية في تحقيق بنية الحدث
الدرامي ،حيث يسعى الممثل إلى بناء الدور من خالل التفاعل الصادق بين الكيان الداخلي
للشخصية ومظهرها الخارجي اعتمادا على التعبير الجسدي والصوتي عبر مختلف مستوياتها
الشعورية التي تساعد على تشكيل المواقف الدرامية للعرض "فاألفعال الخارجية والتشيكالت الحركية
والمجموعات تبقى شكلية وجافة وغير ضرورية لنا على الخشبة إذا لم يتم تبريرها من الداخل
(ستتسالفسكي)5779 ،
فالدور يرتكز على طبيعة تصور أداء الممثل المسرحي لمعمارية بناء الشخصية في خصائصها
الفردية وعالقاتها الجماعية التي ترتبط أساسا باالنتماء الواقعي حيث يدعو ستانسالفسكي إلى "ان
نستخدم الرافعة داخل انفسنا لتنقلنا الى مجال الحياة المتخيلة ،ولنخلق ثمة ابتداعنا المشابه للواقع
(ستتسالفسكي ،5779 ،صفحة )219ليربط الدور المسرحي بالذات الفردية وانتمائها االجتماعي
من خالل التجربة الحياتية والمشاعر المعاشة في الواقع التي تمكن الممثل من أن يجسد الدور
بمصداقية تعتمد على نظرية الذاكرة االنفعالية (ستتسالفسكي ،5779 ،صفحة .)452
فالمسرح كفرجة أو كممارسة ليس مجرد وسيلة استمتاعية ترفيهية بقدر ما هو طريقة يستنبط منها
الطفل معاني أساسية في مختلف المواقف الحياتية التي تواجهه حيث يربط عاطفيا ورمزيا بين الدور
المسرحي والدور االجتماعي سواء لنفسه أو لعالقاته مع اآلخر ،إضافة إلى كونه وسيلة تعليمية
246
مسرح الطفل ورهانات التنشئة االجتماعية والثقافية من خالل مسرحية "سليمة واللقلق"
تكسبه مختلف المهارات العقلية واالجتماعية والفنية والحركية من خالل اللعب والتفاعل الجماعي،
حيث يبدأ الطفل في تكوين صداقات حميمة ،ويظهر مهارات في قبول التناوب على األدوار ويكون
أكثر قدرة على االلتزام بالنظام الذي يفرضه الدور داخل المجموعة فـ"عندما تقتربون في الفن من
صدق االطفال وايمانهم بهذا الصدق وهم يلعبون ،عندئذ سيكون في استطاعتكم ان تصبحوا من
كبار الفنانين (ستتسالفسكي ،5779 ،صفحة .)215
247
إيمان الصامت عروس
سلوكات أو كائنات في أوضاع متنوعة( ".بنكراد )5771 ،وقد تضمن النص في عرض سليمة
واللقلق دعوة لبناء نمط حكائي تتداخل فيه المكونات البصرية للطبيعة لتتحول إلى شخصيات فاعلة
تجسد االحداث و تبني أط ار فكرية تالمس عبق المكان و خرافاته ضمن توليفة تحتضن الطبيعة
كمجال تشارك اجتماعي لتبين رمزية خي ارتها و ثراء مخزونها البصري وقدرتها على تحقيق التعايش
"مجموعة من الصور الذهنية المجردة عند كل أفراد االجتماعي المتكامل ،لتتحول اللغة إلى
المجتمع" .هذا باإلضافة إلى توجه العرض نحو استرجاع المخزون الثقافي للهجة المحلية لسكان
الشمال الغربي التونسي من خالل اعتماد اللهجة العامية الموزونة سواء في النص أو في أغاني من
الذاكرة الشعبية الموظفة في العرض (نني نني جاك النوم -دز شكيوة دز) ،لتتخذ المفردات إيقاعا
طريفا يغازل أذن الطفل و يحدد أهمية المحكي كأحداث تتدافع لتصل خط النهاية وكشخصيات
تشحن الفضاء غناء ال يتوانى عن كشف و بناء النشاط الحركي واإليقاعي للعرض.
أما على المستوى البصري فقد تعامل العرض مع العناصر التراثية بوصفها رمو از لها داللتها في
يعبر عن هذه الداللة ليصبح توظيف التراث بمثابة تدوين
الوجدان الشعبي من أجل إيصال خطاب ّ
للذاكرة وخصوصية جمالية وحماية من االندثار وحفاظ كامل عليها .فأهمية التراث الثقافي وتأثيره
االجتماعي ال تكمن في تمظهره المادي والواقعي بحد ذاته وإنما في المعارف والمهارات الغنية التي
تنقل عبره من جيل إلى آخر ،وفي الوعي الجمالي بأهميتها وتأثيرها على الفرد من خالل " القدرة
على التذوق أو الشعور أو االنتباه الى القيمة الجمالية أو الكيفية الجمالية التي توجد في شيء ما"
(ابراهيم ،2002 ،صفحة .)53
إن قراءة واستلهام الموروث والعادات بما فيها من أشكال ومظاهر ،تحقق للعرض خصوصية تتفرد
بها في إطار البحث عن الوسائل التي تخصص شكال يستثمر الظواهر الجوهرية في الحياة اإلنسانية
مستبعدا ما هو شكلي أو سطحي مرك از على مقومات تفرزها موروثات وثقافة الحياة ،ضمن مقاربة
تدعونا إلى التفكير في خلق تصورات جديدة لبالغة الصورة ولجماليات الخطاب البصري الذي يقوي
أواصر التفاعل االجتماعي واالنساني في ضوء مستحدثات تكنولوجيا الصورة .ففي هذا العمل ال
يمكن التعامل مع منتجات الفنون البصرية على أنها مستنسخات من الواقع ،إنما "هي إبداع وخلق
بقدر ما يتوافر على عناصر التشابه والتماثل يتوافر على عناصر االختالف والتمايز (رواينية،
248
مسرح الطفل ورهانات التنشئة االجتماعية والثقافية من خالل مسرحية "سليمة واللقلق"
)2009هذا ما يعطي العمل الفني قدرته على تحقيق التفاعل الرمزي والتواصل الفكري والداللي
الذي يسهم بدوره في تحقيق التنشئة الثقافية واالجتماعية.
فسليمة واللقلق هو عمل مسرحي يسعى لتحويل الموروث اليومي والثقافي واألفكار واألحداث
والشخصيات والعالقات الى رموز تثري البناء الدرامي والجمالي للعرض كما تحفز المتلقي للتفاعل
والتأثر وأخذ العبرة االيجابية التي تبدأ من األفراد وسلوكهم كمدخل إيحائي لفهم النسق االجتماعي
وربطه بالنسق الرمزي الذي يتميز به االنسان ،وذلك من خالل تفاعل العناصر الرمزية المتجسدة
في العرض عبر اللغة ،والمعاني ،والصور الذهنية والواقعية وتحميلها معان وأفكار ومعلومات يمكن
نقلها واستثمارها معرفيا وثقافيا واجتماعيا ،باعتبار ان استعمال الرموز والعالمات هو في حد ذاته
جزء من عملية التواصل والتعايش الثقافي واالجتماعي.
249
إيمان الصامت عروس
اكتساب الدور االجتماعي وتثمين الفعل االيجابي"،انها العملية القائمة على التفاعل االجتماعي التي
يكتسب فيها الطفل اساليب السلوك والقيم المتعارف عليها ومعاييرها في جماعته ،بحيث يستطيع أن
يعيش فيها ويتعامل مع أعضائها بقدر مناسب من التناسق والنجاح (همشري ،صفحة . )22
وقد سعت مسرحية سليمة واللقلق إلى تفعيل حضور التعاهد االجتماعي من خالل مقاربات اخالقية
ترتبط أساسا بتعاهد سليمة مع والديها برعاية أخيها وفيه تعليم الطفل تحمل المسؤولية العائلية
وااللتزام بها ،كذلك من خالل مقاربات مهارية وحرفية تجسدت في تعاهد سليمة مع عناصر الطبيعة
على تقديم المساعدة المتبادلة التي تمكنها من ناحية من اكتساب المعرفة وتعلم العادات االجتماعية
والتقاليد اليومية األساسية التي بدأت في االندثار تدريجيا ،ومن ناحية أخرى هي تساعد هذه
الشخصيات الرمزية التي تعتمد بطبعها على المساعدة البشرية ،سواء من خالل تخفيف الحمل عن
أغصان شجرة الزيتون ،أو مساعدة السيدة حليبة على دحرجة الشكوة ورجها الستخراج القشدة ،أو
تسهيل عملية تدوير الرحى اليدوية لطحن حبات القمح الجافة ،وهي كلها معارف مثمنة بصفة
مباشرة كعادات وتقاليد حياتية نابعة من الطبيعة ،وبصفة رمزية إيحائية كأفعال انسانية قائمة على
تبادل المهارات وتقديم المساعدة وتثمين ايجابية السلوك االنساني والنسق التآزري بين األفراد.
-12استنتاجات البحث
يكتسب مسرح الطفل من خالل سماته الجمالية ورهاناته االجتماعية مكانة هامة في تنمية شخصية
الطفل وتنشئتها ،ورفع قدرته على التعامل مع ذاته ومع محيطه ،ليفتح للطفل أفق التعايش
واالصغاء والتمعن والتركيز واالنتباه والتحاور بما يكتسبه من ألفاظ ومفردات كالمية ووصفية
وحركية وبصرية يوظفها للتعبير عن ذاته لتثري خياله الجمالي وتؤسس واقعه وتفاعله االجتماعي.
فالمسرح كممارسة وكفرجة هو رهان أساسي يسعى إلى تقوية العالقات االجتماعية بين األفراد
ودعم تنشئة الطفل في بعديها الثقافي واالجتماعي كلمحة عن الحياة الذاتية والجماعية وكفعل
ديناميكي متحول يستند إلى البعد التربوي والسيكولوجي واالخالقي والعالئقي كمسارات ائتالفية ترافق
تشكل شخصية الفرد.
250
مسرح الطفل ورهانات التنشئة االجتماعية والثقافية من خالل مسرحية "سليمة واللقلق"
وقد وجدنا في مسرحية "سليمة واللقلق" طرحا يالمس مختلف هذه الخصائص سواء من حيث
التفاعل والعالقات االجتماعية أو ضروريات المسار الحياتي ،أو االنتماء البيئي والمحيطي ،ليطرح
من القيم التربوية واألخالقية والتعليمية التي تساهم في تنمية الطفل فكريا مجموعة العمل
واجتماعيا وتراثيا على نحو نابض بالحياة من خالل تثمين الثقافات والعادات السلوكية واالنسانية
والتركيز على تأثيرها في تمتين الحياة االجتماعية وتوطيدها ،إضافة إلى دفع الطفل إلدراك قيمة
األشكال الثقافية واالجتماعية في الحياة اليومية ودورها في توطيد العالقات االنسانية واألسرية والقيم
االخالقية وفهم الذات والتفاعل مع اآلخر .وقد حاولنا تأكيد هذه العالقات بالرجوع إلى نظريات
التنشئة االجتماعية سواء عى مستوى التعلم االجتماعي وتفاعالته المعرفية والثقافية والمهارية ،أو
في مقاربتها السيكولوجية بالرجوع إلى التحليل النفسي ودوره في التنشئة االجتماعية وتأثيره على نمو
الشخصية وقيمها االخالقية والسلوكية ،أو من خالل تثمين المكانة االجتماعية داخل المجموعة
والتركيز على نظرية الدور االجتماعي بما و ارتباط عاطفي يوفر عوامل التعلم االجتماعي ومقاربته
مع الدور المسرحي باعتبار ان الشخصية في المسرح هي شخصية اجتماعية باألساس .
كما ارتبطت التنشئة االجتماعية والثقافية بنظرية التفاعل الرمزي سواء على المستوى الفكري التأويلي
أو االجتماعي التواصلي أو التثقيفي المعرفي ،لدفع األطفال والناشئة إلى التفكير في االندماج مع
الحياة والواقع وفهم العادات والتقاليد التي نشأنا عليها ،خاصة وأن مثل هذه العالقات يتم بناؤها
اجتماعيا أو ثقافيا ويتم تنفيذها بواسطة عمليات رمزية وداللية .لنختم بأهمية التعاهد االجتماعي في
تثمين القيمة االنسانية وارتكازه أساسا على النشاط والتعاون المتبادل كركيزة أساسية لبناء العالقات
االجتماعية.
252