Professional Documents
Culture Documents
القيم
القيم
ولم تكن حياة الصعاليك مستقرة بل كانت قائمة على التنقل والحركة بصفة
ً ً
عامة ،وهذا ما جعل تأثير البيئة فيهم أمرا باديا؛ فالجفاف والجدب وصعوبة الحياة
َ َ ّ
فرضت عليهم تقديس القوة التي ولدتها الظروف الطبيعية واالجتماعية التي نشأوا فيها.
أثر واضح عليهم« ،فقد نشأ في صحراء قاحلة، والشنفرى من الذين كانت للبيئة ٌ
ً َ
اعتمد أهلها في حياتهم على الغزو لألماكن الخصبة حيث عانت الجزيرة العربية فقرا
عا نظ ًرا النعدام نزول املطر بانتظامُ ،ث َّم لهبوب ّ ً
الرياح الشديدة التي تفرض عليهم مد ِّق
حياة َ ً ّ ّ
أكثر رفاهية من االنتقال باستمرار حتى إن البدوي ارتبطت حياته بالتنقل بحثا عن ٍ
األماكن السالفة»( )4وفي هذا العالم حيث فقدان األمن حالة طبيعية ،والغزو وسيلة
ً ً للعيش ،والثأر واجب ّ
مقدس فرض على الشاعر أن يكون محاربا ،ومعجبا بالقوة مهما
كانت نتائجها.
ًّ
وعلى هذا فقد فرضت البيئة على الشاعر أن يكون مستعدا للغزو والنهب واإلغارة
ََ
الجلد الذي ُيعينه فيما على املناطق الخصبة من أجل تأمين ضروريات الحياة ،واكتساب
بعد على تحمل قسوة الحياة وغضب الطبيعة ،وكان من نتائج هذه البيئة القاسية أنّ
ً ً ًّ ً َّ
فإن البيئة القاسية وشجاعا ،ومثلما يرى الدارسون ّ خل َف ْت من الشاعر رجال شديدا قويا
تربي في نفوس أبنائها صفات الشجاعة والجرأة والكبرياء»( )5وهو ما نشأ عليه الشاعر، « ّ
ُ َ
وع ِّرف به.
ُ
وبجانب ما ذكر من تأثير العامل الجغرافي في تكوين شخصية الشاعر ،هناك العامل
االجتماعي الذي أسهم بدوره في تغيير نمط حياة الشاعر ،وإكسابه الصبغة الدموية التي
ُعرف بها ،وإذا نظرنا إلى حياة الشنفرى ملسنا له بعض األعذار فيما قام به ،فهو أوال عاش
ً
حياة العبيد يخدم قوما غير قومه ،وال ذنب له سوى أنه استبدل بأسير في صغره ،هذه
الحياة ألقت بظاللها على نفسية الشاعر فظل في قرارة نفسه يبحث عن خالص ملا هو
وثانيا قتل قومه لوالده وهو شيخ كبير وهو ما ّ ً ُ
حز فيه إلى أن أتيحت له فرصة التصعلك.
دل على هذا قوله)6(: في نفسه كثي ًرا ،وقد ّ
لم ُي َو َّس ِّد من ْ اع ْ ض َال شق و َساده*** على َج َنف قد َ ْ َ
ٍ أضعتم أبي إذ م َ ِّ ِّ ِّ
َ َّ َ ُ ْ ُ ْ ْ ُ َ َُ ُّ ّ َ ْ َ ْ َُ
لم أش َّه ِّد فإن تطعنوا الش ْيخ الذي لم تف ِّوتوا **م ِّنيته ِّ
وغبت إذ
خطب لم يذهب برشده ،بل يقابله برزانة وثبات ويتصرف فيه بذهن ٌ فشجاع من إذا عراه ٌ
حاضر وعقل غير مشتت»()10
ً
فالشجاعة إذا هي الجرأة واإلقدام على املواقف الصعبة بقلب ثابت ،وبصورة
ً
متزنة تنم عن تعقل وإدراك للنتائج .والشنفرى نشأ على الجرأة واإلقدام ،فكان شجاعا
أبيا ،وكثي ًرا ما ّ ً
تحدث عن ضروب الشجاعة التي أبداها في غزوه وحربه ضد بني سالمان
الذين استعبدوه وفرضوا عليه أن ينتحي سبيل الصعلكة ،ومن صور الشجاعة قوله
را بشجاعته ورفاقه في إحدى الغزوات)11(: ً
مفتخ
ُ َ
فشن عليهم ه َّزة السيف ٌ ّ
بالح َس ِّام امل َس َّي ُبوص ّم َم ف ُيهم ُ
ِّ
ثابت*** َ
ِّ ِّ
ً َ ًَ ُ َ َْ
اعة ث َّم خ َّي ُبوا وظل ُت ِّب ِّف ْت َي ٍان َم ِّعي َّأت ِّق ُيهم *** ِّب ِّه َّن قليال س
َّ َ
ص َر ْع َن ُاه وق ْر ٌم ُم َسل ُبس*** َكمي َ وفار ٌ َ َ ْ َ َّ
ِّ وقد خر منهم ر ِّاجالن ِّ
يتحدث الشاعر عن شجاعته ورفاقه في املعركة الدائرة بينهم ّ في هذه األبيات
وبين قبيلة بجيلة ،فبعد أن استولى الصعاليك على إبل كانت لبجيلة وساقوها اعترضت
ً
لهم خثعم –قبيلة زعيمها ابن حاجز -في نحو أربعين رجال ،فقرر الصعاليك أن يتفرقوا
فشن رفاقه هجومهم على أعدائهم بشجاعة منقطعة ثم يحملوا على القوم حملة واحدةّ ،
النظير وهم قلة يواجهون كثرة ،وقد كانت نتائج هذه املعركة لصالحهم أين سقط من
رجل قوي شديد البأس ،وكذلك سيد من سادة القوم ،وفي تركيزه على هذين الرجلين؛
الشجاع والسيد دليل على حرص الشاعر ورفاقه على مقارعة األقوياء الذين يتميزون
ّ بالشجاعة وشدة البأس ،وهذا إن ّ
دل على ش يء إنما يدل على إقدام الصعاليك
وشجاعتهم واقتحامهم املخاطر دون خوف أو تردد.
ً
ومن صور اإلقدام أيضا قوة العزم والشكيمة ،وهذا ما نلمسه في قول
الشاعر)12(:
املمكنة ،وهذا دليل على عفة الشاعر وعزة نفسه ،ألنه أراد أن يحقق ثأره وهو على كرم
الخلق الذي يكسبه االحترام والتقدير حتى من أعدائه.
وفي قوله)32( :
إن الشاعر كان يهدف من كرمه إلى إثبات ذاته ،واالنتصار على ظروف الحياة ّ
وفيا لها حتى بعد أنوظل ّ
القاهرة التي لم تنسيه مكارم األخالق التي نشأ وترعرع عليها ّ
حتى في أصعب الظروف وأحلكها، خرج عن قومه ،وهكذا نجد أنه كان ذا نفس كريمة ّ
ٍ
وهذا دليل على معدنه األصيل ،أما النزعة الدموية فلم تكن بدافع الكره أو البغض إنما
هو الثأر الذي كانت تقدسه العرب ككل وليس الشاعر فحسب.
الخاتمة:
أن الشنفرى كان يتصف بجملة من الفضائل والقيم، يتبين لنا من خالل ما سبق ّ ّ
يأتي في مقدمتها الشجاعة واإلقدام ،التي لم تكن تعني التهور والطيش ،بقدر ما كانت تعني
اإلقدام في مواضع اإلقدام واإلحجام متى دعت الضرورة لذلك ،باإلضافة إلى الصبر الذي
ً ّ ً َ
يتطلب َجلدا قويا وعزة نفس وإباء ،وهي جميع الصفات التي تحلى بها الشاعر طلبا للرفعة،
ً
وإلى تخليد اسمه ضمن عظماء التاريخ بالرغم من الطابع الدموي الذي ّميز سيرته ،وعموما
ّ ّ يمكننا القول ّ
بأن الشاعر اتصف ببعض مكارم األخالق التي حث اإلسالم فيما بعد على
التقيد بها ،ولوال األعراف والتقاليد الجائرة التي كانت تسير نظام القبيلة وتقوم على التمييز
الطبقي بين أفراد املجتمع ،ولوال الظلم الذي تعرض له الشاعر لكان أحد أعالم العرب في
التقيد بمكارم األخالق.
))1ابن رشيق القيرواني ،العمدة في محاسن الشعر ،وآدابه ،ونقده ،ج ،1تح :محمد محي الدين عبد
الحميد ،ط ،5دار الجيل للنشر والطباعة والتوزيع ،سوريا ،1981 ،ص.20 :
) (2محمود حسن أبو ناجي ،الشنفرى شاعر الصحراء األبي ،الطباعة الشعبية للجيش ،الجزائر،
،2007ص.06 :
) (3أبو الحسن املاوردي ،أدب الدنيا والدين ،شرح وتعليق :محمد كريم راجح ،ط ،4دار إقرأ ،بيروت،
لبنان ،1985 ،ص254:
) (4محمود أبو ناجي ،الشنفرى شاعر الصحراء األبي ،ص7 :
) (5املرجع نفسه ،الصفحة نفسها.
) )6الديوان ،ص45 :
) (7الديوان ،ص78 :
) (8محمود أبو ناجي ،الشنفرى شاعر الصحراء األبي ،ص9 :
) )9صالح مفقودة ،القيم األخالقية للعربي من خالل الشعر الجاهلي ،ع ،1مجلة العلوم اإلنسانية،
جامعة محمد خيضر ،بسكرة ،الجزائر ،ص191 :
) )10أحمد أمين ،كتاب األخالق ،ط ،9مكتبة النهضة املصرية ،مصر ،2003 ،ص193 :
الحسام :السيف ،املسيب :املتروك صمم بالسيف :مض ى إلى العظم وقطعهُ ، ) (11الديوان ،صّ ،28:
ُْ َ ُ ّ َ َّ َ َ
السيد ،امل َسل ُب :امللقى.
القرمّ :
الكم ُّي :الشجاع ،والالبس للسالحْ ،
خر :سقط ماتِ ، يقطع ما يشاء،
َْ
) (12الديوان ،ص ،30 :الظمأ :شدة العطش ،الخمص :الجوع
ّ ُ ّ
))13الديوان ،ص ،36 ،35 :أمش ي :كأنه يغزو على رجليه ،ألنكي :ألقتل ،واملعنى أمش ي على األرض على
الرغم مما يصيبه من تعب ابتغاء قتل قومي أو أن أقتل في سبيل ذلك.
ْ
اع ُه :مجتمعه ،األيم :ذكر الحية ،القانت :الذليل املتواضع، ضيقُ ،ج َم ُ ضنكّ :
ٍ ) (14الديوان ،ص،55 :
تعسفت :ركبت عن غير هداية ،الغماليل :الروابي. الحوش :بالد الجنّ ،
) (15الديوان ،ص59 :
عرف بشدة ُ
الهيق :الظليم (ذكر النعام) ي َ ) (16الديوان ،ص،61 :الخرق :ذو الوحشة من الخوفْ ،
ِ
َُ
نفوره وخوفه ،املكاء :ضرب من الطيور.
الشعرى :كوكب يطلع في فترة ّ ّ
الحر الشديد ،اللعاب :املقصود به ما ينتشر ) )17الديوان ،صِ ،72 ،71:
الك ّن :الستر،تتحرك وتضطربِ ، الحر كخيوط العنكبوت في الفضاء ،رمضاء :شدة الحر ،تتململّ : في ّ
ُّ َ ُ ُ
تتخرق فيها الرياح ،كظهر األتحمي :نوع من الثياب كالعباءة ،امل َر ْع َب ُل :امل َم ّزق ،الخ ْرق :األرض الواسعة ّ
ُ
الترس :يعني أنها مستوية ،قفر :خالية ،مقفرة ،العاملتان :رجاله ،ليس يعمل :ليس مما تعمل فيه
الركاب.
ّ ً ً
) )18الديوان ،ص ،48 :أم عامر :كنية الضبع ،سجيس الليالي :طولهاُ ،مبسالُ :م َس ِلما.
) (19الديوان ،ص.38 :
( )20صالح مفقودة ،القيم األخالقية للعربي من خالل الشعر الجاهلي ،ص.193:
ُ ُ
حرم :الداخل في الحرم، الديوان ،ص ،37 :القتيل هو حزام بن َ جابر قاتل والد الشنفرى ،امل ِ
)(21
ّ
املهدي هو الذي يقدم الهدي في الحجُ ،بملبد :إشارة إلى عادة العرب في العصر الجاهلي بدهن ّ ُ
منى ،سالمان بن ُمفرج: الصمغ للتلبد ،الجمار :الحص ى التي يرميها الحاج في ً شعورهم بش يء من ّ
ِ
أزلتّ : ّ
قدمت ،الغليل :حرارة العطش ،املعدى :موضع القتال. بطن من األزد،
ّ
) )22الديوان ،ص ،57 :عمرو :هو عمرو بن كالب قتلته قبيلة بجيلة مع رفيقه املسيب بن علس،
َُ
ويزيد وسعد :قتلهما الشنفرى ثأرا ملقتل عمرو واملسيب ،نف ِّري :نقطع ونشق ،الدكادك :األرض التي
فيها ِغلظة.
( )23عبد هللا العمري ،مكارم األخالق في نقائض الفرزدق وجرير «املضمون والفن» رسالة مقدمة
للحصول على درجة املاجستير ،جامعة أم القرى ،اململكة العربية السعودية1429 ،هـ ،ص.84:
) )24الديوان ،ص.62 :
ّ َ
ماري :اسم رجل اشتهر بصنع الحبال ) (25الديوان ،ص ،63 :الخمص :الجوع ،الحوايا :األمعاء،
ُ ُ َ
وفتلها ،تغ ُارُ :يحكم فتلها ،أغدو :أذهب في الغداة ،األزل :صفة للذئب القليل اللحم ،تهاداه :تتناقله،
التنائف :األراض ي أو املفازة في الصحراء.
ُْ َ ُ
أتعو ُد ،األهدأ :الشديد الثبات ،تن ِبيه :ترفعه ،سناسن :فقار العمود فَّ : ) (26الديوان ،ص ،67 :آل
ْ ً ّ ُ ّ ُ َّ
الكعاب :ش يء ُيل َع ُبأعد ُل :أتوسد ذراعا ،املنحوض :من ذهب لحمهِ ، الفقري ،قحل :جافة يابسةِ ،
َْ ّ
به ،دحاها :بسطهاُ ،مثلُ :منت ِصبة.
السمع :ولد الذئب من الضبع. ) (27الديوان ،ص ،69 :أجتاب :أقطعّ ،بزه :ثيابهّ ،
ِ
ّ َّ
( )28الديوان ،صَ ،69:ج ِزع :عديم الصبر ،خل ٍة :الفقر والحاجة ،املتكشف :الذي يكشف فقره للناس،
املتخيل :املختال بغناه. ّ
) (29محمود حسن أبو ناجي ،الشنفرى شاعر الصحراء األبي ،ص63 ،62 :
ً
( )30حرشاوي جمال ،الخصائص األسلوبية في شعر الصعاليك (الشنفرى أنموذجا) أطروحة مقدمة
لنيل شهادة الدكتوراه ،جامعة وهران ،الجزائر ،2016 ،ص139 :
ثيرني. ُ ُّ
) (31الديوان ،ص ،61 :خميص البطن :خالي البطن ضامره ،يستفزني :ي ُ
ُْ َ ً ً
مرة :نفسا أبية ،الذام :العيب الذي ُيذم به ،يلفى :يوجد. نفسا ّ ) (32الديوان ،ص،63 :
) (33الديوان ،ص59 :
َّ
القلى وهو البغض. ( )34الديوان ،ص ،32 :تقلت :من ِ
َ ُ
()35املرجع نفسه ،الصفحة نفسها .الغ ُبوق :شراب املساء.
( )36املرجع نفسه ،الصفحة نفسها.
ََْ الن ْس ي :ما ُي ْن َس ىّ ، ّ
األم :القصد ،تبلت :تنقطع في كالمها ال تطيله. ( )37الديوان ،صِ ،33 :
ربيع األول ١٤٣٩هـ
293
ديسمبر2017م
مجلّة
أ /العيفاوي حمزة
اللّغة العربيّة وآدابها
()38املرجع نفسه ،الصفحة نفسها ،النثا :إخبارك عن الش يء بالحسن أو القبح ،آب :رجعّ ،
قرة العين:
ما ُي َس ُّر به اإلنسان ويطمئن.
) (39محمود أبو ناجي ،الشنفرى شاعر الصحراء األبي ،ص.59:
) (40املرجع نفسه ،ص60 :
ّ
) (41الديوان ،ص ،38 :العزوف :الراجع عن الش يء التارك له عفة.
( )42الديوان ،ص ،60 :البسطةَ :
السعة.