Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 352

‫الكتاب‪ :‬أوراق سودان ّية‬

‫ّ‬
‫السياسة ـ الثقافة‬ ‫ِّ‬
‫الدين ـ ّ‬
‫الكاتب‪ :‬النور محد‬

‫تاريخ النشر‪ :‬الطبعة األوىل ‪2017‬م‬

‫رقم اإليداع‪2017/9883 :‬‬

‫الناشر‪:‬‬

‫اخلرطوم غرب‪،‬‬
‫شارع الشريف اهلندي‬
‫املتفرع من شارع احلرية‬
‫ت‪+249912294714 :‬‬ ‫املدير املسؤول‪ :‬أسامة عوض الريح‬
‫‪elrayah1995@gmail.com‬‬ ‫التصميم‪ :‬حممد الصادق احلاج‬

‫حقوق النشر حمفوظة للمؤلف والناشر ©‬


‫ال يسمح بإعادة إصدار هذا الكتاب أو أي جزء منه‪ ،‬أو ختزينه كنسخة‬
‫إلكرتونية أو نقله بأي شكل من األشكال دون إذن خطي مسبق من الناشر‪.‬‬

‫إن دار املصوّرات للنشر غري مسؤولة عن آراء املؤلف وأفكاره‪ ،‬وتعرب اآلراء واألفكار الواردة يف‬
‫هذا الكتاب عن وجهة نظر املؤلف وال تعرب بالضرورة عن وجهة نظر الدار‪.‬‬
‫الـمحتويات‬
‫‪11‬‬ ‫مـقـدِّ مـة‬
‫‪15‬‬ ‫الديني‬
‫ّ‬ ‫اإلصالح‬ ‫يات‬ ‫وتحدِّ‬ ‫ّف‬ ‫ق‬ ‫املث‬ ‫األول‪:‬‬ ‫الفصل‬
‫‪15‬‬ ‫مقدمة‬
‫‪21‬‬ ‫غموض الوجود ولغز املوت‬
‫‪23‬‬ ‫اإلسالم دين ودولة‬
‫‪28‬‬ ‫الغرب وعقلنة الدين‬
‫‪32‬‬ ‫اإلصالح الديني ليس حرصا ً عىل رجال الدين‬
‫‪34‬‬ ‫تأثري العنف عىل املثقفني‬
‫‪39‬‬ ‫التحدّي القائم‬
‫‪42‬‬ ‫تط ُّرف الشباب املسلم‬
‫‪44‬‬ ‫اقتحام ساحة الدين معرفياً‬
‫‪50‬‬ ‫أزمة املثقّف ّية العرب ّية‬
‫‪51‬‬ ‫املثقفية العربية بني سياقني‬
‫‪54‬‬ ‫ال ُفتُون بالغرب‬
‫‪55‬‬ ‫تزييف الدميقراطية الليربالية‬
‫‪58‬‬ ‫االنبتات عن الجذور والفكر املرتجم‬
‫‪61‬‬ ‫نهاية اإليديولوجيا وموت املثقّف‬
‫‪65‬‬ ‫عنرص ال ّروحانية‬
‫‪68‬‬ ‫القطيعة مع الدِّين‬
‫‪70‬‬ ‫املثقَّفيّة بني سياقني‬
‫‪71‬‬ ‫نبوي جديد‬‫وعي ٍّ‬ ‫عىل مشارف ٍ‬
‫‪73‬‬ ‫مركزية فكرة العدل واملساواة‬
‫‪77‬‬ ‫خامتــة‬

‫‪7‬‬
‫الشاكة‪:‬‬ ‫الفصل الثاين‪ :‬من االستتباع إىل ّ‬
‫‪87‬‬ ‫يف نقد ال ّنظرة الخديويّة تجاه الجوار الجنو ّيب ملرص‬
‫‪87‬‬ ‫مقدّمــة‬
‫‪91‬‬ ‫مرصي‬
‫ّ‬ ‫هو‬ ‫وما‬ ‫يك‬
‫ّ‬ ‫تر‬ ‫هو‬ ‫ما‬ ‫بني‬ ‫السودانيون‬ ‫فَ َّر َق‬
‫‪95‬‬ ‫الغنيمة التي حجبت الرؤية‬
‫‪97‬‬ ‫استبطان النظرة الكلونيالية‬
‫‪101‬‬ ‫ذريعة نرش املدَن ّية ومحاربة ال ِّرق‬
‫‪105‬‬ ‫كان نهباً ومل يكن تَ ِْديناً‬
‫‪111‬‬ ‫ُوسع من نطاق االسرتقاق‬ ‫الرضائب ت ِّ‬
‫‪113‬‬ ‫ازدواجية املعيار‬
‫‪116‬‬ ‫املعرفة كأدا ٍة الحتالل العقل‬
‫‪120‬‬ ‫تاريخان للخديوية‬
‫‪123‬‬ ‫الخديويون الجدد!‬
‫‪126‬‬ ‫الخديوية ِب ْن ُت وقتها‪ ...‬فام بال املعارصين؟‬
‫‪127‬‬ ‫إهدار مزية االعتامد املتبادل‬
‫‪129‬‬ ‫تبدُّل النظرة املرصية تجاه الجوار الجنويب‬
‫‪131‬‬ ‫االختيال يف الجلباب األجنبي‬
‫‪134‬‬ ‫خالصة‬
‫‪138‬‬ ‫تذييل‬
‫‪149‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬فَوق ّية الحداث ّيني وإجهاض مرشوع االستقالل‬
‫‪149‬‬ ‫مقدّمة‬
‫‪151‬‬ ‫انتظار الحلول لدى العسكر‬
‫‪154‬‬ ‫الحلقة املفرغة ومفرتق الطُّرق‬
‫‪157‬‬ ‫اإلسالميون يكرسون الدائرة الرشيرة‬
‫‪161‬‬ ‫الصدف والمباالة العامل‬ ‫محاسن ُّ‬
‫‪164‬‬ ‫انغالق الحقبة الكئيبة‬
‫‪166‬‬ ‫الحداثيون والفوق ّية‬
‫‪173‬‬ ‫الربيطانيون وطالئع املثقّفني‬
‫‪176‬‬ ‫للتح ُّول الدميقراطي متطلّبات سابقة ‪Prerequisites‬‬
‫‪178‬‬ ‫حجاب الهاالت الزائفة‬
‫‪179‬‬ ‫مشكل ال ُهويّة‬
‫‪181‬‬ ‫خامتــة‬
‫‪187‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬ثورة أكتوبر‪ :‬من األيقونة إىل الترشيح‬
‫‪187‬‬ ‫مقدّمة‬
‫‪193‬‬ ‫أكتوبر بوصفها مفرتَقاً نحو الرتاجع‬
‫‪194‬‬ ‫الطابع الراديكايل لثورة أكتوبر‬
‫‪197‬‬ ‫حلم القفز عىل الواقع‬
‫‪199‬‬ ‫ترا ُجع اليسار وتقدُّم اإلسالم السيايس‬
‫‪200‬‬ ‫الثورة بني بناء الدّولة وخدمة األجندة الحزب ّية‬
‫‪204‬‬ ‫املعونة األمريكية وخوف عودة املرصيّني من النافذة‬
‫‪207‬‬ ‫خامتة‬
‫‪211‬‬ ‫الفصــل الخامــس‪ :‬الســودان وإيـران‪ :‬رحلة التقا ُرب واملشــهد العــر ّيب ال ّراهن‬
‫‪211‬‬ ‫ملخّص‬
‫‪212‬‬ ‫مدخل‬
‫‪215‬‬ ‫التكتيك واإلسرتاتيجيا‬
‫‪218‬‬ ‫عالقات السودان وإيران‬
‫‪222‬‬ ‫إسالمي جامع‬
‫ٍّ‬ ‫ثوري‬
‫ٍّ‬ ‫الرتايب و َخلْق كيانٍ‬
‫‪224‬‬ ‫حسن الرتايب والنموذج اإليرا ّين‬
‫‪228‬‬ ‫تأثري الرتايب يف تالميذه‬
‫‪230‬‬ ‫السودان وإيران بعد خروج الرتايب من الحكم‬
‫‪234‬‬ ‫االنقسام داخل الحكومة السودان ّية‬
‫‪235‬‬ ‫املشهد الجديد‬
‫‪241‬‬ ‫خامتة‬
‫‪247‬‬ ‫الفصل السادس‪ :‬مل يَ ْب َق سوى التوليف!‬
‫‪247‬‬ ‫مقدمة‬
‫‪250‬‬ ‫تبدُّل الخريطة الفكري‪/‬سياسية‬
‫‪253‬‬ ‫السديات الكربى‬ ‫أفول نجم َّ‬
‫‪255‬‬ ‫ماركس مات ومل َ ُيت‬
‫‪257‬‬ ‫الفاب ُّيون‬
‫‪261‬‬ ‫ثورة املعلومات والتقنية‬
‫‪262‬‬ ‫ترا ُجع اليسار السوداين‬
‫‪268‬‬ ‫غربة اليساريني والليرباليني‬
‫‪274‬‬ ‫ؤت ال َح ِذ ُر من مأمنه‬ ‫يُ َ‬
‫‪275‬‬ ‫التوليف ‪Synthesis‬‬

‫‪9‬‬
‫‪283‬‬ ‫الفصــل الســابع‪ :‬علامن ّيــة الدّ ولــة أم دين ّيتهــا؟‪ :‬محاولــة ملؤالفــة املفهو َمـ ْـن‬
‫‪283‬‬ ‫مقدمة‬
‫‪286‬‬ ‫جدلية الديني والعلامين‬
‫‪290‬‬ ‫منح الرأي ُسلطة املقدّس‬
‫‪293‬‬ ‫الدين والعلامنية وما بعد الحداثة‬
‫‪301‬‬ ‫«ما بعد الحداثة» وحقبة الروحانية‬
‫‪303‬‬ ‫تَ ازُج األضداد وفجر الروحانية الكونية‬
‫‪306‬‬ ‫يف تل ُّمس امل َخ َرج‬
‫‪309‬‬ ‫خامتة‬
‫ستينات وسبعينات القرن املايض‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫الفصل الثامن‪:‬‬
‫‪315‬‬ ‫نظرة يف أحوال االزدهار خارج السياق‬
‫‪315‬‬ ‫مقدمة‬
‫‪319‬‬ ‫حداثة معلّقة يف الهواء‬
‫‪323‬‬ ‫الفقّاعة اإلبداعية‬
‫‪326‬‬ ‫مسلسل الرتاجع‬
‫‪329‬‬ ‫َم ْحو التأثريات االستعامريّة‬
‫‪331‬‬ ‫الستيناتُ عىل مستوى الكوكب‬
‫‪334‬‬ ‫ثالث ُة عقود من االستقرار‬
‫‪339‬‬ ‫من املهدوية قفزا ً إىل الحداثة‬
‫‪343‬‬ ‫خامتة‬

‫‪10‬‬
‫مـقـ ِّدمـة‬
‫‪‬‬
‫نرشتا أو ألقيتُها يف مؤمترات‪ ،‬يف‬
‫ُ‬ ‫الكتاب ثامين أوراق سبق أن‬
‫ُ‬ ‫حيوي هذا‬
‫ناقشت يف هذه األوراق قضايا خمتلفة‪ ،‬تتع ّلق‪ ،‬يف‬
‫ُ‬ ‫السنوات األربع املنرصمة‪.‬‬
‫مجلتها‪ ،‬بالشأن السوداين‪ .‬وقد تو ّز َعت عىل قضايا تتّصل بالفكر‪ ،‬وبالسياسة‪،‬‬
‫فإن مكان األوراق األكاديمية هو‬ ‫وبالدّ ين‪ ،‬وبالثقافة‪ .‬وكام هو معلوم ّ‬
‫املتخصصة‪ .‬غري أن هذا الوضع ينطبق أكثر عىل البلدان‬ ‫ّ‬ ‫الدّ وريات العلمية‬
‫عبت مرحلة االختالالت اهليكلية‪ ،‬وأصبح األكاديميون‬ ‫املتقدّ مة‪ ،‬التي َ‬
‫كل يف جماله‪ ،‬ولكن يف إطار منظومة ك ّلية‬ ‫املتخصصون فيها منخرطني‪ٌّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫تصب يف خدمة الصالح العام وخدمة حراك التقدُّ م يف خمتلف‬ ‫ّ‬ ‫متكاملة‬
‫التطور‪ ،‬كام مت ّثل َ‬
‫قرن‬ ‫ّ‬ ‫املتطورة مت ّثل رأس سهم‬
‫ّ‬ ‫أوج ِهه‪ .‬فاألكاديميا يف الدول‬
‫ُ‬
‫للتطور‪.‬‬
‫ّ‬ ‫االستشعار‪ ،‬والعني بعيدة الرؤية‪ ،‬والرائد الذي يفتح وينري الطريق‬
‫لكن‪ ،‬يف البلدان التي مل خترج من دائرة االختالالت اهليكلية‪ ،‬تبقى األكاديميا‪،‬‬
‫الوضع‪ ،‬األكاديميا‬
‫ُ‬ ‫يف غالب أحواهلا‪ ،‬تابعة‪ ،‬وليست متبوعة‪ .‬و ُيفقد هذا‬
‫تتحول إىل مط ّية لالستبداد‪ ،‬ولتكريس حالة اجلمود‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ورها‪ ،‬بل‪ ،‬وغالب ًا ما‬
‫َد َ‬
‫وإلعادة إنتاج اإلشكاليات القائمة‪.‬‬
‫تَفرض األوضاع‪ ،‬يف البلدان التي ال تزال تعاين من االختالالت اهليكلية‪،‬‬
‫عىل األكاديمي‪ ،‬أن يكون أكاديمي ًا‪ ،‬وإىل حدٍّ ما‪ ،‬ناشط ًا سياسي ًا‪ ،‬أيض ًا‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫أي‪ ،‬من الصعب عىل األكاديمي يف البلدان النامية أال يتس َّيس‪ ،‬خاصة‬
‫األكاديميني الذين حيملون رؤى مستقبلية‪ ،‬وال ينحرص جهدهم يف جمال‬
‫البحث األكاديمي‪ ،‬والكتابة األكاديمية‪ ،‬يف حدود متطلبات الرتقي الوظيفي‪.‬‬
‫وعموم ًا‪ ،‬ليس مطلوب ًا من األكاديمي أن يكون حمايد ًا بصورة مطلقة‪ .‬كام أن‬
‫احلياد املطلوب من األكاديمي يف جمال العلوم الطبيعية‪ ،‬ال ينطبق‪ ،‬وقع احلافر‬
‫عىل احلافر‪ ،‬عىل األكاديمي الذي يعمل يف جمال العلوم اإلنسانية‪.‬‬
‫ِ‬
‫كتابات األكاديميني‪ ،‬سوى‬ ‫ال َيقرأ‪ ،‬يف الفضاء الغريب‪ ،‬يف الغالب األعم‪،‬‬
‫األكاديميني‪ ،‬أنفسهم‪ .‬غري أن مراكز البحوث والدراسات اإلسرتاتيجية‪،‬‬
‫ورسم السياسات‪ ،‬تستعني يف رسم توصياهتا‪ ،‬لراسمي السياسات‪،‬‬
‫وجهات نظر األكاديميني هناك‪،‬‬
‫ُ‬ ‫بخالصات الدراسات األكاديمية‪ ،‬وجتد‬
‫اعتبار ًا كبري ًا‪ .‬إضافة إىل ذلك‪ ،‬حيرص اإلعالم‪ ،‬يف الدولة املتقدمة عىل أخذ‬
‫وجهة نظر األكاديميني يف كل القضايا املطروحة‪ .‬ويفتح اإلعالم‪ ،‬بذلك‪،‬‬
‫الفرصة آلراء األكاديميني‪ ،‬لتخرج إىل الفضاء العام‪ .‬غري أن الوضع خيتلف‬
‫يف الدول النامية‪ ،‬خاصة يف تلك التي ترزح حتت أنظمة حكم شمولية‪ .‬يف‬
‫مثل هذه الدول َينتقي اإلعالميون من األكاديميني للحديث من الوسائط‬
‫يتحول‬
‫ّ‬ ‫اإلعالمية للجمهور‪ ،‬من يوافقون رؤية احلكومة وسياساهتا‪ .‬وهكذا‬
‫األكاديمي إىل ما يشبه البوق اإلعالمي للحكومة‪ ،‬أو ما يشبه موظف‬
‫العالقات العامة‪ .‬وهكذا يرتك األكاديمي وظيفته احلقيقية‪ ،‬ليصبح جزء ًا من‬
‫جهاز «الربوباقاندا» احلكومية‪ .‬وما من دولة شمولية إال وأدجمت يف بنيتها‬
‫يقل لدى بعض احلكومات‪ ،‬ويكثر لدى أخرى‪ .‬وقد‬ ‫قطاع ًا من األكاديميني‪ّ ،‬‬
‫حتول املثقف‪،‬‬
‫ناقشت واحدة من األوراق التي حيوهيا هذا الكتاب‪ ،‬ظاهرة ُّ‬ ‫َ‬
‫مؤخر ًا‪ ،‬إىل جمرد مستشار حكومي‪ .‬وهو أمر سبق أن ناقشه إدوارد سعيد يف‬
‫«السلطة والسياسة والثقافة»‪.‬‬
‫كتابه ُّ‬
‫نفسه‪ ،‬حتت ظل كثري من األوضاع‬ ‫جيد األكاديمي‪ ،‬يف البلدان النامية َ‬
‫غري املواتية‪ ،‬جمرب ًا عىل توصيل رؤيته إىل الفضاء العام‪ ،‬بنفسه‪ .‬فالدوريات‬

‫‪12‬‬
‫األكاديمية‪ ،‬يف البلدان النامية‪ ،‬قليلة العدد‪ ،‬وحمدودة االنتشار‪ ،‬بل ال تكون‬
‫منتظمة الصدور‪ ،‬عادة‪ ،‬نسبة لقلة الدعم املايل املخصص هلا‪ ،‬ولغري ذلك من‬
‫النواقص األخرى التي تعاين منها الدول النامية‪ .‬كام أن اإلعالم يف احلكومات‬
‫الشمولية يكون انتقائي ًا يف استدعاء األكاديميني للتحدث وتسليط الضوء‬
‫عىل القضايا‪ ،‬كام سلفت اإلشارة‪ .‬وحلسن التوفيق فقد أصبح اإلعالم شعبي ًا‪،‬‬
‫كثري من‬‫السلطات‪ .‬وأصبح ٌ‬ ‫بصورة غري مسبوقة‪ ،‬وأخذ خيرج من أيدي ُّ‬
‫سواء أكانت‬
‫ٌ‬ ‫الباحثني يضعون أوراقهم يف مواقعهم عىل شبكة اإلنرتنت‪،‬‬
‫صفحات شخصية ‪ ،webpages‬أم صفحات فيسبوك‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬يبقى‬
‫الكتاب املطبوع رضوري ًا جد ًا‪ .‬فأرفف مكتبات اجلامعات‪ ،‬وغريها من‬
‫املكتبات‪ ،‬ال تزال مكان ًا مه ًام للطالب والباحثني إلجياد املصادر واملراجع‪.‬‬
‫رغم أن هذه األوراق ناقشت قضايا متنوعة‪ ،‬إال أن بينها خيط ًا ناظ ًام‬
‫واحد ًا‪ ،‬وهو قضايا الشأن السوداين‪ ،‬وهي متثل‪ ،‬بطبيعتها‪ ،‬يف هذا املنعطف‬
‫نمر به‪ ،‬قضايا مرتابطة‪ ،‬تُ ِسك بعضها برقاب األخرى‪.‬‬ ‫التارخيي الذي ّ‬
‫متاسك دولة االستعامر فيه مع‬ ‫فالسودان ُقطر يف طور التأسيس‪ ،‬وقد ذهب ُ‬
‫خروج املستعمر‪ .‬ما جرى عقب خروج املستعمر كان تكسري ًا مستمر ًا لبنية‬
‫بناءها بعد‪،‬‬ ‫الدولة‪ .‬ويمكن القول‪ ،‬وبكل ثقة‪ ،‬إن الدولة يف السودان‪ ،‬مل تبدأ َ‬
‫عىل النحو احلقيقي‪ ،‬وإنام هي قيد البناء‪ .‬وقد ظل هذا البناء متع ّثر ًا طيلة الستني‬
‫سنة ونيف‪ ،‬التي أعقبت االستقالل‪.‬‬
‫هذا التجميع هلذه األوراق بني د ّفت َْي كتاب واحد ليس سوى حماولة خللق‬
‫قدَ ٍر من التفاعل بني األكاديميا والفضاء العام‪ .‬وأرجو أن جيد فيه األكاديميون‬
‫ما ُي ِعني عىل ختليق أجندة بحثية إضافية‪ ،‬وأن جيد فيه عامة القراء‪ ،‬كذلك‪،‬‬
‫يقرب وجهات النظر ويستدعي اتفاقات حدود دنيا يمكن أن ت ُِعيننا عىل‬ ‫ما ِّ‬
‫اخلروج من نفق االختناقات القائمة‪.‬‬
‫أليكساندريا‪ ،‬فرجينيا‪ ،‬مايو ‪2017‬م‬

‫‪13‬‬
‫الفصل األول‬

‫‪‬‬

‫الديني‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫المثقف وتح ِّديات اإلصالح‬
‫جرى تقديم هذه الورقة ضمن أعامل املؤمتر السنوي‬
‫الرابع للعلوم االجتامعية واإلنسانية الذي نظمه املركز‬
‫العريب لألبحاث ودراسة السياسات يف مراكش – املغرب‪ ،‬يف‬
‫الفرتة ‪ 21-19‬آذار‪ /‬مارس ‪.2015‬‬

‫مقدمة‬
‫حتفل األدبيات األكاديمية العربية‪ ،‬التي كُتبت يف العقود القليلة‬
‫املاضية‪ ،‬بعديد املقاربات التي تناولت مسألة املثقف؛ كيف نشأت‬
‫كظاهرة؟ من هو املثقف؟ ما هي مواصفاته؟ ما هو َدوره‪ ،‬ورسالته؟‬
‫وبالسلطة‪ ،‬وباملجتمع؟‬
‫ُّ‬ ‫وما هي اإلشكاليات التي تعتور عالقته بذاته‪،‬‬
‫عرب بارزون‪ .‬أذكر منهم عىل سبيل املثال‪،‬‬‫ٌ‬ ‫تناول هذه القضية ُكت ٌ‬
‫ّاب‬
‫ال احلرص‪ :‬عبد اهلل العروي‪ ،‬عيل حرب‪ ،‬برهان غليون‪ ،‬حممد عابد‬
‫اجلابري‪ ،‬هشام رشايب‪ ،‬عزمي بشارة‪ ،‬عيل أومليل‪ ،‬إدوارد سعيد‪ ،‬هادي‬
‫العلوي‪ ،‬عبد العزيز بلقزيز‪ ،‬سمري أمني‪ ،‬زهري توفيق‪ ،‬وآخرون‪ .‬ولقد‬

‫‪15‬‬
‫قدم هؤالء‪ ،‬مجيعهم‪ ،‬كام قدم غريهم‪ ،‬إسهام ًا مقدّ ر ًا يف إضاءة جوانب‬
‫هذه القضية‪ .‬لكن‪ ،‬عىل الرغم من كل تلك الكتابات الثرة‪ ،‬التي تناولت‬
‫هذه القضية متعددة اجلوانب‪ ،‬واحتوائها جهد ًا بحثي ًا وفكري ًا قي ًام‪ ،‬أنار‬
‫كثري ًا من زواياها املعتمة‪ ،‬إال أن بعض جوانب هذه القضية‪ ،‬ال تزال‬
‫حتتاج‪ ،‬يف تقديري‪ ،‬مزيد ًا من اإلضاءة‪ .‬وهيمني يف هذه الورقة أن أتناول‬
‫أحد جوانبها غري املطروقة‪ ،‬وهو غياب املثقفني العرب احلداثيني عن‬
‫معركة التجديد الديني‪ ،‬ونقص اهتاممهم هبا‪ ،‬وعزوفهم عن االنخراط‬
‫فيها‪ ،‬وتركها ملن يسمون «رجال الدين»‪.‬‬
‫يف مؤلفه الضخم‪« ،‬الدين والعلامنية يف سياق تارخيي»‪ ،‬الذي عالج‬
‫فيه‪ ،‬بصورة موسوعية‪ ،‬اجلدلية التارخيية للدين والعلامنية‪ ،‬يقول عزمي‬
‫وعي زائف‪ ،‬وكام أن اختزاله يف ذلك حيجب‬ ‫بشارة‪« :‬الدين ليس جمرد ٍ‬
‫رؤية الظاهرة الدينية يف غناها»‪ .1‬ولقد اخرتت االبتداء هبذا التنبيه‪،‬‬
‫لكونه تنبيه ًا شديد األمهية‪ .‬فهو يراجع‪ ،‬من وجهة نظري‪ ،‬نزع ًة فشت‪،‬‬
‫منذ فجر حقبة احلداثة يف أوساط قطاع عريض من املثقفني‪ ،‬من بينهم‬
‫بعض املثقفني العرب‪ .‬مرتكز تلك النزعة‪ ،‬أن الدين ظاهر ٌة ماضوية‪،‬‬
‫ارتبطت‪ ،‬إىل حدٍّ كبري‪ ،‬بطفولة العقل البرشي‪ .‬جرى اختزال فهم‬
‫الظاهرة الدينية‪ ،‬لدى قطاع مؤثر من احلداثيني‪ ،‬يف االعتقاد بأن الدين‬
‫ما استمر بوصفه وسيل ًة لتفسري الظواهر‪ ،‬وأدا ًة إلضفاء املعنى عىل‬
‫الوجود اإلنساين‪ ،‬إال بسبب ختلف العلوم يف املايض‪ .‬وبام أن العلوم‬
‫فإن مصري الدين‬ ‫الظواهر‪ ،‬تفسري ًا «علمي ًا»‪ّ ،‬‬
‫َ‬ ‫تقدمت‪ ،‬وأصبحت تفرس‬
‫احلتمي أن يرتاجع‪ ،‬وباستمرار‪ ،‬حتى خيتفي‪ ،‬أو ينزوي يف اجليوب‬
‫القصية‪ ،‬التي مل يطلها العلم والتعليم والتنمية‪.‬‬
‫هذه العقيدة احلداثية التي سيطرت عىل بعض النخبة املثقفة يف‬

‫‪ .1‬عزمي بشارة‪ ،‬الدين والعلامنية يف سياق تاريخي‪( ،‬ج ‪ ،)1 -‬املركز العريب لألبحاث ودراسة السياسات‪،‬‬
‫الدوحة وبريوت‪ ،)2013( ،‬ص ‪.11‬‬

‫‪16‬‬
‫الغرب يف القرنني الثامن عرش والتاسع عرش‪ ،‬وقسط ًا معترب ًا من‬
‫القرن العرشين‪ ،‬انتقلت وسيطرت عىل رؤى كثري من املثقفني العرب‬
‫احلداثيني‪ ،‬خاص ًة ُب َع ْيدَ منتصف القرن العرشين‪ .‬ويمكن القول‪،‬‬
‫إن املثقفني العرب‬‫بصورة جمملة ـ واالستثناءات قائمة بطبيعة احلال ـ ّ‬
‫انسحبوا من ساحة التجديد الديني‪ ،‬خاصة يف احلقبة التي سيطر فيها‬
‫اليسار العرويب عىل احلكم يف األقطار العربية املفتاحية‪ ،‬يف النصف‬
‫الثاين من القرن العرشين‪ ،‬وأصبحت املاركسية والداروينية االجتامعية‪،‬‬
‫جمتمعتني‪ ،‬عام َلني مؤثرين يف النظر إىل الدين‪ ،‬باعتباره ظاهرة منقرضة‪،‬‬
‫مصريها االضمحالل‪ ،‬كلام تقدم الزمن‪ ،‬وأهنا لن تلبث‪ ،‬بمرور الزمن‪،‬‬
‫أن تتالشى متام ًا‪.‬‬
‫كان الظ ُّن وسط قطا ٍع ٍ‬
‫كبري من النخب العلامنية‪ ،‬املتأثرة بطروحات‬
‫املادية الديالكتيكية واملادية التارخيية‪ ،‬أن الدين سيموت موت ًا طبيعي ًا‪،‬‬
‫كلام تقدم التصنيع‪ ،‬وتغريت عالقات اإلنتاج‪ ،‬ونمى االقتصاد‪.‬‬
‫وقد شارك الليرباليون من املثقفني العرب‪ ،‬عىل اختالف منطلقهم‬
‫الفلسفي‪ ،‬املثقفني املرتكزين عىل الطروحات والتصورات املاركسية‪،‬‬
‫نفس االعتقاد املضمر‪ ،‬القائل بالتاليش التدرجيي للدين‪ .‬هبذا‪ ،‬و َقف‬
‫قطاع شديد احليوية من مث ّقفينا عىل رصيف الفعل‪ ،‬يف ما يتعلق بالعمل‬ ‫ٌ‬
‫عىل ختليق وعي ديني أرقى وسط اجلمهور‪ ،‬هو خامة التغيري‪ .‬واكتفى‬
‫هذا القطاع باملراقبة‪ ،‬انتظار ًا لرتاجع التصورات الدينية للكون واحلياة‪،‬‬
‫َبز ْعم أن ذلك حتمية تارخيية‪.‬‬
‫السلبي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الرؤية القائلة بحتمية تاليش التأثري الديني‪ ،‬واالنتظار‬
‫الذي ترتب عليها بأن الدين سوف خييل الساحة‪ ،‬بفعل التحديث‬
‫انطو َيا‪ ،‬يف‬
‫تقديرين خاط َئني‪ .‬فقد َ‬
‫َ‬ ‫ومرور الزمن‪ ،‬قاما‪ ،‬يف نظري‪ ،‬عىل‬
‫ما أحسب‪ ،‬عىل نقص يف التقدير الصحيح‪ ،‬والعميق‪ ،‬للظاهرة الدينية‪،‬‬
‫وجتذرها يف أعامق وعي الفرد البرشي‪ ،‬يف خمتلف الثقافات‪ .‬فالدين‬ ‫ُّ‬

‫‪17‬‬
‫نشأ حيثام ُوجدت اجلامعة البرشية‪ .‬وقد اصطحب اإلنسان منذ عهود‬
‫موغلة يف السحق‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ظلت النظرة العلامنية‪ ،‬أو ما يمكن أن‬
‫نسميه «الدهرية»‪ ،‬قبل نشوء مصطلح «علامنية»‪ ،‬ظلت تتبادل مع‬
‫النظرة العلامنية ِم ْق َو َد التوجيه يف احلياة البرشية‪ ،‬عرب حقب التاريخ‬
‫املختلفة‪ .‬وقد ظل جيري منهام‪ ،‬ذلك التناوب‪ ،‬يف انفصال أحيان ًا‪ ،‬كام‬
‫الشق اآلخر‪.‬‬ ‫تداخل‪ ،‬أحيان ًا أخرى‪ ،‬مع غلبة ّ‬
‫شق عىل ّ‬ ‫جيري يف ُ‬
‫إن ما يرتدد من أن الفلسفة اإلغريقية قد‬ ‫يقول فراس السواح‪ّ ،‬‬
‫َوضعت حد ًا للفكر الديني وامليثولوجي‪ ،‬يسري مع الفرضية القائلة بأن‬
‫ال أدنى من أشكال النظر العقيل‪ ،‬وأن الفلسفة متثل‬ ‫الدين يمثل شك ً‬
‫الشكل األرقى‪ ،‬واألعىل‪ .‬ويرى السواح أن هذه املقولة مل ختضع للنقد‪.‬‬
‫وقول السواح بأهنا مل ختضع للنقد‪ ،‬ينطوي‪ ،‬يف حد ذاته‪ ،‬عىل تنبيه مهم‪.‬‬
‫ألن بقاء تلك املقولة من غري نقد‪ ،‬تسبب يف أن يسود القبول بالتقسيم‬
‫املعتاد لتاريخ الفكر اإلنساين‪ ،‬بأن له أربع مراحل هي‪ :‬السحر‪ ،‬فالدين‪،‬‬
‫فالفلسفة‪ ،‬فالعلم التجريبي‪ .‬ويضيف السواح‪ ،‬أن الفلسفة اإلغريقية مل‬
‫ٍ‬
‫عارضة‪ ،‬ما لبثت أن انطفأت أمام مدّ الفكر الديني‬ ‫ٍ‬
‫بارقة‬ ‫تكن سوى‬
‫واألسطوري‪ .‬إذ تراجع َبعدها الفكر الفلسفي لعدة قرون‪ ،‬قبل أن‬
‫ينبعث‪ ،‬مرة أخرى‪ ،‬يف العصور احلديثة‪ ،‬متوكئ ًا عىل عصا عربية‪ ،‬أبقت‬
‫عىل يشء من أقباس الفلسفة‪ ،‬لكن عىل األطراف اخلارجية لثقافة دينية‬
‫السواح أن ذلك انطبق عىل الثقافة العربية‪ ،‬والثقافة‬
‫مسيطرة‪ .‬ويرى ّ‬
‫األوروبية الوسيطة‪ .‬أما العلم‪ ،‬فرغم األرضية الصلبة التي فرشتها‬
‫أمامه الفلسفة‪ ،‬آنذاك‪ ،‬فقد بقي أسري ًا للتصورات الدينية واألسطورية‪،‬‬
‫حتى أينعت ثامر عرص النهضة يف أوروبا‪ .‬فبمجيء كوبرنيكوس‬
‫بنظريته اجلديدة عن النظام الشميس‪ ،‬بدأ استقالل العلم عن الدين‬
‫واألسطورة‪ ،‬وتبع كوبرنيكوس غاليليو‪ ،‬ثم نيوتن‪ ،‬فكان هلؤالء فضل‬

‫‪18‬‬
‫وضع أسس التفكري العلمي احلديث‪.2‬‬
‫النظرة النقدية للتحقيب التي أوردها السواح‪ ،‬ربام قادتنا إىل أن ننظر‬
‫يف تاريخ جدلية العلامنية والدين‪ ،‬بوصفهام يشأركان تارخي ًا متداخالً‪،‬‬
‫تاريخ متعاقب‪ .‬ولـ هادي العلوي نظرة إىل‬ ‫ٍ‬ ‫أكثر من كوهنام يتواليان يف‬
‫التاريخ اإلسالمي تنحو هذا املنحى يف القول بتداخل التاريخ‪ .‬يرى‬
‫العلوي‪ ،‬أن املوجات الفكرية‪ ،‬يف التاريخ العريب اإلسالمي‪ ،‬ليست‬
‫متتابع ًة‪ ،‬أي‪ ،‬أهنا ال تسري يف خط مستقيم‪ ،‬متحرك ًة من األدنى إىل األعىل‪.‬‬
‫موجات متداخلة‪ ،‬حتتل فيها‪ ،‬أحيان ًا‪ ،‬الرؤى التنويرية املتقدمة‬
‫ٌ‬ ‫وإنام هي‬
‫أمكن ًة يف الزمن األبكر من السريورة التارخيية‪ ،‬يف حني حتتل فيه‪ ،‬أحيان ًا‪،‬‬
‫الرؤى املتخلفة‪ ،‬أمكن ًة يف الزمن املتأخر‪ ،‬أي؛ األقرب‪ ،‬واألحدث‪.‬‬
‫املعري‪ ،‬يف‬
‫يستشهد العلوي يف ذلك بقوله‪ ،‬إننا حني نجد أن أبا العالء ّ‬
‫القرن احلادي عرش امليالدي‪363-449( ،‬هـ)‪1057- 973( ،‬م)‪ ،‬يعلن‬
‫ثور ًة تنويري ًة ‪ ،‬نجد يف القرن العرشين‪ ،‬والقرن الواحد والعرشين‪ ،‬من‬
‫يدعون إىل إقامة الدولة الدينية‪ ،3‬بل‪ ،‬وإىل هيمنة ديانة واحدة عىل كل‬
‫مثال واحد‪،‬‬‫فإن ذكر العلوي للمعري‪ ،‬كان جمرد ٍ‬ ‫يشء‪ .‬وبطبيعة احلال‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫ألن تاريخ الفكر اإلسالمي ميل ٌء بالرؤى املتقدمة‪ ،‬التي يصعب قبوهلا‬
‫حتى وسط قطاع معترب من متعلمي‪ ،‬بل ومثقفي احلارض‪.‬‬
‫مل تعد التيارات األجد يف الفكر الغريب‪ ،‬تقبل فكرة األضداد التي‬
‫تسري يف خطوط متوازية فال تلتقي‪ ،‬أو قل ال تتعايش‪ ،‬وإنام تتعاقب‬
‫فقط‪ .‬تتجذر هذه الفكرة عن ثنائية األطر املعرفية‪ ،‬والقول بتوازي‬
‫األفكار وضديتها‪ ،‬يف أصلها األصيل‪ ،‬يف ثنائية فكر احلداثة نفسه‪ .‬يقول‬

‫‪ .2‬فراس السواح‪ ،‬دين اإلنسان‪ :‬بحث يف ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني‪( ،‬ط‪ ،)3‬دار عالء الدين للنرش‬
‫والتوزيع والرتجمة‪ ،‬دمشق‪ ،‬سوريا‪ ،)1998( ،‬ص‪ ،‬ص‪.20-19 ،‬‬
‫‪ .3‬خالد سليامن وحيدر جواد‪ ،‬هادي العلوي‪ :‬حوار الحارض واملستقبل‪ ،‬دار الطليعة الجديدة‪ ،‬دمشق‬
‫سوريا‪ ،1999 ،‬ص‪.68 ،‬‬

‫‪19‬‬
‫هيوستن سميث‪ ،‬إنه منذ أن اختار ديكارت أن يمخر بعيد ًا عن الذات‪،‬‬
‫أو النفس املؤسطرة؛ أي‪ ،‬عندما اختار أن يبتعد بتلك النفس عن بقية‬
‫العامل‪ ،‬جرى غرس الثنائية يف تراب األبستمولوجيا احلديثة‪ ،‬وهكذا‬
‫بقيت يف مكاهنا‪ .‬فقصة الفلسفة الغربية برمتها‪ ،‬يف مرحلتها احلداثية‪،‬‬
‫يمكننا أن نروهيا‪ ،‬اليوم‪ ،‬بوصفها بحث ًا مستمر ًا عن جرس يربط بني‬
‫العقل وبيئته املحيطة‪ ،‬وبني الذات واملوضوع‪ ،‬التي سبق أن باعد بينهام‬
‫ديكارت‪ .4‬لذلك‪ ،‬فإن ما يتصوره البعض تضاد ًا وتوازيا ثابت ًا بني الدين‬
‫والعلامنية‪ ،‬تراه التيارات األحدث‪ ،‬جماالً متداخالً‪ ،‬له طرفان‪ ،‬يسهامن‬
‫بحوارمها ونقدمها املتبادل‪ ،‬يف إنتاج سريورة كلية واحدة‪ .‬فالعلامنية‪،‬‬
‫بوصفها نزوع ًا للعقلنة‪ ،‬انبثقت من داخل بنية الدين نفسها‪ ،‬كام يف‬
‫حالة الكاثوليكية والربوتستانتية‪ .5‬ويف املقابل‪ ،‬فإن القول عن ارتباط‬
‫الروحانية جذري ًا ببنية العقل والنفس البرشية‪ ،‬كام يف تيارات ما بعد‬
‫احلداثة‪ ،‬انبثق من قلب الفكرة العلامنية‪ ،‬نفسها‪ ،‬وهي تراجع طروحاهتا‪.‬‬
‫جتفيف احلداثة للروحانية‬‫َ‬ ‫لكل ما َت َقدَّ م‪ ،‬يرى ناقدو برادايم احلداثة أن‬
‫ٍ‬
‫متعجل عىل سريورة بالغة الطول‪ .‬ويرونه‬ ‫يف عامل اليوم هو جمرد انقالب‬
‫ّ‬
‫غري متسق مع البنية الكلية لتلك السريورة الطويلة التي امتدت منذ فجر‬
‫اخلليقة حتى فجر العصور احلديثة‪ .‬يقول موريس بورمان‪ ،‬إن التاريخ‬
‫اإلنساين ظل‪ ،‬وألكثر من ‪ % 99‬منه‪ ،‬تارخي ًا مروحن ًا‪ ،‬رأى اإلنسان نفسه‬

‫‪4. Huston Smith, Beyond the Postmodern Mind, Quest Books, (Ed 3) 2003, p. 209.‬‬
‫‪ .5‬يف حوار لروبرت كولز‪ ،‬عامل النفس األمرييك‪ ،‬املشتغل بقضايا الروحانية‪ ،‬مع دورويث داي‪ ،‬قالت دورويث‬
‫داي لكولز‪ :‬أنت تقلل من شأن الشك كجزء ثابت يف بنية اإلميان نفسها‪ ،‬وتلك حالة تنطبق عىل كل قرن‬
‫من القرون‪ .‬أنت تر ّد السبب يف نشوء العلامنية‪ ،‬بشكل رئيس‪ ،‬إىل العلوم الطبيعية والعلوم االجتامعية‪.‬‬
‫أنا ال أنكر أن للعلوم الطبيعية ُسلطة تدعم العلامنية اليوم‪ .‬لكن‪ ،‬بحق السامء‪ ،‬لقد كان العامل العلامين‬
‫موجوداً عىل الدوام‪ ،‬هنا‪ ،‬أو هناك‪ .‬تلك هي القصة الكبرية للعهد الجديد مع العهد القديم‪ ،‬وتلك‪ ،‬أيضاً‪،‬‬
‫هي قصة الربوتستانتية مع الكاثوليكية‪ .‬أنت تنظر إىل جاليليو ونيوتن وأينشتاين وفرويد بوصفهم‬
‫الـ َمدافع الكبرية التي ظلت تدكّ معاقل اإلميان الديني‪ ،‬وتقيض عىل الروابط الدينية بني بني البرش‪ .‬يف‬
‫نظري أن هؤالء الناس ليسوا سوى جزء من قصة طويلة جداً‪ .‬راجع‪:‬‬
‫‪Robert Coles, The secular Mind, Princeton University Press, Princeton, NJ, USA, (1999), p 40.‬‬

‫‪20‬‬
‫ال مع العامل‪ .‬وقد أحدث العكس الكيل هلذا التصور‪،‬‬ ‫فيه جزء ًا متكام ً‬
‫والذي حدث يف األربعامئة سنة األخرية‪ ،‬حتطي ًام الستمرارية التجربة‬
‫البرشية‪ ،‬ولتكاملية البناء النفيس لإلنسان‪.6‬‬
‫غموض الوجود ولغز الموت‬
‫مرتكز‬
‫ُ‬ ‫ال تو ّد هذه الورقة أن تناقش قضايا فلسفية أصولية؛ فال‬
‫َط ْر ِحها‪ ،‬وال ح ّي ُزها‪ ،‬يسمحان بذلك‪ .‬غري أن األسئلة الوجودية‬
‫الكربى تظل عنرص ًا مؤثر ًا‪ ،‬وعىل الدوام‪ ،‬عىل أفكار الناس ومسلكهم‪،‬‬
‫وخمتلف خياراهتم؛ يستوى يف ذلك العلامء‪ ،‬والبسطاء‪ .‬كام وضح‪،‬‬
‫من الناحية العملية الواقعية‪ ،‬أن قضية النهضة‪ ،‬يف السياق العريب‪،‬‬
‫ال متلك أن تتجاوز مناقشة الدين‪ ،‬واملفاهيم الدينية‪ .‬ومناقشة الدين‬
‫تستدعي بالرضورة سؤال املعنى‪ ،‬وسؤال األخالق تلقائي ًا‪ .‬فالوجود‬
‫كظاهرة‪ ،‬كان‪ ،‬وما زال‪ ،‬ظاهرة حمرية‪ ،‬وكذلك املوت‪ .‬وما من ّ‬
‫شك أن‬
‫هاتني الظاهرتني ستبقيان غامضتني‪ ،‬مهام تقدمت املعارف‪ ،‬يف العلوم‬
‫الطبيعية‪ ،‬ويف الفلسفة‪ ،‬ويف الالهوت‪ ،‬أيض ًا‪ .‬األسئلة حول هاتني‬
‫الظاهرتني لن جتد‪ ،‬يف يوم من األيام‪ ،‬إجاب ًة حاسم ًة‪ ،‬وذلك لسبب‬
‫تعذر إحاطة اجلزئي بالكيل‪ ،‬أو كام يقول املتصوفة‪ ،‬إحاطة‬‫بسيط‪ ،‬هو ُّ‬
‫«احلادث» بـ «القديم»‪ .‬أو كام يصور ذلك كني ويلرب‪ ،‬بصورة أخرى‪ ،‬يف‬
‫ٍ‬
‫جماز‪َ ،‬س ّمه‪« :‬راسم اخلريطة الذي هو ليس جزء ًا منها»‪ .‬اختار كني ويلرب‬
‫ليقرب الصورة إىل األذهان يف ما يتعلق بنقده ملقولة الفصل‬
‫ذلك املجاز ّ‬
‫وتصور أن اإلنسان يسعى إىل فهم العامل من‬ ‫َّ‬ ‫بني الذات واملوضوع‪،‬‬
‫ٌّ‬
‫مستقل عن العامل‪ .‬أو بوصفه‪،‬‬ ‫موقع اإلحساس بأنه؛ أي اإلنسان‪ٌ ،‬‬
‫كيان‬
‫كيان ًا غري حمكوم بقوانني الكوسموس ‪ ،cosmos‬عىل ذات النسق الذي‬
‫هييمن به الكوسموس عىل عنارص الطبيعة األخرى‪ .‬فاإلنسان حياول‬

‫‪6. Morris Berman, The reenchantment of the world, Bantam Books, New York, NY,‬‬
‫‪USA, (1984), p. 23‬‬

‫‪21‬‬
‫أن يفهم العامل‪ ،‬مستند ًا إىل فلسفة حقبة احلداثة املوسومة لدى مفكري‬
‫ما بعد احلداثة بـ «العلموية»‪ ،‬ويف ذهنه أنه جمرد راسم خلريطة هو ليس‬
‫جزء ًا منها‪ ،‬متومه ًا استقالالً عن بنيتها‪ٍ ،‬‬
‫بقدر يمكّنه من فهمها بصورة‬
‫كلية‪ ،‬بل والتحكم فيها‪ .‬هذا يف حني أهنا حميطة بعقله‪ ،‬وخياراته‪ ،‬مثلام‬
‫هي حميطة بعنارص الطبيعة األخرى‪ ،‬ولكن يف مستوى خمتلف‪.7‬‬
‫الشاهد أن املعارف البرشية معارف نسبية‪ ،‬وهذا بدهيي‪ ،‬كام أنه‬
‫ليس املهم هنا‪ .‬املهم حقيق ًة‪ ،‬أن املعارف البرشية ستظل نسبية‪ ،‬وهي يف‬
‫كل البعد عن احلقيقة‪ ،‬مهام تقدَّ م‬‫نسبيتها هذه ستظل‪ ،‬عىل الدوام‪ ،‬بعيد ًة َّ‬
‫الزمن‪ .‬وأعني هنا حتديد ًا‪ ،‬املعرفة املتعلقة بمحاولة استكناه اجلوهر‪.‬‬
‫صح ما تقدَّ م‪ ،‬وهو عندي صحيح‪ ،‬فإن الدين سوف يبقى‪ ،‬عىل‬ ‫فإذا ّ‬
‫ملجأ لغالبية البرش‪ .‬وسيظل بتج ّلياته الروحانية املختلفة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫تعدد أنامطه‪،‬‬
‫املنهل األقدر عىل إرواء عطش املعنى األز ّيل لدى الناس بمختلف‬
‫ثقافاهتم‪ .‬كام سيبقى ملجأ الغلبة الغالبة منهم‪ ،‬من أجل الراحة النفسية‬
‫من املخاوف الوجودية‪ ،‬املتمثلة يف هواجس العواقب األخروية‪ ،‬وهي‬
‫القدَ م تعود نشأهتا إىل اللحظة التي واجه فيها اإلنسان‬ ‫هواجس بالغة ِ‬
‫قوى الطبيعة‪ ،‬ألول مرة‪ ،‬فاسرتهبت عقله‪ ،‬وسحرت وجدانه‪.‬‬
‫بعيد ًا عن تلك املخاوف واهلواجس التارخيية املوغلة يف ِ‬
‫القدَ م‪ ،‬التي‬
‫ال تزال تراوح مكاهنا يف النفس البرشية‪ ،‬حيثام ُوجدت‪ ،‬فإن غموض‬
‫ظاهرة الوجود‪ ،‬واإلحساس لدى األكثرية من البرش‪ ،‬بعدم القدرة عىل‬
‫البت يف ماهيتها بصورة حاسمة‪ ،‬كان له أثره الكبري‪ ،‬ال عىل عامة الناس‬
‫ّ‬
‫وحسب‪ ،‬وإنام عىل أكرب العقول العلمية‪ ،‬أيض ًا‪ .‬فعىل سبيل املثال‪ ،‬نجد‬
‫أن تشارس داروين وألربت آينشتاين‪ ،‬ومها من أبرز العلامء‪ ،‬الذين‬
‫اشتغلوا يف جمالني علميني متصلني بالبحث يف الظاهرة الوجودية‪ ،‬بقيا‬

‫‪7. Ken Wilber, A brief history of everything, (3 Ed), Shambhala Publications, Boston,‬‬
‫‪MA, USA, (2000), p‬‬

‫‪22‬‬
‫متمسكني بنوع من اإليامن الديني‪ .‬هذا مع أهنام ق َلبا‪ ،‬يف جما ْيل ختصصهام‪،‬‬
‫ال عن أن طائف ًة كبري ًة‬
‫املفاهيم التي سبقتهام‪ ،‬رأس ًا عىل عقب‪ .‬هذا فض ً‬‫َ‬
‫من الفالسفة‪ ،‬وعلامء اإلنسانيات‪ ،‬بقيت حمتفظ ًة بإيامهنا الديني‪ ،‬بصورة‬
‫من الصور‪ ،‬والنامذج يف ذلك مستفيضة‪ .‬لذلك‪ ،‬ربام جاز القول‪ ،‬أنه ال‬
‫التعمق يف املعرفة يف العلوم الطبيعية‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫توجد عالقة ارتباط رشطية بني‬
‫والعلوم اإلنسانية‪ ،‬وبني االبتعاد عن اإليامن الديني‪ ،‬ال يف املايض‪ ،‬وال‬
‫يف احلارض‪ .‬بل‪ ،‬ربام‪ ،‬وال يف املستقبل‪ ،‬أيض ًا‪ .‬فالربط بني تقدُّ م املعارف‬
‫وتراجع الدين‪ ،‬أو الروحانيات‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫يف العلوم الطبيعية‪ ،‬والعلوم اإلنسانية‪،‬‬
‫تبسيطي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ربط‪ ،‬يمكن أن ن َِص َفه‪ ،‬بأنه ربط‬
‫ٌ‬
‫اإلسالم دين ودولة‬
‫األطروحة املركزية يف هذه الورقة هي أن هناك واجب ًا تارخيي ًا‪،‬‬
‫مل يضطلع به املثقف العريب‪ ،‬كام ينبغي‪ .‬ذلك الواجب هو رضورة‬
‫االنخراط يف جهود اإلصالح الديني‪ ،‬وإدارة احلوار حول قضية الدين‪،‬‬
‫من داخل بنية الدين ذاهتا‪ ،‬ال من خارجها‪ ،‬وحسب‪ .‬فمناقشة قضية‬
‫غري َقدْ ٍر من االنخراط فيها‬
‫الدين من خارجها‪ ،‬يف السياق العريب‪ ،‬من ِ‬
‫جرب املثقفون العلامنيون ـ وأعني‬
‫من داخلها‪ ،‬كاحلرث يف البحر‪ .‬فلقد ّ‬
‫هنا العلامنيني الفلسفيني‪ ،‬وال أعني العلامنيني دعاة فصل الدين عن‬
‫مؤسسة احلكم ـ ذلك النهج منذ هنايات القرن التاسع عرش‪ ،‬من غري‬
‫أن يكون له مردود ُيذكر‪.‬‬
‫استطاعت كثري من الثقافات اإلنسانية عىل كوكب األرض أن‬
‫تدلف إىل ساحة التحديث والنهضة‪ ،‬دون إشكاليات كثرية‪ .‬ويمثل‬
‫لدي أن ما أعاق‬
‫شك ّ‬ ‫رشق آسيا يف ذلك نموذج ًا واضح ًا‪ .‬وما من ٍّ‬
‫النهضة والتحديث يف الفضاء العريب‪ ،‬هو املفاهيم الدينية‪ ،‬وأعني هنا‬
‫حتديد ًا‪ ،‬املفاهيم الدينية اإلسالمية‪ .‬يضاف إىل ذلك‪ُ ،‬سلطة املؤسسة‬

‫‪23‬‬
‫والسلطة‪ .‬سيبقى‬
‫ُّ‬ ‫الدينية‪ ،‬وارتباطها بالقوى املسيطرة عىل الثروة‬
‫َ‬
‫ونمط أسلوب‬ ‫اخلارجي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫املظهر‬
‫َ‬ ‫التحديث قرش ًة خارجي ًة‪ ،‬ال تتعدى‬
‫العيش‪ ،‬ونزع َة االستهالك‪ ،‬ما مل جير حوار ّ‬
‫معمق ينبثق من داخل بنية‬
‫الدين نفسها‪ .‬وسوف يرد ذلك الحق ًا‪.‬‬
‫النصوص القرآنية قطعية الثبوت‪ ،‬والداللة‪ ،‬تقول إن اإلسالم دين‬
‫ودولة‪ .‬فقد ورد يف سورة املائدة‪« ،‬ومن مل حيكم بام أنزل اهلل‪ ،‬فأولئك هم‬
‫الكافرون‪ .»8‬وقد ورد نفس هذا املعنى‪ ،‬بصور خمتلفة‪ ،‬يف آيات أخرى‬
‫يف نفس السورة‪ ،‬مع تنويع يف الفاصلة فقط‪ .‬انتهت اآلية ‪ 45‬بفاصلة‪:‬‬
‫«فأولئك هم الظاملون‪ .»9‬وانتهت اآلية ‪ ،47‬بفاصلة‪« :‬فأولئك هم‬
‫الفاسقون‪ .»10‬االعتقاد يف أن حتكيم الدين يف حياة الناس معاش ًا ومعاد ًا‪،‬‬
‫واجب ديني ملزم لكل فرد‪ ،‬هو ما قام عليه مفهوم «احلاكمية» يف فكر‬
‫اإلخوان املسلمني‪ ،‬وغريهم من دعاة الدولة الدينية وما َس ّموه‪« ،‬تطبيق‬
‫رشع اهلل»‪ .‬فالفهم السائد هو أن املسلم يبقى مقرص ًا‪ ،‬إن هو مل يعمل عىل‬
‫حتكيم كتاب اهلل‪ .‬فغالبية املسلمني‪ ،‬تنظر إىل إقامة الدولة الدينية‪ ،‬عىل‬
‫ديني؛ كالصالة‪ ،‬والزكاة‪ ،‬والصوم‪ .‬ولذلك يبقى عدم‬ ‫عني ّ‬‫فرض ٍ‬ ‫أهنا ُ‬
‫إقامتها مصدر ًا مستمر ًا للشعور بالتقصري ولتبكيت الضمري‪ .‬هذا هو ما‬
‫ف‪ ،‬إال ليدخل يف أخرى‬ ‫جيعل الفضاء العريب‪ ،‬ال خيرج من موجة تطر ٍ‬
‫ّ‬
‫أكثر عنف ًا‪ .‬هذه الوضعية ال تنطبق عىل الثقافات األخرى‪ ،‬كثقافات‬
‫رشق آسيا‪ ،‬ألن دياناهتا‪ ،‬مل تربط بني الروحانية‪ ،‬التي تتشاركها كل‬
‫األديان‪ ،‬وإقامة الدولة الدينية‪ .‬لذلك‪ ،‬لن تتحقق النهضة والتحديث‪،‬‬
‫باملعنى احلضاري العميق‪ ،‬يف السياق العريب‪ ،‬إال من خالل اإلصالح‬
‫الديني‪ ،‬فهو سياق ذو إشكالية خاصة‪ ،‬ال تزال تنتظر املعاجلة اجلريئة‪.‬‬

‫‪ .8‬سورة املائدة‪ ،‬آية ‪.44‬‬


‫‪ .9‬نفس السورة‪ ،‬آية ‪.45‬‬
‫‪ .10‬نفس السورة‪ ،‬آية ‪.47‬‬

‫‪24‬‬
‫من العوامل األخرى املهمة‪ ،‬عامل ُسلطة رجال الدين عىل عقول‬
‫سواد اجلمهور‪ ،‬وتأثريها عليهم‪ .‬فهي‪ ،‬أكرب بكثري‪ ،‬من ُسلطة املثقفني‬
‫وتأثريها عليهم‪ .‬والتفات اجلمهور العريب‪ ،‬خاصة اجلمهور املسلم‪،‬‬
‫إىل ما يقوله رجال الدين‪ ،‬أكرب بكثري‪ ،‬خاصة يف املجتمعات الريفية‪،‬‬
‫من التفاته إىل ما يقوله املثقفون‪ .‬فرجل الدين أقرب إىل رجل الشارع‬
‫من املثقف‪ .‬كام أن املسجد‪ ،‬والكتاب املدريس‪ ،‬ومراكز الطوائف‪ ،‬بل‬
‫تبث اخلطاب الديني‪ ،‬وهو مرتبط باخلطاب الرسمي‬ ‫وأجهزة اإلعالم‪ّ ،‬‬
‫لألنظمة الشمولية‪ ،‬التي تستخدم ذلك اخلطاب‪ ،‬لتُبقي عىل سيطرهتا‬
‫عىل اجلمهور‪ .‬هذه الدوائر املتمكنة‪ ،‬تستخدم لغة خمتلفة جد ًا عن اللغة‬
‫التي يستخدمها املثقف‪ ،‬ويسوق هبا بضاعته يف دوائر معزولة‪ ،‬شبه‬
‫مغلقة‪ .‬فاملثقف العريب يعاين هبذه الوضعية‪ ،‬من هتميش مركب؛ فهو‬
‫السلطة ال متلك إال أن تساوي الثقافة‬
‫السلطة‪ ،‬ألن ُّ‬ ‫ٌ‬
‫مهمش من ناحية ُّ‬
‫مهم ٌش من جانب اجلمهور‪ ،‬ألنه ابتعد عن جمال‬ ‫باملعارضة هلا‪ .‬وهو ّ‬
‫الدين‪ ،‬واستخدم لغ ًة عصية عىل فهم اجلمهور‪.‬‬
‫وبطبيعة احلال‪ ،‬فإن هتميش املثقف العريب ليس منحرص ًا يف‬
‫ما تقدم‪ .‬إذ أنه أكثر تركيب ًا من ذلك‪ .‬فمن اجلوانب األخرى حلالة‬
‫التهميش املركب تلك‪ ،‬أن حواضن املثقف العريب ليست حواضن‬
‫اجتامعية‪ ،‬بقدر ما هي حواضن رسمية حكومية‪ ،‬تقع‪ ،‬بصورة أو‬
‫السلطة السياسية للحكومات التي حترص حرص ًا‬ ‫أخرى‪ ،‬حتت سيطرة ُّ‬
‫شديد ًا عىل إما أن يكون املثقف يف صفها‪ ،‬أو ال يكون أبد ًا‪ .‬ولذلك فإن‬
‫أوضاع املثقف العريب أوضاع شديدة امليوعة‪ ،‬وال تنطبق عليها أوضاع‬
‫املثقفني اآلخرين يف السياق احلداثي األكثر استقرار ًا‪ ،‬وتقدم ًا‪ .‬حاول‬
‫املثقف العريب أن يقفز فوق واقعه‪ ،‬ف َع ُلق بالفكر الغريب‪ ،‬بل بنهاياته‪،‬‬
‫بالشقة التي تفصل بينه‬ ‫كاف ّ‬‫كاف‪ ،‬وبغري إحساس ٍ‬ ‫وعي نقدي ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫بال‬
‫ٍّ‬
‫ومجهوره بسبب غلبة التأثريات األجنبية عىل وعيه‪ .‬فاألفكار التي تربط‬

‫‪25‬‬
‫املثقف بجمهوره ال يمكن أن تكون مستوردة‪ ،‬وإنام ينبغي أن تصعد إىل‬
‫احلي للرتاث‪،‬‬
‫الواجهة حاملة الرتياق الذي ُيرج احلداثة من اجلوهر ّ‬
‫ٍ‬
‫دعامات جرى تثبيتها يف تربة الواقع ذاته‪ .‬عىل الرغم‬ ‫وهي مستندة عىل‬
‫من تعقيد طروحات املتصوفة العرفانية‪ ،‬خاصة كبار األقطاب‪ ،‬نجد‬
‫أن التصوف نجح يف خلق حواضن اجتامعية للوعي الديني الوسطي‪،‬‬
‫وللتسامح‪ ،‬واسعة االنتشار‪ .‬نجح املتصوفة يف حتقيق ذلك ألهنم‬
‫مصطلح ْي «الرشيعة» و«احلقيقة» وداللتهام يف املوروث‬
‫َ‬ ‫استخدموا‬
‫اهلوة بني «العارف» و«املريد»‪ .‬فالعارف يعامل‬ ‫ليجسوا ّ‬
‫ّ‬ ‫الصويف‪،‬‬
‫اخلالق باحلقيقة‪ ،‬ويف نفس الوقت يعامل اخللق بالرشيعة‪.‬‬
‫أشار إىل جانب من جوانب إشكالية املثقف وهتميشه‪ ،‬زهري توفيق‪،‬‬
‫يف كتابه‪« ،‬املثقف والثقافة»‪ ،‬حني حتدث عن هامشية النخبة الثقافية‬
‫العربية‪ ،‬مقارنة بالنخب العربية األخرى داخل السياق العريب نفسه‪.‬‬
‫وذلك‪ ،‬حني عقد مقارنة بني «النخب الثقافية العربية»‪ ،‬والنخب العربية‬
‫األخرى‪ ،‬التي َس ّمها «النخب الالثقافية»‪ ،‬وعنى هبا النخب السياسية‬
‫واالقتصادية‪ .‬فالنخب األخرية‪ ،‬تتميز عىل األوىل بأهنا ذات قدرات‬
‫مادية‪ ،‬وذات مرتكزات طائفية وعشائرية‪ ،‬يف حني تفتقر «النخب‬
‫الثقافية» إىل املال وإىل السند العشائري والطائفي‪ .11‬ويطرق برهان‬
‫‪ .11‬يرى زهري توفيق أن النخبة الثقافية يف عاملنا العريب يتعذّر ضبطها مفهومياً وواقعياً‪ ،‬فهي أقرب‬
‫ما تكون إىل السيولة املعرفية‪ .‬هذا يف حني نجد أن النخب األخرى‪ ،‬السياسية واالقتصادية والعشائرية‬
‫يف فضائنا العريب‪ ،‬متلك‪ ،‬يف واقعها املعاش‪ ،‬رشعية وجودها وحضورها‪ ،‬بقدر ال ميكن أن يتوفر للنخب‬
‫الثقافية العربية‪ .‬فالنخب األخرى تتمتع بقدرات مادية ورمزية‪ ،‬جعلتها قادرة عىل فرض األمر الواقع‪ ،‬بل‬
‫واستدامته إىل حد كبري‪ .‬هذه النخب «الالثقافية»‪ ،‬قادرة أيضاً عىل تغييب األسس التاريخية واملنطقية‬
‫الالزمة لنقض وتقويض األوضاع التي ثبتتها‪ .‬فهي تتميز‪ ،‬عىل النقيض من النخب الثقافية‪ ،‬بقدرتها عىل‬
‫السلطة والرثوة‪ ،‬واستدامة السيطرة عىل املحكومني‪ ،‬واستثامر كدّهم ووجودهم نيابة عن الطبقة‬ ‫إنتاج ُّ‬
‫املسيطرة‪ .‬أما النخب الثقافية فليس لديها ُسلطة مادية تفرض بها سيطرتها‪ .‬بل هي ال تستطيع تسليع‬
‫وتسعري منتوجها الثقايف يف مجتمع مل يصل بعد درجة الطلب للمنتوج الثقايف‪ .‬بل إن الثقافة‪ ،‬يف تصور‬
‫البعض‪ ،‬ال تزال خدمة عامة‪ ،‬ورسالة إنسانية يضطلع بها من يضطلع بها تفانياً ونبالً ومجانية‪ .‬ولذلك‪ ،‬ال‬
‫تجد النخب الثقافية‪ ،‬أحياناً‪ ،‬مخرجاً من أوضاعها الضاغطة سوى االنخراط يف البنى االجتامعية األخرى‬
‫لتسويغ وجودها‪ ،‬وتصعيد مطالب اآلخرين‪ ،‬وإضفاء الرشعية والعقالنية عليها‪ .‬راجع‪ :‬زهري توفيق‪ ،‬املثقف‬
‫والثقافة‪ ،‬املؤسسة العربية للدراسات والنرش‪ ،‬عامن‪ ،‬األردن‪ ،2013 ،‬ص ‪.17-11‬‬

‫‪26‬‬
‫غليون جانب ًا آخر من هذه اإلشكالية‪ ،‬مشري ًا إىل أن النخب البريوقراطية‬
‫املثقفة يف املجتمعات العربية مل حتظ‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬بام حظي به املثقفون‬
‫يف روسيا املتفجرة بثورة الفالحني‪ .‬فاملثقفون العرب مل تقف وراءهم‬
‫قوى اجتامعية متامسكة أو متسقة‪ ،‬ذات مستقبل تارخيي واضح‪ ،‬يسندون‬
‫إليها ظهورهم‪ ،‬وهم يعملون عىل خلق نمط متكامل للحداثة‪.12‬‬
‫يقول الوضع القائم يف أقطارنا‪ ،‬عىل اختالف يف الدرجة‪ ،‬إن هناك‬
‫جمالني متوازيني‪ ،‬ال يتداخالن‪ ،‬إال شكلي ًا‪ ،‬وال جيري بينهام حوار‬
‫السلطة الدينية‪ ،‬وجمال ُسلطة املعرفة احلرة التي‬
‫جدّ ّي منتج؛ مها جمال ُّ‬
‫يروج هلا املثقفون املشتغلون بقضايا التنوير‪ ،‬والتحديث‪ ،‬والنهوض‬ ‫ّ‬
‫احلضاري‪ .‬فإذا استمر هذان املجاالن يف حالتهام الراهنة‪ ،‬من انعدام‬
‫االشتباك احلواري املعقلن‪ ،‬واهلادئ‪ ،‬بينهام‪ ،‬فإن اجلمهور سوف يظل‪،‬‬
‫ماضوي‬
‫ّ‬ ‫يف قبضة السلطات الدينية‪ ،‬والطائفية والعشائرية‪ ،‬وسيبقى‬
‫التفكري‪ ،‬ماضوي التطلعات‪ .‬وبنا ًء عليه‪ ،‬سوف يتكرر انتكاس‬
‫حماوالت النهوض‪ ،‬كل حني وآخر‪ .‬ومن ينظر إىل الصورة الكلية‪ ،‬منذ‬
‫بداية النهضة العربية‪ ،‬حني واجهت الشعوب العربية حتديات احلداثة‪،‬‬
‫يرى تَوايل االنتكاسات‪ .‬بل بلغت االنتكاسات حد ًا خرج به الفكر‬
‫املاضوي‪ ،‬من جمرد رؤى تعشعش يف العقول‪ ،‬ليصبح ظاهرة سياسية‬
‫معسكرة‪ ،‬احتلت مساحات شاسعة يف كل من سوريا والعراق‪ ،‬بل‪،‬‬
‫نوع من الفراغ السيايس واإلداري‪.‬‬
‫تنذر بمزيد من التمدد حيثام تَشكَّل ٌ‬
‫يرى جورج طرابييش أن التحديث الرتاثي‪ ،‬هو املقدمة املمهدة‪،‬‬
‫لطور أعىل‪ ،‬من التحديث جييء بعده‪ .‬ويعني‬ ‫ٍ‬ ‫والرشط الرضوري‬
‫طرابييش‪ ،‬حتديد ًا‪ ،‬التحديث الالهويت والفلسفي‪ ،‬فبغري جتديد يطال‬
‫احلر‪،‬‬
‫التفكري ُّ‬
‫ُ‬ ‫الالهوت‪ ،‬وحيرر النص من النص‪ ،‬لن جتد الفلسف ُة‪ ،‬وال‬

‫‪ .12‬برهان غليون‪ ،‬تهميش املثقفني ومسألة بناء النخب القيادية‪( ،‬ط ‪ )2‬يف‪ :‬املثقف العريب‪ :‬همومه‬
‫وعطاؤه‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬ومؤسسة عبد الحميد شومان‪ ،2001 ،‬ص ‪.118-85‬‬

‫‪27‬‬
‫سبي َلهام إىل العقول‪ .‬يتوقع طرابييش أن تتواىل عملية التحديث الرتاثي‪،‬‬
‫التي بدأت يف هنايات القرن العرشين‪ ،‬عرب النصف األول من القرن‬
‫احلادي والعرشين‪ .‬فإعادة النظر يف الرتاث ال بدّ هلا‪ ،‬وهي تسري نحو‬
‫حترير العقول‪ ،‬من املرور بمرحلة حتديث لالهوت‪ .‬فتحرير الالهوت‪،‬‬
‫يف نظره‪ ،‬رشط لكي يصبح التجديد الفلسفي ممكن ًا‪ .‬فالتحرير الالهويت‪،‬‬
‫حيرر النص‪ ،‬من النص‪ ،‬أما الفلسفي فيحرر العقل من النص‪ .13‬ويتوقع‬
‫طرابييش‪ ،‬أن النصف الثاين من القرن احلادي والعرشين سوف يشهد‬
‫النقلة التالية‪ ،‬املتمثلة يف التحديث الفلسفي‪.‬‬
‫الغرب وعقلنة الدين‬
‫انسحاب املثقفني العرب من ساحة الدين‪ ،‬جعل الساحة الدينية‪،‬‬
‫خاصة اإلسالمية‪ ،‬قليلة التأثر بالعقلنة‪ ،‬وذلك عىل خالف ما جرى يف‬
‫الغرب‪ .‬ففي الغرب أدى إدخال العلوم الطبيعية إىل اجلامعات إىل إثراء‬
‫النظر يف الدين‪ ،‬وإىل انخراط األكاديميني‪ ،‬واملفكرين واملثقفني يف مناقشة‬
‫قضية الدين‪ ،‬مصطحبني حصيلة علمية أ ّثرت عىل النظر إىل الظواهر‪.14‬‬
‫لقد تداخل الالهوت مع العلوم الطبيعية ومع الفلسفة يف مؤسسات‬
‫التدريس الغربية‪ .‬ولذلك ظل جمال الدين يتغري من داخله‪ ،‬وظل وعي‬
‫األكاديميني واملفكرين واملثقفني وهم يديرون حوار الدين والعلم‪،‬‬
‫‪ .13‬جورج طرابييش‪ ،‬من النهضة إىل الردة‪ :‬متزقات الثقافة العربية يف عرص العوملة‪( ،‬ط‪ )2‬دار الساقي‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬لبنان‪ )2000( ،‬ص ص ‪.44-43‬‬
‫‪ .14‬يقول عزمي بشارة‪ ،‬إن العلوم العربية تطورت فردياً‪ ،‬يف مسار خاص بها‪ ،‬خارج املؤسسات‪ ،‬ويكاد‬
‫ذلك التطور أن يكون رسياً‪ ،‬يف مراحل معينة‪ .‬غري أن نتائج ذلك التطور عادت وأثرت يف سري التدريس يف‬
‫املؤسسات القامئة يف العرص اإلسالمي الوسيط‪ .‬ويرى بشارة ان تلك هي خصوصية العلم التجريبي يف تاريخ‬
‫الحضارة اإلسالمية من ناحية عدم إنتاجه طرائق نظر فكرية عىل غرار ما حدث الحقاً يف أوروبا‪ .‬ويرى‬
‫بشاره أن الكتب العربية يف العلوم التي وصلت إىل أوروبا من األندلس‪ ،‬أصبحت تدرس يف الجامعات‪،‬‬
‫إىل جانب الالهوت والطب والقانون‪ .‬هذا يف حني كانت ممنوعة من التدريس يف مؤسسات التدريس‬
‫اإلسالمية‪ ،‬أوالً يف املسجد‪ ،‬والحقاً يف املدرسة‪ .‬فقد انحرصت مادة التدريس يف الرشيعة وحدها‪ ،‬وهنا تكمن‪،‬‬
‫وفقاً لوجهة نظره‪ ،‬مأساة التاريخ العريب‪ .‬راجع‪ :‬عزمي بشارة‪ ،‬الدين والعلامنية يف سياق تاريخي‪ ،‬الجزء‬
‫الثاين‪ ،‬املجلد األول‪ ،‬املركز العريب لألبحاث ودراسة السياسات‪ ،‬الدوحة وبريوت‪ ،)2015( ،‬ص‪ ،‬ص‪.44 - 43 ،‬‬

‫‪28‬‬
‫يتغري‪ ،‬هو اآلخر‪ .‬وأهم من ذلك‪ ،‬ظل وعي عامة اجلمهور بعالقة الدين‬
‫بالعلم يتغري أيض ًا‪ .‬ارتفعت كل تلك املجاالت الثالثة بصورة متساوقة‪،‬‬
‫ما أسهم يف إزالة حالة االستقطاب والعدائية املفرطة‪ ،‬بني الدين‬
‫والعلامنية‪ ،‬ليحل حملها‪ ،‬إىل حد كبري جد ًا‪ ،‬التفاهم واحلوار املوضوعي‪.‬‬
‫لو ن َظ ْرنا إىل هنايات تلك السريورة الغربية‪ ،‬وأعني هنا حالتها يف‬
‫حارضنا القائم‪ ،‬يف بالد غربية‪ ،‬كالواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬عىل‬
‫سبيل املثال‪ ،‬لوجدنا أن هناك تعيش ًا بني الدين والعلامنية‪ ،‬يف إطار‬
‫اإلقرار بأن الدولة جهاز إداري ال يتبنى وجهة نظر دينية بعينها‪ .‬غري‬
‫أن الرؤى الدينية‪ ،‬واملنظور الديني‪ ،‬واملنظومة القيمية الدينية‪ ،‬التي‬
‫ختتلف بني مجاعة ومجاعة‪ ،‬وفرد وآخر‪ ،‬ال تزال تغذي اجلدل املستمر‬
‫بني املرتكز الفكري الديني‪ ،‬واملرتكز الفكري العلامين الذي يقف وراء‬
‫متس حياة الناس اليومية‪ .‬واملهم هنا‪،‬‬
‫فلسفة وأخالقية الترشيعات التي ّ‬
‫أن هذا اجلدل جيري باحرتا ٍم كامل لقواعد اللعبة الديمقراطية‪ .‬ولذلك‪،‬‬
‫فإننا نجد أن قضايا مثل قضايا اإلجهاض‪ ،‬ومنع أداء الصلوات يف‬
‫املدارس‪ ،‬وارتداء الرموز الدينية بالنسبة للطالب‪ ،‬وحقوق املثليني‪،‬‬
‫وغريها من القضايا اجلدلية‪ ،‬ال تزال متثل نقاط احتكاك ساخنة‪،‬‬
‫متجدِّ دة‪ ،‬بني مرجعيتَي الدين‪ ،‬من جهة‪ ،‬والتفكري العلامين‪ ،‬من جهة‬
‫أخرى‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬هناك احتكاك شديد‪ ،‬بني معتنِ ِقي املفاهيم‬
‫الدينية‪ ،‬الذين يرون أن احلريات الشخصية هلا حدود‪ ،‬وبني العلامنيني‬
‫وغريهم الذين ال ينفكّون يوسعون جمال احلريات الشخصية‪ .‬غري أن‬
‫احلوار‪ ،‬يف كل تلك األمور‪ُ ،‬يدار‪ ،‬يف الغالب األعم‪ ،‬بحكمة وبعقالنية‪.‬‬
‫جيري ذلك‪ ،‬حتى من جانب املتد ّينني املحافظني جد ًا‪ .‬إذ ينعدم يف هذه‬
‫االحتكاكات الشديدة‪ ،‬االحتقان الشديد‪ ،‬وااللتهاب‪ ،‬والعنف‪ ،‬مع‬
‫استثناءات قليلة‪ ،‬تَصدُ ر من أفراد من املتطرفني الدينيني‪ ،‬يف حوادث‬
‫فردية معزولة‪ ،‬كمهامجة عيادات اإلجهاض‪ ،‬أو االعتداء البدين عىل‬

‫‪29‬‬
‫األطباء الذين ُيرون عمليات اإلجهاض‪ ،‬أو عىل املثليني‪ .‬وقد بلغت‬
‫بعض تلك االعتداءات درجة حماوالت حرق العيادات واغتيال‬
‫األطباء الذين يامرسون إجهاض احلوامل‪.‬‬
‫الرصاع يف عموم الفضاء الغريب‪ ،‬بني ما ينبغي أن يكون عليه‬
‫الدستور‪ ،‬وما ينبغي أن تكون عليه الترشيعات‪ُ ،‬يدار بعقالنية‪ ،‬وجتري‬
‫فيه جمادالت‪ ،‬فكرية وقانونية‪ ،‬غنية ومثرية جد ًا لالهتامم‪ ،‬حتى من‬
‫جانب اليمني املسيحي املتشدد‪ .‬فالرصاع يف الغرب ليس بمجمله‬
‫أصم‪ ،‬نافر ًا من الدين‪ ،‬أو متآمر ًا عىل قيمه‪ ،‬كام جيري‬
‫َّ‬ ‫كيان ًا «علامني ًا»‬
‫تصوير ذلك وسط املسلمني من فئات إسالمية غارقة يف التبسيط‬
‫جمال مفتوح‬‫واالختزال‪ .‬وإنام يوضح‪ ،‬أن الغرب‪ ،‬يف حقيقته القائمة‪ٌ ،‬‬
‫يصطرع فيه «الدين»‪ ،‬مع «العلامنية»‪ ،‬فكري ًا‪ ،‬وكذلك إجرائي ًا‪ ،‬من‬
‫الناحية السياسية‪ ،‬عرب صناديق االقرتاع‪ ،‬بحرية واسعة جد ًا‪ .‬ولذلك‬
‫فإن النظام الديمقراطي‪ ،‬يفتح ملن يريدون للترشيع أن يستند عىل القيم‬
‫الدينية‪ ،‬والذين يريدونه أن يستند عىل القيم الليربالية‪ ،‬أن يتنافسوا‬
‫سلمي ًا عىل كسب تفويض اجلمهور عن طريق املامرسة الديمقراطية‪.‬‬
‫وتبقى الدولة حلبة حمايدة جيري فيها هذا الرصاع‪.‬‬
‫حالة التعايش بني النظرتني الدينية والعلامنية التي جسدهتا التجربة‬
‫الغربية‪ ،‬وإدارة الرصاع سلمي ًا‪ ،‬من داخل بنية النظام الديمقراطي‪،‬‬
‫مل يكن يمكن الوصول إليها لوال أن مثقفيه قد انخرطوا‪ ،‬منذ قرون‬
‫طويلة‪ ،‬يف قضايا التجديد الديني‪ .‬مل يقف مثقفو الغرب عىل السياج‪،‬‬
‫ختصصية‪ ،‬منوطة حرص ًا بمن ّ‬
‫يسمون‬ ‫بزعم أن اإلصالح الديني مهمة ّ‬
‫«رجال الدين»‪ .‬هذا مع اإلقرار بأن اإلصالح الديني يف أوروبا‪،‬‬
‫قد انبثق من داخل بنية الكنيسة نفسها‪ .‬الشاهد‪ ،‬أن جهود املفكرين‬
‫والفالسفة وانخراطهم يف اجلدل الديني‪ ،‬شاملني الظاهرة الدينية‬
‫نفسها‪ ،‬وتعاليم الدين‪ ،‬بالنظر العقيل‪ ،‬أدى إىل عقلنة املجال الديني‪،‬‬

‫‪30‬‬
‫وروحنة املجال العقيل‪ .‬لقد جرى ترفيع كبري للوعي الديني‪ .‬كام جرى‬
‫ترويض املجال الديني وتعويده عىل التعاطي مع االحتكاكات املتجددة‬
‫ٍ‬
‫وإعامل حلسن النية‪ ،‬إىل حدٍّ‬ ‫بني الدين والعلامنية‪ ،‬بعقالنية‪ ،‬وباحرتا ٍم‪،‬‬
‫كبري‪ .‬ونتيجة لذلك‪ ،‬تراجع يف الغرب العراك احلاد والعنيف‪ ،‬ونشأت‬
‫بني الدين والعلامنية ما يمكن أن نسميها‪ ،‬حالة شبه مستدامة‪ ،‬هي‬
‫أقرب ما تكون إىل التعايش‪ ،‬بل وإىل االعتامدية املتبادلة‪.‬‬
‫يورد عبد الرازق الداوي رؤية ماكس فيرب لدَ ْور احلوافز األخالقية‬
‫والدينية الفعالة يف سلوك البرش‪ ،‬ويف احلياة االجتامعية للشعوب‪ .‬فهو‬
‫قد منح األولوية للعوامل الثقافية والدينية‪ ،‬يف التأثري عىل التحوالت‬
‫االقتصادية واالجتامعية‪ .‬فالثورة الرأساملية يف الغرب‪ ،‬كام يراها فيرب‪،‬‬
‫كانت ثورة ثقافية يف املقام األول‪ ،‬استندت عىل اإلصالح اللوثري‬
‫والكالفيني‪ .15‬أيض ًا‪ ،‬يرى برهان غليون أن اجلامعة كالفرد‪ ،‬فهي ال‬
‫عمل أو مرشوعٍ‪ ،‬دون أن‬ ‫ٍ‬ ‫تستطيع أن تبادر وتعمل وتنهض بأداء أي‬
‫تعرف نفسها‪ ،‬وحتدد مكاهنا و َد ْورها ورشعية وجودها كجامعة مميزة‪،‬‬
‫وأن تدرك من هي‪ ،‬وأن تكون ذات ًا‪ ،‬أي إرادة‪ .16‬وهيمني حتديد ًا‪ ،‬يف نص‬
‫برهان غليون‪ ،‬تأكيده عىل رضورة أن تعي اجلامعة التي تود النهوض‪:‬‬
‫«رشعية وجودها كجامعة مميزة»‪ .‬ويؤكد فهمي جدعان‪ ،‬الذي اختار‬
‫أن حيرص مبحث ورقته املنشورة عن العدالة يف السياق العريب‪ ،‬عىل‬
‫رضورة الوعي بالذات‪ ،‬واالنطالق نحو التحديث من منطلق أصيل‪.‬‬
‫ّ‬
‫ويدل عىل ذلك العنوان الذي اختاره هلا‪ ،‬فهو يقرأ‪« :‬العدالة يف حدود‬
‫ديونطولوجيا عربية»‪ .‬وذكر جدعان‪ ،‬أن هذا اخليار انطوى‪ ،‬بالنسبة‬
‫له‪ ،‬عىل «هاجس الدفاع عن هوية خاصة»‪ ،‬هي اهلوية العربية‪ .‬وذكر‬
‫‪ .15‬عبد الرزاق الدواي‪ ،‬يف الثقافة والخطاب عن حرب الثقافات‪ :‬حوار الهويات الوطنية يف زمن العوملة‪،‬‬
‫املركز العريب لألبحاث ودراسة السياسات‪ ،‬الدوحة وبريوت‪ ،)2013( ،‬ص ‪59‬‬
‫‪ .16‬برهان غليون‪ ،‬اغتيال العقل‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت لبنان‪ ،‬والدار البيضاء‪ ،‬املغرب‪( ،‬ط ‪،)5‬‬
‫‪ ،2009‬ص ‪.28‬‬

‫‪31‬‬
‫أنه إنام فعل ذلك حرص ًا عىل حترير املخيال والدماغ العريب من استبداد‬
‫الفلسفات األحادية‪ ،‬التي تنكر عىل «الثقافات اخلاصة» متيزها‪ ،‬وفرادهتا‬
‫ومجالياهتا‪ ،‬بل وعبقرياهتا‪.17‬‬
‫ظل الفضاء العريب‪ ،‬بكل مكوناته‪ ،‬يعاين‪ ،‬منذ أن دخل حقبة‬
‫خماض طويلة‪ِ ،‬س َمتُها األساسية‪ ،‬التيه عن الذات‪ ،‬وعن‬
‫ٍ‬ ‫احلداثة‪ ،‬فرتة‬
‫اجلذر احلضاري‪ ،‬مع صعوبة يف اإلمساك بعنارص التحديث‪ ،‬الكامنة‬
‫فيهام‪ ،‬وغريها مما يميز ثقافتنا وحيدد مسارنا اخلاص بنا‪ .‬فثورة التحديث‬
‫يف الوطن العريب ينبغي أن تبدأ بثورة ثقافية هي األخرى‪ .‬ولكن‪ ،‬لن‬
‫تكون هناك ثورة ثقافية ذات مردود‪ ،‬ما مل تلمس املجال الديني‪ ،‬وجتعل‬
‫احلر‬ ‫منه جماالً يسمح باألخذ والرد‪ ،‬ويصبح قاب ً‬
‫ال لالنفتاح عىل الفكر ّ‬
‫وعىل النمو من داخله‪.‬‬
‫اإلصالح الديني ليس حصرًا على رجال الدين‬
‫أتصوره‪ ،‬ليس مسؤولية رجال‬ ‫ّ‬ ‫اإلصالح الديني‪ ،‬يف املنظور الذي‬
‫الدين وحدهم‪ ،‬واملؤسسة الدينية‪ ،‬وإنام هو َه ٌّم فكري‪ ،‬بحثي‪ ،‬علمي‪،‬‬
‫يف املقام األول‪ .‬فالدين ظاهرة‪ ،‬شأنه شأن غريه من الظواهر‪ .‬وهو‬
‫ظاهرة تتميز‪ ،‬يف خمتلف جتلياهتا‪ ،‬بقدرهتا عىل مجع اجلمهور حوهلا‪.‬‬
‫فهو باإلضافة إىل كونه ملجأ روحي ًا لألفراد واملجتمعات‪ ،‬وملتقى‬
‫ألشواقهم الروحية‪ ،‬فهو أيض ًا ظاهرة اجتامعية‪ .‬هبذا املعنى‪ ،‬ينبغي‬
‫أن يكون الدين‪ ،‬يف ُبعده األنثروبولوجي‪ ،‬و ُبعده الالهويت‪ ،‬و ُبعده‬
‫االجتامعي والسيايس‪ ،‬جماالً مفتوح ًا للبحث العلمي‪ .‬فالدين لصيق‬
‫بوعي اجلمهور‪ .‬وهو هبذه الصفة سالح ذو حدَّ ين‪ .‬فقدرته عىل مجع‬
‫الناس‪ ،‬وتوحيدهم‪ ،‬وحتريكهم‪ ،‬جتعل منه طاقة جبارة للتغيري‪ْ ،‬‬
‫إن‬
‫ُأ ِعيد اكتشاف خصائصه الثورية‪ ،‬وسامته اإلنسانية‪ ،‬وجرى توظيف‬
‫‪ .17‬فهمي جدعان‪ ،‬العدل يف حدود ديونطولوجيا عربية‪ ،‬يف‪ :‬ما العدالة‪ :‬معالجات يف السياق العريب‬
‫الراهن‪( ،‬مجموعة مؤلفني)‪ ،‬املركز العريب لألبحاث ودراسة السياسات‪ ،‬الدوحة‪ ،‬بريوت‪ ،)2014( ،‬ص ‪.77-76‬‬

‫‪32‬‬
‫كل أولئك التوظيف الصحيح‪ .‬وكونه يملك خاصيتَي مجع الناس‬
‫إن غلبت فيه قوى املايض‬ ‫وحتريكهم‪ ،‬جتعل منه طاقة ضخمة للتعويق‪ْ ،‬‬
‫عىل قوى احلارض واملستقبل‪ ،‬كام هي حالته اليوم يف السياق العريب‬
‫جتذر الدين يف الوعي العريب‪ ،‬أكرب بكثري من‬ ‫فإن ُّ‬
‫الراهن‪ .‬وعموم ًا‪ّ ،‬‬
‫ُّ‬
‫التجذر يف بنية الوعي‪،‬‬ ‫جتذره يف الوعي الغريب‪ .‬هذا االختالف يف مدى‬ ‫ُّ‬
‫ليس بسبب أن الغرب قد دخل يف نطاق التحديث منذ قرون‪ ،‬وأ ّثرت‬
‫عليه العلوم الطبيعية‪ ،‬والفلسفة واآلداب‪ ،‬والفنون وسائر املعارف‪،‬‬
‫وإنام بسبب اختالف السياقني التارخييني العريب والغريب‪ .‬فالنموذج‬
‫احلداثي الرأساميل الغريب‪ ،‬ما كان من املمكن أن خيرج من أي بنية ثقافية‪،‬‬
‫أو جتربة تارخيية‪ ،‬أخرى‪ ،‬يف العامل‪ ،‬غري بنية وجتربة النموذج الغريب يف‬
‫الغرب‪ ،‬كام قال ماكس فيرب‪ .‬وبطبيعة احلال فقد تضافرت عوامل كثرية‬
‫لكي جتعل الرأساملية ظاهرة غربية‪ ،‬منها ما هو مادي مرتبط بالعلوم‬
‫وباآللة‪ ،‬وباملوارد‪ ،‬وباملناخ‪ ،‬ومنها ما هو سوسيولوجي‪ ،‬مرتبط بالبناء‬
‫النفيس التارخيي‪ ،‬وبمنظومة القيم املتوارثة‪.‬‬
‫املشكلة‪ ،‬أن مسألة التجديد واإلصالح الديني بقيت حمتكرة‪ ،‬إىل‬
‫وهم‪ ،‬بطبيعة تعليمهم‬‫نسميهم «رجال الدين»‪ُ .‬‬ ‫حدٍّ كبري جد ًا‪ ،‬ملن ّ‬
‫وتدريبهم الدرايس الذي قام عىل تقاليد عمرها أكثر من ألف عام‪،‬‬
‫ال يملكون‪ ،‬يف غالب حاهلم‪ ،‬قدر ًة عىل اخلروج من األطر القديمة‬
‫املوضوعة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬هلؤالء ُسلطة عىل اجلمهور أكرب بكثري من ُسلطة‬
‫أن أذرع ًا سياسية‪ ،‬ذات توجهات دينية‪ ،‬تشكلت منذ‬ ‫املثقفني‪ ،‬خاصة ّ‬
‫لسلطتهم‪ .‬وكام تقدم‪،‬‬ ‫مطلع القرن العرشين أصبحت قوى داعمة ُ‬
‫فإن حركة اإلصالح الديني يف أوروبا‪ ،‬وخروج احلياة من قبضة طبقة‬
‫اإلكلريوس‪ ،‬مل تتحققا لوال أن املفكرين‪ ،‬واجلامعات‪ ،‬واألوساط‬
‫األكاديمية انخرطت يف احلراك اجلاري يف النطاق الديني‪ ،‬سواء بسواء‬
‫مع رجال الدين‪ .‬فإذا مل يتم انخراط أكاديمي علمي‪ ،‬معمق‪ ،‬يف نقاش‬

‫‪33‬‬
‫قضايا الدين‪ ،‬باستخدام أدواته ذاهتا‪ ،‬ونصوصه‪ ،‬وانتزاع حق تفسريها‬
‫وتأويلها‪ ،‬وك َْس َصدَ فة «االختصاص» التي جعلت من الدين نطاق ًا‪،‬‬
‫حمتكر ًا‪ ،‬لطبقة‪ ،‬فلن ينداح الوعي‪ ،‬ال يف النخب التي ينبغي أن تضطلع‬
‫بمسؤولية إدارة حراك التحديث والنهضة‪ ،‬وال يف اجلمهور‪ ،‬املستهدف‬
‫بالتحديث والنهضة‪ .‬سيبقى سواد اجلمهور‪ ،‬مثلام كان حاله يف الغالب‬
‫نسميهم «رجال الدين»‪ ،‬وسيبقى املثقفون حفنة‬‫األعم‪ ،‬يف قبضة من ّ‬
‫السب‪.‬‬
‫من الطيور التائهة‪ ،‬التي تغرد خارج ّ‬
‫تأثير العنف على المثقفين‬
‫اشتغل بعض املثقفني العرب بقضية التجديد الديني‪ ،‬وقد أسهموا‪،‬‬
‫عىل اختالف بني مقارباهتم‪ ،‬وتفاوت بينها‪ ،‬يف كرس احتكار الفقهاء‬
‫واملؤسسات الدينية هلذا املجال‪ .‬غري أن مجلة البنيات القائمة مل تكن‬
‫لتسمح إال بتأثري حمدود جد ًا جلهودهم‪ .‬من هؤالء‪ ،‬عىل سبيل املثال‪،‬‬
‫حممود حممد طه‪ ،‬وحممد أركون‪ ،‬ونرص حامد أبوزيد‪ ،‬وهادي العلوي‪،‬‬
‫وطه عبد الرمحن‪ ،‬وحممد أبو القاسم حاج محد‪ ،‬وعزمي بشارة‪ ،‬وغريهم‪.‬‬
‫ولربام تكون هذه هي رضبات البداية‪ ،‬وهي يف حدّ ذاهتا حماوالت باسلة‪،‬‬
‫بالغة األمهية‪ .‬لكن‪ ،‬املطلوب هو أن يتسع هذا النشاط‪ ،‬ويتغري املفهوم‬
‫ختصيص‪ ،‬مناط باختصاصيني‪ ،‬هم‬ ‫القائل إن معاجلة قضية الدين شأن ّ‬
‫رجال الدين‪ .‬ففي اإلسالم من املفرتض أن كل رجل وكل امرأة هو‪/‬‬
‫هي‪ ،‬رجل دين وامرأة دين‪ ،‬أو هكذا ينبغي أن تكون احلال‪ .‬نزعة احتكار‬
‫تفسري الدين موروثة من طبقة «اإلكلريوس» يف التاريخ األورويب‪ ،‬الذين‬
‫احتكروا جمرد القراءة والكتابة‪ ،‬ومن ثم‪ ،‬تفسري الكتاب املقدس‪.18‬‬
‫اتّسم التاريخ العريب‪ ،‬وأعني هنا التاريخ العريب اإلسالمي‪ ،‬عىل‬
‫وجه اخلصوص‪ ،‬يف كثري من منعطفاته‪ ،‬بالقمع العنيف ملحاوالت‬

‫‪ .18‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.29‬‬

‫‪34‬‬
‫املفكرين اخلروج عىل األطر السائدة‪ ،‬واخلطوط احلمراء‪ ،‬التي ال‬
‫ينبغي أن خيرج عليها املفكرون‪ .‬هذا القمع ليس حرص ًا عىل التجربة‬
‫التارخيية العربية وحدها‪ ،‬وإنام شاركتها فيه‪ ،‬أيض ًا‪ ،‬التجربة الغربية‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬ما جيعل هذه اإلشكالية أكثر فداحة يف التاريخ العريب‪ ،‬هو املدى‬
‫الزمني الطويل الذي استمرت فيه‪ .‬فقد تواصلت نزعة التنكيل بالفكر‬
‫وباملفكرين‪ ،‬حتى هنايات القرن العرشين‪ .‬وكل الدالئل تشري إىل أهنا‬
‫سوف تستمر يف القرن الواحد والعرشين‪ ،‬لفرتة‪ ،‬قد تطول‪ ،‬وقد تقرص‪.‬‬
‫عدّ د حسن عبد اهلل‪ ،‬يف كتابه‪« ،‬االغتياالت يف اإلسالم‪ :‬اغتيال‬
‫الصحابة والتابعني»‪ ،‬ستة وعرشين حادثة اغتيال‪ ،‬أو حماولة اغتيال‪،‬‬
‫للصحابة والتابعني‪ .19‬ولقد ورث حتالف الفقه املدريس مع مؤسسة‬
‫احلكم‪ ،‬يف ما بعد اخلالفة الراشدة‪ ،‬هذا التاريخ املتصل من العنف‬
‫السلطة‬
‫السيايس‪ .‬وهو عنف ارتبط‪ ،‬إىل حدّ كبري‪ ،‬بأسلوب احلفاظ عىل ُّ‬
‫حتول الفقه‪ ،‬ومؤسسته‪ ،‬أو قل اجلانب األكرب‬ ‫الزمنية‪ .‬وبمرور الزمن‪َّ ،‬‬
‫منهام‪ ،‬إىل أداة لتسويغ العنف باخلصوم السياسيني‪ ،‬بتهمتَي اخلروج‬
‫السلطة‪،‬‬
‫عىل طاعة و ّيل األمر‪ ،‬وعىل إمجاع العلامء‪ .‬ومن ثم‪ ،‬أصبحت ُّ‬
‫والفقه املدريس‪ ،‬امللتصق هبا‪ ،‬مها القوتان اللتان ترسامن حدود التفكري‪،‬‬
‫وحدود الفعل السيايس‪ ،‬للذين ينتقدون الفكر السائد‪ ،‬أو السياسات‬
‫السائدة‪ .‬أصبح سالح التكفري هو األداة املفضلة للتخلص من املفكرين‬
‫واملعارضني السياسيني‪ .‬بقيت نزعة التكفري‪ ،‬بل والقتل‪ ،‬بتهمة الردة‪،‬‬
‫وبتهمة اإلساءة إىل املقدس‪ ،‬واخلروج عىل اإلمجاع‪ ،‬مستمرة‪ ،‬يف‬
‫التاريخ اإلسالمي‪ ،‬ختبو تارة‪ ،‬وتشتد تارة أخرى‪ .‬غري أن امللفت للنظر‬
‫أهنا استمرت‪ ،‬حتى هنايات القرن العرشين‪ ،‬ما جيعلها ظاهرة تستحق‬
‫الوقوف الطويل عندها‪.‬‬
‫باإلضافة إىل االغتياالت التي مل تقف قط‪ ،‬قت ََل احلكّام املسلمون‬
‫‪ .19‬حسن عبد الله‪ ،‬االغتياالت يف اإلسالم‪ :‬اغتيال الصحابة والتابعني‪ ،‬دار االنتشار العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪.)2006( ،‬‬

‫‪35‬‬
‫و ُقضاهتم‪ ،‬جمتمعني طور ًا‪ ،‬ومفرتقني طور ًا آخر‪ ،‬عىل سبيل املثال‪،‬‬
‫والسهروردي‪ .‬هذا خالف ًا لتُهم‬ ‫ّ‬
‫واحللج‪ُّ ،‬‬ ‫اجلعد بن درهم‪ ،‬وابن املقفع‪،‬‬
‫التكفري والعسف التي تعرض هلا قطاع الفقهاء أنفسهم‪ ،‬خاصة أولئك‬
‫الذين أتوا باجتهاد خمالف‪ ،‬أو اعرتضوا عىل احلاكم‪ .‬وقد طال العسف‬
‫بأصحاب الرأي‪ ،‬أعالم الفقهاء كاملك بن أنس‪ ،‬وأمحد بن حنبل‪ ،‬وأبو‬
‫حنيفة الذي ك ّفره خصومه‪ ،‬واستُتِيب من هتمة الكفر‪ ،‬يف حياته‪ ،‬بضع‬
‫مرات‪ .20‬و ُيروى عن سفيان الثوري‪ ،‬أنه حني بلغه نبأ وفاة أيب حنيفة‬
‫قال‪« :‬احلمد هلل الذي أراح املسلمني منه‪ ،‬لقد كان ينقض عرى اإلسالم‬
‫عروة عروة‪ .‬ما ُولد يف اإلسالم‪ ،‬مولود أشأم‪ ،‬عىل اإلسالم‪ ،‬منه‪.»21‬‬
‫ولقد ر ّدد نفس تلك العبارة املروية عن سفيان الثوري‪ ،‬عد ٌد من خمالفي‬
‫أيب حنيفة من كبار أهل الرأي‪ .‬منهم‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬أيوب السختياين‪،‬‬
‫ومالك‪ ،‬واألوزاعي‪ ،‬ووكيع‪ ،‬وجرير بن حازم‪ ،‬وابن املبارك‪.‬‬
‫كل من عيل عبد الرازق‪،‬‬‫تعرض ٌّ‬‫أما يف بدايات القرن العرشين‪ ،‬فقد ّ‬
‫وطه حسني هلجامت األزهر‪ .‬ويف هنايات القرن العرشين‪ ،‬بلغ األمر‬
‫حدَّ القتل‪ .‬ف ُقتل فرج فودة غيل ًة‪ ،‬نتيجة لفتاوى صدرت ممن ّ‬
‫يسمون‬
‫رجال الدين‪ .22‬كام ُقتل حسني مروة‪ ،‬غيلة‪ ،‬أيض ًا‪ ،‬وهو يف عقر داره‪.‬‬

‫‪ .20‬أبو بكر أحمد بن عيل البغدادي‪ ،‬تاريخ بغداد‪ :‬أو مدينة السالم‪( ،‬تحقيق مصطفى عبد القادر عطا)‪،‬‬
‫(ج ‪ )13‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،)2011( ،‬ص‪ ،‬ص ‪.398‬‬
‫‪ .21‬املصدر السابق‪ .‬ص‪ ،‬ص‪.381-380 ،‬‬
‫‪ .22‬حني استُد ِعي الشيخ محمد الغزايل‪ ،‬القيادي البارز يف تنظيم اإلخوان املسلمني يف مرص‪ ،‬وهو شيخ‬
‫يرفعه كثريون كنموذج لالعتدال‪ ،‬للشهادة يف قضية اغتيال الكاتب فرج فودة‪ ،‬بناء عىل طلب من فريق‬
‫الدفاع‪ ،‬وهي شهادة أراد بها فريق الدفاع عن املتهمني يف القضية أن تكون يف مصلحة املتهمني‪ .‬قال الشيخ‬
‫السلطة‪ .‬مضيفاً أن‬
‫الغزايل يف شهادته‪ :‬إن فرج فودة مرتد‪ ،‬ويستحق القتل‪ ،‬ولكن الذين اغتالوه افتأتوا عىل ُّ‬
‫الحاكم هو الجهة الوحيدة املنوط بها تطبيق حكم الردة عىل املرتدين‪ ،‬حتى ال يؤول األمر إىل فوىض‪ .‬ومل‬
‫يخالف الشيخ يوسف القرضاوي الشيخ محمد الغزايل يف اإلفتاء بكفر فرج فودة‪ .‬فهو قد استشهد بشهادة‬
‫الشيخ محمد الغزايل يف محاكمة فرج فودة‪ ،‬بوصفها من املواقف املرشفة‪ .‬فقد أوردها يف فصل من كتابه‬
‫عن الشيخ الغزايل‪ ،‬اختار له عنوان‪« :‬الغزايل رجل املواقف»‪ .‬والشيخ القرضاوي ممن يرفعهم البعض رمزا ً‬
‫للوسطية اإلسالمية واالعتدال‪ .‬راجع‪ :‬يوسف القرضاوي الشيخ الغزايل كام عرفته‪ :‬رحلة نصف قرن‪( ،‬ط‬
‫‪ ،)3‬دار الرشوق‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ج ع م‪ ،)2000( ،‬ص ‪.285-280‬‬

‫‪36‬‬
‫عدم يف عام ‪ ،1985‬املجدِّ د الديني حممود حممد طه‪،‬‬ ‫ويف السودان ُأ ِ‬
‫حتولت إىل هتمة بالردة عن‬
‫السلطة القائمة‪ ،‬رسعان ما ّ‬ ‫بتهمة معارضة ُّ‬
‫اإلسالم‪ .‬ويف النطاق الشيعي أفتى اإلمام اخلميني‪ ،‬بإباحة دم الكاتب‬
‫سلامن رشدي عىل أثر نرش روايته املثرية للجدل‪« ،‬آيات شيطانية»‪.‬‬
‫وأوردت وكالة رويرتز لألنباء‪ ،‬عىل أثر نرش الرسوم الكارتونية املسيئة‬
‫للنبي الكريم يف الدنامرك عام ‪ ،2006‬أن الشيخ حسن نرص اهلل قال‪:‬‬
‫«لو قام مسلم ونفذ فتوى اإلمام اخلميني باملرتدّ سلامن رشدي‪ ،‬ملا‬
‫السفلة عىل أن ينالوا من الرسول؛ ال يف الدنامرك‪ ،‬وال يف‬ ‫جترأ هؤالء ّ‬
‫النرويج‪ ،‬وال يف فرنسا‪ .»23‬أيض ًا ك ّفر بعض العلامء الكاتب السوري‪،‬‬
‫حيدر حيدر‪ ،‬بعد نرشه روايته‪« ،‬وليمة ألعشاب البحر»‪ .‬وجرى تكفري‬
‫األكاديمي والكاتب املرصي‪ ،‬نرص حامد أبوزيد‪ ،‬بدعوى حسبة جرى‬
‫تقديمها أمام القضاء املرصي‪ ،‬انتهت بتكفريه‪ ،‬و ُأردف ذلك بقرار‬
‫ينص عىل تطليق زوجته منه‪ ،‬ما اضطره وزوجته للهجرة إىل‬ ‫قضائي ّ‬
‫فرنسا‪ .‬وجرى يف اجلزائر يف فرتة احلرب بني اإلسالميني‪ ،‬والدولة‪،‬‬
‫َقتْل‪ ،‬أكثر من ستني من املثقفني‪.‬‬
‫هذا اخليط املمتد من اإلرهاب للفكر وللمفكرين‪ ،‬الذي استمر‬
‫منذ العصور الوسطى‪ ،‬وحتى هناية القرن العرشين‪ ،‬كان له أثره الكبري‬
‫عىل مواقف املثقفني العرب‪ .‬فقد نتج من هذا اإلرهاب املمتد‪ ،‬الذي‬
‫اشتد كثري ًا يف العقدين األخريين من القرن العرشين‪ ،‬فبلغ درجة القتل‪،‬‬
‫إىل أن يصبح املثقفون أكثر حذر ًا يف اخلوض يف مسألة الدين‪ .‬وهكذا‬
‫أضحت ساحة جتديد الرتاث‪ ،‬وساحة اإلصالح الديني‪ ،‬وإعادة‬
‫بناء اهلوية احلضارية‪ ،‬عقب التغريب االستعامري الطويل‪ ،‬خلو ًا من‬
‫اجلهود‪ ،‬باستثناء ذلك القليل‪ ،‬الذي ُأخرس بالعنف‪ .‬وبطبيعة احلال‪،‬‬
‫ليس من املعقول أن ُيطلب من عموم املثقفني محل رؤوسهم عىل‬

‫‪ .23‬حديث للشيخ حسن نرص الله‪ ،‬بثته قناة املنار‪ ،‬وقناة الجزيرة‪ ،‬يف ‪ 2‬و‪ 3‬شباك‪/‬فرباير ‪.2006‬‬

‫‪37‬‬
‫أكفهم‪ ،‬وأن يواجهوا املوت‪ ،‬بجعل أنفسهم هدف ًا للبنادق‪ ،‬والقناصني‬
‫الذي أصبحوا يرتصدوهنم عند مداخل ُدورهم‪ ،‬ساعة الصباح‪ ،‬وهم‬
‫خارجني إىل أعامهلم‪ .‬أو أن يصبحوا هدف ًا سهال للذين يقتحمون عليهم‬
‫منازهلم ويقتلوهنم وهم عىل أرسهتم‪ .‬ولذلك‪ ،‬من الطبيعي جد ًا‪ ،‬أن‬
‫تدفع حالة اإلرهاب املتجذرة يف املفاهيم الدينية التي مل تناقش‪ ،‬ومل‬
‫تصحح‪ ،‬إىل تعطيل دوالب النهضة بحبس املثقفني والعلامء خارج‬ ‫ّ‬
‫ساحة املعركة احلقيقية‪ .‬مثل هذا الوضع‪ ،‬ال يرتك للمثقفني خمرج ًا‬
‫بحنْي الرؤوس‪ ،‬وكبت األفكار التي تسائل السائد‪،‬‬ ‫سوى االستعصام َ‬
‫والزلفى إىل احلكام‪ ،‬واستخدام التُّق َّيات‪ .‬فنحن أمام إشكالية حقيقية‬
‫ّ‬
‫تعرتض الفكر احلر‪ ،‬وتعرتض النهضة السياسية‪ ،‬والفكرية‪ ،‬والثقافية‪،‬‬
‫واالجتامعية‪.‬‬
‫أما اآلثار األكثر فداحة‪ ،‬هلذا اإلرهاب الديني املزمن‪ ،‬فتتمثل يف‬
‫انحياز بعض املثقفني‪ ،‬بطرق‪ ،‬وأساليب‪ ،‬ودرجات خمتلفة‪ ،‬إىل حصان‬
‫اإلسالم السيايس‪ ،‬بوصفه احلصان الرابح‪ ،‬وامللجأ اآلمن‪ ،‬وجمال‬
‫ِ‬
‫ض عنه لدى عدد من الدول‪ ،‬وكذلك من املؤسسات‬ ‫الناشطية ا َمل ْر ّ‬
‫الدينية العريقة كاألزهر‪ ،‬وما متثله وزارات الشؤون الدينية واألوقاف‬
‫بمختلف مسمياهتا يف خمتلف األقطار العربية‪ .‬وجيري بذلك االنرصاف‬
‫االختياري عن َدور املثقف احلقيقي بنا ًء عىل استنتاج مفاده أن اإلسالم‬
‫السيايس هو احلصان الرابح‪ ،‬يف كثري من الدول العربية‪ ،‬يف مرحلة‬
‫التحول الراهنة التي تشهدها املنطقة اآلن‪ .‬فاملؤرشات تشري إىل رجحان‬
‫كفة اإلسالميني‪ ،‬منذ تراجع اليسار العريب‪ ،‬وفشل أنظمته العسكرية‪،‬‬
‫السلطات اإلسالمني‬‫املسنودة بنظام احلزب الواحد‪ .‬وحتى حني ختنق ُّ‬
‫فإهنا ال تصل معهم حد التصفية أو هتديد الرزق‪ ،‬ما جعل العمل وسط‬
‫منظومتهم مأمون ًا أكثر بكثري من غريه‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫التحدّي القائم‬
‫يقف هذا الفضاء العريب اليوم عىل مفرتق الطرق‪ :‬فإما أن جيرتح‬
‫مكون ًا روحاني ًا‪ ،‬ذا‬ ‫ِّ‬
‫املتجذ َر يف تراثه بحيث يتضمن ِّ‬ ‫احلداثي‬
‫َّ‬ ‫نموذجه‬
‫َ‬
‫سامت « َبعد حداثية»‪ ،‬يتمحور بصورة جوهرية حول فكرة «العدالة»‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫وحكم القانون‪ ،‬وحول روح «اجلامعية»‪ ،‬وإما أن يركن إىل خطاب‬
‫اإلسالمي السيايس التعبوي‪ ،‬فتصبح الدول املقامة عىل نسقه كواكب‬
‫تدور يف فلك الرأساملية الغربية املعوملة‪ ،‬ويصبح اإلسالم جمرد بطاقة‬
‫فالسامت اجلوهرية‬ ‫ملصقة عىل اجلباه‪ ،‬بال تأثري إجيايب ُيذكر عىل الواقع‪ِّ .‬‬
‫للروحانية الكونية‪ ،‬التي متثل الروحانية اإلسالمية واحدة من دعاماهتا‬
‫ِ‬
‫للسلطة‬ ‫الكربى‪ ،‬متثل نقيض ًا رئيس ًا لس َمت َْي احتكار القلة القليلة‪ُّ ،‬‬
‫والثروة‪ ،‬التي انتهى إليها نموذج احلداثة الغريب‪ ،‬رغم إنجازاته األخرى‬
‫الضخمة‪ .‬فنموذج احلداثة الغربية انتهى إىل تعميق نزعة الفردانية‬
‫املفرطة‪ ،‬وتقطيع القوى املجتمعية إىل ُجزر‪ ،‬ما مكَّن الرأساملية من أن‬
‫ُت ِكم السيطرة عىل القوى املجتمعية‪ ،‬وخلق حالة من التناقص املتنامي‬
‫حادث‪ ،‬وبوضوح‬ ‫ٌ‬ ‫يف االهتامم بالشأن العام وسط اجلمهور‪ ،‬كام هو‬
‫شديد‪ ،‬يف النموذج األمريكي‪ .‬وكل تلك عوامل ُت ِّول الديمقراطية‬
‫إىل أداة لسيطرة القلة عىل الكثرة‪ ،‬بل وتعمل عىل تعطيل وعي الكثرة‬
‫وحتويلها‪ ،‬يف هناية املطاف إىل قطيع مطيع‪ ،‬ال يأبه إىل أين ُيساق وال إىل‬
‫ما س ُيفعل به‪.‬‬
‫احلديث عن الروحانية العربية‪ ،24‬وارتباطها العضوي بفكرة‬
‫العدل‪ ،‬وباجلامعية‪ ،‬ونفورها من تس ُّلط الدولة‪ِ ،‬س َم ٌت َس َّمها هادي‬
‫سامت إجيابية‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫العلوي «ال ّلقاحية»‪ .‬هذه السامت التي هي‪ ،‬يف تقديري‪،‬‬

‫بديال لتعبري «الروحانية اإلسالمية» ألن للروحانية العربية مكون‬


‫‪ .24‬اخرتت تعبري «الروحانية العربية» ً‬
‫مسيحي ويهودي هام أقدم تاريخياً من املكون اإلسالمي‪ .‬كام أن هناك مك ّوناً أرواحيّاً ‪ ،pagan‬يقع يف‬
‫التخوم العربية‪ ،‬كام يف السودان وموريتانيا‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫سامت سالبة‪ .‬فامكس فيرب يرى أن النموذج‬
‫ٌ‬ ‫تصبح وفق ًا لرؤية ماكس فيرب‬
‫احلداثي الرأساميل الغريب‪ ،‬ما كان من املمكن أن خيرج من أي بنية ثقافية‪،‬‬
‫أو جتربة تارخيية‪ ،‬أخرى‪ ،‬يف العامل‪ ،‬غري بنية وجتربة النموذج الغريب‪ .‬وال‬
‫اعرتاض عىل هذا‪ ،‬ألن ذلك هو الذي جرى بالفعل‪ ،‬يف الفضاء الغريب‪.‬‬
‫يضاف إىل ذلك‪ ،‬ال يمكن لشخص مدرك‪ ،‬أن يتجاهل‪ ،‬أو يق ّلل من‬
‫شأن‪ ،‬الدَّ ور الضخم‪ ،‬الذي أداه النموذج الغريب للبرشية‪ .‬لكن‪ ،‬تبقى‬
‫مع ذلك‪ ،‬رضورة للنظر النقدي‪ ،‬ملا قاله فيرب‪ ،‬خاصة بعد مرور قرن‬
‫عليه‪ ،‬وبعد أن وصل هذا النموذج الغريب‪ ،‬إىل وض ٍع أصبحت شواهد‬
‫كثرية‪ ،‬تقول إنه يتطلب نقلة برادايمية جديدة‪.‬‬
‫متسك اجلامهري‬ ‫من األمور التي تشغل بال كاتب هذه الورقة‪ُّ ،‬‬
‫العربية برتاثها الروحاين‪ ،‬رغم اتساع نطاق التحديث يف حياة‬
‫املجتمعات العربية‪ .‬ومن يتأمل حقبة ما بعد الكلونيالية يف األقطار‬
‫العربية‪ ،‬يالحظ أنه ك ّلام تباعَدَ الزمن عن احلقبة االستعامرية‪ ،‬ازداد تع ُّلق‬
‫اجلامهري بالدين‪ ،‬و َق ِو َي تأثريه عىل العملية السياسية‪ .‬وقد د ّلت عىل هذا‬
‫التعلق صناديق االقرتاع‪ ،‬حيثام جرت انتخابات حرة‪ .‬هذه الظاهرة‬
‫قطاع من املثقفني العرب بوصفها تراجع ًا وارتداد ًا عن‬ ‫ٌ‬ ‫َينظر إليها‬
‫مكتسبات احلداثة التي أنجزها اليسار العرويب يف فرتة حكمه الشمولية‬
‫التي جرت يف العقود األربعة األخرية من القرن العرشين‪ .‬وغالب ًا ما‬
‫ينتمي هذا القطاع من املثقفني إىل الفئة التي تنظر إىل الدين بوصفه‬
‫ظاهرة مالزمة لطفولة العقل البرشي‪ .‬وأنه كلام تع ّلمت املجتمعات‪،‬‬
‫وتغريت عالقات اإلنتاج فيها واتسع وعيها وازداد نضجها‪ ،‬ابتعدت‬
‫عن الدين‪ .‬كام يعزوها آخرون‪ ،‬إىل استغالل بعض النخب السياسية‬
‫للخطاب الديني‪ ،‬يف العملية السياسية‪ ،‬يف جمتمعات تسيطر عليها األمية‬
‫والعاطفة الدينية‪ .‬ومع صحة املثال الثاين‪ ،‬جزئي ًا‪ ،‬إال أن كال الرؤيتني ال‬
‫يفرس الظاهرة تفسري ًا مكتمالً‪ .‬بل‪ ،‬لربام جاز القول‪ ،‬إن كال التفسريين‬

‫‪40‬‬
‫يسريان‪ ،‬بقدر كبري‪ ،‬يف وجهة عزاء الذات‪ ،‬إزاء فشل النخب املعلمنة‪،‬‬
‫بمختلف درجات علمنتها‪ ،‬وتوجهاهتا‪ ،‬يف كسب ثقة اجلامهري‪.‬‬
‫إن اجلامهري العربية‪ ،‬ال ترفض احلداثة‪ .‬ويبدو‪،‬‬ ‫تقول كل الشواهد ّ‬
‫كام هو ظاهر أيض ًا‪ ،‬أهنا تريد أن تدخل إىل احلداثة منطلق ًة من تراثها‬
‫وجتربتها التارخيية‪ ،‬وخصائص إنساهنا‪ .‬ولذلك فإن ما يراه البعض‬
‫تراجع ًا‪ ،‬ربام ال يكون سوى حماولة للعودة إىل نقطة مفرتق الطرق‪،‬‬
‫حمرف ًا قليالً‪،‬‬
‫حيث أخذت احلداثة العربية طريق ًا غربي ًا‪ ،‬إما ماركسي ًا ّ‬
‫كام يف جتربة حكم اليسار العرويب‪ ،‬وإما ليربالي ًا طائفي ًا‪ ،‬كام يف جتربة‬
‫األحزاب التقليدية التي مل تعمر طويالً‪ ،‬بسبب خنق جتربتها التي‬
‫تعرضت هلا ِمن ِق َبل انقالبات اليسار العرويب العسكرية‪ ،‬التي جرت‬
‫يف عدد من البلدان العربية‪.‬‬
‫ما حتاول هذه الورقة قوله‪ ،‬إن هناك منطقة وسطى ال تزال حتتاج‬
‫احلفر‪ .‬تقع هذه املنطقة بني منظورين‪ :‬املنظور األول‪ ،‬هو منظور‬
‫العلامنيني‪ ،‬الذين يرون أن السري يف إطار التجربة الغربية حتمي‪ ،‬وال‬
‫يفصل بني املجتمعات العربية وحت ُّقق احلداثة يف واقعهم‪ ،‬عىل النموذج‬
‫الغريب‪ ،‬سوى عنرص الزمن‪ .‬أما املنظور الثاين‪ ،‬فهو منظور اإلسالميني‪،‬‬
‫الذين تنحو أكثريتهم‪ ،‬منحى شعبوي ًا‪ ،‬جعلهم منحرصين يف تكتيكات‬
‫استغالل العاطفة الدينية للجامهري‪ ،‬دون التفات إىل رضورة جتديد‬
‫اخلطاب الديني‪ ،‬ودون اهتامم برتفيع الوعي بمتطلبات التحديث‪،‬‬
‫ورضورات التعايش‪ ،‬وقبول التنوع‪ ،‬وسط اجلامهري‪ .‬فهم يريدون‬
‫أصوات اجلامهري يف صناديق االقرتاع‪ ،‬باسم الدين‪ ،‬وباسم «حتكيم‬
‫الرشيعة»‪ ،‬وال حيفلون كثري ًا بمستوى وعي تلك اجلامهري‪ ،‬ازداد أم‬
‫نقص‪ ،‬أو أهنا أصبحت مؤمن ًة بالتنوع‪ ،‬والتعايش السلمي مع اآلخر‬
‫املختلف‪ ،‬ومؤمنة باملساواة يف احلقوق بني الفئات املختلفة‪ ،‬أم مل تصبح‪.‬‬
‫فالذين يتحدثون منهم عن حتكيم الرشيعة‪ ،‬وما أكثرهم‪ ،‬ال حيفلون أص ً‬
‫ال‬

‫‪41‬‬
‫بقضايا التنوع‪ .‬فهم يرون أن عىل هذا الفضاء العريض أن يلبس جلباب ًا‬
‫مدخل للنهضة والتحديث‬ ‫ٌ‬ ‫واحد ًا‪ ،‬كان عىل ربك حت ًام مقضي ًا‪ .‬وهذا‬
‫جم اخلطر‪ .‬تتلخص اإلشكالية يف تقديري يف هجر‬ ‫شديد االلتباس‪ّ ،‬‬
‫املثقفني لنطاق الدين؛ إما اعتقاد ًا بأنه ظاهرة منقرضة‪ ،‬كام ظنّت احلداثة‬
‫رس َخت ذلك االعتقاد املاركسية الحق ًا‪ ،‬وإما أهنم هيابون‬
‫يف بداياهتا‪ ،‬وكام ّ‬
‫تبعات اخلوض يف هذا النطاق‪ ،‬خوف سيف التكفري املسلط عىل الرقاب‪.‬‬
‫تط ُّرف الشباب المسلم‬
‫من الظواهر امللفتة التي حدثت مؤخر ًا‪ ،‬وتستحق الدراسة املعمقة‪،‬‬
‫ظاهرة انبهار الشباب املسلم‪ ،‬الذي نشأ يف الغرب‪ ،‬وتل َّقى تعلي ًام جامعي ًا‬
‫يف أرقى املؤسسات التعليمية الغربية‪ ،‬باجلامعات اإلسالمية املتطرفة‪،‬‬
‫مثل تنظيم الدولة اإلسالمية‪ ،‬وحرصهم عىل االنخراط يف القتال يف‬
‫صفوفها‪ .‬هذه اهلجرة‪ ،‬من الدول األوروبية‪ ،‬هبذه األعداد امللفتة‪،‬‬
‫واالنجذاب إىل العنف‪ ،‬واالستعداد إلتيان أفعال موغلة يف الرببرية‪،‬‬
‫للحس اإلنساين السليم‪ ،‬مسألة تستحق الدراسة املعمقة‪ .‬هذه‬ ‫ّ‬ ‫وصادمة‬
‫الظاهرة ليست معزولة‪ ،‬كام يظن البعض‪ ،‬فهي قد بلغت حدّ ًا أضحت به‬
‫ِ‬
‫للسلطات يف بلدان غربية مثل إنجلرتا‪ ،‬وفرنسا‪ ،‬وغريها‪.‬‬ ‫هاجس ًا ُمقلق ًا ُّ‬
‫فلقد أظهرت قدرة خميفة عىل إعادة رسم اخلرائط اجليوبوليتيكية‪ ،‬ما‬
‫أزعج القوى اإلقليمية والدولية ودفع هبا إىل تكثيف اجلهود احلربية‬
‫وإن حدَّ ت من األخطار املبارشة للظاهرة‪ ،‬إال‬ ‫ضدها‪ .‬وهي جهود ْ‬
‫أهنا لن تصل إىل جذرها‪ ،‬ولن ختلق ما يعود ابتعاثها‪ ،‬مرة أخرى‪،‬‬
‫وربام حجم وطاقة أكرب‪ .‬هذه الظاهرة اجلهادية التي بدأت يف العقدين‬
‫األخريين من القرن العرشين‪ ،‬واختذت طور ًا أكرب يف تنظيم القاعدة‪،‬‬
‫ثم طور ًا أكثر حج ًام‪ ،‬وقدرة‪ ،‬ورشاسة‪ ،‬يف تنظيم الدولة اإلسالمية‪ ،‬ويف‬
‫تنظيم بوكو حرام‪ ،‬بلغت أن احت ّلت من األرايض يف سوريا والعراق‬
‫واليمن ونيجريا وليبيا ومايل‪ ،‬ما يوازي مساحات دول بأكملها‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫أن يكون الشباب املتعلم‪ ،‬بام يف ذلك التعليم يف الغرب‪ ،‬هم من‬
‫هتز التصورات وسط املثقفني‬‫يمثل ثقل هذه الظاهرة‪ ،‬مسألة ينبغي أن ّ‬
‫هزت ثورة الشباب يف فرنسا‪ ،‬املثقفني اليساريني‪،‬‬ ‫العرب‪ ،‬مثلام ّ‬
‫وأربكت حساباهتم‪ ،‬وعىل رأسهم‪ ،‬جان پول سارتر‪ ،‬الذي‪ ،‬جعله‬
‫هول املفاجأة‪ ،‬يقول‪ :‬إن املثقف يف طريقه إىل االختفاء‪ ،‬وأن التفكري‬
‫سخف يبطل فكرة املثقف ذاهتا‪ .‬وقد ر ّدد ميشيل‬ ‫ٌ‬ ‫نيابة عن اآلخرين‪،‬‬
‫فوكو الحق ًا‪ ،‬نفس تلك األقوال التي قال هبا سارتر‪ .25‬فلو أصبحت‬
‫الظواهر تفاجئ النخب املثقفة من أكاديميني مفكرين وعلامء‪ ،‬فإن َدور‬
‫املثقف سوف يصبح َدور ًا شكلي ًا تابع ًا‪ ،‬يفرس الواقع الذي تشكل‪ ،‬أكثر‬
‫مما يرسم صورة الواقع الذي ينبغي أن يتشكل‪.‬‬
‫بطبيعة احلال‪ ،‬هناك اختالف كبري بني ثورة الشباب يف فرنسا وبني‬
‫ارمتاء بعض الشباب املسلم يف حضن تنظيم الدولة اإلسالمية‪ ،‬من‬
‫حيث األفق املعريف‪ ،‬وطبيعة القضية املرفوعة‪ ،‬والتطلعات املرتبطة‬
‫هبا‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬تبقى ظاهرة الشباب املسلم الذي جيتذبه تنظيم الدولة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬يف نظري حتدي ًا شديد اخلطورة‪ .‬فهي خليط من الدوافع‬
‫الدينية الغامضة‪ ،‬ونزعة التحطيم‪ ،‬والتشوه النفيس‪ .‬ولربام تسفر‬
‫احلضارة الراهنة بنزعتها االستهالكية وتشييئها لإلنسان‪ ،‬وإنتاجها من‬
‫آالت القتل والدمار أضعاف ما تنتج من آالت اإلعامر‪ ،‬وب ّثها اليأس يف‬
‫النفوس‪ ،‬من إمكانية حت ُّقق حالة إنسانية أفضل‪ ،‬إىل ظهور نمط جديد‬
‫من الدوافع الفوضوية‪ ،‬الذي يتحول إىل قوى سياسية كبرية ومؤثرة‪.‬‬
‫َعي علينا االنتباه إىل أن التنظري ربام يصبح‪ ،‬يف بعض‬ ‫ولذلك‪ ،‬ربام ت َّ‬
‫ٍ‬
‫منعطفات التاريخ‪ ،‬ومسارعه‪ ،‬جمرد نشاط عقيل باهت منعزل‪ ،‬خاصة‬
‫حني تنبثق قوى الفعل عىل األرض‪ ،‬خارج نطاق توقعات النخب‬
‫املثقفة‪ .‬وحيدث هذا‪ ،‬غالب ًا‪ ،‬حني تلتصق النخب املثقفة باحلالة القائمة‪،‬‬

‫والسلطة السياسية‪( ،‬ط ‪ ،)3‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،2011 ،‬ص ‪.249‬‬
‫السلطة الثقافية ُّ‬
‫‪ .25‬عيل أومليل‪ُّ ،‬‬

‫‪43‬‬
‫وتصبح حمبوسة يف األطر النظرية املرسومة والتوقعات السائدة‪ ،‬خاصة‪،‬‬
‫حني تلتصق النخب‪ ،‬بقصد منها‪ ،‬أو بغري قصد‪ ،‬باحلالة القائمة‪،‬‬
‫وبالسلطات احلارسة للحالة القائمة‪ .‬إن كثري ًا من كوارث التاريخ‬
‫ُّ‬
‫كانت نتيجة لعجز النخب عن اإلحساس بام حيسه سواد اجلمهور‪ .‬إن‬
‫قضية االتزان النفيس‪ ،‬وسط قوى الشباب‪ ،‬وهي القوى األكثر حيوية‪،‬‬
‫وقدرة عىل الفعل‪ ،‬يف أي جمتمع‪ ،‬تعود اآلن لتصبح من جديد‪ ،‬قضية‬
‫مركزية يف املجتمعات العربية‪ ،‬خاصة يف الشق األكرب من املجتمعات‬
‫العربية‪ ،‬وهو الشق اإلسالمي‪.‬‬
‫اقتحام ساحة ال ِّدين معرف ّيًا‬
‫نحن بحاجة إىل غربلة الرتاث العريب بكل مكوناته‪ ،‬وفق منهج‬
‫توليفي يتخذ أسلوب الـ‪ synthesis‬ملالقحة خري ما يف تراثنا مع‬
‫الفكر اإلنساين املعارص سري ًا‪ ،‬نحو إقامة «دولة روحانية»‪ ،‬يكون‬
‫جهازها اإلداري حمايد ًا جتاه األديان‪ ،‬ومستوعب ًا لقيمها األخالقية العليا‬
‫التي ال تناقض فكرة الدستور املعارصة‪ ،‬وحقوق األفراد األساسية‪،‬‬
‫كحرية الضمري‪ ،‬وحرية التفكري‪ ،‬وحرية التعبري‪ ،‬وحرية التنظيم‪.‬‬
‫ويف نفس الوقت‪ ،‬تستخلص الرتاث الروحاين اإلسالمي‪ ،‬وقيم‬
‫التكافل والرتاحم التي ُعرفت هبا جمتمعات ما قبل احلداثة‪ ،‬لتكون‬
‫قضايا العدل‪ ،‬واملساواة‪ ،‬واحلرية‪ ،‬قضايا مركزية‪ ،‬يتمحور حوهلا كل‬
‫من الترشيع واملامرسة‪ .‬وال بدّ من اإلشارة هنا‪ ،‬إىل أن قضايا احلرية‪،‬‬
‫والعدل واملساواة‪ ،‬التي عاجلتها أفكار وممارسات حقبة احلداثة الغربية‬
‫عرب القرون األخرية مل تنته إىل نتائجها املرجوة‪ ،‬بل قادت‪ ،‬باسم احلكم‬
‫للسلطة والثروة‪ ،‬يف أيدي قلة قليلة جد ًا‪.‬‬ ‫الديمقراطي‪ ،‬إىل احتكار ُّ‬
‫ولذلك‪ ،‬فإن يف وسع من مل يوغلوا يف السري عىل خطى التجربة الغربية‪،‬‬
‫حذو النعل بالنعل‪ ،‬فرصة أن جيرتحوا طريق ًا جديد ًا به يكتسبون‬
‫التحديث عن طريق توطينه وجتذير قيمه يف بناهم الثقافية‪ ،‬من غري أن‬

‫‪44‬‬
‫يسريوا يف ذات الدرب املسدود الذي سارت فيه التجربة الغربية‪.‬‬
‫تعرض ال ُبعد الروحاين يف مركَّب احلضارة اإلسالمية‪ ،‬إىل هتميش‬ ‫َّ‬
‫تعرض‪ ،‬يف السياق اإلسالمي‪ ،‬حتديد ًا‪ ،‬إىل التهميش‪،‬‬ ‫مزدوج‪ .‬فهو قد َّ‬
‫بسبب التباعد املتنامي بني الفقهاء وروح الدين ومصالح اجلامهري‪،‬‬
‫السلطة الزمنية‪ .‬فالروحانية األوىل‪ ،‬التي‬‫واقرتاب هؤالء الفقهاء من ُّ‬
‫جتسدت يف البساطة‪ ،‬والنزاهة‪ ،‬واحلرص عىل العدل‪ ،‬مما كان ظاهر ًا‬ ‫َّ‬
‫يف حياة النبي‪ ،‬وأكابر صحابته‪ ،‬يف فجر الدعوة‪ ،‬وعرب العقود األوىل‬
‫من دولة املدينة‪ ،‬رسعان ما تباعدت عنها املامرسة‪ .‬انكمشت مت ُّثالت‬
‫العدالة االجتامعية للروحانية‪ ،‬يف نظام احلكم‪ ،‬عىل بساطتها آنذاك‪،‬‬
‫وأضحت منحرصة‪ ،‬إىل حدٍّ كبري‪ ،‬يف اجليوب املنعزلة التي صنعها‬
‫وحتولت إىل «غيتوهات» مت ََّهم ًة دوم ًا بإثارة اجلمهور ضد‬
‫ّ‬ ‫املتصوفة‪،‬‬
‫السلطات‪،‬‬ ‫كثري من ضحايا عسف ُّ‬ ‫السلطة احلاكمة‪ .‬ولذلك كان ٌ‬ ‫ُّ‬
‫وجتاوزاهتا‪ ،‬عرب التاريخ اإلسالمي‪ ،‬من املتصوفة‪.‬‬
‫ال أود أن أبدو هنا‪ ،‬كمن حيرص الروحانية العربية‪ ،‬يف شقها‬
‫اإلسالمي وحده‪ ،‬كام سبق أن أرشت‪ .‬فالثقافة العربية ثقافة مركبة‪،‬‬
‫حتوي عنارص أخرى غري إسالمية‪ ،‬فيها اليهودي واملسيحي وما سبق‬
‫ديانات التوحيد يف وادي النيل واهلالل اخلصيب‪ ،‬وغريها من مراكز‬
‫احلضارات القديمة‪ .‬كل ما يف األمر‪ ،‬أنني استخدمت ما جرى يف‬
‫السياق اإلسالمي‪ ،‬جمرد مثال‪ ،‬ال أكثر‪ ،‬بسبب اهليمنة اإلسالمية‬
‫التارخيية عىل املنطقة العربية‪ .‬فاألمر‪ ،‬يف مجلته وأبعاده املتشابكة‪،‬‬
‫ليس حرص ًا عىل الروحانية اإلسالمية‪ ،‬وحدها‪ .‬فام جرى للروحانية‬
‫اإلسالمية‪ ،‬وجلوهر الفكرة اإلسالمية املتمحورة حول «العدالة»‪ ،‬من‬
‫إزاحة تدرجيية‪ ،‬حتى أوشكت أن تصبح أثر ًا بعد عني‪ ،‬جرى أيض ًا‬
‫للروحانية املسيحية‪ ،‬وجرى قبلهام للروحانية اليهودية‪ ،‬وملا سبقهام من‬
‫روحانيات‪ .‬ولقد أشار إىل ما جرى للمسيحية‪ ،‬ولإلسالم‪ ،‬من إفراغ من‬

‫‪45‬‬
‫حمتوامها الروحاين‪ ،‬أعني حمتوى العدالة‪ ،‬روجيه غارودي‪ ،‬حني كتب‪:‬‬
‫املشكالت االقتصادية والسياسية‪ ،‬تستند‪ ،‬يف هناية‬
‫فل َم َل‬ ‫األمر‪ ،‬إىل مشكلة الغائية؛ أي إىل مشكلة دينية‪ِ .‬‬
‫تستجب إىل ذلك الديانات املؤسسية؟ ال الكنيسة املسيطِرة‬ ‫ْ‬
‫لدى املسيطِرين؛ الكنيسة الكاثوليكية؛ وال الدين املسيطرِ‬
‫َ‬
‫ال منهام قد حتالف‬ ‫لدى ا ُمل َس ْي َطـر عليهم؛ اإلسالم؟ ألن ُك ً‬
‫السلطة والثروة‪ .‬ومل يضع مسلامهتا موضع االهتام‪.‬‬ ‫مع ُّ‬
‫ال منهام أفرز منذ قرون «الهوت السيطرة» مقدِّ م ًا‬ ‫وألن ُك ً‬
‫اهلل كقوة خارجية وعليا ختلق اإلنسان والعامل وامللوك الذين‬
‫يديرون شؤون الناس‪ ،‬دفعة واحدة وإىل األبد‪ .‬كل ُسلطة‬
‫قد رتبها اهلل‪« .‬ومن يقاوم السلطان فإنام يعاند ترتيب اهلل»؛‬
‫هذا ما كتبه القديس بولس بعد بضع سنوات من موت‬
‫يسوع املسيح‪ ،‬الذي كانت حياته كلها اهتام ًا للنظام القائم‪.‬‬
‫كذلك األمر بعد وفاة النبي حممد صىل اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫السلطة والثروة‪،‬‬ ‫بسنوات قالئل‪ ،‬عندما استخدم األمويون ُّ‬
‫وأساءوا استخدامها؛ وعندما احتج املسلمون األتقياء الذي‬
‫عاشوا حياة اجلامعة مع النبي صىل اهلل عليه وسلم واخللفاء‬
‫السلطة‪ :‬إن كان‬ ‫الراشدين‪ ،‬عىل العبث بالرسالة‪ ،‬أجابتهم ُّ‬
‫هذا أمريكم فألن اهلل قد أراده‪ ،‬وعليكم طاعته‪.26‬‬
‫يمكن القول‪ ،‬بصورة جمملة‪ ،‬حتتمل االستثناءات‪ ،‬إن النبوة‪،‬‬
‫يف سائر التقاليد اإلبراهيمية‪ ،‬قد كانت نقيض ًا ُّ‬
‫للسلطة القائمة‪ .‬كام‬
‫يمكن القول‪ ،‬أيض ًا‪ ،‬أن الروحانية العربية املتجذرة يف الرتاث‪ ،‬ثالثي‬
‫األضالع؛ اليهودي‪ ،‬واملسيحي‪ ،‬واإلسالمي‪ ،‬مل تكن يف جوهرها جمرد‬

‫‪ .26‬روجيه غارودي‪ ،‬نحو حرب دينية؟ جدل العرص‪ ،‬ترجمة صياح الجهيم‪ ،‬دار عطية للطباعة والنرش‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،1997 ،‬ص‪.15-14 ،‬‬

‫‪46‬‬
‫ٍ‬
‫جرس لربط الناس بالغيب‪ .‬وإنام اختذت‪ ،‬إىل حدٍّ كبري‪ ،‬الصلة بالغيب‪،‬‬
‫وسيل ًة إلصالح أحوال الناس‪ ،‬وختليصهم من الظلم‪ ،‬بام كان يسمح به‬
‫الظرف القائم‪ ،‬عرب تاريخ هذه السياقات الثالثة‪ .‬واجه النبي إبراهيم‪،‬‬
‫عليه السالم‪ ،‬احلرق من جانب النمرود بن كنعان‪ ،‬وواجه عيسى عليه‬
‫والسلطات الرومانية‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫السالم الصلب من قبل الكهنوت اليهودي‪،‬‬
‫وواجه حممد‪ ،‬صىل اهلل عليه وسلم‪ ،‬وأصحابه‪ ،‬مؤامرات وعنف‬
‫السلطة والثروة‪ ،‬مالكي الرقيق‪ ،‬من القرشيني‪.‬‬
‫أصحاب ُّ‬
‫َف ِه َم أقطاب املتصوفة املسلمون هذا اجلوهر‪ ،‬فارتبطت لدهيم‪،‬‬
‫الروحانية ومتثالهتا‪ ،‬يف بساطة العيش‪ ،‬والزهادة‪ ،‬والنزاهة‪ ،‬ربط ًا عضوي ًا‪،‬‬
‫مع العناية بشؤون الناس وختفيف الظلم‪ ،‬وحتقيق العدالة‪ .‬فاملتصوفة‬
‫فأح ّبهم إىل اهلل‪ ،‬أنفعهم‬‫يسرتشدون باحلديث القائل‪« :‬اخللق عيال اهلل‪َ ،‬‬
‫لعياله»‪ .‬ورغم أن الرصاع بني أقطاب التصوف‪ ،‬من جهة‪ ،‬واحلكام‬
‫والفقهاء الساندين هلم‪ ،‬من جهة أخرى‪ ،‬قد استمر عرب احلقبة السابقة‬
‫للحداثة‪ ،‬متثالت التي حكمتها طبيعة دولة املدينة يف عقودها األوىل‪،‬‬
‫بقدر كبري‪ ،‬أو ُمبتعدٌ عنه‪،‬‬‫مهم ٌش ٍ‬‫جانب أحسب أنه‪َّ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫مهمش ًا وهو‬ ‫ُبعد ًا ّ‬
‫عن قصد حين ًا‪ ،‬بسبب اإلشكاليات التي تكتنفه‪ ،‬ومنها إشكال الدين‬ ‫ٍ‬
‫أمر أسست له حقبة احلداثة‬ ‫والدولة‪ ،‬ورضورة الفصل بينهام‪ ،‬وهو ٌ‬
‫يف الغرب‪ ،‬وثبتته‪ .‬أو‪ُ ،‬مبتعدٌ عنه‪ ،‬حين ًا آخر‪ ،‬بسبب عدم توفر الوعي‬
‫ال من‬ ‫الكايف بأمهيته‪ .‬الشاهد هنا‪ ،‬أن البعد الروحاين ظل بعد ًا ُم َ‬
‫تجاه ً‬
‫معترب من املثقفني العرب‪ .‬فالفضاء العريب‪ ،‬كام هو معلوم‪ ،‬كان‬ ‫ٍ‬ ‫قطا ٍع‬
‫ٍ‬
‫مهد ًا لثالث من أهم ديانات العامل‪ ،‬هي اليهودية واملسيحية واإلسالم‪.‬‬
‫تفرعت هذه الديانات الثالث من الشجرة اإلبراهيمية‪ .‬وال غرابة إذ ًا‪،‬‬
‫كثري من التطابق يف رؤيتها‪ ،‬بل ويف نصوصها‪ .‬فهي تتشارك‬ ‫أن كان هناك ٌ‬
‫غنى عنها يف أي مرشو ٍع للنهضة‬ ‫السامت األخالقية اجلوهرية التي ال ً‬
‫همل‬ ‫والتحديث يف السياق العريب؛ وهذا هو ما يمثل البعد الروحاين ا ُمل َ‬

‫‪47‬‬
‫يف بنية املثقفية العربية‪ .‬ومما يميز الذات العربية التارخيية‪ ،‬يف األلفية‬
‫والنصف املنقضية‪ ،‬عىل األقل‪ ،‬هو ُبعدها الروحاين املندغم يف بنيتها‬
‫الفكرية‪ .‬فالروحانية واملعرفة مرتبطتان بنيوي ًا يف السياق العريب التارخيي‪.‬‬
‫جتاهله‪ ،‬ثم تظل‪ ،‬يف ذات الوقت‪،‬‬ ‫وهو ُبعد ال تستطيع املث ّقفية العربية ُ‬
‫حاملة باالضطالع بدَ ور ف ّعال يستجيب لتحديات النهضة املطلوبة‪.‬‬
‫هذا االرتباط البنيوي بني الروحانية العربية واملعرفة‪ ،‬مل تنفصم عراه‬
‫إال وسط النخب املثقفة‪ ،‬خاصة عقب اهلجمة االستعامرية‪ .‬نعم‪ ،‬لقد‬
‫السلطة ضد اجلمهور‪ ،‬غري‬ ‫وقف أغلبية علامء الدين يف تارخينا إىل جانب ُّ‬
‫املكون الروحاين كان حارض ًا بقدر من املقادير‪ .‬فاإلطار املرجعي‪،‬‬ ‫أن ِّ‬
‫ٍ‬
‫الديني‪ ،‬األخالقي‪ ،‬كان واحد ًا تقريب ًا‪ ،‬حتى وقت قريب‪.‬‬
‫االنفصام الذي حدث نتيجة حلقب الرتاجع اإلسالمية ونتيجة‬
‫منحى «ال إيامني ًا»‪ ،‬اتسمت‬
‫ً‬ ‫لالحتكاك بالغرب‪ ،‬اختذ يف صوره الغالبة‪،‬‬
‫به النخب املثقفة‪ ،‬دون غريها‪ .‬واللحمة بني الروحانية واملعرفة‪،‬‬
‫رغم أهنا رضورية يف حدّ ذاهتا‪ ،‬من أجل حتقيق االنسجام بني الذات‬
‫البرشية وبنية الكون‪ ،‬وفق ما يرى مفكرو ما بعد احلداثة‪ ،‬إال أن أمهيتها‬
‫يف السياق الذي أعنيه‪ ،‬هو ارتباطها عضوي ًا بفكرة العدل‪ .‬ففكرة‬
‫العدل هي الفكرة املركزية‪ ،‬التي تأخذ هبا الروحاني ُة جتسيدَ ها العميل‬
‫يف املجتمع‪ .‬فاالنفالت من َأ ْس الذات‪ ،‬واألنا‪ ،‬والبقاء يف مضامر‬
‫التضامن‪ ،‬والتعاضد مع اآلخر‪ ،‬هو جوهر الفكرة الدينية يف خمتلف‬
‫متثالهتا‪ .‬هذا يف حني َّبررت العلموية الغربية‪ ،‬البسة ثوب العقالنية‪،‬‬
‫للفردانية املفرطة‪ ،‬والتشظي املجتمعي‪ ،‬وهذا هو ما قتل الضمري‬
‫وفرقهم‪،‬‬‫اجلمعي تدرجيي ًا عرب حقبة احلداثة‪ ،‬وباعَدَ بني األفراد‪ّ ،‬‬
‫السلطة والثروة‪،‬‬ ‫واستدام‪ ،‬من ثم‪ ،‬سيطرة القابضني عىل مفاصل ُّ‬
‫خاصة يف السياق الغريب‪ .‬فالروحانية التي أعني ليست اهتيام ًا طفولي ًا‬
‫بالغيب‪ ،‬وبغموض الظاهرة الوجودية‪ ،‬وال انفعاالً استاطيقي ًا بالظاهرة‬

‫‪48‬‬
‫الوجودية‪ ،‬وال هي انرصاف عن التصدّ ي للمشاكل القائمة‪ ،‬وإنام هي‬
‫أكرب وأعمق من كل أولئك‪ .‬فالروحانية هي املعرفة العقلية والشعورية‬
‫العميقة باملعنى‪ ،‬التي منها جييء تنغيم عالقة األنا باآلخر‪ ،‬وعالقة األنا‬
‫واآلخر باملحيط الطبيعي‪ ،‬ليتحقق األمن والسالم والطمأنينة‪ ،‬التي ما‬
‫يتعرفون عىل مكانيزمات الناموس الكوين‬ ‫نشدوهنا وهم ّ‬ ‫ّ‬
‫انفك البرش َي ُ‬
‫يف إطار منظومة الغائية املتمحورة حول هدف حتقيق السالم املستدام‪.‬‬
‫تكوين الذات العربية له شخصيته احلضارية املتميزة‪ ،‬خاصة إذا‬
‫ما أخذنا يف االعتبار أن الرشق األوسط هو مهد الديانات الكتابية‬
‫الثالث‪ .‬وحني سيطرت املسيحية عىل الفضاء األورويب‪ ،‬مل تسيطر عليه‬
‫يف صيغتها التي جسدهتا حياة السيد املسيح‪ ،‬وإنام بعد أن جرى تفريغها‬
‫من حمتواها اإلنساين‪ ،‬والثوري‪ ،‬كام يقول غارودي‪ ،‬وجرى حتويلها إىل‬
‫ٍ‬
‫خاضعة لإلمرباطورية الرومانية‪ .‬وهو الوضع الذي حتدر منه‬ ‫ٍ‬
‫مؤسسة‬
‫والسلطة الزمنية‪ ،‬إىل أن تم‬
‫عرب التاريخ األورويب الوسيط‪ ،‬احتاد الدين ُّ‬
‫فصلهام عن بعضهام‪ ،‬يف مطلع العرص احلديث‪.27‬‬
‫السلطة الزمنية الحق ًا مع تبلور بارادايم‬
‫اشتبك فصل الدين عن ُّ‬
‫احلداثة‪ ،‬الذي ظن أهله أن فكرة العدل يمكن أن تتحقق بمعزل عن‬
‫الروحانية‪ .‬وهو ما انتهى ببارادايم احلداثة إىل سريورة اتسمت بإعادة‬
‫إنتاج املظامل‪ ،‬باضطراد‪ ،‬بل ونرشها عىل مستوى الكوكب كله‪ .‬فخالصة‬
‫بارادايم احلداثة الذي بدأ بالثورة عىل امللكية وعىل اإلقطاع‪ ،‬وانخرط‬
‫يف ممارسة الديمقراطية التعددية لقرون‪ ،‬انتهى عملي ًا إىل تركيز ُّ‬
‫السلطة‬
‫والثروة يف أيدي رشائح جمتمعية بالغة الصغر‪ ،‬ما لبثت أن خلقت هلا‬
‫وكالء يف سائر أرجاء الكوكب‪ .‬أما احلاضنتني الروحانيتني الكبريتني؛‬
‫املسيحية واإلسالم‪ ،‬فتحولتا من الروحانية الكونية‪ ،‬والنامذج النبوية‪،‬‬
‫ٍ‬
‫الهوت للسيطرة‪ ،‬بعد أن كانا‪،‬‬ ‫التي برشت وعاشت فكرة العدل‪ ،‬إىل‬
‫‪ .27‬غارودي‪ ،‬املصدر السابق‪ ،‬نفسه‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫يف مبدئهام‪ ،‬الهوت ًا للتحرير‪.‬‬
‫استيقظت املثقفية العربية املعارصة‪ ،‬حني استيقظت بعد فرتة‬
‫سبات طويلة‪ ،‬لتجد نفسها ملتفة عىل نفسها داخل احلضن الغريب‪ ،‬عند‬
‫هنايات احلقبة االستعامرية‪ .‬لذلك‪ ،‬مل يكن هلا فكاك من أن تعتمر خوذة‬
‫الغرب الفكرية واألخالقي ًة‪ ،‬لتعالج هبا قضايا واقعها املختلف بنيوي ًا‪،‬‬
‫عن الواقع التارخيي للغرب‪ .‬وبحكم اغرتاب املثقفني العرب‪ ،‬خاص ًة‬
‫العلامنيني منهم‪ ،‬عن واقعهم املتشبع بالعاطفة الدينية العميقة‪ ،‬إضافة‬
‫إىل يفاعة املثقفية العربية احلديثة ومعاناهتا هتميشا مركب ًا‪ ،‬أصبحت هذه‬
‫املثقفية‪ ،‬يف شقها العلامين املستغرب‪ ،‬معزولة عن اجلمهور‪ .‬وقد أضاف‬
‫بالسلطات‬ ‫كثري من املثقفني مزيد ًا من العزلة عن اجلامهري بااللتصاق ُّ‬
‫ٌ‬
‫العربية االستبدادية املعادية‪ ،‬بطبيعتها‪ ،‬للجامهري ومصاحلها‪ .‬عاشت‬
‫املثقفية العربية هذا الوضع اهلاميش عرب عقود سيطرة األنظمة الشمولية‬
‫العروبية اليساروية‪ .‬وحني أخذت األحوال يف التبدُّ ل‪ ،‬وتدهورت‬
‫أحوال األنظمة الشمولية العربية‪ ،‬وتضعضعت رؤى اليسار‪ ،‬وعاد‬
‫الغرب‪ ،‬يف الصيغة األمريكية‪ ،‬ل ُي ْطبِق عىل املنطقة من جديد‪ ،‬كانت‬
‫مثقفية اإلسالم السيايس الصاعدة قد مألت الفراغ‪ ،‬أو كادت‪.‬‬
‫أزمة َّ‬
‫المثقف ّية العرب ّية‬
‫كثري ًا ما قام يف ذهني أن املثقفية العربية‪ ،‬يف شقها الناشط يف‬
‫األكاديميا ويف النرش‪ ،‬ويف امللتقيات الفكرية البارزة‪ ،‬ظلت تشيد أبني ًة‬
‫فكري ًة مفهومية لواقعنا العريب‪ ،‬وأقدامها منغرسة يف احلذاء الغريب‪ .‬أي‪،‬‬
‫أهنا ظلت تقوم بمحاولة استجالب تلك البنى املفهومية‪ ،‬املشيدة برؤية‬
‫منتزع ًة إياها من سياقها الرؤيوي‪ ،‬والتارخيي‪،‬‬‫غربية‪ ،‬وبأدوات غربية‪ِ ،‬‬
‫ٍ‬
‫خمتلف جد ًا‪ .‬وأرجو‪ ،‬أال تُفهم‬ ‫والسوسيولوجي‪ ،‬وإسقاطها عىل واق ٍع‬
‫هذه املالحظة عىل أن ما يقف وراءها هو عدم اإليامن بعاملية الفكر‬

‫‪50‬‬
‫اإلنساين‪ ،‬أو االعتقاد يف أن الفكر البرشي يسري يف خطوط متوازية‪ ،‬ال‬
‫ٍ‬
‫ثقافية خمتلفة‪ ،‬أو أن‬ ‫ٍ‬
‫بيئات‬ ‫ٍ‬
‫تارخيية‪ ،‬ويف‬ ‫ٍ‬
‫بنيات‬ ‫تلتقي‪ ،‬بسبب ُّ‬
‫جتذره يف‬
‫ٍ‬
‫السامت اخلاصة لثقافة ما‪ ،‬تقف‪ ،‬بالرضورة‪ ،‬حائ ً‬
‫ال بينها وبني اإلفادة من‬
‫الفكر اإلنساين يف جمموعه‪ .‬كل ما يف األمر‪ ،‬أن املجال الثقايف العريب‪،‬‬
‫مل يعمل يف وجهة اإلفادة احلقيقية من ذخائر الفكر اإلنساين والتجارب‬
‫اإلنسانية‪ ،‬وتوطينها‪ ،‬وجتسريها لتصبح يف املدى الذي يمكن أن يلتقطها‬
‫منه اجلمهور‪ .‬فلقد ظل الفضاء الثقايف العريب‪ ،‬يف أغلب أحواله‪ ،‬تابع ًا‬
‫السمة الرئيسة‬ ‫للسلطة‪ ،‬كام ريض أن َيبقى دعام ًة ألبوية مستحدثة‪ ،‬هي ِّ‬
‫ُّ‬
‫ٍ‬
‫لألنظمة القائمة‪ ،‬إضاف ًة إىل أداة لنرش فكرة احلداثة الزائفة ‪ ،‬وأعني‪،‬‬
‫‪28‬‬

‫تضم املثقفني امللتصقني بحكومات‬ ‫ّ‬ ‫احلداثة التي تكونت يف فقاعة‬


‫األنظمة الشمولية حيث أصبحت رشحية كبرية من املثقفني‪ ،‬ومن‬
‫اخلرباء‪ ،‬ومن عامة التكنوقراط‪ ،‬بل ومن الكوادر القيادية النقابية للعامل‬
‫وصغار املوظفني والفالحني‪ ،‬جزء ًا ال يتجزأ من بنيات املؤسسات‬
‫احلكومية القائمة‪ .‬يعيش كل هؤالء يف فقاعة احلداثة الزائفة‪ ،‬ناعمني‬
‫بالسلطة‪،‬‬‫السلطة‪ ،‬وأهل املال املرتبطني عضوي ًا ُّ‬ ‫بثامر التحديث مع أهل ُّ‬
‫وكذلك مع الرشحية العليا من الربوقراطيني‪ .‬تضم هؤالء مجيع ًا حوصل ٌة‬
‫مغلقة‪ ،‬مع ّلقة يف اهلواء‪ ،‬صلتها بالواقع ضعيفة‪ ،‬وليس للجامهري إليها‬
‫من سبيل أو مدخل‪ .‬وحتول هؤالء إىل «حصان طروادة» خترتق به قوى‬
‫اهليمنة األجنبية احلصون الفكرية واألخالقية‪ ،‬وسائر ُبنى املجتمعات‬
‫العربية اإلسالمية‪ .‬ولقد دللت ثورات الربيع العريب‪ ،‬التي أشعلها‬
‫الشباب‪ ،‬وأسقطوا هبا األنظمة‪ ،‬أن املثقفية العربية معلقة يف اهلواء فعالً‪.‬‬
‫َّ‬
‫المثقف ّية العربية بين سياقين‬
‫وقفت وراء تشكُّل املثقفية يف أوروبا جترب ٌة تارخيي ٌة طويلة‪ ،‬يف صناعة‬
‫الفكر‪ ،‬ويف التحديث‪ ،‬والتنمية االجتامعية‪ ،‬ويف التعليم‪ ،‬ويف املامرسة‬
‫‪.28‬شريينأبوالنجا‪،‬املثقفاالنتقايلمناالستبداد إىلالتمرد‪،‬روافدللنرشوالتوزيع‪،‬القاهرة‪ ،‬جمع‪،2014،‬ص‪.12‬‬

‫‪51‬‬
‫احلريات‪،‬‬
‫السلطات‪ ،‬ويف توافر ّ‬ ‫الديمقراطية‪ ،‬املرتكزة عىل الفصل بني ُّ‬
‫فإن بون ًا كبري ًا يفصل‬
‫واتساق وجتانس البنى املجتمعية‪ .‬وهبذا الوصف‪ّ ،‬‬
‫ال عن جتانس السياق الغريب‪ ،‬بصورةٍ‬ ‫بينها و ُمث ّقف ّيتنا العربية‪ .‬هذا فض ً‬
‫عامة‪ ،‬ومتاسكه وتشابه أجزائه‪ ،‬وثبات أحواله النسبي‪ ،‬عرب األربعامئة سنة‬
‫متفاوت‬
‫ٌ‬ ‫األخرية‪ .‬أما سياقنا العريب املعارص الذي نحاول التنظري له‪ ،‬فهو‬
‫يف أخذه بأسباب احلداثة‪ ،‬وتتعايش يف داخله حقب خمتلفة‪ ،‬ومفاهيم‬
‫شديدة التباين‪ .‬فأنظمة احلكم وأحوال األقطار العربية‪ ،‬االقتصادية‬
‫ٍ‬
‫عسكرية‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫ولديكتاتوريات‬ ‫ألنظمة م َل َك ّي ٍة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫واالجتامعية‪ ،‬ظلت مرهتن ًة‬
‫وطائفية قبل حداثية‪ .‬فاملجتمع العريب القائم اآلن جمتمع‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫عشائرية‬ ‫وبنى‬
‫ً‬
‫غري متجانس‪ ،‬إذ «تتجاور فيه عصور وزمنيات وبرشيات خمتلفة» ‪.‬‬
‫‪29‬‬

‫أيض ًا تعاين مدينتنا من إشكاليات خ ّلفتها املدن الغربية وراءها‪ ،‬منذ‬


‫مدن مكتظ ٌة بالسكان‪ ،‬وهي تشبه‪ ،‬من حيث املظهر العام‪،‬‬ ‫قرون‪ .‬لدينا ٌ‬
‫بقية املدن الكربى يف العامل‪ ،‬ولكن‪ ،‬كام تساءل عبد اهلل العروي‪ :‬هل‬
‫ٍ‬
‫وحتول اإلنتاج‬ ‫متثل مدننا هذه جتمعات مديني ًة حقيقي ًة‪ ،‬تنتج الثقافة‪ّ ،‬‬
‫الثقايف إىل سياسات‪ ،‬كام ظلت تفعل حوارض الثقافة يف العامل الغريب؟‪.‬‬
‫إن املدينة التي تساعد عىل انتشار العلم وعىل اتساع دوائر االستنارة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫كام يرى العروي‪ ،‬ينبغي أن تكون قد أصبحت مؤسسة متتلك احلرية‬
‫وروح مجاعي‪ ،‬يضمن هلا استقالالً‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫كيان مجاعي‪،‬‬ ‫واالستقاللية‪ ،‬هلا‬
‫السلطة املركزية‪ .‬ثم ال بدّ أن تكون ُمدننا‪ ،‬أيض ًا‪ ،‬مدن ًا منتج ًة‬‫نسبي ًا إزاء ُّ‬
‫وحمفزة إلنتاج االخرتاعات واألفكار‪ ،‬وتعمل عىل ترقية حياة الناس‬
‫سكاين‬
‫ٍّ‬ ‫جتم ٍع‬
‫االقتصادية واالجتامعية‪ .‬فهذا هو الذي يعكس حتوهلا إىل ّ‬
‫السلطة الدينية‪.30‬‬
‫للسلطة السياسية‪ ،‬أو ُّ‬ ‫ٍ‬
‫مركز ُّ‬ ‫جتاو َز مرحلة كونه جمرد‬‫َ‬
‫‪ .29‬عبد اله العروي‪ ،‬أزمة املثقفني العرب‪ :‬تقليدية أم تاريخانية‪( ،‬ترجمة ذوقان قرقوط)‪ ،‬املؤسسة‬
‫العربية للدراسات والنرش‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،1978 ،‬ص ‪.171‬‬
‫‪ .30‬عبد الله العروي‪ ،‬ثقافتنا يف ضوء التاريخ‪( ،‬ط ‪ ،)6‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبان‪ ،‬والدار البيضاء‬
‫املغرب‪ ،2002 ،‬ص ‪.145‬‬

‫‪52‬‬
‫ويرى برهان غليون أن صورة املثقف العريب‪ ،‬بوصفه رشحية‬
‫ثورية قيادية‪ ،‬ليس هلا صلة كبرية بالصورة التي رسمها لينني لطبقة‬
‫املستخدمني‪ ،‬وال صورة املثقف العضوي التي ابتدعها غراميش‪ .‬فهو‬
‫جمرد وسيط حضاري‪ ،‬ينزع إىل جتسيد نموذج اجتامعي مغاير للنموذج‬
‫االجتامعي السائد‪ .‬فإشكاليته األساسية تتلخص يف وعيه احلداثي‬
‫الذي جيعل َدوره منحرص ًا يف نقض النظام االجتامعي القائم‪ .31‬وتلك‬
‫اإلشكالية خلقت حاجز ًا بينه ومجهوره‪ ،‬الذي ظل يتل ّقى يف املساجد‬
‫واملدارس‪ ،‬وعرب خمتلف صور التثاقف املجتمعي‪ ،‬خطاب ًا آخر غري‬
‫اخلطاب الرسمي الذي تسهم فيه رشحية كبرية من املثقفني‪ .‬وحني‬
‫تراجع املدُّ اليساري وانحلت قوى حكومات ما بعد االستقالل القومية‬ ‫َ‬
‫الديكتاتورية‪ ،‬أضحى اجلمهور لقم ًة سائغة لقوى اإلسالم السيايس‪،‬‬
‫كرسة يف أوساطه اخلطاب الشعبوي‬ ‫التي ظلت ملتصق ًة باجلامهري‪ُ ،‬م ِّ‬
‫الذي يفهمه‪ ،‬ويثق فيه‪.32‬‬
‫إن حواضن املثقفية العربية ليست حواضن اجتامعية‪ ،‬بقدر ما هي‬ ‫ّ‬
‫السلطة‬
‫حواضن رسمية حكومية‪ ،‬تقع‪ ،‬بصورة أو أخرى‪ ،‬حتت سيطرة ُّ‬
‫السياسية للحكومات التي حترص حرص ًا شديد ًا عىل إما أن يكون املثقف يف‬
‫صفها‪ ،‬أو ال يكون أبد ًا‪ .‬ولذلك فإن أوضاع املثقفية العربية أوضاع شديدة‬
‫امليوعة‪ ،‬وال تنطبق عليها أوضاع املثقفيات األخرى يف السياق احلداثي‪.‬‬
‫حاو َلت املثقفية العربية أن تقفز فوق واقعها‪ ،‬ف ُفتِنت بالفكر الغريب‪،‬‬
‫كاف‪ .‬فاألفكار التي تربط‬‫وعلقت بنهاياته‪ ،‬وخالصاته‪ ،‬بال وعي نقدي ٍ‬

‫‪ .31‬برهان غليون‪ ،‬تهميش املثقفني ومسألة بناء النخبة القيادية‪ ،‬يف‪ :‬املثقف العريب همومه وعطاؤه‪ ،‬مجموعة‬
‫مؤلفني‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية ومؤسسة عبد الحميد شومان‪( ،‬ط‪ )2‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،2001 ،‬ص ‪.87‬‬
‫‪ .32‬يقول سمري أمني إن النارصية مل تهيئ الرشوط الالزمة من أجل تطوير ذاتها‪ ،‬وبالتايل فإن سقوطها فتَح باب‬
‫الردّة والعودة إىل حظرية الخضوع لتحكم قوى االستعامر السائد‪ .‬وأن من أهم نواقص النارصية عملها عىل إبعاد‬
‫الشعب املرصي من التسييس؛ األمر الذي أنتج فراغاً مأله مد اإلسالم السيايس‪ ،‬ما أدخل األمور يف مأزق تاريخي‬
‫مخيف‪ .‬راجع‪ :‬سمري أمني‪ ،‬حول النارصية والشيوعية املرصية‪ ،‬دار العني للنرش‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ج ع م‪ ،2013 ،‬ص ‪.8‬‬

‫‪53‬‬
‫املثقف بجمهوره ال يمكن أن تكون مستوردة‪ ،‬وإنام ينبغي أن تصعد إىل‬
‫ٍ‬
‫دعامات جرى تثبيتها يف تربة الواقع ذاته‪ .‬ولقد أشار‬ ‫الواجهة مستند ًة عىل‬
‫إىل جانب من جوانب هذه اإلشكالية‪ ،‬زهري توفيق‪ ،‬كام سبق أن أرشنا‪.‬‬
‫إن إيامن مثقفينا‪ ،‬خاصة املنجذبني لربادايم احلداثة الغريب‪ ،‬بسامت‬ ‫ّ‬
‫تراثنا القابلة للتفعيل يف احلارض ليس كبري ًا‪ .‬فكثري منهم ينظرون إىل‬
‫يمجدونه‪ ،‬حني يقتيض األمر‪ ،‬إنام يمجدونه‬ ‫تارخينا‪ ،‬بازدراء‪ ،‬وحينام ّ‬
‫وإيامن حقيقي‪ .‬وحتى يف وسط املثقفني املدركني‬ ‫ٍ‬ ‫خماتل ًة وليس عن اقتنا ٍع‬
‫لإلشكالية‪ ،‬العارفني بخصائص تارخينا ذات السامت املستقبلية‪ ،‬فإن‬
‫صورة غدنا‪ ،‬اخلاص بنا‪ ،‬التي بدأت تداعب أخيلتهم‪ ،‬هون ًا ما‪ ،‬ال يبدو‬
‫ٍ‬
‫بصورة‬ ‫أهنا قد اتضحت بالقدر الكايف َبعد‪ .‬فاملثقفية العربية ال تزال تعاين‪،‬‬
‫حقبة ليست بالقصرية‪ ،‬اتسمت باالستالب املعريف‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫عامة‪ ،‬من ٍ‬
‫آثار‬
‫واالغرتاب الروحي‪ ،‬والغيبوبة يف تالفيف الفكر الغريب‪ .‬فالتأطري‬
‫األكاديمي الغريب للعقل العريب املسلم‪ ،‬ولسائر عقول أهل البالد النامية‬
‫ال دون تشكل‬ ‫التي عرفت احلداثة عن طريق االستعامر‪ ،‬وقف حائ ً‬
‫وعي‪ ،‬ناقد‪ ،‬مستقل‪ ،‬وسط نخب العامل النامي‪ ،‬الذي نحن منه‪ ،‬قادر عىل‬
‫املزاوجة بني واقع املجتمعات التي تتطلع لتملك احلداثة‪ ،‬وبني اإلطار‬
‫الغريب‪ ،‬من دون أن تفقد هذه املجتمعات رؤيتها املتوارثة للكون وهويتها‪.‬‬
‫ُ‬
‫الف ُتون بالغرب‬
‫لقد أحدث االتصال بالغرب‪ ،‬والفتون بقوة الغرب وسطوته‪،‬‬
‫انخالع ًا من اجلذور وسط املثقفني العرب‪ .‬هجر املثقفون العرب‬
‫جمال الدين‪ ،‬وتركوا أرضه الشاسعة لرجال املؤسسة الدينية‪ ،‬ولقوى‬
‫اإلسالم السيايس‪ ،‬التي مل تتعامل مع اإلسالم بوصفه مرتكز ًا لالنبعاث‬
‫احلضاري‪ ،‬وإنام جمرد ٍ‬
‫أداة فعالة يف احلشد والتحريك السيايس بالشعار‪،‬‬
‫السلطة‪.‬‬
‫من أجل جمرد الوصول إىل ُّ‬

‫‪54‬‬
‫مل تنتبه املثقفية العربية‪ ،‬التي أمضت النصف الثاين من القرن‬
‫كنبات الظل‪ ،‬حمتمية من أشعة الشمس بعتمة غابة أنظمة‬ ‫ِ‬ ‫العرشين‬
‫احلزب الواحد‪ ،‬وسيطرة اخلطاب الديني القروسطي‪ ،‬إىل كون اإلسالم‬
‫املكون الرئيس‬ ‫ذي األبعاد االجتامعية امللتفة حول فكرة العدالة‪ ،‬هو ِّ‬
‫يف ثقافة مجاهري املنطقة العربية‪ .‬ربام مل َت ِع املثقفية العربية‪ ،‬حقيق ًة‪ ،‬أن‬
‫املثقف املنفصل عن الرتاث اإلسالمي‪ ،‬ال يكون كامل األهلية للثقة‬
‫وسط اجلامهري‪ .‬ومن ثم‪ ،‬يصبح قليل التأثري‪ ،‬بل وسلبي التأثري أحيان ًا‪.‬‬
‫فمن َف ْرط حالة االنخالع من املكون الروحاين يف اجلذر الثقايف العريب‪،‬‬ ‫ِ‬
‫كثري من املثقفني العرب‪ ،‬يف ما يتعلق باملسلمني منهم عىل وجه‬ ‫أضحى ٌ‬
‫بنصوص من القرآن‬ ‫ٍ‬ ‫اخلصوص‪ ،‬غري قادرين عىل االستشهاد الصحيح‬
‫الكريم‪ ،‬أو احلديث‪ .‬وغري قادرين عىل مناقشة رجال الدين‪ ،‬وحراس‬
‫البنية العقلية السلفية‪ ،‬ومصاولتهم ومدافعتهم بأسلحتهم‪ .‬هربوا‬
‫ٍ‬
‫لرجال‬ ‫من ميدان معركة اإلحياء الديني والروحي‪ ،‬وأخلوا الساعة‬
‫ال غرض هلم يف أي نو ٍع من اإلحياء‪ .‬لكن حني يتعلق األمر باألدب‬
‫وبالشعر‪ ،‬فإهنم يستطيعون‪ ،‬وبسهولة‪ ،‬االستشهاد‪ ،‬من ذاكرهتم‪ ،‬بام‬
‫يريدون‪ ،‬من الشعر اجلاهيل وحتى قصيدة النثر‪ .‬بل‪ ،‬بلغ عدم اكرتاثهم‬
‫يتحرجون من أن يعلنوا عىل‬ ‫بمكون الدين يف ثقافتهم‪ ،‬أهنم مل يعودوا ّ‬ ‫ِّ‬
‫يتحرجون أشد‬ ‫املأل‪ ،‬جهلهم بأمور الدين وبحفظ نصوصه‪ .‬هذا‪ ،‬يف حني ّ‬
‫احلرج حني تبدو أي فجوات يف ثقافتهم املدنية؛ فكرية كانت أم أدبية‪.33‬‬
‫تزييف الديمقراطية الليبرالية‬
‫الشق الذي جرى رشاؤه من فكر احلداثة الغريب‪ ،‬وكان له التأثري‬ ‫ّ‬
‫الشق املاركيس اللينيني‪ .‬وبسبب متاهي املثقفية العربية مع‬
‫األكرب‪ ،‬هو ّ‬
‫الشق الشمويل املاركيس اللينيني‪ ،‬من برادايم احلداثة الغريب‪ ،‬الذي‬
‫هذا ّ‬
‫متيز بخدمة أنظمة احلزب الواحد القومية اليسارية الشمولية‪ ،‬علت عرب‬
‫‪ .33‬أشار إىل هذه املثالب املفكر الشهيد‪ ،‬محمود محمد طه يف محارضاته وكتبه‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫النصف الثاين من القرن العرشين‪ ،‬نربة اإلرهاب الفكري اليساروي‪.‬‬
‫فقد ح ّلت كهان ٌة يساروي ٌة عروبية‪ ،‬حمل الكهانة الدينية‪ ،‬وعملت بعزم‬
‫وتصميم عىل خنق التفكري احلر‪ .‬حتولت أكثرية مثقفينا من السلفية‬
‫الدينية‪ ،‬بوصفها عقيد ًة جامدة‪ ،‬إىل حتميات املاركسية التبسيطية‪،‬‬
‫اجلامدة‪ .‬لقد جرى ربط الديمقراطية والرأساملية واإلمربيالية مع ًا‪،‬‬
‫وجرى رميها كلها‪ ،‬دون فرز‪ ،‬يف مزبلة التاريخ‪ ،‬بزعم «التقدمية»‬
‫و»االنحياز للجامهري»‪ .‬يقول عيل حرب وهو ينعي عىل احلداثيني‬
‫العرب قصورهم يف النهوض بالدَّ ور املطلوب‪:‬‬
‫احلداثيون مل يكونوا كام ا ّدعوا‪ .‬قدّ موا أنفسهم بوصفهم‬
‫دعاة هنوض وتقدُّ م‪ ،‬واهتموا غريهم بالرجعية والتخلف‪.‬‬
‫متسكوا بحداثة مستهلكة‬ ‫بينام كانوا هم أنفسهم رجعيني‪ّ .‬‬
‫عمرها أربعة قرون‪ ،‬ومل حيسنوا املشاركة يف صناعتها‪ .‬ا ّدعوا‬
‫أهنم أصحاب عقل نقدي‪ ،‬لكنهم تعاملوا مع شعاراهتا‬
‫بعقل الهويت‪ .‬انتقلوا من عبادة األنبياء واألصول‪ ،‬إىل عبادة‬
‫احلداثة وتقديس العقل‪ .‬إضافة إىل تقليد الزعامء من لينني إىل‬
‫ماو‪ ،‬إىل جيڤارا‪ ،‬إىل عبد النارص‪ ،‬إىل صدام حسني‪ .‬أصبحوا‬
‫أصوليني حداثيني‪ ،‬وهذا سبب هشاشتهم‪ ،‬فاألصوليون‬
‫الدينيون كانوا أرسخ منهم وأكثر فاعلية‪ ،‬فعجزوا عن‬
‫منافستهم عىل أرض القداسة املنتهكة‪.34‬‬
‫هكذا عجزت الصفوة العربية املثقفة التي انغرست أقدامها يف‬
‫بارادايم احلداثة الغريب‪ ،‬خاصة ش ّقه املاركيس اللينيني عن تبنّي القيم‬
‫الديمقراطية‪ ،‬بل سقطت يف الرتويج لعبادة األفراد‪ .‬وهكذا‪ ،‬عجز‬
‫املثقفون احلداثيون عن منافسة اإلسالميني عىل عقول وقلوب سواد‬
‫اجلمهور العريب‪ ،‬رغم أن األخريين ال يملكون أكثر من العاطفة‬
‫‪ .34‬عيل حرب‪ ،‬تواطؤ األضداد‪ :‬اآللهة الجدد وخراب العامل‪ ،‬ط‪ ،2‬منشورات االختالف‪ ،‬الجزائر‪ ،‬والدار‬
‫العربية للعلوم نارشون‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،)2011( ،‬ص ‪.124‬‬

‫‪56‬‬
‫يسميها عيل حرب‪ ،‬التي نصب‬ ‫الدينية‪ .‬فـ«أرض القداسة املنتهكة»‪ ،‬كام ّ‬
‫فيها اإلسالميون خيامهم‪ ،‬عجز احلداثيون‪ ،‬حتى اآلن‪ ،‬عجز ًا مبين ًا‪ ،‬عن‬
‫منافستهم عليها‪.‬‬
‫يقول عيل أومليل‪ ،‬إن القضية املركزية لل ُكتّاب االلتزاميني العرب‪،‬‬
‫الذين تأثروا بآراء سارتر حول األدب امللتزم‪ ،‬وفارقوا جوهرها‪ ،‬مل‬
‫تكن هي الديمقراطية‪ ،‬وإنام قضايا أخرى رأوا أن هلا أولوية عىل قضية‬
‫الديمقراطية‪ .‬فهم قد انشغلوا بـ «الوحدة العربية» وبـ «االشرتاكية»‪،‬‬
‫ثم مل يقفوا عند هذا احلد‪ ،‬وإنام اختاروا الوسيلة األرسع التي يمكن‬
‫بسلطة «ثورية» حت ِّقق أهداف العرب الكربى‪ .‬وهكذا كان‬ ‫أن تأيت ُ‬
‫الضمني عىل «االنقالبية»‪ .‬دعا بعض املثقفني عالنية إىل‬ ‫ّ‬ ‫التعويل‬
‫بعض آخر‪ ،‬ضمن ًا‪ .‬وهكذا قامت يف الوطن‬ ‫السلطة الثورية‪ ،‬وقبلها ٌ‬‫ُّ‬
‫العريب سلسلة من هذا التنوع من االنقالبات‪ ،‬وكانت احلصيلة ما‬
‫رأينا‪ .35‬ويقول عيل حرب‪ ،‬إن هناك سريورات ختي ّلها فالسفة التاريخ‬
‫لتقدم البرشية‪ ،‬ابتدا ًء من هردر‪ ،‬ولسنغ‪ ،‬وانتها ًء هبيغل وماركس‪،‬‬
‫أكثرها جدار ًة هو السيناريو املاركيس‪ ،‬الذي حلم واضعوه بانتصار‬
‫االشرتاكية‪ ،‬وانمحاء التناقضات‪ ،‬بكتابة الربوليتاريا لـ «هناية التاريخ»‪،‬‬
‫باالنتصار الساحق عىل أعدائها الطبقيني‪ .36‬وبالفعل كان هلذا السيناريو‬
‫األثر األكرب يف صوغ متقابلة «التقدمية» والرجعية»‪ ،‬التي سيطرت‬
‫كثري من املثقفني العرب‪ ،‬وعىل سجاالهتم‪ ،‬يف حقبة احلرب‬ ‫عىل وعي ٍ‬
‫الباردة‪ ،‬وحتكُّم أنظمة احلزب الواحد‪ ،‬قومية التوجه‪ ،‬يف مقاليد األمور‬
‫كثري من البلدان العربية‪ .‬حتت هذه املظلة التي تم خفض سقفها‬ ‫يف ٍ‬
‫إىل درجة االبتذال‪ ،‬هتفت املثقفية العربية‪ ،‬يف جزئها الفاعل واملؤثر‪،‬‬
‫والسلطة السياسية‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.256‬‬
‫السلطة الثقافية ُّ‬
‫‪ .35‬عيل أومليل‪ُّ ،‬‬
‫‪ .36‬عيل حرب‪ ،‬أوهام النخبة أو نقد املثقف‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت لبنان‪ ،‬والدار البيضاء‪ ،‬املغرب‪،‬‬
‫‪ ،2008‬ص ‪.122-121‬‬

‫‪57‬‬
‫بسبب ارتباطها العضوي بأنظمة احلزب الواحد‪ ،‬وبأجهزهتا اإلعالمية‪،‬‬
‫ّ‬
‫و»القذايف» و»نمريي»‬ ‫لكل ِمن «نارص»‪ ،‬و»صدّ ام»‪ ،‬و»األسد»‪،‬‬ ‫ٍّ‬
‫و»بومدين»‪ ،‬وغريهم‪ .‬وانتهى هذا الفصل احلزين من التاريخ العريب‬
‫املعارص‪ ،‬إىل ما انتهى إليه‪ .‬وهكذا‪ ،‬وجدَ ت املثقفية العربية‪ ،‬خاصة تلك‬
‫التي ارتبطت باألفكار الثورية‪ ،‬والقومية‪ ،‬وبفكرة التقدم‪ ،‬و»التقدمية»‪،‬‬
‫قفر شاسع‪ ،‬ال حدود له‪ .‬ومع صعود نجم اإلسالميني‬ ‫نفسها يف َم ْه َم ٍه ٍ‬
‫بدأ بعض مثقفي اليسار يراهنون عىل حصان اإلسالم السيايس الذي بدا‬
‫هلم أنه الرابح‪ .‬وحني أعلنت دول اخلليج تنظيامت اإلخوان املسلمني‬
‫حتر ٌك مثق ّف ٌّي جديد يتلمس طريقه نحو هذه‬
‫«تنظيامت إرهابية»‪ ،‬بدأ ُّ‬
‫الوجهة اجلديدة‪ ،‬شاحذ ًا أدواته‪ ،‬مبدي ًا استعداده للخدمة‪ ،‬وكأن أنظمة‬
‫اخلليج أنظمة ديمقراطية‪ ،‬عادلة‪ ،‬صائنة حلقوق اإلنسان‪.‬‬
‫االنبتات عن الجذور والفكر المترجم‬
‫من اإلشكاليات اجلوهرية‪ ،‬غري املطروقة حتليلي ًا ونقدي ًا‪ ،‬بام يكفي‪،‬‬
‫التعويل عىل الفكر املرتجم‪ .‬وهي حال ٌة أشار إليها‪ ،‬هادي العلوي‪ ،‬حني‬
‫حتدّ ث عام َس ّمه‪« ،‬الثقافة املرتمجة»‪ ،‬و«الشيوعية املرتمجة»‪ ،‬قائ ً‬
‫ال إنه يعني‬
‫هبا‪:‬‬
‫تلك الظواهر السياسية والفكرية الغريبة عن املألوف‬
‫واملوروث‪ ،‬التي خلقت فئة من الربجوازيني املتوسطني‪،‬‬
‫الذين يعرفون عن الغرب أكثر مما يعرفون عن أنفسهم‪،‬‬
‫ٍ‬
‫كامل بوعي اجلامهري ومتطلبات البيئات‬ ‫ٍ‬
‫بجهل شبه‬ ‫فترصفوا‬
‫ّ‬
‫املحلية أو مستلزمات اهلوية ‪.‬‬
‫‪37‬‬

‫يف هذا السياق‪ ،‬قسم العلوي منطلق الناظرين إىل الرتاث‪ ،‬ثالثة‬
‫ومجهور مستغرب‪ ،‬يدعم‬
‫ٌ‬ ‫سلفي يقرأ الرتاث كعقيدة‪،‬‬
‫ٌّ‬ ‫«مجهور‬
‫ٌ‬ ‫أقسام‪:‬‬

‫‪ .37‬خالد سليامن وحيدر جواد‪ ،‬هادي العلوي‪ :‬حوار الحارض واملستقبل‪ ،‬دار الطليعة الجديدة‪ ،‬دمشق‬
‫سوريا‪ ،1999 ،‬ص ‪.58‬‬

‫‪58‬‬
‫اخلط املعادي للرتاث يف الوسط العلامين‪ ،‬بدعوى حماربة األصولية‪،‬‬
‫ومجهور وطني يتثقف بالرتاث يف مواجهته لألصولية ولالستعامر‪.»38‬‬
‫وال بدّ من القول هنا‪ ،‬إن مواجهة األصولية ال يكون إال بسالحها؛‬
‫أي سالح الدين‪ .‬فاملرحلة التي متر هبا الشعوب العربية‪ ،‬جتعل من‬
‫املستحيل غرس مفاهيم احلداثة وقيمها يف الرتبة العربية‪ ،‬إال من خالل‬
‫الدين نفسه‪ ،‬ما يقتيض حوار ًا معمق ًا يف كيفية اإلصالح الديني‪ .‬وهذا‬
‫ميدان تركته املثقفية العربية‪ ،‬يف مجلتها‪ ،‬للسلفيني‪ ،‬ظا ّن ًة أن الزمن وحده‬
‫كفيل بالقضاء عليهم‪ .‬غري أن الواقع العميل اليوم أوضح‪ ،‬أن ظاهرة‬ ‫ٌ‬
‫كظاهرة السلفية اجلهادية ليست منحرصة وسط كبار السن‪ .‬فمقاتلو‬
‫داعش الذين تتزايد أعدادهم بصورة ملفتة‪ ،‬كثريون منهم من أبناء‬
‫املسلمني‪ ،‬الذين نشأوا يف الغرب‪ ،‬وتلقوا تعلي ًام غربي ًا جيد ًا‪.‬‬
‫يذكر عبد اهلل العروي نقطة شبيهة لتلك التي أشار إليها هادي‬
‫العلوي حول الثقافة املرتمجة‪ .‬يرى العروي أن املثقف شخص يعرب‬
‫عن الفكر اجلامعي‪ ،‬وأنه يتأثر به ويؤثر فيه‪ .‬عالو ًة عىل أن املشاكل التي‬
‫يناقشها هي التي تشغل بال أغلبية الناس‪ .‬لكن إن كانت مناقشتُه تلك‬
‫املشاكل لفظي ًة‪ ،‬عقيمة‪ ،‬واجرتارية‪ ،‬فإهنا تربط املجتمع بامضيه‪ ،‬دون أن‬
‫تفتح له نافذ ًة عىل املستقبل‪ .‬وتكون النتيجة هي نفسها يف حال كانت‬
‫إسهامات املثقف اجرتار ًا ألقوال السلف‪ ،‬أو منسوخ ًة من أقول مثقفني‬
‫أجانب‪ ،‬موغلة يف التجريد والعمومية‪.39‬‬
‫معممة‪ ،‬مع اإلقرار بوجود استثناءات‪،‬‬ ‫ربام جاز القول‪ ،‬وبصورة ّ‬
‫إن املهمة الرئيسة للمثقف العريب قد انحرصت‪ ،‬حتى اآلن‪ ،‬وإىل حدٍّ‬
‫تلق جديد الفكر الغريب وإشاعته‪ ،‬يف جمتمعه اإلسالمي‪ ،‬قدر‬ ‫كبري‪ ،‬يف ٍّ‬
‫اإلمكان‪ .‬لكن‪ ،‬ال يبدو أن هناك امتالك ًا لرؤية واضحة‪ ،‬أو قدر ًة عىل‬
‫‪ .38‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.63‬‬
‫‪ .39‬عبد الله العروي‪ ،‬ثقافتنا يف ضوء التاريخ‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.144‬‬

‫‪59‬‬
‫إثارة القضايا األساسية املرتبطة بسياق هذه املهمة‪ .‬فاإلسالم بوصفه‬
‫نظام ًا اجتامعي ًا سياسي ًا‪ ،‬جيب أن يصبح موضوع ًا مطروح ًا للنقاش‬
‫احلر‪ .40‬وإال‪ ،‬فإن حالة استدبار املرتكز الديني للثقافة العربية‪ ،‬وسط‬
‫كثري من املثقفني العرب‪ ،‬وهي حالة موروثة منذ منتصف القرن‬ ‫ٍ‬
‫العرشين‪ ،‬سوف تزيد من هامشيتهم‪ .‬وسينتهون حت ًام إىل منايف الغرب‪،‬‬
‫بالتهرب‬
‫ّ‬ ‫وغريها من املنايف‪ ،‬إن هم استمروا عىل دأهبم القديم‪ ،‬املتسم‬
‫من مواجهة جوهر اإلشكالية‪ ،‬واالنتظار عىل رصيف الزمن‪ ،‬ظنّ ًا بأن‬
‫الزمن والتنمية االقتصادية كفيالن وحدمها بإبعاد الدين‪ ،‬برمته‪ ،‬من‬
‫ساحة السياسة‪ ،‬وبوضع الفضاء العريب يف نفس املركب الذي سبق أن‬
‫وجد الفضاء الغريب فيه نفسه‪ ،‬بعد أن ثار عىل ُسلطة الكهنوت الكنيس‪.‬‬
‫غري أن املثقفية الغربية مل تنتظر الزمن‪ ،‬وهي جالسة عىل الرصيف‪ ،‬وإنام‬
‫ال يف نقد الالهوت الكنيس‪ ،‬وحتالفه مع اإلقطاع‬ ‫قامت بدَ ْورها كام ً‬
‫واالستبداد امللكي‪ ،‬من داخل بنية الدين نفسها‪ ،‬وانتهى ذلك احلراك‬
‫بعلمنة أنظمة احلكم‪ .‬وهذا ما مل تقم به املثقفية العربية حتى اآلن‪.‬‬
‫بدأ تقليص َدور الدين يف الفضاء األورويب والغريب عموم ًا‪ ،‬منذ‬
‫عرص األنوار‪ .‬وكانت أكرب الرشوخ التي نتجت عن ذلك‪ ،‬اقتالع‬
‫املنظومة األخالقية من تُربتها الدينية‪ .‬وتدرجيي ًا مع تغري املجتمعات‬
‫حميط شاسع‪ِ ،‬س َمتُه الرئيسة‪ ،‬نسبية ذرائعية‪،‬‬
‫أخذت األخالق تعوم يف ٍ‬
‫بحسه األخالقي املوروث‪ ،‬هذه‬ ‫بال ضفاف ‪ .‬يعي جمتمعنا العريب ّ‬
‫‪41‬‬

‫ُخبه املثقفة املتغربنة‪ .‬فمع رضورة‬ ‫اإلشكالية‪ ،‬يف حني تتغافل عنها ن َ‬
‫اإلصالح الديني‪ ،‬التي ال معدى عنها‪ ،‬ال بدّ من امتالك القدرة النقدية‬
‫عىل مراجعة حركة اإلصالح األوروبية التي شاركت فيها الربوتستانتية‬

‫‪ .40‬هشام رشايب‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.23‬‬


‫‪ .41‬راجع‪ ،‬طه عبد الرحمن‪ ،‬روح الحداثة‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪( ،‬ط ‪ ،)2‬بريوت لبنان‪ ،‬الدار البيضاء‪،‬‬
‫املغرب‪ ،2009 ،‬الفصل الثاين تحت عنوان‪« :‬نظام األرسة الغربية والتفصيل املوجه»‪ ،‬ص ‪.139-99‬‬

‫‪60‬‬
‫وأفكار عرص األنوار وخمتلف التيارات التي تواصلت تدفع بقضايا‬
‫العدالة واحلقوق حتى القرن التاسع عرش‪ .‬إن بناء األجيال العربية‬
‫التحرر‬
‫ّ‬ ‫اجلديدة‪ ،‬ومنحها ميزان ًا أخالقي ًا‪ ،‬ذا مرتكز روحاين‪ ،‬جيمع بني‬
‫املحصن ضد اهلوس الديني‪ ،‬من جهة‪ ،‬وبني الصمود‬ ‫ّ‬ ‫العاقل املنضبط‪،‬‬
‫العارف أحابيل العوملة االستهالكية‪ ،‬وعبادة الربح ومنحه قياد القيم‪،‬‬
‫فالعوملة يف صيغها السالبة‪ ،‬إنام حتاول‪ ،‬مستخدمة ثورة املعلومات‪ ،‬أن‬
‫حتول شباب العامل كله‪ ،‬إىل كتلة ضخمة من املستهلكني املستقبليني‬ ‫ِّ‬
‫السطحيني‪ ،‬املدمنني لالستهالك‪ ،‬بسبب انقيادهم كلي ًا لدواعي اللذة‬
‫الشق املادي وحده‪.‬‬
‫الوقتية‪ ،‬وحرص النجاح الفردي يف ّ‬
‫نهاية اإليديولوجيا وموت ّ‬
‫المثقف‬
‫مكثف عىل املثقف‬
‫ٌ‬ ‫تصاعَدَ يف أوروبا‪ ،‬منذ ستة عقود تقريب ًا‪ ،‬هجو ٌم‬
‫احلداثي‪ .‬إذ هومجت ُسلطته التي كان قد اكتسبها منذ عرص التنوير‪،‬‬
‫فتزعزعت هيبته وتضعضعت مكانته‪ .‬ومع سيطرة اقتصاد السوق‪،‬‬
‫وصعود موجة العوملة‪ ،‬اكتمل‪ ،‬أو كاد‪ ،‬اختزال َدور املثقف يف حدود‬
‫مهدت هلذه‬ ‫املختص‪ ،‬أو اخلبري‪ ،‬أو املستشار هلذا املتنفذ أو ذاك ‪ّ .42‬‬
‫الردة‪ ،‬كام تقدم‪ ،‬حالة الشك يف َدور املثقف‪ ،‬التي اعرتت األوساط‬
‫الفكرية والثقافية الغربية‪ ،‬خاص ًة يف عقد الستينات من القرن املايض‪.‬‬
‫فثورة الشباب يف أيار‪/‬مايو ‪ ،1968‬فاجأت املثقفني اليساريني‪ ،‬وأربكت‬
‫حساباهتم‪ ،‬وعىل رأسهم‪ ،‬جان پول سارتر‪ .‬هناك أخذ التشكيك يف َدور‬
‫املثقف منعطفه األكرب‪ ،‬فجاء قوهلم‪ :‬إن املثقف يف طريقه إىل االختفاء‪،‬‬
‫سخف يبطل فكرة املثقف ذاهتا‪ .‬وقد ر ّدد‬ ‫ٌ‬ ‫فالتفكري نيابة عن اآلخرين‪،‬‬
‫ميشيل فوكو الحق ًا‪ ،‬ذات األقوال التي قال هبا سارتر ‪.‬‬
‫‪43‬‬

‫‪ .42‬زهري توفيق‪ ،‬املثقف والثقافة‪ ،‬املؤسسة العربية للدراسات والنرش‪ ،‬عامن‪ ،‬األردن‪ ،2013 ،‬ص ‪.37‬‬
‫والسلطة السياسية‪( ،‬ط ‪ ،)3‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،2011 ،‬ص ‪.249‬‬
‫السلطة الثقافية ُّ‬
‫‪ .43‬عيل أومليل‪ُّ ،‬‬

‫‪61‬‬
‫رشع املثقفون يف أوروبا يبحثون‪ ،‬منذ سبعينات القرن املايض‪ ،‬يف‬
‫الدَّ ور السلبي لسلطان املثقفني املمتد‪ ،‬يف الفضاء الغريب‪ ،‬منذ القرن‬
‫الثامن عرش‪ .‬وأسفرت مراجعاهتم النقدية‪ ،‬عن أن حقبة األنوار بسطت‬
‫جربوت العقل‪ ،‬الذي أسفر بمرور الزمن عن ظهور اإليديولوجيات‬
‫الكربى‪ .‬وهي إيديولوجيات حكمت باسمها أنظم ٌة شمولية‪.44‬‬
‫ولقد صاحب ذلك‪ ،‬عىل املستوي الفلسفي‪ ،‬ازديا ٌد يف اهتزاز اإليامن‬
‫وتراجع يف سطوة الفلسفة‪ ،‬التي تَبلور يف حاضناهتا‬
‫ٌ‬ ‫باألبستمولوجيا‪،‬‬
‫فكر احلداثة‪ .‬هذا الرتاجع‪ ،‬هو ما حدا هبابرماس إىل أن يقول‪ ،‬إنه ٌ‬
‫آخذ‬
‫تكون ما قبل الوضعية‬ ‫عىل عاتقه املحاولة املوجهة تارخيي ًا نحو إعادة ُّ‬
‫اجلديدة‪ ،‬عرب نسق هيدف إىل حتليل العالقة بني املعرفة واملصلحة‪.‬‬
‫ويرى هابرماس أن من يتتبع سريورة انحالل نظرية املعرفة‪ ،‬التي‬
‫تركت مكاهنا لنظرية العلم‪ ،‬يمر بمراحل منسية من التأمل‪ .‬فالسري نحو‬
‫هنج استعادي‪ ،‬يعني‪ ،‬وفق ًا لرؤية هابرماس‪ ،‬عىل‬ ‫نقطة االنطالق‪ ،‬وفق ٍ‬
‫استعادة التجربة املنسية للتأمل‪ .‬ويرى هابرماس أننا حني ننكر التأمل‬
‫تكون الوضعية‪.45‬‬
‫جسدها خت ّليه‬
‫تأسس القول بموت اإليديولوجيا‪ ،‬وهناية املثقف التي ّ‬
‫ّ‬
‫صح التعبري‪ ،‬عىل القول بموت األبستمولوجيا‬ ‫«الرسايل»‪ ،‬إن ّ‬
‫عن َدوره ِّ‬
‫نفسها‪ .‬ورشعت الفلسفة‪ ،‬من ثم‪ ،‬تبحث عن دروب جديدة‪ ،‬يف مرحلة‬
‫اتسمت بانبهام املسالك وتشعبها‪ .‬ومع تراجع اإليامن باألبستمولوجيا‪،‬‬
‫أو عىل األقل‪ ،‬اإليامن بشموهلا‪ ،‬ومطلقية صحة منهجها‪ ،‬انفتح الباب‬
‫أحس أزمة التفلسف املستحكمة‬ ‫ّ‬ ‫عىل مرصاعيه للتجريب الفكري‪.‬‬
‫جيوا اإلشكالية‪،‬‬
‫الرباغامتيون األمريكيون‪ ،‬أكثر من غريهم‪ .‬وكدأهبم‪ّ ،‬‬

‫‪ .44‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.249‬‬


‫‪ .45‬يورغن هابرماس‪ ،‬املعرفة واملصلحة‪( ،‬ترجمة حسن صقر)‪ ،‬منشورات الجمل‪ ،‬واملجلس األعىل للثقافة‪،‬‬
‫ج ع م‪ ،2001 .‬ص‪.7‬‬

‫‪62‬‬
‫برمتها‪ ،‬نحو الدعوة إىل قبول األوضاع الراهنة‪ ،‬كام هو واضح جد ًا‬
‫لدى ريتشارد روريت‪ِ َ ،‬‬
‫وستد الحق ًا إشارة إىل رؤية روريت‪ ،‬ودعوته‬
‫إىل التصالح مع األوضاع القائمة‪ .‬غري أن كورنيل ويست‪ ،‬الذي ينحو‬
‫منحى «الرباغامتية الالهوتية» ‪ ،Theological Pragmatism‬يف‬
‫منحى شبيه ملنحى ماري دايل‪ ،‬وسايل ماك فيق‪ ،‬وغوردون كوفامن‪ ،‬قد‬
‫حتايل عىل منزلق االرتداد إىل قبول األوضاع القائمة‪ ،‬بحرش عبارات‬
‫عن املثل الدينية واألخالقية‪ .‬يقول ويست‪:‬‬
‫ليس من قبل الصدفة املحضة أن ترتفع الرباغامتية‬
‫األمريكية مرة أخرى إىل سطح احلياة الفكرية شامل‬
‫األطلنطي‪ ،‬يف اللحظة الراهنة‪ .‬فطروحاهتا الرئيسة اهلادفة‬
‫إىل جتنُّب الفلسفة القائمة عىل «األبستمولوجيا» وتوكيدها‬
‫عىل القوى اإلنسانية‪ ،‬وحتويلها النامذج املهجورة للرتاتبيات‬
‫االجتامعية عىل ضوء املثل الدينية واألخالقية‪ ،‬جتعلها‬
‫متناسبة‪ ،‬وثيقة الصلة‪ ،‬وجذابة‪.47.46‬‬
‫عموم ًا‪ ،‬يمكن القول إن إشكاليات السياق الغريب اخلاصة به‪ ،‬التي‬
‫أظهرها دخوله هذا املنعطف املربك‪ ،‬قد انعكست سلب ًا عىل املثقف‬
‫ٍ‬
‫مكان له يف‬ ‫يف الفضاء العريب‪ ،‬يف اللحظة التي أخذ حياول فيها إجياد‬
‫مواقع القيادة ملعركة التغيري الشامل‪ .‬فام اعرتى املثقفية الغربية والتجربة‬
‫الغربية التي تدخل مرحلة شيخوختها‪ ،‬انسحب ميكانيكي ًا‪ ،‬عىل الفكر‬
‫العريب‪ ،‬وهو ال يزال يمر بفرتة اليفاعة يف مسار هنضته‪ .‬ولذلك‪ ،‬فإن‬
‫هناك حتدي ًا كبري ًا يتمثل يف امتالك املثقفية العربية‪ ،‬القدرة عىل فرز‬
‫السياقني الغريب والعريب‪ ،‬فرز ًا دقيق ًا‪ .‬ثم اجرتاح مزاوجة تأخذ أفضل‬

‫‪46. Cornel West, The American Evasion of Philosophy: A Genealogy of Prag-‬‬


‫‪matism (Madison: The University of Wisconsin Press, 1989), p. 4.‬‬
‫‪ .47‬ترجمة نص كورنيل ويست‪ ،‬من أصله يف اللغة اإلنجليزية‪ ،‬إىل العربية‪ ،‬من عمل كاتب الورقة‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫مكتسبات بارادايم احلداثة‪ ،‬وتستعيد يف ذات الوقت الوعي املفقود‬
‫بالذات‪ ،‬وباخلصائص احلضارية ذات الوعد املستقبيل‪.‬‬
‫أشار عزمي بشارة إىل رضورة اجرتاح نوع من املزاوجة‪ ،‬تتناسب مع‬
‫هذه اللحظة املفصلية من تاريخ املجتمعات العربية‪ .‬فدعا إىل أن ينشأ‬
‫تيار جيمع بني العدالة االجتامعية‪ ،‬والديمقراطية الليربالية السياسية‪،‬‬
‫ٌ‬
‫نصه‪:‬‬
‫واالنتامء احلضاري العريب اإلسالمي‪ .‬وكتب يف هذه الوجهة‪ ،‬ما ّ‬
‫التيار املؤهل للعمل النهضوي‪ ،‬والذي س َيث ُبت باملامرسة‬
‫إذا كان بمقدوره النهوض هبذه األمة‪ ،‬هو التيار القادر‬
‫عىل جتاوز هذه احلدود بني اإليديولوجيات‪ ،‬وأن يعود من‬
‫العروبة اإليديولوجية إىل العروبة الثقافية‪ ،‬ذات األبعاد‬
‫السياسية‪ .‬ومن اإلسالم السيايس‪ ،‬إىل احلضارة العربية‬
‫حي متطور‪ ،‬ومتفاعل‪ ،‬مع احلضارات‬ ‫اإلسالمية‪ ،‬كفضاء ّ‬
‫األخرى‪ .‬وإىل القيم الكونية القائمة يف فكر اليسار‪ ،‬ويف‬
‫الفكر الديمقراطي الليربايل‪ ،‬ويف الفكر اإلسالمي أيض ًا‪.48‬‬
‫ما خ ّطه قلم عزمي بشارة هنا‪ ،‬يمثل‪ ،‬يف تقديري‪ ،‬ملمح ًا مناسب ًا ملا‬
‫ينبغي السري يف وجهته‪ .‬فاحلاجة إنام هي إىل رؤية توليفية‪ ،‬جتمع اخليوط‬
‫الرئيسة لوصفة النهوض واالنبعاث يف السياق العريب اإلسالمي‬
‫حبل واحد منسجم اخليوط‪ .‬وما‬ ‫الراهن‪ ،‬ليجري‪ ،‬من ثم‪ ،‬فتلها يف ٍ‬
‫أو ّد أن أعرضه هنا‪ ،‬أن هذه املزاوجة ال بدّ أن تتضمن عنرص ًا روحاني ًا‪.‬‬
‫يتضمن‬‫ّ‬ ‫طرف ذو وزن يف هذه املعادلة‬
‫ٌ‬ ‫فالفكر اإلسالمي الذي هو‬
‫هذا العنرص الروحاين‪ .‬غري أن هذا العنرص ال يزال غري مفروز بقدر‬
‫مشوش عليه بواسطة العلامنيني الذي يربطونه كله‬ ‫كاف‪ .‬فهو من جهة‪ّ ،‬‬
‫مشوش عليه من جهة أخرى‪،‬‬ ‫بمجافاة العلم‪ ،‬والعقل والعقالنية‪ .‬وهو ّ‬

‫‪ .48‬عزمي بشارة‪ ،‬يف مقدمته لكتاب املنصف املرزوقي‪ ،‬ننترص‪ ...‬أو ننترص من أجل الربيع العريب‪ ،‬الدار‬
‫املتوسطية للنرش‪ ،‬تونس‪ ،2104 ،‬ص ‪.10‬‬

‫‪64‬‬
‫بواسطة املتدينني التقليدين الذين يربطونه كله بالتصوف و»الباطنية»‪،‬‬
‫بل والشعوذة والسحر واإلغراق يف الغيبيات‪ ،‬والسلبية جتاه قضايا‬
‫الواقع‪.‬‬
‫عنصر ال ّروحانية‬
‫ٍ‬
‫واضح‪،‬‬ ‫أوالً أعرتف‪ ،‬أنني أجد صعوبة حقيقية يف أن آيت بتعريف‬
‫لـ «الروحانية»‪ .‬ولكن تلك الصعوبة أمر طبيعي يف نظري‪ .‬فلو نحن‬
‫ال يف تعريف «الروحانية»‪ ،‬وهي مشتقة من «الروح»‪ ،‬لكنا‬ ‫نجحنا فع ً‬
‫حل هنائي ألعتى مشكالت الفكر التي ظلت‪ ،‬وما فتئت‪،‬‬ ‫وصلنا إىل ّ‬
‫الروح‪،‬‬
‫ولن تنفك حتري العامل‪ .‬ورد يف القرآن الكريم‪« :‬ويسألونك عن ّ‬
‫الروح من أمر ريب‪ ،‬وما أوتيتم من العلم إال قليال»‪ .49‬لذلك‪ ،‬فإن‬ ‫قل ّ‬
‫ما سأقوم به ال يتعدّ ى احلوامة حول داللة اللفظ‪ ،‬عىل ضوء ما كان وما‬
‫ٍ‬
‫متثالت فعلية يف الواقع‪ ،‬وعىل ضوء تراجع أنامط‬ ‫يمكن أن يكون له من‬
‫التفكري املادية القحة‪.‬‬
‫من إشكاليات احلديث عن الروحانية هو أنك ما إن تنطق هبا‪،‬‬
‫حتى يضعك العلامنيون يف املتحف‪ ،‬ويمنحونك‪ ،‬من ثم‪ ،‬سقف ًا عقلي ًا‬
‫وتتحول يف‬
‫ّ‬ ‫خفيض ًا‪ ،‬وحييلون وعيك كله إىل أضابري التاريخ‪ .‬بل‪،‬‬
‫كائن منقرض‪ .‬ولذلك ال يلبث أن يتحول التفاكر حول‬ ‫ٍ‬ ‫أذهاهنم إىل‬
‫الروحانية معهم‪ ،‬أوتوماتيكي ًا‪ ،‬إىل «حوار طرشان»‪ .‬املشكلة األكرب‪،‬‬
‫هي أن العقل احلداثي العلامين العريب‪ ،‬أكثر ضحال ًة‪ ،‬وبام ال يقاس‪ ،‬من‬
‫رصيفه الغريب‪ ،‬رغم أن األخري هو منبع سائر الضحاالت «العلموية»‬
‫حلقبة احلداثة‪ .‬ورغم أننا نعيش يف منطقة اشتهرت تارخيي ًا بالروحانيات‪،‬‬
‫فإن احلوار حول الروحانيات مع الغربيني أضحى‪ ،‬بعد نشوء فكر ما‬
‫بعد احلداثة‪ ،‬أيرس بكثري مع احلوار حوهلا مع العلامنيني العرب‪ ،‬املقيمني‬

‫‪ .49‬سورة اإلرساء‪ ،‬آية ‪.85‬‬

‫‪65‬‬
‫عىل علامنية منتصف القرن املايض‪ ،‬املتشبثني بأنامط اإلحلاد املاركسية‬
‫التبسيطية الساذجة‪.‬‬
‫كام سبق أن أرشت‪ ،‬يش ّبه كني ويلرب‪ ،‬وضع اإلنسان‪ ،‬وهو حياول‬
‫التعرف عىل موضعه من الكون‪ ،‬وهو منحرص يف اإلطار املفهومي هلذه‬ ‫ّ‬
‫الثنائية‪ ،‬براسم اخلريطة‪ ،‬الذي ُيهد نفسه يف رسم خريطة‪ ،‬يظ ّن ً‬
‫خطأ أنه‬
‫ليس جزء ًا منها‪ ،‬ما جيعل اإلنسان والطبيعية كيانني متغايرين منفصلني‬
‫غارقني يف أتون حرب رضوس َز َع َم ُ‬
‫عقل احلداثة أهنا سوف تنتهي حت ًام‬
‫لصاحله‪ ،‬عن طريق املناجزة‪ ،‬ال عن طريق التصالح والتأقلم‪ ،‬والعمل‬
‫للتغري بعقالنية وتفهم عميق‪ .50‬ولربام اقتىض هذا مراجع ًة نقدي ًة ملفهوم‬
‫تطور غربي ًا واشرتته منهم بقية العامل‪ .‬ولقد بدأ تيار‬
‫«العقالنية» الذي َّ‬
‫مابعد احلداثة ومفاهيم محاية البيئة تسري يف وجهة هذه املراجعة الرضورية‪.‬‬
‫إن الذي جيعل موضوع الروحانية غري مفهوم هلو هذا النمط من‬ ‫ّ‬
‫تأسس عىل املتقابالت املتعارضة‪.dichotomies ،‬‬ ‫التفكري الذي ّ‬
‫وأحسب أن كثريين سوف ينزعجون‪ ،‬إن جترأ أحدٌ بالقول‪ ،‬إن اجلدل‬
‫الذي شغلت به الفلسفة الغربية نفسها‪ ،‬حول أهيام كان سابق ًا‪ :‬املادة أم‬
‫الوعي؟ كان‪ ،‬يف مجلته‪ ،‬جدالً عقي ًام‪ .‬السبب ببساطة شديدة‪ ،‬أن فهم‬
‫أأخ ْذنا‬
‫الكون ال ينبني‪ ،‬بالرضورة‪ ،‬عىل حسم تلك اإلشكالية؛ سوا ٌء َ‬
‫فيها بام قاله هيجل‪ ،‬أم بام قاله ماركس‪ .‬ففهم الظاهرة الوجودية بصورة‬
‫كلية غري ممكن أصالً‪ .‬فغرور العقل احلداثي‪ ،‬الذي انتقده الغربيون‬
‫أنفسهم‪ ،‬هو الذي أوهم الكائن البرشي الذي ال يمثل وجوده كله منذ‬
‫بدء اخلليقة‪ ،‬املتمثل يف ظهور األحياء‪ ،‬مقارن ًا بعمر الكون‪ ،‬أكثر من‬
‫رمشة بالعني‪ .‬ومع حداثة وجود اإلنسان يف الكون‪ ،‬ظ ّن أن يف وسعه‬
‫أن حييط فهام بالقديم الالمتناهي‪ .‬فأفضل ما يمكننا فعله هو فهم العامل‬
‫يف إطار احلقب التي نوجد فيها‪ ،‬وفق ًا لطاقتنا وحاجتنا‪.‬‬
‫‪50. Ken Wilber, Ibd.‬‬

‫‪66‬‬
‫«سمه ما‬‫ِّ‬ ‫تتلخص الروحانية التي أعنيها‪ ،‬يف االرتباط باملطلق‬ ‫ّ‬
‫شئت»‪ ،‬الذي انبثق منه جوهر الضمري‪ ،‬وفكرة األخالق‪ ،‬والعدل‪،‬‬
‫واإلحساس باملسؤولية جتاه اآلخر‪ ،‬والتعاطف مع اآلخر‪ ،‬إىل درجة‬
‫بذل النفس من أجله‪ .‬يرى هيوستن سميث أن العقل احلديث عقل‬
‫مسطح‪ ،‬ألنه يأخذ تعليامته من العلوم الطبيعية‪ .‬والعلوم الطبيعية‪،‬‬
‫قط أن تضع يدها عىل مكِّون التجربة الذي‬ ‫بطبيعتها‪ ،‬ال تستطيع ّ‬
‫يشكل‪ ،‬بصورة حمددة جد ًا‪ ،‬منظومات القيم‪ .51‬فالروحانية كإطار‬
‫حاكم للعالقة بالكون ال تزال باقية وسط الشعوب التي مل يعصف هبا‬
‫كلي ًا‪ ،‬بعد‪ ،‬بارادايم احلداثة‪ .‬يرى عزمي بشارة أن كلود ليڤي شرتاوس‬
‫كان أحد أبرز الذين حرروا األنثروبولوجيا من قيمها املعيارية‪ ،‬وعززوا‬
‫بذلك األنثروبولوجيا الثقافية التي تقول باختالف احلضارات وتنوعها‬
‫بمنأى عن الرتاتبية التي وضعتها املركزية األوروبية‪ ،‬وبنَتها عىل ما تراه‬
‫تفاوت ًا ِع ْرقي ًا‪ ،‬ولغوي ًا‪ ،‬ومعرفي ًا‪ .52‬لفت كلود ليڤي شرتاوس األكاديميا‬
‫الغربية إىل صلفها املعيب ورعونتها التي جعلتها تضع احلضارات‬
‫البرشية يف تراتبية أعطت لنفسها فيها موقع الصدارة‪ .‬إن الكشوف‬
‫العلمية والتقدم التقني ال َتعالن وحدمها‪ ،‬من حضارة ما‪ ،‬رأس سهم‬
‫اخلليقة‪ .‬فالتمدّ ن غري مرتبط رشطي ًا بالتقدم املادي‪ ،‬وكذلك الالمتدن‪،‬‬
‫ليس مرتبط ًا رشطي ًا بالتأخر املادي‪ .‬فقد جتد شعب ًا متقدما مادي ًا وتقني ًا‪،‬‬
‫ولكنه غري متمدن‪ .‬وقد جتد شعب ًا‪ ،‬متأخر ًا مادي ًا‪ ،‬وتقني ًا‪ ،‬ولكنه متمدن‪.‬‬
‫ولذلك دعا شرتاوس الغربيني إىل تغيري نظرهتم إىل البرش الذين ظلوا‬
‫يطلقون عليهم أوصاف مثل‪« ،‬بدائيون ومتوحشون»‪ ،‬وأن يتعلموا‬
‫منهم‪« ،‬التوسط واالعتدال‪ ،‬واألدب واخلشوع»‪ ،‬فكتب‪ ،‬يف هذا‬
‫املنحى‪ ،‬ما نصه‪:‬‬
‫‪51.Huston Smith, p. 205.‬‬
‫‪ .52‬عزمي بشارة‪ ،‬الدين والعلامنية يف سياق تاريخي‪( ،‬ج ‪ ،)1‬املركز العريب لألبحاث ودراسة السياسات‪،‬‬
‫الدوحة قطر‪ ،‬وبريوت لبنان‪ ،2013 ،‬ص‪.111‬‬

‫‪67‬‬
‫«اإلنسانوية» املرتّبة ترتيب ًا جيد ًا ال تبدأ بنفسها‪ ،‬وإنام‬
‫تعيد األمور إىل أماكنها حيث ينبغي‪ :‬إهنا تضع العامل قبل‬
‫احلياة‪ ،‬وتضع احلياة قبل اإلنسان‪ ،‬كام تضع احرتام اآلخرين‬
‫حب الذات‪ .‬هذا هو الدرس الذي يدرسنا له البرش‬ ‫قبل ّ‬
‫الذين نسميهم «بدائيون ومتوحشون»؛ إنه درس التوسط‬
‫واالعتدال‪ ،‬واألدب واخلشوع يف مواجهة عامل سبق كائناتنا‪،‬‬
‫وسيبقى من بعدها ‪.‬‬
‫‪* 53‬‬

‫القطيعة مع ال ِّدين‬
‫تتمثل أمهية لفت النظر‪ ،‬إىل رضورة استعادة البعد الروحاين‬
‫مهمني‪ :‬املنحى األول‪ ،‬هو إعادة اللحمة‬ ‫منح َي ْي ّ‬
‫للمثقفية العربية يف َ‬
‫بني املثقف واجلمهور‪ .‬فقد عانت صلة املثقفني العرب باجلمهور‪،‬‬
‫ضعف ًا شديد ًا‪ ،‬بسبب انرصاف املثقف عن الدين‪ ،‬رغم أنه شاغل‬
‫حلظي للجمهور‪ .‬أما املنحى اآلخر‪ ،‬فهو بذل اجلهد يف ختليق‬ ‫ّ‬ ‫يومي‪ ،‬بل‬
‫املزواجة التي تو ّلف بني خالصات الفكر العاملي وجتاربه‪ ،‬ومتزجها‬
‫باملكون اإلسالمي املحيل‪ ،‬والتي ال تصبح ممكنة‪ ،‬ما مل يكن هذا العنرص‬
‫الروحاين حارض ًا فيها‪ .‬إذ ال مستقبل لتفلسف أو تنظري فكري ال ينظر‬
‫بجدية كافية إىل َدور الدين والروحانية يف التاريخ‪ ،‬وحاجة الناس غري‬
‫اخلافية إليهام يف احلارض‪ .‬فاملثقفية العربية‪ ،‬وسائر املنظومة القيادية يف‬
‫حراك التغيري‪ ،‬لن تكون ف ّعالة ولن تكون منضبطة‪ ،‬ولن متنح النموذج‬
‫امللهم إىل اجلامهري‪ ،‬ما مل تستند إىل رؤية كونية روحانية جتعل يف يدها‬
‫ميزان ًا أخالق ّي ًا فاعالً‪.‬‬
‫بقي الدين حي ًا وسط الناس‪ ،‬عىل الرغم من قرون ممتدة من الكشوف‬

‫‪53. Berman, M. The Reenchantment of the World. Ithaca, NY: Cornell Univer-‬‬
‫‪sity Press, 1984, p. 235.‬‬
‫* ترجمة نص شرتاوس من الرتجمة اإلنجليزية إىل العربية‪ ،‬من عمل كاتب الورقة‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫العلمية‪ ،‬ومن التنظري املكثف لإلحلاد‪ .‬وليس خافي ًا أن اجلمهور العريب‬
‫يستمع إىل من يتحدثون يف الدين‪ ،‬ويصغي إليهم بجدية‪ ،‬وباهتامم‪ ،‬بل‬
‫وبخشوع‪ ،‬رغم بؤس ما تُدْ يل به غالبيتهم‪ ،‬أكثر بكثري جد ًا‪ ،‬من استامعه‬
‫إىل املثقفني الذين يتحدثون يف الفكر والثقافة‪ .‬فالتفكري احلصيف‬
‫ال يتعاىل عىل الواقع‪ ،‬وإنام يسري نحو أهدافه من خالل متشكالت‬
‫وس َمته‪،‬‬‫هذا الواقع‪ .‬ولذلك لن يستطيع مثقف عريب‪ ،‬ليس يف لغته‪ِ ،‬‬
‫ومسلكه‪ ،‬وأسلوب حياته‪ ،‬ما ّ‬
‫يدل عىل عالقة بالدين‪ ،‬أن يغري شيئ ًا يف‬
‫الواقع العريب‪ ،‬ال اليوم‪ ،‬وال غد ًا‪.‬‬
‫استمرت القطيعة الصامتة‪ ،‬بني املثقفني وجمال الدين‪ ،‬باحلالة‬ ‫ّ‬ ‫لو‬
‫ال بني املثقف العريب‬‫التي هي عليها اآلن‪ ،‬فإن الفجوة القائمة أص ً‬
‫احلداثي‪ ،‬وبني مجهوره سوف تتسع أكثر‪ ،‬ما يزيد من قلة فاعليته ومقدار‬
‫تأثريه يف حميطه‪ .‬يضاف إىل ذلك‪ ،‬أن هذا الفراغ سوف متلؤه احلركات‬
‫اإلسالمية املسلحة املتطرفة‪ ،‬كام سلفت اإلشارة‪ .‬وقد بدأت تباشري ملئه‬
‫بواسطتها‪ ،‬اآلن‪ ،‬واضحة للعيان‪ .‬فالنظر إىل العوملة‪ ،‬وإعادة صياغتها‬
‫لدَ ور املثقف‪ ،‬وإبعاده متام ًا عن وظيفته التارخيية‪ ،‬خاصة يف بنية ثقافتنا‬
‫أمر بالغ اخلطورة‪ .‬كام ال ّ‬
‫يقل‬ ‫العربية اإلسالمية‪ ،‬كقدَ ٍر ال فكاك منه‪ٌ ،‬‬
‫عنه خطر ًا‪ ،‬احتضان املثقفني العرب مقاربات «ما بعد احلداثة» خاصة‬
‫املتعلقة بـ «موت املثقف»‪ ،‬و«هناية حقبة اإليديولوجيا»‪ ،‬وانتزاعها من‬
‫فس ْحب‬‫وس ْحبها ميكانيكي ًا‪ ،‬عىل واقعنا العريب‪َ .‬‬
‫سياق التجربة الغربية‪َ ،‬‬
‫اإلشكالية التي انوجدت تارخيي ًا يف السياق الغريب‪ ،‬عىل احلالة العربية‬
‫الراهنة‪ ،‬دون اعتبار للخصوصيات البنيوية لواقعنا العريب الراهن‪ ،‬لن‬
‫ينتج عنه سوى «تأبيد التبعية وترمجة املركزية الغربية إىل أشدّ حاالهتا‬
‫فجاج ًة‪ ،‬وتقويض الدّ ور التارخيي للمثقف العريب املعارص‪ ،‬واإلجهاز‬
‫ٍ‬
‫حداثة مل تتحقق بعد‪.»54‬‬ ‫عىل‬

‫‪ .54‬زهري توفيق‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.37‬‬

‫‪69‬‬
‫المثقف ّية بين سِ َي َاق ْين‬
‫َّ‬
‫ظل مفهوم ًا وموضوع ًا غربي ًا بامتياز‬‫يرى زهري توفيق أن املثقف‪ّ ،‬‬
‫فهو سليل طبقة «اإلكلريوس» التي احتكرت القراءة والكتابة‪ ،‬وتفسري‬
‫الكتاب املقدس‪ .55‬ويرى عزمي بشارة أن املصطلح بحموله احلداثية‬
‫الراهنة قد ُأطلق استعادي ًا عىل مثقفي الثورة الفرنسية‪ ،‬يف حني كانوا‬
‫يف حقيقة أمرهم‪ ،‬فالسف ًة ومفكرين‪ .56‬فهي كلمة جرى إطالقها ٍ‬
‫بأثر‬
‫رجعي‪ُ ،‬فأسبغت‪ ،‬رغم أن ن َْحتَها جرى يف مرحلة متأخرة من التاريخ‪،‬‬
‫ٍ‬
‫وأخالقية‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫عقلية‬ ‫سابقة من التاريخ‪ ،‬ويف ٍ‬
‫بنية‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وظيفة مورست يف فرتة‬ ‫عىل‬
‫ٍ‬
‫حضاري‪ ،‬وسوسيوـ اقتصادي خمتلف جد ًا‪ .‬ولو نحن نظرنا‬ ‫ويف سياق‬
‫ٍّ‬
‫ال خمتلف ًا من‬
‫إىل السياق العريب اإلسالمي‪ ،‬إىل وظيفة املثقف‪ ،‬لرأينا نس ً‬
‫وبسمو األخالق‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أنسال املثقفيات‪ ،‬إذ نشأت وهي مرتبطة باالستقامة‬
‫بمعنى العمل عىل إحقاق احلقوق وإقامة العدل‪ .‬فوظيفتها ال تستند إىل‬
‫املعرفة وحسب‪ ،‬وإنام تعتمد‪ ،‬بقدر أكرب‪ ،‬عىل جتسيد املعرفة‪ ،‬وتقديم‬
‫خط تطورها املستقبيل‪ ،‬وإن تقاطع مع املثقفية‬ ‫النموذج‪ .‬ولذلك فإن ّ‬
‫الغربية وغريها من املثقفيات‪ ،‬هنا أو هناك‪ ،‬إال أنه يظل‪ ،‬ذا سامت‬
‫فارقة‪ ،‬متيزه عن غريه‪.‬‬
‫يف كتابه الثورة الثقافية‪ ،‬ربط حممود حممد طه بني كلمة «ثقافة» ومعناها‬
‫يف اللغة العربية‪ ،‬الذي يعني «التقويم» و«التشذيب»‪ ،‬و«التهذيب»‪،‬‬
‫مستند ًا عىل ما جاء عنها يف «املنجد» يف اللغة‪ ،‬حيث ورد‪« :‬ث ّقف الرمح‪:‬‬
‫فتهذب وعلم‪ ،‬فهو‬‫هذبه‪ ،‬وع ّلمه‪ّ ،‬‬
‫وسواه‪ ،‬وث ّقف الولد فتثقف‪ّ :‬‬ ‫قومه‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫«مث ّقف»‪ ،‬وهي «مثقفة»‪ .‬فاملعنى مأخو ٌذ من «ث ّقف الرمح»‪ ،‬أي ّ‬
‫قومه‪.‬‬
‫وال ِّثقاف آل ٌة تُث ّقف هبا الرماح»‪ .‬فقناة الرمح حني يتم انتزاعها من‬
‫غصن شجرة‪ ،‬تكون هبا‪ ،‬عادة‪ ،‬فروع صغرية خارجة منها‪ ،‬ونتوءات‪،‬‬
‫‪ .55‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.29‬‬
‫تبي‪ ،‬العدد ‪ ،2013 ،4‬ص‪.142-127 .‬‬
‫‪ .56‬عزمي بشارة‪ ،‬عن املثقف والثورة‪ ،‬دورية ُّ‬

‫‪70‬‬
‫ف ُيستخدم ال ِّثقاف يف تقويمها وتشذيبها‪ ،‬لتصبح رحم ًا مشذب ًا مستقي ًام‪.‬‬
‫ورد يف ذلك قول الشاعر العريب الذي قال مفتخر ًا نيابة عن قومه‪:‬‬
‫عض ال ّث ُ‬
‫قاف برأس ص ْعدَ تنا َلو ْينَا‬ ‫إنا إذا ّ‬
‫ني َبينَا‬‫سقط َب َ‬ ‫ِ‬
‫الناس َي ُ‬ ‫ُ‬
‫وبعض‬ ‫نحمي حقيقتنا‬
‫فكلمة «الثقافة» يف اللغة العربية تشري إىل التقويم‪ ،‬والتهذيب‪ ،‬وهذا‬
‫أمر يشري إىل األخالق‪ .‬وهذا جيعل معنى التثقيف يف اللغة العربية مطابق ًا‬
‫ملعنى التثقيف‪ ،‬يف الدين اإلسالمي؛ أي‪« ،‬التقويم» و«التهذيب»‪.57‬‬
‫ولقد وردت أيض ًا‪ ،‬كلمة «األدب»‪ ،‬يف تاريخ الثقافة العربية اإلسالمية‪،‬‬
‫خاصة يف رافد التصوف‪ ،‬بمعنى التهذيب‪ ،‬واستقامة اخللق‪ ،‬والرقي‬
‫السلوكي‪ ،‬والتمدن‪ .‬فمنذ اجلاهلية وصدر اإلسالم‪ ،‬كانت كلمة‬
‫«األدب» تدل عىل اخللق النبيل الكريم‪ ،‬وما يرتكه من أثر يف احلياة‬
‫العامة واخلاصة‪ ،‬حتى قيل‪« ،‬كاد األدب أن يكون ثلثي الدين»‪ .‬ويف‬
‫القرن الرابع للهجرة ظهر هذا املعنى لألدب لدى التوحيدي‪ ،‬والقايض‬
‫التنوخي‪ ،‬ومسكويه‪ .‬فقد حرص هؤالء‪ ،‬مجيعهم‪ ،‬عىل ذم قبيح اخللق‬
‫ومدح كريمه‪ .‬ودعوا الناس‪ ،‬إىل اتباع الدرب القويم يف السلوك‬
‫والسياسة والفكر‪.58‬‬
‫وعي ٍّ‬
‫نبوي جديد‬ ‫على مشارف ٍ‬
‫سمون «مثقفني»‪،‬‬ ‫إن امتالك املعرفة التي تُدخل املرء يف عداد من ُي ّ‬
‫ال تعني بالرضورة‪ ،‬امتالك ًا تلقائي ًا للقدرة عىل التزام املوقف األخالقي‬
‫الصحيح‪ .‬أعني؛ املوقف امللتزم جانب «الصالح العام»‪ ،‬أينام تبدّ ى‬
‫ذلك الصالح العام‪ ،‬أو‪ ،‬املوقف املنارص للمستضعفني‪ .‬ال يستطيع‬

‫‪ .57‬محمود محمد طه‪ ،‬الثورة الثقافية‪ ،‬مطبعة سان جورج‪ ،‬الخرطوم‪ ،‬السودان‪ ،1972 ،‬ص ‪.32-31‬‬
‫والسلطة يف الحضارة العربية‪ :‬الدولة البويهية منوذجا‪( ،‬ج‪( )1‬ط‪ ،)2‬دار‬
‫‪ .58‬مصطفى التوايت‪ ،‬املثقفون ُّ‬
‫الفارايب للنرش‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،2004 ،‬ص ‪.143‬‬

‫‪71‬‬
‫املثقف أن يلتزم املوقف األخالقي املطلوب التزام ًا صارم ًا‪ ،‬ما مل يكن‬
‫لوعيه ُبعدٌ روحاين‪ .‬وال أعني بالوعي الروحاين «بنية الوعي الدينية»‬
‫التقليدية املعروفة‪ ،‬وإنام اإلدراك العميق ملا يشري إليه «كني ويلرب» ‪Ken‬‬
‫‪ ،Wilber‬بالعودة إىل وحدة الذات واملوضوع؛ أو «وحدة الوجود»‪،‬‬
‫كام يف مصطلح التصوف اإلسالمي‪ ،‬أي التعامل مع الوجود ككل‬
‫متكامل‪ ،‬واستيقان تلك النظرة بالقدْ ر الذي ينتفي معها اخلوف عىل‬
‫الرزق‪ ،‬واخلوف من احلاكم‪ .‬فالشجاعة الوجودية‪ ،‬التي حتىل هبا عرب‬
‫التاريخ منارصو الضعفاء‪ ،‬و َمن قاوموا الظلم واالستبداد‪ ،‬باختالف‬
‫عقائدهم وثقافاهتم‪ ،‬ورؤاهم الكونية‪ ،‬استندت إىل هذا املستوى من‬
‫الوعي القائم عىل هذه املعرفة العميقة‪ .‬فهذا املستوى للروحانية عابر‬
‫للديانات وللفلسفات مع ًا‪ ،‬ولكن يف نسقيهام األعليني‪ .‬ويقتيض هذا‬
‫القول‪ ،‬إن هذا املستوى من الروحانية يشء‪ ،‬وأن الديانة املؤسسية يشء‬
‫عميل‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫جتسيد‬ ‫آخر‪ .‬هذا النوع من املعرفة يتحول يف املعيشة اليومية‪ ،‬إىل‬
‫ٍّ‬
‫ملعيشة الرتابط والتكامل العضوي بني األنا‪ ،‬واآلخر‪ ،‬والبيئة املحيطة‪.‬‬
‫هبذا الوعي الذي جيرس اهلوة املتومهة بني عاملي الغيب والشهادة‪ ،‬تتحقق‬
‫الشجاعة الوجودية‪ .‬وهكذا يصبح املثقف نافع ًا لنفسه وجمتمعه‪ .‬فآ َفتَا‬
‫بالتحرر‬
‫ّ‬ ‫املثقف اللتان تسلبانه ُسلطته املعرفية‪ ،‬مها اخلوف والطمع‪.‬‬
‫من اخلوف والطمع‪ ،‬يصبح اإلصغاء‪ ،‬ومن ثم االنصياع‪ ،‬لصوت‬
‫الضمري اإلنساين احلي الذي ال يموت‪ ،‬املركوز يف نفس كل برش‪،‬‬
‫يسميهم‬ ‫ممكن ًا‪ .‬ذلك الصوت ظل يسمعه وينصاع له‪ ،‬عرب التاريخ‪ ،‬من ّ‬
‫ظل هذا الصوت ينبثق يف‬ ‫هادي العلوي املتحققني بـ «التاو»‪ .59‬لقد ّ‬
‫خمتلف منعطفات التاريخ‪ ،‬من أعامق نفوس هذا العيار من املثقفني‪،‬‬
‫عىل اختالف عقائدهم‪ ،‬وثقافاهتم‪ ،‬وحقبهم التارخيية‪ .‬خالصة القول‬

‫والسلطة‪« :‬يوم تتويج اإلمرباطور‪،‬‬


‫‪ .59‬يقول التاويون الصينيون عن موقفهم من الدولة‪ ،‬التي متلك املال ُّ‬
‫أو تنصيب الوزراء الثالثة‪ ،‬ال تبعث هدية من اليشب‪ ،‬أو فصيالً من أربعة خيول‪ ،‬بل الزم مكانك‪ ،‬وأظهر‬
‫«التاو»‪ .».‬هادي العلوي‪ ،‬كتاب التاو (ترجمة ودراسة)‪ ،‬دار الكنوز األدبية‪ ،‬بريت‪ ،‬لبنان‪ ،1995 ،‬ص ‪.114‬‬

‫‪72‬‬
‫هنا‪ ،‬إن سعة املعرفة ليست مرادفة‪ ،‬بالرضورة‪ ،‬لألخالق‪ ،‬وال للقيم‬
‫الرفيعة‪ ،‬وال للفضيلة‪ ،‬وال للقدرة عىل اختاذ املوقف الصحيح يف الوقت‬
‫ٍ‬
‫منارصة‬ ‫ٍ‬
‫طاقة فاعلة يف‬ ‫حيول املعرفة إىل‬
‫الصحيح‪ .‬هناك عنرص آخر ِّ‬
‫للحق وللعدل؛ إنه عنرص الروحانية‪.‬‬
‫مركزية فكرة العدل والمساواة‬
‫الفكرة املركزية التي م ّثلت جوهر الطرح اإلسالمي‪ ،‬وهي فكرة‬
‫العدل واملساواة‪ ،‬ارتفعت راياهتا يف سامء اجلزيرة العربية قبل ستة أو‬
‫سبعة قرون من بداية عرص النهضة يف أوروبا‪ .‬فمنذ أيام السيد املسيح‪،‬‬
‫وتبشريه بالعدل واملساواة‪ ،‬مل َي َضع أحدٌ من العا َلني هذه الفكرة يف حيز‬
‫لسلطة الدولة‪ ،‬مثلام فعل نبي‬ ‫التنفيذ العميل‪ ،‬بجعلها اهلدف املركزي ُ‬
‫اإلسالم العظيم‪ .‬لقد م ّثل جميء اإلسالم ثور ًة غري مسبوقة يف التاريخ‪،‬‬
‫من حيث الرؤية‪ ،‬والعزم‪ ،‬وبذل اجلهد‪ ،‬لالنتصاف للمظلومني‪،‬‬
‫واستنهاض مهم الناس كلهم لدفع الظلم‪ .‬ولذلك كان أول الذين آمنوا‬
‫بالدعوة‪ ،‬ولقوا جراء إيامهنم هبا عنت ًا‪ ،‬بلغ حدّ املوت حتت التعذيب‪ ،‬هم‬
‫مستعبدو‪ ،‬مكة ومستعبداهتا؛ أمثال‪« :‬بالل»‪ ،‬و«صهيب»‪ ،‬و«سمية»‪،‬‬
‫و«يارس»‪ .‬ولذلك فإن املثقفية يف البنية السوسيولوجية للحضارة‬
‫العربية اإلسالمية مرتبطة عضوي ًا بنرصة املستضعفني‪ ،‬وهو ما ّ‬
‫تضمنه‬
‫يل اللِّ َوا ُْل ْست َْض َع ِف َ‬
‫ني‬ ‫ون ِف َسبِ ِ‬ ‫«و َما َلك ُْم الَ ُت َقاتِ ُل َ‬
‫النص القرآين القائل‪َ :‬‬
‫ون ربنَا َأ ْخ ِرجنَا ِمن ه ِذ ِه ا ْل َقريةِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِم َن الر َج ِ‬
‫َْ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫ال َوالن َِّساء َوا ْل ِو ْلدَ ان ا َّلذي َن َي ُقو ُل َ َ َّ‬ ‫ِّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫نك نَصري ًا‪.»60‬‬ ‫اج َعل َّلنَا من َّلدُ َ‬‫نك َول ّي ًا َو ْ‬ ‫اج َعل َّلنَا من َّلدُ َ‬‫ال َّظالِ َأ ْه ُل َها َو ْ‬
‫هناك سم ٌة رئيسة‪ ،‬مل ينتبه إليها الدارسون كثري ًا‪ ،‬وهي أن نبي‬
‫اإلسالم اختار أن يعيش بني الناس نبي ًا مصلح ًا‪ ،‬رافض ًا أن يكون ملك ًا‪،‬‬
‫كام جرت عادة من ينترصون حرب ًا عىل أعدائهم‪ ،‬يف تلك العصور‪.‬‬

‫‪ .60‬القرآن الكريم‪ ،‬سورة النساء‪ ،‬آية ‪.75‬‬

‫‪73‬‬
‫«خ ِّي ُت بني أن أكون نب ّي ًا‬‫فقد ورد يف أحاديث النبي الكريم‪ ،‬قوله‪ُ :‬‬
‫ملك ًا‪ ،‬أو نب ّي ًا عبد ًا‪ ،‬فاخرتت أن أكون نبي ًا عبدا ‪ ،‬وهنا بيت القصيد يف‬
‫ً»‬

‫جوهر الفكرة اإلسالمية الذي جعل منها ثورة غري مسبوقة يف التاريخ‬
‫اإلنساين‪ .‬فعظمة البعثة املحمدية إنام تكمن أس ًاسا يف أن النبوءة فيها‬
‫تعالت‪ ،‬وتسامت‪ ،‬عىل ا ُمللك‪ .‬لقد كان ذلك معنى جديد ًا متام ًا‪ .‬فام‬
‫من أحد أحكم سيطرته حرب ًا عىل جمريات األوضاع يف العامل القديم‪،‬‬
‫إال وأصبح ملك ًا‪ ،‬أو امرباطور ًا‪ .‬وحتى أنبياء بني إرسائيل فقد كان‬
‫بعضهم ملوك ًا‪ ،‬بل إن فكرة النبوة ارتبطت لدى اليهود بامللك‪ .‬لذلك‬
‫نبي اإلسالم فتح ًا جديد ًا‪ ،‬غري مسبوق يف وجهة التحرير‪ .‬يف‬ ‫م ّثل جميء ّ‬
‫هذا املعنى‪ ،‬أشار حممود حممد طه إىل متيز اإلسالم عىل سائر التجربة‬
‫«اليهوديمسيحية» (‪ ،)Judeo-Christian‬بقوله‪:‬‬
‫وملاء جاء املسيح‪ ،‬ابن مريم‪ ،‬نبي ًا عبد ًا‪ ،‬رفضه اليهود‪،‬‬
‫ألهنم كانوا ينتظرونه نبي ًا ملك ًا‏‏‏‪ .‬ولقد جاء نب ُّينا‪ُ ،‬‬
‫فخ ِّي‬
‫أن يكون نبي ًا ملك ًا‪ ،‬أو نبي ًا عبد ًا‪ ،‬فاختار أن يكون نبي ًا‬
‫عبد ًا‪ ،‬فانترص بذلك للمستضعفني يف األرض‪ .‬وبدأ عهدُ‬
‫دال له من عهد ا َمل َلك ّية‏‏‏‪ .‬ولك ْن‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫يومئذ‪ُ ،‬ي ُ‬ ‫اجلمهورية‪ ،‬من‬
‫ّملا كان الوقت ال يزال مبكر ًا ملجيء عهد اجلمهورية‪ ،‬جميئ ًا‬
‫عملي ًا‪ ،‬فقد قال نب ُّينا‪« :‬اخلالفة بعدي ثالثون سنة‪ ،‬ثم تصري‬
‫ُملك ًا عضوض ًا»‏‪.‬‏‏‪ .‬وهكذا كانت‪ ،‬عىل عهد معاوية‪61‬‏‪.‬‬
‫أشار هادي العلوي إىل امللمح العريب اإلسالمي املتمثل يف نفور‬
‫(أي دولة)‪ ،‬حني‬ ‫العرب من امللك‪ ،‬ومن الوقوع حتت ُسلطة الدولة‪ّ ،‬‬
‫ال عن الدين الذي اعتنقوه‬ ‫تنص ً‬
‫قال إن األعراب‪ ،‬حني ارتدّ وا‪ ،‬مل يرتدّ وا ُّ‬
‫عىل يد النبي‪ ،‬وإنام ارتدّ وا خشية أن يصبح أبوبكر‪ ،‬بعد وفاة النبي‪ ،‬ملك ًا‬
‫‪ .61‬محمود محمد طه‪ ،‬ديباجة الدستور‪ ،‬مخطوطة منشورة إلكرتونياُ‪ ،‬موقع الفكرة‪( ،‬اسرتجاع املادة تم‬
‫يف ‪ 20‬ديسمرب ‪.)2013‬‬
‫‪http://www.alfikra.org/book_view_a.php?book_id=277‬‬

‫‪74‬‬
‫عليهم‪ .‬فهم بطبيعتهم «اللقاحية» ـ كام يسميها العلوي ـ ظلوا ينفرون‬
‫من البقاء حتت ُسلطة امللوك‪ ،‬وخيشون أن يقعوا حتت ُسلطة الدولة‪ ،‬يف‬
‫صيغتها امللوكية أو اإلمرباطورية‪ ،‬السائدة آنذاك‪ .‬ويقول العلوي إن‬
‫أغلبيتهم الغالبة‪ ،‬رجعت إىل الدين من تلقاء نفسها‪ ،‬حني تأكدت أن‬
‫أبابكر لن يصبح ملك ًا عليهم‪ ،‬وإنام خليفة‪ ،‬وسيبقى احلال كام كان عليه‪،‬‬
‫ويستدل العلوي عىل صحة رؤيته هذه‪ ،‬بأهنم لو ارتدوا‬‫ّ‬ ‫عىل عهد النبي‪.‬‬
‫تراجع ًا عن الدين‪ ،‬رفض ًا مبدئي ًا له‪ ،‬ملا استطاع جيش املدينة الصغري‪،‬‬
‫حينها‪ ،‬أن يعيدهم إىل حظرية اإلسالم‪ ،‬وهم بتلك األعداد الكبرية‬
‫املنترشة يف كل أرجاء اجلزيرة العربية الشاسعة‪.62‬‬
‫خيتلف السياق العريب اإلسالمي جذري ًا عن السياق الغريب‪ ،‬ألن‬
‫مركزيته متحورت‪ ،‬جوهري ًا‪ ،‬منذ البعثة املحمدية‪ ،‬حول حمو الظلم‪،‬‬
‫تطور هذا السياق العريب‬ ‫وإقامة العدل واملساواة‪ .‬ولذلك فإن آفاق ّ‬
‫اإلسالمي‪ ،‬ال بدّ أن يكون‪ ،‬بالرضورة‪ ،‬خمتلف ًا جذري ًا‪ ،‬يف حارضه اليوم‪،‬‬
‫عن السياق الغريب‪ .‬وحقيقة األمر‪ ،‬إن مفهوم املثقف‪،intellectual ،‬‬
‫معادل موضوعي‬‫ٌ‬ ‫باملعنى الذي تشكَّل به يف السياق الغريب‪ ،‬ال يوجد له‬
‫يف السياق العريب اإلسالمي‪ ،‬رغم أن له فيه شبيه ًا‪ .‬غري أن هذا الشبيه‪،‬‬
‫مغاير له يف بنيته‪ ،‬وطبيعته‪ ،‬وأفقه‪ ،‬ومداه‪ .‬فمفهوم املثقف يف السياق‬‫ٌ‬
‫العريب اإلسالمي الذي انداحت سريورته‪ ،‬لدى بعض األفراد الذين‬
‫نافحوا عن املستضعفني‪ ،‬عرب مراحل التاريخ اإلسالمي‪ ،‬انبثق أص ً‬
‫ال من‬
‫نور النبوة‪ ،‬ومركزيتها األخالقية‪ ،‬ووظيفتها االجتامعية يف إقامة العدل‪،‬‬
‫والوقوف يف وجه الظلم وال َظ َلمة‪ .‬فدَ ور النبي يف املايض هو ما جيب أن‬
‫يتمثله «املثقف العضوي»‪ ،‬يف السياق احلداثي القائم اليوم‪ ،‬مع التح ّفظ‬
‫عىل اإلطار املاركيس الذي صاغ فيه غراميش تعريفه هلذا املصطلح‪.‬‬
‫درس حركة االحتجاج‪ ،‬عرب التاريخ اإلسالمي ال بدّ أن يلحظ‬ ‫َمن َي ُ‬
‫‪ .62‬خالد سليامن وحيدر جواد‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.57‬‬

‫‪75‬‬
‫عيل بن أيب طالب‪،‬‬
‫أهنا َجعلت من النموذج النبوي‪ ،‬وحياة اخلليفة ّ‬
‫مرتكز ًا أخالقي ًا هلا‪ .‬أي‪ ،‬نموذج احلاكم‪ ،‬املستقيم‪ ،‬املصلح‪ ،‬الزاهد يف‬
‫االمتيازات‪ ،‬املنفلت من َأ ْس العصبية‪ .‬فاخلوارج‪ ،‬مثالً‪ ،‬جعلوا ِّ‬
‫السمة‬
‫الرئيسية للحاكم املسلم هي العدل‪ ،‬وإال فليس للحاكم سوى العزل‪.63‬‬
‫وعموم ًا فإن نموذج املثقفية يف مستوى النبوة‪ ،‬ومستوى من اقتدوا‬
‫بنموذج النبوة بإحسان‪ ،‬كان تطور ًا ألوضاع قديمة جد ًا‪ ،‬يف سياقات‬
‫متشاهبة‪ ،‬تناسلت‪ ،‬وتسلسلت عرب مراحل التاريخ املختلفة‪ .‬وتعود‬
‫هذه النزعة‪ ،‬يف جذرها‪ ،‬إىل نشأة القيم ونشأة الضمري‪ .‬ويمكن القول‪،‬‬
‫إن وظيفة املثقف‪ ،‬قبل نشوء املصطلح‪ ،‬كام هو معروف يف السياق‬
‫والراهب‪،‬‬
‫والعراف‪ ،‬والكاهن‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫الغريب‪ ،‬كانت متمثلة يف الساحر‪،‬‬
‫ِ‬
‫والنبي‪ ،‬وا ُملصلح االجتامعي‪ .‬ففي كل جمتمع‬ ‫واحلكيم‪ ،‬والفيلسوف‪،‬‬
‫ّ‬
‫من املجتمعات‪ ،‬وكل وضع من األوضاع مهام أوغل يف البعد الزمني‬
‫عن زماننا هذا‪ ،‬كانت هناك ُسلطة معرفية وأخالقية تتدخل‪ ،‬هنا‪ ،‬أو‬
‫هناك‪ ،‬بمقدار من املقادير‪ ،‬إلحداث التوازن بني الظاملني واملظلومني‪.‬‬
‫ذر ٌ‬
‫نافذ إىل تربة‬ ‫للمثقفية العربية يف ش ّقها الديني‪ ،‬متعدّ د املصادر‪َ ،‬ج ٌ‬
‫احلس األخالقي‪ ،‬ولذلك كانت ذات سامت «رسالية»‪ ،‬وال أعني هنا‬ ‫ّ‬
‫«دينية» كام يف الدين املؤسيس‪ ،‬وإنام أعني «رسالية»‪ ،‬بمعنى االلتزام‬
‫جسده النموذج النبوي‪ ،‬الذي انفصلت‬ ‫األخالقي واإلنساين الذي ّ‬
‫السلطة عن ا ُمللك وامتيازاته‪ ،‬ومتحور حول فكرة العدل واملساواة‪.‬‬ ‫فيه ُّ‬
‫ولذلك‪ ،‬ال مندوحة للمثقفية العربية‪ ،‬من أن جتد مرتكزها اخلاص هبا‪،‬‬
‫عىل هذا النحو‪ .‬ومرتكزها اخلاص هبا له ُبعد روحاين‪ ،‬فجمهورها كان‬
‫ينفك مرتبط ًا هبذا ال ُبعد الروحاين‪ .‬وحني تنطلق املثقفية‬
‫وال يزال ولن ّ‬
‫العربية من هذا اجلذر فإن مجهورها سوف يسمع هلا‪.‬‬

‫السلطة يف اإلسالم‪ :‬العقل الفقهي السلفي بني النص والتاريخ‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪،‬‬
‫‪ .63‬راجع‪ :‬السيد يس‪ُّ ،‬‬
‫(ط ‪ ،)3‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬والدار البيضاء‪ ،‬املغرب‪ ،2008 ،‬ص ‪.87-82‬‬

‫‪76‬‬
‫يتحولوا إىل قديسني‬
‫ّ‬ ‫ال يعني ما تقدّ م أن يف إمكان كل املثقفني أن‬
‫حاملني أكفاهنم يف عىل أك ّفهم‪ ،‬جاهزين للشهادة عىل نطع احلاكم الظامل‪.‬‬
‫ّ‬
‫املتجذر يف‬ ‫وإنام املقصود أال تزيغ أبصار املثقفني عن امليزان األخالقي‬
‫أصل التجربة الروحانية واملسلك املروحن‪ ،‬كام هي زائغة اليوم‪ ،‬بفعل‬
‫تأثري اإلغراءات التي يقدّ مها احلكّام‪ ،‬أو املخاوف التي تثريها معارضة‬
‫احلكّام‪ .‬فاملثقفون‪ ،‬يف تقديري‪ ،‬بحاجة إىل أن يعيدوا النظر يف التجربة‬
‫نموذج ْي حممد وعيسى‪ ،‬بوصفهام‬
‫َ‬ ‫الدينية ويف النامذج النبوية‪ ،‬خاصة‬
‫ونصري ْين للمظلومني‪.‬‬
‫َ‬ ‫وسمو أخالقي‬
‫ّ‬ ‫داعيت َْي تغيري‪ ،‬وعدل ومساواة‪،‬‬
‫ويوجب هذا عىل املثقف العريب عدم مماألة احلكّام‪ ،‬أو االنحياز‬
‫إىل ص ّفهم بالكلية‪ ،‬وأيض ًا عدم مماألة الشعب حني يثور بغري علم‪.‬‬
‫فمطالب اجلامهري ليست دائ ًام صحيحة‪ ،‬من حيث املحتوى‪ ،‬ومن حيث‬
‫الواقعية والعملية‪ ،‬ومن حيث التوقيت السليم‪ .‬لذلك‪ ،‬ال بدّ من النقد‬
‫املتوازن احلصيف‪ .‬وهو ما أشار إليه عزمي بشارة حني قال‪ ،‬بأن املوقف‬
‫النقدي يكون ضدّ احلاكم‪ ،‬كام يمكن أن يكون‪ ،‬يف بعض األحول‪ ،‬ضد‬
‫الثورة عليه أيض ًا‪.64‬‬
‫خاتمة‬
‫هناك مجلة أمور تقتيض منا نظر ًا جديد ًا‪ ،‬ونحن نعرب منعطفنا التارخيي‬
‫أن ِمن بيننا َمن ينظر إىل التجربة الغربية‪،‬‬
‫الراهن‪ .‬من بني هذه األمور ّ‬
‫يف مجلتها‪ ،‬بوصفها جتربة حتريرية‪ ،‬ينبغي أن نحتذى حذوها‪ .‬وما من‬
‫شك أن التجربة الغربية ذات مزايا ال ُتىص‪ ،‬وأهنا أحدثت نقلة‪ ،‬غري‬
‫رسخت‪ ،‬من الناحية النظرية‪،‬‬ ‫مسبوقة‪ ،‬يف تطوير احلياة البرشية‪ .‬كام أهنا ّ‬
‫قيم احلرية‪ ،‬والديمقراطية‪ ،‬وحقوق اإلنسان‪ .‬ومع ذلك‪،‬‬ ‫عىل األقل‪َ ،‬‬
‫فإن هذه التجربة املتمثلة يف بارادايم حقبة احلداثة‪ ،‬جتربة مليئة بالثقوب‬
‫النقدي اجلدّ ّي املبرص عندها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫التي يلزمنا الوقوف‬
‫‪ .64‬عزمي بشارة‪ ،‬عن املثقف والثورة‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.142-127 .‬‬

‫‪77‬‬
‫قارات العامل وهنب ثرواهتا وتعطيل‬ ‫يف هذه احلقبة جرى استعامر ّ‬
‫نموها‪ .‬أمجعت كربى الديمقراطيات يف الغرب عىل استعامر العامل‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫وإخضاعه للغرب بحدّ السالح‪ .‬فمنظومة القيم احلداثية ُفهمت عىل‬
‫تدل عىل خلل جوهري‪.‬‬ ‫أهنا استحقاق غريب‪ ،‬وحسب‪ ،‬وتلك مشكلة ّ‬
‫أيض ًا‪ ،‬يف هذه احلقبة‪ ،‬جرى اسرتقاق األفارقة باملاليني‪ ،‬وجرى‬
‫ترحيلهم قرس ًا مص ّفدين بالسالسل‪ ،‬ليصبحوا قوة عاملة‪ ،‬عىل أساس‬
‫السخرة‪ ،‬يف مزارع الرأساملية الصاعدة‪ ،‬وإلنجاز مشاريع البنى التحتية‬ ‫ُّ‬
‫احلداثية يف أوروبا واألمريكتني‪ .‬أيض ًا‪ ،‬يف منتصف القرن العرشين‪،‬‬
‫شهدت هذه احلقبة ظهور النازية والفاشية اللتني أوشكتا أن ُت ْطبِقا عىل‬
‫كل من الفاشية والنازية‪،‬‬ ‫أوروبا‪ ،‬كلها‪ ،‬بل وبقية العامل‪ .‬ولقد خرجت ّ‬
‫من بنية عباءة بارادايم احلداثة نفسه‪.‬‬
‫أما يف أمريكا‪ ،‬النصف األول من القرن العرشين‪ ،‬وبعض من‬
‫نصفه الثاين‪ ،‬فقد عانى املثقفون اليساريون من عملية ضخمة أشبهت‬
‫عمليات «صيد الساحرات» يف بدايات العصور احلديثة يف أوروبا‪،‬‬
‫وقفت وراءها املكارثية‪ .‬كام ال بدّ من مالحظة أنه عىل الرغم من‬
‫املامرسة الديمقراطية الطويلة‪ ،‬ورغم الدساتري‪ ،‬ورغم صدور اإلعالن‬
‫ظل الفصل العنرصي ممارس ًا‪ ،‬حتى ستينات‬ ‫العاملي حلقوق اإلنسان‪ّ ،‬‬
‫القرن املايض يف أمريكا‪ ،‬وحتى تسعيناته‪ ،‬يف جنوب إفريقيا البيضاء‪.‬‬
‫الشاهد أن فكر احلداثة وتطبيقاته وخالصاته النهائية تقتيض أن ُي ْق ِلع‬
‫املثقفون العرب عن نزعة القبول اإلمجالية له‪ ،‬وهي نزعة أرى أهنا‬
‫بقيت بني ظهرانينا‪ ،‬أطول مما ينبغي‪ .‬أما ما اتضح مؤخر ًا من ُ‬
‫تبلور‬
‫السلطة والثروة يف أيدي القلة‬ ‫املتوحشة املعوملة‪ ،‬وتكريس ُّ‬
‫ّ‬ ‫الرأساملية‬
‫وبصورة متزايدة‪ ،‬والعسكرة‪ ،‬ووصول السالح إىل كل ركن يف قيص‬
‫خيتط املثقف العريب رؤية‬ ‫ّ‬ ‫من أركان األرض‪ ،‬تؤكّد كلها رضورة أن‬
‫للتغري ذات صلة عضوية بخصائص البنية الثقافية واالجتامعية التي‬

‫‪78‬‬
‫خلقت الشخصية احلضارية للفضاء العريب‪ ،‬وهي بنية م َّثل فيها ٌّ‬
‫كل من‬
‫الدين والروحانية ركن ًا ركين ًا‪.‬‬
‫كام ورد يف مواضع خمتلفة من هذه الورقة‪ ،‬فإن هناك عزلة كبرية بني‬
‫املثقف العريب‪ ،‬خاصة املثقف احلداثي‪ ،‬والدين‪ ،‬ما أحدث فجوة كبرية‬
‫بينه واجلمهور‪ .‬سبب هذه العزلة هو نشوء املثقفية العربية املعارصة‬
‫يف حوصلة نخبوية منعزلة‪ ،‬ظ ّلت إىل حدّ كبري مع ّلقة يف اهلواء‪ .‬سبب‬
‫انفصال هذه احلوصلة‪ ،‬هو انبتاهتا عن جذورها احلضارية‪ ،‬وتبنّيها هنج‬
‫التغيري الفوقي القادم من أعىل‪ ،‬املتعايل عىل القوى املتشكلة يف الواقع‪،‬‬
‫واملتجاهل لدينامياهتا‪ .‬هذا االنفصال د ّلل عليه‪ ،‬وبقوة‪ ،‬ميل النخب‬
‫املثقفة خلدمة األنظمة الشمولية‪ ،‬وانرصافها عن اجلمهور‪ .‬وهكذا‬
‫نشأ الفراغ الذي مأله اإلسالميون احلركيون‪ ،‬ولكن‪ ،‬من غري مرشوع‬
‫إسالمي حقيقي‪ .‬كام أن انسحاب هذه النخب من ساحة الدين‪ ،‬ظنّ ًا‬
‫وترك ساحتها بالكلية ملن‬‫بأن الدين ظاهرة مصريها املوت الطبيعي‪ْ ،‬‬
‫وعوق حركة‬ ‫يسمون «رجال الدين»‪ ،‬ع ّطل مسارات اإلصالح الديني‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫اإلمساك بروح احلداثة‪ ،‬بل وبشكلها أيض ًا‪ .‬وكام يقول هادي العلوي‪،‬‬
‫يتحرك بالفكر املرتجم‪ .‬كل الشواهد تقول إن مجهورنا‬ ‫فإن مجهورنا ال ّ‬
‫يتحرك بالدين‪ ،‬ولكن أي دين ذاك الذي ينبغي أن يقف وراء حركته؟‬ ‫ّ‬
‫هذا هو السؤال الذي بحاجة إىل إجابة‪ .‬وال يبدو أن املثقف العريب‪،‬‬
‫حتى اآلن‪ ،‬منشغل باإلتيان بتلك اإلجابة‪.‬‬
‫املثقفية يف فضائنا العريب اإلسالمي كانت قائمة منذ القدم‪ ،‬رغم‬
‫أن املصطلح بصورته احلداثية‪ ،‬ومدلوالته‪ ،‬جاءت الحق ًا‪ .‬فإن كانت‬
‫املثقفية تعني املعرفة‪ ،‬ويف نفس الوقت وقوفها يف وجه القوى الغاشمة‪،‬‬
‫وعملها عىل نرصة املظلومني‪ ،‬فإن املثقفية العربية جتد أصلها األصيل‪،‬‬
‫ٌ‬
‫جمهول‪ ،‬حتى لدى املثقفني‬ ‫يف النموذج النبوي‪ .‬هذا اجلذر هبذا املعنى‬
‫بش ّقيهم؛ املتعلمن املستغرب منهم‪ ،‬واآلخر املعادي له‪ ،‬املنخرط يف حراك‬

‫‪79‬‬
‫نبي اإلسالم‬
‫اإلسالم السيايس‪ .‬هذا اجلذر الغني الواعد املتمثل يف رؤية ّ‬
‫للسلطة و َدورها‪ ،‬حيتاج منا إعادة استنطاق وإعادة تأويل‪ ،‬وإعادة متثل‬ ‫ُّ‬
‫يف واقعنا الراهن‪ ،‬وفق رؤية جديدة تتسم أكثر بالعمق‪ ،‬وبالسيولة‬
‫واحليوية‪ .‬أعني؛ رؤية تعيد إىل املثقف َدوره الرسايل املفرتض‪ ،‬بعد أن‬
‫تعيده من غربته‪ ،‬ثم تردم اهلوة الفاصلة بينه وبني مجهوره‪ ،‬ليصبح الرائد‬
‫يصح إطالق ًا أن تنحرص‬
‫الذي ال يكذب أهله‪ ،‬كام يقول املثل العريب‪ .‬ال ّ‬
‫مهمة املثقف يف َدور اخلبري واملستشار‪ ،‬الذي يلقي بكلمته ثم يميض يف‬
‫حال سبيله‪ ،‬تارك ًا إياها مع ّلقة يف اهلواء‪َ ،‬بز ْعم أن هذه هي حدود مهمته‪.‬‬
‫هذا ا َمل ْحق التام للمثقف و َدوره هو ما انتهى إليه بارادايم احلداثة‪ ،‬الذي‬
‫ترص عىل‬
‫مكّن قلة قليلة من اهليمنة املطلقة عىل مصائر الناس‪ .‬هذه القلة ّ‬
‫أن يبقى املثقف حتت سيطرهتا‪ ،‬ألهنا تعرف أن ممارسته َدوره الرسايل‬
‫السلطة من يدها‪ ،‬لتصبح يف يد الكثرة‪.‬‬ ‫تعني‪ ،‬يف النهاية‪ ،‬خروج ُّ‬
‫فالدين ظاهرة اجتامعية‪ ،‬غري أهنا مرتبطة يف جذرها العميق بغموض‬
‫الوجود كظاهرة‪ ،‬وبغموض املوت كظاهرة‪ ،‬وهاتان ظاهرتان ال تنفكّان‬
‫تقلقان وعي البرش‪ .‬وبام أن هاتني الظاهرتني ستبقيان‪ ،‬يف ما يبدو‪ ،‬ملفوفتني‬
‫قطاع كبري من البرش‪ ،‬متع ّلقني‪ ،‬بصورة أو‬
‫ٌ‬ ‫بالغموض واإلهبام‪ ،‬فسيبقى‬
‫بأخرى‪ ،‬بالتفسري الديني للظاهرة الكونية‪ .‬يقول عزمي بشارة‪ ،‬يف اجلزء‬
‫الثاين‪ ،‬املجلد الثاين‪ ،‬من مؤلفه‪« ،‬الدين والعلامنية يف سياق تارخيي»‪:‬‬
‫ّ‬
‫ويظل الدين املمأسس‬ ‫يبقى التد ّين ظاهرة اجتامعية‪،‬‬
‫يبحث عن َدور يف املجتمع‪ .‬والسؤال هو مدى توافر حيز‬
‫عمومي خارج مؤسسة الدولة يتسع لنشاطه ورؤيته للعامل‬
‫من دون السعي إىل فرضهام عرب الدولة‪ ،‬ومن دون هتديد‬
‫احلريات أو املجال اخلاص وحقوق املواطن املكتسبة يف أن‬
‫القرار الديني هو شأن خاص‪.65‬‬

‫‪ .65‬املصدر السابق‪( ،‬ج‪ 2-‬املجلد الثاين)‪ ،‬ص ‪.346-345‬‬

‫‪80‬‬
‫يواصل بشارة فيذكِّر بدَ ور الكنيسة الكاثوليكية واللوثرية يف‬
‫حركات السالم‪ ،‬وتأثريها أيض ًا‪ ،‬عىل حركات البيئة يف الغرب‪ ،‬يف‬
‫أملانيا‪ ،‬يف ثامنينات القرن العرشين‪ .‬كام يذكِّر بدَ ور الكنيسة الكاثوليكية‬
‫يف دعم حركة «تضامن البولندية»‪ ،‬يف الفرتة التي سبقت‪ ،‬بقليل‪ ،‬اهنيار‬
‫التحرر يف أمريكا‬
‫ّ‬ ‫التجربة الشيوعية‪ ،‬و َدورها أيض ًا يف دعم حركات‬
‫الالتينية‪ .‬يضاف إىل ذلك‪ ،‬وقوف الكنيسة األنغليكانية ضد الفصل‬
‫تتلخص يف‬‫العنرصي يف جنوب إفريقيا‪ .66‬وهلذا التذكري أمهية خاصة ّ‬
‫أن املفاهيم الدينية واملواقف الدينية تتغري‪ ،‬وال ينبغي أن نسجن الدين‬
‫التصورات التي رسمتها له حقبة احلداثة يف بداياهتا‪ ،‬باعتباره ظاهرة‬
‫ّ‬ ‫يف‬
‫ماضوية مرتبطة بطفولة العقل البرشي‪ ،‬وبتخ ّلف الوسائل «العلمية»‬
‫للنظر يف الكون والطبيعة واإلنسان‪ .‬تكمن أمهية هذه النامذج التي‬
‫أوردها بشارة يف لفتها النظر إىل كيف أن الدين‪ ،‬ومؤسساته يف الغرب‪،‬‬
‫أعادت إنتاج نفسها‪ ،‬وأصبحت فاعلة يف احليز السيايس واالجتامعي‪،‬‬
‫بوقوفها يف صف اجلامهري‪ ،‬وهي تنشد التغيري‪ .‬والسؤال هنا‪ ،‬وهو‬
‫سؤال مركزي يف هذه الورقة‪ :‬هل سنرتك الدين عندنا‪ ،‬بالصورة التي‬
‫هو عليها اآلن‪ ،‬أم نعمل من أجل أن يعيد إنتاج نفسه ليصبح قوة داعمة‬
‫للجامهري وهي تسعى إىل النهوض والتغيري؟‪ .‬إن ْترك املثقفني للحيز‬
‫الديني لرجال الدين ال يعني سوى اإلبقاء عىل حالة االستقطاب‬
‫الدينية العلامنية القائمة عندنا اآلن‪ .‬وهي‪ ،‬دون شك‪ ،‬حالة معوقة‪.‬‬
‫تتجس‬
‫ّ‬ ‫خالصة القول‪ ،‬لن يصبح للمثقف العريب َدور مؤثر ما مل‬
‫فتمسك اجلمهور بالدين وانرصاف قطاع كبري‬ ‫اهلوة بينه وبني مجهوره‪ُّ .‬‬
‫من املثقفني املنتجني‪ ،‬عن الدين يمثل هذه اهلوة‪ .‬بعض أسباب هذه‬
‫أثرها كام ينبغي‪ .‬ورغم‬ ‫اهلوة يعود إىل الرتكة االستعامرية‪ ،‬التي مل َت ُح َ‬
‫أن احلديث جيري كثري ًا عن حمو آثار االستعامر‪ ،‬إال أن آثار االستعامر يف‬

‫‪ .66‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.346‬‬

‫‪81‬‬
‫الفضاء العريب مل ُت ْ َح بالقدر املطلوب‪ ،‬بل إن ما تم من جهد معريف يف‬
‫هذه الوجهة ال يكاد يذكر‪ .‬فبنية الوعي السائدة‪ ،‬وسط املثقفني‪ ،‬تسيطر‬
‫عليها‪ ،‬إىل حدّ كبري‪ ،‬بنية الوعي الغربية‪ ،‬وال غرابة‪ ،‬فاألكاديميا لدينا ال‬
‫تزال غربية؛ هي غربية األفق املعريف‪ ،‬غربية األدبيات‪ ،‬وغربية املقررات‬
‫الدراسية‪ ،‬وكذلك غربية املنهج يف النظر إىل الظواهر وتفسريها‪ ،‬وهي‬
‫يف غربيتها تلك‪ ،‬قديمة أيض ًا‪ .‬فهي تعكس يف غالب حاهلا‪ ،‬فكر حقبة‬
‫احلداثة‪ ،‬بأكثر مما تعكس‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬عن اجلوانب املرشقة يف فكر‬
‫ما بعد احلداثة‪.‬‬
‫إن جتنُّب املثقفني العرب‪ ،‬االشتباك معرفي ًا مع الس ّلطات الدينية يف‬ ‫ّ‬
‫السلطات اليدَ العليا يف رسم مناهج اللغة‬ ‫الوطن العريب‪ ،‬قد جعل لتلك ُّ‬
‫يستمر تفريخ‬
‫ّ‬ ‫العربية‪ ،‬والرتبية اإلسالمية يف املدارس‪ .‬ولذلك سوف‬
‫مشوشة‪ ،‬ما جيعلها ال‬ ‫األجيال التي حتمل يف داخلها وعي ًا منقس ًام‪ ،‬وقي ًام ّ‬
‫متلك‪ ،‬عند املحكّات‪ ،‬إال أن تلجأ‪ ،‬إىل االرمتاء يف أحضان البنية العقلية‬
‫القديمة املعادية لقيم احلداثة‪ .‬كام أن اخلطاب الديني الذي تب ّثه وسائط‬
‫اإلعالم‪ ،‬من إذاعة‪ ،‬وتلفزيون‪ ،‬وتب ّثه أيض ًا املساجد‪ ،‬خطاب تتحكّم فيه‬
‫املؤسسة الدينية‪ ،‬التي عجزت‪ ،‬بطبيعة تعليمها‪ ،‬وتدريبها‪ ،‬أن خترج من‬
‫الدين بحواضن جديدة تتعايش فيها قيم الدين مع قيم احلداثة‪ ،‬بصورة‬
‫متسقة وثابتة‪ ،‬فلجأت إىل سجن اجلمهور يف اخلطاب الديني املوروث‬
‫من احلقبة العثامنية‪ .‬هبذه الصورة يكون اجلمهور‪ ،‬وهو يعرب مرحلتي‬
‫ٍ‬
‫واحد من بنية ثقافتنا‬ ‫ٍ‬
‫جانب‬ ‫الطفولة والشباب‪ ،‬مسي َطر ًا عىل وعيه من‬
‫يشب هذا اجلمهور‬ ‫ّ‬ ‫املحصن من احلوار‪ .‬وحني‬ ‫ّ‬ ‫املوروثة‪ ،‬وهو اجلانب‬
‫يصبح يف قبضة املساجد‪ ،‬ووسائط اإلعالم‪ ،‬التي ال تسمح باحلوار يف‬
‫ما يتعلق بأمر الدين‪ .‬هذه احلالة‪ ،‬يف تقديري‪ ،‬حالة فريدة‪ ،‬يف العامل‬
‫حل فريد‪ ،‬هو اآلخر‪.‬‬ ‫املعارص‪ ،‬وال بدّ هلا من ّ‬
‫استطاعت املؤسسة الدينية اإلسالمية التقليدية أن ُت ِرج أفضل ما يف‬

‫‪82‬‬
‫الفكر اإلسالمي خارج دائرة الدين‪ .‬وعموم ًا فإن العلوم النقلية القائمة‬
‫عىل االستظهار واحلفظ‪ ،‬هي السائدة يف الدراسات اإلسالمية‪ ،‬خاصة‬
‫ومدرسوه يعادي التفكري‪ ،‬و َي ِضيق باألسئلة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يف املنهج املدريس‪ .‬فاملنهج‬
‫خري ما يف الرتاث اإلسالمي‬‫ويقمع التفتّح العقيل‪ .‬هبذه الصورة أصبح ُ‬
‫خارج وعي املسلمني‪ ،‬وخارج ذاكرهتم التارخيية‪ .‬باختصار‪ ،‬جلوس‬
‫املثقفني عىل الرصيف كي حتدث معجزة فتغري هذه األوضاع‪ ،‬خطة لن‬
‫استمرت القطيعة الصامتة‪ ،‬بني‬‫ّ‬ ‫يكون هلا مردود يف املدى املنظور‪ .‬ولو‬
‫املث ّقفني وجمال الدين‪ ،‬باحلالة التي هي عليها اآلن‪ ،‬فإن الفجوة القائمة‬
‫ال بني املثقف العريب احلداثي‪ ،‬وبني مجهوره سوف تتسع أكثر‪ ،‬ما‬ ‫أص ً‬
‫يزيد من قلة فاعليته ومقدار تأثريه يف حميطه‪ .‬يضاف إىل ذلك‪ ،‬أن هذا‬
‫الفراغ سوف متلؤه احلركات اإلسالمية املسلحة املتطرفة‪ ،‬كام سلفت‬
‫اإلشارة‪ .‬وقد بدأت تباشري ملئه بواسطتها‪ ،‬اآلن‪ ،‬واضحة للعيان‪.‬‬
‫ختام ًا‪ ،‬هناك أيض ًا‪ ،‬خطر العوملة‪ ،‬التي أعادت صياغة َدور املثقف‪،‬‬
‫فحولته إىل مستشار‪ ،‬وأب َعدته عن وظيفته التارخيية‪ ،‬وقد حدث هذا‪،‬‬ ‫َّ‬
‫مؤخر ًا‪ ،‬يف الغرب بصورة ملفتة ‪ .‬ولكن النظر إليه من جانب املثقفني‬
‫‪67‬‬

‫أمر بالغ اخلطورة‪ .‬وال ّ‬


‫يقل عنه خطر ًا‪،‬‬ ‫العرب‪ ،‬كقدَ ٍر ال فكاك منه‪ٌ ،‬‬
‫ما نراه من احتضان املثقفني العرب مقاربات «ما بعد احلداثة» خاصة‬
‫املتع ّلقة بـ «موت املثقف»‪ ،‬و»هناية حقبة اإليديولوجيا»‪ ،‬وانتزاعها من‬
‫فس ْحب‬‫وس ْحبها ميكانيكي ًا‪ ،‬عىل واقعنا العريب‪َ .‬‬
‫سياق التجربة الغربية‪َ ،‬‬
‫اإلشكالية التي انوجدت تارخيي ًا يف السياق الغريب‪ ،‬عىل احلالة العربية‬

‫‪ .67‬يقول إدوارد سعيد‪« :‬أدت فكرة املثقف املحرتف الذي يكافأ عىل خدماته إىل انجذاب مدهش نحو‬
‫مراكز القوى يف الواليات املتحدة وأوروبا‪ ،‬بحيث يعتقد املثقف بأنه يؤدي دورا ً يف السياسة‪ ،‬أو يف بلورة‬
‫السياسة‪ ،‬ويف تشكيل الرأي العام‪ ،‬ويف صناعة السياسة‪ ،‬وأن هذه هي مكافأته وهدف ما يفعله‪ .‬بينام دور‬
‫املثقف يف رأيي هو أن يرتقي بالوعي وأن يصبح أكرث إدراكاً للتوترات والتعقيدات وأن يتحمل مسؤولية‬
‫مجتمعه‪ .‬هذا دور ال عالقة له بالتخصص‪ .‬فهو متعلق بقضايا تتخطى حدود املجاالت املهنية املحرتفة‪.‬‬
‫السلطة والسياسة والثقافة‪ ،‬تقديم غاوري فسواناثان‪ ،‬ترجمة‪ :‬د نائلة قلقييل حجازي‪،‬‬
‫راجع‪ ،‬إدوارد سعيد‪ُّ ،‬‬
‫دار اآلداب للنرش والتوزيع‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،)2008( ،‬ص ‪.418‬‬

‫‪83‬‬
‫الراهنة‪ ،‬دون اعتبار للخصوصيات البنيوية لواقعنا العريب الراهن‪ ،‬لن‬
‫ينتج عنه‪ ،‬كام يقول زهري توفيق‪ ،‬سوى‪« :‬تأبيد التبعية وترمجة املركزية‬
‫الغربية إىل أشدّ حاالهتا فجاج ًة‪ ،‬وتقويض الدَّ ور التارخيي للمثقف‬
‫ٍ‬
‫حداثة مل تتحقق بعد‪.»68‬‬ ‫العريب املعارص‪ ،‬واإلجهاز عىل‬

‫‪ .68‬زهري توفيق‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.37‬‬

‫‪84‬‬
‫َمراجع الفصل األول‬

‫المَ راجع العربية‪:‬‬


‫فراس السواح‪ ،‬دين اإلنسان‪ :‬بحث يف ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني‪( ،‬ط‪ ،)3‬دار عالء الدين للنرش‬
‫والتوزيع والرتجمة‪ ،‬دمشق‪ ،‬خالد سليامن وحيدر جواد‪ ،‬هادي العلوي‪ :‬حوار الحارض واملستقبل‪ ،‬دار‬
‫الطليعة الجديدة‪ ،‬دمشق سوريا‪1999. ،‬‬
‫زهري توفيق‪ ،‬املثقف والثقافة‪ ،‬املؤسسة العربية للدراسات والنرش‪ ،‬عامن‪ ،‬األردن‪.2013 ،‬‬
‫برهان غليون‪ ،‬تهميش املثقفني ومسألة بناء النخب القيادية‪( ،‬ط ‪ )2‬يف‪ :‬املثقف العريب‪ :‬همومه وعطاؤه‪،‬‬
‫مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬ومؤسسة عبد الحميد شومان‪2001.،‬‬
‫جورج طرابييش‪ ،‬من النهضة إىل الردة‪ :‬متزقات الثقافة العربية يف عرص العوملة‪( ،‬ط‪ )2‬دار الساقي‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫لبنان‪.)2000( ،‬‬
‫عزمي بشارة‪ ،‬الدين والعلامنية يف سياق تاريخي‪ ،‬الجزء الثاين‪ ،‬املجلد األول‪ ،‬املركز العريب لألبحاث ودراسة‬
‫السياسات‪ ،‬الدوحة وبريوت‪.)2015( ،‬‬
‫عبد الرزاق الدواي‪ ،‬يف الثقافة والخطاب عن حرب الثقافات‪ :‬حوار الهويات الوطنية يف زمن العوملة‪ ،‬املركز‬
‫العريب لألبحاث ودراسة السياسات‪ ،‬الدوحة وبريوت‪،)2013( ،‬‬
‫برهان غليون‪ ،‬اغتيال العقل‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت لبنان‪ ،‬والدار البيضاء‪ ،‬املغرب‪( ،‬ط ‪2009. ،)5‬‬
‫فهمي جدعان‪ ،‬العدل يف حدود ديونطولوجيا عربية‪ ،‬يف‪ :‬ما العدالة‪ :‬معالجات يف السياق العريب الراهن‪،‬‬
‫(مجموعة مؤلفني)‪ ،‬املركز العريب لألبحاث ودراسة السياسات‪ ،‬الدوحة‪ ،‬بريوت‪.)2014( ،‬‬
‫حسن عبد الله‪ ،‬االغتياالت يف اإلسالم‪ :‬اغتيال الصحابة والتابعني‪ ،‬دار االنتشار العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪،‬‬
‫(‪.)2006‬‬
‫أبو بكر أحمد بن عيل البغدادي‪ ،‬تاريخ بغداد‪ :‬أو مدينة السالم‪( ،‬تحقيق مصطفى عبد القادر عطا)‪( ،‬ج‬
‫‪ )13‬دار الكتب العلمية‪.1996 ،‬‬
‫يوسف القرضاوي الشيخ الغزايل كام عرفته‪ :‬رحلة نصف قرن‪( ،‬ط ‪ ،)3‬دار الرشوق‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ج ع م‪،‬‬
‫(‪.)2000‬‬
‫والسلطة السياسية‪( ،‬ط ‪ ،)3‬مركز دراسات الوحدة العربية‪.2011 ،‬‬ ‫ُّ‬ ‫الثقافية‬ ‫لطة‬ ‫الس‬
‫ُّ‬ ‫أومليل‪،‬‬ ‫عيل‬
‫روجيه غارودي‪ ،‬نحو حرب دينية؟ جدل العرص‪ ،‬ترجمة صياح الجهيم‪( ،‬ط‪ ،)1‬دار عطية للطباعة والنرش‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬لبنان ‪.1996 ،‬‬
‫شريين أبو النجا‪ ،‬املثقف االنتقايل من االستبداد إىل التمرد‪ ،‬روافد للنرش والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ج م ع‪2014. ،‬‬
‫عبد الله العروي‪ ،‬أزمة املثقفني العرب‪ :‬تقليدية أم تاريخانية‪( ،‬ترجمة ذوقان قرقوط)‪ ،‬املؤسسة العربية‬
‫للدراسات والنرش‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪.‬‬
‫عبد الله العروي‪ ،‬ثقافتنا يف ضوء التاريخ‪( ،‬ط ‪ ،)6‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبان‪ ،‬والدار البيضاء‬
‫املغرب‪2002 ،‬‬
‫برهان غليون‪ ،‬تهميش املثقفني ومسألة بناء النخبة القيادية‪ ،‬يف‪ :‬املثقف العريب همومه وعطاؤه‪ ،‬مجموعة‬
‫مؤلفني‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية ومؤسسة عبد الحميد شومان‪( ،‬ط‪ )2‬بريوت‪ ،‬لبنان‪2001. ،‬‬

‫‪85‬‬
‫سمري أمني‪ ،‬حول النارصية والشيوعية املرصية‪ ،‬دار العني للنرش‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ج ع م‪2013. ،‬‬
‫عيل حرب‪ ،‬تواطؤ األضداد‪ :‬اآللهة الجدد وخراب العامل‪ ،‬ط‪ ،2‬منشورات االختالف‪ ،‬الجزائر‪ ،‬والدار العربية‬
‫للعلوم نارشون‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪،)2011( ،‬‬
‫عيل حرب‪ ،‬أوهام النخبة أو نقد املثقف‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت لبنان‪ ،‬والدار البيضاء‪ ،‬املغرب‪.2008 ،‬‬
‫خالد سليامن وحيدر جواد‪ ،‬هادي العلوي‪ :‬حوار الحارض واملستقبل‪ ،‬دار الطليعة الجديدة‪ ،‬دمشق سوريا‪،‬‬
‫‪1999.‬‬
‫طه عبد الرحمن‪ ،‬روح الحداثة‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪( ،‬ط ‪ ،)2‬بريوت لبنان‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬املغرب‪2009. ،‬‬
‫زهري توفيق‪ ،‬املثقف والثقافة‪ ،‬املؤسسة العربية للدراسات والنرش‪ ،‬عامن‪ ،‬األردن‪2013. ،‬‬
‫والسلطة السياسية‪( ،‬ط ‪ ،)3‬مركز دراسات الوحدة العربية‪2011. ،‬‬ ‫السلطة الثقافية ُّ‬ ‫عيل أومليل‪ُّ ،‬‬
‫يورغن هابرماس‪ ،‬املعرفة واملصلحة‪( ،‬ترجمة حسن صقر)‪ ،‬منشورات الجمل‪ ،‬واملجلس األعىل للثقافة‪،‬‬
‫ج ع م‪2001. .‬‬
‫عزمي بشارة‪ ،‬يف مقدمته لكتاب املنصف املرزوقي‪ ،‬ننترص‪ ...‬أو ننترص من أجل الربيع العريب‪ ،‬الدار‬
‫املتوسطية للنرش‪ ،‬تونس‪2104. ،‬‬
‫عزمي بشارة‪ ،‬الدين والعلامنية يف سياق تاريخي‪( ،‬ج ‪ ،)1‬املركز العريب لألبحاث ودراسة السياسات‪ ،‬الدوحة‬
‫قطر‪ ،‬وبريوت لبنان‪2013. ،‬‬
‫تبي‪ ،‬العدد ‪ ،2013 ،4‬ص‪.142-127 .‬‬ ‫عزمي بشارة‪ ،‬عن املثقف والثورة‪ ،‬دورية ُّ‬
‫محمود محمد طه‪ ،‬الثورة الثقافية‪ ،‬مطبعة سان جورج‪ ،‬الخرطوم‪ ،‬السودان‪1972. ،‬‬
‫محمود محمد طه‪ ،‬ديباجة الدستور‪ ،‬مخطوطة منشورة إلكرتونيا‪ ،‬موقع الفكرة‪( ،‬اسرتجاع املادة تم يف ‪20‬‬
‫ديسمرب ‪277=id_book?php.a_view_book/org.alfikra.www//:http .)2013‬‬
‫والسلطة يف الحضارة العربية‪ :‬الدولة البويهية منوذجا‪( ،‬ج‪( )1‬ط‪ ،)2‬دار الفارايب‬‫مصطفى التوايت‪ ،‬املثقفون ُّ‬
‫للنرش‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪2004. ،‬‬
‫هادي العلوي‪ ،‬كتاب التاو (ترجمة ودراسة)‪ ،‬دار الكنوز األدبية‪ ،‬بريت‪ ،‬لبنان‪.1995 ،‬‬
‫السلطة يف اإلسالم‪ :‬العقل الفقهي السلفي بني النص والتاريخ‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪( ،‬ط ‪)3‬‬ ‫السيد يس‪ُّ ،‬‬
‫بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬والدار البيضاء‪ ،‬املغرب‪.2008 ،‬‬
‫السلطة والسياسة والثقافة‪ ،‬تقديم غاوري فسواناثان‪ ،‬ترجمة‪ :‬د نائلة قلقييل حجازي‪ ،‬دار‬ ‫إدوارد سعيد‪ُّ ،‬‬
‫اآلداب للنرش والتوزيع‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪.)2008( ،‬‬

‫المَ راجع اإلنجليزية‪:‬‬


‫‪Cornel West, The American Evasion of Philosophy: A Genealogy of Pragmatism (Madison: The‬‬
‫‪University of Wisconsin Press, 1989‬‬
‫‪Huston Smith, Beyond the Postmodern Mind, Quest Books, (Ed 3) 2003.‬‬
‫‪Morris Berman, The reenchantment of the world, Bantam Books, New York, NY, USA, (1984).‬‬
‫‪Robert Coles, The secular Mind, Princeton University Press, Princeton, NJ, USA, (1999.‬‬
‫‪Ken Wilber, A brief history of everything, (3 Ed), Shambhala Publications, Boston, MA, USA,‬‬
‫‪(2000).‬‬

‫‪86‬‬
‫الفصل الثاين‬

‫‪‬‬
‫من االستتباع إلى ّ‬
‫الشراكة‪:‬‬
‫في نقد ال ّنظرة الخديو ّية‬
‫الجنوبي لمصر‬
‫ّ‬ ‫تجاه الجوار‬

‫نُرشت هذه الورقة ضمن كتاب «العرب والقرن اإلفريقي‪ :‬جدلية الجوار‬
‫واالنتامء» تحرير‪ :‬النور حمد وآخرون – النارش‪ :‬املركز العريب لألبحاث ودراسة‬
‫السياسات (‪ .)2013‬ص ص ‪.180-131‬‬

‫مقدّمة‬
‫تُس ِّلط هذه الورقة الضوء عىل اآلثار املمتدة للحمالت اخلديوية‬
‫التوسعية التي انطلقت من مرص يف القرن التاسع عرش نحو جوارها‬
‫اجلنويب يف ٍّ‬
‫كل من السودان وإثيوبيا‪ ،‬وإريرتيا‪ ،‬والصومال‪ ،‬وعىل ما نتج‬
‫عن تلك احلمالت من حالة مستمرة من التوجس واإلحساس بالريبة‪،‬‬
‫وبنقص الثقة‪ ،‬وسط شعوب هذه البلدان جتاه مرص‪ .‬تُقدّ م الورقة‬
‫نقد ًا النطالق الساسة املرصيني والنخب املرصية يف نظرهتم إىل اجلوار‬

‫‪87‬‬
‫اجلنويب ملرص من اإلحساس املطلق باالستحقاق للسيادة‪ ،‬ومن الرغبة‬
‫الرصحية يف االستحواذ‪ .‬ومع أن اخلديوية ورؤيتها السياسية أصبحتا‬
‫السلطات املرصية املتعاقبة‪ ،‬والنخب املرصية‬ ‫تارخي ًا اآلن‪ ،‬إال أن ُّ‬
‫املتعاقبة‪ ،‬عجزتا عرب ما يقارب القرنني من الزمان‪ ،‬عن التعامل نقدي ًا‬
‫مع اجلوانب السالبة يف ذلك اإلرث اخلديوي العثامين‪ .‬أعني‪ ،‬تعام ً‬
‫ال‬
‫نقدي ًا ُيْرجه من أن يكون مؤثر ًا عىل تفاعالت احلارض‪ ،‬وجيعل تأسيس‬
‫رشاكة مطمئنة‪ ،‬مستقرة‪ ،‬مبنية عىل الندية‪ ،‬وتبادل املنافع‪ ،‬أمر ًا ممكن ًا‪.‬‬
‫ال جدال البتة يف أن احلقبة اخلديوية نقلت مرص نقل ًة هنضوية حداثية‬
‫بمعزل عام ينال عامة الناس منها‬‫ٍ‬ ‫غري مسبوقة‪ .‬غري أن النهضة ال تُقاس‬
‫من رفاه‪ .‬فاندياح الكلونيالية األوروبية يف قارات العامل يف القرن التاسع‬
‫ث‪ ،‬هو اآلخر‪ ،‬هنض ًة وحتديث ًا يف أغلب البلدان التي جرى‬ ‫عرش أحدَ َ‬
‫احتالهلا‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬تركت الكلونيالية آثار ًا سالب ًة ممتد ًة كثرية‪ ،‬مما حتم‬
‫سمى‬‫نشوء األدبيات الثرة التي دعت إىل حمو آثار االستعامر‪ ،‬مما أصبح ُي َّ‬
‫يف األدبيات السياسية الغربية بالـ ‪ .decolonization‬ولذلك فلربام‬
‫احتاجت املنطقة التي عاشت عىل أراضيها اإلمرباطورية العثامنية‪،‬‬
‫خاص ًة مرص والسودان اللتني تُركِّز عليهام هذه الورقة‪ ،‬إىل جمهود‬
‫كبري يف ما يمكن أن نسميه نحن من جانبنا بمحو آثار العثمنة‪ ،‬أو الـ‬
‫‪ .deottomanization‬قامت احلقبة اخلديوية يف مرص عىل قواعد‬
‫وغي من وجه‬ ‫اإلقطاع العثامين الذي متدّ د وأطبق عىل احلياة املرصية‪َّ ،‬‬
‫مرص االقتصادي‪ ،‬ومن ثم وجهها الفكري‪ ،‬والسيايس‪ ،‬واالجتامعي‪،‬‬
‫والثقايف‪ .‬أخفت اجلرعة اخلديوية العثامنية الوافدة‪ ،‬مؤقت ًا‪ ،‬وجه مرص‬
‫بالسلطوية والطبقية‬ ‫التارخيي األصيل وألبستها قناع ًا مستعار ًا اتّسم ُّ‬
‫احلادة‪ .‬وما لبثت هذه احلالة املرصية الطارئة أن باعدت‪ ،‬بشكل غري‬
‫ُخب مرص وشعبها من جهة‪ ،‬وبني مرص وجوارها‬ ‫مسبوق‪ ،‬بني ن َ‬
‫اجلنويب‪ ،‬من جهة أخرى‪ ،‬حتى أنكرها جوارها اجلنويب‪ ،‬أو كاد‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫أسهم اختفاء وجه مرص احلقيقي بتأثري اجلوائح الوافدة يف إرباك‬
‫التناغم التارخيي بينها وجوارها التارخيي اجلنويب‪ .‬فالتأثريات األوروبية‬
‫واملتوسطية املتعاقبة عىل مرص‪ ،‬واتصال املد احلضاري فيها‪ ،‬يف الوقت‬
‫الذي انحرس فيه املد احلضاري يف وادي النيل األوسط يف السودان‪،‬‬
‫ٍ‬
‫فجوة يف التناغم بينها‬ ‫ويف اهلضبة احلبشية‪ ،‬تس ّببت يف جمملها يف نشوء‬
‫وهذا اجلوار اجلنويب الشاسع‪ .‬وبسبب النهضة احلديثة التي جرت يف‬
‫عهد حممد عيل باشا‪ ،‬تبنّت مرص النظرة احلداثية األوروبية االستحواذية‬
‫التوسعية جتاه الفضاءات التي يمكن أن ن َِص َفها بأهنا كانت تعيش‬
‫مرحلتها «ما قبل احلداثية»‪ .‬يف أوج احلقبة اخلديوية غزت مرص جوارها‬
‫سها هلا اقتناء السالح الناري‪،‬‬‫التفوق التي َي َّ َ‬
‫اجلنويب‪ ،‬مستخدمة مزية ّ‬
‫إضافة إىل امتالكها القدرة اإلقتصادية عىل متويل احلرب‪ .‬ولربام جيرؤ‬
‫تعمقت يف احلقبة اخلديوية‬
‫املرء فيقول إن غيبة مرص عن حميطها اجلنويب ّ‬
‫بأكثر مما جرى هلا يف كل حقبها املاضية‪ .‬ولربام أمكن القول أيض ًا‪ ،‬إن‬
‫الرتاكامت التي نتجت عن غيبتها الفكرية والوجدانية الطويلة تلك‪،‬‬
‫نحو غري متناغ ٍم مع حميطها‪ .‬كام يمكن القول‬ ‫قد جعلتها تترصف عىل ٍ‬
‫ّ‬
‫غياب عن ذاتيتها احلقيقية هو الذي قاد إىل‬ ‫ٍ‬ ‫عرى مرص من‬‫أيض ًا إن ما َ‬
‫الرتاكامت التي قادت‪ ،‬حني بلغت ذروهتا‪ ،‬إىل اندالع ثورة يناير ‪2011‬م‬
‫الشعبية األخرية‪.‬‬
‫ٍ‬
‫رصخة‬ ‫مل تكن هذه الثورة املرصية الفريدة‪ ،‬يف حقيقة أمرها‪ ،‬سوى‬
‫فعل متأخرين‪ ،‬ضد قيم احلقبة العثامنية واخلديوية الباشوية التي‬‫ور ّد ٍ‬
‫َ‬
‫خلقت هذه اهلوة الكبرية بني النُّخب املتنفذة وسواد الشعب‪ .‬فقلة‬
‫االكرتاث من جانب النخب املتنفذة يف مرص بأحوال عامة الشعب‬
‫أمر عارض‪ .‬ورغم أن‬ ‫ال يف تراث مرص‪ ،‬وإنام هي ٌ‬ ‫ليست شيئ ًا أصي ً‬
‫احلقبة النارصية مثلت صحو ًة قوي ًة من تلك الغيبوبة الباشوية الطويلة‪،‬‬
‫إال أهنا كانت صحو ًة ناقصة‪ ،‬رسعان ما الت ّفت عليها رواسب القديم‬

‫‪89‬‬
‫التي ما لبثت أن أعادت إنتاج البنى اخلديوية الفكرية والسياسية‬
‫كر ًة أخرى‪ .‬حدثت بدايات تلك الردة يف عهد‬ ‫واالجتامعية املهرتئة‪َّ ،‬‬
‫الزبى يف عهد الرئيس‬‫الرئيس السادات واستمرت حتى بلغ سي ُلها ُّ‬
‫املخلوع حسني مبارك‪ .‬وسبب تلك الردة الكبرية التي أعقبت احلقبة‬
‫النارصية‪ ،‬يف نظري‪ ،‬هو أن الثورة النارصية قفزت من فوق موروث‬
‫حقبة اإلقطاع والتس ّلط الطويلة من دون أن تُعمل يف آثاره الفكرية‬
‫مبضع النقد الشايف‪ ،‬بالشكل والقدر املطلوبني‪.‬‬
‫َ‬ ‫والسياسية واالجتامعية‬
‫فالقيادات التي عملت مع الرئيس مجال عبد النارص مل تكن قيادات‬
‫ثورية حقيقية‪ .‬فهي قد انصاعت فقط للكاريزما النارصية الطاغية‪ .‬وما‬
‫إن غاب نارص حتى عادت األمور إىل قديمها‪.‬‬

‫يقول حممد الراقد واصف ًا طبيعة احلكم العثامنية‪« :‬كانت ُّ‬


‫ترصفات‬
‫السالطني العثامنيني توحي بأهنم اعتربوا الدولة بمن فيها ومن عليها‬
‫صورة يروهنا دون أن‬‫ٍ‬ ‫الترصف فيها عىل أية‬ ‫ملكهم اخلاص‪ ،‬هلم‬
‫ُّ‬
‫يساورهم أدنى شك يف أن السيادة هلم وحدهم»‪ .69‬وهذا بالضبط ما‬
‫عاد كأقوى ما يكون يف عهد الرئيس مبارك‪ ،‬الذي قاده ذلك اإلحساس‬
‫السلطة والثروة‪ ،‬مضاف ًا إليه حالة‬
‫باالستحقاق غري املرشوط يف حيازة ُّ‬
‫االستكانة الطويلة وسط الشعب‪ ،‬إىل أن يرشع يف التمهيد لتوريث‬
‫عرشه البنه مجال‪ ،‬أسو ًة بام جرى يف سوريا‪ ،‬وما كان جيري وقتها عىل‬
‫قدم وساق يف ليبيا‪.‬‬
‫حارض صحيح يف‬‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫صحيح داخل مرص‪ ،‬وبنا ُء‬ ‫ٍ‬
‫حارض‬ ‫لن يستقيم بنا ُء‬
‫مبرص وجريء للتأثريات املختلفة‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بفحص‬ ‫عالقتها بجوارها اجلنويب‪ ،‬إال‬
‫التي شكّلت مرص احلديثة‪ ،‬وخاصة احلقبة اخلديوية ومت ُّثالهتا املختلفة‬
‫ٍ‬
‫بعبارة‬ ‫يف بنية العقل املرصي‪ ،‬والوجدان املرصي‪ ،‬واهلوية املرصية‪.‬‬

‫‪ .69‬محمد عبد املنعم السيد الراقد‪ ،‬الغزو العثامين ملرص ونتائجه عىل الوطن العريب‪ ،‬اإلسكندرية‪ :‬مؤسسة‬
‫شباب الجامعة للطباعة والنرش‪1968 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.295‬‬

‫‪90‬‬
‫جريء ُي ِّلص شخصية مرص األصيلة‪،‬‬‫ٍ‬ ‫نقدي‬ ‫ٍ‬
‫عمل‬ ‫أخرى‪ ،‬ال بدّ من‬
‫ٍّ‬
‫شديدة العراقة‪ ،‬من براثن مرص العثامنية اخلديوية حديثة العهد‪ ،‬فلقد‬
‫غريت خمتلف العوامل الوافدة من شخصية مرص‪ .‬وأهم تلك العوامل‬
‫اإلقطاع العثامين احلريص بطبيعته احلريصة عىل اإلبقاء عىل الرتاتبيات‬
‫الطبقية احلادة‪ ،‬يضاف إىل ذلك حالة االنفصال عن اجلذر احلضاري‬
‫العريب اإلسالمي والفتون‪ ،‬يف املقابل‪ ،‬بأوروبا‪ ،‬وبرؤيتها احلداثية‬
‫الناقصة للكون واحلياة‪ .‬أيض ًا‪ ،‬يقول حممد الراقد‪:‬‬
‫غز ُوها‬
‫َد َر َج العثامنيون عىل إدارة الواليات التي يتم ْ‬
‫عىل أسس إقطاعية‪ ...‬وقد أدى هذا النظام إىل خلق طبقة‬
‫من اإلقطاعيني العسكريني الذين مارسوا ُسلطتهم العاتية‬
‫عىل رقيق األرض إذ كان النظام العثامين استبدادي ًا إقطاعيا‬
‫بطبيعته‪ ،‬ولذلك كان من الطبيعي أن ينبثق عن االحتالل‬
‫العثامين ملرص نظام ال خيتلف يف جوهره عن النظام املط ّبق يف‬
‫باقي واليات الدولة العثامنية‪.70‬‬
‫هذه احلالة من االنفصال عن اجلذر احلي للحضارة العربية‬
‫يب بأكمله‪ ،‬غري أن فداحته‬ ‫العالـم العر َّ‬
‫َ‬ ‫ٌ‬
‫انفصال طال‬ ‫اإلسالمية‬
‫قطر عريب إسالمي مفتاحي‬ ‫وخطورته كانت أكرب يف مرص‪ .‬فمرص ٌ‬
‫وحموري يف أي مرشوع يستهدف خلق حالة عربية إسالمية معافاة‪.‬‬
‫لقد غريت حقبة اإلقطاع الطويلة تركيبة مرص االقتصادية واالجتامعية‬
‫وتركيبتها الفكرية والثقافية‪ ،‬األمر الذي جعل مرص عبئ ًا عىل جهود‬
‫ختليق حالة عربية إسالمية معافاة بدل أن تكون ذخر ًا وعضد ًا هلا‪.‬‬
‫ّ‬
‫مصري‬ ‫تركي وما هو‬ ‫َف َّر َق ُّ‬
‫السودانيون بين ما هو ّ‬
‫استقبل السودانيون اخلديوية التي زحفت عليهم من مرص‬
‫يكف السودانيون عن مناجزة الغزو القادم من‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫بكراهية شديدة‪ .‬ومل‬
‫‪ .70‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.295‬‬

‫‪91‬‬
‫الشامل إال بعد أن هلك منهم اآلالف‪ ،‬وأيقنوا أنه ال ِق َبل هلم بمواجهة‬
‫ٍ‬
‫أسلحة بيضاء‪ .‬ظل‬ ‫أسلحة اخلديوية النارية الفتاكة‪ ،‬بام يملكونه من‬
‫يسمون احلكم اخلديوي يف السودان بـ «احلكم الرتكي»‪،‬‬ ‫السودانيون ّ‬
‫يسمونه بـ «احلكم املرصي»‪ .‬فهم‪ ،‬يف قاع وعيهم‪ ،‬كانوا‬ ‫أكثر مما ّ‬
‫يفرقون بني احلالة الرتكية العثامنية الطارئة التي لبست مرص‪ ،‬وبني‬ ‫ّ‬
‫ارتباطات عضوية‪ ،‬تارخيية عميقة‪ .‬وقد ظلوا‬
‫ٌ‬ ‫مرص اجلارة التي هلم هبا‬
‫زمني‬
‫ٍّ‬ ‫يعرفوهنا ويتعاملون معها سل ًام وحرب ًا‪ ،‬ومدّ ًا وجزر ًا عىل ً‬
‫مدى‬
‫جتاوز اخلمسة آالف عام‪ .‬وجتدر اإلشارة هنا إىل أن األدبيات الشعبية‬
‫السودانية ظلت تشري إىل احلقبة اخلديوية يف السودان‪)1885 – 1821( ،‬‬
‫بعبارة «الرتكية السابقة»‪ ،‬وذلك متييز ًا هلا عن حقبة االستعامر املرصية‬
‫الربيطانية الالحقة (‪ 1898‬ـ ‪ .)1956‬بدخول اخلديوية السودان وجد‬
‫السودانيون أنفسهم أمام عنرصين بارزين مها‪ :‬األتراك واألوروبيون‪،‬‬
‫فكرهوا كال العنرصين‪ .‬كرهوا األتراك لكوهنم قد جاءوا بنظام‬
‫إداري صادم تقاليدهم اإلدارية القبلية‪ ،‬وتقاليدهم الدينية الصوفية‪،‬‬
‫حتولت يف واقعهم املعاش إىل صي ٍغ من‬ ‫وأعرافهم التكافلية التي ّ‬
‫الرتايض عىل إدارة شؤون حياهتم‪ ،‬أضحت مقبول ًة لدى اجلميع‪ .‬وزاد‬
‫من كراهيتهم لألتراك ما أظهروه من رشه وسوء خلق‪ ،‬وقلة اكرتاث‬
‫باحلياة اإلنسانية‪ ،‬إضاف ًة إىل ميلهم إىل استخدام العنف العنيف حلل‬
‫أبسط املشكالت‪ .‬كل هذه الصفات الغريبة عىل املواطنني السودانيني‬
‫متيز هبا املسؤولون اخلديويون الذين تولوا فرض ذلك النظام اجلديد‬
‫يف السودان‪ .‬أيض ًا‪ ،‬كره السودانيون األوروبيني ألهنم جاءوا متحالفني‬
‫مع الغازين‪ ،‬ولكوهنم ظهروا بمظهر األسياد والتجار‪ ،‬يضاف إىل ذلك‬
‫انتامؤهم إىل ديانة أخرى‪ .71‬نفر السودانيون من احلقبة اخلديوية بسبب‬
‫هذا املزيج الغريب من التناقضات‪ ،‬وبسبب غطرستها ورشهها الشديد‬
‫‪ .71‬تاج الرس عثامن الحاج‪ ،‬التاريخ االجتامعي لفرتة الحكم الرتيك‪( ،‬أم درمان‪ :‬مركز محمد عمر بشري‬
‫للدراسات السودانية‪2004 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.50‬‬

‫‪92‬‬
‫يف مجع الرضائب‪ ،‬إضاف ًة إىل األساليب بالغة القسوة التي كان يتم هبا‬
‫حتصيل تلك الرضائب الباهظة‪ .‬يرى تاج الرس عثامن أن االقتصاد‬
‫اخلديوي يف السودان كان اقتصاد ًا رضيبي ًا حمض ًا‪ .‬وقد أحلق رضر ًا بالغ ًا‬
‫بالنمو االقتصادي للسودان‪ .‬فالرضائب الباهظة‪ ،‬وأساليب حتصيلها‬
‫الفظيعة‪ ،‬دفعت بسكان شواطئ النيل يف السودان‪ ،‬وهم عامد االقتصاد‬
‫يف البالد‪ ،‬إىل هجر مزارعهم وسواقيهم‪.72‬‬
‫من الالفت جد ًا لالنتباه أن سودان ِّيي القرن التاسع عرش مل يروا‬
‫اخلديويني كعرب‪ ،‬بل وال حتى كمسلمني!‪ .‬والسبب يف ذلك هو ما‬
‫ٍ‬
‫مصادمة كبرية للقيم واألعراف اإلدارية واالجتامعية‬ ‫رأوه منهم من‬
‫الصوفية السودانية املوروثة من جتربة سلطنة سنار اإلسالمية (‪-1504‬‬
‫‪1821‬م)‪ .‬وهي السلطنة السودانية التي استسلمت للغزو اخلديوي‬
‫وكتبت بنفسها لنفسها النهاية‪ ،‬يف العام ‪1821‬م‪ .‬الشاهد‪ ،‬أن الشعارات‬
‫اإلسالمية التي جاء حتت مظلتها األتراك‪ ،‬واخلطاب الداعي إىل قبول‬
‫التبعية للباب العايل يف اآلستانة‪ ،‬مل ترصف السودانيني عن رؤية ما تبدّ ى‬
‫هلم «ليس إسالمي ًا» يف مسلك الباشوات الغازين‪ ،‬وجنودهم‪ .‬ومما يؤكد‬
‫مقت السودانيني للحقبة اخلديوية‪ ،‬أن انتفاضاهتم ضدّ ها مل تتوقف عرب‬
‫سنوات حكمها التي جاوزت الستني عام ًا‪ .‬توالت تلك االنتفاضات‬
‫تباع ًا حتى َّتو َجها حممد أمحد املهدي بثورته العارمة التي اقتلعت‬
‫احلكم اخلديوي ونظامه االقتصادي واإلداري‪ ،‬وقيمه االجتامعية‬
‫الدخيلة‪ ،‬وقذفت هبا مجيع ًا خارج حدود البالد‪ .‬ففي فرتة مل تتعدّ األربع‬
‫سنوات‪1885 - 1881( ،‬م) متكن حممد أمحد املهدي من حشد البالد‬
‫كلها وجتييشها يف مواجهة احلكم اخلديوي الباطش‪ ،‬فأسقط احلاميات‬
‫اخلديوية اإلقليمية يف غرب السودان واحدة بعد األخرى‪ ،‬واستوىل عىل‬
‫العاصمة اخلرطوم يف ‪ 26‬يناير ‪1885‬م‪ .‬استَخدمت احلركة املهدوية يف‬

‫‪ .72‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.123‬‬

‫‪93‬‬
‫ال متام االستقالل عن املؤسسات‬ ‫حماربة احلقبة اخلديوية خطاب ًا ديني ًا مستق ً‬
‫ال أيض ًا‬
‫السلطة اخلديوية من مرص‪ ،‬ومستق ً‬ ‫الدينية الرسمية التي جلبتها ُّ‬
‫عن الذين أصبحوا يمثلون ذراع ًا ديني ًا هلا يف اخلرطوم من السودانيني‬
‫ودربتهم تدريب ًا أزهري ًا‪ .‬نزعت الثورة‬
‫الذين أنعمت عليهم اخلديوية ّ‬
‫السلطة‪ ،‬الغطاء‬ ‫ّ‬
‫املستقل عن ُّ‬ ‫احلار‪،‬‬
‫ّ‬ ‫املهدية بخطاهبا الديني الثوري‬
‫اإلسالمي عن احلكم اخلديوي‪ ،‬وجعلت غالبية السودانيني بمختلف‬
‫مشارهبم يصط ّفون خلفها‪ .‬ولربام يمكن القول إنه مل يبق واقف ًا مع‬
‫احلكم الرتكي سوى املنتفعني منه من السودانيني‪ ،‬من طبقة رجال الدين‬
‫العاملني يف املؤسسة الدينية الرسمية املستتبعة خديوي ًا‪ ،73‬ممن سلفت‬
‫وبعض من طبقة األثرياء ممن‬ ‫ٌ‬ ‫اإلشارة إىل وقوفهم يف صف اخلديوية‪،‬‬
‫انتفعوا باملال والعقار‪ ،‬واألرايض‪ ،‬والوجاهة االجتامعية يف ظل احلكم‬
‫اخلديوي‪ ،‬نظري دعمهم له‪ .‬يضاف إليهم بعض املتصوفة الذين رأوا يف‬
‫مسلك املهدي اجلهادي خروج ًا عىل هنج التصوف وتقاليده الراسخة‬
‫اجلانحة للسلم‪ ،‬النافرة من العنف ومن عسكرة الدين‪.‬‬
‫املؤرخني املرصيني كانت هلم نظرة عدائية‬ ‫بالرغم من أن أكثرية ّ‬
‫للثورة املهدية‪ ،‬لكوهنا أخرجت السودان من القبضة اخلديوية‪ ،‬ومما‬
‫حيلو للنُّخب اخلديوية تسميته «األمالك املرصية»‪ ،‬إال أن املؤرخ‬
‫املرصي إبراهيم شحاتة يرى أن الثورة املهدية متيزت بكوهنا كانت‬
‫ثورة ذات دوافع جوهرية اتصلت بنظام احلكم القائم يف السودان يف‬
‫نطاق السيادة العثامنية‪ .‬فالثورة املهدية‪ ،‬يف نظر شحاتة‪ ،‬ثورة أخذت‬
‫بإطار اإلحياء الديني‪ ،‬ورفضت خالفة العثامنيني‪ ،‬وأية خالفة أخرى‬
‫بعد خالفة اخللفاء الراشدين‪ .‬ويرى شحاتة أن الثورة املهدية َم َّثلت من‬
‫منطلقها ذاك حرك ًة متميز ًة يف تاريخ عالقات الدولة العثامنية بوالياهتا‬

‫‪ .73‬محمد إبراهيم ابو سليم‪ ،‬بحوث يف تاريخ السودان‪ :‬األرايض‪ ،‬العلامء‪ ،‬الخالفة‪ ،‬بربر‪ ،‬عيل املريغني‪،‬‬
‫(بريوت‪ :‬دار الجيل بريوت‪1992 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.32‬‬

‫‪94‬‬
‫اإلسالمية وشعوهبا‪ .‬ويضيف شحاتة أيض ًا‪ ،‬أنه كان من املمكن للثورة‬
‫املهدية أن تكون قدو ًة يف ذلك السبيل‪ ،‬لو أهنا امتلكت مفهوما فكري ًا‬
‫حركة مثل احلركة‬‫ٍ‬ ‫واضح ًا وثابت ًا للثورة‪ُ ،‬يكمل مفهوم الثورة يف‬
‫«سجلت‬ ‫ّ‬ ‫العرابية يف مرص‪ .‬فالثورة العرابية‪ ،‬عىل حدّ إبراهيم شحاتة‪:‬‬
‫ثوري جديد‪ ،‬اجته أساس ًا ضد استبداد اخلديوية وصالهتا‬‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫لفكر‬ ‫صور ًة‬
‫بالنفوذ األجنبي‪ ،‬وربط هذه الصالت وذلك االستبداد باخلالفة‬
‫العثامنية وسيادهتا‪ ،‬باحث ًا عن الوجه العريب الذي يمكن أن حيل حمل هذه‬
‫اخلالفة وسادهتا األتراك»‪ .74‬هذه النظرة الثاقبة التي رأى هبا شحاتة‬
‫مرص والسودان بوصفهام جبهة واحدة مترضرة من اخلديوية ومن‬
‫أرضت بالقطرين‪ ،‬نظر ٌة غابت‬ ‫ارتباطاهتا األوروبية‪ ،‬وهي ارتباطات ّ‬
‫عىل غريه من املؤرخني املرصيني الذين متاهوا مع اخلديوية التي جاءهتم‬
‫بملكية السودان كغنيمة حرب‪.‬‬
‫ُ‬
‫الغنيمة التي حَ جَ بـت ال ُّرؤية‬
‫بنا ًء عىل ما تقدَّ م‪ ،‬يمكن القول إن النُّخب املرصية خلطت بني ارتباط‬
‫السودان التارخيي العضوي بمرص احلقيقية التي تم تغييبها خديوي ًا‬
‫وعثامني ًا‪ ،‬وبني الغنيمة الثمينة التي متثلت يف جلب اخلديوية للقطر‬
‫السوداين برمته إىل حيازة مرص‪ .‬ومعلو ٌم أن تط ُّلع مرص حليازة السودان‬
‫تط ُّلع قديم يرجع يف جذوره البعيدة إىل احلقبة الفرعونية‪ .75‬الشاهد هنا‪،‬‬
‫أن النخب املرصية أذهلتها الغنيمة اخلديوية الثمينة املؤقتة‪ ،‬فغابت عنها‬
‫األمهية طويلة األجل للعالقة األخوية التارخيية العميقة املتسمة بالندّ ية‪،‬‬

‫‪ .74‬إبراهيم شحاتة‪ ،‬مرص والسودان ووجه الثورة يف نصيحة أحمد العوام‪ :‬دراسة مقارنة يف األصول‬
‫التاريخية للثورتني العرابية واملهدية واتجاهات الفكر الثوري يف عهدهام‪( ،‬اإلسكندرية‪ :‬مؤسسة الثقافة‬
‫الجامعية‪1971 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.31‬‬
‫‪75. N. M. Sherif, “Nubia Before Nabata (3100 – 750)” In General History of Africa II:‬‬
‫‪Ancient Civilizations of Africa, edited by G. Mokhtar. Berkeley: University of California‬‬
‫‪Press, 1990. P 286.‬‬

‫‪95‬‬
‫أو ما هو قريب منها‪ ،‬مع جوارها اجلنويب‪ .‬نظر املؤرخون املرصيون‪،‬‬
‫لة منهم كإبراهيم شحاتة‪ ،‬إىل الثورة املهدية بنفس املنظار‬ ‫باستثناء َّق ٍ‬
‫الكلونيايل الربيطاين‪ .‬عجزت أكثرية املؤرخني املرصيني أن ترى الثورة‬
‫املهدية‪ ،‬بوصفها ثور ًة م َّث َلت‪ ،‬يف ً‬
‫معنى من املعاين‪ ،‬ثور ًة للمرصيني أيض ًا‪،‬‬
‫وهذا أحد أبعادها التي أملح إليها شحاتة‪ .‬عجزت أكثرية املؤرخني‬
‫ٍ‬
‫متجاوز‬ ‫بمنظور موضوعي‬‫ٍ‬ ‫املرصيني أن ترى الثورة املهدية السودانية‬
‫حلقيقة تس ُّببها يف فقدان مرص للسودان يف ذلك املنعطف التارخيي‬
‫املضطرب‪ .‬فلو ُقدِّ ر أن تنجح الثورتان املهدية والعرابية يف آن مع ًا‪ ،‬لربام‬
‫دخلت كل من مرص والسودان يف مسار خمتلف متام ًا ويف عالقة جديدة‬
‫معافاة‪ ،‬مطمئنة‪ ،‬ومستقرة‪ .‬ولربام كان حارض هذه العالقة اهلامة غري ما‬
‫أصبح عليه اليوم‪.‬‬
‫للسلطة‪ ،‬ال العكس‪.‬‬ ‫موجه ًة ُّ‬
‫الدَّ ور الطبيعي لألكاديميا هو أن تكون ِّ‬
‫غري أن الشائع يف أوضاعنا العربية التي ظلت قائمة منذ القرن التاسع‬
‫للسلطة‪.‬‬ ‫عرش‪ ،‬وهي أوضاع انتقالية‪ ،‬يف ما أرى‪ ،‬هو تبعية األكاديميا ُّ‬
‫السلطات األفعال اخلاطئة فرتكض األكاديميا وراءها لتوفر هلا‬ ‫جترتح ُّ‬
‫تربيرات وأغطية علمية!‪ .‬وعموما فاألكاديميا‪ ،‬حتى عىل املستوى‬
‫بوق للقابضني عىل أعنّة‬ ‫العاملي‪ ،‬ال متثل يف كثري من أحواهلا‪ ،‬سوى ٍ‬
‫والسلطة‪ .‬ولذلك ال غرابة أن نظرت أكثرية املؤرخني املرصيني‬ ‫الثروة ُّ‬
‫إىل الثورة املهدية يف السودان بتلك النظرة العدائية االستهجانية‪ .‬ولكن‬
‫العذر لن َُخب النصف األول من القرن العرشين يف‬ ‫َ‬ ‫التم َس املر ُء‬
‫لو َ‬
‫رؤيتهم القارصة تلك‪ ،‬فإنه يصبح من الصعب جد ًا أن جيد املرء ُعذر ًا‬
‫لن َُخب وأكاديم ّيي النصف الثاين من القرن العرشين‪ ،‬والعقد األول‬
‫من القرن احلادي والعرشين‪ ،‬يف استمرارية تلك النظرة القديمة التي مل‬
‫تستطع أن ترى شيئ ًا خارج نطاق املصلحة اآلنية‪ .‬كان ينبغي أن يكون‬
‫ّ‬
‫املتجذرة يف اهليمنة‬ ‫التفكري يف تفكيك اآلثار السالبة للحقبة اخلديوية‬

‫‪96‬‬
‫ه ًا مرصي ًا سوداني ًا مشرتك ًا‪ .‬أعني‬ ‫العثامنية عىل كل من السودان ومرص َ َّ‬
‫طر ْين‪ ،‬سواء بسواء‪ ،‬من حفرة التكييف الفكري‬ ‫ال بانتشال ال ُق َ‬
‫ه ًا منشغ ً‬
‫َ َّ‬
‫اجلار ْين وكيا َن ْيهام القوم َّي ْي‪،‬‬
‫طر ْين َ‬ ‫والثقايف اخلديوي إىل تطوير ذاتية ال ُق ْ‬
‫يف أطار املصالح املشرتكة‪ ،‬واالعتامدية املتبادلة‪ ،‬وهذان َدربان ما‬
‫الطبيعي‬
‫َّ‬ ‫املسار‬
‫َ‬ ‫أوسعهام‪ .‬لقد أربكت اخلديوي ُة وأطام ُعها اإلمرباطوري ُة‬
‫طر ْين‪ ،‬وأربكت يف نفس الوقت عالقة ال ُق ْط َرين بجوارمها اإلقليمي‬ ‫لل ُق َ‬
‫اجلار ْين‪ ،‬ك ٌُّل‬
‫َ‬ ‫ذي األمهية اإلسرتاتيجية بالغة احليوية‪ ،‬ورؤية ال ُق ْط َرين‬
‫منهام إىل اآلخر وتفاعلهام إجيابي ًا مع بعضهام بعض ًا‪ ،‬عىل النحو الذي‬
‫ذكرته‪ .‬هكذا تم اخللط بني مرص األصيلة ومرص املعثمنة‪ ،‬وتم اخللط‬
‫بني النظرة العثامنية الدخيلة والنظرة املرصية األصيلة نحو السودان‪.‬‬
‫وقد ألقى كل ذلك بظالل سالبة عىل عالقة كل من مرص والسودان‬
‫بجوارمها اإلقليمي‪ ،‬وال يزال‪.‬‬
‫استبطان النظرة الكلونيالية‬
‫عمدت الن َُّخب املرصية يف حقل األكاديميا‪ ،‬منطلق ًة من حرصها‬
‫غري الراشد عىل امتالك السودان بوصفه غنيم ًة خديوي ًة‪ ،‬إىل تسبيب‬
‫ٍ‬
‫بأسباب كان معظمها خمت َلق ًا اختالق ًا‬ ‫التوسع اخلديوي جنوب ًا‬
‫ّ‬ ‫وتربير‬
‫فاضح ًا‪ .‬ولقد فات عىل هذه الن َُّخب أهنا إنام نسجت عىل نفس الن َّْول‬
‫الذي نسجت عليه الكولونيالية األوروبية تسبيباهتا وتربيراهتا لنزعتها‬
‫التوسعية‪ .‬تتلخص تلك التسبيبات الكلونيالية األوروبية يف أن للرجل‬
‫األبيض مهم ًة نبيلة وعبئ ًا ينبغي عليه النهوض به‪ ،‬وهو نقل احلضارة‬
‫هيم حتى لو تم ذلك بأساليب بالغة‬ ‫إىل املجاهيل غري املتحرضة‪ ،‬وال ّ‬
‫العنف‪ .‬يقول هارولد ماكاميكل الذي تق ّلد وظيفة السكرتري اإلداري‬
‫لإلدارة الربيطانية يف السودان إبان احلقبة الكلونيالية‪:‬‬

‫‪97‬‬
‫إن معظم تاريخ اإلمرباطورية الربيطانية يدعم النظرية‬
‫القائلة َّ‬
‫إن َهدَ َ ْف بناء اإلمرباطورية مها االستحواذ عىل‬
‫القواعد اإلسرتاتيجية وفتح طرق التجارة‪ ،‬وأيض ًا‪« ،‬التوق‬
‫إىل البالد القاحلة لتعمريها» ولتقويم االعوجاج واستبدال‬
‫الفوىض بالنظام‪ .‬هذه هي العوامل التي ساعدتنا يف التفوق‬
‫عىل القوى األخرى‪.76‬‬
‫نسج ًا عىل نفس ذاك الن َّْول‪ ،‬ومن نفس تلك القامشة‪ ،‬ظلت أغلبية‬
‫املؤرخني املرصيني تُقدِّ م تسبيب ًا مشاهب ًا للتسبيب الكلونيايل الحتالل‬
‫ّ‬
‫فكثري من املؤرخني املرصين‬
‫ٌ‬ ‫جوار مرص اجلنويب الذب يضم السودان‪.‬‬
‫ال طبيعي ًا‪ ،‬وقفت وراءه‬‫يرون يف االحتالل اخلديوي للسودان عم ً‬
‫تتلخص يف ختليص اإلقليم من الفوىض‪ ،‬ومن ثم‪ ،‬نرش‬ ‫دوافع نبيلة ّ‬
‫التحرض يف أرجائه املتخلفة‪ .‬بل ال يكاد املرء جيد يف الكتابات املرصية‬
‫التي ناقشت فرتة احلكم املرصي الرتكي للسودان‪ ،‬أي اعرتاف رصيح‬
‫بأن للسودان كيان ًا مستقالً‪ .‬استخدمت املؤسسة اخلديوية نفس‬
‫الذرائع التي استخدمتها الكلونيالية األوروبية يف تربير احتالل أرايض‬
‫الغري والسيطرة عىل ثرواهتم‪ .‬يف مستهل كتابه املسمى‪« ،‬مديرية خط‬
‫االستواء‪ ،‬من فتحها إىل ضياعها»‪ ،‬كتب األمري عمر طوسون عن‬
‫التوسع اخلديوي املرصي جنوبا قائالً‪:‬‬
‫ال ريب أن الفكرة التي اختلجت يف نفس اخلديو‬
‫وضمها‬
‫ّ‬ ‫إسامعيل والتي دفعته إىل فتح مديرية خط االستواء‬
‫إىل السودان أو باألحرى إىل األمالك املرصية‪ ،‬فكرة جدّ‬
‫صائبة إذ هبا تم ملرص االستيالء عىل هنر النيل من منبعه إىل‬
‫مصبه‪ ،‬وأصبح يف قبضتها تلك البحريات العظمى التي‬
‫خيرج منها هذا النهر السعيد الذي عليه مدار حياة البالد‪.‬‬
‫‪ .76‬هارولد ماكاميكل‪ ،‬السودان‪ ،‬ترجمة محمد صالح عثامن صالح‪( ،‬أم درمان‪ :‬مركز عبد الكريم مريغني‬
‫الثقايف‪2006 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.297‬‬

‫‪98‬‬
‫ولو أنه ُعهد هبذا الفتح إىل قائد مرصي لكان ذلك أدعى‬
‫إىل مضاعفة إعجابنا وثنائنا عىل هذه الفكرة‪ ،‬ولكن لعل يف‬
‫ال يف ما حصل‪.77‬‬‫السياسة دخ ً‬
‫ُيالحظ هنا أن األمري عمر طوسون يعترب السودان ملكا مرصي ًا‬
‫خالص ًا‪ ،‬ويظهر ذلك جلي ًا يف حديثه عن ضم اخلديو إسامعيل ملديرية‬
‫خط االستواء إىل السودان‪ ،‬حيث يقول‪»:‬وضمها إىل السودان‪ ،‬أو‬
‫باألحرى إىل األمالك املرصية»‪ .‬فالسودان بوصفه «من األمالك‬
‫أمر مفرو ٌغ منه لدى طوسون‪ ،‬ولدى غريه من أهل حقبته‪.‬‬ ‫املرصية» ٌ‬
‫بل إن كثري ًا من املرصيني ال يزالون‪ ،‬حتى يومنا هذا‪ ،‬يرون السودان من‬
‫نفس ذلك املنظور‪ .‬فالزعم بأن السودان ملك مرصي خالص بحكم‬
‫حق الفتح أصبح عقيد ًة معشش ًة يف املخيلة املرصية‪ .‬وتلك عقيدة‬
‫خديوية مل جتد من النقد الصائب ما يطبب أدواءها اجلمة‪ ،‬ويكفكف‬
‫أخطارها املاحقة عىل مستقبل العالقة بني البلدين‪ .‬أيض ًا من نامذج‬
‫اليقني بأن السودان ملك ملرص ما كتبه عبد الرمحن الرافعي وهي حيتفي‬
‫أقر فيه بملكية مرص للسودان‬ ‫ٍ‬
‫خماتل أطلقه اللورد سالسربي‪ّ ،‬‬ ‫ٍ‬
‫بترصيح‬
‫بل وكل وادي النيل‪ .‬يقول الرافعي‪:‬‬
‫أعلنت احلكومة اإلنجليزية بني أرجاء العامل أن السودان‬
‫ورصح اللورد سالسربي يف هذا‬ ‫ّ‬ ‫جزء ال يتجزأ من مرص‬
‫الصدد‪« :‬إن وادي النيل كان وال يزال ملك ًا ثابت ًا ملرص‪ ،‬وإن‬
‫حجج احلكومة املرصية يف ملكية جمرى النيل‪ ،‬وإن أخفاها‬
‫ال للنزاع منذ انتصار اجلنود‬ ‫نجاح املهدي إال أهنا ليست حم ً‬
‫املرصية عىل الدراويش»‪.78‬‬

‫‪ .77‬عمر طوسون‪ ،‬تاريخ مديرية خط االستواء من فتحها إىل ضياعها‪ ،‬ج ‪( ،1‬اإلسكندرية‪ :‬مكتبة العدل‪،‬‬
‫‪1937‬م)‪ ،‬ص ‪.1‬‬
‫‪ .78‬عبد الرحمن الرافعي‪ ،‬مصطفى كامل باعث الحركة الوطنية‪( ،‬القاهرة‪ :‬مكتبة النهضة املرصية‪،‬‬
‫‪1962‬م)‪ ،‬ص ‪.132‬‬

‫‪99‬‬
‫ونالحظ هنا أن الرافعي مل ينتبه إىل اخلداع واملخاتلة يف قول اللورد‬
‫سالسربي‪ ،‬الذي مل يكن يعني حقيقة ما يقول‪ .‬فالربيطانيون الذين أوحوا‬
‫إىل مرص أن وادي النيل برمته من أمالكها‪ ،‬هم أنفسهم الذين عادوا يف‬
‫ما بعد فأعملوا سكاكينهم يف تقطيع وادي النيل وفق مصاحلهم‪ ،‬بام‬
‫دق مجلة من األسافني بني مرص والسودان‪ ،‬القطر األقرب‬ ‫يف ذلك ّ‬
‫إىل مرص من كل بقية أقطار وادي النيل‪ .‬أيض ًا‪ ،‬نالحظ أن الرافعي مل‬
‫ينتبه إىل أن نظرته نحو املهدي وثورته الوطنية يف السودان قد تطابقت‬
‫متام ًا مع نظرة الربيطانيني إليها‪ .‬بل هو يستعمل كلمة «الدراويش»‬
‫التي ظل الربيطانيون يستخدموهنا يف وصف جنود املهدي ازدرا ًء‬
‫هلم‪« :‬منذ انتصار اجلنود املرصية عىل الدراويش»‪ .‬وينبغي أن نالحظ‬
‫هنا‪ ،‬أن نظرة الرافعي هذه مناقضة متام ًا لنظرة مواطنه إبراهيم شحاتة‪،‬‬
‫التي أوردهتا يف صدر هذه الورقة‪ .‬تبنى الرافعي الرؤية الربيطانية ولغة‬
‫اخلطاب الربيطانية‪ ،‬بال أدنى اعتبار ملشاعر السودانيني الذين مهام‬
‫اختلفوا حول الثورة املهدية‪ ،‬ومهام رأوا هلا من اإلخفاقات التي الزمت‬
‫خطاهبا وممارساهتا‪ ،‬وهي إخفاقات مجة‪ ،‬فإهنم ال خيتلفون حول أهنا‬
‫ٍ‬
‫مستعمر دخيل‪ .‬كام نالحظ أيض ًا‬ ‫حررت البالد من قبضة‬ ‫ثورة وطنية ّ‬
‫أن مصري السودان لدى الرافعي‪ ،‬ليس شأن ًا يقرره أهل السودان‪ ،‬وإنام‬
‫عل‪ ،‬داعمني قراراهم بشأنه بوجهة النظر‬ ‫شأن يقرره املرصيون من ٍ‬ ‫هو ٌ‬
‫الربيطانية التي أوحت هلم بأن وادي النيل كله ملك هلم!‪ .‬وهي وجهة‬
‫نظر خدعهم هبا الربيطانيون يف تلك املرحلة املبكرة‪ ،‬فام لبثوا‪ ،‬بعد‬
‫بضعة عقود‪ ،‬أن فقدوا وادي النيل برمته بام فيه السودان‪ ،‬بل وفقدوا‬
‫معهام السودانيني أيض ًا‪ ،‬وهذا هو األخطر‪.‬‬
‫تعاملت احلكومات املرصية املتعاقبة وكثري من الن َُّخب املرصية‪،‬‬
‫وكلتامها ظلتا البستني اخلوذة العقلية اخلديوية‪ ،‬مع السودان بنفس‬
‫ٍ‬
‫وبصورة‬ ‫املنهج الذي كان يتعامل به الغربيون مع أهل املستعمرات‪ ،‬بل‬

‫‪100‬‬
‫أقل كياسة‪ ،‬وأقل حكمة‪ ،‬ودراية‪ ،‬وكفاءة‪ .‬ومل تسلم من النهج امللتوي يف‬
‫التعاطي مع السودان‪ ،‬حتى احلقبة النارصية‪ ،‬رغم كل مزاعمها الثورية‬
‫اجلمة ودعواها العريضة بأهنا إنام جاءت ممثلة لصوت الشعوب‪ .‬فحني‬
‫قبلت مرص النارصية مكرهة بحق تقرير املصري للسودانيني‪ ،‬اجتهت‬
‫إىل أساليب الدعاية املكثفة بإنشاء إذاعة خاصة بالسودان‪ ،‬واستخدام‬
‫املدارس املرصية‪ ،‬وبعثات الري املرصي املوجودة يف السودان للتأثري‬
‫عىل جمريات تقرير املصري‪ .79‬كام أرسلت الصاغ‪ ،‬صالح سامل‪ ،‬عضو‬
‫ٍ‬
‫بأموال طائلة لرشاء ذمم السياسيني‬ ‫جملس قيادة الثورة املرصية حمم ً‬
‫ال‬
‫السودانيني‪ ،80‬بل والذهاب إىل مدى حماولة حتريض اجلنوبيني وإغرائهم‬
‫باالنفصال عن الشامل واالحتاد مع مرص حني بدا أن الشامل يميل إىل‬
‫إنشاء دولة مستقلة عن مرص!!‪.81‬‬
‫ذريعة نشر الم َدن ّية ومحاربة ال ِّرق‬
‫يؤكد محدي عبد الرمحن عىل وقوف اإليديولوجيا العنرصية‪،‬‬
‫ٍ‬
‫كغطاء‬ ‫وذريعة نظرية عبء الرجل األبيض يف األخذ بيد اآلخرين‪،‬‬
‫نظري ُم َ ِّه ٍد لالحتالل واالستتباع‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫ٍّ‬
‫ظهرت إيديولوجيات عنرصية بالتوازي مع الروح‬
‫روجت لعبء الرجل األبيض ومسؤوليته‬ ‫اإلمربيالية‪َّ ،‬‬
‫التارخيية يف االرتقاء بمستوى الشعوب السوداء‪ ،‬ليصل هبم‬
‫إىل مرحلة الرشد احلضاري‪ .‬وقد شارك كبار فالسفة الغرب‬
‫يف تلك العملية العنرصية اخلاصة بإنتاج املعرفة الزائفة التي‬
‫‪ .79‬عبد الرحمن عيل طه‪ ،‬السودان للسودانيني‪ :‬طمع‪ ،‬فنزاع‪ ،‬فوثبة‪ ،‬فجهاد‪( ،‬الخرطوم‪ :‬مطابع رشكة‬
‫الطبع والنرش‪1955 ،‬م)‪ ،‬ص‪.137 -135 ،‬‬
‫‪ .80‬محمد خري البدوي‪ ،‬قطار العمر يف أدب املؤانسة واملجالسة‪( ،‬الخرطوم‪ :‬دار النهار لإلنتاج اإلعالمي‪،‬‬
‫‪2008‬م)‪ ،‬ص ‪.300-299‬‬
‫‪ .81‬جامل الرشيف‪ ،‬الرصاع السيايس عىل السودان‪( ،‬الخرطوم‪ :‬رشكة مطابع السودان للعملة املحدودة‪،‬‬
‫‪2009‬م)‪ ،‬ص ‪.817‬‬

‫‪101‬‬
‫وفرت غطا ًء تربيري ًا لتجارة الرقيق ولالستعامر الغريب‬
‫بأشكاله املتنوعة‪.82‬‬
‫ويقول محدي عبد الرمحن‪ ،‬إن فالسف ًة كبار ًا شاركوا يف إنتاج ذلك‬
‫النوع من املعرفة الزائفة‪ ،‬مثال إيامنويل كانط‪ ،‬وديڤيد هيوم‪ ،‬وهيجل‪.‬‬
‫كثري من املؤرخني‬‫ويمكننا أن نط ّبق ما قاله محدي عبد الرمحن هنا عىل ٍ‬
‫املرصيني‪ .‬فعىل سبيل املثال‪ ،‬يقول الدكتور نسيم مقار يف مستهل كتابه‬
‫«مرص وبناء السودان احلديث»‪« ،‬يرى الباحث يف تاريخ مرص عىل مر‬
‫العصور واألزمان أن مرص حني تقوى وتنهض وتنال قسط ًا متميز ًا من‬
‫التقدم‪ ،‬تسعى إىل أن تنقل حضارهتا إىل البالد األخرى املجاورة التي‬
‫مل ُت َظ بام حظيت به من تقدّ م حضاري»‪ .83‬ويقول حممد فؤاد شكري‪:‬‬
‫تسي مرص محلة عىل‬ ‫تضافرت عوامل عدة عىل أن ّ‬
‫السودان‪ ،‬إلدخاله يف نطاق ذلك «النظام السيايس الذي‬
‫أوجده حممد عيل‪ ،‬وفرغ من وضع قواعده خصوص ًا‬
‫بني عامي ‪ 1807‬و‪ 1811‬عىل أساس احلكومة املستبدة‬
‫املستنرية يف الداخل‪ ،‬والتوسع صوب الرشق واجلنوب‬
‫يف اخلارج‪ .....‬وكان أكرب العوامل شأن ًا يف إرسال محلة‬
‫السودان‪ ،‬مطالبة أهل السودان أنفسهم بإنشاء حكومة قوية‬
‫عىل يد مرص‪ ،‬تقيض عىل أسباب الفوىض املنترشة يف بالدهم‬
‫وتستبدل هبا عهدا من األمن والنظام والطمأنينة واالنتعاش‬
‫االقتصادي‪.84‬‬
‫ويستشهد شكري يف اهلامش الذي وضعه أسفل الصفحة لتعضيد‬

‫‪ . 82‬حمدي عبد الرحمن‪ ،‬العرب وإفريقيا يف زمن متحول‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار مرص املحروسة للنرش‪2009 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.10‬‬
‫‪ .83‬نسيم مقار‪ ،‬مرص وبناء السودان الحديث‪( ،‬القاهرة‪ :‬الهيئة املرصية العامة للكتاب‪1993 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.7‬‬
‫‪ .84‬محمد فؤاد شكري‪ ،‬مرص والسودان‪ :‬تاريخ وحدة وادي النيل السياسية يف القرن التاسع عرش ‪1820‬‬
‫‪( ،1899-‬القاهرة‪ :‬دار املعارف‪1963 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.9-8‬‬

‫‪102‬‬
‫قوله بطلب السودانيني للفتح‪ ،‬بقدوم أحد ملوك قبيلة اجلعليني من‬
‫السودان إىل مرص يف حوايل العام ‪1816‬م مستنجدا بخديو مرص‪،‬‬
‫ألن ملك ًا آخر من ملوك قبيلة اجلعليني (املك نمر)‪ ،‬قد وشى به إىل‬
‫حاكم سنار‪ .‬ألبس شكري تلك احلادثة الصغرية املعزولة‪ ،‬التي مل تتعدّ‬
‫كوهنا نزاع ًا حول الزعامة داخل ٍ‬
‫قبيلة واحدة هي قبيلة اجلعليني‪ ،‬ثوب ًا‬
‫فضفاض ًا بلغ به درجة القول بأن أهل السودان قاطبة أتوا مطالبني‬
‫حممد عيل باشا بغزو بالدهم واحتالهلا‪ ،‬لتخليصهم من الفوىض التي‬
‫ذهبت إليه هنا ما أورده حسن أمحد إبراهيم‬ ‫ُ‬ ‫يعيشون فيها‪ .‬ويؤكد ما‬
‫حيث قال إن بعض الزعامء السودانيني ذهبوا بالفعل إىل مرص طالبني‬
‫من حممد عيل باشا إعداد جيش لفتح السودان‪ .‬ومن هؤالء إدريس ود‬
‫نارص من البيت السناري احلاكم‪ ،‬ونرص الدين ملك املريفاب الذي‬
‫تم طرده من احلكم‪ ،‬وبشري ود عقيد أحد زعامء اجلعليني‪ ،‬وآخرين‬
‫غريهم‪ .‬ويقول حسن أمحد إبراهيم‪ ،‬إن هؤالء مل يستنجدوا بمحمد‬
‫عيل من أجل مصالح البالد العليا‪ ،‬وإنقاذها من الفوىض‪ ،‬وإنام لتحقيق‬
‫مطامع وأغراض شخصية‪ .85‬ويواصل شكري يف موضع آخر واصف ًا‬
‫فرتة حكم حممد عيل يف السودان قائالً‪« :‬ومن الثابت أن مرص عىل أيامه‬
‫قد أنفقت بسخاء لتعمري السودان وإنعاش احلياة االقتصادية به وتعليم‬
‫أبنائه وتشجيعهم بكل الطرق عىل السري يف ركب احلضارة»‪ .86‬الشاهد‬
‫أن كثري ًا من تربير الن َُّخب املرصية للتوسع اخلديوي جنوب ًا يف حوض‬
‫النيل‪ ،‬تَطا َبق تطابق ًا تام ًا مع التسبيب الغريب‪ ،‬الذي أنتجه األوروبيون‬
‫ربرين به غزو الشعوب واالستيالء‬ ‫الغربيون يف القرن التاسع عرش‪ ،‬م ِّ‬
‫قهر ًا عىل ثرواهتا‪ .‬يقول حممد فؤاد شكري أيض ًا ‪ -‬ون َقل عنه نفس‬
‫القول رأفت غنيمي الشيخ ‪ -‬إن حممد عيل باشا استند إىل أمور ثالثة‬

‫‪ .85‬حسن أحمد إبراهيم‪ ،‬محمد عيل يف السودان‪( ،‬الخرطوم‪ :‬دار التأليف والنرش‪ ،‬د‪ .‬ت)‪ ،‬ص ‪.35‬‬
‫‪ .86‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.9‬‬

‫‪103‬‬
‫يف فتح السودان‪ ،‬أوهلا‪ :‬رسالة مرص يف السودان التي ال يمكن التخيل‬
‫عنها إطالق ًا‪ ،‬وهي‪« ،‬االحتفاظ بشطر الوادي اجلنويب حتى يتسنى ملرص‬
‫إمتام «رسالتها» من حيث واجب النهوض بالسودان إىل مصاف األمم‬
‫املتمدينة الرشيدة»‪ .87‬أما األمر الثاين فهو «االطمئنان إىل توفري ما حتتاج‬
‫إليه مرص‪ ،‬بل السودان نفسه‪ ،‬من مياه النيل»‪ .88‬أما األمر الثالث فقد‬
‫نص عليه شكري عىل هذا النحو‪:‬‬ ‫َّ‬
‫االستناد إىل ما ُيعرف باسم نظرية اخللو أو امللك املباح‬
‫(‪ )Res Nullius‬وفحوى نظرية حممد عيل أن األقطار‬
‫السودانية عند ضمها إىل مرص مل يكن أحد يمتلكها يف‬
‫السلطة كانت مغتصبة من أصحاهبا الرشعيني‪،‬‬ ‫احلقيقة‪ ،‬ألن ُّ‬
‫ونرشت قبائل العربان الفوىض يف السودان‪ .‬فإذا استطاع‬
‫حاكم أن ينتزع هذه األرايض من قبضة أولئك الذين‬
‫اغتصبوا كل ُسلطة هبا‪ ،‬وأن ُينشئ حكوم ًة مرهوبة اجلانب‪،‬‬
‫تذود عن حياضها وتصون السودان من الغزو األجنبي‪،‬‬
‫وتكفل ألهله االستقرار والعيش يف هدوء وسالم‪ ،‬فقد‬
‫صار واجب ًا أن يستمتع هذا احلاكم بكل ما ّ‬
‫خيوله سلطانه أو‬
‫ُسلطته من حقوق السيادة عىل هذه األرايض اخلالية‪ ،‬وهذا‬
‫امللك املباح أص ً‬
‫ال‪.89‬‬
‫ولقد برزت نفس هذه الفكرة بشكل بالغ الرصاحة يف اإلعالن‬
‫الذي أصدره اخلديو إسامعيل‪ ،‬حني رشعت مرص اخلديوية يف احتالل‬
‫املديرية االستوائية جنوب مدينة غندكرو يف العام ‪1869‬م‪ .‬جاء يف‬
‫فرمان اخلديو إسامعيل‪:‬‬

‫‪ .87‬املصدر سابق‪ ،‬ص ‪.10‬‬


‫‪ .88‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.11‬‬
‫‪ .89‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.12‬‬

‫‪104‬‬
‫نحن إسامعيل خديو مرص قد أمرنا بام هو ٍ‬
‫آت‪ :‬نظر ًا‬ ‫َ‬
‫للحالة اهلمجية السائدة بني القبائل القاطنة يف حوض هنر‬
‫النيل‪ ،‬ونظر ًا ألن النواحي املذكورة ليس هبا حكومة‪ ،‬وال‬
‫قوانني وال أمن‪ ،‬وألن الرشائع الساموية تفرض منع النخاسة‬
‫والقضاء عىل القائمني هبا املنترشين يف تلك النواحي‪ ،‬وألن‬
‫تأسيس جتارة رشعية يف النواحي املشار إليها يعترب خطوة‬
‫واسعة يف سبيل نرش املدنية ويفتح طريق االتصال بالبحريات‬
‫الكربى الواقعة يف خط االستواء بواسطة املراكب التجارية‬
‫ويساعد عىل إقامة حكومة ثابتة‪ ،‬أمرنا بام هو آت‪ :‬تؤلف محلة‬
‫إلخضاع النواحي الواقعة جنوب غوندكرو لسلطتنا‪.90 .‬‬
‫كان نهبًا ولم يكن َت ْمدِينًا‬
‫رغم تكرار تربير احتالل السودان من جانب أكثرية املؤرخني‬
‫املرصيني بذريعة النهوض بحياة شعبه وحماربة ّ‬
‫الرق فيه‪ ،‬فإن الذي‬
‫ٍ‬
‫وإرهاق لكاهل البسطاء‬ ‫جرى يف السودان مل يكن غري ٍ‬
‫هنب للثروات‪،‬‬
‫بشكل غري مسبوق عىل اإلطالق‪ .‬وبطبيعة‬‫ٍ‬ ‫بالرضائب‪ ،‬وتوسي ٍع ّ‬
‫للرق‬
‫احلال كانت جتارة الرق قائمة يف السودان‪ ،‬ولكن يف نطاق ضيق‪،‬‬
‫ويف إطار اقتصادي وثقايف واجتامعي خمتلف متام االختالف عام أتت‬
‫به اخلديوية‪ .‬فاحلمالت اخلديوية جللب الرقيق كانت محالت واسعة‬
‫وشاملة‪ .‬وقد تم فيها استخدام أسلحة نارية ومدافع حديثة شديدة‬
‫الفتك‪ ،‬مل تعرفها املنطقة من قبل‪ .‬بل إن اإلقليم اجلنويب من السودان تم‬
‫ٍ‬
‫بحمالت واسعة أدت إىل اقتالع قبائل بأكملها من جذورها‬ ‫استهدافه‬
‫وتدمري نمط حياهتا املتوارث‪ ،‬وكياهنا القبيل‪ ،‬وضعضعة قدراهتا البرشية‬
‫وهنب ثرواهتا احليوانية والطبيعية‪ .91‬أما يف اخلرطوم عاصمة الشامل‬
‫‪ .90‬عمر طوسون‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.13‬‬
‫‪ .91‬تاج الرس عثامن الحاج‪ ،‬التاريخ االجتامعي لفرتة الحكم الرتيك‪( ،‬أم درمان‪ :‬مركز محمد عمر بشري‬
‫للدراسات السودانية‪2004 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.55-54‬‬

‫‪105‬‬
‫العريب املسلم فريوي صمويل بيكر الذي زارها يف العام ‪1862‬م‪ ،‬أي‬
‫ال إن الذي‬ ‫بعد أربعني عام ًا من الفتح املرصي الرتكي للسودان‪ ،‬قائ ً‬
‫هنب بشعة مل يعرف التاريخ هلا مثيالً‪،‬‬ ‫رآه يف اخلرطوم كان عملية ٍ‬
‫اشرتك فيها كل موظف يف الدولة من احلاكم العام إىل أصغر خفري‪.‬‬
‫فاجلنود الذين تتكون منهم حامية اخلرطوم كانوا يعيشون يف البالد‬
‫حمتل‪ ،‬وقد انعدمت يف قلوهبم الرمحة‪ .‬كان كل ما هيمهم هو‬ ‫كجيش ّ‬ ‫ٍ‬
‫مجع الرضائب والتي كانت ُتبى بإهلاب ظهور الناس بالسياط‪ .‬وسكان‬
‫ٍ‬
‫واحد‬ ‫اخلرطوم البالغ عددهم ثالثني ألف ًا آنذاك مل يكن يف وسع أي‬
‫منهم أن يقيض غرض ًا دون أن يستعني بالرشوة‪ ،‬وكان اجلَلد والتعذيب‬
‫شيئ ًا عادي ًا‪ .92‬وباإلضافة إىل إهلاب الظهور بالسياط بسبب الرضائب‪،‬‬
‫روى نعوم شقري أسلوب ًا آخر للعقوبة بسبب التأخر أو التباطؤ يف دفع‬
‫الرضائب؛ وهو ربط رسوال الرجل حول ساقة فوق القدمني مبارشة‪،‬‬
‫بعد وضع قطة داخله ثم رضب القطة التي تقوم بتسلق ساق الرجل‬
‫فيتمزق جلد الساق‪.93‬‬ ‫ّ‬ ‫نحو األعىل واألسفل والتشبث به اتقا ًء للرضب‬
‫كانت الرضائب تُفرض عىل كل نشاط اقتصادي يقوم به الناس وكان‬
‫يتهربون من‬ ‫عبئها يقع عىل السواد األعظم من الفقراء‪ ،‬فاألغنياء كانوا ّ‬
‫دفعها عن طريق تقديم رشاوى للجباة‪ .‬ولقد دفعت كثرة الرضائب‬
‫واألساليب الوحشية التي كانت ُتبى هبا بالناس إىل التخيل عن أعامهلم‬
‫متام ًا‪ .‬فقد تناقصت أعداد السواقي العاملة عىل النيل يف السودان بني‬
‫‪ 1821‬و ‪1854‬م من ‪ 5000‬ساقية إىل حوايل ‪2000‬ساقية‪ .‬وقادت كثرة‬
‫الرضائب وقسوة أساليب مجعها السودانيني إىل هجر املنطقة حول‬
‫السلطة‪.94‬‬‫النيل كلي ًا واالبتعاد بأنعامهم إىل املراعي البعيدة عن قبضة ُّ‬

‫‪ .92‬محمد إبراهيم ابو سليم‪ ،‬تاريخ الخرطوم‪( ،‬بريوت‪ :‬دار الجيل‪1999 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.62‬‬
‫‪ .93‬انظر نعوم شقري‪ ،‬تاريخ السودان‪ ،‬تحقيق محمد إبراهيم أبو سليم‪( ،‬بريوت‪ ،‬دار الجيل‪.)1981 ،‬‬
‫‪ .94‬تاج الرس عثامن الحاج‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.72‬‬

‫‪106‬‬
‫أيض ًا‪ ،‬يقول هارولد ماكاميكل عن فرتة احلكم الرتكي يف السودان‪ ،‬إن‬
‫تكون يف فرتة وجيزة‪ .‬ولقد وصفه‬ ‫نظام ًا لالبتزاز والسلب والنهب َّ‬
‫قل أن يكون له مثيل‪ .‬فالرضائب‬ ‫ماكاميكل هبذه الكلامت‪ ....« :‬نظام ًا ّ‬
‫الباهظة والغرامات قضت عىل القليل الذي كان يملكه ذلك الشعب‬
‫البائس»‪ .95‬والقول بوطأة الرضائب غري املحتملة ليس ً‬
‫قوال غربي ًا‬
‫يمكن أن نستبعده بحجج عدم حيدة من كتبه‪ ،‬كام جيري كثري ًا‪ ،‬وإنام هو‬
‫أيض ًا قول كتاب مرصيني حمايدين‪ ،‬منهم‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬عز الدين‬
‫إسامعيل‪ .‬فباإلضافة إىل التأكيد عىل فداحة الرضائب فإن عز الدين‬
‫اسامعيل يقدم أيض ًا مالحظ ًة شديدة األمهية‪ ،‬وهي اختالف النظرة‬
‫نحو مسؤولية احلكم لدى احلاكم الرتكي واحلاكم السوداين‪ .‬فحني‬
‫حكى عز الدين إسامعيل عن الرصاع حول فداحة الرضائب بني القائد‬
‫السوداين الزبري باشا‪ ،‬وبني أحد احلكمداريني األتراك يف السودان‬
‫أشار إىل عقليتني‪َ :‬س َّمى إحدامها «مرصية تركية»‪ ،‬واألخرى «سودانية‬
‫إسالمية» وذلك حيث قال‪:‬‬
‫كان الرصاع بني الزبري واحلكمدار رمز ًا للرصاع بني‬
‫العقلية السودانية اإلسالمية والعقلية املرصية الرتكية‪،‬‬
‫فالزبري يريد ختفيف الرضيبة واالكتفاء بالزكاة التي يفرضها‬
‫الرشع‪ ،‬واحلكمدار يريد أن يعرص البقرة التي كانت حلوب ًا‬
‫الضطره هذا‬
‫ّ‬ ‫جف ثدهيا‪ .‬ولو بقي الزبري يف السودان‬ ‫ثم ّ‬
‫االختالف إىل الثورة يف وجه احلكومة‪ .‬ولكنه ُأبعد عن‬
‫مرسح األحداث يف الوقت املناسب قبل أن يستفحل أمره‬
‫ويصبح زعي ًام قومي ًا‪.96‬‬

‫‪ .95‬ماكاميكل‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.56‬‬


‫‪ .96‬عز الدين إسامعيل‪ ،‬الزبري باشا ودوره يف السودان يف عرص الحكم املرصي‪( ،‬القاهرة‪ :‬الهيئة املرصية‬
‫العاملة للكتاب‪1998 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.180‬‬

‫‪107‬‬
‫ونظرة الزبري هذه مل يتميز هبا القادة السودانيون ذوو الثقافة الصوفية‬
‫اإلسالمية‪ ،‬وحدهم‪ .‬وإنام هي أيض ًا نظرة مرصية أصيلة‪ ،‬عاشت طيلة‬
‫فرتات احلكم اإلسالمي املعتدلة يف مرص‪ .‬كل ما يف األمر أن الن َُّخب‬
‫ُخب َّ‬
‫جتذر وعيها يف السلطانية العثامنية‪،‬‬ ‫اخلديوية احلاكمة يف مرص ن َ‬
‫وانفصل عن األساس األخالقي ملسؤولية احلاكم يف الفكر اإلسالمي‬
‫القويم‪ ،‬واملامرسة اإلسالمية القويمة‪ .‬يقول وجيه كوثراين‪ ،‬إن النظام‬
‫السلطاين واملؤسسة الدينية الكرسوية قد تم إحالهلام حمل نظام الشورى‬
‫اإلسالمي‪« :‬فاملؤسسة الدينية العثامنية‪ ،‬قامت وملرحلة طويلة من‬
‫الزمن‪ ،‬بدَ ور محاية االستبداد السلطاين‪ ،‬وصوالً إىل تأسيس قطاع من‬
‫االستبداد الديني يف الدولة واملجتمع»‪.97‬‬
‫بأي مقدار من العدالة أو‬ ‫ِ‬
‫مل تتَّسم حقبة احلكم اخلديوي للسودان ّ‬
‫أي قدر من العناية بالسودانيني‪ .‬فالذي جرى يف اخلرطوم‪ ،‬عىل سبيل‬ ‫ّ‬
‫املثال‪ ،‬كان أشبه ما يكون بالكلونيالية االستيطانية االستنزافية‪ .‬كان‬
‫السودانيون‪ ،‬وهم أهل البالد األصليون‪ ،‬ال يمثلون سوى اخلمس من‬
‫سكان العاصمة اخلرطوم‪ ،‬أما األمخاس األربعة املتبقية فهي من األتراك‬
‫واملرصيني والسوريني واألوروبيني واملغاربة والتونسيني واجلزائريني‬
‫واملراكشيني‪ .98‬الشاهد أن احتالل السودان بذريعة حماربة الرق فيه‪،‬‬
‫التي وردت يف فرمان اخلديوي إسامعيل‪ ،‬وبذريعة حتسني أحوال أهله‬
‫كام حاول مؤرخون مرصيون كبار أن يقولوا‪ ،‬مل تكن سوى ٍ‬
‫كذبة َبلقاء‪.‬‬
‫فاملؤرخون املحايدون ُيمعون عىل أن الذهب والعبيد كانا الدافع املركزي‬
‫يف محلة حممد عيل باشا لفتح السودان‪ .‬ويف ذلك يقول ممتاز العارف‪:‬‬
‫وبحلول عام ‪ 1820‬نضجت فكرة محلة اجلنوب يف‬

‫‪ .97‬وجيه كوثراين‪ ،‬الفقيه والسلطان‪ :‬جدلية الدين والسياسة يف إيران الصفوية – القاجارية والدولة‬
‫العثامنية‪ ،‬ط‪( ،2‬بريوت‪ :‬دار الطليعة‪2001،‬م)‪ ،‬ص ‪.145‬‬
‫‪ .98‬محمد إبراهيم أبو سليم‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.49‬‬

‫‪108‬‬
‫رأس زعيم مرص‪ ،‬فأخذ يعد العدة لتجهيزها بقيادة ابنه‬
‫الثالث إسامعيل باشا‪ .‬ويف خالل تلك السنة ُأنجزت‬
‫لتحرك احلملة نحو جنوب السودان وحدود‬ ‫ُّ‬ ‫الرتتيبات‬
‫ورسمت اخلطة هلذه احلملة العسكرية عىل أساس‬ ‫احلبشة‪ُ .‬‬
‫حتقيق هدفني اثنني ـ أوالً احلصول عىل أكرب كمية من الذهب‪،‬‬
‫وثاني ًا مجع أربعني ألف ًا من العبيد وإرساهلم إىل القاهرة‪.99‬‬
‫كام أكد عىل مركزية جلب العبيد كدافع للفتح اخلديوي للسودان‬
‫َ‬
‫املؤرخ ْي األوروب َّي ْي‬ ‫ما أورده حسن أمحد إبراهيم الذي ذكر أن‬
‫دودويل ‪ Dodwell‬ودهيرين ‪ Deherain‬أكدا «أن احلصول عىل العبيد‬
‫والتنقيب عن املعادن كانا أهم سببني للفتح»‪ .‬ويضيف حسن أمحد‬
‫إبراهيم أن الوثائق تؤكد عىل أن احلصول عىل العبيد كان أهم بكثري من‬
‫التنقيب عن الذهب واملعادن األخرى‪ .‬فقد كتب حممد عيل باشا إىل ابنه‬
‫إسامعيل باشا قائد محلة السودان رسال ًة يقول فيها‪ ...« :‬املقصود األصيل‬
‫من هذه التكليفات الكثرية واملتاعب الشاقة ليس مجع املال كام كتبنا‬
‫إليكم ذلك مرة بعد أخرى‪ ،‬بل احلصول عىل عدد كبري من العبيد الذين‬
‫يصلحون ألعاملنا وجيدرون بقضاء مصاحلنا»‪ .100‬ويف رسالة أخرى إىل‬
‫ابنه إبراهيم باشا كتب حممد عيل باشا‪« :‬جلب السودانيني هو غاية املراد‬
‫‪101‬‬
‫ونتيجة املقصود مهام كانت الصورة التي ُيلبون هبا من أوطاهنم»‪.‬‬
‫ومن غرائب التربيرات يف احتالل السودان ما أورده رأفت غنيمي‬
‫حيث قال‪« :‬كانت أحوال السودان إذن أوائل القرن التاسع عرش تستدعي‬
‫األخذ بيد أهله وختليصهم من الفوىض واضطراب األمن التي عمت‬
‫أرجاءه‪ ،‬والتقاتل بني القبائل التي ال تتيح للسكان جو ًا من االستقرار‬
‫‪ .99‬ممتاز العارف‪ ،‬األحباش بني مأرب وأكسوم‪ :‬ملحات تاريخية من العالقات العربية الحبشية ونشوء‬
‫دولة إثيوبيا الحديثة‪( ،‬بريوت‪ -‬صيدا‪ :‬منشورات املكتبة العرصية‪1975 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.103‬‬
‫‪ .100‬حسن أحمد إبراهيم‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.24‬‬
‫‪ .101‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.25‬‬

‫‪109‬‬
‫ينرصفون فيه إىل العمل واإلنتاج»‪ .102‬والسؤال البسيط الذي يطرح‬
‫نفسه هنا هو‪ :‬ما الذي جيعل بلد ًا ما يتدخل يف ٍ‬
‫بلد جماور له بسبب قلة‬
‫اإلنتاج فيه؟ ما دخل مرص يف قلة إنتاج السودان؟! ويواصل غنيم فيذكر‬
‫بعض ًا من األسباب احلقيقية التي وقفت وراء الغزو اخلديوي للسودان‪،‬‬
‫ولكنه رسعان ما يعود إىل حماولة جتميل دوافع ذلك الغزو فيقول‪:‬‬
‫املؤرخون حول األسباب التي دفعت حممد‬ ‫وقد اختلف ِّ‬
‫عيل لفتح السودان‪ ،‬فمن قائل أن السبب كان الستخدام‬
‫السودانيني وجتنيدهم يف جيش مرص اجلديد‪ ،‬ومن يقول‬
‫إنه للبحث عن الذهب املتوفر يف السودان‪ .‬ومن يذكر أن‬
‫السبب هو تعقب فلول املامليك الذين فروا جنوب ًا وأسسوا‬
‫ألنفسهم مملكة معادية ملحمد عيل‪ .‬والرأي عندي هو أنه‬
‫ال يمنع أن تكون معظم هذه اآلراء هي األسباب الكامنة‬
‫وراء اندفاع حممد عيل جنوب ًا لضم السودان إىل مرص‪ ،‬ولكننا‬
‫نضيف إىل ذلك سبب ًا جوهري ًا يستند إىل رغبته يف تكوين‬
‫الكتلة العربية التي قلبها مرص‪ ،‬والسودان قطر عريب ضمه‬
‫إىل مرص أمر حيوي لكال القطرين بل وحيوي للكتلة العربية‬
‫بصفة عامة‪.103‬‬
‫ولك َّن إبراهيم شحاتة‪ ،‬الذي سلفت اإلشارة إىل هنجه املتسم باحلياد‬
‫العلمي‪ ،‬فينحو يف عرضه ألسباب غزو حممد عيل للسودان منحى خمتلف ًا‬
‫كل من شكري وغنيمي‪ .‬يقول شحاتة‪:‬‬ ‫عن منحى ٍّ‬
‫افتتاح حممد عيل السودان عام ‪ 1821‬جزء من خطته‬
‫التوسعية يف إقامة دولة قوية عىل نسق الدول القوية يف عرصه‪،‬‬
‫وهي الدول ذات اإلطار االمرباطوري‪ ....‬هذا فض ً‬
‫ال عام يف‬

‫‪ .102‬رأفت غنيمي الشيخ‪ ،‬مرص والسودان يف العالقات الدولية‪ ،‬ط‪( ،2‬القاهرة‪ :‬علم الكتب‪1983 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.73‬‬
‫‪ .103‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪34‬‬

‫‪110‬‬
‫فتح السودان من حتقيق أهداف تتعلق باملوقف من املامليك‬
‫واجلنود األرناؤوط وجلب الرقيق من السود‪.104‬‬
‫ويؤكد دافع جلب الرقيق واحلصول عىل الذهب كدافعني رئيسيني‬
‫َو َقفا وراء محلة الفتح اخلديوية‪ ،‬ما كتبه روبرت أو‪ .‬كولينز‪ ،‬يف كتابه‪،‬‬
‫«تاريخ السودان احلديث»‪ .‬يقول كولينز‪« :‬مع قدوم العام ‪ ،1820‬كان‬
‫حممد عيل نائب السلطان العثامين (يف إسطنبول) قد أرسى يف مرص‬
‫سيطرته الشخصية املستقلة وغري املتنازع عليها‪ ،‬ومن ثم أصبح قادر ًا‬
‫عىل فتح السودان للحصول عىل اجلنود األرقاء جليشه‪ ،‬وعىل الذهب‬
‫خلزينته»‪ .105‬الشاهد‪ ،‬أن كل م ّط ِلع عىل األدبيات الكلونيالية التي‬
‫بررت احتالل أرايض الغري واالستيالء عىل ثرواهتم‪ ،‬ال بد أن يلحظ‬
‫تطابق طيف واسع من األدبيات املرصية‪ ،‬مع األدبيات الكلونيالية التي‬
‫طورهتا القوى الغربية‪ ،‬منذ صعود اإلمرباطورية الربتغالية يف القرنني‬
‫اخلامس عرش والسادس عرش‪ ،‬وإىل انطالق اهلجمة األوروبية الغربية‬
‫قارات العامل يف القرن التاسع عرش‪.‬‬
‫الرشسة عىل ّ‬
‫الضرائب ُت ِّ‬
‫وسع من نطاق االسترقاق‬
‫أشار هارولد ماكاميكل الذي كان إداري ًا يف السودان يف فرتة احلكم‬
‫الثنائي املرصي الربيطاين للسودان‪1956 – 1898( ،‬م)‪ ،‬إىل الرضائب‬
‫الفادحة وإسهامها يف توسيع نطاق االسرتقاق‪ .‬فقد أورد ماكاميكل ما‬
‫ذكره الرحالة بامل الذي أقام يف كردفان غريب السودان يف الفرتة ما بني‬
‫‪1839-1838‬م ودون يف مالحظاته ما ييل‪:‬‬
‫عندما تعجز قرية عن دفع الرضائب املفروضة عليها‬
‫فيتوجب عليها تقديم عدد من الرقيق لتجنيدهم يف اجليش‬

‫‪ .104‬إبراهيم شحاتة‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.102،103‬‬


‫‪.105‬روبرتأوكولينز‪،‬تاريخالسودانالحديث‪(،‬القاهرة‪:‬دارالعنيللنرشواملركزالقوميللرتجمة‪2008،‬م)‪،‬ص‪.11‬‬

‫‪111‬‬
‫أو لبيعهم‪ ...‬يرسل وايل مرص سنوي ًا مرة أو مرتني محالت‬
‫جللب الرقيق من جبال النوبة واملناطق املتامخة هلا‪ ،‬وتعود‬
‫ٍ‬
‫بأعداد منهم بعد قنصهم إما باحليلة أو بالقوة‪ .‬كان العدد‬
‫الذي اسرتق يف عام ‪ 1825‬حوايل ‪ 40000‬ثم زاد عام‬
‫‪ 1839‬إىل ‪ 200000‬عىل األقل‪ ،‬هذا بخالف اآلالف‬
‫الذين يسرت ّقهم البقارة ويتم بيعهم للجالبة‪.106‬‬
‫أسهم يف ازدياد جتارة الرقيق يف السودان يف فرتة احلكم اخلديوي‬
‫َ‬
‫إيقاف حممد عيل باشا الرصف عىل جنوده من اخلزينة يف مرص وتركهم‬
‫يتحصلون عىل رواتبهم من اإليرادات املحلية يف السودان‪ .‬فمحمد‬
‫عيل باشا أرسل جنوده من األرناؤوط غري املرغوب فيهم إىل السودان‬
‫بغرض التخلص منهم‪ .‬فقد كانوا قلييل االنضباط كام كانوا يشكلون‬
‫خطر ًا عىل استقرار نظام حكمه‪ .‬يقول ممتاز العارف‪ ،‬إن ما تبقى من‬
‫اجلنود الذين ذهبوا يف محلة االستيالء عىل السودان قد تم استخدامه‬
‫كمفارز للحدود ولقوات األمن بإمرة العديد من الضباط والباشوات‬
‫الذين تعمد حممد عيل إبقاءهم يف السودان‪ .‬وبذلك أصبح حممد عيل‬
‫ٍ‬
‫بمأمن من اإلطاحة بنظام حكمه‪ .‬كام أنه ضمن أيض ًا أال َيرصف عىل‬
‫أولئك اجلنود غري املرغوب فيهم من خزانته يف مرص‪ ،‬فقد أصبحت هلم‬
‫مواردهم املالية اخلاصة هبم يف السودان‪ .107‬فتوقف حممد عيل باشا عن‬
‫رصف رواتب جنوده املوجودين بالسودان بحجة أهنم قد أصبحت هلم‬
‫مواردهم اخلاصة‪ ،‬أطلق يد الباشوات والضباط العاملني حتت إمرهتم‬
‫يف السودان‪ ،‬يف مجع اإلتاوات ويف اإلجتار بالرقيق مما أدى إىل اتساع‬
‫جتارة الرقيق وإىل نشوء نظام رضيبي ظاملٍ أرهق كاهل األهايل الفقراء‪،‬‬
‫بل وأوصلهم إىل حافة العوز املطلق‪.‬‬

‫‪ .106‬هارولد ماكاميكل‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.56‬‬


‫‪ .107‬ممتاز العارف‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.103‬‬

‫‪112‬‬
‫ازدواجية المعيار‬
‫التوسع اخلديوي يف أرايض الشعوب الواقعة جنويب‬ ‫ّ‬ ‫مل يتم تناول‬
‫مرص‪ ،‬يف معظم األدبيات التارخيية املرصية‪ ،‬ومعظم األدبيات التارخيية‬
‫العربية‪ ،‬بنفس املنظور واملنهج‪ ،‬وبنفس اجلرأة عىل اإلدانة‪ ،‬اللتني‬
‫متت هبام معاجلة التوسع الكلونيايل الغريب‪ .‬فحني تصف األدبيات‬
‫التارخيية املرصية‪ ،‬والعربية عموم ًا‪ ،‬التوسع األورويب يف قارات العامل‬
‫بأنه توسع كلونيايل‪ ،‬نجدها ال جترؤ كثري ًا فتطلق نفس الوصف عىل‬
‫التوسع اخلديوي يف املجال اجلنويب ملرص!‪ .‬أقول هذا رغم اعرتاض‬
‫ديدار روسانو عىل علامء التاريخ املعنيني بالسودان‪ ،‬الذين يعتربون‬
‫فرتة احلكم الرتكي املرصي اخلديوي للسودان فرتة احتالل كولونيايل‪.‬‬
‫تقول روسانو إن تلك الفرتة ال متثل احتالالً كلونيالي ًا باملعنى الرصيح‪،‬‬
‫فهي ال تشبه فرتة االحتالل الكلونيايل الربيطاين الذي يندمج فع ً‬
‫ال يف‬
‫العرص اجلديد للرأساملية االحتكارية‪ ،‬عرص اإلمربيالية‪ .108‬غري أنني‬
‫ال أرى أمهية هلذا التحرز‪ ،‬فهو ال يغري يف حقيقة األمر شيئ ًا‪ .‬فليس‬
‫املهم هنا انطباق مصطلح «كلونيالية» أو عدم انطباقها عىل ما جرى‪،‬‬
‫من الناحية اإلجرائية‪ .‬املهم هو أن الزحف عىل أرض الغري‪ ،‬واحتالهلا‬
‫جملوبة من اخلارج عن‬‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وإدارة‬ ‫وزرع أنظمة حكم‬ ‫بالقوة العسكرية‪ْ ،‬‬
‫طريق القوة العسكرية الغاشمة‪ ،‬والتحكم يف موارد البالد املحتلة‬
‫ملصلحة املركزية التي انطلق منها الغزو‪ ،‬إنام متثل جمتمع ًة احتالالً‬
‫واستنزاف ًا للموارد‪ ،‬وحرمان ًا للوطنيني من حريتهم يف أنفسهم‪ ،‬ومن‬
‫التمتع بخريات أرضهم‪ .‬و ُيورد عبد اهلل عيل إبراهيم رأي ًا لعبد العظيم‬
‫ال لرأي روسانو‪ ،‬يقول فيه إن الفتح املرصي للسودان مل‬ ‫رمضان مماث ً‬
‫يكن «استعامر ًا» باملدلول احلديث للكلمة‪ ،‬وذلك ألن االستعامر‬

‫‪ .108‬ديدار فوزي روسانو‪ ،‬السودان إىل أين؟‪ ،‬ترجمة‪ :‬مراد خالف‪( ،‬الخرطوم‪ :‬الرشكة العاملية للطباعة‬
‫والنرش والتوزيع‪2007 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.60‬‬

‫‪113‬‬
‫احلديث ظاهرة ارتبطت بظهور الطبقة الربجوازية الرأساملية األوروبية‬
‫ومل تشهد مرص مثل هذه الطبقة الرأساملية إال بعد قرن كامل من فتح‬
‫السودان‪ .‬ويورد عبد اهلل عيل إبراهيم تعليقني مهمني ملحمد عبد‬
‫احلي حول ازدواجية املعيار املرصية التي طالت حتى من ُيعرفون بـ‬
‫«التقدميني املرصيني» من أمثال عبد العظيم رمضان‪ .‬يرى حممد عبد‬
‫احلي أن غياب الدولة املركزية يف السودان مل جيعل السودان يف حالة‬
‫تسوغ فتحه وامتالكه‪ .‬فالدولة يف السودان تشكلت عىل نمط‬ ‫«خلو» ّ‬
‫خمتلف عن النمط الذي تشكلت وفقه الدولة املرصية املركزية القابضة‪.‬‬
‫فالشعوب اإلفريقية جنوب الصحراء التي ختتلف عن الشعب املرصي‪،‬‬
‫ومنها الشعوب السودانية‪ ،‬أوجدت لنفسها طرق ًا للحكم ولإلدارة نابعة‬
‫من عبقريتها الثقافية والتارخيية‪ .‬ويقع ما اجرتحته هذه الشعوب حتت‬
‫مظلة ما يمكن أن نسميه «الوحدة يف التنوع»‪ ،‬أو «التنوع يف الوحدة»‪.‬‬
‫ويواصل عبد احلي فيقول‪ ،‬إن معادلة احلكم يف السودان هي معادلة‬
‫أقرب إىل معادلة الديمقراطية‪ ،‬ال إىل معادلة الفرعون الفرد‪ .‬ويتساءل‬
‫حممد عبد احلي معلق ًا عىل شعار وحدة وادي النيل قائالً‪ :‬ملاذا ينسى‬
‫التقدميون املرصيون أن يفرسوا شعار وحدة وادي النيل يف مرص‬
‫حتت ضوء ارتباطه بنمو الربجوازية الصناعية منذ عهد حممد عيل باشا‬
‫وطلعت حرب وتطور صناعات النسيج وطموح تلك الصناعة الوليدة‬
‫للتوسع‪ ،‬ورغبتها يف خلق أسواق هلا يف السودان الذي يمثل بالنسبة هلا‬
‫عمق ًا إسرتاتيجي ًا واقتصاديا واضح ًا‪109‬؟!‪.‬‬
‫الشاهد أن «املحافظني» و»التقدميني» املرصيني يفكرون يف شأن‬
‫السودان بطريقة متشاهبة وهي طريقة واقعة حتت تأثري البنية العقلية‬
‫اخلديوية التوسعية‪ .‬فمعظمهم ينسى الرصامة العلمية واملنهجية‪،‬‬

‫‪ .109‬عبد الله عيل إبراهيم‪ ،‬الثقافة والدميقراطية يف السودان‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار األمني للنرش والتوزيع‪،‬‬
‫‪1996‬م)‪ ،‬ص ‪.76-75‬‬

‫‪114‬‬
‫واستصحاب احلقائق‪ ،‬بل وينسون إيديولوجيتهم املاركسية التحررية‪،‬‬
‫التي يعتنقوهنا‪ ،‬فيتخندقون يف نزعة التربير املنطلقة من إيامن عميق‬
‫بأن السودان ال يمكن أن يكون إال «ملك ًا مرصي ًا»‪ .‬يقول عبد العظيم‬
‫رمضان إن فتح حممد عيل للسودان جرى يف مالبسات كان السودان‬
‫فيها مفكك ًا‪ ،‬ناقصا يف شعوره القومي الذي ينهض عىل دولة مركزية‪.‬‬
‫وبناء عليه‪ ،‬كان الفتح املرصي استكامالً عضوي ًا للحدود الطبيعية‬
‫للدولة املرصية!!‪ .‬ولقد رد عىل دفوع عبد العظيم رمضان عدد من‬
‫إن نقص الشعور القومي يف مرص نفسها مل‬ ‫املثقفني السودانيني‪ ،‬قائلني ّ‬
‫يمنع املرصيني من أن يروا قدوم العثامنيني إىل مرص عىل أنه «غزو»‪.110‬‬
‫أيض ًا‪ ،‬يقول رمضان‪ ،‬إن دافع حممد عيل لفتح السودان املتمثل يف‬
‫جلب الرقيق ليس مما ييسء إىل دوافع الفتح املرصي؛ ألن جلب العبيد‬
‫مل يكن اخرتاع ًا مرصي ًا‪ ،‬فتجارة الرقيق كان قائمة يف السودان قبل الفتح‬
‫املرصي‪ .‬وهذا بطبيعة احلال قول صحيح‪ ،‬فتجارة الرقيق ليست اخرتاع ًا‬
‫مرصي ًا‪ ،‬كام تفضل رمضان‪ .‬فهي بالفعل كانت ممارسة يف السودان‬
‫قبل جميء حممد عيل‪ .‬غري أهنا قطع ًا مل تأخذ الشكل املؤسيس الواسع‬
‫الذي أصبحت عليه عقب جميء حممد عيل‪ .‬كام أن السالح الناري مل‬
‫يكن مستخدم ًا فيها‪ .‬فقد كان قنص الرقيق من جانب القبائل العربية‬
‫أو املستعربة السودانية ملواطنيهم من الزنوج نشاط ًا حمدود ًا َيستخدم‬
‫فيه الطرفان (القانص واملقنوص) أسلحة بيضاء شبه متكافئة‪ .‬كام أن‬
‫نسميه «نشاط عصابات»‪.‬‬ ‫النشاط الذي كان ممارس ًا مل يتعد ما يمكن أن ّ‬
‫فهو مل يكن يغلب عليه كونه نشاط دولة‪ ،‬بله دولة تزعم أهنا دولة حديثة‪.‬‬
‫علينا أن نقارن ما كان جيري من جانب عصابات قنص العبيد الق َبلية‬
‫والتجار وبعض احلكام السودانيني املحليني الذين تاجروا بالرقيق‪ ،‬بام‬‫ّ‬
‫أحدثته احلملة العسكرية الضخمة التي جهزها حممد عيل باألسلحة‬

‫‪ .110‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.75‬‬

‫‪115‬‬
‫الفتاكة وباملدافع ليكون هدفها الرئيس من غزو السودان هو جلب‬
‫العبيد إىل مرص لتجنيدهم يف اجليش وغريه من أعامل اإلنشاء التي كانت‬
‫السخرة‪.‬‬
‫حتتاجها مرص الناهضة آنذاك‪ ،‬ليعملوا يف كل ذلك عن طريق ُّ‬
‫المعرفة كأدا ٍة الحتالل العقل‬
‫صحبت عمليات التوسع يف أرايض الغري إنتاج ملعارف تربيرية‬
‫استهدف تشويه صورة الصلف العنرصي وراء تلك النزعات‪ .‬يقول‬
‫محدي عبد الرمحن يف نقد التوسع الكلونيايل يف إفريقيا‪ ،‬إن العنرصية‬
‫توسع‬‫وقفت وراء تربير عمليات االسرتقاق واالستعامر التي صاحبت ُّ‬
‫وحتول الرأساملية الغربية‪ ،‬ويأيت هذا يف سياق العملية املستمرة لتشويه‬
‫ُّ‬
‫التاريخ اإلفريقي‪ ،‬بحسبان أن تلك القارة السمراء ال متلك حضار ًة‬
‫وال تارخي ًا ُيعتدّ هبام‪ ،‬فهي نقط ٌة تُربط فقط بتاريخ وحضارة الرجل‬
‫األبيض‪ .111‬وما نعاه محدي عبد الرمحن هنا عىل األوروبيني‪ ،‬هو نفس‬
‫ما قامت به النخب املرصية التي مل تعرف كيف تضع جانب ًا اخلوذة‬
‫العقلية اخلديوية‪ ،‬فأوغلت يف حماوالت إنكار ذاتية السودان املستقلة‪،‬‬
‫ٍ‬
‫أرض خالية‬ ‫بل ويف تزييف تاريخ السودان‪ ،‬وطمسه‪ ،‬واعتباره جمرد‬
‫يول بني املرصيني والزحف عليه‬ ‫وفضاء مباح ليس هناك ما يمكن أن َ ُ‬
‫وحيازته‪.‬‬
‫يف املقدمة التي كتبها طه جابر العلواين‪ ،‬لكتاب غريغوار مرشو‪،‬‬
‫الذي حيمل عنوان‪« :‬من االستتباع إىل االستبداد‪ :‬حفريات يف آليات‬
‫احتالل العقل»‪ ،‬أشار الدكتور العلواين إىل ُسلطة املعرفة وجربوهتا‬
‫حني تتحول إىل أداة لتربير ابتالع اآلخر املغاير وسلب مقدراته‪ .‬فلقد‬
‫بنت األمم التي توسعت عىل حساب غريها حقوالً معرفي ًة كاملة‬
‫غة لفرض اهليمنة واالستتباع‪ .‬ومن ذلك‬‫كأداة مسو ٍ‬
‫ٍ‬ ‫بغرض استخدامها‬
‫ِّ‬

‫‪ .111‬حمدي عبد الرحمن‪ ،‬مصدر سابق‪ .‬ص ‪.10‬‬

‫‪116‬‬
‫تدبيج خطاب جديد من املعارف التارخيية واجلغرافية واجليوسياسية‬
‫واإليديولوجية ليصبح ذلك اخلطاب ذراع ًا ثقافي ًة قاهرة تسري يف مقدمة‬
‫مكونات القوة الغازية كالتجارة واجليوش‪ .112‬ولو أننا تت ّبعنا خمتلف‬
‫صور التعاطي النخبوي املرصي مع السودان‪ ،‬منذ فرتة حممد عيل‪،‬‬
‫وإىل هناية عهد الرئيس حسني مبارك‪ ،‬لتبني لنا وجود هنج مؤسيس‬
‫استهدف‪ ،‬عىل الدوام‪ ،‬حمو الذاتية السودانية املستقلة واستتباعها‪ ،‬عن‬
‫خمتلفة الحتالل العقل السوداين‪ .‬ولقد نجت هذه‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫أدبيات‬ ‫طريق إنتاج‬
‫األدبيات بالفعل يف احتالل عقول كثري من طالئع املتعلمني السودانيني‬
‫األوائل الذين تلقوا تعليمهم عىل أيدي املرصيني يف الثلث األول من‬
‫القرن العرشين‪.‬‬
‫عندما أرسل حممد عيل جيشه الفاتح إىل السودان حرص‪ ،‬منذ‬
‫البداية‪ ،‬عىل أن يرسل ثالث ًة من علامء الدين لكي يصحبوا احلملة الفاحتة‬
‫وهم‪ :‬القايض حممد األسيوطي احلنفي‪ ،‬والشيخ أمحد البقيل الشافعي‪،‬‬
‫ٍ‬
‫واحد‬ ‫والشيخ السالوي املغريب املالكي‪ .‬وخلع حممد عيل باشا عىل كل‬
‫ٍ‬
‫واحد منهم مخسة عرش كيس ًا‪،‬‬ ‫من هؤالء العلامء خلع ًة سنية وأعطى كل‬
‫وطلب منهم أن حيثوا أهل السودان عىل الطاعة‪ ،‬وأن يتجنبوا مقاومة‬
‫اجليش الغازي‪ ،‬فالغزاة مسلمون واخلضوع جلاللة السلطان أمري‬
‫املؤمنني واجب ديني‪ .113‬وكانت هذه هي أول بداية دخول اإلسالم‬
‫األزهري الفقهي املؤسيس‪ ،‬املؤمتِر بأمر الدولة‪ ،‬العامل كذرا ٍع هلا‪ ،‬إىل‬
‫السودان‪ .‬فالتقليد الديني يف السودان‪ ،‬السابق للفتح الرتكي املرصي‪،‬‬
‫كان تقليد ًا صوفي ًا‪ ،‬وقف فيه شيوخ التصوف يف صف عامة الناس يف‬
‫مواجهة جور السالطني‪ .‬يقول عبد اهلل عيل إبراهيم إنه بنشوء طبقة‬

‫‪ .112‬غريغوار منصور مرشو‪ ،‬من االستتباع إىل االستبداد‪ :‬حفريات يف آليات احتالل العقل‪ ،‬ط ‪ (،2‬حلب‪:‬‬
‫دار امللتقى)‪2009 ، :‬م)‪ ،‬ص ‪.10‬‬
‫‪ .113‬انظر نعوم شقري‪ ،‬تاريخ السودان‪ ،‬مصدر سابق‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫العلامء واملفتني والقضاة واملعلمني يف جهاز الدولة يف السودان‪ ،‬نتيجة‬
‫لالحتالل الرتكي املرصي أخذت العالقة التقليدية بني الدين والدولة‬
‫عىل عهد الفونج يف التاليش واالضمحالل‪ .‬ولقد كانت تلك العالقة‬
‫قائم ًة عىل تأثري رجال الدين الروحي عىل سلوك الدولة‪ .‬حلت حمل‬
‫العالقة القديمة عالقة جديدة متيزت بوحدة املصري ووحدة الوجود بني‬
‫طائفة العلامء والدولة‪ .‬إذ اندغمت طائفة العلامء اجلديدة اندغام ًا تام ًا‬
‫وجمزي ًا يف كيان الدولة‪ .‬مل حتتفظ فئة العلامء الرسميني اجلديدة باملسافة‬
‫التي احتفظ هبا من قبل الفقيه الصويف يف عهد الفونج‪ ،‬الذي جعل من‬
‫ال للرأي العام جلمهور املريدين‪ ،‬فأصبح هلم شفيع ًا ووقيع ًا‬ ‫نفسه ممث ً‬
‫لدى احلاكم السناري‪ .‬لقد ردع الفقيه السناري املتصوف بزهده يف‬
‫املشاركة يف احلكم‪ ،‬وبتمثيله األصيل جلمهور املسلمني الذين يعتقدون‬
‫السلطة السياسية التي كانت هتابه وجت ّله‪.114‬‬
‫يف صالحه‪ُّ ،‬‬
‫هذا االنقالب الذي حدث يف نمط التد ّين السوداين السناري‬
‫السلطة كانت له آثاره املمتدة التي ال‬
‫املنحاز إىل اجلمهور وليس إىل ُّ‬
‫يزال السودان يعاين منها‪ .‬فحني كان املزاج الصويف سائد ًا يف السودان‪،‬‬
‫كان التسامح الديني سائد ًا أيض ًا‪ .‬وبانتشار تدريس الفقه وازدياد وترية‬
‫حتول نمط التدين الصويف‪ ،‬خاصة يف املدن حيث‬ ‫االبتعاث إىل األزهر ّ‬
‫مزاج فقهي‪ .‬ولقد أدى ذلك إىل‬‫ٍ‬ ‫الوجود الرتكي املرصي املكثف‪ ،‬إىل‬
‫نشوء َقدْ ر من التز ّمت الفقهي يف احلياة السودانية‪ ،‬مل يكن معروف ًا من‬
‫قبل‪ .‬ولقد جتلت جوانب من هذا التحول يف وضع املرأة يف املجتمع‪.115‬‬
‫تأثرت مرص قبل السودان بمثل هذه النقلة‪ ،‬ويف ذلك يقول حممد الراقد‬
‫إن املساكن يف احلوارض املرصية تأثرت بالنظام الرتكي‪ ،‬فظهر يف معامر‬
‫‪ .114‬عبد الله عيل إبراهيم‪ ،‬الرصاع بني املهدي والعلامء‪ ،‬ط‪( ،2‬القاهرة‪ :‬مركز الدراسات السودانية‪،‬‬
‫‪1994‬م)‪ ،‬ص ‪.21‬‬
‫‪ .115‬النور حمد‪ ،‬مهارب املبدعني‪ :‬قراءة يف السري والنصوص السودانية‪( ،‬الخرطوم‪ :‬دار مدارك للنرش‪،‬‬
‫الخرطوم‪2010 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.100‬‬

‫‪118‬‬
‫البيوت ما ُيسمى بـ «السالملك» و«احلرملك»‪ .‬وانتقل ذلك األثر إىل‬
‫مساكن الطبقة الوسطى من املرصيني التي كانت متيل إىل تقليد الطبقة‬
‫احلاكمة وتتطلع إىل حماكاهتا‪ .116‬مل تتوقف أساليب احتالل العقل‬
‫السوداين عند تغيري نمط التدين الصويف يف السودان بالتدين الفقهي‬
‫املؤسيس وحسب‪ ،‬وإنام تعدّ ت ذلك إىل التعليم عرب جامعة القاهرة فرع‬
‫اخلرطوم‪ ،‬وعرب ما ُس ّميت باملدارس العربية التي نرشهتا مرص يف كل‬
‫مدن السودان الرئيسية‪ .‬وظلت احلكومات املرصية املتعاقبة ترصف‬
‫عليها بسخاء شديد‪ .‬ال أقول هذا هنا جحود ًا للمساعدات التي ظلت‬
‫تقدمها مرص للسودان‪ ،‬خاصة يف جمال التعليم‪ .‬فهي مساعدات جدّ‬
‫مقدرة وستظل ُم َر َّح َب ًا هبا عىل الدوام‪ .‬ولكن كان يمكن أن يكون لتلك‬
‫أثر أوقع يف نفوس السودانيني‪ ،‬وأثر مستقبيل إسرتاتيجي‬ ‫املساعدات ٌ‬
‫أفضل‪ ،‬لو أهنا ابتعدت عن التسييس املبارش وعن حماوالت االستتباع‬
‫الفكري والثقايف‪ ،‬وحماولة صناعة هوية مرصية للسودان وللسودانيني‪.‬‬
‫والطريف يف مدى معرفة الشعبني ببعضهام بعض ًا‪ ،‬أن عامة السودانيني‬
‫يعرفون كل يشء عن مرص تقريب ًا‪ ،‬يف حني جيهل عامة املرصيني كل يشء‬
‫عن السودان‪ .‬بل يذهب األستاذ حممد حسنني هيكل ليؤكد أن النخب‬
‫املرصية نفسها جتهل السودان‪ .‬ذكر هيكل وهو يتحدث عن رحلة له‬
‫زار فيها السودان يف منتصف القرن املايض‪ ،‬قائالً‪« :‬كان اعتقادي إنه‬
‫نحن ال نعرف يشء عن السودان‪ .‬بالكتري آوي نعرف الطريق من‬
‫أسوان للخرطوم‪ ،‬لكننا ال نعرف ال رشق وال غرب وال جنوب‪....‬‬
‫السودان بتاع مرص؟!‪ ....‬مرص يف هذا كانت تتكلم عىل حاجة ماهياش‬
‫عارفاها بالضبط»‪.117‬‬

‫‪ .116‬محمد الراقد‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.432‬‬


‫‪ .117‬محمد حسنني هيكل‪ ،‬مقابلة مع قناة الجزيرة‪ ،‬بتاريخ ‪ ،2006 /10/5‬املوقع اإللكرتوين لـ «الجزيرة‬
‫نت» تم اسرتجاعه يف ‪ 3‬نوفمرب ‪2011‬عىل املوقع‪:‬‬
‫‪http://www.aljazeera.net/NR/exeres/91188466-AA95-4F53-8B94-7609E044BF98.html‬‬

‫‪119‬‬
‫تاريخان للخديوية‬
‫هناك تارخيان خمتلفان للحقبة اخلديوية‪ :‬تاريخ كتبه املرصيون‬
‫وصفوا فيه الفضاء الواقع جنوب مرص بالفوىض وانعدام الدولة‬
‫فصوروه وكأنه‬ ‫ّ‬ ‫املركزية وأسقطوا عليه رغبتهم يف االستحواذ عليه‪،‬‬
‫يلهج بمناداهتم للقدوم إليه ومت ُّلكه وإدارته‪ .‬يف النسخة املرصية لتاريخ‬
‫جوار مرص اجلنويب تم تصوير ذلك اجلوار بأنه فضاء بال تاريخ وبال‬
‫حضارة وبال نظم حكم يعتدّ هبا‪ .‬هذا عىل الرغم من أن اآلثار العينية‬
‫الباهرة حلضارة كوش النوبية السودانية ال تزال تقف شاخمة متحدية‬
‫عوادي الزمن يف كل املنطقة املمتدة من شامل اخلرطوم إىل وادي حلفا‪.‬‬
‫وكذلك‪ ،‬عىل الرغم مما احتوته اهلضبة احلبشية من آثار خلفتها حضارة‬
‫أكسوم العظيمة بمسالهتا املنقوشة فارعة الطول‪ ،‬وكنائسها املقدودة‬
‫آثار ال تزال‬ ‫من الصخر التي ترقى إىل مستوى عجائب الدنيا‪ ،‬وكلها ٌ‬
‫تقف شاهد ًا عىل عبقرية إنسان تلك البقاع وعظمة تارخيه‪ .‬يغلب عىل‬
‫النسخة املرصية لتاريخ وادي األعىل يف السودان إنكار أن للسودان‬
‫شخصية تارخيية منامزة‪ .‬فاحلضارة النوبية يف وادي النيل األوسط يف‬
‫السودان التي عارصت احلضارة الفرعونية يف مرص ظلت ترقد‪ ،‬إىل حدٍّ‬
‫كبري‪ ،‬يف منطقة الظالل يف تاريخ وادي النيل‪ .‬فلقد تم إدغام احلضارة‬
‫النوبية يف احلضارة الفرعونية‪ .‬ورغم أن ذلك اخلطأ كان خطأ تارخيي ًا‬
‫عام ًا‪ ،‬تسبب يف شيوعه علامء اآلركيولوجيا الغربيون‪ ،‬إال أن األكاديميا‬
‫جتاه َلها للكشوف اجلديدة التي تقول بأن حضارة‬ ‫املرصية واصلت ُ‬
‫كوش ليست جزء ًا من احلضارة الفرعونية وإنام كانت ند ًا ومنافس ًا هلا‪.‬‬
‫أيض ًا‪ ،‬يغلب عىل النسخة املرصية لتاريخ احلكم اخلديوي يف‬
‫السودان جتاهل الفظائع التي ارتكبها‪ .‬كام يغلب عليه أيض ًا ال َع ْمد‬
‫املستمر إىل التربير وإىل حتسني وجه التوسع املرصي جنوب ًا عن طريق‬

‫‪120‬‬
‫القوة العسكرية‪ .‬بل ال يزال هناك‪ ،‬حتى كتابة هذه الورقة‪ ،‬من بني‬
‫النخب املرصية‪ ،‬من يدعو رصاح ًة إىل إعادة احتالل السودان!‪.‬‬
‫ولسوف تورد هذه الورقة الحق ًا‪ ،‬نامذج آلراء هؤالء‪ .‬غري أن هناك‬
‫تارخي ًا وطني ًا سوداني ًا مغاير ًا ومناقض ًا يف رؤيته ملا هو مثبت يف النسخة‬
‫املرصية لتاريخ احلقبة اخلديوية يف السودان‪ .‬هذه النسخة السودانية‬
‫وشق‬‫شق مكتوب‪ٌّ ،‬‬ ‫لتاريخ احلقبة اخلديوية يف السودان ذات شقني‪ٌّ :‬‬
‫آخر شفاهي تناقلته األجيال‪ .‬فالرواية السودانية لتاريخ اخلديوية يف‬
‫السودان‪ ،‬يف ش ّقيها املكتوب والشفاهي‪ ،‬ظلت يف جمملها ترى يف احلقبة‬
‫ٌ‬
‫احتالل وقفت وراءه‬ ‫اخلديوية جمرد احتالل جرى بقوة السالح‪ .‬وهو‬
‫مطامع انحرصت يف حماولة وضع اليد عىل املوارد والثروات‪ ،‬خاصة‬
‫الذهب والرقيق‪ .‬وحني مل حتصد منهام ما توقعت أرهقت األهلني‬
‫بالرضائب الباهظة‪ .‬ولقد نجمت عن كل ذلك حقب ٌة سوداء طويل ٌة‬
‫من املظامل ومن الرتويع ومن توسيع دوائر االسرتقاق ومن العسف‬
‫بالوطنيني السودانيني ال يزال السودانيون يتناقلوهنا جي ً‬
‫ال بعد آخر‪.‬‬
‫أيض ًا ال تزال للحروب التوسعية التي أشعلتها مرص اخلديوية يف‬
‫إرتريا ويف إثيوبيا وعىل ختوم الصومال آثارها السالبة املمتدة‪ .‬ففي‬
‫العام ‪1875‬م وحده أرسل اخلديو إسامعيل ثالث محالت عسكرية إىل‬
‫إثيوبيا تم إجبارها مجيعها عىل االنسحاب بعد أن لقيت اهلزيمة عىل‬
‫وكف اخلديو إسامعيل هنائي ًا عن حلم بناء إمرباطورية‬
‫ّ‬ ‫أيدي اإلثيوبيني‪.‬‬
‫احتجت عليه احلكومة الربيطانية‪.118‬‬‫ّ‬ ‫يف شامل ورشق إفريقيا بعد أن‬
‫احتل العثامنيون واخلديويون املوانئ يف الساحل الغريب للبحر األمحر‬
‫يف السودان احلايل ويف إريرتيا احلالية ويف نواحي الصومال‪ .‬وحني‬
‫هامجت القبائل الصومالية يف القرن السادس عرش امليالدي‪ ،‬حتت إمرة‬
‫أمحد بن إبراهيم األعرس امللقب بأمحد قران أمري إمارة عدل اإلسالمية‪،‬‬

‫‪ .118‬روبرت أو‪ .‬كولينز‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.40‬‬

‫‪121‬‬
‫أعامق اهلضبة اإلثيوبية مستهدف ًة استئصال الوجود املسيحي هبا‪ ،‬قدّ م له‬
‫الوالة العثامنيون يف املناطق املحيطة باهلضبة احلبشية األسلحة النارية‪.‬‬
‫فحدا ذلك باإلثيوبيني إىل االستعانة بالربتغاليني‪ .‬وال بدّ من اإلشارة‬
‫هنا إىل أن إثيوبيا مل ختضع للحكم األجنبي يف تارخيها‪ ،‬سوى لبضع‬
‫سنوات فقط‪ ،‬يف فرتة احلرب العاملية الثانية يف النصف األول من القرن‬
‫العرشين‪ .‬فالدولة اإلثيوبية حافظت عىل أراضيها ضد إمارات الطراز‬
‫اإلسالمي التي أحاطت هبا وهامجتها عىل مدى عرش سنوات متصلة‬
‫كادت أن تستأصل منها الديانة املسيحية‪ .‬أيض ًا دافعت الدولة اإلثيوبية‬
‫عن أراضيها ضد اهلجامت التي شنتها جتاهها من جهة الغرب الدولة‬
‫املهدية السودانية يف عهد اخلليفة عبد اهلل‪.‬‬
‫تاريخ كل هذه احلروب يتم تدريسه يف املدارس يف كل دول جوار‬
‫مرص اجلنويب‪ ،‬برؤية خمالفة متام ًا للرؤية املرصية‪ ،‬وختتلف زاوية الرؤية‬
‫بني كل قطر وآخر من هذه األقطار التي حتتل الفضاء اجلغرايف الواقع‬
‫جنويب مرص‪ .‬غري أن الثابت أن ذلك التاريخ املشرتك يتم تدريسه يف‬
‫ٍ‬
‫وطنية مغايرة متام ًا لوجهة‬ ‫كل واحد من هذه األقطار من وجهة ٍ‬
‫نظر‬
‫النظر املرصية اخلديوية‪ ،‬التي ال تزال بقاياها تعيش إىل اليوم‪ .‬وما‬
‫من شك أن ذلك التاريخ يتم تدريسه لألجيال اجلديدة من مسيحيي‬
‫اهلضبة اإلثيوبية بصورة تناقض متام ًا املنظور الذي حيكم رؤية أصحاب‬
‫األشواق اإلسالمية «املرمنسة» ‪ romanticized‬الذين ما فتئوا‬
‫يتوقون إىل استئصال املسيحية من إثيوبيا‪ ،‬وبشكل هنائي‪ .‬الشاهد أن‬
‫املنظور اإلسالموي التبشريي العامد إىل استئصال الوجود املسيحي من‬
‫منطقة القرن اإلفريقي‪ ،‬ظن ًا بأن ذلك سوف يربط‪ ،‬وبالرضورة‪ ،‬منطقة‬
‫القرن اإلفريقي باملصالح العربية‪ ،‬منظور خاطئ‪ .‬فالناشطون يف العمل‬
‫التبشريي اخلريي اإلسالمي ال يملكون فه ًام إسالمي ًا عميقا يغري‬
‫اآلخرين باعتناق اإلسالم‪ .‬إهنم يتبعون النسخة التبشريية املسيحية‬

‫‪122‬‬
‫التبسيطية التي مل تفلح يف يشء سوى أن جعلت املسيحية ترتاجع يف‬
‫كل بقاع األرض بوتريات متزايدة‪ .‬ولربام تعني علينا نحن كمسلمني أن‬
‫نسأل أنفسنا أوالً‪ :‬ماذا صنعنا نحن من اإلسالم يف أوطاننا األم؟ هل‬
‫صنعنا منه واقع ًا حضاري ًا فعلي ًا يغري اآلخرين باعتناقه أو يغرهيم حتى‬
‫بالتامهي معه ومعنا؟ إن ربط جوارنا اإلقليمي بنا لن يتم عن طريق‬
‫«أسلمته»‪ ،‬أو «عربنته»‪ ،‬وإنام يتم بالربط املحكم هلذا اجلوار باملصالح‬
‫اإلسرتاتيجية الكربى‪ ،‬واملصالح االقتصادية وجهود التنمية احلقة‪،‬‬
‫واالنتقال سوي ًا (نحن وهم) نحو احلكامنية املؤسسية‪ ،‬ونحو التواصل‬
‫التثاقفي احلي املتكافئ الذي يسري َدف ُقه يف االجتاهني‪.‬‬
‫الخديويون الجدد!‬
‫ربام ال جيد املرء غراب ًة يف أن يرسم منظرو وكتاب احلقبة اخلديوية‬
‫صور ًا زاهية لدوافع ذلك الغزو التوسعي ولنتائجه‪ .‬غري أن املرء جيد‬
‫كل الغرابة يف أن يفكر كتاب مرصيون حمدثون بنفس الطريقة التي كان‬
‫يفكر هبا أسالفهم‪ .‬ومن هنا‪ ،‬فإن جانب ًا من هذه الورقة يركز عىل نقد‬
‫استمرارية النظرة اخلديوية جتاه جوار مرص اجلنويب‪ ،‬والتدليل عىل أن‬
‫نزعة اهليمنة والسيطرة اخلديوية عليه مل َتُت بنهاية العهد اخلديوي‪ ،‬وإنام‬
‫بقيت مسيطرة عىل أذهان بعض النخب املرصية‪ ،‬إن مل يكن غالبيتها‪،‬‬
‫وعىل أذهان اجلمهور املرصي‪ .‬يقول الكاتب اإلسالمي املرصي حممد‬
‫مورو إن «تصور السودان كممتلكات مرصية تصور عام لدى النخبة‬
‫السائدة املرصية»‪.119‬‬
‫توارثت النخب املرصية النظرة املتجذرة يف مفاهيم احلقبة اخلديوية‪،‬‬
‫ضمها يف القرن التاسع عرش‪،‬‬ ‫وخرجت هبا من سياقها التارخيي الذي ّ‬
‫وهو سياق ع ّفى عليه الدهر‪ ،‬لتدخل هبا سياق ًا تارخيي ًا جديد ًا خمتلف ًا‬
‫‪ .119‬صحيفة الراكوبة اإللكرتونية‪ ،‬تم اسرتجاعها يف ‪ 22‬أكتوبر ‪:2011‬‬
‫‪http://vb.alrakoba.net/163766-post69.html‬‬

‫‪123‬‬
‫متام االختالف‪ .‬فالذي جرى للنظرة اخلديوية حني سحبتها النخب‬
‫املرصية من املايض إىل احلارض‪ ،‬مل يتعد حتويرات طفيفة‪ .‬وهي حتويرات‬
‫مل تلمس جوهر النظرة املتمثل يف اإلحساس باالستحقاق‪ ،‬أو ما‬
‫ُيسمى باإلنجليزية ‪ .sense of entitlement‬ويمكن تلخيص هذا‬
‫اإلحساس باالستحقاق يف الزعم بأن للذات حقوق ًا ال ينبغي أن تكون‬
‫للغري!‪ُ ،‬يضاف إىل ذلك‪ ،‬أنه ال يتعني عىل تلك الذات أن تقوم بأي‬
‫جمهود لكي تنال ذلك االستحقاق‪ ،‬فهي إنام تستحقه ملجرد وجودها!‪.‬‬
‫عاشت تلك النظرة منذ بدايات عهد حممد عيل باشا‪1805-1847( ،‬م)‬
‫واستمرت إىل يومنا هذا‪ .‬واألمل اآلن معقو ٌد يف أن ُتدث الثورة‬
‫املرصية التي أزاحت حكم الرئيس مبارك‪ ،‬ثور ًة نقدي ًة مفاهيمي ًة‪ ،‬تعيد‬
‫تكييف عالقة مرص بجوارها اجلنويب عىل أسس الرشاكة املتبادلة وتبادل‬
‫املنافع وخلق جمال جديد للمواطنة احلقة عابرة احلدود‪ ،‬بعد أن حتل‬
‫املفاهيم اجلديدة واللهجة التشاركية املوزونة حمل اللهجة العنجهية‬
‫املتغطرسة والنظرة من ٍ‬
‫عل‪.‬‬
‫ليس من غرض هذه الورقة أن تنكأ جراح املايض‪ ،‬وليس من‬
‫غرضها النَّ ْيل من الن َُّخب املرصية‪ ،‬كام ليس من غرضها أن تدعو إىل‬
‫املباعدة بني مرص والسودان‪ ،‬أو بني مرص وسائر جوارها اجلنويب‪.‬‬
‫بل عىل العكس من ذلك متام ًا‪ ،‬تدعو هذه الورقة إىل إعادة تعريف‬
‫الروابط املرصية السودانية‪ ،‬ذات اخلصوصية التي ال تنتطح يف أمهيتها‬
‫عنزتان‪ ،‬ولكن يف ٍ‬
‫أفق جديد‪ .‬أيض ًا هتدف هذه الورقة إىل إعادة تعريف‬
‫عالقة مرص والسودان جمتمعتني‪ ،‬ببقية دول القرن اإلفريقي‪ ،‬يف إطار‬
‫جديد‪ ،‬هو إطار معادلة االعتامد املتبادل‪ .‬غري أن ذلك لن يتم ما مل‬
‫تتم مراجعات نقدية جريئة للمسار التارخيي وتنظيفه من الشوائب‬
‫التي شابت هذه العالقات العضوية‪ ،‬مما ال يزال ظاهر ًا يف كيفية‬
‫التعاطي املرصي مع دول حوض وادي النيل‪ .‬ال بدّ من نقد استبطان‬

‫‪124‬‬
‫اإلنتلجنسيا املرصية للفكرة املتضخمة للخديوية عن نفسها‪ ،‬ونزعتها‬
‫اإلمرباطورية‪ ،‬وتبنّيها روح اخلطاب الكلونيايل الغريب‪ ،‬وتطبيقها ذلك‬
‫اخلطاب يف دعوهتا املستمرة إىل إعادة السودان إىل احلظرية املرصية‪ ،‬بقوة‬
‫السالح‪ .‬كتب الكاتب اإلسالمي املرصي حممد مورو يف عموده «نحو‬
‫اهلدف» بصحيفة الدستور يوم ‪ 17‬يوليو ‪ 2011‬قائالً‪ّ :‬‬
‫«إن احلل الوحيد‬
‫املمكن واملتاح الذي ال بديل عنه هو توحيد السودان ومرص بالسلم‬
‫أو باحلرب»‪ .120‬وكتب عبد احلليم قنديل بجريدة «صوت األمة»‪ ،‬يوم‬
‫حل جذري إال أن تذهب مرص للسودان‬ ‫‪ 28‬يوليو ‪ 2008‬قائالً‪« :‬ال ّ‬
‫بفائض سكاهنا وبفائض قواهتا‪ ،‬وباتفاق أمني عاجل‪ ،‬والبديل أن‬
‫تقرأوا الفاحتة من اآلن عىل روح السودان»‪ .121‬فلو نحن س ّلمنا ً‬
‫جدال‬
‫أن السودان أضحى‪ ،‬حتت ضغط املهددات التي تتهدده اآلن‪ ،‬بحاجة‬
‫إىل احلامية بالقوات املرصية‪ ،‬فام هو السبب يا ترى وراء القول برضورة‬
‫إرسال فائض السكان املرصيني إليه‪ ،‬ومنذ البداية مع أفواج اجلنود!؟‬
‫املؤسف حق ًا يف حديث قنديل هذا‪ ،‬هو داللته عىل استمرارية النهج‬
‫للسلطات املرصية والن َُّخب املرصية‪ .‬أعني إمهال رأي الشعب‬ ‫القديم ُّ‬
‫السوداين والن َُّخب السودانية‪ ،‬والرتكيز عىل «االتفاق األمني» بني‬
‫احلكومتني‪ .‬لقد قاد هذا النهج امللتوي كثري ًا من السودانيني لكي يظنوا‬
‫متعمدة‪ ،‬وباستمرار‪ ،‬عىل إضعاف السودان‬ ‫ّ‬ ‫أن مرص الرسمية عملت‬
‫وإضعاف حكوماته‪ ،‬حتى هترع تلك احلكومات مضطرة إىل طلب‬
‫احلامية املرصية‪ ،‬فتو ّقع معها احلكومات املرصية من االتفاقيات ما‬
‫يمكّن مرص من إحكام قبضتها عىل السودان‪ .‬عىل أن يتم ذلك بعيدا عام‬
‫يراه أو يعتقده شعب السودان‪ .‬هذا النهج الفوقي االنتهازي املنطلق‬
‫من اإلحساس بملكية السودان تؤكده حقيقة أن م ّلف السودان يف مرص‬

‫‪ .120‬املصدر السابق‪.‬‬
‫‪ .121‬املصدر السابق‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫ظل‪ ،‬إىل اليوم‪ ،‬ملفا أمني ًا تتوىل إدارته املؤسسة األمنية املرصية‪ ،‬وليس‬
‫ملف ًا سياسي ًا تتوىل أمره وزارة اخلارجية املرصية‪ ،‬كام تتوىل ملفات غريه‬
‫من الدول!!‪.‬‬
‫الخديوية ِبن ُْت وقتها‪ ...‬فما بال المعاصرين؟‬
‫عيل القول هنا‪ ،‬إن ما قامت به مرص اخلديوية يف القرن‬ ‫لربام تعني َّ‬
‫التاسع عرش من توسع عسكري يف جوارها اجلنويب بغرض إنشاء‬
‫إمرباطورية تسيطر عىل السودان وتزحف بعده إىل منابع النيل‪ ،‬كام‬
‫تسيطر عىل الساحل الغريب للبحر األمحر حتى الصومال‪ ،‬كان فع ً‬
‫ال‬
‫منسج ًام مع واقع تلك احلقبة‪ ،‬ومع املفاهيم اجليوسياسية السائدة آنذاك‪.‬‬
‫ولذلك‪ ،‬فإنه ليس من أغراض هذه الورقة حماكمة احلقبة اخلديوية أو‬
‫النعي عليها يف نزعتها الكلونيالية التوسعية‪ ،‬خاص ًة وأن مقارب ًة من‬
‫ومعايري جديد ًة مل تنشأ إال مؤخر ًا‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫أدبيات‬ ‫هذا النوع سوف تَستخدم‬
‫َ‬
‫ولسوف خيلق ذلك إشكالية تتمثل يف تطبيق أحكام ذات طابع قيمي‬
‫معارص عىل سياق تارخيي انقىض‪ .‬لقد كانت النظرة التوسعية اخلديوية‬
‫ابنة وقتها‪ ،‬وال بدّ للناظر إليها من منظور اليوم أن يأخذ يف اعتباره جمموع‬
‫عنارص ومكونات املرحلة التي كان يمر هبا العامل آنذاك‪ .‬فالقرنان الثامن‬
‫عرش والتاسع شهدا سعار ًا أوروبي ًا غري مسبوق لبناء اإلمرباطوريات‪،‬‬
‫وقفت وراءه كل مستخلصات الثورة الصناعية يف القفزة النوعية يف‬
‫صناعة السالح‪ ،‬وتراكم واندياح رأس املال‪ .‬لذلك‪ ،‬مل يكن منتظر ًا‬
‫من مرص اخلديوية‪ ،‬بام كان هلا من قوة اقتصادية وعسكرية‪ ،‬أال تصاب‬
‫بنفس الداء الذي أصيبت به أوروبا‪ .‬فام قامت به مرص اخلديوية من‬
‫توسع عسكري يف جوارها اجلنويب مفهوم متام ًا يف إطاره الزمني‪ ،‬رغم‬
‫علته‪ .‬غري أنه يبقى من غري املفهوم إطالق ًا استمرار النظرة اخلديوية‬ ‫كل ّ‬
‫ومتدُّ دها يف احلارض‪ ،‬رصاح ًة كان ذلك أم ضمن ًا‪ .‬فاستمراريتها تك ّبل‬
‫بكل من مرص والسودان‪ ،‬وبعالقاهتام بسائر‬ ‫احلارض وتُلحق أرضار ًا مج ًة ٍّ‬

‫‪126‬‬
‫دول حوض النيل‪ .‬هذه النظرة اخلديوية الثاوية تعاين ِعل ً‬
‫ال مفاهيمي ًة‬
‫ُعب عن نفسها يف حلظتنا الكوكبية الراهنة بنفس الرعونة‬ ‫مجة حني ت ِّ‬
‫واإلحساس املطلق باالستحقاق التي َع َّبت هبا اخلديوية عن نفسها‬
‫أي نظرة مبن ّية عىل الشعور املطلق باالستحقاق‪ ،‬وعىل‬ ‫يف املايض‪ .‬إن ّ‬
‫احلقوق التارخيية التي تم اكتساهبا يف الفرتة الكلونيالية‪ ،‬غربية كانت‬
‫أم خديوية‪ ،‬سوف مت ِّثل‪ ،‬دون أدنى شك‪ ،‬عائق ًا كبري ًا لبناء مفاهيم‬
‫التكامل‪ ،‬واالعتامد املتبادل‪ ،‬والرشاكات اإلسرتاتيجية‪.‬‬
‫إهدار مزية االعتماد المتبادل‬
‫طر ْين‬‫خلقت اجلغرافيا‪ ،‬ومن بعدها التاريخ‪ ،‬من السودان ومرص ُق َ‬
‫بينهام من احلاجة إىل االعتامد املتبادل ما يندر أن جيده املرء يف غريمها‪.‬‬
‫فالسودان ُقطر شاسع جيري من جنوبه ورشقه نحو شامله معظم هنر‬
‫النيل‪ ،‬ومعظم فروعه الرئيسية‪ .‬كام يتسم السودان بتنوع مناخي‬
‫يضم الصحراوي‪ ،‬وشبه الصحراوي‪ ،‬والساڤانا الفقرية‪ ،‬والساڤانا‬
‫الغنية‪ ،‬إضاف ًة إىل مناطق جبلية خصبة مثل منطقة جبل َم َّرة التي جعل‬
‫االرتفاع من مناخها مناخ ًا مشاهب ًا ملناخ البحر األبيض املتوسط‪ .‬وقد‬
‫ف َقدَ السودان جزء ًا كبري ًا من نطاق الساڤانا الغنية‪ ،‬وكل نطاق مناخه‬
‫االستوائي بانفصال اجلنوب‪ .‬أما ساحل البحر األمحر فله مناخ ذو‬
‫أمطار شتوية خالف ًا لبقية ال ُقطر‪ .‬أيض ًا يملك السودان من األرايض‬
‫اخلصبة املسطحة الشاسعة‪ ،‬سهلة الري‪ ،‬ما ال يملكه ُقطر آخر يف‬
‫املنطقة املحيطة به‪ .‬كام يملك بحكم تنوع املناخات فيه قابلية إلنبات‬
‫طيف واس ٍع من املحاصيل الزراعية‪ .‬أيض ًا‪ ،‬بالسودان ثروة غابية وثروة‬ ‫ٍ‬
‫حيوانية كبرية‪ .‬وباإلضافة إىل األمطار وواردات مياه النيل يملك‬
‫ال من املياه‪ .‬أيض ًا يملك السودان ثروات‬ ‫السودان خمزون ًا جوفي ًا هائ ً‬
‫معدنية تتزايد الكشوف يف جماهلا كل يوم‪ .‬أما مرص فهي صحراء‪،‬‬
‫ولوال النيل والرشيط اخلصب الضيق املوازي له‪ ،‬ملا كانت مرص مكان ًا‬

‫‪127‬‬
‫مسكون ًا‪ ،‬وهذا ما من أجله ُس ِّميت «هبة النيل»‪ .‬ويف حني ّ‬
‫يتوزع سكان‬
‫السودان قلييل العدد مقارنة بمساحته‪ ،‬عىل مناطق شاسعة من أرضه‪،‬‬
‫فإننا نجد أن سكان مرص بالغي الكثرة منحرصين يف الرشيط النييل‬
‫الضيق‪ ،‬ويف منطقة الدلتا الصغرية ذات االنفراج املساحي النسبي‪.‬‬
‫ولكن بالرغم من غنى السودان باملوارد الطبيعية وفقر مرص النسبي من‬
‫املوارد الطبيعية‪ ،‬فإن التاريخ قد دفع بمرص يف مضامر النمو االقتصادي‬
‫واالجتامعي عرب األلف ومخسامئة سنة األخرية بأكثر بكثري مما دفع به‬
‫طرين شهدا يف ما قبل ذلك مد ًا حضاري ًا‬ ‫السودان‪ .‬أقول هذا ألن ال ُق َ‬
‫كبري ًا‪ .‬فقد عاشت احلضارة الكوشية (‪ 3000‬ق م – ‪ 400‬م) يف اجلزء‬
‫األوسط من وادي النيل «شامل السودان» وعارصت احلقبة الفرعونية‬
‫واستمرت بعد هنايتها‪ .‬غري أن املد احلضاري العام يف‬
‫ّ‬ ‫منذ بدايتها تقريب ًا‬
‫مرص اتصل يف حني انقطع يف السودان‪ ،‬كام سبقت اإلشارة‪ .‬إذ دخل‬
‫مروي الكوشية يف القرن الرابع امليالدي‪،‬‬ ‫السودان‪ ،‬عقب سقوط دولة َ‬
‫ٍ‬
‫حضارية طويلة‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫غفوة‬ ‫يف‬
‫نمت مرص تارخيي ًا بأكثر مما نام السودان‪ ،‬يف معنى اإلنجازات‬
‫العينية للحضارة‪ .‬تَشكّل يف مرص نمط حياة حديث آيتاه االستقرار‬
‫واالشتغال بالنشاط الزراعي والصناعي‪ ،‬إضافة إىل رسوخ نمط الدولة‬
‫احلديثة وموت االنتامء الق َبيل‪ .‬أما السودان فال تزال الق َبلية تسيطر عليه‪،‬‬
‫كبري من سكانه رعا ًة متجولني‪ ،‬كام ال تزال الصناعة فيه‬ ‫قطاع ٌ‬
‫ٌ‬ ‫وال زال‬
‫متعثرة اخلطى‪ .‬حافظت الدولة املرصية عىل متاسكها وحافظت احلياة‬
‫املرصية احلرضية والريفية عرب احلقب عىل إيقاع موزون إىل حدّ كبري‪.‬‬
‫جتاوزت مرص‪ ،‬إىل حدّ مقبول‪ ،‬اإلشكاليات اهليكيلة للبنية التحتية‬
‫احلديثة‪ ،‬يف حني ظلت البنيات التحتية يف السودان ضعيفة بشكل‬
‫ملحوظ‪ .‬عجز السودان أن يوصل حياته املدينية والريفية إىل مرحلة‬
‫السري بإيقاع منتظم‪ .‬الشاهد‪ ،‬أن اجلغرافيا والتاريخ جعال من كل من‬

‫‪128‬‬
‫كمل أحدُ مها بغري اآلخر‪ .‬غري أن هذه‬ ‫طرين ال َي ُ‬‫مرص والسودان ُق َ‬
‫املزية الرائعة املتمثلة يف احلاجة امللجئة إىل االعتامد املتبادل مل تُفهم يف‬
‫إطارها احلضاري الصحيح‪ ،‬ومل تتم ترمجتها إىل سياسات إسرتاتيجية‬
‫يف رشاكة طويلة املدى‪ ،‬طويلة الن َفس‪ .‬وإنام جرى فهمها وص ّبها من‬
‫الناحية العملية يف الوجهات الضيقة املترسعة‪ .‬فالسودان الشاميل‬
‫ٍ‬
‫وحتمية لنهج‬ ‫ٍ‬
‫طبيعية‬ ‫ٍ‬
‫كنتيجة‬ ‫لن َيسقط بالرضورة يف الس ّلة املرصية‪،‬‬
‫االنتظار والرتقب الذي مارسته وال تزال متارسه بعض الن َُّخب املوجهة‬
‫للسياسات يف مرص‪ .‬والسبب يف ذلك يكمن يف أن السودان يمتاز‬
‫بتشكيلته الثقافية واالجتامعية شديدة التنوع ذات االمتداد يف اجلوار يف‬
‫ال للتكامل مع‬‫كل االجتاهات‪ .‬هذه امليزات النادرة جعلت منه ُقطر ًا قاب ً‬
‫كل من جريانه يف إرترييا وإثيوبيا يف الرشق وتشاد يف الغرب‪،‬‬ ‫أي أو ٍّ‬‫ٍّ‬
‫ال للتكامل مع مرص يف الشامل‪ .‬ولو‬ ‫بنفس القدر الذي جعلته به قاب ً‬
‫حدث أن أن اجتذب اجلوار السوداين الرشقي والغريب واجلنويب أقاليم‬
‫السودان الغربية والرشقية واجلنوبية‪ ،‬كام توقع هيكل‪ ،‬وربام كام متنى‪،‬‬
‫فلن يكون يف وسع مرص‪ ،‬مهام فعلت‪ ،‬أن حتتفظ باجلزء الشاميل النييل‬
‫منه لنفسها‪ .‬ولسوف تنشأ من ذلك الوضع اجلديد من املهددات األمنية‬
‫ملرص‪ ،‬ما مل يسبق هلا أن واجهته يف تارخيها الطويل‪.‬‬
‫تبدُّل النظرة المصرية تجاه الجوار الجنوبي‬
‫سادت أرض مرص احلالية احلضارة الفرعونية يف الفرتة من ‪ 3000‬ق‬
‫م إىل ‪ 30‬ق م‪ .‬وشهدت أرايض شامل ووسط مجهورية السودان احلالية‬
‫حضارة كوش يف الفرتة من ‪ 2500‬ق م إىل ‪ 370‬م‪ .‬كام شهدت أرايض‬
‫إثيوبيا احلالية حضارة أكسوم من ‪ 100‬ق م إىل ‪1900‬م‪ .‬هذه احلضارات‬
‫الثالث التي استمرت آالف السنني هي أعرق حضارات إفريقيا‪،‬‬
‫بل هي من أعرق حضارات العامل القديم قاطبة‪ ،‬خاصة الفرعونية‬
‫املرصية‪ ،‬والكوشية السودانية‪ .‬ويميز هذه احلضارات الثالث أن‬

‫‪129‬‬
‫آثارها العينية كانت‪ ،‬وال تزال‪ ،‬من أكثر اآلثار العينية صمود ًا يف وجه‬
‫عوادي الزمن‪ .‬هذه األقطار الثالثة‪( ،‬مرص والسودان وإثيوبيا)‪ ،‬قامت‬
‫عريق وضخم‪ ،‬ويمكن القول بنا ًء عىل ذلك‪ ،‬إن‬ ‫ٍ‬ ‫إرث حضاري‬ ‫فوق ٍ‬
‫إنسان هذه األقطار الثالثة‪ ،‬يملك رأسامالً حضاري ًا كبري ًا‪ .‬وهو رأسامل‬
‫ُ‬
‫اإلنسان‪،‬‬ ‫قابل للتفعيل‪ ،‬متى ما هتيأت له الظروف‪ ،‬ومتى ما أعاد هذا‬ ‫ً‬
‫َ‬
‫اإلمساك بزمام املبادرة‬ ‫الوارث لكثري من الفضائل التارخيية املرتاكمة‪،‬‬
‫ٍ‬
‫احلضارية‪ ،‬مرة أخرى‪ .‬فام يصيب الذات اإلنسانية من إرث حضاري‬
‫ال يذهب أدراج الرياح‪ ،‬حتى يف أحلك فرتات الرتاجع‪ ،‬وإنام يكمن‬
‫كمون النار يف احلجر‪ .‬فاملد احلضاري العايل يرتك آثاره املمتدة يف نفس‬
‫ووجدان اإلنسان الذي سبق أن صنع أسالفه ذلك املد‪ .‬وكثري ًا ما تبقى‬
‫ٍ‬
‫كمون‪ ،‬تتحني‬ ‫طاقة الدفع احلضاري يف ورثة احلضارات الكبرية يف حالة‬
‫احلني لالنطالق مرة أخرى‪ .‬وإين لشديد اليقني إن إنسان احلضارات‬
‫القديمة هو الذي سينقذ احلضارة الكوكبية الراهنة من ورطتها الكبرية‬
‫املاثلة‪.‬‬
‫ضاعت حقيقة اإلرث التارخيي الضخم لكل من السودان وإثيوبيا‬
‫يف حقبة الرتاجع احلضاري التي اعرتت اهلضبة احلبشية يف إثيوبيا‬
‫احلالية‪ ،‬مثلام اعرتت قبلها احلضارة الكوشية يف القطاع األوسط من‬
‫وادي النيل يف مجهورية السودان احلالية‪ .‬أما مرص فقد كان وضعها‬
‫خمتلف ًا‪ ،‬إذ أسهم وجودها يف حوض املتوسط‪ ،‬واتصاهلا الوثيق بأوروبا‬
‫ٍ‬
‫مستمرة من الثبات‬ ‫ٍ‬
‫حالة شبه‬ ‫وبمنطقة الرشق األوسط‪ ،‬يف بقائها يف‬
‫احلضاري النسبي‪ .‬يضاف إىل ذلك ما لعبته أمهيتها اجليوسرتاتيجية‬
‫البالغة يف العامل القديم‪ ،‬التي جعلت منها بؤر ًة جاذب ًة للغزاة من خمتلف‬
‫كل من السودان وإثيوبيا من جهة‪،‬‬ ‫اجلهات‪ .‬مخود األوار احلضاري يف ٍّ‬
‫قدر من االشتعال يف مرص عن طريق األقباس اخلارجية‪،‬‬ ‫وبقاؤه عىل ٍ‬
‫جديدة يف العالقة بني مرص‪ ،‬وبني جوارها اجلنويب‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫تعقيدات‬ ‫خلق‬

‫‪130‬‬
‫كل من السودان‪ ،‬وإثيوبيا‪ ،‬وإرترييا‪ ،‬وجيبويت‪ ،‬والصومال‪.‬‬ ‫املتمثل يف ٍّ‬
‫ففي الوقت الذي دخل فيه وادي النيل األوسط واهلضبة احلبشية يف‬
‫حضاري‪ ،‬بعد خروجهام تباع ًا من موقع البث‬ ‫شتوي‬ ‫ٍ‬
‫بيات‬ ‫حالة‬
‫ٍّ‬ ‫ٍّ‬
‫ٍ‬
‫بقبس من‬ ‫احلضاري‪ ،‬إىل حالة العزلة احلضارية‪ ،‬ظلت مرص حمتفظ ًة‬
‫اإلشعاع احلضاري‪ .‬فمرص‪ ،‬خالف ًا للسودان واهلضبة احلبشية‪ ،‬ظلت‬
‫ٍ‬
‫بعبارة أخرى‪،‬‬ ‫ال ختلع جلباب ًا حضاري ًا‪ ،‬إال لتلبس جلباب ًا حضاري ًا آخر‪.‬‬
‫مل متر مرص بحالة ال ُع ْري احلضاري التي مر هبا كل من السودان وإثيوبيا‬
‫عقب اهنيار حضارة كوش السودانية‪ ،‬وعزلة حضارة أكسوم احلبشية‬
‫حماط باملهددات‪ ،‬إضافة‬ ‫ٍ‬ ‫التي فرضتها عليها وضعيتها اخلاصة‪ ،‬ككيان‬
‫إىل نشوئه يف منطقة جبلية شديدة الوعورة‪ .‬هذه الوضعية التي أحدثت‬
‫تباين ًا يف النمو احلضاري بني مرص وجوارها اجلنويب‪ ،‬متثل يف نظري‬
‫بعض ًا من تفسري النظرة الدونية يف مرص جتاه جوارها اجلنويب التي هي‬
‫يف تقديري‪ ،‬نظر ٌة حديثة العهد استعارهتا مرص من مؤثرات خارجية‪.‬‬
‫ففي احلقب التي كانت مرص تقتات فيها من زادها احلضاري اخلاص‬
‫ٍ‬
‫عميقة ووثيقة‬ ‫ٍ‬
‫معرفة‬ ‫صلة وثيقة بجوارها اجلنويب‪ ،‬وعىل‬ ‫هبا‪ ،‬ظلت عىل ٍ‬
‫به‪ .‬ولكن حني تم التأثري عليها متوسطي ًا وغربي ًا‪ ،‬لبست مرص خمتلفة‬
‫اجلالبيب املتوسطية والغربية‪ .‬وهذا هو ما جعلها تنفصل هون ًا ما عن‬
‫حميطها التارخيي وتدير ظهرها جلوارها اجلنويب الذي ظلت‪ ،‬حني كانت‬
‫عضوية به‪ ،‬وآلالف‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫صلة‬ ‫ناعمة بشخصيتها التارخيية األصيلة‪ ،‬عىل‬
‫السنني‪.‬‬
‫االختيال في الجلباب األجنبي‬
‫االختيال اخلديوي املرصي باجللباب األجنبي‪ ،‬بلحمته املتوسطية‬
‫العثامنية الرتكية وسداه الغريب‪ ،‬وبكل سامته املتجاهلة حلقائق التاريخ‬
‫الثابتة املتمثلة يف االرتباط العضوي ملرص بجوارها اجلنويب‪ ،‬هو الذي‬
‫كبري‪ ،‬مثل حممد حسنني هيكل أن يقول بعدم وجود‬ ‫لكاتب ٍ‬
‫ٍ‬ ‫خول‬‫ّ‬

‫‪131‬‬
‫مقومات أص ً‬
‫ال لبقاء السودان‪ .‬ال وال حتى اجلزء الشاميل الذي بقي منه‬
‫بعد انفصال اجلنوب! فقبل ثالث سنوات من انفصال اجلنوب حتدث‬
‫هيكل عن أن تش ّظي السودان أمر حتمي‪ .‬جرى ذلك يف ندوة ُعقدت‬
‫بنادي القضاة يف القاهرة‪ ،‬يف مايو ‪2008‬م‪ .‬أورد حمرر جريدة الدستور‬
‫يف عدد ‪ 29‬مايو ‪ ،2008‬تغطي ًة ملا قاله هيكل يف تلك الندوة‪ ،‬جاء فيها‬
‫مج َعته‬
‫إن السودان غري قابل للبقاء كام هو عليه اآلن‪ .‬فهو كيان جغرايف َ‬
‫الفتوحات التي جرت يف عهد حممد عيل باشا واخلديو إسامعيل‪ .‬فهو‬
‫يف األصل شتات من مكونات ال رابط بينها‪ .‬وقسم هيكل السودان‬
‫إىل أربع مناطق‪ ،‬شامله وجنوبه ورشقه وغربه‪ .‬وقال إن مرص كانت‬
‫تلعب دور ًا يف الشامل‪ .‬أما اجلنوب فسيجذبه الرشق اإلفريقي‪ ،‬ورشق‬
‫السودان ستجذبه إثيوبيا‪ ،‬والغرب ستجذبه تشاد‪ .‬وقال إن مشاكل‬
‫السودان لن ُتل بالطريقة القائمة‪ .‬فبعض املشاكل السياسية التي يطول‬
‫عمرها ال جيدي معها يف النهاية إال اجلراحة‪ .122‬حتدث هيكل حول‬
‫مصري السودان عىل هذا النحو اخلايل من أية عاطفة‪.‬‬
‫غري أن السودان ليس كام ّقرر هو‪ .‬السودان ليس كيان ًا ال رابط له‪،‬‬
‫وال هو جمرد كشكول من عنارص مجعها الفتح اخلديوي يف القرن التاسع‬
‫عرش‪ .‬السودان هو مهد احلضارة الكوشية التي حكمت وادي النيل‬
‫األوسط لثالث آالف سنة متصلة‪ .‬أكثر من ذلك‪ ،‬حكمت تلك احلضارة‬
‫الكوشية مرص نفسها‪ ،‬كام سلفت اإلشارة‪ .‬فالقول بأن السودان كيان مل‬
‫يكن له وجود متجانس قبل فتوحات حممد عيل باشا واخلديو إسامعيل‪،‬‬
‫قول ليس له من شواهد التاريخ ما يسنده‪ .‬ولو تركنا التاريخ البعيد‬
‫جانب ًا‪ ،‬ونظرنا إىل سلطنة الفونج اإلسالمية السودانية (‪1821- 1504‬م)‬
‫التي قىض عليها الفتح الرتكي املرصي يف العام ‪1821‬م لوجدنا أن هذه‬
‫السلطنة كانت حتكم شامل مجهورية السودان احلالية ووسطها وغرهبا‬

‫‪ .122‬املصدر السابق‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫حتى كردفان‪ ،‬ورشقها حتى احلدود اإلثيوبية‪ .‬وال مراء بطبيعة احلال‬
‫يف أن الغزو اخلديوي أضاف إىل السودان دارفور‪ ،‬وقد تم ذلك عىل‬
‫يد قائد سوداين هو الزبري باشا رمحة‪ .‬وضم املغامرون األوروبيون‬
‫الذين استأجرهتم اخلديوية‪ ،‬إىل مرص‪ ،‬املنطقة اجلغرافية التي حتتلها اآلن‬
‫ضمها القائد السوداين‬
‫مجهورية جنوب السودان احلالية‪ .‬ودارفور التي ّ‬
‫الزبري باشا للحكم اخلديوي‪ ،‬مل تكن ختتلف كثري ًا يف تكوينها الثقايف عن‬
‫سلطنة الفونج يف سنار يف السودان األوسط‪ .‬فالغزو اخلديوي مل خيلق‬
‫السودان من عدم عن طريق جتميع كيانات مل يكن بينها رابط أصالً‪.‬‬
‫هيكل ومن يامثلونه من اإلنتلجنسيا املرصية املست َلبة خديوي ًا‬
‫يروجون‪ ،‬عىل الدوام‪ ،‬أن السودان ال وجود له‪ ،‬وإنام هو‬ ‫وغربي ًا‪ ،‬ظلوا ِّ‬
‫كيان صنَعته مرص صناعة‪ .‬لقد ظلت بعض الن َُّخب املرصية‪ ،‬ومن بينهم‬ ‫ٌ‬
‫األستاذ حممد حسنني هيكل‪ ،‬تؤكد‪ ،‬وباستمرار‪ ،‬عىل هشاشة القطر‬
‫السوداين‪ ،‬وعدم وجود مقومات فيه للبقاء متامسك ًا‪ .‬ويرى بعض‬
‫السودانيني أن ما يقف وراء ذلك ليس اجلهل بالتاريخ‪ ،‬وإنام االستالب‬
‫الثقايف األورويب الرشق أوسطي‪ ،‬مضاف ًا إليه الغرض يف أن يقع اجلزء‬
‫الشاميل من السودان يف حوزة مرص‪ ،‬عن طريق ثقله الذايت‪ ،‬دون أن تبذل‬
‫مرص فيه أي جهد‪ .‬ويمثل هذا النوع من اختاذ موقف املتفرج السلبي‬
‫الذي حي ّيد نفسه ويرقب حلظة سقوط التفاحة‪ ،‬رضب ًا من رضوب‬
‫ما يسمى يف األدبيات الغربية بـ «النبوءة التي تتحقق ذاتي ًا» ‪self-‬‬
‫‪ .fulfilled prophecy‬ولو أخذنا برؤية هيكل التي ترى يف التباين‬
‫والع ْرقي أساس ًا جوهري ًا للتقسيم والتشظي‪ ،‬فام الذي جيعل‬‫ِ‬ ‫الثقايف‬
‫ُقطر ًا مثل الواليات املتحدة ُقطر ًا متامسك ًا‪ ،‬وهو ال ُقطر الذي جتمعت‬
‫فوق أرضه كل شعوب األرض‪ ،‬بال استثناء‪ ،‬عرب املائتي سنة ونيف‬
‫األخرية؟! ثم أليست مرص نفسها مكون ًة من كيانات ثقافية ِ‬
‫وع ْرقية‬ ‫ُ‬
‫خمتلفة كالعرب والنوبة واألقباط والبجا واألتراك وغريهم من ذوي‬

‫‪133‬‬
‫متاسك الدولة ال ينبني عىل‬‫إن ُ‬ ‫األصول املتوسطية واألوروبية املختلفة؟ ّ‬
‫توحيدها ثقافي ًا‪ ،‬وإنام عىل ترسيخ مفهوم املوا َطنة احلقة فيها‪ ،‬والنظر إىل‬
‫التنوع كميزة وليس كع ّلة‪ .‬وأعني بمفهوم املوا َطنة هنا‪ ،‬املفهوم العابر‬
‫حلواجز العنرص‪ ،‬واللون‪ ،‬والدين‪ ،‬واللغة‪ ،‬القادر عىل حتقيق االستقرار‬
‫األمني والسيايس‪ ،‬وعىل هتيئة املناخ األمثل للتنمية العادلة املستدامة‪،‬‬
‫يقوي اإلحساس باملواطنة وباالنتامء القومي لدى اجلميع‪.‬‬ ‫وإنجاز ما ّ‬
‫خالصة‬
‫شك أن االرتباط العضوي القائم عىل الرشاكة املبن ّية عىل‬ ‫ما من ّ‬
‫فهم اخلصوصية التي يتّسم هبا السودان بوصفه ُقطر ًا متعدّ د األعراق‪،‬‬
‫رضوري جد ًا ملستقبل‬
‫ٌّ‬ ‫متعدّ د اللغات‪ ،‬متعدّ د األديان‪ ،‬متعدّ د الثقافات‪،‬‬
‫مسلمي مرص وأقباطها عالقة‬ ‫ِ‬ ‫كل من السودان ومرص‪ .‬فالعالقة بني‬
‫املكون القبطي‬‫متوترة‪ .‬فمامرسات التضييق عىل بناء الكنائس وتغييب ّ‬
‫يدلن أبلغ داللة عىل حماولة املؤسسة املرصية‬ ‫يف بنية احلياة املرصية ّ‬
‫احلاكمة إنكار التنوع الديني يف مرص‪ .‬وبطبيعة احلال فإن الدعوة إىل‬
‫االعرتاف بالتنوع الثقايف ال يتوجه إىل املؤسسة املرصية احلاكمة والن َُّخب‬
‫التي تقف وراء سياساهتا‪ ،‬وإنام يتوجه أيض ًا‪ ،‬وبقدر أكرب‪ ،‬إىل احلكومة‬
‫طر‬‫السودانية‪ ،‬والن َُّخب السودانية التي ظلت ال ترى يف السودان سوى ُق ٍ‬
‫عريب إسالمي‪ ،‬وحسب‪ .‬هذا التفكري العريب اإلسالمي التبسيطي ِ‬
‫املنكر‬
‫لطبيعة السودان الثقافية املركبة‪ ،‬املتجاهل لرضورة اإلنجاز التنموي‪،‬‬
‫وحتقيق العدالة االجتامعية‪ ،‬هو الذي قاد إىل انفصال جنوب السودان‬
‫عن شامله‪ ،‬وهو نفسه ما يمكن أن يقود إىل انفصال أجزاء أخرى منه‪.‬‬
‫وهو الذي ربام قاد مرص نفسها إىل أن تدخل يف دائرة خماطر التشظي‬
‫واهلم‬
‫ّ‬ ‫اهلم العريب بشكل عام‪،‬‬ ‫الذي سبقها إليها السودان‪ .‬لقد انحرص ّ‬
‫املرصي بشكل خاص‪ ،‬يف استتباع السودان فكري ًا وثقافي ًا وسياسي ًا‪.‬‬
‫متت االستعاضة عن التنمية االقتصادية والتنمية السياسية بالعمل يف‬

‫‪134‬‬
‫حتقيق التحول الديمقراطي‪ ،‬والتنمية االجتامعية برفع مستوى حياة‬
‫املواطنني بإزالة الفروق بينهم بجهود «العربنة واألسلمة»‪ ،‬وهذا حمض‬
‫هالم ال يسمن وال يغني من جوع‪ .‬أيض ًا اجتهت بعض فورات التعصب‬
‫الديني العريب اإلسالمي إىل حماولة اقتالع املسيحية هنائي ًا من اهلضبة‬
‫ٍ‬
‫قريب‬ ‫احلبشية‪ !123‬وظلت تلك املحاوالت جتد متجيد ًا‪ ،‬حتى وقت‬
‫جد ًا‪ ،‬انطالق ًا من دوافع التعصب الدين‪ ،‬ومن حماوالت «شيطنة»‬
‫معتقد اآلخر املختلف ‪.124‬‬
‫حرص عىل تغيري واجهات األقطار ذات الرتكيب اإلثني‬ ‫ٌ‬ ‫هناك‬
‫والديني املع ّقد بإلصاق البطاقات من شاكلة «عربية» و»إسالمية»‬
‫عليها‪ ،‬بال التفات إىل حمتوى ما يعني ذلك حقيقة يف حياة الناس اليومية‪.‬‬
‫يتجسد يف حياة الناس يف ما يتعلق بحرياهتم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أعني املردود الذي‬
‫وكرامتهم اإلنسانية‪ ،‬وأمنهم االقتصادي واالجتامعي‪ ،‬وحتسني حياهتم‬
‫اليومية‪ .‬أين العمل يف جماالت التنمية وزيادة املصالح املتبادلة واالعتامد‬
‫املتبادل الذي جيعل الشعوب املستهدفة هبذا النوع من االستتباع الشكيل‬
‫حريص ًة عىل البقاء ضمن املنظومة العربية؟ علينا أن نشري هنا إىل أن‬
‫مرص التي ا ّدعت عرب احلقبة اخلديوية «ملكية السودان»‪ ،‬مل تعمل‬
‫يعب عن تلك الوحدة العضوية‪ .‬غرقت مرص يف‬ ‫شيئ ًا واحد ًا ملموس ًا ّ‬
‫تشكيل العالقة مع السودان عن طريق تدبيج لغة اخلطاب اإلعالمي‪،‬‬
‫وعن طريق إرسال األئمة والوعاظ‪ ،‬وحرش كل ما يمكن أن يمحق‬
‫ذاتية السودان يف مناهج التعليم‪ ،‬ونسيت متام ًا أن السودان ال يربطه‪،‬‬
‫إىل اليوم بمرص طريق ّبري واحد! وأن السكك احلديدية السودانية‬
‫ال لنقل اجلنود والعتاد يف محلة استعادة السودان‬ ‫التي ُأنشئت أص ً‬

‫‪ .123‬انظر كتاب‪ :‬تحفة الزمان‪ :‬أو فتوح الحبشة‪ ،‬لشهاب الدين أحمد الجيزاين املعروف بـ «عرب فقيه»‪.‬‬
‫(القاهرة‪ :‬الهيئة املرصية العامة للكتاب‪1974 ،‬م)‪.‬‬
‫‪ .124‬انظر كتاب‪ :‬اإلسالم والحبشة‪ ،‬لفتحي غيث‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار النهضة املرصية‪.).1967 ،‬‬

‫‪135‬‬
‫اإلنجليزية املرصية‪ ،‬يف العام ‪1898‬م‪ ،‬مل يتم ربطها‪ ،‬إىل اليوم‪ ،‬باخلط‬
‫احلديدي املرصي‪ .‬فرغم التقارب اجلغرايف واحلدود املشرتكة بني مرص‬
‫والسودان‪ ،‬والتاريخ املتداخل‪ ،‬واملساكنة املتداخلة واملصاهرة‪ ،‬فإن‬
‫مرص والسودان من أبعد الدول العربية جغرافي ًا عن بعضهام بعض ًا! بل‬
‫ال من إثيوبيا وإريرتيا سبقتا مرص يف ربط نفسيهام بالسودان بطرق‬ ‫إن ُك ً‬
‫ّبرية! أشدّ وأنكى من كل ذلك‪ ،‬أن املسؤولني املرصيني والسودانيني‬
‫انتظروا منذ الفتح اخلديوي يف ‪1821‬م‪ ،‬لكي يعلنوا علينا يف أكتوبر‬
‫‪ ،2011‬أن حجم التجارة بني البلدين مل يتعد إىل اليوم ‪ 500‬مليون‬
‫نفسه؟! تم إغراق اجلامهري‬ ‫دوالر!! ‪ .‬كيف نفهم كل هذا‪ ،‬وكيف ّ‬
‫‪125‬‬

‫طرين‪ ،‬ومن بعدمها العامل العريب بر ّمته‪ ،‬يف بحر من لغة اخلطاب‬ ‫يف ال ُق َ‬
‫املرة وهي أن‬ ‫اجلوفاء املتغنّية بوحدة وادي النيل‪ ،‬وتم تغييب احلقيقة ّ‬
‫ال يشء ملموس ًا قد تم إنجازه عىل أرض الواقع‪ .‬أعني أي يشء جيعل‬
‫طرين يشعران أن ارتباطهام ببعضهام بعض ًا يعني هلام شيئ ًا‬ ‫شع َب ْي ال ُق َ‬
‫يستحق الوقوف عنده‪ .‬يقول عبد اإلله بلقزيز‪:‬‬
‫إننا نناضل من أجل هذه الوحدة العربية ليس ألن‬
‫هو ّيتنا عربية وألن اللغة والثقافة والتاريخ جتمعنا‪ ،‬وإنام ألن‬
‫املصلحة احلارضة وحتديات املصري املستقبلية تفرض علينا‬
‫خيار الوحدة‪ ...‬عىل الفكر القومي العريب أن يقطع ‪ -‬منذ‬
‫اآلن‪ -‬مع عقيدة إيديولوجية تقليدية تقول إن حاجتنا إىل‬
‫الوحدة العربية مستمدة من كوننا عرب ًا جتمعنا إىل بعضنا‬
‫البعض هوية واحدة صنعها التاريخ وصنعتها جوامع اللغة‬
‫والثقافة واحلضارة والدين‪.126‬‬

‫‪ .125‬ترصيحات فائزة أبو النجاء وزيرة التعاون الدويل والتخطيط املتحدثة باسم الحكومة املرصية‪ ،‬يف‬
‫االجتامع مع عيل عثامن محمد طه‪ ،‬نائب الرئيس السوداين يف القاهرة‪ .‬األهرام املسايئ‪ 13 ،‬اكتوبر ‪،2011‬‬
‫السنة ‪ 21‬العدد ‪.7473‬‬
‫‪ .126‬عبد اإلله بلقيز‪ ،‬نقد الخطاب القومي‪( ،‬بريوت‪ :‬مركز دراسات الوحدة العربية‪2010 ،‬م)‪ ،‬ص ‪.128‬‬

‫‪136‬‬
‫نحن بحاجة إىل ثورة مفاهيمية تتم موضعتها يف اإلطار الكيل‬
‫ملرشوع عريب إفريقي هنضوي‪ .‬كام نحن بحاجة إىل مراجعة ركام‬
‫األكاذيب السياسية والدعاية السياسية التي مألت رفوف األكاديميا‪،‬‬
‫وسيطرت عىل لغة اخلطاب اإلعالمي وحشت مناهج التعليم باللغو‬
‫الطنان‪ ،‬وأ ّدت إىل حالة مفزعة من تغييب العقول‪ .‬ولوال ثورات الربيع‬
‫العريب‪ ،‬التي ال تزال يف مهدها‪ ،‬وال ندري إىل أين سينتهي هبا املسار‪،‬‬
‫ولوال العقول الشابة الطازجة التي أشعلت هذه الثورات‪ ،‬وأظهرت‬
‫من استقاللية الرؤية‪ ،‬واالنفالت من قبضة القديم‪ ،‬ل َي ِئس املرء من‬
‫إمكانية صالح األحوال يف هذا الفضاء العريب اإلسالمي الشاسع‪.‬‬
‫عقليات‬
‫ٌ‬ ‫لقد سادت عامل السياسة‪ ،‬خاصة يف الدول العربية العريقة‪،‬‬
‫كبري إىل مفاهيم القرن التاسع عرش‪ .‬ولقد كانت‬ ‫قديمة‪ ،‬تنتمي إىل حدٍّ ٍ‬
‫حماولتي يف هذه الورقة أن أد ّلل عىل أن العالقة بني مرص والسودان‬
‫تغي من نسق‬‫حتكمت فيها هذه النوعية من العقليات التي عجزت أن ّ‬
‫ّ‬
‫املتجذر يف احلقبة اخلديوية‪ .‬أما عقليات الن َُّخب التي أدارت‬ ‫رؤيتها‬
‫شؤون السودان يف احلقبة التي تلت احلقبة الكلونيالية منذ استقالل‬
‫السودان يف العام ‪ ،1956‬فإهنا أسوأ بكثري من عقليات الن َُّخب املرصية‪.‬‬
‫عقول الن َُّخب السودانية‪ ،‬عرب مسرية الرتاجع السودانية‬‫ُ‬ ‫لقد قادت‬
‫السوداين من الوحدة الوطنية التي حتققت‪ ،‬عىل‬‫ّ‬ ‫املضطردة‪ ،‬ال ُق َ‬
‫طر‬
‫علهتا‪ ،‬إىل جحر الق َبلية الضيق اخلرب‪ ،‬وكفى بذلك شهيد ًا عىل فداحة‬ ‫ّ‬
‫املصاب‪ .‬باختصار‪ ،‬لكي يتم ضم أطراف العامل العريب املختلفة وجواره‬
‫الذي ارتبط به تارخيي ًا‪ ،‬ال بدّ من إنتاج خطاب عريب إسالمي جديد‪،‬‬
‫أسس أخالقية جديدة لعالقة‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫جديد للمثقفية احلقة‪ ،‬وإعالء‬ ‫ٍ‬
‫وتعريف‬
‫الن َُّخب العربية ُّ‬
‫بالسلطة‪.‬‬

‫‪137‬‬
‫تذييل‬
‫هذا التذييل ليس جزء ًا من الورقة األصلية التي كُتبت يف عام‬
‫‪ ،2012‬وإنام كُتب عقب حالة التوتر التي اعرتت العالقات السودانية‬
‫املرصية‪ ،‬يف مارس وأبريل ‪ .2017‬لقد ظلت العالقة السودانية املرصية‬
‫عالقة ملتبسة منذ أن بدأت احلركة الوطنية السودانية يف ثالثينات‬
‫القرن املايض‪ .‬كانت مرص تطمع يف أن يظل السودان جزء ًا من‬
‫حتولت القوى‬ ‫اململكة املرصية‪ ،‬كام أوضحت يف هذه الورقة‪ .‬وحني ّ‬
‫كل من‬ ‫السياسية السودانية بأكملها يف وجهة االستقالل الكامل عن ّ‬
‫منحى جديد ًا‪ ،‬وهو منحى‬ ‫ً‬ ‫مرص وبريطانيا‪ ،‬أخذت السياسة املرصية‬
‫االخرتاق من الداخل عن طريق االستتباع العقيل للن َُّخب‪.‬‬
‫تتلخص مشكلة السودان يف عالقته بمرص يف االنكسار العقيل‬ ‫ّ‬
‫ُخبه أمام اهليمنة الثقافية املرصية‪ .‬لقد انفتحت عقول طالئع‬ ‫لكثري من ن َ‬
‫املتعلمني السودانيني عىل الثقافة العربية احلديثة عىل أيدي املعلمني‬
‫املرصيني يف كلية غردون التذكارية يف العقود األربع األوىل من القرن‬
‫العرشين‪ .‬كام أن املؤسسة الدينية الرسمية السودانية التي أنشأها حممد‬
‫لسلطته يف السودان‪ ،‬وورثها منه الربيطانيون‪،‬‬ ‫عيل باشا‪ ،‬لتصبح ذراع ًا ُ‬
‫وساروا هبا عىل ذات الدرب الذي اخت ّطه هلا حممد عيل باشا‪ ،‬أسهمت‬
‫بقدر وافر يف استعامر عقول السودانيني‪ .‬فقد اقتلعتهم من تراثهم‬
‫السنّية‪،‬‬
‫سوداين الطابع‪ ،‬وأحلقتهم باملؤسسة ُّ‬
‫ّ‬ ‫الصويف‪ ،‬ونمط إسالمهم‬
‫يف صيغتها األزهرية العثامنية املتزمتة املق ِّيدة للعقل‪ .‬فالفقه املدريس‬
‫واألدب العريب وفق املنهج املرصي‪ ،‬هو ما شكَّل عقول طالئع‬
‫املتعلمني‪.‬‬
‫ارتبطت الثقافة يف عقول طالئع املتعلمني السودانيني باألدب وليس‬
‫بالفكر‪ .‬فاملثقف‪ ،‬يف نظرهم‪ ،‬هو كاتب املقالة األدبية‪ ،‬وهو قارض‬

‫‪138‬‬
‫الشعر‪ .‬وال غرابة‪ ،‬أن حاول كل طالئع متع ّلمينا قرض الشعر واحلرص‬
‫عىل اعتالء املنابر يف املناسبات املختلفة إللقاء الشعر‪ .‬فصورة املثقف‬
‫التي ارتسمت يف عقول طالئع املتعلمني هي صورة األديب‪ ،‬خاصة‬
‫الشاعر‪ ،‬وليست صورة املفكر والسيايس‪ ،‬واملخطط اإلسرتاتيجي‪،‬‬
‫والقائد‪ ،‬صاحب العقلية النقدية والرؤية التي حتتاجها دولة ناهضة‪،‬‬
‫لتوها من القبضة االستعامرية‪.‬‬ ‫خرجت ّ‬
‫عىل سبيل املثال‪ ،‬كان رئيس الوزراء األسبق‪ ،‬حممد أمحد حمجوب‬
‫يقدِّ م نفسه للعرب‪ ،‬حني جيتمع هبم يف صوالينهم‪ ،‬بوصفه الشاعر‬
‫السوداين‪ ،‬وليس بوصفه رئيس وزراء السودان! فهو‪ ،‬يف ما يبدو‪ ،‬يعتقد‬
‫أن الصفة األوىل متنحه هالة أكرب‪ ،‬مما متنحها له الصفة الثانية! انشغل‬
‫طالئع املتعلمني بقرض الشعر‪ ،‬أكثر من انشغاهلم بتطوير قدراهتم‬
‫الفكرية والسياسية والقيادية‪ .‬وأكثر ما يوضح تلك الطفولة العقلية‬
‫ما أبداه هؤالء الطالئع من هتافت عىل عباس حممود الع ّقاد‪ ،‬حني زار‬
‫السودان يف مطلع أربعينات القرن املايض‪ .‬فقد أخذوا يالحقونه أينام‬
‫حل يف اخلرطوم‪ ،‬عارضني عليه قصائدهم‪ ،‬طمع ًا يف أن حيصلوا منه‬ ‫ّ‬
‫عىل إجازهتم كشعراء‪ .‬يضاف إىل ذلك‪ ،‬ما ظهروا به أمامه من شعور‬
‫مفرط باالنسحاق والقزمية‪( .‬راجع حسن نجيلة‪« :‬مالمح من املجتمع‬
‫السوداين»‪ ،‬باب زيارة العقاد للسودان)‪.‬‬
‫لقد كان اجتاه احلركة االحتادية السودانية‪ ،‬منذ بداية احلركة الوطنية‪،‬‬
‫وحتى قبل سنوات قليلة من االستقالل‪ ،‬هو إبقاء السودان حتت التاج‬
‫املرصي رافعني شعار «وحدة وادي النيل»‪ .‬فقد اشرتوا ما باعته هلم‬
‫مرص‪ ،‬دون تفكُّر أو تد ُّبر‪ .‬وحني أحدث إسامعيل األزهري حتوالً‬
‫فجائي ًا‪ ،‬وأصبح ينادي باستقالل السودان التام عن كل من مرص‬
‫وبريطانيا غضب عليه املرصيون‪ .‬لكن‪ ،‬كان مجال عبد النارص قد قام‬
‫بانقالبه العسكري ووجدت مرص نفسها يف ظروف معقدة فرضت‬

‫‪139‬‬
‫عليها أن تقبل حق تقرير املصري للسودانيني‪ .‬اختار السودانيون‬
‫االستقالل‪ ،‬وأعلنوه من داخل قبة الربملان‪ .‬وهكذا شاءت األقدار‬
‫واللطف اإلهلي‪ ،‬أن ينجو السودان من السيطرة املرصية‪.‬‬
‫من فرط شدة االحتالل العقيل املرصي لعقول كثري من الن َُّخب‬
‫السودانية‪ ،‬أصبحت هذه الن َُّخب غري واعية هبذا االحتالل العقيل املمتد‪.‬‬
‫وكام سبق أن ذكرت‪ ،‬فإن املعلمني املرصين يف كلية غردون‪ ،‬إضافة إىل‬
‫املؤسسة الدينية الرسمية أزهرية الطابع‪ ،‬م َّثال القوتني الرئيستني اللتني‬
‫أسستا الحتالل العقول السودانية مرصي ًا‪ .‬عىل تلك القاعدة‪َ ،‬‬
‫واصل‬ ‫ّ‬
‫املرصيون يف زيادة أذرع احتالل عقول السودانيني‪:‬‬
‫موجهة إىل السودان‪ُ ،‬ت َب ّث من القاهرة‬
‫‪1.1‬أنشأ املرصيون إذاعة خاصة َّ‬
‫باسم «ركن السودان من القاهرة»‪.‬‬
‫‪2.2‬أنشا املرصيون جامعة القاهرة فرع اخلرطوم‪.‬‬
‫‪3.3‬أنشأ املرصيون البعثة التعليمية املرصية فنرشت مدراسها يف كل‬
‫مدن السودان الرئيسة‪.‬‬
‫‪4.4‬بدأ التعليم احلديث يف السودان بمدرسة أنشأها رفاعة الطهطاوي‬
‫ثم جاءت كلية غردون‪ ،‬وحني جرى إنشاء املدارس املتوسطة‬
‫والثانوية كانت مناهج اللغة العربية والرتبية اإلسالمية مناهج‬
‫مرصية‪ .‬هبذه املناهج تشكل الوعي الديني األزهري اإلخواين‬
‫يف عقول قطاع كبري من الدارسني السودانيني‪ .‬أيض ًا تم تغييب‬
‫التاريخ السوداين القديم‪ ،‬وجرى إحلاق تاريخ السودان القديم‬
‫بالتاريخ املرصي‪ .‬وهكذا أصبحت احلضارة الكوشية السودانية‬
‫ال ملحق ًا باحلضارة املرصية القديمة‪ .‬وهكذا‬‫هامش ًا ثانوي ًا مهم ً‬
‫استأثرت مرص بدَ ْخل السياحة الضخم‪ ،‬وأصبحت آثار السودان‬
‫غريبة بني أهلها‪ ،‬ال يعرف هلا أهل السودان قيمة معنوية وال مادية‪.‬‬

‫‪140‬‬
‫وهكذا بقيت املعرفة بقيمتها منحرصة وسط الدارسني الغربيني‪.‬‬
‫‪5.5‬بسبب خت ُّلف الطباعة يف السودان‪ ،‬وق ّلة املؤلفني‪ ،‬وحمدودية‬
‫حتصيلهم األكاديمي‪ ،‬يف النصف األول من القرن العرشين‪،‬‬
‫أصبحت كل مصادر الثقافة بالنسبة للسودانيني هي ما خيرج من‬
‫املطابع املرصية من كتب وجمالت وصحف‪.‬‬
‫‪6.6‬أ َّل َفت األكاديميا املرصية‪ ،‬املرتبطة بسياسات الدولة وبإسرتاتيجية‬
‫االستخبارات‪ ،‬سلسلة من الكتب مركّزة عىل عروبة السودان‪،‬‬
‫وهكذا جرى إحلاق السودان بمرص وباملنظومة املرشقية‪ ،‬وجرى‬
‫الكويش‪.‬‬
‫ّ‬ ‫إبعاده عن شخصيته احلضارية‪ ،‬وعن حميطه اإلفريقي‬
‫أصبح السودانيون نتيجة للمنهج الدرايس املرصي‪ِّ ،‬‬
‫جيذرون‬
‫لوعيهم بذاهتم يف جزيرة العرب‪ ،‬ويفاخرون األمم بتاريخ جزيرة‬
‫العرب‪ ،‬وانرصف املرصيون إىل الفخر برتاثهم الفرعوين والتغني‬
‫بأجماد رمسيس الثاين‪ ،‬وتوت عنخ آمون!‬
‫‪7.7‬أبقى املرصيون‪ ،‬عقب االستقالل‪ ،‬جيش ًا من عمالء استخباراهتم‬
‫يف السودان حتت مظلة «الري املرصي»‪ ،‬فحازوا عىل فرص‬
‫استخباراتية يف السودان‪ ،‬مل حتظ هبا أي دولة أخرى‪.‬‬
‫ويسوا هلم امتالك‬ ‫يس املرصيون للسودانيني الدخول إىل مرص َّ‬ ‫‪َّ 8.8‬‬
‫العقارات‪ ،‬واستهدفوا صفوهتم بالصداقات والعناية اخلاصة‪ ،‬ما‬
‫خلق هلم ارتباطات مصلحية متنوعة ربطت هذه الن َُّخب بمرص‪،‬‬
‫فق َّيدَ ت ألسنتهم من انتقاد سياسات مرص جتاه السودان‪ .‬وهكذا‪،‬‬
‫خ َلت البالد‪ ،‬أو كادت‪ ،‬ممن يدافع عن كرامتها الوطنية ضد‬
‫التغوالت املرصية املضطردة‪ ،‬التي ال تقف عند حدّ ‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪9.9‬خلق املرصيون ألنفسهم داخل البيت السوداين شيئ ًا أشبه بحصان‬
‫طروادة‪ .‬تغلغلوا يف احلركة االحتادية ويف طائفة اخلتمية‪ ،‬عىل وجه‬
‫التحديد‪ ،‬الراعية للحركة االحتادية‪ ،‬وأصبحت بعض من القيادات‬

‫‪141‬‬
‫االحتادية ناطقة رسمية باسم الدولة املرصية داخل السودان‪ .‬وقد‬
‫ّ‬
‫تدخل املرصيون باألموال لرشاء ذمم السودانيني‪ ،‬وللتأثري عىل‬
‫جمريات االنتخابات السودانية األوىل‪ .‬فقد بعثوا بالصاغ صالح‬
‫سامل باألموال يف اخلمسينات لرشاء الذمم والتأثري عىل نتائج‬
‫االنتخابات لتصبح يف صالح املوالني ملرص‪( .‬راجع‪ :‬حممد خري‬
‫البدوي‪ ،‬كتاب‪« ،‬قطار العمر»)‪.‬‬
‫‪1010‬استخدم املرصيون عالقتهم بجنوب السودان بطاق ًة يضغطون هبا‬
‫عىل شامله‪ .‬فعلوا ذلك منذ أن أعلن السودان استقالله‪ .‬وكام ورد‬
‫يف الورقة‪ ،‬فقد بعثوا أيض ًا‪ ،‬حني اجته السودانيون نحو االستقالل‬
‫عن كل من بريطانيا ومرص‪ ،‬بعضو جملس الثورة املرصي‪ ،‬الصاغ‬
‫صالح سامل‪ ،‬إىل اجلنوب حيث عرض عىل اجلنوبيني الوحدة مع‬
‫مرص‪ ،‬وال يزالون يفعلون ذلك إىل اليوم بأساليب خمتلفة‪ .‬وقد‬
‫ظلت مرص عىل الدوام مقر ًا حلركات املعارضة السودانية‪ ،‬مهام‬
‫اختلفت اجتاهات الرياح‪.‬‬
‫‪1111‬ظلت احلكومات املرصية املتعاقبة أول من يؤيد االنقالبات‬
‫العسكرية عىل النظام الديمقراطي يف السودان‪ .‬فاألنظمة العسكرية‬
‫القابضة‪ ،‬التي تق ّيد حرية التعبري داخل السودان‪ ،‬يسهل استتباعها‬
‫وقيادهتا‪ ،‬مقارنة باألنظمة الديمقراطية‪ ،‬التي يستطيع املعارضون‬
‫السودانيون للسياسات احلكومية‪ ،‬أن ُيبدوا فيها وجهات نظرهم‪،‬‬
‫كل يشء‪ ،‬بام يف ذلك جمريات العالقة مع مرص‪.‬‬ ‫يف ّ‬
‫‪1212‬نتيجة لالحتالل العقيل للنُّخب السودانية حصلت مرص عىل أربعة‬
‫مليارات مرت مكعب من نصيب السودان يف مياه النيل كـ «سلفة»‪.‬‬
‫أقنعت مرص حكومة الفريق إبراهيم عبود بإنشاء السد العايل‪،‬‬
‫وهتجري أهايل حلفا وما جاورها‪ ،‬وختزين املياه لصالح مرص داخل‬
‫أرايض السودان‪ ،‬دون دفع إجيار يف املقابل‪ .‬فغمرت املياه النخل‬

‫‪142‬‬
‫السوداين‪ ،‬واآلثار السودانية القديمة‪ ،‬وجرى هتجري مئات اآلالف‬
‫من املواطنني السودانيني الذين عاشوا يف تلك املنطقة املتامخة‬
‫للحدود املرصية منذ عصور الدولة الكوشية‪ .‬وحتى التعويض‬
‫الذي دفعته مرص للسودان مقابل مواجهة تكلفة التهجري‪ ،‬مل ّ‬
‫يغط‬
‫حتملت‬ ‫سوى نصف كلفة هتجري وإعادة توطني أهايل حلفا‪ .‬فقد ّ‬
‫احلكومة السودانية إكامل النصف اآلخر من خزينتها‪ .‬أيض ًا‪ ،‬مل‬
‫متنح مرص السودان من كهرباء السد العايل للسودان وال كيلو‬
‫يضمنوه يف‬‫وات واحد ًا‪ .‬ومل يطالب احلكّام السودانيون بذلك‪ ،‬ومل ّ‬
‫رشوط قبول إنشاء السد العايل‪ .‬وسبب كل ذلك التفريط املخزي‬
‫هو االحتالل املرصي لعقول الن َُّخب ورشاؤهم هالميات الوحدة‬
‫العربية والنضال العريب املشرتك ودعم مرص‪« ،‬زعيمة العرب»‪،‬‬
‫حينها يف مواجهة اإلمربيالية العاملية‪.‬‬
‫يستغل املرصيون الن َُّخب السياسية السودانية بعبارات مثل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫‪1313‬‬
‫«العالقات األزلية»‪ ،‬و»أخوة وادي النيل»‪ ،‬و»أبناء النيل»‪،‬‬
‫و»الوحدة العربية»‪ ،‬و»النضال العريب املشرتك ضد اإلمربيالية‬
‫والصهيونية» وغري ذلك من التعبريات العاطفية اجلوفاء‪ ،‬التي‬
‫تبخرت‪ ،‬فصاحلت مرص اإلمربياليني والصهيونيني‪ ،‬وأورثتنا‬ ‫ّ‬
‫تؤسس دولة رشيدة‬ ‫نحن عداوهتام‪ .‬وبطبيعة احلال‪ ،‬ال ينبغي أن ِّ‬
‫سياساهتا عىل الشعارات امللتهبة واجلنوح العاطفي‪ ،‬وتقدِّ م عىل‬
‫ضوئها التنازالت لدولة بال مقابل‪ ،‬كام فعل السودان ملرص حني‬
‫رشعت يف بناء السد العايل‪.‬‬
‫ِ‬
‫ظل اخلطاب التعبوي العاطفي الذي استُخدم جلعل السودان رديف ًا‬ ‫‪ّ 1414‬‬
‫عىل الرسج املرصي‪ ،‬يعمل ملصلحة مرص فقط‪ ،‬وال يعمل ملصلحة‬
‫احلريات‬
‫السودان‪ ،‬عىل اإلطالق‪ .‬وعىل سبيل املثال‪ ،‬فإن «اتفاقية ّ‬
‫تنص عىل حرية التنقل‪ ،‬وحرية‬
‫األربع» املوقعة بني البلدين‪ ،‬والتي ّ‬

‫‪143‬‬
‫اإلقامة‪ ،‬وحرية العمل‪ ،‬وحرية التملك‪ ،‬ملواطني البلدين يف البلد‬
‫اآلخر‪ ،‬ظلت تعمل يف اجتاه واحد فقط‪ ،‬هو مصلحة املرصيني يف‬
‫السودان‪ .‬أما السودانيون فال جيري تطبيقها عليهم‪ ،‬وهم داخل مرص‪.‬‬
‫‪1515‬احت ّلت مرص مث ّلث حاليب‪ ،‬عقب حماولة اغتيال الرئيس املرصي‬
‫حسني مبارك يف أديس أبابا‪ ،‬وهي حماولة كانت حكومة اإلخوان‬
‫املسلمني يف السودان ضالعة فيها‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬تظ ّن مرص أن تقارب‬
‫السودان مع إثيوبيا خط مرصي أمحر‪ ،‬ال جيب أن يقربه السودانيون‪.‬‬
‫فاملرصيون يظنّون أن السودان ينبغي أن يكون حتت إمرة مرص‬
‫ترسم له حدود سياسته اخلارجية وحدود حتالفاته وإسرتاتيجياته‪،‬‬
‫بل‪ ،‬وحتاول أن تنزع منه أوراق الضغط التي يمكن أن يستخدمها‬
‫ضدها‪ ،‬حني جيري احتالل أراضيه مرصي ًا‪ .‬أكثر من ذلك‪ ،‬يظن‬
‫يشجعوا الفريق القومي املرصي‪.‬‬‫املرصيون أن عىل السودانيني أن ّ‬
‫فحني اختاروا هم اخلرطوم أرض ًا للمباراة بينهم واجلزائر ‪ -‬وقد‬
‫جاء ذلك االختيار نتيج ًة لنقص معرفتهم بالشعب السوداين‪ ،‬فقد‬
‫ُخبه ‪ -‬فوجئوا بتشجيع‬ ‫ظنّوه تابع ًا بالرضورة ملن استتبعوا من ن َ‬
‫السودانيني للجزائريني‪ .‬فانطلقت ضد السودان محلة إعالمية‬
‫مرصية منظمة‪ ،‬اتسمت بـ»بلطجة» وغوغائية عديمة الشبيه‪.‬‬
‫ومؤخر ًا أردفوا تلك احلملة الكرهية بواحدة أخرى أسوأ منها‪،‬‬
‫وذلك‪ ،‬عقب زيارة الشيخة موزة إىل أهرامات السودان‪ .‬لقد عتّم‬
‫املرصيون عىل حضارة السودان بخلق أكاديميتهم للسودانيني‬
‫جذور ًا عربية قحة‪ ،‬فانرصف السودانيني عن تارخيعهم الكويش‬
‫القديم وأمهلوه‪ .‬وحني بدأت احلضارة الكوشية تلفت نظر‬
‫السودانيني وغري السودانيني‪ ،‬ساءهم جد ًا أن خترج تلك احلضارة‬
‫من دائرة الظل إىل دائرة الضوء‪ ،‬خاصة يف وقت أخذت فيه‬
‫السياحة املرصية تعاين سكرات املوت‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫ال عيب إطالق ًا‪ ،‬يف أن تعمل مرص ملصلحتها‪ ،‬برشط أن تعمل‬
‫ملصلحتها عىل هنج يلتزم القواعد األخالقية‪ ،‬وهذا ما تفشل فيه الن َُّخب‬
‫املرصية دائ ًام‪ ،‬خاصة املشتغلني منهم باإلعالم‪ .‬غري أن العيب‪ ،‬كل‬
‫العيب‪ ،‬هو أن نسمح هلا نحن السودانيني‪ ،‬بأن تلعب ملصلحتها‪ ،‬عىل‬
‫حساب مصاحلنا‪ .‬فرتك مرص تلعب بمصاحلنا‪ ،‬وتعمل عىل تعطيل‬
‫نمونا وتقدّ منا‪ ،‬واحتالل أراضينا والعبث بأمننا القومي‪ ،‬وتركها عىل‬ ‫ّ‬
‫عار َج َّللت‬
‫عار علينا‪ .‬ولألسف فذاك ٌ‬ ‫اعتقادها أن ذلك يشء طبيعي‪ٌ ،‬‬
‫وجهها‪ ،‬منذ استقالل السودان‪ ،‬وحتى يومنا هذا‪.‬‬ ‫به ن َ‬
‫ُخ ُبنا َ‬
‫لقد آن األوان لكي نخلق حتالفات إقليمية جديدة‪ ،‬وأن نخلق رأي ًا‬
‫عام ًا سوداني ًا مدرك ًا للخطر املرصي‪ ،‬واألالعيب املرصية املتسلسلة‪.‬‬
‫تضطر مرص إىل إعادة النظر يف سياساهتا جتاهنا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بغري ذلك‪ ،‬لن‬
‫وسيستمر إعالمها يف بذاءاته وصفاقاته التي‬
‫ّ‬ ‫وست َْس ِدر يف غ ِّيها القديم‪،‬‬
‫ختل عنها يف يوم من األيام‪ ،‬معنا ومع غرينا من الدول‪ .‬لكي تنشأ‬ ‫ما ّ‬
‫بيننا وبني مرص عالقة احرتام متبادل‪ ،‬كالتي تقوم بيننا وبني جرياننا‬
‫اآلخرين‪ ،‬نحتاج أن نقف وقفة عاملة‪ ،‬ثابتة‪ ،‬يف وجه األطامع املرصية‪.‬‬
‫طر مرتاجع‪ .‬وهذا أمر‬ ‫ولربام احتاج كثريون منا أن يعلموا أن مرص ُق ٌ‬
‫تعضده العديد من الشواهد‪ .‬لقد أصبحت مرص‪ ،‬بالفعل‪ُ ،‬قطر ًا ّ‬
‫يغذ‬ ‫ّ‬
‫السري حثيث ًا نحو الضعف والضعة‪ .‬فقد ظلت تكتنف مرص ٌ‬
‫علل بنيوية‬
‫ُخبها احلاكمة ودولتها العميقة تقف‪ ،‬عىل الدوام‪ ،‬حائال‬ ‫قاتلة‪ ،‬ظلت ن َ‬
‫قوي ًا يف وجه إصالحها‪.‬‬
‫املنعطف الراهن يف العالقات السودانية املرصية منعطف حاسم‪.‬‬
‫فإما أن نأخذ برؤية إسرتاتيجية جديدة‪ ،‬ترى يف مرص خطر ًا دامه ًا‪ ،‬إن‬
‫هي سارت عىل هنجها الذي سارت عليه منذ احلقبة اخلديوية‪ ،‬مرورا‬
‫بفرتيت حكم امللك فؤاد وامللك فاروق‪ ،‬وبفرتة مجهوريات احلزب‬
‫يدل عىل أن مرص ستغري من نظرهتا إىل‬‫الواحد‪ .‬وليس يف األفق اآلن ما ّ‬

‫‪145‬‬
‫السودان ومن تعاملها معه‪ .‬ولذلك‪ ،‬جيب االحرتاز منها‪ ،‬بل‪ ،‬وخلق‬
‫حائط صدّ متني ضدّ ها‪ ،‬إذا مل تتغري إسرتاتيجية السودان جتاه مرص تغري ًا‬
‫جوهري ًا‪ ،‬يصبح السودان لقمة سائغة هلا‪ ،‬ومن ثم‪ ،‬لغريها من دول‬
‫اجلوار‪.‬‬
‫يف أيدينا‪ ،‬نحن السودانيني‪ ،‬اآلن فرصة تارخيية لقلب الطاولة‬
‫عىل العقلية اخلديوية‪ ،‬وقفل باب املطامع املرصية‪ ،‬التوسعية‪ ،‬مرة‬
‫واحدة وإىل األبد‪ .‬فإما الرشاكة املتكافئة واالحرتام املتبادل‪ ،‬وإما‬
‫يمر عرب خلق حتالفات إقليمية‬ ‫القطيعة‪ .‬والطريق لتحقيق ذلك إنام ّ‬
‫جديدة‪ ،‬وفق رؤية إسرتاتيجية سودانية مستقلة‪ .‬وأعني مستقلة عن‬
‫التأثريات املرصية‪ ،‬ويف نفس الوقت عن ا َملحاور العربية العارضة‪،‬‬
‫قصرية النظر‪ .‬هذه الرؤية اإلسرتاتيجية السودانية التي ستعني عىل بناء‬
‫الدولة السودانية التي َت َع َّطل بناؤها لنصف قرن‪ ،‬تقول كل املعادالت‬
‫أن فرصتها الذهبية أصبحت متاحة اآلن‪،‬‬ ‫السياسية يف حوض النيل ّ‬
‫أي وقت مىض‪.‬‬ ‫أكثر من ّ‬

‫‪146‬‬
‫َمراجع الفصل الثاني‬

‫المَ راجع العربية‪:‬‬


‫إبراهيم شحاتة‪ ،‬مرص والسودان ووجه الثورة يف نصيحة أحمد العوام‪ :‬دراسة مقارنة يف األصول التاريخية‬
‫للثورتني العرابية واملهدية واتجاهات الفكر الثوري يف عهدهام‪( ،‬اإلسكندرية‪ :‬مؤسسة الثقافة الجامعية‪،‬‬
‫‪1971‬م)‪.‬‬
‫تاج الرس عثامن الحاج‪ ،‬التاريخ االجتامعي لفرتة الحكم الرتيك‪( ،‬أم درمان‪ :‬مركز محمد عمر بشري‬
‫للدراسات السودانية‪2004 ،‬م)‪.‬‬
‫جامل الرشيف‪ ،‬الرصاع السيايس عىل السودان‪( ،‬الخرطوم‪ :‬رشكة مطابع السودان للعملة املحدودة‪،‬‬
‫‪2009‬م)‪.‬‬
‫حسن أحمد إبراهيم‪ ،‬محمد عيل يف السودان‪( ،‬الخرطوم‪ :‬دار التأليف والنرش‪ ،‬د‪ .‬ت)‪ .‬تاج الرس عثامن‬
‫الحاج‪ ،‬التاريخ االجتامعي لفرتة الحكم الرتيك‪( ،‬أم درمان‪ :‬مركز محمد عمر بشري للدراسات السودانية‪،‬‬
‫‪2004‬م)‪.‬‬
‫حمدي عبد الرحمن‪ ،‬العرب وإفريقيا يف زمن متحول‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار مرص املحروسة للنرش‪2009 ،‬م)‪.‬‬
‫ديدار فوزي روسانو‪ ،‬السودان إىل أين؟‪ ،‬ترجمة‪ :‬مراد خالف‪( ،‬الخرطوم‪ :‬الرشكة العاملية للطباعة والنرش‬
‫والتوزيع‪2007 ،‬م)‪.‬‬
‫رأفت غنيمي الشيخ‪ ،‬مرص والسودان يف العالقات الدولية‪ ،‬ط‪( ،2‬القاهرة‪ :‬علم الكتب‪1983 ،‬م)‪.‬‬
‫روبرت أو كولينز‪ ،‬تاريخ السودان الحديث‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار العني للنرش واملركز القومي للرتجمة‪2008 ،‬م)‪.‬‬
‫شهاب الدين أحمد الجيزاين‪ ،‬تحفة الزمان‪ :‬أو فتوح الحبشة‪( ،‬القاهرة‪ :‬الهيئة املرصية العامة للكتاب‪،‬‬
‫‪1974‬م)‪.‬‬
‫عبد اإلله بلقيز‪ ،‬نقد الخطاب القومي‪( ،‬بريوت‪ :‬مركز دراسات الوحدة العربية‪2010 ،‬م)‪.‬‬
‫عبد الرحمن الرافعي‪ ،‬مصطفى كامل باعث الحركة الوطنية‪( ،‬القاهرة‪ :‬مكتبة النهضة املرصية‪1962 ،‬م)‪.‬‬
‫عبد الرحمن عيل طه‪ ،‬السودان للسودانيني‪ :‬طمع‪ ،‬فنزاع‪ ،‬فوثبة‪ ،‬فجهاد‪( ،‬الخرطوم‪ :‬مطابع رشكة الطبع‬
‫والنرش‪1955 ،‬م)‪.‬‬
‫عبد الله عيل إبراهيم‪ ،‬الثقافة والدميقراطية يف السودان‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار األمني للنرش والتوزيع‪1996 ،‬م)‪.‬‬
‫عبد الله عيل إبراهيم‪ ،‬الرصاع بني املهدي والعلامء‪ ،‬ط‪( ،2‬القاهرة‪ :‬مركز الدراسات السودانية‪1994 ،‬م)‪.‬‬
‫عزالدين إسامعيل‪ ،‬الزبري باشا ودوره يف السودان يف عرص الحكم املرصي‪( ،‬القاهرة‪ :‬الهيئة املرصية العاملة‬
‫للكتاب‪1998 ،‬م)‪.‬‬
‫عمر طوسون‪ ،‬تاريخ مديرية خط االستواء من فتحها إىل ضياعها‪ ،‬ج ‪( ،1‬اإلسكندرية‪ :‬مكتبة العدل‪،‬‬
‫‪1937‬م)‪.‬‬
‫غريغوار منصور مرشو‪ ،‬من االستتباع إىل االستبداد‪ :‬حفريات يف آليات احتالل العقل‪ ،‬ط ‪( ،2‬حلب‪ :‬دار‬
‫امللتقى‪2009 ،‬م)‪.‬‬
‫فتحي غيث‪ ،‬اإلسالم والحبشة‪( ،‬القاهرة‪ :‬دار النهضة املرصية‪.).1967 ،‬‬

‫‪147‬‬
‫محمد عبد املنعم السيد الراقد‪ ،‬الغزو العثامين ملرص ونتائجه عىل الوطن العريب‪ ،‬اإلسكندرية‪ :‬مؤسسة‬
‫شباب الجامعة للطباعة والنرش‪1968 ،‬م)‪.‬‬
‫محمد إبراهيم ابو سليم‪ ،‬بحوث يف تاريخ السودان‪ :‬األرايض‪ ،‬العلامء‪ ،‬الخالفة‪ ،‬بربر‪ ،‬عيل املريغني‪،‬‬
‫(بريوت‪ :‬دار الجيل بريوت‪1992 ،‬م)‪.‬‬
‫محمد إبراهيم ابو سليم‪ ،‬تاريخ الخرطوم‪( ،‬بريوت‪ :‬دار الجيل‪1999 ،‬م)‪.‬‬
‫محمد خري البدوي‪ ،‬قطار العمر يف أدب املؤانسة واملجالسة‪( ،‬الخرطوم‪ :‬دار النهار لإلنتاج اإلعالمي‪،‬‬
‫‪2008‬م)‪.‬‬
‫محمد فؤاد شكري‪ ،‬مرص والسودان‪ :‬تاريخ وحدة وادي النيل السياسية يف القرن التاسع عرش ‪1820‬‬
‫‪( ،1899-‬القاهرة‪ :‬دار املعارف‪1963 ،‬م)‪.‬‬
‫ممتاز العارف‪ ،‬األحباش بني مأرب وأكسوم‪ :‬ملحات تاريخية من العالقات العربية الحبشية ونشوء دولة‬
‫إثيوبيا الحديثة‪( ،‬بريوت‪ -‬صيدا‪ :‬منشورات املكتبة العرصية‪1975 ،‬م)‪.‬‬
‫نسيم مقار‪ ،‬مرص وبناء السودان الحديث‪( ،‬القاهرة‪ :‬الهيئة املرصية العامة للكتاب‪1993 ،‬م)‪.‬‬
‫نعوم شقري‪ ،‬تاريخ السودان‪ ،‬تحقيق محمد إبراهيم أبو سليم‪( ،‬بريوت‪ ،‬دار الجيل‪.)1981 ،‬‬
‫النور حمد‪ ،‬مهارب املبدعني‪ :‬قراءة يف السري والنصوص السودانية‪( ،‬الخرطوم‪ :‬دار مدارك للترش‪ ،‬الخرطوم‪،‬‬
‫‪2010‬م)‪.‬‬
‫هارولد ماكاميكل‪ ،‬السودان‪ ،‬ترجمة محمد صالح عثامن صالح‪( ،‬أم درمان‪ :‬مركز عبد الكريم مريغني‬
‫الثقايف‪2006 ،‬م)‪.‬‬
‫وجيه كوثراين‪ ،‬الفقيه والسلطان‪ :‬جدلية الدين والسياسة يف إيران الصفوية – القاجارية والدولة العثامنية‪،‬‬
‫ط‪( ،2‬بريوت‪ :‬دار الطليعة ‪2001‬م)‪.‬‬

‫المَ راجع اإلنجليزية‪:‬‬


‫‪Judith Perani & Fred Smith, The Visual Arts of Africa: Gender, Power, and Life Cycle Rituals,‬‬
‫‪Prentice Hall, Upper Saddle River, New Jersey, USA, 1998.‬‬
‫‪Laslo Torok, “Nubia” In Africa, The Arts of a Continent, edited by Tom Philips, London, Royal‬‬
‫‪Academy of Arts, 1995.‬‬
‫‪N. M. Sherif, “Nubia Before Nabata (3100 – 750),” In General History of Africa II: Ancient‬‬
‫‪Civilizations of Africa, edited by G. Mokhtar. Berkeley: University of California Press, 1990.‬‬

‫‪148‬‬
‫الفصل الثالث‬

‫‪‬‬

‫َفوق ّية الحداث ّيين‬


‫وإجهاض مشروع االستقالل‬
‫جرى نرش هذه الورقة يف كتاب «استقالل السودان‪ :‬ستون عاماً من‬
‫التجربة والخطأ ‪ .»2016-1956‬تحرير‪ :‬حيدر إبراهيم عيل‪ ،‬النارش‪ :‬مركز‬
‫الدراسات السودانية‪ ،)2016( ،‬ص ص ‪.144- 117‬‬

‫ِ‬
‫تعسفها عن الطريق‪ ،‬من‬ ‫«ال نَظلم القوى احلديثة شيئ ًا إن قلنا‪ ...‬بأن ُّ‬
‫بدايته‪ ،‬هو الذي انتهى هبا إىل ضياعٍ‪ ،‬مل َي ْب َق هلا معه غري تبا ُدل املالمة»‪.‬‬
‫منصور خالد‪.‬‬

‫مقدّمة‬
‫جدل‪ ،‬بني غالبية السودانيني‪ ،‬وال حتى بني غري‬ ‫ٍ‬ ‫مل َي ُعد مثار‬
‫ِ‬
‫السودانيني‪ ،‬أن الشعب السوداين مل َين ثامر ًا ت ُْذكر من ُسلطة القرار‬
‫التي منحها االستقالل للقوى الوطنية السودانية‪ .‬فعىل الرغم أن ستني‬

‫‪149‬‬
‫مرت عىل خروج الربيطانيني‪ ،‬وعىل امتالك النخبة السياسية‬ ‫عام ًا ّ‬
‫السودانية ُسلطة القرار املستقل‪ ،‬فقد ظ ّلت أحوال السودان؛ السياسية‬
‫واالقتصادية‪ ،‬واالجتامعية‪ ،‬والثقافية‪ ،‬تتدهور بصورة مضطردة‪.‬‬
‫ويمكن القول‪ ،‬إن كل فرتة من فرتات احلكم الوطني‪ ،‬عرفتها البالد‪،‬‬
‫كانت أسوأ من سابقتها‪ .‬حتى بلغ السوء‪ ،‬عىل أيامنا هذه‪ ،‬حد ًا يفوق‬
‫الوصف‪ ،‬عىل يد اإلسالميني‪ .‬وربام أضحى أقىص ما نأمل فيه اليوم‪،‬‬
‫أن تكون حقبة اإلسالميني هذه هي الدرك األسفل‪ ،‬الذي ليس حتته‬
‫درك‪ .‬وأن يكون هذا الدرك األسفل‪ ،‬هو األرضية الصلدة التي منها‬
‫يبدأ الصعود‪.‬‬
‫من املهم جد ًا‪ ،‬يف معرض أي مراجعة جادة‪ ،‬هتدف إىل فهم علة‬
‫القعود السوداين‪ ،‬القول‪ ،‬إن اإلسالميني الذين أوصلوا دول َة ما بعد‬
‫االستقالل يف السودان‪ ،‬إىل هذا احلضيض‪ ،‬حتى أصبح السودان أمثول ًة‬
‫عفاريت انش ّقت عنهم األرض‪ .‬إهنم‪ ،‬باألحرى‪،‬‬ ‫َ‬ ‫بني األمم‪ ،‬ليسوا‬
‫رشعي ملسلسل خطايا القوى السياسية السودانية‪ ،‬بال استثناء‪.‬‬ ‫ٌّ‬ ‫جنني‬
‫ٌ‬
‫وتتمثل أم تلك اخلطايا يف العلقان بأهداب اخلطاب الديني؛ كام لدى‬
‫الشق املحافظ من القوى السياسية السودانية‪ ،‬والعلقان بأهداب‬ ‫ِّ‬
‫الشق‬
‫اإليديولوجيات العلامنية‪ ،‬املستوردة‪ ،‬منغلقة النهايات‪ ،‬كام لدى ّ‬
‫فلكَي‬‫اآلخر من القوى السياسية احلداثية التي يم ّثلها عامة اليساريني‪ِ .‬‬
‫نفهم علة الرتاجع والقعود السوداين‪ ،‬الذي ال يشاهبه فيها ُقطر من‬
‫األقطار‪ ،‬ينبغي علينا أن نتتبع مسار التطورات السياسية عرب الستني‬
‫سنة املاضية‪ ،‬التي أعقبت االستقالل‪ ،‬وكذلك عرب العرشين سنة التي‬
‫سبقت االستقالل؛ أي منذ أن تشكُّل مؤمتر اخلرجيني‪ ،‬منذ ما يقارب‬
‫الثامنني عام ًا‪.‬‬
‫لو أجرينا مقارنة بني السودان‪ ،‬واألقطار التي استق ّلت مثله يف عقدَ ْي‬
‫اخلمسينات‪ ،‬والستينات‪ ،‬من القرن املايض‪ ،‬لوضح لنا أن السودان كان‬

‫‪150‬‬
‫عىل رأس األقطار األقل انتفاع ًا يف العامل‪ ،‬من مز َّية االستقالل‪ ،‬التي‬
‫م ّثلت منعطف ًا كبري ًا‪ ،‬به امتلكت املستعمرات السابقة‪ُ ،‬سلطة القرار‬
‫السيايس‪ .‬وأصبح‪ ،‬من ثم‪ ،‬يف وسع تلك املستعمرات‪ ،‬أن تسري‪ ،‬بكامل‬
‫إرادهتا املستقلة‪ ،‬يف وجهة احلرية واألمن والرفاهية لشعوهبا‪ .‬ورغم أن‬
‫التعثر الذي أعقب االستقالل كان‪ ،‬إىل حدّ كبري‪ ،‬حال ًة عام ًة‪ ،‬عانت‬
‫بصورة ٍ‬
‫ثابتة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫منها معظم األقطار اإلفريقية‪ ،‬إال أن السودان بقي أسري ًا‪،‬‬
‫لتلك احلالة الفريدة من التعثر والرتاجع‪ .‬هذا‪ ،‬يف حني جتاوزهتا أغلبية‬
‫األقطار اإلفريقية األخرى‪ ،‬خاصة يف العقدين األخريين‪ ،‬اللذ ْين ابتُيل‬
‫فيها السودان بحكم اإلسالميني‪ .‬نشطت غالبية الشعوب اإلفريقية من‬
‫عقاهلا‪ ،‬وانطلقت يف دروب التحديث والتنمية واالستقرار‪ ،‬باستثناء‬
‫قلة قليلة‪ ،‬تُعدّ عىل أصابع اليد الواحدة‪ ،‬يأيت السودان يف طليعتها‪.‬‬
‫إن حالة الفشل السودانية الصارخة ملرشوع االستقالل ّ‬
‫تدل عىل‬
‫علل بنيوية‪ .‬تشمل هذه العلل البنيوية الفكر السوداين‪ ،‬واملفاهيم التي‬
‫أ ّطرت جتربة التحديث يف السودان‪ .‬كام تشمل‪ ،‬يف املسار التطبيقي‪،‬‬
‫املامرسة السياسية التي قامت عىل تلك املفاهيم اخلاطئة‪ .‬تناقش هذه‬
‫الورقة سيطرة التفكري االنقاليب عىل عقول احلداثيني‪ ،‬ومن يسار‬
‫علامين‪ ،‬ويسار إسالمي‪ ،‬ويمني إسالمي‪ .‬كام تناقش ما جرى من قطيعة‬
‫مع الكيانات التقليدية كاإلدارة األهلية والطائفية‪ ،‬واالنخراط يف‬
‫فوقي‬
‫ّ‬ ‫صفوي‬
‫ّ‬ ‫معاداهتا‪ ،‬وإقصائها‪ ،‬واستعدائها‪ ،‬ثم هدمها‪ ،‬وفق هنج‬
‫جتسد يف الواقع بعد‪.‬‬
‫العميل قد ّ‬
‫ّ‬ ‫متعجل‪ ،‬دون أن يكون بديلها‬
‫ّ‬
‫انتظار الحلول لدى العسكر‬
‫من الظواهر السياسية امللفتة للنظر‪ ،‬أن السودانيني‪ ،‬رغم حبهم‬
‫للديمقراطية‪ ،‬ومعرفتهم بمزاياها‪ ،‬ظلوا ال يطيقون عليها صرب ًا‪ ،‬إذ‬
‫رسعان ما يتربمون منها‪ ،‬ويشكون منها لطول األرض‪ ،‬ثم َيرشعون يف‬

‫‪151‬‬
‫التط ّلع إىل جنرال مغامر من اجليش‪ ،‬يقوم بانقالب عسكري‪ ،‬فريحيهم‬
‫منها‪ .‬ظل السودانيون يستقبلون‪ ،‬باألحضان‪ ،‬كل انقالب عسكري قام‬
‫بوأد ديمقراطيتهم يف مهدها‪ .‬فهي ديمقراطية يعشقوهنا‪ ،‬ولكنهم‪ ،‬يف‬
‫نفس الوقت‪ ،‬يكرهوهنا‪ ،‬ويتمنّون موهتا بعد عام أو عامني من والدهتا‪.‬‬
‫وما أكّدته التجربة العملية‪ ،‬أن ضعف الرؤية السياسية لألحزاب‬
‫التقليدية‪ ،‬ونقص إحساسها بقضايا اجلامهري‪ ،‬وعدم قدرهتا عىل الفعل‬
‫يف الواقع‪ ،‬وانشغال سياسييها بالرصاع عىل الكرايس‪ ،‬هي التي جعلت‬
‫الشعب‪ ،‬يعيش يف هنايات كل حقبة ديمقراطية‪ ،‬حالة من الرتقب‬
‫واالنتظار النقالب عسكري من نوع ما‪.‬‬
‫َر ِض السودانيون بفقدان الديمقراطية األوىل‪ ،‬التي أطاح هبا نظام‬
‫الفريق عبود يف السابع عرش من ترشين الثاين‪/‬نوفمرب‪ ،1958 ،‬رغم‬
‫أهنا كانت التجربة األوىل بعد االستقالل‪ .‬وحني أطيح هبا‪ ،‬مل تكن قد‬
‫أكملت ثالث ًا من السنوات‪ .127‬كام استقبل السودانيون انقالب جعفر‬
‫نمريي يف عام ‪ ،1969‬باألحضان‪ .‬بل إن استقباهلم النقالب نمريي‬
‫فاق‪ ،‬من حيث احلامس والفرحة‪ ،‬استقباهلم لنظام الفريق عبود‪.‬‬
‫حفلت حقبة الديمقراطية األوىل (يناير ‪ -1956‬نوفمرب ‪،)1958‬‬
‫باملامرسات السياسية العبثية الشبيهة باألالعيب الصبيانية‪ ،‬وانحرصت‬
‫اجلهود عربها يف الرصاع عىل الكرايس‪ ،‬من أجل الكرايس‪ .‬كام اتسمت‬
‫النواب الالمبدئية من معسكر‬
‫حتوالت ّ‬ ‫بأسوأ أنواع املامرسات‪ ،‬مثال‪ّ :‬‬

‫‪ .127‬يرى منصور خالد أن السودانيني مل يقاوموا نظام الفريق عبود حني أطاح بدميقراطيتهم األوىل‬
‫عقب االستقالل‪ ،‬بل كانوا‪ ،‬أقرب للرتحيب منهم إىل االستكانة‪ .‬ويستغرب حيد إبراهيم يف تقديم عبد‬
‫الله خليل‪ ،‬رئيس الوزراء املنتخب دميقراطياً‪ ،‬الحكم إىل ضباط الجيش‪ ،‬مببادرة منه‪ .‬راجع‪ :‬منصور خالد‪،‬‬
‫النخبة السودانية وإدمان الفشل‪( ،‬بدون دار نرش)‪ ،1994 ،‬ص‪ .96‬وراجع أيضاً‪ :‬حيدر إبراهيم عيل‪،‬‬
‫السودان الوطن املضيع‪ ،‬مكتبة جزيرة الورد‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ج م ع‪ ،2011 ،‬ص ‪ .6‬الطريف أن السيدين عبد‬
‫الرحمن املهدي‪ ،‬وعيل املريغني‪ ،‬وهام راعيا الحزبني اللذين أطيح بحكومتهام‪ ،‬أصدرا بياناً أيّدا فيه االنقالب‬
‫العسكري‪.‬‬

‫‪152‬‬
‫إىل آخر‪ ،‬ورشاء أصوات الناخبني‪ .128‬وال غرابة‪ ،‬فمرشوع االستقالل‬
‫جرى اختزاله‪ ،‬منذ البداية‪ ،‬يف الوجاهة الفردية‪ ،‬ومن ثم‪ ،‬يف السعي‬
‫املحموم إىل الكرايس‪ .‬كام انحرص اجلهد كله‪ ،‬عقب احلصول عىل‬
‫الكرايس‪ ،‬يف املحاوالت املستميتة الستدامتها‪ .‬وإلدراك مبلغ العبثية‬
‫التي كانت تدار به السياسة السودانية‪ ،‬علينا أن نالحظ أن الفرتة املمتدة‬
‫من أكتوبر ‪ ،1964‬إىل مايو ‪ ،1969‬شهدت ثامين حكومات؛ أي ما يقارب‬
‫احلكومتني للعام الواحد‪ .129‬ولذلك‪ ،‬مل تكن هناك غرابة يف أن جيد‬
‫انقالب جعفر نمريي يف أيار‪/‬مايو ‪ ،1969‬ذلك التأييد الشعبي الكاسح‬
‫تلهفهم الستقبال االنقالبات‪،‬‬ ‫الذي وجده‪ .‬غري أن السودانيني‪ ،‬رغم ّ‬
‫ثاروا يف ترشين األول‪/‬أكتوبر ‪ ،1964‬عىل نظام الفريق عبود‪ .‬وثاروا يف‬
‫أبريل ‪ ،1985‬عىل نظام العقيد جعفر نمريي‪ .‬وهكذا ظلت تلك احللقة‬
‫املفرغة تدور منذ كانون الثاين‪/‬يناير ‪ ،1956‬إىل نيسان‪ /‬أبريل ‪1985‬؛‬
‫جرا؛ (ست مرات)!‪.‬‬ ‫وهلم ّ‬
‫ّ‬ ‫ديمقراطية‪ ،‬فانقالب‪ ،‬فديمقراطية‪،‬‬
‫أما اآلن‪ ،‬فقد وصلت البالد إىل حالة من الفشل الشامل‪ ،‬فقد‬
‫ف َقدَ ت اجلنوب‪ ،‬بل وأضحت مهدَّ دة يف وجودها ذاته‪ .‬غري أن املرسح‬
‫السيايس فيها تغري متام ًا‪ ،‬كام تبدّ لت فيها أوزان القوى السياسية الفاعلة‪،‬‬
‫بل وتراجعت فيها املعارف والعقول‪ ،‬وأنامط العيش‪ .‬كام نضب الشعور‬
‫أي من السيناريوهات القديمة‬ ‫الوطني‪ ،‬وانبهمت السبل‪ ،‬ومل يعد ّ‬
‫للتغيري‪ ،‬متاح ًا مثلام كان من قبل‪.‬‬

‫‪ .128‬حيدر إبراهيم عيل‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.21‬‬


‫‪ .129‬كانت الحكومات التي تغريت يف الفرتة ما بني ‪ ،1964‬و‪ ،1969‬كاآليت‪ :‬أكتوبر ‪ 1964‬الحكومة االنتقالية‬
‫‪ -‬فرباير ‪ 1965‬حكومة انتقالية جديدة ‪ -‬يوليو ‪ 1965‬حكومة ائتالفية جديدة بني األمة والوطني االتحادي‬
‫(املحجوب رئيسا للوزراء) ‪ -‬يوليو ‪ 1966‬حكومة ائتالفية جديدة بني األمة (الصادق) والوطني االتحادي‬
‫(الصادق رئيسا للوزراء) ‪ -‬مايو ‪ 1967‬حكومة ائتالفية جديدة بني األمة (الهادي) والوطني االتحادي‪،‬‬
‫(املحجوب رئيسا للوزراء) ‪ -‬فرباير ‪ 1968‬هزمية حكومة املحجوب يف الربملان وحله ‪ -‬مايو ‪.1968‬‬

‫‪153‬‬
‫الحلقة المفرغة ومفترق ُّ‬
‫الطرق‬
‫لكي يتسنّى للسودان أن جيد طريقه نحو االستقرار والنامء‪ ،‬كان ال‬
‫بدّ هلذه الدائرة الرشيرة‪ ،‬من االنقالبات العسكرية‪ ،‬والثورات الشعبية‪،‬‬
‫التي تأيت بديمقراطيات فاشلة‪ ،‬أن ُتتتَم‪ ،‬وتصل إىل هناية ال تسمح‬
‫بتكرارها‪ .‬لقد أمضت القوى السياسية السودانية‪ ،‬كل حقبة ما بعد‬
‫االستقالل‪ ،‬وهي تدور يف داخل هذه الدائرة الرشيرة‪ ،‬من غري أي رؤية‬
‫أو أي أهداف‪ ،‬أو ُقل‪ ،‬من غري أهداف تتعدى جمرد الرصاع عىل الكرايس‪.‬‬
‫ولذلك مل يكن غريب ًا أال تشهد كل عهود احلكم الوطني إنجاز ًا ُيذكر‪.‬‬
‫عجزت احلكومات املتعاقبة عن حتقيق الوحدة الوطنية‪ ،‬واالستقرار‬
‫السيايس‪ ،‬األمر الذي قاد إىل العجز عن بناء الدولة‪ ،‬وعن ترقية أحوال‬
‫الناس‪ ،‬بل انزلق القطر بر ّمته يف مسلسل من الرتاجع املضطرد عن‬
‫منجزات التحديث القليلة‪ ،‬التي حتققت له إبان احلقبة االستعامرية‪.‬‬
‫َف َقدت البالد عرب مرحلة ما بعد االستقالل كل االنضباط اإلداري‬
‫الذي ورثته من الفرتة االستعامرية الربيطانية؛ يف اإلدارة‪ ،‬واخلدمة‬
‫املدنية‪ ،‬ويف التعليم‪ ،‬ويف إدارة املرافق اخلدمية بكل أنواعها‪ .‬كام قادت‬
‫األغراض واألهواء الشخصية‪ ،‬ونزعة التسييس‪ ،‬وضعف اإليامن‬
‫برضورة حكم القانون‪ ،‬إىل العبث بالقوانني‪ ،‬وبالضوابط وبالتقاليد‬
‫تراجع األداء القضائي‪ .‬فقد َض ُعف‬ ‫ُ‬ ‫العدلية املحرتمة‪ ،‬ما أ ّدى إىل‬
‫التدريب القانوين‪ ،‬واإليامن برضورة استقالل القضاء‪ ،‬حتى وصلت‬
‫التقاليد العدلية درجة االنحطاط الشامل‪ ،‬حيث أصبح القضاء جمرد‬
‫السلطة التنفيذية‪ .‬كام أصيب التعليم يف مقتل‪ ،‬بسبب‬ ‫ذراع من أذرع ُّ‬
‫املختصني غري املس َّيسني‪،‬‬
‫ّ‬ ‫األالعيب السياسية‪ ،‬والتهريج‪ ،‬وهتميش َد ْور‬
‫يستحق اسمه‪ .‬وعموم ًا‪ ،‬فإن اخلراب الذي طال هذه‬ ‫ّ‬ ‫فلم يعد التعليم‬
‫املنظومات‪ ،‬أحال كل يشء إىل رماد تذروه الرياح‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫انجرت إىل‬
‫َّ‬ ‫الحظ حيدر إبراهيم‪ ،‬أن كل األحزاب السودانية‬
‫مناقشة مسألة الدستور اإلسالمي بوصفه رضورة ال حميص عنها‬
‫حلكم السودان‪ .130‬فلقد برز هذا االجتاه‪ ،‬عقب االستقالل مبارشة‪،‬‬
‫حيتل مكان‬ ‫يف ما ُس ّمي «اللجنة القومية للدستور»‪ ،131‬وأصبح ّمه ًا ّ‬
‫األولوية‪ ،‬التي ال تعلو عليها أولوية أخرى‪ .‬وهكذا‪ ،‬أهدر السودانيون‬
‫طاقة هائلة‪ ،‬ووقت ًا ثمين ًا يف مسألة الدستور اإلسالمي‪ ،‬وحتكيم الرشيعة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬ففقدوا بوصلة األولويات ملرحلة ما بعد االستقالل‪ ،‬وهي‬
‫حتقيق الوحدة الوطنية يف بلد متعدّ د الثقافات‪ .132‬وأصبح السودان‬
‫وجتاهل سياس ّييه هلذه اخلاصية‪ ،‬أكثر البلدان‬
‫ُ‬ ‫بسبب تعدّ د ثقافاته‪،‬‬
‫عرضة للحروب اجلهوية‪ ،‬ولالضطرابات واالنقسامات‪.‬‬
‫قاد االنشغال بالدستور اإلسالمي وبالقوانني اإلسالمية‪ ،‬وسيطرة‬
‫التصور اخلاطئ من أن قوانني الدولة ال بدّ أن ترتكز حتديد ًا عىل الدين‬
‫ّ‬
‫اإلسالمي‪ ،‬إىل تش ّظي الشعور القومي السوداين‪ ،‬ثم‪ ،‬إىل خراب قانوين‬
‫فظيع‪ .‬بدأ هذا اخلراب القانوي يأخذ منعطف ًا حاد ًا جد ًا‪ ،‬عندما جرى‬
‫حل احلزب الشيوعي‬ ‫تعديل الدستور‪ ،‬خصوص ًا‪ ،‬عام ‪ ،1965‬من أجل ّ‬
‫َ‬
‫املنتخبني من الربملان‪ ،‬بحجة اإلحلاد‪ .‬ثم بقيام‬ ‫وطرد ّنوابه‬
‫السوداين‪ْ ،‬‬
‫حمكمة الردة ضد األستاذ حممود حممد طه عام ‪ ،1968‬دون أن ُيبدي‬
‫القضاء املدين اعرتاض ًا دستوري ًا عىل تلك احلادثة‪ ،‬إضافة إىل ما مارسته‬
‫القوى السياسية املهيمنة‪ ،‬املتمثلة يف احلزبني الكبريين‪ ،‬األمة واالحتادي‪،‬‬
‫ُ‬
‫اإلخوان املسلمون‪،‬‬ ‫من صمت مريب‪ .‬أشعل رشار َة تلكام احلادثتني‬
‫فتبعهم احلزبان الطائفيان؛ األمة‪ ،‬واالحتادي‪ .‬ومل يعلم احلزبان الكبريان‬
‫‪ .130‬حيدر إبراهيم‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.20‬‬
‫‪ .131‬راجع‪ :‬يوسف محمد عيل‪ ،‬السودان والوحدة الوطنية الغائبة‪ ،‬مركز عبد الكريم مريغني الثقايف‪،‬‬
‫أمدرمان‪ ،‬السودان‪ ،2012 ،‬ص ص ‪ .60 – 44‬وراجع أيضاً‪ :‬محمد سعيد القدال‪ ،‬اإلسالم والسياسة يف‬
‫السودان‪ ،‬دار الجيل بريوت (‪( )1992‬ص‪ .‬ص‪.)155 -149 .‬‬
‫‪ 132‬حيدر إبراهيم‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.20‬‬

‫‪155‬‬
‫يومها أهنام قد ُأ ِكال يوم ُأ ِك َل الثور األبيض؛ أي يوم ُأ ِكلت القوى‬
‫احلديثة‪ .‬فقد انتهى ذلك املسار الذي بدأ برضب القوى احلديثة‪ ،‬يف‬
‫هناية تداعياته‪ ،‬إىل رضب احلزبني الطائفيني الكبريين نفسيهام‪ ،‬وسيطرة‬
‫اإلسالميني عىل كل يشء‪ .‬وعموم ًا‪ ،‬اتسمت حقبة ما بعد ثورة أكتوبر‬
‫‪ ،1964‬بإشعال اإلسالميني احلريق تلو احلريق‪ ،‬حتى أحالوا كل يشء‬
‫إىل رماد‪ ،‬أو ما يشبه الرماد‪.‬‬
‫التحول الكربى نحو االهنيار السوداين الكبري‪ ،‬ما جرى‬ ‫ّ‬ ‫كانت نقطة‬
‫عقب املصاحلة الوطنية‪ ،‬عام ‪ ،1977‬يف حقبة حكم الرئيس جعفر‬
‫متخض عن ذلك‬ ‫نمريي‪ ،‬حني جرى تعيني حسن الرتايب نائب ًا عام ًا‪ ،‬وما ّ‬
‫من تشكيل «جلنة تعديل القوانني لتتامشى مع الرشيعة اإلسالمية»‪.‬‬
‫انتهى حتالف الرتايب ونمريي قصري العمر ببيعة نمريي إمام ًا للمسلمني‬
‫مدى احلياة‪ ،‬وإنفاذ قوانني سبتمرب‪ ،‬يف عام ‪ ،1983‬ومن هناك‪ ،‬دخلت‬
‫البالد يف النفق املظلم الذي مل خترج منه إىل اليوم‪.‬‬
‫لقد تسبب ذلك الفصل األخري‪ ،‬من املسلسل القاصد إىل أسلمة‬
‫الدولة‪ ،‬الذي بدأ مع إعالن االستقالل‪ ،‬يف ارتكاب أكرب عملية تدمري‬
‫للتقاليد القانونية السودانية احلديثة‪ ،‬واإلجهاز الكامل عىل مهنية اجلهاز‬
‫وطرد‬
‫حل احلزب الشيوعي السوداين ْ‬ ‫القضائي السوداين‪ .‬كانت حادثة ّ‬
‫ّنوابه من الربملان عام ‪ ،1965‬وحادثة حماكمة األستاذ حممود حممد طه‬
‫بالردة عام ‪ ،1968‬مها نقطة االنزالق التي وصلت منتهاها‪ ،‬بإعالن‬
‫نمريي‪ ،‬مدفوع ًا بإحياءات نائبه العام حسن الرتايب‪ ،‬عقب املصاحلة‬
‫الوطنية‪ ،‬تطبيق الرشيعة اإلسالمية يف السودان عام ‪ .1983‬فام نراه‬
‫زكم األنوف‪ ،‬ومن‬ ‫اليوم‪ ،‬من اهنيار تام للتقاليد اإلدارية‪ ،‬ومن فساد ي ِ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ضياع ملوارد البالد ومقدراهتا‪ ،‬ال تنحرص أسبابه يف ما فعله جعفر‬
‫نمريي وحسن الرتايب وحكم اإلنقاذ‪ .‬وإنام أسهمت يف ذلك الرتاجع‬
‫املريع منذ االستقالل‪ ،‬نزعة التعلق‪ ،‬غري املوضوعية‪ ،‬بأسلمة الدولة‪،‬‬

‫‪156‬‬
‫وأسلمة القوانني‪ .‬ورغم اجلدل والعراك السيايس والعنف عرب نصف‬
‫القرن املايض‪ ،‬مل يتضح إطالق ًا أن لتطبيق قوانني الرشيعة اإلسالمية أي‬
‫تأثري إجيايب عىل خطط بناء الدولة‪ ،‬وال الكيفية التي تُدار هبا‪ .‬فالدول‬
‫ُبن َيت وتُبنى كل يوم‪ ،‬وبنجاح باهر‪ ،‬عىل أفضل الصور‪ ،‬يف بلدان ال‬
‫صلة هلا باإلسالم إطالق ًا‪ ،‬ويف بلدان مسلمة مل ترفع قط هذا الشعار‪.‬‬
‫هذا الداء الغريب‪ ،‬أصاب غالبية القوى السياسية السودانية‪ ،‬منذ فجر‬
‫االستقالل‪ .‬ولذلك فإن كل ما جرى يف عهد اإلنقاذ الراهن‪ ،‬مل يكن‬
‫إيصال لالهنيار‪ ،‬السيايس‪ ،‬والدستوري والقانوين‪ ،‬واإلداري‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫سوى‬
‫الذي بدأ منذ االستقالل‪ ،‬إىل هناية الشوط‪ .‬وهو اهنيار وقفت وراءه‬
‫الفجة‪ ،‬واهلوس الديني‪ ،‬والدّ جل السيايس‪ ،‬ال غري‪.‬‬
‫العاطفة الدينية ّ‬
‫اإلسالميون يكسرون الدائرة الشريرة‬
‫واحدة من النقاط املهمة التي حتاول هذه الورقة تسليط الضوء‬
‫عليها‪ ،‬هي أن اإلسالميني نجحوا‪ ،‬يف كرس احللقة الدائرية املفرغة‬
‫املتمثلة يف‪ :‬ديمقراطية‪ ،‬فحكم عسكري‪ ،‬فديمقراطية‪ ،‬فحكم‬
‫كس‬
‫كسهم هذه احللقة‪ ،‬وهو ْ ٌ‬ ‫أن ْ َ‬ ‫عسكري‪ ،‬إىل ما ال هناية‪ .‬غري ّ‬
‫فهم‬ ‫اعتباطي‪ ،‬دون ريب‪ ،‬وليس مقصود ًا لذاته‪ ،‬ع ّقد األمور أكثر‪ُ .‬‬
‫ٌّ‬
‫حني كرسوا الدائرة املفرغة لنظام ديمقراطي‪ ،‬فانقالب عسكري‪ ،‬فنظام‬
‫جرا‪ ،‬قضوا عىل كل اإلنجازات‬ ‫وهلم ّ‬‫ّ‬ ‫ديمقراطي‪ ،‬فانقالب عسكري‪،‬‬
‫التي حدثت يف مسرية بناء الدولة احلديثة‪ ،‬منذ مطلع القرن العرشين‪.‬‬
‫لقد أعاد اإلسالميون عقارب ساعة التحديث يف السودان‪ ،‬إىل حالة‬
‫هي أقرب ما تكون إىل احلقبة السنارية‪ .‬فمجيء اإلسالميني إىل احلكم‬
‫بمفردهم‪ ،‬عن طريق القوة‪ ،‬وجلوسهم فيه بمفردهم‪ ،‬ملا يزيد عن ربع‬
‫ورضب كل البنيات السياسية‬ ‫قرن‪ ،‬مكّنهم من تغيري كل قواعد اللعب‪ْ ،‬‬
‫واالجتامعية واالقتصادية‪ ،‬ما أحدث اختالالت مريعة تنذر بكثري من‬
‫سوء العواقب‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫أجرى اإلسالميون تغيريات كبرية يف البيئة الفكرية‪ ،‬والثقافية‪،‬‬
‫واالقتصادية‪ ،‬واالجتامعية‪ ،‬عالوة عىل البيئة السياسية‪ .‬وقد أغلقت‬
‫تغي التحدي عن أي‬ ‫كل هذه األمور السبيل أمام إجياد خمرج‪ .‬وهكذا َّ‬
‫صورة عرفناها له يف املايض‪ .‬ويف هذا الوضع‪ ،‬عىل فداحته‪ ،‬نعمة خمتبئة‬
‫يف إهاب نقمة‪ .‬فنحن اآلن‪ ،‬أمام مهمة بالغة اجلسامة‪ ،‬بالغة الصعوبة‪،‬‬
‫وبالغة احلرج؛ فإما النجاح يف وضع األرجل عىل الطريق الصحيح‪،‬‬
‫وإما اهلاوية‪ .‬فاخلياران اآلن مطروحان أمام اجلميع‪ ،‬وكالمها يملك‬
‫وزن ًا مساوي ًا لآلخر‪ ،‬من حيث إمكانية التحقق‪.‬‬
‫نجح اإلسالميون‪ ،‬بكل ما قاموا به من أفعال سالبة‪ ،‬يف وضعنا‪،‬‬
‫قرس ًا‪ ،‬يف مربع جديد متام ًا‪ .‬غري أن املربع اجلديد الذي وضعونا فيه‪ ،‬هو‬
‫بلقع جرداء‪ ،‬ال شجر فيها‪ ،‬وال ماء‪ .‬وهذا املربع‪،‬‬ ‫أرض ٌ‬ ‫بكل املقاييس‪ٌ ،‬‬
‫عالوة عىل قحطه وجدبه‪ ،‬فإنه يقف عىل حافة اهلاوية‪ .‬هكذا‪ ،‬شاءت‬
‫األقدار أن تضعنا أمام هذا التحدي غري املسبوق يف تارخينا السيايس‪:‬‬
‫فإما أن نفهم ونقبل أن كرس هذه احللقة كان رضوري ًا‪ ،‬برصف النظر‬
‫عمن أنجزه‪ ،‬وعن الكيفية التي أنجزه هبا‪ ،‬لنتّجه صوب تأسيس بداية‬
‫جديدة خمتلفة‪ ،‬وإما أن نظل نحلم األحالم القديمة‪ ،‬بعودة ديمقراطية‬
‫جرت يف الواقع‬ ‫رابعة عىل ذات النسق القديم‪ .‬وهو أمر مل يعد ممكن ًا‪ .‬فقد َ‬
‫تغيريات جوهرية‪ ،‬مل يعد تكرار السيناريوهات القديمة معها ممكن ًا‪.‬‬
‫كام سلفت اإلشارة‪ ،‬مل يكرس اإلسالميون احللقة بالصورة التي كان‬
‫ينبغي أن حتدث‪ .‬وما كان ينبغي أن متارسه القوى السياسية‪ ،‬قبل أن‬
‫َيثِب اإلسالميون عىل احلكم عسكري ًا‪ ،‬هو أن متارس القوى السياسية‬
‫نقد ًا ذاتي ًا حقيقي ًا‪ ،‬يمكّنها من تعديل املسار‪ ،‬و َق ْطع الطريق عىل مسرية‬
‫اإلسالميني املتجهة نحو األسلمة الشكالنية‪ .‬وهي مسرية بدأت منذ‬
‫ثورة أكتوبر‪ ،‬وقدّ مت فيها القوى التقليدية لإلسالميني مساعدات‬
‫مجة‪ .‬لكن‪ ،‬عجزت القوى السياسية أن جتري نقد ًا‪ ،‬ويبدو أهنا ال متلك‬

‫‪158‬‬
‫جرهم‬‫مقوماته أصالً‪ .‬كام أهنا عجزت عن القفز من عربة األسلمة التي ّ‬
‫إليها اإلسالميون‪ ،‬فاستجابوا منذ الستينات‪ ،‬ظانّني أن كل مفاتيح‬
‫اللعب أصبحت بحوزة اإلسالميني‪ ،‬وأن حصان «حتكيم الرشيعة» هو‬
‫احلصان الرابح يف هناية املطاف‪ .‬غا َفل اإلسالميون اجلميع ووثبوا إىل‬
‫السلطة ب َل ْيل‪ ،‬وأعملوا معاوهلم يف كل البنى تكسري ًا‪ ،‬من أجل تثبيت‬
‫ُّ‬
‫أنصب كل جهد اإلسالميني يف أال تكون‬
‫َّ‬ ‫نظام حكمهم‪ ،‬وإطالة عمره‪.‬‬
‫وت ِلفهم عىل كرايس احلكم‪ .‬هبذه‬
‫هناك فرصة ألي قوة أخرى لتجيء َ‬
‫األفعال جمتمع ًة‪ ،‬قدّ م اإلسالميون للبالد‪ ،‬يف ما أرى‪ ،‬خدمة جليلة‪ ،‬من‬
‫حيث ال حيتسبون‪ .‬فقد وضعوها يف مربع جديد‪ ،‬بقطعهم عليها طريق‬
‫العودة إىل األالعيب القديمة‪ .‬لقد أوقفوها عن الدوران يف احللقة‬
‫املفرغة‪ .‬وأصبح عليها اآلن أن تتأمل يف َط ْرق درب جديد‪ ،‬غري مطروق‪.‬‬
‫ك ّلف اإلسالميون البالد ثمن ًا بالغ الفداحة‪ ،‬إذ عىل أيدهيم انفصل‬
‫وزن يف خمتلف مكونات الدولة‬ ‫ٍ‬ ‫بكل ما كان يم ّثله من‬ ‫اجلنوب‪ّ ،‬‬
‫السودانية‪ .‬أيض ًا‪ ،‬تسببوا يف خراب سيايس واقتصادي واجتامعي‬
‫كبري‪ ،‬بسبب احلرب يف دارفور والنيل األزرق‪ ،‬وجنوب كردفان‪.‬‬
‫وقبل ذلك‪ُ ،‬ف ِقدت أرواح املاليني يف حرب اجلنوب الطويلة التي زاد‬
‫السلطة‪ ،‬أوارها بصورة غري مسبوقة‪.‬‬ ‫اإلسالميون‪ ،‬حني جاءوا إىل ُّ‬
‫املستمر يف نزوح ماليني السودانيني من‬ ‫ّ‬ ‫وتس ّبب ذلك االضطراب‬
‫فخ َوى الريف عىل عروشه‪َ .‬شفطت املدن الكبرية سكان‬ ‫أرضهم‪َ ،‬‬
‫فض ُخمت وخلقت‬ ‫الريف‪ ،‬بعد أن اهنارت دعائم اقتصاد الكفاف‪َ ،‬‬
‫واسع جد ًا للسالح‪ ،‬وسادت‬ ‫ٌ‬ ‫انتشار‬
‫ٌ‬ ‫كابوس ًا إداري ًا فظيع ًا‪ .‬أيض ًا‪ ،‬حدث‬
‫البالد اضطرابات أمنية غري مسبوقة‪ .‬وإىل جانب كل تلك الباليا التي‬
‫جلبها اإلسالميون عىل البالد‪ ،‬رشعوا من أجل استدامة نظام حكمهم‬
‫يف استهداف العمل النقايب‪ ،‬والتقاليد النقابية‪ ،‬فاجت ّثوها من جذورها‪.‬‬
‫كام أضعفوا األحزاب السياسية‪ ،‬وأف َق ُروها‪ ،‬وفتّتوها‪ .‬أيض ًا‪ ،‬أف َق ُروا‬

‫‪159‬‬
‫املهنيني‪ ،‬وقضوا عىل الطبقة الوسطى‪ ،‬وأجربوا أصحاب العقول‬
‫الكبرية واخلربات املهنية‪ ،‬واملاليني من الشباب الذين ضاقت أمامهم‬
‫فرص العيش‪ ،‬عىل اهلجرة خارج القطر‪.133‬‬
‫هكذا‪ ،‬خال اجلو لإلسالميني‪ ،‬ليستخدموا اخلطاب الديني‪،‬‬
‫ويروجوا للمخاوف ِ‬
‫الع ْرقية‪ ،‬وليصنعوا بأيدهيم مجهور ًا سوداني ًا‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫َ‬
‫عىل مقاس قامة ط ْرحهم اخلفيضة‪ ،‬وخطاهبم الديني امللتبس‪ .‬حما‬
‫اإلسالميون من ّظامت املجتمع املدين‪ ،‬وضيقوا عىل اخلطاب املعارض‪،‬‬
‫وخنقوا الفكر‪ ،‬والثقافة‪ ،‬والصحافة‪ ،‬وأح ّلوا اهلوس الديني واخلطاب‬
‫حمل العقل‬ ‫الديني األجوف‪ ،‬والرتديد الببغاوي للعبارات الدينية‪ّ ،‬‬
‫الراجح واخللق القويم‪ .‬كام أهلوا غالبية الشباب بأخبار الرياضة‬
‫وفعالياهتا‪ ،‬وباحلفالت الغنائية هابطة املستوى‪ ،‬وباملسابقات الشعرية‬
‫فقرية املادة‪ ،‬وغري ذلك من رضوب اإلهلاء‪.‬‬
‫عموم ًا‪ ،‬أرجع اإلسالميون عقارب ساعة التحديث يف السودان‪،‬‬
‫الناس األم َن‪ ،‬واهنارت الثقة يف‬ ‫ُ‬ ‫إىل الوراء‪ ،‬قرن ًا كامالً‪ .‬أيض ًا‪َ ،‬ف َقدَ‬
‫الدولة ويف قدرهتا عىل احلامية‪ .‬فقد عصفت رياح الفوىض والالقانون‬
‫بكل مظالت التأمني احلداثية‪ .‬فارتدّ الناس عىل أعقاهبم‪ ،‬يبحثون عن‬
‫األولية‪ ،‬املتمثلة يف العشرية والقبيلة‪ .‬وبعد‬ ‫األمن واحلامية يف والءهتم ّ‬
‫حتول نظام اإلسالميني احلايل‪ ،‬يف آخر خت ُّلقاته‪،‬‬ ‫ما يقارب الثالثني عام ًا‪َّ ،‬‬
‫إىل دائرة صغرية جد ًا متمحورة حول الرئيس‪ .‬فقد بدأ النظام يأكل بنيه‬
‫واحد ًا واحد ًا‪ ،‬فأقىص كل رموز مراحله السابقة‪ ،‬واحد ًا تلو اآلخر‪،‬‬
‫حتى بلغ أن جعل من احلركة اإلسالمية نفسها‪ ،‬جمرد الفتة قامشية‬

‫‪ .133‬بلغت أعداد املهاجرين‪ ،‬حسب إحصائيات وزارة العمل‪ ،‬يف العام املايض حواىل (‪ )75.631‬مهاجرا ً‪ ،‬من بينهم‬
‫‪ 5000‬طبيب‪ .‬راجع‪ :‬هجرة الكوادر السودانية إىل الخارج‪ ..‬األسباب والتداعيات‪ ،‬صحيفة االنتباهة‪.2013/1/6 ،‬‬
‫ويف عام ‪ ،2014‬قال مدير أدارة الهجرة بجهاز شؤون السودانيني العاملني بالخارج‪ ،‬كرم الله عيل عباس‪ ،‬إن معدل‬
‫هجرة االطباء السنوي ال يقل عن (‪ )5‬ألف طبيب‪ ،‬مبيناً أن (‪ )% 90‬من املهاجرين هاجروا بسبب الظروف‬
‫االقتصادية‪ .‬راجع‪ :‬الطريق اإللكرتونية‪ ،‬عىل الرابط‪( ،http://goo.gl/ngQqIK :‬اسرتجاع ‪ 22‬أغسطس)‪.‬‬

‫‪160‬‬
‫مهرتئة‪ .‬أصبحت الدائرة الصغرية املحيطة بالرئيس‪ ،‬هي املتحكم يف كل‬
‫يشء‪ ،‬تسندها مؤسسة أمنية باطشة‪ ،‬بالغة الضخامة‪ ،‬عديدة الطبقات‪،‬‬
‫وافرة املوارد‪ .‬هذا‪ ،‬يف حني مل يبق يف مواجهة هذه النواة املسيطرة‪ ،‬سوى‬
‫هياكل كرتونية‪ ،‬من بقايا احلركة اإلسالمية املنسوفة‪ ،‬وقوى املعارضة‪،‬‬
‫التي مل تعد ذات فاعلية‪ ،‬أو تأثري يذكر‪ .‬فنسبة كبرية من القوى التي‬
‫كانت يف املايض سند ًا لقوى املعارضة‪ ،‬خاصة احلزبني التقليديني‬
‫الكبريين؛ (األمة واالحتادي)‪ ،‬استطاع النظام‪ ،‬بمختلف األساليب‪،‬‬
‫فتحول إىل جمرد ظاهرة صوتية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫امتصاصها داخل بنيته‪ .‬أما اليسار‪،‬‬
‫أيض ًا‪ ،‬متكّن النظام‪ ،‬عرب خطابه اإلعالمي‪ ،‬وجهاز أمنه‪ ،‬وحرب‬
‫شائعاته التي تستهدف تشكيالت القوى املعارضة‪ ،‬من أن يعزل حركة‬
‫اهلوامش املسلحة‪ ،‬رغم قوهتا النسبية املعتربة‪ ،‬عن تيار التململ العام‬
‫املتنامي ضده‪ ،‬يف شوارع املدن الرئيسية‪ ،‬الذي وصل‪ ،‬يف السنوات‬
‫األخرية‪ ،‬درجة الصدام العنيف معه يف الشارع‪ .‬نجح النظام‪ ،‬يف حتييد‬
‫كبري من املواطنني‪ ،‬عن طريق إثارة املخاوف ِ‬
‫الع ْرقية‪ ،‬خاصة‪،‬‬ ‫قطا ٍع ٍ‬
‫وسط سكان املدن الكربى يف الوسط والشامل النييل‪ ،‬ما أضعف ضغط‬
‫اهلوامش املس ّلحة عىل مركز النظام‪ .‬وما لبث النظام أن أرهق احلركات‬
‫خطرها عليه أو‬
‫ُ‬ ‫وحصها عسكري ًا يف جيوب معزولة‪ ،‬فزال‬‫َ َ‬ ‫املسلحة‬
‫يكاد‪ .‬كام بدّ د زمخها الدبلومايس‪ ،‬فأضحت قليلة الن َُّصاء عىل الساحة‬
‫مطولة‪ ،‬مع‬
‫الدولية‪ ،‬تقتات حلارضها الباهت‪ ،‬من جوالت تفاوضية ّ‬
‫النظام يف أديس أبابا‪ ،‬زبقيت تدور منذ أعوام يف حلقة مفرغة‪.‬‬
‫محاسن الصُّ دف والمُ باالة العالم‬
‫احلظ النظا َم احلا َّيل كام مل خيدم نظام ًا من قبل‪ .‬وهناك‬
‫ُّ‬ ‫لقد خدم‬
‫الصدف التي يمكننا تت ُّبعها للتدليل عىل‬ ‫سلسلة طويلة من غرائب ُّ‬
‫ِ‬
‫الصدف النظا َم إىل أن‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫حماسن ُّ‬ ‫الطويل من‬ ‫املسلسل‬ ‫ذلك‪ .‬فقد قاد هذا‬

‫‪161‬‬
‫يظ ّن أنه مؤيد بروح القدس‪ .‬لكن اجلديد واخلطري‪ ،‬يف مسلسل حماسن‬
‫ال حاس ًام يف‬
‫الصدف هذا‪ ،‬هو أن الثورات وإراقة الدماء مل تعد عام ً‬ ‫ُّ‬
‫إسقاط األنظمة‪ ،‬كام ظهر من غالبية جتارب الربيع العريب‪ .‬ففي املايض‬
‫جامعي واحد‪ ،‬كام حدث يف أكتوبر‬ ‫ّ‬ ‫السوداين القريب‪ ،‬كان موت طالب‬
‫تنحل من‬‫ّ‬ ‫كاف جد ًا‪ ،‬لكي تغضب األمة غضبة ُم َضية‪ ،‬وأن‬ ‫‪ٍ ،1964‬‬
‫جراء غضبتها وهدير حناجرها‪ ،‬عزيمة عسكر الفريق عبود‪ ،‬الذين‬ ‫ّ‬
‫السلطة للثوار طائعني‪.‬‬ ‫كانوا أصال قوم ًا بسطاء و ُفضالء‪ ،‬فقبلوا تسليم ُّ‬
‫أما اليوم‪ ،‬فلم يعد موت مئات اآلالف‪ ،‬وال سيل أهنر من الدم‪ ،‬كافٍ‬
‫إلسقاط أي دكتاتور‪ ،‬يف أي بلد عريب‪ .‬بل إن ما حيدث‪ ،‬بعد أن يذهب‬
‫الدكتاتور‪ ،‬وتُزهق آالف األرواح‪ ،‬وتتهدّ م البنيات التحتية‪ ،‬وكل مرافق‬
‫احلياة السوية‪ ،‬هو أن يسقط اجلميع يف أتون حمرق من الفوىض العارمة؛‬
‫كام نشاهد يف العراق‪ ،‬ويف اليمن‪ ،‬ويف ليبيا‪ ،‬ويف سوريا‪ ،‬التي مل يعد سوء‬
‫تتيس للسودان‬ ‫ِ‬
‫قارن بأي شبيه‪ .‬فلكَي ّ‬ ‫احلال فيها‪ ،‬من فرط فظاعته‪ُ ،‬ي َ‬
‫بداية جديدة‪ ،‬هناك خياران ال ثالث هلام‪ :‬فإما أن تسري البالد يف طريق‬
‫األهوال هذا‪ ،‬الذي سارت فيه‪ ،‬وال تزال تسري‪ ،‬كل من سوريا واليمن‬
‫وليبيا‪ ،‬وإما أن خيرج اجلميع من رشانقهم القديمة‪ ،‬ليلتقوا يف منطقة‬
‫ٍ‬
‫استثناء ملايض جتارهبم‪،‬‬ ‫وسطى‪ ،‬جيري فيها نقد ذايت من اجلميع‪ ،‬بال‬
‫وجتري فيها اعرتافات‪ ،‬ومصاحلات‪ ،‬وتسويات‪ ،‬وتُقدَّ م فيها تنازالت‪،‬‬
‫نوعية‪ ،‬ويتهيأ اجلو الستيعاب شامل للجميع يف مسار جديد‪ ،‬وئيد‬
‫يمم شطر التحول الديمقراطي‪.‬‬ ‫اخلطى‪ُ ،‬ي ِّ‬
‫العامل الثاين اجلديد‪ ،‬الذي خدم اإلنقاذ‪ ،‬إىل جانب احلظ‪ ،‬هو أن‬
‫حتول مل َي ِر عىل مستوى‬
‫حتوالً ملحوظ ًا يف أمزجة الناس‪ .‬وهو ّ‬
‫هناك ّ‬
‫السمة الرئيسة هلذا التحول‪،‬‬
‫السودان‪ ،‬وإنام عىل مستوى الكوكب كله‪ِّ .‬‬
‫السعة لدى اجلامهري يف التصالح مع الظلم‬
‫هي «الالمباالة»‪ ،‬وزيادة ّ‬
‫والطغيان‪ ،‬وتق ّبلهام‪ ،‬والتعايش النفيس مع األثامن الفادحة التي‬

‫‪162‬‬
‫يدفعها املستضعفون‪ .‬وقد شمل هذا التحول يف املزاج‪ ،‬القوى الدولية‬
‫واإلقليمية أيض ًا‪ ،‬كام شمل وسائل اإلعالم العاملية‪ ،‬بكل أنواعها‪.‬‬
‫وشوهته‪.‬‬
‫باختصار‪ ،‬أطبقت هذه احلالة عىل جممل مناخ النفس البرشية َّ‬
‫ُوجع الضمري‪،‬‬‫هتز الوجدان‪ ،‬وت ِ‬
‫مل تعد َمشاهد القتل‪ ،‬الفردي واجلامعي‪ّ ،‬‬
‫وحتركه كام كان يف السابق‪ .‬ومل تعد جتارة البرش وقتل البرش‬
‫وتؤرقه ّ‬‫ّ‬
‫القتالع أعضائهم لبيعها‪ ،‬وال تعريض عامالت املنازل املهاجرات‬
‫إلرهاق مميت متصل احللقات‪ ،‬مع قلة يف الطعام وقلة يف النوم‪ ،‬بل‬
‫حيرك الضمري‬‫وحيش وتعذيب؛ مل يعد ّ‬‫ّ‬ ‫وأحيان ًا مع إهانات ورضب‬
‫اجلمعي رغم تكرار وصوله إىل مسامع الناس‪.‬‬
‫نفسه خمدوم ًا‪ ،‬من حيث ال حيتسب‪،‬‬ ‫السوداين َ‬
‫ّ‬ ‫وجد نظام اإلنقاذ‬
‫بكل هذه التحوالت يف املزاج العام‪ ،‬العاملي واإلقليمي واملحيل‪.‬‬
‫ولذلك‪ ،‬حني ثارت عليه ثائرة الشارع يف عام ‪ ،2013‬تصدّ ى جالوزته‬
‫للمتظاهرين العزل‪ ،‬فقتلوا منهم املئات‪ ،‬بدم بارد‪ ،‬يف بضعة أيام‪ .‬ومع‬
‫ذلك‪ ،‬استمر النظام يف ترصيف شؤونه مثلام اعتاد دائ ًام‪ ،‬كأن شيئ ًا مل‬
‫حيرك موت مئات اآلالف من الدارفوريني‪،‬‬ ‫يكن‪ .‬أكثر من ذلك‪ ،‬مل ّ‬
‫وحرق قرى بأكملها‪ ،‬وهتجري مئات اآلالف‪ ،‬منذ ‪ ،2003‬املجتمع الدويل‬
‫حترك الويالت التي يتعرض هلا مواطنو النوبة يف‬ ‫لكي يفعل شيئ ًا‪ .‬ومل ّ‬
‫جنوب كردفان‪ ،‬وسكان جنوب النيل األزرق‪ ،‬حراك ًا مضاد ًا ُيذكر‪.‬‬
‫ُيضاف إىل ما تَقدَّ م‪ ،‬أن النظام رغم كل سوءاته‪ ،‬وكراهية اجلميع‬
‫وتوجسهم منه‪ ،‬أصبح وجوده‪ ،‬نتيجة حلسابات سياسية معقدة‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫له‪،‬‬
‫خادم ًا ألهداف بعض القوى اإلقليمية‪ ،‬والقوى الدولية‪ ،‬بام فيها‬
‫الواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬التي مل ت ِ‬
‫ُبد أي محاس لذهابه‪ ،‬رغم اهتامها‬
‫جره إىل تعديل مساره‪ ،‬بمختلف‬‫له بمساندة اإلرهاب‪ .‬إذ بقيت حتاول ّ‬
‫الضغوط‪ ،‬دون جدوى‪ .‬الشاهد‪ ،‬أن احلالة السودانية وصلت‪ ،‬نتيجة‬
‫لعوامل كثرية‪ ،‬إىل هذا الطريق املسدود‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫انغالق الحقبة الكئيبة‬
‫هذا املشهد السوداين املأساوي املتجمد‪ ،‬املاثل أمامنا منذ ربع قرن‪،‬‬
‫له‪ ،‬يف تقديري‪ ،‬داللة رئيسة مهمة‪ .‬هذه الداللة الرئيسة املهمة‪ ،‬أن هذه‬
‫احلقبة الكئيبة‪ ،‬التي امتدت منذ مؤمتر اخلرجيني عام ‪ ،1938‬إىل يومنا‬
‫تتطور من‬
‫هذا‪ ،‬قد وصلت إىل هنايتها ومل تعد هناك أي فرصة هلا لكي ّ‬
‫داخل بنيتها‪ ،‬وفق دينامياهتا القديمة‪ .‬لقد بلغت هذه املرحلة درجة‬
‫االنغالق التام‪ .‬ولكي تكون هناك بداية جديدة‪ ،‬ينبغي أن نعمل عىل‬
‫أال يدخل منها يشء إىل مستقبل السودان‪ .‬ينبغي أن تُكنَس بأيقوناهتا‬
‫مطوالت جدهلا العقيم الذي‬ ‫ورموزها من القيادات التارخيية‪ ،‬وكل ّ‬
‫أ َّط َرته حقبة احلرب الباردة‪ ،‬وأشواق اإلسالميني ذات الطابع املرشقي‪،‬‬
‫وأشواق الشيوعيني املاركسية اللينينة‪.‬‬
‫رتك هناك ل ُت ْطبِق عليها‬
‫ُوضع هذه احلقبة الكئيبة‪ ،‬حيث جيب‪ ،‬و ُت َ‬
‫لكي ت َ‬
‫ينصب اجلهد األكاديمي‪ ،‬والفكري‪ ،‬والثقايف‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ظلامت التاريخ‪ ،‬ال بدّ أن‬
‫يف نقدها‪ ،‬وتبيني اإلشكاليات الكثرية التي اعتورهتا‪ .‬كام ينبغي أن تُفتَح‬
‫األبواب للشباب عىل مرصاعيها‪ .‬فالشيوخ والكهول تس ّيدوا الساحة‬
‫لقرابة القرن دون استحقاق‪ .‬ويف هذا املنحى‪ ،‬ال بدّ من تفكيك الصور‬
‫الزاهية‪ ،‬التي رسمها طالئع املتعلمني ألنفسهم‪ ،‬فاشرتاها منهم الشعب‪،‬‬
‫يف فرتة قصور وعيه وحمدوديته‪ .‬ثم واصلت أجهزة اإلعالم‪ ،‬التي ظلت‬
‫يرسخ التمجيد‬ ‫عىل الدوام يف يد جهاز الدولة‪ ،‬يف نسج اخلطاب الذي ّ‬
‫والزهو والفخار األجوف‪ ،‬وخيلق الرموز بصورة أقرب اىل االعتباط‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ويسدّ الطريق أمام أي حماولة للتبصري وللنقد والتقييم املوضوعي‪.‬‬
‫مل يكن من املمكن أص ً‬
‫ال أن تسري حقبة ما بعد االستقالل ب ُيرس‬
‫وانسيابية‪ .‬فدولة القانون التي ورثناها عن الربيطانيني كان كل عمرها‬
‫ثامنية ومخسني عام ًا‪ ،‬ال أكثر‪ .‬ولقد كانت ّ‬
‫بحق دولة قانون‪ ،‬رغم أهنا‬

‫‪164‬‬
‫أديرت بيد من حديد بواسطة اإلدارة الربيطانية االستعامرية‪ ،‬وخت ّللتها‬
‫التجاوزات بحكم طبيعتها‪ .‬أما ما سبقها فكان حقبتا الرتكية واملهدية‬
‫القريبتان جد ًا من الفوىض‪ .‬فنظام احلكم يف كليهام مل يتسم بالتزام القانون‪.‬‬
‫مهم جتب مالحظته‪ ،‬وهو أن ثامر التعليم احلديث الذي‬ ‫هناك أمر ّ‬
‫بدأ مع كلية غردون مل تظهر بصورة تستحق االعتبار‪ ،‬إال يف العرشينات‪.‬‬
‫فالكلية افتتحت عام ‪ ،1902‬غري أن املرحلة الثانوية فيها مل تبدأ حتى‬
‫خترج خرجيوها بعد س ّن اخلامسة عرشة‪ ،‬وهو‬ ‫‪ .1905‬ولذلك‪ ،‬لو ّ‬
‫األرجح‪ ،‬فإن حصيلتها من املتخرجني بدأوا يظهرون يف احلياة العامة‬
‫بعد عام ‪ .1920‬لذلك يمكن القول أن ما تل ّقاه الصفوة من طالئع‬
‫املتعلمني السودانيني‪ ،‬من تدريب عىل إدارة الدولة احلديثة‪ ،‬مل يتجاوز‬
‫الثالثني عام ًا (‪ .)1955 -1925‬وبنا ًء عىل ما تَقدَّ م‪ ،‬يمكن القول‪،‬‬
‫أنه مل يكن من املعقول أصالً‪ ،‬أن تستمر هذه الفئة القليلة من طالئع‬
‫املتعلمني‪ ،‬بتعليمها املحدود‪ ،‬ذي الطبيعة املهنية‪ ،‬يف حكم البالد‪ ،‬عقب‬
‫خروج اإلنجليز‪ ،‬ثم يكون أداؤها متس ًام بالرشد وبالكفاءة والفعالية‪.‬‬
‫فال تدريبهم كان كافي ًا‪ ،‬وال تعليمهم كان كافي ًا‪ ،‬وال أعامرهم كانت‬
‫معينة عىل ذلك‪ .‬كام مل تكن الظروف العامة للقطر‪ ،‬الذي كانت نسبة‬
‫األمية فيه وقتها تتجاوز السبعني‪ ،‬وربام الثامنني يف املئة‪ ،‬كانت هي‬
‫األخرى مواتية‪ .‬يضاف إىل ذلك أن الذي كان سائد ًا بنسبة قد تصل إىل‬
‫املئة‪ ،‬هو اقتصاد الكفاف‪.‬‬
‫إضافة إىل ما تَقدَّ م‪ ،‬كان هناك خت ّلف كبري يف البنى التحتية‪ ،‬ويف البنى‬
‫االقتصادية‪ ،‬وضعف شديد يف التعليم والتدريب‪ ،‬وقصور يف الرؤية‪،‬‬
‫فإن بناء األمم ال يتح ّقق ب ُي ْس‪ ،‬وال‬
‫ويف النضج السيايس‪ .‬وعموم ًا‪ّ ،‬‬
‫يتح ّقق بالرسعة التي نتخ ّيلها‪ .‬كام ال بدّ أن يصحبه دفع أثامن باهظة‪.‬‬
‫فالثامنني عام ًا التي بدأت بمؤمتر اخلرجيني‪ ،‬وانتهت بوقتنا الراهن‪ ،‬ليست‬
‫كبرية جد ًا مقارنة بام تستغرقه األمم عادة يف بناء دوهلا‪ .‬ما ّ‬
‫يتوجب علينا‪،‬‬

‫‪165‬‬
‫يف تقديري‪ ،‬هو أن نفهم أن حالة االنغالق احلالية‪ ،‬يمكن أن تكون هي‬
‫األرضية الصاحلة‪ ،‬التي يمكن أن ننبعث منها‪ ،‬من جديد‪ .‬لكن برشط‬
‫أن نرتك املكابرة‪ ،‬ونفهم سياق تاريخ وإشكالياته‪ ،‬عىل نحو جديد‪ ،‬وأن‬
‫نعرتف مجيع ًا‪ ،‬ب ُع ْقم هذه احلقبة الكئيبة املنقضية‪ ،‬ثم نقوم بنقد أدوارنا‬
‫السالبة فيها‪ ،‬وفضح جهاالتنا التي مألنا هبا الفضاء زعيق ًا‪ ،‬مل يأت بثمر‪.‬‬
‫الحداث ّيون والفوق ّية‬
‫قليل جد ًا ما تنتبه النخب املتع ّلمة عندنا إىل فوق ّيتها‪ ،‬وإىل نزعتها‬
‫املتعجلة‪ .‬والنزعة التثويرية‪ ،‬الفوقية‪ ،‬املعنية هنا‪ ،‬هي حماولة‬
‫ّ‬ ‫التثويرية‬
‫َس ْوق الواقع قرس ًا‪ ،‬بالنيابة عن أهل ذلك الواقع‪ ،‬ال بواسطتهم‪ ،‬نحو‬
‫أهداف موجودة حرص ًا يف أذهان الن َُّخب املتع ّلمة‪ .‬واحلداثيون الذين‬
‫أعنيهم هنا‪ ،‬هم طالئع املتع ّلمني الذين تل ّقوا تعلي ًام غلب عليه الطابع‬
‫الغريب‪ ،‬فوقفوا ضد الطائفية‪ ،‬عند فجر احلركة الوطنية‪ ،‬ووقفوا الحق ًا‬
‫ضد اإلدارة األهلية‪ ،‬دون أن تنضج الظروف العملية لتجاوز الطائفية‬
‫واإلدارة األهلية‪ .‬ناصبت طالئع املتعلمني الطائفية العداء‪ ،‬ثم ما‬
‫لبثوا أن انقسموا‪ .‬انضمت أكثريتهم إىل الطائفتني الكبريتني (األنصار‬
‫واخلتمية) ‪ ،134‬واجتهت البقية‪ ،‬التي رفضت االنضامم إىل الطائفتني‪ ،‬إىل‬
‫إنشاء األحزاب اإليديولوجية الصغرية؛ كاجلمهوريني‪ ،‬والشيوعيني‪،‬‬
‫والحق ًا‪ ،‬جاء اإلسالميون‪ ،‬والبعثيون‪ ،‬والنارصيون‪ ،‬ومجاعات اهلامش‬
‫السياسية؛ املسلح منها‪ ،‬وغري املسلح‪.‬‬
‫كونوا أحزاب ًا صغرية‪ ،‬كام‬
‫الذين رفضوا االنضامم إىل الطائفتني‪ّ ،‬‬
‫ِ‬
‫سلفت اإلشارة‪ .‬لكن هذه األحزاب مل تستطع أن ُتدث أثر ًا يذكر‬
‫عىل جمريات السياسة يف السودان‪ ،‬خاص ًة يف السنوات التي أعقبت‬
‫االستقالل مبارشة‪ .‬غري أن الشيوعيني‪ ،‬بخالف البقية‪ ،‬أخذوا يف‬
‫‪134. Mahmood Mamdani, Saviors and survivors: Darfur, politics, and the war‬‬
‫‪on terror, Pantheon.‬‬

‫‪166‬‬
‫النمو يف القطاعات احلديثة التي يمثلها املثقفون واملوظفون والعامل‬
‫والطالب‪ .‬ولقد بان ذلك جل َّي ًا يف َدورهم يف إنجاح ثورة أكتوبر ‪1964‬‬
‫عن طريق العصيان املدين‪.135،‬‬
‫يرى حممود ممداين أن القوى املدافعة عن احلداثة يف السودان بش ّق ْيها‬
‫«العلامين» و»اإلسالمي»‪ ،‬تستند إىل طبقات وتكوينات اجتامعية‬
‫وباألخص تلك املنتمية إىل اإلنتليجنسيا من املهنيني‪ ،‬وضباط‬
‫ّ‬ ‫حرضية‪،‬‬
‫اجليش‪ ،‬وطبقة التجار‪ ،‬مضاف ًا إليهم قطاع الطالب‪ .‬وقد أيقن أفراد‬
‫اإلنتليجنسيا الطموحون‪ ،‬منذ بداية االستقالل‪ ،‬أهنم ال يم ّثلون سوى‬
‫خضم كبري جد ًا من القوى «التقليدية»‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫صغرية جد ًا يف‬ ‫ٍ‬
‫جزيرة «حداثية»‬
‫ٍّ‬
‫ٍ‬
‫أغلبية من الناخبني تأيت‬ ‫ومل يكن يف وسعهم‪ ،‬من ثم‪ ،‬أن حيصلوا عىل‬
‫هبم إىل احلكم‪ .‬ولذلك فقد عنَت «الديمقراطية» بالنسبة هلم حرك ًة‬
‫حداثي ًة ثورية‪ ،‬ختترص الطريق إىل احلكم‪ .‬كانت رؤيتهم أال يتم تفريغ‬
‫الديمقراطية من َدورها اإلنامئي النهضوي‪ ،‬لتصبح جمرد وسيل ًة يستعني‬
‫هبا «التقليديون» عىل اجللوس املستمر يف كرايس احلكم‪ .136‬انطبقت‬
‫هذه الرؤية عىل الشيوعيني‪ ،‬واإلسالميني‪ ،‬واجلمهوريني‪ ،‬والبعثيني‪،‬‬
‫والنارصيني‪ ،‬وغريهم‪ ،‬مع اختالفهم يف املقاربات الفكرية والسياسية‪،‬‬
‫يف التعاطي مع هذه اإلشكالية‪.‬‬
‫يرى حممود ممداين أن العداء بني املدافعني عن «التقليدية»‪،‬‬
‫واملدافعني عن «احلداثة»‪ ،‬هو الذي جعل أنظمة احلكم يف السودان‬
‫تتأرجح بني أنظمة ديمقراطية برملانية‪ ،‬وبني سلسلة من االنقالبات‬
‫ّ‬
‫العسكرية‪ .‬أي‪ ،‬أن التنافس احلزيب عىل صناديق االقرتاع‪ ،‬بني احلزبني‬
‫«التقليديني»؛ حزب األمة‪ ،‬واحلزب االحتادي الديموقراطي‪ ،‬مل يكن‬

‫‪ .135‬ديدار فوزي روسانو‪ ،‬السودان إىل أين؟‪( ،‬ترجمة‪ :‬مراد خالف)‪ ،‬الرشكة العاملية للطباعة والنرش‪،‬‬
‫السودان‪ ،2007 ،‬ص ‪.148‬‬
‫‪136. Ibd.‬‬

‫‪167‬‬
‫السبب يف ذلك التأرجح‪ ،‬وتلك احللقة املفرغة‪ ،‬وإنام السبب هو‬
‫الرصاع بني معسكر «احلداثيني» ومعسكر «التقليديني»‪ .137‬ومالحظة‬
‫ممداين هذه‪ ،‬يف تقديري‪ ،‬مالحظة شديدة األمهية‪ .‬فاحلداثيون مل يكونوا‬
‫إن إيامهنم بالديمقراطية مل يكن مبدئي ًا عىل‬
‫ديمقراطيني‪ ،‬أصالً‪ .‬أو ُقل‪ّ ،‬‬
‫طول اخلط‪ .‬لقد كانوا ذرائعيني يف تعاملهم مع الديمقراطية‪ .‬ينطبق هذا‬
‫عىل اإلسالميني‪ ،‬بنا ًء عىل فكرة احلاكمية التي تؤطر رؤيتهم السياسية‪،‬‬
‫وعىل الشيوعيني‪ ،‬بحكم إيامهنم بالنظرية املاركسية‪ ،‬وباللينينية‪،‬‬
‫والدَّ ور التارخيي الذي َيرونه منوط ًا بالقوى الطليعية‪ ،‬وديكتاتورية‬
‫الطبقة العاملة‪ .‬كام ينطبق عىل اليسار العرويب‪ ،‬بكل أطيافه التي تؤمن‬
‫بديمقراطية احلزب الواحد‪ .‬كام ينطبق ذلك أيض ًا‪ ،‬عىل اجلمهوريني‪،‬‬
‫يف موقفهم من الطائفية‪ ،‬وترحيبهم بنظام جعفر نمريي‪ ،‬بل ودعمه‬
‫بقوة يف وجه كل من قاموا بمعارضته‪ ،‬عسكري ًا أو سلمي ًا‪،‬‬ ‫والوقوف ّ‬
‫واستمر موقف اجلمهوريني الداعم لنظام نمريي‪ ،‬حتى شهر مايو‬
‫‪1983‬؛ أي قبل أربعة أشهر فقط من إعالن قوانني سبتمرب‪.‬‬
‫يبدو يل أن املزاج «التثويري»‪ ،‬االنقاليب‪ ،‬وسط النخب املتع ّلمة‬
‫ظل ُيغري املغامرين من ضباط اجليش بمحاوالت القفز‬ ‫هو الذي ّ‬
‫أرض بالبالد‪ ،‬يف حقبة ما بعد االستقالل‪ ،‬يش ٌء‪ ،‬مثلام‬‫السلطة‪ .‬وما ّ‬ ‫إىل ُّ‬
‫أرضت هبا االنقالبات العسكرية‪ .‬فاالنقالبات التي فشلت بعد أن‬ ‫َّ‬
‫ظهرت إىل السطح‪ ،‬إضافة إىل تلك التي جرى كشفها قبل التنفيذ‪،‬‬
‫وصلت إىل ثالثة عرش انقالب ًا‪ .138‬لقد ّ‬
‫حتول األمر إىل نزاع عقيم وتر ُّبص‬
‫باآلخر‪ ،‬ال يني‪ ،‬ضاعت فيه الرؤية وضاع اهلدف‪ ،‬وال غرابة أن وصلنا‬
‫إىل ما وصلنا إليه اآلن‪.‬‬

‫‪137. Ibd.‬‬
‫‪ .138‬تاريخ االنقالبات يف السودان‪ 13 :‬محاولة انقالبية منذ االستقالل نجح منها ‪ 4‬ونظاما النمريي والبشري‬
‫أطولها عمرا‪ ،‬صحيفة الرشق األوسط‪ ،‬العدد‪.2004/9/9 ،9417:‬‬

‫‪168‬‬
‫ناصب طالئع املتع ّلمني املؤسسة الطائفية السودانية واإلدارة‬ ‫َ‬
‫األهلية‪ ،‬عدا ًء شديد ًا‪ ،‬منذ البداية‪ .‬مل يستوعبوا السياق التارخيي الذي‬
‫تولدت فيه الطائفية‪ ،‬ومل يقاربوا ظاهرهتا كظاهرة سيسيولوجية‪ ،‬بمعرفة‬
‫راسخة ناضجة‪ .‬لقد اعتقدوا أن التعليم احلديث‪ ،‬والثقافة الغربية‪،‬‬
‫وسلطة القفز عىل الواقع‪ .‬وقد قادهم هذا الوهم إىل‬ ‫حق ُ‬ ‫متنحاهنم ّ‬
‫الكثري من الديامغوغية والغوغائية‪ .‬لقد نظروا إىل الطائفية‪ ،‬واإلدارة‬
‫«الرجعية»‪ ،‬ونحن‬ ‫وهم ّ‬‫«هم املايض ونحن املستقبل»‪ُ ،‬‬ ‫األهلية بمنظار‪ُ :‬‬
‫«التقدّ م»‪ .‬ومن ثم أصبح موقفهم؛ إما نحن وإما ُهم‪ .‬وهكذا َتو ّلد‬
‫خطاب شديد احلدة والقسوة‪ ،‬ضد الطائفية واإلدارة األهلية‪ .‬ورغم‬
‫العداء الشديد‪ ،‬ولغة اخلطاب بالغة احلدة‪ ،‬مل َيث ُبت طالئع املتعلمني عىل‬
‫موقفهم‪ ،‬ومل َيظ ّلوا َمبدئيني يف عدائهم للطائفية‪ ،‬باستثناء اجلمهوريني‬
‫والشيوعيني‪ .‬فحني شعرت أكثريتهم أن حماولة انتزاع زمام القيادة‬
‫من القوى الطائفية ليس ممكن ًا‪ ،‬وأن الربيطانيني يثقون يف حكمة زعامء‬
‫الطوائف‪ ،‬ويف رجال اإلدارة األهلية‪ ،‬ويأمتنوهنم عىل مستقبل البالد‬
‫كثري‬
‫نفر ٌ‬ ‫فانضموا إىل الطائفتني‪ ،‬وابتلع ٌ‬
‫ّ‬ ‫أكثر مما يأمتنوهنم هم‪ ،‬رجعوا‬
‫منهم خطاهبم القديم‪ .‬غري أن شظايا من ذلك اخلطاب الناري احلاد‪،‬‬
‫بقيت ترت ّدد حتى بعد االستقالل‪ ،‬حني اختلف االحتاديون‪ ،‬بقيادة‬
‫األزهري‪ ،‬مع طائفة اخلتمية ‪.139‬‬

‫‪ .139‬اشتهر بالخطاب الناري‪ ،‬النايب‪ ،‬شديد الحدة‪ ،‬يف نقد الطائفية القطب االتحادي‪ ،‬يحيى الفضيل‪ .‬فبعد‬
‫كل من السيد عيل‬ ‫أن انشق الختمية عن االتحاديني وأنشأوا «حزب الشعب الدميقراطي»‪ ،‬التقى سياسياً ّ‬
‫املريغني والسيد عبد الرحمن املهدي‪ ،‬يف حلف أطاحا من خالله بحكومة إسامعيل األزهري‪ .‬كان يحيى‬
‫الفضيل من أشد منارصي األزهري‪ ،‬فأخذ ينصب رسادقا للخطابة بالقرب من دائرة املريغني‪ ،‬ويَرشع يف‬
‫الشتم والسباب‪ .‬كان ينادي السيد عيل املريغني باسمه املجرد (عيل محمد عثامن)‪ ،‬وكان يستخدم كثريا ً‬
‫من العبارات النابية‪ ،‬بال اكرتاث ملشاعر جمهور الطريقة الختمية‪ .‬لكن يف النهاية عاد يحي الفضيل طائعاً‬
‫إىل دائرة املراغنة‪ ،‬فلزم األدب معهم مثله مثل غريه‪ ،‬بل قام برثاء السيد عيل املريغني عقب وفاته‪ ،‬بقصيدة‬
‫عصامء‪ .‬راجع صحيفة التغيري السودانية‪ :‬بني يحيى الفضيل وحسن أبوسبيب‪ ..‬ما أشبه الليلة بالبارحة‪ ،‬عىل‬
‫الرابط‪( ،http://altageer.com/play.php?catsmktba=8361 :‬اسرتجاع يف ‪.)2015/9/15‬‬

‫‪169‬‬
‫أخرج األمور من‬‫الشاهد أن عداء طالئع املثقفني املبكر للطائفية َ‬
‫نصاهبا‪ ،‬منذ البداية‪ .‬وق َطع الطريق عىل بناء جسور الثقة‪ ،‬وتأسيس التعاون‬
‫بني مؤسسات املجتمع التقليدية‪ ،‬املتمثلة يف الطائفية واإلدارة األهلية‪،‬‬
‫وبني طالئع املتعلمني‪ ،‬بوصفهم القوى احلديثة‪ ،‬التي كان من املمكن‬
‫أن تفتح الطريق للقوى التقليدية‪ ،‬مستخدمة طاقاهتا اهلائلة وشبكاهتا‬
‫االجتامعية الواسعة لدفع جهود مت ُّلك احلداثة سوداني ًا‪ ،‬بتؤدة‪ ،‬وبثبات‪.‬‬
‫عدوتان للشعب‪،‬‬
‫كان اخلطاب السائد أن الطائفية واإلدارة األهلية ّ‬
‫وأهنام بطبيعتهام ال تبغيانه خري ًا‪ ،‬وستعمالن‪ ،‬عىل الدوام‪ ،‬عىل تعطيل‬
‫وعيه‪ ،‬إىل آخر ما يف هذا اخلطاب الفضفاض امليلء باألحكام العمومية‬
‫املطلقة‪ .‬فطبائع األشياء تقول إن ما من حاكم‪ ،‬أو صاحب ُسلطة‪ ،‬إال‬
‫بقدر ما‪ ،‬إلرضاء حمكوميه أو تابعيه‪ .‬ويتفاوت يف ذلك‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫سعي‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫وله‬
‫السلطة عىل الغري سوا ٌء أكان من أهل‬ ‫بطبيعة احلال‪ ،‬من كانت له ُّ‬
‫فإن بينهم َمن هيتم كثري ًا‪ ،‬ومن ال هيتم‬
‫احلكم أم من زعامء الطوائف‪ّ .‬‬
‫إال قليالً‪ .‬لكنهم مجيع ًا هيتمون بقدر من املقادير‪ .‬فالزمن‪ ،‬والتعليم‪،‬‬
‫وتبدُّ ل العالقات االقتصادية‪ ،‬ك ّلها ت ُْسهم يف تطوير الشعوب‪ ،‬وكذلك‬
‫السلطة وزعامء الطوائف‪.‬‬ ‫يف تطوير املتحكّمني يف الشعوب من أهل ُّ‬
‫ال أظ ّن أن هناك جتنّي ًا يف القول بأن طالئع املتعلمني السودانيني كانوا‬
‫حداثيني أغرار ًا‪ ،‬منبتّني عن ثقافتهم التي مل يفهموها كام ينبغي‪ ،‬وبيئتهم‬
‫التي مل يدرسوها بعمق‪ ،‬كام جيب‪ .‬كانوا مستعجلني يظنّون أهنم يمكن‬
‫أن يغريوا الواقع باستخدام لغة اخلطاب وحدها‪ .‬مل يفهموا السياق‬
‫التارخيي السوداين كام ينبغي‪ .‬ومل يكونوا مدركني إدراك ًا عميق ًا لرضورة‬
‫احلفاظ عىل املؤسسات التي تشكّلت عرب الزمن‪ ،‬وأصبحت صامم ًا‬
‫للتامسك القومي ولالستقرار‪ .‬اندفعوا يف وجهة اخلطاب الراديكايل‪،‬‬
‫وأصبحوا َيصدُ رون يف كل فعل سيايس من برج صفوي مع ّلق يف‬
‫اهلواء‪ .‬وكان هذا هو ما أودى بجهودهم مجيعها‪ ،‬يف هناية املطاف‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫يقول فرانز فانون إن أهل الريف ُيبدون‪ ،‬يف املرحلة األخرية من‬
‫ويترصفون‬‫ّ‬ ‫استعامري‪ ،‬شكوك ًا يف أهل املدن‪ ،‬لكوهنم َيل َبسون‬
‫ّ‬ ‫أي حكم‬
‫ويتعزز هذا الشعور ب َقدْ ر أكرب وسط‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬
‫مثل األوروبيني املستعمرين‪.‬‬
‫«إنزال باملظالت»‪ ،‬لسياسيني وطنيني ش ّبان‬ ‫ٌ‬ ‫أهل الريف حني جيري‬
‫من سياس ِّيي املدن‪ .‬فيجيئون وهم يتو ّقعون أن تعانقهم اجلامهري‪ ،‬فور ًا‪،‬‬
‫بوصفهم القادة‪ .‬غري أن هؤالء الش ّبان‪ ،‬بدالً من أن يقيموا عالقاهتم‬
‫بعناية مع الواقع الريفي‪ ،‬ينزعون‪ ،‬مثل املستعمرين إىل رؤية طرائق‬
‫يترصفوا‬
‫ّ‬ ‫احلياة «التقليدية» طرائق غري مالئمة‪ .‬ومن ثم حياولون أن‬
‫كدعاة حتديث جدد‪ ،‬شأهنم شأن املستعمرين‪.140‬‬
‫ليس هناك إشكال يف العمل عىل نقل املواطنني من الوالء الطائفي‬
‫إىل الوالء احلزيب احلديث املرتبط بالربنامج السيايس‪ ،‬بل إن ذلك ٌ‬
‫عمل‬
‫شك‪ .‬غري أن هذا ال يتم بالقفز عرب الفضاء‪ ،‬وإنام يتم‬ ‫مطلوب‪ ،‬دون ّ‬
‫عن طريق التعليم ورفع درجة الوعي وسط املجتمع‪ ،‬وتغيري البنى‬
‫مكث‪ ،‬من‬‫ٍ‬ ‫القائمة؛ االقتصادية واالجتامعية‪ ،‬بحيث ينتقل الناس‪ ،‬عىل‬
‫االنتامءات القبلية والطائفية‪ ،‬إىل االنتامءات التنظيمية‪ ،‬التي تناسب بنية‬
‫الدولة احلديثة‪ .‬فالطائفية نفسها يمكن حتويلها ويمكن توظيفها خلدمة‬
‫أغراض بناء الدولة‪ .‬ف َع ْيب الطائفية ليس يف ذاهتا وإنام يف مسلكها حني‬
‫يصبح منحرف ًا جد ًا‪ .‬وعىل العموم‪ ،‬كل مسلك قابل للتعديل‪ ،‬لو توفرت‬
‫الظروف املعينة‪ ،‬والظروف املعينة هي مما يمكن للبرش أن يصنعوه‪.‬‬
‫يتم ّثل اإلشكال‪ ،‬من وجهة نظري‪ ،‬يف العجلة‪ ،‬ويف نزعة التثوير‪،‬‬
‫ديامغوغي‬
‫ّ‬ ‫والعقلية االنقالبية‪ ،‬التي أخفت نفسها حتت عباءة خطاب‬
‫ميلء بااللتباس‪ ،‬تَرسبل باحلداثة وبالتقدمية‪ .‬فالطائفية بنية اجتامعية‬
‫راسخة‪ ،‬وهي مرتبطة بالشعور الديني لدى األفراد يف كثري من جمتمعات‬

‫‪ .140‬نايجل يس غبسون‪ ،‬فانون‪ :‬املخيلة بعد – الكولونيالية‪ ،‬املركز العريب لألبحاث ودراسة السياسات‪،‬‬
‫الدوحة ‪ -‬قطر‪ ،‬بريوت ‪ -‬لبنان‪ ،2013 ،‬ص‪.264‬‬

‫‪171‬‬
‫تأصل الدين يف النفوس‪،‬‬ ‫وتأصلها يف النفوس مثل ُّ‬‫ُّ‬ ‫ما قبل احلداثة‪.‬‬
‫بل إن الطائفية تصبح لدى الكثريين‪ ،‬هي الدين نفسه‪ .‬الطائفية نتاج‬
‫لظروف موضوعية‪ ،‬ولذلك‪ ،‬فهي ال تذهب إال إذا ذهبت الظروف‬
‫التي أنشأهتا‪ ،‬وعملت عىل استدامتها‪ .‬وينطبق نفس اليشء عىل اإلدارة‬
‫األهلية‪ .‬فاإلشكال الذي وقعت فيه القوى احلديثة‪ ،‬بال استثناء‪ ،‬هو‬
‫َسع ُيها إىل القضاء عىل الطائفية واإلدارة األهلية‪ ،‬دون رؤية‪ ،‬ودون‬
‫اعتبار للمزالق املحتملة التي يمكن أن تنتج من عملية اقتالعهام قرسي ًا‪.‬‬
‫اتسمت نزعة القضاء عىل الطائفية بكثري من قلة اإلدراك للسياق‬
‫يتكون فيه هذا النوع من البنى املجتمعية‪ .‬لقد كان‬
‫السوسيولوجي الذي ّ‬
‫طالئع املتعلمني حمدودي التعليم‪ ،‬قلييل التجربة‪ .‬كام كانت أكثريتهم‪،‬‬
‫حني ناصبوا الطائفية العداء احلاد‪ ،‬يف العرشينات والثالثينات من‬
‫العمر‪ .‬ولذلك‪ ،‬كانوا مشت ّطني و َع ِجلني‪ ،‬وم ّيالني إىل ابتسار األمور‬
‫وتبسيطها‪ .‬وهذا هو ما جعلهم يظنّون أن القضاء عليها جمرد مشوار‬
‫قصري‪ .‬ويبدو أيض ًا أهنم اعتقدوا‪ ،‬ما دام هدف القضاء عىل الطائفية‬
‫واإلدارة األهلية‪ ،‬هدف يتّسم بالتقدّ مية‪ ،‬ويتجه إىل دفع عجلة احلياة‬
‫إىل األمام‪ ،‬فال بأس‪ ،‬إذن‪ ،‬من اختاذ أي وسيلة لتحقيقه‪ ،‬حتى الوسائل‬
‫التي تنايف املبادئ الديمقراطية‪.‬‬
‫ما ُأ ّ‬
‫حب أن أوكِّده هنا أنني ال أدافع هنا عن الطائفية بصورة مطلقة‪.‬‬
‫وأعلم أن الطائفية ارتكبت يف حقبة ما بعد االستقالل‪ ،‬يف السودان‪،‬‬ ‫ُ‬
‫كثري ًا جد ًا من األخطاء الفادحة‪ .‬لكن ال بدّ أن ننتبه أن طالئع املتعلمني‬
‫أسهموا‪ ،‬منذ البداية يف استفزازها‪ ،‬ويف إثارة شكوكها جتاههم‪ .‬كان‬
‫يف وسعهم‪ ،‬لو كانوا مدركني للبنى املجتمعية التارخيية و َدورها‪ ،‬أن‬
‫يوجهوها‪ ،‬بأناة وبصرب‪ ،‬ال أن يتجهوا إىل حماولة االستئصال كام فعلوا‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫باختصار‪ ،‬حتتاج سرية عالقة املتع ّلمني احلداثيني مع البنى املجتمعية‬
‫تقصي ًا دقيق ًا‪ ،‬ومناقشة موضوعية‪،‬‬ ‫السودانية؛ الطائفية والعشائرية‪ّ ،‬‬

‫‪172‬‬
‫حتى تتضح األمور عىل حقيقتها‪ .‬فقد قىض طالئع املتعلمني‪ ،‬بفوقيتهم‬
‫الغرة (‪ ،)pseudo-modernity‬عىل البنى التقليدية‬ ‫ّ‬ ‫احلداثية‬
‫الراسخة (الطائفية واإلدارة األهلية)‪ ،‬من غري أن تكون البنى التي‬
‫ختوف‬ ‫وحتل حملهام قد جهزت بعد‪ .‬وهذا هو عني ما َّ‬ ‫يمكن أن ختلفهام‪ّ ،‬‬
‫بتخوفات‬ ‫ُّ‬ ‫منه اإلداريون الربيطانيون‪ ،‬ولكن طالئع املثقفني رموا‬
‫الربيطانيني املوضوعية‪ ،‬يف سلة الغرض االستعامري‪ ،‬وحدها‪ .‬وهكذا‪،‬‬
‫سقطنا يف حفرة الرتاجع املتسلسل احللقات‪ ،‬وضاعت من بني أيدينا‪ ،‬يف‬
‫بضع عقود‪ ،‬كل منجزات التحديث التي بدأت يف احلقبة االستعامرية‪.‬‬
‫ال غوغائي ًا‬‫لقد كان العمل السيايس للحداثيني السودانيني‪ ،‬يف مجلته‪ ،‬عم ً‬
‫ختريبي ًا حمزن ًا‪.‬‬
‫البريطانيون وطالئع ّ‬
‫المثقفين‬
‫َش َّبه هارولد ماكاميكل حالة طالئع املتعلمني األفارقة حني احتكوا‬
‫ِ‬
‫بحال َمن َظ َّل يف الظالم‪ ،‬ردح ًا من الزمان‪ ،‬وفجأة‬ ‫باحلضارة احلديثة‪،‬‬
‫باهر‪ ،‬فأعشى برصه‪ ،‬وأصيب بالذهول‪ .‬ويقول ماكاميكل‬ ‫واجه ُه ضو ٌء ٌ‬
‫َ‬
‫حتول إىل ثقة يف النفس‪ ،‬لكنها كانت ثقةً‬‫إن ذلك الذهول رسعان ما ّ‬
‫ناقص ًة‪ ،‬مل تبلغ درجة القناعة الراسخة‪ .‬فكلام الح لطالئع املتعلمني‬
‫األفارقة مشهدٌ جديدٌ ‪ ،‬زادهم انحراف ًا فكري ًا‪ .‬ويرى ماكاميكل أن‬
‫عدم رضا الشخص عن إنجازاته‪ ،‬عادة ما يدفع بصاحبه إىل أن ينحو‬
‫منحى سياسي ًا‪ .‬ولذلك أصبحت أهداف التعليم احلقيقية لطالئع‬
‫متعلمي إفريقيا حمجوب ًة بضباب الطموحات الشخصية‪ .141‬وينحو‬
‫منحى شبيه ًا بمنحى ماكاميكل‪ ،‬يف ما يتع ّلق بمسألة‬
‫ً‬ ‫حممد عمر بشري‬
‫الطموحات الشخصية‪ .‬ذكر بشري أن اخلرجيني كانوا خيشون من َّ‬
‫أن‬
‫اتِّباع احلكومة لنظام احلكم غري املبارش‪ ،‬واإلدارة األهلية‪ ،‬من شأنه أن‬

‫‪ .141‬هارولد ماكاميكل‪ ،‬السودان‪( ،‬ط‪ )2‬ترجمة محمود صالح عثامن صالح‪ ،‬مركز عبد الكريم مريغني‬
‫الثقايف‪ ،‬أم درمان‪ ،‬السودان‪ ،2009 ،‬ص ‪.173‬‬

‫‪173‬‬
‫يمدِّ د الستمرار الق َبلية‪ ،‬نتيجة لتحالف اإلدارة االستعامرية مع زعامء‬
‫القبائل والسالطني‪ ،‬وهذا يتناقض مع أفكار العرص‪ .‬ويضيف بشري‪،‬‬
‫بل ويتناقض مع مصاحلهم اخلاصة‪ ،‬أيض ًا‪ .142،‬ومسألة «التناقض مع‬
‫أفكار العرص»‪ ،‬هذه نفسها‪ ،‬ليست سوى ذريعة‪ ،‬ملحاربة الطائفية‪ ،‬من‬
‫أجل حتقيق الطموحات الشخصية‪ .‬فاملجتمعات التقليدية‪ ،‬التي تغلب‬
‫عليها األمية‪ ،‬وتعيش حالة اقتصاد تقليدي ِس َمتُه األساسية الكفاف‪،‬‬
‫ال تستطيع أن تقفز عرب الفضاء‪ ،‬لتعتنق «أفكار العرص»‪ ،‬وتتم ّثلها متام‬
‫التم ّثل يف واقعها‪ ،‬فالعافية يف درب التحديث درجات‪.‬‬
‫كمي ًا للمعلومات‪،‬‬
‫أيض ًا‪ ،‬يرى ماكاميكل أن التعليم ليس حتصيال ّ‬
‫وحسب‪ ،‬وإنام هو‪ ،‬إىل جانب ذلك‪« ،‬تقدير للمعايري والرؤى والتوازن‪،‬‬
‫وأن نتع ّلم كيف نرى العامل جلي ًا‪ ،‬ونراه كامالً»‪ .‬يقول ماكاميكل إن الذين‬
‫تعليمهم عىل هذا النوع من األهداف‪ ،‬أو يف كلمة واحدة عىل‬ ‫ُ‬ ‫ال ينطوي‬
‫حتصلوا عىل األدوات‪ ،‬من غري أن يكونوا‬ ‫«احلكمة»‪ ،‬فإهنم يكونون قد ّ‬
‫قد عرفوا األغراض التي من أجلها ينبغي عليهم استخدامها‪ .‬ويستخدم‬
‫قادر‬ ‫ماكاميكل يف هذا السياق مقولة كوبالند‪ ،‬التي تقول‪ّ :‬‬
‫«إن التعليم ٌ‬
‫عىل جتهيل املرء‪ ،‬بنفس قدرته عىل تأهيله ملجاهبة احلياة»‪ .143،‬بل يذهب‬
‫ماكاميكل يف ما يشبه النبوءة‪ ،‬ليقول إن من الواضح أمامه أن من نتائج‬
‫التعليم يف السودان التي رآها‪ ،‬هي رغبة املتعلمني يف استخدامه لتحقيق‬
‫األهداف السياسية‪ .‬ويقول ماكاميكل إنه ال يعرتض عىل استخدام‬
‫التعليم يف األهداف السياسية‪ ،‬من حيث املبدأ‪ ،‬خاص ًة‪ ،‬إن وقفت وراء‬
‫ذلك دوافع وطنية أصيلة وصادقة‪ .‬بل ويع ّلق موضح ًا ُّ‬
‫تفهمه الستخدام‬
‫التعليم من أجل األغراض السياسية‪ ،‬قائالً‪ :‬إن املوضوعية العلمية‬
‫‪ .142‬محمد عمر بشري‪ ،‬تطور التعليم يف السودان ‪( ،1956 – 1898‬ط‪( ،)2‬ترجمة هرني رياض‪ ،‬محمد‬
‫سليامن‪ ،‬عبد الله الحسن‪ ،‬الجنيد عيل عمر‪ ،‬دار الجيل‪ ،‬بريوت لبنان‪ ،‬ومكتبة خليفة عطية‪ ،‬الخرطوم‬
‫السودان‪ ،1983 ،‬ص ‪.156‬‬
‫‪ .143‬ماكاميكل‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪174‬‬

‫‪174‬‬
‫املجردة نظرية من نسج اخليال‪ .‬غري أنه قال أيض ًا‪ ،‬إن السودان أصبح‬
‫عىل عتبة َن ْيل االستقالل الكامل‪ ،‬وإن االختبار املستقبيل لصواب هذه‬
‫النزعة سينحرص يف‪ :‬إىل أي مدى سيربهن التعليم واخلربة العملية التي‬
‫تل ّقاها السودانيون‪ ،‬خالل فرتة نصف القرن الوجيزة‪ ،‬أهنام َخلقا هلم‬
‫بالفعل أساس ًا متين ًا يسندهم يف ترصيف أمورهم بحكمة واعتدال؟‪.‬‬
‫تنحط تلك النزعة الوطنية بطالئع‬ ‫ّ‬ ‫وعب ماكاميكل عن خشيته أن‬ ‫ّ‬
‫فتتحول إىل طموحات شخصية‪ ،‬وطائفية‪ ،‬وضيعة‪ ،‬ال صلة‬ ‫ّ‬ ‫املتعلمني‪،‬‬
‫هلا باحتياجات البالد احلقيقية‪ . ،‬هذا احلديث كتبه ماكاميكل بعد أن‬
‫‪144‬‬

‫دنو أوان خروج الربيطانيني من السودان‪ .‬وهذا يف تقديري‪،‬‬ ‫تأكّد له ّ‬


‫ينفي أن تكون بواعثه منحرصة يف الغرض االستعامري وحده‪ .‬فخروج‬
‫الربيطانيني من السودان كان قد أصبح حينها حقيقية واقعة تنتظر‬
‫ميقاهتا فقط‪.‬‬
‫يتّهم املثقفون الوطنيون‪ ،‬خاصة الذين عاشوا حتت ظل االستعامر‪،‬‬
‫املستعمرة‬ ‫ِ‬
‫املستعمرين عن البالد‬ ‫وتعاملوا مع رجال إدارته‪ ،‬كتابات‬
‫َ‬
‫بالغرض‪ ،‬فينرصفون‪ ،‬عىل عجل‪ ،‬عن حقائقها‪ .‬ويف هذا إشكال كبري‪.‬‬
‫ونظرنا‬
‫وإذا أخذنا السودان كنموذج‪ ،‬وهو النموذج الذي نحن بصدده‪ْ ،‬‬
‫يف كتابات اإلداريني الربيطانيني الذين عملوا فيه‪ ،‬مثل ماكاميكل‪،‬‬
‫ونيوبولد‪ ،‬التضح لنا خطأ هذا النهج التبسيطي الذي ينرصف عن‬
‫املحتوي املوضوعي‪ ،‬مستخدم ًا ذريعة الدمغ بالغرض االستعامري‬
‫ليضع كل ما قالوه يف سلة املهمالت‪ .‬فهؤالء الربيطانيون الذين عرفوا‬
‫السودان‪ ،‬كانوا أكاديميني قبل أن يكونوا إداريني‪ ،‬استعامريني‪ .‬بل كانوا‬
‫باحثني جميدين‪ ،‬خترجوا يف أعرق اجلامعات الربيطانية‪ .‬فامكاميكل‪ ،‬عىل‬
‫سبيل املثال‪ ،‬قام يف السودان بدراسات ميدانية أصيلة‪ ،‬بصفته باحث ًا‬

‫‪ .144‬املصدر السابق‪ ،‬نفسه‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫أكاديمي ًا‪ .‬نعم‪ ،‬لقد كان إداري ًا استعامري ًا‪ ،‬وقد كان طرف من أغراض‬
‫دراسته للمجتمع السوداين مرتبط ًا بالغرض االستعامري‪ ،‬من أجل‬
‫معرفة أفضل الطرق وأيرسها حلكم ذلك املجتمع‪ .‬لكن‪ ،‬ال ينزع ذلك‪،‬‬
‫القيمة العلمية املجردة املتضمنة يف عمله‪ ،‬ويف رؤاه‪ .‬كام ال ينزع منها‬
‫املوضوعية نزع ًا مطلق ًا‪ .‬وينطبق ذلك عىل دوغالس نيوبولد‪ ،‬الذي‬
‫كتب تفكر ًا اسرتجاعي ًا حتليلي ًا لتجربته كإداري عاش يف خمتلف مناطق‬
‫السودان‪ .‬فلو قارنّا أعامل هؤالء اإلداريني‪ ،‬الذين عرفوا السودان‪،‬‬
‫من خالل الدراسات احلقلية األصيلة‪ ،‬وعرب املعايشة اللصيقة للواقع‬
‫اليومي للمجتمعات السودانية الريفية‪ ،‬وهي ختطو يف دروب التحديث‪،‬‬
‫لوضح لنا أهنم عرفوا السياق السوداين سيسيولوجي ًا‪ ،‬بأكثر مما عرفه‬
‫طالئع املتعلمني السودانيني‪ ،‬الذين تل ّقوا تعليمي ًا مهني ًا وظيفي ًا حمدود ًا‪،‬‬
‫حال‪ ،‬تعليم مل يتعدّ مستوى املرحلة الثانوية‪ ،‬بمقاييس‬ ‫وهو عىل كل ٍ‬
‫اليوم‪ .‬فالطعن يف صدقية ما كتبه اإلداريون االستعامريون عن السودان‪،‬‬
‫املخل‪ ،‬وباالستناد‬‫والنَّ ْيل منه بتهمة الغرض‪ ،‬يتّسم بالعجلة‪ ،‬وباإلمجال ّ‬
‫إىل ثنائية املقابلة التبسيطية‪ ،‬حمسومة األفضلية‪ ،‬املنحرصة يف‪« :‬وطني»‬
‫«مستعمر»‪ .‬فالوطني‪ ،‬وفق هذه املقابلة الساذجة‪ ،‬أصيل‪ ،‬نبيل‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫مقابل‬
‫ِ‬
‫وحمق دائ ًام‪ ،‬واملستعمر زائف‪ ،‬ومبطل‪ ،‬ومغرض دائ ًام‪ .‬وعموم ًا أثبتت‬ ‫ّ‬
‫التجربة أن خماوف اإلداريني الربيطانيني عىل مستقبل السودان‪ ،‬كان هلا‬
‫ربرها‪ .‬والنتيجة‪ ،‬املاثلة اليوم‪ ،‬هي خري شاهد عىل خماوفهم التي‬ ‫ما ي ّ‬
‫نرشوها منذ أكثر من سبعني عام ًا‪.‬‬
‫للتحوُّل الديمقراطي متط ّلبات سابقة ‪Prerequisites‬‬
‫بدأ املشتغلون يف حقل العلوم السياسية ينتبهون إىل أن التجربة‬
‫الغربية‪ ،‬أو البدء بالديمقراطية الربملانية‪ ،‬ليست بالرضورة هي النموذج‬
‫فكل سياق يقتيض مقاربة نحو‬ ‫الذي ينبغي أن تتبعه بقية دول العامل‪ّ .‬‬
‫الديمقراطية تتناسب مع الظرف التارخيي‪ ،‬ومع الثقافة السائدة‪ ،‬إضاف ًة‬

‫‪176‬‬
‫يسمونه «املتط ّلبات السابقة»‪ ،‬يف سياق الدولة املعينة‪.‬‬ ‫إىل توفر ما ّ‬
‫ويشمل ذلك ما هو متاح من معينات‪ ،‬وما يقف هناك من معيقات‪.‬‬
‫ويرى إدوارد مانسفيلد و وجاك سنايدر أن األقطار‪ ،‬بال استثناء‪ ،‬تشهد‬
‫متر بتجربة التحول الديمقراطي‪ .‬غري أن الربازيل‬ ‫عنف ًا شديد ًا‪ ،‬حني ّ‬
‫وتشييل واملجر وبولندا وكوريا اجلنوبية مثلت‪ ،‬يف التاريخ القريب‪،‬‬
‫نامذج استثنائية‪ .‬فقد جرى فيها التحول الديمقراطي من غري عنف‬
‫يذكر‪ .‬فهناك متط ّلبات سابقة للتحول الديمقراطي‪ ،‬إذا توفرت أمكن‬
‫جتنّب العنف‪ .‬ومن هذه املتط ّلبات السابقة وجود جهاز دولة كفء‪،‬‬
‫يتسم بحيدة نسبية‪ .‬فهذه القصة‪ ،‬كام يرى مانسفيلد وسنايدر‪ ،‬قديمة‬
‫قدم الديمقراطية نفسها‪ .‬ولذلك فهام يعتقدان أن من اخلطأ أن يتم دفع‬
‫الدولة للديمقراطية الكاملة‪ ،‬ما مل تكن املتط ّلبات السابقة قد توفرت‪.145‬‬
‫أسس‪ ،‬بصورة منظمة‪ ،‬للفكرة‬ ‫إن أول من ّ‬ ‫يقول فرانسيس فوكوياما ّ‬
‫القائلة إن احلكومات تتجه أوالً إىل حتقيق االستقرار والنظام‪ ،‬ثم تتجه‬
‫عقب ذلك إىل التنمية االقتصادية‪ ،‬ثم بعد ذلك إىل الديمقراطية‪ ،‬هو‬
‫صامويل هنتينغتون يف عمله الذي َس ّمه‪« ،‬االستقرار السيايس يف بلدان‬
‫متغرية»‪ .‬وكذلك فريد زكريا يف عمله الذي حيمل عنوان‪« ،‬مستقبل‬
‫للسري نحو التحول الديمقراطي يف‬ ‫احلرية»‪ .‬كام أن النداءات العملية َّ‬
‫الرشق األوسط‪ ،‬عقب حرب العراق‪ ،‬بأن جيري عىل مراحل‪ُ ،‬يعدّ‬
‫تنويع ًا عىل نفس نغمة هنتينغتون وزكريا‪ .‬ويرى فوكوياما أنه ليس‬
‫هناك خطأ من حيث املبدأ يف ترتيب عملية اإلصالح وفق خطوات‪ ،‬إذا‬
‫كانت طاقة املجتمع املعني واملوانع التي تعرتض التحول الديمقراطي‬
‫فيه‪ ،‬جتعل من هذه اإلسرتاتيجية املمرحلة إسرتاتيجية أكثر عملية‪.‬‬
‫ويرى فوكوياما أن ذلك تعرتضه مشكلة أيض ًا‪ ،‬وهي‪ ،‬مثلام سبق أن‬

‫‪145. Edwrd D. Mansfield and Jack Snyder, The Sequencing “Fallacy”, Journal of‬‬
‫‪Democracy, Vol. 18, issue 3, July 2007.‬‬

‫‪177‬‬
‫أشار توماس كاروثرز‪ ،‬حني قال‪ :‬إن فرصة إجياد حكّام شموليني‪،‬‬
‫ذوي عقلية تنموية أصيلة‪ ،‬بقيت عىل الدوام ضئيلة‪ ،‬بصورة حادة‪.146،‬‬
‫الشاهد أنه ال توجد حلول سهلة سلسة دائ ًام‪ .‬فالتغيري ن َْح ٌت يف الصخر‪،‬‬
‫ولذلك فهو يتط ّلب الصرب واألناة‪ ،‬واإلدراك الشامل والعميق بطبيعة‬
‫السياق املراد تغيريه‪ .‬وهذا ما مل يتوفر لطالئع املتعلمني السودانيني‪،‬‬
‫وقواه السياسية التي أداروا حراكها‪.‬‬
‫الشاهد الذي أو ّد رفعه من كل ما تَقدَّ م‪ ،‬أن حماولة الرتويج‬
‫للديمقراطية والدفع نحوها‪ ،‬دون التفريق بني شكلها ومضموهنا‪،‬‬
‫وما يمكن أن يتمخض منها من خمرجات عملية نافعة‪ ،‬ودون دراسة‬
‫الواقع الذي ُيراد تطبيقها فيه‪ ،‬من حيث جاهزيته‪ ،‬وقدرته عىل‬
‫ضار ومعوق‪ .‬وكام اإليامن‬
‫االنتفاع منها‪ ،‬يمكن أن يتحول إىل عمل ٍّ‬
‫يتحول اإليامن بالديمقراطية‪ ،‬لدى‬
‫ّ‬ ‫الديني األعمى‪ ،‬أيض ًا‪ ،‬يمكن أن‬
‫من يفكرون باإلمجاليات‪ ،‬وبالشعارات‪ ،‬وال يرون تعقيدات الواقع‪،‬‬
‫وال االختالفات اجلوهرية بني سياق وآخر‪ ،‬إىل دوغام‪ ،‬تصبح شبيهة‬
‫بالدوغام الدينية‪ ،‬التي جتعل صاحبها ال يرى شيئ ًا غريها‪ .‬باختصار‪،‬‬
‫التجربة السودانية املمتدة منذ مؤمتر اخلرجيني جتربة عقيم غري منتجة‪.‬‬
‫وهي بحاجة إىل مراجعة نقدية دقيقة وشاملة‪.‬‬
‫حجاب الهاالت الزائفة‬
‫كام هو احلال يف كل بالد الدنيا‪ ،‬تتشكّل حول كل حركة وطنية‬
‫تتحول بمرور الزمن‬‫ّ‬ ‫أنجزت االستقالل لبالدها‪ ،‬هال ٌة من التمجيد‪،‬‬
‫إىل قرشة سميكة ُت ِّصن احلركة وروادها ضد النقد‪ .‬وألن استقالل كل‬
‫يتحول فعل االستقالل‪،‬‬ ‫حلم عزيز‪ ،‬فال غرابة أن‬ ‫ِ‬ ‫ُق ٍ‬
‫ّ‬ ‫طر من املستعمر ٌ‬
‫يتحول‬ ‫يف الوعي اجلمعي‪ ،‬إىل ٍ‬
‫شأن عزيز‪ ،‬مقدّ س أيض ًا‪ .‬وبنا ًء عليه‬
‫ّ‬
‫‪146. Francis Fukuyama, Liberalism Versus State-Building, Journal of Democracy, Vol.‬‬
‫‪18, issue 3, July.‬‬

‫‪178‬‬
‫ذوات مقدسة‪ .‬لذلك‪ ،‬ال‬‫ٍ‬ ‫السياسيون الذين حققوا للبالد استقالهلا‪ ،‬إىل‬
‫غرابة أن ُأحيط طالئع املتعلمني السودانيني‪ ،‬الذين أنجزوا االستقالل‬
‫ٍ‬
‫هباالت أكرب من قاماهتم‪ ،‬بكثري‪ .‬فانرصف أكثريتنا عن حتليل‬ ‫للسودان‪،‬‬
‫ومناقشة جتربتهم‪ ،‬بعلمية وموضوعية‪ ،‬إىل التباري يف متجيدهم‪ .‬وهكذا‬
‫فاتت علينا فرصة التأسيس للحوار‪ ،‬الدارس‪ ،‬املتأمل‪ ،‬الذي به تتسع‬
‫دائرة الوعي وتتعمق‪ ،‬ويمكن عن طريقه وضع اإلصبع عىل مواطن‬
‫العلل‪ ،‬التي أقعدت مسرية البالد‪ .‬فالذي جرى يف جتربتنا الوطنية‪ ،‬أن‬
‫وح ْبسهم يف دائرة التمجيد وحدها‪،‬‬ ‫رواد االستقالل جرى حتنيطهم‪َ ،‬‬ ‫َّ‬
‫أوص َلنا‬
‫رغم أن االستقالل الذي أنجزوه‪ ،‬بالصيغة التي أنجزوه هبا‪ ،‬قد َ‬
‫إىل هذا اخلراب الكبري‪ ،‬الذي نحن فيه اآلن‪ .‬ويمكن القول إن البحث‬
‫عن معنى االستقالل تاه يف تالفيف العبادة الطقسية املستمرة لشكله‪.‬‬
‫مشكل ُ‬
‫الهو ّية‬
‫كانت قلة االدراك ألمهية َدور اهلوية العامة اجلامعة للسودانيني‪،‬‬
‫يف بناء الدولة الوطنية‪ ،‬عامال أساسي ًا يف تع ّثر جتربة البناء الوطني‬
‫للدولة السودانية‪ ،‬يف مرحلة ما بعد االستعامر‪ .‬فالتجربة االستعامرية‬
‫اخلديوية كان هلا تأثريان سالبان كبريان عىل مستقبل التامسك القومي‬
‫السوداين‪ّ .‬أوهلام‪ ،‬أن االستعامر اخلديوي أتى إىل السودان باملؤسسة‬
‫الفقهية األزهرية املرصية‪ ،‬وفِ ْقهها السنّي العثامين املتز ّمت‪ ،‬لتصبح‬
‫ذراع ًا لتثبيت أركان سيطرته عىل البالد‪ .‬هذه هي األرضية التي قام‬
‫عليها تنظيم اإلخوان املسلمني الحق ًا‪ .‬وهي أيض ًا األرضية التي جلبت‬
‫فكرة الدولة اإلسالمية واحلكم بالرشيعة‪ ،‬التي عشعشت يف أذهان‬
‫السودانيني‪ ،‬فأضاع السودانيون يف حقبة ما بعد االستقالل وقت ًا غالي ًا‬
‫يف الرصاع حول أمور‪ ،‬ال صلة هلا البتة بالعنارص التي ينبغي توفرها من‬
‫أجل بناء دولة مقتدرة معافاة‪.‬‬

‫‪179‬‬
‫فيتلخص يف أن االستتباع اخلديوي لل ُقطر‬
‫ّ‬ ‫أما التأثري السالب الثاين‬
‫السوداين قاد إىل استزراع هوية مرشقية للقطر السوداين‪ ،‬هي ليست‬
‫السلطة والثروة رداء اهلوية‬‫هويته‪ .‬لبست الن َُّخب التي ظ ّلت بأيدهيا ُّ‬
‫العربية اإلسالمية‪ ،‬الرتباط مصاحلها باحلكم اخلديوي‪ .‬وأخذت هذه‬
‫الن َُّخب تستخدم هذه اهلوية يف السيطرة عىل ُّ‬
‫السلطة والثروة يف البالد‪،‬‬
‫أرض هذا األمر كثري ًا‬
‫ويف دفع أهل اهلويات األخرى إىل اهلامش‪ .‬وقد ّ‬
‫بالوحدة الوطنية‪ ،‬وأدى يف تداعياته النهائية إىل فصل اجلنوب‪ ،‬بل وإىل‬
‫جعل أقاليم أخرى من السودان‪ ،‬تطالب بحق تقرير املصري‪ ،‬أو تقف‬
‫مستمر‬
‫ّ‬ ‫عملي ًا عىل حافة االنفصال‪ .‬ولقد صاحب كل ذلك احرتاب‬
‫استنزف املوارد ووضع اقتصاد البالد ضمن أكثر اقتصادات بلدان‬
‫األرض ضعف ًا وهشاشة‪.‬‬
‫ِمن أبلغ األد ّلة عىل حالة االستالب الفظيعة التي عانت منها‬
‫أن نِ ْصف طالئع املتعلمني الذين انضموا إىل احلزب‬ ‫الن َُّخب السودانية‪ّ ،‬‬
‫االحتادي الديمقراطي كانوا يتطلعون إىل الوحدة الكاملة مع مرص‪.‬‬
‫أما يف املجال األديب‪ ،‬فقد متثل االستالب يف تنافس األدباء من طالئع‬
‫املتعلمني عىل طلب اإلجازة واالعرتاف من املرصيني‪ .‬وعموم ًا‪ ،‬ظلت‬
‫الن َُّخب النيلية يف الشامل والوسط ُمولية وجهها صوب مرص متجاهلة‬
‫حيسون‬ ‫بقية أهل السودان‪ ،‬يف الغرب‪ ،‬ويف اجلنوب‪ ،‬ويف الرشق‪ ،‬ممن ال ّ‬
‫أي إحساس شبيه بإحساسهم جتاه مرص‪ .‬وال تزال بقايا هذا االستالب‬
‫تعب عن نفسها لدى هذه الن َُّخب‪ ،‬يف خمتلف املنعطفات‪.‬‬ ‫املرشقي ّ‬
‫الشاهد أن السودان واحد من الدولة القليلة‪ ،‬وربام الدولة الوحيدة‪،‬‬
‫التي يوجد مرتكزها اهلويوي خارج حدود أرضها‪.‬‬
‫عىل سبيل املثال‪ ،‬ال خيتلف السودان عن إثيوبيا من حيث التنوع‬
‫اإلثني واللغوي والديني‪ .‬يضاف إىل ذلك‪ ،‬إن م ِ‬
‫سلمي إثيوبيا‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫يشكّلون‪ ،‬من حيث العدد‪ ،‬ضعف ُمسلمي السودان‪ .‬ومع ذلك بقي‬

‫‪180‬‬
‫اإلثيوبيون إثيوبيني‪ ،‬ال غري‪ .‬وبقاء اإلثيوبيني اثيوبيني‪ ،‬هو الذي قادهم‪،‬‬
‫بعد مراحل من االضطراب‪ ،‬إىل أن يضعوا أرجلهم عىل الطريق املؤدي‬
‫إىل بناء الدولة‪ .‬هذا‪ ،‬يف حني ظل السودانيون ينحدرون من فشل إىل‬
‫فشل أسوأ من سابقه‪ .‬يف تقديري أن مناقشة مسألة اهلوية‪ ،‬وتفكيك‬
‫الرتكة االستعامرية اخلديوية‪ ،‬أمور بالغة األمهية يف طريق معاجلة األزمة‬
‫السودانية املستحكمة‪.‬‬
‫خاتمة‬
‫لقد كان االنشغال بأسلمة الدولة وكتابة دستور إسالمي عمال‬
‫انرصافي ًا بمعنى الكلمة‪ ،‬أضاعت فيه الن َُّخب السودانية وقت البالد‬
‫والعباد‪ ،‬وأهدرت به مواردها‪ ،‬وهدّ دت به أمنها واستقرارها‪ ،‬وع ّقدت‬
‫به أحوال البالد تعقيد ًا َو َض َعها‪ ،‬اليوم‪ ،‬عىل حافة اهلاوية‪ .‬أيض ًا‪ ،‬كان‬
‫حق القفز فوق الواقع‬ ‫االعتقاد بأن التعليم احلديث يمنح أصحابه ّ‬
‫والترصف بالنيابة عن اجلامهري‪ ،‬خطيئ ًة كبري ًة أوردت البالد‬
‫ُّ‬ ‫املوضوعي‬
‫موارد اهلالك‪ .‬تقول كل مراحل التجربة السياسية السودانية أال َف ْرق‪،‬‬
‫البتة‪ ،‬يف الفوقية بني اإلسالميني‪ ،‬بكل أطيافهم‪ ،‬وبني العلامنيني‪ ،‬بكل‬
‫عل‪ ،‬من غري‬ ‫أطيافهم أيض ًا‪ .‬كالمها َع ِمدَ إىل إعادة صياغة الواقع من ٍ‬
‫واف له‪ .‬فتجربة نمريي التي بدأت باال ّدعاء بإعادة أكتوبر‪ ،‬بزعم‬ ‫فه ٍم ٍ‬
‫أن األحزاب التقليدية هي التي أجهضتها‪ ،‬اجتهت يف مسارات فوقية‬
‫م ّثلت يف ختام تداعياهتا املنزلق األكرب‪ ،‬الذي انزلقت عليه الدولة‬
‫السودانية إىل وحل احلضيض‪.‬‬
‫فكست كثري ًا من املؤسسات‬ ‫قامت مايو بالتأميم دون دراسة َ‬
‫فأمَت أمالك ًا شخص ّية ألُ َس‪ ،‬ال قيمة‬
‫تطرفت َّ‬
‫الرابحة الراسخة‪ ،‬بل ّ‬
‫هلا يف جممل مشهد االقتصاد‪ .‬أيض ًا أعلنت أكرب حرب يف تاريخ‬
‫السودان عىل الطائفية‪ ،‬وبالغت يف الر ّد عىل مترد اجلزيرة أبا الذي مل‬

‫‪181‬‬
‫يكن املتمرتسون فيها يملكون سوى أسلحة خفيفة‪ ،‬وبعض األسلحة‬
‫قوضت مايو‬ ‫جوي مرصي‪ .‬كام ّ‬ ‫املتوسطة‪ ،‬فمشت إىل حدّ استدعاء دعم ّ‬
‫نظام اإلدارة األهلية دون أسباب وجيهة‪ ،‬وبنا ًء عىل جتريب اعتباطي‪،‬‬
‫قاد يف هناية تداعياته إىل تفكُّك البنيات العشائرية‪ ،‬التي كانت ضابطة‬
‫إليقاع احلياة يف األطراف‪ ،‬وألمنها‪ ،‬واستقرارها‪ .‬وانتهى األمر هبذه‬
‫يعج باألسلحة وباجلامعات املسلحة‪.‬‬ ‫األطراف لتصبح‪ ،‬اليوم‪ ،‬فضا ًء ّ‬
‫بل ولتنشأ فيه صناعة جديدة‪ ،‬تتم ّثل يف االرتزاق‪ ،‬عن طريق القيام‬
‫بدَ ْور القاتل املأجور الذي يقتل األهايل نيابة عن احلكومة القائمة‪.‬‬
‫أيض ًا‪ ،‬دخلت مايو يف خطط تنموية واسعة وطموحة‪ ،‬دون دراسات‬
‫كافية‪ .‬فلم َي َر الناس منها عائد ًا ُيذكر‪ ،‬ودخلت البالد‪ ،‬من ّ‬
‫جرائها‪ ،‬يف‬
‫تراجع قيمة العملة‪ ،‬الذي مل يتوقف‬
‫أحبولة الديون املك ّبلة‪ ،‬ويف مسلسل ُ‬
‫يوم ًا واحد ًا‪ ،‬منذ أن بدأ قبل عقود‪ ،‬حتى صار الدوالر األمريكي يساوي‬
‫عرشة آالف جنيه سوداين‪( .‬أصبح يساوي اآلن ما يقارب العرشين‬
‫ألف ًا)‪ .‬ثم ما لبثت أن تراجعت مايو‪ ،‬حتت خمتلف الضغوط‪ ،‬وتراكُم‬
‫االخفاقات‪ .‬خت ّلت مايو عن كل شعار رفعته‪ ،‬وانتهت بالبالد إىل خالفة‬
‫إسالمية للرئيس نمريي مدى احلياة‪ ،‬وإىل حالة عجيبة من اخلراب‬
‫العام‪ .‬وأسوأ ما خ ّلفته مايو‪ ،‬أهنا حني ذهبت‪ ،‬كانت قد أعدّ ت املرسح‪،‬‬
‫وجهزته عىل أحسن صورة‪ ،‬ملجيء اإلسالميني‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫عىل أفضل الوجوه‪،‬‬
‫فجاء اإلسالميون ب َل ْيل إىل احلكم‪ ،‬منفردين‪ ،‬عىل النحو الذي جاءوا به‪.‬‬
‫مل يتع ّلم اإلسالميون من جتربة اليسار‪ ،‬فساروا عىل ذات الدرب‬
‫اخلطر‪ ،‬بل وبفوقية دينية‪ ،‬بالغة العنجهية‪ ،‬يدعمها إحساس املتد ّين‬
‫األصم بامتالك الصحة املطلقة‪ ،‬فوصلوا باخلراب إىل درك مل يكن‬
‫يتصوره عقل سوداين‪ .‬واآلن فرغنا‪ ،‬بثمن باهظ جد ًا‪ ،‬من جتاريب‬ ‫ّ‬
‫اليسار‪ ،‬وقوى احلداثة الداعمة له‪ ،‬كام فرغنا من جتاريب اإلسالميني‪،‬‬
‫أيض ًا‪ ،‬التي كلفتنا فقدان ربع قرن كامل‪ .‬لكنا‪ ،‬حني فرغنا‪ ،‬فرغنا ببلد‬

‫‪182‬‬
‫يقف عىل حافة اهلاوية‪ .‬ويبدو يل أن الفرصة الوحيدة الباقية‪ ،‬هي أن‬
‫يتخ ّلق مستودع فكري جديد‪ ،‬من كل أولئك الذين كانوا ضمن قوى‬
‫والنمو‬
‫ّ‬ ‫التجارب الفاشلة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫عقولم‬ ‫وح َّررت‬
‫اليسار وقوى اليمني‪َ ،‬‬
‫العقيل الطبيعي‪ ،‬ومرور الزمن‪ ،‬فانقشعت عن أعينهم الغشاوة‪ .‬ويمكن‬
‫أن يضم هذا املستودع الفكري اجلديد قطاع ًا كبري ًا ممن كانوا يقفون عىل‬
‫السياج‪.‬‬
‫التحدي الذي يواجه هذه الفئات املنترشة داخل التنظيامت السياسية‬
‫السودانية‪ ،‬التي أطاحت التجربة املريرة بأوهامها‪ ،‬هو أن تنشئ جسور ًا‬
‫جديدة‪ ،‬عرب اخلطوط الومهية التي كانت تفصل بينها قدي ًام‪ .‬ولكي‬
‫َيدُ ث ذلك‪ ،‬ال بدّ من االبتعاد عن اللغة احلا ّدة‪ ،‬والصفات املع ّلبة‬
‫التي كانت تُط َلق عىل اآلخر‪ ،‬يف املعسكر املناوئ‪ .‬فك ُّلنا‪ ،‬بال استثناء‪،‬‬
‫جرى ذلك منّا بمقادير متفاوتة‪.‬‬ ‫شاركْنا يف هذا اخلراب الكبري‪ْ ،‬‬
‫وإن َ‬ ‫َ‬
‫بيل يمكن أن يدَّ عى الطهارة الكاملة من آثام سوء التقدير‪،‬‬ ‫ليس بيننا َق ٌ‬
‫وإهدار الوقت والطاقة‪ ،‬واإلسهام يف تدمري البالد‪ ،‬وإجهاض مرشوع‬
‫االستقالل‪.‬‬
‫اآلن تأكَّد للحداثيني‪ ،‬املؤدجلني منهم‪ ،‬وغري املؤدجلني‪ ،‬أن الطائفية‬
‫ال تزال موجودة‪ ،‬وإن اإلدارة األهلية‪ ،‬ال تزال موجودة‪ ،‬هي األخرى‪.‬‬
‫اجلديد يف الصورة‪ ،‬يف ما أرى‪ ،‬أن الطائفية واإلدارة األهلية تع ّل َمتا‬
‫من التجربة‪ ،‬وأصبحتا أكثر قرب ًا من املعقولية‪ ،‬ومن األخذ والرد مع‬
‫اآلخرين‪ .‬كام أن الطرق الصوفية ال تزال قائمة‪ ،‬هي األخرى‪ ،‬وهلا َدور‬
‫كبري جد ًا تلعبه يف صد نزعات التطرف اجلهادي املدمرة التي ظهرت‬
‫أخري ًا‪ ،‬وإبعاد الشباب عنها‪ .‬ال أتوقع أن ختتفي هذه املؤسسات الشعبية‬
‫ور‬
‫يف املستقبل املنظور‪ .‬فكل الواقع السوداين ينطق بأنه ال زال هلا َد ٌ‬
‫تلعبه‪ .‬ويمكننا عن طريق املراجعات الشجاعة‪ ،‬واالعرتافات‪ ،‬أن نضع‬
‫وهنيء النفوس للتواضع‪ ،‬ومن ثم للتعاون‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫األصابع عىل األخطاء‪،‬‬

‫‪183‬‬
‫هناك حاجة ضاغطة للغاية إىل ختليق حالة سودانية جديدة‪ ،‬من مدّ‬
‫اجلسور‪ ،‬يف كل االجتاهات‪.‬‬
‫كل َمن أزالت التجرب ُة‬ ‫بمدّ اجلسور‪ ،‬وإحداث حالة الرتابط بني ّ‬ ‫َ‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫البئيسة الطويلة غشاواتم‪ ،‬وإدارة حوار شفاف بينهم‪ ،‬نضع أنفسنا يف‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫رتك‬ ‫مواجهة سيناريوهني‪ :‬األول هو حماولة إقناع احلكومة القائمة أن َت ُ‬
‫املناورات العقيمة‪ ،‬و ُت ْق ِلع عن لعبة رشاء الوقت غري املفيدة‪ ،‬ليبدأ حوار‬
‫حقيقي جامع‪ ،‬ال َيستثني أحد ًا‪ ،‬حتى تتشكّل صورة جديدة للواقع‬
‫اجلميع فيها رشكاء‪ .‬فإن فع َل ْت كان‬ ‫السيايس السوداين‪ ،‬يف ٍ‬
‫دولة يكون‬
‫ُ‬
‫هبا‪ ،‬وكفى اهلل املؤمنني القتال‪ .‬وإن مل تفعل‪ ،‬فقد ربحنا وحدة الصف‪،‬‬
‫ووحدة الرؤية‪ ،‬ووحدة اهلدف‪ ،‬واالنفالت من أرس عقابيل املايض‪،‬‬
‫وامتلكنا اإلرادة والوحدة‪ ،‬اللتني متكّناننا من خوض حرب شاملة‬
‫احلل رهين ًا‪ ،‬حرص ًا‪ ،‬يف أن يدخل‬ ‫مفتوحة مع احلكومة‪ .‬فقد يكون ُّ‬
‫السودان يف حالة خراب شامل‪ ،‬يقوم من رمادها سودان الغد‪ .‬فتجنُّب‬
‫احلروب ليس ممكن ًا دائ ًام‪ ،‬وإقناع احلكومات املتعنّتة ليس ممكن ًا دائ ًام‪،‬‬
‫أشك البتة أن سوريا‬ ‫أيض ًا‪ .‬وهذه جتربة سوريا أمامنا‪ ،‬ماثلة للعيان‪ .‬وال ّ‬
‫الفتوة‪ ،‬ستخرج من أنقاض هذا اخلراب‬ ‫جديدةً‪ ،‬كل اجلدّ ة‪ ،‬فتي ًة كل ّ‬
‫والدمار والشامل‪ .‬وقصة سوريا هذه ليست قصة جديدة‪ ،‬فأملانيا‬
‫واليابان خرجتا‪ ،‬هبيئتهام البديعة التي نراها اليوم‪ ،‬من رماد احلرب‬
‫العاملية الثانية ومستنقع دمائها‪ ،‬ومآسيها نادرة الشبيه‪.‬‬

‫‪184‬‬
‫َمراجع الفصل الثالث‬

‫المَ راجع العربية‪:‬‬


‫منصور خالد‪ ،‬النخبة السودانية وإدمان الفشل‪( ،‬بدون دار نرش)‪.1994 ،‬‬
‫حيدر إبراهيم عيل‪ ،‬السودان الوطن املضيع‪ ،‬مكتبة جزيرة الورد‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ج م ع‪.2011 ،‬‬
‫يوسف محمد عيل‪ ،‬السودان والوحدة الوطنية الغائبة‪ ،‬مركز عبد الكريم مريغني‪ ،‬أمدرمان‪ ،‬السودان‪،‬‬
‫‪.2012‬‬
‫محمد سعيد القدال‪ ،‬اإلسالم والسياسة يف السودان‪ ،‬دار الجيل بريوت (‪.)1992‬‬
‫نايجل يس غبسون‪ ،‬فانون‪ :‬املخيلة بعد – الكولونيالية‪ ،‬املركز العريب لألبحاث ودراسة السياسات‪ ،‬الدوحة‬
‫‪ -‬قطر‪ ،‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.2013 ،‬‬
‫هارولد ماكاميكل‪ ،‬السودان‪( ،‬ط‪ )2‬ترجمة محمود صالح عثامن صالح‪ ،‬مركز عبد الكريم مريغني الثقايف‪،‬‬
‫أم درمان‪ ،‬السودان‪173 .2009 ،‬‬
‫محمد عمر بشري‪ ،‬تطور التعليم يف السودان ‪( ،1956 – 1898‬ط‪( ،)2‬ترجمة هرني رياض‪ ،‬محمد سليامن‪،‬‬
‫عبد الله الحسن‪ ،‬الجنيد عيل عمر)‪ ،‬دار الجيل‪ ،‬بريوت لبنان‪ ،‬ومكتبة خليفة عطية‪ ،‬الخرطوم السودان‪،‬‬
‫‪.1983‬‬

‫المَ راجع اإلنجليزية‪:‬‬


‫‪Edwrd D. Mansfield and Jack Snyder, The Sequencing “Fallacy”, Journal of Democracy, Vol. 18,‬‬
‫‪issue 3, July 2007.‬‬
‫‪Francis Fukuyama, Liberalism Versus State-Building, Journal of Democracy, Vol. 18, issue 3, July.‬‬
‫‪Mahmood Mamdani, Saviors and survivors: Darfur, politics, and the war on terror, Pantheon.‬‬

‫‪185‬‬
‫الفصل الرابع‬

‫‪‬‬

‫ثورة أكتوبر‪:‬‬
‫من األيقونة إلى التشريح‬
‫نُرشت هذه الورقة يف كتاب «ستون عاما عىل ثورة أكتوبر السودانية‪،‬‬
‫‪ :2914-1964‬نهوض السودان الباكر»‪ ،‬تحرير‪ :‬حيدر إبراهيم عيل‪ ،‬مركز‬
‫الدراسات السودانية‪ ،‬القاهرة ‪.2015‬‬

‫مقدّمة‬
‫ب األنظمة العسكرية واحلزبية الفاشلة عىل السودان‪،‬‬ ‫أبقى تعا ُق ُ‬
‫قطاع ًا عريض ًا من السودانيني متع ّلق ًا بحلم عودة ثورة أكتوبر ‪.1964‬‬
‫وقد بقي هذا احللم حي ًا يف النفوس رغم أن نجاح تلك الثورة مل يتعدّ‬
‫جمرد إسقاطها النظام العسكري للفريق إبراهيم عبود‪ ،‬ال أكثر‪ .‬ومثلام‬
‫عجزت ثورة أكتوبر عن أن ُت ِدث حتوالً جوهري ًا‪ ،‬أو ُت ِرز ما يمكن‬
‫أن نطلق عليه نقل ًة إىل األمام يف الواقع السيايس السوداين‪ ،‬عجزت‬
‫انتفاضة أبريل‪ ،‬التي أسقطت النظام العسكري للعقيد جعفر نمريي‪،‬‬

‫‪187‬‬
‫عن إحداث التحول الذي كان منتظر ًا‪ .‬كانت ثورة أكتوبر ‪ 1964‬آلي ًة‬
‫ناجح ًة جد ًا يف إجبار النظام العسكري عىل التخيل عن احلكم‪ ،‬غري أهنا‬
‫مضمون ُيذكر يف جانب استبدال النظام العسكري بنظام‬ ‫ٍ‬ ‫بأي‬ ‫ِ‬
‫مل تأت ّ‬
‫أفضل منه‪ .‬ولربام جاز القول إن ثورة أكتوبر‪ ،‬حني ننظر إليها ضمن‬
‫سياق الصورة الكلية لِا سارت عليه األمور يف السودان‪ ،‬منذ منتصف‬
‫صح لنا أن نقول‪ ،‬وهذا ربام أغضب‬ ‫الستينات من القرن املايض‪ ،‬لربام ّ‬
‫كثريين‪ ،‬إهنا أعادت عقارب الساعة إىل الوراء‪ .‬فهي قد أعادت النظام‬
‫الديمقراطي األعرج الذي ظلت تسيطر عليه القوى الطائفية منذ‬
‫حلظة االستقالل‪ ،‬فأدخلت املسرية السياسية يف سلسلة من املامرسات‬
‫املعوجة واألخطاء القاتلة‪ ،‬كان حصادها النهائي وصول اإلسالميني‬ ‫ّ‬
‫السلطة يف البالد‪ ،‬ووصول البالد عرب مخسة وعرشين من حكمهم‬ ‫إىل ُّ‬
‫الفاشل‪ ،‬إىل حالة االهنيار شبه التام التي هي عليها اليوم‪.‬‬
‫مقاربة أكتوبر نقدي ًا إىل درجة القول بأهنا رغم إجبارها نظام عبود‬
‫عىل الذهاب‪ ،‬مل تنجز شيئ ًا ذا بال‪ ،‬وأن األمور من بعدها سارت يف‬
‫طريق االنحدار املتصل‪ ،‬ربام ال جيد القبول‪ ،‬وربام وجد االستنكار‬
‫واالستهجان‪ ،‬بل والغضب من البعض‪ ،‬كام سلفت اإلشارة‪ .‬غري أن‬
‫ٍ‬
‫مقاربة من هذا النوع‪ .‬ورغم أن‬ ‫احلقائق املوضوعية تسمح باجرتاح‬
‫الرتدي املريع الذي بلغه السودان اآلن‪ ،‬واحتامل تفكك الدولة فيه‪،‬‬
‫ترجع جذوره إىل ما قبل حلظة االستقالل‪ ،‬إال أن ثورة أكتوبر شكلت‬
‫تصو ٍر صحيح‬ ‫ّ‬ ‫عالمة بارزة يف مسرية االنحدار‪ .‬وينبغي‪ ،‬من أجل‬
‫لألمور‪ ،‬أن تتم مراجعة كل ذلك املسار‪ ،‬بام يف ذلك منعرجاته التي‬
‫تم اإلمجاع عىل أهنا كانت نقاط ًا مضيئة‪ ،‬ال يأتيها الباطل من بني يدهيا‬
‫أو خلفها؛ مثال ثورة أكتوبر‪ .‬فمن اإلشكاليات التي مل َت ِر مناقشتها‬
‫كاف‪ ،‬يف تقديري‪ ،‬إشكال سيطرة اليسار عىل جتربة أكتوبر‪ ،‬يف ظل‬ ‫ب َقدْ ٍر ٍ‬
‫املفاهيم اللينينية السائدة يف حقبة احلرب الباردة ويف ظل حالة اليسار‬

‫‪188‬‬
‫العريب‪ ،‬آنذاك‪ .‬ومن اجلانب اآلخر‪ ،‬ال بدّ من إعادة النظر يف حالة العداء‬
‫املتطرفة للطائفية وسط طالئع املتعلمني‪ ،‬دون أن يكون لدهيم التأثري‬
‫الذي كانت متلكه عىل اجلامهري‪ ،‬ودون أن يكونوا هم‪ ،‬يف الواقع العميل‪،‬‬
‫ال حقيقيا هلا‪ .‬لقد كنا‪ ،‬باستمرار‪ ،‬نعمل عىل خلق الفراغ‪ ،‬لنعيش يف‬ ‫بدي ً‬
‫الفراغ‪.‬‬
‫كان الربيطانيون خيشون من طالئع املتعلمني السودانيني‪ ،‬عىل‬
‫مستقبل السودان‪ ،‬خشي ًة حقيقية‪ .‬فقد خربوا معارفهم‪ ،‬قدراهتم‪،‬‬
‫وبنيتهم النفسية‪ ،‬عن كثب‪ .‬وقد اثبتو هذه املخاوف يف كتبهم‬
‫ومدوناهتم‪ .‬أورد حممد عمر بشري‪ ،‬عن سري لوجارد‪ ،‬قوله‪ ،‬إن عىل‬ ‫ّ‬
‫اإلدارة االستعامرية أن تنشئ يف املستعمرات مدارس يكون هدفها‬
‫وحب النظام‪،‬‬‫ّ‬ ‫الرئيس خلق شخصية مشبعة بالعادات احلسنة‪،‬‬
‫وليس جمرد تزويد الطالب بقدر معني من املعلومات النظرية واملهارة‬
‫الفنية‪ .147‬ويبدو يل أن طالئع املتعلمني السودانيني كانوا من الصنف‬
‫الثاين املتع ّلق باملعلومات النظرية واملهارات الفنية‪ .‬وحتى يف هذا‬
‫اجلانب‪ ،‬فقد كان حتصيلهم يف «املعلومات النظرية واملهارات الفنية»‪،‬‬
‫حمدود ًا جد ًا‪ .‬بل إن التجربة العملية أثبتت ذلك بام ال يدع جماالً للشك‪.‬‬
‫كام أورد أيض ًا عن سري لوجارد حتذيره من عاقبة عدم الرضا والفوىض‬
‫التي قد تنشأ من أثر الثقافة الغربية عىل متع ّلمي املستعمرات‪ ،‬ألهنا قد‬
‫لكل من السلطات املحلية واألجنبية‪ ،148‬وهذا ما‬ ‫تقلل من احرتامهم ٍّ‬
‫ناصب طالئع املتعلمني القوى التقليدية املتمثلة يف‬
‫حدث بالضبط‪ .‬فقد َ‬
‫الطائفية واإلدارة األهلية العداء‪ ،‬بنفس القدر ناصبوا به العداء لإلدارة‬
‫الربيطانية‪ .‬وعموم ًا زخرت كتابات الربيطانيني عن التعليم و َدوره يف‬

‫‪ .147‬محمد عمر بشري‪ ،‬تطور التعليم يف السودان ‪( ،1956 - 1898‬ترجمة هرني رياض‪ ،‬محمد سليامن‪،‬‬
‫عبد الله الحسن‪ ،‬الجنيد عيل عمر)‪ ،‬دار الجيل بريوت‪ ،1983 ،‬ص ‪.122‬‬
‫‪ .148‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.123‬‬

‫‪189‬‬
‫مستقبل السودان بالتنبيهات املتكررة إىل خطر املعرفة غري الناضجة‪،‬‬
‫التي يمكن أن ختلخل املتشكل التقليدي احلافظ لالستقرار‪ ،‬من غري‬
‫حيل ّ‬
‫حمل ما‬ ‫منتج ّ‬
‫بديل ٍ‬‫ٍ‬ ‫أن تكون هذه املعرفة الناقصة قادر ًة عىل خلق‬
‫هو قائم‪ .‬وقد أورد ماكاميكل يف كتابه «السودان» أن السياسيني يف‬
‫طويلة عىل تغذية عقول الطالب باملعتقدات‬ ‫ٍ‬ ‫الرشق‪ ،‬درجوا منذ ٍ‬
‫فرتة‬
‫ختصهم بوصفهم نخبة‪ ،‬وتشجيعهم عىل املظاهرات وإحداث‬ ‫التي ّ‬
‫االضطرابات لتأييد أي دعاية أو أي إشاعة سارية‪ .‬وقال‪ ،‬إذا مل يوضع‬
‫بحق مغزى أهداف‬ ‫لذلك حدٌّ فإنه سوف يفسد جمهودات من يدركون ّ‬
‫التعليم التي ينبغي اتباعها‪.149‬‬
‫ِ‬
‫املستعمر املتمثلة يف اإلبقاء عىل‬ ‫طالئع املتعلمني حكمة‬ ‫جتاهل‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫البنى التقليدية للمجتمع كالطائفية واإلدارة األهلية‪ ،‬والعمل بالتعاون‬
‫معها لتحويل ذلك الوضع تدرجيي ًا نحو احلالة احلداثية‪ ،‬جتنب ًا للنزوع‬
‫قفزات غري حممودة العواقب‪ .‬مل يفهم طالئع املتعلمني هنج‬ ‫ٍ‬ ‫إلحداث‬
‫احلكم االستعامري يف تقوية زعامء الطوائف‪ ،‬وزعامء اإلدارة األهلية‪،‬‬
‫ٍ‬
‫استعامرية‬ ‫ٍ‬
‫حيلة‬ ‫وأهتموا ذلك النهج بأنه ال يمثل‪ ،‬يف جممله‪ ،‬سوى‬
‫قط فهم‬ ‫مكشوفة لالستمرار يف حكم البالد‪ .‬ولذلك‪ ،‬مل حياولوا ّ‬ ‫ٍ‬
‫السلطة‬
‫حتذرهم من املستقبل‪ .‬فعملوا بكل جدٍّ ضدّ ُّ‬ ‫الرسائل التي ّ‬
‫السلطات التقليدية‪ .‬أشاع ذلك املسلك النفور من‬ ‫االستعامرية وضدّ ُّ‬
‫الطائفية واإلدارة األهلية وسط الن َُّخب املتعلمة‪ ،‬وجعل كراهية القوى‬
‫التقليدية مرادفة للثقافة الصحيحة واملوقف التقدمي‪ .‬ولقد خ َلق ذلك‬
‫إشكاليات عويصة يف مسار العمل السيايس يف البالد‪ ،‬وأدى إىل ٍ‬
‫كثري‬
‫من الرصاعات غري املنتجة التي ع ّطلت تقدّ م البالد عرب العقود التي‬
‫تلت‪.‬‬

‫‪ .149‬هارولد ماكاميكل‪ ،‬السودان‪ ،‬الطبعة الثانية‪( ،‬ترجمة محمود صالح عثامن صالح)‪ ،‬مركز عبد الكريم‬
‫مريغني الثقايف‪ ،‬أمدرمان‪ ،‬السودان‪ ،2009 ،‬ص ‪175‬‬

‫‪190‬‬
‫ذكر ماكاميكل أن من بني نتائج التعليم األكثر بروز ًا يف السودان‪،‬‬
‫ُق َبيل هناية النصف األول من القرن العرشين‪ ،‬الرغبة يف استخدام‬
‫التعليم من أجل حتقيق األهداف السياسية‪ ،‬ويقول ال غبار عىل ذلك‪،‬‬
‫ما دامت تقف وراءه دوافع وطنية‪ .‬غري أنه ع ّلق يف نفس السياق قائالً‪،‬‬
‫املجردة نظرية من نسج اخليال‪ .‬وأضاف‪ّ ،‬‬
‫أن‬ ‫ّ‬ ‫إن املوضوعية العلمية‬
‫االختبار احلقيقي بالنسبة للسودان سوف جيري يف املستقبل؛ فهل‬
‫سيربهن التعليم واخلربة العملية التي تل ّقاها السودانيون خالل نصف‬
‫ال أساس ًا متين ًا لكي‬ ‫قرن من الزمان‪ ،‬وهي فرتة بالغة القرص‪ ،‬أهنا مت ّثل فع ً‬
‫أن النزعات الوطنية‬ ‫يقوموا بترصيف أمورهم بحكمة واعتدال‪ ،‬أم ّ‬
‫ِ‬
‫طموحات شخصي ًة وطائفي ًة وضيعة‪ ،‬ال تُلقي‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬
‫تنحط لتصبح‬ ‫سوف‬
‫باالً الحتياجات البالد احلقيقية؟‪ .150‬وواضح جد ًا؛ مما آلت إليه أمور‬
‫السودان اآلن‪ ،‬أن االحتامل األخري هو الذي رجحت َك ّفته‪.‬‬
‫أو ّد أن أتساءل يف مضامر إعادة النظر يف ثورة أكتوبر‪ :‬هل كان‬
‫ملح ٍة حق ًا‪ ،‬إىل تلك الثورة‪ ،‬يف ذلك الوقت؟ وهل كان‬ ‫ٍ‬
‫السودان بحاجة ّ‬
‫الواقع املوضوعي يعيش حالة الضغط القصوى التي تو ِّلد الثورات‬
‫عادةً؟ أم أن تلك الثورة مل تكن سوى واحدة من أعاجيب التاريخ‪،‬‬
‫وصدَ فه الشاذة التي ال َيص ُلح القياس عليها‪ .‬واألهم من ذلك‪ ،‬هل‬ ‫ُ‬
‫ّ‬
‫تقدّ َمت مسارات األمور يف السودان بعدها‪ ،‬أم أن تلك الثورة مثلت نقطة‬
‫التحول املركزية التي مل تتقدّ م بعدها األمور يف السودان عىل اإلطالق؟‪.‬‬
‫ّ‬
‫من أبرز نتائج ثورة أكتوبر ‪ ،1964‬أهنا بلورت الرصاع بني‬
‫«التقليديني» و«احلداثيني»‪ ،‬إىل قمة غري مسبوقة‪ .‬فهل كان عداء الن َُّخب‬
‫للطائفية ولإلدارة األهلية‪ ،‬خاصة الن َُّخب صاحبة األحزاب ذوات‬
‫اإليديولوجيات‪ ،‬عدا ًء ناضج ًا‪ ،‬أم أنه كان اندفاع ًا حداثوي ًا نخبوي ًا فوقي ًا‪،‬‬
‫زعزع االستقرار‪ ،‬وخلق استقطاب ًا حاد ًا‪ ،‬ترتبت عليه بمرور الزمن نتائج‬
‫‪ .150‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.169‬‬

‫‪191‬‬
‫كارثية؟ وال أريد أن أقدّ م إجابات عىل هذه األسئلة هنا‪ ،‬بقدر ما أريد‬
‫بصوت ٍ‬
‫عال‪ .‬ولسوف أترك سياق بقية هذه الورقة يلقي مزيد ًا من‬ ‫ٍ‬ ‫طرحها‬
‫الضوء عىل تلك األسئلة‪ .‬فغريض من هذه الورقة هو ختليق أجندة بحثية‬
‫تستدعي حفر ًا أكثر عمق ًا يف جتربة أكتوبر‪ ،‬ويف غرابة التاريخ السيايس‬
‫السوداين‪ ،‬والتطاحن غري املنتج الذي ساده منذ فجر احلركة الوطنية‪.‬‬
‫لقد «تأ ْي َقنَت» ثورة أكتوبر‪ ،iconized ،‬و»تصنَّمت» ‪،idolized‬‬
‫كبري‪ ،‬يف ِح ْرز ما هو مقدس‪ ،‬مما يقع خارج دائرة‬
‫ما جعلها تقبع‪ ،‬إىل حدٍّ ٍ‬
‫املساءلة النقدية‪ .‬ولربام أمكن القول إن املساءلة النقدية لثورة أكتوبر‪،‬‬
‫املنفلتة من قيدَ ْي اإليديولوجيا‪ ،‬واالنتامء احلزيب القح‪ ،‬والعاطفة‬
‫جتمدت تلك الثورة‪ ،‬إىل حدٍّ‬ ‫السياسية اجلاحمة‪ ،‬مل ُ ْت َر حتى اآلن‪ .‬فقد ّ‬
‫تنصب‬
‫ُّ‬ ‫كبري‪ ،‬يف مقام التمجيد وحده‪ .‬وكل حماولتي يف هذه الورقة إنام‬
‫يف اخراج تلك الثورة من ِح ْرز «األيقونة» املقدسة‪ ،‬ونزع رسابيل‬
‫التمجيد املحض عنها‪ ،‬ووضعها عىل منضدة الترشيح‪.‬‬
‫أيض ًا تلمس هذه الورقة حلم عودة أكتوبر‪ ،‬وإمكانيته‪ ،‬خاص ًة‬
‫بعد أن بلغ اخلراب يف البالد هذا املبلغ الفظيع‪ ،‬وبعد أن تراجع وعي‬
‫اجلامهري‪ ،‬واشتدّ ت قبضة اخلطاب الديني عىل العقول يف السودان‪،‬‬
‫وتغريت موازين القوى يف اإلقليم‪ .‬وبعد أن تبدّ لت تضاريس‬
‫طوبوغرافيته السياسية‪ ،‬وهاجرت منه صفوة املتع ّلمني واملثقفني‪،‬‬
‫يب سيطر ًة شبه مطلقة‪ .‬وبعد أن تبدّ دت‬
‫وسيطرت الدولة عىل العمل النقا ّ‬
‫الطاقات التي كانت فاعلة وقادرة عىل حتريك اجلامهري‪ ،‬وانقصم ظهر‬
‫الوحدة الوطنية‪ ،‬وتبعثر الوجدان القومي اجلمعي‪ ،‬وثار أهل اهلامش‪،‬‬
‫واشتعلت احلروب يف كل أطراف البالد‪ .‬وبعد أن انترش السالح هذا‬
‫االنتشار الواسع املخيف‪ ،‬عالوة عىل دخول القوى اإلقليمية‪ ،‬خاصة‬
‫ٍ‬
‫رئيس يف‬ ‫ٍ‬
‫كالعب‬ ‫املرتبطة بأجندة التنظيم العاملي لإلخوان املسلمني‪،‬‬
‫الرصاع السوداين‪ ،‬السوداين‪ ،‬الدائر اآلن‪.‬‬

‫‪192‬‬
‫أكتوبر بوصفها مفت َرقًا نحو التراجع‬
‫مل حت ّقق ثورة أكتوبر ‪ ،1964‬من شعاراهتا التي رفعتها شيئ ًا ُيذكر‪،‬‬
‫فقد ُأجهضت تلك الشعارات بعد أربعة أشهر فقط من تاريخ حدوث‬
‫ٍ‬
‫واحد من‬ ‫الثورة‪ .‬ويف االنتخابات الديمقراطية التي جرت بعد عا ٍم‬
‫تلك الثورة‪ ،‬عادت األحزاب التقليدية إىل احلكم بكل ثقلها املعهود‪،‬‬
‫ورجع الوضع إىل ما كان عليه قبل جميء نظام الفريق عبود إىل احلكم‪،‬‬
‫بل عاد‪ ،‬يف حقيقة األمر‪ ،‬إىل ما هو أسوأ!‪.‬‬
‫يف أول عا ٍم من عمر الديمقراطية الثانية (‪ ،)1969 – 1964‬التي‬
‫أعقبت ثورة أكتوبر‪ ،‬جرى تعديل الدستور‪ ،‬لكي يصبح من املمكن‬
‫وطرد ّنوابه املنتخبني‪ ،‬من الربملان‪،‬‬
‫حل احلزب الشيوعي السوداين‪ْ ،‬‬ ‫ّ‬
‫حل احلزب‬ ‫وقد جرى ذلك بالفعل‪ .‬أيض ًا‪ ،‬بعد ثالثة أعوا ٍم من ّ‬
‫الشيوعي‪ ،‬حوكم األستاذ حممود حممد طه‪ ،‬رئيس احلزب اجلمهوري‪،‬‬
‫الذي قاد تيار ًا إسالمي ًا إصالحي ًا منذ منتصف القرن العرشين‪ ،‬بتهمة‬
‫الر ّدة‪ ،‬وتم إعالن ر ّدته من قبل املحكمة الرشعية العليا باخلرطوم‪ .‬وقد‬
‫تزامن مع مقرتح بكتابة مسو ٍ‬
‫دة ملا ُس ِّمي‬ ‫ٍ‬ ‫جرت حماكمة األستاذ حممود يف‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫مسودة كانت األحزاب التقليدية‬ ‫«الدستور اإلسالمي الكامل»‪ .‬وهي َّ‬
‫ومعها بعض رجال الدين‪ ،‬واإلخوان املسلمون منهمكون يف اإلعداد‬
‫هلا‪ .‬لذلك‪ ،‬يمكن القول إن ثورة أكتوبر مل تفعل‪ ،‬من الناحية العملية‬
‫الواقعية‪ ،‬أكثر من أهنا أعادت عقارب الساعة إىل الوراء‪ ،‬يف إطار‬
‫دولة دينية‪ ،‬تسيطر‬‫حتو ٍل سيايس كان واضح ًا أنه يسري يف طريق إقامة ٍ‬
‫ٍّ‬ ‫ّ‬
‫عليها سيطر ًة مطلق ًة األحزاب الطائفية‪ ،‬ومعها اإلخوان املسلمون‪ .‬مع‬
‫ٍ‬
‫حتالف‬ ‫مالحظة أن حتالف اإلخوان املسلمني مع الطائفية مل يكن سوى‬
‫تكتيكي‪ ،‬كان هدفه استخدام الطائفية للقضاء عىل قوى اليسار أوالً‪ ،‬ثم‬
‫ٍّ‬
‫االنفراد بالقوى الطائفية والقضاء عليها الحق ًا‪ .‬وهذا ما حدث بالفعل‪،‬‬

‫‪193‬‬
‫حني قام اإلسالميون باالنقالب عىل الديمقراطية احلزبية الثالثة (‪1985‬‬
‫‪ ،)1989-‬وقد كانوا جزء ًا منها‪.‬‬
‫رحبت‬ ‫نتيجة ملا قامت به الطائفية يف حقبة الديمقراطية الثانية ّ‬
‫القوى احلداثية بانقالب نمريي الذي جرى يف مايو ‪ ،1969‬بل ودعمته‪.‬‬
‫عريض من اجلمهور املتع ّلم‪ ،‬بسبب‬‫ٌ‬ ‫قطاع‬
‫ٌ‬ ‫رحب بانقالب نمريي‬ ‫أيض ًا‪ّ ،‬‬
‫ما شهده من انحصار الرصاع بني األحزاب عىل الكرايس‪ .‬كان واضح ًا‬
‫جد ًا أن العمل السيايس قد ظل يدور يف حلقة مفرغة‪ ،‬ما تس ّبب يف‬
‫مستدامة من انسداد األفق السيايس‪ .‬يضاف إىل ذلك‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫خلق حالة‬
‫وتفش املحسوبية والرشوة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تنامي مظاهر الفساد يف احلياة اليومية‪،‬‬
‫فعل تنموي‪ .‬وترسم ديدار روسانو صور ًة حلالة‬ ‫وخلو البالد من أي ٍ‬
‫ّ‬
‫احلكم احلزيب يف السودان‪ ،‬يف جممل مرحلة ما بعد االستقالل‪ ،‬قائلة‪:‬‬
‫ٍ‬
‫رصاعات‬ ‫«ومتى حتقق االستقالل والسيادة‪ ،‬أصبحت الرصاعات‬
‫مزامحات شخصية‪ .‬بل ومل يكن هلذه التشكيالت‬ ‫ٍ‬ ‫عقيمة‪ ،‬ال تعكس إال‬
‫السلطة أي برامج للبناء الوطني»‪ .151‬الشاهد هنا أن أكتوبر‬‫املتواجدة يف ُّ‬
‫واخفاقاهتا ساقت القوى احلديثة التي اقتلعت نظام الفريق عبود إىل‬
‫قبول نظام جعفر نمريي واالصطفاف وراءه‪ ،‬عرب طيفها العريض‪،‬‬
‫خاصة يف بداياته‪ .‬لقد استخدمت قوى اليسار ثورة أكتوبر لتقلب‬
‫الطاولة «ثوري ًا» عىل القوى السياسية التقليدية‪ ،‬وإخراجها من الساحة‬
‫السياسية‪ .‬ومن هنا بدأت حقبة الثارات املتبادلة بني القوى السياسية‬
‫السودانية؛ احلداثية والتقليدية‪ ،‬التي أقعدت البالد‪ ،‬وبدّ دت طاقاهتا يف‬
‫مارين بآخر حلقاهتا‪.‬‬
‫احرتاب بال هدف‪ .‬وهي مرحلة أرجو أن نكون ّ‬
‫الطابع الراديكالي لثورة أكتوبر‬
‫سيطرت جبهة اهليئات‪ ،‬عرب الشهور األوىل من الفرتة االنتقالية‪،‬‬
‫‪ .151‬ديدار فوزي روسانو‪ ،‬السودان إىل أين‪( ،‬ترجمة مراد خالف) الرشكة العاملية للطباعة والنرش‪،‬‬
‫السودان‪ ،2007 ،‬ص ‪.126‬‬

‫‪194‬‬
‫عىل جمريات الثورة فطرحت أجند ًة راديكالية‪ ،‬جعلت القوى التقليدية‬
‫الطائفية تشعر أن هناك اجتاه ًا إلقصائها وهتميشها‪ ،‬بل وتصفيتها‪ .‬وبدا‬
‫منحى يساري ًا واضح ًا‪ .‬ومما ال يعطيه من‬ ‫ً‬ ‫جلي ًا أن الثورة قد أخذت‬
‫يتحدثون عن «عودة أكتوبر»‪ ،‬انتباه ًا كافي ًا‪ ،‬إىل أن ثورة أكتوبر مل تكن‬
‫تريد إعادة الديمقراطية التعددية احلزبية‪ .‬وإنام كانت تريد ترسيخ ٍ‬
‫نمط‬
‫من الديمقراطية‪ ،‬هو أقرب ما يكون إىل الديمقراطية الشعبية‪ ،‬ذات‬
‫النسب الواضح للمفهوم املاركيس اللينيني‪ .‬فالشعارات التي سادت‬
‫يف أجواء أكتوبر كانت «ال حزبية بعد اليوم»‪ ،‬و»ال زعامة للقدامى»‪.‬‬
‫العمل‬
‫وبالفعل حاولت جبهة اهليئات َس ّن ترشيعات من شأهنا أن جتعل ّ‬
‫واملزارعني والنساء حيتلون وزن ًا كبري ًا جد ًا يف الربملان‪ ،‬بنا ًء عىل الرشعية‬
‫الثورية للثورة‪ ،‬وليس عىل أوزان القوى احلزبية احلقيقية يف الواقع‪ .‬لقد‬
‫كانت حماولة شيوعية اتسمت بقلة احلكمة وقرص النظر للقفز عىل كل‬
‫الواقع املوضوعي‪ .‬وهي حماولة وقف وراءها االدعاء النخبوي بامتالك‬
‫حرصي لالستنارة واملعرفة بطريق «التقدم»‪.‬‬
‫ذكر تيم نيبلوك أن املفاوضات التي جرت بني جبهة اهليئات وجبهة‬
‫األحزاب عقب أكتوبر لتحديد شكل احلكومة االنتقالية عكست الدّ ور‬
‫القيادي الذي لعبته جبهة اهليئات يف إسقاط احلكم العسكري‪ .‬فرتكيبة‬
‫ضمت سبعة وزراء من جبهة اهليئات‬ ‫احلكومة التي ُأعلنت يف ‪ 31‬أكتوبر ّ‬
‫من بينهم السكرتري العام الحتاد نقابات عامل السودان‪ ،‬وسكرتري احتاد‬
‫املزارعني‪ ،‬واثنني من اجلنوبيني‪ .‬أما حزب األمة‪ ،‬واالحتادي‪ ،‬والشعب‬
‫ٍ‬
‫حزب‬ ‫الديمقراطي‪ ،‬وامليثاق اإلسالمي‪ ،‬والشيوعي‪ ،‬فقد ُمنح ّ‬
‫كل‬
‫منها وزير ًا واحد ًا فقط‪ .‬غري أن وزراء جبهة اهليئات كانوا يسريون‪،‬‬
‫من الناحية العملية‪ ،‬عىل ذات اخلط الذي يسري عليه وزير احلزب‬
‫الشيوعي السوداين‪ .‬ويضيف نيبلوك‪ ،‬أن اجتاهات جملس الوزراء‬
‫كانت يف جمملها راديكالية‪ .‬ففي األشهر القليلة التي أعقبت تكوينها‬

‫‪195‬‬
‫اجتهت تلك احلكومة االنتقالية إىل حماولة وضع مقرتحات لإلصالح‬
‫الزراعي‪ ،‬وإىل التصفية التدرجيية لإلدارة األهلية‪ ،‬والتمهيد ألن تستلم‬
‫الرشكات السودانية جتارة الصادر والوارد من الرشكات األجنبية‪،‬‬
‫وتنشيط التجارة مع الدول الرشقية‪ ،‬واتِّباع سياسات نشطة يف دعم‬
‫حركات التحرر يف إفريقيا والرشق األوسط‪ .‬وكان أكثر ما أثار قلق‬
‫القوى التقليدية هو االقرتاح الذي تقدّ مت به جبهة اهليئات لتخصيص‬
‫‪ 50%‬من مقاعد اجلمعية التأسيسية للعامل واملزارعني‪ .152‬هذا املنحى‬
‫الراديكايل السافر هو الذي دفع بالقوى «التقليدية»‪ ،‬إىل التكتل وحشد‬
‫مجهورها والضغط عىل رئيس وزراء الفرتة االنتقالية‪ ،‬رس اخلتم اخلليفة‪،‬‬
‫حتى أجربوه عىل االستقالة‪ .‬ولقد عرض حممد سعيد القدال مراجع ًة‬
‫نقدي ًة لالندفاعات الراديكالية جلبهة اهليئات‪ ،‬وهي تدير تلك الفرتة‬
‫االنتقالية القصرية‪ .‬وقد اتسم نقد القدال‪ ،‬يف مجلته‪ ،‬باملوضوعية‪،‬‬
‫لتفهم ُمق ِّيدات الواقع‪.153‬‬
‫وتأكيد رضورة التحيل باحلكمة ُّ‬
‫مل تَدُ م حكومة أكتوبر االنتقالية‪ ،‬سوى بضعة أشهر‪ .‬كانت حكوم ًة‬
‫جانح ًة يساري ًا‪ ،‬كام كانت تفكر بعقلية الشيوعية الدولية‪ ،‬وبعقلية‬
‫احلزب الشيوعي السوداين‪ ،‬وبدوافع الرشعية الثورية‪ ،‬بأكثر مما كانت‬
‫ٍ‬
‫مدرك إدراك ًا‬ ‫سوداين‬ ‫ٍ‬
‫بعقل‬ ‫تفكر وفق هنج ديمقراطي حقيقي‪ ،‬أو‬
‫ٍّ‬
‫عميق ًا للمق ِّيدات ‪ ،limitations‬التي حتكم الواقع السوداين املوغل‬
‫يف التخلف‪ .‬ولذلك فعىل الرغم من رفع الشعارات القائلة «ال حزبية‬
‫بعد اليوم»‪ ،‬و»ال زعامة للقدامى»‪ ،‬ورغم نجاح سالح العصيان املدين‪،‬‬
‫حيركها اليسار‪ ،‬يف‬ ‫الذي يعود الفضل فيه إىل القوى النقابية التي كان ّ‬
‫اقتالع احلكم العسكري للفريق عبود‪ ،‬إال أن الواقع املوضوعي القائم‬
‫السلطة والرثوة يف السودان‪ ،‬منذ االستقالل وحتى االنتفاضة‪( ،‬ترجمة الفاتح‬
‫‪ .152‬تيم نيبلوك‪ ،‬رصاع ُّ‬
‫التجاين ومحمد عيل جادين)‪ ،‬مطبعة جامعة الخرطوم‪ ،)1990( ،‬ص ‪217‬‬
‫‪ .153‬راجع‪ :‬محمد سعيد القدال‪ ،‬معامل يف تاريخ الحزب الشيوعي السوداين‪ ،‬دار الفارايب‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪،‬‬
‫‪ ،1999‬ص ‪.138 – 135‬‬

‫‪196‬‬
‫عىل احلزبية الطائفية‪ ،‬أعاد النظام احلزيب الطائفي القديم‪ ،‬بكل سوءاته‪،‬‬
‫ٍ‬
‫حرب ال هوادة فيها عىل قوى‬ ‫ربرات إلعالن‬ ‫مر ًة أخرى‪ ،‬بل وأعطاه م ّ‬
‫اليسار‪ ،‬وعىل قوى احلداثة عموم ًا‪.‬‬
‫حلم القفز على الواقع‬
‫من احلقائق التي ال يتم االلتفات إليها كثري ًا يف التجربة السودانية‬
‫حقيقة الرصاع الالأخالقي املرير بني «احلداثيني» و»التقليديني» الذي‬
‫اتسم بعدم املبدئية‪ .‬ففي هذا الرصاع الطويل تنَكَّر الفريقان ألصول‬
‫وقواعد اللعبة الديمقراطية‪ .‬فـ «احلداثيون» كانوا‪ ،‬إىل حدٍّ ٍ‬
‫كبري جد ًا‪،‬‬
‫ثوري انقاليب‪ ،‬تَس َّبب يف تشكيله اإلحساس ببطء‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫مزاج‬ ‫أصحاب‬
‫َ‬
‫حراك الواقع‪ .‬كام تس َّببت فيه أيض ًا عجلتهم‪ ،‬وقلة صربهم‪ ،‬عىل‬
‫ذلك الواقع الطائفي القائم عىل بنية اقتصادية بالغة الضعف‪ ،‬وعىل‬
‫أمية سياسية‪ ،‬وأمية يف القراءة والكتابة‪ ،‬ما جعله بطيء االستجابة‬
‫لنداءات التحديث‪ .‬أما معسكر «التقليدية»‪ ،‬الذي يم ّثله «حزب األمة»‬
‫و»احلزب االحتادي الديمقراطي»‪ ،‬املرتكزان عىل قاعدتني دينيتني‬
‫طائفيتني‪ ،‬وعىل اإلدارة األهلية‪ ،‬فقد كان حريص ًا ـ من الناحية الشكلية‬
‫عىل األقل ـ عىل النظام الديمقراطي‪ .‬ولكن‪ ،‬ليس ح ّب ًا للديمقراطية‪،‬‬
‫أو إيامن ًا هبا‪ ،‬وإنام ألن الرتكيبة الطائفية التي أد َغمت الوالء للطائفة‬
‫يف الوالء للحزب‪ ،‬جعلت أهل هذا املعسكر واثقني من كسب أي‬
‫انتخابية ديمقراطية ضد تنظيامت احلداثيني؛ من يساريني ومن‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫معركة‬
‫إسالميني‪ .154‬لذلك‪ ،‬فإن العداء املستحكم منذ فجر احلركة الوطنية‬
‫بني املدافعني عن «التقليدية»‪ ،‬واملدافعني عن «احلداثة»‪ ،‬هو الذي جعل‬
‫أنظمة احلكم يف السودان تتأرجح‪ ،‬عىل الدوام‪ ،‬بني أنظمة ديمقراطية‬
‫ٍ‬
‫بعبارة‬ ‫برملانية فاشلة‪ ،‬وسلسلة من االنقالبات العسكرية الفاشلة‪.‬‬

‫‪154. Mahmood Mamdani, Saviors and survivors: Darfur, politics, and the war‬‬
‫‪on terror, Pantheon Books, New York, 2009, p172.‬‬

‫‪197‬‬
‫أخرى‪ ،‬مل يكن السبب وراء اضطراب املامرسة السياسية يف سودان ما‬
‫بعد االستقالل منحرص ًا يف التنافس بني احلزبني «التقليديني»؛ حزب‬
‫األمة‪ ،‬واحلزب االحتادي الديموقراطي ـ وقد كان هذا التنافس بينهام‬
‫قائ ًام وحمتدم ًا بالفعل ـ بقدر ما كان السبب هو الرصاع املرير بني معسكر‬
‫«احلداثيني» ومعسكر «التقليديني»‪.155‬‬
‫ال بدّ أن نستصحب معنا‪ ،‬ونحن نعالج ثورة أكتوبر‪ ،‬أن الديمقراطية‬
‫التعددية كانت مرفوض ًة متام ًا‪ ،‬من جانب قوى اليسار‪ ،‬التي كانت هي‬
‫والقوي‪ ،‬عىل‬
‫ّ‬ ‫املحرك الرئيس لثورة أكتوبر‪ ،‬بحكم تأثريها الكبري‬ ‫ّ‬
‫حيق اليوم لقوى اليسار‪،‬‬‫االحتادات النقابية واملهنية‪ .‬وبطبيعة احلال‪ ،‬ال ّ‬
‫التي تصاحلت مع الديمقراطية التعددية‪ ،‬عقب سقوط الشيوعية‪ ،‬أن‬
‫فتضمه هو اآلخر‪ ،‬إىل‬ ‫اجع ذلك التاريخ السابق‪،‬‬ ‫تعود القهقرى ُلت ِ‬
‫ّ‬
‫زمان الحق‪ .‬فمعاجلة ثورة أكتوبر‬ ‫ٍ‬ ‫التغيري املفاهيمي الذي أصاهبا يف‬
‫ومراجعتها‪ ،‬نقدي ًا‪ ،‬جيب أن تتم يف اإلطار التارخيي الظريف الذي أحاط‬
‫هبا إقليمي ًا ودولي ًا آنذاك‪ .‬ويقتيض ذلك‪ ،‬وبالرضورة‪ ،‬استذكار تأثري‬
‫ذلك اإلطار احلاكم‪ ،‬حينها‪ ،‬عىل منظومة املفاهيم التي كانت سائدة‬
‫وقتها يف أذهان قيادات ثورة أكتوبر من احلزبيني واملهنيني والنقابيني‪.‬‬
‫فقد كان هؤالء النقابيني واملهنيني‪ ،‬حمكومني‪ ،‬عىل األقل يف مستوى‬
‫قياداهتم الفاعلة‪ ،‬باألطر الفكرية لليسار املاركيس اللينيني‪ ،‬يف حالته‬
‫التي كان عليها يف ستينات القرن املايض‪ .‬ولذلك فإن الدعوة إىل‬
‫مفاهيمي جديد‪ ،‬بل‪ ،‬وأن يتم‬
‫ٍّ‬ ‫عودة أكتوبر ال بدّ أن تكون وفق ٍ‬
‫إطار‬
‫آليات جديدة أيض ًا‪ ،‬مع قراءة للصعوبات اجلمة التي‬ ‫ٍ‬ ‫فيها استحداث‬
‫أصبحت تعرتض فعل الثورة اليوم‪ ،‬من حيث هو‪.‬‬

‫‪155. Ibid, p 172.‬‬

‫‪198‬‬
‫تراجُ ع اليسار وتقدُّم اإلسالم السياسي‬
‫من الدالئل عىل أن أكتوبر مل تكن ثورة كاملة النضج‪ ،‬أن نظامني‬
‫عسكريني وصال إىل احلكم من بعدها‪ .‬بل إن نظام جعفر نمريي‬
‫العسكري الذي جاء بعدها بخمس سنوات فقط‪ ،‬يف مايو ‪،1969‬‬
‫وجد ترحيب ًا شعبي ًا منقطع النظري‪ .‬وبسبب رفع جعفر نمريي والضباط‬
‫ٍ‬
‫وشعارات قومية عربية‪ ،‬وبسبب أن‬ ‫ٍ‬
‫شعارات يسارية‪،‬‬ ‫الذين كانوا معه‪،‬‬
‫بعض الضباط الذين نفذوا معه االنقالب كانوا من الشيوعيني‪ ،‬فقد‬
‫وجد الشيوعيون أنفسهم مندغمني‪ ،‬طوع ًا أو كره ًا‪ ،‬يف ذلك االنقالب‪.‬‬
‫بل إن قطاع ًا معترب ًا منهم ردد ما ردده الضباط الذين قاموا باالنقالب‪،‬‬
‫وهو أن ما جرى يف مايو ‪ ،1969‬بواسطة جعفر نمريي والضباط الذين‬
‫كانوا معه‪ ،‬كان ثور ًة وليس انقالب ًا‪ ،‬بل هو امتدا ٌد طبيعي لثورة أكتوبر‪،‬‬
‫وجتسيد ًا حي ًا يف الواقع لشعاراهتا املعادية للحزبية والطائفية‪.‬‬
‫تكررت ثورة أكتوبر يف أبريل ‪ ،1985‬كام تقدم القول‪ ،‬وتكررت‬
‫معها جتربة إجهاض الشعارات والرغبات والتطلعات اجلامهريية‪،‬‬
‫وعادت األمور احلزبية الطائفية إىل ما كانت عليه قبل جميء جعفر‬
‫متغي ًا جديد ًا دخل الساحة‪ ،‬وهو حصول‬ ‫نمريي إىل احلكم‪ .‬غري أن ّ‬
‫ٍ‬
‫واحد ومخسني مقعد ًا يف االنتخابات التي جرت عقب‬ ‫اإلسالميني عىل‬
‫انقضاء الفرتة االنتقالية‪ ،‬التي أعقبت انتفاضة ‪ .1985‬بذلك العدد ّ‬
‫احتل‬
‫اإلسالميون املركز الثالث يف ترتيب األحزاب السودانية من حيث‬
‫الوزن اجلامهريي‪ .‬فقد اقرتب اإلسالميون من حيث عدد املقاعد التي‬
‫حصلوا عليها من احلزب االحتادي الديمقراطي‪ ،‬وهو احلزب الثاين من‬
‫حيث القاعدة الشعبية يف البالد‪ ،‬بعد حزب األمة‪ .‬كام تراجعت يف نفس‬
‫تراجع ًا ملحوظ ًا‪ ،‬إذ حصلوا عىل ثالثة مقاعد‬
‫الوقت شعبية الشيوعيني ُ‬
‫فقط؛ مقعدين من دائرتني جغرافيتني يف العاصمة اخلرطوم‪ ،‬ومقعد آخر‬

‫‪199‬‬
‫من دوائر اخلرجيني يف إقليم بحر الغزال بجنوب السودان‪ .156‬وبطبيعة‬
‫احلال فإن النائب الشيوعي الذي أحرز دائرة بحر الغزال يف جنوب‬
‫السودان‪ ،‬أحرزها ألسباب ق َبلية‪ ،‬وليس ألسباب إيديولوجية‪ .‬وال بدّ‬
‫هنا من التذكري هنا أن الشيوعيني كانوا قد حصلوا يف االنتخابات التي‬
‫جرت يف عام ‪ ،1965‬بعد عام واحد من ثورة أكتوبر‪ ،‬عىل أحد عرشة‬
‫مقعد ًا‪ ،‬يف حني حصل اإلسالميون عىل ثالث مقاعد فقط‪.‬‬
‫لو تت ّبعنا تبدُّ ل الوزن اجلامهريي عرب الواحد وعرشين عام ًا التي‬
‫فصلت بني انتخابات ‪ ،1965‬وانتخابات ‪ ،1986‬لوضح لنا تراجع‬
‫اليسار‪ ،‬وتقدُّ م اإلسالميني‪ .‬ومع أن اإلسالميني السودانيني هم‬
‫السلطة‪،‬‬‫اإلسالميون الوحيدون يف العامل العريب الذين وصلوا إىل ُّ‬
‫ووصلوا إليها‪ ،‬حني وصلوا‪ ،‬عن طريق االنقالب العسكري‪ ،‬إال‬
‫أهنم عملوا منذ رشاكتهم احلكم مع جعفر نمريي يف هتيئة الوضع‬
‫السلطة‪ ،‬عسكري ًا‪ .‬وعموم ًا فإن تراجع‬ ‫الذي يسمح هلم بالوثوب إىل ُّ‬
‫السلطة مل يمثل حال ًة سوداني ًة خاصة‪،‬‬
‫اليسار‪ ،‬واقرتاب اإلسالميني من ُّ‬
‫وإنام كان جزء ًا من ظاهرة «رشق أوسطية»‪ ،‬بل وظاهرة كوكبية‪ .‬فقد‬
‫تزامن مع تراجع اخلطاب اليساري يف العامل‪،‬‬‫ٍ‬ ‫تراجع اليسار العريب يف‬
‫الذي صحب اهنيار الشيوعية يف االحتاد السوڤييتي السابق‪ .‬غري أن‬
‫اإلسالميني يف الرشق األوسط كانوا هم القوة التي اندفعت بقوة لتمأل‬
‫ذلك الفراغ الذي حدث‪.‬‬
‫الثورة بين بناء الدّولة وخدمة األجندة الحزب ّية‬
‫تعي علينا أن نعيد التفكري يف ثورة أكتوبر‪ ،‬ويف ما إذا كانت‬
‫ربام ّ‬
‫لحة حلدوثها‪ ،‬بذكر بعض األمور‪ ،‬مثال‪:‬‬ ‫هناك فع ً‬
‫ال حاجة ُم ّ‬

‫‪ .156‬أحمد إبراهيم أبو شوك والفاتح عبد الله عبد السالم‪ ،‬االنتخابات الربملانية يف السودان ‪:1986- 1953‬‬
‫مقاربة تاريخية تحليلية‪ ،‬مركز عبد الكريم مريغني‪ ،‬أمدرمان‪ ،‬السودان‪.2008 ،‬‬

‫‪200‬‬
‫وست‬
‫ّ‬ ‫•حدثت ثورة أكتوبر بعد ثامين سنوات فقط من االستقالل‪،‬‬
‫سنوات من حكم الفريق عبود‪ ،‬وهي فرتة قصرية جد ًا ليتو ّلد منها‬
‫احتقان وغبن اجتامعي حقيقي يدفع إىل الثورة‪ .‬فهل كان الواقع‬ ‫ٌ‬
‫بحاجة حقيقية إىل تلك الثورة‪ ،‬أم أن اليسار ومن ورائه املتعلمون‬
‫كانوا يريدون ثور ًة بأي طريقة؟‪.‬‬
‫ست سنوات‪،‬‬ ‫•مل يتعدّ عمر نظام الفريق عبود حني قامت الثورة ّ‬
‫كام تقدم‪ .‬ومل ُيدث من اخلراب يف سنوات حكمه‪ ،‬وهي سنوات‬
‫قليلة جد ًا‪ ،‬شيئ ًا يشبه اخلراب الذي جرى يف سنوات نمريي يف‬
‫احلكم (‪ 16‬سنة)‪ ،‬وسنوات البشري يف احلكم‪ 25( ،‬سنة)‪ .‬فسنوات‬
‫عبود م َّثلت من حيث طول املدة الزمنية‪ ،‬مقارنة بسنوات حكم‬
‫البشري‪ 20% ،‬فقط‪ .‬كام م َّثلت سنوات حكم عبود بالنسبة لسنوات‬
‫حكم البشري ونمريي جمتمعة حوايل ‪ 14%‬فقط‪ .‬مع مالحظة أن‬
‫أحوال السودان يف عهد عبود كانت أفضل يف كل منحى من‬
‫مناحي احلكم‪ ،‬وبام ال ُيقاس‪ ،‬مما أصبح عليه احلال يف عهد نمريي‪،‬‬
‫ويف عهد البشري‪ .‬مع الفارق الضخم يف سوء األحوال بني فرتة‬
‫نمريي وفرتة البشري التي أوصلت األمور يف البالد‪ ،‬إىل الدرك‬
‫األسفل‪ .‬إذن‪ ،‬ملاذا قامت ثورة أكتوبر ضد عبود‪ ،‬ومل تقم ثورة‬
‫واحدة ضد نظام البشري‪ ،‬رغم الفارق الذي ال يقاس يف سوء‬
‫األحوال يف السودان اآلن‪ ،‬مقارن ًا بام كان عليه احلال يف ستينات‬
‫القرن املايض؟‪.‬‬
‫دوامة الديون‬
‫•مل تكن البالد‪ ،‬يف عهد عبود‪ ،‬قد دخلت َبعد يف ّ‬
‫التي تقصم ظهر فرص النمو‪ .‬كام مل تكن البالد قد دخلت يف‬
‫ألي أمر‬
‫مسلسل تدهور قيمة العملة املستمر الذي جيعل التخطيط ّ‬
‫من األمور مستحيالً‪ .‬أيض ًا‪ ،‬يف فرتة حكم عبود كانت خدمات‬
‫ٍ‬
‫بصورة جيدة‪ .‬ومل تدخل البالد يف نطاق‬ ‫التعليم والصحة تسري‬

‫‪201‬‬
‫املجاعات وفقدان االحتياط الغذائي‪ ،‬أو فقدان الغطاء النبايت‪ ،‬أو‬
‫النزوح امللحمي من الريف إىل املدينة‪ .‬يضاف إىل ذلك‪ ،‬أن فرتة‬
‫عبود شهدت بدء العمل يف التوسع يف املشاريع الزراعية‪ ،‬ويف‬
‫املشاريع الصناعية‪ ،‬ويف زيادة عدد الطرق املسفلتة‪ ،‬ويف زيادة اخلط‬
‫احلديدي‪ ،‬وكانت البالد تتمتع بسمعة دولية ممتازة‪ ،‬مع امليل إىل‬
‫الغرب والتحفظ جتاه الكتلة الشيوعية‪ ،‬وقد كان ذلك حكي ًام جد ًا‪.‬‬
‫•هل حاجة الدولة التي خترج من حتت نري االستعامر‪ ،‬من حيث‬
‫الرتتيب الصحيح لألولويات‪ ،‬تتمثل يف االستقرار‪ ،‬الذي جيعل‬
‫بناء الدولة احلديثة ممكن ًا‪ ،‬أم يف الرصاع عىل الشعارات السياسية‬
‫واملناهج السياسية‪ ،‬بحجة أن الشعارات واملناهج السياسية هي‬
‫التي ترسم‪ ،‬بالرضورة‪ ،‬خرائط الطريق لبناء الدولة؟‪.‬‬
‫•لو قارنّا حال السودان اليوم الذي حكمه اإلسالميون لربع‬
‫قرن من الزمان‪ ،‬وتأ ّملنا مدى اخلراب املريع الذي أحدثوه فيه‪،‬‬
‫والقتل الذريع ملئات اآلالف من األنفس الذي ارتكبوه‪ ،‬والتهجري‬
‫القرسي للماليني الذي جرى‪ ،‬والفساد غري املسبوق الذي ولغوا‬
‫فيه‪ ،‬ثم فقدان اجلنوب‪ ،‬بل وفقدان جهاز الدولة نفسه‪ ،‬ووقوف‬
‫البالد عىل حافة التفتيت والضياع النهائي‪ ،‬ثم قارنّا كل هذا بحال‬
‫السودان والسودانيني يف فرتة حكم عبود‪ ،‬أليس من اجلائز أن‬
‫نصل إىل نتيجة مفادها أن ثورة أكتوبر كانت يف حقيقة أمرها أقرب‬
‫ما تكون إىل «الفانتازيا» الصفوية املست ّلة من بطون الكتب‪ ،‬وعوامل‬
‫لح ٍة أفرزها‬ ‫ٍ‬
‫األدجلة السياسية‪ ،‬بأكثر من كوهنا تعبري ًا عن حاجة ُم ّ‬
‫الواقع املوضوعي؟‪ .‬ولربام اتضح لنا أيض ًا‪ ،‬أن ُصدَ ف التاريخ هي‬
‫وحدها التي أنجزهتا‪.‬‬
‫نظر‬
‫•إذا قلنا إن ثورة أكتوبر استعادت الديمقراطية‪ ،‬ويف ذلك ٌ‬

‫‪202‬‬
‫بطبيعة احلال‪ ،‬فهل كانت هناك ديمقراطية متح ّققة بالفعل‪ ،‬قبل‬
‫جميء نظام عبود تستحق عناء حماولة االستعادة؟ فالديمقراطية‬
‫التي ُمورست منذ بداية احلكم الوطني وحتى جميء نظام الفريق‬
‫عبود مل تكن سوى ديمقراطية يامرسها برجواز ُّيو املدن الذين‬
‫تدفع هبم الطائفتان الكبريتان؛ «األنصار» و»اخلتمية» ليرتشحوا‬
‫يف دوائر الريف بإشارة من زعيم الطائفة‪ ،‬نيابة عن أهل الريف‪،‬‬
‫ترشحوا يف دوائره‪،‬‬‫وهم ال يعرفون شيئ ًا عن مشاكل الريف الذي ّ‬
‫بل هم مل يروا املناطق التي يرتشحون فيها أصالً‪ .‬ولقد ظلت‬
‫برجوازية املدن هذه ثابتة العضوية يف كل الربملانات‪ ،‬واملجالس‬
‫الترشيعية‪ ،‬عرب خمتلف أنظمة احلكم التي تعاقبت عىل السودان؛‬
‫العسكري منها واملدين‪.157‬‬
‫•أما األهم‪ ،‬هل جاءت ثورة أكتوبر إىل السودان‪ ،‬من الناحية‬
‫العملية‪ ،‬بوضع أفضل‪ ،‬أم أهنا وضعته من حيث أرادت أو مل ترد‪،‬‬
‫يف طريق الرتاجع املضطرد؟‪.‬‬
‫•احلجاج الذي أو ّد أن أدفع به يف هذه الورقة هو أن ثورة أكتوبر‬
‫ثور ٌة أوقدهتا األجندة احلزبية بأكثر مما أوقدهتا حاجة ال ُقطر أو‬
‫أحوال املواطنني وحاجتهم إىل الثورة‪ .‬ولربام يكون مسلك عبود‬
‫احلل األمني هو الذي ب ْل َور الغضب‬
‫وزمرته يف اجلنوب واعتامدهم ّ‬
‫الذي نتجت عنه أكتوبر‪ .‬والندوة التي انطلقت منها الرشارة يف‬
‫جامعة اخلرطوم‪ ،‬كانت بالفعل عن اجلنوب‪ .‬لكن هل كانت‬
‫‪ .157‬الحظ حيدر إبراهيم أن الن ّواب الذين كانوا يف برملانات الحكم الدميقراطي يف فرتاته (‪)1958-1956‬‬
‫و(‪ ،)1969-1965‬و(‪ )1989-1986‬هم إىل ح ّد كبري نفس النواب الذين شاركوا يف املجلس العسكري لنظام‬
‫الفريق عبود (‪ .)1964-1958‬وهم أنفسهم تقريباً الذين شاركوا يف املجلس الوطني الذي أقامه منريي‪،‬‬
‫(‪ .)1985-1969‬وحتى يف نظام اإلسالميني الراهن (‪ .)0000 – 1989‬فكثري من هؤالء ينتمون إىل ذات‬
‫كل من العهود‬‫البيوتات التي ظلت تغذّي كل تلك الربملانات بالنواب‪ ،‬املنتخبني‪ ،‬والذين يتم تعيينهم‪ ،‬يف ٍّ‬
‫الدميقراطية والديكتاتورية‪ ،‬سوا ًء بسواء‪ .‬راجع‪ :‬حيدر إبراهيم‪ ،‬السودان الوطن املضيع‪ ،‬مكتبة جزيرة‬
‫الورد‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ج‪.‬م‪.‬ع‪ ،2011 ،‬ص ‪.53-52‬‬

‫‪203‬‬
‫سياسات حممد أمحد حمجوب والصادق املهدي وحسن الرتايب‬
‫عقب أكتوبر خمتلفة من سياسات جنراالت الفريق عبود من حيث‬
‫اعتامد ّ‬
‫احلل األمني والسري يف وجهة التعريب واألسلمة للمواطنني‬
‫اجلنوبيني؟‪.‬‬
‫ٍ‬
‫حلالة غري مسبوقة من‬ ‫الباب يف السودان‪،‬‬ ‫فتحت ثور ُة أكتوبر‬
‫َ‬ ‫• َ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫عدم االستقرار السيايس‪ ،‬وأدخ َلت البالد يف سلسلة متصلة من‬
‫املناورات السياسية التي أبعدت البالد عن أجندة البناء الوطني‪،‬‬
‫التي كان ينبغي أن تكون هلا األولوية‪ .‬لقد كانت األحزاب‬
‫الكبرية سيئة األداء‪ ،‬ولقد اتضح ذلك منذ بداية احلكم الوطني‬
‫متعج ً‬
‫ال‬ ‫ّ‬ ‫يف الديمقراطية األوىل‪ .‬ولكن‪ ،‬يف نفس الوقت كان اليسار‬
‫وغري ناضج‪ ،‬ومرهتن ًا للرؤى ولألجندة اليسارية العاملية‪ ،‬حلقبة‬
‫القوي عىل النقابات يف الضغط‬ ‫ّ‬ ‫احلرب الباردة‪ ،‬فاستخدم تأثريه‬
‫السيايس احلا ّد‪ ،‬أبكر مما ينبغي بكثري‪ ،‬ما جعله وجعل العمل النقايب‬
‫هدف ًا للتحطيم املستمر‪ .‬فالقوة املخيفة التي ظهرت هبا النقابات‬
‫يف ثورة أكتوبر أرعبت القوى التقليدية‪ ،‬كام أرعبت األنظمة‬
‫العسكرية‪ ،‬ما جعل العمل النقايب ومنظامت املجتمع املدين هدف ًا‬
‫ثابت ًا للتحطيم املمنهج من ِقبل مجيع احلكومات السودانية‪ ،‬املدنية‬
‫منها والعسكرية‪ .‬والنتيجة النهائية هي ما نراه اليوم من وقوع‬
‫العمل النقايب يف قبضة الدولة بالكلية يف ظل النظام احلايل‪.‬‬
‫المعونة األمريكية وخوف عودة المصر ّيين من النافذة‬
‫النزعة الراديكالية التي َو َس َمت مسلك جبهة اهليئات يف فرتة‬
‫احلكومة االنتقالية التي أعقبت ثورة أكتوبر‪ ،‬مل تكن‪ ،‬يف حقيقة األمر‪،‬‬
‫ظاهر ًة جديد ًة جاءت هبا ثورة أكتوبر‪ ،‬وإنام كانت امتداد ًا ملا كان‬
‫مستمر للعمل النقايب املطلبي من جانب‬ ‫ٍ‬
‫حتريك‬ ‫جاري ًا أصالً‪ ،‬من‬
‫ٍّ‬

‫‪204‬‬
‫احلزب الشيوعي السوداين وقوى اليسار عام ًة‪ ،‬يف مواجهة القوى‬
‫والسلطة يف السودان‪ ،‬منذ أيام اجلبهة املعادية‬
‫املمسكة بمفاصل الثروة ُّ‬
‫لالستعامر‪ .‬فانقالب نوفمرب ‪ ،1985‬الذي أتى بالفريق إبراهيم عبود إىل‬
‫السلطة‪ .‬وكان‬ ‫انقالب د ّبره حزب األمة‪ ،‬الذي كان عىل رأس ُّ‬
‫ٌ‬ ‫السلطة‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫ٍ‬
‫ذلك ألسباب تتع ّلق بمخاوف اعرتت حزب األمة من احتامل عودة‬
‫مرص للتحكم يف شؤون السودان‪ ،‬بعد أن رفض السودانيون االحتاد‬
‫بإعالهنم االستقالل‪ ،‬مسقطني خيار الوحدة معها‪ .158‬غري أن هناك‬
‫السلطة إىل الفريق عبود‪،‬‬ ‫سبب ًا قوي ًا آخر دعا حزب األمة إىل تسليم ُّ‬
‫ٍ‬
‫اضطراب شديد تس ّببت فيه النقابات‪.‬‬ ‫وهو ما شهدته تلك الفرتة من‬
‫نزاع بني احلكومة من جهة‪ ،‬واجلبهة املعادية لالستعامر‪،‬‬‫فلقد نشب ٌ‬
‫واحتاد نقابات العامل من اجلهة األخرى‪ .‬قدّ م احتاد نقابات العامل‬
‫مدفوع ًا باألجندة السياسية للجبهة املعادية لالستعامر مطالب‪ ،‬يتعلق‬
‫بعضها بتحسني أوضاع العاملني‪ ،‬وبعضها اآلخر سيايس‪ ،‬فتجاهلتها‬
‫احلكومة‪ ،‬ما أدى إىل إرضاب ‪ 42‬نقابة‪ ،‬مثلت يف جمموعها ‪ 98%‬من‬

‫‪ .158‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.209 – 208‬‬


‫أيضاً راجع‪ :‬مخطوطة «الديباجة» املنشورة إلكرتونياً بـ‪« :‬موقع الفكرة الجمهورية‪،»www.alfikra.org ،‬‬
‫حيث كتب األستاذ محمود محمد طه‪« :‬كانت الحكومة ائتالفية بني حزب األمة‪ ،‬وحزب الشعب ‪ -‬حزيب‬
‫الطائفتني ذوايت الخصومة التقليدية‪ ،‬طائفة األنصار‪ ،‬وطائفة الختمية‪ .‬ودخلت البالد يف أزمة سياسية من‬
‫جراء عدم االنسجام يف الوزارة‪ ،‬وبروز االتجاه لاللتقاء بني الحزب الوطني االتحادي‪ ،‬الذي كان يف املعارضة‪،‬‬
‫وحزب الشعب‪ ،‬عن طريق وساطة مرص‪ .‬فسافر رئيسا الحزبني‪ ،‬السيد إسامعيل األزهري‪ ،‬والسيد عيل عبد‬
‫الرحمن‪ ،‬إىل مرص‪ ،‬لهذا الغرض‪ .‬ولقد نسب لرئيس الوطني االتحادي ترصيح‪ ،‬مبرص‪ ،‬يعرتف فيه باتفاقية‬
‫‪ ،1929‬التي كانت حكومة السودان الرشعية قد ألغتها‪.‬‏ (وهي االتفاقية التي أُبرمت يف املايض بني دولتي‬
‫الحكم الثنايئ‪ ،‬بريطانيا‪ ،‬ومرص‪ ،‬بينام كان السودان غائباً‪ ،‬تحت االستعامر‪ ،‬فأعطت السودان نصيباً مجحفاً‬
‫من مياه النيل‪ ،‬بالنسبة لنصيب مرص‏‪ .‬وكان ذلك االعرتاف باالتفاقية مبثابة مساومة مع مرص لتعني الحزب‬
‫عىل العودة للحكم‏‪.‬‏ كام رصح رئيس حزب الشعب‪ ،‬مبرص‪ ،‬بأن حزبه يقف يف املعارضة)!! صحيفة أنباء‬
‫السودان ‪ ،1958/11/15‬صحيفة الرأي العام ‪)1958/11/9‬‏‪ .‬يف هذا الجو السيايس الذي يهدد استقالل‬
‫البالد‪ ،‬وسيادتها‪ ،‬بالتدخل األجنبي‪ ،‬سلّم السيد عبد الله خليل رئيس الـوزراء‪ ،‬الحكم للجيش‏‪.‬‏‏‪( .‬أقوال‬
‫الفريق عبود يف التحقيق الجنايئ حـول االنقالب بعد ثورة أكتوبر ‪ ،1964‬إبراهيم محمد حاج‪ ،‬التجـربة‬
‫الدميقراطية‪ ،‬وتطور الحكم يف السودان)‪ .‬مرجع نص األستاذ محمود يف «الديباجة»‪ ،‬عىل الرابط‪//:http :‬‬
‫‪( ،zCyOLw/gl.goo‬اسرتجاع يف ‪ 9‬مايو‪.)2014‬‬

‫‪205‬‬
‫جمموع القوى العاملة يف البالد‪ .159‬ويبدو أن ذلك اجلو املضطرب‪ ،‬هو‬
‫الذي أقنع العسكريني السودانيني بقبول العرض الذي تقدَّ م به إليهم‬
‫السلطة‪ ،‬وإهناء‬‫السيد عبد اهلل خليل رئيس الوزراء‪ ،‬ألن يقوموا باستالم ُّ‬
‫احلكم الديمقراطي الذي مل تتجاوز جتربته‪ ،‬عقب إعالن االستقالل‪،‬‬
‫السنتني‪ .‬إضاف ًة إىل ما تقدّ م‪ ،‬فقد كانت هناك معادالت توازن القوى‬
‫الدولية يف حقبة احلرب الباردة‪ ،‬واملخاوف الغربية من متدُّ د الشيوعية‬
‫الدولية يف إفريقيا والرشق األوسط‪ .‬انعكس ذلك ال ُبعد الدويل بالفعل‬
‫يف حالة االستقطاب احلزبية احلادة‪ ،‬يف تلك احلقبة‪ ،‬حول قبول املعونة‬
‫األمريكية ورفضها‪ .‬ولقد اتضح سري نظام الفريق عبود عىل درب اخلط‬
‫السيايس حلزب األمة‪ ،‬عىل مستوى السياسة الدولية‪ ،‬حني قام بقبول‬
‫املعونة األمريكية‪ .160‬ويتّضح من ذلك أن اليسار كان يسعى إىل توسيع‬
‫أرضت باملصالح‬ ‫مواعينه‪ ،‬وهذا من ح ّقه‪ ،‬ولكنه استخدم أساليب َّ‬
‫السودانية‪ ،‬بل وبمصلحته وبمستقبله هو أيض ًا‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬من اجلانب اآلخر‪ ،‬ال بدّ من القول إن النزعة الراديكالية‬
‫املتطرفة التي حاولت أن تقفز حول مق ّيدات الواقع املوضوعي عن طريق‬ ‫ّ‬
‫شل العمل احلكومي باإلرضابات الواسعة يف فرتة الديمقراطية األوىل‪،‬‬
‫ثم بمحاولة هتميش وإقصاء القوى احلزبية يف الفرتة االنتقالية التي تلت‬
‫ثورة أكتوبر ‪ ،1964‬قد جعلت القوى احلزبية التقليدية ُترج كل ما يف‬
‫وكيد سيايس‪ ،‬حيث جلأت إىل التكتيكات االستباقية‪،‬‬ ‫رشاسة ٍ‬
‫ٍ‬ ‫جعبتها من‬
‫والتالعب ُبأ ُسس اللعبة الديمقراطية‪ ،‬و ُأ ُسس الدستور‪ ،‬ما اتضح جلي ًا‬
‫َ‬
‫املنتخبني من الربملان يف‬ ‫يف مؤامرة ّ‬
‫حل احلزب الشيوعي وإخراج ن ُّوابه‬

‫‪ .159‬محمد سعيد القدال‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.97‬‬


‫أيضاً‪ ،‬راجع‪ ،‬تيم نيبلوك‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪ ،209‬حيث ورد‪« :‬كان خطاب الفريق عبود لألمة فجر السابع‬
‫عرش من نوفمرب موجهاً نحو إزالة املخاوف التي انتابت املؤسسة التقليدية نتيجة ضعف الحكومة الربملانية‬
‫يف مواجهة الحركة الراديكالية التي ازدادت قوة»‪.‬‬
‫‪ .160‬تيم نيبلوك‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.210‬‬

‫‪206‬‬
‫عام ‪ .1965‬كام أن حماوالت الشيوعيني الضغط عىل نمريي بالعمل‬
‫النقايب‪ ،‬ثأرا ألنفسهم للرضبة التي تل ّقوها منه عقب انقالب هاشم‬
‫دشن فكرة التخلص من العمل‬ ‫العطا الشيوعي يف عام ‪ ،1972‬هو الذي ّ‬
‫النقايب‪ .‬أنشأ نمريي ما َس َّمه «الكتيبة اإلسرتاتيجية»‪ ،‬وهو تدريب قطاع‬
‫من اجليش ليقوم بتشغيل السكك احلديدية يف حاالت اإلرضاب‪ .‬وبدأ‬
‫رضب املؤسسات العامة للتخلص من الضغط النقايب‪،‬‬ ‫منذ تلك اللحظة ْ‬
‫السلطة إىل هنايته املنطقية‪.‬‬
‫أوصله اإلسالميون حني عادوا إىل ُّ‬
‫هنج َ‬ ‫وهو ٌ‬
‫وهذا ما جعل احلزب الشيوعي السوداين‪ ،‬اليوم‪ ،‬جمرد ظاهرة صوتية‪.‬‬
‫خاتمة‬
‫إن حاجة السودان إىل الثورة اليوم أكرب من حاجته إليها يف أي‬ ‫ّ‬
‫مرحلة سابقة‪ ،‬من مراحل حقبة ما بعد االستقالل‪ .‬غري أن إنجاز‬
‫الثورة يف السودان اليوم‪ ،‬أصبح أصعب‪ ،‬وبام ال يقاس‪ ،‬من إنجازها‬
‫يف الفرتات السابقة‪ .‬لكن ال بدّ أن تكون الثورة القادمة ثورة فكرية‪،‬‬
‫تدارس جتارب الثورات الفاشلة‪ ،‬خاصة‬ ‫وثورة ثقافية شاملة تقوم عىل ُ‬
‫فوق ّيتها وعجلتها‪ ،‬وحماوالهتا القفز عىل الواقع‪ .‬لقد قادت حماوالت‬
‫إنجاز الثورة قبل أواهنا إىل تأخري فعل الثورة‪ ،‬وأجهضت الطاقات التي‬
‫يمكن أن تنجز الثورة‪ .‬لقد تس ّببت تقوية العمل النقايب واستخدامه‬
‫بقوة‪ ،‬منذ بداية االستقالل‪ ،‬يف رضبه‪ .‬وها هو اليوم قد وقع بكامله‬
‫السلطة احلاكمة‪ .‬تع ّلمت احلكومات من النضال ضدّ ها‬ ‫يف قبضة ُّ‬
‫واجتهت إىل تفتيت القوى التي تقف يف مواجهتها‪ .‬استخدم اليساريون‬
‫شعار «التطهري» وجاء اإلسالميون فاستخدموا شعار «التمكني» وبني‬
‫الفعلني تضعضعت القوى والطاقات التي يمكن أن حتدث التغيري‪،‬‬
‫وخت َّلف الوعي‪ ،‬وضاع معنى الثورة‪.‬‬
‫رضب قوى املجتمع املدين وإضعافها‬
‫يف عهد اإلنقاذ القائم‪ ،‬تم ْ‬

‫‪207‬‬
‫وتشتيت جهودها‪ ،‬مع سيطرة إعالمية مطلقة للنظام احلاكم‪ ،‬إضافة‬
‫ٍ‬
‫انتشار واس ٍع للخطاب الديني املربك واملث ّبط حلراك التغيري‪ .‬أيض ًا‬ ‫إىل‬
‫تم عرب ربع القرن األخري الذي حكم يف اإلسالميون السودان‪ ،‬تقسيم‬
‫القوى احلزبية التقليدية السودانية إىل شظايا متنافرة‪ .‬أما حروب‬
‫وفرقت ِو ْجهاته فطغى‬ ‫قسمت الوجدان اجلمعي القومي ّ‬ ‫األطراف فقد ّ‬
‫وض ُعف التفكري القومي‪ ،‬ومن ثم َض ُعف احلراك‬ ‫اجلهوي َ‬
‫ّ‬ ‫التفكري‬
‫القومي الثوري املتناغم‪ .‬ومن اجلانب اآلخر‪ ،‬لعبت ُسلطة اإلسالميني‬
‫املركزية بورقة اهلوية العربية اإلسالمية‪ ،‬وأثارت املخاوف وسط مجهور‬
‫الوسط والشامل النييل ضد قوى األطراف احلاملة للسالح‪ .‬أيض ًا أعاد‬
‫اإلسالميون الق َبلية من جديد وخلقوا انشطارات ورشوخ ًا كثرية يف بنية‬
‫الوحدة الوطنية حتى وسط نخب الشامل والوسط النييل التي سيطرت‬
‫تارخيي ًا عىل مسارات السياسة السودانية‪ ،‬وظلت تتصارع يف ما بينها‪،‬‬
‫عىل مدى نصف قرن ويزيد‪ ،‬يف حني بقيت أطراف ال ُقطر األخرى يف‬
‫موقف املتفرج‪.‬‬
‫عىل النطاق اإلقليمي‪َ ،‬و َقع السودان يف دائرة االستقطاب وأصبح‬
‫نظام اإلسالميني احلاكم فيه خمتطف ًا ألجندة إقليمية يديرها التنظيم‬
‫متحرك ًا يف رسم خريطة إفريقيا جنوب‬ ‫ّ‬ ‫الدويل لإلخوان املسلمني‬
‫السلفيني اخلليجيني‪ .‬ومن آخر نامذج السيطرة‬ ‫الصحراء‪ ،‬مدعوم ًا بامل ّ‬
‫بلد ما من خارجه‪ ،‬ما ابتكره نظام عمر البشري بخلقه‬ ‫اخلارجية عىل ٍ‬
‫ميليشيات من املرتزقة لتثبيت نظامه الذي تسيطر عليه قلة قليلة واقعة‬
‫جتسد هذا النهج يف الشهور املاضية يف قوة‬ ‫ضمن أجندة خارجية‪ .‬وقد ّ‬
‫ُسمى يف بـ «قوات الدعم الرسيع»‪ .‬تم إضعاف‬ ‫اجلنجويد التي أصبحت ت َّ‬
‫املؤسسة العسكرية السودانية إىل درجة إخراجها كلي ًا من دائرة التأثري‪،‬‬
‫تم َسلبها من فرص‬ ‫ومن أن تظل قوة حارس ًة لألجندة الوطنية‪ .‬فقد ّ‬
‫السلطة والشعب‪ ،‬كام حدث حني انحازت‬ ‫التدخل حلفظ التوازن بني ُّ‬

‫‪208‬‬
‫إىل الثوار يف أكتوبر ‪ 1964‬ويف أبريل ‪ ،1985‬ما جعل الثورتني الشعبيتني‬
‫تنجحان يف إزاحة النظا َم ْي العسكر َّي ْي دون خسائر برشية تذكر‪.‬‬
‫املطور‪ ،‬الذي متت ترقيته من‬
‫يمثل نموذج «اجلنجويد» اإلنكشاري َّ‬
‫ِ‬
‫جمرد أداة لتنفيذ خمططات نظام البشري للتطهري الع ْرقي يف األطراف‪ ،‬إىل‬
‫بتدخل قوات حزب اهلل اللبنانية‪،‬‬ ‫ور مركزي‪ ،‬فأضحى شبيه ًا ُّ‬ ‫أداء َد ٍ‬
‫واحلرس الثوري اإليراين لدعم الرئيس بشار األسد ضد الثورة‪ .‬ولقد‬
‫قوى إقليمي ًة أخرى‬
‫التدخل الشيعي اللبناين اإليراين يف سوريا‪ً ،‬‬ ‫ُّ‬ ‫جر‬
‫ّ‬
‫ِ‬
‫كالسعودية وقطر‪ ،‬فأخذتا تدفعان باملتطرفني اإلسالميني‪ ،‬عابري‬
‫حتولت الثورة‬ ‫األقطار‪ ،‬إىل الدخول يف الرصاع السوري أيض ًا‪ .‬وهكذا ّ‬
‫حرب أهلية طاحنة‪ ،‬تتحكّم‬ ‫ٍ‬ ‫السورية التي بدأت ثور ًة سلم ّية‪ ،‬إىل‬
‫يف مساراهتا ودرجة متدُّ دها وانكامشها تقاطعات األجندة اإلقليمية‬
‫والدولية‪َ .‬ت َع َّقد فعل الثورة يف املنطقة العربية يف املرحلة الراهنة بصورة‬
‫ال نظيف ًا‪ ،‬مثلام كان يف املايض؛ رصاع ًا‬‫غري مسبوقة‪ .‬مل َي ُعد فعل الثورة فع ً‬
‫ال حماط ًا‬
‫بني قوى وطنية حول النظام األمثل للبلد املعني‪ ،‬وإنام أصبح فع ً‬
‫بشكل رئيس عىل املال‬‫ٍ‬ ‫بتقاطعات إقليمية ودولية معقدة ومعتمدة‬
‫والعسكرة والسالح‪ .‬وأسوأ ما يف هذا الوضع‪ ،‬أن الفاعل اإلقليمي‬
‫فيه قد طغى عىل الفاعل الدويل‪ ،‬كام طغى فيه كالمها عىل الفاعل املحيل‪.‬‬
‫من أجل رسم صورة صحيحة ملستقبل السودان‪ ،‬ينبغي مراجعة‬
‫املسرية الك ّلية للحركة السياسية السودانية منذ مؤمتر اخلرجيني‪،‬‬
‫متجرد من الغرض احلزيب واإليديولوجي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫معمق هلا‪،‬‬
‫وتصويب نقد ّ‬
‫فثورة أكتوبر رغم عظمتها كآلية سلمية أسقطت حك ًام عسكري ًا‪ ،‬إال‬
‫أهنا مل تكن نقطة مضيئة ال َتتمل غري املوضعة يف مقام التمجيد وحده‪.‬‬
‫ال خمتلط ًا تأ ّثر بكثري من إشكاليات املامرسة السياسية‬ ‫لقد كانت فع ً‬
‫السودانية‪ ،‬ولذلك فإن مرياثها حيتاج متحيص ًا وفرز ًا‪.‬‬

‫‪209‬‬
‫َمراجع الفصل الرابع‬

‫المَ راجع العربية‪:‬‬


‫محمد عمر بشري‪ ،‬تطور التعليم يف السودان ‪( ،1956 - 1898‬ترجمة هرني رياض‪ ،‬محمد سليامن‪ ،‬عبد الله‬
‫الحسن‪ ،‬الجنيد عيل عمر)‪ ،‬دار الجيل بريوت‪.1983 ،‬‬
‫هارولد ماكاميكل‪ ،‬السودان‪ ،‬الطبعة الثانية‪( ،‬ترجمة محمود صالح عثامن صالح)‪ ،‬مركز عبد الكريم‬
‫مريغني الثقايف‪ ،‬أمدرمان‪ ،‬السودان‪.2009 ،‬‬
‫ديدار فوزي روسانو‪ ،‬السودان إىل أين‪( ،‬ترجمة مراد خالف) الرشكة العاملية للطباعة والنرش‪ ،‬السودان‪،‬‬
‫‪.2007‬‬
‫السلطة والرثوة يف السودان‪ ،‬منذ االستقالل وحتى االنتفاضة‪( ،‬ترجمة الفاتح التجاين‬ ‫تيم نيبلوك‪ ،‬رصاع ُّ‬
‫ومحمد عيل جادين)‪ ،‬مطبعة جامعة الخرطوم‪.)1990( ،‬‬
‫محمد سعيد القدال‪ ،‬معامل يف تاريخ الحزب الشيوعي السوداين‪ ،‬دار الفارايب‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪.1999 ،‬‬
‫أحمد إبراهيم أبو شوك والفاتح عبد الله عبد السالم‪ ،‬االنتخابات الربملانية يف السودان ‪:1986- 1953‬‬
‫مقاربة تاريخية تحليلية‪ ،‬مركز عبد الكريم مريغني‪ ،‬أمدرمان‪ ،‬السودان‪.2008 ،‬‬
‫حيدر إبراهيم‪ ،‬السودان الوطن املضيع‪ ،‬مكتبة جزيرة الورد‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ج‪.‬م‪.‬ع‪.2011 ،‬‬
‫محمود محمد طه‪ ،‬مخطوطة «الديباجة» منشورة الكرتونيا بـ‪« :‬موقع الفكرة الجمهورية‪.www.alfikra.org« ،‬‬

‫المَ راجع االنجليزية‪:‬‬


‫‪Mahmood Mamdani, Saviors and survivors: Darfur, politics, and the war on terror, Pantheon‬‬
‫‪Books, New York, 2009, p172.‬‬

‫‪210‬‬
‫الفصل اخلامس‬

‫‪‬‬

‫السودان وإيران‪:‬‬
‫العربي ال ّراهن‬
‫ّ‬ ‫رحلة التقا ُرب والمشهد‬
‫كُتبت هذه الورقة قبل ثالث سنوات من قَطْع الحكومة السودانية عالقاتها‬
‫بإيران‪ ،‬وقد نُرشت يف دورية «سياسات عربية» التي يصدرها املركز العريب‬
‫لألبحاث ودراسة السياسات‪ ،‬العدد األول‪ ،‬املجلد األول‪ ،‬مارس ‪.2013‬‬

‫ّ‬
‫ملخص‬
‫تناقش هذه الورقة عالقات السودان بإيران‪ ،‬عىل خلف ّية‬
‫اهلجامت اجلو ّية اإلرسائيل ّية العديدة عىل السودان‪ ،‬وتتساءل‬
‫يرجح يف معاجلة مهومه‬ ‫إذا ما كان النظام احلاكم يف السودان ّ‬
‫السياس ّية واألمن ّية الك ّفة اإليران ّية عىل الك ّفة العرب ّية‪ ،‬أم أنّه‬
‫ال يرى تناقض ًا أو مشكل ًة يف ال ّلعب عىل احلبلني‪ .‬تنظر الورقة‬
‫الريادة والزعامة اإلسالم ّية ونزعة التثوير‬ ‫أيض ًا‪ ،‬يف أحالم ّ‬
‫العابرة لألقطار لدى حسن الرتايب‪ ،‬وتأثري تلك النزعة يف‬
‫تالمذته يف نظرهتم وارتباطهم بإيران‪ .‬كام تأخذ الورقة الدّ عم‬

‫‪211‬‬
‫اإليراين لإلسالم ّيني يف غزّة عرب السودان كنموذجٍ للتعاون‪،‬‬ ‫ّ‬
‫تنظر من خالله إىل تقاطعات التكتيكي عىل املدى القصري‪ ،‬مع‬
‫اإلسرتاتيجي عىل املدى الطويل‪ .‬وتناقش الورقة أيض ًا وصول‬
‫السلطة نتيج ًة للثورات العرب ّية‪ ،‬واحتامل انبعاث‬ ‫اإلسالم ّيني إىل ُّ‬
‫املتضمنة يف أصل أدبيات اإلخوان‬ ‫ّ‬ ‫نزعة التثوير العابرة لألقطار‬
‫املسلمني‪ ،‬وانعكاس ذلك االنبعاث عىل عالقة الدول العرب ّية‬
‫ببعضها بعض ًا‪ ،‬وعالقتها جمتمع ًة أو منفرد ًة بإيران‪.‬‬
‫مدخل‬
‫فحرك‬
‫اندلعت الثورة اإليران ّية عند أصيل حقبة احلرب الباردة‪ّ ،‬‬
‫اندال ُعها أحال َم الكتلة الثالثة الراقدة يف أفئدة اإلسالم ّيني العرب‪.‬‬
‫يقول عزمي بشارة عن حركة اجلهاد‪« :‬لقد تأ ّثرت حركة اجلهاد‪ ،‬منذ‬
‫حركات سن ٍّية كثرية أهلبت‬
‫ٍ‬ ‫البداية‪ ،‬بمبادئ الثورة اإلسالم ّية عىل غرار‬
‫هذه الثورة خياهلا‪ ،‬بام يف ذلك اإلخوان املسلمون»‪ .161‬ويمكن القول‬
‫إن اإلسالم ّيني العرب مالوا إىل الثورة اإليران ّية بجامع التّوق لدى‬‫أيض ًا ّ‬
‫ٍ‬
‫ومنفلتة‬ ‫يب‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫الفريقني يف خلق كتلة إسالم ّية فاعلة مغايرة للنموذج الغر ّ‬
‫أن ميل اإلسالم ّيني‬ ‫من قبضة اهليمنة الغرب ّية‪ .162‬يرى حيدر إبراهيم َّ‬
‫جسده‬ ‫السودان ّيني إىل الثورة اإليران ّية‪ ،‬يف بدايات حكمهم للسودان‪ ،‬قد َّ‬
‫تقارهبم معها وحماولة االستفادة من خرباهتا‪ ،‬بوصفها النموذج األمثل‬
‫واقع ّي ًا‪ ،‬إذ ّإنا م ّثلت بالنسبة إليهم الدولة اإلسالم ّية الوحيدة‪.163‬‬
‫أجد من الرضوري جدّ ًا اإلشارة يف هذا املدخل‪ ،‬إىل ما يعدّ ه بعض‬
‫الباحثني قصور ًا يف االنتباه وسط القيادات اإلسالم ّية العرب ّية التي متيل‬

‫‪ .161‬عزمي بشارة‪ ،‬العرب وإيران‪ -‬مالحظات عا ّمة‪ ،‬يف‪« :‬العرب وإيران‪ :‬مراجعة يف التاريخ والسياسة»‬
‫(مجموعة كتاب)‪( ،‬الدوحة‪/‬بريوت‪ :‬املركز العر ّيب لألبحاث ودراسة السياسات‪ ،)2012 ،‬ص ‪.24‬‬
‫‪ .162‬أوليفييه روا‪ ،‬تجربة اإلسالم السيايس‪ ،‬ترجمة نصري مروه‪ ،‬ط‪( ،2‬بريوت‪ :‬دار الساقي‪ ،)1996 ،‬ص ‪.118‬‬
‫الحضاري‪( ،‬الخرطوم‪ :‬مركز الدراسات السودانيّة‪ ،)2004 ،‬ص ‪.35‬‬
‫ّ‬ ‫‪ .163‬حيدر إبراهيم‪ ،‬سقوط املرشوع‬

‫‪212‬‬
‫واملذهبي يف الدولة‬ ‫ّ‬ ‫القومي واجليوسرتاتيجي‬
‫ّ‬ ‫املكون‬
‫ِّ‬ ‫نحو إيران‪ ،‬إىل‬
‫«األخوة اإلسالم ّية»‬ ‫ّ‬ ‫اإليران ّية‪ ،‬واالنحصار يف النظرة إليها من منظور‬
‫اإليراين‪،‬‬
‫ّ‬ ‫املكونات األخرى بعني االعتبار‪ .‬فالتاريخ‬ ‫اجلامعة‪ ،‬دون أخذ ِّ‬
‫والعقيدة اإليران ّية‪ ،‬والرؤية اإليران ّية اجليوسرتاتيجية‪ ،‬تشري جمتمع ًة إىل‬
‫طرد مركز ّي ٍة مركّبة‪.‬‬ ‫بؤرة ٍ‬
‫أن إيران تتحرك صوب حميطها اإلقليمي‪ ،‬من ِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬
‫أن اهلُو ّية‬ ‫ور ّبام يعضد هذا املنحى ما أورده طالل عرتييس حني أكَّد عىل َّ‬
‫وبطريقة شديدة التعقيد‪ ،‬األ ّمة‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫واحد‪،‬‬ ‫اإليرانية اجلديدة تدمج يف ٍ‬
‫وقت‬ ‫ّ‬
‫أن إخفاق إيران يف اخرتاق‬ ‫واإلسالم والعامل ‪ .‬ويؤكّد أوليفييه روا ّ‬
‫‪164‬‬

‫كقوة إقليم ّية‪ ،‬وفق حماور شديدة الشبه‬ ‫تترصف ّ‬ ‫العامل السنّي قد جعلها ّ‬
‫واملذهبي‬
‫ّ‬ ‫والديني‬
‫ّ‬ ‫القومي‬
‫ّ‬ ‫بتلك التي كان يعتمدها الشاه ‪ .‬الشاهد ّ‬
‫أن‬ ‫‪165‬‬

‫واملصلحي‪ ،‬ظلت ختتلط اختالط ًا ُمربِك ًا يف الطبيعة املركّبة‬ ‫ّ‬ ‫والعرقي‬


‫ّ‬
‫للدولة يف إيران يف خمتلف أوضاعها‪ ،‬منذ عهود اإلمرباطورية الفارسية‪.‬‬
‫فإيران‪ ،‬كام ين ّبه عزمي بشارة‪ ،‬تستثمر داخل ّي ًا يف ُهو ّية إيرانية شاملة‪،‬‬
‫اإلمرباطوري‬
‫ّ‬ ‫تغض الطرف متام ًا عن االستثامر يف ماضيها‬ ‫لكنها ال ّ‬
‫اإلمرباطوري اتّسم يف معظم منعطفاته بنزعة املدّ‬
‫ّ‬ ‫الفاريس‪ .166‬واملايض‬ ‫ّ‬
‫أن تاريخ القرن العرشين أثبت َّ‬
‫أن‬ ‫والتوسع‪ .‬ويرى حمجوب الزويري ّ‬ ‫ّ‬
‫وبقوة يف احلالة اإليران ّية‪ ،‬فوجود‬ ‫عامل الدين واهلُو ّية َيبقيان حارضين ّ‬ ‫َْ‬
‫َم َلك ّية علامن ّية‪ ،‬كام كانت احلال يف فرتة حكم الشاه‪ ،‬مل يطمس متام ًا اهلُو ّية‬
‫القومي الفاريس‪ .167‬فقد كانت كامن ًة يف التكوين‬ ‫ّ‬ ‫الدين ّية الشيع ّية ببعدها‬
‫تتحي ال ُف َرص‪ ،‬إىل أن واتتها الفرصة يف ثورة‬ ‫ّ‬ ‫اإليراين‪،‬‬
‫ّ‬ ‫التارخيي‬
‫ّ‬

‫‪ .164‬طالل عرتييس‪ ،‬الجمهور ّية الصعبة‪ :‬إيران يف تحوالتها الداخل ّية وسياساتها اإلقليم ّية‪( ،‬بريوت‪ :‬دار‬
‫الساقي‪ ،)2006 ،‬ص‪.24‬‬
‫‪ .165‬أوليفييه روا‪ ،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.176‬‬
‫‪ .166‬عزمي بشارة‪ ،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.10‬‬
‫‪ .167‬محجوب الزويري‪ ،‬إيران والعرب يف ظالل الدين والسياسة عرب التاريخ‪ ،‬يف‪ :‬العرب وإيران‪ :‬مراجعة يف‬
‫التاريخ والسياسة‪ ،‬مجموعة باحثني‪( ،‬الدوحة‪/‬بريوت‪ :‬املركز العر ّيب لألبحاث ودراسة السياسات‪ ،)2012 ،‬ص ‪.70‬‬

‫‪213‬‬
‫فتحولت إيران إىل دولة دين ّية شيع ّية‪ ،‬بل ومركز ًا لنرش املذهب‬
‫ّ‬ ‫اخلميني‪،‬‬
‫يعي من قضايا اإلقليم والكوكب‪،‬‬ ‫الش ّ‬‫يايس ّ‬
‫الس ّ‬‫يعي واملوقف ّ‬ ‫ّ‬
‫الش ّ‬
‫وللتمدُّ د يف منطقة الرشق األوسط ويف إفريقيا‪.‬‬
‫أن العالقة بني العرب‬ ‫السياق‪ ،‬إىل َّ‬
‫يشري وجيه كوثراين‪ ،‬يف ذات ّ‬
‫صور متعدّ د ٌة لدى الطرفني؛ فصور ٌة منها تعكسها مرآة‬ ‫ٌ‬ ‫وإيران هلا‬
‫اإلسالم‪ ،‬وصور ٌة ثانية تعكسها مرآة القوم ّية‪ ،‬وثالث ٌة تعكسها مرآة‬
‫املذهب‪ ،‬ورابع ٌة تعكسها مرآة اجلغرافيا السياس ّية واالقتصاد ّية‬
‫والبرش ّية‪ .‬ويضيف كوثراين أنّه ليس من بني هذه املرايا‪ ،‬مرآ ٌة صافي ٌة‬
‫بحدِّ ذاهتا‪ .‬فاللون الغالب واللون الرئيس يف الفهم املتبادل بني العرب‬
‫متحو ٌل يأخذ أطياف ًا عدّ ة‪ ،‬يصفه كوثراين بأنّه‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫واإليران ّيني‪ٌ ،‬‬
‫لون‬
‫القومي‪ ،‬وقد‬
‫ّ‬ ‫ال وحمتوي ًا املضمون‬ ‫قد يكون إسالم ّي ًا مشتم ً‬
‫يكون قوم ّي ًا مرتكز ًا عىل اإلسالم‪ ،‬أو قد يكون قوم ّي ًا عنرص ّي ًا‬
‫ال من مصالح‬ ‫نافي ًا اإلسالم‪ ،‬أو قد يكون نفع ّي ًا خالص ًا جاع ً‬
‫القومي» مع‬
‫ّ‬ ‫الدولة وجغراف ّيتها االقتصاد ّية نطاق ًا لـ«أمنها‬
‫وظيفي لإلسالم والقوم ّية مع ًا‪ .‬وقد تكون الصورة‬ ‫ٍّ‬ ‫استخدا ٍم‬
‫أحيان ًا مزجي ًا مع ّقد ًا من هذه العنارص مجيعها‪.168‬‬
‫ٍ‬
‫كحليف‬ ‫يب إىل إيران‬‫تنظر بعض احلركات اإلسالم ّية يف العامل العر ّ‬
‫قو ًة داعم ًة وسند ًا ُي َع َّول عليه يف املعركة‬
‫مهم يشكّل بالرضورة‪ّ ،‬‬
‫إسالمي ٍّ‬
‫ٍّ‬
‫ضدّ اهليمنة الغرب ّية‪ .‬وال حيتاج املرء يف هذا املنحى إىل أكثر من اإلشارة‬
‫غزة‪ ،‬وحكومة اإلسالم ّيني يف‬ ‫إىل حزب اهلل يف لبنان‪ ،‬وحركة محاس يف ّ‬
‫السودان‪ ،‬ومجاعة احلوثي يف اليمن‪.‬‬

‫‪ .168‬وجيه كوثراين‪ ،‬اإلدراك املتبادل بني العرب واإليرانيّني‪ ،‬يف‪ :‬العالقات العرب ّية اإليران ّية ‪ -‬االتجاهات‬
‫الراهنة وآفاق املستقبل‪ :‬بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظّمها مركز دراسات الوحدة العرب ّية‬
‫بالتعاون مع جامعة قطر‪( ،‬مجموعة مؤلفني)‪ ،‬ط ‪( ،2‬مركز دراسات الوحدة العربيّة‪ ،)2001 ،‬ص ‪.166‬‬

‫‪214‬‬
‫التكتيك واإلستراتيجيا‬
‫مصالح‬
‫َ‬ ‫يب جام ٍع ذي‬ ‫تنطلق هذه الورقة من افرتاض وجود جس ٍم عر ٍّ‬
‫تأسس طوع ًا‬ ‫فإن وجود تنظي ٍم َّ‬ ‫جيوسرتاتيجية مشرتكة‪ .‬وبطبيعة احلال‪ّ ،‬‬
‫سمى «جامعة الدول العرب ّية»‪،‬‬ ‫جيمع الدول العرب ّية ك ّلها بال استثناء‪ُ ،‬ي ّ‬
‫متجانس يف ما يتع ّلق ببنيته وطبيعته‬ ‫ٌ‬ ‫أن هذا اجلسم‬ ‫يعني ـ ب َقدْ ٍر معقول ـ َّ‬
‫يب مشرتك‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫ألمن عر ٍّ‬ ‫التارخي ّية‪ ،‬إىل احلدّ الذي جيعل منه جس ًام حارس ًا‬
‫التجسد التي يمكن أن‬ ‫ُّ‬ ‫حتّى وإن كان يف حالة الكمون‪ ،‬ال يف حالة‬
‫تكون بادي ًة للعيان‪ .‬لكن‪ ،‬عىل الرغم مما يتّسم به هذا اجلسم من وحدةٍ‬
‫ّ‬
‫الرؤية السياس ّية‪ .‬هذا التنافر ‪ -‬وهو‬ ‫عضو ّية‪ ،‬فإنه يتّسم أيض ًا بتنافر ّ‬
‫آونة وأخرى ‪ -‬خيلق خلط ًا بني الثوابت القوم ّية‬ ‫كل ٍ‬ ‫تتغي خريطته ّ‬ ‫تنافر ّ‬
‫ٌ‬
‫أطراف أخرى‬‫ٌ‬ ‫واملصالح اآلن ّية القطر ّية‪ .‬يف هذا اخللط الذي تدخل فيه‬
‫من خارج املنظومة‪ ،‬يتعارض التكتيكي مع اإلسرتاتيجي ويتقاطع معه‬
‫تقارب بعض الدول العرب ّية مع إيران يم ّثل بعض ًا‬ ‫ولعل ُ‬ ‫تقاطع ًا حا ّد ًا‪ّ .‬‬
‫أن إيران حتتاج إىل‬ ‫احلي هلذه اإلشكالية‪ .‬يرى أوليفييه روا ّ‬ ‫من التجسيد ّ‬
‫مراكز ُسنّية‪ ،‬وعىل‬‫َ‬ ‫الشيعي» (غيتو ‪ )Ghetto‬إىل‬ ‫ّ‬ ‫اخلروج من «حمتبسها‬
‫السودان‪ ،‬حسن الرتايب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫اإلسالمي‬
‫ّ‬ ‫الرغم من ّأنا استخدمت الزعيم‬
‫يف عمليات حمدّ دة‪ ،‬لكن من غري املحتمل أن يقيم اإلخوان املسلمون‬
‫املعادون للتش ّيع حتالف ًا إسرتاتيج ّي ًا دائ ًام مع إيران‪ .169‬ولذلك‪ّ ،‬‬
‫فإن‬
‫غزة مع إيران‪ ،‬عىل‬ ‫وتقارب فصائل اإلسالم ّيني يف ّ‬ ‫ُ‬ ‫تقارب السودان‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫النحو الذي هو عليه‪ ،‬يعكس بصورة كبرية حالة التكتيكي الذي يتقاطع‬
‫بطريقة حا ّدة مع اإلسرتاتيجي‪ .‬وخيتلف هذا عن نموذج حزب اهلل يف‬
‫لبنان‪ ،‬والذي ال يتقاطع فيه التكتيكي القصري األجل مع اإلسرتاتيجي‬
‫بقدر ملحوظ‪ .‬أ ّما يف حالة ارتباط السودان‬ ‫ٍ‬ ‫ذي األجل الطويل‪،‬‬
‫فإن التناقض املذهبي احلا ّد وتعارض املصالح عىل‬ ‫غزة بإيران‪ّ ،‬‬ ‫وفصائل ّ‬
‫‪ .169‬أوليفييه روا‪ ،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ص ‪.119-188‬‬

‫‪215‬‬
‫املدى األبعد‪ ،‬حيبسان هذا التعاون يف خانة التكتيك وحدها‪.170‬‬
‫كل من إيران والتنظيامت السياس ّية اإلسالم ّية‬ ‫أن ّ‬‫شك يف َّ‬ ‫ما من ّ‬
‫املرحيل‪ .‬لكن‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫السنّية يف األقطار العرب ّية تعي إشكالية هذا التعاون‬ ‫ُّ‬
‫يبدو أن كل طرف من هذين الطرفني يظ ّن أنَّه سيكون الرابح األكرب‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫اكم هذا التحالف‬ ‫من حالة التحالف التكتيكية املرحلية هذه‪ ،‬وأنَّه سي ِ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫اخلاص‪ ،‬ويضمن له وضعا أفضل‬ ‫ّ‬ ‫يصب يف رصيده‬ ‫ّ‬ ‫يف هناية املطاف‪ ،‬ما‬
‫عىل املدى اإلسرتاتيجي البعيد‪ .‬ولذلك‪ ،‬ر ّبام تكون االستفادة تكتيك ّي ًا‬
‫الطرف‬ ‫تغض ْ‬ ‫من إيران‪ ،‬هي ما جيعل هذه احلركات اإلسالم ّية العرب ّية ّ‬
‫عن املطامع اإليران ّية والطبيعة التارخي ّية للدولة اإليران ّية‪ ،‬وعن كون‬
‫اإلسالمي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يب‬
‫اجلذري يف الفضاء العر ّ‬ ‫ّ‬ ‫إيران ّنزاعة بطبعها إىل التأثري‬
‫ٍ‬
‫فإن من ّظامت إسالم ّي ًة مثل محاس‬ ‫نظرنا إىل األمر نظر ًة واقع ّي ًة‪َّ ،‬‬ ‫ولو ْ‬
‫ثم‬‫مضطرة لكوهنا حمارصة إرسائيل ّي ًا وأمريك ّي ًا‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫اإلسالمي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫واجلهاد‬
‫اإليراين‪ .‬ولقد‬
‫ّ‬ ‫والعسكري‬
‫ّ‬ ‫فلسطين ّي ًا وعرب ّي ًا‪ ،‬إىل قبول العون املايل‬
‫مؤخر ًا إىل أن ختتلف مع اإليران ّيني بشأن الثورة يف‬ ‫اضطرت محاس ّ‬ ‫ّ‬
‫سورية‪ ،‬ممّا أحدث شيئ ًا من عدم التناغم ل ّطفت منه الدبلوماس ّية كثري ًا‪.‬‬
‫شك‪ .‬ويرشح عزمي بشارة مأزق محاس‬ ‫غري أنه أربك التكتيكي دون ّ‬
‫«إن حركة محاس يف وضعها احلايل كانت‬ ‫يف التعامل مع إيران بقوله‪َّ :‬‬
‫ٍ‬
‫تفضل من حيث طبيعتها اإليديولوج ّية‪ ،‬وبدرجة أكرب‪ ،‬بسبب قواعدها‬ ‫ّ‬
‫يب‪ ،‬لو تل ّقت هذا الدّ عم الذي تتل ّقاه حال ّي ًا من‬ ‫االجتامع ّية يف العامل العر ّ‬
‫عربية مثل اململكة العرب ّية السعود ّية»‪.171‬‬ ‫ٍ‬ ‫إيران من ٍ‬
‫دولة‬
‫لجئة إىل الدّ عم والعون ر ّبام تكون هي السبب وراء‬ ‫هذه احلاجة ا ُمل ِ‬

‫‪ .170‬وضحت صحة هذه الرؤية مؤخرا حني قطع السودان عالقاته مع إيران يف يناير ‪ ،2016‬أي بعد ثالث‬
‫سنوات من نرش هذه الورقة‪ .‬فقد عاد السودان ليصبح ملتصقا جيوإسرتاتيجيا‪ ،‬وجيوسياسيا باملجموعة‬
‫العربية الخليجية‪ ،‬بل ودخل طرفا يف الحرب يف اليمن واقفا يف الصف املناوئ إليران هناك‪.‬‬
‫‪ .171‬عزمي بشارة‪ ،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.25‬‬

‫‪216‬‬
‫الطرف عن النواة الصلبة‬ ‫السن ّيني ْ‬
‫غض القادة السياس ّيني اإلسالم ّيني ُّ‬ ‫ّ‬
‫الديني املتمركز حول عقيدة‬ ‫ِّ‬ ‫للثورة اإليران ّية املنغرسة يف تربة الغنوص‬
‫اإلمام الغائب ووالية الفقيه‪ .172‬وعموم ًا‪ّ ،‬‬
‫فإن املرجع ّية الفقه ّية‬
‫املاسة إىل‬
‫والتارخي ّية الشيع ّية متعارضة مع املرجع ّية السنّية‪ .‬لكن‪ ،‬احلاجة ّ‬
‫السيايس‪ ،‬يف‬ ‫العون املايل والعسكري والسيايس‪ ،‬ربام جترب مت ِ‬
‫ّخ َذ القرار‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التحول من مبدئ ّية املوقف إىل الرباغامت ّية‪ ،‬وهذا‬
‫ّ‬ ‫األحوال الضاغطة‪ ،‬عىل‬
‫ينطبق عىل حكومة السودان‪ ،‬مثلام ينطبق عىل محاس‪ .‬أ ّما يف ما يتع ّلق‬
‫باجلانب اآلخر القادر عىل تقديم العون من داخل املنظومة العرب ّية‪،‬‬
‫فإن حكّام اململكة العرب ّية السعود ّية ودولة اإلمارات العرب ّية املتّحدة‬ ‫َّ‬
‫وسلطنة عامن والكويت‪ ،‬ر ّبام تكون خشيتهم من حركة اإلخوان‬
‫املسلمني‪ ،‬يف الوقت احلايل‪ ،‬متاثل خشيتهم من إيران أو تزيد عليها‪.‬‬
‫كبرية منذ إعالن التنظيم الدو ّيل‬‫ٍ‬ ‫ولقد تعاظمت تلك اخلشية بصورة‬
‫لإلخوان املسلمني موقفه الذي كان داع ًام للعراق بعد غزوه الكويت‪.‬‬
‫جلأ اإلخوان املسلمون إىل اململكة العرب ّية السعود ّية‪ُ ،‬ب َع ْيد منتصف‬
‫يب الذي‬ ‫اليساري العرو ّ‬
‫ّ‬ ‫فارين من بلداهنم بسبب املدّ‬ ‫القرن املايض‪ّ ،‬‬
‫نكّلت أنظمته احلاكمة هبم‪ ،‬فاحتضنتهم السعود ّية التي كانت ختشى‬
‫يب‬‫الشيوعي ووكالئه يف اإلقليم املتمثلني يف اليسار العر ّ‬
‫ّ‬ ‫وقتها من املدّ‬
‫والقومي‪ .‬يف تلك احلقبة‪ ،‬م ّثل فكر اإلخوان املسلمني ترياق ًا‬
‫ّ‬ ‫املاركيس‬
‫ّ‬
‫الشيوعي الذي كان خييف السعود ّيني وحلفاءهم‬ ‫ّ‬ ‫املدّ‬ ‫خطر‬ ‫ضدّ‬
‫الشيوعي‬
‫ّ‬ ‫األمريك ّيني؛ أصحاب املصلحة الكربى يف وقف الزحف‬
‫فغيت موقفها‬ ‫مؤخر ًا ّ‬‫أن السعود ّية عادت ّ‬ ‫يف املنطقة العرب ّية‪ .‬غري َّ‬
‫تغي ًا كبري ًا جدّ ًا‪ .‬ولقد جرى تأكيد‬ ‫تغي ُّ‬‫منهم‪ .‬فاملشهد يف مجلته َّ‬
‫موقف السعود ّية املناوئ لإلخوان عىل لسان وزير داخل ّيتها الراحل‪،‬‬

‫اإلسالمي واإلصالح‪ :‬التجربتان العثامنية واإليران ّية‪( ،‬بريوت‪ ،‬الدار‬


‫ّ‬ ‫السيايس‬
‫ّ‬ ‫‪ .172‬مهند مبيضني‪ ،‬الفكر‬
‫العربيّة للعلوم‪ ،)2008 ،‬ص ‪.119‬‬

‫‪217‬‬
‫نايف بن عبد العزيز‪ .173‬وطفحت النربة املعادية لإلخوان‪ ،‬وبشدّ ة‬
‫يف ترصحيات وزير خارج ّية اإلمارات‪ ،‬عبد اهلل بن زايد‪ ،‬إضاف ًة إىل‬
‫أن هناك تصعيد ًا حا ّد ًا يف‬
‫مدير رشطة ديب‪ ،‬ضاحي خلفان‪ .174‬ويبدو َّ‬
‫اللهجة بني اإلمارات ّيني وشخص ّيات بارزة يف حركة اإلخوان املسلمني‬
‫املرص ّية‪ ،‬ومن ذلك التصعيد إعالن اإلمارات القبض عىل خل ّية َس َّمتها‬
‫السلطات اإلمارات ّية خل ّية إخوانية مرص ّية تعمل داخل اإلمارات‪.175‬‬ ‫ُّ‬
‫وعموم ًا‪ ،‬ازدادت املخاوف من حركة اإلخوان املسلمني يف بعض‬
‫الدّ ول اخلليج ّية‪ ،‬بعد الثورات العرب ّية التي انطلقت من تونس يف عام‬
‫يب العريض‪ ،‬بل ظهرت يف‬ ‫‪ ،2011‬وأخذت يف االندياح يف الفضاء العر ّ‬
‫أقل يف سلطنة عامن‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫وبقدر ّ‬ ‫ٍ‬
‫بلدان خليج ّية كالبحرين والكويت‪،‬‬
‫عالقات السودان وإيران‬
‫املؤشات التي سبق ذكرها يف مدخل هذه الورقة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫عىل ضوء‬
‫جتيء النظرة إىل عالقة السودان وإيران‪ .‬فهي عالقة بني حركة سياس ّية‬
‫راديكال ّية إسالم ّية ُسنّية مت ّثلها احلركة اإلسالم ّية يف السودان‪ ،‬وحركة‬
‫سياس ّية راديكال ّية شيع ّية مت ّثلها الثورة اإلسالم ّية يف إيران التي أطاحت‬
‫السمة‬‫باحلكم الشاهنشاهي يف عام ‪ .1979‬وعىل الرغم من هذه ّ‬
‫اإلسالم ّية الراديكال ّية املشرتكة بني السودان وإيران‪َّ ،‬‬
‫فإن العالقة بينهام‬

‫‪ .173‬راجع صحيفة الرياض‪ ،‬عدد ‪ 28 12578‬ترشين الثاين‪/‬نوفمرب ‪ ،2002‬فقد ورد فيها من مقابلة مع‬
‫وزير الداخلية السعودي السابق نايف بن عبد العزيز قوله‪« :‬عندما حصل غزو العراق للكويت جاءنا‬
‫علامء كثريون عىل رأسهم عبد الرحمن خليفة‪ ،‬ومعهم الغنويش‪ ،‬ومعهم الرتايب‪ ،‬والزنداين‪ ،‬ومعهم أربكان‬
‫وآخرون‪ .‬أ ّول ما وصلوا اجتمعوا بامللك وبو ّيل العهد وقلنا لهم هل تقبلون بغزو دولة لدولة؟ هل الكويت‬
‫تهدّد العراق؟ قالوا والله نحن أتينا فقط لنسمع ونأخذ اآلراء‪ .‬بعد ذلك وصلوا العراق ونُفاجأ بهم يصدرون‬
‫بياناً يؤيّد الغزو العراقي للكويت»‪ .‬وورد يف املقابلة نفسها قول األمري نايف‪« :‬أقولها من دون تردّد إ ّن‬
‫مشكالتنا وإفرازاتنا كلّها ‪ -‬وس ّمها كام شئت ‪ -‬جاءت من اإلخوان املسلمني»‪.‬‬
‫‪ .174‬مصطفى خليفة‪« ،‬فكر اإلخوان املسلمني ال يؤمن بالدولة الوطن ّية»‪ ،‬صحيفة البيان اإلماراتية‪.2012 /10/9 ،‬‬
‫‪ .175‬حبيب الصايغ‪« ،‬القبض عىل خليّة من تنظيم اإلخوان املرصي يف اإلمارات»‪ ،‬صحيفة الخليج‬
‫اإلماراتية‪.2013/1/1 ،‬‬

‫‪218‬‬
‫ليست راسخ ًة متام ًا‪ ،‬ألنه ال يوجد إمجاع عليها سودان ّي ًا‪ ،‬حتّى وسط‬
‫ستبي هذه الورقة الحق ًا‪.‬‬
‫اإلسالم ّيني السودان ّيني احلاكمني أنفسهم‪ ،‬كام ِّ‬
‫العالقة بني السودان وإيران عالق ٌة حديث ٌة نسب ّي ًا‪ ،‬فقد تنامت يف فرتة‬
‫كجزء من‬‫ٍ‬ ‫حكم الشاه‪ ،‬الذي أهدى السودان قطع ًا بحر ّية عسكر ّية‬
‫أن تلك العالقات ُقطعت مؤقت ًا بعد‬ ‫إسرتاتيجيته يف البحر األمحر‪ .‬غري َّ‬
‫ورتِّبت عودهتا يف ما بعد‬ ‫حرب أكتوبر ‪ ،1973‬كبق ّية الدول العرب ّية‪ُ ،‬‬
‫متزامن يف اخلرطوم وطهران‪ .‬وظ َّلت‬ ‫ٍ‬ ‫عرب األجهزة األمنية‪ ،‬بإعالن ٍ‬
‫بيان‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫العالقات الدبلوماس ّية قائمة بال انقطاع إىل ما بعد قيام الثورة اإلسالم ّية‬
‫عام ‪ ،1979‬أي إىل ما بعد اندالع احلرب العراق ّية ‪ -‬اإليران ّية التي انحاز‬
‫ٍ‬
‫ألعداد‬ ‫فيها السودان إىل جانب العراق‪ ،‬وأرسل جنود ًا نظام ّيني وسمح‬
‫القوات العراق ّية‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫املتطوعني السودان ّيني بالقتال إىل جانب ّ‬ ‫ّ‬ ‫كبرية من‬
‫إن عالقات السودان اخلارج ّية يف الفرتة املمتدّ ة‬ ‫ويمكن القول‪ ،‬عموم ًا‪ّ ،‬‬
‫الربيطاين يف عام ‪ ،1956‬وصعود جعفر نمريي إىل‬ ‫ّ‬ ‫بني خروج املستعمر‬
‫احلكم يف عام ‪ 1969‬قد اتّسمت بعدم االنحياز‪ .176‬ولقد مال نمريي‬
‫توجهات السادات الذي استضاف شاه إيران عىل األرايض املرص ّية‪،‬‬ ‫إىل ّ‬
‫أن نمريي دعم موقف نظام السادات لدى توقيعه‬ ‫بعد خلعه‪ .‬كام َّ‬
‫ثم أعقب نمريي ذلك بتعاونه مع‬ ‫اتفاق ّية كامب ديڤيد مع اإلرسائيل ّيني‪ّ ،‬‬
‫اإلرسائيل ّيني يف ترحيل اليهود الفالشا من إثيوبيا إىل إرسائيل‪ .‬وهكذا‬
‫باعد نمريي بني نفسه وبني بداياته اليسار ّية األوىل‪ ،‬حتّى أصبح يف‬
‫مقرب ًا جدّ ًا من أمريكا‪.‬‬
‫سنوات حكمه األخرية حليف ًا ّ‬
‫روج إليران داخل السودان هو احلركة اإلسالم ّية السودان ّية‬
‫أكثر من ّ‬
‫بقيادة حسن الرتايب الذي وصل بجامعته إىل احلكم يف السودان‪ ،‬عقب‬
‫عسكري يف عام ‪ .1989‬فمنذ هناية السبعينات من القرن املايض‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫انقالب‬

‫‪ .176‬عبد الوهاب األفندي‪ ،‬السودان إىل أين‪ ،‬يف‪ :‬العرب وجوارهم‪ ..‬إىل أين؟‪( ،‬بريوت‪ :‬مركز دراسات‬
‫الوحدة العربيّة‪ ،)2002 ،‬ص ‪.86‬‬

‫‪219‬‬
‫أخذت احلركة اإلسالم ّية السودان ّية ترى يف ثورة اخلميني مصدر إهلا ٍم‬
‫أن قيام ٍ‬
‫دولة إسالم ّية‬ ‫أمر أكَّده املحبوب عبد السالم‪ ،‬إذ ذكر َّ‬ ‫هلا‪ .‬وهذا ٌ‬
‫ِ‬
‫هي األوىل يف العامل عىل اإلطالق‪ ،‬أطلق يف السودان مبادرات التظاهر‬
‫املنارصة إليران‪ ،‬وقد كانت تلك التظاهرات‪ ،‬يف نظر املحبوب عبد‬
‫يب وأفريقيا‪ .‬ويضيف املحبوب عبد السالم‬ ‫السالم‪ ،‬األوىل يف العامل العر ّ‬
‫مبادرات بالزيارات إىل طهران قامت هبا احلركة‬
‫ٌ‬ ‫أن تلك التظاهرات َت َلتها‬
‫َّ‬
‫اإلسالم ّية السودان ّية‪ ،‬وكانت هي األوىل من نوعها‪ .‬التقت احلركة‬
‫ثم جرى تبنّي احلركة‬ ‫لهم الثورة ومرشدها‪ّ ،‬‬ ‫بم ِ‬ ‫اإلسالمية السودانية ُ‬
‫اإلسالمية السودانية‪ ،‬فكر الثورة ورمزها والدعوة له والتبشري به‪.177‬‬
‫التطور‬
‫ّ‬ ‫السوداين األسبق‪ ،‬الرشيد أبو شامة‪َّ ،‬‬
‫إن‬ ‫ّ‬ ‫يقول الدبلومايس‬
‫الكبري يف العالقات بني إيران والسودان حدث قبل وصول اإلسالم ّيني‬
‫إىل احلكم يف السودان‪ .‬فقد تو َّطدت الصالت كثري ًا يف فرتة حكم‬
‫الصادق املهدي (‪ )1989 – 1986‬الذي طرح فكرة «وحدة أهل‬
‫ِ‬
‫القبلة»‪ ،‬ومال إىل ليبيا أكثر من مرص‪ ،‬كام جتاوز السعود ّية ودول اخلليج‬
‫مرات‪ ،‬كام أنه أوقف‬ ‫إىل إيران‪ .‬ولقد زار الصادق املهدي طهران بضع ّ‬
‫ِ‬
‫املشاركة العسكر ّية يف احلرب إىل جانب العراق‪ ،‬ومل ُيبد تعاطف ًا مع‬
‫واملتطوعني الذين حاربوا إىل جانب‬
‫ّ‬ ‫األرسى السودان ّيني من العسكر‬
‫ٍ‬
‫العراق ّيني‪ .‬وكان الصادق املهدي عىل خالف ٍ‬
‫كبري مع وزير خارج ّيته‬
‫االحتادي حسني سليامن أبو صالح‪ ،‬الذي كان يميل إىل العراق‪ .‬ومل‬
‫ُيط َلق رساح األرسى السودان ّيني يف إيران إال يف هنايات عام ‪.1990‬‬
‫وعموم ًا‪ ،‬فقد أغضبت مواقف الصادق املهدي وزياراته لطهران الدول‬
‫اخلليج ّية‪.‬‬
‫عندما جاءت حكومة اإلنقاذ إىل احلكم يف السودان يف عام ‪،1989‬‬

‫‪ .177‬املحبوب عبد السالم‪ ،‬الحركة اإلسالم ّية السودان ّية‪ :‬دائرة الضوء خطوط الظالم‪ ،‬تأمالت يف العرشيّة‬
‫األوىل لعهد اإلنقاذ‪( ،‬القاهرة‪ :‬مكتبة جزيرة الورد‪ ،)2009 ،‬ص ‪.320‬‬

‫‪220‬‬
‫وبحكم حاجتها إىل االعرتاف والعون‪ ،‬حاولت كسب و ّد الدول العرب ّية‬
‫خاص ًة اخلليج ّية منها‪ ،‬لتدعيم موقفها‪ .178‬ولتحقيق ذلك اهلدف‪ ،‬قامت‬
‫مشكلة مع إيران‪ ،‬قامت عىل أثرها ب َق ْطع‬ ‫ٍ‬ ‫حكومة اإلنقاذ بافتعال‬
‫السوداين يف طهران‪ .‬ويؤكِّد أبو‬ ‫ّ‬ ‫العالقات‪ ،‬بعد أن استدعت السفري‬
‫أن تلك اخلطوة كانت خطو ًة مفتعلة‪ ،‬ويطابق ذلك متام ًا ما أدىل به‬ ‫شامة َّ‬
‫القيادي يف احلركة اإلسالم ّية السودان ّية املحبوب عبد السالم الذي أكّد‬
‫افتعال حكومة السودان املشكلة هبدف قطع العالقات مع إيران‪.179‬‬
‫لكن‪ ،‬بصورة عامة‪ ،‬يؤكّد خمتلف ُكتّاب احلركة اإلسالم ّية السودان ّية‪ ،‬يف‬
‫كتاباهتم ُفتُون حركتهم بالثورة اإليران ّية‪ ،‬ومت ُّثلهم لنموذجها‪ .‬ومن ذلك‬
‫أن احلركة اإلسالم ّية يف‬ ‫ما أورده عبد الرحيم عمر حميي الدين‪ ،‬إذ ذكر َّ‬
‫جامعة اخلرطوم كانت متأ ِّثر ًة جد ًا بشعارات الثورة اإليران ّية ومتع ِّلق ًة‬
‫جدّ ًا بشخص ّية اإلمام اخلميني‪ ،‬بحيث ال ختلو حجرة من حجرات‬
‫الطالب اإلسالم ّيني يف السكن اجلامعي لطالب جامعة اخلرطوم من‬
‫ُص َوره‪ .‬بل كان الطالب اإلسالم ّيون‪( ،‬بعضهم ساسة وتنفيذ ّيون‬
‫السوداين القائم اآلن)‪ ،‬يطلقون عىل حجرة السكن‬ ‫ّ‬ ‫وقياد ّيون يف احلكم‬
‫الطاليب التي يسكنها بعض قياد ّيي تنظيمهم املعروفني بالتد ّين الشديد‪،‬‬
‫تيمن ًا بمدينة قم اإليران ّية املقدّ سة‪.180‬‬
‫اسم « ُق ْم مدينة اآليات»‪ّ ،‬‬
‫يستمر قطع العالقات مع إيران طويالً‪ ،‬فقد بعثت حكومة‬ ‫ّ‬ ‫مل‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫اإلنقاذ يف السودان بعد فرتة وجيزة‪ ،‬عبدالرمحن حممد سعيد سفري ًا هلا‬
‫يف إيران‪ ،‬وأعقبه عىل السفارة يف طهران القيادي‪ ،‬قطبي املهدي‪ ،‬الذي‬
‫السوداين‪ .‬ويبدو َّ‬
‫أن اإلنقاذ‪ ،‬إىل جانب إعجاهبا‬ ‫ّ‬ ‫كان رئيس ًا جلهاز األمن‬
‫‪ .178‬فاطمة مبارك‪ ،‬بعد وصول السفن الحربيّة اإليرانيّة إىل بورتسودان‪ :‬السودان وإرسائيل‪ ..‬سياسة‬
‫الحرب املكشوفة‪ ،‬صحيفة املجهر السيايس‪ 31 ،‬أكتوبر ‪.2012‬‬
‫‪ .179‬املحبوب عبد السالم‪ ،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.-320 319‬‬
‫السلطة من مذكرة العرشة‬
‫‪ .180‬عبد الرحيم عمر محيي الدين‪ ،‬رصاع الهوى وال ُهويّة‪ ،‬فتنة اإلسالم ّيني يف ُّ‬
‫إىل مذكرة التفاهم مع قرنق‪ ،‬مطبعة (دمشق‪ :‬دار عكرمة‪ ،)2006 ،‬ص ‪.38‬‬

‫‪221‬‬
‫اإليراين أيض ًا نموذج ًا أمن ّي ًا يمكن‬
‫ّ‬ ‫بنموذج إيران الثوري‪ ،‬رأت يف النظام‬
‫االستعانة بخرباته األمنية يف محاية نظامها الوليد املستهدف من جهاتٍ‬
‫ّ‬
‫اإليراين حينها‪ ،‬هاشمي رفسنجاين‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫كثرية‪ .‬وقد زار السودان الرئيس‬
‫وفد ضخ ٍم‪ ،‬وو َّقع مع السودان عدد ًا من االتفاق ّيات شملت‬ ‫عىل رأس ٍ‬
‫االقتصاد واألمن والدفاع‪ .‬ودعمت إيران احلكومة السودان ّية باملال‬
‫والسالح وبالتدريب يف قطاعات خمتلفة‪ ،‬بام يف ذلك األمن والقضاء‪.181‬‬ ‫ّ‬
‫إسالمي جامع‬
‫ٍّ‬ ‫ٍّ‬
‫ثوري‬ ‫الترابي َ‬
‫وخ ْلق كيانٍ‬
‫ِ‬
‫«التق َّية» يف بداية حكم اإلسالم ّيني‬ ‫استخدم حسن الرتايب ذريعة‬
‫العسكري‬
‫ّ‬ ‫للسودان‪ .‬فعىل الرغم من أنَّه كان الرأس املد ِّبر لالنقالب‬
‫الذي أطاح بالنظام الديمقراطي‪ ،‬إال أنه اتّفق مع قائد انقالبه عمر البشري‬
‫عىل أن يدخل السجن مع رؤساء األحزاب السياس ّية‪ ،‬الذين ُأطِيح‬
‫بحكومتهم‪ ،‬بغرض التمويه وإخفاء ُهو ّية االنقالب‪ .‬وقد ذكر الرتايب‬
‫أنَّه قال للبشري عش ّية االنقالب‪ :‬اذهب أنت إىل القرص رئيس ًا‪ ،‬وسأذهب‬
‫أنا إىل السجن حبيس ًا‪ .‬ولكن ما إن استت َّبت األمور لالنقالب ّيني‪ ،‬حتى‬
‫وتكشفت ُهو ّية االنقالب‪ ،‬ولكن بعد‬ ‫ّ‬ ‫ظهر حسن الرتايب عىل املرسح‪،‬‬
‫أن ثبتت أركانه وتأ ّمن موقفه متام ًا‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بصورة‬ ‫أن الرتايب ث ّبت يف عام ‪ 1991‬موقعه‬ ‫يورد روبرت كولينز َّ‬
‫ثم‪ ،‬قام بإنشاء‬ ‫واضحة جدّ ًا يف اجلبهة اإلسالم ّية ويف نظام احلكم‪ .‬ومن ّ‬
‫حمل‬ ‫حيل ّ‬
‫اإلسالمي» الذي أراد له الرتايب أن ّ‬
‫ّ‬ ‫الشعبي‬
‫ّ‬ ‫ما ُس ِّمي «املؤمتر‬
‫أن حرب اخلليج األوىل‬ ‫«من ّظمة الدعوة اإلسالم ّية»‪ .‬ويورد كولينز َّ‬
‫الشعبي‬
‫ّ‬ ‫‪ ،1991‬قامت بدَ ْور العامل الوسيط املساعد يف تكوين «املؤمتر‬
‫اإلسالمي» الذي كان من أغراض تكوينه الرئيسة أن يكون الوعاء احلامل‬ ‫ّ‬
‫واملنسق جلهد احلركات العاملة‬ ‫ِّ‬ ‫للثورة اإلسالم ّية عىل مستوى العامل‪،‬‬
‫�‪181. J. Millard Burr & Robert Collins, Revolutionary Sudan: Hassan al_Turabi and Is‬‬
‫‪lamic State, )The Netherlands: Koninkklyke Brill NV, Leiden, 2003), pp 81-82.‬‬

‫‪222‬‬
‫ضدّ اإلمربيال ّية يف نحو مخسني ُقطر ًا إسالم ّي ًا‪ .‬ويستطرد كولينز فيقول‪:‬‬
‫سمي بـ «العامل ّية اإلسالم ّية‬ ‫ٍ‬
‫أنشأ املؤمتر بالفعل‪ ،‬يف ّأول انعقاد له‪ ،‬ما ّ‬
‫املس ّلحة»‪ ،Armed Islamist Internationale ،‬وقد ع َّلقت حكومة‬
‫اإلسالم ّيني يف السودان عىل انعقاد اجلمع ّية العموم ّية األوىل لـ «املؤمتر‬
‫ٍ‬
‫حدث حيدث منذ اهنيار اخلالفة‬ ‫اإلسالمي» قائل ًة‪« :‬هذا ّ‬
‫أهم‬ ‫ّ‬ ‫الشعبي‬
‫ّ‬
‫أن هذا املؤمتر قد حرضته نحو ثالثمئة‬ ‫اإلسالم ّية»‪ .‬ويورد كولينز أيض ًا‪َّ ،‬‬
‫شخص ّية من السودان‪ ،‬إضاف ًة إىل مئتَي شخص ّية أخرى مت ِّثل مخس ًا‬
‫وأربعني دول ًة يف العامل‪ ،‬كان من بينهم مجاعة أبو سياف يف الفليبني‪.182‬‬
‫اإلسالمي أصبح السودان مركز ًا‬
‫ّ‬ ‫يب‬
‫الشعبي العر ّ‬
‫ّ‬ ‫منذ تكوين املؤمتر‬
‫فرص للجهاد‬‫ٍ‬ ‫لتدريب املجاهدين األفغان الذين كانوا يبحثون عن‬
‫يف بقا ٍع إسالم ّي ٍة أخرى‪ ،‬كاجلزائر والبوسنة واليمن‪ .‬ولقد استضاف‬
‫انضم إىل‬
‫ّ‬ ‫الرتايب أسامة بن الدن يف السودان لبضع سنوات‪ .‬أيض ًا‪،‬‬
‫اإلسالمي املجاهدون من اجلامعة اإلسالم ّية‬
‫ّ‬ ‫يب‬
‫الشعبي العر ّ‬
‫ّ‬ ‫املؤمتر‬
‫اإلسالمي واجلامعة اإلسالم ّية‬
‫ّ‬ ‫يف باكستان واهلند‪ ،‬وكذلك احلزب‬
‫األفغان ّية‪ ،‬وحزب املجاهدين الكشمريي‪ ،‬إضاف ًة إىل اجلامعات‬
‫اإلسالم ّية املرص ّية‪ ،‬وحزب اهلل من لبنان‪ ،‬وجبهة اإلنقاذ اجلزائرية‪،‬‬
‫اإلسالمي احلاكم يف‬
‫ّ‬ ‫واجلبهة القوم ّية اإلسالم ّية من السودان التنظيم‬
‫البلد املضيف‪ .‬ور ّد خالد املبارك مفهوم التمكني والدولة التي مت ّثل‬
‫اإلسالمي يف الدول األخرى إىل ما قاله‬
‫ّ‬ ‫منصة انطالق لنرش النموذج‬ ‫ّ‬
‫مجال برزنجي‪ ،‬الذي قال إن إيران بعد ثورهتا الشعبية‪ ،‬والسودان‬
‫منصة االنطالق نحو‬ ‫بعد انقالب اإلسالم ّيني العسكري‪ ،‬أصبحتا ّ‬
‫أن رمضان عبد اهلل شلح‪ ،‬زعيم‬ ‫«التمكني»‪ .‬ويورد املبارك‪ ،‬أيض ًا‪ّ ،‬‬
‫تنظيم اجلهاد الفلسطيني‪ ،‬حتدّ ث يف الوجهة التي حتدّ ث فيها برزنجي‪،‬‬

‫‪182. Robert O. Collins, A History of Modern Sudan, (Cambridge, Cambridge University‬‬


‫‪PressUK 2010, p 195.‬‬

‫‪223‬‬
‫أن لدينا الدولتني اللتني مت ّثالن ّ‬
‫منصة االنطالق فامذا‬ ‫وأضاف قائالً‪ ،‬بام ّ‬
‫نحن منتظرون‪183‬؟‪.‬‬
‫تكونت بنهاية‬‫أن سكرتارية عا ّمة برئاسة الرتايب ّ‬ ‫يورد كولينز ّ‬
‫أن الرتايب أرشف عىل استقطاب جمنّدين من‬ ‫املؤمتر‪ .‬ويضيف كولينز َّ‬
‫جنوب آسيا للتدريب يف معسكرات املجاهدين بالقرب من بيشاور يف‬
‫ٍ‬
‫بزيارة إىل‬ ‫باكستان‪ .‬وبحلول أيلول‪ /‬سبتمرب من عام ‪ ،1991‬قام الرتايب‬
‫األول‪ /‬ديسمرب ‪ 1992‬حتّى كانت أرشطة‬ ‫حل كانون ّ‬ ‫باكستان‪ .‬وما إن ّ‬
‫الرتايب ومنشوراته وڤيديوهات مقابالته التلفزيون ّية وأرشطة مقابالته‬
‫اإلسالمي‪.184‬‬ ‫ٍ‬
‫عابرة للعامل‬ ‫ٍ‬
‫شعبية‬ ‫اإلذاع ّية‪ ،‬قد جعلت منه متحدّ ث ًا ذا‬
‫ّ‬
‫اإلسالمي‬
‫ّ‬ ‫الثوري‬
‫ّ‬ ‫يروج‪ ،‬منذ تلك اللحظة‪ ،‬لفكرة املدّ‬ ‫أخذ الرتايب ِّ‬
‫العابر لألقطار‪ .‬كام أخذ يضطلع بدَ ْور القائد لذلك املدّ ‪ ،‬معلن ًا عدم‬
‫اعرتافه باحلدود ال ُقطر ّية للدول اإلسالم ّية‪ .‬ولقد خاطب الرتايب يف‬
‫عام ‪ 1992‬اجلمع ّية امللك ّية لتشجيع الفنون والصناعة والتجارة يف لندن‪،‬‬
‫اإلسالمي وما َس َّمه‬
‫ّ‬ ‫ُمدين ًا تأسيس الدولة ال ُقطر ّية عىل حساب املجتمع‬
‫أن إمساك الرتايب بزمام احلكم يف السودان‬ ‫بـ «دار اإلسالم»‪ .185‬ويبدو ّ‬
‫حرك فيه النزعة عابرة األقطار‪ ،‬وجعل التقارب مع إيران‬ ‫هو الذي ّ‬
‫ٍ‬
‫جزء ًا من تشكيل كتلة إسالمية مؤ ّثرة‪.‬‬
‫اإليراني‬
‫ّ‬ ‫حسن الترابي والنموذج‬
‫أن عالقة حكومة اإلنقاذ بإيران‪ ،‬يف‬ ‫يؤكِّد املحبوب عبد السالم‪َّ ،‬‬
‫املتوسط‪،‬‬
‫ّ‬ ‫عرش ّيتها األوىل‪ )1999-1989( ،‬جاوزت احلدّ األدنى لتبلغ‬
‫ٍ‬
‫درجة من املتانة أصبح اإليران ّيون‪ ،‬بنا ًء عليها‪ ،‬يطلقون‬ ‫ثم لتصل إىل‬
‫ّ‬

‫‪183. Khalid Al-Mubarak, Turabi’s Islamist Venture, Eldar El Thagafia, Cairo, 2001, pp 30 31.‬‬
‫‪ .184‬كولينز‪ ،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.196‬‬
‫‪ .185‬كولينز‪ ،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.198‬‬

‫‪224‬‬
‫«أول دولة إسالمية معارصة يف العامل السنّي»‪.186‬‬ ‫عىل سودان اإلنقاذ ّ‬
‫اإليراين يف السودان‪،‬‬
‫ّ‬ ‫والدعوي‬
‫ُّ‬ ‫الثقايف‬
‫ُّ‬ ‫يف عهد اإلنقاذ نشط العمل‬
‫وكثرت الكتب واملنشورات اإليران ّية‪ ،‬وبدأ التش ُّيع ينترش وسط فئة‬
‫أن إيران ترى يف السودان‬ ‫مرة يف تاريخ السودان‪ .‬ويبدو َّ‬ ‫ألول ّ‬
‫الشباب‪ّ ،‬‬
‫جبه ًة متقدِّ م ًة هلا للتغلغل يف أقطار أفريقيا جنوب الصحراء‪ ،‬عن طريق‬
‫الشيعي وتقديم خمتلف أنواع العون‪ .187‬ولقد كان احتفاء‬ ‫ّ‬ ‫نرش املذهب‬
‫اإليران ّيني بحكم اإلسالم ّيني للسودان كبري ًا جدّ ًا‪ .‬ويشري حيدر إبراهيم‬
‫إىل مبلغ اهتامم اإليران ّيني بنظام اإلسالم ّيني يف السودان وشعورهم‬
‫اإليراين يف اخلرطوم كامل جميد‪،‬‬
‫ّ‬ ‫السوداين هبم‪ ،‬بقوله َّ‬
‫إن السفري‬ ‫ّ‬ ‫بالرتحيب‬
‫كان يطلق الترصحيات‪ ،‬ويقدِّ م االقرتاحات والتوصيات يف الشؤون‬
‫سوداين‪.188‬‬
‫ّ‬ ‫حكومي‬
‫ٌّ‬ ‫ٌ‬
‫مسؤول‬ ‫السودان ّية‪ ،‬يف بدايات حكم اإلنقاذ‪ ،‬وكأنه‬
‫من املثري لالهتامم يف احلديث عن العالقات السودان ّية اإليران ّية‬
‫أن أكثر القادة السودان ّيني تعلي ًام‪ ،‬وأغزرهم إنتاجا فكر ّي ًا منشور ًا‪،‬‬ ‫َّ‬
‫وأفصحهم لسان ًا‪ ،‬وأكثرهم دينام ّي ًة يف معرتك احلياة السودان ّية وتأثري ًا يف‬
‫ظل يتشاركان‪،‬‬ ‫مجهور حزبيهام‪ ،‬ومها حسن الرتايب والصادق املهدي‪ّ ،‬‬
‫دون سوامها من القادة السياس ّيني السودان ّيني‪ ،‬اإلعجاب بالنموذج‬
‫أن ِكال الرجلني يطرحان‬ ‫اإليراين والتجربة اإليران ّية‪ .‬ور ّبام يعود ذلك إىل ّ‬ ‫ّ‬
‫نفسيهام قائد ْين إسالم ّي ْي جمدِّ د ْين عامل َّي ْي‪ ،‬أكثر ممّا يطرحان نفسيهام‬
‫الريادة واملركز ّية‬ ‫طريف‪ ،‬نصيبه من ّ‬
‫ٍّ‬ ‫إسالمي‬
‫ّ‬ ‫يب‬ ‫كقائد ْين حم ِّل َّي ْي ل ُق ٍ‬
‫طر عر ّ‬
‫واإلسالمي يف العرص احلديث قليل جدّ ًا‪ .‬ويؤكِّد عبد‬ ‫ّ‬ ‫يب‬
‫يف العاملني العر ّ‬
‫ٍ‬
‫أن السودان ّيني عىل الرغم من انتامئهم إىل قطر يعاين‬ ‫الوهاب األفندي َّ‬
‫‪ .186‬املحبوب عبد السالم‪ ،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.320‬‬
‫‪ .187‬عادل السنهوري‪ ،‬إيران يف أفريقيا‪ ..‬ومرص فني؟‪ ،‬صحيفة اليوم السابع‪ ،‬النسخة اإللكرتونية‪،‬‬
‫‪:2010/4/29‬‬
‫=‪http//:www.youm7.com/News.asp?NewsID220569‬‬
‫‪ .188‬حيدر إبراهيم‪ ،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.35‬‬

‫‪225‬‬
‫أن جذور التد ّين‬ ‫واألفريقي‪ ،‬إال َّ‬
‫ّ‬ ‫يب‬
‫التهميش املركّب عىل الصعيدين العر ّ‬
‫بأن هلا َدور ًا إسالم ّي ًا‬
‫الصويف فيه جعلت بعض قياداته الدين ّية تؤمن َّ‬
‫مركز ّي ًا‪ .‬وأشار األفندي يف ذلك إىل الثورة املهد ّية يف القرن التاسع عرش‬
‫التي قادها حممد أمحد بن عبد اهلل الذي ا ّدعى املهدو ّية‪ ،‬وأجىل احلكم‬
‫يسي‬ ‫املرصي عن السودان‪ .‬وكان عزم حممد أمحد املهدي أن ّ‬ ‫ّ‬ ‫الرتكي‬
‫ّ‬
‫محالت عسكر ّية لفتح البلدان اإلسالم ّية‪ ،‬وإعادة املسلمني إىل «الدين‬ ‫ٍ‬
‫أن هذا اإلحساس‬ ‫احلق» وفق الرؤية املهدو ّية‪ .‬عموم ًا‪ ،‬يرى األفندي َّ‬
‫ّ‬
‫السوداين ‪.‬‬
‫‪189‬‬
‫ّ‬ ‫راسخ يف الوجدان الصويف‬ ‫ٌ‬ ‫املركزي‬
‫ّ‬ ‫اإلسالمي‬
‫ّ‬ ‫بالدَّ ور‬
‫سي خليفته من بعده عبد اهلل بن‬ ‫وتطبيق ًا لرؤية حممد أمحد املهدي‪ّ ،‬‬
‫حممد تورشني‪ ،‬محلتني عسكر ّيتني نحو احلبشة ومرص لكنّهام فشلتا‪.‬‬
‫أورد كولينز مالحظ ًة جدير ًة باالهتامم‪ ،‬جاء فيها‪:‬‬
‫أن الشخصيات‬‫يف احلياة السياس ّية للسودان الشاميل‪ ،‬نجد َّ‬
‫القو ّية التي شكَّلتها‪ ،‬إ ّما املوهبة أو اإلرث األرسي‪ ،‬مثل‬
‫إسامعيل األزهري‪ ،‬والصادق املهدي‪ ،‬أو حسن الرتايب‪،‬‬
‫اخلاصة التي ال يربطها هبموم‬
‫ّ‬ ‫مستغرق ٌة يف حزمة ّأول ّياهتا‬
‫ومصالح عامة السودان ّيني‪ ،‬إال القليل جدّ ًا‪.190‬‬
‫تدل عىل أنَّه‬ ‫فإن نصوص حسن الرتايب‪ ،‬وممارساته‪ّ ،‬‬ ‫وبالفعل‪َّ ،‬‬
‫وأن عينيه ليستا عىل السودان‪ ،‬إال يف‬ ‫اإلسالمي‪َّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫مهجوس بتثوير العامل‬
‫ٌ‬
‫ٍ‬
‫حدود ّاتاذه نقط َة انطالق ومعرب ًا نحو اآلفاق الواسعة التي يو ُّد التأثري‬
‫فيها‪ ،‬يف ما وراء احلدود‪ .‬وهذا ما تؤكِّده نصوص الرتايب نفسه‪ ،‬فهو‬
‫يصف احلركة اإلسالم ّية السودان ّية بقوله‪:‬‬
‫أصبحت من أكثف احلركات اإلسالم ّية العامل ّية‪ّ ،‬‬
‫ولعل‬
‫‪ .189‬عبد الوهاب األفندي‪ ،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.61‬‬
‫‪190. Robert O. Collins, A History of Modern Sudan, Cambridge University Press, Cam-‬‬
‫‪bridge, UK 2010 p. 301.‬‬

‫‪226‬‬
‫عاملي رحيب وذات‬ ‫ٍّ‬ ‫مر ّد ذلك‪ ...‬كون احلركة ذات ٍ‬
‫أفق‬
‫نمو احلركة‬ ‫ثم َّ‬ ‫ٍ‬ ‫التحا ٍم ٍ‬
‫إن ّ‬ ‫وثيق مع حتدّ يات عامل ّية املغزى‪ّ ...‬‬
‫زاد من حاجتها وقدرهتا ألن تتّخذ بعد ًا عامل ّي ًا تستعني به‬
‫وتبسط ذراع ًا عامل ّي ًا تؤ ّثر به‪( .191‬اخلطوط حتت الكلامت‬
‫من وضع كاتب الورقة)‪.‬‬
‫أن كلمة «عاملي» باشتقاقاهتا املختلفة‪،‬‬ ‫وأو ُّد أن ألفت النظر إىل َّ‬
‫أن احلركة‬‫مرات‪ ،‬يف هذا النص القصري‪ .‬يرى الرتايب َّ‬ ‫قد وردت مخس ّ‬
‫ال بأمر املسلمني وبأحوال العامل‪،‬‬ ‫اإلسالم ّية التي يقودها‪ ،‬حرك ٌة ّ‬
‫هتتم أص ً‬
‫بأن العامل قد غدا رقع ًة واحد ًة وثيقة االتّصال‪.‬‬ ‫مستصحب ًة إدراكها َّ‬
‫أن املسلمني األوائل‪ ،‬عىل الرغم من ق ّلتهم وضعفهم‪،‬‬ ‫ويرى الرتايب َّ‬
‫فقوضوا إمرباطورياهتم‪ ،‬ومدّ وا‬ ‫مدّ وا برصهم نحو الفرس والروم‪ّ ،‬‬
‫أن هذا النهج هو الذي سيكون عليه‬ ‫الدعوة وراء احلدود‪ ،‬مؤكّد ًا َّ‬
‫السودان ‪ .‬ويطابق هذا املنحى املنحى‬‫‪192‬‬
‫ديدن احلركة اإلسالم ّية يف ّ‬
‫اإليراين املدرج يف صلب الدستور الذي تقول املا ّدة ‪ 154‬منه‪َّ ،‬‬
‫إن‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫التدخل‬ ‫اجلمهور ّية اإلسالم ّية اإليران ّية‪ ،‬عىل الرغم من التزامها بعدم‬
‫يف شؤون الدول األخرى‪ ،‬ترى ّأنا مك ّلف ٌة بدعم ومحاية املستضعفني‬
‫أمام املستكربين‪ .193‬ويؤكِّد املحبوب عبد السالم‪ ،‬أحد التالميذ‬
‫املقربني حلسن الرتايب‪ ،‬مفهوم الثورة اإلسالم ّية األمم ّية لدى الرتايب‪،‬‬ ‫ّ‬
‫إن اجتهادات الشيخ حسن الرتايب الواردة يف حمارضته التي‬ ‫فيقول‪َّ :‬‬
‫ألقاها يف سبعينات القرن املايض‪ ،‬يف مدينة الدوحة بدولة قطر‪ ،‬حتت‬

‫العاملي للحركة اإلسالميّة‪ :‬التجربة السودانيّة‪ ،‬يف «الحركة اإلسالم ّية‪ :‬رؤية‬
‫ّ‬ ‫‪ .191‬حسن الرتايب‪ ،‬البعد‬
‫مستقبل ّية‪ ..‬أوراق يف النقد الذايت»‪ ،‬عبد الله فهد النفييس (محرر)‪( ،‬الكويت‪ ،)1989 ،‬ص ‪.80‬‬
‫‪ .192‬حيدر طه‪ ،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.187 - 186‬‬
‫‪ .193‬فاطمة الصامدي‪ ،‬إيران واملقاومة‪ :‬تح ّوالت السياسة واملجتمع تقاوم شعارات الثورة وتفرض أولويّات‬
‫جديدة‪ ،‬يف العرب وإيران‪ :‬مراجعة يف التاريخ والسياسة» (مجموعة كتّاب)‪( ،‬الدوحة‪/‬بريوت‪ :‬املركز العر ّيب‬
‫لألبحاث ودراسة السياسات‪ ،)2012 ،‬ص ‪.117‬‬

‫‪227‬‬
‫تعب عن أصول‬ ‫ٍ‬
‫عنوان‪« :‬األشكال الناظمة لدول إسالم ّية معارصة»‪ِّ ،‬‬
‫فكرته التي ال ترى يف احلدود السياس ّية إالّ عوائق ظ ّلت متنع حركة‬
‫احلر»‪ .194‬ويميض املحبوب عبد السالم ليؤكِّد‬ ‫الشعوب وتفاعلها ّ‬
‫إن سنوات اإلنقاذ األوىل شهدت‬ ‫األممي حلسن الرتايب بقوله‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫التوجه‬
‫ّ‬
‫رفع رشط تأشرية الدخول إىل السودان عن اإلسالم ّيني العرب يف دول‬
‫األفريقي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يب‪ ،‬متهيد ًا لرفعها عن اإلسالم ّيني يف دول اجلوار‬‫اجلوار العر ّ‬
‫اإلسالمي اجلديد‬
‫ّ‬ ‫تستتب األمور أكثر بالنسبة إىل احلكم‬
‫ّ‬ ‫ولكن بعد أن‬
‫يف السودان ‪ .‬وهذه النظرة هي نفس نظرة سيد قطب‪ ،‬الذي يرى ّ‬
‫أن‬ ‫‪195‬‬

‫العقيدة هي جنس ّية املسلم‪ ،‬وليس انتامؤه القطري‪.196‬‬


‫تأثير الترابي في تالميذه‬
‫إن أفكار الدكتور الرتايب‬‫بنا ًء عىل عديد الشواهد‪ ،‬يمكن القول ّ‬
‫«األمم ّية» ليست حرص ًا عىل جمموعته التي خرجت معه من احلكم يف‬
‫عام ‪ ،1999‬فأفكاره ُمستبطن ٌة أيض ًا وسط قيادات اجلناح اآلخر املمسك‬
‫القيادي يف‬
‫ّ‬ ‫بزمام احلكم اآلن‪ .‬وعىل سبيل املثال‪ّ ،‬‬
‫فإن غازي صالح الدين‬
‫احلركة اإلسالم ّية السودان ّية‪ ،‬ووزير الدولة األسبق يف وزارة اخلارج ّية‪،‬‬
‫خاطب عند بدايات حكم اإلنقاذ‪ ،‬أربع ًة من وزراء خارجية كينيا‬
‫ٍ‬
‫بصورة‬ ‫ويوغندا وإثيوبيا وإريرتيا‪ ،‬وهي ٌ‬
‫دول حتكمها النخب املسيح ّية‬
‫«إن رسالتنا ليست هي توطيد اإلسالم يف السودان بل‬ ‫ٍ‬
‫رئيسة‪ ،‬قائالً‪ّ :‬‬
‫نرشه يف أفريقيا‪ .‬هذه هي رسالتنا التي أوقف مسريهتا االستعامر‪ ،‬وسنبدأ‬

‫‪ .194‬السنوات (‪ )1995 -1990‬هي السنوات التي كان فيها حسن الرتايب ميثّل املرجعيّة الفكرية والسياسيّة‬
‫األوحد للحكم القائم اآلن يف السودان‪.‬‬
‫‪ .195‬املحبوب عبد السالم‪ ،‬الحركة اإلسالم ّية السودان ّية‪ :‬دائرة الضوء خطوط الظالم‪ ،‬تأ ّمالت يف العرش ّية‬
‫األوىل لعهد اإلنقاذ‪( ،‬القاهرة‪ :‬مكتبة جزيرة الورد‪ ،)2009 ،‬ص ‪.327 - 326‬‬
‫‪ .196‬أحمد البغدادي‪ ،‬الوطن يف فكر جامعة اإلخوان املسلمني‪ ،‬يف اإلخوان املسلمون يف الخليج‪ ،‬مجموعة‬
‫مؤلفني‪( ،‬ديب‪ :‬مركز املسبار للدراسات والبحوث‪ ،)210 ،‬ص ‪.195‬‬

‫‪228‬‬
‫حيث أوقفنا االستعامر»‪ .197‬أ ّما أمني حسن عمر‪ ،‬أحد أبرز املن ِّظرين‬
‫وسط اإلسالم ّيني احلاكمني اليوم يف السودان‪ ،‬فقد ورد عىل لسانه‪:‬‬
‫دعاة احلضارة العرب ّية واإلسالم ّية ال يطالبون بمقعد‬
‫املتحضة‪ ،‬بل يطالبون هبذا املقعد يف الطليعة‬
‫ّ‬ ‫بني األمم‬
‫ٍ‬
‫شاغر بني األمم‬ ‫ٍ‬
‫واملقدِّ مة‪ .‬وهم ال ينافسون عىل مقعد‬
‫املتقدِّ مة‪ ،‬وإنّام يطرحون مرشوع ًا بدي ً‬
‫ال للمرشوع السائد‪،‬‬
‫ويقدِّ مون أنفسهم قياد ًة بديل ًة للعامل عن طريق التقدّ م‬
‫واحلضاري‪.198‬‬
‫ّ‬ ‫االجتامعي‬
‫ّ‬
‫يف غمرة انفعال اإلسالم ّيني بتس ّلم احلكم يف السودان‪ ،‬رشعوا‬
‫يف حماوالت تصدير نموذجهم إىل اخلارج‪ ،‬ومل تسلم السعود ّية من‬
‫اإلعالمي السافر من اإلسالميني‬ ‫ّ‬ ‫حترشاهتم‪ ،‬وطاهلا الكثري من اهلجوم‬ ‫ّ‬
‫السودانيني‪ ،‬يف بدايات حكمهم‪ .‬بل تعدّ ى إسالم ّيو السودان جوارهم‬
‫اجلزائري‪ ،‬ما‬
‫ّ‬ ‫اإلقليمي املبارش‪ ،‬وذهبوا ليحرشوا أنفهم يف الشأن‬‫ّ‬
‫اضطر اجلزائر إىل سحب سفريها من السودان يف عام ‪ .1992‬ومل‬
‫‪199‬‬
‫ّ‬
‫تقف حماوالت إسالم ّيي السودان تصدير الثورة عند حدّ التنظري‪ ،‬أو‬
‫حتولت‬ ‫واحلضاري‪ ،‬وإنّام َّ‬
‫ّ‬ ‫االجتامعي‬
‫ّ‬ ‫جيسد التقدّ م‬
‫طرح النموذج الذي ِّ‬
‫أفعال عسكر ّية أيض ًا‪ .‬فإضاف ًة إىل ما أوردناه عن املعسكرات التي‬ ‫ٍ‬ ‫إىل‬
‫ن ّظمها الدكتور الرتايب يف باكستان ويف السودان لتدريب املس ّلحني‬
‫جرت يف أديس أبابا يف عام ‪ ،1995‬حماول ٌة‬ ‫اإلسالم ّيني عابري احلدود‪َ ،‬‬
‫املرصي حسني مبارك‪ ،‬مل تُك ّلل بالنجاح‪ .‬وقد كشفت‬ ‫ّ‬ ‫الغتيال الرئيس‬
‫التحقيقات التي ُأجريت حوهلا‪َّ ،‬‬
‫أن القيادات السياس ّية السودان ّية ال ُعليا‬
‫‪ .197‬منصور خالد‪ ،‬جنوب السودان يف املخيلة العرب ّية‪ :‬الصورة الزائفة والقمع التاريخي‪( ،‬لندن‪ :‬دار تراث‬
‫للنرش‪ ،)2000 ،‬ص ‪.66-65‬‬
‫ّ‬
‫السوداين‪ :‬قراءات يف الفكر واملامرسة‪( ،‬الخرطوم‪ :‬معهد‬ ‫اإلسالمي‬
‫ّ‬ ‫‪ .198‬أمني حسن عمر‪ ،‬يف كتاب‪ ،‬املرشوع‬
‫البحوث والدراسات االجتامع ّية‪ ،)1995 ،‬ص ‪.23‬‬
‫‪ .199‬منصور خالد‪ ،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.78‬‬

‫‪229‬‬
‫يف حكومة اإلنقاذ هي التي د ّبرهتا بالتعاون مع «اجلامعة اإلسالم ّية»؛‬
‫املتطرف‪ .200‬ومل تكن حماولة اغتيال الرئيس حسني‬ ‫ِّ‬ ‫املرصي‬
‫ّ‬ ‫التنظيم‬
‫عمل واس ٍع‬‫ٍ‬ ‫مبارك يف أديس أبابا عمل ّي ًة معزول ًة‪ ،‬وإنّام كانت جزء ًا من‬
‫استهدفت به حكومة اإلسالم ّيني يف السودان زعزعة دول اجلوار‬
‫اضطرت إريرتيا لقطع عالقاهتا‬‫ّ‬ ‫اإلقليمي؛ مرص وإثيوبيا وإريرتيا‪ .‬وقد‬
‫ّ‬
‫بالسودان يف عام ‪ 1992‬بسبب دعم احلكومة السودان ّية لتنظيم اجلهاد‬
‫اإلسالمي اإلريرتي‪ ،201‬ولقد تأ َّثرت عالقات إثيوبيا بالسودان كثري ًا‬‫ّ‬
‫املرصي حسني مبارك يف أديس أبابا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عقب حماولة اغتيال الرئيس‬
‫جانب آخر‪ ،‬توتّرت العالقات بني إيران واجلزائر‪ ،‬كام دار‬ ‫ٍ‬ ‫من‬
‫اإليراين يف املغرب‪ .‬ويروي احلسني‬‫ّ‬ ‫كبري يف املغرب حول النشاط‬ ‫لغط ٌ‬‫ٌ‬
‫أن البعثة الدبلوماس ّية اإليران ّية لدى اجلزائر كانت تنشط يف‬ ‫الزاوي َّ‬
‫وسط األحزاب اجلزائرية‪ ،‬عقب إعالن التعدد ّية احلزب ّية فيها‪ ،‬ومن‬
‫ضمن تلك األحزاب جبهة اإلنقاذ‪ ،‬وكان مم ّثلو البعثة اإليران ّية حيرضون‬
‫إن احلكومة اجلزائرية ترى‬ ‫التجمعات السياس ّية‪ .‬ويقول الزاوي َّ‬ ‫ّ‬ ‫بعض‬
‫أن موجة العنف التي عصفت باجلزائر آنذاك‪ ،‬مل يكن هلا أن تأخذ تلك‬ ‫َّ‬
‫األبعاد املأساو ّية لوال الدّ عم الذي كانت تتل ّقاه اجلامعات اجلزائر ّية‬
‫عديدة‪ ،‬ومن تلك األطراف اجلمهور ّية‬ ‫ٍ‬ ‫أطراف خارج ّي ٍة‬
‫ٍ‬ ‫املس ّلحة من‬
‫اإلسالم ّية اإليران ّية‪.202‬‬
‫السودان وإيران بعد خروج الترابي من الحكم‬
‫وضم رؤية‬
‫ّ‬ ‫التقرب من إيران‬
‫ّ‬ ‫وعىل الرغم من حماولة الرتايب‬

‫‪ .200‬فتحي الضو‪ ،‬الخندق‪ :‬أرسار دولة الفساد واالستبداد يف السودان‪( ،‬القاهرة‪ :‬مكتبة جزيرة الورد‪،‬‬
‫‪ ،)2012‬ص ‪.88 – 82‬‬
‫‪ .201‬فتحي الضو‪ ،‬السودان‪ :‬سقوط األقنعة‪( ،‬د‪ .‬ن‪ ،‬د‪ .‬ت)‪ ،‬ص ‪.365‬‬
‫العريب وإيران‪ :‬تحدّيات التاريخ وتقلّبات الجغرافيا السياسيّة‪ ،‬يف العرب‬
‫ّ‬ ‫‪ .202‬الحسني الزاوي‪ ،‬املغرب‬
‫وإيران‪ ،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.195‬‬

‫‪230‬‬
‫اإلسالمي‬
‫ّ‬ ‫يب‬
‫الشعبي العر ّ‬
‫ّ‬ ‫اإليران ّيني وجهدهم إىل رؤية وجهد املؤمتر‬
‫كتلة إسالمي ٍة عابرةٍ‬ ‫الذي أرشف عىل تكوينه شخصي ًا‪ ،‬بغرض خلق ٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫السلطة شيئ ًا يف امليل‬ ‫يغي خروجه من ُّ‬ ‫لألقطار‪ ،‬ذات ذراع عسكر ّية‪ ،‬مل ّ‬
‫إن العالقات مع إيران‬ ‫الرسمي نحو إيران‪ .‬بل يمكن القول َّ‬ ‫ّ‬ ‫السوداين‬
‫ّ‬
‫ازدادت أكثر بعد املفاصلة التي أخرجت الرتايب من منظومة حكم‬
‫أن حكومة اإلنقاذ‬ ‫اإلسالم ّيني للسودان يف عام ‪ .1999‬ولكن‪ ،‬يبدو َّ‬
‫انتهجت بعد خروج الرتايب هنج ًا براغامت ّي ًا صارخ ًا‪ ،‬وأصبحت تستخدم‬
‫ٍ‬
‫متعارضة متام ًا‪ .‬فقد‬ ‫خمتلف األوراق التي يقود استخدامها إىل وجهات‬
‫السوداين مع إيران تزداد‪ ،‬ك ّلام ازداد الفتور‬ ‫ّ‬ ‫أن أنباء التقارب‬ ‫لوحظ َّ‬
‫من جانب الدول اخلليج ّية جتاه حكومة السودان‪ .‬ومن أمثلة اللعب‬
‫باألوراق التي تعكس االنتقال من النقيض إىل النقيض يف مواقف‬
‫وحتسن‬‫ّ‬ ‫احلكومة السودان ّية‪ ،‬عقب إخراجها الرتايب من معادلة احلكم‬
‫التقرب إىل الواليات املتّحدة األمريك ّية‪.‬‬ ‫عالقاهتا بمرص مبارك‪ ،‬حماولتها ّ‬
‫فقد بلغت تلك الرغبة حدّ أن يطري مدير املخابرات السودان ّية عىل متن‬
‫ٍ‬
‫خصيص ًا لكي حيرض إىل واشنطن ويس ِّلم‬ ‫طائرة أمريك ّية‪ُ ،‬أرسلت إليه ّ‬
‫باملتطرفني‬ ‫ات تتع ّلق‬ ‫وكالة االستخبارات املركزية األمريكية ‪ CIA‬مل ّف ٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وحتركاهتم وخططهم‪ ،‬ممّن شاركوا يف تفجري مركز التجارة‬ ‫اإلسالم ّيني ّ‬
‫األول‪ ،‬ويف اهلجامت عىل السفارة األمريك ّية يف نريويب‪ ،‬ويف‬ ‫الدو ّيل ّ‬
‫هجامت احلادي عرش من أيلول‪ /‬سبتمرب ‪ .2001‬أغضبت تلك الزيارة‬
‫األمريكي الذي رأى فيها بيعا لدم األمريكيني الذين‬ ‫ّ‬ ‫قطاع ًا من اجلمهور‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وقبول حلكومة متّهمة أص ً‬
‫ال‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫اعتبار‬ ‫قضوا يف تلك التفجريات‪ ،‬وإعادة‬
‫العرقي لقطا ٍع من مواطنيها ‪.‬‬
‫‪203‬‬
‫ّ‬ ‫لدهيم بإيواء اإلرهاب ّيني وبالتطهري‬
‫تعاونت احلكومة السودان ّية يف تنفيذ بنود اتفاق ّية نيفاشا تعاون ًا‬

‫األمني األ ّول يف السودان يغضب بعض األمريكيّني»‪ ،‬نيويورك‬


‫ّ‬ ‫‪ .203‬سكوت شني‪« ،‬لقاء يس آي آيه باملسؤول‬
‫تاميز‪ 20 ،‬يونيو ‪.2005‬‬

‫‪231‬‬
‫تا ّم ًا‪ ،‬وقبلت باالستفتاء الذي قاد إىل فصل جنوب السودان عن‬
‫شامله‪ ،‬وقبلت نتيجة االستفتاء‪ ،‬واعرتفت بدولة اجلنوب الوليدة‪،‬‬
‫مؤ ِّمل ًة يف أن يؤ ّدي ّ‬
‫كل ذلك إىل تطبيع عالقاهتا مع الواليات املتّحدة‬
‫األمريك ّية وإىل رفع العقوبات عنها‪ ،‬وإلغاء الديون التي أثقلت كاهل‬
‫األمريكي‬
‫ّ‬ ‫يغي شيئ ًا يف املوقف‬
‫كل ذلك مل ِّ‬‫أن ّ‬
‫الدولة السودان ّية‪ .‬غري َّ‬
‫جتاه حكومة اإلسالم ّيني يف السودان‪ ،‬ومن استمرار العقوبات والعزلة‬
‫املفروضة عليها‪.204‬‬
‫إن يأس احلكومة السودان ّية من التطبيع مع‬ ‫ور ّبام أمكن القول َّ‬
‫أمريكا قد قادها إىل استخدام الورقة املعاكسة‪ .‬فقد نشطت يف السنوات‬
‫غزة‪ ،‬عرب السودان‬ ‫األخرية حركة نقل األسلحة اإليران ّية إىل قطاع ّ‬
‫يب للبحر األمحر‪ ،‬لتواصل سريها عرب مرص لتصل‬ ‫بمحاذاة الساحل الغر ّ‬
‫غزة‪ .‬ولقد استهدفت إرسائيل بالطائرات يف عام ‪2009‬‬ ‫ثم ّ‬
‫إىل سيناء‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫حمملة بالسالح‪ ،‬ود ّمرته‪ .‬وقىض‬ ‫مكون ًا من ثالث وعرشين شاحنة ّ‬ ‫ال َّ‬‫رت ً‬
‫الرتل‪.205‬‬ ‫يف تلك اهلجمة نحو أربعني شخص ًا ممّن كانوا عىل متن ذلك ّ‬
‫الضبات اإلرسائيل ّية لقوافل السالح ولألفراد املشتبه يف‬ ‫وتعدَّ دت ّ‬
‫السالح عرب رشق‬ ‫كوهنم جزء ًا من تلك العمل ّيات املتع ّلقة بتهريب ّ‬
‫اجلوية اإلرسائيل ّية تلك التي تل ّقاها‬ ‫السودان‪ .‬وكانت أكرب الرضبات ّ‬
‫األول‪ /‬أكتوبر‬ ‫مصنع الريموك لألسلحة يف اخلرطوم يف هناية ترشين ّ‬
‫ٍ‬
‫أن ترسيبات تقول‬ ‫عام ‪ .2012‬وأوردت صحيفة «الغارديان» الربيطان ّية َّ‬
‫فندق يف مدينة ديب‪،‬‬ ‫إن اغتيال القيادي الفلسطيني حممود املبحوح يف ٍ‬ ‫َّ‬
‫ّ‬
‫حقيبة كانت بحوزته‪ ،‬هو الذي‬ ‫ٍ‬ ‫مهم ٍة يف‬ ‫ٍ‬
‫وعثور املوساد عىل أوراق ّ‬
‫كثري من املعلومات املتع ِّلقة بعالقة‬ ‫التعرف عىل ٍ‬ ‫مكّن اإلرسائيل ّيني من ّ‬
‫‪ .204‬بدأ املوقف األمرييك يف التغري اآلن‪.‬‬
‫‪205. Time Staff, “How Israel Foiled an Arms Convoy Bound for Hamas”, Time, 3L3L2009.‬‬
‫‪Read more:‬‬
‫‪http//:www.time.com/time/world/article.0,8599,1888352,00/html#ixzz2GeLMLgBs.‬‬

‫‪232‬‬
‫غزة‪.206‬‬
‫السودان بمرور صواريخ فجر اإليران ّية إىل ّ‬
‫للسالح‬ ‫مث َّلت الرضبة اإلرسائيل ّية التي استهدفت مصنع الريموك ّ‬
‫تطور ًا نوع ّي ًا يف‬‫األول‪ /‬أكتوبر ‪ّ ،2012‬‬ ‫يف اخلرطوم يف هنايات ترشين ّ‬
‫أن إرسائيل‬ ‫اإلرسائييل ألنشطة احلكومة السودان ّية‪ .‬ويبدو َّ‬
‫ّ‬ ‫االستهداف‬
‫ٍ‬
‫أن السودان قد أسهم يف فتح جبهة رد ٍع جديدة عليها‬ ‫أصبحت ترى َّ‬
‫غزة‪ ،‬الذي تصله الصواريخ عن طريق السودان‪ .‬كام‬ ‫تتمركز يف قطاع ّ‬
‫تتمركز يف منطقة البحر األمحر بعد أن أصبحت السفن احلرب ّية اإليران ّية‬
‫خاص ًة يف السودان‪ .‬ويزعم اإلرسائيل ّيون َّ‬
‫أن‬ ‫ٍ‬
‫تَلقى تسهيالت يف موانئه‪ّ ،‬‬
‫الضوء األخرض إلنشاء‬ ‫السوداين عمر البشري أعطى اإليران ّيني ّ‬ ‫ّ‬ ‫الرئيس‬
‫أن الصواريخ‬ ‫السوداين‪ .‬كام ذكروا َّ‬
‫ّ‬ ‫قواعدَ عسكر ّية إيران ّية عىل الرتاب‬
‫فإن بوسعها أن تصل إىل‬ ‫اإليران ّية‪ ،‬إذا ما جرى نصبها يف السودان‪َّ ،‬‬
‫اإليراين‬
‫ّ‬ ‫قطع من األسطول‬ ‫جنوب إرسائيل ووسطها‪ .207‬وحني قامت ٌ‬
‫بزيارة ميناء بورتسودان عىل ساحل البحر األمحر‪ ،‬عقب الرضبة‬
‫أن ذلك‬ ‫اإلرسائيل ّية ملصنع الريموك يف اخلرطوم‪ ،‬زعم اإلرسائيل ّيون َّ‬
‫جز ٌء من جهد إنشاء قاعدة بحر ّية إيران ّية حول ميناء بورتسودان‪ .208‬غري‬
‫أن زيارة البوارج‬ ‫أن احلكومة السودان ّية نفت تلك املزاعم‪ .‬كام أكَّدت َّ‬ ‫َّ‬
‫أن ذات البوارج اإليران ّية التي‬ ‫اإليران ّية كانت روتين ّية‪ .‬وتر َّددت أنباء َّ‬
‫رفضت احلكومة السودان ّية استقباهلا يف شباط‪ /‬فرباير ‪ ،2012‬رست‬
‫رسوها‬‫بيان من اخلارج ّية السعود ّية ّ‬ ‫يف ميناء جدّ ة السعودي‪ ،‬ووصف ٌ‬
‫‪206. Ian Black, “Israeli attack’ on Sudanese arms factory offers glimpse of secret war”,‬‬
‫‪The Guardian, 25/10/2012.‬‬
‫‪http://www.guardian.co.uk/world/2012/oct/25/israeli-sudanese-factory-secret-war.‬‬
‫‪207. Steve Waltz, “Iran and Sudan Deepen Cooperation Against Israeli Military Efforts‬‬
‫‪in Africa”, Pan African Newswire, December, 13, 2012.‬‬
‫‪http//:panafricannews.blogspot.com/12/2012/iran-and-sudan-deepen-cooperation.html‬‬
‫‪208. Joanna Praszczuk, “Khartoum allowing Iran to establish Red Sea base”, Jerusalem‬‬
‫‪Post. 12/11/2012.‬‬

‫‪233‬‬
‫بأنَّه روتيني‪ .‬ولكن‪ ،‬قناة برس يت يف ‪ Press TV‬اإليران ّية أوردت من‬
‫أن إيران قد أخذت‬ ‫أن األدمريال حبيب اهلل سياري أكَّد َّ‬‫اجلانب اآلخر‪َّ ،‬‬
‫العسكري يف املياه الدول ّية منذ العام املايض‪ .‬فقد‬
‫ّ‬ ‫تضاعف وجودها‬
‫اهلندي‪ ،‬كام قامت بإرسال قطعتني‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫سفن يف املحيط‬ ‫قامت إيران بنرش‬
‫املتوسط‪ ،‬يف‬
‫ّ‬ ‫مرة‪ ،‬عرب قناة السويس إىل البحر األبيض‬ ‫وألول ّ‬
‫بحر ّيتني‪ّ ،‬‬
‫كل ذلك االنتشار‬ ‫أن املقصود من ّ‬ ‫شباط‪ /‬فرباير ‪ .2011‬وأكَّد سياري َّ‬
‫هو محاية مصالح اجلمهور ّية اإلسالم ّية اإليران ّية‪ .209‬وال يمكن ملح ّل ٍل‬
‫سيايس أن يفصل بني هذا االنتشار الواسع لبحر ّية إيران والنزاع القائم‬ ‫ّ‬
‫النووي واحتامالت رضبه عسكر ّي ًا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫اآلن حول برناجمها‬
‫االنقسام داخل الحكومة السودان ّية‬
‫عقب َق ْصف إرسائيل مصنع الريموك يف اخلرطوم‪ ،‬احتدم اجلدل‬
‫السيايس يف السودان بشأن العالقة مع إيران‪ ،‬وطفحت عىل السطح‬ ‫ّ‬
‫انقسامات حا ّد ٌة وسط املجموعة احلاكمة‪ .‬ففي اللقاء املتلفز لوزير‬
‫ٌ‬
‫اخلارج ّية السودان ّية‪ ،‬عيل أمحد كريت‪ ،‬عىل قناة النيل األزرق‪ ،‬يف ‪3‬‬
‫علم‬
‫أن وزارته مل يكن لدهيا ٌ‬ ‫ترشين الثاين‪ /‬نوفمرب ‪ ،2012‬ذكر الوزير َّ‬
‫البتّة بزيارة املد ِّمرتني اإليران ّيتني مليناء بورتسودان‪ ،‬وأنَّه سمع بتلك‬
‫أن إيران سبق‬‫الزيارة من أجهزة اإلعالم‪ .210‬وأضاف وزير اخلارج ّية َّ‬
‫أن طلبت زيارة املد ِّمرتني‪ ،‬وقد كانت توصية وزارة اخلارج ّية برفض‬
‫السوداين عادل الباز‪ ،‬عىل‬
‫ّ‬ ‫ورفض بالفعل‪ .‬وقد ع َّلق الصحايف‬ ‫الطلب‪ُ ،‬‬
‫كل ذلك بقوله‪:‬‬ ‫ّ‬
‫فإذا كانت احلكومة قد اعتذرت عن استقبال البوارج‬
‫‪« .209‬األسطول اإلير ّاين ينترش يف املياه الدول ّية»‪ ،‬صفحة برس يت ڤي اإلير ّاين عىل شبكة اإلنرتنت‪.2012 /9/ 3 ،‬‬
‫‪http//:www.presstv.ir/detail/259610/03/09/2012/iran-navy-to-expand-intl-presence.‬‬
‫‪ . 210‬برنامج «حتّى تكتمل الصورة»‪ ،‬لقاء الطاهر حسن التوم بالوزير عيل كريت‪ ،‬تلفزيون النيل األزرق‪،‬‬
‫‪ .2012 /11/ 3‬موقع الحلقة عىل موقع يوتيوب‪:‬‬
‫‪http//:www.youtube.com/watch?v=rC9EnG0agHQ&feature=plcp‬‬

‫‪234‬‬
‫فمن الذي سمح هلا بالوصول إىل مياهنا اإلقليم ّية والبقاء‬
‫يقرر‪،‬‬
‫فيها أربعة أيام؟! فهل هناك جسم خارج احلكومة ِّ‬
‫اإليراين‬ ‫صلة باملحور‬‫ٍ‬ ‫أن متن ّفذين داخل احلكومة عىل‬
‫أم َّ‬
‫ّ‬
‫أصبحوا قادرين عىل مترير أجنداهتم رغم أنف احلكومة أو‬
‫من وراء ظهرها‪211‬؟!‪.‬‬
‫أن «هنالك خالفات داخل‬ ‫أن وزير اخلارج ّية أكَّد َّ‬
‫ويضيف الباز َّ‬
‫احلكومة حول التعاون مع إيران»‪ .‬ويستطرد قائالً‪ ،‬من الطبيعي أن‬
‫خالف داخل احلكومة حول السياسة اخلارج ّية يف األمور‬ ‫ٌ‬ ‫يكون هناك‬
‫الثانوية كتقديرات املواقف التي يتّخذها صنّاع القرار يف الشؤون‬
‫خالف عىل إسرتاتيجية‬
‫ٌ‬ ‫ال أن حيدث‬ ‫املتحركة‪ .‬ولكن‪ ،‬من الغريب فع ً‬
‫ّ‬
‫رئيس‪ ،‬كالتحالفات باملنطقة ‪.‬‬
‫‪212‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫الدولة حول شأن‬
‫المشهد الجديد‬
‫التغي يف منطقة الرشق األوسط‬ ‫ُّ‬ ‫أخذ املشهد اجليوسرتاتيجي يف‬
‫نتيج ًة للثورات العرب ّية التي طرحت واقع ًا جيوبوليتيك ّي ًا جديد ًا مل‬
‫ّخ ُّلق‪ ،‬كام َّأنا منفتحة‬ ‫تكتمل صورته بعد‪ ،‬فهذه الصورة ال تزال قيد الت َ‬
‫دول حموريةٍ‬ ‫ٍ‬ ‫عىل خمتلف االحتامالت‪ .‬وصعود الت ّيارات اإلسالم ّية يف‬
‫ّ‬
‫مثل مرص وتونس‪ ،‬إضاف ًة إىل سيطرة اإلسالم ّيني عىل احلكم يف السودان‬
‫بلدان أخرى‬‫ٍ‬ ‫منذ عام ‪ ،1989‬واحتامل وصول اإلسالم ّيني إىل احلكم يف‬
‫خماوف لدى‬
‫َ‬ ‫كاألردن والكويت‪ ،‬ور ّبام غريها‪ ،‬يطرح ـ وبالرضورة ـ‬
‫خاص ًة الدول اخلليج ّية‪ ،‬كام يطرح يف الوقت ذاته‬ ‫ٍ‬
‫كثرية‬ ‫دول عرب ّي ٍة‬
‫ٍ‬
‫ّ‬
‫ملحة أخذت تطرح نفسها وبشدّ ة؛ من‬ ‫ٍ‬
‫تساؤالت بشأن عدّ ة قضايا ّ‬
‫تلك القضايا‪:‬‬

‫‪ .211‬عادل الباز‪« ،‬شكرا كريت الصورة مل تكتمل»‪ ،‬صحيفة الصحافة السودان ّية‪ ،‬العدد‪.2012 /11/ 6 ،6901 :‬‬
‫‪ .212‬عادل الباز‪ ،‬املصدر نفسه‪.‬‬

‫‪235‬‬
‫•مدى استعداد الت ّيارات اإلسالم ّية التي وصلت إىل احلكم‪ ،‬والتي‬
‫للتخل عن خطط التثوير العابرة‬ ‫ّ‬ ‫ر ّبام تصل إىل احلكم يف الفرتة املقبلة‪،‬‬
‫للدولة القطر ّية املندرجة يف أصل أدب ّيات اإلخوان املسلمني‪ ،‬وهي‬
‫ات ال يزال يت ّبناها التنظيم الدو ّيل لإلخوان املسلمني‪ .‬ولقد‬ ‫أدب ّي ٌ‬
‫اتّضح ذلك يف حرب الكويت حني وقف التنظيم العاملي ضدّ‬
‫إخراج العراق من الكويت ما س ّبب حرج ًا كبري ًا إلخوان الكويت‬
‫الرؤى‬ ‫مجدوا عضو ّيتهم فيه‪ .213‬وعموم ًا‪ّ ،‬‬
‫فإن ّ‬ ‫الذين أعلنوا ّأنم ّ‬
‫تنفك تطفح عىل السطح أحيان ًا‪ .‬إذ‬ ‫األساسية لتنظيم اإلخوان ال ّ‬
‫غزة قوله‪،‬‬ ‫السلطة املقالة يف ّ‬ ‫ورد عىل لسان إسامعيل هنية‪ ،‬رئيس ُّ‬
‫وأن َدور‬ ‫يب سوف يفتح صفحات اخلالفة الراشدة‪ّ ،‬‬ ‫إن الربيع العر ّ‬ ‫ّ‬
‫األنظمة التي سقطت كان منص ّب ًا يف منع عودة هذه اخلالفة‪ ،‬ويف‬
‫ضامن أمن إرسائيل‪ .214‬فهل سيعرتف اإلخوان املسلمون حقيق ًة‪،‬‬
‫وليس «ت ُِق َّي ًة»‪ ،‬بحدود الدولة ال ُقطر ّية‪ ،‬وال يتّجهون‪ ،‬من ثم‪ ،‬إىل‬
‫تصدير الثورات وزعزعة االستقرار يف الدول العرب ّية األخرى؟‬
‫ٍ‬
‫تعاون‬ ‫ٍ‬
‫فرص لقيام‬ ‫اإلجابة عن هذا السؤال ر ّبام ترتّب عليها تو ُّف ُر‬
‫إقليمي جديد‪ .‬أو ر ّبام انفتح‪ ،‬بنا ًء عليها‬ ‫ٍّ‬ ‫سيايس‬ ‫يب جديد يف ٍ‬
‫أفق‬ ‫عر ٍّ‬
‫ّ‬
‫اإلسالمي الذي اعتىل موجة‬ ‫ٍ‬
‫أيض ًا‪ ،‬الباب إىل نزا ٍع جديد بني الت ّيار‬
‫ّ‬
‫الديمقراطي‪ ،‬والدول العرب ّية ذات األنظمة امللك ّية بمختلف‬ ‫ّ‬ ‫املدّ‬
‫ٍ‬
‫مرشح ًة النقسا ٍم جديد يشابه‪ ،‬من‬ ‫صورها‪ .‬فاملنطقة ر ّبام تكون ّ‬
‫بعض الوجوه‪ ،‬االنقسام الذي كان سائد ًا يف أوج موجة املدّ‬
‫يب يف ستينات القرن املايض‪ ،‬حني مارست القوم ّية العرب ّية‬ ‫العرو ّ‬
‫هنج تصدير الثورة وفق ًا لفهمها للثورات‪ .‬فمرص النارص ّية‪ ،‬ومن‬
‫يب إىل كيانني؛ أحدمها «تقدّ مي»‬ ‫قسموا العامل العر ّ‬ ‫اصط ّفوا وراءها‪ّ ،‬‬

‫‪ .213‬أحمد البغدادي‪ ،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.203‬‬


‫‪« .214‬هنية‪ :‬الربيع العريب سيفتح صفحات الخالفة»‪ ،‬صحيفة العرب القطرية‪.2012/7/20 ،‬‬

‫‪236‬‬
‫املرصي‬
‫ّ‬ ‫واآلخر «رجعي»‪ ،‬وبنا ًء عىل هذا التقسيم أرسل الرئيس‬
‫ات مرص ّية لتقف إىل جانب اجلمهور ّيني يف‬ ‫مجال عبد النارص قو ٍ‬
‫ّ‬
‫اليمن يف حرهبم مع امللك ّيني‪ ،‬وليشهد اليمن حرب ًا بالوكالة أطرافها‬
‫استمرت سبع سنوات‪ .‬وأنشأت اجلمهور ّية العرب ّية املتّحدة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫عرب ّية‬
‫يف احلقبة النارص ّية‪ ،‬جهاز ًا إعالم ّي ًا كان األضخم واألقوى من‬
‫يب‪ ،‬ركّز هجومه عىل اململكة العرب ّية السعود ّية‬ ‫نوعه يف العامل العر ّ‬
‫وعىل األنظمة امللك ّية العرب ّية‪ .‬ولقد أحدث ذلك الوضع استقطاب ًا‬
‫جرها إىل االنقسام يف‬ ‫حا ّد ًا وسط الدول العرب ّية يف ما بينها‪ ،‬كام ّ‬
‫ّ‬
‫واالتاد‬ ‫الوالء جتاه املعسكرين الدول ّيني الكبريين بقيادة أمريكا‬
‫حدث صعود الت ّيار اإلخواين إىل احلكم يف‬ ‫السوڤييتي‪ .‬فهل سي ِ‬
‫ُ‬
‫أن اتّساع‬ ‫ٍ‬
‫بعض الدول العرب ّية حالة استقطاب حا ّدة جديدة‪ ،‬أم َّ‬
‫يب إىل أرض‬ ‫يب وتنزيل شعارات الربيع العر ّ‬ ‫نطاق ثورات الربيع العر ّ‬
‫ٍ‬
‫لكل أهل بلد ليك ّيفوا أوضاعهم وفق ًا لواقعهم‬ ‫الواقع‪ ،‬سوف ُيرتك ِّ‬
‫ٍ‬
‫خارجي؟‪.‬‬
‫ٍّ‬ ‫يب دون إمالء‬‫ال ُقطري‪ ،‬ويصوغوا التضامن العر ّ‬
‫•م ّثل مرور السفن احلرب ّية اإليران ّية من خالل قناة السويس إىل البحر‬
‫بكل املقاييس‪ .‬وهو ما كان ليحدث يف فرتة‬ ‫األمحر حدث ًا استثنائ ّي ًا ِّ‬
‫حكم الرئيس حسني مبارك‪ .‬يف هذا الوقت نفسه الذي يم ِّثل فيه‬
‫متغي ًا جديد ًا يف العالقات املرص ّية اإليران ّية‪،‬‬
‫مرور السفن اإليران ّية ِّ‬
‫ويم ِّثل بالرضورة دع ًام لقض ّية العرب املركز ّية يف فلسطني‪ ،‬نجد‬
‫إيران تسهم إسهام ًا معلن ًا يف زعزعة االستقرار يف مملكة البحرين‪.‬‬
‫كام َّأنا تدعم احلوث ّيني يف اليمن‪ ،‬وتدعم األسد يف سورية‪ُ .‬يضاف‬
‫كل‬ ‫حتتل اجلزر اإلمارات ّية‪ .‬وأخطر من ّ‬ ‫إىل ذلك‪َّ ،‬أنا ال تزال ّ‬
‫خاص ًة‬
‫العسكري يف البحر األمحر‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ذلك‪ ،‬تزيد إيران من وجودها‬
‫أن عبور‬ ‫يف السودان وإريرتيا‪ .‬ولكن‪ ،‬نجد من الناحية األخرى ّ‬
‫املتوسط م ّثل‬
‫ّ‬ ‫البارجتني احلرب ّيتني اإليران ّيتني قناة السويس إىل مياه‬

‫‪237‬‬
‫ودل هذا العبور‪ ،‬يف الوقت نفسه‪ ،‬عىل‬ ‫بقدر ما عىل إرسائيل‪ّ .‬‬‫ضغط ًا ٍ‬
‫انفالت مرص املحكومة إخواني ًا‪ ،‬من القبضة اإلرسائيل ّية األمريك ّية‬
‫أن تعاون‬ ‫يف صنع قرارها الوطني‪ .‬كام يمكن أن ُيضاف إىل ذلك َّ‬
‫غزة‪،‬‬‫اإليراين إىل ّ‬
‫ّ‬ ‫الدولة السودان ّية مع اإليران ّيني يف هتريب السالح‬
‫أتاح حلركة محاس وضع ًا ردع ّي ًا عسكر ّي ًا ووضع ًا تفاوضي ًا أفضل‬
‫دل عليه ما جرى يف احلرب األخرية‪ .‬لكن‪ ،‬يف‬ ‫مع اإلرسائيل ّيني‪ّ ،‬‬
‫اإليراين‪ ،‬وبالرضورة‪ ،‬خماوف‬‫ّ‬ ‫السوداين‬
‫ّ‬ ‫الوقت نفسه‪ ،‬يثري التعاون‬
‫السعود ّيني واخلليجيني‪ ،‬إضاف ًة إىل إرسائيل والواليات املتّحدة‬
‫متر جتارهتا من هذا‬ ‫األمريك ّية‪ ،‬وبالرضورة املجموعة األوروب ّية التي ُّ‬
‫إن هذا الوضع‬ ‫املمر الدو ّيل ذي احليو ّية الشديدة‪ .‬لذلك‪ ،‬يمكن القول َّ‬
‫ّ‬
‫اجلديد شديدُ التعقيد‪ ،‬ففوائده وخماطره تنقسم عىل عدة سالل‪.‬‬
‫•تستفيد احلكومة اإلسالم ّية يف السودان‪ ،‬وهي حكومة اإلسالم ّيني‬
‫السلطة عن طريق‬ ‫يب التي مل تصل إىل ُّ‬ ‫الوحيدة يف العامل العر ّ‬
‫اإليراين هلا يف تثبيت أركان حكمها‪،‬‬
‫ّ‬ ‫صندوق االقرتاع‪ ،‬من الدّ عم‬
‫خاص ًة مدّ ها بالسالح يف حروهبا الدائرة اآلن مع حركات اهلامش‬ ‫ّ‬
‫املسلحة‪ ،‬يف كل من جنوب كردفان والنيل األزرق‪ ،‬ممّا يضعف‬ ‫ٍّ‬ ‫ّ‬
‫ويقوي النزعات االنفصال ّية‬‫ك ّفة قوى املعارضة السودان ّية املدن ّية‪ّ ،‬‬
‫اإليراين‬
‫ّ‬ ‫احلاملة للسالح‪ ،‬ممّا يزيد من فرص التفتيت‪ .‬ويزيد الدّ عم‬
‫غري املرشوط حلكومة اإلسالم ّيني يف السودان‪ ،‬من نفور سودان ّيي‬
‫اهلوامش جتاه الدول العرب ّية واإلسالم ّية التي وقفت دائ ًام إىل‬
‫اإلسالمي يف السودان يف نزاعه مع األقل ّيات‬
‫ّ‬ ‫يب‬
‫املكون العر ّ‬
‫جانب ّ‬
‫املهمشة التي تطالب بحقوقها‪.‬‬ ‫ّ‬
‫غزة‪،‬‬‫•انخراط حكومة السودان يف عمل ّيات هتريب األسلحة إىل ّ‬
‫وما يرت ّدد عن ن ّيتها إنشاء قواعد عسكر ّية بر ّية وبحر ّية لإليران ّيني‬
‫ٍ‬
‫مواجهة إلرسائيل‬ ‫يف أرايض السودان‪ ،‬وإعالهنا نفسها دول َة‬

‫‪238‬‬
‫قلق هذا‬ ‫جيعلها هدف ًا لآللة العسكرية اإلرسائيلية‪ .‬ولسوف ي ِ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الوضع قطاع ًا كبري ًا من القوى السياس ّية السودان ّية التي عىل الرغم‬
‫أن من احلكمة يف يشء أن جيعل‬ ‫يب‪ ،‬ال ترى ّ‬ ‫احلق العر ّ‬
‫من دعمها ّ‬
‫ال دولة‬ ‫السودان من نفسه دولة مواجهة مع إرسائيل‪ ،‬وهو أص ً‬
‫خاص ًة‬ ‫بال قدرات‪ .‬ر ّبام تقوم إرسائيل بقصف ميناء بورتسودان‪ّ ،‬‬
‫السوداين‬
‫ّ‬ ‫وأن الصحف اإلرسائيل ّية أخذت تر ِّدد َّ‬
‫أن الساحل‬ ‫ّ‬
‫حول ميناء بورتسودان سوف يصبح قاعد ًة بحر ّي ًة إيران ّي ًة‪ .‬وإذا‬
‫ألزمات اقتصاد ّي ٍة ومتوين ّي ٍة‬
‫ٍ‬ ‫يتعرض السودان‬ ‫حدث ذلك‪ ،‬فسوف ّ‬
‫أن ازدياد‬ ‫تفاقم من أوضاعه االقتصاد ّية احلال ّية املرت ّدية أصالً‪ .‬كام َّ‬
‫اإليراين سوف يدفع إرسائيل إىل تكثيف‬ ‫ّ‬ ‫السوداين‬
‫ّ‬ ‫التقارب‬
‫السوداين‪،‬‬
‫ّ‬ ‫السوداين صوب الداخل‬‫ّ‬ ‫أنشطتها عرب دول اجلوار‬
‫باملرة من‬ ‫ال إىل تفتيت السودان وإخراجه ّ‬ ‫وهي أنشط ٌة هتدف أص ً‬
‫اإلرسائييل‪ .‬فهل يف‬ ‫يب‬‫ور يمكن أن يقوم به يف الرصاع العر ّ‬ ‫أي َد ٍ‬‫ّ‬
‫ّ‬
‫مهام كانت‬ ‫وسع إيران‪ ،‬وهل يف ن ّيتها أصالً‪ ،‬أن تدافع عن السودان ْ‬
‫مقتدر ُيعتمد عليه‪ ،‬أم‬ ‫ٌ‬ ‫حليف‬
‫ٌ‬ ‫املحاذير والكلفة؟ وهل هي فع ً‬
‫ال‬
‫َّأنا تستخدم السودان‪ ،‬وتعينه بام يتيحه هلا ظرفها‪ ،‬وبام متليه عليها‬
‫وأن إيران تعاين حال ّي ًا من وطأة العقوبات التي‬ ‫خاص ًة َّ‬
‫حاجتها؟ ّ‬
‫تتزايد عليها‪ ،‬ممّا أ ّدى إىل انخفاض إنتاجها النفطي بمعدّ ل مليون‬
‫برميل يف اليوم‪ ،‬إضاف ًة إىل انخفاض سعر ُعملتها‪.‬‬
‫•يتساءل كثري من السودان ّيني عن الكيفية التي ستتعامل هبا احلكومة‬
‫املرص ّية التي يديرها اإلسالم ّيون‪ ،‬وهي حكومة منتخبة‪ ،‬مع‬
‫احلكومة السودان ّية التي يديرها اإلسالم ّيون‪ ،‬وهي حكومة غري‬
‫عسكري‪ ،‬وتدّ عي‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫انقالب‬ ‫ال عن طريق‬ ‫منتخبة‪ ،‬وجاءت أص ً‬
‫ٍ‬
‫الرشع ّية لكوهنا جتري انتخابات شبيهة بالتي كانت ُترى يف‬
‫مرص يف عهد مبارك؟ كيف ستقف احلكومة املرص ّية يف الرصاع‬

‫‪239‬‬
‫طويل جدّ ًا بني احلكومة السودان ّية من جهة‪ ،‬وقوى‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ولوقت‬ ‫الدائر‪،‬‬
‫املعارضة وحركات اهلامش املس ّلحة من اجلهة األخرى؟ كيف ترى‬
‫اإليراين‬
‫ّ‬ ‫العسكري‬
‫ّ‬ ‫خاص ًة الوجود‬
‫اإليراين‪ّ ،‬‬‫ّ‬ ‫السوداين‬
‫ّ‬ ‫مرص التقارب‬
‫ال عىل أرايض السودان ومياهه؟ وال‬ ‫واملحتمل مستقب ً‬
‫َ‬ ‫القائم حال ّي ًا‬
‫ٌ‬
‫متداخل‬ ‫أن أمن مرص والسودان‬ ‫حاجة يب هنا إىل اإلشارة إىل َّ‬
‫اإليراين‬
‫ّ‬ ‫ال عضو ّي ًا نادر الشبيه‪ .‬كيف ترى مرص هذا التغلغل‬ ‫تداخ ً‬
‫القوة‬ ‫املرشحة لكي تصبح ّ‬ ‫املتعدِّ د الوجوه يف أفريقيا‪ ،‬ومرص هي ّ‬
‫اإلقليم ّية الرابعة يف املنطقة شأهنا شأن إرسائيل وتركيا وإيران؟ ويف‬
‫الوقت الذي نطرح فيه هذه التساؤالت (‪ ،)2013‬ترشح أخبار ّ‬
‫بأن‬
‫رس ًا مع اإليران ّيني مم ّثلني يف قاسم‬
‫حكومة مريس أخذت تتفاوض ّ‬
‫سليامين رئيس االستخبارات اإليران ّية أثناء زيارته للقاهرة‪ ،‬وذلك‬
‫املرصي‪،‬‬ ‫وأمني للسيطرة عىل اجليش‬ ‫ٍ‬
‫تعاون استخبارايت‬ ‫من أجل‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫لتثبيت أركان حكمها‪ .215‬وقد نفت احلكومة املرص ّية ذلك‪.‬‬
‫كل هذه التناقضات والتشابكات واختالط اجليوسرتاتيجي‬ ‫وسط ّ‬
‫اإلرسائييل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بالتكتيكي‪ ،‬ممّا و ّفر إليران موقع ًا معترب ًا يف الرصاع العر ّ‬
‫يب‬
‫‪-‬إيراين‪،‬‬ ‫يب‬ ‫ٍ‬
‫وتوافق عر ٍّ‬ ‫يب‪ ،‬من جهة‪،‬‬ ‫يب‪-‬عر ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫لتوافق عر ٍّ‬ ‫هل هناك فرصة‬
‫ٍّ‬
‫أساس من رشاكة‬ ‫ٍ‬ ‫من اجلهة األخرى‪ ،‬بشأن كيف ّية إدارة املنطقة عىل‬
‫القوة العربية التي‬ ‫الكل يف االنعتاق من ربقة اهليمنة وضعضعة ّ‬ ‫اهلدف ّ‬
‫يبش بانحسارٍ‬ ‫متارسها الواليات املتّحدة األمريك ّية؟ وهل هناك ما ّ‬
‫حقيقي لنزعات االستهداف املتبادل‪ ،‬عرب ّي ًا‪-‬عربي ًا‪ ،‬وعرب ّي ًا‪-‬إيران ّي ًا؟ أم‬
‫ٍّ‬
‫أن جهد مقاومة اهليمنة سوف يسري يف ُشعبتني‪ :‬إحدامها ضدّ اهليمنة‬ ‫َّ‬
‫األقل يف حرص العامل‬ ‫الغرب ّية واألخرى ضدّ اهليمنة اإليران ّية‪ ،‬أو عىل ّ‬
‫اإليراين يف منطقة الرشاكة اإلقليم ّية واالنتفاع املتبادل‪ ،‬ال اهليمنة‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪215. Hugh Tomlinson, “Iranian spy chief’s visit to Cairo was meant to ‘send a message‬‬
‫‪to America”, The Times (Middle East Issue), viewed 9/1/2013.‬‬
‫‪http://www.thetimes.co.uk/tto/news/world/middleeast/article3650461.ece.‬‬

‫‪240‬‬
‫خاتمة‬
‫السوداين إىل سبعينات القرن املايض عندما‬ ‫ّ‬ ‫اإليراين‬
‫ّ‬ ‫يعود التقارب‬
‫أنعشت الثورة اإليران ّية يف إسالم ّيي السودان آمال التثوير يف الوجهة‬
‫تأسست‬ ‫إن نظرة الدكتور الرتايب التي َّ‬ ‫اإلسالم ّية‪ .‬ويمكن القول ّ‬
‫عليها احلركة اإلسالم ّية يف السودان‪ ،‬نزعة عابرة لألقطار‪ ،‬وهي نزع ٌة‬
‫مؤسيس الدعوة اإلخوان ّية مثل سيد قطب‪ ،‬وهي‬ ‫راسخ ٌة يف فكر كبار ِّ‬
‫ال تزال ُمتبنّا ًة بواسطة التنظيم الدو ّيل لإلخوان املسلمني‪ .‬كان َس ْعي‬
‫مستهدف ًا إنشاء كتلة إسالم ّية ثالثة ملواجهة‬ ‫ِ‬ ‫الرتايب وال يزال (‪،)2013‬‬
‫يسمونه مقاومة‬ ‫اهليمنة الغرب ّية‪ ،‬ويلتقي ذلك بنهج اإليران ّيني يف ما ّ‬
‫السلطة‪ ،‬وأخفق‬ ‫أن الرتايب خرج من ُّ‬ ‫األمريكي‪ .‬غري َّ‬
‫ّ‬ ‫«االستكبار»‬
‫كل املستويات؛‬ ‫انقالب اإلسالم ّيني يف السودان يف حتقيق أهدافه عىل ّ‬ ‫ُ‬
‫واإلقليمي‪ ،‬والدو ّيل‪ ،‬كام ُحورص عرب ّي ًا‪ ،‬وأفريق ّي ًا‪ ،‬ودول ّي ًا‪ .‬وال‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫املحل‪،‬‬
‫تزال آل ّيات احلصار مطبق ًة عىل عنقه ويف الوقت نفسه أصبحت إيران‬
‫حمارص ًة ومعزول ًة بسبب برناجمها النووي‪ .‬يواجه السودان عزل ًة دول ّي ًة‬
‫وإقليم ّي ًة‪ ،‬وأزم ًة اقتصاد ّي ًة طاحن ًة بعد انفصال اجلنوب‪ ،‬وذهاب ريع‬
‫وقت‬‫البرتول‪ .‬وقد أصبح حكم اإلسالميني يف السودان‪ ،‬أكثر من أي ٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫خارجي‪ :‬فحكومتهم التي تقاتل اجلامعات‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫حاجة إىل ُمعني‬ ‫مىض‪ ،‬يف‬
‫ٍّ‬
‫كل‬ ‫ٍ‬
‫املس ّلحة يف خمتلف أقاليم السودان‪ ،‬يف حاجة إىل املال والسالح‪ّ .‬‬
‫خاص ًة يف‬‫اإليراين‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫السوداين‬
‫ّ‬ ‫هذه األوضاع جمتمع ًة قادت إىل التقارب‬
‫ٍ‬
‫ظل النظرة اخلليج ّية نحو حكومة السودان التي ال ختلو من ريبة ومن‬ ‫ّ‬
‫فتور‪ .‬فكيف سيفصل العرب بني التكتيكي واإلسرتاتيجي يف احتواء‬
‫حكومة اإلسالم ّيني يف السودان وحتجيمها من جهة‪ ،‬ويف بذل املال‬
‫والعون للحفاظ عىل ال ُقطر السوداين‪ ،‬من اجلهة األخرى؟‪.‬‬
‫عب ًا ممتاز ًا إلرسال األسلحة إىل قطاع‬
‫وجدَ ت إيران يف السودان َم َ‬

‫‪241‬‬
‫ال إقليم ّي ًا وزعام ًة إسالم ّي ًة لتظهر بمظهر ّ‬
‫القوة‬ ‫غزة‪ ،‬ممّا أعطاها ثق ً‬
‫ّ‬
‫الوحيدة اجلا ّدة عمل ّي ًا يف دعم قض ّية العرب املركز ّية يف فلسطني‪ .‬ولقد‬
‫ظ ّلت إيران تطلب هذه الزعامة اإلسالم ّية طلب ًا حثيث ًا‪ .‬ووجدت إيران‬
‫مرتكز ًا هلا يف البحر األمحر‪ ،‬وفرص ًة لتوسيع وتنويع نطاق منظومة‬
‫شك يف َّ‬
‫أن الدَّ ور‬ ‫الردع التي تقي هبا نفسها من رشور إرسائيل‪ .‬وما من ّ‬
‫اإليراين يف جنوب لبنان الذي ظهر يف قدرات حزب اهلل العسكر ّية‬ ‫ّ‬
‫اإليراين الذي ظهر يف حرب ‪،2012‬‬ ‫ّ‬ ‫يف حرب‪ ، 2006‬و َدور السالح‬
‫بني اإلرسائيل ّيني وحكومة محاس املقالة‪ ،‬قد أسهم إسهام ًا كبري ًا يف‬
‫اإلقليمي القريب‪ .‬وبوجود‬ ‫ّ‬ ‫قلب موازين القوى بني إرسائيل وحميطها‬
‫فإن هذا االنقالب يف ميزان القوى‬ ‫اإلسالم ّيني يف احلكم يف مرص‪َّ ،‬‬
‫أن هذا التحالف التكتيكي‬ ‫مرشح ملزيد من الزيادة‪ .‬غري َّ‬ ‫مع إرسائيل ّ‬
‫غزة ويف السودان‪ ،‬لن يقف يف قلبه‬ ‫بني إيران واإلسالم ّيني العرب يف ّ‬
‫آثار ممتدّ ةٍ‬
‫ملوازين القوى عند حدّ إرسائيل وحدها‪ .‬فهو بالقطع ذو ٍ‬
‫يب‪ ،‬ما مل تصبح‬ ‫القومي العر ّ‬
‫ّ‬ ‫تطال ما هو إسرتاتيجي يف منظومة األمن‬
‫يب‪ ،‬وفق معادلة متوازنة ال تبدل‬ ‫ال ملنظومة األمن العر ّ‬ ‫إيران جزء ًا ِّ‬
‫مكم ً‬
‫أن إجياد هذه املعادلة املتوازنة من‬ ‫هيمنة دولية هبيمنة إقليمية‪ .‬وال يبدو ّ‬
‫األحالم السهلة قريب املنال‪.‬‬
‫ظ َّلت الدول العرب ّية ّ‬
‫ترتصد بعضها بعض ًا‪ ،‬وتتآمر عىل بعضها بعض ًا‪،‬‬
‫أن دوالً عرب ّية‬
‫وتُضعف أمن بعضها بعض ًا‪ .‬ويف حالة السودان‪ ،‬نجد ّ‬
‫خاص ًة ليبيا أثناء حكم‬
‫ّ‬ ‫التمرد يف اجلنوب‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أسهمت يف دعم حركات‬
‫التمرد يف اجلنوب ويف دارفور ‪ .‬كام دعمت بعض‬
‫‪216‬‬
‫القذايف‪ ،‬إذ دعمت ّ‬
‫دول اخلليج مؤمتر القضايا املصري ّية يف أسمرا ‪ .1995‬ويورد وليد عبد‬
‫تعرضت‬ ‫أن الدول العرب ّية ّ‬ ‫أن البيانات الكم ّية املتوفرة ّ‬
‫تدل عىل َّ‬ ‫احلي َّ‬

‫السوداين عيل أحمد كريت لوكالة األنباء الكويتية يف ‪ 28‬نوفمرب ‪ ،2012‬لدى‬


‫ّ‬ ‫‪ .216‬ترصيح وزير الخارجيّة‬
‫زيارته مدينة بنغازي يف ليبيا‪.‬‬

‫‪242‬‬
‫األمني من جانب بعضها بعض ًا‪ ،‬يف الفرتة ما بني عام ‪1947‬‬
‫ّ‬ ‫للتهديد‬
‫كل ‪ 1.7‬سنة! وهو‬ ‫مرة ّ‬‫مرةً‪ ،‬أي بمعدّ ل ّ‬
‫وعام ‪ ،2010‬ما جمموعه ‪ّ 37‬‬
‫معدّ ل يؤكِّد عىل حالة عدم االستقرار يف العالقات العرب ّية البين ّية‪.217‬‬
‫نمر‬
‫فإن املرحلة التي ّ‬ ‫استناد ًا إىل هذا التاريخ من العدائ ّيات املتبادلة‪َّ ،‬‬
‫اإلسالمي‬ ‫يات جديد ًة غري مسبوقة‪ .‬فلو سار الت ّيار‬ ‫هبا اآلن‪ ،‬تطرح حتدّ ٍ‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫ثورات حتّى اآلن‪،‬‬ ‫يف وجهة إشعال الثورات يف الدول التي مل تشهد‬
‫وانرصف عن بناء الدولة الوطن ّية‪ ،‬معطي ًا األولو ّية لتحقيق حالة‬
‫ثور ّية إسالم ّية عا ّمة يف الدول العرب ّية مثلام كان ينوي حسن الرتايب‪،‬‬
‫استقطاب جديد ورصا ٍع جديد‪ ،‬غالب ًا ما‬ ‫ٍ‬ ‫فإن الباب سوف ينفتح عىل‬ ‫َّ‬
‫رصاع لن‬
‫ٌ‬ ‫إهدار ضخ ٍم للطاقات وللموارد وللوقت‪ .‬وهو‬ ‫ٍ‬ ‫يؤ ّدي إىل‬
‫يقف فيه الغرب مكتوف األيدي‪ ،‬وإنّام سيسعى للتأثري يف جمرياته‪ ،‬بام‬
‫خيدم أهدافه اإلسرتاتيج ّية يف املنطقة‪ .‬كام لن تقف فيه القوى األخرى‬
‫التي أصبحت تقاوم ُسلطة القطب ّية الواحدة‪ ،‬كروسيا والصني‪ ،‬مكتوفة‬
‫األيدي‪ .‬يضاف إىل ذلك القوى اإلقليمية املؤ ّثرة مثل إيران وتركيا‪.‬‬
‫جديدة من إهدار الطاقات‬ ‫ٍ‬ ‫ولذلك فربام يدخل الوطن العريب يف دو ٍ‬
‫امة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫جرت يف العقود‬ ‫ٍ‬
‫واملوارد والوقت مماثلة‪ ،‬من وجوه كثرية‪ ،‬لتلك التي َ‬
‫الثالثة األخرية من حقبة احلرب الباردة‪.‬‬
‫كبري؛ فكالمها ضح ّية اهليمنة‬
‫مشرتك ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َيمع بني العرب وإيران‬
‫كل مصلحةٍ‬ ‫الغرب ّية‪ ،‬وحماوالت فرض أجندهتا‪ ،‬ووضع مصاحلها فوق ّ‬
‫أن العرب وإيران رشكاء يف رسم اخلريطة اجليوسرتاتيجية‬ ‫إقليمية‪ .‬كام َّ‬
‫إقليمي دون األخذ يف االعتبار هذه‬
‫ٍّ‬ ‫للمنطقة‪ ،‬وال يمكن حتقيق ٍ‬
‫أمن‬
‫ألي حالة من‬ ‫األسايس ّ‬
‫ّ‬ ‫الرشاكة‪ .‬يرى عزمي بشارة‪َّ ،‬‬
‫أن «التشويه‬
‫حاالت العالقة‪ ،‬أكانت تنافس ًا أم تعاون ًا أم رصاع ًا‪ ،‬هو غياب طرفٍ‬

‫العريب كنظام مخرتق»‪ ،‬ورقة مقدّمة يف مؤمتر تح ّوالت جيوسرتاتيجية يف‬


‫‪ .217‬وليد عبد الحي‪« ،‬النظام ّ‬
‫سياق الثورات العرب ّية‪ ،‬املركز العر ّيب لألبحاث ودراسة السياسات‪ ،‬الدوحة‪.2012 /12/17-15 ،‬‬

‫‪243‬‬
‫إسرتاتيجي يف التنافس أو الرصاع أو‬
‫ّ‬ ‫موحد أو متّحد يف وضع‬ ‫يب ّ‬‫عر ٍّ‬
‫حتل اإلسالم ّيون‪،‬‬ ‫التعاون مع إيران» ‪ .‬ويف تقديري أنَّه بمقدار ما ّ‬
‫‪218‬‬

‫والر ِو ّية‬
‫الذين صعدوا إىل سدّ ة احلكم نتيج ًة للثورات العرب ّية‪ ،‬باحلكمة َّ‬
‫و ُبعد النظر واالنعتاق من قبضة اإليديولوجيا‪ ،‬ونزعة التثوير العابرة‬
‫لألقطار‪ ،‬بمقدار ما أمكن أن توضع العالقات اإليران ّية العرب ّية يف‬
‫إطارها اإلجيايب الصحيح واملنتج‪.‬‬
‫فإنا يف حاجة إىل‬ ‫أ ّما احلالة السودان ّية موضوع هذه الورقة‪ّ ،‬‬
‫إن احلكومات التي ال حتظى بشعب ّية حقيق ّية‪،‬‬‫معاجلة عرب ّي ٍة حكيمة‪ .‬إذ ّ‬
‫ٍ‬
‫والتي غالب ًا ما تفشل يف مواجهات حتد ّيات التنمية‪ ،‬وتفشل يف حتقيق‬
‫تضطر إىل اتّباع النهج‬
‫ّ‬ ‫االستقرار ويف االستجابة إىل تط ّلعات مواطنيها‪،‬‬
‫الرباغاميت الذي يتعامى عن الثوابت‪ .‬وختتلط األوراق يف هذا النهج‬
‫الرباغاميت اختالط ًا ذريع ًا‪ ،‬فيقيض اإلسرتاتيجي الطويل األمد نحبه‪،‬‬
‫عىل مذبح التكتيكي املؤ ّقت الذي ال يرى‪ ،‬بحكم حاجته الضاغطة‪،‬‬
‫سوى املخارج املؤ ّقتة‪.‬‬

‫‪ .218‬عزمي بشارة‪ ،‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.26‬‬

‫‪244‬‬
‫َمراجع الفصل الخامس‬

‫المَ راجع العربية‪:‬‬


‫عزمي بشارة‪ ،‬العرب وإيران‪ -‬مالحظات عا ّمة‪ ،‬يف‪« :‬العرب وإيران‪ :‬مراجعة يف التاريخ والسياسة»‬
‫(مجموعة كتاب)‪( ،‬الدوحة‪/‬بريوت‪ :‬املركز العر ّيب لألبحاث ودراسة السياسات‪.)2012 ،‬‬
‫أوليفييه روا‪ ،‬تجربة اإلسالم السيايس‪ ،‬ترجمة نصري مروه‪ ،‬ط‪( ،2‬بريوت‪ :‬دار الساقي‪.)1996 ،‬‬
‫الحضاري‪( ،‬الخرطوم‪ :‬مركز الدراسات السودانيّة‪.)2004 ،‬‬‫ّ‬ ‫حيدر إبراهيم‪ ،‬سقوط املرشوع‬
‫طالل عرتييس‪ ،‬الجمهوريّة الصعبة‪ :‬إيران يف تحوالتها الداخل ّية وسياساتها اإلقليم ّية‪( ،‬بريوت‪ :‬دار الساقي‪،‬‬
‫‪.)2006‬‬
‫محجوب الزويري‪ ،‬إيران والعرب يف ظالل الدين والسياسة عرب التاريخ‪ ،‬يف‪ :‬العرب وإيران‪ :‬مراجعة يف‬
‫التاريخ والسياسة‪ ،‬مجموعة باحثني‪( ،‬الدوحة‪/‬بريوت‪ :‬املركز العر ّيب لألبحاث ودراسة السياسات‪.2012 ،‬‬
‫وجيه كوثراين‪ ،‬اإلدراك املتبادل بني العرب واإليران ّيني‪ ،‬يف‪ :‬العالقات العرب ّية اإليران ّية ‪ -‬االتجاهات الراهنة‬
‫وآفاق املستقبل‪ :‬بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظّمها مركز دراسات الوحدة العرب ّية بالتعاون‬
‫مع جامعة قطر‪( ،‬مجموعة مؤلفني)‪ ،‬ط ‪( ،2‬مركز دراسات الوحدة العربيّة‪.2001 ،‬‬
‫اإلسالمي واإلصالح‪ :‬التجربتان العثامنية واإليران ّية‪( ،‬بريوت‪ ،‬الدار العرب ّية‬
‫ّ‬ ‫السيايس‬
‫ّ‬ ‫مهند مبيضني‪ ،‬الفكر‬
‫للعلوم‪.2008 ،‬‬
‫عبد الوهاب األفندي‪ ،‬السودان إىل أين‪ ،‬يف‪ :‬العرب وجوارهم‪ ..‬إىل أين؟‪( ،‬بريوت‪ :‬مركز دراسات الوحدة‬
‫العرب ّية‪.2002 ،‬‬
‫املحبوب عبد السالم‪ ،‬الحركة اإلسالم ّية السودان ّية‪ :‬دائرة الضوء خطوط الظالم‪ ،‬تأمالت يف العرشيّة األوىل‬
‫لعهد اإلنقاذ‪( ،‬القاهرة‪ :‬مكتبة جزيرة الورد‪.2009 ،‬‬
‫السلطة من مذكرة العرشة إىل‬ ‫عبد الرحيم عمر محي الدين‪ ،‬رصاع الهوى وال ُهويّة‪ ،‬فتنة اإلسالم ّيني يف ُّ‬
‫مذكرة التفاهم مع قرنق‪ ،‬مطبعة (دمشق‪ :‬دار عكرمة‪.)2006 ،‬‬
‫العاملي للحركة اإلسالم ّية‪ :‬التجربة السودان ّية‪ ،‬يف «الحركة اإلسالم ّية‪ :‬رؤية مستقبل ّية‪..‬‬
‫ّ‬ ‫حسن الرتايب‪ ،‬البعد‬
‫أوراق يف النقد الذايت»‪ ،‬عبد الله فهد النفييس (محرر)‪( ،‬الكويت‪.1989 ،‬‬
‫فاطمة الصامدي‪ ،‬إيران واملقاومة‪ :‬تح ّوالت السياسة واملجتمع تقاوم شعارات الثورة وتفرض أولويّات‬
‫جديدة‪ ،‬يف العرب وإيران‪ :‬مراجعة يف التاريخ والسياسة» (مجموعة كتّاب)‪( ،‬الدوحة‪/‬بريوت‪ :‬املركز العر ّيب‬
‫لألبحاث ودراسة السياسات‪.2012 ،‬‬
‫املحبوب عبد السالم‪ ،‬الحركة اإلسالم ّية السودان ّية‪ :‬دائرة الضوء خطوط الظالم‪ ،‬تأ ّمالت يف العرش ّية األوىل‬
‫لعهد اإلنقاذ‪( ،‬القاهرة‪ :‬مكتبة جزيرة الورد‪.2009 ،‬‬
‫أحمد البغدادي‪ ،‬الوطن يف فكر جامعة اإلخوان املسلمني‪ ،‬يف اإلخوان املسلمون يف الخليج‪ ،‬مجموعة‬
‫مؤلفني‪( ،‬ديب‪ :‬مركز املسبار للدراسات والبحوث‪.195 210 ،‬‬
‫منصور خالد‪ ،‬جنوب السودان يف املخيلة العرب ّية‪ :‬الصورة الزائفة والقمع التاريخي‪( ،‬لندن‪ :‬دار تراث‬
‫للنرش‪.)2000 ،‬‬
‫اإلسالمي السودا ّين‪ :‬قراءات يف الفكر واملامرسة‪( ،‬الخرطوم‪ :‬معهد‬ ‫ّ‬ ‫املرشوع‬ ‫كتاب‪،‬‬ ‫يف‬ ‫عمر‪،‬‬ ‫أمني حسن‬

‫‪245‬‬
‫البحوث والدراسات االجتامع ّية‪ ،)1995 ،‬ص ‪.23‬‬
‫فتحي الضو‪ ،‬الخندق‪ :‬أرسار دولة الفساد واالستبداد يف السودان‪( ،‬القاهرة‪ :‬مكتبة جزيرة الورد‪.2012 ،‬‬
‫فتحي الضو‪ ،‬السودان‪ :‬سقوط األقنعة‪( ،‬د‪ .‬ن‪ ،‬د‪ .‬ت)‪ ،‬ص ‪.365‬‬
‫وليد عبد الحي‪« ،‬النظام العر ّيب كنظام مخرتق»‪ ،‬ورقة مقدّمة يف مؤمتر تح ّوالت جيوسرتاتيجية يف سياق‬
‫الثورات العرب ّية‪ ،‬املركز العر ّيب لألبحاث ودراسة السياسات‪ ،‬الدوحة‪.2012 /12/17-15 ،‬‬

‫المَ راجع اإلنجليزية‪:‬‬


‫‪J. Millard Burr & Robert Collins, Revolutionary Sudan: Hassan al_Turabi and Islamic State, The‬‬
‫‪Netherlands: Koninkklyke Brill NV, Leiden, 2003).‬‬
‫‪Robert O. Collins, A History of Modern Sudan, Cambridge University Press, Cambridge, UK‬‬
‫‪2010.‬‬
‫‪Khalid Al-Mubarak, Turabi's Islamist Venture, Eldar El Thagafia, Cairo, 2001.‬‬

‫‪246‬‬
‫الفصل السادس‬

‫‪‬‬

‫لم َي ْب َق سوى التوليف!‬


‫جرى نرش هذه الورقة يف كتاب‪« ،‬هل ميكن تجديد الحزب الشيوعي‬
‫السوداين؟» (تحرير صديق الزيلعي)‪ ،‬مركز آفاق جديدة للدراسات‪.2016 ،‬‬

‫مقدمة‬
‫«التوليف» هو إعادة تركيب أجزاء من أشياء خمتلفة‪ ،‬ل َينتُج منها‬
‫يش ٌء واحدٌ جديد‪ .‬و َيستخدم مكيانيكيو السيارات السودانيون هذه‬
‫العبارة‪ ،‬حني يركِّبون ماكينة سيارة من طراز ما‪ ،‬أو أي جزء من‬
‫«و ّلفنا‬
‫«و ّلفنا ليها َمكَنة»‪ ،‬أو‪َ ،‬‬
‫أجزائها‪ ،‬لسيارة من طراز آخر‪ ،‬فيقولون‪َ :‬‬
‫ليها جريبوكس»؛ يعنون‪ ،‬أهنم جعلوا اجلزء الغريب عنها‪ ،‬يتوافق معها‪.‬‬
‫وتدل عىل هذا الفعل يف اإلنجليزية عدة كلامت؛ منها‪ synthesis :‬و‬ ‫ّ‬
‫‪ ،amalgamation‬و‪ combination‬وغريها من الكلامت املتشاهبات‬
‫املعنى‪ ،‬التي تعني املزاوجة‪ ،‬واخللط‪ ،‬والرتكيب‪ ،‬والتوليف‪.‬‬
‫الغرض من اختيار كلمة «توليف» يف العنوان عىل َصدْ ر هذه املقالة‪،‬‬

‫‪247‬‬
‫سببه االعتقاد بأن العامل بأرسه‪ ،‬ونحن من ضمنه بطبيعة احلال‪ ،‬نقف‪،‬‬
‫ٍ‬
‫جديد متام ًا‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫منعطف‬ ‫توجهاتنا الفكرية والسياسية‪ ،‬عند‬
‫اآلن‪ ،‬بمختلف ُّ‬
‫ُيتّم علين ًا‪ ،‬مجيع ًا‪ ،‬إعادة النظر‪ ،‬يف ما كان سائد ًا‪ ،‬عىل نطاق واسع‪ ،‬حتى‬
‫إيامن بحتم ّية نبوءات اإليديولوجيات‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫هنايات القرن العرشين‪ ،‬من‬
‫أصبحت‪ ،‬أكثر ميالً‪ ،‬مؤخر ًا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫خاصة وسط الشيوعيني‪ِ .‬‬
‫فمن جانبِي‪،‬‬
‫إىل الظ ّن بأننا يف السودان بحاجة إىل مقاربة توليفية‪ ،‬نَخرج هبا من نطاق‬
‫النظريات الكلية‪ ،‬ونَخرج هبا‪ ،‬يف نفس الوقت‪ ،‬من َأ ْس التاريخ النضايل‬
‫للحزب الذي ننتمي إليه‪ ،‬وننفلت هبا من جممل العواطف التي تشدُّ نا إىل‬
‫الرتاث النضايل ألحزابنا‪ ،‬وإىل ما استثمرناه فيه من جهد‪ .‬ولربام أجرؤ‬
‫فأقول‪ ،‬إننا بسبب انغراس أقدامنا يف توارخينا الشخصية نَب ُلغ أحيان ًا‬
‫درجة فقدان الرؤية‪ ،‬فنصبح أرسى هلذه التواريخ إىل درجة العبادة‪،‬‬
‫ودرجة فقدان القدرة عىل رؤية اهلدف احلقيقي من العمل السيايس‪.‬‬
‫تقتيض اللحظة الراهنة‪ ،‬يف ما يبدو يل‪ ،‬أن نعمل مجيع ًا‪ ،‬بذهن‬
‫مفتوح‪ ،‬عىل إعادة تعريف اخلطوط «الومهية» التي ظ ّلت تفصل بني‬
‫ضمتنا‪ ،‬التي تندرج حتت مظلة اليسار السوداين‪،‬‬
‫خمتلف التنظيامت التي ّ‬
‫العريض‪ ،‬وظ ّلت رغم اتفاقاهتا يف أمور جوهرية‪ ،‬تعمل يف خطوط‬
‫تنظيمية متوازية‪ ،‬بل يسود عالقتها العداء‪.‬‬
‫بنا ًء عليه‪ ،‬ربام أمكن القول‪ ،‬منذ البداية‪ ،‬إن الالفتات القديمة التي‬
‫تقسمت حتتها قوى اليسار‪ ،‬كاحلزب الشيوعي السوداين‪ ،‬وحزب‬ ‫ّ‬
‫البعث العريب االشرتاكي‪ ،‬واحلزب النارصي‪ ،‬وتنظيم اجلمهوريني‪،‬‬
‫واملستق ّلني‪ ،‬ومؤخر ًا حزب املؤمتر السوداين‪ ،‬وغري هذه من التنظيامت‬
‫اجلهوية التي ظ ّلت تعمل يف انتزاع حقوق الناس‪ ،‬ومصري البلد‪ ،‬من‬
‫بمؤسساهتا االقتصادية والعقدية القابضة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫قوى املركز التقليدية؛‬
‫وشبكات مصاحلها‪ ،‬مل تعد اآلن صاحلة كأطروحات‪ ،‬وال كأوعية‬
‫تنظيمية حزبية‪ ،‬لكل حزب عىل حده‪ ،‬إلنجاز هذه املهمة التارخيية‪ .‬فقد‬

‫‪248‬‬
‫حتوالت كبرية يف الطروحات النظرية عىل املستوى الكوكبي‪ ،‬من‬‫جرت ّ‬ ‫َ‬
‫حتوالت يف البنى احلزبية التنظيمية‪،‬‬
‫وجرت‪ ،‬من اجلهة األخرى‪ّ ،‬‬‫جهة‪َ ،‬‬
‫عىل املستوى املحيل‪ ،‬أبرزت فقرها الفكري واألدائي‪ ،‬ورشذمتها‪ ،‬وقلة‬
‫فاعليتها‪ .‬ولقد أصبح من الرضوري‪ ،‬يف تقديري‪ ،‬إجياد صيغة توليفية‪،‬‬
‫تَنتُج منها جبهة عريضة‪ ،‬ذات مرونة فكرية وتنظيمية أكرب‪ .‬ولسوف‬
‫التصور‪ ،‬يف اجلزء األخري من هذه الورقة‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫أعود إىل رشح هذا‬
‫أنوه‪ ،‬منذ البداية‪ ،‬أن هذه الورقة ليست ورقة أكاديمية‪،‬‬ ‫أحب أن ِّ‬
‫ُّ‬
‫ومل أقصد أن أكتبها‪ ،‬عىل غرار األوراق األكاديمية‪ .‬فهي جمرد إسهام‬
‫تفضل بطرحه‪ ،‬األستاذ‬ ‫بالرأي يف حماولة لإلجابة عىل السؤال الذي َّ‬
‫صديق الزيلعي‪ ،‬عىل مجلة من ال ُكتّاب واألكاديميني السودانيني‪ ،‬وهو‪:‬‬
‫دت أن ختلو‬ ‫تعم ُ‬
‫«هل يمكن جتديد احلزب الشيوعي السوداين؟»‪ .‬وقد ّ‬
‫ال أن تتداعى أفكاري فيها تداعي ًا حر ًا‪،‬‬
‫مفض ً‬
‫هذه الورقة من أي مراجع‪ّ ،‬‬
‫وأن ال أنشغل بالتوثيق الداعم ملا أقول‪ ،‬من األدبيات السابقة‪ .‬فالورقة‬
‫وتلمس َم َرج من حالة االرتباك السياسية القائمة اآلن‪.‬‬ ‫ورقة مفاكرة ُّ‬
‫ولذلك‪ ،‬فحني أشري إىل آراء مفكرين‪ ،‬أو كُتاب‪ ،‬بعينهم‪ ،‬أو تيار بعينه‪،‬‬
‫فإن ذلك سوف جيري مني‪ ،‬مثلام جيري من أي شخص يتحدث حديث ًا‬
‫عام ًا‪ ،‬طازج ًا‪ ،‬يف قضية ما‪ .‬فالورقة متثل يف مجلتها وجهة نظري‪ ،‬وهي‬
‫مبنية عىل املعايشة الشخصية اللصيقة للحراك السيايس السوداين‪ ،‬الذي‬
‫انخرطنا فيه منذ أن كنّا طالب ًا يف املدارس الثانوية‪ ،‬يف عقد الستينات‬
‫حتوالته يوم ًا بيوم‪ ،‬حتى انقالب اإلسالميني‬ ‫من القرن املايض‪ ،‬وتاب ْعنا ّ‬
‫يف يونيو ‪ ،1989‬الذي دفع بكثريين منا إىل املهاجر‪ .‬وحتى من وجهة‬
‫فإن جيلنا وأجيال من سبقونا ُت َعدّ َمصدَ ر ًا من‬
‫النظر األكاديمية البحتة‪ّ ،‬‬
‫مصادر التاريخ السيايس السوداين‪ ،‬ملرحلة ما بعد االستقالل‪ ،‬بحكم‬
‫مدى‬‫الناشطية السياسية‪ ،‬واالنخراط اليومي‪ ،‬يف العراك السيايس‪ ،‬عىل ً‬
‫َراوح‪ ،‬مع اختالف أعامر األفراد‪ ،‬بني ربع القرن ونصفه‪.‬‬ ‫زمني ت َ‬
‫ٍّ‬

‫‪249‬‬
‫تبدُّل الخريطة الفكري‪/‬سياسية‬
‫لقد تبدّ لت يف هنايات القرن العرشين‪ ،‬اخلريطة الفكري‪/‬سياسية‬
‫الكوكبية‪ ،‬التي سادت قسطا كبري ًا من عقود القرن العرشين‪ ،‬تبدُّ الً‬
‫جوهري ًا‪ .‬وقد قاد هذا التبدّ ل الكبري‪ ،‬الكثريين إىل إعادة النظر يف‬
‫خرائط الطريق‪ ،‬التي رسمت للنضال مسار ًا ُم َتنَ ّب ًأ بمنعرجاته‪ ،‬ومآالته‪،‬‬
‫كل من املاركسية واللينينية رسم خارطة طريق‬ ‫مسبق ًا‪ .‬ولقد تقاسمت ٌّ‬
‫ملراحل نضالية‪ ،‬آمن معتنقو تلك النظرية‪ ،‬ذات الش ّقني‪ ،‬أهنا مفضية‪ ،‬ال‬
‫استمرت الشيوعية الدولية بمختلف‬ ‫ّ‬ ‫حمالة‪ ،‬إىل مرحلة الشيوعية‪ .‬ولقد‬
‫معسكراهتا تعمل وفق ًا خلارطة الطريق تلك‪ ،‬عامل ًة عىل استكامل الثورة‬
‫داخل كتلة الدول الشيوعية‪ .‬وعامل ًة‪ ،‬من ناحية أخرى‪ ،‬عىل مدّ ذراعها؛‬
‫تبشري ًا ودعاي ًة‪ ،‬ورصاع ًا مسلح ًا ضد اإلمربيالية العاملية‪ ،‬من أجل أن‬
‫تنداح الثورة يف كل أرجاء العامل‪ .‬حققت الشيوعية إنجازات هائلة يف‬
‫عقودها األربعة األوائل‪ ،‬وبلغت عقب احلرب العاملية الثانية من القوة‬
‫العسكرية‪ ،‬ما جعلها تقسم العامل إىل كتلتني‪ ،‬شبه متكافئتني‪ ،‬من حيث‬
‫القوة العسكرية‪ ،‬ما جعل كل واحدة منهام تعمل لألخرى ألف حساب‪.‬‬
‫ولكي نكون منصفني‪ ،‬ال بدّ لنا من القول‪ ،‬إن التفكري الدوغامئي‬
‫واالعتقاد يف احلتميات‪ ،‬مل يكونا حكر ًا عىل جهة‪ ،‬دون أخرى‪ .‬فالنزعة‬
‫التنبؤية‪ ،‬التي ترسم للتاريخ مراحل‪ ،‬وتزعم لنفسها صفة ِ‬
‫«الع ْلم ّية»‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ليست وقف ًا عىل الفكر االشرتاكي وحده‪ ،‬كام هو احلال يف املاركسية‬
‫اللينينية‪ .‬إذ شملت تلك النزعة‪ ،‬بعض مفكّري الرأساملية‪ ،‬بعد أن ثملوا‬
‫بحدث اهنيار الكتلة الشيوعية املفاجئ‪ ،‬الرسيع‪ ،‬وبعودة اقتصاداهتا‪،‬‬
‫إىل حضن الرأساملية واقتصاد السوق‪ .‬وكان أول وأكرب من انزلق‬
‫من مفكري املعسكر الرأساميل يف حفرة النبوءات احلتمية‪ ،‬األكاديمي‬
‫األمريكي املرموق‪ ،‬فرانسيس فوكوياما‪ ،‬حني أعلن إن الرأساملية‬

‫‪250‬‬
‫واقتصاد السوق مها هناية التاريخ‪ ،‬يف مقالة له هبذا املعنى‪ ،‬لفتت األنظار‬
‫حال صدورها‪ ،‬وحتولت برسعة إىل كتاب‪ ،‬تل ّقفته ماليني األيادي‪.‬‬
‫نرش فوكوياما‪ ،‬يف عام ‪ 1992‬كتابه الشهري‪« ،‬هناية التاريخ واإلنسان‬
‫مبش ًا بأن التاريخ ال حمالة م ٍ‬
‫نته داخل بنية النظام الرأساميل‪.‬‬ ‫األخري»‪ِّ ،‬‬
‫ُ‬
‫فال صيغة من الصيغ الفكري‪/‬سياسية‪ ،‬يمكن أن تعقب الديمقراطية‬
‫الليربالية واقتصاد السوق‪ .‬غري أن فوكوياما ما لبث أن تراجع عن تلك‬
‫النبوءة املتعجلة‪ ،‬التي مل تصمد لديه سوى لبضع سنوات‪ ،‬إذ أصدر يف‬
‫سنة ‪ 1995‬كتابه «الثقة‪ :‬القيم االجتامعية وصناعة االزدهار»‪ ،‬الذي‬
‫عدَ ل فيه عن رؤيته السابقة‪ ،‬مؤكد ًا أن الثقافة ال يمكن فصلها عن‬
‫راجع فوكوياما نبوءته بنهاية التاريخ يف الصيغة الرأساملية‪،‬‬ ‫االقتصاد‪َ .‬‬
‫والديمقراطية الليربالية‪ ،‬بعد ثالث سنوات فقط‪ .‬هذا‪ ،‬يف حني‬
‫صمدت نبوءة الشيوعيني وسطهم‪ ،‬قرابة القرن‪ ،‬وال تزال صامدة‬
‫وسط العقائديني املتعصبني منهم‪ ،‬إىل يومنا هذا‪.‬‬
‫التع ّلق بنظرية متكاملة األركان؛ فلسفي ًا واقتصادي ًا واجتامعي ًا‪،‬‬
‫كالنظرية املاركسية‪ ،‬إضافة إىل التعلق بخارطة الطريق التي رسمتها‬
‫اللينينية ملسار الثورة‪ ،‬عرب مراحل بعينها‪ ،‬جيعل من الصعب جد ًا عىل‬
‫ينفك يكرب عىل جلباب النَّص‪،‬‬ ‫معتنقيها قبول حقيقة أن جسد الواقع ال ّ‬
‫أ ّيا كان ذلك النَّص‪ .‬كام أن العقائديني اجلامدين من معتنقي النظريات‬
‫الكلية ربام صعب عليهم‪ ،‬أيام صعود تلك النظريات‪ ،‬االنتباه إىل التنوع‬
‫الكبري الذي يزخر به هذا الواقع اإلنساين الكوكبي‪ ،‬العريض‪ ،‬الذي تقف‬
‫وراءه تواريخ خمتلفة‪ ،‬وثقافات خمتلفة‪ .‬وهذا هو ما انتبه إليه فوكوياما‪،‬‬
‫حني راجع نبوءته بأن النموذج الغريب هو النموذج اخلاتم‪ ،‬ولكنه رسعان‬
‫إن االقتصاد ال يمكن أن يعمل بمعزل عن الثقافة‪.‬‬ ‫ما تراجع‪ ،‬وقال‪ّ ،‬‬
‫عدم القدرة عىل قبول إمكانية إخفاق النظرية الكلية‪ ،‬كلي ًا‪ ،‬أو جزئي ًا‪،‬‬

‫‪251‬‬
‫ينطبق عىل العلامنيني‪ ،‬كام ينطبق عىل املتدينني‪ .‬ولذلك غالب ًا ما متر فرتة‬
‫كثري من أتباع‬‫من الوقت‪ ،‬عقب اهنيار جتربة احلكم لنظرية ما‪ ،‬يقع فيها ٌ‬
‫تلك النظريات يف حضن اإلنكار؛ أعني‪ ،‬اإلنكار باملعنى السيكولوجي‬
‫عب عنه باللغة اإلنجليزية بالـ ‪ .denial‬غري أن‬ ‫للكلمة؛ أي‪ ،‬املعنى ا ُمل َّ‬
‫من يامرسون فعل اإلنكار هذا‪ ،‬ال يو ّدون أن َيبدوا جمرد منكرين‪ ،‬أو‬
‫أهنم إنام يغالبون أزمة نفسية‪ ،‬ال غري‪ .‬لذلك‪ ،‬فهم يتجهون لكي جيدوا‬
‫ألنفسهم ذريع ًة موضوعي ًة يتمرتسون وراءها‪ .‬وهنا يتولد تلقائي ًا الزعم‬
‫ويمر الزمن‪،‬‬‫ّ‬ ‫بأن النظرية صحيحة‪ ،‬ولكن اخلطأ كان يف التطبيق‪.‬‬
‫ويتضح أن هذه نفسها‪ ،‬ليست سوى مغالطة‪ ،‬مبعثها أوالً وأخري ًا‪ ،‬عدم‬
‫القدرة عىل مواجهة حقيقة أن األساس النظري نفسه كان فيه ٌ‬
‫خلل‪،‬‬
‫وأن التفسريات والنبوءات التي قامت عليه كانت‪ ،‬هي األخرى‪،‬‬
‫ال يف صلب األساس‬ ‫خاطئة‪ ،‬تبع ًا للخطأ اجلوهري‪ ،‬املوجود أص ً‬
‫النظري‪ .‬فكثري من الشيوعيون السودانيني وقعوا يف حفرة اإلنكار هذه‪.‬‬
‫ويدخل اآلن‪ ،‬هذه احلفرة ذاهتا‪ ،‬كثري من إسالم ّيي السودان الذين حني‬
‫رأوا مرشوعهم تتداعى فصول اهنياره تباع ًا‪ ،‬واحد ًا وراء اآلخر‪ ،‬وبدا‬
‫للعيان أن املرشوع‪ ،‬ك ّله‪ ،‬حتول إىل مستنقع ضخم من الفساد الذي ُيزكم‬
‫ٍ‬
‫بؤس يف‬ ‫للحريات‪ ،‬مع‬ ‫ٍ‬ ‫األنوف‪ ،‬واستحال يوم ًا بعد يوم إىل ٍ‬
‫خنق متزايد ّ‬
‫اإلنجازات‪ ،‬ختندقوا وراء القول إن املرشوع صالح‪ ،‬ولكن اخلطأ كان‬
‫يف التطبيق‪ ،‬ويف األفراد الذين قادوا العمل يف املرشوع‪.‬‬
‫ال ينتبه العقائديون‪ ،‬بحكم إيامهنم املطلق بنظرياهتم‪ ،‬أن للواقع‪،‬‬
‫يف بعض األحيان‪ ،‬انبثاقات مفاجئة‪ ،‬ال يمكن التنبؤ هبا‪ ،‬وأن هذه‬
‫االنبثاقات تصل حدّ أن جتعل نصوص النظريات الكلية‪ ،‬وخرائط‬
‫طريقها‪ ،‬جمرد حرب عىل ورق‪ .‬وهذا هو ما حدث للنظرية املاركسية‬
‫يف النصف الثاين من القرن العرشين‪ ،‬ولتجارب تطبيقها يف الكتلة‬
‫الشيوعية؛ بش ّقيها السوڤييتي والصيني‪.‬‬

‫‪252‬‬
‫السرديات الكبرى‬
‫أفول نجم َّ‬
‫لقد تبدّ ت‪ ،‬عرب ما يزيد من القرن من الزمان‪ ،‬حقائق جوهرية‪.‬‬
‫والتطورات الفكرية الالحقة‪ ،‬إضافة إىل تطور‬ ‫ّ‬ ‫أبرزت هذه احلقائق‬
‫الواقع املوضوعي نفسه‪ ،‬أن الرسديات الكربى أضحت تواجه مشكلة‪.‬‬
‫فقد تطورت املاركسية إىل ما ُس ّمي «اليسار اجلديد»‪ ،‬غري أنه مل يستطع‬
‫أن يمدّ د يف عمر النظرية األم‪ .‬ولقد أبرزت هذه التطورات الفكرية‪،‬‬
‫والتطبيقية‪ ،‬العلمية‪ ،‬قصور الفلسفة املاركسية‪ ،‬كنظرية كلية متكاملة‬
‫األركان‪ ،‬بوصفها أونطولوجيا هنائية‪ ،‬أو شبه هنائية‪ ،‬لتفسري العامل‬
‫كظاهرة؛ عىل مستوى الطبيعة‪ ،‬أو نظرية اقتصادية اجتامعية لتفسري وتسيري‬
‫تتطور إال داخل مقوالهتا األساسية‪.‬‬
‫السلوك البرشي‪ .‬وأهنا‪ ،‬من ثم‪ ،‬ال ّ‬
‫لقد أخذ الفكر البرشي خيرج‪ ،‬منذ بدايات الربع األخري من القرن‬
‫«السديات الكربى» ‪،Grand narratives‬‬ ‫سمى َّ ْ‬ ‫العرشين‪ ،‬من قبضة ما ُي ّ‬
‫أو ‪ .Master Narratives‬ويرى جان فرانسوا لويتار أن الرسديات‬
‫الكربى التي تزعم لنفسها شموالً كوكبي ًا عابر ًا ألقاليم اجلغرافيا‬
‫والتاريخ والثقافة‪ ،‬مل يعد يعتدّ بصواهبا يف حقبة ما بعد احلداثة‪ِ .‬‬
‫ففكْر‬ ‫ُ‬
‫ما بعد احلداثة يتحدث عن رضورة االنحصار يف رسديات صغرية؛‬
‫‪َ micronarratives‬س َّمها لويتار بالفرنسية ‪ ،petits récits‬وتعني‪:‬‬
‫التم ُّثالت النظرية املحلية‪ ،‬لنطاقات حمدودة‪ ،‬ليس ألي منها ا ّدعاء‬
‫بامتالك وضعية احلقيقة الكونية‪ ،‬أو العاملية‪ .‬ورغم أن النقاد يرون أن ما‬
‫يقول به لويتار يمكن أن يمثل‪ ،‬هو اآلخر‪ ،‬رسدي ًة من نو ٍع جديد‪ ،‬ورغم أن‬
‫ن ّقاد ًا آخرين يرون يف ما يقوله لويتار يمثل ترسيخ ًا للمركزية األوروبية‪،‬‬
‫إال أن الواقع العميل‪ ،‬قد أخذ يشري‪ ،‬رغم تلك االنتقادات‪ ،‬إىل أن أقطار‬
‫ال إىل أن تدير أمورها‪ ،‬مركِّزة عىل واقعها‬ ‫العامل‪ ،‬قد أصبحت أكثر مي ً‬
‫موجهات الرسديات الكربى‪.‬‬ ‫املحيل‪ ،‬ورسدياهتا املحلية‪ ،‬بعيد ًا عن ِّ‬

‫‪253‬‬
‫لقد أصبح السياسيون يف كثري من دول العامل النامي‪ ،‬أكثر مي ً‬
‫ال‬
‫إىل هنج السياسات العامة‪ ،‬التي تستند عىل األبحاث األكاديمية‪،‬‬
‫التي جتري يف البيئات القطرية املحلية‪ ،‬يف نطاق التواريخ املحلية‪،‬‬
‫ورسديات الثقافات املحلية‪ .‬وال يعني ذلك أن أقطار العامل أخذت‬
‫تنعزل عن بقية ما جيري يف العامل‪ .‬وإنام يعني‪ ،‬أن امليل أصبح يتجه أكثر‬
‫إىل إدارة االرتباطات اخلارجية‪ ،‬ذات الصلة بخطط النمو االقتصادي‬
‫واالجتامعي‪ ،‬وعموم حراك التحديث‪ ،‬بام خيدم املصلحة العامة ألهل‬
‫أي إدارة شؤون التنمية االقتصادية واالجتامعية‪ ،‬بعيد ًا‬‫املعي‪ْ .‬‬
‫القطر َّ‬
‫أي تش ّعبات ترهن حراك التنمية والتحديث الداخلية‪ ،‬إىل رسدية‬ ‫عن ّ‬
‫كربى شاملة‪ ،‬أو إىل أجندات ذات ُبعد ثوري أو إصالحي كوكبي‪ ،‬أو‬
‫خدمة أجندات عابرة لألقطار‪.‬‬
‫ال يعني هذا أال حاجة إىل التنظيم السيايس من إطار مرجعي يستند‬
‫إليه‪ ،‬بل بالعكس من ذلك متام ًا‪ ،‬ال بد لكل تنظيم سيايس من إطار‬
‫موجهات ذلك اإلطار‬ ‫مرجعي يستند إليه‪ .‬لكن‪ ،‬ال بدّ من التعامل مع ّ‬
‫املرجعي بمرونة كبرية‪ .‬فإقامة نظام اشرتاكي ديمقراطي‪ ،‬واالحتكام‬
‫وتغول الرأسامل‪ ،‬مهم جد ًا‪.‬‬
‫تغول الدولة ّ‬‫إىل دستور حيمى األفراد من ّ‬
‫لكن ال بدّ من االنفتاح الفكري والتنظيمي الذي جيعل قطاع ًا عريض ًا‬
‫ممن ينتمون إىل تيارات فكرية متباينة‪ ،‬قادرين عىل االتفاق عىل برنامج‬
‫حدٍّ أدنى‪ ،‬يدعم حكم القانون‪ ،‬وحرية االعتقاد والرأي والتعبري‪،‬‬
‫ويدعم العمل‪ ،‬يف املدى القصري‪ ،‬عىل بناء أركان الدولة احلديثة‪،‬‬
‫وتثبيت قواعدها‪.‬‬
‫لقد اهنارت الكتلة الشيوعية‪ ،‬واهنارت معها منظومة األحالم‬
‫الكوكبية الكبرية عابرة األقطار‪ .‬ويف الوقت الذي كانت فيه الكتلة‬
‫الشيوعية ترتاجع باطراد‪ ،‬كانت أقطار أخرى‪ ،‬أقل حج ًام‪ ،‬وذات‬
‫اقتصادات رأساملية نامية‪ ،‬تتقدم‪ ،‬وبرسعة كبرية‪ ،‬فتنقل املاليني‬

‫‪254‬‬
‫من مواطنيها من حتت خط الفقر‪ ،‬إىل ما فوقه‪ ،‬وبمعدالت تتنامى‬
‫باستمرار‪ .‬ومتثل هذا النموذج دول النمور اآلسيوية‪ ،‬والربازيل‪،‬‬
‫واهلند‪ .‬وانضمت إىل هذا الركب الصني‪ ،‬بعد أن ختلت عن الطروحات‬
‫االقتصادية املاركسية‪ ،‬وأخذت تنخرط يف صيغة التطور الرأساميل‪ ،‬مع‬
‫اإلبقاء عىل الشمولية املاركسية‪ ،‬املاوية‪ ،‬وقبضتها احلديدية املوروثة‪،‬‬
‫كموجه وحارس حلراك التنمية وفق صيغة االقتصاد احلر‪ .‬فقد بقي‬ ‫ِّ‬
‫مرص ًا عىل الشكل التنظيمي الشيوعي القديم‬
‫احلزب الشيوعي الصيني ّ‬
‫كسلطة مهيمنة‪ ،‬ولكن‪ ،‬دون نظرية شيوعية؛ مقدم ًا يف ذلك‬ ‫وهنجه ُ‬
‫َسمى احلزب‬‫ظاهر ًة يف اإلنكار والتناقض اجلذري مع النظرية‪ ،‬التي ت ّ‬
‫باسمها‪ ،‬ونموذج ًا عديم الشبيه‪.‬‬
‫ماركس مات ولم يَمُ ت‬
‫تتجىل عبقرية الفيلسوف األملاين كارل ماركس يف كونه قد وضع‬
‫رؤية خالدة‪ ،‬ال تزال قادرة عىل كشف جوهر اخللل يف بنية النظام‬
‫الرأساميل‪ ،‬رغم سائر اإلجراءات التي اختذها النظام الرأساميل ليقطع‬
‫الطريق عىل احلراك الثوري‪ ،‬ويع ّطل فرص احتشاد الثورة ضده‪ ،‬وفق ًا‬
‫للنبوءات املاركسية‪ .‬ما سيخ ّلد من املاركسية هو زعمها أن حرية األفراد‬
‫لن تتحقق إال إذا أدير املال العام إدارة مجاعية‪ .‬لكن‪ ،‬عىل أن نفهم أن‬
‫إدارة املال العام اجلامعية تعني العمل اإلصالحي الذي يردم اهلوة بني‬
‫األغنياء والفقراء‪ ،‬ويعمل عىل صيانة الديمقراطية من التزييف‪ ،‬بام‬
‫ال جزء ًا من التاريخ يف التصور‬
‫يضمن الشفافية والرقابة‪ .‬ما أصبح فع ً‬
‫املاركيس‪ ،‬ومل َي ُعد ممكن التحقيق‪ ،‬يف املدى املنظور‪ ،‬وربام غري املنظور‪،‬‬
‫هو الزعم بأن إدارة املال العام مجاعي ًا ال تتحقق إال بتحريم ملكية‬
‫وسائل اإلنتاج‪ ،‬عىل الفرد واألفراد القالئل‪ ،‬وإال باحتكار الربوليتاريا‬
‫للسلطة‪.‬‬
‫ُّ‬

‫‪255‬‬
‫لقد أثبتت التجارب الديمقراطية‪ ،‬بالفعل‪ ،‬أن الديمقراطية‪ ،‬ال‬
‫تعمل بكفاءة‪ ،‬يف وجهة مقاصدها‪ ،‬ما بقيت الثروة يف أيدي ِ‬
‫الق ّلة‪.‬‬
‫مكرستني يف يد القلة تَنتُج‬
‫فالسلطة والثروة متالزمتان‪ ،‬وحني تصبحان َّ‬ ‫ُّ‬
‫منهام املظامل تلقائي ًا‪ ،‬بل ويعاد إنتاج تلك املظامل‪ ،‬باستمرار‪ .‬فحني جتتمع‬
‫السلطة تلقائي ًا يف أيدي القلة‪ ،‬وحينها‬
‫الثروة يف أيدي القلة‪ ،‬تصبح ُّ‬
‫السلطة تعطيل وعي الناس بقضاياهم وحاجاهتم‪،‬‬ ‫يصبح يف وسع أهل ُّ‬
‫أو عىل أقل تقدير‪ ،‬تزييفه‪ .‬وال ينطبق ذلك عىل الطبقات الدنيا التي‬
‫محلة الشهادات‬ ‫تكون عادة أكثر قابلية لتزييف الوعي‪ ،‬بل يشمل حتى َ‬
‫زاملت يف العمل بعض ًا من أساتذة اجلامعات يف أمريكا‬ ‫ُ‬ ‫العليا‪ .‬فقد‬
‫الذين يرون أن أساتذة اجلامعات ليسوا بحاجة إىل احتادات مهنية‪ ،‬إذ‬
‫يرون أن إدارات اجلامعات‪ ،‬وهي جامعات ربحية‪ ،‬يمكن أن ختدم‬
‫مصاحلهم تلقائي ًا‪ .‬الشاهد أن مت ُّلك الرأساملية لآللة اإلعالمية‪ ،‬وسيطرة‬
‫إيديولوجيتها عىل مناهج التعليم‪ ،‬خاصة عىل املستوى اجلامعي‪ ،‬ختلق‬
‫ديناميكيات ُمع ِّطلة‪ ،‬وجتعل االستبداد والقمع وسلب احلرية‪ ،‬تتخذ‬
‫صور ًا بالغة اللزوجة‪ّ ،‬‬
‫تتعذر مقاومتها‪.‬‬
‫لقد ماتت املاركسية بوصفها نظرية لتفسري الكون واحلياة‪ ،‬ولكنها‬
‫مل متت كنظرية ربطت حرية األفراد واملجتمعات برضورة اإلدارة العامة‬
‫للامل‪ ،‬وجلْم قوته الفاعلة السالبة ايل تؤثر عىل نمو نطاقات الفكر‬
‫والوعي والثقافة‪ .‬فالرأساملية‪ ،‬تقوم بتسليع كل يشء‪ ،‬بل و»بت َْش ِي ْيء»‬
‫اإلنسان نفسه؛ أي‪ ،‬جعله «شيئ ًا» أكثر منه كيان ًا له عقل ووجدان‪.‬‬
‫ولربام ال يبق يف وسع من حيلمون باحلرية اآلن‪ ،‬سوى أن يسريوا يف‬
‫طريق اإلصالحات الوئيدة‪ ،‬التي تقلص اهلوة الفادحة‪ ،‬القائمة اآلن‪،‬‬
‫بني األغنياء فاحيش الثراء‪ ،‬وبني الفقراء الذين يغالبون مرارات الفقر‬
‫املدقع‪ ،‬يف وقت تتسع فيه اهلوة بينهم وبني األغنياء‪ ،‬رغم تراكم‬
‫الثروات‪ ،‬بوترية غري مسبوقة يف التاريخ‪.‬‬

‫‪256‬‬
‫الفاب ُّيون‬
‫َو َجدَ ت املاركسية مقارع ًة‪ ،‬منذ البداية‪ ،‬من تيارات الذين اتفقوا‬
‫معها حول التوجه االشرتاكي‪ ،‬واختلفوا معها حول وسيلة حتقيقه‪.‬‬
‫فاملاركسية مل تكن النظرية الوحيدة لالشرتاكية‪ ،‬ولتحقيق املساواة‬
‫والعدالة‪ .‬كام مل تكن الراسم الوحيد خلارطة الطريق لبلوغ تلك‬
‫الغايات‪ .‬وعىل سبيل املثال‪ ،‬فإن اجلدل بني االشرتاكية املاركسية‪،‬‬
‫التي تبنّت هنج العنف الثوري‪ ،‬وبني االشرتاكية الفابية التي تبنّت هنج‬
‫اإلصالح الوئيد‪ ،‬يعود إىل أواخر القرن التاسع عرش‪ .‬فقد تشكلت‬
‫اجلمعية الفابية حوايل ‪ ،1883‬منادي ًة بأن حتقيق االشرتاكية ممكن ولكن‪،‬‬
‫عن طريق اإلصالحات الترشيعية الربملانية‪ ،‬التي يمكن أن ُتنِّب‬
‫التحوالت الثورية العنيفة‪ .‬ولقد وضح عملي ًا‪ ،‬عرب أكثر‬
‫ّ‬ ‫املجتمعات‬
‫من قرن‪ ،‬أن اإلصالح من داخل بنية ليا‪،‬اإلصالح من داخل النظام‬
‫الراساميل ممكن‪ .‬آلسيوية والربازيل واهلند‪ ،‬والصني بعد أن ختلت عن‬
‫الطروحات االقتصادية املاركسية‪.‬ن داالنظام الرأساميل أمر ممكن‪ ،‬مهام‬
‫اختلفنا حول مداه و‪/‬أو رسعته‪ .‬الشاهد أن هنج اإلصالح الوئيد جينّب‬
‫املجتمعات اهلزات العنيفة واالنتكاسات‪.‬‬
‫أيض ًا‪ ،‬وضح‪ ،‬من اجلهة األخرى‪ ،‬أن القول بأن الطبقة العاملة‪،‬‬
‫بوصفها الطبقة املؤهلة تارخيي ًا‪ ،‬إلحداث التغيري‪ ،‬وفق ًا للرؤية‬
‫قول غري صحيح‪ .‬وقد اتضح ذلك منذ البداية‪ ،‬حني أدخلت‬ ‫املاركسية‪ٌ ،‬‬
‫اللينينية املثقفني الثوريني‪ ،‬ضمن قوى التغيري‪ ،‬بل جعلتهم قاد ًة لذلك‬
‫التغيري‪ .‬أما الذي جرى عقب ذلك‪ ،‬وأ ّثر عىل النبوءات املاركسية تأثري ًا‬
‫كبري ًا‪ ،‬هو أن النظام الرأساميل يف الدول الصناعية املزدهرة‪ ،‬استطاع أن‬
‫املرشحة لذلك الدَّ ور التارخيي املنتظر‪ .‬فعن‬‫يمتص ثورية هذه الطبقة ّ‬
‫ّ‬
‫طريق اإلصالحات التي تشمل‪ :‬زيادة احلد األدنى لألجور باستمرار‪،‬‬

‫‪257‬‬
‫وتقليل ساعات العمل‪ ،‬وخلق أنظمة تأمني اجتامعي‪ ،‬وتأمني صحي‪،‬‬
‫وإسكان‪ ،‬وغريها من اإلصالحات والربامج االجتامعية التي تنطلق‬
‫من اجلهاز احلكومي‪ ،‬كام تنطلق من منظامت املجتمع املدين‪ ،‬استطاع‬
‫يمتص ثورية طبقة العامل‪ .‬فاجلهود احلكومية وغري‬‫ّ‬ ‫النظام الرأساميل أن‬
‫احلكومية‪ ،‬أصبحت تعمل متضافرة‪ ،‬يف وجهة حتسني أحوال العاملني‪،‬‬
‫بمختلف فئاهتم‪ ،‬وعىل خمتلف األصعدة‪ .‬وعىل سبيل املثال فإن‬
‫املنظمة األمريكية‪ ،‬غري الربحية‪ ،‬املسامة‪،Habitat for Humanity ،‬‬
‫استطاعت أن تشيد‪ ،‬باجلهد اجلامعي‪ ،‬ماليني املساكن للفقراء يف أمريكا‪،‬‬
‫وأن مت ّلكهم إياها بأسعار رمزية‪ ،‬يطيقون دفعها عىل أقساط‪.‬‬
‫عموما‪ ،‬نجد أن األنشطة الفكرية واألكاديمية واإلعالمية‪،‬‬
‫التي تعمل باستمرار عىل فضح إشكاليات بنية النظام الرأساميل‪ ،‬هلا‬
‫واضح يف تغيري أحوال الناس‪ ،‬عىل الرغم من البطء الشديد يف‬ ‫ٌ‬ ‫أثر‬‫ٌ‬
‫ُوجهها‬
‫االستجابة من جانب أهل الرأسامل للمناشدات العقالنية التي ت ِّ‬
‫ظل يشهد‬ ‫إليها هذه القوى العريضة‪ .‬الشاهد أن هذا النوع من األنشطة ّ‬
‫تنامي ًا مضطرد ًا يف كل أرجاء العامل‪ .‬لقد أثرت النظرية املاركسية عىل‬
‫فضاءات واسعة جد ًا‪ ،‬وو ّلدت ناشطيات خمتلفة‪ .‬ويكفي أن نشري إىل أن‬
‫جترؤ املرشح األمريكي بريين ساندرز يف استخدام لفظ «االشرتاكية» يف‬ ‫ُّ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫خطابه السيايس‪ ،‬يمثل منعرجا جديدا متاما يف السياسة األمريكية‪ ،‬حتى‬
‫داخل احلزب الديمقراطي نفسه‪.‬‬
‫يمكن القول‪ ،‬باختصار شديد‪ ،‬إن ثورية الطبقة العاملة‪ ،‬يف‬
‫املجتمعات الصناعية الكبرية‪ ،‬قد جرى امتصاصها‪ ،‬إىل حدٍّ مل َت ُعد‬
‫معه الصيغ ُة التي رسمتها املاركسية إلحداث التغيري ممكن ًة‪ .‬كام اتضح‬
‫رشط إلحداث التغيري ال يمكن‬ ‫ٌ‬ ‫أن مقولة املاركسية‪ ،‬بأن هنج العنف‬
‫استبداله‪ ،‬ليست صحيحة‪ .‬فقد عرف الناس اخليبات الكبرية‪ ،‬التي‬
‫تعقب الثورات العنيفة‪ .‬ورأوا كيف أن الثورات العنيفة ترتدّ عىل‬

‫‪258‬‬
‫نفسها‪ ،‬فتأكل َبنيها بل وتأكل أجنداهتا نفسها التي أتت من أجلها‪.‬‬
‫التغيري‬ ‫أيض ًا‪ ،‬وضح أن طريق التغيري طريق طويل‪ ،‬ال ت ِ‬
‫ُنجز فيه‬
‫َ‬
‫مهم جد ًا تلعبه‬
‫ور ّ‬ ‫القوى الفيزيائي ُة للمجتمعات وحدها‪ ،‬وإنام هناك َد ٌ‬
‫املعرفة والتعليم‪ .‬وهو َدور تتسع من خالله دوائر الوعي وسط املالكني‬
‫واملستخدَ مني‪ ،‬عىل السواء‪ .‬وغاية هذا الوعي هو الوصول إىل استيقان‬
‫حقيقة أن األمن والسلم رضوريان للجميع‪ ،‬وجيب أال يضطربا‪.‬‬
‫وبتوسيع وتعميق هذا الوعي‪ ،‬تتسع دائرة املساومة بني من يملكون‬
‫وبني من ال يملكون‪ .‬وهكذا حتدث التنازالت‪ ،‬بام يسمح به تطور‬
‫الوعي والتعاطف اإلنساين مع املسحوقني‪ ،‬وسط املالكني‪ ،‬إضافة إىل‬
‫استشعارهم‪ ،‬عن يقني‪ ،‬اخلطر الكامن إن هم مل يقدّ موا أي تنازالت‪.‬‬
‫فالقول بأنه ال يمكن أن نعتمد عىل صحوة الضمري لدى ا ُل ّلك‪ ،‬ربام‬
‫يكون قوالً غري صحيح‪ .‬فليس بالرضورة أن يكون مستقبل اإلنسانية‬
‫امتداد لصورة ماضيها‪ .‬فالتغريات التقنية املذهلة التي تتنامى‬ ‫ٍ‬ ‫جمرد‬
‫بمتوالية هندسية رهيبة الرسعة‪ ،‬ربام تقلب املفاهيم كلها رأس ًا عىل‬
‫ٍ‬
‫لطفرة جديدة‪.‬‬ ‫عقب‪ ،‬ولدى اجلميع‪ ،‬بال استثناء‪ ،‬ما يفسح املجال‬
‫لقد راكمت البرشية من املعارف واخلربات يف القرن العرشين‪،‬‬
‫ما يساوي ما راكمته يف كل تارخيها منذ فجر اخلليقة‪ .‬وراكمت يف‬
‫العقدين األخريين‪ ،‬ما يساوي ما راكمته يف القرن العرشين بأكمله‪.‬‬
‫فهذه االنفجارات املعرفية اهلائلة املتسلسلة‪ ،‬ربام جتعل أذكى الناس‪،‬‬
‫وأكثرهم قدرة عىل االسترشاف‪ ،‬عاجز ًا متام ًا عن التنبؤ بيشء مما‬
‫يمكن أن حيدث غد ًا‪ .‬وخالصة القول هنا‪ ،‬إن التنظري قد دخل منعطف ًا‬
‫جديد ًا‪ ،‬تسود فيه احلرية‪ ،‬أكثر بكثري مما يسود فيه اليقني‪ .‬ولذلك فإن‬
‫الفكر االشرتاكي‪ ،‬بر ّمته‪ ،‬وباألخص الصيغة املاركسية منه‪ ،‬أضحت‬
‫تواجه واقع ًا ليس لدهيا أدوات تفسريه‪ .‬ولكن ال يبدو أن أي ًا ممن بقي‬
‫منشغل هبذا التحدي‪ .‬لقد أصبحت األحزاب‬ ‫ٌ‬ ‫من األحزاب الشيوعية‬

‫‪259‬‬
‫الشيوعية تعيش يف ّ‬
‫ظل تارخيها الذي انقىض‪ ،‬بعد أن انبهمت أمامها‬
‫الرؤية للمستقبل‪ .‬فهي تعيش حتت ظل تاريخ انقىض‪ ،‬وقد أخذ هذا‬
‫ّ‬
‫الظل نفسه يف االنحسار‪ ،‬بل مل يبق منه سوى جزء قليل‪ ،‬لن يلبث أن‬
‫ينطوي‪ ،‬ويرتكها حتت شواظ شمس الهبة حارقة‪.‬‬
‫لقد متكّنت الرأساملية‪ ،‬عرب خمتلف اإلجراءات واإلصالحات‪،‬‬
‫ِ‬
‫تصورت املاركسية‬ ‫من َث ْلم احلدّ القاطع لثورية الطبقة العاملة‪ ،‬الذي ّ‬
‫أنه سيكون‪ ،‬بالرضورة‪ ،‬مالزم ًا هلا‪ ،‬بام جيعلها نقيض ًا كلي ًا‪ ،‬مستمر ًا‪،‬‬
‫للاملكني‪ .‬أي‪ ،‬أن التناقض بني ا ُمل ّلك والعاملني يتفاقم حتى يبلغ درجة‬
‫من احلدة‪ ،‬تنتهي هبا كل فرصة للتفاهم وللمساومة‪ ،‬ومن ثم للحلول‬
‫الوسطى‪ ،‬فال يبقى‪ ،‬حينها‪ ،‬إال االستئصال اجلذري للنظام الرأساميل‪.‬‬
‫غري أن ما أفرزه الواقع‪ ،‬عملي ًا‪ ،‬يف الدول الصناعية الكربى‪ ،‬كام سبق‬
‫أن أرشت‪ ،‬يقول‪ :‬إن هذه الطبقة العاملة قد أصبحت متصاحلة‪ ،‬إىل‬
‫حدّ كبري‪ ،‬مع طبيعة النظام الرأساميل‪ ،‬وأصبحت تعمل‪ ،‬عىل تغيري‬
‫طبيعته‪ ،‬أو قل حتسينها‪ ،‬من داخله‪ .‬وحتى يف هذه احلالة من التصالح‬
‫فإن حراك الطبقة العاملة‬ ‫مع بنية النظام الرأساميل‪ ،‬والعمل من داخله‪ّ ،‬‬
‫يف الواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬من أجل التغيري‪ ،‬أضعف بكثري‪ ،‬وأقل‬
‫تأثري ًا‪ ،‬من نظريه يف أوروبا الغربية‪.‬‬
‫خالصة القول هنا‪ ،‬إن القوى العاملة يف العامل الغريب‪ ،‬ظ ّلت‪ ،‬عىل‬
‫طول املدى‪ ،‬تعمل شدّ ًا وجذب ًا من داخل بنية النظام الرأساميل‪ ،‬منخرطة‬
‫بالس ْلمية‪ ،‬من أجل حتسني األوضاع‪.‬‬ ‫مطلبي‪ ،‬يتسم ِّ‬‫ّ‬ ‫معه يف رصاع‬
‫ولذلك‪ ،‬فقد فإن عبارة‪« :‬يا عامل العامل ّاتدوا فإنه ليس لديكم ما‬
‫تفقدونه سوى األغالل»‪ ،‬قد أضحت‪ ،‬إىل حد كبري جد ًا‪ ،‬عبارة بال‬
‫مدلول يف واقع الدول الصناعية الكربى‪ .‬فالعامل يف الدول الصناعية‬
‫اهتز االستقرار‬
‫الكربى‪ ،‬أصبح لديه الكثري الذي يمكن أن يفقده‪ ،‬إن ّ‬
‫واضطربت األحوال‪ .‬مل يعد يف وسع العامل األورويب أن يتحد مع‬

‫‪260‬‬
‫العامل يف إفريقيا‪ ،‬أو آسيا‪ ،‬أو أمريكا الالتينية‪ .‬ففي حني ال يفقد العامل‬
‫اإلفريقي أو اآلسيوي أو الالتيني‪ ،‬أي يشء سوى األغالل‪ ،‬حني يثور‪،‬‬
‫الغبي يفقد الكثري‪ .‬فالعامل األورويب أصبح منتفع ًا من‬ ‫ّ‬ ‫فإن العامل‬
‫متتص‬
‫النظام الرأساميل‪ .‬فهو قد دخل‪ ،‬بصورة ما‪ ،‬يف بنية القوى التي ّ‬
‫دم القوى العاملة يف الدول النامية‪ .‬فهو صاحب مصلحة يف استقرار‬
‫واستمرار الواقع القائم ‪ status-quo‬شأنه يف ذلك‪ ،‬شأن املالكني‪.‬‬
‫ثورة المعلومات والتقنية‬
‫يضاف إىل ما تَقدَّ م‪ ،‬فإن التقدم التكنولوجي وثورة املعلومات‬
‫قد أعادتا تعريف الواقع االقتصادي واالجتامعي‪ ،‬بصورة جذرية‪.‬‬
‫فاألمتتة‪ ،automation ،‬وعلم الروبوتات‪ ،robotics ،‬قد خلق‬
‫بيئات عمل جديدة كلي ًا ال ختضع ألي من التعريفات السابقة‪ .‬فرشكة‬
‫التاكيس «أوبر» ‪ Uber‬التي أصبحت اآلن منترشة يف كل أرجاء العامل‪،‬‬
‫ال متلك سيارة واحدة‪ .‬فكل ما متلكه هو برنامج إلكرتوين ‪.software‬‬
‫أيض ًا نجد أن رشكة «كوداك» التي كانت توظف مائة وسبعني ألف‬
‫عامل‪ ،‬قد خرجت من السوق‪ ،‬متام ًا‪ ،‬وأعلنت اإلفالس‪ ،‬بعد أن مل يعد‬
‫الناس بحاجة إىل الكامريا ذات الفلم‪ .‬وهناك الكثري غري هذا من بيئات‬
‫العمل اجلديدة‪ ،‬وعالقات العمل اجلديدة‪ .‬وتصنع رشكة «قوقل» اآلن‬
‫سيارة تسري بال سائق‪ ،‬ما يضمن عدم االصطدام‪ ،‬وقد يقود هذا يف‬
‫املستقبل القريب إىل القضاء عىل تأمني السيارات‪ ،‬هنائي ًا‪.‬‬
‫املفاهيم القديمة املتع ّلقة ببيئة العمل‪ ،‬وقوة العمل‪ ،‬آخذة يف التغري‪.‬‬
‫كام أن الشقة بني الياقة البيضاء والياقة الزرقاء آخذة يف التقلص‪ .‬يضاف‬
‫إىل ذلك‪ ،‬أن التعليم والتدريب يتناميان برسعة رهيبة‪ ،‬ما جيعل كثري ًا‬
‫من أهل الياقات الزرقاء خيرجون إىل نطاق الياقات البيضاء‪ .‬هذه الثورة‬
‫التكنولوجية واملعلوماتية‪ ،‬بمقدار ما هتدِّ د العاملني‪ ،‬عن طريق استبداهلم‬

‫‪261‬‬
‫بآالت‪ ،‬أو بحواسيب‪ ،‬وبتغيري طبيعة عملهم‪ ،‬بام يغري انتامءهم الطبقي‪،‬‬
‫نفسه‪ ،‬وفق ًا لتعريفات املاركسية الكالسيكية‪ ،‬فإهنا أيض ًا‪ ،‬تضع النظام‬
‫نوعي‪ ،‬يف جماالت خلق الوظائف للقطاع العريض‬ ‫ٍّ‬ ‫الرأساميل أمام حتدٍّ‬
‫من الناس‪ ،‬ومن ثم‪ ،‬حفظ األمن االجتامعي من األخطار التي تَنتُج من‬
‫تفيش البطالة‪ ،‬أو من ضعف نظام الضامن االجتامعي‪ .‬وغالب ًا ما سيدفع‬
‫هذا التحدي النظام الرأساميل إىل توليد صيغ جديدة للعقد االجتامعي‪،‬‬
‫بصورة ربام جتعل دولة الرفاه‪ ،‬التي طاملا حلم هبا الثوريون يف انحاء‬
‫العامل‪ ،‬تفرض نفسها فرض ًا‪ ،‬عىل اجلميع‪ ،‬يف مستوى من املستويات‪ ،‬يف‬
‫املستقبل القريب‪ .‬إن سؤال توزيع الثروة بعدالة سوف يطرح نفسه‪ ،‬يف‬
‫مقبل األيام‪ ،‬عىل نحو غري مسبوق‪.‬‬
‫تراجُ ع اليسار السوداني‬
‫بنا ًء عىل االستعراض السابق املوجز‪ ،‬ملختلف املستجدات العديدة‬
‫التي أفرزهتا خمتلف صور احلراك الفكري والسيايس واالقتصادي‬
‫واإلداري‪ ،‬يف عامل ما بعد احلرب الباردة‪ ،‬إضافة إىل الطفرات املعرفية‬
‫والتقنية‪ ،‬التي انتظمت عقود القرن العرشين‪ ،‬وجعلت‪ ،‬من كثري من‬
‫أساسيات املاركسية اللينينية‪ ،‬من الناحية العملية‪ ،‬شيئ ًا من التاريخ‪،‬‬
‫أتقدّ م إىل معاجلة السؤال املركزي املتعلق بمستقبل احلزب الشيوعي‬
‫السوداين‪ .‬والسؤال‪ ،‬كام سبق أن أرشت يف املقدمة‪ ،‬ال خيص الشيوعيني‬
‫السودانيني وحدهم؛ وإنام خيص كل طيف اليسار السوداين العريض‪،‬‬
‫من بعثيني ونارصيني‪ ،‬ومستقلني‪ ،‬إضافة إىل قوى اهلامش‪ ،‬التي‬
‫ال للسالح يف وجه ُسلطة الدولة املركزية‪.‬‬ ‫كبري منها حام ً‬
‫أصبح جز ٌء ٌ‬
‫أفول التطبيق الشيوعي يف االحتاد السوڤييتي والصني‪ ،‬وما أعقبه من‬
‫يقوض قواعد التجربة الشيوعية‬ ‫انعطاف رسيع إىل اقتصاد السوق‪ ،‬مل ِّ‬
‫قوض معها‬ ‫عىل مستوى قدرهتا عىل حتسني االقتصاد وحسب‪ ،‬وإنام َّ‬
‫نظام احلزب الواحد الذي اعتمدته الشيوعية‪ ،‬وسارت عىل نسقه أنظمة‬

‫‪262‬‬
‫احلزب الواحد العربية؛ القومي النارصي منها والبعثي‪ .‬يضاف إىل‬
‫ذلك‪ ،‬السقوط الكبري ملقولة املثقفني الثوريني‪ ،‬الذين كشفت التجربة‬
‫العلمية أهنم ليسوا حمصنني ضد إغواء الربيستيج‪ ،‬واملصالح الشخصية‪.‬‬
‫ال يف احلزب الشيوعي السوداين‪،‬‬ ‫ظل نجم اليسار السوداين‪ ،‬مم َّث ً‬
‫صاعد ًا‪ ،‬باضطراد‪ ،‬عرب اخلمس عرشة سنة األوىل‪ ،‬التي أعقبت‬
‫االستقالل‪ .‬وكانت حلظة الذروة يف ذلك احلراك املتنامي‪ ،‬فوز احلزب‬
‫الشيوعي السوداين باثني عرش مقعد ًا‪ ،‬من املقاعد املخصصة للخرجيني‪،‬‬
‫يف االنتخابات التي أعقبت ثورة أكتوبر ‪ ،1964‬التي أسقطت نظام‬
‫الفريق عبود‪ .‬يف تلك االنتخابات‪ ،‬حصلت جبهة امليثاق اإلسالمي‬
‫بقيادة حسن الرتايب‪ ،‬عىل ثالثة مقاعد فقط‪ ،‬من مقاعد اخلرجيني‪ .‬لكن‪،‬‬
‫يف االنتخابات التي جرت يف عام ‪ ،1986‬عقب سقوط نظام نمريي‪،‬‬
‫انقلبت الصورة متام ًا‪ ،‬إذ حصل الشيوعيون عىل ثالثة مقاعد‪ ،‬وحصلت‬
‫اجلبهة القومية اإلسالمية‪ ،‬بقيادة حسن الرتايب‪ ،‬الذي كان ال ّ‬
‫ينفك يغري‬
‫اسم تنظيمه‪ ،‬عىل أكثر من مخسني مقعد ًا‪ ،‬ليصبح تنظيم اجلبهة القومية‬
‫اإلسالمية‪ ،‬القوة الثالثة يف البالد‪ ،‬من حيث عدد املقاعد يف الربملان‪ ،‬بعد‬
‫حزب األمة‪ ،‬واحلزب االحتادي الديمقراطي‪ .‬لقد كسب حسن الرتايب‬
‫كسب ًا كبري ًا بتشكيله اجلبهة القومية اإلسالمية‪ ،‬عقب سقوط نظام‬
‫نمريي مبارشة‪ ،‬رغم أنه‪ ،‬هو وتنظيمه‪ ،‬كانوا جزء ًا من ذلك النظام‪.‬‬
‫هناك عوامل عديدة أ ّدت إىل الرتاجع الكبري لدَ ور احلزب الشيوعي‬
‫السوداين عىل الساحة السياسية السودانية‪ .‬لقد كانت حماولة االنقالب‬
‫التي قام هبا بعض الضباط الشيوعيني ضد جعفر نمريي يف يوليو من‬
‫عام ‪ 1971‬املنعطف األهم‪ ،‬الذي هدّ معظم ما بناه الشيوعيون‪ ،‬عىل‬
‫مدى ثالث عقود‪ ،‬تعود إىل أربعينات القرن العرشين‪ .‬فقد قاد ذلك‬
‫االنقالب‪ ،‬الذي مل يستمر ألكثر من ثالثة أيام‪ ،‬إىل إعدام أكرب القيادات‬
‫التارخيية للحزب‪ ،‬وعىل رأسهم سكرتريه العام‪ ،‬عبد اخلالق حمجوب‪،‬‬

‫‪263‬‬
‫والزعيم العاميل احلامل لوسام لينني‪ ،‬الشفيع أمحد الشيخ‪َ .‬و َضع ذلك‬
‫كل جهد جهاز أمن نمريي‪ ،‬يف مواجهة أنشطة الشيوعيني‪،‬‬ ‫االنقالب ّ‬
‫فاستمرت مالحقتهم ألربع عرشة سنة‪ .‬وحني سقط نظام جعفر نمريي‬
‫عام ‪ 1985‬عقب انتفاضة شعبية ساندها اجليش‪ ،‬خرج احلزب إىل‬
‫العلن‪ ،‬ولكنه كان مهيض اجلناح‪ .‬وظهر ذلك جليا يف انتخابات ‪،1986‬‬
‫كام ذكرنا‪ ،‬التي مل حيصد فيها احلزب سوى ثالث دوائر انتخابية‪ ،‬كانت‬
‫إحداها من دوائر اخلرجيني يف اجلنوب‪ ،‬التي ال بدّ أن يكون املرشح قد‬
‫كسبها بسبب والء قبيلته‪ ،‬وليس بسبب اعتناق اجلامهري هناك‪ ،‬للنظرية‬
‫املاركسية أو للفكر االشرتاكي‪ .‬الشاهد أن السند اجلامهريي للحزب‬
‫الشيوعي السوداين‪ ،‬تراجع تراجع ًا كبري ًا‪ ،‬وليس من املنظور أن يستعيد‬
‫احلزب الطاقة التي متتع هبا يف فرتة احلرب الباردة‪.‬‬
‫يف الفرتة التي كان احلزب الشيوعي فيها مطارد ًا وخمتفي ًا يامرس‬
‫نشاطه من حتت األرض‪ ،‬جرت‪ ،‬يف عام ‪ ،1977‬املصاحلة الوطنية بني‬
‫ّ‬
‫استغل‬ ‫جعفر نمريي وقوى املعارضة التي كانت تعمل من اخلارج‪.‬‬
‫الدكتور الرتايب الفرصة‪ ،‬وعمل عىل التغلغل داخل نظام جعفر نمريي‪،‬‬
‫الذي كان يبحث عن حليف من قوى املعارضة‪ .‬تغلغل تنظيم الرتايب يف‬
‫أجهزة الدولة املختلفة‪ ،‬وأخذ يدفع بالشعار اإلسالمي من داخل نظام‬
‫نمريي خالق ًا شبكة عريضة داعمة للشعار اإلسالمي من رجال الدين‪،‬‬
‫ورجال القضاء الرشعي‪ ،‬وأئمة املساجد والوعاظ‪ ،‬ورجال الطرق‬
‫الصوفية‪ ،‬ومن يستمعون هلم من عامة الناس‪ .‬وقد قاد ذلك إىل إعالن‬
‫نمريي تطبيق قوانني الرشيعة اإلسالمية يف سبتمرب ‪.1983‬‬
‫يف تلك الفرتة‪ ،‬أيض ًا‪ ،‬ونتيجة للتحالف مع النظام والتغلغل يف‬
‫أجهزته‪ ،‬متكّن الرتايب من أن خيلق لتنظيمه قاعدة اقتصادية ضخمة‪،‬‬
‫بدأت بإدخال جتربة البنوك اإلسالمية إىل السودان‪ ،‬وعىل رأسها بنك‬
‫فيصل اإلسالمي السوداين‪ .‬كام نشأت العديد من املؤسسات املالية‬

‫‪264‬‬
‫التي يديرها التنظيم‪ .‬فعن طريق القروض وتقديم التسهيالت املالية‪،‬‬
‫متكّن تنظيم الدكتور الرتايب من أن خيلق نطاق ًا عريض ًا من املنتفعني‬
‫الذين جعلتهم مصاحلهم من املوالني للتنظيم‪ ،‬اهلاتفني بشعاراته‪ .‬وكان‬
‫من بني الفئات املهمة التي تغلغل فيها التنظيم‪ ،‬فئة ضباط اجليش‪ .‬ويف‬
‫خيص ضباط اجليش‪ ،‬فإن استهدافهم مل ينحرص يف ربط مصاحلهم‬ ‫ما ّ‬
‫الشخصية باملؤسسات املالية لتنظيم اجلبهة اإلسالمية‪ ،‬وحسب‪ ،‬وإنام‬
‫جرى استهدافهم عقائدي ًا‪ ،‬بعقد دورات هلم يف املركز اإلسالمي‬
‫اإلفريقي‪ ،‬الذي تسيطر عليه كوادر اإلسالميني ومنارصهيم‪.‬‬
‫حني سقط نظام جعفر نمريي عام ‪ ،1985‬خرج تنظيم الرتايب‬
‫الذي َس ّمه يف تلك املرحلة «اجلبهة القومية اإلسالمية»‪ ،‬بقدرات‬
‫ماليه كبرية وبآلة إعالمية ضاربة‪ ،‬وبكوادر مدربة‪ .‬كانت السنوات‬
‫التي عزلت األحزاب الكبرية‪ ،‬كاألمة واالحتادي والشيوعي‪ ،‬عن‬
‫مجاهريها‪ ،‬وفككت أوصاهلا‪ ،‬وأضعفت خربهتا‪ ،‬وممارستها للعمل‬
‫العام‪ ،‬هي نفس السنوات التي َر َفع فيها الرتايب‪ ،‬عن طريق التحالف‬
‫وأوصله مستوى‬ ‫ِ‬
‫قدرات تنظيمه‬ ‫مع نظام نمريي والتغلغل يف أجهزته‪،‬‬
‫َ‬
‫من االنتشار ومن الكفاءة والقدرة عىل الفعل يف الواقع السيايس‪ ،‬ال‬
‫يضاهيه فيها تنظيم آخر‪.‬‬
‫فشلت خطط التنمية التي اندفع فيها نظام نمريي‪ .‬وقد اتضح‬
‫ذلك بجالء شديد‪ ،‬يف النصف الثاين من سبعينات القرن العرشين‪.‬‬
‫تراجع االقتصاد‪ ،‬ووقوع‬
‫لقد نتج من السياسات االقتصادية املتخبطة‪ُ ،‬‬
‫ودوامة تراجع سعر العملة‪ ،‬كام‬
‫السودان يف أحبولة الديون اخلارجية‪ّ ،‬‬
‫زاد الطني بل ًة ارتفاع أسعار البرتول‪ ،‬ومن ثم‪ ،‬ارتفاع أسعار مدخالت‬
‫اإلنتاج‪ ،‬وغريها من الواردات‪ .‬وهكذا تدهورت األحوال املعيشية‬
‫للمواطنني وتراجعت اخلدمات‪ .‬كان ذلك هو املنعرج الكبري الذي منه‬
‫بدأت هجرة السودانيني الكبرية إىل اخلارج‪ .‬حينها‪ ،‬دخل السودانيون‪،‬‬

‫‪265‬‬
‫وألول مرة يف تارخيهم‪ ،‬يف طور اهلجرات امللحمية بالغة الضخامة إىل‬
‫خمتلف الوجهات يف اخلارج‪ .‬ومل ترتاجع وترية تلك اهلجرات‪ ،‬منذ ذلك‬
‫التاريخ‪ ،‬حتى بلغت اليوم‪ ،‬يف فرتة حكم اإلسالميني‪ ،‬مدى مل يكن يف‬
‫يتصوره‪.‬‬ ‫وسع ٍ‬
‫أحد أن‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫أفقدت هذه اهلجرات امللحمية الضخمة‪ ،‬التي كان قوامها‬
‫املهن ّيون‪ ،‬وسائر املتعلمني‪ ،‬احلزب الشيوعي السوداين‪ ،‬قطاع ًا عريض ًا‬
‫ظل يدعمه‪ ،‬من خارجه‪ .‬كام أفقدت‬ ‫من اجلمهور السوداين‪ ،‬الذي ّ‬
‫تلك اهلجرة الضخمة الساحة الفكرية والثقافية السودانية‪ ،‬خصائصها‬
‫املنفتحة عىل تيارات الثقافة اإلقليمية والعاملية‪ ،‬التي تشكّلت هبا منذ‬
‫مؤمتر اخلرجيني‪ ،‬وتوارثتها األجيال‪ ،‬وأصبحت قوى اليسار العريض‬
‫والليرباليني‪ ،‬يف عقد الستينات‪ ،‬هي ماكينتها القاطرة‪ .‬لقد كسب‬
‫احلزب الشيوعي السوداين‪ ،‬يف حقبة الستينات من القرن املايض‪،‬‬
‫احرتام وإعجاب قطاع كبري من املواطنني السودانيني‪ ،‬حتى أصبح‬
‫ذا جاذبية بالغة القوة‪ .‬وقد خلقت له تلك اجلاذبية دائرة واسعة من‬
‫الصداقة وسط مجهور املتعلمني‪ ،‬خاصة يف احتادات املهنيني واملوظفني‬
‫والعامل‪ ،‬بل وحتى يف وسط احتاد مزارعي اجلزيرة‪ ،‬أكرب جسم نقايب يف‬
‫السودان‪ ،‬رغم قلة التعليم وسط منتسبيه يف تلك الفرتة‪.‬‬
‫بعد أن رضب جعفر نمريي احلزب الشيوعي‪ ،‬عىل أثر االنقالب‬
‫الفاشل‪ ،‬الذي جرى ضده يف يوليو ‪ ،1971‬استهدف الرئيس نمريي‪،‬‬
‫برضاوة شديدة‪ ،‬اجلسم النقايب السوداين املطلبي العريض‪ ،‬بر ّمته‪.‬‬
‫فسعى إىل السيطرة عىل قيادات النقابات واحتادات خمتلف العاملني‪،‬‬
‫ودخل معها يف رصاعات أضعفتها كثري ًا‪ ،‬بعد أن أصبحت مهلهلة‬
‫نتيجة لرتاجع تأثري القيادة الشيوعية عليها‪ .‬قادت املطاردات األمنية‬
‫الشيوعيني إىل السجون‪ ،‬وإىل نزول من أفلت منهم من السجون‪ ،‬إىل‬
‫االختباء والعمل من حتت األرض‪ ،‬ما أضعف فاعليتهم‪ .‬وعموم ًا كان‬

‫‪266‬‬
‫علو‬
‫عقد السبعينات هو عقد أفول نجم اليسار يف السودان‪ ،‬وبداية ّ‬
‫نجم الشعار اإلسالمي‪ .‬كام كان أيض ًا‪ ،‬هو عقد ُ‬
‫تراجع حراك التنوير‪،‬‬
‫وتراجع دفق الثقافة‪ ،‬التي كان اليساريون والليرباليون يم ّثلون حدّ مها‬
‫ُ‬
‫القاطع‪.‬‬
‫لقد كان أهل اليسار والليرباليون يف السودان هم مركز اإلنتاج‬
‫الثقايف السوداين النوعي يف عقد الستينات من القرن املايض‪ .‬لقد كانوا‪،‬‬
‫دون منافس‪ ،‬هم طليعة اإلبداع السوداين يف الشعر‪ ،‬ويف القصة‪ ،‬ويف‬
‫املرسح‪ ،‬ويف خمتلف صنوف الدراما‪ ،‬ويف الشعر الغنائي‪ ،‬واملوسيقى‪،‬‬
‫والفن التشكييل‪ .‬وقد حاول نظام نمريي‪ ،‬ومن بعده اإلسالميون‪،‬‬
‫أن خيلقوا مجاعات إبداعية موازية‪ ،‬مستتبعة جلهاز الدولة‪ ،‬تعمل عىل‬
‫سحب سالح اآلداب والفنون من يد اليساريني والليرباليني‪ .‬فنجح‬
‫نمريي واإلسالميون‪ ،‬عىل التوايل‪ ،‬عرب ما يقارب األربعة عقود‬
‫من الزمان‪ ،‬ابتدأت يف فرتة نظام نمريي عند منتصف السبعينات‪،‬‬
‫واستمرت حتى نظام البشري املستمر إىل اآلن‪ ،‬من أن يبعدوا اليسار‬
‫والليرباليني عن الساحة‪ .‬غري أن من جاءوا هبم‪ ،‬وجعلوا يف أيدهيم‬
‫مقاليد سالح الثقافة بمختلف أدواته‪ ،‬كانوا‪ ،‬يف غالبيتهم العظمى‪ ،‬من‬
‫متوسطي املعارف‪ ،‬وخامدي املواهب‪.‬‬
‫عرب هذه العقود من الرتاجع املضطرد‪ ،‬ابتلعت املنايف واملهاجر‬
‫املوهوبني‪ ،‬كام ابتلعت من َقبلهم األكاديميني واملهنيني بمختلف‬
‫ختصصاهتم‪ .‬وهكذا اهنارت البنى الثقافية التي جرى تشييدها منذ‬ ‫ُّ‬
‫مرحلة الكفاح ضد االستعامر‪ ،‬وإىل بدايات فرتة حكم نمريي‪ .‬وهكذا‬
‫وتوجهاته اإلسالمية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫تيس للحركة اإلسالمية التي ورثت نظام نمريي‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫التي أعلنها يف هنايات حكمه‪ ،‬أن ختلق حالة متدنِّية جدا من الوعي‬
‫ال للتخدير بالشعار اإلسالمي‪ .‬لقد‬‫العام‪ .‬ومن ثم‪ ،‬أن تصنع مجهور ًا قاب ً‬
‫كان فعلهم يف خفض سقف الوعي العام نوعا من النبوءة ذاتية التحقق‬

‫‪267‬‬
‫املتدن‬
‫‪ .self-fulfilled prophecy‬استثمر اإلسالميون يف هذا الوعي ّ‬
‫الرعوي‪،‬‬‫وروجوا للسلوك َّ‬
‫الرعاة‪ّ ،‬‬ ‫كثري ًا‪ ،‬فأح َيوا الق َبلية‪ ،‬ورفعوا قيم ُّ‬
‫وأعلوا من العاطفة الدينية الفجة‪ ،‬ودفعوا بالشعار اإلسالمي‪ ،‬وفق‬
‫مدى ج َعل ّ‬
‫كل عاقل من السودانيني‪ ،‬يف‬ ‫صيغ شعبوية‪ ،‬غوغائية‪ ،‬إىل ً‬
‫ٍ‬
‫صوت‪ ،‬تقريب ًا‪.‬‬ ‫البالد‪ ،‬أو خارجها‪ ،‬بال‬
‫غربة اليساريين والليبراليين‬
‫بعض ممن يقرأون هذه املسامهة أنني أعالج مايض‬ ‫استشف ٌ‬
‫ّ‬ ‫لربام‬
‫اليسار السوداين العريض‪ ،‬وأنا أغالب حالة من النوستاجليا‪ ،‬أو رغبة‬
‫يف البكاء عىل أطالله‪ .‬غري أن احلال ليس كذلك‪ .‬مل يكن لتلك احلقبة‬
‫أن تستمر أصالً‪ .‬صعود اليسار‪ ،‬والدفق الفكري واألديب والفني الذي‬
‫صاحب صعوده‪ ،‬كان حالة مع ّلقة يف اهلواء‪ .‬لقد كانت جمرد قرشة رقيقة‬ ‫َ‬
‫صنعتها الصفوة‪ ،‬بش ّقيها اليساري والليربايل‪ ،‬ومل ينفذ منها يشء ُيذكر‬
‫إىل اجلذور‪ .‬فاحلالة الليربالية التي ن َِعم هبا السودان يف النصف األول‬
‫من القرن العرشين‪ ،‬وأنتجت ثقافة منفتحة وأدب ًا وفن ًا ذا سامت عاملية‪،‬‬
‫وحرسها بقوة‬ ‫َ‬ ‫هي يف حقيقة األمر حالة وضع قواعدها املستعمر‪،‬‬
‫احلديد والنار‪ .‬فالبنية الدينية السودانية املحافظة‪ ،‬املوروثة منذ الثورة‬
‫املهدية‪ ،‬املتناقضة جوهري ًا مع قيم احلداثة‪ ،‬كانت ترقد‪ ،‬كام هي‪ ،‬حتت‬
‫تلك القرشة السطحية املؤقتة‪ .‬ويوم أن رحل الربيطانيون عن السودان‪،‬‬
‫أخذت تلك القرشة الرقيقة السطحية‪ ،‬أو قل احلوصلة الصغرية التي‬
‫خلقوها‪ ،‬يف التآكل‪ .‬ومن ثم‪ ،‬بدأت حقيقة املجتمع السوداين املحافظ‪،‬‬
‫القابل لالنقياد للخطاب الديني وللخطاب الطائفي‪ ،‬والق َبيل‪ ،‬يف‬
‫الظهور إىل السطح‪ ،‬من جديد‪.‬‬
‫حلقيقة فوقية وصفوية قوى احلداثة يف‬ ‫ِ‬ ‫كان حسن الرتايب مدرك ًا‬
‫السودان‪ .‬و َمن يراجع تاريخ رصاع اإلسالميني‪ ،‬يف السودان‪ ،‬مع‬

‫‪268‬‬
‫الشيوعيني وسائر قوى اليسار‪ ،‬ومع الليرباليني‪ ،‬ومع اإلصالحيني‬
‫الدينيني‪ ،‬كحركة األستاذ حممود حممد طه‪ ،‬يالحظ كيف عمل الرتايب‪،‬‬
‫يسد عليه‪ ،‬يف إخراج كل تلك القوى من الساحة السياسية‪ ،‬ويف‬ ‫ٍ‬
‫بدأب ُ ْ‬
‫املقابل‪ ،‬عمل الرتايب‪ ،‬رغم دعاوي التجديد التي ا ّدعاها واشرتاها منه‬
‫ِ‬
‫املقاومة لقيم احلداثة وحلراكها‪،‬‬ ‫معجبوه‪ ،‬عىل جتميع القوى املحافظة‪،‬‬
‫من قمقمها إىل السطح‪ ،‬ومنحها جسد ًا تنظيمي ًا عريض ًا أصبح ذا قوة‬
‫ضاربة‪.‬‬
‫استخدم الرتايب خطاب ًا شعبوي ًا بسيط ًا قادر ًا عىل أن يصل‪ ،‬بسهولة‬
‫كبرية‪ ،‬إىل السواد األعظم‪ .‬ويف هذا‪ ،‬مل يعمل الرتايب كتنظيم قط‪ ،‬وإنام‬
‫عمل كجبهة عريضة‪ .‬فقد كان يعرف صغر حجم تنظيمه‪ ،‬وعدم قدرته‬
‫أن يصبح حزب ًا مجاهريي ًا كبري ًا‪ .‬ففي الستينات َس َّمى الرتايب تنظيمه‬
‫«جبهة امليثاق اإلسالمي»‪ .‬وكان مرتك َُز خطابه إنشاء جبهة عريضة‬
‫من مجاعته‪ ،‬ومن املؤسسات التعليمية الدينية‪ ،‬ومن رجال القضاء‬
‫الرشعي‪ ،‬ومن أئمة املساجد‪ ،‬ومن شيوخ الطرق الصوفية‪ ،‬للمناداة‬
‫بالدستور اإلسالمي‪ ،‬من دون أي تعريف ملا هو الدستور اإلسالمي‪.‬‬
‫وعقب سقوط نظام نمريي َس َّمى تنظيمه «اجلبهة القومية اإلسالمية»‪،‬‬
‫ومشت جبهته تلك‪ ،‬عىل ذات الدرب القديم الذي مشت عليه سابقتها‬
‫تغي يف مرحلة ما بعد‬ ‫املس ّمة «جبهة امليثاق اإلسالمي»‪ .‬كل الذي ّ‬ ‫َ‬
‫نمريي أن تنظيم الرتايب أصبح رشيك ًا يف دولة نمريي‪ ،‬فاستخدم جزء ًا‬
‫من آليات الدولة ومواردها‪ ،‬فأصبحت له أذرع مالية وإعالمية‪ ،‬مكّنته‬
‫من التغلغل أكثر يف اجلذور‪ ،‬حتى أصبح ذا صيت كبري‪ .‬وكان أخطر ما‬
‫قام به هو تغلغله يف اجليش‪ .‬وبالفعل استخدم الرتايب الضباط الذين‬
‫أصبحوا منتمني إىل تنظيمه يف اجليش يف االطاحة بالديمقراطية الثالثة‬
‫يف مرحلة ما بعد االستقالل‪.‬‬
‫خلق الرتايب نخبة إسالمية ديناميكية متكَّن هبا يف فرتة وجيزة من‬

‫‪269‬‬
‫وضع الدولة برمتها يف قبضة يده‪ .‬هذا يف حني كانت النخب اليسارية‬
‫والليربالية ترتاجع وتتباعد خطوطها‪ ،‬وتبتعد أكثر فأكثر عن اجلامهري‪.‬‬
‫السلطة‪ ،‬ولكن بال‬ ‫وصل الرتايب عن طريق نخبته شديدة الفاعلية إىل ُّ‬ ‫َ‬
‫مرشوع واضح املعامل‪ .‬باستخدام جهاز الدولة‪ ،‬أصبح الرتايب أكثر قدرة‬
‫وسحب اجلمهور من القوى احلزبية‬ ‫ْ‬ ‫عىل تفعيل اخلطاب اإلسالمي‬
‫الطائفية التقليدية ومن أحزاب القوى احلديثة التي تغلب عليها صفة‬
‫اليسار‪ .‬بإحكام قبضته عىل الدولة استطاع الرتايب أن يرفع عدد ًا كبري ًا‬
‫السلطة‪،‬‬ ‫من حمدودي التفكري واخليال واملواهب من مجاعته‪ ،‬إىل مركز ُّ‬
‫يعج هبم املعسكر‬ ‫ويف نفس الوقت‪ ،‬إقصاء الناهبني املوهوبني الذين ّ‬
‫لكل‬ ‫املضاد إىل اهلوامش‪ .‬فاحلداثيون من يساريني‪ ،‬وليرباليني‪ ،‬كان ِّ‬
‫قبيل منهم‪ ،‬مرشوعه اخلاص به‪ ،‬الذي يعمل لصاحله‪ ،‬يف إطار حزبه‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫حرص ًا‪ .‬يف حني كان غريمهم كلهم‪ ،‬وهو الدكتور الرتايب‪ ،‬يضع الواقع‬
‫برمته يف مواجهتهم‪.‬‬
‫مل َيدُ ث قط أن عملت األحزاب اليسارية الصغرية يف صورة جبهة‬
‫عريضة‪ ،‬باستثناء جبهة اهليئات بعد أكتوبر التي سيطر عليها الشيوعيني‪،‬‬
‫ووأدهتا يف مهدها‪ .‬يضاف إىل‬ ‫فانقضت عليها القوى التقليدية ب َل ْي ٍل‪َ ،‬‬ ‫ّ‬
‫واقع ما قبل‬
‫ذلك أن غربة قوى اليسار الفكرية عن واقعٍ‪ ،‬هو بطبيعته ٌ‬
‫حداثي‪ ،‬يم ّثل الدِّ ي ُن مؤثر ًا رئيسي ًا فيه‪ ،‬ج َعلها معزولة مجاهريي ًا‪ .‬أيض ًا‪،‬‬
‫أسهم اخرتاع ما ُس ِّمي «دوائر اخلرجيني»‪ ،‬وهي دوائر انتخابية برملانية‬
‫مقفولة عىل خرجيي اجلامعات فقط‪ ،‬يف إعطاء وزن برملاين زائف للحزب‬
‫الشيوعي السوداين يف االنتخابات التي تلت سقوط نظام الفريق عبود‬
‫يف أكتوبر ‪ .1964‬ورغم أن الوزن الذي متتّع به الشيوعيون داخل‬
‫الربملان‪ ،‬كان وزن ًا نوعي ًا بالفعل‪ ،‬إال أنه مل يعكس وزن ًا مجاهريي ًا حقيقي ًا‪.‬‬
‫وحتى هذا الوزن اجلامهريي غري احلقيقي‪ ،‬فقد ضاع من اليسار بعد‬
‫يصوتون‬ ‫أن تغريت األحوال‪ ،‬وأصبح املتع ّلمون‪ ،‬العتبارات خمتلفة‪ّ ،‬‬

‫‪270‬‬
‫لإلسالميني‪ .‬وقد اتضح هذا من نتائج انتخابات احتادات اجلامعات‪،‬‬
‫التي سيطر عليها اإلسالميون لفرتة ممتدة‪ ،‬ومن نتائج االنتخابات‬
‫العامة لعام ‪ 1986‬التي ارتفعت فيها مقاعد اإلسالميني إىل ما فوق‬
‫اخلمسني‪ ،‬وتراجعت فيها مقاعد الشيوعيني إىل ثالثة‪.‬‬
‫لقد كسب اإلسالميون بعض ًا من أرايض احلزبني الكبريين‪ ،‬كام‬
‫أخذوا نصيب األسد من دوائر اخلرجيني التي كانت حكر ًا للشيوعيني يف‬
‫املايض‪ .‬الفرتة الوحيدة‪ ،‬التي حتققت فيها هزيمة ساحقة لإلسالميني‪،‬‬
‫يف انتخابات احتاد طالب جامعة اخلرطوم‪ ،‬جاءت نتيجة لتحالف‬
‫عريض ضم الشيوعيني وعموم اليساريني‪ ،‬واملستقلني‪ ،‬واجلمهوريني‪.‬‬
‫وهذا ما يؤكد أن األحزاب السودانية الصغرية حتتاج أن خترج من‬
‫قوقعة التنظيم الفردي ومن قيد التاريخ احلزيب‪ ،‬واإلرث احلزيب‪ ،‬املتع ّلق‬
‫بكل حزب‪ ،‬عىل حده‪ ،‬وأن تسعى إىل خلق حتالف عريض يعطيها وزن ًا‬
‫سياسي ًا حقيقي ًا‪ .‬غري أن ذلك‪ ،‬يقتيض عملية يف التوليف الفكري ويف‬
‫احلوار املنفتح الذي خيلق رؤية جامعة لطيف اليساريني والليرباليني‬
‫واإلصالحيني اإلسالميني‪ ،‬واملتململني داخل األحزاب التقليدية‬
‫وداخل اإلسالميني أنفسهم‪ ،‬حتت مظلة عريضة‪.‬‬
‫من هنا‪ ،‬أقفز إىل اإلجابة عىل سؤال األستاذ صديق الزيلعي‬
‫بالقول‪ :‬ليس من املمكن جتديد احلزب الشيوعي السوداين‪ ،‬ما ّ‬
‫ظل‬
‫اسمه «احلزب الشيوعي السوداين» وما ّ‬
‫ظل عىل هيئته الراهنة عائش ًا يف‬ ‫ُ‬
‫ظل تارخيه النضايل غارق ًا يف أساليبه التنظيمية القديمة‪ ،‬ومهتدي ًا هبدي‬
‫أي إسهام فكري ُيذكر‪ .‬أكثر من ذلك‪،‬‬ ‫قياداته احلالية‪ ،‬التي مل نعرف هلا ّ‬
‫لن يفلح يف هذا السياق السوداين أي حزب صغري يف التحول إىل حزب‬
‫مجاهريي‪.‬‬
‫انتعش اليسار السوداين‪ ،‬يف بدايات حقبة احلرب الباردة‪ ،‬واكتسب‬

‫‪271‬‬
‫وزنه وتأثريه‪ ،‬نتيجة العتبارات متع ّلقة بدَ ور الشيوعية الدولية يف تلك‬
‫املرحلة‪ ،‬و َدور أنظمة احلزب الواحد القومية والبعثية املتامهية رؤيوي ًا‪،‬‬
‫وتنظيمي ًا‪ ،‬مع منظومة الشيوعية الدولية‪ .‬يضاف إىل ذلك‪ ،‬أن املجتمع‬
‫السوداين ورث عىل مستوى النخب حالة االستقرار السيايس التي ثبتها‬
‫االستعامر‪ .‬فالدولة السودانية ورثت من املستعمر اقتصاد ًا مستقر ًا‪،‬‬
‫ومسؤوليات حمدودة بسبب صغر حجم القطاع احلديث‪ .‬كام أن قوى‬
‫الريف العريضة‪ ،‬التي متارس الرعي‪ ،‬وزراعة الكفاف‪ ،‬كانت واهية‬
‫الصلة بمنظومة الدولة االقتصادية‪ .‬وقد جعلت هذه األمور‪ ،‬جمتمعة‪،‬‬
‫حراك احلداثة يف السودان‪ ،‬حراك ًا صفوي ًا متمركز ًا يف حوصلة صغرية‬
‫من سكان املدن وضفاف األهنار‪ ،‬ومرشوع اجلزيرة‪ ،‬وغريه من املشاريع‬
‫ريا صناعي ًا‪ .‬وهذه احلالة هي التي جعلت لقوى اليسار ذلك‬ ‫التي جيري ّ‬
‫التأثري الكبري يف تلك املرحلة‪ .‬وعندما تدهورت األمور وبدأت هجرة‬
‫تغي ًا كبري ًا‪.‬‬
‫الريف الضخمة إىل املدن‪ ،‬تغري املشهد الذي تغريت دينامياته‪ُّ ،‬‬
‫عرب عقود الفشل السودانية التي تلت االستقالل‪ ،‬أخذت الطبقة‬
‫اهلوة‬
‫الوسطى يف التآكل‪ ،‬بسبب خمتلف العوامل‪ .‬فباإلضافة إىل اتساع ّ‬
‫الذي ظل يتفاقم بمتواليات هندسية‪ ،‬بني تكلفة املعيشة وبني األجور‪،‬‬
‫كان عامل اإلبعاد السيايس للعاملني يف وظائف اخلدمة املدنية العامة‪،‬‬
‫حارض ًا دائ ًام يف تدمري الطبقة الوسطى‪ .‬فقد مارس الشيوعيون‪ ،‬ما‬
‫وصفوهم بـ «الرجعيني»‬ ‫َس ّموه «التطهري»‪ ،‬الذي عنى لدهيم‪ ،‬طرد من َ‬
‫من اخلدمة العامة‪ .‬مارسوا ذلك حني سيطروا عىل جبهة اهليئات‪ ،‬عقب‬
‫ثورة أكتوبر ‪ ،1964‬ومارسوه حني حتالفوا مع نظام جعفر نمريي يف‬
‫بداياته‪ .‬وجاء اإلسالميون إىل احلكم بانقالهبم يف عام ‪ ،1989‬فامرسوا‬
‫وس ّموا إحالل عضويتهم مكان‬ ‫نفس األسلوب‪ ،‬مع كل من عداهم‪َ .‬‬
‫اآلخرين يف جهاز الدولة «التمكني»‪ ،‬ويعني ذلك لدهيم أهنم بذلك‬
‫يتمكنون يف األرض وفق ًا للبشارة القرآنية‪ .‬بذلك النهج‪ ،‬سيطر‬

‫‪272‬‬
‫فتحولت الدولة عىل أيدهيم‪ ،‬إىل‬
‫ّ‬ ‫اإلسالميون عىل كل مفاصل الدولة‪،‬‬
‫وحتول حزهبم إىل دولة‪ ،‬هي الدولة السودانية‪.‬‬
‫حزب‪ ،‬هو حزهبم‪ّ ،‬‬
‫عرب الرصاع الطويل املرير‪ ،‬بني الشيوعيني واإلسالميني‪ ،‬ورصاعهام‪،‬‬
‫كل تنظيم عىل حده‪ ،‬مع األنظمة العسكرية‪ ،‬تبددت جهود التنمية‬ ‫ّ‬
‫والتحديث‪ ،‬وتراجعت كفاءة جهاز الدولة‪ ،‬وتراجع األداء احلكومي‬
‫تراجع ًا مذهالً‪ ،‬وتزايدت النعرات اجلهوية واسترشى محل السالح‬
‫يف األطراف عىل ُسلطة املركز‪ ،‬ما جعل اقتصاد الدولة‪ ،‬اهلزيل أصالً‪،‬‬
‫اقتصاد حرب ال تنتهي‪ .‬لقد استخدم الشيوعيون النقابات‪ ،‬ال لتحسني‬
‫أوضاع العاملني‪ ،‬وإنام هللهلة احلكومات وإصابتها بالشلل والعجز‬
‫كوسيلة لتحفيز عدم الرضا والغضب اجلامهريي وإنجاح مرشوع‬
‫الثورة‪ .‬وقد استخدم اإلسالميون احلركة الطالبية لذات الغرض‪.‬‬
‫فحالة االضطراب والعجز احلكومي املمتدة‪ ،‬التي أسهم كل من‬
‫الشيوعيني واإلسالميني يف خلقها‪ ،‬هي التي كانت تغري العسكريني‬
‫هتيء اجلمهور‪ ،‬من اجلهة‬
‫السلطة‪ .‬كام كانت هي التي ّ‬‫باالنقضاض عىل ُّ‬
‫األخرى‪ ،‬للرتحيب باالنقالبات العسكرية‪.‬‬
‫يف فرتة حكم اإلسالميني‪ ،‬التي امتدت من ‪ 1989‬إىل اليوم‪ ،‬تغريت‬
‫قواعد اللعبة القديمة متام ًا‪ .‬استطاع اإلسالميون‪ ،‬عرب سياسة الفصل‬
‫التعسفي من اخلدمة‪ ،‬ومواصلة سياسة إصدار كشوف الترسيح املتتالية‬
‫من اخلدمة العامة‪ ،‬والتوجه نحو اخلوصصة‪ ،‬ورضب املؤسسات العامة‬
‫الكبرية‪ ،‬من القضاء عىل ما تبقى من اجلسم النقايب‪ ،‬الذي تبقى من حقبة‬
‫الرئيس نمريي‪ .‬أيض ًا‪ ،‬استخدم اإلسالميون‪ ،‬وبرضاوة شديد‪ ،‬جهاز‬
‫األمن‪ ،‬الذي أطلقوا يده يف النقابيني والقيادات احلزبية‪ ،‬حتى قضوا عىل‬
‫بقايا اجلسم النقايب القديم قضاء يكاد يكون كامالً‪ .‬كام عملوا‪ ،‬يف نفس‬
‫الوقت‪ ،‬عىل خلق قيادات نقابية تابعة هلم‪ ،‬فأصبح ما تبقى من اجلسم‬
‫النقايب مستتبع ُا‪ ،‬إىل حدّ كبري جد ًا‪ُّ ،‬‬
‫للسلطة‪.‬‬

‫‪273‬‬
‫أكثر من ذلك‪ ،‬استطاع اإلسالميون أن يقسموا األحزاب املعارضة‪،‬‬
‫وأن ُيفقروها‪ ،‬وأن يق ّلموا أظافرها‪ .‬كام استطاعوا رضب الطبقة الوسطى‬
‫وترشيد العلامء واملفكرين وسائر املثقفني إىل املهاجر واملنايف االختيارية‬
‫املختلفة‪ .‬وأخري ًا جاءت احلركات اجلهوية املسلحة‪ ،‬فزادت الطني ب ّلة‪،‬‬
‫إذ ترشذمت القوى التي كانت‪ ،‬من قبل‪ ،‬تقف متّحدة‪ ،‬يف الريف واملدن‪،‬‬
‫يف وجهة احلكومات‪ .‬فلم تعد يف الواقع السيايس السوداين قوة عريضة‬
‫يمكن أن تشكل حتدّ ي ًا حقيقي ًا لإلسالميني‪ .‬ضعفت قوى املعارضة‪،‬‬
‫وتباعدت خطوط فصائلها‪ ،‬وتناقصت فرص توحيدها‪ ،‬وانحرس‬
‫تأثريها عىل الشارع‪ .‬وهذا هو ما جعل نظام ًا فاشالً‪ ،‬بكل املقاييس‪،‬‬
‫مثل نظام اإلسالميني يف السودان‪ ،‬يستمر ألكثر من ربع قرن‪ .‬فالنظام‬
‫احلاكم اآلن يف السودان‪ ،‬هو الفاعل األوحد يف الساحة السياسية‪ .‬وقد‬
‫أوصله نجاحه املضطرد يف تبديد شمل معارضيه وإضعاف تأثريهم‪،‬‬
‫ويف إتقان اللعب مع القوى اإلقليمية والدولية بغرض رشاء الوقت‪،‬‬
‫إىل حالة من الغرور العجيب‪ ،‬انعدم هبا لديه االستعداد‪ ،‬لكي يدخل‬
‫يف أي مساومة مع أحد‪ .‬وأصبح هنجه‪ :‬اصط ّفوا ورائي‪ ،‬أو افعلوا ما‬
‫تريدون‪ ،‬فلست مبالي ًا‪.‬‬
‫ُيؤ َتى الحَ ِذ ُر من مأمنه‬
‫لكن‪ ،‬مع كل اجلهد الذي بذله اإلسالميون يف قفل الباب عىل كل‬
‫السلطة‪ ،‬وامتالك أي آليات تُعني‬ ‫من عداهم يف احللم بالوصول إىل ُّ‬
‫يف الوصول إليها‪ ،‬فشلوا يف أن يسدّ وا كل الثغرات‪ .‬ولذلك انبثقت‪،‬‬
‫من حتت أرجلهم‪ ،‬الثغرة الكبرية‪ ،‬التي حتولت إىل الثغرة األخطر التي‬
‫السلطة‪ .‬فشل اإلسالميون يف أن يستمروا‬ ‫يمكن أن هتدّ د وجودهم يف ُّ‬
‫فج َرت بينهم‪ ،‬يف عام ‪ ،1999‬ما ُس ِّميت «املفاصلة»‪ ،‬التي‬
‫موحدين‪َ ،‬‬
‫َّ‬
‫متثلت يف اخلالف الذي أقىص الراحل‪ ،‬الدكتور حسن الرتايب عن‬
‫شق كبري من اإلسالميني‪ .‬ومل يقف األمر عند ذلك احلد‪،‬‬ ‫السلطة‪ ،‬ومعه ّ‬‫ُّ‬

‫‪274‬‬
‫فقد ختلصت الرئاسة‪ ،‬مؤخر ًا‪ ،‬من اإلسالميني الذين َص ّمموا املفاصلة‪،‬‬
‫أنفسهم‪ ،‬ودفعوا يف وجهتها‪ ،‬وظلوا مصط ّفني وراء الرئيس البشري ضد‬
‫الدكتور الرتايب‪ ،‬ألربعة عرش عام ًا‪.‬‬
‫خالصة األمر هي أن الدولة التي كانت قد سقطت بكليتها‪،‬‬
‫من قبل‪ ،‬يف قبضة احلزب‪ ،‬آلت يف هناية املطاف‪ ،‬إىل قلة قليلة جد ًا‪،‬‬
‫ال تتعدى الرئيس وأصدقاءه من العسكريني‪ ،‬وبعض الشخصيات‬
‫حتول مرشوع اإلسالميني‪ ،‬بعد‬ ‫املفصلية يف األجهزة األمنية‪ .‬لقد ّ‬
‫ربع قرن من اجلهد اجلهيد‪ ،‬ومن إهدار املوارد والطاقات واألرواح‪،‬‬
‫يروج له من خماوف‪ ،‬يسوقها‬ ‫إىل دولة يديرها‪ ،‬كلي ًا‪ ،‬جهاز األمن‪ ،‬بام ّ‬
‫باستمرار إىل مؤسسة الرئاسة‪ ،‬التي مل يعد أماهها أي مرشوع‪ ،‬أو أي‬
‫هدف‪ ،‬سوى جمرد التشبث بالبقاء يف احلكم‪ ،‬وبأي سبيل‪ .‬وهكذا‬
‫أصبحت مؤسسة الرئاسة تسعى بكل جهدها‪ ،‬إىل التهام كل مساحة‬
‫للحرية وللحراك السيايس‪ ،‬حتى داخل حزهبا نفسه‪ ،‬املسمى «حزب‬
‫املؤمتر الوطني»‪ ،‬مستخدمة يف ذلك جهاز األمن الذي أضحى الكل‬
‫يف الكل‪ .‬لقد دخل السودان‪ ،‬منذ فرتة‪ ،‬إىل ما يمكن أن نسميه حالة‬
‫«توازن الضعف»‪ .‬فال احلكومة قادرة عىل أن تنجز شيئ ًا‪ ،‬أو حتى أن‬
‫توقف‪ ،‬أو تبطئ قلي ً‬
‫ال من حالة االهنيار املضطردة‪ ،‬وال املعارضة قادرة‬
‫عىل أن تشكل خطر ًا عىل احلكومة‪.‬‬
‫التوليف ‪Synthesis‬‬

‫لقد كان صعود اليسار يف السودان‪ّ ،‬‬


‫بكل مكوناته‪ ،‬حالة طارئة‬
‫تستمر طويالً‪ ،‬كام سلفت اإلشارة‪ .‬ولقد‬
‫ّ‬ ‫عابرة‪ ،‬ما كان هلا أص ً‬
‫ال أن‬
‫تبددت كل الظروف التي ساعدت ذلك الصعود‪ .‬ولقد كان تفكك‬
‫االحتاد السوڤييتي‪ ،‬واهنيار التجربة الشيوعية فيه ويف رشق أوروبا‪،‬‬
‫املنعطف احلاسم‪ ،‬الذي دفع‪ ،‬من جديد‪ ،‬بالسؤال يف كيفية االستفادة‬

‫‪275‬‬
‫من إرث اليسار إىل الواجهة‪ ،‬خاصة إرث احلزب الشيوعي السوداين‪.‬‬
‫كام أن سقوط أنظمة احلزب الواحد القومية يف مرص‪ ،‬ويف العراق‪ ،‬ويف‬
‫ليبيا‪ ،‬وما جيري من سقوط بالغ الكلفة هلا يف سوريا اآلن‪ ،‬قد جعلت‬
‫أحزاب البعثيني والنارصيني يف السودان‪ ،‬عىل ضعف مجاهرييتها‪ ،‬وقلة‬
‫مسميات بال كيانات حقيقية مؤثرة‪.‬‬
‫تأثريها‪ ،‬جمرد ّ‬
‫إن مشكلة قوى اليسار والقوى الليربالية‪ ،‬واإلصالحيني‬ ‫ّ‬
‫اإلسالميني أضحت مشكلة عامة يف الوطن العريب‪ .‬ويف السودان‪ ،‬فإن‬
‫حالة الضعضعة التي تعرضت هلا هذه القوى‪ ،‬أحدثت فراغ ًا كبري ًا‪،‬‬
‫جعل الدولة ترتد عن مجيع مكتسبات احلداثة‪ ،‬وتعود القهقرى إىل‬
‫السلطة املركزية‪ ،‬وارتداد الناس إىل الق ّبلية واجلهوية‪.‬‬
‫عهود ضعف ُّ‬
‫نتصور مجيعنا‪ .‬وحتدي‬ ‫ّ‬ ‫فمشكلة السودان اليوم أضخم وأكرب مما‬
‫إعادة الدولة السودانية إىل سكة التحديث من جديد أصبح حتدي ًا بالغ‬
‫الضخامة‪.‬‬
‫سار احلزب الشيوعي‪ ،‬وتنظيم اإلخوان اجلمهوريني‪ ،‬يف منحدر‬
‫الضعف والتاليش‪ ،‬بسب فقدان القيادة التارخيية الكارزمية‪ .‬فباغتيال‬
‫األستاذ حممود حممد طه‪ ،‬اهنار تنظيم اإلخوان اجلمهوريني‪ ،‬واختفت‬
‫حركتهم التي كانت ملء السمع والبرص‪ ،‬لعقد ونصف من الزمان‪ .‬مل‬
‫يستطع اجلمهوريون إعادة بناء تنظيمهم‪ ،‬أو اجراء أي معاجلات فكرية‬
‫وتنظيمية‪ ،‬تضع حزهبم مرة أخرى داخل خريطة الفعل يف الواقع‬
‫السوداين‪ .‬ويعود ذلك إىل طبيعة املنظومة العقدية الغنوصية اجلوهرية‪،‬‬
‫التي تأسس عليها التنظيم‪ .‬أما احلزب الشيوعي السوداين‪ ،‬فقد انقطع‬
‫فيه‪ ،‬عقب اعدام عبد اخلالق حمجوب عام ‪ ،1971‬التنظري الذي بدأ‬
‫يف مزاوجة املاركسية بالواقع السوداين وتوطينها يف ترابه ومواريثه‪.‬‬
‫كام أصبحت قامات القيادات يف احلزب تتدنّى باضطراد ظاهر‪ ،‬حتى‬
‫وصلت إىل القيادة أسامء مل يكن السودانيون يعرفوهنا‪ ،‬أو يعرفون هلا أي‬

‫‪276‬‬
‫إسهام فكري‪ ،‬رغم تقدّ مها يف السن‪ ،‬وبقائها يف أجهزة احلزب لعقود‬
‫طويلة‪.‬‬
‫لقد أصبح احلزب الشيوعي السوداين اليوم‪ ،‬جمرد الفتة صدئة‪،‬‬
‫عز عليهم أن يتخلوا عن إرثهم النضايل‬ ‫أناس ّ‬ ‫ّ‬
‫يستظل بظلها املنحرس ٌ‬
‫الطويل‪ ،‬وتارخيهم احلافل باملكابدات‪ ،‬رغم أهنا مكابدات ّ‬
‫ظل مردودها‬
‫يتضاءل باستمرار‪ ،‬ويرتاجع عقد ًا بعد عقد‪ ،‬وسنة بعد سنة‪ .‬اقرتح عدد‬
‫من الشيوعيني السودانيني‪ ،‬منذ بداية التسعينات‪ ،‬تغيري اسم احلزب‬
‫الشيوعي‪ ،‬وجعله حيمل صفة االشرتاكية بدالً من صفة الشيوعية‪،‬‬
‫ذات احلمول غري املحببة‪ ،‬أو غري املهضومة‪ ،‬لدى مجهور يغلب عليه‬
‫التد ّين‪ ،‬إضافة إىل ما واجه الطرح الشيوعي نفسه من إشكاليات‪ .‬لكن‬
‫األكثرية اعرتضت بشدة‪ ،‬يف ما يبدو‪ ،‬وبقي احلزب الشيوعي السوداين‬
‫باسمه القديم‪ ،‬حتى اليوم‪.‬‬
‫مل يكن حكم اإلسالميني للسودان‪ ،‬عىل مدى ربع القرن املنرصم‪،‬‬
‫فبعض من إجيابياته أنه فكك البنى القديمة لألحزاب‬ ‫ٌ‬ ‫رش ًا كله‪.‬‬
‫التقليدية‪ ،‬وفتّتها وأهنكها‪ ،‬وق ّلل تأثريها‪ .‬لقد كرس حكم اإلسالميني‬
‫الدائرة املفرغة للرصاع السيايس غري املنتج‪ ،‬التي تكررت ست مرات‬
‫متتالية‪ ،‬بني ديمقراطية وانقالب عسكري‪ ،‬مع تدهور مستمر يف أحوال‬
‫الدولة‪ .‬بإيقاف دوران هذه احللقة املفرغة‪ ،‬ه ّيأ حكم اإلسالميني‪،‬‬
‫رغم كل اخلراب الذي أحدثه‪ ،‬الواقع السوداين لكي ينتقل إىل مرحلة‬
‫جديدة‪ .‬لقد أتاح حرمان اإلسالميني للقوى السياسية من البقاء يف‬
‫السلطة‪ ،‬ومن العمل السيايس عىل النسق الذي ساد منذ االستقالل‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫هلذه القوى أن تبدأ التفكري يف االنتقال إىل طور جديد‪ .‬قسم اإلسالميون‬
‫كل القوى؛ حزبية كانت أم نقابية‪ ،‬ثم ما لبثوا هم أنفسهم أن انقسموا‪.‬‬
‫فهم أيض ًا أبناء تلك املرحلة الغاربة‪ ،‬بل كانوا هم األكثر تلويث ًا‪.‬‬

‫‪277‬‬
‫أصبح اإلسالميون اآلن فرق ًا شتى‪ ،‬تقف أغلبيتها يف املعارضة‪.‬‬
‫لقد أوصل اإلسالميون الدفق املحافظ والتفكري السلفي واالنغالق‬
‫اإليديولوجي وأحالم إعادة الدولة اإلسالمية إىل مرحلة اإلهناك التام‬
‫وفقدان اجلاذبية‪ .‬وهذا يف حدّ ذاته إنجاز كبري مفرح‪ .‬لقد كان التفكري‬
‫املحافظ والسلفي‪ ،‬يرت ّبص بالدولة السودانية وبمرشوع احلداثة قبل‬
‫أن ينال السودان استقالله‪ .‬ومل يكن يف وسع القوى احلديثة‪ ،‬بمختلف‬
‫تنظيامهتا‪ ،‬صغرية احلجم‪ ،‬قليلة املوارد‪ ،‬ضعيفة التغلغل يف جذور‬
‫املجتمع السوداين‪ ،‬أن تقف يف وجه هذا املارد املاضوي‪ ،‬الذي خرج من‬
‫قمقمه عقب خروج الربيطانيني‪ ،‬ونيل االستقالل‪ .‬مل يكن هناك مناص‬
‫من أن جيرب السودانيون احلكم القائم عىل الشعار الديني‪ ،‬ويوصلوه‬
‫وحيسوه يف أنفسهم مسغبة‪ ،‬وعزلة‬ ‫ّ‬ ‫إىل هناياته ويروا فشله رأي العني‪،‬‬
‫دولية‪ ،‬وتراجع ًا عام ًا يف كل يشء‪ ،‬وحروب ًا جهوية‪ ،‬وانعدام ًا لألمن‬
‫الشخيص‪ ،‬وانغالق ًا‪ ،‬شبه تام‪ ،‬لنوافذ األمل يف حياهتم‪.‬‬
‫ظلت أحزاب األمة واالحتادي واإلسالميني ال تنفك تدخل يف‬
‫ائتالفات مع بعضها‪ ،‬لتحرز كرايس احلكم‪ ،‬يف حني ال تفتأ تتآمر عىل‬
‫بعضها‪ .‬اآلن صار اجلميع‪ ،‬بام فيهم اإلسالميون‪ ،‬يف بؤرة الضعف‬
‫والتشظي تلفهم احلرية يف جناحها‪ .‬هذه األحزاب الثالثة ال ختتلف عن‬
‫بعضها‪ ،‬فكلها جيمعها االرتكاز عىل الشعار الديني‪ ،‬والتبشري بدولة‬
‫الرشيعة اإلسالمية‪ ،‬من أجل إبقاء اجلمهور يف قبضها‪ ،‬ومن ثم‪ ،‬حراسة‬
‫االمتيازات املوروثة‪ ،‬وليس من أجل حتقيق الصالح العام‪ .‬ورغم أن‬
‫اإلسالميني ظنوا أهنم نقيض حلزب األمة واحلزب االحتادي‪ ،‬إال أن‬
‫التجربة العملية أوضحت أهنم مل يفعلوا شيئ ًا سوى أهنم ورثوا املؤسسة‬
‫االقتصادية للحزبني الكبريين والقوى الداعمة هلام‪ .‬بل اتضح أهنم أكثر‬
‫هن ًام‪ ،‬لشفط املال العام إىل اجليوب اخلاصة‪ ،‬من غريهم‪ ،‬وأكرب قدرة عىل‬
‫مأسسة الفساد‪ ،‬وأقل اكرتاث ًا ألحوال املواطنني‪ْ .‬أو َصل اإلسالميون‬

‫‪278‬‬
‫املجتمع السوداين‪ ،‬يف عقدين ونصف من الزمان‪ ،‬ليكون طبقتني؛‬
‫واحدة صغرية جد ًا‪ ،‬متلك كل يشء‪ ،‬وأخرى كبرية جد ًا‪ ،‬ال متلك أي‬
‫يشء‪.‬‬
‫عرب هذه الدورة الطويلة‪ ،‬غري املنتجة‪ ،‬التي بدأت منذ فجر‬
‫االستقالل انتهت مجيع القوى السياسية السودانية‪ ،‬بعد ستني عام ًا‪ ،‬يف‬
‫مر ّبع واحد؛ آلت فيه الدولة إىل أيدي ق ّلة قليلة‪ُ ،‬ت َسب عىل أصابع اليد‬
‫الواحدة‪ .‬هذا الطور اجلديد‪ ،‬عىل غموضه‪ ،‬وعىل احلرية الكبرية التي‬
‫تل ّفه‪ ،‬هو العتبة األوىل يف طريق االرتقاء إىل مرحلة إعادة تفعيل مرشوع‬
‫التحديث يف مستوى جديد‪ .‬ولذلك‪ ،‬ربام َت َع َّي عىل الذين خرجوا عىل‬
‫تنظيامهتم‪ ،‬سوا ٌء أكانت هذه التنظيامت هي األحزاب الطائفية التقليدية‪،‬‬
‫مسمياهتا‪ ،‬أم اإلسالميون التقليديون‪،‬‬ ‫أم األحزاب اليسارية بمختلف ّ‬
‫ُيضاف إىل ذلك‪ ،‬اإلسالميون اإلصالحيون‪ ،‬كاجلمهوريني‪ ،‬وبعض‬
‫املتصوفة الداعمني لرؤى احلداثة‪ ،‬كالشيخ أزرق طيبة ومن يشاهبونه‪،‬‬
‫واملستقلون الذين أصبح يمثلهم اآلن حزب املؤمتر السوداين‪ ،‬أن‬
‫يدخلوا يف حوار توليفي خللق جبهة عريضة‪ ،‬ربام يقود إىل تكوين حزب‬
‫كبري ذي توجهات ديمقراطية اشرتاكية‪.‬‬
‫أي جدوى لالستمرار يف صيغة األحزاب العقائدية‬ ‫مل تعد هناك ّ‬
‫بصورهتا القديمة‪ .‬فتلك مرحلة أرى أهنا قد انقضت متام ًا‪ .‬فاحلزب‬
‫الشيوعي السوداين لن يتجدّ د داخل اطاره التنظيمي املوروث من حقبة‬
‫احلرب الباردة‪ .‬وتنظيم اجلمهوريني لن يقوم عىل صيغته األوىل الدعوية‬
‫التي تعمل لكي يصطف وراءه ‪ 51%‬من اجلمهور‪ ،‬ويصبح يف مقدوره‬
‫السلطة كأغلبية‪ .‬كام أن أحزاب العروبيني؛ من بعثيني ونارصيني‬ ‫ممارسة ُّ‬
‫املنصات التي قامت عليها أصالً‪ّ .‬‬
‫إن العودة إىل الصيغ العقائدية‬ ‫اهنارت ّ‬
‫املاضية مل َت ُعد ممكن ًة من الناحية العملية‪ ،‬كام أهنا ليست مطلوب ًة اآلن‪،‬‬
‫ألهنا مل َت ُعد ذات جدوى يف سياق الراهن‪.‬‬

‫‪279‬‬
‫كل‬ ‫تصوري أن العمل املطلوب هو َع ْقد لقاءات تفاكرية بني ّ‬
‫يف ُّ‬
‫املتململني داخل أحزاهبم‪ ،‬والذين خرجوا عليها‪ ،‬وما أكثرهم‪ ،‬لرسم‬
‫تآلفي عريض‪ ،‬يلتقي يف خطوطه العريضة من كانوا ضمن قوى‬ ‫ّ‬ ‫تصور‬
‫ُّ‬
‫اليسار ومن كانوا ضمن األحزاب الطائفية‪ ،‬ومن محلوا السالح يف‬
‫اهلوامش املختلفة‪ ،‬إضافة إىل من خرجوا عىل تنظيامت اإلسالميني‪.‬‬
‫ويف تقديري‪ ،‬أن كثريين ممن كانوا منضوين حتت لواء «املؤمتر الوطني»‪،‬‬
‫و»املؤمتر الشعبي»‪ ،‬سوف يغادروهنام بعد وفاة الدكتور حسن الرتايب‪.‬‬
‫وجير‪ ،‬من ثم‪ ،‬الدولة يف‬
‫فالنقلة التي حاول الرتايب أن ينقل تنظيمه إليها‪ّ ،‬‬
‫وجهتها‪ ،‬مل تكتمل‪ .‬وال يوجد يف َمن خ ّلف وراءه ِمن قيادات يف املؤمتر‬
‫الشعبي‪َ ،‬من يملك من القدرات ما جيعل املؤمتر الشعبي يبقى مغاير ًا‬
‫للمؤمتر للوطني‪ ،‬سوى بالالفتة وحدها‪.‬‬
‫يف السودان اآلن‪ ،‬حسب إحصائية احلكومة‪ ،‬سبعون حزب ًا‪ ،‬أكثر من‬
‫السلطة‪ ،‬لتقول للعامل إهنا ترشك اآلخرين يف‬
‫‪ 95%‬منها أحزاب صنعتها ُّ‬
‫املامرسة السياسية‪ .‬فالسودان بحاجة إىل تبلور قوتني كبريتني‪ .‬ومعلوم‬
‫أن الديمقراطيات الكبرية الراسخة تقوم عىل تيارين كبريين‪ :‬أحدمها‬
‫حمافظ يسنده املالكون الكبار‪ ،‬وأهل الثروة وشبكات منظومتهم‪،‬‬
‫ممن ْيؤ ِمنون بأن وقى السوف هي املنظم للحياة القتصادية‪ ،‬بل‬
‫واالجتامعية‪ ،‬واآلخر ليربايل يسنده‪ ،‬بصورة رئيسة‪ ،‬املهنيون وصغار‬
‫ا ُمل َّلك واحلرفيون والعاملون بمختلف فئاهتم‪ ،‬ممن يؤمنون بدَ ور الدولة‬
‫يف حراسة مصالح من ال يملكون‪.‬‬
‫شق من‬
‫شق واحد من هذه الثنائية‪ ،‬وهو ّ‬ ‫تكون يف السودان ّ‬
‫لقد َّ‬
‫السلطة والثروة وحرسوها باإليديولوجيا الدينية منذ سلطنة‬
‫توارثوا ُّ‬
‫ّ‬
‫ويفك‬ ‫ِ‬
‫الشق اآلخر الذي يمكن أن ُيقيم الدولة احلديثة‬
‫الفونج‪ .‬أما ّ‬
‫أقدام الدولة من مربط اخلطاب الديني‪ ،‬احلارس للمظامل والعامل‬
‫يتكون بعد‪ .‬وكل ما نشاهده اآلن من إغالق يف‬
‫عىل استدامتها‪ ،‬فلم ّ‬

‫‪280‬‬
‫األفق السيايس يف الظرف احلايل‪ ،‬إنام هو دعوة بليغة‪ ،‬بلسان احلال‪ ،‬إىل‬
‫املتكون‪ ،‬متثله قوى احلزبني الطائفيني‬
‫ِّ‬ ‫الشق‬
‫الشق الثاين‪ّ .‬‬ ‫تكوين هذا ّ‬
‫الكبريين‪ ،‬واإلسالميون‪ ،‬وكل هؤالء جيمعهم الشعار اإلسالمي‪،‬‬
‫وجتمعهم منظومة املصالح االقتصادية املوروثة‪ ،‬إضافة إىل منظومة‬
‫تكونت حديث ًا وسط اإلسالميني بعد استيالئهم‬ ‫املصالح اجلديدة‪ ،‬التي ّ‬
‫تنفك تنشب بني أحزاب‬ ‫عىل جهاز الدولة‪ .‬ورغم اخلالفات التي ال ّ‬
‫قوي منظومة مصاحلها‪ ،‬فإهنا‬ ‫ٌ‬
‫حراك ّ‬ ‫هذه املجموعة‪ ،‬إال أهنا‪ ،‬ما إن هيدّ د‬
‫تلتئم مع بعضها البعض برسعة الربق‪.‬‬
‫لقد ظلت القوى السياسية السودانية‪ ،‬بمختلف تياراهتا‪ُ ،‬تري‬
‫مطولة مع ذاهتا‪ ،‬كل واحدة مع ذاهتا فقط‪ ،‬منفصلة عن‬ ‫مونولوجات ّ‬
‫اآلخرين‪ .‬مل جير حوار حقيقي‪« ،‬ديالوج»‪ ،‬بني قياد ّيي القوى السياسية‬
‫اور بعضها‪ ،‬وال هي‪ ،‬منفردة أو‬ ‫السودانية إىل اليوم‪ .‬فال قوى اليسار ُت ِ‬
‫إن واجب املرحلة هو إجراء حوار‪ ،‬ينخرط‬ ‫اور قوى اليمني‪ّ .‬‬ ‫جمتمعة‪ُ ،‬ت ِ‬
‫فيه اجلميع متجاوزين حالة التوازي الفكري‪ ،‬التي كانت تفصل بينهم‬
‫واملرجو هو أن جيري هذا احلوار عرب كل التقاطعات القديمة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يف املايض‪.‬‬
‫لكي يصل إىل إجياد أرض فكرية مشرتكة‪ ،‬متزج ما بقي صاحل ًا من رؤى‬
‫اليسار‪ ،‬ومن رؤى الليرباليني‪ ،‬ومن رؤى اإلصالحيني الدينيني‪ ،‬ومن‬
‫رؤى املستق ّلني‪ ،‬ورؤى أهل اهلامش‪ ،‬من محل منهم السالح‪ ،‬ومن مل‬
‫حيمله‪ ،‬لكي يظهر برنامج مشرتك لفرتة مرحلية طويلة يعاد هبا ال ُق ْطر إىل‬
‫سكة احلداثة وإىل البناء السيايس واالقتصادي واالجتامعي‪ .‬وجيب أال‬
‫نُبعد من أذهاننا احتامل أن ال ُت ْب ِقي احلكوم ُة القائم ُة هلذه اجلبهة العريضة‬
‫أي فرصة للعمل سوى أن حتمل السالح يف مواجهتها‪ ،‬مع من حيملونه‬ ‫َّ‬
‫اآلن‪ .‬غري أن األمل يف أال حيدث ذلك ال يزال حي ًا‪ ،‬ونتمنى أال تصبح‬
‫أرض السودان ساحة للقتال‪ ،‬أكثر مما هي عليه اآلن‪ ،‬بني نظام حكم‬
‫متجرب‪ ،‬وشعب بلغ به اإلهناك مبلغ ًا ال يصدَّ ق‪.‬‬

‫‪281‬‬
‫أن نقل ًة مثل هذه‪ ،‬تتط ّلب وعي ًا نوعي ًا جديد ًا‪،‬‬
‫ليس غائب ًا عن بايل ّ‬
‫تتجاوز به قيادات القوى احلديثة‪ ،‬ومن يشاركوهنم الرؤى من اخلارجني‬
‫تصوري أن احلوار‪ ،‬وحراك الواقع‪،‬‬ ‫عىل القوى القديمة‪ ،‬نفسها‪ .‬ويف ُّ‬
‫سوف يبلوران هذا النوع من الوعي‪ .‬واألمل‪ ،‬هو أن تفرض هذه النقل ُة‬
‫نفسها فرض ًا‪ .‬فإن مل َتدُ ث فإن حقبة من اخلراب الكبري‪،‬‬ ‫يف الوعي‪َ ،‬‬
‫واآلالم الفظيعة املمتدة‪ ،‬سوف ختيم عىل البالد ألمد‪ ،‬ربام يطول‪.‬‬

‫‪282‬‬
‫الفصل السابع‬

‫‪‬‬

‫علمان ّية الدّولة أم دين ّيتها؟‬


‫محاولة لمؤالفة المفهومَ ْين‬
‫تفاكري ض ّم نخبة من األكادمييني والكتّاب‬
‫ٍّ‬ ‫ملتقى‬
‫ً‬ ‫قُدّمت هذه الورقة يف‬
‫والسياسيني السودانيني يف نريويب يف مارس ‪.2017‬‬

‫مقدمة‬
‫ظ ّلت عبارة «حتكيم رشع اهلل»‪ ،‬لعقود طويلة‪ ،‬هي العبارة السحرية‪،‬‬
‫التي استطاعت تيارات اإلسالم السيايس أن حتشد هبا‪ ،‬سياسي ًا‪ ،‬قطاع ًا‬
‫عريض ًا من اجلمهور املسلم‪ ،‬وحترصه هبا يف جيب التبسيط‪ .‬وهكذا‪،‬‬
‫التصور‪ ،‬بأن ما ُد ِرج عىل تسميته‪ ،‬تارخيي ًا‪« ،‬الرشيعة اإلسالمية»‪،‬‬
‫ّ‬ ‫نشأ‬
‫بحل قضايا الفكر‪ ،‬والسياسة‪،‬‬ ‫هو الوصفة السحرية الوحيدة‪ ،‬الكفيلة ّ‬
‫واالجتامع‪ ،‬يف واقع املسلمني احلديث‪ ،‬املأزوم‪ ،‬املتّسم بالرتكيب‬
‫والتنوع‪ ،‬والتعقيد‪.‬‬
‫هذه الدعوة التي بدأت إرهاصاهتا يف ما ُيطلق عليه‪« ،‬عرص النهضة‬

‫‪283‬‬
‫العربية»‪ ،‬ثم عال ِصيتها يف النصف األول من القرن العرشين‪ ،‬خاص ًة‪،‬‬
‫يف مرص وباكستان‪ ،‬دعوة مأزومة‪ ،‬أفرزهتا الصفعة احلضارية املجلجلة‪،‬‬
‫التي نتجت عن التقاء الرشق اإلسالمي‪ ،‬وجه ًا لوجه‪ ،‬مع احلضارة‬
‫الغربية‪ ،‬إ ّبان احلقبة االستعامرية‪ .‬حينها‪ ،‬أدركت النخب املسلمة‪ ،‬عن‬
‫يقني‪ ،‬مقدار خت ّلف واقعها‪ .‬ولكن‪ ،‬بدالً من أن تتجه عقول هؤالء‬ ‫ٍ‬
‫محلة شعار «الدستور اإلسالمي»‪ ،‬و»أسلمة الدولة»‪،‬‬ ‫الدعاة‪ ،‬من َ‬
‫إىل مناقشة ُسبل اخلروج من ربقة التخلف‪ ،‬بدراسة التجربة الغربية‪،‬‬
‫ومعرفة الكيفية التي انطلقت هبا أوروبا من سيطرة الكنيسة‪ ،‬واإلقطاع‪،‬‬
‫احلق املقدس لألباطرة وامللوك‪ ،‬يف احلكم‪ ،‬اختاروا االنكفاء عىل‬
‫وقبضة ّ‬
‫اجلوانب غري املرشقة‪ ،‬يف تارخيهم الديني‪ ،‬والعودة إىل متون النصوص‬
‫الدينية‪ ،‬وتأويالهتا القارصة عن شأو العرص‪ ،‬لدى الكتّاب املدفوعني‬
‫بالعاطفة الدينية‪ ،‬وحدها‪ ،‬حماولني كبس واقع بالغ السعة‪ ،‬والتعقيد‪،‬‬
‫واحليوية‪ ،‬يف أضابري نصوص الفقه القديمة‪ ،‬بالغة الضيق‪.‬‬
‫وفكر إصالحي‪ ،‬جنح هؤالء الدعاة‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫نقدية‬ ‫بدالً من تقديم أدبي ٍ‬
‫ات‬ ‫ّ‬
‫إىل املزايدة‪ ،‬واالستعالء‪ .‬فامتطوا ظهر حصان التفوق األخالقي‪ ،‬الذي‬
‫توهوا أهنم ممتطوه الوحيدون‪ ،‬فوصف بعضهم؛ مثال حممد قطب‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫احلالة الكوكبية املتو ّثبة‪ ،‬حينها‪ ،‬املحتشدة من أجل حتقيق قفزات أكرب‬
‫يف التقنية والتنمية‪ ،‬ويف الديمقراطية‪ ،‬وحقوق اإلنسان‪ ،‬بـ «جاهلية‬
‫القرن العرشين»‪ .‬أدى ذلك التبسيط إىل انحصار قطا ٍع ٍ‬
‫كبري جد ًا‪ ،‬من‬
‫العقول العربية واإلسالمية‪ ،‬خاصة عقول الشباب‪ ،‬والطالب‪ ،‬عىل‬
‫امتداد العامل اإلسالمي‪ ،‬يف هذا اجليب املتحوصل‪ ،‬غري املنتج‪ .‬وهكذا‪،‬‬
‫أضاع ر ّد الفعل املأزوم‪ ،‬جتاه تقدُّ م الغرب‪ ،‬عىل الشعوب اإلسالمية‪ ،‬ما‬
‫يقارب القرن من الزمان‪ُ ،‬أ ِنفق معظمه يف العنف السيايس‪ ،‬والتجارب‬
‫االعتباطية‪ .‬لكن‪ ،‬كام رأينا‪ ،‬فقد دعت‪ ،‬حركة النهضة التونسية‪ ،‬مؤخر ًا‬
‫جد ًا‪ ،‬وهي أول اخلارجني من تلك الغيبوبة الطويلة‪ ،‬إىل رضورة فصل‬

‫‪284‬‬
‫ٍ‬
‫بصورة‬ ‫الدّ َع ِو ّي عن السيايس‪ ،‬كلي ًا‪ .‬وجاء تراجع حركة النهضة ذلك‪،‬‬
‫أمر يوحي‪ ،‬أن ضغوط الواقع‬ ‫منهجي كاف‪ .‬وهو ٌ‬
‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫تسبيب‬ ‫مفاجئة‪ ،‬وبال‬
‫ِ‬
‫السيايس‪ ،‬وحسابات الربح واخلسارة‪ ،‬كان هلا الدَّ ور األكرب يف إحداث‬
‫تلك النقلة‪ .‬ومع ذلك‪ُ ،‬يمد حلركة النهضة ذلك اإلعالن‪ ،‬ألن فيه‬
‫ٍ‬
‫جديد‪ ،‬مغاير‪.‬‬ ‫اعرتاف ًا عملي ًا باألزمة‪ ،‬ودعو ًة للتفكري عىل ٍ‬
‫نحو‬
‫من الناحية األخرى‪ ،‬نشأ من صدمة االحتكاك بالغرب‪ ،‬عن‬
‫تيار آخر‪ ،‬مأزوم‪ ،‬مت َّثل يف املاركسيني‪ ،‬والعروبيني؛ من نارصيني‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫كثب‪ٌ ،‬‬
‫وبعثيني‪ .‬أدار هؤالء ظهرهم لرتاثهم‪ ،‬وواقعهم الثقايف‪ ،‬واالجتامعي‪،‬‬
‫لتنشأ عىل أيدهيم ما يمكن أن نصفها بحكومات الصفوة املغرتبة عن‬
‫واقعها‪ ،‬املنبهرة بالعلامنية‪ ،‬ولكن‪ ،‬عىل النمط الشيوعي‪ ،‬االستبدادي‪،‬‬
‫الذي يعتمد نظام احلزب الواحد‪ ،‬والدولة األمنية‪.‬‬
‫عطلت هذه النخب العلامنية العروبية‪ ،‬حراك الوعي‪ ،‬وحراك‬
‫الثقافة احلرة‪ ،‬والتنمية‪ ،‬وحراك جتديد اخلطاب الديني‪ ،‬وقعدت‬
‫باألوطان‪ ،‬عقود ًا من الزمان‪ .‬وحني تساقطت هذه األنظمة‪ ،‬مؤخر ًا‪ ،‬يف‬
‫ثورات الربيع العريب‪ ،‬أسفر التحول املعلول‪ ،‬الناقص‪ ،‬الذي جرى‪ ،‬عن‬
‫ٍ‬
‫واضطراب يف العالقات‬ ‫ٍ‬
‫ملحمية‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫وهجرات مجاعية‬ ‫ٍ‬
‫ودمار‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫خراب‪،‬‬
‫ٍ‬
‫الدولية‪ ،‬وانبها ٍم ُّ‬
‫للسبل‪ ،‬وحرية مطبقة‪ .‬وكام رأينا يف مرص‪ ،‬فقد أعادت‬
‫النخب الكارهة لإلسالم السيايس الديكتاتورية العسكرية‪ ،‬من جديد‪،‬‬
‫وأحوال مرصية ٍ‬
‫عامة أسوأ من ذي قبل‪ ،‬بكثري‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وكفاءة أقل‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫بعيار أقل‪،‬‬
‫تقول كثري من الشواهد‪ ،‬اآلن‪ ،‬إن األزمة املزمنة‪ ،‬قد أخذت تعيد‬
‫نحو جديد‪ .‬ولقد م ّثل السودان‪ ،‬الذي هو موضوع‬ ‫إنتاج نفسها‪ ،‬عىل ٍ‬
‫هذا امللتقى‪ ،‬املخترب الذي جرت فيه جتربة اإلسالم السيايس‪ ،‬التي قدّ مت‬
‫أبلغ دليل عىل أن «أسلمة الدولة» أو « َد ْينَنتها»‪ ،‬تعني‪ ،‬بالرضورة‪ ،‬قيام‬
‫نظام حكم أوتوقراطي َيدَّ ِعي قدسية ساموية‪ ،‬جتعله يضع نفسه فوق‬

‫‪285‬‬
‫النقد‪ ،‬وجتعله ضنين ًا‪ ،‬بحكم طبيعته الدينية املنغلقة‪ ،‬يف بسط احلريات‬
‫العامة‪ ،‬وكفالة حرية الضمري‪ ،‬وحرية التعبري‪ ،‬وحرية التنظيم‪ .‬كام يعني‬
‫عزل فئة من سكان ال ُقطر بحكم إيامهنم‬ ‫إلباس الدولة صبغ ًة ديني ًة‪َ ،‬‬
‫ُ‬
‫بعقائد دينية أخرى‪ ،‬وهو ما يقود‪ ،‬وقد قاد بالفعل‪ ،‬يف جتربتنا السودانية‪،‬‬
‫والش َذمة‪ .‬وأسوأ من كل ذلك‪ ،‬أن الدولة الدينية بطبيعتها‬ ‫إىل التقسيم َّ ْ‬
‫القابضة التي جتعل الصواب منحرص ًا يف ما حتمله عقول مقيميها‬
‫وحراسها‪ ،‬وحدهم‪ ،‬جتهض‪ ،‬بالرضورة حيوية األمة‪ ،‬وتتسبب يف مخود‬
‫طاقة دفعها‪ ،‬بام حتدثه من شلل عقيل وسط كل قواها احلية‪.‬‬
‫جدلية الديني والعلماني‬
‫معسكر ْي ال َعلامنية والدين‪ ،‬يف‬
‫َ‬ ‫مالت النخب احلداثية السودانية‪ ،‬يف‬
‫ممارستهام السياسية يف الواقع السوداين‪ ،‬إىل هنج القفز عىل الواقع‪ ،‬والتغيري‬
‫من أعىل إىل أسفل‪ .‬فاتبعت هنج االنقالبات العسكرية‪ ،‬بدالً من العمل‬
‫الوئيد من القواعد‪ُ ،‬صعد ًا إىل أعىل‪ ،‬طلب ًا للتغيري‪ .‬انتهت االنقالبات‬
‫كل من العلامنيني‪ ،‬واإلسالميني السودانيني‪،‬‬ ‫العسكرية‪ ،‬التي قام هبا ٌّ‬
‫مدو‪ .‬فالنخب التي قادت هذه املسرية الطويلة‪ ،‬التي اتسمت‬ ‫فشل ٍّ‬‫إىل ٍ‬
‫باإلخفاق الشديد‪ ،‬مل تكن متلك إدراك ًا عميق ًا‪ ،‬ال للعلامنية‪ ،‬وال للدين‪.‬‬
‫وقف وراء جتارب احلكم العربية اإلسالمية الطويلة املتعثرة‪،‬‬
‫َصوران قارصان‪ .‬فال العلامنية‪ ،‬كوعاء للحريات‪ ،‬وللديمقراطية‪،‬‬ ‫ت ُّ‬
‫وفصل السلطات‪ ،‬ولشفافية احلكم‪ ،‬وحلراسة احلقوق‪ ،‬كانت مفهوم ًة‪،‬‬
‫ومط ّبق ًة‪ ،‬كام ينبغي‪ .‬وال الدِّ ين‪ ،‬يف ُبعده الروحاين‪ ،‬الذي يربط‬
‫املجتمعات بمرجعيته األخالقية‪ ،‬وقواعد تربيته‪ ،‬خاصة تربية النشء‪،‬‬
‫وبوصفه؛ أي الدين‪ ،‬رافع ًة ساند ًة لثقافتها التكافلية‪ ،‬الرتامحية‪ ،‬كان‪،‬‬
‫سارنا العلامين‪ ،‬ديكتاتوري‬
‫نحو صحيح‪ .‬ف َي ُ‬ ‫هو اآلخر‪ ،‬مفهوم ًا‪ ،‬عىل ٍ‬
‫إقصائي‪ ،‬وإسالميونا‪ ،‬ديكتاتوريون إقصائيون‪ ،‬بل‪ ،‬ورأسامليون‬

‫‪286‬‬
‫أقحاح‪ ،‬كام ب ّينت جتربة اإلنقاذ يف السودان‪ .‬فهم يرفعون الشعار‬
‫املتوحشة‪ ،‬فيطحنون‬
‫ّ‬ ‫اإلسالمي‪ ،‬ويديرون البالد بمنهج الرأساملية‬
‫جمتمعاهتم‪ ،‬ومنظومة قيمها‪ ،‬طحن ًا ذريع ًا‪.‬‬
‫ٍعريض من العلامنيني‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫هناك عداء أعمي للفظة «ديني»‪ ،‬وسط قطاع‬
‫ٍ‬
‫وهناك عداء أعمى للفظة «علامين»‪ ،‬وسط قطا ٍع كبري من املتدينني‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬نشأت حال ٌة من االستقطاب واالنقسام املجتمعي‪ ،‬تتسم بالسري‬
‫يف خطني متوازيني‪ ،‬وبعدم االستعداد‪ ،‬بل‪ ،‬وعدم القدرة عىل توليف‬
‫املفاهيم‪ ،‬ومزاوجتها‪ .‬رغم أن «علامنية الدولة»‪ ،‬من جهة‪ ،‬و»روح‬
‫طرف نقيض‪.‬‬ ‫الدين»‪ ،‬من اجلهة األخرى‪ ،‬ال يقفان‪ ،‬يف حقيقة األمر‪ ،‬عىل َ ْ‬
‫نسق ًا‬‫فالذين يرون رضورة أن تكون الدولة‪ ،‬بوصفها جهاز ًا إداري ًا ُم ِّ‬
‫جلهود األمة‪ ،‬دول ًة علامنية؛ أي حمايد ًة جتاه األديان املختلفة‪ ،‬ال ينبغي أن‬
‫يكونوا‪ ،‬بالرضورة‪ ،‬يف نظر خصومهم‪ ،‬رافضني للدين‪ ،‬أو معارضني‬
‫للتدين‪ ،‬ولقيمه الرفيعة‪ .‬كام أن مفهوم التدين‪ ،‬لدى ُغالة العلامنيني‪،‬‬
‫الذين يرون يف الدين ممارسة من خملفات املايض‪ ،‬وأن َدوره يف احلياة‬
‫أوشك‪،‬‬ ‫ال يتعدى تعطيل طاقات الشعوب‪ ،‬وحراسة التخلف‪ ،‬مفهوم َ‬
‫هو اآلخر‪ ،‬عىل االنقراض‪ .‬فحالة العداء املطلق للدين وللتدين‪ ،‬التي‬
‫أذكتها التصورات املاركسية‪ ،‬اللينينية‪ ،‬الستالينينة‪ ،‬املاوية‪ ،‬وبلغت حدَّ‬
‫تبخرت‪ ،‬هي األخرى‪ ،‬متام ًا‪ ،‬مع اهنيار املنظومة الشيوعية‪.‬‬ ‫جتريمه‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫ووضح أن غالبية البرش يظلون متدينني‪ ،‬بطريقة أو بأخرى‪ .‬بل‪ ،‬لقد‬
‫كانت الكنيسة البولندية‪ ،‬ذراع ًا‪ ،‬قوي ًا‪ ،‬داع ًام حلركة «تضامن»‪ ،‬التي‬
‫فكّكت النظام الشيوعي‪ ،‬وأعادت احلريات والديمقراطية يف بولندا‪.‬‬
‫كام أن تيار الهوت التحرر‪ ،‬يف أمريكا الالتينية م ّثل ذراع ًا ساند ًة‬
‫للتحول الديمقراطي‪.‬‬
‫بقي التدين‪ ،‬كام هو واضح من كل مسرية التاريخ اإلنساين‪،‬‬
‫ظاهر ًة مرتبط ًة عضوي ًا بالتكوين النفساين للفرد البرشي‪ ،‬وللجامعات‬

‫‪287‬‬
‫البرشية‪ ،‬أينام ُوجدت‪ .‬بل أثبت علم االجتامع الدَّ ور التارخيي للدين يف‬
‫حياة املجتمعات‪ .‬لكن‪ ،‬كام يرى هربماس‪ ،‬فإن من الالزم عىل الوعي‬
‫اندماجية يف املجتمع احلديث‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫صريورة‬ ‫الديني‪ ،‬أن ينجح يف اجرتاح‬
‫فعىل الرغم من أن الدِّ ين يمثل يف األصل‪« ،‬تصور ًا للعامل»‪ ،‬أو «فه ًام‬
‫السلطة‪ ،‬ليبني شك ً‬
‫ال‬ ‫قائ ًام عىل عقيدة»‪ ،‬يرى أن من حقه الوصول إىل ُّ‬
‫كيل‪ ،‬فإن عليه اآلن أن يعرف كيف يستغني‬ ‫ٍ‬
‫من أشكال احلياة‪ ،‬يف إطار ٍّ‬
‫بعبارة أخرى‪ ،‬عىل املتد ِّينني أن يستغنوا عن احلق يف‬ ‫ٍ‬ ‫عن هذا احلق‪.‬‬
‫احتكار التأويل‪ ،‬والتنظيم الشامل للحياة‪ ،‬نزوال عند رشوط علامنية‬
‫العلم‪ ،‬ورضورة أن تكون ُسلطة الدولة ُسلطة حمايدة‪ ،‬تتيح املجال‬
‫العام للحريات الشاملة‪ ،‬وأال تترصف وكأهنا متثل احلق املطلق‪.219‬‬
‫حيق للمواطن العلامين‪ ،‬طاملا ارتىض أن‬ ‫ومن الناحية األخرى‪ ،‬ال ّ‬
‫يقدّ م نفسه كمواطن‪ ،‬أن يستهجن‪ ،‬أو يسخر‪ ،‬من التصورات الدينية‬
‫املتعلقة بحقيقة العامل‪ .‬وال ينبغي من ثم‪ ،‬أن ينكر عىل املواطن املتدين‬
‫بلغة دينية‪ ،‬أو ينكر عليه حقه يف طرح مواضيع‬ ‫حقه يف التعبري عام يراه‪ٍ ،‬‬
‫منظور ديني‪ .‬أكثر من ذلك‪ ،‬ينبغي عىل الثقافة‬‫ٍ‬ ‫للمناقشة العمومية‪ ،‬من‬
‫العلامنية الليربالية أن تطالب املواطن العلامين أن جيتهد من أجل ترمجة‬
‫واضحة بالنسبة للجميع‪.220‬‬ ‫ٍ‬ ‫الدراسات الدينية املهمة‪ ،‬إىل لغة عمومية‪،‬‬
‫يرى كامل عبد اللطيف‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬أن هناك رضورة مستمرة‪،‬‬
‫لتجديد النظر السيايس وتطويره‪ .‬ويعني هذا أن ال يرتبط استخدام‬
‫مفهوم العلامنية‪ ،‬يف اجلدل السيايس‪ ،‬يف السياق العريب اإلسالمي‪،‬‬
‫يتحول‬ ‫ٍ‬
‫مغلقة‪ ،‬وهنائية‪ .‬بل ينبغي أن‬ ‫بدالالت متحج ٍ‬
‫رة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫الراهن‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫استخدامه‪ ،‬يف هذا السياق‪ ،‬إىل مناسبة إلعادة إنتاجه‪ ،‬وإعادة تعريفه‬

‫‪ .219‬يورغن هربماس‪ ،‬وجوزيف راتسنغز‪ ،‬جدلية العلمنة والعقل والدين‪( ،‬تعريب‪ :‬حميد لشهب)‪،‬‬
‫جداول للنرش والتوزيع‪ ،‬الكويت‪ ،2013 ،‬ص ‪.60‬‬
‫‪ .220‬املصدر السابق ‪ ،‬ص ص ‪.63- 62‬‬

‫‪288‬‬
‫ٍ‬
‫قادرة‪ ،‬عىل أن تستوعب‬ ‫ٍ‬
‫جديدة‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫بدالالت‪،‬‬ ‫يف السياق السيايس ِّ‬
‫املحل‪،‬‬
‫ِ‬
‫متغريات املجال السيايس‪ ،‬يف أبعاده املختلفة‪ .‬يرى عبد اللطيف‪ ،‬أن‬
‫عالقة السيايس بالديني ليست عالق ًة رياضي ًة‪ ،‬ومن ثم‪ ،‬ال يمكن‬
‫جمال ٌ‬
‫قابل للتفجري‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫حسابية مغلقة‪ .‬فهي يف حقيقتها‪ٌ ،‬‬ ‫ٍ‬
‫عملية‬ ‫حتويلها إىل‬
‫وللت ّْشظ َية النافعة‪.221‬‬
‫أصبحت «علامنية الدولة»‪ ،‬بمعنى وقوف مؤسسة الدولة عىل‬
‫مسافة واحدة من مجيع األديان‪ ،‬وحراسة مبدأ كفالة حرية الفكر‪،‬‬
‫وحرية االعتقاد‪ ،‬وحرمة الضمري‪ ،‬رشط ًا الزم ًا‪ ،‬ليقوم التدين لدى‬
‫األفراد عىل االقتناع‪ ،‬ال عىل اخلوف‪ .‬ويرى‪ ،‬عبد اهلل النعيم‪ ،‬عىل سبيل‬
‫يفرق النعيم بينها وبني علامنية املجتمع‪،‬‬
‫املثال‪ ،‬أن علامنية الدولة‪ ،‬التي ّ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫رضورية للغاية‪ ،‬لكي يامرس املتدين دينه بطريقة أصيلة‪ ،‬صادقة‪ ،‬ال‬
‫نفاق فيها‪ .‬يقول النعيم‪:‬‬
‫ٍ‬
‫وإرادة حرة‪ ،‬وهي الطريقة‬ ‫لكي أكون مسل ًام عن اقتناعٍ‪،‬‬
‫الوحيدة لكي يصبح املرء مسل ًام حقيقي ًا‪ ،‬فإنني أحتاج‬
‫دول ًة علامنية‪ .‬وأعني بالدولة العلامنية تلك الدولة املحايدة‬
‫جتاه األديان املختلفة‪ ،‬وهي الدولة التي ال تدّ عي‪ ،‬أو تقوم‬
‫فعالً‪ ،‬بفرض الرشيعة؛ أي‪ ،‬القوانني الدينية لإلسالم‪.‬‬
‫فالرشيعة اإلسالمية‪ ،‬ببساطة شديدة‪ ،‬ال يمكن فرضها‬
‫عن طريق القهر واخلوف من مؤسسات الدولة‪ ...‬هذا ما‬
‫أعنيه بالعلامنية‪ ،‬يف هذا الكتاب؛ وهو‪ ،‬حتديد ًا‪ ،‬وجود دولة‬
‫تيس إمكانية نشوء التقوى‪ ،‬وسط األفراد‪ ،‬انطالق ًا‬ ‫علامنية‪ِّ ،‬‬
‫من اقتنا ٍع صادق‪.222‬‬

‫‪ .221‬كامل عبد اللطيف‪ ،‬التفكري يف العلامنية‪ :‬إعادة بناء املجال السيايس يف الفكر العريب‪ ،‬رؤية للنرش‬
‫والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ج م ع‪ ،2007 ،‬ص ‪.12‬‬
‫‪222. Abdullahi A. An-Na’im, Islam and the Secular State, Harvard University Press,‬‬
‫‪Cambridge, MA, USA & London, UK, 2009, p. 1.‬‬

‫‪289‬‬
‫لقد َو َّلد القهر الديني يف فجر الدعوة اإلسالمية ظاهرة املنافقني‪.‬‬
‫فهناك من أسلموا خوف ًا من السيف فقط؛ أي أهنم مل يؤمنوا‪ ،‬حقيقة‪.‬‬
‫وقد وصف القرآن هؤالء يف آية سورة احلجرات‪ ،‬التي تقرأ‪« :‬قالت‬
‫األعراب آمنّا‪ ،‬قل مل تؤمنوا‪ ،‬ولكن قولوا أسلمنا‪ ،‬وملا يدخل اإليامن يف‬
‫قلوبكم»‪ .223‬فاإلسالم يف بداية الس ّلم‪ ،‬يعني االنقياد االبتدائي‪ ،‬سوا ٌء‬
‫أقل‬‫أكان عن قناعة‪ ،‬أم كان نفاق ًا‪ ،‬خوف ًا من السيف‪ .‬وهو هبذا باملعنى‪ّ ،‬‬
‫من اإليامن‪ ،‬كام أثبت ذلك النص الذي أوردناه‪ ،‬يف األسطر السابقة‪.‬‬
‫ويصح صدق تدينه‪ ،‬ال بدّ أن‬‫ّ‬ ‫يصح تدين املتدين‪،‬‬‫ّ‬ ‫بعبارة أخرى‪ ،‬لكي‬
‫تكون الدولة حمايدة جتاه األديان‪ ،‬وأن ال متارس أي قدر من اإلكراه‬
‫عىل الناس‪ .‬فالقهر واالكراه هيزم الغرض من التدين من أساسه‪ ،‬وحييل‬
‫كل يشء‪ ،‬إىل جمرد نفاق‪ .‬فحرية الضمري متثل أساس ًا ال غنى عنه لصحة‬
‫التدين‪ ،‬وصدقيته‪ ،‬وأصالته‪.‬‬
‫منح الرأي ُسلطة المقدّس‬
‫رشعت‬ ‫ال يزال أهل التصور الديني اجلامد‪ ،‬يرون أن السامء‪ ،‬قد ّ‬
‫للبرش‪ ،‬مر ًة واحد ًة وإىل األبد‪ ،‬وذلك منذ نزول القرآن‪ .‬ويرون أن‬
‫ذلك الترشيع سيبقى عىل ما هو عليه‪ ،‬حتى أن يرث اهلل األرض ومن‬
‫عليها‪ .‬وبسبب ذلك املفهوم‪ ،‬ال ننفك نسمع أن «الرشيعة صاحلة لكل‬
‫روجوا هلذا املفهوم‪ ،‬مل يلتزموا‬
‫زمان ومكان»‪ .‬غري أن الفقهاء الذين ّ‬
‫اضطرهتم التغريات التي جتري للمجتمعات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫به‪ ،‬كام هو متوقع‪ .‬فقد‬
‫وجتدّ د حاجاهتا‪ ،‬بل‪ ،‬واختالف الزوايا التي يرى منها الفقهاء‪ ،‬أنفسهم‪،‬‬
‫األمور‪ ،‬إىل أن ُيلحقوا آراءهم هم بالرشيعة؛ أي باملقدس‪ ،‬أو ما ظنّوه‬
‫مقدس ًا‪ .‬وهكذا وضعوا آراءهم‪ ،‬يف مقام ما ال جتوز مناقشته‪ ،‬أو تعديله‪.‬‬
‫وهكذا أصبحت آراء الفقهاء‪ ،‬بمرور الزمن‪ ،‬وباستدامة حالة اجلمود‬
‫الفكري املمتدة‪ ،‬جزء ًا من ذلك املقدس‪ ،‬رغم جمافات كثري منها لروح‬
‫‪ .223‬سورة الحجرات‪ ،‬اآلية ‪.14‬‬

‫‪290‬‬
‫الدين‪ ،‬بل وللفطرة البرشية السليمة‪ ،‬وللحس األخالقي العام‪ ،‬الذي‬
‫يتمتع به البرش بمختلف دياناهتم‪ ،‬واعتقاداهتم‪ ،‬بام فيهم امللحدون ‪.224‬‬
‫جرى إدغام آراء الفقهاء يف بنية املقدّ س‪ ،‬عىل الرغم من أن آراءهم‪،‬‬
‫يف حقيقتها‪ ،‬آراء يمكن أن نصفها بأهنا «علامنية»‪ .‬فهي‪ ،‬يف حقيقتها‪،‬‬
‫استجابة عقلية‪ ،‬ملا مل تغ ّطه النصوص املقدسة‪ .‬ولذلك‪ ،‬فإن آراء الفقهاء‬
‫ٍ‬
‫حمكومة‬ ‫ٍ‬
‫برشية‪،‬‬ ‫ليست مقدسة‪ ،‬وليست هنائية‪ .‬فهي اجتهادات عقول‬
‫وسياق تارخيي‪ ،‬بعينه‪ .‬ولكن لتكريس االستبداد باسم‬ ‫ٍ‬ ‫ظريف‬ ‫ٍ‬
‫بإطار‬
‫ٍّ‬
‫الدين‪ ،‬وقفل الباب عىل أي جمتهدين جدد‪ُ ،‬أعلن‪ ،‬يف التاريخ اإلسالمي‬
‫حتول الفقه اإلسالمي املدريس‪ ،‬هو‬
‫عن‪« ،‬قفل باب االجتهاد»‪ .‬وهكذا ّ‬
‫جديد‪ ،‬ال خيتلف عن الكهنوت الكنيس‪ ،‬الذي‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫كهنوت‬ ‫اآلخر‪ ،‬إىل‬
‫ثارت عليه أوروبا قبل قرون‪ .‬فحالة اخلنق التي عانت منها أوروبا يف‬
‫العصور الوسطى‪ ،‬هي ذاهتا‪ ،‬ما تعاين منها املجتمعات اإلسالمية اليوم‪.‬‬
‫عىل ذات هذه األرضية الفقهية‪ ،‬ومنهاجها غري املتّسق‪ ،‬وغري‬
‫املنسجم مع ذاته‪ ،‬نشأت‪ ،‬يف ما بعد‪ ،‬حركة اإلسالم السيايس‪ ،‬يف‬
‫جت ّلياهتا املختلفة‪ ،‬لتمزج االستبداد الفقهي‪ ،‬الذي منح آراء الفقهاء‬
‫ٍ‬
‫سبيل حلامية‬ ‫قوة املقدس‪ ،‬باالستبداد السيايس‪ ،‬الذي وجد أن أفضل‬
‫استبداده األريض‪ ،‬هي نسبة آراء البرش العاديني‪ ،‬بل‪ ،‬وحتى القارصين‬
‫ّ‬
‫وكأن اجلهة التي ترشع‪،‬‬ ‫معرفي ًا‪ ،‬إىل سدّ ة املقدس‪ .‬وهكذا‪ ،‬أصبح‬
‫وحتكم‪ ،‬وتقتل‪ ،‬وتعذب‪ ،‬ومتارس الظلم‪ ،‬وتسلب احلقوق‪ ،‬وتقوم‬
‫بكل التجاوزات‪ ،‬هي السامء نفسها‪.‬‬
‫لقد نشأت العلامنية‪ ،‬يف السياق اإلسالمي‪ ،‬مع نشوء احلاجة للفقه‪،‬‬
‫منذ القرون األوىل للدعوة اإلسالمية‪ .‬كل ما يف األمر‪ ،‬أن التسويغ الذي‬
‫نشأت به‪ ،‬وقد كان تسويغ ًا صحيح ًا‪ ،‬انتهى إىل حرص ّ‬
‫حق ممارسته‪،‬‬
‫‪ .224‬يرى بعض الفقهاء ليس عىل الزوج تح ّمل تكاليف عالج زوجته‪ ،‬إن هي مرضت‪ .‬فأهلها هم الذين‬
‫يجب أن يتحملوا تكاليف عالجها‪ .‬كام اختلفوا يف أجر القابلة؛ هل هو عىل الزوج‪ ،‬أم عىل الزوجة‪.‬‬

‫‪291‬‬
‫تغيت يف القرون‬ ‫إىل حدٍّ ٍ‬
‫كبري‪ ،‬يف أئمة املذاهب‪ .‬فرغم أن احلياة قد ّ‬
‫ٍ‬
‫بصورة ال سبيل إىل مقارنتها باألحوال التي كانت سائدةً‪ ،‬يف‬ ‫األخرية‪،‬‬
‫زمان أئمة املذاهب‪ ،‬فقد بقي الناس يظنّون أن حل أي معضلة فقهية‪،‬‬
‫ال يزال متوافر ًا يف املتون التي خ ّطها أئمة تلك املذاهب‪ ،‬رغم ِقدَ م‬
‫كثري مما قالوا به‪ ،‬لزماننا الراهن‪ .‬وليس ّ‬
‫أدل‬ ‫أحكامها‪ ،‬وعدم مناسبة ٍ‬
‫عىل هذا االستبداد بالرأي‪ ،‬واإلرصار عىل خنق العقول‪ ،‬الذي أدغم‬
‫البي‪ ،‬بقداسة‪ ،‬وإرادة السامء‪،‬‬ ‫آرا َء ٍ‬
‫برش عاديني‪ ،‬تتسم أحيان ًا بالقصور ِّ‬
‫من حادثة إعدام األستاذ حممود حممد طه‪ ،‬التي جرت يف الربع األخري‬
‫وكم بالردة و ُأ ِ‬
‫عدم ملجرد أنه‬ ‫من القرن العرشين‪ ،‬يف السودان‪ .‬فقد ح ِ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫أتى بآراء‪ ،‬من داخل بنية الفكرة اإلسالمية ونصوصها‪ ،‬اختلفت عام‬
‫يراه الفقهاء‪ ،‬يف األزهر‪ ،‬ورابطة العامل اإلسالمي‪ ،‬وجامعة أمدرمان‬
‫اإلسالمية‪ ،‬ووزارة الشؤون الدينية واألوقاف السودانية‪ ،‬واحلركة‬
‫اإلسالمية السودانية‪.‬‬
‫حتمل احلاجة العملية التي أوجبت نشوء الفقه‪ ،‬أقوى الدالالت عىل‬
‫أن الديني ال يمكن يستغني عن العلامين‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬ال يوجد ترشيع‬
‫ساموي يتضمن من التفاصيل ما يستوعب قضايا احلياة املتجددة‪ ،‬التي‬
‫خيطئها العد‪ ،‬والتي ال يمكن مقارنة سياقها وتعقيداهتا الراهنة‪ ،‬بأي مما‬
‫كان عليه حال املجتمعات يف املايض‪ .‬فال بدّ من أن يقوم العقل‪ ،‬ودعنا‬
‫ُسمه هنا‪« ،‬الرأي البرشي»‪ ،‬أو «الرأي العلامين»‪ ،‬باملزاوجة بني روح‬ ‫ن ّ‬
‫الدين ومراده‪ ،‬وبني تفاصيل حاجات الناس املتغرية دوم ًا‪ .‬وعموم ًا فإن‬
‫قصة تكاملية الديني والعلامين‪ ،‬ليست جديدة‪.‬‬
‫يتصوره البعض‪ ،‬تضا ّد ًا‪ ،‬وتوازيا ثابت ًا‪ ،‬بني الدين والعلامنية‪ ،‬تراه‬
‫ّ‬ ‫فام‬
‫ال له طرفان‬ ‫التيارات الفكرية األحدث‪ ،‬يف الفكر املعارص‪ ،‬جماالً متداخ ً‬
‫يسهامن بحوارمها‪ ،‬ونقدمها لبعض‪ ،‬يف إنتاج سريورة كلية واحدة‪ .‬وعىل‬
‫سبيل املثال‪ ،‬يرى روبرت كولز‪ ،‬أن العلامنية‪ ،‬بوصفها نزوع ًا للعقلنة‪،‬‬

‫‪292‬‬
‫انبثقت من داخل بنية الدين نفسها‪ ،‬كام يف حالة الكاثوليكية‪ ،‬التي‬
‫أنجبت الربوتستانتية‪ .225‬وكام مل يستغن املقدس عن العقيل‪« ،‬العلامين»‪،‬‬
‫كذلك لن يستغني العقيل‪« ،‬العلامين» عن املقدس‪ .‬فالتصور العلامين‪،‬‬
‫يغل يد‬ ‫برغم الديمقراطية‪ ،‬وانفتاح املجال العام‪ ،‬إال أنه مل يستطع أن ّ‬
‫الرأسامل‪ ،‬فأعيد إنتاج املظامل القديمة‪ ،‬يف إطار جديد‪ .‬كام جرى جتفيف‬
‫احلياة من املعنى‪ ،‬وجرت «ت َْش ِي َئة» اإلنسان؛ أي جعله شيئ ًا‪ ،‬أو كيان ًا‬
‫املستمر لقيم االستهالك‪ ،‬وعبادة املظهر‬
‫ّ‬ ‫بال روح‪ ،‬عن طريق اإلعالء‬
‫ٍ‬
‫والتصحر الوجداين‪ .‬باختصار شديد‪،‬‬‫ّ‬ ‫املادي‪ ،‬ونرش التسطيح العقيل‪،‬‬
‫ما كان من املمكن للدين أن يستمر يف حياة الناس‪ ،‬لوال احلوار الذي‬
‫مل ينقطع بينه‪ ،‬وبني ما هو «علامين»‪ .‬وما كان من املمكن للعلامنية‪ ،‬أن‬
‫تستغني كلي ًا عن قيم الدين‪ .‬فلقد نشأت املجتمعات البرشية‪ ،‬أول ما‬
‫نشأت‪ ،‬عىل التصورات الدينية‪ .‬وال يزال الدين يؤطر وعي وخيارات‬
‫أغلبية البرش‪.‬‬
‫الدين والعلمانية وما بعد الحداثة‬
‫لقد تن ّبه علامء االجتامع‪ ،‬وعىل رأسهم ماكس ڤيرب‪ ،‬منذ القرن‬
‫التاسع عرش‪ ،‬إىل َدور الدين العضوي يف املتشكل االجتامعي البرشي‪.‬‬
‫يقول عزمي بشارة‪ ،‬إن ماكس ڤيرب مل خيالف ماركس‪ ،‬يف التأكيد عىل‬
‫أمهية االقتصاد‪ ،‬يف التحكم بحياة الناس‪ .‬غري أن دراسة ڤيرب للظروف‬
‫‪ .225‬يف حوار لروبرت كولز‪ ،‬عامل النفس األمرييك‪ ،‬املشتغل بقضايا الروحانية‪ ،‬مع دورويث داي‪ ،‬قالت‬
‫دورويث داي‪ ،‬لكولز‪ :‬أنت تقلّل من شأن الشك كجزء ثابت يف بنية اإلميان نفسها‪ ،‬وتلك حالة تنطبق عىل‬
‫كل قرن من القرون‪ .‬أنت تر ّد السبب يف نشوء العلامنية‪ ،‬بشكل رئيس‪ ،‬إىل العلوم الطبيعية والعلوم‬
‫االجتامعية‪ .‬أنا ال أنكر أن للعلوم الطبيعية ُسلطة تدعم العلامنية اليوم‪ .‬لكن‪ ،‬بحق السامء‪ ،‬لقد كان العامل‬
‫العلامين موجودا ً عىل الدوام‪ ،‬هنا‪ ،‬أو هناك‪ .‬تلك هي القصة الكبرية للعهد الجديد مع العهد القديم‪ ،‬وتلك‪،‬‬
‫أيضاً‪ ،‬هي قصة الربوتستانتية مع الكاثوليكية‪ .‬أنت تنظر إىل جاليليو ونيوتن وأينشتاين وفرويد بوصفهم‬
‫امل َدافع الكبرية التي ظلت ّ‬
‫تدك معاقل اإلميان الديني‪ ،‬وتقيض عىل الروابط الدينية بني بني البرش‪ .‬يف نظري‬
‫أن هؤالء الناس ليسوا سوى جزء من قصة طويلة جدا ً‪ .‬راجع‪:‬‬
‫‪Robert Coles, The secular mind, Princeton University Press, Princeton, NJ, USA,‬‬
‫‪.(1999), p 40‬‬

‫‪293‬‬
‫االجتامعية والسياسية‪ ،‬التي كانت سائدة يف أوروبا‪ ،‬وأمريكا الشاملية‪،‬‬
‫يف الفرتة ما بني القرن السادس عرش‪ ،‬والقرن الثامن عرش‪ ،‬جعلته‬
‫يضيف‪ ،‬أن املصالح‪ ،‬التي يسعى الناس إىل حتقيقها يف املجتمع‪ ،‬ال‬
‫تنحرص يف املصالح االقتصادية‪ ،‬وحدها‪ .‬فهناك مصالح أخرى تتعلق‬
‫ٍ‬
‫مجاعة‬ ‫دين ّ ٍ‬
‫معي‪ ،‬واالنتامء إىل‬ ‫بالقوة‪ ،‬والسيطرة‪ ،‬واملنزلة‪ .‬كام أن اعتناق ٍ‬
‫معينة‪ ،‬قد ُي ِعينان عىل فهم الناس وصوغهم ملصاحلهم‪ .‬يضاف إىل ذلك‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫أثر يف أخالقية‬ ‫ٍ‬
‫أن املنظومة الدينية الثقافية جلامعة مع ّينة‪ ،‬قد يكون هلا ٌ‬
‫سهل هذا األمر‪ ،‬أو ُيص ِّعب‪ ،‬التكيف مع منظومات‬ ‫اجلامعة‪ ،‬بحيث ُي ِّ‬
‫اقتصادية بعينها‪.226‬‬
‫بنا ًء عىل ما تقدَّ م‪ ،‬يمكنني أن أضيف هنا‪ ،‬أن أخالقية اجلامعات‬
‫السودانية‪ ،‬املستندة عىل القيم التكافلية‪ ،‬الرتامحية‪ ،‬املوروثة من‬
‫احلقبتني الكوشية واملسيحية‪ ،‬والتي امتزجت بقيم التصوف الحق ًا‪،‬‬
‫وجوهر قيم اإلسالم‪ ،‬جيعل من الصعب عليها‪ ،‬أن تقبل‪ ،‬أو تستسيغ‬
‫الرأساملية املتوحشة‪ ،‬التي أيت هبا إسالميو السودان‪ ،‬وفرضوها عىل‬
‫البالد باالستبداد‪ ،‬املستند إىل دعاوى دينية‪ .‬فالدين‪ ،‬يف بعض جتلياته‪،‬‬
‫يمكن أن يمثل‪ ،‬وقد مثل بالفعل‪ ،‬يف بعض منعطفات التاريخ‪ ،‬قو ًة‬
‫مجاهريي ًة رافضة للظلم‪ ،‬وساندة للعدل واملساواة‪ .‬كام أنه يمثل أقوى‬
‫آلية شعبية للتعبئة واحلشد‪ .‬وتأيت خطورته‪ ،‬أن طاقته هذه يمكن أن‬
‫تُستخدم للثورة ولتحقيق احلرية والعدالة‪ ،‬أو للعكس‪ .‬فإذا مل َيستخدم‬
‫هذه الطاقة املستنريون‪ ،‬سقطت يف يد اجلهالء من القادة الشعبويني‬
‫االستبداديني املسنودين برجال الدين الذين ال ينفكّون يتح ّلقون حول‬
‫السلطة والثروة‪.‬‬
‫مراكز ُّ‬
‫ٍ‬
‫بصورة‬ ‫إن فكر حقبة احلداثة‪ ،‬ظل منحرص ًا‪،‬‬‫لربام أمكن القول‪ّ ،‬‬

‫‪ .226‬عزمي بشارة‪ ،‬الدين والعلامنية يف سياق تاريخي‪( ،‬ج‪ ،)1‬املركز العريب ألبحاث ودراسة السياسات‪،‬‬
‫الدوحة‪ ،‬بريوت‪ ،213 ،‬ص ‪.290‬‬

‫‪294‬‬
‫ٍ‬
‫ناحية‪ ،‬أدار‬ ‫عامة‪ ،‬وإىل حدٍّ كبري‪ ،‬يف منطقة «املونولوج»‪ .‬فمن‬
‫الناس‬
‫َ‬ ‫أيأس‬
‫ال مع أنفسهم‪َ ،‬‬ ‫النصوصيون الدينيون‪ ،‬مونولوج ًا طوي ً‬
‫من الدين‪ ،‬ومن إمكانية حت ُّقق احلرية‪ ،‬والعدالة‪ ،‬واملساواة االجتامعية‪،‬‬
‫واالستنارة‪ ،‬واإلشباع النفيس والروحي‪ ،‬واجلاميل‪ ،‬يف إطار املنظومة‬
‫الدينية‪ .‬وهو ما فتَح الطريق للفكر العلامين العقالين لكي يسود‪ ،‬بل‬
‫ولتتطرف بعض جدائله‪ ،‬فت َِص ُم الدين‪ ،‬يف مجلته‪ ،‬بالتخلف‪ ،‬وباملرحلية‪.‬‬
‫أما الفكر العلامين‪ ،‬الذي أمسك بالدفة‪ ،‬منذ عرص األنوار‪ ،‬فإنه‪،‬‬
‫أدار‪ ،‬كام فعل دعاة الدين‪ ،‬مونولوج ًا‪ ،‬جديد ًا‪ ،‬مع نفسه‪ ،‬ولكن يف االجتاه‬
‫املعاكس‪ .‬قادت «ثورة العقل» احلداثية‪ ،‬إىل تشكيل صورة للوجود‬
‫وللحياة ظ َّن العلامنيون األقحاح أهنا صورة «تقدُّ مية» ‪.progressive‬‬
‫غري أن هذه الصورة‪ ،‬رغم إعالء أهلها هلا‪ ،‬وجدها القطاع األعرض‬
‫من الناس‪ ،‬من الناحية العلمية‪ ،‬متسم ًة بالبؤس‪ ،‬والفقر املعنوي‪.‬‬
‫فرغم دعاوى التحرر والتقدمية‪ ،‬التي جاءت هبا‪ ،‬فإن اإلطار العقالين‪،‬‬
‫اجلاف‪ ،‬الذي صنعته الوضعية‪ ،‬مل يتعدّ يف تعريفه لإلنسان‪ ،‬من الناحية‬
‫العملية الواقعية‪ ،‬أكثر من كونه كائن ًا منتج ًا ومستهلك ًا‪ .‬ويمكن القول‪،‬‬
‫بصورة عمومية‪ ،‬إن املحاولة‪ ،‬اليوم‪ ،‬إنام تنحرص يف احلفر والتنقيب يف‬
‫املنطقة الواقعة بني هذين النقيضني‪ .227‬أي؛ توظيف العاطفة الدينية‬
‫لتحقيق قيم احلرية والعدالة واملساواة‪ ،‬وتوظيف العقل يف الوقوف‬
‫الصلب ضد االستبداد والكهنوت واإلرهاب الديني‪ ،‬وفرض‬
‫الطهرانية املظهرية الكاذبة‪.‬‬
‫شك‪ ،‬أن هناك اجتاه ًا متنامي ًا‪ ،‬لتسييل املفاهيم‪ ،‬ومنها مفهوم‬
‫ما من ٍّ‬
‫وحصهتام يف خانة‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫«ديني» و»علامين»‪ ،‬بعد فرتة مجود‪ ،‬اكتنفت دالالهتام‪،‬‬
‫َ‬
‫التعارض املطلق‪ ،‬خاص ًة‪ ،‬يف االستخدامات الفكرية والسياسية‪ ،‬يف‬

‫‪227. Alexander M. Sidorkin, (1999). Beyond discourse: education the self and dia-‬‬
‫‪logue, State University of New York Press, New York, USA, 2001, p. 38.‬‬

‫‪295‬‬
‫تيارات‬
‫ٌ‬ ‫الواقع العريب املعارص‪ .‬فقد أخذت تنشأ‪ ،‬عىل النطاق الكوكبي‪،‬‬
‫جديدةٌ‪ ،‬حتت تأثري أفكار ما بعد احلداثة‪ .‬وأخذت‪ ،‬هذه التيارات‪،‬‬
‫تتناول إشكالية «العلامنية» و«الدين»‪ ،‬بعيد ًا عن أطر الثنائيات القديمة‪،‬‬
‫املتعارضة‪،‬التيطاملاحبستكثري ًامنرؤىحقبةاحلداثة‪،‬يفقمقماجلمود‪.‬‬
‫مل تعد التيارات األجد يف الفكر الغريب‪ ،‬تقبل فكرة األضداد‬
‫ٍ‬
‫متوازية‪ ،‬ال تلتقي؛ أو قل ال‬ ‫ٍ‬
‫خطوط‬ ‫‪ ،dichotomies‬التي تسري يف‬
‫ّ‬
‫تتجذر فكرة التعارض الدائم‬ ‫تتداخل‪ ،‬أو تتعايش‪ ،‬وإنام تتعاقب فقط‪.‬‬
‫هذه‪ ،‬يف ثنائية األطر املعرفية‪ ،‬لفكر احلداثة‪ .‬يقول هيوستن سميث‪« :‬منذ‬
‫أن اختار ديكارت أن يمخر بعيد ًا عن الذات‪ ،‬أو النفس املؤسطرة؛ أي‪،‬‬
‫عندما اختار أن يبتعد بتلك النفس عن بقية العامل‪ ،‬انغرست الثنائية يف‬
‫تراب األبستمولوجيا احلديثة‪ ،‬وهكذا بقيت يف مكاهنا ذاك‪ .‬فقصة الفلسفة‬
‫الغربية برمتها‪ ،‬يف مرحلتها احلداثية‪ ،‬يمكننا أن نروهيا‪ ،‬اليوم‪ ،‬بوصفها‬
‫بحث ًا‪ ،‬مستمر ًا‪ ،‬عن جرس يربط بني العقل‪ ،‬وبيئته املحيطة‪ ،‬وبني الذات‬
‫واملوضوع‪ ،‬وهي ذات النطاقات‪ ،‬التي سبق أن باعد بينها ديكارت»‪.228‬‬
‫أما يف إطار الفكر التجديدي‪ ،‬يف الدين اإلسالمي‪ ،‬فقد أخذ‬
‫مفهوم املزاوجة بني ال َعلامنية‪ ،‬والدين يف التبلور‪ .‬فالعلامنية التي تعني‪،‬‬
‫الرتكيز عىل حتسني حياة اإلنسان يف هذا العامل‪ ،‬الذي نعيش فيه‪ ،‬بناء‬
‫عىل الرتاكم املعريف واخلربات التي أنجزهتا البرشية‪ ،‬واالبتعاد عن إدارة‬
‫ٍ‬
‫موضعة لدالالهتا‬ ‫شؤون الناس بالنصوص املقدسة‪ ،‬وحدها‪ ،‬ودون‬
‫يف سياق الراهن‪ ،‬أخذت تلقى اعتبارها املوضوعي بني أهل التفكري‬
‫الديني‪ ،‬الذين يرون أن الدين ال يمكن أن ينفصل عن حياة الناس‪،‬‬
‫ولكن عليه أن يفهم حاجاهتم املتجددة‪ ،‬ويستجيب هلا‪.‬‬
‫فالواقع الذي‪ ،‬يمكن أن نقول‪ ،‬من منظور سوسيولوجي‪ ،‬إنه‬
‫‪228. Huston Smith, Beyond the postmodern mind, Quest Books, Wheaton, IL, USA,‬‬
‫‪(Ed 3) (2003), p. 209.‬‬

‫‪296‬‬
‫جيسد «العلامنية»‪ ،‬يعمل من خالل انبثاق‪ ،‬واندياح طاقاته‪ ،‬وحاجاته‬
‫املتجددة‪ ،‬يف الواقع االجتامعي‪ ،‬يف خمتلف الثقافات‪ ،‬عىل دفع الدين من‬
‫أفق أدنى‪ ،‬إىل أفق أعىل‪ .‬والعكس‪ ،‬بالعكس؛ فإن ما يقوم به الدين‪،‬‬
‫حني تتدنى تأويالته‪ ،‬ويزداد ضيقه بحيوية الواقع‪ ،‬يصبح مدفوع ًا بقوة‪،‬‬
‫بتحديات هذا الواقع إىل مواجهة خيار ْين ال ثالث هلام‪ ،‬ومها‪ :‬إما أن‬
‫يتسع ليستوعب املتغريات واملستجدات‪ ،‬أو أن خيرج كل ّي ًة من الصورة‪.‬‬
‫ولقد ظل هذا التحدي املستمر هو ما يضطره لطرح نفسه يف صورة‬
‫جديدة‪ ،‬كل حني جديد‪.‬‬
‫عرب هذه اجلدلية‪ ،‬حدثت الثورة عىل الكنيسة‪ ،‬يف أوروبا‪ .‬كام حدثت‬
‫حق إهلي مقدس‪ ،‬لألرس املالكة‪،‬‬ ‫الثورة عىل ا َمل َلكية‪ ،‬بوصفها مبني ًة عىل ٍّ‬
‫يف احلكم‪ .‬وعرب هذه اجلدلية‪ ،‬خرجت الربوتستانتية من رحم املسيحية؛‬
‫الكاثوليكية‪ ،‬كام أشار روبرت كولز‪ .‬وهكذا خرجت الثورة الفرنسية‪،‬‬
‫وولدت اجلمهورية‪ .‬فحني تضيق أنامط التدين عىل جسد احلياة النامي‪،‬‬ ‫ُ‬
‫يتمزق ثوب التدين‪ ،‬ويبتعد عن مركز السيطرة‪ ،‬والتوجيه املبارش‪ ،‬وينزوي‬
‫يف اخللفية‪ .‬ويضطر هذا الوضع نمط التدين السائد‪ ،‬إىل توسيع ثوبه‪،‬‬
‫ٍ‬
‫صورة جديدة‪.‬‬ ‫وجتديده‪ ،‬والعودة‪ ،‬من جديد‪ ،‬ملواجهة الواقع‪ ،‬ولكن‪ ،‬يف‬
‫مل نكن نحن يف السودان بعيدين عن احلدّ القاطع للفكر البرشي‪،‬‬
‫وهو يسترشف جمال املزاوجة الذكية بني بنيتَي الدين والعلامنية‪ .‬فقد‬
‫كتب األستاذ حممود حممد طه‪ ،‬منذ نصف قرن‪ ،‬عن جدلية الواقع‬
‫منظور مت ٍ‬
‫ّسق مع علم االجتامع‪ ،‬ومع ما استجد الحق ًا يف‬ ‫ٍ‬ ‫والدين‪ ،‬من‬
‫تيارات ما بعد احلداثة‪ .‬جاء يف أحد نصوص األستاذ حممود حممد طه‬
‫عن «فكرة الدين»‪ ،‬ما ييل‪:‬‬
‫هذه الفكرة الواحدة‪ ،‬نبتت يف األرض‪ ،‬كام نبتت احلياة‬
‫بني املاء والطني‪ ،‬وظلت متجاذبة بني أسباب السامء وأسباب‬
‫األرض‪ .‬وكلام أ ّملت هبا أسباب السامء‪ ،‬رفعت ّ‬
‫قمتَها‪ .‬ثم إذا‬

‫‪297‬‬
‫أملت هبا أسباب األرض‪ ،‬أخذت قمتها تتطامن نحو القاعدة‪،‬‬
‫حتى تطمئن‪ .‬فتتسع القاعدة‪ ،‬وتنحط القمة‪ .‬واتساع القاعدة‬
‫قمة جديدة‪ ،‬أعىل من‬ ‫هذا‪ ،‬إنام هو استعداد الرتفاع القمة‪ ،‬إىل ٍ‬
‫سابقتها‪ ،‬عند إملامة أسباب السامء املستأنفة‪ .‬وإملامة السامء يف‬
‫األوج‪ ،‬نسميها زمن بعثة‪ ،‬وإملامة األرض يف احلضيض‪،‬‬
‫نسميها زمن فرتة‪ .‬وهكذا ظلت هذه الفكرة الكبرية‪ ،‬تسري‬
‫قمة وقاعدة‪ .‬وكل‬ ‫يف مراقي االكتامل‪ ،‬كام تسري املوجة‪ ،‬بني ٍ‬
‫قاعدة أوسع من سابقتها‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫قمة أعىل من سابقتها‪ ،‬وكل‬ ‫ٍ‬
‫إىل أن التحقت األرض بأسباب السامء‪ ،‬أو كادت‪.229‬‬
‫فاتساع القاعدة‪ ،‬وهي جممل أحوال الناس التي يشيدوهنا‬
‫بوسائلهم‪ ،‬متخطني يف منعطفات كثرية منها‪ ،‬حدود بعض ترشيعات‬
‫الدين‪ ،‬وموجهاته‪ ،‬بعد أن ضاقت‪ ،‬يمثل يف نظر األستاذ حممود‪ ،‬هتيئة‬
‫مستوى جديد‪.‬‬
‫ً‬ ‫للمرسح‪ ،‬متكِّن الدين من العودة‪ ،‬ليخاطب الواقع‪ ،‬يف‬
‫ٍ‬
‫بعبارة أخرى‪ ،‬إن ابتعاد الدين‪ ،‬حتت ضغط اتساع قاعدة احلياة‪ ،‬الذي‬
‫ينتج منه خروجها عن قوالبه‪ ،‬هو الذي هي ّيئ املجال للدين للعودة‪،‬‬
‫ولكن يف صورة أرقى من سابقتها‪ .‬ولذلك‪ ،‬فإن الدين الذي يغيب‬
‫عن املرسح‪ ،‬ثم ال يلبث أن يعود إليه‪ ،‬ليغيب مرة أخرى‪ ،‬ال يكون‬
‫هو النصوص القابضة احلاكمة‪ ،‬املتَّسمة بانغالق النهايات‪ .‬ألن هذه‬
‫فاضطرت‬
‫ّ‬ ‫النصوص احلاكمة‪ ،‬هي التي سبق أن ضاقت‪ ،‬عملي ًا‪،‬‬
‫املتطورة دوم ًا‪ ،‬لكي تنفلت عن قبضها‪ .‬فالدين‪ ،‬حني‬
‫ّ‬ ‫حيوات الناس‪،‬‬
‫يعود‪ ،‬ال يعود بنفس الصورة التي كان عليها قبل أن يغيب عن حياة‬
‫الناس‪ .‬وينبغي أن نفهم كلمة «دين» هنا عىل غري املعنى التارخيي الذي‬
‫ارتبطت به دالالته يف أذهاننا‪ .‬فالدين هو ما يمكن أن نقول عنه النطاق‬
‫الذي يمثل «املعنى»‪ ،‬باملعنى الواسع لكلمة «دين»‪ ،‬واملادية يمكن أن‬
‫‪ .229‬محمود محمد طه‪ ،‬الرسالة الثانية من اإلسالم‪( ،‬ط ‪ ،)4‬مطبعة مرص‪ ،‬سودان‪ ،‬الخرطوم‪ ،‬السودان‪،‬‬
‫‪ 1969‬ص‪ 119 .‬ـ ‪.120‬‬

‫‪298‬‬
‫القح‪ ،‬إهنا متثل «الالمعنى»‪ ،‬إن كان هناك‬
‫نقول عنها حني تبلغ مداها ّ‬
‫حقيقية ما يمكن أن نطلق عليه «ال معنى»‪ .‬فاملعنى قائم يف كل األحوال‪،‬‬
‫ولكن اختالف الدرجة‪ ،‬يف حاالت االنحطاط‪ ،‬يمكن أن يالمس ما‬
‫نطلق عليه جماز ًا‪« ،‬الالمعنى»‪ ،‬أو «العبث»‪ ،‬كام َس ّمه الوجوديون‪.‬‬
‫جاءت كل الديانات الكتابية‪ ،‬التي تعاقبت عىل مرسح احلياة‪ ،‬بروح‬
‫الدين‪ ،‬ولكنها جاءت يف كل مرحلة بتشاريع متفاوتة‪ ،‬من حيث ال ُق ْرب‬
‫من جوهر الدين‪ .‬وجوهر الدين هو ما لن تنفلت احلياة من قبضته‪،‬‬
‫أبد ًا‪ .‬فروح الدين يف القمة‪ ،‬هي املثال األعىل للقيم اإلنسانية‪ ،‬املتمثل‬
‫يف‪ ،‬احلرية‪ ،‬والعدل‪ ،‬واملساواة‪ ،‬وسائر األحالم البرشية الكبرية‪ ،‬التي‬
‫ظلت منتظر ًة عرب حقب التاريخ‪ .‬وحتكي هذا املفهوم‪ ،‬اآلية القرآنية‪،‬‬
‫ص بِ ِه نُوح ًا‪َ ،‬وا َّل ِذي َأ ْو َح ْينَا‬ ‫ين َما َو َّ ٰ‬‫«ش َع َلكُم ِّم َن الدِّ ِ‬ ‫التي تقول‪َ َ :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يموا الدِّ ي َن‪َ ،‬و َل‬ ‫يس ٰى‪َ ،‬أ ْن َأق ُ‬ ‫وس ٰى َوع َ‬ ‫يم َو ُم َ‬ ‫إِ َل ْي َك‪َ ،‬و َما َو َّص ْينَا بِه إِ ْب َراه َ‬
‫يتَبِي إِ َل ْي ِه َمن‬ ‫ِ‬
‫وه ْم إِ َل ْيه‪ ،‬اللَُّ َ ْ‬‫ني َما تَدْ ُع ُ‬‫ش ِك َ‬ ‫َب َع َل ا ُْل ْ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َت َت َف َّر ُقوا فيه‪ ،‬ك ُ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يب‪ .»230‬فإقامة الدين وعدم التفرق فيه‪ ،‬تعني‬ ‫َي َشا ُء‪َ ،‬و َ ْيدي إِ َل ْيه َمن ُين ُ‬
‫إقامة روحه‪ ،‬وليس ترشيعاته املرتبطة بقيود ظرفية تارخييه‪ .‬فرغم أن‬
‫ترشيعات كل من نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ترشيعات خمتلفة‪ ،‬إال‬
‫أهنم مجيع ًا يشرتكون يف «روح الدين»‪ .‬فروح الدين هي ما ُأ ِمروا بأن ال‬
‫متفرقون فيها أصالً‪ ،‬بحكم‬ ‫يتفرقوا فيه‪ .‬أما من حيث الترشيعات‪ ،‬فهم ّ‬ ‫ّ‬
‫اختالف دياناهتم واختالف أزمنتهم‪.‬‬
‫يعكس الدين يف حقيقته‪ ،‬املثال‪ .‬ويف مستوى املثال‪ ،‬ال ختتلف‬
‫الفلسفة‪ ،‬أو علم االجتامع‪ ،‬مع الدين‪ .‬أما ما يتقيد من الدين يف حياة‬
‫الناس‪ ،‬فهو يقع يف دائرة أنامط التدين‪ .‬فهو ال يعكس‪ ،‬بالرضورة‪،‬‬
‫وجسدها يف الواقع‪ .‬تتعارض‬
‫«روح الدين»‪ ،‬ذاهتا‪ ،‬وإن استلهم بعضها‪ّ ،‬‬
‫الترشيعات مع «روح الدين»‪ ،‬يف حاالت اإلرصار عىل التفسريات‬
‫‪ .230‬الشورى‪ ،‬آية ‪.13‬‬

‫‪299‬‬
‫احلرفية اجلامدة للنصوص‪ .‬ومن ذلك‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬التمسك اآلن‬
‫بحقوق املرأة املرحلية‪ ،‬التي منحتها هلا الرشيعة اإلسالمية يف القرن‬
‫السابع امليالدي‪ .‬وكذلك اإلرصار عىل حكم الردة‪ ،‬أو اإلرصار عىل‬
‫قتل تارك الصالة إن هو أنكر وجوهبا‪ ،‬أو إن هو تركها كسالً‪ .‬وكذلك‪،‬‬
‫الرق‪ ،‬واختاذ اإلماء‪ .‬فأنامط التدين‪ ،‬تتغري بتغري‬ ‫اإلرصار عىل ترشيع ّ‬
‫األزمنة‪ ،‬ويف ذلك‪ ،‬فهي يمكن أن تتوافق مع العلوم اإلنسانية‪ ،‬والعلوم‬
‫الطبيعية‪ ،‬أو تتعارض معها‪ .‬وحني تتعارض معها وجب أن نتفكر‪ ،‬وال‬
‫ننسب قصور إدراكنا‪ ،‬وعجزنا عن فهم املقاصد‪ ،‬إىل جوهر الدين‪،‬‬
‫فنرص عىل تطبيق ما مل يعد تطبيقه ممكن ًا أو مطلوب ًا أصالً‪.‬‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫ظلت «روح الدين»‪ ،‬تأيت عىل أقساط مع النصوص احلاكمة‪ ،‬يف كل‬
‫عودة من عودات الدين‪ ،‬بقدر ما يطيق الناس‪ .‬وقول األستاذ حممود‬
‫حممد طه‪ ،‬إن األرض قد التحقت بأسباب السامء‪ ،‬أو كادت‪ ،‬مما ورد‬
‫يف النص الذي أثبتُّه له‪ ،‬يف الفقرات السابقة‪ ،‬تعني‪ ،‬مقروء ًة مع كثري‬
‫من إشاراته األخرى‪ ،‬املبثوثة يف كتاباته‪ ،‬أن الفرد البرشي قد أصبح‬
‫وت ِمل عبارة «التل ّقي الكفاحي»‬
‫قادر ًا عىل «التل ّقي الكفاحي»‪ ،‬من اهلل‪ْ َ .‬‬
‫من اإلحياءات الصوفية التارخيية‪ ،‬ما قد جيعل بعض العقول املعارصة‪،‬‬
‫تراها تعبري ًا صوفي ًا‪ ،‬مغموس ًا يف إدام الغنوص واإلهبام‪ .‬لكن ما تعنيه‪،‬‬
‫حقيقي ًة‪ ،‬هو أن عهود الكهنوت الديني‪ ،‬قد أزفت هنايتها‪ .‬فقد ارتقت‬
‫العلوم‪ ،‬وارتقت الفهوم‪ ،‬وأصبحنا نستقبل رشوق شموس األفراد‬
‫الراشدين‪ ،‬القادرين عىل إدارة معارك إنزال املثال إىل أرض الواقع‪،‬‬
‫وفق هنج تعاقدي سلمي‪ ،‬حيتضن اجلميع‪ ،‬بمختلف مشارهبم‪.‬‬
‫تقول النظرة الثاقبة‪ ،‬ليس هناك فكر ديني‪ ،‬وفكر علامين‪ ،‬منفصلني‪،‬‬
‫انفك هيفو‪ ،‬لكي يصبح جديلة واحدة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫متام ًا‪ .‬هناك فكر إنساين ما‬
‫الشعريات‪ .‬وقد ظل هذا التوق إىل الوحدة واالتساق‬ ‫جمدولة من خمتلف ُّ‬
‫واملؤالفة‪ ،‬ينمو باطراد‪ .‬ولقد قطع هذا التوجه شوط ًا كبري ًا يف هنايات‬

‫‪300‬‬
‫القرن املايض‪ .‬وقد استوى‪ ،‬هذا احلراك‪ ،‬اآلن‪ ،‬عىل ُسوقه‪ ،‬فأخذ ُيعجب‬
‫الكوكبي الواسع سوف ُي ِدث نقلة‬
‫ّ‬ ‫الز َّراع من املبرصين‪ .‬هذا التململ‬‫ُّ‬
‫كبرية غري مسبوقة يف هذا القرن اجلديد‪ .‬بالنقلة املرتقبة يكتمل عبور‬
‫بصائرهم دوغامئيات‬
‫َ‬ ‫احلواجز القديمة‪ .‬فالشباب الذين مل تطمس‬
‫املفاهيم الدينية‪ ،‬واملفاهيم العلامنية والثنائيات القديمة املتعارضة‪ ،‬لدى‬
‫املتد ّينني التقليديني‪ ،‬ولدى العلامنيني‪ ،‬هم املرشحون لكي يديروا حراك‬
‫هذه الطفرة اإلدراكية‪ ،‬يف هذا القرن اجلديد املتوثب‪.‬‬
‫«ما بعد الحداثة» وحقبة الروحانية‬
‫من بنية التيارات الفلسفية الناقدة حلقبة احلداثة‪ ،‬انبثق االجتاه‬
‫إلعادة االعتبار إىل الروحانية‪ ،‬من جديد‪ ،‬ور ْبطها‪ ،‬عضوي ًا‪ ،‬ببنية‬
‫العقل والنفس البرشية‪ .‬وقد خرج تيار «الروحانية»‪ ،‬يف األصل‪ ،‬من‬
‫التصورات العلامنية‪ ،‬نفسها‪ ،‬حوايل أواسط النصف الثاين من القرن‬ ‫ّ‬
‫جتفيف احلداثة للروحانية يف‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫العرشين‪ُ .‬يعدّ الناقدون لربادايم احلداثة‪،‬‬
‫متعج ٍل عىل سريورة بالغة الطول‪ .‬كام يرونه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫انقالب‬ ‫جمر َد‬
‫عامل اليوم‪ّ ،‬‬
‫انقالب ًا غري متسق مع البنية الكلية‪ ،‬لتلك السريورة الطويلة‪ ،‬التي‬
‫امتدت منذ فجر اخلليقة‪ ،‬حتى العصور احلديثة‪ .‬يقول موريس بورمان‪،‬‬
‫«إن التاريخ اإلنساين ظل‪ ،‬وألكثر من ‪ 99%‬منه‪ ،‬تارخي ًا مروحن ًا‪ ،‬رأى‬
‫الكيل هلذا‬
‫ُّ‬ ‫العكس‬
‫ُ‬ ‫ال معه‪ .‬وقد أحدث‬ ‫نفسه فيه جزء ًا متكام ً‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان َ‬
‫التصور‪ ،‬والذي حدث يف األربعامئة سنة األخرية‪ ،‬حتطي ًام الستمرارية‬
‫التجربة البرشية‪ ،‬ولتكاملية البناء النفيس لإلنسان»‪.231‬‬
‫ويرى زوهار‪ ،‬ومارشال‪ ،‬يف بحثهام الشيق‪ ،‬عن «الذكاء‬
‫الروحي»‪ ،‬أن الفلسفة التي قامت عىل رؤية نيوتن للعامل‪ ،‬اتسمت‬
‫بالتّذر َية‪ ،atomism ،‬أو قل‪« ،‬الفردانية االجتامعية»‪ ،‬أو «التشظية‬
‫‪231. Morris Berman, The reenchantment of the world, Bantam Books, New York, NY,‬‬
‫‪USA, (1984), p. 23.‬‬

‫‪301‬‬
‫االجتامعية»‪ .232‬كام اتسمت رؤية نيوتن للعامل‪ ،‬أيض ًا‪ ،‬باحلتمية‪،‬‬
‫‪ ،determinism‬واهلدفية‪ ،objectivism ،‬التي و ّلدت َو ْه ًا مفاده‪،‬‬
‫أن كل يشء يف العامل الطبيعي‪ ،‬يمكن التنبؤ به‪ ،‬كام يمكن‪ ،‬من َث َّم‪،‬‬
‫التحكم به‪ .‬فالثورة العلمية التي أتى هبا إسحق نيوتن ورصفاؤه‪،‬‬
‫مل تقترص عىل وضع األساس للثورة العلمية‪ ،‬التي قادت إىل النهضة‬
‫ٍ‬
‫سلبية‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫تأثريات‬ ‫الصناعية‪ ،‬وحسب‪ ،‬وإنام تعدّ ت ذلك‪ ،‬بأن جلبت معها‬
‫متثلت يف التآكل العميق للعقائد الدينية التقليدية‪ ،‬والرؤى الفلسفية التي‬
‫شكلت األساس للمجتمعات البرشية‪ ،‬حتى ذلك الوقت‪ .‬ورغم أن‬
‫التطور التقني‪ ،‬الذي قام عىل فيزياء‬
‫ّ‬ ‫زوهار‪ ،‬ومارشال‪ ،‬يؤكدان عىل أن‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وتصوره للعامل‪ ،‬قد جلب معه َبركات كثريات‪ ،‬إال أهنام يقوالن‬ ‫نيوتن‪،‬‬
‫ّ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫إنه جلب معه‪ ،‬أيض ًا‪َ ،‬لعنات كثريات‪ .‬فقد اقتلعت الثورة التقنية‪َ ،‬‬
‫الناس‬
‫من أرضهم يف األرياف‪ ،‬ودفعت هبم إىل املدن الكبرية‪ .‬كام أهنا أربكت‬
‫حركة نمو املجتمعات‪ ،‬بام قادت إليه من إضعاف للروابط األرسية‪،‬‬
‫واحل َرف اليدوية‪ .‬لقد تم اقتالع املعاين‬ ‫وإزاحة للتقاليد املوروثة‪ِ ،‬‬
‫املصاحبة ألنامط العيش القديمة‪ ،‬من الرتبة التي نمت فيها‪ .‬ثم جاء‪،‬‬
‫بعد ذلك‪ ،‬اخلطاب الفلسفي الذي قام عىل النظرة النيوتونية للعامل‪،‬‬
‫ليكمل األمر‪ ،‬باقتالع روح اإلنسان نفسها‪.233‬‬
‫دشنتها فكرة‬ ‫لكن من الرضوري أن نقول إن الثورة العلمية التي ّ‬
‫نيوتن عن العامل‪ ،‬قد استتبعت ثورة فلسفي ًة‪ ،‬ووعي ًا سياسي ًا نضالي ًا‪ ،‬هبام‬
‫ختلصت أوروبا من قبضة الكنيسة‪ ،‬والكهنوت‪ .‬وانطلقت‪ ،‬من ثم‪،‬‬
‫الربجوازية األوروبية‪ ،‬يف مشوار التحرير‪ ،‬الذي قام عىل التأكيد عىل‬
‫حرية الضمري‪ ،‬وعىل التأسيس للحقوق األساسية‪ ،‬وترسيخ التجربة‬
‫‪ .232‬تعبري «التّ ْذ ِريَة» قصدت به مقابلة كلمة ‪ ،atomism‬أي‪ ،‬جعل األفراد ذ ّرات تلف يف مدارات فردية‬
‫تضعف وحدة الضمري الجمعي ومتثالته يف التكاتف‪ ،‬والتعاطف‪ ،‬والتضامن اإلنساين الواسع‪.‬‬
‫‪233. Zohar, D., & Marshall, I. SQ: Connecting with our spiritual intelligence, Blooms-‬‬
‫‪bury, New York, USA. 2000, p26.‬‬

‫‪302‬‬
‫الديمقراطية يف ممارسة احلكم‪ .‬لقد كانت تلك الصورة اجلديدة للعامل‪،‬‬
‫التي رسمها نيوتن‪ ،‬رضورية جد ًا‪ ،‬ليصبح التحرير ممكن ًا‪ .‬إذ لوالها‪ ،‬ما‬
‫جترأ األوروبيون‪ ،‬وال َق ِد ُروا‪ ،‬عىل مناهضة ُسلطة الكنيسة‪ ،‬التي ظلت‬
‫حترس بالعصا الغليظة‪ ،‬صور ًة راكد ًة للعامل‪ ،‬وللمجتمع‪ ،‬عاشت قرون ًا‬
‫طويلة‪.234‬‬
‫َتما ُزج األضداد وفجر الروحانية الكونية‬
‫ال متكن املزاوجة‪ ،‬وال التوليف‪ ،‬بني الفكرة العلامنية‪ ،‬والفكرة‬
‫الدينية‪ ،‬يف مستوى التصورات الفقهية املدرسية للدين‪ ،‬وإنام عىل‬
‫الل ّمة‪ ،‬املبثوثة يف مجيع األديان‪ ،‬عىل‬ ‫مستوى الرؤية الروحانية الكلية‪ّ ،‬‬
‫تأسست‪ ،‬منذ‬ ‫اختالفها‪ ،‬وكذلك‪ ،‬يف مرتكزات البنى املجتمعية‪ ،‬التي ّ‬
‫ديني للعامل‪ ،‬ذي ُبعدين؛ أحدمها حمسوس‪،‬‬ ‫تصور ّ‬ ‫فجر اخلليقة‪ ،‬عىل ُّ‬
‫الل ّمة‪ ،‬التي يتداخل فيها‬ ‫واآلخر غري حمسوس‪ .‬يف مستوى هذه الرؤية ّ‬
‫التصوري الديني‪ ،‬مع الواقعي االجتامعي‪ ،‬تتبدّ ى االعتامدية املتبادلة‬ ‫ُّ‬
‫بني الدين‪ ،‬من جهة‪ ،‬والعلوم الطبيعية‪ ،‬واإلنسانية‪ ،‬من اجلهة األخرى‪.‬‬
‫فالعلوم الطبيعية‪ ،‬والعلوم اإلنسانية‪ ،‬مل تعمل‪ ،‬كام يظ ّن البعض‪،‬‬
‫وبالرضورة‪ ،‬هلدم الدين‪ ،‬كام أشارت دوروثي داي لروبرت كولز‪ ،‬وإنام‬
‫ظلت تعمل‪ ،‬كام أبانت تيارات ما بعد احلداثة‪ ،‬لتوسيع ماعون الدين‪،‬‬
‫وللحفاظ عىل املعنى‪ ،‬داخل حيوات البرش‪ ،‬حتى ال يضيع‪ .‬والبحث‬
‫عن املعنى هو الذي أجلَ َأ اإلنسان إىل التدين حني أره َب ْت َجنانَه البيئ ُة‬
‫املحيطة‪ ،‬عند فجر اخلليقة‪ .‬ولذلك‪ ،‬فالتدين ليس حالة عارضة‪.‬‬
‫وكذلك‪ ،‬فإن صمود التدين‪ ،‬أمام العلم احلديث‪ ،‬وأمام تيارات الفكر‬
‫احلديث‪ ،‬وأمام األنظمة السياسية احلديثة‪ ،‬التي حاولت أن تفرض‬
‫العلامنية كنظرة إىل الكون‪ ،‬هو الذي جعل العلوم الطبيعية والعلوم‬
‫اإلنسانية‪ ،‬تتجه‪ ،‬حتت ضغط هذا التحدي االجتامعي القاعدي‪ ،‬اهلائل‪،‬‬
‫‪234. Ibd.‬‬

‫‪303‬‬
‫إىل توسيع ماعوهنا‪ ،‬هي األخرى‪ ،‬أيض ًا‪ .‬وكام يرى هربماس فإن ما‬
‫التو‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫حيدث لثقافة ما من معاجلات ما‪ ،‬بواسطة النخب‪ ،‬ال يصبح يف ّ‬
‫وبالرضورة‪ ،‬مملوك ًا لـ «واقع احلياة اليومية»؛ أي للـ ‪ ،Praxis‬بتعبري‬
‫هابرماس‪ .235‬فالنُّخب التي ظنّت أن الدين ظاهرة مالزمة لطفولة‬
‫العقل البرشي‪ ،‬وهو‪ ،‬من ثم‪ ،‬ظاهرة مرحلية‪ ،‬وقعت يف دوامة من‬
‫عجزها عن إبعاد الناس عن الدين‪ .‬وهكذا بقي‬ ‫ُ‬ ‫احلرية‪ ،‬حني طا َل َعها‬
‫خطاب هذه النُّخب القائل بمرحلية الدين‪ ،‬خطاب ًا معلق ًا يف اهلواء‪.‬‬
‫ولتقعيد هذه الرؤية‪ ،‬عىل مستوى النقد «الفكري‪/‬سيايس»‪،‬‬
‫العرصي‪ ،‬يمكن اللمس عىل طروحات ُحاة البيئة‪ ،‬التي هي طروحات‬
‫سيايس لنشطاء‪ ،‬وحسب‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫حراك‬ ‫فلسفية‪ ،‬يف املقام األول‪ ،‬وليست جمرد‬
‫ِّ‬
‫ٍ‬
‫كام يظ ّن كثريون‪ .‬فلسفة ُحاة البيئة تقوم عىل مفهو ٍم عميق لوحدة‬
‫الوجود‪ ،‬يف مت ّثالهتا‪ ،‬الالعضوية والعضوية‪ ،‬من جهة‪ ،‬ومتثالهتا‬
‫العقلية‪/‬الروحانية‪ ،‬من اجلهة األخرى‪ .‬هذه الرؤية صاغها كلود ليڤي‬
‫شرتاوس‪ ،‬حيث قال‪:‬‬
‫اإلنسانوية‪ ،‬املرتبة ترتيب ًا جيد ًا‪ ،‬ال تبدأ بنفسها‪ ،‬وإنام‬
‫تعيد األمور إىل أماكنها حيث ينبغي‪ :‬إهنا تضع العامل قبل‬
‫احلياة‪ ،‬وتضع احلياة قبل اإلنسان‪ ،‬كام تضع احرتام اآلخرين‬
‫يدرسنا له البرش‬ ‫حب الذات‪ .‬هذا هو الدرس الذي ِّ‬ ‫قبل ّ‬
‫التوسط‬‫ُّ‬ ‫نسميهم «بدائيون ومتوحشون»؛ إنه درس‬ ‫الذين ّ‬
‫ِ‬
‫واالعتدال‪ ،‬واألدب واخلشوع يف مواجهة عاملٍ س َب َق كائناتنا‪،‬‬
‫وسيبقى من بعدها‪.236‬‬
‫لقد انتجت الرؤي ُة العلامني ُة للكون االقتصا َد الرأساميل‪ .‬ورغم أن‬
‫‪235. J. Habermas, Modernity versus postmodernity. In H. Riassti (Ed.), Postmodern Per-‬‬
‫‪spectives: Issues in contemporary art, Prentice Hall, Englewood Cliffs, NJ: 1990, pp 54-66.‬‬
‫‪ .236‬انظر‪Morris Berman, The Reenchantment of the World. Ithaca, NY: Cornell Uni� :‬‬
‫‪.versity Press, 1984, p235‬‬

‫‪304‬‬
‫مرحلة التطور الرأساميل كانت مرحلة رضورية لتطور احلياة البرشية‪،‬‬
‫كل من احلياة الطبيعية‬‫فإن اخلروج منها يصبح رشط ًا‪ ،‬لكي حتتفظ ٌّ‬
‫واحلياة االجتامعية بتوازهنام‪ .‬لقد اتضح‪ ،‬وبصورة فاضحة‪ ،‬قصور‬
‫النظرة املادية‪ ،‬الرأساملية‪ ،‬االستهالكية‪ ،‬التي ترى يف البيئة الطبيعية‪،‬‬
‫والبيئة االجتامعية‪ ،‬جمرد َمورد ْين ملراكمة األرباح‪ .‬فالعلامنية هبذا‬
‫املعنى‪ ،‬متثل أبشع أنواع الوثنية‪ .‬فالوثن األكرب يف عامل اليوم‪ ،‬هو وثن‬
‫الربح‪ ،‬الذي غايته‪ ،‬األوىل واألخرية‪ ،‬هي الربح‪ ،‬ال أكثر‪ .‬لقد أصبحت‬
‫البرشية خادمة‪ ،‬يف جمموعها‪ ،‬وعابدة‪ ،‬لصنم‪ ،‬يقع خارج دائرة املعنى‬
‫متام ًا‪ ،‬وهو صنم «الربح»‪ .‬أصبحت خدمة الربح‪ ،‬من أجل الربح‪ ،‬جتري‬
‫عىل حساب كل يشء آخر‪ .‬وهنا تصبح الرؤية الدينية القائمة عىل روح‬
‫الدين‪ ،‬رضورية للغاية‪ .‬وقد ناقش غارودي هذه اإلشكالية حيث قال‪،‬‬
‫عن نمط اقتصاد السوق‪ ،‬الذي تعتمده‪ ،‬حالي ًا‪ ،‬الرأساملية املتوحشة‪:‬‬
‫ٍ‬
‫مقصور‬ ‫تصو ٍر لإلنسان‬
‫ُّ‬ ‫ِم ْث ُل هذا االقتصاد يستند إىل‬
‫عىل ُبعدين وحيدين‪ :‬اإلنسان منتج ًا ومستهلك ًا‪ .‬ويف مرحلة‬
‫الرأساملية الصاعدة أعطاه «هوبز» هذا التعريف املقتضب‪:‬‬
‫«اإلنسان ذئب اإلنسان»‪ .‬واملسألة التي ستكون وحدها هي‬
‫احلاسمة هي‪ :‬مسألة وحدة العامل وغايات اإلنسان األخرية‪،‬‬
‫التي ال يمكن أن يطرحها رجال االقتصاد والسياسة‪،‬‬
‫الذين َيق ُبلون بمس َّلمة هوبز‪ ،‬مصدر مجيع أنواع العنف‬
‫عىل مستوى األفراد‪ ،‬وكذلك عىل مستوى األمم‪ .‬هذه‬
‫املشكالت االقتصادية والسياسية تستند يف هناية األمر‪ ،‬إىل‬
‫مشكلة الغائية؛ أي‪ ،‬إىل مشكلة دينية‪.237‬‬
‫اإلخالل برشوط العالقة بني اإلنسان والبيئة الطبيعية‪ ،‬وبرشوط‬
‫العالقة بني اإلنسان‪ ،‬والبيئة االجتامعية‪ ،‬هو الكارثة العظمى التي تواجه‬
‫‪ .237‬روجيه غارودي‪ ،‬نحو حرب دينية‪ :‬جدل العرص‪( ،‬ترجمة صياح الجهيم)‪ ،‬دار عطية للطباعة والنرش‬
‫والتوزيع‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،1996 ،‬ص ص‪.15– 14 .‬‬

‫‪305‬‬
‫أمر أخذ حيدث‪ ،‬وألول مرة‪،‬‬ ‫عامل اليوم‪ ،‬وهتدّ ده بالدمار الشامل‪ .‬وهذا ٌ‬
‫يف تاريخ العامل‪ ،‬عىل مستوى الدول الصناعية‪ ،‬والدول النامية‪ ،‬سوا ًء‬
‫بسواء‪ .‬فاملنظومة التصورية‪« ،‬الرأساملية‪/‬الوثنية»‪ ،‬املهيمنة عىل عامل‬
‫اليوم‪ ،‬تد ّمر البيئة الطبيعية‪ ،‬والبيئة االجتامعية‪ ،‬مع ًا‪ ،‬من غري هوادة‪،‬‬
‫وبصورة مل يسبق هلا مثيل يف كل التاريخ اإلنساين‪ .‬إن التحدي الذي‬ ‫ٍ‬
‫نواجهه اليوم‪ ،‬حتدٍّ أخالقي‪ ،‬يف املقام األول‪ .‬وقد أضحى هذا التحدي‪،‬‬
‫يواجهنا مجيع ًا‪ ،‬دون استثناء‪ ،‬وعىل قدم املساواة؛ يستوي يف ذلك‪ ،‬ما‬
‫ُوصف بأهنا دول صناعية كربى‪ ،‬وما توصف بأهنا دول نامية‪ .‬هذه‬ ‫ت َ‬
‫هي‪ ،‬يف تقديري‪ ،‬الزاوية املتاحة لنا اآلن‪ ،‬للنظر الفلسفي‪ ،‬التي يمكن‬
‫أن نلج منه إىل املؤالفة بني «العلامنية»‪ ،‬من جهة‪ ،‬و»روح الدين»‪ ،‬من‬
‫اجلهة األخرى‪ .‬فمنظومة الوعي واملادة منظومة واحدة متكاملة‪.‬‬
‫فالقوانني التي حتكم البيئة الطبيعية هي ذات القوانني التي حتكم الوعي‬
‫البرشي‪ .‬وحني ينحرف البرش عن الرساط املستقيم‪ ،‬ويغيب عنهم‬
‫مرسى القانون الكوين‪ ،‬ويظنّون أهنم كيان مغاير للطبيعة‪ّ ،‬‬
‫وأن هلم‬
‫طاقات متنامية ُتكِّنهم‪ ،‬يف هناية املطاف‪ ،‬من الوقوف يف وجه القوانني‬
‫الكونية‪َ ،‬تدُ ث الكوارث‪ ،‬كام هي حادث ٌة اآلن‪ .‬فالروحانية هي أن تعرف‬
‫القوانني الكونية‪ ،‬وكيفية عملها عىل مستوى الطبيعة‪ ،‬وعىل مستوى‬
‫املجتمع‪ ،‬وأن تتناغم معها‪ ،‬بذكاء‪ ،‬وأال حتاول السباحة عكس تيارها‪.‬‬
‫تلمس المَ خ َرج‬
‫في ُّ‬
‫لقد كان من الرضوري أن يصل اإلسالميون إىل دست احلكم‪،‬‬
‫حتى يتضح أن ِ‬
‫«تديني»‪ ،‬الدولة‪ ،‬وهي جمرد جهاز بريوقراطي منظم‬
‫ٍ‬
‫شعار بال حمتوى‪ .‬عىل اإلسالميني أن‬ ‫ومنسق جلهود األمة‪ ،‬ليس سوى‬
‫يعوا أن الدولة‪ ،‬من حيث هي‪ ،‬تقف عىل طرف نقيض‪ ،‬من مصالح‬
‫الشعب؛ أي شعب‪ .‬هذا هو السبب الذي جيعل احلزب اجلمهوري‬
‫يرصون عىل «دولة صغرية»‪Small ،‬‬ ‫األمريكي‪ ،‬وسائر املحافظني‪ّ ،‬‬

‫‪306‬‬
‫حق ُأريدَ هبا باطل‪ .‬فغرض‬
‫‪ .Government‬وهي‪ ،‬يف تقديري‪ ،‬قولة ّ‬
‫اجلمهوريني من «الدولة الصغرية» ليس لتوسيع دائرة احلريات‪ ،‬بقدر‬
‫إفساح يف املجال للرأسامل‪ ،‬لكي ينطلق بال قيود‪ .‬لكن الشعار من‬
‫ٌ‬ ‫ما هو‬
‫حيث هو شعار صحيح‪ ،‬فالدولة‪ ،‬مم َّثل ًة يف الذين حيكمون‪ ،‬حترص عىل‬
‫ُوسع يف سلطاهتا‪ ،‬وتبالغ يف إجراءات محاية نفسها‪،‬‬ ‫سالمة نفسها‪ ،‬فت ِّ‬
‫ناسي ًة أهنا‪ ،‬يف حقيقة أمرها‪ ،‬ليست سوى جلنة انتخبها الشعب إلدارة‬
‫شؤونه ورعاية مصاحلة‪ ،‬نيابة عنه‪ .‬فهو صاحب احلق األصيل يف‬
‫احلكم‪ ،‬ال هي‪.‬‬
‫استند اإلسالميون‪ ،‬بصور خمتلفة‪ ،‬عىل شعار «احلاكمية اإلهلية»‬
‫ليمنحوا الدولة ُسلطة مطلقة‪ ،‬وهذا َسري معاكس ملسرية التاريخ‪،‬‬
‫ومناوئ لطبيعة األشياء‪ .‬ولقد قدّ مت التجربة السودانية‪ ،‬يف ربع القرن‬
‫دليل عىل فراغ هذا الشعار من املعاين العملية‪ ،‬وعىل‬ ‫ٍ‬ ‫املايض‪ ،‬أبلغ‬
‫عدم جدواه‪ .‬فال عالقة البتة بني رسم سياسات تنموية‪ ،‬واقتصادية‪،‬‬
‫وتعليمية‪ ،‬وسياسة عالقات خارجية‪ ،‬ناجحة‪ ،‬ومثمرة‪ ،‬وبني الرشيعة‬
‫اإلسالمية املتوارثة منذ القرن السابع امليالدي‪.‬‬
‫رشعت حكومة نمريي يف ممارسة ما َس َّمته «تطبيق الرشيعة‬ ‫حني َ‬
‫اإلسالمية»‪ ،‬بتشجيعٍ‪ ،‬ومشاركة من اإلسالميني‪ ،‬مل َي َر الناس شيئ ًا‬
‫إجيابي ًا‪ ،‬يتع ّلق بأمر معاشهم‪ ،‬وتقدُّ م اقتصاد بلدهم‪ ،‬وازدياد معدالت‬
‫نموها وهنضتها‪ .‬ما رأوه‪ ،‬حرص ًا‪ ،‬كان قوانني عقوبات بالغة الوحشية‪،‬‬
‫ٍ‬
‫وجتاوزات فظيع ًة يف إجراءات التقايض‪ .‬ويمكن القول‪ ،‬دون أدنى تر ّدد‪،‬‬
‫إن إجراءات التقايض املوروثة من احلكم الربيطاين‪ ،‬كانت أكثر توخي ًا‬
‫للعدالة‪ ،‬وأكثر حرص ًا عىل حفظ حقوق املتهمني‪ ،‬وكرامتهم اإلنسانية‪،‬‬
‫نظرنا جدّ ي ًا إىل اجلوهر‪ ،‬وإىل‬
‫مما رأيناه يف «حماكم الطوارئ»‪ .‬ولو نحن ْ‬
‫املعنى‪ ،‬كام ينبغي أن ننظر‪ ،‬واصطحبنا يف رؤيتنا‪ ،‬روح الدين‪َ ،‬لو َجدْ نا أن‬
‫القانون املوروث من االستعامر الربيطاين‪ ،‬هو القانون اإلسالمي‪ ،‬حقيق ًة‪،‬‬

‫‪307‬‬
‫وليست قوانني سبتمرب وممارسات حماكم الطوارئ التي ُس ِّميت إسالمية‪.‬‬
‫السلطة‬
‫ُيضاف إىل ما تَقدَّ م‪ ،‬فقد اتضح أن اختيار الطامعني يف ُّ‬
‫للقوانني اإلسالمية‪ ،‬مل يكن من أجل حتقيق حياة أفضل للناس‪ ،‬بقدر ما‬
‫كان من أجل إعادة أنامط احلكم املطلقة‪ ،‬وصور االستبداد القروسطي‪،‬‬
‫كثري من األمم‪ ،‬وراء ظهرها‪ .‬فرافِعوا شعار «أسلمة‬ ‫التي خ ّلفتها ٌ‬
‫الدولة»‪ ،‬و»احلاكمية اإلهلية»‪ ،‬إنام يريدون إعادهتا مر ًة أخرى‪ ،‬حتت‬
‫معارضة حلكمهم‪ .‬فت َْحت‬ ‫ٍ‬
‫أصوات ِ‬ ‫مظ ّلة الدين‪ ،‬ل َي ُحولوا دون ارتفاع‬
‫الالفتة اإلسالمية‪ ،‬يصبح من يعارضهم‪ ،‬معارض ًا حلكم اهلل‪ ،‬وملشيئة‬
‫السامء‪ .‬حتت هذه الالفتة‪ ،‬اإلسالمية الزائفة‪ ،‬جتري املراهنة عىل العاطفة‬
‫الدينية الفجة‪ ،‬وسط اجلهالء‪ ،‬ف ُيمنحون حيز ًا يف املجال العام‪ ،‬مل يكن‬
‫من املمكن أن حيت ّلوه بغري هذه الصيغة‪ .‬وهكذا جيري عزل النُّخب‪ ،‬عن‬
‫طريق دمغهم بـ «العلامنية»‪ ،‬التي ال ينفك التشهري هبا‪ ،‬وإلصاقها بالكفر‬
‫واإلحلاد‪ .‬وهكذا ينقلب اهلرم االجتامعي‪ ،‬رأس ًا عىل عقب‪ ،‬فتعلو‬
‫وتنحط مكانة العلامء‪ ،‬وتسري‪ ،‬من ثم‪ ،‬عقارب الساعة‬ ‫ّ‬ ‫مكانة اجلهالء‬
‫إىل الوراء‪ .‬ولقد قدّ مت التجربة السودانية‪ ،‬يف كل هذه األمور‪ ،‬أبلغ‬
‫األدلة والشواهد‪.‬‬
‫ّ‬
‫إن إبقاء الدولة «علامنية»‪ ،‬بمعني حياديتها جتاه الديانات املختلفة‪،‬‬
‫هو الذي حيفظ هلا «إسالميتها»‪ ،‬من حيث النظر اجلوهري‪ ،‬الذي‬
‫جهد «علامين» لتيسري حياة الناس‪ ،‬وتوسيع‬‫هيتم بحقيقة املعاين‪ .‬فكل ٍ‬
‫ّ‬
‫حرياهتم‪ ،‬ورفع العنت عن كاهلهم‪ ،‬وتطوير أساليب عيشهم‪،‬‬ ‫نطاق ّ‬
‫وإخراجهم من ربقة الفقر‪ ،‬واجلوع‪ ،‬واملرض‪ ،‬واجلهل‪ ،‬وحفظ‬
‫كرامتهم اإلنسانية‪ ،‬فهو جهد «إسالمي»‪ ،‬أي ًا كان مصدره‪ .‬وكل جهد‬
‫يكرس االستبداد والقمع‪ ،‬ويغمط الناس حقوقهم‪ ،‬وحيبسهم يف خانة‬ ‫ّ‬
‫العوز‪ ،‬وقلة احليلة‪ ،‬ويف متاهات البطالة‪ ،‬ويغلق أمام أعينهم نوافذ‬
‫ونموهم العقيل‪ ،‬والوجداين‪ ،‬فهو جهد‬‫األمل يف الغد‪ ،‬ويع ّطل تقدّ مهم‪ّ ،‬‬

‫‪308‬‬
‫ٌ‬
‫طغيان وفسا ٌد يف‬ ‫«كُفري»‪« ،‬وثني»‪ ،‬بل‪ ،‬هو‪ ،‬من حيث النتيجة العملية‪،‬‬
‫األرض‪ ،‬وينبغي أن ُيناهض‪ ،‬بال هوادة‪ .‬ولذلك‪ ،‬فإن مدلول كلمتي‬
‫«علامين»‪ ،‬و«ديني»‪ ،‬يف مستوى شكل الدولة‪ ،‬و َدور الدولة‪ ،‬بحاجة إىل‬
‫إعادة نظر‪ ،‬بعيد ًا عن العواطف الفجة‪ ،‬واألشواق الدينية الكاذبة‪.‬‬
‫أما «العلامنية» بوصفها رؤية للكون‪ ،‬ينبني عليها أسلوب للحياة‬
‫الشخصية‪ ،‬يامرسه صاحبه‪ ،‬أو صاحبته‪ ،‬بعيد ًا عن أعني املجتمع‪ ،‬فهو‬
‫أمر ال يعني الدولة‪ ،‬وال يعني املجتمع‪ ،‬يف يشء‪ .‬فاملجتمع‪ ،‬ودولته‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫َمعن ّيان بالفضاء العام‪ ،‬وليس بخلوات الناس‪ ،‬وضامئرهم‪ .‬فاخلطاب‬
‫احلق من ربكم‪ ،‬فمن شاء فليؤمن‪ ،‬ومن شاء‬ ‫يف روح الدين‪« :‬وقل ّ‬
‫فليكفر»‪ .‬فاحلق يف انتهاج أسلوب للحياة مهام كانت صورته‪ ،‬مكفول‬
‫ألهله‪ ،‬طاملا مل خيرقوا القوانني الدستورية التي تنظم حياة املجتمع‪.‬‬
‫وطاملا احتفظوا بخياراهتم املسلكية داخل نطاق خلواهتم‪ .‬ويف هذا‬
‫ال خيتلف الغربيون عنا‪ ،‬رغم اختالف الدول الغربية عن بعضها يف‬
‫درجة اإلتاحة يف ما يتعلق بالفضاء العام‪ ،‬حتديد ًا‪ .‬فاألمريكيون أكثر‬
‫حتفظ ًا يف املجال العام من األوروبيني‪ .‬من الرضوري جد ًا‪ ،‬أن ال يتّخذ‬
‫دعاة «الدولة اإلسالمية» وجود خيارات مسلكية‪ ،‬لدى بعض األفراد‪،‬‬
‫تتسم بمصادمة التيار القيمي العام‪ ،‬ذريع ًة للقمع العام‪ ،‬واالستبداد‪،‬‬
‫ومصادرة احلقوق املرشوعة للجميع‪ ،‬باستخدام فقه سدّ الذرائع‬
‫صادر‪ ،‬بطبيعته‪ ،‬للحريات الشخصية‪ ،‬بل واحلريات العامة‪.238‬‬ ‫ا ُمل ِ‬

‫خاتمة‬
‫لقد آن األوان لكي خيرج اجلدل حول «علامنية» و»إسالمية‬
‫ٍ‬
‫لعقود طويلة‪ ،‬واتّسمت‬ ‫ضمته‬
‫الدولة» إىل دائرة جديدة‪ ،‬غري تلك التي ّ‬
‫كرس حلالة الدوران يف تلك‬ ‫بالتبسيط الشديد‪ ،‬وبالسطحية‪ .‬لقد ّ‬

‫‪ .238‬من أمثلة فقه سد الذرائع‪ :‬تُنع املرأة من السفر لوحدها‪ ،‬خشية الفتنة واإلغواء‪.‬‬

‫‪309‬‬
‫الدائرة غري املنتجة‪ ،‬وقوف أكثرية املثقفني العرب عىل السياج‪ ،‬جتاه‬
‫قضية اإلصالح الديني‪ .‬فقد اكتفوا بالفرجة‪ ،‬ظن ًا منهم أن القضية ال‬
‫جدل داخل ُسور الدين‪ ،‬ال شأن هلم به‪ .‬ولربام كان‬ ‫تعنيهم‪ ،‬وإنام هي ٌ‬
‫حتمي‪َ ،‬دور يف وقوفهم عىل‬ ‫ّ‬ ‫العتقادهم أن الدّ ين ظاهرة انقراضها‬
‫السياج‪ ،‬عىل ذاك النحو‪ .‬لكن‪ ،‬اتضح بام ال يدع جماال للشك‪ ،‬أن الدّ ين‬
‫باق يف حياة عامة الناس‪ .‬وهو لن خيرج منها‪ ،‬ألنه م َّثل‪ ،‬منذ فجر احلياة‬
‫عىل هذا الكوكب‪ ،‬استجاب ًة طبيعي ًة حلاجة عميقة يف نفوس البرش‪،‬‬
‫ومصدر للطمأنينة من املخاوف الوجودية‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫معنى للوجود‪،‬‬
‫تتعلق بإجياد ً‬
‫وقدرة الدين‪ ،‬بمختلف ُص َوره‪ ،‬عىل خماطبة هذه احلاجة‪ ،‬لدى عامة‬
‫الناس‪ ،‬ال متاثلها قدر ٌة أخرى‪ ،‬عىل اإلطالق‪ .‬لكن‪ ،‬بقاء الدين وسط‬
‫العامة‪ ،‬بمفاهيمه القديمة‪ ،‬املناقضة لكل ُص َور احلداثة‪ ،‬جعل منه أدا ًة‬
‫ِ‬
‫وخطرها‪ ،‬قو ٌة أخرى‪ .‬ومن ينظر‬ ‫َ‬ ‫للتخريب واالنتكاس‪ ،‬ال ُتاثل ّ‬
‫قو َتا‪،‬‬
‫إىل ما جرى يف العقود الثالثة األخرية‪ ،‬من هتديد اإلرهاب‪ ،‬واهلوس‬
‫الديني‪ ،‬لالستقرار وألمن الشعوب‪ ،‬يف كل أرجاء الكوكب‪ ،‬يدرك‬
‫حجم اإلشكالية‪.‬‬
‫تقف املفاهيم الدينية اإلسالمية القروسطية‪ ،‬عقب ًة كأداء يف وجه‬
‫جهود التحديث‪ ،‬والتنوير‪ ،‬والدمقرطة‪ .‬ويعود بقاء هذه املفاهيم‪،‬‬
‫واستمراريتها‪ ،‬يف رشقنا العريب اإلسالمي‪ ،‬إىل حدٍّ كبري‪ ،‬إىل ْترك‬
‫احلبل عىل الغارب‪ ،‬لرجال الدين‪ ،‬واإلخالء بينهم‪ ،‬وبني‬ ‫َ‬ ‫املث ّقفني‪،‬‬
‫اجلمهور‪ ،‬بالكلية‪ .‬لقد حتاشت غالبية املثقفني اخلوض يف مناقشة قضية‬
‫الدين‪ ،‬وتركتها بالكلية لرجال الدين وللجمهور‪ .‬وقد أبقى هذا َ‬
‫جمال‬
‫َ‬
‫وجمال النخب‪ ،‬جمالني متوازيني ال يتداخالن‪ ،‬ما جعل غالبية‬ ‫اجلمهور‪،‬‬
‫اجلمهور واقع ًة يف قبضة رجال الدين‪ ،‬فبعدت عقوهلم عن روح الدين‪،‬‬
‫والتصقت بحرفه‪.‬‬
‫ّ‬
‫إن هنج اإلصالح الديني هو النهج األمثل للنهضة‪ ،‬ألنّه هنج غري‬

‫‪310‬‬
‫نخبوي‪ ،‬ال يبعد العامة عن مائدته‪ .‬فاملثقف العميق الفكر ال يتّجه‬
‫لنسف فكرة الدين من جذورها‪ ،‬وإنام يتجه إلصالحها‪ .‬فالدين متشكل‬
‫اجتامعي تارخيي‪ ،‬قائم‪ .‬وهو‪ ،‬من ثم‪ ،‬بنية ال يمكن تقويضها‪ ،‬وال ينبغي‬
‫ال تقويضها‪ ،‬كام أهنا‪ ،‬ال يمكن االلتفاف حوهلا‪ .‬يضاف إىل ذلك‪،‬‬ ‫أص ً‬
‫أهنا حتمل يف بعض جتلياهتا طاق ًة ثوري ًة تقف وراءها قوى مجاهريية بالغة‬
‫الضخامة‪ ،‬وكذلك تنظيامت جمتمعية قاعدية‪ ،‬كام يف الطرق الصوفية‪.‬‬
‫ويف جمتمعاتنا‪ ،‬تبقى هذه القوة الضخمة عرضة ألن يستخدمها‬
‫اجلهالء‪ ،‬أو املغرضون‪ ،‬من أجل أطامعهم‪ ،‬فيسوقون احلياة إىل الوراء‪،‬‬
‫اخليون املستنريون‪ ،‬لدفع احلياة إىل األمام‪ .‬فإذا مل يدخل‬‫أو‪ ،‬يستغ ّلها ّ‬
‫املستنريون يف دائرة اجلدل الثائر حول قضية الدين والعلمنة‪ ،‬بخطاب‬
‫مرتكز عىل روح العلمنة‪ ،‬وروح الدين‪ ،‬فإن هذه القوة بالغة الضخامة‬
‫السلطة والثروة‪،‬‬‫تنتهي يف يد اجلهالء وأهل الغرض من الطامعني يف ُّ‬
‫عىل حساب اجلميع‪ .‬وهذا ما نراه اليوم جاري ًا‪ ،‬خاصة يف السودان‪.‬‬
‫يم ّثل توليف املفاهيم‪ ،‬التي تبدو‪ ،‬لدى النظر القصري‪ ،‬مفاهيم‬
‫متعارضة تعارض ًا كلي ًا‪ ،‬ومنها مفهومي «علامين» و»ديني»‪ ،‬مدخ ً‬
‫ال‬
‫النخراط النخب يف معركة اإلصالح الديني‪ .‬ويلزمني التنبيه هنا‪،‬‬
‫أن معركة اإلصالح الديني‪ ،‬ال تقف عند الدين‪ ،‬وإنام تتعداه لتشمل‬
‫إصالح العلامنية ذاهتا‪ .‬فاملصطلحان بحاجة إىل إعادة اإلنتاج داخل‬
‫فضاء التدين يف معناه الكوين الواسع‪ ،‬وداخل فضاء العلامنية‪ ،‬بعد‬
‫إخراجه من دائرة الثنائيات املتعارضة التي احتوته منذ فجر حقبة‬
‫احلداثة‪ .‬باالنخراط يف جدل اإلصالح الديني جيري إصالح العلامنية‬
‫االجتزائية‪ ،‬االنتقائية‪ ،‬التي عاشت عليها نخب البيئات اإلسالمية‪،‬‬
‫فأصبحت غريبة يف أوطاهنا‪ .‬وجيري إصالح الدين بإخراجه من دائرة‬
‫الفجة‪ ،‬والشعارات‪ ،‬واملزايدات اخلطابية اجلوفاء‪ ،‬وحالة‬ ‫ّ‬ ‫العاطفة‬
‫انفصال الفكر عن الواقع‪ ،‬وحالة اإلنكار‪ ،‬التي نراها اليوم‪.‬‬

‫‪311‬‬
‫شك أبد ًا يف أن الدين دعامة أخالقية‪ ،‬ال ُتاثِلها يف القوة‪،‬‬ ‫ما من ٍّ‬
‫دعامة أخالقية أخرى‪ .‬وهي ميزة نسبية‪ ،‬جيب االنتفاع منها‪ ،‬يف جهود‬
‫الرتبية اخللقية‪ ،‬وحفظ االنضباط املؤسيس‪ ،‬من االنحراف‪ ،‬وضامنة‬
‫تسنِّمي الوظائف العامة‪ ،‬خاصة يف املجتمعات التي‬ ‫نظافة اليد‪ ،‬وسط ُم َ‬
‫قيمها‪ ،‬بعد‪ .‬أيض ًا‪ ،‬متثل القيم الدينية‪ ،‬املرتبطة‬‫مل جترف منظوم ُة احلداثة َ‬
‫بجوهر رساالت األديان‪ ،‬دعام ًة للرتابط املجتمعي وللرتاحم‪ .‬لكن من‬
‫َدخل فيه يد‬ ‫املهم أن ندرك أن جمال الدّ ين َي ْف ُسد فساد ًا كامالً‪ ،‬حني ت ُ‬
‫السلطة‪ .‬فالتقوى والرتبية اخللقية هي مهمة األرسة‪ ،‬وهي مهمة الطرق‬ ‫ُّ‬
‫تتحرك فيه منظامت‬‫الصوفية‪ ،‬ومهمة خمتلف أنشطة الفضاء العام‪ ،‬الذي ّ‬
‫املجتمع املدين؛ املرتبط منها بالدين‪ ،‬وبغري الدين‪ .‬الرتبية مهمة جمتمعية‬
‫املجتمع احلكوم َة‬
‫ُ‬ ‫وليست مهمة حكومية إال بالقدر الذي يستخدم به‬
‫موجهات‬‫وفق اتفاق ديمقراطي وإمجاع بني مجيع أهل األديان يف وضع ّ‬
‫خلقية يف قطاع التعليم واإلعالم واألنشطة املجتمعية األخرى التي‬
‫تستهدف تربية النشء‪.‬‬
‫يم ّثل جعل الدولة حارس ًا للفضيلة وضع ًا مقلوب ًا‪ ،‬يشبه وضع‬
‫العربة أمام احلصان‪ .‬فاحلكومات هي املتهمة باالنحراف دائ ًام‪ ،‬وليس‬
‫الشعوب‪ .‬فاحلكومات التي تلصق نفسها بالدين إنام تفعل ذلك لكي‬
‫بسلطة املقدس‪ ،‬ولكي حتمي نفسها من املساءلة‪ .‬وأظننا‬ ‫تسرت عوراهتا ُ‬
‫يف السودان قد وجدنا الفرصة‪ ،‬التي جعلتنا نتأكد عملي ًا من خطر َمنْح‬
‫وسلطة دينية‪ ،‬و َمنْحها َدور الرقيب عىل املجتمع‪.‬‬
‫الدولة صفة دينية‪ُ ،‬‬
‫أي مردود تنموي أو‬ ‫فاملحصلة النهائية‪ ،‬مل تكن سوى استبداد بال ّ‬
‫هنضوي أو إصالحي‪ ،‬وإنام خراب مادي‪ ،‬وفساد أخالقي‪ ،‬تعدَّ ى‬
‫أظافره يف جسد األمة بأكملها‪.‬‬ ‫نشب‬‫النُّخب لي ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬

‫‪312‬‬
‫مراجع الفصل السابع‬

:‫المراجع العربية‬
‫ جداول‬،)‫ حميد لشهب‬:‫ (تعريب‬،‫ جدلية العلمنة والعقل والدين‬،‫ وجوزيف راتسنغز‬،‫يورغن هربماس‬
.2013 ،‫ الكويت‬،‫للنرش والتوزيع‬
،‫ رؤية للنرش والتوزيع‬،‫ إعادة بناء املجال السيايس يف الفكر العريب‬:‫ التفكري يف العلامنية‬،‫كامل عبد اللطيف‬
.2007 ،‫ ج م ع‬،‫القاهرة‬
،‫ الدوحة‬،‫ املركز العريب ألبحاث ودراسة السياسات‬،)1‫ (ج‬،‫ الدين والعلامنية يف سياق تاريخي‬،‫عزمي بشارة‬
2013 ،‫بريوت‬
.1969 ،‫ السودان‬،‫ الخرطوم‬،‫ سودان‬،‫ مطبعة مرص‬،)4 ‫ (ط‬،‫ الرسالة الثانية من اإلسالم‬،‫محمود محمد طه‬
‫ دار عطية للطباعة والنرش‬،)‫ (ترجمة صياح الجهيم‬،‫ جدل العرص‬:‫ نحو حرب دينية‬،‫روجيه غارودي‬
.1996 ،‫ لبنان‬،‫ بريوت‬،‫والتوزيع‬

:‫المراجع اإلنجليزية‬
Zohar, D., & Marshall, I. SQ: Connecting with our spiritual intelligence, Bloomsbury, New
York, USA. 2000,
J. Habermas, Modernity versus postmodernity. In H. Riassti (Ed.), Postmodern Perspectives:
Issues in contemporary art, Prentice Hall, Englewood Cliffs, NJ: 1990, pp 54-66.
Morris Berman, The Reenchantment of the World. Ithaca, NY: Cornell University Press, 1984.
Abdullahi A. An-Na’im, Islam and the Secular State, Harvard University Press, Cambridge, MA,
USA & London, UK, 2009.
Morris Berman, The reenchantment of the world, Bantam Books, New York, NY, USA, (1984),
Huston Smith, Beyond the postmodern mind, Quest Books, Wheaton, IL, USA, (Ed 3) (2003).
Alexander M. Sidorkin, Beyond discourse: education the self and dialogue, State
University of New York Press, New York, USA, 2001.
Robert Coles, The secular mind, Princeton University Press, Princeton, NJ, USA, (1999).

313
‫الفصل الثامن‬

‫‪‬‬

‫ُ‬
‫ستينات وسبعينات القرن الماضي‪:‬‬
‫نظرة في أحوال االزدهار خارج السياق‬
‫جرى تقديم هذه الورقة يف نسخة مخترصة يف امللتقى الذي نظّمته‬
‫مؤسسة الشارقة للفنون بالتعاون مع معهد دراسات الحداثة املقارنة بجامعة‬
‫كورنيل‪ ،‬تحت عنوان‪« ،‬الحداثة وصناعة الهوية يف السودان‪ :‬استعادة حقبة‬
‫الستينات والسبعينات» يف مدينة الشارقة‪ 12-10 ،‬أبريل ‪.2015‬‬

‫مقدمة‬
‫ننفك‪ ،‬نحن السودانيني‪ ،‬ننظر من فوق أكتافِنا إىل الوراء نحو‬ ‫ال ّ‬
‫ني‬ ‫ِ‬
‫عقدَ ْي الستينات والسبعينات من القرن املايض‪ ،‬ونحن مفعم َ‬
‫يسميها الغربيون «النوستاجليا»‪ .‬وال‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫احلنني اجلارف؛ التي ّ‬ ‫بمشاعر‬
‫ظل كئيب ًا وحمتقن ًا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫املعاش عرب العقود األربعة املنرصمة‪ّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫فحارضنا‬ ‫غراب َة‪،‬‬
‫ُ‬
‫احلارض كئيب ًا وحمتقن ًا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫التفجر‪ .‬وحني يكون‬ ‫ّ‬ ‫ب َقدْ ٍر ب َل َغ معه احتقانُه درج َة‬
‫ِ‬
‫الذهن‬ ‫ِ‬
‫باحلنني إىل املايض‪ ،‬الذي يتحول يف‬ ‫الشعور‬
‫ُ‬ ‫ومتفجر ًا‪ ،‬يشتد عاد ًة‬
‫ِ‬
‫التوهان والرتاج ِع‬ ‫والوجدان‪ ،‬إىل ملجأٍ للهروب‪ .‬وعموم ًا فإن حاالت‬
‫ِ‬

‫‪315‬‬
‫وأكثر امتال ًء باملعاين‪،‬‬ ‫َ‬ ‫أكثر إرشاق ًا‪،‬‬
‫الشعوب‪ ،‬جتعل املايض َ‬
‫َ‬ ‫التي تعرتي‬
‫وأشدَّ نبض ًا باحليوي ًة‪ ،‬ما يدفع تلقائي ًا‪ ،‬إىل نزعات اهلروب واللجوء إليه‪.‬‬
‫يقول موريس هولربوك‪ ،‬إن النوستاجليا‪ ،‬تعود عىل املستوى اإلدراكي‪،‬‬
‫إىل كوهنا ذكريات مجاعية‪ ،‬أو ذكريات مرتبطة باجليل‪ .‬ويف هذا املنحى‪،‬‬
‫انحياز لتذكر األمور ذات الصلة بفرتة الشباب‪.239‬‬ ‫ٌ‬ ‫يكون هناك‬
‫ِ‬
‫االستقالل‬ ‫وس َم ْت حقب َة ما بعدَ‬ ‫أشع َلت حال ُة الرتاج ِع ّ ِ‬
‫الشاملة التي َ‬
‫القطر السوداين‪ ،‬هذه النزع َة وسطنا‪ ،‬نحن السودانيني‪ ،‬فأخذت‬ ‫ِ‬ ‫يف‬
‫ميل‬ ‫ِ‬
‫سيطرتا‪ُ ،‬‬ ‫ِ‬
‫تتنامى‪ ،‬حتى استفحلت وسيطرت‪ .‬ومن عالمات‬
‫عبارة «الزمن اجلميل»‪ ،‬عىل العقدين‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫إطالق‬ ‫السودانيني املتنامي إىل‬
‫ِ‬
‫التدليل‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫منتصف القرن العرشين‪ .‬وال أظن أن أحد ًا بحاجة إىل‬ ‫َ‬ ‫اللذين تليا‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أمر ّ‬ ‫ِ‬
‫ظل حيكي عن نفسه بنفسه‪،‬‬ ‫عىل تراج ِع األحوال يف السودان‪ ،‬فذلك ٌ‬
‫زمني بلغ الست َة عقود‪ .‬والنوستاجليا‪ ،‬من حيث هي‪ ،‬راسخة‬ ‫ٍّ‬ ‫مدى‬
‫عىل ً‬
‫يف آداب العربية‪ ،‬وخري من عرب عنها هو الشاعر أبو متام‪ ،‬حيث قال‪:‬‬
‫ِ‬
‫األول‬ ‫ِ‬
‫للحبيب‬ ‫احلب إال‬
‫ُّ‬ ‫ما‬ ‫ن ِّقل فؤا َدك حيث َ‬
‫شئت من اهلوى‬
‫ِ‬
‫منزل‬ ‫ِ‬
‫ألول‬ ‫وحنينُه أبد ًا‬ ‫ِ‬
‫األرض يأل ُفه الفتى‬ ‫ٍ‬
‫منزل يف‬ ‫كم‬

‫والنوستاجليا وما يتبعها من حديث عن «الزمن اجلميل» ليست‬


‫ظاهرة سودانية خالصة‪ ،‬وإنام هي ظاهرة تتشاركها معنا بلدان كثرية‪.‬‬
‫وعىل سبيل املثال ورد يف األخبار مؤخر ًا‪ ،‬أن منظومة جلنة األمم املتحدة‬
‫للفنون يف الرشق األوسط وأفريقيا‪ ،‬أقامت يف يوم ‪ 14‬أيار‪/‬مايو ‪2015‬‬
‫أوىل فعاليات وأنشطة ما َس َّمته «أبناء الزمن اجلميل»‪ ،‬احتفا ًء باملمثلني‬
‫املرصيني الذي بروزا يف احلقبة السينامئية التي كانت األفالم السينامئية‬
‫فيها‪« ،‬أبيض وأسود»‪ .‬وجرى االحتفال بحضور أبناء الفنانني الراحلني‬

‫‪239. Morris B. Holbrook & Robert M. Schindler, Nostalgic bonding: Exploring the role of‬‬
‫‪nostalgia in the consumption experience, Journal of Consumer Behaviour, Vol. 3, 2, 107–127‬‬

‫‪316‬‬
‫الذي أسهموا وأ ْث َروا احلركة الفنية التلفزيونية واملرسحية يف مجهورية‬
‫مرص العربية‪ .240‬ومرص عانت هي األخرى‪ ،‬كام عانى السودان‪ ،‬من‬
‫مسلسل الرتاجع املضطرد‪ .‬فسينام الباشوات‪ ،‬ونمط احلياة األوروبية‬
‫الذي فشا وسط األرستقراطية املرصية وقطاعها الربجوازي العريض‬
‫الذي عاش حتت ظل امللكية اإلقطاعية وامتدّ ت مظاهره عرب العقد‬
‫األول من فرتة حكم مجال عبد النارص ال يزال يداعب خيال املرصيني‪،‬‬
‫ويثري يف دواخلهم ذكريات «الزمن اجلميل»‪.‬‬
‫غري أن السياق خيتلف من ُقطر إىل آخر‪ .‬وإليضاح اختالف‬
‫السياقات‪ ،‬أو ّد أن أستعني بام كتبه الكاتب السعودي عبد اهلل املسيان‪،‬‬
‫يف صحيفة الرياض السعودية حتت عنوان‪« ،‬أكذوبة الزمن اجلميل»‬
‫حيث قال‪:‬‬
‫ن َق ْلنا مصطلح «الزمن اجلميل» من اإلعالم املرصي‪،‬‬
‫دون متحيص أو تنقيح‪ ،‬وحني نقول «الزمن اجلميل» فإننا‬
‫نقصد عىل وجه التقريب الفرتة الزمنية ما بني اخلمسينات‬
‫ال زمن مجيل؟‪ ...‬الفجوة‬‫إىل السبعينات امليالدية‪ .‬فهل هو فع ً‬
‫التكنولوجية واحلضارية والتنموية واالقتصادية بني ذلك‬
‫الزمن وبني اليوم كفيلة بدحض هذا الرأي‪ ،‬البيوت صغرية‬
‫جد ًا ومبنية من الطني‪ ،‬ال مكيفات‪ ،‬ال جواالت‪ ،‬ال إنرتنت‪،‬‬
‫ال تلفزيون‪ ،‬ال جرائد‪ ،‬ال مطاعم وال جممعات جتارية‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫إضافة إىل أن النظافة معدومة‪ ،‬وعمر اإلنسان أقرص بحكم‬
‫األمراض وانعدام التطعيامت األساسية‪ .‬وجماالت الرتفيه‬
‫‪241‬‬
‫حمدودة‪ ...‬فعن أي زمن مجيل يتحدثون؟‬

‫‪ .240‬لجنة األمم املتحدة للفنون تحتفي بفناين الزمن الجميل‪ ،‬تعدد نت‪( ،‬اسرتجاع يف ‪ 15‬مايو ‪،)،2014‬‬
‫عىل الرابط‪http://motaded.net/show-6023797.html :‬‬
‫‪ .241‬عبد الله املسيان‪ ،‬أكذوبة الزمن الجميل‪ ،‬صحيفة الرياض السعودية‪ ،‬النسخة اإللكرتونية‪( ،‬اسرتجاع‬
‫يف ‪ .)2015/5/11‬عىل الرابط‪http://www.alriyadh.com/1047090 :‬‬

‫‪317‬‬
‫فالزمن اجلميل مل يكن سوى الزمن الذي استمت َعت فيه الربجوازية‬
‫العربية املدينية بخريات األقطار‪ ،‬قبل أن تصحو الشعوب‪ ،‬فتهجم عىل‬
‫املدن هجمتها امللحمية‪ ،‬فزحفت عليها وأفقدهتا متدْ ُينها وألقها ونظامها‪.‬‬
‫خيص‬ ‫ما قاله الكاتب السعودي عبد اهلل املسيان صحيح متام ًا يف ما ّ‬
‫السياق السعودي‪ .‬فاألوضاع االقتصادية واالجتامعية صعدت يف‬
‫اململكة العربية السعودية‪ ،‬ويف سائر دول اخلليج‪ ،‬صعود ًا صاروخي ًا‪،‬‬
‫مقارن ًا بام كانت عليه أحواهلا عند منتصف القرن العرشين‪ .‬وال جمال‬
‫البتة ملقارنة أحواهلا اليوم‪ ،‬بام كان عليه يف احلقبة املمتدة من مخسينات‬
‫القرن املايض إىل سبعيناته‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬عىل العكس من ذلك متام ًا‪ ،‬تراجع السياق السوداين‪ ،‬العام؛‬
‫اقتصادي ًا‪ ،‬واجتامعي ًا‪ ،‬وثقافي ًا‪ ،‬تراجع ًا صاروخي ًا‪ ،‬مقارنة بام كان عليه‬
‫حاله يف حقبة الستينات والسبعينات‪ .‬وحيتاج هذا احلديث إىل فرز أكثر‪،‬‬
‫ألن الصورة يف مجلتها شديدة الرتكيب‪ .‬ففي حاالت الرتاجع العام‪،‬‬
‫كثري ًا يف الصورة العامة‪.‬‬
‫تكون هناك جوانب من التقدم‪ ،‬لكنها ال تغري َ‬
‫ومت ّثل احلالة السودانية حالة نموذجية يف هذا الصدد‪ .‬غري أن مجلة القول‬
‫تتلخص يف أن أحوال السودان السياسية‪ ،‬واالقتصادية‪ ،‬واالجتامعية‪،‬‬ ‫ّ‬
‫والثقافية‪ ،‬تراجعت عرب اخلمسني سنة املاضية‪ ،‬تراجع ًا مريع ًا‪ .‬ولقد‬
‫تراجع اجلانب الثقايف‪ ،‬حتديد ًا‪ ،‬تراجع ًا كبري ًا‪ .‬وال غرابة‪ ،‬فالتعليم‬
‫يف السودان قد أخذ يواجه مشاكل كثرية‪ ،‬جعلت التعليم احلكومي‪،‬‬
‫حتديد ًا‪ ،‬ضعيف ًا جد ًا‪ ،‬هذا إن مل نقل قليل اجلدوى‪ ،‬أو منعدمها متام ًا‪.242‬‬
‫شجرتا املث ّقفني‬
‫ُ‬ ‫وما من شك أن التعليم يم ّثل احلاضنة األم التي تُنتِج‬
‫والثقاف َة يف كل رضوهبا‪.‬‬

‫‪ .242‬راجع تقرير البنك الدويل‪( The Status of the Education Sector in Sudan ،‬اسرتجاع يف‬
‫‪ ،)2015/5/12‬عىل الرابط‪:‬‬
‫‪http://elibrary.worldbank.org/doi/book/10.1596/978-0-8213-8857-0‬‬

‫‪318‬‬
‫حداثة مع ّلقة في الهواء‬
‫يبدو يل‪ ،‬من الرضوري‪ ،‬ونحن نناقش حقبة الستينات والسبعينات‬
‫من القرن املايض يف السودان‪ ،‬بوصفها حقبة ازدهار للحداثة يف‬
‫السودان‪ ،‬أن أشري إىل الفارق بني احلداثة ‪ modernism‬بوصفها‬
‫النزوع إىل االنفالت‪ ،‬يف حقول التعبري املختلفة‪ ،‬من قيود األطر‬
‫التقليدية‪ ،‬وبني التحديث ‪ ،modernity‬بوصفه حداثة البنى التحتية‪،‬‬
‫وأنامط العيش وأساليبه‪ .‬وأعني هنا‪ ،‬البنية االقتصادية التنموية‪ ،‬والبنية‬
‫السياسية املعافاة التي تسند البنية االقتصادية التنموية‪.‬‬
‫ُعرفها القواميس واملوسوعات‪ ،‬تعني املامرسة‬ ‫«احلداثة»‪ ،‬كام ت ّ‬
‫واالستخدام والتعبري يف الفنون واآلداب التي تنزع إىل االبتعاد عن‬
‫ُعرفها أيض ًا بأهنا ت ّيار يف الالهوت ُيعنَى بمواءمة‬
‫األساليب التقليدية‪ .‬كام ت ِّ‬
‫التعاليم الدينية التقليدية مع الفكر املعارص‪ ،‬وخاصة عن طريق التقليل‬
‫من أمهية العنارص الالهوتية املتع ّلقة بام فوق الطبيعة‪ .243‬أيض ًا‪ ،‬تربط‬
‫بعض القواميس مصطلح «احلداثة» بالسياق الغريب‪ ،‬حرص ًا؛ وال غرابة‪.‬‬
‫فاحلداثة بوصفها حراك ًا يف الفكر واآلداب والفنون نشأت يف السياق‬
‫الغريب‪ .‬وقد تولدت‪ ،‬إىل حدٍّ كبري‪ ،‬نتيجة لتحديث املجتمعات الغربية‬
‫عىل مستوى البنى التحتية‪ ،‬نتيجة للثورة الصناعية ونشوء الرأساملية‪.‬‬
‫ولذلك جاء الفرق بني كلمة ‪ ،modernism‬التي تؤطر أساليب‬
‫التعبري التي انفكت من األطر التقليدية‪ ،‬وكلمة ‪ modernity‬التي تُعنَى‬
‫مستوى االرتفاق بالتكنولوجيا يف التصنيع واملواصالت واالتصاالت‬
‫وأساليب العيش‪ ،‬من سكن‪ ،‬وملبس‪ ،‬ومأكل‪ ،‬ومرشب‪ ،‬وصحة‬
‫وعالج‪ ،‬وتعليم‪ ،‬وما شابه‪ ..‬إلخ‪ .‬وما من ٍّ‬
‫شك أن احلداثة‪ ،‬يف السياق‬
‫كبري جد ًا‪ ،‬نتيجة ملا غيش البنى التحتية من حتديث‪.‬‬ ‫الغريب‪ ،‬كانت إىل حدٍّ ٍ‬

‫‪ .243‬راجع تعريف قاموس‪ Webster-Merriam :‬عىل الرابط‪ C5B0wK/gl.goo//:http :‬وراجع تعريف‬


‫قاموس أكسفورد عىل الرابط‪.1JbTJ2/gl.goo//:http :‬‬

‫‪319‬‬
‫ُوجد حداثة يف الفكر‪ ،‬ويف األشكال التعبريية ويف املعاين‪،‬‬ ‫لكن‪ ،‬قد ت َ‬
‫من غري أن تسندها بنية حتتية من التحديث الصناعي أو التقني‪ ،‬أو‬
‫سمى «البنى التحتية»‪ .‬غري أن احلداثة التي تنشأ خارج‬ ‫التحديث يف ما ُي َّ‬
‫اطار البنى التحتية املتقدِّ مة‪ ،‬تبقى منحرصة يف أفراد ق ّلة‪ ،‬ال أكثر‪ .‬فقد‬
‫التاريخ حداث ّيني‪ ،‬سبقوا حقبة احلداثة والتحديث بقرون‪ .‬يقول‬ ‫ُ‬ ‫ف‬‫َع ِر َ‬
‫هادي العلوي‪ ،‬إن التاريخ اإلسالمي متداخل‪ ،‬وليس متتابع ًا‪ .‬أي‪،‬‬
‫خط مستقيم‪ ،‬متحرك ًة من األدنى إىل األعىل‪.‬‬ ‫أن موجاته ال تسري يف ٍّ‬
‫موجات متداخلة‪ّ ،‬‬
‫حتتل فيها‪ ،‬أحيان ًا‪ ،‬األفكار التنويرية‬ ‫ٌ‬ ‫وإنام هي‬
‫املنفتحة أمكن ًة يف الزمن األبكر‪ ،‬من السريورة التارخيية‪ ،‬يف حني حتتل‬
‫فيه‪ ،‬أحيان ًا‪ ،‬األفكار املنغلقة‪ ،‬أمكن ًة يف الزمن املتأخر‪ ،‬أي؛ األقرب‪،‬‬
‫واألحدث‪ .‬يستشهد العلوي يف ذلك بقوله‪ ،‬إننا حني نجد أن أبا‬
‫العالء املعري‪ ،‬قد أعلن‪ ،‬يف القرن احلادي عرش امليالدي‪449 - 363(،‬‬
‫هـ)‪1057 - 973( ،‬م)‪ ،‬ثور ًة تنويري ًة‪ ،‬نجد يف القرن العرشين‪ ،‬والقرن‬
‫الواحد والعرشين‪ ،‬من َيدْ عون إىل إقامة الدولة الدينية‪.244‬‬
‫أيض ًا من األمثلة التي يمكن أن نرضهبا يف هذا الصدد مثال «وحدة‬
‫فضاءات الفكر يف احلضارة العربية اإلسالمية»‪ ،‬التابعة لشعبة الفلسفة‬
‫بجامعة حممد اخلامس بالرباط‪ .‬فقد ن ّظ َمت هذه الوحدة بالتعاون مع‬
‫مؤسسة «كونراد ايدناور» األملانية‪ ،‬يف أيام ‪ 24‬و‪ 25‬و‪ 26‬ترشين األول‪/‬‬
‫أكتوبر ‪ ،2002‬ندوة دولية‪ ،‬بالعاصمة املغربية‪ ،‬الرباط‪ ،‬بعنوان‪« :‬ابن عريب‬
‫يف أفق ما بعد احلداثة»‪ ،‬شارك فيها حوايل ثامنية وعرشين مفكر ًا‪ ،‬وفدوا‬
‫من كل أنحاء العامل‪ .245‬مل يضع ُم ِعدُّ وا هذه الندوة ابن عريب يف سياق‬
‫دخلوه سياق ما بعد احلداثة‪ ،‬بزعم أنه سبق زمانه‬ ‫احلداثة‪ ،‬وإنام قفزوا لي ِ‬
‫ُ‬

‫‪ .244‬خالد سليامن وحيدر جواد‪ ،‬هادي العلوي‪ :‬حوار الحارض واملستقبل‪ ،‬دار الطليعة الجديدة‪ ،‬دمشق‬
‫سوريا‪ ،1999 ،‬ص‪.68 ،‬‬
‫‪ .245‬سعيدة رشيف‪ ،‬ابن عريب يف أفق ما بعد الحداثة‪ ،‬صحيفة الرشق األوسط‪ ،‬العدد ‪.2002/10/27 ،8734‬‬

‫‪320‬‬
‫ددت مما أرشت إليه أعاله من أمثلة‪ ،‬أن أقول إن‬
‫هبذه الدرجة الكبرية‪َ .‬و ُ‬
‫احلداثة‪ ،‬وما بعد احلداثة‪ ،‬ال ختضع خضوعا تام ًا للرتتيب الكرونولوجي‪.‬‬
‫ما جرى يف السودان يف الفرتة املمتدة بني ثالثينات القرن العرشين‬
‫حتى سبعيناته‪ ،‬مل يكن سوى ف ّقاعة‪ ،‬انتفخت‪ ،‬ثم ما لبثت أن انفجرت‬
‫وتبدّ د حمتواها‪ ،‬أو كاد‪ .‬فام يراه البعض‪« ،‬عرص ًا ذهبي ًا» ساد عقدَ ي‬
‫الستينات والسبعينات من القرن املايض‪ ،‬ظاهرة ليست‪ ،‬يف غالبها األعم‪،‬‬
‫بذات عالقة عضوية بالسياق السوداين العام‪ .‬أي‪ ،‬أن عالقتها بالسياق‬
‫العام للبنية التارخيية السودانية‪ ،‬عالقة ضعيفة جد ًا‪ .‬ويمكن القول‪ّ ،‬‬
‫إن‬
‫احلداثة السودانية التي أفرزهتا احلقبة االستعامرية الربيطانية‪– 1898( ،‬‬
‫‪ ،)1956‬تأسيس ًا عىل احلقبة الرتكية‪ ،)1885 – 1821( ،‬كانت‪ ،‬إىل حدٍّ‬
‫كبري ظاهرة مع ّلقة يف اهلواء‪ُ ،‬ف ِر َضت بقوة السالح الناري‪ .‬تلك احلالة‬
‫تبخرت‪ ،‬مل ِ‬
‫تأت نتاج ًا طبيعي ًا لبنى حتتية سندَ هتا وتس ّب َبت‬ ‫احلداثية التي ّ‬
‫يف توليد وعي حداثي‪ ،‬وإنام هي حالة غشيت الن َُّخب‪ ،‬وهي تعاين حالة‬
‫من حاالت انعدام الوزن‪ ،‬نتيجة لالنتقال الفجائي من السياق املهدوي‬
‫التحرر‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫الكابت‪ ،‬إىل السياق االستعامري الذي جرى فيه فرض‬
‫املحروس بالسيطرة االستعامرية‪ ،‬واإلمالء االستعامري‪ ،‬وقوة السالح‪.‬‬
‫حداثة الستينات والسبعينات‪ ،‬يف جانب آخر منها‪ ،‬ظاهرة تابعة‬
‫حلالة االستالب التي تبعت االستعامر الذي اقت َلع النُّخب املتع ّلمة من‬
‫وجرها نحو السياق الغريب‪ ،‬فكر ًا‪ ،‬وإىل حدٍّ كبري‪ ،‬وجدان ًا‪،‬‬
‫جذورها‪َّ ،‬‬
‫دون أن تكون مستعدّ ة حقيقة لتك النقلة‪ .‬مل يتم هضم احلداثة عن طريق‬
‫مناقشتها ومزاوجتها مع بنية الثقافة السودانية املوروثة‪ ،‬وإعادة إنتاجها‪،‬‬
‫عن طريق النقد‪ ،‬لتصبح حداثة سودانية يمكن مت ُّلكها واستدامتها‪ .‬يف‬
‫حني كان اإلداريون الربيطانيون خم ِّططني ومن ّفذين عمليني‪ ،‬تغلغلوا‬
‫بالبحث العلمي احلقيل‪ ،‬يف البيئات السودانية املختلفة‪ ،‬وخلقوا بنا ًء‬
‫عىل ذلك البحث‪ ،‬جس ًام إداري ًا ف ّعاالً‪ ،‬تركَّز حول مهوم بناء الدولة‪،‬‬

‫‪321‬‬
‫بالشعر‪ ،‬ظنّ ًا منهم أن قرض الشعر‬ ‫تنشغل طالئع املتعلمني السودانيني ِّ‬
‫هو التعبري األعىل عن الثقافة لدى املث ّقف‪ .‬مل خي ّلف طالئع املتعلمني‬
‫أي أدبيات تتعلق بالفكر السيايس‪ ،‬وببناء الدولة‪ ،‬وبالتنمية‪ ،‬وبالتعليم‪،‬‬
‫باستثناء اجلهد املتميز الوحيد‪ ،‬الذي قام به السيد‪ ،‬عبد الرمحن عيل طه‪،‬‬
‫الذي مل ينشغل بقرض الشعر‪ .‬خ ّلف طالئع متع ّلمينا دواوين شعرية‪،‬‬
‫أو قصائد متناثرة يف الصحف واملجالت‪ ،‬أو مقاالت صحفية ناقشت‬
‫شؤونا ظرفية‪ ،‬دون جتذير‪ ،‬أو حتليل علمي‪ُ ،‬يذكر‪ ،‬أو رؤية ُيعتدّ هبا‪.‬‬
‫بطبيعة احلال كان لالستعامر يدٌ يف الذي جرى لطالئع املتع ّلمني‪.‬‬
‫فالتعليم الذي تل ّقوه هو أقرب إىل التعليم الثانوي‪ ،‬منه إىل التعليم‬
‫اجلامعي‪ُ .‬يضاف إىل ما تَقدَّ م‪ ،‬كان التعليم الذي تل ّقوه منحرص ًا يف جتهيز‬
‫إداري ُّ‬
‫حيتل مناص َبه‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫هيكل‬ ‫موظفني صغار يشغلون الوظائف الدنيا يف‬
‫الوسيطة والعليا الربيطانيون‪ .‬ونتيجة لضعف التعليم الذي تل ّقته هذه‬
‫لتوها من بيئة تسيطر‬ ‫الطالئع‪ ،‬إضافة إىل علل السامت الشخصية اخلارجة ّ‬
‫عليها عقلية البوادي‪ ،‬عجزت هذه النُّخب عن أن ترى قصور حتصيلها‬
‫ونواقصها‪ ،‬فاندفعت بالشعر واحلامسة لنيل االستقالل‪ ،‬دون أن تكون‬
‫قدرات حقيقي ًة عىل إدارة شؤون الدولة واستدامة مقدار‬ ‫ٍ‬ ‫قد امتلكت‬
‫احلداثة الذي حت ّقق‪ ،‬والسري به إىل األمام‪ .‬لذلك‪ ،‬ال غرابة أن تع ّلقت‬
‫هذه الطالئع بذيول حداثة غربية الطابع‪ ،‬فأخذت منها املظهر‪ ،‬و َع ِميت‬
‫خب ومت ُّثله‪ .‬وكام يقولون‪ :‬فإن العربة بالنهايات‪ .‬وأقوى‬ ‫عن رؤية ا َمل َ‬
‫املتكون التارخيي الذي تشكّل يف‬ ‫ِّ‬ ‫دليل عندي‪ ،‬عىل غرابة احلداثة عىل‬
‫القرون األقرب التي سبقت احلقبة االستعامرية‪ ،‬من غزو حممد عيل إىل‬
‫متاسك بنية الدولة‪ ،‬ما جرى‪ ،‬عقب ذلك‬ ‫تراجع ُ‬
‫االستعامر الربيطاين‪ ،‬هو ُ‬
‫مستمر يف القدرة عىل‬‫ّ‬ ‫من تراجع مضطرد يف األداء املؤسيس‪ ،‬وانحالل‬
‫إيقاف مسلسل التدهور‪ ،‬الذي أعقب خروج املستعمر‪ .‬فتم ُّلك احلداثة‬
‫قط‪.‬‬‫يعني‪ ،‬بالرضورة‪ ،‬امتالك القدرة عىل استدامتها‪ ،‬وهذا ما مل َيدُ ث ّ‬

‫‪322‬‬
‫ّ‬
‫الفقاعة اإلبداعية‬
‫أفرزت حالة االستقرار العامة التي شهدهتا البالد عقب إمخاد‬
‫ثورة ود َح ُّبوبة ‪ ،1908‬وثورة اللواء األبيض‪ ،1924 ،‬طفرة يف اإلبداع‬
‫تنوع ذلك اإلبداع بني الكتابة النثرية‪،‬‬ ‫السوداين يف طوره احلديث‪َّ .‬‬
‫والشعر العريب الفصيح‪ ،‬والشعر الغنائي‪ ،‬واألداء الغنائي‪ .‬وحلق بكل‬
‫أولئك‪ ،‬يف وقت الحق الفن التشكييل يف صورته املدرسية األكاديمية‪.‬‬
‫انتقل الشعر الغنائي من حالته التي سادت القرن التاسع عرش وما‬
‫قبله إىل ما ُس ِّمي «شعر احلقيبة» وانتقل األداء الغنائي تبع ًا لذلك إىل‬
‫صورة أداء احلقيبة التي اعتمدت عىل األداء الصويت والرتديد الصويت‬
‫التي تقوم هبا جوقة مر ِّددين صوتيني؛ «ش َّيالني»‪ .‬ثم ما لبث‪ ،‬عن طريق‬
‫التفاعل مع اجلاليات األجنبية التي كانت تعيش يف اخلرطوم‪ ،‬وعن‬
‫طريق التأثريات املوسيقية القادمة من مرص عن طريق اإلذاعة والسينام‪،‬‬
‫أن انتقل الغناء السوداين إىل اصطحاب اآلالت املوسيقية‪.‬‬
‫أما الشعر الفصيح‪ ،‬فقد غلبت عليه األغراض التقليدية‪ .‬وكان‬
‫من أبرز شعراء تلك احلقبة ممن ن َظموا بالفصحى‪ ،‬الشاعر حممد سعيد‬
‫العبايس‪ ،‬الذي ُي َعدّ رائد ًا للتجديد يف الشعر السوداين‪ ،‬بصورة مشاهبة‬
‫للصورة التي عُدّ هبا البارودي رائد ًا للتجديد يف الشعر املرصي‪ .‬وقد قفز‬
‫الشعر السوداين‪ ،‬الحق ًا‪ ،‬يف فرتة األربعينات واخلمسينات‪ ،‬من القرن‬
‫العرشين‪ ،‬قفزة أدخلته أكثر‪ ،‬يف نطاق احلداثة‪ ،‬وذلك‪ ،‬عىل أيدي حممد‬
‫املهدي املجذوب‪ ،‬والنارص قريب اهلل‪ .‬وقد حلق هبام يف حقبة الستينات‪،‬‬
‫صالح أمحد إبراهيم‪ ،‬ثم حممد املكي إبراهيم‪ ،‬وحممد عبد احلي‪ ،‬والنور‬
‫أقل منهم جتويد ًا لصنعة الشعر‪ .‬وقد‬ ‫عثامن أبكر‪ ،‬وغريهم‪ ،‬ممن هم ّ‬
‫أسهم كل هؤالء يف نقل الشعر السوداين‪ ،‬إىل دائرة شعر التفعيلة‪.‬‬
‫عاز ُه‬
‫لربام أمكن القول إن اإلنتاج اإلبداعي احلداثي يف السودان َ‬

‫‪323‬‬
‫الساند الثقايف العريض وسط اجلمهور العريض‪ ،‬باستثناء فن الغناء‪.‬‬
‫فقد ظل الغناء يمثل عرب عقود القرن العرشين‪ ،‬وإىل اليوم‪ ،‬الشكل‬
‫الفني األكثر مجاهريية‪ ،‬شأنه يف ذلك شأن الرياضة‪ .‬ويأيت بعد الغناء‬
‫يف اجلامهريية الواسعة‪ ،‬حقل الشعر‪ ،‬الذي ازدهر ازدهار ًا كبري ًا‪،‬‬
‫وسط نخب اليسار‪ ،‬خاصة يف حقبة الستينات والسبعينات من القرن‬
‫العرشين‪ .‬ويف تقديري‪ ،‬ال يمكن فهم احلراك الشعري السوداين يف‬
‫الستينات والسبعينات‪ ،‬دون دراسة تأثريات اليسار الكوكبي العريض‪،‬‬
‫واليسار العريب‪ ،‬عىل حركة الشعر احلديث يف السودان‪.‬‬
‫األقل مجاهريي ًة‪ ،‬لو‬‫َّ‬ ‫الفني‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫الشكل‬ ‫التشكييل فقد ّ‬
‫ظل‬ ‫ُّ‬ ‫أما الف ُّن‬
‫كزام جحا‪،‬‬ ‫الرسامني الشعبيني مثل موسى ّ‬ ‫استثنينا تفاعل اجلمهور مع ّ‬
‫وأبو احلسن مدين‪ ،‬وعيون كديس وغريهم‪ .‬فالتدريب األكاديمي يف‬
‫كلية الفنون جرى وفق ًا للتقاليد األكاديمية الغربية‪ ،‬ما جعل املرجعية‬
‫اجلاملية‪ ،‬إىل حدٍّ كبري‪ ،‬مرجعية غربية‪ .‬فالفن التشكييل السوداين احلديث‬
‫ظل منحرص ًا داخل دائرة شديدة الضيق وسط النخب السودانية‪ ،‬وقد‬ ‫ّ‬
‫تفى به أجنبي ًا أكثر بواسطة الدوائر األجنبية‪ .‬وما من‬ ‫وم ً‬
‫عتنى ُ‬‫ظل ُم ً‬ ‫ّ‬
‫شك أن لفشل النُّخب السياسية السودانية يف اإلمساك بقيم احلداثة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫إضافة إىل سيطرة املفاهيم الدينية الكارهة للف ّن أو املتوجسة جتاهه‪،‬‬
‫َدور ًا مؤثر ًا يف بقاء الفن التشكييل ظاهرة صفوية يمكن أن ن َِص َفها بأهنا‬
‫دائرة منعزلة عن السياق العام‪ .‬وبطبيعة احلال ال يمكن حتليل التطور‬
‫اإلبداعي السوداين وما اكتنفه يف بحر القرن العرشين‪ ،‬يف مثل هذه‬
‫الورقة القصرية‪ .‬فكل ما يمكن فعله هنا‪ ،‬هو تقديم مالحظات عامة‪،‬‬
‫يمكن أن تنشأ بنا ًء عىل إشاراهتا املبترسة‪ ،‬أجندة بحثية استقصائية‪ .‬وكل‬
‫أن اإلبداع السوداين‪،‬‬ ‫ما أردت الوصول إليه يف هذه اجلزئية من الورقة‪ّ ،‬‬
‫باستثناء‪ ،‬ف ّن الغناء‪ ،‬كان ف ّقاعة منفصلة عن السياق العام‪ ،‬وقد تأ ّثرت‬
‫هذه الفقاعة العابرة‪ ،‬بالسياقني العاملي الغريب‪ ،‬يف حالة الفن التشكييل‪،‬‬

‫‪324‬‬
‫وبالسياق اإلقليمي العريب‪ ،‬يف جمال األدب‪ ،‬وتفاعلت معهام‪ ،‬بأكثر مما‬
‫جتذرت وتأ ّثرت وتفاعلت مع املتشكل التارخيي الثقايف ّ‬
‫املحل‪.‬‬ ‫ّ‬
‫لربام الحظ كثريون‪ ،‬أن دفق الشعر السوداين قد توقف‪ ،‬منذ مرحلة‬
‫السبعينات‪ .‬وبصورة عامة‪ ،‬يمكن أن يقال إن الشعر تراجع عىل املستوى‬
‫العريب العام‪ ،‬بنفس القدر‪ ،‬يف حني نشط دفق الرواية‪ .‬أما يف جمال الفن‬
‫التشكييل‪ ،‬فقد حدث تراجع أكرب‪ ،‬عىل مستوى نوعية اإلنتاج‪ ،‬وعىل‬
‫مستوى احلراك النقدي‪ .‬وقد كان هذا الرتاجع‪ ،‬يف تقديري‪ ،‬حتمي ًا‪،‬‬
‫مت إىل السياق السوداين‪ ،‬سوى‬ ‫فاالزدهار الذي جرى مل يكن َي ّ‬
‫بالقليل‪ .‬فقد سيطر اليسار السوداين سيطرة شبه تامة عىل اإلنتاج‬
‫الشعري والتشكييل يف حقبتي الستينات والسبعينات‪ ،‬اللتني م ّثلتا‬
‫ثمر ًة حلالة االستقرار السيايس‪ ،‬ولثبات الطبقة الوسطى‪ ،‬مما نعمت به‬
‫البالد يف النصف األول من القرن العرشين‪ ،‬وعرب العقدين اللذين تليا‬
‫منتصف القرن‪ .‬وبطبيعة احلال فإن الفن واألدب شكّال حيث ُوجدا‪،‬‬
‫ظاهرة صفوية‪ .‬غري أهنام‪ ،‬يف السياق السوداين‪ ،‬شكّال ظاهرة منبتّة عن‬
‫تراجع اليسار‪ ،‬و َق ْفز كثري من‬
‫السياق التارخيي‪ ،‬انبتات ًا كبري ًا جد ًا‪ .‬فمع ُ‬
‫املبدعني إىل خارج مركب اليسار‪ ،‬ومع تقدُّ م الس ّن باملبدعني أنفسهم‪،‬‬
‫إضافة إىل االنتقال اجلامعي إىل املنايف االختيارية‪ ،‬وصعود اإلسالميني‬
‫إىل دست احلكم‪ ،‬وإحكام سيطرهتم عىل جماالت التعليم واإلعالم‬
‫والثقافة‪ ،‬انغلقت تلك املرحلة‪ ،‬وأصبح املجال مه ّي ًأ لنقلة جديدة‬
‫تربط اإلبداع السوداين برتبته وتُكسبه األصالة التي افتقدها‪ .‬وقد بدأ‬
‫مبشة يف اإلنتاج الروائي‪ ،‬خاصة لدى عبد‬ ‫هذا االجتاه يأخذ صورة ّ‬
‫العزيز بركة ساكن‪ .‬وبطبيعة احلال لن تأخذ هذه الصورة اجلديدة إال‬
‫بتبدُّ ل األحوال السياسية‪ ،‬وانطالق الفكر السوداين يف وجهة استعادة‬
‫الشخصية احلضارية للسودان‪ ،‬وإعادة امتالك احلداثة سوداني ًا‪.‬‬

‫‪325‬‬
‫مسلسل التراجع‬
‫منذ االستقالل‪ ،‬غري أن‬ ‫بدأت ظاهر ُة الرتاج ِع السوداين‪ ،‬تتفاقم ُ‬
‫منتصف السبعينات‪ .‬ولقد رصد األكاديميون‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫اإلحساس هبا َق ِو َي يف‬
‫وغري األكاديميني‪ ،‬تلك الظاهر َة رصد ًا واسع ًا‪ .‬لكني أو ّد أن أشري هنا‬ ‫ُ‬
‫ّ‬
‫إىل الدراسات األكاديمية التي وثقت ملسرية الرتاجع السوداين‪ ،‬التي‬
‫كل من‪ :‬منصور خالد؛ غراهام توماس؛ ديدار روسانو؛ حممد‬ ‫كتبها ٌّ‬
‫سليامن حممد؛ حيدر إبراهيم عيل؛ رشيف حرير وتراجي تفيدت؛‬
‫فرانسيس دينق؛ عبد الغفار حممد أمحد؛ عطا طه البطحاين‪ ،‬يوسف‬
‫لذكرهم ك ِّلهم‪.‬‬‫املجال ِ‬ ‫ُ‬ ‫يتسع‬
‫ُ‬ ‫حممد عيل‪ ،‬وآخرون ال‬
‫نادر الشبيه‪ ،‬مل يكن غريب ًا أن «تأيقنت» ‪،iconized‬‬ ‫مع ذلك الرتاج ِع ِ‬
‫القرن املايض‪.‬‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫والسبعينات‪ ،‬من‬ ‫ِ‬
‫الستينات‬ ‫يف خم ِّيالتِنا صور ُة عقدَ ْي‬
‫األمل‪ ،‬أضحى هذان العقدان مالذ ًا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بارقات‬ ‫األفق أما َم‬ ‫انغالق ِ‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فبسبب‬
‫ِ‬
‫األحوال‬ ‫هجري‬ ‫ظاللا عقو ُلنا التي أهنكها‬ ‫ِ‬ ‫خلواطرنا‪ ،‬وواح ًة تفي إىل‬
‫ُ‬
‫املستقبل القات ِم‪ ،‬مبه ِم املالمح‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وأشباح‬ ‫ِ‬
‫كوابيس‬ ‫املضطربة‪ ،‬ومرأى‬
‫ِ‬
‫وهي تزحم فضاءاتنا‪ ،‬ليل هنار‪.‬‬
‫ُّخب‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫سم حصاد جنَت فيه الن ُ‬ ‫مو َ‬
‫كان عقدا الستينات والسبعينات‪ْ ،‬‬
‫احلديثة‪ ،‬التي ث ّب َت قواعدَ ها املستعمر‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الدولة‬ ‫احلرضي ُة السوداني ُة ثامر ِ‬
‫بناء‬ ‫َ‬
‫نسبي‪ ،‬ومناخ من احلريات‬ ‫إداري‬ ‫ٍ‬
‫استقرار وانضباط‬ ‫ٍ‬ ‫فام ساد من‬
‫ٍّ‬ ‫ٍّ‬
‫وحتسن ملموس يف أحوال الطبقة الوسطى التي اتسعت‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫الشخصية‪،‬‬
‫أعان يف ازدهار التعبري اإلبداعي‪ .‬لكن‪ ،‬كام سبقت اإلشارة‪ ،‬فقد كانت‬
‫تلك حالة عابرة‪ .‬ومل تستمر تلك احلالة العابرة‪ ،‬يف العقدين اللذين‬
‫ِ‬
‫احلقبة‬ ‫ِ‬
‫املمتدة من‬ ‫املستعمر‪ ،‬إال بطاقة الدف ِع‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وخروج‬ ‫تليا االستقالل‬
‫االستعامرية‪ .‬وكام تقدَّ م‪ ،‬فإن تلك احلالة من البحبوحة التعبريية‪ ،‬مل متس‬
‫سوى النُّخب املتع ّلمة تعلي ًام مدني ًا‪ .‬فالتعليم كان منقس ًام بني تعليم مدين‬
‫م ّثلته كلية غردون‪ ،‬ثم املدارس الثانوية‪ ،‬ثم جامعة اخلرطوم‪ ،‬واملعهد‬

‫‪326‬‬
‫الفني‪ ،‬وتعليم ديني م ّثلته املعاهد الدينية‪ ،‬ومعهد أمدرمان العلمي‪ .‬وال‬
‫تعرض له الشاعر التجاين يوسف بشري‪ ،‬من‬ ‫حاجة يب إىل احلديث عام َّ‬
‫تكفري وفصل من ذلك املعهد‪ ،‬بسبب ما ورد يف شعره‪ ،‬مما رآه شيوخ‬
‫تعرض له الطالب اجلمهوريون الذين جرى فصلهم‬ ‫املعهد جتديف ًا‪ ،‬وما َّ‬
‫من املعهد ألهنم تعلقوا بأفكار األستاذ حممود حممد طه‪.‬‬
‫عىل سبيل املثال‪ ،‬اتسمت احلداثة التعبريية يف الشعر الغنائي السوداين‬
‫احلر‪ .‬وقد‬
‫يف النصف األول من القرن العرشين‪ ،‬بكثري من صور التعبري ّ‬
‫استندت يف ممارسة هذه احلرية التعبريية‪ ،‬مستندة‪ ،‬من جانب‪ ،‬عىل‬
‫الكويش الذي يتسم بعدم التضييق عىل التعبري احلر‪ .‬واستندت‬
‫ّ‬ ‫املوروث‬
‫من اجلانب اآلخر‪ ،‬عىل الظل االستعامري‪ ،‬الذي فرض مفاهيم حرية‬
‫احلر وبني‬
‫التعبري الغربية‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬حال الربيطانيون بني التعبري ّ‬
‫كوابح املوروث املهدوي‪ ،‬واملؤسسة الدينية السودانية‪ ،‬املتعنتة‪ ،‬ذات‬
‫الطابع العثامين القابض‪.‬‬
‫حتت ذلك الظل االستعامري‪ ،‬أرسف شعراء احلقيبة‪ ،‬يف الوصف‬
‫الغرافيكي لتفاصيل اجلسد األنثوي‪ .‬وتغن َّى اجليل الذي أعقبهم بال ُقبلة‬
‫السكرى‪ ،‬وبكؤوس اخلمر‪ ،‬وقيل بالغلامن أيض ًا‪ .‬انترشت حانات‬ ‫ّ‬
‫وتفشت‬‫ّ‬ ‫اخلمور اإلفرنجية يف كل مدن البالد‪ .‬وانترشت موائد القامر‪،‬‬
‫هاتان الظاهرتان امللفتتان‪ ،‬بصورة ملفتة جد ًا‪ ،‬وسط جماميع املتع ّلمني‪.‬‬
‫كبت املستعمرون احلريات السياسية‪ ،‬وفتحوا الباب عىل مرصاعيه‪،‬‬
‫للحريات الشخصية‪ .‬بل بلغوا أن قنّنوا لبيوت البغاء‪ ،‬يف قلب املدن‬
‫السودانية الكربى‪ ،‬وجعلوا للبغاء أحياء بكاملها‪ .246‬ومل يستطع‪،‬‬

‫‪ .246‬ال ب ّد أن أن ِّوه هنا‪ ،‬أنني ال أصدر يف الحديث عن بيوت البغاء منطلقاً من أحكام القيمة الدينية‪.‬‬
‫فالقيمة الدينية تأخذ صورتها من السياق‪ ،‬وليس من املفاهيم املجردة للخطأ والصواب‪ .‬فقد منع جعفر‬
‫منريي استرياد الخمور اإلفرنجية‪ ،‬وأغلق بيوت البغاء‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬بقي رشب الخمر منترشا ً‪ ،‬بل وانترشت معه‬
‫املخدرات‪ .‬كام أن البغاء الرسي انترش يف العقود التي تلت إغالق بيوت البغاء املرخص لها انتشارا ً كبريا ً‪.‬‬
‫كام انترش البغاء يف ظل حكم اإلسالميني انتشارا ً رسطانياً‪ ،‬بل أصبح تجارة رائجة جاوزت الحدود السودانية‪.‬‬

‫‪327‬‬
‫أي فقيه‪ ،‬أو شيخ طريقة‪ ،‬أن يرفع عقريته معرتض ًا‪.‬‬
‫حينها‪ّ ،‬‬
‫الغزو الربيطاين الذي قىض عىل الدولة املهدوية‪ ،‬عسكري ًا‪ ،‬مل يقض‬
‫عليها ثقافي ًا‪ .‬فكثري من املزاج الديني املهدوي بقي خمتبئ ًا حتت إهاب‬
‫رقيق‪ .‬فجرثومة اهلوس الديني املهدوية ظلت ح ّية حتت السطح‪ ،‬رغم‬
‫ختلص قطاع كبري من الناس منها بزوال األوهام الدينية‪ ،‬واألشواق‬
‫متخض عن‬ ‫الدينية العريضة‪ ،‬بموت املهدي‪ .‬خاصة أن موت املهدي ّ‬
‫حالة مهدوية جديدة اتسمت بالدموية وبالعسف والظلم‪ ،‬وبالفشل يف‬
‫توحد الشعور الديني‬ ‫االحتفاظ بالوحدة القومية السودانية التي ّ‬
‫غذاها ُّ‬
‫وراء املهدي لدى أغلبية السودانيني‪ .‬باختصار‪ ،‬أخرجت فرتة حكم‬
‫حب املهدية وأوهام نقائها‪ ،‬كدعوة دينية‪ ،‬من‬
‫اخلليفة عبد اهلل املضطربة ّ‬
‫مرتسبة‪.‬‬
‫نفوس الناس‪ .‬ولكن‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬بقيت األشواق الدينية ّ‬
‫مع بوادر بشائر خروج الربيطانيني من البالد‪ ،‬بدأ اهلوس الديني‪،‬‬
‫يتحرك‪ ،‬رويد ًا رويد ًا إىل نحو السطح‪ .‬فاملطالبة‬ ‫ّ‬ ‫املرتسب يف القاع‪،‬‬
‫ّ‬
‫بالدستور اإلسالمي بدأت منذ حلظة االستقالل‪ .‬وقد وضح ذلك‬
‫جلي ًا يف مداوالت اللجنة القومية للدستور‪ .247‬وكام هو واضح وضوح‬
‫الشمس‪ ،‬فإن الزمن الذي تىل حلظة االستقالل اتسم برتاجع حرية‬
‫الضمري‪ ،‬وتراجع احلريات الشخصية‪ ،‬وتراجع املفاهيم العرصية‪،‬‬
‫التحرري‪ .‬كام أخذت الطاقة اإلبداعية تتناقص‪ ،‬يف الوقت الذي‬ ‫ّ‬ ‫والفكر‬
‫ظل ينمو فيه كل ما هو ضدّ ها‪ ،‬إىل أن بلغنا احلالة التي نحن عليها اليوم‪.‬‬

‫‪ .247‬بدأ الحديث عن الدستور اإلسالمي يف اجتامعات اللجنة القومية للدستور التي شكّلها مجلس الوزراء‬
‫يف ‪ 22‬سبتمرب ‪ ،1956‬أي بعد تسعة شهور فقط من االستقالل‪ .‬تقدم مريغني النرصي باقرتاح بإضافة كلمة‬
‫«إسالمية» إىل مسمى جمهورية السودان‪ ،‬وقال إن تعديله ينبني عىل الرغبة الشعبية الواضحة التي ما فتئت‬
‫تنادي بالدستور اإلسالمي «حتى غدا مطلباً شعبياً تبلور يف سياسات األحزاب الكربى»‪ .‬وأيّد االقرتاح بالتعديل‬
‫عمر بخيت العوض‪ ،‬مشريا ً إىل مناداة الحزب الوطني االتحادي بالدستور اإلسالمي‪ ،‬مضيفاً أن جامهري‬
‫حزب األمة وحزب الشعب الدميقراطي ال تريد غري اإلسالم‪ .‬راجع‪ :‬يوسف محمد عيل‪ ،‬السودان والوحدة‬
‫الوطنية الغائبة‪ ،‬مركز عبد الكريم مريغني الثقايف‪ ،‬أمدرمان‪ ،‬السودان‪ ،2012 ،‬ص ص ‪ .60 – 44‬وراجع‬
‫أيضاً‪ :‬محمد سعيد القدال‪ ،‬اإلسالم والسياسة يف السودان‪ ،‬دار الجيل بريوت (‪( )1992‬ص‪ .‬ص‪.)155 -149 .‬‬

‫‪328‬‬
‫مَ ْحو التأثيرات االستعمار ّية‬
‫كرايس الربيطانيني‪ ،‬جلست‬ ‫ّ‬ ‫النُّخب السودانية التي جلست عىل‬
‫السمت الربيطاين سوى‬ ‫عليها بعقليات بريطانية زائفة‪ ،‬مل تأخذ من ّ‬
‫شكلياته‪ .‬أخذت املظهر‪ ،‬ورشب اخلمر‪ ،‬والقامر‪ ،‬ومل تأخذ االنضباط‬
‫اإلداري وبنية الوعي الالئقة بالدولة احلديثة‪ .‬مل تع النُّخب السودانية‬
‫كريس احلكم‪ ،‬خطر السياسة‬ ‫ّ‬ ‫احلاكمة‪ ،‬التي خ ّلفت املستعمر عىل‬
‫حولت االقتصاد السوداين‪ ،‬يف بلد ضعيف البنية‬ ‫االستعامرية التي ّ‬
‫االقتصادية كالسودان‪ ،‬من اإلنتاج من أجل تأمني الغذاء‪ ،‬إىل اإلنتاج‬
‫من أجل التصدير‪ .‬اتسعت املشاريع الزراعية يف إنتاج سلع التصدير‬
‫منتصف‬
‫َ‬ ‫وتراجع نقص الغذاء‪ ،‬بصورة مضطردة‪ .‬ولذلك‪ ،‬ما إن بل ْغنا‬ ‫َ‬
‫تتضح‪ ،‬بعد أن كانت‬ ‫مالمح الرتاج ِع‬ ‫بدأت‬
‫ْ‬ ‫ِ‬
‫عقد السبعينات‪ ،‬حتى‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫بالستينات‪ ،‬ووصوالً إىل‬ ‫ِ‬
‫اخلمسينات‪ ،‬مرور ًا‬ ‫ِ‬
‫النصف الثاين من‬ ‫خفي ًة يف‬
‫توجه‬ ‫ِ‬
‫منتصف السبعينات‪ .‬وقد قاد مسلك نظام جعفر نمريي الذي ّ‬
‫توجه ًا اشرتاكي ًا‪ ،‬بدأه بتأميم الرشكات اخلاصة‪ ،‬ثم ما لبث أن ارمتى‬ ‫ُّ‬
‫كلي ًا يف حضن الرأساملية العاملية‪ ،‬إىل إغراق البالد يف الديون‪ ،‬وإىل تفاقم‬
‫اهلجرة من الريف إىل املدينة‪ ،‬بل وإىل اهلجرة خارج القطر‪.248‬‬
‫ِ‬
‫ُّخب املتعلم ُة َ‬
‫ثامر‬ ‫كانت فرت ُة احلصاد تلك‪ ،‬التي جنَت فيها الن ُ‬
‫القرص‪ .‬ولقد‬ ‫السودانية احلديثة‪ ،‬بالغ َة ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الدولة‬ ‫اجلهد االستعامري يف ِ‬
‫بناء‬ ‫ِ‬
‫ٍ‬
‫وتبذير شديدين‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بطيش‬ ‫املستعمر‪،‬‬ ‫ِ‬
‫بإنفاق ما خ ّلفه‬ ‫اتسمت‪ ،‬يف ِ‬
‫جمملها‪،‬‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫التحديات‬ ‫حجم‬ ‫ْ‬
‫تدرك‬ ‫السلطة عن الربيطانيني مل‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ُّخب التي ورثت ُّ‬ ‫فالن ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫والرفاه النسبية‪ ،‬التي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫مندس ًة يف تالفيف حالة‬
‫االستقرار ّ‬ ‫َّ‬ ‫التي كانت‬
‫مل يكن من املمكن أصالً‪ ،‬سوى أن تكون جمرد حالة عابرة‪ .‬فحالة‬

‫‪ .248‬راجع‪ :‬عبد الله محمد قسم السيد‪ ،‬التنمية يف الوطن العريب‪ ،‬دار الكتاب الحديث‪ ،‬رست‪ ،‬ليبيا‪،‬‬
‫(‪ ،)1994‬ص ص‪ .87 – 79‬أيضاً راجع‪ ،‬ديدار روسانو‪ ،‬السودان إىل أين؟‪( ،‬ترجمة‪ :‬مراد خالف)‪ ،‬الرشكة‬
‫العاملية للطباعة والنرش والتوزيع‪ ،‬الخرطوم‪ ،‬السودان (‪ ،)2007‬ص ص ‪.230-193‬‬

‫‪329‬‬
‫والرفاه النسبي التي نعمت هبا طبقة األفندية‪ ،‬كانت تركة‬ ‫االستقرار ّ‬
‫تك نتاج ًا عضوي ًا للرتاك ِم‬ ‫موروثة مما أنجزه اإلداريون الربيطانيون‪ ،‬ومل ُ‬
‫السوداين‪ .‬لقد كانت‪ ،‬عىل التحقيق‪ ،‬نتاج ًا‬ ‫ِ‬
‫التارخيي‬ ‫ِ‬
‫للسياق‬ ‫الطبيعي‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫لروافدَ أجنبية‪ ،‬وحلالة استقرار اقتصادية واجتامعية‪ ،‬كان البطش واحلزم‬ ‫ٍ‬
‫الربيطانيني مها سببها الرئيس‪ .‬كام أهنا حالة انحرصت وسط النُّخب‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫للذات‬ ‫تصو ٌر‬
‫ب تلك احلالة ُّ‬ ‫املتعلمة ومل تلمس عامة الناس‪ .‬أيض ًا َصح َ‬
‫أجنبي التطلعات‪ .‬ولذلك‪ ،‬ربام أمكن‬ ‫َّ‬ ‫أجنبي املنشأِ‪،‬‬
‫َّ‬ ‫كان‪ ،‬يف جممله‪،‬‬
‫القول‪ ،‬وإىل حدٍّ كبري‪ ،‬أن حالة احلداثة السودانية بقيت‪ ،‬يف جمملها‪،‬‬
‫حال ًة ُمستج َلب ًة‪ .‬وهي حالة َع ِجز طالئع املتعلمني عن هضمها‪ ،‬ومن‬
‫َث ّم‪ ،‬عن توطينِها‪ ،‬ومتليكها للسواد األعظم من مجهور الشعب‪ .‬وهذا‬
‫ٍ‬ ‫ما جعلها تترسب من ِ‬
‫عقود أثر ًا بعد عني‪.‬‬ ‫بني أصابِعنا لت َ‬
‫ُصبح‪ ،‬يف بض ِع‬ ‫ّ‬
‫األمر‪،‬‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫توهناه إنجاز ًا لنا‪ ،‬كان يف حقيقة‬ ‫كل ما ّ‬ ‫الشاهدُ هنا‪ ،‬أن َّ‬
‫ِ‬
‫السريورة‬ ‫طارئة‪ ،‬عابرة‪ ،‬هي احلال ُة االستعامرية‪ .‬فتواصلي ُة‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫حلالة‬ ‫نتاج ًا‬
‫حقبتني استعامريتني؛ مها احلقب ُة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بفعل‬ ‫ِ‬
‫التارخيية السودانية انقطعت‬‫ِ‬
‫اخلديوي ُة (‪ ،)1885- 1821‬واحلقب ُة الربيطانية (‪.)1956- 1898‬‬
‫السوداين تلكام الفرتتني العارضتني من احلك ِم‬
‫ُّ‬ ‫القطر‬
‫ُ‬ ‫عب‬
‫لذلك‪ ،‬ما إن َ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫األجنبي‪ ،‬اللتني امتدتا‪ ،‬ملائة واثنني وعرشي َن عام ًا‪ ،‬حتى عادت أحوا ُله‪،‬‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫اختالف يف بعضِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫جمملها‪ ،‬إىل ما ُيشبه هنايات احلقبة السنارية‪ ،‬مع‬ ‫ِ‬ ‫يف‬
‫الوجوه‪ ،‬تسببت فيها احلداث ُة واملظاهر العرصية‪ ،‬التي فرضها االستعامر‬ ‫ِ‬
‫الربيطاين‪ .‬وهذ املظاهر احلداثية التي انحرصت وسط النُّخب املتعلمة‬
‫هي نفسها التي أ ّدت عرب مسار مع ّقد إىل تفيش الفساد واملحسوبية‪،‬‬
‫السلطة فيها‪ ،‬يف أيدي قلة قليلة‪.‬‬‫وانتهاء ثروة البالد ومقاليد ُّ‬
‫تتلخص يف أن‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬
‫الفكرة التي أو ّد عرضها يف هذه الورقة‪،‬‬ ‫جوهر‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫تلك احلالة من احليوية العقلية‪ ،‬ومن االشتعال الوجداين‪ ،‬ومن الدفق‬‫ِ‬
‫اإلبداعي‪ ،‬الذي ظهرت يف غنائنا‪ ،‬ويف شعرنا‪ ،‬ويف تشكيلنا‪ ،‬والتي ال‬

‫‪330‬‬
‫اجلارف‪ ،‬كانت حال ًة عابرةً‪،‬‬
‫ُ‬ ‫احلنني‬
‫ُ‬ ‫ويعصف بنا إليها‬
‫ُ‬ ‫نذكرها باخلري‪،‬‬
‫نفتأ ُ‬
‫ننظر إليها من هذه الزاوية‪ ،‬عىل‬ ‫موقوت ًة‪ .‬و َم َه َّمتُنا اآلن‪ ،‬يف ما أرى‪ ،‬أن َ‬
‫املنظور‪ ،‬هي التي مت ِّكنُنا من نسفِ‬
‫ِ‬ ‫وجه التحديد‪ .‬فمقاربتَنا هلا من هذا‬ ‫ِ‬
‫وه ِم مت ُّل ِكنا األصيل هلا‪ .‬وهذا هو ما يفتح لنا الباب للخروج من أرس‬ ‫ْ‬
‫الغرة‪ ،‬الساذجة‪ ،‬واالنرصاف إىل مواجهة التحديات التي‬ ‫النوستاجليا‪ّ ،‬‬
‫تنتظرنا‪ .‬فام نحتاجه هو مت ُّلك احلداثة مت ُّلك ًا أصيالً‪ ،‬ومن ثم توطينها‪.‬‬
‫متجذ ٍ‬
‫رة يف‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫أصيلة‬ ‫ٍ‬
‫حلداثة‬ ‫نؤس َس‬ ‫ِ‬
‫مهم للغاية‪ ،‬إن نحن أردنا أن ِّ‬ ‫هذا ٌّ‬
‫الذكية من الروافدِ‬
‫ِ‬ ‫جتربتِنا التارخيية‪ ،‬مت ُّلك القدرة عىل االنفتاح واإلفادة‬
‫احلداثية‪ ،‬وما بعد احلداثية الوافدة‪.‬‬
‫ينبغي أن ننظر إىل تلك حقبة الستينات والسبعينات من القرن‬
‫منظور َب ْع ِد ٍّي؛ أي‪ ،retrospectively ،‬لنُموض َع َها‬ ‫ٍ‬ ‫العرشين‪ ،‬من‬
‫إطارها الصحيح؛ وهو أهنا كانت حال ًة صفو ّي ًة مع ّلق ًة يف اهلواء‪ ،‬مل‬ ‫يف ِ‬
‫ال صفوي ًا‬
‫ضيقة جد ًا‪ .‬لقد كانت عم ً‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫حدود‬ ‫يتم ّلكها الفضاء العام‪ ،‬إال يف‬
‫انحرص يف الق ّلة التي انشغلت بالسياسة‪ ،‬وبالعمل يف الدوائر االقتصادية‬
‫ترسب منها إىل الطبقة الوسطى‪ ،‬التي‬ ‫املحيطة بتلك الصفوة القليلة‪ .‬فام ّ‬
‫اضطرت إليها الطبقة‬ ‫ّ‬ ‫تبخر بفعل اهلجرة التي‬ ‫يغلب عليها املهن ّيون‪َّ ،‬‬
‫الوسطى‪ ،‬بفعل فساد األحوال وسوئها وتنامي الغالء وتدهور سعر‬
‫دليل عندي عىل أن حالة االزدهار تلك كانت بال جذور‬ ‫رب ٍ‬ ‫العملة‪ .‬وأك ُ‬
‫سودانية‪ ،‬وكانت عارض ًة وغريب ًة عىل التكوين االجتامعي التارخيي‬
‫اهنيار‬
‫ٌ‬ ‫العضوي للمجتمع السوداين‪ ،‬أن اهنيار ًا ملحمي ًا جرى هلا‪ .‬وهو‬
‫ُ‬
‫وتتناسل‪ ،‬واحد ًة تلو‬ ‫ُ‬
‫تتسلسل‬ ‫وهزات زلزاله االرتدادية‬
‫ال تزال حلقاتُه ّ‬
‫األخرى‪ ،‬حتى هذه اللحظة‪.‬‬
‫ُ‬
‫الستينات على مستوى الكوكب‬
‫ِ‬
‫السودان‬ ‫ِ‬
‫زاهرين يف‬ ‫ِ‬
‫عقدين‬ ‫ِ‬
‫والسبعينات‬ ‫ِ‬
‫الستينات‬ ‫مل يكن عقدا‬

‫‪331‬‬
‫الكوكب كله‪ .‬فالذي أصاب‬ ‫ِ‬ ‫وحده‪ ،‬وإنام كانا كذلك عىل مستوى‬
‫يسري من حالةٍ‬‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ثقايف‪ ،‬مل يكن سوى جزء‬ ‫ٍ‬
‫حراك‬ ‫منهام السودان من‬
‫ٍّ‬
‫األدبيات الغربي ُة املكتوب ُة‪ ،‬باحلديث عن‬
‫ُ‬ ‫كوكبية عامة‪ .‬ولقد زخرت‬ ‫ٍ‬
‫عقد الستينات‪ ،‬من القرن العرشين‪ ،‬بوصفه عقد ًا استثنائي ًا‪ ،‬من ُ‬
‫حيث‬
‫ِ‬
‫اليسار عىل‬ ‫ِ‬
‫وملعان‬ ‫ِ‬
‫ملعان الشيوعية‪،‬‬ ‫جهة‪ ،‬عقدَ‬‫احليوية‪ .‬لقد كان‪ ،‬من ٍ‬
‫مستوى الكوكب‪ .‬كام كان من اجلهة األخرى‪ ،‬عهدَ جني ثامر حالة‬
‫االستقرار واالزدهار االقتصادي الذي أعقب احلرب العاملية الثانية‬
‫ِ‬
‫واليسار اجلديد‪،‬‬ ‫ِ‬
‫الوجودية‬ ‫ِ‬
‫صعود نجم‬ ‫يف أوروبا‪ .‬كام كان أيض ًا‪ ،‬عقدَ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫داخل بنية الكيان الرأساميل‪ ،‬يف فرنسا‬‫ِ‬ ‫وعهد الثورات التي انطلقت من‬
‫وأمريكا‪ ،‬وسائر أنحاء أوروبا‪ .‬كانت حقبة الستينات يف أمريكا‪،‬‬
‫بالذات‪ ،‬هي حقبة التمرد عىل املؤسسات بجميع أشكاهلا‪ ،‬وحقبة ثورة‬
‫احلقوق املدنية‪ ،‬وثورة النساء‪ ،‬وحقبة الثورة اجلنسية‪ ،‬وثورة اهليبيز‪،‬‬
‫وتفيش استخدام املخدّ رات‪ ،‬وانفجار موسيقى البوب‪ .249‬كام كان‬
‫عقد الستينات عقد االغتياالت السياسية يف أمريكا‪ ،‬بال منازع‪ .‬فقد‬
‫اغتيل فيه الرئيس األكثر شعبية يف التاريخ األمريكي‪ ،‬جون كنيدي‪،‬‬
‫كام اغتيل فيه أخوه روبرت كنيدي‪ ،‬وزعيم حركة احلقوق املدنية‪،‬‬
‫القس األمريكي اإلفريقي‪ ،‬مارتن لوثر كينج‪ ،‬كام اغتيل أيض ًا الزعيم‬
‫األمريكي اإلفريقي‪ ،‬مالكوم إكس‪.‬‬
‫التحرر الذي ساد الكوكب يف حقبة الستينات من القرن‬
‫ّ‬ ‫حراك‬
‫العرشين‪ ،‬كان حراك ًا ملتبس ًا‪ ،‬اختلطت فيه نزعة ّ‬
‫احلرية باالنفالت‬
‫واخلروج عىل كل قيد‪ .‬فقد انغمست حركة اهليبيز وكثري من الشباب‪،‬‬
‫يف أمريكا‪ ،‬يف استخدام املارجوانا‪ ،‬وعقار إل إس دي‪ .‬وشاع حينها‬
‫يفجر الطاقة اإلبداعية لدى‬
‫أن استخدام هذا النوع من املخدرات ّ‬

‫‪249. Kenneth T. Walsh, The 1960s: A Decade of Promise and Heartbreak: The 1960s‬‬
‫‪contained hope and failure, innocence and cynicism. US News, March 9, 2010.‬‬

‫‪332‬‬
‫الفرد‪ .250‬كان هلذه احلالة من نزعة التحرر انعكاسات عىل املستوى‬
‫الكوكبي‪ .‬فعىل الرغم من أن كثري ًا من أقطار العامل الثالث كانت أكثر‬
‫التوجه االشرتاكي‪ ،‬إال أن تأثريات الثقافة‬
‫ُّ‬ ‫ال إىل الكتلة الرشقية وإىل‬ ‫مي ً‬
‫األمريكية عىل مستوى املوسيقى والسينام واألدب كانت هلا انعكاساهتا‬
‫يف خمتلف أرجاء العامل‪ ،‬بام يف ذلك السودان‪ .‬وسوف أتناول تلك‬
‫بتوسع يسري‪ ،‬الحق ًا‪.‬‬ ‫التأثريات‪ُّ ،‬‬
‫لوصول احلرب الباردة‬‫ِ‬ ‫الستينات من القرن العرشين‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ّأرخ عقدُ‬
‫العسكري‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ووصول الزحف‬ ‫ْأو َجها‪ .‬فبهزيمة النازية والفاشية‬
‫ِّ‬
‫ُّل الكتلةِ‬
‫السوڤييتي‪ ،‬املضا ّد للنازية‪ ،‬إىل برلني‪ ،‬وتقسيم أملانيا‪ ،‬وتشك ِ‬
‫دول ِ‬
‫رشق أوروبا‪ ،‬أضحت الكتل ُة الشيوعي ُة‬ ‫كل ِ‬ ‫ضمت َّ‬ ‫الرشقية‪ ،‬التي ّ‬
‫ِ‬
‫وقوتا الكتل َة الغربية‪ .‬وهكذا أصبحت‬ ‫ِ‬ ‫قو ًة كربى‪ ،‬ت ُ‬
‫ُعادل يف ضخامتها ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫النخب يف البلدان حديثة االستقالل‪،‬‬ ‫كثري من‬‫آمال ٍ‬ ‫الكتل ُة الرشقي ُة متع َّل َق ِ‬
‫التي أورثتْها احلقب ُة االستعامري ُة نفور ًا طبيعي ًا من الغرب‪.‬‬
‫الرابح يف‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫احلصان‬ ‫يف تلك اللحظة بدا للكثريي َن أن الشيوعي َة هي‬
‫مستقبل العامل‪ ،‬خاص ًة بعد نجاح‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صورة‬ ‫سباق الكتلتني‪ ،‬ويف رس ِم‬ ‫ِ‬
‫عقد اخلمسينات‪.‬‬ ‫واهليدروجينية يف ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫النووية‬ ‫ِ‬
‫القنبلة‬ ‫السوڤييت يف تفجري‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وهو إنجاز ما لبثوا ان أردفوه بسبقهم الواليات املتحدة األمريكية يف‬
‫إطالق مرشوع سبتنيك‬ ‫ِ‬ ‫الفضاء اخلارجي‪ ،‬ما حدا بأمريكا إىل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫غزو‬
‫العلمي من أجل ردم‬ ‫ِ‬
‫البحث‬ ‫مناهج التعليم‪ ،‬ودع ِم‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وتغيري‬ ‫‪،Sputnik‬‬
‫ِّ‬
‫هوة التفوق السوڤييتي‪ .‬حلظتها‪ ،‬بدا السوڤييت متقدِّ مني علمي ًا بصورةٍ‬
‫ُّ‬
‫ً‬
‫أرعبت األمريكيني‪ ،‬خاصة أن السالح السوڤييتي‪ ،‬الذي شدّ أزر‬ ‫ِ‬
‫األمريكي‬
‫ِّ‬ ‫ِ‬
‫التدخل‬ ‫ال حاس ًام يف ِ‬
‫دحر‬ ‫الصالبة القتالية الڤيتنامية‪ ،‬كان عام ً‬

‫‪250. Cynthia B Meyers, Psychedelics and the Advertising Man: The 1960s “Counter-‬‬
‫‪cultural Creative” on Madison Avenue. Columbia Journal of American Studies, Vol 4/1‬‬
‫‪2000, 114-127.‬‬

‫‪333‬‬
‫السوداين الذي أثمر ثامر ًا‬ ‫ٍ‬
‫هبزيمة مدوية‪ .‬فاإلبداع‬ ‫يف ڤيتنام‪ ،‬وإهنائه‬
‫ُّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يانع ًة يف السودان‪ُ ،‬بع ْيدَ منتصف القرن العرشين‪ ،‬كان‪ ،‬باإلضافة إىل‬
‫ِ‬
‫التفاعالت‬ ‫صدى لتلك‬ ‫حالة االستقرار التي أحدثها الربيطانيون‪،‬‬
‫ً‬
‫الكوكبية املفعمة باحليوية‪ ،‬خاصة ما جرى منها يف الكتلة الرشقية التي‬
‫متدّ دت يف اليسار العريب العريض يف كثري من الدول العربية املفتاحية‪.‬‬
‫ُ‬
‫ثالثة عقود من االستقرار‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫رو َتا‬ ‫كام سلفت اإلشارة‪ ،‬كانت حال ُة احليوية الثقافية التي بلغت ذ َ‬
‫والسبعينات يف السودان‪ ،‬نتاج ًا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الستينات‬ ‫عقدي‬ ‫ِ‬
‫السودان‪ ،‬يف‬ ‫يف‬
‫ْ‬
‫االستقرار التي أنجزها الربيطانيون يف العقود الثالثة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫حلالة‬ ‫مبارش ًا‬
‫وطردهم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عقب إمخادهم ثور َة اللواء األبيض‪ْ ،‬‬ ‫َ‬ ‫األخرية من ُحكمهم‪،‬‬
‫منتصف‬‫ِ‬ ‫واالنفراد بحك ِم السودان‪ .‬يف الفرتة التي امتدّ ت من‬ ‫ِ‬ ‫املرصيني‪،‬‬
‫نقالت اجتامعي ٌة‬ ‫جرت‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ٌ‬ ‫العرشينات وحتى منتصف اخلمسينات‪َ ،‬‬
‫خت‬ ‫الفرتة اكتمل مرشوع اجلزيرة للقطن‪ ،‬وترس ِ‬ ‫ِ‬ ‫بداية تلك‬ ‫ِ‬ ‫كبرية‪ .‬يف‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫البني ُة اإلداري ُة العرصية‪ ،‬وازدادت أعدا ُد اخلرجيني‪ ،‬واتسعت الطبق ُة‬
‫أذهان السودانيني‪ ،‬وبني‬ ‫ِ‬ ‫فص َل بني‬ ‫الوسطى‪ ،‬وتك ّثف‬
‫احلاجز الذي َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫األليمة للسنوات األخرية من احلقبة املهدوية‪ ،‬التي اتّسمت‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الذكريات‬
‫بالعسف والفوىض‪ ،‬كام اتّسمت بالكبت‪ ،‬وفرض السلوك الطهراين‬ ‫ِ‬
‫فكر‬ ‫بقوة القانون‪ .‬أيض ًا‪ ،‬اتصل يف النصف األول من القرن العرشين‪ُ ،‬‬ ‫ّ‬
‫تغي ًا يف‬ ‫الفكري الكوكبي‪ .‬فانعكس ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫كل ذلك ّ‬ ‫ِّ‬ ‫النُّخب املتعلمة بالفضاء‬
‫الفنون السودانيةِ‬ ‫ِ‬ ‫العيش‪ ،‬ما أدخل َ‬
‫جممل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أساليب‬ ‫البنى االجتامعية‪ ،‬ويف‬
‫نطاق احلداثة‪ .‬يضاف إىل ذلك‪ ،‬أن اخلطاب الديني املعادي للفنون‬ ‫َ‬
‫السلطات االستعامرية‪.‬‬ ‫احلر‪ ،‬قد جرى حتييده بواسطة ُّ‬ ‫وللتعبري ّ‬
‫بروز‬
‫منتصف العرشينات‪ُ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫االستقرار التي بدأت من‬ ‫ِ‬ ‫ثامر ِ‬
‫فرتة‬ ‫من ِ‬
‫وتفجر شاعرية التجاين يوسف بشري‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫معاوية حممد نور يف النقد األديب‪،‬‬
‫نشأت «مدرس ُة‬
‫ْ‬ ‫طازج‪ ،‬م َّثل قفز ًة بائن ًة عام كان سائد ًا‪ .‬كام‬
‫ٍ‬ ‫سوداين‬ ‫ٍ‬
‫بشعر‬
‫ٍّ‬

‫‪334‬‬
‫فن الغناء‪.‬‬ ‫تطو ُر ِ‬‫النرش والقراءة‪ ،‬وتسارع ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫حراك‬ ‫الفجر» األدبية‪ ،‬ونشط‬
‫لبث‪ ،‬نتيج ًة لالحتكاك بالروافد األجنبية‪ ،‬كام سلفت اإلشارة‪ ،‬أن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وما َ‬
‫ِ‬
‫أصبح الغنا ُء ُيؤ َّدى بمصاحبة اآلالت املوسيقية‪ .‬فظهر ُر َّوا ُد التجديد‬ ‫ِ‬
‫الغنائي‪ :‬إبراهيم الكاشف‪ ،‬وحسن عطية‪ ،‬وأمحد املصطفى‪ ،‬والتاج‬
‫مصطفى‪ ،‬ورمضان حسن‪ ،‬وعبد العزيز داؤود‪ ،‬وعبيد الطيب‪،‬‬
‫وغريهم‪ .‬وشهدت تلك النقلة ظهور املغنّيات الرائدات أمثال‪َ ،‬م َهلة‬
‫الع ّبادية‪ ،‬وفاطمة احلاج‪ ،‬وعائشة الفالتية‪ ،‬ومنى اخلري‪ .‬ورسعان‬
‫ما و ّلدت تلك املوج ُة اجلديد ُة رافد ًا آخر‪ ،‬شكَّل قفز ًة جديدةً‪ ،‬بانت‬
‫أعامل حممد وردي‪ ،‬وعثامن حسني‪ ،‬وإبراهيم عوض‪ ،‬وحممد‬ ‫ِ‬ ‫مالحمُها يف‬
‫وغريهم‪ .‬وجاءت‬ ‫ِ‬ ‫األمني‪ ،‬وصالح بن البادية‪ ،‬وصالح مصطفى‪،‬‬
‫وجيل الستينات جنب ًا إىل جنب مع‬ ‫ُ‬ ‫روا ُد اخلمسينات‬ ‫فاستمر ّ‬
‫ّ‬ ‫السبعينات‬
‫ُ‬
‫القادمني اجلدد؛ زيدان إبراهيم‪ ،‬وأبو عركي البخيت‪ ،‬وعثامن مصطفى‪،‬‬
‫وكل هؤالء ليسوا سوى جمر ِد ٍ‬
‫أمثلة‬ ‫وغريهم‪ُّ .‬‬ ‫ِ‬ ‫وحممد مريغني‪ ،‬والبالبل‬
‫ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫السعة‪ ،‬شديد التنوع‪.‬‬ ‫موسيقي بال ِغ َّ‬
‫ٍّ‬ ‫ماعون‬ ‫من‬
‫ِ‬
‫الفنون‬ ‫ِ‬
‫لكلية‬ ‫الذهبي‬ ‫العرص‬ ‫القرن املايض‬ ‫ِ‬ ‫ستينات‬
‫ُ‬ ‫أيض ًا‪ ،‬شهدت‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫مدارس‬ ‫اجلميلة والتطبيقية يف اخلرطوم‪ .‬فجرى تصني ُفها واحد ًة من ِ‬
‫أميز‬
‫القار ِة اإلفريقية‪ .‬وأصبحت «مدرس ُة اخلرطوم»‪ ،‬التي ُولدت‬ ‫الفنون يف ّ‬
‫ِ‬
‫النقدية العاملية؛ عىل األقل‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫األوساط‬ ‫ِ‬
‫وبرص‬ ‫ِ‬
‫جدرانا‪ ،‬مل َء سم ِع‬ ‫بني‬
‫للفن احلديث‪ ،‬ومن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫حيث حماول ُة االنفالت من قيد التقاليد الغربية ِ‬ ‫ِ‬ ‫من ُ‬
‫لبث‬ ‫حيث جودة التقنيات‪ .‬ثم ما َ‬ ‫اإلبداعي‪ ،‬ومن ُ‬ ‫ّ‬ ‫حيث النَّ َفس والدّ فق‬ ‫ُ‬
‫فعل‬ ‫ِ‬
‫الستينات ردو َد ٍ‬ ‫احلراك الذي خلقته مدرس ُة اخلرطوم‪ ،‬يف‬ ‫ُ‬ ‫أن و ّلدَ‬
‫قوي‪ ،‬برز فيه التشكيليان‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫نقدي ٌّ‬‫ٌّ‬ ‫تيار‬
‫قوية يف حقبة السبعينات‪ .‬فنشأ ٌ‬
‫نفر‪ ،‬من مثقفي‬ ‫الناقدان؛ عبد اهلل بوال‪ ،‬وحسن موسى‪ ،251‬إضاف ًة إىل ٍ‬

‫‪ .251‬صالح محمد حسن‪ ،‬إبراهيم الصلحي وصناعة الحداثة العابرة للقوميات‪ ،‬يف إبراهيم الصلحي‪ ،‬قبضة‬
‫من تراب‪ ،‬منتدى دال الثقايف‪ ،‬الخرطوم‪ ،‬السودان‪ ،)2012 ( ،‬ص ‪.28‬‬

‫‪335‬‬
‫اليسار من التشكيليني‪ .‬كام ظهر التشكيليان؛ حممد حامد شدّ اد‪ ،‬ونائلة‬
‫ِ‬
‫املتعلق‬ ‫النظري‬
‫ِّ‬ ‫ِ‬
‫اجلانب‬ ‫الطيب طه‪ ،‬بتيارمها الكريستايل‪ .252‬أما يف‬
‫والتذوق‪ ،‬واالستاطيقا‪ ،‬فقد برز يف األكاديميا‬ ‫ّ‬ ‫بتاريخ الفنون والنقد‬
‫السودانية‪ ،‬أمحد الزين صغريون‪ ،‬وأمحد الطيب زين العابدين‪ ،‬وصالح‬
‫حممد حسن‪ ،‬وموسى اخلليفة الطيب‪ ،‬وحممد عبد الرمحن أبوسبيب‪.‬‬
‫ّاب والفن ِ‬
‫جتم ُع ال ُكت ِ‬ ‫ِ‬
‫ّانني التقدُّ ميني‪ ،‬الذي‬ ‫أيض ًا برز يف الستينات ُّ‬
‫الرئيس‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫اليسار‪ ،‬قوا ُمهم‬ ‫وضم جمموع ًة من مثقفي‬ ‫َّ‬ ‫اسم «أباداماك»‪،‬‬
‫محل َ‬‫َ‬
‫أدبا ُء وتشكيليون ومرسحيون‪ ،‬أذكر منهم عىل سبيل املثال‪ :‬عبد اهلل عيل‬
‫إبراهيم‪ ،‬وصالح يوسف‪ ،‬وعبد اهلل جالب‪ ،‬وصالح تركاب‪ ،‬وعيل‬
‫عبد القيوم‪ ،‬وعبد الرحيم أبو ذكرى‪ ،‬وطلحة الشفيع‪ ،‬وصديق حمييس‪،‬‬
‫رة وسط طالب الثانويات‪،‬‬ ‫وغريهم‪ .‬ومتدّ د أباداماك بصي ٍغ مص ّغ ٍ‬
‫َ‬
‫«طالئع اهلدهد» يف حنتوب الثانوية‪ ،‬و»طالئع القندول»‪ ،‬يف‬ ‫ُ‬ ‫فنشأت‬
‫القضارف الثانوية‪ ،‬و»طالئع النخيل» يف مروي الثانوية‪.‬‬
‫شهد عقدا الستينات والسبعينات أيض ًا‪ ،‬اشتعال احلركة النسوية‬
‫ونشاطات احتاد نساء السودان وحتقيق الكثري من املكاسب للنساء‪،‬‬
‫ما جعل السودان رائد ًا يف اقتحام املرأة للمجال العام‪ .‬ويف السبعينات‬
‫ظهر نشاط األخوات اجلمهوريات اللوايت مألن شوارع املدن السودانية‬
‫عارضات ملؤلفات اجلمهوريني ومناقشات ملحتوياهتا‪ .‬وشهد عقدا‬
‫اجلامعي‪ ،‬ونادي‬ ‫ِ‬
‫املرسح‬ ‫ِ‬
‫نشاطات‬ ‫الستينات والسبعينات أيض ًا‪ ،‬ازدهار‬
‫ِّ‬
‫الفنون السوداني َة‪ ،‬قد‬
‫َ‬ ‫القول عموم ًا‪ ،‬إن‬ ‫ُ‬ ‫وغري ذلك‪ .‬ويمك ُن‬ ‫ِ‬ ‫السينام‪،‬‬
‫الفكر السيايس‪ ،‬واألفق‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أضحت‪ ،‬يف حدِّ ها القاطعِ‪ ،‬ذراع ًا ملنظومة‬
‫اليساري أكثر‪ ،‬يف الفرتة‬
‫ُّ‬ ‫ترسخ الن َف ُس‬ ‫اإلبداعي‪ ،‬لقوى اليسار‪ .‬وقد ّ‬
‫احلزب الشيوعي السوداين مع نظا ِم مايو يف بداياته‬ ‫ُ‬ ‫التي حتالف فيها‬
‫ِ‬
‫التي شهدت تأميم الصحافة‪ ،‬وتأميم رشكات السينام‪ ،‬ونشوء مؤسسة‬
‫‪ .252‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.28‬‬

‫‪336‬‬
‫ِ‬
‫السوڤييتية والبلغارية‪ ،‬وغريها من‬ ‫ِ‬
‫الدولة للسينام‪ ،‬واستجالب األفال ِم‬
‫كفة هوليوود التي كانت‬ ‫رجحان ِ‬
‫ِ‬ ‫أفالم ِ‬
‫دول الكتلة االشرتاكية ملعادلة‬
‫عرصها الذهبي‪.‬‬
‫تعيش‪ ،‬حينها‪َ ،‬‬ ‫ُ‬
‫َ‬
‫ملعان نج ِم األستاذ‬ ‫ِ‬
‫الفكر‪،‬‬ ‫ِ‬
‫صعيد‬ ‫أيض ًا‪ ،‬شهدَ عقدُ الستينات‪ ،‬عىل‬
‫ِ‬
‫توطني‬ ‫حممود حممد طه يف التجديد الديني‪ ،‬وعبد اخلالق حمجوب‪ ،‬يف‬
‫حوار منصور‬ ‫َ‬ ‫وس ْودنتِها‪ .‬كام شهدت تلك احلقب ُة‪ ،‬أيض ًا‪،‬‬ ‫ِ‬
‫املاركسية َ‬
‫ٍ‬
‫تيار ْي التقليد‬‫خالد مع طيف واس ٍع من الصفوة‪ ،‬إضاف ًة إىل رصاع َ‬
‫ِ‬
‫الرسد‬ ‫ِ‬
‫منظومة‬ ‫واحلداثة يف األدب‪ .‬كام تفتّحت يف الستينات أكام ُم‬
‫القوى الذي مث ّله الطيب صالح‪ .‬أما‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬
‫اخلارج الرافدُ‬ ‫السودانية‪ .‬فجاء من‬
‫كل من؛ أبو بكر خالد‪ ،‬وعثامن عيل نور‪،‬‬ ‫يف الداخل‪ ،‬فقد ملعت أسام ُء ٍّ‬
‫وكل‬ ‫وعثامن احلوري‪ ،‬وعيسى احللو‪ ،‬وإبراهيم إسحق‪ ،‬وخمتار عجوبة‪ُّ ،‬‬
‫ذكرهم من املبدعني السودانيني يف هذه الورقة‪ ،‬ليسوا سوى‬ ‫من جرى ُ‬
‫ِ‬
‫أمثلة‪ ،‬ال أكثر‪ .‬أيض ًا‪ ،‬ازدهرت يف تلك احلقبة الدراما اإلذاعية‪ ،‬وانترش‬ ‫ٍ‬
‫ِ‬
‫املرسحية والغنائية‬ ‫ِ‬
‫الفرق‬ ‫طواف‬
‫ُ‬ ‫املسارح يف ِ‬
‫املدن اإلقليمية‪ ،‬وتزايد‬ ‫ِ‬ ‫بنا ُء‬
‫ِ‬
‫عىل األقاليم‪ ،‬كام دخلت أجهز ُة التلفزيون إىل بيوت األثرياء‪ ،‬وإىل قطا ٍع‬
‫ٍ‬
‫معترب من أفراد الطبقة الوسطى املدينية‪.‬‬
‫أيض ًا‪ ،‬تبلور يف عقدي الستينات والسبعينات تيار «الغابة‬
‫احلداثة يف الشعر‪ ،‬كان‬‫ِ‬ ‫والصحراء»‪ ،‬الذي وقفت وراءه جمموع ٌة من رو ِ‬
‫اد‬ ‫ّ‬
‫عىل رأسهم؛ حممد عبد احلي‪ ،‬وحممد املكي إبراهيم‪ ،‬والنور عثامن أبكر‪،‬‬
‫حماوالت‬
‫ُ‬ ‫مستندين عىل «جنوب ّيات» حممد املهدي املجذوب‪ .‬وبدأت‬
‫ِ‬
‫الشخصية احلضارية للبالد يف‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫والبحث عن‬ ‫السوداين‪،‬‬ ‫ِ‬
‫للفكر‬ ‫ِ‬
‫التجذير‬
‫ِّ‬
‫سلفت اإلشار ُة فقد‬ ‫ِ‬ ‫صيغة خالسية‪ ،‬ليست هبذا‪ ،‬وليست بذاك‪ .‬وكام‬ ‫ٍ‬
‫ِ‬
‫التحديث األديب‪،‬‬ ‫ِ‬
‫جهود‬ ‫ِ‬
‫والسبعينات‪ ،‬يف‬ ‫ِ‬
‫الستينات‬ ‫سيطر عىل عقدَ ْي‬
‫ِ‬
‫املقابل‪،‬‬ ‫اليسار السوداين العريض‪ .‬ويف‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وحماوالت التجديد التشكييل‪،‬‬
‫ُ‬
‫ِّ‬
‫األقل موهب ًة‪،‬‬ ‫املحافظ‪ ،‬خاص ًة يف جمال األدب‪ ،‬سوى‬‫ُ‬ ‫التيار‬
‫ُ‬ ‫مل َي ُضم‬

‫‪337‬‬
‫ِ‬
‫باستثناء قليلني‪ ،‬يأيت عىل رأسهم عبد‬ ‫ِ‬
‫واألضعف تأثري ًا‪ ،‬من املبدعني‪،‬‬
‫الفنون التشكيلي ُة‪ ،‬التي ملع‬
‫ُ‬ ‫اهلل الطيب‪ ،‬الذي م َّثل فئ ًة قائم ًة ِ‬
‫بذاتا‪ .‬أما‬
‫املحافظني‬ ‫ُ‬
‫القول إن‬ ‫مدرسة اخلرطوم‪ ،‬فيمكن‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بسبب‬ ‫بقو ٍة‪،‬‬
‫َ‬ ‫نجمها ّ‬
‫ُ‬
‫جانب اإلنتاج‪ .‬فقد كانوا‬ ‫عل‪ ،‬خاص ًة‬ ‫ِ‬
‫هم من كان هلم فيها القدْ ُح ا ُمل ّ‬
‫َ‬
‫حني كان اليساريون ينقدون‪ ،‬بأكثر مما كاموا‬ ‫هم الذين ينتجون‪ ،‬يف ِ‬
‫ينتجون‪ ،‬وقد اتسم نقدهم باحلدّ ة والشطط‪ ،‬وال يزال‪ .‬وتلك ظاهر ٌة‬
‫ِ‬
‫الزيارة والتحليل‪.‬‬ ‫حتتاج إىل إعادة‬
‫بقي اإلسالميون‪ ،‬طيلة حقبتَي الستينات والسبعينات خارج نطاق‬
‫الفعل اإلبداعي يف جماالت اآلداب والفنون‪ .‬وربام يعود ذلك إىل‬
‫الطبيعة الطهرانية ألفكار اإلخوان املسلمني الكالسيكية‪ ،‬التي تربط بني‬
‫الفنون والفساد واإلفساد‪ ،‬إضافة إىل التعاطي مع األدب بصورة انتقائية‬
‫دخل اإلسالميون السودانيون يف‬ ‫تلخص َدوره يف خدمة الدعوة‪ .‬ومل َي ُ‬
‫ّ‬
‫هذه املجاالت إال بعد أخذ الدكتور حسن الرتايب ُيري ُصلح ًا بني‬
‫اإلسالميني واآلداب والفنون‪ .‬ولكن‪ ،‬يبدو أن مدخل الدكتور الرتايب‬
‫يف هذا احلقل الشائك كان دخوالً براغامتي ًا‪ ،‬مبعثه منافسة اليسار الذي‬
‫سيطر عىل جماالت اآلداب والفنون‪ .‬ولقد كان ُّ‬
‫تدخله بال زاد حقيقي‪ ،‬أو‬
‫معرفة راسخة بالفنون وتارخيها و َدورها‪ ،‬وفلسفة اجلامل‪« ،‬االستاطيقا»‬
‫وإشكالياهتا‪ .‬وقد كان ما قام به الرتايب‪ ،‬يف هذا اجلانب‪ ،‬جزء ًا من‬
‫مرشوع «أسلمة املعرفة»‪ ،‬الذي يعني‪ ،‬وبالرضورة أسلمة التعبري عن‬
‫املعرفة‪ ،‬وعن الوجدان‪ ،‬وهو ما مت ّثله اآلداب والفنون‪ .‬وقد الحظ حممد‬
‫أبوسبيب‪ ،‬أن احلركة اإلسالمية السودانية رشعت يف تطبيق ما َس ّمته‬
‫«أسلمة الفنون»‪ ،‬كجزء من مرشوعها ألسلمة الدولة‪ .‬فقد كان حديث‬
‫اإلسالمني‪ ،‬عن «إسالمية الفنون»‪ ،‬يف البداية‪ ،‬حمدود ًا‪ ،‬ومنحرص ًا‪ ،‬يف‬
‫دائرة صغرية من الفنانني أصحاب التوجه اإلسالمي‪ .‬لكن الفكرة‬
‫اكتسبت اهتامم ًا أكرب‪ ،‬وأكثر رصاحة‪ ،‬بعد السطو عىل الدولة باالنقالب‬

‫‪338‬‬
‫العسكري‪ .‬ولك ْن ما إن أخذ املرشوع اإلسالمي يف الرتاجع واالهنيار‪،‬‬
‫حتول‬
‫مل يعد هناك من يتحدّ ث عن أسلمة الفنون بصوت مسموع‪ .‬بل ّ‬
‫اهلجوم السابق عىل تاريخ وقيم الوسط الفني السوداين‪ ،‬إىل تصالح‬
‫غض الطرف عام يقوم به الوسط الفني‪ ،‬وإىل حماولة‬ ‫ومهادنة‪ ،‬مت ّثلت يف ّ‬
‫اخرتاق لالحتادات والتنظيامت الفنية القائمة‪ ،‬أو عرقلة عملها‪ .253‬ولقد‬
‫شهدت الفنون واآلداب يف حقبة حكم اإلسالميني أكرب تراجع هلا يف‬
‫حقبة ما بعد االستقالل‪ .‬فباإلضافة إىل كرس عظم قوى اليسار وتبديد‬
‫َش ْملها‪ ،‬والدفع بمبدعيها إىل املهاجر‪ ،‬أو إىل منطقة الظالل داخل ال ُق ْطر‪،‬‬
‫حارب اإلسالميون‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬األديب الطيب صالح حني كتب‬
‫«من أين أتى هؤالء»‪ ،‬فض ّيقوا عىل مؤلفاته‪ ،‬ووصفوها بأقذع األلفاظ‬
‫ُدرس يف كثري من اجلامعات العربية‪.‬‬ ‫ومنعوا تدريسها ‪ ،‬وهي التي ت َّ‬
‫‪254‬‬

‫من المهدوية قفزًا إلى الحداثة‬


‫املتزمتة‪ ،‬ومن ِ‬
‫حالة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الطهرانية‬ ‫ِ‬
‫املهدوية‬ ‫ِ‬
‫احلقبة‬ ‫السودان ّي َ‬
‫ون من‬ ‫خرج ُّ‬
‫العسكرة والتشمري التي امتدّ ت لسبعة عرش عام ًا‪ ،‬وهم ممتلئون حنين ًا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أمرها‪،‬‬ ‫بقوة‪ ،‬يف ِ‬
‫بداية ِ‬ ‫عيش طبيعي هادئ‪ .‬فقد نارصوا املهدي َة ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫دافق ًا إىل‬
‫ٍّ‬
‫املرصي‪،‬‬ ‫الرتكي‬ ‫اخلديوي‬ ‫ِ‬
‫عسف احلك ِم‬ ‫أجل أن خت ّل َصهم من‬ ‫ِ‬ ‫من‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫ِ‬
‫وفساد ُوالته‪ ،‬وإدارييه‪ ،‬ومو ّظفيه‪ ،‬وجتاوزاتم الشنيعة‪ .‬غري أن املهدي َة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫أكثر عسف ًا وعنف ًا‪،‬‬ ‫ما لبثت‪ ،‬هي األخرى‪ ،‬أن انقلبت عليهم‪ ،‬فأصبحت َ‬
‫معبة‪ ،‬ال حتتمل الكبت وال‬ ‫بل وخنق ًا للحياة‪ ،‬التي هي بطبيعتها طاق ٌة ِّ‬
‫والبدين‬ ‫النفيس‬ ‫حالة اإلرهاق‬ ‫ِ‬ ‫القولبة يف القوالب الضيقة‪ .‬فبسبب‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫االستقرار التي كانت‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الطاحنة‪ ،‬وحالة عد ِم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫املجاعة‬ ‫ِ‬
‫الطويلة‪ ،‬وبسبب‬
‫‪ .253‬محمد عبد الرحمن أبو سبيب‪« ،‬أسلمة» الفنون يف التجربة السودانية‪ :‬منظور ثقايف جاميل»‪ ،‬صحيفة‬
‫حريات االلكرتونية‪ ،‬عىل الرابط‪:‬‬
‫‪( 204344K=p?/com.hurriyatsudan.www//:http‬اسرتجاع يف ‪ 5‬أبريل ‪.)2017‬‬
‫‪ .254‬طلحة جربيل‪ ،‬بعد منع «موسم الهجرة اىل الشامل»‪ ....‬الطيب صالح لـ «الوسط»‪ :‬يريدون وقف‬
‫البحر بسدود من الرمال!‪ ،‬صحيفة الحياة اللندنية‪.1996/8/26 ،‬‬

‫‪339‬‬
‫ِ‬
‫التوسعية‬ ‫ِ‬
‫الطموحات‬ ‫السم َة الرئيس َة للحكم املهدوي الرسا ِّيل‪ ،‬ذي‬ ‫ِّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫حتول نظا ِم اخلليفة عبد اهلل‬ ‫الوطني‪ ،‬إضاف ًة إىل ُّ‬ ‫َّ‬ ‫الرتاب‬
‫َ‬ ‫التي تعدّ ت‬
‫الرساح‬‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ومؤسسته العسكرية إىل قوة مطلقة‬ ‫ٍ‬
‫باطش‪،‬‬ ‫التعاييش‪ ،‬إىل نظا ٍم‬
‫ّ‬
‫رب من السودانيني كاره ًا للمهدية‪،‬‬ ‫قطاع معت ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫والنهب‪ ،‬أصبح‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫للسلب‬
‫الغزو‬
‫ُ‬ ‫العيش الطبيعي‪ .255‬ولذلك‪ ،‬حني جا َء‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أحوال‬ ‫تشوق ًا إىل‬ ‫وأكثر ُّ‬
‫َ‬
‫ُ‬
‫يكون‬ ‫السوداين منقس ًام أشدَّ ما‬
‫ُّ‬ ‫املجتمع‬
‫ُ‬ ‫اإلنجليزي املرصي‪ ،‬كان‬ ‫ُّ‬
‫الوطني‪ ،‬يف ترحيبِ‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬
‫االنقسام‪ .‬وجتىل ذلك االنقسام احلا ُّد يف الشعور‬
‫باجليش الغازي ‪.‬‬
‫‪256‬‬ ‫ِ‬ ‫النييل‪،‬‬ ‫ِ‬
‫والوسط‬ ‫ِ‬
‫الشامل‬ ‫معترب من أهل‬ ‫ٍ‬ ‫قطا ٍع‬
‫ِّ‬
‫من ِم َيز املهدوية السودانية أهنا ن ََح ْت إىل مت ُّل ِك اإلسالم‪ ،‬فقد قال‬
‫الناس‬ ‫َ‬ ‫درجوا‬ ‫حممد أمحد املهدي‪« :‬هؤالء األئمة جزاهم اهلل‪ ،‬فقد َّ‬
‫منهل إىل منهل‪ ،‬حتى‬ ‫ٍ‬ ‫وص َلت املاء من‬ ‫ووصلوهم إلينا‪ ،‬كم َث ِل الراوية َّ‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫وصلت صاحبها للبحر‪ ،‬فجزاهم اهلل خريا‪ .‬فهم رجال‪ ،‬ونحن رجال‪،‬‬ ‫َّ‬
‫ولو أدركونا ألتّبعونا‪ .‬وأن مذهبنا هو الكتاب والسنة‪ ،‬وقد طرحنا‬
‫ورأي املشايخ‪.»257‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫باملذاهب‪،‬‬ ‫العمل‬
‫جهة‪ ،‬اقتلعت‬ ‫ٍ‬ ‫كبري عىل جبهتني‪ .‬فمن‬ ‫بانقالب ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫قامت املهدوية‬
‫الرسمي الذي استجلبته اخلديوية معها لتستخد َمه ذراع ًا‬
‫َّ‬ ‫املدريس‬
‫َّ‬ ‫الفق َه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لتثبيت سلطاهنا‪ .‬بل تعدّ ت ذلك‪ ،‬إىل حدِّ إلغاء العمل باملذاهب‪ ،‬نفسها‪.‬‬
‫ِ‬
‫لتفسري الدين‪،‬‬ ‫ِ‬
‫الدين‬ ‫ِ‬
‫رجال‬ ‫ِ‬
‫الحتكار‬ ‫وقد أنجزت املهدوية بذلك كرس ًا‬
‫‪ .255‬روى الشيخ بابكر بدري يف مذكراته‪ ،‬وهو يف حالة حري ٍة واستغراب من تبدُّل األحوال الذي أملَّ به‪ ،‬يف‬
‫نهايات الحقبة املهدوية‪ ،‬قائالً‪ ،‬إنه يف بدايات التحاقه باملهدية‪ ،‬كان يفتح صدره لرصاص األعداء‪ ،‬غري مبا ٍل‬
‫باملوت‪ .‬غري أنه‪ ،‬يف يوم كرري كان واقفاً عىل تل ٍة‪ ،‬ليس بعيدا ً من الخليفة عبد الله‪ ،‬وهو يرقب جريان‬
‫املعركة‪ .‬غري أنه‪ ،‬وفقاً ملا ذكر‪ ،‬كان يراقب مجريات املعركة‪ ،‬بشعو ٍر اتسم بالحياد‪ .‬بل لقد ن ّم عنه‪ ،‬من‬
‫وصفه لحاله‪ ،‬ما يشري إىل أنه كان منتظرا ً أن تنتهي تلك املعركة بنرص الجيوش الغازية‪ ،‬ليتم إغالق ذلك‬
‫الفصل من حياته‪ ،‬الذي يبدو أن حالة اإلرهاق منه‪ ،‬قد بلغت به مبلغاً عظيامً‪.‬‬
‫‪ .256‬راجع‪ :‬محمد سعيد القدال‪ ،‬تاريخ السودان الحديث ‪( ،1955-1820‬ط‪ ،)2‬مركز عبد الكريم مريغني‬
‫الثقايف‪ ،‬أمدرمان‪ ،‬السودان‪ ،)2002( ،‬ص ص ‪.298 – 290‬‬
‫‪ .257‬ميك شبيكة‪ ،‬السودان عرب القرون‪( ،‬القاهرة‪ :‬لجنة التأليف والرتجمة والنرش‪ )1964( ،‬ص ‪.309‬‬

‫‪340‬‬
‫كام اخت ّطت بذلك‪ ،‬أيض ًا‪ ،‬وعي ًا بالذات السودانية‪ ،‬عىل الرغم مما ُعرف‬
‫حمدودية األفق املعريف‪ ،‬وضعف قاموسها اللغوي‪ِ ،‬‬
‫وقلة‬ ‫ٍ‬ ‫عن املهدية من‬
‫نصيبِها من احلداثة‪ .‬غري أن املهدية‪ ،‬قضت‪ ،‬من الناحية األخرى‪ ،‬عىل‬
‫التصوف يف الدولة‬ ‫ف الذي خرجت من عباءته‪ .‬وقد عاش‬ ‫التصو ِ‬
‫ُّ‬ ‫ُّ‬
‫ٍ‬
‫السنارية لثالثة قرون‪ ،‬قبل الغزو اخلديوي‪ ،‬فشكَّل إطار ًا للتعايش‬ ‫ِ‬
‫مكونات املجتمعات السودانية املختلفة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫لمي بني‬ ‫الس ّ‬ ‫والتساكن ِّ‬
‫والغريب أن الربيطانيني حني قضوا عىل الدولة املهدوية‪ ،‬عمدوا إىل‬ ‫ُ‬
‫ال من‬ ‫ِ‬
‫حماربة التصوف وهتمشيه‪ ،‬بزعم أن املهدوي َة إنام خرجت أص ً‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫التطرف‪ .258‬فأعادوا املؤسسة الدينية‬
‫ُّ‬ ‫تفر ُخ‬ ‫عباءته‪ ،‬قائلني إن خالويه ّ‬
‫ِ‬
‫التي صنعتها اخلديوي ُة إىل احلياة‪ ،‬مرة أخرى‪ ،‬بعد أن قضت عليها‬
‫املهدوية‪ ،‬أو أعادت صياغتها يف قالبها هي‪.‬‬
‫ِ‬
‫احلامسة الدينية‪،‬‬ ‫ِ‬
‫بإيقاظ‬ ‫ِ‬
‫الرعوية‪،‬‬ ‫ِ‬
‫القطاعات‬ ‫مجعت املهدوي ُة حوهلا‬ ‫ِ‬
‫ِ‬
‫استعداد‬ ‫وروح األسطورة‪ ،‬وأخبار املنتظر املخ ِّلص‪ .‬وقد التقى ذلك مع‬ ‫ِ‬
‫ِ‬
‫السودانيني للثورة ضد احلكم اخلديوي الرتكي املرصي‪ ،‬الذي أراهم‬
‫ِ‬
‫واالستبداد ومن اجلبايات الباهظة‪ ،‬مل يعهدوها‪.‬‬ ‫ِ‬
‫العسف‬ ‫صنوف ًا من‬
‫يف احلقبة املهدوية بدأت حالة االنقسام السودانية‪ ،‬التي ال تزال‬
‫مستمرةً‪ ،‬حتى زمانِنا الراهن‪ .‬كان مبتدأ ذلك االنقسام‪ ،‬العدا ُء الذي‬
‫َ‬
‫اخلناق عىل‬ ‫ِ‬
‫وطائفة اخلتمية‪ .‬ض ّيق املهدويون‬ ‫نشب بني املهدويني‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫زعامء الطائفة اخلتمية‪ ،‬حتى غادروا البال َد‪ ،‬ليعودوا إليها حلفاء للغزو‬
‫ُ‬
‫األحوال للحك ِم‬ ‫اإلنجليزي املرصي يف عام ‪ .1898‬وبعد أن استتب ِ‬
‫ت‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫التنافس بني هاتني الطائفتني‪،‬‬ ‫إذكاء ِ‬
‫روح‬ ‫ِ‬ ‫رشع الربيطانيون يف‬‫الثنائي‪َ ،‬‬
‫وسط طالئع املتعلمني‪ ،‬واشتدادِ‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وهو ما أ ّدى إىل نشوء حالة االنقسا ِم‬
‫ِ‬
‫التبعية السوداين‪ ،‬للمرصيني‪ ،‬ونزعة االنتامء املرشقي‪،‬‬ ‫التنافس بني ِ‬
‫قطب‬ ‫ِ‬

‫‪ .258‬هارولد ماكاميكل‪ ،‬السودان‪( ،‬ترجمة محمود صالح عثامن صالح)‪ ،‬مركز عبدالكريم مريغني الثقايف‪،‬‬
‫أم درمان‪ ،‬السودان (‪ ،)2009‬ص‪.110 ،‬‬

‫‪341‬‬
‫من جهة‪ ،‬كام لدى طائفة اخلتمية وقس ٍم ٍ‬
‫كبري من طالئع املتعلمني‪،‬‬
‫ِ‬
‫االستقاللية‬ ‫ِ‬
‫النزعة‬ ‫ِ‬
‫وقطب‬ ‫الذين ُعرفوا بـ «األشقاء» و»االحتاديني»‪،‬‬
‫السوداين‪ ،‬الذي كان يميل إىل الربيطانيني‪ ،‬من اجلهة األخرى‪ ،‬كام‬
‫لدى طائفة األنصار‪ ،‬وقس ٍم ٍ‬
‫كبري آخر من طالئع املتعلمني‪ُ ،‬عرفوا بـ‬
‫«االستقالليني»‪.‬‬
‫ُسمى‬ ‫بني هذين التيارين الكبريين نشأت القوى السياسية‪ ،‬التي ت َّ‬
‫ِ‬
‫مواجهة ُسلطة‬ ‫ِ‬
‫املعرفة‪ ،‬يف‬ ‫«القوى احلديثة»‪ ،‬وحاولت االستناد إىل ُسلطة‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫حموري‬ ‫الدين والوالء الطائفي‪ .‬غري أن هذه القوى انقسمت أيض ًا عىل َ‬
‫الدين والعلامنية‪ ،‬أو ما يمكن أن ن َِصفه أيض ًا باالنقسام بني قط َبي اليسار‬
‫واليمني‪ .‬وقف الشيوعيون والبعثيون والنارصيون يف معسكر العلامنية‬
‫املتعاطفني‬
‫َ‬ ‫الليرباليني‬
‫َ‬ ‫عريض من‬ ‫ٌ‬ ‫قطاع‬
‫ٌ‬ ‫يف مت ُّثالتِه اليسارية‪ ،‬وساندهم‬
‫ضم القوى الطائفية واإلخوان املسلمني‬ ‫مع اليسار‪ .‬أما التحالف الذي ّ‬
‫وينفر‬ ‫ينجمع عىل بعضه حين ًا‪،‬‬ ‫عقود حتالف ًا ملتبس ًا‪،‬‬‫ٍ‬ ‫فقد بقي عىل مدى‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫بعضه حين ًا آخر‪.‬‬ ‫من‬
‫دوائر‬ ‫السوداين‬ ‫احلزب الشيوعي‬ ‫اكتسح‬ ‫أكتوبر ‪،1964‬‬ ‫عقب ِ‬
‫ثورة‬
‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫أكتوبر تص ّعد الرصاع بني الشيوعيني من جهة‪ ،‬وبني‬ ‫َ‬ ‫اخلرجيني‪ .‬ومنذ‬
‫ِ‬
‫الطائفية واإلخوان املسلمني‪ ،‬من اجلهة األخرى‪ .‬حاولت ثور ُة أكتوبر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وحكومتُها االنتقالية اليسارية سدّ الطريق أمام القوى التقليدية‪ ،‬حني‬
‫ارتفع شعار «ال زعامة للقدامى»‪ .‬كام جرى رفع شعار «التطهري واجب‬
‫وطني»‪ .‬ثم ما لبثت القوى التقليدية أن استجمعت طاقتها‪ ،‬وانقلبت عىل‬
‫املنتخبني ديموقراطي ًا من‬ ‫َ‬ ‫اليسار فح َّلت احلزب الشيوعي وطردت ّنوابه‬
‫اليسار ليأخذ بثأره‪ ،‬خاص ًة أن مايو‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الربملان‪ .‬وما إن جاءت مايو‪ ،‬عاد‬
‫طبيعي لثورة أكتوبر‪ .‬وبني انقالبات‬‫ِ‬ ‫حني جاءت‪ ،‬زعمت أهنا امتدا ٌد‬
‫ٌّ‬
‫ومتفرقني‪ ،‬منسجمني‬ ‫ّ‬ ‫اليسار التي قادها الشيوعيون واملايويون جمتمعني‬
‫وانقالب يونيو ‪،1989‬‬ ‫ِ‬ ‫الشيوعي‪،‬‬ ‫ِ‬
‫احلزب‬ ‫حل‬ ‫ِ‬
‫حادثة ِّ‬ ‫ومتنافرين‪ ،‬وبني‬
‫ِّ‬

‫‪342‬‬
‫كل‬ ‫ِ‬
‫املطلقة عىل ِّ‬ ‫ِ‬
‫والسيطرة‬ ‫هنج «التمكني»‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وانتهاج اإلخوان املسلمني َ‬
‫ض للحالةِ‬ ‫املجه ِ‬ ‫ِ‬
‫والتعبري احلر‪ ،‬اكتملت دور ُة اجلهد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الفكر‬ ‫ِ‬
‫يشء‪ ،‬وخنق‬
‫َ‬
‫ُ‬
‫يكون الوعد‪.‬‬ ‫السودانية‪ ،‬التي كانت واعدةً‪ ،‬أشدَّ ما‬ ‫ِ‬

‫عدها األممي‪،‬‬ ‫اللينينية‪ ،‬وب ِ‬


‫ِ‬ ‫ِ‬
‫املاركسية‬ ‫الفكر الوافدُ يف صيغتيه‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫التبسيطي القادم من مرص‪ ،‬ومن اهلند وباكستان‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫اإلسالمي‬
‫ِّ‬ ‫واإلخواين‬
‫ِّ‬
‫ِ‬
‫األممي‪ ،‬أخذ بالتبادل بخناق احلل ِم السوداين‪ ،‬فكتام أنفاسه عرب‬ ‫وتوج ِ‬
‫هه‬
‫ِّ‬ ‫ُّ‬
‫الثقايف الذي‬ ‫االزدهار‬ ‫فإن‬ ‫ِ‬
‫طويل من الثارات املتبادلة‪ .‬لذلك‪ّ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫مسلسل‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫َو َسم عقدَ ْي الستينات والسبعينات كان حال ًة عابر ًة غريب ًة عىل السياق‬ ‫ِ‬
‫طر السوداين‪ .‬فالتجذير للوعي بالذات السودانية‪ ،‬لدى‬ ‫التارخيي لل ُق ِ‬
‫خارج‬
‫َ‬ ‫يقع ثِ َق ُل ُه‬
‫الشيوعيني واإلخوان املسلمني‪ ،‬كان ينتهي إىل َج ْذ ٍر ُ‬
‫السياق التارخيي للحالة السودانية‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وخارج‬ ‫الرتاب الوطني‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫حدود‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫األرواحية الصوفية‪.‬‬ ‫ِ‬
‫املسيحية‪،‬‬ ‫ِ‬
‫الكوشية‪،‬‬ ‫ِ‬
‫اجلذور‬ ‫ِ‬
‫ذات‬
‫خاتمة‬
‫ُ‬
‫تكون هناك‬ ‫واآلداب حني تكون هناك دول ٌة‪ ،‬وحني‬ ‫ُ‬ ‫تزدهر الفنون‬
‫للحريات‪ ،‬ومساحة حقيقية‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫مناخ‬ ‫ُ‬
‫يكون هناك‬ ‫طبق ٌة وسطى‪ ،‬وحني‬
‫للحلم‪ ،‬ولألمل يف املستقبل‪ .‬وأهم من ذلك‪ ،‬حني جيري حتييدُ الطهرانيةِ‬
‫ّ‬
‫ِ‬
‫السيطرة عىل املجال العام‪ .‬هذه العنارص حت ّققت‪،‬‬ ‫ِ‬
‫الدينية‪ ،‬وإبعا ُدها عن‬
‫بقدر معقول‪ ،‬يف عقود حكم احلقبة االستعامرية الربيطانية‪ ،‬فازدهرت‬
‫توهنا أننا قد مت َّلكنا احلداثة‪ ،‬وأننا حت َّققنا فع ً‬
‫ال‬ ‫فنوننا وآدابنا‪ ،‬حتى َّ ْ‬
‫بانفتاح العقول‪ .‬غري أن ذلك كان إحساس ًا كاذب ًا‪ ،‬فاحلالة‪ ،‬يف حقيقة‬
‫أمرها‪ ،‬مل تكن سوى حالة زائرة عابرة‪.‬‬
‫مل ينتبه املن ِّظرون للهوية السودانية إىل إسهامني ها ّمني‪ :‬األول هو‬
‫إسهام األستاذ حممود حممد طه يف قضية التجديد الديني‪ .‬فالفنون يف‬
‫كثري ممن من يامرسوهنا بيشء من‬
‫السودان ُينظر إليها بريبة‪ ،‬ويامرسها ٌ‬

‫‪343‬‬
‫الشعور باإلثم‪ .‬يف هذا الباب كتب األستاذ حممود حممد طه كتابه‬
‫«اإلسالم والفنون» الذي نحا فيه إىل جتاوز النصوص واملالبسات‬
‫التي ربطتها باحلرام‪ .‬أما اإلسهام الثاين فهو إسهام عبد اخلالق حمجوب‬
‫أمر جتاهله‬ ‫يف توطني املاركسية ور ْبطها بالثقافة اإلسالمية‪ .‬وهو ٌ‬
‫ظل‬ ‫عمق مغزاه‪ .‬فقد ّ‬ ‫الشيوعيون السودانيون ومل يدركوا‪ ،‬يف تقديري‪َ ،‬‬
‫العلامنيون األقحاح يظنّون أن الدين ظاهر ٌة عارض ٌة‪ ،‬مرتبط ٌة بطفولةِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫التصور‬
‫َ‬ ‫تنقرض بمرور الزمن‪ .‬وقد وضح أن هذا‬ ‫َ‬ ‫العقل‪ ،‬ولن َ‬
‫تلبث أن‬
‫ٍ‬
‫أي مكان آخر‪.‬‬ ‫تصور خاطئ‪ .‬ولقد وضح خطأه يف السودان‪ ،‬أكثر من ِّ‬ ‫ٌ‬
‫ِ‬
‫الفلسفة‪ ،‬والفنون‪ِ،‬‬ ‫فأوروبا مل تنعتق من الرؤى الدينية املنغلقة عن طريق‬
‫ِ‬
‫واآلداب‪ ،‬وحدها‪ ،‬وإنام عن طريق اإلصالح الديني‪ ،‬يف املقام األول‪.‬‬
‫ِ‬
‫األخالقية‬ ‫ِ‬
‫احلوافز‬ ‫يورد عبد الرازق الداوي رؤي َة ماكس ڤيرب لدَ ور‬
‫منوه ًا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫والدينية الفعال يف سلوك البرش‪ ،‬ويف احلياة االجتامعية للشعوب‪ّ ،‬‬
‫ِ‬
‫واالجتامعية‪،‬‬ ‫ِ‬
‫االقتصادية‬ ‫ِ‬
‫التحوالت‬ ‫ِ‬
‫التأثري عىل‬ ‫أن ڤيرب منَح األولوي َة يف‬
‫ِ‬
‫الغرب‪ ،‬كام يراها‬ ‫ِ‬
‫الثقافية والدينية‪ .‬فالثور ُة الرأساملي ُة يف‬ ‫ِ‬
‫العوامل‬ ‫إىل‬
‫ڤيرب‪ ،‬كانت ثور ًة ثقافي ًة يف املقام األول‪ ،‬استندت إىل اإلصالح اللوثري‬
‫والكالفيني‪ .259‬ولذلك ينبغي‪ ،‬من وجهة نظري‪ ،‬أن نتّخذ من تأ ّمل‬
‫اإلبداعي يف‬
‫ِّ‬ ‫جتربة ما بعد االستقالل‪ ،‬واخفاقاهتا‪ ،‬ومن انحسار املدِّ‬
‫الفنون يف السودان‪ ،‬فرص ًة إلعادة تأ ّمل التجربة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اآلداب ويف‬ ‫ِ‬
‫الفكر ويف‬
‫الصفوية العابرة‪ ،‬التي عاشت عمرها القصري‪ ،‬مع ّلق ًة يف‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اإلبداعية‬
‫تبخرت‪ ،‬أو كادت‪.‬‬ ‫اهلواء‪ ،‬ثم ما لبثت أن ّ‬
‫كل يشء‪،‬‬ ‫وقبل ِّ‬‫يقول جون قرنق‪« :‬فلنتق ّبل أنفسنا كسودانيني‪ ،‬أوالً َ‬
‫تستطيع‬
‫ُ‬ ‫تستطيع توحيدَ نا‪ ،‬األفريقاني ُة املضاد ُة للعروبة ال‬
‫ُ‬ ‫العروب ُة ال‬
‫تستطيع توحيدَ نا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫يستطيع توحيدَ نا‪ ،‬املسيحي ُة ال‬
‫ُ‬ ‫توحيدَ نا‪ ،‬اإلسالم ال‬

‫‪ .259‬عبد الرزاق الدواي‪ ،‬يف الثقافة والخطاب عن حرب الثقافات‪ :‬حوار الهويات الوطنية يف زمن العوملة‪،‬‬
‫املركز العريب لألبحاث ودراسة السياسات‪ ،‬الدوحة وبريوت‪ ،)2013( ،‬ص ‪.59‬‬

‫‪344‬‬
‫لكن «السودانوية» تستطيع توحيدنا»‪ .‬غري أن «السودانوية»‪ ،‬ال تزال‬
‫ٍ‬
‫كهيكل جامع‪ ،‬إىل التعضيد املعريف‪.‬‬ ‫شعار ًا جممالً‪ ،‬يفتقر‪ ،‬رغم ّ‬
‫صحته‬
‫ومن التعضيد املعريف هلذا الشعار‪ ،‬مراجع ُة التاريخ السوداين‪ ،‬خاصة‬
‫التصوف‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫املزاج الديني الذي أحدثته اخلديوية‪ ،‬وتغيري طبيعة‬ ‫انقالب‬
‫َ‬
‫التنوع‪ ،‬وإحلاقه باملؤسسة‬
‫للسلطة‪ ،‬واملتصالح مع ّ‬‫السناري املعارض ُّ‬
‫الفقهية التابعة هلا‪.‬‬
‫التارخيي‪ ،‬ولن خترج‬
‫ّ‬ ‫كذلك‪ ،‬لن تنغرس أقدام الفنون يف تربة اإلرث‬
‫دائرت الصفوية والنخبوية واالستالب إىل املؤثرات اخلارجية‪ ،‬ما مل‬ ‫َ‬ ‫من‬
‫وتبي مالحمه يف سامت‬ ‫الكويش العظيم‪ُّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫نراجع تارخينا‪ ،‬خاصة تراثنا‬
‫الشخصية السودانية الراهنة‪ ،‬وتطويرها يف أطر احلداثة املمتلكة سوداني ًا‪.‬‬
‫لقد كتب تاريخ السودان الربيطانيون واملرصيون‪ ،‬ون َقل عنهم تلك‬
‫املؤرخون السودانيون‪ .‬فالنقد التارخيي ال يزال متع ّثر ًا لدينا‪.‬‬‫الصيغة ّ‬
‫مؤثر من النخب‬ ‫قطاع ٌ‬
‫ٌ‬ ‫بعبارة أخرى‪ ،‬ال بدّ يف تقديري‪ ،‬من أن خيلع‬
‫املثقفة‪ ،‬اخلوذة العقلية الغربية‪ ،‬التي تس ّببت يف حالة االنفصال من اجلَ ْذر‬
‫والشخصية احلضارية للبالد‪ .‬فنحن بحاجة ماسة إىل مراجعة الرتكة‬
‫املثقلة ملائة واثنتني وعرشين سنة من االستعامر اخلديوي والربيطاين‪.‬‬
‫ضاف إىل ذلك‪ ،‬مراجعة ستني عام ًا من االستقالل الزائف‪ ،‬الالمثمر‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُي‬
‫ٍ‬
‫بمنهج جديد‪ ،‬وشفافية عالية‪.‬‬‫ٍ‬
‫مل يكن عقدا الستينات والسبعينات‪ ،‬وما جرى فيهام من انبساط‬
‫مديني‪ ،‬سوى حالة اهلدوء التي تسبق العاصفة‪ .‬مل تكن‬ ‫ّ‬ ‫واسرتخاء‬
‫هناك حداثة متح ّققة‪ ،‬ومل يكن الوعي القادر عىل اإلمساك باحلداثة‬
‫واستدامتها قد تَشكَّل بعد‪ .‬فنوستاجليا الستينات والسبعينات ليست‬
‫سوى شوق وتوق إىل ف ّقاعة مل خترج من بطن السياق‪ ،‬بقدر ما كانت‬
‫ال كاذب ًا خارج الرحم استولدته احلقبة االستعامرية‪ ،‬ومؤ ّثرات أخرى‬
‫مح ً‬
‫متنوعة‪ ،‬ثم ما لبث أن كشف هو بنفسه حقيقة زيفه‪.‬‬ ‫ّ‬

‫‪345‬‬
‫تراجعت ف ّقاعة احلداثة تلك‪ ،‬يف جماالت الفنون واآلداب التي‬
‫رعاها اليسار؛ املن َّظم منه سياسي ًا‪ ،‬وغري املنظم‪ .‬ثم ما لبث أن دخل‬
‫اإلسالميون يف املجال‪ ،‬عقب َس ْط ِوهم عىل احلكم‪ ،‬ومل يبلغوا يف اإلنجاز‬
‫تشوهات يف قطاع اإلعالم والثقافة‬ ‫ما أنجزه اليسار العريض‪ ،‬بل أحدثوا ّ‬
‫ٍ‬
‫والفنون واآلداب حتتاج إزالتُها إىل جهد كبري‪ .‬ويبدو أننا وصلنا إىل‬
‫النقطة التي سوف تتخ ّلق فيها الفنون واآلداب السودانية‪ ،‬من جديد‪،‬‬
‫يف نطاق جديد‪ ،‬خارج البنية التارخيية لليسار التقليدي ولإلسالميني‬
‫التحول تظهر جلية‪.‬‬‫ّ‬ ‫التقليديني‪ ،‬وقد بدأت تباشري هذا‬
‫حماولة استنطاق حقبة االستقرار املاضية‪ ،‬التي عصفت هبا األنواء‪،‬‬
‫ليست سوى رصخة استغاثة مجاعية من أجل اخلروج من كالح احلارض‪،‬‬
‫وانطفاء بوارق األمل فيه‪ .‬وال ضري يف هذا النوع من االستذكار‪ ،‬ما مل‬
‫يتحول إىل هروب للعيش يف املايض‪ .‬باخلروج من ربقة عقابيل األطر‬ ‫ّ‬
‫اإليديولوجية‪ ،‬لليساريني واإلسالميني‪ ،‬نستطيع أن نرسم إسرتاتيجية‬
‫جديدة للبناء القاعدي يف البنى التحتية ويف جمال البناء املعنوي يف‬
‫مساحات البنى الفوقية‪ .‬فنحن بحاجة إىل مناهج تعليم للرتبية الفنّية‬
‫بكل ُص َورها‪ ،‬البرصية‪ ،‬وكذلك األدائية؛ كاملوسيقى واملرسح‪ ،‬إضافة‬‫ّ‬
‫في‪.‬‬
‫املتح ّ‬
‫إىل التعليم َ‬
‫لقد ظللنا عرب الستني عام ًا ونيف‪ ،‬التي أعقبت االستقالل‪ ،‬بال‬
‫عازتْه‬
‫تربية فنية تُذكَر‪ .‬وما جرى منها‪ ،‬عىل حمدود ّيته‪ ،‬حني جرى‪َ ،‬‬
‫وعازتْه املناهج‪ .‬بل جرى قتل الرتبية الفنية متام ًا حني وصل‬
‫َ‬ ‫الرؤية‬
‫السلطة‪ .‬فقد أوكلوا رسم املناهج إىل املتشدّ دين منهم‪،‬‬
‫اإلسالميون إىل ُّ‬
‫وإىل الفقهاء وإىل رجال الدين‪ ،‬الذين ال يفهمون ال يف التاريخ‪ ،‬وال يف‬
‫الفكر‪ ،‬وال يف الثقافة‪ ،‬وال يف الفنون‪ .‬وعموم ًا‪ ،‬فقد جرى قتل التعليم‬
‫بر ّمته‪ ،‬بل أصبحت مدارسه نفسها خرائب‪ ،‬ومع ّلموه يف عداد الفقراء‬
‫واملساكني‪.‬‬

‫‪346‬‬
‫ُيضاف إىل ما تَقدَّ م‪ ،‬ال ُبدّ من إعادة النظر يف مناهج التاريخ واألدب‬
‫العريب‪ .‬فمناهج التاريخ التي ظ َل ْلنا نَدْ ُرسها مل تفعل سوى أن ّ‬
‫جهلتنا‬
‫بتاريخ بالدنا‪ ،‬وبحقيقة شخصيتنا احلضارية‪ ،‬وجعلتنا قابعني يف الظل‬
‫نتحرك‪ .‬كام أسهمت مناهج‬ ‫املرصي‪ ،‬كام أراد لنا املرصيون أن نبقى وال ّ‬
‫ّ‬
‫واحلط من قيمة‬ ‫األدب العريب يف اإلعالء من قيمة املنتج األديب العريب‪،‬‬
‫األدب السوداين‪ .‬باختصار شديد‪ ،‬كانت مناهج اللغة العربية والرتبية‬
‫جمرد أدوات لغسل األدمغة‪ ،‬ولإلحلاق واالستتباع الثقايف‪.‬‬ ‫اإلسالمية ّ‬
‫حيتاج اإلبداع‪ ،‬يف جماالت الفنون واآلداب‪ ،‬إىل روافع فكرية‬
‫ورؤية إسرتاتيجية تسنده‪ ،‬وإىل فلسفة تعليم‪ ،‬وإىل مناهج دراسية‪ ،‬وإىل‬
‫سياسات إعالمية يسندها ختطيط ثقايف حمكم‪ .‬فام جرى منذ االستقالل‬
‫إىل اليوم كان ارجتاالً وخبط عشواء‪ ،‬وال يمكن أن جيري استخراج يشء‬
‫ظل جيري منذ فجر‬‫ذا معنى حقيقي‪ ،‬ومتّسق‪ ،‬يف جماالت اإلبداع‪ ،‬مما ّ‬
‫استقالل السودان‪ ،‬وإىل اليوم‪.‬‬

‫‪347‬‬
‫مراجع الفصل الثامن‬

‫المراجع العربية‪:‬‬
‫خالد سليامن وحيدر جواد‪ ،‬هادي العلوي‪ :‬حوار الحارض واملستقبل‪ ،‬دار الطليعة الجديدة‪ ،‬دمشق سوريا‪،‬‬
‫‪.1999‬‬
‫يوسف محمد عيل‪ ،‬السودان والوحدة الوطنية الغائبة‪ ،‬مركز عبد الكريم مريغني الثقايف‪ ،‬أمدرمان‪،‬‬
‫السودان‪.2012 ،‬‬
‫محمد سعيد القدال‪ ،‬اإلسالم والسياسة يف السودان‪ ،‬دار الجيل بريوت (‪.)1992‬‬
‫عبد الله محمد قسم السيد‪ ،‬التنمية يف الوطن العريب‪ ،‬دار الكتاب الحديث‪ ،‬رست‪ ،‬ليبيا‪.)1994( ،‬‬
‫ديدار روسانو‪ ،‬السودان إىل أين؟‪( ،‬ترجمة‪ :‬مراد خالف)‪ ،‬الرشكة العاملية للطباعة والنرش والتوزيع‪،‬‬
‫الخرطوم‪ ،‬السودان (‪.)2007‬‬
‫صالح محمد حسن‪ ،‬إبراهيم الصلحي وصناعة الحداثة العابرة للقوميات‪ ،‬يف إبراهيم الصلحي‪ ،‬قبضة من‬
‫تراب‪ ،‬منتدى دال الثقايف‪ ،‬الخرطوم‪ ،‬السودان‪.)2012( ،‬‬
‫محمد سعيد القدال‪ ،‬تاريخ السودان الحديث ‪( ،1955-1820‬ط‪ ،)2‬مركز عبد الكريم مريغني الثقايف‪،‬‬
‫أمدرمان‪ ،‬السودان‪.)2002( ،‬‬
‫ميك شبيكة‪ ،‬السودان عرب القرون‪( ،‬القاهرة‪ :‬لجنة التأليف والرتجمة النرش‪.)1964( ،‬‬
‫هارولد ماكاميكل‪ ،‬السودان‪( ،‬ترجمة محمود صالح عثامن صالح)‪ ،‬مركز عبد الكريم مريغني الثقايف‪ ،‬أم‬
‫درمان‪ ،‬السودان (‪.)2009‬‬
‫عبد الرزاق الدواي‪ ،‬يف الثقافة والخطاب عن حرب الثقافات‪ :‬حوار الهويات الوطنية يف زمن العوملة‪ ،‬املركز‬
‫العريب لألبحاث ودراسة السياسات‪ ،‬الدوحة وبريوت‪.)2013( ،‬‬

‫المراجع اإلنجليزية‪:‬‬
‫‪Morris B. Holbrook & Robert M. Schindler, Nostalgic bonding: Exploring the role of nostalgia in‬‬
‫‪the consumption experience, Journal of Consumer Behaviour, Vol. 3, 2.‬‬
‫‪Kenneth T. Walsh, The 1960s: A Decade of Promise and Heartbreak: The 1960s contained hope‬‬
‫‪and failure, innocence and cynicism. US News, March 9, 2010.‬‬
‫”‪Cynthia B Meyers, Psychedelics and the Advertising Man: The 1960s “Countercultural Creative‬‬
‫‪on Madison Avenue. Columbia Journal of American Studies, Vol 4/1 2000.‬‬

‫‪348‬‬

You might also like