Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 116

1

‫هذه النسخة االلكترونية مجانية‪ ،‬ومرخص‬


‫بنشرها من قبل املترجم لنشر وتعميم املعرفة‬
‫الخاصة بالتراث الجزائري املدون‪ ،‬ليست‬
‫طبعة تجارية‪ ،‬وال يسمح باستخدامها ألغراض‬
‫تجارية من أي جهة كانت‪ ،‬تحت أي صفة من‬
‫الصفات‪.‬‬

‫‪2‬‬
3
4
‫إهداء‬
‫من مادورا إلى أبوليوس‪ ،‬للذكرى والذاكرة!‬

‫‪5‬‬
6
‫مقدمة املترجم‬

‫أبولوجيا أو 'الدفاع' التي ُتبعث من موطن كاتبها باللغة العربية‪ ،‬ترجمة لجزء من املؤلف‬
‫الصادر لألستاذ البريطاني هارولد إيدجوورث بوتلر (‪ )1951-1878‬سنة ‪ 1909‬بعنوان‬
‫‪ The Apologia And Florida Of Apuleius Of Madaura‬من دائرة املنشورات كالرندون‬
‫لجامعة أوكسفورد ببريطانيا‪ ،‬والذي اعتمد على النص الالتيني الذي نشره األستاذ‬
‫األملاني رودولف هيلم (‪ )1966-1872‬بعنوان ‪ Pro Se De Magia Liber‬والصادر سنة‬
‫ُ‬
‫‪ 1905‬من دار نشر ‪ Bibliotheca Teubnerian‬في اليبزيغ بأملانيا‪ .‬كما يعتبر التعليق املدرج‬
‫ثمرة للتعاون مع األستاذ بوتلر الذي خص النص بعديد املالحظات الهامة‪ ،‬وأحطناه‬
‫بدورنا بفيض أوسع من املفاهيم والشروح واملصادر لعديد الشخصيات املذكورة‬
‫واالقتباسات الشهيرة واألحداث التاريخية واألبيات الشعرية واملفاهيم امليثولوجية‬
‫وعديد النقاط في محاولة منا لتبسيط املفاهيم للقارئ قدر اإلمكان‪ ،‬ولذا فإننا لندين‬
‫بالكثير من الفضل للعمل الذي قدمه والنقاط التي أشار إليها‪ ،‬وبالشكر على هذه ا ِملنة‬
‫التي عبدت الطريق إلى هذا العمل‪.‬‬

‫أبولوجيا لم تكن مؤلفا بحد ذاته بل نصا ألقاه لوكيوس أبوليوس دفاعا عن نفسه من‬
‫التهم التي وجهها إليه أفراد من عائلة بودونتيال زوجته‪ ،‬وعلى رأسها تهمة استخدام‬
‫السحر وأشربة املحبة لدف ِعها إلى الزواج منه طمعا في الثروة‪ ،‬وهي تهمة كان مصير من‬
‫يدان بها املوت وفقا للقانون الروماني في الئحته التاسعة‪ ،‬وقد أشرف على هذه‬
‫َ َ‬
‫املحاكمة البروقنصل كلوديوس ماكسيموس سنة ‪159/158‬م والذي خلف لوليانوس‬
‫أفيتوس صديق أبوليوس في واليته على بروقنصلية إفريقيا الرومانية‪.‬‬

‫تكتس ي أبولوجيا أبوليوس ثوب الشرف بين صفحات التراث العاملي‪ ،‬وهي لؤلؤة تعكس‬
‫وعلم منذ القدم‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫وهج التاريخ الحقيقي لألمازيغ في شمال إفريقيا كشعب حضارة‬
‫وإضافة إلى كونها نصا موسوعيا احتفى فيه الفيلسوف املادوري لوكيوس أبوليوس‬
‫بأسالفه من مدرسة أفالطون سيده‪ ،‬وتالمذة فيثاغورس قدوته‪ ،‬وبأرسطو وعشيرته‪،‬‬
‫فهي تعد سيرة ذاتية لشخصه خلد فيها شظايا من حياته ومآثر الكثيرين من أصحاب‬
‫‪7‬‬
‫الفضل والشرف من فالسفة وعلماء وسياسيين وأدباء وجنراالت سطروا تاريخ‬
‫اإلنسانية‪ ،‬ليخط بقلمه تاريخا قائما بحد ذاته ومصدرا استنار واسترشد به األكاديميون‬
‫والدارسون والباحثون واملهتمون بخبايا التاريخ القديم في املدرسة الغربية‪ ،‬من أمثال‬
‫توماس ويلسون وينتر‪ ،‬جيرالدين هيرتز‪ ،‬بونوا سونس‪ ،‬نيكول فيك‪ ،‬بول فاالت‪ ،‬جون‬
‫بوجو‪ ،‬فانسنت هينينك غيبن‪ ،‬كايت برادلي‪ ،‬ويرنس رايس‪ ،‬ستيفن هاريسون‪ ،‬جيمس‬
‫ريفس وآخرين أحاطوا هذه الرائعة بالعديد من الدراسات في الكثير من الجوانب‪ .‬وإننا‬
‫نبتغي من وراء هذا العمل‪ ،‬والذي سعينا بما أوتينا من جهد لنحيط بكل جوانبه ونفكك‬
‫كل زواياه وأسراره بفائق العناية حتى نقدم للقارئ في املغرب الكبير والوطن العربي مادة‬
‫فياضة باملفاهيم والقيم‪ ،‬والتي تستحق الدراسة والتمحيص في عديد الجوانب‬
‫اإلنسانية والفلسفية واألنتروبولوجية والتاريخية والقضائية وفي ميدان الفيلولوجيا‬
‫وعلم االجتماع وعلم اآلثار والكثير من العلوم التي تستند في قوامها إلى مؤلفات سرمدية‬
‫من هذا النوع‪.‬‬

‫أكرم بوعشة‬

‫‪8‬‬
‫أبوليوس‬

‫عالم أمازيغي وفيلسوف أفالطوني وسيد بالغة وأديب ذاع صيته في وقته ونال منزلة بين‬
‫عظماء األدب الالتيني واإلغريقي‪ .‬ولد بمادورا 'مداوروش' في والية سوق أهراس بشرق‬
‫الجزائر واستنادا إلى مصادر عديدة يمكننا تقدير مولده حوالي سنة ‪124‬م‪ .‬أما اسمه‬
‫الكامل فيرجح أنه لوكيوس أبوليوس نظرا للتعريف املثير لبطل رواية 'ميتامورفوزس'‬
‫الشهيرة‪ .‬كانت مادورا مستعمرة رومانية مزدهرة‪ ،‬وعائلته من صفوة أثرياء البلدة وأهمها‬
‫شأنا‪ ،‬تولى والده منصب دمفير وترك له وألخيه ثروة ال تقل عن مليوني سيسترس‪ ،‬وهو‬
‫ُ‬
‫مبلغ كفله في رحالته الطويلة ودراساته املستمرة وسخائه الدائم؛ إذ أرسل لقرطاج في‬
‫شرخ صباه وحصل على تكوينه األول في قواعد اللغة والبالغة والفلسفة األفالطونية‪،‬‬
‫وببلوغه سن الرشد أتم تعليمه في أثينا أين درس الفلسفة والخطابة والهندسة‬
‫واملوسيقى والشعر‪ .‬وبمغادرتها‪ ،‬شرع في رحالت طويلة قض ى خاللها على جزء كبير من‬
‫ميراثه‪ ،‬إذ يتحدث عن معبد هيرا في ساموس كشاهد عيان‪ ،‬وعن زيارته إلى هيرابوليس‬
‫في فريجيا‪ .‬وبعد عودته من الشرق‪ ،‬قاده القدر إلى كورينثوس أين وقع في براثن كهنة‬
‫إيزيس وفي سحر تعاليمهم الذي لعب على مزاجه العاطفي وولعه الشديد بالخرافة‪،‬‬
‫حيث قضت رؤيا في أمره بأن يسافر إلى روما ويقض ي حوال كامال يتعبد في معبد ايزيس‬
‫بكامبوس مارتيوس‪ ،‬لكن رؤى الليل ما انفكت تراوده‪ ،‬فباشر بمشورة الكهنة في أسرار‬
‫أوزيريس‪ ،‬وهكذا وجد نفسه في ضائقة مالية كبيرة‪ ،‬والتي اضطرته للعمل محاميا في‬
‫روما لتغطية نفقاته‪ ،‬وهناك تعرف على أيميليانوس سترابو وسكيبيو أورفيتوس اللذين‬
‫ً‬
‫مجددا عندما أخذتهما مسيرتهما‬ ‫يتمتعان بمكانة بارزة‪ ،‬حيث شاءت األقدار أن يلتقيا‬
‫الرسمية إلى إفريقيا ك قائمين على تلك املقاطعة‪ .‬ليعود إلى إفريقيا أين بدأ عصره‬
‫الذهبي‪ ،‬حيث أقام بين سنوات ‪ 155‬و‪156‬م بأويا (طرابلس الحالية) قبل محاكمته‬
‫الشهيرة بثالث سنوات‪ ،‬وبعد زواجه من أرملة ثرية تدعى بودونتيال‪ ،‬وجد نفسه مطوقا‬
‫باتهامات خطيرة‪ ،‬والتي جعل منها فرصة َ‬
‫ليربأ بذمته وبالفلسفة عن قذف الجهال ويأذن‬
‫بحظوته الفكرية ال كفيلسوف أفالطوني فحسب‪ ،‬بل كسيد للبايديا الالتينية‬

‫‪9‬‬
‫واإلغريقية‪ ،‬ولكم أن تقضوا بأنفسكم في مصيره بقراءتكم ملرافعته‪ ،‬والتي نضعها اليوم‬
‫بين أيديكم بعنوان "أبولوجيا" التي تعني "الدفاع" باللغة اليونانية ‪...‬‬

‫‪10‬‬
‫‪ -1‬لقد ُ‬
‫كنت درًّيا يا ماكسيموس كلوديوس)‪ (1‬ويا حضرة السادة في مجلسه)‪ ،(2‬فقد كان‬
‫مقضيا أن يمأل سيكينيوس أيميليانوس عريضة اتهامه بمحض افتراءات النعدام‬ ‫ًّ‬
‫جنايات‪ ،‬فما تروى يابس العود وهو ينقاد خلف سفهه املعهود إذ ما فكر وهو يقتادني‬
‫بحق أو دونه‪ ،‬لكنه‬ ‫َ‬
‫ملحكمتك في ما يترتب عن ذلك‪ .‬واآلن‪ ،‬قد يصبح أي شخص متهما ٍ‬
‫َ‬
‫يبقى بريئا حتى ت ُثبت إدانته‪ .‬من هذا املنطلق أندفع بثقة مطلقة بل وبطيب خاطر طاملا‬
‫َ‬
‫وأحمل أنا شرف الفلسفة على عاتقي حتى‬ ‫ُقدر في هذه املوقعة أن تقض ي َ‬
‫أنت في أمري‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫أربأ بها عن قذف ُ‬
‫الجهال وأثبت براءتي‪ .‬ومع ذلك فقد جعلوا هذه االتهامات الباطلة‬
‫تبدو ألول وهلة خطيرة في ظاهرها‪ ،‬وبهذا الطابع الغادر الذي ارتجلوه أكثر صعوبة في‬
‫دحضها‪ ،‬ألنك ستتذكر أني‪ ،‬بعد أن طوقني أشياعه باألراجيف مذ أربعة أو خمسة أيام‬
‫ومضوا يتهمونني بممارسة الفن األسود وقتل ابن زوجتي بونتيانوس‪ ،‬ما ُ‬
‫كنت مستعدا‬
‫كنت مشغوال في الدفاع عن زوجتي بودونتيال من دعوى رفعها‬ ‫للرد على هذه الحملة و ُ‬

‫اإلخوة غرانيوس(‪ )3‬ضدها‪ .‬فما أن تأكد لي أن هذه االتهامات لم ُتطرح بروح جادة بقدر‬
‫ُ‬
‫ُ‬
‫وناشدتهم مرارا أن يجمعوا‬ ‫شبع َن َهم خصومي في القذف الجائر‪ ،‬تحد ُيتهم فورا‬
‫ما كانت ت ِ‬
‫ََ َ‬
‫(‪ )1‬كلوديوس ماكسيموس‪ .‬بروقنصل إفريقيا والذي خلف لوليانوس أفيتوس والقاض ي الرئيس ي للمحاكمة‪ُ .‬ع ِين‬
‫ً‬
‫ونظرا‬ ‫ماكسيموس كقنصل بديل ‪ Suffect‬في ‪143‬م أو ‪144‬م‪ ،‬أما لوليانوس فقد ُع ِين قنصال سنة ‪144‬م أو ‪145‬م‪،‬‬
‫ً‬ ‫ألن فترة تتراوح من عشرة إلى ثالثة عشر ً‬
‫عاما عادة ما تنقض ي بين فترة قنصل وبروقنصل‪ ،‬يمكننا القول إن هيديوس‬
‫روفيس لوليانوس أفيتوس قد تولى مهمة بروقنصل في الفترة ما بين ‪157‬م‪158-‬م تاله ماكسيموس كلوديوس في‬
‫‪158‬م‪159 -‬م‪.‬‬
‫‪- Syme Ronald, Proconsuls d'Afrique Sous Antonin Le Pieux. In: Revue Des Études Anciennes. Tome 61,‬‬
‫‪1959, N°3-4. pp. 310-319‬‬
‫(‪" )2‬حضرة السادة في مجلسه"‪ .‬عند إشراف حاكم املقاطعة على املحاكمة يكون مرفوقا بمجلس‬
‫استشاري ‪ ،Consilium‬جزء منه ُيختار من طاقمه سواء مدنيين أو عسكريين‪ ،‬وجزء من املجلس املحلي ‪Conventus‬‬
‫متغيرا‪ ،‬ولكن عادة ما يتراوح بين الثمانية واإلثني عشر ً‬
‫بناء على‬ ‫ً‬ ‫‪ ،Civium Romanorum‬كان عدد أعضاء املجلس‬
‫مدى تعقيد القضية واملكان الذي أقيمت به املحاكمة ومدى تأثيرها على الرأي العام‪.‬‬
‫‪- Harry W. Tajra, The Trial of St. Paul: A Juridical Exegesis of the Second Half of the Acts of the‬‬
‫‪Apostles. Mohr Siebeck, 1989. p. 148.‬‬
‫(‪ )3‬غرانيوس ‪ .Granii‬جدير بالذكر أن هذا اللقب يخص والدة السيناتور الروماني لوليوس أوربيكوس املولود‬
‫بنوميديا‪ ،‬والذي صادف وأن أتى أبوليوس على ِذكره في الفقرة الثانية والثالثة من مرافعته واملفترض أنه كان حاضرا‬
‫بالجلسة‪.‬‬
‫‪- IL. Alg. II. 1, 3563.‬‬

‫‪11‬‬
‫في شكوى كل مزاعمهم‪ ،‬وما أن رأى أيميليانوس أن املسألة قد أثارت استنفارك يا‬
‫ماكسيموس وأنه افتعل فضيحة بكالمه‪ ،‬أرعبه األمر وبدأ يبحث عن مالذ آمن من‬
‫تداعيات طيشه‪.‬‬
‫ُ‬
‫جبر على إدراج اسمه في الئحة االتهام نس ي ببساطة بونتيانوس ابن‬ ‫‪ -2‬لذا وبعد أن أ ِ‬
‫أخيه والذي دأب على اتهامي بقتله منذ أيام‪ .‬ما أشار إطالقا لوفاة قريبه الشاب ممتهنا‬
‫بذلك ُجرما بهذا الحجم‪ .‬ولكي ال يبدو وكأنه تخلى تماما عن مزاعمه اكتفى بفرية السحر‬
‫في عريضته‪ ،‬وهي تهمة كفيلة بتوريط َّ‬
‫املتهم لكن يصعب إثباتها‪ .‬حتى إنه لم يجرؤ على‬
‫ذلك جهارا باسمه‪ ،‬إذ قدم الشكوى بعد يوم باسم ابن زوجتي سيكينيوس بودنس‪،‬‬
‫مجرد صبي‪ ،‬مضيفا أنه أتى كوكيل عنه‪ .‬هذه طريقة جديدة ليهاجمني عبر وكالة شخص‬
‫َّ‬ ‫ثالث ُملتحفا سنه اليافع د ً‬
‫رعا لنفسه األفاكة من تهمة التبليغ الكاذب‪ .‬ومع ذلك فقد‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َ ُ‬
‫وأمرته بتجديد االتهام باسمه الخاص‪،‬‬ ‫كت خططه بواسع نظرك يا ماكسيموس‬ ‫فك‬
‫كن ضيق‪ .‬هو بذلك يتحدى‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫وعلى الرغم من تعهده باالمتثال فقد تعذر دفعه إلى ر ٍ‬
‫سلطتك ويستمر في املناوشة من بعيد ُبتهمه امللفقة‪ ،‬إذ يتملص باستمرار من خطر اتهام‬
‫الغير ِجزافا ويستميت في تشبثه بالدور اآلمن كوكيل عن املت ِهم‪ .‬وهكذا أضحت حقيقة‬
‫االتهام حتى قبل رفع القضية إلى املحكمة سهلة االستيعاب‪ ،‬فالرجل الذي لفق التهمة‬
‫وكان أول من ساقها لم تكن لديه الجرأة لتحمل املسؤولية عنها‪ .‬ودون ذلك فنحن‬
‫نتحدث عن سيكينيوس أيميليانوس‪ ،‬الذي لو اكتشف أي بينة تدينني بالكاد سيتوانى‬
‫وابل من الجرائم الخطيرة‪ ،‬كونه أكد زورا زيف وصية عمه مع أنه‬ ‫ُّ‬
‫عن كيل التهم لغريب ِب ٍ‬
‫ُ‬
‫كفاه وهو يكابر عنادا أن أقر السيناتور املوقر لوليوس‬ ‫كان على دراية بصحتها‪ ،‬وما‬
‫أوربيكوس(‪ )4‬في توافق مع قرار القضاة من ذوي الرأي وكذلك مستشاريه عن صحة‬
‫الوصية وأنها ُمثبتة حسب األصول املرعية‪ ،‬إذ استمر في تحديه للحكم املقدم بصوت‬

‫(‪ُ )4‬يقدر أنه السيناتور كوينتوس لوليوس أوربيكوس أصيل منطقة تيديس التاريخية‪ ،‬يقع ضريحه في جبل شواية‬
‫باملكان املسمى 'الهري' في بلدية بني حميدان بوالية قسنطينة بالجزائر‪ ،‬غير بعيد عن املدينة األثرية 'تيديس'‪ .‬تشير‬
‫مصادر عديدة إلى أنه تولى مناصب سامية في اإلمبراطورية منها ‪ Praefectus Urbi‬ملدينة روما نفسها‪.‬‬
‫‪- CIL VIII, 6705.‬‬
‫‪- CIL VI, 28.‬‬

‫‪12‬‬
‫هذا املواطن املتميز ليؤكد بأغلظ األيمان أنها كانت مزورة‪ ،‬حتى إنه أثار حفيظة لوليوس‬
‫سينزل به أشد عقاب لو لم يكبح جماحه بمشقة‪.‬‬ ‫أوربيكوس الذي كان ُ‬

‫‪ -3‬أنا أعتمد على ِح ِسك بالعدالة وعلى براءتي يا ماكسيموس‪ ،‬كما آمل أن نستمع إلى‬
‫صوت لوليوس في هذه املحاكمة يرتفع في دفاعي باندفاع‪ ،‬ألنه هين على أيميليانوس أن‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ذكرت سلفا بالكذب في قضية هامة ش ِهد‬ ‫يتعم َد اتهام رجل يدري ببراءته طاملا أدين كما‬
‫عليها حاكم املدينة‪ .‬فكما يتفادى الكريم بمنتهى الحرص تكرار خطيئة ارتكبها ذات مرة‪،‬‬
‫ُ‬
‫يكرر اللئام ُجرمهم السابق بمزيد من الثقة‪ ،‬ولعلني أضيف أنهم كلما تمادوا في أفعالهم‬
‫ازدادوا مجاهرة بصفاقتهم‪ ،‬ألن الشرف كالثوب‪ ،‬كلما َب ِلي أكثر‪ ،‬أرُت ِدي دون حذر أكبر‪.‬‬
‫َ‬
‫أعتقد أن شرفي ُي ِلزمني بدحض كل تخرصات خصومي قبل خوض ي في الئحة االتهام‬
‫َ‬
‫الفعلية‪ ،‬ألني ال أترافع حصرا عن قضيتي بل عما يتعلق بالفلسفة التي تستاء َعظمتها‬
‫حتى من أدنى لطخة ُتلقى على كمالها كما لو كانت أخطر االتهامات‪ .‬فقد أفاض محامو‬
‫َ‬
‫أيميليانوس ِبلغوهم املعهود طوفانا من االتهامات امللفقة‪ ،‬منها ما استهدف خصيصا‬
‫سمعتي‪ ،‬ومنها ما اعتاد السوقة توجيهها للفالسفة‪ .‬قد نعتبر بحق أن هذه االتهامات‬
‫بثمن والتلفظ بها لتستوفي حق إيجارها البائس‪ ،‬وتجليا ملا‬
‫أبخرة تم اشتراؤها ٍ‬
‫ٍ‬ ‫مجرد‬
‫شرعنه محامون احترفوا نفث سمومهم إليذاء الغير‪ .‬حتى وإن كان األمر يخصني‬
‫سيتوجب علي دحض هذه األكاذيب ولو بإيجاز‪ ،‬لئال أبدو‪ -‬أنا الذي أحرص كل الحرص‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تغاضيت عن اتهاماتهم املغرضة‪ ،‬كمن أقر ضمنيا‬ ‫لئال أدع وصمة أو مذمة تلحق بي‪ -‬إن‬
‫بحقيقتها على من تعاطى معها بامتهان‪ .‬فعزيز النفس في ظني‪ ،‬ال يحتمل الثلب ولو بهتانا‪.‬‬
‫حتى أولئك الذين أساؤوا فعال وهم يدرون‪ ،‬وإن ألفوا التثريب ِبحقهم بما يفعلون‪،‬‬
‫يتأثرون كثيرا بتجريح الناس لهم ويغضبون‪ ،‬إذ في قرارة أنفسهم يعلمون‪ ،‬وإن لم يأخذ‬
‫ِب ِفعالهم آخرون‪ ،‬أن املالمة قد تطرق بابهم في أي وقت وأن ذلك ما يستحقون‪ .‬ولذا‬
‫يحتدم الصالح والعفيف غيظا وهو يرى نفسه ُمثقال ِب ُت ٍهم يليق به أن يسوقها ضد‬
‫حد‬
‫آخرين بنفسه‪ ،‬فما تعودت وما عاقرت مسامعه اإلهانة باعتياده على تقريظه إلى ٍ‬
‫تكون فيه اإلساءة أكثر مما يصطبر عليه‪ .‬على كل حال‪ ،‬إن ُ‬
‫أبد لكم ربما تواقا لتفنيد‬

‫‪13‬‬
‫ُت ٍهم جد طائشة وحمقاء‪ ،‬فاللوم يقع على من دفع باتهامات لن تجلب بتفاهتها عدا‬
‫دحض ُتهم بهذا ُّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫السخف‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫الخزي ألصحابها‪ .‬لن أالم أنا‪ ،‬فدا ِفع الشرف يقتض ي مني‬
‫َ‬
‫سمعتهم يقولون 'إنا نقاض ي في‬ ‫‪ -4‬بادئ ذي بدء بافتتاح الئحة االتهام قبل قليل‬
‫ُ‬
‫محكمتكم فيلسوفا ذا رواء‪ ،‬بلغ في الالتينية واليونانية على حد سواء(‪ '!)5‬يا له من تلميح‬
‫لعين! إن لم أكن مخطئا‪ ،‬فبهذه الكلمات تحديدا افتتح تانونيوس بودنس(‪ )6‬الئحة‬
‫ٌ‬
‫شخص ال يجدر بأحد أن يتهمه بالفصاحة‪ .‬ليته أصاب باتهامه‬ ‫االدعاء عند بدأ الدعوى‪،‬‬
‫لي ِب ُجرمين خطيرين كاألناقة والبالغة‪ ،‬لكان من األسهل اإلجابة بالكلمات التي دفع‬
‫هوميروس بها باريس ليرد على هكتور(‪ )7‬والتي يمكنني ترجمتها كاآلتي‪" :‬ال حكمة في غمص‬
‫عطايا اآللهة الرائعة‪ ،‬ألن األشياء التي تعودت إعطاءها منعتها عن الكثيرين‪ ،‬الذين من‬
‫شأنهم أن يحوزوها بكل سرور"‪ .‬وفوق هذا الرد يتعين علي القول بأن ال ُجرم في تدثر‬
‫الفالسفة بطلعة بهية‪ ،‬ففيثاغورس أول من اتخذ لقب 'فيلسوف'(‪ )8‬كانت وسامته فارقة‬
‫في عصره‪ .‬كذلك زينو(‪ )9‬فيلسوف فيليا القديم الذي ابتكر تلك اآللية العبقرية لدحض‬
‫الفرضيات بالتناقضات‪ ،‬كان كما يؤكد أفالطون أكثر الرجال وسامة في جيله‪ .‬كما َور َد‬
‫َ‬
‫عن فالسفة آخرين بأنهم كانوا ُوسماء أيضا وأنهم أضافوا زينة بهية إلى جمال خ ِلقهم‬
‫ٌ‬
‫نصيب‬ ‫بجمال ُخلقهم‪ .‬لكن دفاعا كهذا بعيد عني كما أسلفت‪ ،‬فما كان لي من ُ‬
‫الحسن‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫ُيذكر‪ ،‬ناهيك أن انقطاعي لألدب َجرف أي ُرواء سبق وأن اكتساه جسمي‪ ،‬إذ شف‬

‫(‪ )5‬أنظر‪:‬‬
‫‪- Apuleius, Florida. 18; 26.‬‬
‫(‪ )6‬تانونيوس بودنس‪ .‬محامي َّ‬
‫املت ِهمين‪ ،‬ويفترض أن يكون أحد أقاربهم‪.‬‬
‫(‪ )7‬إلياذة هوميروس‪ ،‬الكتاب الثالث‪ .‬أنظر‪:‬‬
‫‪- Homer, Iliad. III. 65.‬‬
‫(‪ )8‬فيثاغورس‪ .‬مبتكر لفظ ‪' φιλοσοφία‬فيلسوف'‪ .‬أنظر‪:‬‬
‫‪- Apuleius, Florida. 15.‬‬

‫(‪ )9‬زينو‪ .‬ولد في فيليا أو إيليا حوالي ‪ 463‬ق‪.‬م وهو من تالمذة بارمينيادس‪ ،‬يعود الفضل إليه في ابتكار الدياليكتيك‬
‫'الجدلية'‪.‬‬
‫‪- Frederick Copleston, History of Philosophy Volume 1: Greece and Rome. A&C Black, 1 juin 2003. pp. 54-‬‬
‫‪60.‬‬

‫‪14‬‬
‫َ‬
‫جسدي وامتص نضارتي وخسف ببشرتي وأخل بحيويتي‪ .‬أما بالنسبة ِلشعري أين‬
‫ُ‬
‫تركته يطول قصد التزين‪ ،‬أنتم ترون أناقته ورونقه‪ .‬هو‬ ‫فاحش أني‬ ‫بكذب‬ ‫صرحوا‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬
‫متشابك وملتو وأشعث ككبة من املشاقة‪ ،‬أهلب وغير سو ٍي في اتساقه‪ ،‬جد معقود‬
‫ومتلبد فال يقدرن أحد على فك تشابكه‪ ،‬وهذا ال ُيعزى لغفلتي عن تلف شعري بل ألني‬
‫ال أقوم عادة بمشطه أو تصفيفه‪ .‬وفي قولي هذا ما يكفي في اعتقادي لدحض التهم‬
‫َ‬
‫املتعلقة ِبشعري والتي يرمونها ضدي كما لو كانت تستوجب عقوبة اإلعدام‪.‬‬

‫‪ -5‬في ما يخص بالغتي ‪ -‬إن كانت لي في البالغة ُحظوة ‪ -‬فاألمر ال يستدعي ذهولكم أو‬
‫نكفا عن كل امللذات‪ ،‬فقد‬ ‫وم ًّ‬
‫نكبا على األدب ُ‬ ‫ُ‬
‫عكفت مذ نعومة أظفاري ُم ًّ‬ ‫حسدكم‪ ،‬فإن‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ونهار أو‬
‫لليل ٍ‬‫بكدح لعلي بذلته أكثر من كل الناس دون أن أنتبه ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫سعيت خلف البالغة‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وضعت في‬ ‫دنف وانهيار ال ألثير بها خشية خصومي منها‪ ،‬فإني‪ ،‬وإن‬ ‫أراعي صحتي من ٍ‬
‫ُ‬ ‫رفعتها كل ثقتي‪ ،‬فأنا ُ‬
‫أنشدها في أمري أكثر مما أبديها‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫ص ُدقت الحكمة التي قيل إنها ك ِتبت في قصيدة ستاتيوس كايسيليوس(‪ )10‬أن‬ ‫طبعا‪ ،‬إذا َ‬
‫أضع ثقتي في هذا القول وأتبج َح بأني ال أدنو‬‫البراءة هي بالغة بحد ذاتها‪ ،‬فبوسعي أن َ‬
‫ُ‬
‫أفصح مني إن سلمنا بهذا األمر فرضا‪ ،‬أنا الذي لم يسبق أبدا أن‬ ‫عن أحد بيانا‪ .‬فمن‬
‫بمقت‬ ‫ُ‬
‫قبضت‬ ‫تبادر إلى ذهني ش يء أخاف التعبير عنه؟ كال بل أنا األفصح قوال طاملا‬
‫ٍ‬
‫شديد على كل خطيئة‪ ،‬واأللسن قيال ألني ال أدفع بقول أو عمل أخش ى مناقشته علنا‪،‬‬
‫ٍ‬
‫ُ‬
‫أدرجت فيها ما يدفعني لالستحياء‪.‬‬ ‫ولذا سأنطلق في مناقشة أبياتي التي قدموها كما لو‬
‫ُ‬
‫أبديت بها امتعاض ي وهم يتلونها بذلك األسلوب السوقي‬ ‫َ‬
‫الحظت السخرية التي‬ ‫أكيد َ‬
‫أنك‬
‫والفظ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫شعر عن مسحوق األسنان وجهتها إلى ٍ‬
‫أحد‬ ‫ٍ‬ ‫أبيات‬ ‫‪ -6‬قرأوا أوال واحدة من خواطري‪،‬‬
‫ُ‬
‫أعماه توقه إلى إيذائي عن‬ ‫يدعى كالبيرنيانوس‪ .‬حين قدم هذا األخير رسالتي كدليل ضدي‬

‫(‪ )10‬ستاتيوس كايسيليوس‪ 168/167-230( .‬ق‪.‬م)‪ .‬من أشهر الشعراء الكوميديين‪.‬‬


‫‪- Beare W, The Roman Stage: A Short History of Latin Drama in The Time of The Republic, 3d Ed. London:‬‬
‫‪Methuen 1964. pp. 76- 80.‬‬

‫‪15‬‬
‫حقيقة أنها إن تضمنت أي أمر يدفع إلدانتي فالتأثيم يتضمنه كذلك‪ ،‬ألن األبيات َت ُ‬
‫شهد‬
‫صراحة أنه سألني أن َ‬
‫أعهد إليه بما يكفي لتنظيف أسنانه‪:‬‬

‫" ِعمت صباحا! صديقي كالبيرنيانوس‪ ،‬تلقى السالم الذي تحمله هذه األبيات الخفيفة‪،‬‬
‫أرسل استجابة لندائك‪ ،‬بودرة نادرة ِل ُتطهر بها أسنانك‪ ،‬هذا املسحوق‬
‫ُ‬ ‫والتي عبرها‬
‫الرفيع‪ ،‬من البهارات العربية رائع‪ ،‬سيجعل فمك يسطع‪ ،‬ببريق عاجي ناصع‪ ،‬سيهذب‬
‫وسخ أو ُل ٌ‬
‫طخ فيك‪،‬‬ ‫اللثة املتورمة ويكتسح عنك‪ ،‬ما خلفته وليمة أمسك‪ ،‬حتى ال ُيرى ٌ‬

‫إن أزاح الضحك شفتيك عن أسنانك"‪.‬‬

‫هل لي بسؤالك! ما الشائن في هذه األبيات سواء في الجوهر أو األسلوب؟ ما الذي يخجل‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫الفيلسوف من ن ْس ِبه إليه؟ عدا أني أالم فعال على إرسال مسحوق مصنوع من التوابل‬
‫العربية إلى كالبيرنيانوس‪ ،‬الشخص الذي سيكون من األنسب له أن يطهر أسنانه ولثته‬
‫الحمراء القاتمة وفقا للطريقة القذرة الرائجة بين األيبيريين كما يقول كتولوس(‪.)12()11‬‬

‫كبح نفسه من الضحك حين تناول‬ ‫أيت منذ قليل أن البعض منكم بالكاد استطاع َ‬ ‫‪ -7‬ر ُ‬
‫ً‬
‫خطيبنا آرائي حول تطهير األسنان كأمر يدعو لالستنكار بشدة‪ُ ،‬م ِدينا تقديمي ملسحوق‬
‫األسنان بسخط شديد كما لم يسبق ألحد أن أدان تقديم السموم‪ .‬من واجب‬
‫وسخ‬
‫ٍ‬ ‫الفيلسوف طبعا أال يستكين أبدا لتشنيع البعض عليه عدم سماحه ألي‬
‫ُ‬
‫يطيق أي قذارة أو عفونة على أي جزء مرئي من جسده‪ ،‬وباألخص‬ ‫بمالمسته‪ ،‬طاملا ال‬
‫نفتح وجلي من قبل اإلنسان لتقبيل صديق أو‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الفم‪ ،‬فالعضو يستخدم مرارا بشكل م ٍ‬

‫(‪ )11‬غايوس فاليريوس كتولوس‪ .‬من أعظم الشعراء الرومان‪ .‬تحدث جيروم عن مولده ومماته في مؤلفه ‪the‬‬
‫‪ ،Chronicles of Eusebius‬تتوافق جميع الحقائق املعروفة بشأن ‪ Catullus‬بشكل جيد مع الفرضية القائلة بأنه ولد‬
‫في ‪ 87‬وتوفي في ‪ 54‬ق‪.‬م في سن الثالثة والثالثين‪ .‬أو أنه ولد في ‪ 84‬وتوفي في ‪ 54‬ق‪.‬م في سن الثالثين‪ .‬حتى أوفيد أكد‬
‫أنه توفي شابا‪.‬‬
‫‪- Ovid, Amores. III. 9.‬‬
‫(‪ )12‬يشير أبوليوس ببراعة إلى مقطع تهكم فيه كتولوس من شخص يدعى إغناتيوس‪" :‬وفي أرض السيلتيبيريين يدرون‬
‫البول في الصباح الباكر‪ ،‬ويفركون أسنانهم ولثاتهم الوردية به ‪ ." ...‬أنظر‪:‬‬
‫‪- Delphi Classics, 2015. Delphi Complete Works of Catullus (Illustrated). XXXIX. ad Egnatium. 17-21. p.‬‬
‫‪316.‬‬

‫‪16‬‬
‫ُ‬
‫يستبق‬ ‫إلجراء حوار أو للحديث إلى العامة أو ألداء الصالة في أحد املعابد‪ ،‬والكالم بطبعه‬
‫ينبع كما يقول الشاعر العظيم‪" :‬من سور أسناننا"(‪ .)13‬لو‬ ‫كل نوع من أنواع العمل‪ ،‬وهو ُ‬
‫أحد بثقل اسمه‪ ،‬فسيقول بطريقته‪ :‬حر ٌي بالذين يهتمون بأسلوبهم في‬ ‫أطل علينا اليوم ٌ‬

‫الكالم أن يولوا عناية فائقة ِب َفمهم أكثر من أي قسم أخر من جسدهم‪ ،‬ألنه ُحجرة‬
‫الفكر وبوابة الكالم وملتقى األفكار‪ .‬أنا عن نفس ي يجدر بي القول‪ :‬ال يوجد في تقديري‬
‫يعيب رجال حر املولد بتنشئة شخص محترم أكثر من فم متسخ‪ ،‬ألن فم‬ ‫ُ‬ ‫املتواضع ما‬
‫ستحوذ على االنتباه‪ .‬بعكس الوحوش البرية‬‫ِ‬ ‫اإلنسان في مقام عال‪ ،‬ال ِف ٌت للنظر‪ُ ،‬م‬
‫واملاشية أين ُيوارى الفم أسفال ويبصر نزوال صوب القوائم‪ ،‬على مقربة من طعامهم‬
‫ُ‬
‫ومن ممشاهم‪ ،‬وهو بالكاد ينكشف إال بموت مالكه أو احتقانه برغبة في العض‪ .‬بل ال‬
‫ُ‬
‫يصمت وال أبرز للعيان حين‬ ‫يوجد جزء من الرجل أسبق منه في لفت االنتباه حين‬
‫يتكل ُم‪.‬‬
‫ً‬
‫معتادا على‬ ‫‪ -8‬ولذا سأكون ممتنا إذا رد علي منتقدي أيميليانوس وأخبرني ما إن كان‬
‫غسل قدميه‪ ،‬أو إذا اعترف بأنه دأب على ذلك‪ ،‬ما إن كان مستعدا للجدال بأن على‬
‫شخص‬
‫ٍ‬ ‫الرجل أن يبدي اهتماما أكبر بنظافة قدميه أكثر من أسنانه‪ .‬إذ من واجبي ُنصح‬
‫مثلك ال يفتح فاه إال للتشهير واإلساءة يا أيميليانوس أال يعير أي اهتمام لحالة فمه أو‬
‫يحاول إزالة البقع عن أسنانه باستخدام مساحيق شرقية‪ ،‬بل حر ٌّي به فركها بفحم من‬
‫محرقة املوتى دون غسلها حتى باملاء العادي‪ .‬فليتعفن لسانه الجاني ُم ُ‬
‫طلق األكاذيب‬
‫طاهر‬
‫ٍ‬ ‫بلسان‬
‫ٍ‬ ‫والشتائم في القذارة والنتانة التي يحبها! ُأيعقل يا خسيس‪ ،‬أن ُتطلق‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫بيض كالثلج السواد والسم‬‫بأسنان ٍ‬
‫ٍ‬ ‫قرفا‪ ،‬أو أنك كاألفعوان تنفث‬
‫ونظيف كالما قذرا وم ِ‬
‫يرغب في أن ُيطرب مسامع اآلخرين بكالم ر ٍاق‪ ،‬يليق به أن يستبق ذلك‬ ‫ُ‬ ‫القاتل؟ الذي‬
‫ائق‪ِ .‬ول َم أسترسل في الحديث‬
‫وعاء لحمل شراب ر ٍ‬
‫بتطهير فمه‪ ،‬تماما كما نقوم بغسل ٍ‬
‫أكثر عن البشر؟ والتمساح وحش النيل ‪ -‬كما أخبروني ‪ -‬يفتح فك ْيه بكل براءة حتى يتم‬

‫(‪ )13‬أنظر‪:‬‬
‫‪- Homer, Odyssey. I. 64.‬‬

‫‪17‬‬
‫تنظيف أسنانه(‪ِ ،)14‬ولكون فمه كبيرا دون لسان ومغمورا في املاء باستمرار فإن الكثير‬
‫من العلق يتكوم بين أسنانه‪ .‬وما أن يرتمي على ضفة النهر ويفتح فاه حتى يأتيه طائر‬
‫مائي صديق ليزيلها عنه‪ ،‬والذي ُي َ‬
‫سمح له بإدخال منقاره دون أن يخش ى على نفسه‪.‬‬

‫بعض آخر من أبياتي الغرامية على حسب قولهم والتي‬


‫ٍ‬ ‫‪ -9‬لكن كفانا من هذا! نأتي إلى‬
‫قرؤوها بغلظة وفضاعة كي ال يتركوا أي انطباع عدا االشمئزاز‪ .‬ما صلة ذلك باملمارسات‬
‫كتبت قصائد في مدح أوالد صديقي سكريبونيوس اليتوس؟‬ ‫ُ‬ ‫للسحر األسود إن‬
‫الش ِريرة ِ‬
‫ِ‬
‫خطيب ُيقدم أرضية‬
‫ٍ‬ ‫ساحرا؟ من سبق له وأن استمع إلى‬‫ً‬ ‫ً‬
‫شاعرا تجعلني‬ ‫أحقيقة كوني‬
‫للشبهة أو تخمينات مواتية أو حجة مالئمة كقولهم‪' :‬لقد كتب أبوليوس ً‬
‫أبياتا! إن كانت‬
‫ً‬
‫شاعرا لكن ليس كذلك كونه فيلسوفا! إن كانت‬ ‫ً‬ ‫جرم ُيحسب عليه كونه‬ ‫سيئة فهذا ٌ‬
‫ً‬
‫جيدة ِفل َم تتهمه؟ 'لكنها كانت أبياتا لعوبة شهوانية'‪ .‬إذا هذا الذي تتهمونني به؟ وقد‬
‫ُ‬
‫ألقيتم الكالم على عواهنه حين اتهمتموني بممارسة السحر األسود؟ مع أن ك ًثرا آخرين‬
‫قد كتبوا أبياتا مثلها إن كنتم جاهلين بهذه الحقيقة‪ .‬في أوساط اإلغريق مثال كان هناك‬
‫أحد تيوس ي(‪ )15‬وآخر السيدايموني(‪ )16‬وكذلك كيوس ي(‪ )17‬وعدد ال يحص ى من اآلخرين‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫َ‬
‫صدت بتلك الروعة وذلك الشغف ش ْد ًوا يدفعنا بعذوبته‬‫وكانت هناك امرأة ليسبية(‪َ )18‬ق َّ‬

‫(‪ )14‬أنظر‪:‬‬
‫‪- Herodotus, The Histories. II. 68.‬‬

‫(‪ )15‬تيوس ي أو تيوني نسبة إلى مدينة 'تيو' أو 'تيوس' بتركيا الحالية‪ ،‬يفترض أن يكون املقصود هو أناكريون والذي ولد‬
‫حوالي ‪ 570‬ق‪.‬م‪ .‬كتب كل شعره باللهجة األيونيكية القديمة واشتهر بقصائده املثيرة‪.‬‬
‫‪- Labarbe Jules, Un Curieux Phénomène Littéraire. L'anacréontisme: Bulletin De La Classe Des Lettres Et‬‬
‫‪Des Sciences Morales Et Politiques, Tome 68, 1982. pp. 146-181.‬‬
‫(‪ )16‬السيدايموني‪ .‬يفترض أن يكون الشاعر اإلغريقي الغرامي ألكمان والذي ولد في القرن ‪ 7‬ق‪.‬م‪.‬‬
‫‪- Viansino, Giovanni. Revue des Études Anciennes. Tome 76, 1974, n°3-4. pp. 223-231.‬‬
‫(‪ )17‬كيوس ي أو كيوني نسبة لجزيرة 'كيا'‪ .‬يفترض أن يكون الشاعر سيمونيدس والذي ولد في القرن ‪ 6‬ق‪.‬م‪.‬‬
‫‪- Marcel Détienne, Revue Des Études Grecques. Tome 77, Fascicule 366-368, Juillet-Décembre 1964. pp.‬‬
‫‪405-419.‬‬
‫(‪ )18‬ليسبية‪ .‬يفترض أن أبوليوس يشير إلى الشاعرة اإلغريقية الشهيرة صافو والتي ولدت في القرن ‪ 7‬ق‪.‬م‪.‬‬
‫‪- Reinach, Théodore: Pour Mieux Connaître Sappho. Comptes Rendus Des Séances De l'Académie Des‬‬
‫‪Inscriptions Et Belles-Lettres, 55ᵉ Année, N. 9, 1911. pp. 718-734.‬‬

‫‪18‬‬
‫لنغفر لها بذاءة لفظها‪ِ .‬ضمن شعرائنا كان هناك أيديتوس وبوركيوس وكتولوس(‪ )19‬مع‬
‫ُ‬
‫أستنكر إذن أن سولون(‪ )20‬كان‬ ‫عدد ال يحص ى من اآلخرين‪' .‬لكنهم لم يكونوا فالسفة'‪.‬‬
‫رجال ًّ‬
‫جادا وفيلسوفا؟ مع أنه صاحب هذا البيت الخليع‪:‬‬

‫لجسدك وتقبيل شفاهك العذبة"‪.‬‬


‫ِ‬ ‫"أتوق‬
‫ما الداعر في كل أبياتي أمام هذا السطر لوحده؟ لن أقول ً‬
‫شيئا عن كتابات ديوجنس‬
‫الكلبي(‪ )21‬وعن زينون(‪ )22‬مؤسس الرواقية والعديد من الحاالت املماثلة األخرى‪.‬‬

‫اسمحوا لي أن أقرأ أبياتي من جديد حتى ُيدرك خصومي بأني ال أخجل منها‪:‬‬
‫َّ‬
‫"كريتياس يا كنزي‪ ،‬ويا نبراس حياتي شارينوس‪ .‬تمسكوا بقلبي املعذ ِب ِب ُحبكم‪ ،‬جزؤكم‬
‫َ‬
‫الذي ال ت ُحول ملكيته لغيركم‪ .‬آه! ال تخافوا علي‪ ،‬ولو أن الن َار تتقد بداخلي‪ ،‬ولو أن‬
‫ناركم تستعر أيها الصبية الربانيون‪ ،‬ألصطبرن عليها حتى تكونوا لي‪ .‬ليتني بهذا أكون لكم‪،‬‬

‫(‪ )19‬فاليريوس أيديتوس‪ ،‬بوركيوس ليسينوس ولوتاتيوس كتولوس‪ .‬شعراء خليعين عاشوا بين القرنين الثاني واألول‬
‫ق‪.‬م‪.‬‬
‫‪- H. de La Ville de Mirmont, Le poète Laevius. Revue des Études Anciennes. Tome 2, 1900, n°3. pp. 204-‬‬
‫‪224.‬‬

‫(‪ )20‬يفترض أن يكون سولون األثيني مؤسس املبادئ األولى للديمقراطية‪ .‬ولد في القرن ‪ 7‬ق‪.‬م وهو أحد الحكماء‬
‫اإلغريق السبع‪ُ .‬يقال إنه كانت لديه ميوالت جنسية تجاه الصبية‪ ،‬لكن أرسطو دافع عنه قائال‪" :‬أولئك الذين‬
‫عاما تقر ًيبا من‬
‫يتحدثون بهراء صرف‪ ،‬يزعمون أن سولون كان حبيب بيسيستراتوس"‪ .‬إذ كان سولون أكبر بثالثين ً‬
‫بيسيستراتوس‪.‬‬
‫‪- Aristotle, Constitution of Athens: Translated by Thomas J Dymes. London Seely And Street, Strand 1891.‬‬
‫‪pp. 36-37.‬‬
‫(‪ )21‬ديوجنس الكلبي‪ .‬ولد في القرن ‪ 5‬ق‪.‬م في سينوب‪ .‬من أتباع مؤسس املدرسة الفلسفية الكلبية أو التشاؤمية لتلميذ‬
‫أرسطو الفيلسوف الشهير أنتيستنيس‪ ،‬كتب بنمط خليع 'عن الزواج وإنجاب األطفال'‪.‬‬
‫‪- William Smith, Dictionary of Greek and Roman Biography and Mythology. Volume 1. Taylor And Walton.‬‬
‫‪London, 1850. pp. 1021-1022.‬‬
‫‪- Diog. Laert. VI. 2. 12‬‬
‫(‪ )22‬زينون الكيتيومي‪ .‬ولد في القرن ‪ 4‬ق‪.‬م في الرناكا الحالية بقبرص 'كيتيون سابقا' وهو مؤسس املدرسة الفلسفية‬
‫الرواقية‪ .‬كتب بأسلوب خليع 'فن الحب'‪.‬‬
‫‪- Ibid., VII. 21. 29.‬‬

‫‪19‬‬
‫قريبا منكم كما هي أنفسكم إليكم‪ ،‬امنحا هذا فقط وتأكدا أنكما ستكونان عزيزين‬
‫كعيني إلي"‪.‬‬
‫ُ‬
‫واآلن‪ ،‬اسمحوا لي أن أقرأ لكم األخرى أيضا والتي قرؤوها في األخير على أنها األكثر فحشا‬
‫في التعبير‪:‬‬
‫ُ‬ ‫"بإكليل زهور عزيزي كريتياس‪ ،‬وبشدو ُ‬
‫أطرح ِقبل قدميك‪ .‬أبياتا لك أهديها‪ ،‬ضفائر ملالك‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫قدرك‪ِ .‬ش ٌ‬
‫يجلب طواف‬ ‫يوم من أفضل أيام حياتك‪ .‬أين‬ ‫عر أطلقه لنتغنى بك‪ ،‬في ٍ‬
‫فليشرق بهذه األكاليل جبينك برونق الربيع وملكوتك‪،‬‬ ‫الفصول مجد ربيعك الرابع عشر‪ُ .‬‬

‫وليقر شرخ صباك‪ ،‬بإشراقة هذه الورود الربيعية‪ .‬حتى‬ ‫ولتزين بالورود زهرة حياتك‪ُ ،‬‬
‫ُ‬
‫أجزى أنا على حبي لك‪ ،‬على هداياي التي ال تفوق هداياك‪ .‬وأحظى بدوري ببركة اإلكليل‬
‫َ ُ‬
‫بنعومة حواليك‪ .‬ويخسف قرمز الورد بتقبيلك‪ ،‬أمام تورد‬
‫ٍ‬ ‫التوأم‪ ،‬حين أضفر ذراعي‬
‫فانفث في القصب عبير روحك‪ ،‬حتى تستحي‬ ‫ذويت فليكن هذا جزائي‪ُ ،‬‬ ‫َ‬ ‫شفتيك‪ .‬وإن‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وتصمت أشعاري‪ ،‬أمام شدو قصابتك"‪.‬‬

‫خليع‪،‬‬ ‫‪ -10‬هذه هي األبيات يا ماكسيموس والتي جرموني عليها كما لو كانت َ‬


‫ماجن ٍ‬
‫ٍ‬ ‫عمل‬
‫الصلة أنهم‬ ‫ُ‬
‫أكاليل في مضمونها وترانيم في مكنونها‪ .‬أكيد أنك الحظت أيضا في هذه ِ‬
‫ذهبوا بعيدا في اتهامي بشأن تسمية الطفلين شارينوس وكريتياس بغير اسميهما‬
‫الحقيقيين‪ .‬قد يتهمون على هذا األساس كايوس كتولوس بدعوته كلوديا بليسبيا‪،‬‬
‫إلخفاء اسم هوستيا‬ ‫وبروبرتيوس( ‪)24‬‬ ‫على استبدال اسم بيرييا بميتييا‪،‬‬ ‫وتيكيداس(‪)23‬‬

‫(‪ )23‬تيكيداس‪ .‬شاعر معاصر لكتولوس من الشعراء الخليعين الذين ينتمون إلى مدرسة اإلسكندرية اليونانية‪ .‬أتى على‬
‫ذكره أوفيد في قائمة الشعراء الخليعين‪.‬‬
‫‪- Ovid, Tristia. II. 433.‬‬
‫(‪ )24‬بروبرتيوس سكتوس‪ .‬تعتبر أبولوجيا أبوليوس من املصادر األدبية النادرة التي تؤكد هوية هوستيا الحقيقية‪ ،‬ودون‬
‫ذلك فكينثيا ال تبدو في أشعار بروبرتيوس كامرأة حقيقية‪ ،‬فلفظ ‪ Cynthia‬مشتق من هضبة ‪ Cynthus‬بجزيرة‬
‫ديلوس‪ ،‬وهي مكان مولد اآللهة أبولو وديانا وفقا لعقيدة القدامى‪ ،‬وقد استخدم الشاعر االغريقي كليماخوس‬
‫القوريني هذه املقاربة اللفظية بدعوته لإلله أبولو بكينثيوس في عديد املرات‪.‬‬
‫‪- Hans-Christian Günther, Brill's Companion to Propertius. BRILL, 29 août 2006. p. 227.‬‬

‫‪20‬‬
‫تحت اسم كينثيا املستعار‪ ،‬وتيبولوس(‪ )25‬لتغنيه بديليا في ِشعره بينما كانت بالنيا في‬
‫خص الشاعر الساخر‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ُ‬
‫قلبه‪ .‬وإني ألدين بدوري كايوس لوسيليوس وإن أقررت له بكل ر ِ‬
‫( ‪)26‬‬

‫الفحش علنا وهو يشير إلى الغالمين جينتيوس وماسيدو باسميهما الحقيقيين في‬ ‫على ُ‬

‫شعر ِه حين تشب َب‬


‫ِشعره دون محاولة تمويه‪ .‬بينما يبدو لي شاعر مانتوا أكثر تحفظا في ِ‬
‫(‪)27‬‬

‫ُ‬
‫ِبغالم صديقه بوليو في واحدة من أشعاره الرعوية الشهيرة‪ ،‬متجنبا ِذكر األسماء‬
‫ومسميا نفسه كوريدون والفتى ألكسيس‪ .‬لكن أيميليانوس الذي تجاوزت‬ ‫الحقيقية ُ‬
‫سذاجته بكثير ُرعاة الغنم والبقر عند فيرجيل‪ ،‬والذي لطاملا كان فضا وهمجيا‪ ،‬يعتقد‬
‫ً‬
‫نفسه أكثر صرامة من أبطال األزمنة القديمة سيرانوس(‪ )28‬وكيريوس(‪ )29‬وفابريسيوس(‪،)30‬‬
‫أبيات كهذه عن فيلسوف أفالطوني‪ .‬هل ستتمسك بهذا املوقف يا‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫يهضم صدور‬ ‫إذ ال‬

‫(‪ )25‬تيبولوس ألبيوس‪ .‬شاعر روماني (‪19-54‬ق‪.‬م)‪ .‬يؤكد معجم الفنون والعلوم واآلداب العامة للموسوعة البريطانية‬
‫أن أبولوجيا أبوليوس هي املصدر الوحيد الذي يؤكد هوية ديليا الحقيقية‪.‬‬
‫‪- The Encyclopædia Britannica: A Dictionary of Arts, Sciences and General Literature: New Maps and Many‬‬
‫‪Original American Articles by Eminent Authors. With New American Supplement, Volume 23. Werner‬‬
‫‪Company, 1898. p. 349.‬‬
‫(‪ )26‬كايوس لوسيليوس‪ .‬من أعظم األدباء الهجائين في روما الذين عاشوا في القرن الثاني ق‪.‬م‪ .‬اإلشارة في املقطع غير‬
‫حفظ ً‬‫َ‬
‫جزءا يحتوي على اسم ماسيدو وبصفة محتملة كذلك جينتيوس‪.‬‬ ‫معروفة‪ ،‬مع أن التاريخ‬
‫‪- Baehrens, Fragm. Poet. Rom. p. 168.‬‬
‫(‪ )27‬أنظر‪:‬‬
‫‪- Vergilius, Ecloga. II.‬‬
‫(‪ )28‬سيرانوس‪ُ .‬يقدر أنه القائد الحربي ماركوس أتيليوس ريغولوس سيرانوس من حقبة الحرب البونية األولى‪ ،‬والذي‬
‫انتصر على القرطاجيين في حرب خليج اكنوموس‪ .‬يعتبر أسطورة لدى الشعب الروماني‪.‬‬
‫‪- Polybe, Histoires. I. 26-28.‬‬
‫(‪ )29‬كيريوس‪ُ .‬يقدر أنه املاجيسترا الروماني مانيوس كيريوس دونتاتوس‪ .‬يعتبر أسطورة ومثاال أعلى للشعب الروماني‬
‫كما يوضح بلوتارخ‪.‬‬
‫‪- Plutarque, Vies parallèles. Marcus Caton. III.‬‬
‫(‪ )30‬فابريسيوس‪ .‬القنصل كايوس فابريسيوس لوسينوس وهو جنرال حرب روماني‪ ،‬اشتهر بما حدث له مع بيرهوس‬
‫ملك مقدونيا‪ .‬إذ بعد هزيمة الرومان من قبل بيرهوس في هيراكليا‪ ،‬تفاوض فابريسيوس على شروط السالم مع‬
‫بيرهوس‪ .‬أفاد بلوتارخ أن األخير قد تأثر بعدم قدرته على رشوة فابريسيوس‪ ،‬وأفرج عن السجناء حتى بدون فدية‪ .‬كما‬
‫ً‬
‫يستحضر دانتي تفضيله لـ 'الفقر بالفضيلة‪ ،‬بدال من الثروة العظيمة مع الرذيلة' في واحدة من اللوحات الجدارية‬
‫للرجال الالمعين في غرفة العمالقة املزخرفة التي تزين ‪ Palazzo Trinci‬في فولينيو‪.‬‬
‫‪- Plutarch, Pyrrhus. 18.‬‬
‫‪- Dante, Divine Comédie. Purgatoire, Chant XX.‬‬

‫‪21‬‬
‫أبنت على أن فقراتي صيغت على نسق أفالطون؟ والذي لم يبق من‬ ‫أيميليانوس إن ُ‬
‫َ‬
‫ُنظمه إال مرثيات الحب بعد أن أحرق جميع أشعاره ألنها في ظني لم تكن ُتضاهيها في‬
‫الروعة‪ .‬لنستمع إذن إلى األبيات التي كتبها أفالطون تكريما للفتى أستر مع أني ُّ‬
‫أشك في‬
‫مقدرتك على استطابة األدب في سنك هذا‪:‬‬
‫َ‬
‫أصبحت كنجم‬ ‫كنت َ‬
‫نجم الصباح بين األحياء قبل أن يغادرنا نورك‪ ،‬وما أن فارقتنا‪،‬‬ ‫" َ‬
‫ُ‬
‫تسطع بين املوتى بضيائك"‪.‬‬ ‫املساء‪،‬‬
‫هناك قصيدة أخرى قدمها أفالطون يتناول فيها األوالد ألكسيس وفايدروس ً‬
‫معا‪:‬‬
‫ُ‬
‫أطريت ُحسن أليكسس بكلمتين وإذ بأعين الجميع ترنو إليه مشدوهة‪ .‬فهل لنا يا‬ ‫"ما أن‬
‫روحي أن ُنرشد الوحوش الطريدة في سعيها وقد فقدنا هكذا فايدروس؟ آه! فلنحذر !"‪.‬‬

‫سطر وجهه أفالطون إلى ديون‬


‫ٍ‬ ‫دون ِذكر أي أمثلة أخرى‪ ،‬سأختتم باقتباس‬
‫السرقوس ي(‪:)31‬‬

‫"ديون‪ِ ،‬ب ُحبك شتت روحي"‪.‬‬


‫ُ‬
‫‪ -11‬من منا الذي يقع عليه اللوم أكثر؟ أنا الذي أتحدث على نياتي عن أمور كهذه في‬
‫محكمة القانون؟ أم أنتم على افترائكم الذي ساقكم ِل ُتدرجوا ُت ًهما كهذه في عريضة‬
‫اتهاماتكم؟ إذ تشيرون ألخالق الشاعر من العبث في ِشعره‪ .‬أما قرأتم لكتولوس الذي رد‬
‫على أولئك الذين تمنوا له السوء‪:‬‬

‫حر ٌّي بالشاعر الفاضل أن يكون عفيفا‪ ،‬لكن ال ضرورة ألبياته أن تكون كذلك‪.32‬‬

‫(‪ )31‬ديون السرقوس ي‪ .‬ولد في القرن ‪ 5‬ق‪.‬م وهو تلميذ ومرافق أفالطون‪.‬‬
‫‪- Plutarch, Lives: life of Dion.‬‬
‫(‪ )32‬الجملة األصلية في بيت غايوس فاليريوس كتولوس وفقا لكارل كوهن هي‪" :‬يجب أن ينتصب الشاعر املتفاني‬
‫في ِقيمه‪ ،‬ولكن ليس بالضرورة في قصائده …"‬
‫‪- Catullus, XVI. 5.‬‬

‫‪22‬‬
‫شعر‬ ‫َ‬
‫بنقش تضمن بيت ٍ‬ ‫ملا كرم هادريان اإللهي ( ‪ )33‬ضريح صديقه الشاعر فوكونيوس(‪)34‬‬
‫ٍ‬
‫تب عليه ما يلي‪:‬‬‫من قلمه َك َ‬

‫"لقد ُك َ‬
‫نت داعرا في قصائدك‪ ،‬عفيفا في فؤادك"‪.‬‬
‫كلمات لم يكن ليكتبها ً‬
‫أبدا لو كان يعتبر بيتا خفيف الدم دليال على مجون صاحبه‪ ،‬حتى‬ ‫ٌ‬

‫إني أتذكر قراءة الكثير من قصائد هادريان اإللهي والتي كانت من األسلوب نفسه‪ .‬أتجرؤ‬
‫يا أيميليانوس على القول إن ما قام به اإلمبراطور والرقيب هادريان اإللهي‪ ،‬والذي‬
‫بمجرد أن قام به تم تخليده لألجيال الالحقة‪ ،‬كان فعال منحطا‪ .‬حتى وإن صرفنا النظر‬
‫قولب على أفالطون الذي كل أبياته كما‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫عن ذلك‪ ،‬أتخال ماكسيموس سيجرم أي ش يء م ٍ‬
‫صوغها بمثل ما هي من‬‫قر ُأتها للتو‪ ،‬من النقاوة بمثل ما هي من الجالء ومن العفاف في ْ‬
‫الصراحة في البوح بها؟ ألن اإلخفاء والتستر في هذه املسائل وما شابهها لهما عالمة اآلثم‪،‬‬
‫أما اإلقرار والجهر بها لهما إشارة على أن الكاتب يستجيب لبديهته‪ ،‬فقد أوتيت البراءة‬
‫صوتا للكالم‪ ،‬أما الذنب‪ ،‬فقد أوتي الصمت لحجب خطاياه‪.‬‬

‫‪ -12‬وهذا دون أن أقول شيئا عن تلك التعاليم األفالطونية السامية واإللهية‪ ،‬املعروفة‬
‫لدى الصفوة واملجهولة تماما عند السوقة‪ ،‬تلك التي تعلمنا مثال أن فينوس ليست إلهة‬
‫كيان منها يحكم نوع الحب الخاص به وعديد األصناف‬
‫واحد بل باثنين(‪ ،)35‬كل ٍ‬
‫ٍ‬ ‫بكيان‬
‫ٍ‬
‫جهة فهي إلهة الرعية الشائعة‪ ،‬والتي تتقد بعاطفة مبتذلة وسوقية‬
‫من املحبين‪ .‬من ٍ‬
‫وتقتاد ال قلوب البشر فحسب بل حتى املاشية والوحوش البرية َليهبوا أنفسهم إشباعا‬

‫(‪ )33‬هادريان املقدس‪ .‬اإلمبراطور الروماني بيبليوس أيليوس هادريانوس‪ .‬ولد في ‪ 24‬جانفي ‪ 76‬وشغل منصب إمبراطور‬
‫في الفترة املمتدة بين ‪117‬م إلى غاية ‪138‬م‪ .‬كتب الشعر باللغتين الالتينية واليونانية كما كتب أيضا سيرته الذاتية‪.‬‬
‫اهتم بالفن والعمارة واألشغال العامة وحتى علم التنجيم والعرافة‪.‬‬
‫‪- Thorsten Opper, Hadrian: Empire and Conflict. Harvard University Press, 2008. p. 34.‬‬
‫(‪ )34‬فوكونيوس‪ُ .‬يفترض أن يكون الشاعر فيكتور فوكونيوس‪.‬‬
‫‪- Anthony R Birley, Hadrian: The Restless Emperor. Routledge, 2013. p. 193.‬‬
‫واحد بل باثنين"‪ .‬أنظر‪:‬‬
‫بكيان ٍ‬
‫ٍ‬ ‫(‪" )35‬فينوس ليست إلهة‬
‫‪- Plato, Symposium: Translated by Benjamin Jowett, Hayden Pelliccia. Modern Library, 1996. pp. 11-12.‬‬

‫‪23‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫قيد أجسادهم الخانعة في‬‫لنزواتهم‪ :‬إذ تقصف هذه املخلوقات بقوة عاتية جبارة وت ِ‬
‫أحضان الشهوة‪ .‬األخرى قوة سماوية تغمرها عاطفة َس ِمية وسخية‪ ،‬فهي ال تكترث ألحد‬
‫عدا قلة من البشر‪ ،‬وال تغري أو تغوي أتباعها تجاه أفعال بغيضة‪ ،‬إذ إن هواها غير‬
‫طائش أو شهواني بل ِج ِدي وجلي‪ ،‬وبه تستهوي أحباءها في السعي وراء الفضيلة عبر‬
‫الكشف لهم عن جمال عفته‪ .‬أم ا إذا حدث وأن استودعت أشخاصا أبهياء إلى أهوائهم‬
‫فإنها تضع ما يحول دون إقدامهم على تصرف شائن‪ .‬إذ ليس في جمال األجساد ما ُيثير‬
‫اإلعجاب عدا أنه ُي ِ‬
‫ذكر أولئك الذين ارتقت أرواحهم فوق األمور اإلنسانية إلى األمور‬
‫اإللهية بالجمال الذي أبصروه مسبقا في مطلق حقيقته ونقاوته بين اآللهة في السماء‪.‬‬
‫لذا دعونا ُن ُّ‬
‫قر بأن أفرانيوس(‪ُ )36‬يظهر جماله املعتاد في التعبير حين يقول‪:‬‬
‫"ال ُ‬
‫يبلغ الحب إال الحكيم‪ ،‬إذ ال ُيدرك اآلخرون غير الشهوة"‪.‬‬

‫قادرا على استيعاب‬ ‫َ‬


‫رغبت في معرفة الحقيقة املحضة يا أيميليانوس أو إن كنت ً‬ ‫ولو أنك‬
‫مسائل سمية كهذه‪ ،‬فإن الحكيم ال يحب بل يستذكر فقط‪.‬‬

‫‪ -13‬وعليه فأنا أسألك العفو عن الفيلسوف أفالطون بشأن ِشعره الغرامي وإراحتي من‬
‫على لسان نيوبتوليموس بالتفلسف‬ ‫إنيوس(‪)37‬‬
‫حتمية اإلساءة إلى الوصايا التي ألقاها‬
‫أبيات من هذا‬ ‫ٌ‬
‫مستعد ً‬ ‫زيادة على الالزم(‪ ،)38‬فإن َ‬
‫تماما لتحمل اللوم معه بشأن ٍ‬ ‫أبيت فأنا‬
‫أنت يا ماكسيموس فلك مني شكري وامتناني على إصغائك ببالغ االهتمام‬ ‫النوع‪ .‬أما َ‬

‫ُ‬ ‫ُ‬
‫(‪ )36‬لوكيوس أفرانيوس‪ .‬ولد في ‪ 150‬ق‪.‬م‪ .‬من أشهر كتاب الكوميديا الرومانية‪ ،‬وواحد من الكتاب الثالث ل ‪fabulae‬‬
‫‪ togatae‬وهي نوع من األداء املسرحي الالتيني الهزلي بموضوع وبيئة رومانية‪.‬‬
‫‪- Moses Hadas, History of Latin Literature. Columbia University Press, 22 Mars 1952. pp. 50-51.‬‬
‫(‪ )37‬إنيوس كوينتوس‪ .‬أبو الشعر الروماني‪ .‬ولد في ‪ 239‬ق‪.‬م في رودياي كاالبريا‪ .‬وسع آفاق اللغة الالتينية إلى نطاقات‬
‫كانت حصرا للغة اليونانية‪ ،‬أين قدم تفسيرات حول األصول الرومانية‪ ،‬وبالتالي مهد الطريق للعصر الذهبي للشعر‬
‫وأثر على الشعراء العظماء مثل لوكريتيوس وفرجيل‪.‬‬
‫‪- Frank Northen Magill, Dictionary of World Biography. Volume 1. Taylor & Francis, Abingdon-On-Thames‬‬
‫‪(Royaume-Uni). 23 Janv. 2003. p. 380.‬‬

‫(‪ )38‬أبوليوس يستذكر املقطع‪" :‬من الضروري لنفسه أن يتفلسف‪ ،‬ولكن بكلمات قليلة حتى ال يرضيه "‬
‫‪- Quintus Ennius, The Tragedies of Ennius: The Fragments. Cambridge U.P, 1967. pp. 87-88.‬‬

‫‪24‬‬
‫لهذه املسائل الجانبية التي فرضت نفسها في دفاعي للرد على متهمي في حجر زاويتهم‪ .‬كما‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫أظهرت إلى‬ ‫يشجعني لطفك على تقديم هذا االلتماس اإلضافي‪ ،‬أنك ستستمع بقدر ما‬
‫َ ً‬
‫وطئة إلجابتي على التهمة الرئيسية‪.‬‬
‫اآلن من كياسة واهتمام إلى كل ما علي قوله ت ِ‬

‫أنا أراهن على هذا األمر بما أني سأتعامل بصرامة الرقيب مع هذه الخطبة الطويلة التي‬
‫ألقاها بودنس بخصوص مرآتي‪ ،‬فقد كاد ينفجر وهو يتناول باتقاد الطبيعة البشعة‬
‫لجريمتي 'الفيلسوف يملك مرآة‪ ،‬الفيلسوف يمتلك في واقع األمر مرآة'‪ .‬أنا أ ِق ُّر بامتالكها‬
‫َّ‬
‫حتى ال تعتقد بإنكاري أنك طوقتني باتهامك‪ .‬أال ُيسلم بأي حال من األحوال أني في العادة‬
‫َّأزَّين أمام املرآة‪ِ .‬لم ال! لنفترض أني أمتلك دوالب أزياء‪ ،‬أتجرؤ على القول بأني معتاد على‬
‫ارتداء األردية الطويلة ملمثلي التراجيديا أو العباءة الزعفرانية لراقص امللهاة أو البدلة‬
‫املبرقشة للمهرج؟ ال أعتقد‪ .‬هناك على خالف ذلك الكثير من األشياء التي أستمتع‬
‫ً‬
‫باستخدامها دون امتالكها أصال‪ .‬فإن لم تكن الحيازة دليال على االستخدام أو عدم‬
‫ً‬ ‫الحيازة عدم االستخدام‪ ،‬وإن َ‬
‫كنت تشكو من حقيقة أني أنظر إلى املرآة بدال من أن‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫نظرت فيها‪،‬‬ ‫أمتلكها‪ ،‬فعليك أن تمض ي قدما في ِتبيان متى وبمحضر من قد َسبق وأن‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫ظر‬
‫ظر الفيلسوف إلى املرآة جريمة أشنع من ن ِ‬‫ألنه وكما تبدو األمور فأنت تجعل من ن ِ‬
‫الجهلة في ُعدة كيريس املقدسة(‪.)39‬‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫نظرت فيها فرضا‪ ،‬أجريمة هي أن يط َلع املرء على صورته ويحملها معه‬ ‫‪ -14‬واآلن لئن‬
‫ُ‬
‫أتجهل حقا أن ال ش يء‬ ‫أينما يحل داخل مرآة صغيرة بدال من إبقائها مخفية في مكان ما؟‬
‫ُيطري املرء أكثر من النظر إلى صورته؟ أنا أعلم أن َّ‬
‫أحب األبناء إلى قلب اآلباء هم أولئك‬
‫ُ‬
‫مستحق ألولئك الذين‬
‫ٍ‬ ‫نصبها الدولة كجز ٍاء‬
‫الذين يشبهونهم أكثر‪ ،‬وأن هذه التماثيل ت ِ‬
‫خدموها حتى َت َ‬
‫سعد قلوبهم بالنظر إليها‪ ،‬وإال فما جدوى التماثيل والصور املنتجة من‬

‫(‪ )39‬عدة كيريس الغامضة‪ .‬في معتقدات الرومان كانت كيريس ابنة ساتورن وأوبيس‪ ،‬وهي إلهة الفواكه والحبوب‪ ،‬وأول‬
‫من علم البشر فنون الحرث والزراعة‪ .‬وهي تتمثل بمشهد مهيب‪ ،‬بشعرها الذهبي الذي يرمز لسنابل القمح الناضجة‪،‬‬
‫وبمشعل ضوئي تحمله في يدها اليسرى (وفقا لألسطورة فقد قام بلوتو باختطاف ابنتها بروسربين‪ ،‬فقامت كيريس‬
‫بإشعال شعلة من نيران جبل إتنا البركاني للبحث عن ابنتها في أرجاء العالم)‪ .‬ونبات الخشخاش في يدها اليمنى (إذ‬
‫أشفق جوبيتر لحالها وقدم لها هذه النبتة لتنسيها في أملها)‪.‬‬
‫‪- Ovid. Metamorphoses. V. 314-487.‬‬

‫‪25‬‬
‫شتى الفنون؟ حتى وإن دافع أحدهم عن جدارة فنه فليس له إال أن يذعن أمام‬
‫الطبيعة‪ ،‬كونها تتسم ببراعة وحقيقة أكبر من الفن‪ .‬ال شك أن جهودا حثيثة ُتبذل‬
‫إلعداد كل الصور التي تبتدعها يد اإلنسان‪ ،‬ومع ذلك ال ُ‬
‫تبلغ أبدا تلك الحقيقة التي‬
‫تظهر في املرآة‪ ،‬فالطين يفتقر للحياة والرخام للنضرة والرسم للثبات وجميعهم يفتقر‬
‫للتفاعل الذي يأخذ على عاتقه مطابقة األشياء بجدارة‪ .‬في حين أن انعكاس الصورة في‬
‫املرآة مدهش فهي ال تنفك ُتريك ما ُتريها بل تتجاوب وتتبع كل إيماءة من صاحبها‪ ،‬بل ال‬
‫تنكف عن مرافقة ُعمر ُمبصريها منذ فجر صباهم حتى نهاية أجلهم؛ ُتدرج كل التغييرات‬
‫حيا اإلنسان‬‫التي ُيحدثها تقدم السنين وتشارك الجسم كل عاداته املختلفة وتحاكي ُم َّ‬
‫صبه من البرونز أو‬ ‫قولبه من الطين أو َن ُّ‬ ‫ُ‬
‫من تعابير الفرح والحزن املتغيرة‪ .‬أما الذي ن ِ‬
‫نلونه بالصبغ أو بعبارة موجزة كل محاولة‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ‬
‫ننقشه في الحجر أو نرسمه بأقالم شمعية أو ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫من يد اإلنسان للتمثيل الفني يستنفذ مرور الزمن ش َب َهها ويجعلها جامدة واهية تماما‬
‫كمرأى الجثة‪ ،‬وال تتفوق حتى اآلن على كل الفنون التصويرية في محاكاة الواقع إال براعة‬
‫املرآة الصقيلة وروعة فنها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫‪ -15‬وهنا نقف أمام خيارين‪ ،‬فإما نأخذ برأي أجيسيلوس الالسيدايموني(‪ )40‬الذي لم‬
‫حتها‪ ،‬أو نتأس ى ُ‬ ‫َ‬
‫بالعرف‬ ‫تكن لديه ثقة في وسامته ورفض السماح برسم صورته أو ن ِ‬
‫الشائع لبقية البشر الذين ُيرحبون بالصور سواء في النحت أو الرسم‪ .‬فإن سلمنا بهذا‬
‫األخير أيوجد ما يدفع أحدا لتفضيل رؤية صورته ُمقولبة بالرخام بدال من أن تنعكس‬
‫على الفضة؟ في لوحة بدال من مرآة؟ أم أنك تعتبره ُمشينا أن يطلع املرء بين الفينة‬
‫واألخرى على مظهره؟ ألم يقل سقراط(‪ )41‬في الواقع أنه حث أتباعه مرارا وتكرارا على‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫تأمل صورهم في املرآة ليجد من يطيب ُله ُح ُ‬
‫بخ ِلقه ً‬
‫ضيرا يسوء‬ ‫سنه محمدة وال ُي ِلحق‬

‫(‪ )40‬أجيسيلوس من أعظم ملوك اسبرطة‪ .‬ولد في القرن ‪ 5‬ق‪.‬م‪ .‬يؤكد بلوتارخ أن أجيسيلوس كتب إلى شعوب أوروبا‬
‫اإلغريقية قائال‪" :‬يجب أال تكون هناك صورة عن نفس ي مرسومة أو منحوتة أو مبنية"‪.‬‬
‫‪- Plutarch, Apophthegmata Laconica. II. 26.‬‬

‫(‪ )41‬أنظر‪:‬‬
‫‪- Diog. Laert. II. 5. 33.‬‬

‫‪26‬‬
‫ً‬
‫مثلبة‬
‫ٍ‬ ‫ملمحه دمامة على بذل مشق ٍة لحجب ما يعتريه من‬
‫ِ‬ ‫ِخلقته‪ُ ،‬وي ِ‬
‫قدم الذي يرى في‬
‫هب أبعد من ذلك حد‬ ‫منقبة؟ أترى أن عالمة الرجال في عصره َذ َ‬
‫ٍ‬ ‫بما يقدمه من‬
‫أعظم‬ ‫ديموسثنس( ‪)42‬‬‫استخدام املرآة كأداة لتهذيب النفس‪ .‬من يجهل أيضا حقيقة‬
‫سيد في فن الكالم والذي كان ُيرافع أمام املرآة وكأنه في حضرة أستاذ للبالغة؟ فما أن‬
‫استجمع هذا الخطيب األملعي املسودات العميقة للبالغة في دراسة أفالطون الفيلسوف‬
‫وقرأ كل ما يمكن قراءته من أساليب اإلقناع لدى الجدلي أوبوليدس(‪ )43‬راهن في نهاية‬
‫َ‬
‫األمر على املرآة لتعلم فن اإللقاء‪ .‬من عليه برأيك أن يولي عناية أكبر ِبطلعته عند إلقاء‬
‫ُ‬
‫كلمته؟ الخطيب حين ُيماري خصمه أو الفيلسوف حين يعنف رذائل البشر؟ من يجادل‬
‫ُ‬
‫نفر من املحلفين رسمتهم القرعة أم من ال ينقطع عن إلقاء الخطب على‬ ‫لبرهة أمام ٍ‬
‫ُ‬
‫يجالس؟‬ ‫مسامع الناس؟ أمن كان حول حدود األراض ي ُ‬
‫ينازع أم حول أشفار الخير والشر‬
‫هناك أسباب أخرى تجعل من الواجب على الفيلسوف أن ينظر إلى املرآة‪ ،‬فهو ال يهتم‬
‫دوما بالتأمل في شكله بل يتأمل كذلك األسباب التي أدت إلى هذا الشبه‪ .‬فهل أصاب‬
‫ْ‬
‫تصدر منا كأنها نوع من َسلخ الحيوانات ينقشر‬
‫ُ‬ ‫ايبيكوروس(‪ )44‬في قوله بأن الصور‬
‫َ‬
‫تنعكس من جراء‬ ‫تجد سطحا متينا وصقيال حتى‬ ‫باستمرار من أجسادنا؟ فما أن َ‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫الصدمة َلت َ‬
‫عكس صورة التفتت ُلتقابل أصلها‪ .‬أم نأخذ بما تبناه فالسفة آخرون بأن‬
‫ُ‬
‫تنساب من مركز أعيننا‬ ‫األشعة تنبعث من أجسادنا؟ يرى أفالطون(‪ )45‬أن هذه األشعة‬

‫(‪ )42‬يروي بلوتارخ أن ديموسثنس كان لديه تقنيات غريبة في تمارينه على الخطابة‪ ،‬فقد اعتاد التمرن على إلقاء‬
‫الخطب أثناء الجري أو الصعود إلى أماكن وعرة‪ ،‬أيضا في بيته أمام مرآة كبيرة يقف عندها ويلقي الخطابات‪.‬‬
‫‪- Plutarch, The Parallel Lives. Published in Vol. VII of the Loeb Classical Library edition, 1919. p. 27.‬‬
‫(‪ )43‬أوبوليدس امللطي‪ .‬عاش في القرن ‪ 4‬ق‪.‬م‪ .‬يقدر أن يكون ديموسثنس تلميذه‪.‬‬
‫‪- Diog. Laert. II. 10. 4 .‬‬

‫(‪ )44‬ايبيكوروس أو أبيقور‪ .‬فيلسوف ولد بساموس حوالي ‪ 341‬ق‪.‬م وتوفي في ‪ 270‬ق‪.‬م‪ُ .‬ينسب إليه املذهب األبيقوري‬
‫والذي تحمل فلسفته عداء صريحا لألفالطونية‪ .‬أسس مدرسة بأثينا تدعى "الحديقة" لنشر تعاليمه‪.‬‬
‫‪- A. E. Taylor, Epicurus. Рипол Классик, 1969. p. 20‬‬
‫(‪ )45‬يقول أفالطون‪" :‬وقد غرسوا في أعينهم (اآللهة) مجموعة من النيران التي ال تحترق‪ ،‬تسمى الضوء‪ ،‬وهي متجانسة‬
‫مع الظالم‪ .‬إذ نقدر على الرؤية في النهار ألن الضوء داخل أعيننا ينساب عبر مركزهم ليمتزج مع الظالم‪ .‬ولذا فإن‬
‫الخلط بين االثنين ينقل حركات من كل ش يء يلمسانه من خالل العين إلى الداخل‪ ،‬وهذا الذي يثير إحساس البصر"‪.‬‬
‫‪- Plato, Timaeus. p. 46a.‬‬

‫‪27‬‬
‫ُ‬
‫تصدر منا دون‬ ‫وتختلط وتندمج مع النور الخارجي بدوننا‪ ،‬أما أرشيتاس(‪ )46‬فهو يرى أنها‬
‫تدخل أي عامل خارجي‪ ،‬أما الرواقيون فهم يعزون تفعيل هذه األشعة لتوتر الهواء‪ :‬وإن‬
‫وساطع‬
‫ٍ‬ ‫وصقيل‬
‫ٍ‬ ‫صلب‬
‫ٍ‬ ‫سطح‬
‫ٍ‬ ‫كان الجميع يتفق بأن هذه االنبعاثات حين ترتطم بأي‬
‫بطريقة تكون فيها زاوية السقوط‬
‫ٍ‬ ‫فإنها ترتد عائدة إلى السطح الذي انطلقت منه‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫ترتسم‬ ‫وكنتيجة القترابها وتالمسها خروجا من املرآة فهي‬
‫ٍ‬ ‫مساوية لزاوية االنعكاس‪،‬‬
‫بداخلها(‪.)47‬‬

‫وتقص‬
‫ٍ‬ ‫بحث‬
‫‪ -16‬أال ترونه ِلزاما على الفالسفة أن يجعلوا من هذه املسائل موضوعات ٍ‬
‫ً‬
‫نوع بتفحص انفرادي‪ ،‬صلبة كانت أم سائلة؟ طاملا ُيفتح‬ ‫وأن ينظروا إلى املرايا من كل ٍ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫عرض كل الصور واألشياء‬ ‫بذلك باب النقاش في مسائل ال تعد وال تحص ى‪ِ .‬فلم يتم مثال‬
‫ً‬
‫تقريبا بينما تظهر كل األشياء أصغر في‬ ‫املنعكسة في املرايا املسطحة بأبعادها األصلية‬
‫املرايا املحدبة والكروية‪ ،‬وبعكس ذلك في حالة املرايا املقعرة أين تبدو أكبر من طبيعتها؟‬
‫ِلم أيضا وتحت أي ظروف يتم عكس اليسار واليمين؟ متى يبدو أن املرآة نفسها تسحب‬
‫الصورة إلى أعماقها لتقذفها مباشرة إلى األمام؟ ِلم تقوم املرايا املقعرة حين تعريضها‬
‫بزوايا قائمة ألشعة الشمس بإشعال الفتيل املوضوع أمامها؟ ما هو سبب األلوان‬
‫املوشورية لقوس قزح أو ظهور صورتين نظيرتين للشمس في السماء أو العديد من‬
‫الظواهر األخرى التي عولجت في مجلد ضخم من قبل أرخميدس السيراكيوزي(‪،)48‬‬

‫(‪ )46‬أرشيتاس‪ .‬فيلسوف من أتباع املدرسة الفيثاغورسية‪ُ .‬يقدر مولده ما بين سنوات ‪ 435‬و‪ 410‬ق‪.‬م ووفاته ما بين‬
‫‪ 360‬و‪ 350‬ق‪.‬م‪ .‬يؤكد سترابون مولده بتارينتوم‪.‬‬
‫‪- Carl Huffman, Archytas of Tarentum: Pythagorean, Philosopher and Mathematician King. Cambridge‬‬
‫‪University Press, 23 mai 2005. p. 5.‬‬
‫(‪ )47‬من املفترض أن النظريات الثالثة تتوافق في شرح قدرتنا على رؤية صورتنا في املرآة‪ ،‬وال تختلف إال في الطريقة‬
‫التي يفسرون بها انبعاث شعاع الرؤية نفسه‪ .‬أنظر‪:‬‬
‫‪- Ibid., p. 555 - 556.‬‬
‫(‪ )48‬أرخميدس السيراكوزي‪ .‬واحد من أعظم علماء الرياضيات عبر التاريخ‪ .‬ولد في ‪ 287‬قبل امليالد وتوفي في ‪ 212‬قبل‬
‫َّ‬
‫عمل قدمه‬ ‫امليالد‪ .‬يحتمل أن يكون املؤلف الذي تحدث عنه أبوليوس هو نفسه الذي أشار إليه ثيون االسكندري من ٍ‬
‫أرخميدس باسم ‪ θεωρία καθρεφτών‬كاتوبتريكا أو خصائص املرايا‪.‬‬
‫‪- Theon, Ptolemy’s Syntaxis. I, p. 29, Halma.‬‬
‫‪- Olympiodorus, Arist Meteorolgica. II, p.94. Ideler. p. 211. 18, Busse.‬‬

‫‪28‬‬
‫الرجل الذي أظهر دقة استثنائية وفريدة من نوعها في جميع فروع الهندسة‪ ،‬ولو أنه‬
‫بشهرته نوعا ما لفحصه املتكرر واليقظ للمرايا‪ .‬لو أنك اط َ‬‫ُ‬
‫لعت على هذا الكتاب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يدين‬
‫وضعت ُنصب عينيك حقولك و ِتاللها بل سجالت وألواح علماء‬
‫َ‬ ‫فقط يا أيميليانوس‪ ،‬وما‬
‫صدقني‪ ،‬وإن كان وجهك بشعا تماما كقناع ثياستس املفجع(‪ُ ،)49‬‬
‫تنظر‬ ‫ُ َ‬
‫الرياضيات‪ ،‬لكنت ِ‬
‫مليا في املرآة عس ى أن ُتدرك نصيبا من املعرفة‪ُ ،‬وتلقي محراثك أحيانا لتتعج َب من كل‬
‫خدشت بها التجاعيد وجهك‪ .‬أما من جتهي فلن أتفاجأ بدوري إن َ‬
‫آثرت‬ ‫ْ‬ ‫األثالم التي‬
‫حديثي عن تشوه وجهك القبيح وصمتي عن أخالقك التي تثير االشمئزاز أكثر من ِخلقتك‪.‬‬
‫لست بطبعي عدواني النزعة أساسا‪ ،‬كما ُيسعدني أن أقول‬ ‫ُ‬ ‫سألزم الصمت حيالها فأنا‬
‫إنك إلى عهد قريب لربما َ‬
‫كنت أبيض أو أسود على الرغم من كل ما أعرفه‪ ،‬وحتى اآلن ال‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫َ‬
‫أبقتك في الظالم وانشغالي أنا‬ ‫أعرفك حق املعرفة والسبب في ذلك حياة الريف التي‬
‫بدراستي‪ .‬ولكونك نكرة فقد حال السواد امللقى حواليك دون تمحيص شخصيتك‪،‬‬
‫ُ‬
‫آمنت دوما بأن إخفاء عيوبي أهم من‬ ‫ولكوني ال ألقي باال ألفعال اآلخرين السيئة إذ‬
‫وجدت في الظالم ميزة الذي يتفحص خلف ستار‪ ،‬آخر اتخذ‬ ‫َ‬ ‫ترصدها لدى الغير‪ ،‬فقد‬
‫ُ‬
‫موقفه في وضح النهار‪ ،‬إذ تترص ُد بسهولة من ظلمتك ما أفعل علنا وأمام املأل‪ ،‬في حين‬
‫أصبحت ال ُترى‬
‫َ‬ ‫أن دنية موقعك أخفتك عن األنظار ونأت بك بعيدا عن األضواء حتى‬
‫على اإلطالق‪.‬‬
‫كنت تملك عبيدا لزراعة حقولك أو‬ ‫‪ -17‬حتى إني ال أدري وال يهمني أن أعرف أصال إن َ‬

‫قت في نفس اليوم‬ ‫تعلم َ‬


‫أنت أني عت ُ‬ ‫أنك تفعل ذلك بتبادل الخدمة مع جيرانك‪ ،‬بينما ُ‬
‫ِ‬
‫ْ‬
‫أط َ‬
‫لعت ُه‬ ‫ثالثة عبيد في أويا‪ ،‬وقد عيرني محاميك على ذلك رفقة العديد من أفعالي التي‬
‫واحد‪ ،‬فأنا‬ ‫عبد‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬ ‫عليها‪ .‬وبما أنه صرح منذ برهة أني جئت إلى أويا برفقة ما ال يزيد عن ٍ‬
‫واحد ثالثة رجال أحرار؟ لعلها‬‫ٍ‬ ‫عبد‬ ‫َ‬
‫أجعل من ٍ‬ ‫أتحداك أن تخبرني كيف كان بإمكاني أن‬
‫َ‬
‫أضحيت‬ ‫واحدة من مآثري في السحر! أأصابك الكذب بالعمى أم أنه تأصل فيك حتى‬
‫عاجزا عن قول الحقيقة؟ تقول 'أبوليوس أتى إلى أويا بعبد واحد'‪ ،‬وبعد ذلك ببضع‬

‫أنظر‪:‬‬ ‫(‪)49‬‬

‫‪- P.J. Davis, Seneca: Thyestes. Bloomsbury Academic, 19 déc. 2003. p. 17.‬‬

‫‪29‬‬
‫َ‬
‫أردفت قائال‪' :‬أبوليوس في نفس الوقت واليوم بأويا‪ ،‬أعطى لثالثة عبيد‬ ‫كلمات فقط‬
‫حريتهم'‪ .‬لم يكن حتى التأكيد بأني ُ‬
‫جئت بثالثة عبيد وبأني عتقتهم جميعا ليكون جديرا‬
‫ُ‬
‫فعلت ذلك‪ ،‬ما الذي دفعك للنظر إلى العبيد الثالثة كأمارة‬ ‫بالتصديق‪ .‬لكن لنفترض أني‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫على فقري بدال من اعتبار املعتقين الثالثة دليال على ثرائي؟ أيميليانوس يا مسكين‪ ،‬أنت‬
‫ال تملك أدنى فكرة عن كيفية اتهام فيلسوف‪ ،‬تلومني على قلة خدمي في حين أنه كان‬
‫ً‬
‫شرف‪ .‬ألني‬
‫ٍ‬ ‫علي حقا أن أعزي ذلك إلى الفقر مهما كان زيفا‪ ،‬ليضفيني ذلك شرفا على‬
‫أعلم أن األمر ال يقتصر على الفالسفة الذين أفتخر بكوني من أتباعهم بل جنراالت‬
‫الشعب الروماني الذين زادتهم قلة عبيدهم رفعة وسناء‪ .‬ألم يقرأ محاموك ً‬
‫حقا أن‬ ‫ِ‬
‫ماركوس أنطونيوس(‪ )50‬لم يملك أيام قنصليته سوى ثمانية عبيد في منزله؟ ناهيك عن‬
‫كاربو(‪ )51‬صاحب النفوذ املطلق في روما إذ كان لديه ما يقل بواحد عن هذا العدد؟ حتى‬
‫مانيوس كيريوس(‪ )52‬صاحب السجل الحافل باالنتصارات والذي قاد موكب النصر ثالث‬
‫مرات عبر بوابة روما لم يكن لديه سوى خادمين في انتظاره باملعسكر؟ إذ كان في حقيقة‬
‫أقل من عدد‬ ‫وبيرهوس(‪)53‬‬ ‫األمر عدد عبيد الرجل الذي اكتسح السابيين والسامنتيين‬
‫انتصاراته‪ .‬أما ماركوس كاتو(‪ )54‬فما انتظر أحدا ليروي عنه بل سجل بنفسه في واحدة‬

‫(‪ )50‬ماركوس أنطونيوس الخطيب‪ .‬ولد في ‪ 143‬ق‪.‬م‪ .‬تولى مهمة قنصل في ‪ 99‬ق‪.‬م‪.‬‬
‫‪- George, Alexander Kennedy (1972). A History of Rhetoric the Art of Rhetoric in The Roman World 300‬‬
‫‪BC-300 CE Volume 2. pp. 80-84.‬‬
‫(‪ )51‬كاربو‪ .‬قنصل ‪ 82-85‬ق‪.‬م‪ .‬أحد قادة الحزب املارياني واملعارض الرئيس ي لسوال بعد وفاة ماريوس‪.‬‬
‫‪- Christoph F. Konrad, Plutarch's Sertorius. UNC Press Books, 1994. pp. 68-79.‬‬
‫(‪ )52‬ماريوس كيريوس دونتاتوس‪ .‬ذكره أبوليوس في الفقرة العاشرة كشخصية ملحمية للشعب الروماني‪ .‬تولى منصب‬
‫قنصل سنة ‪ 290‬ق‪.‬م مع كورنيليوس روفينوس اللذين قادا حربا ضد السامنتيين وفازا بها‪ ،‬ثم تحرك ضد‬
‫السابينيين الذين ثاروا ضد روما ففاز عليهم واحتفل بنصره الثاني في فترة واليته األولى كقنصل‪ ،‬وفي واليته الثانية‬
‫قاد الحرب ضد امللك بيرهوس في ‪ 275‬ق‪.‬م ففاز عليه بعدما حرك الجيش اتجاه سامنيوم وانتصر عليه قرب‬
‫بينيفينتوم‪.‬‬
‫‪- William Smith, Abaeus-Dysponteus. J. Murray, 1880. pp. 991-993.‬‬
‫(‪ )53‬بيرهوس اإلبيري (‪ 272-319‬ق‪.‬م)‪ .‬ملك مقدونيا وإيبيروس ومن أشد املعادين لروما‪.‬‬
‫‪- Jacob Abbott, History of Pyrrhus, Volume 1. Harper & Brothers, 1854.‬‬
‫(‪ )54‬ماركوس كاتو‪ .‬ولد في تيسكيلوم سنة ‪ 234‬ق‪.‬م‪ .‬شغل سنة ‪ 195‬ق‪.‬م منصب قنصل‪.‬‬
‫‪- Plutarch, Lives. Translated from the Original Greek: With Notes Historical and Critical; And A Life of‬‬
‫‪Plutarch, Volume 2. Hickman And Hazzard, 1822. pp. 132-158.‬‬

‫‪30‬‬
‫من خطاباته أنه ملا ابتدأ كقنصل لهسبانيا لم يأخذ سوى ثالثة عبيد من املدينة معه‪،‬‬
‫َ‬
‫سكن في مقر إقامة رسمي إال أنه أمر بشراء عبدين‬ ‫ومع أن هذا العدد بدا غير كاف حين‬
‫ُ‬
‫الخوان‪ ،‬لذا فقد أخذ خمسة عبيد إلى هسبانيا في املجمل‪ .‬لو‬ ‫من السوق لخدمة ِ‬
‫صادف بودنس هذه الحقائق في دراسته َل َ‬
‫عمد في ظني على إسقاط هذا االفتراء ب ْ‬
‫عينه‪ ،‬أو‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫لفض َل لومي على أن العبيد الثالثة كان عددهم أكثر من الالزم ال أقل لرفقة فيلسوف‪.‬‬
‫ٌ‬
‫‪ -18‬ثم إن بودنس عاتبني على فاقتي بصريح العبارة‪ ،‬وهي ُتهمة يحتفي بها فيلسوف بل‬
‫ً‬ ‫َ َ‬
‫ويفاخر بها علنا‪ .‬فقد ظلت الفاقة منذ قديم األزمنة أمة الفلسفة‪َ ،‬و ِرعة في ُزهدها‬
‫قنوعة في أمرها‪ ،‬ال تستكين ضعفا‪ ،‬ال تبتغي إال شرفا‪ ،‬ال يزيد تملكها إال حصانة من‬
‫ُ‬
‫الثروة‪ ،‬ال ترى هما في وجهها وال تكلفا في تبرجها‪ ،‬كل الخير في نصحها‪ ،‬فال تنفخ في ٍ‬
‫أحد‬
‫ُ‬
‫ترغب وال‬ ‫أحد نزعة السلطة‪ ،‬ال‬
‫بالكبرياء أو عليه بأهواء خارج سيطرته‪ ،‬ال تثير في ٍ‬
‫ً‬
‫تنغمس في مالذ البطن والفرج‪ .‬فعادة ما تقتات هذه الخطايا من أرصدة األثرياء‪ .‬ولو‬
‫أحصيت كبريات الجرائم التي حفظتها ذاكرة اإلنسان فلن تجد بين مقترفيها شخصا‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫فقيرا‪ ،‬وباملقابل قلما نجد في التاريخ أثرياء بين مشاهير الرجال‪ ،‬فإن ذكرنا كل من‬
‫َ‬
‫نمجدهم على مآثرهم لوجدناهم ُرضعا للفاقة من صباهم‪ .‬هي الفاقة التي شيدت كل‬
‫ُ‬
‫املدائن في األيام القديمة وأم كل الفنون‪ ،‬هي العفيفة من كل خطيئة واملغدقة بكل‬
‫شرف بين الشعوب قاطبة‪ .‬ولئن نقضنا بالد اإلغريق بتاريخها‬ ‫ٍ‬ ‫مجد‪ ،‬هي املتوجة بكل‬
‫لتجلت نزاهتها في أريستيدس( ‪ )55‬وبركتها في فوكيون(‪ )56‬وشدتها في ايبامينونداس( ‪)57‬‬

‫ُ‬
‫(‪ )55‬أرستيدس ابن ليسيماكوس‪ .‬رجل دولة وجنرال أثيني من القرن ‪ 6‬ق‪.‬م أطلق عليه لقب 'العادل' أو 'السوي'‪ ،‬كان‬
‫معروفا بنزاهته مما أهله إلدارة األموال العامة‪ ،‬وهذا ما أثار الحسد لدى األثينيين الذين تجمعوا إلدانته قصد نفيه‬
‫باستخدام آلية أوستراكيا‪ .‬عاش فقيرا ومات فقيرا رغم املنصب السامي الذي تواله‪.‬‬
‫‪-Charles Knight, The English Cyclopædia: A New Dictionary Of Universal Knowledge, Volumes 1 À 2.‬‬
‫‪Bradbury & Evans, 1858. p. 319.‬‬
‫(‪ )56‬فوكيون‪ .‬من تالمذة أفالطون‪ .‬ولد في القرن ‪ 5‬ق‪ .‬م‪ .‬يروي بلوتارخ أن مينيلوس قدم هبة من املال لفوكيون لكنه‬
‫رفضها‪ ،‬فلما ترجاه أن يهب املال البنه فوكوس أجابه بحكمة‪" :‬هل على فوكوس أن ُيسند أمره إلى رصانة الحياة أين‬
‫يكون إرثه كافيا‪ ،‬أو إلى هذا الحال أين ال ش يء يكفي"‪.‬‬
‫(‪ )57‬إيبامينونداس‪ .‬فيلسوف من أتباع فيثاغورس‪ .‬جنرال طيبة العظيم الذي سقط في مانتينيا سنة ‪ 362‬ق‪.‬م‪.‬‬
‫‪-Plutarch, The Parallel Lives. Published in Vol. V of the Loeb Classical Library edition, 1917. pp. 341-433.‬‬

‫‪31‬‬
‫وحكمتها في سقراط وبالغتها في هوميروس‪ .‬وهي التي شيدت بنفسها إمبراطورية الشعب‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫كر لآللهة الخالدة بإراقة‬
‫الروماني في بداياتها األولى‪ ،‬ولها تقيم روما حتى اآلن طقوس ش ٍ‬
‫الخمر على األرض من مغرفة خشبية وبقرابين محمولة على قصعة من طين‪ .‬فإن ُنصب‬
‫ومانيوس كيريوس‬ ‫سكيبيو( ‪)58‬‬
‫للحكم في هذه القضية كايوس فابريسيوس وكنايوس‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫مهورا من بيت املال وذهبن هكذا إلى أزواجهن‬ ‫الذين أعطي لبناتهم بسبب فقرهم‬
‫أغريبا( ‪)60‬‬ ‫مطارد امللوك أو‬ ‫بيبليكوال(‪)59‬‬
‫يحملن معهن شرف منازلهن وثروة الدولة‪ .‬أو‬
‫خرجا لفقرهما روما بأسرها لتجمع نقدا ثمن جنازتيهما‪ .‬أو‬‫ُمصالح الشعب واللذان َأ َ‬
‫أتيليوس ريغولوس(‪ )61‬الذي كفلت الدولة زراعة أراضيه لضيق حاله‪ .‬لو ُمنح باختصار‬

‫(‪ )58‬في الحرب البونية الثانية كتب كنايوس إلى مجلس الشيوخ من هسبانيا يترجاهم استبداله في قيادته‪ ،‬ألن ابنته‬
‫بلغت سن الزواج ولم يكن باستطاعته تزويدها بمهر أثناء غيابه عن روما‪ .‬استلمت ابنته مهرها من الخزانة العامة‪.‬‬
‫‪- Val, Max. IV. IV. 10.‬‬
‫‪- Ammian, Marc. XIV. VI. 11.‬‬
‫(‪ )59‬بيبليكوال فاليريوس‪ .‬قنصل روماني من القرن ‪ 6‬ق‪.‬م‪ .‬قال عنه املؤرخ اليوناني العريق ديونيسيوس‪" :‬هذا الرجل‪،‬‬
‫على الرغم من أنه كان من أول أربعة أرستقراطيين ممن أزاحوا امللوك وصادروا ثرواتهم‪ ،‬وعلى الرغم من أنه حاز أربع‬
‫مرات على السلطة القنصلية إذ انتصر في حربين بأقل خسائر واحتفل بالنصر مرتين [‪ ]...‬وعلى الرغم من أنه كان‬
‫لديه مثل هذه الفرص لتجميع الثروة [‪ ]...‬إال أنه لم ُيهزم بالجشع‪ ،‬تلك الرذيلة التي استعبدت كل الرجال والجهود‬
‫للتصرف بانحطاط"‪ .‬كما يقول املؤرخ الشهير تيتوس ليفيوس‪" :‬بيبليوس فاليريوس بشهادة الجميع كان الروماني األول‬
‫جدا ألن يتحمل مصاريف الجنازة التي افتقد‬ ‫في فنون الحرب والسالم وقد مات في ذروة مجده‪ ،‬ولكنه كان فقيرا ً‬
‫ثمنها‪ ،‬لذلك ُدفن على نفقة الشعب‪َ ،‬ون ُ‬
‫عته العجائز كما فعلوا لبروتوس"‪.‬‬
‫‪- Denys d'Halicarnasse, Antiquités Romaines. V. 48.‬‬
‫‪- Livy, II. 16. 7.‬‬
‫(‪ )60‬أغريبا مينينيوس ملقب بالناتوس‪ .‬جنرال وقنصل روماني من القرن ‪ 6‬ق‪.‬م‪ .‬يرتبط اسمه بما حدث في عام ‪503‬‬
‫ً‬
‫معسكرا‬ ‫ق‪.‬م‪ ،‬إذ كان عامة الناس غاضبين من معاملتهم السيئة من األرستقراطيين لدرجة أنهم أخلوا املدينة وأقاموا‬
‫ُ‬
‫في التالل‪ .‬أرسل أغريبا للتفاوض معهم‪ ،‬أين أخبرهم بمثل شهير لحد اآلن 'األعضاء ضد البطن'‪ .‬وافتك من‬
‫األرستقراطيين تنازال كبيرا من أجل فض النزاع بإنشاء منصب جديد 'منبر الشعب' يسهر على أال ُتنتهك حقوق العامة‪.‬‬
‫مات في فقر مدقع لدرجة أن املواطنين ساهموا في تكلفة دفنه‪ ،‬ومجلس الشيوخ وفر على نفقة الجمهورية ً‬
‫مكانا لقبره‪.‬‬
‫‪- Charles François Lhomond, De Viris Illustribus Urbis Romae A Romulo Ad Augustum. Alfred Mame Et‬‬
‫‪Fils, 1877. pp. 23-24.‬‬
‫‪- Livy, II. 33. 2.‬‬
‫(‪ )61‬أتيليوس ريغولوس أو سيرانوس‪ .‬كان فقيرا للغاية بالرغم من منصبه‪ ،‬لدرجة أنه أعال نفسه وزوجته وأطفاله من‬
‫مزرعة صغيرة كان يحرثها خادم واحد‪ .‬فور سماعه بوفاة هذا الخادم‪ ،‬قام بمراسلة مجلس الشيوخ طالبا منهم‬
‫تعويضه في منصبه‪ ،‬بعد أن أصبحت ممتلكاته في خطر بسبب وفاة عبده وبأن وجوده في املنزل صار ضرورًيا‪.‬‬
‫‪- Livy, Per. 18.‬‬

‫‪32‬‬
‫جميع األبطال في رصيد الشعب الروماني من قناصلة ُورقباء وجنراالت متوجين فرصة‬
‫َ‬
‫أكنت ستجرؤ‬ ‫مقتضبة الستئناف الحياة وأعيدوا إلى هاته األرض لسماع هذه القضية‪،‬‬
‫في محضر العديد من القناصلة الفقراء على املض ي قدما في تعيير فيلسوف ِب َفقره؟‬
‫مناسبا لتهزأ من الفقر أمامه كونه ُ‬
‫ينعم‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫شخصا‬ ‫‪ -19‬لعلك ترى في كلوديوس ماكسيموس‬
‫بثروة كبيرة وترف هائل‪ .‬أنت مخطئ يا أيميليانوس‪ ،‬مخطئ ً‬
‫تماما في تقديرك لشخصه‬
‫تعقل بأن األرجح‬ ‫بأن تتخذ ِهبة ثروته بدال من صرامة فلسفته معيارا لحكمك وال ِ‬
‫مل الخدمة العسكرية مطوال أن ُيحابب ثروة معتدلة‬ ‫لشخص يحمل عقيدة صارمة وتح َ‬
‫ٍ‬
‫َ‬
‫كالرداء‬
‫بكل أوجه قصورها على الفخامة بكل ترفها‪ ،‬وأن يلتحف هذه الثروات تماما ِ‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫الوارف راحة ال طوال‪ .‬حتى األخير‪ ،‬إن َس َد ُله صاحبه وقام ِب َجره أرضا َسيعل ُق ُويردي‬
‫ُ‬
‫القدم بقدر السوء في العباءة التي تتدلى قداما‪ .‬فال نفع في ما يفوق متوسط أي ش يء‬
‫نستخدمه لتلبية احتياجات الحياة اليومية وهو عبء أكثر منه عونا‪ .‬وهذا ما يجعل‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫الثروات املفرطة ك ِدفاف التوجيه في ضخامة وزنها إذ تغرق السفينة بدل توجيهها‪ ،‬فال‬
‫ُ‬
‫الحظت من بين األثرياء أن األجدر بالثناء يعيشون‬ ‫يسوء َح ُ‬
‫شوها‪ .‬وقد‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ينفع حجمها بل‬
‫ورفاه‪ ،‬إذ يخفون مواردهم ويديرون ممتلكاتهم الهائلة دون ِك ٍبر ٍ‬
‫وتباه‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫صخب‬
‫ٍ‬ ‫دون‬
‫ويظهرون كأناس فقراء تحت ستار اعتدالهم‪ .‬فإن كان األغنياء أنفسهم يتخذون مرأى‬
‫الفقر من باب التواضع‪ِ ،‬لم نخجل به وقد ِعشنا حقيقته ال ظاهره؟‬

‫‪ -20‬حتى إني قد أنخرط في جدال معك حول كلمة الفقر‪ .‬منبها على أن الفقير ليس ذاك‬
‫الذي يرفض الكماليات ولديه تحت تصرفه كل الضروريات‪ ،‬تلك التي ال تجود بها‬
‫غيضا‪ ،‬ومن يبتغي َب ْرضا يحظى بما ُيرضيه‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ينشد ْ‬ ‫فيضا من‬ ‫الطبيعة كثيرا‪ .‬فإنما يلقى ْ‬
‫َ‬
‫ولذا ال ُيقاس ثراء اإلنسان في أراضيه وأمالكه بل في نفسه‪ ،‬ألن الجشع حين ُيبقيه‬
‫ُّ‬
‫تجلب له حتى جبال الذهب الرضا‪ ،‬بل سيستجدي‬ ‫َ‬ ‫محتاجا وفي تعطشه للربح َن ِهما‪ ،‬فلن‬
‫املزيد دوما ليزيد مما لديه أصال‪ ،‬وهذا لعيني هو املكنون األصيل للفقر‪ .‬ألن الرغبة في‬
‫امتالك أي ش يء تنبع من فكرة االحتياج‪ ،‬وال تهم ممتلكاتك في اتساعها إن َر ُحبت بما فيها‬

‫‪33‬‬
‫أقل بكثير من اليليوس(‪ ،)63‬واليليوس من‬ ‫فيلوس(‪)62‬‬ ‫وضاقت عليك‪ .‬فقد كان ُملك‬
‫سكيبيو(‪ ،)64‬وسكيبيو من كراسوس(‪ )65‬الثري‪ ،‬ومع ذلك لم يبلغ كراسوس نفسه مقدار‬
‫َ َ‬
‫ما رغب فيه‪ .‬وعلى الرغم من أنه تجاوز كل اآلخرين في الثروة إال أن جشعه فاقه إلى أن‬
‫ثت عنهم‬‫بدا وكأنه ثر ٌّي أمام الجميع عدا نفسه‪ .‬بينما لم يكن الفالسفة الذين حد ُ‬

‫شيئا يفوق ما كان تحت تصرفهم‪ ،‬وبفضل االنسجام القائم بين رغباتهم‬ ‫يبتغون ً‬

‫ومواردهم فقد كانوا أثرياء وسعداء بحق‪ .‬فالفقر وليد االفتقار والكفاية في الكفاف الذي‬
‫َ‬
‫شئت‬ ‫ينبع من االكتفاء‪ .‬ولذا فإن ِسمة الفقر هي الرغبة‪َ ،‬و ِسمة الثروة هي الشبع‪ .‬فإن‬
‫أن َت ِصمني بالفقر يا أيميليانوس فعليك أن ُتلصق الجشع بي أوال‪ .‬لكن إن كان جوهري‬
‫ال يفتقر لش يء‪ ،‬فأنا ال أعبأ كثيرا بما ينقصني من خيرات هذا العالم‪ :‬فال محمدة في‬
‫اكتسابها وال مذمة في افتقادها‪.‬‬
‫ُ‬
‫سلم بخالف ذلك ولنفترض أني فقير‪ .‬لئن بغضني الحظ في الثراء‪ ،‬أو‬ ‫‪ -21‬لكن دعونا ن ِ‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫حدث معي كما يحصل عادة باختالس ميراثي من كفيلي أو ن ْْهي من أحد األعداء أو أن‬

‫(‪ )62‬لوكيوس فيريوس فيلوس‪ .‬قنصل روماني سنة ‪ 136‬ق‪.‬م‪ .‬كان رجال بارعا واعتاد على إحاطة نفسه بعدد من‬
‫املهتمين بالثقافة اإلغريقية‪.‬‬
‫‪- Marcus Tullius Cicero, Laelius. ed. by E.S. Shuckburgh. London: Macmillan And Co. 1885. p. 150.‬‬
‫(‪ )63‬كايوس اليليوس األصغر‪ .‬ولد في ‪ 186‬ق‪.‬م‪ .‬قنصل روماني سنة ‪ 140‬ق‪.‬م‪ .‬وفقا لشيشرون كان يطلق عليه الحكيم‬
‫بسبب نزعته الرواقية‪ ،‬وكان أديبا مفوها تميز بلغة التينية رائعة‪ ،‬كما أنه كان واسع االطالع على الثقافة اإلغريقية‪.‬‬
‫‪- Ibid., p. 153.‬‬
‫(‪ )64‬سكيبيو أيميليانوس أو بيبليوس كونيليوس سكيبيو أيميليانوس أفريكانوس األصغر‪ .‬رجل دولة وجنرال ُعرف‬
‫كأعظم قائد حربي في عصره‪ .‬كان املسؤول على إسقاط قرطاج في الحرب البونيقية الثالثة‪ ،‬وكان واسع االطالع على‬
‫الثقافة اإلغريقية‪ .‬وعلى الرغم من أنه لم يترك أي كتابات باستثناء بعض الخطب‪ ،‬إال أنه كان يمتلك قدرات أدبية‬
‫عالية‪ ،‬وهذا ما مكنه من مساعدة تيرنس في كتابة مسرحياته‪ .‬يلخص شيشرون إنجازاته في ‪ De Republica‬بالقول‪:‬‬
‫"دمر قرطاج‪ُ ،‬وتوج بالنصر‪ ،‬وشغل منصب الرقيب‪ ،‬وليغاتوس ملصر وسوريا وآسيا واليونان‪ ،‬واختير حتى في غيابه‬
‫قنصال للمرة الثانية‪ ،‬ووضع حدا لحرب خطيرة‪ ،‬وسحق نومانتيا"‪.‬‬
‫‪- Ibid., p. 159-160.‬‬
‫(‪ )65‬ماركوس ليكينيوس كراسوس‪ .‬يذكر بلوتارخ أنه ولد في ‪ 115‬ق‪.‬م‪ .‬سياس ي وجنرال روماني‪ ،‬ساهم رفقة سوال‬
‫وبومبي في إدارة الثالثية 'التريومفيرا'‪ .‬جمع ثروة هائلة لدرجة أن أطلق عليه أغنى رجل في روما‪.‬‬

‫‪- Gareth C. Sampson, Defeat of Rome in the East: Crassus, the Parthians, and the Disastrous Battle of‬‬
‫‪Carrhae, 53 BC. Casemate Publishers, 16 juil. 2008.‬‬

‫‪34‬‬
‫وصم اإلنسان بش يء ال ُيعاب عليه في عالم الحيوان‪ ،‬في‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أيليق‬ ‫والدي ما أورثني شيئا‪،‬‬
‫ُ‬
‫تجعله ممتعا في ركوبه وحثيثا في‬ ‫النسر أو الثور أو األسد؟ إن أوتي الجواد من ميزات‬
‫جريه‪ ،‬فال أحد سيلقي الالئمة على فقر زاده‪ .‬أتتهمني إذن ال على قو ٍل أو ٍ‬
‫فعل فاضح بل‬
‫لبساطة مستقري ومقامي‪ ،‬لقلة عبيدي وتقشفي في طعامي وتواضعي في ملبس ي وقلة‬
‫قوتي؟ فإن لم تمأل خدمتي ومؤني ومالبس ي عينك فإني أراها وفيرة عكس ما تراه تماما‪،‬‬
‫أرغب في تقليلها ألن سعادتي في انصرافي عن‬‫ُ‬ ‫تفيض عما احتاج إليه أصال‪ ،‬حتى إني‬‫ُ‬ ‫بل‬
‫ُّ‬
‫ملهاتها‪ .‬فالروح كالجسد تكتس ي في العافية أخف الثياب وفي العيب تلف نفسها‪ ،‬وإنه‬
‫ُ‬
‫نعيش كما‬ ‫يح على الضعف أن تغشاك الكثير من الرغبات‪ .‬وإنا ِبحق السماء‬ ‫ملؤش ٌر صر ٌ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تفرق هذه الحياة الجائشة عن املحيط‬ ‫نسبح‪ ،‬كلما كنا أخف ِحمال كان أفضل لنا‪ ،‬فال ِ‬
‫أجد اآللهة تتفوق‬ ‫العاصف إذ ُتغرقنا ثقال األحمال وتطفو بنا خفافها‪ .‬وفي هذا السياق ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫على البشر وبجدارة‪ ،‬السيما وأنهم ال يفتقرون إلى أي ش يء‪ .‬فما أشبه باآللهة َمن تقل‬
‫احتياجاته ِمن بني البشر‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫‪ -22‬ولذا فقد َ‬
‫أثرت إطرائي بتعييرك ِمللكي القائم حسب قولك على خ ٍرج وعصا‪ .‬فيا ليت‬
‫العدة التي ضحى من أجلها‬‫لي روحا إباء تصرفني عن هذا املتاع ب ُرمته ُوتغنيني بتلك ُ‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫كراتس(‪ )66‬بكل ثروته! كراتس هذا ‪ -‬سأخبرك وإن كنت أشك في تصديقك لي يا‬
‫أيميليانوس ‪ -‬كان سليل ُأسرة ميسورة من خيرة أهل طيبة‪َ ،‬د ُ‬
‫فعه ُح ُّب هذه ُ‬
‫العدة التي‬ ‫ٍ‬
‫وهب منزله الرحب والفخم ألهالي بلدته‪ ،‬وعفا عن عبيده من‬ ‫ألبس َتها ثوب الجريمة أن َ‬‫ْ‬
‫ُ‬
‫أجل خلو ِته‪ ،‬واكتفى بعصا واحدة بدل بساتينه وأشجارها املثمرة‪ ،‬وقايض ضيعاته‬
‫ُ‬
‫صغير واحد أشاد به بعدما استحسن فائدته بشكل جلي ُمحورا من أجله‬ ‫ٍ‬ ‫الغناء ِبخ ٍرج‬
‫أبياتا لهوميروس تغنى فيها بجزيرة كريت‪ .‬وها أنا ذا أورد لك األسطر األولى حتى ال تعتقد‬
‫قت هذه الحكاية ألخدم بها قضيتي‪:‬‬ ‫أني لف ُ‬

‫ُ‬
‫(‪ )66‬كراتس‪ .‬ذكره أبوليوس في فلوريدا‪ ،‬وحفظ ديوجنس اليرتيوس بقية أبياته عن خرجه‪.‬‬
‫‪- Apuleius, Florida. 14.‬‬
‫‪- Diog. Laert. VI. 5. 1.‬‬

‫‪35‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫"هناك حاضرة ُتدعى الخرج‪َ ،‬وسط دخان ِب ُدكنة النبيذ"‪.‬‬
‫ُ‬
‫تلي هذه األسطر أبيات أخرى رائعة لو قر َأتها ستحسدني على خرجي أكثر من حسدك لي‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫رجهم‪ ،‬ربما تلوم‬ ‫على زواجي ببودونتيال‪ .‬فإن كنت تعيب الفالسفة على عصاهم وخ ِ‬
‫َ‬
‫قمهم املزخرف واملشاة على دروعهم وحملة األلوية على بيارقهم‬ ‫الفرسان أيضا على ط ِ‬
‫والقادة املنتصرين على مركباتهم املجرورة بأربعة أحصنة بيضاء وأرديتهم املزركشة‬
‫ُ‬
‫بالسعف‪ .‬ولو أن العصا والخرج ال يحملهما األفالطونيين فعال بل يوش ى بها الكلبيون في‬
‫شاراتهم‪ ،‬فقد كانا لديوجنس وأنتيستنيس(‪ )67‬بمثابة التاج لدى امللك والعباءة األرجوانية‬
‫للجنرال وقلنسوة الكاهن َو ِمحجن العراف‪ .‬بل في جدال ديوجنس الكلبي مع االسكندر‬
‫ُ‬
‫األكبر حول أحقية امل ـلك بينهما‪ ،‬تباهى بعصاه وكأنها صولجان حقيقي‪ .‬هرقل نفسه‬
‫تحتقر أمثلتي وكأنها مستقاة من حياة التسول ‪ -‬هرقل جواب‬ ‫ُ‬ ‫الذي ال ُيقهر ‪ -‬بما أنك‬
‫ثياب‬
‫األقطار ومبيد الوحوش ومحتل األجناس واإلله في األخير‪ ،‬لم يمتلك إال قشرة ٍ‬
‫وعصا ِلرفقته في تلك األيام وهو يطوف باألرض‪ ،‬ومع ذلك ما انتظرت السماء مطوال‬
‫حتى تمنحه القبول في مصاف اآللهة جز ًاء على فضيلته‪.‬‬

‫حت تزدري هذه األمثلة ودعوتني للخوض في مقدار ثروتي ال لقضيتي‪ ،‬حتى‬ ‫‪ -23‬فإن ُ َ‬
‫ر‬
‫أقر بأن والدي ترك لي‬‫حدا لجهلك في أمر ال أخاله يخفى هو اآلخر عليك‪ ،‬فأنا ُّ‬ ‫أضع ًّ‬
‫ٍ‬
‫َ‬
‫قل بقليل عن مليوني سيسترس وهو مبلغ ك َفلني في رحالتي الطويلة ودراساتي‬
‫وألخي ما َي ُّ‬
‫ُ‬
‫وذهبت بعيدا في امتناني ملعلمي‬ ‫ُ‬
‫ساعدت كثيرا أصدقائي‪،‬‬ ‫املستمرة وسخائي الدائم‪ ،‬إذ‬
‫دانق من‬ ‫ُ‬
‫حد توفير املهر لبناتهم في أكثر من مناسبة‪ ،‬وما كنت ألتردد قط في إنفاق كل ٍ‬
‫ثروتي للحصول على ما هو أفضل من املال الذي ال أعبأ به‪ .‬أما َ‬
‫أنت وأمثالك من الجهلة‬
‫ُ‬
‫األجالف يا أيميليانوس فالثروة هي التي تصنع الرجال‪ .‬حالكم كحال األشجار العقيمة‬
‫ُ‬
‫مرا‪ ،‬فهي ال تساوي شيئا لو ما احتوت جذوعها خشبا‪ .‬فاحرص‬ ‫تفيض َث ً‬
‫ُ‬ ‫التارزة التي ال‬

‫(‪ )67‬أنتيستنيس‪ .‬مؤسس املدرسة الفلسفية الكلبية‪ .‬ولد حوالي ‪ 444‬ق‪.‬م وتوفي سنة ‪ 366‬ق‪.‬م وهو تلميذ سقراط‬
‫ومعلم ديوجنس‪ .‬وفقا لهذا األخير فقد أخبرهم ديوكليس أنه أول من ضاعف العباءة واكتفى بثوب واحد وال يحمل‬
‫ُ‬
‫سوى خ ٍرج وعصا‪.‬‬
‫‪- Diog. Laert. VI. 1.‬‬

‫‪36‬‬
‫أنت بنفسك‬ ‫أمضيت َ‬
‫َ‬ ‫شخص على فقره ُمذ‬ ‫أرجوك يا أيميليانوس أال ُتعير مستقبال َّ‬
‫أي‬
‫ٍ‬
‫حمام من‬‫ٍ‬ ‫بائس تحت‬ ‫ٍ‬ ‫كموس‬
‫ٍ‬ ‫لتهيئة األرض ثالثة أيام في الحرث وحدك بمساعدة ُع‬
‫ُ‬
‫األمطار الغزيرة في تلك املزرعة املزرية في زاراث(‪ )68‬والتي كانت كل ما تركه لك والدك‪،‬‬
‫َ‬
‫انقلب إليك بسبب‬ ‫مستحق تماما‬ ‫اث غير‬ ‫فما ابتسمت لك الثروة إال مؤخرا في شكل مير ٍ‬
‫ٍ‬
‫ُ‬
‫الوفيات املتكررة لذويك‪ ،‬والتي تدين لها أكثر بكثير من وجهك البشع ِبكنيتك خارون ‪.‬‬
‫(‪)69‬‬

‫‪ -24‬أما عن مسقط رأس ي فهو يقع على تخوم نوميديا وجيتوليا‪ ،‬ولك أن تتحرى ذلك‬
‫ُ‬
‫ألقيته بنفس ي‬ ‫خطاب‬ ‫حت بأني 'نصف نوميدي‪ ،‬نصف جيتولي' في‬ ‫من كتاباتي ألني صر ُ‬
‫ٍ‬
‫أمام املأل وعلى شرف املوقر لوليانوس أفيتوس‪ .‬فأنا ال أرى حرجا في األمر‪ ،‬خصوصا وأن‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫مختلط 'نصف ميدي‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫يفرق بيني وبين قورش األكبر(‪ )70‬الذي ينحدر من ٍ‬
‫أصل‬ ‫الحال ال ِ‬
‫ُ‬
‫نصف فارس ي'‪ .‬واملفروض أال نثمن منشأ الرجل بل خلقه‪ ،‬وأال نرى في أي طرف من‬
‫يحق للسباء والبقال رفع قيمة بضاعتهم‬ ‫العالم بل وفق أي نهج ارتأى عيش حياته‪ُّ .‬‬
‫ٍ‬
‫باإلشهار مليزة التربة التي انبثقت عنها كما هو الحال مثال مع نبيذ ثاسوس وملفوف‬
‫فليوس‪ ،‬إذ ال شك أن مذاق تلك الخيرات من األرض قد طاب للغاية بسبب خصوبة‬
‫املنطقة التي ترتبت عن رطوبة الطقس واعتدال الرياح ودفء الشمس وثراء التربة‪ .‬أما‬
‫ظروف كتلك‬ ‫سع‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬ ‫في حالة اإلنسان فإن الروح تلج مسكن الجسد من الخارج‪ ،‬فهل في ِو ِ‬

‫(‪ )68‬زاراث‪ .‬يقدر أن تكون ضاحية في أويا 'طرابلس الحالية'‪ .‬يقدر أن يكون االسم في أصله أمازيغيا‪ ،‬إذ يعني وفقا‬
‫لغابريال كامبس في كتابه "عن أصول البربر" أحد الفواكه‪ ،‬التين بالتحديد‪.‬‬
‫‪- A. Pellegrin, Essai Sur Les Noms De Lieux d’Algérie Et De Tunisie. Etymologie, Signification, Préface De M.‬‬
‫‪G. Mercier. Tunis, Editions S.A.P.I, 1949. p. 73.‬‬
‫‪- Camps G., Aux Origines De La Berbérie: Massinissa Ou Les Débuts De l’Histoire. Alger, 1961. p. 90.‬‬
‫(‪ )69‬خارون‪ .‬في امليثولوجيا هو مرشد األرواح في العالم السفلي‪ ،‬ابن اآللهة ايربوس ونيكس‪ .‬وهو الذي يقود أرواح‬
‫املوتى في عبارة عبر نهر ستيكس وأشيرون‪ ،‬وال يحمل من ال يدفعون جزية ولذا دأب القدماء على وضع قطعة من‬
‫ذهب تحت ألسنة املوتى قبل دفنهم‪ .‬تم تجسيده كشيخ عجوز بلباس رث مقطع وبلحية غير مصففة وبجبهة مخدوشة‬
‫بالتجاعيد‪.‬‬
‫‪- Mary Ann DWIGHT, Grecian And Roman Mythology. With an Introductory Notice By ... T. Lewis And A‬‬
‫‪Series of Illustrations in Outline. New York: George P. Putnam, 155 Broadway, And 142 Strand, London.‬‬
‫‪1849. pp. 60-61.‬‬

‫(‪ )70‬قورش األكبر أو قورش الثاني‪ .‬ولد حوالي ‪ 599‬ق‪.‬م في أنشان وهو مؤسس اإلمبراطورية الفارسية‪.‬‬
‫‪- Sam Kerr, Cyrus the Great - Celestial Sovereign. Lulu.com, 30 août 2015. p. 23.‬‬

‫‪37‬‬
‫ٌ ُ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫قدم فيه الشعوب‬ ‫أن تزيد أو تجتث من فضائله أو رذائله؟ أكان هناك زمن أو مكان لم ت ِ‬
‫فيضا من العقول‪ ،‬وإن كانت بعضها تبدو أغبى وأخرى أذكى من غيرها؟ فقد ُوِلد‬
‫ُ‬
‫وولد بين اآلثينيين الدهاة ميليتيدس(‪)72‬‬
‫آناكرسيس(‪ )71‬الحكيم بين السكيثيين األغبياء‪ِ ،‬‬
‫ُ‬
‫األحمق‪ .‬وما أقول هذا بدافع الخجل من وطني فقد كنا بلدة من عهد سيفاكس(‪،)73‬‬
‫وبانهزامه انتقلنا بتزكية الشعب الروماني لسيادة امللك ماسينيسا(‪ ،)74‬وبتوطين الجنود‬
‫املخضرمين في األخير‪ ،‬أصبحنا بفضل مؤسسينا الثانيين مستعمرة من األكثر تميزا(‪ .)75‬في‬
‫هذه املستعمرة نفسها َ‬
‫بلغ والدي منصب دمفير(‪ )76‬وأصبح املواطن األبرز في املكان بعد‬

‫(‪ )71‬آناكرسيس السكيثي‪ .‬فيلسوف شهير ولد في القرن ‪ 7‬ق‪.‬م‪ .‬أشتهر في أثينا إلى درجة أن تم اعتباره واحدا من‬
‫الحكماء اإلغريق السبع‪.‬‬
‫‪- Renate Rolle, The World of The Scythians. University Of California Press, 1 Jan 1989. p. 129.‬‬
‫(‪ )72‬ميليتيدس‪ .‬شخصية تهكمية‪ ،‬يضرب به األثينيون املثل في الحمق والغباء‪.‬‬
‫‪- Aelian, Historical Miscellany. Translated by Nigel G. Wilson. Loeb Classical Library 486. Cambridge, MA:‬‬
‫‪Harvard University Press, 1997. p. 366.‬‬
‫(‪ )73‬سيفاكس‪ .‬ملك املاسايسيل في نوميديا‪ .‬حارب جنبا إلى جنب مع القرطاجيين في الحرب البونيقية الثانية (‪-218‬‬
‫‪ 201‬ق‪.‬م)‪ ،‬انهزم وألقي عليه القبض سنة ‪ 203‬ق‪.‬م‪ .‬بعد انهزامه تولى ماسينيسا الحكم في نوميديا‪.‬‬
‫‪- Livy: Ab urbe condita, vol. VIII, bks. xxviii-xxx Loeb Classical Edn, pp. 73-99; 173-225; 405-421.‬‬

‫(‪ )74‬ماسينيسا‪ .‬ولد حوالي ‪ 240‬ق‪.‬م‪ .‬هزم غريمه سيفاكس بمساعدة الرومان‪ ،‬وحكم نوميديا بسالم طيلة ‪ 50‬سنة إلى‬
‫أن توفي في سنة ‪ 148‬ق‪.‬م في السنة الثانية من الحرب البونيقية الثالثة‪.‬‬
‫‪- John Denison Champlin, The Young Folks' Cyclopaedia of Persons and Places. H. Holt And Company,‬‬
‫‪1880. p. 524.‬‬
‫(‪ )75‬مادورا ‪ /‬مادور أو مداوروش الحالية في والية سوق أهراس بشرق الجزائر‪ .‬مدينة اشتهرت بالعلم والفلسفة‬
‫والفنون بنوميديا‪ .‬أنجبت أبوليوس وماكسيم النحوي وفيليكس كابيال (وفقا لكاسيودوروس) كما درس بها القديس‬
‫أوغستين في صباه‪ .‬يصف أبوليوس نفسه بالفيلسوف املادوري في كتاباته‪ ،‬كما تم تأكيد موقع املدينة عبر نقيشة‬
‫أثرية رومانية باملوقع األثري والتي حملت عبارة‪' :‬املستعمرة الفالفية املادورية لقدماء املحاربين'‪ ،‬وفوق ذلك تم إيجاد‬
‫نقش أثري من العالم الفرنس ي ‪ Gsell‬سنة ‪ 1918‬والذي رفعه مواطنو مادورا على شرف أبوليوس معتبرين إياه جوهرة‬
‫املدينة‪.‬‬
‫‪- I.L.Alg., 1, 2152.‬‬
‫‪- I.L.Alg., 1, 2115.‬‬
‫(‪ )76‬دمفير أو ‪ Duoviri‬أو ‪ .Duumvir‬منصب إداري يجسد مبدأ الزمالة في الحكامة الرومانية للمستعمرات والبلديات‬
‫والتي كان يديرها في كثير من األحيان شخصان يحمالن معا هذه املهام‪ .‬يفترض أن يكون والد أبوليوس أحد الحاكمين‬
‫ملستعمرة مادورا‪.‬‬
‫‪- Paul J. du Plessis, Clifford Ando, Kaius Tuori: The Oxford Handbook of Roman Law and Society. Oxford‬‬
‫‪University Press, 2016. p. 126.‬‬

‫‪38‬‬
‫ُ‬
‫نجحت بعد التحاقي ألول مرة‬ ‫مروره على جميع مكاتب الشرف البلدية‪ .‬أما أنا فقد‬
‫آمل ً‬
‫خلفا سيئا‬ ‫بمجلس الشيوخ البلدي في بلوغ مقام والدي في املجتمع‪ ،‬ولم أكن كما ُ‬
‫بأي حال من األحوال بيد أني أحظى نظير صون مكانتي بالشرف واإلجالل‪ِ .‬لم أذكر هذا؟‬
‫كي يتسنى لك يا أيميليانوس أن تكون في املستقبل أقل غضبا مني وأن تكون سلسا أكثر‬
‫في الصفح عني بسبب إهمالي بما يكفي لعدم اختيار زاراث العتيقة مسقطا لرأس ي‪.‬‬
‫‪ -25‬أال تستحون من توجيه هكذا اتهامات بمثل هذا التعصب ِق َ‬
‫بل قاض كهذا‪ ،‬والرمي‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫بأمر ونقيضه في آن واحد؟ أما وجدتم في‬
‫بدعاو طائشة ومتضاربة في ما بينها‪ ،‬واتهامي ٍ‬
‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ادعائكم مطلق التناقض إذ ترون في خرجي وعصاي دليال على التزمت وفي قصائدي‬
‫ُ‬
‫ثالثة دليال‬
‫واحد دليال على شحي وفي امتالك ٍ‬
‫ٍ‬ ‫عبد‬
‫ومرآتي دليال على الطيش؟ في امتالك ٍ‬
‫على بذخي؟ حتى إنكم شجبتموني على بالغتي اليونانية ووالدتي األعجمية؟ أ ِفيقوا من‬
‫ُ‬
‫صارم‬
‫ٍ‬ ‫سباتكم وتذكروا أنكم تتحدثون في محضر كلوديوس ماكسيموس‪ ،‬أمام ٍ‬
‫رجل‬
‫يتعنى شؤون اإلقليم بأسره‪ .‬أما توقفتم للحظة عن طرح االتهامات السخيفة وانطلقتم‬
‫في إثبات ما أدرجتموه في الئحة اتهامكم من جرائم مروعة وشعوذة مقيتة ومنكرات‬
‫كر الحقائق وتقوى في إحداث الضجيج؟‬
‫السحر األسود! ِلم تخبو أصواتكم في ِذ ِ‬
‫ُ‬
‫التقطتم أنفاسكم وأنتم تنفخون في َجمرتها‬ ‫سأتعامل اآلن مع تهمة السحر ذاتها‪ ،‬فما‬
‫حتى أثرُتم نائرة الجميع ضدي‪ ،‬لكنكم خيبتم آمال الجميع بخرافاتكم من حكايات‬
‫َ‬
‫سكن لهبها‬ ‫بعضا‪،‬‬ ‫كأنما ْيأكل ُ‬
‫بعض َها ً‬ ‫َ‬
‫العجائز‪ ،‬فأضحت النيران التي أشعلتها اتهاماتكم‬
‫أيت يوما يا ماكسيموس نارا تستعر في الهشيم‬ ‫وبقيت جذوتها تحرق في صدوركم‪ .‬أما َ‬
‫ر‬
‫رمها الواهي فال‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫فتثير بألسنتها أصوات املعمعة والفرقعة‪ ،‬لكن سرعان ما تخبو بنفاذ ض ِ‬
‫تترك خلفها أي حطام؟ هكذا هو اتهامهم‪ .‬فقد أشعلوه بالتجريح ونفخوا فيه باألقاويل‬ ‫ُ‬
‫معد كي ال يترك َ‬ ‫لكنهم يفتقرون لوقود الحقائق‪ ،‬وبمجرد أن ُتطلق ُح َ‬
‫خلف ُه أي‬ ‫كمك فهو ٌّ‬
‫ِ‬
‫أثر‪ .‬وطاملا ارتكز أيميليانوس في افترائه على تهمة السحر‪ ،‬فبودي أن أسأل محامييه‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬
‫الجهابذة‪ :‬ما هو مفهوم الساحر بدقة؟ فإن كان ما قرأته صحيحا لدى الكثير من‬

‫‪39‬‬
‫ُ‬
‫الجرم في أن يكون‬ ‫املؤلفين بأن ْلفظ الساحر عندنا يعني الكاهن في بالد الفرس(‪ ،)77‬فما‬
‫املرء كاهنا وله من املعرفة والعلم واملهارة ما ُيمكنه من أداء كل الشعائر الدينية‬
‫واملراسيم القربانية ومناسك العبادات‪ ،‬إن كان السحر في األخير ما حد ُ‬
‫ده أفالطون في‬
‫َّ‬
‫وصفه ألساليب الفرس في تعليم أمرائهم الصغار؟ أنا أتذكر حرفيا كلمات هذا‬
‫الفيلسوف اإللهي فاسمح لي أن أستذكرها لك يا ماكسيموس‪" :‬عندما يبلغ الصبي سن‬
‫َ‬
‫الرابعة عشر‪ ،‬يتم إيداعه لدى رجال ُيدعون باسم ُحكماء امل ـلكية‪ ،‬هم أربعة في العدد‪،‬‬
‫ً‬
‫ويتم اختيارهم من أفضل مشايخ بالد الفرس‪ ،‬أحدهم األكثر حكمة واآلخر هو األكثر‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫عدال والثالث هو األكثر اعتداال والرابع هو األشجع‪ .‬واحد من هؤالء ُيعلم الصبي سحر‬
‫وهذا السحر ليس إال عبادة لآللهة‪ ،‬كما يقوم أيضا‬ ‫َمزدا(‪)79‬‬ ‫زرادشت(‪ )78‬ابن أهورا‬
‫ََ‬
‫بتلقينه فنون امل ـلكية"(‪.)80‬‬

‫(‪" )77‬ماسموغان"‪ .‬خالل أوقات الوثنية‪ ،‬كانت هذه الكلمة تعني الكاهن األعظم في الديانة الزرادشتية‪ ،‬وهي تتكون من‬
‫تركيب كلمتين أولها "ماس" والتي تعني العظيم‪ ،‬و "موغان" التي تعني الساحر‪.‬‬
‫‪- The Zend-Avesta: The Vendîdâd. Translated by James Darmesteter. Clarendon Press, 1880. p. XIVIII.‬‬

‫(‪ )78‬زرادشت‪ .‬ولد في مدينة الري بإيران‪ .‬زعيم روحي أسس ما يعرف اآلن باسم الزرادشتية‪ .‬يقدر الكثيرون أنه‬
‫الفيلسوف األول على اإلطالق‪ ،‬كما تم وصفه بأنه أب األخالق والفيلسوف العقالني األول‪.‬‬
‫‪- Abraham Valentine Williams Jackson, Zoroaster the Prophet of Ancient Iran. Columbia University Press,‬‬
‫‪1899.‬‬
‫(‪ )79‬يقول بلوتارخ‪" :‬أهورا َمزدا إله الضوء وأهريمان إله الظالم في حالة حرب مستمرة مع بعضها البعض‪ .‬أهورا َمزدا‬
‫خلق ستة آلهة‪ ،‬األول من الفكر الصالح والثاني من الحقيقة والثالث من النظام‪ ،‬والباقي واحد من الحكمة وواحد‬
‫من الثروة وواحد من صانعي املتعة في ما هو مشرف‪ .‬أما أهريمان فقد خلق منافسين كانوا يساوون هؤالء في العدد‪،‬‬
‫بعيدا عن الشمس بقدر ما تبعد عن‬ ‫وسحب نفسه ً‬ ‫َ‬ ‫ثم قام أورومازس بتوسيع نفسه ثالث مرات من حجمه السابق‪،‬‬
‫األرض وزين السماوات بالنجوم ‪.".....‬‬
‫‪- Plutarch, Isis and Osiris. Published in Vol. V of the Loeb Class Library edition, 1936. 46,47. pp. 113-115.‬‬
‫(‪ )80‬يقول أفالطون في ألكيبيادس‪" :‬عندما يبلغ األوالد سبع سنوات من العمر‪ ،‬يتم إعطاؤهم الخيول ويحظون بدروس‬
‫عاما‪ ،‬يتم إيداعه إلى األساتذة امللكيين‬ ‫في الفروسية‪ ،‬ويبدؤون في تعلم املطاردة‪ .‬وعندما يصل الصبي إلى أربعة عشر ً‬
‫كما يطلق عليهم هناك‪ :‬هؤالء الرجال األربعة الذين تم اختيارهم كأكثرهم تبجيال بين الفرس في سن الرشد‪ .‬وهم‬
‫ً‬
‫األكثر حكمة واألكثر عدال واألكثر اعتداال واألشجع‪ .‬أول هؤالء املشايخ من يعلمه تقاليد زرادشت السحرية نجل أهورا‬
‫ً‬
‫َمزدا وهي عبادة اآللهة‪ ،‬كما يعلمه أيضا ما يخص امللك‪ .‬أما العادل فيعلمه أن يكون صادقا طيلة حياته‪ ،‬واألكثر‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫رجال ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫حقيقيا‪ ،‬وبالتالي سيد‬ ‫حرا وملكا‬ ‫معتادا على أن يكون‬ ‫اعتداال أال يتم التحكم فيه ولو بمتعة واحدة حتى يكون‬
‫كل ش يء في نفسه قبل كل ش يء وليس عبدا‪ ،‬في حين أن األشجع يدربه على أن يكون جريئا وشجاعا ‪."...‬‬
‫‪- Plat, Alc. I. 121e, 122a.‬‬

‫‪40‬‬
‫بطيش فن السحر؟ إنه فن مبارك من اآللهة الخالدة‪ ،‬ز ٌ‬
‫اخر‬ ‫ُ‬
‫أتسمع يا من تتهم‬ ‫‪-26‬‬
‫ٍ‬
‫غاص بالتقوى والحكمة في األشياء اإللهية‪ُ ،‬م ٌ‬
‫فعم بالشرف‬ ‫ٌّ‬ ‫بمناسك العبادة والصالة‪،‬‬
‫واملجد منذ اليوم الذي رسخه فيه زرادشت وأهورا َمزدا‪ ،‬الكهنوت األسمى لقوى‬
‫السماء‪ .‬بل وإنه أحد املبادئ األولى للتدريس األميري‪ ،‬فال يتقبلون أي شخص ِجزافا‬
‫كتب أفالطون ‪ -‬إن جاز لي أن‬‫ليكون ساحرا‪ ،‬أكثر مما أمكنهم أن يتقبلوه ملكا‪ .‬هذا وقد َ‬
‫لشخص يدعى زاملوكسيس الثراس ي(‪ )81‬وهو سيد لهذا‬ ‫ٍ‬ ‫أقتبس منه مجددا ‪ -‬حين تطر َق‬
‫الفن‪" :‬ما الرقى إال كلمات أخاذة"(‪ .)82‬فإذا كان األمر كذلك‪َ ،‬ف ِلم ُأ َ‬
‫حر ُم من تعلم كلمات‬
‫زاملوكسيس الرائعة أو التقاليد الكهنوتية لزرادشت؟ لكن لو كان مفهوم الساحر عند‬
‫قادر بفضل تواصله باآللهة على فعل كل‬
‫ٍ‬ ‫كشخص‬
‫ٍ‬ ‫متهمي ُمشتقا من رأي العوام‪،‬‬
‫األعاجيب التي يقوم بها بقدرة التعاويذ الخارقة‪ ،‬فإني أتعج ُب وحق اآللهة من عدم‬
‫خشيتهم مهاجمة شخص يقرون له بالجبروت طاملا يستحيل لهم االحتماء من هذا‬
‫ا ِملحال الغامض واإللهي‪.‬‬

‫ترقبا ألخطار أخرى قد نتخذ ُوسعنا من احترازات‪ .‬فمن ُي ِحل قاتال أمام القاض ي يأتي إلى‬
‫يحرص بشدة على ما يتناوله‪ ،‬والذي يتهم نشاال‬‫ُ‬ ‫سمما‬ ‫ُ‬
‫املحكمة بمعية رفقاء‪ ،‬ومن يتهم م ِ‬
‫يجر ساحرا له من القدرات املروعة‬ ‫شخص ُّ‬ ‫يشدد الحراسة على ممتلكاته‪ .‬أما في حالة‬
‫ٍ‬
‫ما تزعمون إلى مصير اإلعدام‪ ،‬فهل ِب ِوسع املرافقة أو التدابير أو الحراس أن يحولوا دون‬
‫تعرضه لنائبة ال ُمبصر وال راد لها؟ ال سبيل إلنقاذه طبعا‪ .‬ولذا فإن الشخص الذي‬
‫يؤمن بهذه التهمة هو آخر من ُ‬
‫يرفع هذه الدعوى‪.‬‬

‫)‪ (81‬زاملوكسيس‪ .‬طبيب من ثراقيا وفقا ملا يرويه أفالطون في مؤلفه شارميداس‪.‬‬
‫‪- Plat, Charm. 156d.‬‬
‫(‪ )82‬يفترض أن أبوليوس يستخدم بحيلة اقتباسا ألفالطون من شارميداس‪" :‬لذلك قال‪ :‬يا صديقي الرائع‪ ،‬عن طريق‬
‫بعض السحر‪ ،‬وهذا السحر ما هو إال كلمات مختارة ‪."...‬‬
‫‪- Ibid., 157a.‬‬

‫‪41‬‬
‫ُ‬
‫يعتقد‬ ‫‪ -27‬لكن الجهلة ما انفكوا ُيجرمون الفالسفة على أساس هذا الخطأ الشائع‪ ،‬إذ‬
‫بعضهم أن أولئك الذين يتقص ْون أصول وظواهر العالم املادي هراطقة ويزعمونهم‬
‫وديموكريتوس(‪)85‬‬ ‫وليوكيبوس( ‪)84‬‬ ‫أناكساغوراس(‪)83‬‬ ‫مالحدة‪ ،‬ولكم في حاالت‬
‫وايبيكوروس(‪ )86‬وغيرهم من الفالسفة الطبيعيين مثاال‪.‬‬

‫أما البعض فهم يدعون بالسحرة أولئك الذين جعلهم انغماسهم في مسائل التدبير‬
‫وعبادتهم لآللهة ينجزون أمورا وكأنهم كانوا على علم بما يفعلون‪ ،‬ولذلك ُ‬
‫اعتبر‬ ‫ٍ‬

‫(‪ )83‬أناكساغوراس‪ .‬فيلسوف إغريقي ولد في كالزوميناي سنة ‪ 500‬ق‪.‬م‪ .‬يعتبر أب العلوم الحديثة‪ .‬عاش وتعلم في أثينا‬
‫وح ِكم عليه بالنفي سنة ‪ 432‬قبل امليالد بسبب تدخل صديقه بيريكليس‬ ‫من سنة ‪ 461‬إلى ‪ 432‬ق‪.‬م‪ .‬اتهم بالهرطقة ُ‬
‫ِ‬
‫الذي جنبه اإلعدام‪ ،‬توفي في المبساكوس سنة ‪ 428‬ق‪.‬م عن عمر يناهز ‪ً 72‬‬
‫عاما‪.‬‬

‫‪- The Students; Or, Biography of Grecian Philosophers. By the Author of “Wars of the Jews,” Etc. [i.e.‬‬
‫‪Christian I. Johnstone. With Plates.]. John Harris, London. pp. 61-67.‬‬

‫(‪ )84‬ليوكيبوس‪ .‬فيلسوف إغريقي ولد في القرن ‪ 5‬ق‪.‬م بإيليا وهو مؤسس النظرية الذرية ومفاهيم الجزيئات‪ .‬يخبرنا‬
‫ديوجنس عن الكثير من أفكاره‪.‬‬

‫‪-Diog. Laert. IX. 6.‬‬

‫(‪ )85‬ديموكريتوس‪ .‬تلميذ ليوكيبوس‪ .‬ولد بأفديرة سنة ‪ 460‬ق‪.‬م وهو فيلسوف إغريقي اشتهر بلقب الفيلسوف‬
‫الضاحك‪ ،‬يوجد ما يقرب من ‪ 70‬مؤلفا له حول الفلسفة الطبيعية‪ ،‬والرياضيات‪ ،‬واملوسيقى وغيرها‪ ،‬عارضه أرسطو‬
‫بشدة في ما يخص أعماله ونظرياته حول الذرة‪ .‬ولد في عائلة ثرية وكحال أبوليوس أنفق أمواله في أسفاره بين األقطار‬
‫لتحصيل املعرفة‪ .‬اكتسب لقب الضاحك بسبب استهزائه الدائم بحماقة الناس‪.‬‬

‫‪- Richard D. McKirahan, Philosophy before Socrates (Second Edition): An Introduction with Texts and‬‬
‫‪Commentary: An Introduction with Texts and Commentary. Hackett Publishing, 1 mars 2011. pp. 303-‬‬
‫‪342.‬‬

‫(‪ )86‬ايبيكوروس‪ .‬فيلسوف إغريقي ولد في جزيرة ساموس سنة ‪ 341‬ق‪.‬م‪ .‬كرس نفسه لدراسة أفالطون وديموكريتوس‪،‬‬
‫وقام بتطوير وتحديث نظرية ديموكريتوس 'أساس األشياء'‪ .‬لم يعترف بش يء في العقل عدا األحاسيس‪ ،‬وال ش يء في‬
‫الطبيعة سوى األجسام‪ ،‬ولذا استفسر عن مكونات هذه املركبات‪ ،‬وبالتالي جاء إلى فكرة الذرات األبدية غير القابلة‬
‫للتجزئة‪ ،‬والتي هي مبادئ كل األشياء‪ .‬توفي سنة ‪ 270‬ق‪.‬م‪.‬‬

‫‪- Caleb Sprague Henry, An Epitome of The History of Philosophy ... Translated from The French, With‬‬
‫‪Additions, And A Continuation of The History from The Time of Reid To the Present Day. Aberdeen: A‬‬
‫‪Brown & Co; Edinburgh: A.&C. Black; Oliver & Boyd; London: Longman & Co. 1849. pp. 126-131.‬‬

‫‪42‬‬
‫ً‬
‫سحرة‪ ،‬بينما ارتبطت شكوك‬ ‫وأوستانس(‪)89‬‬ ‫ايبيمينيداس(‪ )87‬وأورفيوس(‪ )88‬وفيثاغورس‬
‫مماثلة بالتطهيرات اليمبيدوكليس(‪ )90‬وبشيطان سقراط وبالفضيلة ألفالطون‪ .‬ولذا فأنا‬
‫أرى في إدراجي بين هؤالء األشراف تكريما لشخص ي‪.‬‬

‫تستند اتهامات خصومي إلى حكايات فارغة‬ ‫َ‬ ‫ومع ذلك فإني أخش ى يا ماكسيموس أن‬
‫أنت محمل الجد ملجرد أن دفعوا بها دعما لقضيتهم‪ .‬يقول‬ ‫وطفولية وسخيفة‪ ،‬فتحملها َ‬
‫ِ‬
‫بحثت عن أنواع محددة من األسماك؟'‪ .‬أال ُيتاح للفيلسوف أن ُيرض ي شغفه‬‫َ‬ ‫مت ِهمي‪'ِ :‬ل َم‬
‫في املعرفة بما ُيباح للشره استخدامه في إرضاء َنهمه! هو يسأل‪' :‬ما الذي َ‬
‫دفع امرأة ُحرة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫إلى الزواج منك بعد ثالثة عشر عاما من الترمل؟'‪ .‬وأنا أجيب‪ :‬أليس العجب باألحرى في‬
‫ْ‬
‫أعربت عن آراء خاصة في رسالة قبل أن تتزوجك؟'‪.‬‬ ‫بقائها أرملة طيلة هذه السنوات! ِ'لم‬

‫(‪ )87‬ايبيمينيداس‪ .‬فيلسوف وشاعر إغريقي ولد في كنوسوس بجزيرة كريت في القرن ‪ 6‬ق‪.‬م‪ .‬وفقا لديوجنس فقد اشتهر‬
‫في كل بالد اإلغريق بسبب نومه في كهف مدة ‪ 57‬سنة كاملة عندما ذهب ليبحث عن خروف ضال في الريف استجابة‬
‫لطلب أبيه‪ ،‬عندما استيقظ وجد أخاه قد أضحى شيخا عجوزا‪ .‬أرسلت له أثينا تترجاه تطهيرها من الوباء بناء على‬
‫توصية من الكاهنة بيثيا‪ ،‬فطهر مدينتهم وأوقف الطاعون من االنتشار‪.‬‬
‫‪- Diog. Laert. I. 10.‬‬
‫(‪ )88‬أورفيوس‪ .‬شاعر وموسيقي أسطوري‪ .‬كرمه اإلغريق كأعظم جميع الشعراء واملوسيقيين‪ ،‬إذ قيل‪" :‬بينما اخترع‬
‫هيرميس القيثارة‪ ،‬فقد أتقنها أورفيوس"‪ .‬كما قيل أيضا إن موسيقى وأغاني أورفيوس يمكن أن تسحر الطيور‬
‫واألسماك والوحوش البرية وتدفع األشجار والصخور إلى الرقص وتحول مجرى األنهار‪.‬‬
‫‪- Ovid, Metamorphoses. 11.‬‬
‫(‪ )89‬أوستانس‪ .‬يقدر أن يكون ساحرا من ديانة زرادشت‪ .‬يقول بليني األكبر‪" :‬أول شخص‪ ،‬بقدر ما أستطيع التأكد‪،‬‬
‫والذي كتب عن السحر وما زالت أعماله موجودة‪ ،‬كان أوستانس الذي رافق امللك الفارس ي زركسيس في بعثته ضد‬
‫بالد اإلغريق‪ .‬كان هو أول من نشر كما حصل‪ ،‬جراثيم هذا الفن البشع‪ ،‬ملوثا به جميع أنحاء العالم التي مر بها‬
‫ثان‪ ،‬وهو من مواطني‬ ‫الفرس‪ ،‬كما يذكر املؤلفون الذين قاموا باستفسارات جادة في هذا املوضوع زرادشت ٍ‬
‫بروكونيسوس‪ ،‬على أنه كان يعيش قبل زمن أوستانس بقليل‪ .‬أن هذا هو نفسه أوستانس الذي ألهم اإلغريق على‬
‫وجه التحديد‪ ،‬ليس بالعشق فحسب بل بالشغف لفن السحر‪ ،‬هو حقيقة ال شك فيها ‪." ...‬‬
‫‪- Plin, Nat. 30.2.‬‬
‫(‪ )90‬ايمبيدوكليس‪ .‬فيلسوف إغريقي من أتباع فيثاغورس‪ .‬ولد حوالي ‪ 484‬قبل امليالد بأجريجنتوم في صقلية‪ .‬كتب‬
‫قصيدة من ‪ 3000‬سطر بعنوان 'التطهيرات' ‪ .καθαρμοί‬وصفه أرسطو بمخترع فن الخطابة وأنه من مدرسة‬
‫هوميروس‪ ،‬قوي في اإللقاء‪ .‬يؤكد ساتيروس أنه كان خطيبا وطبيبا‪ ،‬وكان الفيلسوف غورغياس الليونتيومي تلميذه‪،‬‬
‫يروي ساتيروس نقال عن غورغياس أنه كان شاهدا على قيام ايمبيدوكليس بمآثر سحرية‪ .‬يؤكد هيراكليدس وأرسطو‬
‫أنه توفي عن عمر ‪ 60‬سنة‪.‬‬
‫‪- Diog. Laert. VIII. 2.‬‬

‫‪43‬‬
‫أحد أسباب اآلراء الشخصية آلخر! ثم يتابع‪' :‬مع أنها‬ ‫ُ‬
‫هنا أتساءل‪ :‬أيعقل أن أطلب من ٍ‬
‫كاف على أنه لم‬
‫كانت تفوقك سنا إال أنها لم تستخف بشبابك'‪ .‬في هذا الكالم دليل ٍ‬
‫رجل‪ ،‬أو أرملة بالزواج من أعزب‬
‫تكن هناك حاجة إلى السحر إلقناع امرأة بالزواج من ٍ‬
‫ُ‬
‫يصغرها ببضع سنوات! هذا وتوجد ُتهم أخرى ال تقل عن سابقتها طيشا‪' :‬أبوليوس‬
‫الجرم في عدم وجود ما ُيعبد على‬
‫يحتفظ بش يء غامض في منزله يعبده بوقار'‪ .‬أليس ُ‬
‫شاب أو حتى ٌ‬
‫شيخ في‬ ‫اإلطالق! 'سقط صبي على األرض في وجود أبوليوس'‪ .‬ماذا لو سقط ٌ‬
‫ُ‬
‫داهمه أو ملجرد َزلق األرض! أتأمل بهذه األدلة إقامة البينة على‬ ‫مرض‬ ‫وجودي من جراء‬
‫ٍ‬
‫اتهامك بالسحر‪ :‬سقوط غالم بائس‪ ،‬زواجي من عقيلتي‪ ،‬مشترياتي من السمك؟‬
‫ُ َ‬
‫وخ ُ‬
‫تم مرافعتي دون أدنى خطر لوال تمادي متهمي في‬ ‫‪ -28‬كان بوسعي االكتفاء بما قلت‬
‫زمن ال يحول دون‬ ‫ُ‬
‫استغالل الوقت‪ ،‬ما أتاح لي متسع ما تشير إليه الساعة املائية من ٍ‬
‫تدبرنا في اتهاماتهم تفصيال بتفصيل‪ .‬لن أنكر في أي منها صحيحها أو باطلها‪ .‬سأفترض‬
‫حقيقتها كي يتسنى لهذا الحشد الكبير الذي التأم من كل صوب لسماع هذه القضية أن‬
‫همة ضد‬ ‫ُ‬
‫يتبين ال استحالة الدفع بتجريم حقيقي ضد الفالسفة فحسب‪ ،‬بل تلفيق أي ت ٍ‬
‫أولئك الذين ال يؤثرون ‪ -‬بقدر ثقتهم في براءتهم ‪ -‬الدفاع عن أنفسهم وإن كان بوسعهم‬
‫ُ‬ ‫ً ُ‬
‫بصلة‪ ،‬ثم أظهر بعد‬
‫إنكارها‪ .‬ولذا سأستعرض حججهم بداية وأثبت أنها ال تمت للسحر ٍ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ذلك أني ولو ُ‬
‫قدم سببا أو مناسبة حتى أدان على أية‬
‫ساحر فرضا‪ ،‬لم أ ِ‬
‫ٍ‬ ‫كنت أمهر‬
‫ممارسة منكرة‪ .‬وفي خضم ذلك أواجه أكاذيبهم التي ساقوها إلثارة الشحناء ضدي بسوء‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫اقتباسهم وتأويلهم املغرض لرسائل زوجتي‪ ،‬وحول زواجي ببودونتيال ُمبينا أني أ َه ُلتها ُح ًبا‬
‫لها ال للمال‪ ،‬فقد عاد زواجنا على أيميليانوس بفائق ُ‬
‫الضر والضراء طاملا أبدى في إدارته‬
‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬
‫كشفت كل هذه الحيثيات‬ ‫رف وهذيان‪ .‬فإن‬
‫غضب وخ ٍ‬
‫ٍ‬ ‫يفيض به من‬ ‫لهذا االتهام كل ما‬
‫بوافر الوضوح والجالء‪ ،‬فسأناشدك بعد ذلك يا كلوديوس ماكسيموس ومعك كل‬
‫الحاضرين أن تستقصوا قولي‪ ،‬بأن الصبي سيكينيوس بودنس هرلي الذي يتهمني عمه‬
‫اآلن من خالله َو ِبرضاه قد ُس ِلب من كفالتي مؤخرا بعد وفاة أخيه بونتيانوس الذي كان‬
‫ُ‬ ‫أكبر منه ًّ‬
‫سنا وأرفع خلقا‪ ،‬وأنه كان ساخطا بشدة علي وعلى أمه دون خطأ مني‪ ،‬وأنه‬

‫‪44‬‬
‫تخلى عن دراسة الفنون املتحررة(‪ )91‬وأطلق العنان لكل محظور‪ .‬وبفضل التنشئة التي‬
‫تنعكس منه في هذا االتهام الخسيس فمن املرجح أنه يشبه عمه أيميليانوس ال أخاه‬
‫بونتيانوس‪.‬‬
‫ُ‬
‫سألقف تخرصات أيميليانوس واحدة تلو األخرى ً‬
‫بدءا بهذه‬ ‫‪ -29‬اآلن وكما َوعدت‪،‬‬
‫املتهم كأنجع وسيلة‬ ‫َ‬
‫التهمة‪ ،‬والتي البد وأنك الحظت اعتالءها مقام الشرف عند خطاب ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫طلبت من الصيادين بعض أنواع األسماك‪.‬‬ ‫لديه في إلصاق شبهة الساحر بي‪ُ ،‬تهمة أني‬
‫ُ‬
‫قطة من هاتين تثير الشك في السحر؟ أن الصيادين سعوا ليزودوني بالسمك؟‬ ‫أي ن ٍ‬
‫أتر ُيدون مني أن أكلف الصاغة أو النجارين بذلك؟ وأجعلهم تجنبا الفتراءاتكم يغيرون‬
‫ص ْنعتهم حتى يقوم النجار بصيد السمك لي ويأخذ الصياد مكانه ويحتطب خشبه؟ أم‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫دفعت مقابلها ثمنا؟ لئن‬ ‫َ‬
‫استنتجتم أن األسماك كانت مطلوبة ألغراض فضيعة ألني‬
‫ُ‬
‫أردتها ملأدبة‪ُ ،‬أيفترض بي أن أحصل عليها مجانا! ِلم ال تذهبون أبعد من ذلك وتتهموني‬
‫كنت أشتري النبيذ والخضروات والفواكه والخبز؟ ما‬ ‫ألسباب كثيرة مماثلة‪ ،‬فكثيرا ما ُ‬

‫أسستم إليه يقض ي بتجويع باعة الطعام جميعا‪ ،‬ومن سيغامر على اإلطالق بشراء‬
‫الطعام منهم إن ُح ِكم على أي شخص يدفع أمواال ليحصل على املؤن أنه يبتغيها‬
‫للشعوذة ال لألكل؟ ولكن إن لم يكن هناك ما يثير الشكوك في هذه األقاويل‪ ،‬ال في دعوة‬
‫أقص ُد صيد األسماك ‪ -‬وهنا أشير‬‫ثمن إلى مزاولة نشاطهم املعتاد‪ِ ،‬‬
‫الصيادين مقابل ٍ‬
‫باملناسبة أن االدعاء لم يستعرض أيا من هؤالء الصيادين‪ ،‬والذين هم في حقيقة األمر‬
‫يأت‬
‫صنع خيالهم ‪ -‬وال في الثمن املدفوع مقابل سلعة متداولة ‪ -‬إذ لم ِ‬ ‫مخلوقات من ُ‬
‫كر ثمنه مخافة تتفيهه إن ذكروا مبلغا بخسا‪ ،‬وعدم تصديقه إن ذكروا‬
‫االدعاء على ِذ ِ‬

‫(‪ )91‬الفنون املتحررة‪ .‬اختلف التصنيف الدقيق للفنون الليبرالية في العصر الروماني‪ ،‬إال أن الفضل يعود إلى الكاتب‬
‫املادوري وعالم الفلك واملوسوعي الشهير مارتيانوس مينيوس فيلكس كابيال في القرن الخامس امليالدي في مؤلفه ‪De‬‬
‫‪ nuptiis philologiæ et Mercurii‬أو 'عن زواج ميركوري وفيلولوجيا' الذي أهداه البنه "ماريانيوس"‪ ،‬أين تم إحضار‬
‫الفنون السبعة جاعال منهن إشبينات لزواج ميركوري وفيلولوجيا‪ ،‬وهن النحو والجدلية والبالغة والهندسة والحساب‬
‫وعلم الفلك واإليقاع (املوسيقى)‪.‬‬
‫‪- Remi, Remigii Autissiodorensis Commentum in Martianum Capellam. Libri I-II, ed. Cora E. Lutz, Leyde,‬‬
‫‪Brill Archive, 1962. pp. 17-22.‬‬

‫‪45‬‬
‫كنت أقول إنه ال يوجد ما يثير الشبهة في هذه األمور‪ُ ،‬‬
‫فليجبني‬ ‫مبلغا باهظا ‪ -‬إن ُ‬

‫أيميليانوس ما لم ينضب َم ِع ُينه‪ ،‬ما الذي دهاهم التهامي بالسحر!‬


‫َ‬
‫‪ -30‬يقول 'أنت تسعى لشراء السمك'‪ .‬لن أنكر ذلك ولكني أسألك‪ ،‬أ َم ْن يفعل ذلك‬
‫ساحر؟ ليس أكثر في رأيي من أن أسعى لشراء األرانب أو لحم الخنزير أو ديوك سمينة‪ .‬أم‬
‫كنت تعرف‬‫أن هناك ما تنفرد به األسماك ويخفى عن الجميع باستثناء السحرة؟ إن َ‬
‫َ‬
‫دفعت باتهام ذي‬ ‫كنت تجهله فالبد أن ُتقر بأنك‬
‫ماهيته فمن الواضح أنك ساحر‪ ،‬وإن َ‬

‫طبيعة تجهلها تماما‪ .‬وما يحدوكم في ذلك إال جهلكم بكل املعارف بل وبكل الحكايات‬
‫ُ‬
‫ظهر بعض املعقولية! بأن ما‬‫الشعبية‪ ،‬حتى تعجزوا عن تلفيق اتهامات من شأنها أن ت ِ‬
‫ستخرج من البحر‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫وبليد كالسمك أو أي ش يء آخر ُم‬ ‫َيلزم لتأجيج الحب هو مخلو ٌق ٌ‬
‫بارد‬
‫ٍ‬
‫عث فينوس من البحر دعما لكذبكم(‪)92‬؟ أترجاك أن‬ ‫َ‬
‫ما لم تزجوا طبعا بأسطورة ب ِ‬
‫السخف الذي أظهرته َ‬
‫وأنت ترى في‬ ‫ُتصغي إلي تانونيوس بودنس فلربما تكتشف مدى ُ‬
‫أت فيرجيل الخاص بك فستطلع دون شك على أشياء‬ ‫السمك دليال على السحر‪ .‬لو قر َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫يذكر األماليد واألعشاب‬ ‫مختلفة تماما تستحضر لهذا الغرض‪ ،‬وهو بقدر ما أتذكره‬
‫س‬ ‫ُ َّ‬
‫وطين ميب ٍ‬
‫الفواحة واللبان الذكر والخيوط امللونة‪ ،‬فضال عن غصن يابس من الرند ٍ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫أشياء أخرى ذكرها في قصيدة أكثر خطورة(‪:)93‬‬
‫ٍ‬ ‫ذاب في النار‪ ،‬فضال عن‬
‫وشمع م ٍ‬
‫ٍ‬
‫الم ُس ٍم ظالمي‪.‬‬ ‫ٌ َ ُ ُ‬ ‫ٌ‬ ‫لتمس الليلة القمراء ُلت َ‬
‫" ُت ُ‬
‫بمنجل نحاس ي‪ ،‬أعشاب خطرة تقطر ِبه ِ‬‫ٍ‬ ‫شذب‬
‫ُ َّ ُ‬ ‫ُ‬
‫مزق منه قبل أن‬ ‫مهر فور والدته‪ ،‬والذي ي‬
‫وتلتمس أيضا تلك التميمة العجيبة من جبين ٍ‬
‫تنتشله والدته"‪.‬‬

‫(‪ )92‬يفترض أن أبوليوس يستذكر املقطع امللحمي للشاعر اإلغريقي من القرن الثامن قبل امليالد هيسيود في مؤلفه‬
‫ثيوغونيا أو 'أنساب أو مولد اآللهة'‪ ,‬أين يروي أسطورة مولد اآللهة أفروديت‪/‬فينوس‪ ..." :‬وانتشرت رغوة بيضاء‬
‫حولهم من اللحم الخالد‪ ،‬ومنه انبعثت عذراء‪ .‬فاقتربت أوال من سيثيرا املقدسة‪ ،‬ومن هناك أتت إلى جزيرة‬
‫قبرص‪ ،‬أين تراءت آلهة ضخمة وفائقة الجمال‪ ،‬ونما العشب حولها تحت قدميها الرشيقتين‪ ،‬يدعوها اآللهة والرجال‬
‫أفروديت ‪."....‬‬
‫‪- Hesiod, Theogony. 173.‬‬

‫(‪ )93‬األبيات من ملحمة اإلنيادة الشعرية لفيرجيل‪.‬‬


‫‪- Vergilius, Aeneid. IV. 513-516.‬‬

‫‪46‬‬
‫ُّ‬ ‫أنت املفتري على األسماك َت ُ‬
‫لكنك َ‬
‫حر ال ُيحذ‬ ‫نسب وسائل مختلفة ً‬
‫تماما إلى السحرة‪ِ .‬س ٌ‬
‫ُّ‬
‫من ِج َباه املواليد الجدد بل ُيجذ من ظهور ُحرشفية‪ ،‬وال ُيقتلع من أصعدة األرض بل‬
‫ُ‬ ‫ُيستخرج من أغوار املحيط‪ ،‬وال ُيجز باملناجل بل َي ْع ُ‬
‫صوص‪ .‬وحين يتحدث‬ ‫ٍ‬ ‫لق في ش‬
‫وأنت طبقا من الطعام‪ ،‬وحين يذكر‬ ‫فيرجيل عن الفن األسود ختاما فهو يقدم ُس ًّما َ‬
‫ش َ‬
‫أنت في ْ‬
‫املوج‪.‬‬ ‫أنت عن قشور وعظام‪ ،‬وحين يحصد املرج ُتفت ُ‬ ‫أعشابا وفسائل تتحدث َ‬

‫وأخرى عديدة من‬ ‫ثيوكريتوس( ‪)94‬‬ ‫ُ‬


‫كنت سأقتبس لفائدتك أيضا مقاطع مماثلة من‬
‫هوميروس(‪ )95‬وأورفيوس(‪ )96‬ومن شعراء هزليين وتراجيديين ومن مؤرخين لو لم أالحظ‬
‫َ‬
‫أستشهد بأكثر‬ ‫للتو عجزك عن قراءة رسالة بودونتيال املكتوبة باللغة اليونانية‪ ،‬ولذا لن‬
‫من شاعر التيني واحد‪ ،‬وبأسطر سيتعرف عليها كل من قرأ لاليفيوس(‪:)97‬‬

‫"تعاويذ الحب يسعى لها السحرة في كل البقاع‪' ،‬عقدة الحبيب' اختبروا‪ ،‬ومن أجلها‬
‫َ‬
‫جذ ُب‬
‫خلطوا‪ :‬شرائط وأظافر وجذور وأعشاب وفسائل‪ .‬وبالعظاءة ذات الذيلين التي ت ِ‬
‫بسحر ُيس ِع ُد الفرس الصاهلة"‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫تظف ُر‬
‫الحب‪ِ ،‬‬

‫بنحو يمكن تصديقه‪ ،‬فما‬ ‫َ‬


‫لطرحت هذه القضية‬ ‫خالق‬ ‫‪ -31‬لو كان لك في الثقافة من‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫َ‬
‫حم َل‬
‫كان لك إال أن تدعي استخدامي ألشياء معروفة كهذه بدال من األسماك حتى ت ِ‬

‫الرعوي‪ .‬يفترض أن‬ ‫(‪ )94‬ثيوكريتوس‪ .‬شاعر إغريقي ولد سنة ‪ 300‬ق‪.‬م في سيراكوز‪ .‬يعتبر مؤسس األدب أو الشعر َّ‬
‫أبوليوس يستشهد بواحدة من قصائد إديال القصيرة الثالثين‪ ،‬الثانية تحديدا‪ ،‬والتي أتت تحت عنوان 'السحر' أين‬
‫تقوم فتاة من كوان تدعى 'سيمايثا' بصنع تعويذة لتلقيها على عشيقها املهمل لها 'دلفيس' باستخدام عديد املواد‪.‬‬
‫‪- Theocritus, Idylls. II.‬‬
‫(‪ )95‬يشير أبوليوس لرائعة األوديسية لهوميروس وباألخص ما وقع بين أوديسيوس ورجاله من جهة والساحرة كيركي من‬
‫جهة أخرى‪.‬‬
‫‪- Homer, Odyssey. X. 212-425.‬‬
‫(‪ )96‬يفترض أن أبوليوس يستذكر القصيدة امللحمية ‪ Argonautica Orphica‬والتي تسرد قصة جايسون واملغامرين‪.‬‬
‫ُيقدر الكثيرون أن أبولونيوس الرودس ي قد أعادها بطريقته في القرن ‪ 3‬ق‪.‬م بنفس االسم ‪ .Argonautica‬أين يلجأ‬
‫البطل جايسون لالستعانة بالعقاقير السحرية مليديا‪.‬‬
‫‪- The Argonautica; edited with introd. and commentary by George W. Mooney. Longmans, Green, and Co.,‬‬
‫‪39 Paternoster Row. London. p. 39.‬‬

‫(‪ )97‬اليفيوس ميليسوس‪ .‬شاعر التيني من القرن األول ق‪.‬م ومؤلف ‪.Erotopaegnia‬‬
‫‪- Suetonius, On Grammarians. 3. 1. 1.‬‬

‫‪47‬‬
‫فائدة ُترجى من األسماك عدا طهيها وتناولها في الوجبات؟‬
‫ٍ‬ ‫الناس ربما على تصديقك‪ُّ .‬‬
‫فأي‬
‫أنا عن نفس ي ال أراها ُتجدي نفعا في السحر‪ ،‬وها أنا أخبرك ِلم أقول ذلك‪ :‬يعتقد‬
‫الكثيرون أن فيثاغورس كان من أتباع زرادشت وبارعا في السحر مثله‪ ،‬ومع ذلك فقد‬
‫ُد ِون أنه في أحد األيام الحظ بعض الصيادين وهم يقومون بسحب شبكتهم بالقرب من‬
‫ميتابونتوم على ساحل ايطاليا التي اتخذها موطنا وحولها بتأثيره إلى بالد إغريق ثانية‪،‬‬
‫أمر بتحرير جميع األسماك‬ ‫فابتاع منهم قدر ما تفيض به من سمك‪ ،‬وبعد دفع الثمن َ‬
‫ِ‬
‫ً‬
‫التي َع ِلقت في شراك الشبكة وبإعادتها للبحر‪ .‬طبعا لم يكن ليسمح لها أبدا بالفالت من‬
‫نه قيمتها في السحر‪ .‬ولكونه طفرة في العلم ومولعا بالرجال القدامى فقد‬ ‫حوزته لو َك َ‬
‫ُ‬
‫أحيط علما بأن هوميروس(‪ )98‬الشاعر املتعدد الجوانب أو علي باألحرى أن أقول‪ :‬العريف‬
‫َ‬
‫بكل املعارف‪ ،‬تحدث عن قدرة كل األدوية التي تنتجها األرض دون أن يأت أبدا على ِذ ِ‬
‫كر‬
‫البحر‪ ،‬وفي حديثه عن ساحرة كتب هذا السطر‪:‬‬
‫"لقد َع ْ‬
‫رفت كل األدوية التي جادت بها هذه األرض الشاسعة"‪.‬‬

‫وبا ِملثل في مقطع آخر يقول‪:‬‬


‫ُ َ‬
‫قدح تأتي بالداء‬
‫ٍ‬ ‫في‬ ‫خلط‬‫"تجود عليها األرض مانحة الحبوب بعقاقير عدة‪ ،‬فما أن ت‬
‫والدواء"‪.‬‬

‫(‪ )98‬يظهر أن أبوليوس يتحدث عن شخصية أغاميد الشقراء في أعمال هوميروس‪.‬‬


‫‪- Homer, Iliad. XI. 741.‬‬

‫‪48‬‬
‫لكن لم يسبق في أعمال هوميروس أن َ‬
‫دهن بروتيوس(‪ )99‬وجهه وال يوليسيس(‪ )100‬خندقه‬
‫به الهوائية‪ ،‬وال هيلين(‪ )102‬قدحها للخلط‪ ،‬وال كيركي(‪)103‬‬‫السحري‪ ،‬وال أيولوس(‪ )101‬ق َر ُ‬
‫ِ‬
‫سحر مستمد من البحر أو من ساكنيه‪ .‬أنتم لوحدكم‬ ‫ٍ‬ ‫كوبها‪ ،‬وال فينوس(‪ُ )104‬زنارها بأي‬
‫َ‬
‫نس كل قوى األعشاب والجذور والفسائل والحص ى من‬ ‫في ذاكرة اإلنسان من أسستم ِلك ِ‬
‫قمم التالل إلى البحر كما لو كانت بعضا من تشنجات الطبيعة وحجزتموها هناك في‬
‫استحضار ميركيوري(‪)105‬‬ ‫أحشاء السمك‪ .‬وفي حين أن السحرة اعتادوا في طقوسهم على‬

‫(‪ )99‬بروتيوس‪ .‬عجوز البحر في أعمال هوميروس‪.‬‬


‫‪- Homer, Odyssey. IV. 364.‬‬
‫(‪ )100‬يوليسيس‪ .‬شخصية البطل في أعمال هوميروس‪ .‬يستذكر أبوليوس املقطع‪" :‬وحفرت حفرة طولها ذراع بهذه‬
‫ً‬
‫الطريقة‪ ،‬وحولها أراقت الخمر على جميع األموات‪ ،‬أوال بالحليب والعسل‪ ،‬بعد ذلك بالنبيذ الحلو‪ ،‬وثالثا باملاء‪ ،‬ونثرت‬
‫دقيق شعير أبيض‪ .‬ثم تضرعت بجدية لرؤوس املوتى ‪."...‬‬
‫‪- Ibid., XI. 25.‬‬
‫(‪ )101‬أيولوس‪ .‬شخصية ميثولوجية في أعمال هوميروس‪ .‬عاش في جزيرة أيوليا العائمة التي زارها أوديسيوس ورفقاؤه‪،‬‬
‫أين استضافهم ملدة شهر وقدم لهم رياحا تنقلهم إلى إيثاكا‪ .‬يستذكر أبوليوس املقطع‪ ..." :‬أعطاني قربة مصنوعة من‬
‫جلد ثور يبلغ من العمر تسع سنوات قام بسلخه‪ ،‬وقيد فيها مسارات الرياح املتقلبة‪ ،‬ألن ابن كرونوس جعله وصيا‬
‫على الرياح ليهدأ ويثور أينما يشاء‪ .‬وفي سفينتي املجوفة ربطها بسرعة بحبل مشع من الفضة‪ ،‬بحيث ال ينساب منها‬
‫نفس ‪."...‬‬
‫‪- Ibid., X. 19.‬‬
‫(‪ )102‬هيلين‪ .‬شخصية ميثولوجية في أعمال هوميروس‪ .‬ابنة زوس‪.‬‬
‫‪- Ibid., IV. 59.‬‬
‫(‪ )103‬كيركي الساحرة‪ .‬شخصية ميثولوجية في أعمال هوميروس‪ .‬يقصد أبوليوس املقطع التالي في األوديسية‪..." :‬‬
‫وقدمت مباشرة وفتحت األبواب املشرقة ودعتهم للدخول‪ ،‬وذهب الجميع معها بحماقتهم عدا أوريلوكوس من بقي في‬ ‫ِ‬
‫الخلف ألنه اشتبه في وجود فخ‪ .‬أحضرتهم ودفعتهم للجلوس على الكراس ي واملقاعد‪ ،‬وصنعت لهم جرعة من الجبن‬
‫والشعير والعسل األصفر مع النبيذ البرامني‪ ،‬ولكن في طبق الطعام مزجت العقاقير املحظورة حتى ينسوا وطنهم‬
‫ً‬
‫تماما‪."...‬‬
‫‪- Ibid., X. 234.‬‬
‫َُ‬
‫إلهة الحب والجمال والرغبة والجنس والخصوبة والرخاء والنصر لدى الرومان‪ .‬تعرف لدى اإلغريق‬ ‫(‪ )104‬فينوس‪.‬‬
‫باسم أفروديت‪ ،‬وواحدة من الشخصيات امليثولوجية في أعمال هوميروس‪.‬‬
‫‪- Homer, Iliad. XIV. 214.‬‬

‫(‪ )105‬ميركيوري‪ .‬مرسول اآللهة أو اإلله الرسول لدى الرومان وإله التجارة والنظير الروماني لإلله اإلغريقي هيرميس‪.‬‬
‫تصفه الترنيمة السحرية املوجودة في ورق البردي املصري‪" :‬لقد قيل لك كمعرفة مسبقة عن األقدار وكحلم إلهي‬
‫ُترسل النبؤات في الليل والنهار"‪.‬‬
‫‪- Papyr, Lond. 46. 414.‬‬

‫‪49‬‬
‫وتريفيا(‪)107‬‬ ‫البصيرة بخبايا الليل‬ ‫وسيلين( ‪)106‬‬ ‫مانح النبوءات وفينوس غاوية األفئدة‬
‫سيدة الظالل‪ ،‬ستقوم أنت بترحيل نبتون(‪ )108‬رفقة ساالسيا(‪ )109‬وبورتومنوس(‪ )110‬وكل‬
‫عشيرة النيريدات(‪ )111‬من ُلجة البحر الباردة إلى ُ‬
‫العباب املشتعل للحب‪.‬‬

‫ذكرتها ال أرى شيئا يجمع السحرة واألسماك معا‪ .‬واآلن إن‬‫‪ -32‬ولهذه األسباب التي ُ‬

‫صنع األشربة‬‫شئتم فلنأخذ بيد أيميليانوس في ما زعمه‪ ،‬بأن األسماك مجدية في ُ‬


‫كل من يطلب سمكا هو بالضرورة‬‫السحرية كما هي كذلك في استعماالتها املعتادة‪ .‬فهل ُّ‬
‫ساحر؟ لئن سلمنا بهذا القول سيكون كل من يملك مركبا شراعيا قرصانا ومن يحمل‬
‫ُ‬
‫ستزعم أن ال ش يء في العالم وإن خال من كل مضرة قد‬ ‫عتلة لصا ومن يحوز سيفا قاتال‪.‬‬
‫ال ُيساء استخدامه يوما‪ ،‬وأن ال ش يء ُمبهج إلى الحد الذي ال يحمل فيه حزنا مكنونا‪.‬‬
‫ُ‬
‫أحد أن يقتني ملراسم الدفن‬
‫ومع ذلك فنحن ال نس يء كل األشياء تأويال‪ .‬فال يخفى على ٍ‬
‫ُ‬
‫البخور والقرفة واملر والعطور األخرى املماثلة مع أنها تستخدم أيضا لتتبيل قربان‬

‫(‪ )106‬سيلين‪ .‬إلهة القمر وابنة الجبابرة هيبيريون وثيا وأخت إله الشمس هيليوس وإلهة الفجر إييوس‪.‬‬
‫‪- Luke Roman, Monica Roman: Encyclopedia of Greek and Roman Mythology. Infobase Publishing, 2010.‬‬
‫‪p. 434.‬‬
‫(‪ )107‬سيدة الظالل تريفيا‪ .‬تعرف لدى اإلغريق باسم هيكات أو ذات األوجه الثالث‪.‬‬
‫‪-Vergilius, Aeneid. 7. 516.‬‬
‫(‪ )108‬نبتون‪ .‬إله البحر وهو تجسيد روماني لإلله اإلغريقي بوسايدون‪.‬‬
‫‪- Charles Mills Gayley, The Classic Myths in English Literature: Based Chiefly on Bulfinch's "Age of Fable".‬‬
‫‪(1855). Ginn, 1893. pp. 189-191.‬‬
‫(‪ )109‬ساالسيا‪ .‬زوجة نبتون وإلهة املياه املالحة وسيدة أغوار املحيط‪.‬‬
‫‪- The City of God (De Civitate Dei): Books 1–10. By Saint Augustine, Bishop of Hippo. Introduced and‬‬
‫‪translated by William S. Babcock. Hyde Park, NY: New City Press, 2012. p. 226.‬‬
‫(‪ )110‬بورتومنوس‪ .‬إله املوانئ والبوابات الروماني‪ .‬ال يزال ينتصب حتى اليوم معبده في روما بالقرب من ‪Forum‬‬
‫‪ .Boarium‬يتحدث عنه أوفيد في كتابة السادس من شعره ‪" :Fastorum‬سيكون البنك كل سلطة على املوانئ‪ ،‬والذي‬
‫نطلق عليه اسم بورتونوس سيتم تسميته بااليمون بلغته الخاصة"‪.‬‬
‫‪- Ovid, Fasti. VI. 545 - 548.‬‬
‫(‪ )111‬النيريدات‪ .‬في امليثولوجيا اإلغريقية هن حوريات البحر الخمسين من بنات نيريوس وإلهة البحر دوريس‪ .‬ذكر‬
‫أسماءهن هيسيود في قصيدة ثيوغونيا‪ ،‬ومن أشهرهن أمفيتريت زوجة بوسيدون‪.‬‬
‫‪- Hesiod, Theogony. 240- 269.‬‬
‫‪- Homer, Iliad. I. 358.‬‬

‫‪50‬‬
‫واستحضار دواء‪ .‬ثم إن هذا السياق سيقودك حتما للتفكير في أن رفاق مينيلوس كانوا‬
‫ً‬
‫سحرة‪ ،‬إذ يروي الشاعر العظيم أنهم صرفوا الجوع في جزيرة فاروس باستخدامهم‬
‫ستصنف في نفس الفئة مع النوارس والدالفين‬ ‫لشصوص معقوفة(‪ .)112‬كال بل ُ‬

‫غرقون أمواال طائلة في املبالغ التي‬ ‫ُ‬


‫والسلطعون‪ ،‬املتأنقين في الطعام أيضا والذين ي ِ‬
‫يدفعونها للصيادين‪ ،‬والصيادين أنفسهم الذين يصطادون ِبفنهم جميع أنواع األسماك‪.‬‬
‫لست مرغما وال ُملزما بإجابتك‪ ،‬لكني أتحداك‬‫ُ‬ ‫'لكن ما حاجتك باألسماك؟' أنت ُتكابر‪.‬‬
‫يت الخربق أو‬ ‫اقتنيتها للغرض الذي اد َ‬
‫عيت ُه‪ .‬حتى وإن اشتر ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫زعمت ُه بأني‬ ‫أن ُت َ‬
‫ثبت ما‬
‫ُ‬ ‫الشوكران الكبير أو األفيون أو ًّأيا من تلك العقاقير‪ ،‬والتي ُ‬
‫بنحو‬
‫ٍ‬ ‫تنفع حين تستخدم‬
‫ُ‬ ‫معقول ُوت ُ‬
‫ميت حين تعطى مع مقادير أخرى أو بإقعاث‪ ،‬فهل يقبل أحدكم أن أحاكم‬
‫ٌ‬
‫كمسم ٍم‪ ،‬فقط ألن تلك العقاقير قادرة على قتل إنسان؟‬

‫كنت في أمس الحاجة القتنائها واستعص ى‬ ‫‪ -33‬ومع ذلك فلنر ما كانت هذه األسماك التي ُ‬
‫ُ‬
‫دفعته لشرائها‪ .‬لقد ذكروا ما ال يزيد عن ثالثة‪.‬‬ ‫َّ‬
‫تستحق الثمن الذي‬ ‫العثور عليها حتى‬
‫ً‬
‫خاطئا ألنهم أكدوا أن‬ ‫أطلقوا على أحدها اسما مستعارا‪ ،‬واختلقوا األخريين‪ .‬كان االسم‬
‫شيئا من الطب كما‬ ‫السمكة كانت أ نب البحر‪ ،‬مع أن خادمي ثيميسون الذي يعرف ً‬
‫ر‬
‫سمعتم من شفتيه ابتاع لي أخرى تماما كي أتفحصها بناء على مقترحه كونه لم يسبق‬
‫َ‬
‫صادف أرنب البحر‪ .‬لكني ُّ‬
‫أقر بأني أبحث عن أنواع أخرى من األسماك‬ ‫له في الواقع أن‬
‫فت ال الصيادين فقط‪ ،‬بل بعض األصدقاء املقربين أيضا بالبحث عن‬ ‫أيضا وقد كل ُ‬
‫ً‬
‫ُ‬
‫ورجوتهم إما أن يصفوا مظهر السمكة أو يرسلوها لي حية‬ ‫جميع أنواع األسماك النادرة‪،‬‬
‫إن أمكن أو ميتة إن تعذر األمر‪ .‬أما الداعي من ذلك فسأوضح عما قريب‪ .‬لقد كذب‬

‫(‪ )112‬يستذكر أبوليوس من أوديسة هوميروس املقطع‪ ...." :‬واآلن كان من املمكن أن تنفذ كل مخازني وقوة رجالي‪ ،‬لو لم‬
‫ُ‬
‫هززت قلبها‪.‬‬ ‫يشفق علي أحد اآللهة وأنقذني‪ .‬حتى إيدوثيا ابنة بروتيوس العظيم شيخ البحر‪ ،‬والتي من دون الجميع‬
‫بعيدا عن رفاقي الذين كانوا يتجولون في الجزيرة ويصطادون بشصوص معقوفة ألن الجوع‬ ‫قابلتني وأنا أتجول وحدي ً‬
‫كان يقرص بطونهم‪ ،‬اقتربت مني وتحدثت قائلة‪' :‬أأنت شديد الغباء‪ ،‬غريب وقليل الذكاء‪ .‬أم أنك تتجاهل إرادتك‬
‫وتسعد بألم املعاناة؟'‪.".....‬‬
‫‪- Homer, Odyssey. IV. 368.‬‬

‫‪51‬‬
‫متهمي ‪ -‬وقد ظنوا أنفسهم ماكرين للغاية ‪ -‬حين أوثقوا على اتهامهم الزائف باالدعاء أني‬
‫كنت أبحث عن اثنتين من وحوش البحر املعروفة بأسماء خليعة‪ ،‬وقد خاب ذلك‬ ‫ُ‬
‫الزميل واملحامي األنوك الذي ال مثيل له تانونيوس وهو ُيشير إلى طبيعة ُ‬
‫الفحش‪ ،‬إذ‬
‫أشار بعد تعتعة طويلة إلى اسم واحدة منهما بعبارة خليعة وإطناب شائن ومقيت‪ ،‬أما‬
‫األخرى فقد وجد نفسه عاجزا عن وصفها بنحو الئق وتفادى الحرج بالعودة إلى أعمالي‬
‫ُ‬
‫وصفت فيه وقفة تمثال فينوس‪.‬‬ ‫واالقتباس من مقطع منها‬

‫تغمره وبخني على عدم استحيائي وصف‬ ‫ُ‬ ‫‪ -34‬كما أنه بتلك الصفوية السامية التي‬
‫ً‬
‫بحسم طاملا يعلن صراحة عن دراسة‬ ‫ٍ‬ ‫أشياء شنيعة بلغة مهذبة‪ .‬قد ُأب ُّت في أمره‬
‫قدم ب َعيه تعبيرا ُم ً‬
‫خزيا لألمور املهيبة إلى درجة تشويهها‪ ،‬وغالبا ما‬ ‫ُ‬
‫البالغة‪ ،‬فكثيرا ما ي ِ ِ ِ‬
‫يلوك لسانه في ما َي ُسر من كالم أو حتى يعتقل تماما‪ .‬واآلن! لنفترض أني لم أقل ً‬
‫شيئا‬ ‫ٍ‬
‫عن تمثال فينوس ولم أستخدم العبارة التي كانت بمثابة الخدمة إليك‪ ،‬ما الكلمات التي‬
‫كنت ستجدها لصياغة االتهام والتي تتناسب مع بالهتك وقدراتك في الكالم؟ أنا أسألك‪،‬‬ ‫َ‬

‫أيوجد ما يفوق حمقا أن يستدل امرؤ في تطابق مسميين بتشابه اسميهما؟ أو أنك‬
‫اعتقدته ضربا من التلفيق أن تدعي بأني سعيت وراء هاتين السمكتين لغرض‬
‫مناف للعقل أن تزعم بأن هذه‬
‫ٍ‬ ‫استخدامهما في وصفات سحرية؟ تذكر أنه ٌ‬
‫طرح‬
‫الكائنات البحرية التي تحمل أسماء فضيعة قد تم السعي إليها ألغراض فضيعة‪ ،‬تماما‬
‫كالقول بأن مشط البحر مطلوب ملشط الشعر‪ ،‬السمكة املسماة صقر البحر في صيد‬
‫الطيور‪ ،‬السمكة املسماة الخنزير الصغير في صيد الخنازير أو جمجمة البحر في استحضار‬
‫املوتى‪ َ .‬دي على هذه التلفيقات الكاذبة والتي تفوق بغبائها ُس َ‬
‫خفها‪ ،‬أني لم أسع مطلقا‬ ‫ر‬
‫للحصول على هذه السلوى البحرية والسفاسف الساحلية ال مجانا وال مقابل املال‪.‬‬
‫ُ‬
‫سعيت وراءها كما تزعمون‪،‬‬ ‫‪ -35‬وفوق ذلك ُّ‬
‫أرد بأنكم تجهلون حتى ماهية األشياء التي‬
‫ألن ما ذكرُتم من أسماك ال قيمة لها‪ ،‬تتواجد في أكوام وبكثرة على أي ساحل وتتهوعها‬
‫أصغر األمواج على اليابسة دون واسطة اإلنسان‪ .‬لم ال تزعمون أني كل ُ‬
‫فت بالتوازي‬ ‫ِ‬
‫جاد وحص ى ملساء‬
‫ثمن إليفائي من الشاطئ بأصداف ذي ِب ٍ‬ ‫ْ‬
‫جمعا من الصيادين مقابل ٍ‬

‫‪52‬‬
‫ومخالب السلطعون وقشور التوتياء ومجسات الحبار والحص ى والقش والحبال‪ ،‬ناهيك‬
‫عن أصداف املحار املتآكلة من الديدان والطحالب واألعشاب البحرية وكل ما يطفو على‬
‫سطح البحر وتذروه الرياح أو تقذفه املوجة املالحة أو تخلفه العاصفة خلفها أو ما‬
‫يطرحه السكون دون حول أو قوة على طول شواطئنا؟ طاملا ال تقل أسماؤها تساوقا مع‬
‫سلفا لغرض إيقاظ الشكوك‪ .‬لقد ُ‬‫ذكرتها ً‬
‫تلك التي ُ‬
‫ذكرتم أن بعض الكائنات املستخرجة‬
‫من البحر لها قيمة ِب َعينها في مسائل الغرام بسبب تماثل أسمائها‪ ،‬إن ِقسنا على ذلك‬
‫جيدا ألمراض املثانة والقوقعة للخصيتين والسرطان ملرض‬‫فلم ال يكون الحص ى ً‬
‫ِ‬
‫فق يا كلوديوس‬‫ور ٍ‬
‫أناة ِ‬
‫السرطان والطحالب لنوبات البرد‪ .‬إنك وحق السماء لذو ٍ‬
‫ماكسيموس‪ ،‬كيف ال وقد تحم َ‬
‫لت كل هذا الوقت اتهاماتهم املغيظة حتى اختتموها‪،‬‬
‫أضحك من جتهي على غبائهم حين تلفظوا بها وكأنها جادة ودامغة‪ُ ،‬‬
‫كنت‬ ‫ُ‬ ‫فبينما ُ‬
‫كنت‬
‫ً‬
‫أتعجب حقيقة في صبرك‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫فحصت‬ ‫‪ -36‬ومع ذلك‪ ،‬وبما أنه يولي اهتماما بالغا بشؤوني‪ ،‬سأطلع أيميليانوس ِلم‬
‫الكثير من األسماك بالفعل ولم ال أحب ُذ البقاء جاهال بما لم ُ‬
‫أره بعد‪ .‬ولو أنه بلغ في دورة‬ ‫ِ‬
‫فليحصل إن أراد بعض املعرفة قبل أن‬ ‫الحياة منتهاها ومن َخ َر ِف الشيخوخة شقواها‪ُ ،‬‬
‫تنفض الروح عنه يديها‪ .‬ليقرأ آثار الفالسفة القدماء كي يكتشف اآلن على كل حال أني‬
‫آتم بخطى املؤلفين وأسيادي من قرون على‬ ‫لست أول أخصائي في علم األسماك‪ ،‬بل ُّ‬ ‫ُ‬

‫غرار أرسطو وثيوفراستوس(‪ )113‬وأويديموس(‪ )114‬وليكون وغيرهم من أتباع أفالطون الذين‬

‫(‪ )113‬ثيوفراستوس‪ .‬فيلسوف وعالم إغريقي ولد بإريسوس في ليسبوس سنة ‪ 370‬أو ‪ 372‬ق‪.‬م‪ .‬كان خليفة أرسطو في‬
‫مدرسة املشائين واستمر كذلك إلى أن توفي سنة ‪ 286‬ق‪.‬م‪ .‬ترك عددا معتبرا من املؤلفات التي تتعلق بدراسة‬
‫الحيوانات والسالالت منها كتابان بعنوان ‪.On Species or Forms‬‬
‫‪- Diog. Laert. V. 2.‬‬
‫(‪ )114‬أويديموس‪ .‬فيلسوف وعالم إغريقي ولد بجزيرة رودس‪ .‬التحق بمدرسة أرسطو فور عودته إلى أثينا سنة ‪336‬‬
‫ق‪.‬م‪ .‬يقدر مولده قبل سنة ‪ 350‬ق‪.‬م واعتبر رفقة ثيوفراستوس رفقاء أكثر من تالمذة ألرسطو‪ .‬قدم مساهمات مهمة‬
‫في القياس املنطقي االفتراض ي واملنطق النمطي‪ ،‬وكتب بإسهاب عن الفيزياء واهتم بسلوك الحيوان‪ ،‬كما اعتبرت‬
‫تواريخه في الهندسة والحساب وعلم الفلك ذات أهمية كبيرة في تطور هذه العلوم إلى ما هي عليه اآلن‪.‬‬
‫‪- M. Istvn Bodnr, William Wale Fortenbaugh, Eudemus of Rhodes. Rutgers University Studies in Classical‬‬
‫‪Humanities, Volume XI. Transaction Publishers; 1 edition (July 8, 2002).‬‬

‫‪53‬‬
‫خلفوا العديد من الكتب عن التكاثر والحياة واألعضاء وفوارق الحيوانات(‪ .)115‬إنها‬
‫مثلك قرأ عدة‬‫َ‬ ‫دارس‬ ‫لحكمة السماء يا ماكسيموس أن ُت َ‬
‫طرح هذه القضية أمام‬
‫ٍ‬
‫مجلدات من أرسطو حول 'تكاثر الحيوانات‪ ،‬تشريح الحيوانات‪ ،‬تاريخ الحيوانات'‪ ،‬سويا‬
‫مع 'إشكاليات' التي ال حصر لها وأعماال آلخرين من مدرسته تعالج مختلف املواضيع من‬
‫هذا النوع‪ .‬فإن كان مدعاة للشرف وال ِعزة لهم أن يسجلوا صفوة أبحاثهم املتأنية ِفلم‬
‫يكون مشينا لي أن أحاول مجاراتهم خصوصا وأني سأحاول الكتابة عن تلك املواضيع‬
‫ً‬
‫باللغتين اليونانية والالتينية وبطريقة أكثر إيجازا ومنهجية‪ ،‬وأتعنى الكشف عن أوجه‬
‫أخطاء لدى كل هؤالء املؤلفين؟ إن اعتقدتموه جديرا بوقتكم فإني‬
‫ٍ‬ ‫قصور أو تدارك‬
‫ٍ‬
‫أدعوكم أن تأذنوا بقراءة مقتطفات من 'سحر' أعمالي‪ ،‬حتى يكتشف أيميليانوس أن‬
‫ْ‬
‫أحضر مجلدا من أعمالي اليونانية ‪ -‬ربما يحملها‬ ‫نطاق أبحاثي وتحرياتي يفوق مخيلته‪.‬‬
‫بعض أصدقائي املهتمين بمسائل التاريخ الطبيعي معهم في املحكمة ‪ -‬اختر بعناية واحدا‬
‫من تلك التي تتعامل مع مسائل الفلسفة الطبيعية‪ ،‬ومن ِضمنها ذلك الكتاب الذي‬
‫يتناول ساللة األسماك بالذات‪ .‬وخالل البحث عن الكتاب سأخبركم بقصة لها صلة‬
‫وثيقة بهذه القضية‪.‬‬

‫‪ُ -37‬يروى عن الشاعر سوفوكليس(‪ )116‬املقارع الدؤوب ليوريبيدس(‪ - )117‬كونه عاش حتى‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫الشيخوخة املتقدمة ‪ -‬أنه بعدما اتهمه ابنه بالهبل بدعوى أن العمر قد جرده ِبم ِ‬
‫ضيه‬
‫من صوابه‪ ،‬ألقى تلك التراجيديا التي ال تضاهى 'أويديبوس كولونيوس' والتي صادف وأن‬

‫(‪ )115‬ليكون‪ .‬فيلسوف إغريقي ولد في طرواس 'شبه جزيرة بيقا' في تركيا الحالية سنة ‪ 299‬ق‪.‬م‪ .‬ترأس املدرسة‬
‫الفلسفية املشائية في ‪ 269‬ق‪.‬م خلفا لستراتو‪ ،‬وتوفي عن عمر يناهز الرابعة والسبعين بعد معاناة شديدة مع مرض‬
‫النقرس‪ .‬له عديد املؤلفات‪ ،‬كما أن أبوليوس يعتبر من املصادر النادرة التي تؤكد أنه كتب عن الحيوانات‪.‬‬
‫‪- Diog. Laert. V. 4.‬‬

‫(‪ )116‬سوفوكليس‪ .‬من أعظم الكتاب التراجيديين اإلغريق‪ .‬ولد في ‪ 495‬ق‪.‬م ببلدة كولونوس‪ ،‬توفي سنة ‪ 406‬ق‪.‬م‪.‬‬
‫‪- The Greatest Works of the Greatest Authors, Ancient and Modern, H.W. Hagemann Publishing Company,‬‬
‫‪1894. pp. 419-420.‬‬
‫(‪ )117‬يوريبيديس‪ .‬اعتبر رفقة سوفوكليس وإسخيلوس أعظم كتاب التراجيديا اإلغريق‪ .‬يقال إنه ولد يوم النصر بمعركة‬
‫سالميس التي دارت رحاها سنة ‪ 480‬ق‪.‬م‪ .‬كما درس على يد العديد من العظماء أمثال بروديكوس وأناكساغوراس‪.‬‬
‫‪- Euripides, The Plays of Euripides [B.C. 455 to B.C. 408]. G. Routledge and Sons, 1894. pp. 05-08.‬‬

‫‪54‬‬
‫عال أمام هيئة املحلفين دون إضافة كلمة‬‫كان إذاك بصدد كتابتها‪ ،‬فقرأها بصوت ٍ‬
‫أخرى في دفاعه عدا أنه دعاهم أال يترددوا في إدانته كمجنون إن أثار ِش ُ‬
‫عر رجل عجوز‬
‫استياءهم‪ .‬في تلك اللحظة ‪ -‬كما قرأت ‪ -‬انتصب املحلفون على أقدامهم كرجل واحد‬
‫إجالال للشاعر العظيم وامتدحوه بحفاوة على دهاء حجته وبالغة شعره التراجيدي على‬
‫حد سواء‪ ،‬في حين أنهم كانوا على مرمى حجر من إدانة املت َهم باإلجماع كمجنون بدال عن‬
‫ذلك‪.‬‬
‫َ‬
‫أوجدت الكتاب؟ شكرا لك‪ .‬دعونا ننظر اآلن ما إذا كان ما ُ‬
‫أكتبه يخدمني بشكل جي ٍد في‬
‫محكمة القانون‪ .‬اقرأ بعض األسطر في البداية ثم بعض التفاصيل املتعلقة باألسماك‪.‬‬
‫وأنت‪ ،‬هل لك أثناء قراءته أن توقف الساعة املائية‪( .‬تتم قراءة مقطع من الكتاب)‪.‬‬
‫َ‬
‫سمعت يا ماكسيموس‪ .‬تذكر‬ ‫‪ -38‬ال شك أنك قر َ‬
‫أت في أعمال الفالسفة القدماء جل ما‬
‫أيضا أن كتبي هذه تصف األسماك فقط‪ُ ،‬تميز بين تلك التي تنبثق من الجماع عن تلك‬
‫ً‬

‫تلق ُح‬
‫التي تخلق فطريا من طين القاع‪ ،‬وتناقش عدد املرات وفي أي فترات من السنة ِ‬
‫اإلناث من الذكران‪ ،‬وتوضح الفارق الذي حددته الطبيعة بين أولئك الولودين واآلخرين‬
‫البيوضيين ‪ -‬وهكذا أترجم العبارتين اليونانيتين 'أوفوتوكا' و 'زوتوكا' ‪ -‬فضال عن أسباب‬
‫ُ‬
‫هذا الفارق وما ميز أعضاءها من فوارق‪ .‬باختصار ‪ -‬ألني لن أرهقك بمناقشة مختلف‬
‫أساليب التكاثر لدى الحيوانات ‪ -‬تعالج العالمات املميزة للسالالت‪ ،‬ومختلف أساليبها في‬
‫الحياة‪ ،‬والفارق بين أفرادها وأعمارها‪ ،‬مع عديد النقاط األخرى الضرورية لرجل العلم‬
‫لكن في غير محلها بمحكمة القانون‪ .‬سأطلب اآلن قراءة شظايا من كتاباتي الالتينية التي‬
‫تتناول نفس العلم‪ ،‬والتي ستالحظ فيها بعض القطع النادرة من مفاهيم وأسماء ال‬
‫ُ‬
‫يعرفها إال قلة من الرومان‪ ،‬بل لم تستعرض إلى حد الساعة‪ ،‬ولكن اآلن وبفضل كدي‬
‫ودراستي تمت ترجمتها من اليونانية والتي بغض النظر عن غرابتها لم تعد كذلك في‬
‫ُ‬
‫أتنكر هذا يا أيميليانوس؟ إن كان األمر كذلك فليخبرنا أنصارك لدى‬ ‫ِصبغتها الالتينية‪.‬‬
‫سبق وأن قرؤوا ما سألقيه عليك من كلمات‪ ،‬سأذكر فقط الكائنات‬ ‫أي مؤلف التيني َ‬
‫ِ ِ‬
‫ُ‬
‫املائية ولن أشير إلى أي حيوانات أخرى إال فيما يتعلق بالخصائص التي تميزها عن‬

‫‪55‬‬
‫األحياء البحرية‪ ،‬فاستمع لقولي َ‬
‫وست ُ‬
‫صيح قائال في وجهي أني أقدم لك قائمة بأسماء‬ ‫ِ‬
‫سحرية كتلك املستخدمة في الطقوس املصرية أو البابلية‪.‬‬

‫'سالشيا'‪' ،‬مالشيا'‪' ،‬ملقوستراكا'‪' ،‬خوندراكنثا'‪' ،‬أوستراكودرما'‪' ،‬كرخارودونتا'‪' ،‬أمفيبيا'‪،‬‬


‫ِ'لبيدوتا'‪' ،‬فوليدوتا'‪' ،‬درموبترا'‪' ،‬ستيقانوبودا'‪' ،‬مونيري'‪' ،‬سوناقلستيكا'‪.‬‬

‫بوسعي أن أذكر املزيد لكني ال أرى ٍ‬


‫داع إلضاعة الوقت عبثا‪ ،‬خصوصا وأني احتاج‬
‫متسعا منه للتعامل مع التهم األخرى‪ .‬اقرأ في غضون ذلك ترجمتي الالتينية لبعض‬
‫األسماء التي قدمتها لك للتو‪( .‬تتم قراءة الترجمة‪ .‬األسماء الالتينية مفقودة)‬
‫َ‬
‫فيلسوف ليس بالجلف وال بالجاهل كحال الكلبيين الجواف‪ ،‬بل‬
‫ٍ‬
‫ُ‬
‫تشين على‬ ‫‪ -39‬أ ُتراك‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫حصل معرفة كهذه ويكترث لها أم أن يجهلها‬ ‫يذكر حاله كأحد أتباع أفالطون‪ ،‬أن ي ِ‬ ‫من‬
‫فصح ٌ‬
‫أمور كهذه عن التدبير اإللهي أو يزدرد فحسب‬ ‫وال يعبأ بها؟ أن ُيدرك إلى أي مدى ُت ُ‬
‫ً‬ ‫أساطير والده ووالدته عن اآللهة الخالدين؟ َ‬
‫قصيدة عن‬ ‫إنيوس(‪)118‬‬
‫كتب كوينتوس‬
‫'طيب الطعام' يسرد فيها ً‬
‫عددا ال يحص ى من أنواع األسماك ال شك في أنه أحاط بها‬ ‫ِ ِ‬
‫علما‪ .‬أنا أتذكر بضعة أسطر سأقوم بقراءتها‪:‬‬
‫ُ‬
‫"كما تفوق قضاعات كليبيا غيرها لذة‪ ،‬يفيض اللط في إينوس واملحار القاس ي أيضا في‬
‫أبيدوس‪ ،‬والبلطي بميتيالن وبامبراسيا تحديدا خارادوس‪ .‬عليك بالسرغوس البرانديس ي‬
‫إن كان كبيرا‪ ،‬وبخنازير البحر في تارنتوم‪ .‬وتدبر أمرك القتناء َسياف البحر من سارنتوم‬
‫َ‬
‫وسمك كوماي األزرق‪ .‬ماذا! أتجاوزت أبا مصقار‪ ،‬وحق جوبيتر العلي هو ليس بأقل‬
‫بطانا قبالة موطن نيستور‪ .‬وكيف أنس ى سوداء الذيل‬ ‫بدانا وم ً‬
‫حالوة‪ ،‬تصطاده م ً‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫والعريسة واللبروس واللوت؟ واسعى وراء سبيط كوركيرا والعريك وجمجمة البحر‬
‫السمينة والسمك األرجواني واملريق والكيدم والتوتيا اللذيذة"‪.‬‬

‫(‪ )118‬كوينتوس إنيوس‪ .‬يعتبره الرومان أب الشعر الروماني‪ ،‬ولد برودياي في كاالبريا سنة ‪ 239‬ق‪.‬م وتوفي سنة ‪169‬‬
‫ق‪.‬م‪ .‬يقدر أن أبوليوس يستشهد بأبيات من ‪.Hedyphagetica‬‬
‫‪- James Skerrett Shore Baird, The Classical Manual: An Epitome of Ancient Geography, Greek and Roman‬‬
‫‪Mythology. Whittaker & Company, 1852. p. 135.‬‬

‫‪56‬‬
‫لقد أشاد بالعديد من األسماك في أبيات أخرى ُمبينا أماكن تواجدها‪ ،‬وما إن كان من‬
‫األفضل َق ُليها أو ُ‬
‫طهوها‪ ،‬ومع ذلك ال يلومه النقاد على ذلك‪ .‬أعفني من لومك إذن فأنا‬
‫الذي أصوغ األشياء املعروفة لدى قلة من الناس تحت أسماء مهذبة والئقة باليونانية‬
‫والالتينية‪.‬‬

‫‪ -40‬دعنا من هذا! ولنتطرق إلى سواه‪ .‬ماذا لو ساقني اهتمامي ومهارتي في الطب للبحث‬
‫َ‬
‫عن عالجات معينة في األسماك؟ إذ ال شك أن الطبيعة بسخائها املنصف كنت َوبثت‬
‫ُ‬
‫العديد من العالجات في كل ما خلق‪ ،‬وبالتالي يمكن إيجاد العديد من العالجات املماثلة‬
‫أتخاله شأن الساحر أكثر من الطبيب أو حتى الفيلسوف أن يعرف‬ ‫ُ‬ ‫في األسماك‪ .‬واآلن‪،‬‬
‫فعله سيجعلها ِذخرا لغيره ال ِل ُ‬
‫صرته‪ .‬إن أدرك قدامى‬ ‫األدوية ويبحث عنها؟ مع أن األخير ِب ِ‬
‫حقا قدرة الرقية السحرية على عالج الجروح كما يخبرنا بذلك هوميروس( ‪)119‬‬ ‫األطباء ً‬

‫األكثر مصداقية على مر العصور بإيقافهم الدم النازف من جرح يوليسيس بترنيمة‪ ،‬فال‬
‫ُجناح على ما يمكن فعله إلنقاذ األرواح‪ .‬لكن غريمي يقول 'ألي غرض عدا الشر ُق َ‬
‫مت‬ ‫ٍ‬
‫بتشريح األسماك التي َأ َ‬
‫حضرها لك خادمك ثيميسون؟'‪ .‬كما لو أني لم أخبركم للتو بأني‬
‫أكتب أطروحات عن كل أعضاء الحيوانات‪ ،‬واصفا مكان وعدد وغرض أجزائها‬ ‫ُ‬
‫املختلفة‪ ،‬وفاحصا باجتهاد أعمال أرسطو في علم التشريح ُ‬
‫ومثريا إياها إن تطلب األمر‬
‫ُ‬
‫فحصت‬ ‫عاينت سمكة صغيرة والحال أني‬‫ُ‬ ‫ذلك‪ .‬لذلك فأنا أستغرب وبشدة أن َ‬
‫تعلم بأني‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫بالفعل ً‬
‫وجدتها‪ ،‬عالوة على أني لم أ ِبد أي غموض‬ ‫عددا هائال في جميع الظروف أينما‬
‫ُ‬
‫غريب تاق لرؤية ما‬
‫ٍ‬ ‫ألي‬ ‫املجال‬ ‫تيح‬ ‫أ‬ ‫على أبحاثي بل أجر ُيتها على رؤوس األشهاد‪ ،‬حتى‬
‫ُ‬
‫أفعله‪ ،‬وأحيي بدوري ُسنة أسيادي الذين يقولون‪ :‬إن على أفكار الرجل الذي يملك‬
‫عرضت في الواقع هذه السمكة الصغيرة‬‫ُ‬ ‫ْنفسه وروحه أن تتقلد قدر اإلمكان هيئته‪ .‬لقد‬
‫التي تسمونها أرنب البحر للكثيرين ممن وقفوا جانبا‪ ،‬ومع ذلك ال أعرف لحد الساعة أي‬

‫(‪ )119‬يستذكر أبوليوس من أوديسة هوميروس املقطع‪ ..." :‬وانشغل األبناء األعزاء ألوتوليكوس بالجثة‪ ،‬وضمدوا جرح‬
‫بسحر‪ ،‬وعادوا على الفور إلى منزل والدهم العزيز ‪."...‬‬
‫ٍ‬ ‫النبيل أوديسيوس اإللهي بمهارة‪ ،‬وقيدوا الدم األسود‬
‫‪- Homer, Odyssey. XIX. 456.‬‬

‫‪57‬‬
‫ُ‬
‫بحث أكثر وثوقا‪ ،‬إذ بالرغم من ُندرتها وخصائصها املميزة‬
‫طلقه عليها من دون ٍ‬
‫اسم أ ِ‬
‫ٍ‬
‫للغاية فأنا ال أجد لدى الفالسفة القدامى توصيفا لها‪ .‬هذه السمكة بقدر ما تمتد‬
‫معرفتي فريدة من نوعها في أحد الجوانب ألنها تحتوي دون باقي األسماك على اثني عشر‬
‫عظما تتشابك كسلسلة في بطنها‪ ،‬تماما كما هو الحال لدى عظام املفاصل لخنزير‬
‫علمه‪ ،‬فهو الذي يسجل كظاهرة حصرية‬ ‫الرضاعة‪ٌ .‬‬
‫أمر ما كان ليفوت أرسطو ِذكره لو ِ‬
‫تواجد القلب املصغر للسمكة املعروفة باسم الحمار البحري الصغير بمعدتها‪.‬‬
‫‪ -41‬يقول 'شر َ‬
‫حت سمكة'‪ ،‬من الذي يرمي فيلسوفا ِب ُج ٍرم ُيعفى منه جزار أو طباخ؟‬
‫ُ‬
‫شققت‬ ‫'شر َ‬
‫حت سمكة'‪ .‬ربما تعترض على حقيقة أنها كانت نيئة ولن تعدها جريمة إن‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫كبدها الطري بعد طهيها مثلما ت ِعلم الفتى سيكينيوس بودنس ما يفعله‬ ‫بطنها وقطعت ِ‬
‫فيلسوف أن يتناول‬ ‫رم أعظم لدى‬ ‫مع أسماكه في وجبات الغداء‪ .‬ومع ذلك فهو ُ‬
‫لج ٌ‬
‫ٍ‬
‫األسماك أكثر من أن يعاينها‪َ .‬أ ُ‬
‫فيسمح لألوغور(‪ِ )120‬ب َفحص أكباد الذبائح وال ُيسمح‬
‫الع ِريف بمقدرته على استخالص الفؤول من كل حيوان وكبير‬ ‫بمعاينتها من الفيلسوف‪َ ،‬‬
‫العرافين لكل اآللهة؟ أترميني بالجرم على ما يشدني أنا وماكسيموس تجاه أرسطو؟ ما‬
‫لم ُتخرج أعماله من املكتبات وتنتزعها من أيدي الدارسين ال ُّ‬
‫يحق لك أبدا اتهامي‪ .‬لكن‬
‫ُ‬
‫أعطيت هذا املوضوع أكثر من حقه‪.‬‬ ‫كفاية! لقد‬

‫(‪ )120‬األوغور أو العراف‪ .‬وصف شيشرون هذا املنصب باألعلى منزلة في الدولة‪ ،‬إذ لديه سلطة ذاتية يمكن أن تمنع‬
‫الكوميتيا من التصويت‪ ،‬أو إلغاء القرارات التي تم تمريرها بالفعل‪ .‬فإن لم يؤخذ بالعالمة اإللهية على النحو الواجب‬
‫ً‬
‫فإن عبارة '‪ 'ALIO DIE‬من أوغور واحد قد تضع حدا لجميع الشؤون‪ ،‬وفوق ذلك فقد ألغى مرسوم من مجمع‬
‫األوغور القوانين عديد املرات‪ .‬هذا وقد نصب روميلوس نفسه مجمع األوغور من ‪ 3‬أفراد بعدد القبائل التي أسست‬
‫روما‪ ،‬كما تمت زيادة أعدادهم مع الوقت‪.‬‬
‫‪- Charles Anthon, A Manual of Roman Antiquities. Harper & brothers, 1862. pp. 180-182.‬‬

‫‪58‬‬
‫ُ‬
‫سعيت إلى الزواج من عقيلتي بمساعدة‬ ‫أبص ْر أيضا ِل َتناقضهم مع أنفسهم‪ .‬يقولون إني‬
‫ِ‬
‫الفن األسود والسحر املستخلص من البحر في الوقت الذي ُيقرون فيه بأني ُ‬
‫كنت في‬
‫قلب جبال جيتوليا‪ .‬وما يدريكم لعل طوفان دوكاليون(‪ )121‬قد جعل من إيجاد األسماك‬
‫أمرا يهون! ومع ذلك فأنا ممنون ألنهم يجهلون بأني قرأت لثيوفراستوس 'عن الحيوانات‬
‫'عن لدغات الحيوانات البرية'‪ ،‬لكانوا سيتهمونني‬ ‫ولنيكاندر( ‪)122‬‬ ‫التي تعض وتلدغ'‪،‬‬
‫عت في هذه املواضيع بفضل قراءتي ألرسطو ورغبتي في‬ ‫بالتسميم أيضا! لقد تضل ُ‬

‫مجاراته‪ ،‬كما أدين أيضا لنصيحة معلمي أفالطون الذي يقول‪ :‬إن أولئك الذين ُيجرون‬
‫سارا للتسلية لن يندموا عليه ً‬ ‫ً‬
‫شكال ً‬ ‫أبحاثا كهذه "يتعقبون‬
‫أبدا"‪.‬‬
‫ُ‬
‫أبلجت مسخرة األسماك هذه فإذا بي استمع ألخرى من ابتكاراتهم بنفس‬ ‫‪ -42‬وما أن‬
‫القدر من الغباء‪ ،‬لكن بتطرف أكبر ومكر أعظم‪ .‬فما أن تبينوا في حجتهم حول األسماك‬
‫ال جدواها وأنها ستخيب في مسعاها‪ ،‬وما أن أدركوا فوق غرابتها ُس َ‬
‫خفها ‪ -‬من سمع يوما‬
‫عن سمك يتم تحجيمه ونزع َح َس ِكه ملقاصد السحر القاتم؟ ‪ -‬أيقنوا أن األنسب‬
‫درج ما يصدقه سواد الناس وهكذا اشتقوا من األمور الشائعة كذبة أخرى‬ ‫ُ‬
‫لترهاتهم أن ت ِ‬
‫سرًيا به مذبح صغير‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫والتي يصدقها العامة باألحرى‪ .‬لذا زعموا أني‬
‫بصبي مكانا ِ‬
‫ٍ‬ ‫انتبذت‬
‫ُ‬
‫سحرته ِب ُرقية إلى أن خر في املكان الذي‬ ‫وفانوس وقلة من األعوان كشهود عيان‪ ،‬وهناك‬

‫(‪ )121‬طوفان دوكاليون‪ .‬وفقا للميثولوجيا اإلغريقية‪ ،‬دوكاليون هو ملك ثيساليا ابن برومثيوس وزوج بيرا ابنة‬
‫ايبيميثيوس‪ .‬تروي األسطورة أنه خالل فترة حكمه غضب جوبيتر من شر اإلنسان‪ ،‬وقرر تدمير العالم بإغراقه‬
‫بالكامل‪ ،‬والذي حدث فعال مع كل الظروف املرعبة التي رافقت الطوفان‪ .‬نجى دوكاليون وزوجته بإتباع نصيحة أخيه‬
‫مركب‪ ،‬والذي رسا بعد تسعة أيام على جبل بارناسوس‪ .‬بعد انزياح املياه قام دوكاليون وزوجته باستشارة‬ ‫ُ‬
‫وص ِنع‬
‫ٍ‬
‫عرافة حول الخطوات التي عليهم القيام بها إلعادة جعل العالم مأهوال بالبشر من جديد‪ ،‬فطلبت منهما أن يرميا‬
‫عظام جدتيهما خلفهما‪ .‬بعد تردد وافقا على األخذ بنصيحة العرافة‪ ،‬وقاما بذلك فتحولت الحجارة إلى رجال ونساء‪.‬‬
‫‪- A Catechism of Mythology; or, A short account of the heathen gods and heroes; necessary for the‬‬
‫‪understanding the ancient poets, and the classics: for the use of young people. By a friend to youth.‬‬
‫‪Printed for Pinnock And Co. By James Robbins, Winchester. 1812. pp. 64-65.‬‬
‫(‪ )122‬نيكاندر‪ .‬شاعر وطبيب ونحوي ولد بكالروس بمحاذاة كولوفون بتركيا الحالية في القرن ‪ 3‬ق‪.‬م بجوار معبد أبولو‪،‬‬
‫ُتنسب إليه العديد من األعمال منها '‪ 'Theriaca‬التي تحدث عنها أبوليوس‪.‬‬
‫‪- G.W. Johnson, A New and General Biographical Dictionary: Containing an Historical Critical and‬‬
‫‪Impartial Account of the Lives and Writings of the Most Eminent Persons in Every Nation in the World,‬‬
‫‪Particularly the British and Irish. The Proprietors, 1795. p. 273.‬‬

‫‪59‬‬
‫ألقيت فيه التعويذة لوجهه‪ ،‬وأنه ُوجد فور إيقاظه فاقدا لصوابه‪ .‬لم يجرؤوا على‬ ‫ُ‬

‫صدع‬‫املض ي بالفرية أبعد من ذلك‪ ،‬فقد اضطروا إلتمامها أن يضيفوا بأن الصبي َ‬
‫بالكثير من النبوءات‪ ،‬وهكذا نعلم أن َمآل الرقى هي العرافة والنبوة تحديدا‪ ،‬وهذه‬
‫ْ‬
‫املعجزة في حالة األوالد ال ُيزكيها معتقد العوام فحسب بل ِذكر العلماء‪.‬‬

‫وهو كاتب‬ ‫فارو(‪)123‬‬ ‫أتذكر قراءة مواضيع شتى ذات صلة بهذا النوع لدى الفيلسوف‬
‫واسع العلم واملعرفة‪ ،‬ومن ِضمنها هذه القصة على وجه الخصوص‪ :‬تم إجراء استقصاء‬
‫في ترالس باستخدام السحر عن النتيجة املحتملة للحرب امليثريداتية‪ ،‬فأنبأهم صبي‬
‫باألحداث القادمة في مائة وستين سطرا من األبيات وهو يحدق في صورة ميركيوري وهي‬
‫تنعكس في وعاء من املاء‪.‬‬

‫كما ُيروى أيضا أن فابيوس بعدما فقد خمسمائة ديناري أتى يستشير نيجيديوس‪،‬‬
‫الصبية باستخدام التعاويذ وهكذا استطاعوا أن يرشدوه أين‬ ‫فألهم هذا األخير بعض ِ‬
‫ُد ِفنت ُ‬
‫صرة تحوي جزءا من املال وكيف تم تفريق الباقي‪ ،‬وأن أحد تلك الدنانير كان في‬
‫حوزة الفيلسوف ماركوس كاتو(‪ )124‬والذي أقر فعال بأنه استلمه من أحد الخدم كعطية‬
‫لخزينة أبولو‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫شك‬
‫‪ -43‬لقد قرأت هذا وغيره عند كثير من الكتاب عن فن السحر والغلمان‪ ،‬لكني في ٍ‬
‫قصص كهذه أو ال‪ ،‬مع أني أصدق أفالطون حين أقر بوجود‬ ‫ما إن ُ‬
‫كنت سأسلم بصدق‬
‫ٍ‬
‫ُ ً‬ ‫قوى إلهية َت ُ‬
‫شغل مقاما وسطا َ‬
‫وسلطة على صنيع‬ ‫ود ًورا وسيطا بين اآللهة والرجاالت‬

‫(‪ )123‬ماركوس تيرينتيوس فارو لوكولوس‪ .‬ولد في روما سنة ‪ 116‬ق‪.‬م‪ .‬قنصل وفيلسوف ومؤرخ ونحوي‪ ،‬كان في وقته‬
‫بمنزلة أرسطو لدى اإلغريق‪ ،‬إذ أخبرنا بنفسه أنه كتب ‪ 490‬كتابا‪.‬‬
‫‪- J. Eugene Reed, The Lives of the Roman Emperors and Their Associates from Julius Cæsar (B. C. 100) to‬‬
‫‪Agustulus (A. D. 476), Volume 2. Gebbie & Company, 1883. pp. 89-90.‬‬
‫(‪ )124‬ماركوس بورسيوس كاتو‪ .‬ولد في توسكولوم سنة ‪ 234‬ق‪.‬م‪ .‬سياس ي شهير ومؤرخ روماني وفيلسوف من املدرسة‬
‫الرواقية‪ .‬يتحدث أبوليوس عن كاتو األكبر حين كان كاهنا ألبولو‪ ،‬أين درس إنكار الذات الجسدي ومارس عقيدة‬
‫الزهد ‪.Asceticism‬‬
‫‪- Charles Merivale, School history of Rome: abridged from General history of Rome by C. Puller.‬‬
‫‪Longmans, Green, And Co, London. 1877. p. 198.‬‬

‫‪60‬‬
‫السحرة من عرافة ومعجزات(‪ .)125‬فضال عن ذلك فأنا أرى أن النفس البشرية خاصة‬
‫ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ‬
‫عندما تكون يافعة غير مصقولة قد تركن إلى هجوع أو تطرح في س ٍ‬
‫لوان عما يحيط بها‬
‫بنشوة الترانيم أو التأثير املهدئ للرائحة الزكية‪ ،‬وهكذا ُّ‬
‫ترتد عائدة حين يتالش ى إدراك‬
‫ُ‬
‫وتذعن إلى طبيعتها البدائية التي هي في الحقيقة خالدة وإلهية‪،‬‬ ‫الجسد بأكمله من الوعي‬
‫وبالتالي كلما كانت في حالة من الغيبوبة أمكنها التنبؤ باملستقبل‪ .‬ولكن كيفما كانت هذه‬
‫األمور وقدر ما كان إيمان الناس بها‪ ،‬فحر ٌّي بالصبي النبوي ‪ -‬حسبما أفهم ‪ -‬أن يكون‬
‫سويا وال تشوبه في الجسد شائبة‪ ،‬نافذ البصيرة وواسع الرواية حتى يكون مقاما جديرا‬
‫َ‬
‫ومواتيا للعرض على القدرة املسكونة اإللهية ‪ -‬إن كانت هذه القوة بالفعل ت ُلج جسد‬
‫ُ‬
‫في ِج ُدها جاهزة‬ ‫ُ‬
‫تنطبق في صحوته على سلطانه الكامن في العرافة َ‬ ‫الصبي ‪ -‬أو سرعان ما‬
‫لالستخدام ُوي ُ‬
‫عيد استثارة تلقيناتها دون أن يتسبب فقدان الوعي في تلبدها أو إعاقتها‪،‬‬
‫يليق ِل َنحت تمثال ميركيوري‪.‬‬
‫ألنه وكما قال فيثاغورس(‪ :)126‬ما كل نوع من الخشب ُ‬

‫لئن كان األمر كذلك فأخبرني من كان هذا الغالم الذي ال يشكو علة وال تشوبه شائبة‪،‬‬
‫اللبيب األريب الذي اعتبرُته خليقا بتلقينه هذه الخبايا بقدرة تعويذاتي‪ .‬والحق أن‬
‫ثالوس الذي َذ ُ‬
‫ساحر‪ ،‬فالبائس املسكين ُمبتلى بالصرع حتى‬
‫ٍ‬ ‫طبيب ال إلى‬
‫ٍ‬ ‫بحاجة إلى‬
‫ٍ‬ ‫كرتم‬
‫إنه غالبا ما ُيغمى عليه مرتين أو ثالث مرات في اليوم دون الحاجة إلى أية عزائم‪ ،‬وما من‬
‫جهه متقرح ورأسه مكدوم من األمام والخلف‬ ‫طرف في جسمه إال وأضناه باضطراباته‪َ .‬و ُ‬‫ٍ‬
‫وعيناه خادرتان ومناخيره منتفخة وقدماه تتهادى‪ .‬قد يدعي أنه أعظم السحرة من ظل‬

‫(‪ )125‬يقول أفالطون في سيمبوزيوم‪ ..." :‬تفسير ونقل األشياء البشرية إلى اآللهة واألشياء اإللهية إلى الناس‪ ،‬برفع‬
‫التضرعات والتضحيات‪ ،‬وإنزال األوامر والجزاء‪ .‬وكونها تتوسط الطريق فهي تجعل كل واحد مكمال لآلخر‪ ،‬بحيث يتم‬
‫الجمع بين الكل في واحد‪ .‬إذ عبره ُتنقل كل العرافة والكهنوت فيما يتعلق بالذبيحة والطقوس"‪.‬‬
‫‪- Plato, Symposium. 202e.‬‬
‫(‪ )126‬يقول الفيلسوف العربي يامبليخوس في مؤلفه حياة فيثاغورس‪" :‬أعتقد ً‬
‫أيضا أنه قيل من ِقبل أتباع فيثاغورس‬
‫ممن يحترمون أولئك الذين ُي ِعلمون مقابل ثمن‪ ،‬أنهم ُيظهرون أنفسهم أسوأ من نحاتي التماثيل أو أولئك الفنانين‬
‫الذين يؤدون عملهم قعودا‪ .‬بالنسبة لهؤالء‪ ،‬حين يأمرهم أحد بصنع تمثال لهيرميس‪ ،‬يبحثون عن خشب مالئم‬
‫لتجسيد الشكل املناسب‪ ،‬لكن أولئك يدعون أنهم يستطيعون بسهولة إنتاج أعمال الفضيلة من كل طبيعة"‪.‬‬
‫‪- Iamblichus, Life of Pythagoras. Translated from The Greek. By Thomas Taylor. J M Watkins, London‬‬
‫‪1818. pp. 125-126.‬‬

‫‪61‬‬
‫ثالوس بمحضره واقفا على قدميه ردحا من الوقت ألنه دائم االستلقاء‪ ،‬فإما نوبة صرع‬
‫أو مجرد إرهاق تتسبب له باالنهيار‪.‬‬
‫‪ -44‬ومع ذلك تزعمون أن عزائمي هي التي أحاقت به ملجرد أن تمل ُ‬
‫كته نوبة في وجودي‬
‫ُ‬
‫بالصدفة‪ ،‬وتشهدون على كالمكم كل هذا العدد من زمالئه الخدم الذين طلبتم مثولهم‬
‫باملحكمة‪ .‬لهم أن يخبروكم بأنفسهم لم يبصقون على ثالوس ولم ال يجرؤ ٌ‬
‫أحد على‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫مشاركته الطعام من نفس الطبق أو الشراب من نفس القدح‪ .‬وهل لي أن أسند ذلك‬
‫للخدم وأنتم ترون األمر بأنفسكم؟ فانكروا إن كنتم تجرؤون أن ثالوس كان ُيقاس ي‬
‫رضه على األطباء‪ .‬لينكر‬ ‫الصرع قبل وقت طويل من مجيئي إلى أويا أو أنه كثيرا ما تم َع ُ‬
‫التهم ْ‬
‫إن لم‬ ‫رفاقه في الرق الذين هم في خدمتكم هذا األمر‪ .‬سأعترف وحق اآللهة بكل ُّ‬
‫وارى في ضيعة َق ِصية مخافة نقل العدوى‬ ‫أمد بعيدا إلى الريف ُم ً‬ ‫رسل منذ ٍ‬ ‫يكن قد ُأ َ‬
‫ٌ‬
‫لبقية سكان املنزل‪ .‬وهي حقيقة ال ِقبل لهم بإنكارها فللسبب عينه تعذر علينا تقديمه‬
‫اليوم‪ .‬هذا االتهام برمته كان طائشا ومباغتا فلم ُيطالب أيميليانوس إال قبل البارحة بأن‬
‫عبدا لحضرتكم‪ .‬يتواجد منهم أربعة عشر يعيشون في البلدة‪ ،‬ويغيب‬ ‫ُنقدم خمسة عشر ً‬

‫بعد مائة ميل تقريبا‪ .‬ومع ذلك فقد‬ ‫عنهم ثالوس لوحده بسبب حقيقة َنفيه إلى مكان َي ُ‬
‫ِ‬
‫أرسلنا في إثره من سيأتي به في عربة‪ .‬أمامك أربعة عشر عبدا ممثوال يا ماكسيموس‬
‫رجاء أين هو الغالم ثالوس وكيف هي حالته الصحية‪ْ ،‬‬
‫سل عبيد املت ِهم أرجوك‪.‬‬ ‫فاسألهم ً‬
‫َ ٌ‬ ‫ُ‬ ‫لن ينكروا أن هذا املاهن َم ٌ‬
‫بالضر ُمدنف وللنوبات‬ ‫ثار للتقزز والغثيان‪ ،‬وأن جسده‬
‫َ‬ ‫ٌ‬
‫رض ُه في‬
‫انتقيت ُه كشخص يمكن َع ُ‬ ‫ُمت ٌ‬
‫ضع‪ ،‬وأنه همجي وريفي أخرق‪ .‬يا له من صبي بهي‬
‫ُ‬
‫أ َّب ٍهة لدى تقديم قربان والذي يطيب للمرء أن يتمسح برأسه ُوي ِلبسه عباءة ناصعة‬
‫دت به لعطاء‬ ‫توقعا لبعض الردود النبوية من شفتيه‪ .‬آه لو كان حاضرا َل َعه ُ‬
‫ُّ‬
‫البياض‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫رت أل ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫حضنه بنفس ي حتى تستطيع استجوابه‪ .‬لط ِفق هنا في‬ ‫رحمتك يا أيميليانوس ولتشم ِ‬
‫الجلسة العلنية وأمام القضاة يلف عينيه الجامحتين حواليك ويطلق الزبد من فمه‪،‬‬
‫فيبصق على وجهك ويشد بتشنج على يديه‪ ،‬ثم يهز رأسه وينهار ً‬
‫أخيرا في نوبة بين‬
‫ذراعيك‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫أعرض أربعة عشرا عبدا في املحكمة كما طلبت‪ ،‬ل َم ترفض استجوابهم؟ ُ‬
‫تريد‬ ‫ُ‬ ‫‪ -45‬ها أنا‬
‫ِ‬
‫غالما مريضا بالصرع ال يخفى عليك مثلي أمر غيابه عن أويا منذ مدة‪ .‬أنأمل في دليل‬
‫أكثر من هذا على زيف اتهامك؟ تتعامى عن أربعة عشر عبدا حاضرا بطلب منك‪َ ،‬و ُت ُ‬
‫غير‬ ‫ِ ٍ‬
‫على غالم واحد في مغيبه‪ .‬ما الذي تريده؟ لنفترض تواجد ثالوس‪ :‬أتبتغي من وراء ذلك‬
‫إدانتي على أنه تعرض لنوبة في وجودي؟ ِول َم العياء! فأنا عن نفس ي أقر بذلك‪ِ .‬‬
‫تنس ُب‬
‫ُ‬ ‫ذلك لتعويذة‪ُ ،‬أ َ‬
‫جيبك بأن الصبي ال يدري بهذا األمر كما ال َيشقني إنكار وقوعه‪ .‬وفي حين‬
‫ً‬
‫أنك لن تجرؤ على إنكار مرض ثالوس بالصرع ِفل َم تعزو سقوطه إلى السحر بدال من‬
‫َ‬
‫أمر لم يحصل له مرارا في شتى الظروف أمام العديد من‬ ‫السقم؟ أعانى في محضري من ٍ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫سقط مريضا بالصرع في نوبة‪ ،‬فما‬ ‫األشخاص؟ أبدا‪ .‬حتى وإن اعتبرته إنجازا عظيما أن أ ِ‬
‫الذي يدعوني الستخدام السحر وقد أخبرني رواة التاريخ الطبيعي أن حرق الحجر‬
‫ص ُ‬
‫نانه‬ ‫املسمى غاغاتس(‪َ )127‬ي ُب ُّت في املرض ببالغ اليسر وبما ال يدع مجاال للشك؟ ألن ُ‬
‫كاختبار لسالمة أو وهن العبيد حتى في سوق الرقيق‪ .‬كما أن عجلة‬
‫ٍ‬ ‫ُيستخدم عادة‬
‫الفخار ِبغزلها تؤدي إلى إصابة رجل ُيقاس ي هذا املرض بفعل دورانها‪ ،‬ألن مشهد دورانها‬
‫يمض بالفعل عقله الواهن‪ ،‬وهذا ما يجعل الخزاف أكثر كفاءة من الساحر إلدخال‬
‫داع ملطالبتي بتقديم هؤالء العبيد‪ ،‬في حين أني‬
‫الصرعى في اضطرابات‪ .‬لم يكن لديك أي ٍ‬
‫أملك سببا وجيها ملطالبتك بتسمية أولئك الذين شهدوا هذا الطقس اإلجرامي حين‬
‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ‬
‫حتضر ثالوس في واحدة من نوباته‪ .‬لم تذكر شاهدا عدا هذا الصبي الدنيء‬ ‫رميت امل‬
‫سيكينيوس بودنس الذي تتهمني باسمه‪ .‬هو يدعي أنه كان حاضرا‪ .‬طبعا ال تدفعنا حداثة‬
‫ً‬ ‫َ َ‬
‫مه‪ ،‬لكن موقعه كأحد متهمي تنتقص حقيقة من‬ ‫سنه أن نرفض شهادته بعد قس ِ‬
‫مصداقيته‪ .‬كان األمر ليكون أسهل بالنسبة لك يا أيميليانوس وكان من شأن برهانك أن‬
‫ً‬ ‫وزنا أكبر بكثير لو َ‬‫ً‬
‫قلت إنك كنت حاضرا في الطقس وقد تملكك ُمذاك‬ ‫يحمل‬

‫(‪ )127‬غاغاتس أو الكهرمان األسود‪ .‬يصفه بليني بالحجر األسود‪ .‬أملس‪ ،‬خفيف ومسامي‪ُ ،‬سمي تيمنا بغايجس وهي‬
‫بلدة ونهر في ليشيا‪ .‬يختلف قليال في مظهره عن الخشب‪ ،‬ذو ملمس هش‪ ،‬وتنبعث منه رائحة كريهة عند فركه‪ .‬حين‬
‫حرقه تنبعث منه رائحة كبريتية‪ ،‬كما أن رائحته تطرد الثعابين‪ ،‬وتبدد املشاعر الهستيرية‪ ،‬وتكشف ً‬
‫أيضا عن بوادر‬
‫الصرع وتعمل كاختبار للعذرية‪.‬‬
‫‪- Plin, Nat. 36.‬‬

‫‪63‬‬
‫االضطراب‪ ،‬بدال من أن َت َ‬
‫عهد القضية ِب ُرمتها إلى شهادة الغلمان كما لو كانت مجرد‬
‫غالما أيضا من َس َ‬
‫حره؟‬ ‫مزحة‪ .‬غالم تملكته نوبة‪ ،‬غالم رآه‪ ،‬أكان ً‬

‫‪ -46‬في هذه املرحلة تطلع تانونيوس بودنس بدهائه إلى كذبته وهي تتهاوى أرضا‪ ،‬وإلى‬
‫ُ‬
‫استهجان وهمهمات الجمهور وهي تنهش حجته إربا إربا‪ ،‬فما كان عليه إال أن ي ِ‬
‫ضرم في‬
‫ُحسبانهم توقعات جديدة بالقول أنه سيأتي بغلمان آخرين َس ُ‬
‫حرتهم أيضا‪ ،‬وهكذا انتقل‬
‫ُ‬
‫فعلت‬ ‫إلى خط اتهام آخر فعال‪ .‬بوسعي تجاهله لكني سأبذل قصارى جهدي لتحديه كما‬
‫أمرهم‪ ،‬أنك بوعد‬ ‫ُ‬
‫أطالب بتقديم هؤالء الصبية‪ .‬لقد بلغني ُ‬ ‫مع البقية‪ ،‬وها أنا ذا‬
‫شوت ُهم كي يحلفوا بالكذب تحت القسم‪ .‬غير أني لن أز َيد عن قولي‬
‫إعتاقهم من ذمتك َر َ‬
‫َُ‬
‫اجل ْب أوالء الصبية الذين‬
‫فهلم ِبهم‪ .‬أنا أطالب وأصر تانونيوس بودنس أن تفي بوعدك‪ِ .‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وقت لخطابي تحت‬ ‫سمهم‪ .‬ك ُّل ما خصص من ٍ‬ ‫قدمهم‪ِ .‬‬
‫تضع في شهادتهم كل ثقتك‪ِ .‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫تصرفك‪ .‬تكلم تانونيوس أنا أخاطبك ِفلم ت ِجم؟ ما الذي أصابك؟ ِلم تنظر حولك؟ إن‬
‫لم يتذكر توجيهاته أو نس ي أسماء شهوده فهل لك يا أيميليانوس أن تتقدم وتخبرنا عن‬
‫َ‬
‫عرض أوالء املَ َهنة‪ِ .‬لم تقلبت شاحبا؟ ِلم ال تقول‬ ‫َ‬
‫التعليمات التي أسديتها ملحاميك وت ِ‬
‫ً‬
‫ملواطن‬
‫ٍ‬ ‫إهانة باألحرى‬ ‫شيئا؟ أهكذا توجه اتهاما؟ أهكذا تتهم رجال بتهمة جادة؟ أليست‬
‫شأن مثل كلوديوس ماكسيموس ومالحقة جائرة وافترائية في حقي؟ ربما انزلق‬ ‫ذي ٍ‬
‫وكيلك في خطابه ولم يكن هناك أي أوالد لتقديمهم‪ ،‬فاستفد بعض الش يء من األربعة‬
‫َ‬
‫طلبت مثول املنزل بأكمله؟‬ ‫أحضرتهم إلى املحكمة‪ .‬فإن رفض َت ذلك‪ِ ،‬فل َم‬
‫ُ‬ ‫عشر الذين‬

‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬


‫ستطالب إن كانت‬ ‫اودت في تهمة السحر على تقديم خمسة عشر عبدا‪ ،‬ف ِبكم‬
‫‪ -47‬لقد ر‬
‫بأمر ال يزال خفيا‪،‬‬
‫التهمة تخص العنف؟ هذا يشير إلى أن الخمسة عشر عبدا على علم ٍ‬
‫عدد‬
‫أو أنه ال يخفى بل يرتبط بالسحر ضمنيا؟ لديك خيار من اثنين‪ :‬إما أني بإشراك ٍ‬
‫كبير من الشهود لم أفعل ضيرا‪ ،‬وإال فما كان علي أن ُأشهد عليه جمعا غفيرا‪ .‬لقد ِق َ‬
‫يل‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫لي إن هذا السحر الذي تتهمونني به جريمة في نظر القانون‪ ،‬وقد تم حظره منذ األزمنة‬

‫‪64‬‬
‫الغابرة من قبل اللوائح االثنتي عشرة(‪ ،)128‬ألنه وعلى نحو خارق تم مسح املحاصيل من‬
‫َ‬
‫حقل آلخر‪ .‬إذن فهو فن خبي بقدر ما هو بغيض ورهيب‪ ،‬يحتاج بالضرورة ِلخفر الليل‬
‫ومطلق العزلة وهمهمة التعاويذ‪ ،‬وال يؤذن إال لقلة من األحرار بحضوره فما‬‫َو ِستر الظالم ُ‬
‫بالك بالعبيد‪ ،‬ومع ذلك سيكون لديك خمسة عشر عبدا في هذه املقام‪ .‬أكان ُع ً‬
‫رسا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مهرجانا ما؟ أم وليمة جرت في أوانها؟ خمسة عشر عبدا يشاركون في طقوس‬ ‫هذا؟ أم‬
‫سحرية كما لو أنهم أسسوا كوينديسيمفيرس(‪ )129‬من أجل تقديم قربان! أكان من املرجح‬
‫عصبة في هذه املناسبة إن كان عددهم أكثر مما تقتضيه السرية؟ خمسة‬ ‫أن ُأشرك ْ‬
‫ِ‬
‫ً‬
‫عشر رجال حرا يشكلون بلدة‪ ،‬وخمسة عشر عبدا منزال‪ ،‬وخمسة عشر ِق ًّنا مكبال فرقة‬
‫حشد كهذا ليساعدني في تثبيت األفدية طيلة‬ ‫بحاجة إلى‬ ‫ُ‬
‫أكنت‬ ‫من رجال ُّ‬
‫السخرة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫لعد حبيبات‬
‫أضاح عدا الدجاج! أكانوا هناك ِ‬
‫ٍ‬ ‫الطقوس املطولة؟ أبدا‪ .‬لم تذكر من‬
‫البخور؟ أو لصرع ثالوس أرضا؟‬
‫ُ‬
‫استدرجت امرأة حرة عانت من نفس مرض ثالوس للقدوم إلى‬ ‫‪ -48‬تزعمون كذلك أني‬
‫بيتي واعدا إياها بعالجها‪ ،‬وأنها خرت هي األخرى مغشيا عليها من جراء عزائمي‪ .‬أراكم‬
‫َ‬
‫ساحرا طاملا تجزمون بأن كل من قصد بابي ت َر َّدى أرضا‪ .‬فوق ذلك‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مصارعا ال‬ ‫تتهمون‬
‫ينفي ثيميسون الطبيب ‪ -‬وهو من أحضر املرأة ألتفحصها ‪ -‬عندما َ‬
‫سألته يا ماكسيموس‬

‫(‪ )128‬اللوائح االثني عشر‪ .‬وهي قائمة من التشريعات حفظت حقوق املواطنين الرومان‪ .‬املثال الذي استخدمه‬
‫أبوليوس يندرج ضمن الالئحة الثامنة‪ ،‬البند الثامن تحديدا‪ ،‬والذي ينص على أن الشخص الذي يدمر املحاصيل أو‬
‫يتلفها باستخدام السحر مصيره املوت‪ .‬أما تهمة استخدام فن السحر أو عقاقير مسممة على أي شخص فمصير‬
‫الفاعل املوت أيضا وفقا لالئحة التاسعة‪ ،‬البند الخامس وعشرين تحديدا‪.‬‬
‫‪- Gaius, Thomas Lambert Mears, the Institutes of Gaius and Justinian, the Twelve Tables, and the CXVIIIth‬‬
‫‪and CXXVIIth Novels: With Introd and Translation. Stevens, 1882. pp. 577-590.‬‬
‫(‪ )129‬مجمع الكهنة الخمسة عشر أو ‪ .Quindecimvirs‬مجموعة من الكهنة مكلفين بالحفاظ على كتب العرافة‬
‫واستشعارها بطلب من مجلس الشيوخ‪ُ ،‬ينتخبون مدى الحياة‪ُ .‬عهدت كتب العرافة في عهد امللوك إلى رعاية رجلين‬
‫‪ duumviri‬من ذوي املرتبة الرفيعة‪ ،‬وبعد انتهاء امللكية إلى أنبل النبالء الذين تم إعفاؤهم بموجب ذلك من كل املهام‬
‫اإلدارية والعسكرية‪ .‬تم رفع عددهم إلى ‪ 10‬حوالي ‪ 367‬ق‪.‬م باملناصفة بين النبالء والعامة‪ .‬تم بعد ذلك رفع عددهم‬
‫إلى ‪ 15‬رجال في وقت غير مؤكد بالضبط‪.‬‬
‫‪- Sir William Smith, A Dictionary of Greek and Roman Antiquities. John Murray, Albemarle Street. London‬‬
‫‪1875. p. 387.‬‬

‫‪65‬‬
‫ُ‬
‫تسمع طنينا في أذنيها وإن كان األمر كذلك أي‬ ‫إن ر ُ‬
‫اودتها عن ش يء عدا سؤالها إن كانت‬
‫ُ‬
‫ذن عانت أكثر‪ ،‬وأضاف أنها غادرت على الفور بعد إخباري بأن أذنها اليمنى كانت األكثر‬
‫أ ٍ‬
‫اضطرابا‪ .‬هنا يا ماكسيموس ومع ِح ْرص ي ألكبح نفس ي عن امتداحك لئال أبدو وكأني‬
‫أستميلك في صفي‪ ،‬ال أرى لي مناصا دون تقريظك على َدهاء أسئلتك‪ .‬فبعدما قضوا‬
‫ُ‬
‫سحرت املرأة‪ ،‬وهو ما أنكره الطبيب‬ ‫وقتا طويال في مناقشة هذه النقاط واالدعاء بأني‬
‫مته من‬‫سألتهم ببصيرة تفوق ما للبشر عما َغن ُ‬ ‫َ‬ ‫الذي كان شاهدا على الواقعة‪،‬‬
‫ِ‬
‫تعويذاتي؟ أجابوا 'تملكت املرأة نوبة'‪ .‬سألت 'ماذا بعد؟'‪' ،‬هل ماتت؟'‪ .‬قالوا 'ال'‪' .‬ما‬
‫رصك‬‫الذي ترمون إليه إذن؟'‪' .‬كيف يمكن لواقعة تعرضها لنوبة أن تنفع أبوليوس؟'‪ِ .‬ح ُ‬
‫في السؤال للمرة الثالثة يوحي بالسداد‪ِ ،‬لعلمك بضرورة إخضاع كل الوقائع لفحص‬
‫َّ‬
‫ُ‬
‫يطلق على ممثلي‬ ‫فغالبا ما ُيسل ُم بالوقائع دون الفصل في الدوافع‪ ،‬ولهذا‬
‫ً‬ ‫بات َئاد‪،‬‬
‫دوافعها ِ‬
‫فعل بعينه‪ .‬إن إنكار حقيقة ما هو أمر ٌ‬
‫سهل‬ ‫بالدفاع ألنهم يحددون دوافع كل ٍ‬ ‫املتقاضين ِ‬
‫َ‬
‫محام‪ ،‬أم ا إثبات صحة أو خطأ تصرف ما ل ُعقبولة تشق على العوام‪ .‬ولذا‬ ‫وال يحتاج إلى ٍ‬
‫فإنها ملضيعة للوقت االستفسار عما إذا كان قد تم القيام بش يء ما ومتى‪ ،‬حتى لو تم‬
‫القيام به ال يمكن ادعاء وجود دافع لألذى‪ .‬في ظل ظروف كهذه‪ ،‬إن لم يكن هناك أي‬
‫ُ‬
‫زمع فإن القاض ي الكفء يعفي املتهم من كل تحقيقات أخرى ُمغيظة‪.‬‬ ‫ُ‬
‫دافع جنائي م ٍ‬
‫بنوبة فأنا لن أنكر‬ ‫سحرت املرأة أو تسب ُ‬
‫بت في إصابتها‬ ‫ُ‬ ‫واآلن‪ ،‬بما أنهم لم يثبتوا أني‬
‫ٍ‬
‫سألتها إن كانت‬‫بدوري أني فحصتها نزوال عند رغبة طبيب‪ ،‬وسأخبرك يا ماكسيموس ل َم ُ‬
‫ِ‬
‫رت أال ُت ِلقي‬
‫لديها ضوضاء في أذنيها‪ .‬لن أفعل ذلك بداعي تبرئة نفس ي من التهمة التي قر َ‬

‫اللوم أو الجرم عليها مسبقا‪ ،‬بل إلضفاء ش ٍيء يستحق سماعك ويثير اهتمام شخص‬
‫إيجاز فما أود إال أن أشد انتباهك إلى‬
‫ٍ‬ ‫ِب ِسعة معرفتك‪ .‬وسأخبرك بقدر ما استطعت من‬
‫ُ‬
‫بعض الحقائق ال أن أ ِقل احترامك بتلقينك‪.‬‬

‫‪ -49‬شيد الفيلسوف أفالطون بما يفوق البالغة البشرية ُبنيان الكون بأسره في عمله‬
‫الجليل تيماوس‪ .‬بعدما تحدث ببصيرة نافذة عن القوى الثالث التي سوت كينونة‬

‫‪66‬‬
‫ُ ُّ‬
‫يصف‬ ‫اإلنسان(‪ )130‬وأظهر بمنتهى الوضوح التدبير اإللهي في خلق مختلف أعضائنا‪،‬‬
‫يكمن السبب األول في أعضاء الجسم‬ ‫ُ‬ ‫تحت ثالثة فروع(‪ )131‬أسباب جميع األمراض‪.‬‬
‫وهذا عندما تفشل الصفات الفعلية لهذه األعضاء من رطوبة وبرودة مع نقيض ْيهما في‬
‫املواءمة‪ ،‬ويحدث ذلك عندما يكتسب أحد هذه األعضاء ِن ً‬
‫سبا مفرطة أو ينتقل من‬
‫ُ‬
‫يكمن السبب الثاني للمرض في ِإعطاب مكونات الجسم التي على الرغم من‬ ‫موضعه‪.‬‬
‫كونها تتشكل من عناصر بسيطة إال أنها تتكتل على نحو معين حتى تحظى ِب ِسمة محددة‬
‫تخصها‪ ،‬تماما كالدم واألنسجة والعظام والنخاع ومختلف املواد التي تنتج عن اختالط‬
‫ُّ‬ ‫ً‬
‫كل منها‪ .‬أما ثالثا فإن تكلد العديد من العصائر واألبخرة املتكدرة والخالئط الكثيفة في‬
‫الجسم هو آخر ُمستثير للمرض‪.‬‬

‫سهم في اإلصابة بالصرع وهو املرض الذي‬ ‫ُ‬


‫‪ -50‬من بين هذه األسباب فإن أكثر ما ي ِ‬
‫شرعت في الحديث عنه هي حالة يتفسخ فيها اللحم بسبب التأثير املتلف للنار إلى أن‬ ‫ُ‬
‫َ‬ ‫ُيشكل طبقة رغوية وكثيفة‪ .‬هذا ُي ِولد ً‬
‫بخارا‪ ،‬وبالتالي فإن ف ْي َح الهواء املضغوط داخل‬
‫قيحا أبيض وهائجا‪ .‬إذا نجح هذا التخمر في االنفالت من الجسد يتفش ى‬ ‫الجسم ُيفرز ً‬
‫قوب بالطفح بشرة الصدر ويرقشها بشتى أنواع‬ ‫ُ‬
‫بطريقة مقرفة أكثر منها خطرة ألنه ي ِ‬
‫البقع‪ .‬لكن الشخص الذي يحدث له هذا لن يتعرض مجددا لهجوم الصرع‪ ،‬ولذا فهو‬
‫بسيطة في الجسد‪ .‬أما من ناحية أخرى‪ ،‬إذا تم احتواء‬ ‫بدمامة‬ ‫يفدي روحه من َ‬
‫ضناها‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫هذا التعفن الخطير داخل الجسد واختلط مع ا ِمل َّرة السوداء وبذلك يتدفق بقوة عبر كل‬
‫ً‬
‫وغامرا الدماغ بمجراه املاحق‪ ،‬فإنه ُيض ِعف على‬‫ً‬ ‫ِعر ٍق شاقا طريقه صعودا إلى الرأس‬
‫ُ‬
‫الفور ذلك الجزء امللكي من النفس الذي يستمد من العقل لبه واملتوج به رأس اإلنسان‬

‫(‪ )130‬يتحدث أفالطون عن القوى الثالث التي تشكل كينونة اإلنسان في مؤلفه تيماوس‪" :‬لذلك جعل اإلله الكون‬
‫كرويا‪ ،‬مستويا‪ً ،‬‬
‫سلسا ومثاليا‪ .‬يتسارع على الدوام رفقة الروح‪ .‬وحيدا ومكتفيا بذاته‪ .‬لكنه لم يخلق الروح بعد‬ ‫ً‬
‫الجسد‪ ،‬كما نتحدث بفضاضة عن ذلك‪ .‬لكن باألحرى‪ ،‬وبما أن الروح ستكون سيدة وملكة على الجسد‪ ،‬فقد صاغها‬
‫في البدء من ثالثة عناصر‪ ،‬من الذات ومن اآلخر ومن الجوهر ‪."....‬‬
‫‪- Plato, The Timaeus Of Plato Edited with Introduction and Notes by R. D. Archer-Hind, M.A. Macmillan‬‬
‫‪1888. 35a-36d. p. 103.‬‬
‫(‪ )131‬انظر‪:‬‬
‫‪- Ibid., p. 308- 316.‬‬

‫‪67‬‬
‫فيض بالحيرة على قنوات األلوهية َو ُ‬
‫يغمر َوي ُ‬ ‫ُ‬ ‫كونه ُ‬
‫ص ُرط الحكمة‪.‬‬ ‫وبالطه‪ ،‬وهكذا ُ‬ ‫قلعته‬
‫أثناء النوم يكون ذلك أقل اضطرابا‪ ،‬ولكن عندما يمتلئ الناس باللحوم والنبيذ فهو‬
‫حد ما بسبب اإلحساس باالختناق وهو نذير الصرع‪ .‬أما إذا‬
‫يجعل وجوده غير مريح إلى ٍ‬
‫بلغ تلك القوة ملهاجمة رؤوس األشخاص َو ُهم في واسع صحوتهم فإن عقولهم تشتد‬
‫بسحابة مفاجئ ٍة من االنشداه وينهارون أرضا‪ ،‬وهكذا تفقد أجسادهم الشعور‬
‫ٍ‬ ‫تلبدا‬
‫صغه أسالفنا باملرض‬ ‫واإلدراك كما في املوت ُويغمى على أرواحهم معهم‪ .‬ولذا لم َي ُ‬
‫العظيم واملرض املجلس ي(‪ )132‬فقط بل باملرض اإللهي أيضا‪ ،‬وفي هذا َش ٌ‬
‫به باإلغريق‬
‫الذين يطلقون عليه 'املرض املقدس'‪ .‬هذا االسم ُمنصف ألن هذا السقم ُيس يء للجزء‬
‫العقالني من الروح واألقدس على اإلطالق بين كل األقداس‪.‬‬
‫‪ -51‬أنت ُتميز نظرية أفالطون يا ماكسيموس بقدر ما تمك ُ‬
‫نت من إعطائها تفسيرا نيرا في‬
‫ما أتيح لي من وقت‪ .‬أنا أضع في قوله كل ثقتي حين يعزو الصرع الجتياح هذا الخلط‬
‫ُ‬
‫سألت املرأة إن كان رأسها‬ ‫املوبوء للرأس‪ ،‬ولذا كان استفساري وجيها على ما أعتقد حين‬
‫يشعر بالثقل ورقبتها بالخدر وأصداغها باالرتجاج وأذناها بالطنين‪ .‬كانت حقيقة إقرارها‬
‫بأن هذه الضوضاء أكثر تواترا في أذنها اليمنى دليال على أن املرض استشرى في كيانها‪،‬‬
‫وبما أن األعضاء اليمنى من الجسم هي األقوى فإن إصابتها باملرض تترك أمال ضئيال في‬
‫التعافي‪ .‬وقد ترك أرسطو في الواقع مالحظاته في مؤلفه 'إشكاليات' بأن السقم حين‬
‫ًّ‬
‫عصيا(‪ .)133‬سيطول بي‬ ‫يستفحل في الجانب األيمن لدى مرض ى الصرع يكون عالجهم‬
‫رت رأي ثيوفراستوس ً‬
‫أيضا في موضوع الصرع كونه ترك أطروحة ُمتقنة‬ ‫األمر لو كر ُ‬

‫(‪ )132‬املرض املجلس ي‪ .‬سمي هكذا ألنه إذا حدثت حالة صرع أثناء اجتماع الكوميتيا‪ ،‬مهما كان سبب االجتماع‪ ،‬يتم‬
‫فض وتفكيك املجمع على الفور‪ .‬في النص يشرح أبوليوس باسهاب سبب دعوته باملرض اإللهي واملرض املقدس عند‬
‫القدامى‪.‬‬
‫‪- Proceedings of the sixth Minnesota State Conference of Charities and Correction, Volumes 6 à 11. St.‬‬
‫‪Paul Min: The Pioneer Press Company, State Printers. Minnesota 1898. pp. 59-60.‬‬

‫(‪ )133‬أنظر‪:‬‬
‫‪- Aristotle, The Works of Aristotle, The Famous Philosopher. A New Edition In Four Parts. W. Osborne & T.‬‬
‫‪Griffin. London, 1797. pp. 258-259.‬‬

‫‪68‬‬
‫للغاية عن التشنجات(‪ .)134‬ومع ذلك فقد أكد في كتاب آخر عن موضوع الحيوانات‬
‫العدائية تجاه الجنس البشري أن جلود السمندر ‪ -‬والتي تتوارى مثل الزواحف األخرى‬
‫عالجا للنوبات‪ ،‬ولكن ما لم تلقف الجلد‬ ‫في فترات زمنية محددة لتجديد شبابها ‪ -‬تعتبر ً‬

‫سبقة‬‫بث ملعرفتهم املُ َ‬ ‫ُ‬


‫فور طرحه فإنهم ينقلبون إليه مباشرة ويلتهمونه سواء كان عن خ ٍ‬
‫وحر ُ‬‫َ‬ ‫ُ‬
‫صت على‬ ‫مذاق طبيعي له ‪ .‬ها قد ذكرت هذه األمور ِ‬ ‫بقيمته لدى الرجال أو عن ٍ‬
‫( ‪)135‬‬

‫بت أي إشارة إلى‬ ‫اقتباس حجج الفالسفة املشهورين وعلى ذكر الكتب التي تضمنتها وتجن ُ‬
‫ِ ِ‬
‫َ‬
‫أعمال األطباء أو الشعراء عس ى أن يكف أعدائي عن التعجب من أن الفالسفة ث ِقفوا‬
‫قضايا العالجات واألمراض في السياق الطبيعي ألبحاثهم‪ .‬واآلن‪ ،‬طاملا جيء بهذه املرأة‬
‫حضرها أو من‬‫سواء من شهادة الطبيب الذي َأ َ‬‫ً‬ ‫ألتفحصها ُبغية عالجها وألنه من الواضح‬
‫ُ‬
‫أشرت إليها للتو أن سياقا كهذا كان صائبا تماما‪ ،‬فعلى خصومي أن يؤكدوا‬ ‫الحجج التي‬
‫بأن عالج املرض من صنيع السحرة والسفلة‪ .‬فإن لم يجرؤوا على قول ذلك فما لهم إال‬
‫أن يعترفوا بأن اتهاماتهم بخصوص الولد واملرأة مريض ْي الصرع كانت منافية للصواب‬
‫والعقل‪ ،‬وأنها كانت متهافتة تماما‪.‬‬
‫َ‬ ‫‪ -52‬فعال يا أيميليانوس‪ ،‬إن َ‬
‫أردت سماع الحقيقة فقد أخذ منك املرض الساقط كل‬
‫ً‬
‫فغالبا ما تداعت اتهاماتك الزائفة وألقتك مغلوبا على أمرك ً‬
‫أرضا‪ .‬وليس أسوأ‬ ‫مأخذ‪،‬‬
‫ٍ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫مه من أن يتداعى‬ ‫حقا أن يهوي املرء ِبجسده من أن يتردى ِ‬
‫بوجدانه وال أن ينهد ِبقد ِ‬
‫ُ‬
‫ِب َجنا ِنه‪ ،‬وألن ُينبذ املرء لوحده في فراشه ألهون وحق السماء من أن ُيرى من هذا‬
‫َ‬
‫تحسب نفسك سليم العقل ألنك غير ُمقي ٍد خلف‬ ‫ُ‬ ‫املحفل املتميز بعين االشمئزاز‪ .‬ربما‬
‫أبواب‪ ،‬لكن اتبع تلقينات جنونك إلى أي مكان تقودك‪ ،‬بل وقارن مع ثالوس ما يغشاك‬
‫ٍ‬
‫يحصر هيجانه لنفسه وأنتَ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫ستجد ما َيف ِرقك عن ثالوس عدا أنه‬
‫من خ ٍبل‪ ،‬بالكاد ِ‬

‫(‪ )134‬يؤكد ديوجنس أن ثيوفراستوس ترك كتابا عن مرض الصرع‪.‬‬


‫‪- Diog. Laert. V. 2.‬‬
‫(‪ )135‬يؤكد بليني هذا األمر في مؤلفه التاريخ الطبيعي‪" :‬يخبرنا ثيوفراستوس أن السمندرات ترمي جلودها مثل الحية‬
‫وتلتهمها على الفور‪ ،‬مما يحرمنا من عالج قوي للصرع"‪.‬‬
‫‪- Plin, Nat. 8. 49.‬‬

‫‪69‬‬
‫َ ُ‬
‫وأنت تشوه الحقيقة‪ .‬ثالوس يقبض يديه‬ ‫ُتوجهه ضد اآلخرين‪ .‬ثالوس ُيشوه عينيه‬
‫باختالج َ‬
‫وأنت ال تقل عنه تشنجا مع أشياعك‪ .‬ثالوس يكبو على األرصفة وأنت أمام‬
‫ُ‬
‫مجلس القضاء‪ .‬بعبارة موجزة‪ًّ ،‬أيا كان ما يفعله فهو من جراء مرضه دون إدر ٍ‬
‫اك‪ ،‬أما‬
‫وأنت َت ِعي وتدري‪ُ ،‬مستلهما أفعالك من ْ‬
‫سورة املرض‪.‬‬ ‫ترتكب جرائمك َ‬
‫ُ‬ ‫أنت يا خسيس‪،‬‬‫َ‬
‫ِ‬
‫أنت تختلق الكذب وتقدمه كحقيقة‪ ،‬ثم ترمي الرجال بما لم ُ‬
‫يحدث أصال‪ ،‬ومع أنك‬ ‫َ‬

‫تدري ببراءة الرجل تمض ي في اتهامه كما لو كان مذنبا‪.‬‬

‫دت أن أنس ى ِذكرها ‪ -‬ومع ذلك تجعل‬ ‫‪ -53‬بل وتعترف بجهلك لبعض األشياء ‪ -‬والتي ك ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫منها قرائن كما لو كنت م ًّلما بها‪ .‬تزعم أني احتفظت بش يء غامض لففته في منديل بين‬
‫َُ‬ ‫ُ‬
‫آلهة البيت في منزل بونتيانوس‪ .‬أنت تعترف ِبجهلك ملا قد تكونه طبيعة أو مظهر هذا‬
‫الش يء‪ ،‬كما تقر أيضا بأن ال أحد رآه من قبل‪ ،‬ومع ذلك تؤكد أنه كان أداة للسحر‪ .‬ما‬
‫صفاقة‪ .‬ال تعتقد ذلك‬
‫ٍ‬ ‫حصافة وال حتى‬
‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫فاتهامك ال ينم عن‬ ‫ِبوسعنا تهنئتك على دعواك‬
‫وشيخوخة‬ ‫ساخطة تهوعت من املرارة‬ ‫روح‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫لبرهة‪ .‬أبدا! إنه ال يظهر أي ش ٍيء عدا ٍ‬
‫ٍ‬ ‫ولو‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫دفعت بهذه الكلمات تقريبا في محضر قاض نافذ‬ ‫سة ش ِرقت بالغيظ والبغضاء‪ .‬لقد‬‫شك ٍ‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫البصيرة واإلدراك‪" :‬احتفظ أبوليوس بأشياء ملفوفة في قطعة قماش بين آلهة البيت‬
‫بمنزل بونتيانوس‪ .‬بما أني ال أعرف ما كانت عليه فأنا ُ‬
‫أزعم أنها كانت سحرية‪ .‬أترجاكم‬
‫شيئا"‪ .‬يا لها من حجة‬ ‫أن تصدقوا ما أقول ألني أتحدث عن تلك التي ال أعرف عنها ً‬
‫ٌ‬
‫قاطع للتهمة نفسها‪" :‬البد أنها كانت كذلك‪ ،‬ألني ال‬ ‫ٌ‬
‫دحض‬ ‫خارقة والتي في حد ذاتها‬
‫ُ‬
‫أعرف ما كانت"‪ .‬أنت ِل َوحدك من اكتشف حتى اآلن والذي يعرف ما ال يعرفه‪ .‬أنت‬
‫تتفوق بجدارة على كل اآلخرين في الحماقة‪ .‬فبينما يؤكد أولو األبصار من فالسفة الفكر‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫أن علينا أال نثق حتى في األشياء التي نراها‪ ،‬فأنت تقدم إفادات حول أشياء لم ي ِ‬
‫سبق‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫لك أن ر َ‬
‫سمعت بها‪ .‬لو كان بونتيانوس على قيد الحياة َوقمت بسؤاله عما يحتويه‬ ‫أيتها أو‬
‫ُ‬
‫القماش ألجاب أنه ال يدري‪ .‬هناك الشخص امل ْع َتق الذي ال يزال وصيا على مفاتيح‬
‫املكان‪ ،‬هو أحد شهودك‪ ،‬لكنه يقول إنه لم يتفحص هذه األشياء أبدا على الرغم من‬
‫َ‬
‫مسؤول عن الكتب املحفوظة هناك على فتح األبواب وغ ِلقها كل يوم‬
‫ٍ‬ ‫كخادم‬
‫ٍ‬ ‫أنه دأب‬

‫‪70‬‬
‫تقر ًيبا‪ ،‬وكثيرا ما دخل الغرفة ِبرفقتي ولكن في أكثر األحيان ِب ُمفرده‪ ،‬وقد رأى القماش‬
‫َ‬
‫عقدة‪ .‬طبيعي للغاية‪ ،‬أليس كذلك؟ تم إخفاء‬ ‫ٍ‬ ‫ُملقى على الطاولة غير محمي ِبخ ٍتم أو‬
‫ُ‬
‫األشياء السحرية في الكتان ولهذا السبب لم أ ِلق بالغ االهتمام ِلحفظها في أمان‪ ،‬لكني‬
‫عاين بحرية من أي كان‪ ،‬أو ليأخذها أحدهم ً‬
‫بعيدا إلى أي‬ ‫تركتها على أي حال ُلتفحص ُوت َ‬
‫ُ‬
‫َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ‬
‫حملنا على تصديقك‬ ‫مكان! عهدت بها لرعاية اآلخرين‪ .‬سلمت أمرها ملشيئة الغير! كيف ت ِ‬
‫ألق أبدا ببصري عليه إال في هذه املحكمة‪،‬‬ ‫بعد اآلن؟ هل لنا أن نؤمن بأنك‪ ،‬يا من لم ِ‬
‫تعرف أن بونتيانوس الذي شاركني نفس السقف كان جاهال باألمر؟ أو هل علينا أن‬
‫نعتقد أنك‪ ،‬يا من لم يسبق له أن دنا من الغرفة التي ُوضعوا فيها‪َ ،‬‬
‫أيت ما لم يره‬‫ر‬
‫ُ‬
‫امل ْع َتق مطلقا رغم ما أتيحت له من فرص لتفقدهم أثناء مواظبته على أداء واجباته؟‬
‫باختصار‪ ،‬ما لم ُ‬
‫تره من قبل البد أنه يكون ما تؤكده أنت! ومع ذلك يا أحمق‪ ،‬لو‬
‫جلب هذا القماش بين يديك‪ ،‬ألنكرن الطبيعة السحرية‬ ‫َ‬
‫نجحت في هذا اليوم بالذات في ِ‬
‫ُ‬
‫قدمه عنه‪.‬‬‫لكل ما قد ت ِ‬

‫‪ -54‬أنا أمنحك رخصة تامة فابتكر ما تشاء‪ ،‬ارتق بذاكرتك وخيالك الختالق ش يء قد‬
‫قت في ذلك ألجادلنك في األمر‪ .‬سأدعي أنك‬ ‫يبدو وكأنه ذو طبيعة سحرية‪ .‬حتى وإن ُوف َ‬
‫ِ‬
‫شعارا مقد ًسا في‬
‫ً‬ ‫كعالج أو أنه كان‬ ‫ُ‬
‫دسست هذا الغرض عوضا عن األصلي أو أني تلقيته‬‫َ‬
‫ٍ‬
‫َْ ُ‬ ‫َُ‬ ‫َ‬
‫طريقة أخرى يمكنني من خاللها أن‬ ‫ٍ‬ ‫ِحفظي أو أن رؤيا قضت بأن ألف ُه هكذا‪ .‬هناك ألف‬
‫أدحضك ِب ُمطلق الصدق ودون تقديم أي تفسير خار ٍق أو خارج املعهود‪ .‬أراك تبتغي‬‫َ‬

‫صالح حتى وإن تم إثباته إلى أقص ى حد‪،‬‬


‫ٍ‬ ‫قاض‬
‫ظرف لن يضر بي في نظر ٍ‬‫إدانتي من وراء ٍ‬
‫ُ‬
‫بس يلفه الغموض والريبة والجهل‪ .‬ربما ستقول كالعادة 'إذن‪ ،‬ما‬ ‫طاملا يستند على ل ٍ‬
‫بشدة على إيداعه مع آلهة‬ ‫وحر َ‬
‫صت‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫الش يء الذي َل َ‬
‫ففت ُه‬
‫ٍ‬ ‫ماش من الكتان ِ‬ ‫بقطعة ق ٍ‬
‫ِ‬
‫ً‬
‫أنت ال ُتقدم دليال قاطعا بنفسك بل‬
‫املنزل؟'‪ .‬حقا يا أيميليانوس! أهكذا تت ُهم ضحاياك؟ َ‬
‫َ‬
‫فحصت امرأة‬ ‫تطلب من املت َهم توضيحات لكل ش يء‪'ِ .‬لم تبحث عن السمك؟ ِلم‬ ‫ُ‬
‫أأتيت هنا لتتهمني أو لتستجوبني؟ إن َ‬
‫أتيت‬ ‫َ‬ ‫مريضة؟ ما الذي َد َ‬
‫سست ُه في منديلك؟'‪.‬‬
‫َ ُ‬ ‫َ‬
‫ئت تسائلني فال تختلق قصصا من رأسك‪ ،‬فما‬‫تتهمني فأ ِقم ُحجتك بنفسك‪ ،‬وإن ِج‬

‫‪71‬‬
‫حاجت َك بسؤالي إال لجهلك بما حصل‪ .‬لئن سلمنا بما َس َب َق وأعفينا َّ‬
‫املت ِهم من إقامة‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫البينة على دعواه ومكناه فوق ذلك بكل السبل الستجواب املت َهم فال أحد في أنحاء‬
‫َ َ‬ ‫َّ‬
‫سبق وفعله في أي‬ ‫املعمورة إال وسيورط بتهمة أو بأخرى‪ ،‬بل سيوظف باألحرى كل ما‬
‫َ ُ‬
‫أكتبت أمنية على فخذ تمثال ما؟ ها‬ ‫شخص يتهمه بالشعوذة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫وقت مض ى كذريعة ألي‬
‫أهمست بصلوات صامتة لآللهة في معبد ما؟ ها َ‬
‫أنت‬ ‫َ‬ ‫أنت ساحر! وإال فلم َ‬
‫كتبتها؟‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫أنت لم تتلفظ بأي صالة في‬ ‫طلبته؟ أو تأتينا على نحو معاكس‪َ .‬‬ ‫ساحر! وإال فاخبرنا بما َ‬
‫ُ‬
‫أي معبد! أنت ساحر إذن! وإال ويحك ِملاذا لم تسأل اآللهة شيئا؟ َس ُيؤخذ بالحجة ذاتها‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ً‬ ‫منحت ُن ُ‬
‫َ‬
‫مقدسة‪ .‬سيخذلني اليوم‬
‫ٍ‬ ‫ص ًبا أو قدمت قربانا أو حملت أغصانا من أي ٍ‬
‫نبتة‬ ‫إن‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫حاولت املض ي قدما بين مختلف الظروف أين يطلب املت ِهم املفتري على هذا‬ ‫بطوله إن‬
‫ً ُ ً‬ ‫َ‬
‫األساس تعليال‪ .‬وفوق ذلك كله‪ ،‬أيا كان الش يء الذي أبقى عليه مخفيا أو مخزنا ِب ٍ‬
‫قفل‬
‫ومفتاح في املنزل سيتم تأكيده بنفس الحجة على أنه ذو طبيعة سحرية أو يتم سحبه‬ ‫ٍ‬
‫من دوالبه إلى ضوء محكمة القانون أمام ا ِملنصة‪.‬‬

‫‪ -55‬قد أتحدث باستفاضة أكبر عن جوهر وخطورة اتهامات كهذه‪ ،‬عن الفيض الواسع‬
‫نتح ُه‬
‫من البهتان الذي ُيغدق به هذا الدرب على أيميليانوس‪ ،‬عن ُع َباب العرق الذي َي ُ‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫انتهجته‬ ‫هذا املنديل البسيط من كل األبرياء ِخالفا لواجبه! لكني سأتبع املسار الذي‬
‫ُ‬
‫مسبقا َوأقر بما لم يكن من الضروري اإلقرار به‪ ،‬وسأجيب على أسئلة أيميليانوس‪ .‬أنت‬
‫تسأل يا أيميليانوس عما احتواه املنديل؟ ولو أني قد أنكر إيداع أي منديل في مكتبة‬
‫ُ‬
‫بونتيانوس أو حتى أقر بإيداعه في أقص ى الظروف وأنكر باستمر ٍار لف أي ش يء فيه‪.‬‬

‫سبق ألحد أن ملسها أبدا‬ ‫َ‬ ‫ُ‬


‫دليل أو حج ٍة تدحضني بها إن لم ي ِ‬
‫إن اتبعت مسارا كهذا فأي ٍ‬
‫واحد رآها ِطبقا ملا أكدت طبعا‪ .‬وبقدر ما يعنيني األمر سأعترف بأن قطعة‬ ‫عتق‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬ ‫عدا م ٍ‬
‫القماش كانت غاصة بما فيها‪ ،‬ولك أن تضع نفسك على شفا اكتشاف عظيم تماما‬
‫َ‬
‫كنز حين ش َرموا القربة الغاصة‬‫كرفاق يوليسيس‪ ،‬إذ ظنوا أنفسهم قد وقعوا على ٍ‬

‫‪72‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وأوكلته إلى رعاية آلهة منزل‬ ‫منديل‬
‫ٍ‬ ‫أودعته في‬ ‫بالرياح(‪ .)136‬أتريدني أن أطلعك على ما‬
‫نت في مختلف األسرار اإلغريقية‪ ،‬وأصون بمنتهى‬ ‫بونتيانوس؟ فليكن لك ذلك‪ .‬لقد ُلق ُ‬
‫ِ‬
‫العناية بعض الشارات والتذكارات الخاصة بمباشرتي لذلك والتي أهداني الكهنة إياها‪.‬‬
‫ُ‬
‫ليس األمر بالغريب أو املريب‪ِ .‬من بين الحضور هنا أناس ل ِقنوا في العديد من أسرار األب‬
‫تحفظه في البيت خفيا(‪ ،)137‬في مأمن من كل ملَسة َدنسة َ‬
‫والح َرم‬ ‫ُ‬ ‫ليبر وحده‪ ،‬يدرون بما‬
‫ٍ ِ ٍ‬ ‫ٍ‬
‫مت خبايا شتى وعددا هائال من الطقوس‬ ‫قلت‪ ،‬تعل ُ‬
‫تعبدك الصامت‪ .‬أنا أيضا وكما ُ‬ ‫في ُّ‬
‫وعديد املراسيم‪ ،‬يحدوني في أمري حماس ي الديني ورغبتي في معرفة الحقيقة‪ .‬وما ذلك‬
‫بصنيعة الظرف أو الحال‪ ،‬فمذ ما يقرب من ثالث سنوات أي إقامتي األولى في أويا‪،‬‬
‫ُ‬
‫وسردت فيه‬ ‫ُ‬
‫ألقيته للعامة حول عظمة آسكليبيوس(‪،)138‬‬ ‫خطاب‬ ‫ُ‬
‫أبديت ذات الت ِجلة في‬
‫ٍ‬
‫ما أعرف من الطقوس‪ .‬للخطبة ِذ ٌ‬
‫كر طنان‪ ،‬يقرؤها القاص ي والداني وتتناقلها األيادي‪،‬‬
‫َ َ‬
‫غف ِذ ُ‬ ‫ُ‬
‫كر آسكليبيوس قلوب أهالي أويا‬ ‫وما استمدت شهرتها من بالغتي بقدر ما ش‬
‫األتقياء‪ .‬هل ألحدكم إن صادف وتذكره أن يكرر فاتحة ذاك املقطع عينه في خطابي؟‬

‫يعا ما هو موجود هنا‪ ،‬ما مخزون‬ ‫(‪ )136‬يستذكر أبوليوس من أوديسة هوميروس املقطع‪ ..." :‬تعالوا‪ ،‬دعونا نرى سر ً‬
‫القربة‪ ،‬وهكذا ارتفعت كل الرياح‪،‬‬
‫الذهب والفضة في القربة‪ .‬هكذا تكلموا‪ .‬وساد الشر مشورة رفاقي وقاموا بفتح ِ‬
‫وسرعان ما استولت عليهم رياح العاصفة وحملتهم وهم يبكون في البحر ً‬
‫بعيدا عن أرضهم األصلية‪ ،‬أما بالنسبة لي‪،‬‬
‫فقد استيقظت وتفكرت في قلبي الطيب أعلي أن أبرح السفينة وأهلك في البحر‪ ،‬أو أتحمل في صمت وأبقى بين‬
‫األحياء"‪.‬‬
‫‪- Homer, Odyssey. X. 31-49.‬‬

‫(‪ )137‬األب ليبر أو ليبر باتر‪ .‬أطلق عليه كذلك باخوس‪ .‬أقدم تجسيد مؤكد عليه يدعى '‪ 'Cista‬وهو صندوق من البرونز‬
‫ُيحفظ بوقار‪ ،‬والذي من املفترض أن أبوليوس يتحدث عنه‪.‬‬
‫‪- Michael Gagarin, The Oxford Encyclopedia of Ancient Greece and Rome, Volume 1. Oxford University‬‬
‫‪Press, 2010. p. 352.‬‬
‫(‪)138‬اسكليبيوس‪ .‬نشأت عبادة هذا اإلله الذي قيل أنه ابن أبولو في إبيدوروس‪ ،‬مقر ضريحه الرئيس ي‪ .‬ومن ثمة‬
‫أصبحت منتشرة بشكل عام‪ .‬أقام كهنته في إبيدوروس مشفى كبير كان يتمتع بسمعة طيبة‪ ،‬وكانت الطريقة الشائعة‬
‫للعالج تتمثل في السماح للمرض ى بالنوم في املعبد‪ ،‬فإن كانوا متحمسين في صلواتهم يظهر لهم هذا اإلله في املنام‬
‫ويكشف لهم عن العالج الالزم‪ .‬أما عبادة هذه اإلله في روما فقد وجدت طريقها سنة ‪ 291‬قبل امليالد‪ ،‬نتيجة لألوبئة‬
‫جلب هذه‬‫الشديدة التي أدت لسنوات إلى إخالء املدينة واألرياف من سكانها‪ ،‬أين تمت استشارة كتب العرافة وتقر َر ُ‬
‫العبادة إلى روما‪.‬‬
‫& ‪- Otto Seemann, The Mythology of Greece and Rome: With Special Reference to its Use in Art. Harper‬‬
‫‪brothers, 1887. pp. 111-112.‬‬

‫‪73‬‬
‫كر الكلمات‪ .‬سأطلب قراءة هذا‬ ‫ُ‬
‫أتسمع يا ماكسيموس كم من األصوات تأتي على ِذ ِ‬
‫عال طاملا ُتبدي ببريق أساريرك أن صدرك لن يتوغر بسماعه‪( .‬تتم‬
‫املقطع نفسه بصوت ٍ‬
‫عال)‬
‫قراءة املقطع بصوت ٍ‬

‫إقدام‬ ‫َ‬
‫يحتار في‬ ‫كر عن طبيعة الشعائر الدينية أن‬ ‫َُ‬
‫ِ‬ ‫ألحد يحظى بأدنى ِذ ٍ‬
‫‪ -56‬أيعقل ٍ‬
‫ُ‬
‫فظ بعض الطالسم املرتبطة بهذه‬ ‫شخص ل ِقن الكثير من األلغاز املقدسة على ِح ِ‬
‫ٍ‬
‫َ‬
‫املراسيم في البيت ول ِفها بقطعة من الكتان والذي هو أنقى غطاء للمقدسات؟ بعكس‬
‫ُ َ‬ ‫ُ َ‬
‫الخراف‪ ،‬فارتداؤه محرم على‬
‫الصوف املنتج عن أكثر املخلوقات بالدة واملجتز من ظهر ِ‬
‫ودنس(‪ .)139‬في حين أن‬
‫ٍ‬ ‫أتباع أورفيوس وفيثاغورس لهذا السبب بالذات كونه غير مقد ٍس‬
‫ُ َُّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ُّ‬
‫واألطيب بين ثمارها‪ ،‬لم يستخدمه كهان مصر األتقياء‬ ‫الكتان األنقى مما ت ِغله األرض‬
‫حصرا لألفرشة والكساء بل كحجاب للمقدسات‪ .‬ورغم هذا فإن البعض ومن بينهم‬
‫صاحبنا أيميليانوس يتهكمون باألشياء الربانية من باب الفكاهة‪ .‬فحسب ما بلغني من‬
‫صل حتى هذا اليوم ألي إله وما تردد يوما على أي‬ ‫ُ‬
‫بعض رجال أويا الذين يعرفونه‪ ،‬لم ي ِ‬
‫ُ‬
‫دس فهو يستنكف عن رفع يده إلى شفتيه‬ ‫موضع ق ٍ‬
‫ٍ‬ ‫معبد‪ ،‬وإن صادف وأن مر على‬ ‫ٍ‬
‫َ‬
‫كإيماءة وقار‪ .‬بل لم يسبق له أن قدم بواكر املحاصيل أو الكروم أو القطعان ألي من‬
‫آلهة الحقول الذين يطعمونه ويكسونه‪ ،‬وال تحوي مزرعته على أي محراب أو أي مقام‬
‫مقدس وال حتى بستان‪ .‬وما لي أتحد ُث بنفس ي عن الجنائن واملواضع ُ‬
‫الق ُدس؟ وأولئك‬
‫هبة من الزيت أو‬ ‫الذين كانوا في ملكيته يقولون إنهم لم يسبق وأن رأوا ُن ُ‬
‫صبا بورك ِب ٍ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫أملوجا ُع ِلقت فيه األكاليل‪ .‬ولهذا السبب ل ِق َب ِبكنيتين‪ُ :‬يدعى خارون كما ذكرت‪ ،‬بسبب‬
‫أيضا باسم ُيفضله وهو ميزنتيوس(‪ )140‬ألنه يحتقر‬ ‫الشؤم في نفسه وطلعته‪ .‬كما ُيدعى ً‬

‫(‪ )139‬يقول هيرودوتس‪" :‬هم يرتدون سترة من الكتان بحواف تتدلى حول الساقين تسمى 'كاالسيريس' وعباءات‬
‫فضفاضة من الصوف األبيض فوقها‪ ،‬ولكن ال ش يء من الصوف يدخل في املعابد أو يدفن معهم‪ ،‬ألن هذا إثم‪ .‬هم‬
‫يحاكون في هذا األمر شعائر يطلق عليها 'أورفيك' و 'باشيك'‪ ،‬هي في الواقع مصرية وفيثاغورسية ‪."...‬‬
‫‪- Herodotus, The Histories. 2. 81.‬‬
‫(‪ )140‬ميزنتيوس‪ .‬يقول فيرجيل في اإلنيادة‪" :‬في القتال قبل كل ش يء‪ ،‬أتى ميزنتيوس من شواطئ إتروريان مزدريا ومتمردا‬
‫على اآللهة‪ ،‬وكل شعبه بالسالح‪ ،‬وبجانبه لوسوس وريثه ‪."...‬‬
‫‪- Vergilius, Aeneid. 7. 647.‬‬

‫‪74‬‬
‫ُ‬
‫أجده مسوغا أن عليه النظر إلى قائمة شعائري من باب السخرية‪ ،‬بل من‬ ‫اآللهة‪ .‬ولذا‬
‫املرجح أنه بسبب نبذه لألشياء اإللهية قد ال يكون قادرا على إقناع نفسه بأنني أحرص‬
‫ببالغ الوقار الشارات واآلثار املقدسة من الشعائر الغامضة‪ .‬ال أهتم بتاتا بما قد يتصوره‬
‫ُ‬
‫ميزنتيوس عني‪ ،‬لكن بالنسبة لآلخرين فأنا أصدر هذا البيان بكل وضوح وجالء‪ :‬إن كان‬
‫صدر إشارة وستط ُلع‬ ‫ُ‬
‫أحد الحاضرين منكم هنا قد شارك معي في تلك املراسم املهيبة فلت ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫على ما احتفظ به‪ ،‬فلن يدفعني وازع السالمة الشخصية ألكشف للعامة أسرارا تلق ُيتها‬
‫ُ‬
‫وأقسمت على إخفائها‪.‬‬
‫وأرضيت حتى أكثر الناس َت ُ‬
‫حامال‪ ،‬ولو أن األمر‬ ‫ُ‬ ‫يت يا ماكسيموس‬ ‫يت ووف ُ‬
‫‪ -57‬ها قد كف ُ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫مرتاح من مظان‬
‫ٍ‬ ‫ببال‬
‫بهة‪ .‬وهكذا أمض ي ٍ‬ ‫بمنديل فقد برأت نفس ي من أي ذرة ش ٍ‬‫ٍ‬ ‫تعلق‬
‫عد بوصفها األشد إفحاما‪ .‬لقد‬ ‫أيميليانوس إلى أمارات كراسوس والتي تالها متهمي في ما َب ُ‬
‫ً َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫مظ همجي ال ُيرجى ِل ِبطنته دواء يدعى‬ ‫مكتوب شهادة ِلل ْع ٍ‬
‫ٍ‬ ‫سمعتهم يقرؤون من إقر ٍار‬
‫يت بعض الطقوس الليلية في منزله رفقة صديقي أبيوس‬ ‫يونيوس كراسوس أني أد ُ‬

‫كوينتيانوس الذي كان يكتري بيته للسكنى‪ .‬يدعي كراسوس هذا ‪ -‬لتتأمل ذلك ‪ -‬أنه‬
‫اكتشف األمر ب َرصده ريش الطيور ودخان اللهب مع أنه كان في حقيقة األمر ً‬
‫بعيدا في‬ ‫ِ ِ‬
‫اإلسكندرية آنذاك!‬

‫نتشيا من خمارة ألخرى في اإلسكندرية ‪ -‬إذ ال يحول بين كراسوس‬ ‫ُ‬


‫يتتايع ُم ً‬ ‫أنا أتخي ُله‬
‫ثاقبة‬ ‫عين‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬ ‫وشراهته حتى ضوء النهار ِبحرمته ‪ -‬وإذ به يرصد من حانته الع ِفنة هناك ِب ٍ‬
‫بعيدا عن‬ ‫ُ‬
‫يتصاعد ً‬ ‫ُ‬
‫ويلمح دخان منزله‬ ‫ُ‬
‫يتطاير صوبه من منزله‪،‬‬ ‫كأي قناص َ‬
‫ريش الطيور‬ ‫ٍ‬
‫صر بأبعد بكثير مما تضرع وتاقَ‬ ‫السقف الخشبي ألسالفه‪ .‬إن رأى هذا بعينيه فقد َب ُ‬
‫يوليسيس لرؤيته(‪ ،)141‬فقد أمض ى يوليسيس سنوات في التحديق عبثا من الشاطئ‬
‫لرؤية الدخان يتصاعد من بيته‪ ،‬بينما أفلح كراسوس في مغيبه عن املنزل بضعة أشهر‬
‫ودون أدنى صعوبة في رؤية نفس الدخان وهو يترنح في خمارة! فإن كان من ناحية أخرى‬

‫(‪ )141‬يقول هوميروس‪ " :‬لكن أوديسيوس في شوقه‪ ،‬كان ال يتوق إال لرؤية الدخان املتصاعد من أرضه"‪.‬‬
‫‪- Homer, Odyssey. I. 58.‬‬

‫‪75‬‬
‫قد ميز بأنفه رائحة الدخان‪ ،‬حتى وإن فاقت حاسته للشم كالب الصيد ُ‬
‫والعقبان‪ ،‬فهل‬
‫مكان قص ٍي‬
‫نسر يحوم في سماء اإلسكندرية أن يشم رائحة من ٍ‬
‫كلب أو أي ٍ‬
‫وسع أي ٍ‬ ‫ِب ِ‬
‫وخبير في كل َّ‬
‫النكهات‪ ،‬إال أنه‬ ‫ٌ‬ ‫كأويا؟ أنا أقر بأن كراسوس م ٌ‬
‫بطان من الدرجة األولى‬ ‫ِ‬
‫بالنظر ِلولعه بالشرب وهو مجاله الوحيد في الخبرة‪ ،‬كان األمر ليكون أسهل ألبخرة نبيذه‬
‫َ َُ‬
‫جمرته أن تبلغ ُه في اإلسكندرية‪.‬‬
‫عوضا عن أدخنة ِم َ‬

‫‪ -58‬وقد أدرك بنفسه أن ذلك لن يؤخذ على محمل الصدق‪ ،‬إذ قيل إنه باع هذه األدلة‬
‫قبل الثامنة صباحا وهو ال يزال على ريقه! وهكذا دون اكتشافه على النحو التالي‪ :‬فور‬
‫عودته من اإلسكندرية اتجه مباشرة إلى منزله الذي أخاله كوينتيانوس في ذلك الوقت‪،‬‬
‫وهناك صادف في الردهة ريشا مبثوثا‪ ،‬ووجد الجدران أيضا مسودة بالسخام فاستوضح‬
‫السبب من عبده الذي تركه في أويا‪ ،‬وهذا األخير أبلغه بالطقوس الليلية التي أد ُيتها رفقة‬
‫كوينتيانوس‪ .‬يا لها من كذبة بارعة! يا له من تلفيق مرجح! أني إن رغبت في فعل ش ٍيء‬
‫ً‬
‫من هذا القبيل فعلي القيام به هناك بدال من منزلي! أن كوينتيانوس الذي يشد هنا‬
‫ُ‬
‫تربطه بي‬ ‫عضدي وآتي على ذكر اسمه ببالغ االحترام والشرف لقاء املحبة الوثيقة التي ِ‬
‫ضا بعض الدواجن في‬ ‫ولعمق علمه وذلق لسانه‪ ،‬أن كوينتيانوس نفسه‪ ،‬إن تناول َف َر ً‬
‫ِ ِ‬
‫َ‬
‫عشائه أو قتلهم ملآرب سحرية كما يدعون‪ ،‬كان من املفترض أال يكون لديه ُّ‬
‫عبد‬
‫أي ٍ‬
‫لكنس الريش وإلقائه خارج األبواب! أو عالوة على ذلك فقد كان على الدخان أن يكون‬
‫قويا بما يكفي لتسويد الجدران وأنه كان على كوينتيانوس تحمل َوضر كهذا في ُ‬
‫الحجرة‬ ‫ً‬
‫ٍ‬
‫التي نام فيها طيلة الوقت الذي كانت فيه تحت تصرفه‪ .‬هذا هراء يا أيميليانوس! ال‬
‫توجد أرجحية في الحكاية ما لم يندفع كراسوس بعد عودته ال إلى غرفة النوم بل رأسا‬
‫إلى املطبخ كعادته‪ .‬وما الذي َ‬
‫دفع عبده للشك في أن الجدران قد ُسودت بالليل تحديدا؟‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫أ ِمن لون الدخان؟ أيختلف دخان الليل عن دخان النهار في كونه أكثر سوادا؟ وكيف‬
‫لعبد َي ِق ِظ العين والضمير أن يسمح لكوينتيانوس بمغادرة املنزل قبل تنظيفه؟ وكيف‬
‫ٍ‬
‫لهذا الريش أن يفترش األرض كالبساط منتظرا كل هذا الوقت وصول كراسوس؟ علينا‬
‫أال نسمح لكراسوس بتوريط عبده‪ ،‬فاألرجح أن يكون هو نفسه من اختلق هذا الهراء‬

‫‪76‬‬
‫الكاذب عن الريش والسخام ألنه لم يكن ً‬
‫قادرا حتى في شهادته على أن يفصل نفسه عن‬
‫مطبخه‪.‬‬
‫‪ -59‬ولم قر َ‬
‫أت هذه الشهادة من إفادة مكتوبة؟ في أي مكان من العالم يوجد كراسوس؟‬ ‫ِ‬
‫َ ً‬
‫أعاد إلى اإلسكندرية قرفا من بيته؟ أو يقوم بغسل جدرانه؟ أم أن اللعمظ يشعر على‬
‫ُ‬
‫يحوزق في‬ ‫األرجح بالتوعك بعد الفجور؟ أنا عن نفس ي ر ُ‬
‫أيته هنا في صبراتة باألمس وهو‬
‫وجهك يا أيميليانوس بأكثر الطرق وضوحا وسط السوق‪ُ .‬ا ُ‬
‫دع يا ماكسيموس‪َ ،‬س ْل‬
‫ٌ‬
‫عبيدك الذين يبقونك على اطالع بأسماء األشخاص ‪ -‬ولو أني أقر بأن كراسوس معروف‬
‫ْ‬ ‫أكثر ُ‬
‫لحراس الحانات ‪ -‬ومع ذلك َسلهم إن رأوا من قبل يونيوس كراسوس األويي في هذا‬
‫املكان‪ .‬قطعا سيؤكدون ذلك‪ِ .‬ل ُيقدم أيميليانوس إذن هذا الشاب األشم والذي يعتمد‬
‫زمان في‬
‫على شهادته‪ .‬أنت تنتبه إلى وقت اليوم‪ .‬أؤكد لك أن كراسوس كان يغط من ٍ‬
‫طلق من الحمام ُبخار َع َرق الثمالة عس ى‬‫غفوة السكران أو أنه أخذ حماما ثانيا واآلن ُي ِ‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫رب جديدة بعد العشاء‪ .‬هو يقدم نفسه في إفادة خطية فقط‪،‬‬ ‫أن يكون سويا لجولة ش ٍ‬
‫وبها يخاطبك يا ماكسيموس‪ .‬حتى إنه لم َيت َو َار تماما بدافع الشعور بالحياء إذ ال ُّ‬
‫يشق‬
‫سبب آخر لغيابه‪ .‬لعله لم يكن‬ ‫ٌ‬ ‫عليه الكذب في وجهك دون استحياء‪ .‬ولكن ربما يوجد‬
‫ً‬
‫وقت للحفاظ على اتزانه ُبرهة من‬ ‫قادرا على االمتناع عن كأس النبيذ ما يكفيه من ٍ‬ ‫ً‬
‫يذعن ِل َنظرِتك االستقصائية والصارمة‬
‫َ‬ ‫الزمن‪ ،‬أو ربما َح ِرص أيميليانوس وبشدة أال‬
‫خشية أن تلعن هذا َ‬
‫الب ِه ِيمي ذا الذقن الحليق ومظهره املقزز بمجرد اإليماء بالبصر في‬
‫شابا بمالمح مجردة من زينة اللحية َّ‬ ‫وجهه‪ ،‬لدى رؤيتك ً‬
‫والشعر وعينيه املثقلتين بالنبيذ‬
‫وجفونه املنتفخة وشدقيه الواسعين وشفتيه الرائلتين ُوب َّحة صوته ورجفة بنانه ورائحة‬
‫أنفاسه التي تستمد نكهتها من متجر الطبخ‪ .‬حتى ثروته َس َرطها منذ ٍ‬
‫أمد وما تبقى له من‬
‫ميراثه ش يء عدا مسكن يؤجره لبيع األكاذيب‪ ،‬كما لم يسبق له وأن أبرم اتفاقا ً‬
‫مربحا‬
‫أكثر مما فعله في هذه الشهادة التي يقدمها اليوم‪ ،‬إذ باع أليميليانوس أوهام ثمالته‬
‫مقابل ‪ 3000‬سيسترس كما يعلم بذلك كل فرد في أويا‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫‪ -60‬وحتى قبل الواقعة أحطنا باألمر خبرا‪ ،‬وكان بإمكاني أن أ ُحو َل دون إتمام الصفقة‬
‫ستضر بأيميليانوس الذي َه َ‬ ‫ً‬
‫ذبة بهذا الحد من الغباء ُ‬ ‫ُ‬
‫در‬ ‫علمت أن ِك‬ ‫باإلبالغ عنها‪ ،‬لكني‬
‫وفيتها حقها من ازدر ٍاء‪ .‬لم ِيقف رجائي على رؤية‬ ‫ماال ُمقابلها‪ ،‬ال بي أنا الذي َأ ُ‬
‫ً‬
‫ِ‬
‫أيميليانوس يهدر ماله فحسب بل على كراسوس وهو يرى ُس َ‬
‫معت ُه تنهار بمعرة شهادة‬
‫الزور هذه‪ .‬أما الصفقة فلم تتم إال ما قبل األمس دون أدنى احتراز من أعين الناس في‬
‫منزل روفينوس والذي في ُجعبتي ما سأقوله عنه‪ .‬إذ أدى روفينوس رفقة كالبيرنيانوس‬
‫حريص على إتمام املهمة ألنه كان‬
‫ٍ‬ ‫دور الوسطاء ورتبوا لعقد الصفقة‪ ،‬وكان األول ِج َّد‬
‫حص ُل من شهادة‬ ‫َُ‬
‫اية عن سيرتها الضالة‪ ،‬ست ِ‬ ‫يقين من أن زوجته والتي يتغاض ى ِبدر ٍ‬
‫على ٍ‬
‫تبت‬‫الحظت أنك أيضا يا ماكسيموس ا َ‬
‫ُ‬ ‫كراسوس بالزور ِحصة معتبرة من العمولة‪ .‬وقد‬
‫ر‬
‫ُ‬
‫ورأيت‬ ‫بفطنتك املعهودة فور تقديمهم لهذه العريضة بأنهم تحالفوا وتغايوا على رأس ي‪،‬‬
‫من مالمحك أن القضية ِب ُرمتها أثارت حفيظتك‪ .‬وفي نهاية األمر‪ ،‬لم يجرؤ متهمي رغم ما‬
‫صرفة على قراءة شهادة كراسوس ُمكتملة أو بناء أي‬ ‫ووقاحة‬ ‫صلفة‬ ‫سارة‬ ‫َ‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫أوتوا من ج ٍ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫كر‬
‫أمر ما‪ .‬ها قد أتيت على ِذ ِ‬
‫ش يء عليها‪ ،‬ألنهم رأوا أنه كلما ذكر اسمه ارتبت من ٍ‬
‫الحقائق ال ِل َفزعي من هذا الريش املرعب َو ُبقع السخام ‪ -‬خصوصا في حضرتك للحكم‬
‫خان إلى‬ ‫ُ‬
‫علي ‪ -‬بل ألن كراسوس قد يواجه العقوبة املستحقة عن قيامه ببيع مجرد د ٍ‬
‫ريفي مأفو ٍن مثل أيميليانوس‪.‬‬
‫‪ -61‬أشاروا لدى اقترائهم رسائل بودونتيال ِل ُجرم آخر يتعلق ب ُ‬
‫صنع ُمجس ٍم يدعون أني‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫خشب ببعض األساليب السرية ألغراض الفن األسود‪ .‬بل ويضيفون‬ ‫صم ُ‬
‫مته من أندر‬
‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أعطيته‬ ‫أني‪ ،‬ولو أن النظر فيه يبعث على الرعب والتقزز كونه يتخذ شكل هيكل عظمي‪،‬‬
‫ً‬
‫خاصا وأدعوه 'باسيلوس' َم ِلكي باللسان اليوناني‪ .‬أخالني محقا في القول بأني أتابع‬
‫شرفا ً‬
‫عيد بناء النسيج الكامل لفصول كذبهم بالتفصيل‪.‬‬ ‫أطوار اتهامهم بالترتيب ُوأ ُ‬

‫ً‬ ‫واآلن‪ ،‬أنى لهذا الختم أن ُي َ‬


‫تامة ِبصانعه‪ ،‬حتى‬
‫معرفة ٍ‬
‫ٍ‬ ‫صنع ِخفية كما تدعون وأنتم على‬
‫إنكم طلبتم مثوله أمام املحكمة؟ هاهنا الفنان كورنيليوس ساتورنينوس املشهود له‬
‫ب ُحسن َّ‬
‫الصنعة والصنيع بين سكان بلدته‪ .‬والذي رد منذ قليل عن استجوابك الدقيق يا‬ ‫ِ ِ‬

‫‪78‬‬
‫ماكسيموس موضحا تسلسل األحداث بفائق الصدق واألمانة‪َ .‬أ َ‬
‫فصح عن زيارتي ملتجره‪،‬‬
‫وبإمعاني النظر في العديد من النماذج الهندسية التي ُن ِحتت جميعها من خشب البقس‬
‫يصنع لي بعض املعدات‬‫َ‬ ‫ً‬
‫مشدودا ببراعته أن‬ ‫ُ‬
‫طلبت منه‬ ‫بمنتهى الروعة واإلبداع‪،‬‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫ينحت لي تمثاال ألحد اآللهة التي أتعبدها كعادتي‪ .‬وما‬ ‫امليكانيكية‪ ،‬ورجوته أيضا أن‬
‫صنعه خامة عدا أني َحر ُ‬ ‫ُ‬
‫صت على أن يكون بالضرورة من‬ ‫ِ‬ ‫حددت في طلبي إلها وال ِل ُ ِ‬
‫الخشب‪ .‬لذلك استهل العمل على البقس‪ .‬في تلك األثناء‪ ،‬وبينما ُ‬
‫كنت بعيدا في الريف‪،‬‬
‫ً َ‬
‫فحة ِب ٍر تجاهي‪ ،‬بعض صفائح األبنوس‬ ‫اشترى هرلي سيكينيوس بونتيانوس مدفوعا ِبن ِ‬
‫ُ‬
‫طلبت‬ ‫صنع ما‬‫موصيا إياه ُ‬
‫ً‬ ‫من تلك السيدة الفاضلة كابيتولينا وأحضرها إلى ورشته‪،‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫بالغة'‪ .‬أخذ‬
‫عادة ٍ‬‫من هذه املادة األندر واألبقى باألحرى‪ ،‬قائال‪' :‬هدية كهذه‪ ،‬ستشعرني ِبس ٍ‬
‫ستخدما قدر ما سمح به مقاس ألواح‬ ‫ً‬ ‫فناننا بمقترح بونتيانوس‪ ،‬وشرع في عمله ُم‬
‫تمثال ُمصغ ٍر‬ ‫دقيقة من األلواح ُو ِفق في ُ‬
‫صنع‬ ‫الحذر ألجز ٍاء‬ ‫مج‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫األبنوس‪ ،‬وعن طريق الد ِ‬
‫مليركيوري‪.‬‬
‫ُ‬
‫عتموه من حقائق‪ ،‬وهي تتطابق أيضا مع اإلجابات التي‬ ‫كر ما َس ِم‬ ‫ُ‬
‫أعدت ِذ َ‬ ‫‪ -62‬ها قد‬
‫ٌ‬
‫حاضر بيننا اليوم في املحكمة‪.‬‬ ‫ُقدمت لك في استجواب ابن كابيتولينا‪ ،‬وهو ٌ‬
‫شاب خلوق‬ ‫ِ‬
‫لقد قال إن بونتيانوس من طلب األلواح‪ ،‬وإن بونتيانوس من أخذها إلى الفنان‬
‫استلم املجسم املنجز من‬ ‫َ‬ ‫ساتورنينوس‪ ،‬كما أنه ال ينكر أن بونتيانوس هو الذي‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫ساتورنينوس وبعد ذلك سلمني إياه‪ .‬إن أ ِثبتت هذه الحقائق صراحة وأمام الجميع‪ ،‬فهل‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ضم ُر شبهة السحر؟ بل هل بقي ش يء ال يدينكم قطعا بالكذب السافر؟ لقد‬ ‫بقي ش يء ي ِ‬
‫ً‬
‫نع ُه بونتيانوس وهو عضو بارز في سالح‬ ‫ص َ‬‫فية‪ ،‬وقد أوعز ُ‬ ‫ذكرتم أن الختم ُ‬
‫ص ِنع ِخ‬
‫حته على مرأى الجميع ساتورنينوس وهو شخص سوي األخالق والسيرة‬ ‫الفرسان‪َ ،‬ون ُ‬

‫جالسا أمام ورشته‪ ،‬وجادت بعطائها من أجله سيدة متزوجة مرموقة النسب‪َ ،‬و َع ِلم‬
‫ُ‬
‫بأمر ك ٍل من الطاقم وإنجازه الكثير من املعارف والخدم الذين يرتادون منزلي‪ .‬لم تستحوا‬
‫أقمت الدنيا بحثا عن الخشب في كل أرجاء البلدة‪ ،‬مع أنكم تدرون‬ ‫ُ‬ ‫من االدعاء زورا بأني‬
‫نع ُه من أية مادة متوفرة‪.‬‬
‫ص َ‬ ‫ُ‬
‫طلبت ُ‬ ‫بغيابي عن أويا في ذلك الوقت‪ ،‬وثبوت أني‬

‫‪79‬‬
‫صنعت ُه إذ زعمتموه ُجسمانا منخوبا‪ ،‬بل‬
‫ُ‬ ‫‪ -63‬كانت كذبتكم الثالثة في الشكل الذي‬
‫هيكال منزوع األحشاء من جثة مروعة‪ ،‬فضيعا تماما ومريعا كالشبح‪ .‬إن اكتشفتم دليال‬
‫قاطعا كهذا على ممارستي للسحر ِفلم لم ُت ِلزموني بتقديمه في املحكمة؟ أألنكم وجدتم‬
‫مطلق الحرية في تلفيق األكاذيب بمغيب ما تطعنون فيه؟ إن كان األمر كذلك فقد‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬
‫حللت تمثاال‬ ‫َ‬
‫أحمل أينما‬ ‫اعتدت أن‬ ‫قضبت عادة لي ِب َح ِبل كذبكم في الوقت املناسب‪ ،‬إذ‬
‫مخفيا بين كتبي ألتضرع له في أيام العيد ِب َعطايا من البخور والنبيذ وحتى‬‫ألحد اآللهة ِ‬
‫ُ‬
‫حملته‬ ‫سمعتهم يؤكدون مرارا بكذبهم الفاحش أن املجسم الذي‬‫ُ‬ ‫الذبائح أحيانا‪ .‬لذا مل ـا‬
‫ُ‬
‫أمرت أحدا بالذهاب لبيتي وإحضار تمثالي املصغر مليركيوري الذي‬ ‫كان هيكال عظميا‪،‬‬
‫قدمه لهم! دعهم يرونه‪ ،‬امسكوه‪ ،‬تفحصوه‪.‬‬ ‫َ‬
‫قدمه لي ساتورنينوس في أويا‪ .‬أنت هناك‪ِ ،‬‬
‫إليكم التمثال الذي يدعوه ذاك الوغد هيكال‪ .‬أتسمعون صيحات االحتجاج تتعالى من‬
‫كل الحاضرين؟ أتسمعون إدانة كذبكم؟ أال تخجلون ً‬
‫أخيرا من كل افتراءاتكم؟ أهذا‬
‫كيد‬ ‫هيكل عظمي‪ ،‬أهذا ٌ‬
‫شبح‪ ،‬أهذه هي الروح الشيطانية التي أكدتم عليها؟ أهذا من ِ‬
‫ُ‬
‫ساحر أم تمثال عادي ومألوف؟ أترجاك يا ماكسيموس‪ ،‬خذه وتفحصه‪ .‬من الجيد أن‬ ‫ٍ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َ‬
‫أياد نقية وتقية كالتي لديك‪ .‬انظر هناك‪ ،‬كم من الحسن ترى‪،‬‬ ‫قدس إلى ٍ‬
‫يعهد ِبش ٍيء م ٍ‬
‫ٌ‬ ‫فعم بلياقة وقوة املصارع! كم هو ُم ٌ‬
‫بهج ُمحيا اإلله‪ ،‬كم هي َب ِهية لحيته وهي‬ ‫كم هو ُم ٌ‬
‫تفترش جانبي وجنتيه‪ ،‬كيف ينسدل الشعر املجعد حوالي رأسه ِليستظل بحافة خوذته‪،‬‬
‫كم هو بارز ارتماء الزوج الصغير للجناحين حول حاجبيه‪ ،‬كم هو أنيق شد العباءة حول‬
‫كتفيه! من يجرؤ على تسمية هذا بالهيكل العظمي إما أنه لم َير يوما تمثاال لآللهة أو ال‬
‫ُيعيرها باال‪ ،‬والذي يراه شبحا‪ ،‬البد أن يكون ممسوسا حتما‪.‬‬

‫‪ -64‬أما جز ًاء على كذبك يا أيميليانوس‪ ،‬فأنا أدعو هذا اإلله الذي يطوف بين أسياد‬
‫السماء والجحيم أن ُي ِحل عليك ُسخط اآللهة من كل العاملين‪ ،‬وأن ُيرسل ملالقاتك على‬
‫الدوام ظالل املوتى بأرواحها وشياطينها وأشباحها وعفاريتها من كل البقاع‪ ،‬وأن يحشر‬
‫حوالي عينيك الرعب الذي تبثه في الظالم رهبة األجثاث وأهوال األجداث‪ ،‬ولو أنك تدنو‬
‫بمشيبك ومعيبك منهم كفاية‪ .‬أما نحن األفالطونيين‪ ،‬ال نعرف إال الرائق وامليمون‬

‫‪80‬‬
‫ُ‬
‫واملهيب واملرموق والسني في املكنون‪ .‬بل في َح ِميتها لبلوغ ذرى الحكمة استجلت املدرسة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أصقاعا تفوق السماء ِرفعة واجتازت شفير الكون هذا مظفرة‪ .‬حتى‬ ‫األفالطونية‬
‫ماكسيموس نفسه ُيزكي ما أقول‪ ،‬ألنه في دراسته الدقيقة لفايدروس قرأ "عن علياء‬
‫أيضا بوضوح ‪ -‬سأرد‬ ‫السماء‪ ،‬وعن مقام ُرفع فوق السماء(‪ ." )142‬كما ُيدرك ماكسيموس ً‬
‫ٍ ِ‬
‫َ‬
‫اآلن على اتهامك بشأن االسم ‪ -‬أني لست أنا بل أفالطون من دعاه أوال بامل ـ ِلك قائال‪" :‬كل‬
‫ش يء يتوقف على َم ِل ِك كل ش يء‪ ،‬وله وحده يحيا كل ش يء"‪ .‬يعرف ماكسيموس من هو‬
‫َ‬
‫هذا 'امل ـ ِلك' وحتى املبعث واملوجب واملنبت األول لكل طبيعة‪ ،‬بارئ الروح ووليها‪ُ ،‬مخلص‬
‫رعاية‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ويحفظه دون‬ ‫عمالة‪ ،‬بل‬ ‫يبنيه دون‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫األحياء األزلي‪ ،‬البديع القيوم لهذا الوجود‪ ،‬إذ ِ‬
‫يعق ُله إال ٌ‬
‫نفر قليل‬ ‫نسل ُيفضيه‪ ،‬ال مكان أو زمان أو حيز يحويه‪ ،‬ولذلك ال ِ‬‫الوالد دون ٍ‬
‫ألحد على وصفه(‪.)143‬‬
‫بل ٍ‬ ‫وال ِق َ‬
‫‪ -65‬بل سأبذل ما في وسعي إلثارة الشك في السحر‪ .‬لن أخبرك يا أيميليانوس عن هذا‬
‫ُ‬
‫ألبقيت على‬ ‫الذي أعبده َ‬
‫كم ِل ِكي‪ ،‬حتى وإن سألني البروقنصل نفسه عن هوية معبودي‬
‫صمتي‪.‬‬
‫لقد تحد ُ‬
‫ثت بما يكفي عن االسم في الوقت الحالي‪ .‬ال يفوتني في ما تبقى أن البعض من‬
‫جمهوري متلهف لسماع السبب من وراء رغبتي أال تكون ُ‬
‫البنية من الفضة أو الذهب بل‬
‫خالصة من الخشب‪ ،‬ولو أني ال أرى في رغبتهم ِح ً‬
‫رصا على تبرئتي بل ً‬
‫فهما لخياري‪،‬‬
‫فاستوضح بذلك هذه املرية األخيرة‪ ،‬وأتخلص إذاك من أدنى بصمة في أي جريمة‪.‬‬
‫فأنصتوا يا من كنتم للمعرفة راغبين‪ ،‬ولكن استمعوا بقدر ما كنتم على الحرص‬
‫واالهتمام قادرين‪ ،‬ألنكم ستستمعون ألقوال أفالطون في شيخوخته من كتابه األخير‬

‫َ‬
‫(‪ )142‬يقول أفالطون في حوار فايدروس‪" :‬بالنسبة ألولئك الذين ُيطلق عليهم الخالدون‪ ،‬حين يبلغون القمة ينفذون‬
‫خارجا ويأخذون مكانهم في العلياء‪ ،‬وحين يتخذون مواقعهم يأخذهم الطواف في جولة ويبصرون األشياء من خارج‬
‫السماء"‪.‬‬
‫‪- Plato, Phaedrus. 247.‬‬
‫(‪ )143‬يشرح الفيلسوف األفالطوني بروكلوس أو برقلس (القرن ‪5‬م) ما قاله أفالطون بمنتهى الروعة‪ ،‬أنظر‪:‬‬
‫‪- The Six Books of Proclus, the Platonic Successor: on the Theology of Plato. Translated from the Greek By‬‬
‫‪Thomas Taylor. 1816. p. 131.‬‬

‫‪81‬‬
‫تتناسب مع َم ِ‬
‫قدر ِته"‪ .‬أما‬ ‫ُ‬ ‫حس ُن باإلنسان الوسط أن يتقدم لآللهة بعطايا‬
‫'القوانين'‪"َ :‬ي ُ‬
‫بعد‪" :‬األرض ومواقد البيوت لكل الرجال مقدسة لجميع اآللهة‪ ،‬فال ينذرن أحدكم‬
‫حرم ذلك ِملنع الجميع من تشييد األضرحة الخاصة‪،‬‬ ‫ُ‬
‫أضرحة لآللهة بالقرب منها"‪ .‬هو ي ِ‬
‫ً‬
‫ألنه يرى أن املعابد العامة تكفي الساكنة ألغراض التضحية‪ .‬ثم تابع قائال‪" :‬الذهب‬
‫والفضة في املدن األخرى سواء في ِحفظ الخواص أو املعابد ٌ‬
‫مثار لألطماع‪ ،‬العاج املأخوذ‬
‫سد فارقته الحياة ليس قربانا مبرورا‪ ،‬الحديد والبرونز يستخدمان في الحرب‪ .‬أيا‬‫من َج ٍ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫كان ما ُيكرسه الرجل فليكن خالصا من الخشب أو الحجر"(‪ .)144‬ها قد قض ي وأنتم‬
‫ترون جلبة الحاضرين باملباركة يا ماكسيموس وأنتم أيها السادة الذين تحظون بشرف‬
‫ُ‬
‫أبديت امتثاال تاما لتوجيهاته‪ ،‬ليس فقط‬ ‫اعة أفالطون الذي‬
‫مجالسته‪ ،‬أني وظفت ببر ٍ‬
‫حام عني في املحكمة‪.‬‬ ‫َُ‬ ‫َ‬
‫ك ُم ٍ‬
‫رشد لي في الحياة‪ ،‬بل كم ٍ‬
‫ً‬
‫‪ -66‬واآلن حان الوقت ألنتقل أوال وقبل كل ش يء إلى رسائل بودونتيال‪ ،‬أو أعيد باألحرى‪،‬‬
‫مجرى األحداث بالكامل إلى الوراء قليال‪ ،‬ألني أرغب في توضيح أمري بما ال يدع للشك‬
‫مجاال‪ .‬إني‪ ،‬من يستمرون في اتهامه باتخاذ سبيله قسرا إلى منزل بودونتيال طمعا‪ ،‬لم‬
‫ُ‬
‫أنشد ماال‪ .‬فما جلب لي زواجي لعديد الدواعي‬ ‫أكن ألدنو من هذا املنزل شبرا لو ُ‬
‫كنت‬ ‫ِ‬
‫َج َداء‪ ،‬ولم أكن ألراه إال شؤما‪ ،‬لو لم أجد في شمائل زوجتي َعوضا لي وعزاء‪.‬‬

‫وال أتصور سببا من جري إلى هذه املحاكمة إال خيبة األمل والحسد‪ ،‬فقد أحاقا دربي من‬
‫ُ‬
‫قبل بعديد املكائد املهلكة‪ .‬وإال فما الذي أثار حفيظة أيميليانوس مني حتى ولو سلمنا‬
‫ُ‬
‫ينشد الثأر‪.‬‬ ‫بكلمة تجعله يبدو وكأنه‬ ‫ُ‬
‫أجرحه يوما ولو‬ ‫بأهليته حين اتهمني بالشعوذة؟ لم‬
‫ٍ‬
‫سام التهامي‪ ،‬كالذي دفع ماركوس أنطونيوس التهام كنايوس‬ ‫طبعا ال يدفعه طموح ٍ‬

‫وسط أن يقدم قرابين وسطا‪ .‬إن املدفن واملوقد مقدسان لكل اآللهة ولذا ال‬
‫لشخص ٍ‬‫ٍ‬ ‫(‪ )144‬يقول أفالطون‪" :‬من الالئق‬
‫ُ‬
‫يجوز ألحد أن يكرس من جديد ما هو مقدس بالفعل‪ .‬إن الذهب والفضة التي تستخدم في البلدان األخرى وفي املعابد‬
‫مثار للحسد‪ ،‬والعاج الذي يأتي من جسد مجرد من الروح ليس بالقربان املبرور‪ ،‬بينما يعتبر الحديد والنحاس أدوات‬
‫قطعة أن يقدم الرجل في املعابد ما يشاء‪ ،‬ومن الحجر أيضا‪ ،‬ومن املنسوجات‬
‫ٍ‬ ‫للحرب‪ .‬يجوز من الخشب املكونة من‬
‫شهر المرأة"‪.‬‬
‫املحبوكة ما ال يزيد عن إنتاج ٍ‬
‫‪- Plato, Laws. 12. 955e-956a.‬‬

‫‪82‬‬
‫كاربو‪ ،‬وكايوس موسيوس التهام أولوس ألبيسيوس‪ ،‬وبيبليوس سولبيسيوس التهام‬
‫كنايوس نوربانوس‪ ،‬وكايوس فيريوس التهام مانيوس أكويليوس‪ ،‬وكايوس كيريو التهام‬
‫كوينتوس ميتيلوس(‪ .)145‬فقد تلقى هؤالء الشباب تعليما مميزا وقادهم الطموح إلى حمل‬
‫دعاوى بهذا الثقل على عاتقهم كأول خطوة في مسيرتهم القضائية‪ ،‬وهكذا يجعلون‬
‫َ‬
‫اسما بين مواطنيهم بتوليهم لبعض القضايا الشهيرة‪ ،‬وكان امتيازا أ ِذ َن به‬
‫ألنفسهم ً‬
‫لنيل املجد على عبقريتهم‬ ‫كوسيلة ِ‬
‫ٍ‬ ‫القدماء للشباب فور دخولهم ُمعترك الحياة العامة‬
‫الفتية (‪ ،)146‬وقد عفا الزمن عن هذه العادة منذ أمد بعيد‪ .‬حتى وإن ظل التقليد ساريا‬
‫وقح‬ ‫ً‬
‫عرضا عن بالغته ألنه ٌ‬ ‫فأين أيميليانوس من كل هذا‪ .‬لن يكون حريا به أن يقدم‬
‫ُ‬
‫وأمي‪ ،‬وال إلبداء الشغف بالشهرة ألنه مجرد ريفي همجي‪ ،‬وال أن يسهل في أرذل العمر‬
‫سيرته املهنية َك ُمحام َو َأ ُ‬
‫جله يكاد ينقض ي‪ .‬ال أعزو صنيعه هذا إال لفرضية واحدة‪ ،‬أنه‬ ‫ٍ‬

‫ُ‬
‫(‪ )145‬العديد من األمثلة عن اتهامات من هذا القبيل ذكرت في املالحظات املدرجة من قبل توماس كوكمان في مؤلفه‬
‫َ‬
‫الكتب الثالث لشيشرون في ‪ ،De Officiis‬منها أن بيبليوس سولبيسيوس قد حاز مجدا عظيما بخطابته املثيرة في‬
‫اتهامه لكايوس نوربانوس والذي كان مواطنا محرضا ومفتعال للمشاكل‪ .‬كذلك ماركوس أنطونيوس الخطيب الذي‬
‫ذكره أبوليوس وهو جد التريومفير ماركوس انطونيوس إذ نال الشهرة باتهامه لكنايوس بابيريوس كاربو الذي كان سيد‬
‫بالغة شهير‪ .‬أما إن سلمنا بما يرويه ماركوس تيليوس شيشرون عن الحادثة فقد أخطأ أبوليوس في ِذكر أن كايوس‬
‫موسيوس األوغور من اتهم أولوس ألبيسيوس‪ ،‬في حين أن األمر كان بعكس ذلك‪ ،‬إذ كانت التهمة آنذاك تتعلق‬
‫باالبتزاز‪.‬‬
‫‪- Marcus Tullius Cicero, Tully's Three Books of Offices. Translated into English; with notes explaining the‬‬
‫‪method and meaning of the author. Ninth edition corrected and improved. By Thomas Cockman. Oxford:‬‬
‫‪E. Weatherstone, 1819. Book II. XIV. p.163 .‬‬
‫‪- Œuvres complètes de Cicéron: Brutus; ou, Dialogue des orateurs illustres. L'orateur. Des orateurs parfaits.‬‬
‫‪Dialogue sur les partitions oratoires. Les topiques. Garnier, 1898. p. 45.‬‬

‫(‪ )146‬يقول ماركوس توليوس شيشرون‪" :‬هناك العديد من املوضوعات واملناسبات التي تحتاج إلى البالغة‪ ،‬وقد برز‬
‫العديد من الشباب في جمهوريتنا في العديد منها‪ .‬البعض على سبيل املثال عبر اإللقاء في مجلس الشيوخ‪ ،‬والبعض‬
‫اآلخر من خالل الترافع في محاكم العدل‪ .‬من بين هذه الطرق‪ ،‬فإن هذا األخير أكثر ما يدفع لإلعجاب‪ ،‬خصوصا وأنه‬
‫يتضمن الدفاع واالتهام‪ .‬والدفاع جدير بالثناء أكثر من االتهام‪ ،‬أين جلب هذا األخير للرجال سمعة كبيرة في كثير من‬
‫األحيان"‪.‬‬
‫‪- Marcus Tullius Cicero, Tully's Three Books of Offices. Translated into English; with notes explaining the‬‬
‫‪method and meaning of the author. Ninth edition corrected and improved. By Thomas Cockman. Oxford:‬‬
‫‪E. Weatherstone, 1819. Book II. XIV. pp. 162-163.‬‬

‫‪83‬‬
‫رعا‬ ‫ً‬
‫عرضا عن جلد الذات وأقام هذه الدعوى تقويما لسلوكه بعدما ضاق ذ ً‬ ‫ربما يقدم‬
‫ِ‬
‫شخص أعظم‬‫ٍ‬ ‫بسيئات أعماله‪ .‬لكني بالكاد سأقبل فرضية كهذه حتى في حالة‬
‫َ‬
‫كأيميليانوس‪ ،‬وال أقصد صاحبنا األفريقي هنا بل فاتح إفريقيا ونومانتيا والذي شغل‬
‫أيضا مكتب الرقيب في روما(‪ .)147‬كما أني ال أظن هذا البليد قادرا على َم ِ‬
‫قت أفعاله وهو‬
‫ُ‬
‫ال ُيدرك حتى فحشها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫تمل ُ‬ ‫ُّ‬
‫ساقه هو‬ ‫كه؟ وقد بات واضحا للجميع أن ال وازع غير الحسد‬ ‫دافع آخر‬
‫‪ -67‬أي ٍ‬
‫ضه هيرينيوس روفينوس ‪ -‬والذي سأقول املزيد عنه ً‬
‫الحقا ‪ -‬وبقية أعدائي لتلفيق‬ ‫ومحر ُ‬

‫هذه االتهامات الكاذبة عن السحر‪.‬‬


‫ُ‬ ‫ً‬
‫حسنا‪ .‬هناك خمس نقاط ألناقشها‪ .‬ما لم تخني ذاكرتي فقد أتت اتهاماتهم بخصوص‬
‫بودونتيال على النحو التالي‪ :‬بادئ ذي بدء قالوا إنها أغلقت باب الزواج بعد وفاة زوجها‬
‫ً‬
‫األول لكني أخضعتها بتعاويذي‪ .‬ثانيا رسائلها والتي يعتبرونها اعترافا صريحا على‬
‫ً‬
‫ورابعا‪ ،‬يعترضون على فكرة زواجها عن ُح ٍب في ِس ِن‬ ‫ً‬ ‫استخدامي للسحر‪ .‬أما ثالثا‬
‫َ‬
‫الستين املتقدمة وعلى خ ِتم عقد الزواج بالريف ال في املدينة‪ .‬ثم تأتي في النهاية أكثر‬
‫تحديدا‪ ،‬إذ وضعوا كل طاقتهم وسمومهم في هذا‬ ‫ً‬ ‫قدا والتي تتعلق باملهر‬ ‫االتهامات ح ً‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬
‫حف ُر في قلوبهم طاملا يؤكدون أني في غرة حياتنا‬ ‫االتهام‪ .‬كيف ال والنغصة ال تزال ت ِ‬
‫مهر كبير إلي‪.‬‬ ‫ُ‬
‫الزوجية‪ ،‬أجبرت زوجتي الولهى في العزلة املطلقة لبيتها الريفي على تحويل ٍ‬
‫سأكشف زيف هذه املزاعم التي ال تمت للحقيقة ِب ِص ٍلة وال قيمة لها وال أساس لها على‬
‫صدق‬ ‫وسأدحضها بمنتهى السهولة وبما ال جدال فيه لدرجة أني أخش ى وبكل‬ ‫ُ‬ ‫اإلطالق‪،‬‬
‫ٍ‬
‫رشوت متهمي لتوجيه هذه‬‫ُ‬ ‫يا ماكسيموس وأنتم يا حضرة مستشاريه أنكم ستخالونني‬
‫فرصة أمام الجميع لتبديد ضغينة ُر ُ‬ ‫ً‬
‫حت ضحيتها‪ .‬حتى إني سأترجاكم‬ ‫ٍ‬ ‫االتهامات كي أجد‬
‫ُ‬
‫سلموا ِب ِصدق ما أقول‪ ،‬وستفهمون قصدي حين تتجلى الحقائق أمامكم‪ ،‬بل‬ ‫أن ت ِ‬

‫(‪ )147‬أيميليانوس اإلفريقي هو نفسه بيبليوس كونيليوس سكيبيو أيميليانوس أفريكانوس األصغر واملذكور في التعليق‬
‫'‪ .'64‬أشار أبوليوس هنا إلى فوزه على القرطاجيين في الحرب البونيقية الثالثة سنة ‪146‬ق‪.‬م وانتصاره في حرب‬
‫نومانتيا سنة ‪ 133‬ق‪.‬م‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫سأبذل ما في وسعي ألمنعكم من التفكير في أن اتهاما سخيفا كهذا هو من وحي دهائي ال‬
‫من كيد أعدائي‪.‬‬
‫‪ -68‬سأقوم اآلن ب ُّ‬
‫تتب ِع األحداث بإيجاز وأجبر أيميليانوس نفسه فور سماعه للحقائق‬ ‫ِ‬
‫عسفا ِب َحسده وانحرف بشد ٍة عن جادة الصواب‪ .‬في غضون ذلك‬ ‫على اإلقرار بأنه سار ً‬
‫َ‬
‫در من االهتمام‬
‫أسألكم‪ ،‬كما فعلتم حتى اآلن بل وأكثر إن استطعتم‪ ،‬أن تولوني أكبر ق ٍ‬
‫وأنا أتعقب القضية بأكملها إلى منبعها ومصدرها‪.‬‬

‫أحد يدعى سيكينيوس أميكوس‬ ‫أيميليا بودونتيال زوجتي اآلن‪ ،‬كانت فيما مض ى زوجة ٍ‬
‫والذي أنجبت منه ولدين بونتيانوس وبودنس‪ُ ،‬ت ِر َك هذان الصبيان بوفاة والدهما تحت‬
‫وصاية جدهما األبوي ‪ -‬ألن وفاة أميكوس سبقت أباه ‪َّ -‬‬
‫وربتهما والدتهما بفائق املودة‬
‫والتفاني لقرابة أربعة عشر عاما‪ .‬وما ارتضت لنفسها وهي في ريعان العمر أن تظل أرملة‬
‫كل تلك السنوات‪ ،‬فقد كان جد الصبيين حريصا وبشدة على تزويجها غصبا عنها بابنه‬
‫قاطعا الطريق على كل الخطاب‪ ،‬وتوعدها فوق ذلك ِبحرمان‬ ‫ً‬ ‫سيكينيوس كالروس‬
‫َ‬
‫در من تركة أبيهم إن تزوجت آخر خارج األسرة‪ .‬فلما أدركت أال ش يء‬ ‫أبنائها من أي ق ٍ‬
‫ِب ِوسعه أن ُيثنيه عن شرطه‪ ،‬ارتأت ِبحنو أمومتها أن تختم عقد الزواج بسيكينيوس‬
‫كالروس امتثاال ألمر حميها‪ ،‬وحالت بتدبيرها دون اإل ْ‬
‫ضرار بمصالح أبنائها بسببها‪ ،‬ودون‬ ‫ِ‬
‫إتمام الزواج عبر عديد املراوغات حتى توفي جد األوالد تاركا إياهم ورثة له‪ ،‬وهكذا أصبح‬
‫االبن األكبر بونتيانوس كفيل أخيه‪.‬‬

‫داع للبقاء أرملة على الزواج من أحد‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬


‫‪ -69‬ما عاد هاجس يشغلها مذاك األوان‪ ،‬وال ٍ‬
‫ُ‬
‫األعيان‪ ،‬ومع أنها تحملت غصة ِوحدتها بنفسها ما عاد جسدها يسندها في أمرها‪ .‬بعد‬
‫أن أمضت هذه السيدة العفيفة والقديسة سنوات عديدة من الترمل مجبورة دون‬
‫مأخذ إلى أن شارفت‬
‫ٍ‬ ‫فضيحة مذكورة ِبفراقها أحضان الحليل‪ ،‬أخذت منها اآلالم كل‬
‫َ‬
‫نسب األطباء والنساء الحكيمات أصل املرض لطول ترملها‪ ،‬وتوقعوا‬ ‫على املوت‪ .‬وقد‬
‫ازدياد السوء بمرور األيام وتفاقم السقم بإيالم‪ ،‬واتفقوا على أن تتزوج لعالج نفسها‬
‫قبل أن يفارقها شبابها‪ .‬رحب الكثيرون بهذه التوصية وعلى رأسهم أيميليانوس الذي لم‬
‫‪85‬‬
‫ُ‬
‫أخضعتها‬ ‫يتردد منذ برهة في الكذب بأن بودونتيال لم تفكر ُم ً‬
‫طلقا في الزواج إلى أن‬
‫ترملها كالعفة بالتعاويذ‬ ‫ُ‬
‫خرقت ُّ‬ ‫بممارستي للسحر األسود‪ ،‬وأنه وجدني أنا وحدي الذي‬
‫سمعت هذا الكالم الذي قيل عن‬‫ُ‬ ‫ً‬
‫غشاء للبكارة‪ .‬كثيرا ما‬ ‫وأشربة املحبة كما لو كان‬
‫دة‪ .‬أال تذكر يا أيميليانوس أنك قبل مجيئي‬
‫ذاكرة جي ٍ‬
‫ٍ‬ ‫دق بأن على الكذاب أن يكون ذا‬
‫ِص ٍ‬
‫َ ُ‬ ‫َ‬
‫كتبت مقترحا على ابنها بونتيانوس الذي بلغ آنذاك أشده وكان يتابع في روما‬ ‫إلى أويا‪،‬‬
‫ود ُ‬
‫عه‬ ‫دراساته بأن عليها أن تتزوج؟ ناولني الرسالة‪ ،‬أو باألحرى أعطها أليميليانوس َ‬

‫وكلماته‪.‬‬
‫ِ‬ ‫بصوته‬
‫ِ‬ ‫يدحض نفسه‬
‫َ‬
‫انقلبت شاحبا؟ وال تحمر خجال‪ .‬أهذه شارتك؟ اقرأ بصوت أعلى‬ ‫أهذه رسالتك؟ ِلم‬
‫بقليل من فضلك حتى يدرك الجميع كم ُتناقض كلماته املكتوبة خطابه وكم هو على‬
‫خالف مع نفسه أكثر مما هو معي‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫أكتبت يا أيميليانوس ما قرئ للتو على لسانك؟ 'أنا أعلم بأنها راغبة في الزواج وأن‬ ‫‪-70‬‬
‫عليها أن تفعل ذلك‪ ،‬لكني أجهل من ستختار'‪ .‬أصبت‪ .‬لم تكن تدري من هو‪ .‬فبودونتيال‬
‫ْ‬
‫أخبرت َك عن رغبتها في الزواج مجددا وما‬ ‫التي تعرف طبيعتك التطفلية حق املعرفة‬
‫حدثتك عن مرغوبها يوما‪َ .‬‬
‫كنت ال تزال آنذاك تتوقع منها أن تتزوج كالروس أخاك‪ ،‬وقد‬
‫حفزك َو ْه ُم آمالك أبعد من ذلك بدفع ابنها على املوافقة‪ .‬وبطبيعة الحال‪ ،‬إن تزو ْ‬
‫جت‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫كالروس وهو عجوز فظ ومتهالك‪ ،‬لجزمت أنها لطاملا كانت ترغب في الزواج منه بمحض‬
‫تنسبها َ‬
‫أنت‬ ‫إرادتها دون َتدخل أي سحر‪ .‬أما اآلن‪ ،‬بما أنها تزوجت ً‬
‫شابا له من األناقة ما ُ‬
‫إليه‪ ،‬تدعي أنها لطاملا رفضت الزواج وال بد أنها قامت بذلك تحت اإلكراه! لم تكن ُ‬
‫تعلم‬
‫ُ‬ ‫أيها الوغد أن الرسالة التي ُق َ‬
‫مت بكتابتها في هذا الشأن قد تم ِحفظها‪ ،‬لم تكن تعلم‬
‫علمها ِبتقلبك وعدم موثوقيتك دون‬ ‫أنك ستدين نفسك بشهادتك‪ .‬والواقع أن بودونتيال ِل ِ‬
‫ً‬
‫واضح‬
‫ٍ‬ ‫كدليل‬
‫ٍ‬ ‫الحديث عن وقاحتك وكذبك ارتأت بدال من إرسال الرسالة االحتفاظ بها‬
‫وكتبت رسالة خاصة بها حول نفس املوضوع البنها بونتيانوس في روما‪ ،‬أين‬ ‫ْ‬ ‫على نواياك‪،‬‬
‫ُ‬
‫أحاطته علما بحالتها الصحية وأال سبب يدعوها بعد‬ ‫قد ْ‬
‫مت فيها كل األسباب عن عزمها‪.‬‬
‫اآلن للبقاء أرملة‪ ،‬وأنها بقيت على هذا الحال مطوال وضحت بصحتها فقط حتى تضمن‬

‫‪86‬‬
‫حصوله على ميراثه من ثروة جده‪ ،‬والتي نمتها أكثر بعنايتها الفائقة بها إلى أن بات‬
‫بونتيانوس بنعمة من اآللهة جاهزا للزواج وأخوه الرتداء ثوب الرجولة‪ .‬وترجتهم أن‬
‫يضعوا حدا ألملها ويخففوا عنها وحشة وحدتها وسقم جسدها وأال تتملكهم أي مخاوف‬
‫بشأن خيارها النهائي أو عاطفة أمومتها‪ ،‬وبأنها ستظل معهما زوجة كانت أم أرملة‪.‬‬
‫سأطلب قراءة نسخة من هذه الرسالة املوجهة البنها بصوت عال‪( .‬تمت قراءة الرسالة)‬

‫رف بودونتيال عن‬ ‫‪ -71‬أظن الرسالة تكشف بالقدر الكافي أني لم أكن بحاجة لعزائمي ِل َ‬
‫ص ِ‬
‫ترملها قسرا‪ ،‬بل كانت لفترة من الزمن معارضة للزواج بأي شكل من األشكال إلى أن‬
‫اصطفتني ربما عن اآلخرين زوجا‪ .‬ال أرى ما يسوء في هذا الخيار من امرأة فاضلة حتى‬
‫قدم ضدي من باب االتهام بدال من الشرف‪ ،‬وإن ُ‬
‫كنت أشعر بالغرابة من انزعاج‬ ‫ُي َّ‬

‫أيميليانوس وروفينوس من قرار السيدة في الوقت الذي تفهم الراغبون في يدها تفضيلها‬
‫لشخص ي‪ ،‬ومع أنها احتكمت في األخير ملشورة ابنها أكثر من هواها‪ ،‬وهي حقيقة ال يمكن‬
‫أليميليانوس أن ينكرها‪ .‬فور تلقي بونتيانوس رسالة أمه سافر على عجالة من روما إلى‬
‫هنا خوفا إن أبان الرجل الذي تختاره جشعا فقد تقوم كما يحدث غالبا بنقل ثروتها‬
‫بالكامل إلى منزل زوجها‪ .‬وما أضناه هذا الهلع قليال‪ ،‬فقد كانت كل آماله من الثروة مع‬
‫تلك التي تخص شقيقه تقف على والدته‪ ،‬إذ ترك له جد ُه ثروة متواضعة وامتلكت‬
‫تدين من هذا املبلغ بحصة كبيرة‬ ‫ُ‬ ‫والدته ‪ 4‬ماليين سيسترس‪ .‬يصح القول بأنها كانت‬
‫عب ُر عن مخاوفه‬ ‫ُ‬
‫ألبنائها‪ ،‬لكنهم لم يأمنوا على ذلك بمجرد االتكال على كلمتها‪ .‬فكان ي ِ‬
‫صريحة كي ال يبدو وكأنه ال يثق بها‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫صمت وال يخاطر بإبداء أي معارضة‬
‫ِب ٍ‬

‫‪ -72‬آل الوضع إلى هذه الحال بسبب رغبة األم في الزواج ومخاوف االبن‪ ،‬وجيء بي إلى‬
‫أويا بمشيئة الصدفة أو القدر وأنا في طريقي إلى اإلسكندرية‪ .‬وما ُ‬
‫كنت إال ألقول‪ ' :‬ليت‬
‫ُ‬
‫وكنت‬ ‫الشتوة‬ ‫َ َّ‬
‫اإلله ما قدر ذلك' لو لم يمنعني من قولها احترامي لزوجتي‪ .‬حدث ذلك في ِ‬
‫مغلوبا بإجهادات الرحلة‪ ،‬ما ألزمني الفراش أليام عدة في منزل أصدقائي األبيوس والذين‬
‫أكن لهم كل املحبة واملودة‪ .‬هناك أتى بونتيانوس لرؤيتي وما كان حديث العهد بمعرفتي‪،‬‬
‫فقد قدمه لي بعض األصدقاء املشتركين في أثينا وأقمنا آنذاك معا وتعارفنا ُمذاك بشكل‬

‫‪87‬‬
‫بمهارة ملوضوع الحب‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫بقلق عن ِصحتي وتطرق‬‫وثيق‪ .‬رحب بي بمنتهى اللطف واستفسر ٍ‬
‫ُ‬
‫يستأمنه على ثروة املنزل بالكامل دون أدنى‬ ‫زوجا ً‬
‫مثاليا ألمه يمكن أن‬ ‫ألنه وجد في ظنه ً‬
‫ُ‬
‫خطر‪ .‬في البداية استطلع رأيي حول املوضوع ِبلغة مبهمة نوعا ما‪ ،‬وحين ملس لدي‬‫ٍ‬
‫الرغبة في استئناف رحلتي والزهد عن الزواج‪ ،‬ترجاني أن أمكث قليال في أويا بدعوى‬
‫رغبته في السفر برفقتي‪ .‬وبما أن اعتالل جسدي حال دون أن أحقق ذلك في الشتاء‬
‫الحالي‪ ،‬ألح على أنه سيكون من الجيد أن ننتظر حتى التالي بسبب وعورة صحراء سرت‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫دفعت مناشدته امللحة أصدقائي األبيوس إلى السماح لي‬ ‫وخطورة الوحوش البرية‪.‬‬
‫ُ‬
‫وأهيم‬ ‫ُ‬
‫سأجد املكان صحيا أكثر‬ ‫بمغادرتهم وأحل ضيفا لديه في منزل والدته‪ ،‬مؤكدا بأني‬
‫من هناك بحرية أكبر في منظر البحر وكان أمرا يطيب لي رؤيته‪.‬‬

‫‪ -73‬ما انفك يبذل قصارى جهده حتى رآني ببيته‪ ،‬واستوص ى بي خيرا والدته وشقيقه ‪-‬‬
‫ُ‬
‫فمددت لهم يد العون في دراساتنا املشتركة وانبثقت ما بيننا ألفة‬ ‫ذلك الصبي هناك‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫وألقيت مقامة على املأل نزوال عند طلب‬ ‫ملحوظة‪ .‬في غضون ذلك استرددت عافيتي‪،‬‬
‫بفيض من عبارات‬ ‫ُ‬
‫قوبلت‬ ‫أصدقائي‪ ،‬وقد حدث ذلك بالبازيليكا التي غصت بالناس‪.‬‬
‫ٍ‬
‫واحد والتمسوا مني أن أبقى وأصبح مواطنا في أويا‪.‬‬
‫كرجل ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫املباركة وهلل الجمهور باسمي‬
‫ً‬
‫وما أن تشتت الجمهور دنا مني بونتيانوس‪ ،‬واستهل املوضوع بالقول أن َح ِمية كتلك لم‬
‫تكن إال إشارة من السماء‪ .‬وهنا أفض ى لي بمراده بأنه ال ينتظر إال إشارتي حتى ُيقيم‬
‫صاال بيني وبين أمه التي كان كثيرون يطلبون يدها‪ ،‬وأضاف أني الصديق الوحيد الذي‬ ‫و َ‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫يراه محل ثقة وائتمان‪ .‬إن كان علي اإلحجام عن التزام كهذا ‪ -‬فما ع ِرضت علي وريثة‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫وأصررت‬ ‫انسقت خلف هذه االعتبارات‬ ‫حسناء بل امرأة مقبولة الجمال وأم أوالد ‪ -‬إن‬
‫ً‬
‫بالصديق‬‫لزوجة أكثر إغراء وثراء فلن يكون سلوكي إذاك جديرا ِ‬ ‫ٍ‬ ‫على ادخار نفس ي‬
‫أجبت وكم استغرق‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ألخبرك بما‬ ‫والفيلسوف‪ .‬سيطول بي األمر ‪ -‬ولو كنت على استعداد ‪-‬‬
‫األمر وتكرر أن تحدثنا في املوضوع‪ ،‬وكم من مرة ناشدني إذ ما توقف حتى حاز في األخير‬
‫ُ‬
‫أمضيت حوال كامال في‬ ‫ُ‬
‫حظيت بفرصة وافرة ألبصر في أخالق بودونتيال ألني‬ ‫رضواني‪ .‬لقد‬
‫مجالستها و ُ‬
‫ملست ثراءها من طيب الخصال‪ ،‬ومع أن توقي للسفر رغبني عن الزواج كونه‬

‫‪88‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫خطبت ُودها‪ .‬أقنع بونتيانوس‬ ‫أدركت نفس ي إال ُمنجرفا في ُح ِبها وكأني أنا من‬ ‫عائقا‪ ،‬ما‬
‫َ‬
‫وأظهر عظيم الحماس في أن يقام الزواج‬ ‫أيضا بمنحي األفضلية عن كل الخطاب‬ ‫والدته ً‬

‫في أقرب تاريخ ممكن‪ ،‬وبالكاد أقنعناه بتأخير الزواج مدة وجيزة ريثما يتخذ لنفسه زوجة‬
‫حفف ذلك نتزوج نحن‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ويرتدي أخوه في املناسبة ثوب الرجولة‪ ،‬وعلى‬
‫ً‬ ‫أحدث ذلك ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫جسيما بقضيتي‪ ،‬كي‬ ‫ضررا‬ ‫كر ما سأقوله اآلن وإن‬ ‫‪ -74‬ليتني تحفظت على ِذ ِ‬
‫سامحته من قلبي حين طلب الصفح‬‫ُ‬ ‫به بعدما‬ ‫أعيب على بونتيانوس تقل ُ‬ ‫ُ‬ ‫ال أبدو وكأنني‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫مناصا دون سرد املالبسات وأنا أقر بما َحدث مع بونتيانوس‬ ‫ً‬ ‫عنه‪ ،‬لكن متهمي ما تركوا لي‬
‫وغي َر على حين غرة ر ُ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫أيه وسعى إلجهاض هذا‬ ‫عهده َّ‬‫ُ‬ ‫ِآس ًفا‪ ،‬إذ بعدما اتخذ زوجة نكث‬
‫استعداد لتقديم أي‬ ‫حماسة في إرسائه‪ ،‬وكان على‬ ‫ُ‬
‫أبداه من‬ ‫يقل عما‬ ‫بعناد ال ُّ‬ ‫املشروع‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫هد حتى يحول دون إتمام زواجنا‪ .‬وإن كان يجب أال ُي َ‬
‫حمل على‬ ‫وبذل أي ُج ٍ‬ ‫تضحية ِ‬
‫ٍ‬
‫ُّ‬
‫عاتقه هذا التقلب املشين في السلوك وهذا النزاع املفتعل مع أمه بل على حميه‬
‫دب ٌ‬
‫أحد في األرض أكثر منه دناءة‬ ‫شخص ما َّ‬
‫ٌ‬ ‫هيرينيوس روفينوس الذي تراه أمامك‪ ،‬وهو‬
‫ُ‬
‫بإيجاز ‪ -‬طاملا ال أستطيع تفادي ذلك ‪ -‬هذا الشخص على‬ ‫ٍ‬ ‫وخبثا وقذارة‪ .‬سأكشف‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ويضيع‬ ‫ستخدما قدر ما استطعت من ضبط النفس‪ ،‬حتى ال ُأمر عليه ِب ٍ‬
‫صمت‬ ‫ً‬ ‫حقيقته ُم‬
‫ً‬
‫عبثا ما ُ‬
‫مقدرة في هندسة هذا االتهام ضدي‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫أبداه من‬
‫هذا الذي سمم الغالم الغر ضدي وهو الراعي األصلي لهذا االتهام‪ ،‬هذا هو ُ‬
‫أجير املحامين‬
‫وراش ي الشهود‪ ،‬هذا هو األتون الذي ُسبك فيه كل هذا االفتراء‪ ،‬هذا هو املشعل الذي‬
‫قاد والسوط الذي ساق أيميليانوس إلى ُمهمته‪ .‬بل وتباهى أمام الجميع دون تحف ٍظ بأنه‬
‫بمكيدته ُن ِصبت ضدي الئحة االتهام‪ .‬ولديه كل الحق في تهنئة نفسه فهو املنظم لكل‬
‫ومختلق كل األباطيل‪ ،‬املصمم لكل األكاذيب وبؤرة كل الشرور‪ ،‬الوكر النجس‬ ‫الدعاوي ُ‬
‫واملأوى الدنس بالفجور واملجون‪ ،‬فقد ُع ِرف منذ سنواته األولى بكل عيب وعار‪ :‬إذ كان‬
‫في صباه‪ ،‬قبل أن ُيقبحه الصلع بهذا الشكل‪ ،‬عبدا منغمسا في أكثر الرذائل مقتا‪ .‬وفي‬
‫مستهل الشباب راقصا مسرحيا خائرا ومرتخيا تماما في كامل وعيه‪ .‬لكن وردني أنه كان‬

‫‪89‬‬
‫بالنسوة‪ ،‬إذ ُيقال إنه ما امتلك من صفات املمثل سوى‬ ‫أخرقا دون موهبة في ُّ‬
‫تشب ِهه ِ‬
‫الصفاقة‪.‬‬

‫‪ -75‬حتى وهو أكبر ِس ًّنا اآلن ‪ -‬لعنة اآللهة عليه ‪ -‬وأنا ألتمس عفوكم مسبقا عن حماوة‬
‫ُ‬
‫نفسه قواد‬ ‫مرتع للفساق ومنزله بأكمله متعفن بالفجور‪ ،‬وهو‬‫ألفاظي‪ ،‬إال أن بيته ٌ‬
‫أسرته إذ إن زوجته بنت هوى وال يختلف عنهما حتى أبناؤهما‪ .‬باب بيته مقصوف ليال‬
‫ونهارا بركالت املتوددين الفجار‪ ،‬نوافذه صاخبة بنشيج األلحان الرخوة‪ ،‬غرفة طعامه‬
‫جامحة بالعربدة‪ ،‬حجرات نومه وكر للزناة فال يخش ى دخولها إال ذاك الذي ال يملك‬
‫ْ‬
‫عساه يفعل من دون ذلك وقد بد َد‬
‫ُ‬ ‫للزوج ُحلوانا‪ .‬هكذا يسترزق الحقير من ِخ ِزيه‪ ،‬وما‬
‫ثروة طائلة انقلبت إليه على نحو غير متوقع بعدما قام والده بعملية احتيالية؟ فقد‬
‫َ‬
‫ووجد نفسه‬ ‫اقترض األخير املال من بعض الدائنين وآثر االحتفاظ به على حساب شرفه‪،‬‬
‫ُمحاصرا بالفواتير ومطالب ُمقرضيه بتسديد دينه‪ .‬كلما القاه أحدهم أمسك به وهو‬
‫يصيح كاملجنون 'إليك عني! ال أستطيع توفير األموال'‪ .‬فما كان له إال أن يستجيب‬
‫للتسوية التي عقدها مع دائنيه والتي تخلى بموجبها عن حلقاته الذهبية(‪ )148‬وكل شارات‬
‫َ‬
‫مكانته في املجتمع‪ .‬لكنه حول بعملية ن ٍ‬
‫صب بارعة الجزء األكبر من ممتلكاته إلى زوجته‪،‬‬
‫وأجرد ومكفوال بموجب خزيه‪ ،‬تمكن‬‫َ‬ ‫َ‬
‫أحوج‬ ‫وهكذا‪ ،‬وعلى الرغم من أنه كان هو نفسه‬
‫من هجر روفينوس هذا ‪ -‬أنا أقول لك الحقيقة ال غيرها ‪ -‬بما ال يقل عن ‪ 3‬ماليين‬

‫(‪ )148‬حلقاته الذهبية‪ .‬يفتح أبوليوس هنا العديد من الفرضيات املرجحة حول وصفه هذا‪ ،‬يفترض أنه يصف‬
‫تجمعات األشخاص ذوي الشأن ممن يحملون خواتم ذهبية‪ ،‬ألنه ابتداء من القرن األول من سنة ‪ 22‬م‪ ،‬منع مرسوم‬
‫من مجلس الشيوخ ‪ Lex Vesellia de libertinis‬ارتداء خواتم ذهبية للجنود الذين ال يحوزون على رتبة الفرسان‬
‫‪ ،Equites‬وبالنسبة للمواطنين الرومان فقد أمر اإلمبراطور تايبيريوس في نفس السنة بمنح هذا الشرف للمواطنين‬
‫ُ‬
‫األحرار ‪ Ingenuitas‬دون األشخاص املعتقين أو العبيد‪ ،‬ممن يملك آباؤهم وأجدادهم ملكية تفوق ‪4,000,00‬‬
‫سيسترس‪ ،‬وهو ما ينطبق على حالة روفينوس الذي أهدر ما ال يقل عن ‪ 3,000,000‬سيسترس ورثها عن والده وفقا‬
‫لتأكيد أبوليوس‪.‬‬
‫‪- Plin, Nat. 33. 8; 30 ; 32.‬‬
‫‪- William Smith, Dictionary of Greek and Roman Antiquities. Walton and Maberly; John Murray, 1848. p.‬‬
‫‪96.‬‬
‫‪- Kelly Olson, Masculinity and Dress in Roman Antiquity. Taylor & Francis, 8 mai 2017. pp. 65-67.‬‬

‫‪90‬‬
‫سيسترس ُلتبدد في حياة العربدة‪ .‬كان هذا هو املبلغ الذي آل إليه صافيا دون َد ْي ٍن من‬
‫ِتركة والدته فضال عما أمدته به زوجته من مهورها اليومية‪ .‬ومع ذلك فقد انقض‬
‫الش ِر ُه على هذه األموال مغمض العين وبددها بنهمه الواسع في بضع سنين حتى تعتقد‬
‫شكل من األشكال على أنه الرابح من خيانة والده‬ ‫حقا أنه يخاف من الظهور بأي‬ ‫ً‬
‫ٍ‬
‫منحرفة ُي َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫صرف‬ ‫ٍ‬ ‫اكتسب ِبطر ٍق‬ ‫لألمانة‪ .‬وقد جسد لنا هذا الوفي ِلخطى والده أن ما‬
‫ُ‬
‫منحرفة‪ ،‬ولم يبق له ش يء من ثروته الوارفة غير همته الزائفة ونفسه اللهيفة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ِبطر ٍق‬
‫غل السنين ما عادت ُت ُ‬ ‫وش ُ‬ ‫َُ ُ‬ ‫ُ‬
‫طيق إعالة كل املنزل ِبخزيها‪،‬‬ ‫الكبر‬
‫‪ -76‬حتى زوجته التي أعياها ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫يض منها على كل الشبان األثرياء‪ ،‬والتي ما ق ِدر لها إال‬
‫وما أجداها حتى عرض البنت بتحر ٍ‬
‫ً‬
‫أن تظل على األرجح أرملة في بيتها قبل الزواج‪ ،‬لو ما صادفت ضحية سهلة مثل‬
‫بونتيانوس‪ .‬وقد أعطاها بونتيانوس الحق في أن ُتلق َب بالعروس زيفا وباطال‪ ،‬رغم كل ما‬
‫لمه املُسبق بأنه قبيل زواجه بها َهجرها بعدما دنسها ٌ‬
‫شاب‬ ‫وع ِ‬‫فعلناه لثنيه عن ذلك‪ِ ،‬‬
‫ِ‬
‫ٌ‬
‫محترم كانت خطيبته في ما مض ى‪.‬‬
‫ُ‬
‫عروسه الجديدة ال كغيرها من العرائس‪ ،‬بثوب الجرأة ال الحشمة‪،‬‬ ‫وهكذا ِسيقت إليه‬
‫ً‬
‫مسلوبة الشرف ومعدومة الحياء‪ ،‬مسخرة في ثوب الزفاف‪ ،‬تسوق ِبنبذها من حبيبها‬
‫السابق اسم الفتاة ال بكارتها‪ ،‬يسوقها في محفة ثمانية أقنان‪ .‬وقد شاهدتم أنتم الذي‬
‫حضرُتم كيف رمقت الشباب بأعينها الشهوانية وكيف تباهت بمفاتنها بكل جرأة‪ .‬ومن‬
‫لم يتعرف على تلميذة أمها فور رؤيته لشفاهها املصبوغة وخدودها املحمرة وعيونها‬
‫ُ‬
‫املغرية؟ حتى مهرها اقترض كل جزء منه عشية زفافها وكان بالفعل أكبر مما يمكن‬
‫ُ ُ‬
‫وكثر ُ‬ ‫بيت َ‬ ‫ُ‬
‫ولده‪.‬‬ ‫ذهب ماله‬ ‫توقعه من ٍ‬

‫‪ -77‬وبقدر ما كان روفينوس محدود املوارد ال املطامع‪ ،‬وبقدر الجشع الذي ال ش يء‬
‫ُيباريه‪ ،‬اللتهم ماليين بودونتيال األربعة في العبث وما كانت لتكفيه‪ .‬لذا قرر تحييدي كي ال‬
‫ُ‬
‫سعيه لخداع بونتيانوس الضعيف وبودونتيال الوحيدة‪ .‬فابتدأ يلوم صهره على‬ ‫ِ‬ ‫أعيقه في‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫يسعه‬ ‫صحه بالتراجع في الحال عن هذا املسار الخطير‪ ،‬طاملا‬ ‫ِخطبة والدته لي‪ ،‬ون‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫غريب‪ ،‬وتوعد‬‫ٍ‬ ‫شخص‬
‫ٍ‬ ‫الحفاظ على ثروة أمه بنفسه بدال من ن ِقلها ِب َيده إلى ِح ِ‬
‫فظ‬
‫‪91‬‬
‫الشيخ املكار الشاب املدله باستعادة ابنته في حالة رفضه‪ .‬بإيجاز‪ ،‬التف حول الشاب‬
‫املأفون الذي كان فضال عن ذلك عبدا ملفاتن عروسته الجديدة كي يصوغه على إرادته‬
‫ويدفعه من غايته‪.‬‬

‫أقبل بونتيانوس على أمه وأخبرها بما قاله روفينوس له‪ ،‬لكنه لم يترك أثرا على‬
‫شخصيتها الحازمة بل وبخته فوق ذلك لتقلبه وعدم ثباته‪ .‬ولم تكن أخبارا سارة تلك‬
‫التي عاد بها لحميه‪ ،‬فقد أبدت والدته حزما راسخا غير متوقع من امرأة هادئة الطباع‪،‬‬
‫وما دفع األمور إلى األسوأ اعتراضاته التي أغضبتها وهو ما زاد على األرجح في عنادها‬
‫يض من‬
‫بشكل أكبر‪ .‬وأجابت في الختام أنه لم يكن يخفى عليها أن اعتراضاته كانت بتحر ٍ‬
‫روفينوس‪ ،‬ما جعلها ترى في وجود ٍ‬
‫زوج في صفها أكثر من ضرورة لها ضد جشعه‬
‫املستميت‪.‬‬

‫‪ -78‬مل ـا سمع الخسيس هذه األقوال اكتوى بالغيظ واستشاط غضبا‪ ،‬ومن شدة‬
‫احتقانه فاه بمقذعات ‪ -‬اعتاد ربما على قولها لزوجته ‪ -‬على أطهر النساء وأكثرهم عفة‬
‫ُ‬
‫سم ِم على مسمع من‬
‫صارخ بالعابثة وأنا بالساحر وامل ِ‬
‫ٍ‬ ‫بمحضر ابنها‪ ،‬ودعاها على نحو‬
‫عديد الشهود الذين سأسميهم إن شئت‪ ،‬ومتوعدا إياي باملوت على يديه‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫أكبح غضبي‪ ،‬هذا السخط العارم الذي يسد روحي‪ .‬أنك َ‬
‫أنت يا أكثر‬ ‫بالكاد أستطيع أن َ‬

‫الرجال تخنثا من تتوعد شخصا باملوت على يدك! يدك! أية يد! يد فيلوميال(‪ )149‬أو‬
‫ميديا(‪ )150‬أم كليتمنسترا(‪)151‬؟ أبذلك الجبن املهين الذي ُتبديه لدى رؤيتك للسالح َ‬
‫وأنت‬
‫تمثل أدوارهن دون أن تحمل خنجرا؟‬

‫(‪ )149‬فيلوميال‪ .‬شخصية مسرحية في تراجيدية 'تيريوس' من الشاعر اإلغريقي العظيم سوفوكليس‪ .‬تتناول مأساة‬
‫فيلوميال الذي قام تيريوس ملك ثراسيا وزوج أختها 'بروكن' باغتصابها وقطع لسانها حتى ال تفش ي بهذا السر‪ ،‬لكن‬
‫فيلوميال استخدمت قطعة من القماش مطرزة حتى تخبر أختها بما حدث‪ ،‬حين علمت األخيرة باألمر قامت باالنتقام‬
‫بقتل ابنها 'إيتيس' وأرسلته إلى والده امللك على طاولة الطعام‪ .‬وحين اكتشف امللك األمر‪ ،‬قام بمالحقة زوجته وأختها‬
‫طيور أين ُمسخ تيريوس إلى هدهد‪ ،‬وفيلوميال إلى سنونو‪ ،‬وبروكن إلى‬‫ٍ‬ ‫وقتلهما بفأس‪ ،‬وعلى الفور‪ ،‬تحول الثالثة إلى‬
‫عندليب‪.‬‬
‫‪-Paul Allen Miller, Latin Erotic Elegy: An Anthology and Reader. Routledge, 15 avr. 2013. p. 299.‬‬
‫(‪ )150‬ميديا‪ .‬شخصية مسرحية رئيسية في تراجيدية 'ميديا' من الشاعر اإلغريقي العظيم يوربيديس‪ ،‬أين ترتكز‬
‫املسرحية على رغبة زوجة في االنتقام من زوجها غير املخلص‪ ،‬أين تبدأ املسرحية بمشهد ميديا الغاضبة من قرار‬
‫زوجها 'جايسون' الزواج من 'غالوس' إبنة ملك كورينث 'كيريون'‪ ،‬أين يقوم زوجها بشرح أسباب هذا القرار بأنه لن‬
‫يفوت فرصة الزواج من عائلة ملكية ألنها لم تكن سوى امرأة بربرية‪ ،‬وبأنه يأمل في أن يستمرا كعشيقين‪ .‬حينها‪،‬‬
‫انتقمت ميديا بأكثر الطرق بشاعة بكسب ود 'آيجيوس' ملك آثينا الذي كان عقيما‪ ،‬إذ طلبت منه السماح لها بالبقاء‬
‫في آثينا مقابل إعطائه أدوية إلنهاء عقمه‪ ،‬وافق امللك غير مدرك بنوايا ميديا‪ ،‬والتي قررت قتل غالوس وكيريون عبر‬
‫تسميم رداء وتاج ذهبي‪ ،‬وهو إرث عائلي مقدم من إله الشمس هيليوس‪ ،‬وتقديمه إلى جايسون كهدية لزواجه من‬
‫غالوس‪ .‬بعد التظاهر بالندم على ما أبدته من ردة فعل‪ ،‬وترجيها له بأن يقدم الهدية إلى غالوس على أمل أن تدفع‬
‫أباها للسماح بعودتها من منفاها‪ ،‬وافق جايسون وسمح بذلك‪ ،‬وفور ارتداء الرداء سقطت غالوس على األرض‪ ،‬وحين‬
‫حاول امللك كيريون إمساكها تسمم هو بدوره من جراء مالمسته للتاج والرداء‪ .‬لم تكتف بذلك ميديا‪ ،‬بل قررت قتل‬
‫أوالدها من جايسون انتقاما منه على تخليه على عائلته‪ ،‬هذا األخير عندما اتجه إليها بسبب قتلها لزوجته‪ ،‬وجدها قد‬
‫قتلت أوالده أيضا‪.‬‬
‫‪- Translations from Euripides [Medea, Iphigeneia in Aulis and Iphigeneia in Tauris]: by J. Cartwright. 1868.‬‬
‫‪pp. 19-73.‬‬
‫(‪ )151‬كليتمنسترا‪ .‬شخصية مسرحية رئيسية في تراجيدية 'أجاممنون' من الشاعر اإلغريقي العظيم إسخيلوس‪ .‬أين‬
‫تبدأ املسرحية في بالد اإلغريق بوصف عودة امللك أجاممنون من انتصاره في حرب طروادة رفقة زوجته كليتمنسترا‪.‬‬
‫تصدر تنبؤات قاتمة بمقتل امللك على يد زوجته التي كانت غاضبة من تضحيته بابنتهما 'إيفيجينيا' حتى‬ ‫إبان ذلك‪ُ ،‬‬
‫لنبية طروادة‬‫تعيد اآللهة الرياح وتسمح لألسطول اليوناني باإلبحار إلى طروادة‪ .‬كما أنها كانت غير راضية عن إبقائه ِ‬
‫'كاساندرا' كخليلة له‪ .‬أصدرت كاساندرا نبؤة بمقتلها رفقة أجاممنون لسكان املدينة الذين أصيبوا بالرعب‪ ،‬ثم دخلت‬
‫توقعا لعودة أوريستيس ابن أجاممنون‪ ،‬أين‬ ‫القصر وهي تعلم أنها ال تستطيع تجنب مصيرها‪ .‬تتضمن نهاية املسرحية ً‬
‫يسعى لالنتقام من والده‪.‬‬
‫‪- Freeman & Charles, The Greek Achievement: The Foundation of the Western World. New York 1947. p.‬‬
‫‪244.‬‬

‫‪93‬‬
‫ُ‬
‫اعتقدته‬ ‫حتى ال أستطرد أكثر‪ .‬ملا رأت بودونتيال في ذهول أن ابنها تداعى إلى أبعد مما‬
‫شنعت بها‪ُ ،‬تقر فيها‬
‫ُ‬ ‫ممكنا‪ ،‬ذهبت إلى الريف‪ ،‬وكتبت له قصد تأنيبه تلك الرسالة التي‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫أخذت عنها نسخة من‬ ‫حسب متهمي بأن عزائمي أفقدتها صوابها وأوقعتها في حبي‪ .‬لكني‬
‫شهود وكاتب بونتيانوس وكان هناك أيضا‬
‫ٍ‬ ‫بأمر منك يا ماكسيموس وبحضور‬‫يومين ٍ‬
‫ُّ‬
‫يصب في صالحي تماما‬ ‫أيميليانوس الذي كان حاضرا وصادق عليها‪ ،‬وكان كل ما جاء فيها‬
‫ويناقض كل تأكيدات املت ِهمين‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -79‬ومع ذلك‪ ،‬حتى وإن دعتني صراحة بالساحر‪ ،‬فمعقو ٌل أنها‪ ،‬تبريرا لسلوكها تجاه‬
‫املرأة الوحيدة‬ ‫فايدرا(‪)152‬‬ ‫ابنها‪ ،‬آثرت التذرع بقوة تأثيري بدال من إرادتها املحضة‪ .‬وهل‬
‫التي دفعها الحب لكتابة رسالة كاذبة؟ أليس شائعا بين النساء أن يعزو أمرهن لإلكراه‬
‫حين تحدوهن رغبة جارفة في مثل هذه األمور؟ بل حتى ولو كانت تعتبرني ساحرا بحق‪،‬‬
‫أسأكون ساحرا ألن بودونتيال كتبت ذلك؟ أنتم بكل أدلتكم وشهودكم وبالغتكم‬
‫املتطايرة فشلتم في تجريمي بالسحر‪ ،‬فهل لها أن تفعل ذلك بمجرد كلمة؟ واملعلوم أن‬
‫كت ُب في رسالة خاصة! ِلم ال‬ ‫كت ُب ُوي َّوث ُق أمام القاض ي في الجلسة ُّ‬
‫ألهم بكثير مما ُي َ‬ ‫الذي ُي َ‬
‫ٍ‬
‫ً‬
‫تثبت علي تهمة السحر من أفعالي بدال من اللجوء إلى أقوال غيري؟ لو ُّات ِبع مبدؤك بأن‬ ‫ُ‬

‫رسالة تحت تأثير الحب أو الكراهية كبينة‪ ،‬فسيتم‬ ‫أي شخص في‬ ‫ُ‬
‫يكتبه ُّ‬ ‫يتم اتخاذ ما‬
‫ٍ‬
‫اتهام الكثيرين بأفظع التهم‪' .‬لقد دعتك بودونتيال بالساحر في رسالتها‪ ،‬إذن أنت ساحر'‪،‬‬
‫إن دعتني بالقنصل‪ ،‬أأعد إذن قنصال؟ ماذا لو دعتني رساما أو طبيبا أو حتى رجال بريئا؟‬
‫أتقبل ًأيا من هذه األقوال ملجرد أن أدلت بها؟ لن تقبل أيا منها‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬إنه ٌ‬
‫لجور كبير‬ ‫ُ‬

‫(‪ )152‬وفقا ملا ذكره أوفيد في ميتامورفوزس‪ ،‬أن ثيسيوس ملك أثينا األسطوري‪ ،‬بعدما هجر أريادن ابنة مينوس ملك‬
‫كريت في جزيرة ناكسوس‪ ،‬أخذ أختها فايدرا ألثينا حتى يتزوجها‪ ،‬لكنها وقعت في حب هيبوليتوس ابنه‪ .‬وعندما تم أسر‬
‫ثيسيوس في إيبيروس‪ ،‬انتهزت الفرصة للكشف البنه عن شغفها به‪ ،‬لكنه صدها مرارا وتكرارا‪ .‬وبعدما قام‬
‫هيركيوليس بتحرير ثيسيوس‪ ،‬خشيت فايدرا أن يعلم بما حصل‪ ،‬وقامت بشنق نفسها تاركة رسالة‪ ،‬مخبرة إياه أن‬
‫ابنه نال من شرفها‪ ،‬حينئذ ناشد ثيسيوس دعم نبتون‪ ،‬الذي أرسل وحشا بحريا في الوقت الذي كان فيه هيبوليتوس‬
‫يسوق عربة مجرورة بخيول على شاطئ البحر‪ ،‬أين ارتعبت الخيول وألقته من العربة ليرتد قتيال‪.‬‬
‫‪- The Metamorphoses of Ovid, Literally Translated into English Prose with Copious Notes and‬‬
‫‪Explanations: By Henry T. Riley, B.A. H.G. Bohn, York Street, Covent Garden. London 1858. p. 542.‬‬

‫‪94‬‬
‫شخص س يء أقواله دون َح ِسنها‪ ،‬وأن تستبيح الرسالة في التأثيم دون‬
‫ٍ‬ ‫أن تصدق من‬
‫التبرئة‪ .‬يعترض متهمي‪' :‬لكنها فقدت صوابها وأحبتك بانجراف'‪ .‬لئن سل ُ‬
‫مت اآلن بهذا‬
‫األمر‪ ،‬أكل مرغوب في الحب ساحر ملجرد أن صادف وأن قال ر ُ‬
‫اغبه ذلك في رسالة؟ إن‬
‫ْ‬
‫كتبت بودونتيال في رسالة إلى شخص آخر ما يمكنه فعال أن يؤذيني بشكل جلي‪ ،‬أعتقد‬
‫أنها كانت بالكاد مغرمة في تلك اللحظة بي‪.‬‬

‫افصل في أمرك واخبرني َه ِبلتك أمك‪ ،‬أكانت سليمة العقل أم مخبولة مل ـا‬
‫‪ -80‬واآلن ِ‬
‫تك‬‫تك ضحية للسحر‪ .‬مخبولة؟ فهي لم ُ‬ ‫كتبت ذلك؟ أتقول سليمة العقل؟ إذن فهي لم ُ‬
‫ُ‬
‫تكتبه وال ينبغي تصديقها‪ .‬أبدا‪ .‬حتى لو افترضنا بأنها كانت‬ ‫اية بما‬
‫في هذه الحالة على در ٍ‬
‫تك ِل ُتدرك الحقيقة‪ .‬فما أن يقول املرء 'أنا صامت' فهو يخدع نفسه قوال‪،‬‬ ‫مخبولة لم ُ‬

‫طاملا تخسف كلماته بالصمت فعال‪ ،‬وبحديثه أصال يطعن في جوهر كالمه جملة‬
‫وتفصيال‪ .‬ما بالك بمن يقول 'أنا مخبول'‪ ،‬ال يمكن لذلك أن يكون‪ ،‬لو ما كان املتحدث‬
‫ُ‬
‫يسعه‬ ‫على ِعلم بما يقول‪ ،‬ومن ُ‬
‫يعلم ما هو الهبل حقا فهو عاقل حتما‪ ،‬ألن الجنون ال‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬
‫أن ُيدرك نفسه أكثر مما يمكن للعمى أن يبصر ذاته‪ .‬لذلك فقد كانت بودونتيال ت ِ‬
‫حك ُم‬ ‫ُ‬
‫ته طار عنها‪ .‬بوسعي الحديث أكثر عن هذه النقطة لكن كفانا جدلية!‬ ‫عقلها وإن ظن ُ‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫سأقرأ الرسالة التي ُتقد ُم شهادة صارخة عن وقائع أخرى تماما‪ ،‬حتى تبدو وكأنها أ ِعدت‬
‫ُ‬
‫عن سابق تدبير ودراية بمجرى هذه املحاكمة االستثنائية‪ .‬خذها واقرأها إلى أن أقاطعك‪.‬‬
‫ُ(تقرأ الرسالة)‬
‫ُ‬
‫توقف للحظة قبل أن تستأنف ما يلي‪ ،‬فقد ِصرنا إلى قحاح األمر‪ .‬حتى اآلن يا‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الحظت على أية حال‪ ،‬لم ت ِشر السيدة بتاتا إلى السحر بل كررت‬ ‫ماكسيموس‪ ،‬وبقدر ما‬
‫بنفس الترتيب ما جاء على لساني من أقوال منذ قليل‪ :‬عن ترملها الطويل‪ ،‬والعالج‬
‫املقترح لسوء صحتها‪ ،‬وعن رغبتها في الزواج‪ ،‬وعن مناقبي التي َع ِلمتها من بونتيانوس‪،‬‬
‫وعن مشورته هو نفسه بأن تتزوجني بالتفضيل على سواي‪.‬‬
‫ُ‬
‫‪ -81‬هذا فحوى الكالم الذي قرئ لحد اآلن‪ ،‬ويبقى من الرسالة جزء‪ ،‬ومع أنه مثل‬
‫الجزء األول الذي ُكتب في صالحي إال أنه ينقلب علي ً‬
‫أيضا‪ .‬ولو أنه يستهدف خصيصا‬ ‫ِ‬
‫‪95‬‬
‫تهمة السحر املرفوعة ضدي‪ ،‬إال أن روفينوس تنكب عنه بحركة بارعة وحرف معناه‬
‫َ‬
‫سمعت الكثير‬ ‫وجرني للتجريح في أويا من بعض الساكنة باعتباري ساحرا بالبينة‪ .‬لقد‬
‫ُ‬
‫علمك تجربتك القليل‪،‬‬
‫من ألسنة اآلخرين يا ماكسيموس وتعلمت املزيد بالقراءة ولم ت ِ‬
‫لكنك ستنفي قطعا أن تكون صادفت يوما تدجيال بهذا الخبث أو هذا التدليس املاكر في‬
‫اإلجرام‪ .‬أي بالميدس(‪ ،)153‬أي سيسيفوس(‪ ،)154‬أي أوريباتس(‪ )155‬أو فرينونداس(‪ )156‬أتى‬
‫بخديعة كهذه؟ لئن قارنا ما ُ‬
‫فعله هؤالء الذين ُ‬
‫ذكرتهم ومعهم أعتى املخادعين في التاريخ‬
‫بما ُ‬
‫فعله روفينوس ببراعته في هذه الخديعة لوحدها لبدوا وحق السماء مجرد مهرجين‬
‫وبهلوانيين‪ .‬يا معجزة األكاذيب! يا ماكرا يستحق السجن وعمود التشهير! من كان يتخيل‬
‫ُ‬
‫واحد إلى اتهام! بحق اآللهة!‬
‫ٍ‬ ‫بحرف‬
‫ٍ‬ ‫كدفاع يمكن أن يتحول دون املساس‬
‫ٍ‬ ‫أن الذي ك ِت َب‬
‫هذا ال ُيصدق! لكني سأوضح لكم أن ما يتعذر تصديقه هو ما حصل بالفعل‪.‬‬

‫ً‬
‫(‪ )153‬يقول أبولودوريس‪" :‬عندما علم مينيلوس بأمر االغتصاب جاء إلى أجاممنون في ميسينا‪ ،‬وترجاه أن يحشد جيشا‬
‫ضد طروادة وأن يرفع الضرائب في اليونان‪ .‬وقام بإرسال رسول إلى كل امللوك ليذكرهم بالقسم الذي يجمعهم‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫وحذرهم من أن يتطلعوا إلى أمان زوجته‪ ،‬قائال إن اإلهانة قد قدمت بالتساوي إلى كل بالد اإلغريق‪ .‬وبينما كان‬
‫الكثيرون يتوقون لالنضمام إلى الحملة‪ ،‬أشار البعض أيضا إلى يوليسيس في إيثاكا‪ ،‬لكنه تظاهر بالجنون بسبب عدم‬
‫رغبته في الذهاب إلى الحرب‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬أثبت بالميدس ابن نوبليوس أن جنونه زيف‪ .‬فلما تظاهر يوليسيس بالخرف‪،‬‬
‫ِتبعه بالميدس وانتزع تيليماخوس من حضن بينيلوب‪ ،‬وسحب سيفه كما لو كان سيقتله‪ .‬ولخوفه على الطفل اعترف‬
‫يوليسيس بأن جنونه كان مصطنعا‪ ،‬فذهب إلى الحرب"‪.‬‬
‫‪- Apollodorus, Epitome. E.3. 6; 7.‬‬
‫(‪ )154‬يقال إن سيسيفوس كان املؤسس األول لكورينث وسيدا للخداع‪ .‬كان خصمه اللدود هو أوتوليكوس ابن شيون‬
‫وهيرميس الذي كان سارقا للماشية وذا قدرة سحرية على تحويل لونها‪ ،‬لكن سيسيفوس بدهائه خادع هذا األخير‬
‫بوضع عالمة على الحوافر واستطاع إعادتها من زريبة املواش ي ألوتوليكوس‪.‬‬
‫‪- Elliott M. Simon, The Myth of Sisyphus: Renaissance Theories of Human Perfectibility. Fairleigh‬‬
‫‪Dickinson University Press, 2007. p. 28.‬‬
‫(‪ )155‬يقول ديودوروس‪" :‬أرسل كروسوس ملك الليديين أوريباتس من ايفيسوس إلى بيلوبونيسوس‪ ،‬بعد أن أعطاه‬
‫املال لتجنيد أكبر عدد ممكن من املرتزقة من بين اإلغريق‪ ،‬لكن وكيل كروسوس ذهب إلى كورش الفارس ي وكشف له‬
‫كل ش يء‪ .‬ونتيجة لذلك أصبح غدر أوريباتس مثاال بين اإلغريق‪ ،‬وحتى يومنا هذا في تقليد الغرب‪ ،‬كلما أراد رجل أن‬
‫يضرب مثال على شخص محتال يدعوه بأوريباتس"‪.‬‬
‫‪- Diodorus Siculus, Library. 9. 32. 1.‬‬
‫(‪ )156‬فرينونداس‪ .‬رجل مخادع من أثينا‪ .‬اعتبره لوقيان السميساطي في مؤلفه 'الرسول الكاذب' من املشاهير األشرار‪.‬‬
‫شارك في املفاوضات البيلوبينية‪ ،‬اتسم باملكر والخبث حتى أصبح اسمه كنية لكل شخص يحمل صفاته‪.‬‬
‫‪- Collected Works of Erasmus, Adages: v. [6]. III IV 1- IV ii 100: Translated and Annotated by Denis L.‬‬
‫‪Drysdall; Edited by John N. Grant. University of Toronto Press, 2017. III Vii 22. p. 229.‬‬

‫‪96‬‬
‫‪ -82‬كانت األم تنحى بالالئمة على ابنها ألنه بعد أن قام بتقديمي لها كنموذج لكل‬
‫الفضائل‪ ،‬أضحى بتحريض من روفينوس يؤكد أني ُ‬
‫كنت ساحرا‪ .‬وقد أتت الكلمات بهذا‬
‫النحو حرفيا‪' :‬أبوليوس ساحر‪ ،‬وقد سحرني ألحبه‪ .‬لتأتي إلي إذن‪ ،‬طاملا ال أزال في‬
‫َ‬
‫صلها عن‬ ‫وف َ‬ ‫اقتبس ْتها باللغة اليونانية‬
‫َ‬ ‫رشدي!'‪ .‬انتقى روفينوس هذه الكلمات التي‬
‫اف صريح من جانب بودونتيال‪ًّ ،‬‬
‫جارا‬ ‫سياقها واقتادها يطوف بها حول الجميع كاعتر ٍ‬
‫ٍ‬
‫ومتيحا للناس‬ ‫بديا إياها في جميع أنحاء السوق ُ‬ ‫بونتيانوس في جانبه وهو يبكي ب ُحرقة‪ُ ،‬م ً‬
‫ِ‬
‫قراءة هذا املقطع الذي ذكر ُته للتو ومخفيا ما قبله وما بعده‪ ،‬إذ كان عذره أن بقية‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الرسالة أكثر فضاعة مما َذ ُ‬
‫كره‪ ،‬وأنه يكفي أن يعلم الناس باعتراف بودونتيال بشعوذتي‪.‬‬
‫َ‬
‫اعتقد الجميع أن األمر مرجح بما فيه الكفاية‪ .‬هذه الرسالة‬ ‫ما الذي حصل في النهاية؟‬
‫ُ‬
‫بالذات والتي كتبت ِل ُتنصفني أثارت بين أولئك الذين غابت عنهم الحقائق أشد الكراهية‬
‫ضدي‪ .‬انطلق هذا الوغد الوسخ ُمقتحما قلب السوق كالعربيد‪ُ ،‬مبقيا على الرسالة‬
‫ومناديا‪' :‬أبوليوس ساحر! إنها تصف بنفسها مشاعرها ومعاناتها! ما الذي‬ ‫مفتوحة ُ‬
‫أحد َلينوب عني ويجيب‪' :‬أعطني الرسالة كاملة من‬ ‫تطلبونه أكثر؟'‪ .‬لم يكن هناك ٌ‬

‫فرب قو ٍل إن أورد‬ ‫فضلك! دعني أرى ما فيها بالكامل‪ ،‬دعني أقرأها من أولها إلى آخرها'‪ُ .‬‬
‫سلم كالم من التجريح إن اعتمد‬ ‫بمعزل عن سياقه أفض ى بمعناه لتأويل مغرض‪ ،‬وما َي ُ‬
‫ٍ‬
‫بق تم السطو عليه في بدايته‪ ،‬أو إذا ُحذفت بعض الجمل عمدا‬ ‫َ‬
‫مقطع منه على س ٍ‬
‫ٍ‬ ‫في‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تجعله يبدو كالما افترائيا‪.‬‬ ‫ساخرة‬
‫ٍ‬ ‫من سياقها في النص‪ ،‬أو إذا ق ِرئ ما هو مكتوب ٍ‬
‫بنبرة‬
‫ُ‬
‫لو طرحت هذه الشكوى وغيرها من أقوال بأدنى قدر من األمانة إذاك‪ ،‬النكشف السياق‬
‫الحقيقي للرسالة آنذاك‪.‬‬
‫أخذت َ‬
‫أنت‬ ‫َ‬ ‫‪ -83‬حاول أن تتذكر اآلن يا أيميليانوس ما إن لم تكن هذه هي الكلمات التي‬
‫ُ‬
‫أطلعتك عليها‪ ،‬أقنعتني‬ ‫ُ‬
‫رغبت في الزواج لألسباب التي‬ ‫شهود نسخة منها‪ُ ' :‬مذ‬ ‫وأنا وأمام‬
‫ٍ‬
‫وحرصك على أن ُتصبح‬ ‫باختيار أبوليوس في أفضلية على كل اآلخرين لفرط إعجابك به ِ‬
‫بسببي أكثر ودا معه‪ .‬أما اآلن بعدما اتهمنا بعض الحقدة وحاولوا ثنيك عن ذلك‪،‬‬

‫‪97‬‬
‫َ‬
‫أضحيت على حين غرة تقول إن أبوليوس ساحر‪ ،‬وقد سحرني ألحبه‪ .‬لتأتي إلي إذن‪،‬‬
‫طاملا ال أزال في رشدي'!‬
‫ٌ‬
‫صوت وإن كان بعضها اآلن يدعى صوتيا‪ ،‬إن‬ ‫أنا أسألك يا ماكسيموس‪ ،‬لو كان للحروف‬
‫أمكن للكلمات ‪ -‬كما يزعم الشعراء ‪ -‬أن تتخذ أجنحة وتحلق عاليا‪ ،‬أال تتوقع ‪ -‬بعدما‬
‫انتقى روفينوس مقتطفات مخادعة من تلك الرسالة وقرأ بضع أسطر متعمدا طمس أي‬
‫ش يء يحمل معنى أكثر تفصيال ‪ -‬أن تبدأ الحروف املتبقية بالصراخ قائلة إنها غابت عن‬
‫ُ‬
‫قدم الكلمات التي قمعها روفينوس على االنفالت من يديه وإغراق‬ ‫األنظار ظلما‪ ،‬وأن ت ِ‬
‫السوق بأكمله في الشغب‪ ،‬صارخة بأنها قد ُأرسلت كذلك من بودونتيال وأنها ُ‬
‫ائتمنت‬
‫ً‬
‫على ش يء لتقوله أيضا‪ ،‬وتدعو الناس لالستماع إليها بدال من إلقاء السمع ملحتال كذوب‬
‫كان يحاول إثبات كذبه بخطاب ُم َّ‬
‫حرف؟ أن بودونتيال لم تتهم أبدا أبوليوس بالسحر‪ ،‬بل‬
‫ُتبرئه من هذه التهمة التي يرميه بها روفينوس‪ .‬ومع أن كل هذه األمور لم ُيفصح عنها‬
‫وقتذاك‪ ،‬إال أنها‪ ،‬حيث هي أجدى بالنسبة لي‪ ،‬تتوهج اليوم بشكل جلي‪ .‬ها قد انكشفت‬
‫وافتضح خداعك وانفضحت أكاذيبك‪ .‬أال إن الحقيقة ُتخلع لوهلة‬
‫أالعيبك يا روفينوس ُ‬
‫ً‬
‫عن عرشها لترتقي مجددا ويغرق االفتراء نزوال إلى الهوة التي ال قعر لها‪.‬‬
‫َ َ‬
‫‪ -84‬لقد أغرُتم علي برسالة بودونتيال‪ ،‬وها أنا ذا أقهركم بنفس الرسالة حتى إني لن‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫اختتمت الرسالة هذه السيدة‬ ‫أحرمكم من سماع الخاتمة إن َر ِغبتم‪ .‬أخبرني بأية كلمات‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫املسكينة واملسحورة‪ ،‬املخبولة واملجنونة واملفتونة؟‪' :‬أنا لم أسحر ولم أفتن‪ ،‬هذا قدري'‪.‬‬
‫ً‬
‫ِأبحاجة أنتم ألكثر من هذا؟ لقد أخزتكم بودونتيال َوبرأت صراحة سالمة عقلها من‬
‫بهتانكم‪ .‬أيا كان الدافع أو الداعي لزواجها فهي تعزوه للقدر الذي ال يشترك مع السحر في‬
‫ص ُدق‬ ‫ُ‬
‫تفعله‪ ،‬إن َ‬ ‫شركه في أي أمر‪ ،‬فما في ِوسع العقاقير أو الرقى أن‬ ‫ُ‬
‫أي ش يء وال حتى ي ِ‬
‫صرفه؟ وعليه فإن‬‫ُ‬ ‫ُ‬
‫كبحه أو‬ ‫الجحاف ال يمكن‬ ‫در املخلوقات كالسيل ُ‬ ‫القول بأن َق َ‬
‫بودونتيال ما اكتفت بتبرئتي من تهمة السحر هنا بل أنكرت وجود السحر أصال‪ .‬من الجيد‬
‫َ‬
‫أن بونتيانوس كعادته حافظ بالتمام على رسالة والدته‪ ،‬ومن الجيد أيضا أن وتيرة‬
‫القضية ما أتاحت لكم أدنى فرصة لتعديل الرسالة على مقاسكم‪ ،‬وكل الفضل يعود‬

‫‪98‬‬
‫أبصرت بين افتراءاتهم منذ البداية وعج َ‬
‫لت في‬ ‫َ‬ ‫لك ولحصافتك يا ماكسيموس فقد‬
‫أسهم وال أنفاسهم بمرور األيام وهكذا خربت كل‬ ‫القضية حتى ال يستجمعوا َب َ‬
‫مخططاتهم‪ .‬واآلن لنفترض أن األم بحكم العادة صارحت ابنها في رسالة خاصة عن‬
‫مشاعرها نحوي‪ ،‬أكان صائبا يا روفينوس والئقا وال أتحدث هنا من باب البر بل املروءة‬
‫أن ُتشاع هذه الرسائل ُوتذاع فوق كل ذلك ُوت َ‬
‫شهر من قبل ابنها؟ أو أني ال أدنو هنا‬
‫أنت الذي فر َ‬
‫طت في ُحرمتك‪.‬‬ ‫أطلب منك أن تراعي ُحرمة غيرك َ‬
‫ُ‬ ‫ُحمقا عن ٍ‬
‫أحد وأنا‬
‫ُ‬
‫أفسدتم ِبشدة‬ ‫‪ -85‬ما لي أشكو فقط مما َع َبر‪ ،‬والحاضر أدهى وأمر؟ ِبئس ما فعلتم وقد‬
‫ً‬
‫فيه رسالة من أمه وهو يظنها تتعلق بغرامياتها في‬
‫بملء ِ‬
‫ِ‬ ‫هذا الغالم البائس حتى يقرأ‬
‫محكمة اإلقليم وعلى مسمع رجل بمنزلة كلوديوس ماكسيموس‪ ،‬ونرى الولد على مرأى‬
‫تماثيل اإلمبراطور بيوس يتهم والدته باالنجراف وراء عاطفة شائنة واالنغماس في‬
‫القصص الغرامية؟ من ذا الذي يملك رباطة الجأش وال تغلي من هذا األمر مراجله؟‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫أترصد نظراتها؟ أت ُعد‬ ‫أتتطف ُل على قلب أمك يا رذيل في مسائل من هذا القبيل؟‬
‫ُ‬
‫لترص َد‬
‫أتنتهك خصوصيتها ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أتعترض رسائلها وباملغرمة تعايرها؟‬ ‫ُ‬
‫أتسبر عواطفها؟‬ ‫تنهداتها؟‬
‫صول ِت ِه بأن تنتفل عن‬ ‫ما تفعله في مخدعها؟ أتطالبها وهي املستضعفة أمام الحب َو َ‬
‫بطن‬ ‫ُّ‬
‫عليك بودونتيال! أي ٍ‬ ‫ِ‬ ‫كينونتها؟ أتخلو في ظنك من أي عاطفة عدا األمومة؟ أسفي‬
‫هذه! لكان ُعقمك أفضل حاال من َح ْم ِلك! ما شفعت لك تلك الشهور التي تخبطوا فيها‬
‫حمك‪ ،‬وال أربع عشرة سنة من ترم ِلك! لقد قيل لي إن األفعوان ال يرى النور إال‬ ‫في َر ِ‬
‫يرحمك‬
‫ِ‬ ‫بقضم رحم أمه وال يحيا إال على ُجثتها‪ ،‬لكن ابنك الراشد كما تنظرين لم‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫قلبك ويعبث في‬ ‫ويطعنك في ِ‬
‫ِ‬ ‫رضك‬
‫ترك ويهتك ِع ِ‬ ‫بلدغاته حتى وأنت حية ترزقين‪ .‬ينتهك ِس ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وهبته‬ ‫داخلك‪ .‬أحال َك كحال االبن البار الذي يجزي بعرفانه جميل أ ِمه على الحياة التي‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫وميراثه الذي أكسبته وعما كابدته ِلوحدها طيلة أربعة عشر سنة افتدته بها؟ أكان عمك‬
‫ستنجب أبناء مثلك؟ هناك سطر‬ ‫ُ‬ ‫بهذه التعاليم ُيريك عاقبة الزواج إن تأكد لك أنك‬
‫معروف‪:‬‬
‫أكره الغالم الذي‪ ،‬هكذا َف ٌ‬
‫هيم قبل أوانه"‪.‬‬ ‫" ُ‬

‫‪99‬‬
‫ُ‬
‫يمقت ويجتوي غالما اكتسب املكر قبل أوانه‪ ،‬حين ُيطل عليك كالفأل‬ ‫فعال‪ ،‬ومن ال‬
‫السيئ‪ ،‬في صغر سنه يتقاطر إربا‪ ،‬وبطراوة ُعمره يشتد وربا‪ ،‬وبمكر املشيب في شرخ‬
‫ستهج ُن في أمره أكثر أن أفعاله املعيبة تمض ي دون ضريبة فهو لم‬
‫َ‬ ‫الصبا؟ كال بل ما ُي‬
‫ُ‬
‫أقلت الضرر؟ كال! بل‬ ‫بعد أهلية العقاب مع أنه بالغ بما يكفي إلحداث الضرر‪.‬‬ ‫يبلغ ُ‬

‫منكرا في حق أمه ال ُيغتفر لقبحه وشناعته!‬

‫‪ -86‬حتى األثينيون حين استولوا على مراسالت عدوهم فيليب املقدوني وشرعوا في‬
‫عال من رسالة شخصية‬‫واحد بصوت ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫حرف‬
‫ٍ‬ ‫كشف محتواها على املأل‪ ،‬حرموا قراءة‬
‫وجهها فيليب لزوجته أوليمبياس احتراما للحقوق اإلنسانية الشائعة‪ ،‬وبذلك أعفوا‬
‫العدو حتى ال يتطفلوا على خصوصية الزوج والزوجة معتبرين القانون السائد بين جميع‬
‫صنعت َ‬
‫أنت مع‬ ‫َ‬ ‫البشر فوق املطالب الخاصة باالنتقام‪ .‬هكذا تعامل عدو مع عدوه! ما‬
‫َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫املرأة التي أنجبتك؟ أترى محلك في مقاربتي َ‬
‫رسائل ك ِتبت من‬ ‫عال‬
‫بصوت ٍ‬‫ٍ‬ ‫وأنت تقرأ‬
‫ً‬
‫قدما على ذلك أمام هذا‬ ‫والدتك والتي وفقا لتأكيدك تتعلق بشؤونها في الحب‪ُ ،‬م ِ‬
‫ات من أحد‬ ‫امل ْح َت ِشد هنا وهو ٌ‬
‫جمع لن تجرؤ أمامه ولو غصبا على إلقاء أبي ٍ‬
‫ُ‬
‫الجمهور‬
‫الشعراء الخليعين ألنك ستكون مقيدا ِب ِربقة الحياء‪ .‬بل ما كان لك أن تلمس بتاتا‬
‫مت بيدك رسالة خاصة‬ ‫تقر ُب أبدا هذه األمور وما شابهها‪ .‬بل وقد َ‬
‫مكتوب أمك وأنت ال ُ‬
‫ال فيه‬‫نت ال تز ُ‬‫بك ُكتبت عن والدتك بأسلوب وال أشنع وإساءة وال أفضع في وقت ُك َ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ً‬
‫أرسلتها سرا إلى بونتيانوس وقد َمتها اآلن كيال‬
‫َ‬ ‫تترعرع تحت جناحها‪ ،‬تلك الرسالة التي‬
‫ُتدان على ارتكاب خطيئة واحدة ويطوي النسيان ذاك الصنيع الخير لك! ألم ُتدرك أيها‬
‫سمح لك بفعل ذلك حتى ُيبرئ نفسه أمام الرأي العام باستخدام‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫الفدم أن عمك‬
‫َّ‬
‫رسالتك كدليل على أنك حتى قبل أن تنتقل إلى منزله‪ ،‬حتى في الوقت الذي تزلفت فيه‬
‫ُّ‬ ‫على أمك بكلمات حب ائفة‪َ ،‬‬
‫كنت بالفعل ماكرا كالثعلبان ومجردا من كل مودة بنوية‪.‬‬ ‫ٍ ز‬

‫‪ -87‬كما أني ال أخال أيميليانوس هكذا غبيا ليظن أن رسالة من مجرد صبي‪ ،‬والذي هو‬
‫كذلك أحد متهمي‪ ،‬يمكنها فعال أن تروي ما يضر بي‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫ُ‬
‫اجتذبت‬ ‫هناك ً‬
‫أيضا تلك الرسالة املزيفة التي حاولوا من خاللها إقامة الدليل على أني‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫بودونتيال بالتملق‪ .‬لم أكتبها أبدا والتلفيق ليس حريا بالتصديق أصال‪ ،‬وما حاجتي‬
‫وجدت تلك الرسالة طريقها إليهم وقد‬ ‫ْ‬ ‫وضعت ثقتي في السحر؟ وكيف‬ ‫ُ‬ ‫بالتلهوق إن‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أرسلت إلى بودونتيال كما تقتضيه العادة في مثل هذه األمور عبر أحد الخدم امل ْؤتمنين؟‬
‫كتبتها بمثل هذه األلفاظ السوقية وبمثل هذه اللغة العامية‪ ،‬أنا الذي سل َم متهمي‬‫ول َم ُ‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫بأني أتقن اليونانية بالتمام والكمال؟ ِولم أسعى إلغرائها بالتزلف إلى حد السخف‬
‫يشد النفس والخاطر‪.‬‬ ‫أكتب في الغرام شعرا ُّ‬ ‫ُ‬ ‫والفظاظة؟ هم أنفسهم ُي ِقرون بأني‬
‫ِ‬
‫التفسير جلي للجميع وهو كاآلتي‪ :‬من لم يستطع قراءة رسالة بودونتيال املكتوبة‬
‫جد من األسهل قراءة هذه الرسالة‬ ‫باليونانية‪ ،‬والتي تجاوزت برفعتها قدرته على فهمها‪َ ،‬و َ‬
‫ِ‬
‫وأولها لصالحه ألنه خطها بنفسه‪.‬‬

‫كتبت بودونتيال بسخرية‬ ‫ْ‬ ‫سأضيف نقطة أخرى أستوفي بها موضوع الرسائل‪ .‬بعد أن‬
‫َ‬
‫وتهكم هذه الكلمات 'لتأتي إلي إذن‪ ،‬طاملا ال أزال في رشدي'‪ ،‬طلبت مجيء أبنائها َوكن ِتها‬
‫صد جنون والدته‬ ‫وعاشت معهم ملدة شهرين تقريبا‪ .‬فليخبرنا هذا االبن البار ما إن َر َ‬

‫فلينكر أنها أظهرت أقص ى قدر من الحنكة في فحصها‬ ‫املزعوم سواء في أقوالها أو أفعالها‪ُ .‬‬
‫فلينكر تنبيهها بشدة على شقيقه بونتيانوس حتى‬ ‫والسياس‪ُ ،‬‬ ‫لحسابات امل ُ ـكارين ُ‬
‫والرعيان ُ‬
‫فلينكر توبيخه بصرامة على إفشاء الرسالة التي‬ ‫يأخذ ُأهبته من دسائس روفينوس‪ُ ،‬‬
‫ذكرت أن والدته‬ ‫ُ‬ ‫فلينكر بعد كل ما‬‫بعثتها إليه دون قراءتها بأمانة كما كانت مكتوبة! ُ‬
‫تزو َجتني في بيت ريفي مثلما ُّاتفق عليه مسبقا!‬

‫لجمهرة‬ ‫‪ -88‬وقد أقررنا بأفضلية الزواج في ضيعتها التي ال ُ‬


‫تبعد كثيرا عن أويا تالفيا‬
‫ٍ‬
‫أخرى من املواطنين الطامعين في اإلكراميات‪ ،‬فقبل مدة غير طويلة وزعت بودونتيال‬
‫‪ 50.000‬سيسترس على األهالي بمناسبة زواج بونتيانوس والتحاف هذا الصبي بثوب‬
‫الرجولة‪ُ .‬كنا نبتغي ً‬
‫أيضا تجنب حفالت العشاء املتكررة واملرهقة التي تفرضها العادة‬
‫َ‬
‫بضيعة‬
‫ٍ‬ ‫عموما على املتزوجين حديثا‪ ،‬وهذا ما دفعنا أساسا يا أيميليانوس ِلختم زواجنا‬
‫في الضاحية بدال من البلدة‪ ،‬حتى نتفادى إهدار ‪ 50.000‬سيسترس أخرى والتملص من‬

‫‪101‬‬
‫العشاء في مجلسك أو بمنزلك‪ .‬أال تراني محقا في ذلك؟ لقد أثرت دهشتي باعتراضك‬
‫الشديد على الضيعة َ‬
‫وأنت تقض ي معظم وقتك في الريف‪ ،‬ناهيك أن قانون الزواج‬
‫شخص من الزواج في ضيعة‪ .‬أما‬ ‫اليوليوس ي ال يتضم ُن في أي جزء منه ُبندا َي ُ‬
‫حظر أي‬
‫ٍ‬
‫ضيعة‬ ‫َ‬
‫رغبت في سماع الحقيقة‪ ،‬إنه لفأل خير في استباق الذرية‪ ،‬أن يتزوج املرء في‬ ‫إن‬
‫ٍ‬
‫حجر‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫مرج ُم‬
‫خضر بدال من رصيف م ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫أرض خصيبة ال عقيمة‪ ،‬على ٍ‬‫بدال من البلدة‪ ،‬على ٍ‬
‫ُ‬
‫من ستكون أما عليها الزواج في الحضن األعمق ألمها‪ ،‬بين املحاصيل القائمة وفي‬
‫الحقول املثمرة‪ ،‬أو عليها أن تستلقي تحت شجر الدردار الذي يقترن بالكرم في أعمق‬
‫حضن لألرض األم‪ ،‬بين فسائل األعشاب وفروع الكروم الغضة وجذوع األشجار‬
‫الناشئة‪ .‬يمكنني أن أضيف أن املجاز في السطر معروف جدا في املالهي‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫لف طي ٍب"‪.‬‬
‫ولتنسل ِبخ ٍ‬ ‫"فلتزرع األرض‪،‬‬
‫ُّ‬
‫َيعظ على هذا الرأي بشدة قدماء الرومان كذلك مثل كوينتيوس وسيرانوس وآخرون‬
‫مثلهم‪ ،‬فما ُعرضت عليهم الزوجات فحسب بل حتى القنصليات والدكتاتوريات في‬
‫الحقول املفتوحة‪ .‬لكني تحد ُ‬
‫ثت في هذا الشأن مطوال‪ .‬سأكبح نفس ي حتى ال أرضيك‬
‫بمديحي لحياة الريف‪.‬‬
‫ْ‬
‫تزوجت في‬ ‫َ‬
‫كذبت بخصوصه ببالغ الجرأة لتؤكد أنها‬ ‫‪ -89‬أم ا عن ُعمر بودونتيال الذي‬
‫مسألة في منتهى الوضوح‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫الستين‪ ،‬سأرد في بضع كلمات‪ ،‬وما أحتاج سواها ملناقشة‬

‫شهد على ذلك محفوظة‪ ،‬جزء‬ ‫لقد أقرها والدها كابنته حسب األصول والوثائق التي َت ُ‬
‫ً َ‬
‫رجاء ق ِدم‬ ‫منها في مكتب السجالت العامة واآلخر في منزله‪ .‬وها هم هنا أمام عينيك‪.‬‬
‫دعه يتعرف‬‫دعه يتفحص شريط الكتان الذي يحمل الختم‪ُ ،‬‬ ‫الوثائق إلى أيميليانوس‪ُ ،‬‬

‫على الختم املطبوع عليه‪ِ ،‬ليقرأ أسماء القناصلة لتلك السنة وليعد السنين‪ ،‬فقد‬
‫خمس وخمسين سنة حتى يعترف‬ ‫فصح عن املجموع عند‬ ‫ُ ُ‬
‫ٍ‬ ‫أعطاها من العمر ستين‪ .‬دعه ي ِ‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫خمسا زيادة‪ .‬كال‪ ،‬بالكاد يكفي هذا‪ .‬سأتعامل معه بسخاء أكبر فقد‬ ‫بأنه ك ِذ َب وأعطاها‬
‫عشر‪ ،‬فاملسكين ميزنتيوس ضل‬
‫ٍ‬ ‫جاد على بودونتيال بعدة أعوام وها أنا ذا أجزيه بإعادة‬

‫‪102‬‬
‫الطريق رفقة يوليسيس‪ُ .‬‬
‫فليثبت على األقل أنها في الخمسين من عمرها‪ ،‬حتى نختزل‬
‫ُ‬
‫سأضرب خمس سنوات في أربعة‬ ‫األمر كوني أتعامل مع مت ِهم اعتاد على الضرب في أربعة‪،‬‬
‫وأطرح عشرين سنة بضربة واحدة‪ ،‬ولتأمر يا ماكسيموس بحساب عدد القناصل منذ‬
‫والدتها‪ ،‬إن لم أكن مخطئا‪ ،‬فستجد أن بودونتيال بالكاد تجاوزت عامها األربعين‪ .‬الجرأة‬
‫اإلفك! ُبهتانك‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫الصلفة لهذا االفتراء! سيكون املنفى لعشرين سنة عقابا جديرا بهذا ِ‬
‫لت ثالثين سنة‬‫أضاف نصفا كامال للحاصل‪ ،‬وتلفيقك ُيقدر بمرة ونصف من األصل‪ .‬لو ُق َ‬
‫ٍ‬
‫َ‬
‫وضعت‬ ‫للت في اإليماءة املستخدمة في حسابك‪ :‬أنك‬ ‫عوض عشر‪ ،‬الفترضناك قد َ‬
‫ز‬
‫السبابة على املفصل األوسط من إبهامك بدال من أن تجعلهم يشكلون طوقا‪ .‬ولكن في‬
‫حين أن اإليماءة التي تشير إلى األربعين هي أبسط هذه اإلشارات ‪ -‬فكل ما كان عليك‬
‫مت بزيادة الرقم بمقدار النصف مرة أخرى‪ .‬ال مجال للخطأ‬‫فعله هو مد احة يدك ‪ُ -‬ق َ‬
‫ر‬
‫وحصلت على مجموعك بمضاعفة‬‫َ‬ ‫هنا إال إن َ‬
‫كنت قد َح ِسبت لبودونتيال ثالثين عاما‪،‬‬
‫عدد القناصل‪.‬‬
‫ُ‬
‫انتهيت من هذا‪ .‬آتي اآلن إلى صميم االتهام‪ ،‬إلى الدافع الفعلي وراء استخدام‬ ‫‪ -90‬لقد‬
‫ٌ‬
‫ساحر‬ ‫طلبت من روفينوس وأيميليانوس أن يجيباني ويخبراني ‪ -‬فرضا أني‬‫ُ‬ ‫السحر‪ .‬لقد‬
‫َ‬
‫أدفعها بعقاقيري‬ ‫من الطراز األول ‪ -‬عن أي فائدة ُ‬
‫كنت ألجنيها من بودونتيال حتى‬
‫جيدا أن الكثير من املت َهمين بارتكاب جريمة ما‪ ،‬حتى‬ ‫وتعاويذي كي تتزوج بي‪ .‬إني أدرك ً‬
‫َ‬
‫وإن ث ُب َت أن هناك دافع حقيقي الرتكابها‪ ،‬قد برؤوا أنفسهم من الذنب بنحو مستفيض‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫صرف عنهم كل ُمر ٍية‪ ،‬ولو بوجود‬ ‫عبر خط الدفاع هذا‪ :‬أن السجل الكامل لحياتهم ي ِ‬
‫ريبة‪ ،‬كما ال يجدر بنا أن‬ ‫تضعهم موضع ٍ‬ ‫ُ‬ ‫جريمة فحقيقة وجوده ال‬ ‫ٍ‬ ‫دافع قوي الرتكاب‬
‫ُ‬ ‫حصوله‪ ،‬فما ُيدرينا بما َيصر ُ‬
‫ُ‬ ‫ُن ِ َ‬
‫ودروبه‪ ،‬بل‬ ‫فه الزمن‬ ‫ِ‬ ‫أمر كان من املفترض‬ ‫سلم بحصول ٍ‬
‫ُ‬
‫وجهه‪ ،‬حتى‬ ‫نتأم َل في الرجل ما أوعزت به قر ُ‬
‫يحته‪ ،‬ونرى إن أدار ِقبل الفضيلة أو الرذيلة‬
‫جرم في حقه ِب ُج ٍرم آخر وال ُن‬
‫نصفه‪ .‬كان بوسعي ‪ -‬اعتمادا على العدالة في ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫منتهاها ‪-‬‬ ‫ال ن ِ‬
‫كنت ألكتفي بهذه‬ ‫أضع في هذا الطرح كل ثقتي‪ ،‬لكني أتنازل لكم عن حقي‪ ،‬وما ُ‬ ‫أن َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫بهة في‬
‫بجالء من كل تهمكم وأدرأ عن نفس ي أدنى ش ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫الحجة البائسة إن لم أبرىء ذمتي‬

‫‪103‬‬
‫الشعوذة تحوم حولي‪ .‬تأملوا أي ثقة في براءتي وأي احتقار تجاهكم يوحي به سلوكي‪ .‬إن‬
‫وجدتم سببا واحدا يحدوني لخطب ود بودونتيال أمال في بعض املزايا لشخص ي‪ ،‬أو أثبتم‬
‫تام ألكون أي ساحر ترتضون‪ ،‬كارمينداس‬ ‫ُ‬
‫استعداد ٍ‬
‫ٍ‬ ‫غنمته من زواجي‪ ،‬فأنا على‬ ‫أدنى ِر ٍبح‬
‫العظيم(‪ )157‬نفسه أو داميجيرون(‪ )158‬أو موس ى الذي سمعتم عنه أو جانيس(‪ )159‬أو‬
‫صيته منذ عصر زرادشت وأوستانس‬ ‫ُ‬ ‫ساحر ذاع‬ ‫أبولوبيكس أو حتى دردانوس(‪ )160‬أو أي‬
‫ٍ‬
‫إلى اآلن‪.‬‬

‫جلبة أثاروا ملجرد ِذكر بعض السحرة باالسم‪ .‬ماذا أفعل مع‬
‫‪ -91‬أنظر يا ماكسيموس أي ٍ‬
‫ُ‬
‫صادفت هذه األسماء‬ ‫ُ‬
‫أأشرع في اإلثبات لكم أني‬ ‫قوم ال يفقهون شيئا وال يعقلون؟‬
‫ٍ‬
‫ُ‬
‫وأخرى كثيرة في سياق دراستي للكتاب املشاهير في املكتبات العامة؟ أم أجادل بأن‬
‫اف بالجريمة‬‫معرفة أسماء السحرة ش يء واملشاركة في ِفنهم ش يء آخر‪ ،‬وأنه ال يرقى العتر ٍ‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫يفيض بالعلم م ُ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫تخونه؟ أو أتخذ مسارا أفضل بكثير‪،‬‬ ‫لؤه وذاكرة ال‬ ‫ُ ِ ِ ِ‬ ‫يمتلك املرء عقال‬ ‫أن‬
‫َ‬
‫ُمرتكنا على واسع علمك ومعرفتك يا ماكسيموس‪ ،‬وأربأ بنفس ي عن اتهامات هؤالء‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫فعله‪ :‬سأرمي ظنونهم َدبر أذني‪،‬‬ ‫ُ‬
‫يجدر بي‬ ‫األغبياء والجهلة األجالف؟ نعم هذا ما‬

‫)‪ (157‬كارمينداس العظيم‪ .‬يشير بيكو ديال مير اندوال في كتابه ‪ De hominis dignitate‬إلى عديد املالحظات حول هذا‬
‫الشخص‪ ،‬إذ وفقا للتعليق املدرج ل ‪ ،Reich‬فإن كارمينداس هو نفسه الساحر كارونداس‪ ،‬والذي يشير إليه بليني في‬
‫‪ Plin, Nat. 30.2‬باسم تارموينداس اآلشوري‪.‬‬
‫‪- Giovanni Pico Della Mir Andola, De hominis dignitate Über die Würde des Menschen. Felix Meiner‬‬
‫‪Verlag GmbH, Hamburg 1990. pp. 79-80.‬‬
‫)‪ (158‬داميجيرون‪ .‬أتى على ذكره كوينتوس سيبتيموس فلورنس ترتليانوس القرطاجي في مؤلفه 'عن الروح'‬
‫‪- Tertull, de Anima. 57.‬‬
‫)‪ (159‬جانيس‪ .‬كان رفقة جامبريس أعظم سحرة فرعون‪ .‬عهدت لهما ابنة فرعون بموس ى لتدريسه فن السحر في سن‬
‫العاشرة‪ ،‬وهما نفسهما من اختارهما فرعون ملجابهة النبي موس ى‪.‬‬
‫‪- Albert Pietersma, The Apocryphon of Jannes and Jambres the Magicians: P. Chester Beatty XVI (with New‬‬
‫‪Editions of Papyrus Vindobonensis Greek inv. 29456 + 29828 verso and British Library Cotton Tiberius B.‬‬
‫‪v f. 87). Edited with Introduction, Translation and Commentary. With Full Facsimile of All Three Texts.‬‬
‫‪BRILL, 1 mars 1994. pp. 24-35.‬‬
‫)‪ (160‬يذكر بليني في التاريخ الطبيعي أن ديموكريتوس كان أول من أشار إلى أبولوبيكس ابن كوبتوس 'مدينة قفط‬
‫بمحافظة قنا بمصر' كواحد من أعظم السحرة عبر التاريخ‪ ،‬كذلك دردانوس الذي سعى إليجاد أعماله بالنبش في‬
‫قبره‪ ،‬وأنه كتب أعماال ً‬
‫بناء على ما وجده هناك‪.‬‬
‫‪- Plin, Nat. 30.2.‬‬

‫‪104‬‬
‫ُ‬
‫وسأثبت بما ال يدع مجاال للشك أنه لم يكن‬ ‫ُ‬
‫باشرت بها‬ ‫وسأمض ي ُق ً‬
‫دما في املرافعة التي‬
‫َ‬
‫دافع إلغواء بودونتيال للزواج باستخدام أشربة املحبة‪.‬‬
‫لدي أي ٍ‬
‫عناء كبيرا الزدراء ُعمرها وجمالها بعباراتهم الجارحة‪ ،‬وشجبوني على‬
‫لقد تجشم متهمي ً‬
‫مهر كبير منها في غرة زواجنا‪ .‬ال‬
‫زوجة بدافع الطمع في مالها وعلى استالب ٍ‬
‫ٍ‬ ‫رغبتي في هكذا‬
‫ُ‬
‫جهدك يا ماكسيموس ِب ٍرد طويل على هذه األباطيل‪ ،‬فال حاجة إلى الكلمات من‬‫أنوي أن ِ‬
‫أ‬
‫طرفي وقسيمة الزواج بحوزتنا تتحدث ببالغة أكثر مني‪ .‬سترى في تدبيري للمستقبل‬
‫وأفعالي أن ما نم عن سلوكي في ذاك الوقت كان وفقا ملا نصت عليه القسيمة تماما‪،‬‬
‫ُ‬
‫يعكس ما في ذات صدورهم من جشع‪ .‬سترى أن مهر بودونتيال كان‬ ‫وأن ما نسبوه إلي‬
‫كأمانة ال َع ِطية‪ ،‬وأن الزواج قد ُو ِثق فوق ذلك‬
‫ٍ‬ ‫زهيدا مقارنة بثروتها وأنه ُح ِول إلي‬
‫َ‬
‫بشرط‪ :‬أنه إذا ماتت زوجتي دون خ ٍ‬
‫لف مني‪ ،‬فعلى املهر البقاء عند ابنيها بونتيانوس‬
‫ً‬ ‫وبودنس‪ .‬أما إن تركت لي عند وفاتها ً‬
‫ابنة واحدة‪ ،‬فعلى املهر أن ُيقتسم بالتساوي‬ ‫ابنا أو‬
‫بين نسل الزواج األول والثاني‪.‬‬
‫‪ -92‬وكما أشرت‪ ،‬سأثبت ما ُ‬
‫قلته من قسيمة الزواج ذاتها‪ ،‬فلعل أيميليانوس ال يكاد‬
‫ُ‬
‫تكفل حق استرداده‬ ‫يصد ُق أن املبلغ اإلجمالي املسجل هو ‪ 300.000‬سيسترس‪ ،‬وأنها‬
‫وقدمها لروفينوس الذي حرضك على هذا االتهام‪.‬‬ ‫ألبناء بودونتيال‪ .‬خذ السندات بيديك ِ‬
‫فليقرأها‪ ،‬وليخجل بطبعه ْ‬
‫األصيد وشحاذته املتمادية‪ .‬فقد أمهر ابنته هو األحوج األجرد‬
‫أمهر ْت فيه بودونتيال الثرية‬
‫بأربعمائة ألف سيسترس تسلمها من مقرض‪ ،‬في الوقت الذي َ‬
‫برجل أكب على رد أغنى املورثات‪ ،‬مكتفيا بهذا‬
‫ٍ‬ ‫نفسها بثالثمائة ألف سيسترس للزواج‬
‫املهر التافه‪ ،‬مؤثرا زوجته دونه أصال‪ ،‬معتبرا الحب واالنسجام معها ُ‬
‫كنزه األوحد بل كل‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫برة في الحياة على تمرير أي استنكار إن دعت أرملة‬
‫شخص لديه أدنى ِخ ٍ‬ ‫ثروته‪ .‬أيجرؤ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫ميسورة‪ ،‬رجال شابا للزواج ال ُيعاب هيئة‬
‫ٍ‬ ‫عين وظروف‬
‫عوان لها رواة ال بأس به‪ِ ،‬بطارفة ٍ‬
‫وال همة وال ثروة؟ فالبكر الحسناء وإن كانت فقيرة‪ ،‬تحتاج مهرا كبيرا مع أنها تأتي‬
‫لزوجها بسجي ٍة عفوية‪ ،‬بسحر جمالها والشرف الذي ال تشوبه شائبة‪ .‬فحقيقة كونها‬
‫خيار‪ ،‬فما من ش يء‬ ‫ُ‬
‫عذراء ينظر إليها عن حق وجدارة من كل األزواج على أنها أفضل ٍ‬

‫‪105‬‬
‫يمكنك متى شئت‪ ،‬لغاية في نفسك‪ ،‬أو هجران من طرفك‪ ،‬رده‬ ‫َ‬ ‫كمهر من زوجتك‬ ‫ُ‬
‫تتلقاه‬
‫ٍ‬
‫وتهجر البيت ُوتخلي املمتلكات‪ .‬البكارة‬
‫ُ‬ ‫استلمته‪ :‬تدفع األموال ُوت ُ‬
‫رجع العبيد‬ ‫ُ‬ ‫كامال كما‬
‫ُ‬
‫يصادره الزوج من املهر‬ ‫وحدها يستحيل ردها بمجرد إعطائها‪ ،‬وهي الجزء الوحيد الذي‬
‫ُ‬
‫تجلب شيئا ال‬ ‫لألبد‪ .‬أما الثيب حين تنفصل عنك‪ ،‬فهي تتركك كأمس الدابر‪ ،‬إذ ال‬
‫بريبة في منزلها‬
‫تنظر ٍ‬ ‫ُ‬ ‫يسعها استرجاعه‪ ،‬ثم هي بال شك غير طيعة لك في ما تريد‪ ،‬فهي‬
‫ْ‬
‫فقدت حليلها بفعل‬ ‫الجديد‪ ،‬وهي نفسها ُتثير الريبة بفعل افتراقها عن زوج سابق‪ ،‬فإن‬
‫املوت فإن الفأل السيئ ِل َجم ِعها العاثر يجعلها غير مرغوب فيها‪ ،‬وإن تخلصت منه‬
‫َ‬
‫وقحة‬
‫ٍ‬ ‫بالطالق فإن فيها عيبا من اثنين‪ :‬إما أنها كانت شموسا فطلقها زوجها أو ِجد‬
‫قدم األرامل ً‬ ‫ُ‬
‫مهرا أكبر لجذب الخاطبين لهن‪ ،‬وما‬ ‫لدرجة تطليقه‪ .‬ألسباب كهذه وأخرى ت ِ‬
‫ً‬
‫كان لبودونتيال إال أن تنسج على منوالهن لو لم تجد فيلسوفا غير ُم ٍ‬
‫كترث بمهرها‪.‬‬

‫رغبت فيها بدوافع الجشع فما الذي سيكون أجدى في مسعاي‬ ‫‪َ -93‬فكر في هذا األمر‪ .‬لو ُ‬
‫ِ ِ‬
‫َ‬
‫فأنتبذها بمعز ٍل‬
‫طع آصرتها بأبنائها ِ‬ ‫ألتسيد بيتها أكثر من بث الشقاق بين األم وابنيها‪ ،‬وق ِ‬
‫عل اللص‬ ‫اليسر ومطلق االستئثار؟ هكذا يمكن أن يكون أليس كذلك‪ِ ،‬ف ُ‬ ‫عن ذويها ببالغ ُ‬
‫ً‬
‫ابتناء ألسانيد‬ ‫صعب وذلو ٍل‬ ‫بت في حقيقة األمر كل‬ ‫الذي تدعي أنني ذلك‪ .‬والحال أني رك ُ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫عداوات بل أخمدت تماما ما‬ ‫ُ‬
‫السكينة واأللفة والوئام‪ ،‬وما تورعت فحسب عن زرع‬
‫ٍ‬
‫ُ‬
‫استرطت آنذاك ثروتها‬ ‫ُ‬
‫دعوت زوجتي ‪ -‬والتي‬ ‫غائالت‪ .‬وفوق ذلك‬ ‫صف بالبيت من‬ ‫َع َ‬
‫ٍ‬
‫ألححت عليها وصوال إلقناعها عندما َ‬
‫نشد أبناؤها استعادة‬ ‫ُ‬ ‫بالكامل كما أكد متهمي ‪-‬‬
‫ُ‬
‫تحدثت عنها آنفا بتسديد املبلغ كامال دفعة واحدة في هيئة مزارع بقيمة‬ ‫األموال التي‬
‫َب ِخسة وبالسعر املقترح من ِقبلهم فضال على التنازل عن بعض األراض ي الخصبة للغاية‬
‫كبيرة من القمح والشعير‬
‫ٍ‬ ‫من ملكيتها الخاصة‪ ،‬عن منزل شاسع مزخرف بأناقة وكمي ٍة‬
‫كبير‬
‫وعدد ٍ‬
‫ٍ‬ ‫والنبيذ والزيت وغيرهم من ثمار األرض مع ما ال يقل عن أربعمائة من العبيد‬
‫أقنعتها ختاما بالتنازل عن كل املطالب في الحصة التي‬‫ُ‬ ‫من رؤوس املاشية القيمة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫آت في ما تبقى من التركة‪ .‬كل هذه التنازالت‬ ‫أعطتهم إياها وملنحهم آماال طيبة في يوم ٍ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫انتزعتها من بودونتيال بمشقة وضد مشيئتها ‪ -‬أنا أحدثكم بعد إذنها عما حدث فعال‬ ‫التي‬

‫‪106‬‬
‫ُ‬
‫أصلحت ما بين األم‬ ‫سلبتها إياها بمناشدتي امللحة رغما عن ُسخطها وإعراضها‪ .‬وهكذا‬ ‫‪ُ -‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وبدأت حياتي كزوج أ ٍم بإثراء هرلي بمبلغ كبير من املال‪.‬‬ ‫وأبنائها‬

‫‪ -95‬بلغ األمر مسامع الجميع في أويا‪ ،‬وطاب ذكري على األلسن التي نالت من روفينوس‪.‬‬
‫ردى عند‬‫أتى بونتيانوس رفقة أخيه األصغر لعيادتنا قبل إتمام والدتهم لعطيتها‪َ .‬ت َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أقدامنا وناشدنا أن نغفر ونتغاض ى عن جميع إساءاته السابقة ذارفا الدموع ُ‬
‫ومقبال‬
‫أيدينا ُ‬
‫ومعربا عن ندمه لالستماع إلى روفينوس وأمثاله‪ .‬كما أنه ترجاني بكل احتشام أن‬
‫ُ‬
‫أوصيت به إليه قبل مدة‬ ‫أرفع عنه الحرج أمام املوقر لوليانوس أفيتوس والذي ُ‬
‫كنت قد‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫كتبت إلى أفيتوس قبل بضعة‬ ‫وجيزة عندما استهل دراسة الخطابة‪ ،‬فقد اكتشف أني‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫كامال لكل ما جرى‪ .‬لب ُ‬ ‫أيام ً‬
‫وأعطيته رسالة انطلق بها إلى قرطاج‪،‬‬ ‫يت له طلبه أيضا‬ ‫سردا‬
‫أين كان لوليانوس أفيتوس الذي انتهت تقريبا فترة واليته في انتظار وصولك يا‬
‫ماكسيموس‪ .‬ما أن قرأ رسائلي‪ ،‬هنأ بونتيانوس بالكياسة الراقية التي تمي ُزه دوما ألنه‬
‫معرفة! يا له من ذكاء! أي نعمة‬ ‫برد‪ .‬آه! يا لها من‬ ‫َ‬
‫ٍ‬ ‫سارع بتصويب خطئه‪ ،‬وع ِهد إليه ٍ‬
‫ُ‬
‫كتابته‪ .‬أنا أعلم يا‬ ‫ُ‬
‫يمكنه‬ ‫يكمن في ذلك الجواب! إال 'رجل فاضل وخطيب' من‬ ‫وسحر ُ‬
‫ِ ٍ‬
‫َ‬
‫سمحت بقراءتها‬ ‫ماكسيموس أنك ستلقي السمع إلى هذه الرسالة عن طيب خاطر‪ .‬فإن‬
‫ُ‬
‫حملتها بإطرائي‪ ،‬ستبادلني‬ ‫ُ‬
‫غمرتها كلما‬ ‫فسألقيها بلساني‪ .‬ناولني رسالة أفيتوس‪ ،‬فإن‬
‫اليوم بأكثر من ذلك إلى حد إبرائي! يمكنك السماح للساعة املائية باالستمرار‪ ،‬ألني‬
‫سأقرأ وأكرر بكل سرور خطاب ذلك الرجل املتميز للمرة الثالثة والرابعة وإن ُ‬
‫تك تكلفة‬
‫َ‬
‫در من الوقت املتاح لي‪( .‬تتم قراءة الرسالة)‬
‫ذلك أي ق ٍ‬

‫تزكية أكبر‬
‫ٍ‬ ‫أي‬‫أعلم أن الواجب ُيلزمني بإنهاء خطابي بعد قراءة هذه الرسالة‪ُّ .‬‬‫‪ -95‬أنا ُ‬
‫دفاع أكثر فصاحة أرتجيه في‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫لشخص ي‪ُّ ،‬‬
‫شهادة أوثق يمكن أن أقدمها في نصرتي‪ ،‬أي ٍ‬
‫ٍ‬ ‫أي‬
‫عجب‬‫أصغيت في مشوار حياتي إلى العديد من الرومان املصاقع ولكني لم ُأ َ‬
‫ُ‬ ‫صفي؟ لقد‬
‫ِ‬
‫بأحد هكذا بقدر أفيتوس‪ .‬ما من أحد في رأيي يملك باعا في الخطابة أو ُ‬
‫ينشد نصيبا منها‬ ‫ٍ‬
‫ََ‬ ‫َ َُ‬
‫وحسد‪ ،‬فقد اجتمعت‬ ‫ٍ‬ ‫إال وشاقه أن يبلغ منزلة أفيتوس إن قارن نفسه به دون أث ٍرة‬
‫حوله كل الروائع املختلفة للخطابة‪ .‬ما من خطاب يؤلفه أفيتوس إال وكان مثاليا ً‬
‫تماما‬

‫‪107‬‬
‫وكامال من جميع جوانبه ألن ُيرض َي كاتو بوقاره(‪ ،)161‬اليليوس ِب ِرقته(‪ ،)162‬غراكيس‬
‫َ‬ ‫ب َحيويته(‪ ،)163‬قيصر َ‬
‫بح ِميته(‪ ،)164‬هورتينسيوس ِبنسقه(‪ ،)165‬كالفوس ِب َمغزاه(‪،)166‬‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫سالوست ِبتدبيره(‪ )167‬وشيشرون ِب َجزالته(‪ .)168‬باملختصر املفيد‪ ،‬حتى ال أخوض في كل‬

‫(‪ )161‬كاتو‪ .‬من أعظم خطباء روما‪ .‬يقول شيشرون‪" :‬بالنسبة لكاتو‪ ،‬أين ستجد خطيبا حديثا يترفع عن القراءة له؟‬
‫كال‪ ،‬بل علي القول‪ ،‬من ذا الذي ال يملك أدنى معرفة به؟ ومع ذلك‪ ،‬بحق اآللهة! يا له من رجل رائع ! أنا ال أتحدث‬
‫عن جدارته كمواطن‪ ،‬كعضو في مجلس الشيوخ وجنرال‪ ،‬بل علينا أن نحصر اهتمامنا بالخطيب‪ .‬فمن ذا الذي فاقه‬
‫وقارا كمادح؟ أو أشد منه صرامة كمت ِهم؟ أو أكثر براعة في مستهل أحاسيسه؟ أو أكثر إتقانا وبراعة في خطبه‬
‫ونقاشاته؟ ومع أنه ألف أكثر من مائة وخمسين خطبة (والتي رأيتها وقرأتها) إال أنها مكتظة بكل جمال اللغة واملشاعر"‪.‬‬
‫‪- Cicero, Brutus. 65.‬‬
‫(‪ )162‬اليليوس‪ .‬وصف شيشرون أسلوب الخطابة لديه باللطف‪.‬‬
‫‪- Cicero, de Oratore. Book III. 7. 28.‬‬
‫(‪ )163‬تيبريوس سيمبرونيوس غراكيس‪ .‬اشتهر بخطبه النارية وطريقته في اإللقاء‪.‬‬
‫‪- Ibid., 56. 214.‬‬
‫عيوب لعادة سيئة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫(‪ )164‬يقول شيشرون في بروتوس‪" :‬لكن قيصر‪ ،‬الذي كان يسترشد بقواعد الفن‪ ،‬قام بتصحيح‬
‫بتبني قواعد وتحسينات جديدة‪ ،‬أين وجدها من حين آلخر تستعرض نفسها في غمرة محادثة مهذبة‪ .‬وبناء على هذا‬
‫األمر‪ ،‬ومن أجل أنقى بالغة في الخطابة‪ ،‬أضاف مختلف جواهر البالغة بحيث يبدو أنه يكشف عن أفضل لوحة في‬
‫أفضل وجهة نظر‪ .‬وبما أنه يتمتع بهذه امليزة غير العادية حتى في األسلوب العام للغته‪ ،‬علي أن أعترف بأنه ال يوجد‬
‫شخص أعرفه‪ ،‬قد نسلم له باألفضلية عليه ‪."...‬‬
‫‪- Cicero, Brutus .261.‬‬
‫(‪ )165‬يقول شيشرون في بروتوس‪" :‬لكن عبقرية هورتينسيوس برزت حتى في مقتبل شبابه‪ ،‬وكأنه واحد من تماثيل‬
‫فيدياس‪ ،‬ما أن تراءت حتى أضحت موضع إعجاب الجميع‪ .‬ألقى أولى خطبه في فترة قنصلية كراسوس وسكايفوال‬
‫عاما فقط‪ ،‬إال أنه‬ ‫سنة ‪ 95‬ق‪.‬م‪ ،‬والتي وجهت إليه شخصيا‪ ،‬ومع أنه كان في ذلك الوقت يبلغ من العمر تسعة عشر ً‬
‫حض ي بعبارات االستحسان القوية إلى حد بعيد ليس فقط من الجمهور بشكل عام‪ ،‬ولكن من القناصلة أنفسهم"‪.‬‬
‫‪- Ibid., p. 229.‬‬
‫(‪ )166‬يقول شيشرون في بروتوس‪" :‬لكن دعونا نعود إلى كالفوس الذي ذكرناه للتو‪ ،‬الخطيب الذي تلقى تحسينات‬
‫أدبية أكثر من كوريو‪ ،‬وكان لديه أسلوب بالغ اإلتقان والدقة في الحديث‪ ،‬والذي قاده بذوق وأناقة رائعين ‪."....‬‬
‫‪- Ibid., p. 283.‬‬

‫(‪ )167‬في تدبير سالوست‪ ،‬التاريخ ليس تدوين ما حدث‪ ،‬بل إجابة عن بالغة ما حدث‪.‬‬
‫‪- Erik Gunderson, the Cambridge Companion to Ancient Rhetoric. Cambridge University Press, 9 juil.‬‬
‫‪2009. p. 221.‬‬
‫(‪ )168‬شيشرون‪ .‬من أعظم الخطباء في التاريخ‪ُ .‬درب في صباه على تقنيات الخطابة الرائجة آنذاك ‪Genus Orationis‬‬
‫‪ ،Asiaticum‬بعدها‪ Rhodian School ،‬على يد مولو سليلة هيرماغوراس‪ ،‬ثم طوره إلى أسلوب ‪ Attic‬بتبنيه ألسلوب‬
‫ديموسثنس‪.‬‬
‫‪- Marcus Tullius Cicero, Cicero Pro Planco: Edited With Introduction And Notes By H W. Auden, M.A.‬‬
‫‪MacMilian And Co. Limited, London 1897.‬‬

‫‪108‬‬
‫َ‬
‫ترغب في تقويم أي ش يء بإضافة أو سحب أو‬ ‫بت في سماع أفيتوس فلن‬‫مزاياه‪ :‬إن َ غ َ‬
‫رِ‬
‫ُ‬
‫تدرك‬ ‫ُ‬
‫تستمع إلى سرد الفضائل التي‬ ‫سرور‬ ‫تغيير ما يقوله‪ .‬أنا أرى يا ماكسيموس بأي‬
‫ٍ‬
‫ُ‬
‫بأن صديقك أفيتوس يمتلكها‪ .‬ومع أن ابتهاجك دعاني لقول بضع كلمات عنه‪ ،‬إال أني‬
‫خطاب عن فضائله االستثنائية في هذه‬
‫ٍ‬ ‫لن أتجاوز دماثتك لحد أن أسمح لنفس ي ببدء‬
‫ُ‬
‫استنفذت قواي تقريبا‪ .‬سأحتفظ على‬ ‫املرحلة من القضية‪ ،‬فهي توشك على النهاية وقد‬
‫ليوم يكون فيه وقتي متاحا وجسدي مرتاحا‪.‬‬
‫األحرى بالثناء على مناقب أفيتوس ٍ‬
‫ُ‬
‫‪ -96‬أما اآلن فعلي‪ ،‬وإن حز في نفس ي ذلك‪ ،‬أن أنحرف لزوما عن وصف رجل عظيم‬
‫ملناقشة هذه الرفقة الكريهة هنا‪ .‬أتجرؤ إذن يا أيميليانوس على جعل نفسك ًّندا‬
‫ألفيتوس؟ أتهاجم ِب ُتهم السحر والفن األسود من يصفه أفيتوس بالرجل الصالح‪،‬‬
‫دفعك سبب أكبر لالستياء بسبب شق طريقي‬‫َ‬ ‫ُ‬
‫ويمتدح عريكته بكل حمية في جوابه؟ أو‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫تجاه منزل بودونتيال ِبصريمة ون ِ‬
‫هب خيراتها بأكثر مما أتيح لبونتيانوس الذي في حضوري‬
‫َ‬
‫وأعرب‬ ‫َ‬
‫نزغت بيننا بضعة أيام‪،‬‬ ‫وحتى أمام أفيتوس في غيابي أعاد األمور لنصابها بعدما‬
‫َ‬ ‫عن عرفانه لي بالفضل في حضرة رجل عظيم للغاية؟ حتى وإن قر ُ‬
‫أت تقريرا عما حدث‬
‫ً‬
‫في حضور أفيتوس بدال من رسالته‪ ،‬ما الذي يوجد في املسألة ِب ُرمتها ما يمكن أن‬
‫ً‬ ‫يمنحك َ‬
‫شخص غيرك ُعروة التهامي؟ إذ كان بونتيانوس يعتبر نفسه مدينا لي‬
‫ٍ‬ ‫أنت أو أي‬
‫ُ‬
‫ويبتهج في دخيلته بحظه الجيد لكوني زوج أمه‪ .‬آه! كم‬ ‫في املال َّ‬
‫املقدم له من والدته‪،‬‬
‫كنت آمل لو أنه عاد من قرطاج ساملا معافى! أو طاملا قض ى القدر في أمره‪ ،‬كم ُ‬
‫كنت آمل‬ ‫ُ‬
‫سمم ُحكمه في النهاية! ُّ‬ ‫ُ‬
‫عر َب عنه تجاهي إما بنفسه أو عبر وصيته!‬ ‫ُ‬
‫امتنان كان لي ِ‬
‫ٍ‬ ‫أي‬ ‫أال ت ِ‬
‫ومع ذلك بالنظر إلى حال األمور‪ ،‬فأنا أناشدك يا ماكسيموس ‪ -‬فلن يستغرق األمر مطوال‬
‫َ‬
‫أرسل لي‬ ‫تسمح بقراءة هذه الرسائل املليئة بعبارات االحترام واملودة تجاهي‪ ،‬والتي‬‫َ‬ ‫‪ -‬أن‬
‫بعضا منها من قرطاج والبعض مما خطه على مقربة في رحلة عودته إلى الوطن‪ً ،‬‬
‫بعضا‬
‫مما َ‬
‫كتب وهو ال يزال يتمتع بصحته والبعض عندما تملكه املرض بالفعل‪ .‬هكذا يدرك‬
‫شقيقه مت ِهمي‪ ،‬كم خاب في دراساته أمام شقيقه طيب الذكر‪( .‬تتم قراءة رسائل‬
‫بونتيانوس)‬

‫‪109‬‬
‫َ‬
‫أسمعت األلفاظ التي انتقاها أخوك بونتيانوس في حديثه عني؟ لقد دعاني بوالده‪،‬‬ ‫‪-97‬‬
‫سيده‪ ،‬معلمه‪ ،‬ليس فقط في مناسبات مختلفة في حياته بل حتى في فراش موته‪ُ .‬‬
‫كنت‬
‫كنت أراها تستحق إضاعة ولو‬ ‫ألفعل نفس الش يء بتقديم رسائل مماثلة تخصك لو ُ‬

‫ض وصية أخيك األخيرة ‪ -‬حتى وإن كانت غير‬ ‫برهة من الزمن‪ ،‬لكني أفضل أن ُت َ‬
‫عر َ‬
‫مكتملة ‪ -‬والتي خصني فيها بأعظم عبارات البر واالحترام‪ .‬لكن روفينوس لم يسمح ً‬
‫أبدا‬
‫َ ُ‬
‫ستكمل بسبب استيائه من فقدان امليراث والذي رآه من‬ ‫َ‬ ‫لهذه الوصية بأن ُتصاغ أو ت‬
‫منظور الجزاء السخي على أحضان ابنته طيلة األشهر التي ُ‬
‫اعت ِبر فيها حمو بونتيانوس‪.‬‬
‫الربح الذي ستجلبه إليه‬
‫فقد استشار من قبل بعض العرافين الكلدانيين بشأن ِ‬
‫(‪)169‬‬

‫ابنته التي رآها بمثابة استثمار‪ ،‬إذ تنبؤوا كما أخبروني ‪ -‬ويا ليت ِشعري ما صدقوا ‪ -‬بأن‬
‫زوجها األول سيموت في غضون بضعة أشهر‪ ،‬كما كانت بقية النبوءة التي تتحدث عن‬
‫امليراث مفبركة كالعادة لتناسب أمنيات زبائنهم‪ .‬لكن روفينوس فغر فاه على فريسته‬
‫عبثا‪ ،‬كوحش بري أصابه العمى‪ .‬فما اكتفى بونتيانوس بحرمان ابنة روفينوس من‬
‫امليراث بعدما اكتشف خستها‪ ،‬بل َحرمها حتى من ميراث محترم‪ .‬فقد َ‬
‫أورثها من باب‬
‫ُ‬
‫سقط اسمها سهوا أو إهماال‪ ،‬بل قدرها‬‫اإلهانة كتانا بقيمة ‪ 200‬ديناري ُليظهر أنه لم ي ِ‬
‫بهذه القيمة تعبيرا عن غيظه‪ .‬وحدد كورثة له ‪ً -‬‬
‫تماما كما في الوصية املذكورة سلفا‬
‫والتي تمت قراءتها بصوت عال ‪ -‬والدته وشقيقه‪ ،‬والذي‪ ،‬وهو مجرد صبي‪َ ،‬‬
‫جلب من‬ ‫ٍ‬
‫أجله روفينوس كما ترون‪ ،‬سالحه القديم لتحريك األمور‪ :‬أنا ُ‬
‫أشير إلى ابنته التي يدفعها‬
‫قريب زوجة أخيه‪.‬‬ ‫ُ‬
‫عهد ٍ‬‫إلى أحضانه على الرغم من أنها تكبره سنا‪ ،‬وكانت إلى ٍ‬

‫(‪ )169‬اعتمد الكلدانيون في معتقداتهم الخرافية على علم التنجيم‪ ،‬إذ يقدر أنهم أول من الحظوا األجرام السماوية‬
‫بانتظام‪ ،‬ولذا أصبحت تسمية 'كلدانية' بعد ذلك مرادفة للفلكيين‪ .‬أسسوا بتأمالتهم علم التنجيم‪ ،‬واستخدموا‬
‫مهارتهم املزعومة في هذا الفن‪ ،‬في ارتقاب املواليد والتنبؤ بالحظ الجيد والسيئ وعديد األغراض األخرى‪.‬‬
‫‪- H. John Lewis, The Merits of Protestantism Demonstrated by the Character of Man: Embracing the‬‬
‫‪Topography of His Residence at Various Periods of His Existence, from the Earliest Recorded Time to the‬‬
‫‪Present Century, Volume 3. New York: Published and For Sale by C. Welford. No. 7 Astor House 1851. p.‬‬
‫‪52.‬‬

‫‪110‬‬
‫َ‬
‫وأهوس بمفاتن تلك العاهرة وبالكلمات الخادعة‬ ‫لب‬ ‫ُ َ‬
‫‪ -98‬لقد كان بودنس ِجد مست ٍ‬
‫للديوث والدها‪ ،‬لدرجة أنه ارتحل من ْ‬
‫فوره إلى منزل عمه بعد أن لفظ أخوه أنفاسه‬
‫األخيرة تاركا والدته‪ .‬فقد عمدوا على قطع واشجتنا به حتى يتأتى لهم القيام باملخططات‬
‫التي ابتدؤوها كون أيميليانوس يدعم روفينوس ويشتهي نجاحه‪( .‬حركة بين الجمهور)‬
‫آه! طوبى لكم! أنتم تذكرونني بحق أن هذا العم العزيز لديه آمال من الزج بنفسه في‬
‫دار بأن هذا الصبي إن قض ى نحبه دون وصية فسيكون وريثه ِب ُحكم‬‫هذه القضية‪ ،‬ألنه ٍ‬
‫القانون‪ ،‬أيا كان من زاوية العدالة‪ .‬ما كان هذا ِل ُيفلت مني أبدا‪ ،‬لو ما صدني واجب‬
‫التحفظ دوما عن إفشاء الشكوك الصامتة والتي تخطر على بال الجميع‪ .‬لقد أوقعتم‬
‫أصدقنا القول إن َ‬
‫كنت صدوقا‪ ،‬فقد تساءل الكثيرون‬ ‫أنفسكم في حيص بيص‪ .‬لكن‪ِ ْ ،‬‬
‫بدأت ُتظهرها يا أيميليانوس لهذا الصبي منذ وفاة شقيقه‬
‫َ‬ ‫عن املودة املفاجئة التي‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫فشلت ِمرارا في التعرف على‬ ‫بونتيانوس‪ ،‬بينما كنت في السابق غريبا عنه لدرجة أنك‬
‫وجه ابن أخيك ولو صادفته‪ .‬لكنك اآلن تتعاطى معه بأناة ُوتفسده للغاية بتساهلك‬
‫وتستجيب لكل نزواته إلى الحد الذي يجعل سلوكك أكثر إثارة للشكوك في شبهات تستند‬
‫َ‬
‫وبشدة على مبررات قائمة‪ .‬أخذته منا مجرد صبي وسلمته في الحال مقاليد األمور‪ .‬اعتاد‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫بعيد وجرف‬
‫أمد ٍ‬ ‫قاطع الدراسة منذ ٍ‬ ‫تحت وصايتنا التردد على الكتاب‪ ،‬أما اآلن فقد‬
‫ُ‬
‫نفسه مللذات الحانة‪ .‬يحتقر األصدقاء الجادين ويقض ي ‪ -‬صبي ِمثله ‪ِ -‬ج َّن شبابه في‬
‫العربدة مع أكثر الشباب املنبوذ وسط العاهرات وأقداح النبيذ‪ .‬يدير منزلك ويأمر‬
‫عبيدك ويشرف على الوالئم الخاصة بك‪ .‬ز ٌ‬
‫ائر كثير التردد على مدرسة املجالدين‪ ،‬وهناك‬
‫القيم على املدرسة أسماء املصارعين‪،‬‬ ‫َ ُ‬
‫‪ -‬ما يجب أن يبدر من صبي ذي منزلة! ‪ -‬يتعلم من ِ‬
‫َ‬
‫املعارك التي خاضوها‪ ،‬الجروح التي تلقوها‪ .‬ال يتحدث أبدا ِبغير البونية‪ ،‬ومع أنه يتلفظ‬
‫أحيانا بمفردة إغريقية ملتقطة من والدته‪ ،‬لن يقوم أو حتى يقدر على الحديث‬
‫َ‬
‫وأصغيت البن زوجتي ‪ -‬يا للعار! ‪-‬‬ ‫َ‬
‫استمعت قبل فترة وجيزة يا ماكسيموس‬ ‫بالالتينية‪.‬‬
‫شقيق ذلك الشاب البليغ بونتيانوس‪ ،‬بالكاد استطاع التلفظ بمقطع واحد عندما‬
‫وهب ْتهم إياها ِب ُجهد‬ ‫َ‬
‫سألته إن أعطته والدته هو وشقيقه الهبات التي أخبرتكم للتو بأنها َ‬
‫ِ‬
‫جهيد مني‪.‬‬
‫ٍ‬

‫‪111‬‬
‫‪ -99‬ولذا فأنا أدعوك يا كلوديوس ماكسيموس‪ ،‬وأنتم يا حضرة مستشاريه‪ ،‬وأنتم الذين‬
‫ُ‬
‫تقفون معي في هذه املحكمة‪ ،‬لتشهدوا على أن دنية هذا الصبي في األخالق تعزى إلى‬
‫ً‬
‫ابتداء من اليوم نعمة أن‬ ‫عمه هذا‪ ،‬ولذاك املرشح لشرف مصاهرته‪ ،‬وأني سأعتبرها‬‫ِ‬
‫مثل هذا االبن قد رفع عبء اإلشراف عليه من أكتافي‪ ،‬وأني لن أشفع له من اآلن‬
‫ُ‬
‫ناضلت مطوال في اآلونة األخيرة حتى أثني بودونتيال التي كانت‬ ‫فصاعدا مع والدته‪ .‬فقد‬
‫َ‬
‫حرم هذا‬‫تكتب وصيتها بعدما تدهورت حالتها برحيل ابنها بونتيانوس عنها‪ ،‬حتى ال ت ِ‬
‫ُ‬
‫ناشدتها‬ ‫الصبي من حقه في امليراث بسبب اإلهانة والجروح الفظيعة التي أثخنها بها‪.‬‬
‫ُ‬
‫الجدية إلسقاط ذلك البند الخطير‪ ،‬والذي‪ ،‬وأنا أشهد اآللهة على قولي‪،‬‬
‫بأقص ى قدر من ِ‬
‫رفضت املثول‬ ‫خطت بالفعل كل كلمة منه! بل بلغ بي األمر حد تهديدها بهجرها إن َ‬
‫اللتماس ي وتضر ُ‬
‫عت لها أن تمنحني هذه ا ِملنة حتى تغلب إساءة ابنها باإلحسان وتعفيني‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫طلبته منها‪.‬‬ ‫من كل البغضاء التي ستنجم عن ِف ِعلها‪ .‬فلم أكف عنها حتى امتثلت ملا‬
‫أسفي على نفس ي وما فعلت‪ ،‬فقد كان علي أن أصقل طريق أيميليانوس بنفس ي وأعرض‬
‫عليه دربا للثروة ما كان ليخطر على باله أبدا‪ .‬الحظ يا ماكسيموس‪ ،‬شاهد كيف ارتبك‬
‫لدى سماعه باألمر‪ ،‬أبصر كيف يهوي بعينيه أرضا‪ .‬ما كان يتوقع هذا األمر مطلقا‪ ،‬إذ‬
‫كان يدري بتأثر زوجتي بسلوك ابنها الوقح‪ ،‬وتعلقها بي على تفاني وإخالص ي‪ .‬وكان ٌ‬
‫سبب‬
‫َ‬
‫يطمع في‬ ‫آخر يدفعه أيضا للتوجس مني‪ :‬فال أحد حتى وإن كان مثلي أسمى من أن‬
‫امليراث‪ ،‬يأبى رؤية عقاب هر ٍل عاق كهذا‪ .‬لقد قادهم الجزع قبل كل ش يء التهامي‪،‬‬
‫ُ‬
‫وساقهم شح أنفسهم للتخمين خطأ بأن كل امليراث قد ُت ِرك لي‪ .‬ومادام األمر يتعلق‬
‫باملاض ي‪ ،‬سأضع حدا لكل هواجسكم‪ .‬فما زعزعتني فتنة إثراء نفس ي واالنتقام لها على‬
‫خاصمت من أجل ابن زوجتي العاق والدته بقدر ما‬‫ُ‬ ‫حد سواء‪ ،‬لعلمكم أني زوج األم‪،‬‬
‫ٍ‬
‫كنت ألشعر بالرضا‬‫صلبه‪ ،‬بل ما ُ‬ ‫يمكن للوالد خصومة زوجة األب ملصلحة ابن من ُ‬
‫ٍ‬
‫ُ َ‬
‫وبإحساس مفرط بالعدل واإلنصاف إلى أن كبحت كرم زوجتي السخي تجاهي‪.‬‬
‫ُ‬
‫دفعت بنفس ي‪ ،‬أنا اللص الذي‬ ‫‪ -100‬سلمني الوصية التي خطتها األم البنها الجاحد‪ ،‬فقد‬
‫ُ‬
‫يزعمون‪ ،‬كل كلمة منها بمناشدتي واستعطافي‪ .‬أؤمر بأن ُتفتح الصفائح يا ماكسيموس‪،‬‬

‫‪112‬‬
‫ُ‬
‫تافه أدرج من باب الرمزية‪،‬‬
‫إرث ٍ‬‫ستجد ابنها هو وريثها‪ ،‬وأني ال أحصل على ش يء عدا ٍ‬
‫حتى ال يغيب اسمي ‪ -‬كوني زوجها ‪ -‬عن وصية زوجتي إن حدث وأن سلمت أمرها لعلة‬
‫ما‪ .‬خذ وصية أمك‪ .‬أنتم على حق فهذا يعتبر نكرانا‪ ،‬بحرمان زوجها الذي كرس نفسه‬
‫لخدمتها لتوص ي بكل امليراث البن مناوئ لها؟ بل ولم يكن حتى ابنها الشخص الذي‬
‫للجشع أيميليانوس والى العراب روفينوس‬ ‫عه ْ‬
‫دت له بكل ثروتها‪ ،‬بل تخلت عنها باألحرى‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫وتلك الشرذمة من السكارى التي تحوم حواليك وتقتات منك‪ .‬خذها يا خيرة األبناء! ضع‬
‫جانبا رسائل أمك الغرامية واقرأ وصيتها عوضا عن ذلك‪ ،‬فإن َك ْ‬
‫تبت أي ش يء آناء‬
‫ً‬

‫فقدانها لصوابها ستجده هنا‪' .‬ليكن ابني سيكينيوس بودنس هو وريثي'‪ .‬أنا أقر بذلك!‬
‫ُ‬
‫سيعتبره ضربا من الجنون‪ .‬أوريثك هذا االبن الذي حاول في مأتم شقيقه‬ ‫من يقرأ هذا‬
‫طردك خارج البيت الذي أعطي ِته له بنفسك بمعية عصابة من أراذل الشباب‪ ،‬والذي‬
‫بجعلك من أخيه شريكة له في امليراث‪ ،‬والذي سارع إلى هجرك حين قطع‬
‫ِ‬ ‫ضاقت نفسه‬
‫وناص إلى أيميليانوس وروفينوس عن حضنك‪ ،‬والذي‬ ‫َ‬ ‫الحزن والحداد نياط قلبك‬
‫وضعك موضع إهانة بما قاله بنفسه وبما لفقه بعون عمه‪ ،‬والذي جر اسمك إلى‬
‫محاكم القانون‪ ،‬والذي حاول صراحة ودون تحفظ استخدام رسائلك للقدح في‬
‫وكنت ‪ -‬كما عاب عليك‬
‫ِ‬ ‫عرضك‪ ،‬والذي وجه تهمة عقوبتها اإلعدام للزوج الذي اجتبي ِته‬
‫بودنس بنفسه ‪ -‬مجنونة بحبه! افتح الوصية يا بني الطيب‪ ،‬افتحها أرجوك‪ .‬فبذلك‬
‫سيكون أسهل عليك إثبات جنون والدتك‪.‬‬

‫هاجس حول ميراثك من ثروة‬ ‫لم ترتد عائدا؟ لم ترفض النظر إليها وقد تحر َ‬
‫رت من كل‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أمك؟‬

‫‪ -101‬قد يفعل ما يحلو له يا ماكسيموس‪ ،‬أما من جتهي فأنا ألقي هذي األلواح ِقبل‬
‫ُ‬
‫تكتبه بودونتيال في وصيتها‪ ،‬فبوسعه‬ ‫قدميك وأدعوك لتشهد أني لن أبالي إطالقا بما قد‬
‫أن يتقرب بنفسه من والدته في قادم األيام‪ ،‬فقد حال دون أن أترافع من أجله مجددا‪.‬‬
‫هو اآلن رجل وولي أمره‪ ،‬فليملي بنفسه بنود وصية غير مستطابة على والدته وليصرف‬
‫اض ال‬ ‫ُ‬
‫غضبها بعيدا‪ .‬فالذي يرافع في املحكمة‪ ،‬بوسعه الترافع مع والدته‪ .‬أنا أكثر من ر ٍ‬

‫‪113‬‬
‫ُ‬
‫استأصلت تماما ذلك الحقد املشحون في‬ ‫ملجرد نسف االتهامات التي طالتني‪ ،‬بل ألني‬
‫التهمة التي استندت عليه املحاكمة بأكملها‪ ،‬وهي محاولة تأمين امليراث لنفس ي‪.‬‬

‫قاطع زيف تلك التهمة األخيرة قبل أن أختم مرافعتي‪ ،‬فأنا ال أرغب في‬
‫بدليل ٍ‬
‫ٍ‬ ‫سأكشف‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫اشتريت مزرعة فاخرة للغاية باسمي‪ ،‬ولكن‬ ‫تجاوز أي ش يء في صمت‪ .‬لقد أكدتم أني‬
‫بمبلغ طائل من املال يخص زوجتي‪ .‬أنا أصرح بشراء عقار صغير من بودونتيال وباسمها‬
‫مقابل ‪ 60.000‬سيسترس ولم أكن شاريه أنا‪ ،‬وأن اسم بودونتيال في صك البيع وأن‬
‫املكس على األرض ُيدفع باسمها‪ .‬يحضر بيننا في املحكمة املحترم كورفينوس سيلير وهو‬
‫ُ‬
‫يحضر أيضا الوص ي على زوجتي والقيم على منزلها‬ ‫الجابي الذي تدفع له الضريبة‪،‬‬
‫ُ‬
‫أذكره بكل وقار‪ .‬سله يا‬ ‫ٌ‬
‫أصيل كريم املحتد‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫شخص‬ ‫كاسيوس لونجينوس وهو‬
‫ُ‬
‫ماكسيموس عن الصفقة التي ك ِلف بتسويتها؟ وعن قيمة املبلغ التافه الذي اشترت به‬
‫هذه السيدة الثرية عقارها الصغير‪( .‬كاسيوس لونجينوس وكورفينوس سيلير يقدمان‬
‫الدليل)‬
‫ُ‬
‫هل األمر كما قلت؟ هل ورد اسمي في أي موضع من صك البيع؟ هل على الثمن املدفوع‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫مقابل عقار تافه كهذا أن َ‬
‫أدركت من زوجتي نواال ولو‬ ‫يدفع أحدا للتحامل علي؟ بل هل‬
‫بقيمة تافهة كهذه؟‬
‫أدحضه في رأيك؟ ما الذي ُ‬
‫كنت ألناله من سحري‬ ‫ُ‬ ‫‪ -102‬ما الذي تبقى يا أيميليانوس ولم‬
‫حتى يقودني في محاولة الظفر ببودونتيال الستخدام أشربة املحبة؟ ما الذي ُ‬
‫غنمته؟ مهر‬
‫ٌ‬
‫عجيب أمر تعاويذي! بأن توص ي بمهرها ألبنائها بدل ائتمانه في‬ ‫زهيد بدال من آخر كبير؟‬
‫عرض بإلحاحي معظم ملكيتها على أبنائها دون أن‬ ‫حوزتي؟ أي سحر يفوق هذا؟ أأن َت َ‬
‫سخاء قبل زواجها بي؟ أي إساءة‬
‫ٍ‬ ‫تبد تجاههم أي‬
‫تترك لي شيئا على الرغم من أنها لم ِ‬
‫هذه ألشربة املحبة! أو ربما كان من األجدر أن أسميه جودا لم يقطف ثماره! أأن تجعل‬
‫في وصيتها التي أعدتها في نوبة من السخط الشديد تجاه ابنها‪ ،‬نفس االبن الذي‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫تخاصمت معه وريثا لها‪ ،‬بدال مني أنا الشخص الذي كانت تحبه! أأن أقنعها بشق‬
‫األنفس وبالرغم من تعاويذي على فعل هذا األمر! تصوروا أنفسكم ال تترافعون في‬
‫‪114‬‬
‫قضيتكم أمام رجل يتمتع بأقص ى قدر من اإلنصاف والعدالة الراسخة مثل كلوديوس‬
‫منحرف ومتعصب ينحاز بطبعه للمت ِهم وكان مستعدا تماما‬
‫ٍ‬ ‫ماكسيموس‪ ،‬بل أمام قاض‬
‫إلدانة املت َهم! امنحوه مجرد أثر يتبعه! امنحوه أدنى فرصة معقولة للحكم في صالحكم!‬
‫لفقوا ً‬
‫شيئا ما على األقل‪ ،‬ابتكروا بعض اإلجابات املالئمة على ما ُيطرح عليكم من‬
‫أسئلة‪ .‬ما دام كل تصرف يستوجب وجود دافع ما‪ ،‬أجيبوني على هذا‪ :‬تقولون إن‬
‫أبوليوس حاول التأثير على قلب بودونتيال بطالسم سحرية‪ ،‬أجيبوني! ما الذي ابتغاه منها‬
‫بإقدامه على هذا األمر؟ هل ُ‬
‫أفت ِتن بجمالها؟ أنتم تنفون ذلك! هل اشتهى ثروتها؟ الدليل‬
‫في قسيمة الزواج ينفي هذا‪ ،‬الدليل في سند العطية ينفي هذا! الدليل في الوصية ينفي‬
‫كبحت كرم زوجتي فحسب‪ ،‬بل إني صددته بحدة نوعا ما‪ .‬أي‬ ‫ُ‬ ‫هذا! هو ال يبين أني‬
‫دوافع أخرى يمكنكم أن تتذرعوا بها؟ لم ال تنطقون؟ لم هذا الوجوم؟ ما الذي أصاب‬
‫تلك الجسارة التي افتتحتم بها الئحة االتهام والتي صيغت باسم ابن زوجتي؟ 'أيها املوقر‬
‫ُ‬
‫عزمت أن أتهمه أمامك'‪.‬‬ ‫ماكسيموس‪ ،‬هذا هو الرجل الذي‬

‫‪ -103‬ملاذا لم ُت ِضف 'من أتهمه هو معلمي‪ ،‬زوج أمي وشفيعي عندها؟'‪ .‬لكنك انتهجت‬
‫قدم واحدة من أعمال‬
‫دربا آخر في ذلك؟ 'هو مذنب بأكثر أعمال السحر وضوحا وتعددا'‪ِ .‬‬
‫السحر هذه على األقل أو بعض الحاالت املشكوك فيها من هذه التي تصفها بالفاضحة‪.‬‬
‫َ‬
‫بل شاهد إن لم ت ِسعني كلمتان لنسف كل اتهاماتك‪' :‬أنت تنظف أسنانك' النظافة‬
‫ُ‬
‫مبررة‪' .‬أنت تنظر في املرايا' حري بالفالسفة‪' .‬أنت تكتب ُنظما' أمر مباح‪' .‬أنت تفحص‬
‫السمك' اتبع أرسطو‪' .‬أنت تعبد قطعة من الخشب' كذلك أفالطون‪' .‬تزو َ‬
‫جت امرأة'‬
‫َ‬
‫'تزوجت من أجل املال'‪ .‬خذ الصداق‪ ،‬تذكر‬ ‫التزم بالقانون‪' .‬إنها أكبر منك' أمر شائع‪.‬‬
‫العطية‪ ،‬اقرأ الوصية!‬

‫كنت بعيدا عن كل‬‫نسفت بكل افتراءاتهم‪ ،‬إن ُ‬


‫ُ‬ ‫ُ‬
‫دحضت كل اتهاماتهم كلمة بكلمة‪ ،‬إن‬ ‫إن‬
‫انتفلت مما أشيع من ُت ٍهم في الستر والعلن‪ ،‬إن لم أفعل ما يضر بشرف‬ ‫ُ‬ ‫شبهة‪ ،‬إن‬
‫الفلسفة والتي هي أعز علي من سالمتي‪ ،‬بل أصبت بالعكس ورك وفخذ خصمي وقهرته‬
‫َ‬
‫في كل النقاط‪ ،‬إن كان الصواب خ ِدين حججي فأنا أرتقب تقديرك ألمري بقدر الثقة التي‬

‫‪115‬‬
‫ُ‬
‫أضعها وأنا أترقب منك ممارسة سلطتك‪ .‬فإنه ألهون علي وأخف ضيرا أن أدان من‬
‫البروقنصل على أن أتكبد إدانة رجل بمثل فضلك واستقامتك‪.‬‬

‫‪116‬‬

You might also like