Professional Documents
Culture Documents
التأويل عند الفخر الرازي
التأويل عند الفخر الرازي
التأويل عند الفخر الرازي
زبيدة بن اسباع.د
1 جامعة باتنة
Zebida.bensbaa@univ-batna.dz
:الملخص
، يرتبط التأويل غالبا بالمجاز وهو عند الفخر الرازي تكامل بين العقل والنقل
، وظهرت هذه العالقة نتيجة لما شهده عصره من صراع بين العقليين ممثلين بالمعتزلة
ليظهر فريق آخر يحول التوفيق بينهما يمثله، والنقليين ممثلين في أهل السنة والجماعة
وكان الرازي أحد حاملي لواء التوفيق بين العقل والنقل خصوصا في تفسيره مفاتيح، األشاعرة
. وهذا ما حاولنا تتبعه في هذا المقال للكشف عن رؤيته التأويلية، الغيب
73
العدد 81 ISSN 2335-1667 مجلة آلاداب والعلوم إلانسانية
toreconcile the two former teams.This is what we have tried to follow in this
article to reveal Razi's visionary interpretation.
Keywords: metaphor, truth, interpretation,raison, text
بالرجوع إلى مفهوم التأويل نستخلص أنه فعل قرائي يهدف إلى بناء المعنى من
خالل أدوات،ومرجعيات ،وقواعد تلتزم حدود البالغة التأويلية ؛ وهي في التراث العربي
اإلسالمي مبنية على بالغتي االرتداد الفعال نحو المرجع المؤطر :الديني ،واللغوي،
والتاريخي ،واالجتماعي ،وبالغة االمتداد في اتجاه استقصاء المعنى ،وتكوينه ،وما يرتبط
بذلك من اجتهادات ،وفروض ،وتخمينات فيما لم يرد فيه نص بإيجاد روابط بين النص
وسياقاته المختلفة ،وصرف الظاهر إلى الباطن.
وقد كان الفخر الرازي صاحب قلم جريء في طرحه فكرة التأويل في تفسيره الكبير،
وخاصة في مناقشة المحكم والمتشابه ،ونقد الفرق الدينية التي مالت آراؤها إلى التجسيم؛ فكان
المفسر صاحب لسان بليغ ،وحجة دامغة امتزجت فيها ثقافة النقل بثقافة العقل «وكانت
خالصة رأيه أن القرآن الكريم وجه إلى الناس كافة ،فلو كان كله محكما لما كان مطابقا إال
لمذهب واحد .ووجود المحكم والمتشابه يجعل لكل مذهب أمال في النظر فيه واالنتفاع به،
ووجود المحكم والمتشابه يجعل النظر في القرآن الكريم ،وتدبره ،واالستدالل عليه واجبا يخرج
الناظر من ظلمة التقليد إلى ضياء االستدالل والحجة ،وما في ذلك من االستعانة بتحصيل
وهذا يجعل من التأويل ()1
علوم كثيرة؛ من علم اللغة ،والنحو واصول الفقه ،وطرق الترجيح»
رافدا هاما في حوار خالق ومثير ألنه حقيقة موجودة ،وكل موجود له معنى ،والمعنى في
النهاية تخيل لجهد إنساني نابع من الذات مخترق لعالم اللغة المقصود (.)2
)-(1أمان سليمان (4141هـ4991-م) ،التصور اللغوي عند االمام فخر الدين الرازي ،ص .83
73
العدد 81 ISSN 2335-1667 مجلة آلاداب والعلوم إلانسانية
وحيث عجزت األلفاظ بظاهر معناها عن تحديد الداللة المناسبة تطلب األمر
«ولما ثبت بالدالئل اليقينية وجوب ()3
حضور المجاز ،وحيث حضر المجاز هيمن التأويل
تنزيه اهلل تعالى عن التجسيم ،فنقول ذكر العلماء في لفظ اليد وجوها؛ (األول) أن اليد عبارة
عن القدرة ،تقول العرب مالي بهذا األمر من يد ،أي من قوة وطاقة ،قال تعالىَ ﴿ :ي ْعفَُو الَِّذي
الن َكا ِح﴾ (( ،)4الثاني) عبارة عن النعمة ،يقال أيادي فالن في حق فالن ظاهرة؛ ِب َي ِد ِه ُع ْق َدةُ ِّ
والمراد النعم ،والمراد باليدين النعم الظاهرة والباطنة أو نعم الدين والدنيا( ،الثالث) أن لفظ اليد
شًار َب ْي َن
قد يزاد للتأكيد كقول القائل لمن جنى باللسان هذا ما كسبت بذاك وكقوله تعالىُ ﴿ :ب ْ
ي َر ْح َم ِت ِه﴾(.)6(»)5فتتجاوز المعاني المتعلقة بلفظة اليد حدود المعنى المعجمي والتفسير َي َد ْ
لتكون جزًء من التأويل المتعلق بالمجاز ،فهي القدرة ،والنعمة ،كما أن التعبير باليد مظهر من
مظاهر التعبير عن تأكيد التأثير.
فرأى أن اهلل منزه عن كونه جسما يستوعبه المكان وتحده الجهات ،وما يؤكد ذلك هو
«أنه تعالى قال﴿ :فَأ َْي َن َما تَُولُّوا فَثََّم َو ْج ُه اللَّ ِه﴾ ( )7ولو كان اهلل تعالى جسما وله وجه جسماني
لكان وجهه مختصا بجانب معين وجهة معينة ،فما كان يصدق قوله﴿ :فَأ َْي َن َما تَُولُّوا فَثََّم َو ْج ُه
اللَّ ِه﴾ ( )8فلما نص اهلل تعالى على ذلك علمنا أنه تعالى منزه عن الجسمية ،فرأى المفسر أن
إثبات الوجه لذاته ينتفي مع السياق الوارد فيه ،إذ ال يمكن للوجه إال أن يكون محاذيا لجهة
دون أخرى ،لذلك استدعى الفخر الرازي أداة مناسبة لتوجيه الداللة ،أال وهي التأويل ،فقال:
«فإذن ال بد فيه من التأويل ،وهو من وجوه (األول) أن إضافة وجه اهلل كإضافة بيت اهلل وناقة
78
العدد 81 ISSN 2335-1667 مجلة آلاداب والعلوم إلانسانية
اهلل ،والمراد منها اإلضافة بالخلق واإليجاد على سبيل التشويق ،فقوله﴿ :فَأ َْي َن َما تَُولُّوا فَثََّم َو ْج ُه
اللَّ ِه﴾( )9أي فثم وجهه الذي وجهكم إليه ألن المشرق والمغرب له بوجهيهما ،والمقصود من
القبلة إنما يكون قبلة لنصبه تعالى إياها؛ فأي وجه من وجوه العالم المضاف إليه بالخلق
واإليجاد نصبه وعينه فهو قبلة( ،الثاني) :أن يكون المراد من الوجه القصد والنية قال الشاعر:
ثم يمد الفخر الرازي جس ار يقرب من خالله بين التفسير والتأويل فيقول« :واعلم أن
هذا التفسير صحيح في اللغة إال أن الكالم يبقى ،فإنه يقال لهذا القائل :فما معنى قوله تعالى:
02
العدد 81 ISSN 2335-1667 مجلة آلاداب والعلوم إلانسانية
يعبد بها ،أو ثم رحمته ونعمته وطريق ثوابه والتماس مرضاته( ،والجواب عن الثاني) وهو أنه
وصف نفسه بكونه واسعا فال شك أنه ال يمكن حمله على ظاهرة واال لكان متجزئا متبعضا
السعة في القدرة والملك ،أو على أنه واسع
فيفتقر إلى الخالق ،بل ال بد وأن يحمل على ّ
العطاء والرحمة ،أو على أنه واسع اإلنعام ببيان المصلحة للعبيد لكي يصلوا إلى رضوانه،
ولعل هذا الوجه بالكالم أليق ،وال يجوز حمله على السعة في العلم ،واال لكان ذكر العليم بعده
يم﴾ ( )17في هذا الموضع فكالتهديد ليكون المصلي على حذر من ِ
تك اررا ،فأما قوله ﴿ َعل ٌ
التفريط من حيث يتصور أنه تعالى يعلم ما يخفي وما يعلن وما يخفى على اهلل من شيء،
يم﴾ ( )18أنه تعالى ِ ِ
فيكون متحذ ار عن التساهل ،ويحتمل أن يكون قوله تعالىَ ﴿ :واسعٌ َعل ٌ
واسع القدرة في توجيه ثواب من يقوم بالصالة على شرطها ،وتقيه عقاب من يتكاسل عنها»
( . )19فكان الوصف محموال على وجه المجاز على وجه العموم في سعة العطاء ،وسعة العلم،
وسعة االطالع على ما ظهر وما خفي .
اتبع الفخر الرازي خطة منطقية ،ومنهجا حجاجيا دقيقا في إثارة الجدل بين اللفظ
المتمثل في الحروف المقطعة التي استفتحت بها السورة ومعانيها ،فاستهل موضوع فكرته
بعرض الرأي القائل بأن تلك الفواتح من المستور الذي استأثر اهلل بها ،فعلق على « :قوله
وما يجري مجراه من الفواتح قوَّلن؛أحدهما :أن هذا علم مستور وسر ()20
تعالى﴿ :الم﴾
سر
محجوب استأثر اهلل تبارك وتعالى به ،وقال أبو بكر الصديق -رضي اهلل عنه(-هلل كتاب ٌّ
06
العدد 81 ISSN 2335-1667 مجلة آلاداب والعلوم إلانسانية
وسره في القرآن أوائل السور) ،وقال -رضي اهلل عنه( :-إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا
ُّ
الكتاب حروف التهجي) ،وقال بعض العارفين :العلم بمنزلة البحر فأجرى منه واد ثم أجري
منه النهر ،ثم أجري من النهر جداول ،ثم أجرى من الجداول ساقية ،فلو أجرى إلى الجدول
ذلك الوادي لغرقه وأفسده ،ولو سال البحر إلى الوادي ألفسده ،وهو المراد من قوله تعالى:
سالَ ْت أ َْوِد َي ٌة ِبقَ َد ِرَها﴾ ( ،)21فبحور العلم عند اهلل تعالى ،فأعطى ﴿أَ ْن َز َل ِم َن َّ ِ
اء فَ َ
الس َماء َم ً
الرسل منها أودية ثم أعطت الرسل من أوديتهم أنها ار إلى العلماء ،ثم أعطت العلماء إلى
العامة جداول صغا ار قدر طاقتهم ،ثم أجرت العامة سواقي إلى أهاليهم بقدر طاقتهم ،وعلى
هذا ما روي في الخبر للعلماء سر ،وللخلفاء سر ،ولألنبياء سر ،وللمالئكة سر ،وهلل بعد ذلك
كله سر»( ،)22ثم يستأنف قوله « فلو اطلع الجهال على سر العلماء ألبادوهم ،ولو اطلع
العلماء على سر الخلفاء لنفوهم ،ولو اطلع الخلفاء على سر األنبياء لخالفوهم ،ولو اطلع
األنبياء على سر المالئكة ال تهموهم ،ولو اطلع المالئكة على سر اهلل تعالى لطاحوا حائرين،
وباءوا حائرين ؛ والسبب في ذلك أن العقول الضعيفة ال تحتمل األسرار القوية كما ال يحتمل
نور الشمس أبصار الخفافيش ،فلما زيدت األنبياء في عقولهم قدروا على احتمال أسرار النبوة،
ولما زيدت العلماء في عقولهم قدو ار على احتمال أسرار ما عجزت العامة عنه ،وكذلك علماء
الباطن ،وهم الحكماء زيد في عقولهم فقدروا على احتمال ما عجزت عنه علماء الظاهر وسئل
الشيعى عن هذه الحروف فقال :سر اهلل فال تبطلوه ،وروي أبو طبيان عن ابن عباس قال:
عجزت العلماء عن إدراكها ،وقال الحسين ابن الفضل" :هو من المتشابه"» (.)23
بعد عرض المفسر هذه األفكار قال« :اعلم أن المتكلمين أنكروا هذا القول وقالوا ال
يجوز أن يرد في كتاب اهلل تعالى ما ال يكون مفهوما للخلق ،واحتجوا عليه باآليات واألخبار
والمعقول»(.)24ليترك بعدها الجملة ،ويأتي إلى تفصيل الحجج معتمدا النقل عن القرآن الكريم،
والحديث النبوي الشريف قبل االحتجاج بالمعقول؛ أما فيما يتعلق بحجة القرآن الكريم فقد
أحصى الفخر الرازي اآليات المحتج بها عند المتكلمين فقال« :أما اآليات فأربعة عشر؛
أمر بالتدبر في القرآن، ()25 َن أ َْم َعلَى ُقلُ ٍ
وب أَ ْقفَالُ َها﴾ ون ا ْلقُْرآ َ
أحدها قوله تعالى﴿ :أَفَ ََل َيتَ َدب َُّر َ
ان
َن َولَ ْو َك َ
ون ا ْلقُ ْرآ َ
ولو كان غير مفهوم فكيف يأمرهم بالتدبر فيه ،وثانيها قوله﴿ :أَفَ ََل َيتَ َدب َُّر َ
ير﴾( )26فكيف يأمرهم بالتدبر فيه لمعرفة نفي اخ ِت ََلفًا َك ِث ًا
يه ْ ِم ْن ِع ْن ِد َغ ْي ِر اللَّ ِه لَوج ُدوا ِف ِ
ََ
ِ َّ
التناقض واالختالف مع أنه غير مفهوم للخلق؟ وثالثها قولهَ ﴿ :وِان ُه لَتَ ْن ِزي ُل َر ِّب ا ْل َعالَم َ
ين َنَز َل
ان َع َرِب ٍّي ُم ِب ٍ ون ِم َن ا ْلم ْن ِذ ِر َ ِ ين َعلَى َق ْل ِب َك لِتَ ُك َ الروح ْاْل ِ ِ
ين﴾( ،)27فلو لم يكون سٍ ين ِبل َ ُ َم ُ ِبه ُّ ُ
ِ ٍ ()28
ان َعَرِب ٍّي ُمبين﴾ ِ
سٍ مفهوما بطل كون الرسول صلى اهلل عليه وسلم منذرا ،وأيضا قولهِ ﴿ :بل َ
يدل على أنه نازل بلغة العرب ،واذا كاناألمر كذلك وجب أن يكون مفهوما ،و (رابعا) قوله:
ستَ ْن ِبطُوَن ُه ِم ْن ُه ْم﴾( ،)29االستنباط منه ال يمكن إال اإلحاطة بمعناه ،و(خامسا) ين َي ْ ﴿لَ َعلِ َم ُه الَِّذ َ
ش ْي ٍء﴾( ،)31وسادسها قوله: اب ِم ْن َ ط َنا ِفي ا ْل ِكتَ ِ
ش ْي ٍء﴾( )30وقولهَ ﴿ :ما فََّر ْقولهِ ﴿ :ت ْب َيا ًنا لِ ُك ِّل َ
ين﴾( )32وغير المعلوم ال يكون هدى ،وسابعهاِ ﴿ :ح ْك َم ٌة َبالِ َغ ٌة فَ َما تُ ْغ ِن ﴿ ُه ًدى لِ ْل ُمتَّ ِق َ
ين﴾( ،)34وكل هذه الصفات ور َو ُه ًدى َوَر ْح َم ٌة لِ ْل ُم ْؤ ِم ِن َ اء لِ َما ِفي ُّ
الص ُد ِ ِ
الن ُذ ُر﴾ ،وقولهَ ﴿ :وشفَ ٌ ُّ
()33
07
العدد 81 ISSN 2335-1667 مجلة آلاداب والعلوم إلانسانية
اب ُي ْتلَى َعلَ ْي ِه ْم إِ َّن ِفي َذلِ َك لََر ْح َم ًة َوِذ ْكَرى ِ ِ
وتاسعها قولهَ ﴿ :ولَ ْم َي ْكف ِه ْم أ ََّنا أَ ْن َزْل َنا َعلَ ْي َك ا ْلكتَ َ
ون﴾( ،37»)36ثم تساءل المفسر «وكيف يكون الكتاب كافيا وكيف يكون ذكرى مع لِقَ ْوٍم ُي ْؤ ِم ُن َ
اس ولِي ْن َذروا ِب ِه ولِيعلَموا أ ََّنما ُهو إِلَ ٌه و ِ ِ َّ
اح ٌد َ َ َ َ َْ ُ أنه غير مفهوم؟ وعاشرها قوله تعالىَ ﴿ :ذا َب ََلغٌ للن ِ َ ُ ُ
اب﴾( )38فيكون بالغا ،وكيف يقع اإلنذار به أنه غير معلوم؟ وقال في آخر َولِ َي َّذ َّك َر أُولُو ْاْلَ ْل َب ِ
اب﴾ ( )39وانما يكون كذلك لو كان معلوما ،الحادي عشر قوله: اآليةَ ﴿ :ولِ َيتَ َذ َّك َر أُولُو ْاْلَ ْل َب ِ
ور﴾ ( )40فكيف يكون برهنا ونو ار مبينا مع أنه غير ان ِم ْن َرِّب ُك ْم َوأَ ْن َزْل َنا إِلَ ْي ُك ْم ُن ًا
اء ُك ْم ُب ْرَه ٌ
﴿قَ ْد َج َ
شقَى ﴾ ( )41فكيف يمكن اتباعه ض ُّل َوََّل َي ْ معلوم؟ والثاني عشر قوله﴿ :فَم ِن اتَّبع ُه َداي فَ ََل ي ِ
َ َ ََ َ
()42 ِ ِ َّ
َن َي ْهدي للتي ه َي أَق َْوُم﴾ِ ِ ِ
واإلعراض عنه غير معلوم؟ (الثالث عشر)﴿ :إ َّن َه َذا ا ْلقُ ْرآ َ
سو ُل ِب َما أُْن ِز َل إِلَ ْي ِه ِم ْن َرِّب ِه الر ُ
َم َن َّ فكيف يكون هاديا مع أنه غير معلوم؟ (الرابع عشر)﴿ :آ َ
س ِم ْع َنا
سله َوقَالُوا َ
ق ب ْي َن أَح ٍد ِم ْن ر ِ ِ
ُُ َ سله ََّل ُنفَِّر ُ َ
ون ُك ٌّل آَم َن ِباللَّ ِه وم ََل ِئ َك ِت ِه و ُكتُِب ِه ور ِ ِ
َُ ُ َ ََ َ َوا ْل ُم ْؤ ِم ُن َ
َوأَطَ ْع َنا﴾ ( )43والطاعة ال تمكن إال بعد الفهم فوجب كون القرآن مفهوما» (.)44
00
العدد 81 ISSN 2335-1667 مجلة آلاداب والعلوم إلانسانية
بعد احتجاج الفخر الرزي بالقرآن الكريم والحديث النبوي من مصادر النقل لم يهمل
حجة العقل ولغة المنطق فقال« :أما المعقول فمن وجوه (أحدهما) :أنه لو ورد شيء ال سبيل
إلى العلم به لكانت المخاطبة مجرى مخاطبة العربي باللغة الزنجية ،ولما لم يجز ذلك فكذا
هذا ،وثانيها أن المقصود من الكالم اإلفهام ،فلو لم يكن مفهوما لكانت به عبثا وسفها ،وأنه ال
يليق بالحكم( ،وثالثها) أن التحدي وقع بالقرآن ،وما ال يكون معلوما ال يجوز وقوع التحدي به،
فهذا مجموع كالم المتكلمين» (.)45
وبطريقة سلسلة ال تقطع فيها يذيل الفخر الرازي الفقرة السابقة بقوله« :واحتج
مخالفوهم باآلية والخبر المعقول» ()46؛ إنه تعقّب دون ترقب؛ فكرة بفكرة وحجة بحجة ،وآية
نظير آية ،وخبر إيزاء خبر ،وعقل مقابل عقل ،وبالوتيرة نفسها ،وبالنظام ذاته ،يستأنف الفخر
الرازي عرض احتجاج مخالفي المتكلمين باآليات قائال« :وأما اآليات فهو أن المتشابه من
القرآن غير معلوم ،لقوله تعلىَ ﴿ :و َما َي ْعلَ ُم تَأ ِْويلَ ُه إََِّّل اللَّ ُه﴾( ،)47والوقف ههنا واجب لوجوه
ون ِفي ا ْل ِع ْلِم﴾( ،)48لو كان معطوفا على قوله ﴿ :إََِّّل اللَّ ُه اس ُخ َالر ِ
(أحدها) أن قوله تعالىَ ﴿ :و َّ
متقطعا عنه وأنه حائز ألنه وحده ال يفيد ،ال يقال أنه َم َّنا﴾
ون آ َ
لبقيَ ﴿ :يقُولُ َ
()50 ()49
﴾
حالألنا نقول حينئذ يرجع إلى كل ما تقدم ،فيلزم أن يكون اهلل تعالى قائال آمنا به كل من عند
ربنا ،وهذا كفر ،و(ثانيها) أن الراسخين في العلم هم كانوا عالمين بتأويله لما كان لتخصصهم
باإليمان به وجه ،فإنهم لما عرفوه بالداللة لم يكن اإليمان به إال كاإليمان بالمحكم ،فال يكون
في اإليمان به مريد مدح( ،وثالثها) أن تأويلها لو كان مما يجب أن يعلم لما كان طلب ذلك
ش َاب َه ين ِفي قُلُوِب ِه ْم َزْيغٌ فَ َيتَِّب ُع َ
ون َما تَ َ َما الَِّذ َ
التأويل ذما ،لكن جعله تعالى ذنبا حيث قال﴿ :فَأ َّ
اء تَأ ِْويلِ ِه﴾(.)52(»)51فكانت اآلية األولى حجة مؤكدة أن التأويل من ِ ِ ِ
اء ا ْلفتْ َنة َو ْابت َغ َ
ِ ِ
م ْن ُه ْابت َغ َ
العلوم التي استأثر بها اهلل ،وطلب ذاك التأويل مذموم بنص اآلية األخيرة.
فبعد منهج تفسير القرآن؛ وتأويل القرآن بالقرآن ،يأتي منهج تفسير القرآن وتأويله
باألثر فقال الفخر الرازي في شأن االحتجاج بالخبر دعما للفكرة القائلة بنفي المعنى عن
الحروف المقطعة «وأما الخبر فقد روينا في أول المسألة خب ار يدل على قولنا ،وروى أنه -
عليه السالم قال( :-أن من العلم كهيئة المكنون ال يعلمه إال العلماء باهلل ،فإذا نطقوا به أنكره
أهل الغرة باهلل)؛ وألن القول بأن هذه الفواتح غير معلومة مروي عن أكابر الصحابة فوجب أن
يكون حقا ،لقوله -عليه السالم( :-أصحابي بأيهم اقتديتم اهتديتم)»( .)53روى الفخر الرازي
في هذا الموضع عن الرسول _ صلى اهلل ليه وسلم _ إن من العلوم ما جاء متست ار ال يعلمه
إال العالمون بذاته الجليلة ،فإن كشفوا ذلك للناس أنكره عليهم أهل العزة باهلل؛ وهم العصاة
الذين يتمادون في طلب المعصية .وانه لم يشك في نص المفسر أن الصحابة _ رضوان اهلل
عليهم _ فسروا فواتح السور المقطعة .فانتفى وجود معنى محدد لها يستمسك به السلف
والتابعون سنة قولية استجابة لحديث الرسول _ صلى اهلل عليه وسلم _ الذي حدثنا عن اتباع
سنته و سنة صحابته .
لينتقل المفسر إثر هذه الحجة إلى الحجة الموالية ،وهي حجة العقل قائال« :وأما
المعقول فهو أن األفعال التي كلفنا بها قسمان ،منها ما تعرف وجه الحكمة فيها على الجملة
بعقولنا كالصالة والزكاة والصوم؛ فإن الصالة تواضع محض تضرع للخالق ،والزكاة سعي في
دفع حاجة الفقير ،والصوم سعي في كسر الشهوة ،ومنهاجا ال تعرف وجه الحكمة فيه :كأفعال
الحج فإننا ال نعرف بعقولنا وجه الحكمة في رمي الحجرات ،وال ّسعي بين الصفا والمروة ...،ثم
اتفق المحققون على أنه كما يحسن من اهلل تعالى أن يأمر عباده بالنوع األول فكذا يحسن
01
العدد 81 ISSN 2335-1667 مجلة آلاداب والعلوم إلانسانية
األمر منه بالنوع الثاني ،ألن الطاعة في النوع األول ال تدل على كمال االنقياد الحتمال أن
المأمور إنما أتى به لما عرف بعقله من وجه المصلحة فيه ،أما الطاعة في النوع الثاني فإنه
ثم مضى الفخر الرازي يذكر تعميم االنقياد بما يفهم وبما لم ()54
على كمال االنقياد والتسليم»
يفهم ،كما تحقق فيما عرفت فيه الحكمة منه وما لم تعرف فقال« :ألنه لما لم يعرف فيه وجه
مصلحة البتة لم يكن إتيانه به إال بمحض االنقياد والتسليم ،فإذا كان كذلك في األفعال فلم ال
يجوز أيضا أن يكون األمر كذلك في األقوال؟ وهو أن يأمرنا اهلل تعالى تارة أن تتكلم بما تقف
على معناه ،وتارة بما ال تقف على معناه ،ويكون المقصود من ذلك ظهور االنقياد والتسليم
من المأمور لآلخر» (.)55
يستأنف الفخر الرازي نصه مبينا فائدة أخرى تحمل وقع المجهول في النفس أبلغ من
وقع المعلوم حيث قال« :بل فيه فائدة أخرى ،وهي أن اإلنسان إذا وقف على المعنى وأحاط
به سقط وقعه عن القلب ،واذا لم يقف على المقصود مع قطعه بأن المتكلم بذلك أحكم
الحاكمين فإنه يبقى قلبه ملتفتا إليه أبدا ،ومتفك ار فيه أبدا ،ولباب التكليف إشغال السر بذكر
اهلل تعالى والتفكير في كالمه ،فال يبعد أن يعلم اهلل تعالى أن في نقاء العبد ملتفت الذهن
منشغل الخاطر بذلك أبدا مصلحة عظيمة له ،فيتعبد بذلك تحصيال لهذه المصلحة ،فهذا
ملخص كالم الفريقين في هذا الباب» (.)56
إن المتأمل فيما ختم به الفخر الرازي تعليقه على الرأيين؛ الرأي األول القائل بنفي
فكرة المعنى عن الحروف المقطعة ،والرأي الثاني القائل بضرورة ارتباط المعنى باللفظ ،يجد
تلخيصا لكالم الفريقين ،والواضح -أيضا -أن الفخر الرازي
ً أن الجملة تعبر عن كون الحجج
قد نظر في المسألة بحسب ما تقتضيه طبيعة البرهان ،والدقيق أنه تبني نوعا من أنواع
الحجاج ،وهو (القياس الجدلي) الذي تكون إحدى مقدمتيه احتمالية ،أو كلتا مقدمتيه
(–)54الفخرالرازي،مفاتيحالغيب.7/6،
( - )55المصدر نفسه.7/6 ،
)-(56المصدرالسابق .27/6
03
العدد 81 ISSN 2335-1667 مجلة آلاداب والعلوم إلانسانية
إن طريقة تفسير الفخر الرازي لهذه الحروف المقطعة تستحضر أطراف الخطاب
الثالثة القرآن الكريم ،وبالتحديد الحروف المقطعة وهي الخطاب ،والمرسل وهو الذات العظيمة
اهلل عز وجل ،والمتلقي في هذا المقام مفسرون مؤولون اتفقوا على إعجاز القرآن وبالغته؛
واختلفوا في تحديد تقرير المعنى أو نفيه ،كما اختلفوا أيضا في تحديد تقرير المعنى أو نفيه،
كما اختلفوا أيضا في تحديد الداللة الدقيقة لهذه الحروف التي مثلت لغة قرآنية متميزة حيرت
األفهام وأثارت العقول فراحوا يبحثون في خباياها عن أسرار الخطاب المعجز ،ويبدو أن
طريقة طرح الفخر الرازي للفكرة ومعالجتها تجعل القارئ يعيش جوا حواريا ،بل حجاجيا
متأجحا في جدل يحاول أصحابه االنتصار لفكرتهم بوسائل مختلفة ،منها المنقول عن القرآن
الكريم ،وهو منهج تفسير القرآن بالقرآن ،ومنها المنقول عن أخبار الرسول صلى اهلل عليه
وسلم وصحابته وهو منهج تفسير القرآن باألثر ،ومنها المعقول الذي يعكس عظمة الخالق
الذي توج اإلنسان بنعمة العقل وأنعم عليه بالذكاء فجسد منهج االجتهاد ،وهو التفسير بالرأي.
ومن المواطن التي أثار فيها الفخر الرازي أمر الحقيقة والمجاز هو تسبيح الجبال
س َّخ ْرَنا ٱ ْل ِج َبالَ َم َع ُهۥ ِ
اب إَِّنا َ
الوارد في قوله _عز وجل_َ ﴿ :وٱ ْذ ُك ْر َع ْب َد َنا َد ُاوۥ َد َذا ْٱْل َْيدإَِّن ُهۥٓ أ ََّو ٌ
ش َراق﴾( .)59إن نظير قوله تعالى (يسبحن) قولهََٰ ﴿ :ي ِج َبا ُل أ َِّوِبى س ِّب ْح َن ِبٱ ْل َع ِش ِّى َو ِْ
ٱْل ْ ُي َ
( - )57ينظر :ابتسام بن خراف( ،)6262الخطاب السياسي في كتاب "اإلمامة والسياسة" ،ابن قتيبة –
دراسة تداولية -بحث مقدم لنيل درجة دكتوراه العلوم في اللغة ،مخطوط جامعة باتنة ،ص ،673
( - )58أبو بكر العزاوي(6063هـ6223-م) ، ،الخطاب والحجاج ،األحمدية للنشر (الرباط) ،ط ،6ص
.63
) -(59سورة ص.63 ،63/73 ،
03
العدد 81 ISSN 2335-1667 مجلة آلاداب والعلوم إلانسانية
وقد ذكر المفسر في شأن ذلك وجوها :أما الوجه األول فقد حمله على ()60
َم َع ُهۥ َوٱلطَّ ْي َر﴾
التفسير فقال(« :األول) أن اهلل سبحانه وتعالى خلق في جسم الجبل حياة وعقال وقدرة ومنطقا
ُّهۥ لِ ْل َجَب ِل﴾( )61فإن معناه
وحينئذ صار الجبل مسبحا هلل تعالى ونظيره قوله تعالىَ ﴿ :فلَ َّما تَ َجلَّ َٰىَرب ُ
أنه تعالى خلق في الجبل عقال وفهما ،ثم خلق فيه رؤية اهلل تعالى»( )62وفي هذا الوجه حمل
للفظ على الحقيقة وهو في تصوري أمر مستبعد ،واألقرب في مثل هذا المقام هو حمل اللفظ
على التأويل كما جاء في الوجه «(الثاني) في التأويل ما رواه القفال في تفسيره أنه يجوز أن
يقال إن داوود عليه السالم قد أوتي من شدة الصوت وحسنه ما كان له في الجبال دوي
حسن ،وما يصغى الطير إليه لحسنه فيكون دوي الجبال وتصويت الطير معه واصغاؤه إليه
وهذا الوجه من ()63
تسبيحا ،حتى كان إذا ق أر الزبور دنت منه الوحوش حتى يأخذ بأعناقها»
التأويل الذي جعل الصوت الحسن لسيدنا داوود معجزة إذ أن الطبيعة بجبالها وطيروها
ووحوشها خشعت لعظمة الخالق الذي ذلل مخلوقاته لتردد صدى صوت سيدنا داوود _عليه
السالم_ ،وهو المعنى األقرب معنى من الوجه األخير الذي قال في شأنه المفسر« :أن اهلل
سبحانه سخر الجبال حتى أنها كانت تسير إلى حيث يريده داوود وجعل ذلك السر تسبيحا
ألنه كان يدل على كمال قدرة اهلل تعالى وحكمته»( .)64وهذا وجه آخر من وجوه االنقياد.
ومما حضر فيه التأويل ما جاء ذكره في تفسير كلمة (تراب)؛ حيث ذكر الفخر
اف ُر َيا لَ ْيتَِني ُك ْن ُ
ت تَُر ًابا﴾ ( )65ففيه وجوه (أحدها) أن يوم الرازي أن «قوله تعالى﴿ :ويقُو ُل ا ْل َك ِ
ََ
القيامة ينظر المرء أي شيء قدمت يداه ،أما المؤمن فإنه يجد اإليمان والعفو عن سائر
08
العدد 81 ISSN 2335-1667 مجلة آلاداب والعلوم إلانسانية
ثم يقال لها بعد المحاسبة( :كوني ترابا) فيتمنى الكافر ()74
من القرناء ()73
فيقتص للجماء
عندئذ أن يكون هو مثل تلك البهائم في أن يصير ترابا ،ويتخلص من عذاب اهلل ،وأنكر بعض
ومتَفَ ِّ
ضل عليه ،واذا كان كذلك لم المعتزلة ذلك ،وقال إنه تعالى إذا أعادها فهي بين معرض ُ
يجر أن يقطعها عن المنافع ألن ذلك كاإلضرار لها ،وال يجوز ذلك في اآلخرة ،ثم إن هؤالء
قالوا :إن هذه الحيوانات إذا انتهت مدة أعراضها جعل اهلل كل ما كان منها حسن الصورة
ثوابا ألهل الجنة ،وما كان قبيح الصورة عقابا ألهل النار ،قال القاضي :وال يمتنع أيضا إذا
وفر اهلل أعراضها ،وهي غير كاملة العقل أن يزيل اهلل حياتها على وجه ال يحصل لها شعور
ليبين إثرها الوجه الرابع قائال(« :ورابعها) ما ذكره بعض ()75
باأللم فال يكون ذلك ضرر»
72
العدد 81 ISSN 2335-1667 مجلة آلاداب والعلوم إلانسانية
معناه يا ليتني كنت متواضعا في طاعة اهلل ولم الصوفية فقال قولهَ ﴿ :يا لَ ْيتَِني ُك ْن ُ
ت تَُر ًابا﴾
()76
أكن متكب ار متمردا» ( .)77أما «(خامسها) الكافر إبليس يرى آدم وولده وثوابهم ،فيتمنى أن
ار َو َخلَ ْقتَ ُه ِم ْن ِط ٍ
ين﴾(.)79(»)78إن وجوه يكون الشيء الذي احتقره حين قالَ ﴿ :خلَ ْقتَِني ِم ْن َن ٍ
تفسير اآلية الكريمة ملخصة على نحو جمع فيه الفخر الرازي بين التفسير والتأويل وبين
الحقيقة والمجاز ،وبين الفكر االعتزالي والصوفي ،ففي الوجه األول تمنى الكافر أن يكون ترابا
فلم ُيكلف ولم َي ْع ِ
ص أما الوجه الثاني :أنه تمنى بقاءه بعد موته ترابا ولم يبعث مفلسا ،خاصة
يصيرها اهلل
الوجه الثالث _كما ذكر المفسر_ لحساب البهائم التي يقتص بعضها من يعض ثم ّ
ترابا ،وهذه الوجوه على اختالفها أقرب إلى التفسير منها إلى التأويل الذي نجده نابضا بالحياة
في الفكر الصوفي الذي غاص في روح كلمة (التراب) ضربا من األمنية ليتجلى معنى
التواضع هلل والخضوع لسلطانه في أبلغ صورة هي (التراب) ويتعانق هذا الوجه من التأويل مع
آخر الوجوه وهي حسرة إبليس على ما ضيع في حق اهلل وأعلن عن عصيانه لكونه من نار
وآدم من تراب ،وفي وقفة الحساب تبين أن الذي أصله تراب حمل بذور الحياة في الدارين
عكس حامل النار التي مثل شعلة الفناء.
وان ما أشرنا إليه من أمثلة في القراءة التأويلية عند الفخر الرازي ال نلمس فيها ُغ ًّلوا،
وقد كان المفسر ينطلق من التفسير عتبة من عتبات القراءة واليلجأ إلى التأويل إال إذا دعت
الحاجة إلى ذلك ليكون التأويل أداة يرمي من ورائها إلى دفع الفساد عن معنى النص القرآني،
أو تجاوز المعنى الظاهر لتعميقه و الكشف عن أس ارره لذلك نجد المفسر يلح على دعم أرائه
بكل ما أوتي من فلسفة يعضدها النقل تارة والعقل أخرى وقد أثنى المحدثون على جهود الفخر
الرازي في التأويلية ووصفوها باالعتدال ،من منطلق إيمانه بلغة الحقيقة مقابل المجاز والتفسير
مقابل التأويل.
وقد انشغل العرب والمسلمون بإشكال التأويل كما انشغلت به من قبلهم ومن بعدهم
باقي األمم المتحضرة والبدائية ،ألن عملية التأويل ضرورية ،فكل كائن بشري سوي يعير
االنتباه إلى ما يحيط به من ظواهر الكون فيريد أن يتعرف على تفاصيل ما ظهر منها،
وتقوده عملية التعرف على الظواهر إلى طلب معرفة ما خفي منها وما بطن ،واذا كانت
الظواهر أو األفعال أو ضروب السلوك ال يتالءم مع ما يستنبطه من معارف وعادات وأعراف
فإنه يلجأ إلى عملية تأويل الظواهر أو ضروب السلوك أو األفعال ليجعلها منسجمة مع
معارفه الخلفية ومتناغمة ،وهذا يعني أن الكائن البشري يعتقد في شيء أنه أصل أو أول أو
أساس ،وأن هناك شيئا ثانويا أو فرعيا يمكن أن يرجع إلى األصل أو إلى األول أو إلى
األساس ،وبهذا االعتقاد يعمد إلى التأويل بطريق رد الغائب إلى الشاهد ،على أن قدرة الكائن
البشري المعايشة له القابلة للتطوير وللتنمية غير محدودة ،والمسألة مرتبطة بحضور الطرفين
على حد السواء ،ألن القدرات البشرية غير محيطة بكل شيء علما دفعة واحدة ،وانما يتحقق
علما شيئا فشيئا ،ولذلك ،فهي ترجئ ما لم نستطع معرفته وتأويله إلى حين .بيد أنها تتخذه
حاف از لتنشيط بعض القدرات من كمونها (.)80
إن التأويل يمكن أن يكون حيلة تسمح بتحديد الفهم وتحديد القراءة «في الوقت الذي
ال يوجد ما نفهمه ونقرؤه ،ألن المعنى يكون قد انتهى في التاريخ وعلى هذا يكون تجديد
معاني قديمة وتكثيف دالالتها هو تنشيط لمعنى التاريخ والوعي بالفعل التاريخي» ( .)81إن
عملية التأويل مرآة عاكسة لثقافة القرىء وثقافته صورة عن وعي الذات – خاصة – و
المجتمع عامة لذلك اختلف المسلمون في التأويل اختالفهم في مسألة الحقيقة والمجاز؛ فالذين
أنكروا المجاز رفضوا التأويل وسيلة لفهم المعنى؛ ألن األلفاظ والتراكيب الواردة في نص القرآن
الكريم على الحقيقة الظاهرة التي ال تقتضي التأويل ،أما الذين أقروا بوجود المجاز في لغة
القرآن فقد تبنوا التأويل طريقا إلى المعرفة حيث يعجز ظاهر اللفظ عن الوصول إلى المعنى
(-)80ينظر :محمد مفتاح ،التلقي والتأويل ،مقاربة نسقية ،المركز الثقافي العربي ،ص .663
( - )81عمارة ناصر ،اللغة والتأويل ،ص .616
76
العدد 81 ISSN 2335-1667 مجلة آلاداب والعلوم إلانسانية
؛ ومن الذين أخذوا بالتأويل المعتزلة واألشاعرة؛ وقد توسعت المعتزلة في التأويل ()82
المراد
توسعهم في المجاز بما يناسب نزعتهم العقلية في ظل مقتضيات اللغة ( ،)83أما األشاعرة فقد
كانوا أقل توسعا في التأويل كما تجلى ذلك عند الفخر الرازي في كتابه أساس التقديس رأى أن
صرف اللفظ عن ظاهره إلى معناه المرجوح مع قيام الدليل القاطع على أن ظاهره محال (.)84
وبناء على هذا فإنه ال عدول عن التفسير إلى التأويل إال بدليل -حسب رأي الفخر الرازي-؛
والدليل في مثل هذا الموضع هو قصور ظاهر اللفظ وعجزه عن التعبير عن المعنى المرجو
فرجح التأويل.
إن دراسة المحدثين لموضوع التأويل عند الفخر الرازي يأخذ أبعادا كبيرة؛ ألن
المعنى التأويلي المعمق قد أومأ إليه الرجل في عنوان (تفسيره الكبير) وهو (مفاتيح الغيب)؛
وان عالم الغيب الذي اشتغل الفخر الرازي على نحت مفاتيحه هو على وجه الحقيقة البحث
اللغوي لالشتغال على عالم المعنى ( .)85وان أساس ذلك هو المعرفة التي يساهم في تحصيلها
الحواس التي من شأنها تنعش المتخيل بالصورة المناسبة للمعاني .وهذا ما صرح به المفسر
في قوله « :المعارف قد تخبر عن الغيب ويدل على إمكانه وجوه إجمالية منها؛ لما رأينا
اإلنسان قد يعرف الغيب حال المنام لم يبعد أن يقع مثله حال اليقظة إذا طفأت الحواس
الظاهرة وتخلصت النفس عن تدبيرها في تلك الساعة اتصلت بعالم القدس فأدركت أمور ِم َّما
وركبت القوة المتخيلة صورة مناسبة لتلك المعاني ،ثم ردت تلك الصور على الحس هناكَّ ،
المشترك فصارت مرئية» ( .)86ويذهب عمارة ناصري في تعليقه على النص إلى أن« :هذا
الفتح على مستوى المتخيلة يتحرى طرق المعرفة والتأويل لخلق الصورة المناسبة للمعاني»
) -(82ينظر :أمان سليمان ،التصور اللغوي عند اإلمام فخر الدين الرازي ،ص .73ص . 83
) -(83ينظر :المرجع نفسه ،ص .83
) -(84الفخر الرازي ،أساس التقديس ،تحقيق الدكتور أحمد حجازي السقا ،مكتبة الكليات األزهرية،
القاهرة ،ص .666
) -(85ينظر :عمارة ناصر ،اللغة والتأويل ،ص .613
) -(86الفخر الرازي( ،)6831لباب اإلشارة والتنبيهات ،المكتبة األزهرية ،القاهرة ،ط ، ،6ص .63
77
العدد 81 ISSN 2335-1667 مجلة آلاداب والعلوم إلانسانية
( . )87فال يكون بلوغ المعنى المناسب في قراءة الخطاب القرآن دون معرفة بطرق التأويل الذي
يتشارك في تشكيلها جملة من المعارف اللغوية والدينية المساهمة بشكل فعال في صقل
مستوى المتخيلة.
من هذا المنطلق« :يكون العنوان (التفسير الكبير ومفاتيح الغيب داللة على الوعي المتمفصل
للنص القرآني على جبهة راهنية الفهم) واالشتغال على اللغة وتكثيرها .وعلى جبهة الغيب
يرسم مفاتيح لبناء تأويلية للنص الديني األساسي»( .)88ويفتح الفخر الرازي حدود التأويل في
ق ارءته للمتشابه ،وهو أمر يتطلب تحصيل علوم كثيرة من علم اللغة والنحو وعلم أصول الفقه
وغير ذلك «وبهذا يعطي الرازي لمؤلفه عنوانا ذا طاقة إشارية بالغة القوة يفتح به عالمين
مختلفين؛ واحد للشهادة وآخر للغيب ،ثم يقوم بحركة تأويلية مائلة لسحب إشارات الغيب
المعطاة في النص القرآني إلى مفاتيح له إمكانية امتالكها .ففي العنوان أعطى الرازي جهة
االشتغال على اللغة الدينية إطا ار تأويليا بما هو اشتغال على حفر الذات والتواصل مع الغيب
ص في فلسفته بركوب القوة المتخيلة» .ومنه نخلص إلى أن التأويل عند الفخر الرازي َغ ْو ٌ
()89
الذاتية التي تجلت مالمحها من خالل تمثله للداللة التأويلية التي تعكس تأسيسا متنوع الروافد
– اللغوية والدينية واالجتماعية -للكشف عن معنى الخطاب القرآني الذي راهن الفخر الرازي
على تكثيف مسائله طريقا للغوص في معانيه معتمدا في ذلك على ما أتيح له من ثقافة لغوية
وفلسفية صنعت متخيله.
خَلصة القوإلن الفخر الرازي قد راهن على اللغة في قراءته التأويلية وهذا الذي
لخصه النص القائل بأن« :المهمة المترتبة على تأويل المعنى هي تغيير استقبالية الوعي
للظواهر اللغوية واالجتماعية وتعديل منظور القراءة وتحريك زاوية الرؤية للوجود واستعادة
البنية الظاهرية –الوجودية -لكل معنى موضوع لمراهنة اللغة»( .)90إن تأويل الفخر الرازي
للغة الخطاب القرآني محاولة جادة إلحداث االقناع والتأثير في المتلقي ،وهذا األمر يأخذ بعدا
تداوليا يخرج فيه الخطاب من الحدود الضيقة في سياقها اللغوي إلى فضاء أوسع هو السياق
الخارجي التداولي بكل أبعاده االجتماعية والفكرية والثقافية والفلسفية .وبهذه الصورة يتناول
المفسر أحد الركائز األساسية في بناء المنهج التداولي وهي االهتمام بأثر الخطاب في المتلقي
من الناحية النفسية وردود أفعاله الواقعية.
.4أمان سليمان حمدان أبو صالح،التصور اللغوي عند اإلمام فخر الدين الرازي ،إشراف
الدكتور إسماعيل العمايرة -رسالة ماجستير-الجامعية األردنية4141 ،هـ4991-م.
.4ابن رشد أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد ،كتاب فصل المقال
وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من االتصال ،المطبعة الكاثوليكية ،ط ،4بيروت،
لبنان4994 ،م،
.3السيوطي عبد الرحمن بن أبي بكر ،جالل الدين الحافظ شمس الدين محمد بن علي
بن أحمد الداودي المتوفى سنة 911ه ،االتقان في علوم القران ،تحقيق محمد أبو
الفضل إبراهيم ،المكتبة العصرية ،بيروت4101،ه 4911-م
.1الفخر الرازي،
-2عبد الغفار السيد أحمد ،ظاهرة التأويل وصلتها باللغة ،دار المعرفة الجامعية،
اإلسكندرية4919،م
-1عمارة ناصر ،اللغة والتأويل ،مقاربات في الهيرموطيقا العربية ،والتأويل العربي
اإلسالمي ،منشورات االختالف ،الجزائر ،ط4141 ،4هـ4002-م
-9محمد مفتاح ،التلقي والتأويل ،مقاربة نسقية ،المركز الثقافي العربي.
77
العدد 81 ISSN 2335-1667 مجلة آلاداب والعلوم إلانسانية
71