دم المماليك وليد فكري full chapter download PDF

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 57

■■ ■■■■■■■■ ■■■■ ■■■■

Visit to download the full and correct content document:


https://ebookstep.com/download/ebook-38280830/
More products digital (pdf, epub, mobi) instant
download maybe you interests ...

Bioquímica de Laguna y Piña 8a ed 8th Edition Federico


Martínez Montes Juan Pablo Pardo Vázquez Héctor Riveros
Rosas

https://ebookstep.com/product/bioquimica-de-laguna-y-
pina-8a-ed-8th-edition-federico-martinez-montes-juan-pablo-pardo-
vazquez-hector-riveros-rosas/

■■ 85 ■■■■ ■■ ■■■■ ■■ ■■■

https://ebookstep.com/download/ebook-54898122/

Eierlikörtage das geheime Tagebuch des Hendrik Groen 83


1 4 Jahre Groen

https://ebookstep.com/product/eierlikortage-das-geheime-tagebuch-
des-hendrik-groen-83-1-4-jahre-groen/

Pratique Grammaire B1 1st Edition Evelyne Sirejols

https://ebookstep.com/product/pratique-grammaire-b1-1st-edition-
evelyne-sirejols/
A medida B1 guía didáctica 1st Edition Anaya

https://ebookstep.com/product/a-medida-b1-guia-didactica-1st-
edition-anaya/

Die Staatskonkurs Aufgaben im Jahre Die Aufgaben in den


Jahren 1885 bis 88 für die Rechstpraktikanten in der
Pfalz

https://ebookstep.com/product/die-staatskonkurs-aufgaben-im-
jahre-die-aufgaben-in-den-jahren-1885-bis-88-fur-die-
rechstpraktikanten-in-der-pfalz/

Lo straniero A2 B1 Primi Racconti 1st Edition Marco


Dominici

https://ebookstep.com/product/lo-straniero-a2-b1-primi-
racconti-1st-edition-marco-dominici/

L eredità B1 B2 Primi Racconti 1st Edition Luisa Brisi

https://ebookstep.com/product/l-eredita-b1-b2-primi-racconti-1st-
edition-luisa-brisi/

Deutsch intensiv Wortschatz B1 Das Training 1st


Edition Arwen Schnack

https://ebookstep.com/product/deutsch-intensiv-wortschatz-b1-das-
training-1st-edition-arwen-schnack/
‫دم المماليك‬
‫وليد فكرى‬

‫الرواق للنشر والتوزيع‬


‫دم المماليك‬
‫وليد فكري‬
‫الطبعة األولى يناير ‪2016‬‬
‫غالف أحمد مراد‬
‫الترقيم الدولي ‪9789775153807 :‬‬
‫جميع الحقوق محفوظة لدار الرواق للنشر والتوزيع‬

‫‪rewaq2011@gmail.com‬‬
‫‪facebook.com/Rewaq.Publishing‬‬
‫إهداء‬
‫إلى روح جمال الغيطاني‪..‬‬

‫قبل أن تقرأ‬
‫إلى من لن يكتفي بقراءة هذا الكتاب‪ ،‬وسيستفزه‬
‫الفضول ألن يبحث في المراجع التي اعتمدُت عليها‬
‫في كتابته‪ ..‬تحياتي واحترامي لك‪..‬‬
‫وليد‬
‫(‪)I‬‬

‫إما في القصر أو في القبر‬

‫منطقة الصالحية طريق عودة السلطان قطز إلى مصر بعد انتصار عين جالوت‬
‫وترتيب أوضاع بالد الشام معسكر الجيش المملوكي‪..‬‬
‫‪ 22‬أكتوبر ‪1260‬م‬

‫وقف أتابك العسكر ينظر في صمت إلى األميرين بيبرس البندقداري وقالوون‬
‫األلفي ورفاقهما‪ ،‬وقد عادوا دون السلطان‪ ..‬رفاق بيبرس يعلو وجوههم التوتر‪،‬‬
‫وقبضاتهم تلتف في تحفز على مقابض سيوفهم‪ ..‬أحدهم يرمق بعض قطرات‬
‫الدم التي نسي في تعجله مسحها تلوث عباءته‪ ،‬فيعبث بطرف العباءة مدارًيا‬
‫أثر الجريمة بين ثنيات الثوب‪ ..‬خيط عرق بارد يسيل على صدغ قالوون‪ ،‬وهو‬
‫يرمق شفتي بيبرس اللتين انفرجتا بعد ثوان مرت كدهر‪ ،‬قائاًل ‪ :‬السلطان‪ ..‬مات‪..‬‬
‫ُق تل‪..‬‬
‫حركة متشنجة من حرس السلطان أخرسها األتابك بإشارة صارمة من يده‪،‬‬
‫ثم قال كأنما لم يسمع ما يصدم‪ :‬أيكم قتله؟‬
‫نظراته الباردة لم ترتفع عن بيبرس‪ ،‬في إشارة واضحة لمعرفته اإلجابة قبل‬
‫طرحه السؤال‪ ..‬ولم يخّيب هذا األخير ظنه‪ ،‬فقال بهدوء مماثل‪ :‬أنا قتلته‪..‬‬
‫انفرجت المالمح الصخرية لألتابك عن ابتسامة مهذبة‪ ،‬وهو ينحني مشيًرا‬
‫لكرسي الحكم‪ ،‬المرتفع أعلى مصطبة أمام الخيمة السلطانية‪ ،‬قائاًل ببساطة‬
‫من لم يتلَق تًو ا نبأ اغتيال سلطان المسلمين وبطل معركة عين جالوت‪« :‬يا‬
‫خوند» وهو لقب السلطان «اجلس على مرتبة السلطنة مكانه»‪.‬‬
‫سنة من الحكم‬ ‫‪250‬‬ ‫ومن هنا كانت لحظة ميالد المبدأ األول للحكم طوال‬
‫المملوكي لمصر والشام‪« :‬هي لمن غلب»‪...‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫إن كانت هذه اللحظة هي بداية تطبيق المبدأ سالف الذكر بشكل «رسمي»‪،‬‬
‫فإنها لم تكن البداية لتطبيقه الفعلي‪ ..‬فقبل قطز سقط سلطانان أيبك وشجر‬
‫الدر ضحيتان للتصارع على السلطة والنفوذ في الدولة المملوكية الناشئة‪..‬‬
‫وكما لم يكن قطز األول فإنه لم يكن األخير‪ ،‬فحتى سقوط حكم المماليك‬
‫للمشرق العربي عام ‪1517‬م على يد الغزاة العثمانيين؛ شهد عصرهم نهايات‬
‫درامية ألكثر من ‪ 20‬سلطاًنا‪ ،‬بين إنهاء لحكمه باالغتيال‪ ،‬أو إعدامه بعد خلعه‪ ،‬أو‬
‫شبهة جنائية تحوم حول ظروف وفاته‪ ..‬وقد حاولت عمل قائمة بأصحاب تلك‬
‫النهايات‪ ،‬فوجدت اآلتي‪:‬‬
‫‪ 5‬حاالت اغتيال‪..‬‬
‫‪ 12‬حالة قتل للسلطان بعد عزله‪..‬‬

‫حالتي قتل خالل معركة بين السلطان وأعدائه‪..‬‬


‫‪ 5‬حاالت شابت وفاتها شبهات اغتيال‪ ،‬غالًبا بالسم‪ ،‬سواء بعد العزل أو في‬
‫نهاية الحكم‪..‬‬
‫أي إننا أمام ‪ 24‬حالة تقريًبا لسالطين لم تنتِه عهودهم بطريقة ال تحمل رائحة‬
‫القتل‪..‬‬

‫رقم صادم‪ ،‬خاصة بالنسبة لقرنين ونصف من الزمن‪ .‬ومثير للدهشة لو عرفنا‬
‫أن هذا العصر‪ ،‬رغم طول وشراسة صراعاته وأزماته الداخلية والخارجية‪ ،‬شهد‬
‫قوة للدولة‪ ،‬وفترات غير بسيطة بالنسبة لمدى حساسية وتوترات األوضاع في‬
‫هذا العصر من االزدهار الملحوظ في مختلف المجاالت‪..‬‬
‫والقارئ للتاريخ المملوكي يالحظ أن تلك النهايات الدرامية لعهود كثير من‬
‫سالطينه كانت بمثابة القاعدة‪ ،‬بينما كانت النهايات الهادئة‪ ،‬كالوفاة الطبيعية‪،‬‬
‫أو االعتزال السلمي‪ ،‬أو االكتفاء بنفي أو حبس السلطان المعزول؛ هي‬
‫االستثناء‪ ..‬حتى إن مما ُيذكر عن السلطان قنصوة الغوري أنه حين تعرض إللحاح‬
‫األمراء لتولي السلطنة بكى‪ ،‬وتوسل لهم أن يعفوه منها‪ ،‬ولم يقبل بها إال بعد أن‬
‫تعهدوا له أنهم إن أرادوا عزله لن يقتلوه أو يحبسوه‪ ،‬بل يصرفونه صرًف ا جمياًل ‪...‬‬
‫فكيف تعايش المماليك وتعايشت الدولة مع هذا النمط من تداول السلطة؟‬
‫فليالحظ القارئ أواًل أن دولة المماليك تختلف عن باقي الدول السابقة‬
‫والمعاصرة لها‪ ،‬بأنها لم تقم على حكم أسرة‪ ،‬كاألمويين والعباسيين‬
‫والعثمانيين‪ ،‬بل قامت على حكم فئة من الناس‪ ،‬أي إنها أشبه بانفراد حزب أو‬
‫مؤسسة بحكم دولة‪ .‬بالتالي فإن مبدأ وراثة الحكم من السلف لخلفه لم يكن‬
‫القاعدة الثابتة‪ ،‬وإن حرص المماليك على مراعاته شكلًيا فقط فيما يتعلق ببعض‬
‫أبناء السالطين‪ ،‬كأبناء بيبرس أو قالوون‪ ،‬وغالًبا ما كانت هذه المراعاة تأتي‬
‫خدمة لمصالح وتحالفات وترتيبات بين كبار األمراء‪ ..‬أهمها أحياًنا حرص األمراء‬
‫األقوياء على عدم اإلخالل بموازين القوى بينهم‪ ،‬فكان الحل األمثل غالًبا ما‬
‫يكون وضع أحد أبناء السلطان السابق على كرسي السلطنة بشكل صوري‪،‬‬
‫والحكم وراء ستاره‪ ،‬خاصة لو كان طفاًل غير راشد يسهل التحّكم به من األوصياء‬
‫عليه‪ ..‬أما فيما عدا ذلك فلم يكن هناك احترام لتوارث الحكم‪ ،‬أو والية العهد‪ ،‬رغم‬
‫أي عهود أو مواثيق يأخذها السلطان الراحل قبل موته على أمرائه الحترام‬
‫شرعية ولي عهده‪..‬‬
‫وثانًيا‪ ،‬فإن الجانب اإلنساني من عالقات أبناء الطبقة المملوكية الحاكمة‬
‫بعضهم ببعض لم يقم على االرتباط األسري أو القبلي بحكم تنوع وتعدد‬
‫أصولهم بقدر ما قام على احترام القوة والزعامات‪ ،‬أو االرتباط منذ النشأة‪ ،‬سواء‬
‫بين المملوك وسيده المسماة بعالقة األستاذية أو المملوك وزميله في‬
‫التربية المعروفة بعالقة الخشداشية‪ ،‬والزميل فيها اسمه خشداش‪.‬‬
‫ثالًث ا‪ ،‬فإن الغالبية العظمى من المماليك كانت من أصول قوقازية‪ ،‬أو تركية‪ ،‬أو‬
‫روسية‪ ،‬أو تترية‪ ،‬تحكمها جميًع ا ثقافة الحكم القبلي القائم على قدرة الفرد‬
‫على الوثوب إلى الحكم والسيطرة عليه‪ ،‬بطرق غالًبا ما تكون دموية وحشية‪..‬‬
‫فكان تبنيهم لمبدأ «الحكم لمن غلب»‪ ،‬والمبدأ الثاني المترتب عليه «الحاكم إما‬
‫في القصر أو في القبر»‪ ،‬بمثابة التبني لتقاليدهم القديمة‪ ،‬وتصديرها لنظام‬
‫الحكم في دولتهم‪ ..‬وحتى القلة ممن كانت أصولهم من غير تلك الشعوب‬
‫سالفة الذكر‪ ،‬كالسلطان ألماني األصل حسام الدين الجين‪ ،‬أو اليوناني الميالد‬
‫الظاهر خشقدم؛ لم يستطيعوا أن يخرجوا بالسياسة المملوكية عن تلك‬
‫الدائرة‪..‬‬
‫أخيًرا‪ ،‬فإن كل ما سبق قد أدى إلى اتسام الحياة السياسية في هذا العصر‬
‫بسمة التآمر‪ ،‬والتآمر المضاد‪ ،‬والخيانات‪ ،‬واالنقالبات‪ ،‬و«التربيطات» بين أثقال‬
‫الطبقة المملوكية‪ ..‬وبالتالي فإن صراع السلطة كان غالًبا ما ينتهي بمقتل أحد‬
‫الطرفين المتصارعين ومن يوالونه خوًف ا من تآمرهم لالنتقام من المنتصر‪ ،‬أو‬
‫محاولة إسقاطه والعودة للحكم‪..‬‬
‫كل هذا جعل من قلعة الجبل مقر الحكم ومطبخ السياسات مكاًنا أشبه‬
‫بجحر الثعابين‪ ،‬أو غابة الحيوانات المفترسة‪ ،‬وجعل من عالم المماليك عالًم ا‬
‫خطًرا‪ ،‬ال تتوقف فيه أصوات صليل السيوف إال لتدور همسات التآمر‪..‬‬
‫فعن هذا العصر المثير‪ ،‬وعن هذه النهايات الدرامية لكثير من سالطين‬
‫المماليك‪ ..‬نتحدث‪...‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫( ‪) II‬‬

‫أيبك وشجر الُد ر‪ ..‬سباق إلى حافة القبر‬


‫إبريل ‪1257‬م القاهرة قلعة الجبل‪..‬‬

‫عبًث ا حاول أيبك مقاومة تلك الذراع العضلية الملتفة حول عنقه‪ ،‬رغم أنها‬
‫لخصي‪ ،‬أّثر ما فقده في صوته فأكسبه نعومة نسائية‪ ،‬وكسى جسده ترهاًل‬
‫كما النساء‪ ،‬إال أن قوة هرقلية حّلت بالذراع فصارت كسلسلة سميكة ثّبتت‬
‫ضحيتها أرًض ا في وضع المصلوب‪ ..‬ثالثة خصيان آخرون‪ ،‬جثم أحدهم على صدره‪،‬‬
‫وفشخ اآلخران ساقي السلطان المغدور‪ ..‬نظر باستجداء يائس إلى زوجه شجر‬
‫الدر‪ ،‬الواقفة ترمق المشهد البشع‪ ،‬وقد أخذ صدرها يعلو ويهبط بسرعة اإلثارة‪..‬‬
‫ندت عنها حركة تنم على نية التراجع عن الفعل الرهيب الذي انتوته‪ ،‬فصاح بها‬
‫خامس الخصيان‪ ،‬المدعو محسن الجوجري‪« :‬ال! ما هذا وقت التراجع! ومتى‬
‫أبقينا عليه ال ُيبقي علينا وال عليك!»‬
‫تأكد الجوجري من إحكام إغالق باب الحمام‪ ،‬ثم دنى من ضحيته الملكية‪،‬‬
‫وقد علت وجهه اللحيم ابتسامة استمتاع بما يفعل‪..‬‬
‫«معلوم أن موالنا السلطان بعدما قتل منافسه أقطاي‪ ،‬وقمع المخامرين عليه‬
‫من المماليك‪ ،‬وأّدب عربان الصعيد‪ ،‬وأسكت الغاغة والزعران؛ ما كان ينتظر‬
‫لنفسه هكذا ميتة»‪ ،‬قالها وهو يجثو على ركبتيه بين ساقي أيبك مشمًرا‬
‫ذراعه‪..‬‬
‫«ستنا السلطانة قالت بال دم‪ ..‬حتى يشهد األمراء بعد ذلك جثة موالنا الذي‬
‫القى أمر هللا في الحمام قضاء وقدًرا‪ ..‬وما على العبد إال طاعة موالته‪ ..‬لماذا لم‬
‫تطع موالتك يا‪ ..‬موالنا‪ ..‬كنت لُت عّمر أطول من هذا»‪.‬‬
‫«محسن!» صيحة متوترة من شجر الدر قطعت حديثه االستعراضي‪« :‬خلصنا‬
‫واعمل شغلك!»‬
‫«أمر موالتي»‪ ،‬ثم التفت أليبك مجدًد ا‪« :‬يمكنك أن تحسدني في لحظاتك‬
‫األخيرة‪ ،‬فمنذ قطعوا بلحتي نخلتي ما عدت أذكر ألم البلحتين وهما ُتطحنان‪..‬‬
‫ألم يذكر صاحبه أنه يملك عالمة الرجولة في جسده‪ ..‬فلعل فيه بعض العزاء لك‬
‫يا فحل الملوك»‪.‬‬
‫ارتعادة أيبك وهو يحس يد الخصي تقبض خصيتيه تحولت إلى تشنجات‬
‫رهيبة‪ ،‬وهو يشعر القبضة تسحق ذكورته بال رحمة‪ ..‬األلم تصاعد عبر الفخذان‬
‫والجذع إلى رأسه فأزاغ بصره‪ ،‬بالًغ ا حًد ا جعله يحاول قرع مؤخرة رأسه باألرض‬
‫ليعجل بالنهاية ويستريح‪ ..‬األلم يجتاح العالم من حوله‪ ،‬فيوقف حواسه ويركز كل‬
‫إحساسه في جسده بين ساقيه‪ ..‬لم يعد يشعر ببرودة الرخام تحت ظهره‬
‫العاري‪ ،‬وال بأطرافه المتشنجة في رقصة أخيرة‪ ..‬خرجت نقوش السقف‬
‫المزخرف من نطاق رؤيته‪ ..‬يحس فقط بالعاصفة تضرب أحشاءه‪ ،‬ثم تنقشع‬
‫والنور الطفيف في نهاية النفق الضيق يتعاظم ليبتلع األفق‪...‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫«وبعثت شجر الدر في تلك الليلة إصبع المعز وخاتمه إلى األمير عز الدين‬
‫الحلبي الكبير‪ ،‬وقالت له‪« :‬قم باألمر»‪ ،‬فلم يجسر‪ ،‬وأشيع أن المعز مات فجأة‬
‫في الليل‪ ،‬وأقاموا الصائح في القلعة‪ ،‬فلم ُتصّد ق مماليكه بذلك‪ ،‬وقام األمير علم‬
‫الدين سنجر وهو يومئذ شوكة المماليك البحرية وشديدهم وبادر هو‬
‫والمماليك إلى الدور السلطانية‪ ،‬وقبضوا على الخدام والحريم‪ ،‬وعاقبوهم فأقروا‬
‫بما جرى‪ ،‬فعندئذ قبضوا على شجر الدر ومحسن الجرجاوي»‪.‬‬
‫السلوك لمعرفة دول الملوك المقريزي‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫«فلما مات المعز أيبك‪ ،‬حملوه وأخرجوه من الحمام‪ ،‬وأشاعوا أنه أغمى عليه‬
‫من الحمام‪ ،‬فأرقدوه على فراش في الحمام‪..‬‬
‫فلما أصبح الصباح‪ ،‬أشيع بين الناس موته‪ ،‬فركب ابنه األمير علي‪ ،‬والمماليك‬
‫المعزية‪ ،‬وطلعوا إلى القلعة‪ ،‬فغسلوا الملك المعز‪ ،‬وكفنوه‪ ،‬وصلوا عليه‪ ،‬ودفنوه‬
‫بالقرافة الصغرى‪..‬‬
‫ثم إن األمير علي قبض على شجر الدر وسلمها إلى أمه‪»...‬‬
‫بدائع الزهور في وقائع الدهور ابن إياس‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫نفس الشهر‪ ..‬القاهرة‪ ..‬سكن السيدة أم علي أرملة المعز أيبك‪ ،‬وأم‬
‫السلطان المنصور علي بن أيبك‪..‬‬
‫بعد دعاء المنابر لسلطانة المسلمين‪ ،‬المستعصمية‪ ،‬أم خليل‪ ،‬شجر الدر‪،‬‬
‫صاحبة المرحوم الصالح نجم الدين أيوب‪ ،‬عصمة الدنيا والدين‪ ..‬صار موكبها تحّفه‬
‫أفحش ألفاظ السباب والدعاء بالويل‪ ،‬وهي ُتجر جًرا مهينا من محبسها في‬
‫البرج األحمر بالقلعة إلى دار أم علي‪ ،‬أرملة المعز أيبك‪ ،‬وقد ُج ردت من ثيابها‬
‫الملكية وعصمة جسدها من لمسة فاحشة هنا ولطمة متشفية هناك‪..‬‬
‫ساقتها جارية عمالقة فظة من جواري أم علي بحبل من عنقها إلى حضرة‬
‫سيدتها‪ ،‬وقد أحاطت بها كوكبة من النسوان الشلق‪ ،‬وقد أشهرت كل منهن‬
‫قبقاًبا خشبًيا منذًرا بالويل‪..‬‬
‫على عرش مرتجل جلست األرملة المتشحة بالسواد واالنتقام‪ ،‬ترمق‬
‫الجسد العاري لفريستها األرمنية‪ ،‬التي نقلتها يد القدر من واحدة من جواري‬
‫الصالح نجم الدين إلى كرسي السلطنة‪ ،‬ثم هوت بها لتقف مهتوكة المظهر‬
‫والجوهر عاجزة تنتظر مصيرها‪..‬‬
‫فرقة اإلعدام النسائية شّكلت حلقة حول السلطانة المخلوعة‪ ،‬ينتظرن األمر‬
‫من سيدتهن‪ ..‬لم ُتطل هذه االنتظار‪ ،‬فأومأت برأسها‪..‬‬
‫هوت أول ضربة قبقاب على األنف الجميل فهشمته‪ ،‬حاولت شجر الدر‬
‫التماسك‪ ،‬ولكن ضربة تالية على مؤخرة عنقها أجبرتها على السقوط راكعة‪..‬‬
‫جذبتها يد فظة لتقف مجدًد ا‪ ..‬وقبل أن تهوي الضربة الثالثة‪ ،‬أشارت أم علي‬
‫للجواري والنسوان الالتي جلبتهن‪ ،‬وقالت مصوبة إلى غريمتها نظرة بعينين ال‬
‫تطرفان‪« :‬الرأس والعنق‪ ..‬ليس اآلن‪ ..‬الضلوع أيًض ا تجنبنها حتى أعطيكن اإلذن‪..‬‬
‫أريد لهذه الرقصة أن تستمر ألطول وقت يستطيع هذا الجسد القحب تحمله‪ ..‬ال‬
‫تجعلن الموت هدية رخيصة»‪..‬‬
‫ثم وّج هت الحديث لضحيتها‪« :‬اشترطت عليه طالقي ليتزوجك ويصبح‬
‫سلطاًنا‪ ،‬أمرتيه بهجر ابنه‪ ،‬لم يكفك هذا؛ فقتلتيه لمجرد علمك أنه أعادني‬
‫لعصمته‪ ..‬كان لك السلطان واللقب والجاه‪ ،‬ولم أكن أطلب سوى مملكة بيتي‪،‬‬
‫فأين ذهب بك بطر النعمة؟»‬
‫أشارت لجواريها‪ ،‬فأكملت الجوقة عزف القباقيب على الجسد البض‪..‬‬
‫استرخت أم علي في مقعدها وهي تجيل النظر في الجسد المحاصر باآلالم‪،‬‬
‫تريد أن ترشف كأس عذابات خصمتها آلخر قطرة‪ ،‬ينبغي أال تفوتها نقطة دم أو‬
‫مزعة لحم‪ ،‬طائر االنتقام يصيح في رأسها أن اسقوني اسقوني! يصك أذنيها‬
‫صوت عظم يتكسر‪ ،‬تنظر لها جاريتها العمالقة فتومئ لها أن ال بأس‪ ،‬فتشير‬
‫هذه بدورها للجواري‪ ،‬تتوحش الضربات‪ُ ،‬تغمض األرملة عينيها متيحة ألذنيها‬
‫المشاركة في متعة اإلنصات ألغنية الموت األليم‪...‬‬
‫البعض تحدث بعد ذلك عن قيام أم علي بقطع ثديي شجر الدر وتمزيقهما‬
‫لقطع صغيرة‪ ،‬ثم طبخهما مع األكلة المعروفة حالًيا ب«أم علي»‪ ،‬وأن الزبيب قد‬
‫حّل بعد ذلك محل األثداء‪ ..‬ال يوجد ما يؤكد تلك المعلومة الرهيبة‪ ...‬وعلى أية حال‬
‫فاألمر كله بشع بما يكفي‪...‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫فلما ماتت سحبوها من رجليها ورموها في الخندق الذي وراء القلعة‪ ،‬وهي‬
‫عريانة ليس في وسطها غير اللباس فقط‪ ،‬فاستمرت مرمية في الخندق ثالثة‬
‫أيام لم ُتدفن‪ ،‬وقيل إن بعض الحرافيش نزل تحت الليل إلى الخندق وقطع تكة‬
‫لباسها‪ ،‬وكانت فيه أكرة لؤلؤة ونافجة مسك‪ ،‬فسبحان من يعز ويذل»‬
‫بدائع الزهور في وقائع الدهور ابن إياس‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫ثم ُد فنت بعد أيام وقد نتنت‪ ،‬وُح ملت في قفة بتربتها قريب المشهد‬
‫ُأ‬
‫النفيسي‪ ،‬وكانت من قوة نفسها لما علمت أنها قد حيط بها أتلفت شيًئ ا كثيًرا‬
‫من الجواهر والآللي كسرته في الهاون‪..‬‬
‫وُص لب محسن الجوجري على باب القلعة‪ ،‬وُو ّس ط تحت القلعة أربعون‬
‫طواشًيا‪ ،‬وصلبوا من القلعة إلى باب زويلة‪ ،‬وقبض على الصاحب بهاء الدين بن‬
‫حنا لكونه وزير شجر الدر» (التوسيط‪ :‬إعدام بقطع الجسم نصفين من تحت‬
‫السرة)‬
‫السلوك لمعرفة دول الملوك المقريزي‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫عز الدين أيبك وشجر الدر‪ ،‬الشريكان والغريمان‪ ..‬المتأمل في سيرة كل‬
‫منهما يدرك تشابًه ا شديًد ا‪ ،‬فمن بين من حكموا مصر من الرجال لم تخدم‬
‫األقدار إنساًنا فترفعه من موضع غير مرتفع إلى ذروة السلطة‪ ،‬ثم مكرت به‬
‫فأطاحته عنها بشكل مهين؛ مثلما كان مع أيبك‪ ..‬وبين من حكمن من النساء لم‬
‫تكن حياة إحداهن حافلة باالرتفاع بعد صغر الشأن‪ ،‬ثم القذف من عل؛ مثلما‬
‫كان مع شجر الدر‪..‬‬
‫فعز الدين أيبك لم يكن أكبر األمراء المماليك وال أقواهم وال أكثرهم أتباًع ا‪،‬‬
‫وإنما كان يشغل منصب «الجاشنكير» وهو من يتذوق طعام وشراب السلطان‬
‫قبله‪ ،‬لكيال يكون مسموًم ا ثم تدرج في المراتب حتى صار من كبار أمراء‬
‫السلطان األيوبي قبل األخير نجم الدين أيوب‪ ،‬وبعد وفاة هذا األخير واغتيال ابنه‬
‫توران شاه بسبب تآمره على مماليك أبيه لم يكن من مؤهل له لتولي‬
‫السلطنة‪ ،‬باختيار شجر الدر له زوًج ا لها؛ إال كونه غير قوي الشوكة‪ ،‬مما يسهل‬
‫عزله لو خرج عن الخط المرسوم له‪..‬‬
‫إال أن أيبك لم يكن بهذا الضعف الذي حسبوه‪ ،‬فسرعان ما كّون فرقة‬
‫المماليك المعزية نسبة للقبه المعز وجعل قطز ساعده األيمن‪ ،‬وبادر للتخلص‬
‫من خصومه‪ ،‬فدّبر بالتعاون مع قطز عملية اغتيال سريعة لفارس الدين‬
‫أقطاي المنافس األكثر شراسة أليبك وبادر لتشريد واعتقال وقتل المماليك‬
‫البحرية المتمردين عليه‪ ،‬والغاضبين لقتل أقطاي‪ ،‬وكان قد أخمد قبلها ثورة عرب‬
‫الصعيد‪ ،‬الذين أنفوا أن يحكمهم رجل مّس ه الرق وقد كان هذا حال كل‬
‫المصريين‪ ،‬إال أن العرب وحدهم تحركوا إيجابًيا وأشعلوا ثورة مسلحة فخرجوا‬
‫عليه بقيادة قبيلة الجعافرة‪ ،‬وعلى رأسهم الشريف حصن الدين بن ثعلب‪ ..‬ثم‬
‫التفت لمنافسه األيوبي حاكم الشام الناصر يوسف‪ ،‬وحاربه بالسيف تارة‬
‫وبالمراوغة تارة حتى قهره‪ ،‬وتخلص من شريكه الصوري في الحكم األمير‬
‫موسى بن نجم الدين أيوب‪ ،‬فخلعه وانفرد بالحكم‪ ..‬وهكذا لم يعد بينه وبين‬
‫االنفراد بالسلطان سوى شجر الدر المتسلطة عليه‪ ،‬والتي كانت ُتعّيره قائلة‪:‬‬
‫«لوالي ما كنت تصبح سلطاًنا»‪ ،‬وتجبره على مفارقة زوجته وابنه علي‪..‬‬
‫وأما شجر الدر فكانت جارية أرمينية في حريم السلطان األيوبي الصالح نجم‬
‫الدين أيوب‪ ،‬فقربها إليه‪ ،‬وأعتقها بحكم إنجابها ابنه خليل‪ ،‬كما يقر الشرع بشأن‬
‫اإلماء وجعلها شريكته في الحكم‪ ،‬وصارت كنيتها «أم خليل»‪ ،‬رغم وفاة هذا‬
‫األخير صغيًرا‪..‬‬
‫وعندما اشتد المرض بالسلطان ووافاه األجل‪ ،‬أدارت شجر الدر المعروفة‬
‫بالعقل والدهاء والثبات العمليات العسكرية ضد جيش الفرنسيين بقيادة لويس‬
‫التاسع‪ ،‬واستطاعت مملكة مصر تحت حكمها أن تسحق الغزاة‪ ..‬وأرسلت‬
‫تستدعي توران شاه ابن زوجها ليتولى السلطة‪ ،‬إال أنه تنكر لها ولمماليك أبيه‪،‬‬
‫فاغتالوه‪ ،‬واتفقوا على سلطنة شجر الدر‪ ..‬ولكن الشعب ثار ضد حكم المرأة‪،‬‬
‫وقام الفقهاء بقيادة شيخ اإلسالم العز بن عبد السالم بالتحريض على الرفض‪،‬‬
‫وأرسل الخليفة من بغداد يقول «إذا كانت الرجال لديكم قد عدمت فأخبرونا‬
‫ُنسّير لكم رجاًل »‪ ،‬وأطلت أطماع أمراء بني أيوب في الشام برؤوسها‪...‬‬
‫فاضطرت شجر الدر ألخذ خطوة مراوغة‪ ،‬فتزوجت من أيبك وتنازلت له رسمًيا‬
‫عن الحكم‪ ،‬وبهذا أسكتت أصوات الثورة على حكم النساء‪ ،‬وإن لم تسكت عن‬
‫حكم العبيد‪ ،‬وأجبرت أيبك أن يشركها في كل شئون الحكم‪ ،‬وأن ُيطّلق زوجته‬
‫ويهجر ابنه‪ ،‬وبهذا صارت تمسك بمقاليد الحكم‪ ،‬ولم يعد يؤرقها سوى أيبك‪،‬‬
‫الذي بدأ يتنّمر على شروطها متسلًح ا بتخلصه من خصومه‪...‬‬
‫كانت المواجهة بينهما حتمية إذن‪ ..‬وكان على أحدهما أن يتخلص من اآلخر‪..‬‬
‫وبالفعل كانت الساعات األخيرة في صراعهما حاسمة‪ ،‬فعندما كان أيبك‬
‫معتزاًل شجر الدر في بيته في منطقة «مناظر اللوق»‪ ،‬كان يخطط للتخلص من‬
‫شريكته المتجبرة‪ ،‬بينما كانت تلك األخيرة ترسل له أحد القضاة رسواًل للصلح‪،‬‬
‫وابتلع أيبك الطعم وصعد إلى القلعة‪ ،‬فقّبلت يده وبات عندها‪ ،‬ثم دخل إلى‬
‫حمامه األخير‪...‬‬
‫كان هذا انتصاًرا أخيًرا لشجرالدر‪ ،‬وبالتأكيد فإن أيبك كان قبل اغتياله يحسب‬
‫أنه قد انتصر واستطاع تطويع منافسته الشرسة‪ ..‬انتصاًرا أخيًرا كان هذا له‬
‫إذن‪...‬‬
‫لم يكن يعلم أن ُق بلة شجر الدر على يده هي ُق بلة الوداع‪ ،‬ولم تكن تعلم أن‬
‫شهقة غريمها في احتضاره هي نفير إيذان حياتها الحافلة باالنتهاء بشكل‬
‫داٍم ‪..‬‬
‫تسابقا إذن إلى حافة القبر‪ ،‬كالهما انتصر وانهزم‪ ...‬وجاء للقلعة سيد آخر هو‬
‫المنتصر الحقيقي‪ ..‬أو كما يقول سعد مكاوي في روايته «السائرون نياًم ا» عن‬
‫انقالبات المماليك «هذا الصباح يكنسنا معا»‪...‬‬
‫وعلى ذكر هذا السيد الجديد‪ ،‬المنتصر الحقيقي‪ ..‬فإن مجرى األمور يشير‬
‫إلى أن مسألة اغتيال أيبك ثم مقتل شجر الدر‪ ،‬وتوالي األحداث بهذا اإليقاع‬
‫السريع‪ ،‬وراءه يد خفية‪...‬‬
‫فلماذا ال نبحث في شأن هذه النظرية؟‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫( ‪) III‬‬

‫هل قطز هو الشريك الخفي في اغتيال أيبك؟‬

‫في مسألة اغتيال أيبك بعض من النقاط المثيرة للحيرة والتساؤل‪..‬‬


‫فالواقعة في صورتها البسيطة المباشرة ال تخرج عن أن امرأة متطلعة‬
‫للسلطة أصابها الغضب‪ ،‬سواء من تهميشها عن الحكم أو من عودة زوجها‬
‫لطليقته‪/‬زوجته األولى‪ ،‬فدبرت قتله انتقاًم ا‪ ،‬ثم ادعت عبًث ا أن موته جاء قضاء‬
‫وقدًرا‪..‬‬
‫ولكن‪ ،‬إن قبلنا هذا التفسير بالنسبة ألية امرأة‪ ،‬فإننا ال نستطيع أن نقبله‬
‫بالنسبة لشجر الدر‪ ،‬مع ما هو معهود منها من تأن شديد وميل للتخطيط‬
‫المحكم‪ ،‬وتأمين مسبق لجانبها‪ ،‬قبل اإلقدام على أية خطوة‪ ..‬فشجر الدر‬
‫ليست بالتي ُتقدم على هكذا خطوة شديدة الخطورة أعني قتل السلطان‬
‫والزوج‪ ،‬الذي يضفي على موقعها من الحكم الشرعية والحصانة بتلك الصورة‬
‫االنتحارية الرعناء‪ ،‬ثم بعد إتمامها تلك الخطوة تبدأ في البحث عمن يحل محله‪،‬‬
‫ويسبغ عليها نفس الحصانة والشرعية‪ ،‬فضاًل عن الحماية من انتقام من‬
‫يغضبهم قتل أيبك‪..‬‬
‫فالواقعة في ضوء ما سلف ذكره عن شجر الدر تدفعنا لطرح األسئلة‬
‫التالية‪:‬‬
‫ما مدى تأثير عامل «الغيرة الزوجية» من رد أيبك طليقته أم علي‪ ،‬على قرار‬
‫شجر الدر‪ ،‬بل وما موقع مشاعر تلك األخيرة أصاًل من اإلعراب فيما يتعلق‬
‫بقراراتها؟‬
‫كيف فات شجرالدر أن تدبر لنفسها الشرعية والحماية في مرحلة ما بعد‬
‫أيبك؟ أو بصيغة أخرى‪ :‬ما الذي شّج ع شخصية عقالنية شديدة الدهاء كشجر‬
‫الدر على اتخاذ خطوة التخلص من «ضمانة الحكم» بهذه الثقة؟‬
‫كيف يتفق أن قرار شجر الدر الزواج من أيبك بالذات جاء بسبب قلة أتباع هذا‬
‫األخير‪ ،‬وسهولة عزله لو حاد عن الطريق المرسوم له‪ ،‬مع سرعة قيام مماليكه‬
‫بالقبض عليها وتسليمها ألرملة أيبك التي قتلتها؟‬
‫كيف اتفق أن تراخى مماليك الصالح نجم الدين أيوب المخلصون عن حماية‬
‫شجر الدر‪ ،‬رغم شدة تعصبهم لها سابًق ا؟‬
‫كيف يمكن لرجل مثل أيبك‪ ،‬أدار ببراعة صراعاته مع خصومه‪ ،‬وأظهر لهم‬
‫قسوته وقوته؛ أن ينتهي قتياًل لفخ‪ ..‬كاستدراجه لقضاء ليلة مع امرأة شرسة‪،‬‬
‫قد صار بينه وبينها ما صنع الحداد؟‬
‫فلنحاول إجابة كل سؤال على حدة‪..‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫بداية فإن منطلق اختيار شجر الدر أحد رجال زوجها الراحل نجم الدين أيوب‬
‫لم يكن عاطفًيا‪ ،‬فما اتفق عليه مؤرخو العصر المملوكي أن اجتماع رجال‬
‫السلطان الراحل قد أسفر عن اختيار أيبك زوًج ا لشجر الدر‪ ،‬بناء على أسباب‬
‫عملية نفعية بحتة‪ ،‬تتمثل في كونه ليس أقواهم وال أقدرهم على التفرد‬
‫بالحكم‪ ..‬وشرطها تطليقه زوجته أم علي وهجرها هي وابنها لم يكن عن عاطفة‬
‫غيرة‪ ،‬بل كان لضمان أال يتعرض ألية مؤثرات أخرى بخالف تأثيرها وتسلطها‬
‫عليه‪ ،‬وحتى رجوعه سًرا لطليقته وابنه لم يكونا السبب الرئيس للصدام‪ ،‬بل‬
‫كان ما بلغها من تقدمه لخطبة ابنة أحد الحكام األيوبيين األقوياء‪ ،‬مما يترتب‬
‫عليه ازدياد قوته واكتسابه شرعية شخصية خارجة عن كونه زوج أرملة كبير‬
‫األيوبيين‪ ..‬أي إن الخوف على المصلحة كان هو محرك االفتراق كما كان هو‬
‫الدافع األول لالتفاق‪..‬‬
‫والمثبت عن شجر الدر أنها لم تكن بالتي تغلبها مشاعرها الشخصية عن‬
‫القيام بما هو واجب عليها لضمان المصلحة عامة أو خاصة بدليل سرعة‬
‫وعقالنية تصرفها فور موت زوجها األول نجم الدين أيوب‪ ،‬وهو حب حياتها‪ ،‬فقد‬
‫سارعت التخاذ التدابير الالزمة لضمان استقرار الحكم وعدم تأثر العمليات‬
‫العسكرية ضد الفرنجة في الدلتا‪ ،‬وأدارت بحنكة عملية التفاوض مع جيش‬
‫لويس التاسع المهزوم‪ ،‬وبادرت الستدعاء توران شاه ابن زوجها الراحل‪ ،‬ثم‬
‫أطاحت به عندما تنّمر عليها‪ ،‬وأدارت عملية االنتقال السلس للسلطة من توران‬
‫شاه لها منفردة‪ ،‬ثم أليبك معها كواجهة صورية‪ ،‬كل هذا خالل أشهر قليلة من‬
‫وفاة السلطان نجم الدين‪ ،‬مما يشي بثبات انفعالي رائع‪ ،‬وقدرة عالية على‬
‫تحييد المشاعر عن اتخاذ القرارات الخطيرة‪..‬‬
‫ثانًيا‪ ،‬فإن شجر الدر هي ممن يمكن وصفهم بأنهم ال تفوتهم شاردة وال‬
‫واردة‪ ،‬ويبدو هذا جلًيا من تحركاتها سالفة الذكر‪ ،‬والتي ُتظهر درايتها العميقة‬
‫بموازيين القوى في المملكة وقدرتها على استغاللها لصالحها‪ ،‬وكذلك علمها‬
‫بالتحركات السرية أليبك؛ من رجوعه لزوجته أم علي أو مراسلته أميًرا أيوبًيا‬
‫لخطبة ابنته‪ ،‬مما يعني أنها كانت تعرف جيًد ا من أين تؤكل الكتف‪ ،‬وكانت متأنية‬
‫حريصة في كل تحركاتها‪ ..‬وهو ما ال يتالءم مع العفوية الظاهرية في جريمة‬
‫اغتيال أيبك‪..‬‬
‫ثالًث ا‪ ،‬فإن ما هو معروف من ضعف جبهة أيبك مقابل قوة جبهة شجر الدر ليس‬
‫كافًيا لتفسير االنقالب الدرامي في موازين القوى‪ ،‬لدرجة سرعة تسليمها‬
‫لغريمتها وقتلها‪ ،‬وتوريث الحكم ولو ظاهرًيا لعلي بن أيبك‪ ،‬فكأنما بل هو ما وقع‬
‫بالفعل قد فقدت شجر الدر بضربة واحدة كل ما تملك من قوة وحلفاء ووالء‪..‬‬
‫صحيح أن أيبك كان قد حرص في فترة حكمه أن يدّمر كل خصومه كاشًف ا عن‬
‫حقيقة أنه ليس ذلك الشخص الضعيف الذي افترضوه‪ ،‬ولكن ليس بما يكفي كي‬
‫تستمر لجبهته كل تلك القوة بعد موته‪..‬‬
‫رابًع ا‪ ،‬فإن كل تحركات شجر الدر كانت تعتمد في جزء كبير منها على مكانتها‬
‫المعنوية كأرملة للسلطان العظيم نجم الدين أيوب‪ ،‬بسبب مسألة الرابطة‬
‫الروحية بين السلطان‪/‬األستاذ ومماليكه‪ ،‬والتي كانت من القوة والقدسية‬
‫بحيث أنها تستمر حتى بعد رحيل األستاذ‪ ،‬وهو ما بدا في حرص المماليك‬
‫الصالحية على إشراكها في قراراتهم‪ ،‬وتصرفهم على نحو يفيد ضمنًيا اعتبارهم‬
‫أنها وريثة إلخالصهم لسيدهم الراحل‪ ..‬فكيف تهاوت تلك الرابطة القوية بهذه‬
‫السهولة بعد قتلها أيبك‪ ،‬رغم أن هذا األخير قد نّكل بزمالئه‪ ،‬فقتل أقطاي وشّرد‬
‫بيبرس وقالوون‪ ،‬وقتل واعتقل ونفى كبار المماليك الصالحية؟ المفترض أن‬
‫يستميتوا في الدفاع عن الدعامة األخيرة لشرعية تسلطهم على الحكم‪ ،‬ال أن‬
‫يتهاونوا في تسليمها ألعدائها‪ ..‬ثمة رائحة ل«صفقة كبير ما» في األمر تجعلهم‬
‫يتخذون هذا الموقف المتراخي‪ ..‬صحيح أنهم قد حاولوا أواًل حمايتها‪ ،‬ولكن ليس‬
‫كما هو منتظر منهم‪ ..‬وفي المقابل فإنها كما يبدو واضًح ا قد تصرفت بثقة‬
‫شديدة في استمرار دعمهم لها‪..‬‬
‫وأخيًرا‪ ،‬فإن أيبك الذي استأسد على خصومه وغلبهم‪ ،‬وأظهر أن وراء الرجل‬
‫اللين الطيب رجاًل قوًيا فاتًك ا ال يتورع عن اتخاذ أقسى التدابير لتدمير منافسيه؛‬
‫قد سقط في فخ شديد السذاجة‪ ،‬وخدعته بعض الكلمات المعسولة والقبالت‪،‬‬
‫وربما ليلة حميمية من شجر الدر‪ ،‬التي يعرف جيًد ا أنها ليست بالتي تنسى‬
‫اإلساءة‪ ..‬فكيف سقط أيبك في هذا الشرك بتلك السهولة‪ ،‬إن لم يكن هناك‬
‫ما أو من شجعه على ذلك؟‬
‫كل تلك النقاط تقودنا الستنتاج واحد‪ :‬وراء ما حدث أمر ُد ّبر بليل‪ ..‬ووراء كل هذا‬
‫الغموض يد خبيثة لعبت ببراعة‪ ..‬فمن هو صاحب تلك اليد؟‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫لو نظرنا للصورة الكاملة الشاملة؛ واقعتي اغتيال أيبك ومقتل شجرالدر‪،‬‬
‫باعتبارهما موضوًع ا واحًد ا‪ ،‬وتقمصنا شخصية المحقق الجنائي الباحث في‬
‫جريمة‪ ،‬لوجب علينا طرح السؤال اآلتي‪ :‬من هو المستفيد من كل ذلك؟‬
‫فلنتتبع خيط األحداث‪ ،‬فتتابعها بعد مقتل كل من أيبك ثم شجر الدر أدى‬
‫إلجالس علي بن أيبك على أريكة السلطنة‪ ،‬ثم سرعان ما أطاح به قطز نائب‬
‫السلطنة في عهده وعهد أبيه ليصبح هو سلطان البالد‪ ،‬حتى اغتياله على يد‬
‫بيبرس‪..‬‬
‫قطز إذن هو المستفيد األول واألخير‪ ..‬فهل يكون هو صاحب تلك اليد الخفية؟‬
‫األمانة العلمية تلزمني أن أؤكد للقارئ مسبًق ا أن كل حديثي هذا ال يخرج‬
‫عن النظرية القائمة على بعض االستنتاجات‪ ،‬التي ال تعدو بدورها أن تكون مجرد‬
‫اجتهاد بشري قابل للصواب أو الخطأ‪...‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫بعكس ما ُتقّد م األدبيات بالذات ذات الصبغة الدينية قطز‪ ،‬فإنه لم يكن ذلك‬
‫الطيب الوديع المثالي‪ ،‬بل كان ببساطة شديدة «واحًد ا من قومه»‪ ،‬يخوض فيما‬
‫يخوضون من تآمر وصراعات وصدامات‪ ..‬وهو ما ال يتعارض مع مكانته كبطل‬
‫إسالمي‪ ،‬فالعصر العربي اإلسالمي كله يزدحم بأولئك الذين جمعوا بين البطولة‬
‫والتصارع ألجل السلطة‪..‬‬
‫بداية فإن قطز كان من مماليك الصالح نجم الدين أيوب‪ ،‬وكان شريًك ا لهم في‬
‫كل ما كان بعد موته‪ ،‬فكان بالتأكيد ممن شهدوا التخطيط لقتل توران شاه بعد‬
‫تنّكره لمماليك وزوجة أبيه‪ ..‬ثم ظهر بشكل صريح في واقعة اغتيال أقطاي‪،‬‬
‫عندما حاول هذا األخير تحدي أيبك ومنازعته السلطة‪ ،‬فكان على رأس من‬
‫كمنوا له في القلعة‪ ،‬وقتلوه وألقوا رأسه لمماليكه‪ ،‬رغم ما هو مفترض من وجود‬
‫عالقة زمالة بينهما‪ ..‬وقد صار على أثر تلك الواقعة نائًبا للسلطان‪ ،‬ربما على‬
‫سبيل المكافأة له‪..‬‬
‫كذلك فإن فترة توليه نيابة السلطان‪ ،‬وشغله موقع ذراعه اليمنى‪ ،‬قد شهدت‬
‫عملية التنكيل بالقتل واالعتقال والنفي ضد المماليك الصالحية من رجال نجم‬
‫الدين أيوب‪ ،‬وال يمكن أن يكون كل ذلك قد مر عليه مر الكرام دون أن يكون شريًك ا‬
‫فيه‪ ،‬سواء بحكم منصبه‪ ،‬أو لكون أيبك لم يكن ليولي منصًبا كهذا لمن يعارض‬
‫سياساته‪..‬‬
‫بقي أن أقول إن قطز كما سيرد ذكره كان مؤمًن ا بنبوءة تقول إنه سيتولى‬
‫حكم مصر ويهزم التتار‪ ..‬والتاريخ به الكثير من النماذج لمن صدرت عنهم أعتى‬
‫الممارسات عن يقين أن لهم في الحكم حًق ا معلوًم ا ومسطوًرا في لوح القدر‪...‬‬
‫فلو تتبعنا نظرية أن قطز كان يحرك خيوط صراعات القوة والسلطة من خلف‬
‫الستار‪ ،‬وسرنا خلف تلك الفرضية‪ ،‬لنظرنا لألحداث من زاوية أخرى افتراضية‬
‫تتخللها بعض الحقائق الواقعة المسجلة تاريخًيا‪..‬‬
‫فأواًل ‪ ،‬قام قطز بمساعدة أيبك في اإلطاحة بأقطاي قتًال وبأتباعه نفًيا‪..‬‬
‫ثم ساعد أيبك في التخلص من منافسة كبار األمراء‪ ،‬بقتل بعضهم واعتقال‬
‫وتشريد البعض اآلخر‪...‬‬
‫ثم بقي كل من أيبك وشجر الدر‪ ،‬فاستغل الشقاق بينهما لو استبعدنا أن‬
‫تكون له يد فيه وأغرى شجر الدر بالتخلص من أيبك‪ ،‬وأعطاها الضمانات النتقال‬
‫هادئ للسلطة من بعده لسلطان آخر يتزوجها ربما هو عز الدين الحلبي سالف‬
‫الذكر في الجزء السابق مما يعني استمرارها في الحكم‪ ،‬وعدم النيل من‬
‫مكانتها‪ ..‬وشجع أيبك على العودة للقلعة ومصالحة شجر الدر‪ ..‬جدير بالذكر هنا‬
‫أن خالل فترة اعتزال أيبك شجر الدر‪ ،‬وبقائه في داره بمناظر اللوق‪ ،‬قام باعتقال‬
‫بعًض ا من مماليك الصالحية‪ ،‬فتصادف مرورهم تحت شباك تقف فيه شجر الدر‬
‫خالل اقتيادهم للقلعة‪ ،‬فتبادلوا معها بعض اإلشارات الموحية بوجود اتفاق ما‬
‫بينهم موجه ضد أيبك‪ ..‬جدير بالذكر كذلك أن األمير عز الدين الحلبي قد لقي‬
‫مصرعه بشكل مريب قيل إنه سقط عن حصانه فمات خالل مطاردته بعض‬
‫المتمردين على قطز‪ ،‬في عهد هذا األخير‪..‬‬
‫ثم ما زلنا مع الفرضية غدر قطز بالمرأة المغرر بها‪ ،‬وسلمها لغريمتها أم‬
‫علي‪ ،‬بعد أن قام بتحييد المماليك الصالحية من جانب‪ ،‬وتشجيع المماليك‬
‫المعزية على االنتقام لسيدهم من جانب آخر‪ ..‬وجدير بالذكر أن بعض المؤرخين‬
‫الثقات قد ذكر أن قطز هو من عمل على تسليم شجر الدر لعلي بن أيبك‪..‬‬
‫هنا لم يعد بين قطز وكرسي الحكم سوى شرعية علي بن أيبك‪ ،‬فواله‬
‫السلطة‪ ،‬ثم استغل اقتراب خطر التتار في استصدار فتوى من كبار رجال‬
‫الدين وعلى رأسهم العز بن عبد السالم بخلع السلطان الطفل‪ ،‬ألنه ال يصح أن‬
‫يقوم بأمر المسلمين إال رجل بالغ عاقل قدير‪ ..‬فخلعوا علي بن أيبك‪ ،‬وحلف‬
‫األمراء لقطز سلطاًنا للبالد‪...‬‬
‫وهكذا جنى قطز ثمرة سنوات من التخطيط المحكم والعمل المتقن‪..‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫هل تبدو تلك النظرية منطقية؟ بالنسبة لي فإنها تبدو كذلك‪ ،‬ولكنها ال يمكن‬
‫أن تخرج عن كونها «فرضية»‪ ،‬فالمبدأ العام في اإلثبات هو أن البّينة على من‬
‫اّدعى‪ ،‬وأنا ال أملك البّينة على إثبات صحة اّدعائي‪ ،‬بالتالي ال يمكنني إخراجه‬
‫من خانة االفتراض لخانة الواقع‪ ..‬وعلى أية حال فإن الحقيقة في‬
‫التاريخ وغيره هي مسألة نسبية‪ ..‬وهو مما يعطي البحث في التاريخ متعته‬
‫وثراءه‪..‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫هذا عن مقتل أيبك وشجرالدر‪...‬‬


‫فماذا عن اغتيال قطز؟‬

‫( ‪) IV‬‬
‫قطز‪ ..‬ضحية النبوءة الناقصة‬

‫برودة عاتية اجتاحت السلطان الملقى في بركة من الدم‪ ..‬آالم الجسد‬


‫المثخن بالطعنات‪ ،‬المخترق برؤوس السهام‪ ،‬تنسحب لتحل محلها سكينة‬
‫عجيبة‪ ..‬تتوارى موجودات الدنيا رويًد ا رويًد ا‪ ،‬مفسحة المجال لموجودات الغيب‪..‬‬
‫آخر نصيبه من المرئيات األرضية كان وجوًه ا أحاطته ترمق بقايا الحياة تغادر‬
‫وجهه المتعرق‪ ..‬مّيز مالمح كل من أنص األصبهاني‪ ،‬بيدغان الركني‪ ،‬بهادر‬
‫المعزي‪ ،‬بلبان الرشيدي‪ ،‬بينما غطت ضبابة كثيفة باقي مجال البصر‪ ،‬فلم يميز‬
‫باقي وجوه رفاقه‪/‬قتلته‪ ..‬اخترق الضباب وجه صارم المالمح‪ ،‬انسدلت خصلة من‬
‫شعره األشقر فغطت إحدى عينيه الزرقاوين‪ ..‬انحنى الوجه حتى صافحت‬
‫أنفاسه الحارة األنفاس المحتضرة‪ ..‬انكشف عنه غطاؤه فمّيز بصره الحديد‬
‫ارتجافة على زاوية الفم المزموم بعنف‪ ،‬ودمعة شابت زرقة عيني متأمله‪ ..‬تمتم‬
‫بآخر قواه الذاوية «بيبرس»‪ ..‬جثا بيبرس على ركبتيه‪ ،‬ومّد يًد ا يتناقض حنانها مع‬
‫صرامة سيفه الذي هوى على عاتق ضحيته قبل لحيظات‪..‬‬
‫«قطز»‪ ،‬تمتم بيبرس بدوره مستخدًم ا لغتهما التركية التي لم يعد يستخدمها‬
‫منذ زمن ليس بالقليل‪« ..‬انتهى األمر‪ ..‬استرح‪ ..‬نم‪ ...‬انتهى األمر يا‪ ..‬صديقي‪ ..‬هنا‬
‫تنتهي الرحلة وينقضي الدين القديم وتذهب العداوات»‪.‬‬
‫حاول الرد بغمغمات خانه لسانه عنها‪ ،‬فخرجت مختلطة مبهمة‪ ..‬تدفق الدم‬
‫من بين شفتيه‪ ،‬ومن وعيه المحتضر تدفقت الذكريات‪...‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫ال يذكر ماذا كان خطؤه الذي جعل سيده الدمشقي القديم يحتد عليه‪،‬‬
‫فيصفعه ويسّبه ويسّب آباءه وأجداده‪ ،‬فليست القسوة من صفات سيده‪ ..‬انزوى‬
‫في غرفته يبكي عازًف ا عن الطعام ومخالطة اآلخرين‪ ..‬آٍه من ذل من كان عزيز‬
‫قومه‪ ..‬أبوه وجده من كان عظماء دولتهما يسعون‬
‫لنيل شرف تقبيل أعتابهما قبل أن تغدر بهما األيام‪ ،‬فيزول ملكهما ويموتان‬
‫شريدان ذليالن‪ ،‬وُتطّوح األيام عزتهما‪ ،‬حتى يأتي يوم يسّبهما فيه رجل‬
‫عامي‪..‬‬
‫طرقات رفيقة على باب غرفته‪ ،‬ثم الحاج علي الفراش صديق سيده يدلف‬
‫إلى الغرفة‪ ..‬انتزع نفسه من مجلسه‪ ،‬وأسرع ُيقّبل يد الرجل الذي يجّله أهل‬
‫دمشق‪ ..‬أجلسه هذا‪ ،‬واتخذ جلسة متوددة بجواره‪ ..‬تأمل عينيه المحمرتين‬
‫كالدم‪ ،‬ثم قال‪« :‬إيش هذا البكاء؟ من لطشة تفعل كل هذا؟ إيش تعمل إذن لو‬
‫وقعت فيك ضربة سيف أو نشابة؟!»‬
‫تردد برهة وبقايا صوت أمه وهي تهدهده في فراشه بأغنية حانية تعبث‬
‫بذاكرته‪ ..‬أخيًرا استجمع أنفاسه وتحدث‪« :‬وهللا يا عم ما أبكي من لطشة‪ ..‬وال‬
‫السيوف تعمل فّي هذا‪ ..‬لكني أبكي لعن سيدي أبي وجدي»‪ .‬تردد ثانية وأردف‪:‬‬
‫«وهما خير من أبيه وجده»‪.‬‬
‫الحاج علي لم يعتد مثل تلك الوقاحة من المملوك الشاب‪ ..‬كظم غيظه‬
‫وأجاب‪« :‬قطز‪ ..‬أنت كبعض ولدي‪ ..‬لكن‪ ..‬يا صغيري‪ ..‬وإيش يكون أبوك وجدك؟ هما‬
‫كافر ابن كافر‪ ...‬فاألدب يا صغيري‪ ..‬ال ينسيك غضبك حسن األدب»‪.‬‬
‫أحس الحاج بتلك الرعدة التي سرت كتف المملوك المستكينة تحت كفه‬
‫العجوز‪ ..‬رفع قطز عينيه وثبتهما في عيني محدثه‪ ،‬قائاًل ‪« :‬ال تقل كذا يا شيخ!‬
‫فوهللا ما أنا إال مسلم ابن مسلم إلى عشرة جدود!»‪ ،‬ازدادت نظراته حدة‪ ،‬وقد‬
‫برزت عروق عنقه كمن يحمل على صدره أثقااًل ‪« :‬أنا محمود بن ممدود‪ ..‬ابن‬
‫أخت خوارزم شاه‪ ..‬والبد ما أملك مصر وأكسر التتار!»‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫«قال الحاج علي‪ :‬فضحكت من قوله وطايبته‪ ..‬وتقلبت األحوال إلى أن ملك‬
‫مصر وكسر التتار‪ ..‬ودخل قطز دمشق وطلبني‪ ..‬فأحضرني وأعطاني خمسمئة‬
‫دينار‪ ،‬ورتب لي راتب جيد‪ ،‬رحمه هللا»‬
‫الدرة الزكية في أخبار الدولة التركية أيبك الدوادار‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫لم يعد ذلك المملوك المنكسر بقرب العهد بعز أعقبه ذل‪ ..‬تكورت عضالت‬
‫ساعديه‪ ،‬وأكسبته تدريبات الفروسية والقتال جسًد ا ممشوًق ا‪ ..‬تناقلته األيدي‬
‫حتى استقر مؤقًت ا عند األمير الهيجاوي‪ ،‬أحد أمراء دولة بني أيوب بمصر‪..‬‬
‫جلس في يوم حار مسلًم ا رأسه لزميله حسام الدين البركة‪ ،‬يسرح شعره‬
‫ويفليه مما علق به من قمل‪ ،‬نتيجة أيام من التدريب البالغة مشقته وكثافته حّد‬
‫أنهم لم يجدوا وقًت ا للنظافة واالستحمام‪..‬‬
‫قطع خشداشه (زميله في طباق المماليك) الصمت قائاًل بلهجة حالمة‪:‬‬
‫«تعرف يا قطز‪ ..‬وهللا ما أشتهي إال إمرة خمسين فارًس ا»‪.‬‬
‫ابتسم مجيًبا بثقة‪« :‬طيب خاطرك‪ ..‬أنا أملك الديار المصرية وأكسر التتار‬
‫وأعطيك إمرة خمسين فارًس ا»‪.‬‬
‫انتقلت يد الزميل من رأسه لقفاه في صفعة ودودة‪ ،‬قائاًل بتهكم‪« :‬أنت تملك‬
‫الديار المصرية وتكسر التتار بقملك هذا؟»‬
‫اتسعت االبتسامة‪« :‬وإلك علة؟ إيش يلزمك أكثر من إمرة خمسين فارًس ا؟»‬
‫ثم التفت للخشداش‪ ،‬وأكمل‪« :‬البد لي من هذا‪ ..‬رأيت النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وأخبرني أني أملك مصر وأكسر التتار»‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫قال حسام الدين البركة‪« :‬فسكتت وكنت أعرف منه الصدق في حديثه وعدم‬
‫الكذب»‬
‫النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ابن تغري بردي‪..‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫تتثاقل أنفاسه‪ ..‬إعصار من الوجوه يضرب نطاق بصره‪ ..‬تتبدل بسرعة مذهلة‪،‬‬
‫لكنه ال يغفل منها وجًه ا‪ ..‬أخيًرا تتباطأ حركتها‪ ،‬ثم يزيحها وجه بعينه‪ ..‬أقطاي‪...‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫ألصق ظهره بجدار الدهليز‪ ،‬وقد تصلبت أصابعه حول مقبض سيفه‪ ..‬ندت‬
‫همهمة عن بعض مرافقيه المتخذين مواقعهم‪ ،‬فأسكتها بإشارة من يده‪..‬‬
‫تراقصت جذوات المشاعل في أول الممر واشية باقتراب الهدف‪ ..‬كعادة فارس‬
‫الدين أقطاي‪ ،‬فإنه إذا مشى اشتد في مشيته‪ ،‬فيشارك خطوه السريع بنيته‬
‫العمالقة في إثارة عاصفة مختصرة حوله‪ ..‬أشار قطز مجدًد ا لرفاقه أن استعدوا‪..‬‬
‫فعلى األمر أن يتم بسرعة‪..‬‬
‫كيف كانت لحظة المواجهة؟ ال يتذكر أية تفاصيل‪ ..‬ال نظرات مواجهة وال كلمات‬
‫أخيرة‪ ..‬فقط يتذكر جيًد ا تلك اللحظة التي أمسك فيها رأس أقطاي وطّوحها بكل‬
‫قوته نحو سبعمئة من فرسان هذا األخير‪ ،‬احتشدوا حول قلعة الجبل ظًن ا منهم‬
‫أن أيبك اكتفى باعتقاله وأنهم ُم خّلصوه‪..‬‬
‫يذكر صرخة غضب عاتية من بيبرس‪ ،‬صديق وتلميذ أقطاي‪ ،‬نظرته الواعدة‬
‫بالويل‪ ..‬عضالت فكه المتراقصة في شبق لالنتقام‪..‬‬
‫يذكر أيًض ا قطرة من دم الرأس المقطوع‪ ،‬خالفت اتجاه تطويحته وصفعته على‬
‫جانب عنقه‪ ..‬بقي بعدها أياًم ا يحس ألًم ا في موضع الصفعة‪ ،‬كأن كًف ا غاضبة‬
‫هوت عليه‪ ..‬ومن حين آلخر كان يزوره نفس األلم‪ ..‬في المكان ذاته الذي‬
‫استقرت فوقه قطرة الدم‪ ..‬نفس الموضع الذي بعد ذلك اليوم بسنوات هوت عليه‬
‫أولى ضربات سيوف قتلته‪..‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫«كنا عند سيف الدين قطز لما تسلطن أستاذه المعز أيبك التركماني‪ ،‬فأمرنا‬
‫قطز بالقعود‪ ،‬ثم أمر المنجم بضرب الرمل‪ ،‬ثم قال له اضرب لمن يملك بعد‬
‫أستاذي المعز أيبك‪ ،‬ومن يكسر التتار‪ ،‬فضرب وبقي زمنا يحسب‪ ،‬فقال‪ :‬يطلع‬
‫معي خمس حروف بال نقط‪ .‬فقال له قطز‪ :‬لم ال تقول محمود بن ممدود؟ فقال‪ :‬يا‬
‫خوند ال ينفع غير هذا االسم‪ ،‬فقال‪ :‬أنا هو‪ ،‬أنا محمود بن ممدود‪ ،‬وأنا أكسر التتار‬
‫وآخذ بثأر خالي خوارزم شاه‪ ،‬فتعجبنا من كالمه‪ ،‬وقلنا يا خوند يكون هذا إن شاء‬
‫هللا‪ .‬فقال‪ :‬اكتموا ذلك‪ .‬وأعطى المنجم ثالثمئة درهم»‬
‫النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ابن تغري بردي‪..‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫تحسس كلماته قبل أن ينطقها‪ ،‬وقد أخذ يرمق بطرف عينه وجه شيخ‬
‫اإلسالم العز بن عبد السالم‪ ..‬ال يخشى سوى هذا الرجل الصلب الذي يصعب‬
‫أن تفرض عليه أمًرا ال ُيقنعه‪ ..‬وهو من هو مكانة وشعبية بين الناس‪...‬‬
‫كان الشيخ يجلس في صدارة المجلس المجتمع في عجالة لمناقشة الخطر‬
‫المغولي المقترب من حدود الديار المصرية‪ ..‬ناقشوا أواًل تمويل الجيش‪ ،‬وأدار‬
‫قطز النقاش باعتباره نائًبا عن السلطان الطفل علي بن أيبك‪ ،‬كما كان من قبل‬
‫نائًبا ألبيه‪ ..‬بقيت مناقشة الخطوة األكثر حساسية‪ ..‬يجب أن يحسن تصويب‬
‫هذه الرمية وإال فسد كل أمر دّبره‪..‬‬
‫أخيًرا قال العبارة التي تدرب مراًرا‪ ،‬بينه وبين نفسه‪ ،‬على إلقائها‪« :‬البد من‬
‫سلطان قاهر يقاتل هذا العدو‪ ،‬والملك الصبي صغير ال يحسن تدبير المملكة‪..‬‬
‫فانظروا ماذا ترون‪»..‬‬
‫ألقاها واستجمع قواه كيال تفضحه أنفاسه‪ ..‬يجول ببصره في وجوه الحضور‪..‬‬
‫هم يدركون ما يرمي إليه‪ ،‬وهو يدرك أنهم يدركون‪ ،‬فقط الشكليات فرضت عليهم‬
‫جميًع ا التظاهر بمناقشة أمر يعلمون أنه محسوم منذ أزاح الموت كل من أقطاي‬
‫وأيبك وشجر الدر‪ ،‬وغّيب النفي مؤقًت ا بيبرس وقالوون‪ ..‬وأن هذا الجالس‬
‫أمامهم كان قد شارك السلطان السابق أيبك القضاء على مراكز القوى‬
‫المملوكية المنافسة‪ ،‬قتاًل ونفًيا واعتقااًل ‪ ...‬فلم يعد للبيت المملوكي من كبير‬
‫سوى ذلك األمير الشاب قطز‪ ،‬الممتطي طموحه في ظل نبوءة سعده‪..‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬
‫«فلما تّم أمره في السلطنة‪ ،‬عمل الموكب في القلعة‪ ،‬فلما طلع األمراء إلى‬
‫القلعة قبض على جماعة من أعيان خشداشيته المعزية‪ ،‬وقّيدهم وأرسلهم‬
‫إلى السجن بثغر دمياط واإلسكندرية»‬
‫بدائع الزهور في وقائع الدهور ابن إياس‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫شّد ته أوتاد الوهن إلى األرض بقوة جبارة‪ ،‬اجتاح صدره شعور الغرق وقد‬
‫اختلطت أنفاسه األخيرة بالدم المندفع من جوفه إلى فمه‪ ..‬حاول عبًث ا أن يبصق‬
‫السائل الثقيل‪ ..‬ارتسمت في مخيلته ابتسامة ساخرة من نفسه‪ ..‬سلطان‬
‫مصر والشام‪ ..‬كاسر جيش المغول‪ ..‬يعجز عن مجرد بصقة‪..‬‬
‫انتابته ذكرى النبوءة‪ ،‬نصفها األول الملوث بالدم‪ ،‬نصفها الذي يخشاه فيما هو‬
‫مقبل عليه‪ ..‬ونصفها اآلخر المكلل بالمجد‪ ..‬هو ذلك النصف الذي يرجو لقاء ربه‬
‫به‪...‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫عاصفة الغبار تحجب المرئيات‪ ..‬معزوفة مرعبة من تقارع األنصال الحادة‬


‫وأصوات مصافحتها القاتلة للرؤوس والضلوع‪ ..‬أمواج من اللحم والعضالت والحديد‬
‫تتصادم كعمالقين عاتيين‪ ،‬ثم ترتد مخلفة حطاًم ا من البشر والدروع‪ ..‬في‬
‫السماء مظاهرة من الجوارح آكلة الجيف‪ ،‬تنتظر وليمة ُتعّد لها على أرض عين‬
‫جالوت‪ ..‬تطأ سنابك فرسه صفوًف ا من جثث المغول‪ ،‬فيدرك أن أشاوس‬
‫المسلمين قد أزاحتهم عن مواقعهم‪ ..‬سخونة حماسية اجتاحته‪ ،‬فألقى خوذته‬
‫عن رأسه صارًخ ا‪« :‬وا إسالماه! يا هللا انصر عبدك قطز على التتار!»‪ ...‬سهم أصاب‬
‫عنق فرسه فقفز عن ظهره قبل أن يهوي به‪ ،‬وبقي يقاتل على رجليه حتى أتاه‬
‫أحد رجاله بفرس آخر‪ ..‬غاب عما حوله فلم يعد يدرك سوى ذراعه وهي تهوي‬
‫بالسيف على رؤوس جند المغول‪ ..‬كالمحموم يندفع ويضرب بقوة عاتية‪ ،‬حتى‬
‫أفاق على أصوات تكبيرات الجند وهم يطاردون فلول العدو المنسحب‪ ..‬يهبط عن‬
‫فرسه ويصافح بوجهه التراب في سجدة شكر طويلة‪...‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫ذهبت السكرة وجاءت الفكرة‪ ..‬فإن كان قد حقق الشطر اآلخر من النبوءة فإن‬
‫شطرها األول ُم لكه قد بدأت ُتراوده بوادر االضطراب‪ ...‬فهو ال يستطيع أن ينام‬
‫منذ بلغته تلك الوشاية أن بيبرس ورفاقه يخامرون عليه وُيعّد ون له أمًرا‪ ..‬بيبرس‬
‫مجدًد ا‪ ...‬هل هو غضبه أن السلطان قد رجع عن وعده له بوالية حلب؟ وهل‬
‫اعتقد بيبرس حًق ا أن قطز يعطيه حلب وهي الباب الذي إن ملكته ملكت مداخل‬
‫الشام ثم مصر؟ هل هو الثأر القديم لصديقه أقطاي؟ لماذا ال ينسى؟ ألم أنَس‬
‫له أنه خالل منفاه كان ُيحّرض أمراء بني أيوب في الشام على غزو مصر؟ ألم‬
‫نتعاهد على نسيان مرارات الماضي؟ لماذا يحملني على أن يكون لي معه‬
‫ُأ‬
‫شأن ال أحب أن ضطر إليه؟ كيف التدبير؟‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫‪ 22‬أكتوبر‪1260‬م‬

‫الصالحية‪ ..‬على مشارف مصر‪ ..‬طريق عودة الجيش المملوكي‪..‬‬


‫«كانت رحلة صيد موقفة‪ ..‬وفق هللا سهم موالنا»‬
‫قالها قالوون لقطز‪ ..‬إال أن هذا األخير لم يسمعه وهو يتأمل بيبرس بطرف‬
‫عينه‪ ..‬فمنذ بلغت تلك الوشاية أذني السلطان حرص أن يجعل بيبرس أمام‬
‫عينيه دوًم ا‪ ،‬فألزمه مرافقته في كل حين في صورة الُم قّرب منه‪ ..‬إن لم يكن في‬
‫ذلك تطييًبا لنفسه فليكن من باب تقريب الخصم وعدم تركه يغفل لحظة عن‬
‫نطاق الحذر‪ ..‬هل هذا ما دفعه للخروج معه ورفاقه منفردين لصيد األرانب البرية؟‬
‫ربما‪..‬‬
‫قطع بلبان الرشيدي الصمت مقترًبا بفرسه من فرس السلطان‪« :‬موالنا يعلم‬
‫حسن بالء خادمه بيبرس»‪ ،‬أفاق قطز من شروده ونظر لحظة لبلبان‪ ،‬ثم أجاب‪:‬‬
‫«بلى‪ ..‬ال ينكر ذلك إال جاحد»‪ ..‬تبادل محّد ثه نظرة سريعة مع بيبرس‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫«فحسن ظننا بموالنا السلطان أال يغفل عن مكافأة حسن بالئه بما هو أهل‬
‫له»‪.‬‬
‫عّم يتحدث هذا الثرثار؟ قالها بينه وبين نفسه وهو يجيب بلبان‪« :‬بيبرس ال‬
‫يقدر أحد يوفيه حقه‪ ..‬وهو عندنا في أكرم مكان»‪.‬‬
‫ترجل بيبرس عن فرسه مقترًبا من السلطان‪ ،‬أمسك يده وأحنى رأسه طابًع ا‬
‫عليها قبلة‪ ،‬ثم وضعها على عينيه‪ ..‬استقبل قطز األمر ببساطة‪ ،‬فهذا أمر‬
‫اعتادته اآلداب المملوكية‪ ..‬انتظر أن يترك بيبرس يده إال أن هذا األخير بقي قابًض ا‬
‫عليها بقوة زائدة‪ ..‬نظر قطز إليه‪ ،‬رفع بصره لألمراء فوجدهم قد قبضوا سيوفهم‪،‬‬
‫أعاد النظر مباشرة لعيني بيبرس‪ ..‬ثم ارتسم على شفتيه شبح ابتسامة‪ ..‬هل‬
‫هي ابتسامة إعجاب باللعبة الذكية لخصمه؟ أم هي ابتسامة هازئة بذلك الذي‬
‫سار وراء نبوءة ناقصة‪ ،‬غفل عن أن يسأل نفسه أين تذهب به وإالم تنتهي؟‬
‫هللا أعلم‪...‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫القاهرة التي كانت قد تزينت استعداًد ا الستقبال السلطان قطز‪ ،‬استيقظت‬


‫على المنادي بالترحم عليه والدعاء للسلطان القاهر ركن الدين بيبرس‪...‬‬
‫وألن لقب «القاهر» كان شؤًم ا على من حملوه سابًق ا من الملوك‪ ،‬فقد غّير‬
‫بيبرس لقبه ليصبح «الظاهر»‪..‬‬
‫وألن قاعدة «مات الملك‪ ...‬عاش الملك» قرينة قاعدة «الحكم لمن غلب»‪،‬‬
‫فسرعان ما انقضت أيام قطز كأن لم تكن‪ ،‬لتستقبل قلعة الجبل سيًد ا جديًد ا‪،‬‬
‫وحلقة جديدة في السلسلة المملوكية المراد لها االستمرار حتى يقضي هللا‬
‫أمًرا كان معلوًم ا‪..‬‬
‫(‪)V‬‬

‫هل قتل الظاهر بيبرس نفسه؟!‬


‫طريق حلب دمشق‪ ..‬منتصف عام ‪1277‬م‬

‫القافلة السلطانية الصامتة تشتد في سيرها نحو دمشق العاصمة الشامية‬


‫للسلطنة المملوكية حاملة النذير المريع‪ :‬السلطان الظاهر ركن الدين بيبرس‬
‫البندقداري يحتضر‪..‬‬
‫تتعدد األسباب واالحتضار واحد‪ ،‬ولكن من كان يتخيل أن سلطان البرين وسيد‬
‫البحرين وخادم الحرمين الشريفين‪ ،‬قاهر المغول وكاسر الفرنجة وعزيز مصر‬
‫والشام وجزيرة العرب وأرض األناضول؛ يفتك به مرض تافه كاإلسهال؟‬
‫لم تنل منه جحافل المغول قبل وبعد عين جالوت‪ ،‬وال كتائب فرسان الفرنجة‬
‫بكونتاتها ومقدمي إسبتاريتها وداويتها‪ ،‬وال مؤامرات المخامرين والمنشقين من‬
‫أمراء المماليك‪ ،‬ونالت منه طفيليات البطن وأدواء األمعاء‪..‬‬
‫كان اسًم ا على مسمى‪ ،‬ف«بيبرس» تعني الفهد‪ ،‬وكان مثله سريًع ا قوًيا‬
‫مثابًرا صلًبا‪..‬‬
‫يذكر بعض أمرائه أنهم كانوا في بعض المعارك الضارية يفتقدونه فجأة‪ ،‬ثم‬
‫يجدونه عائًد ا يشق األفق كمارد أسطوري فوق صهوة جواده‪ ،‬وهو يحمل خوذة‬
‫أو درًع ا كانا لبعض فرسان العدو‪ ،‬بل وربما قطعة من باب الحصن الذي يحاصرونه‪..‬‬
‫كيف ومتى غافلهم واختفى ليخترق جحافل األعداء ويعود سالًم ا؟ ال أحد‬
‫يدري‪..‬‬
‫يحكي آخرون أنه كان في وقت صفائه يتسلى بأن ينزل من قلعة الجبل‬
‫ليسبح في النيل مرتدًيا كامل عّد ته ودروعه الحربية‪ ،‬جاًرا وراءه طوًف ا تقف فوقه‬
‫بضعة من الفرسان بكامل زّيها‪..‬‬
‫عّودهم أن يكونوا مثله فهوًد ا سريعة خفيفة الكّر والفّر‪ ،‬يظهر جيشه أمام‬
‫حصون الفرنجة بالشام‪ ،‬ينهي الحصار بفتح أو هدنة مشروطة لصالح الجيش‬
‫المصري‪ ،‬يختفي ليباغت بعض المتآمرين بسوريا‪ُ ،‬يسّير أسطواًل إلى قبرص‪،‬‬
‫يسحق تمرًد ا بالنوبة‪ ،‬يدّمر خطة للمغول وينهيها بضمه األناضول‪ ،‬يطوف ببلدان‬
‫الشام لينظم أحوالها‪ ،‬يزور األراضي الحجازية المقّد سة‪ ،‬يدير الحكم من قلعة‬
‫الجبل بالقاهرة‪ ،‬يفاجئ العمال في إنشاءات على ضفاف النيل خالًع ا ثيابه‬
‫الملكية مشارًك ا البّنائين حمل التراب والحجارة فوق أكتاف حديدية لّوحتها‬
‫الشمس‪ ،‬ينظم حركة البريد بين أطراف المملكة حتى تصل الرسالة من‬
‫القاهرة لدمشق في أيام ثالثة ال غير‪ُ ..‬يقّس م مهام الحكم لمؤسسات‬
‫ومناصب‪ ،‬لكل منها وظيفته وفًق ا لقانون صارم‪ُ ،‬ينّظم السلطة القضائية فيجعل‬
‫لكل مذهب قاضيه تيسًيرا على الناس‪ ،‬يعيد إحياء األزهر كمؤسسة علمية‪،‬‬
‫فالسلطان معروف بعدائه الشديد للجهل‪ ،‬حتى الخواطي والبغايا ينالهن نصيًبا‬
‫من نشاطه‪ ،‬فيقبض عليهن ويرتب لهن الوعظ الرفيق واالستتابة‪ ،‬ثم يجهزهن‬
‫ويزوجهن ليكفيهن االضطرار لتجارة الجسد‪ ..‬ال أحد يعرف متى وكيف ينام‪ ،‬ما‬
‫هي تلك الروح الخارقة التي تتلبسه لتجعل منه كتلة من الهّمة والحماسة‬
‫تتأجج بالنشاط والحركة‪ ..‬هل حلت فيه بعض أرواح أجداده من مقاتلي قبائل‬
‫القفجاق التركية؟ هل هي بركة من قّربهم إليه من أقطاب الصوفية ودراويشها؟‬
‫هل أصابته بخير بعض دعوات المجهولين لمن حملوا السيف يدافعون عن دماء‬
‫وأعراض الناس ضد المغول والفرنجة؟‬
‫يقال إن البعض ينال نصيًبا من اسمه‪ ،‬ولكن هذا الرجل بيبرس الفهد اسمه‬
‫هو الذي نال النصيب من صاحبه!‬
‫واآلن‪ ،‬يرقد هذا الفهد‪ ،‬المارد‪ ،‬السلطان القدير‪ ،‬فوق محّفة تسابق الموت‬
‫إلى دمشق‪ ،‬كيال يختطفه قابض األرواح قبل تنظيم االنتقال الهادئ للسلطة‬
‫إلى ابنه ووريثه الشرعي محمد بركة خان‪ ،‬والذي أشركه أبوه قبل سنوات في‬
‫الحكم ليضمن له والية عهده‪..‬‬
‫تقترب دمشق‪ ،‬يتنفس األمراء الصعداء‪ ،‬يلهبون ظهور مطاياهم لتنهب بهم‬
‫الكيلومترات الباقية‪ ،‬ولكن على مسيرة يوم واحد من المدينة يدلف زائر إلى‬
‫خيمة السلطان‪ ،‬زائر ال يأتي اإلنسان إال مرة واحدة ليحمل روحه إلى بارئها‪،‬‬
‫ويترك جسده لغيره من البشر الفانين ليحملوه إلى حفرة وسط التراب‪...‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫في الخيمة السلطانية إلى جوار الجثمان العظيم اجتمعوا‪ ،‬األمراء سيف‬
‫الدين قالوون‪ ،‬وبدر الدين بيليك‪ ،‬وعلم الدين سنجر‪ ،‬وشمس الدين سنقر‪،‬‬
‫وغيرهم‪ ..‬اتفقوا بغير جدل ُيذكر أن يخفوا الخبر حتى عن جند القافلة‪ ،‬وأن‬
‫يرسلوا لولي العهد بالخبر األليم ليقطعوا على أي متآمر‪ ،‬طامع‪ ،‬الفرصة في‬
‫استغالل موت السلطان بالقيام بأية محاوالت انقالبية‪ ..‬انقضى النقاش فتدثروا‬
‫بالصمت‪ ،‬إال من همهمة جانبية أو استرجاع خافت أو تنهيدة حزن مّرة‪..‬‬
‫قطع األمير قالوون الصمت مغمغًم ا‪ :‬ما كان لألطباء أن يطيعوه في نزع رأس‬
‫ذلك السهم الذي أصابه في تلك المعركة األخيرة‪..‬‬
‫اعتدل سنقر متسائاًل ‪« :‬تشك باألطباء؟ أعني‪ ..‬هل تراودك أفكاٌر أن بعضهم‬
‫سمم الجرح عمًد ا؟!»‬
‫«لم أفكر في ذلك‪ ..‬لكن‪ ..‬أنت تعلم أنه رحمه هللا لم يكن يكترث ألوامر‬
‫الراحة‪ ،‬ونحن كنا في أرض تكثر بها األسقام‪ ،‬ونزع نصل من الجسد في هذه‬
‫األجواء ليس بالقرار الحكيم‪ ..‬فربما كان هذا ما أدخل إلى جسده اآلفة وجعل به‬
‫التلف السريع»‪.‬‬
‫تدخل بيليك بالتركية القفجاقية‪ ،‬التي كان يدور بها الحوار‪« :‬المرحوم القى ما‬
‫هو أشد من ذلك‪ ،‬وقد حباه هللا جسًد ا قوي التحمل‪ ..‬والواقع أني أرى غير ذلك‬
‫من األسباب»‪ ،‬رمق سنقر مردًف ا بحذر‪« :‬لكني أخشى أن يسيء بعضكم‬
‫فهمي»‪.‬‬
‫داعب سنقر شاربه األشقر الكث‪ ،‬وقد التقط الغمزة بحلم وهدوء‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫«أنت تتحدث عن الدواء الذي نصحته باستخدامه في وعكته األخيرة‪ ..‬ال بأس‪،‬‬
‫قلها بصراحة‪ ،‬هل تشك أنني نصحته به ألعّج ل بهالكه؟»‬
‫انتفض بيليك قائاًل بلهجة اعتذارية سريعة‪« :‬حاشاي أمير سنقر! ها أنت قد‬
‫أسأت فهم غرضي! أنا فقط أقصد أن أقول إن المرحوم قد أفرط في استخدام هذا‬
‫الدواء فوق ما يحتمل أي إنسان‪ ،‬فقوي عليه اإلسهال حتى استصفى ما في‬
‫جسده من سوائل‪ ..‬أنت نفسك نصحته بحضرة األمراء أال يفرط في تناوله‪ ،‬لكنك‬
‫تعلم كيف كان عناده! هذا ما كنت أعنيه!»‬
‫حاول علم الدين سنجر تخفيف حّد ة التوتر الذي انتاب الحوار‪ ،‬فتدخل قائاًل ‪:‬‬
‫«يا أمراء‪ ،‬ال داٍع لتبادل ظنون السوء‪ ..‬كلنا كنا خاصة ورفاق وخدم السلطان‬
‫الراحل‪ ،‬واآلن بقيت له في عنقنا خدمة أخيرة أعني انتقال السلطنة البنه أعزه‬
‫هللا فليس من مجال لهذه األحاديث»‪.‬‬
‫أّمن قالوون على قوله بتربيتة من كلتا يديه على كتفي كل من سنقر‬
‫وبيليك‪ ..‬قام من مقعده وسار نحو الفراش المسجاة فوقه جثة رفيق عمره‪ ..‬قاوم‬
‫عاصفة من األلم انتابته‪ ،‬وقمعها عن أن تبدو فوق وجهه الصخري‪ ..‬بعد فترة من‬
‫الصمت قال بهدوء حذر‪« :‬الواقع أنني أفهمكم جميًع ا‪ ...‬أنتم تدورون حول ظن‬
‫يكبته كل منكم في نفسه خوًف ا من سوء العاقبة!»‬
‫«أي ظن؟!» تمتم بها سنجر‪ ،‬وقد مّس قول قالوون منطقة حساسة في‬
‫داخله‪..‬‬
‫التفت لهم قالوون قائاًل بصالبته المعهودة‪« :‬أعني ظنكم أن السلطان في‬
‫حقيقة األمر‪ ..‬قد قتل نفسه!»‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫دمشق‪ ..‬قبل ذلك اليوم بأسبوعين‪..‬‬


‫أن يأمر السلطان ساقيه أن يقّد م لك كأًس ا من شراب القمز لبن الخيل‬
‫المتخمر المفضل عند المماليك‪ ،‬فهذا شرف عظيم‪ ..‬فما بالك بأن يقّد م لك‬
‫السلطان بنفسه الشراب في الكأس السلطانية؟‬
‫تناول األمير القاهر األيوبي الكأس من يد السلطان‪ ،‬وقد اطمأن أن حركة‬
‫كهذه ال تعني إال أن هذا األخير قد رضي عنه‪ ،‬بعد سخطه السابق من اشتداد‬
‫األمير في اللوم عليه لمخاطرته برجاله في مغامرته الحربية األخيرة ببالد‬
‫األناضول‪...‬‬
‫تبادل األمراء النظرات‪ ،‬وقد علت وجوههم عالمات االرتياح لصفاء نفسي‬
‫الرجلين‪ ،‬بعد احتداد واحتداد متبادل وّترا األجواء‪ ..‬فآخر ما قد يرغب فيه أحد هو‬
‫مشاحنة حادة بين رجلين‪ ،‬تلهج الشام ببطولتهما‪ ،‬خالل تلك الحرب األخيرة ضد‬
‫الموالين للمغول في بالد األناضول‪ ..‬فقط تداول األمراء بعض نظرات االندهاش‬
‫من إفراط السلطان في شرب القمز‪ ،‬فرغم اعتداده بقوة تحمله وصالبة بنيته‪،‬‬
‫إال أنه لم يكن من المفرطين في ملذات الجسد من طعام وشراب‪..‬‬
‫استرخى قالوون في مقعده وهو يتأمل رفيقه السابق وسلطانه الحالي‬
‫بيبرس‪ ..‬استرجع في ذهنه سريًع ا رحلة كفاحهما الطويلة والمريرة‪ ،‬منذ هربهما‬
‫من مصر بعد اغتيال أقطاي‪ ،‬ثم تنقلهما ورفاقهما بين ملوك بني أيوب بالشام‪،‬‬
‫فعودتهم جميًع ا لمصر‪ ،‬وتصالحهم مع قطز توحيًد ا للصف ضد المغول‪ ،‬ثم‬
‫تصفيتهم الحساب األخير مع قطز‪ ،‬لتنتهي رحلة بيبرس بتربعه على كرسي‬
‫السلطنة‪ ،‬وتوليته رفاقه المناصب الكبرى في الدولة‪ ..‬ارتسمت على وجه‬
‫قالوون ابتسامة هادئة وهو يتأمل شعيرات بيضاء بدت في لحية بيبرس‪..‬‬
‫أخرجته من تأمالته رجفة متوترة انتابت الجانب األيسر من فم السلطان‪..‬‬
‫لمحه ينظر في كأسه ثم يرمق بطرف عينه ضيفه األمير القاهر‪ ..‬يعيد البصر‬
‫للكأس‪ ..‬ثمة شيء ما ليس على ما يرام‪ ..‬السلطان تبدو على وجهه عالمات‬
‫التوعك‪ ..‬يقوم قالوون من مقعده متظاهًرا بالهدوء متجًه ا لبيبرس‪ ..‬يضع يده على‬
‫كتفه وحده من يستطيع التصرف معه بتلك األريحية يقبض بيبرس ذراع رفيقه‪،‬‬
‫يجذبه هامًس ا في أذنه بلغتهما القديمة المشتركة‪« :‬سأفض المجلس‪،‬‬
‫ساعدني على االنتقال لغرفتي لكن دون أن يشعر أحد‪ ..‬وبنفس السرية أرسل‬
‫لي الطبيب»‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫انتهى قالوون من سرد روايته على رفاقه‪ ..‬عاد ليجلس بينهم وهم يقلبونها‬
‫في رؤوسهم‪ ..‬أخيًرا قال سنقر‪« :‬أمير قالوون‪ ..‬كلنا نعرف تلك الواقعة‪ ..‬وكلنا‬
‫بلغتنا أقاويل أن السلطان قد احتال للتخلص من األمير القاهر بوضع السم له‬
‫في كأس شرابه‪ ،‬ثم تبدلت الكئوس بطريق الخطأ‪ ..‬وشعر السلطان بذلك عندما‬
‫أحس السم يسري في أحشائه‪ ،‬لكنه كتم األمر كيال تنكشف خطته‪ ..‬لكن أال‬
‫ترى معي أن القصة بها ما يجعلها غير مبلوعة؟»‬
‫أشار قالوون بيده‪« :‬دعني قبل أي شيء أقول إنني ال أصدق تلك القصة‪..‬‬
‫ولنفس األسباب التي أتوقع أن تذكرها‪»..‬‬
‫تدّخ ل علم الدين سنجر‪« :‬السلطان لم يكن ليقدم على قتل شخص بهذه‬
‫الطريقة المعقدة والساذجة في نفس الوقت لمجرد مشاحنة كالمية»‪.‬‬
‫أّمن قالوون على قوله‪« :‬هذه واحدة»‪.‬‬
‫أضاف سنقر‪« :‬كما أن المرحوم قد توفاه هللا بعد أسبوعين من الواقعة‪ ،‬فهل‬
‫يحتاج السم لكل هذا الوقت؟»‬
‫«وهذه الثانية»‪ ،‬قال قالوون‪« ،‬كما أن ما قيل من أن السلطان قد أصابته‬
‫الغيرة من حديث أهل دمشق عن بطولة األمير القاهر‪ ،‬وثنائهم عليه‪ ،‬هو‬
‫السخف بعينه»‪.‬‬
‫سأل بيليك‪« :‬ماذا عما تداولته بعض الهمسات من أن منجًم ا أخبر السلطان‬
‫أنه يرى في النجوم أن عظيًم ا يموت في هذه األيام‪ ،‬فأراد إبعاد الشؤم عنه‪،‬‬
‫فتعمد قتل األمير القاهر ليوقع سهم النبوءة في نحر غيره؟»‬
‫واجهته نظرات االستسخاف من األمراء‪ ،‬فقنع بها إجابة لسؤاله‪...‬‬
‫عادوا لصمتهم األول‪ ..‬قطعته صيحات من بعض الحرس‪ ،‬فأزاح بيليك ستار‬
‫الخيمة‪ ،‬ثم قال‪« :‬األمير بكتوت قد وصل»‪.‬‬
‫قام سنقر وسنجر‪ ،‬وقال األول‪« :‬فلنالقه ونعطيه الرسالة ليبلغها األمير‪..‬‬
‫أعني السلطان بركة خان‪ ،‬ليرتب البيعة والتقليد لنفسه قبل أن يذاع خبر موت‬
‫أبيه على المأل»‪.‬‬
‫أشار لهم قالوون قائاًل ‪« :‬فلتذهبوا أنتم»‪ ،‬ثم التفت لجثة بيبرس‪« :‬فأنا أرغب‬
‫في قضاء لحظات أخيرة مع رفيقي قبل أن ننقله لمثواه األخير»‪.‬‬
‫تفهموا رغبته فغادروه وتركوه وحده مع الجثمان‪ ..‬اقترب بتهيب‪ ،‬رفع الغطاء‬
‫عن وجه رفيق عمره‪ ..‬ارتسمت على وجهه ابتسامة حزينة‪ ...‬تمتم وهو يعيد‬
‫الغطاء موضعه‪« :‬إيه يا صديقي المشاكس‪ ..‬تصر أن تجعل موتك لغًز ا مثيًرا كما‬
‫كانت حياتك»‪..‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫ارتجت القاهرة وبالد السلطنة كلها للخبر الجلل‪..‬‬


‫بكى الناس سلطانهم المحبوب‪ ،‬فقد أحبوه حتى نظم شعراؤهم وحّكائيهم‬
‫سيرته بصيغة شعبية‪ ،‬زخرفوها باألساطير والتهاويل‪« ..‬سيرة الظاهر بيبرس»‪..‬‬
‫جعلوه فيها مصرًيا أصياًل اختطفته يد وضمته للمماليك‪ ،‬نقلوه لمصاف أبطال‬
‫أساطيرهم الخيالية‪ ،‬وصاغوه قصة بطولة يتوارثها الرواة الدّوارون وشعراء الربابة‬
‫عبر أجيال وقرون‪..‬‬
‫ولكن أهل السياسة لم يكونوا على نفس اإلخالص لذكراه‪ ،‬فبعد العهود‬
‫والمواثيق الغليظة غلبهم مبدأ «الحكم لمن غلب»‪ ،‬فانتزعوا أبناءه من فوق‬
‫كرسي الحكم‪ ،‬وتربع قالوون سلطاًنا على مصر والشام‪ ،‬ليجعل ألسرته مكاًنا‬
‫خاًص ا في كتب التاريخ وقصص الحكام‪ ،‬ولتنضم دماء بعضهم للسيرة المكتوبة‬
‫بخيط طويل من دم المماليك‪ ..‬ولكن هذه قصة أخرى‪...‬‬
Another random document with
no related content on Scribd:
dirigèrent les écoles de Nicée, et le Persan Siman fut comblé de
bienfaits [1] .
[1] De la Jonquière, Histoire de l’Empire ottoman.

Même quand elle fut déchue du rang de capitale, Brousse


continua d’être le centre des savants, des gens de lettres, des
solitaires.
Dans les mosquées de la ville reposent les six premiers
souverains de l’empire, avec leurs femmes, leurs filles et vingt-six
princes de leur sang. Leur faisant cortège jusque dans la mort, les
plus illustres vizirs et beylerbeys, près de cinq cents pachas, cheiks,
professeurs, poètes, légistes, dorment leur dernier sommeil autour
des premiers padischahs.
C’est la ville sainte de l’empire ottoman.

C’est aussi une des plus coquettes et des plus gracieuses villes
d’Asie, — vue à distance.
Quand, arrivant par la route de Moudania, on entre dans la vaste
plaine de Brousse, on aperçoit de très loin les blanches mosquées
aux minarets élancés qui, au milieu d’un fouillis de masures en bois,
s’étagent sur les contre-forts du massif de l’Olympe. L’œil ne saisit
d’abord que ces taches blanches qui se profilent au pied de ces
hautes et sévères montagnes. On dirait une troupe de nymphes
rieuses dansant une ronde autour d’un colosse.
Cette illusion et ce charme disparaissent, malheureusement,
aussitôt que l’on entre dans la ville. Des rues étroites, escarpées et
tortueuses ; des entassements de maisons sillonnées par des
ruelles, pleines d’immondices, où l’air circule à peine ; des
constructions en ruines, pans de murs branlants, attestations
durables des tremblements de terre et des incendies ; des masures
en bois, pourries et rongées par les ans, s’inclinant vers la terre,
comme des carcasses usées, ou s’affaissant à droite, à gauche, se
soutenant mutuellement par un miracle d’équilibre ; pour chaussée
un cailloutis défoncé par les pluies d’orages, impraticable aux
voitures européennes, — voilà l’aspect physique de la vieille ville.
Derrière les vitres des multiples fenêtres qui ornent chaque
maison, à travers les loques bariolées qui servent de rideaux,
apparaissent les visages, souvent gracieux, des grecques et des
arméniennes dont les grands yeux noirs scrutent curieusement le
passant, le déshabillent, pour ainsi dire. Quelques-unes, les vieilles
surtout, ne craignent point de mettre hardiment la tête hors la
fenêtre ; et ces figures ridées, vieillies avant l’âge, encadrées dans
des chevelures surchargées de fleurs, à la mode du pays, donnent à
l’étranger un premier mouvement de répulsion dont il a peine à se
défendre.

Dans les rues, le matin, avant la chaleur, c’est un va-et-vient


incessant.
Voici les interminables convois de muletiers qui portent le bois
nécessaire aux filatures ; quelquefois mulets, chevaux ou ânes sont
chargés des deux côtés de longues traverses d’arbre, entier
souvent, qui battent encore les pavés à dix mètres en arrière ; le
moindre obstacle arrête le convoi, et alors les muletiers de lancer
des imprécations qui, en turc, bravent absolument l’honnêteté, de
rouer de coups les pauvres bêtes qui n’en peuvent mais.
Voici venir, d’un autre côté, une longue file de chameaux, allant à
la queue leu leu, attachés, et précédés du chef chamelier monté sur
un petit âne, harnaché de tresses de couleurs rouges, blanches,
vertes, ornementées de longs glands multicolores.
Des grincements rauques, perçants, qui produisent sur les nerfs
et le tympan la même impression que peut produire un couteau
ébréché entamant un bouchon de liège, annoncent de très loin
l’arrivée des arabas ; ce sont de petites charrettes tout en bois mal
équarri qui servent au transport dans les localités où existent des
semblants de routes ; elles avancent lentement, traînées par de
placides buffles que les horribles grincements des essieux jamais
graissés ne parviennent pas à émouvoir.
Et puis, c’est un troupeau de moutons qui vient encombrer la
rue ; ce sont des villageoises qui apparaissent, en bandes, à
califourchon sur leur cheval, apportant des denrées au marché ; des
Circassiens, au noir costume, à la poitrine agrémentée de
cartouchières toujours garnies, fièrement campés sur leur monture,
circulent, l’œil aux aguets, prêts à tout ; des zaptiés, sales et
poussiéreux, le winchester passé entre la selle et la cuisse, vont au
galop et se font faire place à coups de cravache.
Pour compléter ce tableau, des mendiants, des fous, des saints,
— c’est tout un ici, — remplissent l’air de leurs complaintes
larmoyantes, ou de leurs bouffonneries grossières, ou de leurs
fastidieuses psalmodies, agitant de longs bâtons qui supportent des
guenilles de rubans coloriés, présentant leurs besaces déjà remplies
de détritus, et tous se promenant à moitié vêtus, — quelques-uns
pas du tout, — sans nul souci de leur très vilaine nudité.

Tout ce mouvement, cette étonnante agitation, cesse sur les


onze heures. Alors, ceux qui ne sont point de la ville cherchent un
coin à l’ombre, n’importe où, sur les places, dans les carrefours, au
milieu de la rue ; ils s’étendent là, à côté des chiens et des
immondices, et s’endorment paisiblement. Quand les rayons du
soleil s’adoucissent et deviennent plus cléments, ils se réveillent et
reprennent sans se presser le chemin de la plaine ou celui de la
montagne.
L’activité commerciale est concentrée au khan, au bazar et au
tcharchi.
Le khan est un vaste bâtiment carré construit tout en pierre, en
prévision des incendies. Au centre, une vaste cour. Des quatre
côtés, une série de petites chambres voûtées, solidement
maçonnées, dont les murs ont plus de soixante centimètres
d’épaisseur. Au premier étage, sur une galerie suivant tout le
périmètre de la cour, s’ouvrent des chambres identiques comme
disposition et solidité à celles du rez-de-chaussée. C’est dans ce
vaste bâtiment que les négociants louent, suivant leurs besoins et
pour la durée qui leur convient, les locaux qui leur sont nécessaires
pour le dépôt de leurs marchandises les plus précieuses ou pour
l’installation de leurs bureaux. Cela sert à la fois d’entrepôt et de
Bourse. Au moment de la récolte des cocons, c’est dans la cour du
khan que se traitent toutes les affaires, c’est là que les paysans
apportent ce qu’ils ont pu produire, que le triage s’opère, que l’on
pèse, que l’on achète et aussi que l’on paie la dîme, car
l’administration des contributions indirectes a ses bureaux dans la
cour même.
Une des portes du khan donne accès dans le bazar. Celui de
Brousse ne présente rien de particulier. C’est le bazar aux ruelles
voûtées que l’on rencontre dans les principales villes d’Asie ; la
même disposition, les mêmes comptoirs surélevés d’un mètre au-
dessus du sol, les mêmes types de juifs, grecs, arméniens, vendeurs
criards et importuns, les mêmes marchands turcs silencieux et
dignes.
Ce que l’on désigne à Brousse sous le nom du tcharchi n’est
qu’une partie du bazar ; c’est celle où se vendent principalement les
objets de première nécessité, les denrées et les aliments.
C’est dans ces trois centres, ai-je dit, que se résume toute
l’activité commerciale. Il ne faudrait point cependant que cette
expression pût induire en erreur. La valeur des termes et des mots
se modifie suivant les pays et les climats. L’activité d’Asie n’a nul
rapport avec celle de France. Cette activité chez tous les
commerçants du bazar et du tcharchi commence avec les besoins
journaliers et finit avec leur réalisation. La plupart se contentent des
bénéfices au jour le jour et s’inquiètent peu d’amasser en prévision
de l’avenir.

Hâtons-nous aujourd’hui de jouir de la vie ;


Qui sait si nous serons demain ?

Aussi, à peine ont-ils gagné les quelques piastres nécessaires à leur


entretien quotidien qu’ils s’empressent de fermer leurs comptoirs et
d’aller tranquillement faire la sieste au soleil ou prendre un bain.
Je ne parle ici, bien entendu, que des commerçants indigènes.
Les Européens agissent tout autrement. On pourra en juger
d’ailleurs au chapitre spécial que nous consacrons à l’industrie de la
soie.
Cette manière de comprendre et de pratiquer le commerce fait
que réellement tous ces gens sont pauvres, se trouvent dans une
gêne voisine de la misère, et par suite ne présentent aucune
garantie commerciale.
On peut leur appliquer encore aujourd’hui ces termes d’un
rapport que Mustapha Fazil Pacha adressait en 1867 au Grand
Vizir : « L’agriculture, le commerce, l’industrie, disait-il, tout décline
dans l’empire ; les peuples semblent avoir perdu le besoin et l’art de
produire ; ils voient leur détresse, et cette détresse ne secoue pas
leur léthargie et ne les pousse à aucun effort. »

Et cependant, malgré cette misère qui s’accroît chaque jour, que


les charges de la dernière guerre sont encore venues augmenter,
toute cette population aux babouches trouées, aux robes rapiécées,
non seulement ne se plaint pas, mais prend la vie gaiement et
s’épanouit joyeusement aux chauds rayons du soleil. Heureux
naturel, admirablement secondé par le climat !
Grecs, turcs, arméniens, chacun s’amuse à sa façon, ne se
ménage point les distractions, et témoigne ainsi par le plaisir qu’il y
prend son parfait contentement de se sentir vivre.
Les occasions de repos sont si fréquentes d’ailleurs ! Chaque
semaine trois jours fériés, sans compter les fêtes grecques. Ce sont
les semaines des trois dimanches : celui des turcs le vendredi, celui
des juifs le samedi, et le lendemain celui des chrétiens. Chacun de
ces trois jours une partie du bazar est religieusement fermée : celle
où se trouvent les boutiques de la secte qui prend son repos
dominical. Les deux autres, voyant venir peu de clients ces jours-là,
ferment leurs comptoirs de bonne heure, et s’en vont faire aussi le
kief.
Le kief, en Turquie, n’a pas son équivalent en France. Ce n’est
pas seulement la sieste, ce n’est pas non plus la joie exubérante à
laquelle se livrent souvent nos travailleurs après un long labeur ;
c’est la volonté ferme et arrêtée de se détacher pendant quelques
heures de tous les tracas de la vie quotidienne, c’est un état moral
où l’esprit, l’âme si l’on veut, se détache des intérêts terrestres et
s’élance capricieusement dans l’azur d’un idéal sans limites. Des
deux parties de l’être humain, la bête seule reste attachée au sol,
l’autre vagabonde aux hasards de l’imagination.
Quand on va faire le kief on emporte un nombre respectable de
mézès, sortes de hors-d’œuvre, tels que anchois, caviar, cornichons,
piments, saucissons, fromages, salades crues, concombres, etc…
etc…, et plusieurs bouteilles de mastic ou de raki, eau-de-vie de
marc anisée. On se rend à l’ombre des grands platanes de
Tefferitch, sur les riants coteaux de l’Olympe, au-dessus de la ville,
ou dans les vieux cimetières ombragés par les cyprès séculaires, ou
à la source de Bounar-Bachi, en un mot dans tous les sites qui
réunissent la beauté de la vue, la fraîcheur, l’eau pure. Toute la
famille s’asseoit sur l’herbe comme nos bourgeois de Paris le
dimanche à Meudon et à Clamart, grignote les mézès, boit force
verres de raki additionnés d’eau, sans bruit, sans gaieté bruyante,
paisiblement ; on parle peu, on se recueille ; parfois quelques chants
grecs viennent rompre cette monotonie. Une légère et douce ivresse
ne tarde pas à s’emparer de ces heureuses gens ; ils s’endorment
ou plutôt sommeillent, en proie à un rêve éveillé, si je puis ainsi dire ;
cela présente quelque analogie avec les effets du haschich sans en
avoir les funestes inconvénients.
Les très rares jours de la semaine qui ne sont pas fériés, les
familles arméniennes et grecques se réunissent fréquemment dans
la soirée aux jardins de Set-bachi. On appelle ainsi une vaste
terrasse, couverte de vieux arbres, dominant le ravin Gusdéré, où
coule un torrent qui descend de l’Olympe, sépare le quartier
arménien du quartier turc et va rejoindre l’Ulufer au loin dans la
plaine. Là, assis sur de petits tabourets bas, ayant devant soi sur
d’autres tabourets des plateaux chargés de mézès, de raki, de café,
d’eau, on laisse s’écouler les heures en médisant du prochain, tout
comme si l’on était dans un centre civilisé. Devant le perron du café,
un orchestre composé de violons, flûtes, guitares, cymbales, joue
des airs turcs, arabes, grecs au rythme monotone, au ton strident.
L’intérieur de ce café ne présenterait rien de particulier si l’on n’y
rencontrait, comme d’ailleurs dans presque tous les établissements
de ce genre en Asie, ces chromolithographies allemandes, qui sans
plus de souci des lois du dessin que de la vérité historique,
représentent invariablement un régiment de cuirassiers français
s’enfuyant épouvanté devant deux uhlans ! Quand donc nos
flegmatiques fabricants d’images d’Épinal se décideront-ils à lancer
eux aussi leurs produits sur ces marchés asiatiques si vastes,
encore si peu exploités, et comprendront-ils qu’en gagnant là de
l’argent, ils serviront aussi les intérêts de la patrie ! A cet égard, les
Allemands se montrent plus pratiques et plus malins que nous.

Les siestes prolongées des jardins de Set-bachi ne sont pas les


seules distractions que puisse offrir une soirée à Brousse. J’ai
conservé pour la fin la plus grande et la plus extraordinaire, — ici,
bien entendu. Je veux parler du théâtre.
En face le palais du gouverneur, de l’autre côté de la rue, derrière
un mur bas surmonté de barreaux en frêne, s’élève une petite
construction, moitié pierre moitié bois, dont la façade blanche se
termine par un fronton triangulaire. C’est le théâtre de Brousse.
La construction de ce théâtre est due à l’intelligente initiative de
S. A. Ahmed Vefyk Pacha, ancien ambassadeur à Paris, ancien
Commissaire général en Anatolie, ancien grand vizir, en ce moment,
pour la seconde fois, gouverneur général du vilayet de
Hudavendighiar.
Il est difficile, presque impossible, de parler de Brousse sans
parler également de Ahmed Vefyk Pacha. Son nom se rattache
étroitement aux travaux d’embellissements qui ont eu lieu dans la
ville depuis plus de vingt ans. Saïd-Pacha, aujourd’hui premier
ministre, qui avait succédé à Ahmed Vefyk, n’a fait guère autre
chose, pendant son passage à Brousse, que d’appliquer les
réformes préparées par son prédécesseur. C’est à Ahmed Vefyk que
les Broussiotes sont redevables du percement de quelques voies
droites, de l’assainissement de quelques quartiers, de la
construction de la route de Moudania, d’une organisation intelligente
dans la bonne distribution des eaux de sources, etc. etc. Amateur
éclairé, il s’est pris d’une belle passion pour les spécimens de l’art
arabe et persan qui ornent encore, malgré l’incurie de ses
prédécesseurs, certaines mosquées et les turbés ou tombeaux des
anciens sultans. C’est ainsi qu’il fit, il y a quelques années, venir de
Paris Léon Parvillé, l’orientaliste distingué, et qu’il lui confia la
restauration de la mosquée Yéchit-Djami, la mosquée verte, ce petit
bijou de l’art ottoman primitif, aux murs intérieurs recouverts de
faïences émaillées vert émeraude. Esprit érudit et lettré, Ahmed
Vefyk a consacré ses loisirs à traduire Molière et Shakespeare, et il
parle le français non pas seulement comme un Français, mais en
vrai Parisien ; les finesses de notre langue n’ont point de secrets
pour lui [2] . Auprès de ceux qui ne le connaissent que
superficiellement il passe pour un original ; mais, au fond, c’est
attribuer à une bizarrerie de caractère ce qui n’est que l’expression
d’un autoritarisme, peut-être exagéré aux yeux d’un étranger,
nécessaire et accepté en Turquie. Quoique partisan de très larges
réformes à introduire dans l’Empire ottoman ; quoique ami sincère
des Européens, Ahmed Vefyk est au demeurant un vrai patriote turc,
patriote intelligent et sans fanatisme aucun ; il ne s’en cache pas, et
cette franchise constitue à mes yeux un de ses très réels mérites.
[2] Ahmed Vefyk Pacha a traduit jusqu’à présent treize
pièces de Molière. Ce sont : Le Dépit amoureux, L’Avare,
Le Mariage forcé, Le Médecin malgré lui, Tartufe (en
vers), L’École des femmes, L’École des maris, Les
Fourberies de Scapin, Le Misanthrope, L’Amour médecin,
Don Juan, George Dandin, Le Malade imaginaire. —
Toutes ces pièces ont été imprimées et représentées en
turc.
C’est lui qui a eu l’idée de faire construire le théâtre de Brousse,
un des rares théâtres d’Asie, et à coup sûr unique dans son genre.
Je ne veux pas parler de la disposition intérieure de cette salle ; cela
ressemble à nos théâtricules de province : deux galeries de petites
loges, un parterre formé de bancs en bois, pour fauteuils deux
rangées de chaises de paille. L’orchestre se compose de cinq
musiciens, y compris le chef. La rampe est formée par huit ou dix
chandelles ; l’éclairage de la salle se fait au moyen de lampes à
pétrole. Tout cela n’offre rien de saillant. Ce qui est réellement
curieux, c’est de voir jouer en turc les œuvres de Molière et de
Shakespeare, le Malade imaginaire, le Dépit amoureux, Henri III,
Catherine Howard, etc. ; car le pacha, homme sérieux, a en horreur
l’opérette et les pièces fantaisistes. Il veut, dit-il, arriver à faire
apprécier par ses sujets les chefs-d’œuvre des littératures
étrangères, leur inculquer le culte du beau. Malgré l’attention
soutenue que j’ai vu tous les indigènes apporter à ces
représentations, malgré les murmures approbatifs aux passages les
meilleurs, je doute fort qu’Ahmed Vefyk Pacha arrive rapidement au
but qu’il s’est proposé. Il le comprend si bien lui-même d’ailleurs,
qu’il est obligé de faire de temps à autre des concessions ; c’est
ainsi que parfois, dans les entr’actes du Misanthrope ou des
Joyeuses commères de Windsor, on voit une actrice arménienne
s’avancer vers la rampe et chanter l’Amant d’Amanda ou Tant pis
pour elle ; cela en français, mais comme la malheureuse ne connaît
pas un mot de notre langue, elle ne fait que répéter les sons qu’un
aimable amateur, régisseur à ses heures, lui a serinés pendant de
longs jours, et il s’ensuit naturellement qu’elle ne chante ni en
arménien, ni en turc, ni en grec, ni surtout en français, c’est une
cacophonie de mots des plus plaisante. Néanmoins le public
indigène, qui n’y comprend rien non plus, se montre satisfait et
applaudit la chanteuse et la chanson. O Molière ! ô Shakespeare !

Après les longs kiefs sur les coteaux, les jardins de Set-bachi, le
théâtre, la plus grande distraction de l’élément chrétien à Brousse
consiste le dimanche à faire la promenade d’Adjemler. On appelle
ainsi un énorme platane, plusieurs fois séculaire, qui se trouve à une
demi-heure de Brousse, sur la route de Moudania. Au pied de ce
platane, un Grec intelligent a installé un réchaud et offre, moyennant
une piastre, le café et l’eau, car il lui est interdit de vendre du raki.
Là, les Grecques de Balouk-Bazar, les Arméniennes de Set-bachi et
aussi les rares Européennes, se rendent à pied, en voitures ou à
ânes. Hélas ! pourquoi ces jolies filles, ces belles femmes se croient-
elles obligées d’adopter les modes parisiennes ou du moins de
s’affubler de toutes les vieilleries démodées, de tous les rossignols
que des importateurs peu scrupuleux leur vendent comme les
modes les plus récentes ! si bien que l’on voit les plus charmantes
créatures parées, par exemple, de robes, modèle 1868, et de
chapeaux, modèle 1854 ; tout cet assemblage jure ensemble à ce
point, qu’à distance, on prend pour des grands-mères ces jeunes
filles qui ne sont pas encore des femmes. Et comme ces atours
d’autres pays, d’autres climats jurent avec ce ciel et cette terre
d’Asie ! Il est difficile d’imaginer rien de plus excentrique, passez-moi
le mot, de plus rococo ! Et quel argument à en déduire contre la
vanité féminine !

La colonie européenne est très peu nombreuse à Brousse. Elle


se compose tout au plus de quatre-vingts personnes dont quelques-
unes n’attendent qu’un événement favorable pour regagner leur
patrie. C’est qu’en effet la plus grande partie de ces colons échoués
là par hasard, quelques-uns vers 1845, la plus grande partie à la
suite de la guerre de Crimée, après avoir eu un moment de
prospérité inespérée, n’ont pas eu la sagesse d’en conserver le
bénéfice ; ils se sont, à part de très rares exceptions, aventurés dans
des spéculations hasardeuses sur les soies, au lieu de continuer à
se contenter du bénéfice industriel, si bien qu’aujourd’hui presque
toute l’industrie de la soie se trouve entre les mains des Arméniens,
des Turcs et des banquiers plus ou moins grecs de Galata. C’est là
un fait acquis, auquel malheureusement il n’y a pas à remédier et
qui, au contraire, ira s’accentuant.
Si encore dans ces déboires, dans cette infortune commune,
dans ces tristes revers, l’esprit de solidarité se rencontrait, peut-être
y aurait-il encore une faible lueur d’espoir vers un avenir meilleur.
Mais, hélas ! cette entente qui triple les forces dans l’adversité est
bien loin d’exister. Le vieux proverbe : quand il n’y a plus de foin au
râtelier les bêtes se mordent, peut, quoique trivial, trouver ici son
application.
C’est une chose pénible à dire, mais qu’il vaut mieux avoir le
courage d’avouer : cette colonie, déjà pauvre, rongée par les
querelles intestines, est irrémédiablement condamnée. Sur ses
débris, nous en avons le ferme espoir et la quasi certitude, s’élèvera
plus tard une colonie européenne jeune, vigoureuse, importation
d’éléments nouveaux, purs de toutes intrigues et de toutes
compétitions envieuses et mesquines.

Chaque communauté chrétienne, tout en étant soumise aux lois


de l’Empire et aux règlements particuliers d’administration générale,
jouit cependant d’une certaine autonomie, possède ses écoles, ses
églises et ses chefs religieux, intermédiaires entre la communauté et
le gouverneur général. Les arméniens orthodoxes ont à Brousse un
archevêque, les arméniens catholiques un évêque, les grecs un
archevêque. Faut-il dire que ces trois primats, représentants attitrés
de l’élément chrétien, se trouvent rarement d’accord entre eux au
point de vue des intérêts généraux communs à tous les chrétiens.
Toutes ces sectes qui pratiquent les doctrines de l’Évangile, y
compris également la petite Église protestante libre qui compte à
Brousse un certain nombre d’adhérents, se trouvent
malheureusement divisées par les intrigues personnelles, les
questions de prérogatives, de préséance ; c’est à qui cherchera à
desservir son voisin auprès de l’autorité locale. Par suite de cette
désunion, l’élément chrétien manque d’un terrain commun d’action
et ne possède pas en réalité dans le pays l’influence à laquelle son
activité, son intelligence, sa fortune lui donnent un incontestable
droit.
Ce n’est point cependant que les Turcs se montrent à l’égard des
chrétiens jaloux, tracassiers, intolérants. Certes non ! Leur tolérance
en matière de religion frise l’indifférence absolue. Ce que nous
avons l’habitude d’appeler en Europe le fanatisme turc, — et auquel,
avant de voir, je croyais moi aussi, je l’avoue, — je ne l’ai nulle part
rencontré au cours de mes excursions en Asie. J’ai toujours vu le
turc ne se soucier ni des églises, ni des cérémonies extérieures
chrétiennes, et n’intervenir jamais dans les querelles qui divisent les
sectes du Dieu de paix. Pour le vrai turc actuel, comme la seule
vraie religion est celle du Koran, il ne s’occupe pas plus des autres
que si elles n’existaient pas ; pour lui ce ne sont pas là des religions.
L’époque héroïque de l’islamisme, la conversion même par le fer, est
bien passée ! Mais aussi si le turc pratique cette souveraine
indifférence pour toute autre religion que la sienne, il demande, — et
après tout c’est bien son droit, — que l’on tienne une conduite
réciproque à son égard. Il ne s’opposera pas à l’érection des
synagogues, des temples, des églises ; il n’interdira aucune
manifestation extérieure ; il s’épargnera même à leur endroit des
railleries toujours faciles ; en revanche, il désire qu’on respecte ses
mosquées, ses minarets, ses muezzins appelant à la prière, et qu’on
ne le tourne point en dérision quand il observe publiquement les
pratiques ordonnées par le Koran.
Malheureusement les sectes chrétiennes semblent animées d’un
esprit de prosélytisme aussi outrecuidant que maladroit. Ne pouvant
se montrer intolérantes, elles sont tracassières. Aussitôt qu’une
communauté a pu établir pignon sur rue, c’est-à-dire posséder son
église et son clocher, c’est tout de suite un incessant vacarme de
cloches qui viennent troubler la tranquillité de ces belles plaines
d’Asie ; ce sont des processions avec bannières au vent, chants
liturgiques sur des modes élevés, prêtres en grand uniforme ; ce
sont des promenades interminables, avec déploiement de croix
latines et de croix grecques, pour aller bénir des sources, leur
donner des noms de saints ou de saintes, y déposer des images
coloriées du patron improvisé, en faire des aiasmas et y récolter des
aumônes. C’est surtout parmi le clergé grec une véritable rage, une
monomanie, digne d’être observée par les aliénistes, que de vouloir
convertir ainsi toutes les sources d’eau pure en eau bénite. Si les
Turcs n’étaient aussi largement indifférents à ces pratiques, s’ils
ajoutaient la moindre importance à ces consécrations, il arriverait
bientôt que toutes les sources ayant été profanées par les
bénédictions des infidèles, ils crèveraient de soif, ne sachant plus où
aller boire sans offenser Mahomet !
Pour tout résumer en peu de mots : si j’ai parfois rencontré en
Asie des tendances à l’intolérance religieuse, cela a toujours été
chez les sectes chrétiennes tolérées par l’islamisme, maître chez lui
en définitive. Ce qui n’empêche pas que grégoriens, orthodoxes,
juifs, accusent sans cesse les turcs d’intolérance manifeste ; qu’ils
réclament sans vergogne l’obtention de prérogatives et de privilèges
qu’ils sont les premiers, dans les contrées où dominent leurs
religions, à refuser aux mahométans ; qu’ils sont enfin, — à les
entendre, — des martyrs de leur foi, des victimes offertes en
holocauste à ce monstre imaginaire que l’on nomme en Europe : le
fanatisme musulman. Quand un turc tue un chrétien, on crie au
fanatisme ! sans tenir compte que neuf fois sur dix le chrétien a été
simplement victime de sa déplorable habitude de s’immiscer dans
des affaires qui ne le regardent pas. En Asie, chacun pour soi, mais
surtout chacun chez soi.
Ce qui précède concerne principalement les chrétiens raias,
arméniens et grecs. On doit, en effet, reconnaître chez les
catholiques, européens surtout, un peu plus de réserve, de retenue
et de tenue [3] .
[3] Extrait du Phare du Bosphore, du 16 juin 1882.
« Un membre de l’épiscopat français vient de rendre
un hommage assez inattendu, mais assurément très
mérité à la tolérance large et généreuse que les Osmanlis
pratiquent chez eux en matière de religion. Mgr Turinaz,
évêque de Toul et de Nancy, vient d’adresser à ses
diocésains une lettre pastorale dans laquelle il esquisse
brièvement les rapports des différentes puissances avec
la Papauté.
» En ce qui concerne la Turquie, voici ses paroles :
» Jamais, dit-il, le catholicisme, ses évêques, ses
missionnaires, ses admirables religieuses n’ont été aussi
libres et aussi protégés à Constantinople. »

Cette tolérance religieuse, que j’ai constatée chez les musulmans


dans toutes les parties de la Turquie d’Asie que j’ai visitées, est
d’autant plus digne d’être notée à Brousse que cette ville, depuis sa
conquête par Orkhan, a toujours été considérée comme une ville
sainte.
Si la Mecque est la Jérusalem de l’islamisme, Brousse est la
Rome de la chrétienté, non pas au point de vue du siège de l’autorité
théocratique, — siège sujet à changement chez un peuple nomade,
— mais eu égard à la parfaite conservation des traditions
théologiques.
Il est courant d’entendre dire dans le pays que Brousse possède
autant de mosquées que l’année a de jours. De fait, on n’en a jamais
opéré un dénombrement certain. Mais à voir la quantité de minarets
qui émaillent la ville, comme les marguerites un champ, il se peut
très bien que cette locution soit exacte, peut-être même au-dessous
de la vérité, si l’on tient compte aussi des turbés ou tombeaux, et
des fondations pieuses.
CHAPITRE II
LES EAUX THERMALES

Les bains de Brousse. — Une future station balnéaire. — Yeni et Eski Kaploudja.
— Kara Moustapha. — Le village de Tchékirglé.

Il y a deux saisons pour les bains de Brousse : mai et septembre.


Pendant ces deux mois, Brousse voit arriver non plus seulement
les étrangers de passage à Constantinople, mais aussi et surtout,
l’élite de la société de Péra.
C’est un revenu annuel pour la ville d’environ 15,000 livres
turques, soit près de 345,000 francs.
Ces eaux thermales, ferrugineuses et sulfureuses, ont joui de
tout temps en Orient d’une réputation justement méritée. Elles
s’échappent des contreforts inférieurs du mont Olympe avec des
températures qui varient suivant les sources de 35 à 60 et même à
80 degrés centigrades.
YENI KAPLOUDJA
Le plus grand des bains de Brousse.

Les bains se trouvent à deux et trois kilomètres au plus de la


ville.
Leur disposition générale est celle des bains turco-romains, mais
sans étuves sèches. La chaleur qui s’y développe est naturelle ;
c’est celle de l’eau, et elle est ramenée, suivant les salles, à la
température voulue.
Malheureusement ces bains, qui pourraient devenir pour Brousse
une véritable richesse, sont dans un état de délabrement qui fait
peine à voir et mal entretenus au possible. Si l’on ajoute à cela les
difficultés de communications entre Brousse et Constantinople, le
mauvais service des vapeurs privilégiés de la compagnie Mahoussé
qui vont de la Corne d’Or à Moudania, le manque, et par suite
l’élévation des prix, des véhicules entre Moudania et Brousse, on
comprendra pourquoi, malgré leur efficacité réelle pour la guérison
de certaines maladies, ces bains sont relativement aussi peu
fréquentés.
Nul doute cependant qu’un jour viendra où des spéculateurs
audacieux et intelligents chercheront à faire de Brousse une
véritable station balnéaire et sauront y réunir le confort européen au
kief oriental. Ce jour-là Brousse sera à Constantinople ce que Nice
est à Paris, mais avec des proportions plus considérables, car, du
même coup, ce lieu de plaisir deviendra un grand centre d’affaires,
étant donné que Brousse est pour ainsi dire l’avant-garde de la riche
Anatolie.
Voici l’énumération et la description succincte des principaux
bains existant actuellement et qui, malheureusement, subsisteront
dans le même état, sans modifications, peut-être pendant longtemps
encore.
Yeni-Kaploudja. — Un des plus grands bains de Brousse,
construit antérieurement à l’an 767 de l’hégire par Tchéal-Zadé
Rassim Pacha, gendre de Soliman II.
Ce bain se compose de trois grandes salles avec coupoles.
La première salle, la plus vaste, reçoit le jour par deux coupoles.
C’est la salle qui renferme les couchettes. La température y reste
moyenne. Au centre se trouve un bassin à eau froide, eau bonne à
boire. Au fond, une estrade sur laquelle s’ouvrent des chambres
particulières avec vue sur la plaine.
La seconde salle, à température tiède, est l’avant-salle des bains
proprement dits.
La troisième est le bain même. La température y est réglée au
moyen des globes de verre de la coupole suivant le degré de
chaleur de l’eau. Cette salle entièrement ronde renferme au centre
une vaste piscine de 10 mètres de diamètre, qui reçoit par un large
conduit l’eau sortant chaude de la source. De très vieilles faïences
persanes, bleu tendre, admirablement conservées, malgré les
émanations sulfureuses, ornent jusqu’à hauteur d’homme les parois
de cette salle. Quatre petites pièces, éclairées également chacune
par une petite coupole, prennent accès dans la salle de bain. Elles
sont aussi ornées de vieilles faïences. C’est là que s’opère le
massage.
L’eau qui alimente ces bains sort de la source à environ 60
degrés centigrades. La température du bain est réglée à 34° et 35°
centigrades.
Kainardja. — Petit bain situé en face de Yeni-Kaploudja.
Bâtiment bas, sans architecture. Ce bain est réservé exclusivement
aux femmes.
Kara Mustapha. — Situé au pied de Yeni-Kaploudja, sur la route
de Moudania à Brousse. Ce bain se compose d’un petit bâtiment en
pierre qui renferme la piscine, c’est le bain réel, et d’une bâtisse en
bois qui sert de salle de couchettes. Source argentifère, eau très
claire, à 33 degrés. Ce petit bain, un des plus coquets de Brousse, a
été fondé par un riche indigène nègre et porte le nom de son
fondateur, Moustapha le Noir.
Buyuk-Kukurtlu. — Grand bain. Eau sulfureuse à 80° centigrades
construit par Hudavendighiar-Ghazi, le Sultan victorieux, qui a donné
son nom au vilayet. Il ne présente rien de remarquable comme
architecture extérieure ou intérieure.
Kutchuk-Kukurtlu. — Petit bain situé près du précédent. Eaux
sulfureuses au même degré. Baignoires à la franque.
Eski Kaploudja. — Grand bain situé à Tchékirglé. C’est, après
Yeni-Kaploudja, le plus grand bain de Brousse. Tous les deux sont à
peu près semblables comme construction, bien que Eski-Kaploudja
remonte à une époque bien antérieure. Les eaux sont ferrugineuses.
Elles possèdent à leur sortie de la source 65° centigrades. La
température dans le bain est réglée à 34° ½. — Un petit bain
attenant à Eski-Kaploudja est réservé aux femmes.
Le petit village de Tchékirglé possède encore d’autres petits
bains, d’importance secondaire, tels que Husnu-Guzel, Ketchéli, etc.
etc. Tous ces bains sont disposés principalement pour les voyageurs
qui désirent y séjourner quelque temps. Les eaux sont
ferrugineuses.
En résumé, les bains les plus remarquables, et aussi les plus
fréquentés, sont ceux de Yeni et Eski Kaploudja et de Kara
Mustapha.
CHAPITRE III
MOUDANIA

Un campement sur le golfe de Ghemlek. — Le grec moderne. — Arnaout Keuy. —


La saison des bains de mer. — Les soirées. — Les maisons. — Les Grecques
et les Arméniennes. — Une source sainte.

Je me trouve, pour le moment, campé à Arnaout-Keuy, sur le


golfe de Ghemlek. Mes tentes sont dressées sur un rocher à pic, à
50 mètres au-dessus du niveau de la mer et à peine à un mètre du
bord.
Quelle admirable vue !
Ce golfe me rappelle le lac de Genève avec une étendue
moindre, car l’œil peut ici embrasser toute la circonférence. Mais, au
lieu des sites délicieusement civilisés, comme Évian, Ouchy, Vevey,
je n’aperçois que des sites quelque peu sauvages qui portent les
noms plus ou moins euphoniques de Siyi, Bourgas, Armoutlouq,
Coursounlouq. Dominant tous ces villages, deux petites villes :
Ghemlek, au nord-est, et Moudania, au sud-ouest.
Dans presque tous ces endroits, à l’exception de Ghemlek, les
deux tiers de la population sont d’origine grecque, ce qui d’ailleurs
est presque général sur tout le littoral de la Turquie d’Asie. Aussi est-
il commun de constater cette singulière anomalie, à savoir des sujets
turcs ne parlant pas un mot de la langue turque. En ce qui me
concerne, je suis loin de m’en plaindre. Commençant à peine à
baragouiner quelques mots turcs, il m’est plus facile de me faire
comprendre, pour l’usage journalier, en langue grecque. Cependant
quelle différence avec la langue qu’on m’a enseignée dans ma
jeunesse sous le nom de grec ancien ! Ce ne sont pas tant les mots
qui ont changé ; à part les termes techniques, le reste est à peu de
chose près le même. Mais quelle difficulté pour la prononciation !
Pourquoi aussi Érasme a-t-il eu la malencontreuse idée de
préconiser la prononciation bizarre qui est encore suivie dans nos
écoles pour le grec ancien ? Il y a cependant de fortes présomptions
pour que les Grecs modernes aient conservé plus intacte que les
étrangers la prononciation de leurs ancêtres. Je ne vois point
d’ailleurs ce qui pourrait empêcher que l’on apprît aux écoliers à lire
Homère avec la prononciation grecque moderne, plutôt qu’avec la
prononciation dite classique, qu’Homère doit être fort étonné
d’entendre s’il survit encore quelque chose de lui dans un monde
meilleur. Il me semble que cette question pourrait fort bien se mettre
à l’ordre du jour du Conseil supérieur de l’instruction publique. Les
conséquences d’une semblable réforme seraient grandes, en ce
sens que nos jeunes Français seraient à même à l’avenir de
converser familièrement avec n’importe quel descendant de Périclès
ou n’importe quelle arrière-petite-fille d’Aspasie. Et, comme la
question grecque me semble loin d’être résolue et ne peut au
contraire que prendre de l’extension, il y aurait dans cette réforme
même un certain attrait politique.

Arnaout-Keuy, le village au-dessus duquel j’ai établi mon


campement, est également un village grec, bien que son nom
signifie en turc : village albanais.
Sur les deux cents habitants qui composent cette agglomération,
s’il y a trois musulmans c’est tout.
On est ici à peine à dix minutes de Moudania, et c’est sur la
plage qui s’étend de Moudania à Arnaout-Keuy que la belle société
de Brousse vient en juillet et en août prendre les bains de mer. Ce
n’est point là seulement une question d’hygiène, c’est aussi une
question de sécurité. A ce moment, en effet, apparaissent les
grandes chaleurs ; la moyenne est trente-cinq degrés centigrades, et
quelquefois le thermomètre monte à trente-sept et quarante degrés.
A Brousse même la chaleur est suffocante, les fièvres se déclarent,

You might also like