Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 57

■■■■■ ■■ ■■■ ■■■■■ 1st Edition

■■■■ ■■■■■■■■■
Visit to download the full and correct content document:
https://ebookstep.com/download/ebook-48997322/
More products digital (pdf, epub, mobi) instant
download maybe you interests ...

Pratique Grammaire B1 1st Edition Evelyne Sirejols

https://ebookstep.com/product/pratique-grammaire-b1-1st-edition-
evelyne-sirejols/

A medida B1 guía didáctica 1st Edition Anaya

https://ebookstep.com/product/a-medida-b1-guia-didactica-1st-
edition-anaya/

Lo straniero A2 B1 Primi Racconti 1st Edition Marco


Dominici

https://ebookstep.com/product/lo-straniero-a2-b1-primi-
racconti-1st-edition-marco-dominici/

L eredità B1 B2 Primi Racconti 1st Edition Luisa Brisi

https://ebookstep.com/product/l-eredita-b1-b2-primi-racconti-1st-
edition-luisa-brisi/
Deutsch intensiv Wortschatz B1 Das Training 1st
Edition Arwen Schnack

https://ebookstep.com/product/deutsch-intensiv-wortschatz-b1-das-
training-1st-edition-arwen-schnack/

Ritorno alle origini B1 B2 Primi Racconti 1st Edition


Valentina Mapelli

https://ebookstep.com/product/ritorno-alle-origini-b1-b2-primi-
racconti-1st-edition-valentina-mapelli/

Un giorno diverso A2 B1 Primi Racconti 1st Edition


Marco Dominici

https://ebookstep.com/product/un-giorno-diverso-a2-b1-primi-
racconti-1st-edition-marco-dominici/

100 DELF B1 Version scolaire et junior 1st Edition


Sylvie Cloeren

https://ebookstep.com/product/100-delf-b1-version-scolaire-et-
junior-1st-edition-sylvie-cloeren/

La nuova Prova orale 1 A1 B1 1st Edition Telis Marin

https://ebookstep.com/product/la-nuova-prova-orale-1-a1-b1-1st-
edition-telis-marin/
‫ثعلبة في ثوب امرأة‬
‫يرشي كراتوخفيل‬
‫ترجمة ‪:‬خالد البلتاجي‬
‫خالد البلتاجي‪ /‬مترجم مصري وأستاذ اللغويات والترجمة بكلية األلسن جامعة عين شمس بالقاهرة‪،‬‬
‫حاصل على دكتوراه في علوم اللغة التشيكية من جامعة تشالز ببراغ؛ ترجم العديد من األعمال‬
‫األدبية والدراسات المتخصصة في علم المصريات والسياسة واالجتماع من اللغتين التشيكية‬
‫والسلوفاكية‪ ،‬منها رواية *الخلود* لألديب التشيكي العالمي ميالن كونديرا‪ ،‬والبلتاجي عضو اتحاد‬
‫الكتاب المصري ونادي القلم الدولي‪.‬‬
‫إلى كل الثعالب في حياتي‬
‫الجزء األول‬
‫الّتَبّني‬
‫دار الزعيم في صمت حول لوحة شخصية له‪ ،‬رسم ضخم بألوان مبهجة‪ ،‬ثم التفت من حوله‪ ،‬وقال‬
‫لنفسه‪ :‬هذا إًذا في معبد العلوم األعجوبة‪ُ ،‬بني بالكامل حسب نظرية االستجابة الشرطية‪ ،‬كحال‬
‫التوابيت المصرية‪ .‬أهذا من روث اإلبل‪ ،‬ربما؟‬
‫وقفوا أمامه يرتدون معاطف بيضاء ملوثة ببعض من روث الحيوانات‪ ،‬كما يليق بعملهم البحثي‪.‬‬
‫أين هي‪ ،‬أيها الشباب؟‬
‫رافقوه عبر متاهة الطرقات حيث رأى لوحتين شخصيتين له‪ ،‬وواحدة إليفان بافلوف‪ .‬قال الرجل‬
‫لنفسه‪ :‬السؤال بالطبع هو‪ :‬أيجوز أن تكون صورة إيفان بفالوف بنفس حجم صورتي؟ ال بد من‬
‫الحفاظ على تسلسل هرمي بين من جعل لعاب الكالب يسيل بأمر منه‪ ،‬ومن فعل نفس الشيء مع‬
‫العالم كله‪ .‬حسًنا‪ ،‬سأطلب منهم تصغير حجم صورة إيفان بافلوف‪ ،‬أو تكبير صورتي‪ .‬سأترك لهم‬
‫القرار ‪-‬للشباب‪ -‬ليختاروا ما يرونه مناسًبا‪ ،‬وليشعروا أن لهم حرية القرار‪ .‬فهم يستحقون هذا نظير‬
‫ما حققوه من نجاح في نظرية االستجابة الشرطية‪ .‬سنرى ما حققوه من ميراث األكاديمي الراحل‪.‬‬
‫ألول مرة يرى هنا هجرًسا في عرين صغير خلف الزجاج‪ ،‬ثعلبة صغيرة‪.‬‬
‫قال آمًر ا‪:‬‬
‫ارفعوا هذا الزجاج!‬
‫عفًو ا‪ ،‬أيها الزعيم‪ ،‬ال ننصح بخطوة كهذه‪ .‬صحيح أنها تدربت على بعض األمور‪ ،‬لكن ما زالت‬
‫تحمل غرائز حيوانية‪ .‬وأسنانها حادة بدرجة كبيرة‪.‬‬
‫ارفعوا هذا الزجاج!‬
‫مد الزعيم يده دون خوف‪ ،‬فانتصبت الثعلبة على قدميها الخلفيتين في الحال‪ ،‬واهتزت بصورة‬
‫استعراضية‪ ،‬وقالت بنبرة يعوزها التدريب‪ :‬تحياتي‪ ،‬يا يوزيف فيساريونوفيتس‪ ،‬يا رائد العام‬
‫والخاص الخالد‪.‬‬
‫تجمدت أوصال الزعيم للحظات‪ ،‬ثم استكمل حركاته‪ ،‬ولمس بسبابته شعًر ا أحمر على رأس الثعلبة‬
‫الصغيرة‪ .‬سحب يده‪ ،‬ثم رفعوا الزجاج‪ ،‬فاعتدلت الثعلبة على أرجلها األربع‪.‬‬
‫رائد العام والخاص الخالد‪ ...‬من أين لِك بهذا الكالم؟‬
‫من بنات أفكاري‪.‬‬
‫أفضل منه أن تقولي‪ :‬بّناء عالم العدل الخالد‪ .‬كما أن مخارج األلفاظ ليست كما ينبغي!‬
‫سنصلح كل شيء‪ ،‬أيها الزعيم‪ ،‬في المرة القادمة ستصبح ثعلبة كوموَسمولية‪ .1‬وبالطبع ال يجوز أن‬
‫تخاطبك دون تكلف‪.‬‬
‫حذار من هذا األمر‪ ،‬حافظوا على الخطاب دون تكلف‪ ،‬من البديهي أن الزعيم لديه عالقات مباشرة‬
‫مع كل العالم الطبيعي‪ .‬سأرعى هذه الثعلبة بنفسي‪ .‬سآخذ بيدها‪ ،‬وأصل بها أعلى المراتب‪.‬‬
‫سترونني هنا في كل لحظة‪.‬‬
‫جلس من بعدها في سيارته الليموزين زيل‪ ،‬وأكمل فكرته يقول‪:‬‬
‫ال شك في أنهم نجحوا في الذهاب إلى ما هو أبعد من سيالن لعاب الكالب األكاديمية‪ ،‬لكن وضع‬
‫نظام إشارات آخر في رأس حيواناتنا ال يقل أهمية عن إطالق أقمار سبوتنك إلى الفضاء‪ .‬فلهذا‬
‫األمر شأن عام وآخر عسكري على وجه الخصوص‪ ،‬ولكي نستطيع االستثمار في أرجاء هذا‬
‫الكوكب علينا أن نسيطر على ما فوقه في الفضاء وما تحته‪ ،‬بدًء ا مما في رأس الحيوانات‪.‬‬
‫يتنقل الزعيم كثيًر ا في هذه األيام بين موسكو وجودروم‪ 2‬بيتر األكبر‪ ،‬بين الكرملين ومعهد إيفان‬
‫بافلوف‪.‬‬
‫***‬
‫نحن اآلن في نهاية األربعينيات‪ ،‬لنقل في شهر سبتمبر أو أكتوبر من عام ‪ ،١٩٤٨‬حيث يرحل‬
‫عمال السكة الحديد من مبنى كبير تابع لهيئة السكة الحديد في شارع لينين بمدينة برنو ليحل محلهم‬
‫رجال الشرطة‪ ،‬بالتحديد نخبة رجال الشرطة‪ ،‬قطاعات تابعة ألمن الدولة‪ ،‬وتحديًدا شرطة أمن‬
‫الدولة‪ .‬جاء زمن رجال الشرطة‪ ،‬وعلى رجال السكك الحديد أن يوسعوا لهم الطريق‪ .‬سيارات نقل‬
‫تابعة للسكة الحديد تلتهم األثاث‪ ،‬بينما يتساقط أثاث بديل من عربات الشرطة‪.‬‬
‫أمطار خفيفة تسقط‪ ،‬فيتراجع الطرفان‪ ،‬تتجمع مكاتب رجال األمن الوطني الجديد في دهليز الطابق‬
‫األرضي‪ ،‬ومعها طاوالت رجال السكة الحديد القديمة الذين حرصوا على إظهار ابتسامات الود‬
‫لرجال األمن الوطني‪ ،‬بينما يرد عليهم رجال الشرطة بابتسامات ساخرة‪ ،‬يمدون لهم أيديهم‬
‫بالسجائر‪ ،‬وهم يقولون‪ :‬أمريكا! قال أحد عمال السكة الحديد لنفسه وهو محشور بين رجلي شرطة‬
‫ومنضدة تابعة للسكة الحديد‪ :‬حمًدا هلل! لقد ذهب الشر‪ ،‬ويبدو‪ ،‬حتى اآلن‪ ،‬أنهم أخيار مثلنا‪.‬‬
‫توقف المطر‪ ،‬وتحركت المقاعد والمكاتب‪ ،‬والخزانات‪ ،‬والصناديق‪ ،‬واألرفف‪ ،‬والكومودات‪،‬‬
‫والبارافانات في كال االتجاهين‪ .‬نرى اآلن وسط عمال النقل بطلنا الوسيم الذي سنطلق عليه اسم‬
‫بافليك‪ ،‬ملفوًفا بأشرطة حمل األثاث وسط عمال السكة الحديد بنفس هيئته‪ ،‬يحاول أن يبادلهم‬
‫االبتسامة‪ ،‬ال السجائر‪ ،‬فهو ال يدخن حتى اآلن‪.‬‬
‫يا بافليك‪ ،‬فك هذه األشرطة‪ ،‬فلدينا هنا من يتولى هذه األمور‪ .‬تعال! ستجلس هنا‪ ،‬هنا سيكون مكتبنا‬
‫الصغير‪ ،‬وأنا مديرك‪.‬‬
‫جلس بافليك منصاًعا لطلبه‪ ،‬بينما القبطان ميشنا يتجول في الحجرة التي خصصوها له‪ ،‬يمرر كفيه‬
‫على الحائط‪ ،‬وينظر إلى الحائط المقابل حيث برز عليه مسمار‪ .‬تعثرت قدماه في أوراق مبعثرة‪،‬‬
‫واصطدم بشيء وسط المكاتب‪ .‬أشعل سيجارة‪ ،‬ومد يده لبافليك الذي هز رأسه بالرفض‪.‬‬
‫ينبغي عليك أن تتعلم التدخين‪ ،‬فهو من شيم الرجال‪.‬‬
‫كان يبحث عن عامل يصنعه على يديه‪ ،‬ويعول عليه؛ لذلك جمع بيانات عن كل شركات مدينة‬
‫برنو (بما فيها شركات المالبس وعمالها)‪ ،‬أراده أيًض ا أن يكون دقيًقا في عمله‪ ،‬فذهب إلى تلك‬
‫الشركات‪ ،‬وسجل مالحظات بناء على سجالتها حول شباب العاملين الذين ظن أنهم موهوبون أكثر‬
‫من غيرهم‪ ،‬اتصل ببعضهم‪ ،‬وتحدث معهم حتى عثر وسطهم على بافليك‪ .‬شاب مجتهد‪ ،‬يعول‬
‫عليه‪ ،‬سهل القيادة‪ ،‬قادر في الوقت نفسه على صنع المبادرات كلما اقتضت الحاجة‪ .‬هذا هو ما‬
‫يبحث عنه ميشنا تحديًدا‪ .‬لم يقرر هذا حسب سجالت العاملين‪ ،‬وال حتى من المقابالت المباشرة‪ ،‬بل‬
‫قرر هذا بناء على شعور داخلي أو حدس ربما‪ .‬كان القبطان ميشنا على دراية فائقة بطبائع البشر‪.‬‬
‫هبة لم تخطئه يوًم ا‪ ،‬وأقر بها كل زمالئه في المركز الرئيس‪ ،‬وأصابتهم جميًعا باالرتباك‪ .‬انتابهم‬
‫بعض الخوف من طبيعة ميشنا هذه دون أن يصرحوا به‪.‬‬
‫نحن في حاجة إلى شباب‪ ،‬رجال قانون يتصفون بالجرأة‪ ،‬سواعد قوية إلقرار العدالة‪ .‬لقد بحثت‬
‫بكل عناية‪ ،‬فاخترتك أنت‪ .‬مع الوقت ستتولى مهام في غاية الحساسية‪ ،‬لكننا سنجربك في البداية‬
‫لبعض الوقت‪.‬‬
‫ثم حمل كرسًّيا ووضعه بجوار مقعد بافليك‪:‬‬
‫كما قلت‪ ،‬مهمة خاصة‪ ،‬شديدة الحساسية‪ .‬وقبل أن أكلفك بها ال بد أن تجتاز بعض االختبارات‬
‫الضرورية‪ .‬وحتى هذا الوقت سوف ستظل‪ ،‬كما يقولون تمسح الرصيف‪ ،‬ينتظرك شهر من‬
‫األعمال القذرة‪ .‬مهام تبدو بسيطة‪ ،‬وتافهة سنتحقق خاللها من مدى حرصك‪ ،‬وإلى أي حد يمكن‬
‫االعتماد عليك‪ .‬تذكر هذا جيًدا‪ .‬أنت اآلن تنخرط في جيش الصفوة‪ ،‬نخبة لديها نظام صارم يشبه‬
‫نظام الكنيسة‪ ،‬أتمنى أن تفهم هذا‪ .‬أو لنقل إنها تشبه كذلك الزواج؛ تسلمنا جسدك وروحك‪ ،‬وتعدنا‬
‫بالوفاء في السراء والضراء حتى يفرقنا الموت‪ .‬يكفيك هذا اليوم‪ .‬اذهب لوداع زمالئك في الشركة‪،‬‬
‫فلن تراهم بعد اليوم‪ .‬وبالطبع لن يعرفوا عن طبيعة عملك‪ ،‬من اليوم فصاعًدا‪ .‬ستودع العالم الذي‬
‫عرفته حتى اليوم‪ ،‬وستصبح لنا وحدنا‪ ،‬عضًو ا في أسرة رجال الشرطة‪.‬‬
‫يقف ميشنا وهو يغادر المبنى بجوار النافذة ينظر إلى بافليك‪ ،‬ثم يتوقف على الرصيف المقابل‬
‫يلتفت من حوله‪.‬‬
‫بعد ساعة ُتقبل عامالت النظافة‪ .‬سيل من عامالت النظافة يتدفق‪ ،‬يمأل كل الغرف شيًئا فشيًئا‪.‬‬
‫يجررن األثاث إلى الطرقات‪ ،‬ينطفن األرض بخرقات مبللة‪ ،‬ثم من بعدها يجهزن خشًبا قبل تنظيفه‬
‫بفرش سلكية‪ ،‬تجثو كل واحدة منهن وفي يدها فرشاة‪ ،‬ثم الحًقا‪ ،‬وبعد انتصاف الليل بكثير‪،‬‬
‫يصقلنها بالشمع‪ .‬في اليوم التالي يعدن مجدًدا‪ ،‬يسحبن األثاث مرة أخرى بحرص‪ ،‬ويضعن هذه‬
‫المرة مساند طرية من تحته كي ال تشوه خشب األرضية‪ ،‬وفي الوقت نفسه يعدن ثقله‪ .‬تمسك كل‬
‫عاملة نظافة في كل غرفة خريطة توزيع األثاث‪ ،‬وترشد األخرى عن أماكنه‪ .‬يتلو هذا تنظيف‬
‫النوافذ‪ .‬في النهاية يعلقن لوحات للزعماء‪ :‬جوتوالد‪ ،‬لينين‪ ،‬ستالين‪ ،‬فليكس دزيرشينسكي‪ ،‬مدير‬
‫مركز تشيكا المهيب الشهير‪ ،‬المنوط به مقاومة الثورة المضادة‪ .‬صار قصر إدارة السكة الحديد‬
‫الفخم مستعًّدا ألداء رسالته الجديدة‪ :‬هنا سيكون مركز إدارة أمن الدولة في مدينة برنو‪ ،‬ومركز من‬
‫مراكز التحقيقات‪ .‬صار القلب النابض والعقل المدبر بالتعاون مع مركز براغ في شارع‬
‫بارتولومسكا‪ ،‬وروح بلدنا الجديد الثائر‪.‬‬
‫جاء أحدهم الحًقا للمتابعة‪ ،‬ولطم إحدى عامالت النظافة على مؤخرتها‪ .‬ثم سرعان ما عاد‪ ،‬واعتذر‬
‫عن تلك اللطمة‪ ،‬وصفعها بداًل من الصفعة اثنين‪.‬‬
‫نادى على القبطان ميشنا رئيسه‪ ،‬الكولونيل صاد‪.‬‬
‫صاد لديه في مكتبه صورة رائعة لستالين أبعادها ‪ x 108.5 ١٤٦.٢‬بألوان زاهية‪ ،‬يقال إن اللوحة‬
‫األصلية رسمها الرسام الروسي الشهير إليا رابين‪ .‬على األقل هذا ما يردده الناس عن اللوحة‪ .‬وقد‬
‫أهداها ستالين بنفسه لصاد منذ خمس سنوات‪ ،‬إبان الحرب‪ ،‬أثناء هجرة الروس‪ .‬هذه اللوحة تفرض‬
‫عليه اآلن التزامات بعينها‪ ،‬كما قال صاد بنفسه أكثر من مرة‪.‬‬
‫يدعو ميشنا للجلوس‪ ،‬يتركه جالًسا للحظات بينما يقف هو مستنًدا بظهره إلى الحائط‪ ،‬وينظر إلى‬
‫ميشنا في صمت‪ .‬ثم يقول‪:‬‬
‫نعم‪ ،‬ألقيت نظرة على مستندات بافليك سوباك‪ .‬شاب صغير خلع للتو سروال الصبا‪ ،‬وربما ما زال‬
‫حليب أمه على ذقنه‪ .‬ألم تخطئ هدفك؟ هل من المفترض أن يكون هو بافليك موروزوف‪ ،‬البطل‬
‫الثوري الشهير‪ ،‬الشهيد السوفيتي الذي أبلغ بكل شجاعة عن والده اإلقطاعي لسلطات تشيكا‪ ،‬ثم قتله‬
‫الفالحون الرجعيون الحًقا؟‬
‫أنا أضمنه بحياتي‪.‬‬
‫حسًنا‪ ،‬أرجو أال نلعب برأسك فيما بعد كرة القدم‪ .‬حسًنا‪ ،‬في الواقع أنا أثق فيك تماًم ا‪ .‬سمعت أيًض ا‬
‫أنك ماهر في معرفة طبائع البشر‪ .‬تعرف على الفور هذه الطبائع‪ .‬حسًنا‪ ،‬في النهاية أنت رفيق‬
‫شارك في مناهضة النازية‪ ،‬ودخل معسكرات االعتقال األلمانية‪ ،‬كما أنك محصن بأشد الطرق‬
‫راديكالية‪ .‬لو احتجت إلى أي شيء فبابي مفتوح لك في أي وقت‪.‬‬
‫يتوجه إلى الهتاف بعد أن ينصرف‪ ،‬يرفع السماعة ويمسك بها في يده للحظات‪ ،‬ثم يعيدها‪.‬‬
‫لننتقل إلى مكان وزمان آخرين‪ .‬حانة صغيرة اسمها روزتالتشيلي‪ ،‬محصورة بين شجرتي بلوط‬
‫عظيمتين‪ ،‬على جانب غابة أسفل قلعة شبيلبيرج‪ .‬ال تتبع الحانة مدينة روزتالتشيلي رغم أنها ما‬
‫زالت تحمل اسمها‪ .‬حجز ميشنا مكاًنا له ولبافليك في هذه الحانة مساء اليوم‪ .‬خضع بافليك للتدريب‬
‫الالزم حتى هذا الوقت‪ ،‬وأتم بشكل منضبط حتى أكثر المهام وضاعة‪ .‬عرف أن أمسية اليوم‬
‫ستكون مصيرية‪ ،‬وأنها ستقرر في شكل حياته التالية‪ .‬تحلى النادل بأقصى درجات الحفاظ على‬
‫الخصوصية‪ ،‬فال يظهر إال إذا ميشنا رفع يده‪ .‬يأتي بعدها حاماًل طعام العشاء الذي أعده مسبًقا‪،‬‬
‫ومعه نبيذ جيد‪ .‬التزم ميشنا أثناء العشاء بقواعد معسكرات الجيش‪ .‬ال يتحدث أثناء الطعام‪ ،‬لكن‬
‫شرع في الحديث بمجرد أن فرغا من الطعام ومسحا ذقنهما بالفوطة‪.‬‬
‫من المعلوم جيًدا أننا ال نحارب أفراًدا‪ ،‬بل نحارب عشائر وعائالت بأكملها غالًبا‪ .‬لقد أخذنا من‬
‫أسر أصحاب المصانع واإلقطاعيات كل مصانعهم وأمالكهم بأشد األساليب راديكالية‪ ،‬وهؤالء ال‬
‫خوف منهم‪ .‬األكثر منهم خطورة اليوم هي أسر الطبقة الوسطى‪ .‬أسر المثقفين المختبئة وراء ستار‬
‫كي ال نراهم‪ .‬خلف هذا الستار تتخمر األفكار العدائية‪ ،‬وهذا األمر يتطلب متابعة مستمرة‪ .‬اخترت‬
‫لك واحدة من تلك األسر‪ ،‬أسرة كرامير‪ .‬هذا الرجل يعمل أستاًذا للغة التشيكية في الجامعة‪ ،‬زوجته‬
‫معلمة في مدرسة ثانوية‪ .‬تبدو من الوهلة األولى أسرة عادية تعمل في التدريس‪ ،‬لكن والد كرامير‬
‫كان مؤرًخ ا شهيًر ا قبل اندالع الحرب‪ ،‬ومؤمًنا بأفكار مساريك‪ ،‬ولديهم مريدون في الخارج‪ .‬شقيق‬
‫كرامير كاهن في كنيسة‪ .‬اخترنا لك هذه األسرة ألننا نتابع حالة أسر مثلهم‪ .‬تكمن خطورة عش‬
‫األفكار هذا في عالقاته‪ .‬ليس المطلوب منك مراقبتهم الدائمة فحسب‪ ،‬بل تتعرف على كل من‬
‫يتحرك في فلكهم‪ ،‬لكن حذاِر ! ال يجب أن يروك‪ .‬سيكون لديك كل ما يلزم من أجل أن تزرع حولهم‬
‫شبكة من المخبرين ستديرها بنفسك‪ .‬يجب االنتباه كذلك إلى أمورهم األسرية‪ ،‬وإلى كل مشاكلهم‪.‬‬
‫يقال إن كرامير زير نساء‪ ،‬ويالحق النساء كما يالحق ابن العرس الدجاج‪ .‬هذا أمر قد يفيدنا يوًم ا‪.‬‬
‫أما زوجته فمصابة بمرض العصاب‪ ،‬ودخلت مصحة نفسية ذات يوم‪ .‬ال تكتب شيًئا اآلن‪ .‬سأعطيك‬
‫الملف في وقت الحق‪ ،‬حيث ستجد فيه كل شيء تقريًبا‪ .‬تسكن األسرة في شارع كرشينوفا‪ ،‬بجوار‬
‫المدرسة‪ .‬سيعاونك هناك مدير المنزل‪ .‬إنه غبي مجتهد‪ ،‬لكنه سيتابع كل الزيارات التي تستقبلها‬
‫أسرة كرامير‪ .‬ذات يوم ستنجح خطتنا‪ ،‬وسنجهض خططهم‪ ،‬ونقوم ببعض الخطوات المحسوبة التي‬
‫ستقلب عالمهم رأًسا على عقب‪ .‬بعدها ستساعدنا أي إفادة منك بشأنهم‪ .‬اآلن ستصبح مخبًر ا سرًّيا‪،‬‬
‫وجامع معلومات‪ ،‬وفي الوقت نفسه موظًفا اعتيادًّيا‪ .‬ثم الحًقا‪ ،‬وعندما يحين الوقت‪ ،‬سيكون لك دور‬
‫هام‪ ،‬وأستطيع القول إنه دور عظيم‪ ،‬لكني لن أتحدث فيه اآلن‪.‬‬
‫واصال الجلوس في الحانة يشربان النبيذ‪ ،‬ولم يعاود ميشنا الحديث عن عائلة كرامير‪.‬‬
‫سأتدبر لك شقة هنا في وسط المدينة‪ .‬وسأتولى أمر والديك‪ .‬فأنتم تعيشون في شقة صغيرة على‬
‫أطراف المدينة‪ ،‬لكننا سنصلح األمر‪ .‬اخترنا بالفعل شقة لوالديك‪ ،‬ونحصل عليها بمجرد أن نطرد‬
‫منها هؤالء الطغاة الربويين‪ .‬هذا البلد بات منذ أشهر بلد العمال الذين بنوه بأيديهم‪ ،‬وعلموا أبناءه‪،‬‬
‫وحققوا حلًم ا طالما حلمنا به‪ ،‬واآلن حان الوقت كي نثبت أننا قادرون على صونه‪ ،‬لكن كما سبق‬
‫وقلت‪ ،‬ستكون عندك شقة خدمة مستقلة كي ال يتدخل أبواك في أمر نريد له أن يبقى في طي‬
‫الكتمان‪.‬‬
‫أحضر النادل زجاجة نبيذ أحمر ماركة كابيرنت ساوفيجنون‪ ،‬ومسح الطاولة بفوطة في يده‪،‬‬
‫وانتظر أن يعطيه ميشنا إذًنا باالنصراف‪ .‬طقطقت الشموع بمهابة بين الحين واآلخر‪ ،‬بينما توقفت‬
‫األمطار في الخارج رغم سحابة فوق المدينة ظللت النجوم والقمر‪.‬‬
‫قال ميشنا‪:‬‬
‫أعتقد أن علينا االنصراف قبل أن يعاود المطر‪.‬‬
‫لم يبق على الطاولة سوى زجاجة نبيذ لم تفرغ‪ ،‬في الخارج تنتظرهما شوارع برنو التي غسلتها‬
‫األمطار‪ ،‬وصار الهواء أمام البار الصغير منعًشا رغم دخان غليون ميشنا‪.‬‬
‫أنا ال أترك سيارتي أبًدا بالقرب من المكان الذي أنا فيه‪ ،‬إنها قاعدة المؤامرة التي أحافظ عليها‪.‬‬
‫بافليك ليس مجبًر ا على أن يلتزم بقاعدة كهذه‪ ،‬فليس عنده سيارة بعد‪ .‬وقفا لحظات بين شجرتي‬
‫البلوط ينظران إلى المدينة‪ ،‬إلى أضوائها وما ظهر منها وسط السحب السوداء‪ ،‬ثم هبطا من عند‬
‫قلعة شبيلبيرج‪ ،‬وانعطفا مرتين‪ .‬أوصل مشينا الشاب بافليك إلى ضواحي المدينة‪ ،‬حيث يعيش مع‬
‫والديه في بيت قذر في حي شيداناتس‪.‬‬
‫أنت اآلن رجلنا‪ .‬ال تنس‪ :‬في السراء والضراء إلى أن يفرقنا الموت‪.‬‬
‫ثم فتح باب عربته الفارهة ليذهب بافليك إلى بيته الحقير‪.‬‬
‫***‬
‫زيارات الزعيم لنا هنا كثيرة‪ ،‬بينما أنا كثيًر ا ما أزور الكرملين‪ .‬أنا أفضل ما أنتجه قسم‬
‫الفيزيولوجيا في معهد الطب التجريبي الذي أسسه إيفان بافلوف‪ .‬أحبني الزعيم‪ ،‬وقال لي بكل‬
‫صراحة غير معهودة فيه‪ :‬أنت صديقي الوحيد‪ ،‬وال أعرف صديًقا غيرك‪ .‬رائع أن أكون الصديق‬
‫الوحيد للزعيم الذي تحمل اسمه الشوارع‪ ،‬والميادين‪ ،‬وحتى الجبال الشاهقة‪ ،‬وتزين صوره بيوت‬
‫كل التقدميين في أنحاء العالم‪ ،‬أنا الثعلبة الحمراء‪.‬‬
‫لقد قارن الزعيم هذه المقولة بمقولة األديب السوفيتي التقدمي ماكسيم جوركي الذي قال يوًم ا إن‬
‫األديب األصولي ليونيد أندرييف كان صديقه الحق الوحيد‪ .‬العالم ممتلئ بالتناقضات‪ ،‬وهذه هي‬
‫جدلية الماركسية‪ .‬أنا حمراء بالكامل‪ ،‬وهو يسمي هذا لون الثورة الحمراء‪ .‬يقول كلما أراد أن‬
‫يغضبني كثيًر ا إنه لو اكتشف أني لم أعد بال فائدة فسوف يعلقني كعلم أحمر على صارية الكرملين‪.‬‬
‫ال بد أن أعترف كذلك أني تخلصت بصعوبة بالغة من طبيعتي كثعلبة ألنهم من تولى هذا التحول‪.‬‬
‫أقف اآلن بين عالمين‪ ،‬واحد منهم في الواقع ليس عالمًّيا‪ .‬وبداًل من التدرب على اإلمساك باألرانب‬
‫البرية‪ ،‬وتنظيف البراغيث من جسدي أقوم على تشغيل نظام اإلشارة الثاني في رأسي‪ ،‬أعبث‬
‫بكلمات‪ ،‬وكلمات‪ ،‬وكلمات‪ ،‬وضاعت طفولتي في هذا األمر‪.‬‬
‫لكني لم أنس أبًدا أول مرة رأيت فيها الكرملين‪ .‬حملني الزعيم تحت سترته العسكرية‪ ،‬ولم يظهر‬
‫مني غير رأسي‪ .‬وعندما مررنا بمدفع ضخم يطلقون عليه هناك اسم كاربوشكا سمح لي بالنظر في‬
‫مؤخرته البرونزية‪ ،‬أقصد من فوهته‪ ،‬وسمعت هناك دوي الفخر الروسي الالمتناهي‪ .‬رأيت في‬
‫مكتب الزعيم تمثااًل صغيًر ا من القصدير‪ ،‬نسخة مصغرة من تمثال بيتر األكبر الذي انتصب فوق‬
‫جبل سان بيتسبرج‪.‬‬
‫أجلس بجوار التمثال الثقيل بينما الزعيم يوقع على أوراق‪ ،‬مثلما يفعل كل يوم‪ ،‬أحياًنا يرفع رأسه‪،‬‬
‫ينظر إلى‪ ،‬ويطلب نصيحتي‪ .‬فأنصحه على سبيل المثال قائلة‪ :‬الملف من ‪ ٢٥٨‬حتى ‪ ٣٤٢‬ال‬
‫يستحق اإلعدام شنًقا وال رمًيا بالرصاص‪ .‬يهز الزعيم رأسه‪ ،‬وبجرة قلم قوية (يكاد الحبر يتطاير‬
‫منه على ذيلي الثعلبي) يشطب على الملف الذي ذكرته‪ .‬ويمنحه عفًو ا‪ .‬ال يفعلها إال لحبه لي‪ ،‬وال‬
‫مبرر آخر لهذا اإلجراء‪.‬‬
‫الزعيم لديه خطط كبيرة فيما يخصني‪ .‬صحيح أني ال أعرف ما هي هذه الخطط‪ ،‬وربما هو بالمثل‪،‬‬
‫لكنه يعدني لهذه الخطط‪ .‬ال يخطط بالتأكيد أن يجعلني دمية حمراء في الكرملين‪ ،‬ويتأسف من أنه‬
‫مضطر إلى إخضاعي لتدريب صارم‪ .‬غالب الظن أني سأكون جاسوسة في معسكر األعداء؛ لذلك‬
‫ال بد من تلقيني األفكار البلشفية كي أكون آمنة من أن يفترسني العالم الرأسمالي‪ .‬ال بد أن أتلقى‬
‫لقاًح ا ضد عدوى الرأسمالية‪ .‬هذا المكتب الضخم في الكرملين الذي استلقيت عليه حتى اآلن بجوار‬
‫تمثال بيتر األكبر هو ساحة أصارع فيها‪ ،‬تحت أنظار الزعيم‪ ،‬حيوانات أحضروها لهذا الغرض‬
‫من سيبيريا‪ .‬وألن الزعيم يتمنى لي دائًم ا ما هو أفضل‪ ،‬استحقر حيوانات حديقة الحيوان والسيرك‪،‬‬
‫ورأى أنه ال بد أن أكون من حيوانات غير مزيفة‪ ،‬قادمة سهول التاندرا‪ ،‬والتايحا‪ ،‬ومن وادي نهر‬
‫ينسي‪ .‬أصارع على مكتبه الضخم قطط سيبيريا‪ ،‬وذئابها‪ ،‬وقيوطها‪ ،‬وفهودها‪ ،‬وحيوانات الخز‬
‫وولفرين‪ ،‬والغرير‪ ،‬وحتى الثعالب القطبية‪ .‬أهزمهم جميًعا بكل بساطة‪ ،‬لكني أعتقد أن السبب في‬
‫هذا يعود إلى أني اعتدت أجواء الكرملين‪ ،‬بينما حيوانات سيبيريا عليها أن تحارب مع بيئة غريبة‬
‫عنها تماًم ا وهي تنازلني‪ .‬رأى الزعيم أني نبيلة إلى أبعد الحدود ألني أعفو عن أي حيوان أهزمه‪:‬‬
‫كم مرة أخبرتك أننا إن أردنا أن نصنع عالًم ا أكثر عداًل فال بد أن نكون حازمين قدر المستطاع‪.‬‬
‫عندما تقطعين غابة فال بد أن تتطاير منها كسرات‪ ،‬وهذه الكسرات قد تكون أحياًنا كبيرة بحجم‬
‫صاري سفينة‪.‬‬
‫أوفقك الرأي‪ ،‬أيها الزعيم‪ ،‬لكني ال أعرف لم ال أكون نبيلة مع حيوانات سيبيريا التي ال عالقة لها‬
‫بأي إمبريالية؟‬
‫يجيب الزعيم‪ :‬أنِت دائًم ا تقنعينني برأيك‪ .‬ثم يطلب مني أن أشعل غليونه‪.‬‬
‫من المتوقع أن أجيد كذلك لغات أجنبية بصفتي عميلة المستقبل؛ لذلك أتعلم أهم اللغات اإلمبريالية‬
‫وهي اإلنجليزية‪ .‬حرص الزعيم على أن أتمتع بموهبة تعلم اللغات األجنبية فوضع لي طلبة‬
‫أكاديمية بافلوف نظام إشارات ذكًّيا جعلني أتحدث اإلنجليزية بطالقة‪ ،‬ومعها األلمانية والفرنسية‪،‬‬
‫اللغات التقليدية التي كانوا يتحدثونها في بالط القيصر يوًم ا ما‪.‬‬
‫اختار لي الزعيم أفضل أساتذة جامعة لومونوسوف‪ .‬كانوا جميًعا في دهشة كبيرة عندما التقوا ألول‬
‫مرة بتلميذة مشعرة ذات موهبة كبيرة في تعلم اللغات‪ .‬المثير في األمر أنهم لم يبقوا على قيد الحياة‬
‫بعد انتهاء دورة اللغة‪ ،‬لكنهم لم يعرفوا بمصيرهم إال في نهاية الدورة‪ ،‬بعد آخر حصة دراسية‪.‬‬
‫لست سعيدة بهذا األمر‪ :‬فأعضاء الجامعات الروسية هذه طيبون للغاية‪ ،‬لكني أتفهم األمر‪ .‬علمهم‬
‫بوجودي يساوي حياتهم‪.‬‬
‫أتفهم كذلك أن الزعيم تخلص من كل موظفي معهد إيفان بافلوف‪ .‬خاف من أن يظهر حيوان أكثر‬
‫ذكاء مني‪ .‬قلبه ليس كبيًر ا بدرجة كافية لتقبل حيوانات كثيرة ذكية؛ لذلك عين في المعهد كفاءات‬
‫علمية هزيلة‪ ،‬محدودة الذكاء‪ ،‬فتراجع المعهد خطوات إلى الخلف‪ ،‬وضج من جديد بنباح كالب‬
‫يسيل لعابها‪ ،‬لعاب غزير يسيل حتى شارع نيفسكي بروسبكت‪.‬‬
‫لما ال يقبل هذا العرض؟ رآه بافليك على الفور عرًض ا طيًبا‪ .‬صار عضًو ا في جيش الصفوة‪،‬‬
‫وتحرك في أجواء سرية مريحة‪ ،‬وكأنه عين خاصة طالما قرأ عنها فقط في المجالت‪ .‬تقاضى راتًبا‬
‫لم يحلم به أي خراط‪ ،‬وفجأة صار في أعلى درجات السلم االجتماعي‪ ،‬هناك‪ ،‬كما أكد له ميشنا‪،‬‬
‫سينال احترام الجميع كلما جاء ذكره‪ ،‬ومنهم الرئيس شخصًّيا على سبيل المثال‪ ،‬أو رئيس الوزراء؛‬
‫ألن الحكومة دون أمن ال قيمة لها‪ ،‬واألمن يحمي الحكومة‪ ،‬ليس فقط من عدو خارجي‪ ،‬بل في‬
‫أغلب األحيان من عدو داخلي‪ .‬وهذا العدو الداخلي ال يعرفه إال رجال األمن‪ ،‬وحدهم دون غيرهم‪.‬‬
‫حتى الرئيس نفسه ال يمكن أن يشعر باألمن إال عندما نعطيه ختًم ا بهذا األمن‪ .‬نحن إًذا لسنا جنود‬
‫الثورة فحسب‪ ،‬بل كذلك ضامنوها وورثتها‪ .‬هذا ما مأل به ميشنا رأس بافليك على أنه عقيدة جيش‬
‫النخبة الذي ضم بافليك إلى صفوفه بشكل ال رجعة فيه‪.‬‬
‫ظل يقيم مع والديه في تلك الشقة الجديدة األنيقة في وسط المدينة‪ ،‬في شارع تشيكا بمركز بورصة‬
‫برنيانو‪ ،‬وكانت قبل األمس مسكًنا لعائلة برجوازية اتهمها أمن الدولة بتواطؤ أثناء االحتالل‬
‫النازي‪ ،‬فغادرت الشقة مباشرة إلى السجن‪ .‬استولى والدا بافليك على كل ما في الشقة من أثاث‪،‬‬
‫وحتى األغطية في غرفة النوم‪ .‬استيالء أخرق‪ ،‬بقيت ماكينة حالقة أمريكية بجوار مستحضرات‬
‫التجميل‪ ،‬عليها بقايا شعر شارب برجوازي‪ ،‬وفي غرفة األطفال كومود وردي عليه آثار غائط‬
‫طفلهما البرجوازي اللعين‪ .‬لم يعجب هذا الموقف بافليك‪ :‬أن يدخل عنوة إلى عالم أسرة أخرى‪،‬‬
‫تفاصيلها الخاصة حاضرة في كل مكان‪ ،‬لكنه في الوقت نفسه لم يشك‪ ،‬ولم يقدر على أن يشك بأن‬
‫عالم اليوم ال بد أن يتخلص بأسرع ما يمكن من عالم األمس‪ .‬رغم هذا أسعده أنه لن يبقى طوياًل‬
‫في هذه الشقة‪ :‬سيحصل على شقة خاصة‪ ،‬كما وعده ميشنا‪.‬‬
‫تواصل التدريب‪ ،‬وكانت تدريبات اللياقة البدنية جزًء ا منه‪ .‬لم ينل أي من الرياضيين المعروفين‬
‫مثل هذا التدريب‪ .‬عاد إلى تختة المدرسة كما يقولون‪ .‬كان عليه أن يجد‪ ،‬ويجتهد ويحفظ كل‬
‫دروس اللغة الروسية عن ظهر قلب‪ .‬تحولت واحدة من حجرات مركز أمن الدولة إلى قاعة درس‬
‫لتعليم اللغات‪ ،‬وملتقى لكل من يستعدون للقاء زمالئهم من مركز الشرطة الروسي ‪-‬لوبيانكا‪ -‬الذين‬
‫سينقلون لهم خبراتهم‪ .‬كان مدرس اللغة الروسية رجاًل روسًّيا عجوًز ا‪ ،‬يعلمهم لغة بوشكين‬
‫وليرمنتوف‪ ،‬ويسينين‪ ،‬وماياكوفسكي‪ ،‬وخليبنيكوف‪ ،‬وأساييف‪ .‬علمهم صوتيات اللغة وقواعدها‪،‬‬
‫علمهم المحادثة‪ ،‬وحب اللغة‪ ،‬كل حصة ينهيها بمقطع من آللئ الشعر الروسي‪ ،‬على سبيل مطلع‬
‫قصيدة بوشكين إلى البحر‪ :‬تالشى‪ ..‬نعى الحرية‪ .‬ترك العالم تاجك‪ .‬صاخًبا كنت أيها البحر‪ .‬شعر‬
‫معها بافليك بقوة الشعر الروسي الساحرة تهز كيانه‪ ،‬لكنه لم يستفد كثيًر ا من هذا المدرس؛ ألن‬
‫رؤساءه رأوا أن إيقاع المحاضرات بطيء‪ ،‬والفائدة ضئيلة‪ .‬فضاًل عن اكتشاف تهاون في تقصي‬
‫مسيرة هذا المدرس‪ .‬فهو من أسرة روسية هاجرت إلى براغ قبل ثورة أكتوبر‪ .‬وعندما جمعت‬
‫منظمة األمن السوفييتي سميرش كل المهاجرين في تشيكوسلوفاكيا بعد التحرير فاتهم أمر هذه‬
‫األسرة‪ .‬وحان الوقت إلصالح األمر‪.‬‬
‫جاءهم مدرس جديد‪ ،‬لم تكن الروسية لغته األم‪ ،‬لكنه أجاد الروسية عندما التحق في نهاية الحرب‬
‫بوحدة المظليين الروسية‪ .‬شعر بافليك بمدى الخسارة؛ فلغته الروسية السوقية مجرد جلبة عربة يد‬
‫مقارنة بالروسية التي عرفها وسمعها من ذلك العجوز‪ ،‬لكنه سيلتقي مجدًدا بمدرسه المفضل‪،‬‬
‫العجوز الذي جعله يحب لغة بوشكين إلى األبد‪.‬‬
‫يبدأ اليوم بالتدريب في صالة التدريبات‪ .‬تدربوا بكل صرامة‪ ،‬يرافقهم شعار القائد سوفوروف عالًقا‬
‫فوق الحلبة حيث يتصارع المتدربون‪ :‬كثير من العرق أثناء التدريب قليل من الدم في أرض‬
‫المعركة‪ ،‬لكن كثيًر ا ما حدث أن يذهب المتدرب بعد لقاء الحلبة إلى عيادة الطبيب مباشرة‪.‬‬
‫يغادرون صالة الرياضة في جماعة عبر دهليز طويل‪ ،‬أبواب تراصت على اليمين وعلى اليسار‪.‬‬
‫ذات يوم تأخر بافليك في صالة التدريب مع مدربه الذي علمه الطريقة السليمة للتنفس أثناء‬
‫التدريب‪ ،‬ثم عاد وحده في ذلك الدهليز‪ .‬رأى وهو في طريقه باًبا مفتوًح ا‪ ،‬ومن خلفه مدرس اللغة‬
‫الروسية العجوز‪ .‬رآه معلًقا من قدميه على ارتفاع ركبة بافليك تقريًبا‪ ،‬ويتساقط الدم من فمه‪ .‬في‬
‫الواقع لم يعد يتساقط؛ فقد مات ميخائيل أكساكوف‪ ،‬لكن أحدهم هز جثته من الخلف لحظة مرور‬
‫بافليك‪ ،‬فتوجهت عينا المدرس الزائغتان ناحية بافليك مباشرة‪.....‬‬
‫صدمة كبيرة جمدت أوصاله‪ ،‬ثم هرع إلى أقرب حمام‪ ،‬وهناك ظل يتقيأ أكثر من مرة‪.‬‬
‫لم يكن األمر صدفة على اإلطالق‪ ،‬أيها الرفيق القبطان‪ .‬لقد أمرتهم أن يفتحوا الباب لتظهر له‬
‫الجثة وقت مروره من هناك‪ .‬أمرت المدرب أن يؤخره ألي سبب ليظهر في الدهليز بمفرده‪ .‬كان‬
‫في حاجة إلى مثل هذه الصدمة‪ .‬ال يمكن أن تبقى األمور كما كانت‪ .‬أنت تجعل منه طفاًل مدلاًل ‪،‬‬
‫لكننا نحتاجه سفاًح ا بال رحمة‪ ،‬كلما تطلب األمر‪ .‬ال يتعارض هذا مع أهدافك في جعله يتعقب‬
‫أعضاء األسر المعادية‪ ،‬لكني سأجعله يشارك في جلسات االستجواب‪ ،‬ال بد أن يكون فيها واحد‬
‫منا‪ ،‬وليس دمية من حلوى‪.‬‬
‫قال ميشنا‪:‬‬
‫أمر آخر‪ ،‬وأرجو المعذرة‪ ،‬أيها الرفيق الكولونيل‪.‬‬
‫تفضل أيها الرفيق!‬
‫أخشى من أن شيًئا ما فاتنا!‬
‫كلي آذان صاغية‪.‬‬
‫هل من حقنا أن نقتل المدرس الروسي‪ ،‬حتى لو عملنا عنه شيًئا؟‬
‫أرى أنك تهتم بأمور ال قيمة لها‪ .‬لقد أرسلنا بيانات عنه إلى السفارة السوفيتية التي بعثت محقًقا‬
‫خاًّص ا تولى أمره‪ .‬كسر كل عظامه‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬وبعد االستجواب قضى عليه بالموت معلًقا‬
‫من قدميه‪ ،‬ورأسه مدلى ناحية األرض‪ .‬كنت هناك‪ ،‬ورأيته وهو يعمل في لوبيانكا‪ .‬لدينا مهام كثيرة‬
‫ال تنتهي‪ .‬هل عندك شيء آخر أيها الرفيق؟‬
‫أنا على قناعة بأنه كان ينبغي أن يتعلم أيًض ا األلمانية واإلنجليزية‪ .‬أعرف من‪ .....‬من المدرس‬
‫الروسي أن بافليك موهوب في تعلم اللغات األجنبية‪ .‬أجاد الروسية بمنتهى السهولة‪ .‬أفكر في أن‬
‫نرسله إلى الغرب مع الوقت‪ ،‬يالحق المهاجرين التشيك‪.‬‬
‫هذه فكرة جيدة‪ ،‬موافقك طالما تعتقد أنه جدير بها‪ .‬حسًنا‪ ،‬بخصوص دراسة األلمانية واإلنجليزية‪،‬‬
‫لدينا في محبس شارع سيل أستاذ من كلية اآلداب‪ .‬سيذهب إليه رجلك هذا‪ ،‬بافليك‪ ،‬في المحبس‬
‫لتعلم اللغات المطلوبة‪ .‬ال بد أن أعترف أني معجب تماًم ا بهذا األمر‪.‬‬
‫بافليك نموذج إلنسان فائق الذكاء‪ ،‬ولد في أسرة معدومة تماًم ا‪.‬‬
‫لقد قلت لك من قبل إني أثق تماًم ا فيما تفعله مع هذه الحالة‪ ،‬لكن ال بد أن يجتاز األمور األساسية‬
‫مثل باقي األفراد هنا‪ .‬لسنا دار حضانة‪ ،‬بل أعضاء جيش البروليتاريا الجبار‪ .‬لن آخذه منك‪ .‬خذ‬
‫بيده إلى حيث تريد‪ ،‬لكن اعلم أننا نعيش في عصر ال يحدد شكل اليوم فحسب‪ ،‬بل وشكل الغد وبعد‬
‫الغد‪.‬‬
‫أعرف هذا جيًدا‪ ،‬أيها الرفيق‪ .‬وأؤكد لك أن رجلي هذا‪ ،‬كما تقول‪ ،‬بافليك موروزوف سيصبح‬
‫خنجًر ا في حلق كل أعداء الثورة‪.‬‬
‫انفجر الكولونيل صاد في الضحك‪:‬‬
‫حسًنا‪ ،‬انصرف‪ ،‬وأصقل خنجرك!‬
‫خاطبها في مكتب البريد وهي تتلقى الطرود البريدية‪ .‬كانت بالتأكيد أكبر منه سًّنا‪ ،‬لكنها حسناء‪،‬‬
‫جميلة الطلعة كعادتها‪ ،‬وكما يراها اآلن في مكتب البريد‪.‬‬
‫هل يمكن أن أرسل من عندكم كذلك طرًدا وزنه أكثر من عشرة كيلوجرامات؟‬
‫غالًبا نعم‪.‬‬
‫لكنه طرد خاص جًّدا‪.‬‬
‫أها‪ ،‬حسًنا‪ ،‬فلتحضره وسنرى‪.‬‬
‫أفضل أن تلقي عليه نظرة في مقهى بلفيو‪.‬‬
‫أها‪.‬‬
‫غًدا في الساعة الخامسة مساًء ‪.‬‬
‫ال أعرف‪ ،‬انتظر لحظة! هذا ممكن‪.‬‬
‫وجاءت بالفعل‪.‬‬
‫أنت إًذا ضابط مرور‪ ،‬تقف في التقاطعات تحرك ذراعيك؟‬
‫كال‪ ،‬أنا ضابط مرور يستدعونه في حاالت حوادث السير‪ .‬أيًض ا أفحص رخص القيادة‪ ،‬وأستطيع‬
‫إيقاف أي سيارة تتجاوز السرعة المقررة‪ ،‬أو تخالف إشارات المرور‪.‬‬
‫ومتى وأين ستريني طرد البريد الذي تريد أن ترسله؟‬
‫لم يحدث األمر بالسرعة المتوقعة‪ .‬دعاها بعد اللقاء بيومين إلى شقته التي وعده بها ميشنا‪ ،‬وأخيًر ا‬
‫تسلمها‪ :‬استوديو صغير في شارع كوبليشنا بوسط المدينة‪ .‬ال أثر فيها لحسن الحظ لمستأجرين‬
‫سابقين‪ .‬كل أثاثها اشتراه بنفسه من متجر األثاث‪ ،‬بما فيه السرير الذي ينام عليه‪.‬‬
‫قالت الفتاة عندما طلب منها أن تفتح فمها عن آخره‪:‬‬
‫لَم هذه العجلة‪ ،‬أيها الشاب‪ ،‬ماذا تفعل؟ مهاًل ‪ ...‬ما هذا‪ ...‬هذا ال يجوز‪ ،‬إنه تصرف أحمق‪.‬‬
‫بل يجوز‪ ،‬فأنا جندي في جيش البروليتاريا الجبار‪ ،‬وهذا هو سالحي‪ .‬وسأعطيك إياه!‬
‫ثم دس عضوه في فمها حتى حلقها قبل أن تتذمر‪.‬‬
‫انتابه الرعب بعد انصرافها‪ .‬قدم لها نفسه على أنه ضابط في شرطة المرور‪ ،‬وقد أصاب‪ ،‬لكنه في‬
‫حالة النشوة قدم لها فرجه على أنه سالح جيش البروليتاريا العظيم‪ ،‬وهو تصرف لن يقبل به ميشنا‪.‬‬
‫التقى بها عدة مرات فيما بعد كي يتأكد من أن عبارة جندي جيش البروليتاريا العظيم لم تعلق‬
‫بذهنها‪ ،‬ثم تركها وشأنها‪ .‬تعاظم في نفسه شعوره بالذنب من أنه تحدث معها‪ ،‬حتى جمال لبؤة‬
‫موظفة مكتب البريد الفاتن لم يقدر على محو هذا الشعور‪.‬‬
‫***‬
‫قال لي الزعيم ذات يوم‪:‬‬
‫أظن أن عليك أن تجربي الحياة بنفسك‪ .‬سأطلقك اآلن من أحضاني‪ ،‬وأدفع بك إلى أحضان الحرية‪،‬‬
‫وعندها تقررين بنفسك إن أردت العودة مجدًدا‪.‬‬
‫سأعود بكل تأكيد‪.‬‬
‫ال تقولي هذا قبل أن تجربي‪.‬‬
‫ثم بسط أمامي خريطة سيبيريا‪ ،‬ووضع إصبعه على مدينة كبيرة تقع عند نهر ينسي‪ ،‬مدينة‬
‫كراسنويارسيك‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫سيذهبون بك إلى هنا عبر خطة سكك حديد سيبيريا‪.‬‬
‫انطلقنا من محطة ياروسالفسكي في موسكو‪ ،‬وأمامنا طريق سفر لخمسة أو ستة أيام‪.‬‬
‫فتح الزعيم نافذة الليموزين الصغيرة‪ ،‬وأرسل لي منها قبلة في الهواء‪ ،‬وهو تصرف ليس ضمن‬
‫قاموس إيماءاته المعتادة‪ .‬اعتاد أن يضع يده على الرقبة‪ ،‬ويمرر حد كفه عليها‪ ،‬وهو عادة تصرف‬
‫ال ينتبه البعض إليه‪.‬‬
‫أسافر في عربة واحدة مع كل حيوانات سيبيريا الذين نازلتهم على منضدة الكرملين الضخمة‪ ،‬مع‬
‫ذئب البراري‪ ،‬والفهد‪ ،‬وابن عرس‪ ،‬والغرير‪ ،‬والثعلب القطبي‪ ،‬وأولفيرن‪ .‬إنهم عائدون إلى‬
‫موطنهم في سيبيريا الذي أخذوا منه عنوة كي يساعدوا في تدريبي‪ ،‬لكنني ذاهبة إلى هناك في‬
‫رحلة تجريبية‪ .‬أكثر ما أزعجني هو الثعلب القطبي‪ ،‬كما هي الحال دائًم ا مع األقارب‪ .‬توطدت‬
‫عالقتي أكثر بأولفرين‪ .‬وكانت المباراة معه على منضدة الكرملين من أصعب المباريات‪ ،‬لكنه‬
‫الحيوان الوحيد الذي ظننت على حق أنه قادر على مجابهتي‪ ،‬وطرحي على حافة المنضدة‪،‬‬
‫واجتزاز ذيلي‪ ،‬ولفه حول رقبته مثل شال يدفئه في شتاء سيبيريا القارس‪ .‬لكن قرر أولفرين على‬
‫ما يبدو التظاهر باالستسالم‪ ،‬والهزيمة أمامي‪ .‬أعرف وهو كذلك يعرف أني أعرف أنه يتظاهر‪،‬‬
‫فربطنا ببعضنا ما يشبه المؤامرة‪.‬‬
‫رافقنا إيفان ياكوفالفيتش إلى كراسنويارسيك بسبب صعوبة التواصل مع موظفي السكة الحديد‬
‫رغم معرفتي بلغتهم البشرية‪ .‬إنه من النوع الذي يشير إليهم الزعيم بحركتين على رقبته كإشارة‬
‫إلى مصيرهم‪ ،‬ثم من بعدها يمنحهم عفًو ا‪ .‬قام على رعايتنا حتى وصلنا إلى كراسنويارسيك‪ ،‬ثم‬
‫شرح لي بعدها كيف أعود بمفردي في عربة البضائع بقطار سيبيريا السريع‪ ،‬ومن بعدها يستطيع‬
‫تنفيذ ما جاء في خطاب الزعيم بأنه سيصبح مواطًنا حًّر ا‪ ،‬إنساًنا حًّر ا‪.‬‬
‫وفرت تلك الرحلة الطويلة فرصة كي أتحدث مع حيوانات سيبيريا‪ ،‬التي لم أتواصل معها إال على‬
‫منضدة الكرملين الضخمة من خالل لكمات‪ ،‬وركالت موفقة‪ ،‬وضربات دقيقة على خلف األذن‪،‬‬
‫ومحاوالت خنق‪ ،‬ومسكات رأس مزدوجة‪ ،‬ال بد أن أذكر هنا أني أعرف لغة الحيوانات العامة‪،‬‬
‫فضاًل عن الروسية‪ ،‬واإلنجليزية‪ ،‬والفرنسية‪ ،‬واأللمانية‪ .‬لغة قائمة على أصوات في موجات شديدة‬
‫االنخفاض وأخرى شديدة االرتفاع فال يسمعها البشر‪ .‬ال تسمع الناس منها إال األصوات المتنافرة‬
‫التي تموج على سطح اللسان مثل أوراق على سطح النهر أيام الخريف‪ .‬تمكنت‪ ،‬إًذا‪ ،‬على مسمع‬
‫من إيفان ياكوفالفيتش في إلقاء بعض النوادر الساخرة عن البشر‪ ،‬نوادر قد يثمنها الزعيم (فعنده‬
‫تحفظات من سلوك البشر)‪ ،‬لكن أي عضو آخر من جنسه قد يصلبها عليها‪.‬‬
‫قررت أن أغتنم تلك الرحلة الطويلة في إثراء لغة الحيوانات بداًل من أن أشارك حيوانات سيبيريا‬
‫تجاربي الساخرة‪ .‬ترجمت خطاب الزعيم أثناء اجتماع اللجنة المركزية لالتحاد إلى لغة الحيوانات‬
‫بينما المدن تمرق خلف نوافذ العربة‪ ،‬مدن صغيرة‪ ،‬وقرى‪ ،‬وديرفني‪ ،‬وهو اسم أطلقه القائد على‬
‫البلد الخصيب الواسع‪ ،‬الذي تنتشر فيه الحقول‪ ،‬والغابات واألنهار‪ ،‬فسنحت للحيوانات الموجودة‬
‫معي فرص لتجربة لغة الخطاب‪ .‬ال ألومهم على أنهم استسلموا لنوم عميق استعداًدا لطقس سيبيريا‬
‫القاسي الذي يعودون إليه‪.‬‬
‫ودعنا إيفان ياكوفالفيتش في محطة كراسنويارسيك‪ ،‬وانطلق في طريق الرجال األحرار‪.‬‬
‫لو أردت أن أصف اآلن مدينة كراسنويارسيك فسوف أحتاج إلى ردة فعل حيوانات سيبيريا التي‬
‫هرعت إلى المركز الصناعي المخصص لألرانب الوحشية‪ .‬من عرف منها السباحة‪ ،‬ولم يخف من‬
‫تيارات الماء الماكرة‪ ،‬قفز في نهر ينسي وكأنه وسيلة نقل سريعة ستحمله إلى التايجا‪.‬‬
‫لكني انطلقت على الطريق مع وولفرين‪ ،‬لكي يكون واضًح ا هذه المرة أن وولفرين هذا يخصني أنا‬
‫دون غيري (فهو ملتصق بي أكثر من أي حيوان آخر) أعطيته اسًم ا لم يحمله أي وولفرين قبله‪:‬‬
‫جورجي فاالنتينوفيتش بالخانوف‪ .‬هو حيوان بحجم دب صغير‪ ،‬رغم هذا يستدعي احترام كثير من‬
‫الحيوانات األكبر منه‪ ،‬لهذا شعرت أنه يليق بأن يرافقني إلى برية سيبيريا‪.‬‬
‫سألني‪:‬‬
‫أتريدين فعاًل أن تذهبي إلى هناك؟‬
‫نعم‪ ،‬أريد بقوة‪ ،‬أتظن أني تركت الزعيم المحبوب‪ ،‬وقضيت أسبوًعا في قطار نتن كي أتراجع‬
‫اآلن؟ أريد أن أعرف معنى الحرية وما هي حدودها‪.‬‬
‫معنى الحرية؟ لسِت في حاجة إلى كل هذا السفر لتعرفيه‪.‬‬
‫ثم أشار وولفرين إلى سور عاٍل على تخوم المدينة‪ ،‬سور يطوقه سلك شائك‪ ،‬وتشرف عليه أبراج‬
‫حراسة في أركانه‪ .‬يسكن هناك اآلن كل من لم يفهم سريًعا أن الحرية كلمة جوفاء‪.‬‬
‫أدرت رأسي ألني عرفت على الفور أن ما أسمعه مجرد نموذج كاذب لدعاية مغرضة تحارب كل‬
‫ما منح الزعيم هذا األرض من رخاء‪.‬‬
‫ما إن غادرنا المدينة وانطلقنا بمحاذاة نهر ينسي اعتراني شعور بأن التايجا صارت قاب قوسين أو‬
‫أدنى‪ ،‬وأنها قادمة إلينا‪ ،‬لكن ‪-‬وكما هي الحال في شرع التطلعات‪ -‬سرعان ما تأكدت من أنها ‪-‬على‬
‫العكس‪ -‬تبتعد عنا في كل خطوة‪ .‬مشينا طوياًل في طرق وعرة‪ ،‬تخطينا إطارات سيارات منفوخة‪،‬‬
‫تعثرت أقدامنا بمختلف أنواع علب الصفيح ومخلفات الحديد‪ .‬حانت ساعة الظهيرة‪ ،‬على ما أعتقد‪،‬‬
‫عندما وطأت أقدمنا أرض التايجا‪.‬‬
‫تبدأ التايجا بسور جميل من أشجار األرزية‪ ،‬وعلى طرفه كومة من غائط الدببة أقل منه جمااًل ‪.‬‬
‫تخيلت فوًر ا قريب وولفرين السمين الموبر جالًسا هناك‪ ،‬ال يلوي على شيء‪ ،‬ينظر باحتقار إلى‬
‫عش نمل يتحرك في مدينة كراسنويارسيك‪ ،‬لكن وولفرين أيقظني من أوهامي‪ ،‬ونبهني إلى أني لو‬
‫صرفت انتباهي إلى تحليل كومة غائط الدببة فسوف أعرف أن مخلفات مدينة كراسنويارسيك هي‬
‫مصدر طعامه‪.‬‬
‫كنا في شهر أغسطس حيث يتعاظم صيف سيبيريا‪ ،‬عرفت هذا دون مساعدة من وولفرين‪،‬‬
‫استنشقت كل هذه األجواء بكل حواسي‪ ،‬وتهلل فرو جسدي فرًح ا بما أراه‪ .‬أنفاس رائعة من هواء‬
‫عليل‪ ،‬حتى شعرت بأني قادرة على السير في هذا المعبد الصنوبري إلى األبد‪ ،‬لكني أدركت بعد‬
‫ثالث ساعات أني أخطأت‪ ،‬ربما ألن التايجا ليست مجرد أشجار صنوبر هزيلة‪ ،‬أو سجادة من‬
‫شجيرات الصنوبر وعنب األحراج‪ ،‬والتوت‪ ،‬لكنها كذلك مستنقعات‪ ،‬وبرك‪ ،‬وأغدار‪ ،‬لكن يجدر‬
‫القول إن هنا وسيلة مواصالت طمأنتنا بأننا لن نضطر إلى نلمس بأرجلنا هذه األرض الوعرة‪.‬‬
‫ال يمكن القول بأن حيوانات األيل تحمست الستقبالنا‪ .‬بدت على وجوهها أمارات العداوة‪ ،‬أو ربما‬
‫ليست عداوة‪ ،‬وولفرين الذي استطاع ‪-‬على غير العادة‪ -‬أن يصعد التل لم يلق منهم االهتمام الالزم‪.‬‬
‫كانوا جماعة‪ ،‬قطيًعا ال يخشى أي شيء‪ ،‬أو هكذا شعر في قرار نفسه على األقل‪ ،‬وال حتى الدببة‬
‫الضخمة‪.‬‬
‫تواصلت معهم بلغة الحيوانات المعروفة‪ .‬حتى هنا في سيبيريا‪ ،‬وكما هي الحال دائًم ا‪ ،‬تنطبق‬
‫قاعدة‪ :‬ال شيء دون مقابل‪ ،‬وألنني كنت على استعداد أن أفعل أي شيء نظير الوعد الذي قطعته‬
‫على نفسي‪ ،‬فقد حكيت لهم أثناء الرحلة حكايات األف ليلة وليلة‪ ،‬كما عرفتها من طبعة ماركسية‬
‫منقحة‪.‬‬
‫ركب كل منا على ظهر حيوان أيل‪ ،‬وجلست أنا في عكس طريق السير‪ ،‬على عكس وولفرين‪،‬‬
‫واستندت إلى قرون األيل الجوفاء‪.‬‬
‫مشينا في تلك األرض الموحلة التي احتلت جزًء ا كبيًر ا من التايجا‪ .‬تكيفت المستنقعات مع أرجل‬
‫األيل فصارت وكأنها تمشي على سجادة حمراء‪ .‬أشعلت مصباح عالء الدين السحري فوق تلك‬
‫المستنقعات‪ ،‬فسيطر ضوؤه األسطوري على أشجار الصنوبر من حولنا‪ ،‬وعلى كل قطيع األيل‬
‫الذي رافقنا ونحن على ظهور أقرانه‪ ،‬والتصق بنا كي ال يفوت أحد كلمة واحدة من حكايات‬
‫شهرزاد التي أحكيها‪.‬‬
‫***‬
‫تالحقت األيام سريًعا‪ ،‬لم يتخلف بافليك خاللها عن جلسة استجواب واحد ممن ظهروا في مركز‬
‫مكافحة المتآمرين على الدولة‪ .‬عقد الجزء األهم من جلسة االستجواب في السجن‪ ،‬كما يحدث‬
‫دائًم ا‪ ،‬ثم هنا‪ ،‬في مركز تحقيقات أمن الدولة‪ .‬استجوبوه في آخر اختبار إن كان مستعًّدا للوقوف‬
‫أمام المحكمة؛ بدا الرجل وديًعا مثل الحمل‪ ،‬ثم سرعان ما انسابت من فمه كلمات االعتراف‪ ،‬لكن‬
‫بقيت عيناه ساكنتين‪ ،‬وكأنه ينظر إلى بوابة يعبرون منها إلى مدينة التعذيب‪ ،‬إلى ألم ال ينتهي‪ :‬إلى‬
‫كل الداخلين‪ ،‬اطرحوا كل آمالكم‪...‬‬
‫للمرة الثانية يلتقي بافليك باألعين الهامدة‪ ،‬لكنها هذه المرة أسوأ من عيني مدرس اللغة الروسية‬
‫المقتول ألنها ماتت قبل أن تموت‪.‬‬
‫سأل القبطان ميشنا‪:‬‬
‫هل ال بد أن أحضر هذا االستجواب؟‬
‫توقعت سؤالك هذا‪ .‬واإلجابة واحدة‪ :‬مهمتنا ليست نزهة في حديقة ورود‪ .‬هناك حاالت أسوأ من‬
‫هذه‪ ،‬ليس عليك فقط أن تشاهدها‪ ،‬وال يمكن أن تتراجع عما بدأته‪ :‬بالتأكيد ال تحب أن ترى إلى أين‬
‫سيأخذك طريق العودة‪.‬‬
‫تردد بافليك على سجن تسايل للقاء األستاذ الجامعي في دروس اللغة األلمانية والفرنسية‪ .‬ورغم أنه‬
‫سجن‪ ،‬المرحاض فيه عبارة عن دلو مغطى بورق كرتون‪ ،‬شعر بافليك فيه براحة أكثر من‬
‫مشاركته في جلسات غرفة االستجواب في الطابق الثاني بقصر أمن الدولة‪ .‬كان أستاذه من أفضل‬
‫المدرسين‪ ،‬وبفضل تدريسه اللغات لبافليك استطاع أن يرى أوالده وزوجته بانتظام‪ .‬انتابت‬
‫البروفيسور مخاوف قبل أن يلقاه من أنه سيكون مجرد عامل غبي برأس محشو بالتعاليم الماركسية‬
‫اللينينية‪ ،‬لكن المفاجأة أنه شاب ذكي له شخصيته‪ .‬اتضح له كذلك أنه يترقب لقاءه في الدرس بكل‬
‫سعادة‪ .‬ال يجب أن نبالغ‪ ،‬فكلمة سعادة مبالغ فيها إلى حد كبير‪ :‬ببساطة أسعده أن ُتبدد دروس اللغة‬
‫األلمانية والفرنسية المنتظمة وحشة السجن‪ ،‬ومع طالب مجتهد‪ ،‬وأنه يتلقى مكافأة رائعة مقابل هذا‬
‫في شكل زيارات متكررة من زوجته‪ ،‬وهو ما ال يحلم به باقي سجناء تسايل‪.‬‬
‫ال يجب أن نهمل الجزء األكثر أهمية في مهمة بافليك‪ ،‬أال وهي مراقبة األسرة المشكوك في‬
‫أمرها‪ ،‬وتحديًدا أسرة أستاذ جامعي آخر‪ ،‬نعم‪ ،‬إنه البروفيسور أرنوشت كرامير‪ .‬لم يقرروا إلقاء‬
‫القبض عليه بعد‪ ،‬ولم يرغبوا في إظهار أنهم أوقعوا به في مصيدتهم ألنهم توقعوا أن له عالقات‬
‫مهمة‪ .‬هكذا سارت األمور‪ .‬البعض قابع في السجن‪ ،‬بينما بقي اآلخرون كطعم إلى حين‪ ،‬لكن‬
‫القبطان ميشنا كان لديه هدف آخر من البروفيسور كرامير (نعم‪ ،‬هدف خصوصي‪ ،‬رجال أمن‬
‫الدولة لم يكن لديهم أبًدا أي هدف استثنائي‪ ،‬بل دائًم ا أهداف خاصة‪ ،‬ال يدري أحد السبب)‪ ،‬وهو ما‬
‫ستعرفونه قريًبا‪ ،‬ما لم ينفد صبركم‪.‬‬
‫لم يخطئ ميشنا‪ :‬بافليك شخص موهوب‪ ،‬ليس المقصود هنا فقط الموهبة في تعلم اللغات‪ .‬غيابه عن‬
‫أعمال أمن الدولة االعتيادي خسارة كبيرة‪ .‬هذا األمر انتبه إليه الحًقا الكولونيل صاد‪ .‬رأى رجال‬
‫أمن الدول في بافليك صورة شابة لمتواطئ بالفطرة‪ ،‬بارع في تدبير المكائد والدسائس‪ ،‬يحملها في‬
‫جيناته‪ ،‬ورثها ربما عن أحد سلفه الذي اشتغل في الدسائس في بالط أحدهم قديًم ا‪ ،‬ولو ظهر في‬
‫إحدى روايات ستندال لدهشنا من حجم األعمال الشيطانية الخطيرة التي سيفعلها في الرواية‪ .‬بسط‬
‫إًذا شبكة من المخبرين حول البروفيسور كرامير في الكلية التي يعمل بها‪ ،‬اشترى بعضهم‪ ،‬وابتز‬
‫البعض اآلخر‪ .‬رسم فًّخ ا لإليقاع بعالقاته المهمة‪ ،‬في الوقت نفسه حافظ بافليك على تعليمات ميشنا‬
‫وهي‪ :‬ممنوع أن يراه كرامير‪ ،‬ال بد أن يبقى متخفًيا خلف شبكة المخبرين‪ .‬مر كل بريد‬
‫للبروفيسور في يدي بافليك قبل أن يوضع في صندوق بريده‪ .‬ورغم أن مكتب البريد الرئيس في‬
‫شارع البوسطة يبعد كثيًر ا عن شارع ديميتروفوفا حيث اقتنص تلك اللبؤة‪ ،‬موظفة البريد‪ ،‬عرف‬
‫جيًدا أن بين موظفي البريد مراسالت بريدية سرية‪ ،‬تحمل من وقت آلخر معلومات عنه قادمة من‬
‫شارع البوسطة إلى شارع ديميتروفوفا‪ ،‬والعكس‪ .‬فوجدت تلك اللبؤة نفسها فجأة في مصنع‬
‫للمالبس دون أن تدري من الذي يقف وراء هذا النقل‪ .‬فرك القبطان ميشنا يديه‪ ،‬وأثنى على حدسه‬
‫الذي جعله يختار هذا الشاب المجتهد الذي تنتظره مهام عظيمة في المستقبل‪.‬‬
‫انفتحت كوة المالحظة في الباب الحديدي‪ ،‬بينما يشرح البروفيسور ظابيل لبافليك األفعال األلمانية‬
‫الشاذة‪ ،‬وأراد شخص ما أن يدفع طبًقا معدنًّيا إلى الزنزانة به حساء للمساجين‪ .‬حان وقت غداء‬
‫السجناء‪ .‬أمرهم بافليك أن يفتحوا الباب‪ ،‬وأن يأخذوا معهم طبق الحساء على الفور‪ ،‬ثم أمر‬
‫الحارس بأن يأخذ دلو المرحاض‪ ،‬وأن يرافق البروفيسور إلى مرحاض العاملين كلما أراد‪.‬‬
‫سأل البروفيسور ظابيل‪:‬‬
‫أتحب شرائح اللحم‪ ،‬أم الجالش؟ أو ربما أنك نباتي‪ ،‬وتفضل فطائر البرقوق؟‬
‫انتبه إلى الصاعقة التي حلت بالبروفيسور جعلته عاجًز ا عن الكالم‪ .‬أمر الرجل الذي أحضر‬
‫الحساء ثم عاد به أن يذهب إلى فندق فيدرا المجاور‪.‬‬
‫أحضر من هناك طبقي طعام‪ ،‬واحًدا بشرائح اللحم المطهية‪ ،‬وآخر بفطائر البرقوق‪ ،‬وماذا أيًض ا‪،‬‬
‫آها‪ ،‬طبق بودينج جيًدا‪ ،‬وفاكهة مطبوخة‪ ،‬كال‪ ،‬اشطب هذا الكومبوت‪ ،‬أحضر فاكهة طازجة‪ ،‬وليتها‬
‫بطيخ‪ ،‬وبالطبع بيرة بلزن‪ ،‬زجاجتي بيرة بلزن‪ .‬وأحضر كل هذا على عربة‪ ،‬لكن رجاء ليس على‬
‫عربة نقل جثث المساجين‪ .‬بسرعة!‬
‫في نفس اليوم جاءت إلى مكتب أمن الدولة شكوى من أحد المتحمسين حول المائدة في زنزانة‬
‫البروفيسور ظابيل‪ .‬أعجب القبطان ميشنا باألمر‪ ،‬فأمرهم أن يضعوا في المرات التالية في زنزانة‬
‫البروفيسور قائمة طعام فندق فيدرا كي ال يتكرر ما حدث أول مرة‪ ،‬وهو أنهم لم يطلبوا الطعام‬
‫مسبًقا من الفندق‪ ،‬واضطروا إلى تقديم طلب به فتأخر وصول الغداء على نحو مزعج‪.‬‬
‫بدأت األحداث عند بروفيسور كرامير تأخذ منحى آخر بينما تردد بافليك على السجن لحضور‬
‫دورس اللغة األلمانية والفرنسية مع البروفيسور ظابيل‪ .‬ولطالما كانت كذلك‪ .‬كان البروفيسور زير‬
‫نساء شرًها‪ ،‬وهذا األمر بدأ مخبرون بفليك يأخذونه بعين االعتبار بعد أن أهملوه في السابق‪.‬‬
‫صرخ فيهم بافليك وكأنه يصرخ في كالب‪ :‬هذه مسألة مهمة‪ ،‬ويمكن أن نحتاج إليها يوًم ا ما‪،‬‬
‫ونطرح البروفيسور أرًض ا‪ .‬اشترى المخبرون آالت تصوير فوتوغرافية من حساب أمن الدولة‪،‬‬
‫وأمرهم بافليك أال يراهم أحد أثناء التصوير‪ ،‬وأن عليهم التقاط صور ذات قيمة‪ ،‬كما وعدهم عن‬
‫كل صورة بمكافأة جيدة تنفعهم في نفقاتهم اليومية‪ ،‬أو ترفع عنهم ذنًبا ارتكبوه‪ .‬ثم نظر إلى أول‬
‫مجموعة صور‪ :‬البروفيسور كرامير مع عاهراته‪ .‬غالبية الصور بال قيمة‪ ،‬إال صورة واحدة‬
‫استوقفته‪ :‬يظهر فيها البروفيسور منتظًر ا في إشارة مرور‪ ،‬ويعض أذن إحدى عاشقاته‪ .‬مشهد‬
‫موفق وساحر‪ ،‬استطاع أن يسجل لحظة فاصلة‪ ،‬كما أسماها المصور الفرنسي الشهير هنري كارتر‬
‫بريسون‪ ،‬مشهد بالتأكيد يستحق النشر في مجلة معنية بالتصوير (في الخارج بالطبع‪ ،‬ففي داخل‬
‫البالد ال ينشرون سوى صور العاملين والعامالت)‪ .‬فتحت هذه الصورة أيًض ا شهية بافليك‪ :‬بينما‬
‫أستاذ الجامعة يستمتع بجنة شهواته ونارها‪ ،‬أنا العجوز الشاب (لنكن أكثر دقة‪ :‬العجوز العشريني)‬
‫أقوم على خدمة السالم والتقدم‪.‬‬
‫كان بافليك دائًم ا يقطع في كل حصة في األلمانية أو الفرنسية مع أستاذه بالغداء‪ .‬يأتي حراس‬
‫السجن يحملون األطباق على الصواني‪ ،‬ومستعدين لفعل أي شيء للرجلين‪ ،‬حتى وضع فوط‬
‫الطعام تحت رقبة بافليك وظابيل‪ ،‬فاحت في أرجاء عنابر السجن رائحة الطعام‪ ،‬وكان بافليك‬
‫يختاره مسبًقا من قائمة الطعام الملصقة على جدار الزنزانة‪.‬‬
‫قال البروفيسور ذات يوم وهو يضع الملعقة جانًبا بعد استحثته رائحة الحساء الطيبة‪:‬‬
‫أتسمح لي بسؤال أيها الشاب؟ لست مجرد رجل شاب‪ ،‬ذكي فوق العادة وموهوب‪ ،‬اسمح لي بتعبير‬
‫مجازي‪ ،‬لك أيًض ا روح‪ .‬أظن أني أعرف طبيعة عملك‪ ،‬لذلك أسألك‪ ،‬كيف تحيا مثل هذه الروح‬
‫وسط ما تفعله؟‬
‫تجاوز فّج للحدود‪ .‬كان في استطاعة بافليك أن يجيبه بطريقة واحدة‪ :‬أنت سعيد الحظ إلى درجة‬
‫كبيرة‪ ،‬حقيقي محظوظ ألني سأعتبر أن هذا السؤال لم يكن‪ .‬لك فقط أن تسألني إن كنت تعلمت‬
‫الماضي البعيد في األلمانية‪ ،‬أو صرت أفهم أسلوب الشرط‪ .‬هل فهمتني أيها البروفيسور؟‬
‫كانت تلك آخر مرة تطرح أسئلة مشابهة لما طرحه السيد البروفيسور‪.‬‬
‫قال بافليك‪:‬‬
‫ماذا لو أن دورس اللغة هذه كانت في مكان آخر غير السجن‪ ،‬في غرفة تدريس مناسبة؟‬
‫تجاوز فّج ‪ ،‬هذه المرة من بافليك‪ .‬أجاب القبطان ميشنا‪:‬‬
‫أيها الرفيق‪ ،‬بافليك‪ ،‬أرى أنك تستغل كرمي المطلق معك‪ .‬في البداية أسمح لك بوجبات غداء ملكية‬
‫في السجن‪ ،‬وتحول سجيني إلى ذواقة أو خبير طعام‪ ،‬واآلن تريد أن تخرجه من السجن‪ .‬حان‬
‫الوقت كي أخبرك بأمر ال تعرفه‪.‬‬
‫فتح ميشنا درج مكتبه‪ ،‬وأطال النظر فيه على غير العادة‪.‬‬
‫قال بافليك‪:‬‬
‫هناك‪.‬‬
‫ثم أخذ من على إفريز النافذة علبة ثقاب منسية‪ .‬رفع ميشنا يده بينما رمى بافليك العلبة في مسار‬
‫دائري رائع عبر الغرفة‪ .‬في البداية أشعل ميشنا سيجارة‪ ،‬ثم أخبر بافليك بحقيقة األمر‪:‬‬
‫كونه يعلمك اللغات فهو بهذا يطيل بقاءه على قيد الحياة‪ .‬لوال هذا لكان مشنوًقا منذ وقت بعيد‪ .‬موته‬
‫فقط مؤجل‪ ،‬لكن حبل المشنقة في انتظاره‪ .‬فالرجل الذي يعلمك هو من أشد أعداء الطبقة العاملة‪.‬‬
‫كان على عالقة بأعضاء بمنظمة أجنتي خوتسي الذين عبروا حدودنا بتعليمات محددة من أولياء‬
‫نعمتهم األمريكان‪ ،‬ومن البروفيسور من أجل جمع المعلومات المطلوبة لهم‪ .‬إنه مدرس لغات على‬
‫أعلى مستوى بال جدال‪ ،‬أفضل األساتذة على اإلطالق‪ .‬وهو أيًض ا ما جعلنا نقرر إبقاءه على قيد‬
‫الحياة ألنك تستحق األفضل‪ ،‬لكنه في الوقت نفسه منشق خطير‪ ،‬مخرب‪ ،‬وال بد أن نتخلص من‬
‫أمثاله إن أردنا أن نبني هنا جنة على األرض‪ .‬من أجلك أنت فقط‪ ،‬يا بافليك‪ ،‬أجلنا موعد وضع‬
‫حبل المشنقة على رقبته‪ ،‬واستجوابه بما يليق‪ ،‬وبال رحمة‪ .‬بمجرد أن يعلمك األلمانية سيخضع‬
‫للتعذيب الشديد‪ ،‬وسنحصل على كل ما لديه‪ ،‬ثم من بعدها نسلمه للجالد‪ .‬بفضلك صارت إقامته في‬
‫السجن ألطف كي يشعر تجاهك باالمتنان‪ ،‬ويدين لك بالعرفان‪ ،‬ويظن أنه سينجو بفعلته بسببك‪ ،‬لكن‬
‫ال داعي للمبالغة‪ .‬ال تفكر إًذا أن يعلمك خارج الزنزانة مطلًقا‪ .‬لن يغادر الزنزانة إال إلى حبل‬
‫المشنقة‪ .‬أريد أيًض ا أن أعترف لك أن هذا اليوم بات أقرب من أي وقت مضى؛ لذلك حاول أن‬
‫تأخذ منه ما استطعت كي تتعلم أسس اللغة األلمانية‪ .‬قريًبا سنرسل إليه بداًل منك اثنين من عتاة‬
‫المحققين‪ ،‬وبعدها بيوم سيعلق في حبل المشنقة‪ .‬هذا كل ما لدي‪ .‬صديقك ميشنا‪.‬‬
‫سكب ميشنا مع بافليك كأسين من الخمر الثقيل‪.‬‬
‫حان اآلن دور الراوي كي يعتذر‪ ،‬ويظهر في الحكاية من خلف الكواليس‪ ،‬ويفتح الستارة‪ .‬فأنا‬
‫سأتحدث عن حقائق دقيقة ال أتوقع أن يخبركم بها ميشنا‪.‬‬
‫أستاذ التاريخ فاتسالف كرامير هو أبو البروفيسور أرنوشت كرامير‪ ،‬الذي كان من أقرب‬
‫المؤرخين إلى الرئيس مساريك‪ 3‬قبل الحرب‪ ،‬وأقرب إليه على سبيل المثال من المؤرخ األكثر‬
‫شهرة‪ ،‬يوزيف شوستا‪ ،‬لكنه مثل شوستا كان من جماعة الجمعة‪ ،‬وهي الشخصيات التي كانت‬
‫تلتقي بانتظام أيام الجمعة في شقة كاريل تشابك‪ .‬وعلى العكس من المؤرخ شوستا الذي اتهم بعد‬
‫الحرب مباشرة بالعمالة‪ ،‬وانتحر في مايو ‪ ١٩٤٥‬بالقفز في نهر فلتافا من على جسر هالفكوف‪،‬‬
‫مات كرامير في معسكر االعتقال النازي بصفته أحد المقاومين‪ .‬كان شخصية مثيرة للجدل‪ ،‬من‬
‫جماعة مساريك‪ ،‬لكن كرامير‪ ،‬شأن شوستا‪ ،‬وحتى مساريك نفسه‪ ،‬كان عدًّو ا للبالشفة‪ ،‬رغم أنه‬
‫رفض االلتحاق بالفيلق النازي المناهض للبالشفة بكل حزم‪ ،‬على عكس شوستا‪ ،‬إبان االحتالل‬
‫األلماني‪ .‬رغم هذا محا الشيوعيون اسمه من التاريخ على الفور‪ ،‬بعد أن تحكموا في التاريخ أيًض ا‪.‬‬
‫ابنه‪ ،‬أستاذ الجامعة أرنوشت كرامير‪ ،‬أستاذ علم اللغة التشيكية واللهجات تم استبعاده من الجامعة‬
‫ألن القبطان ميشنا كانت لديه أغراضه مع كل أفراد عائلة كرامير‪ .‬كان من المفترض أن تشتغل‬
‫هذه األسرة المتشعبة في مختبر اجتماعي تابع لتجربة ميشنا الهائلة‪ .‬الجزء األساسي من التجربة‬
‫كان سيجري في الخارج‪ ،‬في مجتمع المهاجرين التشيك‪ .‬وكان لبافليك مكانه في التجربة‪ ،‬واليد‬
‫الطولى لميشنا صاحب التجربة‪ .‬لن أخبركم بأكثر من هذا‪ ،‬وتابعوا معي حكاية التلفيق‪ ،‬واالحتيال‪،‬‬
‫والخيانة‪ ،‬والغدر‪ ،‬كي تتعلموا ما ينبغي أن يحدث عندما تكون القضية حياتكم‪.‬‬
‫لم يكن الكولونيل صاد مقتنًعا تماًم ا بخطط ميشنا‪ ،‬وتجنب ميشنا إقناعه ألن التجربة لو نجحت‬
‫فسوف يصعدها مع بافليك إلى الطابق األعلى في مبنى أمن الدولة في برنو‪ .‬وسيصبح في مرتبة‬
‫أعلى من الكولونيل صاد؛ لذلك ينتظركم كثير من المفاجآت‪ ،‬لكن هذا يكفي حتى اآلن‪ .‬وسيحني‬
‫الراوي ظهره قلياًل ‪ ،‬ويعود إلى حين إلى كواليس الرواية‪ ،‬حيث يتبوأ هناك مقعده‪.‬‬
‫***‬
‫الطريق في تايجا سيبيريا طويل للغاية‪ ،‬وممل‪ .‬الشمس تشرق وتغرب‪ ،‬وتشرق وتغرب‪ ،‬وتشرق‬
‫وتغرب‪ ،‬يهبط الظالم ثم يتبدد‪ ،‬يهبط ويتبدد‪ ،‬يهبط ويتبدد‪ ،‬لكن الشمس ال تصلنا إلى من خالل‬
‫ستارة كثيفة من قمم أشجار الصنوبر التنوب‪ .‬تقمصت خالل تلك الرحلة الممتدة دور شهرزاد‪،‬‬
‫أشنف آذان األيل بحكايات ألف ليلة وليلة‪.‬‬
‫دائًم ا في الليل نبحث عن فرجة كبيرة مستديرة‪ ،‬مرعى كبير بحجم مرفأ السيارات أمام مبنى‬
‫الكرملين المخصص لسيارة الزعيم‪ .‬ضوء الشمس بالكاد يكفي لتجفيف تلك الفرجة في النهار‪.‬‬
‫فاستطعت مع وولفرين النزول من على ظهر األيل‪ ،‬واالستعداد للنوم هناك‪ .‬ودائًم ا ما تولى أحد‬
‫األيل الحراسة‪ ،‬يخبط بقرونه بانتظام على جذع شجرة الصنوبر‪ ،‬فتولى ما يطلق عليه البشر وظيفة‬
‫خفير‪ ،‬وفي الوقت نفسه يحذر الحيوانات الضارية من هجوم حال دونه بتلك القرون‪ .‬لم نخف من‬
‫قيصر سيبيريا‪ ،‬النمر السيبيري‪ ،‬فقد تولى أمره صائدو الجلود‪ ،‬ودائًم ا ما تفاهم وولفرين مع الدب‬
‫(بأن يرمي إليه بواحد من األيل الكسيحة)‪.‬‬
‫لكنني لم أنل نصيبي من النوم‪ .‬كنت آخر من يذهب للنوم‪ ،‬وأول من يستيقظ‪ .‬كان على أن أحكي‬
‫لهم حكايات شهرزاد إلى أن ينام آخر أيل‪ ،‬وفي الصباح أواصل الحكي ألول أيل يستيقظ‪ ،‬فأصاب‬
‫منه باإلرهاق الشديد‪ .‬يلعقني بلسانه الخشن كي يوقظني‪ ،‬وهي إشارة‪ ،‬في عالم األيل‪ ،‬تعني انجذاًبا‬
‫جنسًّيا‪ ،‬لكنها وسط الثعالب إيماءة مقيتة‪.‬‬
‫لكن ال مجال للتذمر‪ ،‬فأنا أدفع بهذه الحكايات قيمة تذكرة سفر على ظهر األيل‪ ،‬وال ينبغي أن‬
‫أتوقف عن الحكي‪ ،‬فأنا أحب الحكايات كثيًر ا‪.‬‬
‫السفر في الواقع نحو الشمال‪ ،‬وعبر غابة التايجا الكثيفة أمر يدعو إلى الجنون‪ ،‬لكني عنيدة‪،‬‬
‫والزعيم يثمن هذه الميزة فّي ‪ ،‬وال أريد أن أخيب ظنه‪ ،‬فال أجتاز التايجا ألصل إلى التندرا‪ ،‬ومنها‬
‫إلى المحيط القطبي الشمالي‪ .‬الهدف األساسي وهو السير بمحاذاة نهر ينسي الذي تجاوزته سريًعا‪.‬‬
‫هذا النهر له مجرى عميق‪ ،‬تعلو واديه صخور وعرة‪ ،‬وخاصة هنا على شاطئه الشرقي الذي‬
‫المس التايجا‪ .‬رياح تهب من النهر‪ ،‬ورطوبة كثيفة‪ ،‬وال يوجد ما يجبر األيل على السير على‬
‫شاطئ صخري وعر‪.‬‬
‫بينما األيل ترعى على كل ما هو أخضر‪ ،‬يصطاد لنا وولفرين القوارض‪ ،‬وأحياًنا الكبير منها‪،‬‬
‫ويقدمه مع ثوم ثعابين سبيريا‪ ،‬وهو طعام ألذ مما تتخيلون‪.‬‬
‫انتهى صيف سيبيريا القصير‪ ،‬وكأن ستارة هبطت‪ .‬اختفت ستارة األغصان الكثيفة ومعها الذباب‬
‫األسود (الذي ال يخترق جلدي بأي حال)‪ ،‬لكن نزل صقيع شديد‪ ،‬وتغطت بالثلج أشجار الصنوبر‬
‫والتنوب‪ .‬لست ثعلًبا قطبًّيا‪ ،‬لذلك لم أسعد بهذا المشهد‪ ،‬إال عندما يصطاد لي وولفرين المثابر‬
‫المنصف حيواًنا كبيًر ا موبًر ا من حيوانات سيبيريا‪ ،‬يعلقه‪ ،‬ويسلخه فأرتدي فراءه على شعر جلدي‬
‫األحمر‪ .‬هذه السارية الحمراء التي تحميني من البعوض‪ ،‬والذباب األسود‪ ،‬ال من لسعة الصقيع‬
‫وأنيابه‪.‬‬
‫قام وولفرين على رعايتي بحنان جعلني أفكر بعد عودتي إلى الكرملين أن أطلب من الزعيم أن‬
‫يعين وولفرين‪ ،‬إن وافق وولفرين نفسه‪ ،‬موظًفا في اللجنة الشعبية‪ ،‬تماًم ا كما عين القيصر كاليجوال‬
‫حصانه المفضل يوًم ا في وظيفة مستشار له‪ .‬لم أشك في موافقة الزعيم على اقتراحي‪.‬‬
‫لم نلتق حتى اآلن أثناء مرورنا بالتايجا بأي إنسان‪ ،‬ال أثر ألي كائن بشري‪ ،‬السبب هو أن األيل‬
‫حريصة على تجنب البشر مع على مسافات بعيدة‪ .‬فخبراتهم معهم ليست طيبة؛ لذلك بدت التايجا‬
‫لنا منطقة خالية من البشر‪ ،‬لكن األمر تغير فجأة رغم تقبل األيل األمر على مضض‪.‬‬
‫حكيت لأليل حكاية علي بابا‪ ،‬وفي اللحظة التي نطق فيها علي بابا عبارته السحرية‪ ،‬افتح يا سمسم‬
‫انفتح أمامنا جذع شجرة بلوط ضخم‪ ،‬وأعدادهم وسط أشجار الصنوبر ال حصر له‪ ،‬انفتح الجذع‪،‬‬
‫وخرج منه رجل على وجهه قناع حصان‪ .‬وعليه انفتحت كل صفوف جذوع األشجار الطويلة‪،‬‬
‫وخرجت منه وجوه كثيرة عليها قناع خيول‪ .‬انزعجت على ما يبدو من وجودنا‪ .‬أمسك كل منهم بيد‬
‫اآلخر‪ ،‬وشكلوا سلسلة سدت الطرق أمامنا‪.‬‬
‫فهمت أننا أمام جماعة دينية تختبئ هنا في أعماق التايجا من مالحقة الزعيم لها‪ .‬بدوا جميًعا رغم‬
‫هذا القناع وكأنهم رهبان بقلنسوة‪ ،‬رهبان خرجوا من قلب أشجار جوفاء‪ ،‬مثلما يخرج الُّنساك من‬
‫مغاراتهم‪ ،‬من كهوف الرهبان‪.‬‬
‫حاولت أن أتحدث بالروسية‪ .‬ربما ارتبكت أقنعة الخيول من كالمي‪ ،‬لكنها لم تندهش‪ .‬لم يجبني أحد‬
‫منهم‪ ،‬وظلوا وافقين في سلسلة ال تخترق‪ ،‬لكنها اآلن اهتزت‪ ،‬ورأيت سيوًفا طويلة مخبأة تحت‬
‫قلنسوة الرهبنة‪.‬‬
‫ملنا جهة اليسار‪ ،‬فوجدنا أن تلك األشجار الضخمة (وأغصانها التي التوت عليها عقد سميكة) ال‬
‫تشكل صًّفا‪ ،‬بل مستطياًل كبيًر ا‪ ،‬يحتل نحو عشرة هكتارات‪.‬‬
‫لم تكترث األيل بما رأته‪ ،‬وانحرفت جانًبا‪ ،‬بينما أواصل إلقاء الحكايات العربية‪ ،‬وكأن هؤالء‬
‫النساك المدججين بالسيوف مجرد جوزة بلوط ال تستحق األكل‪ .‬حان الوقت كي نعود لمقابلة‬
‫الرهبان في وقت متأخر من المساء‪ ،‬بعدما غرقت التايجا في الظالم‪ ،‬وتألألت حبة ثلج بين الحين‬
‫والحين‪ ،‬وبقيت أنا مع وولفرين على ظهر األيل‪ ،‬ولم تنم األيل ليلتها على األرض‪ ،‬واستغرقت في‬
‫النوم واقفه على أقدامها‪.‬‬
‫وولفرين الذي علم بكل شيء‪ ،‬أو كاد‪ ،‬وما ال يعرفه حسبه على الفور‪ ،‬شرح لي اآلن (تتطاير فوق‬
‫رؤوسنا بومة الثلج‪ ،‬لمعت أعينها وكأنها مصباح كشاف في يد رجل شرطة‪ ،‬وتتساقط كتل الثلج‬
‫على رؤوسنا‪ ،‬وأنبأ وجودها عن اقترابنا من التندرا) بأن التندرا في سيبيريا مليئة باألساطير‬
‫المعروفة‪ ،‬وصرنا على ما يبدو شهوًدا غير مرحب بهم على وجود واحدة من هذه األساطير‪.‬‬
‫قال وولفرين وهو ينفض عنه كومة ثلج أسقطتها عليه بومة‪:‬‬
‫هربت كبيرة الكهنة‪ ،‬أنستاسيا‪ ،‬أصغر أبناء القيصر ميكوالش الثاني من قبضة فريق اإلعدام التابع‬
‫للبالشفة‪ .‬يقال إنها جلست ذات يوم في المرحاض‪ ،‬فسمعت صوت طلقات فريق اإلعدام‪،‬‬
‫وصراًخ ا‪ ،‬وبكاًء ‪ ،‬فسقطت في حوض المرحاض حتى قاعه‪ ،‬ثم خرجت منه ملوثة بالغائط لكن‬
‫سالمة‪ ،‬واستطاعت الهرب بينما عصابة البالشفة تدفن جثث اآلباء واألبناء في مكان بجوار الغابة‪.‬‬
‫لم تكتشف فرقة اإلعدام غيابها إال أثناء دفن جثث أفراد عائلة القيصر‪ ،‬لم تهتم فرقة اإلعدام باألمر‬
‫بعد أن أعياهم الحفر‪ ،‬وتوقفوا عن البحث عنها‪ ،‬ولم يعترفوا يوًم ا أن واحدة من أسرة القيصر‬
‫هربت منهم‪ ،‬وتعيش اآلن في ذلك المستطيل الذي يحرسه النساك الذين يضعون أقنعه الخيل على‬
‫وجوههم‪ .‬تعيش هناك في سالم وأمان منذ عدة عقود‪ ،‬يحرسها فرسان الكهنة المستعدون للتضحية‬
‫بحياتهم من أجلها‪ ،‬ومتأهبون لعمل كل ما هو ضروري للحفاظ على أرواحهم التي شابها اإلفراط‪.‬‬
‫علقت على ما قاله وولفرين قائلة‪:‬‬
‫لكن تنفيذ كل هذه المهام في تلك البقاع الموحشة يتطلب من نساك مثلهم ما هو أكثر من الوالء‪،‬‬
‫والجلد‪ ،‬واالجتهاد‪ ،‬يتطلب مهارات أكثر بكثير مما عرفها لص بغداد‪.‬‬
‫أجاب وولفرين‪ :‬هذا صحيح‪.‬‬
‫دخلنا في األيام التالية إلى التندرا‪ .‬الطقس فيها شديد البرودة‪ .‬ندرت القوارض في قائمة طعامي بعد‬
‫أن اعتاد وولفرين تقديمها لي‪ ،‬ومعها تناقصت أرانب سيبيريا‪ .‬استطاعت األيل أن ترعى على‬
‫نباتات األشنة التي بحثت عنها تحت الثلوج‪ ،‬لكنها بال مذاق أو طعم‪.‬‬
‫قال وولفرين‪:‬‬
‫أليس من األفضل أن نتراجع؟‬
‫رغم أنه عرف جيًدا أن تعلقي بالزعيم يدفعني إلى أن أثبت له أني على استعداد أن أقفز مثل‬
‫الكالب‪ ،‬وأن أطلق النار من أثقل المدافع التي تسقط نيرانها على المحيط المتجمد الشمالي‪ .‬تود‬
‫األيل كذلك العودة إلى التايجا‪ ،‬لكنها تعرف جيًدا أنها بذلك ستقطع حبل حكايات شهرزاد التي‬
‫تصاعدت‪ ،‬وال يمكن العودة إلى الوراء خطوة واحدة‪.‬‬
‫ألول مرة نلتقي في سيبيريا بفصيل حيوان الرنة‪ .‬حاولنا تغيير وسيلة النقل‪ ،‬لكن عبرت األيل‬
‫مجدًدا عن رفضها التنازل على سماع الحكايات‪ ،‬والشجار مع حيوانات الرنة بسببها‪ ،‬وهو ما قد‬
‫ينتهي بمجزرة بشعة‪ .‬رغم هذا فقدت حكاياتي جاذبيها بعد أول خمسمئة حكاية عربية حكيتها‪،‬‬
‫وبقيت أعيد ما قلته‪ ،‬وأزيد ما أعيده‪ ،‬مثل مطحنة فاسدة‪ ،‬لكن األيل مثل األطفال‪ ،‬ما إن تحكي لهم‬
‫مثاًل جملة واحدة من حكاية يتعلقون بحماالت بنطالك‪ ،‬حتى ولو لم يكن لك حماالت‪.‬‬
‫الصيف في التندرا له سحره بالتأكيد‪ ،‬إنه مثل تورتة زفاف ضخمة (دعوني أبالغ قلياًل )‪ ،‬ينبت فيها‬
‫من سوط الطحالب‪ ،‬وسعد المستنقعات واألشنة‪ ،‬وكل تلك الكائنات الغثة أعشاب متنوعة‪،‬‬
‫وشجيرات ملونة‪ ،‬بينما الشتاء له سحره الفريد؛ جبال الثلوج على مدى البصر‪.‬‬
‫مشينا قريًبا من نهر ينسي‪ .‬خرج النهر هنا عن مجراه العميق يهدر مثل عاصفة هائجة‪ .‬أحياًنا‬
‫يتحول الهدير إلى ما يشبه همهمة األيل وعويلها‪ .‬أمر يدفع اإلنسان إلى الجنون‪ ،‬اإلنسان وليس‬
‫الثعلب األحمر‪ ،‬وهذا ما حدث بالفعل‪.‬‬
‫فجأة رأيت من بعيد شيًئا يلمع في شمس الشتاء وكأنه صندوق مجوهرات القيصر‪ ،‬لكن ما إن‬
‫تقدمنا‪ ،‬واقتربنا أكثر تذكرت أن الزعيم أمر ذات يوم بأن ينحتوا من جبال الثلج في الميدان األحمر‬
‫(أمام الضريح) تمثااًل لقائد البروليتاريا العظيم‪ ،‬تمثااًل يصبح عماًل فنًّيا فريًدا في فن النحت‬
‫الجليدي‪ :‬لينين الحي‪.‬‬
‫لكنها مدينة كاملة من مكعبات‪ ،‬وأشباه مكعبات‪ ،‬ومستطيالت ثلجية‪ ،‬وأسطوانات‪ ،‬وكرات‪،‬‬
‫ومخروطات‪ .‬بيوت‪ ،‬وشوارع‪ ،‬وميادين‪ ،‬ومعابد‪ ،‬وقصور‪ ،‬وقالع‪ ،‬وجسور‪ ،‬وحتى المسارح‪،‬‬
‫واألسواق‪ ،‬والحانات‪ ،‬والخمارات‪ .‬درنا حول هذه المدينة مع قطيع األيل عدة مرات‪ ،‬وهو ما‬
‫استغرق بعض الوقت‪ .‬انطبعت معجزة العمارة الثلجية في رأسي األحمر الصغير إلى األبد‪.‬‬
‫ما هذا؟‬
‫وقف وولفرين الذي طالما علم بكل شيء ينظر في دهشة‪ .‬وسرعان ما لمعت عيناه وكأنه يرى‬
‫حماًل صغيًر ا شرد عن سرب أغنام‪ ،‬لكنني عرفت ما سيخبرني به‪ ،‬قدح زناد فكره من أجل أال يفقد‬
‫سمعته كعليم ببواطن األمور‪.‬‬
‫هذه بالطبع مدينة خورخويجراد‪ .‬أريد أن أضيف أن أولجوي خورخوي ال حدود لها مع منغوليا‬
‫وسيبيريا‪ ،‬لذلك بنى الزعيم في التندرا هذه المدينة‪ ،‬خورخهراد‪.‬‬
‫اندهش سرب األيل من هذه األخبار‪ ،‬أصابت أبدانهم كصاعقة تيار كهربائي شديد‪ ،‬أولجي‬
‫خورخوي هي كلمة سيئة السمعة في منغوليا وسيبيريا‪ ،‬لكنني اآلن صرت أشك في كل ما قاله لي‬
‫وولفرين‪ .‬لم يكن موفًقا فيما قال‪ .‬شعرت بالخجل من أنني صدقت ما قاله حتى اليوم‪ .‬هراء أحمق‬
‫تجاوز حدود ثقتي به‪ ،‬لكن أًّيا كان الوضع‪ ،‬فقد وضعت صورة هذه المدينة الثلجية في ألبوم‬
‫ذكرياتي للمرات القادمة‪.‬‬
‫ما زال أمامنا طريق طويل‪ ،‬وكان علّي أن أقول‪ :‬حسًنا‪ ،‬طالما األمر كذلك‪ ،‬أعتقد أن علينا أن نبتعد‬
‫قبل أن ينتبه إلينا أهل خورخوي‪.‬‬
‫اخترت من حكايات ألف ليلة وليلة حكاية البحار سندباد‪ ،‬ولقاءه بطائر الرخ‪ ،‬فتحرك سرب األيل‪.‬‬
‫كنت أعرف أن صدر وولفرين سيضيق خالل ذلك الطريق الطويل إلى المحيط المتجمد الشمالي‪،‬‬
‫وأثناء العودة مروًر ا بالتندرا‪ ،‬وسيعرض كل حيوانات سرب األيل طعاًم ا لإلفطار والغداء‬
‫والعشاء‪ ،‬واحًدا تلو اآلخر‪ ،‬باستثناء اثنين منهم‪ ،‬هما بمثابة دليل في سيبيريا‪ ،‬وسنعود على‬
‫ظهريهما إلى التايجا عندما تتحول إلى طريق إسفلتي يعج بمخلفات المدينة‪.‬‬
‫***‬
‫أسندوا البروفيسور ظابيل من كال الجانبين وهم يقتادونه خارج الزنزانة التي تعرض فيها للتعذيب‬
‫الشديد على يد اثنين من عتاة المحققين‪ ،‬فصار ال يعنيه ما سيحدث الحًقا‪ .‬ينتهي الدهليز الطويل في‬
‫سجن تسايل بما يشبه دير السجن‪ ،‬في محيطه فناء الجنة‪ ،‬رواق فيه مقصلة تنتظر ظابيل‪.‬‬
‫شعر بافليك أن األمر لن يكون سهاًل عليه‪ .‬حاول الحيلولة دونه قدر استطاعته بعد أن تعاطف مع‬
‫هذا الرجل‪ ،‬أحد أفراد الطبقة البرجوازية المنصرمة‪ .‬خاصة عندما علم أنه قد ذهب إلى مكان لن‬
‫يعود منه أبًدا‪ .‬ود لو عارض ما حدث مع البروفيسور ظابيل‪ ،‬على األقل في نفسه‪ ،‬لكنه لو فعل‬
‫سيخون قناعاته‪ .‬األمر بمثابة اختبار للشخصية التي قال عنها ميشنا إنها شخصية بناة أخالقيين‬
‫للمجتمع االشتراكي‪ :‬أتعامل وأفكر دائًم ا بحيث يصبح سلوكي وأفكاري قانوًنا في ديكتاتورية‬
‫البروليتاريا‪ .‬حاول بافليك تخيل البروفيسور ظابيل المعذب قبل أن يضعوا حبل المشنقة حول‬
‫رقبته‪ ،‬تخيلهم وهم يقفزون إلى كواليس الرواية‪ ،‬ويطلبون من الراوي (أي مني أنا) أن يعيرهم‬
‫للحظات الكرسي الذي يجلس عليه أحياًنا (مقعد بال مسند) كي يضعوا عليه البروفيسور‪ ،‬ثم‬
‫يرفسون هذا الكرسي‪( .‬ثم يعيدون لي هذا المقعد في كواليس الرواية)‪.‬‬
‫ظل بافليك يتخيل‪ ،‬سعًيا منه أن يحافظ على هدوئه كمشاهد ال يعنيه األمر‪ .‬كان ذلك تدريًبا كي‬
‫يتراجع تعاطفه مع البروفيسور‪ ،‬ويخفت ثم ينطفئ‪ .‬عرف القبطان ميشنا جيًدا ما يحتاج إليه بافليك‬
‫بشدة في هذا الوقت تحديًدا‪.‬‬
‫احزم أغراضك الضرورية‪ ،‬فغًدا ستسافر إلى منتجعات قسطنطين‪ .‬وال تتوقع أي مهام هناك‪.‬‬
‫ستذهب لالستجمام ال غير‪.‬‬
‫عفًو ا؟!‬
‫ستقضي هناك أربعة عشر يوًم ا في فندق يراسيك‪ .‬لن ترى عند البوابة قوص نصر يرحب بك‪:‬‬
‫مرحًبا بعضو أمن الدولة المختار‪ .‬ستكون هناك متنكًر ا‪ ،‬بمعنى آخر‪ ،‬نكرة‪ ،‬ولك مطلق الحرية في‬
‫أن تقضي وقتك كيفما تشاء‪ .‬أي أسئلة؟‬
‫هل كل الفنادق بها كل هذا العدد من عامالت الغرف الحسناوات؟‬
‫هل كل مصنع به كل هذا العدد من األذكياء النابهين؟‬
‫ال تحقري من شأن الطبقة العاملة‪.‬‬
‫أنا ال أجرؤ‪ .‬أنتم‪ ،‬معشر العمال‪ ،‬أنتم رواد التقدم‪ ،‬أنتم التيار البشري اليقظ الذي يحرك نهر التاريخ‬
‫اإلنساني الراكد‪ ،‬أنتم مسيرة مهيبة للرجال الحقة‪...‬‬
‫ال تتعجلي في الحكم! أْم ِلي علّي ‪ ،‬من فضلك‪ ،‬ما يجب أن أسجله‪.‬‬
‫ينفجران في الضحك‪.‬‬
‫أنا كاترشينا رولوفا‪ ،‬نادني باسم كاتيا‪.‬‬
‫بافيل ناهيل‪ .‬نادني باسم بافليك‪ ،‬لكن عندي سؤال‪ .‬متي تنتهي ورديتك؟‬
‫يقفان للحظات متقابلين‪ ،‬يتحسس أحدهما اآلخر بعينيه‪ ،‬بينما بعيًدا عن هنا‪ ،‬في سجن تسايل‪،‬‬
‫يحملون إلى المحرقة جثة البروفيسور المشنوق ظابيل على إحدى العربات‪ ،‬وفي اللحظة األخيرة‬
‫يأتي شاب مهرواًل ‪ ،‬يصرخ‪ :‬هل جننتم؟ أيها المغفلون؟! توقفوا فوًر ا! مع الجثة حبل جيد من القنب!‬
‫ثم يميل على الجثة‪ ،‬ويخرج من جيبه سكيًنا مخصوًص ا بعد أن عجز عن سحب الحبل مع على‬
‫رأس الجثة‪ ،‬ثم يفك عقدته‪.‬‬
‫يا آنسة كاترشينا‪ ،‬يا كاتيا‪ ،‬تفضلي‪ ،‬واذهبي للتحقق من قائمة مهامكم‪.‬‬
‫ال داعي لهذا؛ ألن ورديتي عملًّيا ال تنتهي أبًدا‪ .‬فعندما تقترح اآلن أن أعرفك على منتزه المنتجع‬
‫فأنا أعتبر هذا ضمن مهام خدمة الغرف‪.‬‬
‫عرفيني من فضلك على منتزه المنتجع‪.‬‬
‫بعد مرور ساعة‪:‬‬
‫أخبريني‪ ،‬هل كل العاملين في خدمة الغرف لهم نفس اإليقاع السريع؟‬
‫هذا ليس سؤااًل نبياًل ‪ ،‬لكن أتعرف‪ ،‬يمكنني إبطاء اإليقاع إن أردت‪ .‬أنا مدربة على كل السرعات‪،‬‬
‫لكن أخبرني‪ ،‬يا بافليك‪ ،‬أترى نقطة على الحائط؟‬
‫كيف لي أن أراها؟ مهما حدقت‪ ،‬فالظالم هنا شديد‪ ،‬ما األمر؟‬
‫ال شيء‪ .‬أردتك فقط أن تستدير كي أجلس على ظهرك‪ .‬لنواصل!‬
‫هل أنت مجنونة! أنت تسيطرين على روحي‪ ..‬لكن أكملي‪ ،‬أكملي‪ ،‬ال تتوقفي‪....‬‬
‫أتشرب قهوة‪ ،‬أم أفتح زجاجة أخرى؟‬
‫لم أر مثل هذا من قبل وأنا في العالم منذ ما يقرب من عشرين عاًم ا‪.‬‬
‫أنا‪ ،‬يا بافليك‪ ،‬أنا في هذا العالم منذ آالف السنين‪ ،‬ومر علّي سرب كامل من شباب مثلك‪ .‬أستطيع‬
‫القول إني خبيرة فيهم منذ زمان‪ ،‬مثل الملكة نفرتيتي‪ ،‬إن كنت تعرف من هي‪.‬‬
‫شعر بافليك في بداية األسبوع الثاني أن عليه العودة بعد أسبوع إلى برنو‪ .‬ماذا لو طلب من ميشنا‬
‫أسبوًعا آخر‪.‬‬
‫حسًنا‪ ،‬من الجيد أنك اتصلت‪ ،‬وإال كنت سأتصل أنا بك‪ .‬إقامتك عندك انتهت قبل موعدها‪ ،‬سأرسل‬
‫لك سيارة‪ ،‬وستعود في المساء‪.‬‬
‫أثبتت شبكة المخبرين جدارتها‪ .‬بفضلها توصلنا اآلن إلى أخبار لطالما انتظرناها‪ .‬حدث اتصال بين‬
‫البروفيسور كرامير والمهاجرين‪ .‬يعرضون عليه مروًر ا آمًنا عبر الجبال‪ ،‬وسوف يتولى أفضل‬
‫المرشدين أمره‪ ،‬وستكون أوضاعه هناك في أفضل حال‪ .‬أبوه‪ ،‬هذا المناصر لمساريك‪ ،‬ما زال‬
‫يتمتع بسمعة طيبة في الغرب‪ .‬قررت المخابرات األمريكية تأسيس محطة إذاعة في ألمانيا الغربية‪،‬‬
‫اسمها حتى اآلن راديو ليبرتي‪ ،‬أوربا الحرة‪ ،‬ويحجزون مكاًنا فيها للبروفيسور كرامير‪ .‬لن نمنعه‬
‫من عبور الحدود‪ ،‬بل سنشجعه من خالل المخبرين؛ ألن الحدود ستؤمن باألسالك الشائكة بدًء ا من‬
‫العام القادم‪ ،‬وسيصبح عبورها أشد تعقيًدا‪ .‬وبعد أن تستقر أوضاع البروفيسور كرامير‪ ،‬نخصص‬
‫له جاسوًسا يبحث عن نقطة ضعفه‪ ،‬وعندها نحاول أن نجمع معلومات عن كل المهاجرين التشيك‪.‬‬
‫واآلن لك أن تخمن اسم هذا الجاسوس‪.‬‬
‫أنا لست متمكًنا بعد من لغتي األلمانية‪ .‬ما أتحدثه هي لغة جوتا‪ ،‬وشيالر‪ ،‬وأخاف من إجراء محادثة‬
‫عادية بالعامية األلمانية‪.‬‬
‫كان عندك أفضل أستاذ‪ ،‬وتتمتع بموهبة كبيرة‪ .‬بخصوص المحادثة تدبرت لك رجاًل ألمانًّيا‪ .‬أعطوه‬
‫لنا الرفقاء في مركز شرطة لوبيانكا في موسكو‪ .‬إنه عضو سابق في الجستابو‪ ،‬متخصص في‬
‫استجوابات الخصوم‪ ،‬وهو بالتالي أنسب للمحادثة‪ .‬عمل إبان الحرب تحت إمرة هيمالر‪ .‬حتى اآلن‬
‫ال أعرف متى أرسلك لمالحقة البروفيسور‪ .‬ربما بعد عامين‪ .‬حسب الظروف‪ ،‬كما يقولون‪ ،‬ماذا‬
‫عن لغتك الفرنسية؟‬
‫ليست كما ينبغي‪ .‬لقد ركزت اهتمامي على األلمانية‪.‬‬
‫ال بأس‪ ،‬بعد عامين ال بد أن أقرر بشأن هويتك‪ ،‬ودورك الذي ستقوم به هناك‪ ،‬لكن عندي اآلن‬
‫مفاجأة لك‪ .‬كاترشينا؟ كاتيا؟‬
‫هل وضعتني هناك تحت المراقبة؟‬
‫لست أنا‪ ،‬ولم يكن األمر متعلًقا بك‪ ،‬بل بي أنا‪ .‬الكولونيل صاد يتشكك في مشروعي الذي ستلعب‬
‫فيه دوًر ا مهًّم ا‪ .‬يود إثبات أنك لست شخًص ا جديًر ا بالثقة؛ لذلك وضع عليك مخبًر ا‪.‬‬
‫وإالَم توصل هذا المخبر؟‬
‫لم يتوصل إال إلى أنك ضاجعت كاترشينا‪ .‬وأنها ال تعرف عنك سوى أنك عامل‪ ،‬خراط‪ ،‬وأنك‬
‫متحفظ في كالمك‪.‬‬
‫ال بد أن هذا المخبر كان قريًبا مني جًّدا‪.‬‬
‫عندما علم صاد أنك ستنزل في فندق يارسيك‪ ،‬وضع فيه أجهزة تنصت‪ .‬وعندما ذهبتما إلى منتزه‬
‫المنتجع ذهب في أثركما أحد الكالب المدربة وفي طوقه جهاز تنصت مخصوص‪.‬‬
‫رفع بافليك رأسه ناحية السقف‪.‬‬
‫ال تخف! هذه هي الغرفة الوحيدة في أمن الدولة دون أجهزة تنصت‪ .‬أنا من وضع أجهزة التنصت‪،‬‬
‫وقادر على أن أوقفها كلما أردت‪ .‬بالمناسبة‪ ،‬قدمت نفسك لعاملة الغرف على أنك بافيل ناهيل‪،‬‬
‫وفاتك أن هذا االسم قريب من اسم ظابيل‪ .‬بروفيسور ظابيل لم يعد على قيد الحياة‪ ،‬لكنه ما زال‬
‫يسكن روحك‪ .‬ال بأس‪ ،‬ليبق هناك لبعض الوقت‪ ،‬لكني وعدتك بمفاجأة‪ .‬لن تخسر كاترشينا‪ .‬منذ‬
‫الغد ستكون عاملة غرف في أفخم فنادق برنو‪ ،‬فندق جراند‪ .‬ظروف عملها فيه أفضل بكثير من‬
‫منتجعات كونستانتين‪ .‬كاترشينا هي هديتي لك‪ .‬اخترتها لك بعناية من وسط مئات المرشحات‪.‬‬
‫استمتع بها‪ ،‬لكن لست مضطًّر ا للزواج بها‪.‬‬
‫***‬
‫تنفست الصعداء عندما أخيًر ا عدت إلى موسكو عبر طريق سيبيريا السريع‪ ،‬ونزلت في محطة‬
‫ياروسالفسكي‪ .‬كانت رحلة سيبيريا في مجملها مجرد لقمة كبيرة في فم ثعلب أحمر صغير‪.‬‬
‫قال الزعيم‪:‬‬
‫ها أنِت قد عدِت‪ .‬قفي هنا‪.‬‬
‫ثم تراجع قلياًل وهو يرمقني بنظرة فاحصة‪.‬‬
‫أيتها الفتاة‪ ،‬تبدين في حال أفضل مما توقعت‪ .‬من الواضح أن رحلة سيبيريا أفادتك‪.‬‬
‫قلت بلغة الحيوانات كي ال أستفزه‪ :‬لم أعد منها بأي فائدة‪.‬‬
‫(حسًنا‪ ،‬لمن يهمه األمر‪ :‬فشلت في إحضار وولفرين معي إلى مكتب اللجنة الشعبية‪ .‬فقد اخترت له‬
‫اسًم ا سيًئا عندما أسميته بليخانوف‪ .‬فالرجل الذي حمل هذا االسم هاجر بعد ثورة أكتوبر)‪.‬‬
‫اجلسي هنا‪ ،‬واحِك لي‪ .‬أشعل غليونه وأخذ يستمع باهتمام إلى حكايتي في سيبيريا‪ .‬وعندما وصلت‬
‫إلى نقطة الرهبان بأقنعة الخيل‪ ،‬هز يده‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ال وجود ألنستازيا‪ ،‬ابنة القيصر هذه‪ ،‬كانت تلك مجرد كنيسة لطائفة البوجوميليين‪ .‬وهي طوائف‬
‫رحل‪ ،‬طردتها إلى التندرا لتعيش هناك كما يحلو لها‪.‬‬
‫لكن انتبه عندما شرعت في وصف المدينة التي بنيت من أشكال ثلجية‪ ،‬مكعبات‪ ،‬وأشباه مكعبات‬
‫ومستطيالت‪ ،‬وأسطوانات‪ ،‬وكرات‪ ،‬ومخروطات‪ :‬بالطبع ال وجود ألي خورخويجراد‪ .‬فأنا حتى‬
‫اآلن ال أعرف من بناها‪ ،‬لكن تعالي‪ ،‬وأخبريني ما هي‪ ،‬ثم فتح كتاًبا ضخًم ا‪ ،‬فيه مئات الصور‬
‫لمختلف المدن‪.‬‬
‫قلت له‪:‬‬
‫عد إلى الصفحة السابقة‪ .‬لقد رأيتها‪.‬‬
‫عاد إلى الصور السابقة‪ ،‬فوضعت قدمي الحمراء على صورة مدينة‪.‬‬
‫قال‪:‬‬
‫راديبوجا‪ ،‬إنها مدينة براغ‪ .‬أقام أحدهم في التندرا القاحلة نموذًج ا لمدينة براغ‪ .‬يا لها من صدفة‪.‬‬
‫صمت للحظات‪ ،‬سحب نفًسا من الغليون‪ ،‬وأطلق حلقات الدخان في سقف الكرملين‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫أتعرفين‪ ،‬خاب ظني في أبنائي‪ ،‬في ابنتي‪ ،‬وفي ولدي االثنين‪ ،‬فقررت أن أتبناك ابنة لي‪ .‬صرت‬
‫اآلن أعرف عنك الكثير‪ ،‬أعرف ما يكفي كي أتأكد من صواب هذه الخطوة؛ لذلك سأعهد إليك‬
‫بمهمة ال توكل إال ألقرب المقربين‪ .‬استريحي‪ ،‬وبعدها ستشدين الرحال‪ .‬براغ في انتظارك‪ ،‬هذه‬
‫المدينة العامرة‪ .‬وحتى هذا الوقت يمكنك أن تقرئي شيًئا عنها‪ .‬تعرفي على تاريخها‪ ،‬وعلى كل ما‬
‫بها‪.‬‬
‫في هذه المهلة القصيرة التي أعطاني إياها قبل أن أشد الرحال‪ ،‬بث الزعيم في نفسي السرور‪،‬‬
‫وطيب خاطري‪.‬‬
‫قال الزعيم‪:‬‬
‫روسيا مشهورة في كل أنحاء العالم بالسيرك الذي يجوب قارات العالم‪ ،‬ويسافر بمباركة مني‪.‬‬
‫أوصاني زفيزدا الذي عسكر على تخوم موسكو قبل سفره إلى أمريكا بهذا السيرك‪ .‬بعدها عرفت‬
‫لماذا أوصاني بالسيرك تحديًدا‪ .‬فقد اشتهر بعرض فريد للثعالب‪ ،‬وكانوا يطلقون عليه العجلة‬
‫الثعلب‪ ،‬واإلكسبريس الثعلب‪ ،‬وكذلك التورنيدو األحمر‪.‬‬
‫تدخل تسعة ثعالب إلى حلبة السيرك‪ ،‬ويحرك كل منها ذيله‪ ،‬ثم تقف على شكل دائرة‪ ،‬وكل منها‬
‫يضع ذيل جاره في فمه جاره بشكل الفت‪ ،‬بحيث تشكل هذه الذيول دائرة مغلقة‪ ،‬ثم تجري في شكل‬
‫دائرة حول الحلبة‪ ،‬وتتزايد سرعتها‪ .‬نسيت أن أقول إنها كانت في الوقت نفسه تحمل قبعات بحذر‬
‫كي ال تسقط وسط هذا االندفاع‪ ،‬بينما المشاهدون يتابعونها وهم يضحكون ويصفقون للثعالب وهي‬
‫تجري‪ ،‬وتتزايد سرعتها‪ ،‬تتالحق‪ ،‬ويطارد أحدها اآلخر في دائرة تتعاظم سرعتها‪ ،‬حتى وقف‬
‫الناس على المقاعد‪ ،‬يصفقون ويصيحون‪ ،‬ثم دارت الثعالب في الحلبة بسرعة كبيرة كادت‬
‫مالمحهم تختفي فيها‪ ،‬وكأنه إكسبريس الثعالب‪ ،‬وكأنها زوبعة‪ ،‬دوامة عاصفة‪ ،‬أو تورنيدوا‪ .‬بقيت‬
‫الناس واقفة على مقاعدها‪ ،‬تدق بأقدامها من الحماس‪ .‬أكملت الثعالب دورتها‪ ،‬ثم توقفت‪ ،‬وحررت‬
‫فمها‪ ،‬كل ثعلب يلكز اآلخر‪ ،‬ويدفعه‪ ،‬ويعضه‪ ،‬ثم عوت‪ ،‬وصفرت‪ ،‬واختفت من الحلبة‪ ،‬باستثناء‬
‫الثعلب التاسع؛ أفلت منهم‪ ،‬وحنى جسده بخفة قبل أن يختفي‪ ،‬وهز قبعته‪.‬‬
‫تلك كانت فقرة رائعة‪ ،‬استعراًض ا كبيًر ا‪ ،‬أسعد الناس‪ ،‬وخاصة ذلك الثعلب الذي انفلت منهم في‬
‫نهاية العرض‪ ،‬ومال قلياًل هو وقبعته‪ .‬اليوم ال تجدين مثل هذه الكياسة‪ .‬تابعت كل هذا بتأثر كبير‪.‬‬
‫تابعت الناس وهي تجلس مفتونة بالعرض‪ ،‬وما زالت تنظر إلى الحلبة الفارغة‪ .‬ثم انصرفوا رويًدا‬
‫كأنهم يحلمون‪ ،‬يرافقهم أوالدهم‪ ،‬واصطحب بعضهم أطفااًل غرباء عنهم‪ ،‬على سبيل الخطأ‪،‬‬
‫يصرخون فيهم معترضين‪ ،‬بينما اآلباء الغرباء يلطمونهم على ظهورهم‪ ،‬وينصرفون معهم عائدين‬
‫إلى بيوتهم‪ .‬أتخيل بعدها هؤالء البشر في أسرتهم الخشبية‪ ،‬أو الحديدية‪ ،‬أو المرمرية‪ ،‬أو‬
‫الكرتونية‪ ،‬يحلمون بالثعالب طوال الليل‪.‬‬
‫بدا الزعيم راضًيا من إعجابي بالعرض‪ ،‬لكنه نبهني إلى أنه مجرد تدريب للثعالب‪ ،‬ال أكثر‪ .‬وليس‬
‫في رأسها ذرة حكمة‪:‬‬
‫عندما تقومين بالمهمة الحساسة التي سأوكلها إليك اآلن ستقف روسيا كلها على المقاعد‪ ،‬والمغاسل‪،‬‬
‫والطاوالت‪ ،‬وعلى جذوع األشجار‪ ،‬وحزم القش‪ ،‬وحتى على الصوامع‪ ،‬وستصفق روسيا بأكملها‪،‬‬
‫وطالما ستظهرين اآلن وسط الناس يجب أن يكون لك اسم‪ .‬وأنا اخترت لك اسًم ا‪ ،‬أجنيا أليسكايفنا‪.‬‬
‫عفًو ا‪ ،‬ال أريد هذا االسم‪ .‬لقد اخترت اسمي بنفسي‪ .‬فأنا لست ذاهبة إلى خاباروفسك‪ ،‬أو إلى‬
‫ياكوتسك‪.‬‬
‫وما هو؟‬
‫سيلفا‪ ،‬اسمي سيلفا‪.‬‬
‫هز الزعيم رأسه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫عزيزتي سيلفا‪ ،‬صباح غد ستسافرين إلى براغ بالطائرة‪.‬‬
‫عفًو ا‪ ،‬هذا أيًض ا ال أريده‪ .‬فعندي حساسية من الطيران‪ .‬أريد الذهاب إلى هناك بالقطار‪.‬‬
‫هال أخبرتني‪ ،‬ما سبب هذه الحساسية؟ حسًنا‪ ،‬كما تشائين‪ ،‬فلتذهبي بالقطار إًذا‪.‬‬
‫سافرت في كابينة مخصصة لي وحدي‪ ،‬لكن القطار المتجه إلى براغ تحرك ببطء مثل إيليا‬
‫موروميتس‪.‬‬
‫***‬
‫حانة روزتالتشيلي الصغيرة المحصورة بين شجرتي بلوط عظيمتين صار اسمها اآلن بود‬
‫شبيلبيرج‪ ،‬لكنها ما زالت صغيرة‪ ،‬تستقبل ميشنا ولقاءاتها الخاصة واجتماعات العمل‪.‬‬
‫مثلما في أول مرة‪ ،‬جلس ميشنا مع بافليك على نفس الطاولة‪ .‬إن أردتم إلقاء نظرة اآلن على‬
‫األطباق‪ ،‬فسيسمح لكم الراوي‪ :‬لحم أرنب مرصع بقديد الخنزير‪ ،‬وفطر‪ ،‬وطماطم‪ ،‬وبطاطس‬
‫محمرة‪ ،‬فضاًل عن النبيذ األبيض بالطبع‪ .‬القبطان ميشنا يهز رأسه‪ ،‬فيشغل النادل أسطوانة‬
‫ألوركسترا جلين ميللر‪.Farewell Blues ،‬‬
‫يا بافليك‪ ،‬البروفيسور كرامير صار وراء الحدود‪ .‬عبرها أول أمس‪ .‬نتوقع أن يستقبلوه هناك‬
‫باألحضان‪ .‬وربما كذلك يجلسون‪ ،‬مثلما أجلس معك اآلن‪ ،‬في إحدى الحانات الصغيرة في ميونخ‬
‫غالًبا‪ ،‬وربما يستمعون كذلك إلى موسيقى البلوز‪ .‬وأحدهم يرشده‪ ،‬كما أفعل معك اآلن‪ ،‬إلى‬
‫الخطوات التالية‪ .‬كيف هو مذاق لحم األرنب؟‬
‫عفًو ا؟‬
‫سألتك عن رأيك في لحم األرنب‪.‬‬
‫المعذرة‪ ،‬ليس طيًبا كما ينبغي‪ ،‬فأنا ال أحب لحم األرانب‪.‬‬
‫كم يحزنني هذا حًّقا‪ ،‬كان علّي أن أستشيرك في نوع العشاء‪ .‬كان يمكن أن يكون قواقع بالفلفل‪ ،‬أو‬
‫سلطعوًنا على طريقة مالي‪ ،‬أو بجعة مشوية‪ .‬فهذا عشاء فاخر‪ .‬سيبدأ راديو أوروبا الحرة بثه من‬
‫ميونخ قريًبا‪ .‬البروفيسور كرامير هو ابن مؤرخ شهير‪ ،‬رجل وطني مثله‪ ،‬ومن أنصار أتباع‬
‫مساريك‪ ،‬يغريه العمل في هذه المحطة المرموقة‪ .‬لديهم هناك بالطبع شخصيات مهمة وقديرة من‬
‫المهاجرين‪ ،‬بيروتكا‪ ،‬وتجريد‪ ،‬لكنهم في حاجة إلى ثالث كي يصنعوا مًعا ثالثية‪ ،‬الملوك الثالثة‪.‬‬
‫اسم رنان‪ .‬إبان االحتالل األلماني ظهرت ثالثية مقاومة شهيرة‪ ،‬مورافيك‪ ،‬ماشين‪ ،‬باالبان‪ .‬واآلن‬
‫صارت بيروتكا‪ ،‬تيجريد‪ ،‬كرامير‪.‬‬
‫أدار النادل األسطوانة على جانبها الثاني‪ ،‬لتتصاعد منها موسيقى ‪.Moonlight Serenade‬‬
‫ال يجب أن نتلكأ‪ ،‬يا بافليك‪ .‬إن كنت خططت في البداية أن أرسلك إلى هناك بعد عامين‪ ،‬حتى‬
‫يستقر البروفيسور كرامير‪ ،‬فأنا اآلن أفضل أن نختصرها إلى عام واحد‪ .‬وستستغل هذا العام كي‬
‫تتعلم اإلنجليزية‪ .‬المعرفة الحقة باإلنجليزية ستضيف إليك هناك مزيًدا من الثقة لدى اآلخرين‪،‬‬
‫وألنه ال يوجد في قسم اللغة اإلنجليزية بمدينة برنو أحٌد اإلنجليزية هي لغته األم فقد تدبرت هذا‬
‫األمر في براغ‪ .‬الرفقاء في اإلدارة المركزية في شارع بارتولومسكا ينتظرون وصولك‪.‬‬
‫وسيستقبلونك الشهر القادم‪ ،‬لكن قبل أن ترفعك مرساك من هنا ال بد أن تدرب خليفة لك‪ ،‬رجاًل‬
‫يحل محلك‪ ،‬ويقوم على متابعة المخبرين الذين يراقبون أسرة كرامير‪ ،‬وكل أقربائهم‪ .‬أتخيلهم‬
‫جميًعا ضالعين في هذه اللعبة التي نلعبها مع البروفيسور‪ ،‬سأتخذهم كبيادق‪ .‬سيكونون جميًعا في‬
‫مرمى النيران‪ ،‬حسب تعبير العبي الشطرنج‪ .‬في صحة البروفيسور كرامير!‬
‫رفع ميشنا كأسه وقرعها بكأس بافليك‪.‬‬
‫ظال جالسين للحظات بعد شرب النبيذ‪ ،‬لم يتطرقا إلى موضوع كرامير من قريب وال بعيد‪ ،‬ميشنا‬
‫يعلم بافليك تدخين الغليون‪ .‬وفي الخارج ينتظرهما مساء خريفي بارد‪ ،‬لكن ال تخافوا عليهما‪.‬‬
‫فكالهما لديه معطف جلدي بياقة من الفرو‪ ،‬وبطانة ثقيلة‪ ،‬ذلك اللباس المدني ألفراد الجيش السري‬
‫المختار‪.‬‬
‫ال يهبط ميشنا إلى الشارع المنخفض المظلم حيث عربات الترام‪ ،‬بل يصعد وسط األشجار تجاه‬
‫قلعة شبيلبيرج المعتمة‪ .‬ال يصل إلى جدران القلعة‪ ،‬بل يتوقف تحت شجرة زان ضخمة‪ ،‬وينتظر‬
‫بافليك‪.‬‬
‫تبقى أمران أود أن أخبرك بهما‪ ،‬وفضلت أن أتحدث هنا‪ ،‬في الخالء‪.‬‬
‫(الراوي ال يرى أي خالء في هذا الظالم‪ ،‬وتحت تيجان األشجار‪ ،‬ال يرى سوى نقطتين مشتعلتين‬
‫من غليون كل منهما‪ ،‬لكن ال بأس‪ ،‬سنستمع إلى هذين األمرين‪ ،‬وما سيخبر بافليك به)‪.‬‬
‫أردت أن أخبرك بهما من قبل‪ ،‬لكنك تعرفهما من نفسك‪ .‬فأنا لم أرزق بولد‪ ،‬لكني محظوظ من أني‬
‫عثرت عليه‪ ،‬واخترته بنفسي‪ .‬تبنيته‪ .‬أعرف منذ وقت بعيد أني وفقت في البحث واالختيار‪ ،‬ثم‬
‫يضيف بصوت خافت‪ :‬حتى يفرقنا الموت‪.‬‬
‫حفيف أشجار الخريف في الحديقة يعلو‪ ،‬أو هكذا يراه كل من ود اإلنصات‪ .‬ويبدو أن ميشنا وبافليك‬
‫يترقبان ما سيقوله اآلخر‪ ،‬يحتضن الظالم من حولهما ذلك الصمت المتبادل‪ .‬وبعد سكوت وترقب‬
‫لثالث دقائق يستأنف ميشنا كالمه بحماس‪:‬‬
‫أمر آخر هام‪ ،‬أظن أن عليك أن تعرفه‪ .‬بدأت األمور تتضح أكثر بأن طريقة عملنا تحتاج إلى إعادة‬
‫نظر‪ ،‬ال أقول إصالح‪ ،‬فهذه كلمة ال أحب استخدامها‪ ،‬لكن ال بد من تجربة أسلوب آخر‪ .‬أسلوب‬
‫يتبعه الكولونيل صاد‪ ،‬إنها طريقته الخاصة‪ ،‬فهو صعب المراس‪ ،‬وأساليبه عقيمة‪ .‬يراهن على‬
‫استجوابات عنيفة في الوقت الذي يتطلب األمر وسائل نفسية أكثر نعومة‪ .‬يرتكب مجازر‪ ،‬أو لنقل‬
‫إن طريقه محفوف بالجثث‪ ،‬بينما كان في مقدروه أن يتعامل بطريقة أكثر حنكة مع كثير من الذين‬
‫شنقهم‪ ،‬وننال منهم ما هو أكثر من الدم والبول‪ .‬من المفيد في مهنتنا هذه استغالل البشر‪ ،‬وليس‬
‫تصفيتهم من أول وهلة‪ .‬لقد اتفقت على هذا مع بعض الرفقاء األكفاء‪ ،‬في طريقة لوضع حد‬
‫ألسلوب صاد‪ .‬من جهة أخرى أظن أن ماضي الكولونيل ليس نظيًفا تماًم ا‪.‬‬
‫في تلك اللحظة تطاير فوق رأسيهما طائر‪ ،‬ربما بومة صغيرة‪ ،‬والبوم هنا شديد الندرة رغم أنها‬
‫مطلوبة‪ ،‬وخاصة اآلن‪ ،‬لذلك جاءت‪ .‬اصطدمت بشجرة التنوب الضخمة‪ .‬يثني الراوي (وهو أنا)‬
‫على البومة‪ :‬خيًر ا فعلت‪ ،‬أيها الطائر الصغير‪ ،‬لكن من فضلك‪ ،‬افعلها مجدًدا‪ ،‬وبقوة‪ ،‬فتطير البومة‪،‬‬
‫وتسقط زخات من أقماع زهرة التنوب على رأسي بافليك وميشنا‪ .‬ينتفض ميشنا دون أن يدري أنها‬
‫أمارة سوء‪ ،‬وينهي حديثه‪:‬‬
‫ربما ما أنا مقبل عليه خطير للغاية‪ .‬صاد ما زال يتمتع بثقة كبيرة من رؤسائه؛ لذلك ال أود أن‬
‫تكون جزًء ا من هذا المشهد‪ .‬لو ساءت األمور فسوف تتورط فيها‪ .‬وستتعرض مهمتك وسط‬
‫المهاجرين التشيك للتهديد‪ .‬وفشلها سيجعلني حزيًنا بقية حياتي؛ لذلك سأحرك األمور بعد أن تذهب‬
‫إلى براغ‪ .‬ها أنت اآلن عرفت ما أفكر فيه‪ ،‬كي تكون على علم‪ ،‬وهذا كل ما لدي‪.‬‬
‫انتهى بينهما الحديث في هذا األمر‪ ،‬وشرعا يتحدثان في آالف األمور األخرى وهما يغادران حديقة‬
‫البوح‪ ،‬أمور ال عالقة لها بالكولونيل صاد‪ ،‬لكننا اآلن سنتحدث في أمر مر علينا من قبل مرور‬
‫الكرام‪.‬‬
‫بعد أن هم ميشنا وبافليك باالنصراف بغليونين لم ينطفئا بعد‪ ،‬وغادرا الحانة الصغيرة (كان ميشنا‬
‫حريًص ا على أن يتحدث مع بافليك بعيًدا عن مرمى أعين محتملة‪ ،‬كان يشك بأن كل غرفة مجهزة‬
‫بعين تراقبهما) مد النادل يده على فوطة ملقاة كان ميشنا مسح بها ذقنه‪ ،‬وصلب على صدره كأي‬
‫أرثودوكسي عتيد هو يمد بها يده إلى كلب ليشتمها‪ ،‬كلب بطوق خاص مزود بجهاز تنصت‪،‬‬
‫وأعطاه أمًر ا بعينه (تتبع هذين الرجلين!)‪ ،‬ثم دفعه في الظالم خلف الحانة الصغيرة‪ ،‬وانصرف‬
‫بعدها يصب ثالث كؤوس فودكا‪.‬‬
‫مر يومان أو ثالثة من أيام الخريف العادية تماًم ا‪ ،‬انتشر خاللها الزبالون في شوارع برنو ينظفون‬
‫األوراق المتساقطة‪ .‬سمحوا لبافليك بزيارة الكولونيل صاد‪ .‬انتظر حتى أقروا رحيله إلى براغ‪،‬‬
‫وهو ما حدث بالفعل‪ .‬المثير أن صاد عرض عليه تدخين الغليون وهو ينظر إليه بفضول كيف‬
‫يتعامل بافليك مع الغليون‪( ،‬قال لنفسه‪ :‬كل هذه األمور تعلمها من ميشنا!)‪ ،‬ثم تحدث معه على‬
‫مهمته الخارجية‪ ،‬وعن أهميتها وما ينتظر الكولونيل صاد منها‪ ،‬ليس هو فحسب‪ ،‬بل كل الرفقاء‬
‫في براغ‪ :‬هذه المهمة هي من أخطر مهام هذا المكتب‪ ،‬قال وهو يؤكد على كالمه بخبطة بكف يده‬
‫على سطح المكتب‪.‬‬
‫عندما هم بافليك يحمل غليونه الذي ما زال مشتعاًل ‪ ،‬قال الكولونيل وكأنه أمر عارض‪:‬‬
‫أتعرف‪ ،‬أيها الرفيق‪ ،‬أن القبطان الرفيق ميشنا انتحر باألمس؟ (قالها هو ينظر بفضول إلى ردة‬
‫فعل بافليك)‪ ،‬نعم‪ ،‬لقد تجاوز الخطوط‪ ،‬تجاوز الحدود التي تفصلنا عن العالم اآلخر‪ .‬كان مريًض ا‬
‫بسرطان البنكرياس‪ ،‬وتعامل مع المرض بطريقة شجاعة عندما أدرك أن خدمته للوطن وللثورة قد‬
‫أشرفت على نهايتها‪ .‬فلتحيا ذكراه!‬
‫تسمر بافليك في مكانه ومعه غليونه الذي ما زال يشتعل‪.‬‬
‫الحياة مستمرة‪ ،‬أيها الرفيق‪.‬‬
‫خاطبه الرفيق الكولونيل بلهجة وّد‪ .‬فتح الباب من خلف ظهره المتيبس‪ ،‬ودفع جسده في الدهليز‬
‫وهو يشعر بوخز في ضلوعه‪ .‬في الدهليز جاءه صوت الكولونيل يغني أغنية روسية سعيدة من‬
‫فيلم ستالين المفضل‪ ،‬فرسان كوبا‪.‬‬
‫في سجن تسايل (المعذرة‪ ،‬فهو لم يعد يحمل هذا االسم‪ ،‬غيروا اسم شارع السجن على اسم أول‬
‫رئيس من الطبقة العاملة‪ :‬شارع جوتوالد) تواصلت عمليات اإلعدام‪ .‬أحا! (أعتذر للقارئات‬
‫المتحفظات على اللفظ)‪ ،‬فهم دائًم ا ليسوا مستعدين بكرسي إعدام‪ ،‬لهذا ال بد أن أعيرهم الكرسي‬
‫الذي أجلس عليه في الكواليس أتابع الحكاية‪ .‬ثم رفسوا الكرسي‪ ،‬واهتزت ساقا القتيل‪ ،‬ثم حملوا‬
‫جثته إلى المحرقة‪ .‬من المناسب هنا التنويه عن أمر مفاجئ‪ .‬بينما هم يحرقون الجثة في المحرقة‪،‬‬
‫هرع أحدهم يصرخ‪ ،‬ويقول إن هذه الجثة ال ينبغي أن تحرق‪ ،‬فغًدا ستقام جنازة رسمية لها‪ ،‬لكنهم‬
‫تفاهموا في األمر‪ .‬أعدموا سريًعا رجاًل آخر قادًم ا من سجن تسايل (المعذرة‪ ،‬قادم من سجن‬
‫جوتوالد)‪ ،‬ودسوا جثته في النعش بداًل من التي أحرقوها‪ ،‬دسوها بعد أن كسروا قدميه حيث إن‬
‫النعش لم يكن على مقاس الجثة البديلة‪ ،‬طويلة السيقان)‪( .‬ثم أعادوا لي الكرسي أخيًر ا)‪.‬‬
‫أقيمت الجنازة الرسمية للقبطان ميشنا يوم الجمعة‪ .‬شارك فيها أفراد مكتب أمن الدولة‪ ،‬وأرسل‬
‫الرفقاء من براغ مندوبين عنهم‪.‬‬
‫قال الكولونيل صاد بلهجة احتفالية‪ :‬رأس بارد‪ ،‬وقلب دافئ‪.‬‬
‫هذه العبارة الجنائزية التي حبر بها صاد الميت‪ ،‬جاءت على لسان فاليكس دزيرشينسكي‪ ،‬أجل‪ ،‬إنه‬
‫هو‪ ،‬قائد تشيكا الشهير المهاب‪ .‬صحيح تماًم ا‪ ،‬الشيوعيون‪ ،‬هؤالء المختارون ال بد أن تكون‬
‫رؤوسهم باردة‪ ،‬وقلوبهم دافئة‪( .‬لن أخبركم بنصها الروسي‪ ،‬وابحثوا عنه في المعجم)‪.‬‬
‫ثم أخذ كل واحد من المعزيين جاروًفا صغيًر ا‪ ،‬غرف به بعض التراب‪ ،‬وألقاه على النعش‪( .‬كان‬
‫تراًبا مخصوًص ا‪ ،‬أحضروه إلى مدينة برنو من مقابر عند حائط الكرملين أرسلها لهم الرفيق‬
‫ستالين بنفسه‪ ،‬وهو تراب خصصه لمراسم دفن أعضاء أمن الدولة‪ ،‬دلو بالكامل يحتفظون به في‬
‫قبو مبنى أمن الدولة في شارع لينين)‪ ،‬الوحيد الذي رمى وردة على النعش كان بافليك‪ .‬وردة‬
‫صفراء‪ ،‬ال حمراء‪ .‬من يجيد قراءة حركات الشفاه يعرف أن بافليك يقول همًسا‪ :‬إلى أن يفرقنا‬
‫الموت‪ .‬تقدم صاد من بافليك‪ ،‬وربت على كتفه‪ ،‬ولن نعرف أبًدا إن كان ما فعل بسبب خوفه من أن‬
‫يرمي بافليك نفسه في القبر وراء ميشنا‪ ،‬أم ال‪ .‬عرف الكولونيل صاد جيًدا أن بافليك يتمتع بموهبة‬
‫استثنائية‪ ،‬ال مثيل لها عند أي من أفراد أمن الدولة‪ ،‬ونادًر ا ما يظهر وسطهم رجل مثله‪ ،‬رجل‬
‫فريد‪ ،‬جوهرة ثمينة‪ ،‬رغم هذا كله إنسان رقيق القلب أكثر من الالزم‪ .‬لهذا قرر أن يعطي مهمة‬
‫مراقبة أفراد أسرة كرامير إلى شخص آخر على الفور‪ ،‬وأن يسافر بافليك فوًر ا إلى براغ ليجدد‬
‫ذهنه بأفكار أخرى‪.‬‬
‫في اليوم التالي رافق صاد بافليك إلى محطة القطار السريع المتجه إلى براغ‪ .‬انطلق القطار‪ ،‬من‬
‫يقرأ لغة الشفاه وهي تهمس يعرف منها أن صاد يتنفس الصعداء‪.‬‬
‫‪َ 1‬كمَسمول هو اتحاد الشباب الشيوعي اللينيني في االتحاد السوڤيتي‪ ،‬هي منظمات الشباب الشيوعي الموحدة التي‬
‫أسسها وطورها ووضع برامجها وأنظمتها الداخلية الشيوعيون الشبان تحت إشراف حزب البالشڤة قبل وبعد انتصار‬
‫الثورة البلشفية سنة ‪( .١٩١٨‬المترجم)‬
‫‪ 2‬تعني *بيت* في اللغة الروسية‪( .‬المترجم)‬
‫‪ 3‬توماش غاريك ماساريك (بالتشيكية‪)Tomáš Garrigue Masaryk :‬‏ ُيلفظ أحياًنا توماس ماساريك (‪١٨٥٠‬‬
‫‪ ،)١٩٣٨-‬سياسي ورجل دولة‪ ،‬وعالم اجتماع‪ ،‬وفيلسوف تشيكوسلوفاكّي ‪ .‬شارك في تأسيس تشيكوسلوفاكيا‪ .‬وشغل‬
‫منصب أول رئيس لها‪( .‬المترجم)‬
‫الجزء الثاني‬
‫المهمة‬
‫شارع بارتولومسكا في براغ قصير‪ ،‬لكنه شهير‪ .‬اشتهرت هذه الجملة عن أديب مجهول أقام في‬
‫الستينيات في هذا الشارع‪ ،‬في شقة صغيرة بالطابق الرابع‪ ،‬يرى من فوق السقوف أبراج قلعة‬
‫براغ‪ ،‬ومن تحته أفنية سجون الشرطة‪ .‬فكل البيوت في ذلك الشارع (باستثناء بيتين اثنين) ملك‬
‫للشرطة‪ ،‬وخاصة لرجال أمن الدولة‪ ،‬هؤالء أسكنوا بافليك في واحد منهما‪ ،‬وتحديًدا في نفس‬
‫العمارة ونفس الشقة الصغيرة في الطابق الرابع‪ ،‬الشقة الصغيرة التي كتب فيها األديب المجهول‬
‫رواية فالس الوداع‪ .‬في هذه الشقة الصغيرة في الطابق الرابع ينتهي أي تعاطف من بافليك مع ذلك‬
‫الكاتب المجهول‪ .‬أردت بهذا فقط أن أظهر مدى الترابط المصيري بين كل األمور‪.‬‬
‫في هذه الشقة جاء مدرس اللغة اإلنجليزية للقاء بافليك (وانصرف بالفعل)‪ ،‬باتريك سبيندر‪،‬‬
‫اإلنجليزية لغته األم‪ ،‬إنجليزي متخصص في علوم اللغة األلمانية‪ ،‬لذلك كان التواصل مع بافليك‬
‫مدعوًم ا بلغة مشتركة وهي األلمانية‪ .‬رافق سيندر دائًم ا حارسان‪ ،‬وهو ما لم يزعج بافليك‪ :‬إنها هي‬
‫واقع الحال مع مدرسي اللغات الذين علموه‪ ،‬هم ‪-‬بطريقة أو بأخرى‪ -‬رجال من الشرطة الجنائية‪.‬‬
‫كان سبيندر يحاضر في اللغة واألدب األلماني في جامعة كامبريدج‪ ،‬وجاء إلى براغ ألنه كان يعد‬
‫دراسة عن األدب األلماني في براغ‪ ،‬لكنه جاء في توقيت سيئ‪ ،‬حيث تجرى محاكمات في مركز‬
‫مكافحة التآمر ضد الدولة‪ .‬اعتبروه منذ األسبوع الثاني إلقامته عمياًل إمبريالًّيا‪ ،‬ونقلوه مكباًل‬
‫بالحديد من شقته الفارهة في فندق أوزالتا ستودنا إلى غرفة صغيرة بعيدة في شارع بارتولومسكا‪.‬‬
‫كان البروفيسور سبيندر شخًص ا ذا قيمة بالفعل‪ ،‬وحسن المعاملة بطريقة ال توصف‪ .‬فانتشرت‬
‫أخبار القبض عليه بسرعة البرق في كل أنحاء الكومونويلث‪ ،‬فخاطبت شخوص مرموقة براغ‬
‫(وموسكو كذلك‪ ،‬فقد اعتقدوا أن القرار في يد الكرملين‪ ،‬وليس في يد قلعة براغ)‪ ،‬ومنها الملكة‬
‫إليزابيث الثانية‪ ،‬وكانت قد توجت حديًثا‪ ،‬وتدخلوا لصالح باتريك سبيندر‪ .‬فال يليق أن يبقى مواطن‬
‫بريطاني‪ ،‬وعالم مرموق في مخالب شرطة دولة شيوعية‪ .‬ورغم أن أحًدا لم يستجب لهم كانوا على‬
‫ثقة من أن خطأ غبًّيا ما حدث مع السيد سبيندر‪ ،‬وهو ما يعطي شهادة عن الموقف المضطرب‬
‫المرتبك في تشيكوسلوفاكيا الشيوعية‪ ،‬وأنهم سيصلحون هذا الخطأ قريًبا‪ .‬سواء اعتذرت براغ أم لم‬
‫تعتذر عنه ال يهم‪ ،‬المهم هو أن يستطيع البروفيسور مواصلة دراسته العلمية في هدوء‪ ،‬أو ربما‬
‫سيفضل مغادرة البلد الذي لم يحسن استقباله‪ .‬لم يتخيل أحد ممن تدخلوا لصالح السيد البروفيسور‬
‫أنهم ألقوا القبض عليه كي يستخدموه كشاهد إثبات على تآمر سالنسكي وكليمنتيس ضد الدولة مع‬
‫منظمة إمبريالية‪ ،‬لكنهم سرعان ما اكتشفوا أن هذه الخطوة زائدة؛ ألن الرجلين المتهمين انهارا‬
‫دون حاجة إلى شهود‪ ،‬وتكسرا بسهولة مثل عود قصب السكر‪ ،‬وذهبا طواعية إلى حبل المشنقة‪،‬‬
‫لكن البروفيسور سبيندر لم يكن عود قصب‪ ،‬ولم يسمح لهم باستغالله‪ ،‬لكن ما هو وضع سبيندر‬
‫اآلن كسجين؟ طالما اقتنصوه فلن يفلت من أيديهم بسهولة‪ ،‬فهذا ضد قواعد االقتناص‪.‬‬
‫فضل الحارسان المالزمان للبروفيسور البقاء مع السجين في الشقة الصغيرة أثناء حصة اللغة‬
‫اإلنجليزية‪ ،‬جلسا صامتين تماًم ا أثناء الحصة‪ .‬ربما ظنا أن رجل أمن الدولة سيقدم لهم شاًيا ساخًنا‬
‫بالليمون (بعد أن جاءا متجمدين من شارع شديد البرودة)‪ ،‬لكنه قدم الشاي للرفيق السجين وحده‪،‬‬
‫دونهما‪ .‬عندما فهما أن وجودهما في الشقة الصغيرة غير مرحب به فكرا في البقاء على األقل‬
‫خلف الباب‪ ،‬وتشجعا في طلب كرسيين لهذا الغرض من رجل أمن الدولة بافليك‪ .‬أخبرهما أن‬
‫مكانهما أسفل البيت‪ ،‬عند مدخله‪ ،‬وال ينصحهما بالجلوس أمام الباب كي ال تتجمد مؤخراتهما على‬
‫الكراسي أثناء الخدمة‪ .‬تعامل بافليك مع الحارسين بحدة؛ ألنه يعرف أن كثيًر ا منهم خدم في‬
‫السجون أثناء االحتالل األلماني‪.‬‬
‫كان بروفيسور سبيندر على قناعة بأن الطالب يجب أن يجرب القراءة بعد المحاضرات األولى‪ ،‬أو‬
‫يلقي على األقل نظرة على الكتب اإلنجليزية؛ لذلك أملى على بافليك قائمة طويلة من كتب األدب‬
‫اإلنجليزي الكالسيكي والحديث‪ ،‬بعض العناوين ربما يجدها في مكتبة الجامعة في كليمنتينوم‪ .‬لم‬
‫تخُل القائمة بالطبع من أسماء مثل ديكينز‪ ،‬ومالفيل‪ ،‬ومن األدب الحديث هيمنجواي‪ ،‬وفتسجيرالد‪،‬‬
‫وكذلك األديب األقل شهرة‪ ،‬الساحر دافيد جارنيت وروايته امرأة في جسد ثعلبة‪ .‬رحب الحارسان‬
‫المتجمدان من البرد بمرافقة السجين إلى المكتبة‪ ،‬تجوال طوياًل وسط أرفف الكتب‪ ،‬ومآل حقيبة‬
‫صغيرة بالكتب‪ ،‬ثم رافقا السجين إلى ميدان فاتسالف حيث أشبعا شهيتهما وشهية السجين بما لذ‬
‫وطاب‪ ،‬لهما وله‪.‬‬
‫رافق البروفيسور هذان الحارسان النبيهان‪ ،‬حسب االتفاق‪ ،‬يوًم ا بعد يوم‪ .‬وبينما تعلن الساعة‬
‫السابعة في أجراس براغ من حولهم في كل مكان وكأنه عزف جماعي دق البروفيسور جرس باب‬
‫البيت‪ ،‬ففتح لهم بافليك من شقته‪ ،‬أعد القهوة بينما يصعد الحارسان في المصعد ومعهما السجين‪،‬‬
‫جاءا ومعهما السجين وخبز طازج‪ ،‬ثم اختفيا على الفور بكل انصياع‪ .‬وانطلقت محادثة باأللمانية‬
‫على اإلفطار‪ ،‬مزجها بروفيسور سبيندر ببعض الكلمات اإلنجليزية‪ .‬تزايد عدد الكلمات اإلنجليزية‬
‫في المحادثة يوًم ا بعد يوم‪ ،‬وبنهاية األسبوع األول كادت محادثة الصباح تخلو من الكلمات‬
‫األلمانية‪ .‬تعلم بافليك قواعد النحو اإلنجليزية ومخزون الكلمات األساسية بكل سهولة‪ ،‬التهم اللغة‬
‫بمعنى الكلمة‪ ،‬وهو ما ال يدهش القارئ‪ ،‬فهذه هي طبيعة بافليك التي أدهشت البروفيسور سبيندر‪،‬‬
‫كما أدهشت من قبل البروفيسور ظابيل‪ .‬قليلون هم الطلبة الموهوبون أمثاله‪ ،‬مثله كمثل حبات‬
‫الكمثرى‪ ،‬يكفي هز شجرتها‪ ،‬لتتساقط ثمراتها الطيبة على رؤوسنا‪ .‬أحب البروفيسور دروس اللغة‬
‫مع بافليك‪ ،‬تابعه بسعادة وهو يتشرب كل ما يعطيه له‪.‬‬
‫كما سبق وقلت‪ ،‬رافق الحارسان البروفيسور يوًم ا بعد يوم‪ .‬كان بافليك في أيام غياب البروفيسور‬
‫يرفع رأسه عن الكتب من وقت آلخر‪ ،‬ويذهب لمشاهدة براغ‪ .‬رآها في طفولته مرة واحدة مع‬
‫والديه‪ ،‬وتحديًدا مع أمه‪ .‬حدث هذا إبان االحتالل األلماني‪ ،‬لكنه اآلن يتعجب‪ ،‬انتابه شعور بأن‬
‫ستارة شاحبة ال تزال تلف هذه المدينة الرائعة نسوا أن يرفعوها عنها‪ ،‬على ما يبدو‪ ،‬بعد أن زال‬
‫االحتالل‪ .‬كان سعيًدا عندما عثر على تمثاله محبب لألمير برونتسفيك على شاطئ النهر في المدينة‬
‫القديمة‪ ،‬تمثال برفقة أسد ما زال يتذكره‪ .‬وصل إلى بيت طواحين البوم بعدما هبط في شارع‬
‫أوكامب الذي حكت له عنه أمه‪ ،‬تلك المرأة الوطنية المخلصة‪ ،‬أخبرته أن الكاهن والعالم‬
‫دوبروفسكي‪ ،‬ذلك األب األزرق سكن فيه‪ .‬لم يقدر بافليك بالطبع على التحقق من ساكن هذا البيت‬
‫في الوقت الراهن‪ ،‬أحد أفراد أسرة فاريخ يقف عند طرف النافذة‪ ،‬يحمل في يده فنجان قهوة‪،‬‬
‫وينظر إلى بافليك وهو يتأمل بيت دوبروفسكي‪( .‬يا إلهي‪ ،‬يا له من ترابط مصيري بين كل األمور‪،‬‬
‫كما سبق وقلت)‪.‬‬
‫رأى البروفيسور سبيندر من نافذة شقته الصغيرة (وليس من جانبها) بعدما عاد من جولته في مدينة‬
‫براغ‪ ،‬رآه وهو يتحرك في رواق السجن‪ .‬فقد كافؤوه نظير دروس اللغة مع بافليك بفسحة لمدة‬
‫نصف ساعة في رواق السجن‪ .‬حرص البروفيسور على الحفاظ على هذا االمتياز قدر استطاعته‪،‬‬
‫فداوم على هذه الفسحة حتى في هذا البرد وهو ملفوف حتى رقبته بغطاء سرير السجن‪ .‬شعر‬
‫بافليك باألسف عليه‪ ،‬خاصة وهو يعرف نهاية كل مدرسي اللغة الذين علموه‪.‬‬
‫من ناحية أخرى لم يجبر السيد سبيندر على تناول الغداء يومًّيا في زنزانة السجين‪ .‬كان بافليك‬
‫يصطحبه في أيام دورس اللغة اإلنجليزية للغداء في أفضل مطاعم براغ‪ ،‬لكن ما أفسد هذه الصحبة‬
‫هو وجود الحارسين خلف ظهريهما‪ .‬أجلسهما بافليك‪ ،‬رغًم ا عنهما‪ ،‬على طاولة مجاورة ليأكلوا‬
‫شيًئا كي ال يرشقاهما بأعين جوعى‪.‬‬
‫ينخرط التلميذ مع أستاذه في محادثة على اإلفطار وعلى الغداء أيًض ا‪ ،‬زاحمت الكلمات اإلنجليزية‬
‫نظيرتها األلمانية‪ ،‬وكذلك التعبيرات االصطالحية‪ ،‬والعبارات المسكوكة‪ ،‬وتبدلت طبيعة الحوار من‬
‫موضوعات تقليدية إلى حديث أكثر حيوية‪ .‬مع نهاية األسبوع الثالث صار بافليك يتحدث اإلنجليزية‬
‫مثل أهلها‪ ،‬وتجاوز موضوعات الحديث العادية بال رجعة‪ ،‬وانخرط في حوار مفتوح مع أستاذه‪:‬‬
‫لست حزيًنا كما ينبغي لشخص حدث معه مثلما حدث معي هنا‪ .‬يمكنني القول إني توقعت شيًئا‬
‫مماثاًل ‪.‬‬
‫ماذا توقعت؟‬
‫بالطبع لم أتوقع أن أدخل السجن‪ ،‬لكني توقعت أن براغ‪ ،‬مدينتي‪ ،‬ستكون مدعاة كآبة‪ ،‬وال يمكن أن‬
‫تكون غير هذا في الواقع‪.‬‬
‫هال شرحت لي ما تقصده بعبارة مدينتي؟‬
‫عرفت براغ جيًدا قبل أن أراها‪ .‬يتعلق األمر بما جئت إلى هنا من أجله‪ ،‬باهتمامي بأدباء براغ‬
‫األلمان‪ .‬وجدتها تماًم ا كما توقعتها‪ .‬إنها حًّقا كئيبة كما جاءت في رواية أديب براغ األلماني الفذ‪،‬‬
‫وغريبة‪ ،‬فضاًل عن أنها كوميدية بقدر ما‪ .‬حتى ما حدث لي هنا‪ ،‬وتعرضي لمالحقة غير مبررة‪،‬‬
‫جاء في تلك الرواية‪ .‬كان ال بد أن أجرب بنفسي كي أفهم ما كتبه هذا األديب الفذ‪ ،‬وهو هدفي‬
‫األساسي‪ .‬وحدث بالفعل‪ ،‬فرحلتي إًذا حققت هدفها‪ .‬ثم ابتسم‪ ،‬وأضاف‪ :‬المهم اآلن أن أنجو سالًم ا‬
‫من هذا الموقف‪ .‬أنت ال تعرف هذا األديب ألنه هنا بيرسون نو جراتا‪ .4‬براغ كلها ال تعرف عنه‬
‫شيًئا‪ ،‬رغم أن أعين العالم بأسره مصوبة نحو براغ بصفتها مدينته‪ .‬أقرأت الكتاب الذي أوصيك‬
‫بقراءته‪ Lady into fox ،‬لديفيد جارنيه؟ فيه تتحول المرأة إلى ثعلبة‪ ،‬وكل هذا التحول مجرد‬
‫حكاية مسلية‪ ،‬مجرد طرفة عن الثعالب‪ ،‬لكن أديب براغ هذا كتب قصة عن تحول آخر‪ .‬قصة‬
‫تحول تشغل بال كل من يقرأها‪ .‬ال تشغل بالك بها ألنك لن تجد هنا هذه النوفيلال الممنوعة عن‬
‫عملية تحول أليم‪ .‬كما أنك لست خبيًر ا في الدراسات األلمانية‪ ،‬وليس هناك ما يدعوك إلى االنشغال‬
‫بهذا األمر‪.‬‬
‫نضيف أن هذا الحوار بين بافليك ومدرسه للغة اإلنجليزية قد دار في أحد مقاهي براغ أثناء تناول‬
‫لحم خنزير بالفطر‪ ،‬ولم يتجاوز وقت الغداء أبًدا‪ .‬ربما ألنه ‪-‬لحسن الحظ‪ -‬كانت هناك موضوعات‬
‫أخرى للمناقشة أفضل منه‪.‬‬
‫وكانت هناك ‪-‬من ناحية أخرى‪ -‬موضوعات بغيضة‪:‬‬
‫قال لونت‪ ،‬مدير رجل أمن الدولة في بارتولومسكا (سنعطيه رتبة جنرال كي نميز بينه وبين‬
‫الكولونيل صاد‪ ،‬مدير أمن الدولة في برنو في شارع لينين)‪:‬‬
‫طلبت أن تتكلم معي‪.‬‬
Another random document with
no related content on Scribd:
they advanced across the plain of Marathon with leveled spears to
fall upon the heathen horde that came to plunder and destroy. To
commemorate the splendid victory of Miltiades over Darius, of
enlightened civilization over brutish barbarism, the Athenians erected
a mound on that historic plain, and as a special and the highest mark
of honor buried their heroes where they had fallen. The light of
Athens has gone out forever; her glory has departed, never to return;
her power has vanished, never to be regained; the voice of her
sublime philosophers and peerless orators is heard no more; the
language of Homer and Demosthenes lives only in immortal type,
the priceless heritage of the human race; the matchless art of
Phidias and Praxiteles is of the past, and the unapproached
masterpieces of the Parthenon have been eaten away by the
gnawing tooth of irreverent time; a melancholy gloom of utter
desolation and departed splendor broods over the “City of the Violet
Crown,” the once first and proudest city in the world. But, after a
lapse of more than twenty centuries,—centuries which have seen the
death of the old and the birth of the new civilizations, the rise and fall
of dynasties, the creation and decay of empires,—after a lapse of
more than twenty centuries the earthen mound at Marathon still
remains, clad to-day in the flowers of spring, an eternal witness to
the valor and heroism of Athens, a solemn reminder that those who
die in defense of Liberty and Country shall not perish from the
memory of men.
Let the monument to our heroes be the land they saved, domed
and canopied by the heavens that smiled upon their cause. For so
long as the sun in his coming kisses and glorifies that blessed
banner, or, sinking, burnishes our mountain tops with crimson gold;
so long as yonder waves roll inward to break and die upon the shore;
so long as the American heart beats to the transports of a true and
lofty patriotism, or man has aspirations of light and liberty; so long as
the nation lives; so long as the flag of Washington and Lincoln is in
the sky,—even so long will our heroes’ fame survive and be an
inspiration to the Union’s sons forever and forever.

SENATOR VEST’S EULOGY ON THE DOG


“Gentlemen of the Jury: The best friend a man has in this world
may turn against him and become his enemy. His son and daughter
that he has reared with loving care may become ungrateful. Those
who are nearest and dearest to us, those whom we trust with our
happiness and our good name, may become traitors to their faith.
The money that a man has he may lose. It flies away from him when
he may need it most. Man’s reputation may be sacrificed in a
moment of ill considered action. The people who are prone to fall on
their knees and do us honor when success is with us may be the first
to throw the stone of malice when failure settles its cloud upon our
heads. The one absolutely unselfish friend a man may have in this
selfish world, the one that never deserts him, the one that never
proves ungrateful or treacherous, is the dog.
“Gentlemen of the Jury: A man’s dog stands by him in prosperity
and poverty, in health and in sickness. He will sleep on the cold
ground, when the wintry winds blow and the snow drives fiercely, if
only he may be near his master’s side. He will kiss the hand that has
no food to offer, he will lick the wounds and sores that come in
encounter with the roughness of the world. He guards the sleep of
his pauper master as if he were a prince.
“When all other friends desert, he remains. When riches take
wings and reputation falls to pieces he is as constant in his love as
the sun in its journey through the heavens. If fortune drives the
master forth an outcast into the world, friendless and homeless, the
faithful dog asks no higher privilege than that of accompanying him,
to guard him against danger, to fight against his enemies, and when
the last scene of all comes and death takes his master in its
embrace and his body is laid away in the cold ground, no matter if all
other friends pursue their way, there by his graveside will the noble
dog be found, his head between his paws and his eyes sad, but
open in alert watchfulness, faithful and true even to death.”
CHAPTER XIV
PRACTICAL SUGGESTIONS FOR THE AFTER-DINNER SPEAKER

The practice of speaking at the banquet table is an ancient


custom. In modern life it is the most universally used form of public
speaking. Every educated man and woman sooner or later will be
expected to take part in post-prandial occasions. This need not be
an irksome task for any provided they consider carefully a few vital
essentials, keeping in mind that the after-dinner speech is primarily
to please. If it ever be to instruct, it is that kind of instruction which
comes by the stimulation of our higher sensibilities.
Essentials:
1. Have something worth while to say.
2. This something must be appropriate to the occasion and to the
guests.
3. Know who are to be present and who are to speak.
4. Know how much time is allotted you.
5. Strive your utmost to enjoy yourself and let what you say appear
as a spontaneous outgrowth of your environment.
6. Avoid using old jokes and hackneyed quotations.
7. Avoid stiff formality. Radiate kindliness and good fellowship
toward all.
8. Do not apologize. Let your appreciations and the fact that “some
one else could have responded better,” that “you are unprepared,”
etc., be taken for granted. Don’t waste time on these follies. Get
down to business.
9. Have your speech carefully prepared and stick to it.
10. Remember that this is a time that reveals your true self, so let
the best in you shine forth.
Let us discuss more fully some of the more important essentials.
One should never begin his speech with an apology. How boresome
it is to hear a speaker express surprise at being called upon;
regretting he is totally unprepared; telling us that some one else
could have spoken on this subject far better than he, etc., etc., etc.
This is never in place and it is never necessary. On one occasion
many prominent men and women were banqueting together in
Chicago. Dr. George Vincent, then a member of the faculty of the
University of Chicago, an orator himself of no mean ability, was
toastmaster. A program of unusual length had been prepared. Under
any ordinary chairman it would have kept the guests there until
morning. Dr. Vincent arose, and in a clear, brief and terse
introduction called attention to the long program. Then he said,
addressing the speakers who sat at his table: “Each of you can give
us the heart of your message in three, certainly not more than four
minutes. I shall expect you, therefore, to go right to the heart of your
subject. We will take it for granted that you are not prepared, that
some one else could do better than you, and all the rest of the
apologetic introductions. The moment your time is up I shall bring
down the gavel as a forceful reminder that you must stop.”
The result was wonderful. Every speaker did as the chairman
required. The audience heard a dozen or more bright, snappy
addresses, full of thought and wit, with scarcely a redundant word.
What otherwise would have been a long, tedious and wholly
wearisome occasion was converted into a function of grace, a noble
inspiration and a never-to-be-forgotten spiritual uplift.
Let the after-dinner speaker note that his speech should seem to
grow naturally out of the environment and fit the occasion and the
guests—that is, it should be appropriate. The manner of presenting it
should be genial and kindly. This is no time or place to give vent to
any personal animosity or didacticism. There is no disposition,
Nature says, for a man with a well-filled stomach to digest heavy
intellectual food. He would much rather be amused and entertained
—that is, the occasion is a convivial one. Do not mistake this to
mean triviality. Above all things, whatever you say or whatever you
do, do not be frivolous. And finally that indispensable quality
originality should distinguish both the matter and the manner of each
speaker. This may mean nothing more than a new way of presenting
an old subject.
The very fact that an after-dinner speech should be short,
sparkling and fit the one who delivers it, makes it a difficult form of
public address, and consequently necessitates very careful
preparation. It is more than “to tell a joke, make a platitude and give
a quotation.” While the after-dinner speech is supposed, primarily, to
please, and certainly should do so, it is often made the means of
conveying the most forceful lessons in business, religion, and
patriotism. But when, in conveying these lessons, the speaker
becomes prosy, or fails to please, he is out of place and should
never have been invited.
CHAPTER XV
THE CULTIVATION OF THE MEMORY

Nothing is of greater importance to the intelligent and thoughtful


man or woman who would become a public speaker than the
cultivation of the memory. Its pleasures and joys are no less than its
importance and usefulness. Well might Richter exclaim:
“Recollection is the only paradise from which we cannot be turned
out.” How it brings back to us joys of sights, sounds and emotions.
One has been thrilled with a gorgeous landscape, a brilliant and vivid
sunset, a majestic mountain, a vision of feminine beauty, or an
inspiring exhibition of physical prowess. He has seen the proud
march of armed men, or the gathering of gay and happy throngs in
the public play-grounds and parks. A thousand memories of sights
bring back joys and delights of other days. So is it with the memories
of sounds—concerts, symphonies, stirring songs, martial music, and
the sweet voices of loved ones passed away.
It can readily be seen that memory is the practical basis of all
knowledge. Indeed there is no conscious knowledge without
memory. No man can think without it; there is no business success;
no writing, no poetry, no literature, no oratory, no conversation, no
music, no art, no psychology, no anything of mental life without
memory. Without memory there is no identity. If I cannot remember
myself of an hour ago, of yesterday, of many yesterdays, I cannot be
a personality. Life would be disconnected and therefore incoherent
and useless.
A poor memory is ever a hindrance if not a positive curse. It is as if
one’s legs should fail to bear him up when he starts to walk, run,
leap, or as if his eyes should refuse to see, or saw but dimly when he
wished to observe. It is a never-ending cause of confusion,
embarrassment, irritation, and loss. No man in any walk of life ever
yet succeeded without a good memory, and many a public speaker
owes his success to his always ready power over this faculty.
Abraham Lincoln is a striking example of this truth.
Stokes’s Golden Rule of Memory
Psychologists have not yet determined what the memory is, but all
are agreed that it can be cultivated. A few general propositions can
be laid down, which, if faithfully followed, are certain to bring desired
results. Stokes, the great memory teacher of the Royal Polytechnic
Institution of London, formulated his golden rule of memory as
follows: “Observe, reflect, link thought with thought, and think of the
impressions.”

Strengthening the Observation


Careful observation is the basis of memory. To observe is to
regard with attention, to note with interest, in other words to see well.
How many people are there who see well? All persons who are not
blind can see, but do they see well? It must be confessed that good
observers are rare, and that is one reason why good memories are
rare. The discipline of the observation is one of the most important
ends of all mental education. Teach a child to observe and he can
and will educate himself. Indeed he cannot help becoming educated.
Without discipline of the observation one may pass through ten
colleges and yet remain uneducated. What is the reason the Indian
can follow a trail so much better than a white man? His life has
depended upon his powers of observation. From the earliest days of
his dawning intelligence his perceptive faculties were aroused and
highly developed by the struggle for his very existence. He was
compelled to watch the animals in order that he might avoid those
that were dangerous, and catch those that were good for food; to
follow the flying birds that he might know when to trap them. He
watched the fishes as they spawned and hatched; the insects as
they bored and burrowed; the plants and trees as they grew and
budded, blossomed and seeded. The tracks of animals, whether
upon the sand, the snow, the mud, or more solid earth, soon became
familiar signs to him. All these and many other things in nature he
learned to know thoroughly in his simple and primitive manner. This
knowledge in his daily struggle for existence came by means of his
attention to details. Hence to the untrained white man his powers of
observation seem little short of marvelous.
Children from their earliest years should be taught with systematic
persistence to cultivate this faculty. They should be urged to tell all
they can see in pictures. A table spread with diverse articles covered
with a cloth is also a good means of disciplining close attention and
memory. Let the children stand around it and, after removing the
cloth, give them a minute, or less, for observation, then re-cover.
Then give each child a chance to tell how many articles there are;
what they are; and what is their relative position to each other, etc.
An intelligent teacher will invent a score of devices for cultivation of
the powers of observation, and nothing will better repay her
endeavors.
Henry Ward Beecher used to illustrate the difference between
observers and non-observers by telling a tale of two city lads whom
he once sent out into the country. One he called “Eyes” and the other
“No Eyes.” Each was to go to a certain place and report upon what
he saw. The one on his return had seen little. The other—Eyes—was
filled to overflowing with the things he had observed.
It is undoubtedly due to the development of this faculty that the
hat-boys and hotel clerks are able to call the guests by name and
return to them their own belongings.
Read the novels of Frank Norris, of Jack London, of Winston
Churchill or any successful writer, the lines of any truly great poet,
and the ordinary mind cannot fail to be impressed with the wonderful
store of knowledge gleaned from a thousand and one sources
possessed by their writers. Think of the wealth of observations
poured forth by a Shakspere, a Browning, a Goethe. Every page
contains them by the score—observations of facts in nature, art,
science, literature, human action, and indeed of everything under the
sun. Hence, if you would be an educated man you must observe.

Suggestive Methods to Pursue


To discipline the power of observation, begin consciously to see
and then immediately to test your own remembrance of what you
see. See slowly, see surely. Be sure you have seen correctly. There
is so much uncertainty in all of our mental processes. If it is a pile of
books you are seeing, be sure, positive, that there are eleven. Do
not content yourself by saying there are about ten or twelve and let it
go at that. Note their size, color of their bindings, and, if possible,
note each title.
There are some librarians who seldom forget a book after once
seeing it, and can tell not only its appearance, but its place on the
book shelves, and the appearance of its neighbors on either side.
This is one of the qualifications of an efficient library assistant. What
is true of the librarian is likewise true of other people. What makes
the difference between an efficient clerk in a book-store and one who
is merely passable? It is this power of observation and memory
which makes his knowledge of books held in stock reliable.
Let us continue our suggestions. In looking over a landscape be
definite in your seeing. Be sure that the river is to the left, and not to
the right; that a certain tree is a sycamore, and not a poplar; that the
green on the hillside is the young, fresh green of the dawn of the
spring, rather than the richer green of the summer. What is it that
makes the landscape artist? His power to portray depends upon his
ability to discern and observe. The poet and orator do the same, but
they make their pictures with words and phrases instead of pigments
and canvas.
In seeing anything, get hold of every fact possible—size, position,
color, relative importance, and, then, before you conclude your
observations, close your eyes and reconstruct the scene mentally.
Do this over and over again, until you add and add to your mental
picture things you had before failed to see. Do not merely catalogue
mentally, but see everything in its own place, in full detail, and in its
relation to every other thing. A comparatively short period of this kind
of discipline will enable you to do things that will not only astound
your friends, but will be a source of infinite pleasure and, if used
intelligently in your business or profession, profit to yourself.
The same principle applies in reading. Read slowly. Be sure you
understand. Grasp every idea thoroughly. To do this you must learn
to picture mentally. You should compel yourself to make a mental
picture of every scene described. You are reading Victor Hugo’s “Les
Miserables.” You come to his incomparable description of the battle
of Waterloo. He tells us at the very commencement that it was the
rain that gained the victory at Waterloo. Observation and reflection
on Hugo’s part made it possible for him to make this declaration.
Carefully observe this statement and what follows.
Picture that great plain, the undulating sweep of ground. Place the
two armies, and then see the attack begin on Hougomont. Watch the
changing scene with your mental eyes. Follow Hugo as he describes
the general confusion from noon until four o’clock in the afternoon.
Now prepare yourself for a great picture of a tremendous day. See
Wellington’s disposal of his troops on the farther side of a long hill,
on the crest of which was a deep trench caused by a road whose
ruts during the centuries had worn down into the earth ten, twenty or
more feet. On the near side of this hill Napoleon’s cavalry are
ascending—three thousand five hundred of them, colossal men on
colossal horses. On, up, they sweep. They seem as irresistible as
the passing cyclone. Just as they reach the crest, to their horror they
discover this trench between themselves and the English. Let Hugo’s
own words now complete the picture for you:

It was a terrible moment. The ravine was there,


unexpected, yawning, directly under the horses’ feet, two
fathoms deep between its double slopes; the second file
pushed the first into it, and the third pushed on the second;
the horses reared and fell backward, landed on their
haunches, slid down, all four feet in the air, crushing and
overwhelming the riders; and there being no means of retreat,
—the whole column being no longer anything more than a
projectile,—the force which had been acquired to crush the
English crushed the French; the inexorable ravine could only
yield when filled; horses and riders rolled pell-mell, grinding
each other, forming but one mass of flesh in this gulf: when
this trench was full of living men, the rest marched over them
and passed on. Almost a third of Dubois’s brigade fell into that
abyss.

Take an illustration from the American novel—“Ramona.” Get a


real picture in your mind of the appearance of the country. See the
sheep with their lambs in the fields under the trees. Determine what
size, shape, and color these trees are. Picture Juan Can, the
foreman or major-domo, listen to his voice, so that you can definitely
sense what kind of impression it makes upon your mental ear. Do
the same with the Señora Moreno. Can you see that mustard-field
described by the author, where Ramona goes out to meet the good
Father Salvierderra? Have you got a picture in your mind of
Ramona, and the father, and how they met, and how they returned to
Camulos together? Picture, picture, picture, mentally, until every
scene, every landscape, every character is vividly before you.
This was the method followed by Macaulay, whose memory was
so phenomenal that Sydney Smith called him “an encyclopedia in
breeches,” and who used to say that he owed much of his memory
power to the discipline he used to give himself in mental picturing.
He never read in a hurry. He always allowed himself time enough
vividly to bring the scene before his mental vision, and once done,
with him, it was ready to be recalled at any time.
Joaquin Miller used to say that he even pictured abstract ideas. If,
for instance, he was thinking of the abstract quality of coldness, he
would make a picture of some one suffering from cold, or some
wintry landscape.

It Is Difficult to Observe Properly


By this time, if you have faithfully followed these instructions about
observation, you will have discovered that the mere observation of
unrelated facts amounts to very little. You will begin to see that no
observation of the mind is simple. While you are observing, you are
naturally doing something else, for you are classifying facts, seeing
their relation one to another, recognizing similarities or differences,
contrasts and harmonies. The mind works as a whole, not the
memory separately, nor the judgment by itself. Each part is
dependent upon each other part: they overlap one another; the
operations of one faculty imply the operations of all the other
faculties. It is for this reason that the student must seek to discipline
each apparently isolated faculty of the mind.
In observing, it is not enough mentally to picture what you read.
You must go even more into detail than that. You must observe
words. Did you ever read “Martin Eden,” that wonderful study in
mental development and self-analysis, written by Jack London,
revealing in retrospect his own mental processes? It will more than
pay you for the trouble of reading. Follow and practice what he
therein describes. Words are things, but they are things only when
you know them so intimately that they bring real concept to your
mind the moment you see them. It is not enough that you can
pronounce a word properly—that you seem to know it. Each word
must mean something to you, and that something must be definite,
so definite that no other can mean exactly the same thing.
One of the greatest dialectitians of our day was Monsignore Capel,
the private confessor of Pope Leo XIII. Even in extemporaneous
speech every word he used was the right word. No other word would
have done just as well. He was once asked how he gained his power
over words, and he replied to the effect that when he was a lad he
had several tutors. One only, however, was a real and thorough
teacher. He said: “My first day with him I shall never forget. He gave
me a lesson in Cæsar, and then sent me away with six lines, which I
was to translate and bring to him in the afternoon. That seemed
easy. When I went to recite my lesson I followed my usual wont—
gave a free and easy translation, which may have contained the
sense of the original, or may not. He heard me through without a
word. Then he began a dissection of my method of translation that
made my hair stand on end, every drop of my blood tingle, every
faculty of my brain respond, every power of my soul awaken to a
sense of the hitherto untold, undreamed of, unbounded capacities of
words. That man was a genius in quickening a lad’s dormant
faculties into living, driving, whipping forces for good. He took each
word of the original and demanded that I find its equivalent in
English, and he showed me how to do it. I must never take to him an
English word whose original parentage I could not trace. I must know
all its mutations and their whys and wherefores. There could be no
such thing as a free translation. It was either a strictly literal
translation or my version, lazy or otherwise, in another language
from that in which the author had written. From that day on, I began
the study of words. I learned how to trace the history of words; the
changes that had come into their meanings, and my teacher helped
me to do it during the whole of the time I was in his hands. To him I
owe whatever power I possess to-day.”
Read Trench’s book on words and then study John Ruskin’s
“Sesame and Lilies.” Get hold of all the modern books on the
subject. Read Shelley, Keats, George Sterling, Browning, Swinburne
—any author who has great felicity of phrase, rare delicacy of
expression, and seek to discover his secret, and you will be amazed
at the potent force of words. For, of course, while words themselves
are to be studied, it is in their relation one to another when put into
sentences that their power, sweetness, beauty, charm, and music lie.
And here we come to the real work of observing. All else is
preparatory to grasping the idea of the author. In his idea lies his
inspiration. The words he uses may be good, medium, or indifferent,
but if we grasp his idea, his high, intellectual and spiritual conception
and aspirations, we have gained the chief thing. Words are a
wonderful help in this. His power to arrange them, to give them new
settings, new and richer cadences, will not fail to quicken our own
intellect to readier and keener appreciation of his thought. Hence
words should be deeply, attentively and earnestly studied by all
authors and speakers in order that they may be able to arrange them
in this masterly fashion. For this personal arrangement of words and
phrases, this flow and rhythm, is that marvelous thing we call style.
Several times in “Martin Eden” Jack London refers to this. He has his
rude hero who is brought out of the streets, influenced by the love he
feels for the heroine, determine to educate himself. He studies and
begins to write.
He read to her a story [one of his own compositions], one
that he flattered himself was among his very best. He called it
“The Wine of Life,” and the wine of it, that had stolen into his
brain when he wrote it, stole into his brain now as he read it.
There was a certain magic in the original conception, and he
adorned it with more magic and phrase and touch. All the old
fire was reborn in him and he was swayed and swept away so
that he was blind and deaf to the faults of it. But it was not so
with Ruth. Her trained ear detected the weaknesses and
exaggerations, the overemphasis of the tyro, and she was
instantly aware each time the sentence-rhythm tripped and
faltered. She scarcely noted the rhythm otherwise, except
when it became too pompous, at which moments she was
disagreeably impressed with its amateurishness.
Just before this he said to her: “I hope I am learning to talk,
there seems to be so much in me I want to say. But it is all so
big. I can’t find ways to say what is really in me. Sometimes it
seems to me that all the world, all life, everything, had taken
up residence inside of me and was clamoring for me to be
spokesman. I feel—oh, I can’t describe it—I feel the bigness
of it, but when I speak, I babble like a child. It is a great task
to transmute feeling and sensation into speech, written or
spoken, that will, in turn, in him who reads or listens,
transmute itself back into the selfsame feeling and sensation.
It is a lordly task. See, I bury my face in the grass, and the
breath I draw in through my nostrils sets me quivering with a
thousand thoughts and fancies. It is a breath of the Universe I
have breathed. I know song and laughter, and success and
pain, and struggle and death; and see visions that arise in my
brain somehow out of the scent of the grass, and I would like
to tell them to you, to the world. But how can I? My tongue is
tied. I have tried, by the spoken word, just now, to describe to
you the effect on me of the scent of the grass. But I have not
succeeded. I have no more than hinted in awkward speech.
My words seem gibberish to me, and yet I am stifled with
desire to tell.”
That was her final judgment on the story as a whole—
amateurish, though she did not tell him so. Instead, when he
had done, she pointed out the minor flaws and said that she
liked the story.
But he was disappointed. Her criticism was just. He
acknowledged that, but he had a feeling that he was not
sharing his work with her for the purpose of schoolroom
correction. The details did not matter. They could take care of
themselves. He could mend them, he could learn to mend
them. Out of life he had captured something big and
attempted to imprison it in the story. It was the big thing out of
life that he had read to her, not sentence structure and
semicolons. He wanted her to feel with him this big thing that
was his, that he had seen with his own eyes, grappled with
his own brain, and placed there on the pages with his own
hands in printed words. Well, he had failed, was his secret
decision. Perhaps the editors were right. He had felt the big
thing, but he had failed to transmute it. He concealed his
disappointment, and joined so easily with her in her criticism
that she did not realize that deep down in him was running a
strong undercurrent of disagreement.

Later he enlarges upon this, and also relates how he gained his
mastery:

On the looking-glass were lists of definitions and


pronunciations; when shaving, or dressing, or combing his
hair, he conned these lists over. Similar lists were on the wall
over the oil-stove, and they were similarly conned while he
was engaged in cooking or washing dishes. New lists
continually displaced the old ones. Every strange or partly
familiar word encountered in his reading was immediately
jotted down, and later, when a sufficient number had been
accumulated, were typed and pinned to the wall or looking-
glass. He even carried them in his pockets, and reviewed
them at odd moments on the street, or while waiting in
butcher-shop or grocery to be served.
He went farther in the matter. Reading the works of men
who had arrived, he noted every result achieved by them, and
worked out the tricks by which they had been achieved—the
tricks of narrative, of exposition, of style, the points of view,
the contrasts, the epigrams; and of all these he made lists for
study. He did not ape. He sought principles. He drew up lists
of effective and fetching mannerisms, till out of many such,
culled from many writers, he was able to induce the general
principle of mannerism, and, thus equipped, to cast about for
new and original ones of his own, and to weigh and measure
and appraise them properly. In similar manner he collected
lists of strong phrases, the phrases of living languages,
phrases that bit like acid and scorched like flame, or that
glowed and were mellow and luscious in the midst of the arid
desert of common speech. He sought always for the principle
that lay behind and beneath. He wanted to know how the
thing was done; after that he could do it for himself. He was
not content with the fair face of the beauty. He dissected
beauty in his crowded little bedroom laboratory, where
cooking smells alternated with the outer bedlam of the Silva
tribe; and, having dissected and learned the anatomy of
beauty, he was nearer being able to create beauty itself.

This latter quotation shows us how Jack London mastered a


knowledge of that subtle thing called “style.” Every student of English
literature knows there are vast differences between the writings of
Johnson and Carlyle, DeQuincey and Coleridge, Ruskin and
Newman, Browning and Tennyson. Yet each uses the English
language and possibly it might be found that the vocabulary of each
was not very different from that of the other. Then wherein lies the
difference? It is in that marvelous personal quality, that individuality
expressed in its use of words, that we call style, that the difference
lies.
To aid your memory, study and observe styles. Ever be on the
alert to discover why an author appeals to you. In reading Bret Harte
ask yourself why his appeal is so different from that of Sir Walter
Scott, Browning from Longfellow, Whitman from Swinburne, Pope
from Sterling.
Observation also applies to hearing as well as seeing. How do you
hear? Carefully, definitely, specifically, or indifferently, generally?
Have you ever sought to disentangle the roar of noises you can hear
in the city’s streets? At first it is a dull confusion of sound that comes
as one great, indistinguishable roar. Listen! Observe, and you will
soon be able to distinguish the clatter of hoofs from the creak of the
car-wheels; the whistle of the traffic-officer from the cry of the
newsboy, or the honking of automobile-horns from the clang of
street-car gongs.
Most people think that only a highly trained musician should be
able to distinguish the various instruments as they are played in a
band or an orchestra, but any well-trained observer should be able to
differentiate between the instruments if he so desires. And this brings
us to a very striking discovery that we should not overlook; namely,
that the powers of observation should be under the personal control
of the individual. For instance, if he desires to observe the effect of
the music of an orchestra of a hundred pieces as a whole, he should
be able to do so. He should likewise be able to hear the different
instruments, either alone, or in their relation one to another. The
power to do this is one of the qualifications of a great conductor. His
faculties of observation are highly developed, or are naturally acute
in this regard; hence, when combined with other leadership qualities,
he becomes a great director.
As applied to hearing a speech, lecture, or sermon, how shall one
observe? Exactly the same as one observes in reading—by
concentration of attention, seeing details, visualizing or mentally
picturing every scene; listening to the speaker’s choice of words; his
power to make euphonic grouping not only for the sweetness of
sound, but for their potency as well.
Hard work, this observing, is it not? It is intensive and perpetual.
The athlete must keep in training so long as he desires physically to
excel; so with the student or scholar. He must not lag, must not
cease in his efforts, or he will lose his place or power. The will must
be evoked to aid in such concentration of effort. The desire must be
more fully excited, aroused, enthused, or the will will not respond.
How many people go to church, to hear a lecture, an address, with
the determination strong within them to allow nothing to interfere with
their observing to the full what is said by the speaker? Note the
turning around as late-comers take their places. Watch how easily
the major part of an audience’s attention can be diverted. It is pitiable
and even ludicrous were it not so lamentable, because it reveals that
in the training of our youth strict attention has not been demanded.

Develop the Power of Reflection


We now come to the second part of Professor Stokes’s rule—
Reflect. This word is made up of two Latin words re, back or again,
and flecto, to bend or turn. The meaning is thus made clear. By
observation through one or more of our senses we perceive things;
mental impressions are secured; these are now to be bent or turned
so that we can see them again, but the process is to be purely
mental. Reflection in itself implies recognition or memory, for without
memory there could be nothing upon which to reflect. Every normal
human being has the power to bend again, to turn back, and over
and over again the impressions he has received through
observation. Hence reflect continuously upon that which you wish to
remember. Go over it in every possible way. Dwell upon it, let it
develop within you until you are as familiar with every possible
phase, detail, change, enlargement in it, as a fond mother is with the
face of her precious baby. As you reflect, be sure your mind is not
playing you false. Refresh it by referring to the original again and
again if possible. In this way you deepen the original impressions,
make them more lasting, more secure. Then, too, as you look upon a
subject again—reflect upon it—you get new angles of vision. This
enlarges your conception and provokes original thought. For
instance: Newton observed an apple fall. There we have a simple
fact of observation. He began to reflect upon this fact. As he did so,
fresh thought upon the fact leaped into his mind and in due time the
theory of gravitation was born.
Centuries ago men observed the fact that when a string of any
kind was pulled tight and struck upon it gave forth a musical sound.
In due time a man or many men in succession reflected upon this
fact, and the guitar, the banjo, the ukulele, the violin and the piano
were invented, born of the processes of observation and reflection.
This is everywhere seen in fields where the inventive genius of man
is at play. It was John Dolland who observed that glass made of
different kinds, or different properties of sand and silica, etc., had a
different color, and produced a different effect when used in a
sidereal telescope. He reflected upon this fact. This led him to
experiment, and by and by he discovered that when he placed
lenses together, one concave and the other convex, and one of
crown and the other of flint glass, a telescope was made that
eliminated the extra and confusing images of the object gazed upon,
hitherto found on the outer rim of all telescopes. In other words, the
achromatic telescope was born—one of the greatest helps to
astronomical science—born of many careful observations and long-
continued reflections.
Another case in point is that of Franklin, who saw the lightning in
the clouds—a simple act of observation. He began to reflect upon his
observation. His reflections suggested something. He sent up a kite
to find out if there was any possibility of tapping that inexhaustible
reservoir of electricity in the heavens. Our use to-day of the
telegraph, telephone, wireless, electric light, electric power in the
thousand and one ways it is made to do service to mankind is the
result of those acts of observation and reflection. The same is true
with Luther Burbank, who looked more closely, more attentively, with
greater concentration, upon flowers, vegetables, plants, trees, than
most men, observed that extra fine potatoes resulted when the
flowers of the largest and best potatoes were cross-pollinated. He
reflected upon this fact. The results have astounded the world in the
development of improved and even new varieties of useful and
beautiful growths. Also Darwin’s observations, confirmed by those of
thousands of others, duly reflected upon, enabled him to write his
“Origin of Species”; and when Herbert Spencer read (observed) that
book and reflected upon it, and others cognate with it, he formulated
his “Synthetic Philosophy,” which absolutely changed the current of
the thought of the world.
So it is with all sciences, all theories, all working hypotheses, all
steps toward complete knowledge. They, each and all, invariably and
unalterably depend upon the two powers of observation and
reflection. There are no discoveries, no inventions, without these two
mental operations. Hence is it not apparent that no memory student
can over-estimate their importance? For, here is a fact that
observation has revealed and reflection and experience confirmed;
namely, that he who has carefully observed the most facts is the best
prepared to reflect profitably. Or to put it in still another way; no one
can properly, completely and successfully reflect unless his mind is
stored with many facts accurately and minutely observed. How could
Carlyle have written his wonderful “Heroes and Hero Worship”
unless he had carefully observed, through his reading, the effect of a
great man’s actions upon millions of his fellowmen? His “Cromwell”
and “French Revolution” still more fully reflect the wealth of his
stored facts (observations) and the result of his constantly turning
them over again and again (reflection) in his powerful, logical and
imaginative mind. Helen Hunt Jackson’s “Ramona” is a similar result
of powerful observation of the California Indians and sympathetic
and clear-headed reflection, as was also Harriet Beecher Stowe’s
“Uncle Tom’s Cabin.” Hence, Observe, Reflect, with greater and
increasingly greater care.

Thought-Linking
We now come to Stokes’s third requirement—“Link thought with
thought.” Few things are seen isolated from other things. Indeed,
unless one deliberately shuts out—inhibits—his observing faculties,
it is impossible for him to see one thing alone. Even the solitary star
is seen in relation to the sky, and the solitary vessel, as it moves, in
relation to the ever-changing surface of the deep. And it is this

You might also like