Professional Documents
Culture Documents
150
150
من هنا البد من التركيز على القصائد الطوال لفهم طبيعة بناء القصيدة الجاهلية ,فليست
القصائد الجاهلية مرتجلة او عشوائية في تركيبها ,وعادة ما يهتم الشعراء بمقدمات قصائدهم
ومطالعها كونها اول ما يجلب االنتباه ويثير المتلقي ,ومعروف ان انواع المقدمات الشائعة
تتمثل في مقدمات طللية وغزلية وخمرية ,في حين تخلو قصائد اخرى من المقدمات السيما
اشعار الرثاء والفخر اثناء المعارك.
ومن الثابت ان هناك تقاليد سار عليها الشعراء وحافظوا عليها حتى صار الخروج عنها خروجا
عما الفته العرب مما سمي الحقا ب(عمود الشعر ) الذي ذكره االمدي الول مرة حين وصف
البحتري بانه:ما خالف عمود الشعر المعروف.
يبرر ابن قتيبة في مقدمة كتابه الشعر والشعراء وقوف الشعراء عند الطلل ويجعله مقصد
القصيد ,يقول :ان مقصد القصيد انما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن واالثار فبكى وشكا وخاطب
الربع واستوقف الرفيق ليجعل ذلك سببا لذكر اهلها الظاعنين عنها.
ويؤكد ابن قتيبة ارتباط الوقوف على الطلل بالنسيب فيقول :ثم وصل ذلك بالنسيب فشكا شدة
الوجد والم الفراق وفرط الصبابة والشوق ليميل نحوه القلوب ويصرف اليه الوجوه..فاذا علم انه
1
قد استوثق من االصغاء اليه واالستماع له عقب بايجاب الحقوق فرحل في شعره وشكا النصب
والسهر وحر التهجير وانضاء الراحلة والبعير..
ويقر ابن قتيبة ي هذا الكالم وجود اسباب لثبات القصيدة بل انه جعل بهذا االلتزام بهذا الشكل
معيارا لجودة القصيدة وتمكن الشاعر فيقول( :والشاعر المجيد من سلك هذه االساليب وعدل بين
هذه االقسام فلم يجعل واحدا منها اغلب على الشعر ولم يطل فيمل السامعين ولم يقطع وفي
النفوس ظمأ الى المزيد)...
ويمثل حضور الطبيعة برمزها سمة تميز القصيدة الجاهلية ,اذ البد للرحلة من ناقة تصحب
الشعراء وتتجشم االهوال والمتاعب تكون قوية وصبورة ضخمة ...الخوعلى قدر تعب هذه
الناقة تكون نتيجة الرحلة السيما امديح والعطاء صورة اوضح لسرعتها وقوة تحملها يلجأ
الشعراء الى استيراد مشاهد طبيعية لحيوانات اخرى كالنعامة والبقرة الوحشية وحمار الوحش
حيث السرعة والقوة عند الصراع هي السمة التي تميز الحيوانات وارتباطها بمشاهد الصيد التي
حفلت بها القصائد استجابة الثار البيئة البيئة التي ينهل منها الشعراء معانيهم.
وبعد ان يفرغ الشعراء من هذه اللوحات التي يكون المطر والليل والبرق وغيرها خلفيات
متوقعة الحداثها يدخل الشاعر الى الغرض باساليب يتفاوت فيها الشعراء جودة وطريقة ,السيما
استخدام حسن التخلص بعبارات او لوازم ومنها الفعل(دع) وصوره او اترك او غير ذلك,,
ولو عدنا الى اجزاء القصيدة وجدنا ان الشعراء تعارفوا على شروط لتحقيق الجودة المنشودة
وهي ضمن اقسامها االتية:
المطلع :والبد ان يتميز بالوقع الحسن في النفوس من خالل التناسب بين شطريه -1
وترابط المعنى ومناسبته لموضوع القصيدة وحالة المتلقي ,وان يكون فخما وله رونق ويكون
بعيدا نادرا مبتدعا خاليا من التعقيد والخطأ النحوي ,ويمثل البدء بالحديث عن الديار مقدمة
مألوفة يفصل الشعراء فيها القول في مالمح الطلل والديار –وهناك من استبدل الطلل بالغزل ال
سيما عند الفرسان والصعاليك وحيث يمثل حضور المرأة ملمحا مميزا في اشعارهم ,ينبغي ان
نميز بين المطلع والمقدمة وغيرها من المصطلحات ,إذ لم يتفق القدماء على تحديد البدء الذي
تبدأ به القصيدة وسرد ابن رشيق القيرواني بعض االراء في ذلك فهناك من يرى انه ليس البيت
االول بل اول البيت فقط ,ويرى البعض ان المطلع اول كالم مبني على كالم سابق ومرتبط به,
ويرى آخرون انه البيت االول ,ويميز ابن رشيق في كتابه العمدة بين المقاطع والمطالع وهي
اوائل الوصول وأواخر الفصول على التوالي,ويرى غيره ان البيت الذي يعد مطلعا ينبغي ان
2
يكون داال على ما بعده كالتصدير ,وتداول العلماء والنقاد اسماءا كثيرة للداللة على مبتدأ
القصيدة منها االبتداء االفتتاح ,االستهالل ,المطلع ,البسط,فاالبتداء واالفتتاح واالستهالل تدل
على البدء في الشيء كما تحيل الى ذلك معاني افعالها ,اما البسط فهو يشير الى ما يبسطه
الشاعر من معان ودالالت قبل عرضه القصيدة ,وهو اليشير الى البيت االول.
ومفهوم المطلع مفهوم قديم يميل المحدثون الى استبداله بمصطلح(المقدمة)وتكمن اهمية المطلع
في انه يمثل الباب الذي يلج منه المتلقي الى عالم القصيدة وهو ال يخرج عن غرضها
ومضمونها و دالالتها النفسية وان طريقة صياغته تهدف الى تهيئة السامع الى المعاني التي
تطرقها القصيدة ,وقد استحسن النقاد اهتمام الشعراء بمطالع قصائدهم كونها اول ما يشد انتباه
السامع اليه والحظوا اهمية التناسب بين شطري البيت وترابط المعنى بينهما ومناسبة المطلع
لموضوع القصيدة ,ويبدو ان خالصة ما يعنيه المطلع هو انه يمثل وحدة بنائية معنوية تشير الى
موضوع القصيدة وافكارها وقد ال تشغل بيتا واحدا فقط بل تحتاج الى اكثر من بيت تمثل وحدة
بنائية متكاملة منفصلة في تركيبها عن موضوع القصيدة.
وميز الدارسون بين مطالع القصائد غير الطويلة والمطوالت ,اذ تميل قصائد النوع االول الى
االهتمام بالمطالع في حين تميل المطوالت الى االهتمام بالمقدمة بشكل عام باعتبار ان القصيدة
العربية متعددة الموضوعات التي تطرح بشكل مقاطع ولوحات تبتدأ بالطلل او الغزل او ذكر
الخمرة فمن المقدمات الطللية قول امريء القيس(قفا نبك )..وقول طرفة (لخولة اطالل ببرقة
ثهمد) والغزلية في قول للحارث بن حلزة (آذنتنا ببينها اسماء) وخمرية عمرو بن كلثوم(اال هبي
بصحنك)وهذا هو االسلوب العام حيث البدء بالديار وذكرياتها ثم اللوحات الخاصة بالرحلة
والصيد ووصف الطبيعة اثناء ذلك ,وجعل القدماء البدء بالحديث عن الديار اسلوبا مثاليا
للمقدماء على ما نقل ابن قتيبة في قوله":سمعت بعض اهل االدب يذكر ان مقصد القصيد انما
ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن واالثار فبكى وشكا وخاطب الربع واستوقف الرفيق ليجعل ذلك
سببا لذكر اهلها الظاعنين عنها...,ثم وصل ذلك بالنسيب فشكا شدة الوجد وألم الفراق....
ا -ما ذكره ابن قتيبة في قوله السابق من ان مقصد القصيد الوقوف على الطلل ثم وصل ذلك
بالنسيب وان ذلك يحدث في اشعار المديح.
3
ب -رأي ابن رشيق ان ذلك ضرورة للدخول في اجواء القصيدة حيث ولج في الباب ووضع
رجله في الركاب على حد تعبيره ,ما يعني انها قد ال تعبر عن حالة حقيقية بقدر انسياقهم وراء
تقاليد فنية.
واما المحدثون فقد تعددت آراؤهم في موضوع المقدمة الطللية على وجه التحديد والتي ترتبط
بالوقوف والدعوة الى الوقوف بألفاظ مخصوصة وارتباط هذا الوقوف بالنسيب ,يقول فالتر
براونه :ان قطع النسيب ليست وسيلة الى غاية ابعد منها كما يرى ابن قتيبة بل هي غاية بحد
ذاتها ,وانها كما فسر رأيه د .نوري القيسي تعبير عن مالمح التفكير الوجودي وهاجس البقاء
والفناء الذي يحرك المشاعر معتبرا ان ما يتكلم عنه الشعراء ال يمكن ان يكون نسقا شكليا بنائيا
يتبعونه وحسب بل تعبيرا عن تجربة حقيقية.
في حين يرى د .يوسف خليف ان فترات الفراغ التي تطول وعدم وجود ما يمأل هذا الفراغ
يدعو الى االكثار من التأمل ولهذا تكثر صور الوقوف الطويل على الديار ومشاهد الصيف
المفصلة ووصف الطبيعة في صحراء مترامية االطراف ,لكن الوقوف على الطلل هو عاطفة
حزينة فرضه عليه الشعور بالحرمان من الوطن المكاني واالستقرار الذي يصبو اليه وليس
أمامه اال الذكريات والبكاء عليها سبيال للتواصل معها.
ويفسر عز الدين اسماعيل ما رآه براونه بكونه ارتدادا نحو الذات والخلوة اليها فالشاعر يعبر
عن عناصر خفية مبهمة .من هنا فهو يجمع بين الوقوف الى الطلل الدارس والنسيب تعبيرا عن
الحياة والموت والخوف من رحيل الحبيبة التي تمثل البقاء.
ويرى د .مصطفى ناصف ان الوقوف على الطلل حزن حقيقي لكنه ايجابي الن الطلل يمثل
معنى التشبث بالبقاء وانه لم ينته الى العدم بل امرا قابال للعودة واالنبعاث.
والمقدمة الطللية تؤدي وظيفة خلق الجو الشعري الذي يمنح الشعراء القدرة على الدخول الى
اجواء القصيدة يشحنها الشعراء بالمشاعر واالحاسيس التي ترتبط بحياته وذكرياته الماضية,
وهي ترتبط فعال بحياته القريبة التي اليزال بإمكانه تذكر تفاصيلها في تجربته الخاصة.
كما يعبر عن االرتباط بوطن مكاني مفقود فالحنين الى الطلل هو الحنين الى الوطن.
التخلص :وهو سبيل الشعراء الى االنتقال الى المقطع الالحق وخلق عالئق فنية او -2
لفظية للولوج الى المقطع المقصود من غير ان يشعر السامع بذلك بانسجام والتئام ,يقول ابن
4
رشيق"اولى الشعر بأن يكون تخلصا ما تخلص منه الشاعر من معنى الى معنى ثم عاد الى
االول واخذ من غيره ثم رجع الى ما كان فيه"كقول النابغة الذبياني:
وقلت الما اصح والشيب وازع على حين عاتبت المشيب على الصبا
والتخلص عند الجاهليين اتسم بالبراعة واالنسجام بين المعاني التي ارتبطت بموضع القصيدة
ومناسبتها ,حتى اكسبها الغزارة المعنوية والوحدة الفنية على الرغم من تعدد موضوعاتها.
الرحلة ولوحاتها :وتتضمن وصف الناقة واهوال الرحلة التي تكون صعوبتها معيارا -3
لصدق المديح عند الشعراء ,من هنا بالغوا في وصفها بدقة ال سيما االعشى تميزت مدائحه
بالبراعة في وصف الناقة ,ثم ما يلزم الوصف من تشبيه للناقة بحيوان الصحراء الظليم والحمار
الوحشي والبقرة الوحشية وتفصيل مشاهد الصراع في لوحة الصيد التي تفتح القصيدة على
الغرض الرئيس ,وللجاحظ رأي فريد في نهاية معركة الثور مع كالب الصيد حيث يكون
الغرض مديحا اذا انتصر الثور في المعركة وعلى خالف ذلك تكن القصيدة رثاءا.
الغرض وهو الموضوع الرئيس للقصيدة مديحا او فخرا او هجاءا او رثاءا..ولكل -4
غرض معان مخصوصة وصور تتكرر بحكم التقاليد الشعرية ويحصل التميز في رسم
التفاصيل الداخلية للمعاني ,وتمتليء كتب االدب والنقد بالمعايير التي استقرأها النقاد من خالصة
قراءاتهم للشعر العربي ,حتى ميزوا االفضل واالبرع من الشعراء واطلقوا االحكام الكثيرة
اعتمادا على الصور المفردة التي تجسد برأيهم المعنى االبرز لكل غرض.
وبجكم كون القصيدة العربية القديمة متعددة الموضوعات تخضع لنظام بنائي اصيل تجد
الغرض محصورا في جزئها االخير عادة مع وجود اشارات تبدأ من المطلع مرورا باللوحات
واالقسام المتنوعة تدل على الغرض يمثل الجو العام للقصيدة ,ويتميز النسيب بكونه االكثر
حضورا في المقدمات الطللية منها او الغزلية الخالصة ,حيث تمثل الحبيبة الراحلة حجر
االساس في بناء صورة المقدمة عموما.
الخاتمة :التي يكون لها اثر في النفس ووقعا كونها تعلق باالذهان ,من ذلك قول تأبط -5
شرا:
5
وخاتمة معلقة امريء القيس :
وال بد لترابط هذا االجزاء من تحقق عناصر مهمة تقف في مقدمتها الوحدة الموضوعية
واستقالل البيت بمعناه وارتباطه بما قبله وبعده ,حتى عدوا حاجة البيت الى بيت يتمم معناه
عيبا اسموه( التضمين) وتساهلوا مع االبيات التي تقتضي مقابلة في بيت الحق سموا ذلك ب(
االقتضاء).
واشترطوا تناسب شطري البيت الواحد الذي يجب ان يتجاوب مع اجزاء القصيدة كاملة في
نسجه وبناءه وموسيقاه ذات الطابع السردي القصصي ويمكن ان نجدها في قصائد قصار ايضا
كما عن المرقش االصغر في داليته المشهورة:
واالساس في القصيدة الوحدة المعنوية التي يحققها مقصد القصيدة وغرضها وترابط افكارها
استجابة لطبيعة الحياة التي عاشها الشعراء وبيئتهم وحفاظهم على التقاليد الفنية بوصفها جزءا
من حفاظهم على قيم وجودهم وتمسكهم بها ,وقد تحدث د .طه حسين عن الوحدة المعنوية
فوصف القصيدة بأنها وحدة متقنة تامة اجزاؤها ملتئمة االجزاء قد نسقت احسن تنسيق مع
مالئمة للموسيقى ,وانما حصل االنقطاع في بعض االجزاء بسبب النسيان والخلط واالضطراب,
لكن هذه الوحدة يلمسها السامع في الجزء الموضوعي الخاص بالقصيدة ,وهذا ما يطرحه د.
يحيى الجبوري الذي يرى ان طبيعة الحياة التي عاشها الشعراء فرضت نوعا من التسلسل في
الموضوعات وجعلت بينها تداعيا في المعاني وتالزما في االبيات وهو ما قصد به ابن قتيبه
بعبارة(مقصد القصيد) وتحول هذا االسلوب عند االولين تقليدا فنيا(.الشعر الجاهلي خصائصه
وفنونه ,)267/ومع التحفظ في قبول هذا الرأي اال ان من الممكن ان تكون القصائد قد نظمت
بشكل متتابع ولم يقلها الشعراء دفعة واحدة ,جمع بينها وشدها النسق الصوتي الموسيقي
العروضي وهو ما يفسر شيوع البحور الطويلة في االستخدام ,وقد تكون فترات نظم اجزاء
القصيدة غير متباعدة زمنيا ,ثم ان الموضوعات التي يطرقها الشعراء كانت متشابهة تتاثر
بالمؤثرات البيئية والحياتية نفسها ,ما جعل شعراء البيئة الواحدة متشابهون في مآخذهم تفصل
بينهم البراعة والذكاء في استلهام المعاني ,وربما هو السبب الذي دفع ابن سالم الى حصر
شعراء الطبقات في مجاميع تقوم على معايير المكان والغرض.
6
المصادر:
7