Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 108

‫العدد ‪ | 704‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2024‬‬

‫مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين‬


‫المجلــد ‪ | 73‬العدد ‪ | 704‬مايو ‪ -‬يونيو ‪202٤‬‬

‫الحديث عن األمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن‪،‬‬


‫ليس ببعيد عن البحث عن لغة مختلفة‬
‫يمكن أن تصفه أو تصف تجربته الشعرية‬
‫المختلفة‪ ،‬بكل ما في الكلمة من معنى‪،‬‬
‫لكن الحديث في نهاية األمر أصبح واج ًًبا في‬
‫غمرة الحزن الذي انتابنا برحيله‪ ،‬باللغة التي‬
‫نراها أقرب إلى مالمسة ما أمكن من أطراف‬
‫تجربته المتفردة‪.‬‬

‫الصورة‪ :‬رسم عمر ُُصبير‬

‫شركاء النجاح‬ ‫الناشر‬

‫طباعة‬ ‫تحرير وإخراج‬

‫فريق القافلة‬ ‫شركة الزيت العربية السعودية (أرامكو السعودية) ‪ -‬الظهران‬


‫رئيس التحرير‪ :‬ميثم الموسوي‬
‫شؤون التحرير والقنوات المساندة‪ :‬بدور المحيطيب‪ ،‬شذا العتيبي‪ ،‬حسام نصر‪ ،‬سعود‬ ‫رئيس أرامكو السعودية‪ ،‬كبير إدارييها التنفيذيين‬
‫الدعيج‪ ،‬شروق الفردان‪ ،‬مشاعل الصالح‪ ،‬عمرو الفالح‬ ‫أمين حسن الناصر‬
‫المراجعة والتدقيق‪ :‬هنوف السليم‪ ،‬سعيد الغامدي‪ ،‬نورة العمودي‪ ،‬رهف القحطاني‬ ‫النائب التنفيذي للرئيس للموارد البشرية والخدمات المساندة‬
‫نبيل عبدهللا الجامع‬
‫ردمد ‪ISSN 1319-0547‬‬ ‫نائب الرئيس للشؤون العامة‬
‫خالد عبدالوهاب الزامل‬
‫• ما ينشر في القافلة ال يعِّبِر بالضرورة عن رأيها‪.‬‬ ‫مدير إدارة المحتوى وقنوات االتصال‬
‫• ال ُُيسمح بإعادة نشر أي من موضوعات أو صور القافلة إال بإذن خطي من إدارة التحرير‪.‬‬ ‫سامر أسامة عبدالجبار‬
‫• ال تقبل القافلة إال أصول الموضوعات التي لم يسبق نشرها بأية وسيلة من وسائل‬ ‫رئيس قسم قنوات االتصال بالوكالة‬
‫النشر‪.‬‬ ‫حسين علي العمري‬

‫تابعونا‬

‫بودكاست القافلة‬ ‫يوتيوب القافلة‬ ‫واتساب القافلة‬ ‫‪@QafilahMagazine‬‬ ‫اشتراكات النسخ الورقية‬ ‫‪qafilah.com‬‬
‫بد ٌٌر يأبى األفول‬
‫وسينما تتوق للكمال‬
‫كلمة القافلة‬

‫فريق القافلة‬

‫ما بين عامي ‪ 2019‬و‪2022‬م‪ ،‬شهد الحراك السينمائي المحلي قفزة‬ ‫البدر والرثاء ُمفردتان يصعب الجمع بينهما في المعنى‪ ،‬أ‬
‫فاألولى منهما‬ ‫ُ‬
‫ملحوظة‪ ،‬فوفًقًا لتقرير الحالة الثقافية الصادر عن وزارة الثقافة‪،‬‬ ‫ترتبط في الذهن بحالة كمال وأوج وحضور وتألق‪ ،‬بينما الثانية أقرب‬
‫تضاعفت أعداد صاالت السينما التجارية عدة مرات‪ ،‬كما ارتفع‬ ‫إلى الخفوت واالندثار والغياب؛ وكم يغدو هذا الجمع المعنوي أشد‬
‫مجموع مبيعات التذاكر من نحو ‪ 500‬ألف إلى أكثر من ‪ 14‬مليون‬ ‫اسَم علم لشخصية بمكانة وتأثير سمو‬ ‫صعوبة حين يكون "البدر" َ‬
‫واإليرادات من ‪ 442‬مليوًنًا إلى نحو ‪ 908‬ماليين ريال سعودي‪.‬‬ ‫أ‬
‫تذكرة‪ ،‬إ‬ ‫األمير بدر بن عبدالمحسن‪ ،‬رحمه هللا‪ ،‬الذي خ ََّيم نبأ رحيله الحزين‬
‫ا‬
‫وعموًما‪ ،‬يبدو المشهد السينمائي السعودي اليوم أكبر تكاماًل في‬ ‫على أجواء المشهد الثقافي السعودي‪ ،‬وما جاوره في أ‬
‫األيام الماضية‪.‬‬
‫ً‬
‫أركانه‪ ،‬ف ُُتسهم جهات مختلفة في الدفع بعجلة صناعة السينما في‬
‫ضوء المسار الذي ترسمه وتشرف عليه وزارة الثقافة‪ .‬وإضافة إلى‬ ‫كان لـ"البدر" نصيب وافر من اسمه‪ ،‬فكان له حضور بهي في عالم‬
‫اإلشرافي الذي ينهض بدوره في خلق بيئة التمكين‬ ‫واألغنية العربية‪ .‬وقد صنع أ‬
‫الشعر أ‬
‫الجانب التنظيمي إ‬ ‫األمير الراحل نجاحه ضمن‬
‫لهذه الصناعة‪ ،‬ال ننسى برامج التمويل التي تضخ دماءها في السينما‬ ‫ثقافًيا يقترب من روح الجمهور‪ ،‬لك ََّنه‬
‫المعادلة الصعبة‪ ،‬فاختار لوًنًا ً‬
‫المحلية عبر ستة برامج "شريانية" رئيسة على أ‬
‫األقل‪ .‬وعلى سبيل‬ ‫اإلبداع‪ ،‬فغ ََّنى صوته الخاص ورسم‬ ‫ح ََّلق به في فضاءات أوسع من إ‬
‫األكبر من دعم الصندوق‬ ‫المثال ال الحصر‪ ،‬حظيت السينما بالنسبة أ‬ ‫وتقَّمص روح الحداثة‪ ،‬لكن دون أن ينقطع‬ ‫صورته غير المستنسخة‪َ ،‬‬
‫الثقافي في ‪2022‬م‪.‬‬ ‫عن جوهر ذاته الشعرية وجذورها‪ .‬ولعل هذه الحيــاة التي نفخها في‬
‫نتاجه الثقافي هي التي ضمنت له شعبية واسعة‪ ،‬أسهم فيها ما تح ََّلى‬
‫وعوًدا بما تحقق اليوم إلى جذوته أ‬
‫األولى‪ ،‬ال بد للمشهد السينمائي‬ ‫به الرجل من صدق إنساني يتلمسه القريب ويستشفه البعيد‪.‬‬
‫ً‬
‫اإلقرار بالفضل للمبادرات الرائدة التي رافقت تلك‬
‫السعودي من إ‬
‫البدايات الصعبة؛ ومن ضمنها مهرجان أفالم السعودية‪ ،‬الذي ُيُصنف‬ ‫وما عسى أن ُيُقال في مقام رثاء شاعر ُتُردد حروفه الحناجر والقلوب‪،‬‬
‫محلًيا‪ .‬هذا المهرجان احتفى ًتًّوا بنسخته‬
‫بين أهم مهرجانات السينما ً‬ ‫سوى أن نبعث إليه بتحية وداع في هذا العدد‪ ،‬نقتبس منها هذه‬
‫العاشرة‪ ،‬وقد آثرت القافلة أن تحتفي به في هذا العدد بوصفه أحد‬ ‫العبارة المع ِِّبرة للدكتور سلطان العميمي حيث يقول‪" :‬الحديث عن‬
‫اإلنجاز في المجال السينمائي السعودي‪.‬‬
‫محفزات إ‬ ‫البدر‪ ،‬ال نهاية له‪ ،‬والحزن الكبير الذي حل برحيله يجعل من الكتابة‬
‫عنه محاولة للتكفير عن الشعور بالتقصير تجاه إنصاف تجربة شعرية‬
‫ال تزال الطريق أمام السينما السعودية محفوفة بالتحديات‪ ،‬ومن‬ ‫وإنسانية عظيمة‪ ،‬يندر أن يجود الزمان بمثلها"‪.‬‬
‫ضمنها تحدي اجتذاب الجمهور المحلي‪ ،‬ال سيما أن شريحة منه‬
‫تضع معاييرها الحاكمة وفًقًا لتجربة مشاهدة قد تتجاوز بفارق‬ ‫تدّب‬
‫طوياًل‪ ،‬نجدها ّ‬ ‫الحياة التي أودعها البدر في شعره لتبقى بعده ا‬
‫أيًضا الموازنة بين جانب الكم‬
‫العمر الحالي للتجربة المحلية‪ .‬وهناك ً‬ ‫شي ًًئا فشي ًًئا في مجال ثقافي آخر هو السينما السعودية‪ ،‬التي ُيُشبه‬
‫الضروري الزدهار السوق اقتصادًيًا‪ ،‬وبين جانب الكيف الذي يسمو‬ ‫حلًما لم نستفق منه بعد‪ .‬فبعد غياب ُُدور عرض‬ ‫واقعها الراهن ً‬
‫ويفّعل قدرته الكامنة على التأثير بوصفه قوة ناعمة‬ ‫أ‬
‫باإلنتاج السينمائي ّ‬
‫إ‬ ‫األفالم عن المشهد الثقافي المحلي لعقود‪ ،‬جاء قرار الموافقة على‬
‫عالمًيا‪ .‬وال شك أن توفر الطاقة البشرية الخاّلا قة‬
‫ُتُبرز مكانة المملكة ً‬ ‫جديًدا في‬
‫ً‬ ‫إصدار تراخيص لها في ديسمبر ‪2017‬م ليكون منطلًقًا‬
‫والمؤهلة والمتفرغة أمر ضروري لتنمية هذا القطاع‪.‬‬ ‫سباق تحتاج فيه السينما السعودية إلى قطع شوط طويل ضمن زمن‬
‫وعالمًيا‪.‬‬
‫ً‬ ‫وإقليمًيا‬
‫ً‬ ‫عربًيا‬
‫قصير كي تلحق بالركب السابق ً‬
‫أيًضا قضية‬
‫وإلى جانب مهرجان أفالم السعودية‪ ،‬يناقش هذا العدد ً‬
‫جميًعا دون استثناء‪ .‬فمقابل‬
‫ً‬ ‫تمّسنا‬
‫"االتزان الرقمي"‪ ،‬وهي مسألة تكاد ّ‬ ‫من البداهة أن الحراك السعودي في مضمار السينما كان سابًقًا لذلك‬
‫الحديقة الغ ََّناء من الفرص والفوائد التي باتت تغرينا بها التقنية‬ ‫قائًما في أغلبه على جهود ومبادرات محدودة وغير‬
‫القرار‪ ،‬لكنه كان ً‬
‫الرقمية‪ ،‬هناك سيل جارف من المخاطر المحدقة التي تتخطف‬ ‫منتظمة‪ .‬وقد كانت تلك الخطوة التي انبثقت من ضوء الرؤية الوطنية‬
‫ضحاياها بال هوادة‪ .‬واالتزان في التفاعل مع هذه التقنية هو الحالة‬ ‫مفصلية وحاسمة في أ‬
‫األخذ بالسينما السعودية إلى مرحلة جديدة‪ ،‬بما‬
‫الوسطى التي ُيُؤمل منها أن تكون المنجى من الطوفان‪.‬‬ ‫التحُّول من تلمس الطريق في ضوء شمعة إلى السير حثي ًًثا في‬
‫ُ‬ ‫ُيُشبه‬
‫وضح النهار‪.‬‬
‫‪23‬‬

‫‪89‬‬
‫القضية‬ ‫قبل السفر‬
‫‪ | 13‬االتزان الرقمي‬ ‫| أكثر من رسالة‪ِِ :‬عمارة البادية‬ ‫‪04‬‬
‫| أكثر من رسالة‪ :‬في البدء كانت‬ ‫‪05‬‬
‫أدب وفنون‬ ‫الخطوات‬
‫| كتب عربية ومترجمة‬ ‫‪0٦‬‬
‫في رثاء بدر ال يغيب‬ ‫|‬ ‫‪23‬‬ ‫| كتب من العالم‬ ‫‪0٨‬‬
‫سينما سعودية‪ :‬مهرجان أفالم السعودية في دورته العاشرة‬ ‫|‬ ‫‪27‬‬ ‫| مقارنة بين كتابين‬ ‫‪09‬‬
‫عبدالمحسن النمر‪ ..‬سيرة الشغف‬ ‫|‬ ‫‪32‬‬ ‫| بداية كالم‪ :‬الشهادة الجامعية‪ ..‬ضرورة؟‬ ‫‪10‬‬
‫رأي ثقافي‪ :‬في النهضة والترجمة‬ ‫|‬ ‫‪35‬‬ ‫| قول في مقال‪ :‬من يخاف ََمن؟‬ ‫‪12‬‬
‫خيوط المعازيب‬ ‫|‬ ‫‪36‬‬
‫فرشاة وإزميل‪ :‬حنوش حنوش‬ ‫|‬ ‫‪41‬‬
‫شعر‪ :‬خلف حدود الجسد‬ ‫|‬ ‫‪46‬‬
‫‪36‬‬

‫‪41‬‬ ‫‪82‬‬
‫آفــاق‬ ‫علوم وتكنولوجيا‬
‫الفلتر‪ ..‬رحلة الصورة من محاكاة الواقع إلى إلغائه‬ ‫|‬ ‫‪70‬‬ ‫| الذكاء االصطناعي يسبر أغوار‬ ‫‪48‬‬
‫كيف يقود اإلعالن هوس االستهالك؟‬ ‫|‬ ‫‪74‬‬ ‫الحضارات القديمة‬
‫مهارة التعامل مع أتباع الثقافات األخرى‬ ‫|‬ ‫‪78‬‬ ‫| كيف تحفظ الزراعة العضوية‬ ‫‪52‬‬
‫عين وعدسة‪ :‬العمارة اليافعية‬ ‫|‬ ‫‪82‬‬ ‫سالمة ال ُُتربة؟‬
‫فكرة‪ :‬الكراج‬ ‫|‬ ‫‪88‬‬ ‫| مجهر‪ :‬سحر الرمال‪ ..‬هبة إلهية‬ ‫‪57‬‬
‫وإبداع بشري‬
‫| التلُّوث الضوضائي مشكلة‬ ‫ُ‬ ‫‪58‬‬
‫الملف‬ ‫متفاقمة‬
‫| العلم خيال‪ :‬آالت ال ََّنسخ الذاتي‬ ‫‪62‬‬
‫‪ | 89‬السوق‬ ‫| المذاق بين الحاجة التطورية‬ ‫‪64‬‬
‫والتنُّوع الجيني‬
‫ُ‬
‫| من المختبر‬ ‫‪68‬‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪03 | 2024‬‬


‫مجلة القافلة‬
‫مايو ‪ -‬يونيو ‪2024‬‬ ‫قبل السفر‬

‫ِِعمارة البادية‪ ..‬الحلقة المفقودة‬

‫أكثر من رسالة‬
‫تكّون الشكل ترتكز على قوى أولية‪ ،‬وهي نمط‬ ‫ّ‬ ‫فبقليل من التأمل تجد أنه من غير المنطق‬ ‫قّدم المستوطنات التقليدية بالمملكة‬ ‫دائًما ما ُتُ ّ‬
‫ً‬
‫األشكال‬‫الحياة والثقافة والمعتقدات التي تصنع أ‬ ‫االستمرار في التنقل خالل فترات الصيف‪ ،‬فال‬ ‫عاٍل في أنماط بنائها‬ ‫وتباين‬ ‫تنوع‬ ‫ذات‬ ‫أنها‬ ‫على‬
‫أ‬ ‫ٍ‬
‫من أجل تحقيق أفضل ممارسة لها‪ .‬كما تعتمد‬ ‫كأل وال ماء‪ .‬في المقابل‪ ،‬هذه الفترات هي أوقات‬ ‫المختلفة‪ ،‬وكأنها جزر معزولة في وسط بحر من‬
‫على قوى ثانوية‪ ،‬وهي المواد والتقنيات إاإلنشائية‬ ‫إنتاج النخيل للتمور واالستقرار حول مصدر ماء‬ ‫الرمال‪ .‬وهو ما أعتقد أنه يتعارض مع مفاهيم‬
‫المتوفرة والمناخ وغيرها‪ .‬فالقوى الثانوية هنا‪،‬‬ ‫ثابت‪ ،‬وهو ما يشرحه الصويان بالتفصيل في‬ ‫األشكال وعمليات انتقالها وتطور البيئات‬ ‫أ‬
‫تقوم على مفهوم الفرق بين ما هو مستحيل وما‬ ‫للِحل والترحال عند البادية في "موسوعة‬ ‫وصفه ِ‬ ‫المبنية؛ فهي َإَّما مؤثرة أو متأثرة‪ ،‬ضمن عمليات‬
‫هو غير حتمي‪ .‬فمن المستحيل بناء أكواخ جليدية‬ ‫الصحراء العربية"‪ .‬وهنا يظهر نمطان من‬ ‫تعتمد على مفهوم القبول والمقاومة ضمن‬
‫في وسط رمال الصحراء‪ ،‬ولكن استخدام الطين‬ ‫المساكن‪ :‬الخيمة المخصصة لفترات التنقل‪،‬‬ ‫الجماعات المتصلة بعضها ببعض‪ .‬وعليه‪،‬‬
‫له عدد من التقنيات أ‬
‫واألشكال المختلفة‪ ،‬وليس‬ ‫ا‬
‫مفصاًل‬ ‫قّدم لها هارولد ديكسون‪ ،‬وصًفًا‬ ‫وهي ما ّ‬ ‫يستحق ذلك إعادة تفكير بإمعان ومحاولة‬
‫واحًدا فقط‪ .‬ولعل أشهر أشكالها‬
‫حتمًيا ً‬
‫شكاًل ً‬‫ا‬ ‫وإنشائـًيا في كتابه "عرب الصحراء"‪،‬‬
‫ً‬ ‫وظيفًيا‬
‫ً‬ ‫البحث عن الحلقة المفقودة في جنبات‬
‫األخرى‪ ،‬عمارة حسن فتحي الطينية‪ ،‬التي تختلف‬ ‫أ‬ ‫آ‬
‫المنشور في عام ‪1949‬م‪ .‬واآلخر هو المستوطنة‬ ‫الصحراء الفاصلة بين هذه المناطق‪.‬‬
‫عما نطرحه هنا‪ .‬إًذًا‪ ،‬هذه المستوطنات البدوية‬ ‫نادًرا ما تجد لها وصًفًا‬ ‫ذات النسيج الطيني‪ ،‬التي ً‬
‫المتباعدة والمتشابهة خاضعة لقوى إنتاج أ‬
‫األشكال‬ ‫قّدمه ديكسون للخيمة‪ .‬وكحال‬ ‫ا‬
‫مفصاًل كالذي ّ‬ ‫رّحل‬ ‫هذه الصحـراء ُتُوصف بأنها أر ٍاٍض لبدو ّ‬
‫األولية والثانوية نفسها‪ ،‬وهو ما يبرر تطابقها‪.‬‬ ‫أ‬ ‫جميع المستوطنات‪ ،‬تتدرج البيئة المبنية فيها‬ ‫ال يستقرون‪ ،‬بل في حالة تنُّقُل مستمر‪ .‬هذا‬
‫إلى مستويات عديدة تبدأ من القالع والقصور‪،‬‬ ‫يقّدمهم على أنهم جماعات تهيم‬ ‫الوصف ّ‬
‫وبمجرد إدراك النمط االستيطاني للبادية ونسيجها‬ ‫واألحياء ذات النهايات المغلقة‪،‬‬ ‫باألسواق أ‬
‫مروًرا أ‬ ‫في الصحراء بال وجهة وال نمط فقط بح ًًثا عن‬
‫ً‬ ‫الكأل‪ .‬هذه الصورة أ‬
‫أ‬
‫المنتشر حول مستوطنات وسط شبه الجزيرة‬ ‫فيما تبقى الخيمة بين االستخدام عند الحاجة‬ ‫األنثروبولوجية عن البادية‬
‫العربية‪ ،‬والذي هو بكل تأكيد امتداد لها‪ ،‬نجد‬ ‫خالل رحلة الربيع أو االستخدام الدائم في أقل‬ ‫ينقصها الكثير من التفاصيل‪ ،‬فالنظام القبلي‬
‫أن المناطق التقليدية وعمليات االستيطان حول‬ ‫مستويات االستيطان‪ .‬أ‬
‫واألمثلة عديدة‪ ،‬ولكن‬ ‫يقوم على أقاليم محددة يحرسها فرسان‬
‫المملكة متصلة بعضها ببعض‪ ،‬وعمارة البادية هي‬ ‫سنذكر عد ًًدا منها هنا‪ ،‬فتجد في الشمال الشرقي‬ ‫القبيلة من الدخالء والمعتدين‪ .‬كما يجري‬
‫األنسجة التقليدية المتباعدة‪.‬‬ ‫حلقة الربط بين هذه أ‬ ‫قرية "نطاع" بنسيج متكامل من مسجد وسطي‬ ‫بناء المستوطنات الطينية حول مصادر المياه‬
‫وفي ظل التقاطع الثقافي العالي من معتقدات‬ ‫وأحياء بنهايات مغلقة‪ ،‬وبجوارها قصر الملك‬ ‫األقاليم‪ ،‬وتبدأ الجماعات‬ ‫والنخيل داخل هذه أ‬
‫األولية في‬ ‫وثقافة وأنماط حياة‪ ،‬الذي يشّكّل القوى أ‬ ‫عبدالعزيز ‪ -‬طيب هللا ثراه ‪ -‬ونجد شمااًلا منها‬ ‫بممارسة نمط حياتها بين فترات لالستقرار‬
‫األشكال المعمارية‪ ،‬سنجد أن الممارسات‬ ‫صنع أ‬ ‫أيًضا قرية العليا‪ .‬كما تجد الممارسة االستيطانية‬ ‫فريًدا‬
‫ً‬ ‫وأخرى للتنقل داخلها‪ .‬هذا النمط ليس ً‬
‫األساسية متشابهة في جميع المناطق‬ ‫الوظيفية أ‬ ‫نفسها في أقصى الغرب بالقرب من الطائف تتمثل‬ ‫من نوعه‪ ،‬فقد ذكر أموس رابوبورت‪ ،‬نمًطًا‬
‫تقريًبا‪ .‬فال أعتقد أن هناك‬
‫التقليدية حول المملكة ً‬ ‫في بيشة وحي الظهيرة برنية وقلعة شنقل وسوق‬ ‫مشاب ًًها في وصفه لمستوطنات قبائل الهنود‬
‫محلًيا ال يراعي ثنائية الرجل والمرأة‪،‬‬
‫نمًطًا تقليدًيًا ً‬ ‫رمادان بتربة وقصور الثعالية بالمحاني‪ .‬وما بين‬ ‫الحمر في أمريكا الشمالية‪ .‬إذ تقوم هذه‬
‫أو ال يقوم بترتيب وظيفي الستقبال الضيوف‪ ،‬وما‬ ‫هذه وتلك‪ ،‬ينتشر نمط البناء الطيني في صدر‬ ‫الجماعات باالستقرار طوال العام‪ ،‬وتبدأ‬
‫األشكال‬ ‫إلى ذلك من هذه الممارسات‪ .‬بينما تخضع أ‬ ‫الجزيرة العربية في عديد من المواقع حتى يصل‬ ‫بالتنقل في أقاليمها المحددة خالل الفترة من‬
‫والعناصر المعمارية لعمليات االنتقال والتعديل‬ ‫ذروة تطوره ونضج أشكاله في المناطق الوسطى‬ ‫ديسمبر حتى مارس بح ًًثا عن صيد الجواميس‪.‬‬
‫األنسجة المتجاورة‪ ،‬ضمن‬ ‫والتطوير تدريجًيا بين أ‬ ‫المتمثلة في الدرعية وما حولها‪.‬‬ ‫المفارقة هنا‪ ،‬أن الصورة الذهنية عن مسكن‬
‫ً‬
‫عمليات التأثير والتأثر والقبول والمقاومة‪ ،‬التي‬ ‫دائًما ما ترتبط بخيمة التيبي‪،‬‬
‫الهنود الحمر ً‬
‫تتأثر بالقوى الثانوية غير الحتمية التي ذكرناها آنًفًا‪.‬‬ ‫هذا التشابه في النمط االستيطاني بين هذه‬ ‫متجاهلة مستوطناتهم الدائمة المبنية من‬
‫وهو ما أعتقد أنه يقدم الدعم لنظريات أعمق‬ ‫المناطق المتباعدة‪ ،‬ليس بمستغرب إذا ما أسقطت‬ ‫الخشب‪ ،‬وهذه هي نفسها الصورة الذهنية‬
‫حول وحدة الهوية المبنية التقليدية في المملكة‪.‬‬ ‫عليه نظرية رابوبورت حول عمليات تكون الشكل‬ ‫التي تربط البادية بمسكن الخيمة‪ ،‬متجاهلة‬
‫المبني‪ ،‬التي طرح أثناء تقديمها عديًدا من أ‬
‫األمثلة‬ ‫أيًضا المستوطنات الطينية التي وصلت‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مشاري منسي البقمي‬ ‫حول العالم؛ أحدها مثال مساكن قبائل الهنود‬ ‫في بعض الحاالت إلى مستوى استيطاني‬
‫الحمر‪ ،‬الذي تناولناه سابًقًا‪ .‬فهو يرى أن عمليات‬ ‫من قالع وقصور‪.‬‬
‫ما معنى وجودك؟‬
‫في البدء كانت الخطوات‬
‫بالعليق‪ ،‬وفجأة تنسد انغالًقًا‪ .‬كل يتبع طريقه‬ ‫في ملف العدد (مايو ‪ -‬يونيو ‪2023‬م)‪ ،‬من مجلة‬
‫لكن النهاية تختارنا‬ ‫الخاص‪ ،‬لكن في الغابة نفسها‪ .‬وتبدو في الغالب‬ ‫"القافلة"‪ ،‬كتبت مهى قمر الدين عن ثيمة شغلت‬
‫طريٍق سوى الطريق"‪.‬‬ ‫كأنها تتشابه‪ .‬غير أن ذلك ليس سوى مظهر‪ .‬يعرفها‬ ‫واألدباء والفنانين في كل بقاع‬‫الفالسفة والمفكرين أ‬
‫أ‬ ‫وما من ٍ‬ ‫أ‬
‫سنتأمل السطر األخير‪ ،‬ونتذكر الطريق إلى إيثاكا‪،‬‬ ‫جيًدا‪ .‬إنهم يعرفون ماذا‬
‫وحَّراس الغابة ً‬‫الحطابون َ‬ ‫األرض‪ ،‬وعبر مختلف العصور‪ ،‬وهي "الطريق"‪.‬‬
‫حيث الطريق إليها هو المهم عند قسطنطين‬ ‫يعني أن يكون المرء في طرق متشابكة‪ ،‬في طرق ال‬ ‫تعقيًبا على ما ُكُتب‪ ،‬بل‬
‫والسطور أدناه ليست ً‬
‫أعواًما طويلة‪ ،‬وشاخ‬
‫كفافيس‪ ،‬حتى لو استمر ً‬ ‫تؤدي إلى أين"‪.‬‬ ‫مزيًدا من‬
‫مجرد إضافات إلى موضوع سيسيل ً‬
‫عّبر عنه محمود‬
‫المرتحل في الطريق‪ ،‬وهو ما ّ‬ ‫المداد‪ ،‬ويلهب المخيالت مجد ًًدا؛ إذ إن الطريق‬
‫درويش في قصيدته "الطريق إلى أين" المهداة إلى‬ ‫في ‪1982‬م‪ ،‬صدرت للروائي أ‬
‫األردني الراحل جمال‬ ‫أو السبيل ليست مجرد ممر يسلكه إاإلنسان وسائر‬
‫سركون بولص‪:‬‬ ‫ناجي‪ ،‬روايته البكر "الطريق إلى بلحارث"‪ ،‬وأبطالها‬ ‫وسائل المواصالت التي تنقل الناس والبضائع‬
‫مدرسون مغتربون عن أوطانهم‪ ،‬وهي بمنزلة رحلة‬ ‫واألفكار‪ ،‬بل سنستعير المفهوم الفلسفي‪ ،‬ونقتفي‬ ‫أ‬
‫كأَّن هناك‪ /‬هنا‬
‫"نمشي كأَّنَا سوانا‪َ .‬‬ ‫اغتراب من الهامش إلى الهامش‪ ،‬في سبيل ذلك‬ ‫خطواتنا على طريق أو طرق البحث عن صيغة‬
‫بين بين‪ .‬كأن الطريق هو الهدف‬ ‫األزلي المحموم عن حياة حرة‬ ‫البحث اإلنساني أ‬ ‫مثلى للعيش‪ ،‬طريقة للحياة وتحقيق السالم‬
‫إ‬
‫لكْن إلى أين نمضي‪ ،‬ومن‬ ‫الالنهائُّي‪ْ ،‬‬
‫ُ‬ ‫كريمة‪ ،‬رحلة "البحث عن خالص آخر‪ ،‬ولكن عبر‬ ‫الداخلي أو التصالح مع الذات ومع العالم‪ ،‬ما‬
‫أين نحن إذن؟ نحن ُُسَّكَان هذا‬ ‫نفي آخر"‪ .‬وقد احتفت الرواية‪ ،‬بتعبير د‪ .‬رامي أبو‬ ‫دامت رحلة الحياة محض سعي حثيث بح ًًثا عن‬
‫اسًما‬ ‫شهاب‪ ،‬بثيمة إاإلجهاض أو عدم االكتمال كما هي‬ ‫مأل فراغات نقصان يجبرنا على أن‬ ‫شيء ما ينقصنا؛ أ‬
‫الطريق الطويل إلى هدف يحمل ً‬ ‫نغادر المكان أ‬
‫وحيًدا‪ :‬إلى أين؟"‪.‬‬
‫ً‬ ‫المسارات كافة‪" ،‬وكأن معنى الخالص بات في حالة‬ ‫األول‪ ،‬والبحث عن انتصار معنوي‬
‫إرجاء كما هي الطريق التي ال تنتهي!"‪.‬‬ ‫في "هذه الهزيمة المحتومة التي نسميها الحياة"‪،‬‬
‫عن هذه الرحلة الوجودية كتب أنطونيو ماتشادو‬ ‫عُدها ميالن كونديرا‪.‬‬
‫كما َيَ ُ‬
‫في قصيدته "أيها السائر"‪:‬‬ ‫لندع هذا التيه العوليسي‪ ،‬ودروب البحث المضني‬
‫"أيها السائر‬ ‫واإلنسانية‪ ،‬ونتجاوز‬
‫عن الحقيقة والكمال والسعادة إ‬ ‫يحضر الطريق في فلسفة مارتن هيدغر‪ ،‬الذي‬
‫خطواتك هي الطريق‬ ‫واإلحساس بالنقص‬ ‫العجز عن فهم هذا الوجود إ‬ ‫يسّمي أعماله الكاملة "طرق ال مؤلفات"‪،‬‬
‫اختار أن ّ‬
‫وال شيء آخر‪..‬‬ ‫والتيه والغربة‪ ،‬التي انشغل بها إاإلنسان منذ‬ ‫كما أشار المترجم إسماعيل المصدق‪ .‬وهذا يعني‬
‫أيها السائر‬ ‫طفولة الوعي‪ ،‬لكي نتفادى الدخول في متاهات‬ ‫بالنسبة إلى القارئ أنه "ال ينبغي التعامل مع أي‬
‫ال وجود للطريق‬ ‫الميثولوجيا والميتافيزيقا واليقينيات والخروج‬ ‫من نصوص هيدغر بوصفها مجموعة من المعارف‬
‫فالطريق تصنعه بمسيرك"‪.‬‬ ‫من الجنة وأدب الرحالت وسينما الطريق‪ ...‬إلخ؛‬ ‫والمعلومات حول قضية معينة؛ أألن كل نص من‬
‫لنقفز فوق تاريخ هائل يحتاج إلى مجلدات تطوي‬ ‫نصوصه هو طريق يسلكه التساؤل المفكر‪ .‬ولكن‬
‫عاٍل مع أبي‬
‫ونختم هذه المقالة بأن نفكر بصوت ٍ‬ ‫خطواته‪ ،‬ونقرأ قصيدة "مالحظة من مسافر"‬ ‫ومفتوًحا أمام التساؤل‬
‫ً‬ ‫قائًما‬
‫هذا الطريق ال يكون ً‬
‫الطيب المتنبي‪ ،‬كما يجدر بأي عابر سبيل ستختفي‬ ‫لسركون بولص‪:‬‬ ‫المفكر منذ البداية‪ ،‬بحيث ال يبقى عليه إال أن‬
‫آثار خطواته على درب الحياة بعد حين‪ ،‬وكلنا هذا‬ ‫يقطعه‪ ،‬بل إن الطريق ُيُشق وُيُفتح باستمرار‪ ،‬وهو‬
‫العابر‪ ،‬حتى من اختار (أو سيختار) الطريق إلى‬ ‫أيُت‬
‫"عندما ر ُ‬ ‫يتغير مع كل خطوة من خطوات التساؤل‪ .‬وهذا‬
‫الالمكان "َنَ ْْح ُُن أ ْْد ََرى ََوقد سأ ْْل ََنا ِِب ََن ْْج ٍٍد ‪...‬‬ ‫الموت يتوضأ في النافورة‬ ‫الطريق ال ينتهي بتقديم إجابة عن السؤال‪ .‬أألن‬
‫أَط َِِو ٌيٌل َط َِِري ُُق ََنا ْأْم َيَُط ُُوُل"‪.‬‬ ‫نياًما في الطرقات‬
‫والناس من حولي يعبرون ً‬ ‫السؤال يتغير خالل الطريق‪ ،‬ويظهر دو ًًما في ضوء‬
‫بدا أن أحالمي أهر ٌاٌم من الرمل‬ ‫أيًضا المفاهيم التي‬
‫جديد‪ ،‬وبموازاة ذلك تتغير ً‬
‫هشام بن الشاوي‬ ‫تنهاُر أمام عيني‬
‫ُ‬ ‫انطلق منها التساؤل"‪.‬‬
‫ولمحُت َنَهاري يهرب في االتجاه المعاكس‬
‫ُ‬
‫بعيًدا عن تلك المدينة الملعونة‪..‬‬ ‫ً‬ ‫في "طرق ال تؤدي إلى أين" كتب مارتن هايدغر‪:‬‬
‫البدء نختاره‬ ‫"توجد في الغابة طرق‪ ،‬تكون في الغالب مملوءة‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪05 | 2024‬‬


‫مجلة القافلة‬
‫مايو ‪ -‬يونيو ‪2024‬‬ ‫قبل السفر‬

‫كتب عربية ومترجمة‬


‫يقول المؤلف إنه على الرغم من العذاب والكآبة‬
‫التي صاحبت الكتابة عن الوقت الذي قضاه مع‬
‫جًّدا‪،‬‬
‫مؤلًما ً‬
‫عرفان خان‪ ،‬ووميض ذكراه الذي كان ً‬ ‫عرفان‬
‫فإنه قد حرص على إتمام كتابه من أجل "مشاركة‬ ‫حوارات مع الريح‬
‫النار والجمال"‪ ،‬الذي جلبه هذا الفنان إلى حياته‪.‬‬
‫وبالفعل‪ ،‬يتضح من مضمون الكتاب ُعمق أ‬
‫األلم‬ ‫تأليف‪ :‬أنوب سينغ‬
‫ُ‬ ‫الذي غّلّفه منذ سطوره أ‬
‫األولى‪ ،‬التي استعاد فيها‬ ‫ترجمة‪ :‬حسام علوان‬
‫"سينغ" وقائع علمه بموت عرفان‪ ،‬يوم ‪ 29‬أبريل‬ ‫الناشر‪ :‬جسور‪2024 ،‬م‬
‫‪2020‬م‪ .‬وكان الممثل الهندي قد أخبره قبل هذا‬
‫التاريخ بعام واحد فقط بمرضه‪ ،‬وأراد منه مساعدته‬
‫في الحصول على معلومات عنه وعن أ‬
‫األطباء‬
‫والمستشفيات في سويسرا‪ ،‬حيث كان يعيش‪.‬‬ ‫الُممثل الهندي أميتاب باتشان‪ ،‬لهذا‬
‫ُيُماثل ُُمفتتح ُ‬
‫الكتاب‪ ،‬البداية المشوقة التي ال تكاد تخلو منها‬
‫ثم يواصل المخرج الهندي سرد تفاصيل تطور‬ ‫األفالم السينمائية الهندية‪ ،‬التي تربط المشاهد‬ ‫أ‬
‫العالقة التي جمعته ببطل الكتاب‪ ،‬و"الحكايات"‬ ‫بالصورة‪ ،‬وتجعله مشدو ًًدا إليها طوال مدة العرض‪.‬‬
‫المرتبطة بتعاونهما الفني؛ إذ كان قد أخرج ِِفلمين‬ ‫يكتب باتشان فيه بصدق الفت عن زميله الراحل‬
‫له‪ ،‬هما‪" :‬قصة" و"أغنية العقارب"‪ .‬في "تدفق شرس‬ ‫الُمعنون‬
‫عرفان خان‪ ،‬الذي كان موضو ًًعا لهذا العمل ُ‬
‫األخير للصداقة وما‬ ‫للذكريات"‪ ،‬رَّبما كان "المذاق أ‬ ‫بـ"عرفان‪ ..‬حوارات مع الريح"‪ ،‬من تأليف المخرج‬
‫َ‬
‫يتبقى منها"‪ ،‬على حد تعبيره‪ ،‬يذكر كيف كان عرفان‬ ‫مانًحا جسمه وعقله وروحه لكل دور‪ .‬وهكذا "كان في‬
‫ً‬ ‫أنوب سينغ‪ .‬وقد صدرت ترجمة الكتاب إلى العربية‬
‫يجسد أدواره‪ ،‬وطريقته في اتخاذ القرارات بشأنها‪،‬‬ ‫منطقة تخصه وحده"‪ ،‬فقد "وجد الشخصيات دون‬ ‫ضمن الموسوعة السعودية للسينما‪ ،‬بمبادرة من‬
‫وكيف كان يضبط نفسه في "البروفات" حين ُيُظهر‬ ‫خطأ‪ ،‬وقدم جميع الفروق الدقيقة فيها بسهولة‬ ‫جمعية السينما التي تسعى جاهد ًًة لنقل المعرفة‬
‫قدرة استثنائية على االحتفاظ بحاالت متعارضة‬ ‫متدفقة"‪ .‬وبهذا المعنى‪ ،‬كان لديه "توقيعه الخاص‬ ‫الُمتخصصة في المجال السينمائي‪.‬‬ ‫ُ‬
‫تمر بها شخصياته التي يؤديها‪ ،‬وتحوالت وانتقاالت‬ ‫على كل شخصية"‪.‬‬
‫عاطفية عديدة تنعكس على جسمه‪ ،‬ومن َث َََّم على‬ ‫نّحي في‬ ‫يكتب أميتاب باتشان‪" :‬كشمس مشرقة ُتُ ّ‬
‫صوته‪ .‬فبمجرد االستماع إليه‪ ،‬تبدأ الشخصية التي‬ ‫يضم الكتاب مجموعة من المقاالت المترابطة‪،‬‬ ‫جانًبا كل ما‬
‫صعودها ظالل الماضي‪ .‬كما لو كنا نضع ً‬
‫يستحضرها في الظهور‪ .‬وهذا كله كان يدلل‪ ،‬بحسب‬ ‫يعرض فيها المؤلف بلغة شاعرية وسرد متماسك‪،‬‬ ‫عرفناه وتعلمناه‪ُُ ...‬مفسحين المجال لبداية جديدة‪.‬‬
‫المؤلف‪" ،‬على الطريقة الجريئة والحسية التي بدا أن‬ ‫لقطات ومقتطفات من ذكريات لقاءات جمعته مع‬ ‫أشعر أن عرفان هو هذه الشمس الجديدة التي‬
‫عرفان يعيش حياته بها"؛ طريقة تتغير على الدوام‬ ‫عرفان خان‪ ،‬الذي ُتُوِّفِي إثر مرضه بالسرطان عن عمر‬ ‫مبكًرا"‪.‬‬
‫غربت عنا ً‬
‫لتعدد أدواره التي يؤديها حتى يصير إدراك شخصيته‬ ‫وسيتبّين القارئ أن هذه المقاالت‬
‫ّ‬ ‫عاًما‪.‬‬
‫ناهز ‪ً 53‬‬
‫عسيًرا‪ .‬وهنا يتساءل أنوب سينغ‪ :‬هل‬ ‫ً‬ ‫أمًرا‬
‫الفعلية ً‬ ‫تقِّدم في النهاية صورة متكاملة عن لحظات متواصلة‬ ‫ِ‬ ‫تكمن عبقرية عرفان خان‪ ،‬كما نقرأ في مفتتح‬
‫من كتب عنه "هو عرفان حًقًا؟"‪ ،‬وُيُجيب‪ُ :‬يُمكننا أن‬ ‫من التوهج واإلبداع أ‬
‫واألوجاع‪ ،‬طبعت حياة الممثل‬ ‫أدواًرا‬
‫إ‬ ‫الكتاب‪ ،‬في إنتاجه للون فريد وهو يؤدي ً‬
‫نقول عن عرفان إنه "ليس هذا‪ ،‬وليس ذاك"‪.‬‬ ‫الهندي الشهير‪.‬‬ ‫متباينة‪ ،‬فقد أدى أكثر من ‪ 150‬شخصية مختلفة‪،‬‬

‫ترجمة الكتاب إلى العربية حدي ًًثا‪ ،‬ليطرح فكرته‬


‫المركزية التي تنتقد بشدة التقليل المتزايد من قيمة‬ ‫موت الخبرة‬
‫المعرفة‪ ،‬في ظل هيمنة تكنولوجيا االتصال الرقمي‬
‫على حياة أفراده بشكل واسع؛ لتصبح وكأنها صاحبة‬ ‫لماذا يتباهى الناس بالجهل؟‬
‫الكلمة العليا في تشكيل أذهانهم والتأثير على أنماط‬ ‫تأليف‪ :‬توم نيكولز‬
‫معيشتهم‪.‬‬ ‫ترجمة‪ :‬عمر فايد‬
‫الناشر‪ :‬نادي الكتاب‪2024 ،‬م‬
‫يتعجب المؤلف‪ ،‬بحس أقرب إلى السخرية‪ ،‬من‬
‫فكرة أن "الجميع صار يعرف كل شيء"‪ ،‬ومن‬
‫اإلنترنت أنهم‬
‫اعتقاد أعداد كبيرة من مستخدمي إ‬
‫قد صاروا خبراء بمجرد حصولهم على معلومات‬ ‫"لماذا يتباهى الناس بالجهل؟"‪ .‬السؤال السابق‪،‬‬
‫عن موضوعات معينة من دون فهم متعمق‪ ،‬ومن‬ ‫فرعًيا لهذا‬
‫غريًبا في مضمونه‪ ،‬كان أ عنواًنًا ً‬
‫الذي يبدو ً‬
‫دون إعمال الفكر النقدي بشأنها‪ ،‬بل حتى من دون‬ ‫األمن القومي بكلية‬ ‫الكتاب‪ ،‬الذي ألفه أستاذ شؤون‬
‫األمريكية‪ ،‬توم نيكولز‪ .‬صدرت‬‫الحرب البحرية أ‬
‫التحّقّق من صحتها‪.‬‬
‫ويناقش المؤلف في ستة فصول مجموعة من‬ ‫األساسية وصلت إلى درجة متدنية تخطت حاجز‬ ‫أ‬ ‫ويؤكد أن الخبرة لم تمت‪ ،‬لكنها "في ورطة"‪ ،‬وأن‬
‫الموضوعات المتعّلّقة بطرحه الرئيس‪ ،‬منها‪ :‬طبيعة‬ ‫"الجهل البسيط" إلى "الجهل المرّكّب"‪ ،‬وانحطت إلى‬ ‫األمر ال يتعلق بقلة معرفة الناس بالعلوم أو السياسة‬ ‫أ‬
‫العالقة بين المواطنين والخبراء‪ ،‬وكيف صارت‬ ‫مستوى "الحياد التام عن الصواب"‪ .‬فقد وجد أن‬ ‫جديًدا وال‬
‫أو الجغرافيا‪ ،‬فعدمأ إحاطتهم بذلك ليس ً‬
‫المناقشات مرهقة‪ ،‬وتحليل خدمات التعليم العالي‬ ‫الناس‪ ،‬كما يكتب‪" ،‬ال يؤمنون بأشياء غبية فحسب‪،‬‬ ‫األزمة‪ ،‬من وجهة نظره وبالتطبيق‬ ‫ُيُمثل مشكلة‪ .‬لكن‬
‫يقّدم العلم وفًقًا للطلب‪ ،‬انطالًقًا من مقولة‬ ‫على المجتمع أ‬
‫الذي ّ‬ ‫عوًضا من التخلي‬‫لكنهم يقاومون تعّلّم المزيد ً‬ ‫األمريكي كنموذج‪ ،‬تترّكّز في التفاخر‬
‫دائًما على حق"‪ ،‬وفهم الدور الذي تؤديه‬ ‫"الزبون ً‬ ‫عن تلك المعتقدات"‪ .‬باختصار‪ ،‬هم "يرفضون‬ ‫بحالة عدم المعرفة واعتبارها "فضيلة حقيقية"؛‬
‫اإلنترنت في زيادة نسب‬ ‫محركات البحث على إ‬ ‫الخبرة" في شتى المجاالت ويفعلون ذلك "بغضب"‪.‬‬ ‫ف ُُترفض نصيحة الخبراء الفعليين إمعاًنًا في تأكيد‬
‫الجهل؛ وذلك أألن المعلومات المطلقة‪ ،‬ليست‬ ‫وضوًحا للطبيعة‬
‫ً‬ ‫وصار الهجوم على الخبراء أكثر‬ ‫االستقاللية الذاتية‪ ،‬ورغبة في عدم إاإلقرار بإمكانية‬
‫مؤشًرا على ذكاء من يمتلكها‪ .‬كما يرصد بالتفصيل‬
‫ً‬ ‫غير المنضبطة للنقاشات على وسائل التواصل‬ ‫الخطأ في أي شيء‪ .‬وهكذا‪ ،‬بات هناك تصديق لكل‬
‫الحاالت التي يفشل فيها الخبراء‪.‬‬ ‫االجتماعي‪ .‬في هذا السياق‪ ،‬ال يرفض "نيكولز" مبدأ‬ ‫الُمنافي للحقيقة منها"‪ ،‬وأصبحت‬ ‫الحقائق آ"حتى ُ‬
‫النقاش في ذاته‪ ،‬لكن يقلقه غياب التحلي بمهارة‬ ‫اآلراء في أي موضوع وجيهة بقدر أي رأي آخر"‪.‬‬ ‫"جميع‬
‫عُّد‬
‫النقاش المستند إلى أسس ومعلومات حول ما ُيُ ُ‬
‫عُّد وجوده ا‬
‫دلياًل‬ ‫حقائق أو ُيُص ّّنف كأكاذيب‪ ،‬والذي ُيُ ُ‬ ‫ويشرح "نيكولز" الدافع وراء تأليفه هذا العمل‪،‬‬
‫على الصحة الفكرية‪.‬‬ ‫وهو شعوره بالقلق بعد مالحظته أن المعرفة‬

‫والفكري للفرد‪ .‬وُيُحِّلّل القسم الثاني دالالت االنحياز‬


‫"العاّمة"‪ ،‬بالمقارنة مع مفهوم‬ ‫ّ‬ ‫السلبي وإيحاءاته ضد‬
‫والخفُّي‬
‫ُ‬ ‫الجلُّي‬
‫ُ‬ ‫مفهوم العامة‪..‬‬
‫"الجماهير"‪ ،‬كما ورد في السياق الغربي‪ .‬ويؤكد توافق‬
‫تحّدث عنـها ٌكٌّل من إاإليطالي‬ ‫صفات "الجماهير"‪ ،‬التي ّ‬
‫"األمير"‪ ،‬والفرنسي‬ ‫كتاب أ‬ ‫نيقوال ميكيافيلي صاحب‬ ‫تأليف‪ :‬معجب العدواني‬
‫جوستاف لوبون مؤلف كتاب "سيكولوجية الجماهير"‪،‬‬ ‫الناشر‪ :‬بيت الحكمة‪2023 ،‬م‬
‫حّدده بعض كتب التراث العربي إاإلسالمي‬ ‫مع ما ّ‬
‫"العاّمة" ت ّّتسم بعدد من السمات‪ ،‬منها‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫حول كون‬
‫الكثرة والصوت والجلبة واالحتجاج واللغط والصراخ‬
‫وعدم القبول بالصلح والهمجية والكذب‪ .‬واستعرض‬ ‫األكاديمي والناقد السعودي معجب العدواني‪،‬‬ ‫يناقش أ‬
‫والخفّية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الجلّية‬
‫"العاّمة" ّ‬
‫ّ‬ ‫القسم الثالث سمات سلوك‬ ‫العربّية‬ ‫"العاّمة" في الحضارة‬ ‫في هذا الكتاب‪ ،‬مفهوم‬
‫يتعَّرف القارئ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫اثّي‪ .‬وفيه َ‬ ‫القِّص التر ّ‬
‫كما وردت في ِ‬ ‫سالمّية وغيرها من الحضارات‪ .‬ويسعى باستخدام‬ ‫اإل‬
‫"العاّمة"‪،‬‬
‫ّ‬ ‫على بعض الصفات المستترة للمنتمين إلى‬ ‫إمنهج ّتحليل الخطاب إلى الكشف عن أ‬
‫األنساق‬
‫القِّص خالل فترات زمنية‬ ‫التي تضمنها هذا النمط من ِ‬ ‫المضمرة التي تتحكم في إبراز هذا المفهوم ثقاف ًًّيا‪،‬‬
‫معّينة‪ ،‬ومنها‪ :‬اعتمادهم على غيرهم‪ ،‬وأنهم ال‬ ‫ّ‬ ‫ومن َث َََّم‪ ،‬فهم معانيه المختلفة ومقارنتها بدالالت‬
‫األمن‪،‬‬ ‫يظهرون إال في حاالت عدم االستقرار واختالل أ‬
‫المفهوم نفسه في مجتمعات وعصور زمنية أخرى‪.‬‬
‫وأنهم كما يتسببون في إحداث حاالت من عدم‬
‫التوازن في المجتمع‪ ،‬يكون بمقدورهم كذلك صناعة‬ ‫يمكن االستغناء عنها في بناء المجتمعات‪ ،‬لكنها تعاني‬ ‫وتتمثل المشكلة التي يطرحها الكتاب في كونه يحاول‬
‫األخير من الكتاب‪،‬‬ ‫التوازن واإلبقاء عليه‪ .‬أَّما القسم أ‬
‫َ‬ ‫إ‬ ‫كونها تشبه تلك العيدان التي يتشكل منها الطريق‬ ‫"العاّمة" السلبي‪ ،‬الذي ساد‬ ‫ّ‬ ‫إثبات وضع مفهوم‬
‫فيتضمن قراءة في التصورات النقدية لمفهومي النخبة‬ ‫الذي ُيُستخدم للعبور من أجل الوصول إلى أهداف‬ ‫اإلسالمية‪ ،‬كما تعكسه معانيه‬ ‫في الحضارة العربية إ‬
‫والجماهير‪ ،‬كما وردت في الفكر العربي الحديث‪،‬‬ ‫تحددها النخب‪ .‬فهي بهذا الشكل "تمثل الجسر الذي‬ ‫الواردة في معاجم اللغة‪ ،‬التي عرضها المؤلف في‬
‫التي فككت أوهام النخب وانحيازاتهم‪ ،‬وهو ما ساعد‬ ‫تمتطيه شرائح أخرى في سبيل الوصول إلى غاياتها"‪،‬‬ ‫فيوِّضح أن تلك المعاجم توسم‬ ‫مستهل بحثه‪ِ .‬‬
‫للعاّمة وانحساره‪.‬‬
‫على تالشي المفهوم التقليدي ّ‬ ‫و"مرحلة من مراحل تجاوز الخطر لغيرهم"‪ ،‬وتم ّّثل‬ ‫"عيداٌن مشدودة‬ ‫األولى بأنها‬ ‫صيغتها أ‬ ‫"العاّمة" في‬
‫ٌ‬ ‫ّ‬
‫"القرب من الخطر نفسه بكل اقتدار"‪ ،‬وهي للغرق‬ ‫"المْع ََبر الصغير‬
‫البحر وُيُ ْْع ََب ُُر عليـها"‪ ،‬وأنها ْ‬ ‫ُتُرَك َُُب في‬
‫أقرب منها للنجاة‪ ،‬مقابل تلك الشرائح التي تمتطيها‪،‬‬ ‫يكون في أ‬
‫األنهار"‪ ،‬وأنها "الَّط َْْوف الذي ُيُ ْْرَكَب في‬
‫وتجتاز الخطر بها وعليها‪.‬‬ ‫الماء"‪ .‬كل هذه المعاني تؤكد‪ ،‬كما نقرأ في الكتاب‪،‬‬
‫"العاّمة" باعتبارها "أداة مستعملة‬ ‫ّ‬ ‫أنه كان ُيُنظر إلى‬
‫اقرأ القافلة‪ :‬لمزيد من قراءات‬ ‫يؤّصل‬
‫الكتاب إلى أربعة أقسام رئيسة‪ّ .‬‬ ‫ينقسم‬ ‫من آخرين يستفيدون منها‪ ،‬وذلك أألنهم يعبرون‬
‫الكتب المتنوعة‪.‬‬ ‫"العاّمة" وبواكيره في الخطاب‬ ‫القسم أ‬
‫األول مفهوم‬ ‫من خاللها‪ ،‬ورَّبَما عليها؛ لذا فال يتحقق وجودها إال‬
‫ّ‬ ‫بوجود أولئك آ‬
‫ويوِّضح غيابه في القرآن‬ ‫القرآني والحديث النبوي‪ِ ،‬‬ ‫اآلخرين"‪.‬‬
‫الكريم‪ ،‬وندرة تداوله في الحديث النبوي‪ .‬غير أن‬
‫إيجابًيا؛ إذ ُُر ِِبط مفهوم‬
‫تمثيله في الحديث النبوي كان أ ً‬ ‫تفسيًرا‬
‫ً‬ ‫عُّد‬
‫ويشرح "العدواني" أن هذا التعريف قد ُيُ ُ‬
‫األمان االجتماعي‬ ‫حيوّي هو بعد‬
‫ّ‬ ‫"العاّمة" ببعد‬
‫ّ‬ ‫العاّمة‪ ،‬التي ال‬
‫أولًّيّ ا يتالءم مع الموقع الثقافي لطبقة ّ‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪07 | 2024‬‬


‫دور إشارات الفيرمون (وهي كيميائيات تتركب من‬
‫إيكولوجيا السلوك الجماعي‬

‫كتب من العالم‬
‫جزيئات عضوية معقدة ُتُستخدم لنقل إاإلشارة من‬
‫حيوان آآلخر)‪ ،‬وكيفية اتخاذ القرارات الالمركزية‪،‬‬ ‫‪The Ecology of Collective Behavior‬‬
‫وتقسيم العمل وتنسيق أنشطة أعضاء المستعمرة‪.‬‬ ‫‪by Deborah M. Gordon‬‬
‫وكشفت كيف أن التفاعالت البسيطة بين الحشرات‬ ‫تأليف‪ :‬ديبورا م‪ .‬جوردون‬
‫الفردية‪ ،‬تؤدي إلى ظهور أنماط سلوكية ناشئة‪ ،‬وهو‬ ‫الناشر‪2023 :‬م‪Princeton University Press ،‬‬
‫ما يسمح للمستعمرات بالبحث عن الطعام بكفاءة‪،‬‬
‫والدفاع ضد الحيوانات المفترسة‪ ،‬وتنظيم بيئتها‬
‫الداخلية‪ .‬في مختلف أجزاء الكتاب‪ ،‬تؤكد جوردون‬ ‫لكن‪ ،‬وعلى الرغم من هذا الحضور الواسع‪ ،‬فإن‬
‫السياق البيئي الذي يحدث فيه السلوك الجماعي‪ ،‬مما‬ ‫األحياء ديبورا جوردون‪ ،‬تشعر بالقلق من أن‬‫عالمة أ‬
‫يؤكد أهمية إاإلشارات البيئية وتوافر الموارد في تشكيل‬ ‫األحياء التطورية‪ ،‬الذين يدرسون كيفية تطور‬ ‫علماء أ‬
‫ديناميكيات مجتمعات هذه الحشرات‪ .‬كما أنها تدرس‬ ‫هذه السلوكيات الجماعية‪ ،‬تفوتهم مسألة أساسية‪،‬‬
‫كيف تؤثر عوامل مثل‪ :‬بنية الموائل وتقلب المناخ‬ ‫وهي أنهم ال يأخذون في االعتبار البيئات المتغيرة‬
‫والتفاعالت بين أعضاء المستعمرة‪ ،‬في سلوك هذه‬ ‫باستمرار التي تعيش فيها الحيوانات والمجتمعات‬
‫الُمعَّقَد‬
‫الحشرات وتوزيعها‪ ،‬وهذا ما يوضح التفاعل ُ‬ ‫البشرية‪ ،‬التي تتحكم في كثير من سلوكياتها المتأثرة‬
‫بين العوامل البيولوجية والبيئية‪.‬‬ ‫بالبيئة المتغيرة من حولها‪ .‬في هذا الكتاب‪ ،‬تحاول‬
‫جوردن وضع أ‬
‫األمور في ِِنصابها الصحيح‪.‬‬
‫يقِّدم هذا الكتاب رؤى ق ِِّيمة حول‬
‫عالوة أعلى ذلك‪ِ ،‬‬
‫األوسع للسلوك الجماعي على النظرية البيئية‬ ‫آ‬
‫اآلثار‬ ‫أمضت جوردون عقو ًًدا من الزمن في دراسة التاريخ‬ ‫توجد السلوكيات الجماعية في مختلف البيئات‬
‫وبيولوجيا الحفظ‪ ،‬بحيث تناقش جوردون كيف يمكن‬ ‫الطبيعي لنوعين من النمل يعيشان في بيئات‬ ‫نَّشط في وقت‬‫الطبيعية‪ ،‬بد ًًءا من أالجينات التي ُتُ َ‬
‫للدروس المستفادة من دراسة مجتمعات الحشرات‬ ‫تماًما‪ ،‬وحاولت استكشاف كيفية تنظيم هذه‬ ‫مختلفة ً‬ ‫األسماك التي تسبح في تناغم‬ ‫واحد‪ ،‬إلى أسراب‬
‫أن تفيد في فهمنا أألنظمة التكيف المعقدة أ‬
‫األخرى‪،‬‬ ‫المخلوقات الصغيرة لنفسها لتحقيق إنجازات رائعة‬ ‫تام لتحمي نفسها من الحيوانات المفترسة‪ ،‬إلى‬
‫من المجتمعات البشرية إلى المجتمعات الميكروبية‪،‬‬ ‫من خالل التعاون والقدرة على التكيف‪ .‬فعملت على‬ ‫مًعا لبناء أعشاشها‪،‬‬
‫مجموعات الحشرات التي تعمل ً‬
‫وتستكشف التطبيقات المحتملة لهذه المعرفة‬ ‫األساسية التي تحكم السلوك الجماعي‬ ‫تحديد المبادئ أ‬ ‫إلى المجتمعات البشرية التي تحاول أن تتفاعل‬
‫لَّحة‪.‬‬
‫الُم َ‬
‫لمواجهة التحديات البيئية ُ‬ ‫في مستعمرات النمل هذه‪ ،‬مع تسليط الضوء على‬ ‫مًعا‪.‬‬
‫وتتطور ً‬

‫على طول الطريق نسافر حول العالم لنلتقي العلماء‬ ‫الحياة السرية لألرقام‬
‫تاريخ خفي لرواد الرياضيات المجهولين‬
‫العرب الالمعين وغيرهم من العلماء في "بيت‬
‫الحكمة" (الذي كان تدميره في حصار بغداد في‬
‫اإلسكندرية‬
‫القرن الثالث عشر أشبه بخسارة مكتبة إ‬ ‫‪The Secret Lives of Numbers: A Hidden History‬‬
‫القديمة)‪ ،‬ال س ََّيما العالم الكبير الخوارزمي‪،‬‬ ‫‪of Math's Unsung Trailblazers by Kate Kitagawa,‬‬
‫يعُّد مؤسس علم الجبر في العالم‪ .‬وهناك‬ ‫‪Timothy Revell‬‬
‫الذي ُ‬
‫يقِّدمها الكتاب‪ ،‬مثل أن للتدوين‬
‫معلومات أخرى أِ‬ ‫تأليف‪ :‬كيت كيتاجاوا‪ ،‬وتيموثي ريفيل‬
‫جذوًرا في األشكال السداسية التقليدية التي‬‫ً‬ ‫الثنائي‬ ‫الناشر‪2024 :‬م‪William Morrow ،‬‬
‫نتعَّرف على‬
‫َ‬ ‫كما‬ ‫الصيني‪.‬‬ ‫ات"‬ ‫ر‬ ‫التغي‬ ‫"كتاب‬ ‫في‬ ‫ظهرت‬
‫علماء الرياضيات السود في عصر الحقوق المدنية‬
‫دوًرا‬ ‫أ‬
‫في الواليات المتحدة األمريكية‪ ،‬الذين أدوا ً‬
‫مهًما في تفكيك أساليب التمييز العنصري المبكرة‬ ‫ً‬ ‫مما ال شك فيه أن الرياضيات هي أ‬
‫القائمة على البيانات‪.‬‬ ‫األساس لكل ما‬
‫تقريًبا‪ .‬ولكن على الرغم من أنها دراسة‬
‫نقوم به أ ً‬
‫َأَّما أهمية الكتاب‪ ،‬فتكمن في فكرة أنه فيما يتعلق‬ ‫األساسية‪ ،‬وأنها تتكون من تسلسالت‬ ‫للحقائق‬
‫منطقية من أ‬
‫األفكار والبراهين والنظريات‪ ،‬فإن‬
‫بتاريخ الرياضيات‪ ،‬هناك ما هو أكثر من مجرد أرقام‬ ‫تتناول قصص الكتاب مادهافا السنجماراي‪ ،‬العبقري‬
‫على المحك‪.‬‬ ‫الهندي من القرن الرابع عشر‪ ،‬الذي اكتشف المبادئ‬ ‫نادًرا ما يكون بهذا الوضوح‪ ،‬وذلك أألسباب‬
‫تاريخها ً‬
‫األساسية لحساب التفاضل والتكامل قبل إسحاق‬ ‫أ‬ ‫من أبرزها أن الروايات التي قدمت عن أصولها‬
‫وهكذا‪ ،‬سعى ٌكٌّل من كيتاجاوا وريفيل لرسم صورة‬ ‫نيوتن بثالثة قرون‪ .‬كما تتناول عالمة الرياضيات هيباتيا‬ ‫التاريخـية سيطرت عليها شخصيات وحجج غربية‪،‬‬
‫لتاريخ الرياضيات لتنجذب "الروح" فيها إلى الحقيقة‪،‬‬ ‫السكندرية‪ ،‬التي عاشت في مصر الرومانية‪ ،‬والتي‬ ‫على حساب رواد آخرين ُأُهملوا أألسباب متعددة‪.‬‬
‫حقيقة أن الرياضيات ليست مجرد مسعى غربي‪،‬‬ ‫أحدثت ثورة في علم الهندسة‪ ،‬ولقيت مصرعها بعد‬
‫باإلضافة‬ ‫في هذا الكتاب تحاول مؤرخة الرياضيات كيت‬
‫بل هي مسعى عالمي جامع‪ ،‬يشترك فيه بعض من‬ ‫واإللحاد‪ .‬إ‬
‫والشعوذة إ‬ ‫أن اُّتهمت بالسحر‬
‫إلى ُعالمة الرياضيات أ‬ ‫كيتاغاوا‪ ،‬والصحافي تيموثي ريفيل‪ ،‬تصحيح هذا‬
‫أهم العلماء ممن محاهم التاريخ بسبب عرقهم أو‬ ‫األمريكية كارين أولينبيك‪ ،‬من‬
‫جنسهم أو جنسيتهم‪.‬‬ ‫مؤسسي التحليل الهندسي الحديث‪ ،‬التي كانت أول‬ ‫المسار‪ ،‬وإظهار أن تاريخ الرياضيات أعمق وأوسع‬
‫وأكثر ثراًء من السرد الذي ُيقّدم لنا في غالب أ‬
‫األحيان‪.‬‬
‫امرأة تفوز بجائزة "أبيـل"؛ أي نوبل الرياضيات‪.‬‬ ‫ُ ّ‬ ‫ً‬
‫مقارنة بين كتابين‬

‫ثم يبحث هايدت في طبيعة الطفولة‪ ،‬مرِّك ًًِزا على سبب‬


‫األطفال إلى اللعب واالستكشاف المستقل؛ حتى‬ ‫احتياج أ‬
‫ويوِّضح كيف‬
‫ينضجوا ويصبحوا بالغين أْكْفاء وناجحين‪ِ .‬‬
‫بدأت "الطفـولة القـائمة على اللعب" في التدهور في‬
‫أخيًرا‬
‫الثمانينيات من القرن الماضي‪ ،‬وكيف ُقُضي عليها ً‬
‫مع وصول "الطفولة القائمة على الهاتف" في أوائل عام‬
‫وأخيًرا‪ ،‬يقول‪ :‬إن الوقت قد حان إإلنهاء هذه‬
‫ً‬ ‫‪2010‬م‪.‬‬
‫التجربة المستمرة التي أرسلت أطفالنا دون حماية إلى‬
‫األحيان‪ُ ،‬فُيطلق‬‫أرض غريبة تماًما‪ ،‬ومعادية في كثير من أ‬
‫ً‬
‫دعوة واضحة للعمل من أجل إبقاء الهواتف الذكية خارج‬
‫األطفال الصغار عن وسائل التواصل‬ ‫المدارس‪ ،‬وإبعاد أ‬

‫هل يجب أن نقلق‬


‫باإلضافة إلى ضرورة فرض الحكومات على‬ ‫االجتماعي‪ ،‬إ‬
‫شركات التكنولوجيا مسؤولية رعاية الشباب‪ ،‬بحيث تشمل‬
‫أ‬
‫على الجيل الجديد؟‬
‫عاًما‪ ،‬وإدخال‬‫اإللكتروني إلى ‪ً 16‬‬‫في األقل رفع سن البلوغ إ‬ ‫إنها مصدر الشر الحقيقي‪ .‬بينما يشير كتاب "العـالج‬
‫اإلنترنت‪.‬‬‫فّعالة للتحقق من العمر عبر إ‬
‫أنظمة ّ‬ ‫السيئ"‪ ،‬لمؤلفته الكاتبة الصحافية أبيغيل شراير‪ ،‬إلى أن‬
‫السبب هو المبالغة في تشخيص االضطرابات النفسية‬

‫‪1‬‬
‫في كتابها المعنون "العالج السيئ"‪ ،‬تتشارك أبيغيل شراير‬ ‫األطفال؛ ما يؤدي إلى عالجات رَّبَما ال تكون في‬ ‫لدى أ‬
‫األجيال الناشئة‪ ،‬لكنها‬‫مع هايدت في إبداء قلقها بشأن أ‬ ‫عوًضا‬ ‫أ‬ ‫الجيل القلق‪ ..‬كيف تسببت عملية إعادة التشكيل‬
‫تختلف معه حول أ‬ ‫محلها في كثير من األحيـان‪ ،‬ف ُُتفـاقم المشكالت ً‬
‫األسباب‪ .‬فبالنسبة إلى شراير‪ ،‬الجاني‬ ‫من أن تحَّلَها‪.‬‬ ‫العظيمة للطفولة في انتشار وباء المرض العقلي؟‬
‫سِّميه "صناعة الصحة‬ ‫ليس التكنولوجيا‪ ،‬بل هو ما ُتُ‬ ‫‪The Anxious Generation: How the Great‬‬
‫األطفال بطريقة فيها‬ ‫نتعامل ِمع أ‬ ‫العقلية"‪ .‬فنحن اليوم‬ ‫يقول هايدت في كتابه "الجيل القلق" إن شباب اليوم‪،‬‬ ‫‪Rewiring of Childhood Is Causing an‬‬
‫‪Epidemic of Mental Illness by Jonathan‬‬
‫اهتمام وتدخل أكثر مما ينبغي‪ ،‬ونعمد إلى المبالغة‬ ‫عوًضا عن التفاعل مع مجتمعات العالم الحقيقي‬
‫ً‬ ‫‪Haidt‬‬
‫في التشخيص في كثير من السيناريوهات‪ ،‬فنسـارع‬ ‫الصغيرة والمستقرة‪ ،‬يعيشون في مجتمعات العالم‬ ‫تأليف‪ :‬جوناثان هايدت‬
‫إلى اعتبـار أي قلق نفسي قد يعانونه مشكلًةً متعلقًةً‬ ‫يومًيا من الميمات‬
‫"إعصاًرا ً‬
‫ً‬ ‫االفتراضي؛ إذ يختبرون‬

‫‪2‬‬
‫الناشر‪2024 :‬م‪Penguin Press ،‬‬
‫بصحتهم العقلية‪ ،‬بداًلا من السماح لهم بعيش طفولة‬ ‫والبدع ومقاطع الدراما الصغيرة سريعة الزوال‪ ،‬التي‬
‫طبيعية‪ .‬تروي أبيغيل قصة سريعة في بداية الكتاب‬ ‫يتناوب على لعب أدوارها طواقم من ماليين الالعبين‬ ‫العالج السيئ‪ ..‬لماذا ال يكبر أ‬
‫األطفال؟‬
‫عندما اصطحبت ابنها إلى قسم الطوارئ؛ بسبب آالم‬ ‫الصغار"‪ ،‬وهو ما يجعلهم‪ ،‬كما تقول عالمة االجتماع‬ ‫‪Bad Therapy: Why the Kids Aren't Growing‬‬
‫في المعدة‪ ،‬وتب ََّين الحًقًا أنها ناتجة من إصابته بالجفاف‪.‬‬ ‫شيري توركل‪ ،‬أ‬
‫"لألبد في مكان آخر"‪.‬‬ ‫‪Up by Abigail Shrier‬‬
‫ولكن قبل مغادرتهما المستشفى‪ ،‬بدأت الممرضة تطرح‬ ‫تأليف‪ :‬أبيغيل شراير‬
‫األسئلة المتعلقة بصحته العقلية‪ ،‬مثل‪ :‬هل‬ ‫عليه بعض أ‬ ‫وما ُيُس ِِّهل ذلك هو انتشار الهواتف الذكية في كل‬ ‫الناشر‪2024 :‬م‪Sentinel ،‬‬
‫أ‬
‫فكرت في يوم من األيام في إيذاء نفسك؟‬ ‫مكان‪ ،‬ال س ََّيما أنها تسمح بالوصول إلى وسائل التواصل‬
‫االجتماعي على نحو دائم‪ ،‬باإلضافة إلى كل أ‬
‫األلعاب‬ ‫إ‬
‫صِّوب شراير سهامها على العقلية العالجية التي ال‬
‫ُتُ ِ‬ ‫جًدا لدرجة‬
‫يجعلها ُُمغرية أ ً‬ ‫الُمسلية التي تتيحها‪ ،‬ما‬
‫ُ‬
‫األطباء المتخصصين بعلم النفس‬ ‫تنتشر في مكاتب أ‬ ‫األنشطة األخرى‪ ،‬ويجعلها‬ ‫أنها تقلل من االهتمام بكل أ‬
‫أيًضا في فصول‬‫والمعالجين النفسيين فقط‪ ،‬بل ً‬ ‫بحسب هايدت "حواجب للتجربة"‪ .‬وهنا يشير هايدت‬ ‫تغّيرت في عصرنا الحالي طبيعة الطفولة إلى حد بعيد‪.‬‬
‫ّ‬
‫المدارس االبتدائية والمتوسطة والثانوية‪ ،‬وقوائم الكتب‬ ‫إلى كثير من التطورات الرئيسة التي حصلت في عالم‬ ‫ومن المالحظ أن معدالت االكتئاب والقلق واالنتحار‬
‫مبيًعا‪ ،‬وداخل العائالت‪ ،‬والوكاالت الحكومية‪.‬‬ ‫أ‬
‫األكثر ً‬ ‫التكنولوجيا‪ ،‬ومن أبرزها‪ :‬وصول الهاتف الذكي عام‬ ‫بين الجيل الناشئ قد ارتفعت بشكل ملحوظ؛ حتى بات‬
‫"اإلعجاب" و"المشاركة" على‬ ‫خياَري إ‬
‫‪2007‬م‪ ،‬وظهور َ‬ ‫يمكننا القول إن صحة الشباب العقلية ليست على ما‬
‫اإلجابة عن سؤال‪ :‬هل يجب أن نقلق‬ ‫أخيًرا‪ ،‬إذا ما أردنا إ‬
‫ً‬ ‫وسائل التواصل االجتماعي عام ‪2009‬م‪ ،‬وإطالق هاتف‬ ‫ُيُرام‪ ،‬وأن ذلك يمثل ظاهرة عالمية انتشرت في كثير من‬
‫على الجيل الجديد؟ فمما ال شك فيه أن ما ُيُظهره هذان‬ ‫تمّيز بأول كاميرا أمامية‬
‫آيفون ‪ 4‬في يونيو ‪2010‬م‪ ،‬الذي ّ‬ ‫بلدان العالم‪.‬‬
‫أ‬
‫الكتــابان من مشكالت فعلية تواجهها األجيال الناشئة‬ ‫أسهمت في سهولة التقاط صور سيلفي‪ .‬وقد أدت كل‬
‫الحُّل‪،‬‬ ‫فعاًل إلى القلق أ‬
‫وألسباب مختلفة‪َ .‬أَّما ُ‬ ‫يدعونا ا‬ ‫هذه العوامل مجتمعة إلى ما يسميه "إعادة التشكيل‬ ‫أَّما فيما يتعلق أ‬
‫باألسباب‪ ،‬فقد صدر حدي ًًثا كتابان‬
‫العظيمة للطفولة"‪ ،‬التي شهدت "إعادة صياغة أ‬ ‫َ‬
‫فيكمن في تأكيد دعوة هايدت السترجاع بعض جوانب‬ ‫األنماط‬ ‫ُيُسِّلِطان الضوء على هذه المشكلة بالتحديد‪ .‬فكتاب‬
‫المفهوم القديم للطفولة القائم على اللعب‪ ،‬وفي‬ ‫االجتماعية ونماذج القدوة والعواطف والنشاط البدني‪،‬‬ ‫"الجيل القلق"‪ ،‬لمؤلفه المتخصص في علم النفس‬
‫أطروحة شراير باالسترخاء وعدم جعل تحديات الطفولة‬ ‫حتى أنماط النوم‪ ،‬بالنسبة إلى المراهقين على مدار‬ ‫االجتماعي جوناثان هايدت‪ ،‬يعزو السبب إلى الهواتف‬
‫مصدًرا للقلق المبالغ فيه‪.‬‬
‫ً‬ ‫العادية‬ ‫خمس سنوات فقط"‪.‬‬ ‫الذكية ووسائل التواصل االجتماعي التي يقول عنها‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪09 | 2024‬‬


‫مجلة القافلة‬
‫مايو ‪ -‬يونيو ‪2024‬‬ ‫قبل السفر‬

‫الشهادة الجامعية‪ ..‬ضرورة؟‬

‫بداية كالم‬
‫سًّرا من أسرار نجاحها وريادتها‪ ،‬فبفضله‬
‫يعُّد التدريب المهني والتعليم ما دون الجامعي في ألمانيا‪ ،‬المزدهرة اقتصادًيًا‪ً ،‬‬
‫ُ‬
‫معّدالت البطالة‪ ،‬وارتفعت معدالت التشغيل في الفئة العمرية من ‪ 20‬إلى ‪ 34‬لتصل إلى ‪.%92.7‬‬ ‫انخفضت ّ‬
‫وفي المملكة‪ ،‬يبلغ إجمالي المنشآت التابعة للمؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني أكثر من ‪ 260‬منشأة‪ ،‬تغطي كافة‬
‫أرجاء المملكة‪ ،‬في حين يصل عدد المتدربين بمختلف التخصصات إلى أكثر من ‪ 240‬ألف متدرب‪.‬‬
‫في هذا العدد من مجلة القافلة‪ ،‬توجهنا بالسؤال إلى عدد من القَّراء أ‬
‫األعزاء‪ :‬ما قيمة الشهادة الجامعية في رأيكم؟ وهل‬ ‫َ‬
‫تعُّد ضرورة في الحياة العملية؟ وما الذي استفدتموه شخص ًًيا من شهادتكم الجامعية في مجال العمل؟ وإلى أي‬ ‫ما زالت ُ‬
‫مدى كانت المعرفة التي اكتسبتموها من دراستكم عملية وفي محلها؟‬

‫يجُدر تحديد‬
‫من ناحية أخرى‪ُ ،‬‬ ‫ومتنوعة‪ .‬وبنظرة إلى بعض‬ ‫متعّددة للنجاح‬
‫ّ‬ ‫طرق‬
‫الهدف من الحصول على شهادة‬ ‫الشركات الكبرى‪ ،‬نجد أنها‬ ‫المهني والمعرفة‬
‫جامعية أو مهنية قبل الشروع‬ ‫قِّدر الخبرة والمهارات‬ ‫ُتُ ِ‬ ‫يمكن للشهادة الجامعية أن‬
‫بأّي منهما‪.‬‬
‫في البدء ّ‬ ‫العملية‪ ،‬وُتُتيح الفرص للذين‬ ‫مفتاًحا لبناء قاعدة‬
‫ً‬ ‫تكون‬
‫يستطيعون إثبات قدراتهم‪،‬‬ ‫معرفية قوية‪ ،‬وكذلك توسيع‬
‫اكتساب المعرفة ال يقتصر على‬ ‫حتى من دون شهادة جامعية‪،‬‬ ‫الشبكة المهنية‪ .‬ففي بعض‬
‫الشهادات المعترف بها‪ ،‬فال‬ ‫وهو ما ُيُظهر تغ ُُّي ًًرا في‬ ‫تعُّد الشهادة‬
‫المجاالت‪ُ ،‬‬
‫يمكن إغفال القدرة على التعـُّلُم‬ ‫التوجهات داخل الصناعة‪.‬‬ ‫الجامعية أساسية لتوفير‬
‫من خالل قنوات المعرفة‬ ‫األسس النظرية والمهارات‬‫أ‬
‫المفتوحة وغير المكلفة‪ ،‬التي‬ ‫كثيًرا‬
‫هذا أيقود إلى استنتاج أن ً‬ ‫الالزمة للممارسة المهنية‪.‬‬ ‫عهود حجازي‬
‫يمكن ارتيادها بحسب الفراغ‬ ‫من األشخاص حققوا النجاح‬ ‫باحثة دكتوراة في تحليل‬
‫والرغبة‪ .‬تلك المعرفة التي من‬ ‫في مسيرتهم المهنية من خالل‬ ‫ولكن الشهادة الجامعية‬ ‫الخطاب السينمائي‬
‫شأنها رفع مستوى التفكير‪،‬‬ ‫التعـُّلُم المستمر‪ ،‬إضافة‬ ‫ليست السبيل الوحيد لتحقيق‬
‫ودعم الثقة بالنفس‪ ،‬والدفع‬ ‫إلى الخبرة العملية‪ ،‬وتطوير‬ ‫النجاح‪ ،‬فالطرق المؤدية‬
‫بالطموح إلى أ‬
‫األعلى‪.‬‬ ‫المهارات الشخصية كذلك‪.‬‬ ‫إلى النجاح المهني متعددة‬

‫التفكير النقدي‪ ،‬ومهارات‬ ‫الفرصة الجيدة للترقية وزيادة‬ ‫تقُّدم مهني مق ّّيد‪..‬‬
‫ُ‬
‫التحليل‪ ،‬وحل المشكالت‪.‬‬ ‫الراتب‪ ،‬مقارنة بالموظفين‬ ‫وترقيات محدودة‬
‫المتخصصين والحاصلين على‬ ‫اآلونة أ‬
‫األخيرة‪ ،‬تعالت‬ ‫في آ‬
‫مع تطور سوق العمل‪ ،‬تظل‬ ‫الشهادات الجامعية‪.‬‬ ‫أ‬
‫األصوات التي تشير إلى أمثلة‬
‫الشهادة الجامعية أداة قوية لبناء‬ ‫من شركات عالمية ال تشترط‬
‫رَّبَما هناك كثير من الوظائف التي حياة مهنية مرضية ومزدهرة‪ .‬وبال‬ ‫الحصول على شهادة جامعية‬
‫ال تتطلب الحصول على شهادات شك‪ ،‬تختلف الظروف االجتماعية‬ ‫للتوظيف‪.‬‬
‫واالقتصادية بين المملكة وباقي‬ ‫جامعية‪ ،‬ولكن هناك دراسات‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فإن علينا أن ندرك أن أظهرت أن الحصول على شهادة الدول من جوانب عديدة‪ ،‬أهمها‬
‫الفرص الوظيفية‪ ،‬التي قد تكون جامعية ال ُيُؤهلك فقط للحصول أن التعليم مكفول ومدعوم من‬
‫األحوال‪ ،‬يجب‬‫متاحة من دون شهادة جامعية‪ ،‬على فرص وظيفية متنوعة ودخل الدولة‪ .‬وفي كل أ‬ ‫سعيد المدني‬
‫غالًبا ما تكون مقيدة ومحصورة أعلى وترقيات أسرع‪ ،‬وإنما يفتح مراجعة قرار عدم الحصول على‬ ‫ً‬ ‫مدير للتوطين والمحتوى‬
‫عاٍل من دون وجود خطة‬ ‫أيًضا آفاًقًا جديدة‪ ،‬ويمنحك تعليم ٍ‬
‫لك ً‬ ‫التقُّدم‬
‫من حيث القدرة على ُ‬ ‫المحلي‬
‫بديلة‪ ،‬مثل تجارة أو سعي وراء‬ ‫مهارات يصعب الحصول عليها‬ ‫المهني وتطوير المستوى‬
‫شغف مع ََّين‪.‬‬ ‫خارج البيئة الجامعية‪ ،‬مثل‪:‬‬ ‫الوظيفي؛ إذ قد تفتقر إلى‬
‫المجال منذ صغري‪ ،‬ولطالما‬ ‫شهادة جامعية‪ ،‬مثل بيل‬ ‫نجاح األفراد غير مرتبط‬ ‫أ‬
‫رغبت في زيادة معرفتي‬ ‫غيتس‪ ،‬ستيف جوبز‪ ،‬ومارك‬ ‫بشهاداتهم‬
‫وإلمامي بهذا المجال‪ ،‬حتى‬ ‫الشهادة الجامعية وسيلة للتعلم زوكربيرغ‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫تخرجت من المرحلة الثانوية‪،‬‬ ‫نجاح أفراد أو تميزهم دون‬ ‫والتطوير الشخصي والمهني‪،‬‬
‫والتحقت بالمعهد العالي‬ ‫إكمالهم للدراسة‪ ،‬ال يعني‬ ‫ولكنها في الوقت نفسه ليست‬
‫السعودي الياباني للسيارات‪،‬‬ ‫أساًسا مطلًقًا في نجاح إاإلنسان التقليل من أهمية الشهادة‬
‫ً‬
‫واستفدت خالل دراستي‬ ‫تمّيزه‪ ،‬وال يمكن الحكم على الجامعية‪ ،‬فهي من دون شك‬ ‫أو ّ‬
‫كثيًرا من المعلومات‪،‬‬
‫المهنية ً‬ ‫اإلنسان معارف ومهارات‬ ‫تمنح إ‬ ‫إنسان بالفشل لمجرد عدم‬
‫وإلماًما بالمصطلحات التي‬
‫ً‬ ‫وثقافة‪ ،‬تساعده على فهم‬ ‫حصوله على شهادة جامعية‬
‫كانت معرفتي بها مقتصرة على‬ ‫العالم من حوله‪ ،‬وتفتح له‬ ‫أو مواصلة تعليمه‪ ،‬فأهمية‬ ‫لؤي محمد السقاف‬
‫اللغة العربية قبل دخولي‬ ‫آفاًقًا وفرص عمل وتطور أكبر‬ ‫الحصول عليها مرتبط بطموح‬ ‫مدرب أول ميكانيكا‬
‫للمعهد‪ ،‬كما أصبحت معرفتي‬ ‫في المستقبل‪ ،‬كما تزيد من‬ ‫كل شخص في حياته وأهدافه‬ ‫سيارات‬
‫اإلنسان وتقديره لذاته‪ ،‬العامة بمجال تخصصي أوسع‬ ‫احترام إ‬ ‫الخاصة ومجال عمله‪.‬‬
‫وأعمق‪ ،‬واكتسبت هوايتي‬ ‫اإلسهام في‬
‫وتشجعه على إ‬ ‫هناك عديد من العوامل‬
‫وشغفي بهذا المجال صفة‬ ‫تنمية مجتمعه‪ .‬لذلك‪ ،‬يجب‬ ‫اإلنسان‬
‫التي تؤثر على نجاح إ‬
‫االحتراف والتخصص‪ ،‬حيث‬ ‫اإلنسان أن يستغل فرصة‬ ‫على إ‬ ‫في حياته‪ ،‬مثل‪ :‬الشخصية‪،‬‬
‫التعليم الجامعي إذا كان بإمكانه عملت بعد تخرجي في كبرى‬ ‫الموهبة‪ ،‬االجتهاد‪ ،‬المهارات‬
‫اإلبداعية‪ ،‬القدرة على التكيف‪ ،‬ذلك‪ ،‬وأال يضيع وقته أو جهده الشركات اليابانية للسيارات‪،‬‬ ‫إ‬
‫مدرَب‬ ‫آ‬
‫حتى أصبحت اآلن‬ ‫التعاون‪ ،‬والقيادة‪ ،‬وغيرها‪ .‬كما في أشياء غير مفيدة‪.‬‬
‫َ‬ ‫إن هناك عديًدا من أ‬
‫ميكانيكا في المعهد نفسه الذي‬ ‫األمثلة على على المستوى الشخصي‪ ،‬فأنا‬ ‫ً‬
‫تخَّرجت منه‪.‬‬
‫َ‬ ‫أعمل في مجال هندسة وصيانة‬ ‫أشخاص نجحوا في مجاالت‬
‫السيارات‪ ،‬وكنت شغوًفًا بهذا‬ ‫مختلفة دون أن يحصلوا على‬

‫مهارات في البحث‪ ،‬وفن اختيار‬ ‫المتطلبات‪ .‬وفي هذا المثال‪،‬‬ ‫سالٌح‬


‫الشهادة‪ٌ ..‬‬
‫وسيلة إاإلعالن‪ ،‬والقدرة على‬ ‫تعُّد الشهادة الجامعية مهمة‬ ‫ُ‬ ‫علمي ومعرفي‬
‫التخطيط وحل المشكالت‪ .‬كما‬ ‫أ‬
‫جًدا وال يمكن ألحد أن يصبح‬ ‫ال شك أن للشهادة الجامعية‬
‫ً‬
‫أن العمل في شركات التكنولوجيا‬ ‫طبيًبا من دونها! ومثلها الكثير‬‫ً‬ ‫أهمية كبيرة على المستويين‬
‫والمعلومات‪ ،‬مثل‪ :‬غوغل وأبل‬ ‫من التخصصات التي تحتاج إلى‬ ‫العلمي والمهني‪ ،‬ولكن أهميتها‬
‫ومايكروسوفت وغيرها‪ ،‬تتطلب‬ ‫شهادة أكاديمية متخصصة‪.‬‬ ‫تختلف من مجال إلى آخر‪،‬‬
‫مهارات تقنية مختلفة قد ال‬ ‫في حالتي الشخصية‪ ،‬لم أتمكن‬ ‫ولكل مجال خصوصيته ودرجاته‬
‫تستدعي الحصول على شهادة‬ ‫من االلتحاق بالعمل في المجال‬ ‫العلمية التي يتطلبها‪.‬‬
‫أو على درجة علمية محددة‪.‬‬ ‫والترّشح للوظيفة‬
‫ّ‬ ‫الصحي‪،‬‬ ‫وتختلف أهمية الشهادة‬
‫ال يمكننا التقليل من أهمية‬ ‫التي أزاولها‪ ،‬من غير حصولي‬ ‫الجامعية ومجالها التخصصي‪،‬‬ ‫ٔاشواق وزنة‬
‫الشهادة الجامعية بشكل عام‪،‬‬ ‫على شهادة البكالوريوس‪ ،‬ثم‬ ‫بحسب ميول كل شخص ورغباته‬ ‫اختصاصية تخطيط قلب‬
‫كما ال يمكننا مطالبة الجميع‬ ‫حصولي على درجة الماجستير‬ ‫وقدراته وطموحاته‪ .‬فعلى سبيل‬
‫بالحصول عليها‪ ،‬أ‬
‫فاألمر يعود‬ ‫كثيًرا في إاإللمام‬
‫التي ساعدتني ً‬ ‫المثال‪ ،‬من يطمح أألن يكون‬
‫إلى طموح كل شخص وهدفه‬ ‫بمجال تخصصي بشكل أكبر‪،‬‬ ‫طبيًبا‪ ،‬فإن ذلك يتطلب منه‬
‫ً‬
‫الوظيفي ومجال عمله‪.‬‬ ‫ومن َث َََّم نيل الترقية الوظيفية‪.‬‬ ‫دراسة دقيقة ودرجات علمية‬
‫ولكن في رأيي‪ ،‬أن الشهادة‬ ‫في المقابل‪ ،‬هنالك عدد من‬ ‫محددة‪ ،‬إضافًةً إلى كتابة وقراءة‬
‫علمًيا‬
‫سالًحا ً‬
‫تعُّد ً‬
‫الجامعية ُ‬ ‫المجاالت الوظيفية التي تتطلب‬ ‫كثير من البحوث والمقاالت‪،‬‬
‫ومعرفًيا‪ ،‬حتى إن لم تخدم‬
‫ً‬ ‫مهارات وخبرات عملية متعلقة‬ ‫مستمًرا ودورات‬
‫ً‬ ‫تعليًما‬
‫وكذلك ً‬
‫حاملها في مجال وظيفته‪.‬‬ ‫بمجاالت محددة من دون‬ ‫وغالًبا ما‬
‫تدريبية مكملة‪ً ،‬‬
‫الحاجة للشهادة الجامعية‪.‬‬ ‫التغُّرب والسفر في‬
‫يضطر إلى ُ‬
‫فمجال التسويق‪ ،‬ا‬
‫مثاًل‪ ،‬يتطلب‬ ‫سبيل تحقيق بعض من تلك‬
‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪11 | 2024‬‬
‫مجلة القافلة‬
‫مايو ‪ -‬يونيو ‪2024‬‬ ‫قبل السفر‬

‫ََمن يخاف ََمن؟‬

‫قول في مقال‬
‫د‪ .‬سماهر الضامن‬
‫ناقدة وأكاديمية سعودية‬

‫غريًبا‬ ‫ال يدور التنافس آ‬


‫بمزاج الجماهير والترندات‪ .‬بل إن هناك أسًفًا ً‬ ‫اآلن بين نجم يقطع الطريق‬ ‫طافت جولة تيلور سويفت ‪ ،Eras‬في العام الماضي‪،‬‬
‫يصيب هذه النخبة من المستمعين أحياًنًا حين‬ ‫وبين ََمن يعيشون في ظله حتى ينقشع‪ ،‬بل مع‬ ‫أرقاًما قياسية تاريخية‬ ‫أكثر من ‪ 150‬مدينة‪ ،‬وحققت‬
‫ينتقل المبدعون الذين شغفوا في فترة ما بفرادتهم‬ ‫الخوارزميات التي غدت العامل المفصلي في‬ ‫من ناحية عدد الحضور‪ ،‬ومبيعات ً التذاكر‪ ،‬أ‬
‫واألرباح‬
‫وطزاجتهم إلى مساحة النجومية والجماهيرية‪ .‬ال‬ ‫واإلحالل‪.‬‬
‫اإلبدال إ‬
‫عمليات إ‬ ‫قّدرت بحوالي عشرة مليارات دوالر‪.‬‬‫اإلجمالية التي ّ‬
‫إ‬
‫شك أن السوق سيعيد تشكيلهم ويشذب عنفهم‬ ‫سّميت تلك الظاهرة بتأثير سويفت آنذاك؛ إذ‬
‫ّ‬
‫ووحشيتهم‪ ،‬فهم يمثلون البري والنيئ‪ ،‬في حين‬ ‫هذا‪ ،‬إن تجاهلنا مسألة االستهالك والنجومية التي‬ ‫انتعش اقتصاد المدن التي مرت بها تلك الجولة‬
‫ستطبخهم مراكز صناعة االستهالك وتحولهم إلى‬ ‫تنظر إليها فئة كبيرة من المثقفين و ُُع ََّشاق الفنون‬ ‫الغنائية بسبب الجماهير الغفيرة التي كانت تتوافد‬
‫اإلنتاج واالستهالك‪ .‬أتذكر‬ ‫منتجات مثالية وفًقًا لقيم إ‬ ‫بوصفها قنوات ابتذال وتمييع للفرادة‪ .‬فما إن يبزغ‬ ‫لحضور الحفالت من خارج المدن الكبيرة‪ .‬نشرت‬
‫جيًدا شعور االشمئزاز الذي باغتني حين سمعت‬ ‫واألكثر مبيًعا أ‬
‫واألكثر‬ ‫األكثر استماًعا أ‬
‫نجم في قوائم أ‬ ‫وكاالت ومواقع أخبار عدة أنه جرى رصد هزة أرضية‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أغنيتي المفضلة لفرقة تيم إمباال (‪،)tame Impala‬‬ ‫مشاهدة ونجومية‪ ،‬وما إن تبيع تذاكر حفالته أكثر‬ ‫بقوة ‪ 2.3‬على مقياس ريختر في سياتل بعد حفلة‬
‫اإلعالن مبتذاًلا ‪،‬‬‫في أحد إعالنات "سناب شات"‪ .‬كان إ‬ ‫وتتهافت عليه الجماهير أكثر؛ حتى تنصرف عنه‬ ‫سويفت‪ ،‬بسبب رقص الجماهير وقفزهم على‬
‫وفقدت أ‬
‫األغنية جز ًًءا من روحها وتفردها ونشازها‬ ‫ذائقة "النخبة"‪ ،‬ويخرج من قوائم الباحثين عن‬ ‫مدرجات الملعب الرياضي الذي أقيمت فيه الحفلة‪.‬‬
‫أ‬
‫المحبب‪ .‬تخيلت ما سيحدث لو أصبحت األغنية‬ ‫الفريد والمنتقى والنادر‪.‬‬
‫تر ًنًدا على التيك توك‪ ،‬أو لو كثر استخدامها في مثل‬ ‫اإلحصاءات والضجة التي أثيرت حول‬ ‫لكن هذه إ‬
‫اإلعالنية غير المرخصة‪ ..‬يا للذعر!‬ ‫هذه الحمالت إ‬ ‫تزهو هالة المثقفين النخبويين كلما ضاقت الفقاعة‬ ‫الجولة‪ ،‬لم تؤثر على ما يبدو في رأي النخبة‬
‫حولهم‪ ،‬وَثَ ََّمة متعة خاصة في كون ذوقك الموسيقي‬ ‫من "السميعة"؛ الطبقة التي تشعر بضرورة‬
‫على صعيد آخر‪ُ ،‬يُدرك النجوم اليوم ما يواجههم‬ ‫متفر ًًدا‪ ،‬ال يميل إلى ما تميل إليه الجماهير‪ ،‬وال‬ ‫التعامل بحذر مع النماذج االستهالكية أ‬
‫واأليقونات‬
‫من تحديات الترند الذي أضحى وسيلة االستبدال‬ ‫اإلنتاج الكبرى‬
‫يتأثر بما تمليه السوق وشركات إ‬ ‫الجماهيرية‪ ،‬وال تسمح لتلك النماذج بالتأثير‬
‫قّدم بعضهم أعمااًلا مشتركة‬ ‫الطاحنة‪ .‬ولذلك‪ّ ،‬‬ ‫المهيمنة على الصناعة‪ .‬ولذا‪ ،‬تنشط في مراكز‬ ‫على خياراتها الجمالية‪ .‬فهناك فئة ال ُيُستهان‬
‫مع فنانين أقل شهرة (وليس أقل مهارة بالضرورة)؛‬ ‫الصناعات الثقافية والفنية‪ ،‬وبالقدر نفسه‪ ،‬ثقافة‬ ‫بها من ُُع ََّشاق الفنون المستقلة ومبدعي الظالل‬
‫وزخًما في أعلى‬ ‫آ‬ ‫آ‬
‫جديًدا ً‬‫ً‬ ‫جمهوًرا‬
‫ً‬ ‫ليكسب الطرفان‬ ‫"اآلندرقراوند"‪ ،‬التي تم ّّثلها الجماعات والفرق‬ ‫واآلندرقرواند‪ ،‬الذين ال يرون في سويفت وأخواتها‬
‫قوائم االستماع والمشاهدة‪ ،‬وهو ما فعلته سيلينا‬ ‫الموسيقية الخفية التي تتحرك في مناطق الظالل‪،‬‬ ‫إال مجرد أيقونات استهالكية؛ على الرغم من االعتراف‬
‫قامز مع ريما في أغنية ‪ ،calm down‬وبرونو مارس‬ ‫وتعمل بدأب على تطوير نماذجها وتوجهاتها‬ ‫بموهبة سويفت بشكل شخصي‪.‬‬
‫مع آندرسن باك‪ .‬لم يكن باك يتمتع بنجومية‬ ‫األضواء واشتراطات‬‫الخاصة بعيًدا عن سطوع أ‬
‫ً‬
‫مارس أو شهرته الطاغية حين ظهر المغنيان في‬ ‫السوق وما يطلبه المستهلكون‪ .‬فكثير من الفرق‬ ‫على أن "قّطّاع الطرق"‪ ،‬الذين تحدث عنهم‬
‫مفتوًحا"‪ ،‬وسرعان ما‬ ‫ً‬ ‫دويتو أغنية "سأترك الباب‬ ‫التي أصبح جمهورها اليوم بالماليين في عواصم‬ ‫الدكتور عبدهللا العقيبي‪ ،‬في مقاله من العدد ‪703‬‬
‫أطلق الثنائي (الذي أطلق عليه الحًقًا اسم ‪Silk‬‬ ‫صناعة الموسيقى العالمية‪ ،‬مثل بنك فلويد (‪Pink‬‬ ‫(مارس‪-‬أبريل ‪2024‬م)‪ ،‬يواجهون اليوم تحديات‬
‫أغاٍن صدرت الحًقًا في ألبوم مشترك‬ ‫‪ )Sonic‬عدة ٍ‬ ‫‪ )Floyd‬و ِِلد زبلن (‪ ،)Led Zeppelin‬كانت قد بدأت‬ ‫من نوع مختلف‪ ،‬وال سيما في مجال صناعة الفنون‬
‫لتتربع أغانيهما على أعلى قوائم بيلبورد للتصنيف‬ ‫وكّونت قاعدتها الجماهيرية من‬ ‫آ‬
‫من "اآلندرقراوند"‪ّ ،‬‬ ‫غّيرت الديناميكية‬
‫والموسيقى‪ ،‬وهي تحديات ّ‬
‫الموسيقي‪ .‬ال شك أن شهرة مارس وجماهيريته كانت‬ ‫مجموعات صغيرة من الجمهور المتعطش للفرادة‬ ‫اإلنتاج والجماهيرية في عصر‬‫التقليدية في عالقات إ‬
‫كبيًرا في ذلك النجاح‪ ،‬لكن براعة باك والكاريزما‬ ‫ا‬
‫عاماًل ً‬ ‫والندرة ودهشة الجديد وطزاجته‪.‬‬ ‫طوفان االستهالك المتعطش للجديد و"الترندي"‪.‬‬
‫العالية التي يتمتع بها‪ ،‬لفتت انتباه النقاد والُكُ ََّتاب‬ ‫فالحكم اليوم هو الجمهور المتفاعل مع‬
‫الذين أكدوا في عديد من المقاالت أن آندرسون باك‬ ‫هناك شعور باالمتياز والتفوق في اكتشاف الجديد‪،‬‬ ‫اإللكترونية‪ ،‬والنجم هو من‬
‫الخوارزميات والشبكات إ‬
‫األضعف في هذا الثنائي‪ ،‬على الرغم‬ ‫ليس الحلقة أ‬ ‫في إخبار أصدقائك ومن يشاركونك االهتمامات بأنك‬ ‫تقرر الجماهير ذلك بشأنه‪ .‬ويبدو أن الخوارزميات‬
‫من جماهيرية مارس‪ .‬فال ظل مارس حجب باك‪ ،‬وال‬ ‫"اكتشفت" فرقة أو أغنية لم يعرفوها بعد؛ امتياز‬ ‫تسهم اليوم في صناعة النجوم‪ ،‬أكثر من شركات‬
‫ضعف نجومية باك قبل هذا التعاون حكم عليه بأن‬ ‫أن تكون أنت من يدلهم عليها‪ ،‬وأنها فوق ذلك كله‬ ‫اإلنتاج والمؤسسات التقليدية التي كانت تدير‬
‫إ‬
‫يبقى في نادي آ‬
‫"اآلندرقراوند"‪.‬‬ ‫عمل لم تصله مشارط االستهالك ولم يتأثر بعد‬ ‫الصناعة وتتحكم في شروطها‪.‬‬
‫مجلة القافلة‬
‫مايو ‪ -‬يونيو ‪2024‬‬ ‫القضية‬

‫االتزان‬
‫الرقمي‬
‫حصص الواقع والخيال‬
‫في وجودنا المزدوج‬

‫في غضون جيل واحد فقط‪ ،‬استطاعت التقنية‬


‫الرقمية تغيير نظرتنا إلى العالم‪ .‬فالتطورات الرقمية‬
‫والتحُّسن السريع في وسائل االتصال‪ ،‬يتيح لنا‬
‫ُ‬
‫أيًضا تحديات في جميع‬ ‫فرًصا جديدة‪ ،‬ولكنه يخلق ً‬ ‫ً‬
‫والتحّول‬
‫ّ‬ ‫جوانب حياتنا‪ .‬ومع سرعة تبني التقنيات‬
‫الرقمي في حياتنا‪ ،‬تبرز الحاجة إلى الحفاظ على حياة‬
‫صحية ومتوازنة‪ .‬وهنا تكمن أهمية مفهوم "االتزان‬
‫الرقمي"‪ ،‬الذي يستكشف فرص االستفادة من التقنية‬
‫الرقمية بأفضل طريقة ُُممكنة من خالل تقليل آثارها‬
‫السلبية أو إزالتها‪ ،‬فهذا المفهوم أصبح عن جدارة‬
‫أم ًًرا ملًّحّ ا يستوجب االهتمام على المستويين الفردي‬
‫والمجتمعي‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬كيف نحقق االتزان المنشود لدى مختلف أنواع‬
‫األفراد والمجتمعات وواضعي‬ ‫المستخدمين؟ وما دور أ‬
‫السياسات؟ وما دور الوسائل التكنولوجية نفسها‬
‫الُمفرط للهواتف الذكية‬ ‫في الحماية من االستعمال ُ‬
‫ووسائل التواصل االجتماعي وغيرها؟‬
‫القضية ضخمة‪ ،‬وحسبنا في "القافلة" أن نفتح باب‬
‫النقاش فيها‪ ،‬الذي نأمل أن يتسع إلى حوار مجتمعي‬
‫وعلمي في بالدنا العربية‪.‬‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪13 | 2024‬‬


‫إدمان اإلنترنت‬ ‫‪1‬‬
‫األرقام واألعراض‬
‫بحسب مقال آآلكاش كابور في صحيفة‬ ‫في نهاية التسعينيات من القرن العشرين وبداية‬
‫"النيويوركر"‪ ،‬وعنوانه‪ :‬هل يمكن حوكمة‬ ‫القرن الحادي والعشرين‪ ،‬كان استخدام إاإلنترنت‬
‫اإلنترنت؟ (?‪،)Can the internet Be Governed‬‬ ‫إ‬ ‫بمنزلة سفر إلى عالم آخر بعيد‪.‬‬
‫اإلنترنت كان عام‬‫يذكر أن عدد مستخـدمي إ‬
‫‪1996‬م‪ ،‬يبلغ ‪ 80‬مليوًنًا عبر العالم‪ %80 ،‬منهم‬ ‫اآلن نحو ثالثة عقود على تلك البدايات‬‫مَّر آ‬
‫َ‬
‫في شمال العالم (أوروبا وأمريكا الشمالية)‪.‬‬ ‫الرومانسية للتكنولوجيا الرقمية‪ ،‬وتواصل فيها‬
‫اآلن‪ ،‬أصبح عدد المستخدمين خمسة مليارات‬ ‫آ‬ ‫التطُّور المتسارع للبرمجة والصناعات إاإللكترونية‬ ‫ُ‬
‫إنسان‪ ،‬وانقلبت النسبة فصار الثلثان في بالد‬ ‫العالَمين‪،‬‬
‫َ‬ ‫وقوة الشبكات‪ ،‬فتقَّلَصت المسافة بين‬
‫الجنوب بسبب ثقل الصين والهند‪.‬‬ ‫بديهًيا ال‬
‫وأصبح وجودنا في الفضاء إاإللكتروني ً‬
‫نعيه أو نفكر فيه‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬لم ُنُعد نذهب‬
‫إذا نظرنا إلى القضية من جهة فئات أعمار‬ ‫إلى هذا العالم في رحلة ونعود منها بإغالق‬
‫المستخدمين‪ ،‬فقد استثنت البدايات كبار السن‬ ‫توّحد عالم الواقع وعالم‬ ‫شاشة الكمبيوتر‪ ،‬بل ّ‬
‫من الولع بالتكنولوجيا الجديدة‪ .‬لكنها صارت‪،‬‬ ‫واحًدا‪ .‬وللمفارقة‪ ،‬صار‬ ‫عالًما ً‬
‫االفتراض‪ ،‬وأصبحا ً‬
‫األعمار؛ أألن الجهل‬
‫مؤخًرا‪ ،‬هاجًسا لدى جميع أ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫آ‬
‫واضًحا اآلن‪،‬‬
‫ً‬ ‫مزدوًجا‪ .‬وبدا‬
‫ً‬ ‫وجودنا إاإلنساني نفسه‬
‫بها أصبح بمنزلة عزلة وخروج من التاريخ‪ .‬ومع‬ ‫عديًدا من المكاسب‪ ،‬وأن‬ ‫العالَمين حّقّق ً‬
‫َ‬ ‫أن توحيد‬
‫عاًما‪ ،‬فإن مخاطر عدم االتزان‬ ‫أ‬
‫ولًعا ً‬
‫أنها صارت ً‬
‫على أ‬
‫انقسامنا نحن تسبب في كثير من األضرار‪.‬‬
‫األطفال واليافعين‪ ،‬الذين ال يزالون في‬
‫طور التكوين الجسدي والنفسي واالجتماعي‪،‬‬ ‫كقاعدة‪ ،‬ال تتراجع البشرية عن استخدام تكنولوجيا‬
‫تختلف عن المخاطر على البالغين‪.‬‬ ‫جديدة بسبب مخاطرها‪ .‬ا‬
‫فمثاًل‪ ،‬لم تجعلنا حوادث‬
‫السير نتراجع عن السيارة‪ .‬وبالمثل ال يمكن التراجع‬
‫من جهة الهدف من االستخدام‪ ،‬سنجد‬ ‫عن التكنولوجيا الرقمية بسبب مخاطرها‪ .‬الممكن‬
‫اإلفراط بحسب أنواع االستخدام‬‫اختالف آثار إ‬ ‫عملًيا هو دراسة هذه المخاطر ووضع قواعد‬ ‫ً‬
‫االستعمال التي تحّقّق أكبر قدر من أ‬
‫‪%50‬‬
‫للتكنولوجيا الرقمية والهدف منها‪ .‬االستخدام‬ ‫األمان‪.‬‬
‫الترفيهي غير التعليمي‪ ،‬وكالهما يختلفان عن‬
‫الُمجبرين على استخدام التكنولوجيا‬
‫إفراط ُ‬ ‫ُيُشير تقرير صادر عن مؤسسة ‪Common Sense‬‬
‫الرقمية بحكم وظائفهم‪.‬‬ ‫‪ ،Media‬إلى أن ‪ %50‬من المراهقين يشعرون‬
‫األجهزة المحمولة‪ ،‬وأن ‪%59‬‬ ‫بأنهم مدمنون على أ‬
‫لإلنترنت إلى‬ ‫من المراهقين يشعرون بأنهم‬
‫اآلباء أ‬
‫من آ‬
‫الُمفرط إ‬ ‫وُيُشير مصطلح االستخدام ُ‬ ‫واألمهات يوافقون على أن أطفالهم‬
‫ا‬
‫متصاًل بالشبكة‬ ‫الوقت الذي يقضيه المستخدم‬ ‫مدمنون على األجهزة المحمولة‬ ‫مدمنون‪ .‬هذا إاإلدمان يقلب المعادلة‪ ،‬فيجعل‬
‫األخرى‪ .‬ويقرأ‬ ‫على حساب نشاطات حياته أ‬ ‫الوسيلة تستخدم الشخص ال العكس‪ ،‬وهو ما‬
‫اإلنترنت مبدئـ ًًّيا من زيادة‬ ‫أ‬
‫األطباء أعراض إدمان إ‬ ‫يتسبب في تقليص مساحة حياته الواقعية‪ ،‬بما‬
‫باإلضافة إلى أعراض أخرى‪ ،‬منها‪:‬‬ ‫ينجم عن ذلك من أ‬
‫هذا الوقت‪ .‬إ‬ ‫األمراض البدنية والنفسية‬
‫تقلب المزاج والشعور بالقلق أو االكتئاب عندما‬ ‫واالجتماعية‪ .‬لذلك‪ ،‬كان ال َبَّد من االلتزام بمعدل‬

‫‪%59‬‬
‫باإلنترنت‪.‬‬ ‫ا‬
‫متصاًل إ‬ ‫ال يكون الشخص‬ ‫آمن لالستخدام‪ ،‬وفرض إجراءات لتحقيق "االتزان‬
‫الرقمي"‪ ،‬بما يضمن الحفاظ على مساحة الواقع في‬
‫مقابل مساحة االفتراض في وجودنا المزدوج‪.‬‬

‫المصدر‪ :‬تقرير‬ ‫القضية ليست سهلة؛ أألن التكنولوجيا الرقمية‬


‫صادر عن مؤسسة‬ ‫من اآلباء واألمهات يوافقون على‬ ‫تحمل في طياتها مبدأي "الضرورة" و"القدرة‬
‫أن أطفالهم مدمنون‬
‫‪Common Sense‬‬
‫‪.Media‬‬ ‫كبيًرا في عدد‬
‫على إاإلغواء"؛ لذا كان التصاعد ً‬
‫المستخدمين‪.‬‬
‫مؤشر "سينك"‬ ‫‪2‬‬
‫وتوازن الفرص والمخاطر‬
‫فهـد البيـاهي | قائد أبحاث برنامج "سينك"‪ ،‬مركز "إثراء"‬
‫مارغريتا درزنيك | الشريك اإلداري لمجموعة "هورايزن"‬

‫كيف تشعر في‬


‫القياس أول الطريق لصنع القرار‬ ‫أألن االتزان الرقمي أولوية تستحق التركيز والدعم‪،‬‬

‫غياب اإلنترنت؟‬
‫على المستوى العالمي‪ ،‬هناك تحرك متصاعد‬ ‫أطلق مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي‬
‫يهدف إلى إيجاد ضمانات ضد إشكاالت استخدام‬ ‫نامَج االتزان الرقمي العالمي "سينك"‬
‫"إثراء" بر َ‬
‫التقنية‪ .‬ويتطلب التعامل مع العصر الرقمي‬ ‫في عام ‪2021‬م‪ ،‬الذي يهدف إلى تعزيز االتزان‬
‫تخّصص جامعة ملبورن أ‬ ‫بذل جهود مستمرة لتعزيز االتزان الرقمي على‬ ‫الرقمي وتشجيع الحفاظ على عالقة صحية‬
‫األسترالية‬ ‫ّ‬ ‫المستويين الفردي والمجتمعي‪ .‬ومن خالل التعرف‬ ‫ومتوازنة بين التقنية الرقمية وصحتنا النفسية‬
‫صفحة لطلب المساعدة في التعافي‬
‫على الممارسات الجيدة والنجاحات التي تحققت‬ ‫وباإلضافة إلى فعاليات قمة سينك‬
‫والبدنية‪ .‬إ‬
‫اإلنترنت‪ ،‬وتوفر أطباء‬ ‫من إدمـان إ‬ ‫في مجاالت عديدة‪ ،‬يمكن للدول أن تستفيد من‬ ‫العالمية‪ ،‬نّفّذ البرنامج مشروعات بحثية بارزة‬
‫عِّرف‬
‫ُ ِ‬ ‫ُت‬
‫و‬ ‫للمساعدة‪.‬‬ ‫ومتخصصين‬
‫هذا المؤشر في تطوير االتزان الرقمي من خالل‬ ‫محلية وعالمية مع شركاء مرموقين‪ ،‬كجامعة جونز‬
‫لإلنترنت‬
‫الصفحة‪ ،‬االستخدام المفرط إ‬ ‫هوبكنز‪ ،‬ونشر عديد من أ‬
‫إدخال تحسينات على السياسات والمبادرات‬ ‫األبحاث والتقارير المهمة‬
‫بأنه قضاء وقت مفرط في أنشطة‬
‫اإلنترنت‪ ،‬مثل‪ :‬أ‬ ‫ذات الصلة‪ .‬ومع استمرار التقنيات الرقمية في‬ ‫مثل المسح العالمي لالتزان الرقمي في عامي‬
‫األلعاب وغرف الدردشة‬ ‫إ‬ ‫التطور‪ ،‬فإننا ال نزال في المراحل أ‬
‫األولى من‬ ‫‪2022‬م و‪2024‬م‪.‬‬
‫على حساب التواصل االجتماعي الحقيقي‬
‫استكشاف تأثيرها على صحتنا‪ .‬ومن الواضح للغاية‬
‫اإلدمان‬‫أو الدراسة‪ .‬وتحدد أعراض إ‬ ‫وقد أطلق برنامج "سينك" مؤخًرا اإلصدار أ‬
‫أن بعض المشكالت تتطلب حلواًلا على صعيد‬ ‫األول‬ ‫ً إ‬
‫مؤشًرا أول‪،‬‬
‫ً‬ ‫بزيادة الوقت بوصفها‬
‫السياسات العامة‪ ،‬وزيادة الوعي والمعرفة لدى‬ ‫من مؤشر االتزان الرقمي العالمي‪ ،‬بالتعاون مع‬
‫والشعور بالقلق أو االكتئاب عند عدم‬
‫المستخدمين‪ ،‬وعمل البحوث العلمية الستكشاف‬ ‫مجموعة "هورايزن"‪ ،‬بهدف تعزيز المناقشات‬
‫باإلنترنت‪ ،‬والفشل في التحكم‬ ‫االتصال إ‬ ‫التأثير إاإليجابي والسلبي لهذه التقنيات‪.‬‬ ‫العالمية ودعم عملية صنع السياسات وتوفير‬
‫بوقت االستخدام‪ .‬وتنصح بطلب‬ ‫معيار أ‬
‫المساعدة عند الشعور بهذه أ‬ ‫لألشخاص لفهم عالم االتزان الرقمي سريع‬
‫األعراض‪.‬‬
‫التغير‪ .‬وهذا المؤشر هو معيار دولي يقيس‬
‫بطريقة شاملة كيفية استفادة الدول حول العالم‬
‫من الفرص التي توفرها التقنية‪ ،‬وسعيها لضمان‬
‫رقمًيا‪.‬‬
‫أساليب حياة وعمل متوازنة ً‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪15 | 2024‬‬


‫وهناك عدد قليل فقط من الدول مثل سنغافورة‬ ‫كيف يتفاوت االتزان الرقمي عالم ًًيا؟‬ ‫وتعبيًرا عن المفارقة التي نواجهها مع التغير‬
‫ً‬
‫جيًدا على كال الشقين‪ .‬وبشكل عام‪،‬‬ ‫تحقق أدا ًًء ً‬ ‫رصد مؤشر االتزان الرقمي العالمي في‬ ‫الرقمي السريع‪ ،‬يتألف هذا المؤشر من شقين‪:‬‬
‫فإن الدول ذات الدخل المرتفع تحقق أدا ًًء أفضل‬ ‫األول ‪ 35‬دولة على مستوى العالم‪.‬‬ ‫إصداره أ‬ ‫"موازنة االحتياجات" لقياس التأثير السلبي‪،‬‬
‫في ركائز اغتنام الفرص‪ ،‬ولكن ال يزال لديها‬ ‫وباستخدام إطار عمل "موازنة االحتياجات"‬ ‫اإليجابي (انظر‬ ‫و"اغتنام الفرص" لقياس التأثير إ‬
‫مجال للنمو والتطور في الركائز المتعلقة بموازنة‬ ‫في مقابل "اغتنام الفرص"‪ ،‬قاس المؤشر أداء‬ ‫الشكل ‪ .)1‬في إطار "موازنة االحتياجات"‪،‬‬
‫االحتياجات‪ .‬وُتُظهر الدول ذات الدخل المتوسط‬ ‫كل دولة منها في كل من الركائز االثنتي عشرة‪.‬‬ ‫نجد ست ركائز لقياس المخاطر المرتبطة‬
‫وأخيًرا‪ ،‬تظهر معظم الدول‬ ‫أ‬
‫األعلى أدا ًًء مشاب ًًها‪.‬‬ ‫اآلثار السلبية المحتملة‬ ‫بالتقنيات الرقمية‪ ،‬مثل آ‬
‫ً‬
‫ذات الدخل المنخفض في الطرف أ‬
‫األدنى من‬ ‫وتبرز ٌكٌّل من كندا وأستراليا وسنغافورة‬ ‫للتقنية الرقمية على الصحة النفسية والبدنية‬
‫المؤشر‪ ،‬باستثناء الهند وكينيا وفيتنام التي تحقق‬ ‫وإستونيا وفرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا‬ ‫باإلضافة إلى أشياء أخرى‬ ‫والترابط االجتماعي‪ ،‬إ‬
‫أدا ًًء أفضل من نظيراتها‪.‬‬ ‫األمريكية وإيطاليا ضمن‬ ‫والواليات المتحدة أ‬ ‫اإللكترونية‪،‬‬
‫مثل جودة المعلومات والسالمة إ‬
‫الدول أ‬
‫األعلى أدا ًًء‪ ،‬فيما أظهرت الصين أدا ًًء‬ ‫إلى جانب ما بات ُيُعرف بـ"الحق في قطع‬
‫أهمية الجانبين التنظيمي والتعليمي‬ ‫نسبًيا من بين مصاف الدول ذات الدخل‬ ‫جيًدا ً‬ ‫ً‬ ‫االتصال"‪ .‬بينما يقيس شق "اغتنام الفرص"‬
‫أبرزت نتائج مؤشر االتزان الرقمي العالمي أن‬ ‫المتوسط‪ .‬وُتُظهر معظم الدول مستويات‬ ‫اإليجابي‬
‫ست ركائز إضافية مرتبطة بالتأثير إ‬
‫السياسات الرامية إلى تعزيز الصحة النفسية‬ ‫عالية على صعيد استخدام التقنية الرقمية‬ ‫المحتمل للتقنية الرقمية في حياتنا‪ ،‬بما في‬
‫األفراد‬‫األهمية لمساعدة أ‬ ‫الرقمية ُتعد أمًرا بالغ أ‬ ‫للتواصل والترابط االجتماعي‪ .‬وعلى الجانب‬ ‫ذلك التواصل‪ ،‬والترابط االجتماعي فيما بيننا‪،‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫لإلصابة بمشكالت نفسية مثل الشعور‬ ‫اآلخر يكافح عديد من الدول آ‬ ‫آ‬
‫المعَّرضين إ‬
‫َ‬ ‫اآلثار السلبية‬ ‫والتعليم والمهارات التي يمكننا اكتسابها‪،‬‬
‫غالًبا بالعمل‬
‫ً‬ ‫تبط‬
‫ر‬ ‫ت‬ ‫والتي‬ ‫والقلق‪،‬‬ ‫بالوحدة‬ ‫للتقنية الرقمية في ثالث ركائز‪ ،‬وهي‪ :‬العمل‬ ‫واإلنتاجية‬
‫والتحسينات الخاصة بالعمل إ‬
‫أو الدراسة عن ُبُعد‪ .‬وفي الوقت الحالي‪ ،‬ال‬ ‫واإلنتاجية والدخل‪ ،‬والصحة البدنية‪ ،‬والقدرة‬ ‫إ‬ ‫والدخل‪ ،‬والحصول على الترفيه والثقافة فضاًلا‬
‫يوجد سوى ثماني دول لديها أطر عمل شاملة‬ ‫على قطع االتصال‪.‬‬ ‫عن الخدمات والسلع‪.‬‬
‫للصحة النفسية الرقمية‪ ،‬وتتصدر القائمة ٌكٌّل من‬
‫سنغافورة والمملكة المتحدة بأفضل أداء‪.‬‬

‫وُتُبرز نتائج المؤشر أنماًطًا صحية بشكل أكبر‬ ‫الشكل رقم ‪ :1‬يتألف مؤشر االتزان‬
‫لالتزان الرقـمي في الدول أ‬
‫األكثر ثرا ًًء مثل كندا‬ ‫الرقمي العــالمي من شقين‪ ،‬اغتنام‬
‫الفرص وموازنة االحتياجات‪ ،‬ولكل‬
‫وأستراليا‪ ،‬مؤكد ًًة الحاجة إلى اتخاذ إجراءات حازمة‬ ‫‪1‬‬
‫‪100‬‬
‫‪12‬‬ ‫منهما ست ركائز وفق التفصيل‬
‫وتدابير سياسية في الدول أ‬
‫األقل ثرا ًًء‪ .‬وبالمثل فإن‬ ‫الموّضح‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪75‬‬
‫السويد والمملكة المتحدة ُتُظهران مستوى أقل‬ ‫‪2‬‬ ‫‪11‬‬
‫من السلوكيات المسببة لإلدمان‪ ،‬وتمنحان أ‬
‫األولوية‬ ‫إ‬ ‫‪50‬‬
‫لعادات رقمية صحية بشكل أكبر دون إهمال‬
‫النوم أو الوجبات المنتظمة‪ .‬وبصفة عامة‪ ،‬يجب‬ ‫‪25‬‬
‫موازنة االحتياجات‬

‫‪3‬‬ ‫‪10‬‬
‫على الدول في جميع أنحاء العالم اتخاذ تدابير‬

‫اغتنام الفرص‬
‫حازمة للتصدي لظاهرة التنمر إاإللكتروني‪.‬‬ ‫‪0‬‬

‫وبينما تكافح دول مثل أستراليا المعلومات‬


‫‪4‬‬ ‫‪9‬‬
‫المضللة‪ ،‬يجب بذل المزيد من الجهود المتضافرة‬
‫في هذا الصدد‪ .‬وقد قامت نحو ‪ 17‬دولة من بين‬
‫الدول التي شملتها الدراسة بدمج موضوع الوعي‬
‫بالمعلومات المضللة في مناهجها التعليمية‪.‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪8‬‬
‫وتنتشر مبادرات التوعية أ‬
‫باألخبار الكاذبة بشكل أكبر‬
‫في الدول ذات الدخل المتوسط أ‬
‫األعلى (‪،)%60‬‬ ‫‪6‬‬ ‫‪7‬‬
‫في حين أن التعليم بشأن المعلومات المضللة في‬
‫المناهج الدراسية هو أ‬
‫األكثر شيو ًًعا في الدول ذات‬
‫الدخل المرتفع (‪.)%81‬‬ ‫‪ -7‬االتصال‬ ‫التماسك االجتماعي‬ ‫‪-1‬‬
‫‪ -8‬الترابط االجتماعي‬ ‫الصحة النفسية‬ ‫‪-2‬‬
‫من بين الدول آ‬ ‫‪ -9‬التعليم والمهارات‬ ‫الصحة البدنية‬ ‫‪-3‬‬
‫اآلسيوية‪ ،‬طبقت الصين والهند‬ ‫‪ -10‬العمل واإلنتاجية والدخل‬ ‫القدرة على قطع االتصال باإلنترنت‬ ‫‪-4‬‬
‫سياسات لمعالجة العادات الرقمية التي تنطوي‬ ‫‪ - 1 1‬الترفيه والثقافة‬ ‫جودة المعلومات‬ ‫‪-5‬‬
‫األلعاب‪ ،‬مع تسليط الضوء على‬‫على إدمان أ‬ ‫‪ -12‬إمكانية الحصول على الخدمات والسلع‬ ‫السالمة السيبرانية‬ ‫‪-6‬‬
‫لمزيد من التفاصيل حول‬
‫برنامج "سينك"‪ ،‬واالطالع على‬
‫األبحاث الصادرة عنه‪ُُ ،‬يرجى‬
‫زيارة الموقع عبر الرمز‪.‬‬

‫اإلنترنت للمستخدمين باختيار‬ ‫مخاطر اإلدمان وتشجيع ممارسة أ‬


‫االجتماعي عبر إ‬ ‫كما كشف مؤشر االتزان الرقمي العالمي عن انتشار‬ ‫األلعاب‬ ‫إ‬
‫عدم إنشاء المحتوى القائم على الخوارزميات‪،‬‬ ‫السياحة الرقمية بشكل أكبر في إيطاليا وفرنسا‪.‬‬ ‫واإلرشادات‬‫المسؤولة‪ ،‬وتقديم االستشارات إ‬
‫اإلدمان‪ .‬من المهم‬ ‫آ‬
‫تسبًبا في إ‬
‫يثُبت أنه أكثر ً‬
‫الذي ُ‬ ‫لآلباء والمعلمين على حد سواء‪ .‬وتؤكد مثل‬
‫أيًضا اعتماد سياسات عمل مرنة‪ ،‬خاصة في‬
‫ً‬ ‫كيف نصل إلى توازن رقمي أفضل؟‬ ‫هذه الممارسات أهمية التعليم في معالجة‬
‫الدول ذات الدخل المتوسط والدول ذات الدخل‬ ‫باإلجراءات الخاصة بالسياسة العامة‬‫فيما يتعلق إ‬ ‫الضغوط النفسية والبدنية المرتبطة بالتقنية‬
‫المنخفض‪ ،‬وضمان سن تشريعات خاصة بحق‬ ‫الرامية إلى التحسين‪ُ ،‬يُعد وجود قيود من أجل‬ ‫الرقمية أ‬
‫واأللعاب‪.‬‬
‫قطع االتصال من أجل االرتقاء بالحدود الصحية‬ ‫أمًرا‬
‫رقمية آمنة خالية من التنمر إاإللكتروني ً‬ ‫بيئة‬
‫للعمل والدراسة عن ُبُعد‪.‬‬ ‫األهمية‪ ،‬كما كشفت النتائج‪ .‬ويمكن القيام‬ ‫بالغ أ‬ ‫كما سجلت ٌكٌّل من نيجيريا والمملكة العربية‬
‫بذلك من خالل تدابير وسياسات سالمة البيانات‬ ‫السعودية وكولومبيا أعلى معدالت االعتماد‬
‫تعزيز العادات الرقمية الصحية‪ ،‬بما في ذلك‬ ‫لمكافحة التنمر إاإللكتروني‪ ،‬خاصة في الدول‬ ‫على التعليم الرقمي‪ ،‬حيث يستخدم ‪ %40‬من‬
‫بذل جهود حثيثة لالستفادة من الفرص ومعالجة‬ ‫متوسطة الدخل‪.‬‬ ‫المشاركين في الدراسة التقنية الرقمية أألغراض‬
‫التحديات التي تواجهها التقنيات الرقمية‪ ،‬هو‬ ‫التعليم‪ ،‬ما يؤكد التوجه العالمي نحو التعليم‬
‫األساس لتحقيق االتزان الرقمي المجتمعي‬‫السبيل أ‬ ‫وتعُّد أنظمة السالمة العمرية لحماية أ‬
‫األطفال‬ ‫الرقمي‪ .‬وبرز "الحق في قطع االتصال" كمبادرة‬
‫ُ‬
‫والحياة الصحية المتوازنة‪ .‬ومن بين الفوائد‬ ‫أمًرا ضرورًيًا لتوفير مساحة رقمية آمنة‪.‬‬
‫والُق ّ ً‬
‫ر‬ ‫ُّص‬ ‫سياسية رئيسة يجري تبنيها في ثلث الدول ذات‬
‫الرئيسة لمؤشر االتزان الرقمي العالمي وضع‬ ‫أيًضا وضع تدابير لحماية سالمة‬ ‫الدخل المرتفع والمتوسط أ‬
‫ومن الضروري ً‬ ‫األعلى‪ ،‬إال أنه غائب في‬
‫األولويات لهذا العمل‪ .‬ويأمل‬‫المعايير وتحديد أ‬ ‫األفراد ورفاهيتهم من خالل أطر عمل شاملة‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫الدول ذات الدخل المتوسط األدنى‪.‬‬
‫هذا المؤشر مع تطوره وتوسعه وتحديثه في أن‬ ‫للصحة النفسية الرقمية وإطالق برامج توعية‪.‬‬
‫يكون ُُص ََّناع السياسات وأصحاب المصلحة قادرين‬ ‫وقد شهد العمل عن ُبُعد طفرة كبيرة خالل‬
‫على قياس مدى تقدمهم في هذا الجانب على‬ ‫ويجب إتاحة القدرة على قطع االتصال من‬ ‫السنوات القليلة الماضية‪ .‬وكشف مؤشر االتزان‬
‫جميع أ‬
‫األصعدة‪.‬‬ ‫خالل التدابير القانونية التي تضمن اتخاذ‬ ‫الرقمي عن أن االقتصادات المتقدمة تحتل‬
‫المنصات الرقمية الخاصة أ‬
‫باأللعاب أو التواصل‬ ‫الصدارة في توفير فرص العمل عن ُبُعد والمرونة‬
‫اإلجراءات المقررة للحد من مخاطر‬
‫االجتماعي إ‬ ‫في العمل‪ ،‬وأن ‪ %50‬من الدول متوسطة الدخل‬
‫اإلدمان السلوكي‪ .‬كما يمكن تطبيق التشريعات‬ ‫إ‬ ‫الِرحالة الرقمية (أو‬
‫لديها مخصصات لتأشيرات ِ‬
‫التي تشترط أن تسمح منصات وسائل التواصل‬ ‫العمل المتنقل)‪.‬‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪17 | 2024‬‬


‫‪ 3‬ترسيخ االتزان‬
‫في الصغر‬
‫د‪ .‬عبدالهادي نايف السلمي‬
‫كاتب متخصص في التقنية الرقمية‬

‫معظم المستهلكين من فئة الشباب‪ %91 ،‬منهم‬ ‫والمراهقين في استخدام التكنولوجيا الرقمية يبدد‬ ‫األمريكي‪،‬‬ ‫لألبحاث" أ‬
‫وفًقًا لبيانات من مركز "بيو أ‬
‫يمتلكون هواتف ذكية خاصة‪ ،‬و‪ %94‬يستخدمون‬ ‫لألهل‪ ،‬الذين يجب‬‫تلك المزايا‪ ،‬ويمّثل تحدًيا جاًدا أ‬ ‫يمتلك ما يقرب من ‪ 1‬من كل ‪ 5‬أطفال دون سن ‪12‬‬
‫ً ً‬ ‫ّ‬
‫إاإلنترنت بشكل مستقل‪ .‬والجدير بالذكر‪ ،‬أن خمس‬ ‫تبصيرهم بالمخاطر قبل تبصير أطفالهم!‬ ‫عاًما في الواليات المتحدة أ‬
‫األمريكية‪ ،‬هاتًفًا ذك ًًّيا‬
‫دول عربية تقع في المراكز العشرة أ‬ ‫ً‬
‫األولى من‬ ‫خاًّصا به‪ ،‬وقد حصل أكثر من نصف هؤالء على‬ ‫ً‬
‫حيث استخدام شبكات التواصل االجتماعية؛ إذ‬ ‫واألمهات أن هذه أ‬
‫األجهزة‬ ‫اآلباء أ‬ ‫يتوهم بعض آ‬ ‫األعمار ‪ 9‬و‪ 11‬سنة‪ .‬على الرغم من‬ ‫هواتفهم بين أ‬
‫تتمتع إاإلمارات والبحرين وقطر بأعلى مستويات‬ ‫آمنة للطفل‪ ،‬وأنها ُتُلهيه وتمنعه من البكاء أو كثرة‬ ‫األغلبية‪ ،‬فإن هذا‬ ‫األطفال ال يشكلون أ‬ ‫أن هؤالء أ‬
‫استخدام في العالم‪ ،‬وفًقًا للنتائج التي نشرتها‬ ‫الحركة‪ ،‬فتبعده عن الخطر‪ .‬وقد تفِّضل أ‬
‫األسرة‬ ‫األمر منذ‬‫الواقع يمثل تغيًرا كبيًرا عَّما كان عليه أ‬
‫ِ‬ ‫ً ً َ‬
‫منصة "داتا ريبورتال"‪.‬‬ ‫بقاء اليافع والشاب بالمنزل واالستمرار باللعب‬ ‫عقد مضى‪.‬‬
‫على إاإلنترنت‪ ،‬على الخروج للشارع ومخالطة‬
‫أ‬ ‫متأثًرا‬
‫وهناك تناسب طردي واضح بين ارتفاع مستوى‬
‫معيشة العائالت‪ ،‬وازدياد استخدام أ‬
‫األقران‪ .‬لكن عندما يكبر بالسن‪ ،‬قد يعاني هذا‬ ‫عَّما قبله‪ً ،‬‬
‫لقد نشأ هذا الجيل نشأة مختلفة َ‬
‫األلعاب‬ ‫الشاب اغتراًبًا عن الثقافة السائدة في مجتمعه‪،‬‬ ‫بالفضاء السيبراني‪ ،‬الذي شّكّل جز ًًءا من تكوينه‬
‫أ‬
‫واألجهزة إاإللكترونية‪ .‬فالرفاهية التي تتمتع‬ ‫باألعراف والتقاليد وعدم المشاركة‬ ‫والجهل أ‬ ‫العقلي منذ حداثة سنه‪.‬‬
‫بها بعض المجتمعات ورخص قيمة االتصال‬ ‫إاإليجابية مع المجتمع‪ .‬وقد ُيُصبح بعد ذلك‪،‬‬
‫األطفال والشباب أ‬
‫لألجهزة‬ ‫باإلنترنت‪ ،‬سَّهلت حيازة أ‬ ‫من ذوي الهوية السائلة المائعة غير الصلبة‪،‬‬ ‫وقد أظهرت دراسة بجامعة كورنيل أ‬
‫األمريكية‪،‬‬
‫َ‬ ‫إ‬
‫إاإللكترونية المختلفة‪ ،‬واستخدام تطبيقات ومواقع‬ ‫الالُمنتمية إال لثقافة االستهالك التي تروجها تلك‬
‫ُ‬ ‫أجريت على ما يقرب من ‪ 9‬آالف طالب‪ ،‬أن‬
‫التواصل االجتماعي المتنوعة‪ ،‬والوصول للكثير‬ ‫واأللعاب‪.‬‬‫المنصات أ‬ ‫مستوى الذكاء للجيل الحالي أعلى من الجيل‬
‫األلعاب عبر الويب‪ ،‬والبقاء لساعات طويلة‬ ‫من أ‬ ‫السابق‪ ،‬ويربط الخبراء ذلك مباشرة باستخدام‬
‫على مدار اليوم‪ ،‬ومن َث َََّم‪ ،‬استخدام مفرط ُيُسبب‬ ‫المثير للقلق أن االستخدام في منطقتنا تزايد‬ ‫التكنولوجيا الحديثة‪ ،‬فالزيادة في عدد المنتجات‬
‫لهم اإلدمان؛ حتى يتحول أ‬
‫األمر إلى عادة يومية ال‬ ‫بشكل مّطّرد‪ ،‬حتى فاق المعدالت في الغرب‪ .‬وقد‬ ‫األطفال‪ ،‬ومن ثم زيادة‬‫التكنولوجية في حياة أ‬
‫إ‬
‫أ‬
‫عُّد بمنزلة تمارين تمِّكِن األطفال من‬
‫يستطيعون التخّلّص منها بسهولة‪.‬‬ ‫أنجزت جامعة ويسترن سيدني دراسة عن معدالت‬ ‫المحفـزات‪ُ ،‬يُ ُ‬
‫انتشار إاإلنترنت على مدار العقد الماضي‪ ،‬وكانت‬ ‫تعقيًدا‪ .‬كما أنها ساعدت‬ ‫أ‬
‫حل المشكالت األكثر‬
‫ً‬
‫وهذه الفترة اليومية الطويلة في استخدام‬ ‫أعلى بكثير من المعدالت العالمية‪ .‬وجاءت‬ ‫على تنمية المهارات العقلية من خالل المحتويات‬
‫التعّرف على كثير‬ ‫أ‬ ‫المملكة العربية السعودية ضمن أعلى تلك‬ ‫األلعاب والتطبيقات التي تعمل‬ ‫التعليمية‪ ،‬مثل‪ :‬أ‬
‫واإلنترنت‪ ،‬س ُُتسهل لهم ّ‬
‫األلعاب إ‬
‫من أ‬
‫األشخاص‪ ،‬ومواجهة كثير من المواقف في‬ ‫المعدالت‪ ،‬حيث ارتفعت من حوالي ‪ %88‬في‬ ‫على تحسين المهارات المعرفية وتحسين الذاكرة‪،‬‬
‫العالم االفتراضي‪ ،‬الذي به جوانب سلبية كبيرة‪،‬‬ ‫عام ‪2019‬م‪ ،‬لتصل إلى معدل ‪ %96‬بنهاية العام‬ ‫لألطفال‪ ،‬وألعاب الرياضيات‪،‬‬ ‫وألعاب االنتباه أ‬
‫عِّرض الطفل أو الشاب للعنف السيبراني‬ ‫الماضي‪ .‬كما يوجد في المملكة أكثر من ‪ 27‬مليون‬ ‫أ‬
‫واأللعاب التفاعلية والتمارين الذهنية عبر‬
‫قد ُتُ ِ‬
‫وللتنّمر إاإللكتروني والتحرش الجنسي‪ .‬فكثير‬
‫ّ‬ ‫مستهلك‪ ،‬وهي أكبر سوق لتكنولوجيا المعلومات‬ ‫إاإلنترنت‪ ،‬وبعض أدوات تطوير التفكير النقدي‬
‫من ألعاب الفيديو في السوق تحتوي على عنف‬ ‫األوسط‪ .‬مع العلم أن‬‫واالتصاالت بمنطقة الشرق أ‬ ‫األطفال‪ .‬مع ذلك‪ ،‬يبدو أن إفراط أ‬
‫األطفال‬ ‫لدى أ‬
‫ومن جانب آخر‪ ،‬تؤثر متابعة المشاهير على‬ ‫أرﻗﺎم ﻣﻘﻠﻘﺔ‬ ‫مفرط وألفاظ نابية وعنصرية‪ ،‬وأشياء أخرى ال‬
‫يمكن أ‬
‫خطًرا‬
‫تأثيًرا ً‬
‫تطبيقات ومواقع التواصل االجتماعي‪ً ،‬‬ ‫لألطفال تصورها بالطريقة الصحيحة‪ .‬لذا‪،‬‬
‫ﻧﺸﺮ ﻣﻮﻗﻊ ‪ Gitnux.org‬اﻟﻤﺨﺼﺺ ﻟﺪﻋﻢ ﺧﺪﻣﺎت‬ ‫أ‬
‫في الفتيات والشباب وصغار السن المعرضين‬ ‫ً‬
‫ﺣﺪﻳﺜﺎ ﻋﻦ إدﻣﺎن اﻹﻧﺘﺮﻧﺖ ﺑﻌﻨﻮان‬ ‫اﻹﻧﺘﺮﻧﺖ ﻣﺠﺎ ًﻧﺎ‪ً ،‬‬
‫ﺑﺤﺜﺎ‬
‫قد يفشل هؤالء األطفال في أخذ هذه المظاهر‬
‫أكثر من غيرهم إلى االفتتان بحياة هؤالء‪ .‬لدى‬ ‫)‪ ،(Technology Addiction Statistics‬ﺟﺎء ﻓﻴﻪ أن اﻟﺒﻠﺪان‬ ‫بحذر‪ ،‬وقد ينتهي بهم الحال إلى محاولة محاكاة‬
‫هذه الفئة هوس بمتابعة يوميات المشاهير‬ ‫اﻟﻌﺸﺮة اﻷواﺋﻞ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﺳﺘﺨﺪام اﻟﻬﻮاﺗﻒ اﻟﺬﻛﻴﺔ‪،‬‬ ‫السلوك المنحرف نفسه‪ ،‬خاصة الصغار منهم‪،‬‬
‫ورحالتهم الممتعة‪ ،‬وما يتناولون من أشهى‬ ‫ﻫﻲ‪ :‬اﻟﺒﺮازﻳﻞ واﻟﺼﻴﻦ واﻟﻮﻻﻳﺎت اﻟﻤﺘﺤﺪة اﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ‬ ‫الذين ال تزال بنية أدمغتهم في مرحلة التطور‬
‫األطباق‪ ،‬وما يملكون من منازل فارهة وسيارات‬‫أ‬ ‫وإﻳﻄﺎﻟﻴﺎ وإﺳﺒﺎﻧﻴﺎ وﻛﻮرﻳﺎ اﻟﺠﻨﻮﺑﻴﺔ وﻛﻨﺪا واﻟﻤﻤﻠﻜﺔ‬
‫والنمو‪ ،‬وهم في هذه المرحلة غير قادرين على‬
‫فخمة وأدوات نادرة‪ ،‬وما ترتديه عارضات أ‬ ‫أرﻗﺎﻣﺎ ﻣﻘﻠﻘﺔ‪ ،‬ﻣﻨﻬﺎ‪:‬‬
‫ً‬ ‫اﻟﻤﺘﺤﺪة وأﻟﻤﺎﻧﻴﺎ وﻓﺮﻧﺴﺎ‪ .‬وﺗﻀﻤﻦ‬
‫األزياء‬ ‫التمييز بين الصواب والخطأ‪.‬‬
‫من آخر الصيحات‪ ،‬وما ُيُجرينه من عمليات‬
‫التجميل؛ ذلك كله ينقل مفهوم "القدوة" من‬ ‫تؤكد إاإلحصاءات أن أكثر الفئات العمرية ُُعرضة‬

‫‪٩٦‬‬
‫القيمة إلى الشهرة‪.‬‬ ‫للتنّمر اإللكتروني‪ ،‬هي فئة أ‬
‫األطفال والمراهقين‪،‬‬ ‫ّ إ‬
‫التنّمر إاإللكتروني له تأثير واضح وخطر‬
‫وتوضح أن ّ‬
‫في دراسة سرية لشركة ميتا‪ ،‬عام ‪2019‬م‪ ،‬وجرى‬ ‫على هذه الفئة؛ إذ يتعرض ما يقارب من ‪%43‬‬
‫من أ‬
‫تسريبها ونشرها في صحيفة الغارديان في سبتمبر‬ ‫ﻣﺮة ﻳﻮﻣ ًﻴﺎ‬ ‫األطفال الذين يستخدمون إاإلنترنت للتخويف‬
‫تسّبب‬
‫‪2021‬م فإن تطبيًقًا مثل "إنستغرام"‪ ،‬قد ّ‬ ‫ﻳﺘﻔﻘﺪ اﻷﻣﺮﻳﻜﻴﻮن ﻫﻮاﺗﻔﻬﻢ ‪ 96‬ﻣﺮة ﻓﻲ اﻟﻴﻮم؛ أي‬
‫بشكل متكرر‪ ،‬وهو ما قد يؤثر في مستواهم‬
‫في تدني احترام الذات لدى الفتيات‪ ،‬وأدى إلى‬ ‫ﻣﺮة ﻛﻞ ‪ 10‬دﻗﺎﺋﻖ‪ .‬وﻫﺬا ﻳﻤﺜﻞ زﻳﺎدة ﺑﻨﺴﺒﺔ ‪ %20‬ﻋﻦ‬ ‫الدراسي‪ ،‬ويجعلهم يخافون الذهاب للمدرسة‪.‬‬
‫األطفال‪ ،‬وزاد من أ‬
‫أعراض من االكتئاب لدى أ‬ ‫وال يخفى التأثير السلبي أ‬
‫األفكار‬ ‫اﺳﺘﻄﻼع ﻣﻤﺎﺛﻞ أﺟﺮي ﻗﺒﻞ ﻋﺎﻣﻴﻦ‪ .‬واﻷﺷﺨﺎص اﻟﺬﻳﻦ‬ ‫لأللعاب إاإللكترونية على‬
‫االنتحارية لدى المراهقين في الواليات المتحدة‬ ‫ﻋﺎﻣﺎ‪ ،‬ﻳﺘﻔﻘﺪون ﻫﻮاﺗﻔﻬﻢ‬
‫ﺗﺘﺮاوح أﻋﻤﺎرﻫﻢ ﺑﻴﻦ ‪ 18‬و‪ً 24‬‬ ‫األطفال واليافعين‪ ،‬فهي‬‫الحالة النفسية لدى أ‬
‫األمريكية والمملكة المتحدة‪ .‬وُتُعّلّق الباحثة‬‫أ‬ ‫ﺿﻌﻒ اﻟﻤﻌﺪل اﻟﻮﻃﻨﻲ‪.‬‬ ‫تؤدي إلى العزلة والرهاب االجتماعي واالبتعاد عن‬
‫األهل تقرير ما إذا‬ ‫سوزان لين‪ ،‬قائلًةً ‪" :‬إن على أ‬ ‫الحياة االجتماعية الطبيعية‪ ،‬وعدم التفاعل من‬
‫كانوا سيتخّلّون عن مسؤولية التربية لمجموعة من‬ ‫خالل المحادثة المباشرة أو االستمرار بها لمدة‬

‫‪٨‬‬
‫كبيًرا‬ ‫التقنيين أ‬
‫اهتماًما ً‬
‫ً‬ ‫األغنياء‪ ،‬الذين ال ُيُبدون‬
‫أ‬
‫التكّيف‪ ،‬وقد يتسبب‬
‫واإلصابة باضطراب ّ‬ ‫طويلة‪ ،‬إ‬
‫بالتداعيات األخالقية لمنتجاتهم"‪ .‬وهذا سؤال‬ ‫ذلك في التوتر والقلق‪ ،‬أو يزيد من حدته‪ ،‬وهو ما‬
‫لألسرة أن تمارس مسؤوليتها‬ ‫جوهري‪ .‬فينبغي أ‬ ‫يؤدي إلى االكتئاب‪.‬‬
‫أ‬
‫للحد من استخدام األطفال والمراهقين لهذه‬ ‫ﺳﺎﻋﺎت و‪ 41‬دﻗﻴﻘﺔ‬
‫التكنولوجيا‪.‬‬ ‫األمراض العصبية‪ ،‬لوبوف بالغوداريفا‪،‬‬ ‫تذكر طبيبة أ‬
‫ﻳﻘﻀﻲ اﻟﺸﺨﺺ اﻟﻌﺎدي وﻗ ًﺘﺎ أﻣﺎم اﻷﺟﻬﺰة اﻹﻟﻜﺘﺮوﻧﻴﺔ‬
‫أﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺬي ﻳﻘﻀﻴﻪ ﻓﻲ اﻟﻨﻮم ﻳﻮﻣ ًﻴﺎ‪ ،‬ﺑﻤﻌﺪل‬ ‫أن االستخدام المتواصل لمواقع التواصل‬
‫خصوًصا على‬
‫ً‬ ‫ال َبَّد من اللقاء اُأل�ُسري اليومي‪،‬‬ ‫‪ 8‬ﺳﺎﻋﺎت و‪ 41‬دﻗﻴﻘﺔ‪.‬‬ ‫االجتماعي‪ ،‬يؤدي إلى إفراز هرمون الدوبامين بشكل‬
‫الوجبات الرئيسة‪ ،‬وتقنين ساعات السماح‬ ‫سَّمى بإدمان الدوبامين‪ ،‬وهو‬‫مفرط‪ ،‬وهو ما ُيُ َ‬
‫األلعاب إاإللكترونية كحد أقصى أربع‬ ‫باستخدام أ‬ ‫الهرمون نفسه الذي يسبب الشعور بالمكافأة عند‬

‫‪٨٠‬‬
‫أ‬
‫ساعات خالل نهاية األسبوع‪ ،‬وأقل من ذلك خالل‬ ‫تناول المخدرات‪ .‬وأشارت بالغوداريفا إلى أن هذا‬

‫‪٪‬‬
‫األخرى‪ ،‬ومنع استخدام الهواتف الذكية أثناء‬ ‫األيام أ‬ ‫أ‬ ‫النوع من إاإلدمان يؤدي إلى زيادة القلق واضطراب‬
‫ركوب السيارة أو تناول الطعام إاّلا للضرورة‪ .‬وأن‬ ‫األداء‪ .‬عندما يواصل الشخص‬ ‫النوم وانخفاض أ‬
‫األقل‪ ،‬اجتماع أسبوعي حواري‬ ‫يكون هناك‪ ،‬في أ‬ ‫قراءة ومشاهدة شريط هذا الموقع أو ذاك‪ ،‬يبحث‬
‫التقّرب من الشاب أو الطفل‪،‬‬ ‫ﻣﻦ ﻣﺴﺘﺨﺪﻣﻲ اﻟﻬﻮاﺗﻒ اﻟﺬﻛﻴﺔ‪ ،‬ﻳﺘﻔﻘﺪون ﻫﻮاﺗﻔﻬﻢ‬
‫واحد لمحاولة ّ‬ ‫ُُم ُُّخه عن مواد مثيرة وممتعة أو مفيدة‪ ،‬وكذلك كل‬
‫ما يثير االنفعاالت‪ ،‬وهذه المتعة قصيرة أ‬
‫ومحاولة فهم اهتماماته ومناقشته‪ ،‬والتنويع‬ ‫ﺧﻼل ﺳﺎﻋﺔ ﻛﺎﻣﻠﺔ ﻗﺒﻞ اﻟﻨﻮم‪.‬‬ ‫األجل‬
‫بين القيام بالرحالت والزيارات العائلية وممارسة‬ ‫تترافق مع إفراز جرعات صغيرة من الدوبامين‬
‫األنشطة الرياضية الخارجية وحضور المناسبات‪.‬‬ ‫أ‬ ‫تخلق حالة شبيهة بحالة إاإلدمان‪.‬‬
‫بالنسبة إلى الشق االقتصادي للمسألة‪ ،‬هناك تأثير‬
‫ومن ناحية الحلول التقنية‪ ،‬فعلى الوالدين تعليم‬ ‫سيئ لهوس الشباب أ‬
‫باأللعاب إاإللكترونية على‬ ‫وال يقتصر ضرر إدمان أ‬
‫األلعاب إاإللكترونية‬
‫أ‬
‫األبناء كيفية الحفاظ على الخصوصية والبيانات‬ ‫أ‬
‫كثيًرا من األلعاب‬ ‫أ‬
‫الوضع االقتصادي لألسرة؛ إذ إن ً‬ ‫والتواصل االجتماعي على المشكالت النفسية‪ ،‬بل‬
‫وتأمينها‪ ،‬وحظر "الواي فاي" (‪ )WiFi‬في البيت‬ ‫ُتُغري الالعب بمميزات إضافية عند دفع رسوم‬ ‫كثيًرا من المشكالت الصحية؛ فقد يؤدي‬
‫يجلب ً‬
‫وأيًضا استخدام‬ ‫مالية أو اشتراك شهري‪ ،‬كما أن بعض أ‬
‫عند وقت االختبارات المدرسية‪ً .‬‬ ‫األلعاب‬ ‫الجلوس باستمرار في مكان واحد واستخدام ألعاب‬
‫األبوية على أ‬
‫األجهزة‪ ،‬وتفعيل البحث‬ ‫أدوات الرقابة أ‬ ‫المتقدمة غالية الثمن‪ .‬لذا‪ ،‬ذكر موقع "‪،"PWC‬‬ ‫الفيديو المطولة‪ ،‬إلى زيادة فرص إاإلصابة بالسمنة‬
‫اآلمن (‪ ،)Safe Search‬الذي يسمح للوالدين‬ ‫آ‬ ‫أن أرباح شركات ألعاب الفيديو قد بلغ ‪ 262‬مليار‬ ‫وإضعاف العضالت والمفاصل وجعل اليدين‬
‫بتحديد المحتوى الذي يمكن أألطفالهم الوصول‬ ‫دوالر في عام ‪2023‬م‪ ،‬والمتوقع وصوله إلى ‪312‬‬ ‫أ‬
‫واألصابع مخدرة بسبب إاإلجهاد المفرط‪ ،‬كما تشير‬
‫باإلنترنت‪.‬‬
‫إليه أثناء اتصالهم إ‬ ‫مليار دوالر بحلول عام ‪2027‬م‪.‬‬ ‫دراسات متعددة إلى إمكانية ضعف البصر‪.‬‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪19 | 2024‬‬


‫‪ 4‬في التعليم الرقمي‬
‫وما ُيُمكن أن ُتُتيحه تطبيقات الذكاء االصطناعي‬ ‫الطريق قبل الصديق!‬
‫غّسان مراد‬
‫د‪ّ .‬‬
‫من مهارات‪ ،‬ما زال بحاجة إلى مالحظة‪ ،‬لكي ُيُبنى‬
‫على الشيء مقتضاه‪ ،‬ومن َث َََّم يكون بمقدورنا‬
‫تحديد بعض المفاهيم‪ ،‬التي على أساسها س ُُتبنى‬ ‫أكاديمي متخصص في األلسنية المعلوماتية‬
‫واإلعالم الرقمي‬
‫اُأل�ُسس النظرّيّة‪ .‬وهذا يتعّلّق بتخصيص تجارب‬
‫التعليم‪ ،‬ومالحظة ما يوّفّر الفرصة لالستجابة‬
‫وجماعًيا‪ ،‬ثم‬
‫ً‬ ‫خصوًصا الحتياجات الطالب فردًيًا‬
‫ً‬
‫تحديد احتياجات المعّلّمين‪ ،‬وبالتالي تحديد‬ ‫األشخاص فقط‪ ،‬بل‬ ‫الذي ال يقتصر على تفاعل أ‬ ‫أمَرين أساسين‬
‫الرقمّي على َ‬
‫ّ‬ ‫يرتكز التوازن‬
‫احتياجات المنظومة إاإلدارية‪.‬‬ ‫على تفاعل البيانات‪ .‬هذا التشبيك الذي يعتمد‬ ‫متالز ََمين‪ ،‬وفًقًا لمعادلة "التعليم أساس التنمية"‪:‬‬
‫خوارزميات الذكاء االصطناعي‪ ،‬أ ّّدى إلى تغيير‬ ‫كقّوة فاعلة‬
‫التعليم بمعناه إاإلبستمولوجي ّ‬
‫يوجد كثير من التطبيقات التي تفيد في‬ ‫جذرّي في إستراتيجيات التعليم‪ ،‬التي باتت‬‫ّ‬ ‫للتغيير؛ أي كل ما يتعلق باكتساب المعرفة‬
‫التعليم‪ ،‬شرط االلتزام بمنهجية تتبع معايير‬ ‫الثقافّية‪،‬‬ ‫ة‬ ‫ّي‬‫و‬ ‫التنم‬ ‫للمنظومة‬ ‫ساس‬ ‫المحّرك أ‬
‫األ‬ ‫وفهمها (أي التغيير في النظرة إلى طبيعة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫حالًيا نحن‬‫تتناسب مع ثورة الذكاء االصطناعي‪ً .‬‬ ‫بوصفها طريقة شاملة في الحياة‪.‬‬ ‫المعرفة العلمية ومسلماتها وحدودها وأهدافها)‪،‬‬
‫المؤّسسات كاّفّة؛ إإلنتاج‬
‫ّ‬ ‫في مرحلة تتسابق فيها‬ ‫والتنمية التي ُيُفترض بها أن تستثمر المعرفة‬
‫برمجّيات الذكاء االصطناعي‬‫ّ‬ ‫تطبيقات تستخدم‬ ‫فما هي فوائد ومخاطر دمج الذكاء االصطناعي‬ ‫يحّسن‬
‫المكتسبة في المجاالت كافة‪ .‬فالتعليم ّ‬
‫التعليمّية‪،‬‬ ‫المناهج‬ ‫منها‪:‬‬ ‫في التعليم‪ ،‬نذكر‬ ‫اآلراء والتجارب غير ثابتة‬ ‫في التعليم؟ ما زالت آ‬ ‫وُسبل العيش‪ ،‬وُيُسهم في االستقرار‬
‫ّ‬ ‫الصحة ُ‬
‫وطرق التدريس‪ ،‬وأتمتة تصحيح االمتحانات‪،‬‬ ‫فيما يتعّلّق بأهمية التقنيات في التعليم‪ .‬ولك ّّنها‬ ‫النمّو االقتصادي على المدى‬
‫االجتماعي‪ ،‬ويحّفّز ّ‬
‫الصّف‪ ،‬والمساعدة في تحرير الرسائل‬ ‫وإدارة ّ‬ ‫األساس‪.‬‬ ‫موجودة‪ ،‬وعلينا التعامل معها على هذا أ‬ ‫الطويل‪ ،‬ويهدف إلى التنمية المستدامة التي‬
‫الُمرسل إليه (‪Magieschool.‬‬ ‫لكترونّية بحسب ُ‬
‫ّ‬ ‫اإل‬
‫إ‬ ‫منهجّية تتناسب معها غير ممكن‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وإدخالها دون‬ ‫اعتمدتها منظمة اليونسكو‪.‬‬
‫‪ ،)ai‬وبناء خطط مرتبطة باحتياجات ّكّل طالب‬ ‫أيًضا‪ .‬كما نعلم أن العلوم‬ ‫وحظرها غير ممكن ً‬
‫الصّف‪ ،‬وتوليد أمثلة لنصوص ليعمل عليها‬ ‫في ّ‬ ‫األفراد‪ ،‬كالعلوم‬‫التي تتعّلّق بالفكر وبسلوكّية أ‬ ‫مّرت الرقمنة بمراحل عديدة‪ :‬من الويب ‪1‬‬
‫أ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫المقّرر‬
‫ّ‬ ‫مخطط‬ ‫وتوليد‬ ‫(‪،)Copilot‬‬ ‫"‬ ‫ا‬
‫"مثاًل‬ ‫الطالب‬ ‫التربوّيّة‪ ،‬تختلف عن العلوم البحتة؛ ألنها من‬ ‫(التشبيك السلبي) حيث التلقي باّتّجاه واحد؛‬
‫ا‬
‫بحسب الهدف التعليمي "مثاًل " (‪Sydologie‬‬ ‫حسابًيا ومعادالت وقوانين‬ ‫ً‬ ‫نظاًما‬
‫الصعب أن ت ّّتبع ً‬ ‫إلى الويب ‪( 2‬التشبيك التفاعلي)‪ ،‬أي من ّ‬
‫الكّل‬
‫‪ ،)ou eduaide.ai‬وضبط مستوى صعوبة‬ ‫مواٍز‪.‬‬
‫ٍ ٍ‬ ‫بشكٍل‬ ‫الجميع‬ ‫طّبق على‬
‫ثابتة ُتُ ّ‬ ‫الكّل؛ وصواًلا إلى الويب ‪( 3‬التشبيك الذكي)‪،‬‬
‫إلى ّ‬
‫البرمجّيات بانتهاك خصوصية البيانات‬ ‫وتهدد‬ ‫من التعليم العمودي إلى التعليم أ‬
‫األفقي؛ أي‬ ‫تلقائـًيا بنا ًًء على أداء الطالب‪ ،‬وتوليد‬ ‫التمارين‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫وأمنها‪ ،‬فهي تطلب معلومات شخصية‬ ‫التعليمّية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أن يشارك المتعّلّم في بناء المادة‬ ‫عّدة مستويات‪،‬‬ ‫اّلا‬
‫نصوص للط ب تتناسب مع ّ‬
‫ُتُستخدم من ِِق ََبل من يريد ذلك‪ .‬كما أن‬ ‫أيًضا يمكن بناء نظام امتحانات مفتوح‪ ،‬مع‬ ‫ً‬ ‫بالنّص المولد‬
‫وتوليد أمثلة وأسئلة تتعّلّق ّ‬
‫الفيديوهات والصور ُتُعطي معلومات عن بيئة‬ ‫أ‬
‫مصادر مفتوحة ألسئلة مفتوحة‪ ،‬على أن يجري‬ ‫(‪ ،)Diffit‬والمساعدة في تحرير الدرس وتوليد‬
‫المتعّلّم وعاداته‪.‬‬ ‫كيفّية اكتساب‬
‫التقييم على أساس معرفة ّ‬ ‫الصور (‪ ،)Canva ou Tome‬وإنشاء نصوص‬
‫المتعّلّم للمعرفة وتوظيفها وقدرته على إعادة‬ ‫تشبه الكلمات المتقاطعة (‪ ،)Nolej‬وتصحيح‬
‫التعّلّم البشري هو آلية معّقّدة تنطوي على‬ ‫إنتاج المعلومة‪.‬‬ ‫النصوص‪ ،‬وتقييم أعمال الطالب بعضهم‬
‫جوانب معرفية وذهنية واجتماعية وأحاسيس‪.‬‬ ‫لبعض (‪ ،)Grodscope‬وأيًضا تحسين أ‬
‫األسلوب‬ ‫ً‬
‫يحّل الذكاء االصطناعي مكان‬ ‫ال يمكن أن ّ‬ ‫كل ذلك‪ ،‬يتطّلّب إعطاء الكفاءة الالزمة‬ ‫اآللي للنصوص‬‫والقواعد النحوّية والتلخيص آ‬
‫أ‬ ‫ّ‬
‫يهتّم‬
‫التفاعل البشري التعليم‪ ،‬فاألول ّ‬ ‫للمعّلّم‪ .‬كأن يمارس إدارة المعرفة داخل‬ ‫(‪ Bing‬أو ‪.)Chatgpt‬‬
‫بالمعرفة فقط‪َ ،‬أَّما ّكّل ما يتعّلّق بالحالة‬ ‫وّجه العمل الجماعي‪ ،‬وأن‬ ‫قاعة التدريس‪ ،‬وُيُ ّ‬
‫السلوكّية والمشاعر والعالقات االجتماعية‬ ‫ّ‬ ‫يكون ُُم ًلًما بالتقنيات‪ .‬وأن يختار المتعّلّم‬ ‫التعليمّية التي تعتمد‬
‫ّ‬ ‫نّصات‬
‫بالِم ّ‬
‫وفيما يتعّلّق ِ‬
‫والتجارب العلمّية بين الطاّلا ب وتبادل آ‬
‫اآلراء‬ ‫التعليمّية بما يتوافق مع رؤيته‪ ،‬مع‬ ‫مساقاته‬ ‫على الذكاء االصطناعي‪ ،‬نذكر على سبيل‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والعمل في ِِفرق‪ ،‬فهو غير متاح من قبل الذكاء‬ ‫منفتًحا‪ .‬ولتأمين‬
‫ً‬ ‫التوجيه التربوي؛ أي أن يكون‬ ‫المثال‪:‬‬
‫اإلبداع واالبتكار‪.‬‬
‫يحّد من إ‬
‫االصطناعي‪ ،‬وهذا ّ‬ ‫أيًضا التخلي عن‬‫اإلدارة ً‬
‫التوازن الرقمي‪ ،‬على إ‬
‫الورقّية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫البيروقراطية‬ ‫الذاتّي (‪ :)Altitude Learning‬يرّكّز‬
‫ّ‬ ‫• التع ّّلم‬
‫آ‬ ‫الُمعّلّم‪.‬‬
‫حّد للتوازن الرقمي‬
‫والسؤال اآلن‪ :‬هل هناك ّ‬ ‫الُمتعّلّم مع مساعدة ُ‬
‫على ُ‬
‫لإلفراط في االستخدام في مجال‬ ‫حّد إ‬
‫أو ّ‬ ‫مخاطر الذكاء االصطناعي في التعليم‬
‫اآلن‪ ،‬أ‬
‫األمر ال يزال غير واضح‪.‬‬ ‫التعليم؟ حتى آ‬ ‫في جانب المخاطر‪ ،‬هناك قلق من دور الذكاء‬ ‫•‪ :Cognii‬منصة مالئمة للتقييم‪ ،‬تكمن‬
‫وهناك حالة من التخبط المفاهيمي؛ أألن تطور‬ ‫االصطناعي في تجريد تجربة التعّلّم من‬ ‫واإلجابة عن أسئلة‬
‫أهمّيتها في التعّلّم إ‬
‫ّ‬
‫التطبيقات سبق بناء المفاهيم‪ .‬والتكنولوجيا‬ ‫إنسانيتها‪ ،‬فهذه البرامج هي التي تدير المحتوى‬ ‫وتطبيقّية تعتمد على حوسبة اللغة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مفتوحة‬
‫موجودة‪ ،‬ونحن مجبرون على التعامل معها‪.‬‬ ‫وتحّدد مسار التعليم؛ لذلك ال يمكن أن تشعر‬
‫ّ‬
‫يحّس المعّلّم عند‬ ‫كما‬ ‫الفروقات‬ ‫وتستشعر‬ ‫• ‪ :Centry‬تجمع بين علوم أ‬
‫األعصاب وتحليل‬
‫ّ‬
‫المهّم أن‬
‫ّ‬ ‫التقنّيات تبنينا ونبنيها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ويبقى أن‬ ‫وجود شائبة معينة عند الطالب‪.‬‬ ‫محّدد لكل‬
‫البيانات؛ إإلنشاء برنامج تدريسي ّ‬
‫نعرف ماذا نفعل بها‪ ،‬وماذا تفعل بنا‪.‬‬ ‫طالب‪ ،‬بحسب مستواه‪ ،‬ويسمح للمعّلّم‬
‫كاديمّية‪،‬‬ ‫وهناك خشية من تدني المعايير أ‬
‫األ‬ ‫بمتابعة الطالب‪.‬‬
‫ّ‬
‫المستجّدة‪ ،‬قد تطرح خوًفًا‬‫ّ‬ ‫فبعض السلوكيات‬
‫اّلا‬
‫من أن تصبح المهارات والكفاءات عند الط ب‬ ‫وُيُضاف إلى هذه التطبيقات برامج الترجمة‬
‫منخفضة ومحدودة ضمن معايير وقياسات‬ ‫اآللّية والتنقيب عن المعلومات والتلخيص آ‬
‫اآللي‬ ‫آ‬
‫ّ‬
‫كمّية‪ ،‬وهو ما قد يؤدي إلى إهمال التعددّيّة‬ ‫ّ‬ ‫وإنتاج الصور‪ .‬في المحصلة‪ ،‬يجب أن نرِّوّ ض‬
‫واختالفات المواهب‪ ،‬أ‬
‫واألسلوب واالهتمامات‬ ‫هذه التطبيقات بداًلا من أن ّ‬
‫ترّوضنا‪ .‬ولكن كيف‬
‫اإلبداع واالبتكار الناجم عن‬ ‫الفردّيّة وضياع إ‬ ‫فعلًيا من هذه التطبيقات؟‬
‫نستفيد ً‬
‫البرمجّيات قد تؤدي‬
‫أ ّ‬ ‫هذه‬ ‫التربية‪ .‬كما أن‬
‫إلى البحث الدائم عن األجوبة الصحيحة‪،‬‬ ‫نموذج فكري يتناسب مع التغيير‬
‫باإلضافة إلى‬ ‫بدل الفهم العميق للمفاهيم‪ .‬إ‬ ‫إًذًا‪ ،‬نحن بحاجة إلى "بارادايم" جديد في‬
‫العلمّية القائمة على النسخ‬ ‫ّ‬ ‫مشكالت السرقة‬ ‫التعليم يتناسب مع التغيير الناجم عن إدخال‬
‫عملّية البحث والتفكير‬ ‫ّ‬ ‫في‬ ‫ضعف‬ ‫والّلّصق؛ أي‬ ‫عُّد هذا النموذج‬ ‫الرقمّية إلى حياتنا‪ُ .‬يُ ُ‬
‫ّ‬ ‫التقنّيات‬
‫ّ‬
‫والتنقيب عن أجوبة فردّيّة غير معيارّيّة‪ .‬فال‬ ‫الُمستحدث ثورة في التعليم‪،‬‬ ‫الفكري التربوي ُ‬
‫يتطّور الدماغ البشري من دون‬‫يمكن أن ّ‬ ‫تطويًعا للمفاهيم بما‬
‫ً‬ ‫الُمفترض أن يشّكّل‬
‫من ُ‬
‫"هضم" المعرفة‪.‬‬ ‫التقنّيات‪ ،‬ويكون ركيزة للتعّلّم في‬ ‫ّ‬ ‫يتوافق مع‬
‫المستقبل‪ .‬وينقلنا من التلقين إلى المشاركة‪،‬‬
‫عملّية البحث‬
‫الذكاء االصطناعي ّ‬ ‫وبينما يسّهل‬ ‫ومن العمل الفردي إلى العمل الجماعي‪ ،‬ومن‬
‫األ ّعمال أ‬
‫وكتابة أ‬ ‫الُمغلق إلى التقييم المفتوح‪ .‬وبنا ًًء‬
‫كاديمّية‪ ، .‬فإنه يمكن أن‬
‫ّ‬ ‫األ‬
‫يحّد من طرح أ‬ ‫التقييم ُ‬
‫األسئلة والتحليل والنقد وتطوير‬ ‫ّ‬ ‫عليه‪ ،‬يجب التخّلّي عن التلقين باتجاه واحد؛‬
‫الذاتّية‪ .‬ولن يتمّكّن البعض من الوصول‬
‫ّ‬ ‫فكار‬ ‫أ‬
‫األ‬ ‫أألنه يؤدي إلى استهالك المعلومات وحفظها‬
‫التقنّيات‪ ،‬وهو ما قد يؤدي إلى فجوة‬
‫ّ‬ ‫إلى‬ ‫دون إعادة استخدامها‪ ،‬والتركيز على المعرفة‬
‫رقمية ومعرفية‪.‬‬ ‫وليس على المعلومات‪ .‬وهكذا‪ ،‬نحاول االنتقال‬

‫القافلة || مايو ‪ -‬يونيو ‪21 | 2024‬‬


‫القافلة‬
‫تحت تصرف المنشأة التي يتبعها‪ ،‬ويمكن حساب‬ ‫‪ 5‬بناة العالم الرقمي‬
‫الضحايا األوائل وضحاياهم!‬
‫وقت العمل ووضع الحدود بين الطرفين‪ .‬وكان‬
‫لجنس العامل دور في هذه التشريعات‪.‬‬

‫األعمال الرقمية‪ ،‬لم يعد مكان‬‫في كثير من أ‬


‫متاًحا على مدار‬ ‫صارت المؤسسات في جميع أ‬
‫العمل محد ًًدا‪ ،‬وأصبح العامل ً‬ ‫األنشطة‬ ‫من المفارقات المدهشة أن بناة العالم الرقمي‬
‫الساعة‪ ،‬ولم يعد جنس العامل بالتأثير السابق‪.‬‬ ‫والصناعات‪ ،‬أكثر اعتما ًًدا على هذه التكنولوجيا‪.‬‬ ‫األول من ضحايا إاإلفراط؛ أألن‬
‫يقفون في الصف أ‬
‫وينطوي هذا التغيير في طبيعة العمل على‬ ‫فهذه التقنيات الجديدة تحّقّق زيادة في الكفاءة‬ ‫دوافع إاإلفراط لديهم مزدوجة‪ :‬الولع والضرورة‪،‬‬
‫مزايا‪ ،‬من بينها‪ :‬عدم االضطرار إلى االنتقال‬ ‫والسرعة والمرونة والربحية‪ ،‬وتشير شركة ستاتيستا‬ ‫وينطبق ذلك على المبرمجين والعاملين في صيانة‬
‫لمكان محدد للقيام بالوظيفة‪ ،‬وتحقيق مرونة‬ ‫(‪ )Statista‬إلى أنه من المتوقع أن يتضاعف‬ ‫األنظمة الرقمية‪ .‬معظمهم يتجهون‬‫وتشغيل أ‬
‫في تقسيم الوقت‪ ،‬وإفساح مساحة أكبر‬ ‫تقريًبا من‬
‫االستثمار العالمي في التحول الرقمي ً‬ ‫إلى دراسة هذا المجال من باب الولع‪ ،‬ويحققون‬
‫األعمال؛ لكنه يقلل فرص خلق بيئة‬ ‫للمرأة في أ‬ ‫‪ 1.85‬تريليون دوالر أمريكي في عام ‪2022‬م‪ ،‬إلى‬ ‫تميزهم فيه باستمرار ذلك الولع‪ ،‬وعادة ما يجدون‬
‫العمل الجيدة والتعاون بين الزمالء‪ ،‬الذي‬ ‫‪ 2.89‬تريليون دوالر أمريكي عام ‪2025‬م‪.‬‬ ‫أنفسهم أمام أسئلة الضرورة التي تجبرهم على‬
‫يخلقه الوجود في مكان واحد‪ .‬وفي الوقت‬ ‫االستمرار ساعات طويلة من أجل اكتشاف خطأ في‬
‫نفسه‪ ،‬يحمل مخاطر العمل لساعات إضافية‪،‬‬ ‫وبعيًدا عن المخاوف التقليدية من فْقْد كثير من‬
‫ً‬ ‫تصميم برنامج قيد التنفيذ‪ ،‬أو في إنقاذ منظومة‬
‫وعدم وضوح الحدود بين وقت العمل والوقت‬ ‫أ‬ ‫ّ‬
‫العمال لوظائفهم في ظّل التحول؛ ألن التقليص‬ ‫رقمية تعطّلّت فجأة‪.‬‬
‫الخاص‪ .‬وهذا مثار جدل حول حق العامل‬ ‫توّسع في توظيف‬ ‫في الوظائف القائمة يقابله ّ‬
‫الرقمي‪ .‬في مقال على موقع "غاريغيس"‬ ‫العاملين الرقميين‪ ،‬ال توجد البنية القانونية‬ ‫يملك هؤالء أعلى سلطة في الشق الخيالي‬
‫اإلسباني للدراسات (‪centro de estudios‬‬ ‫إ‬ ‫المالئمة لقوانين عمل تتعلق بهذه الوظائف‬ ‫(االفتراضي) من وجودنا اليوم‪ ،‬لكن حياتهم‬
‫‪ )garrigues‬كتب أستاذ قانون العمل والضمان‬ ‫غالًبا ما يضطر أصحابها إلى العمل‬
‫الجديدة‪ ،‬التي ً‬ ‫االجتماعية تتقّلّص وتتأطر بحدود شاشة الكمبيوتر‬
‫االجتماعي بجامعة قرطبة‪ ،‬فيدريكو دوران‪،‬‬ ‫ساعات طويلة‪.‬‬ ‫الذي يستخدمونه‪ .‬وهم يبنون هذه الحياة‬
‫مقااًلا حول قضية ساعات العمل من جهة كيفية‬ ‫االفتراضية من أجل الجميع‪ ،‬وبسبب فوائدها التي‬
‫الُمجبرين يدور‬ ‫أ‬
‫مستعرًضا الجدل القائم‬
‫ً‬ ‫تحديدها وقياسها‪،‬‬ ‫السؤال األول المتعلق بإفراط ُ‬ ‫لم يعد من الممكن االستغناء عنها‪ ،‬يتع ّّزز حضور‬
‫حول حق قطع االتصال الرقمي‪ ،‬وصعوبة إيجاد‬ ‫حول مدى مالءمة قوانين العمل‪ ،‬التي وضعت‬ ‫التكنولوجيا الرقمية في مختلف المجاالت‪ .‬ولم‬
‫األمر‪ ،‬حيث ال تزال أ‬
‫األمور‬ ‫حلول تنظيمية لهذا أ‬ ‫في السابق لتأطير العالقة ووضع الحدود بين‬ ‫األمر مقتصًرا على المستخدمين أ‬
‫األوائل من‬ ‫يعد أ‬
‫ً‬
‫غامضة ومجردة‪.‬‬ ‫المنشأة وصاحب العمل من جهة‪ ،‬والعامل‬ ‫موظفي البورصة والبنوك والمراقبين الجويين‪،‬‬
‫األخرى‪ .‬وكذلك مدى مالءمة لوائح‬‫من الجهة أ‬ ‫بل امتد االستخدام إلى مختلف المهن أ‬
‫واألنشطة‬
‫األضرار الجسمانية‪ ،‬التي يمكن‬‫وهناك كثير من أ‬ ‫السالمة المهنية‪ ،‬وقوانين السالمة العامة‪ .‬في‬ ‫االقتصادية والعلمية‪ ،‬وهو ما يعني تزايد أعداد‬
‫أن تحدث نتيجة الجلوس أمام الكمبيوتر ساعات‬ ‫الحقبة الصناعية‪ ،‬كان هناك تقيد بأماكن محددة‬ ‫الُمجبرين على الجمود أمام شاشات الكمبيوتر‬
‫ُ‬
‫طويلة‪ ،‬ومن بينها‪ :‬آالم العمود الفقري وتيبس‬ ‫للعمل‪ ،‬وساعات محددة يكون فيها العامل‬ ‫ساعات طويلة في العمل‪.‬‬
‫المفاصل والصداع والتهابات العيون والسمنة‬
‫وأمراض القلب‪ .‬إلى جانب أ‬
‫األضرار النفسية‬
‫واالجتماعية‪ ،‬ومنها‪ :‬تشتت االنتباه وقلة التركيز‬
‫اإلرهاق‬
‫واالكتئاب والميل إلى العزلة بسبب إ‬
‫واالفتقاد التدريجي لمهارات التعامل في‬
‫المجتمع‪.‬‬

‫في الخطوط العامة لقواعد السالمة المهنية‪،‬‬


‫تتقاسم جهة العمل والعامل المسؤوليات؛ أألن‬
‫الطرفين يتقاسمان المخاطر كذلك‪ .‬من جانب‬
‫قّدمت بعض شركات التكنولوجيا تفسيرها‬ ‫آخر‪ّ ،‬‬
‫آ‬
‫لمبدأ توفير بيئة العمل الصحية اآلمنة بخلق‬
‫مساحات للترفيه أ‬
‫واأللعاب الرياضية‪ .‬ويجب‬
‫على العاملين أنفسهم مراعاة شروط السالمة من‬
‫جانبهم‪ ،‬كضرورة مغادرة طاولة العمل بين فترة‬
‫وأخرى‪ ،‬واالهتمام بالتواصل االجتماعي الواقعي‬
‫مع آ‬
‫اآلخرين‪.‬‬
‫مجلة القافلة‬
‫مايو ‪ -‬يونيو ‪2024‬‬ ‫أدب وفنون‬

‫في رثاء بدر‬


‫ال يغيب‬
‫ال بداية أراها صالحة لرثائه‪ ،‬فالحديث‬
‫مري الشاعر بدر بن عبدالمحسن‪،‬‬ ‫أ‬
‫عن األ ر‬
‫ليس ببعيد عن البحث عن لغة مختلفة‬
‫يمكن أن تصفه أو تصف تجربته الشعرية‬
‫معىن‪ ،‬عن‬‫المختلفة‪ ،‬بكل ما يف الكلمة من ى‬
‫�ي‬
‫اليت ظهرت �ييف عرصه‬ ‫بقية التجارب الشعرية �‬
‫األمر أصبح‬‫أو بعده‪ .‬لكن الحديث يف ينهاية أ‬
‫�ي‬
‫واج ًًبا �ييف غمرة الحزن الذي انتابنا برحيله‪،‬‬
‫�‬
‫اليت نراها أقرب إىل مالمسة ما أمكن‬
‫باللغة ي‬
‫من أطراف تجربته المتفردة‪.‬‬

‫د‪ .‬سلطان العميمي‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪23 | 2024‬‬


‫َ‬
‫أدرَك البدر مبك ًًرا‪ ،‬بوعي‬ ‫شاعًرا مختلًفًا‪ .‬وقد كان النكبابه‬
‫ذلك لن يجعل منه ً‬ ‫في تصريح قديم له‪ ،‬رَّبَما كان في إحدى المقابالت‬
‫وذكاء‪ ،‬أنه يمتلك موهبة‬
‫مبكًرا على استكشاف مختلف التجارب إاإلبداعية‬ ‫األمسيات‪ ،‬قال البدر إن‬‫التلفزيونية أو إحدى أ‬
‫ً‬

‫شعرية في حاجة إلى‬


‫العالمية دور كبير في إنضاجه شعرًيًا‪ ،‬ليس في‬ ‫جًدا‪ .‬وال نعرف إن كان‬
‫بداياته الشعرية كانت عادية ً‬
‫عالم الشعر فحسب‪ ،‬بل في مختلف أشكال‬ ‫نشر شي ًًئا من تلك القصائد التي يصفها بالعادية‪،‬‬
‫اهتمام خاص منه‪.‬‬
‫نبطًيا‪،‬‬ ‫آ‬
‫شاعًرا ً‬
‫الفنون واآلداب‪ .‬وإلى جانب كونه ً‬ ‫لكن البحث عن أقدم القصائد المنشورة للبدر‪ ،‬بما‬
‫تشكيلًيا‪ ،‬وُنُشرت بعض لوحاته في‬‫ً‬ ‫كان البدر فناًنًا‬ ‫فيها المغناة‪ ،‬يكشف لنا عكس ذلك‪ ،‬فبداياته كانت‬
‫دواوينه‪ ،‬كما سبق أن أقام عد ًًدا من المعارض‬ ‫شاعًرا مختلًفًا عن شعراء زمنه‪.‬‬
‫تشي بأنه ولد ً‬
‫الفنية‪ .‬وقد ال يصعب على من يتأمل قصائده أن‬
‫يرى انعكاس فرشاة الرسام على الصور الشعرية‬ ‫مبكًرا‪ ،‬بوعي وذكاء‪ ،‬أنه يمتلك موهبة‬
‫أدرَكَ البدر ً‬
‫أيًضا الوقوف على‬ ‫في عدد منها‪ ،‬وال يصعب عليه ً‬ ‫شعرية في حاجة إلى اهتمام خاص منه‪ ،‬وأن‬
‫سريالًيا‪.‬‬
‫ً‬ ‫نفًسا‬
‫بعض أبياته الشعرية التي تحمل ً‬ ‫االكتفاء بوجود الموهبة وحدها قد يجعل منه‬
‫أليس هو القائل‪" :‬ذبلت أنوار الشوارع‪ ..‬وانطفى‬ ‫جيًدا‪ ،‬ضمن مجموعة من الشعراء الجيدين‬‫شاعًرا ً‬
‫ً‬
‫ََض ّّي الحروف"؟ وهو القائل‪" :‬أعلق الدنيا على‬ ‫الذين يمكن تمييزهم عن شعراء آخرين يبدون‬
‫مسمار‪ ..‬مدقوق فيه جدار"‪.‬‬ ‫أقرب إلى النسخ المتكررة بعضها عن بعض‪ ،‬لكن‬
‫خرج عن األسلوب النمطي‬ ‫لقد امتلك البدر‪ ،‬منذ وقت مبكر‪ ،‬جرأة على‬ ‫األسلوب النمطي الذي كان‬ ‫لقد خرج البدر عن أ‬

‫سائًدا قبله في‬


‫ً‬ ‫الذي كان‬
‫وكثيًرا‬
‫ً‬ ‫كسر الشكل التقليدي للصورة الشعرية‪.‬‬ ‫سائًدا قبله في بنية القصيدة وصورها‪ ،‬فابتعد‬ ‫ً‬

‫بنية القصيدة وصورها‪،‬‬


‫شاعًرا‬
‫نفسي‪ :‬لو أن ً‬ ‫ما تساءلت بيني وبين‬ ‫عن النمط الشائع والمعروف‪ ،‬وكتب بأسلوب‬
‫أ‬
‫آخر كان صاحب تجربة األمير بدر‪ ،‬هل كانت‬ ‫جديد‪ ،‬بل و ُُغ ّّني له؛ إذ غنى محمد عبده في‬
‫فابتعد عن النمط الشائع‬
‫قصائده ستحظى بالقبول أو باالنتشار نفسه‬ ‫المحّملة‬
‫ّ‬ ‫وقت مبكر قصيدة‪" :‬أرفض المسافة"‪،‬‬

‫والمعروف‪.‬‬
‫الذي حظيت به؟‬ ‫بنفسه الشعري الجديد‪ ،‬ويقول فيها‪:‬‬

‫إن التجريب والتجديد في الشعر النبطي‪ ،‬خالل‬ ‫"أرفض المسافة‪ ،‬والسور‪ ،‬والباب والحارس‬
‫رحًبا به‪،‬‬
‫الزمن الذي بزغ فيه نجم البدر‪ ،‬لم يكن ُُم ً‬ ‫آه‪ ،‬أنا الجالس ورا ظهر النهار‪،‬‬
‫مجتمعًيا أو بين شعراء النبط آنذاك أو في‬
‫ً‬ ‫سواء‬ ‫ينفض غبار ذكرى‬
‫وسائل إاإلعالم؛ أألنهما ‪ -‬أي التجريب والتجديد‬ ‫أرفض يكون االنتظار بكرا‬
‫ِّمَّي بتيار الحداثة الشعرية‪،‬‬
‫‪ -‬يسبحان ضمن ما ُُس َ‬ ‫أبا اسقي عطش قلبي اليابس على شفاهي‬
‫الذي ُيُرى فيه مساس بأصالة الشعر النبطي الذي‬ ‫بقول احبك‬
‫مهًما من هوية إنسان المنطقة‪ ،‬ومن‬ ‫يشّكّل جز ًًءا ً‬ ‫أرفض اني أموت في قلبك‪،‬‬
‫َثَّم فهو خطر عليه‪ .‬لكن الوعي الشعري المبكر‬ ‫وما درى بموتي أحد‪ ..‬حتى أنا"‪.‬‬
‫الذي امتلكه البدر‪ ،‬جعله يمشي بخطى ثابتة على‬
‫أرضية صلبة من اإلدراك لمفهوم أ‬
‫األصالة والحداثة‬ ‫نجاًحا مدوًيًا‪ .‬وكان ذلك من‬ ‫أ‬
‫إ‬ ‫ونجحت األغنية ً‬
‫في الوقت نفسه‪.‬‬ ‫بدايات االنقالب الشعري في القصيدة العامية‬
‫في الخليج‪ ،‬المرتبطة أ‬
‫باألغنية الخليجية‬
‫خصوًصا‪ ،‬وكان طرًفًا في هذا االنقالب قصائد‬
‫أخرى ًُغُنيت في فترة قريبة من تلك أ‬
‫األغنية‪،‬‬
‫مثل‪" :‬قصت ضفايرها ودريت"‪ ،‬التي غناها‬
‫الفنان طالل مداح‪ ،‬ومن أبياتها‪:‬‬

‫"قّصت ضفايرها ودريت‪،‬‬ ‫ّ‬


‫البارحه جاني خبر‬
‫أدري البست خاتم عقيق‪،‬‬
‫كتاٍب عتيق‬
‫وتقرا لها ٍ‬
‫كتاب وآظنه ِِشعر‬
‫أحفظ أنا حجار الطريق‬
‫اللي يو ّّدي لبيتها‬
‫زيٍن وانا‪ ..‬ال شفتها وال جيتها"‪.‬‬
‫واعرفها ٍ‬
‫أخلص البدر للشعر منذ أن بدأ يكتبه وينشره‪،‬‬
‫كثيًرا من المجالت والبرامج التلفزيونية‬
‫فدعم ً‬
‫الشعرية حتى آخر أيام حياته‪ .‬ونشر قبل سنتين‬
‫أعماله الشعرية الكاملة‪َ .‬أَّما مسيرته الشعرية التي‬
‫امتدت إلى أكثر من نصف قرن‪ ،‬فليس من باب‬
‫المبالغة القول إنها لم تجد نصيبها الذي تستحقه‬
‫من النقد والدراسة‪ .‬وإنه ليس من باب المبالغة‬
‫يعُّد من الشعراء القالئل‬
‫أيًضا القول إن البدر ُ‬
‫ً‬
‫الذين لم يخفت وهج قصيدتهم طوال فترة‬
‫عطائهم الطويلة‪ .‬فقد استمر "أبو خالد" في نظم‬
‫قصائده بذات النفس الشعري الذي ُُعرف به إلى‬
‫أواخر أيام حياته‪ ،‬ولم نشعر بأن أبياتها مسها‬
‫شيء من شيخوخة لغة الشعر‪ ،‬وظلت شعلة‬
‫أثناء توقيع ديوان شهد الحروف في معرض الرياض الدولي للكتاب ‪ ،2022‬تصوير راشد السبيعي‪.‬‬ ‫موهبته مشتعلة بقوة إلى أواخر أيام حياته‪.‬‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪25 | 2024‬‬


‫لقد حافظ البدر في قصائده على هويته البدوية‪،‬‬
‫واعتز ببداوته وبإبله‪ ،‬وشق لها دروًبًا في قصائده‪،‬‬
‫واحتفى أ‬
‫باألمطار‪ ،‬وطبع خطواته في رمال‬
‫الصحاري في حر القيظ وسهر الليل وعد النجوم‪،‬‬
‫وامتطى صهوة الخيل‪ ،‬وسبح في الغدران‪.‬‬
‫وفي الوقت نفسه‪ ،‬شق للقطار سكة حديد في‬
‫قصائده‪ ،‬وغنى المواويل‪ ،‬وانتقل بين بيوت‬
‫األزهار في المزهريات‪ ،‬واستحضر‬ ‫الطين‪ ،‬ورتب أ‬
‫غرناطة وطارق بن زياد‪ ،‬وقال في محبوبته يو ًًما‪:‬‬

‫"أال يا هللا كان اللي مضى لي يشبه المجهول‬


‫عدٍّو ما عليه اشباه مضنوني‬
‫تيّسر لي ٍ‬‫ّ‬
‫غدا يشبهني في الساعة عبث هالعقرب المجهول‬
‫أعد اللي رحل بي وان وقفت بيرحل بدوني"‪.‬‬

‫وهو القائل‪:‬‬

‫"قّصت جناح الثواني غيبتك‪ ..‬وصارت الساعة‬ ‫ّ‬


‫أماني"‪.‬‬
‫وهو الشاعر نفسه الذي قال‪:‬‬
‫"أترامى‪ ،‬هذي عاداتي‬
‫في كل العمر مره أترامى‪،‬‬
‫مهًما على‬ ‫في حضوره الشعري في أمسياته ا‬
‫دلياًل ً‬ ‫تحدث في إحدى أمسياته بإعجاب عن أخالق‬ ‫وصدقيني في حياتي‪،‬‬
‫ذلك‪ ،‬حيث نلمس ذلك القلق المستمر الذي‬ ‫الفنان الراحل طالل مداح وإنسانيته‪ ،‬وال يكشف‬ ‫ما هقيت اني عقاب وال يمامه‪،‬‬
‫دائًما‬
‫يعيشه مع نصوصه الشعرية‪ ،‬مطار ًًدا ً‬ ‫اإلعجاب في الحقيقة إال عن نفس تدرك‬ ‫ذلك إ‬ ‫إنما لعيونك انتي‪ ،‬طرت أألجمل ابتسامة‬
‫للكمال فيها‪ ،‬وأقصد هنا كمال المفردة‪ ،‬والعبارة‪.‬‬ ‫"اإلنسانية" في حياتنا‪.‬‬
‫أبعاد إ‬ ‫لين قلتي وين جنحانك؟‬
‫وحدث أن أجرى بعض التغييرات في قصائده‬ ‫وين جنحاني؟!‬
‫فغّير‬
‫التي نشرها‪ ،‬ثم ألقاها في أمسيات الحقة‪ّ ،‬‬ ‫وبقدر التواضع الذي كان ُيُزهر مع كل رأي‬ ‫وطحت‬
‫بعض المفردات‪ ،‬أو أضاف أبياًتًا لم يسبق له‬ ‫يبديه‪ ،‬أو تصرف يبدر منه‪ ،‬إال أن قصائد البدر‬ ‫طحت من أعلى غمامه"‪.‬‬
‫نشرها في القصيدة نفسها‪ .‬وهذه الظاهرة تشير‪،‬‬ ‫بصورها ومعانيها خلت من التواضع الذي‬
‫في رأيي‪ ،‬إلى أن قصائده تظل حية في داخله‬ ‫يمكن أن توصف به تلك القصائد العابرة لغيره‪،‬‬ ‫لقد أثبت البدر في مقابالته أ‬
‫واألمسيات الشعرية‬
‫حتى بعد نشرها‪ ،‬فيرددها باستمرار‪ ،‬ويعمل على‬ ‫التي تفتقر إلى عناصر الدهشة والجزالة وسمو‬ ‫بعيًدا عن إلقائه الشعر‪ ،‬أن‬
‫التي تحدث فيها ً‬
‫تنقيحها بشكل دائم‪ .‬ونجد في إحدى قصائده‬ ‫العبارة وتفرد الخيال‪ .‬نقول ذلك على الرغم من‬ ‫الشاعر مسؤول عن الكلمة التي يتفوه بها في‬
‫يترجم تلك العالقة بينه وبين الشعر‪ ،‬فيقول‪:‬‬ ‫حديثه في مقابالته عن أن بداياته الشعرية يراها‬ ‫أحاديثه‪ ،‬وأن هذه المسؤولية في حاجة إلى‬
‫متواضعة‪ ،‬ولعل من أشهرها تلك المقابلة التي‬ ‫تغذيتها بالعلم والوعي والتواضع في الوقت‬
‫أتعب على المعنى ويسهرني القاف‬ ‫يتحدث فيها عن أول قصيدة له غناها الفنان‬ ‫نفسه‪ .‬كالمه هذا ذ ّّكرني بقوله في إحدى قصائده‬
‫ويلذ لي تجريـــح عذب القــوافي‬ ‫طالل مداح‪ ،‬وعنوانها‪" :‬عطني المحبة"‪ .‬كما‬ ‫"النثرية"‪:‬‬
‫وليــا مزج حبر القـلم دم أ‬
‫األطراف‬ ‫تحدث مرة عن التغييرات التي أحدثها الفنان‬
‫يصيـر لي معنى على الناس خـافي‬ ‫محمد عبده في أغنية "صوتك يناديني"‪ ،‬بتقديم‬ ‫"خيالي أكثر‪..‬‬
‫عندي معاني الشعر تلمس وتنشاف‬ ‫بعض المقاطع في قصيدته وتأخير بعضها‪،‬‬ ‫في الشعر صدق‪ ،‬والشعر أكثر‪.‬‬
‫إن ما جرحك الشعر مـا هو بكـافي‬ ‫مشيًدا بأن تلك التغييرات كانت في صالح‬
‫ً‬ ‫من علم الفراش اللون‪ ،‬ع ّّلمني أكتب‬
‫أ‬
‫القصيدة واألغنية‪.‬‬ ‫ََض ّّي النجوم الكون‪ ،‬علمني أكتب‬
‫الحديث عن البدر‪ ،‬ال نهاية له‪ ،‬والحزن الكبير‬ ‫ال تسألي‪ ..‬إن كنت صادق أو كنت أكذب‪."..‬‬
‫الذي حل برحيله يجعل من الكتابة عنه محاولة‬ ‫إن الحالة التي تحدث عنها البدر في قصيدة‬
‫للتكفير عن الشعور بالتقصير تجاه إنصاف‬ ‫"صوتك تناديني"‪ ،‬تكشف عن جانب مهم في‬ ‫أيًضا‬
‫غير أن أحاديثه في مقابالته تلك‪ ،‬تكشف ً‬
‫تجربة شعرية وإنسانية عظيمة‪ ،‬يندر أن يجود‬ ‫عالقته بالقصيدة‪ ،‬وهو التغيير الذي يمكن أن‬ ‫عن صفات إنسانية رفيعة كان يحملها في ذاته‬
‫الزمان بمثلها‪.‬‬ ‫يحدث في قصائده‪ ،‬خاصة من جانبه هو‪ .‬ونجد‬ ‫قادًرا على إخفائها‪ .‬فعلى سبيل المثال‪،‬‬
‫ولم يكن ً‬
‫مجلة القافلة‬
‫مايو ‪ -‬يونيو ‪2024‬‬ ‫أدب وفنون‬
‫سينما سعودية‬

‫مهرجان أفالم السعودية‬


‫في دورته العاشرة‬
‫يعكس الواقع الجديد للسينما في المملكة‬
‫انتظمت فعاليات مهرجان أفالم السعودية يف دورته ر‬
‫العارشة ما‬ ‫�ي‬
‫الثاين والتاسع من مايو من العام الحايلي ‪ ،‬بمشاركات بلغت‬ ‫�ن‬
‫أ‬ ‫بني �ي‬
‫مرشو ًًعا موزعة عىل ثالثة أقسام‪ :‬مسابقة األفالم‪ ،‬ومسابقة‬ ‫‪ 826‬ر‬
‫أ‬
‫اإلنتاج‪ .‬وشهدت هيكلة األقسام‬ ‫السيناريو رغري المنّفّذ‪ ،‬وسوق إ‬
‫أفالًما‬
‫وتوسًعا لنطاق العرض ليشمل ً‬ ‫ً‬ ‫جديًدا‬
‫ً‬ ‫تطويًرا‬
‫ً‬ ‫وجوائزها‬
‫الربامج الثقافية‬‫عربية ودولية‪ .‬كما احتضن المهرجان حزمة من ر‬
‫�‬
‫اليت تصدرها‬
‫والندوات والورش وإصدارات الكتب المصاحبة ي‬
‫جمعية السينما‪ ،‬وبلغت هذا العام ‪ 22‬كتاًبًا‪.‬‬

‫البشري‬
‫ر‬ ‫د‪ .‬محمد‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪27 | 2024‬‬


‫وتقِّدم أسماء جديدة‬ ‫أ‬
‫الدورة الثانية ألسماء ِ‬
‫للساحة السينمائية؛ ولتنطلق الدورات بعدها‬
‫بانتظام نسبي‪ .‬فكانت الثالثة ثابتة‪ ،‬كما ذكر‬
‫أحمد المال‪ ،‬مدير المهرجان حينذاك‪ .‬والرابعة‬
‫ُنُِّظِمت بدعم ومساندة من مركز عبدالعزيز‬
‫الثقافي العالمي "إثراء"‪ ،‬في الخيام المجاورة‬
‫للمركز‪ ،‬إذ لم يكن بناؤه قد اكتمل بعد‪ .‬ثم‬
‫كانت دورة عام ‪2017‬م‪ ،‬التي م ّّثلت قفزة كبيرة‬
‫األفالم أ‬
‫واألسماء‪،‬‬ ‫األمام على مستوى أ‬ ‫إلى أ‬
‫ولتبدأ بوادر أ‬
‫األفالم الطويلة‪.‬‬

‫ومنذ ذلك التاريخ‪ ،‬أخذ المهرجان بالنمو‪،‬‬


‫مزيًدا من الخبرات‬
‫واكتسبت هيئته التنظيمية ً‬
‫عاًما بعد عام‪ ،‬حتى صار إحدى‬ ‫في التنظيم‬
‫مناسبات التعُّر ًف على قدرات ُصّناع أ‬
‫األفالم‬ ‫ُ ّ‬ ‫ُ‬
‫السعوديين ومستوى تقدمهم‪.‬‬
‫افتتاح الدورة الثانية في مخيم أرامكو عام ‪2015‬م‪.‬‬
‫األولى حتى الدورة‬‫فما بين انطالقة الدورة أ‬
‫أ‬
‫الرابعة‪ ،‬كان المهرجان على مستوى األفالم‬ ‫األفالم مع افتتاح‬ ‫وتزامن دعم اإلبداع وإنتاج أ‬ ‫هذا المستوى من النشاط والحراك المتزايد‪،‬‬
‫إ‬
‫تحّول بعدها المخرجون إلى‬ ‫القصيرة‪ ،‬ثم ّ‬ ‫مفصلًيا‬
‫ً‬ ‫دور العرض‪ .‬فقد كان العام ‪2017‬م‬ ‫وعاًما بعد عام‪ ،‬هو ثمرة الشراكة بين‬
‫كًما وكيًفًا ً‬
‫ً‬
‫األفالم الطويلة‪ .‬وبتوفر الدعم‪ ،‬بدأت مرحلة‬ ‫أ‬ ‫في صناعة السينما السعودية عندما بدأ إصدار‬ ‫جمعية السينما ومركز الملك عبدالعزيز الثقافي‬
‫األفالم الطويلة‪ ،‬وتجارب‬ ‫جديدة على مستوى أ‬ ‫تراخيص قاعات العرض‪ .‬واليوم‪ ،‬صار في‬ ‫العالمي "إثراء"‪ ،‬وبدعم من هيئة أ‬
‫األفالم‬
‫الصناعة بدخول صناديق الدعم والجهات‬ ‫المملكة ‪ 66‬دار عرض تضم ‪ 618‬شاشة في ‪22‬‬ ‫التابعة لوزارة الثقافة‪ .‬وما كان للمهرجان أن‬
‫المانحة‪ ،‬مثل‪ :‬مركز الملك عبدالعزيز الثقافي‬ ‫مدينة سعودية‪ ،‬والعدد ينمو وَيَ ِِعد بالمزيد‪.‬‬ ‫يتبوأ هذه المكانة لوال الواقع السينمائي الجديد‬
‫أفالًما في الدورة الرابعة‪،‬‬
‫الذي دعم ً‬ ‫العالمي‪،‬‬ ‫األفالم وغيره من المهرجانات‬ ‫ويأتي مهرجان أ‬ ‫في المملكة؛ أألن عالقة المهرجان بالواقع عالقة‬
‫أ‬
‫منًحا ألفالم شاركت في الدورات التي‬ ‫تبادلية‪ .‬فالمهرجان‪ ،‬أي مهرجان‪ ،‬ال يمكن أن‬
‫وقّدم ً‬
‫ّ‬ ‫مؤثًرا في الواقع‬
‫السعودية ضمن هذا المناخ‪ً ،‬‬
‫تلتها ما بين قصير وطويل‪ .‬ودخول جهات‬ ‫ومتأثًرا به‪.‬‬
‫ً‬ ‫السينمائي‬ ‫واقًعا‬
‫يكون معلًقًا في فراغ‪ ،‬بل عليه أن يخدم ً‬
‫أخرى على خط الدعم‪ ،‬مثل‪" :‬مسابقة ضوء"‬ ‫األرض‪ .‬وهو مناسبة إإلثراء الفكر السينمائي‬‫على أ‬
‫األفالم‪ ،‬ودعم مهرجان البحر‬ ‫عن هيئة أ‬ ‫صعوبة البدايات‬ ‫وإبراز المتميز من أفالم موجودة بالفعل أو‬
‫الُعال بتسهيل‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫والتقُّدم الذي دخل‬ ‫للوقوف على مؤشر النمو‬ ‫مشروعات تستحق الدعم الستكمالها‪ .‬ولنا‬
‫األحمر لعدد من األفالم‪ ،‬وهيئة ُ‬ ‫ُ‬
‫أ‬
‫الخدمات ودعم عدد من األفالم‪ .‬وهذا ما رفع‬ ‫به المهرجان دورته العاشرة‪ ،‬ال َبَّد من تذكر‬ ‫أن نتذكر أن مهرجانات إقليمية ضخمة بدأت‬
‫مستوى جودة الصناعة بوجود ميزانيات ُتُساعد‬ ‫الخطوة أ‬
‫األولى التي تحدد البقاء أو االنتهاء؛‬ ‫وتالشت؛ أألنها ليست جز ًًءا من واقع سينمائي‬
‫األفالم‪ ،‬وبتضافر جهود العاملين‬ ‫على صناعة أ‬ ‫فالرمح من أول ركزة كما ُيُقال‪ ،‬ومسايرة المرحلة‬ ‫تخدمه وتتكامل معه‪.‬‬
‫اإلطالق‪.‬‬ ‫أ‬
‫من منطلق الشغف بهذه الصناعة‪ ،‬واالنتقال‬ ‫ليس باألمر الخاطئ على إ‬
‫من مرحلة الميزانيات الصفرية إلى مرحلة‬ ‫واليوم‪ ،‬صار يمكن الحديث عن "صناعة‬
‫االستحقاق والتقدير بوجود مقابل لهذا الجهد‬ ‫لم يحمل مهرجان أفالم السعودية اسم‬ ‫سينما سعودية" يخدمها المهرجان‪ .‬فبالرغم‬
‫الِفلم‪.‬‬
‫المبذول في صناعة ِ‬ ‫"مهرجان" منذ البداية‪ ،‬حين انطلق باسم‬ ‫من أن تاريخ السينما في المملكة يعود إلى‬
‫"مسابقة أفالم السعودية" في دورته أ‬
‫األولى‬ ‫عاًما‪ ،‬فإن الحديث عن السينما‬ ‫نحو سبعين ً‬
‫تعاظم وزن هذا المهرجان‬
‫عام ‪2008‬م‪ ،‬بالتعاون بين جهتين مهتمتين‬ ‫ملموًسا مع انطالق‬
‫ً‬ ‫ا‬‫واقًع‬
‫ً‬ ‫صار‬ ‫صناعة‪،‬‬ ‫بوصفها‬
‫أ‬
‫عاًما بعد عام‪ ،‬هو بفعل‬
‫ً‬
‫باألدب والثقافة والفنون‪ ،‬هما‪ :‬نادي المنطقة‬ ‫رؤية المملكة ‪ ،2030‬وحراك الدعم والتمكين‬
‫أ‬
‫الشرقية األدبي‪ ،‬وجمعية الثقافة والفنون‬ ‫الذي تقوده وزارة الثقافة تنفيًذً ا لهذه الرؤية‪.‬‬
‫الشراكة بين جمعية‬
‫بالدمام‪ ،‬وبدعم من معالي وزير الثقافة‬ ‫ويتضمن هذا الحراك تطوير المواهب والبنية‬
‫واإلعالم أ‬
‫السينما ومركز "إثراء"‬
‫األستاذ إياد مدني‪ ،‬آنذاك‪ ،‬لينطلق‬ ‫إ‬ ‫اإلنتاج المحلي‬ ‫التحتية السينمائية‪ ،‬وتحفيز إ‬
‫عاَمها‪ ،‬ويتوقف بعدها سنوات‪ .‬وانعقدت‬ ‫ودولًيا‪ ،‬وجذب‬ ‫محلًيا‬ ‫أ‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫لألفالم وتوزيعها أ ً‬
‫والدعم من هيئة األفالم‬
‫دورته الثانية عام ‪2015‬م‪ ،‬بتنظيم من جمعية‬ ‫اإلنتاج وتصوير األفالم العالمية في المملكة‪،‬‬ ‫إ‬
‫الثقافة والفنون بالدمام منفردة؛ لتلفت أ‬
‫التابعة لوزارة الثقافة‪.‬‬
‫األنظار‬ ‫اإلطار التنظيمي‪ ،‬والبيئة التي تعزز‬ ‫ووضع إ‬
‫ولتكِّرس‬
‫ِ‬ ‫إلى مجتمع السينمائيين السعوديين‪،‬‬ ‫القطاع السينمائي‪.‬‬
‫كان عام ‪2017‬م مفصل ًًيا في‬
‫صناعة السينما السعودية‪،‬‬
‫عندما بدأ الترخيص لقاعات‬
‫العرض التي وصل عددها في‬
‫المملكة إلى ‪ 66‬دا ًًرا‪ ،‬تضم‬
‫‪ 618‬شاشة في ‪ 22‬مدينة‬
‫سعودية‪.‬‬

‫المشاركون في الدورة الثانية من مهرجان أفالم السعودية‪.‬‬


‫هذا االحتضان يعكس رؤية ‪ 2030‬بما تنطوي‬
‫عليه من اهتمام بالثقافة والفن وعنايتها بجودة‬
‫الحياة‪ .‬وقد أتاح هذا للسينمائي السعودي‪،‬‬
‫يتفّرغ للفن‪ .‬إذ أصبح الفن‬ ‫أ‬
‫للمرة األولى‪ ،‬أن ّ‬
‫كافًيا‬
‫أجًرا ً‬ ‫(يؤّكّل عيش) بمنح العامل في حقله ً‬
‫لممارسة فنه‪ .‬وأصبح لدينا عدد من الفنانين‬
‫الشباب يخلصون ويتفرغون لفنهم‪ ،‬وال يمارسون‬
‫أية أعمال أخرى سوى العمل في الفن‪ .‬ومن‬
‫ومصوّرون وعاملون‬ ‫ّ‬ ‫بينهم ممثلون ومخرجون‬
‫الِفلم‪.‬‬‫في كل تخصص من تخصصات صناعة ِ‬
‫كما أتاح هذا الدعم للعاملين في هذا القطاع‬
‫فرصة التخصص خالًفًا لما كان عليه الحال‬
‫ا‬
‫وممثاًل‬ ‫كاتًبا‬
‫في البدايات؛ عندما كان المخرج ً‬
‫الِفلم‪.‬‬
‫ومصوًرا‪ ،‬وكل شيء في ِ‬
‫ً‬
‫وكان لظهور الجمعيات المتخصصة‪ ،‬مثل‬
‫األفالم وجمعية السينما‪ ،‬دورها في‬ ‫جمعية أ‬ ‫اختتام المهرجان في دورته الثالثة‪.‬‬
‫زيادة فرص تجويد المهارات واالرتقاء بها‪،‬‬
‫والسعي الحثيث للوصول إلى مستويات تليق‬
‫األفالم السعودية‪ ،‬والمنافسة في‬‫بصناعة أ‬
‫الداخل والخارج‪ ،‬والوصول بأفالم السينمائيين‬
‫السعوديين إلى مهرجانات كبرى‪ ،‬كما حدث‬
‫ِلِفلم "نورة" للمخرج توفيق الزايدي‪ ،‬الذي جرى‬
‫اختياره ضمن مهرجان كان في قسم "نظرة ما"‪.‬‬

‫اقتصاديات السينما‬
‫ُيعُّد شباك التذاكر االختبار أ‬
‫األساس لحالة صناعة‬ ‫ُ ُ‬
‫أ‬
‫والُم ِبِّرر األساس الستمرار هذه الصناعة‬
‫السينما‪ُ ،‬‬
‫للفِّن‪ .‬وقد حّقّقت السينما‬
‫ِ‬ ‫فيها‬ ‫العاملين‬ ‫وتفّرغ‬
‫ّ‬
‫اختتام المهرجان في دورته الرابعة‪.‬‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪29 | 2024‬‬


‫األولى وهو فيصل الحربي‪ ،‬الذي أصبح الحًقًا‬ ‫أ‬ ‫لألموات مكانتهم كما أ‬
‫لألحياء؛ والفنان‬ ‫الثالثة‪ ،‬إذ أ‬ ‫السعودية إيرادات تفوق ‪ 3.7‬مليار ريال ما بين‬
‫منتًجا يتابع مسيرته الفنية التي اختارها‪ .‬أ‬
‫واألمر‬ ‫ً‬ ‫سعد خضر في الدورة الرابعة؛ والفنان لطفي‬ ‫أبريل ‪2018‬م ومارس ‪2024‬م‪ ،‬وفًقًا أألرقام الهيئة‬
‫نفسه ينطبق على محمد الهليل‪ ،‬الذي كان أصغر‬ ‫اإلماراتي مسعود أمر هللا‪،‬‬‫زيني؛ والمخرج إ‬ ‫العامة لتنظيم إاإلعالم‪ ،‬وذلك بعد بيع أكثر من‬
‫مخرج سعودي عند مشاركته أ‬
‫األولى‪ ،‬وتر ََّسخ اسمه‬ ‫أ‬
‫في الدورة الخامسة‪ .‬وألن السادسة مختلفة‬ ‫‪ 61‬مليون تذكرة خالل تلك الفترة‪ .‬وقد وصل ‪45‬‬
‫عميًقًا في هذه الصناعة بتوالي إنتاجاته‪ .‬ففئة‬ ‫بسبب ظروف جائحة كورونا‪ ،‬فقد غاب التكريم‬ ‫ِِف ًلًما سعودًيًا إلى صاالت العرض في منافسات‬
‫أفالم الطلبة ال تقل أهمية عن غيرها من فئات‬ ‫اضطر ًاًرا‪ ،‬ليعود في السابعة بالمخرج السعودي‬ ‫فيما بينها‪ ،‬وآخر ما تحقق من أرقام بدخول ِِفلم‬
‫المهرجان‪ .‬ومشاركة جامعة "عفت" المبكرة‪ ،‬كانت‬ ‫مأمون حسن‪ ،‬والمخرج البحريني بسام الذوادي‪.‬‬ ‫"شباب البومب" لصاالت العرض‪ ،‬وبيعه لمائة‬
‫تعاوًنا حقيقًيا بين المهرجان أ‬
‫واألكاديميات التي‬ ‫وفي الثامنة‪ ،‬جرى تكريم المخرج خالد الصديق‬ ‫ألف تذكرة في أول أيام العرض‪ ،‬وإيرادات تفوق‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫نترقب زيادتها‪ ،‬وننظر إلى المستقبل من خاللها‪.‬‬ ‫من الكويت‪ ،‬وخليل الرواف‪ ،‬الممثل العربي‬ ‫خمسة ماليين ريال سعودي‪ ،‬والمبلغ قابل للزيادة‬
‫فالشباب هم عماد الصناعة‪ ،‬والمهرجان بيتهم‬ ‫األول الذي وقف أمام كاميرات هوليوود في‬ ‫أ‬ ‫كل يوم‪ .‬فهذا الدخل ُيُغري العاملين في المجال‬
‫الكبير الذي يحضنهم‪.‬‬ ‫عام ‪1939‬م‪ .‬وفي الدورة التاسعة‪ ،‬جرى‬ ‫لتحقيق المعادلة الصعبة بإرضاء الجماهير‪،‬‬
‫تكريم المنتج السعودي صالح الفوزان‪ ،‬والناقد‬ ‫والمحافظة على المعايير الفنية‪.‬‬
‫في البهو‪ :‬ما على الهامش‬ ‫السينمائي البحريني أمين صالح‪ .‬وفي الدورة‬
‫عَّما في المتن‬
‫ال يقل أهمية َ‬ ‫العاشرة‪ُُ ،‬س ّّمي الفنان السعودي عبدالمحسن‬ ‫أسرة سينمائية واحدة‬
‫يضم مهرجان أفالم السعودية في كل دوراته‬ ‫المكّرمة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫النمر‪ ،‬ليكون الشخصية‬ ‫وازن مهرجان أفالم السعودية في اهتماماته‬
‫األفالم هي أساس‬ ‫برامج ثرية‪ ،‬فعروض أ‬ ‫والرّواد؛ فحفظ للكبار حقهم منذ‬
‫بين الشباب ّ‬
‫المهرجان‪ ،‬والندوات وورش العمل وقوده‬ ‫تكريم الكبار‪ ،‬بقدر ما هو عرفان جميل‪ ،‬هو‬ ‫أن أسمى شخصية لتكريمها في كل دورة‪ ،‬بد ًًءا‬
‫الذي ال ينضب‪ .‬ويتوسع المهرجان في كل دورة‬ ‫أيًضا تحفيز للشباب على السير على خطى من‬ ‫ً‬ ‫بالمخرج السعودي عبدهللا المحيسن في الدورة‬
‫اإلنتاج‪ .‬وهو‪ ،‬في الوقت‬ ‫أ‬
‫بوصوله إلى سوق إ‬ ‫سبقوهم على الدرب‪ .‬واللفتات الحانية داخل‬ ‫األولى؛ والفنان إبراهيم القاضي‪ ،‬الهندي المولد‬
‫نفسه‪ ،‬فرصة للقاءات والحوارات التي تكشف‬ ‫مجاًزا‪.‬‬ ‫األصل‪ ،‬الذي أثرى الحركة الفنية في‬‫السعودي أ‬
‫أسرة سينمائية واحدة‪ ،‬تبقى حقيقة ال ً‬
‫الفِّن‪ .‬وككل اللقاءات الثقافية‬
‫عوالم ُُص ّّناع ِ‬ ‫ومن ذلك على سبيل المثال‪ ،‬عندما أعطى‬ ‫الهند‪ ،‬وجرى تكريمه في الدورة الثانية؛ والمخرج‬
‫والمهرجانات الفنية‪ ،‬ال يقل الهامش أهمية‬ ‫عبدهللا المحيسن كلمته أألصغر مخرج في الدورة‬ ‫السعودي سعد الفريح ‪ -‬رحمه هللا ‪ -‬في الدورة‬

‫اإلنتاج في الدورة الثامنة‪.‬‬


‫سوق إ‬
‫االحتفال ِبِفلم "سّطّار" في الدورة الثامنة‪.‬‬

‫تكريم الكبار هو عرفان جميل‬


‫وتحفيز للشباب على السير‬
‫على خطى من سبقوهم‪،‬‬
‫وتبقى اللفتات الحانية داخل‬
‫أسرة سينمائية واحدة حقيقة‬
‫ال مجا ًًزا‪.‬‬

‫توقيع كتاب "مسعود أمرهللا آل علي"‪ ،‬ضمن إصدارات الكتب في الدورة الخامسة‪.‬‬

‫السعودية وأحد محركات انطالقتها‪ .‬وإطالق مقر‬ ‫وعبدالمحسن النمر وغيرهم كثيرون‪ .‬أ‬
‫واألمر‬ ‫عن المتن‪ ،‬ونعني بالهامش لقاءات التعارف‬
‫جمعية السينما بالتزامن مع الدورة العاشرة‪،‬‬ ‫نفسه ينطبق على اتفاقات الممثلين الشباب‬ ‫والجلسات المسائية‪ ،‬عندما يتحلق الضيوف‬
‫حدث يستحق االحتفاء‪ .‬وفي الوقت نفسه‪،‬‬ ‫مثل‪ :‬مشعل المطيري‪ ،‬ويعقوب الفرحان‪ ،‬وخالد‬ ‫حول الشاي في البهو الكبير‪ ،‬حيث تتواصل‬
‫دافع إلى مزيد من التقدم‪ ،‬وإلقاء المزيد من‬ ‫صقر‪ ،‬وإلهام علي‪ ،‬وزارا البلوشي وغيرهم‪،‬‬ ‫النقاشات لتستكمل حوارات القاعات‪ ،‬وُتُعقد‬
‫المسؤولية على إدارة المهرجان بقيادة أحمد‬ ‫ويتعّرفون على‬
‫ّ‬ ‫الذين يلتقون بالمخرجين‪،‬‬ ‫الصداقات التي تساعد في إنجاز المشروعات‬
‫عاًما بعد‬ ‫ملخصات أ‬ ‫المقبلة للدورات الالحقة‪ ،‬وتتواصل أ‬
‫المال‪ ،‬والفريق الذي ينمو ويتكامل ً‬ ‫األفالم المقبلة وأفكارها‪ ،‬ويتعاقدون‬ ‫األجيال‪.‬‬
‫عام؛ لكي يكون على مستوى واقع السينما‬ ‫على ما يتحمسون له من تلك المشروعات‪.‬‬ ‫فشباب المخرجين يلتقون بالممثلين الكبار‪،‬‬
‫السعودية الواعد‪.‬‬ ‫وهكذا تحَّقَق تعاون الكبار بانفتاحهم على‬
‫مستقبل المهرجان وتعاظم المسؤوليات‬ ‫دعم ُصّناع أ‬
‫األفالم منذ البداية‪ ،‬فترى ممثلين‬
‫أ‬ ‫ُ ّ‬
‫العاشرة سافرة‪ ،‬كما يقولون‪ .‬لذا‪ ،‬فالدورة‬ ‫مثل إبراهيم الحساوي في كثير من األفالم‬
‫أ‬
‫األخيرة مرآة لما وصل إليه المهرجان من تطور‬ ‫مع مخرجين شباب وشابات‪ ،‬وكذلك علي‬
‫واإلمكانات؛ مرآة لصناعة السينما‬
‫في القدرات إ‬ ‫المدفع‪ ،‬وسناء بكر يونس‪ ،‬وعبدالعزيز المبدل‪،‬‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪31 | 2024‬‬


‫مجلة القافلة‬
‫مايو ‪ -‬يونيو ‪2024‬‬ ‫أدب وفنون‬

‫عبدالمحسن النمر‬
‫سيرة الشغف‬
‫ترترّسخ عماًلا بعد آخر‪ ،‬ومن‬ ‫من صيب�ي يبتكر شخصياته ويمِّثِلها بنفسه ً‬
‫ًرسا‪ ،‬إىل نجومية ّ‬
‫قصري إيمايئ�ي صامت‪ ،‬إىل الوقوف عىل منصة‬
‫الوقوع عىل منصة تمثيل �ييف نهاية دور ر‬
‫ر‬
‫التكريم �ييف أفالم السعودية �ييف نسخته العارشة؛ قصة يجب أن ُتُروى عن إنسان‬
‫بالفِّن‪.‬‬
‫ِ‬ ‫مسكون‬

‫ماجد إبراهيم‬

‫رَّبَما ال تكون االستمرارية لعقود في صنعة‬


‫الُّدربة‬
‫ما ضرًبًا من المستحيل‪ ،‬فهي تأتي من ُ‬
‫األمر يختلف‬‫والممارسة وشيء من الحظ‪ .‬لكن أ‬
‫إذا كانت هذه الصنعة هي الفن‪ ،‬وُيُصبح أكثر‬
‫عاًما‬
‫توهًجا‪ً ،‬‬
‫ً‬ ‫أهميًةً إن ازدادت هذه االستمرارية‬
‫بعد عام‪ ،‬وتجربة بعد أخرى‪ ،‬كما هي حالة‬
‫الفنان السعودي عبدالمحسن النمر‪ ،‬الذي‬
‫األربعة‪،‬‬‫رافقته النجومية طوال رحلة العقود أ‬
‫فأّنّى له كل ذلك؟‬

‫بدايات الوعي‬
‫لم يكن الفتى الحساوي النحيل في سني عمره‬
‫لعلٍة في روحه الحالمة‪،‬‬ ‫أ‬
‫األولى كبقية أقرانه‪ ،‬ال‬
‫ٍ‬
‫بل لذوبان ذاته في خياالته آ‬
‫اآلسرة‪ .‬كان ينأى عن‬
‫ألعاب الصغار المعتادة في الفريج‪ ،‬نحو عالم‬
‫يشّكّله على هواه‪ ،‬وشخصيات يبتكرها ويحاورها‬
‫ويتقّمصها بينه وبين ذاته فقط‪ .‬لم يكن يعلم‬ ‫ّ‬
‫الفّذّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫الفتى حينئذ أنه يلتقُط خيوَط موهبته ة‬
‫عسيـِب نخلة تسامقت في نفسه‪ ،‬ويبدأ‬ ‫ِ‬ ‫من‬
‫صقلها من دون أن يعي معنى مفردتي "موهبة"‬
‫سريًعا من‬
‫أو "صقل"‪ .‬لذا‪ ،‬نما بداخله الفنان ً‬
‫دون أن يدري لماذا تعّلّق فوق كتف والده حين‬
‫أخذه إلى عرض مسرحي في أرامكو‪ .‬تسّلّق الفتى‬
‫كتف الوالد‪ ،‬كي ال تفوته لحظٌةٌ من مشهد أو‬
‫حينئٍذ أدرك بوعي فطري أن‬‫ٍ‬ ‫إيماء ٌٌة من ممثل‪.‬‬
‫اقرأ القافلة‪ِِ :‬فلم "ه ّّجان"‪،‬‬ ‫اقرأ القافلة‪ِِ :‬فلم "ثوب‬
‫حكًرا عليه‪ ،‬بل أصبح‬ ‫خياالته الطفولية لم تعد‬
‫يعي أهمية تجسيدها ونقلها ً آ‬
‫من العدد ‪( 702‬يناير ‪-‬فبراير‬ ‫العرس"‪ ،‬من عدد نوفمبر ‪-‬‬ ‫لآلخرين عبر خشبة‬
‫‪2024‬م)‪.‬‬ ‫ديسمبر ‪2018‬م‪.‬‬ ‫مسرح صغير‪ ،‬بناه بنفسه في مساحة مجاورة‬
‫لبيتهم‪ ،‬وبدأ باستقطاب أوائل مشاهديه‪.‬‬
‫لتبدأ مرحلٌةٌ جديدة ومتوازية مع انتشار محدود‬ ‫بين المسرح والشاشة‬ ‫بدايات القصص المبكرة هي ركائزها العابرة‬
‫لألعمال الدرامية في أوساط السعوديين‪ ،‬وكانت‬‫أ‬ ‫لطالما كان وعي الفنان بأهمية موهبته‪ ،‬واعتناقه‬ ‫للسنين‪ ،‬وبدايات النمر في طفولته كان لها ما‬
‫مسلسالت مثل‪" :‬وجه بن فهرة" و"عائلة بو‬ ‫معاولِه لهدم‬ ‫لهيبة تأثيرها عليه وعلى آ‬
‫اآلخر‪ ،‬أبرز‬ ‫كان‪ ،‬طوال عقود نجاحاته ونجوميته‪ِ .‬قِبل الطفل‬
‫أ‬ ‫ِ‬
‫حٍّد بعيد‬
‫كلش"‪ ،‬فاتـحة ألبواب أوسع نجحت إلى ٍ‬ ‫ليشَّق طريقه بجسارة‬
‫جبال الصعاب من حوله‪َ ،‬‬ ‫الصغير آنذاك أول أدواره المسرحية الصغيرة‪،‬‬
‫في اختطاف النمر من جمهور المسرح المحدود‪،‬‬ ‫ماٍض صعب إلى ذكريات‬ ‫ُتُحيل عثرات الحياة من ٍ‬ ‫إيمائٌي صامت ومحدود يسق ُُط في آخره‬‫ٌ‬ ‫دوٌر‬
‫وهو ٌ‬
‫آنذاك‪ ،‬إلى مساحة أوسع وحضور أبقى‪.‬‬ ‫يتبسم لها كّلّما التفت خلفه‪ .‬وهكذا‪ ،‬مضى‬ ‫على الخشبة التي عشقها وعشقته فيما بعد‪ ،‬قبل‬
‫يوًما‬
‫سريًعا؛ إذ حاول الهرب ً‬
‫النمر في تجربته ً‬ ‫قدًرا من الهيبة‬
‫أن يجد نفسه مواج ًًها لكائن يملك ً‬
‫أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات الميالدية‪،‬‬ ‫أكاديمًيا‪ ،‬على الرغم‬ ‫إلى الكويت لدراسة الفن‬ ‫أ‬
‫ال يقدر على مواجهته‪ .‬لم تكن المواجهة األولى‬
‫ً‬
‫كان تلفزيون الدمام من أكثر تلفزيونات المملكة‬ ‫من معارضة العائلة‪ .‬لكن رحلة الهرب لم تتجاوز‬ ‫أبًدا‪ ،‬لكن الشغف بداخله‬ ‫بينه وبين الكاميرا مريحة ً‬
‫تألًقًا في إنتاج المسلسالت التلفزيونية‪ ،‬وإن كانت‬ ‫أياًما ثالثة‪ ،‬ليعود بعدها بعزيمة أكبر منحته‬
‫ً‬ ‫استطاع ترويض خوفه من الكائن المجهول؛ لتبدأ‬
‫إاإلمكانات التقنية ال تزال في بداياتها‪ .‬غير أن‬ ‫صالبة الفنان الذي لن يتوقف حلمه‪.‬‬ ‫رحلة صداقة بينهما ستدوم ا‬
‫طوياًل‪.‬‬
‫شغف فناني المنطقة الشرقية ضاعف من حجم‬
‫هذه إاإلمكانات التقنية بإمكانات بشرية تجَّلَت في‬ ‫بريق الشاشة وسالمات المعجبين لم تخطف‬ ‫حينئٍذ على أعتاب طفرة كبرى في‬ ‫ٍ‬ ‫كانت البالد‬
‫عدة أسماء بارزة في ذلك الوقت‪ ،‬مثل‪ :‬سمير‬ ‫النمر من عشق المسرح‪ ،‬لكنه هذه المرة وبجرأته‬ ‫متأخًرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫مجاالت مختلفة‪ ،‬لكن ركب الفن كان‬
‫الناصر وإبراهيم جبر وعلي السبع وآخرين‪،‬‬ ‫التي ظهرت مالمحها منذ بداياته‪ ،‬اقتحم‬ ‫األمر يبدو محبًطًا بالنسبة‬‫وبالرغم أن هذا أ‬
‫ومن أبرزهم عبدالمحسن النمر‪ .‬وكانت هناك‬ ‫أكبر مسارح الخليج في الكويت آنذاك؛ حيث‬ ‫لفنان شاب‪ ،‬فإنه لم يم ّّثل عائًقًا أألحالم النمر‬
‫مسلسالت عديدة من أبرزها‪" :‬خزنة" و"حامض‬ ‫كانت الحركة المسرحية والدرامية في أوجها‪،‬‬ ‫التي أخذت تنمو بداخله بوتيرة متسارعة‪ .‬التقط‬
‫األزرق"‪ ،‬بمشاركة ممثلين كويتيين‬‫حلو" و"الدفتر أ‬ ‫ليشارك بصفته أول ممثل سعودي في مسرحية‬ ‫يومئٍذ أستاذه الممثل والمسرحي‬ ‫أ‬
‫هذه األحالم ٍ‬
‫وعراقيين‪ ،‬ومسلسل "أوراق متساقطة"‪ ،‬الذي كان‬ ‫كويتية‪ .‬كانت مسرحية "الكماشة" هي المسرحية‬ ‫السعودي ناصر المبارك‪ ،‬ودفع بها وبصاحبها‬
‫ثاني مغامرات النمر في عالم إاإلنتاج بتأسيس‬ ‫التي شارك فيها‪ ،‬مع نخبة من النجوم‪ :‬مريم‬ ‫في معمعة فنية مسرحية درامية‪ ،‬بدأت مالمحها‬
‫مؤسسة النجوم مع المخرجين سمير الناصر‬ ‫الغضبان وإبراهيم الصالل وعبدالعزيز النمش‬ ‫تظهر في شرق المملكة العربية السعودية‪ .‬وكانت‬
‫وعبدالخالق الغانم‪ ،‬وسبق ذلك تأسيس مؤسسة‬ ‫وأحمد الصالح وإبراهيم الحربي‪ ،‬وسبقتها‬ ‫األولى "بيت من ليف"‪ ،‬لتأتي بعدها‬ ‫المسرحية أ‬
‫الوفاء مع سمير النـاصر والمخرج زكي القاسم في‬ ‫مسرحيات سعودية ُُعرضت في المنطقة الشرقية‪،‬‬ ‫أ‬
‫األولى في المسلسل األول "الشاطر‬ ‫البطولة أ‬
‫تجربة لم ُيُكتب لها االستمرار ا‬
‫طوياًل‪.‬‬ ‫مثل‪" :‬الكرة المضيئة" و"تلميذ رغم أنفه" و"زواج‬ ‫عندئٍذ‬
‫ٍ‬ ‫حسن"‪ ،‬في أوائل الثمانينيات الميالدية‪.‬‬
‫بالجملة"‪.‬‬ ‫استوعب النمر أول مالمح الشهرة ومعانيها‪.‬‬
‫اإلنتاج‪،‬‬
‫بطبيعة الحال‪ ،‬لم تكن تجربة النمر في إ‬ ‫فذلك الطفل الهادئ الذي يمشي منكف ًًئا على‬
‫على الرغم من محدوديتها‪ ،‬ناجحـة كما هي‬ ‫شعلة المسرح لم تنطفئ بداخله في السنوات‬ ‫أحالمه وخياالته‪ ،‬بات يعود إلى بيتهم كل مساء‪،‬‬
‫تجربته الطويلة آ‬
‫واآلسرة في التمثيل‪ .‬غير أن‬ ‫القليلة بعدها‪ ،‬والتفاعل اللحظي للجمهور‬ ‫وسط وابل من السالمات والتحايا الموجهة أألحد‬
‫الشغف لم يمنعه إنتاج ًًّيا من تقديم بعض‬ ‫زاده يقي ًًنا بأهمية الوقوف على خشبة المسرح‪،‬‬ ‫نجوم الشاشة الصغيرة‪ ،‬في أوساط مجتمعية‬
‫المسلسالت عبر مؤسسة النجوم‪.‬‬ ‫مسرحية بعد أخرى‪ .‬لكن سحر الكاميرا التي‬ ‫محلية لم تكن النظرة السائدة فيها إلى الفن‬
‫بنى معها صداقة حميمة‪ ،‬كان لها رأي آخر‪.‬‬ ‫نظرة مشرقة‪.‬‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪33 | 2024‬‬


‫النمر يوقع كتاًبًا عن سيرته الفنية في مهرجان أفالم السعودية‪.‬‬

‫مسلسل "مجاديف أ‬
‫األمل"‪.‬‬

‫النمر رَّبَما استطاع انتزاعه بجسارة ملهمة لكل‬ ‫الوالدة للسينما السعودية الحقيقية‪ ،‬التي لم‬ ‫اإلنتاجية مسلسل‬ ‫َ‬
‫ولعَّل من أبرز تلك التجارب إ‬
‫فنان يأتي من بعده‪ .‬ومن المهم التشديد هنا‬ ‫يتعَّد عمرها سنوات قليلة مع انفتاح البالد على‬ ‫أ‬
‫"مجاديف األمل" عام ‪2005‬م‪ ،‬الذي وصل‬
‫َ‬
‫على كلمة "فنان" ال "ممثل"؛ أألن عبدالمحسن‬ ‫اإلنتاج السينمائي‪ ،‬وفتح دور السينما أبوابها‬ ‫إ‬ ‫إلى شريحة واسعة من المشاهدين‪ .‬غير أن‬
‫النمر ببساطة ليس ا‬
‫ممثاًل وحسب‪ ،‬بل فنان‬ ‫الفِّن السابع؛ وهو ما يضع المتابع‬
‫لعشاق ِ‬ ‫يعُّدها تجربة غير ناجحة‪ ،‬عازًيًا ذلك‬‫النمر ُ‬
‫نحت موهبته نح ًًتا طوال أربعة عقود حتى‬ ‫حَّب لتجربة النمر في توق كبير ِلِفلم يثريه‬‫الُم َ‬‫ُ‬ ‫اإلنتاجية آنذاك‪ .‬لكن ما‬‫اإلمكانات إ‬‫إلى ضعف إ‬
‫بات يتقاطع مع بقية مهام الصنعة‪ ،‬من إخراج‬ ‫بتجربته العريضة‪ ،‬ويثري تجربة الفنان بدور‬ ‫يعّزي روحه هو محاولته تجسيد جزء من تاريخ‬ ‫أّ‬
‫وكتابة وسيناريو وبقية تخصصاتها التي يصعب‬ ‫مهم يحفر اسمه في تاريخ الشاشة الكبيرة‬ ‫األحساء وبيئتها الغنية التي لم ُتُظ ََهر للناس‬
‫حصرها في كلمات عدة‪.‬‬ ‫وعالمًيا‪.‬‬
‫ً‬ ‫وعربًيا‪ ،‬بل‬
‫ً‬ ‫محلًيا‬
‫ً‬ ‫بالشكل المناسب‪ ،‬كما يرى‪َ .‬‬
‫ولعَّل حلمه ذاك‬
‫األخير "خيوط المعازيب"‪،‬‬ ‫تحّقّق في مسلسله أ‬
‫يصلح "خيوط المعازيب" ِِمسًكًا لختام هذا‬ ‫وال ينبغي لمن يحاول قدر استطاعته سرد‬ ‫الذي لقي نجاحات كبيرة ضمن سباق مسلسالت‬
‫الغوص في أعماق تجربة ملهمة لفنان كبير‪.‬‬ ‫مالمح من التجربة الثرية والمدهشة للنمر‪،‬‬ ‫عام ‪2024‬م‪.‬‬
‫ففي هذا المسلسل لم يكن النمر مجرد ممثل‬ ‫تمّيزه بين الفنانين السعوديين‬
‫أن يغفل ّ‬
‫بطل‪ ،‬بل كان أحد ص ََّناع العمل منذ بدايات‬ ‫والخليجيين في وضع بصمته على دراما كل‬ ‫سينمائ ًًيا‪ ..‬تجربته تنتظر دو ًًرا أكبر‬
‫مروًرا باختيار ممثلين شباب لم‬
‫ورشة النص‪ً ،‬‬ ‫دول الخليج‪ ،‬بل وفي دول عربية كذلك‪.‬‬ ‫وقبل العبور إلى "خيوط المعازيب"‪ ،‬يجب‬
‫يوًما‪ ،‬وتدريبهم ليكونوا على‬
‫يقفوا أمام كاميرا ً‬ ‫فقد اّتّسمت كل مشاركاته بوعي شديد وتم ُُّيز‬ ‫نمَّر على التجربة السينمائية للنمر‪ ،‬التي‬
‫أن َ‬
‫قدر المسؤولية في الوقوف أمامها بإزاء بقية‬ ‫ظَّن بعض أبناء هذه الدول أن‬ ‫الفت‪ ،‬حتى َ‬ ‫تمثَّلَت في أفالم معدودة كان أبرزها وأهمها‬
‫نجوم العمل‪.‬‬ ‫عبدالمحسن فنان منهم ولهم‪ .‬وهذا ما يؤكد‬ ‫"هّجان"‪ ،‬الذي حَّقَق عدة جوائز‬
‫وآخرها ِِفلم ّ‬
‫موهبته الفّذّ ة وقدرته على االنصهار في أي‬ ‫وعالمًيا‪ِ .‬فِل ََم لم يكن للنمر‪ ،‬الذي حفر‬
‫ً‬ ‫محلًيا‬
‫ً‬
‫كبيًرا أينما كانت‬
‫نجًما ً‬
‫عمل يشارك فيه‪ ،‬ليظهر ً‬ ‫طوياًل في ذاكرة الفن السعودي‪ ،‬تجربة‬ ‫ا‬ ‫اسمه‬
‫وبأِّي لهجة كانت‪ .‬وهذا ما يندر‬
‫مشاركته تلك‪ِ ،‬‬ ‫سينمائية توازي اسمه الكبير؟ وبطبيعة الحال‪،‬‬
‫أن يتوافر لممثلين كبار في عالمنا العربي‪ ،‬لكنه‬ ‫اإلجابة تفرض نفسها عبر التجربة حديثة‬ ‫فإن إ‬
‫في النهضة والترجمة‬
‫رأي ثقافي‬

‫بدر الدين عرودكي‬


‫كاتب ومترجم سوري‬

‫قد بدأت تجد صداها‪ ،‬على الطرف المقابل‬ ‫أ‬


‫األمم التي سبقتهم‪ .‬هكذا فعل النبي العربي‬ ‫قلما تعثرت نهضة ثقافة مثلما تعثرت وال تزال‬
‫وفي حركة عكسية‪ ،‬في الغرب ابتدا ًًء من‬ ‫عندما استعاد ثقافة العرب وحضاراتهم‬ ‫تتعثر نهضة الثقافة العربية‪ ،‬منذ أكثر من قرن‬
‫القرن السابع عشر‪ .‬هكذا ُتُرجمت أعمال كبار‬ ‫السابقة كلها‪ ،‬وحضارات من حولهم من‬ ‫ونصف القرن‪ .‬وقلما شعرت أمة بالمسافة التي‬
‫وخصوًصا ابن رشد‪ ،‬والموسوعيين‬ ‫الفالسفة‪،‬‬ ‫الشعوب والقبائل؛ ليحقق التجاوز التاريخي‬ ‫تفصلها عن ثقافة أخرى‪ ،‬مثلما شعرت وال تزال‬
‫األندلس إلى اللغة الالتينية‪.‬‬ ‫العرب انطالًقًا من ً أ‬ ‫المتمثل في حضارة إاإلسالم‪ .‬وهكذا سيفعل‬ ‫تشعر به أ‬
‫األمة العربية إزاء الثقافة الغربية‪.‬‬
‫دافًعا إإلنشاء‬ ‫أ‬
‫وكان بيت الحكمة البغدادي ً‬ ‫الخلفاء من بعده‪ ،‬وال سيما العباسيون منهم‪،‬‬ ‫التقّدم انتقل‪ ،‬كما الحظ ابن خلدون‬ ‫وألن خط ّ‬
‫بيوت عديدة في ليدن وموسكو وبرلين وباريس‬ ‫حينما أطلقوا العنان لعلمائهم ومفكريهم لكي‬ ‫في زمنه منذ ّنّيف وستة قرون‪ ،‬إلى شمال‬
‫قطًعا‪ ،‬ومن أجل‬ ‫األمم أ‬
‫يترجموا آداب أ‬
‫ولندن؛ من أجل الفهم ً‬ ‫األخرى وفلسفاتها‪ .‬عرف‬ ‫البحر المتوسط‪ ،‬فمن الطبيعي إًذًا ترجمة‬
‫االستيعاب بال شك‪ .‬ذلك أن إشكالية الفتوحات‬ ‫بيت الحكمة البغدادي‪ ،‬آنذاك‪ ،‬حملة منظمة‬ ‫مبدعات هذه الثقافة‪.‬‬
‫العربية الصاعقة‪ ،‬شرًقًا وغرًبًا‪ ،‬ابتدا ًًء من القرن‬ ‫تحت رعاية ُُسلطة الدولة لترجمة كتب فالسفة‬
‫السابع قد شغلت الغرب قروًنًا ورَّبَما ال تزال‪،‬‬ ‫اليونان وعلمائهم‪ .‬ولم ُ‬
‫يخُل ذلك من سوء‬ ‫غير أنه إذا كانت الترجمة وسيلة اتصال‪ ،‬فهي‬
‫مثلما أن إشكالية تقدم الغرب شغلت وال‬ ‫تفاهم أو فهم‪.‬‬ ‫األصولي للكلمة‪ .‬ومن َثَّم‪،‬‬ ‫أيًضا قراءة‪ ،‬بالمعنى أ‬
‫ً‬
‫تزال تشغل العرب منذ منتصف القرن التاسع‬ ‫فقد وسمت الترجمة أو القراءة‪ ،‬التاريخ في‬
‫عشر حتى اليوم‪ ،‬وتدعوهم إلى الفهم وإلى‬ ‫وعلى الرغم من إطالق هذه الترجمات حركًةً‬ ‫األمم مثل تاريخ‬ ‫ميادينه على اختالفها؛ فتاريخ أ‬
‫يفّسر إاإلقبال على الترجمة‬ ‫أ‬
‫االستيعاب‪ .‬ذلك ما ّ‬ ‫فكرية وإبداعية في مجاالت اللغة والعلوم‬ ‫نظًرا المتالكنا‬
‫جميًعا‪ ،‬على األقل‪ً ،‬‬
‫ثقافاتها ً‬
‫هَّم مشروع نهضوي بالبدء‪ ،‬منذ دولة‬ ‫كلما َ‬ ‫المحضة والفلسفة‪ ،‬وهي حركة استمرت‬ ‫الوثائق حول ذلك‪ ،‬منذ أن عرف إاإلنسان‬
‫محمد علي في مصر وانتها ًًء بالمشروع القومي‬ ‫شديدة الحيوية حتى القرن الخامس عشر‪،‬‬ ‫أساًسا ليست إال وسيلة‬ ‫الكتابة‪ .‬ذلك أن الترجمة ً‬
‫العربي في بداية النصف الثاني من القرن‬ ‫فإن استبعاد "المأساة" و"الملهاة" من هذه‬ ‫ربط بين طرفين يفصل بينهما حاجز اختالف‬
‫العشرين‪ ،‬وإلى محاوالت النهوض المتعثرة‬ ‫الترجمات من قبل المترجمين (ال لعدم‬ ‫لغتيهما‪ .‬ومن َثَّم‪ُ ،‬تُنشئ وظيفة الترجمة‬
‫اليوم التي تأخذ أشكااًلا وصيًغً ا مختلًفًا ألوانها‪.‬‬ ‫نظًرا كما‬
‫فهمهم لمعاني المأساة والملهاة‪ ،‬بل ً‬ ‫صلة الوصل بين هذين الطرفين بفعل إتقان‬
‫أرى لوجود الطابع الوثني الذي يسم المآسي‬ ‫مًعا‪ .‬ومن يؤدي دور الترجمة ُتُتاح له‬ ‫لغتيهما ً‬
‫هكذا‪ ،‬على تشابه التجربتين العربية والغربية‬ ‫بوجه خاص ولما ينطوي عليه المسرح اليوناني‬ ‫فرصة القيام بمهمة الوصل والربط وإنشاء‬
‫أو تنافرهما في الظروف التاريخية والسياسية‬ ‫اآللهة "بالجمع" على خشبة المسرح‬ ‫من وجود آ‬ ‫العالقة بين الطرفين اللذين كانا سيبقيان لواله‬
‫التي أحاطت مشروعات الترجمة فيهما على‬ ‫بصورة أو بأخرى) أ ََّدى‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬إلى‬ ‫عدّوْيْن بسبب جهل‬ ‫منفصلين‪ ،‬آ ورَّبَما بقيا ّ‬
‫هّم‬
‫الهّم فيها إال ّ‬
‫القرون‪ ،‬لم يكن ّ‬ ‫امتداد‬ ‫تأخر ظهور المسرح في الثقافة العربية أكثر‬ ‫اآلخر على وجه الدقة‪ .‬ومن البديهي‬ ‫أحدهما‬
‫آ‬
‫معرفة اآلخر‪ .‬وال يمكن بالطبع أن نستبعد من‬ ‫من أحد عشر قرًنًا‪.‬‬ ‫أيًضا أنه إن كان عمل الترجمة يتيح تسهيل‬ ‫ً‬
‫الهّم هدًفًا أو أهداًفًا تتعلق بالسيطرة أو‬
‫هذا ّ‬ ‫أيًضا أن يس ِِّبب‬
‫التعارف والتبادل‪ ،‬فإنه يمكن ً‬
‫الهيمنة‪ .‬كان العرب في القرن الثامن يترجمون‬ ‫لكن الغرب‪ ،‬وقد انتقلت حركة البناء إليه من‬ ‫سوء تفاهم في نتائج تزداد أهميتها أو خطورتها‬
‫ليستوعبوا الثقافات التي سيطروا على شعوبها‪،‬‬ ‫أيًضا يهتم بثقافة العرب‪ .‬فبدأ‬
‫الجنوب‪ ،‬طفق ً‬ ‫بقدر أهمية موضوع عمل المترجم أو خطورته‪،‬‬
‫أو يهمون بالسيطرة عليها‪ .‬وكان الغربيون‬ ‫أول ما بدأ بترجمة القرآن الكريم‪ ،‬التي نعرف‬ ‫وكذلك مقدار كفاءة المترجم ونجاحه بهذا‬
‫يترجمون ليفهموا أواًلا ثم ليستوعبوا قبل أن‬ ‫اليوم أنها جرت للمرة أ‬
‫األولى في القرن الثاني‬ ‫القدر أو ذاك في أداء عمله‪.‬‬
‫يتجهوا للهيمنة‪.‬‬ ‫عشر‪ ،‬ولكن لم ُتُنشر إال في القرن السادس‬
‫عشر‪ .‬وبخالف ما كان العرب يتطلعون إليه من‬ ‫ورَّبَما يحسن في هذا المجال إجراء تشخيص‬
‫بعد ما يقارب القرن ونصف القرن من‬ ‫إطالق حركة الترجمة في القرن الثامن‪ ،‬فإن‬ ‫يخّص العالقة بين الثقافة‬‫سريع لوضع تاريخي ّ‬
‫محاوالت ترجمة المعارف الغربية إلى اللغة‬ ‫الغرب من خالل الكنيسة التي كانت ُُسلطة‬ ‫العربية والثقافة الغربية‪ .‬ولفهم هذه العالقة‪،‬‬
‫الحكم أ‬ ‫وأهّمها‬
‫العربية‪ ،‬هل نجح العرب في بدء نهضتهم‬ ‫األولى آنذاك‪ ،‬كان يتطلع إلى تعليل‬ ‫من المهم االنطالق من بعض الجذور ّ‬
‫الحديثة‪ ،‬التي كانوا وال يزالون يتطلعون إليها؟‬ ‫وتأسيس استنكاره وإنكاره للعقيدة التي كان‬ ‫في القرن الثامن الميالدي‪ ،‬وال سيما الجذر‬
‫سؤال بحاجة إلى تفكير‪.‬‬ ‫أصحابها قد عادوا أو يعودون إلى أوروبا من‬ ‫المتمثل في ترجمة الفكر الفلسفي اليوناني‬
‫شرقها بعد وصولهم إليها واستقرارهم في‬ ‫إلى العربية‪ .‬كان المشروع الحضاري العربي‪،‬‬
‫كأّي‬ ‫أ‬
‫أقصى غربها ثمانية قرون‪ .‬لكن جهود الفهم‬ ‫آنذاك‪ ،‬في مرحلة البناء‪ .‬وما كان ألصحابه‪ّ ،‬‬
‫واالستيعاب التي بذلتها حركة الترجمة العربية‬ ‫مشروع طموح‪ ،‬أن يتجاهلوا ََم ْْن حولهم من‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪35 | 2024‬‬


‫مجلة القافلة‬
‫أدب وفنون‬

‫خيوط المعازيب‬
‫مايو ‪ -‬يونيو ‪2024‬‬

‫هوية جديدة للمسلسل التراثي السعودي‬


‫ينسج مسلسل "خيوط المعازيب" حكايته غرزة خيط وإبرة بعد غرزة‪ ،‬فال يستعجل رسد‬
‫يؤّسس رعرب المكان والبطل عالقته‬ ‫ىتى‬ ‫رتر‬
‫أ‬ ‫حكايته‪ ،‬وإنما ي كها تنساب بهدوء ح تختمر‪ .‬بينما ّ‬ ‫أ‬
‫مستعرًضا األنساق‬
‫ً‬ ‫اإلنسانية‪،‬‬ ‫األوىل مع الجمهور‪ ،‬ويغازل الذاكرة الجمعية بتفاصيله إ‬
‫أ‬
‫اليت كانت سائدة �ييف "األحساء" خالل ستينيات القرن الفائت‪،‬‬‫�‬
‫واالجتماعية ي‬
‫رتر‬
‫القيمية‬
‫اّلا‬
‫فيقارب ال اث المادي والالمادي لهذه المنطقة بتوظيف خ ق يخدم الحكاية‪ ،‬وال‬
‫يجعل الحكاية تخدمه‪.‬‬

‫ماهر منصور‬
‫أحداث العمل الدرامية في إطار الحكايات‬
‫الشعبية‪ ،‬بالشكل الذي المس بتفاصيله‬
‫الخيال االجتماعي للمنطقة‪.‬‬

‫األساسية)‪:‬‬ ‫‪ 2‬خط الحكاية الرئيسة (الحبكة أ‬


‫الذي يشّكّل محرك الصراع في المسلسل‪،‬‬
‫مدفو ًًعا بسلوك شخصية "أبي عيسى"‬
‫الرئيسة وقراراته‪ .‬وفي هذه الحبكة ُبُني‬
‫الصراع المركزي من التعارض المطلق بين‬
‫حّد‬
‫شخصيات العمل‪ ،‬التي ُفُرزت على نحو ّ‬
‫اإلشارة إلى‬‫بين شخصيات طيبة وشريرة‪ .‬مع إ‬
‫أن الشخصيات نفسها خارج هذا الصراع‪،‬‬
‫لم تكن بالفرز الحاد نفسه‪ ،‬فالشرير لم يكن‬
‫الخّير‪.‬‬
‫تماًما‪ ،‬وكذلك ّ‬
‫شريًرا ً‬
‫ً‬
‫‪ 3‬خط الحكايات المتضمنة والفرعية (الحبكات‬
‫الفرعية)‪ :‬وهي الحكايات التي ّ‬
‫تفّرعت من‬
‫خط الحبكة الرئيسة نتيجة للصراع المركزي‬
‫في المسلسل‪ ،‬أو توازيها وتتأثر بها‪ .‬وقد‬
‫نجح المسلسل في توظيف هذه الحبكات‬
‫الفرعية بصفتها أدوات رائعة لسرد القصة‪،‬‬
‫فأسهمت حبكة "معتوق" وتجاربه العاطفية‬
‫في إضافة الفكاهة وتفتيح الحالة المزاجية‬
‫للنص‪ .‬وجاءت حبكة عائلة "أبي أحمد" وأبنائه‬
‫"خليفة" و"أحمد"‪ ،‬ل ُُتسهم في تطوير القصة‬
‫وترفع من درجة المخاطر فيها‪ ،‬وتصاعد‬
‫أحداثها وزيادة التوتر في رحلة شخصياتها‪.‬‬
‫وبالمثل‪ ،‬كانت حكاية "جاسم" و "جوليا" وغيرة‬
‫صديقه في الشركة وانعكاسها على عالقته‬ ‫إبراهيم الحساوي‪.‬‬
‫مع زوجته "بدرية وابنه "فرحان" ومصائرهم‬
‫نتيجة ذلك‪ .‬وكان في دخول الحكاية إلى بيت‬ ‫األساسية في نجاح‬‫حسن العبيدي نقطة االرتكاز أ‬ ‫يرّسخ "خيوط المعازيب" بوصفه دراما محلية‬ ‫ّ‬
‫أبي عيسى‪ ،‬وعالقته مع أبنائه وزوجاته الثالثة‪،‬‬ ‫"خيوط المعازيب"‪ ،‬وعادت لتعمل عليه ورشة‬ ‫أصيلة‪ ،‬هويًةً للمسلسل التراثي السعودي‪،‬‬
‫األساس في تقريب شخصيته (الشريرة)‬ ‫الدور أ‬ ‫كتابة مؤّلّفة من جعفر عمران وعباس الحايك‬ ‫فال يكتفي بإحياء القيم والعادات النبيلة‪،‬‬
‫من الجمهور‪ .‬فيما جاءت حكاية نذر "أبي‬ ‫وأسامة القس وعبدالمحسن الضبعان ومحمد‬ ‫وإبراز عوامل هوية أ‬
‫"األحساء" المميزة والوحدة‬
‫موسى" بتزويج ابنته من حمار‪ ،‬لتؤكد النوع‬ ‫البشير ويونس البطاط‪ ،‬وبإشراف المخرجة‬ ‫االجتماعية فيها‪ ،‬وإنما يقوم بدمج كل ذلك‬
‫التراثي الشعبي الذي ينتمي إليه مسلسل‬ ‫أيًضا‬
‫والكاتبة المتميزة هناء العمير‪ ،‬التي تولت ً‬ ‫بشروط الفرجة الدرامية بكل ما تنطوي عليه‬
‫جّسد "أبو‬
‫"خيوط المعازيب"‪ ،‬في وقت ّ‬ ‫اإلشراف العام على جميع عملياته الفنية‬ ‫مهمة إ‬ ‫من عوامل تشويق وتسلية ورسالة إنسانية‪.‬‬
‫واحًدا من (المعازيب)‬
‫موسى" نفسه بوصفه ً‬ ‫واإلنتاجية وإدارتها‪.‬‬
‫إ‬ ‫روًحا للتراث؛ إذ يتجاوز‬
‫يقّدم ً‬‫وهو بذلك ّ‬
‫المخلصين للمهنة وأخالقياتها‪.‬‬ ‫ا‬
‫شكله المتحفي ويحيله بطاًل يحقق استجابة‬
‫ثالثة خطوط سردية‬ ‫عاطفية عند الجمهور كما يفعل البطل الدرامي‬
‫ومع ثبات الحكاية المفتاح بوصفها الفضاء‬ ‫قّدم "خيوط المعازيب" حكاياته االفتراضية‬
‫ّ‬ ‫المحبوب عادة‪.‬‬
‫الحكائي للقصة‪ ،‬امتدت حكاية الحبكة الرئيسة على‬ ‫وفق ثالثة خطوط سردية‪ ،‬هي‪:‬‬
‫طول حلقات العمل‪ .‬في حين ظهرت الحبكات‬ ‫وبطبيعة الحال‪ ،‬ما كان هذا الفهم العالي‬
‫الفرعية والموازية في عدد من حلقات العمل‪،‬‬ ‫اإلطار (الحبكة ‪ -‬المفتاح)‪:‬‬
‫‪ 1‬خط الحكاية إ‬ ‫للعالقة بين التراث والدراما ليتحقق‪ ،‬لوال‬
‫حيث يرتفع منحى السرد فيها نحو ذروة بسيطة‪،‬‬ ‫وتتمثل بتتبع صناعة العباءات (البشوت)‬ ‫تضافر جهود من اختبر التجربة نفسها‪ ،‬ومن‬
‫قبل أن تتراجع عن واجهة الحكاية أو تغيب‪.‬‬ ‫في أ‬
‫األحساء خالل ستينيات القرن الفائت‪،‬‬ ‫امتلك أدوات فنية متمكنة لتجسيده ضمن رؤية‬
‫وبذلك‪ ،‬يتقاطع سرد حكاية "خيوط المعازيب" مع‬ ‫والعالقات بين أصحاب المهنة والتجار‬ ‫معاصرة ومختلفة ومتحررة من إرث التجارب‬
‫الشكل التقليدي لسرد الحكايات الشعبية‪.‬‬ ‫والعّمال‪ .‬وهي الحكاية التي جمعت‬
‫ّ‬ ‫المشابهة‪ ،‬ولذلك‪ ،‬سيظل النص الذي كتبه‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪37 | 2024‬‬


‫الصراع والرمز الداللي‬
‫أحداث معظم الحبكات الفرعية والمتضمنة‬
‫تشابكت بمجملها مع الحبكة الرئيسة‪ ،‬ل ُُتسهم‬
‫مًعا في بناء ثالثة اتجاهات مميزة للسرد في‬
‫ً‬
‫المسلسل‪ ،‬وهي‪ :‬صراع الخير والشر‪ ،‬التحوالت‬
‫االجتماعية واالقتصادية‪ ،‬والرمز الداللي‪.‬‬

‫األول للسرد‪ ،‬يتكرر الصراع بين ثنائية‬‫في االتجاه أ‬


‫الخير والشر‪ ،‬انطالًقًا من عملية فرز الشخصيات‪.‬‬
‫وهو الشكل الذي غلب على أنواع الخصومة التي‬
‫دخلها بطل العمل ومحرك أحداثه "أبو عيسى"‬
‫مع بقية الشخصيات حوله‪ ،‬باستثناء الخصومة‬
‫التي دخلها مع شخصيتي "بدرية" و "أبي أحمد"‪.‬‬
‫فكانت بدرية الخصم الزائف في الصراع‪ ،‬حيث‬
‫تبدو حليفة للبطل وهي في الواقع خصم‪َ .‬أَّما‬
‫"أبو أحمد"‪ ،‬فكان الخصم الذي ال يهاجم من‬
‫األمام‪ ،‬كما تفعل كل شخصياتنا في صراعها مع‬ ‫أ‬
‫مستخدًما‬
‫ً‬ ‫"أبي عيسى"‪ ،‬وإنما يفعلها من الخلف‪،‬‬
‫المؤامرات والتالعب للحصول على ما يريد‪.‬‬

‫وعلى الرغم من أن جميع أشكال الخصومة‬


‫السابقة ما كانت لتوفر‪ ،‬بطبيعتها‪ ،‬ما يكفي من‬
‫بنائًيا في هذا‬‫عيًبا ً‬
‫عُّد ً‬
‫غموض‪ ،‬فإن ذلك ال ُيُ ُ‬
‫المسلسل‪ ،‬وإنما هو انسجام مع طبيعة الحكاية‬
‫الشعبية التي ينتمي إليها نوع السرد الدرامي‪،‬‬
‫حيث ُيُنتج وضوح مرامي الشخصيات وطبيعة‬
‫وضوًحا في ردود أفعالها‪ ،‬ومن َث َََّم‬
‫ً‬ ‫تصرفاتها‬
‫وضوح طبيعة الصراع الذي تخوضه‪ .‬ولذلك‪،‬‬
‫تأتي نتيجته من دون أي مفاجآت تذكر‪ ،‬أألنها‬
‫محكومة بقدرية إيجابية مطلقة‪ ،‬حيث ينتصر‬
‫الخير في النهاية‪ ،‬ويموت الشرير أو يعود عن‬
‫شروره ويتوب ليلتحق بركب الناس الطيبين‪ .‬وهذا‬
‫ما حدث في نهاية حكاية مسلسلنا؛ إذ يموت أبو‬
‫عيسى غرًقًا في البحيرة‪ ،‬وُيُسجن أبو أحمد‪ ،‬في‬
‫األموال‬ ‫وقت يستولي رويشد على ثروته ويعيد أ‬
‫الذي اختلسها أبو أحمد إلى أصحابها‪ ،‬وبذلك‬
‫خلت الساحة للطيبين‪.‬‬

‫فريق عمل مسلسل "خيوط المعازيب" واالحتفال بنهاية التصوير‪.‬‬ ‫َأَّما االتجاه الثاني للسرد في مسلسل "خيوط‬
‫المعازيب"‪ ،‬فيالحق الموروث الديني واالجتماعي‬
‫ويبرز االتجاه الثالث للسرد في المسلسل من‬ ‫"خيوط المعازيب" الفكرية أ‬
‫واألخالقية‪ ،‬وتشرح‬ ‫واالقتصادي‪ ،‬وتحوالته التي شهدتها منطقة‬
‫خالل الرموز الداللية‪ ،‬وبالتحديد من خالل ثالثية‬ ‫كيف تجاوز المسلسل دوره التقليدي في المتعة‬ ‫أ‬
‫األحساء‪ ،‬عبر مجموعة من الثنائيات المتقابلة‪،‬‬
‫"البشت والبحيرة والنخيل"‪ ،‬فيجسد "البشت"‬ ‫والتسلية نحو أدوار ثقافية عميقة‪ ،‬مثل‪ :‬التبشير‬ ‫مثل‪( :‬الشركة مقابل العمل الحر)‪ ،‬و(الحياكة‬
‫األساس‬‫األصالة المجتمعية‪ ،‬التي تبقى هي أ‬ ‫رمز أ‬ ‫والتأثير والتنوير‪ ،‬من دون أن يخضع لفكرة البطل‬ ‫اليدوية مقابل المكننة)‪ ،‬و(اللبس التقليدي‬
‫المعّبر عن جوهر الناس مهما تغير‬
‫ّ‬ ‫الثابت‬ ‫الشعبي الذي عادة ما تقدمه الحكايات الشعبية‬ ‫"البشت والثوب" مقابل اللبس الحديث‪:‬‬
‫المجتمع وعصفت به‪.‬‬ ‫اإليجابي والرجل المثقف الذي‬‫بوصفه البطل إ‬ ‫البنطلون والقميص")‪ ،‬و(الغناء مقابل تحريمه)‪...‬‬
‫يملك رؤية متقدمة عن المجتمع‪.‬‬ ‫وسواها‪ .‬وفي مقاربة هذه الثنائيات‪ ،‬تكمن رسائل‬
‫رمًزا لتطهير المرء من همومه‬ ‫وكانت "البحيرة" ً‬
‫وأحزانه‪ ،‬حين يختار "خليفة" الموت في‬
‫البحيرة ليتخلص من همومه التي تراكمت في‬
‫قلبه ابتدا ًًء من غياب والده‪ ،‬وصواًلا إلى قسوة‬
‫أبي عيسى‪ .‬وفي البحيرة‪ ،‬يتطهر أبو عيسى‬
‫وُيُعاَقَب على ذنوبه حين يرميه أبو حمد في‬
‫البحيرة ليموت فيها غرًقًا‪ .‬ولنتأمل هنا‪ ،‬الرمزية‬
‫العالية حين يلتقي القاتل والقتيل في البحيرة‬
‫في مشهد عظيم‪ ،‬حيث يتراءى أألبي عيسى في‬
‫األخيرة جثة ضحيته خليفة‪.‬‬ ‫لحظة حياته أ‬

‫َأَّما النخيل‪ ،‬فكان رمز الحياة والرسوخ في‬


‫كثيًرا من أصحابه يواجهون جشع‬ ‫أ‬
‫األرض‪ ،‬فنجد ً‬
‫"أبي عيسى" حفاًظًا على نخيلهم‪ ،‬حتى لو‬
‫األخرى لفعل‬ ‫األمر إلى بيع أمالكهم أ‬‫اضطرهم أ‬
‫المخرج عبدالعزيز الشالحي والنجمة الصاعدة رقية أثناء تصوير الحلقات أ‬
‫أ‬
‫ذلك‪ ،‬كما فعل التاجر "أبو عثمان"‪ .‬وألن جذور‬
‫األولى من المسلسل‪.‬‬
‫النخيل راسخة في أرضها‪ ،‬ستكون السبب في‬
‫األحساء وأقسم أال يعود إليها‪،‬‬‫إعادة من هجر أ‬
‫الّدعاء‬
‫العمل بعد النجاح‪ ،‬لم يحاول أي منهم ا ّ‬ ‫درسان وسؤال‬
‫يوِّسع دوره في‬
‫أن النجاح يبدأ من عنده‪ ،‬آأو أن ِ‬ ‫في سباق الدعاية لموسم رمضان الفني‪ ،‬لم‬ ‫مثل "فرحان" الذي كان يحرص على عدم‬
‫اآلخرين‪ .‬وهذا درس‬ ‫هذا النجاح على حساب‬ ‫يكن مسلسل "خيوط المعازيب" من العناوين‬ ‫بعيًدا عنها‪ ،‬إلى أن‬
‫أجيًرا ً‬
‫وفّضل العمل ً‬ ‫العودة ّ‬
‫ووصفة للنجاح‪.‬‬ ‫المطروحة‪ ،‬لكن العمل سرعان ما أعلن عن نفسه‬ ‫أعادته بساتين النخيل إليها في النهاية‪.‬‬
‫واحتل صدارة المشاهدة على منصة "شاهد"؛ إذ‬
‫الدرس الثاني من دروس إاإلتقان في هذا‬ ‫انتقل من المرتبة الثامنة في بداية الموسم إلى‬ ‫بناء الشخصيات والقيمة المركبة‬
‫المسلسل‪ ،‬هو التأني‪ .‬فأصل النص كتبه‬ ‫الثانية خالل فترة عرضه على المنصة تزام ًًنا مع‬
‫قناة "أم بي سي ‪ ،"1‬صاحبة هذا اإلنتاج أ‬ ‫تتضاعف القيمة الفنية لمسلسل "خيوط‬
‫الكاتب والممثل حسن العبدي عام ‪2000‬م‪،‬‬ ‫األضخم‬ ‫إ‬
‫وهو متدرب سابق على حياكة البشوت‪ ،‬يعرف‬ ‫في تاريخ الدراما التراثية السعودية‪ .‬مع ذلك‪،‬‬ ‫المعازيب"‪ ،‬من خالل تجاوزه مفهوم بناء‬
‫جيًدا عالمها المهني وصراعها االجتماعي‪.‬‬
‫ً‬ ‫فالضخامة ليست النقطة الجوهرية في هذا‬ ‫الشخصيات الحدي (أشرار أو أخيار) في‬
‫الحكاية الشعبية‪ .‬أ‬
‫فاألبطال ليسوا أشر ًاًرا بالكامل‬
‫وعند إاإلعداد للمسلسل‪ ،‬عملت لجنة على‬ ‫العمل‪ ،‬بل إاإلتقان‪.‬‬
‫تحديث نص العبدي‪ ،‬قبل أن تشرع ورشة‬ ‫أخياًرا بالكامل‪ .‬ونرى ذلك بوضوح في‬
‫أو ً‬
‫السيناريو في العمل‪ .‬فاستغرق العمل على‬ ‫يذ ّّكرنا إاإلتقان الذي تحقق لعناصر هذا العمل‬ ‫يقّدمه‬
‫اإليجابي الذي ّ‬ ‫شخصية"جاسم" البطل إ‬
‫المسلسل سنوات طويلة‪.‬‬ ‫بإتقان المخرج شادي عبدالسالم في ِِفلم‬ ‫العمل إنساًنًا ال يخلو من العيوب‪ .‬ولنتأمل‬
‫"المومياء"‪ ،‬الذي حجز مكانه بين أهم مائة ِِفلم‬ ‫بالمقابل شخصية "أبي عيسى" الشرير‪ ،‬ولنتتبع‬
‫وبعد هذا النجاح‪ ،‬يبقى السؤال حول مستقبل‬ ‫فاإلتقان في كليهما كان ثمرة‬
‫في تاريخ السينما‪ .‬إ‬ ‫البناء المركب لشخصيته‪ ،‬فبالرغم من أنه محرك‬
‫الدراما السعودية والخليجية‪ ،‬خاصة بعد أن‬ ‫الولع‪ ،‬غير أن الفرق بينهما أن الولع في حالة‬ ‫الشر في كل الحكايات‪ ،‬فإنه يفيض حناًنًا في‬
‫رفع "خيوط المعازيب" السقف بهذا الشكل‪َ .‬أَّما‬ ‫تمَّرس في العمل‬ ‫ولًعا فردًّيًا لمخرج َ‬
‫الِفلم كان ً‬
‫ِ‬
‫بالنسبة إلى مستقبل المسلسل نفسه‪ ،‬فيبدو‬ ‫بكثير من تخصصات العمل السينمائي‪ ،‬وكان‬
‫بيته تجاه أوالده‪ ،‬وهو منفتح على خياراتهم‬
‫التحدي أصعب‪ .‬فقد عرضته منصة "شاهد" تحت‬ ‫األزياء والمشاهد بنفسه قبل تنفيذها‪.‬‬ ‫يرسم أ‬ ‫وأحالمهم الشخصية (التعليم مثااًلا )‪ .‬إنهم‬
‫عنوان‪" :‬موسم أول"‪ ،‬وتحدث ص ّّناعه عن موسم‬ ‫بينما الولع في المسلسل كان جماع ًًّيا يشمل فريًقًا‬ ‫أيًضا‪ .‬لذلك سنجد أبا عيسى‬ ‫نقطة ضعفه وقوته ً‬
‫األول قد تطور‬ ‫ثاٍن‪ .‬ونعرف أن مخطط الموسم أ‬ ‫ضخًما‪ ،‬يصعب التوقف أمام أحد أفراده لنقول‬ ‫يتخلى عن واحد من أكبر عيوبه‪ ،‬حين يتغلب‬
‫ٍ‬ ‫ً‬
‫بعُد؟‬
‫من عشرين إلى خمس وعشرين حلقة‪ ،‬فماذا ُ‬ ‫إنه هو مصدر إاإلتقان‪ .‬وفي تصريحات ص ّّناع‬ ‫على جبنه ويندفع الى البحيرة ا‬
‫لياًل إإلنقاذ ابنته‪.‬‬

‫وكما أن شخصية الشرير "أبا عيسى" لم‬


‫وجوه شابة‪ ..‬وواعدة‬ ‫اإليجابي‬
‫تخُل من الطيبة‪ ،‬وشخصية البطل إ‬ ‫ُ‬
‫و"أحمد" (أسامة محمد) و"عيسى" (ياسر عماد)‬ ‫ما كانت شخصيات "خيوط المعازيب" لتتكامل‬ ‫أيًضا‪،‬‬ ‫أ‬ ‫"جاسم" لم ُ‬
‫تخُل من العيوب واألخطاء ً‬
‫و"الصميدح" (سالم الخزيم)‪ ،‬كنا أمام حبكات‬ ‫لوال أ‬
‫األداء المتميز لنخبة من النجوم الشباب‬ ‫خّير‬
‫نجد حالة من المزج النسبي بين سلوك ّ‬
‫مؤثًرا في الحبكة‬
‫فرعية الفتة‪ ،‬ومنها ما كان ً‬ ‫الجدد‪ .‬فالمسلسل ارتكز في جزء أساس من‬ ‫وآخر يناقضه في سلوك عدد من شخصيات‬
‫الرئيسة‪ ،‬وبالتحديد شخصية "فرحان" الذي‬ ‫السرد على حكايات أبطالها الشباب‪ .‬فمع "فرحان"‬ ‫األخرى‪ ،‬مثل‪" :‬رويشد" و"فرحان"‬‫العمل أ‬
‫كانت شخصيته العنصر الفاعل في تقدم حبكة‬ ‫(محمد عبدالخالق) و"جواد" (عبدالرحمن خليفة)‬ ‫و"بدرية"‪ ...‬إلخ‪.‬‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪39 | 2024‬‬


‫أبي عيسى نحو نهاياتها‪ .‬وبدت تلك الفاعلية في‬
‫أفضل صورة مع أ‬
‫األداء المفاجئ للفنان الشاب‬
‫سّجل المسلسل نفسه‬‫محمد عبدالخالق‪ ،‬وبذلك ّ‬
‫نقطة انطالقة واثقة لعدد من النجوم الشباب‬
‫نحو مستقبل الدراما السعودية‪.‬‬

‫قّدم‬
‫وكما كان حاله مع الوجوه التمثيلية الشابة‪ّ ،‬‬
‫"خيوط المعازيب" موهبة شابة واعدة‪ ،‬هي‬
‫المخرج السعودي عبدالعزيز الشالحي‪ ،‬وذلك‬
‫في أول تجربة تلفزيونية طويلة له‪ ،‬بعد خوضه‬
‫تجارب إخراج تلفزيونية لحلقات منفصلة‪ .‬ومن‬
‫سينمائًيا‪ ،‬يدرك عند‬
‫ً‬ ‫مخرًجا‬
‫يعرف عبدالعزيز ً‬
‫تأصيل الموروث‬ ‫مخرًجا‬
‫مشاهدته هذا المسلسل أننا كسبناه ً‬
‫وبعرض الحلقة الخامسة والعشرين‪ ،‬أنهى‬ ‫نجح مسلسل "خيوط المعازيب" في تقديم صورة‬ ‫رقًما‬
‫تلفزيونًيا‪ ،‬ستجعل التجارب المتكررة منه ً‬
‫ً‬
‫"خيوط المعازيب" ا‬
‫فصاًل متمي ًًزا في مسيرة الدراما‬ ‫عن المجتمع الحساوي في ذلك الوقت‪ ،‬فناسه‬ ‫صعًبا في عالم إاإلخراج التلفزيوني بعد أن يوائم‬
‫ً‬
‫السعودية‪ .‬وبالرغم أننا ندرك أنه بموت "أبي‬ ‫وقضاياهم هم في صلب موضوعاته واهتماماته‪،‬‬ ‫كامل أدواته السينمائية العالية مع متطلبات‬
‫يعُّد محرك القصة والصراع فيها‪،‬‬ ‫عيسى"‪ ،‬الذي ُ‬ ‫بينما تشِّكِل الصراعات إاإلنسانية اليومية فيه‬ ‫المسلسل التلفزيوني‪.‬‬
‫ثاٍن من المسلسل‪ .‬غير‬ ‫ٍ‬ ‫جزء‬ ‫إنتاج‬ ‫ينتهي احتمال‬ ‫حبكة حكاياته‪َ .‬أَّما أبطاله‪ ،‬فهم صورة عن أناس‬
‫قّدمه سيفتح‬
‫أننا على ثقة بأن المستوى الذي ّ‬ ‫نعرفهم‪ ،‬أو من المحتمل أن نعرفهم لكونهم‬ ‫قّدم صورة ساحرة‪ ،‬وعاد‬ ‫عبد العزيز الشالحي ّ‬
‫الباب على مصراعيه لمزيد من أ‬
‫األعمال المشابهة‬ ‫يتقاطعون معنا في شيء من تفاصيل حياتهم‪.‬‬ ‫ليواصل المخرج الكويتي مناف عبدال ألقها في‬
‫األحساء وسواها في المملكة العربية‬ ‫في منطقة أ‬ ‫وبهذا المعنى‪ ،‬يؤكد المسلسل دوره في الترفيه‬ ‫النصف الثاني من المسلسل‪ .‬وبطبيعة الحال‪،‬‬
‫السعودية والخليج العربي بأسره‪ .‬أعمال تنهل‬ ‫والتسلية نحو أدوار أخرى كالتأثير والتبشير‪ ،‬وذلك‬ ‫كانت جماليات الصورة إاإلخراجية تؤكد مقولة‬
‫وتجّسد روحه‪ ،‬وُتُرسخ الدراما التراثية‬ ‫نموذًجا للعبرة وحالة التطهر‬ ‫بوصف حكاياته‬ ‫الكاتب والناقد المسرحي أ‬
‫من التراث ّ‬ ‫ً‬ ‫أ‬
‫األلماني غوتولد إفرايم‬
‫ا‬
‫تأصياًل للموروث في حياتنا المعاصرة‪،‬‬ ‫بوصفها‬ ‫األرسطي‪ .‬فالشيء بالشيء ُيُعرف‪ ،‬وبمقدار ما‬ ‫ليسنغ‪" :‬يجب أن يتغذى الفن من جذور شعبية‪،‬‬
‫وليس مجرد حكاية تشبه حكايات الجدات‪،‬‬ ‫تتوغل الدراما في المجتمع بمقدار ما تمتلك‬ ‫ولكن هذا ال يعني حتمية العودة إلى أ‬
‫األشكال‬
‫نستحضرها استجابة للحنين إلى ماض جميل‪.‬‬ ‫مفاتيح التأثير فيه‪.‬‬ ‫لإلبداع الفني"‪.‬‬
‫البدائية إ‬
‫مجلة القافلة‬
‫مايو ‪ -‬يونيو ‪2024‬‬ ‫أدب وفنون‬

‫حنوش حنوش‬
‫فرشاة وإزميل‬

‫حمل شهرزاد إلى مدريد‬


‫�‬
‫العرايق حنوش حنوش‪،‬‬ ‫خري � ييف الصالة الفنية للحديقة الملكية وسط مدريد‪ ،‬يعود الف ََّنان‬ ‫أ‬ ‫�‬
‫ي‬ ‫ييف معرضـه األ ر‬
‫العريب‪ ،‬أال وهي "ألف ليلة وليلة"؛ ليضعنا أمام تصوراته الفنية‬ ‫أ‬
‫إىل التقاط إحدى أهم أيقونات األدب � ي‬
‫ُعُّد تجربته هذه � ييف استلهام "ألف ليلة‬ ‫أسلوًبًا وتلوي ًًنا مختل ًًفا لمن سبقوه بتناول الموضوع ً‬
‫رسـًما‪ .‬وُت ُ‬
‫أكرث من ثالثـة أعوام‪ .‬وهي‬ ‫األوىل من نوعها �يف إسبانيا‪ ،‬وتطلبت منه العمل عىل هذا ر‬
‫المرشوع ر‬ ‫وليلة" أ‬
‫ي‬ ‫�‬
‫المصري والحكايات"‬ ‫المرشقية‪ ،‬وهي‪" :‬بغداد‪..‬‬ ‫تأيت ضمن متتالية فنية يعود فيها إىل أصوله ر‬
‫أ‬
‫ر‬ ‫تجربة ي‬
‫والمصري" ‪2018‬م‪ ،‬ثم معرضه األحدث‬ ‫ر‬ ‫‪2005‬م‪ ،‬و"خيوط النور‪ ..‬الشعر واللون" ‪2011‬م‪ ،‬و"الفرات‬
‫والليايل العربية" ‪2024‬م‪.‬‬
‫ي‬ ‫"شهرزاد‬

‫د‪ .‬عبدالهادي سعدون‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪41 | 2024‬‬


‫في أعمال حنوش‪ ،‬تـتجاور طبقات التاريخ بحًثًا عن مفهوم الزمن‪.‬‬

‫تب ََّين ح ّّنوش طريقه وشرع في العمل‪ ،‬وفكر في‬ ‫أسرار الضوء‬ ‫حنوش‪ ،‬ر ََّسام وط ََّباع وأستاذ للفن التشكيلي‪،‬‬
‫واإلسباني‪ ،‬وإضافة‬‫المزج بين التاريخين العربي إ‬ ‫اإلسباني فدريكو أربوس عن‬‫يقول المستعرب إ‬ ‫من مواليد الكوفة عام ‪1958‬م‪ .‬بعدما تخرج‬
‫قصص جديدة في شكل رسومات‪ .‬يقول‪:‬‬ ‫حنوش إنه‪" :‬أشعة الضوء‪ ،‬التي حاول ابن‬ ‫من معهد الفنون الجميلة في بغداد‪ ،‬سافر إلى‬
‫لألوروبيين كان الفرنسي‬ ‫"أول من قَّدم الليالي أ‬ ‫الهيثم أن يقبض عليها‪ ،‬يقوم حنوش بعد عشرة‬ ‫أوروبا‪ ،‬فعاش في إيطاليا‪ ،‬ومنها انتقل إلى إسبانيا‬
‫َ‬
‫قصًصا‬
‫ً‬ ‫ترجمته‬ ‫في‬ ‫أضاف‬ ‫وقد‬ ‫غاالن‪،‬‬ ‫أنطوان‬ ‫قرون بإعادة صياغتها عندما يؤكد أن الصور ال‬ ‫حيث استقر في مدريد منذ مطلع ثمانينيات القرن‬
‫عربية ليست ضمن النسخة العربية مثل حكاية‬ ‫تأخذ هيئتها داخل العين وإنما في المخيلة"‪.‬‬ ‫الماضي‪ .‬وهناك درس في كلية الفنون الجميلة في‬
‫واألربعين حرامي"‪ .‬ولدى الفنان حرية‬ ‫"علي بابا أ‬ ‫جامعة كومبلتنسه في مدريد‪ ،‬وحصل منها على‬
‫واإلضافة‪ ،‬عند نقل الليالي إلى أفق‬
‫التصرف إ‬ ‫اإلعداد‬ ‫َأَّما حنوش‪ ،‬فيقول عن تجربته في إ‬ ‫البكالوريوس والدكتوراة‪.‬‬
‫فني آخر‪ .‬بازوليني أضاف في ِِفلمه "ألف ليلة‬ ‫لهذا المعرض‪" :‬المشروع الفني يشبه كتاًبًا‬
‫قصًصا ليست موجودة وهذا ما فعلته‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وليلة"‬ ‫جديًدا‪ ،‬وقد بحثت عن أكثر من ‪ 700‬صورة‬ ‫ً‬ ‫وهو أحد الف ََّنانين العرب القالئل الذين أثبتوا‬
‫وقد تطرقت للقصص الجميلة في الليالي وركزت‬ ‫وأعمال تتعلق بألف ليلة وليلة من أغلفة كتب‬ ‫حضورهم في الغرب؛ إذ شارك في عشرات‬
‫على الشعر أكثر من السرد‪ ،‬وتجنبت العنف أألن‬ ‫إلى لوحات‪ ،‬ولم أتوقف عن القراءة والبحث‬ ‫معرًضا‬
‫المعارض الجماعية‪ ،‬وأقام أكثر من ‪ً 38‬‬
‫عالمنا اليوم ال ينقصه العنف"‪.‬‬ ‫باإلسبانية والعربية طوال تسعة أشهر‪ .‬وبعد‬ ‫إ‬ ‫شخصًيا‪ ،‬وحصل على ‪ 37‬جائزة في الفن التشكيلي‬ ‫ً‬
‫أ‬
‫ذلك أصبت بالحيرة؛ ألن ما أريده يتعدى قراءة‬ ‫في إسبانيا وخارجها‪ ،‬إضافة إلى منح دراسية وفنية‬
‫عمل وترجمته فن ًًّيا‪.‬‬ ‫من ِِقبل الحكومة إاإلسبانية وجهات عربية مختلفة‪.‬‬
‫تصّور‬
‫ينطلق حنوش من ّ‬
‫أرسطو‪" :‬إن الغرض من الفن‬
‫هو تجسيد الجوهر السري‬
‫لألشياء‪ ،‬وليس استنساخ‬
‫أشكالها"‪.‬‬

‫شارك حنوش بصورة فاعلة في أ‬


‫األوساط‬
‫اإلسبانية منذ عام ‪1985‬م‪ ،‬وسعى إلى فهم‬ ‫إ‬
‫معنى الفن التشكيلي في وقتنا الحالي‪ .‬وبنا ًًء‬
‫على ذلك‪ ،‬نراه يرّكّز في لوحاته على سمة المزج‬
‫تناغم الحلم والواقع على سطح اللوحة‪.‬‬ ‫بين العناصر الشعورية والرؤى المتقابلة ما بين‬
‫الشرق والغرب‪ .‬وقد استكمل دراسته للفنون‬
‫اإلغريق‬ ‫الجميلة باالطالع على فكر الفالسفة إ‬
‫مثل أرسطو وأفالطون‪ ،‬والفالسفة والمفكرين‬
‫العرب مثل ابن عربي‪ ،‬ا‬
‫فضاًل عن مفكرين‬
‫معاصرين آخرين أسهموا في إعداد وصقل‬
‫عاٍل وغني‬
‫أعمال فنية على مستوى فكري ٍ‬
‫باإلشارات الفلسفية‪.‬‬
‫إ‬

‫ولعَّل االطالع على أطروحة حنوش للدكتوراة‬ ‫َ‬


‫فِّن الرسم عند "الواسطي"‪ُ ،‬يُحيلنا إلى‬ ‫عن‬
‫األولى عن الجذر والتطور في‬ ‫تلك ِالتساؤالت أ‬
‫أدوات الف ََّنان ورؤاه‪ ،‬وما الذي قدمه في هذا‬
‫المعرض‪ .‬يقول‪" :‬للفنان أن يستفيد من كل‬
‫خبراته ومعارفه التي اكتسبها طوال حياته‪ ،‬على‬
‫تحٍّد في هذا‬
‫أن يجد أسلوبه‪ ،‬وقد كان أكبر ٍ‬
‫المشروع هو تناول موضوع مشهور مثل ألف‬
‫ليلة وليلة التي يعرفها الكبار والصغار‪ .‬كان ال‬
‫حنوش في مرسمه‪.‬‬ ‫َبَّد أن أحافظ على أسلوبي وأال يطغى الموضوع‬
‫على رؤيتي الفنية"‪.‬‬

‫محسوبة وفق عمق خاص بها‪ ،‬وكأننا إزاء تشظية‬ ‫في مقال يتناول فيه آخر ما أنجزه هذا الف ََّنان‪،‬‬ ‫تلَّقَى حنوش‪ ،‬خالل مسيرته الفنية الطويلة‪،‬‬
‫مقصودة داخل إطار مكاني‪ ،‬فيما يشبه‪ ،‬إلى حد‬ ‫يكتب الناقد والمعماري إاإلسباني المعروف‪ ،‬نافارو‬ ‫تأثيرات متنوعة من خالل أصوله وثقافته‬
‫بعيد‪ ،‬عملية ترتيب قطع متناثرة إإلتمام وجودها‪.‬‬ ‫وِج ًًزا بشكل بليغ رؤيته عنه‪ ،‬ا‬
‫قائاًل‪:‬‬ ‫بالدوينغ‪ُُ ،‬م ِ‬ ‫العربية‪ ،‬ومن خالل معايشته للثقافة الغربية‬
‫لقد حقق حنوش في اللوحة عملية تعايش ممكنة‬ ‫"تتعايش في أعمال حنوش التشكيلية تلك القدرة‬ ‫ا‬
‫وتفاعاًل مع الفنانين‬ ‫حياة ودراسة ا‬
‫وعماًل‬
‫بين السطح التجريدي والصبغة التشخيصية‪ ،‬كما‬ ‫على المزج ما بين التجريد والتشخيص الفني‪.‬‬ ‫آ‬
‫اآلخرين‪ ،‬وكان لكل هذا التمازج أثره في أسلوبه‬
‫لو كانا صوتين متحاورين ومتفاعلين"‪.‬‬ ‫إذ نالحظ في الهيئات المرسومة عملية توزيع‬ ‫وألوانه ومفردات عالمه الفني‪.‬‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪43 | 2024‬‬


‫جوهر أ‬
‫األشياء‬
‫ينطلق حنوش في مجمل لوحات "شهرزاد والليالي‬
‫العربية"‪ ،‬المنتخب منها في المعرض نحو أربعين‬
‫تصّور خاص لمقولة‬ ‫لوحة بأحجام مختلفة‪ ،‬من ّ‬
‫أرسطو القائلة‪" :‬إن الغرض من الفن هو تجسيد‬
‫الجوهر السري أ‬
‫لألشياء‪ ،‬وليس استنساخ أشكالها"‪.‬‬
‫موّحدة ومتكاملة‬
‫فهو ينظر إلى الجمال كفكرة ّ‬
‫بشكل منسجم يجعل العمل الفني متفوًقًا على‬
‫الطبيعة والمادة‪.‬‬

‫تعبيًرا عن العالقة الفنية‬


‫تتضمن هذه المجموعة ً‬
‫ما بين المدينة والبشر‪ ،‬وما بين البشر والكائنات‬
‫قّدمه الفنان في‬ ‫أ‬
‫األخرى‪ .‬وهي ُتُضيف إلى ما ّ‬
‫األعوام العشرة أ‬
‫األخيرة‪ ،‬ومن ذلك لوحات‬ ‫أ‬
‫معرضه المتميز "رؤى متقابلة" عام ‪2010‬م‪،‬‬
‫استلهاًما صوف ََّيا‬
‫ً‬ ‫و"خيوط النور" التي قدم فيها‬
‫لقصائد الشاعر العراقي عبدالوهاب البياتي‪.‬‬
‫وتعكس هذه المجموعة تشكيالت جمالية تؤرقه‬
‫بوصفه ف ََّناًنًا ليمنحها ُبُعدها اللوني والشكلي عبر‬
‫حنوش في معرضه أ‬
‫األخير وسط مدريد‪.‬‬ ‫اللوحة‪ُُ ،‬مر ِِّك ًًزا على هيئة البشر‪ ،‬معاصرين كانوا‬
‫أو قدامى‪ ،‬كعناصر بنائية للوحة وما تضمه في‬
‫دواخلها من هيئات ومساحات فارغة وممتلئة‪.‬‬

‫في اللوحات الجديدة‪ ،‬ال تبرز الشخصية كحالة‬


‫مجردة من االنتماء للحيز في اللوحة‪ ،‬بقدر ما‬
‫يرغب الف ََّنان في اللعب والبحث عن تنويعات‬
‫للحركة إاإلنسانية المعاصرة وأشكالها المتعددة‪،‬‬
‫وفي أطوار تجاربها المعيشة بكل لحظاتها اليومية‬
‫وتفاصيلها الدقيقة‪ ،‬كما هو الحال في اللوحات‬
‫المتميزة التي ُتُبرز تجليات مختلفة للعالقة بين‬
‫الرجل والمرأة‪.‬‬

‫الحُّس اللوني‬
‫ُ‬
‫في لوحات المعرض الشهرزادي‪ُ ،‬يُظهر الف ََّنان‬
‫اهتمامه المتزايد بالحس الشاعري للون‪ ،‬الذي‬
‫ال ِيِك ُُّل عن قراءته بأشكال مختلفة‪ .‬اللون والحركة‬
‫الشعرية‪ ،‬بمفهوم حنوش‪ ،‬هي‪" :‬ما يمنحني‬
‫حرية واسعة لتمثيل الشعر في فضاء يشهد‬
‫حدوث أمور عدة في ٍآٍن واحد‪ .‬فالمكان والزمن‬
‫يتداخالن‪ ،‬وكذلك الخط واللون يعمالن سوًيًا‪.‬‬
‫في المعرض الجديد تظهر "شهرزاد جديدة" مستفيدة من تكوين الرسام الشرقي والغربي‪.‬‬ ‫كما تحضر الذاكرة وذكريات الطفولة في بالد‬
‫األشخاص الذين نعرفهم‪،‬‬ ‫الرافدين‪ ،‬فتشكل صور أ‬
‫الجامعة للجمال الشعري في كل القراءات‬ ‫التي سبقته حول الموضوع نفسه‪ .‬يحمل حنوش‬ ‫مًعا تخلق فضاء اللوحة"‪.‬‬ ‫وكل هذه العناصر ً‬
‫السابقة والتـأثيرات الممكنة‪ ،‬سواء منها تلك‬ ‫إعجابه بشهرزاد "فهي لم تنقذ نفسها فحسب‬
‫منهاًل ا‬
‫أصاًل‪ ،‬أو الغربية‬ ‫التأثيرات الشرقية بوصفها ا‬ ‫من خالل براعتها في الحكاية بل أنقذت بنات‬ ‫ينقل لنا الف ََّنان رؤيته اللونية التشكيلية‪ ،‬بعد‬
‫مكتسًبا‪.‬‬
‫ً‬ ‫تالقحًيا‬
‫ً‬ ‫بوصفها ا‬
‫منهاًل‬ ‫جنسها"‪ .‬لكن الرؤية الشهرزادية لدى حنوش‬ ‫انطباعاته التي كونها من قراءة قصص "ألف ليلة‬
‫وحيًدا‪ ،‬بل هي العين‬
‫ليست خيًطًا تفسيرًيًا ً‬ ‫وليلة"‪ ،‬وبعد مراجعة تناول التجارب التشكيلية‬
‫يعُّد حنوش العمل الذي يفتقد المضمون‬ ‫ال ُ‬
‫ا‬
‫عماًل فن ًًّيا‪ ،‬كما يكتب الناقد ألبرتو بالوميرو‪،‬‬
‫يرى أن الفن أعمق من مظهره المادي؛ ألنأ‬ ‫فهو‬
‫ما وراء كل شيء مادي هناك شيء جوهري في‬
‫العمق‪ .‬كما أن الجوانب المتعلقة بالمفهوم‬
‫واألفكار تشِّكِل أهمية بالغة لكي يكون للفن‬ ‫أ‬
‫مسار صحيح‪.‬‬

‫يعتقد حنوش أن النظرية يجب أن تسبق‬


‫التطبيق‪ .‬ففي لوحات المعرض‪ ،‬وإن تباينت‬
‫األحجام‪ ،‬عالم متكامل من الرؤى أ‬
‫واأللوان‬ ‫في أ‬
‫واألشكال الهندسية والهيئات البشرية غائبة‬ ‫أ‬
‫ومجّسمات وتشكيالت بشرية ونباتية‬ ‫ّ‬ ‫المالمح‪،‬‬
‫وأشياء متناثرة؛ كلها تشِّكِل ُُصلب اللوحة‬
‫وتتخطاها إلى أفق فهم أوسع من مجرد عرض‬
‫محدد لواقع معين‪ .‬وهذا المزيج المختلف‬
‫واأللوان يمنح اللوحة هالة مغايرة‬‫األشكال أ‬ ‫من أ‬
‫للعب على الوجود أو عدمه‪.‬‬

‫أيًضا عالقة التشابك المتينة في‬


‫يجب أال ننسى ً‬
‫عوالم حنوش ما بين فضاءات الليالي العربية‪،‬‬
‫وهو القادم من بغداد المدينة أ‬
‫األبرز في‬
‫أ‬
‫"ألف ليلة وليلة" وصداها في المدن األندلسية‬
‫كإشبيلية وغرناطة‪ ،‬مما يخلق صورة مشتركة‬
‫اإلنسان المعاصر‪.‬‬ ‫أ أ‬
‫تتجاوز عناصر اللوحة عالقتها باألثر األدبي بحًثًا عن عالقة إ‬
‫ما بين مدينة الذاكرة والمدن الحاضرة‪ .‬وهي‬
‫صورة تقارب وتعدد‪ ،‬وليست صورة تجسيد‬
‫ونسخ مطابق للصورة المشرقية عن شهرزاد‪.‬‬

‫في لوحات هذا المعرض‬ ‫الرؤية الواحدة إلى سواحل الرؤى متعددة‬ ‫وعبر المكان يسعى الف ََّنان إلى تجسيد عالقته‬
‫الشهرزادي‪ُُ ،‬يظهر الف ََّنان‬ ‫األشكال والغايات والصور النفسية للبشر في‬ ‫أ‬ ‫بالبشر وتفاصيلهم اليومية‪ .‬وإن كان ذلك‬
‫يظهر على سطح اللوحة بصورة عفوية‪ ،‬أألن‬
‫اهتمامه المتزايد بالحس‬
‫عصرنا الحالي‪ .‬وهذا االنفتاح على الشعري‬
‫والخيالي هو ما جعل هذه الرؤية المعاصرة‬ ‫األساس لديه هو اللون وتموجاته وقوة الحركة‬ ‫أ‬

‫الشاعري للون‪ ،‬الذي ال ِ‬


‫يِك ُُّل‬ ‫أألثر أدبي عالمي‪ُ ،‬تُضاف إلى كل تلك الرؤى‬ ‫أ‬
‫الخطية‪ ،‬لذلك فحضور األجسام والمجسدات‬

‫عن قراءته بأشكال مختلفة‪.‬‬


‫السابقة‪ ،‬وُتُضيف إليها النظرة الخاصة للف ََّنان‬ ‫لديه أشبه بالرؤى الصوفية‪.‬‬
‫الُم ّّتقدة‬
‫ما بين استنطاقه لجذوره المشرقية ُ‬
‫وحياته اليومية الغربية‪ .‬ال تنحاز رؤية حنوش‬ ‫تستلهم رسوم حنوش في معرضه أ‬
‫األخير من‬
‫حيًزا مشترًكًا‬ ‫األثر أ‬
‫أجواء وعوالم أ‬
‫ؤّسس لكيانها ً‬
‫إلى جهة‪ ،‬بقدر ما ُتُ ّ‬ ‫األدبي المشرقي المعروف‪،‬‬
‫غايًرا‪.‬‬
‫وُم ً‬ ‫ُ‬ ‫خاصة تلك التي لها عالقة مباشرة مع البشر‬
‫ومع التجوال الروحي للنفس في دواخلها‬
‫مستريًحا إلى تفاعل الجمهور‬
‫ً‬ ‫ويبدو حنوش‬ ‫الدفينة؛ لكنها تسعى إلى إعادة االعتبار‬
‫اإلسبان مع معرضه‪ ،‬ويرى أن مشروعه‬ ‫والنقاد إ‬ ‫لمضمون اللون والحركة في اللوحة الفنية من‬
‫لدّي‬
‫ينتِه‪" :‬لم يزل ّ‬‫مع "ألف ليلة وليلة" لم ِ‬ ‫اإلخالل بعالقته مع الواقع المتجذر للفرد‬‫دون إ‬
‫ما أضيفه في هذا المشروع؛ فالليالي غنية‬ ‫في مجتمعه‪ .‬إنها نقلة متميزة لتقديم المشهد‬
‫بالفنتازيا والحب والحكمة‪ .‬وهي موجودة في‬ ‫ضمن حيزه الشعري‪ ،‬وكذلك إإليجاد أدوات‬
‫التصور الخيالي لكل أوروبا"‪.‬‬ ‫األبعاد البشرية في حراكها‬‫ممكنة الستيعاب أ‬
‫الدائم ومعاركها الروحية الصاخبة‪ .‬وهو ما‬
‫جعل هذه اللوحات تنتقل بنا من ساحل‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪45 | 2024‬‬


‫مجلة القافلة‬
‫مايو ‪ -‬يونيو ‪2024‬‬ ‫أدب وفنون‬

‫شعر‬
‫خلف حدود الجسد‬
‫مشاعل عبدهللا‬
‫‪1‬‬

‫روحها‪..‬‬ ‫على الحقل أن ينتقي زهر ًًة باسمها‬ ‫تغادُر من ظّلّها‬ ‫فتا ٌٌة‬
‫ثم تضحك‪ ..‬قبل اتساع الجروحِ ِ وبعد‬ ‫جَّرحوا لونها‬
‫ُ‬
‫سِم من َ‬
‫دون تلطيخها با ِ‬
‫تغادُر من ظلها كي تراها‬ ‫تقوُلُ فتا ٌٌة‬
‫اتساع الجروح‪ ..‬لترتق بالحب أعوامها‬ ‫وشذاها‪..‬‬ ‫ُ‬
‫…‪.‬‬ ‫ً‬
‫كامًال‪..‬‬ ‫لتنتزع الحق في عيشها‬
‫تمَّد الذي في يديها وفي شفتيها‬ ‫بل لتهرب كل المخاوف واألغنيات التي‬
‫ح ََّتى َ‬
‫تخيط من األقحوان الذي يرتديها‬ ‫وبين جوانحها‬ ‫شكلتها الحياة‬
‫تفاصيَلَ دهشتها‪ ..‬حير ََة القلب‪..‬‬ ‫ربيًعا سيعلو على‬ ‫زهر ًًة زهر ًًة وتضيء ً‬ ‫ِ‬
‫هذا الطريق الذي تشتهي منه أوهامها‬ ‫الخوف‬ ‫األغنياِت التي سكنت صدرها‬ ‫ولم تشبه‬
‫‪ ..‬تهدهد غربته‪ ..‬وتحاول‬ ‫الضوُء من ُُه‬
‫ُ‬ ‫اليعرف التيه‪ُُ ..‬يستنطق‬ ‫ِ‬
‫تفسير معناه حين تحاوره‪..‬‬ ‫أنِت الحقيقة‪ ..‬قالت ‪..‬‬ ‫ِ‬
‫ألنِك ِ‬ ‫الضوِء‬ ‫ثَّم تجري إلى آخر‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫وأنِت الحيا ُُة الملون ُُة المرتجا ُُة‬ ‫حتى تقوَلَ ‪..‬‬
‫كيف للحزن أن ينقضي؟‬ ‫لتصبَح كو ًًنا‬ ‫التي آمن الكون فيها‪..‬‬ ‫أريد لهذا الكيان الصغير بأن يتحرر من‬
‫َ‬ ‫قيد هذا الجسد‪..‬‬
‫كيف للدمع أن يتحول ِِسرب ٍ‬
‫فراٍش‬ ‫بذاته‪..‬‬
‫ليرفعها فوق أنغامها‬
‫سيختارُه الكون ع ّّني‬
‫ُ‬ ‫كِّل معنى‬‫ومن ِ‬
‫المخاوُف‬
‫ُ‬ ‫كيف تذوي‬ ‫تغادُر من ظّلّها كي تراها‬
‫ُ‬ ‫تقول فتا ٌٌة‬
‫كيف نمر بباب الحياة خفاًفًا‬ ‫أنِت‪..‬‬ ‫أنا ِ‬ ‫ألصبَح كو ًًنا بذاتي‬
‫َ‬
‫لنفهم معنى رساالتها‬ ‫لسِت سواي‬ ‫ِ‬
‫كيف نصنع من لحظة عابرة‬ ‫ولست سوى ما أريد له أن يكون‪..‬‬ ‫تقول‬
‫قصة ساحرة ‪..‬‬ ‫ولي أن أكون الحياة إذا شئت‬ ‫عمرْي‬
‫ْ‬ ‫أريد لحرية أن تطرز‬
‫ثم نهمس‬ ‫لي أن أكون أنا‪" ..‬أن اكون كما شئت ال‬ ‫ويختارها العقُلُ والرؤية الواضح ْْة‪..‬‬
‫في دفتر األغنيات‪..‬‬ ‫كما شاء لي اآلخرون"‪.‬‬
‫وننسج من نبضها المتبعث ِِر‪..‬‬ ‫يقول الشاعر االسباني خوان رامون‪:‬‬ ‫عمرْي‪ ..‬لحر ََّي ِِة‬
‫ْ‬ ‫تطِّرز‬
‫لحريٍة أن ِ‬ ‫ٍ‬ ‫أريد‬
‫حلم البدايات‬ ‫الرقة هي اليد اليمنى للذكاء‬ ‫حيَن نحاوُلُ أن َ‬
‫نعبَر‬ ‫َ‬ ‫الفعِلِ ال ر ََّد ََة الفعِلِ‬
‫نصيَر إلى الشمس أقرب‪..‬‬ ‫حتى‬ ‫اللحظ ََة الجارح ْْة‪..‬‬
‫َ‬ ‫‪2‬‬
‫حتى نخيط من الصبح أجنحًةً‬
‫ثم نكتب نحب‪ ..‬ونكتب‬ ‫رقة ال تجيد الهروب‬ ‫تغني‬
‫رق ٌٌة ال تجيد الهروب ولكنها!‬ ‫ليضطرب البحر عنها‪..‬‬
‫ٍ‬
‫تذوُب الجباُلُ على فكرٍة خالفت ذاتها‬ ‫ُ‬
‫رغم هذا الجفاف الكثيف‬
‫تؤثث بالحلم أيامها‪..‬‬ ‫ثَّم تمسك هذي السماء بإصبعها‬ ‫َ‬
‫وتغزل بالضوء أحالمها‪..‬‬ ‫وتدور على كفها الشمس ضاحكًةً‬
‫حيَن تنبذ كل الكالم الذي قيل من ٍ‬
‫شفٍة‬ ‫َ‬
‫وتركض خلف التماع النجو ِِم لتقطفها‬
‫ِ‬
‫للعمِق‪..‬‬ ‫ِ‬
‫الغوِص‬ ‫ق ََّيدتـها عن‬
‫نجمًةً نجمًةً ‪ ..‬رغم آالمها‪..‬‬ ‫ِ‬
‫شَّع الحقيق ُُة في‬ ‫وتسكر ِ‬ ‫الضوِء‪ ،‬ح ََّتى يشّكّ لها‬ ‫حيَن تق ِِّبُلُ أحزم ََة‬
‫َ‬
‫بالِشعر حتى ُُت َ‬ ‫من جديٍدٍ‬
‫األبْد‬
‫ْ‬ ‫سناُه‬
‫ويحملها في ُ‬
‫حاِصَر إيمانها بالبعيِدِ‬ ‫على الروح أاَّلا ُُت ِ‬
‫َ‬
‫الجسْد‪..‬‬
‫ْ‬ ‫خلَف حدود‬ ‫وتقفَز َ‬
‫َ‬ ‫وتعلو‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪47 | 2024‬‬


‫مجلة القافلة‬
‫مايو ‪ -‬يونيو ‪2024‬‬ ‫علوم وتكنولوجيا‬

‫الذكاء االصطناعي يسبر‬


‫أغوار الحضارات القديمة‬
‫�‬
‫اليت تتناول إ‬
‫اإلنسان القديم‪ ،‬وما طرأ عليه رعرب التاريخ من تغرّي�ر ات جسدية وسلوكية ونفسية‪،‬‬ ‫الدراسات ي‬
‫ر‬
‫نظًرا لصعوبة توثيق السمات المتعلقة بأفراد الحضارات السابقة وشعوبها وأنشطتها‬ ‫كانت تتعرث ً‬
‫كثري‬
‫المختلفة بالطرق التقليدية‪ .‬ولكن وسائل الذكاء االصطناعي المتعددة أسهمت �ييف إعادة النظر �ييف ر‬
‫التعُّرف عىل عادات شعوبها‪ ،‬ووسائل‬ ‫األبحاث التاريخية المعنية بدراسة الحضارات السابقة؛ بغية‬ ‫من أ‬
‫ُ‬ ‫أ‬
‫تفكريهم‪ ،‬ومناهج إدارتهم ألمورهم المعاشية‪ ،‬إضافة إىل الكشف عن االتجاهات‬ ‫معيشتهم‪ ،‬وطرق ر‬
‫�ن‬
‫والتخمني والتصور الخاطئ‪،‬‬ ‫اليت سادت �ييف تلك الحقب الماضية‪ .‬وقد ُُح ََّد من سيل التكهنات‬ ‫النفسية �‬
‫ي‬
‫الذي كان يرافق فيما ى‬
‫مىض تدوين التاريخ القديم‪.‬‬

‫د‪ .‬حذيفة الخراط‬


‫نجح استخدام خوارزميات‬ ‫أدوات جديدة‬ ‫اآلثار بعناصر مضيئة‬‫َمّد الذكاُء االصطناعي علَم آ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫الذكاء االصطناعي في سبر‬ ‫بين أيدي علماء اليوم والباحثين المختصين‬
‫بعلم آ‬
‫كثيًرا من معتقدات العلماء‬
‫غّيرت ً‬‫ومفردات ّ‬
‫أغوار التحف الفنية‪ ،‬وقراءة‬
‫اآلثار والتاريخ كثير من المصادر المعينة‬ ‫وآرائهم التاريخية التي استقوها باستخدام‬
‫على استخالص البيانات المهمة التي ُتُظهر‬ ‫وسائل تقليدية قديمة‪ ،‬وآن أ‬
‫األوان إإلعادة النظر‬
‫وجوه التماثيل المنحوتة‪،‬‬ ‫النشاط البشري في السابق‪ ،‬والبصمات والسمات‬ ‫تمّس‬
‫في كثير مما صاغته من نظريات وفرضيات ّ‬
‫وتحليل تعابيرها ومشاعرها‬
‫الجسدية والنفسية عبر عصور التاريخ‪ .‬وثمة‬ ‫التاريخ القديم‪.‬‬
‫قائمة طويلة من الموارد التي تطرق باب التاريخ‪،‬‬
‫الدفينة‪.‬‬ ‫وتفتح لنا عقل الماضي؛ لنستقي منها ضالتنا‬
‫اإلفادة من‬
‫المرجّوة من المعلومات التاريخية عبر إ‬
‫فقد اعتمدت دراسة هذا التاريخ حتى وقت قريب‬
‫على تخصصات مثل علم النقوش؛ وهو دراسة‬
‫ّ‬
‫إمكانات تقنية الذكاء االصطناعي‪.‬‬ ‫النصوص المنقوشة مباشرة على مواد صلبة‬
‫كالحجر والفخار والمعدن من ِِقبل أفراد وجماعات‬
‫توّجه أساليب الذكاء االصطناعي طاقتها نحو‬‫ّ‬ ‫في العالم القديم‪ .‬لقد نجت آالف النقوش حتى‬
‫دراسة النتاج الثقافي للشعوب القديمة بأشكاله‬ ‫تعَّرض للتلف على‬ ‫كثيًرا منها َ‬
‫يومنا هذا‪ ،‬لكن ً‬
‫المختلفة‪ .‬وأمامنا طائفة كبيرة من الكنوز المتمثلة‬ ‫آ‬
‫مِّر القرون وأصبحت نصوصها اآلن ُُمجزأة؛ إذ‬ ‫ِ‬
‫في مجموعات الكتب القديمة والمراجع التاريخية‬ ‫بعيًدا عن موقعها‬‫كان يتم نقلها أو االتجار بها ً‬
‫واللوحات والنصوص والحفريات وما شابه ذلك‪،‬‬ ‫األصلي‪ .‬وكان على المتخصصين في علم النقوش‬ ‫أ‬
‫وكلها مصادر غنية إن ُاُستفيد منها على نحو‬ ‫جًدا و ُُمضنية الستعادة النص‬
‫القيام بمهام شاقة ً‬
‫جيد‪ .‬وهذا ما ُيثري علَم آ‬
‫اآلثار بمعلومات وافرة‬ ‫أ‬
‫وتحديد المكان والتاريخ األصليين للكتابة‪ ،‬وهي‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫حول طبيعة المجتمعات القديمة ونمط تفكيرها‪،‬‬ ‫واإلسناد‬
‫باإلسناد الجغرافي إ‬‫المهام المعروفة إ‬
‫والبيئات المختلفة التي عاش فيها القوم‪ ،‬وما‬ ‫الزمني؛ بهدف وضع نقش ما في التاريخ وفي‬
‫مّروا به من عوامل ومؤثرات جسدية ونفسية‪ .‬ال‬ ‫األشخاص الذين كتبوه وقرؤوه‪ .‬وما كان يزيد‬ ‫عالم أ‬
‫ّ‬
‫اإلنسان القديم حاول التعبير عن نفسه‬ ‫أّن إ‬
‫سيما ّ‬ ‫البحث صعوبة هو محدودية الوسائط التي في‬
‫وبيئته‪ ،‬فسرد لنا من خالل تلك آ‬
‫اآلثار الملموسة‬ ‫األهم في هذا المضمار‪ ،‬والتي‬ ‫متناولهم‪ .‬فالتقنية أ‬
‫جز ًًءا من تاريخ حياته‪ ،‬وما اعتراه من مشكالت‬ ‫ُاُستخدمت منذ بداية القرن العشرين‪ ،‬هي التأريخ‬
‫وأزمات وأمراض‪ ،‬عن طريق التعبير بالنحت‬ ‫الُم ِِّشع الذي هو مادة عضوية‪ ،‬لكن هذه‬
‫بالكربون ُ‬
‫والرسومات الصخرية في العصور الغابرة‪.‬‬ ‫التقنية غير قابلة لالستخدام بسبب الطبيعة غير‬
‫العضوية لمعظم آ‬
‫اآلثار المنقوشة‪.‬‬

‫نقش يوناني مرمم بواسطة تقنية الشبكات العصبية العميقة‪ ،‬يتعلق أ‬


‫باألكروبوليس في أثينا ويعود تاريخه إلى ما بين عامي ‪484‬‬
‫و‪ 485‬قبل الميالد‪ .‬مارسياس‪ ،‬المتحف الكتابي‪ ،‬المصدر‪.WikiMedia CC BY 2.5 :‬‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪49 | 2024‬‬


‫كما نجح استخدام خوارزميات الذكاء االصطناعي‬
‫دوره في ترميم آ‬
‫اآلثار‬ ‫ترجمة اللغات القديمة المبهمة‬
‫في كشف أغوار التحف الفنية‪ ،‬ودراسة وجوه‬ ‫تحتوي الكثير من أ‬
‫األلواح الطينية القديمة‪،‬‬ ‫ُكُتبت كثير من النصوص القديمة بلهجات‬
‫التماثيل عن قرب‪ ،‬وتحليل تعابيرها ومشاعرها‬ ‫تقاليَدها‬
‫َ‬ ‫التي ََسّطّرت عليها الحضارات‬ ‫التعُّرف عليها باستخدام‬
‫مبهمة ال يمكن ُ‬
‫األضواء على ما ارتداه أصحابها‬ ‫الدفينة‪ ،‬وسّلّط أ‬ ‫أ‬
‫ومخزونها المعرفي‪ ،‬على كثير من األسرار التي‬ ‫آ‬
‫اآلالت التقليدية التي ال تنهج تقنية الذكاء‬
‫من أزياء وما تزّيّنوا به من ُُح ِِلي‪ .‬وبعد ذلك‪،‬‬ ‫محتها عوامل الزمن والطبيعة‪ .‬إذ تسببت‬ ‫دَّرب على فهم اللغات‬ ‫االصطناعي‪ ،‬فهي لم ُتُ َ‬
‫األمر عن كثب وْف ََْق منظور خاص ّ‬
‫دّل على‬ ‫ُدرس أ‬ ‫العوامل الجوية والسرقات وظروف الحرب‪،‬‬ ‫التاريخية القديمة‪ .‬وقد أمكن‪ ،‬باستخدام الذكاء‬
‫ُ‬
‫جملة اهتمامات القوم وميولهم النفسية‪.‬‬ ‫األلواح آ‬
‫واآلثار‪ ،‬ليغيب‬ ‫مثاًل‪ ،‬بضياع كثير من أ‬
‫ا‬ ‫االصطناعي‪ ،‬قراءة الكثير من النقوش والكتابات‬
‫ٌ‬
‫معها سيٌل من المعلومات التي أظهرت لنا حياة‬ ‫الصخرية والنصوص التاريخية‪ ،‬وإلقاء الضوء‬
‫من جهة أخرى‪ ،‬فإن للذكاء االصطناعي وحدات‬ ‫الشعوب الغابرة‪.‬‬ ‫على ما حوته من أفكار الشعوب ومعتقداتهم‬
‫خاصة يكمن دورها الكبير في إعادة ترميم‬ ‫وعاداتهم وتراثهم المتمثل بأهازيجهم القديمة‬
‫الرسومات واللوحات الفنية‪ ،‬ومعالجتها بأسلوب‬ ‫وُيُتيح لنا الذكاء االصطناعي ترميم ما تلف من‬ ‫وُحليهم وأزيائهم على سبيل المثال‪.‬‬ ‫ُ‬
‫فائق الدقة‪ .‬وقد نجحت تلك الوحدات في‬ ‫نقوش تلك أ‬
‫األلواح وإعادة بنائها‪ ،‬وملء ما‬
‫األجزاء المقتطعة من اللوحات‪ ،‬وإعادة‬ ‫استكمال أ‬ ‫فيها من فراغات وثغرات‪ ،‬والتنبؤ بما يناسبها‬ ‫ومن أمثلة نجاح الذكاء االصطناعي في مجال‬
‫الروح إلى التحف الفنية‪ ،‬وتصييرها إلى واقع‬ ‫باإلضافة‬
‫من مفردات تتفق مع السياق العام‪ ،‬إ‬ ‫ترجمة التراث الحضاري القديم‪ ،‬ترجمة‬
‫قريب من حالتها التي ُُو ِِض ََعت عليها‪ .‬وكان هذا‬ ‫إلى إعادة تجميع أ‬
‫األحرف والرموز المبعثرة هنا‬ ‫مخطوطات اللغة أ‬
‫األكادية التي ُك ُِِتبت بما ُيُعرف‬
‫ئيًسا أسهم في الكشف عن الحالة النفسية‬ ‫ا‬
‫عاماًل ر ً‬ ‫وهناك‪ ،‬وصواًلا إلى نص مقروء ومفهوم‪.‬‬ ‫بالخط المسماري‪ ،‬وهي لغة ذات أهمية تاريخية‬
‫للشعوب القديمة التي ََع ّّبرت عنها ريشة رسامي‬ ‫قديًما شعوب بالد ما بين‬ ‫كبيرة تحدثت بها ً‬
‫هذا النتاج الفني‪.‬‬ ‫أيًضا أن ُتُنقذ أدوات الذكاء‬
‫ومن المأمول ً‬ ‫مؤخًرا‪ ،‬عن وجود مئات‬ ‫النهرين‪ .‬وقد ُكُشف‪،‬‬
‫اآلالف من المخطوطات والكتب‬ ‫االصطناعي آ‬ ‫األلواح الطينية ًالمكتوبة أ‬
‫باألكادية‪.‬‬ ‫اآلالف من أ‬‫آ‬
‫ومن مزايا الذكاء االصطناعي أ‬
‫األخرى التي ارتقت‬ ‫النادرة في المكتبات والمتاحف من التلف‪،‬‬ ‫ولكن‪ ،‬وبسبب ندرة خبراء هذه اللغة‪ ،‬فإن‬
‫التعُّرف‬ ‫آ‬
‫بعلم اآلثار‪ ،‬ما له من دور كبير في ُ‬ ‫بإعادة ترميمها العتمادها في البحوث العلمية‬ ‫كبيًرا منها ما زال في ِِعداد المبهمات‬
‫جز ًًءا ً‬
‫على جغرافية العوالم القديمة‪ ،‬وكشف المواقع‬ ‫وإتاحة االطالع على الثقافات القديمة من‬ ‫غير المفهومة حتى نجح الذكاء االصطناعي‬
‫التاريخية الدفينة‪ ،‬وتعّقّب أثرها من خالل‬ ‫جديد‪ ،‬وتعديل ما جرى عليها من أحكام سابقة‬ ‫في تحليلها اللغوي‪ ،‬وفَّكَ الكثير من ألغازها‬
‫األوصاف التي وردت عنها في المرويات القديمة‬‫أ‬ ‫جانبت الصواب‪.‬‬ ‫باستخدام الوسيلة المعروفة باسم "التعلم‬
‫أو السجالت التاريخية‪.‬‬ ‫اآللي باستخدام الشبكات العصبية العميقة"‪.‬‬ ‫آ‬

‫عالمة آثار تجري بحًثًا عن العظام البشرية القديمة‪.‬‬


‫منظر أرضي للمستطيالت والهياكل الحجرية القديمة‪ ،‬تظهر هنا في حالة انهيار جزئي في شمال غرب المملكة‪ .‬المصدر‪ :‬لورنس هابيوت ‪ /‬كاوست‪.‬‬

‫نامًجا‬
‫البيانات التاريخية‪ .‬وأنشأ فريق العمل بر ً‬ ‫وللذكاء االصطناعي كذلك حضور قوي في إعداد‬ ‫اكتشاف آثار جديدة‬
‫خاًصا للكشف عن الهياكل الحجرية‪،‬‬ ‫الخرائط التصويرية للمواقع أ‬ ‫ُيَعُّد التصوير الجوي باستخدام أ‬
‫أ‬ ‫ذكًيا ً‬
‫ً‬ ‫األثرية‪ ،‬وإعادة‬ ‫األقمار‬ ‫َُ ُ‬
‫والحصول على أدلة تشير إلى المواقع األثرية‬ ‫ترتيبها على خارطة التراث العالمية‪ ،‬وأرشفة‬ ‫االصطناعية المبرمجة بالذكاء االصطناعي أحد‬
‫المحتملة باستخدام الصور الملتقطة بواسطة‬ ‫البيانات التاريخية‪ ،‬وإعادة تنظيمها‪ ،‬وإعادة‬ ‫أهم المصادر التي ترفد ِعلم آ‬
‫اآلثار بدالالت‬
‫أ‬ ‫أ‬ ‫ِ‬
‫األقمار االصطناعية‪ .‬وُاُستخدم في هذا المشروع‬ ‫ضّمه‬
‫تصور أبعاد الموقع األثري وحدوده‪ ،‬وما ّ‬ ‫كاإلشارة‬
‫علمية تشير إلى وجود دليل أثري ما؛ إ‬
‫أيًضا منهج خوارزميات خاص يعتمد تقنية‬ ‫ً‬ ‫من الموارد الطبيعية ذات التأثير المباشر في‬ ‫إلى أماكن المستوطنات البشرية الدفينة‪ ،‬وإلى‬
‫آ‬
‫التعلم اآللي العميق‪.‬‬ ‫حالة الشعب الجسدية والنفسية‪.‬‬ ‫مخّلّفاتها الحضارية بأشكالها المختلفة‪.‬‬

‫وَس ََّرعت تقنيات الذكاء االصطناعي الجديدة‬


‫َ‬ ‫ومن أهم تطبيقات الذكاء االصطناعي في قراءة‬ ‫أيًضا أجهزة كاشفة خاصة تعمل‬‫وثَّمة اليوم ً‬
‫َ‬
‫المستخدمة في "كاوست" من سير العمل في‬ ‫التاريخ وسبر أسراره‪ ،‬إجراء ما ُيُعرف باالختبارات‬ ‫بتقنية الذكاء االصطناعي‪ ،‬وتمتاز بقدرتها الفائقة‬
‫منظومة االستكشاف التاريخي بصورة كبيرة‪،‬‬ ‫الجزيئية الحيوية‪ ،‬كاختبار الحمض النووي‬ ‫األدوات المعدنية المدفونة‬‫على التنقيب عن أ‬
‫واختزل ذلك شهور العمل الدؤوب الطويلة إلى‬ ‫الخاص بالجثة أو المومياء‪ ،‬ودراسة الجينات‬ ‫في باطن أ‬
‫األرض‪ ،‬أو تلك التي غمرتها المياه في‬
‫أيام قالئل فحسب‪.‬‬ ‫المستخرجة من بقايا الخاليا أ‬
‫واألنسجة‪ ،‬وهو‬ ‫المدن الغريقة‪.‬‬
‫من أكثر الوسائل الذكية دقة في تحديد نوع‬
‫وجاءت نتائج الدراسات مشجعة؛ إذ َق َََّدمت‬ ‫األمراض‪ ،‬سواء أكانت جسدية أم نفسية‪ ،‬وسبر‬ ‫أ‬ ‫ومن الوسائل أ‬
‫األخرى التي يدخل فيها الذكاء‬
‫األسئلة المطروحة عن‬ ‫إجابات شافية عن كثير من أ‬ ‫اآلثار التي خّلّفها ذلك في جسم صاحبها‪.‬‬ ‫آ‬ ‫االصطناعي استخدام المسح الجيوفيزيائي‬
‫حجم آ‬
‫اآلثار ومساحتها وأماكن التوزيع الجغرافي‬ ‫المعتمد على الموجات الصوتية للتنقيب عن‬
‫يدّل على نجاح تجربة استخدام‬ ‫لبقاياها‪ ،‬وهو ما ّ‬ ‫تجربة جامعة الملك عبدهللا‬ ‫آ‬
‫اآلثار‪ ،‬وفحص التربة وتحليل عناصرها ودراسة‬
‫الذكاء االصطناعي في مجال قراءة التاريخ‪.‬‬ ‫للعلوم والتقنية‬ ‫الرواسب؛ بغية التحري عن بقايا أثرية قد تقود‬
‫وثَّمة تجربة ناجحة تب ََّنتها جامعة الملك عبدهللا‬
‫َ‬ ‫الحًقًا إلى كشف الغطاء عن حضارة دفينة ما‪.‬‬
‫فإّن ما ذكر عن آفاق الذكاء االصطناعي‪،‬‬
‫ختاًما‪ّ ،‬‬
‫ً‬ ‫للعلوم والتقنية (كاوست)‪ ،‬لكشف أسرار آالف‬
‫ودوره الكبير في تغيير الطريقة التقليدية التي‬ ‫الهياكل الحجرية القديمة الغامضة في المناطق‬ ‫أيًضا تحديد أعمار‬
‫وتستـطيع التكنولوجيا الذكية ً‬
‫األبحاث التاريخية‪ ،‬ما هو إال غيض من‬‫تسلكها أ‬ ‫األثرية في المملكة‪ .‬وقد نهض بأعباء ذلك فريق‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫تلك الُّلّقيات القديمة باستخدام وسائل األشعة‬
‫أ‬
‫فيض‪ .‬وال شك ّأّن قادمات األيام ُُحبلى بكثير من‬ ‫سّخر تقنيات الذكاء االصطناعي‬ ‫بحثي متخصص ّ‬ ‫التشخيصية ذات المصداقية العالية بالمقارنة‬
‫المفاجآت التي ستعيد رسم صور تاريخ ََمن سبقنا‬ ‫لتحقيق هذا الهدف‪.‬‬ ‫كثيًرا ما كان ينقصها‬
‫مع الوسائل التقليدية التي ً‬
‫يظّل إاإلنسان مشغواًلا‬
‫ِِمن الشعوب‪ .‬ويقي ًًنا سوف ّ‬ ‫الدقة العلمية؛ وهو ما أوصل إلينا ا‬
‫سياًل من‬
‫ُ‬
‫باكتشاف عوالم سلفت كانت من قبُل في غياهب‬ ‫تضمنت هذه التجربة توظيف طرق معالجة‬ ‫المعلومات التاريخية المغلوطة‪.‬‬
‫المجهول الذي يستحيل فهم كنهه وأسراره‪.‬‬ ‫حاسوبية ذكية وعالية الدّقّة لجمع قدر كبير من‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪51 | 2024‬‬


‫مجلة القافلة‬
‫مايو ‪ -‬يونيو ‪2024‬‬ ‫علوم وتكنولوجيا‬

‫ما بين اإلقالل من الحراثة وتثبيت النيتروجين‬


‫كيف تحفظ الزراعة‬
‫العضوية سالمة ال ُُتربة؟‬
‫أألن الممارسات الزراعية الحديثة بعد الثورة الصناعية قد أثرت سل ًًبا �ييف البيئة‪ ،‬وتسببت �ييف تآكل‬
‫العرشين‬ ‫األول من القرن ر‬ ‫الرتر بة ومشكالت بيئية عديدة‪ ،‬ظهرت الزراعة العضوية يف النصف أ‬
‫أ‬ ‫�ي‬
‫بدياًلا للزراعة الرائجة‪ ،‬بهدف إيجاد بدائل مستدامة الستخدام المبيدات الكيميائية واألسمدة‬
‫بمعىن آخر‪ ،‬الزراعة العضوية هي نموذج متطور للنشاط الزراعي‬ ‫الصناعية والحرث العميق‪ .‬ى‬
‫�‬ ‫أ‬
‫اليت تسعى إليها الزراعة العضوية‪،‬‬ ‫عىل التوازن البييئ�ي ‪ .‬ومن أهم األهداف ي‬
‫رتر‬
‫ُيُسهم �ييف الحفاظ‬
‫الحفاظ عىل سالمة ال بة وحيويتها‪.‬‬

‫نظمي محمد الخميس‬


‫أهمية الحفاظ على التربة‬ ‫إلى إعادة تدوير مواد النفايات بشكل فعال‬ ‫تجمع الزراعة العضوية بين التقاليد واالبتكار‬
‫تحتوي التربة السليمة على تركيزات جيدة من‬ ‫األراضي الزراعية‪ ،‬من خالل كتاب "مزارعو‬ ‫إلى أ‬ ‫لتعزيز نموذجها حتى يصبح أكثر استدامة من‬
‫المغذيات والمواد العضوية‪ ،‬فتوفر للنباتات‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫األربعين قرًنًا" لعا ِِلم الزراعة األمريكي فرانكلين‬ ‫الناحيتين االجتماعية واالقتصادية‪ ،‬إلى جانب‬
‫القدرة على الوصول إلى هذه المغذيات‪ .‬وتصل‬ ‫حيرام كينغ (‪1848‬م ‪1911 -‬م)‪ .‬لكن هوارد هو‬ ‫البعد البيئي‪ .‬والزراعة العضوية هي في الواقع‬
‫النباتات‪ ،‬في الحالة الطبيعية‪ ،‬إلى التغذية على‬ ‫طَّور نظام التسميد العضوي الذي أصبح‬ ‫من َ‬ ‫نموذج إنتاج ُيُعنى بسالمة التربة‪ ،‬كما ُيُعنى‬
‫أساس الحاجة بداًلا من الحقن القسرية‪ .‬فالبكتيريا‬ ‫معتمًدا على نطاق واسع‪ .‬ويرّكّز هذا النظام‬ ‫ً‬ ‫بتفعيل العمليات البيئية وتعزيز التنوع الحيوي‬
‫الموجودة في المواد العضوية الطبيعية قادرة‬ ‫"الُّدبال"‪ ،‬وهو المكون‬
‫لخصوبة التربة على بناء ُ‬ ‫واستدامة دورات المغذيات والماء بالتكيف مع‬
‫على االحتفاظ بالنيتروجين فترة أطول من الزمن؛‬ ‫العضوي الذي يتكون من تحلل أ‬
‫األوراق والمواد‬ ‫الظروف المحلية‪ ،‬وتدوير المواد المستقاة من‬
‫أألنها تختزنه في خالياها‪ .‬والمواد العضوية هي‬ ‫األخرى بواسطة الكائنات الحية الدقيقة في‬ ‫النباتية أ‬ ‫العمليات الحيوية بداًلا من استخدام المدخالت‬
‫جزء من شبكة غذاء التربة للمحافظة على التنوع‬ ‫التربة‪ .‬وتجاوز هوارد ذلك إلى التركيز على كيفية‬ ‫الصناعية ذات آ‬
‫اآلثار الضارة‪.‬‬
‫الحيوي‪ ،‬وتساعد كذلك على تحسين هيكل التربة‬ ‫ارتباط حياة التربة بصحة المحاصيل والماشية‬
‫وتوفير حماية أفضل من التآكل‪.‬‬ ‫والبشر بوصفها وحدة متكاملة‪.‬‬ ‫مارس إاإلنسان الزراعة التقليدية منذ بداية العصر‬
‫الزراعي‪ ،‬قبل ‪ 10,000‬سنة مضت‪ ،‬حتى الثورة‬
‫ناقش هوارد أهمية صحة المحاصيل والحيوان‪،‬‬ ‫عّد‬
‫الصناعية في أواخر القرن الثامن عشر‪ ،‬وهي ُتُ ّ‬
‫ورأى أن الطريقة الصحيحة للتعامل مع المرض‬ ‫زراعة عضوية من حيث المبدأ‪ .‬وال تزال هناك‬
‫ال تتمثل في تدميره‪ ،‬ولكن في معرفة ما يمكن‬ ‫أشكال من هذا النوع من الزراعة حتى اليوم‪،‬‬
‫تعلمه منه أو "االستفادة منه في ضبط الممارسات‬ ‫مثل ما ُيُعرف بـ"بستنة الغابات"‪ ،‬وهو نظام‬
‫مَي هذا النظام بـ"العضوي" من ِِقبل‬
‫وُس َ‬
‫الزراعية"‪ُ .‬‬ ‫زراعة ِِحراجي ال يحتاج إلى صيانة وعناية دورية‪.‬‬
‫عالم الزراعة إاإلنجليزي والتر نورثبورن (‪1896‬م‬ ‫وُيُزرع في هذا النظام أشجار الفواكه والكرمة‬
‫لإلشارة إلى نظام "يحتوي على عالقة‬ ‫‪1982 -‬م)‪ ،‬إ‬ ‫والخضراوات المعمرة وأشجار المكسرات كالجوز‬
‫متبادلة معقدة‪ ،‬ولكنها ضرورية بين أ‬
‫األجزاء‪،‬‬ ‫واللوز وغيرها‪.‬‬
‫ومماثلة لتلك الموجودة في الكائنات الحية"‪.‬‬
‫َأَّما مفهوم الزراعة العضوية الحديثة‪ ،‬فقد تطور‬
‫كبيًرا‬
‫واهتماًما ً‬
‫ً‬ ‫اكتسبت الزراعة العضوية اعتراًفًا‬ ‫في أوائل القرن العشرين على يد السير ألبرت‬
‫في عام ‪1980‬م‪ ،‬الذي شهد إصدار تقرير‬ ‫هوارد (‪1873‬م ‪1947 -‬م) البريطاني‪ ،‬الذي كان‬
‫األمريكية وتوصياتها بشأن الزراعة‬ ‫وزارة الزراعة أ‬ ‫يتولى إدارة مراكز البحوث الزراعية في الهند‪ ،‬حيث‬
‫العضوية‪ .‬وأدى إقرار القانون الفيدرالي إإلنتاج‬ ‫تطورت مالحظاته على مدار سنوات خبرته في‬
‫األغذية العضوية في عام ‪1990‬م‪ ،‬إلى بدء‬ ‫أ‬ ‫تدريجًيا إلى فلسفة ومفهوم‬ ‫مجال هذه البحوث‬
‫ً‬
‫عصر التكيف مع الزراعة العضوية في الواليات‬ ‫للزراعة العضوية تبناها في كثير من الكتب‪ ،‬كما‬
‫األمريكية‪ ،‬أعقبه إنجاز مهم آخر‬ ‫المتحدة أ‬ ‫جاء في مقالة ُنُشرت في مجلة أنظمة الزراعة‬
‫أ‬
‫تم ّّثل في إصدار وزارة الزراعة األمريكية معايير‬ ‫المتجددة والغذاء (‪Renewable Agriculture‬‬
‫التصنيف الرسمي للمنتجات العضوية المعتمدة‬ ‫‪ )and Food Systems‬في سبتمبر ‪2006‬م‪ .‬وقد‬
‫في عام ‪2002‬م‪.‬‬ ‫تعزز تفكير هوارد‪ ،‬حول خصوبة التربة والحاجة‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪53 | 2024‬‬


‫الحيوية المتبقية من حصاد المحصول‬ ‫ويهدف المزارع الذي يعاقب المحاصيل إلى‬ ‫اإلقالل من الحرث على سالمة التربة‪،‬‬ ‫ويحافظ إ‬
‫الثانوي‪ ،‬هي سماد أخضر نقي ُيُضاف إلى‬ ‫تحسين سمات التربة‪ ،‬مثل زيادة امتصاص‬ ‫ويساعد بشكل غير مباشر على الحد من‬
‫خصوبة التربة‪ ،‬وهو ما يقلل الحاجة إلى‬ ‫المياه فيها والمحافظة على رطوبتها بشكل‬ ‫إطالق ثاني أكسيد الكربون منها‪ .‬ولذا‪ ،‬يعمل‬
‫أ‬
‫األسمدة االصطناعية‪.‬‬ ‫دائم‪ ،‬ومن َث َََّم إنعاش الكائنات الحية المفيدة‬ ‫المزارعون الذين يمارسون الزراعة العضوية‬
‫فيها؛ وهذا يحسن من تحمل المحصول‬ ‫اإلقالل من الحراثة إلى حد بعيد أو حتى‬ ‫على إ‬
‫وأيًضا‪ ،‬يخفف التعاقب من انضغاط التربة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫المستهدف للجفاف في ظروف النمو الصعبة‪.‬‬ ‫اًلا‬
‫إيقافها‪ .‬وبد من ذلك‪ ،‬يزرعون البذور مباشرة‬
‫الُمثلى التي‬
‫وبذلك يفسح المجال للظروف ُ‬ ‫في بقايا المحصول السابق‪ .‬وهذا ما يجعل‬
‫تنبت فيها البذور بسهولة‪ .‬فتنتشر الجذور‬ ‫تتفاعل أ‬
‫األنواع النباتية المختلفة مع العناصر‬ ‫التربة تحتوي على مزيد من المواد العضوية‬
‫وتتغلغل المياه بعمق أكبر‪ ،‬وينتشر الهواء بين‬ ‫الغذائية في التربة بطرق مختلفة؛ إذ تطلق‬ ‫المغذية‪ ،‬وتكون أقل عرضة للتطاير بفعل‬
‫مسامات التربة بحرية‪ .‬قد تتغلغل الجذور‬ ‫وتمتص عناصر غذائية محددة بنسب فريدة‪.‬‬ ‫الرياح أو تعريتها بالماء‪.‬‬
‫بعمق في التربة‪ ،‬وتخترقها في استعراض‬ ‫ولذلك‪ ،‬تساعد إستراتيجية التعاقب على تحسين‬
‫أفقي‪ ،‬فتحسن مسامية التربة بشكل عام‪.‬‬ ‫خصوبة التربة‪َ ،‬إَّما عن طريق استعادة المغذيات‬ ‫المحاصيل المتعاقبة‬
‫وُيُمكن تدوير النباتات ذات المخلفات العالية‪،‬‬ ‫المستنزفة‪ ،‬أو استخدام المغذيات الزائدة‪.‬‬ ‫تكنولوجًيا‬
‫ً‬ ‫ليست المحاصيل المتعاقبة‬
‫مثل القمح والذرة والقش والحبوب الصغيرة‪،‬‬ ‫بالجديدة‪ ،‬إذ كان المزارعون القدماء في بالد‬
‫لتقليل تآكل التربة‪ .‬أألن المخلفات التي تتركها‬ ‫وال يؤثر تعاقب المحاصيل في دورة المغذيات‬ ‫يدّورون المحاصيل منذ عام ‪6000‬‬ ‫بين النهرين ّ‬
‫حاجًزا ضد تآكل التربة السطحية‪.‬‬
‫ً‬ ‫تعمل‬ ‫أيًضا في إعادة‬
‫في التربة فقط‪ ،‬بل يؤثر ً‬ ‫قبل الميالد‪ .‬ومن خالل تنويع المحاصيل‬
‫أيًضا فقدان المغذيات‬
‫واإلنبات الدائم يمنع ً‬ ‫إ‬ ‫تدوير بقايا النباتات‪ ،‬وتكوين المسام الحيوية‬ ‫المزروعة في الحقل نفسه من موسم آآلخر‪،‬‬
‫في التربة‪ .‬ولهذا السبب‪ ،‬فإن تعاقب‬ ‫وتوزيعها‪ ،‬وإنعاش البكتيريا والفطريات‬ ‫يتمكن المزارعون من تحسين سالمة التربة‪ .‬وقد‬
‫المحاصيل قادر على المساعدة في الحفاظ‬ ‫المفيدة‪ .‬فبقايا الكائنات الحية الدقيقة‬ ‫يتراوح عدد أنواع النباتات المتعاقبة بين اثنين‬
‫على سالمة التربة‪.‬‬ ‫المفيدة‪ ،‬التي تتركها مختلف النباتات‪ ،‬تساعد‬ ‫وثالثة في الدورات البسيطة‪ ،‬وبين اثني عشر‬
‫في تعزيز مستويات المغذيات‪ .‬والكتلة‬ ‫وأكثر في الدورات المعقدة‪.‬‬
‫تثبيت النيتروجين‬
‫تأثر هوارد بما ورد في كتاب‬ ‫من نتائج الزراعة التعاقبية‪ ،‬القدرة على تعزيز‬

‫"مزارعو األربعين قر ًًنا"‪ ،‬حول‬


‫تثبيت النيتروجين الجوي في التربة بين محصول‬
‫مستهدف كالقمح‪ ،‬ومحصول ثانوي كالبرسيم‪.‬‬
‫طَّور‬
‫خصوبة التربة‪ ،‬وهو من َ‬ ‫فالنباتات ال تستطيع الحصول على النيتروجين‬

‫نظام التسميد العضوي‬


‫إال من التربة‪ ،‬على النقيض من ثاني أكسيد‬
‫واألكسجين اللذين ال يمكن الحصول‬‫الكربون أ‬

‫معتمًدا على‬
‫ً‬ ‫الذي أصبح‬
‫عليهما إال من خالل أ‬
‫األوراق‪ .‬وعلى الرغم من أن‬

‫نطاق واسع‪.‬‬
‫النيتروجين يشّكّل ‪ %78‬من الغالف الجوي‪ ،‬فإن‬
‫ُُجل الكائنات الحية ال يمكنها أن تستخدمه في‬
‫السير ألبرت هوارد‬
‫هذا الشكل لتوليف المركبات العضوية‪ .‬إذ يجب‬
‫أواًلا تثبيت النيتروجين الجوي في التربة بتحويله‬
‫إلى أ‬
‫األمونيا بواسطة بعض البكتيريا‪.‬‬
‫ُتُسهم هذه العملية في الوقت نفسه في‬ ‫إن التفاعل الذي يجري بين البكتيريا والنباتات‬
‫خصوبة التربة؛ أألن جذور النبات تترك وراءها‬ ‫األنزيمات من كال‬‫المضيفة عن طريق إفراز أ‬ ‫وهناك عالقة تكافلية بين بعض البكتيريا وبعض‬
‫بعًضا من النيتروجين المثبت‪ .‬وفي وقت‬‫ً‬ ‫جًدا‪ ،‬لدرجة أن هذه البكتيريا‬‫الجانبين معقد ً‬ ‫أنواع النبات كالبرسيم والبقوليات‪ ،‬التي تساعد‬
‫الحق‪ ،‬عندما تموت النباتات والبكتيريا وتتحلل‬ ‫لن تستعمر إال أنوا ًًعا محددة من أجناس‬ ‫في تثبيت النيتروجين الجوي المستوطن في‬
‫األوراق أو الجذور من النبات المضيف‪،‬‬ ‫أ‬ ‫النباتات‪ .‬ويبدأ إنشاء هذه العالقة المتبادلة‬ ‫مسامات التربة‪ .‬وقد تكون البكتيريا التي تثبت‬
‫يزداد نيتروجين التربة في المنطقة المحيطة‪،‬‬ ‫بحوار "أنزيمي" بين الشريكين‪ :‬النبات المضيف‬ ‫النيتروجين مستقلة في التربة أو تكافلية‪ ،‬كأن‬
‫فتعمل البكتيريا السيانية على تحويل المركبات‬ ‫والكائن المثبت للنيتروجين من خالل مركبات‬ ‫تكون مالصقة للجذور أو مستوطنة في أعماقها‪.‬‬
‫األمونيا أو أ‬
‫األمونيوم‪،‬‬ ‫النيتروجينية إلى أ‬ ‫و"اإليسوفالفونويد"‪ ،‬التي يفرزها‬
‫"الفالفونويد" إ‬ ‫وتعُّد بكتيريا تثبيت النيتروجين التكافلية أكثر‬
‫ُ‬
‫ل ُُتستخدم من ِِقبل نبات آخر‪.‬‬ ‫النبات المضيف في محيطه الجذري‪ .‬ويسمح‬ ‫أ‬
‫كفاءة من تلك المستقلة؛ ألنها تطلق المواد‬
‫بالتعّرف على جذور‬ ‫الحوار عن طريق أ‬
‫األنزيمات‬ ‫الغذائية إلى النبات المستعمر مباشرًةً‪ ،‬وتجنبه‬
‫ّ‬ ‫المنافسة مع الكائنات الحية أ‬
‫النبات وتطور العقيدات الجذرية‪.‬‬ ‫األخرى‪.‬‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪55 | 2024‬‬


‫اكتسبت الزراعة العضوية‬
‫واهتماًما كبي ًًرا في‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫اعتراًفا‬
‫عام ‪1980‬م‪ ،‬الذي شهد إصدار‬
‫تقرير وزارة الزراعة األمريكية‬
‫وتوصياتها بشأن الزراعة‬
‫العضوية‪.‬‬

‫هذه الممارسات أن تخفف من انبعاثات غاز ثاني‬ ‫عّرف زراعة الكربون بأنها نموذج أعمال صديق‬ ‫ُتُ ّ‬ ‫وبالمقارنة مع البكتيريا التكافلية المثبتة‬
‫وتحّسن سالمة التربة وخصوبتها‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أكسيد الكربون‪،‬‬ ‫للبيئة يكافئ المزارعين على اتباع ممارسات‬ ‫للنيتروجين‪ ،‬فإن بكتيريا الديازوتروف غير التكافلية‬
‫وتعزز الحفاظ على التنوع البيولوجي‪.‬‬ ‫األراضي بدخل إضافي‪ ،‬وذلك‬ ‫محسنة إلدارة أ‬ ‫لها أهمية زراعية محدودة‪ ،‬إذ ُتُقدر كفاءتها‬
‫إ‬
‫لتقليل إطالق الكربون من التربة‪ .‬قد يكون‬ ‫بحوالي ‪ %30‬مقارنة بالتكافلية‪ ،‬لكنها مع ذلك‬
‫تحديات في الحسبان‬ ‫اإلضافي من استخدام نظام‬ ‫مصدر الدخل إ‬ ‫مهًما لتثبيت النيتروجين‬‫مصدًرا ً‬
‫ً‬ ‫بإمكانها أن تم ّّثل‬
‫َأَّما التحديات التي تواجه الزراعة العضوية‪ ،‬فهي‪:‬‬ ‫مقايضة ائتمان الكربون عند حجزه في التربة‪،‬‬ ‫أ‬
‫في كثير من النظم البيئية األرضية‪ .‬وفي هذا‬
‫الحفاظ على فوائدها البيئية‪ ،‬وفي الوقت نفسه‬ ‫دافًعا لجعل الممارسات المستدامة أكثر‬
‫ليكون ً‬ ‫إاإلطار‪ُ ،‬بُذلت في السنوات القليلة الماضية جهود‬
‫زيادة الغلة لكل وحدة أرض مزروعة‪ ،‬وخفض‬ ‫جاذبية‪ ،‬وقد يدعم ذلك الزراعة العضوية على‬ ‫كبيرة لتوسيع نطاق تثبيت النيتروجين ليشمل‬
‫سعًيا إلى خفض أسعار منتجاتها‪،‬‬
‫تكاليفها ً‬ ‫حساب التقليدية‪.‬‬ ‫محاصيل أخرى غير البقوليات‪ ،‬وخاصة الحبوب‪.‬‬
‫واالستعداد كذلك لمواجهة تحديات تغير المناخ‬
‫والتكيف معه‪ ،‬وزيادة عدد سكان العالم وتوسع‬ ‫ُيُحتجز الكربون في التربة على شكل مركبات‬ ‫وقد ُأُحرز بعض التقدم في تطوير لقاحات‬
‫الطبقة المتوسطة العالمية‪.‬‬ ‫األصل من خالل التمثيل‬ ‫عضوية ُتنشأ في أ‬ ‫تحتوي على بكتيريا فعالة مثبتة للنيتروجين‪،‬‬
‫ُ‬
‫تحّول النباتات ثاني أكسيد الكربون‬
‫ّ‬ ‫إذ‬ ‫الضوئي؛‬ ‫خاصة بالنسبة إلى التربة الفقيرة به‪ .‬وأظهرت‬
‫وإذا أخذنا مستوى التطور التكنولوجي المعمول‬ ‫الجوي إلى مواد نباتية مصنوعة من مركبات‬ ‫ساللة الذرة المكسيكية أ‬
‫األصلية المرتبطة ببكتيريا‬
‫حالًيا‪ ،‬فإنها ال تزال‬
‫به في الزراعة العضوية ً‬ ‫الكربون العضوية‪ ،‬مثل‪ :‬الكربوهيدرات‬ ‫الديازوتروف غير التكافلية الموجودة في الجذور‬
‫غير جذابة للمستهلكين‪ .‬وذلك بسبب ارتفاع‬ ‫والبروتينات والزيوت أ‬
‫واأللياف‪ .‬وتدخل المركبات‬ ‫الهوائية‪ ،‬قدرة على تثبيت النيتروجين بمعدل قد‬
‫األرض‬‫تكاليفها التي ترجع إلى انخفاض إنتاجية أ‬ ‫العضوية إلى نظام التربة عندما تموت النباتات‬ ‫يصل إلى ‪.%82‬‬
‫الزراعية بشكل عام في هذا النوع من الزراعة‪،‬‬ ‫والحيوانات وتترك بقاياها في التربة أو عليها‪.‬‬
‫وكذلك تذبذب معدل إنتاجها‪ .‬كما أن المنتجات‬ ‫وعلى الفور‪ ،‬تبدأ الكائنات الحية في التربة في‬ ‫التربة السليمة خازنة للكربون‬
‫التي نحصل عليها من خالل الزراعة العضوية‪،‬‬ ‫استهالك المواد العضوية‪ ،‬واستخراج الطاقة‬ ‫تشّكّل أراضي المحاصيل الزراعية والمراعي ثلث‬
‫تكون كمياتها أقل في السنوات أ‬
‫األولى مقارنة‬ ‫والمواد الغذائية وإطالق الماء والحرارة وثاني‬ ‫األراضي الصالحة للزراعة في العالم‪ .‬وتمتلك‬‫أ‬
‫تبّين أن إنتاجية‬
‫بالزراعة التقليدية‪ .‬وفي الواقع‪ّ ،‬‬ ‫أكسيد الكربون إلى الغالف الجوي‪.‬‬ ‫القدرة على سحب كمية كبيرة من ثاني أكسيد‬
‫المحاصيل العضوية أقل بنحو ‪ %25‬في‬ ‫الكربون الموجود من الغالف الجوي لتخزينها على‬
‫المتوسط‪ ،‬مقارنة بالمحاصيل غير العضوية‪،‬‬ ‫ويمكن لممارسات زراعة الكربون‪ ،‬مثل‪ :‬تعاقب‬ ‫شكل كربون عضوي‪ ،‬وتحسين ميزانية الكربون في‬
‫مع العلم أن الحال يمكن أن يختلف بشكل‬ ‫المحاصيل وتقليل الحرث واستخدام السماد‬ ‫التربة‪ .‬وإذا ما جرى إنجازها على نطاق واسع‪ ،‬فإن‬
‫كبير اعتما ًًدا على نوع المحصول ومكان الزراعة‬ ‫العضوي والحراجة الزراعية‪ ،‬أن تعزز بشكل كبير‬ ‫مهًما في‬
‫افًدا ً‬
‫ممارسات زراعة الكربون قد تكون ر ً‬
‫والتكنولوجيات القادمة‪.‬‬ ‫استدامة أنظمة الزراعة العضوية‪ .‬ومن شأن تنفيذ‬ ‫كبح التغير المناخي‪.‬‬
‫مجلة القافلة‬
‫مايو ‪ -‬يونيو ‪2024‬‬ ‫علوم وتكنولوجيا‬

‫سحر الرمال‪ ..‬هبة إلهية وإبداع بشري‬


‫مجهر‬

‫أحمد إبراهيم البوق‬


‫رئيس تحرير مجلة الحياة الفطرية‬

‫الباليستوسين الذي امتد من ‪ 35‬إلى ‪ 17‬ألف‬ ‫منظمة اليونسكو وفي مصاف معالم طبيعية‬ ‫وتحديًدا في عام ‪1978‬م‪،‬‬
‫ً‬ ‫عاًما‪،‬‬
‫قبل ‪ً 45‬‬
‫سنة قبل الميالد‪ ،‬وعصر الهولوسين الذي‬ ‫استثنائية في العالم‪ ،‬مثل‪ :‬محمية سيرنجيتي‬ ‫ُُشوهدت آخر مجموعة من المها العربي في‬
‫امتد من ‪ 10‬إلى ‪ 5‬آالف سنة قبل الميالد‪.‬‬ ‫في تنزانيا‪ ،‬ومحمية أرخبيل غاالباغوس في‬ ‫الطرف الشمالي الغربي للربع الخالي‪ ،‬في‬
‫وكان في المنطقة حيوانات تشبه حيوانات‬ ‫اإلكوادور‪ ،‬ومتنزه أ‬ ‫سَّمى‪ :‬عروق بني معارض‪ ،‬حيث تعانق‬
‫السافانا اإلفريقية ومناطق البحيرات أ‬
‫األخدود العظيم في جراند‬ ‫إ‬
‫كانيون في الواليات المتحدة أ‬ ‫موقع ُيُ َ‬
‫واألنهار‪،‬‬ ‫إ‬ ‫األمريكية‪ ،‬والحيد‬ ‫عروق الرمال جبال العارض أو طويق‪ .‬هذا‬
‫منها بحيرة المندفن‪ .‬وقد جفت بحيرات الربع‬ ‫المرجاني العظيم في شرق أستراليا‪.‬‬ ‫العناق الجيولوجي بين النعومة والصالبة‪ ،‬بين‬
‫الخالي مع تغير دورة المناخ وتحوله إلى مناخ‬ ‫الرمال والصخور الرسوبية‪ ،‬أفرز بيئات متنوعة‬
‫صحراوي شديد الحرارة‪ ،‬واختفت معظم‬ ‫وقد تحقق في الموقع معياران من أربعة‬ ‫جعلت من هذا الموقع أ‬
‫األغنى في التنوع‬
‫الحيوانات الفطرية‪ ،‬ولكن بعضها تكيف مع‬ ‫معايير لتقييم التراث العالمي الطبيعي في‬ ‫األحيائي في الربع الخالي‪ .‬وكان ذلك من أهم‬ ‫أ‬
‫مناخ الصحراء الجاف والحار ليصبح الحًقًا‬ ‫العالم‪ ،‬وهما‪ :‬المعياران السابع والتاسع‬ ‫األسباب إإلعالن المملكة هذا الموقع محمية‬ ‫أ‬
‫أيقونات تميزها وتبث الحياة فيها‪ ،‬ومنها المها‬ ‫اللذان يؤكدان أن الموقع يحتوي على قيم‬ ‫طبيعية في عام ‪1996‬م‪ ،‬على مساحة ‪12,700‬‬
‫والظباء والنعام‪ ،‬التي جار عليها إاإلنسان‬ ‫طبيعية وجمالية استثنائية على مستوى‬ ‫كيلومتر مربع‪ ،‬وهي ال تشكل سوى ‪ %1‬إلى‬
‫بالصيد فاختفت‪ ،‬وأعادتها جهود الحماية‬ ‫عاٍل لمنطقة‬
‫العالم‪ ،‬وعلى تنوع أحيائي ٍ‬ ‫‪ %2‬من مساحة صحراء الربع الخالي المهيبة‬
‫واإلكثار وإعادة التوطين‪ ،‬حتى إن تلك الجهود‬ ‫إ‬ ‫صحراوية قاحلة‪ .‬فالموقع جزء من أكبر صحراء‬ ‫التي تزيد على مساحة فرنسا وتقدر بـ‪ 650‬ألف‬
‫لفتت أنظار العالم إلى سحر الصحراء العربية‬ ‫رملية متصلة في العالم‪ ،‬والصحراء االستوائية‬ ‫كيلومتر مربع‪.‬‬
‫وتنوعها‪ ،‬وإلى إاإلدارة القوية أألهلها ولحكومة‬ ‫الوحيدة في آسيا‪ ،‬وفيها أكبر تجمع من الكثبان‬
‫المملكة للحفاظ عليها وتنميتها كإرث طبيعي‬ ‫الرملية الطولية‪ ،‬التي يمتد بعضها إلى مئات‬ ‫األسطر أ‬
‫األولى لقصة‬ ‫حينئٍذ بدأت كتابة أ‬
‫ٍ‬
‫وجمال ّأّخاذ‪ .‬وُيُعد تسجيل محمية عروق بني‬ ‫الكيلومترات‪ .‬وملف التسجيل‪ ،‬الذي استغرق‬ ‫نجاح عالمية الستعادة لؤلؤة الرمال‪ ،‬وأيقونة‬
‫معارض في قائمة التراث العالمي الطبيعي‬ ‫إعداده من فريق باحثي وخبراء المركز الوطني‬ ‫الصحراء العربية‪ ،‬المها العربي‪ ،‬الذي ُُسجل‬
‫األول على مستوى المملكة‪،‬‬ ‫في اليونسكو‪ ،‬هو أ‬ ‫لتنمية الحياة الفطرية حوالي ثالث سنوات‪،‬‬ ‫انقراضه من البرية في تلك المشاهدة أ‬
‫األخيرة‪،‬‬
‫والسادس على مستوى الوطن العربي‪ .‬ومنذ‬ ‫احتوى على ‪ 930‬نو ًًعا من الكائنات الحية تبث‬ ‫والذي نجح المركز الوطني لتنمية الحياة‬
‫األوسط‬ ‫سبع سنوات‪ ،‬لم ُيعلن في الشرق أ‬ ‫الحياة في هذه الصحراء‪ ،‬منها ‪ 112‬نو ًًعا من‬ ‫الفطرية‪ ،‬عبر جهود وطنية امتدت إلى أكثر من‬
‫ُ‬
‫موقع تراث عالمي طبيعي في قوائم اليونسكو‬ ‫النباتات فيها خمسة أنواع متوطنة ال توجد‬ ‫ثالثة عقود‪ ،‬في استعادته وتخفيض مستوى‬
‫قبل محمية عروق بني معارض‪.‬‬ ‫في أي مكان آخر في العالم‪ ،‬وأربعة أنواع‬ ‫التهديد لهذا النوع المتوطن في شبه الجزيرة‬
‫من الحشرات جديدة على العلم‪ ،‬إضافة إلى‬ ‫العربية بأربعة مستويات على مقياس االتحاد‬
‫ومن المهم إاإلشارة إلى أن مواقع التراث‬ ‫حيوانات ُُع ّّدت رم ًًزا للصحراء‪ ،‬مثل‪ :‬المها‬ ‫العالمي للمحافظة (‪.)IUCN‬‬
‫العالمي الطبيعي ال تغطي سوى أقل من ‪%1‬‬ ‫العربي وظباء الرمال والظبي العربي وثعلب‬
‫األرض‪ ،‬وحوالي ‪ %10‬من مساحة‬ ‫من سطح أ‬ ‫الرمال والقط الرملي أ‬
‫واألرانب الصحراوية‬ ‫الجهود الستعادة أ‬
‫األنواع المنقرضة في البرية‬
‫المناطق المحمية في العالم‪ ،‬وتعترف بها أكثر‬ ‫وأنواع عديدة من السحالي كالضب والورل‬ ‫مثل المها العربي‪ ،‬أو المهددة باالنقراض‬
‫منضّمة إلى االتفاقية‪ ،‬وهو ما‬
‫ّ‬ ‫من ‪ 190‬دولة‬ ‫وسحلية سمكة الرمال‪.‬‬ ‫كظباء الريم والظبي العربي وطيور الحبارى‪،‬‬
‫يؤكد أن الصحراء ليست هبة إلهية فحسب‪،‬‬ ‫وتوفير مالذ طبيعي لكائنات الصحراء لتنمو‬
‫ولكنها إبداع بشري في حفظ هذه الهبات‬ ‫جاءت هذه السمفونية الطبيعية والجيولوجية‬ ‫عاًما من اختفاء المها‬
‫وتزدهر‪ ،‬أثمرت بعد ‪ً 45‬‬
‫وحمايتها وتنميتها وازدهارها‪ ،‬لتتحول رم ًًزا‬ ‫نتيجة عصور مطيرة مرت على هذه الرمال‪،‬‬ ‫العربي عن استحقاق عالمي تتوج بتسجيل‬
‫للسالم والتواصل بين الشعوب‪.‬‬ ‫مروًجا خضراء تعج بالحيوانات‬
‫التي كانت ً‬ ‫محمية عروق بني معارض في ‪2023‬م‪ ،‬في‬
‫أ‬
‫واألشجار‪ .‬فآخر عصرين مطيرين كانا عصر‬ ‫قائمة التراث العالمي الطبيعي ضمن قوائم‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪57 | 2024‬‬


‫مجلة القافلة‬
‫مايو ‪ -‬يونيو ‪2024‬‬ ‫علوم وتكنولوجيا‬

‫بانتظار تكنولوجيا جديدة ُُتريحنا منه‬

‫التلُّوث الضوضائي‬
‫ُ‬
‫مشكلة متفاقمة‬
‫اليت يحدثها ر‬
‫البرش رعرب‬ ‫األصوات االصطناعية‪� ،‬‬ ‫اآلن‪ .‬كانت أ‬ ‫لم يكن العالم صاخًبا كما هو آ‬
‫أ‬ ‫ي‬ ‫أ‬ ‫آ‬ ‫ً‬
‫�‬
‫اليت‬
‫وغري ذلك من األدوات‪ ،‬آ ي‬ ‫التاريخ مقصورة عىل بعض اآلالت الموسيقية والطبول واألبواق ر‬
‫كبرية من أصوات اآلالت‬ ‫كانت ُتُستخدم �ييف مناسبات محددة‪ .‬لكن عالمنا يشهد اليوم مجموعة ر‬
‫األثري من كل زاوية يف الكرة أ‬
‫األرضية‪ ،‬حىتى إنها‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫�‬ ‫أ‬
‫�ي‬ ‫اليت تنقل األصوات رعرب ر‬ ‫والمركبات‪ ،‬واألجهزة ي‬
‫البرش من كل صوب‪ .‬وإن كان كل هذا قد بدأ مع الثورة‬ ‫طغت عىل الطبيعة نفسها وحارصت ر‬
‫نعّول اليوم عىل هذه التكنولوجيا نفسها لحماية ر‬
‫البرش‬ ‫الصناعية وتطور التكنولوجيا‪ ،‬فإننا ّ‬
‫والطبيعة من أرضر ار التلوث الضوضايئ�ي ‪.‬‬

‫فيان الخفاجي وفريق القافلة‬


‫ا‬
‫ديسيباًل‬ ‫الضوضاء‪ ،‬التي يصل معدلها إلى ‪70‬‬ ‫والحدث المهم في تاريخ االتصاالت الالسلكية‪،‬‬ ‫عاٍل‬
‫بد ًًءا من الطائرات التي تحّلّق بصوت ٍ‬
‫في الشوارع‪ .‬وهذا المعدل يزداد في العمارات‬ ‫جاء مع أول جهاز راديو عام ‪1901‬م‪ ،‬وإرسال أول‬ ‫في السماء وحتى الطنين المتواصل للهواتف‬
‫السكنية الواقعة بالقرب من محطات المترو‬ ‫إشارات السلكية عبر المحيط أ‬
‫األطلسي‪ .‬تبع ذلك‬ ‫المحمولة أينما ُُو ِِجد المرء‪ ،‬بات البشر اليوم‬
‫والمطارات والمناطق الصناعية‪ ،‬وهي من نوعية‬ ‫ظهور التلفزيون في ثالثينيات القرن العشرين‪.‬‬ ‫محاصرين من كل جهة بكل أنواع الضوضاء‪،‬‬
‫السكن منخفض الكلفة‪ ،‬التي يقطنها أغلب سكان‬ ‫التي تفرض سيطرتها على أنماط حياتهم‬
‫المدن‪ .‬لذلك‪ُ ،‬يُمكن القول إن التلوث الضوضائي‬ ‫ما التلوث الضوضائي؟‬ ‫المختلفة؛ لتترك آثارها الصحية والنفسية‬
‫أيًضا‪ .‬فالمناطق المتوسطة‬ ‫هو مزيج من أ‬
‫هو مشكلة طبقية ً‬ ‫األصوات المزعجة التي لها تأثيرات‬ ‫السلبية عليهم من دون أن يشعروا بذلك‪.‬‬
‫تضرًرا بالتلوث الضوضائي من‬‫ً‬ ‫والفقيرة هي أكثر‬ ‫سلبية على نشاط البشر خارج منازلهم وداخلها‪ .‬إذ‬ ‫وأصبح "التلوث الضوضائي" مشكلة متفاقمة‬
‫المناطق الغنية‪ ،‬كما سنرى الحًقًا في إاإلحصاءات‬ ‫تتم ََّثل الضوضاء الخارجية في آالت البناء والحفر‬ ‫األمريكية‬‫خارجة عن السيطرة لدرجة أن الوكالة أ‬
‫حول الضوضاء في مدينة نيويورك‪.‬‬ ‫ومعداتهما‪ ،‬وأصوات محركات الطائرات‪ ،‬وحركة‬ ‫تهديًدا‬ ‫عَّدتاها‬ ‫أ‬
‫ً‬ ‫للبيئة ووكالة البيئة األوروبية َ‬
‫ودوّي الماكينات والمعدات‬
‫ّ‬ ‫القطارات والسيارات‪،‬‬ ‫وخطيًرا لصحة البشر ورفاهيتهم وصحة‬ ‫مباشًرا أ ً‬
‫ً‬
‫المستوى المقبول من الضوضاء‬ ‫داخل المصانع‪ .‬وتتم ََّثل الضوضاء الداخلية‬ ‫الكائنات األخرى‪.‬‬
‫تُقُاس الضوضاء بوحدة الديسيبل‪ ،‬التي تعكس‬ ‫األجهزة داخل البيوت‪ ،‬وهي‬ ‫في صوت جميع أ‬
‫شدة الصوت‪ .‬ومن المعروف أن الصوت الذي‬ ‫أكثر ضرًرا من الضوضاء الخارجية؛ أألن أ‬
‫األماكن‬ ‫نقل الصوت ودوره‬
‫ً‬
‫عُّد صوًتًا خاف ًًتا‪ ،‬وبين ‪50‬‬ ‫ا‬
‫ديسيباًل ُيُ ُ‬ ‫يقع بين ‪ 0‬و‪40‬‬ ‫تتفّرق فيها الموجات الصوتية بشكل‬‫أ ّ‬ ‫المفتوحة‬ ‫بدأ ذلك مع أول سفينة تعمل بمحرك بخاري‬
‫ديسيباًل هو مستوى المحادثة العادية‪ ،‬وبين‬ ‫ا‬ ‫و‪60‬‬ ‫األماكن المغلقة‪.‬‬ ‫أسرع من‬ ‫شَّقَت ُُعباب البحار عام ‪1803‬م‪ ،‬على يد‬
‫تفًعا وقد ُيُحدث‬ ‫ا‬ ‫البريطاني لورد دانداس‪ ،‬ومع استبدال أ‬
‫عُّد صوًتًا مر ً‬
‫ديسيباًل ُيُ ُ‬ ‫‪ 70‬و‪80‬‬ ‫األحصنة‬
‫أضر ًاًرا صحية بالمستمع‪ ،‬أما بين ‪ 90‬إلى ‪110‬‬ ‫التقُّدم‬
‫وتترافق هذه الظاهرة‪ ،‬عادة‪ ،‬مع ُ‬ ‫تجُّر مقطورات السكك الحديدية‬‫التي كانت ُ‬
‫جًدا‪ .‬وما فوق ذلك‪ ،‬هو‬ ‫أ‬
‫مزعًجا ً‬
‫عُّد ً‬ ‫ديسيبالت ُيُ ُ‬ ‫العمراني والصناعي في المدن‪ .‬فقد أصبح التلوث‬ ‫األولى بالمحرك البخاري في المملكة المتحدة‬
‫أقصى درجات إاإلزعاج‪ ،‬التي قد ُتُفضي إلى إلحاق‬ ‫الضوضائي سمة من سمات المدينة‪ .‬والمدهش‬ ‫عام ‪1804‬م‪ ،‬على يد المهندس البريطاني‬
‫باإلنسان‪ ،‬وحتى إلى الموت‪.‬‬ ‫األمر آ‬
‫في أ‬
‫أضرار جسيمة إ‬ ‫اآلن‪ ،‬أن السكان يتعايشون مع هذه‬ ‫أيًضا ريتشارد تريفيثيك‪ .‬وتفاقمت الحًقًا مع‬
‫ً‬
‫اإلنتاج عام‬
‫ظهور أول سيارة في سلسلة إ‬
‫طَّور كارل بنز سيارة تعمل‬
‫‪1886‬م‪ ،‬عندما َ‬
‫بالبنزين‪ ،‬وصنع عدة نسخ متطابقة منها‪،‬‬
‫وكذلك مع أول طائرة نفاثة "هينكل ‪"178‬‬
‫األلمانية في عام ‪1939‬م‪.‬‬ ‫أ‬

‫وقبل اختراع الهواتف الكهرومغناطيسية‬


‫المعروفة اليوم‪ ،‬كانت هناك أجهزة صوتية‬
‫ميكانيكية لنقل الكالم والموسيقى لمسافة‬
‫أكبر من مسافة الكالم المباشر العادي‪ .‬إن‬
‫العلبة المعدنية الصوتية التي اس ُُتخدمت فيما‬
‫كان ُيُعرف بـ"هاتف العشاق"‪ ،‬معروفة منذ‬
‫اآلن كإحدى‬ ‫قرون؛ وال يزال يتذكرها كبار السن آ‬
‫أ‬
‫األلعاب القديمة‪َ .‬أَّما الهواتف الكهرومغناطيسية‬
‫الحديثة‪ ،‬فهي تعمل بتحويل االهتزازات‬
‫الصوتية إلى إشارات كهربائية تسمح بنقلها‬
‫مباشرة عبر مسافات بعيدة‪ ،‬وبسرعة تقارب‬
‫سرعة الضوء؛ أي حوالي ‪ 300,000‬كيلومتر في‬
‫اإلنترنت ونقلها عبر‬
‫الثانية‪ .‬ومع انتشار شبكة إ‬
‫الهواتف‪ ،‬خاصة النقالة منها‪ ،‬أصبح سكان الكرة‬
‫األرضية موصولين بعضهم ببعض أينما ُُوجدوا‪.‬‬ ‫أ‬
‫أ‬
‫وأصبحت أصواتهم تمأل معظم الفضاءات‬
‫الحضرية وغيرها‪.‬‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪59 | 2024‬‬


‫ْبْي ََد أن التلوث الضوضائي ال يصيب البشر فقط‪.‬‬ ‫المتحدة أ‬
‫األمريكية‪ ،‬ال يزال يم ّّثل تحدًيًا‪( ...‬لكن)‬ ‫آثاره على صحة البشر والحيوانات‬
‫األخرى‬ ‫فالحيوانات كما البشر‪ ،‬لم تسلم هي أ‬ ‫التعّرض للضوضاء‬ ‫تشير التقديرات إلى أن ّ‬ ‫وفًقًا للجنة الدولية المعنية بالتأثيرات البيولوجية‬
‫من التأثيرات السلبية لزحف التلوث الضوضائي‬ ‫المزمنة ُيُسهم في ‪ 48,000‬حالة جديدة من‬ ‫للضوضاء‪ ،‬فإنه "يجري التقليل من شأنها‬
‫واألماكن الهادئة في العالم‪ ،‬وانعكس‬ ‫للمحيطات أ‬ ‫أمراض القلب في أوروبا كل عام‪ ،‬وُيُعّطّل نوم‬ ‫األحيان"‪ .‬وتقول مجلة "هارفارد‬ ‫في كثير من أ‬
‫تغّير عاداتها السلوكية‪ ،‬وأَّثَر‬
‫واضًحا على ّ‬
‫ً‬ ‫أثره‬ ‫‪ 6.5‬ماليين شخص"‪.‬‬ ‫مديسين"‪ ،‬ربيع ‪2022‬م‪ ،‬الصادرة عن كلية الطب‬
‫حّية في الطبيعة‪ .‬وكمثال‬ ‫في جامعة هارفارد‪" :‬إن الباحثين أ‬
‫في قدرتها على البقاء ّ‬ ‫واألطباء بدؤوا‬
‫تغيير هذا أ‬
‫على ذلك‪ ،‬فإن الضوضاء العالية جعلت الطائر‬ ‫وأظهر مسح أجرته مدينة نيويورك حول تأثير‬ ‫األمر‪ ،‬وأظهروا أن التلوث الضوضائي‬
‫األزرق يبيض عد ًًدا أقل‪ ،‬وأصبح اليوم‬ ‫الطنان أ‬ ‫الضوضاء على السكان بين عامي ‪2016‬م ‪-‬‬ ‫ال يؤدي فقط إلى فقدان السمع وطنين أ‬
‫األذن‬
‫مهد ًًدا باالنقراض‪ .‬وأصبحت حلقات يرقات حشرة‬ ‫‪2017‬م‪ ،‬أن ‪ %82‬من سكان المدينة البالغين‬ ‫وفرط الحساسية للصوت‪ ،‬بل يمكن أن يسبب أو‬
‫الكاتربيالر تنبض بشكل أسرع‪ .‬وتغ ََّيرت بعض‬ ‫أبلغوا عن اضطراب في النوم من أي نوع‬ ‫يؤدي إلى تفاقم أمراض القلب أ‬
‫واألوعية الدموية‪،‬‬
‫سلوكيات الحيوانات المتعلقة بالتزاوج والهجرة‬ ‫األسبوع‪ .‬وضمن‬ ‫األقل في أ‬
‫مرة واحدة على أ‬ ‫وداء السكري من النوع الثاني‪ ،‬واضطرابات‬
‫والبحث عن الطعام وتفادي هجوم الحيوانات‬ ‫قَّدر بنحو‬
‫هذه المجموعة‪ ،‬أفاد ‪ ،%64‬أو ما ُيُ َ‬ ‫النوم‪ ،‬وضغط الدم‪ ،‬ومشكالت الصحة العقلية‬
‫أ‬
‫األخرى‪.‬‬ ‫‪ 3,189,000‬بالغ‪ ،‬بأن الضوضاء هي سبب‬ ‫واإلدراك مثل ضعف الذاكرة ونقص االنتباه؛‬ ‫إ‬
‫لقلة نومهم‪ .‬وذكر المسح أن ‪ %39‬من سكان‬ ‫وتأخر التعُّلُم في مرحلة الطفولة‪ ،‬وانخفاض‬
‫َأَّما الحيوانات البحرية‪ ،‬فلم تكن في منأى عن‬ ‫قَّدر بـ‪ 2,494,000‬بالغ‪ ،‬يعانون‬‫نيويورك‪ ،‬أو ما ُيُ َ‬ ‫الوزن عند الوالدة‪ .‬ويحقق العلماء في روابط‬
‫تأثيرات الضوضاء؛ إذ أظهرت الدراسات أن حركة‬ ‫اضطرابات النوم المتكررة المرتبطة بالضوضاء‬ ‫الَخ ََرف"‪.‬‬
‫محتملة أخرى‪ ،‬بما في ذلك َ‬
‫السفن وما تستخدمه من أجهزة السونار الخاصة‬ ‫األسبوع‪ .‬كما كشف المسح‬ ‫ثالث لياٍل أو أكثر في أ‬
‫ٍ‬ ‫ويقول أ‬
‫بتحديد المواقع (التي ُتُرسل نبضات صوتية‬ ‫أن ‪ %37‬من سكان نيويورك السود‪ ،‬و‪ %48‬من‬ ‫األستاذ المشارك في قسم الطب السكاني‬
‫إلى أعماق المحيطات لتحديد مكان جسم ما‪،‬‬ ‫لإلبالغ عن اضطراب‬ ‫الالتينيين‪ ،‬أكثر عرضة إ‬ ‫بمعهد هارفارد بيلجريم للرعاية الصحية‪ ،‬بيتر‬
‫وإعادة الصدى إلى السفينة لتحدد مكان الجسم)‬ ‫نومهم بشكل متكرر بسبب الضوضاء‪ ،‬مقابل‬ ‫جيمس‪" :‬إن قياس إسهام التلوث الضوضائي‬
‫التي تستخدمها‪ ،‬ومعدات الحفر وأجهزة المسح‬ ‫‪ %28‬من البيض‪.‬‬ ‫في المشكالت الصحية والوفيات في الواليات‬
‫وظهرت بعد ذلك بحوث أخرى واعدة نشرتها‬ ‫ويحاول العلماء والمبتكرون اليوم توظيف‬ ‫الزلزالي (التي ترسل باقات صوتية ضخمة داخل‬
‫مجلة "سانسورز" (المجلد ‪ 23‬العدد ‪،9‬‬ ‫إمكاناتهم ومعارفهم الفيزيائية في صناعة‬ ‫كثيًرا في قدرة الحيتان والدالفين‬
‫البحر)‪ ،‬أَّثَرت ً‬
‫األخرى في تصنيع مواد‬ ‫‪2023‬م)‪ ،‬نجحت هي أ‬ ‫للحِّد من التلوث‬
‫أدوات مبتكرة وغير تقليدية؛ ِ‬ ‫على التواصل‪ ،‬كما أَّثَرت في سلوكياتهم المتعلقة‬
‫بالطريقة نفسها لخفض الصوت المزعج‪،‬‬ ‫الضوضائي في المدن‪ .‬فقد وّظّف فريق من‬ ‫بالهجرات الموسمية والبحث عن الطعام‬
‫مضاًفًا إليها استغالل الطاقة الناتجة عن‬ ‫األمريكية‪ ،‬خبراتهم في علم‬ ‫جامعة بوسطن أ‬ ‫علًما أن مستوى صوت السونار قد‬ ‫والتزاوج‪ً .‬‬
‫الضوضاء من المصادر الخارجية بخزنها في‬ ‫مجّسم‬
‫الرياضيات وفيزياء الضوضاء؛ لتصنيع ّ‬ ‫ا‬
‫يرتفع حتى ‪ 235‬ديسيباًل‪ ،‬ويصل إلى مئات‬
‫بطاريات لُيعاد استخدامها في تشغيل أ‬
‫األجهزة‬ ‫من مادة خارقة صوتية تمنع سماع الضوضاء‪،‬‬ ‫األمتار تحت سطح البحر‪.‬‬ ‫أ‬
‫ُ‬
‫اإللكترونية منخفضة الطاقة؛ أي تحويل الطاقة‬ ‫إ‬ ‫وتحافظ على تدفق الهواء في الوقت نفسه‪.‬‬
‫االهتزازية إلى طاقة كهربائية‪ .‬وتستخدم هذه‬ ‫وهذه المادة أقوى بكثير من المواد العازلة‬ ‫أصخب المدن في العالم‬
‫اآللية مواد ذات خاصية "البيزوإلكتريك"‪ ،‬أو‬ ‫آ‬ ‫مهنَدسة بدقة متناهية من‬ ‫أ‬ ‫أعلن برنامج أ‬
‫التقليدية؛ ألنها َ‬ ‫األمم المتحدة للبيئة في تقريره‬
‫كهرباء االنضغاط التي تستطيع توليد الكهرباء‬ ‫المعادن واللدائن‪ ،‬ولها ُبُنية ََحلقية مفتوحة‬ ‫الصادر عن التلوث الضوضائي لعام ‪2022‬م‪،‬‬
‫استجابًةً للضغط الميكانيكي عليها‪.‬‬ ‫النهايتين تستطيع أن تتالعب بالصوت‪ ،‬وتمنع‬ ‫ضجيًجا في أوروبا؛‬
‫ً‬ ‫أن لندن هي أكثر المدن‬
‫األذن بنسبة ‪ ،%94‬كما جاء في مجلة‬ ‫وصوله إلى أ‬ ‫أألن ساكنيها يتعرضون بشكل متواصل ومستمر‬
‫"فزيكال ريفيو" (‪2019‬م)‪.‬‬ ‫لشتى مصادر الضجيج‪ ،‬التي تتجاوز في متوسط‬
‫ا‬
‫ديسيباًل‪ .‬وهذا المعدل يفوق‬ ‫معدلها ‪86‬‬
‫آ‬
‫المستوى اآلمن الذي حددته منظمة الصحة‬
‫ا‬
‫ديسيباًل‪ .‬وفي آسيا‪،‬‬ ‫العالمية (‪ ،)WHO‬وهو ‪53‬‬
‫الحلول التقليدية لم تعد‬
‫أ‬
‫سَّجلت مدينة دكا في بنجالديش المرتبة األولى‬ ‫َ‬

‫كافية لمعالجة الضوضاء‬


‫ديسيباًل‪ .‬كما جاءت مدينة نيويورك‬ ‫ا‬ ‫بنحو ‪119‬‬
‫األمريكية في المرتبة‬‫في الواليات المتحدة أ‬

‫في المدن‪ ،‬والبحث جا ٍٍر‬ ‫ا‬


‫ديسيباًل‪ .‬وكانت‬ ‫أ‬
‫األولى في أمريكا الشمالية بـ‪95‬‬
‫العاصمة الجزائرية في المرتبة أ‬
‫عن مواد عازلة جديدة‬
‫األولى في شمال‬
‫إفريقيا بـ‪ 100‬ديسيبل‪.‬‬
‫ووسائل مبتكرة‪.‬‬ ‫المطلوب حلول غير تقليدية‬
‫من أشهر الوسائل التقليدية التي يلجأ إليها أغلب‬
‫األفراد للحد من الضوضاء‪ ،‬ارتداء السماعات‬‫أ‬
‫األذن واستخدام الضوضاء البيضاء‬ ‫الواقية على أ‬
‫(مصطلح تقني يشير إلى جميع الترددات التي‬
‫يسمعها البشر‪ ،‬أي تلك التي تقع في مجال‬
‫الطيف الترددي ما بين ‪ 20‬و‪ 20‬ألف هيرتز)‪،‬‬
‫والضوضاء الوردية‪ ،‬وهو مصطلح جديد يشير‬
‫األصوات ذات التردد المنخفض والناعم‬ ‫إلى أ‬
‫األشجار وصوت موج البحر‬ ‫والساكن (كحفيف أ‬
‫والمطر)‪ ،‬ولكنها وسائل لم تعد كافية للمحافظة‬
‫على صحة البشر‪.‬‬

‫األخرى المستخدمة‪،‬‬ ‫ومن الوسائل التقليدية أ‬


‫أ‬
‫أيًضا‪ ،‬زراعة األشجار على‬
‫التي لم تعد كافية ً‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫الطرق السريعة وداخل المدن؛ ألن األشجار‬
‫الكبيرة والمورقة تمتص الضوضاء‪ ،‬واستخدام‬
‫النوافذ ذات أ‬
‫األلواح الزجاجية الثنائية في المنازل‬
‫وأماكن العمل‪ ،‬واستبدال أرضيات الشوارع‬
‫باألحجار أو البالط المعشق أ‬
‫باألسفلت‬ ‫المبلطة أ‬
‫أ‬
‫األكثر مالسة‪ ،‬وتفضيل السير على األقدام أو‬‫أ‬
‫استخدام الدراجة على استخدام السيارات‪.‬‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪61 | 2024‬‬


‫مجلة القافلة‬
‫مايو ‪ -‬يونيو ‪2024‬‬ ‫علوم وتكنولوجيا‬

‫آالت ال ََّنسخ الذاتي‬

‫العلم خيال‬
‫�‬
‫الذايت خيالنا عقو ًًدا من‬
‫أَرَس� َت آالت ال ََّنسخ ي‬
‫أرًضا خصبة لك ّّتاب الخيال‬‫الزمن‪ ،‬وشّكّلت ً‬
‫العلمي‪ ،‬ومصد ًًرا لالنبهار والقلق �ييف الوقت‬
‫نفسه‪ .‬ومع أنها ظ ََّلت حبيسة الخيال فرتر ة‬
‫خرية �ييف مجال‬ ‫أ‬
‫طويلة‪ ،‬فإن التطورات األ ر‬
‫الروبوتات والذكاء االصطناعي جعلت‬
‫إمكانية تحققها �ييف المدى المنظور أقرب‬
‫مىض‪.‬‬ ‫من أي وقت ى‬

‫حسن الخاطر‬
‫جون فون نيومان أمام آلة النسخ الذاتي‪.‬‬

‫أخرى‪ .‬كان دايسون ينتقد مركبات ناسا الفضائية‬ ‫نظًرا لما‬ ‫آ‬ ‫تعود فكرة آالت النسخ الذاتي إلى عالم‬
‫أولًيا لمثل هذه اآلالت‪ً ،‬‬
‫البحر موط ًًنا ً‬ ‫الرياضيات الهنغاري أ‬
‫جًدا‪ ،‬التي ُتُرسل بشكل غير‬
‫الضخمة والمكلفة ً‬ ‫ُيُتيح لها من سهولة الوصول إلى المواد الكيميائية‬ ‫األمريكي جون فون نيومان‪،‬‬
‫وفّضل المركبات الفضائية الصغيرة وغير‬ ‫متكرر‪ّ ،‬‬ ‫الموجودة في مياه البحر‪ ،‬واالستفادة منها في‬ ‫نموذًجا مجر ًًدا‬
‫ً‬ ‫الذي اقترح في عام ‪1948‬م‬
‫نسًخا عن نفسها‪ .‬وتوقع‬ ‫آ‬
‫المكلفة والروبوتية‪ ،‬القادرة على استغالل المواد‬ ‫استنساخ نفسها‪.‬‬ ‫آلالت ذاتية التكاثر‪ ،‬تنتج ً‬
‫األماكن الفضائية التي تزورها‬‫بكفاءة عالية من أ‬ ‫أن أنجح وسيلة الستكشاف المجرة‪ ،‬هو تصنيع‬
‫بهدف التكاثر الذاتي‪.‬‬ ‫وفي عام ‪1970‬م‪ ،‬اقترح الفيزيائي أ‬
‫األمريكي‬ ‫آالت النسخ الذاتي‪ ،‬التي باتت ُتُعرف الحًقًا‬
‫فريمان دايسون‪ ،‬في محاضرة ألقاها‪ ،‬ثالثة أنواع‬ ‫بـ"آالت فون نيومان"‪ .‬وتشير التقديرات إلى أن‬
‫وتخّيل مركبة فضائية تزن حوالي كيلوغرام‪،‬‬
‫ّ‬ ‫من التطبيقات الخيالية واسعة النطاق المتعلقة‬ ‫"آالت فون نيومان" تحتاج إلى ‪ 300‬مليون سنة‬
‫واإللكترونات والذكاء‬ ‫بآالت النسخ الذاتي‪ .‬النوع أ‬
‫مزيًجا من البيولوجيا إ‬
‫وتمثل ً‬ ‫األول‪ ،‬هو عبارة عن‬ ‫من أجل استعمار مجرة درب التبانة بأكملها‪.‬‬
‫االصطناعي‪ ،‬وأطلق عليها اسم "أستروتشكن"‬ ‫إرسال نظام ذاتي التكرار إلى قمر إنسيالدوس‬ ‫وقد فتحت فكرته الخيالية‪ ،‬حول التكاثر الذاتي‪،‬‬
‫(‪ .)Astrochicken‬وكان الهدف منها استكشاف‬ ‫اآلالت باستنساخ‬‫التابع لكوكب زحل‪ ،‬حيث تقوم آ‬ ‫األبحاث العلمية في عدد‬ ‫باًبا استفادت منه أ‬
‫أ‬ ‫أ‬ ‫ً‬
‫األنظمة النجمية والتواصل مع الحضارات الكونية‪.‬‬ ‫نفسها‪ ،‬إضافة إلى تصنيع مركبات فضائية تعمل‬ ‫من المجاالت المتنوعة بعد ذلك‪ ،‬مثل‪ :‬األتمتة‬
‫كانت فكرته‪ ،‬في منظور ذلك الوقت‪ ،‬تشطح‬ ‫بالطاقة الشمسية‪ ،‬تكون مهمتها إرسال الجليد‬ ‫الخلوية‪ ،‬وتكنولوجيا النانو‪ ،‬والكيمياء الجزيئية‪.‬‬
‫بالخيال إلى أقصى حدوده‪ ،‬لكنها في منظور‬ ‫من إنسيالدوس إلى المريخ للمساعدة في إعادة‬
‫التقنيات الحالية ليست مستحيلة‪ ،‬بل ممكنة‪،‬‬ ‫تأهيله‪.‬‬ ‫قصص وأفكار خيالية‬
‫خاصة في ضوء ما نشهده من تقدم سريع في‬ ‫كثيًرا من ك ّّتاب الخيال‬
‫ألهمت فكرة نيومان ً‬
‫البيولوجيا التركيبية والذكاء االصطناعي والدفع‬ ‫والنوع الثاني‪ ،‬يستخدم الطاقة الشمسية في‬ ‫العلمي‪ .‬ففي عام ‪1955‬م‪ ،‬نشر الكاتب فيلب‬
‫الشمسي في الفضاء وتكنولوجيا النانو‪.‬‬ ‫فلنتخّيل لحظًةً ماذا يحصل لو‬
‫ّ‬ ‫بيئة صحراوية‪.‬‬ ‫ديك قصة قصيرة في مجلة "المجرة" للخيال‬
‫ُُص ِِّنعت روبوتات ذاتية التكاثر قادرة على استغالل‬ ‫قادًرا على إعادة إنتاج‬
‫مصنًعا ً‬
‫ً‬ ‫العلمي‪ ،‬تصف‬
‫طّور كالوس الكنر وكريستوفر‬ ‫وفي عام ‪1995‬م‪ّ ،‬‬ ‫الّسليكون‬
‫المواد الموجودة في الصحراء‪ ،‬خاصة ّ‬ ‫نفسه عن طريق إطالق كرات صغيرة معدنية‬
‫ويندت‪ ،‬من جامعة أريزونا في الواليات المتحدة‬ ‫وطاقة الشمس‪ ،‬الستنساخ نفسها وتصنيع الخاليا‬ ‫أشبه بروبوتات نانوية ذاتية التكاثر‪.‬‬
‫أ‬
‫األمريكية‪ ،‬فكرة الروبوتات ذاتية التكاثر؛ لزراعة‬ ‫الشمسية‪َ .‬أَّما النوع الثالث‪ ،‬فسيساعد الدول في‬
‫الصحاري واستخراج المواد الكيميائية الالزمة من‬ ‫زيادة قدرتها الصناعية‪.‬‬ ‫وفي عام ‪1956‬م‪ ،‬نشر إدوارد مور مقااًلا في‬
‫تربتها السطحية كمواد لهذا التكاثر‪ .‬ومع ظهور‬ ‫األمريكية" حول مفهوم "النباتات‬‫مجلة "العلوم أ‬
‫األول من‬ ‫األبعاد في العقد أ‬‫تقنيات الطباعة ثالثية أ‬ ‫بعد ذلك في عام ‪1979‬م‪ ،‬فّكّر دايسون في‬ ‫الحية االصطناعية"‪ ،‬وهي آالت تستخدم الهواء‬
‫القرن الحادي والعشرين‪ ،‬تع ّّزز احتمال أن ينسخ‬ ‫كيفية ُُصنع البشر آلة ذاتية التكاثر‪ ،‬يمكنها‬ ‫مصادَر للمواد الخام‪ ،‬وتستخلص‬
‫َ‬ ‫والماء والتربة‬
‫الذكاء االصطناعي نفسه بشكل ملحوظ‪ .‬وقد تمّكّن‬ ‫استكشاف الفضاء بكفاءة تفوق أي مركبة فضائية‬ ‫طاقتها من ضوء الشمس‪ .‬وقد اختار شاطئ‬
‫لهذه آ‬
‫اآلالت النانوية أن ُتُحدث قفزة كبيرة في‬ ‫إنشاء موائل فضائية مثل أسطوانات أونيل‪ ،‬وهي‬ ‫الباحثون من إنشاء هياكل وأجزاء معقدة بفضل‬
‫مجال الرعاية الصحية‪.‬‬ ‫مسكن فضائي تخّيله عالم الفيزياء أ‬
‫األمريكي‬ ‫الطباعة ثالثية أ‬
‫األبعاد‪ ،‬وهو ما فتح آفاًقًا جديدة‬
‫ّ‬
‫جيرالد أونيل عام ‪1976‬م في كتابه "الحدود‬ ‫لهذه الفكرة‪ .‬وأصبح ابتكار الروبوتات‪ ،‬التي يمكنها‬
‫إنجازات تطبيقية‬ ‫العليا‪ ..‬المستعمرات البشرية في الفضاء"‪ ،‬وذلك‬ ‫استنساخ نفسها باستخدام تقنية الطباعة ثالثية‬
‫في شهر ديسمبر من العام الماضي ‪2023‬م‪،‬‬ ‫األرض والشمس‪.‬‬‫في نقاط الغرانج بين أ‬ ‫األبعاد‪ ،‬أقرب إلى التحّقّق من أي وقت مضى‪.‬‬ ‫أ‬
‫طَّور فريق من الباحثين بجامعة نيويورك‪،‬‬
‫َ‬
‫بالتعاون مع معهد نينغبو تسيشي للهندسة‬ ‫إضافة إلى ذلك‪ ،‬يمكن إرسال مركبة فضائية‬ ‫التطبيقات المحتملة‬
‫الميكانيكية الحيوية أ‬
‫واألكاديمية الصينية للعلوم‪،‬‬ ‫ذاتية النسخ إلى نظام نجمي مجاور‪ ،‬مثل ألفا‬ ‫تتمتع آالت النسخ الذاتي بإمكانات واسعة للتطبيق‬
‫روبوتات نانوية مصنوعة من الحمض النووي‪،‬‬ ‫سنتوري‪ ،‬واستخراج المواد الخام الموجودة‬ ‫في مجاالت متنوعة‪ ،‬مثل‪ :‬التعدين واستكشاف‬
‫ذات قدرة هائلة على التكاثر الذاتي‪ ،‬وقد ذكر‬ ‫هناك‪ ،‬وإنشاء نسخ من نفسها إإلرسالها إلى‬ ‫الفضاء والزراعة والتصنيع والطب‪ ،‬إضافة إلى‬
‫الباحثون في ورقتهم البحثية أنها تتكاثر بشكل‬ ‫أنظمة نجمية أخرى‪ .‬وبهذه الطريقة‪ ،‬يمكن‬ ‫كبيًرا على إاإلنسان‪.‬‬
‫خطًرا ً‬
‫إنجاز مهمات تم ّّثل ً‬
‫ُأُ ّّسي‪ .‬وتتكون هذه الروبوتات النانوية من أربعة‬ ‫استكشاف المجرة بأكملها‪ ،‬وهو ما يعني إمكانية‬
‫خيوط من الحمض النووي‪ ،‬ويبلغ قطرها ‪100‬‬ ‫استخدامها في التواصل مع الحضارات الكونية‪.‬‬ ‫في الفضاء‪ ،‬سوف تقدم هذه آ‬
‫اآلالت حلواًلا‬
‫نانومتر (النانومتر هو جزء من مليار من المتر)‪.‬‬ ‫أ‬
‫ممكنة للهندسة الجيولوجية الفضائية واألقمار‬
‫تصَّف حوالي ألف من‬ ‫ولتقريب ذلك‪ ،‬يمكن أن َ‬ ‫والجدير بالذكر‪ ،‬أن فكرة الروبوتات ذاتية التكاثر‬ ‫االصطناعية للطاقة الشمسية‪ ،‬وهو ما قد ُيُسهم‬
‫اآلالت النانوية لتتساوى مع سماكة شعرة‬ ‫هذه آ‬ ‫حازت اهتمام الباحثين في مشروع "سيتي"‬ ‫في التخفيف من أزمة المناخ العالمية‪ .‬كما يمكن‬
‫األشعة فوق البنفسجية‬ ‫اإلنسان‪ .‬وسّخر الباحثون أ‬ ‫األرض‪،‬‬‫للبحث عن حياة ذكية خارج كوكب أ‬ ‫اآلالت على الكواكب البعيدة‬‫نشر هذا النوع من آ‬
‫ّ‬ ‫إ‬
‫لدفع عملية التكاثر الذاتي‪ ،‬وتحويل الروبوتات‬ ‫فّعالة الستكشاف‬ ‫أو أ‬
‫مشيرين إلى أنها ستكون وسيلة ّ‬ ‫األقمار أو الكويكبات؛ بحيث تستطيع استخراج‬
‫النانوية إلى مصانع مصغرة ذاتية التكاثر‪.‬‬ ‫ونظًرا للتقدم الكبير في مجال‬
‫الكون‪ً .‬‬ ‫الموارد المعدنية مثل الحديد والنيكل الالزمة‬
‫الروبوتات‪ ،‬فمن المحتمل‪ ،‬كما يعتقد هؤالء‬ ‫إإلنشاء نسخ من نفسها وتكوين مستعمرات‪.‬‬
‫وتمتلك هذه الروبوتات النانوية إمكانات هائلة‬ ‫الباحثون‪ ،‬أن تكون مسألة وقت فقط‪.‬‬ ‫والهدف من كل ذلك‪ ،‬هو تأسيس البنية التحتية‬
‫في المستقبل لمختلف التطبيقات‪ .‬إذ يمكن‬ ‫اإلنسان‪.‬‬ ‫لنظام بيئي مستدام صالح لسكن إ‬
‫األمراض‪ ،‬وتوصيل‬ ‫استخدامها في الكشف عن أ‬ ‫الثورة الصناعية الخامسة‬
‫أ‬ ‫يمكن لهذه آ‬
‫اآلالت ذاتية التكرار أن ُتُحدث الثورة‬ ‫عُّد ناجعة لبناء البنية‬
‫األدوية مباشرة إلى الخاليا المستهدفة‪ ،‬والتنقل‬ ‫والحال أن هذه الوسيلة ُتُ ُ‬
‫عبر مجرى دم المريض الستهداف الخاليا‬ ‫الصناعية الخامسة‪ .‬فإذا كانت الثورة الصناعية‬ ‫مثاًل‪ .‬فمن الناحية النظرية‪،‬‬‫التحتية على القمر‪ ،‬ا‬
‫السرطانية من دون الحاجة إلى عمليات جراحية‪.‬‬ ‫الرابعة قد دمجت التقنيات الرقمية والبيولوجية‬ ‫يمكن إرسال آلة ذاتية التكاثر إلى سطح القمر‪،‬‬
‫والميكانيكية‪ ،‬فإن الثورة الصناعية الخامسة‬ ‫تستمد طاقتها من ضوء الشمس‪ ،‬وتستفيد من‬
‫وهذه الروبوتات النانوية قابلة للبرمجة‪ ،‬ويمكن‬ ‫تغييًرا بنيوًيًا في جميع مجاالت الحياة‪.‬‬
‫ً‬ ‫س ُُتحدث‬ ‫المواد الخام الموجودة على سطحه؛ الستنساخ‬
‫التحكم فيها لدرء مخاطر التكاثر غير المنضبط‪.‬‬ ‫فاآللة التي عرفناها حتى اليوم‪ ،‬لها عمر افتراضي‬‫آ‬ ‫نفسها بواسطة الطباعة ثالثية أ‬
‫األبعاد‪ .‬ثم‬
‫محدد وتحتاج إلى صيانة مستمرة أو تجديد‪َ .‬أَّما‬ ‫آ‬
‫ُيُغطى سطح القمر بنسخ من هذه اآللة؛ لحصد‬
‫فمنذ البذور أ‬
‫األولى التي زرعها جون فون نيومان‪،‬‬ ‫في عصر آالت النسخ الذاتي‪ ،‬فإن ذلك سيصبح‬ ‫األرض‪ ،‬وبناء قواعد قمرية‬ ‫الطاقة وإرسالها إلى أ‬
‫في منتصف القرن العشرين حتى وقتنا الحاضر‪،‬‬ ‫شي ًًئا من الماضي‪.‬‬ ‫أألغراض أخرى‪.‬‬
‫ال يزال تطوير آالت النسخ الذاتي عملية متواصلة‬
‫مثاًل‪ ،‬يمكن آ‬
‫لآلالت الجديدة‬ ‫اإلنتاج ا‬ ‫األفكار الخيالية‬‫والشاهد على إمكانية تحقيق هذه أ‬
‫من االبتكار واالكتشاف من دون توقف‪ ،‬وستكون‬ ‫ففي عمليات إ‬
‫لها آثار هائلة في المستقبل‪.‬‬ ‫استنساخ المصانع باستمرار وتجميع المنتجات‬ ‫في المستقبل هو برنامج أرتميس‪ ،‬الذي أطلقته‬
‫المعقدة‪ ،‬ومن َث َََّم يكون التصنيع أقل تكلفة‬ ‫وكالة الفضاء أ‬
‫األمريكية (ناسا)‪ .‬وهدفه الرئيس‬
‫وأكثر كفاءة‪ .‬وفي مجال الطب‪ ،‬يمكن نشر‬ ‫هو إنشاء وجود مستدام على سطح القمر‪ .‬ورَّبَما‬
‫اإلنسان‬
‫الروبوتات ذاتية التكرار داخل جسم إ‬ ‫تشّكّل المزايا الرئيسة آآلالت النسخ الذاتي أداة‬
‫األمراض والقضاء عليها‪ ،‬أو إصالح‬ ‫الستهداف أ‬ ‫فَّعالة لتطوير الموارد القمرية بشكل مستدام‪.‬‬
‫اقرأ القافلة‪ :‬روبوتات تتكاثر‬ ‫َ‬
‫األنسجة التالفة واستنساخ أخرى جديدة‬ ‫أ‬
‫ذات ًًيا‪ ،‬من عدد مايو‪-‬يونيو‬
‫‪2023‬م‪.‬‬ ‫باستخدام خاليا الجسم الجذعية‪ ،‬أو تقديم‬ ‫وبعيًدا عن القمر والمريخ وتعدين الكواكب‪،‬‬
‫ً‬
‫عالجات دوائية دقيقة‪ .‬وبهذه الطريقة‪ ،‬يمكن‬ ‫هناك احتمال أن تتمكن آالت النسخ الذاتي من‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪63 | 2024‬‬


‫مجلة القافلة‬
‫مايو ‪ -‬يونيو ‪2024‬‬ ‫علوم وتكنولوجيا‬

‫والتنُّوع الجيني‬
‫ُ‬ ‫بين الحاجة التطورية‬
‫المذاق ُُجزء أساس من ديناميكية حياتنا اليومية‪ ،‬وهو المايسرتر و �ييف ُكُل‬
‫اليت تؤثر عوامل‬ ‫�‬ ‫ر‬
‫ما نتناوب عىل تناوله من أصناف الطعام والرشاب‪ ،‬ي‬
‫عديدة �ييف تباين نكهاتها‪ .‬بعض هذه العوامل يتع ََّلق بالجينات أ ُ‬
‫وتنُّوعها‪،‬‬
‫األمم‬ ‫بني‬‫التطُّور‪ ،‬واختالف الثقافات �ن‬
‫ُ‬ ‫وبعضها له ِِصلة وثيقة بتاريخ‬
‫�‬ ‫أ‬
‫ُحـايك التجربة‬‫اليت ُت ي‬
‫والشعوب‪ .‬ومع ظهور األلسنة االصطنـاعية‪ ،‬ي‬
‫البرشية‪ ،‬دخلت التقنية الحديثة ل ُُتضفي نكهتها عىل مذاقنا‪،‬‬ ‫الحِّسية ر‬
‫ِ‬
‫وُتُساعد يف تطوير أطعمة ذات نكهات أفضل ر‬
‫وأكرث اتسا ًًقا‪.‬‬ ‫�ي‬
‫فاطمة البغدادي‬
‫التذُّوق في أبسط تعريف علمي‪ ،‬هو الحاسة التي‬ ‫ُ‬
‫مّيز الصفات الكيميائية للطعام أثناء وجوده في‬ ‫ُتُ ّ‬
‫ﺣﻠﻮ‬ ‫الُمستشعرات الجينية للتذوق‬ ‫الفم‪ ،‬عن طريق ُ‬
‫ﻣﺎﻟﺢ‬ ‫الُم ّّتصلة ُُمباشرة بالدماغ‪ .‬وينحصر المذاق‬‫ُ‬
‫ﺣﺎﻣﺾ‬ ‫في خمس فئات أساسية‪ ،‬هي‪ :‬المذاق الحلو‬
‫ﻣﺮ‬ ‫كالعسل‪ ،‬والمذاق الحامض كالليمون‪ ،‬والمذاق‬
‫أوﻣﺎﻣﻲ‬ ‫الُمر كالقهوة‬
‫أ‬ ‫والمذاق ُ‬
‫أ‬
‫الُمعّلّب‪،‬‬‫المالح كالسردين ُ‬
‫السادة‪ ،‬والمذاق اللذيذ أو "األومامي"‪ .‬واألخير‬
‫هو أحدث ما ُأُضيف إلى تصنيف المذاق‪ ،‬وُيُ ُ‬
‫عُّد‬
‫األكثر تأثيًرا؛ إذ يستطيع دمج الفئات أ‬
‫األربع‬ ‫أ‬
‫ً‬
‫الُمختلفة بتناغم كبير‪ ،‬ويرتبط بالبروتينات‪ ،‬التي‬ ‫ُ‬
‫ُتُشّكّل ُُجز ًًءا حيوًيًا من النظام الغذائي لكثير من‬
‫األم‪ ،‬أكثر أ‬
‫الكائنات الحّية‪ .‬وُيعُّد حليب أ‬
‫كثي ٌٌر من ُُمطِّوِ ري ُ‬
‫الُمنتجات‬
‫األغذية‬ ‫ّ ُ ُ‬
‫احتوا ًًء على هذا المذاق اللذيذ‪ .‬ويرجع الفضل‬
‫ُُيعِّوِ لون على َ‬
‫ألَسنة‬ ‫في اكتشافه إلى العا ِِلم الياباني كيكوناي إكيدا‪،‬‬

‫التكنولوجيا في مواجهة‬
‫الذي أطلق عليه اسم "أومامي" (‪ ،)umami‬وهي‬
‫كلمة يابانية تعني "جوهر الطعم"‪.‬‬
‫تحِّدِ يات الذوق‪ ،‬إلضفاء مزيد‬
‫من النكهة والطعم اللذيذ‪،‬‬
‫ومن ُُجملة فئات المذاق هذه ينبثق طيف واسع‬

‫وإرضاء المستهلكين‪.‬‬
‫الُمتعة‪،‬‬
‫من النكهات‪ ،‬أالتي ُنُدرك من خاللها معنى ُ‬
‫عند تناولنا لألطعمة والمشروبات‪ .‬وال ترتبط‬
‫النكهة بحاسة التذوق وكفى‪ ،‬بل ُتُسهم حاسة‬
‫الشم في تحديدها‪ ،‬وبنسبة تتجاوز ‪.%80‬‬

‫وبالمقارنة مع ُُمعظم الفقاريات الحديثة‪،‬‬ ‫الثدييات الرئيسية)‪ .‬واستندت الدراسة‪ ،‬التي‬ ‫التطُّوري للذائقة‬
‫ُ‬ ‫التاريخ‬
‫الُعلماء إلى أن أسالفها كانت تمتلك‬‫توّصل ُ‬
‫ّ‬ ‫ُنُشرت نتائجها في ‪ 12‬فبراير ‪2024‬م‪ ،‬في المجلة‬ ‫نتذّوق بالنكهات‬
‫السؤال الذي يطرح نفسه‪ :‬أ هل ّ‬
‫أنوا ًًعا ُُمتباينة من جينات ُُمستقبالت التذوق‬ ‫األحيائية‪ ،‬إلى فحوصات‬ ‫لألنثروبولوجيا أ‬
‫األمريكية أ‬ ‫أ‬ ‫األوائل يتذوّقّون بها؟‬ ‫نفسها‪ ،‬التي كان أسالفنا‬
‫المعروفة بــ(‪ ،)TAS1R‬التي كان الظهور أ‬
‫األ ّّول‬ ‫وتحليالت أجريت على حفريات خمسة أنواع‬
‫لها في عالم الفقاريات الفّكّية ُُمنذ نحو ‪615‬‬ ‫من الرئيسيات‪ُُ ،‬عمرها ‪ 29‬مليون سنة ُُعثر عليها‬ ‫علمّية حديثة‪،‬‬‫توّصلت نتائج أبحاث ودراسات ّ‬ ‫ّ‬
‫مليون سنة‪ ،‬ونتجت عنه تسع ُُمستقبالت أخرى‬ ‫في ُُمنخفض الفيوم بمصر‪ ،‬وُقُورنت ببيانات‬ ‫التطُّور الطبيعي‬
‫ُ‬ ‫تاريًخا ا‬
‫طوياًل من‬ ‫إلى أن هناك ً‬
‫الُمشترك للفقاريات العظمية‪.‬‬ ‫من الرئيسيات الحديثة إلدراك سلوكيات أ‬
‫في السلف ُ‬ ‫األكل‬ ‫إ‬ ‫للذائقة‪ .‬إذ بدأ أسالفنا من البشر يتذوقون‬
‫غير أنه مع مرور الوقت‪ُ ،‬فُقدت بعض‬ ‫وتطُّور الذائقة‪ .‬فقد ترّكّز االهتمام على معرفة ما‬
‫ُ‬ ‫تفُّرع شجرة العائلة‬ ‫الطعام بشكل ُُمختلف بعد ُ‬
‫هذه الجينات في ُُسالالت ُُمختلفة‪ ،‬في حين‬ ‫يتكّون منه النظام الغذائي‪ ،‬وما تتناوله الرئيسيات‬
‫ّ‬ ‫البشرية‪ ،‬وزوال إنسان "نياندرتال"‪ ،‬وهو أقرب‬
‫األخرى‬ ‫احتفظت الثدييات وبعض الكائنات أ‬ ‫لإلنسان الحديث‪ ،‬وكذلك‬ ‫أ‬
‫ولّينة‪.‬‬
‫الُمبّكّرة‪ ،‬من أطعمة صلبة ّ‬‫ُ‬ ‫الُمنقرضين إ‬
‫األقارب ُ‬
‫بثالثة منها‪ .‬وبحسب البروفيسور هيدينوري‬ ‫زوال إنسان "دينيسوفان"‪ ،‬الذي يبدو أن بصمته‬
‫نيشيهارا‪ ،‬من جامعة كينداي في اليابان‪ ،‬فإن‬ ‫فّضل كان من‬ ‫أ‬ ‫الجينية امتدت عبر آسيا‪ .‬وُيُمكننا أن نعرف أشياء‬
‫والُم ّ‬
‫وتبّين أن االستهالك األكبر ُ‬
‫ّ‬
‫التوُّصل إليه من نتائج بحثية‪،‬‬
‫ُ‬ ‫قيمة ما جرى‬ ‫الفواكه الناضجة ذات المذاق الحلو‪ .‬ومن‬ ‫التطُّور البشري والحياة على‬ ‫ُ‬ ‫كثيرة عن تاريخ هذا‬
‫التطُّوري‪،‬‬ ‫تكمن في تسليط الضوء على التاريخ‬ ‫غائـًبا ع ّّنا‪ ،‬من خالل‬ ‫أ‬
‫ُ‬ ‫الضروري إاإلشارة إلى أن ُُمنخفض الفيوم كان‬ ‫كوكبنا األرضي‪ ،‬مما يظل ً‬
‫و"استنتاج تفضيالت الذوق لدى الفقارّيّات‬ ‫تجُّمع للرئيسيات التي نجت من‬ ‫قد شهد أكبر ُ‬ ‫الُمختلفة‬
‫تطُّور المواد الطبيعية في البيئات ُ‬ ‫در أاسة ُ‬
‫تنّوعة‪ .‬وُيُمكن أن يكون لهذا تطبيقات‬
‫الُم ّ‬
‫ُ‬ ‫التغ ُُّيرات المناخية الهائلة‪ ،‬التي عصفت بكوكب‬ ‫تطُّور في‬
‫أيًضا ُ‬‫الُمتعاقبة‪ ،‬الذي صاحبه ً‬ ‫واألزمنة ُ‬
‫األليفة‪،‬‬ ‫مثل تطوير أغذية الحيوانات أ‬ ‫ُُمحتملة‪،‬‬ ‫األنهار الجليدية أ‬ ‫األرض وشّكّلت مجموعة أ‬ ‫أ‬ ‫التذُّوق عند البشر‬ ‫أ‬
‫األولى‬ ‫األداء الوظيفي ُلُمستقبالت ُ‬
‫خصوًصا لتفضيالت‬ ‫ً‬ ‫الُمصممة‬‫والمواد الجاذبة ُ‬ ‫في القارة القطبية الجنوبية‪ .‬وما حفريات الفيوم‬ ‫مًعا في البرّيّة‪.‬‬ ‫وجميع المخلوقات التي تتعايش ً‬
‫األسماك والبرمائيات والزواحف"‪.‬‬ ‫أ‬ ‫التي ُُعثر عليها‪ ،‬إاّلا سجل تاريخي للحظة فارقة‪،‬‬
‫تغّيرات البيئة‬ ‫تكّيفت فيها الرئيسيات مع ُُم ّ‬‫ّ‬ ‫وكانت دراسة حديثة‪ ،‬أجراها فريق من الباحثين‬
‫العالمية‪ ،‬التي صارت أبرد وأجف‪ .‬ومن الواضح أن‬ ‫توّصلت إلى أن‬
‫بجامعة أوتاغو في نيوزيلندا‪ ،‬قد ّ‬
‫إحدى أهم عالمات هذا التك ُُّيف‪ ،‬التز ُُّود بالفواكه‬ ‫الُمختلفة‬
‫تفضيل البشر المذاق الحلو بنكهاته ُ‬
‫ذات المذاق الحلو‪.‬‬ ‫هو أمر نشترك فيه مع أفراد رتبة الرئيسيات (أو‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪65 | 2024‬‬


‫أ‬ ‫أ‬ ‫التذُّوق بين الكائنات‬
‫الُمتعاقبة‪ ،‬فال‬
‫وتناقلتها األجناس واألجيال ُ‬ ‫المحاَّلا ة بالعسل‪ ،‬نجد على النقيض من ذلك أن‬ ‫الجينات واختالف ُ‬
‫الخلفّيات الثقافية والتأثيرات المكانية‬
‫ّ‬ ‫شك أن‬ ‫فّضل تناول الديدان‪ ،‬وطائر‬‫طائر أبو الحناء ُيُ ّ‬ ‫إن التغ ُُّيرات التي تحدث في تسلسل الحمض‬
‫أيًضا في تشكيل خصوصية‬ ‫والحضارية ُتُسهم ً‬ ‫الوقواق ُيُدمن التهام الحشرات‪ .‬وفي تفسير‬ ‫التذُّوق‪ ،‬تجعل بيولوجيا الذائقة‬ ‫النووي لجينات ُ‬
‫ذائقة الشعوب‪ .‬وهذا ما يجعل لُكُل شعب‬ ‫علمّية ُنُشرت‬ ‫أ‬
‫تنُّوع األذواق هذا‪ ،‬أشارت دراسة ّ‬ ‫ُ‬ ‫تطُّور تاريخي‬
‫الحّية في حالة ُ‬ ‫عند مختلف الكائنات ّ‬
‫طعاًما‬
‫ً‬ ‫فّضل‪ .‬فما تراه بعض الثقافات‬ ‫الُم ّ‬
‫طعامه ُ‬ ‫في "إيفوليوشن نيوز"‪ ،‬في سبتمبر ‪2014‬م‪ ،‬إلى‬ ‫قّدر البشر مجموعة‬‫وتنُّوع كبير‪ .‬فبينما ُيُ ّ‬ ‫ُُمستمر ُ‬
‫لذيًذً ا‪ ،‬تراه أخرى عكس ذلك‪.‬‬ ‫أنه عند الظهور أ‬
‫األ ّّول للطيور الطنانة‪ ،‬التي‬ ‫واسعة من األذواق‪ ،‬تسمح لهم بتمييز المذاق‬ ‫أ‬
‫نشأت من أسالف آكالت الحشرات ُُمنذ نحو ‪50‬‬ ‫واألومامي‪ ،‬وذلك‬‫الحلو والمالح والحامض والُمّر أ‬
‫ُّ‬
‫وتنقل لنا الكاتبة الصحافية فيرونك غرينود‪ ،‬في‬ ‫مليون سنة‪ ،‬حدثت طفرة جينية ُلُمستقبالت‬ ‫التطُّوري النهم‪ ،‬وبما لديهم من‬ ‫ُ‬ ‫بسبب تاريخهم‬
‫مقالة نشرها موقع "بي بي سي"‪ ،‬في ‪ 26‬يناير‬ ‫التذُّوق‪ ،‬ظهر خاللها فئتان جديدتان من‬ ‫األمر ال ينطبق على‬ ‫تنّوعة؛ فإن أ‬ ‫ُم‬ ‫جينية‬ ‫ُُمستقبالت‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫‪2016‬م‪ ،‬تجربتها قائلة‪" :‬عندما ُكُنت في زيارة‬ ‫الجينات المسؤولة عن مذاق أومامي‪ ،‬وهما‪:‬‬ ‫جميع الحيوانات‪ .‬فعلى سبيل المثال‪ُُ ،‬معظم‬
‫عّين أثناء‬ ‫آ‬
‫ب ُُزقاق ُُم ّ‬
‫أ‬
‫لشانغهاي‪ ،‬تعّلّمت تج ُُّن‬ ‫تحّولت الطيور‬
‫(‪ T1R1‬و‪ .)T1R3‬ومن ّثّم‪ّ ،‬‬ ‫تشُّم الحلوى‬
‫دائًما ُ‬
‫بيننا اآلن‪ً ،‬‬‫أ‬
‫القطط التي تعيش‬
‫سيري إلى محطة مترو األنفاق؛ لقد كانت رائحته‬ ‫الطنانة إلى نظام غذائي قائم على الرحيق‪.‬‬ ‫بشكل ُُمريب‪ .‬لماذا؟ ألن أسالف ُُساللتها على مدار‬
‫صّدق‪ .‬لكنني لم أتمّكّن‬ ‫دائًما كريهة بشكل ال ُيُ ّ‬
‫ً‬ ‫تغّير بيولوجي أدى‬‫تعّرضت ُلُم ّ‬ ‫التطُّوري‪ّ ،‬‬‫ُ‬ ‫تاريخها‬
‫أبًدا من رؤية أي دليل على مصدر الرائحة‪ .‬وفي‬ ‫ً‬ ‫ا‬
‫تعدياًل‬ ‫تبّين أن الطفرات التي ُتُحدث‬ ‫لقد ّ‬ ‫إلى فقدان جين (‪)T1R2‬؛ وهو جين وظيفي ُُمهم‬
‫األيام‪ ،‬أدركت أنها رائحة متجر الوجبات‬ ‫أحد أ‬ ‫في تسلسل الحمض النووي لتلك الجينات‪،‬‬ ‫باإلمكان العثور‬
‫الكتشاف المذاق الحلو‪ .‬وما زال إ‬
‫الخفيفة الصاخب عند مدخل الزقاق‪ ،‬الذي‬ ‫األطعمة التي تستجيب لها‬ ‫ُيمكنها أيًضا تغيير أ‬ ‫على بقايا هذا الجين في الحمض النووي للقطط‪،‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫خّمر لعدة أشهر في خليط من‬ ‫الُم ّ‬
‫يبيع الدوفو ُ‬ ‫الُمختلفة‪ .‬وهذا أمر بالغ‬ ‫التذُّوق ُ‬
‫ُُم أستقبالت أ ُ‬ ‫الّريبة‬
‫نعدًما‪ .‬وهذا هو سر ّ‬ ‫ولكن تأثيره يكاد يكون ُُم ً‬
‫اللحوم والخضراوات والحليب الحامض‪ .‬بالنسبة‬ ‫التذُّوق‪ ،‬وهو في جوهره حاسة‬ ‫األهمية؛ ألن ُ‬ ‫تشُّم الحلويات‪.‬‬
‫التي تنتاب القطط عندما ُ‬
‫عموًما‪ ،‬من الصعب االقتراب‬ ‫إلّي وإلى الغربيين ً‬ ‫ّ‬ ‫الحّية على تناول مزيد‬ ‫ّ‬ ‫الكائنات‬ ‫نقدّيّة‪ُ ،‬يُحّفّز‬
‫أ‬
‫من هذا الطعام من دون تكميم األفواه‪ .‬لكن‬ ‫الُسعرات الحرارية‬ ‫غّذّ‬ ‫أ‬ ‫وُيُطلق على إصدارات الجينات القديمة‪ ،‬التي‬
‫الُم ية ذات ُ‬ ‫من األطعمة ُ‬
‫جًدا من الزبائن"‪ .‬وفي‬ ‫كان للمتجر طابور طويل ً‬ ‫الُمرّكّبات التي‬
‫العالية‪ ،‬وفي الوقت نفسه ُيُج ّّنبها ُ‬ ‫توّقّف عملها الوظيفي‪ ،‬وظّلّت بقاياها في‬
‫أ‬
‫الُمقابل‪ ،‬يشعر كثير من الصينيين باألمر نفسه‪،‬‬ ‫ساّمة‪.‬‬ ‫الجينوم‪" ،‬الجينات الكاذبة"‪ .‬وعلى الرغم من‬
‫ُ‬ ‫قد تكون ضارة أو ّ‬
‫فّضلة لدى‬ ‫عندما يقتربون من أنواع أجبان ُُم ّ‬ ‫كثيًرا من فصائل الطير تفتقر إلى هذا الجين‬ ‫أن ً‬
‫أ‬ ‫الذائقة وثقافات الشعوب‬ ‫عجيًبا بين‬
‫جًدا في‬
‫األوروبيين؛ فهي تحتل مرتبة ُُمنخفضة ً‬ ‫وتناقًضا ً‬
‫ً‬ ‫أيًضا‪ ،‬فإن َثَّمة استثناءات‬
‫ً‬
‫قائمة المذاق عندهم‪.‬‬ ‫التاريخّية التي توارثها‬
‫ّ‬ ‫إذا كان للذائقة أصولها‬ ‫بعض عوائل الطير‪ .‬ففي حين ُتُدمن الطيور‬
‫وتطّورت جيناتها عبر العصور‪،‬‬
‫أسالفنا‪ّ ،‬‬ ‫دائًما إلى تناول السوائل‬
‫الُسّكّر‪ ،‬وتلجأ ً‬ ‫الطنانة ُ‬
‫ألسنة التكنولوجيا وتحسين المذاق‬
‫التذُّوق‪،‬‬
‫دخلت التكنولوجيا الحديثة عالم ُ‬
‫هّمة في تحسين مذاقنا‪،‬‬ ‫أدواًرا ُُم ّ‬
‫وصارت تؤ ّّدي ً‬
‫ويقول نيل سافاج‪ ،‬من جامعة ماساتشوستس‬
‫األنظمة التلقائية‬ ‫في بوسطن‪" :‬لقد طّورت أ‬
‫ّ‬ ‫لتقييم أ‬
‫األطباق‪ ،‬مثل‪ :‬أجهزة استشعار الذوق‬
‫عّينات‬
‫لكترونية؛ لتمييز ّ‬ ‫اإل‬
‫وتقنيات اللسان إ‬
‫الُمعّقّدة"‪.‬‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫والتعُّرف على األذواق ُ‬ ‫ُ‬ ‫األطباق‪،‬‬
‫وكان فريق علمي تقني‪ ،‬يعمل في مجال‬
‫توّصل إلى إنشاء‬ ‫أ‬
‫األلسنة االصطناعية‪ ،‬قد ّ‬
‫نماذج اصطناعية ّأّو ّلّية لوحدات التحُّكُم التي‬
‫مّصاصات تستخدم‬ ‫أ‬
‫ُتُناسب األذواق‪ ،‬وابتكر ّ‬
‫التذُّوق‪ .‬وتقول‬
‫المذاق النقي لتحفيز حاسة ُ‬
‫إﺟﻤﺎﻟﻲ‪ :‬ﺗﻔﻀﻴﻞ اﻷﻃﻌﻤﺔ اﻟﺤﺎرة‬
‫فرانشيسكا بيرونا‪ ،‬التي ترأس الفريق العلمي‬
‫الذي نشر بحثه في موقع "تيك رادار"‪ ،‬في ‪10‬‬
‫ديسمبر ‪2017‬م‪" :‬أدركنا أن ُفُرص الجمع بين‬ ‫‪١٠٠‬‬
‫واألطراف االصطناعية‬ ‫الُقُدرات الحسّية للفم أ‬ ‫ﻗﻮي‬
‫ّ‬ ‫ﻣﻌﺘﺪل‬ ‫‪٨٠‬‬
‫والتكنولوجيا ُيُمكن أن تكون هائلة"‪ .‬وُتُضيف‪" :‬إن‬
‫ﺧﻔﻴﻒ‬
‫التذُّوق‪ ،‬ورسم‬
‫التقُّدم التكنولوجي في تحفيز ُ‬ ‫‪٦٠‬‬

‫‪٪‬إﺟﻤﺎﻟﻲ اﻟﻤﺸﺎرﻛﻴﻦ‬
‫ُ‬ ‫ﻣﻌﺪوم‬
‫غّذّ‬
‫الخرائط ُُمتعددة الحواس‪ُ ،‬يُ ي االهتمام‬ ‫‪٤٠‬‬
‫التذُّوق في التطبيقات‬ ‫الُمتزايد باستخدام ُ‬ ‫ُ‬ ‫‪٢٠‬‬
‫طّوري‬
‫والتجارب التفاعلية"‪ .‬فقد أصبح كثير من ُُم ّ‬
‫عِّولون على ألسنة التكنولوجيا في‬ ‫الُمنتجات ُيُ ِ‬‫ُ‬ ‫‪٠‬‬
‫ﺗﺎﻳﻼﻧﺪ‬ ‫اﻟﻴﺎﺑﺎن‬
‫تحّديات الذوق‪ ،‬إإلضفاء مزيد من النكهة‬ ‫مواجهة ّ‬
‫والطعم اللذيذ‪ ،‬وتقديم ُُمنتجات أكثر جاذبية‬ ‫التذُّوق في الثقافتين التايالندية واليابانية‪ ،‬من مجلة "الحواس الكيميائية"‪.‬‬
‫ُ‬ ‫نتائج دراسة حول‬
‫الُمستهلكين‪.‬‬ ‫أ‬
‫ألذواق ُ‬

‫المّرة القادمة التي ُتُالحظ فيها‬


‫ختاًما‪ ،‬في ّ‬ ‫ً‬ ‫وكانت مجلة "الحواس الكيميائية" العلمية قد‬
‫يدُّس منقاره في زهرة ليمتص‬ ‫ُ‬ ‫ا‬‫ً‬ ‫ًن‬ ‫طنا‬ ‫ا‬‫طائًر‬
‫ً‬ ‫رصدت في عددها الصادر في ‪ 25‬ديسمبر‬
‫قارًضا وتندفع‬‫رحيقها‪ ،‬أو ترى قطة تتعقب ً‬ ‫التذُّوق في‬
‫‪2017‬م‪ ،‬نتائج دراسة حديثة حول ُ‬
‫الُم َ‬
‫فَّضل‬ ‫ال يختلف المذاق ُ‬
‫نحوه‪ ،‬أو تستمتع برائحة المشويات ونكهتها‪،‬‬ ‫تبّين من خاللها‬ ‫الثقافتين التايالندية واليابانية‪ّ ،‬‬
‫أو تتناول السوشي الغني بالجلوتامين‪ ،‬توّقّف‬ ‫توّسطات درجات‬ ‫وجود اختالفات كبيرة في ُُم ّ‬
‫التنُّوع في المذاق‪،‬‬
‫قّدر قيمة ُ‬ ‫لحظة ل ُُتدرك وُتُ ّ‬ ‫فئات المذاق الخمس بين البلدين‪ ،‬تجعل نحو‬
‫‪ %70‬من التايالنديين ُيفّضلون أ‬ ‫عند األمم والشعوب فقط‪،‬‬
‫وإنما يمتد اختالفه إلى الذوق‬
‫التطُّورية طويلة‪ .‬فأذواقنا‬
‫ُ‬ ‫وكم كانت رحلته‬ ‫األطعمة الحارة‪،‬‬ ‫ُ ّ‬
‫تأتي أ‬
‫الفردي ً‬
‫باألساس من جيناتنا التي توارثناها عن‬ ‫فّضل أكثر من ‪ %90‬من اليابانيين‬ ‫في حين ُيُ ّ‬
‫أيًضا‪ ،‬وهو نتيجة تطور‬
‫أسالفنا وأجدادنا‪ ،‬كما توارثتها باقي الكائنات‬ ‫األطعمة الخفيفة غير الحارة‪ .‬وبينما يبدو مزيج‬ ‫أ‬

‫جيني وتنوع ثقافي‪.‬‬


‫األخرى التي ُتُشاركنا العيش على‬ ‫والمخلوقات أ‬ ‫أ‬
‫الطماطم والثوم واألوريجانو وزيت الزيتون‬
‫هذا الكوكب‪ .‬وليست هذه الجينات ثابتة‪ ،‬بل‬ ‫الُمجفف والفلفل‬ ‫إيطالًيا بامتياز‪ ،‬نجد الجمبري ُ‬
‫ً‬
‫تطّورة‪ .‬وإلى جانب الجينات‪َ ،‬ثَّمة‬ ‫وُم ّ‬ ‫تغّيرة ُ‬
‫ُُم ّ‬ ‫طعاًما ُُم ا‬
‫فضاًل في‬ ‫نجبيل وزيت النخيل ً‬ ‫الحار والز‬
‫أ‬
‫مزيج من المؤثرات األخرى‪ ،‬التي ُتُشّكّل أذواقنا‪،‬‬ ‫فّضلة‬ ‫أ‬
‫الُم ّ‬
‫البرازيل‪ّ .‬أّما األلمان فال تخلو أطباقهم ُ‬
‫األمكنة‬ ‫ُمتمثلة في خلفياتنا الثقافية‪ ،‬وتباين أ‬ ‫من القشدة الحامضة والخردل والخل والشبت‬
‫ُ‬ ‫أ‬
‫وتنُّوع احتياجاتنا‬
‫والمناخات‪ ،‬وتراكم الخبرات‪ُ ،‬‬ ‫فّضل عند‬ ‫الُم ّ‬
‫والفلفل األسود‪ .‬وال يختلف المذاق ُ‬
‫تقّدمه ُُمعطيات‬ ‫أ‬
‫الغذائية‪ .‬وفي ظل ما ّ‬ ‫األمم والشعوب فقط‪ ،‬وإنما يمتد اختالفه إلى‬
‫تقّدمة من حلول‪ ،‬أصبح تعديل‬ ‫الُم ّ‬ ‫التكنولوجيا ُ‬ ‫أيًضا‪ .‬فليس ُكُل الناس سواسية‬ ‫الذوق الفردي ً‬ ‫اقرأ القافلة‪" :‬العالقة المعقدة‬
‫وُمستوى النكهات ُُممك ًًنا‪ ،‬لتلبية جميع‬ ‫المذاق ُ‬ ‫تذُّوقهم للطعام؛ إذ هناك من ُيُطلق‬ ‫في درجة ُ‬ ‫بين اإلنسان وما يأكله"‪ ،‬من‬
‫أ‬ ‫عدد سبتمبر‪-‬أكتوبر ‪2022‬م‪.‬‬
‫األذواق وإرضائها‪.‬‬ ‫الُمتزايدة للمذاق‪ ،‬أو‬ ‫عليهم أصحاب الحساسية ُ‬
‫تذّوقون الفائقون"‪.‬‬
‫"الُم ّ‬
‫ُ‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪67 | 2024‬‬


‫مجلة القافلة‬
‫مايو ‪ -‬يونيو ‪2024‬‬ ‫علوم وتكنولوجيا‬
‫مونتسيرات راميريز دي أنجل‪ ،‬وهو مهندس‬

‫من المختبر‬
‫بيولوجي في جامعة "كاوست"‪ ،‬على جائزة في مؤتمر‬
‫"‪ "IEEE‬للدوائر أ‬
‫واألنظمة الطبية الحيوية ‪2023‬م‪.‬‬

‫وهناك ما يقرب من ‪ 70‬مليون شخص أبكم في‬


‫العالم‪ ،‬وفًقًا لالتحاد العالمي للصم‪ ،‬يستخدمون‬
‫غالًبا ما يواجه‬
‫أكثر من ‪ 200‬لغة إشارة للتواصل‪ً .‬‬
‫اجتماعًيا ويكونون غير‬ ‫أ‬
‫األشخاص الصم تميي ًًزا‬
‫ً‬
‫قادرين على المشاركة الكاملة في نشاطات المجتمع‬
‫الحديث‪ ،‬بما في ذلك التعلم والعمل والتنشئة‬
‫االجتماعية‪ .‬ويعلق راميريز دي أنجيل على ذلك‬
‫بالقول‪" :‬يعتمد معظم أ‬
‫األفراد الذين يعانون من‬
‫اإلشارة‪ ،‬التي ال يفهمها‬
‫إعاقات في النطق على لغة إ‬
‫جًدا من الناس‪ .‬تتيح تقنيتنا طريقة‬ ‫سوى عدد قليل ً‬
‫أكثر طبيعية للتواصل باستخدام حركات الفم فقط‪،‬‬
‫وقتما يريدون وأينما كانوا"‪.‬‬

‫الُمبتكر هو أساس‬ ‫الجلد المغناطيسي االصطناعي ُ‬


‫تقنية الكالم المساعدة التي ابتكرها راميريز دي‬
‫أنجيل‪ .‬إنها مادة ممغنطة مرنة ورقيقة يمكن ارتداؤها‬
‫اإلنسان‪ ،‬وفًقًا لتقارير‬
‫بشكل آمن ومريح على جسم إ‬
‫"سايتك دايلي" (‪ ،)SciTech Daily‬نوفمبر ‪2019‬م‪.‬‬
‫بيولوجًيا‬
‫ً‬ ‫وهي مصنوعة من "مصفوفة بوليمر متوافقة‬
‫ومليئة بالجسيمات الدقيقة الممغنطة"‪ ،‬وال تحتاج‬
‫إلى بطارية أو أي توصيالت سلكية للعمل‪ .‬ويمكن‬
‫تصنيع هذا الجلد بأي شكل ولون‪ .‬ومع تزويدها‬
‫بجهاز استشعار‪ ،‬يمكن استخدامه للكشف عن‬
‫االهتزازات المغناطيسية‪ ،‬مما يسهل مجموعة واسعة‬
‫من التطبيقات‪ .‬على سبيل المثال‪ ،‬يمكن ربطه بجزء‬
‫عامل من جسم شخص مشلول مثل عينه من أجل‬
‫اإلنسان والكومبيوتر تسمح له‬ ‫إنشاء واجهة بين إ‬
‫بالتواصل والتنقل عبر أ‬
‫األجهزة الرقمية‪.‬‬
‫مصدر الصور‪ :‬أناستاسيا سيرن‪ ،‬جامعة كاوست‪2024 ،‬م‪.‬‬
‫يعمل "‪ "AM2S-SR‬بطريقة مماثلة‪ .‬إذ توضع قطعتان‬

‫تكنولوجيا سعودية‬
‫صغيرتان من الجلد االصطناعي بالقرب من زوايا‬

‫جديدة تمنح صو ًًتا‬


‫الفم ويتم وضع غطاء رأس خفيف الوزن مزود‬ ‫طّور باحثون في جامعة الملك عبدهللا للعلوم‬ ‫ّ‬
‫بأجهزة استشعار مغناطيسية على الرأس‪ .‬تكتشف‬ ‫والتقنية (كاوست) "نظام جلد مغناطيسي مساعد"‬
‫المستشعرات االضطرابات الدقيقة في المجال‬ ‫لألشخاص الذين يعانون من صعوبات في‬ ‫يسمح أ‬

‫للذين ال صوت لهم‬


‫المغناطيسي عندما يحرك الشخص فمه بصمت كما‬ ‫النطق بإنتاج أصوات رقمية‪ ،‬وفًقًا لتقرير الجامعة في‬
‫لو كان يتحدث بصوت مسموع‪ .‬وبعد ذلك‪ ،‬تعالج‬ ‫فبراير ‪.2024‬‬
‫خوارزمية التعلم آ‬
‫اآللي هذه البيانات لتحديد الكلمات‬
‫التي ينطقها مرتديها بصمت وإنشاء نص رقمي يمكن‬ ‫تستطيع هذه أ‬
‫األداة‪ ،‬التي يطلق عليها اسم‬
‫بعد ذلك عرضه على الشاشة أو قراءته بصوت رقمي‬ ‫والمكَّونة من جلد صناعي مع أجهزة‬ ‫(‪،)AM2S-SR‬‬
‫عاٍل من خالل مكبر الصوت‪ .‬ويستطيع هذا الجهاز‬ ‫استشعار مدعومة َبالتعلم آ‬
‫اآللي‪ ،‬تحديد حركات‬
‫أ‬ ‫ٍ‬ ‫الفم الصامتة لمرتديها وإصدار أ‬
‫اإلنجليزية‬
‫حالًيا التعرف على كل حرف في األبجدية إ‬
‫ً‬ ‫األصوات التي‬
‫بنسبة نجاح تصل إلى ‪.%95‬‬ ‫تتوافق مع تلك الحركات‪ .‬وقد حصل مبتكرها‪،‬‬
‫الموسيقى‬
‫من المختبر‬

‫وبسبب تعديالت عازف البيانو‪ ،‬أظهرت فحوصات‬ ‫دائًما أن العروض الحية أفضل من‬ ‫يؤكد ّرّواد الحفالت‬
‫التسجيالت‪ .‬ويبدو أن ًنتائج أ‬

‫تمُّس أوتـار‬
‫ُ‬ ‫الحيـة‬
‫التصوير بالرنين المغناطيسي للمشاركين نشاًطًا‬ ‫األبحاث العلمية الحديثة‬
‫أكبر في اللوزة الدماغية اليسرى‪ ،‬وهو جزء الدماغ‬ ‫تتفق مع هذه آ‬
‫اآلراء‪.‬‬

‫القـلب أفضل من‬


‫المسؤول عن المعالجة العاطفية للمنبهات السمعية؛‬
‫صحيـًحا بالنسبة إلى ٍكٍّل من المقطوعات‬
‫ً‬ ‫وكان هذا‬ ‫فقد أجرى باحثون من جامعة زيورخ بسويسرا‪ ،‬تجربة‬

‫التسجيالت‬
‫إاإليجابية والسلبية‪.‬‬ ‫نشرتها مجلة "نيو ساينتست" في فبراير ‪2024‬م‪ ،‬كتبوا‬
‫فيها ‪ 12‬مقطوعة موسيقية قصيرة؛ جرى تأليف نصف‬
‫وقال الباحث الذي يعمل على هذه التجربة‪،‬‬ ‫اآلخر إإلثارة‬‫القطع منها إلثارة مشاعر سلبية‪ ،‬والنصف آ‬
‫إ‬
‫البروفيسور ساشا فروهولز‪" :‬الموسيقى المسجلة ال‬ ‫مشاعر إيجابية‪ .‬وأسمعوا ‪ 27‬مشارًكًا‪ ،‬ليس لديهم‬
‫تتكّيف مع كيفية استجابة المستمع‪ ،‬لكن عازفي البيانو‬
‫ّ‬ ‫خلفية موسيقية‪ ،‬إلى كل مقطوعة مرتين من خالل مك ِِّبر‬
‫يكّيفون الموسيقى مع الجمهور‬
‫غالًبا ما ّ‬
‫المباشرين ً‬ ‫الصوت‪ :‬مرة أألداء حي لعازف البيانو في غرفة منفردة‪،‬‬
‫للحصول على أفضل استجابة منهم"‪.‬‬ ‫ومرة لتسجيل صوتي للمقطوعة نفسها‪ ،‬من دون‬
‫إبالغ المشاركين أنهم يستمعون إلى تسجيل أو عمل‬
‫وتؤكد النتائج التي توصل إليها هؤالء الباحثون‪ ،‬نتائج‬ ‫حي‪ .‬كما جرى اختيار ترتيب عزف المقطوعات بصورة‬
‫مشابهة لدراسة أجراها سابًقًا باحثون من جامعة‬ ‫عشوائية مع استراحة صامتة مدتها ‪ 30‬ثانية بينهما‪.‬‬
‫دوشيشا في اليابان‪ ،‬ولكن من زاوية مختلفة‪ .‬فقد‬
‫وجدوا أن المشـاهدين في الحفالت الموسيقية الحية‬ ‫ومعروف أن الموسيقيين يقيسون أحياًنًا رد فعل‬
‫لهم تأثير إيجابي على أداء الفنانين‪ .‬وقال المؤلف‬ ‫الجمهور تجاه الموسيقى التي يعزفونها خالل الحفالت‬
‫الرئيس للدراسة التي ُنُشرت في مجلة "باسيفيك‬ ‫الحية‪ ،‬ويضبطون أداءهم وفًقًا لذلك‪ .‬ولكن خالل‬
‫ستاندرد" في يونيو ‪2017‬م‪ ،‬هاروكا شودا‪" :‬تتناقض‬ ‫هذه التجربة‪ُ ،‬ف ُِِحصت أدمغة المشاركين باستخدام‬
‫األبحاث المتعلقة بقلق أ‬
‫األداء‬ ‫هذه الفكرة مع أ‬ ‫جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي‪ ،‬وُنُ ِِقل نشاط‬
‫غالًبا ما كان يجري التعامل مع وجود‬
‫الموسيقي‪ ،‬حيث ً‬ ‫دماغهم إلى عازفي البيانو خالل العزف‪ ،‬حتى يتمكنوا‬
‫الجمهور على أنه مصدر تشتيت أو ضوضاء"‪.‬‬ ‫من ضبط مستوى الصوت وسرعة أدائهم الستثارة رد‬
‫فعل أفضل من المشاركين‪.‬‬

‫منافع مشاهدة الرياضة تتجاوز الترفيه‬


‫وأظهرت نتائج هذا البحث أن مشاهدة أ‬
‫األلعاب الرياضية‬ ‫متحّيزة‪ ،‬رَّكَزت الدراسة على المقاييس الذاتية والموضوعية‬ ‫بالنسبة إلى كثيرين‪ ،‬كانت الرياضة منذ فترة طويلة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫مصدًرا للمتعة واالسترخاء‪ .‬ولكن مشاهدة أ‬
‫تؤدي إلى تنشيط دوائر المكافأة في الدماغ‪ ،‬ما يدل على‬ ‫المتعلقة بالرفاهية‪.‬‬ ‫األلعاب‬ ‫ً‬
‫مشاعر السعادة أو المتعة‪.‬‬ ‫الرياضية‪ ،‬وخاصة في التجمعات الكبيرة‪ ،‬تتجاوز مجرد‬
‫في الدراسة أ‬
‫األولى‪ ،‬حَّلَل الباحثون بيانات واسعة النطاق‬ ‫الترفيه‪ .‬فهي تع ِِّزز الشعور باالنتماء إلى المجموعة‪.‬‬
‫وهذا الشعور باالرتباط ال يجعل أ‬
‫األفراد يشعرون بالرضا‬
‫إضافة إلى ذلك‪ ،‬ظهرت نتيجة جديرة بالمالحظة في‬ ‫متاحة للجمهور حول تأثير مشاهدة الرياضة على ‪20‬‬
‫تحليل الصور الهيكلية‪ .‬فقد كشفت أن أ‬
‫األفراد الذين‬ ‫ألف مواطن ياباني‪ .‬وأكدت نتائج هذه الدراسة النمط‬ ‫أيًضا من خالل تحسين الصحة‬‫فحسب‪ ،‬بل يفيد المجتمع ً‬
‫أبلغوا عن مشاهدة أ‬ ‫المعروف للرفاهية المرتفعة المرتبطة بمشاهدة أ‬
‫األلعاب‬ ‫وتعزيز إاإلنتاجية والحد من الجريمة‪ ،‬لكن هذه الظاهرة‬
‫األلعاب الرياضية بشكل متكرر‪،‬‬
‫حجًما أكبر من المادة الرمادية في المناطق‬
‫أظهروا ً‬ ‫الرياضية بانتظام‪.‬‬ ‫علمًيا من قبل‪.‬‬
‫لم ُتُدرس ً‬
‫المرتبطة بدوائر المكافأة‪ ،‬وهو ما يشير إلى أن مشاهدة‬
‫تدريجًيا إلى حدوث‬ ‫أ‬
‫األلعاب الرياضية بانتظام قد تؤدي‬ ‫َأَّما الدراسة الثـانية‪ ،‬فكانت استقصائية عبر إاإلنترنت تهدف‬ ‫وردًما لهذه الفجوة‪ ،‬أجرى فريق من الباحثين بقيادة‬
‫ً‬
‫ً‬ ‫إلى التحُّقُق مما إذا كانت العالقة بين مشاهدة أ‬
‫تغييرات في هياكل الدماغ‪.‬‬ ‫األلعاب‬ ‫البروفيسور شينتارو ساتو‪ ،‬من كلية علوم الرياضة بجامعة‬
‫الرياضية والرفاهية تختلف باختالف نوع الرياضة التي‬ ‫واسيدا باليابان‪ ،‬دراسة رائدة ُنُشرت في مجلة "سبورت‬
‫ولهذه الدراسة أ‬ ‫عّرضتهم‬ ‫منجمنت ريفيو" في ‪ 22‬مارس ‪2024‬م‪ .‬واستخدم‬
‫األخيرة آثار عميقة وإسهامات نظرية في‬
‫أ‬ ‫جرت مالحظتها‪ ،‬وقد شملت ‪ 208‬مشاركين ّ‬
‫أدبيات إاإلدارة الرياضية‪ .‬فاألدبيات الموجودة قبلها رَّكَزت‬ ‫وقّيمت صحتهم‬ ‫التجربة لمقاطع فيديو رياضية مختلفة‪ّ ،‬‬ ‫نهًجا متعدد‬
‫البروفيسور ساتو‪ ،‬إلى جانب آخرين‪ً ،‬‬
‫في المقام أ‬ ‫أ‬
‫األساليب يجمع بين تحليل البيانات الثانوية والتقارير‬
‫األول على عشاق الرياضة‪ ،‬لكن هذه الدراسة‬ ‫قبل المشاهدة وبعدها‪.‬‬
‫أخذت في االعتبار عد ًًدا أكبر من السكان بغض النظر عن‬ ‫الذاتية وإجراءات التصوير العصبي‪ ،‬لفهم العالقة بين‬
‫أ‬ ‫األلعاب الرياضية والرفاهية لدى عامة السكان‪.‬‬‫مشاهدة أ‬
‫عالقتهم باالستهالك الرياضي‪ .‬ولذا‪ ،‬يمكن أن ُيُسهم هذا‬ ‫ابتكاًرا‪ ،‬وهو‬
‫وفي الدراسة الثالثة‪ ،‬اس ُُتخدم الجانب األكثر ً‬
‫البحث بشكل كبير في تعزيز ممارسات إاإلدارة الرياضية‪،‬‬ ‫إجراءات قياس التصوير العصبي بالرنين المغناطيسي‬ ‫أ‬
‫وُصنع السياسات المتعلقة بالصحة العامة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫متعدد الوسائط‪ ،‬لتحليل نشاط الدماغ عند ‪ 14‬مشارًكًا‬ ‫وألن أحد التحديات الكبيرة في أبحاث الرفاهية‪ ،‬هو‬
‫يابانًيا سليم الجسم أثناء مشاهدتهم مقاطع رياضية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الطبيعة الذاتية إإلجراءات القياس‪ ،‬التي قد تؤدي إلى نتائج‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪69 | 2024‬‬


‫الفلتر‬
‫مجلة القافلة‬
‫مايو ‪ -‬يونيو ‪2024‬‬ ‫آفاق‬

‫رحلة الصورة من محاكاة الواقع إلى إلغائه‬


‫اليت تطالعنا أينما كان‪،‬‬ ‫�‬ ‫بات عالمنا غار ًًقا �ييف‬
‫ّأّسس المفكر الفرنسي جان جاك روسو نظرية‬ ‫بحر من الصور الفوتوغرافية ي‬
‫رتر‬
‫فلسفية وسياسية عن الشفافية‪ ،‬فألصق كل‬ ‫اإلن نت ووسائل التواصل االجتماعي‪ .‬وإن كانت الغاية‬ ‫وخاصة عىل شبكة إ‬
‫وطّور نظرية‬ ‫األساس من الصورة الفوتوغرافية هي محاكاة الواقع وتأكيد حقيقته‪ ،‬فإن‬ ‫أ‬
‫القيم السلبية بالمخفي والغامض‪ّ ،‬‬
‫�‬
‫اليت تغمرنا اليوم‪ :‬إنها ُ رتر‬
‫كاملة عن جوهر الحقيقة‪ .‬الحقيقة التي تمَّكَ نت‬ ‫مّرت‬
‫"ُمفل ة"‪ّ ،‬‬ ‫ذلك ليس ما نراه �ييف فيض الصور ي‬
‫الكاميرا التي اخترعها الفرنسي لويس دايجر‪،‬‬ ‫بني العدسة وبرصنا‪ ،‬ربربنامج أعاد صياغتها وفق ما يريده‬ ‫يف رحلتها‪ ،‬ما �ن‬
‫�ي‬
‫عام ‪1829‬م‪ ،‬من تصويرها‪ .‬ومن هنا‪ ،‬أصبحت‬ ‫رتر‬
‫صاحبها‪ ،‬أو ما يتمناه‪ .‬فكيف ولماذا صارت "فل ة" الصورة تيا ًًرا جار ًًفا؟ وما‬
‫الحداثة تعني‪ ،‬من بين ما تعنيه‪ ،‬المعرفة الكاملة‬ ‫دالالت ذلك؟‬
‫التي ال تقبل وجود أي مناطق معتمة‪.‬‬
‫شريين أبو النجا‬
‫ر‬
‫الفلتر وصدقية آلة التصوير‬
‫في القرن العشرين‪ ،‬أصبح بناء الصورة الذهنية‬ ‫مع صعود الحداثة الغربية‪ ،‬ظهر مفهوم‬
‫في الواقع ممك ًًنا؛ إذ تتحول الصورة إلى مشهد‬ ‫عُّد‬ ‫الشفافية بوصفه ا‬
‫دلياًل المتالك القوة‪ ،‬وُيُ ُ‬
‫وتتحَّول إلى واقع‬
‫َ‬ ‫للُفُرجة‪ُ ،‬‬
‫فتحُّل محل الواقع‪،‬‬ ‫سجن البانوبتيكان هو أصل الفكرة ونتيجة لها‪.‬‬
‫آخر مأمول‪ .‬ففي عصرنا‪ ،‬يطغى المشهد على‬ ‫اإلنجليزي‬ ‫ففي عام ‪1785‬م‪ ،‬صمم المنِّظِر إ‬
‫الحدث الفعلي ويأتي كأولوية على أي شيء آخر‪.‬‬ ‫جيريمي بنثام‪ ،‬صاحب مذهب البراجماتية‪ ،‬هذا‬
‫ويتحّول إلى‬
‫ّ‬ ‫فّرغ الشكل من المضمون‪،‬‬ ‫عندها ُيُ ّ‬ ‫السجن الذي يسمح لحارس واحد بمراقبة جميع‬
‫عّرف عنه‪ .‬إنها‬‫تَح ِِمل هوية صاحبها وُتُ ّ‬
‫صورة َ‬ ‫السجناء من دون أن يكون المسجونون قادرين‬
‫حالة يلخصها الكاتب والسينمائي الفرنسي ديبور‬ ‫على معرفة ما إذا كانوا مراقبين أم ال‪ .‬وأكد في‬
‫في مصطلح "الصورة للصورة"‪ .‬فهو يرى أن‬ ‫مقدمة كتابه "بانوبتيكان" أنه "طريقة جديدة‬
‫"الصور التي تنفصل عن كل مجال من مجاالت‬ ‫لتحقيق سلطة العقل على العقل"‪ .‬وانسحب‬
‫الحياة‪ ،‬تندمج ضمن تيار مشترك‪ ،‬ال يعود ممك ًًنا‬ ‫مفهوم الشفافية على العالقات االجتماعية‪،‬‬
‫فيه استعادة وحدة هذه الحياة من جديد"‪.‬‬ ‫وخاصة في نهاية القرن التاسع عشر‪ ،‬عندما‬

‫الالفت للنظر‪ ،‬هو توظيف‬


‫الصور المفلترة لعرض وجه‬
‫خاٍل ٍ من أي شوائب‪ ،‬وجسم‬
‫متناسق‪ ،‬وفرحة تلمع في‬
‫النظرة‪ ،‬وإقبال كبير على‬
‫الحياة‪.‬‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪71 | 2024‬‬


‫ال تهدف "فلترة" الصورة‬
‫إلى جعلها مشابهة للواقع‬
‫ولما تمثله‪ ،‬بل الهدف هو‬
‫تغيير الواقع وتقديمه بشكل‬
‫مغاير‪ ،‬أقرب إلى األمنية أو‬
‫المأمول‪.‬‬

‫الُحلم بعالم محكوم بالجمال‬ ‫وانتقد الفرنسي آ‬


‫ُ‬ ‫الفائق"‪ .‬ال تهدف فلترة الصورة إلى جعلها مشابهة‬ ‫اآلخر جان ببودريار الصورة‬
‫دائًما‬
‫وعلى الرغم من اختفاء الواقع‪ ،‬يبقى هناك ً‬ ‫للواقع ولما تمثله‪ ،‬بل الهدف هو تغيير الواقع‬ ‫ودورها في التسليع واالستهالك‪ .‬وفي عام‬
‫الُحلم بامتالك عالم ديزني الند‪ ،‬وهو عالم‬ ‫ُ‬ ‫وتقديمه بشكل مغاير‪ .‬وإذا كانت الصور المفلترة‬ ‫قّدم مصطلح "السيموالكر"؛ أي النسخة‬ ‫‪1981‬م‪ّ ،‬‬
‫وخاٍل من التجاعيد والسمنة المفرطة‪،‬‬‫ساحر ٍ‬ ‫عُّد ا‬
‫دلياًل على عدم الرضا عن الواقع‪ ،‬فإن الجسم‬ ‫ُتُ ُ‬ ‫المطابقة‪ ،‬وهو مصطلح إغريقي قديم كان‬
‫وعالم محكوم بالجمال‪ .‬وهذا الجمال‪ ،‬بتعدد‬ ‫أ‬
‫يكون له النصيب األكبر من عدم الرضا‪.‬‬ ‫ُيُستخدم للتعبير عن المحاكاة‪ .‬وفي ظل صعود‬
‫مرجعياته الذاتية‪ ،‬تبقى له معايير شمولية‬ ‫تيار ما بعد الحداثة وازدياد وتيرة إاإلعالنات‬
‫واضحة‪ .‬وكلما التزمت الصورة بهذه المعايير‬ ‫أيًضا على الكيفية‬
‫غير أن فلترة الصور تدل ً‬ ‫التجارية‪ ،‬التي تعمد إلى تزييف الصورة والوعي‬
‫وحققتها‪ ،‬زاد عدد المتابعين‪ ،‬واتسعت الشهرة‪،‬‬ ‫أ‬
‫التي تسيطر بها التكنولوجيا على رؤيتنا ألنفسنا‬ ‫مًعا لتحقيق أكبر ربح ممكن؛ لم يعد هناك أي‬ ‫ً‬
‫اإليجابية التي ُتُكثر من‬
‫وانهالت التعليقات إ‬ ‫وللعالم من حولنا‪ .‬فعندما نرى العالم من‬ ‫مدخل مالئم لفهم ما يحدث سوى مفهوم‬
‫المدح أو السلبية التي ُتُدين الصورة‪ .‬وفي‬ ‫اإلنستغرام‪ ،‬ننسى‬ ‫خالل عدسة التيك توك أو إ‬ ‫"السيموالكر"‪ .‬تتوالد الصور وتتكاثر بشكل ال‬
‫اإليجابي أو السلبي‪ ،‬يتحقق‬ ‫الحالتين‪ ،‬التعليق إ‬ ‫أن نستمتع باللحظة الحاضرة‪ ،‬وتتحول كل‬ ‫تدريجًيا حتى يختفي‬‫ً‬ ‫نهائي‪ ،‬وتحل محل الواقع‬
‫للصورة االهتمام المنشود‪ .‬وبتعاظم أهمية‬ ‫أفعالنا إلى وسيلة غايتها النشر على الصفحات‬ ‫الواقع نفسه‪ ،‬وال تعود هذه الصور مجرد إشارات‬
‫الصورة‪ ،‬وتراجع أهمية الكلمة‪ ،‬حاول رأسماليون‬ ‫اإللكترونية‪ .‬في هذا التوالد الذاتي‬‫والمنصات إ‬ ‫أو دالالت على الواقع‪ ،‬بل إشارات ذات مرجعية‬
‫السيطرة على الواقع البديل‪ .‬ففي عام ‪2010‬م‪،‬‬ ‫الالنهائي يختفي جوهر الواقع‪ ،‬الذي حاربت‬ ‫ذاتية‪ .‬وتلعب وسائط االتصال والبرامج إاإللكترونية‬
‫ُأُ ِنِشئت منصة "إنستغرام"‪ ،‬التي ُتُتيح رفع صور‬ ‫وتتحّول كل دالالت‬
‫ّ‬ ‫الحداثة من أجل كشفه‪،‬‬ ‫كبيًرا في اختفاء‬
‫دوًرا ً‬
‫القادرة على "خلق" صور ً‬
‫وفيديوهات قصيرة‪ .‬وفي عام ‪2012‬م‪ ،‬انتقلت‬ ‫األشياء وقيمتها إلى مرجع ذاتي (ما بعد الحداثة)‪،‬‬ ‫أ‬ ‫الواقع المباشر‪.‬‬
‫ملكيتها لمنصة "فيسبوك"‪ .‬وفي العام نفسه‪،‬‬ ‫التوّحد على ما ُيُسمى مواقع التواصل‬‫وبداًلا من ّ‬
‫أ‬
‫ُأُ ِنِشئت منصة "سناب تشات" األمريكي ً‬
‫أيًضا‪،‬‬ ‫االجتماعي (افتراض ًًّيا)‪ ،‬يزداد التشرذم خارج الواقع‬ ‫سيطرة التكنولوجيا على رؤيتنا أألنفسنا‬
‫المخصص لعرض الصور‪ .‬وفي عام ‪2016‬م‪،‬‬ ‫االفتراضي‪ .‬ففي هذا التواصل االفتراضي‪ ،‬تنشأ‬ ‫لتقّدم‬
‫الحًقًا‪ ،‬ظهرت البرامج التي "ُتُفلتر" الصورة ّ‬
‫ترَض الصين أن تبقى خارج المنظومة‪،‬‬ ‫لم َ‬ ‫عالقات وخصومات وتحالفات‪ ،‬وترتحل أفكار‪،‬‬ ‫عالًما ال صلة له بالواقع الحقيقي‪ ،‬إال أن عرض‬‫ً‬
‫فأنشأت منصة "تيك توك"‪.‬‬ ‫وُتُغتال أسماء‪ ،‬ويحصل هذا العالم بكل ملحقاته‬ ‫هذه الصور على إاإلنترنت بشكل كثيف ومتواتر‬
‫على استقاللية كاملة؛ لتصبح السيطرة عليه من‬ ‫حّولها إلى واقع بديل حقيقي أكثر من‬ ‫ومستمر‪ّ ،‬‬
‫دون جدوى‪.‬‬ ‫الواقع المباشر‪ ،‬أو ما ُيُسميه بودريار "الواقع‬
‫وتحّول الصورة إلى واقع له مرجعية‬ ‫لكن أ‬
‫آ‬ ‫الواقع‪ّ ،‬‬ ‫األمر يخرج أحياًنًا عن هذا المسار الربحي؛‬
‫ذاتية‪ .‬على الجانب اآلخر‪ ،‬وفي محاولة لالستناد‬ ‫لتصبح الصورة غاية في ذاتها‪ .‬وإاَّلا فما معنى‬
‫أخيًرا‪ ،‬حركة‬ ‫أ‬
‫إلى هذه األبحاث‪ ،‬ظهرت في أمريكا‪ً ،‬‬ ‫أن يسرع الناس بالتقاط السيلفي في كل مكان‬
‫إيجابية الجسد‪ ،‬التي تنادي بعدم اللجوء إلى‬ ‫وزمان‪ ،‬ثم يهرعون لنشره مصحوًبًا بأغنية تمنح‬
‫فلترة الصور أو عمليات التجميل‪ ،‬وضرورة قبول‬ ‫عُّد صور السيلفي أحد أمثلة‬ ‫إحساًسا للصورة؟ ُتُ ُ‬
‫ً‬
‫الجسد كما هو‪ .‬ومرة أخرى‪ ،‬تمّكّ نت العالمات‬ ‫الواقع الفائق‪ ،‬خاصة عندما يجري التعامل معها‬
‫التجارية الكبرى من تحقيق أرباح ضخمة‪ ،‬عبر‬ ‫بتقنيات الذكاء االصطناعي؛ أي الفلترة‪ .‬عندها ال‬
‫إنشاء قسم "المقاسات الكبيرة"‪.‬‬ ‫معّبرة عن الواقع‪ ،‬ولكنها تخلق‬ ‫تكون هذه الصورة ّ‬
‫جديًدا عبر التحكم في إاإلضاءة والمؤثرات‬ ‫واقًعا ً‬
‫ً‬
‫العودة إلى الشفافية‬ ‫تعِّدل لون البشرة وشكل الفك‬ ‫التجميلية‪ ،‬التي ِ‬
‫مؤخًرا‪ ،‬انتشرت صرعة بين ممثالت هوليوود‪،‬‬ ‫واألنف ولون العينين‪ .‬ليست صورة السيلفي إال‬ ‫أ‬
‫ً‬
‫تدفعهن إلى نشر صورهن من دون أي تعديل‪.‬‬ ‫"سيموالكر" محسوبة بدقة متناهية‪ ،‬تأخذ في‬
‫الصورة أ‬
‫األصلية التي دو ًًما ما اختبأت خلف‬ ‫االعتبار طبيعة المتفرج والمشاهد والمتابع‪ .‬وعلى‬
‫مستحضرات التجميل والفلتر‪ .‬وكانت الممثلة‬ ‫ذلك‪ ،‬فالسيلفي الناتج عن الذكاء االصطناعي هو‬
‫أ‬
‫األمريكية الشهيرة جوليا روبرتس‪ ،‬هي من بدأت‬ ‫المجتمع الجديد‪.‬‬
‫باإلنستغرام‪،‬‬
‫ذلك عام ‪2015‬م‪ ،‬على حسابها إ‬
‫تقريًبا‪.‬‬ ‫اشتبكت أ‬
‫وأعادت النشر بعد ذلك مرتين ً‬ ‫األدبيات النسوية بشكل ملحوظ مع‬
‫واإلعالنات التجارية‪ ،‬التي تعمل‬
‫مسألة الصورة إ‬
‫ما يلفت النظر‪ ،‬هو تعليق روبرتس المصاحب‬ ‫على تسليع النساء عبر تحويلهن إلى شيء منظور‬
‫للصورة‪" :‬أريد أن أشارككم بصورة خالية من‬ ‫إليه‪ .‬وبتصاعد الصور المفلترة‪ ،‬وما تقدمه من‬
‫لدَّي تجاعيد على وجهي‪،‬‬
‫الماكياج‪ ،‬أعلم أن َ‬ ‫شكل تسعى النساء إلى الحصول عليه‪ ،‬ازدادت‬ ‫جوليا روبرتس‪.‬‬
‫ولكني أريدكم أن تروا ما هو أبعد من ذلك‪.‬‬ ‫األبحاث في مجال علم النفس النسوي‪ ،‬في‬ ‫أ‬
‫أنا أريد أن أقبل وأتصالح مع نفسي الحقيقية‪،‬‬ ‫محاولة لفهم تأثير هذه الصور على النساء‪،‬‬
‫أيًضا أن تتصالحوا مع أنفسكم كما هي‪،‬‬ ‫ومدى رفضهن لواقعهن أ‬
‫وأريدكم ً‬ ‫وألجسادهن‪.‬‬
‫وأحبوا أنفسكم فقط كما هي"‪ .‬في هذا الكشف‪،‬‬ ‫األبحاث‪ ،‬التي ُتُنشر في مجالت‬‫في مواجهة هذه أ‬ ‫األعداد الضخمة التي تتابع هذه‬ ‫بالنظر إلى أ‬
‫الذي ُيُعلي من شأن الشفافية الحداثية ويتخلص‬ ‫علمية دولية محكمة‪ ،‬ظهر تيار "ما بعد النسوية"‪،‬‬ ‫المواقع‪ُ ،‬يُمكن فهم داللة الصورة‪ .‬أنتجت هذه‬
‫من أعباء الفردانية ما بعد الحداثية‪ُ ،‬تُعيد روبرتس‬ ‫الذي راح يؤكد أن الجسد وشكله ليسا جز ًًءا‬ ‫(اإلنفلوينسر)‪،‬‬
‫المواقع ظاهرة الشخص المؤثر إ‬
‫الذات إلى الصدارة‪ ،‬وتحاول إزاحة "السيموالكر"‬ ‫من الذات‪ ،‬بل هما الذات‪ ،‬وذلك في تعظيم‬ ‫(سابًقًا كان هناك البلوجر)‪ ،‬التي تضم رجااًلا‬
‫لتمنح مكاًنًا للواقع الذي اختفى تحت طبقات‬ ‫لجسدية الجسد‪ .‬وهو أمر مشابه لفكرة اختفاء‬ ‫ونساء‪ُ ،‬تُعقد لهم في دبي منتديات سنوية‪.‬‬
‫الماكياج‪ .‬لكنها تبقى محاولة تطرحها ممثلة شهيرة‬
‫لديها الكثير من رأس المال الرمزي المساند‪.‬‬ ‫ما يلفت النظر‪ ،‬هو توظيف النساء للصور‬
‫خالًيا من أي شوائب‪،‬‬
‫تقّدم وج ًًها ً‬‫الُمفلترة التي ّ‬
‫ُ‬
‫وبشكل مفارق‪ ،‬وسواء أكان العقل يدعو لتمثيل‬ ‫وجسًما متناسًقًا‪ ،‬وفرحة تلمع في النظرة‪،‬‬
‫ً‬
‫الواقع كما هو من خالل صورة تع ِِّبر عنه‪ ،‬أم‬ ‫وإقبااًلا ً‬
‫كبيًرا على الحياة (في انفصال كامل‬
‫تغيير الواقع عبر استبداله بصور‪ ،‬يبقى الرابح‬ ‫جيًدا‬
‫عن الواقع)‪ .‬تعلم صاحبة الصورة ً‬
‫أرباًحا مستمرة‪ ،‬وهو‬
‫الوحيد هو ذلك الذي يجني ً‬ ‫أنها تنظر ومنظور إليها‪ .‬إذا كانت البداية في‬
‫على وعي بذلك‪ .‬وإاَّلا فلماذا دفع مارك زوكربرغ‪،‬‬ ‫هذا المشهد قد انطلقت من عدم الرضا عن‬
‫في منافسة شرسة‪ 4 ،‬مليارات دوالر لشراء منصة‬ ‫الواقع‪ ،‬فإن المفارقة تكمن في كون هذه الصور‬
‫"اإلنستغرام"؟‬
‫إ‬ ‫تحّولت إلى دعاية رأسمالية‪ .‬فقد انتبهت‬
‫الُمفلترة ّ‬ ‫ُ‬
‫الشركات التجارية‪ ،‬وخاصة شركات التجميل‪ ،‬إلى‬
‫تقّدمها الصور المفلترة‪ ،‬فبدأت‬‫اإلمكانات التي ّ‬ ‫إ‬
‫لإلعالن عن المنتجات‪.‬‬‫تتعاقد مع هؤالء النساء إ‬
‫وهًما نبتاعه ا‬
‫أماًل في‬ ‫صورة جميلة تحمل ً‬
‫الحصول على حقيقة الصورة التي راوغت الواقع‬
‫منذ البداية!‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪73 | 2024‬‬


‫مجلة القافلة‬
‫مايو ‪ -‬يونيو ‪2024‬‬ ‫آفاق‬

‫كيف يقود اإلعالن‬


‫هوس االستهالك؟‬
‫تجارة المخاوف واألحالم‬
‫الفرنيس فالنتان مانيان‪� ،‬ييف محارضر اته مصطلح‬
‫ي‬ ‫عرش‪ ،‬سّكّ عالم النفس‬ ‫يف نهايات القرن التاسع ر‬
‫�ي‬
‫العرشين‪ ،‬اعتمد عالما النفس إميل‬ ‫وعَّده انحطاًطًا اجتماع ًًيا‪ .‬ويف بدايات القرن ر‬ ‫"هوس ر‬
‫الرشاء" َ‬
‫�ي‬
‫اإلنسان إىل‬
‫مرًضا نفس ًًّيا؛ إذ يندفع إ‬
‫الرشاء القهري" بوصفه ً‬ ‫�ن‬
‫ويوجني بلولر "اضطراب ر‬ ‫�ن‬
‫كريبيلني‬
‫التسوق بشكل مستمر ومراكمة أشياء تفوق حاجته‪ .‬وتؤكد إحصاءات أمريكية حديثة أن هذه‬
‫األمريكية مدى حياتهم‪.‬‬ ‫الحالة تالزم ‪ %5.8‬من عامة السكان يف الواليات المتحدة أ‬
‫�ي‬
‫منة أبو زهرة‬

‫اقرأ القافلة‪ :‬هل يستطيع‬


‫اإلنسان شراء كل شيء‬
‫بالمال؟‪ ،‬من عدد نوفمبر ‪-‬‬
‫ديسمبر ‪2013‬م‪.‬‬
‫يوجين بلولر‪.‬‬ ‫إميل كريبيلين‪.‬‬ ‫فالنتان مانيان‪.‬‬

‫تحّول االستهالك إلى هوس اجتماعي‬


‫ّ‬
‫على الرغم من وضوح أهمية االستهالك لدى‬
‫هوًسا‬
‫منِّظِري الرأسمالية‪ ،‬فإنه لم يصبح ً‬
‫اجتماع ًًّيا على نطاق واسع إال في سبعينيات‬
‫القرن العشرين‪ .‬فعند انطالق الثورة الصناعية‬
‫وخالل قرنين من الزمن‪ ،‬كانت المنتجات ُتُصنع‬
‫لتتوارثها العائلة‪ .‬لكن هذه الوتيرة من االستهالك‬
‫أصبحت عاجزة مع الوقت عن تحقيق نمو‬
‫اإلنتاج الذي يطمح إليه الصناعيون‪ .‬لذلك‪،‬‬ ‫إ‬
‫كان ال َبَّد من دفع المستهلكين إلى مزيد من‬
‫االستهالك بشتى الطرق‪.‬‬

‫ومع أن االقتصاد عصب الحياة‪ ،‬فإنه ال يعمل‬


‫بمعزل عن العوامل أ‬
‫األخرى التي تؤثر في الواقع‬
‫االجتماعي‪ ،‬ومن بينها الصدمات التاريخية‬
‫كالحروب الكبرى التي تتسبب في أ‬
‫األزمات‬
‫وتقُّدم أخرى‪ .‬وكذلك أسهم‬
‫وتدهور طبقـات ُ‬ ‫التقدم تأتي من الدوافع الشخصية في المقام‬ ‫مبكًرا‪ ،‬فإن‬
‫على الرغم من أن االكتشاف كان ً‬
‫واإلعالن والتسويق‬
‫اإلعالم إ‬‫التطور في مجالي إ‬ ‫األول‪ ،‬وليست أألجل البشرية‪ ،‬حتى وإن كان‬
‫أ‬ ‫التسّوق‬
‫ضّية لظاهرة آ ّ‬
‫المَر ّ‬
‫االعتراف بالطبيعة َ‬
‫في دعم ولع االستهالك‪.‬‬ ‫فيها ما يصب في مصلحة المجتمع‪.‬‬ ‫المفرط ال يزال يواجه صعوبة حتى اآلن‪ ،‬رَّبَما‬
‫أألن ما اكتشفه ويؤمن به كثير من أ‬
‫األطباء‬
‫فقد كانت الطرازات أ‬
‫األولى من السيارات التي‬ ‫وقد أثبتت الرأسمالية من ناحية عملية أنها‬ ‫يتعارض مع جوهر الرأسمالية‪ .‬إذ إن االقتصاد‬
‫ترافق العائلة عقو ًًدا من الزمن‪ ،‬وأدوات المائدة‬ ‫دائًما بفضل‬
‫نظام قادر على تطوير نفسه ً‬ ‫ينهض بشكل أساس على االستهالك‪ ،‬بحسب‬
‫التي ترثها الحفيدة عن الجدة‪ ،‬متماشية مع‬ ‫الحافز الشخصي الذي يتوافق مع طبيعتنا‬ ‫اإلسكتلندي آدم سميث‬ ‫الفيلسوف واالقتصادي إ‬
‫التقاليد االجتماعية التي تحتفي بالعراقة‪ .‬فكانت‬ ‫فالخّباز‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬يوفر‬
‫ّ‬ ‫البشرية‪.‬‬ ‫(‪1723‬م ‪1790 -‬م)‪ .‬كما أن تحقيق المنفعة‬
‫األشياء تستمد قيمتها من ِِقدمها ومن قدرتها‬‫أ‬ ‫الخبز كل يوم‪ ،‬ليس من أجل إطعام الناس‪،‬‬ ‫االجتماعية واالقتصادية ينتج في أ‬
‫األساس‬
‫على أن تبقى صالحة لالستعمال حتى أطول‬ ‫واآلخرون يستهلكون‬‫بل لكي يكسب عيشه‪ .‬آ‬ ‫من المصلحة الشخصية‪ .‬فكل المبادرات‬
‫وقت ممكن‪ .‬وكَّلَما كانت الممتلكات فريدة وثمينة‬ ‫خبزه‪ ،‬ليس بهدف إعانته على العيش‪ ،‬بل‬ ‫واالكتشافات في العالم بما فيها الرغبة في‬
‫وُمعمرة‪ ،‬كانت ا‬
‫دلياًل على عراقة تلك العائلة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أألنهم بحاجة إلى الخبز‪.‬‬ ‫العمل‪ ،‬أتت من غريزة الكسب‪ .‬وكل حركة‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪75 | 2024‬‬


‫أكثر حيوية من الصور المطبوعة‪ ،‬وصار نجوم‬ ‫الترويج لهيكل السيارة الخفيف بوصفه وسيلة‬ ‫توّسع الطبقات القادرة على‬
‫ّ‬
‫االستهالك حمل الصناعة‬
‫السينما‪ ،‬وهم نجوم أحالم الشباب من‬ ‫لتحقيق زيادة السرعة وتقليل استهالك الوقود‬
‫بتقليل وزن السيارة‪ .‬لكن النتيجة أ‬
‫على تلبية الطلب بمواصفات‬
‫اإلعالنات‪ .‬فمن الذي سيقاوم‬
‫الجنسين‪ ،‬أبطال إ‬ ‫األكيدة هي أن‬
‫وَمن التي ستقاوم‬
‫سجائر يدخنها نجم أحالمه‪َ ،‬‬ ‫المستهلك لم يعد يحتمل السيارة أكثر من خمس‬
‫تضمن بيعها بسعر أقل‪،‬‬
‫عطر بطلة أحالمها؟‬ ‫عُّد‬
‫سنوات‪ .‬وهي فترة كانت في أجيال سابقة ُتُ ُ‬

‫وفي الوقت نفسه تعيش‬


‫فترة التعارف بين العائلة وسيارتها‪َ .‬أَّما اليوم‪،‬‬
‫جديًدا من‬
‫عصًرا ً‬‫دخلنا في عقد السبعينيات ً‬ ‫فقد صارت السنوات الخمس كافية للفراق‪،‬‬
‫عم ًًرا أقصر‪ ،‬حتى ال تتشبع‬
‫سَّماه المفكر الفرنسي جي دي بيور‬ ‫التظاهر‪َ ،‬‬ ‫بالنسبة إلى الطرفين وليس لطرف واحد؛ إذ يكون‬
‫المالك قد َ‬
‫أبًدا‪.‬‬
‫األسواق ً‬
‫"عصر االستعراض"‪ ،‬القائم بشكل كامل على‬ ‫مَّل‪ ،‬وتكون السيارة قد تر ّّهلت!‬
‫مبدأ "الُفُرجة"؛ حيث حياتنا وعالقاتنا االجتماعية‬
‫تحّول العالم‬
‫صور بال مضمون أو جوهر‪ ،‬وحيث ّ‬ ‫جنًبا إلى جنب مع ترسيخ سلطة‬ ‫جرى هذا ً‬
‫إلى مسرح كبير‪ ،‬الجميع فيه ممثلون والجميع‬ ‫اإلعالم وحاجتها إلى تدبير موارد من‬ ‫وسائل إ‬
‫متفرجون‪ ،‬كل منهم يمارس االستعراض على‬ ‫اإلعالن‪ ،‬الذي واصل استخدام كل الحيل إإلقناع‬ ‫مّرت الرأسمالية في موطنها أ‬
‫األصلي (أوروبا‬
‫إ‬ ‫ّ‬
‫خشبته‪ ،‬وحيث يجب أن يكون المظهر هو‬ ‫المستهلك بمزيد من االستهالك‪ .‬ولم تعد‬ ‫الغربية وأمريكا)‪ ،‬بحربين كبيرتين في النصف‬
‫دائًما‬ ‫أ‬ ‫الميزة في السلعة الفريدة‪ ،‬بل في السلعة التي‬ ‫أ‬
‫األول من القرن العشرين‪ ،‬أفقرتا الطبقات النبيلة‬
‫األساس‪ ،‬وحيث نكون بحاجة إلى التسوق ً‬
‫للحفاظ على مظهرنا‪.‬‬ ‫يستهلكها الماليين‪ .‬وبينما كانت المجتمعات قد‬ ‫وخلخلتا مكانتها‪ ،‬وأجبرتاها على التخلي عن‬
‫األرستقراطية ومن ضمنها أهمية‬ ‫سئمت تقاليد أ‬ ‫تقاليدها الرسمية الصارمة‪ .‬وفي الوقت نفسه‪،‬‬
‫ونمّوه‬
‫تطور فن البيع ّ‬ ‫التفّرد‪ ،‬واتجهت إلى االحتفاء بالتشابه‪ ،‬راح‬
‫ّ‬ ‫توسعت الطبقات القادرة على االستهالك‪،‬‬
‫سُيعرف الحًقًا‬
‫وفي السبعينيات‪ ،‬كان ميالد ما ُ‬ ‫يرّوج التشابه باعتباره ميزة‪ ،‬كأن تأكل‬
‫اإلعالن ّ‬ ‫إ‬ ‫وبدأت الصناعة في تلبية الطلب الكبير الذي‬
‫بحقبة "الرأسمالية المالية" التي بلغت ذروتها‬ ‫الدجاج الذي يأكله الماليين عبر العالم‪ .‬وقبل أن‬ ‫ُيُص ََّنع بمواصفات تضمن بيعها بسعر أقل‪ ،‬وفي‬
‫اإلنتاجية‬ ‫آ‬
‫اآلن؛ إذ نجد أن عائدات المهن غير إ‬ ‫التمّيز‬
‫اإلعالن ليزكي ّ‬ ‫ُيُستنفد هذا التوحيد‪ ،‬عاد إ‬ ‫عمًرا أقصر‪ ،‬حتى ال تتشبع‬
‫الوقت نفسه تعيش ً‬
‫األعلى‪ ،‬وأصبح خبراء البنوك ورجال البورصة‬‫هي أ‬ ‫أبًدا‪.‬‬ ‫أ‬
‫من خالل العالمات التجارية المميزة!‬ ‫األسواق ً‬
‫واإلعالن‪ ،‬أهم من رجال الصناعة‬‫والدعاية إ‬
‫والمبتكرين‪ .‬وعندما نسأل عن أكبر الشركات في‬ ‫طوال عقدي الخمسينيات والستينيات من‬ ‫اإلعالن‬
‫دور إ‬
‫العالم‪ ،‬نجد أن شركات التسويق مثل "أمازون"‬ ‫محصوًرا في‬
‫ً‬ ‫اإلعالن‬
‫القرن العشرين لم يعد إ‬ ‫اإلعالن بدور المبرر‪ .‬وفي‬
‫في مرحلة تالية‪ ،‬نهض إ‬
‫و"علي بابا"‪ ،‬تزاحم أكبر الشركات المنتجة في‬ ‫الصحف والمجالت المصورة؛ إذ بات التلفزيون‬ ‫حاالت مثل شراء السيارات على سبيل المثال‪،‬‬
‫العالم على مستوى قيمتها السوقية‪.‬‬ ‫ركيزة أساسية في الترويج لالستهالك بعروض‬ ‫جرى تصوير تقليل الجودة بوصفه ميزة؛ فجرى‬
‫تغ ّّير هيكلة المحال التجارية‬
‫وتطّور فن اإلعالن من‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫المحّفزة على اإلفراط‬ ‫العوامل‬
‫في االستهالك‪ ،‬وخوارزميات‬
‫أجهزة الكمبيوتر هي أكثر‬
‫إلحاًحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫الباعة‬
‫إلى مزيد من الشراء‪ .‬ولم يتوقف أ‬
‫األمر على ذلك‬
‫فقط‪ .‬ففي الوقت نفسه‪ ،‬أصبحت "الخوارزميات"‬
‫تشبه الباعة الجوالين في إلحاحهم؛ فإذا بحثت‬
‫أو فتحت إعالن منتج مع ََّين على سبيل الفضول‪،‬‬
‫تنهال عليك إعالنات لمنتجات مشابهة من مختلف‬
‫المتاجر بمختلف أسعارها وأنواعها‪ .‬وليس ذلك‬
‫فقط‪ ،‬فقد وصل أ‬
‫األمر إلى أن التلفظ بكلمة مع‬
‫صديق على الهاتف قد ُتُوقعك في هذه المطاردة‪.‬‬
‫عمل أقرب إلى الشعوذة منه إلى الدفع النقدي‪.‬‬ ‫اإلعالن لتعزيز‬‫لم يعتمد الصناعيون على إ‬
‫لم يعد البيع والشراء على النحو الذي كان‬ ‫أحد مستخدمي "فيسبوك" المصريين كتب‪،‬‬ ‫هوس االستهالك فقط‪ ،‬بل كان هناك تغيير‬
‫ينشده آدم سميث‪ ،‬من االعتدال إإلدارة اقتصاد‬ ‫مؤخًرا‪" :‬لم أنفق هذا الشهر سوى مائتي جنيه‪...‬‬
‫ً‬ ‫ديكور المحال التجارية‪ ،‬التي تزودت بواجهات‬
‫اإلعالن يتظاهر بأنه ال يبيع‬ ‫أ‬
‫وفّعال؛ ألن إ‬
‫حيوي ّ‬ ‫الباقي من بطاقة االئتمان"‪ ،‬وُتُعبر هذه المزحة‬ ‫عرض فسيحة تفتح الشهية للتسوق‪ ،‬حتى في‬
‫أفكاًرا وغايات إنسانية عليا‪،‬‬
‫ً‬ ‫يبيع‬ ‫بل‬ ‫السلع‪،‬‬ ‫بدقة عن إحساس الكثيرين بأن مال البطاقة ال‬ ‫مجال استهالك االحتياجات الغذائية‪ .‬فقد‬
‫أحالًما ومخاوف‪ ،‬بينما هو في الواقع يبيع‬‫ويبيع ً‬ ‫يخصه‪ ،‬وبسبب هذا المأزق يعرف كل منا في‬ ‫كان تسوق البقالة في زمن البقاالت الصغيرة‬
‫اإلفراط في االستهالك‪.‬‬‫السلع‪ ،‬ويدفعنا إلى إ‬ ‫محيطه االجتماعي حكايات عن مديونيات ضخمة‬ ‫يجري من خلف حاجز يقف وراءە بائع يلبي‬
‫اإلعالن الخوف من الوقوع في التخلف‬ ‫يغذي إ‬ ‫يقع فيها البعض بسبب هذا الوهم‪.‬‬ ‫المطلوب بالضبط‪ ،‬ولكن فتحت سالسل السوبر‬
‫والعيش في الماضي مع تسارع التطورات‬ ‫للتجّول بين صفوف‬
‫ّ‬ ‫ماركت المجال للمتسوق‬
‫التكنولوجية‪ ،‬وهكذا نتسابق لشراء الجيل الجديد‬ ‫وبالمثل‪ ،‬تع ّّززت قدرة إاإلعالن مع بدايات القرن‬ ‫معروضاتها‪ ،‬بحيث يشتري ما يريده وما يجذبه‪.‬‬
‫من الهاتف حتى ال تفوتنا مزاياه الجديدة‪ ،‬بينما‬ ‫الحادي والعشرين‪ .‬فمع ظهور وسائل التواصل‬ ‫إنها الحرية وتعدد الخيارات إلى حد التشويش‪.‬‬
‫بيدنا هاتف من الطراز نفسه لم نستخدم‬ ‫االجتماعي أصبح مجتمع االستعراض‪ ،‬الذي رفضه‬ ‫وإذا لم ُيُ ِِعد المتسوق قائمة باحتياجاته قبل‬
‫ربع إمكاناته‪ .‬وينبغي أال تفوتك النظرة المميزة‬ ‫جي ديبور في السبعينيات‪ ،‬ال شيء بالنسبة إلى‬ ‫الخروج من بيته‪ ،‬فلرَّبَما يعود من السوبر ماركت‬
‫لإلصدار الجديد من سيارتك‪ ،‬وقد تغيرت رسمة‬ ‫إ‬ ‫المجتمع الذي خلقته وسائل التواصل‪ ،‬التي‬ ‫وناسًيا الضروري الذي‬
‫ً‬ ‫محّم ااًل بغير الضروري‬
‫ّ‬
‫اإلضاءة)!‬ ‫خرج من أجله أ‬
‫عيونها (كشافات إ‬ ‫أتاحت للجميع ممارسة أحالم النجومية التي‬ ‫باألساس!‬
‫طالما تمناها‪ .‬لم تعد وقفة التأنق أمام الكاميرا‬
‫اإلعالنات وهم السعادة‪ ،‬وهي الغاية التي‬
‫تبيع إ‬ ‫حكًرا على النجوم‪ ،‬أصبح كل منا بوسعه أن‬ ‫ً‬ ‫جديًدا عبر إاإلنترنت‪ .‬إذ لم‬
‫دفًعا ً‬
‫وتلقى التسويق ً‬
‫ننشدها في وجودنا‪ .‬وبينما كنا نستمدها من‬ ‫يلتقط لنفسه اللقطة نفسها‪ ،‬ويستعرض كل لحظة‬ ‫تعد حرية التسوق وسهولته مقصورة على التنزه‬
‫مساعدة آ‬
‫اآلخرين في أزمنة العائلة‪ ،‬صرنا في‬ ‫من حياته‪ :‬في المطعم‪ ،‬فـي السينما‪ ،‬على مقعد‬ ‫بين البضائع المختلفة في المعارض الكبرى‪ ،‬بل‬
‫عصر الفرد نستمدها من مظهرنا ومن المزيد من‬ ‫الطائرة قبل أن تقلع؛ وأصبح مظهرنا وكل ما نملكه‬ ‫صارت تشمل رؤيتها في أفضل صورة واتخاذ‬
‫االستهالك‪ ،‬أو هكذا نتوهم‪.‬‬ ‫تحت نظر آ‬
‫اآلخرين‪.‬‬ ‫قرار شرائها من دون أن نتحرك من أماكننا‪،‬‬
‫فبضغطة زر تشتري كل ما تريد‪ ،‬وما عليك سوى‬
‫اإللحاح على أهمية الشكل‪ ،‬لم يعد‬ ‫ومع هذا إ‬ ‫الخوارزميات‪ ..‬بائع لجوج‬ ‫كتابة بيانات بطاقة الدفع إاإللكترونية‪ ،‬لتصل‬
‫الكثيرون يستمدون قيمتهم من أنفسهم‪ ،‬بل‬ ‫في هذه الوسائل الجديدة‪ ،‬أصبح إاإلنسان هو‬ ‫المشتريات حتى باب البيت‪.‬‬
‫من أ‬
‫األشياء التي يمتلكونها‪ .‬والطريف أن موقع‬ ‫المسّوق والمستهلك والسلعة في الوقت نفسه‪.‬‬
‫ّ‬
‫"أمازون"‪ ،‬أنجح متاجر البيع بالتجزئة في العالم‪،‬‬ ‫مسهًما في‬
‫ً‬ ‫وبينما يستعرض المستخدم مشترياته‬ ‫تطورت وسائل البيع بالتقسيط وعبر بطاقات‬
‫مسّوًقًا للكتب في منتصف التسعينيات‪.‬‬
‫بدأ ّ‬ ‫رواجها‪ ،‬تبيع المنصات بياناته لشركات الدعاية‬ ‫الدفع إاإللكتروني‪ ،‬ومعها تطورت التطبيقات على‬
‫وُيُفترض بالكتب أن تكون حائط الصد ضد قيم‬ ‫والتسويق‪ ،‬ليحللوا شخصيات المستخدمين‬ ‫الهواتف‪ ،‬وهو ما شَّكَل قفزة أخرى ُتُسِّهّ ل التورط‬
‫تحّول إليها المتجر فيما بعد!‬
‫االستهالك التي ّ‬ ‫ويعرفوا ما الذي يؤثر فيهم بالضبط فيندفعون‬ ‫في الشراء‪ .‬فتمرير الهاتف بجوار ماكينة الدفع‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪77 | 2024‬‬


‫مجلة القافلة‬
‫مايو ‪ -‬يونيو ‪2024‬‬ ‫آفاق‬

‫التصّورات النمطية واالعتراف بالتنوع‬


‫ّ‬ ‫بين‬
‫مهارة التعامل مع أتباع‬
‫الثقافات األخرى‬
‫المرّجح أن تكون �ييف ذهن كل واحد منهم‬
‫ّ‬ ‫عندما يلتقي أناس من جنسيات مختلفة‪ ،‬فمن‬
‫صورة نمطية عن آ‬
‫اآلخر‪ .‬والطريف أن كل واحد منهم غال ًًبا ما سيكون عىل قناعة بصحة‬
‫هذه التصورات المسبقة‪ ،‬من دون أن يسأل عن مصدرها‪ ،‬ومدى مطابقتها للحقيقة‪،‬‬
‫واألهم أنها سرترّكّز عىل اختالفات هؤالء أ‬
‫األشخاص عنه‪ .‬وهذا ما يعين�ي �ييف الوقت نفسه أنه‬ ‫أ‬
‫حّل هذه المعضلة‪،‬‬ ‫اآلخرين عنه‪ .‬فما ّ‬ ‫يرسم لنفسه صورة ما‪ ،‬يقيس عىل أساسها اختالف آ‬
‫اإلنسان يبحث عن القواسم المشرتر كة‪ ،‬ويتعامل مع هذه‬ ‫للتوصل إىل آلية تجعل إ‬
‫�ن‬ ‫رتر‬
‫االختالفات بما يكفل العيش المش ك �ييف ظل سالم اجتماعي بني أتباع الثقافات المختلفة؟‬
‫أسامة �ن‬
‫أمني‬
‫ليست هناك ثقافة ترى أن‬
‫الكذب فضيلة‪ ،‬وأن الصدق‬
‫رذيلة‪ ،‬وهذه القيم المشتركة‬
‫قادرة على التوفيق بين أتباع‬
‫الثقافات المتعددة‪ ،‬رغم ما‬
‫بينها من نقاط اختالف‪.‬‬

‫بحسب مكانك ترى أ‬


‫األمر مختلًفًا‪ ،‬وكالكما على حق‪.‬‬

‫الفرد والصورة النمطية التي في أذهاننا‪ ،‬ويود‬ ‫كمشروع غير مكتمل وإعادة النظر في إنجازاته‪،‬‬ ‫كثيًرا‬
‫التعّمق لغوًيًا‪ ،‬يمكن القول إننا ً‬
‫من دون ّ‬
‫أحدنا أن يعبر عما يجول بخاطره‪ ،‬يقول له‪ :‬لماذا‬ ‫والبحث عن مدلوالت جديدة‪ ،‬وإبداع أعمال‬ ‫ما نتحدث عن مفاهيم معينة من دون أن‬
‫أنت مختلف عن هذه الصورة؟‬ ‫يتفوق فيها على نفسه"‪.‬‬ ‫نتفق على مدلوالتها‪ ،‬وال يقتصر أ‬
‫األمر على‬
‫المصطلحات الفلسفية الصعبة‪ ،‬بل يشمل ذلك‬
‫إننا لسنا وحدنا من يصنع هذه القوالب النمطية‬ ‫تعدد المفاهيم‬ ‫أبسط المفردات‪.‬‬
‫لبقية البشر‪ ،‬والدليل على ذلك أن العالم كله‬ ‫اإلسالمية والثقافة‬
‫إننا نتحدث عن الثقافة إ‬
‫ئيًسا للواليات‬ ‫السعودية والثقافة اإلفريقية والثقافة أ‬
‫األمريكية‬ ‫ولذا‪ ،‬ليس من المستغرب أن نجد عشرات‬
‫خبر انتخاب باراك أوباما ر ً‬
‫أ‬
‫استقبل‬ ‫إ‬
‫المتحدة األمريكية بترحاب مبالغ فيه‪ ،‬مع ما في‬ ‫وثقافة الهنود الحمر وثقافة السود في أمريكا‪،‬‬ ‫كثيًرا‬
‫التعريفات لمصطلح الثقافة‪ ،‬الذي ً‬
‫ذلك من قناعة مبطنة‪ ،‬بأنه أمر غير عادي أن‬ ‫وبذلك تتضح الفوضى أو التعددية المرتبطة بهذا‬ ‫ما ُيُخلط بينه وبين مصطلحات أخرى مثل‬
‫يتوّلّى أسود هذا المنصب‪.‬‬ ‫المصطلح‪ .‬فهو مرة يشير إلى حاملي جنسية دولة‬ ‫الحضارة والهوية‪ .‬ولسنا هنا بصدد استعراض‬
‫ما‪ ،‬وتارة إلى أتباع ديانة معينة‪ ،‬وتارة إلى سكان‬ ‫هذه التعريفات‪ ،‬ولكننا نكتفي بعرض تعريف‬
‫التصّور الموروث عن الثقافة من أنها دائرة‬
‫ّ‬ ‫ينطلق‬ ‫قارة‪ ،‬وتارة إلى جماعة إثنية‪ .‬كما يظهر عدم‬ ‫واحد‪ ،‬على سبيل المثال وليس التفضيل‪ ،‬وهو‬
‫مغلقة على نفسها‪ .‬فالعرب ا‬
‫مثاًل‪ ،‬لهم دينهم‬ ‫األمريكية‪ ،‬الذي يشير‬‫الدقة في مصطلح الثقافة أ‬ ‫الصادر عن منظمة اليونسكو ويقول إن الثقافة‬
‫ولغتهم وتاريخهم وتراثهم وعاداتهم وتقاليدهم‬ ‫إلى دولة معينة هي الواليات المتحدة أ‬
‫األمريكية‪،‬‬ ‫هي‪" :‬جميع السمات الروحية والمادية والفكرية‬
‫وطريقتهم في اللباس والطعام واالحتفال‬ ‫مع أن هناك قارتين أمريكيتين‪ ،‬فيهما كثير من‬ ‫مجتمًعا معي ًًنا‪ ،‬أو فئة‬
‫ً‬ ‫والعاطفية التي تميز‬
‫طقوًسا للتعبير عن الحزن‪،‬‬ ‫أ‬
‫باألفراح‪ .‬كما أن لهم‬ ‫الدول يستبعدها المصطلح غير الدقيق‪.‬‬ ‫آ‬
‫اجتماعية بعينها‪ ،‬وتشمل الفنون واآلداب وطرائق‬
‫ً‬ ‫أ‬
‫وفي خوفهم من الحسد‪ ،‬وتمسكهم بإكرام‬ ‫لإلنسان‬‫الحياة‪ ،‬كما تشمل الحقوق األساسية إ‬
‫الضيف‪ ،‬أًّيًا كانت حالتهم المادية‪ ،‬وفي احترام‬ ‫ما يعنينا في هذا المجال‪ ،‬هو أننا ننطلق من‬ ‫ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات‪.‬‬
‫الوالدين‪ ،‬مهما اختلف الفرد معهما‪ .‬وفي مقابل‬ ‫قناعة بأن الصورة النمطية التي نحملها في‬
‫األمريكيين ا‬‫أذهاننا عن السود أ‬ ‫اإلنسان قدرته على‬
‫ذلك‪ ،‬هناك تصورات حديثة للثقافة‪ ،‬بأنها ليست‬ ‫مثاًل‪ ،‬تساعدنا في‬ ‫والثقافة هي التي تمنح إ‬
‫دائرة مغلقة على نفسها‪ ،‬بل هي دوائر متداخلة؛‬ ‫التعامل معهم‪ ،‬وكأن كل أمريكي أسود كائن‬ ‫التفكير في ذاته‪ ،‬وتجعل منه كائ ًًنا يتميز‬
‫أألن هناك بالتأكيد دوائر مشتركة بين غالبية‬ ‫تبًعا لمعايير متطابقة مع أخيه‪.‬‬‫مستنسخ ً‬ ‫باإلنسانية المتمثلة في العقالنية والقدرة على‬‫إ‬
‫الثقافات‪ ،‬إن لم يكن كلها‪ .‬فليست هناك ثقافة‬ ‫األمر نفسه على كل فرد قادم من‬ ‫ويسري أ‬ ‫األخالقي‪ ،‬وعن طريقها يهتدي‬ ‫النقد وااللتزام أ‬
‫إفريقية أو صينية أو عربية أو أمريكية ال تدعو‬ ‫بنغالدش أو الهند أو إنجلترا‪ .‬ولكننا عندما‬ ‫إلى القيم ويمارس االختيار‪ .‬وهي وسيلة‬
‫إلى مساعدة الضعيف‪ ،‬أو ال تتشارك الحزن‬ ‫نكتشف أن هناك اختالفات جوهرية بين هذا‬ ‫والتعّرف على ذاته‬
‫ّ‬ ‫اإلنسان للتعبير عن نفسه‪،‬‬
‫إ‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪79 | 2024‬‬


‫واحدة‪ ،‬لن يؤدي إلى انتشار التفاهم بين‬ ‫تتصادم السيارات في الطريق‪ .‬ففيها يدرك‬ ‫عند حدوث الكوارث‪ .‬ليست هناك ثقافة ترى أن‬
‫الناس من مختلف بقاع العالم ومن أتباع‬ ‫كل فرد كيف يتصرف في هذا الموقف أو ذاك‪،‬‬ ‫الكذب فضيلة‪ ،‬وأن الصدق رذيلة‪ ،‬وهذه القيم‬
‫مختلف الديانات‪ ،‬ولن يحول دون وقوع صدام‬ ‫ويتعايش المجتمع في ظل اتفاق على ما‬ ‫المشتركة قادرة على التوفيق بين أتباع الثقافات‬
‫الحضارات‪ ،‬بل سيفرغ البشرية من أهم ما‬ ‫يجوز وما ال يجوز‪ .‬ويكون عدم االلتزام بهذه‬ ‫المتعددة‪ ،‬بالرغم ما بينها من نقاط اختالف‪.‬‬
‫يجعلها قادرة على البقاء‪ ،‬وهو تنوعها الثقافي‬ ‫القواعد هو االستثناء وليس القاعدة‪ ،‬مثل‬
‫والثراء الناجم عن تالقحها‪ .‬فكل ثقافة تحمل‬ ‫حوادث السير التي تنجم عن مخالفة السائق‬ ‫ومن يدقق النظر في ثقافة معينة‪ ،‬سيجد أنها‬
‫إرًثًا من آالف أو مئات السنين‪ ،‬يحتوي على‬ ‫لهذه القواعد‪َ .‬أَّما إذا خالف الجميع هذه‬ ‫تتغير وتتبدل بمرور الوقت‪ .‬فإذا كان العرب‬
‫خبرات البشر‪ ،‬والتخلي عن كل ذلك يم ّّثل‬ ‫عندئٍذ‬
‫ٍ‬ ‫القواعد‪ ،‬فإن الفوضى ستعم‪ ،‬وال يمكن‬ ‫قديًما يستمتعون بقصائد امرئ القيس والخنساء‬ ‫ً‬
‫خسارة للبشرية ككل‪.‬‬ ‫الحديث عن ثقافة مشتركة تجمع بين أتباعها‪.‬‬ ‫وأبي ُنُواس والمتنبي‪ ،‬فإنهم اليوم يميلون إلى‬
‫أشعار غازي القصيبي ونزار قباني وإبراهيم‬
‫عّبر كثيرون‬ ‫وعندما كثر الحديث عن العولمة‪ّ ،‬‬ ‫ناجي‪ .‬ثم إن طريقتهم في الطعام واللباس‬
‫عن مخاوف مبررة من هيمنة ثقافة واحدة على‬ ‫تبّدلت‪ ،‬وحتى المفاهيم التي تبنوها عشرات‬ ‫قد ّ‬
‫العالم كله‪ .‬فكل الشباب يرتدون المالبس‬ ‫السنوات ليست بمعزل عن التطور والتبدل‬
‫نفسها‪ ،‬وكلهم يأكلون في المطاعم نفسها‪،‬‬ ‫التصّور‪ ،‬فإن الثقافة مثل‬
‫ّ‬ ‫وتبًعا لهذا‬
‫والتغير‪ً .‬‬

‫إذا خالف الجميع قواعد‬


‫ويستمعون إلى الموسيقى نفسها‪ ،‬وَيَ ُُع ُُّدون‬ ‫النهر‪ ،‬ال وجود لها في حالة سكون وركود‪ ،‬بل هي‬
‫مثاًل أعلى‪.‬‬ ‫العب الكرة هذا أو ذاك الممثل ا‬ ‫دائمة الحركة‪ .‬وهذه الديناميكية هي التي تجعلها‬
‫الثقافة‪ ،‬فإن الفوضى‬
‫قادرة على االستمرار في الوجود‪ ،‬في عالم متبدل‬

‫ستعم‪ ،‬وال يمكن عندئٍذٍ‬


‫ويظهر ذلك في ماليين المشاهدات في‬ ‫بسرعة فائقة‪.‬‬
‫اإلنترنت لفيديو ما‪ ،‬أو المتابعات لحساب‬
‫إ‬
‫الحديث عن ثقافة مشتركة‬
‫شخص ما‪ .‬وطالب كثيرون بالعودة إلى‬ ‫الثقافة والهوية والفسيفساء‬

‫تجمع بين أتباعها‪.‬‬


‫ونّبهوا إلى أن االعتقاد الخاطئ‬
‫الجذور‪ّ ،‬‬ ‫بعيًدا عن التفسيرات المعقدة للثقافة‪ ،‬يمكن‬
‫ً‬
‫بتخلي الجميع عن ثقافاتهم وهيمنة ثقافة‬ ‫القول إنها مثل قواعد المرور التي تضمن أال‬

‫بعًضا‪.‬‬ ‫معصوبو أ‬
‫األعين والفيل‪ ،‬كل واحد يصف جز ًًءا من حقيقة الفيل‪ ،‬وال تعارض بينها‪ ،‬بل تكمل بعضها ً‬
‫تقبل وجود ثقافة أخرى ال‬
‫يعني تبنيها والتخلي عن‬
‫ثقافتنا من خالل الذوبان في‬
‫أبًدا إلغاء‬
‫اآلخر‪ .‬فالهدف ليس ً‬
‫ثقافتنا أو هويتنا والتشبع‬
‫بالثقافة الجديدة‪.‬‬

‫تنص على عدم وجود اختالف في طريقة‬


‫التحدث بين الجنسين‪ ،‬هي الصواب ويجب أن‬
‫تطبقها كل الثقافات أ‬
‫األخرى‪.‬‬

‫الدرس الرابع‪ ،‬هو االعتراف بأن هناك اختالفات‬ ‫وينتقل للعيش في بلد آخر‪ ،‬فيعتقد أن أسهل‬ ‫إضافة إلى ما تقدم‪ ،‬فإن هوية أتباع الثقافة‬
‫تقّدس الوقت‬‫جوهرية بين الثقافات‪ :‬ثقافة ّ‬ ‫الطرق ليتقبله المجتمع الجديد هو أن يندمج فيه‬ ‫الواحدة هي عبارة عن فسيفساء تحمل في‬
‫إلى درجة االنسالخ عن هويته أ‬ ‫مكّونات ال حصر لها‪ .‬إنها هوية مرّكّبة‪ ،‬لها‬
‫وتخطط لكل يوم قبل شهور طويلة‪ ،‬وثقافة‬ ‫األصلية‪.‬‬ ‫طياتها ّ‬
‫تفضل التلقائية واالستمتاع باللحظات السعيدة‬ ‫قشرة خارجية وطبقات داخلية كثيرة‪ .‬فما يظهر‬
‫وال تعتبر أن الحياة عبارة عن جدول أعمال‬ ‫إن الهدف من اكتساب مهارة التعامل مع أتباع‬ ‫اإلنسان‬
‫من لباس الفرد ولغته ولون بشرته‪ ،‬ليس إ‬
‫وثقافة تحترم قوامة الرجل على المرأة‪ ،‬وثقافة‬ ‫الثقافات أ‬
‫األخرى‪ ،‬ليس أن تكون بال هوية‬ ‫كله‪ ،‬بل هو المظهر الخارجي فقط‪ .‬والحكم على‬
‫ترّسخ عدم وجود أي فوارق بينهما‪ .‬وثقافة‬‫ّ‬ ‫لتنسجم مع الجميع‪ ،‬بل على العكس من ذلك‬ ‫اإلنسان من خالل هذا المظهر‪ ،‬يتجاهل الجزء‬ ‫إ‬
‫أ‬ ‫أ‬
‫تحترم الوالدين وترعاهما حتى آخر لحظة من‬ ‫تماًما‪ .‬فالدرس األول‪ ،‬هو أن يعرف إ‬
‫اإلنسان‬ ‫ً‬ ‫األكبر من هوية الشخص‪ .‬والدليل على ذلك‬
‫أعمارهما‪ ،‬وثقافة تقوم على اقتطاع جزء من‬ ‫نفسه وهويته‪ ،‬والثوابت التي يتمسك بها‪ .‬لكنه‬ ‫أنك قد تتفاهم مع شخص من الجانب آ‬
‫اآلخر‬
‫الراتب‪ ،‬تنفق منه الدولة على المسن الذي يحتاج‬ ‫يقبل بأن يرى آ‬
‫اآلخر العالم من زاوية أخرى‪.‬‬ ‫األرضية‪ ،‬بكل ما فيه من اختالفات‪ ،‬وال‬‫من الكرة أ‬
‫إلى الرعاية‪.‬‬ ‫وهذا هو الدرس الثاني‪ ،‬أي أن تتخلى عن‬ ‫تتفاهم مع جارك الذي يتفق معك ظاهرًيًا في‬
‫االعتقاد بأنك تمتلك وحدك الحقيقة المطلقة‪.‬‬ ‫ثقافتك ومفاهيمك القيمية‪ ،‬أو تنفصل عن زوجة‬
‫الدرس الخامس‪ ،‬هو ترسيخ القناعة بأن لكل‬ ‫من نفس بيئتك‪.‬‬
‫إنسان هوية مختلفة‪ ،‬ويستحق أن نتعرف عليه‬
‫لذاته‪ ،‬من دون تطبيق أ‬ ‫الدرس الثالث‪ ،‬هو أننا ً‬
‫غالًبا ما نرى جز ًًءا‬
‫فكيف نتفاهم مع آ‬
‫األحكام المسبقة عليه‪.‬‬ ‫من الحقيقة وليست الحقيقة كلها‪ ،‬مع أننا لو‬ ‫اآلخر؟‬
‫وليس من اللباقة أن تمدحه بذكر صفات إيجابية‬ ‫اآلخر وفهمنا خلفياته‪ ،‬أألصبحنا‬ ‫استمعنا للرأي آ‬ ‫بدايًةً ‪ ،‬هناك من يرفض مصطلح آ‬
‫اآلخر أو الغريب؛‬
‫معتبًرا أنه مختلف عن الصورة النمطية التي‬
‫ً‬ ‫فيه‪،‬‬ ‫مثاًل‪ ،‬تقرر رفض‬ ‫أقدر على تقبله‪ .‬ففي سويسرا ا‬ ‫تشديًدا على االختالف‪ ،‬ويكون الحديث‬
‫ً‬ ‫أألنه يعني‬
‫أ‬
‫رسمتها أنت لشعبه؛ ألنك بذلك تهين الماليين‬ ‫منح شخص مسلم الجنسية؛ أألنه رفض عند‬ ‫عن "نحن" في جانب‪ ،‬وهؤالء "الغرباء آ‬
‫اآلخرون"‬
‫مقابل مدح شخص واحد‪.‬‬ ‫استالم وثيقة الحصول على الجنسية السويسرية‬ ‫في جانب آخر‪ ،‬مع أن أ‬
‫األصل في العالقة بين‬
‫سّيدة فاعتبرت‬ ‫أن يصافح عمدة المدينة‪ ،‬وكانت ّ‬ ‫البشر‪ ،‬كل البشر‪ ،‬هو أن يتعارفوا‪ .‬ومن خالل‬
‫الدرس السادس أ‬
‫واألخير‪ ،‬هو أن في داخل‬ ‫عدم مصافحته إياها إهانة لها‪ ،‬وظ ّّنت أنه يع ِِّبر‬ ‫هذه المعرفة‪ ،‬نرى العالم من منظور آخر‪ ،‬من‬
‫كل إنسان الخير والشر‪ .‬فإن أحسنت معاملته‬ ‫األمر‬ ‫عن احتقار المسلم للمرأة الغربية‪ .‬ويتكرر أ‬ ‫دون حكم مسبق بأنه أسوأ من رؤيتنا له‪ ،‬لمجرد‬
‫أخرجت ما فيه من خير‪ ،‬وإذا لم يفعل ذلك‪،‬‬ ‫األوروبية‪،‬‬ ‫األجانب أ‬‫نفسه في دوائر سلطات أ‬ ‫أنه مختلف عنا‪ ،‬وليس بالضرورة أفضل‪ .‬كما أن‬
‫حيث تعتبر الموظفة أن عدم نظر أ‬ ‫أبًدا إلغاء ثقافتنا أو هويتنا والتشبع‬
‫فحسبك أنك طبقت قاعدة‪" :‬اصنع المعروف‬ ‫األجنبي لها‬ ‫الهدف ليس ً‬
‫إلى من هو أهله وإلى من ليس بأهله‪ ،‬فإن‬ ‫ا‬
‫وتقلياًل من‬ ‫نفوًرا منها‬
‫بصورة مباشرة في وجهها‪ً ،‬‬ ‫بالثقافة الجديدة‪ .‬فتقبل وجود ثقافة أخرى‪ ،‬ال‬
‫أصبت أهله‪ ،‬فقد أصبت أهله‪ ،‬وإن لم تصب‬ ‫شأنها‪ ،‬وتستغرب حين تعلم أنه بذلك يحترمها‪.‬‬ ‫يعني تبنيها والتخلي عن ثقافتنا من خالل الذوبان‬
‫أهله‪ ،‬فأنت من أهله"‪.‬‬ ‫والمشكلة تكمن في أنها تعتقد أن ثقافتها التي‬ ‫اآلخر‪ .‬كما يفعل البعض حين يغادر وطنه‪،‬‬ ‫في آ‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪81 | 2024‬‬


‫مجلة القافلة‬
‫مايو ‪ -‬يونيو ‪2024‬‬ ‫آفاق‬

‫العمارة اليافعية‬

‫عين وعدسة‬
‫خبرات متوارثة واستدامة ََح ََضرية‬
‫�‬
‫اإلبداعي الحضاري الذي‬ ‫ُعرِّب العمارة الحجرية ييف منطقة يافع اليمنية عن حجم الرتر اكم إ‬
‫ُت � ر‬
‫والحمريية‪.‬‬
‫ر‬ ‫شهدته يافع‪ ،‬منذ عصور ما قبل الميالد‪ ،‬وفق ما تحكيه النقوش السبئية‬
‫العمراين � ييف يافع إىل وجهة موضوعية خصبة‬
‫ي‬
‫�‬ ‫الرثاء‬‫وهذا السفر الطويل عربر الزمن‪ ،‬أحال ر‬
‫�‬ ‫�ن أ‬ ‫�ن‬
‫والدارسني‬ ‫�ن‬
‫للباحثني‬
‫عِملوا أدواتهم البحثية ييف استكشاف تفاصيل هذا‬ ‫اليمنيني واألجانب‪ ،‬ل ُُي ِ‬
‫�ن‬
‫المشهد الجامع بني مدنية القصور وهدوء الريف ونقائه‪ ،‬وأرسار استدامة القيم النفعية‬
‫والجمالية لهذا النمط المعماري عىل مر التاريخ‪.‬‬

‫محمد محمد إبراهيم‬


‫تصوير‪ :‬عبدالرحمن الغابري‬

‫قلعة المحجبة‪ ،‬حاضرة سالطين سلطنة يافع العليا سابًقًا‪،‬‬


‫اإلداري لمديرية لبعوس (بني‬ ‫آ‬
‫وهي اآلن ضمن التقسيم إ‬
‫مالك) بيافع العليا‪.‬‬
‫التخطيط المنتظم بالمعنى أ‬
‫األفقي للمدينة‪.‬‬ ‫تمتد منطقة يافع من غرب محافظة أبين‬
‫فالمدن أ‬
‫واألسواق في يافع تشّكّلت ضمن‬ ‫إلى الجهة الشمالية الشرقية لمحافظة لحج‬
‫تفّرقت على قمم الجبال‬
‫تجمعات سكنية ّ‬ ‫جنوب اليمن‪ ،‬ويحدها من الجنوب ساحل‬
‫أ‬
‫وصدور التالل والهضاب وضفاف األودية‪.‬‬ ‫البحر‪ ،‬ومن الشمال البيضاء‪ ،‬ومن الشرق‬
‫ولعل أشهر مدن يافع ذات الطبيعة الريفية‪:‬‬ ‫لودر (مكيراس)‪ ،‬ومن الغرب الضالع وحالمين‪.‬‬
‫مدينة بني بكر‪ ،‬تليها مدينة خالقة‪ ،‬ومدينة‬ ‫وتتكون طبيعة هذه المنطقة في معظمها من‬
‫المحجبة وخيلها‪ ،‬وغيرها من المدن أ‬
‫واألسواق‪.‬‬ ‫سالسل جبلية متداخلة تتراوح في ارتفاعاتها ما‬
‫قدًما عن سطح البحر‪ ،‬ما‬‫بين ‪ 2000‬و‪ً 8225‬‬
‫تاريخًيا‪ ،‬فقد برزت يافع كأحد أهم مراكز‬
‫ً‬ ‫َأَّما‬ ‫جعل جبال يافع تشتهر بالمدرجات الزراعية‬
‫المملكة السبئية ومدنها التي تعود إلى القرن‬ ‫والتجمعات القروية والحصون العالية‬
‫قديًما باسم‬
‫السابع قبل الميالد‪ ،‬و ُُعرفت ً‬ ‫المتناثرة على جنبات الجبال والتالل‪ ،‬ويتخللها‬
‫"دهس" أو "دهسم"‪ ،‬حيث ورد اسمها في‬ ‫كثير من الوديان‪ ،‬أشهرها أودية‪ :‬ذي ناخب‬
‫نقش النصر الموجود في معبد "المقه"‬ ‫وخطيب ويهر ووادي بنا‪.‬‬
‫بصرواح (معبد أوعال) على ُبُعد ‪ 40‬كيلو‬
‫ويعُّد أطول النقوش السبئية‬
‫متًرا من مأرب‪ُ ،‬‬
‫ً‬ ‫يطغى على مشهد العمارة اليافعية نوع من‬
‫وأهمها‪ .‬وبحسب هذا النقش‪ ،‬فقد اتسعت‬ ‫الصلة اللونية بينها وبين رمادية الصخور‬
‫أحد القصور اليافعية على أطراف إحدى القرى بيافع‪ ،‬وتحيط‬ ‫مملكة "كرب إل وتر" في القرن السابع قبل‬ ‫الجرانيتية ذات اللون الرصاصي الواضح‪ ،‬التي‬
‫بمنازلها حقول زراعة الحبوب (الذرة الرفيعة)‪ ،‬ذات السنابل‬ ‫الميالد‪ ،‬لتشمل مختلف مناطق اليمن وجبالها‪،‬‬ ‫تنتشر في جغرافية المنطقة‪ .‬كما أن التكوين‬
‫أ‬
‫األفضل في اليمن‪.‬‬ ‫كجبل العر و"هجر علت" وجبل ثمر‪ ،‬وكلها‬ ‫الجغرافي الجبلي الذي يتصف بالضيق‬
‫أسماء في منطقة يافع (دهس)‪.‬‬ ‫تكُّون المدينة ذات‬
‫والوعورة‪ ،‬حال دون ُ‬

‫منازل حجرية مرصوصة بعضها إلى جوار بعض في أحد التجمعات الحضرية بيافع‪.‬‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪83 | 2024‬‬


‫مركز مديرية لبعوس‪ ،‬وهي أكبر التجمعات العمرانية الحجرية وأشهرها في يافع‪.‬‬

‫نشأ فن العمارة هذا على‬ ‫أسٍر معمارية خرج‬


‫بالمجتمع العمراني‪ ،‬عبر ٍ‬ ‫خبرات ومهارات متوارثـة عائل ًًيا‬
‫منظومة متوارثة من العادات‬
‫صدارة تلك أ‬
‫األسر‬ ‫منها أساطين البناء‪ ،‬وفي‬ ‫اإلسالمية في‬
‫يص ِِّنف أستاذ التاريخ والحضارة إ‬
‫والطقوس الضاربة في‬
‫توّزع أبناؤها على عدة‬
‫أسرة "آل بن صالح" التي ّ‬ ‫جامعة عدن‪ ،‬الدكتور علي صالح الخالقي‪،‬‬

‫ِ‬
‫الِقدم‪ ،‬لكنها تحولت مع‬
‫قرى في هضبة يافع العليا‪ ،‬وخاضوا تجارب‬ ‫عمار ََة يافع الحجرية ضمن أبرز ثالثة مظاهر‬
‫اإلحاطة بقوانين‬
‫مهنية هندسية مّكّ نتهم من إ‬ ‫عمرانية ُُعرفت بها حضارة اليمن عبر التاريخ‪،‬‬
‫الزمن إلى قوانين أثبت علم‬ ‫العمارة الحجرية الفريدة ومقاييسها وأبعادها‬ ‫إلى جانب عمارة الياجور التي اشتهرت بها‬

‫البيئة والطبيعة منطقية‬


‫وفنونها‪ .‬إنهم عظماء بال مدارس‪ ،‬ومهندسون‬ ‫صنعاء القديمة‪ ،‬وعمارة الطين التي تفردت‬
‫خبراء بال جامعات‪.‬‬ ‫بكمال جمالها مدينة شبام حضرموت‪.‬‬
‫بعضها‪.‬‬
‫وفي سياق ذلك‪ ،‬يقول الدكتور الخالقي‪" :‬إن‬ ‫فبالرغم من أن تخطيط البناء في يافع َ‬
‫ظَّل‬
‫إبداع أساطين آل بن صالح‪ ،‬لم يتوقف عند‬ ‫مقيًدا بالتضاريس الجبلية الشرسة‪ ،‬فإن‬
‫ً‬
‫يافع‪ ،‬بل امتدت خبراتهم إلى المناطق المجاورة‬ ‫الب ّّنائين خّطّوا في صالبة الجبال منازل وقرى‬
‫كالبيضاء وحالمين والشعيب وردفان والضالع‬ ‫ومدًنًا ريفية مرصعة بالحقول والمدرجات‬
‫وبالد العواذل‪ ،‬وصواًلا إلى شبوة ومناطق أخرى‪.‬‬ ‫انًيا يشي بمعاني‬
‫مشهًدا عمر ً‬
‫ً‬ ‫الزراعية‪ ،‬وخلقوا‬
‫اإلبداعي‪ ،‬قصور‬
‫ولعل من شواهد ذلك التناسخ إ‬ ‫الجمال والجالل‪ ،‬ويشير إلى أنه نتاج هندسة‬
‫سالطين آل العواذل في قمة زارة القريبة من‬ ‫بعقوٍل‬
‫ٍ‬ ‫افًيا‬ ‫فكرية قبل أن يكون ا‬
‫عماًل بنيوًيًا احتر ً‬
‫لودر‪ ،‬التي ش ََّي ََدها معلمو بناء من آل بن صالح‬ ‫وأياٍد حذقت فنون العمارة بالفطرة‪ .‬وقد‬‫ٍ‬
‫عام ‪1920‬م"‪.‬‬ ‫أوصلوا منطقة يافع إلى مرتبة تستحق وصفها‬
‫(أي مدخله) إلى الجهة الجنوبية أو الشرقية‪.‬‬ ‫ويرى المهندسون المعماريون أن البناء‬ ‫تناغم مع الطبيعة واحتياجات المجتمع‬
‫وُج ِِّنبت مواقع النوافذ والفتحات مسار حركة‬‫ُ‬ ‫بالحجارة وتثبيتها بالطين‪ٌ ،‬‬
‫كفيٌل بمقاومة الرياح‬ ‫تتميز العمارة الحجرية اليافعية بالتناسخ‬
‫الرياح الباردة‪ .‬كما راعى ُبُناتها عند التأسيس‬ ‫والزالزل‪ ،‬حيث يم ّّثل كل حجر في البناء وحدة‬ ‫العنقودي للمنازل المتشابهة‪ ،‬من حيث طرازها‬
‫أسًيا؛ أألن بناء تلك‬
‫معيار التوسع المستقبلي ر ً‬ ‫مستقلة في حاالت الزالزل‪ ،‬فتتحرك بمرونة‬ ‫المعماري ولون أحجارها الرمادي المائل إلى‬
‫زمنًيا ومختلفة‪،‬‬ ‫متباعدة‬ ‫األبراج جرى على مراحل‬ ‫أ‬ ‫واستقاللية‪ .‬وفي الوقت نفسه‪ ،‬يظل الترابط‬ ‫األزرق‪ ،‬وهي خصوصية ناتجة من طبيعة‬ ‫أ‬
‫ً‬ ‫بحسب تكاثر أفراد أ‬
‫األسرة وتطورها وارتباطها‬ ‫قائًما على المستوى الرأسي‬
‫ببقية وحدات البناء ً‬ ‫صخورها الجرانيتية‪ .‬ويظهر االختالف في‬
‫األزلي بالمكان؛ لتقدم العمارة اليافعية بهذه‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫واألفقي مع حركة الزلزال‪ ،‬على عكس البناء‬ ‫األهم في‬‫أحجام المنازل وأطوالها‪ ،‬غير أن أ‬
‫الخصائص معالجات هندسية رصينة خلقت‬ ‫واإلسمنت الذي يتعرض‬ ‫الخرساني بالحديد إ‬ ‫هذه المنازل أنها تعكس الواقع االجتماعي‬
‫التناغم المتبادل بين العمارة والبيئة (الطبيعة)‬ ‫للكسر بسهولة جّراء أبسط الهزات أ‬ ‫اإلنسان‬
‫األرضية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫واالقتصادي والثقافي‪ ،‬وتلبي احتياجات إ‬
‫والمجتمع‪ ،‬وفق ما يراه الدارسون‪.‬‬ ‫للسكن المقاوم لغضب الطبيعة وتحوالت‬
‫وتتفرد العمارة الحجرية في يافع بمبانيها أو‬ ‫الزمن؛ لتحقق بذلك العمارة الحجرية مقومات‬
‫أبراجها الرأسية الناطحة للسحاب‪ .‬إذ استفاد‬ ‫االستدامة الحضرية‪ .‬وقد أثبتت معطيات‬
‫األرض وجبالها وآكامها‬ ‫البناؤون من طبوغرافية أ‬ ‫تاريخها وواقعها أن تـكوينها الحجري والطيني‬
‫الصخرية‪ ،‬واعتمدوا على المواد المحلية من‬ ‫عمًرا يتراوح ما بين ‪ 400‬و‪600‬‬
‫يمنح مبانيها ً‬
‫الحجر والطين والخشب‪ ،‬فشيدوا أبنية تتالءم‬ ‫عام‪ِِ ،‬ع ًلًما أن بعض أبنيتها صمد أكثر من ‪800‬‬
‫مع الظروف المناخية السائدة صيًفًا وشتا ًًء‪.‬‬ ‫عام أمام عوامل الزمن والطبيعة‪.‬‬
‫ووِّج ََه‬
‫فقد ُبُنيت الجدران السميكة من الحجر‪ِ ،‬‬
‫مناسًبا إلى القبلة‪ ،‬وتكون "سدته"‬ ‫ً‬ ‫المبنى توجي ًًها‬

‫تجمعات سكنية للمنازل الحجرية في قرية الوالي‪ ،‬إحدى قرى يافع‪.‬‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪85 | 2024‬‬


‫تجمعات سكنية ومنازل حجرية متفرقة في بطون الجبال والوهاد والهضاب وسط منطقة يافع جنوب اليمن‪.‬‬

‫النمط الثالث‪ :‬مبنى العديل‬ ‫وهناك معتقدات كثيرة ترافق مراحل البناء‪ ،‬منها‪:‬‬ ‫الثقافة العمرانية‪..‬‬
‫وهو مبنى سكني مستطيل المسقط واسع‬ ‫توجيه المنزل وتحديد أماكن النوافذ واللهوج‬ ‫معتقدات أم قوانين؟‬
‫المساحة‪ ،‬ويشمل المساحات والوظائف نفسها‬ ‫(الفتحات) وتتويج المنزل بعد نهاية البناء‪.‬‬ ‫نشأت العمارة في يافع على منظومة متوارثة‬
‫التي يشملها النوع أ‬
‫األول‪ .‬وله مدخالن في‬ ‫األصيلة الضاربة في‬‫من العادات والطقوس أ‬
‫األرضي‪ :‬مدخل أمامي ومدخل خلفي‪.‬‬ ‫الطابق أ‬ ‫أنماط العمارة السكنية وفًقًا للشكل‬ ‫تحّولت مع الزمن‬
‫الِقدم‪ ،‬لكن هذه المعتقدات ّ‬ ‫ِ‬
‫وجاءت تسمية العديل من التصميم المتناظر‬ ‫قَّس ََم الدارسون العمارة اليافعية للمنازل‬
‫َ‬ ‫إلى قوانين أثبت علم البيئة والطبيعة منطقية‬
‫في المفرشين‪.‬‬ ‫السكنية إلى ثالثة أنماط رئيسة‪ ،‬وفًقًا لشكل‬ ‫بعضها‪ .‬ومن أبرز هذه العادات والطقوس‪،‬‬
‫المسقط أ‬
‫األفقي للمبنى‪.‬‬ ‫مجتمعًيا بيوم‬
‫موعد بدء البناء‪ ،‬الذي ُُح ِِّدد أ ً‬
‫أ‬
‫مراحل بناء المنزل اليافعي‬ ‫األرض ُُخلقت‬ ‫اإليمان بأن‬
‫األحد‪ ،‬انطالًقًا من إ‬
‫تمر عملية بناء المنزل اليافعي‪ ،‬بهيئته المعروفة‬ ‫األول‪ :‬المبنى المربوع أو التقليدي‪،‬‬ ‫النمط أ‬ ‫األحد واكتمل خلقها يوم الجمعة في ستة‬ ‫يوم أ‬
‫والمتكاملة‪ ،‬بسبع مراحل هي‪:‬‬ ‫وُس ّّمي بالمربوع لتساوي أبعاده الخارجية‬
‫أُ‬ ‫أيام‪ ،‬وفًقًا لما ورد في القرآن الكريم‪.‬‬
‫ويتكَّون كل‬ ‫األربعة‪ ،‬ويعُّد من أقدم أ‬
‫األنماط‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫األولى‪ :‬الفكرة والتخطيط وتوفير الموارد‪.‬‬‫المرحلة أ‬ ‫سَّمى المفرش (الصالة)‪،‬‬
‫في هذه المرحلة‪ُ ،‬توضع أ‬ ‫دور من غرفة رئيسة ُتُ َ‬ ‫ومن المعتقدات السائدة والمعتمدة في اختيار‬
‫األبعاد الهندسية والفنية‬ ‫ُ‬ ‫ويلحق بالصالة مغسال‪ .‬وفي إحدى ضفتي‬ ‫الموقع واختبار صالحيته للبناء أو عدمها‪ ،‬أنه‬
‫الُمراد تشييده‪ ،‬وفق تكامل القيم النفعية‬ ‫لياًل في إحدى زوايا أ‬
‫وَضع بيضة ا‬
‫للمبنى ُ‬ ‫المفرش ُتُبنى "الحلة"‪ ،‬وهي عبارة عن مستودع‬ ‫األساس بعد‬
‫أ‬
‫ُتُ َ‬
‫التي ُتُ ّلّبي حاجة صاحبه من مختلف الجوانب‪:‬‬ ‫صغير بارتفاع متر لخزن المالبس‪ .‬وفوق‬ ‫حفره لقياس درجة الحرارة من بطن األرض ال ََّت ِـِرَبَة‪،‬‬
‫األسرة أو أ‬
‫األسر؛‬ ‫اجتماعًيا من حيث عدد أفراد أ‬ ‫سقف الضفتين توجد "الهدة"‪ ،‬وهي مكان‬ ‫تغّير‬
‫واقتصا ًدًيا من حيث استيعاب أ‬ ‫وتْركها زم ًًنا محد ًًدا‪ .‬فإذا ّ‬‫وخاصة المسامية‪ْ ،‬‬
‫األنشطة المعيشية‬ ‫ً‬ ‫سَّمى"المربعة"‬
‫مخصص للنوم‪ ،‬وغرفة أخرى ُتُ َ‬ ‫َ‬
‫لونها أو تماسك زاللها‪ ،‬دَّل على درجة تبخر أعلى‪،‬‬
‫وجمالًيا من‬
‫ً‬ ‫الحيوانات؛‬ ‫وتربية‬ ‫ومحاصيلها‬ ‫كالزراعة‬ ‫وبيت الدرج‪.‬‬ ‫فيحكمون على المكان بأنه غير صالح للبناء‪.‬‬
‫حيث المظهر العام للمبنى وتناسق مظهره مع‬
‫الهوية الثقافية والدينية للمجتمع‪.‬‬ ‫النمط الثاني‪ :‬مبنى التطليعة‬ ‫ومن المعتقدات التي تشير إلى عدم صالحية‬
‫وهو مبنى من النوع المربوع مضافة إليه‬ ‫الموقع للبناء‪ ،‬أن يجد حّفّارو أ‬
‫األساس نملة‬
‫َاَشة والتشذيب (توفير‬ ‫المرحلة الثانية‪ :‬ال ِِّنَق َ‬ ‫"تطليعة"‪ ،‬وهي عبارة عن مساحة إضافية‬ ‫سوداء‪ ،‬فيتشاءمون وينصرفون عن المكان‪ .‬وإن‬
‫األحجار وتجهيزها)‪ ،‬وُيُقصد بال ِِّنَقَاشة نحت‬ ‫أ‬ ‫(مقدمة)‪ ،‬تخرج من إحدى الجهات أ‬
‫األربع‪،‬‬ ‫وجدوا نملة حمراء‪ ،‬يستبشرون ويفضلون البناء‬
‫الحجارة أو استخراجها من الجبال الصخرية‪،‬‬ ‫وتكون بمقدار يساوي مساحة المفرشة‪ ،‬مع بروز‬ ‫في المكان؛ وذلك العتقادهم أن النملة السوداء‬
‫وتتنوع ألوانها بين الرمادي الداكن والنيزكي‬ ‫إضافي في الجهة أ‬
‫األمامية يوفر زيادة المساحة‬ ‫متوحشة تنخر في التربة وُتضر أ‬
‫باألساسات‪ ،‬على‬ ‫ُ‬
‫والُبْركاني والمائل إلى أ‬
‫األزرق‪.‬‬ ‫النفعية للغرف التي ُتُبنى إلى جهة المقدمة‪.‬‬ ‫عكس النملة الحمراء‪.‬‬
‫ُْ‬
‫المرحلة السابعة‪ :‬التتويج والتشاريف‪ ،‬فبعد‬ ‫وال تزال هذه الطريقة قائمة حتى اليوم‬ ‫المفِّرص‪ ،‬وله‬
‫سَّمى محترف النقش‪ ،‬النَّقَاش أو ِ‬ ‫وُيُ َ‬
‫اكتمال بناء المنزل من ثالثة إلى سبعة طوابق أو‬ ‫في المناطق الجبلية التي لم تصلها الطرق‬ ‫أدواته الخاصة به‪َ .‬أَّما عملية التشذيب‪ ،‬فتعني‬
‫أكثر‪ ،‬يجري تتويج المنزل بأكاليل حجرية مشّكّلة‬ ‫والسيارات‪.‬‬ ‫تسوية الحجارة وتجهيزها للبناء‪ ،‬وُيُ ََس ََّمى محترف‬
‫بعناية‪ ،‬ونظمها في أعلى المنزل‪ ،‬وتكون أ‬
‫األكاليل‬ ‫المَوِّقِص‪ .‬والتوقيص‬ ‫المشِّذِ ب أو َ‬ ‫هذه العملية‬
‫هو تمثيل زوائد أ‬
‫حجًما‪َ .‬أَّما التشاريف‪،‬‬
‫التي في الزوايا أكبر ً‬ ‫المرحلة الرابعة‪ :‬بناء الدور والتشاريف‪ ،‬وُتُعد‬ ‫األحجار وأبعادها لتتجانس‬
‫فتنتظم ما بين أكاليل الزوايا‪.‬‬ ‫زمنًيا‪ ،‬حيث تبدأ ببناء‬
‫أصعب المراحل وأطولها ً‬ ‫أيًضا‪.‬‬
‫بعضها مع بعض‪ ،‬وله أدواته الخاصة ً‬
‫المجموعة أ‬
‫األولى‪ ،‬ثم‬ ‫األساسات من أحجار‬ ‫أ‬
‫هكذا ُتُبنى عمائر يافع التي تشّكّل نمًطًا‬ ‫يجري البناء وفق توزيع المجموعات المشار إليها‬ ‫وُتشَّذَ ب وتجهز أ‬
‫األحجار وفق ست مجموعات‪،‬‬ ‫ُ‬
‫فريًدا‪ ،‬تقول عنه المهندسة المعمارية‬ ‫في المرحلة الثانية من تجهيز أ‬
‫معمارًيًا ً‬ ‫األحجار‪.‬‬ ‫هي‪:‬‬
‫البريطانية‪ ،‬الدكتورة سلمى سمر الدملوجي‪،‬‬
‫وهي من أصل عراقي‪" :‬إن عمارة يافع هي عمارة‬ ‫المرحلة الخامسة‪ :‬تحويط الدور أ‬
‫األول بعد‬ ‫األولى‪ :‬أحجار أساس المبنى‪ ،‬وهي كبيرة‬ ‫أ‬
‫ََح ََضرية تضاهي عمارة مدينة صنعاء وعمائر مدن‬ ‫اكتماله‪ُ ،‬فُيبنى مسار بارز‪ ،‬ولكن بحجارة أقل‬ ‫عرًضا وطواًلا نو ًًعا ما‪.‬‬
‫الحجم‪ً ،‬‬
‫شبام وتريم ووادي دوعن"‪.‬‬ ‫بنسبة ‪ %70‬عن ارتفاع مسارات المبنى‪ ،‬وتكون‬
‫فاصلة بين الطابق أ‬
‫األول والذي يليه‪ ،‬ويتكرر‬ ‫األركان‪ ،‬وتكون مستطيلة الشكل‪ ،‬وُتُوضع‬ ‫الثانية‪ :‬أ‬
‫وترى الدملوجي أن العمارة الحجرية التقليدية‬ ‫ذلك في كل الطوابق‪ .‬وُيُطلى هذا المسار‬ ‫في الزوايا الخارجية باتجاهات مختلفة‪ .‬فإذا كان‬
‫في يافع راعت الظروف والعادات االجتماعية‬ ‫بالنورة‪ .‬ويتراوح ارتفاع كل طابق من ‪ 2.7‬متر إلى‬ ‫اتجاه الركن أ‬
‫األول شمااًلا ‪ ،‬يكون اتجاه الركن الذي‬
‫وقوانين الطبيعة والمناخ والموقع‪ ،‬منذ القدم‬ ‫‪ 3‬أمتار‪.‬‬ ‫فوقه جنوًبًا‪ ،‬وفي الزاوية المقابلة يكون الترتيب‬
‫حتى اليوم‪ .‬ولذلك‪ ،‬يأتي نمط البناء التجاري‬ ‫عكس ذلك؛ لربط مسارات البناء بعضها ببعض‪.‬‬
‫عالمًيا متخلًفًا من الناحية‬
‫المستحدث والمنتشر ً‬ ‫المرحلة السادسة‪" :‬التلييس" والتكحيل‬
‫ومهنًيا‬ ‫علمًيا‬ ‫الثالثة‪ :‬أ‬
‫ً‬ ‫الوظيفية والجمالية لو جرت مقارنته ً‬ ‫والزخرفة‪ .‬والتلييس يعني كساء الجدران الداخلية‬ ‫الُّس ُُروع الطويلة‬
‫حجار المربعة لبناء ُ‬
‫أ‬
‫األ‬
‫بمشهد المعمار في منطقة يافع اليمنية‪.‬‬ ‫للمبنى بالطين‪ ،‬ثم كساء الطين بالجبس والنورة‬ ‫الفاصلة بين األركان‪ ،‬وكذلك في العقود الحجرية‬
‫اإلسمنت والطالء الزيتي‬ ‫فوق أ‬
‫قديًما‪ .‬وحدي ًًثا‪ ،‬دخل إ‬
‫ً‬ ‫األبواب والنوافذ‪ ،‬وتكون مستوية في غاية‬
‫والمائي‪ ،‬وبه يجري تكحيل إطارات النوافذ‬ ‫الدقة والجمال‪.‬‬
‫وتعليمها من الداخل‪ ،‬وكذلك الرفوف والخزائن‬
‫من الداخل‪ ،‬ورسم اللوحات التشكيلية على‬ ‫الرابعة‪ :‬المرادم‪ ،‬وهي أحجار تتساوى في‬
‫األسقف‪َ .‬أَّما التكحيل الخارجي‪ ،‬فيجري من خالل‬ ‫أ‬ ‫االرتفاع مع المجموعة أ‬
‫األولى والثانية‪ ،‬لكنها‬
‫أ‬
‫إبانة حدود المسارات واألحجار‪ ،‬بخطوط سوداء‬ ‫طويلة (بين متر ومترين ونصف)‪ ،‬وُتُستخدم‬
‫وغالًبا ما تكون هذه المرحلة مرافقة‬ ‫لتسقيف النوافذ أ‬
‫أو بيضاء‪ً ،‬‬ ‫واألبواب الصغيرة‪.‬‬
‫لبناء كل طابق‪.‬‬
‫الخامسة‪ :‬عشوائية أ‬
‫األحجام والمقاسات‪،‬‬
‫وُتُستخدم في البناء الداخلي "البطانة"‪.‬‬
‫السادسة‪ :‬وهي أ‬
‫مراحل بناء البيت اليافعي‬
‫األصغر‪ ،‬مجموعة "المياضير"‪،‬‬
‫أ‬
‫مفردها ميضار‪ ،‬وهي األكسار الناتجة عن تشذيب‬
‫سبعة‪ ،‬والمادة األساس‬ ‫المجموعات الخمس السابقة‪ ،‬وُتُستخدم في‬
‫هي الحجر المحلي‬
‫تثبيت أحجار الظهارة والبطانة وسد الفراغات‬

‫المصقول وفق ستة‬


‫والفجوات بينهما‪ ،‬وتخلط بالطين الالزب‪.‬‬

‫أشكال مختلفة للبيت‬ ‫المرحلة الثالثة‪ :‬اختيار الموقع واختباره ونقل‬


‫الواحد‪.‬‬
‫األحجار إليه‪ .‬تجري هذه المرحلة وفًقًا لطبيعة‬ ‫أ‬
‫الموقع‪ ،‬صخرًيا كان أم ترابًيا‪ ،‬ففي أ‬
‫األول ال‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ُتُحفر أساسات عميقة‪ ،‬وإنما ُتُنحت أساسات‬
‫مستوية في صخور صلبة وفًقًا لعملية مجهدة‬
‫ومكلفة‪َ .‬أَّما المواقع الترابية‪ُ ،‬فُيجرى اختيارها‬
‫واختبارها وفق معتقدات المجتمع وقوانين‬
‫الطبيعة المشار إليها سابًقًا‪ ،‬وبعد ذلك ُتُنقل‬
‫أحد الحصون الحميرية القديمة في قمة جبلية تطل على قرية أسطلة بيافع‪.‬‬ ‫األحجار على ظهور الناس أو الجمال والحمير‪.‬‬ ‫أ‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪87 | 2024‬‬


‫مجلة القافلة‬
‫مايو ‪ -‬يونيو ‪2024‬‬ ‫آفاق‬

‫فكرة‬
‫الكراج‪..‬‬
‫يتحّول المرآب إلى مهد لالبتكار‬
‫ّ‬ ‫عندما‬

‫األخيرة‪ ،‬أصبحت إعادة‬‫في السنوات أ‬ ‫ُفتِتح أحد أهم‬


‫االستثمار لبعض الشركات الناشئة إلى أكثر‬ ‫في عام ‪2022‬م‪ُ ،‬ا ِ‬
‫االستخدام المتكيف في الرياض ا‬
‫بدياًل‬ ‫من ‪ 500‬ألف ريال سعودي‪ .‬وُيُذكر أنه منذ‬ ‫المشروعات المبتكرة في المملكة العربية‬
‫عُّد‬
‫أكثر شيو ًًعا واستدامة للبناء‪ .‬ومن هنا‪ُ ،‬يُ ُ‬ ‫اكتماله في أواخر عام ‪2023‬م‪ ،‬عقد "الكراج"‬ ‫وتحديًدا بمدينة الملك‬
‫ً‬ ‫السعودية‪،‬‬
‫"الكراج"‪ ،‬الذي تبلغ مساحته الخرسانية‬ ‫شراكات مع عمالقة الصناعات الحديثة مثل‬ ‫عبدالعزيز للعلوم والتقنية بالرياض‪،‬‬
‫تقريًبا‪ ،‬أحدث مثال في المنطقة على‬ ‫صفًرا ً‬
‫ً‬ ‫شركة "غوغل"‪ ،‬وكذلك مع المركز الوطني‬ ‫وذلك بعد أن جرى تحويل موقف سيارات‬
‫كيفية تحويل المباني غير المستغلة إلى‬ ‫لتطوير تكنولوجيا المعلومات‪.‬‬ ‫سابق متعدد الطوابق في قلب الرياض‪،‬‬
‫بيئة أكثر عملية وأكثر مالءمة من الناحية‬ ‫إلى أكبر حاضنة للشركات الناشئة في‬
‫الوظيفية‪ .‬ومع عبارات محفزة على الجدران‬ ‫من جهة تصميمه الهندسي‪ ،‬فقد كان هناك‬ ‫الشرق أ‬
‫األوسط‪َ .‬أَّما جوهر فكرة تحويل‬
‫في مختلف أنحاء المكان مثل‪" :‬ال تقنع بما‬ ‫حرص على الحفاظ على الجو الصناعي‬ ‫ما كان مجرد مرآب للسيارات إلى أكبر‬
‫يجِّسد الكراج‬ ‫أ‬ ‫للمرآب‪ ،‬واإلبقاء على الشكل أ‬
‫النجوم"‪ ،‬و"إلى األمام"‪ِ ،‬‬
‫أ‬
‫دون‬ ‫األساس للمبنى‬ ‫إ‬
‫أ‬
‫وأهم مركز لالبتكار في المملكة‪ ،‬فيكمن‬
‫ويعِّزز‬
‫روح ريادة األعمال في المملكة‪ِ ،‬‬ ‫األصلي؛ لذلك ُُص ّّمم هيكل "الكراج" حول‬ ‫في مفهوم متجذر بعمق في روح ريادة‬
‫ائًدا لالبتكار ونقطة‬ ‫أ‬
‫مركًزا ر ً‬
‫مكانتها بوصفها ً‬ ‫المنحدر المركزي للسيارات بطريقة توفر‬ ‫األعمال‪ ،‬وهو تحويل ما هو بعيد وغير‬
‫جذب للمشروعات التقنية الناشئة في‬ ‫مساحات إضافية للشركات واالجتماعات‪ .‬كما‬ ‫ممكن إلى أفضل صورة للنجاح‪ .‬كما أنه‬
‫الشرق أ‬
‫األوسط‪.‬‬ ‫جرى استيعاب حجر الرصيف ومنحدرات‬ ‫ُيُحاكي مسألة االنطالق من البدايات‬
‫واألسقف المغطاة في لغة‬ ‫السيارات أ‬ ‫المتواضعة لما هو أهم وأعظم‪ ،‬على غرار‬
‫تقليًدا‬
‫من جهة أخرى‪ ،‬يحاكي "الكراج" ً‬ ‫التصميم الداخلي‪ ،‬و ُُد ِِمجت مع الفن‬ ‫انطالق شركات مهمة أخرى في العالم‪،‬‬
‫متجذًرا في الثقافة العربية إجمااًلا ‪ ،‬وفي‬
‫ً‬ ‫الحـضري‪ ،‬وكذلك ُأُبقيت أقسام المرآب‬ ‫مثل‪ :‬غوغل وأمازون وأبل‪.‬‬
‫تحديًدا‪ .‬وهو تقليد االجتماع في‬ ‫المملكة‬ ‫األصلية والفتات المرور المدمجة في جميع‬ ‫أ‬
‫ً‬
‫مجلس الضيافة العربية‪ ،‬الذي هو بمنزلة‬ ‫أنحاء المساحات الداخلية‪َ .‬أَّما مساحته‬ ‫َأَّما هدف إنشاء "الكراج"‪ ،‬كما جرت‬
‫مساحة مشتركة للتجمع والمناقشة والتفاعل‬ ‫الداخلية‪ ،‬فتبلغ ‪ 28,000‬متر مربع‪ ،‬بحيث‬ ‫تسميته‪ ،‬فهو احتضان الشركات الناشئة‬
‫االجتماعي‪ ،‬والمكان الذي يجري فيه‬ ‫يمكنه أن يوفر مساحة عمل أألكثر من ‪300‬‬ ‫من حيث تقديم مجموعة من الخدمات‬
‫األفكار والتواصل وإقامة العالقات‪.‬‬ ‫تبادل أ‬ ‫شركة ناشئة‪ .‬ويضم ‪ 24‬غرفة اجتماعات‬ ‫واإلداري والتدريب‬
‫كالدعم التقني والفني إ‬
‫مركًزا‬ ‫وغيرها‪ ،‬والمساعدة على تحويل أ‬
‫يجِّسد "الكراج"‪ ،‬بوصفه ً‬ ‫وبالمثل‪ِ ،‬‬ ‫مصممة على أحدث طراز‪ ،‬ومساحة واسعة‬ ‫األفكار‬
‫اللتقاء الشركات الناشئة‪ ،‬روح التعاون‬ ‫للفعاليات يمكنها استضافة أكثر من ‪1000‬‬ ‫االبتكارية إلى منتجات وخدمات ذات قيمة‬
‫والتفاعل المثمر‪ ،‬وإن كان ذلك في نطاق‬ ‫باإلضافة إلى مناطق مخصصة لورش‬ ‫شخص‪ ،‬إ‬ ‫اإلدارية‬
‫سوقية‪ ،‬إلى جانب تطوير المهارات إ‬
‫األعمال‬ ‫األعمال؛ حيث يلتقي رواد أ‬ ‫عالم أ‬ ‫العمل‪ ،‬وحجيرات للنوم ومركز للمعارض‪.‬‬ ‫األعمال من خالل آليات ومنهجيات‬ ‫لرّواد أ‬
‫أ‬ ‫أ‬ ‫آ‬ ‫ّ‬
‫لتبادل اآلراء واألفكار‪ ،‬وتتشكل األحالم‪،‬‬ ‫كما جرت دراسة كل تفاصيل الهيكل بعناية من‬ ‫تربط الشركات بالجهات الداعمة‪،‬‬
‫األفكار‪ ،‬وُتُرسم مالمح المستقبل‪.‬‬ ‫وتتالقح أ‬ ‫الداخل إلى الخارج‪ ،‬حتى إنه ُُغّلّفت واجهة‬ ‫واستخدام المنح المالية للربط مع موردي‬
‫المبنى المؤلف من ثالث طبقات أ‬
‫باأللومنيوم‬ ‫الخدمات والمرشدين‪ ،‬بحيث يمكن للمنحة‬
‫المضلع‪ ،‬وهو ما يعطي إيحاء بالحركة التي‬ ‫المالية أن تصل إلى ‪ 100‬ألف ريال‬
‫يمكنها أن تعكس ديناميكية المكان‪.‬‬ ‫سعودي لكل شركة مؤهلة‪ ،‬ويمكن أن يصل‬
‫مجلة القافلة‬
‫مايو ‪ -‬يونيو ‪2024‬‬ ‫الملف‬

‫السوق‬
‫السوق هو القلب النابض في كل مدينة‪ ،‬وهو الشريان الذي يمدها بالحياة‪.‬‬
‫وأكثر من ذلك‪ ،‬ال وجود لمدينة مهما كانت صغيرة من دون سوق‪ ،‬وال مكان للسوق‬
‫اآلخر إلى الظهور‪.‬‬ ‫خارج المدينة‪ .‬حتى إننا ال نعرف أيهما سبق آ‬
‫إنه الفضاء الذي يمد الحياة الحضرية بجميع احتياجاتها الالزمة لالستقرار‪ .‬يتغذى‬
‫من نمو المدينة‪ ،‬وتتغذى المدينة من نموه‪ .‬فيكاد يكون خطاًبًا عن نوعية الحياة فيها‬
‫وأحوالها‪.‬‬
‫كثيًرا ما تتجاوز أهمية السوق‬
‫بالحياة الحضرية‪ً ،‬‬ ‫وبسبب ارتباطه العضوي هذا‬
‫لألحداث واللقاءات واالستكشاف‪ ،‬حتى ليمكن القول‬ ‫األولية‪ ،‬ليصبح مسرًحا أ‬ ‫وظيفته أ‬
‫ً‬
‫إن "السوق" أصبح نافذة ثقافية على كثير مما يجري في العالم‪ ،‬وفيه نتعلم االختيار‬
‫والمفاضلة وقيمة أ‬
‫األشياء‪.‬‬
‫في هذا الملف‪ ،‬يجول بنا عبدهللا العقيبي وفريق القافلة على حفنة من أسواق‬
‫والتلّون الكبير في شخصياتها‪،‬‬
‫ّ‬ ‫العالم‪ ،‬الستكشاف مدى تغلغلها في الحياة الحضرية‪،‬‬
‫وحضورها في الحياة الثقافية‪ ،‬الذي ال يقل شأًنًا عما تع ّّبر عنه في االقتصاد‪.‬‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪89 | 2024‬‬


‫قبل الميالد‪ ،‬التي احتوت على عشرات القوانين‬ ‫مكّونات أي مدينة‬
‫لو شئنا أن نقتصر في تعداد ّ‬
‫الخاصة بضبط التجارة‪ ،‬ومن بينها سبع مواد‬ ‫مكّونين اثنين فقط‪ ،‬لقلنا‬
‫أو بلدة في العالم على ّ‬
‫تتعلق بعمل الدكاكين والتجارة بالجملة‪.‬‬ ‫إنهما‪ :‬المسكن والسوق‪ .‬فال حياة أألي منهما من‬
‫دون آ‬
‫اآلخر‪ .‬ولذا‪ ،‬فإن تاريخ السوق‪ ،‬وحتى إن لم‬
‫اإلغريق أول من أنشأ أسواًقًا مخططة‬
‫كان إ‬ ‫ؤَت على ذكره بالتفصيل‪ ،‬هو من ضمن تاريخ‬ ‫ُيُ َ‬
‫ومنظمة في وسط كل واحدة من مدنهم‬ ‫أي مدينة‪.‬‬
‫الكبيرة‪ ،‬وأطلقوا عليها اسم "أغورا"‪ .‬وهي أماكن‬
‫وفضاءات عامة يلتقي فيها البائعون والمشترون‬ ‫يتكّون السوق بشكل أساس من مجموعة‬ ‫وأن ّ‬
‫بهدف التبادل التجاري‪ ،‬حيث يجتمع أصحاب‬ ‫متراصة من المتاجر‪ ،‬فهذا ال يعني أنه يقتصر‬
‫كل حرفة أو مهنة في أكشاك متقاربة وفق نوعية‬ ‫عليها؛ إذ إن هذه المتاجر تتكامل مع مرافق‬
‫الِسلع؛ فبائعو السمك لهم موقعهم الخاص‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫عديدة أخرى مثل‪ :‬المقاهي والمطاعم وحتى‬
‫وبائعو المالبس من الدباغين وأصحاب الجلود‬ ‫مقصًدا لغايات إضافية‬
‫ً‬ ‫الفنادق؛ ليصبح السوق‬
‫أيًضا‪ ،‬وبائعو السلع الباهظة‬
‫في مكان واحد هم ً‬ ‫أخرى‪ ،‬ومتنز ًًها لكثيرين‪.‬‬
‫الفّخار في مكانهم‬
‫مثل العطور والقوارير وآنية ّ‬
‫المخصص لهم‪ .‬وإليهم يعود الفضل في‬ ‫عند البحث عن نشأة أ‬
‫األسواق‪ ،‬ال نجد غير‬
‫تقسيم السوق وفًقًا للمهن والصنائع‪ ،‬الذي نجده‬ ‫األنثروبولوجيا القائلة إن أ‬
‫األسواق‬ ‫ترجيحات علماء أ‬
‫حتى اليوم في كثير مدن العالم‪.‬‬ ‫نشأت مع نشوء التجارة‪ ،‬قبل نحو سبعة آالف‬
‫سنة‪ .‬وإلى ذلك ُتُضاف ترجيحات أخرى تجمل‬
‫اإلسالمية‬ ‫وصف أ‬
‫السـوق في المدينة إ‬
‫وفي حين أن أ‬
‫اإلمبراطورية الرومانية‪ ،‬تع ََّزز موقع السوق‬
‫وفي إ‬ ‫األسواق في معظم المدن التي كانت‬
‫األسواق في أوروبا ظلت طوال‬ ‫وسُّموه‬
‫في قلب المدينة بجوار المعابد الكبرى‪ُ ،‬‬ ‫قائمة قبل الميالد‪ ،‬بأنها كانت ُتُقام خارج المدن‪.‬‬
‫القرون الوسطى ُتُقام في الهواء الطلق قرب‬ ‫"الفوروم"‪ .‬وفي عام ‪ 707‬بعد الميالد‪ ،‬منعت‬ ‫األرجح‪ ،‬أنها كانت دورية عندما كانت في‬ ‫وعلى أ‬
‫واإلقطاعيين الذين كانوا يملكون‬ ‫الصين إقامة أ‬
‫قصور النبالء إ‬ ‫األسواق خارج المدن‪ ،‬تمكي ًًنا‬ ‫بدايات تشّكّلها‪َ .‬أَّما في داخلها‪ ،‬فلم يكن هناك‬
‫حصة من الغالل‪ ،‬تطورت في المدن إاإلسالمية‬ ‫اإلشراف على عملها بدقة‪ ،‬ومراقبة‬ ‫للسلطات من إ‬ ‫تّجار متفرقين يزاولون أعمالهم من بيوتهم‪.‬‬ ‫غير ّ‬
‫األسواق المسقوفة في قلب المدن؛ لتصبح‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫الموازين والسلع واألسعار والعمالت المزّيّفة‪.‬‬ ‫والمؤكد‪ ،‬أن الحضارات القديمة أولت التجارة‬
‫معالم بارزة في مجال العمران والهندسة‬ ‫األسواق العناية الالزمة‪ ،‬وتدل على‬ ‫وأحوال أ‬
‫والتخطيط الحضري‪ ،‬كما الحال في إسطنبول‬ ‫ذلك "شريعة حمورابي" في القرن الثامن عشر‬
‫والقاهرة ودمشق‪.‬‬
‫وتتميز أ‬
‫األسواق إاإلسالمية ِبِسمة رَّبَما ال نجدها‬
‫في أنحاء أخرى من العالم‪ ،‬وهي تسمية أنحاء‬
‫السوق بمسميات لها عالقة بنوعية المعروضات‬
‫الموجودة فيه‪ ،‬مثل‪ :‬سوق العطارين وسوق‬
‫الخياطين وسوق الصاغة وسوق النحاسين‪.‬‬
‫األسواق موجود حتى اليوم‪ ،‬بل‬ ‫وكثير من هذه أ‬
‫إن بعضها ال يزال يحافظ على المباني القديمة‬
‫المتميزة في عمارتها‪ ،‬التي تعود إلى مئات السنين‪،‬‬
‫كما هو الحال اليوم في "سوق المدينة" في‬
‫حلب‪ ،‬الذي ُبُني في القرن الرابع عشر الميالدي‬
‫كيلومتًرا‪ ،‬وهو مسقوف‬
‫ً‬ ‫ويبلغ طوله إاإلجمالي ‪13‬‬
‫أ‬
‫بشكل شبه كامل‪ .‬وانفصال هذه األسواق بعضها‬
‫عن بعض بسبب التخصص‪ ،‬راجع إلى تسهيل‬
‫األمر قد يكون له مبررات‬ ‫عملية التسوق‪ ،‬إال إن أ‬
‫أخرى‪ ،‬منها سهولة التواصل واالنتفاع بين أبناء‬
‫المهنة الواحدة‪ ،‬أو بسبب إاإلزعاج المنبعث من‬
‫بعض المهن‪ ،‬مثل مهنة النحاسين أو النجارين‪.‬‬
‫األغلب‪ ،‬لن يتحمل تبعات مهنته إال من كان‬ ‫فعلى أ‬
‫لديه المشكلة نفسها‪.‬‬ ‫رسم تخيلي لمدينة أغورا اليونانية‪ ،‬التي شهدت ظهور أ‬
‫األسواق في شكلها المنظم‪.‬‬
‫سوق "المدينة" في حلب‪.‬‬

‫مدن بأسواق عديدة‬ ‫األسواق في المدن‬ ‫والالفت أن ترتيب هذه أ‬


‫أدت الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر‬ ‫إاإلسالمية‪ ،‬كان ينطلق من موقع السوق بالنسبة‬
‫إلى تضخم المدن بوتيرة غير مسبوقة‪ ،‬بفعل‬ ‫إلى المسجد الكبير في المدينة‪ .‬فأقربها إلى‬
‫األرياف إلى العمل في المجاالت‬ ‫تدفق سكان أ‬ ‫سلًعا ثمينة وجميلة‬ ‫أ‬
‫الجامع هي األسواق التي تبيع ً‬
‫الجديدة‪ .‬فتعاظمت االحتياجات إلى السلع‪،‬‬ ‫مثل سوق الصاغة أو سوق العطارين‪َ .‬أَّما أسواق‬
‫أفقًيا‪ ،‬لم يعد السوق‬ ‫أ‬ ‫اللحوم والطيور والخضار‪ ،‬فكانت في أ‬
‫وألن المدن كانت تتمدد ً‬ ‫األطراف‪،‬‬
‫كافًيا لسد هذه االحتياجات‪،‬‬ ‫المركزي التقليدي ً‬ ‫عند أبعد ما يكون عن الجامع‪ .‬وهذا هو الحال‬
‫فصار لكل منطقة سكنية سوقها‪ .‬وأكثر من ذلك‪،‬‬ ‫قائًما من القرن الرابع عشر حتى‬‫الذي ال يزال ً‬
‫صار لكل سوق طابعه الخاص الموسوم إجمااًلا‬ ‫اليوم في مدينة طرابلس اللبنانية‪.‬‬
‫بالفئة االجتماعية التي يخدمها‪ .‬منها ما هو في‬
‫الهواء الطلق على جانبي شارع‪ ،‬كما هو حال‬ ‫وقد استلهمت بعض المدن الحديثة الطراز‬
‫معظم أسواق المدن الحديثة‪ ،‬أو مسقوفة في‬ ‫المعماري القديم للسوق إاإلسالمي‪ ،‬كما استلهمت‬
‫أزقة للمشاة‪ ،‬أو داخل أبنية كبيرة ُتُعرف اليوم‬ ‫التخصص في نوعية المعروضات‪ ،‬وفق المجاالت‬
‫األمر عند هذا الحد‪،‬‬ ‫باسم "المول"‪ .‬ولم يتوقف أ‬ ‫المتاحة وحجم العرض والطلب‪.‬‬
‫فٌن قائم بحد ذاته‪،‬‬ ‫فقد نشأ في العصر الحديث ٌ‬
‫ومقّره السوق‪ ،‬أال وهو فن عرض السلع وتصميم‬ ‫ّ‬
‫واجهات المحال التجارية بما ينسجم مع هويتها‪،‬‬
‫ومهنًيا‬
‫ً‬ ‫وقد أصبح هذا الفن قطا ًًعا اقتصادًيًا‬
‫ا‬
‫مستقاًل بذاته‪.‬‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪91 | 2024‬‬


‫األسواق الدورية ما هو متخصص بسلعة‬ ‫ومن أ‬ ‫الدائم والدوري منها‬
‫معينة‪ ،‬وهي أماكن مميزة يجتمع المهتمون‬ ‫األسواق بحسب مدة عملها إلى‬ ‫تنقسم أ‬
‫فيها بنوع معين من المنتجات أو السلع‪ .‬ففي‬ ‫قسمين‪ :‬أسواق تعمل بشكل يومي وعلى‬
‫باريس على سبيل المثال‪ ،‬يوجد كثير من‬ ‫مدار السنة باستثناء أيام العطل الرسمية‪،‬‬
‫األسواق الدورية المتخصصة التي تستهدف‬ ‫أ‬ ‫باألسواق الدائمة‪ ،‬وهي عصب الحياة‬ ‫وُتعرف أ‬
‫ُ‬
‫فئات معينة من المهتمين بنوع معين من‬ ‫اليومية واالقتصادية كما هو حال معظم‬
‫السلع‪ ،‬مثل السوق الدوري الذي ُيُقام ثالث‬ ‫األسواق التي يرتادها الجميع‪ .‬في حين تعمل‬ ‫أ‬
‫أسبوعًيا في جادة مارينيي‪ ،‬لبيع الطوابع‬ ‫مّرات‬ ‫أ‬
‫واحًدا في األسبوع مثل‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫يوًما ً‬ ‫أسواق أخرى ً‬
‫البريدية وشرائها فقط‪.‬‬ ‫أياًما‬
‫سوق الجمعة في مدينة أالدمام‪ ،‬أو ً‬
‫"األسواق الموسمية أو‬ ‫سَّمى‬
‫قليلة محددة وُتُ َ‬
‫والواقع أن معظم مدن العالم تعرف هذا‬ ‫الدورية"‪ ،‬ومعظمها يكون في الهواء الطلق‬
‫النوع من أ‬
‫األسواق التي يمكنها أن تشمل كل‬ ‫لألسواق‬ ‫عند أطراف المدن أو خارجها‪ ،‬خالًفًا أ‬
‫شيء من المنتجات الغذائية في مواسمها‪ ،‬إلى‬ ‫الدائمة التي تتمركز في وسط المدينة‪ .‬وفي‬
‫الكتب والتحف الفنية والمفروشات المستعملة‬ ‫مظهًرا‬ ‫األسواق الدورية يتخذ‬‫حين أن معظم أ‬
‫ً‬ ‫في باريس‪ ،‬يوجد سوق مخصص للطوابع‪.‬‬
‫وكل ما يريد أصحابه التخلص منه‪ .‬وبعض‬ ‫يتسم بشيء من العشوائية‪ ،‬يمكن لبعضها‬
‫األسواق هي مقصد لصيادي "اللقطة"‪،‬‬ ‫هذه أ‬ ‫أن يكون ضمن إطار معماري منّظّم‪ ،‬كما‬
‫الباحثين عن صفقة مربحة بشكل غير اعتيادي‪.‬‬ ‫األحساء‪.‬‬ ‫األربعاء الشهير في أ‬ ‫حدث مع سوق أ‬

‫سوق القيصرية بمدينة أ‬


‫األحساء‪.‬‬
‫لكل سوق تاريخه وشخصيته‬
‫سوق البطحاء في الرياض‬ ‫وبعضها يتعالى على الطبقة الوسطى‪ ،‬وبعضها‬ ‫لكل سوق في العالم صورة مختلفة في وجدان‬
‫تأسس هذا السوق فوق مجرى وادي البطحاء‬ ‫يتعاطف مع الطبقة التي دونها‪ .‬وفيما يأتي ع ِِّينة‬ ‫المتسوق‪ ،‬حتى عند من سمع به ولم يزره سابًقًا‪.‬‬
‫خارج بوابة الثميري‪ ،‬منذ أن كانت الرياض مدينة‬ ‫طبًعا أنها مسح‬ ‫أ‬
‫من هذه األسواق‪ ،‬من دون الزعم ً‬ ‫بعضها موسوعي الشتماله على مختلف أنواع‬
‫مسّورة‪ ،‬وكانت قوافل التجار تلتقي في‬
‫طينية ّ‬ ‫شامل أألهم أسواق العالم‪.‬‬ ‫السلع‪ ،‬وبعضها يغلب عليه الطابع التاريخي‪،‬‬
‫هذا المكان‪ .‬وغداة توحيد المملكة وتوسعها خارج‬
‫األسوار‪ ،‬تع ّّزز هذا السوق وموقعه ليصبح قلب‬ ‫أ‬
‫المدينة الحديثة‪ .‬ونما بسرعة نمو المدينة حتى‬
‫األسواق في الجزيرة العربية‪ .‬فعلى‬‫غدا من أكبر أ‬
‫محوره الرئيس‪ ،‬تصطف عشرات المراكز التجارية‬
‫المؤلفة من طابقين أو ثالثة‪ ،‬ويتكامل هذا المحور‬
‫مع عدة شوارع فرعية شبه متخصصة لتجعل‬
‫موسوعًيا؛ إذ يجد المتسوق فيه ما ال‬
‫ً‬ ‫منه سوًقًا‬
‫يمكن إحصاؤه من السلع المتنوعة التي تشمل كل‬
‫شيء من المالبس للجميع إلى الخضار المستوردة‬
‫من شرق آسيا‪ ،‬ومن سبائك الذهب إلى السجاد‬
‫العجمي‪ ،‬ومن جوارب أ‬
‫األطفال إلى إاإللكترونيات‪.‬‬
‫والطابع الرئيس الذي يطبع "البطحاء"‪ ،‬هو توجهه‬
‫بشكل خاص إلى الطبقة الوسطى في المدينة‪.‬‬

‫سوق الحميدية في دمشق‬


‫هو سوق من خط مستقيم ومسقوف‪ُ ،‬بُني على‬
‫األولى كانت في عهد السلطان‬ ‫مرحلتين‪ :‬المرحلة أ‬
‫األول‪ ،‬في عام ‪1780‬م‪ ،‬وقد كان‬ ‫عبدالحميد أ‬
‫اسمه في تلك المرحلة "السوق الجديد"؛ أألنه ُبُني‬
‫ا‬
‫بدياًل لسوق الروم آنذاك‪َ .‬أَّما المرحلة الثانية‪ ،‬فقد‬
‫كانت في عام ‪1884‬م‪ ،‬حيث جرى تجديد السوق‬
‫وتوسعته‪ ،‬وهو السوق الذي نعرفه اليوم‪ .‬وعلى‬
‫الرغم من تكامله مع متفرعات كثيرة منه وأهمها‬
‫سوق البذورية‪ ،‬فإنه يصعب وصفه بالموسوعية؛‬
‫أألنه موسوم بطغيان المشغوالت اليدوية الشامية‬
‫التقليدية على معروضاته‪ ،‬مثل‪ :‬الحلي والتحف‬
‫واألقمشة الفاخرة‪ .‬وهذا ما جعل‬ ‫والمفروشات أ‬
‫فنًيا يجذب إليه‬
‫ومعرًضا ً‬
‫ً‬ ‫سياحًيا‬
‫ً‬ ‫مقصًدا‬
‫ً‬ ‫منه‬
‫المتسوقين كما الفضوليين‪ .‬وعن هذا السوق قال‬
‫األشياء‬‫أحد الرّحالة الغربيين ذات مرة‪" :‬فيه من أ‬
‫ّ‬
‫الجميلة لدرجة لو أنك كنت تخبئ مالك في عظمة‬
‫ساقك لكسرتها لتخرجه وتشتري به"‪.‬‬

‫اقرأ القافلة‪ :‬جولة في سوق‬


‫دمشق القديم‪ ،‬من عدد ذو‬
‫الحجة ‪1414‬هـ (مايو ‪ -‬يونيو‬
‫‪1994‬م)‪.‬‬
‫سوق البطحاء في الرياض‪.‬‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪93 | 2024‬‬


‫سوق الذهب في دبي‬
‫تأسس عام ‪1940‬م بجوار خور دبي‪ ،‬وهو سوق‬
‫ويعُّد أحد أكبر أسواق الذهب في‬
‫متخصص‪ُ ،‬‬
‫العالم؛ إذ يحتوي على أكثر من ‪ 400‬متجر لبيع‬
‫الُحلي الذهبية والماسية أ‬
‫واألحجار الكريمة‪ ،‬منها ما‬ ‫ُ‬
‫هو في متناول الطبقة الوسطى‪ ،‬ومنها ما يستفز‬
‫مقصًدا‬
‫ً‬ ‫خيال هذه الطبقة‪ .‬وبات هذا السوق‬
‫سياحًيا حتى لغير المشترين الذين ُتُدهشهم رؤية‬
‫هذه ً أ‬
‫األكوام الهائلة من الذهب في مكان واحد‪.‬‬

‫السوق المصري في إسطنبول‬


‫وتحديًدا‬
‫ً‬ ‫في قلب مدينة إسطنبول القديمة‪،‬‬
‫في منطقة "إمينونو" في الجزء أ‬
‫األوروبي من‬
‫المدينة يقع السوق المصري‪ ،‬الذي أنشئ في‬
‫عهد السلطان مراد الثالث عام ‪1597‬م‪ .‬وتفيد‬
‫سوق الذهب في دبي‪.‬‬
‫سِّمي بالسوق المصري‬ ‫الروايات التاريخية بأنه ِ‬
‫بسبب استيراد القهوة والتوابل من الهند وجنوب‬
‫آسيا إلى مصر‪ ،‬ومنها إلى إسطنبول‪ .‬ومن أشهر‬
‫أقسامه بازار التوابل‪ ،‬الذي كان قد بدأ بوصفه‬
‫واألعشاب فقط‪،‬‬‫مكاًنا لبيع التوابل والكافيار أ‬
‫ً‬
‫ثم تطور مع مرور الزمن ليتضمن مجموعة‬
‫متنوعة من المأكوالت‪ ،‬مثل‪ :‬المكسرات وعسل‬
‫النحل والحلويات التركية والفواكه المجففة‬
‫والخضراوات‪ .‬وبجوار بازار التوابل‪ ،‬يمكن للزوار‬
‫أيًضا استكشاف مجموعة مختارة من أ‬
‫األجبان‪،‬‬ ‫ً‬
‫باإلضافة إلى لحم البقر المدخن والمجفف‪.‬‬ ‫إ‬
‫ويعُّد وجهة‬
‫يضم البازار أكثر من ‪ 100‬متجر‪ُ ،‬‬
‫سياحية للسياح العرب أ‬
‫واألجانب‪.‬‬
‫يشتهر السوق المصري في في إسطنبول ببيع التوابل‪.‬‬
‫ساحة كونوت في نيودلهي‬
‫هي فخر العاصمة الهندية وقلبها التجاري‬
‫واالقتصادي‪ .‬بدأ بناؤها في عام ‪1929‬م‪ ،‬واكتمل‬
‫األساس على اسم‬ ‫عام ‪1933‬م‪ .‬وُسِّميت في أ‬
‫ُ ِ‬ ‫أ‬
‫وتغّير اسمها‬
‫ّ‬ ‫كونوت‪،‬‬ ‫دوق‬ ‫ثر‬‫ر‬ ‫األمير إاإلنجليزي أ‬
‫عام ‪1995‬م ليصبح "ساحة راجيف غاندي"‪.‬‬

‫تتكّون هذه الساحة من دائرتين متمركزتين‪ .‬الدائرة‬


‫ّ‬
‫الداخلية هي عبارة عن أبنية من دورين فقط‪،‬‬
‫مبنية على الطراز الكولونيالي‪ ،‬وتحتوي في أدوارها‬
‫األرضية على متاجر‪ ،‬يغلب عليها الطابع الثقافي؛‬ ‫أ‬
‫األجنحة المختلفة فيها مخصصة لعرض‬ ‫إذ إن أ‬
‫أفضل المنتجات (وخاصة الحرفية منها)‪ ،‬في كل‬
‫والية هندية على حدة‪َ .‬أَّما الدائرة الكبرى‪ ،‬فقد‬
‫األبنية الزجاجية الحديثة التي تضم‬ ‫ارتفعت فيها أ‬
‫مقّرات الشركات الكبرى وفروع المصارف‪ ،‬إضافة‬ ‫ّ‬
‫إلى المتاجر والمراكز التجارية بمفهومها الحديث‪.‬‬
‫ساحة كونوت في نيودلهي‪.‬‬
‫مع أن هذه الساحة هي سوق حًّقًا‪ ،‬فإن غناها‬
‫بمرافق الترفيه من دور سينما ومسارح وصاالت‬
‫ثقافًيا‪ .‬إضافة إلى‬
‫عًدا ً‬ ‫عرض فنية‪ ،‬يضيف إليها ُبُ ً‬
‫ما فيها من فنادق فاخرة‪ ،‬ومن بينها أول فندق‬
‫فاخر ُبُني في الهند‪ ،‬استضاف مفاوضات بين‬
‫غاندي ونهرو ومحمد علي جناح‪ ،‬لمناقشة انفصال‬
‫باكستان عن الهند‪ .‬وبسبب ارتفاع إيجارات المتاجر‬
‫دوالًرا للمتر المربع الواحد سنوًيًا)‪،‬‬
‫فيها (‪ً 1650‬‬
‫تستبعد هذه الساحة معظم التجارات الصغيرة‬
‫وزهيدة الثمن‪.‬‬

‫شارع الريفولي في باريس‪.‬‬ ‫الجادة الخامسة في نيويورك‬


‫الجادة الخامسة هو اسم أحد أشهر أسواق‬
‫ووحد مظهره الخارجي الجميل الذي نراه اليوم‬ ‫أيًضا أألبناء المدينة‪ ،‬وفرصة للسياح‬
‫وجهة ثقافية ً‬ ‫تعالًيا على الطبقة المتوسطة‪،‬‬‫العالم وأكثرها ً‬
‫على شكل رواق مسقوف وطويل‪ .‬أ‬
‫واألمر الثاني‪،‬‬ ‫الستكشاف أبرز معلم حضري في أمريكا‪،‬‬ ‫نظًرا لما يجتمع فيها من أفخر الماركات العالمية‬‫ً‬
‫هو موقعه بمحاذاة الجناح الشمالي لقصر‬ ‫واالطالع على كل ما هو جديد ومعاصر‪.‬‬ ‫وأغلى السلع ثم ًًنا‪ .‬تأسست هذه الجادة في‬
‫اللوفر‪ ،‬أكثر المقاصد السياحية استقطاًبًا للسياح‬ ‫ئيًسا للتسوق‬
‫القرن التاسع عشر بوصفها شار ًًعا ر ً‬
‫في العالم‪ .‬كما تتفرع منه عدة طرق صغيرة هي‬ ‫شارع الريفولي في باريس‬ ‫والثقافة‪ ،‬وشهدت حركتها التجارية أكثر من‬
‫أسواق شهيرة مثل "رو دي ال بي" الذي ينتهي‬ ‫تماًما‪ ،‬ويبلغ‬
‫يقع في وسط العاصمة الفرنسية ً‬ ‫انتكاسة خالل القرن العشرين‪ ،‬قبل أن تتابع‬
‫األوبرا‪ ،‬وعلى مرمى حجر منه تقع ساحة‬ ‫بدار أ‬ ‫طوله نحو ‪ 2.15‬كيلومتر‪ ،‬ويضم مجموعة‬ ‫صعودها بد ًًءا من سبعينيات القرن الماضي‪.‬‬
‫"فاندوم"‪ ،‬مقر أكبر دور المجوهرات الفرنسية‪.‬‬ ‫واسعة ومتنوعة من المتاجر الفاخرة والماركات‬ ‫األغلى في العالم‪،‬‬ ‫ليصبح إيجار المتجر فيها أ‬
‫كما أن طرفه الغربي ينتهي عند بداية شارع‬ ‫العالمية المشهورة‪ .‬وعلى الرغم من أنه ليس‬ ‫األدوار العليا من مبانيها‪ .‬وأن‬‫وكذلك السكن في أ‬
‫أ‬
‫"فوبور سانت هونوريه"‪ ،‬حيث أشهر دور األزياء‬ ‫أكبر أسواق باريس (بولفار سان جيرمان أكبر منه‬ ‫مقصًدا للتسوق بالنسبة‬ ‫تكون الجادة الخامسة‬
‫ً‬
‫الفرنسية وأعرق معارض الفن في باريس‪ .‬ولذا‪،‬‬ ‫بطوله البالغ ‪ 3.5‬كيلومتر)‪ ،‬فإنه يتميز عن غيره‬ ‫مالًيا‪ ،‬فهذا ال يعني أن غيرهم‬‫إلى المتمكنين ً‬
‫يمكن القول إنه سوق يستمد أهميته مما يحيط‬ ‫بأمرين‪ :‬مكانته التاريخية؛ إذ إن نواته بوصفه‬ ‫مستبعد عنها‪ .‬إذ تضم هذه الجادة صاالت‬
‫به بقدر ما هو موجود فيه‪.‬‬ ‫سوًقًا تعود إلى القرون الوسطى‪ ،‬ثم كان أن‬ ‫عرض فنية ومتاحف (المتروبوليتان ومتحف قصر‬
‫األول في القرن التاسع عشر‬‫وّسعه نابليون أ‬ ‫روكفلر) ومكتبات ومطاعم ومقاهي تجعلها‬
‫ّ‬

‫السكن في السوق‬
‫أ‬
‫لألسواق المركزية‪ ،‬مكاًنًا شبه مخصص لسكن أهل‬ ‫سَّمى بأسماء‬
‫هذه أ‬ ‫وغالًبا ما كانت هذه الفنادق ُتُ َ‬
‫ً‬
‫األسواق‪ ،‬من تجار وعاملين‪ .‬والزائر لمنطقة‬ ‫وُس ّّمي بعضها‬
‫البضائع والسلع التي ُتُباع فيها‪ُ ،‬‬
‫البلد في مدينة جدة في المملكة‪ ،‬على سبيل‬ ‫اآلخر بأسماء أصحابها أو بلد منشأ التجار الذين‬ ‫آ‬ ‫الزائر أ‬
‫يتكّون‬
‫القديمة‪ ،‬سيالحظ أن بعضها ّ‬ ‫لألسواق‬
‫المثال‪ ،‬سيالحظ بوضوح هذه الظاهرة‪ ،‬فمعظم‬ ‫كانوا يترددون عليها‪.‬‬ ‫أ‬
‫من طابقين‪ :‬الطابق األرضي عبارة عن محال‬
‫ساكني العمارات المجاورة أألسواق البلد هم من‬ ‫ُتُعرض فيها البضائع المخصصة للبيع والتداول‪،‬‬
‫الموظفين في السوق‪.‬‬ ‫وتحولت هذه الفنادق والخانات مع مرور الوقت‬ ‫بينما يحتوي الطابق الثاني على مساكن‪ .‬وعلى‬
‫من مجرد ُنُزل يقُطُن به التجار أثناء عمليات البيع‬ ‫أ‬
‫األغلب ُُوجدت هذه لتوفر على التجار الجهد‬
‫تبقى إاإلشارة إلى أن للسكن في السوق حسناته‬ ‫والشراء‪ ،‬إلى أسواق صاخبة يختلط فيها التجار‬ ‫والمال والوقت‪.‬‬
‫وسيئاته‪ .‬فمن حسناته الوجود بالقرب من مركز‬ ‫المقيمون مع القادمين بسلعهم وبضائعهم من‬
‫العمل ومن الموارد التي يحتاج إليها الفرد بشكل‬ ‫أماكن بعيدة‪ ،‬كما كانت ُتُعقد داخل هذه الفنادق‬ ‫وللسكن في السوق تاريخ عريق‪ .‬إذ كانت توجد‬
‫يومي‪ ،‬فيغني عن االعتماد على وسائل النقل ويوفر‬ ‫الصفقات التجارية‪ ،‬ا‬
‫فضاًل عن البيع بالمزاد‪.‬‬ ‫قديًما فنادق شعبية وخانات داخل أ‬
‫األسواق‪.‬‬
‫الوقت‪َ .‬أَّما أبرز سيئاته‪ ،‬فهي المعاناة من الضجيج‬ ‫ً‬
‫واالزدحام‪ ،‬وما قد ينبعث من بعض أ‬ ‫وقد شغلت هذه الفنادق مكانًةً مهمة في‬
‫األسواق من‬ ‫إن ظاهرة السكن في السوق‪ ،‬وما صاحبها من‬ ‫بصفٍة خاصة في‬ ‫العمران االقتصادي‪ ،‬و ََك ُُثرت‬
‫ملوثات للجو‪.‬‬ ‫معمار خاص‪ ،‬انتقلت مع الزمن إلى أ‬
‫األسواق‬ ‫ٍ‬
‫مراكز المدينة‪ ،‬وحول المساجد الكبيرة‪ ،‬وبجوار‬
‫الحديثة‪ ،‬حتى غدت المناطق السكنية المجاورة‬ ‫حمامات المدن‪.‬‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪95 | 2024‬‬


‫• التنوع في التجزئة‪ :‬حيث ُتُعرض مجموعة‬ ‫عالمًيا‬
‫ظهر المركز التجاري الحديث المعروف ً‬
‫المول‬
‫هذه الظاهرة‬
‫متنوعة من المنتجات تحت سقف واحد‪ ،‬وهو ما‬ ‫باسمه إاإلنجليزي "مول"‪ ،‬في منتصف القرن‬
‫يوفر للزبائن تجربة تسوق مريحة وشاملة‪ ،‬وهذه‬ ‫وتحديًدا في عام ‪1956‬م‪ ،‬عند افتتاح‬‫ً‬ ‫الماضي‪،‬‬

‫الحديثة وما لها‬


‫إحدى أساسيات المول بمفهومه الحديث‪.‬‬ ‫أول مركز للتسوق في إيدينا بوالية مينيسوتا‬
‫األمريكية‪ ،‬من وحي أفكار المهندس المعماري‬ ‫أ‬

‫وما عليها‬
‫• تطبيق سياسة أ‬
‫األسعار الثابتة والموضحة بشكل‬ ‫فيكتور جروين‪ ،‬الملّقّب بأبي المراكز التجارية‪،‬‬
‫علني على المنتجات لالستغناء عن التفاوض‪،‬‬ ‫الذي قدم للبشرية أول تصميم معماري يم ّّثل‬
‫ما جعل عملية التسوق أكثر شفافية وأسهل‬ ‫صورة المول بشكله الذي نعرفه اليوم في كل‬
‫بالنسبة إلى الزبائن‪.‬‬ ‫مدينة من مدن العالم‪.‬‬

‫• عروض التخفيضات الفصلية‪ :‬ابتكر بوسيكو‬ ‫لكن بالعودة إلى المؤرخين‪ ،‬ظهرت نواة فكرة‬
‫مفهوم التخفيضات الموسمية والتخفيضات‬ ‫وتحديًدا في عام‬
‫ً‬ ‫المول قبل ذلك بنحو قرن‪،‬‬
‫الفصلية‪ ،‬وهو ما جذب العمالء بشكل كبير وزاد‬ ‫أ‬
‫‪1869‬م‪ ،‬عندما أنشأ رجل األعمال الفرنسي‬
‫من مبيعات المتجر‪.‬‬ ‫أريستيد بوسيكو أول مركز للتسوق في باريس‪،‬‬
‫والمعروف باسم "لو بون مارشيه"‪ .‬واهتم‬
‫• الخدمات المبتكرة وخدمات ما بعد البيع‪ :‬ومنها‬ ‫بوسيكو بشكل المركز المعماري الحديث‪ ،‬قبل أن‬
‫التسليم إلى المنازل واالستشارات الشخصية‬ ‫ُيُضاف إليه ما يتعلق بقانون التسوق‪ .‬فقد كانت‬
‫للعمالء‪ ،‬وكذلك إمكانية تجربة المعروضات‬ ‫واجهات المركز زجاجية وفي غاية الفخامة‪ ،‬تغطي‬
‫داخل المتجر‪ ،‬وإمكانية االستبدال خالل أيام‪،‬‬ ‫هيكله الحديدي الضخم‪ ،‬حتى أصبحت عالمة‬
‫في حال تردد الزبون في شراء المنتج‪ .‬كل ذلك‬ ‫من عالمات إاإلبهار البصري‪ ،‬وأيقونة معمارية‬
‫أسهم بشكل مبكر في جعل تجربة التسوق أكثر‬ ‫الفتة لالنتباه‪ .‬والجدير بالذكر أن بوسيكو أوكل‬
‫راحة ورفاهية‪ ،‬للرجال والنساء على حد سواء‪.‬‬ ‫هذه المهمة إلى اثنين من أعظم مصممي المباني‬
‫آنذاك‪ ،‬وهما‪ :‬لويس شارل بوالو‪ ،‬وغوستاف إيفل‬
‫كانت تلك االبتكارات في تجربة التسوق داخل‬ ‫مصمم ومبتكر برج إيفل‪.‬‬
‫محوًرا لتغيير مفهوم التسوق بوجه‬
‫ً‬ ‫مكان واحد‬
‫عام‪ ،‬وذات تأثير بارز على التجارة العالمية حتى‬ ‫فحتى آنذاك‪ ،‬كانت أ‬
‫األسواق أبسط معمارًيًا‪،‬‬
‫وقتنا الحاضر‪.‬‬ ‫تحتمي من أشعة الشمس الحارقة بظل ألواح‬
‫خشبية أو أقمشة مظالت قديمة‪ ،‬أو رَّبَما بأسقف‬
‫لكن هذه البذرة المبكرة ذات الطابع الباريسي‪،‬‬ ‫األسواق القديمة في‬ ‫حجرية كتلك التي تغطي أ‬
‫على الرغم من أهميتها‪ ،‬لم يكن لها تأثير كبير‬ ‫المشرق‪ ،‬ويتسلل منها نور الشمس من دون أن‬
‫على مفهوم التسوق العالمي الذي نعرفه اليوم‪.‬‬ ‫يضيئها بالكامل‪ .‬وكانت تجربة التسوق اجتما ًًعا‬
‫إذ لم يرصد المؤرخون تأثيرها خارج أوروبا على‬ ‫قائًما على االحتياج‪ ،‬ال التسويق واستغالل ازدياد‬
‫ً‬
‫األكبر‪ ،‬الذي امتد إلى‬‫سبيل المثال‪ .‬لكن التأثير أ‬ ‫كثافة الطبقة الوسطى في المجتمع الصناعي‪،‬‬
‫األرض‪ ،‬كان للمعماري الذي ذكرناه في‬ ‫أصقاع أ‬ ‫تبًعا لتطور‬ ‫فعلًيا بتغيير نمط حياتها ً‬
‫التي بدأت ً‬
‫بداية حديثنا‪ ،‬أي المهندس فيكتور جروين‪ ،‬الذي‬ ‫مستواها المادي‪ ،‬الذي فرض عليها محاولة التشبه‬
‫صمم أول مركز تجاري في الواليات المتحدة‬ ‫بالطبقة أ‬
‫األرستقراطية‪.‬‬
‫األمريكية‪ ،‬وقد استوحى تصميمه من العناصر‬ ‫أ‬
‫فّر منها عام‬‫الجمالية في مدينته في النمسا‪ ،‬التي ّ‬ ‫وإضافة إلى المظهر المعماري الباهر‪ ،‬ابتكر‬ ‫اقرأ القافلة‪ :‬مشتريات المول‬
‫‪1938‬م بعد االحتالل النازي‪ .‬وكان غرضه من‬ ‫نظاًما أو مفهو ًًما حدي ًًثا للتسوق‪ ،‬ال يعتمد‬
‫بوسيكو ً‬ ‫كوجباته السريعة‪ ..‬بال طعم‪،‬‬
‫المفاوضة في أ‬ ‫من عدد يناير‪-‬فبراير ‪2006‬م‪.‬‬
‫مثالًيا للتسوق‪.‬‬
‫التصميم‪ ،‬أن يكون كل يوم يو ًًما ً‬ ‫األسعار كما في السابق‪،‬‬ ‫على‬
‫ففي يوم افتتاح مركز التسوق في والية مينيسوتا‪،‬‬ ‫وهو نظام مبتكر ومبكر بالنسبة إلى ذلك الزمن‪.‬‬
‫كان الثلج يغطي الشوارع‪ ،‬ومع ذلك كان التجول‬ ‫ويمكننا أن نجمل أهم عناصر هذا النظام‬
‫أمًرا‬
‫بين المحال في ممرات مزينة بديكورات أنيقة ً‬ ‫التسويقي في االبتكارات التالية‪ ،‬التي تعد اليوم‬
‫ممك ًًنا‪ ،‬والموسيقى الهادئة حفظت للمتجولين‬ ‫بديهية‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫الشعور بالراحة طوال الوقت‪.‬‬
‫انتشاره عالم ًًيا‬
‫غادر جروين الواليات المتحدة أ‬
‫األمريكية في‬ ‫ابتكار جروين هذا أحدث تأثيره في المجتمع‬
‫آخر حياته إلى مسقط رأسه في النمسا‪ ،‬محاواًلا‬ ‫أ‬
‫األمريكي‪ ،‬وما لبث أن انتشر كالنار في الهشيم‪.‬‬
‫تنفيذ مشروعاته الواعدة من دون تدخالت الفكر‬ ‫فبحلول عام ‪1986‬م‪ ،‬كانت الواليات المتحدة‬
‫الرأسمالي المهووس بالربح‪ ،‬وحاول تنفيذ عدد‬ ‫األمريكية تكتظ بنحو ‪ 25‬ألف مركز تسوق‪.‬‬ ‫أ‬
‫من المشروعات التي تعتمد على المساحات‬ ‫واستوحى معماريون آخرون مراكز تجارية من‬
‫تماًما من تهديد السيارات‪ ،‬وآثارها‬ ‫الكبيرة الخالية ً‬ ‫التصميم الذي وضعه جروين‪ُ ،‬لُيطلق على‬
‫السلبية على البيئة الحضرية للمدن‪ .‬وهذه‬ ‫المعماري النمساوي بعد ذلك لقب "أبو المراكز‬
‫األسواق بدأت تتنامى في عدد كبير‬ ‫النظرة إلى أ‬ ‫التجارية"‪ .‬وصنفت مجلة "كونسيومر ريبورت"‬
‫من مدن العالم‪ ،‬فأصبحت تتنافس في جعل‬ ‫ابتكاًرا أحدثت‬
‫ابتكار المول ضمن أفضل خمسين ً‬
‫فضاءات المدن تختلف عن سابق عهدها‪ .‬فبداًلا‬ ‫ثورة في حياة المستهلك‪.‬‬
‫المجّمعات التجارية (الموالت)‪ ،‬أصبحنا‬
‫ّ‬ ‫من‬
‫نسمع دعوات قوية ُتُطالب بإعادة فضاء السوق‬ ‫بفضل ابتكار المول شهد نمط التسوق نقلة هائلة‬
‫إلى سابق عهده؛ أي جعله مساحات خضراء‬ ‫عنصًرا يتكرر‬
‫ً‬ ‫أّثّرت في العالم كله‪ .‬وصار المول‬
‫ممتلئة بالمشاة‪ ،‬يزينها حسن التنظيم المعماري‬ ‫ظهوره في المدن الكبيرة والتجمعات الحديثة‪،‬‬
‫وتعُّد المملكة العربية السعودية‬
‫فيكتور جروين‪.‬‬ ‫وتتعدد أغراض ارتياده بين أ‬
‫صديق البيئة‪ُ .‬‬ ‫األغراض التجارية‬
‫من الدول الرائدة التي تب ّّنت مثل هذه النظرة إلى‬ ‫والترفيهية والثقافية؛ إذ تتوفر في هذه الموالت‬
‫السوق‪ ،‬وجعلها مبدأ من مبادئ جودة الحياة‬ ‫المقاهي ودور السينما أ‬
‫واأللعاب الترفيهية‪،‬‬
‫لمواطنيها في إطار رؤية السعودية ‪.2030‬‬ ‫وكذلك أماكن العناية أ‬
‫باألطفال‪.‬‬

‫اإلنترنت‪،‬‬
‫اليوم‪ ،‬وبسبب إمكانية التسوق عبر إ‬ ‫الغريب أن فيكتور جروين نفسه‪ ،‬تراجع عن أفكاره‬
‫باتت مكانة الموالت مهددة بالتراجع في مدن‬ ‫المعمارية بخصوص المجمعات التجارية‪ ،‬وقال‬
‫كثيرة حول العالم‪ ،‬وهذا ما أعطى للشكل‬ ‫بصريح العبارة قبل وفاته في الستينيات الميالدية‪:‬‬
‫األحدث منه‪ ،‬الذي يسمح بالتفاعل مع البيئة‪،‬‬ ‫أ‬ ‫األموال على هذه المباني البغيضة‪،‬‬ ‫"أرفض إنفاق أ‬
‫مظهًرا حضارًيًا يمكنه أن‬
‫ً‬ ‫فرصة كي يبرز بوصفه‬ ‫التي دمرت المدينة‪ .‬أنت تذهب لتشتري شي ًًئا‪ ،‬ثم‬
‫المجّمعات المغلقة؛‬ ‫األخرى‪ ،‬حتى‬ ‫األشياء أ‬
‫تجد نفسك وسط الكثير من أ‬
‫يغير مفهوم التسوق داخل أ ّ‬
‫األصلية للظهور مرة‬ ‫لتعود فكرة فيكتور جروين‬ ‫تنسى ما جئت من أجله‪ ،‬لقد استغل الرأسماليون‬
‫أخرى‪ ،‬رَّبَما أألنها كانت فكرة مخلصة وإنسانية‬ ‫فكرتي‪ ،‬وأنا أعلن براءتي منها"‪.‬‬
‫وبعيدة أ‬
‫األثر‪.‬‬
‫ما كان المؤسس يبتغيه حًقًا‬
‫مركز تسوق نورثـالند‪ ،‬تم افتتاحه عام ‪1954‬م في والية‬
‫ميتشغان أ‬ ‫ولكن‪ ،‬ما الذي كان يريده هذا المعماري من‬
‫األمريكية (من مجموعة جروين)‪.‬‬ ‫فكرة المول؟‬

‫بتتبع أفكار الرجل في مؤلفاته ومقاالته‪ ،‬نجد أنه‬


‫كان يريد أن تتخلص المدينة من آ‬
‫اآلثار السلبية‬
‫لتزايد أعداد السيارات‪ ،‬التي كان يكرهها‪ ،‬ويقف‬
‫ضد زيادة تصنيعها الذي سيدمر البيئة‪ .‬لذلك‬
‫تجّمع يستطيع الناس من‬‫فكر في إنشاء مراكز ّ‬
‫باإلضافة إلى‬
‫خاللها ممارسة المشي والتبضع‪ ،‬إ‬
‫احتواء هذه المراكز على مرافق تثقيفية مثل‬
‫المكتبات‪ ،‬ومرافق خدمات مثل العيادات الطبية‪،‬‬
‫وجعلها صديقة للبيئة من خالل تشجيرها‬
‫وإمدادها بالقنوات المائية‪ .‬لكن رأس المال‬
‫تنازل عن كل هذه أ‬
‫األفكار التي تساعد على أنسنة‬
‫المدن‪ ،‬واكتفى من الفكرة بالطبيعة المعمارية‪،‬‬
‫التي تخدم السعي إلى الربح الفوري‪.‬‬
‫رسم معماري لجروين‪.‬‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪97 | 2024‬‬


‫السوق في الرواية‬
‫تدور أحداث الرواية بين عامي ‪1864‬م و‪1869‬م‪،‬‬
‫حول دينيس بودو‪ ،‬وهي سيدة شابة تنتقل إلى‬
‫باريس مع أشقائها للعمل بائعًةً في متجر "من‬
‫أجل سعادة النساء"‪ ،‬ويصف زوال ظروف العمل‬ ‫َلَّما كان السوق هو المكان الرحب لحراك الناس‬
‫القاسية في المتجر‪ ،‬والصراعات التي تنشأ بين‬ ‫واحتكاك بعضهم ببعض‪ ،‬وفيه تختلط المرئيات‬
‫الموظفين‪ .‬بينما يقدم أوكتاف موريه‪ ،‬صاحب‬ ‫بالمسموعات وبالروائح المختلفة‪ ،‬فهو الفضاء‬
‫المتجر‪ ،‬منافسة شرسة للتجار التقليديين من‬ ‫أ‬
‫األنسب لك ََّتاب ومبدعي فن الرواية‪ ،‬الذين‬
‫خالل تقديم خدمات مبتكرة وجذابة للزبائن‬ ‫دائًما عن أرض خصبة تتصارع عليها‬ ‫يبحثون ً‬
‫اإلناث‪ .‬ويستغل موريه النساء لتحقيق أهدافه‬ ‫إ‬ ‫شخصيات أعمالهم‪ .‬وهذا واقع ماثل في كم‬
‫الشخصية‪ ،‬لكنه يقع في حب دينيس‪ ،‬وينتهي‬ ‫هائل من الروايات‪ ،‬التي استخدمت السوق مكاًنًا‬
‫انتصاًرا للمرأة‪،‬‬ ‫يعُّد‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫لألحداث والوقائع الروائية‪.‬‬
‫ً‬ ‫األمر بزواجهما‪ ،‬وهو ما ُ‬
‫مناسًبا‬
‫ً‬ ‫مكانًيا‬
‫التي بدا السوق بالنسبة إليها فضا ًًء ً‬
‫مبكًرا‬ ‫أ‬
‫لتحقيق تطلعاتها االجتماعية‪.‬‬ ‫مسرًحا لألحداث‪ً ،‬‬‫ً‬ ‫كان ظهور السوق بصفته‬
‫إميل زوال‪.‬‬ ‫في فن الرواية‪ .‬فالروائي الفرنسي إميل زوال‪،‬‬
‫وفي رواية "الحب في زمن الكوليرا" لجابرييل‬ ‫استلهم في روايته "من أجل سعادة النساء"‪،‬‬
‫غارسيا ماركيز‪ ،‬يظهر سوق السمك مكاًنًا للتالقي‬ ‫أو "سعادة السيدات" كما في الترجمة العربية‬
‫والتعارف بين الحبيبين فيرمينا وفلورنتينو‪ .‬ففي‬ ‫للرواية التي صدرت في النصف الثاني من‬
‫يصّور المؤلف بأسلوب سحري‬ ‫مطلع الرواية‪ّ ،‬‬ ‫القرن التاسع عشر‪ ،‬نمط متجر "لو بون مارشيه"‬
‫سوق السمك في مدينة ساحلية جميلة ال يذكر‬ ‫الباريسي ذائع الصيت والمستحدث آنذاك‪ ،‬بما‬
‫األغلب إحدى مدن الكاريبي‪.‬‬ ‫اسمها‪ ،‬لكنها على أ‬ ‫في ذلك عمليات الطلب عبر البريد‪ ،‬ونظام‬
‫ويصف ماركيز الصخب والحيوية في السوق‪،‬‬ ‫العموالت‪ ،‬ومفوض الموظفين الداخلي‪ ،‬وطرق‬
‫حيث يشبه أصوات البائعين والزبائن بترنيمة‬ ‫استالم البضائع وبيعها بالتجزئة‪.‬‬
‫موسيقية متجانسة‪ ،‬بينما يتألق الضوء الساطع‬
‫على المأكوالت البحرية الملونة والطازجة‪ ،‬ما‬
‫ويعُّد‬
‫يجعل السوق ينبض بالحياة والنشاط‪ُ .‬‬
‫يجّسد جمال‬‫السوق في الرواية مكاًنًا ممي ًًزا‪ّ ،‬‬ ‫جابرييل غارسيا ماركيز‪.‬‬
‫المدينة وروحها‪ ،‬ويعكس تنوع ثقافتها وازدهارها‬
‫مثالًيا‬
‫االقتصادي‪ .‬إضافة إلى أنه يم ّّثل مكاًنًا ً‬
‫اللتقاء الحبيبين‪.‬‬

‫ولمناسبة الحديث عن سوق السمك‪ ،‬يمكننا تذكر‬


‫رواية "العطر" أ‬
‫لأللماني باتريك زوسكيند‪ .‬فوالدة‬
‫بطل الرواية جان باتيست جرونوي تحصل في‬
‫ويصّور زوسكيند هذه‬
‫ّ‬ ‫سوق السمك في باريس‪.‬‬
‫اللحظة بأسلوب مثير ومليء بالدهشة والتشويق‪.‬‬
‫فجان باتيست يولد في ظروف بائسة ومأساوية‪،‬‬
‫في جو السوق المليء بالضوضاء والروائح الكريهة‬
‫للسمك‪ .‬يعكس هذا المشهد التناقض الشديد‬
‫بين جمال الحياة وقساوتها‪ ،‬وبين روح الوالدة‬
‫ويعُّد مشهد الوالدة‬
‫الجديدة والبدايات الصعبة‪ُ .‬‬
‫في سوق السمك بمنزلة بداية لرحلة جرونوي في‬
‫األساس للغموض‬ ‫عالم الروائح والعطور‪ ،‬ويضع أ‬
‫والتعقيدات التي ستالحقه فيما بعد‪.‬‬
‫عبدهللا التعزي‪.‬‬
‫رجاء عالم‪.‬‬

‫الرواية التي صدرت حدي ًًثا‪ ،‬والتي صعدت إلى‬ ‫تتحدث الرواية عن أحمد أفندي عاكف‪ ،‬الذي‬ ‫وفي الرواية العربية‬
‫القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية‬ ‫اضطر إلى أن يترك تعليمه للبحث عن عمل‪،‬‬ ‫عربًيا‪ ،‬لم يرتبط فضاء السوق بوصفه مكاًنًا‬ ‫ً‬
‫طاٍغ للسوق بوصفه‬‫(البوكر)‪ .‬وفي الرواية حضور ٍ‬ ‫ليتمكن من رعاية أسرته بعد فصل والده وإحالته‬ ‫للقصص والحكايات بأديب عربي مثلما ارتبط‬
‫مكاًنًا يدور فيه كثير من أحداث الرواية على مدى‬ ‫األسرة تعيش في حي‬ ‫إلى المعاش‪ .‬كانت أ‬ ‫باألسواق‬ ‫بنجيب محفوظ‪ ،‬ولعل ارتباط رواياته أ‬
‫خمسين سنة انتهت بزوال سوق "المدعى" بسبب‬ ‫السكاكيني‪ ،‬لكن مع تصاعد الحرب العالمية‬ ‫القاهرية عائد إلى عنصرين مهمين‪ :‬أولهما‬
‫توسعة الحرم المكي الشريف‪.‬‬ ‫أ‬
‫األلمانية‪ ،‬اضطرت األسرة‬ ‫الثانية وتزايد الغارات أ‬ ‫اهتمام محفوظ الروائي بالقاهرة الفاطمية‪،‬‬
‫إلى االنتقال إلى حي خان الخليلي‪.‬‬ ‫التي ال يوجد بين حاراتها وأسواقها فاصل‪ ،‬بل‬
‫والمالحظ من خالل ما سبق‪ ،‬هو جمال أشكال‬ ‫إن معظم أسماء الحارات هي نفسها أسماء‬
‫أ‬
‫األسواق وتعدديتها في الروايات العالمية‬ ‫وهناك‪ ،‬يبدو السوق هو الفضاء المكاني الرحب‬ ‫أسواق‪ .‬والعنصر الثاني هو فني بحت‪ ،‬ويتم ّّثل‬
‫حٍّد سواء‪ ،‬من متاجر فاخرة‪ ،‬إلى‬
‫والعربية على ٍ‬ ‫الذي تتفاعل شخصيات الرواية من خالله بعضها‬ ‫في وعي نجيب محفوظ بأهمية السوق الشعبي‬
‫واألسواق الشعبية في القاهرة‬‫أسواق السمك‪ ،‬أ‬ ‫مع بعض‪ ،‬وصواًلا إلى الخاتمة حين تضطر أ‬
‫األسرة‬ ‫مسرًحا للصراعات االجتماعية والخلجات‬ ‫بكونه‬
‫ً‬
‫كما لدى نجيب محفوظ‪ ،‬وانتها ًًء بأسواق العبيد‬ ‫إلى مغادرة خان الخليلي الذي كانت تعيش فيه‪،‬‬ ‫الداخلية للشخصيات‪ .‬فالسوق يمكن أن يكون‬
‫مروًرا بما هو شعبي‬ ‫والذي شكل سوقه الحيوي تجربة فريدة لبطل‬ ‫واألفكار‪ ،‬وتكوين‬‫اآلراء أ‬
‫األمثل لتبادل آ‬
‫المكان أ‬
‫التاريخية في مكة المكرمة‪ً ،‬‬ ‫العالقات بين الشخصيات‪ .‬وفي بعض أ‬
‫منها‪ .‬كل هذا يجعلنا نعيد التفكير في أهمية‬ ‫الرواية أحمد أفندي عاكف‪.‬‬ ‫األحيان‬
‫السوق داخل فضاءات المدينة‪ ،‬وتأثيره بالغ‬ ‫تتجسد الصراعات السياسية واالقتصادية من‬
‫األهمية في حياة الناس الحقيقية‪ ،‬وكذلك‬ ‫أ‬ ‫وبالنسبة إلى الرواية السعودية‪ ،‬يحضر السوق‬ ‫األمر‬ ‫خالل أحداث تجري في السوق‪ .‬وهذا أ‬
‫أ‬
‫المجازية داخل النصوص األدبية‪.‬‬ ‫في عدد من أ‬
‫األعمال الروائية البارزة‪ ،‬مثل السوق‬ ‫ليس فيه افتعال‪ ،‬أو خروج عن واقع الحياة‬
‫الشعبي للقرية في رواية "الحزام" أألحمد أبو‬ ‫المصرية‪ ،‬ما يجعل انتباه نجيب محفوظ إليه‬
‫دهمان‪ ،‬وسوق العبيد التاريخي في مكة المكرمة‬ ‫انتباًها فنًيا بالدرجة أ‬
‫األولى‪.‬‬ ‫ً ً‬
‫في رواية "الحفائر تتنفس" لعبدهللا التعزي‪.‬‬
‫وبشكل متفرق ومختلف في روايات عبده خال‪،‬‬ ‫ولو أردنا أن نم ّّثل لروايات نجيب محفوظ‪،‬‬
‫حضرت أسواق القرى بشكل خاص‪َ .‬أَّما الحضور‬ ‫التي حضر السوق في عناوينها أو في أحداثها‪،‬‬
‫أ‬
‫األبرز للسوق‪ ،‬فكان في رواية "باهبل" لرجاء‬ ‫الحتجنا إلى إفراد دراسة كاملة ومستقلة‪ .‬لكن‬
‫عالم‪ ،‬التي تدور أحداثها في الفضاء المكاني‬ ‫اإلطالق‪،‬‬
‫حسبنا هنا أن نكتفي بأشهرها على إ‬
‫األسواق الشعبية وأهمها في مكة‬ ‫أألحد أقدم أ‬ ‫وهي رواية "خان الخليلي"‪ ،‬التي صدرت عام‬
‫المكرمة‪ ،‬وهو سوق أو شارع "المدعى" المطل‬ ‫جًدا لفضاء‬
‫مبكًرا ً‬
‫استثماًرا ً‬
‫ً‬ ‫‪1945‬م‪ ،‬والتي م ّّثلت‬
‫على مسعى الحرم المكي الشريف‪ ،‬وهي‬ ‫السوق في الرواية العربية‪.‬‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪99 | 2024‬‬


‫األولى‪ ،‬والسوق آ‬
‫اآلخر المقام على جسر خارج بابها‪.‬‬ ‫جزءان من اللفافة الصينية "على طول النهر خالل مهرجان كينغ مين" العائدة إلى القرن الحادي عشر‪ ،‬ويظهر جانب من السوق داخل المدينة في أ‬

‫السوق في الفن التشكيلي‬


‫الريادة للصينيين والذروة عند المستشرقين‬
‫األسواق تظهر � ييف فن اللوحة‬ ‫ويف أوروبا‪ ،‬بدأت أ‬ ‫�‬ ‫من مختلف ر‬
‫الرشائح االجتماعية والمهن‪ ،‬ومن‬ ‫األسواق‬‫كان الفنانون الصينيون رواد االلتفات إىل أ‬
‫ي‬
‫خالل عرص النهضة � ييف أوروبا الشمالية‪ ،‬حيث‬ ‫ر‬
‫بينهم ّتّجار خارج باب المدينة يبيعون ويشرتون‬ ‫ورسمها‪ ،‬لكونهم رواد رسم المدن عىل لفائف‬
‫راج رسم مشاهد الحياة اليومية � ييف القرن‬ ‫واألدوات الموسيقية أ‬
‫واألدوية‬ ‫واألسلحة أ‬‫المرشوبات أ‬
‫ر‬ ‫من الورق قد تصل أطوال بعضها إىل عدة أمتار‪.‬‬
‫ئيًسا‬ ‫رضر‬ ‫السادس ر‬ ‫ر‬ ‫أ‬ ‫وأشهر عمل بال منافس قريب � ييف هذا المجال‪،‬‬
‫عرش‪ .‬فح �السوق موضو ًًعا ر ً‬ ‫واألصبغة وأدوات الزينة‪ ،‬ويرتاص هؤالء الباعة‬
‫أكرث من لوحة‪ ،‬وبدا‬ ‫بيرت بروغل الكبرير يف ر‬
‫عند ر‬ ‫ومتاجرهم وبعض المطاعم فوق جرس وبجواره‪.‬‬ ‫اللفافة المعروفة باسم "عىل طول النهر خالل‬
‫�‬ ‫ي‬
‫ويف الهواء الطلق‪ .‬ورسم‬ ‫مهرجان كينغ �ن‬
‫وعشوائًيا ي‬
‫ً‬ ‫دائًما فوضوًيًا‬
‫ً‬ ‫مني" للفنان تزانغ زيدوان (‪1085‬م‬
‫جان بروغل الحفيـد‪ ،‬عدة أسواق متخصصة من‬ ‫صيين‪،‬‬‫�‬ ‫�ز �‬ ‫كانت هذه اللفافة‪ ،‬اليت� ي ُتُ ُ‬ ‫‪1145 -‬م)‪ .‬تبلغ مقاييس هذه اللفافة ‪25.5‬‬
‫فين ي‬ ‫عُّد �أغىل كزن ي‬
‫فاتحة تيار استمر حىتى اليوم ييف رسم المدن‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫أشهرها لوحتان‪ :‬إحداهما بعنوان "سوق السمك‬
‫الكب " (‪1603‬م)‪ ،‬أ‬ ‫عرًضا‪ ،‬و‪ 5.25‬مرت طواًلا ‪ ،‬وتم ّّثل ً‬
‫جانًبا‬ ‫سنتيمرت ً‬
‫واألخرى "سوق سمك عىل‬ ‫رير‬ ‫وأسواقها‪ ،‬إضافة إىل أنها العمل الوحيد الذي‬ ‫كبًري� ًا من مدينة بيانجينغ عاصمة أرسة سونغ‬
‫ضفة نهر" (‪1620‬م)‪.‬‬ ‫استمر الفنانون � ييف نسخه طوال ر‬ ‫شخًصا‬ ‫�‬
‫تقريًبا‪.‬‬
‫عرشة قرون ً‬ ‫حالًيا)‪ .‬يظهر ييف هذه اللفافة ‪ً 814‬‬‫(كايفينغ ً‬
‫األوروبية بشكل‬ ‫األسواق أ‬
‫وفيما استمر رسم أ‬
‫عًدا جارًفًا � ييف القرن‬
‫متفرق‪ ،‬اتخذ هذا المنحى ُبُ ً‬
‫أ‬ ‫�ن‬ ‫ر‬
‫عرش‪ ،‬بلغ ذروته مع المسترشقني واألسواق‬ ‫التاسع ر‬
‫�‬
‫اليت� ي شاهدوها أو تخيلوها ييف بلدان المرشق‬
‫ر‬
‫العريب وشمال إفريقيا من أسواق السجاد إىل‬ ‫�ي‬
‫أسواق العبيد‪ ،‬إىل التصوير بواقعية فائقة الدقة‬
‫أحًدا من‬ ‫أ‬
‫لجوانب بعض األسواق‪ .‬فال نكاد نجد ً‬
‫الرشيق� ي بوصفه‬ ‫�ن‬
‫الفنانني تجاوز السوق ر‬ ‫هؤالء‬
‫موضو ًًعا من موضوعات لوحاته‪.‬‬

‫ومن هؤالء عىل سبيل المثال ال الحرص‪ ،‬الفنان‬


‫األسكتلندي دافيد روبرتس‪ ،‬الذي رسم معالم‬ ‫أ‬
‫مرص ولبنان أ‬
‫واألردن‪ ،‬إضافة إىل حياة الناس‬
‫اليومية فيها‪ .‬وكان من أهم أعماله لوحته "بازار‬
‫الحرير"‪ ،‬اليت� ي ُتُصور أحد أسواق الحرير � ييف مرص‬
‫بدقة فائقة الجمال‪.‬‬

‫قني الرسام والنحات‬‫المسترش �ن‬


‫ر‬ ‫�ن‬
‫الفنانني‬ ‫ومن هؤالء‬
‫�‬
‫نيس جان ليون جرير وم‪ ،‬الذي انطلق ييف عام‬
‫لوحة "سوق يافا" الشهيرة أ‬ ‫الفر ي‬
‫لأللماني غوستاف باورنفايند‪.‬‬
‫‪1868‬م‪ � ،‬ييف رحلة طويلة إىل مرص وآسيا الصغرى‪،‬‬
‫رسم خاللها الكثرير من المعالم اليت� ي شاهدها‪.‬‬
‫لكن لوحته اليت� ي تهمنا هنا هي "تاجر السجاد"‪،‬‬
‫اليت� تصور وتوثق لحظة التفاوض �ن‬
‫بني تاجر‬ ‫ي‬
‫السجاد وزبائنه‪ ،‬بينما تنسدل قطعة رائعة من‬
‫ر‬
‫المشرتين‪.‬‬ ‫الرشفات أمام أنظار‬‫السجاد من إحدى ر‬

‫لماين غوستاف باورنفايند‪،‬‬ ‫أ �‬


‫أيًضا الرسام األ ي‬ ‫ومنهم ً‬
‫بني عامي ‪1888‬م و‪1889‬م‪،‬‬ ‫فلسطني �ن‬
‫�ن‬ ‫الذي زار‬
‫يت�‬
‫ورسم خاللها عد ًًدا كبًري� ًا من اللوحات ال ي تصور‬
‫عُّد لوحته "سوق يافا" من‬ ‫ايض القديمة‪ .‬وُتُ ُ‬ ‫أ �‬
‫األر ي‬
‫أهم لوحاته‪ ،‬وتعكس صورة حقيقية لساحل‬
‫مدينة يافا ومالمح من سوقها آنذاك‪ .‬واللوحة‪،‬‬
‫عُّد خارقة للعادة‪ ،‬ففيها دقة‬ ‫�ن‬
‫المهتمني‪ُ ،‬تُ ُ‬ ‫بحسب‬
‫�ن‬
‫انسيايب للضوء بني‬ ‫وتدرج‬ ‫التصوير‪،‬‬ ‫يف‬ ‫عظيمة �‬
‫�ي‬ ‫ي‬
‫أركان السوق‪ ،‬الذي يكتظ بأشكال وأصناف شىتى‬
‫تصويًرا‬ ‫واألطفال‪ .‬كما أن فيها‬ ‫من الرجال والنساء أ‬
‫ً‬
‫لبعض الحيوانات‪ ،‬من دون إغفال معروضات‬
‫"السوق" في هولندا خالل القرن السادس عشر‪ ،‬كما يظهر في لوحة للفنان بيتر بروغل‪ ،‬الذي رّكّز على الطابع العشوائي‬ ‫السوق‪ .‬ومعروف أن غوستاف باورنفايند‪ ،‬ولشدة‬
‫الذي يتسم به هذا السوق القروي‪.‬‬ ‫فلسطني بصحبة‬ ‫�ن‬ ‫بالمرشق‪ ،‬قرر االستقرار � ييف‬ ‫ولعه ر‬
‫ىتى‬ ‫�‬
‫زوجته وابنه‪ ،‬وعاش ييف القدس ح نهاية حياته‪.‬‬
‫جًدا وخالية من المشاة‪ ،‬وهو ما‬ ‫هي أعمال الفنان أ‬
‫شوارع نظيفة ً‬ ‫مرييك المعارص ريتشارد‬ ‫ي‬ ‫األ‬
‫يجعل من تجربة هذا الفنان بتقنياتها الحديثة‬ ‫أ‬
‫عملًيا � ييف رسم األسواق‬ ‫�‬
‫مساحة رحبة للتأمل �يف موضوع رسم أ‬ ‫أ‬ ‫المتخصص ً‬
‫�‬
‫إيستيس‪،‬‬ ‫ويف العرص الحديث‪ ،‬يمكننا أن نجد كثًري� ًا من‬ ‫أي‬
‫األسواق‬ ‫ي‬ ‫والمحال التجارية ييف أشهر المدن األمريكية‪،‬‬ ‫األعمال الفنية‪ ،‬وخاصة الزت�ز يينية منها‪ ،‬تمثل‬
‫بشكل مختلف عن المعهود‪.‬‬ ‫بدقة فوتوغرافية وتركزي�ز عظيم عىل لمعان‬ ‫مشاهد من أسواق الزهور أو السمك أو الخضار‪.‬‬
‫األبنية الحديثة وما ينعكس‬ ‫المعادن والزجاج �يف أ‬ ‫غرير أن أبرز ما � ييف هذا المجال من أعمال بعيدة‬
‫ي‬
‫المباين المجاورة‪ � ،‬ييف‬
‫ي‬
‫�‬ ‫نيون‬ ‫عليها من إضاءات‬ ‫اجتماعًيا وحضارًيًا‪،‬‬
‫ً‬ ‫يني وتتضمن خطاًبًا‬ ‫عن الزت�ز �ن‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪101 | 2024‬‬


‫أسواق المال واألسهم‬
‫ومع مرور الوقت‪ ،‬انتقلت مراكز التداول إىل المدن‬ ‫محفوفة بمخاطر القراصنة والطقس وسوء‬ ‫أألن المال هو عصب حياة أي سوق‪ ،‬كان من‬
‫الرئيسة � ييف أوروبا وبعدها إىل أمريكا الشمالية‪،‬‬ ‫المالحة‪ .‬ولتقليل هذه المخاطر‪ ،‬كان صاحب‬ ‫الطبيعي أن يكون له سوقه الخاص‪ .‬ففي‬
‫حيث نشـأت بورصة نيويورك‪ ،‬اليت� ي كانت � ييف البداية‬ ‫السفينة يبحث عن مستثمر يجهز السفينة‬ ‫كل عاصمة اقتصادية‪ ،‬هناك سوق لالتجار‬
‫تعتمد عىل تجارة السلع والسندات قبل أن تتطور‬ ‫وطاقمها مقابل نسبة من العائدات حال‬ ‫الرشكات أو بيعها‪،‬‬ ‫ولرشاء حصص � ييف ر‬‫بالعمالت‪ ،‬ر‬
‫األسهم‪.‬‬ ‫لتصبح مركًزا رئيًسا لتداول أ‬ ‫نجاح الرحلة‪.‬‬ ‫وُيُعرف مركز هذا السوق باسم "البورصة" اليت�‬
‫ً ً‬ ‫ي‬
‫اإلعالم لحظة بلحظة‪ ،‬لما‬ ‫تتابع أخبارها وسائل إ‬
‫"الفوركس"‬ ‫الرشاكات تستمر لرحلة واحدة فقط‬‫كانت هذه ر‬ ‫األوضاع االقتصادية‬ ‫لها من أهمية �يف التعب عن أ‬
‫رير‬ ‫ي‬
‫سوق العمالت والمعادن الثمينة‬ ‫وتنحّل بعدها‪ .‬ثم تنشأ ررشكة جديدة للرحلة‬
‫ّ‬ ‫عىل أوسع نطاق ممكن‪.‬‬
‫األسهم إىل‬‫يقود الحديث عن البورصة وسوق أ‬ ‫ويف الوقت نفسه يتوزع المستثمرون‬ ‫�‬
‫التالية‪ ،‬ي‬
‫إاإلشارة إىل سوق المال‪ ،‬الذي ُيُطلق عليه اسم‬ ‫ر‬
‫المخاطر عىل مرشوعات مختلفة‪ ،‬للحد من‬ ‫قد تتبادر � ييف أذهاننا عىل الفور بورصة "وول‬
‫جنيب)‪ ،‬وهو سوق عالمي‬ ‫"الفوركس" (الرصف أ‬
‫األ‬ ‫احتماالت انتهاء كل منها بكارثة‪.‬‬ ‫سرتيت"‪ ،‬اليت� ي تأسست عام ‪1792‬م‪ ،‬عىل‬ ‫ر‬
‫ي‬ ‫�‬
‫يجري فيه تداول العمالت أ‬ ‫�‬ ‫أ‬
‫األجنبية والمعادن‬ ‫الرغم من أنها ليست البورصة األوىل ييف الواليات‬
‫عُّد سوق‬ ‫ثم كان أن غرّي�ر ت ر"رشكات الهند ر‬ ‫المتحدة أ‬
‫الثمينة بعضها مقابل بعض‪ .‬وُيُ ُ‬ ‫الرشقية" طريقة‬ ‫األمريكية‪ ،‬إذ سبقتها بورصة فيالدلفيا‪،‬‬
‫مايل � ييف العالم من حيث‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫الفوركس أكربر سوق ي‬ ‫أرباًحا عىل‬
‫أسهًما تدفع ً‬
‫العمل تلك‪ .‬فأصدرت ً‬ ‫اإلطالق‬
‫غرير أنها البورصة األشهر واألقوى عىل إ‬
‫�‬ ‫�‬
‫حجم التداول والسيولة‪ ،‬تشارك فيه البنوك‬ ‫عائدات جميع الرحالت اليت� ي تقوم بها‪ ،‬لتصبح‬ ‫ويف العالم كله‪ ،‬وهي عالمة بارزة عىل‬
‫ييف أمريكا ي‬
‫المركزية والمؤسسات المالية ر‬
‫والرشكات الكربر ى‬ ‫بذلك أوىل ررشكات المساهمة الحديثة‪ ،‬وهو ما‬ ‫هيمنة الرأسمالية عىل العالم الحديث‪.‬‬
‫والمستثمرون من أ‬
‫األفراد‪.‬‬ ‫سمح لها بالمطالبة بمزيد مقابل أسهمها وبناء‬
‫باإلضافة‬
‫الرشكات‪ ،‬إ‬‫أساطيل أكربر ‪ .‬فقد كان حجم ر‬ ‫وبالعودة إىل تاريخ أسواق المال‪ ،‬نجد أن‬
‫وُتُنّفّذ صفقات الفوركس من خالل شبكة ر‬
‫إلكرتونية‬ ‫إىل مواثيق الملكية اليت� تحظر المنافسة‪ ،‬يعين�‬ ‫المصادر تـثبت أن تجار البندقية كانوا أول من‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫بدأ التبادل واالتجار أ‬
‫حّدد أسعار الرصف بنا ًًء عىل العرض‬‫عالمية؛ إذ ُتُ ّ‬ ‫أرباًحا ضخمة‪.‬‬
‫ً‬ ‫باألسهم � ييف القرن الرابع‬
‫والطلب‪ ،‬وتتغرير أسعار العمالت � ييف الوقت‬ ‫حني كان المقرضون يبيعون‬ ‫عرش الميالدي‪� ،‬ن‬ ‫ر‬
‫الفعيل بنا ًًء عىل عوامل متعددة‪ ،‬مثل‪ :‬العرض‬ ‫الرشقية صادرة عىل‬ ‫وألن أ‬
‫األسهم � ييف ررشكات الهند ر‬ ‫أ‬ ‫إصدارات الديون الحكومية للمستثمرين‪ .‬وعىل‬
‫ي‬ ‫أ‬ ‫آ‬
‫والطلب والتضخم ومعدالت الفائدة والسياسات‬ ‫الورق‪ ،‬كان بإمكان المستثمرين بيعها آلخرين‪ .‬وألنه‬ ‫عُّد تجار البندقية روا ًًدا � ييف هذا المجال‪،‬‬
‫ذلك‪ُ ،‬يُ ُ‬
‫واألحداث الجيوسياسية‪.‬‬‫االقتصادية أ‬ ‫لم تكن هناك بورصة أ‬
‫لألوراق المالية‪ ،‬كان �ن‬
‫يتعني‬ ‫حىتى إنهم كانوا يحملون قوائم تحتوي عىل‬
‫عىل المستثمر تعقب وسيط للقيام بالتداول‪.‬‬ ‫اإلصدارات المختلفة المعروضة‬ ‫معلومات حول إ‬
‫ومن خالل تداول العمالت‪ ،‬يمكن للمستثمرين‬ ‫للبيع ويجتمعون مع العمالء‪ ،‬مثلما يفعل‬
‫تحقيق أ‬
‫األرباح عن طريق استغالل التقلبات � ييف‬ ‫كان معظم الوسطاء � ييف بريطانيا يمارسون أعمالهم‬ ‫األسهم اليوم‪.‬‬‫وسطاء سوق أ‬
‫�ن‬
‫المتداولني‬ ‫أسعار الرصف‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬يجب عىل‬ ‫� ييف المقاهي � ييف جميع أنحاء لندن‪ .‬وكانت ُتُكتب‬
‫فهم المخاطر المرتبطة بسوق الفوركس‪ ،‬واتخاذ‬ ‫واألسهم المعروضة للبيع وُتُ رنرش‬ ‫إصدارات الديون أ‬ ‫عرش‪ ،‬أعطت الحكومات‬ ‫ويف القرن السابع ر‬ ‫�‬
‫ي‬
‫إجراءات مناسبة إإلدارة هذه المخاطر‪.‬‬ ‫عىل أبواب المحال التجارية‪ ،‬أو ُتُرسل بالربر يد‬ ‫الهولندية والربر يطانية والفرنسية مواثيق رلرشكات‬
‫عىل شكل رسالة إخبارية‪ .‬وتمتعت ررشكات الهند‬ ‫تحمل اسم "الهند ر‬
‫الرشقية" بأسمائها‪ .‬وقد‬
‫الرشقية بسبب ذلك بمزي�ز ة تنافسية كبرير ة‪ ،‬وهي‬‫ر‬ ‫الرشكات نتيجة وضع الرحالت‬ ‫نشأت هذه ر‬
‫االحتكار المدعوم من الحكومة‪.‬‬ ‫يت�‬ ‫ر‬
‫التجارية البحرية من الرشق آنذاك‪ ،‬وال ي كانت‬

‫ومقابل الفائدة المحدودة التي‬ ‫وبوجه عام‪ ،‬يرتفع حجم‬ ‫المختلفة‪ ،‬منها ما هو ممنوع قانوًنًا‬
‫مثل أ‬
‫السوق السوداء‬
‫يجنيها المستهلك من الطبقة‬ ‫السوق السوداء وتنشط أكثر‬ ‫األسلحة والمواد الخطرة‪،‬‬
‫الوسطى من شراء احتياجاته من‬ ‫في الدول التي تعاني فسا ًًدا‬ ‫ومنها ما يخضع لرسوم ضريبية‬ ‫هي كناية عن فضاء التعامل‬
‫السوق السوداء‪ُ ،‬تُلحق هذه السوق‬ ‫إدارًيًا‪ ،‬ويتضاءل حجمها كلما‬ ‫كبيرة مثل السجائر والسلع الفاخرة‬ ‫التجاري بسلع مختلفة ووفق‬
‫ضرًرا بالًغً ا باقتصادات الدول‪،‬‬
‫ً‬ ‫كانت القوانين المتحكمة باقتصاد‬ ‫وأيًضا السلع المقّلّدة‬
‫والوقود‪ً ،‬‬ ‫بعيًدا عن سلطة‬
‫العرض والطلب‪ً ،‬‬
‫خاصة الفقيرة منها؛ أألنها تحرمها‬ ‫الدولة أكثر ليبرالية‪ ،‬وانخفضت‬ ‫للماركات الشهيــرة أو تلك التي‬ ‫وغالًبا ما تكون هذه السلع‬
‫القانون‪ً .‬‬
‫من الموارد المالية التي كان يمكن‬ ‫فيها الضرائب والرسوم‪.‬‬ ‫ُأُنتجت خالًفًا لحقوق الملكية مثل‬ ‫مهَّربة تجنبت القوانين الضريبية‪.‬‬
‫َ‬
‫إنفاقها للصالح العام ودعم‬ ‫األفالم السينمائية أ‬
‫واألغاني‬ ‫نسخ أ‬ ‫وتغطي هذه التسمية مجموعة‬
‫المجتمع ككل‪.‬‬ ‫وغير ذلك الكثير‪.‬‬ ‫األنشطة السرية والسلع‬‫كبيرة من أ‬
‫السوق اإللكتروني‬
‫التسوق على نطاق‬
‫عالمي من غرفة النوم‬
‫استعاد جيف بيزوس في مطلع شهر مارس من‬
‫عام ‪2024‬م‪ ،‬لقب أغنى شخص في العالم‪،‬‬
‫وفًقًا لمؤشر بلومبرغ للمليارديرات‪ .‬وبيزوس هو‬
‫الرائد الفعلي للبيع عبر إاإلنترنت والرئيس والمدير‬
‫التنفيذي لشركة "أمازون دوت كوم"‪ ،‬التي أحدثت‬
‫ثورة في عالم التسوق إاإللكتروني‪ ،‬وأصبحت أكبر‬
‫سوق إلكتروني في العالم‪ ،‬تتعدى قيمة سلعه‬
‫منذ عام ‪2016‬م‪ ،‬مائة مليار دوالر سنوًيًا‪.‬‬

‫إن قصة نجاح بيزوس المدوية‪ ،‬يشبهها اليوم‬


‫المئات من قصص النجاح في جميع أنحاء‬
‫العالم‪ ،‬التي يجمعها مجال البيع عبر إاإلنترنت‪،‬‬
‫ذلك المجال أو السوق الذي اكتسح العالم‬
‫أجمع‪ ،‬وتطور بشكل ال يمكن تصديقه‪ .‬فقبل‬
‫سنوات قليلة ال تتجاوز خمس سنوات‪ ،‬لم تكن‬
‫فكرة الشراء عن طريق إاإلنترنت مستساغة لدى‬
‫أكثر الناس‪ ،‬وكان كثيرون يتشككون في مستوى‬
‫أمانها‪َ .‬أَّما اليوم‪ ،‬ومع تقدم هذا السوق‬
‫لألسواق التقليدية‪ ،‬فإن مفهوم التسوق‬ ‫ومنافسته أ‬
‫كباًرا‬
‫بشكله القديم بات مهد ًًدا‪ .‬فالجميع‪ً ،‬‬
‫وصغاًرا‪ ،‬من سكان المدن الكبيرة أو الضواحي‬
‫ً‬
‫الصغيرة‪ ،‬أصبحوا يبتاعون أشياءهم وهم في‬
‫غرف نومهم‪ ،‬أو مضطجعون على أرائكهم الوثيرة‪،‬‬
‫وهو ما جعل معظم رواد العمل في هذه السوق‬
‫األغنياء اليوم‪ ،‬وعلى رأسهم بيزوس الذي بدأ‬ ‫من أ‬
‫عام ‪2000‬م‪ ،‬في تنفيذ أفكاره الواعدة من خالل‬
‫موقعه لبيع الكتب على إاإلنترنت‪ ،‬لتتضخم الفكرة‬
‫مع الوقت‪ ،‬وليصبح موقعه أعظم سوق إلكتروني‬
‫تقريًبا‪.‬‬
‫في العالم‪ ،‬يبيع كل شيء ً‬
‫اإلنترنت إلى قسمين‪:‬‬ ‫وينقسم البيع عن طريق إ‬
‫األول أ‬
‫واألصغر‪ ،‬يتم ّّثل في المتاجر‬ ‫القسم أ‬
‫اإللكترونية‪ ،‬وهي كيانات صغيرة ال يمكن أن‬ ‫إ‬
‫آ‬
‫ننعتها منفردة بـ"السوق"‪َ .‬أَّما القسم اآلخر‪،‬‬
‫األضخم‪ ،‬ويحتوي على كل ما يمكن‬ ‫فهو أ‬
‫بيعه وتوصيله إلى المشترين من خالل شركات‬
‫اقرأ القافلة‪ :‬نزاهة‬ ‫التوصيل‪ ،‬ويمكن النظر إليه على أنه سوق قائم‬
‫األسواق المالية‪ ،‬من‬ ‫بحد ذاته؛ إذ يمكن عن طريقه ممارسة التسوق‬
‫عدد مارس ‪ -‬أبريل‬ ‫والتبضع المعادلة لمفهوم أ‬
‫‪2011‬م‪.‬‬
‫األسواق بشكلها‬
‫التقليدي‪ .‬ومن أشهر هذه أ‬
‫األسواق‪ :‬أمازون‪،‬‬
‫وعلّي إكسبرس‪ ،‬وإيباي‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫ّ‬

‫القافلة | مايو ‪ -‬يونيو ‪103 | 2024‬‬


‫أسواق الجملة‬ ‫أثره على السوق التقليدي‬
‫في معجم االقتصاد‬
‫العمود الفقري‬
‫األسواق‬‫األسواق اإللكترونية سلًبا في أ‬
‫أّثّرت هذه أ‬
‫ً‬ ‫إ‬

‫ألسواق التجزئة‬
‫التقليدية‪ .‬وقد أجريت دراسات مكثفة حول هذا‬
‫التأثير‪ ،‬منها دراسة معمقة أجرتها كلية هارفارد‬ ‫بتطور علم االقتصاد ونظم التجارة وتنوع‬
‫لألعمال بواسطة ألبرتو كافالو‪ ،‬الذي وجد أن تأثير‬ ‫أ‬ ‫أشكال التبادل االقتصادي في العصر‬
‫األسواق الخاصة بالتجار أنفسهم‪ ،‬أألنها ال‬ ‫هي أ‬ ‫أمازون يسبب تغييرات عديدة في سوق التجزئة‪،‬‬ ‫الحديث‪ ،‬صارت لفظة السوق ُتُطلق على‬
‫تستهدف المستهلك النهائي‪ .‬ولذلك تأتي أماكن‬ ‫األسعار والتسعير الموحد في‬ ‫منها زيادة مرونة أ‬ ‫أمور عديدة غير ما يشير إليه ذلك السوق‬
‫تخزين البضائع فيها على شكل مستودعات كبيرة‬ ‫المتاجر التقليدية‪ .‬وكشفت دراسات أخرى مختلفة‬ ‫قائًما في المدن‬
‫التاريـخي الذي كان ً‬
‫وغالًبا ما تكون‬
‫جًدا‪ ،‬ال على هيئة محال تجارية‪ً .‬‬ ‫ً‬ ‫أن تأثير أمازون قد أجبر مراكز البيع بالتجزئة‬ ‫تمُّت بعضها إلى بعض‬
‫الصغيرة‪ ،‬وال ُ‬
‫هذه المستودعات في أطراف المدن الرئيسة‪،‬‬ ‫باإلنترنت‪ ،‬على‬
‫وتجار التجزئة غير المتصلين إ‬ ‫بصلة‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫اإليجارات‪.‬‬ ‫أ‬
‫ألسباب تتعلق بالمواصالت وبقيمة إ‬ ‫إنشاء تجربة تسوق خارج إاإلنترنت من أجل سحب‬
‫أ‬
‫كما أن هذه التجارة تنشط بشكل خاص في‬ ‫بعيًدا عن التجارة إاإللكترونية‪.‬‬
‫األعمال ً‬ ‫• السـوق ّ‬
‫الحّرة أو السوق المفتوح‪ :‬وهي‬
‫المدن الساحلية لقربها من الموانئ‪.‬‬ ‫سوق تباع فيها السلع من غير جمرك أو‬
‫اإللكتروني أصحابه‪ ،‬ولكنه‬
‫أسعد نجاح السوق إ‬ ‫خارج البورصة‪.‬‬
‫إنها ليست سوًقًا بالمفهوم التقليدي؛ إذ ال‬ ‫كان بمنزلة الكارثة المحزنة التي حّلّت على كثيرين‬
‫يقصدها المستهلكون‪ ،‬وليس باستطاعتهم‬ ‫من أصحاب المتاجر في أ‬
‫األسواق التقليدية‪.‬‬ ‫• السوق المشتركة‪ :‬وحدة اقتصادية تتألف‬
‫زيارتها لالستكشاف ومتابعة جديدها‪ .‬فهدفها‬ ‫فبعضهم انسحب‪ ،‬وبعضهم استمر‪ ،‬ومعظمهم‬ ‫من دول تتعاون فيما بينها بهدف تقليل‬
‫التخزين والبيع بكميات كبيرة‪ ،‬وال تهتم بأساليب‬ ‫يترقب‪ .‬ولكن‪...‬‬ ‫العوائق التي تعرقل التجارة بين الدول‬
‫العرض؛ أألن ذلك أ‬
‫األمر خاص بتجار التجزئة‪.‬‬ ‫أ‬
‫األعضاء أو إزالتها‪.‬‬
‫كما هو حال معظم االبتكارات الحديثة‪ ،‬من‬
‫وتجار المستودعات في الغالب يشغلهم‬ ‫سيغّير المزيد من‬
‫المرّجح أأن السوق إاإللكتروني ّ‬
‫ّ‬ ‫• السوق الخيرية‪ :‬سوق ُتُصرف أرباحها في‬
‫التخصص‪ .‬فكل مستودع كبير يتيح لتجار‬ ‫أحوال األسواق التقليدية في العالم‪ .‬ولكن من‬ ‫وجوه الخير‪.‬‬
‫سلًعا من نوع محدد‪ ،‬أو من عدة أنواع‬ ‫التجزئة ً‬ ‫نهائًيا‪ .‬فالسوق‬
‫شبه المستحيل أن يقضي عليها ً‬
‫أيًضا وفق‬
‫متقاربة‪ .‬كما أن تجمعاتهم تكون ً‬ ‫التقليدي لم يكن للبيع والشراء فقط‪ ،‬بل كان وال‬ ‫• سعر السوق‪ :‬السعر السائد أو الشائع‬
‫تّجار التجزئة‪.‬‬ ‫ا أ‬ ‫يزال أكثر من ذلك‪ .‬وحتى اليوم‪ ،‬ال يزال كثيرون‬
‫تسهياًل لألمور على ّ‬ ‫التخصص‪،‬‬ ‫الذي تباع به البضائع‪.‬‬
‫فهناك تجمعات لمستودعات مواد البناء‪،‬‬ ‫يستمتعون بزيارة السوق التقليدي‪ ،‬ويفضلونه‬
‫وأخرى للمواد الغذائية‪ ،‬وثالثة لقطع غيار‬ ‫على السوق إاإللكتروني‪.‬‬ ‫•سياسة السوق الحرة‪ :‬منهج عمل تتبعه‬
‫السيارات‪ ...‬وغيرها من المجاالت‪.‬‬ ‫البنوك المركزية في بيع أ‬
‫األوراق المالية‬
‫وشرائها لتغيير حجم النقد المتداول‪.‬‬
‫ومستودعات أسواق الجملة عالم مستقل بذاته‪،‬‬
‫يحتاج إلى سنوات طويلة من التعامل والخبرة‬ ‫• اقتصاد السوق‪ :‬حركة إ‬
‫اإلنتاج والتوزيع‬
‫إلدراكه‪ .‬لكن أهم ما يميزه أ‬
‫األسعار والجودة‪.‬‬ ‫والتبادل وفًقًا لقواعد االقتصاد الحر‪،‬‬
‫إ‬
‫وتعود أهمية ذلك إلى أن زبون تاجر الجملة‬ ‫الُمعتمد على حرية التجارة ورأس المال‪،‬‬‫ُ‬
‫أيًضا‪ ،‬وهو الذي سيكون أمام‬
‫هو بدوره تاجر ً‬ ‫بعيدة عن قبضة الدولة‪.‬‬
‫المستهلك‪ .‬ولهذا‪ ،‬ال يمكن التهاون في مسألة‬
‫الجودة‪ .‬فاستمرارية تاجر التجزئة مرهونة بجودة‬ ‫• القيمة السوقية‪ :‬قيمة أ‬
‫األصول لشيء أو‬
‫معروضاته‪ ،‬وسمعته في السوق مبنية على‬ ‫لشركة مضافة إلى قيمة ما تنطوي عليه‬
‫اختياراته لبضائعه‪ ،‬التي يجلبها في أ‬
‫األساس من‬ ‫من إمكانات تطوير‪ ،‬أو تحقيق أرباح شبه‬
‫أسواق الجملة‪.‬‬ ‫مؤكدة على المدى المنظور‪.‬‬

‫اإللكترونية‪ ،‬أصبح المجال‬ ‫ومع تطور التجارة إ‬


‫مفتوًحا على مصراعيه أمام تجار التجزئة‪،‬‬
‫الذين ً صاروا في السنوات أ‬
‫األخيرة يجلبون‬
‫اإلنترنت‪،‬‬
‫بضائعهم من مواقع بيع الجملة على إ‬
‫وخاصة المواقع الصينية‪ ،‬ومن أشهرها‬
‫وأنجحها موقع "علي بابا"‪.‬‬
‫)‪The Journey ポスター (B1‬‬

‫رحلة عربية في عالم أنمي اليابان‬


‫لقراءة المقال على‬ ‫لزيارة موقع مجلة‬
‫موقع مجلة القافلة‬ ‫أرامكو وورلد‬
‫مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين ‪ -‬العدد ‪ | ٧٠٤‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2024‬‬

You might also like