{والله يعلم وأنتم لا تعلمون} (خطبة)

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 4

‫‪5/4/23, 7:23 PM‬‬ ‫)خطبة( }وهللا يعلم وأنتم ال تعلمون{‬

‫شبكة األلوكة ‪ /‬آفاق الشريعة ‪ /‬منبر الجمعة ‪ /‬الخطب ‪ /‬تفسير القرآن‬

‫{وهللا يعلم وأنتم ال تعلمون} (خطبة)‬


‫الشيخ محمد عبدالتواب سويدان‬

‫مقاالت متعلقة‬

‫تاريخ اإلضافة‪ 26/12/2022 :‬ميالدي ‪ 2/6/1444 -‬هجري‬

‫الزيارات‪6605 :‬‬

‫﴿ َو ُهَّللا َيْعَلُم َو َأْنُتْم اَل َتْعَلُم وَن ﴾ [البقرة‪]216 :‬‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬والصالة والسالم على خير المرسلين‪ ،‬وأشهد أن ال إله إال هللا وحده ال شريك له‪ ،‬يقول الحق وهو يهدي السبيل‪ ،‬وأشهد أن‬
‫محمًدا عبده ورسوله‪ ،‬صلى هللا عليه وعلى آله الطيبين وصحابته الُغِّر الميامين‪ ،‬وَم ن َتِبَعهم بإحساٍن إلى يوم الدين‪ ،‬وبعد‪:‬‬

‫أيها المسلمون‪ ،‬فكثيٌر ِم َّنا كره أمًر ا من أمور حياته‪ ،‬ثم اكتشف بصورة وأخرى بعد حين من الدهر‪ -‬طال أم قصر‪ -‬أن تلك الكراهية غير الواعية‬
‫بخفايا األمور في البداية‪ ،‬تحَّو لت إلى شكر وثناء للخالق عز وجل في النهاية‪ ،‬بعد أن رأى الخير كامًنا في األمر الذي كرهه قبل ذلك‪ ،‬وعلى المنوال‬
‫نفسه نجد أن أَح َدنا يحب أمًر ا ويسعى لتحقيقه بكل إمكانياته؛ لكن بعد حين من الدهر‪ -‬طال أم قصر‪ -‬سيجد أن هذا الذي أحَّبه وبذل جهده وسعيه‪،‬‬
‫تحَّو ل إلى َشٍّر أو نكٍد أو َهٍّم ‪ ،‬وتمَّنى لو لم يسَع في ذلك األمر منذ البداية! وما بين كراهية أمر أو محبته‪ ،‬ستكون دندنة اليوم‪ ،‬ومنها ننطلق وَنُح ُّث في‬
‫الوقت نفسه على مدارسة قوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َعَسى َأْن َتْك َر ُهوا َشْيًئا َو ُهَو َخْيٌر َلُكْم َو َعَسى َأْن ُتِح ُّبوا َشْيًئا َو ُهَو َشٌّر َلُكْم َو ُهَّللا َيْعَلُم َو َأْنُتْم اَل َتْعَلُم وَن ﴾ [البقرة‪:‬‬
‫‪ ]216‬ما أجمَل أْن تضع هذه اآلية نصب عينيك عندما تواجه أمًر ا تكرهه! فأنَت ال تدري أين الخير‪ ،‬هل هو فيما تحب أو فيما تكره؟ فال تنظر إلى‬
‫ظاهر األمور وتغفل عَّم ا تنطوي عليه من الِح َكم والفوائد؛ ألن ﴿ َو ُهَّللا َيْعَلُم َو َأْنُتْم اَل َتْعَلُم وَن ﴾‪.‬‬

‫فلو ُكِش َف لك عَّم ا في الغيب‪ ،‬لم تخَتْر غير ما اختاره هللا لك‪ ،‬فكم من إنسان ما أتاه الغيث والغوث إال بعدما أرعد القدر وأبرق فوق رأسه‪ ،‬فالِم َح ن قد‬
‫تكون ِم َنًح ا‪ ،‬والَّلفحات يعُقبها النفحات‪ ،‬والكتاب والُّسَّنة والتاريخ ُدِّو نت فيها وقائع ال ُتَعُّد وال ُتَح ُّد مما ظاِه ُر ها العذاب‪ ،‬وباطنها الرحمة والرزق‬
‫والُعلُّو ‪.‬‬

‫من أجل ذلك كان للَّسَلف رضوان هللا عليهم في هذا الباِب وقفاٌت محكمات لبيان الحِّق والِّداللة على الُّر شد والهداية إلى الَّص واب‪ ،‬فقد نقل اإلمام‬
‫سفيان الثوري رحمه هللا عن بعض السلف قوَله‪" :‬إَّن منَع هللا عبَده من بعض محبوباته هو عطاٌء منه له؛ ألَّن هللا تعالى لم يمنعه منها بخاًل ‪ ،‬وإنما‬
‫منعه لطًفا"‪ ،‬يريد بذلك أَّن ما يمُّن هللا به على عبده من عطاٍء ال يكون في صورٍة واحدٍة دائمٍة ال تتبَّدل‪ ,‬وهي صورة اإلنعام بألواِن الِّنَعم التي ُيِح ُّبها‬
‫ويدأُب في طلبها‪ ،‬وإنما يكون عطاؤه سبحانه إلى جاِنب ذلك أيًض ا في صورِة المنع والَح جب لهذه المحبوبات؛ ألَّنه وهو الكريم الذي ال غايَة لكرمه‬
‫وال منتهى لجوِده وإحسانه‪ ,‬وإَّن الواقَع الذي يعيشه ُكُّل امرٍئ في حياته لُيقيم األدَّلة البينة والبراهين الواضحة على صدق وصَّحِة هذا الذي نقله سفيان‬
‫رحمه هللا‪.‬‬

‫• وفي قصة إلقاء أم موسى لولدها في البحر عبرة‪ :‬فلم يكن على األرض حين ألقت أم موسى رضيعها في الَيِّم ‪َ ،‬م ْن هو كاره لذلك األمر أكثر منها؛‬
‫بحكم طبيعتها وفطرتها البشرية؛ لكنها بعد حين من الدهر‪ ،‬وجدت الخير كله كاِم ًنا في ذلك األمر الذي كرهته نفسها بادئ ذي بدء‪ ،‬ورأته شًّر ا له‬
‫ولها‪ ،‬مخافة غرقه في النهر أو وقوعه بيد فرعون ومن معه من الظلمة‪ ،‬والتعرض للذبح كبقية مواليد بني إسرائيل؛ لكن الخير الذي رأته ُأُّم موسى‬
‫َل‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫‪/‬وهللا‪-‬يعلم‪-‬وأنتم‪-‬ال‪-‬تعلمون‪-‬خطبة‪https://www.alukah.net/sharia/1067/159391/-‬‬ ‫َل‬ ‫أ‬ ‫‪1/4‬‬
‫‪5/4/23, 7:23 PM‬‬ ‫)خطبة( }وهللا يعلم وأنتم ال تعلمون{‬

‫تنَّو ع‪ ،‬فحينما أصدر فرعون قراره بقتل َم ن ُيوَلد لبني إسرائيل من الذكور‪ ،‬ووضع كل المحاذير حتى ال يفلت منهم أحد‪ ،‬فقَّدر هللا سبحانه أن ُيوَلد‬
‫هذا المولود‪ ،‬وُيرَّبى في دار فرعون نفسه‪ ،‬وينشأ على فراشه‪ ،‬وُيغَّذى بطعامه وشرابه‪ ،‬ثم يكون هالكه في الدنيا واآلخرة على يديه لتصل الرسالة‬
‫لجميع الخلق؛ وصدق ربنا ﴿ َو ُهَّللا َيْعَلُم َو َأْنُتْم اَل َتْعَلُم وَن ﴾‪.‬‬

‫• قصة أخرى عن موسى عليه السالم أيًض ا‪ ،‬وشعوره يوم أن طلب من خادمه تحضير ما يسُّد رمقهم في ذاك اليوم‪ ،‬من بعد مسير متعب بحًثا عن‬
‫الرجل الصالح‪ ،‬أو الخضر عليه السالم؛ يخبره خادمه أن السمكة التي كانت معهم وكانت هي طعام غدائهم‪ ،‬قد عادت للحياة وخرجت بشكل عجيب‬
‫من سَّلة طعامهم ناحية البحر!‬

‫ال شَّك أن شعور عدم االرتياح كان هو الشعور االبتدائي عند موسى عليه السالم قبل أن يتنبه إلى أن ما حدث– وإن كرهه للحظات– فهو اإلشارة‬
‫التي كان ينتظرها‪ ،‬والدالة على قرب الوصول لمبتغاهما‪ ،‬نعم‪ ،‬لوال هذا الحدث غير المريح بداية‪ ،‬لما عاد موسى عليه السالم وخادمه لمواصلة‬
‫السير وقص األثر‪ ،‬حتى وجدا الخضر عليه السالم‪ ،‬ومعايشة قصص عجيبة عَر فوا من خاللها جزًء ا يسيًر ا من عميق علم هللا‪ ،‬وهي كلها شواهد‬
‫على موضوع حديثنا اليوم‪ ،‬فقد كره موسى عليه السالم تخريب سفينة البَّحارة المساكين‪ ،‬وكره قتل الغالم بدون أي ذنب‪ ،‬وكره قيامهم بترميم بيت‬
‫دون مقابل‪ ،‬في قرية لم يرأف بهم أحد من أهلها؛ ليتبَّين له نهاية األمر أن الخير فيما قام به الخضر‪ ،‬ولُيدِر ك أيًض ا ومن سيأتي بعده من بني البشر‪،‬‬
‫معنى قوله تعالى‪َ ﴿ :‬و ُهَّللا َيْعَلُم َو َأْنُتْم اَل َتْعَلُم وَن ﴾ وهكذا في حياتك حينما ُتَفاجأ بما ال تحب وما ال تريد تذَّكر قصة الخضر مع موسى عليهما السالم‪،‬‬
‫واعلم أن هللا أعلم بما يصلحك وهو أحكم الحاكمين‪ ،‬وتذَّكر في حياتك كم هي األمور التي كنت تحسبها شًّر ا ثم تبَّين لك أنها خير ومصلحة لك‪.‬‬

‫وأنت كذلك قد ترى ضمن مشهد إلقاء يوسف عليه السالم في الُجِّب أو البئر‪ ،‬أنه أمر كان كله شًّر ا وقسوة بالغة من إخوة كبار تجاه أخيهم الصغير‪،‬‬
‫لتجد بعد حين من الدهر‪ ،‬أن الخير كان يكمن في تلك المؤامرة؛ خيٌر تجسد بعد سنوات طوال‪ ،‬على شكل ِع َّز ة وهيبة وسلطان ناله يوسف عليه‬
‫السالم حتى طال ذلك الخير ُأَّم ه وأباه‪ ،‬وكذلك إخوته الذين حاكوا ونسجوا تلك المؤامرة! كاد له إخوته كيًدا أرادوا قتله فلم َيُم ت‪ ،‬أرادوا محَو أثره‬
‫فارتفع شأنه وعال نجمه‪ ،‬أرادوا بيَعه مملوًكا فأصبح ملًكا‪ ،‬أرادوا أن ُيزيلوا محبته من قلب أبيهم فما ازداد أبوهم إال حًّبا وشغًفا به‪ ،‬فإرادة هللا غالبة‬
‫وهي فوق إرادة الكل ﴿ َو ُهَّللا َيْعَلُم َو َأْنُتْم اَل َتْعَلُم وَن ﴾ فكل ما يحصل فهو بإرادة هللا وحكمته وتقديره‪ ،‬قال سبحانه‪ِ ﴿ :‬إَّنا ُكَّل َشْي ٍء َخ َلْقَناُه ِبَقَدٍر ﴾ [القمر‪:‬‬
‫‪ ]49‬وقال تعالى‪َ ﴿ :‬و َخ َلَق ُكَّل َشْي ٍء َفَقَّدَر ُه َتْقِديًر ا ﴾ [الفرقان‪ ]2 :‬فكل أمر له حكمة؛ ولكن هذه الحكمة قد تغيب عن الناس وال يدركونها ﴿ َو ُهَّللا َيْعَلُم‬
‫َو َأْنُتْم اَل َتْعَلُم وَن ﴾‪.‬‬

‫أُّيها األِح َّبة الِك رام‪ ،‬لقد كان المؤمنون الذين خرجوا يوم بدر يطلبون عير قريش وتجارتها‪ ،‬ويرجون أن تكون الفئة التي وعدهم هللا إياها هي فئة‬
‫العير والتجارة‪ ،‬ال فئة الحامية المقاتلة من قريش؛ ولكن هللا جعل القافلة تفلت‪ ،‬ولقاهم المقاتلة من قريش! وفق تدبير إلهي محكم‪ ،‬على رغم أن‬
‫الصحابة الِك رام الذين شاركوا في المعركة‪ ،‬اعتبروا مجريات األحداث شًّر ا لهم؛ ألنهم قاب قوسين أو أدنى من الهالك؛ فما خرجوا لمعركة؛ بل‬
‫اعتراض قافلة تجارية‪ ،‬والفرق بين المهمتين كبير؛ لكن مع تطُّو رات األحداث‪َ ،‬تبَّين لهم بعد ذلك أن الخير كله فيما دَّبره هللا لهم‪ ،‬فكان النصر الذي‬
‫دَّو ى في الجزيرة العربية ورفع راية اإلسالم؛ فأين تكون القافلة من هذا الخير الضخم الذي أراده هللا للمسلمين؟! وأين يكون اختيار المسلمين‬
‫ألنفسهم من اختيار هللا لهم؟! وهي المغزى الحقيقي لآلية‪ ،‬ما يفيد أن كراهيتك ألمر ما أيها اإلنسان‪ ،‬ال تعني أنك محٌّق ومصيٌب فيها‪ ،‬فقد يكون‬
‫الخير بانتظارك وأنت ال تدري؛ وبالمثل يقال عن ُحِّب أمر ما والميل نحوه‪ ،‬فقد يكون الشر بانتظارك من خالله وأنت ال تدري ﴿ َو ُهَّللا َيْعَلُم َو َأْنُتْم اَل‬
‫َتْعَلُم وَن ﴾‪.‬‬

‫وهذا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ذهب لَيعتمر فتعترضه قريش بُص ْلِح الحديبية‪ ،‬فلم َتحصل لهم العمرة وضاق بعض الصحابة بهذا الصلح؛ ولكن‬
‫هللا سَّم اه فتًح ا‪ ،‬فقال تعالى‪َ ﴿ :‬لَقْد َص َدَق ُهَّللا َر ُسوَلُه الُّر ْؤ َيا ِباْلَح ِّق َلَتْدُخ ُلَّن اْلَم ْس ِج َد اْلَحَر اَم ِإْن َشاَء ُهَّللا آِم ِنيَن ُمَح ِّلِقيَن ُر ُء وَسُكْم َو ُم َقِّص ِر يَن اَل َتَخاُفوَن َفَعِلَم‬
‫َم ا َلْم َتْعَلُم وا َفَجَعَل ِم ْن ُدوِن َذِلَك َفْتًح ا َقِر يًبا ﴾ [الفتح‪.]27 :‬‬

‫فعلم ما لم تعلموا‪ ،‬ما أجمَلها من عبارة! وما ألطَفه من تقدير! ومن أجل هذا كان النبي صلى هللا عليه وسلم ُيعِّلم أصحابه الِك رام رضوان هللا عليهم‬
‫االستخارة في األمور كما ُيعِّلمهم السورة من القرآن‪ ،‬ففي صحيح البخاري‪َ :‬قاَل َج اِبُر ْبُن َعْبِد ِهَّللا السَلِم ُّى ‪َ :‬كاَن َر ُسوُل ِهَّللا صلى هللا عليه وسلم ُيَعِّلُم‬
‫َأْص َح اَبُه اِال ْسِتَخاَر َة في اُألُم وِر ُكِّلَه ا‪َ ،‬كَم ا ُيَعِّلُم الُّسوَر َة ِم َن اْلُقْر آِن وفيه َيُقوُل‪(( :‬الَّلُهَّم ِإِّني َأْس َتِخ يُر َك ِبِع ْلِم َك ‪َ ،‬و َأْس َتْقِد ُر َك ِبُقْدَر ِتَك ‪َ ،‬و َأْس َأُلَك ِم ْن َفْضِلَك ‪،‬‬
‫َفِإَّنَك َتْقِد ُر َو ال َأْقِد ُر ‪َ ،‬و َتْعَلُم َو ال َأْع َلُم ‪َ ،‬و َأْنَت َعاَّل ُم اْلُغُيوِب)) نعم ﴿ َو ُهَّللا َيْعَلُم َو َأْنُتْم اَل َتْعَلُم وَن ﴾‪.‬‬

‫اَّل‬ ‫َل‬ ‫َل ْق‬ ‫َّن‬ ‫ْل‬ ‫ُق‬


‫‪/‬وهللا‪-‬يعلم‪-‬وأنتم‪-‬ال‪-‬تعلمون‪-‬خطبة‪https://www.alukah.net/sharia/1067/159391/-‬‬ ‫َّن‬ ‫ُق‬ ‫َأ‬ ‫َث َل َة‬ ‫أ‬ ‫‪2/4‬‬
‫‪5/4/23, 7:23 PM‬‬ ‫)خطبة( }وهللا يعلم وأنتم ال تعلمون{‬

‫وفي مسند أحمد‪َ :‬عْن َثْعَلَبَة َقاَل‪َ :‬سِم ْعُت َأَنًسا َيُقوُل‪َ :‬سِم ْعُت الَّنِبَّي صلى هللا عليه وسلم َيُقوُل‪َ(( :‬عِج ْبُت ِلْلُم ْؤ ِم ِن ‪ِ ،‬إَّن َهَّللا َلْم َيْقِض َلُه َقَض اًء ِإاَّل َكاَن َخْيًر ا‬
‫َلُه))‪.‬‬

‫فاإلنسان وهو يعيش في هذه الدنيا‪ ،‬ومع كثرة المشاغل وتعقيدات الحياة ومتطلباتها‪ ،‬قد يغفل عن هذه األمور‪ ،‬إال أنه ال بد له من وقفة مع نفسه‪،‬‬
‫يراجع أموره وشؤونه وأحواله‪ ،‬ويستشعر نعم هللا عليه في المنع أو في العطاء‪ ،‬في النقص أو الزيادة‪ ،‬في التأخر أو التعجيل‪ ،‬إنها نعمة يغفل عنها‬
‫الكثير؛ بل وربما ظنها البعض نقمة؛ لقصور نظره ومحدودية علمه‪ ،‬وهذا األمر كما هو متحقق في األفراد فهو متحقق في األمة المختارة التي‬
‫اصطفاها هللا ﴿ َو ُهَّللا َيْعَلُم َو َأْنُتْم ال َتْعَلُم وَن ﴾‪.‬‬

‫أيها المسلمون‪ ،‬ضاق صدر عمر بن الخطاب عندما ترَّم لت ابنته حفصة‪ ،‬وحزن حزًنا شديًدا عليها‪ ،‬لقد رآها تذبل أمامه وتفقد روحها بعد وفاة‬
‫زوجها‪ ،‬فذهب ُيِسر بخفاياه ألبي بكر الصديق‪ ،‬ويعرض عليه أن يخطبها‪ ،‬وبعد أيام كان ُيعِر ض فيها الصديق عنه‪ ،‬أيقن أنه يرفضها‪ ..‬أبو بكر‬
‫الصديق يرفض حفصة بنت الفاروق عمر بن الخطاب‪ ،‬أي نسب هذا الذي ُيرَفض؟! تمُّر األيام والحال كما الحال‪ ،‬فيذهب عمر بن الخطاب إلى‬
‫عثمان بن عفان‪ ،‬يطلبه البنته وكله يقين بأنه لن يرفض أبًدا‪ ،‬يمُّر يوم وبعده يوم فيقول عثمان‪ :‬بدا لي اليوم أاَّل أتزَّو ج‪ ..‬أي إنه يرفضها‪ ،‬ال‬
‫يريد الزواج بها وال بغيرها‪ ،‬فيحزن ابن الخطاب‪ ،‬ويصيبه من الوجد ما يصيبه‪ ،‬ويعلم رسول هللا حين يذهب إليه ويشكو حاله عنده‪ ،‬فيقول الحبيب‬
‫عليه أفضل الصالة والسالم‪(( :‬يتزَّو ج حفصة َم ْن هو خيٌر من عثمان‪ ،‬ويتزَّو ج عثمان من هي خيٌر من حفصة)) لم يكن عمر ليعلم أن الخير كامن‬
‫فيما ظَّنه شًّر ا‪ ،‬فيطلب الحبيب المصطفى يد حفصة بنت الخطاب‪ ،‬وينال الفاروق شرف مصاهرة النبي صلى هللا عليه وسلم وتصبح حفصة من آل‬
‫بيت النبي ومن أمهات المؤمنين‪ ،‬وفوق كل هذا زوج رسول هللا عليه أفضل الصالة والسالم؛ وَم ن وقَف مع كتاب هللا وُسَّنة النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم وقرأ التاريخ الصحيح‪ ،‬لرأى من ذلك عجًبا عجاًبا؛ ولكن هي إشارات وإلماحات؛ فاسمع إًذا‪:‬‬

‫هَّبت عاصفة شديدة على سفينة في عرض البحر فأغرقْتها‪ ،‬ونجا بعض الرَّكاب‪ ،‬منهم رجل أخذت األمواج تتالَعب به حتى َألقت به على شاطئ‬
‫جزيرة مهجورة‪ ،‬وعندما أَفاق الرجل من إغمائه َج ثا على ركبَتيه‪ ،‬وطَلب من هللا المعونة‪ ،‬وسأله أن ُينِقذه من هذا الوضع األليم‪ ،‬مَّر ت أيام والرجل‬
‫َيقتات خاللها من ثمار الشجر وما يصطاده من أرانب‪ ،‬ويشَر ب من جدول مياه قريب‪ ،‬وينام في كوخ صغير بناه من أعواد الَّشجر؛ ليحتمي فيه من‬
‫بْر د الليل وحِّر النهار‪ ،‬وذات يوم‪ ،‬أخذ الرجل يتجَّو ل حول كوخه قلياًل ريثما َينُض ج طعامه‪ ،‬وعندما عاد فوجئ بالنار وقد التهمت كل ما حولها‪ ،‬فأخذ‬
‫يصرخ قائاًل ‪ :‬لم يتبَّق لي شيء في هذه الدنيا‪ ،‬وأنا غريب وفي هذا المكان‪ ،‬واآلن يحتِر ق الكوُخ الذي أنام فيه‪ ،‬لماذا كل هذه المصائب تأتي علَّي ؟!‬
‫فنام الرجل من الحزن في الَعراء وكوخه يحترق‪ ،‬ونام وهو يتضَّو ر جوًعا‪ ،‬وفي الصباح كانت المفاجأة! إذ وجد سفينة تقتِر ب من الجزيرة‪ ،‬وينِز ل‬
‫منها قارب صغير إلنقاذه‪ ،‬أما الرجل‪ ،‬فعندما صِع د على سطح السفينة أخذ َيسألهم‪ :‬كيف اهتَدوا إلى مكانه؟ فأجابوه‪ :‬لقد رأينا دخاًنا من بعيد‪ ،‬فعَر فنا‬
‫أن شخًص ا ما طَلب اإلنقاذ‪.‬‬

‫فكل شيء يسير َو ْفَق تقديره عز وجل وهو يعلم ونحن ال نعلم‪ ،‬وكن على يقين بأن هللا ال ُيقِّدر إال خيًر ا‪ ،‬وأن تقديره عز وجل ال َيخرج عن أمرين‬
‫اثنين‪ ،‬إَّم ا فضله‪ ،‬وإما عدله‪ ،‬وكفى باهلل ولًّيا وكفى باهلل نصيًر ا‪ ،‬فما على المؤمن إال أْن يأخذ باألسباب ثم يطمئن إلى حكمة هللا وعدله ورحمته‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪َ ﴿ :‬و ُهَّللا َيِع ُدُكْم َم ْغِفَر ًة ِم ْنُه َو َفْض اًل َو ُهَّللا َو اِس ٌع َعِليٌم ﴾ [البقرة‪ ،]268 :‬وقال تعالى‪َ ﴿ :‬و َعَسى َأْن َتْك َر ُهوا َشْيًئا َو ُهَو َخْيٌر َلُكْم َو َعَسى َأْن ُتِح ُّبوا َشْيًئا‬
‫َو ُهَو َشٌّر َلُكْم َو ُهَّللا َيْعَلُم َو َأْنُتْم اَل َتْعَلُم وَن ﴾ [البقرة‪ ]216 :‬أقول ما تسمعون‪ ،‬وأستغفر هللا لي ولكم‪.‬‬

‫الخطبة الثانية‬

‫الحمد هلل وكفى‪ ،‬وصالًة وسالًم ا على عباده الذين اصطفى‪ ،‬وبعد‪:‬‬

‫فيا أيها المسلمون ﴿ َو ُهَّللا َيْعَلُم َو َأْنُتْم اَل َتْعَلُم وَن ﴾ كان هناك سلطان في زمن غابر‪ ،‬وبالد بعيدة‪ ،‬وكان له جليس إذا ما ُسِئل عن رأيه في حادث ُم قِلق‪،‬‬
‫يقول بثبات المؤمن وطمأنينة العارف باهلل‪" :‬لعَّله خير لك‪ ،‬وأنت ال تعَلم" وحَدث في يوم من األيام أن خَر ج هذا السلطان ومعه جلساؤه للصيد‪،‬‬
‫وعندما َأطَلق سهمه على طريدته‪ ،‬فأصاب يَده وتُر القوس‪ ،‬فأتَلف إْصَبَعه بعد أن خرج منها دٌم ليس بالقليل‪ ،‬وبينما هو جالس ُيطِّببها‪ ،‬التَفت إلى من‬
‫حوله واأللُم َيعصره التفاتَة المستطِلع لرأيهم‪ ،‬وكان من بينهم الجليس الصاِلح‪ ،‬فقال هذا الجليُس ‪ :‬أُّيها السلطان‪ ،‬لعَّل ذلك خير لك‪ ،‬وأنت كاره له؛‬
‫ولكن السلطان لم يَر في هذا الحادث خيًر ا‪ ،‬فَغِض ب على هذا الجليس‪ ،‬فأَم ر به إلى السجن‪ ،‬وبقي فيه سنة كاملة‪ ،‬وفي يوم من األيام خرج السلطان‬
‫للصيد‪ ،‬وبينما هم في أَثر الصيد ُيطاردونه‪ ،‬انفَص ل كُّل واحد منهم؛ لَيلحق بِقسم من هذا الصيد الوفير‪ ،‬فانفَص ل السلطان عَّم ن معه؛ فخرج عليه ُقَّطاع‬
‫طريق على غير ِم َّلته‪ ،‬ولهم طقوس وثنَّية‪ ،‬وَتمَتمات ِش ركَّية‪ ،‬وكان من بين طقوسهم أن َم ن أمَسكوه في هذا اليوم ضَّحوا به آللهتهم‪ ،‬فما أن رأوا‬
‫السلطان حتى حاَص روه وأمَسكوا به ليجعلوه ُقرباًنا آللهتهم‪ ،‬فما كان من السلطان إال أن جعل ُيخِبرهم أنه السلطان وأن إطالقه سوف يدُّر عليهم رزًقا‬
‫كثيًر ا‪ ،‬فلم تشفع له شيًئا؛ ألن والءهم آللهتهم كان أقوى من المال مهما كان قْدُر ه؛ وكان ال بد لمن ُيقَّدم قرباًنا آللهتهم أن يكون جسمه سليًم ا من‬
‫اآلفات والعيوب؛ ليكون أكمل وأعظم في محَّبتهم ووالئهم آللهتهم‪ ،‬فلما تبَّين لهم أن إحدى أصابعه معطوبة‪ ،‬وأن فيها عيًبا ليس هِّيًنا‪ ،‬فليس ُج رًح ا‬
‫فَيبرأ‪ ،‬وال مرًض ا فيشفى‪ ،‬بعد ذلك َأطَلقوه مشَّيًعا باللعنات؛ لما أضاعه عليهم من الوقت في إمساكه‪ ،‬وإفساده فرحَتهم بما ظِفروا به؛ فعاد إلى بالده‬
‫اًل‬
‫‪/‬وهللا‪-‬يعلم‪-‬وأنتم‪-‬ال‪-‬تعلمون‪-‬خطبة‪https://www.alukah.net/sharia/1067/159391/-‬‬ ‫أ‬ ‫َّك‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫‪3/4‬‬
‫‪5/4/23, 7:23 PM‬‬ ‫)خطبة( }وهللا يعلم وأنتم ال تعلمون{‬

‫بعد أيام‪ ،‬وأول من تذَّكر ذلك السجين‪ ،‬الذي قال كلمة حٍّق فكوفئ بالسجن‪ ،‬فأمر بإطالقه وإحضاره حااًل ؛ لما ثَبت له من ِفراسته وصْدقه الذي دفعه‬
‫إليه اإليمان برِّبه‪ ،‬وأنه ال َيقضي شيًئا عبًثا؛ وإنما لحكمة‪ ،‬فإْن ُعِلمْت كانت نوًر ا على نور‪ ،‬وإْن ُج ِه لت آِم ن بأنه من عند حكيم عليم‪ ،‬فما كان من‬
‫السلطان إال أن اعَتذر إليه عن سجنه‪ ،‬فما كان من الجليس إال أن رَّد رَّد الُم ستيِقِن البصير فقال‪( :‬لعَّل حْبسك لي خير من عفوَك عني) وعندها اندَهش‬
‫السلطان وقال له‪ :‬فِه مُت أن قْط ع إصَبعي كان لي خيًر ا‪ ،‬ولكن كيف يكون سجنك خيًر ا لك؟! قال‪ :‬يا جاللة السلطان‪ ،‬تعلم أنني مراِفقك الخاص أينما‬
‫ذهبت‪ ،‬فلو لم َتحبسني لربما كنت أنا الذي أَم سك به القوم وقَّدموني قرباًنا‪ ،‬وأنا صاِلح لشروطهم‪ ،‬فليس بي َعَطب َيمنعهم من التقُّر ب بي؛ (من كتاب‬
‫" ولكن سعداء‪ "..‬للكاتب أ‪ .‬محمد بن سعد الفّص ام)‪.‬‬

‫أعود فأقول‪ :‬هذه قصة َتستأِنس بها النفوس‪ ،‬وتعَلم أَّن ما قضاه هللا للعبد خيٌر كله‪ ،‬سواء عِلم ذلك الخير أو لم َيعَلمه؛ يقول تعالى‪َ ﴿ :‬فَأَّم ا اِإْل ْنَساُن ِإَذا َم ا‬
‫اْبَتاَل ُه َر ُّبُه َفَأْك َر َم ُه َو َنَّعَم ُه َفَيُقوُل َر ِّبي َأْك َر َمِن * َو َأَّم ا ِإَذا َم ا اْبَتاَل ُه َفَقَدَر َعَلْيِه ِر ْز َقُه َفَيُقوُل َر ِّبي َأَهاَنِن ﴾ [الفجر‪ ]16 ،15 :‬وقال رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪(( :‬عجًبا ألمر المؤمن‪ ،‬إن أمره كله له خير وليس ذلك ألحد إال للمؤمن‪ ،‬إن أصابته سَّر اء شكر‪ ،‬وإن أصابته ضراء صبر‪ ،‬فكان خيًر ا‬
‫له))؛ رواه مسلم‪.‬‬

‫أُّيها األِح َّبة الِك رام‪ :‬الدنيا دار ابتالء من صبر فله خير الجزاء‪ ،‬وربما مَّن عليه هللا بعظيم الكرم في الدنيا واآلخرة‪ ،‬فال تيأس إن طال بك البالء‪ ،‬وال‬
‫تحزن وإن فقدت شغف الحياة‪ ،‬وال تْبِك على عطاء حرمك هللا إياه‪ ،‬فلعَّل العطاء في المنع‪ ،‬ولعل الخير يكمن في الشر‪ ،‬ولعل حبل صبرك بلي ويريد‬
‫هللا أن يعِّو ضك‪ ،‬فاصبر فقد سرت الكثير ولم يبَق إال القليل‪ ،‬قد يضيق بنا الحال‪ ،‬وتسود الدنيا في أعيننا‪ ،‬لرغبة أردناها ولم نحصل عليها‪،‬‬
‫فيصاب القلب بخيبة األمل‪ ،‬ويمرض الجسد‪ ،‬وتذبل الروح‪ ،‬ولكن أييأس قلب رُّبه هللا؟ أيمرض جسد رُّبه الرحمن؟ أتذبل روح رُّبها الجَّبار؟ ال وهللا‬
‫فعطايا هللا كلها خير‪ ،‬وإن كان منعه هو العطاء‪ ،‬وعوضه ال تسعه أرض وال سماء‪ ،‬وجبره يداوي قلوب أنهكها اإلعياء‪ ،‬وتأَّم ل في أمر يعقوب عليه‬
‫السالم يوم أن خاف على يوسف أن يأكله الذئب؛ ﴿ َو َأَخاُف َأْن َيْأُكَلُه الِّذ ْئُب َو َأْنُتْم َعْنُه َغاِفُلوَن ﴾ [يوسف‪ ،]13 :‬فقد يوسف وفَقد بصره؛ ولكنه يوم أن‬
‫فَّو ض أمره إلى هللا فقال‪َ ﴿ :‬فَص ْبٌر َج ِم يٌل َعَسى ُهَّللا َأْن َيْأِتَيِني ِبِهْم َج ِم يًعا ﴾ [يوسف‪ ]83 :‬عاد له يوسف وعاد له بصره؛ ففِّو ض أمرك إلى هللا في كل‬
‫ما َيجري حولك‪ ،‬أسأل هللا أن ينفعنا وإياكم بما نقول وبما نسمع‪ ،‬وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه‪ ،‬وأقم الصالة‪.‬‬

‫حقوق النشر محفوظة © ‪1444‬هـ ‪2023 /‬م لموقع األلوكة‬


‫آخر تحديث للشبكة بتاريخ ‪13/10/1444 :‬هـ ‪ -‬الساعة‪20:18 :‬‬

‫‪/‬وهللا‪-‬يعلم‪-‬وأنتم‪-‬ال‪-‬تعلمون‪-‬خطبة‪https://www.alukah.net/sharia/1067/159391/-‬‬ ‫‪4/4‬‬

You might also like