Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 919

‫أوصيك بقلبي عشقا‬

‫الجزء الثاني من رواية وكفى بها فتنة‬


‫الكاتبة ‪ :‬مريم غريب‬
‫ــــــــــــــــــــــــ‬
‫أعداد قناة روايات خليجية للقصص والروايات المميزة‬
‫تلجرام‬
‫‪@Storykaligi‬‬
‫مستندات الروايات‬
‫‪@Storykaligi_1‬‬
‫لسنا الوحيدين في عالم الروايات ولكننا متميزون بعرض اهم وأقوى‬
‫الروايات والقصص تابعونا‬
‫نتمنى لكم قراءة ممتعة‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫"تمهيد"‬
‫"مراد" ‪...‬‬
‫كال‪ ،‬هذا ليس حقيقيا‪ ،‬بل ليس عادًل‪ ،‬لقد‬
‫اعتقدت بأنها نسيته منذ زمن بعيد‪ ،‬بعيد جدا‪،‬‬
‫فإذا به يقرر أن يظهر اآلن‪ ...‬من أين له بتلك‬
‫الجرأة !!!؟‬
‫‪-‬ايمان !‬
‫دق باب غرفتها‪ ،‬فخرجت من استغراقها‪ ،‬كان‬
‫صوت أمها واضحا و قريبا‪ ..‬ربما شعرت بها‪،‬‬
‫بل أكيد‪ ،‬بالنظر إلى أنها تعلم القصة كلها‬
‫و تعلم تحديدا ماذا يعني "مراد" ًلبنتها‪ ..‬أو‬
‫ماذا كان يعني لها منذ زمن خلى ‪...‬‬
‫‪-‬نعم يا ماما ؟ ‪ ..‬ردت "ايمان" من وراء الباب‬
‫المغلق‬
‫لم يخف الجزع الضامر بصوتها‪ ،‬لكن أمها‬
‫تجاهلته ‪:‬‬
‫‪-‬معاد خروج لمى من الحضانة قرب يا حبيبتي‪..‬‬
‫مش هاتنزلي تجبيها !؟‬
‫تنهدت "ايمان" بتعب واضح و هي تمسح‬
‫وجهها المرهق بكف مرتعش ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل يا ماما مش قادرة انزل‪ .‬معلش لو مش‬
‫هاتعبك‪ ..‬ممكن تجبيها انتي انهاردة !‬
‫بيد أن أمها قد فهمت العلة من رفضها‪ ،‬فهي ًل‬
‫تأبى النزول فقط‪ ،‬بل أيضا ًل تريد أن يراها أحد‬
‫اآلن‪ ..‬بعد إذاعة خبر مجئ "مراد"‪ ..‬فضلت أن‬
‫تتوارى عن األنظار حتى ًل يستشف أحد أي من‬
‫اضطراباتها ‪...‬‬
‫‪-‬ماشي يا حبيبتي على راحتك‪.‬‬
‫ارتاحت "ايمان" بالفعل عندما أبدت أمها‬
‫ترحيبا بإقالل الصغيرة من الروضة للبيت‪ ،‬و‬
‫خرجت من الغرفة بمجرد تأكدها من مغادرة‬
‫أمها‪ ،‬جالت بأرجاء الشقة الواسعة على غير‬
‫هدى‪ ،‬سارحة‪ ،‬ساهمة‪ ،‬غير قلقة من أن يراها‬
‫أحد اآلن‪ ..‬فهي وحدها تماما‬
‫بعد وفاة جدتها‪ ،‬صارت الشقة فارغة على‬
‫أمها‪ ،‬فقررت أن تنتقل معها هي و صغيرتها‬
‫لتؤنسها‪ ،‬في الواقع كانت هي من تلتمس األنس‬
‫و الرعاية أكثر‪ ..‬بعد وفاة زوجها الذي أحببته‬
‫حقا من كل قلبها‬
‫تحطمت‪ ..‬ظنت أن حياتها قد انتهت و رتبت‬
‫بالفعل أمورها على هذا المنوال‪ ،‬الوحدة‪،‬‬
‫العيش بال رجل‪ ،‬و التفرغ التام لتربية ابنتها‬
‫لكن ‪...‬‬
‫بظهور "مراد" مجددا في حياتها‪ ،‬سيختل‬
‫توازنها و ًل ريب‪ ..‬لماذا ؟‬
‫لماذا هو قادم ؟ ألم يقرر بنفسه الرحيل‪ ..‬ألم‬
‫يتزوج و يؤسس حياته الخاصة مثلما فعلت‬
‫هي‪ ..‬ماذا حدث قلب خططه رأسا على عقب ؟‬
‫لماذا طلق زوجته ؟ ًل يمكن أن يكون بسببها‪..‬‬
‫حتما ًل‬
‫فهو ليس بهذه الحماقة‬
‫لو تعرف فقط ماذا ينوي من وراء تلك الزيارة‬
‫كانت لترتاح‬
‫و إنما حتى لو جاء‪ً ،‬ل يمكن أن تراه‪ ،‬لن تكون‬
‫هنا عندما يأتي ستذهب إلى أي مكان ‪...‬‬
‫و لكن تبا !!‬
‫مم هي خائفة بالضبط !؟؟‬
‫هل أحبته هو أم أحبت زوجها الراحل‪ ...‬من‬
‫أحبت بحق هللا !‬
‫"حبيته هو يا ايمان‪ ..‬ماتكدبيش على‬
‫نفسك!"‪ ..‬خرجت هذه الجملة من أعماقها‬
‫ذلك الصوت اللعين بداخلها‪ ،‬مهما حاولت لن‬
‫تهرب منه‪ ..‬أبدا ‪...‬‬
‫عادت مهرولة إلى غرفتها‪ ،‬فتحت ذاك الدرج‬
‫السري‪ ،‬و من بين دفتي كتاب كانت قد نسيت‬
‫وجوده‪ ،‬سحبت تلك الصورة التي جمعتها به في‬
‫الصبا‪ ،‬في الفترة التي كان يمضيها مع والديه‬
‫هنا‪ ،‬قبيل أن يغتربا و يقرر هو أن يشق طريقه‬
‫بنفسه و يحقق توقه لالستقالل‬
‫و كانت خطوة اًلستقالل األولى هي اًلبتعاد‬
‫عنها‪ ،‬رغم ما كان يربط بينهما من غرام عميق‬
‫وقتها‪ ،‬أو لعله كان محض عبث‪ ،‬مراهقة و‬
‫انتهت‬
‫و لكن كيف انتهت !‬
‫لقد تحابا‪ ،‬لقد تحابا و قد جرحها‪ ..‬ترك أثرا في‬
‫قلبها و أذى لن يمحوه الزمن؛‬
‫تهاوت "ايمان" فوق سريرها و راحت‬
‫تسترجع الماضي‪ ..‬أسوأ ذكرياتها على اإلطالق‬
‫‪...‬‬

‫*****‬
‫لم تكن بحاجة لمزيد من األحزان و الصدمات‪،‬‬
‫بعد أتى و أخبرها بأنه راحل مع والديه و أن‬
‫عالقتهما قد انتهت‪ ،‬و أن عليها أن تنساه لألبد‬
‫كانت تمر بحالة اكتئاب شديد‪ ،‬حتى أن أمها قد‬
‫ًلحظت‪ ،‬و بطريقة ما صارحتها "ايمان" ألنها‬
‫لو ما كانت أفصحت عما بصدرها لماتت كمدا‬
‫بكل تأكيد‬
‫فهي قد أحبته كثيرا‪ ،‬رغم البيئة المتشددة التي‬
‫نشأت فيها‪ ،‬عاشت معه حقبة مليئة بالغرام و‬
‫الشباب و الشقاوة‪ ،‬لقد علمها الحب‪ ،‬أبصرت‬
‫على يديه عالم آخر غير الذي تخيلته مع الجنس‬
‫اآلخر‪ ..‬عالم ساحر و جميل‬
‫ما لبث أن خربته العواصف و األعاصير‪،‬‬
‫خاصة حين جاءها الخبر المميت‪ ،‬بلسان أكثر‬
‫الفتيات حقدا و جماًل في آن ضمن مجموعة‬
‫زميالتها بالمدرسة الثانوية‪ ،‬لم تكن تصدق‬
‫األخيرة أن تفوز "ايمان" بشاب وسيم و ثري‬
‫إلى هذا الحد و هي بنظر الجميع رجعية و‬
‫متواضعة الجمال أرادت أن تسرقه منها‪ ،‬و‬
‫كانت "ايمان" تعلم نواياها‪ ،‬لكنها كانت تثق‬
‫بحبيبها‪ ،‬حبيبها الذي وعدها بأنها له و أنه لها‬
‫مهما حدث‪ ..‬صدقته‪ ،‬حتى عندما أخبرها بتلك‬
‫الترهات و أنه ينوي الرحيل‬
‫لم تفقد فيه األمل‪ ،‬حتى و هي تخرج من بيتها و‬
‫تحث الخطى إلى ذلك المكان الذي أرسلته لها‬
‫زميلتها برسالة عبر الهاتف‪ ،‬ذهبت و هي‬
‫متيقنة بأنها لن تجده و أن األخيرة كاذبة ًل تريد‬
‫سوى اغاظتها فقط‪ ،‬ذهبت لكي تغيظها هي و‬
‫تثبت لها أنه ما كان ليخونها في السر أو العلن‬
‫‪...‬‬
‫و لكنها‬
‫و لكنها وجدته‬
‫وجدته‪ ،‬في حفل عيد الميالد الذي ضم حفنة من‬
‫المراهقين‪ ،‬و هو األكبر بينهم‪ ،‬يقف بالوسط‬
‫إلى جوار ملكة الحفل‪ ،‬يحيط خصرها بذراعيه و‬
‫يتمايالن في انسجام‪ ..‬ما إن رأتها الفتاة ذات‬
‫الرداء الداعر‪ ،‬حتى أسرفت أكثر في تصرفاتها‬
‫الفاحشة و هي تضع عينيها بعينيها مباشرة‪،‬‬
‫أخذته من يده و هي ترميها بنظرة هي مزيج‬
‫من التحد و الشماتة ‪...‬‬
‫بدون أن تشعر‪ ،‬تتبعت "ايمان" خطواتهما‪،‬‬
‫عندما لحقت بهما كانا وراء احد األعمدة‬
‫الضخمة‪ ،‬يتبادًلن القبل بحرارة‪ ،‬و تلك‬
‫الوضيعة عيناها مفتوحتان على مصراعيها‪،‬‬
‫تنظر بتشف إلى "ايمان" التي ندت عنها آهة‬
‫متألمة و هي تستند بسرعة إلى جدار قريب‬
‫الجلبة الناجمة عن حركاتها المضطربة نزعت‬
‫الهدوء الحميمي‪ ،‬فانفصل "مراد" عن طريدته‬
‫المراهقة و التفت وراءه‪ ،‬ليصدم برؤية حبيبته‪،‬‬
‫حبيبته التي وضع حدا لعالقته بها‬
‫انفطر فؤاده و هو يراها مجروحة و باكية بهذا‬
‫الشكل‪ ،‬كان مكتوف األيدي و ًل يدري ماذا‬
‫يفعل‪ ،‬حتى رآها تستدير مكممة فاها الصارخ‬
‫بالبكاء و تركض خارج المكان كله ‪...‬‬
‫هرول خلفها مناديا اسمها‪ ،‬لكنها لم تتوقف‬
‫أبدا‪ ،‬إًل أنه أدركها قبل أن تبلغ بوابة نادي‬
‫النخبة الشهير‪ ،‬قبض على يدها و شدها ليقفا‬
‫في محاذاة السور المسيج‪ ،‬فقاومته صائحة ‪:‬‬
‫‪-‬اوعـى‪ .‬شيل ايدك عني‪ .‬بقولك سيبني يا‬
‫مرااااد سيبني ‪...‬‬
‫‪-‬اهدي يا ايمان ! ‪ ..‬هتف بها بصرامة‬
‫و لم يتركها‪ ،‬قال بتصميم زاجرا ‪:‬‬
‫‪-‬مش هاتمشي لوحدك بالشكل ده‪ .‬مستحيل‬
‫اسيبك هاوصلك !‬
‫نظرت له مشدوهة و قالت ‪:‬‬
‫‪-‬هو ده كل إللي بتقوله ؟ بعد القرف إللي‬
‫شوفتك بتعمله مع السافلة دي‪ ..‬و ًل كأنك‬
‫عملت حـاجــة !!؟‬
‫عال صوتها بصراخ في أواخر العبارة‪ ،‬فحذرها‬
‫بحزم ‪:‬‬
‫‪-‬صوتك‪ .‬اوعي تعلي صوتك تاني سامعة ؟ انتي‬
‫اصال ايه إللي جابك هنا ؟ و ازاي خرجتي من‬
‫بيتكوا الساعة دي ؟؟‬
‫جاوبته بمرارة ‪ :‬جيت بدعوة من نادين هانم‪.‬‬
‫جيت أخزيها و أثبت لها إن حبيبي ًل يمكن‬
‫يخوني و ًل يجرحني الجرح ده‪ .‬عمره ما يبص‬
‫لواحدة غيري و خصوصا هي‪ ..‬بس‪ .‬لألسف‬
‫ًلقيتك معاها و ‪...‬‬
‫بترت كالمها عاجزة عن اإلتمام و جرت الدموع‬
‫ثانية فوق خديها‪ ،‬بان الجزع على محيا‬
‫"مراد" للحظات‪ ،‬قبل أن يحاول أن يكون صلبا‬
‫معها ‪:‬‬
‫‪-‬بس انتي مش من حقك يا ايمان‪ .‬و أنا‬
‫خالص‪ ..‬مابقتش حبيبك‪ .‬أنا قلت لك عالقتنا‬
‫انتهت‪ .‬و إللي بينا اصال ماكنش حب‪.‬‬
‫أصيب رأسها بدوار طفيف بفعل كلماته‬
‫القاسية‪ ،‬فرددت بأنفاس مخطوفة ‪:‬‬
‫‪-‬ماكنش حب ! كل اللي عيشنا ده ماكنش حب يا‬
‫مراد !!؟‬
‫رد منجرفا وراء مشاعره المحبطة كليا منها ‪:‬‬
‫‪-‬أيوة يا ايمان ماكنش حب‪ .‬مستغربة ليه ؟ احنا‬
‫مش شبه بعض‪ .‬و أنا ًل يمكن أكمل في عالقة‬
‫عقيمة زي دي‪.‬‬
‫ضربة أخرى أشد إيالما من النار ‪...‬‬
‫‪-‬عقيمة !؟‬
‫‪-‬آه عقيمة‪ .‬انتي بالنسبة لي ماينفعش تكوني‬
‫أكتر من بنت خالتي و بس‪ .‬ألني مقدرش أخون‬
‫صلة القرابة يا ايمان‪.‬‬
‫‪-‬و انت مسمي وعدك ليا بالجواز خيانة لصلة‬
‫القرابة !؟؟‬
‫‪-‬جواز إيه يا مجنونة انتي احنا لسا طلبة‪ ..‬و‬
‫بعدين في كل األحوال إنتي ماتنفعنيش‪ .‬أنا‬
‫مقدرش أتجوز واحدة زيك‪ .‬كل حاجة عندك‬
‫حرام‪ .‬قربي منك حرام‪ .‬مسكة أيدينا دي بردو‬
‫بالنسبة لك حرام‪ .‬أنا البنت إللي هاتجوزها‬
‫ماينفعش تقولي ابعد عني‪ .‬ماينفعش أجي أمسك‬
‫ايدها تقولي شيل ايدك‪ ..‬ده مايبقاش اسمه حب‬
‫و ماينفعش يتبني عليه عالقة‪ .‬على األقل‬
‫بالنسبة لشخص زيي !‬
‫مع كل كلمة خرجت من فاهه كان يسدد لها‬
‫صدمة أقوى من التي قبلها‪ ،‬حتى منحها أخيرا‬
‫سببا لتكف عن عويلها و بكائها‪ ..‬سحبت يدها‬
‫برفق من قبضته و هذه المرة أفلتها‬
‫فرفعت رأسها و حدقت بقوة إلى عينيه و أعلنت‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬صح‪ .‬انت صح يا مراد‪ ..‬إللي بينا ماكنش حب‪.‬‬
‫ألن انت أصال ماينفعش تتحب‪ .‬و ًل هاتعرف‬
‫تحب !!‬

‫*****‬

‫خرجت "ايمان" من حالة اًلستغراق العميق‬


‫للمرة الثانية‪ ،‬فقد انتهت الذكرى األكثر حلكة‬
‫بحياتها‪ ،‬و التي اعتقدت بأنها قد نسيتها في‬
‫وقت من األوقات‪ ..‬كما كان نفس اًلعتقاد يشمل‬
‫"مراد" أيضا‬
‫لكن ًل‬
‫هي لم تنس‪ ،‬و لن تنساه أبدا‪ ،‬إنه أول حب‬
‫بعمرها‪ ،‬حتى و لو كانت عالقة صبيانية‪ ،‬إنها‬
‫لم تراه مطلقا منذ تلك الليلة‪ ،‬أي لقرابة إثنى‬
‫عشر سنة‪ ،‬لكن تكاد تجزم بأنها لو رأته مجددا‪،‬‬
‫لن تستطيع الصمود دقيقة واحدة دون أن تقع‬
‫بغرامه مرة أخرى ‪...‬‬
‫ماذا عليها أن تفعل ؟‬
‫‪-‬مش ًلزم أشوفه !! ‪ ..‬قالتها بصوت عال‬
‫و هبت واقفة و هي تنظر ًلنعكاسها بالمرآة‬
‫قررت بنظراتها و قلبها قبل عقلها‪ ،‬أنه عندما‬
‫يأتي "مراد"‪ ..‬لن تكون موجودة‪ ...‬و لن تراه‪..‬‬
‫لن تجعله يراها أيضا‬
‫أجل‪ ..‬هذا ما ستفعله !‬

‫انتظروا الفصل األول‬

‫الفصل األول‪..‬‬
‫"كان ثمن الهجرة منك غربة و مذلة ؛ و كأني‬
‫أسير حرب مهان‪ ،‬اآلن و قد عدت إلى وطني‪..‬‬
‫ًل آبه إن تشردت أو تسولت‪ ..‬أو حتى‬
‫أعتقلت!"‬

‫_ مراد أبو المجد‬

‫تلبدت السماء بالغيوم فجأة‪ ،‬في غضون دقائق‬


‫منذ أن ألقى بزوجته التي طلقها بقصر عائلتها‬
‫الفاخر‪ ،‬كان الطقس مكفهر مثل مزاجه‪ ،‬بل مثله‬
‫هو تماما ‪...‬‬
‫انطلق بسيارته البوجاتي السوداء ًل ينوي على‬
‫أي وجهة‪ ،‬هب نسيم البحر المنعش و‬
‫بدأت تسقط قطرات المطر األولى‪ ،‬أغلق سقف‬
‫السيارة و حل الظالم التام بولوجه إلى ذلك‬
‫النفق المعتم الطويل‪ ..‬لتتكالب عليه الذكريات‬
‫دفعة واحدة‪ ..‬خالصة ثالثة أعوام من حياته‬
‫قضاهم هائما بحب "هالة رفعت البحيري"‪..‬‬
‫ابنة عم صديق عمره و أخيه الذي لم تنجبه‬
‫أمه‪ ...‬كيف يعقل !؟‬
‫كيف أمكنه أن يخونه‪ ..‬لو أن ما يظنه صحيحا‪..‬‬
‫هل كان يبادلها "عثمان" نفس المشاعر ؟ لو‬
‫كانت بينهما عالقة فيما مضى‪ ..‬إلى أي مدى‬
‫وصلت بهما ؟ و حتى لو كانت عالقة حب من‬
‫طرف واحد و أن صاحبه بريئ‪ ...‬كيف تركه‬
‫يتزوج بها و هو يعلم بأنها تحبه هو ؟‬
‫لقد أكدت له "هالة" بلسانها بأن "عثمان"‬
‫يعلم بحبها‪ ..‬إذن كيف‪ ..‬كيف يفعل هذا بأخيه‬
‫!!؟‬
‫خرج من النفق أخيرا و غمرته األجواء الكئيبة‬
‫الشتوية ثانية‪ ،‬كان المطر قد اشتد‪ ،‬و قد شعر‬
‫برغبة ملحة بالوقوف هناك بالقرب من البحر‪،‬‬
‫لم يفكر طويال و ركن سيارته عند رصيف‬
‫مقفر‪ ،‬و نزل متجها نحو الصخور الغائرة في‬
‫الموج الثائر‬
‫و كان قد تبلل كليا حتى قبل أن يقترب إلى هذا‬
‫الحد‪ ،‬وقف في مواجهة األمواج العاتية‪ ،‬يحدق‬
‫في الفراغ الالنهائي‪ً ،‬ل يوجد على امتداد البصر‬
‫سوى السماء الرمادية و البحر األزرق الزبدي‬
‫‪...‬‬
‫وقف يتأمل تقلبات الطقس لهنيهة‪ ،‬يقارنها بما‬
‫يعتمل بدواخله اآلن‪ ،‬دس يده بجيب معطفه حين‬
‫شعر باهتزاز هاتفه‪ ،‬كان واثق حتى قبل أن‬
‫يلقي نظرة إلى الشاشة‪ ...‬إنها أمه‪ ..‬السيدة‬
‫"رباب" التي تخابره‪ ..‬حتما وصلتها األخبار ؛‬
‫و لم يشأ أن يقلقها‪ ،‬هي بالذات‪ ،‬ففتح الخط و‬
‫أجاب ‪:‬‬
‫‪-‬آلو !‬
‫أتى صوت أمه متلهفا مذعورا في الحال ‪:‬‬
‫‪-‬مراد ! في ايه يابني‪ .‬ايه اللي حصل عندك ده‪.‬‬
‫قول لي اللي سمعناه ده صحيح ؟ انت طلقت‬
‫هالة !!؟؟‬
‫طرحت أسئلة كثيرة و هو ليس له بال ليجاوب‬
‫على كل ذلك‪ ،‬فقال بصوت عكس كل الغضب و‬
‫الخيبات األليمة بصدره ‪:‬‬
‫‪-‬ماما‪ ..‬من فضلك‪ .‬الموضوع ده انتهى‪.‬‬
‫سمعاني ؟ انتهى و مش عاوز أتكلم فيه أبدا‪.‬‬
‫‪-‬طيب بس فهمني يا حبيبي‪ .‬حصل إيه‪ ..‬ما انا‬
‫ًلزم أفهم يا مراد ماتسبنيش كده‪ .‬أنا و باباك و‬
‫جدتك هنا ميتين من القلق !!‬
‫ابتسم نصف ابتسامة و هو يقول هازئا ‪:‬‬
‫‪-‬كلمي اللي بلغوكي هما يفهموكي كل حاجة ‪...‬‬
‫و قبل أن تنطق مجددا قاطعها بصرامة ‪:‬‬
‫‪-‬بصي يا ماما ماتقلقيش عليا‪ .‬أنا كويس‪ .‬رديت‬
‫عليكي بس عشان تطمني‪ .‬لكن أنا محتاج أبقى‬
‫لوحدي شوية‪ ..‬أرجوكي !‬
‫و أغلق الخط باللحظة التالية ‪...‬‬
‫سحب نفسا عميقا عبر فتحتي أنفه‪ ،‬و زفره‬
‫ببطء من فمه‪ ..‬اللعنة !!‬
‫ًل يستطيع أن يطردها من عقله مهما فعل‪ ،‬إنه‬
‫يحبها‪ً ،‬ل زال يحبها و هذا ما يؤلمه‪ ،‬منذ أن‬
‫تعلق بها قبل الزواج حولته إلى عاشق و هو‬
‫الذي ما كان ليفقه ذلك المعنى لوًلها‪ ،‬صحيح‬
‫أنها أعيته و لم يفهم شخصيتها يوما‪ ،‬لكن هذا‬
‫بالضبط ما أوقعه في شباكها‪ ،‬غموضها‪،‬‬
‫كبريائها اًلرستقراطي‪ ،‬و رقتها المفرطة‪،‬‬
‫لدرجة أنه كان يحبها بحذر و يعاملها و‬
‫يحاورها برفق شديد‬
‫لألسف‪ ..‬لقد ترك لها نفسه و سقط في غرامها‬
‫إلى حد جعله يبدو ليس لها فقط‪ ،‬بل للجميع بال‬
‫شخصية‪ ،‬و لكن ماذا كان جزاؤه بالنهاية !؟‬
‫خانته‬
‫طعنت رجولته بمنتهى القسوة‬
‫تململ "مراد" بمكانه بعصبية ًل تخلو من‬
‫الغضب‪ ،‬حاول جاهدا أن يعود إلى رشده لكي‬
‫يستطع تدبير أموره‪ً ،‬ل يمكن ينتهي كل شيء‬
‫بهذه السهولة ‪...‬‬
‫و لكن ماذا عليه أن يفعل ؟ و إلى أين يذهب‬
‫اآلن ؟ ليس له في هذه المدينة سوى صديقه‬
‫الوحيد‪ ..‬و الذي توضح تماما بأن عالقته به قد‬
‫دمرت‪ ..‬فأين يفترض أن يذهب !؟‬
‫ًل يريد أن ينزل بفندق أو ما شابه‪ ،‬يحتاج إلى‬
‫رفقة‪ً ،‬ل يجب أن يبقى بمفرده خاصة اآلن‬
‫و لكن من‪ ..‬من الذي يستحق أن يشاركه كل‬
‫هذا‪ ...‬من الذي يمكن أن يتعرى أمامه في هذه‬
‫الظروف !!؟‬
‫لبث يفكر لبضع دقائق حتى إلتمعت بارقة أمل‬
‫برأسه‪ ،‬و اتخذ قراره‪ ،‬لم تعد لديه لحظة أخرى‬
‫يضيعها‪ ،‬استدار عائدا إلى سيارته‪ ،‬بلغ مفترق‬
‫طرق المؤدي إلى جسر "ستانلي"‪ ..‬و عوض‬
‫التوجه لقلب المدينة‪ ،‬انطلق رأسا إلى طريق‬
‫اإلسكندرية الصحراوي‪ ..‬لتكون الوجهة هي‬
‫العاصمة‪" ..‬القاهرة" ‪...‬‬

‫*****‬

‫ليست المرة األولى التي تقضيا النهار سويا‬


‫بالخارج‪ ،‬فمنذ أن تحسنت العالقة بينهما و هما‬
‫تقريبا ًل تفترقان‪ ،‬فإن لم تتجالسا‪ ،‬فهناك هاتف‬
‫ًل تكفان عن الثرثرة خالله ؛‬
‫و لكن اليوم ًلحظت "سالف" سلوكا غريبا قد‬
‫طرأ على شقيقة زوجها‪ ،‬إلحاحها في طلب‬
‫الخروج من البيت بحجة التسوق و الترفيه عن‬
‫األطفال‪ ،‬وافقتها "سالف" ألنها بالفعل كانت‬
‫بحاجة للتبضع‪ ،‬و لسبب آخر أرادت بشدة أن‬
‫تستطلع أحوالها ‪...‬‬
‫ده ! ‪ ..‬قالتها ‪-Dress‬بصي يا إيمي الـ‬
‫"سالف" من وراء النقاب‬
‫و هي تدفع في نفس الوقت بعربة أطفالها‬
‫الذكور الثالثة‬
‫كانت األخيرة شاردة الذهن‪ ،‬لكنها انتبهت حين‬
‫سمعت اسمها‪ ،‬نظرت نحو زوجة أخيها و‬
‫تساءلت ‪:‬‬
‫‪-‬نعم يا سالف !؟‬
‫أشارت لها "سالف" إلى واجهة متجر المالبس‬
‫النسائي ‪:‬‬
‫‪-‬بقولك بصي ده‪ ..‬ده هايبقى حلو أوي عليكي‪.‬‬
‫كأنه متصمم عشانك أصال و بصي نفس األلوان‬
‫اللي بتحبيها !‬
‫تطلعت "إيمان" إلى الثوب‪ ،‬كان بالفعل جميال‬
‫و قصته جذابة‪ ،‬زهري و مزين بالورود على‬
‫مختلف ألوانها ‪...‬‬
‫‪-‬ايه رأيك‪ ..‬ندخل نشتريه ؟‬
‫قدمت "إيمان" خطوة موافقة و هي تشد يد‬
‫ابنتها الصغيرة معها ‪:‬‬
‫‪-‬ليكي ؟‬
‫عبست "سالف" مصححة ‪:‬‬
‫‪-‬ليكي انتي يا إيمان‪ ..‬في ايه مالك مش مركزة‬
‫معايا ليه !!؟‬
‫حاولت "إيمان" أن تبدد شكوكها بابتسامة‪،‬‬
‫لكنها لم تخدعها البتة ‪:‬‬
‫‪-‬مافيش حاجة يا سالف‪ .‬هايكون في ايه يعني !‬
‫هزت "سالف" رأسها ‪:‬‬
‫‪-‬مش عارفة‪ .‬بس حساكي مش مضبوطة‪ ..‬و أنا‬
‫احساسي مابيخيبش‪.‬‬
‫كانت ستكذب مرة أخرى و قد عرفت "سالف"‬
‫ذلك من عينيها‪ ،‬فقاطعتها ‪:‬‬
‫‪-‬بس يا إيمان ماتتكلميش تاني لو سمحتي‪.‬‬
‫ماتتلكميش لو هاتكدبي‪ ..‬بصي إحنا هاندخل‬
‫ده و ننزل نشرب حاجة ‪Dress‬نشتري لك الـ‬
‫تحت و نتكلم براحتنا‪Food Court .‬في الـ‬
‫أبت "إيمان" بشدة ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل يا سالف‪ً .‬ل ًل معقول أنا ألبس األلوان دي ؟‬
‫ًل مش ممكن !!‬
‫سالف باستنكار ‪ :‬و مش معقول ليه يا حبيبتي‬
‫؟؟‬
‫ردت "إيمان" و هي تتأمل الموضة الشبابية‬
‫أمامها ‪:‬‬
‫‪-‬عشان مش سني ده يا سالف !‬
‫جحظت عينا "سالف" الفيروزيتين من أسفل‬
‫عصابة عينيها و تمتمت بغيظ ‪:‬‬
‫‪-‬مش سنك ! منك هلل يا شيخة‪ .‬هاترفعيلي‬
‫ضغطي‪ ..‬خشي قدامي يا إيمان !‬
‫جاءت لتعترض‪ ،‬فأجبرتها "سالف" زاجرة‬
‫بشدة ‪:‬‬
‫‪-‬خشششششـي قدامـي يا إيمـان‪.‬‬
‫كتفت "إيمان" ذراعيها هاتفة بعناد ‪:‬‬
‫‪-‬قلت مش داخلة يعني مش داخلة يا سالف !!‬
‫*****‬
‫جلستا في أقصى المطعم الشهير بفناء المطاعم‬
‫و المقاهي بالمول التجاري األضخم ‪...‬‬
‫استطاعت "سالف" أن ترفع النقاب و هي‬
‫تجلس بظهرها‪ ،‬أخذت "سالف" تكتم ضحكاتها‬
‫بصعوبة‪ ،‬فقد حققت مشيئتها و أجبرت‬
‫"إيمان" على قياس الثوب و من ثم شراؤه‪ ،‬و‬
‫قد كان شكلها المضطرب حتى اآلن و هي تنظر‬
‫إلى كيس القماش الذي يحمل شعار المتجر‪ ..‬لم‬
‫تكن مرتاحة أبدا‬
‫فحاولت "سالف" أن تخفف الضحك في‬
‫صوتها و هي تخاطبها بلطف ‪:‬‬
‫‪-‬خالص بقى يا إيمي‪ .‬فكي ماكانش فستان ده‪..‬‬
‫ايه يعني لما تلبسيه مش يمكن الصنارة تغمز‬
‫!؟‬
‫و غمزت لها بشقاوة‬
‫توترت "إيمان" حين قالت ذلك ‪:‬‬
‫‪-‬ايه صنارة و تغمز دي‪ .‬قصدك ايه يا سالف !؟‬
‫رفعت "سالف" حاجبها و قالت بتعجب ‪:‬‬
‫‪-‬و انتي مالك اتلخبطتي كده ليه !!‬
‫ازداد اًلرتباك عليها و هي ترد متلعثمة ‪:‬‬
‫‪-‬مـ مافيش حاجة يا سالف‪ .‬هو انتي كل شوية‬
‫هاتقوليلي مالك !‬
‫‪-‬بقولك من اآلخر‪ .‬انتي متوترة أوي كده بسبب‬
‫زيارة مراد لينا انهاردة !؟‬
‫هكذا باغتتها "سالف" و قد أصابت‪ ،‬و أرادت‬
‫"إيمان" أن تنفي هذه الحقيقة‪ ..‬لكن أمام‬
‫نظرات األخيرة الثاقبة‪ ،‬و تحت وطأة جلد الذات‬
‫القلق من مشاعرها‬
‫وجدت نفسها تبوح مومئة برأسها ‪...‬‬
‫تنهدت "سالف" قائلة ‪:‬‬
‫‪-‬كنت حاسة !‬
‫و في هذه اللحظة أتى النادل‪ ،‬أنزلت "سالف"‬
‫النقاب فورا‪ ،‬وضع حلوى الدوناتس أمام‬
‫الصغار‪ ،‬و القهوة أمام "سالف" و العصير‬
‫الطازج أمام "إيمان" ‪...‬‬
‫رفعت "سالف" النقاب ثانية بعد ذهاب النادل‪،‬‬
‫و ارتشفت القليل من قهوتها الفاتحة لتساعدها‬
‫على التعاطي مع الوضع الجاري‪ ،‬رفعت بصرها‬
‫إلى "إيمان" التي راحت تعبث بقشة الكأس بال‬
‫هدف متحاشية النظر في عيني زوجة أخيها‬
‫وجهت "سالف" سؤاًل مدروسا بصوتها‬
‫الهادئ ‪:‬‬
‫‪-‬انتي كان في حاجة بينك و بين مراد قبل ما‬
‫تتجوزي‪ ..‬صح يا إيمان ؟‬
‫أومأت "إيمان" مؤيدة للمرة الثانية‪ ،‬فأردفت‬
‫"سالف" ‪:‬‬
‫‪-‬لسا بتحبيه ؟‬
‫للمرة الثالثة تومئ لها و ًل تجسر على النطق‬
‫لوت "سالف" فمها ممعنة في تلك المعطيات‬
‫بدقة‪ ،‬ثم قالت ‪:‬‬
‫‪-‬طيب‪ .‬بالنظر لوضعكم انتوا اًلتنين‪ .‬أكيد‬
‫العالقة انتهت من زمان بما انك اتجوزتي و هو‬
‫كمان اتجوز‪ ..‬ليه مضطربة كده و ليه اصريتي‬
‫نخرج من البيت قبل ما يجي‪ .‬مش عايزة‬
‫تشوفيه !؟‬
‫و هنا رفعت "إيمان" رأسها و رمقتها بنظرة‬
‫واهنة ‪:‬‬
‫‪-‬أنا بكلمك دلوقتي كأني بكلم نفسي‪ ..‬و مش‬
‫هاخبي عنك حاجة يا سالف !‬
‫بثت فيها "سالف" كل الثقة لتحملها على‬
‫البوح بكل أريحية ‪:‬‬
‫‪-‬خليكي واثقة إن كالمك كله هايتسمع و بس‪.‬‬
‫عمره ما هيتقال تاني يا إيمان‪.‬‬
‫ابتسمت لها بامتنان‪ ،‬ثم بدأت تسرد لها كل‬
‫الحكاية‪ ،‬من البداية و حتى هذه اللحظة ‪...‬‬
‫‪-‬يعني مراد قصة حب و انتهت ! ‪ ..‬قالتها‬
‫"سالف" مقررة منطقية الوضع‬
‫‪-‬ايه اللي قلقك بقى !؟‬
‫قطبت "إيمان" بشدة ‪:‬‬
‫‪-‬إني مش فاهمة تصرفاته‪ .‬هو من يوم ما سيبنا‬
‫بعض و هو بيتجنب نتقابل‪ .‬طول السنين دي‬
‫كلها مجاش و لو زيارة‪ ..‬حتى في موت تيتة‬
‫حليمة مجاش‪ .‬انتي نفسك يا سالف ماكنتيش‬
‫تعرفي عنه حاجة غير من فترة قريبة‪ ..‬إشمعنا‬
‫دلوقتي افتكرنا‪ .‬و في الوقت ده‪ .‬اللي هو فيه‬
‫مطلق مراته و أنا جوزي مات !!!‬
‫‪-‬انتي رابطة زيارته بيكي‪ .‬و جايز جدا‬
‫مايكونش راجع عشانك يا إيمان‪ ..‬ثم انتي‬
‫قلقانة ليه بردو ؟ حتى لو جاي لك انتي‪ .‬أقصى‬
‫اللي ممكن يعمله ايه يعني !؟‬
‫هزت "إيمان" رأسها للجانبين مقرة ‪:‬‬
‫‪-‬انتي مش فاهمة يا سالف‪ .‬أنا مش خايفة منه‪..‬‬
‫أنا خايفة من نفسي لو شوفته تاني‪ ...‬خايفة‬
‫أحبه تاني !‬

‫*****‬
‫أسفل منزل "آل عمران"‪ ...‬عثر "مراد" على‬
‫مكان يركن فيه سيارته‬
‫ترجل منها و قد كان البواب بالقرب‪ ،‬لديه خبر‬
‫بمجئ الضيف‪ ،‬بمجرد أن أفصح عن هويته‬
‫تلقى الترحيب الشديد و فتح له الرجل الشديد‬
‫بوابة المنزل على مصراعيها‬
‫دخل "مراد" البناية الراقية‪ ،‬لم يتخذ المصعد‬
‫الكهربائي و فضل أن يصعد الدراج مثنى مثنى‪،‬‬
‫حتى وصل إلى الطابق األول ؛‬
‫كانت خالته "أمينة" بانتظاره‪ ،‬أخذته باألحضان‬
‫ما إن فتحت الباب و رأته‪ ،‬ضمها "مراد"‬
‫بدوره مغمغما بصدق ‪:‬‬
‫‪-‬وحشتيني يا خالتو !‬
‫ربتت األخيرة على ظهره العريض و ًل زالت‬
‫تحتضنه بعاطفة أمومية جياشة ‪:‬‬
‫‪-‬حبيبي يا مراد‪ .‬حبيب خالتك‪ .‬ياااه ده انت‬
‫واحشني أوي‪ ..‬بس ايه ده‪ .‬مال هدومك مبلولة‬
‫كده ليه !؟؟‬
‫تباعدا على مهل و شرح لها بايجاز مع ابتسامة‬
‫باهتة ‪:‬‬
‫‪-‬كانت بتشتي في اسكندرية !‬
‫شدته "أمينة" من يده للداخل ‪:‬‬
‫‪-‬طيب ادخل‪ .‬ادخل في الدفا و أنا هادخل أجيب‬
‫لك غيار من دوًلب أدهم‪.‬‬
‫قبض "مراد" على كفها قائال ‪:‬‬
‫‪-‬مالوش لزوم يا خالتو‪ .‬أنا مش مطول‪ .‬أنا جاي‬
‫بس ألدهم في موضوع مهم‪ً ..‬لزم أمشي‪.‬‬
‫‪-‬هاتمشي فين بس انت لحقت ؟ عايز تروح فين‬
‫!؟‬
‫‪-‬لحد ما أخلص إللي جيت عشانه‪ .‬هاحجز في‬
‫أي أوتيل ‪...‬‬
‫‪-‬مش عيب تقول الكالم ده و انت واقف في بيت‬
‫صالح عمران المفتوح للغريب قبل القريب يا‬
‫أستاذ مراد !؟؟‬
‫إلتفت "مراد"مبتسما نحو مصدر الصوت‪ ،‬كان‬
‫صوت "أدهم عمران" الذي ًل يخطئه السمع‬
‫أبدا‪ ..‬كان قد أتى للتو من الخارج‬
‫تأمال بعض للحظات‪ ،‬ثم تعانقا عناق الرجال‪ ،‬و‬
‫تباعدا خالل لحظة‪ ،‬ليقول "أدهم" بحبور ‪:‬‬
‫‪-‬أهال و سهال‪ ..‬شرفت و نورت يا مراد‪.‬‬
‫‪-‬ده نوركو يا أدهم‪ .‬متشكر أوي‪.‬‬
‫تداخل صوت "أمينة" في هذه اللحظة ‪:‬‬
‫‪-‬قول حاجة بقى يا أدهم‪ ..‬ابن خالتك قال ايه‬
‫جاي عشان يمشي تاني !‬
‫نقل "أدهم" ناظريه بينهما و هو يقول ‪:‬‬
‫‪-‬مافيش الكالم ده يا أمي‪ .‬البيه هايقعد عندنا‬
‫شوية ماتقلقيش‪.‬‬
‫حاول "مراد" أن يعترض ‪:‬‬
‫‪-‬ماينفعش يا أدهـ ‪...‬‬
‫قاطعه "أدهم" بصرامة ‪:‬‬
‫‪-‬بقولك إيه‪ .‬أنا كلمتي محدش يقدر يردها‪ .‬قلت‬
‫هاتقعد يعني هاتقعد‪ ..‬خلص الكالم !‬
‫*****‬

‫لوًل مكالمات أخيها التي انهالت عليهما عندما‬


‫خيم الليل‪ ،‬و طلبه في عودتهما إلى البيت على‬
‫جناح السرعة ما كانت لتعود‪ ،‬أرادت أن تتأخر‬
‫في الخارج أكثر وقت ممكن حتى ًل تسنح أي‬
‫فرصة للقائها به ‪...‬‬
‫لم تكن واثقة بعد أهو هناك ام غادر‪ ..‬فكانت‬
‫على أشد درجة من التوتر‬
‫كلما اقتربت من البيت‪ ،‬و حتى استقلت المصعد‬
‫برفقة زوجة أخيها التي انخرطت في ضحك‬
‫مكتوم اآلن‪ ،‬أجفلت "إيمان" و هي تسألها ‪:‬‬
‫‪-‬في ايه يا سالف !؟؟‬
‫ردت "سالف" بلهجة متكلفة ‪:‬‬
‫‪-‬مافيش حاجة يا إيمان‪ ..‬يال اطلعي وصلنا !‬
‫و دفعت بها برفق بينما تحمل صغارها من‬
‫العربة الواحد تلو اآلخر ليسيروا أمامها بدورهم‬
‫صوب شقة جدتهم ‪...‬‬
‫فتحت "إيمان" الباب بنسختها من المفتاح‪،‬‬
‫ولجت و هي تقدم ساق و تؤخر األخرى‪ ،‬تمد‬
‫عنقها و تجيل بصرها للداخل‪ ...‬لم ترى شيء‪،‬‬
‫و لم تسمع أي صوت‬
‫بدأت ترتاح لهذا و تتأكد بأنه جاء و ذهب‬
‫بالفعل‬
‫زفرت بارتياح شديد و خلعت حجابها و هي‬
‫تهرول داخل الشقة هاتفة ‪:‬‬
‫‪-‬أنا جيت يا مـامــا !‬
‫ساقتها قدماها ناحية المطبخ حيث انتشرت‬
‫الروائح الزكية ‪:‬‬
‫‪-‬يا ترى طابخة لنا أيـ ‪...‬‬
‫تملكها الخرس فجأة‪ ،‬حين اصطدمت برؤيته‬
‫هناك‪ ،‬يقف بجوار أمها‪ ،‬يرتدي بيجامة أخيها‪،‬‬
‫يساعدها بتقطيع الخضروات‪ ..‬كان هو‪ ...‬هو‬
‫بشحمه و لحمه و نظرته التي تذيب قلبها و‬
‫تعيد قولبته من جديد‬
‫كان "مراد" !‬

‫يتبع ‪...‬‬
‫انتهى الفصل األول‪..‬‬
‫‪2‬‬

‫"إنه ألمر محزن حقا أنني لم أستطع التخلص‬


‫من إدماني عليك ؛ كنت سأعود لك كل مرة‪..‬‬
‫ألني‪ ...‬أحبك!"‬
‫_ إيمان عمران‬
‫تحت إلحاح خالته الشديد و كلمة "أدهم" التي‬
‫قيدته‪ ،‬أذعن لهما و قرر البقاء لبعض الوقت‪،‬‬
‫عليه أن يقر‪ ،‬هو باألساس بحاجة إلى الرفقة‪ ،‬و‬
‫خاصة إذا كانوا أهله ‪...‬‬
‫و فجأة وجد نفسه و قد تجاوب مع األجواء‬
‫أسرع مم توقع‪ ،‬أحضرت له خالته من خزانة‬
‫ابنها اًلحتياطية بشقتها بيجامة زرقاء ناسبته‬
‫تماما و كأنها فصلت ألجله‪ ،‬ارتداها بعد أن أخذ‬
‫حماما سريعا ليزيل آثار السفر الطويل الذي‬
‫خاضه ؛‬
‫خرج أخيرا‪ ،‬ليجد أن "أدهم" قد استأذن قليال و‬
‫صعد إلى شقته على أن يهبط في موعد العشاء‪،‬‬
‫كان يحمل في يده المنشفة‪ ،‬يجفف شعره بينما‬
‫يسير بالرواق باحثا عن خالته ‪...‬‬
‫‪-‬أي مساعدة !؟‬
‫إلتفتت "أمينة" إلى هتافه الهادئ‪ ،‬كان يقف‬
‫عند اعتاب المطبخ‪ ،‬تبسمت في وجهه تلقائيا و‬
‫هي تشمله بنظرة فاحصة ‪:‬‬
‫‪-‬نعيما يا حبيبي‪.‬‬
‫‪ -‬هللا ينعم عليكي يا أجمل خالتو في الكون ‪...‬‬
‫و أقبل عليها مادا يده لكتفها‪ ،‬وضع كفه عند‬
‫مؤخرة رأسها و دنى منها ليقبلها على جبينها ‪:‬‬
‫‪-‬باستك العافية يابن الغالية‪.‬‬
‫‪-‬قوليلي بقى محتاجة أساعدك في إيه ؟‬
‫‪-‬مش محتاجة تساعدني في أي حاجة يا حبيبي‪.‬‬
‫انت تطلع تقعد برا لحد ما األكل كله يجهز و‬
‫يجي لك لحد عندك‪ .‬يال‪.‬‬
‫رفض "مراد" بشدة ‪:‬‬
‫‪-‬يا سالم أقعد ماليش ًلزمة يعني‪ .‬أل طبعا ًلزم‬
‫أعمل معاكي أي حاجة‪.‬‬
‫قطبت "أمينة" ‪:‬‬
‫‪-‬هاتعمل إيه بس يابني‪ .‬الشغل ده ماينفعكش !‬
‫قال مصمما ‪ً :‬ل ينفع ماينفعش ليه‪ ..‬بصي أنا‬
‫هاعمل السلطة‪.‬‬
‫و استدار نحو المنضدة التي حملت أطباق‬
‫الخضروات‪ ،‬ترك المنشفة جانبا‪ ،‬و بدون أن‬
‫ينتظر أذنها بدأ بتقطيع أنواع الخضار المختلفة‬
‫بحرفية متقنة‪ ،‬هزت "أمينة" كتفيها بعجز و‬
‫انخرطت هي األخرى في عملها ‪...‬‬
‫‪-‬هاتدوقي أجمد طبق سلطة في حياتك !‬
‫ضحكت ‪...‬‬
‫‪-‬طبعا يا حبيبي‪ .‬أمال‪ ..‬انت بقى هاتدوق أكل أنا‬
‫واثقة من ساعة ما سافرت مع أمك و أبوك‬
‫ماشفتوش أصال‪.‬‬
‫أرهف حاسة الشم هنيهة‪ ،‬ثم خمن ‪:‬‬
‫‪-‬محشي !‬
‫ضحكت ثانية ‪...‬‬
‫‪-‬صح‪.‬‬
‫صاح محتفال ‪ :‬هللا عليكي بقى‪.‬‬
‫لم تمر دقيقة واحدة‪ ،‬إًل و سمع ذلك الهتاف‬
‫األنثوي‪ ،‬و قد ميز الصوت الذي يحفظه عن‬
‫ظهر قلب رغم مرور السنين ‪...‬‬
‫‪-‬أنا جيت يا مامــا !!‬
‫جمدت أصابعه عن الحركة و رفع رأسه نحو‬
‫باب المطبخ‪ ،‬إن هي إًل ثوان و ظهرت‬
‫"إيمان"‪ ..‬ظهرت كما اعتاد أن يراها في‬
‫الخلوات خلسة‪ ،‬بدون حجاب رأسها !‬
‫تخشبا كالهما في مواجهة اآلخر‪ ،‬بينما أخذ‬
‫يتأملها جاهدا في السيطرة على انفعاًلته‪،‬‬
‫حبيبته السابقة‪ ،‬أول فتاة يدق لها قلبه‪ ،‬و التي‬
‫تركها بمحض إرادته و رحل‪ ،‬و قد علم مصادفة‬
‫بخبر زواجها قبل بضعة سنوات ‪...‬‬
‫إنها ًل تبدو كامرأة متزوجة إطالقا‪ ،‬لقد حافظت‬
‫على قوامها الرشيق‪ ،‬كتفان نحيالن يبرزان‬
‫عظمتي ترقوتها بإثارة شديدة‪ ،‬خصر رفيع‪..‬‬
‫لألسف لم يستطع التحقق من ساقيها أو شكل‬
‫ردفيها بسبب التنورة الفضفاضة التي ارتدتها‬
‫كم كان يعشق جسدها‪ ،‬و يحفظ كل شبر فيه‪،‬‬
‫جسدها المحرم عليه‪ ،‬كان هذا أول سبب جعله‬
‫يسعى بشكل مستميت إليها و يستغل أقل فرصة‬
‫تواتيه‪ ،‬و قد كانت تستحق العناء ؛‬
‫كان وجهها ًل يزال جميال‪ ،‬وجنتان بارزتان‪،‬‬
‫أنف حاد و شفاة مكتنزة دقيقة و صغيرة جدا‪ ،‬و‬
‫شعرها‪ ...‬شعرها حالك السواد قد ازداد طوًل‬
‫بشكل ًل يخطئه النظر‬
‫كانت هي "إيمان"‪ ..‬كانت حبيبته التي كأنما لم‬
‫يتركها يوما واحدا‬
‫و كأن تلك الليلة كانت باألمس و ليست منذ‬
‫ثالثة عشر عاما ‪...‬‬
‫‪-‬إيمان !‬
‫كسر صوت "أمينة" السكون الجاثم و الخانق‪،‬‬
‫و كأنها تعويذة ربطت جسمها و اآلن انحلت‪،‬‬
‫في لمح البصر كانت قد اختفت من أمامه‪ ،‬أجفل‬
‫"مراد" مبهورا من الذي حدث ؛‬
‫أحس بصوت خالته قريبا منه هذه المرة و لكن‬
‫لم يستطع النظر إليها ‪:‬‬
‫‪-‬معلش يا مراد يا حبيبي‪ .‬أظنك ًلحظت إيمان‬
‫ماكانتش تعرف إنك لسا هنا‪ ..‬تالقيها راحت‬
‫تجهز عشان تيجي تسلم عليك‪.‬‬
‫رد "مراد" عابسا و ًل زال لم ينظر إليها ‪:‬‬
‫‪-‬براحتها يا خالتي !‬
‫ألقت "أمينة" عبارتها اآلن بكلمات ذات مغزى‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬أصل إيمان مش متعودة يجيلنا ضيوف‪ .‬انت‬
‫طبعا مش ضيف يا حبيبي انت صاحب بيت‪ .‬لكن‬
‫معلش بحكم العادة‪ .‬يعني مابقتش ساكنة‬
‫لوحدها‪ ..‬من يوم موتة سيف جوزها و هي‬
‫قاعدة معايا هنا هي و بنتها !!‬
‫و هنا أدار "مراد" رأسه فورا و نظر إليها ‪...‬‬
‫‪-‬جوز إيمان مات !!؟‬
‫كان مشدوها‪ ،‬و ليس مصدوما‪ ..‬كان شعوره‬
‫غريب !‬
‫اومأت له خالته و قالت بصوت خافت ًل يسمعه‬
‫سواه ‪:‬‬
‫‪-‬أيوة‪ ..‬بعيد عنك مات بجرعة زايدة من‬
‫المخدرات‪ .‬و إيمان يا قلب أمها حالفة لتصوم‬
‫عن جنس الرجالة ‪...‬‬
‫ثم لوت فمها مغمغمة ‪:‬‬
‫‪-‬أنا عارفة إيه إللي خالها تتنيل تحبه بس‪.‬‬
‫محدش كان موافقها على اختيارها ده‪ .‬رغم إن‬
‫المرحوم ابن عمتها‪ .‬بس ًل أنا و ًل أدهم ابني‬
‫كنا موافقين‪ ..‬هي إللي صممت عليه‪ .‬و أدي‬
‫النتيجة‪ .‬بقت أرملة في عز شبابها و بنتها يا‬
‫حبيبتي إتيتمت بدري‪ ..‬يال نحمده على كل حال !‬
‫كان "مراد" يستمع إليها جيدا حتى فرغت‪،‬‬
‫عاودت مباشرة أعمالها‪ ،‬أما هو فشرد‬
‫المسكينة "إيمان"‪ ..‬كم تعذبت و عانت في‬
‫حياتها ‪...‬‬

‫*****‬

‫ًلذت "إيمان" بغرفتها دون أن تسأل عن أي‬


‫شيء‪ ،‬دون حتى أن تسأل عن صغيرتها‪ ..‬إذ‬
‫كانت كارثة‬
‫كارثة لم تعطها حق قدرها‪ ،‬فقد اتضح أن رؤية‬
‫"مراد" مرة أخرى ستتسبب لها في كل هذا‬
‫الدمار‪ ،‬كل هذا اًلنهيار ‪...‬‬
‫رباه !‬
‫لقد تغير كثيرا‪ ،‬لكنه ًل يزال هو‪ ،‬نعم مالمحه‬
‫الوسيمة نضجت و صارت أكثر حدة‪ ،‬وجهه‬
‫الحليق الناعم في زمن المراهقة‪ ،‬اآلن تزيينه‬
‫لحية و شارب أضفيا عليه رجولة أكثر و هيبة‪،‬‬
‫جسمه الرياضي النحيل الذي أفتتنت به في‬
‫الماضي‪ ،‬رأته اليوم مفتوًل و أضخم بكثير‪...‬‬
‫مع ذلك كله‬
‫كان هو‬
‫كان هو نفسه "مراد" حبيبها‪ ..‬بعينيه و‬
‫إحساسه الذي تستشعره و لو لم تكن قريبة منه‬
‫!‬
‫‪-‬ليه !؟ ‪ ..‬تمتمت "إيمان" من بين دموعها‬
‫التي فاجأتها و انهمرت كالشالل‬
‫و ألول مرة منذ تلك الليلة ترمق فراشها‬
‫بنظرات مصعوقة‪ ،‬لم تكن توليه اهتمام‪ ،‬و لكن‬
‫اآلن‪ ..‬إنها مذعورة‬
‫و فورا ابتلعتها دوامة زمنية‪ ،‬نقلتها إلى الليلة‬
‫و الساعة التي غيرتها‪ ،‬بل و غيرت حياتها كلها‬
‫‪...‬‬
‫‪Flash Back‬‬
‫‪-‬بس انتي مش من حقك يا ايمان‪ .‬و أنا‬
‫خالص‪ ..‬مابقتش حبيبك‪ .‬أنا قلت لك عالقتنا‬
‫انتهت‪ .‬و إللي بينا اصال ماكنش حب‪.‬‬
‫أصيب رأسها بدوار طفيف بفعل كلماته‬
‫القاسية‪ ،‬فرددت بأنفاس مخطوفة ‪:‬‬
‫‪-‬ماكنش حب ! كل إللي عيشنا ده ماكنش حب يا‬
‫مراد !!؟‬
‫رد منجرفا وراء مشاعره المحبطة كليا منها ‪:‬‬
‫‪-‬أيوة يا ايمان ماكنش حب‪ .‬مستغربة ليه ؟ احنا‬
‫مش شبه بعض‪ .‬و أنا ًل يمكن أكمل في عالقة‬
‫عقيمة زي دي‪.‬‬
‫ضربة أخرى أشد إيالما من النار ‪...‬‬
‫‪-‬مسمومة !؟‬
‫‪-‬آه مسمومة‪ .‬انتي بالنسبة لي ماينفعش تكوني‬
‫أكتر من بنت خالتي و بس‪ .‬ألني مقدرش أخون‬
‫صلة القرابة يا ايمان‪.‬‬
‫‪-‬و انت مسمي وعدك ليا بالجواز خيانة لصلة‬
‫القرابة !؟؟‬
‫‪-‬جواز إيه يا مجنونة انتي احنا لسا طلبة‪ ..‬و‬
‫بعدين في كل األحوال إنتي ماتنفعنيش‪ .‬أنا‬
‫مقدرش أجوز واحدة زيك‪ .‬كل حاجة عندك‬
‫حرام‪ .‬قربي منك حرام‪ .‬مسكة أيدينا دي بردو‬
‫بالنسبة لك حرام‪ .‬أنا البنت إللي هاجوزها‬
‫ماينفعش تقولي ابعد عني‪ .‬ماينفعش أجي أمسك‬
‫ايدها تقولي شيل ايدك‪ ..‬ده مايبقاش اسمه حب‬
‫و ماينفعش يتبني عليه عالقة‪ .‬على األقل‬
‫بالنسبة لشخص زيي !‬
‫مع كل كلمة خرجت من فاهه كان يسدد لها‬
‫صدمة أقوى من التي قبلها‪ ،‬حتى منحها أخيرا‬
‫سببا لتكف عن عويلها و بكائها‪ ..‬سحبت يدها‬
‫برفق من قبضته و هذه المرة أفلتها‬
‫فرفعت رأسها و حدقت بقوة إلى عينيه و أعلنت‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬صح‪ .‬انت صح يا مراد‪ ..‬إللي بينا ماكنش حب‪.‬‬
‫ألن انت أصال ماينفعش تتحب‪ .‬و ًل هاتعرف‬
‫تحب !!‬
‫و جاءت لتغادر بكل غضبها الدفين و انفعالها‪،‬‬
‫لكنه تحرك من جديد و منعها بالقوة ‪:‬‬
‫‪-‬قلت لك مش هاتمشي لوحدك يا إيمان‪.‬‬
‫سيطرت على نفسها بصعوبة حتى ًل تصرخ فيه‬
‫ثانية‪ ،‬فغمغمت بحرقة ‪:‬‬
‫‪-‬إوعـى يا مراد‪ .‬شيل إيدك عني و سيبني بقى‪.‬‬
‫عايز مني إيه تاني !!؟‬
‫لم يرخي قبضته عن معصميها بوصة واحدة‪ ،‬و‬
‫قال بصرامة ‪:‬‬
‫‪-‬هاوصلك‪ ..‬أنا لسا لحد دلوقتي مش عارف‬
‫إزاي خرجتي من بيتكوا في ساعة زي دي‪ .‬مين‬
‫سمح لك !!؟؟‬
‫لكنها لم تعطه ردا‬
‫فأخذها في يده يجرجر خطواتها حتى وصال عند‬
‫دراجته النارية السوداء ماركة "هارلي‬
‫ديفيدسون"‪ ..‬استقل فوق مقدمة القاعدة‪ ،‬لم‬
‫يعتمر الخوزة الواقية و ناولها إياها بال تردد ‪:‬‬
‫‪-‬خدي إلبسي دي !‬
‫أخذتها منه لغرض واحد فقط‪ ،‬حتى ًل يتعرف‬
‫عليها أحد و هي برفقته و خاصة في وضع‬
‫كهذا‪ ،‬ليست المرة األولى التي تخرج معه على‬
‫الدراجة‪ ،‬فعلتها مرات عديدة في الخفاء‪ ،‬و‬
‫كانت أسعد لحظاتها‪ ..‬أن تكون قريبة منه إلى‬
‫الحد‪ ..‬مجبرة على التشبث به و احتضانه بقوة‬
‫في قرارة نفسها كانت تستمتع و تتنعم بذلك‬
‫كثيرا‪ ،‬و تتمنى أًل ينفصال أبدا‪ ،‬تماما كما تفعل‬
‫اآلن‪ً ،‬ل تود أن ينتهي بهما الطريق ؛‬
‫لكن جاءت اللحظة‪ ،‬أوقف "مراد" الموتور‬
‫أمام بناية المنزل الخلفية‪ ،‬بعيدا عن مرآى‬
‫البواب و الجيران ‪...‬‬
‫‪-‬استني هاوصلك للبوابة ! ‪ ..‬قالها "مراد" و‬
‫هو يطفئ دراجته و يعلق الخوزة بمكانها‬
‫ردت بصوت جاف دون أن تنظر إليه ‪:‬‬
‫‪-‬مالوش لزوم أنا عارفة السكة‪.‬‬
‫و مشيت خطوتين‪ ،‬فلحق بها و أمسك بكتفيها‪،‬‬
‫أدارها إليه صائحا من بين أسنانه ‪:‬‬
‫‪-‬إيمان ماتخرجنيش عن شعوري‪ .‬انتي عايزة‬
‫إيه يعني !!؟‬
‫حاول أن يحدق في عينيها عبر الظالم‪ ،‬لكنها‬
‫كانت تشيح عنه‪ ..‬و فجأة تطلعت إليه‬
‫كانت تبكي في صمت و قد صدمته ‪...‬‬
‫‪-‬مراد ! ‪ ..‬نطقت اسمه بلوعة‬
‫‪-‬عشان خاطري‪ ..‬ماتمشيش‪ .‬خليك معايا هنا‪.‬‬
‫كمل دراستك هنا‪ .‬مش مهم تاخد الشهادة من‬
‫برا‪ .‬لو كان مهم أوي كده كان أدهم عملها و‬
‫أهو دكتور‪ ..‬عشان خاطري يا مراد ماتسبنيش‬
‫و تمشي‪ .‬أنا أموت من غيرك ‪...‬‬
‫كان هذا ًل يطاق‪ ،‬أن يراها في قمة الضعف و‬
‫التذلل إليه‪ ،‬تحولت مئة و ثمانون درجة‪ ،‬بعد أن‬
‫تظاهرت باًلعراض عن حبه و قررت أنه‬
‫شخص ًل يستحق الحب‪ ،‬ها هي تضرب بكالمها‬
‫و كرامتها عرض الحائط‬
‫ها هي تتسول حبه !‬
‫رأت "إيمان" في عينيه صراعا و اضطرابا‪،‬‬
‫كان يعبس بشدة و يكز على فكيه‪ ،‬كان كأنما‬
‫يقبض على الجمر و ًل يستطيع تركه …‬
‫‪-‬إيمان !!!‬
‫و أطلق نهدة محملة بكم ضيقه و همه …‬
‫‪-‬تعالي طيب !‬
‫و أمسك بيدها و مشيا سويا حتى بوابة المنزل‪،‬‬
‫لم يجد "مراد" رجل الحراسة في مكانه فقطب‬
‫معلقا ‪:‬‬
‫‪-‬أمال فين عم حسن ؟‬
‫كفكفت "إيمان" دموعها بطرف كمها و جاوبته‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬تيتة حليمة تعبت بعد العشا على طول‪ .‬ماما‬
‫ندهت له عشان يشيلها مع أدهم و يودوها‬
‫المستشفى‪.‬‬
‫رفع "مراد" حاجبه ‪:‬‬
‫‪-‬عشان كده‪ ..‬و أنا بقول إزاي خرجتي الساعة‬
‫‪ 10‬بالليل‪ .‬على كده محدش فوق يعني !؟‬
‫هزت رأسها نفيا ‪:‬‬
‫‪-‬عائشة بس‪ .‬بتذاكر في أوضتها عشان وراها‬
‫امتحان مهم بكرة‪ ..‬ماما و أدهم هايبيتوا مع‬
‫تيتة في المستشفى لحد ما نتيجة الفحوصات‬
‫كلها تطلع الصبح‪.‬‬
‫تصرف بطبيعية و هو يشد على يدها قائال ‪:‬‬
‫‪-‬طيب يال هاطلع معاكي لحد فوق عشان أطمن‬
‫عليكي‪.‬‬
‫اومأت له و قد ًلحت طيف ابتسامة فوق ثغرها‬
‫…‬
‫و بالفعل صعدا إلى شقة خالته‪ ،‬و كانت‬
‫األضواء مقفلة‪ ،‬مم يفسر خلود "عائشة" إلى‬
‫فراشها بعد قضاء اليوم كله في التحصيل‬
‫الدراسي ؛‬
‫‪-‬الظاهر عائشة نامت ! ‪ ..‬دمدمت "إيمان" و‬
‫هي تمد يدها لتكبس زر إشعال الضوء‬
‫أضاءت الصالة كلها‪ ،‬و إلتفتت لتنظر إليه‪ ،‬بدت‬
‫عليه الغرابة اآلن و هو يسألها ‪:‬‬
‫‪-‬و انتي بقى هاتعملي إيه دلوقتي !؟‬
‫هزت كتفيها …‬
‫‪-‬هادخل أقعد في أوضتي لغاية ما يجيلي نوم !‬
‫رد بنصف ابتسامة‪ ..‬تلك التي تزيده جاذبية ‪:‬‬
‫‪-‬تعرفي أمنيتي كانت إني أشوف أوضتك‪ .‬ده‬
‫طبعا كان مستحيل !!‬
‫ضحكت ًلبتسامته و قالت ‪:‬‬
‫‪-‬امم بس دلوقتي ممكن مش كده ؟ طيب هاحقق‬
‫لك أمنيتك‪ ..‬تعالى !‬
‫تالشت ابتسامته و سألها غير مصدقا ‪:‬‬
‫‪-‬بجد !!؟‬
‫أكدت بجدية هامسة ‪:‬‬
‫‪-‬بس امشي بالراحة‪ .‬اوعى تعمل صوت أحسن‬
‫عائشة تصحى‪.‬‬
‫اومأ لها موافقا و قد اتقدت الحماسة بداخله‪،‬‬
‫أغلق باب الشقة أوًل بهدوء و حرص شديدين‪،‬‬
‫ثم مشى وراءها على أطراف أصابعه وصوًل‬
‫إلى غرفتها‪ ،‬أدخلته أوًل‪ ،‬ثم استدارت خطوتين‬
‫نحو غرفة شقيقتها لتتفقدها‪ ،‬فتحت الباب و‬
‫ورابته قليال‪ ،‬أطلت برأسها‪ ،‬فوجدت الغرفة‬
‫غارقة في الظالم‪ ،‬و "عائشة" نفسها تعزف‬
‫لحن النوم الشهير خاصتها …‬
‫اطمأنت لذلك و عادت إليه‪ ،‬ولجت إلى غرفتها و‬
‫أغلقت الباب من خلفها‪ ،‬كان هو يجول هنا و‬
‫هناك مستكشفا بحماسة‪ ،‬يفتش في أغراضها‬
‫فوق مكتب الدراسة‪ ،‬و بين األركان و كومات‬
‫الدمى و العرائس التي أوردها الكثير منهم‬
‫ليشبع هوسها بهم‪ ،‬فقد كان حريصا على‬
‫ارضائها و اسعادها طوال فترة المواعدة ؛‬
‫وصل "مراد" عند الخزانة‪ ،‬فتحها بال تردد و‬
‫أخذ يقلب فيها‪ ،‬حتى رأته "إيمان" يعبث في‬
‫درج المالبس ‪ ،‬هرعت إليه و حاولت إغالق‬
‫الخزانة كلها‪ ،‬لكنه حجزها بقدمه قائال بخبث ‪:‬‬
‫‪-‬إيه ده إيمي‪ ..‬لطيف أوي البرا ده‪ .‬ماكنتش‬
‫أعرف إن ذوقك حلو في الحاجات دي‪.‬‬
‫حاولت "إيمان" أخذه من يده ‪:‬‬
‫‪-‬مراد ماتهزرش في الحاجات دي‪ ..‬سيب يا‬
‫مراد !‬
‫أمسكها "مراد" بيد‪ ،‬و باألخرى قرب القماش‬
‫الناعم من أنفه و تمتم محدقا في عينيها‬
‫الواسعتين سعة أعين الغزًلن ‪:‬‬
‫‪-‬هللا‪ ..‬ريحتك فيهم يا إيمي… ريحتك حلوة أوي‬
‫!‬
‫أجفلت "إيمان" مرتبكة منه‪ ،‬من كلماته‪ ،‬من‬
‫نظرته‪ ..‬من قرب …‬
‫عثرت في عينيه على تلك الشعلة التي لطالما‬
‫أوقدتها فيه‪ ،‬و هي الرغبة‪ ،‬الرغبة الخالصة‬
‫فيها‪ ..‬عيناه الجميلتين‪ ،‬إنهما مزيجا من‬
‫الخضرة و الزرقة تتآلقان سواء النور أو حتى‬
‫الظالم‪ً ،‬ل تستطيع مقاومتهما أبدا !!‬
‫ارتجفت حين ارتفعت يده و أزاحت الحجاب عن‬
‫رأسها‪ ،‬ليتحرر شعرها من عقاله و يحيط‬
‫بوجهها كهالة سوداء فاحمة‪ ..‬و كان هذا بمثابة‬
‫اإلذن له ليمضي كما يهوى‬
‫ألنها تحبه‬
‫لم تستطع أن تقول ًل‪ ..‬و هو يلتصق بها و‬
‫يطوقها‬
‫ألنها تحبه‬
‫لم تستطع أن تقول ًل‪ ..‬و هو يستكشف بكفوفه‬
‫معالم و دهاليز أنوثتها بجرأة صرف‬
‫ألنها تحبه‬

‫*****‬

‫رحل "مراد" …‬
‫رحل بعد اًلنتهاء من فعلته مباشرة‪ ،‬رحل دون‬
‫أن يقول كلمة‪ ،‬أو حتى وداع انتهت النزوة‪،‬‬
‫احترقت اللذة و فنت‪ ،‬و ذهب هو تاركا إياها‬
‫مجللة بالخسائر‬
‫خسارة نفسها‪ ،‬خسارة مبادئها و تربيتها‬
‫القويمة‪ ،‬و األهم من كل هذا‪ ..‬خسارة الميثاق‬
‫اإللهي‪ ،‬لقد ارتكبت الكبائر‪ ،‬لقد زنت‪ً ،‬ل تصدق‬
‫أنها وقعت بخطيئة كهذه‬
‫ما العمل اآلن‪ ..‬ماذا يتوجب عليها أن تفعل‬
‫لتتطهر من ذاك اإلثم ؟‬
‫ًل يمكن أن تموت قبل أن تكفر عنه‬
‫ًل يمكن أن تلقى هللا به… ًل يمكن !!!‬
‫استيقظت على صوت أمها في الصباح ‪:‬‬
‫‪-‬إيمان‪ ..‬إصحي يا حبيبتي بقينا الظهر‪ .‬إيه‬
‫النوم ده كله !‬
‫باعدت "إيمان" بين جفنيها بصعوبة‪ ،‬شعرت‬
‫سلفا بشعاع الشمس النافذ عبر الستائر التي‬
‫فتحتها أمها على مصراعيها‪ ،‬فتحت عينيها‬
‫اآلن و قد ضايقتها حدة الضوء‪ ،‬فغطت وجهها‬
‫بكفيها ‪:‬‬
‫‪-‬جيتوا يا ماما !؟‬
‫‪-‬من بدري يا حبيبتي بس ًلقيتك نايمة ماحبتش‬
‫اصحيكي‪.‬‬
‫‪-‬تيتة عاملة إيه ؟‬
‫‪-‬بقت أحسن الحمدهلل‪ .‬و التحاليل كلها تمام‪..‬‬
‫هي بس تقلت في العشا و الحلو إمبارح ف ده‬
‫إللي تعبها‪.‬‬
‫كانت سترد عليها بتلقائية‪ ،‬لوًل أن ضربتها‬
‫ذكريات الليلة الماضية‪ ،‬تزامن ذلك مع صياح‬
‫أمها الهلوع ‪:‬‬
‫‪-‬إيـه ده يا إيمـان !!؟؟؟‬
‫انتفضت "إيمان" عندما شعرت بالمالءة‬
‫تسحب من أسفلها و قامت نصف جالسة فورا‪،‬‬
‫تطلعت إلى أمها بتشوش‪ ،‬خافت من تعبير‬
‫"أمينة" المصدوم‪ ،‬إذ حملت بين يديها مالءة‬
‫ملوثة بالدماء الغزيرة …‬
‫‪-‬أصل أنا نمت معدتي بتوجعني أوي إمبارح يا‬
‫ماما ! ‪ ..‬قالت "إيمان" ما خطر على بالها حاًل‬
‫فقط لتتخلص من هذ التعبير على وجه أمها‬
‫‪-‬شكل الضيفة المزعجة دي جت !!‬
‫عبست "أمينة" بدهشة ‪:‬‬
‫‪-‬هللا ! انتي مش لسا خالصة منها اًلسبوع إللي‬
‫فات‪ ..‬لحقت !؟‬
‫حاولت "إيمان" إقناعها بشتى الطرق ‪:‬‬
‫‪-‬عادي يا ماما بتحصل‪ .‬و حصلت قبل كده‪..‬‬
‫مش فاكرة ؟‬
‫سكتت "أمينة" و هي تمعن النظر بما تمسك‪،‬‬
‫ثم قالت بتعجب ‪:‬‬
‫‪-‬تقوم تيجي بالشكل ده‪..‬أعوذ باهلل‪ً .‬ل بصي‬
‫طالما اتكررت كده نروح نكشف أحسن يكون‬
‫عندك حاجة يابنتي !‬
‫رفضت "إيمان" في الحال و قد اعتراها التوتر‬
‫اآلن ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل يا أمي نكشف إيه‪ ..‬أنا مابحبش الدكاترة و‬
‫انتي عارفة‪ً .‬ل مالهاش ًلزمة صدقيني‪.‬‬
‫‪-‬إزاي مالهاش ًلزمة بس‪ .‬دي حاجة مهمة‬
‫أوي يا إيمان‪ً .‬ل مش هطاوعك‪.‬‬
‫قامت "إيمان" من سريرها متجاهلة آًلمها‬
‫المبرحة و وقفت أمام أمها ‪:‬‬
‫‪-‬يا أمي يا حبيبتي صدقيني أنا‪ .‬أنا حاسة إني‬
‫كويسة‪ ..‬و بعدين أنا بقولك معدتي وجعتني قبل‬
‫ما أنام يعني ماكنتش عاملة حسابي‪ ..‬بصي‬
‫نعديها المرة دي‪ .‬لو حصلت تاني هانعمل إللي‬
‫انتي عايزاه‪ .‬خالص ؟‬
‫اقتنعت األم بعد عناء‪ ،‬لم تقتنع في الحقيقة‪،‬‬
‫لكنها أذعنت فرادة ابنتها‪ ،‬إذ تعلم كم إنها بالفعل‬
‫تخشى األطباء و المشافي منذ طفولتها‪ ،‬لم تشأ‬
‫ترويعها و فضلت اًلنتظار حتى الموعد التالي‬
‫…‬

‫*****‬

‫و مرت سنوات على رحيله‬


‫سنوات بعد الحادث المخزي‪ ،‬سنوات من‬
‫الرفض غير المبرر ألفضل الرجال المتقدمون‬
‫لخطبتها‪ ،‬سنوات من الضغط عليها لمعرفة‬
‫السبب‬
‫و هي ًل تنطق‪ ،‬قضت كل أيامها بعد تلك الليلة‬
‫تائبة‪ ،‬منيبة‪ ،‬محاولة التكفير عن ذنبها‪ ،‬تصلي‬
‫و تصوم فوق المفروض عليها أضعافا‬
‫مضاعفة‪ ..‬لكنها ًل تزال تشعر بأنه لم يغفر لها‬
‫بعد… ألنها ًل تزال تتعذب ًل تزال ًل تشعر‬
‫بالراحة و السكينة !‬
‫حتى أتاها يوما ما و حاول معها ‪:‬‬
‫‪-‬إيه بقى يا أنسة إيمان‪ ..‬هاتفضلي عايشة‬
‫راهبة كده ؟ على فكرة الرجالة على قفا مين‬
‫يشيل !‬
‫ألقى "سيف" دعابته ضاحكا‪ ،‬ابتسمت مجاملة‬
‫له و قالت ‪:‬‬
‫‪-‬لسا ماجاش يا سيف‪.‬‬
‫‪-‬طيب ده مين أعمى النظر ده ؟ قوليلي بصراحة‬
‫انتي حاطة عينك على حد !؟‬
‫‪ً-‬ل طبعا ! ‪ ..‬هتفت بحدة مفاجئة‬
‫لكنها عدلت عنها مسرعة و قالت و هي تباشر‬
‫سقي مزروعات الشرفة ‪:‬‬
‫‪-‬قصدي مافيش حد‪ .‬أنا من ساعة خلصت‬
‫الثانوي قاعدة في البيت يا سيف‪ ..‬هاشوف مين‬
‫في البيت ؟‬
‫تنهد بحبور و قال ‪:‬‬
‫‪-‬طمنتيني يا شيخة‪.‬‬
‫نظرت له باستغراب‪ ،‬فابتسم قائال ‪:‬‬
‫‪-‬ماتبصليش كده‪ ..‬بصي يا إيمان من غير لف و‬
‫ًل دوران‪ .‬أنا بحبك‪ .‬و انتي عارفة كده من زمان‬
‫أنا حاطط عيني عليكي‪ ..‬بس رفضك للعرسان‬
‫كان مخوفني أجي أفاتحك تقومي ترفضيني أنا‬
‫كمان‪ .‬لكن الحمدهلل‪ .‬طلع مافيش سبب معين …‬
‫حاول أن يقبض على نظراتها‪ ،‬لكن كانت عيناها‬
‫تائهتين‪ ،‬تنظران في الفراغ‪ ،‬و بدت فجأة و‬
‫كأنها استسلمت لقدرها‪ً ..‬ل يمكن أن تهرب منه‬
‫طوال عمرها ‪:‬‬
‫‪-‬قولتي إيه يا إيمان !؟؟‬
‫نظرت له ثانية ‪:‬‬
‫‪-‬قلت إيه في إيه ؟‬
‫قطب "سيف" قائال بتوتر عصبي ‪:‬‬
‫‪-‬أنا بحبك و عايزك‪ .‬عايز أتجوزك‪ ..‬موافقة و‬
‫اًل ًل !؟؟‬
‫و ألنها كانت واثقة من أنه هو الذي سيرفض‬
‫ًلحقا‪ ،‬و سيذيع سرها أيضا‪ ،‬و هو المطلوب‬
‫تماما‪ ،‬يكفي أنها سترتاح من عبء اًلفصاح‬
‫ألقرب الناس إليها …‬
‫‪-‬موافقة !‬
‫أشرق وجهه حين نطقت بذلك‪ ،‬لكنها أردفت ‪:‬‬
‫‪-‬بس في حاجة ًلزم تعرفها األول …‬
‫حثها بحذر ‪ :‬قولي‪ ..‬سامعك !‬
‫بدون أدنى تردد أو تراجع‪ ،‬مضت تحكي له كل‬
‫شيء‪ ،‬و بالتفاصيل …‬
‫لم يكن ينظر إليها عندما فرغت‪ ،‬كان تعبيره‬
‫يخلط بين الصدمة و الغضب‪ ،‬و كانت جاهزة‬
‫ألي ردة فعل‪ ..‬لكن ما أدهشها هو رده‪ ،‬إذ قال‬
‫باقتضاب ‪:‬‬
‫‪-‬بكرة هاجيب أبويا و أمي عشان نطلبك‪ .‬أدي‬
‫خبر لطنط أمينة و بلغيها بموافقتك‪ ..‬آخر الشهر‬
‫ده هانكون متجوزين !!‬
‫و اختفى من أمامها‬
‫تركها هكذا على ذهولها و عدم تصديقها‪ ..‬لقد‬
‫تم األمر… بهذه البساطة‬
‫ستتزوج كأي فتاة عادية !‬
‫‪Back‬‬

‫أفاقت "إيمان" من استغراقها‪ ،‬كم كانت ساذجة‬


‫و غرها حب زوجها الراحل إليها ؛‬
‫لقد ظنت أنه بسبب حبه لها يمكنه أن ينسى أو‬
‫يتناسى ما فعلت‪ ،‬و لكن ًل‪ ..‬لم تسير األمور‬
‫على هذا المنوال اليسير‬
‫فهو لم يفوت فرصة‪ ،‬أو عراك أو حتى مشادة‬
‫كالمية بينهما إًل و عمد إلى التلميح لجريرتها‪،‬‬
‫كان يعايرها و يضغط على الجرح كلما سنحت‬
‫له الفرصة‪ ،‬و كان يخونها و يفسق و يرتكب‬
‫كل الموبقات‪ ،‬بينما هي مكممة الفاه‪ ،‬تحفظ له‬
‫صنيعه الطيب معها بأن ارتضى أن تكون‬
‫زوجته‪ ،‬تقر بشاهمته على األقل أسرارها ًل‬
‫تبلغ جدار غرفة نومها‪ ،‬و كان من المستحيل أن‬
‫يفضحها "سيف"‪ ..‬ألنه حقا أحبها !‬
‫سالت دمعة من عينها و هي تقف بمنتصف‬
‫غرفتها‪ ،‬أمام فراشها الذي دارت دورتها و‬
‫عادت إليهن و خلفها الباب الذي إن فتحته‬
‫تلتقي بماضيها األليم‬
‫إنه يحاصرها‬
‫لماذا عاد ؟‬
‫ماذا ينوي أن يفعل بها هذه المرة ؟‬
‫ماذا يريد منها ذاك النذل بحق هللا ! ‪!.‬‬
‫يتبع ‪...‬‬
‫انتهى الفصل الثاني ‪..‬‬

‫الفصل الثالث ‪..‬‬

‫"أجل أقر بأنك في وقت ما كنت لعبتي‪ ..‬و لكن‬


‫عليك اًلعتراف؛ أنت طلبت هذا يا صغيرتي‪ ،‬لقد‬
‫أحببتيه و قد راق لك‪ ...‬كما أني أحببتك أيضا!"‬
‫_ مراد‬

‫وضعت "أمينة" آخر صحن فوق مائدة العشاء‪،‬‬


‫كان "أدهم" يجلس اآلن في مكانه المعتاد‪،‬‬
‫يجاوره "مراد" مطرقا برأسه ترقبا و اضطرابا‬
‫في آن‪ ،‬يتأهب لمجيئ "إيمان" بأي لحظة ‪...‬‬
‫‪-‬يال يا أمي بقى أقعدي ! ‪ ..‬قالها "أدهم" مشيرا‬
‫ألمه حتى تجلس‬
‫ثم نظر إلى "مراد" مكمال ‪:‬‬
‫‪-‬باين مراد بيه مش راضي يمد إيده على األكل‬
‫غير لما تيجي‪ ..‬و ًل إيه حضرتك ؟‬
‫رفع "مراد" بصره و اكتفى بابتسامة خفيفة‬
‫ردا عليه ‪...‬‬
‫تربت "أمينة" على كتف ابنها قائلة ‪:‬‬
‫‪-‬هاروح بس أشوف إيمان و أجيبها في إيدي و‬
‫أجي يا حبيبي‪.‬‬
‫‪-‬ماشي يا ست الكل‪ .‬بس بسرعة أنا مابحبش‬
‫أكل حاجة باردة‪.‬‬
‫ذهبت أمه مسرعة‪ ،‬فالتقط "أدهم" كأس‬
‫العصير و بدأ يرتشف القليل و هو يشرع‬
‫بتجاذب أطراف الحديث مع ابن خالته ‪:‬‬
‫‪-‬يا رب تكون أعصابك هديت يا باشا‪ .‬أنا‬
‫حاسس إنك بقيت أحسن عن الصبح لما كلمتني‬
‫!‬
‫نظر له "مراد" بسكينة أكدت فرضيته‪ ،‬فابتسم‬
‫األخير قائال ‪:‬‬
‫‪-‬طيب‪ ..‬احنا ناكل األول و بعدين نقعد نتكلم على‬
‫رواق‪ .‬و خير إن شاء هللا يا مراد ماتقلقش‪.‬‬
‫اومأ له "مراد" و لم يرد أو ينظر إليه‪ ..‬و كأنه‬
‫مخدر اآلن‪ ،‬من شدة التوتر و الضيق في آن‪،‬‬
‫إلى أن شعر بحرارة طفيفة إلى جانبه استرعت‬
‫انتباهه فورا‪ ،‬لينظر فإذا يرى فتاة صغيرة‪ ،‬قدر‬
‫عمرها بين العامين و الثالثة أعوام على األقل‪،‬‬
‫كانت ناصعة و مكتنزة في هذا الثوب المستوحى‬
‫من شخصيات الرسوم المتحركة "كورتي‬
‫البعبع"‪ ..‬كانت طفلة جميلة ؛‬
‫مستديرة الوجه‪ ،‬ذات نظرة أفعونية ماكرة‪،‬‬
‫تليق بجمال عينيها الرماديتين‪ ،‬وجنتان ناتئتان‪،‬‬
‫و غمازة واحدة في خدها األيسر بانت لما‬
‫ابتسمت قليال بتلقائية طفولية‪ ،‬و شعرها البني‬
‫مرفوع كله كذيل حصان‪ ..‬إنها لذيذة جدا و كم‬
‫يود أن يقبلها ‪...‬‬
‫‪-‬هاي يا قمر ! ‪ ..‬قالها "مراد" مبتسما بلطف‬
‫أدار جسمه قليال ليقبلها و حنى رأسه نحوها‪،‬‬
‫بينما انبعث صوت "أدهم" معرفا ‪:‬‬
‫‪-‬دي بقى يا سيدي اآلنسة لمى‪ ..‬بنت أختي‬
‫إيمان‪.‬‬
‫تجمدت مالمح "مراد" في هذه اللحظة لبرهة‪،‬‬
‫ثم حاول تبديد اًلضطراب قليال‪ ،‬فتكلف ابتسامة‬
‫و هو يمد يده مداعبا خد الصغيرة ‪:‬‬
‫‪-‬أهال أهال بالجميلة‪ ..‬انتي حلوة أوي ما شاء‬
‫هللا‪ .‬أنا اسمي مراد !‬
‫تعاطت معه بشكل أذهله و هي ترد برقة متوثبة‬
‫في وقفتها ‪:‬‬
‫‪-‬و أنا اسمي لمى سيف الدين حسن عزام‪.‬‬
‫أجفل "مراد" و ًل زال يبتسم‪ ،‬أما "أدهم"‬
‫فضحك بمرح ‪:‬‬
‫‪-‬أهي قالت لك اسمها رباعي‪ .‬كده تبقى حبتك و‬
‫أخدت عليك خالص‪ ..‬مش كده يا لمى‪ .‬عمو‬
‫؟! ‪Nice‬مراد طلع‬
‫اومأت الفتاة مرتين‪ ،‬فلم يقاومها "مراد" أكثر‬
‫من ذلك و ضمها إلى حضنه متمتما ‪:‬‬
‫‪-‬انتي إللي سكر و قمر خالص‪ .‬إيه الحالوة دي‬
‫كلها بس‪ ..‬جايباها منين ؟‬
‫الجواب كان عبارة عن صدى يتردد بأعماقه‪،‬‬
‫لكنه لن يجرؤ أبدا على التفوه به‪ ،‬لقد كان يرى‬
‫فيها تلميحا كبيرا ألمها‪ ..‬لحبيبته‪" ...‬إيمان"‬
‫!!!‬

‫*****‬
‫‪-‬يعني إيه مش هاتطلعي تسلمي على ابن‬
‫خالتك‪ .‬انتي اتجننتي يابت !؟‬
‫للمرة العاشرة حتى اآلن تحاول "أمينة" عبثا‬
‫إقناع ابنتها بالعدول عن قرارها األحمق غير‬
‫المبرر‪ ،‬و لكن "إيمان" لم تتزحزح من مكانها‬
‫فوق الفراش‪ ،‬حيث مددت باسترخاء غير مبالية‬
‫‪...‬‬
‫‪-‬ماما ريحي نفسك‪ .‬مش هاطلع !‬
‫ثارت "أمينة" بحنق ‪:‬‬
‫‪-‬طيب لـيه ؟ أفهم لــيه !!؟؟‬
‫تنهدت "إيمان" بعمق و قامت نصف جالسة‬
‫على مضض‪ ،‬نظرت إلى أمها و قالت بهدوء ‪:‬‬
‫‪-‬ماما‪ .‬من اآلخر‪ ..‬انتي مصممة ليه على‬
‫خروجي من أوضتي عشان أسلم عليه ؟‬
‫أمينة ببالهة ‪ :‬يعني إيه مش فاهمة ؟ إيه‬
‫السؤال ده !!‬
‫تململت "إيمان" بشيء من العصبية‪ ،‬و قالت‬
‫من جديد ‪:‬‬
‫‪-‬ماما‪ ..‬أنا عارفاكي كويس‪ .‬من غير لف و‬
‫دوران‪ .‬إللي في دماغك مش هايحصل‪ ..‬مش‬
‫معنى إنه إتزفت طلق و أنا أرملة يبقى احنا‬
‫مناسبين لبعض و إن دي فرصة‪ً ..‬ل‪ .‬مش‬
‫هايحصل !‬
‫رمقتها "أمينة" بتعبير خاوي‪ ،‬ثم قالت عاقدة‬
‫ذراعيها أمام صدرها ‪:‬‬
‫‪-‬انتي يعني لسا باقية على عشرة المرحوم‬
‫سيف‪ .‬صحيح يا إيمان ناوية تكملي بقية عمرك‬
‫من غير راجل ؟ هاتقدري يا إيمان !؟‬
‫إيمان بثقة ‪ :‬آه يا ماما هقدر‪ .‬هقدر أوي كمان‪.‬‬
‫أمينة بسخرية ‪ :‬هه‪ ..‬متهيألك‪ .‬يابنتي انتي لسا‬
‫شابة‪ .‬في عز شبابك‪ .‬لو مش إنهاردة بكرة‬
‫هاتالقي نفسك محتاجة راجل‪ .‬هي دي طبيعتنا‬
‫إللي خلقنا عليها ربنا‪ .‬مش هاتقدري على‬
‫الوحدة يابنتي طاوعيني !‬
‫تأففت "إيمان" بانفعال ‪:‬‬
‫‪-‬خالص بقـى يا ماما‪ .‬ماتضغطيش عليا من‬
‫فضلك‪ ..‬موضوع اًلرتباط ده ادفن تحت األرض‬
‫مع سيف‪ .‬انتهينا خالص !‬
‫أغمضت "أمينة" عينيها بشدة متأسفة و‬
‫حزينة في نفس الوقت على حياة ابنتها‪ ،‬أطلقت‬
‫نهدة حارة من صدرها‪ ،‬ثم مشت ناحيتها على‬
‫مهل‪ ،‬جلست قبالتها على طرف السرير‪،‬‬
‫أمسكت بيديها و خاطبتها بلين اآلن ‪:‬‬
‫‪-‬طيب يا إيمان‪ .‬مش هاغصب عليكي‪ ..‬بس‬
‫عشان خاطري‪ .‬من باب الذوق‪ .‬اخرجي سلمي‬
‫على ابن خالتك و اقعدي معانا‪ .‬ماتسوديش‬
‫وشي !‬
‫*****‬

‫قسرا عنها‪ ،‬وجدت نفسها هكذا مجبرة على‬


‫اًللتقاء به مجددا‪ ..‬فقط نزوًل عند رغبة أمها ؛‬
‫أصرت "أمينة" على البقاء معها حتى ترتدي‬
‫ثيابا مالئمة‪ ،‬فاختارت "إيمان" عباءة منزلية‬
‫داكنة األوان على الطراز الخليجي‪ ،‬و وضعت‬
‫حجابها‬
‫‪-‬السالم عليكم !‬
‫رأت تصلب ظهره من مكانها‪ ،‬كانت تقف خلفه‪،‬‬
‫على بعد خطوات قليلة من السفرة‪ ،‬أمها‬
‫بجانبها‪ ،‬بينما تراه ينهض واقفا و يلتفت‬
‫صوبها باسرع مم تخيلت‪ ،‬حبست أنفاسها‬
‫فورا‪ ،‬حين إلتقت نظراتيهما‪ ،‬و انتابتها نفس‬
‫المشاعر‪ ..‬كلها التي شعرت بها منذ رأته اليوم‬
‫قبل ساعة من اآلن‬
‫التوتر‪ ،‬دفقات األدرنالين‪ ،‬الخيبة‪ ،‬الحب و‬
‫الكراهية في آن !!!!‬
‫‪-‬و عليكم السالم‪ .‬إزيك يا إيمان !‬
‫حاول "مراد" أن يبدو طبيعيا أمام خالته و ابن‬
‫خالته‪ ،‬قدر استطاعته جاهد حتى يستطيع النظر‬
‫في عينيها مباشرة‪ ،‬إذ كان صعبا‪ ،‬خاصة أنه‬
‫قرأ فيهما ما توقعه تماما‪ ...‬الخذًلن !‬
‫ًل‪ ..‬إنه لن يطيق هذا إن استمر أكثر‬
‫لن يطيقه مطلقا ‪...‬‬
‫كان يعرف بأنها ًل تصافح‪ ،‬أو بمعنى أصح كان‬
‫يعرف بأن للمنزل الذي يقف فيه قوانين‬
‫صارمة‪ ،‬و أن النساء هنا حتى و إن كن أقارب‪،‬‬
‫ًل يمسسن بأي شكل !!‬
‫‪-‬إزيك انت يا مراد ! ‪ ..‬هتفت "إيمان" و هي‬
‫تتقدم نحو الجهة األخرى المقابلة له فوق‬
‫السفرة‬
‫رد عليها متجنبا النظر إليها بأقصى ما يمكنه‪ ،‬و‬
‫جلست هي بجوار أخيها‪ ،‬أخذت منه صغيرتها‬
‫التي كانت تجلس على قدمه‪ ،‬جلست "أمينة"‬
‫بدورها ثم بدأ الجميع بتناول العشاء ‪...‬‬
‫‪-‬أمال سالف فين يا أدهم !؟ ‪ ..‬تساءلت‬
‫"إيمان" بعفوية هادئة‬
‫جاوبها "أدهم" و هو يلوك قطعة خبز ‪:‬‬
‫‪-‬فوق مع الوًلد‪ .‬هي كانت عاوزة تنزل تتعشى‬
‫معانا عشان تسلم على مراد كمان‪ .‬لكن عبد‬
‫الرحمن حرارته عليت شوية ف قلت لها تقعد و‬
‫تبقى تنزل بكرة ان شاء هللا‪.‬‬
‫‪-‬ألف سالمة عليه يا أدهم ! ‪ ..‬تمتم "مراد" و‬
‫هو يتظاهر باًلنهماك في طعامه‬
‫بالكاد كان يبتلع بضعة لقيمات‬
‫و لحسن الحظ مرت ساعة العشاء على خير‪،‬‬
‫فقاما الرجلين و توجها إلى الشرفة البانورامية‬
‫اإلطاللة‪ ،‬و قد أوصى "أدهم شقيقته بصنع‬
‫فنجاني قهوة له و ًلبن خالته‪ ..‬و كم كان هذا‬
‫ثقيال عليها‬
‫الشر ليس من شيمها‪ ،‬و لكن رغبة ملحة‬
‫داهمتها في أن تضع سما بأحد الفناجين‪ ،‬إًل‬
‫أنها سيطرت على وساوسها المجنونة بسرعة‪..‬‬
‫و بسرعة أيضا أعدت الشاي ؛‬
‫ثم اتجهت ناحية الشرفة‪ ،‬و ًل تعرف لماذا‬
‫تملكها الفضول لتقف‪ ،‬و تسترق السمع لحظة‬
‫سماعها التالي ‪:‬‬
‫‪-‬بس أنا محتاج أعرف تفاصيل أكتر يا مراد‪.‬‬
‫ماتتكسفش و خليك صريح معايا أرجوك‪ .‬عشان‬
‫أقدر أفيدك !‬
‫بدا صوت األخير مترددا و هو يخبره ‪:‬‬
‫‪-‬مش مكسوف يا أدهم‪ ..‬بس مش عارف‬
‫أشرحها لك إزاي‪ .‬بص‪ ..‬احنا في بداية جوازنا‬
‫كنا زي الفل مع بعض‪ .‬و كانت مبسوطة معايا و‬
‫أنا كمان كنت مبسوط‪ .‬يمكن في األول كان‬
‫عادي‪ .‬بس شوية شوية بدأت أحبها بجد‪.‬‬
‫تصدق من كتر حبي ليها كنت بتعامل معاها‬
‫بحذر شديد‪ .‬كنت شايفها مالك‪ .‬يعني غير كل‬
‫إللي عرفتهم قبلها‪ ..‬فاهمني !؟‬
‫‪-‬كمل !‬
‫‪-‬مع مرور الوقت بدأت تتغير‪ .‬بقت متطلبة و‬
‫جريئة‪ ..‬فاجئتني بصراحة‪ .‬ماكنتش مصدق إن‬
‫عندها الميول دي‪ .‬كنت فاكرها رومانسية زيادة‬
‫بس و حاجات شبه كده‪ .‬بس لألسف الوضع‬
‫كان بيزداد سوء كل مرة‪ .‬ماكنتش متقبل‬
‫شخصيتها و أفكارها الجديدة‪ .‬بالنسبة لي كانت‬
‫صدمة‪.‬‬
‫‪-‬الطالق حصل كام مرة ؟‬
‫‪-‬أول مرة اطلقنا لسبب تافه جدا‪ .‬بس الخناقة‬
‫كانت جامدة‪ .‬و قبل ما دماغك تروح لبعيد أنا‬
‫عمري ما مديت إيدي عليها إًل انهاردة بس !‬
‫‪-‬و تاني مرة ؟‬
‫‪-‬دي كانت بسبب اإلقامة في لندن‪ .‬كانت مكتئبة‬
‫فترة عشان بعيد عن أهلها و نفسها نرجع و‬
‫نستقر في مصر بس أنا كنت متفق معاها قبل‬
‫الجواز إن هي دي حياتي و مستقبلي و وافقت‪..‬‬
‫كانت مصرة ف طلقتها‪ .‬ساعتها أبوها جالنا‬
‫على هناك و اتصالحنا‪.‬‬
‫‪-‬حصل طالق للمرة التالتة يا مراد !؟‬
‫سكت صوته للحظات‪ ،‬ثم قال مراوغا ‪:‬‬
‫‪-‬مش فاكر يا أدهم !‬
‫‪-‬يعني إيه مش فاكر ؟ هي دي حاجة تتنسي‪ ..‬ما‬
‫تتكلم يا مراد !!‬
‫‪-‬يا أدهم صدقني من كتر الضغط مش فاكر أي‬
‫حاجة‪.‬‬
‫‪-‬مش فاكر و ًل مش عايز تقول !؟‬
‫‪-..........‬‬
‫‪-‬طيب الخالف األخير كان على إيه ؟‬
‫‪-‬اكتشفت إنها كانت على عالقة بابن عمها و‬
‫صاحبي إللي حكيت لك عنه‪ .‬عثمان البحيري‪.‬‬
‫‪-‬و اكتشفت ده إزاي ؟‬
‫سكت صوته للمرة الثانية‪ ...‬ليقول بعد دقيقة‬
‫كاملة بصوت تثقله الغصة ‪:‬‬
‫‪-‬و احنا مع بعض‪ ..‬انت فاهم يعني‪ .‬غلطت و‬
‫قالت اسمه‪ .‬خدت أكبر قلم في حياتي ساعتها‪..‬‬
‫ماتتخيلش حالتي كانت إزاي‪ .‬كنت هاتجنن‪.‬‬
‫ماحستش بنفسي غير و أنا قايم بحجز تذاكر‬
‫الطيارة و مجرجرها من شعرها من لندن لحد‬
‫بيت أهلها في اسكندرية‪ ..‬رجعتها و جيت على‬
‫هنا على طول !‬
‫‪-‬هممم‪ ..‬طيب أنا هسألك السؤال األهم دلوقتي‪.‬‬
‫انت لسا بتحبها ؟‬
‫لم يتأخر رده بتاتا هذه المرة ‪:‬‬
‫‪-‬بحبها يا أدهم‪ ..‬بحبها و مش قابل فكرة أنها‬
‫ممكن تخوني حتى و لو بقلبها‪ .‬أنا حتى مش‬
‫قادر أتخيل إللي جاي من عمري من غيرها‪..‬‬
‫بحبها و عاوزها !!‬
‫كانت تبكي في الزاوية‪ ،‬بال حسيب و ًل رقيب‪..‬‬
‫حتى تفوه بكلماته األخيرة ؛‬
‫انقبض قلبها النازف منذ ما يقرب عن إثنى‬
‫عشر سنة‪ ،‬اآلن فقط أحست بقدر جريرتها‪،‬‬
‫اآلن فقط أدركت مدى غبائها و أنها أبخست‬
‫بنفسها إلى الحضيض يوم وثقت به و سلمته‬
‫عرضها ‪...‬‬
‫أخذت األرض تميد تحت قدميها‪ ،‬و بالكاد‬
‫أبصرت أمها تقترب‪ ،‬قبل أن تراها تدور أمامها‬
‫بفعل الدوخة التي أمسكت برأسها‪ ..‬و كان آخر‬
‫ما سمعته هو صراخ "أمينة" قبل أن تسقط‬
‫مغشية !‬

‫يتبع ‪...‬‬
‫انتهى الفصل الثالث ‪..‬‬

‫‪4‬‬

‫"يا له من شيء مخز ؛ إنه عار علينا‪ ..‬إنه لمن‬


‫العار أني أحببتك !"‬
‫_ إيمان عمران‬
‫انتفض كالهما إثر سماع أصوات الجلبة‬
‫الناجمة عن تكسير األواني‪ ،‬و خاصة مع‬
‫صراخ "أمينة" باسم ابنها‪ ،‬وثب "أدهم" عن‬
‫مقعده و ركض إلى الخارج يتبعه "مراد"‪..‬‬
‫و كان المشهد كالتالي ؛‬
‫وسط حطام طقم الشاي و المياه الالهبة‪ ،‬رقدت‬
‫"إيمان" بال حراك مغشيا عليها‪ ،‬و قد كانت‬
‫أمها تجثو بجوارها محاولة إفاقتها‪ ،‬و الصغيرة‬
‫"لمى" تصرخ باكية و هي تنادي عليها بحرقة‬
‫‪...‬‬
‫‪-‬إيه إللي حصل !!؟ ‪ ..‬تساءل "أدهم" بذعر‬
‫لمرآى شقيقته على تلك الحالة‬
‫من خلفه جمد "مراد" في مكانه غير مستوعبا‬
‫ما يحدث‪ ،‬لم يتحرك إًل حين استرعاه بكاء‬
‫الصغيرة الحار‪ ،‬انحنى صوبها من فوره و‬
‫حملها بين ذراعيه مهدهدا إياها بأقصى ما لديه‬
‫من لطف‬
‫على الطرف اآلخر تمضي "أمينة" مفسرة‬
‫ًلبنها باضطراب كبير ‪:‬‬
‫‪-‬مش عارفة يابني‪ .‬مش عارفة إيه إللي حصل‪..‬‬
‫أنا كنت معدية في الطرقة بصيت ًلقيتها لسا‬
‫هاتدخل بصينية الشاي قامت وقعت من طولها‬
‫فجأة !‬
‫لم يحتاج األمر تفسيرا أكثر من ذلك بالنسبة إلى‬
‫"مراد"‪ ..‬إذ كان بديهيا له أن يعلم بأنها سمعت‬
‫الحوار بينه و بين أخيها‬
‫و إًل فلم يحدث لها هذا و فجأة !!‬
‫‪-‬اتصلي على سالف يا أمي خليها تجيب لي‬
‫شنطة الكشف بسرعة ! ‪ ..‬قالها "أدهم" و هو‬
‫يحني جزعه حامال شقيقته على ذراعيه بخفة و‬
‫سهولة‬
‫توجه بها نحو غرفة نومها‪ ،‬و ذهبت "أمينة"‬
‫لتحضر هاتفها‪ ،‬أما هو ؛‬
‫بقي "مراد" هو و الصغيرة معا‪ ،‬يعلم بأنه‬
‫محظورا عليه مقاربتها‪ ،‬لذا آثر البقاء هنا و‬
‫اًلعتناء على األقل بطفلتها ‪...‬‬

‫*****‬

‫ربما فقدت السيطرة على جسمها كليا‪ ،‬لكن‬


‫عقلها ًل يزال يعمل‪ ..‬لكنه كان يعمل في إتجاه‬
‫آخر‪ ،‬لقد خاض رحلة أخرى إلى الماضي‬
‫ماضيها المليئ بالمآسي و العذابات المختلفة ؛‬
‫ليلة عرسها‪ ،‬الليلة التي لطالما تخيلتها بشكل‬
‫مثالي مع الشخص الوحيد الذي أحبته من كل‬
‫قلبها‪ ،‬لم تكن تتوقع قط أن تمضي على هذا‬
‫النحو المروع‪ ..‬رغم أنها تعلم يقينا بأن‬
‫"سيف" يحبها و مغرم بها بحق‪ ،‬و إًل لما‬
‫صمت و لم يذيع لها سرا‬
‫أقله كانت مطمئنة بأنها في أيدي أمينة‪ ،‬ألنه‬
‫دمها أوًل و أخيرا‪ ،‬ابن عمتها‬
‫لكن كيف كانت لها كل تلك الثقة ؟‬
‫إنه رجل على أية حال ‪...‬‬
‫لحظة أغلق عليهما باب واحد‪ ،‬تحول جذريا‬
‫انتابهه‪ ،‬قادها مباشرة إلى غرفة النوم و أمرها‬
‫بإطاعة كافة أوامره التي صدمتها و أخافتها في‬
‫آن‪ ،‬و حاولت أن تتحدث معه برفق ‪:‬‬
‫‪-‬سيف‪ ..‬انت بتخوفني منك ليه ؟ ممكن تديني‬
‫فرصة بس !‬
‫رد "سيف" بجالفة و هو يحل ربطة عنقه ‪:‬‬
‫‪-‬أديكي فرصة ؟ إليه بالضبط ؟ مانتي كده كده‬
‫جاهزة ًل محتاجة مسايسة و ًل مقدمات‪.‬‬
‫هانتعب نفسنا على الفاضي ؟ يال يا حبيبتي‬
‫خليكي حلوة و اسمعي الكالم‪ ..‬اقلعي الفستان‬
‫ده‪ .‬و اًل أساعدك بنفسي !؟‬
‫من شدة الصدمة التي خلفتها كلماته المتعاقبة‬
‫لم تستطع نطقا‪ ،‬فقد شعرت باإلهانة‪ ،‬و لم تشعر‬
‫بأي شيء و هو بالفعل يهم باًلقتراب منها‬
‫ليفعل ما أمرها به بنفسه دون أن يرف له جفن‬
‫!‬
‫في تلك الليلة ذاقت شتى أنواع الذل و الحرج‪،‬‬
‫أحست بأنها صفر قيمة‪ً ،‬ل فرق بينها و بين‬
‫العاهرات‪ ،‬أجل‪ ..‬في بضع مواطئ تعمد زوجها‬
‫أن يوصل لها ذلك انتقاما منها على فعلتها‪..‬‬
‫اقتص منها بهذا الشكل و عذبها نفسيا بدهاء‬
‫يحسب له‬
‫حتى تركها في األخير بطريقة مهينة‪ ،‬روحها‬
‫معلقة‪ ،‬تنتحب بحرقة و هي ًل تجرؤ على أي‬
‫ردة فعل‪ ،‬ألنها من أحطت بنفسها إلى هذا‬
‫المستوى‪ ،‬عليها أن تتحمل نتائج خطيئتها‪،‬‬
‫عليها أن تتلقى منه كل شيء بفم مطبق‪ ..‬و إًل‬
‫فأنه لن يتردد و سيفضحها أمام الجميع و ًل‬
‫شك ‪...‬‬
‫‪-‬إيمان !‬
‫استيقظت في صبيحة ليلة زفافها بدون أدنى‬
‫مجهود‬
‫ارتعدت فرائصها بادئ األمر و هي تشد الغطاء‬
‫حول جسمها‪ ،‬بينما تتراجع منكمشة على نفسها‬
‫إلى مؤخرة السرير‪ ،‬أخذت تفرك عينها بقبضتها‬
‫لتنظر جيدا‪ ،‬فإذا بزوجها يجلس أمامها عاري‬
‫الجزع‪ ،‬و قد وضع بجوارها طاولة الفطور التي‬
‫تراص فوقها ما لذ و طاب‬
‫عبست بكآبة و هي تراى وجهه مشرقا هكذا‪،‬‬
‫على النقيض منها تماما‪ ،‬حتى صوته بدا رائقا ‪:‬‬
‫‪-‬صحي النوم يا حبيبتي‪ .‬يال فوقي كده‪ ..‬بصي‬
‫شوفي‪ .‬أنا حضرت لك الفطار بنفسي !‬
‫و أشار إلى صحن "األومليت" بالخضار و‬
‫الجبن صنع يداه‪ ،‬و أيضا السجق المطبوخ و‬
‫البطاطا المقلية‪ ،‬و لم ينسى العصير الطازج‬
‫الذي تحبه ‪...‬‬
‫‪-‬دوقي كده و قوليلي رأيك ! ‪ ..‬قالها و هو يقرب‬
‫من فمها قطعة من السجق الشهي‬
‫لكنها أعرضت و أشاحت بوجهها بعيدا‬
‫أنزل يده معقبا ‪:‬‬
‫‪-‬أفهم من كده إنك زعالنة مني ؟‬
‫لم ترد عليه أيضا‪ ،‬فتنهد و ترك من يده‪ ،‬ثم‬
‫اقترب منها غير عابئا بانقباضاتها‪ ،‬أحاط‬
‫بكتفيها و قال و قد عاد إلى اسلوبه اللطيف‬
‫الذي عهدته بالسابق ‪:‬‬
‫‪-‬إيمان‪ .‬حبيبتي‪ ..‬مش أنا اعتذرت لك ؟ و طول‬
‫الليل بحاول اتأسف على إللي عملته‪ .‬أعمل إيه‬
‫تاني بس !؟‬
‫أحس برعشتها الطفيفة‪ ،‬فأخذ يمسد على‬
‫شعرها بحنو و هو يستطرد مسيطرا على‬
‫انفعاًلته ‪:‬‬
‫‪-‬انتي ًلزم تعذريني‪ ..‬مش قادر أنسى‪ .‬كل ما‬
‫أفتكر إن في حد غيري قرب لك باتجنن‪ .‬أنا‬
‫بحبك يا إيمان‪ .‬بحبك من و انتي لسا عيلة‪..‬‬
‫ماكانش المفروض يحصل لك ده‪ .‬ماكانش‬
‫المفروض حد غيري يلمسك !!!‬
‫أفلت من بين شفاهها نشيجا خفيفا‪ ،‬كان يضغط‬
‫على جرحها بكل قوته اآلن‪ ،‬لكنه تدارك هذا‬
‫بسرعة و ضمها إليه متمتما ‪:‬‬
‫‪-‬خالص يا حبيبتي‪ .‬أنا آسف حقك عليا‪..‬‬
‫أرجوكي مش عاوزك تزعلي كده في يوم زي‬
‫ده‪ .‬و أنا مش هافتح الموضوع ده تاني‪..‬‬
‫هاننسى‪ .‬هاننسى يا إيمان‪ ..‬خالص بقى‪.‬‬
‫قسرت نفسها من جديد على التعاطي معه‪ ،‬كفت‬
‫عن البكاء و كفكف هو لها دموعها‪ ،‬ثم قرب‬
‫الطعام إليهما و بدأ هو يطعمها بيده و يأكل في‬
‫آن‪ ،‬إلى أن اطمئن ألنها أكلت جيدا و لديها‬
‫القدرة‪ ..‬سحبها من يدها لتقوم من السرير هاتفا‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬يال تعالي معايا !‬
‫كانت تلف الغطاء حول جسمها جيدا حين‬
‫أوقفها على قدميها بحركة مباغتة‪ ،‬و نطقت‬
‫أخيرا بصوت مهزوز مرتاب ‪:‬‬
‫‪-‬على فين !؟‬
‫جاوبها بغمزة ‪ :‬تأخذي شور‪ .‬ماتنسيش كمان‬
‫شوية الناس إللي تحت طالعين يطمنوا علينا‪.‬‬
‫ًلزم نبان في أحسن شكل قصادهم‪ ..‬يال يا قلبي‬
‫!‬
‫و اجتذب يدها دون أن يسمح لها بالرد‬
‫‪-‬قوليلي صحيح يا إيمان‪ .‬إنتي عمرك ما خدتي‬
‫بالك مني !؟‬
‫نظرت بعينيه بعدم فهم ‪:‬‬
‫‪-‬مش فاهمة قصدك ؟‬
‫أوضح لها ‪ :‬يعني أنا قلت لك إني من زمان و‬
‫أنا بحبك و حاطط عيني عليكي‪ ..‬انتي بقى و ًل‬
‫مرة ًلحظتيني ؟ يعني أد كده حبي ليكي كان‬
‫شفاف و مش باين !!؟‬
‫أطرقت نظراتها و صمتت لهنيهة‪ ،‬ثم تطلعت‬
‫إليه ثانية و قالت ‪:‬‬
‫‪-‬أكدب عليك لو قلت آه‪ ..‬بصراحة عمري ما‬
‫فكرت إنك معجب بيا أساسا‪.‬‬
‫احتدت لهجته كنظراته اآلن ‪:‬‬
‫‪-‬و ليه مافكرتيش ؟ عشان تفكيرك كان مع حد‬
‫تاني مش كده ؟‬
‫ارتبكت عندما قلب مجرى الحديث بهذا الشكل‪،‬‬
‫و حاولت صياغة عبارتها‪ ،‬لكنه قاطعها قابضا‬
‫على فكها بأصابع قاسية ‪:‬‬
‫‪-‬هشششش خالص‪ .‬مش مهم‪ .‬مش مهم تبرري‬
‫أو تقولي أي حاجة‪ ..‬المهم إنك معايا في اللحظة‬
‫دي‪ .‬احنا وًلد انهاردة‪ ..‬مش كده !؟‬
‫و مع أنه تعهد لها بأنه لن يعيد الكرة ذاتها‬
‫مجددا‪ ،‬لن يتصرف كما كان بليلة الزفاف‪ ،‬أعاد‬
‫كل شيء بشكل أسوأ ؛‬
‫ألمها‪ ،‬أبكاها‪ ،‬أذاها‪ ..‬و لم يبالي أبدا هذه المرة‬
‫و لوًل جرس الباب الذي أخذ يدق بإلحاح اآلن‪،‬‬
‫ما كان لينتهى عذابها على ما يحمد عقباه‪،‬‬
‫تركها على مضض و هو يغمغم بخشونة ‪:‬‬
‫‪-‬باين انهم طلعوا‪ ..‬خلصي بسرعة‪ .‬مش هافتح‬
‫إًل و انتي معايا‪ً .‬لزم نبان عصافير الحب‬
‫قصادهم‪ .‬هاروح أجيب لك الروب بسرعة ‪...‬‬
‫و اختفى من أمامها في لحظة‬
‫لكن من أين لها بالقوة اآلن ؟ لقد استنزفت‬
‫بالفعل‪ ،‬بالكاد تمكنت من الجلوس على حافة‬
‫المغطس الزبدي‪ ،‬و بيد مرتعشة أخذت قنينة‬
‫الشامبو خاصتها و سكبت على رأسها‪ ،‬لكنها ما‬
‫لبثت أن سقطت من قبضتها الواهنة‪ ،‬أحضر‬
‫الروب و ألبسها إياه و ربط المنشفة حول‬
‫رأسها‬
‫و هو أيضا كان قد ارتدى الروب الخاص به‪،‬‬
‫لف ذراعه حول خصرها و قادها معه إلى‬
‫الخارج‪ ،‬و قبل أن يفتح باب الشقة لذويهم‬
‫همس لها زاجرا ‪:‬‬
‫‪-‬اعدلى وشك ده‪ .‬مافيش عروسة تكشر كده في‬
‫صباحيتها‪ .‬ابتسمي شوية يا‪ ..‬عروسة !‬
‫و لم يفتح إًل حين رآها تغاصب تلك اًلبتسامة‬
‫الجزلى‪ ،‬و ظهرت من وراء الباب أمها و‬
‫شقيقتها تحمالن طعام العروسان و تبتسمان‬
‫بسعادة كبيرة ‪:‬‬
‫‪-‬صباحية مباركة يا عرسان ! ‪ ..‬هتفت "أمينة"‬
‫بسرور‬
‫ليرد "سيف" و هو يحاوط خصر "إيمان" و‬
‫يميل صوبها بمودة ‪:‬‬
‫‪-‬هللا يبارك فيكي يا مرات خالي‪ .‬ادخلوا طيب‪.‬‬
‫توردت كال من "أمينة" و "عائشة" خجال من‬
‫مشاهدتهم بألبسة اًلستحمام‪ ،‬و قالت "أمينة"‬
‫‪:‬‬
‫‪ً-‬ل ندخل إيه‪ .‬ده أنا كنت هانزل لما ًلقيتكوا‬
‫مش بتفتحوا‪ ..‬أنا يا حبيبي جاية أحط لكم األكل‬
‫و أنزل على طول‪ .‬ده فطار و غدا‪ .‬و العشا أمك‬
‫موصية عليه‪.‬‬
‫‪-‬مافيش فرق يا طنط أمينة‪ .‬طيب اتفضلي !‬
‫و أفسح لها لتلج‬
‫فدخلت و وضعت الصينية من يديها فوق‬
‫السفرة‪ ،‬كذلك فعلت "عائشة"‪ ..‬ثم توجهت‬
‫نحو ابنتها و هي تهدل ‪:‬‬
‫‪-‬بسم هللا هللا أكبر‪ .‬عيني عليكي باردة يا إيمان‬
‫يابنتي‪ ..‬هو الجواز بيحلي كده‪ .‬تعالي في‬
‫حضني وحشتيني‪.‬‬
‫و أقبلت عليها ضامة إياها بقوة‪ ،‬فتشبثت‬
‫"إيمان" بأمها متمتمة بضبابية ‪:‬‬
‫‪-‬و انتي كمان وحشتيني يا ماما !‬
‫و لم تعد ساقاها تقو على حملها أكثر‪ ،‬فسقطت‬
‫مغشيا عليها بين أحضان أمها ‪...‬‬
‫انطلق صراخ "أمينة" في الحال‪ ،‬و انسحبت‬
‫الدماء من وجه "سيف"‪ ..‬أما "عائشة"‬
‫فهرولت تنادي على أخيها لتخبره اتباعا ألمر‬
‫والدتها‬
‫لم تمر دقيقتان إًل و حضر "أدهم" حامال‬
‫حقيبته الطبية‪ ،‬دخل الشقة صائحا ‪:‬‬
‫‪-‬إيه إللي حصل !!؟‬
‫كانوا اآلن بالصالون‪ ،‬و قد رفض "سيف" أن‬
‫يطلع أحد على أسرار غرفة النوم‪ ،‬فأراح جسد‬
‫زوجته فوق اآلريكة الواسعة هناك‪ ..‬كانت أمها‬
‫فوق رأسها تذرف الدموع و هي تخبر ابنها ‪:‬‬
‫‪-‬ماعرفش يابني‪ ..‬أغمى عليها فجأة‪ .‬حبيبتي‬
‫يابنتي‪ .‬إيه إللي صابك !؟‬
‫فتح "أدهم" حقيبته و أخرج سماعته يقيس‬
‫النبض في صدرها‪ ،‬ثم استل جهاز قياس الضغط‬
‫و لفه حول ذراعها‪ ..‬انتظر لحظات قبل أن يقرر‬
‫بصوت أجش دون أن يحيد عن وجه أخته‬
‫الشاحب ‪:‬‬
‫‪-‬ضغطها واطي جدا‪ً ..‬لزم تعلق محاليل !‬
‫ضربت "أمينة" على صدرها ‪:‬‬
‫‪-‬يا لهوي محاليل‪ .‬لـيه ؟ و تنزل من البيت يوم‬
‫صباحيتها على المستشفيات !!!؟‬
‫أدهم بصرامة ‪ :‬ماتقلقيش يا أمي أنا هاتصرف‬
‫خمس دقايق بالتليفون كل إللي محتاجه هايكون‬
‫هنا ‪...‬‬
‫ثم إلتفت نحو زوج أخته و ابن عمته‪ ،‬حدجه‬
‫بنظرة عدائية تعبر عن عدم الوفاق الدائم‬
‫بينهما و قال مشككا فيه ‪:‬‬
‫‪-‬أنا عاوز أعرف‪ ..‬انت عملت فيها إيه بالضبط‬
‫!؟‬

‫*****‬
‫استعادت "إيمان" وعيها أخيرا ‪...‬‬
‫كان األمر أشبه بحالة من "الديجافو"‪ ..‬شعرت‬
‫بأن الموقف يتكرر مرة أخرى‬
‫إذ ترى وجهي أمها و أخيها يطالن عليها بقلق‪،‬‬
‫و تشعر بوخز في يدها‪ ،‬تأوهت و هي تحاول‬
‫رفع معصمها‪ ،‬فبادر صوت "أدهم" مستبقيا‬
‫يدها كما هي ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل يا إيمان‪ .‬سيبي إيدك زي ما هي‪ ..‬لسا‬
‫المحلول ماخلصش !‬
‫‪-‬محلول ! ‪ ..‬رددت "إيمان" بوهن‬
‫‪-‬هو إيه إللي حصل !؟‬
‫و أخذت تتلفت حولها‪ ،‬فتبينت بأنها قد نقلت إلى‬
‫غرفتها‪ ،‬بينما تجاوبها "أمينة" ‪:‬‬
‫‪-‬أغمى عليكي يا حبيبتي‪ .‬بس انتي كويسة‬
‫دلوقتي الحمدهلل‪ ..‬ضغطك كان شوية‪.‬‬
‫تساءلت "إيمان" بتلهف ‪:‬‬
‫‪-‬فين لمى‪ ..‬بنتي فين !؟؟‬
‫طمأنها "أدهم" على الفور ‪:‬‬
‫‪-‬ماتخافيش يا حبيبتي‪ .‬لمى نزلت مع مراد أنا‬
‫بعته يجيب لك شوية أدوية‪ ..‬و هو كمان إللي‬
‫نزل جاب لوازم المحلول‪.‬‬
‫احتجت ‪ :‬ليه نزلت البنت معاه يا أدهم ؟‬
‫أجاب بمنطقية ‪ :‬البنت كانت خايفة عليكي و‬
‫منهارة‪ .‬أكيد ماكنتش هاخليها تشوفك كده‪ ..‬و‬
‫في نفس الوقت ارتاحت و سكتت معاه‪ .‬إيه‬
‫المشكلة !؟‬
‫لم تجد ردا‬
‫فصمتت و أشاحت بوجهها للجهة األخرى‪،‬‬
‫شعرت بيد أمها تربت على قدمها و سمعتها‬
‫تقول بحنان ‪:‬‬
‫‪-‬خوفتيني عليكي يا حبيبتي‪ .‬ربنا ما يوريني‬
‫فيكي وحش أبدا‪.‬‬
‫‪-‬إحم إحم ! ‪ ..‬صدرت تلك النحنحة من جهة باب‬
‫الغرفة‬
‫و تعرفت "إيمان" على صوته فورا قبل أن‬
‫ينادي من عند العتبة ‪:‬‬
‫‪-‬أدهم !‬
‫رد "أدهم" و هو يثب واقفا ‪:‬‬
‫‪-‬أيوة يا مراد جايلك أهو ‪...‬‬
‫بقيت "إيمان" راقدة مكانها‪ ،‬تشد الحجاب الذي‬
‫حلته أمها قليال عن رأسها‪ ،‬ثم بقيت تنصت و‬
‫تترقب ‪:‬‬
‫‪-‬دي كل األدوية إللي كتبتها‪ .‬جبتهم كلهم‪.‬‬
‫‪-‬ألف شكر يا سيدي‪.‬‬
‫‪-‬العفو‪ ..‬المهم إيمان تبقى كويسة بس‪.‬‬
‫‪-‬الحمدهلل بقت أحسن‪ .‬حتى فاقت جوا أهيه‪.‬‬
‫‪-‬بجد ؟ الحمدهلل ‪...‬‬
‫و عال صوت في اللحظة التالية ‪:‬‬
‫‪-‬سالمتك يا إيمان‪ .‬ألف سالمة عليكي !‬
‫سمعته جيدا و اخترق صوته حواسها المتألمة‪،‬‬
‫لكنها لم تمنحه ردا‪ ،‬فلم يبدو أنه تأثر بذلك‪ ..‬بل‬
‫سرعان ما انسحب و ترك األسرة على حدة و‬
‫قد أعاد الصغيرة إلى خالها‬
‫ولج "أدهم" حامال "لمى" على ذراعه‪ ،‬سلمها‬
‫إلى أحضان أمها التي ضمتها إلى صدرها بشدة‬
‫و قبلتها على رأسها بقوة ‪:‬‬
‫‪-‬انتي لسا تعبانة يا مامي ؟‬
‫ترقرقت الدموع بعيني "إيمان" و هي ترد‬
‫عليها بتأثر ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل يا حبيبتي أنا كويسة‪ .‬أنا كويسة خالص‪..‬‬
‫بس ماكلتش كويس انهاردة‪ .‬شوفتي بقى إللي‬
‫مش بياكل بيجراله إيه‪ .‬عشان تبقي تسمعي‬
‫كالمي و تخلصي األكل بتاعك كله‪.‬‬
‫أومأت الصغيرة محتضنة أمها بذراعيها‬
‫القصيرين ‪:‬‬
‫‪-‬هاسمع الكالم و هاخلص أكلي كله‪ ..‬بس تبقي‬
‫كويسة تاني يا مامي !‬
‫تنهدت "إيمان" بحرارة و هي تمسح على‬
‫شعرها الكستنائي برفق متمتمة ‪:‬‬
‫‪-‬أنا هابقى كويسة يا لمى‪ ..‬هابقى كويسة‬
‫عشانك ! ‪!.‬‬

‫يتبع ‪...‬‬
‫انتهى الفصل الرابع‬

‫‪5‬‬

‫"أنا أحبك‪ ...‬أنت ًل تعرف كم !"‬

‫سالف البارودي‬
‫جلس يهز قدمه اليمنى بعصبية واضحة‪ ،‬بينما‬
‫"أدهم" أمامه يمسك بهاتفه يضعه على أذنه‪،‬‬
‫بعد أن دون رقم المدعو "عثمان البحيري" من‬
‫هاتف ابن خالته‪ ،‬ها هو يخابره‪ ..‬يتحدث على‬
‫مرآى و مسمع من "مراد" الذي كان أشبه‬
‫بالقدر المسود من شدة الغليان ‪...‬‬
‫‪-‬أستاذ عثمان البحيري معايا‪ ..‬أنا أدهم عمران‪.‬‬
‫مراد صديقك يبقى ابن خالتي‪ ..‬أهال بيك‪ ..‬هو‬
‫عندي هنا و أنا عارف كل حاجة يا أستاذ‬
‫عثمان‪ ..‬أكيد عاوزين نحل‪ ..‬بس مش هاينفع‬
‫الكالم على التليفون كده‪ ..‬أنا بدعيك تشرفني‬
‫هنا في القاهرة‪ .‬أرض محايدة بينكم و بين ابن‬
‫خالتي‪ .‬إذا ماعندكش مانع‪ ..‬تمام‪ .‬إن شاء هللا‬
‫بكرة الساعة ‪ 8‬مساء هاكون في انتظارك‪..‬‬
‫العنوان ‪...‬‬
‫و أنهى المكالمة معه على عجالة‪ ،‬ثم إلتفت نحو‬
‫"مراد" هاتفا ‪:‬‬
‫‪-‬خالص يا عم‪ .‬أديني هاجيبه لحد عندك نتفاهم‬
‫و كلمته بنفسي و عافيتك من المهمة دي‪..‬‬
‫مستريح ؟‬
‫تنهد "مراد" بثقل و مد جسمه لألمام ممسكا‬
‫رأسه بكلتا يديه ‪:‬‬
‫‪-‬مافيش راحة يا أدهم‪ ..‬أنا تعبان جدا‪ .‬عشان‬
‫كده مش هقدر أحملكوا تعبي ده‪ .‬أنا مش عارف‬
‫أشكرك إزاي على استقبالك ليا هنا‪ .‬أنا قايم‬
‫أغير هدومي و ماشي ‪...‬‬
‫‪-‬بطل هبل يا واد إنت ! ‪ ..‬زجره "أدهم" و هو‬
‫يشير له بالبقاء جالسا بمكانه‬
‫‪-‬مافيش الكالم ده‪ .‬انت مش هاتتحرك من هنا‬
‫طول فترة وجودك في القاهرة‪ .‬خلص الكالم‪.‬‬
‫أصر "مراد" على موقفه بجدية ‪:‬‬
‫‪-‬يا أدهم من فضلك‪ .‬مش هاينفع‪ .‬أنا مقدرش‬
‫أقعد و أقيد حرية خالتي و إيمان ًل أنا و ًل هما‬
‫هانكون مرتاحين !‬
‫أدهم رافعا حاجبه ‪:‬‬
‫‪-‬و مين قالك أصال إني كنت هاسيبك تقعد هنا‬
‫مع خالتك و إيمان ؟ يمكن كان يحصل لو كانت‬
‫إيمان متجوزة مثال‪ .‬كنت هاتقعد مع خالتك‬
‫عادي‪ .‬لكن في وجود إيمان‪ ..‬زي ما انت عارف‬
‫جوزها مات و قاعدة هنا مع ماما ‪...‬‬
‫عبس "مراد" متمتما ‪:‬‬
‫‪-‬أمال انت تقصد إيه يعني مش هامشي إزاي‬
‫كده !؟‬
‫شرح له "أدهم" و هو يعبث بهاتفه ‪:‬‬
‫‪-‬انت هاتقعد في شقة عمتي راجية‪.‬‬
‫مراد بغرابة ‪ :‬هللا‪ .‬و أنا أقعد عند عمتك ليه بس‬
‫يا أدهم !!؟‬
‫تأفف "أدهم" بسأم و صاح بنفاذ صبر ‪:‬‬
‫‪-‬يابني الشقة فاضية‪ .‬عمتي سابتها هي و‬
‫عيالها بعد موت سيف على طول‪ .‬سابتها و‬
‫مش هاترجع تاني‪.‬‬
‫‪-‬إممم فهمت !‬
‫‪-‬الحمدهلل إنك فهمت ياخويا ‪...‬‬
‫ثم أضاف يحثه ‪:‬‬
‫‪-‬يال بقى قوم معايا نطلع نوضب لك أمورك‪ .‬زي‬
‫ما قلت لك الشقة فاضية‪ .‬بس لحسن الحظ‬
‫مراتي حبت تغير أوضة وًلدنا بعد ما خلفنا انت‬
‫عارف إنهم تالتة ما شاء هللا‪ .‬ف احنا كنا‬
‫جايبين سرير واحد ماكنش هاينفعهم‪ .‬نقلنا‬
‫األوضة كلها شقة عمتي‪ .‬هو السرير صغير‬
‫شوية‪ .‬بش معلش دبر نفسك الليلة دي بس و‬
‫بكرة هاننقل أوضتي إللي في شقة أمي هنا‬
‫عشانك فوق‪.‬‬
‫لم يتحمل "مراد" كل ما سمعه فحاول‬
‫اًلعتراض ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل أرجوك يا أدهم كده كتير‪ .‬أنا مش جاي‬
‫أتعبكوا‪ .‬ماتخلنيش أندم إني جيت !!‬
‫أدهم بصرامة ‪ :‬مراااد‪ .‬أنا مابحبش الكالم‬
‫الكتير‪ .‬انت لو وجودك مش مرغوب فيه‬
‫هاقولك في وشك‪ .‬عيب عليك إللي بتقوله‪ .‬إحنا‬
‫أهل يا محترم‪ ..‬و اًل انت شايف إيه !؟‬
‫ابتلع "مراد" ريقه و هو يتطلع إليه و ًل يرى‬
‫بعد كلماته سوى فعلته القديمة‪ ،‬تتجسد أمامه‪،‬‬
‫تحول بينه و بين ابن خالته‪ ،‬تشعره بفداحة‬
‫غلطته اآلن‪ ..‬اآلن ‪...‬‬

‫*****‬
‫كانت ًل تزال راقدة بفراشها‪ ،‬حزينة‪ ،‬مكتئبة‪،‬‬
‫تحتضن طفلتها الغافية على صدرها‬
‫بينما زوجة أخيها تلج إلى الغرفة حاملة صينية‬
‫الطعام و هي تهتف معتذرة للمرة العاشرة ‪:‬‬
‫‪-‬حقك عليا يا إيمي‪ .‬و هللا الوًلد مش عارفة‬
‫جرالهم إيه إنهاردة‪ .‬شابطانين فيا بطريقة‬
‫غريبة‪ .‬ما صدقت نايمتهم و نزلت لك‪.‬‬
‫تبسمت "إيمان" و هي تقول بوهن ‪:‬‬
‫‪-‬طيب سبتيهم و نزلتي ليه يا سالف‪ .‬اطلعي‬
‫أحسن يصحوا و مايالقوكيش يتخضوا‪.‬‬
‫جلست "سالف" و أسندت الصينية فوق‬
‫الطاولة المجاورة للسرير‪ ،‬تنهدت و هي تسحب‬
‫هاتفها مشيرة لشقيقة زوجها قائلة ‪:‬‬
‫‪-‬ماتقلقيش‪ .‬لو همسوا بس هاعرف ! ‪ ..‬ثم‬
‫تناولت صحن الحساء و بدأت تطعم األخيرة‬
‫‪-‬يال بقى كلي عشان تعوضي الضعف ده‪ .‬بالهنا‬
‫و الشفا يا حبيبتي‪.‬‬
‫استجابت "إيمان" لها و أنهت الطعام على‬
‫مهل‪ ..‬فاطمأنت "سالف" ًلستقرار حالتها‬
‫بحلول اآلن و بدأت تتحدث بحذر ‪:‬‬
‫‪-‬قوليلي بقى‪ .‬إنتي حصل لك إيه فجأة ؟ حد‬
‫ضايقك ؟‬
‫سألتها بوضوح أكثر ‪:‬‬
‫‪-‬مراد ضايقك !؟؟‬
‫لعلها لم تتوقع ردة فعلها‪ ،‬لكن حرفيا عينا‬
‫"إيمان" امتألتا بالدموع بغتة و صارت غير‬
‫قادرة على النطق‪ ..‬توترت "سالف" و هي‬
‫تقول مجفلة ‪:‬‬
‫‪-‬في إيه بس يا إيمان‪ .‬إيه اللي وصلك للحالة‬
‫دي‪ ..‬ما كنا كويسين إنهاردة و أنا سايباكي زي‬
‫الفل !‬
‫ًل إراديا‪ ،‬بدأت تجهش بالبكاء‪ ،‬فذعرت‬
‫"سالف" و اقتربت لتحضنها على الفور ‪:‬‬
‫‪-‬بسم هللا عليكي‪ ..‬إيه ده كله‪ .‬ليه‪ .‬ليه يا إيمان‬
‫!؟؟‬
‫تركت "إيمان" طفلتها و تشبثت بأحضان‬
‫"سالف" منتحبة بحرارة ‪:‬‬
‫‪-‬مش طايقاه‪ .‬مش طايقة أشوفه و ًل أسمع‬
‫صوته‪ ..‬هو جه ليه ؟ رجع ليه يا سالف أنا‬
‫بموووت‪ .‬مش قادرة أستحمل خالص !!!‬
‫أخذت تربت عليها و تهدئها قدر ما استطاعت ‪:‬‬
‫‪-‬طيب اهدي‪ً .‬ل حول و ًل قوة إًل باهلل‪ .‬اهدي يا‬
‫حبيبتي ‪...‬‬
‫لم تساهم مواساة "سالف" في التخفيف عنها‬
‫إطالقا‪ ،‬إنما كانت تزداد بؤسا كلما تذكرته و‬
‫ترددت صدى كلماته في أذنيها‪ ..‬إن كان ًل يزال‬
‫يحب زوجته‬
‫فما الذي جاء به بحق هللا !‬

‫*****‬

‫تركه "أدهم" لدقائق حتى يعتاد على الشقة‬


‫المهجورة‪ ،‬في الحقيقة كانت شقة فاخرة كثيرا‬
‫و ذوقها رفيع‪ ،‬صحيح أنها خالية من األثاث‪ ،‬و‬
‫لكن تشطيبها كان غاية في الجاذبية العصرية‪..‬‬
‫تلك العمة "راجية" أو أيما كان الذي يسكن‬
‫معها لديه تنسيق جيد‬
‫انتبه "مراد" حين عاد "أدهم" حامال على‬
‫ذراعيه بعض األغطية و المفروشات ‪:‬‬
‫‪-‬اتفضل يا عم‪ .‬شوية فرش و بطنية و كوفرتة‬
‫و لحاف كمان‪.‬‬
‫ضحك األخير معلقا و يحمل عنه ‪:‬‬
‫‪-‬إيه ده كله يا أدهم‪ ..‬انت عاوز تردمني بقى !‬
‫‪-‬الجو برد يا حبيبي و أنا مش مستعد أشيل‬
‫ذنبك لو جرى لك حاجة عندي‪ .‬أنا واخدك سليم‬
‫ف ًلزم أسيبك سليم بردو‪.‬‬
‫‪-‬إيه الجو ده محسسني إني عمر ابن أختك !‬
‫أدهم عابسا ‪ :‬هي عائشة خلفت تاني من ورايا‬
‫؟ مين عمر ده يابني !؟‬
‫قهقه "مراد" بمرح كبير ‪:‬‬
‫‪-‬مش ممكن‪ .‬يا أخي بهزر‪ ..‬القافية جت كده‪.‬‬
‫ابتسم بتهكم ‪ :‬ماشي ماشي‪ ..‬هزر‪.‬‬
‫و مضى يساعده في افتراش حيز له كي ينام‬
‫به‪ ،‬بمرور بعض الوقت سمعا دقتين على‬
‫الباب‪ ،‬ثم عال صوت "سالف" الرقيق ‪:‬‬
‫‪-‬مساء الخير !‬
‫إلتفتا كال من "مراد" و "أدهم" معا و نظرا‬
‫إليها ‪...‬‬
‫وقفت على مقربة منهما في حلتها السوداء و‬
‫نقابها مسدل‪ً ،‬ل يظهر منها سوى عينيها‬
‫الفيروزيتان و رموشها الكستنائية الكثة‪ ..‬على‬
‫الفور أبدى "مراد" ترحيبا شديدا بها ‪:‬‬
‫‪-‬أهال أهال‪ .‬مساء الورد‪ .‬ياااااه انتي بقى سالف‬
‫؟‬
‫بجواره كان "أدهم" يحدجه بنظرات مستنكرة‬
‫حانقة‪ ،‬فهو لم يكن يحترم كينونتها و المغزى‬
‫من حجابها الصارم‪ ،‬و أخذ يتفرس فيها رغم‬
‫ذلك ؛‬
‫على الطرف اآلخر بانت ابتسامة في صوت‬
‫"سالف" و هي ترد عليه ‪:‬‬
‫‪-‬إزيك يا مراد‪ .‬أيوة أنا سالف‪ ..‬بنت خالك إللي‬
‫عمرك ما سألت عنها‪ .‬بس أنا كنت بشوف‬
‫صورك مع بابي هللا يرحمه على فكرة‪.‬‬
‫أخجلته بمالحظتها‪ ،‬فقال بصوت خاضع ‪:‬‬
‫‪-‬أنا بعتذر لك طبعا‪ .‬بس صدقيني الوضع‬
‫ماكنش بإيدي و ًل بإيدك‪ .‬هما اًلخوات دول‬
‫إللي قرروا يبعدوا و يسيبوا كل حاجة‪ .‬هما إللي‬
‫فكوا الشمل‪ .‬أنا لو كنت أعرف طريقك أكيد‬
‫ماكنتش سيبتك !‬
‫‪-‬نعم ! ‪ ..‬ندت صيحة اًلحتجاج الغاضبة عن‬
‫"أدهم" فجأة‬
‫‪-‬تقصد إيه يا مراد بيه ماكنتش سيبتها إزاي‬
‫يعني ؟‬
‫أدار "مراد" رأسه نحو ابن خالته و قال‬
‫مبتسما ‪:‬‬
‫‪-‬هللا مالك يا أدهم‪ ..‬أنا بتكلم عادي‪ .‬ماتقولش‬
‫إنك ممكن تغير عليها مني‪.‬‬
‫أدهم بخشونة ‪ :‬و ماغيرش ليه سيادتك مش‬
‫راجل ؟‬
‫حاول أن يبرر بأريحية ‪:‬‬
‫‪-‬مش قصدي أنا كنت بتكلم من المنطلق إنها‬
‫بنت خالي و تخصني‪ .‬و فعال لو كنت أعرف‬
‫طريقها ماكنتش سيبتها يعني كنت هسأل عليها‬
‫و أزورها باستمرار‪ .‬بس‪ .‬هو ده كل قصدي يا‬
‫عم الشيخ‪ ..‬أو يا دكتور‪ .‬إللي تحبه يعني !‬
‫كان يعرف على وجه اليقين كم هو صعب طبع‬
‫ابن خالته المتزمت‪ ،‬و هكذا بذل جهده ليخفف‬
‫من حدة الموقف‪ ،‬أما "أدهم" فمشى ناحية‬
‫زوجته و أحاط خصرها بذراعه‪ ،‬ثم قال محدقا‬
‫بعيني "مراد" باكفهرار ‪:‬‬
‫‪-‬مبدئيا كده سالف دلوقتي ماتخصش حد غيري‬
‫يا مراد بيه‪ .‬و بعدين لو كان أي حد فينا يعرف‬
‫انها موجودة أساسا ماكنش حد سابها لوحدها‪.‬‬
‫بدليل أول ما خالي اتوفى ًلقت البيت ده مفتوح‬
‫لها‪ ..‬و دي كانت أجمل هدية و أحلى حاجة‬
‫حصلت في حياتنا و حياتي أنا بالتحديد‪ .‬سالف‬
‫!‬
‫نظرت "سالف" إلى زوجها بأعين دامعة من‬
‫شدة العاطفة التي أثارتها كلماته األخيرة‬
‫أمالت رأسها ليالمس ذراعه‪ ،‬بينما قال "مراد"‬
‫مبتسما بحبور ‪:‬‬
‫‪-‬ربنا يحفظكوا لبعض‪ ..‬و يديم الحب ده بينكوا‪.‬‬
‫فارقا الزوجين ضيفهما أخيرا‬
‫و فضال أن يرتقيا الدرج بدًل من إتخاذ المصعد‪،‬‬
‫صعدا معا متشابكي األيدي و قد تشبثت‬
‫"سالف" بيدها األخرى بمعصم زوجها‪ ،‬كانت‬
‫كأنما تحتضنه ‪...‬‬
‫‪-‬سالف‪ .‬أنا مش هاطير منك !‬
‫أفاقت على صوته من ثمالتها العاطفية‪ ،‬ظلت‬
‫كما هي تتمسك به و هي ترد بخفوت ‪:‬‬
‫‪-‬عمري ما سمعتك بتتكلم عني كده قصاد حد‪.‬‬
‫علطول بسمع منك أحلى كالم بيني و بينك و‬
‫بس لما بنكون لوحدنا‪ ..‬فاجئتني يا أدهم !!‬
‫‪-‬ياسالم‪ ..‬مبسوطة يعني من كالمي و اًل من‬
‫كالم سي مراد !؟‬
‫كان في صوته نزعة الغيرة الضارية تبعث على‬
‫الضحك‪ ،‬لكنها تحدثت بجدية ‪:‬‬
‫‪-‬أنا مقدرة انك بتغير عليا و بتحبني‪ .‬بس الحق‬
‫مراد ماقالش حاجة‪ .‬بالعكس كان لطيف‪.‬‬
‫أدهم بنزق ‪ :‬لطيف !!؟ طيب اسكتي بقى و‬
‫قصري الحوار ده عشان مانامش متنكدين الليلة‬
‫دي يا سالف‪.‬‬
‫كان جسمه يتشنج و قد نجح في زعزعة‬
‫استقرارها العاطفي‪ ،‬فزفرت بضيق و هي تبتعد‬
‫عنه مغمغمة ‪:‬‬
‫‪-‬مافيش فايدة فيك‪ .‬غيرتك كل مادا ما بتزيد‪.‬‬
‫انت ماكنتش كده أول ما عرفتك و قربنا لبعض‬
‫‪...‬‬
‫و أضافت مذكرة إياه بامتعاض ‪:‬‬
‫‪-‬الحكاية دي بدأت معاك من ساعة المشكلة إللي‬
‫حصلت بيني و بين سيف هللا يرحمه !‬
‫انتفض "أدهم" صائحا و قد وصال أمام شقتهما‬
‫اآلن ‪:‬‬
‫‪-‬و كمان بتترحمي على الو××× ده !!؟؟؟‬
‫سالف بذهول ‪ :‬أدهم انت بتقول إيه ؟ سيف‬
‫مات‪ ..‬ماتجوزش عليه غير الرحمة مش أنا‬
‫إللي هاقولك كده !!‬
‫تجاهل حقيقة ما تقول و قبض على ذراعها‬
‫غارزا أصابعه في لحمها بقسوة ‪:‬‬
‫‪-‬انتي ناسية كان عايز يعمل فيكي إيه ؟ أنا كنت‬
‫هموته !‬
‫تأوهت "سالف" بألم شديد ‪:‬‬
‫‪-‬آه آه‪ .‬أدهـم انت اتجننت‪ ..‬سيب دراعي يا أدهم‬
‫بتوجعني !!!!‬
‫لم تخمد النيران في عينيه‪ ،‬لكنه تركها مذعنا‬
‫ًلرادتها‪ ،‬فابتعدت عنه فورا و سددت له نظرة‬
‫متخاذلة من أسفل النقاب و هي تدلك موضع‬
‫قبضته‪ ،‬و بدون أن تنطق سحبت سلسلة‬
‫المفاتيح من جيبه و توجهت نحو الباب‬
‫فتحته بعصبية و ولجت غير عابئة له ‪...‬‬

‫*****‬

‫جافاها النوم و خاصم جفونها الليلة‪ ،‬كانت‬


‫تتقلب فوق فراشها كالمحمومة‪ً ،‬ل تهدأ‪ ،‬الحرب‬
‫اندلعت بداخلها و ما من نهاية لها‪ ...‬لن تنهتي‬
‫قبل أن تراه‬
‫قبل أن تواجهه‬
‫فقد ساقه القدر إليها أخيرا‪ ،‬ما الذي تنتظره‬
‫اآلن‪ ،‬مم تخاف ؟‬
‫ماذا سيحدث أكثر من الذي حدث لها منذ تركها‬
‫و أدار لها ظهره !؟؟؟‬
‫هبت "إيمان" من فراشها فجأة‪ ،‬تلهث و تنهج‬
‫و هي تتحسس جبينها و عنقها الملتهب‪،‬‬
‫هرعت إلى النافذة و فتحتها على مصراعيه‬
‫تشهق الهواء ملء رئتيها‪ ،‬غمرها ضوء الليل‬
‫ببدره المنير‪ ،‬و كان الصمت يخيم على‬
‫األجواء‪،‬صمت يدعم الوحش الذي أخذ ينهشها‬
‫من الداخل و إلى الخارج ؛‬
‫ًل يمكن أن تدعه يقهرها هذه المرة‪ ،‬ستكون‬
‫بموتها إن تركته يفعل‪ ...‬حسمت أمرها‬
‫و ليكن ما يكون‬
‫خرجت من غرفتها في هدوء الليل‪ ،‬اجتازت‬
‫أروقة شقة أمها و استلت المفتاح في يدها‪،‬‬
‫خرجت إلى الدرج و صعدته بخطى صامتة‪،‬‬
‫حتى وصلت إلى الطابق المنشود‪ ،‬وقفت أمام‬
‫الشقة تتهيأ للحدث الجلل‬
‫أخذت نفسا عميقا مغمضة عينيها‪ ..‬ثم طرقت‬
‫الجرس مرة واحدة و بقيت في اًلنتظار ‪...‬‬
‫لحظات و إنفتح الباب و رأته كما توقعت‪ ،‬جمدا‬
‫اًلثنان مقابل بعضهما‪ ،‬كتمثالين‪ ..‬لم ينبسا ببنت‬
‫شفة لمدة دقيقة كاملة ؛‬
‫ليخرج صوت "إيمان" فجأة مشحونا بكل اآلًلم‬
‫و معاناة السنوات الماضية كلها‪ ..‬كانت الدموع‬
‫في عينيها و نظرات اًلتهام تتحدث أيضا ‪:‬‬
‫‪-‬إيه إللي جابك‪ ..‬رجعت تاني ليه يا مراد !؟‬

‫يتبع ‪...‬‬

‫انتهى الفصل الخامس‪..‬‬

‫‪6‬‬
‫"هنا يمكنك أن ترى أن إيمان كانت تحب مراد‬
‫دائما !"‬

‫ماذا توقع بعد الذي فعله معها على الدرج !؟‬


‫لقد كان غليظا معها و ألول مرة يقسو عليها‬
‫هكذا بيده‪ ،‬يعترف بأنه قد آذاها عندما أمسكها‬
‫بقوة قاصدا إيالمها‪ ،‬إنه نادم أشد الندم‪ ،‬و يجب‬
‫أن يعوض عليها هذا و يعتذر منها‬
‫إنها حبيبته‬
‫زوجته‬
‫أم أوًلده‬
‫إنها "سالف" ‪...‬‬
‫‪-‬مش هاتتعشي معايا ؟ ‪ ..‬قالها "أدهم" متسائال‬
‫حين شاهد زوجته تضع صحن واحد أمامه على‬
‫مائدة العشاء‬
‫بدون أن تنظر إليه‪ ،‬جاوبته بجفاء ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل‪ .‬مش جعانة‪ ..‬لما تخلص نادي عليا عشان‬
‫أشيل األطباق‬
‫و جاءت لتمضي متجهة إلى غرفة النوم‪ ،‬فقام‬
‫عن مقعده معترضا طريقها‪ ،‬فتوقفت مجبرة‪،‬‬
‫بينما يقول بصوته الهادئ ملطفا األجواء بينهما‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬أنا مابعرفش أحط لقمة في بؤي من غيرك و‬
‫انتي عارفة‪ .‬حتى الغدا تحت معاهم اتظاهرت‬
‫إني باكل‪ .‬أقعدي يا سالف و كلي معايا‪ .‬من‬
‫فضلك !‬
‫سالف بنفس الجفاء ‪:‬‬
‫‪-‬لو قعدت مش هاكل‪ .‬هاقعد عشان انت عايزني‬
‫أقعد بس‬
‫أجفل متنهدا بثقل و قال ‪:‬‬
‫‪-‬يعني بجد مش جعانة ؟‬
‫هزت رأسها نفيا‪ ،‬فهز كتفيه مدمدما ‪:‬‬
‫‪-‬طيب‪ .‬خالص شيلي بقى العشا‪ .‬أنا كمان مش‬
‫جعان‪ .‬بس ممكن تحضري حاجة خفيفة أبقى‬
‫أنزلها لمراد يتعشى بيها !‬
‫توقع أن تتراجع عن موقفها لتجعله يجلس و‬
‫ينهي عشاؤه كما اعتادت أن تفعل دوما‪ ،‬و هذا‬
‫ما كانت تقف لبرهة مترددة بشأنه‪ ،‬لكنها على‬
‫عكس توقعاته أخذت تجمع الصحون و تتجه‬
‫بهم إلى المطبخ ثانية ‪...‬‬
‫توتر "أدهم" اآلن و قد شعر بفداحة ما فعله‬
‫لها‪ ،‬أراد أن يصلح ما بينهما‪ ،‬بل أن عليه أن‬
‫يصلحه الليلة و قبل أن يبزغ نهار جديد‪ ،‬و إًل‬
‫سيصعب نسيانه‬
‫ذهب "أدهم" إلى غرفة نومهما و انتظرها‬
‫هناك‪ ،‬لكنها تأخرت و خيل إليه بأنها لن تأتي‪،‬‬
‫فقام و بحث عنها في الشقة‪ ،‬حتى وجدها في‬
‫غرفة األطفال‪ ،‬تهم باألستلقاء إلى جوار ابنها‬
‫األوسط في سريره المتسع لفرد آخر‪ ،‬إذ أن‬
‫الصغير ًل يحبذ النوم بجوار أحد و ًل حتى‬
‫إخوته‪ ،‬فقط أمه التي يعطيها هذا اًلمتياز ‪...‬‬
‫‪-‬سالف ! ‪..‬هتف "أدهم" مدهوشا‬
‫إلتفتت نحوه في لحظة ‪ ،‬رشقته بنظرة زاجرة و‬
‫مشت ناحيته قائلة بصوت مائل للهمس ‪:‬‬
‫‪-‬وطي صوتك‪ .‬الوًلد يصحوا !!‬
‫تجاهل ما قالته و أمسك بيدها‪ ،‬شدها إلى‬
‫الخارج و أغلق الباب على الصغار‪ ،‬أسندها إلى‬
‫الجدار و استجوبها بجدية ‪:‬‬
‫‪-‬لما خايفة الوًلد يصحوا‪ .‬إيه دخلك عليهم‪..‬‬
‫ماحصلتنيش على أوضتنا ليه ؟‬
‫ًل تزال متحاشية النظر إليه و قالت ‪:‬‬
‫‪-‬أنا هنام الليلة دي جنب نور‬
‫أدهم باستنكار ‪ :‬تنامي جنب نور ؟ و بالنسبة‬
‫لي أنا‪ .‬شفاف قصادك !!‬
‫‪-‬نور محتاج لي أكتر‪ ,‬انت عارف إنه اليومين‬
‫دول حساسية جسمه مضايقاه‬
‫‪-‬ياسالم طيب ما أنا كمان محتاج لك بردو‪.‬‬
‫ماينفعش تقسمي وقتك بيني و بين الوًلد‪.‬‬
‫الوًلد إللي سايبك ليهم طول النهار !!!‬
‫سالف بعناد ‪ :‬انت عارف الوًلد دايما في‬
‫أولوياتي‬
‫تضرج وجهه بحمرة الغيظ في هذه اللحظة و‬
‫أمسك غضبه بجهد‪ ،‬ثم قال بحدة ‪:‬‬
‫‪-‬طيب أنا عايزك في الفراش يا سالف‪ .‬و حاًل !‬
‫بدون أن تنبس بكلمة أطرقت برأسها و مشت‬
‫أمامه وصوًل إلى غرفة النوم‪،‬‬
‫رفع "أدهم" حاجبه معقبا على أفعالها ‪:‬‬
‫‪-‬إيه ده !؟‬
‫ردت ببديهية ‪ :‬قلت عاوزني في الفراش‪ .‬أهو‪..‬‬
‫أنا قدامك‬
‫‪-‬ببساطة كده !‬
‫‪-‬أمال فاكرني هاتمنع عليك و أبقى ناشز ؟‬
‫يرضيك أبقى ناشز !؟‬
‫عض "أدهم" على شفته و كظم غيظه‬
‫بصعوبة‪ ،‬فهو يعلم تلك اللعبة التي تلعبها معه‪،‬‬
‫و كم يكره و بشدة ما تنوي أن تمليه عليه‬
‫كعقوبة‪ ،‬فليس هناك ما هو اسوأ أن تمسح له‬
‫بالتقرب إليها دون أن تبادله شيئا‪ ،‬هي التي‬
‫دائما ما تذوب بين ذراعيه‪ ،‬و لكنها قادرة على‬
‫أن تتحول إلى البرود التام إن أرادت أن تعاقبه‬
‫و لطالما كان هذا أقسى و أصعب عقاب يتلقاه‬
‫منها ‪...‬‬
‫‪-‬سالف بالش الطريقة دي قلت لك ‪ 100‬مرة‪..‬‬
‫مش واخدة بالك إني بحاول أصالحك ؟‬
‫تقلدت البرودة نهجا في كالمها و هي ترد عليها‬
‫بينما تلف خصلة شعرها الشقراء على سبابتها‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬أنا ماطلبتش مصالحة منك يا أدهم‪ ..‬عمري ما‬
‫طلبت !‬
‫شد على قبضتيه مواصال طمر الغضب بدواخله‪،‬‬
‫و ارتأى أن يبتعد عنها قليال حتى يتمكن من‬
‫تهدئة أعصابه و التفكير في سبيل أكثر لطفا‬
‫إليها‪ ..‬أخذ نفسا عميقا و قال ‪:‬‬
‫‪-‬استغفر هللا العظيم‪ ..‬بصي‪ .‬أنا هانزل أودي‬
‫العشا لمراد‪ .‬راجع لك بسرعة ان شاء هللا‪ ..‬و‬
‫هانشوف ماشي‪ .‬ماشي يا سالف‪ .‬ماشي !‬
‫و ظل يردد آخر كلمة و هو يمضي إلى الخارج‪،‬‬
‫بينما بقيت مكانها تضحك في صمت‪ ،‬و تقسم‬
‫بينها و بين نفسها بأن تضاعف العقاب له هذه‬
‫المرة‪ ،‬كما ضاعف هو قسوته عليها ‪...‬‬
‫*****‬

‫مضى وقت ليس بقليل و هما يقفان قبالة‬


‫بعضهما بال حراك هكذا‪ ،‬كصنمين خاليان من‬
‫الحياة‪ ،‬بعد أن طرحت عليه سؤالها‪ ،‬ران‬
‫الصمت تماما بينهما‪ ،‬حتى شاهد "مراد"‬
‫وجهها يعتصر ألما‪ ...‬لطالما كانت نقطة ضعفه‬
‫أن يرى الوهن يتلبسها هي بالذات‬
‫لم يتحمل أكثر من ذلك و أفسح لها لتدخل‬
‫مغمغما باسراع ‪:‬‬
‫‪-‬ادخلي يا إيمان‪ .‬ادخلي بسرعة !‬
‫كان يخشى أن يقبض عليهما بأي لحظة‪ ،‬لذلك‬
‫سمح لها بالدخول فقد بدا أنها بصدد إحداث‬
‫فضيحة لو لم يحتوي الموقف بسرعة‪ ،‬ولجت‬
‫"إيمان" بخطى وئيدة و هي تضم شالها األسود‬
‫إلى صدرها‪ ،‬بينما يغلق "مراد" الباب بعدها‬
‫مباشرة ؛‬
‫في منتصف الشقة الخاوية‪ ،‬وقفا اآلن وجها‬
‫لوجه يحدق كل منهما في عيني اآلخر محاوًل‬
‫قراءة أفكاره‪ ..‬إلى أن تشجع هو و كسر الصمت‬
‫أوًل ‪:‬‬
‫‪-‬أنا جيت و أنا فاكر إني مش هاًلقيكي هنا‪.‬‬
‫ماسمعتش بخبر موت جوزك غير من خالتي‪ .‬و‬
‫عرفت إنك رجعتي تعيشي هنا تاني‪ ..‬و هللا لو‬
‫كنت أعرف ماكنتـ آ ‪...‬‬
‫‪-‬ماكنتش ورتني وشك صح !؟ ‪ ..‬قاطعته‬
‫بعدائية سافرة‬
‫عدائية ورات خلفها كم حبها و سهدها و‬
‫عذابها‪ ،‬كانت قشرة تهدد في أي لحظة‬
‫باًلنكسار‪ ...‬تابعت "إيمان" باسلوب هجومي ‪:‬‬
‫‪-‬كويس إنك لسا فاكر عملتك‪ .‬أنا كنت بدأت أشك‬
‫إن إللي حصل بينا ده كان في خيالي أنا و بس‪..‬‬
‫لما مشيت و سبتني بمنتهى البساطة بعد ما ‪...‬‬
‫‪-‬إيمان أرجوكي ! ‪ ..‬هو الذي قاطعها هذه المرة‬
‫بإشارة من يده‬
‫لكنها لم تأبه و واصلت بشراسة و قد إتقدت‬
‫عيناها ‪:‬‬
‫‪-‬إيه مش طايق تسمع ؟ عندك ضمير لسا ؟ يا‬
‫راجل‪ ..‬ده انت حتى ماطلعتش ندل و بس‪ً .‬ل‬
‫طلعت كداب كمان‪ .‬مش كانت حجتك لما سبنا‬
‫بعض إنك مسافر تكمل تعليمك برا ؟ إللي عرفته‬
‫أنا بعدها إنك ماسفرتش و ًل حاجة و كملت‬
‫الجامعة هنا عادي ‪..‬‬
‫و أضافت كأنما حلت عليها الصدمة ألول مرة ‪:‬‬
‫‪-‬كدبت عليا‪ ..‬خدعتني !‬
‫رغم حقيقة ما تقول إًل أنه إنبرى للدفاع عن‬
‫نفسه بغلظة ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل يا إيمان أنا ماكدبتش عليكي و ًل خدعتك‪ .‬أنا‬
‫فعال كملت الجامعة هنا‪ .‬لكن بعدها علطول‬
‫سافرت و درست برا فوق إللي درسته هنا‪.‬‬
‫إنتي عارفة إن شهادات العالم التالت مش‬
‫معترف بيها في أوروبا‪ .‬و أنا كنت ببني‬
‫مستقبلي‪ .‬ماكنتش سامح ألي حاجة تعطلني و‬
‫ماكنتش شايف غير كاريري و كياني‪ .‬انتي أكتر‬
‫واحدة كنتي عارفة أحالمي‬
‫‪-‬و انت قضيت على أحالمي أنا ! ‪ ..‬تمتمت‬
‫بصوت متهدج أثقلته دموعها الحبيسة‬
‫‪-‬عماني حبي ليك‪ .‬نساني نفسي و ربي‪ .‬سلمت‬
‫لك نفسي بارادتي و وقعت في الزنا عشان‬
‫بحبك‪ ..‬تعرف‪ .‬ساعتها و آلخر لحظة كنت‬
‫مديالك األمان‪ .‬كنت متخيلة إني حتى لو رميت‬
‫نفسي تحت رجليك انت ًل يمكن تخون ثقتي‬
‫فيك‪ .‬كنت مطمنة جدا و مستنية تفوق و تعتذر‬
‫لي و تقول لي إنك مش هاتسبني و ًل تتخلى‬
‫عن حبنا‪ ..‬لكن أنا إللي فقت من أوهامي على‬
‫غدرك بيا‪ .‬و بعدين ندالتك لما مشيت و ًل‬
‫بصيت وراك حتى‪ ..‬انت دمرتني يا مراد !‬
‫انسحق فؤاده‪ ،‬بتواطؤ دموعها مع كلماتها‬
‫عليه‪ ،‬كان هذا موطن ضعفه بالتحديد‪ ،‬لهذا‬
‫السبب و قبل إثنى عشر سنة هو لم يستطع‬
‫السيطرة على مشاعره عندما غدر بها كما قالت‬
‫و وقعا في الزنا‪ ،‬لم يستطع أن يغفر لنفسه‬
‫جرها معه إليه‬
‫تزوج و عشق على أمل أن ينساها و ينسى ما‬
‫فعله بها في لحظة طيش‪ ،‬لكن ها هي تذكره‪ ،‬و‬
‫ها هو يكتشف بأنه لم يزل أسير جريرته في‬
‫حقها ‪...‬‬
‫‪-‬إيمان ! ‪ ..‬تحدث مجددا بلهجة خاضعة كأنما‬
‫يرجو لو يركع أمامها و يطلب العفو‬
‫‪-‬مافيش كالم ممكن يوصف مشاعري ناحيتك‬
‫سواء زمان أو دلوقتي‪ .‬انتي غالية أوي عندي‪.‬‬
‫و الحقيقة إنك مش لوحدك إللي اتعذبتي‪ ..‬أنا‬
‫مقدرتش أسيطر على نفسي ليلتها‪ .‬كنت صغير‬
‫و مش دارك‪ .‬إيمان انتي عارفة ان اتربيت في‬
‫مجتمع متحرر‪ .‬أنا من يوم ما اتولدت و أنا‬
‫عايش برا مع أبويا وأمي‪ .‬أصلي عربي و مسلم‬
‫و عارف تعاليم ديني‪ .‬بس غصب عني اتطبعت‬
‫بطباع ناس تانية‪ ..‬ماكنش في حدود طول ما‬
‫كنت عايش برا‪ .‬كان شيء عادي جدا و اتعلمت‬
‫إنه سهل و مسموح بيه طالما في قبول بين‬
‫الطرفين‪ ..‬و لما رجعت و شوفتك و قربنا من‬
‫بعض و حبيتك‪ .‬كنت عاوزك أقرب ليا من مجرد‬
‫عالقة حب سطحية‪ .‬كنت عاوز أحبك بالطريقة‬
‫إللي اتعلمتها ألنها الطريقة الوحيدة إللي بقدر‬
‫أعبر بيها عن حبي‪ .‬ماكنتش قابل إنك دايما‬
‫تبعديني عنك و مش موافقة حتى إني ألمسك‬
‫بأي شكل‪ ..‬وهمت نفسي إني ممكن أستغنى‬
‫عنك و أسيبك عادي‪ .‬بس أنا كنت خالص‬
‫غرزت فيكي يا إيمان‪ .‬كنت وقعت في حبك و‬
‫ماتأكدتش من ده مية في المية غير لما بعدت‬
‫عنك بجد‪ ..‬سامحيني يا إيمي !‬
‫كانت مستغرقة في تفاصيل ما يروي عليها‪،‬‬
‫تائهة بين كلماته و معانيها‪ ،‬حتى فرغ‪ ..‬ردد‬
‫لسانها باستنكار بينما دموعها تسيل ‪:‬‬
‫‪-‬انت لسا هاتكدب ؟ ما اتخليت عني و عرضتني‬
‫للفضيحة أنا و أهلي إللي هما أهلك‪ ..‬لسا بتقول‬
‫بتحبني !!؟‬
‫عال صوتها المكتوم في صدرها بقدر من‬
‫اًلنفعال‪ ،‬ما جعله يتمرد لوهلة على تعاطفه‬
‫نحوها خاصة و هي تبدي كل هذا القدر من‬
‫البغض و الحقد عليه ‪...‬‬
‫‪-‬إنتي ليه محمالني الغلط كله لوحدي ؟‬
‫‪-‬أمال أحمله لمين ؟ انت استغليت ضعفي و حبي‬
‫ليك !!‬
‫زفر بقوة و بدا كأنه مضطر أن يواجهها‬
‫بالحقيقة ‪...‬‬
‫‪-‬أنا ماعملتش حاجة غصب عنك ! ‪ ..‬قالها‬
‫"مراد" دون أي أثر للندم‬
‫‪-‬لو كنتي بينتي ذرة رفض واحدة عمري ما‬
‫كنت غصبتك يا إيمان‪.‬‬
‫انفعلت و تسارعت أنفاسها و هي تحملق فيه‬
‫بشراسة‪ ،‬إذ ذكرها بالنصف اآلخر من قصتها‬
‫األليمة‪ ،‬و الذي لم تطلع أحد عليه أبدا غير‬
‫زوجها الراحل‪ ،‬حتى كانت تخشى التفكير فيه‬
‫بينها و بين نفسها ‪...‬‬
‫نكأ الجرح الغائر مرة أخرى و احتقن وجهها‬
‫بشدة أخافته‪ ،‬أطلت دموع الغضب و الخزي من‬
‫عينيها و هي تثور وجعا من أعماقها ‪:‬‬
‫‪-‬آلخر لحظة كنت فاكرة إني حبيتك بجد‪ ..‬بس‬
‫تعرف‪ .‬كنت غلطانة‪ ..‬أنا ماحبتش غير سيف‪.‬‬
‫سيف إللي رغم إني اعترفت له بالحقيقة قبل‬
‫الجواز من يأسي و كرهي لنفسي‪ .‬و كنت‬
‫مستعدة ألي عقاب‪ ..‬ماعملش معايا أي حاجة‪.‬‬
‫قبلني زي ما أنا‪ ..‬مش زيك انت‪ .‬ماكنش زيك‪.‬‬
‫انت اصال مافيش حد زيك‪ ...‬انت أكتر ندل و‬
‫جبان عرفته في حياتي‪ ..‬انت خطيتي و غلطة‬
‫عمري كله يا مراد !!!‬
‫حملق فيها مصدوما و هو يعلق ‪:‬‬
‫‪-‬إنتي بتهرجي صح ؟ قولي إن ده مش بجد‪..‬‬
‫إنتي اعترفتي لجوزك بإللي حصل بينا يا إيمان‬
‫!؟‬
‫لم يكن يصدق الحماقة التي اقترفتها‪ ،‬لكن أكدت‬
‫له ثانية و الدموع ملء عينيها ‪:‬‬
‫‪-‬أيوة اعترفت له‪ .‬أمال كنت عاوزني أخدعه و‬
‫أخليه يتحمل غلطة غيره ؟ انت فاكرني زيك !؟؟‬
‫هز رأسه مشدوها و ردد ‪:‬‬
‫‪-‬إنتي مجنونة‪ .‬ليه عملتي كده ؟ ليه حولتي‬
‫حياتك و بإيدك لجحيم‪ ..‬كان ممكن تبدأي من‬
‫جديد !!‬
‫‪-‬ابدأ من جديد ؟؟ ‪ ..‬عقبت بشبه صراخ و قد‬
‫أغضبتها كلماته بشدة‬
‫‪-‬انت صاحي لكالمك ؟ هو انت واحد كنت اعرفه‬
‫فترة و سيبنا بعض‪ .‬انت من دمي و دبحتني‪.‬‬
‫نهشتني و إدتني ظهرك و مشيت‪ ..‬انت خايـــن‬
‫!!!‬
‫لم تعطه فرصة ليستوعب فداحة فعلته على‬
‫ضوء اتهاماتها‪ ،‬و إذ تناهى لسمعه صوت‬
‫جرس المصعد بالخارج‪ ،‬تحرك بسرعة البرق و‬
‫شد ذراعها بقوة و دار حول نفسه‪ ،‬إلتصق‬
‫ظهرها بصدره و حبسها بين ذراعيه‪ ،‬و كمم‬
‫فمها الباكي بكفه اآلخر ؛‬
‫سكن كليا و بقى ينصت فقط ‪...‬‬
‫لحظات و سمع جرس الباب يدق مرتين‪..‬‬
‫صمت‪ ..‬ثم دق مرتين ؛‬
‫تسارعت نبضات قلبها‪ ،‬بينما تصبب جبينه‬
‫عرقا و هو يستمع إلى الصوت المنبعث من‬
‫الخارج‪ ،‬و الذي لم يكن سوى صوت "أدهم"‬
‫محدثا نفسه ‪:‬‬
‫‪-‬شكله نام و اًل إيه‪ ..‬هللا يكون في عونه أكيد‬
‫ماحطش منطق بعد السفر ده كله في يوم واحد‬
‫!‬
‫و أرهف "مراد" السمع أكثر ليتبين بأن‬
‫خطوات "أدهم" قد ابتعد‪ ،‬بل أنه استقل المصعد‬
‫و اختفى من الطابق نهائيا‪ ،‬اآلن فقط أفلت‬
‫"مراد" أسيرته من بين ذراعيه و غمغم‬
‫معتذرا بارتباك ‪:‬‬
‫‪-‬أنا آسف‪ ..‬بس انتي ًلزم تنزلي حاًل‪ .‬احنا‬
‫ماينفعش نشوف بعض اصال يا إيمان‪ .‬كل حاجة‬
‫بينا انتهت‬
‫لم تتحرك قيد أنملة‪ ،‬فارتاب و استدار ليقف في‬
‫مواجهتها‪ ،‬دنى برأسه لينظر في وجهها جيدا‬
‫‪...‬‬
‫‪-‬إيمان‪ ..‬انتي كويسة‪ .‬إيمـان مالك ؟‬
‫ارتفع رأسها رويدا رويدا‪ ،‬حتى تشابكت‬
‫نظراتيهما‪ ،‬و رمقته بنظرة أفزعته من داخله‪،‬‬
‫ثم قالت و هي تمسح دموعها بظاهر كفها دون‬
‫أن يرف لها جفن ‪:‬‬
‫‪-‬أنا بكرهك‪ ..‬وعد مني يا مراد‪ .‬أنا هاحفرك من‬
‫جوايا‪ ..‬شكرا ليك‪ .‬عشان انت إنهاردة و أخيرا‬
‫ادتني أهم سبب عشان أمحيك من حياتي‪...‬‬
‫شكرا !‬
‫لم يكاد يأتي بأي فعل حتى رآها و قد إلتفتت و‬
‫انطلقت كالرياح العاصفة مغادرة إياه هذه‬
‫المرة‪ ،‬و دون أن تنظر وراءها‪ ،‬تماما كما فعل‬
‫هو بها من قبل !‬

‫يتبع ‪...‬‬
‫انتهى الفصل السادس ‪..‬‬

‫‪7‬‬

‫"قلت لي ذات مرة ؛ ماذا علي أن أفعل لتكوني‬


‫لي؟‪ ..‬دعني أخبرك بهذا إذن‪ ،‬لقد كنت دائما لك‪،‬‬
‫و لكن معك‪ ...‬لن أكون أبدا!"‬

‫_ إيمان‬
‫حل الصباح و ألول مرة يبيت كالهما‬
‫متخاصمان‪ ،‬فقد نفذت "سالف" ما برأسها و‬
‫عاقبته‪ ،‬لكنه هذه المرة لم يقع في شراكها كليا‪،‬‬
‫لم يشأ أن يتقرب إليها ليلة أمس حتى ًل تقابله‬
‫بالجفاء و البرودة‪ ،‬تحمل أن يطبق جفونه و‬
‫يغفو دون أن تكون بين ذراعيه مثل كل ليلة‪ ،‬و‬
‫قرر أن يحل ما بينهما حين يستقيظا ؛‬
‫و لكنها لم تكن بجواره اآلن‪ ،‬و قد فتح عيناه و‬
‫لم يجدها في فراشه‪ ،‬خمن فورا بأنها ذهبت إلى‬
‫الصغار‪ ،‬تثاءب "أدهم" و هو ينفض عنه‬
‫الكسل في الحال‪ ،‬أطفأ المنبه و قام مرتديا‬
‫خفيه‪ ،‬مضى رأسا إلى الحمام أوًل‪ ،‬أدى روتينه‬
‫الصباحي و توضأ‪ ،‬ثم خرج و عاد إلى غرفته‬
‫أثناء مروره بالرواق سمع قهقهات صغاره و‬
‫أمهم فابتسم‬
‫و بعد فرغ من صالته خرج و عرج عليهم‬
‫بغرفة األطفال‪ ،‬ليجد "سالف" قد أطعمتهم و‬
‫ألبستهم مالبس غير التي ناموا فيها _ كعادة كل‬
‫يوم _ و ها هي تنهي تمشيط شعر طفلها‬
‫األوسط‪ ،‬كانوا جميعهم آية في الجمال و بهجة‬
‫لنظره‪ ،‬فمكث مكانه دون أن يصدر صوت‬
‫يراقبهم و هو يبتسم بحب و مودة‬
‫حتى صرخ طفله األصغر بسعادة عندما ًلحظ‬
‫وجوده‪ ،‬قام عن قوائمه و مشى كما يسير طائر‬
‫"البطريق" وصوًل إليه ‪...‬‬
‫‪-‬بـ بـ بااااااااا !‬
‫انحنى "أدهم" بلحظة و حمله بين ذراعيه‬
‫هاتفا ‪:‬‬
‫‪-‬حبيب بابا‪ .‬روحي‪ .‬صباح الفل يا نور عيني !‬
‫كانت قافيته الشهيرة دائما في محلها‪ ،‬متناغمة‬
‫مع اسم طفله "نور"‪ ..‬احتضنه و قبله دون أن‬
‫يحيد بعينيه عن زوجته التي ما زالت تعامله‬
‫بجفاف و بل أزادت عليه التجاهل‪ ،‬فلم يجد بدا‬
‫من إتخاذ الخطوة األولى كعهده‪ ،‬سار ناحيتها‬
‫حيث كانت تجلس فوق كرسي صغير و تضع‬
‫في حجرها الصغير "آدم" تضع له المرطبات‬
‫العطرية الخاصة ببشرة األطفال ‪...‬‬
‫‪-‬نور عامل إيه إنهاردة‪ .‬حساسيته هديت ؟ ‪..‬‬
‫تساءل "أدهم" بصوته الهادئ الرزين‬
‫جاوبته "سالف" دون أن تنظر إليه ‪:‬‬
‫‪-‬كويس على دراعك أهو‪ .‬العالج إللي مشي‬
‫عليه كان سريع الحمدهلل‬
‫تمتم إثرها ‪ :‬الحمدهلل‪ .‬هللا يعافيه و يحفظه هو‬
‫اخواته‬
‫و قبل الصغير مرة أخرى‪ ،‬ثم أنزله على قدميه‪،‬‬
‫و إلتفت ألمه ‪:‬‬
‫‪-‬عايزك يا سالف من فضلك !‬
‫ردت بصوتها الناعم الطبيعي و لكن باللهجة الال‬
‫مبالية نفسها ‪:‬‬
‫‪-‬حاضر‪ .‬هاخلص مع الوًلد بسرعة و هاروح‬
‫أحضر لك الفطار‪ .‬مسافة ما تغير هدومك‬
‫هايكون جاهز‬
‫أدهم بصرامة ‪ :‬أنا مش عايز فطار‪ .‬أنا عايزك‪..‬‬
‫حاًل !!‬
‫و أدار لها ظهره فورا‪ ،‬عاد أدراجه إلى غرفة‬
‫النوم و انتظرها هناك و هو يقف مستعرضا‬
‫محتويات خزانته‪ ،‬لم تمر دقائق إًل و أتت إليه‬
‫في الحال كما أمرها ‪...‬‬
‫‪-‬نعم !‬
‫انبعث صوتها ناعما من خلفه‪ ،‬فالمسه بنفس‬
‫ذات النعومة و جعله تواقا أكثر إليها‪ ،‬تنهد‬
‫"أدهم" و إلتفت نحوها‪ ..‬كانت تقف أمامه‬
‫بمنتهى األريحية‪ ،‬كما لو أنها لم تضايقه أبدا مم‬
‫استفزه‬
‫لكنه كظم غيظه من جديد و تحدث برفق ‪:‬‬
‫‪-‬تعالي يا سالف‪ ..‬قربي عندي‬
‫أطاعته و مشيت إليه وئيدا‪ ،‬حتى وقفت قبالته‪،‬‬
‫تطلعت إليه بشجاعة‪ ،‬فظل فقط ينظر إليها‬
‫لبضع لحظات دون كالم‪ ،‬تنهد من أعماقه و هو‬
‫يرفع كفه ليحط به جانب وجهها قائال بلطف ‪:‬‬
‫‪-‬هانوصل لفين يا سالف ؟ في كل مرة نختلف‬
‫فيها‪ .‬ليه الخالفات بتاخد أكتر من قيمتها‪ .‬بدل‬
‫حبنا‪ ..‬ليه مش هو اللي يتغلب على عنادك‪ .‬ليه‬
‫بتتعمدي تقسي كده و أنا عمري ما قسيت‬
‫عليكي !‬
‫رفعت حاجبيها و رددت بذهول ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل بجد‪ .‬و هللا‪ ..‬انت عمرك ما قسيت عليا يا‬
‫أدهم ؟ انت بتكدب يا دكتور ؟ أمال إللي عملته‬
‫فيا إمبارح على السلم ده كان إيه ؟‬
‫عبس بتأثر متمتما ‪:‬‬
‫‪-‬ماكنش قصدي‪ .‬إنتي عارفة‪ ..‬أنا في األساس‬
‫مابستحملش أشوف فيكي أي سوء‪ .‬إزاي ممكن‬
‫تفكري إني آذيكي يا سالف !؟‬
‫بالفعل أقرت بصدق قوله‪ ،‬فهو الوحيد من بعد‬
‫والديها و جدتها المرحومة الذي حملها حرفيا‬
‫في قلبه و عاملها بأبوة في المقام األول قبل أن‬
‫يكون زوجها‪ ،‬و لكن ًل يمكنها أن تتغافل أيضا‬
‫عن عما فعله ليلة أمس‪ ،‬كان جديدا و ًل تريده‬
‫أن يتكرر حتى و لو كان بدون قصد ‪...‬‬
‫كانت ستقول له ذلك‪ ،‬لكنه استبقها بالقول ‪:‬‬
‫‪-‬و بعدين اسلوبك كله غلط‪ .‬يعني إيه تفرضي‬
‫عليا عقوبة كل ما تحصل بينا مشكلة ؟ أنا دايما‬
‫بحاول أحل معاكي أي حاجة و إنتي كالعادة‬
‫بتعندي‪ .‬ليه بتعملي معايا كده‪ .‬بتبقي مبسوطة‬
‫لما كل واحد فينا يكون في طرف‪ .‬ده بيعجبك‪..‬‬
‫ردي من فضلك يا سالف !!‬
‫كان السأم المرير يجلل قسماته الوسيمة بشكل‬
‫أنساها غضبها منه‪ ،‬محيى كل شيء و لم يبقى‬
‫أمامها سواه‪ ،‬أثار حقيقته بداخلها و ماذا يعني‬
‫لها‪ ،‬زوجها "أدهم" يمثل لها الهواء الذي‬
‫تتنفسه‪ ،‬قلبها ينبض ألجله و ًل تتخيل حياتها‬
‫باله ؛‬
‫جاءت ردة فعلها مندفعة‪ ..‬حيث شبت على‬
‫أطراف أصابعها و تعلقت بعنقه و مقبلة إياه بكل‬
‫حبها و شوقها الدائم إليه ‪...‬‬
‫طفا تجاوبه معها في اللحظة نفسها‪ ،‬أخيرا ذاب‬
‫الجليد و ألقت أسلحتها أسرع مم توقع هذه‬
‫المرة‪ ،‬كان بينهما تلهف‪ ،‬وصب‪ ،‬رغبة‬
‫سافرة‪ ...‬و لكن !‬
‫‪-‬الوًلد !!! ‪ ..‬غمغمت "سالف" بين‬
‫همس لها "أدهم" ‪:‬‬
‫‪-‬أنا مش نازل طول النهار‪ .‬و ماما مش هاتقول‬
‫حاجة‪ .‬دلوقتي أكلمها تاخدهم عندها و نقضي‬
‫الوقت ده كله لوحدنا‪ ..‬إيه رأيك ؟‬
‫توردت خجال و هي تبتسم‪ ،‬ثم قالت على‬
‫استحياء ‪:‬‬
‫‪-‬أوكي‪ .‬حطهم في العربية بتاعتهم و نزلهم في‬
‫األسانسير‪ ..‬و أنا‪ .‬أنا هاخد شاور بسرعة و‬
‫أرجع لك‬
‫ابتسم بدوره و قال بحماسة و هو يستل هاتفه‬
‫ليحدث أمه ‪:‬‬
‫‪-‬تمام‪ .‬بس ماتتأخريش !‬
‫ضحكت بانطالق و شقاوة و ركضت بسرعة من‬
‫أمامه‪ ،‬أما هو و قد استعاد إشراقة وجهه و‬
‫نشاطه‪ ،‬زفر بارتياح شديد و مضى مسرعا‬
‫ليحضر صغاره للنزول إلى جدتهم ‪...‬‬

‫*****‬

‫كان عبء ثقيل عليه‪ ،‬أن يلتقي بها مجددا‪ ،‬و‬


‫خاصة بعد مواجهة البارحة‬
‫مرة أخرى مدى غبائه حين قرر العودة إلى هذا‬
‫البيت‪ ،‬كان قد قطع صلته به مثلما قطعها معها‬
‫منذ تلك الليلة‪ ،‬لكنه تحامق و عاد‪ ..‬ما الذي‬
‫توقعه ؟‬
‫ألن يأتي ذلك اليوم الذي يتواجها فيه ؟‬
‫يا له من أبله حقا‬
‫و ها هو يكرر نفس الخطأ و يذهب إلى حيث‬
‫هي بقدميه ‪...‬‬
‫‪-‬صباخ الخير يا خالتو !‬
‫ارتاح كثيرا ألن التي قابلته عند باب الشقة هي‬
‫خالته و ليست هي ؛‬
‫استقبلته "أمينة" بابتسامة ملء وجهها و‬
‫دعته فورا للدخول ‪:‬‬
‫‪-‬صباح الفل يا حبيب خالتك‪ .‬خش يا حبيبي‪ .‬أنا‬
‫كنت لسا هاطلع أشوفك صحيت و اًل ًل‪ .‬الفطار‬
‫جهز خالص ‪..‬‬
‫لبى "مراد" دعوتها و دلف مطرقا رأسه‬
‫تحسبا و قلقا من لقاء "إيمان"‪ ..‬لكنه دحض‬
‫مخاوفه عندما عال صوت خالته متجهة إلى‬
‫رواق الغرف ‪:‬‬
‫‪-‬هللا يخليك يا مراد يا حبيبي تقف بس عند‬
‫األسانسير تقابل وًلد أدهم و تجيبهم على هنا‬
‫على ما أدخل أصحي إيمان !‬
‫و كأنه طوق اإلنقاذ‪ ،‬صاح من مكانه ‪:‬‬
‫‪-‬أكيد حاضر يا خالتو‪ .‬طالع أهو‬
‫و هرول إلى الخارج ثانية ليأتي لها بصغار‬
‫"أدهم" الثالثة‪ ،‬فتح باب المصعد حين وصل‬
‫إلى الطابق‪ ،‬فإذا بالصغار متراصين بجوار‬
‫بعضهم داخل عربتهم العريضة‪ ،‬استقبلهم‬
‫مبتسما و أسند الباب بقدمه ريثما يتمكن من‬
‫إدارة العربة ليخرجهم ؛‬
‫و قد نجح في وقت وجيز‪ ،‬دفع بهم على مهل‬
‫للداخل و هو يتأملهم ألول مرة مرددا بحبور و‬
‫حنين للشعور الذي يفتقده بشدة ‪:‬‬
‫‪-‬هللا أكبر‪ .‬ما شاء هللا‪ .‬ما شاء هللا !‬
‫و أجفل فجأة حين عادت خالته راكضة شاحبة‬
‫الوجه ‪...‬‬
‫‪-‬إلحقني يا مراد !!‬
‫فزع "مراد" من حالتها و سألها من فوره ‪:‬‬
‫‪-‬إيه حصل إيه !؟‬
‫أمينة بهلع كبير ‪:‬‬
‫‪-‬إيمان مش في أوضتها ًل هي و ًل لمى‪ .‬و‬
‫دوًلبها فاضي‪ ..‬إيمان سابت البيت !‬

‫يتبع ‪...‬‬

‫انتهى الفصل السابع‬

‫‪8‬‬

‫"هربت ألنك لو بقيت أمامي أكثر‪ ،‬فإني أخشى‬


‫أن يغويني شيطاني و أخطئ من جديد ؛ هربت‬
‫ألنني ما زلت أحبك !"‬

‫_ إيمان‬
‫طالع "مراد" خالته مشدوها للحظات‪ ،‬قبل أن‬
‫يدفعه عقله للحديث أخيرا ‪:‬‬
‫‪-‬يعني إيه سابت البيت ؟ هي متعودة تمشي‬
‫فجأة كده !؟؟‬
‫هزت "أمينة" رأسها نفيا ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل يابني طبعا‪ .‬إيمان عمرها ما عملتها !!‬
‫‪-‬طيب إيه العمل دلوقت‪ .‬أكلم أدهم ينزل يدور‬
‫عليها ! ‪ ..‬و هم بإخراج هاتفه ليجري اًلتصال‬
‫استوقفته "أمينة" فورا ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل ماتتصلش بأدهم‪ .‬سيبه ماتزعجهوش‪ ..‬أنا‬
‫هاكلمها األول‬
‫و استدارت باحثة عن هاتفها الخلوي‪ ،‬سرعان‬
‫ما وجدته فوق طاولة جانبية‪ ،‬أمسكت به و‬
‫عبثت فيه لحظات‪ ،‬ثم وضعته على أذنها و‬
‫انتظرت ؛‬
‫لم يطول إنتظارها‪ ،‬إًل و صاحت ملتاعة ‪:‬‬
‫‪-‬إيمـان‪ ...‬إنتي فين يابنتي ؟ روحتي فين يا‬
‫إيمـان ردي عليا‪ ....‬إيـه ؟ و إيه إللي وداكي‬
‫عند راجية‪ ..‬طيب إزاي تمشي كده من غير ما‬
‫تقولي لحد‪ً ...‬ل يا إيمان إللي عملتيه مايصحش‬
‫أبدا‪ .‬أقول إيه ألخوكي لما يسأل عنك‪ ...‬طيب‬
‫هاترجعي إمتى‪ ..‬ماشي يا إيمان‪ .‬ماشي !‬
‫و أقفلت الخط معها مطلقة تنهيدة عميقة ‪...‬‬
‫نظرت إلتفتت نحو "مراد" ثانية و قالت ‪:‬‬
‫‪-‬الحمدهلل على األقل اطمنت عليها ‪..‬‬
‫تساءل "مراد" بتردد ‪:‬‬
‫‪-‬خير يا خالتو حصل إيه ؟‬
‫‪-‬خير‪ ..‬قامت الصبح بدري على رسالة من‬
‫عمتها راجية‪ .‬أم المرحوم سيف أبو لمى‪ .‬كلهم‬
‫كان نفسهم يشوفوها هي و البنت وحشينهم‪ .‬ف‬
‫لمت هدومهم و راحت تقعد لها كام يوم عندهم‬
‫‪-‬طيب الحمدهلل طلع الموضوع بسيط ! ‪ ..‬علق‬
‫"مراد" مرتاحا‪ ،‬و تابع بضحك متوتر ‪:‬‬
‫‪-‬أنا كنت مفكرها مشيت بسببي يعني‬
‫أمينة ببالهة متعمدة ‪:‬‬
‫‪-‬و هي هاتمشي بسببك ليه يا مراد !؟‬
‫تندى جبينه و هو يجاوبها هاربا بعينيه من‬
‫نظراتها الثاقبة ‪:‬‬
‫‪-‬يعني‪ .‬ممكن تكون مش واخدة راحتها في‬
‫وجودي‪ ..‬و عندها حق بصراحة‪ .‬أنا ماكنش‬
‫ينفع أطب عليكوا كده و أقلب نظام البيت !‬
‫إرتفعت زاوية فمها و هي ترد بشيء من التهكم‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬بتتكلم كأنك حد غريب عننا‪ .‬أنا فاكرة إنك انت‬
‫و إيمان كنتوا قريبين من بعض في يوم من‬
‫األيام ‪...‬‬
‫و هنا نظر "مراد" إليها‪ ،‬أجفل مرتبكا بادئ‬
‫األمر‪ ،‬لكنه ما لبث أن قال بثبات متكلف ‪:‬‬
‫‪-‬صحيح‪ .‬كنا صغيرين و بتربط بينا صداقة‬
‫قوية‪ ..‬و لحد إنهاردة‪ .‬إيمان غالية عليا أوي‬
‫تنامى صمت سحيق بينهما لدقيقة كاملة‪ ،‬لم‬
‫يتخلى "مراد" عن هدوئه‪ ،‬إلى أن دعته‬
‫"أمينة" بآلية و هي تدنو من عربة الصغار‬
‫لتحررهم و ينطلقوا في أرجاء الشقة ‪:‬‬
‫‪-‬طيب يال على السفرة‪ .‬الفطار لو استنى أكتر‬
‫من كده مش هايتبلع‪ ..‬و أنا عارفاك‪ .‬بتحب‬
‫الحاجة طازة‪ .‬فريش يعني‬
‫تأكدت من سالمة الصغار الثالثة‪ ،‬ثم مشيت‬
‫أمامه فتبعها وصوًل إلى حجرة الطعام‪ ،‬أشارت‬
‫إليه ليجلس على رأس المائدة‪ ،‬ففعل‪ ،‬و جلست‬
‫هي إلى جواره‪ ،‬بدأ كليهما في تناول الفطور‪ ،‬و‬
‫انتظرت "أمينة" بتمحيص مدروس حتى ابتلع‬
‫بضعة لقيمات كافية ليستقبل حديثها التالي ‪...‬‬
‫‪-‬قولي صحيح يا مراد ! ‪ ..‬تكلمت "أمنية"‬
‫بلطف و هي تصب له فنجان الشاي‬
‫‪-‬انت صحيح ناوي ترجع مراتك ؟‬
‫توقف "مراد" عن المضغ ثوان‪ ،‬ثم قال و هو‬
‫يرفع ناظريه إليها ‪:‬‬
‫‪-‬و هللا يا خالتو أنا جاي ألدهم مخصوص عشان‬
‫كده‪ .‬أنا عملت غلطة كبيرة أوي لما طلقتها‪..‬‬
‫بس لسا عندي أمل‪ .‬و أيوة‪ ..‬عاوز أرجعها‪ .‬أنا‬
‫بحبها !‬
‫احتقن وجهها بالدماء في هذه اللحظة‪ ،‬سيطرت‬
‫على أعصابها بجهد و قد جمدت أصابعها حول‬
‫دورق الشاي الخزفي‪ ،‬استرعى ذلك إنتباه‬
‫"مراد"‪ ..‬لكنه آثر الصمت‬
‫و فجأة وضعت "أمينة" كل شيء من يدها‪ ،‬ثم‬
‫أسندت ذقنها إلى يديها و هي تصوب نحوه‬
‫نظراتها اآلن ‪...‬‬
‫‪-‬لما انت بتحبها أوي كده‪ .‬إيه إللي جابك لحد‬
‫هنا تاني ؟ كان ممكن تطلب أدهم يجي لك‪ .‬ليه‬
‫تيجي لحد هنا و تخلي إيمان تعيش خيبة األمل‬
‫تاني ؟‬
‫حدق فيها مصعوقا‪ ،‬و قال بصعوبة ‪:‬‬
‫‪-‬إنتي‪ .‬إنتي عارفة يا خالتو ؟؟‬
‫أمينة بحدة ‪ :‬طبعا عارفة‪ ..‬عارفة كل حاجة من‬
‫زمان يا مراد !‬
‫تضاعفت صدمته و شخصت عيناه على األخير‪،‬‬
‫إنتابه الخرس تماما‪ ،‬بينما تعاود الحديث قائلة ‪:‬‬
‫‪-‬من أول يوم و بنتي عمرها ما دارت عني‬
‫حاجة‪ .‬قالت لي إنها بتحبك من أول يوم يا مراد‪.‬‬
‫و إنك انت كمان بتحبها حسب قوالتك ليها‪ ..‬و‬
‫تعرف سيبتكوا ليه على كده ؟ ألن ثقتي في‬
‫بنتي مالهاش حدود‪ .‬و متأكدة دايما إنها ًل‬
‫يمكن تعمل حاجة غلط أبدا‪ ..‬بس تعرف بردو ؟‬
‫أنا طلعت غلطانة‪ .‬ألن إللي حصل بينكوا زمان‬
‫ده كان لعب عيال‪ .‬و كان ًلزم أفهم إنه مش‬
‫هايوصل ألي حاجة غير حسرة و وجع قلب‬
‫بنتي‪ ..‬و انت فوق إللي عملته راجع تكمل‬
‫عليها‪ .‬و أنا إللي فكرت إنك عقلت و رجعت‬
‫عشانها !‬
‫استغرقه األمر كله بعض الوقت ليدرك مقاصد‬
‫خالته بوضوح‪ ،‬و قد تبين له بأنها لم تكن تعني‬
‫بأنها تعلم ما جرى بينهما‪ً ،‬ل زال السر‬
‫محفوظا‪ ،‬و ًل أحد يعلمه سوى هو و "إيمان"‬
‫و زوجها الراحل‪ ،‬العالقة الحميمة التي أقاماها‬
‫في لحظة طيش‪ً ...‬ل زالت طي الكتمان !!‬
‫‪-‬يا خالتو أنا عمري ما خدعت إيمان ! ‪ ..‬غمغم‬
‫"مراد" و الخجل يتآكله‬
‫لم يستطع النظر بعيني خالته اآلن و هو يكمل ‪:‬‬
‫‪-‬زي ما قلت لك كنا صغيرين‪ .‬و أنا حبيتها بجد‬
‫و هللا‪ ..‬و لسا بحبها‪ .‬لكن طريقنا اختلف من‬
‫زمان‪ .‬أنا و إيمان ماينفعش نمشي سكة واحدة‪.‬‬
‫و ده في األصل سبب إنفصالنا‪ .‬إحنا طول عمرنا‬
‫مختلفين !‬
‫ظلت "أمينة" ساكنة لبرهة‪ ،‬تتمعن كلماته‪ ،‬ثم‬
‫أومأت متقبلة قراره األخير و نتيجة محاولتها‬
‫معه ألجل ابنتها‪ ،‬و قالت بهدوء ‪:‬‬
‫‪-‬ماشي يا مراد‪ ..‬إللي تشوفه طبعا‪ .‬و مقدرش‬
‫أقول غير ربنا يوفقك في حياتك مع أي واحدة‬
‫تختارها‪ ..‬انا بردو أبقى خالتك‪ .‬في مقام أمك يا‬
‫حبيبي ‪...‬‬
‫ثم قامت فجأة هاتفة ‪:‬‬
‫‪-‬أقعد انت كمل فطارك‪ .‬أنا هاروح أشوف على‬
‫وًلد أدهم‬
‫و لكنه استبقاها مسرعا ‪:‬‬
‫‪-‬لحظة واحدة يا خالتو من فضلك ‪...‬‬
‫قام بدوره عن المائدة‪ ،‬و أتى ليقف أمامها‪،‬‬
‫عبس مطرقا برأسه و هو يقول بصوت أجش ‪:‬‬
‫‪-‬أنا كده كده مش مطول هنا‪ .‬و ماشي إنهاردة‬
‫بعد القاعدة إللي اقترحها أدهم‪ ..‬كلمي إيمان و‬
‫قوليلها ترجع البيت‪ .‬أنا عارف إنها مشيت‬
‫بسببي‪ ...‬عن إذنك !‬
‫و لم ينتظر ردها‪ ،‬ولى هاربا بسرعة ‪...‬‬

‫*****‬

‫بضاحية ما بمدينة القاهرة ‪...‬‬


‫يصل "عثمان البحيري" إلى العنوان الذي بعثه‬
‫إليه صديقه برسالة مقتضبة‪ ،‬يجد "صالح"‬
‫ينتظره أسفل البناية المتواضعة‬
‫ما إن رآه يترجل من سيارته حتى مضى صوبه‬
‫مسرعا و هو يهتف ‪:‬‬
‫‪-‬أخيرا وصلت‪ ..‬أنا واقف ملطوع هنا بقالي‬
‫ساعتين و شوفت الزفت مراد و هو طالع‪ .‬كنت‬
‫هارتكب جريمة لوًل مسكت نفسي‬
‫يغلق "عثمان" سيارته وهو يرد عليه ببروده‬
‫المعهود ‪:‬‬
‫‪-‬ياريت بقى تمسك أعصابك أكتر عشان لسا‬
‫التقبل جاي‪ .‬أنا ماكنتش عايزك في القاعدة دي‬
‫أصال‪ .‬ف ماتخلنيش أندم ‪ ..‬و مشى نحو بوابة‬
‫البناية‬
‫تبعه "صالح" مغمغما بغيظ ‪:‬‬
‫‪-‬إنت شايفني عيل صغير ؟ ماشي هاسيبك إنت‬
‫تتكلم و أما نشوف أخرتها !‬
‫عثمان بضجر ‪ :‬شاطر‪ .‬ورايا بقى من سكات !‬
‫دقيقتان و كانا قد وصال إلى الطابق األخير‪،‬‬
‫حيث صارا أمام غرفة مشيدة بالطوب و‬
‫الحجارة يكسوها طالء مريح للبصر و يتوسطها‬
‫باب خشبي مصقول غامق لونه‬
‫كان الباب مفتوحا عن آخره‪ ،‬لكن "عثمان" لم‬
‫يرى شيئا خلفه‪ ،‬مجرد ضوء أصفر مشع‬
‫بالداخل‪ ،‬فسار لألمام يجاوره "صالح"‪ ،‬حتى‬
‫صارا عند الباب تماما ‪...‬‬
‫دق "عثمان" عليه و هو يمد رأسه مستطلعا‬
‫‪...‬‬
‫‪-‬سالم عليكوا ! ‪ ..‬صاح "عثمان" بصوته‬
‫القوي‬
‫آتاه صوت رجولي أجش على الفور ‪:‬‬
‫‪-‬و عليكم السالم و رحمة هللا و بركاته‪..‬‬
‫اتفضلوا !‬
‫مد "عثمان" ساقه و ولج و هو يحث "صالح"‬
‫على إتباعه‪ ،‬رفع نظراته مستكشفا‪ ،‬ليرى‬
‫صديقه و رجال آخر وجهه غريب عليه‪ً ،‬ل‬
‫يعرفه إطالقا لكنه بدا سمحا و إمارات الورع‬
‫تتجلى على مالمحه العذبة الهادئة‪ ..‬كانا‬
‫يجلسان أمامه فوق آريكة صغيرة بنهاية الغرفة‬
‫األشبه بغرفة مكتب أنيق و قديم الطراز‪ ،‬فتوقف‬
‫"عثمان" عند نقطة معينة و أشار لـ"صالح"‬
‫ليقف هو اآلخر‬
‫تطلع "عثمان" إلى صديقه الجالس هناك على‬
‫بعد خطوات منه عابس الوجه متوترا‪ ،‬و تساءل‬
‫بجمود و هو يشير لذلك الشخص الغريب الذي‬
‫يجلس إلى جواره ‪:‬‬
‫‪-‬مراد باشا ! ممكن أعرف مين األستاذ ؟‬
‫و هنا يرد الرجل ذو الوقار و الرصانة المثيرة‬
‫لإلعجاب نيابة عن "مراد" المتأهب لإلنفجار‬
‫كبركان بأي لحظة ‪:‬‬
‫‪-‬أنا الشيخ أدهم عمران‪ ..‬إتفضل يا أخي لو‬
‫سمحت‪ .‬كنا في إنتظارك !‬
‫في هذه اللحظة تبادل كال من "عثمان" و‬
‫"صالح" النظرات و قاًل في صوت واحد ‪:‬‬
‫‪-‬شيخ !!!‬

‫*****‬
‫جحظت عيني "إيمان" و هي تستمع إلى كلمات‬
‫أمها كابحة إنفعالها لكي ًل يسمعها أحد في‬
‫الخارج ‪:‬‬
‫‪-‬إزاي تعملي كده يا ماما‪ ..‬مين قالك تقولي كده‬
‫لمراد !؟‬
‫‪-‬يعني كنتي عاوزاني أعمل إيه‪ .‬وأنا شايفاكي‬
‫مقهورة و بالذات لما جه‪ .‬قلت أحاول مرة‬
‫أخيرة يابنتي‪ ..‬على األقل عشان ربنا‬
‫مايحاسبنيش عليكي‬
‫‪-‬إنتي عارفة عملتي إيـه ؟ إنتي رميتي إللي‬
‫باقي من كرامتي في األرض‪ .‬حرام عليكي يا‬
‫ماما‬
‫‪-‬ماتكبريش الموضوع يا إيمان بقى‪ .‬ماحصلش‬
‫حاجة‪ .‬كانوا كلمتين و راحوا لحالهم‪ ..‬خالص‪.‬‬
‫بصي المهم دلوقتي تاخدي بعضك انتي و بنتك‬
‫و ترجعوا دلوقتي حاًل‪ .‬لسا أخوكي أدهم واخده‬
‫و راحوا المضافة بتاعة أبوكي‪ .‬أخوكي سأل‬
‫عليكي و قلت له بتزوري عمتك‪ .‬مش هاينفع‬
‫يرجع مايالقكيش هنا !‬
‫دق باب غرفتها المخصصة‪ ،‬فاضطرت لقطع‬
‫المكالمة‪ ،‬و استدارت و الدموع ملء عينيها‬
‫الواسعتين ؛‬
‫فإذا بها تجد "مايا" أمامها‪" ..‬مايا" شقيقة‬
‫"سيف" و عمة صغيرتها "لمى" ‪...‬‬
‫‪-‬إيمان ! ‪ ..‬هتفت "مايا" بعفوية‬
‫‪-‬يال الغدا جاهز‬
‫أومأت لها "إيمان" و قالت بصوت أبح ‪:‬‬
‫‪-‬حاضر يا مايا جاية وراكي‬
‫قطبت األخيرة حاجبيها و هي تشير ناحيتها‬
‫بذقنها ‪:‬‬
‫‪-‬إنتي معيطة و ًل إيه يا إيمان !؟‬
‫لم تنكر "إيمان"‪ ..‬لكنها اختلقت كذبة و هي‬
‫تكفكف دموعها بظاهر يدها ‪:‬‬
‫‪-‬أيوة‪ .‬شوية‪ ..‬أصلي افتكرت سيف هللا يرحمه‪.‬‬
‫وحشني أوي يا مايا !‬
‫تأثرت "مايا" كثيرا و دلفت إليها‪ ،‬بدون‬
‫مقدمات عانقتها و شاطرتها حزنها المفتعل‬
‫متمتمة بحزن شديد ‪:‬‬
‫‪-‬إنتي عارفة كل ما بيوحشني بعمل إيه ؟ ببص‬
‫في عيون لمى‪ .‬و بحضنها جامد‪ .‬لمى حتة من‬
‫سيف يا إيمان‪ ..‬لمى هي سيف‪ .‬مش بيقولوا‬
‫إللي خلف مامتش !؟‬
‫تنهدت "إيمان" بحرارة‪ ،‬و ابتعدت عنها‬
‫"مايا"‪ ..‬ابتسمت لها و دعتها ثانية ‪:‬‬
‫‪-‬يال عشان الغدا‪ .‬كلنا ماستنيينك !‬
‫بادلتها "إيمان" اًلبتسامة و قالت ‪:‬‬
‫‪-‬حاضر‪ ..‬بس أنا مضطرة أمشي بعد الغدا‬
‫علطول‪ً .‬لزم أرجع البيت‬
‫مايا باحباط ‪:‬ليه كده بس يا إيمان‪ ..‬هو لحقنا‬
‫نشبع منكوا ؟؟‬
‫إيمان متأسفة ‪ :‬معلش يا مايا‪ .‬ماما تعبت و‬
‫سالف كلمتني من وراها‪ً ..‬لزم أكون جنبها !‬

‫*****‬
‫جلس كال من "عثمان" و "صالح" إلى‬
‫مقعدين متجاورين‪ ،‬بينما يجلس مقابلهما ذلك‬
‫الرجل المهيب ذو اللحية السوداء الكثة المشذبة‬
‫بعناية‪ ،‬و "مراد" الذي ما زال صامتا حتى اآلن‬
‫و لم ينطق بحرف ‪...‬‬
‫هذا السكون الثقيل قد بدأ يوتر األجواء‪ ،‬حتى‬
‫أن بعض تململ أصاب "صالح" و شعر بأنه‬
‫قاب قوسين أو أدنى من فقدان سيطرته على‬
‫نفسه‪ ..‬إًل أن صوت المدعو "أدهم" سرعان‬
‫ما برز قالبا موازين الجلسة إلى صالحه فقط ‪...‬‬
‫‪-‬منورين مكاني المتواضع يا سادة ! ‪ ..‬قالها‬
‫"أدهم" بصوته القوي مزيدا الترحيب بضيوفه‬
‫رد "عثمان" التحية بنفسه و نيابة عن إبن‬
‫عمه الغضوب ‪:‬‬
‫‪-‬بنورك يا دكتور أدهم‪ .‬متشكرين أوي على‬
‫حسن إستقبالك لينا و خاصة إننا أغراب عنك‬
‫أدهم معاتبا بحليمية ‪:‬‬
‫‪-‬عيب تقول كده يا أستاذ عثمان‪ .‬مراد ده يبقى‬
‫إبن خالتي حتى لو مش بنشوفه إًل كل كام سنة‬
‫مرة ‪ ..‬و ضحك مكمال ‪:‬‬
‫‪-‬و حضرتك تبقى صاحبه و صديق عمره زي ما‬
‫حكالي‪ .‬يعني تقريبا بقيت مننا و علينا زي ما‬
‫بيقولوا‬
‫‪-‬صحح كالمك يا أدهم من فضلك ! ‪ ..‬صاح‬
‫"مراد" بحدة فجأة‬
‫تركزت األنظار عليه‪ ،‬ليتابع بنفس اإلسلوب ‪:‬‬
‫‪-‬الصداقة دي كانت في الماضي و خالص‬
‫خلصت‪ ..‬أنا صحابي رجالة‪ .‬مش زبالة و‬
‫أنجاس زيه !‬
‫يتمالك "عثمان" أعصابه بصعوبة عندما سمع‬
‫هذا الكالم يخرج من فم صديقه المقرب ألول‬
‫مرة‪ ،‬بينما يلتفت "أدهم" نحو "مراد" موبخا‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬مراد ! إحنا قولنا إيه ؟ القاعدة دي إتعملت‬
‫عشان نحل الموضوع مش نعقده و نجرح في‬
‫الناس كده من غير ما نفهم كل حاجة كويس‬
‫مراد بسخرية ‪ :‬إنت فاكر إن ده بيتجرح ؟ ده‬
‫أبرد من لوح التلج‪ .‬ده يجيبلك شلل و إنت قاعد‬
‫صلى عالنبي يا أدهم إنت ماتعرفوش أدي‬
‫أدهم بهدوء ‪ :‬عليه الصالة و السالم‪ ..‬يا سيدي‬
‫طبيعي ماعرفوش و إنت تعرفه أكتر مني عشان‬
‫صاحبك‪ .‬بس ًلزم نتكلم و نتناقش بالمعروف‪.‬‬
‫دي مش طريقة يا مراد إهدا عشان تفهم‬
‫يقطب "مراد" جبينه بشدة مغمغما ‪:‬‬
‫‪-‬أنا مش طايقه‪ .‬مش طايق أي حاجة تيجي من‬
‫ناحيته‪ .‬و مش عارف يا أدهم إنت صممت على‬
‫القاعدة دي ليه ؟ ده واحد قذر عايش طول‬
‫عمره في نجاسة و قرف و ماستبعدش أبدا إنه‬
‫يكون غوى بنت عمه و إنهم إستغفلوني هما‬
‫اإلتنين‬
‫في هذه اللحظة لم يستطع "صالح" كبح نفسه‬
‫أكثر‪ ،‬فقفز واقفا لينقض على "مراد" بلمح‬
‫البصر‪ ،‬فيكيل له الضرب و اللكمات العنيفة ‪...‬‬
‫يهب على الفور كال من "عثمان" و "أدهم"‬
‫للحؤول بينهما‪ ،‬و رغم أن ذلك كان صعبا بادئ‬
‫األمر خاصة و أن "مراد" إستطاع أن يتغلب‬
‫على "صالح" في لحظة و كاد ينال منه‪ ..‬أًل أن‬
‫"عثمان" حال دون ذلك و أمسك بتالبيب إبن‬
‫عمه و إجتذبه بعنف صائحا ‪:‬‬
‫‪-‬تعال هنـــا ! إنت إتجننت ؟ إثبت‪ .‬إرجع مكانك‬
‫و إوعى تتحرك سامعنـــي ؟ يا إما تنزل‬
‫تستناني تحت !‬
‫يتراجع "صالح" مذعنا ألمر "عثمان"‪ ..‬لكن‬
‫ما زال غضبه يتفاقم‪ ،‬فيدس يده يجيب سترته و‬
‫يخرج قارورة الكحول الفضية التي يحملها دائما‬
‫و بدون مقدمات يفتحها و يفرغ منها بقوة داخل‬
‫جوفه ‪...‬‬
‫بنفس اللحظة "أدهم" يترك "مراد" بعد أن‬
‫ضمن سيطرته على نفسه‪ ،‬يلتفت فيرى‬
‫"صالح" يتجرع هذا الشيء‪ ،‬فتجحظ عيناه و‬
‫هو يصيح بلهجة مهددة ‪:‬‬
‫‪-‬إنت بتشرب إيه يا بيـه ؟‬
‫أبعد "صالح" القارورة عن فمه‪ ،‬لينقل نظراته‬
‫بينها و بين ذاك الذي أطلق سؤاله الساذج‬
‫بالنسبة إليه‪ ،‬ثم يرد بمنتهى البساطة ‪:‬‬
‫‪-‬تيكيال !‬
‫‪-‬خمـــرة !!! ‪ ..‬هدر "أدهم" بغضب شديد‬
‫‪-‬بـــرا‪ .‬إطلعوا بـــرا كلكوا !‬
‫حاول "عثمان" أن يهدئ "أدهم" عبثا لم‬
‫يستطع التفاهم معه‪ ،‬إذ كان مصمما على‬
‫طردهم و بدا أن ًل نقاش سيجدي معه‪ ..‬ورغم‬
‫شدة إضطراب "عثمان" إًل أنه أصر اًل يخرج‬
‫من هنا إًل بالحل النهائي‪ ،‬فهداه عقله إلى‬
‫تصرف يرضي مضيفهم‬
‫ليلتفت نحو إبن عمه بوجهه المحتقن غضبا‪،‬‬
‫يدفع به إلى خارج الغرفة بطريقته الهمجية‬
‫ليخفف من غضب "أدهم" عليهم‪ ..‬و هكذا طرد‬
‫"صالح" و أمره بالبقاء في األسفل ريثما يهبط‬
‫إليه‪ ،‬ثم عاد إلى المجلس الصغير و قال و هو‬
‫يعدل هندامه الذي تشعث كليا إثر هذه الفوضى‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬إللي إنت عايزه يادكتور أدهم‪ ..‬ماتزعلش‬
‫نفسك‪ .‬صالح مشي خالص‪ .‬ممكن بقى نتكلم في‬
‫المفيد ؟ أنا سامع !‬
‫أغمض "أدهم" عيناه مطلقا زفيرا مشحونا و‬
‫قال بجفاف شديد ‪:‬‬
‫‪-‬أستغفر هللا‪ ..‬بص يا أستاذ عثمان‪ .‬إنتوا‬
‫بصراحة ماتشجعوش على أي نقاش‪ .‬لسا ردود‬
‫أفعالكوا هوجاء و طايشين و ده ماينفعش‪ .‬إذا‬
‫كنت إنت و اًل إبن خالتي إنتوا اإلتنين غلطانين‬
‫!‬
‫عثمان بصالبة ‪ :‬أنا مش جاي أسأل مين‬
‫الغلطان يا دكتور‪ .‬أنا جيت عشان حضرتك‬
‫كلمتني و قولتلي جايز الموضوع يتحل‪ ..‬أنا‬
‫عايز أعرف بقى هايتحل إزاي ؟‬
‫صمت "أدهم" قليال يستجمع عقالنيته كاملة‪،‬‬
‫ثم أشار نحو "مراد" قائال ‪:‬‬
‫‪-‬البيه ده لسا بيحب بنت عم حضرتك و عايزها‬
‫و ندمان على إللي عمله‪ .‬سيبك من كالمه ده‪.‬‬
‫أنا متأكد من إللي بقوله هو بس كان رافض‬
‫يصارحني عشان رجولته ناقحة عليه أوي !‬
‫عقد "عثمان" حاجبيه ممعنا النظر بكلماته‪،‬‬
‫تطلع إلى صديقه فوجده يجلس نفس الجلسة‬
‫المتوترة و منكمشا على نفسه بطريقة‬
‫مضطربة ‪...‬‬
‫بعد تأمله لبرهة بدأ يقتنع بأقوال "أدهم" نوعا‬
‫ما‪ ،‬لكنه عاد يقول له بجدية ‪:‬‬
‫‪-‬الكالم ده جميل‪ .‬و من ناحيتي أقسملك باهلل إن‬
‫مافيش حاجة حصلت بيني و بين بنت عمي و‬
‫إنها طول عمرها زي أختي‪ .‬و طبعا رجوعها‬
‫لمراد شيء هايبسطنا و يريحنا كلنا‪ ..‬بس إزاي‬
‫يا دكتور ؟!!‬
‫أدهم بجدية مماثلة ‪:‬‬
‫‪-‬ده إللي كنت عاوزك فيه‪ ..‬مراد زي ما قولتلك‬
‫رافض يصارحني‪ .‬هو قالي إنه طلقها أكتر من‬
‫مرة‪ .‬بس بيلف و يدور عليا مش عايز يقولي‬
‫كام مرة بالضبط‬
‫‪ 3-‬مرات يا دكتور ! ‪ ..‬أجابه "عثمان"‬
‫بصرامة‬
‫عبس "أدهم" قائال بلهجة متشددة ‪:‬‬
‫‪-‬متأكد ؟!‬
‫أومأ "عثمان" ‪ :‬متأكد‬
‫و هنا ساد صمت مريب‪ ،‬فتململ "مراد" قلقا و‬
‫رغما عنه تطلع نحو "أدهم" منتظرا رده‪ ..‬فلم‬
‫يجعله ينتظر طويال ‪...‬‬
‫‪-‬كده يبقى الموضوع منتهي !‬
‫مراد بتوتر ‪ :‬يعني إيه منتهي يا أدهم ؟!!‬
‫نظر "أدهم" له و قال بصوته القوي ‪:‬‬
‫‪-‬يعني خالص متحرمة عليك يا مراد‪ً .‬لزم‬
‫محلل‪ ..‬و المحلل عندنا في الدين لو بغرض‬
‫الرجوع للزوج األوًلني محرم لقول النبي صلى‬
‫هللا عليه و سلم‪« :‬لعن َّللا المحلل والمحلل له»‪،‬‬
‫‪-‬طيب ما هو زواج المحلل مش محرم يا دكتور‬
‫! ‪ ..‬قالها "عثمان" مستفهما‬
‫إلتفت "أدهم" إليه‪ ،‬ليكمل موضحا ‪:‬‬
‫‪-‬في ناس كتير بتعمل كده‪ .‬أعتقد إنه شيء‬
‫مكروه في الدين لكن مش محرم !‬
‫رفع "أدهم" حاجبيه مدهوشا من تفكيره و‬
‫جداله حتى بعد أن آتاه بالبينة ‪...‬‬
‫أراد أن يبرهن له أكثر على صحة كالمه‪ ،‬لكنه‬
‫أمسك بآخر لحظة و عوض ذلك قال بغلظة ‪:‬‬
‫‪-‬حتى لو ده ينفع‪ ..‬أعتقد مافيش راجل يقبلها‬
‫على نفسه !‬
‫عثمان بتساؤل ‪ :‬يقبل إيه بالضبط ؟ الجواز ؟ و‬
‫مين الزوج و ًل المحلل ؟!!‬
‫أدهم بحدة ‪ :‬اإلتنين‪ .‬و بعدين ده مش مجرد‬
‫جواز على ورق‪ ..‬شروط المحلل عشان ترجع‬
‫للزوج األول ماتطلقش "حتى يذوق عسيلتها و‬
‫تذوق عسيلته"‪ ..‬ده حديث عن النبي بردو‬
‫مراد بقلق أكبر‪:‬‬
‫‪-‬يعني إيه الكالم ده يا أدهم ؟!‬
‫نظر "أدهم" إليه من جديد و فسر له بمنتهى‬
‫الصراحة ‪:‬‬
‫‪-‬يعني المحلل ده ًلزم يدخل عليها يا رايق‬
‫عشان ترجعلك !‬
‫جحظت عيني "مراد" بصدمة و ما لبث أن نقل‬
‫ناظريه نحو "عثمان" و كأنه أخيرا يناشده‬
‫الحل و المساعدة ‪...‬‬
‫إًل أن "عثمان" لم يكن هنا أبدا‪ ،‬كان يفكر‬
‫بعمق‪ ...‬بمسألة حساسة جدا للغاية !‬

‫يتبع ‪...‬‬
‫انتهى الفصل ‪٨‬‬

‫‪9‬‬
‫"ًل تنظري هكذا أرجوك ؛ تحطمين قلبي‬
‫بدموعك‪ ..‬هي ما ًل أتحملها!"‬
‫_ مراد‬

‫كانت حجته للفرار بعد أن أوصل ابن خالته عند‬


‫المنزل‪ ،‬أنه ينقصه بضعة أغراض سيذهب‬
‫لشرائها بشكل عاجل‪ ،‬و رغم أن القصة التي‬
‫اختلقها لم تنطلي على "أدهم"‪ ..‬لكنه عرف بأن‬
‫األخير يريد أن يتخذ مساحة و يبقى بمعزل و لو‬
‫قليال‬
‫و هو ما يحق له‪ ،‬خاصة بعد كل ما جرى طوال‬
‫األمسية الصعبة‪ ،‬عسير عليه أن يدرك بأن‬
‫المرأة التي أعجب بها و اختارها بمحض إرادته‬
‫و جعلها زوجته من بين عشرات الفتيات‪ ،‬حتى‬
‫أنه فضلها على المرآة الوحيدة التي أحبها من‬
‫أعماقه و لبث سنوات يقنع نفسه بالعكس‪ ،‬لماذا‬
‫؟‬
‫ألنها استسلمت له‪ ،‬ألنها منحته كل شيء مرة‬
‫واحدة و من دون تردد‪ ،‬قال في نفسه ما فائدة‬
‫الزواج‪ ..‬إن كان قد أخذ ما يريد من دونه !‬
‫ما فائدة أن يرتبطا و هما قد ارتبطا بالفعل‪..‬‬
‫حتى و لو تمت العالقة بينهما مرة‪ ...‬لكنه نالها‬
‫و انتهى‬
‫الفاكهة المحرمة لقد حقق مآربه و تذوقها‪ ،‬ما‬
‫حاجته ًلمتالكها و قد امتلكها‪ ..‬تلك كانت‬
‫مبرراته‪ ..‬كان مقتنع بها‪ ،‬لكن هل ًل يزال !؟‬
‫لقد وجد نفسه فجأة في الخالء‪ ،‬مجردا من كل‬
‫أسلحته و دفاعاته‪ ،‬بعد أن تخلت عنه األخرى‬
‫التي إلتمس فيها السلوى و العشق أيضا‪..‬‬
‫اتضح بأنها ًل تحبه أبدا‪ ...‬لقد أقتص القدر‬
‫لحبيبته الوحيدة منه بفعلة زوجته التي طعنت‬
‫رجولته في الصميم‪ ،‬لقد أخذت بثأرها بالفعل‪،‬‬
‫ليتها تدرك ذلك !!‬
‫*****‬
‫بقيت واقفة خلف باب غرفتها الموارب‪ ،‬تستمع‬
‫إلى حديث أخيها و والدتها بالغرفة المجاورة‪،‬‬
‫كانت ترتجف لشعور غريب ًل تفهمه يعتمل‬
‫بصدرها ‪...‬‬
‫‪-‬يعني خالص ماعادي في رجوع ؟‬
‫‪-‬رجوع إزاي بس يا أمي‪ .‬ما قلت لك طلقها‬
‫‪3‬مرات‪ .‬مافيش رجوع‪ ..‬هو بقى ًلزم ينسى‬
‫الموضوع ده و يشوف حاله‬
‫‪-‬يشوف إيه يابني انت أصلك مش عارف‪..‬‬
‫بيحب مراته يا أدهم‬
‫‪-‬طليقته‪ .‬طليقته يا أمي‪ ..‬أنا عارف إنه بيحبها‪.‬‬
‫و عارف إنها صعبة عليه‪ .‬لكن خالص السهم‬
‫نفد‪ .‬و دي حدود هللا‪ً .‬لزم يقتنع و يشيلها من‬
‫دماغه نهائي‬
‫‪-‬طيب هو فين ماجاش معاك ليه !؟‬
‫‪-‬وصلني و قال هايلف شوية بعربيته يجيب‬
‫شوية حاجات‪ .‬أنا طبعا عارف إنه مخنوق و‬
‫محتاج يروح عن نفسه‪ .‬عشان كده سيبته يعمل‬
‫إللي عاوزه‪ ..‬هايروح فين‪ .‬شوية و هايرجع‬
‫ماتقلقيش‬
‫‪-‬أمه كلمتني إنهاردة‪ ..‬مش عارفة تكلمه خالص‬
‫!‬
‫‪-‬كلميها طمنيها‪ .‬إن شاء هللا ربنا هايصلحه‪ ..‬أنا‬
‫حاسس بكده‬
‫‪-‬إلهي يسمع منك يا أدهم‬
‫‪-‬طيب يا حبيبتي‪ ..‬أنا طالع بقى‪ .‬ألحق الوًلد‬
‫قبل ما يناموا‪ .‬اليومين دول متعلق بيهم شويتين‬
‫زيادة و بيوحشوني‬
‫‪ً-‬ل يا واد‪ ..‬هما بردو إللي واحشينك‪ .‬عشان كده‬
‫سربتهم عندي الصبح‪ ..‬على أمك يا أدهم !!‬
‫‪-‬جرى إيه بس يا أمي‪ ..‬بالش إحراج‪ .‬و ياستي‬
‫أيوة الوًلد و أمهم واحشني علطول‪ ..‬بحبهم‬
‫‪-‬هللا يبارك لك فيهم يا حبيبي و مايحرمهمش‬
‫منك أبدا‪ ..‬ماشي يا قلبي‪ .‬يال تصبح على خير‬
‫‪...‬‬
‫توارت "إيمان" مسرعة حين سمعت خطوات‬
‫أخيها‪ ،‬أطفأت ضوء غرفتها و بقيت تنتظر‬
‫ريثما غادر الشقة كلها‪ ،‬تنفست الصعداء و‬
‫أشعلت مصباح خافت اإلنارة‪ ،‬ثم مضت‬
‫بخطوات ثقيلة نحو الفراش‪ ،‬جلست بجوار‬
‫صغيرتها النائمة كالمالك في بيجامتها القرمزية‬
‫الرقيقة‪ ..‬ابتسمت و هي تمد كفها لتمسح على‬
‫شعرها الناعم بحنان‬
‫و بغتة أتى على خاطرها حديث "مايا" اليوم‪..‬‬
‫تذكرت كلماتها التي تشير إلى شدة تشابه‬
‫الطفلة "لمى" بأبيها الراحل "سيف"‪ ...‬كانت‬
‫واثقة من هذا كثيرا !‬
‫لكن‪ ..‬حتما إن "مايا" مخطئة‪ ،‬فالصغيرة ًل‬
‫تشبه أباها البتة‪ ،‬بل الحقيقة أنها تشبه "مراد"‬
‫!‬
‫رغم أنه ليس والدها‪ ،‬و أنها ولدت بعد حادثة‬
‫أمها معه بتسعة أعوام‪ ،‬زمن طويل‪ ..‬لكن‬
‫للغرابة أنها تحمل مالمحه أكثر‪ ،‬عينيه‬
‫الرماديتين‪ ،‬لونه البرونزي‪ ،‬تمويجة شعره‬
‫الناعمة‪ ،‬و تعبيرات وجهه حين يضحك‪ ،‬و حين‬
‫يغضب‬
‫كان شيئا عجيب‪ ،‬لو تزوجت بعد ذهابه مباشرة‬
‫لظنت أن طفلتها منه هو‪ ،‬و ليس من "سيف"‬
‫الذي على قدر عشقه لها قد أذاقها ألوان و‬
‫سجايا العذاب النفسي و الجسدي في آن واحد‬
‫‪...‬‬
‫انتبهت "إيمان" لدموعها الجارية على خديها‬
‫عندما تناهى إلى سمعها صوت موتور سيارته‪،‬‬
‫كفكفت دموعها بظاهري يديها بسرعة و قامت‪،‬‬
‫قفزت صوب النافذة و تطلعت من وراء الستار‪،‬‬
‫فإذا به يخرج من سيارته متعثرا في خطاه‪ ،‬كان‬
‫يتكئ قليال بيديه على باب السيارة المغلق و‬
‫كأنه يختبر إتزانه‪ ..‬ثم رأته يمشي للداخل و‬
‫اختفى‬
‫ًل تنكر إنقباضة قلبها عليه‪ ،‬إذ ألول مرة تراه‬
‫على هذه الحالة‪ً ،‬ل تعلم به‪ ،‬أهو متعب أم ماذا ؟‬
‫و في ظرف آخر غير الذي رأته كانت لتفعل ما‬
‫برأسها أيضا‪ ،‬كانت لتذهب عنده و تظهر‬
‫الشماتة به‪ ،‬إنه يستحقها‪ ،‬بعد ما فعله بها‪..‬‬
‫أخيرا صار معه نفس الشيء‬
‫أخيرا ها هو يتألم و يعاني كما عانت و ًل تزال‬
‫تعاني ؛‬
‫بدون تفكير سحبت "إيمان" غطاء رأسها و‬
‫الشال األسود الذي تتدثر به خارج غرفتها في‬
‫خضم هذا البرد القارس‪ ،‬ثم مثل المرة الفائتة‪،‬‬
‫خرجت بخطوات صماء ‪...‬‬
‫*****‬

‫يجب أن تحمد هللا كثيرا و تشكره على تلطفه‬


‫بها‪ ،‬بالرغم من الكبائر التي اقترفتها‪ ،‬و لكن‬
‫يبدو أنها تتطهر منها‪ ،‬بموت ابنها البكر و‬
‫مفضلها "سيف"‪ ..‬ثم بمرضها الذي أبقاها‬
‫طريحة الفراش بمشفى لألمراض العقلية لمدة‬
‫عامين كاملين‬
‫صحيح أنها شاخت كثيرا بالنظر إلى عمرها‪ ،‬و‬
‫لكنها بصحة جيدة‪ ،‬حتى لو كان الحزن قد‬
‫غيرها و جعلها أكثر انعزاًل و انطوائية ؛‬
‫دق باب غرفتها‪ ،‬و قد كانت تقرأ في المصحف‬
‫الخاص بها‪ ،‬أنهت اآلية التي تقرأها‪ ،‬ثم أغلقت‬
‫دفتي الكتاب الشريف و هتفت و هي تنظر جهة‬
‫الباب ‪:‬‬
‫‪-‬ادخل !‬
‫إنفتح الباب‪ ،‬ليدخل ابنها الشاب "مالك"‬
‫مبتسما ‪:‬‬
‫‪-‬نعم يا ماما‪ .‬مايا قالت لي إنك عايزاني أول ما‬
‫وصلت !‬
‫أشارت "راجية" برأسها ‪:‬‬
‫‪-‬تعال يا مالك‪ .‬اقفل الباب وراك و تعال‬
‫فعل ما طلبته منه‪ ،‬و جاء ليجلس أمامها على‬
‫طرف السرير‪ ،‬دنى منها أوًل و قبلها على خدها‬
‫متمتما ‪:‬‬
‫‪-‬اخبارك إيه يا حبيبتي‪ ..‬وحشتيني‬
‫غضت "راجية" الطرف عن مداعبته الودودة‬
‫و سألته مباشرة ‪:‬‬
‫‪-‬كنت فين كل ده برا يا مالك ؟‬
‫‪-‬كنت قاعد على القهوة مع اصحابي‪ .‬كان في‬
‫ماتش إنهاردة عشان كده اتأخرت شوية‬
‫‪-‬انا بسألك ! ‪ ..‬قالتها بابتسامة عطوفة‬
‫‪-‬مش بحقق معاك‪ .‬أنا بطمن عليك يا حبيبي‪..‬‬
‫بقيت راجل و ملو هدومك‪ .‬بس في نظري‬
‫هاتفضل ابني الصغير‬
‫بادلها األخير نفس اًلبتسامة و حنى رأسه‬
‫ليطبع قبلة على يدها‪ ،‬ثم عاود النظر إليها و‬
‫قال ‪:‬‬
‫‪-‬ماما انتي تعملي إللي يعجبك‪ .‬اسألي حققي‪..‬‬
‫براحتك يا حبيبتي‬
‫تنهدت و هي تمسح بيدها األخرى على رأسه‬
‫‪...‬‬
‫‪-‬في موضوع مهم عايزاك فيه‪ ..‬موضوع متعلق‬
‫بحياتي يا مالك‬
‫اختفى كل مظهر من مظاهر اًلسترخاء من‬
‫وجهه ليحل العبوس الكامل‪ ،‬و يسألها بصوت‬
‫أجش بعد ذلك ‪:‬‬
‫‪-‬خير يا ماما‪ ..‬إتكلمي من فضلك !‬

‫*****‬

‫كان يرتقي الدرج من دون المصعد هذه المرة‪،‬‬


‫على أمل أن يشعر بألم في جسمه المتثاقل‬
‫عوض آًلم روحه‪ ،‬كان يذرف الدموع ألول مرة‬
‫بحياته‪ ،‬يشعر بالهزيمة‪ ،‬الضياع‪ ..‬و أنه بال‬
‫مأوى‬
‫هكذا وصوًل إلى الشقة التي منحه إياها‬
‫"أدهم" مؤقتا‪ ،‬و لكن المفاجأة غير المتوقعة‬
‫في هذه الساعة‪ ،‬أن يراها هنا‪ ،‬في انتظاره‪..‬‬
‫على ما يبدو ‪...‬‬
‫‪-‬إيمان ! ‪ ..‬نطق اسمها بأحرف غائمة‬
‫كانت صورتها تهتز أمامه‪ ،‬بينما اشتد قلقها‬
‫عليه‪ ،‬فالنظر إليه من على قرب يظهر مدى‬
‫حالته المزرية‪ ،‬و لعلها لم تفهم ما أحل به و‬
‫هي ترى تلك الزجاجة الشفافة بيده ‪...‬‬
‫‪-‬بتعملي إيه هنا !؟‬
‫بدا لها صوته غريبا كشكله‪ ،‬كان و كأنه معرض‬
‫للسقوط و كان قلبها رهن إشارة منه‪ً ،‬ل يمكنها‬
‫أن تراه بحاجة لمساعدتها و تعرض عن هذا‪،‬‬
‫مطلقا ‪...‬‬
‫‪-‬انت كويس يا مراد ؟ مالك تعبان و اًل إيه ؟؟‬
‫كانت في صراع بداخلها‪ ،‬أتهب لمساعدته أم‬
‫تلتزم السكون تفاديا للكوارث المحتملة !!‬
‫و لكن رده العنيف صدمها كليا ‪:‬‬
‫‪-‬و انتي مالـك بيـا‪ .‬حد قال إنك الدادة بتاعتي‪.‬‬
‫امشي من وشي يا إيمان !‬
‫و أستل مفتاح الشقة من جيبه و دسه أمام‬
‫نظراتها المصدومة بالقفل‪ ،‬فتح الباب و ولج‪،‬‬
‫ثم تأهب ليغلقه بوجهها‪ ،‬لكنها دفعته بكفها و‬
‫دخلت رغما عنه‪ ،‬أغلقته من ورائها و وقفت‬
‫قبالته عاقدة ذراعيها أمام صدرها‬
‫تنظر إليه شزرا‪ ،‬بينما ينظر إليها بمزيج من‬
‫السخط و األلم ‪...‬‬
‫‪-‬عايزة مني إيه يا إيمان ؟ ‪ ..‬سألها "مراد"‬
‫بغلظة‬
‫‪-‬أنا شبعان حوارات و مش حمل ضغط منك‬
‫إنتي كمان‪ .‬مش هايكون حلو ًل ليا و ًل ليكي و‬
‫أنا بحذرك !!‬
‫قست مالمحها اآلن و هي تقول بحدة ‪:‬‬
‫‪-‬ماتخليش دماغك دي تسافر بيك يا مراد‪ ..‬أنا‬
‫مش جاية أتمسح فيك‪ .‬أبدا‪ ..‬أنا جاية أفرح‪ .‬و‬
‫أشمت فيك‬
‫حدجها بنظرة تتأرجح بين الذهول و الغضب‪،‬‬
‫فأومأت مؤكدة بتشف ‪:‬‬
‫‪-‬أيوة‪ ..‬جزاء ما عملت فيا و سيبتني‪ .‬إتعمل فيك‬
‫نفس الفصل‪ ..‬و لسا يا مراد‪ .‬و ًل كنت مفكر‬
‫إنها هاتعدي كده ؟ ده ربنا اسمه العدل !!‬
‫كان يصغي إليها و ًل يزال غاضبا‬
‫‪-‬إنتي جاية تحاسبيني على غلطة حصلت من‬
‫‪ 12‬سنة ؟ ‪ ..‬إيـــه‪ ..‬متخيلة إنها غلطتي بس ؟‬
‫إنتي كمان شريكتي في الغلط ده‪ .‬إنتي سبتي لي‬
‫نفسك برضاكي يا إيمـان ‪...‬‬
‫احتقن وجهها بالدم و هي ترفع يديها تصك‬
‫أذنيها مغمغمة بصراخ ‪:‬‬
‫‪-‬اسكـــت‪ ..‬اسكــــــت !‬
‫لم يستمع لها و أضاف بنظرات مسعورة تدعم‬
‫لهجته الغليظة ‪:‬‬
‫‪-‬ليه مارفضتيش ساعتها‪ .‬ليه سبتي نفسك‬
‫للنهاية‪ .‬آلخر لحظة‪ .‬المفاجأة إللي إنتي نفسك‬
‫مش عايزة تعترفي بيها‪ ..‬إنتي إللي كنتي عايزة‬
‫كده‪ .‬الراجل بيفهم لما واحدة بتنده له‪ .‬و إنتي يا‬
‫إيمان‪ .‬إنتي كل شبر فيكي كان بيصرخ باسمي‬
‫و أنا لبيت‪ ..‬إنتي إللي ضعفتي مش أنا‬
‫تسرب النشيج من بين شفاهها و هي تنوح و‬
‫تسيل دموعها الساخنة بغزارة ‪:‬‬
‫‪-‬حرام عليك‪ ..‬كفاية‪ ...‬أسكـــت !!‬
‫بقى صدره يعلو و يهبط و قد شعر بوخزة من‬
‫األدرنالين تندفع من معدته لبقية أعضاؤه‪ ،‬فقال‬
‫بلهاث و هو يتحرك صوب باب الشقة ليغلقه‬
‫بالقفل ‪:‬‬
‫‪-‬أنا هاثبت لك مرة تانية‪ ..‬إن إللي حصل كان‬
‫بارادتك‪ .‬أنا هاثبت لك إنك مش الضحية زي ما‬
‫إنتي واهمة نفسك !‬
‫إتسعت عيناها هلعا في هذه اللحظة‪ ،‬عندما‬
‫فهمت قصده و قرأت نيته في عينيه‪ ..‬و إذ سد‬
‫منفذ الهرب أمامها‬
‫إنها هالكة ًل محالة !‬

‫*****‬

‫‪-‬مستحيل يا ماما‪ ..‬مش معقول عايزاني أتجوز‬


‫إيمـان ؟ عايزاني أتجوز مـرات سيف أخويـا ؟‬
‫كاد حديث أمه أن يصيبه بالجنون‪ً ،‬ل زال غير‬
‫واثق من أنها طلبت منه ذلك بالفعل‪ ..‬حتى أكدت‬
‫عليه ‪:‬‬
‫‪-‬أيوة عايزاك تتجوز إيمان أرملة أخوك سيف‪..‬‬
‫و هاتتجوزها يا مالك‬
‫أراد أن يفتح فمه ليحتج‪ ،‬لكنها قاطعته بصرامة‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬اسمعني و ماتقاطعنيش‪ ..‬إيمان مش بس كانت‬
‫مرات أخوك‪ .‬دي كمان أم بنته‪ .‬حتة منه‪ .‬لمى‪..‬‬
‫و إيمان مش كبيرة‪ .‬دي لسا شابة و صغيرة‪.‬‬
‫مهما تقول عايشة لبنتها و مش بتفكر في‬
‫الجواز مسيرها في يوم تميل‪ .‬ما هي مش‬
‫هتحارب طبيعة ربنا‪ .‬و خصوصا مع زن أمها و‬
‫أخوها‪ .‬يرضيك بنت أخوك يربيها راجل غريب‬
‫؟ أنطق !؟؟‬
‫مالك بصالبة ‪ :‬يا ماما دي افتراضات من‬
‫دماغك‪ .‬فات سنين على موت سيف‪ .‬لو إيمان‬
‫كانت بتفكر في الجواز كانت عملتها من مدة‪ .‬و‬
‫انتي عارفة عدد الرجالة إللي اتقدمو لها و‬
‫مراكزهم‪ .‬لكنها رفضت !!!‬
‫‪-‬مش في وجود مراد‪ ..‬ابن خالتها !‬
‫هكذا ألقت بالكرت الرابح أمامه‪ ،‬تنفست بعمق‬
‫و هي تراه يقطب جبينه متسائال و قد أثارت‬
‫نخوته ‪:‬‬
‫‪-‬مراد ابن خالتها ؟ مش فاهم يا ماما عايزة‬
‫تقولي إيه !!‬
‫شرحت له ما كانت تفطن إليه منذ زمان ‪:‬‬
‫‪-‬من سنين طويلة‪ .‬كنت انت لسا صغير‪ .‬و كانت‬
‫خالة إيمان و جوزها و ابنهم إللي طول عمرهم‬
‫عايشين برا في مصر عاملين زيارة لبيت‬
‫خالتك‪ .‬قعدوا فترة في ضيافتها و إيمان كانت‬
‫طالبة و مراهقة‪ .‬إللي شوفته و حسيته إنها‬
‫كانت متعلقة بابن خالتها‪ ..‬و إللي أكد لي لما‬
‫شوفتهم مرة مع بعض ماشيين في الشارع و‬
‫بيديها وردة‪ .‬كان شغل عيال وقتها‪ .‬بس أنا مش‬
‫ضامنة الظروف دلوقتي !‬
‫‪-‬طيب حتى لو فرضنا إللي بتقوليه‪ ..‬هو فين‬
‫سي مراد ده‪ .‬أنا عمري ما سمعت عنه أصال و‬
‫مش فاكره خالص‬
‫‪-‬و أنا بكلم أمينة أطمن عليها إنهاردة‪ .‬قالت لي‬
‫إن مراد ابن اختها رجع و أدهم مقعده في شقتنا‬
‫إللي في البيت‬
‫احتقن وجهه و صاح منفعال ‪:‬‬
‫‪-‬نعــم‪ ..‬و إزاي يعمل حاجة زي دي ؟ هو مش‬
‫عارف إن دي شقتك ؟ ورثك؟‬
‫تأففت "راجية" مغمغمة ‪:‬‬
‫‪-‬إحنا مش في قصة الشقة دلوقتي يا مالك‪ .‬انت‬
‫عارف ان البيت ده بقى متحرم علينا‪ .‬و أنا‬
‫ماليش عين أبص في وش أدهم و مراته بعد‬
‫إللي عملته فيهم‪ .‬ده غير إنه عرض قصادك‬
‫تمن خروجنا منها‪ .‬بس أنا إللي رفضت‪ ..‬المهم‬
‫عندي في اللحظة دي إيمان و لمى‪ً .‬لزم‬
‫تريحني و تقبل بالوضع ده‪ .‬عشان خاطري‬
‫يابني‬
‫طرق "مالك" يفكر بكالمها‪ ،‬ثم قال بعد برهة ‪:‬‬
‫‪-‬هي إيمان ماتتعيبش‪ .‬و أنا ماعنديش اعتراض‬
‫عليها شخصيا‪ .‬بس في مشكلتين مش هقدر‬
‫أغفل عنهم‬
‫‪-‬أول مشكلة ؟‬
‫‪-‬إنها مرات أخويا‪ .‬مش هقدر‪ .‬هايبقى صعب‬
‫عليا أوي أتقرب منها و اعتبرها زوجة‪ ..‬صعب‬
‫يا ماما !‬
‫قلبت "راجية" عينيها بسأم مستطردة ‪:‬‬
‫‪-‬و تاني مشكلة ؟‬
‫جاوبها غير مرتاحا ‪:‬‬
‫‪-‬السن‪ ..‬أنا أصغر منها بكتير !!‬
‫ردت ببساطة ‪ :‬و ًل كتير و ًل حاجة‪ .‬هي‬
‫دلوقتي عندها ‪ 32‬سنة‪ .‬و انت يا حبيبي ‪.24‬‬
‫يعني الفرق كله ‪ 8‬سنين‪ ..‬و بعدين ماتنساش‬
‫الرسول صل هللا عليه و سلم تزوج من السيدة‬
‫خديجة و كانت أكبر منه ‪ 15‬سنة‬
‫‪-‬عليه الصالة و السىالم‪ ..‬بس يا أمي ده‬
‫الرسول‬
‫‪-‬و هو بردو قدوتنا ! ‪ ..‬ثم قالت بحزم ‪:‬‬
‫‪-‬بقولك إيه يابني‪ .‬هي أيام و بقضيها في الدنيا‬
‫دي‪ .‬لو عايزني أعيش إللي باقي ليا حزينة و‬
‫تعيسة فوق تعاستي و قهرتي على أخوك‬
‫أرفض طلبي !‬
‫كز "مالك" على أسنانه بشدة و هو ينظر إليها‬
‫عاجزا على النطق‪ ،‬لقد حاصرته في خانة اليك‪،‬‬
‫آخر ما كان يفكر فيه أن تكون "إيمان" زوجته‬
‫هو في يوم من األيام‪ ...‬و لكن في األساس رأيه‬
‫فيها ثابت و معروف‬
‫إنها جميلة و آًلف الرجال يتمنوا نظرة منها‪،‬‬
‫كان شقيقه حمارا‪ ،‬أحمق و وغد‪ ..‬كيف كان‬
‫يقسو على امرأة حنونة و رقيقة مثلها ؟ إنها‬
‫تستحق كل التفاني و الحب‪ ،‬بل العشق ! !‬

‫يتبع ‪...‬‬
‫انتهى الفصل التاسع ‪..‬‬
‫‪10‬‬

‫"لكان من المستحيل أن أفكر بهذا ما حييت ؛‬


‫لكنك آسرة‪ ..‬تحركين شيئا بداخلي !"‬
‫_ مالك‬

‫اآلن أدركت فداحة تصرفاتها المتهورة‪ ،‬اآلن‬


‫هي في ورطة حقيقية بسبب غبائها و رعونتها‬
‫غير القابلة لإلصالح‪ ،‬و ها هو "مراد" يتجرد‬
‫من ثوب التحضر و تقديس كيان المرأة‪ ،‬ليتحول‬
‫إلى وحش ضاري‪ ،‬و هو يحل أزرار قميصه و‬
‫يقترب منها خطوة بخطوة كالذئب الذي يحاصر‬
‫شاه ؛‬
‫صارت ترتجف كليا و هي تتراجع بظهرها‬
‫متمتمة بتوتر شديد ‪:‬‬
‫‪-‬انت قفلت الباب بالمفتاح ليه‪ ..‬افتح لي يا مراد‬
‫لو سمحت خليني أنزل !!‬
‫إلتمعت على شفتي "مراد" إبتسامة سادية و لم‬
‫يرد عليها‪ ،‬واصل تقربه إليها و أصابعه تنتقل‬
‫إلى طوق خصره اآلن فتخلص خالل ثوان منه‪،‬‬
‫شخصت عينا "إيمان" لما رأته عازما هكذا و‬
‫بغير رجعة‪ ،‬همت بالفرار نحو باب الشقة‪ ،‬لكنه‬
‫سبقها ‪ ،‬كان سريعا و انقض عليها مرة واحدة‪،‬‬
‫كتمت "إيمان" صراخها عندما أسندها بعنف‬
‫إلى الجدار و إلتصق بها‪ ،‬ضغط على فمها بقوة‬
‫خشية أن يسمعها أهلها بالبيت و تكون‬
‫فضيحتها اليوم بعد كل تلك السنوات ‪...‬‬
‫‪-‬مراد‪ .‬انت مش في وعيك‪ ..‬أرجوك فوق !‬
‫كانت تتوسله و هي تكافح لإلفالت منه‪ ،‬لكنه‬
‫أبقى عليها بالقوة بين ذراعيه و قد أثاره أن‬
‫تكون في أحضانه من جديد‪ ..‬همس بقسوة و‬
‫هو يحشر ركبته بين فخذيها ‪:‬‬
‫‪-‬إنتي جيتي لحد عندي و إنتي عارفة إني مش‬
‫وعيي‪ .‬ماتلوميش غير نفسك دلوقتي !‬
‫سالت دموعها و هي تشعر بتحرشه بها يزداد‬
‫عمقا و جرأة و هي عبثا تقاومه منتحبة ‪:‬‬
‫‪-‬باهلل عليك كفاية يا مراد‪ .‬أنا توبت‪ ..‬كفاية‬
‫عشان خاطري ‪...‬‬
‫قهقه بشر و هو يقول محملقا بشفاهها الفريدة‬
‫التي ًل يكف عن اشتهاء مذاقها يوما ‪:‬‬
‫‪-‬عرفتي إنك ضعيفة لوحدك يا إيمان‪ .‬و إني‬
‫أقدر و حاًل أخضعك ليا و تنفذي كل إللي أنا‬
‫عايزه ؟‬
‫أومأت له و أقرت بخزي ‪:‬‬
‫‪-‬أيوة‪ .‬أيوة عندك حق‪ ..‬أنا ضعيفة‪ .‬و لو‬
‫ضغطت عليا أكتر من كده مش هاتردد و هاغلط‬
‫تاني‪ .‬بس أنا مش عايزة أغلط يا مراد‪ .‬أرجوك‬
‫إنها "إيمان" حبيبته‬
‫الفتاة التي أحبها في مراهقته و جعلها امرأة في‬
‫مطلع شبابه‬
‫إنها بين ذراعيه مرة أخرى‬
‫تحت سيطرته كما كانت دوما‬
‫إنها الغواية التي ًل تقاوم و هو ليس نبيا‬
‫ها هي تناجيه بكل ذرة في كيانها حتى و لو لم‬
‫تنطق بلسانها‪ ،‬سمع خفقان قلبه الشديد و كذا‬
‫تنفسه الثقيل‪ ،‬ابعد وجهه ‪:‬‬
‫‪-‬أنا أول واحد لمس الجسم ده‪ .‬إنتي ملكي أنا‬
‫إيمان‪ .‬إسمي محفور جواكي و ًل يمكن يتمحي‪..‬‬
‫ف توبة إيه إللي بتتكلمي عنها ؟ إنتي‬
‫ماتقدريش تقولي لي ًل !‬
‫كانت وجنتاها ملتهبتين و عيناها تفيض‬
‫بقطرات دموع كبيرة لم تذرف مثلها قط‪ ،‬كانت‬
‫تتململ بال حول و ًل قوة و هي ترد عليه‬
‫بصوت باكي ‪:‬‬
‫‪-‬مش هقولك ًل‪ ..‬لكن أقسم باهلل‪ .‬بعدها مش‬
‫هاعيش عشان أشوف صبح جديد‪ .‬هاموت‬
‫نفسي و أرتاح من العار ده كله‪ ..‬انت عاري في‬
‫الدنيا و اآلخرة يا مراد‪ .‬عمري ما هسامحك‪.‬‬
‫أبدا !‬
‫القسم الذي تلته على مسامعه جمده في لحظة‪،‬‬
‫و أدرك بأنها ًل تعبث بالكالم‪ ،‬و فجأة انحسرت‬
‫الرغبة كما اندلعت فجأة‪ ،‬تراجع عنها ‪...‬‬
‫أحست و كأنها تعرت عندما انفصل عنها بغتة و‬
‫بأيدي مرتعشة حاولت "إيمان" لملمت نفسهاو‬
‫هي ًل تكف أبدا عن النحيب الصامت‪ ،‬من جهة‬
‫أخرى انحنى "مراد" و التقط شالها‪ ،‬وضعه‬
‫فوق كتفيها ثم عدل الحجاب فوق رأسها ؛‬
‫ابتعد خطوتين للوراء و تشابكت نظراتيهما‬
‫لبرهة‪ ،‬ثم أمرها بهدوء ‪:‬‬
‫‪-‬إمشي يا إيمان‪ ..‬إنزلي دلوقتي‪ .‬يال !‬
‫ما كانت لديها القدرة على المضي خطوة‪ ،‬لكنها‬
‫أجبرت نفسها و هربت بأسرع ما أمكنها من‬
‫أمامه‪ ،‬بينما وقف يحدق في إثرها‬
‫فهو ًل يزال يكفر عن األولى‬
‫إًل أنه ًل يبتغي التوبة منها‪ ،‬الليلة تأكد بأنها‬
‫جزء منه‪ً ،‬ل زال يعشقها‪ ،‬و لن يعثر على‬
‫نظيرة مثلها أو أعلى منها مكانة مهما بحث‬
‫إنها شغفه األول‬
‫الحب الذي تمنحه إياه ًل يجده في سواها‬
‫كيف يتخلى عن الحب و الشغف و ينتظر‬
‫السعادة إذن‪ ..‬إنها ضالته التي تركها بجهل و‬
‫كاد أن يدمرها لألبد‬
‫هل يكرر نفس الحماقة !!؟‬

‫*****‬
‫عادت إلى شقة أمها منتفضة البدن‪ ،‬أغلقت‬
‫الباب ورائها واستندت إليه لبضعة دقائق‬
‫محاولة تهدئة أعصابها‪ ،‬لكن بال جدوى‬
‫جرت قدميها ناحية الرواق‪ ،‬لم تتجه إلى‬
‫غرفتها‪ ،‬بل مشيت رأسا صوب المرحاض‪،‬‬
‫مدت ساقيها الساق وراء األخرى داخل حوض‬
‫اًلستحمام‪ ،‬و فتحت الصنبور و هي تقف أسفله‬
‫بمالبسها لينهمر فوق رأسها رذاذ بارد كالثلج‬
‫أخذت تجهش بالبكاء و هي تلتقط زجاجة‬
‫الصابون و تسكب على نفسها‬
‫قضت ساعة كاملة تحاول محو آثاره ‪ ،‬كررت‬
‫الذنب الذي خرب حياتها‪ ،‬صحيح أنه ليس كامال‬
‫لكن ًل فرق‬
‫بعد ما حدث ليس لها الحق في التوبة‬
‫ليس لها الحق في الوقوف بين يدي خالقها و‬
‫طلب العفو بعد أن عاهدته و نقضت عهدها‬
‫هذا ما حدثت به نفسها المحطمة و هي تخرج‬
‫من المرحاض بمالبسها المشبعة بالماء‪ ،‬دلفت‬
‫إلى غرفتها و تهاوت فورا أمام السرير‪ ،‬تركته‬
‫لطفلتها و رقدت فوق األرض الصلدة الباردة‬
‫و كما لو أنها لم تنم أليام‪ ،‬غفت من فورها‪،‬‬
‫كالمغشي عليه ‪...‬‬

‫*****‬
‫وصلة أستحمام‬
‫ضمت الزوجين "أدهم" و "سالف"‪ ..‬إذ جعلوا‬
‫صغارهم هم العرايا فقط‪ ،‬كانت بهجة كبيرة‬
‫داخل قاعة المرحاض و لهو مرح كبير‬
‫تسلم "أدهم" اثنين من الصغار‪ ،‬و فضلت‬
‫"سالف" األقرب دوما إلى قلبها و األرهف‬
‫إحساسا بين إخوته "نور"‪ ..‬حممته و لم تتركه‬
‫لحظة و هو اآلخر لم يكن أقل تعلقا بها ؛‬
‫تناولوا جميعهم الفطور بعد ذلك في غرفة‬
‫الصغار‪ ،‬عقب أن ارتدوا مالبسهم و تناوبوا‬
‫على تلبيس أطفالهم و إطعامهم ‪...‬‬
‫‪-‬إنقضى يوم الشاور على خير ! ‪ ..‬قالتها‬
‫"سالف" بظفر و هي ترتشف القليل من‬
‫قهوتها بالحليب‬
‫كانت تقف على عتبة غرفة الصغار بجوارها‬
‫زوجها يتآمالن مرح أطفالهم بسعادة ‪...‬‬
‫‪-‬مش عارفة لو ربنا ماكنش رزقني بزوج‬
‫متعاون زيك كنت عملت إيه مع التالتة دول يا‬
‫دومي !؟‬
‫ابتسم "أدهم" لها و قال غامزا بعينه ‪:‬‬
‫‪-‬ما هي دي شركة بينا يا حبيبتي‪ .‬و بعدين لسا‬
‫اخواتهم ماجوش أنا كده ماقدمتش أقصى ما‬
‫عندي‬
‫تالشت ابتسامتها في هذه اللحظة و هي تعلق ‪:‬‬
‫‪-‬ثواني‪ ..‬أنت متخيل إني ممكن أخلف تاني يا‬
‫أدهم ؟‬
‫هز كتفيه ‪ :‬طبعا‪ .‬و ليه ًل يا حبيبتي‪ .‬إحنا أصال‬
‫متفقين‬
‫سالف باستنكار ‪ :‬متفقين على إيـه !!؟‬
‫‪-‬إيه هاتسحبي كالمك ؟ قبل ما دول يجوا قلتي‬
‫لي نفسي أجيب منك ‪ .10‬أنا ذاكرتي كويسة و‬
‫مش هقبل أقل من العدد ده‬
‫قهقهت بعلو و قالت ‪:‬‬
‫‪ً-‬لااا ده انت بتصدق الهزار فعال‪ .‬يا حبيبي دي‬
‫كانت لحظة حماس و راحت لحالها ! ‪ ..‬ثم‬
‫أضافت بحدة ‪:‬‬
‫‪-‬أنا عمري ما هانسى يوم الوًلدة‪ .‬أنا كنت‬
‫بموت يا أدهم حرام عليك و خالص جاتلي‬
‫ترومة من الحمل‪ .‬إنسى‬
‫و تركته مولية تجاه غرفة النوم‪ ،‬فتبعها هاتفا ‪:‬‬
‫‪-‬استني بس يا سالف‪ ..‬هانتفاهم يا حبيبتي‬
‫لم تتوقف األخيرة حتى غابت بالداخل صائحة ‪:‬‬
‫‪-‬إنســــى ‪...‬‬
‫ولج ورائها و أمسك بذراعها‪ ،‬أدارها صوبه و‬
‫حاول التعاطي معها بهدوء ‪:‬‬
‫‪-‬إيه بس إللي راعبك كده‪ .‬أنا بتكلم جد دلوقتي‪..‬‬
‫إنتي فعال مش عايزة تخلفي مني تاني ؟‬
‫تأففت بضيق ‪ :‬أدهم و أنا بتكلم جد‪ .‬مش قصة‬
‫مش عايزة أخلف منك‪ ..‬بس ده شيء متعب و‬
‫يكاد يكون مميت‪ .‬انت ماجربتوش بس أنا‬
‫جربته‬
‫حاول استعطافها ‪ :‬يعني وًلدنا طلعوا‬
‫مايستحقوش التجربة دي يا سالف‬
‫إنفعلت قليال ‪ :‬انت ليه مصمم كده‪ .‬ما انت عندك‬
‫‪ 3‬صبيان‪ .‬عايز إيه تاني يا أدهم !؟؟‬
‫جاوبها مبتسما ‪ :‬عايز زيهم بنات‪ .‬و بإذن هللا‬
‫هايكونوا معانا قريب !‬
‫تدلى فكها و هي تعقب ‪:‬‬
‫‪ 3-‬زيهم و قريب كمان ؟ ًل انت بجد بجد بتحلم‬
‫يا أدهم‪ .‬مستحيــل ‪...‬‬
‫و هربت من أمامه للخارج مجددا‪ ،‬بينما ظل‬
‫مكانه يضحك عليها‪ ،‬إلى أن قاطعه صوت‬
‫الهاتف‪ ،‬أستله من جيب سرواله و نظر إلى‬
‫الشاشة المضاءة‪ ،‬فعبس مستغربا لرؤية اسم‬
‫ابن عمته الكبيرة‪ ،‬لكنه رد في األخير ‪:‬‬
‫‪-‬السالم عليكم‪ ..‬أهال يا مالك !‬

‫*****‬
‫إنقطع صمت و سكون البيت بصراخ الطفلة‬
‫الباكية لحظة أن استيقظت و لم تجد أمها في‬
‫الفراش بجوارها‪ ،‬اقتحمت "أمينة" الغرفة‬
‫مذعورة على صوتها‪ ،‬و لكنها ازدادت هلعا‬
‫حين رأت ابنتها مكومة أمام الفراش‬
‫ظنت أنها فقدت الوعي كما هو حالها دائما‬
‫عندما تصاب بتعب نفسي‪ ،‬هبت "أمينة" إليها‪،‬‬
‫جثت إلى جوارها و أمسكت بها صائحة ‪:‬‬
‫‪-‬إيمــاااااان‪ .‬مالـك يابنتي حصل لك إيــه‪..‬‬
‫إيمـااااااان !!!‬
‫كانت استجابتها أسرع مما توقعت‪ ،‬فقد إنفتح‬
‫جفناها و نظرت بعيني أمها‪ ،‬زفرت "أمينة"‬
‫بارتياح بينما تمتمت "إيمان" ‪:‬‬
‫‪-‬إيه يا ماما‪ ..‬في إيه مين بيزعق كده !؟‬
‫أمينة بتوبيخ ‪ :‬إنتي إللي بتعملي إيه على‬
‫األرض إيمان‪ .‬إيه منيمك بالشكل ده وقعتي قلبي‬
‫!!‬
‫كانت الصغيرة "لمى" قد نزلت عن السرير و‬
‫جاءت لتجلس بحضن أمها‪ ،‬استقبلتها "إيمان"‬
‫محتضنة إياها و هي تجلس بمساعدة أمها التي‬
‫ًلمست عرضيا جبينها الملتهب ‪:‬‬
‫‪-‬يا لهوي ! إنتي سخنة مولعة كده ليه ؟‬
‫كانت أسئلتها الملتاعة كثيرة‪ ،‬لكن األخيرة‬
‫عمدت إلى تهدئتها بأقصى ما استطاعت ‪:‬‬
‫‪-‬اهدي يا ماما أنا كويسة‪ .‬كل الحكاية إني دخلت‬
‫استحميت قبل ما أنام و قعدت شوية هنا لحد ما‬
‫شعري ينشف‪ .‬ماحستش بنفسي باين نمت‬
‫مكاني !‬
‫نهرتها "أمينة" مجددا ‪:‬‬
‫‪-‬إيه تصرفات العيال دي ؟ عجبك يعني تاخدي‬
‫برد و كمان باين إمن هدومك مندية‪ .‬إنتي بليتي‬
‫نفسك و ًل إيه !؟‬
‫غمغمت "إيمان" بنفاذ صبر ‪:‬‬
‫‪-‬يا ماما قلت لك مافياش حاجة‪ .‬أنا هقوم أفطر‬
‫و أشرب حاجة سخنة و هابقى كويسة‪ ..‬خالص‬
‫لو سمحتي بقى !‬
‫أذعنت "أمينة" إلرادة إبنتها و كفت لسانها‪،‬‬
‫لتسألها "إيمان" تاليا ‪:‬‬
‫‪-‬هي الساعة كام دلوقتي ؟‬
‫‪-‬الساعة ‪ 12‬الظهر يا حبيبتي‬
‫‪-‬ياااااه ! ‪ ..‬ردت و هي تدلك رأسها الذي يؤلمها‬
‫‪-‬ده أنا اتأخرت إنهاردة في النوم أوي‬
‫‪-‬أنا صاحية من النجمة و هللا‪ .‬بس ماحبتش‬
‫أصحيكي قلت أسيبك براحتك‬
‫نظرت لها باستغراب ‪:‬‬
‫‪-‬و إيه صحاكي بدري أوي ؟‬
‫أخبرتها بايجاز و قد بدا عليها اًلمتعاض ‪:‬‬
‫‪-‬مراد ابن خالتك‪ .‬نزل يديني مفتاح الشقة‬
‫الساعة ‪ 6‬الصبح و مشي‬
‫شحبت "إيمان" و هي تسألها بال حسيب ‪:‬‬
‫‪-‬مشي راح فين ؟‬
‫‪-‬ماقالش يابنتي‪ .‬كل اللي قاله إنه هايبقى يكلم‬
‫أدهم و يشرح له‪ .‬يشرح إيه بقى ماعرفش !‬
‫ارتجف قلبها بين أضلعها و هي تتلقى األخبار‬
‫إذن فعل مثل المرة السابقة‪ ..‬تركها و أدار‬
‫ظهره كما أول مرة دون أن ينبس ببنت شفة‬
‫لن يتغير أبدا‬
‫و لن تكون ذكراه في حياتها إًل عبارة عن األلم‬
‫تبا للحب‪ ...‬لقد كرهته لألبد بسببه !‬

‫يتبع ‪...‬‬
‫انتهى الفصل العاشر‬
‫‪11 ..‬‬

‫"و لكن ما ًل تعرفه هو أنك معي أنا فقط عرفت‬


‫معنى الحب ؛ تبكي على امرأة أخرى‪ ..‬فلتبك‪...‬‬
‫ًلحقا ستبكي علي أنا !"‬
‫_ إيمان‬

‫لما فتحت "إيمان عمران" عينيها‪ ،‬و هي فتاة‬


‫في الخامسة و العشرين من عمرها‪ ،‬وجدت‬
‫وسادتها مبللة‪ ،‬إذ قضت الليل تبكي بال إنقطاع‪،‬‬
‫كانت محمومة تعتريها القشعريرة‪ ،‬قامت‬
‫بصعوبة من السرير عندما تناهى إلى مسامعها‬
‫صوت الجلبة خارج غرفتها‪ ،‬و مؤكد بأنها‬
‫عرفت السبب‬
‫لقد أتى‪ ..‬لقد أتى "سيف" كما وعدها ليطلب‬
‫يدها للزواج‪ ،‬إنه هنا هو و والديه ؛‬
‫وصلت عند باب غرفتها و ورابته قليال‪ ،‬أطلت‬
‫برأسها ًل لترى‪ ،‬إنما لتسمع بوضوح‪ ،‬و ما لبث‬
‫أن برز صوت عمتها "راجية" مغتبطا ‪:‬‬
‫‪-‬إيه رأيك يا أمينة بقى في المفاجأة دي‪ ..‬حسن‬
‫جوزي نزل من الطيارة عليكوا علطول حتى‬
‫ماطلعش شقتنا‬
‫ردت "أمينة" بترحيب ‪:‬‬
‫‪-‬ألف حمدهلل على السالمة يا أستاذ حسن‪.‬‬
‫نورت بيتك و مصر كلها‬
‫شكرها األخير ‪:‬‬
‫‪-‬هللا يخليكي يا أم أدهم‪ .‬ده نوركم و هللا‪ .‬و‬
‫باألخص نوارة البيت كله إيمان‪ ..‬أمال هي فين‬
‫صحيح ؟‬
‫‪-‬حاًل أدخل أجيبها لك‬
‫‪-‬يا ريت لغاية ما أتكلم أنا و أدهم شوية‪ .‬إذا‬
‫عندك وقت يا دكتور !‬
‫جاء جواب "أدهم" مهذبا واثقا ‪:‬‬
‫‪-‬و لو ماعنديش أفضى لك يا عمي‬
‫‪-‬حبيبي تسلم‬
‫‪-‬اتفضلوا اقعدوا طيب ‪...‬‬
‫في هذه األثناء ذهبت "أمينة" لغرفة ابنتها‪،‬‬
‫لتجدها تقف بوجهها هكذا‪ ،‬دلفت و أغلقت الباب‬
‫ورائها و هي تقول مدققة النظر بمالمحها‬
‫الناعسة ‪:‬‬
‫‪-‬إيه يا إيمان ده‪ .‬إنتي لسا قايمة من النوم‪..‬‬
‫إنتي مش عارفة إن عمتك و جوزها جايين‬
‫عشانك‪ .‬مش إنتي إللي قلت لي كده إمبارح !؟؟‬
‫جاوبتها "إيمان" بتعب واضح ‪:‬‬
‫‪-‬أيوة يا ماما‪ .‬أنا عارفة إنهم جايين زي ما قلت‬
‫لك‪ ..‬بس كنت سهرانة شوية من إمبارح‪.‬‬
‫دلوقتي أدخل أغسل وشي و ألبس و هاطلع لهم‬
‫حثتها "أمينة" بعجالة ‪:‬‬
‫‪-‬طيب يال بسرعة شهلي‪ .‬الراجل جاي من سفر‬
‫علينا تالقيه تعبان و عاوز يرتاح في بيته‬
‫أومأت لها ‪ :‬حاضر حاضر حاًل أهو ‪...‬‬
‫و سحبت منشفتها و مضت مسرعة إلى الحمام‪،‬‬
‫غسلت وجهها و فرشت أسنانها بقوة حتى‬
‫أدمتها قليال‪ ،‬ثم عادت إلى غرفتها و فتحت‬
‫الخزانة لتخرج الثوب الذي وقع إختيارها عليه‬
‫سلفا‪ ،‬و هو نفسه الثوب الذي اشترته من أجل‬
‫اللحظة التي وعدها بها حبيبها "مراد"‪ ..‬لحظة‬
‫مجيئه إلى هنا ليطالب بها زوجة له‬
‫و لكن أين هو ؟‬
‫ليس هو الذي جاء‪ ..‬بل غيره‬
‫لقد جاء رجل ًل تحبه‪ ،‬و ًل تعرف كيف ستسمح‬
‫له حتى أن يتقرب إليها‪ ،‬فماذا عن تبادل الحب‬
‫!؟‬
‫سيكون هذا مؤلما‪ ،‬كما هو مؤلم اآلن أن‬
‫تتحضر و تتزين ألجله هو‪ ،‬إنها في كابوس‪ ،‬و‬
‫ًل مجال للخروج منه أبدا كما يبدو ‪...‬‬
‫وضعت "إيمان" اللمسات األخيرة على وجهها‬
‫‪ ،‬و أخيرا وقفت أمام المرآة تلقي على نفسها‬
‫نظرة‪ ،‬و رغم ما كابدته طوال الليلة الماضية‬
‫حتى مطلع الفجر‪ ،‬إًل إنها بدت‪ ...‬جميلة جدا !‬
‫في ثوبها الوردي األنيق‪ ،‬فضفاضا ذي طوق‬
‫ذهبي يظهر منحنى خصرها المنسق‪ ،‬و حجابها‬
‫الرقيق اختارته وشاحا أبيض شفاف أسفله‬
‫قماش مزركش غطى شعرها بالكامل‪ ،‬و اآلن‬
‫صارت جاهزة ؛‬
‫و كدأب كل عروس خرجت من غرفتها و هي‬
‫على قدر من التوتر‪ ،‬ذهبت عند أمها بالمطبخ‪،‬‬
‫و قد كانت "أمينة" قد حضرت صينية‬
‫المشروبات و طبق الحلويات المشكل و الكعك‬
‫الطازج الذي طلبته في الصباح من أشهر متاجر‬
‫الحلو ‪...‬‬
‫‪-‬إيه يا نور عيني الجمال ده كله ؟ ‪ ..‬قالتها‬
‫"أمينة" بحبور ما إن رأت إبنتها أمامها‬
‫تركت من يدها كل شيء و اقتربت منها‪ ،‬أحاطت‬
‫بكتفيها و قالت و عينيها تلتمع بالدموع ‪:‬‬
‫‪-‬زي القمر يا إيمان‪ .‬أمال لما تبقي عروسة إن‬
‫شاء هللا عن قريب هاتبقي إزاي‪ ..‬قل أعوذ برب‬
‫الفلق يا حبيبتي‬
‫و عانقتها بقوة‪ ،‬ثم نظرت في وجهها الذي رغم‬
‫بهائه يحمل مسحة حزن‪ ،‬لكنها غير ملحوظة‬
‫تماما ‪...‬‬
‫‪-‬رغم إني كنت مسخسراكي في سيف ابن‬
‫راجية ! ‪ ..‬قالتها "أمينة" بقليل من اًلمتعاض‬
‫‪-‬كان نفسي ليكي في راجل عليه القيمة أكتر من‬
‫كده‪ .‬زي إللي كنتي بترفضيهم دول‪ ..‬أتاريني‬
‫ماكنتش أعرف إنك بتحبي سيف و قاعدة‬
‫عشانه‬
‫اغتصبت "إيمان" ابتسامة متكلفة و قالت ‪:‬‬
‫‪-‬أديكي عرفتي يا ماما‪ .‬أنا بحب سيف و هو‬
‫بيحبني‪ ..‬أنا عايزاه !‬
‫و قد كانت تكذب حتما ‪...‬‬
‫أومأت لها أمها‪ ،‬ثم قالت و هي تحملها صينية‬
‫المشروبات ‪:‬‬
‫‪-‬ماتقلقيش يا نن عيني‪ .‬أنا منايا أفرح بيكي من‬
‫زمان‪ .‬و ما صدقت دماغك ًلنت‪ ..‬أنا اتكلمت مع‬
‫أخوكي و قدرت أقنعه‪ .‬إن شاء هللا كله هايتم‬
‫على خير‪ .‬أطلعي على مهلك‪ .‬قدمي الشربات‬
‫لحماكي األول و بعدين تقعدي جمب عريسك‪..‬‬
‫يال يا حبيبتي ‪...‬‬
‫سحبت "إيمان" نفسا عميقا و خرجت أمام‬
‫أمها على ضيوفهم‪ ،‬كانت يداها ترتعشان و لم‬
‫تكن تتحكم بهما‪ ،‬لكنها ناضلت وصوًل إلى‬
‫السيد "حسن" كي ًل يسقط منها شيء ؛‬
‫قدمت له مبتسمة‪ ،‬فتناول "حسن" الكأس‬
‫متمتما ‪:‬‬
‫‪-‬تسلم إيديكي يا عروستنا‪ .‬إيه الحالوة دي كلها‬
‫يا إيمان ؟ إحلوتي على حالوتك عن آخر مرة‬
‫شوفتك !‬
‫ردت "إيمان" بخجل ‪:‬‬
‫‪-‬ميرسي يا عمي‪ .‬حمدهلل على السالمة‬
‫‪-‬هللا يسلمك يا حبيبتي‪ .‬عقبال ما أفرح بيكي في‬
‫أقرب وقت بأمر هللا‬
‫غضت "إيمان" عينيها من شدة خجلها من‬
‫كلماته‪ ،‬و تنقلت إلى عمتها تقدم لها كأسها ‪...‬‬
‫‪-‬هاتي يا حبيبتي ! ‪ ..‬هتفت "راجية" و على‬
‫وجهها أكبر ابتسامة‬
‫‪-‬اسم هللا و الحارس هللا‪ ..‬قمر ‪ 14‬ياناس‪.‬‬
‫عروسة إبني زي القمر‬
‫لم ترد "إيمان" و انتقلت إلى أخيها‪ ،‬أبى‬
‫"أدهم" أن يأخذ منها بإشارة من يده‪ ،‬فتابعت‬
‫حتى وصلت أمامه‪ ..‬امام "سيف الذي جلس‬
‫فوق األريكة الصغيرة وحده‬
‫تطلعت إليه رغما عنها‪ ،‬كان حادا و خطيرا بقدر‬
‫ما كان وسيما في حلته السوداء‪ ،‬و ًل تعرف‬
‫لماذا أفزعتها نظرته المظلمة بادئ األمر‪ ،‬قبل‬
‫أن يبددها بابتسامة تكنف شيء من اًلستهجان‬
‫مد "سيف" يده و أخذ كأسه قائال بصوته‬
‫األجش ‪:‬‬
‫‪-‬تسلم إيدك !‬
‫تحررت "إيمان" من أسر عينيه حين صرف‬
‫ناظريه عنها‪ ،‬لحظتها فقط تنفست الصعداء و‬
‫هي تلتفت لتضع الصينية فوق الطاولة‪ ،‬ثم‬
‫جلست إلى جواره تاركة بينهما مسافة‬
‫كان اضطرابها على أشده‪ ،‬و راحتيها تصببان‬
‫عرقا مع السكون المحيط بها‪ ،‬لم يهدئها قليال‬
‫إًل صوت "حسن" الذي طفا على سطح‬
‫الصمت ‪:‬‬
‫‪-‬أدينا بنشرب الشربات و عروستنا قاعدة معانا‬
‫أهيه يا أدهم‪ ..‬أنا طلبتها منك لسيف ابني‬
‫باعتبارك أخوها الكبير و راجل البيت ده كله‪.‬‬
‫قلت لي الرأي رأيها‪ .‬ف ممكن تسألها قصادنا‬
‫!؟‬
‫تنهد "أدهم" مرفرفا بجفونه‪ ،‬كان متكدرا و‬
‫غير راضيا من داخله و هو يسأل شقيقته‬
‫بصوت صلد ‪:‬‬
‫‪-‬إيمان‪ ..‬إيه رأيك في إللي سمعتيه‪ .‬موافقة‬
‫تتجوزي سيف و اًل أل ؟‬
‫كان "سيف" يجلس باردا كالثلج و مسترخيا‬
‫للغاية و هو ينظر صوبها بجانبه متسليا‬
‫بارتباكها الظاهر‪ ،‬فهو يعلم يقينا جوابها و قبل‬
‫أن تنطقه‪ ،‬و مع ذلك فقد أطربته كلماتها التالية‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬أنا موافقة أتجوز سيف يا أدهم !‬
‫أصابت خيبة األمل "أدهم" و افترشت محياه‪،‬‬
‫لكن لحسن حظ العروسين طغى عليها هتاف‬
‫"حسن" الجذل ‪:‬‬
‫‪-‬على بركة هللا‪ .‬و مبروك علينا كلنا‪ ..‬يبقى إن‬
‫شاء هللا كتب الكتاب و الفرح مع بعض آخر‬
‫الشهر ده‪ .‬أنا عارف إن سلوكم هنا مش‬
‫بتوافقوا على الخطوبة‪ .‬و كله جاهز‪ .‬و ًل إيه يا‬
‫ست أمينة ؟‬
‫ردت "أمينة" و دموع الفرح تترقرق بعينيها ‪:‬‬
‫‪-‬يا أستاذ حسن كفاية مجيتك‪ .‬إحنا نجهزها و‬
‫نوصلها لحد عندك إللي تقول عليه طبعا انت في‬
‫مقام أبوها‬
‫‪-‬يعلم ربنا كلهم وًلدي‪ .‬و إيمان بالذات تاخد‬
‫عيني من جوا‪ .‬بإذن هللا انا متكفل بكل حاجة‬
‫عايزها بالهدمة إللي عليها و بس‪ ,‬و كمان‬
‫هاعمل لها فرح ماتعملش زيه و الشبكة إللي‬
‫تختارها إن شاهلل تكلفني ثروة‪ .‬إللي هي عايزاه‬
‫كله هايحصل !‬
‫و هنا انطلقت الزغاريد المجلجلة من فم‬
‫"راجية" أعقبتها "أمينة" هي األخرى‪،‬‬
‫ليستغل "سيف" الموقف و يميل صوب‬
‫عروسه قليال هامسا بصوت ًل يسمعه سواها ‪:‬‬
‫‪-‬مبروك يا حبيبتي !‬
‫رمقته "إيمان" بطرف عينها و قالت ‪:‬‬
‫‪-‬هللا يبارك فيك ‪..‬‬
‫علت زاوية فمه بابتسامة شريرة و هو يستطرد‬
‫بكلمات جمدت الدماء بعروقها ‪:‬‬
‫‪-‬أوعدك إنك هاتشوفي معايا إللي عمرك ما‬
‫شوفتيه‪ ..‬هفاجئك‪ .‬و هاتعرفي أنا أد إيه بحبك و‬
‫بعشقك !‬
‫كانت كلماته لطيفة كما يبدو‪ ،‬لكنها لم تشعر بها‬
‫على هذا النحو أبدا‪ ..‬خافت‪ ،‬و لم يخبو خوفها‬
‫منذ تلك الليلة أبدا ‪...‬‬

‫*****‬

‫لما فتحت "إيمان عمران" عينيها‪ ،‬و هي امرأة‬


‫في الثانية و الثالثين من عمرها‪ ،‬وجدت أمها‬
‫توقظها بلطمات خفيفة على وجنتيها الملتهبتين‬
‫‪...‬‬
‫‪-‬إيمان‪ .‬إنتي نمتي تاني يا حبيبتي‪ ..‬إنتي تعبانة‬
‫أوي و اًل إيه ؟ أتصل بالدكتور !؟‬
‫أجبرت "إيمان" نفسها على الصحوة و نظرت‬
‫ألمها بتركيز مضن‪ ،‬ثم قالت مصارعة لهجة‬
‫النعاس و هي تعتدل في فراشها ‪:‬‬
‫‪-‬أنا كويسة يا ماما‪ ..‬ماتقلقيش‪ .‬بس راسي‬
‫تقيلة إنهاردة‪ .‬عادي يعني مستكترة عليا أريح‬
‫يوم في السرير ؟‬
‫مسحت "أمينة" على شعرها قائلة بتعاطف ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل يا حبيبتي‪ .‬ريحي زي ما تحبي‪ ..‬أنا بس‬
‫بقلق عليكي‪ .‬و اليومين دول باألخص أحوالك‬
‫مش عجباني !‬
‫صدق حدس األم‬
‫التي شعرت بحالة األكتئاب المسيطرة على‬
‫إبنتها ‪...‬‬
‫ابتسمت "إيمان" بصعوبة و قالت محاولة‬
‫طمئنة أمها ‪:‬‬
‫‪-‬أنا كويسة يا ماما !‬
‫هزت "أمينة" رأسها غير مصدقة ادعائها‪،‬‬
‫لكنها لم تسهب فيه أكثر و قالت لها بتردد ‪:‬‬
‫‪-‬في خبر مهم من ناحية عمتك راجية‪ ..‬تحبي‬
‫تسمعيه دلوقتي و ًل بعدين !؟‬
‫عبست متسائلة في الحال ‪:‬‬
‫‪-‬خير يا ماما‪ .‬قولي ؟‬
‫تنهدت "أمينة" حائرة كيف تصوغ ذلك‪ ،‬إًل‬
‫إنها حاولت ‪:‬‬
‫‪-‬مالك ابن عمتك !‬
‫حثتها ‪ :‬ماله يا أمي إتكلمي !؟؟‬
‫زفرت "أمينة" مطوًل‪ ،‬ثم ألقتها بوجهها دفعة‬
‫واحدة ‪:‬‬
‫‪-‬مالك طالب إيدك من أخوكي أدهم ‪...‬‬
‫إمتد الصمت دقيقة كاملة‪ ..‬ثم سألتها "إيمان"‬
‫ثانية مشككة في سمعها ‪:‬‬
‫‪-‬إيه !!!؟‬
‫كررت "أمينة" مشفقة على صدمتها ‪:‬‬
‫‪-‬مالك عايز يتجوزك يا إيمان ! ‪!.‬‬

‫يتبع ‪...‬‬

‫انتهى الفصل الحادي عشر‬

‫‪12‬‬
‫"لقد وقعت في فخك ؛ و هذا ما كنت تسعي‬
‫إليه‪ ..‬ادركت أخيرا أن أهم شيء هو الحب‪ ...‬و‬
‫لكن بعد فوات األوان !"‬

‫_ مراد‬

‫حانت ساعة العشاء و اليوم الدعوة عند السيدة‬


‫"أمينة"‪ ...‬لم يتكلم "أدهم" عندما لم يجد‬
‫شقيقته "إيمان" على المائدة‪ ..‬لم يكن يود أن‬
‫يكرر كالمه كثيرا في هذا الموضوع المحسوم‬
‫سلفا‪ ،‬لذلك انتظر حتى فرغوا من تناول الطعام‬
‫و انتقلوا إلى غرفة المعيشة‬
‫صنعت "سالف" القهوة و جاءت لتجلس‬
‫بجوار زوجها‪ ،‬قدمت له فنجانه مبتسمة‪،‬‬
‫فشكرها عابسا ‪:‬‬
‫‪-‬تسلم إيدك يا حبيبتي‬
‫سالف برقة ‪ :‬بالهنا يا حبيبي‬
‫ارتشف "أدهم" القليل من القهوة السادة‬
‫خاصته‪ ،‬ثم تطلع إلى أمه قائال ‪:‬‬
‫‪-‬بلغتي إيمان بالخبر إللي قلته لك يا ماما ؟‬
‫أومأت "أمينة" و الحزن يبدو عميقا بعينيها ‪:‬‬
‫‪-‬أيوة يابني قلت لها‬
‫‪-‬و كان إيه ردها !؟‬
‫‪-‬ماردتش أصال يا أدهم‪ .‬يا حبة عيني اتصدمت‬
‫! ‪ ..‬ثم قالت بانفعال ‪:‬‬
‫‪-‬أنا مش مستوعبة أصال هو جنس عمتك ده‬
‫إيـه‪ .‬مش كفاية إللي شوفناه كلنا منهم‪ .‬إزاي‬
‫خطر لها كده‪ ..‬عايزة بنتي الكبيرة تتجوز إبنها‬
‫إللي لسا مخلص تعليمه و بياخد المصروف‬
‫منها‪ .‬دي إتجننت !!!‬
‫كف "أدهم" حديثها بصرامة ‪:‬‬
‫‪-‬أمي‪ .‬إسمعيني‪ ..‬المشكلة هنا مش فرق السن‬
‫و ًل في مالك شخصيا‪ .‬بالعكس مالك أخالقه‬
‫ممتازة و كمان مابقاش الشاب المراهق بتاع‬
‫زمان‪ .‬دلوقتي راجل و مسؤول من يوم وفاة‬
‫أخوه كلنا عارفين إنه إتبدل لألحسن‪ .‬أنا طبعا‬
‫كنت هاوافق على مالك في حالة واحدة بس‬
‫تساءلت "أمينة" بين اًلستنكار و الفضول ‪:‬‬
‫‪-‬إيه هي بقى !؟؟‬
‫جاوبها "أدهم" ببغض لم يفلح بكظمه ‪:‬‬
‫‪-‬لو كانت أمه مش عمتي راجية‪ ..‬رغم إني‬
‫سامحتها في إللي عملته فيا و شغل الدجل و‬
‫السحر‪ .‬لكن هي تابت و ربنا بيقبل التوبة من‬
‫عباده مهما كانت ذنوبهم‪ .‬مش معقول أنا‬
‫هافضل شايل و خاصة إنها عمتي و في صلة‬
‫رحم‪ ...‬لكن كل ده بردو كوم‪ .‬و مشاعري إللي‬
‫جوايا و إللي مش بإيدي أتحكم فيها كوم تاني‪..‬‬
‫أنا مش هاسمح لها تدخل حياتنا زي األول‪.‬‬
‫مستحيل !‬
‫أيدته "أمينة" في هذه ‪:‬‬
‫‪-‬طبعا يا حبيبي و أنا من رأيك‪ .‬أنا بس اتصدمت‬
‫زي عملة أختك بالضبط‪ .‬ماتخيلتش أبدا أفكار‬
‫عمتك تستفحل في الشر لكده و الواحد كان‬
‫مفكر إن ربنا هداها بعد موت إبنها إللي كان‬
‫روحها فيه‪ ..‬لكن الظاهر مافيش فايدة‪ .‬الطبع‬
‫غالب فعال‬
‫شرب "أدهم" فنجانه كله بجرعة كبيرة‪ ،‬ثم‬
‫وضعه فوق الطاولة أمامه هاتفا بشيء من‬
‫العصبية ‪:‬‬
‫‪-‬أنا ماليش سلطة في الرفض أو القبول و إًل‬
‫كنت نهيت الموضوع من أول كلمة‪ .‬من فضلك‬
‫يا أمي أدخلي ناديلي إيمان تديني كلمتها عشان‬
‫نخلص من القصة دي خالص ‪..‬‬
‫‪-‬أنا موافقة يا أدهم !!!‬
‫جمد المكان و الهواء صار خانقا للحظات‪ ،‬قبل‬
‫أن يلتفت لها الجميع‪ ...‬كان "إيمان" التي‬
‫نطقت بتلك الجملة !‬
‫كانت تقف عند أعتاب غرفة المعيشة‪ ،‬في قمة‬
‫الثقة و اإلتزان نظرت بعيني أخيها الذي نطق‬
‫أخيرا بذهول ‪:‬‬
‫‪-‬موافقة على إيه يا إيمان !؟‬
‫قالتها ملء أسماعهم مرة أخرى و بحزم ‪:‬‬
‫‪-‬موافقة أتجوز مالك ابن عمتي راجية !‬

‫*****‬

‫صوت موسيقى عذبة أخرجته من كابوسه أوًل‪،‬‬


‫ثم شعاع الشمس الذي اخترق نوافذ الغرفة‪،‬‬
‫فتح عيناه بتثاقل و استقام على مرفقه بمشقة‪،‬‬
‫مد يده نحو الكومود ليطفئ المنبه‬
‫أطلق أهة مطولة و هو يفرك وجهه بقوة بكفه ؛‬
‫كان يشعر بدوار و رأسه يؤلمه‪ ،‬و كان قلبه‬
‫يخفق بشدة في صدره كما لو أنه فرغ من‬
‫المارثون للتو‪ ،‬حتما هذا تأثير الكحول التي‬
‫قضى ليله كله يعاقرها‪ ،‬إنتزع نفسه من الفراش‬
‫بصعوبة و قام على مهل كي ًل يسقط‪ ،‬مشى‬
‫مترنحا صوب الحمام الملحق بالغرفة المترفة‪،‬‬
‫فتح صندوق اإلسعافات بحثا عن أي مسكن‬
‫لآلًلم‪ ،‬و قد كان يبذل جهدا إلبقاء عينيه‬
‫مفتوحتين رغم الصداع النصفي الذي كان يعذبه‬
‫لألسف و بالتأكيد كانت كل العقاقير هنا منتهية‬
‫الصالحية‪ ،‬مم أحبطه و جعله أكثر غضبا و‬
‫إنفعاًل‪ ،‬رمى بمحتويات الصندوق بعصبية‬
‫ليتناثر كل شيء تحت قدميه‬
‫و اآلن لم يكن أمامه سوى حال واحد‪ ،‬قسر‬
‫نفسه على النزول من غرفته مستندا إلى الجدار‬
‫تارة و الدرابزين تارة‪ ،‬و مع أصغر حركة يقوم‬
‫بها يزداد شعوره بالغثيان‪ ،‬كانت حالته مزرية‬
‫بحق و لعله يفهم األسباب‪ ...‬غالبا ما تكون تلك‬
‫النتيجة عندما يسوء مزاجه السوداوي‪ ،‬ينعكس‬
‫عليه فسيولوجيا بهذا الشكل المثير للشفقة‬
‫و أخيرا وصل إلى المطبخ عاري الجزع‪ ،‬أسرع‬
‫بتحضير فنجانا من القهوة مستخدما األغراض‬
‫التي اشتراها باألمس‪ ،‬و ظل بجوار الموقد حتى‬
‫نضج البن‪ ،‬صبه بكأس صغير و لم ينتظر حتى‬
‫تبرد‪ ،‬تجرعها على مرتين متحمال سخونتها‬
‫ابتلع ورائها كوب من الماء البارد‪ ،‬ثم أخيرا بدأ‬
‫يشعر بنفسه و يسترخي‪ ،‬الصداع في تالشي‪ ،‬و‬
‫مزاجه يتحسن شيئا فشيء ‪...‬‬
‫عاد إلى الطابق العلوي و دلف إلى غرفة النوم‪،‬‬
‫تزامنا مع المكالمة التي دقت هاتفه‪ ،‬سار نحو‬
‫كومة مالبسه بجوار السرير و أستل الهاتف من‬
‫جيب معطفه‪ ،‬ثم رد فورا لما رأى اسم "أدهم"‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬آلو‪ ..‬صباح الخير يا أدهم !‬
‫جاء رد "أدهم" هازئا ‪:‬‬
‫‪-‬صباح إيه يا مراد باشا‪ .‬إحنا بقينا الظهر !!‬
‫غمغم "مراد" و هو يحك ذقنه بطرف أنامله ‪:‬‬
‫‪-‬ما أنا نمت متأخر شوية عشان كده ضبط‬
‫متأخر شوية بردو ‪Alarm‬الـ‬
‫‪-‬إمم‪ ..‬طيب أنا استنيت إمبارح تكلمني زي ما‬
‫خالتك قالت لي بس ماحصلش‪ .‬أنا لحد دلوقتي‬
‫مش فاهم إيه إللي حصل خالك تسيب البيت و‬
‫تمشي‬
‫‪-‬مافيش حاجة حصلت طبعا‬
‫‪-‬أومال إيه‪ ..‬مشيت ليه طيب قبل ما تقول لي‬
‫على األقل‪ .‬حد زعلك يابني ؟‬
‫نفى "مراد" في الحال ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل يا أدهم‪ .‬مافيش الكالم ده‪ ..‬بص أنا هافهمك‬
‫بس ًلزم أشوفك‬
‫‪-‬انت فين ؟‬
‫‪-‬أنا في بيتنا إللي في الزمالك‪ .‬لو فاضي دلوقتي‬
‫عدي عليا نروح نقعد في أي حتة و نتكلم‪ .‬أنا‬
‫عاوزك في موضوع‬
‫‪-‬خالص ساعة بالكتير و هكون عندك !‬

‫*****‬

‫دق جرس المنزل و كانت الصغيرة "لمى" أول‬


‫من استجابت ‪...‬‬
‫طارت من المطبخ حيث كانت تقف مراقبة‬
‫جدتها و هي تطهو أطايب األطعمة‪ ،‬تجاهلت‬
‫نداءات "أمينة" و فتحت الباب‪ ،‬لتصرخ بمرح‬
‫ما إن رأت عمها و عمتها أمامها يحمالن‬
‫الهدايا و علب من الدمى و األلعاب من أجلها ‪...‬‬
‫‪-‬مايـااااااااا و ماااااالـك جم يا تيتة‪ .‬جم جم !!‬
‫ضحك األخوين و إنحنى "مالك" ليحملها على‬
‫ذراعه الحر هاتفا ‪:‬‬
‫‪-‬لولـي القمر‪ .‬وحشتيني يا قلبي عاملة إيه ؟‬
‫عانقته "لمى" بسعادة قائلة ‪:‬‬
‫‪-‬الحمدهلل‪ .‬انت كمان وحشتني أوي أووووي‬
‫‪-‬يا عفريتة‪ .‬انتي لسا كنتي معايا من يومين‬
‫‪-‬بردو وحشتني زي ما وحشتك‪ .‬مش أنا‬
‫وحشتك !؟‬
‫ابتسم مقبال خدها المكتنز بعمق‪ ،‬في جيئة‬
‫"أمينة" في هذه اللحظة‪ ،‬رحبت بهما مهللة‬
‫بتكلف ‪:‬‬
‫‪-‬يا أهال أهال‪ ..‬خطوة عزيزة يا حبايبي‪.‬‬
‫وحشتوني يا وًلد‪ ..‬إزيك يا مالك يا حبيبي ؟‬
‫صافحها "مالك" بمودة قائال ‪:‬‬
‫‪-‬بخير و هللا يا طنط أمينة‪ .‬انتي إللي وحشتيني‬
‫أكتر‪ .‬عاملة إيه ؟‬
‫‪-‬الحمدهلل يابني كله فضل و نعمة ! ‪ ..‬ثم‬
‫توجهت نحو "مايا" و عانقتها و قبلتها على‬
‫خديها متمتمة ‪:‬‬
‫‪-‬مايا حبيبة قلبي‪ .‬إيه يا بت الحالوة دي هللا أكبر‬
‫عليكي‬
‫مايا بابتسامة عذبة ‪:‬‬
‫‪-‬طنط أمينة حبيبتي‪ .‬دي حالوة عينيكي انتي و‬
‫هللا‬
‫أمينة بغمزة ‪ :‬شكل خطيبك واخد باله منك‪.‬‬
‫موردك كده و زايدك جمال‪ .‬ياريته كان جه من‬
‫زمان !‬
‫ضحكت "مايا" بخجل ‪:‬‬
‫‪-‬كسفتيني يا طنط أمينة ‪..‬‬
‫‪ً-‬ل و انتي وش كسوف يابت !! ‪ ..‬قالها‬
‫"مالك" ساخرا‬
‫فوكزته "مايا" بكوعها رامقة إياه بنظرة‬
‫غاضبة‬
‫ضحكت "أمينة" و دعتهما للداخل ‪:‬‬
‫‪-‬طيب كفاية كالم على الباب و تعالوا نتناقر زي‬
‫زمان جوا‪ .‬ادخلوا يال‪ ..‬و انتي يا لمى روحي‬
‫قولي لماما مالك و مايا وصلوا‬
‫أطاعتها "لمى" متململة على ذراع عمها ‪:‬‬
‫‪-‬حاضر يا تيتة !‬
‫أنزلها "مالك" برفق و داعب رأسها قبل أن‬
‫تنطلق جريا نحو الداخل قاصدة غرفة أمها‬
‫رغما عنه تعقب إثرها متلهفا لرؤية طيف‬
‫"إيمان" بأي مكان‪ ،‬لكنه لم يجد شيء‪ ،‬و‬
‫أخيرا وجد نفسه منقادا إلى الصالون إمتثاًل‬
‫لكلمة زوجة خاله الراحل ‪...‬‬
‫*****‬

‫في مقهى شهير بإحدى ضواحي "الزمالك" ‪...‬‬


‫جلس كال من "أدهم" و "مراد" إلى طاولة‬
‫أمام الواجهة الزجاجية التي مألتها ندوب المطر‬
‫الذي ًل يزال ينهمر بالخارج‪ ،‬أضاف "أدهم"‬
‫قطعة أخرى من السكر إلى فنجان الشاي‬
‫خاصته‪ ،‬ثم تطلع إلى ابن خالته الساهم بعيدا و‬
‫قال ‪:‬‬
‫‪-‬يا عم المتأمل انت‪ ..‬جايين عشان نشاهد جمال‬
‫بعض ؟‬
‫أفاق "مراد" من شروده و نظر إليه‪ ،‬كان كل‬
‫هذا الوقت يفكر كيف سيفاتحه في هذا الشأن‪،‬‬
‫األمر الذي تأخر كثيرا‪ ،‬أخيرا إتخذ القرار‪ ،‬و‬
‫أيقن كم هو بحاجة إليها‪ ،‬إلى حبيبته‬
‫عندما كانت بين ذراعيه قبل يوم‪ ،‬كم كان يتوق‬
‫لها‪ ،‬و لوًل أن هددت بأن تسخى بروحها لما‬
‫تركها تفلت منه قبل أن ينالها مجددا ؛‬
‫رغم ادعاءاته بأنه لم يعد يرغبها‪ ،‬لكنها محض‬
‫أكاذيب حاول أن يصدقها‪ ،‬إنه يعشق "إيمان"‬
‫و لعلها ترتيبات القدر ليعيدها إليه من جديد‪،‬‬
‫لقد اقترف جرما حين تخلى عنها مسبقا‪ ،‬إًل أنه‬
‫لن يكرر خطئه‪ ،‬إنها الجانب الناعم‪ ،‬أكثر من‬
‫أحبته بصدق و منحته كل شيء و وثقت به‪ ،‬لقد‬
‫أثبتت ذلك بجدارة‪ ...‬لكنه و للعار لم يثبت لها‬
‫أي شيء سوى حقارته !‬
‫‪ً-‬ل ده انت بتشاهد جمال فعال ! ‪ ..‬قالها "أدهم"‬
‫ملوحا بكفه أمام عيني "مراد" الشاردتين‬
‫‪-‬إيه يابني مالك !؟‬
‫تنهد "مراد" بعمق و هو ينظر إليه بدقة اآلن‪،‬‬
‫و قال بشبه ابتسامة ‪:‬‬
‫‪-‬و ًل حاجة يا أدهم‪ .‬أنا تمام‬
‫أدهم بعدم تصديق ‪:‬‬
‫‪-‬أيوة باين عليك‪ ..‬قول الحقيقة يا مراد‪ .‬ما أنا‬
‫مش هاسيبك تغرز في الحالة دي أكتر من كده‪.‬‬
‫ًلزم تقرر خطوتك الجاية بسرعة‪ .‬لو فضلت‬
‫كده هاتخسر كتير‬
‫طمأنه ‪ :‬ماتقلقش عليا‪ .‬أنا فعال مقرر كل حاجة‪.‬‬
‫و لو بتلمح لموضوع طليقتي ف أطمن أنا‬
‫خالص شيلتها من راسي‬
‫‪-‬فعال !‬
‫‪-‬أيوة طبعا‪ .‬و عشان تصدق‪ ..‬أنا صفيت شغلي‬
‫في لندن و قررت أستقر هنا‪ .‬هامسك شغل أبويا‬
‫في مصر و شوية شوية أوسعه و كل إهتمامي‬
‫هايبقى على كده‬
‫‪-‬طيب حلو أوي‪ .‬برافو يا مراد و هللا‪ .‬تصدق أنا‬
‫دايما بكون قلقان عليك من حياتك برا دي‪ .‬بجد‬
‫أحسن حاجة فكرت فيها‪ ..‬و أكيد هنا هاتقدر‬
‫تحقق أحالمك بردو‪ .‬ربنا يوفقك و يسدد خطاك‬
‫مراد بامتنان ‪ :‬حبيبي يا أدهم‪ .‬أنا مش عارف‬
‫أصال أشكرك إزاي على كل إللي عملته معايا‬
‫من ساعة ما حطيت رجلي هنا‬
‫‪-‬عيب يا بابا الكالم ده‪ .‬انت أخويا يا مراد‪.‬‬
‫مافيش شكر بين األخوات‪ ..‬صح ؟‬
‫‪-‬صح ! ‪ ..‬و ابتسم مكمال بتردد ‪:‬‬
‫‪-‬و عشان إحنا أخوات يا أدهم‪ ..‬تسمحلي اتجرأ‬
‫و أطلب منك حاجة ‪...‬‬
‫‪-‬قول يا مراد طبعا !‬
‫تنحنح "مراد" متملمال بمقعده‪ ،‬ثم قال بكلمات‬
‫غير مرتبة ‪:‬‬
‫‪-‬هو‪ .‬أنا‪ ..‬كنت بقول يعني إني محتاج أحط‬
‫نفسي في عالقة أحسن و أصح من السابقة‪.‬‬
‫عشان أقدر أتخطاها تماما ‪...‬‬
‫أدهم بدهشة ‪ :‬بتفكر تتجوز يعني‪ .‬عين العقل و‬
‫هللا‪ .‬أنا بشجعك و مش زي األراء إللي بتقول‬
‫تتعافى من الجرح األول و بعدين تعيش حياتك‪..‬‬
‫غلط‪ .‬اًلنسان بيكون محتاج حد ياخد بإيده و‬
‫يساعده‪ .‬و عامة الراجل مننا مايقدرش يعيش‬
‫وحيد‪ .‬ماكنش ربنا خلق حوا آلدم تأنسه و‬
‫تكون شريكته !‬
‫ابتسم "مراد" أكثر و قد منحه "أدهم" بكالمه‬
‫الثقة ليصارحه ‪:‬‬
‫‪-‬معاك حق يا أدهم‪ .‬إحنا مانقدرش نعيش‬
‫لوحدنا‬
‫‪-‬نفس الكالم ينطبق على الستات كمان‪ .‬عشان‬
‫كده أنا دايما بزن على إيمان أختي في موضوع‬
‫الجواز رغم رفضها ! ‪ ..‬و أكمل و قد امتعض‬
‫وجهه ‪:‬‬
‫‪-‬و لو إنها أخيرا اقتنعت و وافقت تبدأ صفحة‬
‫جديدة من حياتها‪ .‬الشخص إللي اختارته‬
‫مايرضنيش بالمرة‪ ..‬لكن انا مقدرش أعارضها‪.‬‬
‫و بيني و بينك ما صدقت إن دماغها ًلنت‪.‬‬
‫إيمان طول عمرها مصدر قلق بالنسبة لي و‬
‫تملي حامل همها !‬
‫كان "مراد" يستمع إليه مشدوها‪ ،‬غير مصدقا‪،‬‬
‫من الذي يتحدث عنه "أدهم" ؟‬
‫هل يمكن أن يكون عنه هو ؟‬
‫أم عن غيره !؟‬
‫ًل يمكن أن يكون رجل غيره‪ً ..‬ل !‬
‫‪-‬انت بتقول إيه يا أدهم ؟ ‪ ..‬سأله "مراد"‬
‫شاحبا‬
‫ليبتسم "أدهم" قائال ‪:‬‬
‫‪-‬آه صحيح‪ .‬أنا نسيت أقولك‪ ..‬إيمان أختي‬
‫هاتتجوز بعد إضرابها من ساعة وفاة أبو لمى‬
‫‪-‬إيمان هاتجوز ؟ ‪ ..‬ردد "مراد" مصدوما‬
‫لم يالحظ "أدهم" اضطرابه و أضاف و قد‬
‫عاوده الكدر ‪:‬‬
‫‪-‬أيوة يا سيدي هاتجوز‪ ..‬هاتجوز عم بنتها لمى‪.‬‬
‫مالك ابن عمتي راجية !‬

‫يتبع ‪...‬‬
‫انتهى الفصل الثاني عشر‬

‫‪13‬‬

‫""أقر بأني ضعيفة‪ ،‬هشة‪ ،‬و بال إرادة‪ ..‬أحبك‬


‫و ًل أستطيع تغيير هذا‪ ،‬أحبك رغم الغدر‪ ،‬رغم‬
‫الهجر‪ ،‬و رغم خطيئتي العظمى‪ ..‬أحبك بيأس و‬
‫دموع ؛ أحبك و لو واجهت الموت على ذلك‪...‬‬
‫أنت لعنتي األبدية !"‬
‫_ إيمان‬

‫‪-‬أدخل ! ‪ ..‬هتفت "إيمان" بصوت ذي نبرات‬


‫مرتجفة‬
‫لينفتح باب غرفتها بعد لحظة و تطل رأس‬
‫"مايا" عبر فتحته‪ ،‬إبتسمتا لبعضهما من خالل‬
‫المرآة‪ ،‬و استأذنت "مايا" بلباقة ‪:‬‬
‫‪-‬ممكن أدخل يا إيمي ؟‬
‫أومأت لها األخيرة ‪:‬‬
‫‪-‬معقول بتستأذني‪ ..‬ادخلي يا مايا !‬
‫دلفت "مايا" و أغلقت خلفها باب الغرفة‪،‬‬
‫توجهت ناحية "إيمان" رأسا و عانقتها من‬
‫ظهرها متمتمة ‪:‬‬
‫‪-‬عاملة إيه !؟‬
‫جاوبتها مبتسمة بمسحة حزن ‪:‬‬
‫‪-‬كويسة !‬
‫مايا مشككة ‪ :‬يا بنت‪ .‬عيني في عينك كده !!‬
‫تنهدت "إيمان" بعمق و استدارت لها‪ ،‬بدا‬
‫الوهن على قسماتها و هي تخبرها ‪:‬‬
‫‪-‬إنتي عارفة يا مايا‪ ..‬أنا ًلزم أبان كويسة دايما‪.‬‬
‫حتى لو مش كده‪ ..‬سيف هللا يرحمه علمني‬
‫كويس‬
‫عبست "مايا" قائلة بتعاطف ‪:‬‬
‫‪-‬إنتي مش مقتنعة بمالك صح ؟ ماتداريش عليا‪.‬‬
‫أنا كمان مش مصدقة‪ .‬و ماكنتش أتخيل حتى أن‬
‫مالك يفكر في كده‪ ..‬بس إنتي يا إيمان في إيدك‬
‫تنهي المهزلة دي !‬
‫‪-‬مش عايزة أنهي حاجة يا مايا‪ .‬صحيح كل إللي‬
‫قلتيه ده‪ ..‬لكن أنا ماعتش بفكر في نفسي‪ .‬أنا‬
‫نسيت نفسي من زمان أصال‬
‫‪-‬أومال بتفكري في مين يا إيمان !؟؟ ‪ ..‬غمغمت‬
‫"مايا" بشيء من العصبية‬
‫لترد "إيمان" بال تردد ‪:‬‬
‫‪-‬بنتي يا مايا‪ ..‬لمى هي إللي ًلزم تشغل كل‬
‫تفكيري‪ .‬و لمى محتاجة أب‪ .‬مش هاتعيش فترة‬
‫طفولتها و حتى لما تكبر من غير أب‪ .‬و أنا مش‬
‫هاًلقي لبنتي أحسن من مالك يقوم بالدور ده‪..‬‬
‫هو عمها و أحق بتربيتها‪ .‬و أكتر واحد ممكن‬
‫يحبها و يرعاها !‬

‫*****‬

‫صدمة‪ ..‬قشعريرة‪ ...‬ألم في المعدة‪ ..‬جبينه‬


‫يتندى بالعرق الطفيف‬
‫بعد سماعه تلك األخبار‪ ،‬لم يستطع نطقا بعدها‬
‫و ظل فقط يحملق بأبن خالته دون أن يحرك‬
‫ساكنا‪ ،‬ليستأنف "أدهم" غير منتبها بما وقع‬
‫عليه ‪:‬‬
‫‪-‬أنا كنت متوقع إنها ترفض لما بلغتها بطلبه‪.‬‬
‫لكن بصراحة ذهلت و هي بتقولي موافقة‪ ..‬بس‬
‫طبعا مقدرش غير إني احترم رغبتها‪ .‬في‬
‫النهاية هي ست و أكيد محتاجة لراجل في‬
‫حياتها !‬
‫لم يزل على صمته‪ ،‬فقطب "أدهم" مسغربا و‬
‫سأله ‪:‬‬
‫‪-‬مالك يا مراد ؟‬
‫أجفل "مراد" منتزعا نفسه حالته المريبة‪،‬‬
‫اغتصب إبتسامة لم تصل إلى عيناه و قال ‪:‬‬
‫‪-‬مافيش يا أدهم‪ .‬أنا تمام‪ ..‬بس افتكرت مشوار‬
‫ًلزم أعمله دلوقتي ‪...‬‬
‫و بدأ بجمع أغراضه من فوق الطاولة أمام‬
‫عيني "أدهم" المشدوتين ‪:‬‬
‫‪-‬هو أنا لحقت أقعد معاك‪ .‬و بعدين انت مش‬
‫كنت عاوزني !‬
‫مراد باقتضاب ‪ :‬أيوة بس الوقت مش هايسعفنا‪.‬‬
‫أنا مضطر أقوم معلش‪ .‬ممكن أعدي عليك في‬
‫البيت على بالليل لو ممكن‬
‫أدهم مرحبا ‪ :‬آه طبعا ممكن‪ .‬تعال مستنيك‬
‫قام "مراد" و سحب سلسلة مفاتيحه في يده‬
‫قائال ‪:‬‬
‫‪-‬أوكي يا أدهم‪ ..‬أشوفك بليل !‬
‫أدهم بابتسامة ‪ :‬إن شاء هللا‪ ..‬في رعاية هللا‬
‫رد له "مراد" اًلبتسامة مجامال‪ ..‬ثم مضى‬
‫مغادرا المقهى العصري بخطى حثيثة ‪...‬‬

‫*****‬
‫حضرت "إيمان" القهوة التي لطالما أعدتها‬
‫لشقيق زوجها الراحل في أوقات الدراسة و‬
‫حتى بعد أن راجال مستقال‪ ،‬اآلن هي تعدها من‬
‫أجله و لكن بصفة أخرى‪ ،‬فهو قريبا سيغدو‬
‫رجلها‪ ..‬أجل‬
‫ذلك الولد الذي درست له في فترة صباه‪ ،‬و‬
‫نصحت له في أمور العشق بمراهقته‪ ،‬و كانت‬
‫تعامله كأخ مقرب طيلة سنوات زواجها و حتى‬
‫بعد أن ترملت‬
‫حتى هذه اللحظة ًل تعرف كيف بات ينظر إليها‬
‫تلك النظرة !!؟‬
‫صحيح أن قبلت به‪ ،‬و لكن حتى و لو كان غيره‬
‫الذي أتاه كانت لترضى هربا من ماضيها الذي‬
‫ًل ينفك يالحقها‪ ،‬كانت لترضى بأي رجل مخافة‬
‫أن تقع في وحل اآلثام من جديد ؛‬
‫لكن‪ ..‬ماذا عنه هو ؟‬
‫كيف طاوعته نفسه أن يتقبل مثل هذا‪ ..‬إنها‬
‫زوجة أخيه‪ ،‬في مكانة أخته‪ ،‬هل يمكن هذا‪ ،‬هل‬
‫يمكنه أن يتخيلها بين ذراعيه ؟‬
‫بعد أن كانت ملكا ألخيه‪ ..‬هذا شيء ًل يصدق !‬
‫و لكنها الحقيقة لألسف‪" ..‬مالك" يريدها" و‬
‫هي قبلته و انتهى ‪...‬‬
‫حملت "إيمان" صينية القهوة‪ ،‬و خرجت على‬
‫مهل مطرقة الرأس‪ ،‬وصلت إلى حجرة المعيشة‬
‫متماسكة‪ ،‬و لكن اًلرتباك ما لبث إغتالها حين‬
‫خبت األصوات فجأة عند ظهورها‪ ،‬رغما عنها‬
‫رفعت وجهها لتشتبك نظراتها بنظراته‬
‫ارتعش بداخلها و هي ترى عيناه تتفحصانها‬
‫ألول مرة بهذا التدقيق و الجرأة‪ ،‬ابتلعت ريقها‬
‫بتوتر و أجبرت نفسها على العدو بنفس الوتيرة‬
‫المتزنة‪ ،‬وصوًل إلى أمها أوًل ‪...‬‬
‫قدمت إليها شايا كما تفضل‪ ،‬ثم إنتقلت إلى‬
‫"مايا" و قدمت لها العصير الطازج‪ ،‬و أخيرا‬
‫انتهى بها المطاف أمامه‪ ....‬ليست المرة األولى‬
‫التي تقف قبالته هذا الموقف‪ ...‬لكنها المرة‬
‫األولى و هي تعلم جيدا النوايا التي تطل من‬
‫عينيه اآلن‪ ..‬كان ًل بد أن تثير تلك القشعريرة‬
‫التي سرت بأوصالها مشاعر محببة‪ ...‬إنما ًل‪..‬‬
‫العينين ليست عيني "مراد"‪ ..‬النظرات ليست‬
‫له‪ ..‬تبا‬
‫تبا له و تعسا لحظها إذ ما زالت تراه في كل‬
‫شيء و كأنه مركز الكون و حياتها تتوقف‬
‫عليه‪ ..‬هي كذلك بالفعل ‪...‬‬
‫‪-‬تسلم إيديكي ! ‪ ..‬قالها "مالك" ممتنا لها و قد‬
‫تالمست أيديهما عرضيا‬
‫فأنتفضت "إيمان" و ارتجت الصينية بين يديها‬
‫و إنسكب الماء و العصير المخصص لطفلتها‪،‬‬
‫جمدت المسكينة مضطربة أشد اًلضطراب‪،‬‬
‫بينما يسارع "مالك" لتفادي الضرر الواقع قدر‬
‫استطاعته ‪...‬‬
‫‪-‬مافيش حاجة‪ .‬حصل خير‪ .‬على مهلك ! ‪..‬‬
‫حاول "مالك" أن يلطف األجواء ليخفف عنها‬
‫لم تقوى "إيمان" على النطق‪ ،‬و قد كانت أمها‬
‫تقف إلى جوارها خالل تلك األثناء‪ ،‬ربتت على‬
‫كتفها مرة ثم قالت و هي تنحني لتجمع ما سقط‬
‫فوق األرض ‪:‬‬
‫‪-‬معلش يا حبيبتي فداكي‪ .‬خالص يا مالك يا‬
‫حبيبي‪ .‬أنا هالم إللي وقع قوم يابني عيب ‪..‬‬
‫لم يصغي "مالك" ألمرها و أعاد الكؤوس إلى‬
‫الصينية‪ ،‬ثم نهض مبتسما و قال ‪:‬‬
‫‪-‬عيب إيه يا طنط أمينة‪ .‬هو أنا غريب يعني !؟‬
‫‪-‬يا حبيبي مش القصد‪ .‬طيب ماشي‪ .‬تسلم إيدك‬
‫! ‪ ..‬و حملت الصينية عن ابنتها بالفارغ و‬
‫أردفت ‪:‬‬
‫‪-‬أنا بقى عاملة على الغدا مفاجأة هاتعجبك انت‬
‫و أختك أوي يا مالك‪ ..‬تعالي معايا يا مايا و ًل‬
‫لسا مش بتدخلي المطبخ ؟‬
‫أخذت "مايا" كأسها و قامت على الفور مرحبة‬
‫‪:‬‬
‫‪ً-‬ل يا طنط و ده معقول‪ .‬أنا خالص بقى معايا‬
‫كتكوت‪ .‬و مستوايا في المطبخ بقى عالي أوي‬
‫‪..‬‬
‫و غمزت لها‬
‫ضحكت "أمينة" مجلجلة ‪:‬‬
‫‪-‬طيب ياختي الماية تكدب الغطاس‪ .‬تعالي ورايا‬
‫! ‪ ..‬و لكنها إلتفتت نحو ابنتها أوًل و قالت ‪:‬‬
‫‪-‬و إنتي يا إيمان روحي إنتي و مالك الفراندة‬
‫عشان تتكلموا براحتكوا‪ .‬و خلي معاكوا لمى‬
‫تلعب حواليكوا على المرجيحة و ًل بلعبها جنبك‬
‫‪..‬‬
‫و لم تعطها فرصة الرد‪ ،‬هكذا قامت بتدبيسها و‬
‫فرت مع "مايا"‪ ..‬لتجد "إيمان" نفسها وجها‬
‫لوجه أمام "مالك" !!!‬
‫لم تجرؤ على النظر إليه البتة‪ ،‬هي التي كانت‬
‫تكيل له المزح و الدًلل‪ ،‬صار الوضع أكثر‬
‫غرابة و غير معقوًل اآلن ‪...‬‬
‫‪-‬إيمان !‬
‫أجبرت نفسها على النظر إليه‪ ،‬كان وجهها‬
‫محتقنا بشدة‪ ،‬و في المقابل كان هو أكثر‬
‫استرخاء و مرحا‪ً ..‬ل زال يبتسم لها ابتسامته‬
‫العذبة الجذابة و هو يستطرد ‪:‬‬
‫‪-‬مالك يابنتي في إيه‪ .‬متنشنة ليه من ساعة ما‬
‫شوفتيني‪ .‬أنا مش واخد عليكي كده !‬
‫ارتعش فكها بشكل طفيف و ملحوظ لفت إنتباهه‬
‫و جعله يحدق أكثر إلى فمها المغر و هي تتحدث‬
‫بتوتر ‪:‬‬
‫‪-‬أنا تمام يا مالك‪ .‬مافياش حاجة‪ ..‬ممكن تاخد‬
‫قهوتك و احنا داخلين الفراندة !‬
‫أومأ لها و استدار ليحمل فنجان قهوته‪ ،‬في‬
‫نفس اللحظة تصيح هي منادية صغيرتها التي‬
‫جلست فوق اآلريكة وحدها مشغولة بالدمى و‬
‫الهدايا التي جلبها عمها ألجلها ‪:‬‬
‫‪-‬لمى‪ ..‬يال يا قلبي تعالي معايا و هاتي عروستك‬
‫معاكي‬
‫أذعنت الصغيرة ألمها‪ ،‬قامت مصطحبة معها‬
‫الدمية الشقراء الجديدة‪ ،‬أخذتها و جلست فوق‬
‫األرجوحة و انخرطت في حوار هزلي معها ؛‬
‫جلسا كال منهما إلى الطاولة الوحيدة بالشرفة‬
‫األنيقة‪ ،‬و عدا عن صوت "لمى" الطفولي‬
‫الناعم‪ ،‬كان الجو هادئا‪ ،‬إًل أن "إيمان" لم‬
‫تشعر بالراحة مطلقا‪ ،‬خاصة و هي تشعر‬
‫بنظراته تكتنفها‪ ،‬ثم تسمع صوته مبغتة ‪:‬‬
‫‪-‬أظن طنط أمينة قالت هاتسيبنا على إنفراد‬
‫عشان نتكلم براحتنا‪ ..‬بس أنا حاسك غريبة‬
‫أوي إنهاردة يا إيمان !!‬
‫وجهت ناظريها إليه و هو يتحدث إمتثاًل آلداب‬
‫الحديث‪ ،‬ثم قالت و هي تبتسم بخفة ‪:‬‬
‫‪-‬انت متهيألك يا مالك‪ .‬أنا كويسة خالص و هللا‬
‫‪-‬فعال ؟‬
‫‪-‬أيوة !‬
‫‪-‬إمم‪ ..‬طيب إنتي عارفة أنا جاي ليه إنهاردة !؟‬
‫ًلحظ على شعاع الظهيرة الشتوية الغائم‬
‫قسماتها الرقيقة المتعبة‪ ،‬و عينيها العسليتان‬
‫منطفئتين قليال‪ ،‬لكن مع ذلك كانت جميلة كما‬
‫هي شيمتها‪ ،‬بعيدة عن التكلف‪ ،‬طبيعية‪ ،‬و هنا‬
‫يكمن سر جاذبيتها‪ ..‬منذ أن جاء اليوم و كلما‬
‫نظر إليها شعر بما يشبه صعقة كهربائية ‪...‬‬
‫‪-‬جاي تكلم أدهم و ماما ! ‪ ..‬تمتمت "إيمان"‬
‫بشيء من اإلرتباك‬
‫راوغ "مالك" قائال باسلوبه الماكر ‪:‬‬
‫‪-‬أكلمهم في إيه ؟ ماتعرفيش !؟؟‬
‫تنحنحت "إيمان" و هي تقول بمزيد من‬
‫اًلضطراب ‪:‬‬
‫‪-‬مالك‪ ..‬المسألة مش ناقصة إحراج أكتر من‬
‫كده‪ .‬أنا عارفة إنك طلبت تتجوزني و أنا‬
‫موافقة‪ .‬خالص بقى من فضلك !‬
‫إنحسر مرحه فجأة و هو يرد عليها بحدة ‪:‬‬
‫‪-‬خالص يعني إيه ؟ إنتي شايفاني إيه قدامك يا‬
‫إيمان‪ ..‬أنا مش الولد الصغير إبن إمبارح إللي‬
‫كنتي تعرفيه‪ .‬أنا بقيت واحد تاني و إنتي دلوقتي‬
‫في حكم خطيبتي‪ .‬مهما كانت الظروف‪ .‬مهما‬
‫كانت العوائق بينا من وجهة نظرك ده ماينفيش‬
‫إني راشد كفاية وراجل أقدر أتحمل قراراتي‪..‬‬
‫أنا اخترت ارتبط بيكي بارادتي‪ .‬و إوعك تفكري‬
‫إن فارق السن ده يديكي أفضلية عليا بأي شكل‪.‬‬
‫جايز مقدرش أثبت لك ده دلوقتي‪ .‬لكن لحظة ما‬
‫تبقي مراتي هاتتأكدي مليون في المية من‬
‫كالمي !!‬
‫تلميحاته المبطنة أصابت معدتها بألم حاد‪ ،‬هذا‬
‫التطور ًل يزيد الوضع إًل سوء‪ً ،‬ل يمكنها تحمل‬
‫األفكار التي يشير إليها‪ ،‬رغم أنها فرصتها لتنال‬
‫حياة أكثر آدمية‬
‫لكنها ًل تريدها معه‪ ،‬إنه رجل و راشد كما قال‪،‬‬
‫بل و يمتلك من الوسامة ما يميزه عن أخيه‬
‫الراحل و يجعله متفوقا عليه‪ ،‬لكن كل هذا ًل‬
‫يحرك فيها شعرة‪ ،‬قلبها لم يكن يوما ملكا‬
‫ألخيه‪ ،‬و حتما لن يكون له ؛‬
‫"منك هلل يا مراد‪ .‬مش مسامحاك"‪ ..‬همست‬
‫بهذه العبارة بينها و بين نفسها و قد فشلت‬
‫بحبس الدموع التي طفرت من عينيها بغتة و‬
‫خانتها جارية على خديها ‪...‬‬
‫تجمد "مالك" من الصدمة‪ ،‬حين رآى دموعها‬
‫تبخرت كل مخططاته للسيطرة عليها منذ‬
‫البادئ‪ ،‬هب واقفا من فوره‪ ،‬أتى بجوارها و مد‬
‫لها منديل قائال بارتباك كان نصيبه هو هذه‬
‫المرة ‪:‬‬
‫‪-‬إيمان‪ .‬إنتي بتعيطي بجد‪ .‬ليه ؟ خدي طيب ‪..‬‬
‫أخذت من المنديل الورقي دون أن تنظر إليه‪،‬‬
‫لكنه كان غير كافيا لتجفيف مدامعها التي فتحت‬
‫على اآلخير و لم يعد لها سلطان عليها‪ ،‬و لما‬
‫عجزت أكثر حجبت وجهها بكفيه و راحت‬
‫تجهش ببكاء مرير اجتذب نظرات الصغيرة‬
‫"لمى" نحوها‬
‫من جهة أخرى شعر "مالك" بتأنيب الضمير‬
‫أكثر و هو يحاول معها مرة أخرى ‪:‬‬
‫‪-‬أنا آسف و هللا‪ .‬و هللا مقصدش أزعلك‪ .‬حقك‬
‫عليا طيب‪ ..‬يا إيمان‪ .‬إهدي عشان أشرح لك‪.‬‬
‫إنتي أهم عندي أنا باألخص من كل حاجة‪ .‬مهما‬
‫حصل أنا مش ممكن أغلط في حقك‪ .‬أنا جايز‬
‫أكون فهمتك غلط و قلت كالم زعلك‪ ..‬أنا آسف‬
‫تاني !‬
‫‪-‬ماما !‬
‫تناهى صوت "لمى" إلى مسامعها في هذه‬
‫اللحظة‬
‫غصت نشيجها في الحال حابسة أنفاسها‪ ،‬ثم‬
‫كفكفت عينيها في كم كنزتها قبل أن تتطلع‬
‫إليها‪ ...‬كانت الصغيرة تقف إلى جوار عمها‪ ،‬و‬
‫لكن أقرب إليها ‪...‬‬
‫‪-‬نعم يا حبيبتي !؟ ‪ ..‬خاطبتها "إيمان" بلهجة‬
‫منكسرة‬
‫قلبت "لمى" شفتها السفلى و هي تشير إلى‬
‫آثار الدوع الالمعة على وجنتيها ‪:‬‬
‫‪-‬إنتي بتعيطي !‬
‫هزت رأسها سلبا و هي تقول بشبه ابتسامة ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل يا روحي‪ .‬أنا عيني دخل فيها تراب بس‪ .‬أنا‬
‫كويسة‪ ..‬بصي روحي هاتيلي كوباية ماية من‬
‫عند تيتة بسرعة و تعالي‬
‫‪-‬حاضر !‬
‫قبلتها "إيمان" على خدها أوًل‪ ،‬ثم تركتها‬
‫تركض حيث أمرتها‪ ،‬أخذت تستغل هذا الوقت‬
‫في غيابها لتكبح كل هذا الجزع و الضعف الذي‬
‫طفى على السطح فجأة‬
‫كان "مالك" ًل يزال واقفا مكانه‪ ،‬رفعت‬
‫"إيمان" رأسها لتنظر إليه بعينيها الالمعتان ‪...‬‬
‫‪-‬أنا مش هسامح نفسي على إللي عملته فيكي‬
‫ده ! ‪ ..‬قالها بندم جم‬
‫عبست محدقة فيه بغرابة‪ ،‬أجل هي تعلم أن ردة‬
‫فعلها مبالغ بها‪ ،‬على األقل بالنسبة إليه‪ ،‬لكن‬
‫رده هو أدهشها‪ ..‬لماذا يشعر بكل هذا األسى ؟‬
‫يتحتم أن يراها سلبية و رمزا للكآبة و النكد كما‬
‫كان يتفنن أخيه بتلقيبها !!‬
‫تفاجأت "إيمان" و هي تراه يجثو فوق ركبته‬
‫باللحظة التالية‪ ،‬و لم تأت بحركة عندما قبض‬
‫على يدها بكف‪ ،‬و بكفه األخرى يمسح على‬
‫رأسها المغطى بالوشاح الزهري‬
‫بقيت هادئة كليا و هي تنصت إلى همسه‬
‫المسموع و الذي كان ليذيب أخريات غيرها ‪:‬‬
‫‪-‬أنا بقدرك جدا‪ ..‬إنتي عارفة‪ .‬مافيش راجل‬
‫مايتمناش واحدة زيك‪ .‬إنتي جوهرة نادرة يا‬
‫إيمان‪ .‬لسا حلوة و جميلة زي مانتي‪ ..‬صدقيني‪.‬‬
‫أنا مش زي سيف‪ .‬أنا عمري ما هاسيئ‬
‫معاملتك‪ ..‬أنا هاعوضك عن كل إللي عشتيه‬
‫معاه‪ .‬و هاتشوفي ‪...‬‬
‫‪-‬مـالك !!!‬
‫بدد هتاف "أدهم" هدوء األجواء بقساوة‬
‫مفاجئة و دب الذعر بقلب "إيمان" !!‬

‫يتبع ‪...‬‬
‫انتهى الفصل الثالث عشر ‪..‬‬

‫‪14‬‬

‫"خرجت أبحث عن العشق و رجعت ممزقا ؛‬


‫اآلن أنا بين يديك أشالء‪ ...‬أرجوك‪ً ..‬ل تتركيني‬
‫!"‬

‫_ مراد‬
‫على عكس "إيمان" التي ماتت بجلدها فور‬
‫ظهور أخيها فجأة و ضبطها متلبسة‪ ،‬تصرف‬
‫"مالك" بمنتهى الهدوء و هو يقوم من ركوعه‬
‫و إستدار ليالقي "أدهم" مبتسما ‪:‬‬
‫‪-‬أدهم ! ازيك يا كبير واحشني جدا و هللا ‪..‬‬
‫اقترب "أدهم" خطوتين منه و عيناه تقدحان‬
‫شررا ‪:‬‬
‫‪-‬الظاهر إني كنت غلطان في تقديري ليك‪ .‬انت‬
‫ماتفرقش حاجة عن أخوك !‬
‫قامت "إيمان" محاولة تلطيف الجو ‪:‬‬
‫‪-‬يا أدهم آ ‪...‬‬
‫‪-‬اسكتـي إنتـي خـالص ! ‪ ..‬صاح "أدهم"‬
‫بغضب مستطير‬
‫فألجم لسان "إيمان" و جمدها بمكانها من‬
‫الرعب‬
‫فهي نعم‪ ،‬تخشى أخيها‪ ...‬و ليس فقط تحترمه ؛‬
‫نقل "أدهم" نظراته المتقدة محدقا بـ"مالك"‬
‫ثانية ‪...‬‬
‫‪-‬انت بتكلم إيمان بالشكل ده ليه يا أدهم ؟ ‪..‬‬
‫قالها "مالك" بأريحية ًل تخفي احتجاجه‬
‫‪-‬كالمك معايا أنا‪ .‬كنت بتقول إني مافرقش حاجة‬
‫عن سيف صح !؟‬
‫كور "أدهم" قبضته ممسكا شره بصعوبة و هو‬
‫يقول بخفوت مخيف ‪:‬‬
‫‪-‬قدامك ‪ 3‬ثواني عشان تمشي من وشي يا‬
‫مالك‪ .‬و إًل ‪...‬‬
‫مالك بتحد ‪ :‬و إًل إيه يا دكتور ؟ بتهددني !!‬
‫لم يتعاطى معه "أدهم" بكلمة أخرى‪ ،‬هجم عليه‬
‫شادا إياه من تالبيبه بعنف كبير‪ ،‬لتقفز‬
‫"إيمان" فوق مقعدها صارخة ‪...‬‬
‫خالل لحظات كانت كال من "أمينة" و "مايا"‬
‫هنا‪ ،‬كتمت "مايا" صرخة ملتاعة بكفيها لمرآى‬
‫شقيقها في هذا الوضع بين يدي "أدهم"‪ ..‬بينما‬
‫"أمينة" قد هرعت نحو إبنها في الحال هاتفة و‬
‫هي تحاول الحؤول بينه و بين األخير ‪:‬‬
‫‪-‬أدهــم‪ ..‬إيـه إللي بتعمله ده يابني‪ .‬ماسك في‬
‫ابن عمتك كده ليه بس‪ .‬ســيبه بـقى !؟؟‬
‫تركه "أدهم" بصعوبة و هو يلتفت صائحا بأمه‬
‫و قد خرج عن شعوره ‪:‬‬
‫‪-‬أسيـبه طبعا‪ .‬مانتي كمان سايبة السايب في‬
‫السايب يا أمي‪ .‬أدخل عليهم أًلقي ماسك إيدها‬
‫و بيحسس عليها‪ .‬إزاي‪ .‬نـايمة على ودانك ؟‬
‫إلتفتت "أمينة" نحو "مالك" ناظرة إليه بمزيج‬
‫الحنق و خيبة أمل ‪:‬‬
‫‪-‬كده يا مالك‪ .‬كده بردو تخون ثقتي و تسود‬
‫وشي قصاد إبني ؟؟‬
‫‪-‬إوعي بقى كده إنتي لسا هاتعاتبي !‬
‫تأوهت "أمينة" مصدومة حين شعرت بقبضة‬
‫"أدهم" تشدها للوراء كي تبقى بعيدا‪ ،‬ألول‬
‫مرة يمد ابنها يده إليها بهذه الطريقة‪ ،‬مما يعني‬
‫أنه قد بلغ من الغضب عتيا لم يصل إليه بحياته‬
‫كلها ؛‬
‫وقف "أدهم" أمام "مالك" قريبا منه إلى حد‬
‫خطير ‪...‬‬
‫‪-‬أطلع برا يا مالك‪ ..‬البيت ده مش هاتدخله تاني‬
‫أبدا !‬

‫*****‬

‫ظل لقرابة الساعتين منطلقا بسيارته بشوارع‬


‫المدينة‪ ،‬هائما على وجهه‪ ،‬يطوف األماكن‬
‫نفسها على غير هدى و هو ًل ينقطع عن‬
‫التفكير بها ‪...‬‬
‫يا لسخرية القدر‪ ،‬لقد قضى ما ينوف عن ثالثة‬
‫عشر عاما هاربا منها‪ ،‬متنصال من مسؤليته‬
‫عن جريمته بحقها‪ ،‬لم يرد يوما الزواج منها‬
‫بعد أن نالها‪ ..‬اليوم و بعد أن حسم قراره أخيرا‬
‫بعد أن أدرك إستحالة حياته بدونها‪ ،‬و أنها‬
‫شريكته و مكملته الحقيقية‪ ،‬حبه الوحيد و‬
‫األبدي‪ ..‬ضاعت منه بمنتهى البساطة‪ ...‬هكذا‬
‫!!!‬
‫يضاعف "مراد" من السرعة التي يسير بها‪،‬‬
‫بينما تضيق حدقتيه و هو يتخيل وجهها أمامه‪،‬‬
‫ثم ما لبث أن انضم آخر إليها‪ ،‬رجل ًل يعرفه‪،‬‬
‫لكنه هو الذي ينوي سرقتها منه‪ً ،‬ل يمكن‪ ..‬إنها‬
‫له‪ ..‬دائما كانت له هو‬
‫ضاعت منه مرة‪ ،‬و جاءت صفعة الحياة قاسية‬
‫حتى يفيق من غفلته‪ ،‬عاد لها و لن يضيعها‬
‫مرة أخرى‪ ...‬لن تضيع "إيمان" منه !‬
‫يتفادى "مراد" في هذه اللحظة جسد ظهر‬
‫أمامه فجأة عند منعطف ما‪ ،‬داس مكابح‬
‫السيارة فورا‪ ،‬و إذا بها امرأة مبتذلة بثياب‬
‫فاضحة و زينة صارخة ًل تتناسب أبدا مع‬
‫أجواء النهار ‪...‬‬
‫ما إن توقف حتى إنفجر فاها بأقذع األلفاظ‬
‫النابية تسبه و تلعنه و هي تضرب مقدمة‬
‫سيارته بقبضتها ‪:‬‬
‫‪-‬يا أعمى يا ××××× يا ××××××‪ .‬دي تالقي‬
‫أمك إللي جايباهالك‪ .‬ماشي زي التور يا‬
‫×××××× !!!‬
‫رغم كل ما قالته و سبابها و تشيهرها به أمام‬
‫المارة‪ ،‬إًل أنه كان له من التسامح أن يرد عليها‬
‫بوداعة مدهشة ‪:‬‬
‫‪-‬أنا آسف !‬
‫كان البؤس يتماوج على قسماته‪ ،‬بينما األخيرة‬
‫تدور حول السيارة و قد لفت نظرها بقوة‪،‬‬
‫سارت إليه كالمسحورة‪ ،‬هبطت تجاهه و طلت‬
‫عليه عبر نافذة السيارة‪ ،‬تفرست بمالمحه‬
‫الوسيمة بجرأة متمتمة و هي تمضغ العلكة‬
‫بسلوك مشين ‪:‬‬
‫‪-‬ياختي عليك و على حالوة أمك‪ .‬إيه يا واد‬
‫القمر ده‪ .‬انت منين يا معسل انت‪ .‬أكيد من‬
‫المنصورة‪ .‬كلهم ملونين و قشطة زيك كده ! ‪..‬‬
‫و أطلقت ضحكة رقيعة‬
‫تأفف "مراد" من الهزل الذي وقع به‪،‬‬
‫لتستطرد السيدة الخليعة و هي تتمايل أمامه‬
‫بغنج ‪:‬‬
‫‪-‬طالما بتأفف كده يبقى عالجك عندشي‪ .‬بقولك‬
‫إيه هاجي معاك و ًلجل طعامتك دي هاخد منك‬
‫ميتشين ‪ 200‬جنية في الساعة‪ .‬و اًل أقولك‪.‬‬
‫مش عايزة فلوس خالص كفاية انت‪ ..‬إيه رأيك‬
‫!‬
‫ضاق "مراد" ذرعا منها و لم ينتظر ثانية‬
‫أخرى‪ ،‬انطلق بسيارته من جديد محددا وجهته‬
‫هذه المرة ‪...‬‬

‫*****‬

‫اآلن بعد أن أفسحت "سالف" مجاًل بأخذها‬


‫الصغيرة "لمى" بعيدا عن ميدان النقاش الحاد‬
‫بين زوجها و شقيقته و أمه ‪...‬‬
‫ها هو "أدهم" يقف بمنتصف الصالة‪ ،‬تقف‬
‫أمامه أمه محاولة تهدئته‪ ،‬بينما تجلس‬
‫"إيمان" فوق الكرسي تنتحب بمرارة و هي‬
‫تستمع إلى صراخه فيها و تقريعه القاس ‪:‬‬
‫‪-‬ماكنتش أتخيل إني اشوفك في وضع زي ده‪ .‬و‬
‫إنك ممكن تسمحي لحد يلمسك بس‪ .‬إنتي اصال‬
‫مابتسلميش باإليد‪ .‬و ســـيف نفسه إللي كنتي‬
‫بتموتي فيه ماسمحتيلوش يمسك إيدك لحد يوم‬
‫الفرح‪ .‬إزاااي تسيبي حتة العيل ده يعمل معاكي‬
‫كده‪ .‬إنتـي ؟؟ إنتــي يا إيـمان ؟‬
‫‪-‬خالص بقى يابني ! ‪ ..‬هتفت "أمينة" بنزق و‬
‫قليل من الحزن بسببه‬
‫‪-‬كفاية إللي عملته يا أدهم‪ .‬في أختك و في‬
‫مالك‪ .‬و حتى فيا أنا‪ ..‬أمك‪ .‬هو ده كالم ربنا إللي‬
‫حافظه و ماشي بيه‪ .‬تعامل أمك كده !؟؟‬
‫لو أنها لم تستفزه من جديد‪ ،‬جعلت المشهد‬
‫يتكرر أمام عينيه ثانية و يصيح ‪:‬‬
‫‪-‬ماتخلنيش أغضب ربنا أكتر من كده و اسكتي‬
‫يا أمـــي‪ .‬إنتي كمان جرى لك إيه‪ .‬فجأة الحدود‬
‫عندك بقت مباحة‪ .‬و فاتحة له البيت و أنا مش‬
‫موجود‪ .‬معاده ماكنش الساعة دي و لوًل رجعت‬
‫بدري و شوفت إللي حصل كان مر مرور‬
‫الكرام‪ ..‬هللا يسامحك‪ .‬هللا يسامحك !‬
‫و قد كان عصبيا و يلهج من شدة الغضب و قد‬
‫احتقن وجهه بالدماء‪ ،‬لدرجة أن أمه خافت‬
‫عليه كثيرا‪ ،‬تراجعت عن كل مالمتها عليه و‬
‫أخذت تربت على صدره الخافق بقوة متوسلة‬
‫إياه ‪:‬‬
‫‪-‬طيب خالص‪ .‬خالص يا أدهم حقك عليا‪ .‬أنا‬
‫غلطانة يابني‪ ..‬إهدا يا حبيبي و أنا هاعمل إللي‬
‫يرضيك‪ .‬قولي عايز إيه يتعمل و هاعمله ‪...‬‬
‫أدهم بتأزم ‪ :‬أنا مش عايز حاجة‪ .‬انتوا ألول‬
‫مرة خذلتوني‪ .‬أنا مش مصدق إن إنتي أمي‪ .‬و‬
‫ًل دي أختي‪ ..‬إنتوا مين !؟؟‬
‫بذلت "أمينة" جهدا أكثر في مراضاته ‪:‬‬
‫‪-‬إللي تشوفه‪ .‬لو مش عايز الجوازة دي تتم‬
‫مش هاتم‪ .‬بس ماتضايقش نفسك كده‬
‫أدهم بصرامة ‪ :‬و مش هاتم أصال‪ .‬أنا الغلطان‬
‫إني طاوعتكم في لعب العيال ده !!‬
‫و هنا هبت "إيمان" واقفة‪ ،‬ثم قالت و الدموع‬
‫تجري فوق خديها ‪:‬‬
‫‪-‬مش انت إللي تقرر يا أدهم‪ ..‬الجواز هايتم !‬
‫حملق "أدهم" فيها مشدوها‪ ،‬لتكمل ماسحة‬
‫دموعها بكمها بقوة ‪:‬‬
‫‪-‬انت كان عندك حق لما كنت بتقول إني لسا‬
‫صغيرة و محتاجة لراجل في حياتي‪ .‬و الراجل‬
‫إللي أنا اختارته هو مالك‪ ..‬أنا عاوزة مالك‬
‫ارتفعت يداه مبعدا أمه عن طريقه بحزم‪ ،‬مضى‬
‫صوب أخته و هو يتساءل عابسا بشدة ‪:‬‬
‫‪-‬من إمتى يا إيمان‪ .‬من إمتى و إنتي متعلقة بيه‬
‫كده و سامحة له بالتجاوزات !؟‬
‫و عال صوته إلى حد كاد يصم اآلذان ‪:‬‬
‫‪-‬لما كنتي بتروحي تزوريهم و تباتي باأليام‬
‫هناك‪ ..‬كان بيحصل إيـه من ورا ظهري !؟‬
‫على قدر خوفها منه‪ ،‬تدافع الكالم من فمها‬
‫بسرعة و تنميق لم تتوقع أي منهما ‪:‬‬
‫‪-‬إنت اتجننت‪ .‬إيه إللي كان ممكن يحصل يعني‪..‬‬
‫إنت إزاي توجه لي إتهام زي ده‪ .‬فوق يا أدهم و‬
‫أعرف إنت بتكلم مين‪ .‬مش معنى إني ست و‬
‫عندي مشاعر زي أي واحدة أبقى أعمل إللي‬
‫بتفكر فيه‪ .‬أنا طول عمري مقفول عليا و‬
‫محدش شاف خيالي‪ .‬و لما اتجوزت عشت‬
‫أسود سنين حياتي رغم إني كنت بحبه‪ .‬إيـــه‪.‬‬
‫هاتعلق لي المشنقة عشان هفوة مقدرتش‬
‫أسيطر فيها على مشاعري‪ .‬إنت فكرني حجر‪.‬‬
‫مابحسش‪ .‬أنا مابقتش صغيرة و مش من حقك‬
‫توقفني كده زي التلميذة‪ .‬أنا إتبدلت في حياتي‬
‫ما فيه الكفاية‪ .‬إتبهدلت و مش هاسمح لحد‬
‫يجي عليا تاني و ًل حتى إنت‪ .‬ســـامع ؟‬
‫و شهقت بعمق مكافحة غصة البكاء آلخر‬
‫لحظة‪ ،‬غطت فمها بكفها و استدارت مهرولة‬
‫إلى غرفتها قبل أن تنهمر دموع القهر و‬
‫الضعف من عينيها مرة أخرى !‬

‫يتبع ‪...‬‬
‫انتهى الفصل الرابع عشر‬

‫‪15‬‬

‫"على قدر حبي لك ؛ كان انتقامي من نفسي !"‬


‫_ إيمان‬

‫األيام التالية في البيت _ المكان الذي ًل تغادره‬


‫أبدا و ليس باختيارها _ كانوا مثل األيام التي‬
‫قضاهم "مراد" هنا منذ عودته خائب الرجاء‬
‫بعد طالقه‪ ..‬أوقاتا مليئة بالدراما‬
‫غرفتها صارت ملجأها الوحيد لالبتعاد عن رؤية‬
‫من بالبيت على حد سواء‪ ،‬فهي عدا طفلتها لم‬
‫تكن تود أن تلتقي بأحد بالخارج‪ ،‬لعلها تصرفت‬
‫على هذا النحو لتضغط على أخيها و أمها حتى‬
‫يغيرا قرارهما بشأن إلغاء فكرة زواجها من‬
‫"مالك"‪ ..‬و مهما كانت الجهود التي بذلتها‬
‫حقيقية أو مزيفة فيبدو بأنها نجحت‪ ...‬في‬
‫النهاية رضخ "أدهم" لرغبتها و وافق أن تتخذ‬
‫كامل الحرية في القرار‬
‫و لكن كان شرطه حتى يتراجع عن رفضه‬
‫المتشدد‪ ،‬أًل يلتقي اإلثنان أبدا حتى موعد عقد‬
‫القران‪ ،‬و الذي سيكون غدا !‬
‫ألكثر من ساعة ًل زالت "إيمان" ترقد في‬
‫سريرها وحيدة‪ ،‬بل بالنظر إلى وحيدة فهي‬
‫نظريا و عمليا وحيدة بالمنزل كله منذ غادرت‬
‫أمها مع زوجة أخيها آخذين األطفال كلهم حتى‬
‫يتلقوا تطعيماتهم‪ ..‬و أما على الصعيد العاطفي‪،‬‬
‫فهي وحيدة‬
‫دائما ‪...‬‬
‫تنهدت "إيمان" بعمق و هي تتمطى في‬
‫فرشتها‪ ،‬أمسكت بهاتفها المستلقي بجوارها‬
‫فوق الوسادة و تحققت من الوقت‪ ،‬إنها ساعة‬
‫الظهيرة و قد تأخرت مثل عادتها باآلونة‬
‫األخيرة‪ ،‬نفضت عنها هذا الكسل و ألقت‬
‫األغطية و قامت‪ ،‬فتحت خزانتها و إلتقطت‬
‫قميصا طويال حملته معها إلى الحمام‪ ،‬و أخذت‬
‫هناك دشا طويال للغاية‪ ،‬فرغت و جففت شعرها‬
‫ثم شدته ألعلى في ذيل فرس‪ ،‬فرشت أسنانها‬
‫منتعشة بنكهة النعناع بفمها و حتى أنفها‪،‬‬
‫توضأت‪ ،‬و رغم إنها ليست بمزاج جيد إًل إنها‬
‫دللت بشرتها قليال و قامت بروتينها المهجور‬
‫منذ مدة‪ ،‬وضعت قناع ورقي على وجهها‬
‫لدقائق بينما ذهبت للمطبخ لتعد فنجان قهوتها‪،‬‬
‫انتظرتها حتى نضجت و عادت بها إلى الحمام‪،‬‬
‫نزعت القناع عن وجهها برفق و ألقته بسلة‬
‫المهمالت‪ ،‬ثم مررت مرطب الشفاه فوق‬
‫شفاهها مرتين‬
‫و اآلن‪ً ...‬ل تنكر أنها تحسنت كثيرا‬
‫مزاجها صار أفضل برغم كل شيء‪ ،‬تجرعت‬
‫فنجان قهوتها على مراحل وصوًل إلى غرفتها‪،‬‬
‫ارتدت ثياب الصالة لتؤدي فريضتها‪ ،‬و لكن‬
‫استوقفها جرس الباب فجأة‪ ،‬و أيقنت على‬
‫الفور بأن أمها و "سالف" قد عادتا‪ ،‬و رغم‬
‫علمها بأن "أمينة" تمتلك نسخة من مفتاح‬
‫المنزل إًل إنها فكرت قطعا بأنها تطرق عليها‬
‫بسبب إنشغال كلتيهما باألطفال األربعة‪ ،‬لن‬
‫تتمكن من فتح الباب بنفسها بالطبع‪ ..‬لذلك‬
‫مضت "إيمان" مسرعة لتفتح باب الشقة ؛‬
‫هكذا دون أدنى تردد‪ ،‬أدارت المقبض و جذبت‬
‫الباب ‪ ،‬جمدت من الصدمة بادئ األمر‪ ..‬عندما‬
‫رأته هو ماثال أمامها و ليس غيره كما توقعت‪..‬‬
‫هو "مراد" !‬
‫انسحبت الدماء من وجهها و بالكاد أعطى‬
‫عقلها إشارة لجسدها بأن عليها أن تتحرك‪،‬‬
‫عليها أن تختفي من أمامه اآلن‪ ...‬فورا‬
‫فإذا بها فعال تستدير خالل لحظة و تنطلق‬
‫راكضة للداخل تاركة له الباب مفتوحا‪ ،‬أو لعلها‬
‫لم تجد وقتا إلغالقه‬
‫عادت "إيمان" بعد فترة وجيزة من غرفتها بعد‬
‫أن جمعت اشتات نفسها‪ ،‬لتجد "مراد" قد دخل‬
‫إلى الشقة‪ ،‬ها هو يجلس بغرفة المعيشة فوق‬
‫الكرسي الوثير‪ ،‬كان مسترخيا و يضع ساقا‬
‫فوق األخرى‪ ،‬و على حافة فمه علقت لفافة تبغ‬
‫راح يدخنها في هدوء‪ ..‬إلى أن شعر بوجودها‬
‫‪...‬‬
‫‪-‬مبروك يا عروسة ! ‪ ..‬هتف و مع ذلك لم‬
‫يتحرك من مكانه و لم تختلج عضلة من جسده‬
‫‪-‬كتب كتابك خالص بكرة‪ .‬صح ؟‬
‫و أدار وجهه نحوها اآلن مستطردا بسخرية‬
‫ًلذعة ‪:‬‬
‫‪-‬كتب كتابك على العيل ده !!‬
‫تستغل "إيمان" لحظة الصمت بينهما بعد ما‬
‫قاله لتنظر إليه مليا‪ ،‬و لكن بمجرد أن قام واقفا‬
‫فجأة و أجفلها‪ ،‬لم تستطع إًل أن تالحظ ثالثة‬
‫أشياء بينما تتوقف رئتاها عن آداء وظيفتاها ‪...‬‬
‫‪ -‬جسده نقص بعض الوزن رغم أنه لم يكن‬
‫سمينا أبدا في حياته‪ ،‬و أيضا اكتسب ضخامة‬
‫في كال ذراعيه و منكابيه مم يفسر حتمية‬
‫عودته لهوايته القديمة‪ ،‬و الوسيلة الوحيدة‬
‫التي يتبعها للتنفيس عن الضغوط المتراكمة‪..‬‬
‫"ارتياد صالة األلعاب الرياضية"‬
‫‪ -‬شعره يبدو طويال بقليل عن آخر مرة رأته‪،‬‬
‫كان أيضا كأنه لم يمشطه اليوم‪ ،‬و كذا لحيته‬
‫التي اعتادت عليها نامية مؤخرا‪ ..‬إنها حليقة‬
‫اآلن‬
‫‪ -‬يرتدي جينز و كنزة بيضاء احتضنت جزعه‬
‫بقوة‬
‫آخر شيء أحست به و هي تتأمله هكذا‪ ،‬بل‬
‫كانت متأكدة بأن حرارتها قد إرتفعت‪ ،‬جدا‪،‬‬
‫فالنموذج الذي تراه هو نفسه الذي يعود‬
‫لحبيبها بين فترتي المراهقة و الشباب‪ ،‬كان و‬
‫كأنه قد خرج للتو من الماضي لدرجة أن دورا‬
‫بدأ يداهمها‬
‫لوًل أن انتبهت إلنقطاع األكسجين عن رئتيها‪،‬‬
‫شهقت بقوة مفاجئة بددتها مسرعة و هي‬
‫تباغته قائلة باقتضاب و متعمدة تجاهل ما قاله‬
‫سلفا ‪:‬‬
‫‪-‬مافيش حد هنا في البيت‪ .‬وجودك مش مرحب‬
‫بيه يا مراد‪ .‬إتفضل إمشي لو سمحت !‬
‫تظهر أسنانه البيضاء وراء إلتواء ابتسامته‬
‫المغرية و هو يرد عليها بتهكم ‪:‬‬
‫‪-‬أنا عارف إن مافيش حد في البيت‪ .‬كلمت أدهم‬
‫و عرفت إنه بيدي محاضرة في الجامعة‪ .‬و إن‬
‫خالتي و سالف راحوا يطعموا الوًلد‪ ..‬ماجبش‬
‫سيرتك‪ .‬ف عرفت إنك لوحدك !‬
‫إبتلعت ريقها بصعوبة و هي تحدق فيه‪ً ،‬ل يخف‬
‫عنها الطريقة التي نطق و نظر إليها بها خالل‬
‫تلك اللحظات‪ ،‬هل ظنت باأليام السابقة أن تأثيره‬
‫عليها قد نضب ؟‬
‫إنها مخطئة تماما‪ ..‬قلبها الذي أخذ نبضه يدوي‬
‫بجميع جسدها قد فضحها له قبلها هي‪ً ،‬ل شيء‬
‫فيها ينتمي إليها على اإلطالق‪ ،‬بل له هو‪ ،‬هي و‬
‫هو يعرفان ذلك ؛‬
‫لكن ًل‪ ،‬عليها أن تتماسك بحق هللا ‪...‬‬
‫‪-‬و ده سبب كافي بالنسبة لي ! ‪ ..‬صاحت‬
‫بعصبية‬
‫‪-‬إللي يخليني أقولك امشي‪ .‬امشي يا مراد و لو‬
‫تكرمت ماتورنيش وشك تاني آ ‪...‬‬
‫كم أنها مثيرة للشفقة و تدعو للرثاء ؛‬
‫يصل إليها بينما تجفل قبل أن تدرك أنه استل‬
‫من جيب بنطاله علبة صغيرة من القطيفة‬
‫السوداء‪ ،‬حبست أنفاسها و هي تراه يفتحها‬
‫ليشع أمام ناظريها بريق خاتم ذي حجر من‬
‫الماس الثمين ‪...‬‬
‫‪-‬تتجوزيني يا إيمان ؟‬
‫لم تكن متأكدة إذا كان قد قالها حقا أم ًل‪ ،‬لكن‬
‫رؤية الخاتم تؤكدها‪ ..‬فنظرت إليه‪ ،‬إلى عينيه‬
‫ذات اللهيب الرمادي الخامد ‪...‬‬
‫‪-‬أنا مخطوبة ! ‪ ..‬قالتها و هي ترفع يدها اليمنى‬
‫لتريه خاتم خطبتها عن كثب‬
‫و أردفت بتشف رغم تكون طبقة من الدموع‬
‫بعينيها ‪:‬‬
‫‪-‬و بكرة كتب كتابي‪ .‬و بعد شهر فرحي‪ ..‬انت‬
‫نايم و اًل إيه يا مراد !؟‬
‫أغمض عينيه بشدة و هو يعيد غلق العلبة و‬
‫يضعها بجيبه ثانية‪ ،‬نظر إليها بعد برهة و قال‬
‫شادا على أسنانه ‪:‬‬
‫‪-‬إنتي بتغلطي لتاني مرة غلطة عمرك‪ .‬أول مرة‬
‫القدر أنقذك و عاقبني و رجعت لك‪ ..‬بطريقة ما‬
‫حاجة جمعتنا و الحياة بتدينا فرصة تانية‪ .‬ليه‬
‫بتضيعيها بغباءك‪ .‬أنا جاي و بقول هاتجوزك يا‬
‫إيمان‪ .‬مش ده إللي طول عمرك كنتي بتتمنيه‬
‫!؟‬
‫تتجهم و تنفعل فجأة بكل اآلسى و األلم بداخلها‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬فعال ! بجد‪ .‬زي ما تكون بتغير فردة جزمة‬
‫مثال‪ .‬فكرت لما تيجي و تقولي كده هاوافق على‬
‫طول‪ .‬فكرت فعال إني رخيصة أد كده و مستعدة‬
‫أقضي حياتي كلها بحبك و مستنياك‪ ..‬أنا مش‬
‫تحت أمرك‪ .‬و المرة دي بالذات هاتجوز‪ .‬لو‬
‫كان في في ‪ 100‬سبب يخليني أرفض عالقتي‬
‫بمالك ف بعد ما جيت و سمعت منك الكالم ده‬
‫بقى عندي سبب واحد يمحي أي فكرة رفض‬
‫كنت بفكر فيها‪ .‬أنا هاتجوز مالك يا مراد‪ ..‬و‬
‫انت أول المعزومين !‬
‫و استدارت متوجهة صوب باب الشقة هاتفة ‪:‬‬
‫‪-‬و دلوقتي من فضلك إمشي‪ .‬إمشي قبل مـ آ ‪..‬‬
‫بترت عبارتها بشهقة ملتاعة حين أتى من‬
‫خلفها بغتة قبل أن تمتد يدها إلى المقبض‪،‬‬
‫أجبرها أن تلجئ ظهرها للجدار‪ ،‬بينما يضع‬
‫يديه عند جانبي رأسها محاصرا إياها‪ ،‬قسماته‬
‫الصلبة ًل تتغير و يبقى عينيه معلقتين بعينيها‬
‫‪...‬‬
‫‪-‬إنتي شكلك مافهمتيش ! ‪ ..‬تمتم بقساوة تشبه‬
‫مالمحه اآلن‬
‫‪-‬أنا مش جاي أناقشك و أحاول أقنعك‪ .‬إنتي‬
‫هاتسمعي كالمي و هاتنهي المهزلة دي ‪..‬‬
‫كتمت شهقة أخرى عندما لف ذراع في لمح‬
‫البصر حول خصرها و إلتصق بها بقوة‪ ،‬تنظر‬
‫إليه بشحوب و قلبها يدق بإسراف‪ ،‬و كأنها‬
‫مشلولة‪ ،‬تنظر إليه محاولة تدبير ردة فعل‪،‬‬
‫تباعد شفتيها منتظرة أن تأتي كلمات الرفض و‬
‫اإلحتجاج‪ ،‬لكنها ًل تأتي‬
‫ابتسم بشر إلدراكه مدى ضعفها بين يديه و‬
‫كسر الصمت بينهما ‪:‬‬
‫‪-‬إنتي بتاعتي يا إيمان‪ .‬كنت غبي مرة لما‬
‫سيبتك لغيري‪ .‬كنت عيل و غبي بجد‪ .‬عقوبتي‬
‫خدتها لما واحد غيري لمسك‪ .‬و خلفتي منه‪ .‬و‬
‫فضلتي معاه ‪ 3‬سنين من عمرك‪ ..‬دلوقتي مش‬
‫هاسمح لك تكرريها تاني‪ .‬إللي مهونها عليا إنه‬
‫مات‪ .‬لكن واحد تاني يفكر يقرب منك‪ ..‬مش‬
‫هايحصل يا إيمـان !!!‬
‫‪-‬و إنت كنت فيـــين ! ‪ ..‬صاحت فيه اآلن‬
‫محاولة اإلفالت منه‬
‫‪-‬كنت فين من األول‪ .‬و كنت فين لما رجعت و‬
‫ًلقتني لسا بحاول معاك ؟ هو انت كده طول‬
‫عمرك‪ .‬مفكر ان أي حاجة تحت إيدك و تقدر‬
‫تاخد إللي انت عايزه في أي وقت‪ .‬ده كان زمان‬
‫يا مراد‪ .‬أنا مابقتش إيمان بتاعة زمان‬
‫شدد قبضته حولها بتملك واضح و قال من بين‬
‫أسنانه ‪:‬‬
‫‪-‬إنتي زمان و دلوقتي و في كل وقت ليا يا‬
‫إيمي‪ .‬سمعاني كويس‪ .‬إنتي كلك ليا‪ .‬ماتقدريش‬
‫تحبي غيري‪ .‬ماتعرفيش أصال يعني إيه حب‬
‫غير و إنتي في حضني أنا‪ ..‬تنكري ؟‬
‫أحسته يتمادى‪ ..‬في كل شيء‪ ،‬فإلتهب وجهها‬
‫من شدة الغضب و قد تملكتها الصحوة و‬
‫انفجرت منفعلة من بين أسنانها ‪:‬‬
‫‪-‬شيل إيدك عني يا مراد‪ .‬أنا بحذرك‪ ..‬هاصرخ‬
‫!!!‬
‫ابتسم بسخرية و قال بقسوة دون أن يفلتها قيد‬
‫أنملة ‪:‬‬
‫‪-‬حاولي تصرخي كده‪ .‬ماتقدريش‪ .‬إنتي ناسية‬
‫أنا مين ؟ أنا مراد‪ ..‬أنا حبيبك !‬
‫ردت بنزق عصبي ‪:‬‬
‫‪-‬حبك خالص أنا قتلته‪ .‬و قلبي مات معاه لما‬
‫قبلت أكون لراجل تاني‪ ..‬قصدي تالت‪ .‬أفهم‬
‫بقى‪ .‬أنا بقيت بكرهك ‪...‬‬
‫قهقه ملء حنجرته مغلقا عيناه بشدة‪ ،‬ثم عاود‬
‫النظر إليها قائال باستهجان ‪:‬‬
‫‪-‬و بتقولي قلبك مات؟ إزاي بتكرهيني و قلبك‬
‫ميت‪ ..‬إنتي كدابة‪ .‬إنتي عمرك ما تنسيني‪ .‬و ًل‬
‫تقدري تقوليلي ًل !!‬
‫‪-‬طب ًل يا مراااد ! ‪ ..‬صرخت و هي تثني‬
‫ركبتها لتسدد ضربة قوية إلى ما بين قدميه‬
‫كتم "مراد" صيحة ألم شديدة و إرتخت قبضته‬
‫عليها قليال‪ ،‬فاستطاعت الفرار‪ ،‬أو هكذا خيل‬
‫إليها‪ ،‬قبل أن يهجم عليها من جديد دافعا‬
‫بوجهها تجاه الجدار‪ ،‬فأصبح ظهرها لصيقا‬
‫بصدره ‪...‬‬
‫تأوهت "إيمان" حين اعتقل يديها خلف ظهرها‬
‫في يد‪ ،‬و بيده األخرى قبض على شعرها من‬
‫أسفل الحجاب و قرب فمه من أذنها هامسا‬
‫بخشونة ‪:‬‬
‫‪-‬مش هاتتجوزيه يا إيمان‪ .‬و لو كان تمن ده‬
‫إني أحرق الكل‪ .‬لو تمنه حتى إني أخدك بالقوة‬
‫لو في وسط مين‪ ..‬هاعمل إللي مايخطرش على‬
‫بالك !!!‬
‫صرخت بقهر يشوبه بكاء ‪:‬‬
‫‪-‬انت ماتقدرش تعمل أي حاجة‪ .‬انت أصال جبان‬
‫و هاتفضل طول عمرك جبان و حقير يا مراد !!‬
‫غلت دماؤه بشرايينه المتسعة للدفقات الملتهبة‬
‫تاثرا لكلماتها‪ ،‬فسمعته يغمغم متوعدا ‪:‬‬
‫‪-‬إنتي شايفة كده‪ .‬و شايفة إني مش هقدر‬
‫عليكي و إنك تقدري تعاقبيني دلوقتي‪ ..‬طيب‪ .‬أنا‬
‫بقى هاهدم األوهام فوق دماغك‪ .‬أنا و في‬
‫المكان إللي جمعنا و كنا كيان واحد هفكرك تاني‬
‫مين هو مراد‪ .‬مين إللي حبتيه و سلمتي له‬
‫نفسك من غير ما تفكري مرتين‪ .‬و نبقى نشوف‬
‫لو هاتقدري تبصي لراجل تاني طول حياتك !!!!‬
‫لم تفهم ماذا قصد بكالمه بالضبط‪ ،‬إًل حين‬
‫شعرت به يلف ذراعيه حولها و يرفع قدميها‪،‬‬
‫ثم يحملها و يدور تجاه الرواق الطويل‪ ،‬ما زال‬
‫يحملها و هي تركله محاولة نزع ذراعيه من‬
‫فوق بطنها ‪...‬‬
‫‪-‬سيبني يا مراد‪ .‬رايح بيا على فين ؟ سيبني‬
‫هاصرخ‪ .‬و هللا هاصرخ !‬
‫و لم تكاد تبر بقسمها و إًل و وجدت نفسها‬
‫بغرفتها‪ ،‬عندما يغلق الباب بقدمه و تراه‬
‫يوجهها نحو السرير‪،‬‬
‫‪-‬مش إنتي بس إللي بتضعفي قدامي أنا كمان‬
‫مابقدرش أقاومك‪ .‬زيك بالضبط يا إيمان‪ ..‬أنا‬
‫بحبك !‬
‫يتبع ‪...‬‬
‫انتهى الفصل الخامس عشر‬

‫‪16‬‬

‫"ًل أفرط فيك ؛ و ًل يهون قلبك طرفة عين يا‬


‫حبيبتي !"‬
‫_ مراد‬

‫أًل لم تعقد مع نفسها إتفاقا بأن تنسى كل ما‬


‫جرى لها على يديه !؟‬
‫لقد حبست كل الذكريات المؤلمة معه طوال‬
‫سنوات رحيله‪ ،‬لكن كونها في هذا الوضع‪،‬‬
‫حقيقة أنها على وشك أن تغتصب لم تساعدها‬
‫على حبس أي ذكرى أكثر من ذلك‬
‫لتطفو على السطح أبشع واحدة على اإلطالق ؛‬
‫ًل يمكنها أن تنسى تلك الليلة بكل تفاصيلها‬
‫الموجعة‪ً ،‬ل يمكنها أن تنسى إهانتها و إذًللها‬
‫بأحط الطرق و األساليب‪ ..‬أبدا‪ً ...‬ل يمكنها أن‬
‫تنسى !‬
‫كانت ًل تزال بشهر العسل‪ ،‬كانت عروس‪ ،‬كما‬
‫الظاهر‪ ..‬لكن لم يكن أحد يعلم ما يحدث خلف‬
‫األبواب المغلقة و ما كان يفعله بها زوجها كل‬
‫ليلة‬
‫لكن تلك الليلة بالذات ًل تقارن بأي معاناة‬
‫خاضتها‪ ،‬األلم النفسي و الجسدي الذي نزل بها‬
‫كان جسيما لدرجة تعذر عليها تخطيه حتى‬
‫اآلن‪ ،‬كان ثاني أسبوع من زواجها‪ ،‬و كانت‬
‫منهكة للغاية جراء أيام و ليالي قضتها فقط‬
‫تلبي حاجات زوجها و تتلقى منه التقريع و‬
‫المهانة‪ ،‬تركها هذا اليوم منذ الصباح و غادر‬
‫فظنت بأنها سترتاح أخيرا و لو لبعض الوقت‪،‬‬
‫لكن تعسا لحظها‪ ،‬عندما هاتفها زوجها في‬
‫المساء و أخبرها بأن تتجهز من أجله ليس على‬
‫موعد عودته سوى نصف ساعة‪ ،‬و قد أخبرها‬
‫أيضا أًل تتعب نفسها في تحضير العشاء‪ ،‬ألنه‬
‫بالفعل أحضره في طريقه‬
‫كل هذا الدًلل الذي يبديه ًل تشعر بالراحة‬
‫حياله‪ ،‬و كان قلبها منقبضا‪ ،‬لكنها ًل تقدر إًل أن‬
‫تنفذ ما طلبه منها‪ ،‬فقامت من السرير تجر‬
‫ساقيها‪ ،‬فتحت خزانتها بأذرع مخدرة و اختارت‬
‫بيجامة من الستان الزهري‪ ،‬بدلت بثوبها‬
‫القطني المريح و جلست أمام منضدة الزينة‪،‬‬
‫وضعت القليل من الحمرة على خديها و‬
‫شفاهها‪ ،‬و مررت قلم الكحل بين جفنيها في كلتا‬
‫العينين‪ ،‬ثم أخذت قنينة العطر و نثرت بحركات‬
‫آلية كيفما أتفق عند عنقها و صدرها و خلف‬
‫أذنيها ‪...‬‬
‫تحبس أنفاسها عندما تسمع الجلبة خارج‬
‫الغرفة تعرف بأنه قد جاء‪ ،‬تحاول أن تفكر في‬
‫حيلة سريعة ربما تنطلي عليه أو تكسب عطفه‬
‫فيتركها و شأنها الليلة‪ ،‬لكنها ًل تجد أي فكرة‪..‬‬
‫و فجأة يظهر "سيف" عند باب الغرفة ؛‬
‫تراه "إيمان" بالمرآة و هو يتكئ هناك بكتفه‬
‫إلى إطار الباب‪ ،‬و قد كان يحمل في يديه كيسا‬
‫من الورق الموقع بعالمة أشهر و أرقى متاجر‬
‫األلبسة النسائية‪ ،‬لم يطيل المكوث مكانه إذ كان‬
‫فقط يتأملها لبرهة‪ ،‬ثم مشى ناحيتها مبتسما لها‬
‫اإلبتسامة المؤذية لمشاعرها‪ ،‬لم تكن تحمل في‬
‫خباياها سوى اإلحتقار الذي ًل يستطيع‬
‫المجاهرة به‪ ،‬ليس ألنها إبنة خاله فقط‪ ،‬بل‬
‫ألنها صارت زوجته‪ ،‬و قد فات آوان أن يفضح‬
‫سرها‪ ،‬فالجميع يعلم بأنهما متحابان و أسعد‬
‫زوجين‪ ،‬و أنه راض عنها أتم الرضا ‪...‬‬
‫‪-‬حبيبتي ! ‪ ..‬تمتم و هو يضع يده فوق كتفها‬
‫سرت القشعريرة في كل جزء من جسمها من‬
‫مجرد لمسته التي ًل تزال غير معتادة عليها‪ ،‬بل‬
‫كل شيء غريب هنا معه‪ ،‬و ًل يمكنها أن‬
‫تستوعب كيف ستتأقلم و هي ًل تحمل له أي‬
‫مشاعر !!‬
‫رأته يشرع بحل أزرار قميصه و هو يمسد‬
‫كتفها قائال ‪:‬‬
‫‪-‬ماجهزتيش نفسك ليه زي ما قلت لك !؟‬
‫نظرة عينيه فقط ترعبها‪ ،‬لوًل اإلنهاك الذي أثقل‬
‫مشاعرها قليال و هي ترد عليه بتعب واضح ‪:‬‬
‫‪-‬مانا جاهزة أهو يا سيف !‬
‫رفع حاجبه مستنكرا ‪:‬‬
‫‪-‬جاهزة إزاي‪ .‬بالبيجامة دي و جاهزة‪ً .‬ل يا‬
‫حبيبتي فكك بقى من دوًلبك ده خالص إللي‬
‫ماشوفتش فيه حاجة تبل الريق‪ ..‬بصي أنا‬
‫جايب لك إيه ‪...‬‬
‫و سحب من الكيس الذي يحمله رداء نسائيا‬
‫فاضح جدا !!!‬
‫حملقت "إيمان" بصدمة و فمها يكاد يصل‬
‫لألرض‪ ،‬الرداء ًل يشبه حتى أكثر ثوب جريئ‬
‫في خزانتها‪ ،‬من نسيج الشيفون‪ ،‬أسود اللون‪،‬‬
‫قصير جدا ‪...‬‬
‫‪-‬و دول كمان ! ‪ ..‬و سحب من الكيس ما‬
‫أفزعها أكثر‬
‫‪ً-‬ل يا سيف ! ‪ ..‬نطقت تلقائيا‬
‫فتالشت ابتسامته و هو يستوضحها محتدا ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل إيه يا قلبي !؟‬
‫تنهدت بتوتر و قامت مستديرة نحوه‪ ،‬فركت‬
‫يديها و هي تحاول إقناعه ‪:‬‬
‫‪-‬أنا عارفة إن ليك ذوق معين‪ .‬و انت كمان‬
‫عارف إني طول الوقت بحاول أرضيك و أعمل‬
‫إللي تطلبه مني‪ ..‬بس‪ .‬كل ده كتير عليا !‬
‫و أشارت لما يحمله بيديه ‪...‬‬
‫ألقى "سيف" باألغراض فوق السرير‪ ،‬مشى‬
‫تجاهها على مهل قائال بهدوء ‪:‬‬
‫‪-‬قلت لك مش بتتسمى طلبات يا إيمان‪ .‬أنا‬
‫أستاذك‪ .‬و أفتكر أول درس علمته لك‬
‫مايتنسيش ‪..‬‬
‫كان قد وصل أمامها‪ ،‬شدها من خصرها و لف‬
‫ذراعيه حولها بإحكام بحيث ًل يمكن للهواء أن‬
‫يمر بينهما‪ ،‬كانت كعادتها تحبس أنفاسها حين‬
‫يكون بهذا القرب الشديد جدا منها‪ ..‬دائما تتأهب‬
‫لكارثة !!‬
‫نظر في عينيها و هو يقول بجمود ‪:‬‬
‫‪-‬أول درس‪ ..‬فكريني كان إيه ؟‬
‫أحست بتوقف رئتيها هنيهة عن العمل و هي‬
‫تزدرد ريقها بصعوبة‪ ،‬سحبت نفسا مرتعشا و‬
‫هي تجاوبه همسا ‪:‬‬
‫‪-‬الطاعة‪ ..‬إني أنفذ كل أوامرك بدون نقاش أو‬
‫تفكير !‬
‫بزغت إبتسامة ماكرة على شفتيه الدقيقتين ‪:‬‬
‫‪-‬برافو‪ .‬تنفذي‪ ..‬و هاتعملي إيه دلوقتي ؟‬
‫تكونت طبقة من الدموع بعينيها الواسعتان و‬
‫هي ترد عليه ‪:‬‬
‫‪-‬هاغير و ألبس الحاجات إللي جبتها لي !!‬
‫‪-‬شاطرة يا حبيبتي‪ .‬كده تعجبيني‪ ..‬يال و أنا‬
‫واقف كده‬
‫‪ً-‬ل بقى ! ‪ ..‬اعترضت بقوة هذه المرة‬
‫فوقف ساكنا و هو يستمع إليها تتحدث و القهر‬
‫يفتك بها ‪:‬‬
‫‪-‬مش هقدر أعمل كده قصادك‪ .‬عشان خاطري‬
‫بقى‪ ..‬استنى برا !‬
‫مرت لحظات‪ ..‬ثم قال بمرونة ‪:‬‬
‫‪-‬ماشي‪ ..‬داخل أخد دش بسرعة و راجع لك‪.‬‬
‫بس في اإلنجاز أنا مش مطول‬
‫أومأت له مرة‪ ،‬و تنفست الصعداء ما إن اختفى‬
‫عن ناظريها‪ ،‬جلست منهكة على طرف السرير‪،‬‬
‫مدت يديها مترددة في أخذ األغراض‪ ،‬لكنه‬
‫أمهلها مدة وجيزة‪ ..‬عليها أن تسرع ‪...‬‬
‫بعد خمسة دقائق بالضبط‪ ،‬كانت منتهية‪ ،‬و كان‬
‫هو أيضا قد حضر إلى الغرفة ثانية‬
‫تواجها اآلن أمام بعضهما‪ ،‬وقفا متسمرين‬
‫كانت خائفة و هي تشعر بقلبها يدق بعنف و لم‬
‫يحدث شيء بعد‪ ،‬فال تعلم ما الذي ينوي عليه‬
‫هذه الليلة‪ ..‬بينما بدا عليه الحماس الشديد و‬
‫هو يتفرسها بعينيه من رأسها حتى أخمص‬
‫قدميها ‪...‬‬
‫‪-‬أووف ! ‪ ..‬يفترض أن يكون ما تفوه به إطراء‬
‫و هو كذلك و ما ظهر عليه‪ ،‬إذ كان و كأنه ًل‬
‫يطيق حتى الجو من حوله ليصل إليها‪ ،‬و هذا ما‬
‫فعله على الفور‪ ،‬مشى ناحيتها و الماء يقطر‬
‫منه ‪...‬‬
‫‪-‬مش قلت هانتعشى سوا األول !؟؟‬
‫كان ما قالته عشوائيا و سريعا فقط لتكسب‬
‫بعض الوقت بعيدا عنه‪ ،‬لكن لم يلقى هذا أي‬
‫صدى معه‪ ،‬تمتم بخشونة ‪:‬‬
‫‪-‬العشا يستنى‪ .‬إحنا مع بعض للصبح !‬
‫و جذبها نحوه بذراع قوية ‪...‬‬
‫حين اعتالها‪ ،‬رأت في عينيه نفس النظرات‬
‫التي ًل تحصل إًل عليها منه منذ كشفت له‬
‫سرها‪ ..‬اإلحتقار‪ ،‬الغضب‪ ،‬و الكراهية بعد الحب‬
‫الكبير‬
‫لكنها ًل تكذب احساسها‪ ،‬أحيانا تشعر بأن حبها‬
‫ًل يزال يسكن قلبه‪ ،‬أحيانا يظهره لها‪ ،‬أو يفلت‬
‫منه ًل إراديا‪ ،‬إنما هي واثقة من إن جانبا منه ًل‬
‫زال يعشقها‪ ..‬و إًل ما أبقى عليها لحظة واحدة‬
‫و سترها و كتم عليها عارها !‬
‫كان ما يحصل بينهما صعبا‪ ،‬صعبا عليها هي‪ ،‬و‬
‫كانت مضطرة أن تتحمله بل و تتظاهر بأنه‬
‫يروق لها‪ ،‬رغم أنه يعلم الحقيقة‪ ،‬لكنه يتظاهر‬
‫مثلها و يتعمد إيالمها و إشعارها باإلهانة أكثر‬
‫‪...‬‬
‫شعرت باإلحتقار فهتفت‬
‫‪ -‬خالص يا سيف أرحمني حرام اللي بيحصل‬
‫فيني ده انا مش كدة‬
‫سيف بغضب‪:‬‬
‫‪-‬حـراااااام !؟؟؟‬
‫إنتي تعرفي الحرام ياست الحسن و العفاف‪.‬‬
‫خالص بقى جو محترمة و متربية و متقفل‬
‫عليها ده مابقاش ياكل معايا‪ .‬ده انتي ×××××‬
‫يابت‪ .‬إنتي نسيتي نفسك و اًل إيه ؟ ده أنا عامل‬
‫معاكي الصح‪ .‬بدل ما تشكريني و تبوسي‬
‫جزمتي بتقوليلي حـراااام ؟؟؟؟‬
‫كانت مصدومة و مشدوهة من كل كلمة يتفوه‬
‫بها‪ ،‬كانت تبكي بحرقة‪ ،‬كانت في موقف ًل‬
‫تحسد عليه و هي تنتقل معه لفصل جديد و‬
‫عقاب أبشع مما سبق كله‬
‫كل جزء منها يتمنى لو أنها لم تعشق "مراد"‪..‬‬
‫اآلن الندم و األلم هو كل ما خلفه لها هذا‬
‫العشق‪ ،‬لم تعد تشعر بقلبها‪ ،‬لم يعد لديها أمل‬
‫في الحب‪ ،‬الحب غير موجود‪ ،‬ليس سوى القبح‬
‫و الغدر ما أحاق بها على أيدي حبيبها‪ ،‬ثم‬
‫زوجها‬
‫و الثاني لم يرحمها‪ ،‬و لم يشفق عليها طرفة‬
‫عين ‪...‬‬
‫كانت تذرف الدموع في صمت اآلن‪ ،‬عاجزة‪،‬‬
‫مستنزفة‬
‫بدخلها غضب و ثورة بحاجة للطفو‪ ،‬كانت‬
‫بحاجة ماسة للصراخ‪ ،‬لكنها أرغمت على‬
‫السكوت‪ ،‬و أطبقت فاها مستسلمة له مجددا‬
‫للنسخة الرقيقة منه التي دائما ما تظهر بعد أن‬
‫يذهب الوحش الضاري الذي كان عليه منذ قليل‬
‫‪...‬‬

‫*****‬
‫‪ً-‬ل يا سيف‪ً .‬ل حرام عليك بقى‪ .‬كفاية كده‪.‬‬
‫كفاية تعمل معايا كل ده كفـااااااااااااية !‬
‫صراخها ملء الغرفة و بلغ سمعيه بشدة‪ ،‬بينما‬
‫يحاول تهدئتها عبثا‪ ،‬أمسك بمعصميها و ًل يزال‬
‫مسيطرا على جسمها المتشنج‪ ،‬هتف فيها بقوة‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬إيمـان‪ .‬فوقي يا إيمان‪ ..‬أنا مراد‪ .‬مـرااد مش‬
‫سيف‪ .‬إيمان !‬
‫لم يبدو أنها سمعته جيدا‪ ،‬كانت و كأنها بغيبوبة‬
‫و هي على قيد الوعي‪ ،‬و كأنها ترى شخصا‬
‫آخر مكانه هو‪ ،‬األمر الذي أقلقه بشدة و‪ ،‬أخذ‬
‫يهزها بعنف صائحا ‪:‬‬
‫‪-‬إيمـاااان‪ ..‬فوقي‪ .‬ماتخافيش يا حبيبتي‪.‬‬
‫ماتخافيش مش هاعمل لك حاجة‪ .‬و هللا و‬
‫ماكنتش ناوي أعمل حاجة أصال‪ ..‬أنا بس كنت‬
‫عايز أثبت لك إني لسا في قلبك‪ .‬إنك لسا‬
‫بتحبيني و ماتقدريش تكوني مع حد غيري ‪...‬‬
‫أخيرا بدأت تستجيب له‪ ،‬و تعود للوقع من‬
‫جديد‪ ،‬لكن األسى كان يغمرها حد اإلختناق‪،‬‬
‫فانفجرت ببكاء عارم‬
‫تنهد "مراد" في استياء ونطق بندم ‪:‬‬
‫‪-‬أنا آسف‪ .‬أنا آسف جدا‪ ..‬أنا غلطان‪ .‬أنا آسف‬
‫‪...‬‬

‫*****‬
‫ترجلت "سالف" من سيارتها واضعة الهاتف‬
‫فوق أذنها ‪:‬‬
‫‪-‬أيوة يا أدهم‪ .‬وصلت البيت خالص‪ً ..‬ل أنا‬
‫هاطلع أجيب شهادة ميالد لمى من فوق هانزل‬
‫علطول‪ ..‬مش عارفة عمتو نسيتها إزاي بس ‪..‬‬
‫استقلت المصعد و هي تردف له ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل يا حبيبي تيجي فين بس‪ ..‬مافيش أي تعب‬
‫عليا و هللا‪ ..‬حاضر هامشي على مهلي ‪..‬‬
‫توقفت أمام باب شقة عمتها‪ ،‬دفعت المفتاح‬
‫بالقفل ضاحكة و هي تسند الهاتف إلى أذنها‬
‫أكثر ‪:‬‬
‫‪-‬ماترجعش تفتح الموضوع ده معايا بالطريقة‬
‫دي‪ ..‬أيوة عمرك ما هاتغريني بالخلفة تاني‪..‬‬
‫خالاااص بقى يا أدهم مش وقته‪ ..‬أوكي يا‬
‫حبيبي أنا مستنياك دايما‪ ..‬ترجع لنا بالسالمة‪..‬‬
‫ماشي‪ ..‬و أنا كمان بحبك‪ ...‬محمد رسول هللا !‬
‫و أغلقت معه و هي تلج إلى الشقة رافعة النقاب‬
‫عن وجهها‬
‫تنهدت مغلقة الباب خلفها‪ ،‬وضعت حقيبتها‬
‫فوق أحد الكراسي‪ ،‬ثم شقت طريقها للداخل‬
‫قاصدة غرفة عمتها‪ ،‬حيث نسيت بها شهادة‬
‫ميالد "لمى" ‪...‬‬
‫و لكن‪ ..‬استوقفها شيء فجأة‪ ...‬أمام غرفة‬
‫"إيمان"‪ ..‬توقفت لبرهة و هي تلمس الباب‬
‫بتعاطف ‪...‬‬
‫‪-‬حبيبتي يا إيمان !‬
‫هزت رأسها في شفقة على حال تلك المسكينة‬
‫التي تبكي خلف باب غرفتها‪ ،‬كانت حائرة‪ ،‬و‬
‫هي تستمع إلى نحيبها المرير‪ ،‬هل تلج‬
‫لتواسيها‪ ،‬أم تتركها ؟‬
‫إنها دائما ما تبكي‪ ،‬الجميع يعلم إنها تبكي‪ ،‬و‬
‫الغريب أن ًل أحد يهتم‪ ،‬يتركونها في كل أوقات‬
‫حزنها و بؤسها ‪...‬‬
‫تنهدت "سالف" و هي ترفع يدها عن مقبض‬
‫الباب و قد تخلت هي أيضا عن مواساتها‪ً ،‬ل‬
‫لشيء سوى عدم إحراجها و زيادة الطين بلة‪..‬‬
‫لكنها توقفت فجأة حين تناهى إلى سمعها صوت‬
‫آخر غير صوت "إيمان" !!!‬
‫قربت "سالف" أذنها من الباب و أصاخت‬
‫السمع‪ ،‬فإذا بالصوت يختلط بصوتها ثانية‪ ،‬لم‬
‫يستغرق األمر طويال حتى تبين لها أن هناك‬
‫رجل معها بالداخل و أن ذلك الصوت له ؛‬
‫جن جنون "سالف" لهذا اإلكتشاف‪ ،‬و ارتمت‬
‫بجسدها كله على الباب و هي تفتحه مقتحمة‬
‫الغرفة ‪...‬‬
‫‪ً-‬ل ! ‪ ..‬كانت هذه الكلمة الوحيدة التي تمكنت‬
‫"سالف" من قولها‬
‫بمجرد أن دلفت و رأت تلك البشاعة كلها ‪...‬‬
‫شقيقة زوجها‪ ..‬و ابن خالتهما‪" ..‬إيمان" و‬
‫"مراد" معا في الغرفة صحيح بمالبسهم وكل‬
‫واحد بعيد عن الثاني بس انصدمت!!!‬
‫‪ً-‬لااااااااااااااااااا !!!! ‪ ..‬صرخت "سالف"‬
‫مصدومة‬
‫في المقابل جمد الفزع كال من "مراد" و‬
‫"إيمان" ‪...‬‬
‫‪ً-‬ل مستحيل‪ً .‬ل‪ً .‬ل مش معقـول ! ‪ً ..‬ل تزال‬
‫"سالف" على إنكارها الهستيري‬
‫وقف "مراد"‪ ، ..‬بينما "إيمان" أخذت تجهش‬
‫بالبكاء مجددا مغطية وجهها بكفيها غير قادرة‬
‫على النظر تجاه زوجة أخيها ؛‬
‫‪-‬سالف‪ .‬سالف من فضلك إهدي ! ‪ ..‬قالها‬
‫"مراد" و هو يمشي نحو "سالف" محاوًل‬
‫تهدئتها‬
‫هزت "سالف" رأسها‪ ،‬شعرت أن الصدمة‬
‫تتحول إلى غضب و هي تستمع إلى ذاك النذل‪،‬‬
‫إلتفتت إليه كإعصار‪ ،‬لم يرها "مراد" غاضبة‬
‫هكذا من قبل‪ ،‬لم يرها أصال في حياته على‬
‫الطبيعة إًل اآلن حين كان النقاب مرفوعا عن‬
‫وجهها المتآجج‪ ،‬لم يتسنى له أي وقت ليتأملها‬
‫أو يتفاجأ بجمالها غير العادي ‪...‬‬
‫ازدرد ريقه بتوتر و هو يقول بحرج شديد ‪:‬‬
‫‪-‬الوضع مش زي مانتي فاهمة‪ .‬أقسم لك باهلل‪..‬‬
‫مش زي مانتي فاهمة !‬
‫نظرت "سالف" إليه كما لو أنه أحقر ما رأت‬
‫عيناها قط‪ ،‬حتى "سيف" بذاته لم يصل إلى‬
‫تلك الدرجة من الدناءة و الخسة‪" ..‬سيف"‬
‫الذي حاول اًلعتداء عليها من قبل‬
‫إنما هذا‪ ...‬هذا يدنس شرف أهله‬
‫يخون خالته‪ ،‬ابن خالته‪ ..‬الرجل الذي وثق فيه‬
‫كثيرا !!!‬
‫رمقته "سالف" باشمئزاز و غضب شديدين ‪:‬‬
‫‪-‬حيـوان !‬
‫و لم تستطع البقاء هنا أكثر‪ ،‬استدارت مهرولة‬
‫إلى الخارج‬
‫أسرع "مراد" ‪ ،‬ثم توقف لحظة و جثى على‬
‫ركبتيه أمام "إيمان"‪: ..‬‬
‫‪-‬ماتخافيش يا حبيبتي‪ .‬أنا هاحل الموضوع‪.‬‬
‫مش هاسيبك المرة دي يا إيمان‪ .‬مافيش مخلوق‬
‫يقدر يفرق بينا خالص‪ .‬أوعدك !‬
‫و نهض ًلحقا بـ"سالف" ‪...‬‬
‫وجدها تجلس بالصالة و ًل تزال كاشفة وجهها‪،‬‬
‫بدت متعبة و كأنها تعب الهواء إلى رئتيها بشق‬
‫األنفس‪ ،‬فتح "مراد" فمه ليتحدث‪ ،‬لكن شكلها‬
‫و شحوبها المفاجئ استوقفه‪ ،‬فبدل قوله قلقا ‪:‬‬
‫‪-‬سالف‪ ..‬إنتي كويسة !؟‬
‫رفعت بصرها المستوحش إليه مزمجرة‬
‫بصعوبة ‪:‬‬
‫‪-‬إمشي‪ .‬إطلع برا‪ ..‬إمشـــي من هنــا !!!‬
‫خفض "مراد" رأسه للحظات و صمت‪ ..‬في‬
‫الحقيقة لم يجد ما يقوله لها و خشى لو أتى‬
‫شخص آخر اآلن فتصير حفلة‬
‫تنهد رامقا إياها بنظرة أسف أخيرة‪ ،‬ثم إلتفت و‬
‫رحل أخيرا‬
‫بينما بقيت "سالف" مكانها‪ ،‬أسندت رأسها إلى‬
‫ظهر الكرسي الوثير‪ ،‬حاولت أن تنظم أنفاسها‬
‫مجددا‪ ،‬هكذا في هذا الهدوء أمكنها سماع‬
‫شقيقة زوجها و هي ًل تزال تبكي في غرفتها !‬

‫يتبع ‪...‬‬
‫انتهى الفصل السادس عشر‬

‫‪" 17‬جزء أول"‬

‫"ظننت أني واهمة ؛ ربما أحلم و ًل بد أن‬


‫أستيقظ‪ ..‬و لكني لم أستيقظ‪ ،‬كان حقيقيا و قد‬
‫خربت صورتك أمام عيني‪ ،‬و هذا‪ ...‬يحطمني‬
‫!"‬

‫_ سالف‬
‫لفت "لمى" ذراعيها حول عنق خالها فور أن‬
‫فتح باب السيارة األمامي من جهة أمه و تلقى‬
‫منها الصغيرة‪ ،‬بينما توجهت "أمينة" لتفتح‬
‫الباب الخلفي و تتلقى بدورها التوأم الثالثة من‬
‫المقاعد المعززة ‪...‬‬
‫كان "أدهم" يسرع في خطاه نحو المنزل و‬
‫التوتر باد على أقل تحركاته‪ ،‬هكذا وصوًل إلى‬
‫شقة والدته‪ ،‬فتح باب الشقة بنسخته الخاصة‬
‫من المفتاح‪ ،‬أنزل الصغيرة "لمى" و هو يهتف‬
‫مناديا عبر الشقة ‪:‬‬
‫‪-‬سـالف‪ ..‬ســالف‪ ..‬سـالف !‬
‫لم يتلق ردا و قد فتش جميع الغرف حتى توقف‬
‫أمام غرفة أخته‪ ،‬وجدها مغلقة فلم يشأ أن‬
‫يزعجها‪ ،‬إن كانت زوجته هنا لخرجت عند‬
‫سماع صوته‬
‫قابل "أدهم" لدى خروجه أمام المصعد‪ ،‬كانت‬
‫تهم بالخروج بعد الصغار و استوقفته بقلق ‪:‬‬
‫‪-‬إيه يا أدهم خير يابني !؟‬
‫جاوبها "أدهم" متخذا مكانها داخل المصعد و‬
‫هو يكبس زر طابقه بسرعة ‪:‬‬
‫‪-‬مالقتهاش جوا يا أمي‪ .‬أكيد طلعت فوق أنا‬
‫طالع لها أهو !‬
‫أكدت عليه قبل أن ينغلق المصعد ‪:‬‬
‫‪-‬إبقى طمني طيب !!‬
‫بالكاد رأته يومئ لها برأسه‪ ،‬لحظات و دفع‬
‫"أدهم" باب المصعد منطلقا صوب شقته‪،‬‬
‫اقتحمها في الحال متجها رأسا إلى غرفة النوم‪،‬‬
‫و قد صدق حدسه و وجدها هناك‪ ،‬تستلقي فوق‬
‫الفراش و ًل تزال في عباءتها السوداء‪ ،‬كان‬
‫التعب واضحا عليها ‪...‬‬
‫‪-‬سالف ! ‪ ..‬صاح "أدهم" هارعا إليها‬
‫شعرت "سالف" بالمرتبة تنخفض بجوراها‪،‬‬
‫كانت غاطة بالنوم‪ ،‬أو لعلها غيبوبة قصيرة‪،‬‬
‫عندما فتحت عيناها من جديد رأت وجه زوجها‬
‫الحبيب يطل عليها ؛‬
‫ابتسمت له بارهاق و هي ترفرف بأجفانها‪،‬‬
‫بينما يحاوطها بين ذراعيه قائال بقلق شديد ‪:‬‬
‫‪-‬إيه يا حبيبتي مالك ؟ حاسة بإيه يا سالف‬
‫قوليلي !!؟‬
‫و كان يمسك بذقنها بلطف بين سبابته و إبهامه‬
‫يقلب وجهها يمنة و يسرا ليتفحصه عن كثب ‪...‬‬
‫‪-‬أنا كويسة يا أدهم ! ‪ ..‬قالتها "سالف" بصوت‬
‫ضعيف عكس إدعاءاتها‬
‫‪-‬ماتخافش انت قلقان أوي كده ليه ؟‬
‫أدهم بصوت أجش ‪:‬‬
‫‪-‬قلقان ليه ! بعد ما قفلت معاكي و أكدتي إنك‬
‫راجعة بشهادة ميالد لمى لماما و فجأة بعدها‬
‫بشوية تكلميني تاني و تقوليلي مش هاتقدري‬
‫تنزلي أفهم أنا إيه !!؟‬
‫سألته عابسة ‪ :‬انت ماجتش تاخد شهادة الميالد‬
‫و توصلها لعمتو أمينة زي ما قلت لك !؟؟‬
‫رد دون أن يرف له جفن ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل طبعا‪ .‬التطعيمات تستنى يروحوا بكرة أو‬
‫بعده‪ ..‬إنتي كنتي متخيلة إني ممكن أروح لهم و‬
‫أسيبك !؟؟‬
‫سالف بشيء من اإلنفعال ‪:‬‬
‫‪-‬يعني سبتهم هما هناك يا أدهم !!؟؟‬
‫زفر بامتعاض ‪ :‬إهدي يا سالف ماسبتش حد‪.‬‬
‫أنا عديت خدتهم في سكتي و جيت على هنا‬
‫فورا‪ .‬أكيد ماكنتش هاجي أخد الشهادة و أروح‬
‫أستنى معاهم كل ده و أسيبك إنتي هنا لوحدك !‬
‫أغمضت عيناها متنهدة و هي تسند رأسها إلى‬
‫الوسادة بعمق‪ ،‬أخذت تسعل بخفة فجأة‪ ،‬ثم ما‬
‫برح سعالها أن إزداد حدة و أخذت تتأرجح‬
‫مكانها من شدة السعال‪ ..‬في المقابل يراقبها‬
‫"أدهم" بتوجس ما لبث أن استحال خوف‬
‫عليها ‪...‬‬
‫‪-‬فيكي إيه بس يا سالف !!؟ ‪ ..‬غمغم "أدهم"‬
‫بجزع و هو يضم رأسها إلى صدره‬
‫و ًل تعلم لماذا كرهت نفسها في تلك اللحظة‪،‬‬
‫ألنها تسببت في قلقه و زعزعة استقرارهم‬
‫جميعا اليوم‪ ..‬هي و هو و األطفال‬
‫ربما ما كان عليها أن تعود إلى المنزل‪ ،‬ربما‬
‫كان يجب أن تتأكد قبل أن يذهبوا بأن كل ما‬
‫يلزم لتلقي التطعيمات جاهز‪ ،‬هي المالمة‪ ..‬أيا‬
‫كان ما فعلته شقيقة زوجها مع ابن عمتها‬
‫يخصهما وحدهما‪ ،‬لم يكن عليها أن تتواجد في‬
‫هذا الوقت و تكتشف أمرهما‪ ،‬لم يكن عليها‬
‫تحمل هذا العبء كله ‪...‬‬
‫‪-‬يال قومي هانروح المستشفى ! ‪ ..‬شد يدها‬
‫بحزم أجفلها‬
‫لو أراد ألقتلعها من الفراش بسهولة‪ ،‬لكنه‬
‫إنصاع لقبضة يدها التي شددت على كفه فسكن‬
‫على الفور منصتا إليها ‪:‬‬
‫‪-‬استنى بس يا أدهم‪ .‬مستشفى إيه‪ .‬مش‬
‫مستاهلة‬
‫تململ بغضب ‪ :‬مش مستاهلة إزاي‪ .‬انت بقالك‬
‫فترة تعبانة و صدرك تاعبك‪ .‬بس إنهاردة زادت‬
‫أوي الحكاية ! ‪ ..‬ثم هتف بصرامة ‪:‬‬
‫‪-‬إستحالة أقف اتفرج عليكي‪ .‬مش هاسمع‬
‫كالمك المرة دي‪ .‬يال قومي بقولك هانروح‬
‫المستشفى !!‬

‫*****‬

‫! ‪-Asthma Syndrome‬‬
‫أعلن الطبيب الخمسيني تشخيص حالة مريضته‬
‫بعد الكشف الدقيق عليها‬
‫كانا كال الزوجين يجلسان أمامه‪ ،‬و قد كانت‬
‫"سالف" رافعة نقابها لعجزها عن التنفس‬
‫بشكل طبيعي‪ ،‬لم تكن تفهم ما أدلى به‪ ..‬و لكنها‬
‫أيقنت من وجه "أدهم" بأنها علة غير حميدة‬
‫على اإلطالق ‪...‬‬
‫‪-‬انت متأكد يا دكتور !؟ ‪ ..‬تساءل "أدهم"‬
‫محاوًل إخفاء صدمته قدر المستطاع‬
‫‪-‬ربو ؟ متأكد !؟‬
‫شحب وجه "سالف" فوق شحوبه و هي‬
‫تستمع إلى هذا الخبر يخرج من فم زوجها‪،‬‬
‫جمدت تماما و لم تستطع نطقا‪ ..‬أحس بها‬
‫"أدهم" و ألقى عليها نظرة‬
‫كما العاجز‪ ،‬كالغريق الذي يتعلق بقشة مد يده و‬
‫قبض بقوة على كفها الملقى بحجرها و هو‬
‫يعاود النظر إلى الطبيب قائال بانفعال ‪:‬‬
‫‪-‬ممكن تتأكد تاني يا دكتور‪ .‬ممكن نعمل تحاليل‬
‫آشعة أي حاجة‪ .‬إزاي شخصت بالسرعة دي‬
‫!!؟‬
‫إنبلجت ابتسامة على وجه الطبيب‪ ،‬و قال مهدئا‬
‫و هو يخلع نظارته ‪:‬‬
‫‪-‬بالراحة يا دكتور أدهم‪ .‬مالك بس أنا لسا‬
‫ماكملتش كالمي‪ ..‬أكيد هانعمل تحاليل و أشعة‪.‬‬
‫بس أنا متأكد كمان من إللي بقوله‪ .‬و في نفس‬
‫الوقت بطمنكوا‪ .‬الوضع مش خطير‪ .‬النوع ده‬
‫من الربو تافه جدا‪ .‬عامل زي الحساسية‬
‫المزمنة كده‪ .‬هانحدد له عالج إن شاء هللا بعد‬
‫ما تطلع نتايج التحاليل‪ .‬ماتقلقش المدام زي‬
‫الفل و هللا‬
‫كان يتنفس بثقل و هو ًل يزال يشعر بإعياء‬
‫الخوف عليها‪ ،‬ازدرد ريقه ضاما يدها بقبضته‬
‫أكثر ‪...‬‬
‫‪-‬أدهم يابني انت بتثق فيا و اًل ًل !؟ ‪ ..‬حدثه‬
‫الطبيب بجدية‬
‫أدهم عابسا بوهن شديد ‪:‬‬
‫‪-‬أكيد يا دكتور أمجد !‬
‫الطبيب بحزم ‪ :‬خالص يبقى تصدقني و‬
‫ماشوفش وش القلق ده عليك ! ‪ ..‬و حول‬
‫ناظريه نحو "سالف" مكمال ‪:‬‬
‫‪-‬و إنتي يابنتي‪ .‬ماتخافيش إنتي كويسة‪ ..‬ممكن‬
‫اسألك سؤال ؟‬
‫بالكاد خرج صوت "سالف" هامسا أبحا ‪:‬‬
‫‪-‬اتفضل !‬
‫‪-‬إنتي حصلت معاكي حاجة إنهاردة ضايقتك‬
‫صح ؟‬
‫إتسعت حدقتاها و ارتبكت فجأة من تلك‬
‫المباغتة‪ ،‬بينما بقى "ادهم" هادئا في انتظار‬
‫ردها الذي تأخر كثيرا‪ ،‬بل لم يأتي أصال‪،‬‬
‫ليسترخي الطبيب للوراء قليال و قد خمن‬
‫اإلجابة‪ ،‬فقال بهدوء ‪:‬‬
‫‪-‬طيب أيا كان يا مدام‪ .‬إنتي المرض إللي عندك‬
‫ده مزمن‪ .‬و مش بيظهر أعراضه غير في‬
‫حالتين‪ .‬مواسم الخريف و الربيع‪ .‬و الحالة‬
‫التانية ناتجة عن الحالة المزاجية‪ .‬زي إنك مثال‬
‫تسمعي خبر يضايقك‪ .‬حد يزعلك كده يعني‪ ..‬ف‬
‫كل ده بردو حاجات ًل تدعو ألي قلق‪ .‬مبدئيا‬
‫الوقاية‪ .‬أولها النقاب ده‪ً .‬لزم يتخلع !‬
‫‪-‬نعم ! ‪ ..‬خرج هذا اًلعتراض من فاه "أدهم"‬
‫فأردف الطبيب ناظرا إليه بقوة ‪:‬‬
‫‪-‬مش بمزاجك و ًل مزاجها يا دكتور‪ .‬أي حالة‬
‫ربو ماينفعش معاها خنقة النفس أبدا‪ .‬قوًل‬
‫واحدا النقاب ًلزم يتخلع !‬
‫*****‬

‫يقال أن السر إذا خرج عن اثنين فلن يبقى‬


‫سرا‪ ..‬فماذا لو عرفه أربعة ؟‬
‫زوجها الراحل و قد توفى و حمله معه إلى‬
‫قبره‪ ،‬و لكن إبنة خالها‪ ،‬زوجة أخيها‪ ...‬لقد‬
‫رأتها بالجرم بالمشهود‪ ..‬ضبطتها متلبسة في‬
‫ذلك الوضع‬
‫يا للخزي‬
‫يا للعار !‬
‫كان كل ما أرادته "إيمان" بعد افتضاح أمرها‬
‫أن تستلقي هكذا و تظل تبكي حتى تخرج‬
‫روحها‪ ،‬تشعر بالوجع من كل شيء‪ ،‬تشعر‬
‫بالغضب‪ ،‬تحتقر نفسها أكثر‪ ،‬كل هذا يفوق‬
‫قدرتها على التحمل‪ ،‬لقد أخطأت و دفعت الثمن‪..‬‬
‫لكن يبدو بأنه ليس كافيا‬
‫هل يجب عليها أن تموت حتى تجد الراحة و‬
‫السالم !؟‬
‫و إن سخت بروحها فهل من سالم بعد ذلك‪ ..‬أم‬
‫عذاب آخر و أدهى ينتظرها !!!‬
‫‪-‬إيمان !‬
‫ناداها صوت أمها من جديد‪ ،‬و كانت قد تحاملت‬
‫على نفسها‪ ،‬و ها هي تمسح دموعها في‬
‫المالءة و تقوم واقفة‪ ،‬مشت بآلية تجاه باب‬
‫الغرفة و فتحت القفل‪ ،‬ثم جذبت المقبض لتصير‬
‫وجها لوجه أمام "أمينة" ‪...‬‬
‫‪-‬لسا بتعيطي ؟ ‪ ..‬تمتمت "أمينة" بشفقة‬
‫واضحة على إبنتها‬
‫وقفت "إيمان" كصخرة جامدة بينما تستطرد‬
‫"أمينة" بعصبية ‪:‬‬
‫‪-‬ليه بتعملي في نفسك كده يابنتي ؟ و عشان‬
‫إيه‪ .‬لما إنتي كارهة نفسك بالشكل ده بسبب‬
‫إختيارك ما تقولي ًل‪ .‬إحنا لسا فيها يا إيمان‪.‬‬
‫أدهم أخوكي عنده حق‪ .‬مالك ماينفعكيش زي‬
‫سيف بالضبط‪ .‬ليه بتجني على نفسك للمرة‬
‫التانية‬
‫رفعت "إيمان" يدها و نزحت بقايا دموعها‬
‫بقوة قائلة بصالبة ‪:‬‬
‫‪-‬عشان ده إللي ًلزم يحصل‪ .‬ده إللي ًلزم‬
‫يحصل يا ماما‪ ..‬و هايحصل !‬
‫هزت "أمينة" رأسها بعدم تصديق و هي‬
‫تصيح فيها ‪:‬‬
‫‪-‬هو إيه إللي هايحصل‪ .‬إنتي مفكرة إنك كده‬
‫بتنتقمي لكرامتك منه‪ .‬مفكرة إنك ممكن تندمي‬
‫مراد عليكي يعني و تغيظيه‪ ..‬إللي إنتي‬
‫ماتعرفيهوش إنك بتغيظي نفسك و بس‪ .‬محدش‬
‫هايتئذي غيرك يابنتي !!!‬
‫أومأت لها موافقة ‪:‬‬
‫‪-‬أيوة‪ ..‬عندك حق‪ .‬عندك حق‪ .‬كالمك كله‬
‫صح‪ .‬صح !‬
‫و ظلت تردد الكلمات مرارا و تكرارا بطريقة‬
‫أثارت ريبة "أمينة" و أقلقتها على وضعها‬
‫العقلي و النفسي ‪...‬‬
‫لكن دخول كال من "أدهم" و "سالف" أنقذ‬
‫الموقف وجعل األم و إبنتها تكفان‪ ..‬و لكن‬
‫صمت "إيمان" كان رهبة و مخافة‬
‫لحظة إلتقاء عينيها بعيني "سالف" تضاربت‬
‫بداخلها مئات المشاعر‪ ،‬و أبرزها الخجل‪ ،‬و‬
‫رغم ذلك لم تقدر على إزاحة بصرها عنها قيد‬
‫أنملة ‪...‬‬
‫‪-‬خير يا حبيبتي‪ .‬طمني يا أدهم عملتوا إيه عند‬
‫الدكتور ! ‪ ..‬استقبلتهما "أمينة" بالتساؤًلت‬
‫متوجهة ناحية "سالف" فورا‬
‫احتضنتها بحنان‪ ،‬بينما يخبرها "أدهم" و قد‬
‫انتقلت له عدوى اإلرهاق هو اآلن ‪:‬‬
‫‪-‬الحمدهلل يا أمي بخير‪ .‬الدكتور طمنا‪ .‬الهانم‬
‫طلع عندها مرض مزمن في صدرها و كانت‬
‫هاماله‪ ..‬تعرفي لو ماكنتش أصريت عليها و‬
‫خدتها للدكتور كانت المضاعفات في المستقبل‬
‫هاتكون خطيرة ًل قدر هللا ! ‪ ..‬و وجه حديثه‬
‫لزوجته معاتبا ‪:‬‬
‫‪-‬هللا يسامحك يا سالف‪ .‬أنا شخصيا مش‬
‫مسامحك‬
‫ضحكت "سالف" بخفة و ردت عليه بصوتها‬
‫الناعم ‪:‬‬
‫‪-‬ماتقدرش يا حبيبي‪ .‬انت روحك فيا‪ ..‬تنكر !؟‬
‫اعترف "أدهم" و هو يميل مقبال خدها ‪:‬‬
‫‪-‬عشان السبب ده تحديدا مش مسامحك‪ .‬عشان‬
‫روحي فيكي يا سالف !‬
‫ردت له القبلة و هي تهمس بعشق ‪:‬‬
‫‪-‬حبيبي !‬
‫علقت "أمينة" باستنكار ‪:‬‬
‫‪-‬هو إيه ده منك ليها‪ .‬مش ليكوا شقة‪ .‬عيب كده‬
‫احنا واقفين‬
‫ضحكا الزوجين معا‪ ،‬اعتذر "أدهم" من‬
‫والدته‪ ،‬لتحدق "سالف" بـ"إيمان" مباشرة‬
‫اآلن و هي تقول بنبرة ذات مغزى ‪:‬‬
‫‪-‬إحنا عاوزين أيامنا الجاية كلها تبقى كده‪.‬‬
‫ضحك و سعادة بس‪ ..‬و خاصة عندنا فرح بكرة‪.‬‬
‫فرحتنا بإيمان‪ .‬فرحة ماتتقدرش بشيء !‬
‫نظرت "إيمان" لها و ألول مرة تحس نحو تلك‬
‫المخلوقة بهذا الخوف الرهيب !‬
‫‪..‬‬

‫اليوم‪ ،‬أًل يقترض بأن يكون يومها !؟‬


‫إن الحياة تقدم لها فرصة على طبق من ذهب‪،‬‬
‫حياة جديدة تماما‪ ،‬حياة حيث لن تكون مجبرة‬
‫أن تسأل عن الماضي‪ ..‬أو توقع السوء‬
‫بالمستقبل‪ ،‬لقد تحررت بالفعل من قيودها‬
‫زوجها مات و أخذ سرها معه‪ ،‬و حبها‪ ،‬رغم‬
‫أنه عاد ليطاردها و لكنها مسألة وقت حتى يمل‬
‫من جديد و يرحل كدأبه ؛‬
‫الشيء الوحيد الذي لم تكن تحس له حسابا هو‬
‫افتضاحها أمام أقرب األقربين‪ ،‬إبنة خالها‪،‬‬
‫زوجة أخيها‪ً ،‬ل يمكنها أن تتخطى هذا العار‪،‬‬
‫إنه حتى أكبر من عارها الذي تحمله فوق‬
‫عاتقها كل تلك السنوات‪ ،‬كلما مر المشهد على‬
‫خاطرها تكاد تموت خزيا !‬
‫"سكر محلي محطوط على كريمة‪ .‬كعبك محني‬
‫و العود عليه القيمة"‪ ..‬هكذا رددت "عائشة"‬
‫بصخب فور إقتحامها غرفة شقيقتها الكبرى‬
‫كانت الغنوة تصدح من الداخل‪ ،‬حيث إلتففن‬
‫فتيات العائلة حول العروس يجهزنها بعناية‪،‬‬
‫فـ"مايا" تتقن صنع تحفتها الفنية بالمكياج‪ ،‬و‬
‫"حال" تختار لها لون طالء األظافر‪ ،‬بينما‬
‫"سالف" في الطرف اآلخر من الغرفة تقف‬
‫أمام الخزانة تقوم بإخراج الفستان المطرز‬
‫ببساطة من غالفه و تحضيره بحذر ‪...‬‬
‫‪-‬مبـارك أختي !‬
‫أغلقت "عائشة" باب الغرفة من خلفها منطلقة‬
‫صوب أختها‪ ،‬اًلبتسامة ملء وجهها و هي تدنو‬
‫محتضنة "إيمان" من ظهرها ‪:‬‬
‫‪-‬مش مصدقة عنيا يا إيمان أخيرا رضيتي علينا‬
‫و هاتفرحينا !!‬
‫إغتصبت "إيمان" ابتسامة و هي تربت على‬
‫يدي أختها المحيطة بها‪ ،‬بينما تهتف "مايا"‬
‫بتقريع مازح ‪:‬‬
‫‪-‬و إنتي كنتي عايزة تفرحي بيها إزاي يا‬
‫شوشو‪ .‬بعد سيف يا مالك يا بالش‪ .‬مش كده يا‬
‫إيمو !؟‬
‫نظرت "إيمان" لها مبتسمة ابتسامة بال روح و‬
‫ًل معنى‪ ،‬لترد "حال" مضيفة على الدعابة ‪:‬‬
‫‪-‬في إيه يا ست مايا ما خالص مش هانزايد‬
‫على النصيب‪ .‬ده كله شغل ربنا‪ .‬و بعدين‬
‫ماتبقيش واثقة كده مش يمكن تقسم لغيره زي‬
‫األفالم الهندي !‬
‫جلجلت الضحكات المعابثة و ضجت بالغرفة‪،‬‬
‫لتأتي "سالف" و تضم صوتها للحديث بصوتها‬
‫الناعم ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل ماتقلقيش من الناحية دي يا حال‪ ..‬فرحتنا‬
‫هاتم إن شاء هللا‪ .‬و مافيش أفالم هندي‬
‫هاتحصل ‪..‬‬
‫و نظرت بعيني "إيمان" عبر المرآة تلك‬
‫النظيرة المريبة مؤخرا‪ ،‬ارتجفت "إيمان" من‬
‫داخلها بينما تسمع صوت "سالف" ‪:‬‬
‫‪-‬يال يا عروسة قومي عشان نلبسك الفستان‪.‬‬
‫زمان المأذون على وصول !‬
‫توشك أن تبكي‪ ،‬تنظر إليها بخوف و تشعر‬
‫بغصة في حلقها‪ ،‬لكنها ًل تقو على النطق‪ ،‬و‬
‫لكي ًل تلفت اإلنتباه‪ ،‬تستنشق نفسا عميقا و‬
‫هي تومئ يرأسها مرتين‪ ،‬تنهض واقفة و تخلع‬
‫روبها القصير‪ ،‬تتلقفها أذرع الفتيات و بدورها‬
‫تسلم نفسها لهن مسلوبة اإلرادة ‪...‬‬

‫*****‬

‫إنفتح الصالون الكبير على الشرفة الرئيسية‬


‫الفسيحة‪ ،‬فصنع ذلك تيار من الهواء العليل أخذ‬
‫يعبث باألزهار المتدلية من السقف ناشرا‬
‫نسمات عطرة و منعشة‪ ،‬كانت الشقة أكثر‬
‫إكتظاظا اآلن‪ ،‬و قد اقتصر الحضور على‬
‫األقارب فقط و بعض الجيران من السيدات و‬
‫الفتيات ؛‬
‫في الجهة األخرى من الشقة جلس الرجال‬
‫يتوسطهم ذو المهابة و الوقار الدكتور "أدهم‬
‫عمران"‪ ..‬على يمينه جلس "مراد" واجما‬
‫متشحا بالسواد في كال القميص الضيق حول‬
‫جزعه و سرواله الكالسيكي‪ ،‬و شماله جلس‬
‫"مالك" متهلل األسارير مزدانا بحلته باللونين‬
‫األبيض و األسود‪ ،‬كان ًل يكف عن طرح‬
‫الدعابات و النكات التي يضج لها المجلس‬
‫بالضحك ما عدا "أدهم" لم يكن مسرورا أصال‬
‫بما يحدث‪ ،‬كان األخير يشيع المرح كشيمته منذ‬
‫اشتداد عوده و مطلع شبابه‬
‫و لعل ذلك أكثر ما أضرم بصدر "مراد" نيران‬
‫الغيرة أكثر‪ ،‬ليس ألنه محبوبا من قبل الجميع‪،‬‬
‫و لكن لسبب آخر تماما‪ ..‬فذاك الولد اليافع الذي‬
‫يسبقه هو بأشواط من العمر الخبرة و حتى‬
‫الغراميات‪ ،‬في الحقيقة أنه لن يبذل مجهودا‬
‫كثيرا حتى تقع "إيمان" بغرامه !‬
‫لو قضت معه بعض الوقت سوف ينسيها حتى‬
‫اسمها‪ ،‬بمجرد النظر إليه تتأكد تلك الحقيقة‪ ،‬و‬
‫هذا يمزقه و يشعل في قلبه حرائق ‪...‬‬
‫‪-‬إيه يا دكتور زياد لو ماكنش كتب كتاب إيمان‬
‫ماكناش هانشوفكوا !؟ ‪ ..‬وجه "أدهم" حديثه‬
‫لزوج شقيقته الصغرى و صديقه الصدوق‬
‫إبتسم "زياد" ممسدا على رأس صغيره ذو‬
‫الثالث سنوات و رد عليه ‪:‬‬
‫‪-‬و احنا نستغنى بردو يا شيخ‪ .‬ده انتوا الخير و‬
‫البركة‪ .‬بس انت عارف الشغل بيبقى إزاي و‬
‫اإلجازات تقريبا مافيش خالص‪ ..‬بس مش إحنا‬
‫بنعوضكوا في الصيف ؟‬
‫أدهم بزجرة تنم عن خبث ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل يا راجل و احنا فين دلوقتي‪ .‬ده يوليو طلع‬
‫برد أوي بقى تصدق !‬
‫ضحكا معا بينما ذهن "مراد" في مكان آخر‪،‬‬
‫حتى قطع "أدهم" حبل أفكاره ملوحا أمام‬
‫وجهه ‪:‬‬
‫‪-‬يا مراد باشا‪ .‬نحن هنا‪ ..‬إيه روحت فين كده !؟‬
‫إنتبه "مراد" إليه و أوًله نظره الشارد ‪...‬‬
‫‪-‬مالك يا مراد ؟ ‪ ..‬تمتم "أدهم" بقلق و هو‬
‫يميل صوبه قليال‬
‫كان األخير يعبس بشدة و هو يحارب الصراع‬
‫بداخله‪ ،‬إنها الفرصة األخيرة أمامه‪ ،‬فهل يملك‬
‫الشجاعة !!!؟‬
‫حسم أمره بدفعة قوية من األدرينالين انتشرت‬
‫من قلبه لبقية أعضاؤه‪ ،‬فتح فاهه متأهبا لقولها‬
‫أخيرا‪ ..‬و لكن ‪...‬‬
‫‪-‬المأذون وصل يا أدهم ! ‪ ..‬هتفت "أمينة" من‬
‫على مقربة‬
‫اشرأ "أدهم" برقبته قليال ليراها‪ ،‬و ما لبث أن‬
‫قام ليستقبل المأذون متناسيا حواره الوشيك مع‬
‫إبن خالته‪ ،‬أما "مراد" فجلس يتآكل من‬
‫الغضب عاجزا عن فعل أي شيء‪ً ،‬ل يطيق‬
‫شيء و الزغاريد تحاوطه من كل حدب و‬
‫صوب‪ ،‬أصوات اًلحتفال نصال حادة‪ ،‬أجواء‬
‫الفرح خانقة‬
‫ماذا يفعل هنا بحق هللا !‬
‫لم هو بهذا الخنوع ؟‬
‫أًل ينبغي عليه أن يحارب قليال من أجلها‪ ..‬بعد‬
‫أن تبين له بأنها أبدا ستظل حب حياته !؟‬
‫هل يخسرها هذا المرة أيضا و إلى األبد !!!؟؟؟‬
‫عاد "أدهم" بعد لحظات مصطحبا معه شيخا‬
‫يرتدي الجبة و القفطان‪ ،‬مأذون ينتمي للمدارس‬
‫القديمة‪ ،‬مأذون صرف و كانت عالقته الوطيدة‬
‫بالعائلة متجلية للعيان‪ ،‬بعد موجة من الترحيب‬
‫و التهليل جلس الجميع ‪...‬‬
‫بدأت مراسم عقد القران‪ ،‬حل معها الصمت‬
‫تماما بينما يدلي الشيخ بخطابه المعتاد ‪:‬‬
‫‪-‬الحمد هلل نحمده و نستعينه و نستغفره و نعوذ‬
‫باهلل من شرور أنفسنا‪ .‬و من سيئات أعمالنا‪.‬‬
‫من يهده هللا فال مضل له‪ .‬و من يضلل فال هادي‬
‫له‪ .‬و أشهد أن ًل إله إًل هللا وحده ًل شريك له‪.‬‬
‫و أشهد أن محمدا عبده و رسوله صل هللا عليه‬
‫و سلم‪ .‬اللهم صلي و سلم و بارك على أشرف‬
‫الخلق سيدنا محمد و على آله و أصحابه‬
‫أجمعين و على من اتبع هداه و استنى بسنته‬
‫إلى يوم الدين‪ .‬ياأيها الذين آمنوا اتقوا َّللا حق‬
‫تقاته وًل تموتن إًل وأنتم مسلمون‪ .‬يا أيها‬
‫الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس‪ ،‬واحدة‪،‬‬
‫وخلق منها زوجها وبث منهما رجاًل كثيرا‬
‫ونساء واتقوا َّللا الذي تساءلون به واألرحام‬
‫إن َّللا كان عليكم رقيبا‪..‬الحمد هلل خلق من الماء‬
‫بشرا فجعله نسبا و صهرا‪ .‬جعل الزواج مودة و‬
‫رحمة وبرا‪ .‬نشهد أن ًل إله إًل هللا وحده ًل‬
‫شريك له‪ .‬له األسماء الحسنى و الصفات العليا‪.‬‬
‫ونشهد أن محمدا عبد هللا و رسوله‪ .‬أمرنا‬
‫بالتمسك بالعروة الوثقى صلى هللا و سلم و‬
‫بارك عليه و على آله و أصحابه و من اهتدى‬
‫بهديه إلى يوم الدين‬
‫أما بعد‪ :‬فاتقوا هللا ‪-‬عباد هللا‪ -‬حق التقوى‪،‬‬
‫فالتقوى طريق الهدى‪ .‬أيها المؤمنون‪ :‬نعيش‬
‫بحمد هللا و منته هذه األيام أيام فرح و سرور‪.‬‬
‫بمناسبة كثرة الزواجات و المناسبات األسرية‪.‬‬
‫و ديننا ‪-‬بحمد هللا‪ -‬دين الفرح و السرور ما دمنا‬
‫في حدود الشرع والمقبول! فمن قال‪ :‬إن الدين‬
‫والتدين يمنع الفرح ويسرق البسمة؟! كال‬
‫وربي‪ .‬فديننا دين اليسر و السماحة‪ .‬و البشاشة‬
‫و الفرح‪ .‬فهل نقدر هذه النعم و نحافظ على‬
‫الشرع و القيم؟‬
‫عباد هللا‪ :‬لقد أمرنا هللا بالنكاح ألنه نعمة و أنس‬
‫فقال‪:‬وأنكحوا األيامى منكم والصالحين من‬
‫عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم َّللا من‬
‫فضله وَّللا واسع عليم)‬
‫فزوجوهم على كل حال‪ .‬وهللا تعالى معين لهم‬
‫وميسر أمورهم! و سيد الخلق تزوج وزوج‬
‫بناته‪ .‬وقال‪ :‬فمن رغب عن سنتي فليس مني"‪.‬‬
‫فالزوجان هما نواة األسرة وأساس المجتمع‪.‬‬
‫والزواج صيانة من الحرام‪ .‬والنفس فيها‬
‫غريزة ًل تشبع إًل عن طريق الزواج! وقد قال‬
‫–صلى هللا عليه وسلم‪" :-‬إذا أتاكم من ترضون‬
‫دينه وخلقه فزوجوه‪ ،‬إًل تفعلوا تكن فتنة في‬
‫األرض وفساد عريض"‪.‬‬
‫والزواج ‪-‬عباد هللا‪ -‬أنس ومودة‪ ،‬وراحة‬
‫وطمأنينة! إذا حسنت العشرة بينهما! وقد صور‬
‫هللا ذلك بألطف عبارة وأدق تصوير فقال ‪-‬جل‬
‫في عاله‪( :-‬ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم‬
‫أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة‬
‫إن في ذلك آليات لقوم يتفكرون)‪.‬‬
‫و نظر المأذون نحو "أدهم" مستأنفا ‪:‬‬
‫‪-‬إذا سمحت يا أدهم يابني تنده لنا العروس‬
‫عشان نتمم العقد !‬
‫بإشارة من عينيه فهمته "أمينة"‪ ،‬و إمتثاًل‬
‫ألمر المأذون‪ ،‬ذهبت بنفسها لتحضرها‪ ،‬بينما‬
‫يجلس "أدهم" متأففا بجوار "مراد" الذي‬
‫امتن لحنق األخير ليواري فيه قهرته و شدة‬
‫غضبه ؛‬
‫دقيقتان و ظهرت "إيمان" مطلة على أفراد‬
‫العائلة و المعازيم قاطبة بفستان رقيق من‬
‫درجات األبيض الباهت المعزز بلمعات براقة‪ ،‬و‬
‫حجاب رأسها مختلفا هذه المرة‪ً ،‬ل يخفي‬
‫تفاصيل وجهها كالعادة‪ ،‬بل يبرز أدقها‪ ،‬و‬
‫الزينة التي لم تعرف سبيل إلى بشرتها إًل لماما‬
‫رآها "مراد" تجفل عندما هب عريسها واقفا‬
‫ًلستقبالها‪ ،‬احتدمت الدماء بعروقه و هو يراه‬
‫يمسك بيدها‪ ،‬و لحسن الحظ أن اًلعتراض‬
‫انطلق من فاه "أدهم" بحدة شديدة ‪:‬‬
‫‪-‬إيــه يا مالك بيـــه‪ ..‬انت شايفنا إيه قصادك‪.‬‬
‫بتمسك إيدها !؟‬
‫إلتفت "مالك" نحوه و قال مبتسما بخفة ‪:‬‬
‫‪-‬هو مش الجواز إشهار يا أدهم ؟ و الناس كلها‬
‫عارفة إن كتب كتابي على إيمان إنهاردة‪ ..‬و‬
‫الشيخ يوسف قاعد أهو بيخلص اجراءاته ‪...‬‬
‫ثم نظر إلى "إيمان" ثانية و قال مشددا على‬
‫كفها الطري بطريقة أربكتها ‪:‬‬
‫‪-‬مش ناقص غير امضة إيمان !‬
‫و هنا عال صوت المأذون قبل أن يسبقه رد‬
‫"أدهم" المتوقع و الذي ربما يفسد الزيجة‬
‫برمتها ‪:‬‬
‫‪-‬قوليلي يابنتي هللا يرضى عليكي‪ .‬قبل ما‬
‫أخوكي يقوم يشد الدفتر و يبوظ الجوازة أنا‬
‫أكتر واحد عارف أدهم ‪..‬‬
‫ضج مجلس العائلة كله هذه المرة بالضحك‬
‫لهنيهة‪ ،‬ثم اردف المأذون ببشاشته المعهودة ‪:‬‬
‫‪-‬هل تقبلين الزواج من الشاب الماثل أمامك‪ .‬ابن‬
‫عمتك الذي يدعى مالك حسن جالل عزام ؟‬
‫و فجأة صار الهواء خانقا لألنفاس‪ ،‬بينها و بين‬
‫"مراد"‪ ..‬لم تجرؤ على رفع عينيها تجاهه حتى‬
‫هذه اللحظة‬
‫و لكن لتفعل ما أرادت كان يجب أن تقبل على‬
‫تلك الخطوة ‪...‬‬
‫و فعال‪ ،‬زاغ بصرها في الفراغ للحظات‪ ،‬قبل أن‬
‫يستقر في عينيه المتقدتين مباشرة و هي تعلن‬
‫بصوت مسموع ‪:‬‬
‫‪-‬أيوة‪ ..‬موافقة يا شيخ !‬
‫أغمض "مراد" عينيه بشدة و أعرض كليا عن‬
‫اإلنصات للبقية‪ ،‬دعاها الشيخ للجلوس ليتم‬
‫العقد‪ ،‬كان يتأهب ليمضي في ذلك حين فقد‬
‫"مراد" السيطرة على نفسه فجأة ‪...‬‬
‫‪-‬أدهم من فضلك أنا عاوزك ! ‪ ..‬هكذا غمغم‬
‫"مراد" قرب أذن ابن خالته بخشونة‬
‫نظر له "أدهم" مستغربا و قال بصوت خفيض‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬خير يا مراد ؟‬
‫مراد بحزم ‪ :‬عاوزك ضروري‪ .‬موضوع‬
‫مايتأخرش‪ ..‬من فضلك !!‬
‫تنهد "أدهم" حائرا‪ ،‬لكنه لم يجد مناص من‬
‫اإلذعان له‪ ،‬قام م مكانه ثانية و اعتذر من‬
‫الشيخ بلباقة ‪:‬‬
‫‪-‬معذرة يا شيخ‪ .‬سامحني بس األمر طارئ‪..‬‬
‫دقيقتين إن شاء هللا و راجع‬
‫أذن له الشيخ ‪:‬‬
‫‪-‬اتفضل يابني في انتظارك‬
‫مشى "أدهم" صوب الشرفة يتبعه "مراد" و‬
‫نظرات "إيمان" الوجلة في إثرهما‪ ،‬تسارعت‬
‫خفقات قلبها بجنون و هي تستوعب ما يجري‪،‬‬
‫و ًل يمكنها حتى تخيل على ماذا ينوي ذاك‬
‫المجنون‪ ،‬نهايته حتما على يديه !!!‬

‫*****‬
‫‪-‬ها يا سيدي‪ .‬أدينا على إنفراد‪ ..‬ممكن أفهم بقى‬
‫إيه الضروري إللي خالك تقومني من كتب‬
‫الكتاب بالشكل ده !؟‬
‫وقف "مراد" قبالة "أدهم" متوترا بشدة‪ ،‬كان‬
‫يرتب كلماته عبثا‪ ،‬فهو ًل يعرف كيف يصوغ له‬
‫كل هذا‪ ..‬إًل أنه عمل جاهدا و باسراع ‪...‬‬
‫‪-‬هو أنا جايز اتأخرت كتير‪ .‬جايز غلط إللي‬
‫بعمله‪ ..‬بس عشان أكون على األقل مرتاح إني‬
‫ماكنتش جبان‪ .‬تيجي مني دلوقتي في آخر‬
‫لحظة‪ .‬أحسن لو ماجتش خالص ‪...‬‬
‫حدجه "أدهم" بتعبير مستغرب‪ ،‬فضغط األخير‬
‫فكيه بشدة مدركا عواقب ما سيتفوه به‪ ،‬لكنه‬
‫أردف بشجاعة ألول مرة في سبيلها ‪:‬‬
‫‪-‬أنا بطلب منك إيد إيمان يا أدهم‪ ..‬بطلب منك‬
‫تلغي الجواز ده و تحط إيدك في إيدي أنا !‬
‫رمقه "أدهم" مدهوشا‪ ،‬و صمت للحظات‬
‫طويلة‪ ...‬ثم قال بهدوء ‪:‬‬
‫‪-‬مراد‪ ..‬انت بتقول إيه؟ إنهاردة كتب كتاب‬
‫أختي‪ .‬و انت جاي تطلبها مني ! ‪ ..‬و استطرد‬
‫بذهول أشد ‪:‬‬
‫‪-‬أنا مش فاهم إيه الحكاية !!!‬
‫أفصح "مراد" بال تردد و بكثير من اًلنفعال ‪:‬‬
‫‪-‬الحكاية إن انا و إيمان بنحب بعض‪ .‬من‬
‫زمان‪.‬عمرها الجرأة ما جات لي أقول لك الكالم‬
‫ده بس خالص مش قادر‪ .‬لتاني مرة بتضيع‬
‫مني‪ ..‬أنا بحبها يا أدهم !‬
‫رجع "أدهم" للخلف قليال في صدمة ‪:‬‬
‫‪-‬إيه !!؟‬
‫أومأ "مراد" بقوة و اعتمد القليل من الكذب‬
‫تاليا ‪:‬‬
‫‪-‬زي ما سمعت‪ .‬من و احنا عيال لحد ما وصلنا‬
‫المدرسة و بعدها كمان‪ .‬لحد ما سافرت و كنت‬
‫مفكر إني أقدر انساها أو حياتي تشغلني عنها و‬
‫إنها مجرد حب طفولة‪ ..‬لكن دي مش الحقيقة‪.‬‬
‫ًل ليا و ًل ليها‪ .‬إحنا لسا بنحب بعض‪ .‬أنا و هي‬
‫عارفين كده بس إللي بيحصل إنهاردة أكبر‬
‫غلط‪ .‬إيمان مش بتحب مالك‪ .‬إيمان بتحبني أنا‬
‫بس ماعندهاش الشجاعة توافق على ده !‬
‫ظل "أدهم" صامتا للحظات‪ ،‬و هو يحدق إليه‬
‫بنظرات جامدة‪ ،‬بدا و كأنه يتعرف إليه ألول‬
‫مرة ‪...‬‬
‫توقع "مراد" أن يرى الغضب أو ربما العنف‬
‫في عينيه‪ ،‬لكنه أخيرا‪ ..‬لم يجد فيهما سوى‪...‬‬
‫الجرح !‬
‫هل كان من المفترض أن ينتظر منه جواب‪،‬‬
‫حسنا‪ ..‬لم يحصل منه و لو على كلمة‬
‫فجأة استدار "أدهم" و مضى نحو الداخل مرة‬
‫أخرى ‪...‬‬

‫*****‬

‫عادت خفقات قلبها تدوي بشدة‪ ،‬مع ظهور‬


‫أخيها‪ ،‬كان يبدو عليه الغضب‪ ،‬خاصة عندما‬
‫حانت منه نظرة نحوها‪ ،‬اخترقتها بشكل مؤلم‪،‬‬
‫ازدردت ريقها الجاف بصعوبة و هي تنظر إليه‬
‫برعب‪ ...‬ظهر "مراد" من ورائه‪ ،‬لكنه لم‬
‫ينضم إلى المجلس من جديد‪ ،‬بل وقف عند‬
‫مقدمة الصالون متكئا إلى إطار الباب المزدوج‪،‬‬
‫كأنما ينتظر ردة فعل معينة !‬
‫جلس "أدهم" بجوار المأذون مجددا‪ ،‬و استأنفا‬
‫من حيث توقفا ‪...‬‬
‫ألقى المأذون منديال فوق يدي العريس و وكيل‬
‫العروس و بدأ بالتلقين ‪:‬‬
‫‪-‬قل من بعدي يا عريس‪ ..‬إني توكلت على هللا‬
‫تعالى‬
‫رد "مالك" و عيناه ًل تفارقان "إيمان"‬
‫الجالسة خلف أخيها تماما ‪:‬‬
‫‪-‬إني توكلت على هللا تعالى‬
‫‪-‬و أطلب منك زواج أختك و موكلتك إيمان‬
‫صالح عمران لنفسي و بنفسي على كتاب هللا و‬
‫سنة رسوله صلى هللا عليه و سلم‬
‫‪ -‬و أطلب منك زواج أختك و موكلتك إيمان‬
‫صالح عمران لنفسي و بنفسي على كتاب هللا و‬
‫سنة رسوله صلى هللا عليه و سلم‬
‫‪-‬و على الصداق المسمى بيننا عاجله و أجله و‬
‫على شهادة الشهود و هللا خير الشاهدين‬
‫‪-‬و على الصداق المسمى بيننا عاجله و أجله و‬
‫على شهادة الشهود و هللا خير الشاهدين‬
‫حول المأذون ناظريه نحو "أدهم" قائال ‪:‬‬
‫‪-‬قل من بعدي يا دكتور أدهم‪ ..‬إني توكلت على‬
‫هللا تعالى و قبلت زواجك من أختي و موكلتي‬
‫إيمان صالح عمران على كتب هللا و سنة‬
‫رسوله صلى هللا عليه و سلم‬
‫‪-‬إني توكلت على هللا تعالى و قبلت زواجك من‬
‫أختي و موكلتي إيمان صالح عمران على كتب‬
‫هللا و سنة رسوله صلى هللا عليه و سلم‬
‫‪-‬و على الصداق المسمى بيننا عاجله و آجله و‬
‫على شهادة الشهود و هللا خير الشاهدين‬
‫‪-‬و على الصداق المسمى بيننا عاجله و آجله و‬
‫على شهادة الشهود و هللا خير الشاهدين‬
‫سحب المأذون المنديل مبتسما و مباركا ‪:‬‬
‫‪-‬زواج مبارك إن شاء هللا‪ .‬و اللهم بارك لهما و‬
‫بارك عليهما و أجمع بينهما في خير!‬
‫صدحت الزغاريد بكثافة هذه المرة‪،‬و أخيرا‬
‫صرفت "إيمان" بصرها عن محل العقد لتنظر‬
‫نحو "مراد"‪ ..‬لم يكن هنا‪ ...‬اختفى !!!‬
‫تسللت البرودة إلى أوصالها‪ ،‬شعرت بالجميع‬
‫يقبل ليبارك لها وصوًل ألمها ‪...‬‬
‫‪-‬ألف مبروك يا حبيبتي‪ .‬هللا يفرحني بيكي‬
‫يابنتي و يسعدك يارب !‬
‫بدا صوت "أمينة" الباكي من الفرح كأنه يأتي‬
‫من مسافة بعيدة‪ ..‬ثم صار كل شيء في المكان‬
‫ضبابيا قليال‪ ...‬لم تكن هنا معهم بروحها‪ ..‬ربما‬
‫بجسدها فقط !‬

‫يتبع ‪...‬‬
‫انتهى الفصل السابع عشر‬
‫‪18 ..‬‬

‫"أنظر ماذا فعلت بي ؛ تأمل الدمار الذي‬


‫حولتني إليه‪ ..‬و كل ما فعلته أني أحببتك !"‬
‫_ إيمان‬

‫كان عذابا خالصا‪ ،‬ذلك الوقت الذي تال إتمام‬


‫عقد القران‪ ،‬يذكر أنه لم يتحمل البقاء هناك عند‬
‫إعالنهما زوج و زوجة‪ ،‬ما إن تأهب المأذون‬
‫بنطقها حتى حمل هو نفسه و انصرف مسرعا‬
‫‪...‬‬
‫لقد خسرها‪ ،‬مرة أخرى و إلى األبد‪ ،‬فقدها‪ ،‬و‬
‫هذا ما يستحقه و يقره من داخله‪ ..‬أليس هو‬
‫الذي تركها و أدار لها ظهره ؟‬
‫أليس هو الذي أذاقها المهانة حين تزوج من‬
‫غيرها و عاد إلى هنا ليجد حال و كان مستعدا‬
‫لفعل المستحيل كي يرد طليقته إلى عصمته ؟‬
‫األمر الذي جعله كالمجنون‪ ..‬كيف كان بهذا‬
‫الغباء ؟‬
‫ألهذه الدرجة كان أحمق !‬
‫حقا لو لم يحدث بينهما تقارب حميمي ما كان‬
‫ليدرك كم أنه يعشقها بالفعل‪ ،‬و أنه بحياته لم‬
‫ينتمي لغيرها بهذه القوة العارمة !؟‬
‫هل ممكن أنه كان سيقضي عمره كله واهما‬
‫بأنها لم تكن سوى نزوة‪ ..‬كم كان عمره عندما‬
‫علم بأنه يحبها ؟‬
‫تسعة عشر‪ ...‬كم كان عمره عندما راودها عن‬
‫نفسها و أخضعها إلى رغباته الحيوانية و كأنها‬
‫دمية بين أصابعه ؟‬
‫عشرون !!!‬
‫هل هذا حب مراهقة !؟؟‬
‫ًل‪ ..‬بالطبع ًل‪ ..‬ألنه و ببساطة كان حاضرا‪،‬‬
‫ربما المرة السابقة ما كانت بمثل قوة تلك ألنها‬
‫لم تكن أمام عينيه‪ ،‬لكنها و اللعنة تزوجت اليوم‬
‫و في حضوره دون أن يكون قادرا على منع‬
‫ذلك‪ ،‬و عندما حاول قوبل بالرفض ‪...‬‬
‫أطلق "مراد"مزيدا من صيحات الغضب و‬
‫النقمة على نفسه‪ ،‬غطى مؤخرة رأسه بكفيه و‬
‫هو يسير جيئة و ذهابا عبر ردهة منزله‬
‫الفسيحة مثل مفترس في قفص اإلعتقال‪ ،‬شعر‬
‫إن عقله على وشك أن يصاب بشلل من شدة‬
‫التفكير ؛‬
‫ماذا عليه أن يفعل ؟‪ ..‬إلى أين يذهب اآلن ؟‪..‬‬
‫يكره أن يعترف بهذه الحقيقة‪ ،‬لكنه في تلك‬
‫الساعة تحديدا بحاجة ماسة إلى صديقه‬
‫الوحيد‪ ..‬إنه يحتاج إليه بشدة‪ ...‬يحتاج إلى‬
‫"عثمان البحيري" لكنه ًل يجسر على اللجوء‬
‫له !!!‬
‫فعال كاد أن ينهار‪ ،‬و هو مستعد لذلك تماما‪ ..‬لو‬
‫ًل أنقذه مؤقتا قرعا على جرس الباب‬
‫استدار بحدة و مضى صوب باب المنزل‪ ،‬لم‬
‫يكن لديه أدنى فكرة من الذي يمكن أن يزوره‬
‫اآلن‪ ،‬و لم يكن في وارد اي توقعات‬
‫مد يده و جذب مقبض الباب الضخم بقوة ‪...‬‬
‫جمد أمام المدخل‪ ،‬إنه ينظر أمامه كما لو أنه ًل‬
‫يصدق ما يراه‪ ،‬هل ذكر منذ قليل بأن صديقه‬
‫"عثمان" هو الشخص الوحيد الذي بإمكانه‬
‫مساعدته !؟‬
‫حسنا لقد كان حتما مخطئا !‬
‫فها هما والديه يقفان أمام عينيه و البسمة ملء‬
‫وجهيهما يراقبان آثار المفاجأة عليه‪ ،‬لم يكن‬
‫بحاجة لمزيد من التحفيز‪ ،‬فقد سقط درعه‬
‫بالفعل خاصة فور رؤية أمه ‪...‬‬
‫‪-‬مراد ! ‪ ..‬تمتمت السيدة "رباب" بشيء من‬
‫الريبة اآلن‬
‫جفل "مراد" و تراجع عدة خطوات للخلف و‬
‫هو ينظر بأعين والديه كمن يستجدي استغاثة‪،‬‬
‫رغم ذلك اجتاحه خجل من أن يراياه على تلك‬
‫الحال‪ ،‬فاستدار مسرعا و هو يمسك رأسه بكفيه‬
‫بقوة‪ ،‬بقى هكذا يعمل على شهيق و نفخ أنفاسه‬
‫بثبات كما لو أنه يبذل كل ما في وسعه للتماسك‬
‫أمام والديه‪ ..‬لكنه يفشل‬
‫و فجأة يشعر بكف أمه يحط فوق كتفه‪ ،‬انتفض‬
‫لوهلة‪ ،‬لكنه ثبت مكانه‪ ،‬مع أن جسمه شرع‬
‫يرتجف و يهتز بوضوح ‪...‬‬
‫‪-‬مراد ! ‪ ..‬كررت "رباب" بصوت أكثر قلقا‬
‫و ما لبث أن انضم لهما زوجها متمتما باقتضاب‬
‫متوجس ‪:‬‬
‫‪-‬إيه في إيه‪ .‬مالك يا مراد‪ .‬رد علينا يابني !؟؟‬
‫و فقد صبره‪ ،‬رفع يديه و أدار ابنه من كتفيه‬
‫ليواجههما‪ ،‬لكنهما صعقا لرؤية وجهه من‬
‫جديد‪ ،‬وجهه الذي كان عبارة عن إحتقان‬
‫خالص بالدماء‪ ،‬و عيناه الرماديتين الجميلتين‪،‬‬
‫إنهما اآلن شقوق حمراء مغطاة بطبقات من‬
‫الدموع الدبقة ‪...‬‬
‫‪-‬حبيبي يابني ! ‪ ..‬هتفت "رباب" ملتاعة و هي‬
‫تلف ذراعيها حوله‬
‫أخذت تمسد عليه مجعدة حاجبيها في وهن مثل‬
‫وهنه تماما ‪:‬‬
‫‪-‬جرى لك إيه‪ .‬فيك إيه يا حبيبي رد عليا يا مراد‬
‫ماتتجننيش !!‬
‫امتألت عيناه باأللم أكثر و هو يحرر مدامعه‬
‫أخيرا‪ ،‬تخلى عن كل مظهر من مظاهر قوته‪،‬‬
‫الرجل الناضج الصلب حتى و األناني الذي بقى‬
‫عليه لسنوات طويلة‪ ،‬إنه ينهار اآلن بين‬
‫ذراعي أمه‪ ،‬ألقى بجبهته فوق كتفها و بدأ‬
‫جسمه في اًلهتزاز مجددا ؛‬
‫إنه محطم‪ ،‬إنه يبكي‪ ..‬و لكن بال صوت ‪...‬‬

‫*****‬
‫إرتعدت بقوة‪ ،‬عندما أغلق عليهما باب واحد‪،‬‬
‫كانت توليه ظهرها و هي تفكر بمئات‬
‫اإلحتماًلت‪ ..‬اليوم مجرد عقد قران‪ ،‬لماذا إذن‬
‫طلب أن ينفرد بها بعض الوقت !؟‬
‫ماذا يريد منها ؟‬
‫الجدير بالذكر بأن المكان الذي تطأ قدميه اآلن‬
‫هو غرفة نومها في بيت والدها الراحل‪ ،‬غرفة‬
‫نومها التي لم يلج إليها رجل من غير محارمها‬
‫سوى "مراد"‪ ..‬حتى زوجها الراحل‪ ...‬طوال‬
‫سنوات الزواج لم يدخل إلى هنا أبدا‪ ...‬هذا األمر‬
‫يسبب لها توتر كبير !!!‬
‫‪-‬إيمان ! ‪ ..‬همس من ورائها بالقرب من أذنها‬
‫تماما‬
‫تسبب هذا بقشعريرة مخيفة تسللت إليها‪ ،‬أحس‬
‫بها‪ ،‬و لعله ظن إنها متأثرة به كما هو حاله‬
‫معها‪ ..‬و لكنها كانت في قرارة نفسها تسخر من‬
‫األمر برمته‬
‫فهذا الفتى‪ ،‬أو الشاب "مالك" الذي كانت في‬
‫وقت ما تداعبه و تالطفه و هو ولد صغير‪ ،‬إنه‬
‫اآلن يحاول أن يغازلها !!‬
‫أجفلت حين تنحنح قليال قبل أن يقول بهدوء‬
‫مرح ‪:‬‬
‫‪-‬بصي أنا طبعا كان نفسي أول مرة نكون مع‬
‫بعض لوحدنا في مكان مميز‪ .‬لكن إنتي عارفة‬
‫أدهم مشدد علينا إزاي و كان شرطه بعد كتب‬
‫الكتاب مانخرجش من البيت لوحدنا لغاية معاد‬
‫الفرح‪ ..‬عشان كده طلبت على األقل أقعد معاكي‬
‫شوية في أوضتك !‬
‫و ضحك بخفة و أردف ‪:‬‬
‫‪-‬و لو إني كنت موجود لما اتجوز هو و سالف‬
‫و شوفتهم بعد كتب الكتاب خارجين لوحدهم‪..‬‬
‫بس عادي‪ .‬أنا مش هعارضه في أي حاجة‪.‬‬
‫ألني بحبه و بحترمه جدا‬
‫وسعت زاويتي شفتاها مظهرة إبتسامة مجاملة‪،‬‬
‫ليستطرد و قد توقف عن اإلبتسام للحظة و هو‬
‫يمد يده تجاه رأسها‪ ،‬تذبذبت عندما شعرت‬
‫براحته الدافئة فوق حجابها الرقيق ‪...‬‬
‫‪-‬أنا مش عايز أكون متطلب أوي ! ‪ ..‬تمتم‬
‫"مالك" محدقا بعينيها بثبات ‪:‬‬
‫‪-‬لكن في حاجات لسا مش قادر أتخطاها‪ .‬زي‪..‬‬
‫زي إني مش قادر أحل محل أخويا !‬
‫تفاجأت من كلماته لدرجة نست تلك اليد التي ًل‬
‫يزال يضعها فوق رأسها‪ ،‬بينما يتابع "مالك"‬
‫بتوتر متزايد ‪:‬‬
‫‪-‬أنا معجب بيكي آه يا إيمان‪ .‬لكن لسا شايفك‬
‫مرات أخويا‪ ..‬أنا عارف إنه خالص إنتهى‪ .‬و إن‬
‫الميت مش بيصحى و إن من حقنا نكمل عادي‪..‬‬
‫بس عشان أقدر أكمل يا إيمان و أحس إنك‬
‫بقيتي ليا أنا‪ً .‬لزم تسمحي لي !‬
‫تسارع وجيب قلبها لرؤية اللمعة بعينه‪ ،‬تعرف‬
‫جيدا إلى ماذا يلمح‪ ،‬فنطقت غريزيا محاولة‬
‫صده بأقصى ما تستطيع من لباقة ‪:‬‬
‫‪-‬مالك‪ ..‬إحنا في حكم المخطوبين‪ .‬و ماما و‬
‫أدهم برا !!‬
‫علت ابتسامته و هز رأسه قائال ‪:‬‬
‫‪-‬فهمتيني غلط‪ .‬أكيد مش هكون عايز حاجة زي‬
‫دي و أهلنا على بعد مترين‪ ..‬لو حصل هاتكون‬
‫فضيحة !!!‬
‫تلميحه األخير جعلها تشعر بالفزع‪ ،‬حاولت‬
‫إقناع نفسها بأنه ًل يقصد معنى آخر حميمي‬
‫مما قد يحدث بينهما بالمستقبل‪ ،‬إنه يأخذ األمور‬
‫بجدية تماما !‬
‫ماذا كانت تتوقع !؟؟‬
‫يزدرد "مالك" ريقه بشيء من اإلرتباك و هو‬
‫ينظر إليها ببطء من فوق لتحت مغمغما ‪:‬‬
‫‪-‬كل إللي محتاجه بس جزء صغير من حقوقي‪.‬‬
‫من غير ماتتخضي‪ ..‬بس إنتي طول عمرك كنتي‬
‫زي مايا بالنسبة لي‪ .‬مع ذلك كنتي محجوبة‬
‫عني‪ .‬يعني مثال عمري ما شفتك من غير‬
‫الطرحة‪ ..‬ف ‪...‬‬
‫و صمت ممسكا بمشبك الحجاب بين سبابته و‬
‫إبهامه‪ ،‬طلب أذنها أوًل ‪:‬‬
‫‪-‬تسمحيلي أشيله !؟‬
‫مدفوعة بإنعدام الثقة بنفسها و الشعور بأنها‬
‫قليلة و مدانة‪ ،‬وجدت نفسها تومئ له بالسماح‪،‬‬
‫فلم يضيع الفرصة و قبل أن تفكر مرة أخرى‪،‬‬
‫شد المشبك‪ ،‬فأخذ الحجاب يتفكك من تلقائه‪،‬‬
‫حتى إنزلق عن رأسها إلى األرض‪ ،‬و لم يتبق‬
‫سوى البطانة‪ ،‬تلك كان أمرها سهال‪ ،‬سحبها‬
‫للخلف رويدا رويدا كاشفا عن خصيالت شعرها‬
‫البنية الناعمة‬
‫لحظات و كان رأسها مكشوفا أمامه‪ ،‬و إذ‬
‫شعرت من نظراته التي تتفرسها و كأنها‬
‫عارية‪ ،‬لم تلحظ شيء آخر‪ ،‬ألن خطوته التالية‬
‫جاءت على حين غرة بعد أن تمتم كلمة لم‬
‫تسمعها جيدا‪...‬قفز قلبها بين ضلعوها حين‬
‫ضمها !‬
‫جحظت عيناها من الصدمة‪ ،‬بينما يرفع يداه و‬
‫يجذب وجهها نحو وجهه أكثر‪،‬‬
‫فجأة سمع انينها فتركها ‪:‬‬
‫‪-‬أنا آسف ! ‪ ..‬تمتم "مالك" معتذرا دون أن‬
‫يتحرك من مكانه‬
‫لكنها ًل ترد‪ ،‬جلس على طرف الفراش‬
‫بجوارها‪ ،‬يمسك بها و يجلسها بسهولة و هي‬
‫مذعنة تماما إليه‪ ،‬يراها بهذا الخضوع و‬
‫البؤس فيكره نفسه كثيرا ‪...‬‬
‫‪-‬إيمان أنا آسف ! ‪ ..‬كرر "مالك" هذه المرة‬
‫بصدق أكبر‬
‫دار ليجثو فوق ركبته أمامها‪ ،‬أمسك بيدها و‬
‫توسلها قائال ‪:‬‬
‫‪-‬ردي عليا أرجوكي‪ .‬أنا ماكنش قصدي أوصلك‬
‫لكده‪ ..‬و هللا‪ .‬أنا آسف جدا‪ .‬بس مافكرتش إنك‬
‫لسا مش جاهزة للخطوة دي‪ .‬أنا ماكنتش ناوي‬
‫أعمل كده أصال‪ .‬أنا عرفت بنات كتير‪ .‬بس‬
‫ماحصلش إني ارتبطت بواحدة مرت بظروفك‪.‬‬
‫سامحيني‪ ..‬ماعرفتش أتعامل معاكي‪ .‬إيمان باهلل‬
‫إتكلمي‪ .‬قولي أي حاجة !!‬
‫‪-‬حصل خير ! ‪ ..‬نطقت ًلهثة و كأنها طفت اآلن‬
‫على سطح بحر هائج األمواج‬
‫زفر مرتاحا و هو يترك إحدى يديها ليمسح على‬
‫جانب وجهها ‪:‬‬
‫‪-‬صدقيني‪ .‬إنتي عندي غالية جدا‪ ..‬مكانتك‬
‫خاصة‪ .‬بكرة لما نعيش سوا هاثبت لك ده‪.‬‬
‫هاعمل كل إللي في وسعي عشان أسعدك يا‬
‫إيمان‪ .‬إنتي ماتستاهليش غير السعادة‪ .‬و أنا‬
‫هاديها لك‪ .‬أوعدك !‬
‫أومأت له دون أن تنظر إليه‪ ،‬كانت ًل تزال‬
‫تشعر بدوي قلبها المرعب‪ ،‬كانت تخشى لو‬
‫توقف من شدته و سرعته‪ ،‬إنه عادة ًل يخفق‬
‫بهذا الجنون سوى لـ"مراد"‪ ..‬و كانت تلك‬
‫أسعد لحظاتها فيما مضى‪ ،‬و لكنها اآلن تشعر‬
‫بفخاخ الموت قريبة منها في كل خطوة تخطوها‬
‫‪...‬‬
‫‪-‬مالك ! ‪ ..‬كان هذا صوت "مايا"‬
‫تناهى إليهما من خلف باب الغرفة‪ ،‬فصاح‬
‫"مالك" من مكانه ‪:‬‬
‫‪-‬إيـه يا مايا !؟‬
‫‪-‬ماما إتصلت‪ .‬بتستعجلنا‪ .‬يال بقى انت عارف‬
‫إنها لوحدها !‬
‫‪-‬ماشي جاي‪ ..‬إسبقيني إنتي‬
‫‪-‬ما تتأخرش !‬
‫و ابتعدت خطواتها عن الغرفة ‪...‬‬
‫عاود "مالك" النظر إلى "إيمان"‪ ..‬أرملة أخيه‬
‫و المرأة التي هي زوجته رسميا اآلن ؛‬
‫ابتسم لها و قرب يدها من فمه‪ ،‬وضع قبلة‬
‫عميقة داخل كفها دون أن يفقد إتصالهما‬
‫البصري‪ ،‬ثم قال واعدا برقة ‪:‬‬
‫‪-‬هاتحبيني يا إيمان‪ ..‬و هاتخلفي وًلدي كلهم‪.‬‬
‫افتكري كالمي كويس !‬
‫لم يتسبب هذا الوعد لها إًل بالكرب و القهر‬
‫الشديد !‬
‫‪.‬‬
‫_ مراد‬

‫قبل ثماني عشر عام ‪...‬‬


‫إنه آخر يوم له في الرابعة عشر‪ ،‬و قد عقد‬
‫والديه النية أن يهبطا به إلى "مصـر" عند‬
‫نهاية الفصل الدراسي‪ ،‬فقد أرادا له أن يقضي‬
‫بقية سنوات صباه إلى مراهقته في البيئة التي‬
‫ينتمي إليها‪ ،‬مسقط رأسه‪ ،‬بين أهله و مجتمعه‬
‫الشرقي ؛‬
‫إذ في اعتقادهم أن وجوده هنا يشكل خطرا على‬
‫أخالقه والتمسك بنواهي و أوامر عقيدته‪ ،‬و‬
‫رغم أن قرارهما لم يلقى ترحيبا منه‪ ،‬إًل أنهما‬
‫أصرا من أجل حمايته من الفتن المحيطة به‪..‬‬
‫استيقظ باكرا و تحضر جيدا على غير العادة و‬
‫هو يرتدي ثيابه ليذهب إلى مدرسته‪ ،‬نزل إلى‬
‫األسفل ليلتقي بوالديه على طاولة الفطور‬
‫بالمطبخ المفتوح‪ ،‬جلس بعد أن أعطى أمه قبلة‬
‫الصباح و ألقى على والده التحية ‪...‬‬
‫‪-‬حفلة عيد ميالدك هاتبدأ الليلة الساعة كام يا‬
‫مراد !؟ ‪ ..‬تساءل السيد "محمود أبو المجد"‬
‫بينما يقرأ إحدى الصحف اإلخبارية‬
‫يتناول "مراد" من أمه سندوشا و هو يجاوب‬
‫على أبيه ‪:‬‬
‫‪-‬يعني مش متأخر أوي‪ .‬أنا وعدتك مش‬
‫هاتخطى قواعد البيت !‬
‫و نخر بضيق‬
‫رمقه أبيه من جانب عينه مرددا ‪:‬‬
‫‪-‬يكون أحسن لك‪ .‬و عايز أقولك أنا و أمك رتبنا‬
‫كل حاجة للضيافة‪ .‬يعني انت المسؤول قدامي‬
‫لو اكتشفت وجود أي مواد مش بريئة‪ ..‬فاهم‬
‫قصدي !؟‬
‫بالطبع كان يلمح إلى معاقرة الشراب و ما‬
‫شابه‪ ،‬ذلك ما جعل وجه الصبي يتأجج من‬
‫الحنق و يهتف من بين أسنانه ‪:‬‬
‫‪-‬هي مش حفلة شاي يا بابا‪ .‬أنا عندي صحاب‬
‫أكبر مني دول اعمل معاهم إيه أطردهم ؟؟‬
‫طوى "محمود" الصحيفة و رد عليه زاجرا ‪:‬‬
‫‪-‬أنا يتقال لي حاضر و بس يا ولد‪ .‬انت سامع ؟‬
‫خالص مابقاش في تساهل معاك‪ .‬انت اتجرأت‬
‫زيادة لما فكرت أعتمد عليك و اسيبك براحتك‪.‬‬
‫نسيت نفسك و ظنيت إنك واحد من أهل البلد‬
‫دي‪ً .‬ل اصحى‪ .‬انت اسمك مراد محمود يوسف‬
‫أبو المجد‪ .‬خليك فاكر كويس انت مين !!‬
‫‪-‬خالص يا محمود ! ‪ ..‬تدخلت "رباب" و هي‬
‫تركل قدم زوجها من أسفل الطاولة‬
‫و استطردت مجتذبة عينيه باإلجبار عن عيني‬
‫إبنها ‪:‬‬
‫‪-‬مراد من إمتى بيعارض كالمك‪ .‬انت بس‬
‫عودته على المناقشة‪ ..‬إهدا عليه شوية يا‬
‫حبيبي !‬
‫و تحولت صوب "مراد" متابعة و هي تمسح‬
‫على شعره الناعم ‪:‬‬
‫‪-‬و انت يا قلبي‪ .‬أكيد واثق إننا بنحبك أكتر من‬
‫الدنيا دي كلها‪ .‬احنا بنعمل كل حاجة عشانك‬
‫أصال‪ ..‬عاوزين مصلحتك و بس‬
‫قسر "مراد" نفسه على اإلبتسام و قال بهدوء‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬أنا عارف يا ماما‪ .‬أنا كمان بحبكوا !‬

‫*****‬

‫كان يتكئ على طاولة الصالون‪ ،‬ممسكا الحافة‬


‫بيديه‪ ،‬واضعا رأسه بين كتفيه‪ ،‬كانت الدموع ًل‬
‫تزال بعينيه يمسك منها ما إستطاع‪ ،‬بينما‬
‫والديه يجلسا خلفه و ًل يقتربا إليه بطلب منه‬
‫‪...‬‬
‫‪-‬تربيتي كانت مسؤوليتكوا ! ‪ ..‬قالها "مراد"‬
‫بصوت خشن يداري فيه نبرة البكاء العنيفة‬
‫اعتصر عينيه و كفكف كل دموعه بكم قميصه‪،‬‬
‫ثم استدار بعينيه الحمراوين يواجه أبويه و‬
‫يلقي بالالئمة عليهما مشيرا باصبع اإلتهام ‪:‬‬
‫‪-‬و تربيتي كلها كانت غلط‪ ..‬أنا بسببكوا عشت‬
‫ضايع‪ .‬ماعرفتش حتى نفسي !!!‬
‫كانت "رباب" تبكي هناك فقط‪ ،‬ليقف‬
‫"محمود" في هذه اللحظة و قد نفذ صبره على‬
‫إبنه‪ ،‬اقترب منه قليال و هو يهتف بغضب ‪:‬‬
‫‪-‬ما تتكلم عدل مش كفاية مقعدنا قصاك زي‬
‫العيال الصغيرة‪ .‬انطق و قول حصل إيه شقلب‬
‫حالك كده ؟‬
‫احترقت عيناه أكثر و هو يحملق بأبيه طاحنا‬
‫أسنانه ‪:‬‬
‫‪-‬إللي حصل‪ .‬إني فتحت عيني على عالم مش‬
‫بتاعي‪ .‬إللي حصل‪ .‬إني اتعلمت األصول بس‪ .‬و‬
‫حتى دي ماعرفتش أطبقها‪ ..‬عارف ليه يا بابا ؟‬
‫عشان أنا طول عمري كنت مسلم باإلسم‪ .‬انت و‬
‫ماما اهتميتوا بتعليمي و قدمتوا ليا الحياة إللي‬
‫يتمناها أي طفل و حتى لحد ما بقيت راجل‪ .‬بس‬
‫في المقابل‪ .‬لو سألتني مش هاتالقيني حافظ‬
‫فاتحة الكتاب أصال‪ .‬مش هاتالقيني عارف أركع‬
‫ركعة واحدة‪ ..‬أنا عشت عمري كله مغيب‪.‬‬
‫بسببكوا خسرت كتير‪ .‬و دفعت التمن غالي‬
‫أوي‪ .‬أوي !‬
‫فقط تعبير الصدمة هو كل ما يجلل وجهي‬
‫"رباب" و "محمود"‪ ..‬وقف "مراد"‬
‫يطالعهما بمرارة و خيبة أمل كبيرة‬
‫لم يتحمل الوقوف بينهما أكثر من ذلك‪ ،‬سحب‬
‫أغراضه و هاتفه‪ ،‬و انطلق خارجا من المنزل‬
‫على الفور‬

‫*****‬
‫إنفض اإلحتفال‪ ،‬و ذهب كل إلى سبيله ثانية‪ ،‬و‬
‫لكن "أدهم"‪ً ..‬ل يزال "أدهم" لم يتخطى‬
‫اعترافات ابن خالته قبل عقد قران أخته مباشرة‬
‫كان في حالة من الذهول و اإلنكار‪ ،‬اإلنكار أكثر‬
‫ألن "مراد" ادعى بأن هناك عالقة حب متبادلة‬
‫بينه و بين "إيمان"‪ ..‬هو ًل يصدق ذلك‪ ،‬فأخته‬
‫طوال عمرها كانت فتاة محافظة‪ ،‬خجولة‪ ،‬حتى‬
‫عندما تزوجت‪ ،‬يذكر بأنها لم تتأقلم بسرعة في‬
‫حياتها الزوجية‪ ،‬فكيف إذن يأتي و يخبره بهذا‬
‫الهراء !!؟‬
‫حتما هناك خطب‪ ،‬لم يفهم جيدا‪ ،‬و لكن األمر لن‬
‫يمر مرور الكرام‪ ..‬فها هي "إيمان" تجلس‬
‫أمامه‪ ،‬هو و هي في شقته على حدة‪ ،‬أما‬
‫زوجته و أمه فمع األطفال باألسفل‬
‫صنع لنفسه فنجان قهوة ألنه شعر بحاجة ماسة‬
‫إليه‪ ،‬و اآلن هو واقف أمام أخته بغرفة‬
‫المعيشة‪ ،‬يحتسي قهوته و ينظر إليها مليا و‬
‫يدرسها‪ ،‬بينما تنكس هي رأسها آبية النظر‬
‫إليه‪ ..‬أو لعلها‪ ...‬خائفة !!!‬
‫‪-‬فاكرة يا إيمان لما سيف مات ! ‪ ..‬دمدم‬
‫"أدهم" بهدوء‬
‫و لكنه لم يغفل ارتجافتها لمجرد سماع صوته‪،‬‬
‫أردف رغم ذلك بنفس األسلوب ‪:‬‬
‫‪-‬جيت لك بعدها بفترة عشان استأذنك نعمل فرح‬
‫عائشة‪ .‬فاكرة يومها قلتي لي و أنا بلمح لك بس‬
‫باحتمال إنك ترتبطي من بعده‪ .‬ثورتي عليا في‬
‫لحظتها و قلتي لي مش هايحصل‪ .‬أنا فاكر‬
‫بالحرف الجملة إللي قلتيها و لسا في وداني‪..‬‬
‫قلتي‪ .‬بعد سيف الرجالة خلصوا بالنسبة لي !‬
‫ترك فنجان قهوته جانبا‪ ،‬مشى ناحيتها حتى‬
‫جلس في كرسي مجاور لها تماما‪ ،‬مد جسمه‬
‫قريبا منها ‪...‬‬
‫‪-‬إيه إللي حصل غير رأيك يا إيمان‪ .‬و إشمعنا‬
‫قبلتي بمالك و اتجوزتيه بالسرعة دي‪ .‬على‬
‫الرغم إن أتقدم لك رجالة كتير بعد سيف‪ .‬كلهم‬
‫في نظري أحسن منه و من مالك‪ .‬ماكنتش‬
‫أتمنى لك أكتر من أي راجل فيهم‪ ...‬ردي عليا يا‬
‫إيمـان !‬
‫هكذا فقد السيطرة على نفسه بغتة و انفعل‬
‫عليها ‪...‬‬
‫ارتعدت بقوة و ضغطت على عينيها بشدة‪ ،‬لم‬
‫تكن على استعداد مطلقا ألي استجوابات يريد‬
‫طرحها‪ ،‬لم تكن لديها أي طاقة و هو ما كان‬
‫واضحا‬
‫لكن "أدهم" لم يبالي و كرر عليها بحدة أكبر ‪:‬‬
‫‪-‬بصيلي و كلميني يا إيمان‪ .‬مش هاسيبك إًل لما‬
‫أفهم‪ ..‬قوليلي إيه عالقتك بمراد ؟‬
‫ما خافت منه طوال عمرها قد حدث للتو‬
‫ها هو أخيها يعلم بسرها‪ ،‬و لكن إلى مدى تصل‬
‫معرفته‪ ،‬تتمنى اآلن لو تختفي من الوجود‬
‫بفرقعة اصبعين‪ً ،‬ل يمكنها أن تجلس و تتحدث‬
‫معه عن هذا الشأن‪ً ..‬ل يمكن ‪...‬‬
‫‪-‬بقولك بصيـلي !‬
‫تحت إصراره الشديد‪ ،‬رفعت رأسها و نظرت‬
‫إليه عبر نظراتها الغائمة‪ ،‬إنه يحدق فيها‬
‫بتصميم‪ ،‬لم يتراجع أبدا‪ ،‬إنه مخيف للغاية اآلن‬
‫أكثر من أي وقت رأته هكذا من قبل ‪...‬‬
‫‪-‬إيه إللي تعرفه يا أدهم !؟ ‪ ..‬تساءلت "إيمان"‬
‫بشجاعة‬
‫ربما كانت حذرة فقط مخافة على أخيها من‬
‫الصدمة فيها‪ ،‬و ليس خوفا عليها هي‪ ..‬الوضع‬
‫برمته مزري بما يكفي لو يعلم أخيها !‬
‫لم يتحرك و لم تتغير تعبيراته الصارمة شبرا‬
‫واحدا‪ ،‬لكن فكه توتر و هو يقول ‪:‬‬
‫‪-‬يعني صحيح ؟ صحيح إللي سمعته منه‪ ..‬كانت‬
‫بينك و بينه عالقة حب ؟‬
‫غمرتها بعض الراحة بداخلها و هو يدلي لها‬
‫بالذي عرفه من "مراد"‪ ..‬ما أكد لها بأن األخير‬
‫لم يفضح سرهما األشنع‪ ،‬قامت واقفة فجأة و‬
‫هي تقول بعصبية ‪:‬‬
‫‪-‬الكالم ده كان زمان‪ .‬كنا عيال يا أدهم‪ ..‬أيوة‬
‫كنا بنحب بعض‪ .‬بس انت عارف الباقي هو‬
‫مشي و انا اتجوزت‪ .‬كل حاجة انتهت ف جاي‬
‫بتحاسبني على إيه دلوقتي !؟؟‬
‫هب واقفا هو اآلخر و هو يصيح بغضب ‪:‬‬
‫‪-‬بحاسبك على ثقتي فيكي إللي ضايعتيها‪.‬‬
‫متخيلة تفكيري عامل إزاي بعد ما عرفت حاجة‬
‫زي دي‪ .‬إنتي كنتي تربية إيدي أنا يا إيمـان‪.‬‬
‫إنتي كنتي أقرب ليا حتى من عائشة‪ .‬إزاي‬
‫عملتي كده من ورا ظهري‪ ..‬إزااااي ؟‬
‫إنهالت مدامعها في هذه اللحظة و هي ترد عليه‬
‫منتحبة ‪:‬‬
‫‪-‬غصب عني‪ .‬مش بإيدي‪ .‬كنت محتاجة له‪ .‬أنا‬
‫كنت لسا بنت صغيرة و ماعنديش أي خبرة‪ .‬و‬
‫انت كنت بتحافظ عليا دايما و مجنبني أي‬
‫احتكاك‪ .‬مراد كان قريب مني‪ ..‬اتعودت على‬
‫وجوده جنبي‪ .‬حبيته يا أدهم‪ .‬حبيته غصب عني‬
‫!!‬
‫ثار عليها غير مصدقا ‪:‬‬
‫‪-‬و كان فين عقلك‪ ..‬هه‪ .‬قوليلي كان فين دينك و‬
‫خوفك من ربك و إنتي بتعصيه و بتواعدي شاب‬
‫من ورا أهلك ؟‬
‫أغمضت عينيها بشدة فور تفوهه بالكلمة‬
‫األخيرة‪ ،‬إنه يشير لنقطة هي أهون ما بالقصة‪،‬‬
‫فماذا لو عرف السر الكبير‪ ..‬كيف يستطيع تقبله‬
‫؟‬
‫السؤال أساسا هو كيف تبرأ من عشقها األثيم‪..‬‬
‫كيف يمكنها أن تنتزع "مراد" من قلبها‪ ...‬إنه‬
‫يسكنها‪ ..‬في دماؤها و قلبها و عقلها‪ً ..‬ل ينفك‬
‫عنها كالمرض الخبيث‬
‫و ًل جدوى أبدا من الشفاء‪ ،‬إنها تحبه‪ً ،‬ل زالت‬
‫تحبه و تريده‪ً ،‬ل زالت ضعيفة‪ ،‬و تعرف أنه لو‬
‫أتاها محاوًل فإنها ستسقط في شباكه عن طيب‬
‫خاطر و تخسر توبتها و كل المعاناة التي‬
‫خاضتها ‪...‬‬
‫فجأة هبطت "إيمان" على ركبتيها أمام أخيها‪،‬‬
‫قبضت بكفيها على نسيج السجاد السميك‬
‫أسفلها حتى أقتلعته تقريبا‪ ،‬كتفاها يبدآن في‬
‫اإلرتعاش بسبب تلك الشهقات التي جاهدت‬
‫لتكتمها‪ ،‬فأفلتت منها بقوة و أخذت تبكي مثل‬
‫طفلة‬
‫تبكي و تبكي بشكل مثير للشفقة و هي تهز‬
‫رأسها متمتمة بحسرة ‪:‬‬
‫‪-‬مافيش فايدة‪ ..‬موتني‪ .‬بحبه يا أدهم‪ .‬موتني‬
‫بحبه‪ ..‬بحبه‪ ..‬بحبه‪ ...‬بحبه‪ ..‬بحبه !‬
‫أخذت تعيد الكلمة كما لو أنها اسطوانة‬
‫مشروخة‪ ،‬لم يكن هناك ما يشير إلى أنها‬
‫ستتوقف ‪...‬‬
‫بقى "أدهم" عاجزا بمكانه‪ ،‬مصدوما من‬
‫رؤيتها هكذا‪ ،‬لقرابة الدقيقتين و هو في حيرة‬
‫من أمره‪ ..‬حتى غلبه فؤاده لدموعها و سماع‬
‫األلم يكتسح نبراتها‬
‫جثى أمامها بدون تفكير‪ ،‬وضع يده عليها‪ ،‬فرك‬
‫ظهرها و مسد على شعرها‪ ،‬ضمها إلى صدره‬
‫بقوة مرددا بلطف ‪:‬‬
‫‪-‬طيب‪ ..‬طيب خالص‪ .‬خالص يا إيمان‪ ...‬طيب‬
‫خالص !‬
‫لم يسعه أن يواسيها بكلمات أخرى‪ ،‬فمن جهة‬
‫ًل يزال غاضبا عليها‪ ،‬و من جهة ًل يحتمل أن‬
‫يراها متألمة إلى هذا الحد‪ ..‬هو يعرف أن أخته‬
‫ًل تستحق ذلك‬
‫أخته "إيمان" ًل تستحق أي سوء يحيق بها ًل‬
‫تستحق أبدا ‪...‬‬

‫*****‬

‫وقف على أعتابه‬


‫لم يتردد أبدا في الذهاب إليه‬
‫في الواقع أن مجيئه تأخر كثيرا‬
‫لكن األوان لم يفت بعد ‪...‬‬
‫بكلتا يداه‪ ،‬و ألكثر من ثلث ساعة‪ ،‬لم يتعب‬
‫"مراد" و هو يدق على أبواب المسجد المغلقة‪،‬‬
‫كانت دموعه تسابقه و هو يتخيل بأنه هذا باب‬
‫الرحمة‪ ،‬و قد أغلق بوجهه لألبد‪ ،‬كان في عالم‬
‫آخر و هو يعقد محادثة بينه و بين السماء‪،‬‬
‫يظن بأن ًل أحد يسمعه‪ ،‬و لكنه مخطئ‪ ،‬أكثر‬
‫من مخطئ‪ ،‬فهو حتما يسمع‪ ..‬و يجيب المضطر‬
‫حاشاه أن يرد سائال‪ ،‬حاشاه أن يذر عاصيا‬
‫يستجدي التوبة‪ ،‬يتوسل الرحمة‬
‫حاشاه ‪...‬‬
‫‪-‬يارب‪ ..‬اسمعني‪ .‬أنا جيت لك‪ ..‬أنا اتأخرت بس‬
‫جيت لك‪ ..‬ماتقفلش الباب في وشي كده‪ ..‬يارب‬
‫أنا آسف‪ .‬أفتح لي‪ ..‬لو سبتني كده مين ياخد‬
‫بإيدي‪ ..‬لو سبتني كده أروح لمين غيرك‪..‬‬
‫يارب‪ ...‬يارب !‬
‫‪-‬إيه يا أستاذ في إيه !؟‬
‫إلتفت "مراد" إلى الصوت الغريب ورائه‪ ،‬ليجد‬
‫شابا في مقتبل العمر‪ ،‬ظهر من العدم أمامه‪،‬‬
‫كان يرمقه بريبة و هو يقف هكذا أمام باب‬
‫المسجد و حالته يرثى لها ‪...‬‬
‫‪-‬من فضلك شوف حد يفتح لي المسجد ! ‪..‬‬
‫قالها "مراد" و صوته مليئ باأللم تماما‬
‫سأله الشاب ‪ :‬خير يعني‪ .‬عاوز إيه‪ ..‬مافيش حد‬
‫جوا انت عارف الساعة كام دلوقتي ؟‬
‫في الحقيقة الساعة تشير إلى الثانية و النصف‬
‫صباحا‬
‫لكنه لم يهتم‪ ،‬و أصر ‪:‬‬
‫‪-‬أرجوك‪ .‬أنا ًلزم أدخل‪ ..‬عايز أصلي !‬
‫تعجب الشاب ‪ً :‬ل حول و ًل قوة إًل باهلل‪ .‬طيب يا‬
‫أستاذ شكلك محترم يعني‪ً .‬ل مؤاخذة ماعندكش‬
‫بيت تصلي فيه‪ .‬لو مصمم ارجع بعد ساعتين‬
‫على صالة الفجر !‬
‫هز "مراد" رأسه و قد أطلت الدموع من‬
‫عينيه‪ ،‬اعترف بخزي مميت ‪:‬‬
‫‪-‬مابعرفش !‬
‫الشاب مستوضحا ‪ :‬مابتعرفش إيه ًل مؤاخذة !؟‬
‫مراد بمرارة ‪ :‬مابعرفش أصلي !!‬
‫صعق الشاب في الحال‪ ،‬و أخيرا أدرك معاناة‬
‫ذلك الرجل‪ ،‬أثقلته الصدمة لبعض الوقت‪ ،‬لكنه‬
‫تحرك دون تفكير و أستل المفاتيح من جيبه‪..‬‬
‫فتح له أبواب المسجد و دعاه للدخول‬
‫خلع "مراد" حذاؤه و دلف‪ ،‬يقشعر بدنه و‬
‫يشعر بخشوع فور أن وطأ الجانب اآلخر‪ ،‬تبع‬
‫الشاب إلى دورة المياه‪ ،‬علمه األخير كيف‬
‫يتوضأ‪ ،‬ساعده في كل صغيرة و كبيرة و أخذ‬
‫يصب له الماء أيضا‪ ..‬ثم أخذه و علمه فاتحة‬
‫الكتاب‬
‫كان األمر عسيرا عليه‪ ،‬لكنه الشاب كان‬
‫صبورا‪ ،‬و تقدمه مؤديا ركعتي التوبة أمامه و‬
‫هو يرفع صوته ليفعل "مراد" مثله‪ ..‬لم يكن‬
‫يتخيل أن بمقدوره أن يذرف هذا الكم من‬
‫الدموع‬
‫لقد بكى كطفل و هو يركع و يسجد و يطلب‬
‫المغفرة من رب العالمين‬
‫و يستطيع أن يجزم بأن الليلة‪ ،‬رغم بشاعة‬
‫أحداثها الفائتة‪ ،‬لكن ختامها جعلها تبدو واحدة‬
‫من أفضل ليالي حياته‪ ،‬بل ًل تقارن بأي شيء‪،‬‬
‫لقد ولد من جديد‬
‫الليلة هي ليلة ميالده الحقيقية ‪...‬‬
‫‪-‬أنا مش عارف أشكرك إزاي يا عمر ! ‪ ..‬قالها‬
‫"مراد" و هو ًل يزال يجلس بالمسجد‬
‫أمامه الشاب "عمر" يبتسم له بسماحة قائال ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل شكر على واجب يا أخي‪ ..‬انت بس تعالى كل‬
‫يوم !‬
‫و ضحك بمرح‬
‫ليعده "مراد" ‪...‬‬
‫‪-‬هاجي‪ ..‬إن شاء هللا هاجي !‬
‫يتبع ‪...‬‬
‫انتهى الفصل الثامن عشر ‪..‬‬

‫‪19‬‬

‫"هذا ما فعلته بدافع الحب ؛ تخيل ما يمكنني‬


‫فعله بدافع الكراهية !"‬
‫_ إيمان‬

‫مر اسبوعان على عقد قرانها‪ً ،‬ل تصدق حتى‬


‫اآلن ما حدث‪ ،‬إنها متزوجة للمرة الثانية‪ ،‬و‬
‫لكنه زواج مع إيقاف التنفيذ‪ ..‬تبقى أقل من‬
‫شهران حتى يمسي حقيقيا !‬
‫فهل هي مستعدة !؟‬
‫اإلجابة هي ًل‪ ..‬طبعا ًل‬
‫و لعلها اآلن قد أدركت كم كانت غبية حين‬
‫وافقت على تلك المهزلة‪ ،‬سخافة فاقت الحدود‬
‫من صنعها هي‪ ،‬مأساة أخرى رسمتها لنفسها‪،‬‬
‫و كما أخبرها أخيها‪ ،‬عليها أن تتحمل نتائج‬
‫اختيارها‪ ...‬في النهاية عليها أن تقبل زواجها‬
‫من "مالك"‪ ..‬عليها أن تكون زوجته و‬
‫تتصرف على هذا األساس‬
‫شقيق زوجها الراحل‪ ،‬عم إبنتها‪ ،‬سيحل محل‬
‫الزوج‪ ،‬ستكون ملكه كليا و ًل يجوز أن تعترض‬
‫مطلقا ‪...‬‬
‫‪-‬ادخل ! ‪ ..‬هتفت "إيمان" و هي تنهي ارتداء‬
‫حجابها أمام المرآة‬
‫لينفتح الباب قليال و تطل "سالف" على عتبته‬
‫مدمدة باقتضاب ‪:‬‬
‫‪-‬عمتو أمينة بتقولك تعالي سلمي على طنط‬
‫رباب قبل ما تمشي !‬
‫و كادت تنسحب في هدوء كعادتها مؤخرا‪،‬‬
‫لتستوقفها "إيمان" و قد نفذ صبرها من ذلك‬
‫التعامل السطحي بينهما ‪:‬‬
‫‪-‬سالف‪ ..‬إدخلي شوية من فضلك‪ .‬عاوزاكي !‬
‫بقيت األخيرة مكانها لبضع لحظات‪ ،‬كأنما تفكر‪،‬‬
‫ثم دلفت إليها على مضض‬
‫تجنبت النظر إليها قدر استطاعتها‪ ،‬فالتفتت‬
‫"إيمان" ناحيتها‪ ،‬تفحصتها بنظرة خائبة‬
‫للغاية‪ ،‬ثم فتحت فاها ثانية و قالت ‪:‬‬
‫‪-‬هو احنا لحد إمتى هانفضل كده !؟‬
‫‪-‬كده إزاي يعني !! ‪ ..‬قالتها "سالف" بصالبة‬
‫و ًل زالت ًل تنظر إليها‬
‫‪-‬سالف إنتي عارفة قصدي كويس‪ .‬أنا مش‬
‫فاهمة ليه بتتجنبيني بالشكل ده‪ ..‬إنتي عايزة‬
‫توصلي إليه ؟؟‬
‫و هنا تطلعت "سالف" إليها‪ ،‬رمقتها بنظرة‬
‫ذات مغزى و هي تقول ‪:‬‬
‫‪-‬أنا لو عايزة أعمل إللي في دماغك يا إيمان‬
‫كنت عملته من بدري‪ .‬و البيت ده ماكنش قعد‬
‫هادي كده‪ ..‬و األهم خالتك إللي قاعدة برا دي‪.‬‬
‫عمرها ما كانت قدرت تخطي هنا‬
‫لم تتحمل "إيمان" ظنها السيئ بها أكثر من‬
‫ذلك‪ ،‬فانفجرت بغتة ‪:‬‬
‫‪-‬إنتي مالكيش حق تظني فيا السوء بالذات و‬
‫إنتي ماتعرفيش حاجة يا سالف‬
‫سالف بهجوم ‪ :‬إيه إللي ماعرفوش يا ست‬
‫إيمان‪ .‬إنتي بعظمة لسانك حكيتي لي عن‬
‫عالقتك القديمة بمرادك‪ .‬اعترفتي إنك بتحبيه‬
‫بس األكيد ماكنتيش شجاعة كفاية تعترفي‬
‫بذنبك و تقولي إنك غلطتي معاه‬
‫اغرورقت عيناها بالدموع و هي تهز رأسها‬
‫مغمغمة ‪:‬‬
‫‪-‬إنتي مش فاهمة حاجة !‬
‫‪-‬فهميني ! ‪ ..‬هتفت "سالف" بنزق ‪:‬‬
‫‪-‬لو مش فاهمة فهميني‪ .‬و اقنعيني إزاي أكدب‬
‫عنيا إللي شافتك معاه في غرفتك يا إيمان‪.‬‬
‫اقنعيني إن إللي شوفته ده وهم مثال !!!‬
‫عصت عليها دموعها و لم تعد قادرة على‬
‫حبسها أكثر‪ ،‬نزلت على خديها بغزارة‪ ،‬بينما‬
‫تستطرد زوجة أخيها بعدم تصديق ‪:‬‬
‫‪-‬إنتي يا إيمان ؟ إنتي تعملي كده‪ ..‬دي كانت‬
‫آخر حاجة ممكن تخطر على بالي‪ً .‬ل دي كانت‬
‫مستحيل تيجي قدام عنيا أصال‪ .‬ليه كده‪ .‬إنتي‬
‫خلتيني بعد ما كنت حطاكي في مكانة عالية و‬
‫شايفاكي زي الماليكة‪ ..‬مابقتش قادرة أبص في‬
‫وشك‪ .‬بقيت قرفانة منـك !‬
‫‪-‬ماحصلش حاجة ! ‪ ..‬قالتها "إيمان" بأنين‬
‫مخنوق ‪:‬‬
‫‪-‬و هللا يوم ما شوفتينا ماحصلش حاجة بيني و‬
‫بينه‪ .‬و أنا اساسا اتفاجئت بيه‪ .‬ماكنتش عارفة‬
‫إنه جاي‪ .‬هو عرف إني لوحدي عشان جه و‬
‫كان بيقنعني أسيب مالك عشان نتجوز أنا و هو‪.‬‬
‫و لما رفضت هددني و جرني على األوضة‬
‫غصب عني‪ .‬إنتي جيتي في الوقت الغلط‪..‬‬
‫ماكنش هايعمل حاجة‪ .‬كان بيخوفني بس عشان‬
‫أغير قراري‪ .‬و هللا دي الحقيقة !!!‬
‫حدجتها "سالف" بنظرة غير مقتنعة و قالت ‪:‬‬
‫‪-‬الراجل إللي يتجرأ على واحدة بالشكل ده‬
‫إستحالة مايكونش قرب منها كفاية‪ .‬تقدري‬
‫تنكري إن ماحصلش بينك و بينه أي قرب‪.‬‬
‫تقدري تقسمي باهلل إنه مالمسكيش يا إيمان‬
‫!؟؟؟‬
‫فتحت فاها لكي تنكر على الفور و تبرئ نفسها‬
‫أمام زوجة أخيها‪ ،‬لكن الحروف توقفت على‬
‫طرف لسانها‪ ،‬لم تستطع نطقا‪ ،‬لم تستطع دفع‬
‫التهمة عنها‪ ،‬ألنها صحيحة تماما‪ ،‬لقد أخطأت‬
‫مع "مراد" بالفعل‪ ..‬كيف عساها تنكر هذا‬
‫إذن‪ ...‬كيف لها تقسم باهلل كذبا !!؟‬
‫انهمرت دموع جديدة من عينيها‪ ،‬واصلت‬
‫السقوط‪ ،‬يغمرها األلم مع تتابع نظرات الخيبة و‬
‫النفور بعيني "سالف" و ما زالت ًل تستطيع‬
‫الرد بكلمة ‪...‬‬
‫عفتها "سالف" من هذا الحرج و استدارت‬
‫لتخرج و هي تقول بجمود ‪:‬‬
‫‪-‬خالتك مستنياكي برا‪ ..‬ماتتأخريش !‬

‫*****‬
‫‪-‬مش قادرة أصدق إنك هنا من أسبوعين و‬
‫مافكرتيش تزوريني إًل إنهاردة !‬
‫ابتسمت "رباب" و هي تجاوب شقيقتها مرة‬
‫أخرى على استحياء ًل يخلو الرقة ‪:‬‬
‫‪-‬تاني هقولك يا أمينة‪ .‬مراد من ساعة ما وصلنا‬
‫ماكنش مخلينا قاعدين أنا و أبوه‪ .‬قلت لك حالته‬
‫كانت غريبة أوي‪ ..‬و هللا ما ركزت في حاجة‬
‫غيره طول الوقت ده و إًل كنت جيت لك في‬
‫نفس يوم وصولي‪ .‬ده إنتي أختي الوحيدة !‬
‫‪-‬و هو عامل إيه دلوقتي ؟ ‪ ..‬صدر السؤال عن‬
‫"أدهم" الجالس أمامها في المقعد الوثير‬
‫نظرت "رباب" إليه و ردت بايماءة ‪:‬‬
‫‪-‬الحمدهلل بقى أحسن‪ .‬لسا بنتعامل معاه بحذر‬
‫لكن مقدرش أتجاهل الجانب المدهش إللي ظهر‬
‫عليه فجأة‬
‫أدهم باهتمام ‪ :‬جانب إيه !؟‬
‫‪-‬مراد اتغير يا أدهم‪ .‬مابقاش إبني إللي أعرفه‪.‬‬
‫و بصراحة ده تغيير حلو جدا يعني بدل ما كان‬
‫متأثر بالتحضر و مهتم بس باللعب و التنطيط‬
‫هنا و هناك‪ً .‬ل‪ .‬مابقاش كده دلوقتي‪ ..‬أنا قعدت‬
‫معاه أسبوعين‪ .‬ماشوفتوش فوت فرض‪ً .‬ل و‬
‫الجمعتين إللي فاتوا كمان باباه نزل معاه‬
‫المسجد‪ ..‬أنا كنت مذهولة‪ .‬و في نفس الوقت‬
‫قلقانة عليه‪ .‬بس لما شوفته بدأ يتحسن و يهتم‬
‫بشغله كمان عرفت إن التغيير كان من جواه و‬
‫اطمنت‬
‫ابتسم لها "أدهم" بوقار و هو يقول ‪:‬‬
‫‪-‬هللا يثبته و يتم عليه الهدى‪ .‬أيا كان إللي حصل‬
‫خير طالما رجع عليه بالنتيجة إللي سمعتها دي‬
‫!‬
‫و قد كان يعلم جيدا ماذا حدث مع ابن خالته‪،‬‬
‫لكنه تظاهر بالجهل طبعا‪ ،‬و آثر اإلستماع‬
‫تاليا‪ ...‬حتى ظهرت زوجته ؛‬
‫انتبه إليها عندما أحس باضطراب ما نحوها‪،‬‬
‫أوًلها نظراته ليراها تستند إلى الجدار بكفيها و‬
‫قد بدت و كأنها تنازع ًللتفاط أنفاسها‪ ،‬هوى‬
‫قلبه بين قدميه و وثب قائما بلحظة‪ ،‬كان‬
‫بجوارها في ثانية‪ ،‬أمسك برسغها و لف ذراعه‬
‫األخرى حولها مغمغما بقلق ‪:‬‬
‫‪-‬حبيبتي‪ .‬إنتي كويسة ؟‬
‫نظرت "سالف" له و هي تحاول تعبئة الهواء‬
‫إلى رئتيها عبثا ‪...‬‬
‫فوق ! ‪ ..‬أخبرته بصعوبة و ‪-pump‬نسيت الـ‬
‫عيناها تغربان‬
‫قطب حاجبيه بجزع و هو يحملها دون إنتظار‬
‫قائال ‪:‬‬
‫‪-‬طيب إهدي‪ .‬حاولي تهدي نفسك دقيقة واحدة‬
‫و هانكون فوق !‬
‫و انطلق "أدهم" بها خارجا من الشقة‪ ،‬في‬
‫إثرهما نظرات كال من "أمينة" و "رباب" ‪...‬‬
‫‪-‬إيه إللي حصل يا أمينة ؟ ‪ ..‬تساءلت "رباب"‬
‫بريبة‬
‫تنهدت "أمينة" قائلة ‪:‬‬
‫‪-‬و هللا ًل كان على البال و ًل الخاطر‪ .‬فجأة كده‬
‫سالف تتعب و الدكتور يقرر لها تعيش على‬
‫أدوية للربو و بخاخة ماتسيبش شنطة إيدها !‬
‫رباب بشفقة ‪ :‬يا ساتر يا رب‪ .‬لوحدها كده !؟‬
‫هزت "أمينو" كتفيها ‪...‬‬
‫‪-‬هانقول إيه‪ ..‬الحمدهلل على كل حال‬
‫‪-‬السالم عليكم !‬
‫نظرت "رباب" نحو مصدر الصوت‪ ،‬فإذا بها‬
‫ترى "إيمان"‪ ..‬تهللت أساريرها و هي تقوم‬
‫لتتلقاها بين أحضانها في الحال ‪:‬‬
‫‪-‬مش معقول‪ ..‬إيه ده يا إيمان‪ .‬إنتي بتصغري و‬
‫بتحلوي‪ .‬هللا أكبر إيه الجمال ده كله يا حبيبة‬
‫قلبي !‬
‫‪-‬إزيك يا خالتو !! ‪ ..‬تمتمت "إيمان" بابتسامة‬
‫لم تصل إلى عينيها‬
‫رجعت "رباب" بجسمها لتنظر إلى ابنة أختها‬
‫جيدا‪ ،‬و قالت ‪:‬‬
‫‪-‬الحمدهلل يا حبيبتي بخير‪ .‬إنتي إزيك يا‬
‫عروسة‪ .‬أنا لسا عارفة من أمك إن كتب كتابك‬
‫كان في نفس اليوم إللي رجعت فيه‪ ..‬يارتني‬
‫كنت أعرف‬
‫إيمان بلهجة تنكف سخرية خفية ‪:‬‬
‫‪-‬ماضيقيش نفسك يا خالتو‪ .‬مراد كان هنا و قام‬
‫بالواجب‪ ..‬شهد على عقد جوازي‬
‫عبست "رباب" مرددة ‪:‬‬
‫‪-‬بجد‪ .‬الولد ده ماقاليش حاجة خالص‪ ..‬غريبة‬
‫بس لما أشوفك يا مراد !‬
‫شعرت "إيمان" باهتزاز هاتفها داخل حقيبة‬
‫يدها‪ ،‬فقالت ألمها دون الحاجة إلستكشاف األمر‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬أمي أنا ًلزم أنزل‪ .‬مايا و مالك خالص وصلوا‬
‫أمينة مبتسمة ‪ :‬طيب يا حبيبتي‪ .‬على مهلك و‬
‫سلمي لي عليهم‬
‫أومأت "إيمان" و خاطبت خالتها مرة أخيرة ‪:‬‬
‫‪-‬أنا آسفة يا خالتو مضطرة أنزل‪ .‬إن شاء هللا‬
‫أشوفك قريب و أقعد معاكي مدة أطول‬
‫عانقتها "رباب" و قبلتها قائلة ‪:‬‬
‫‪-‬يا حبيبتي كفاية إني شفتك‪ .‬ربنا يسعدك و‬
‫يهنيكي يا إيمان‪ ..‬تستاهلي كل خير !‬
‫إنسحبت "إيمان" في هدوء‪ ،‬و هكذا بقيت‬
‫الشقيقتان على إنفراد تام ‪...‬‬
‫‪-‬العيال كبروا يا أمينة ! ‪ ..‬علقت "رباب" و‬
‫دموع الحنين ملء عيناها‬
‫وافقتها "أمينة" بنفس التعبير ‪:‬‬
‫‪-‬سنة الحياة يا رباب‪ .‬لسا إمبارح كانوا‬
‫صغيرين حوالينا‪ .‬دلوقتي خلونا أجداد‪ ..‬عقبال‬
‫ما تفرحي بعوض مراد و تشيلي صبيانه و بناته‬
‫يا حبيبتي‬
‫لم تكاد ترد عليها‪ ،‬دق هاتفها في هذه اللحظة‬
‫فابتسمت و هي تلقي نظرة على الشاشة‬
‫المضاءة ‪...‬‬
‫‪-‬جبنا سيرة القط‪ .‬أهو الباشا بيتصل !‬
‫و فتحت "رباب" الخط ‪:‬‬
‫‪-‬آلو‪ ..‬إيه يا حبيبي‪ً ..‬ل خالص خلصت قعدتي‬
‫مع خالتك‪ ..‬إنت قريب يعني‪ ..‬تحت البيت‪ ..‬طيب‬
‫ما تطلع يابني سلم على خالتك‪ ..‬اطلع يا مراد‬
‫هاتعمل مكسوف أومال لو ماكنتش طبيت عليهم‬
‫قبلي‪ ..‬أطلع يابني محدش غيري أنا و خالتك‬
‫هنا‪ ..‬يال بقى ماتزعلهاش منك‪ ..‬يال يا حبيبي ‪...‬‬
‫و أغلقت مبتسمة بشدة و هي تعلن ‪:‬‬
‫‪-‬مراد طالع !‬

‫*****‬

‫إتخذت المصعد هذه المرة‪ ،‬هي التي لم ترتاده‬


‫أبدا مؤخرا‪ ،‬علقته قليال لتختلي بنفسها لبعض‬
‫الوقت‪ ..‬فقد كان الضغط عليها نفسيا شديد‬
‫الوطأة‬
‫من كل الجهات‪ ،‬و كأن العالم يتآمر ضدها من‬
‫جديد‪ ،‬اليوم ليس يوم حظها مثل سائر أيامها‬
‫السابقة‪ ،‬ابتداء من استيقاظها على خبر وصول‬
‫خالتها‪ ،‬و محادثتها المخزية مع زوجة أخيها‪،‬‬
‫وصوًل إلى تلك اللحظة التي تجد نفسها‬
‫مضطرة إلى لعب دورها في مسرحية زواجها‬
‫الهزلية ؛‬
‫إلى أين هي ذاهبة بحق هللا ؟‬
‫هل حقا تتخيل بأنها عروسا لـ"مالك" ؟‬
‫تعطي نفسها الحق للخروج معه ألجل جمع قطع‬
‫أثاث منزلهما !!!‬
‫كل هذا بدون فائدة‪ ..‬كل هذا مدعاة للشفقة و‬
‫السخرية‬
‫و نهاية هذا األمر‪ ،‬تخيفها‪ً ،‬ل تستطيع إًل‬
‫تصور أكثر السيناريوهات سوءا ‪...‬‬
‫تنهدت "إيمان" و استأنفت النزول بالمصعد‬
‫بعد أن قضت قرابة الخمس دقائق بمفردها‪ ،‬و‬
‫إن كانت قد كذبت أمام أمها و أدعت بأن‬
‫"مالك" و أخته قد أتيا‪ ،‬لم يحضرا بعد‪ ..‬لكنها‬
‫كانت بحاجة لإلنفراد بنفسها تماما قبل أن تراه‬
‫هو بالذات‪ً ،‬ل تريد أن يظهر عليها أي شيء‬
‫يثير تفكيره عنها مطلقا‬
‫إنفتح المصعد بالطابق األرضي‪ ،‬و إلتقت‬
‫"إيمان" بآخر شخص فكرت أن تراه في الزمن‬
‫القريب‪ ،‬اصطدمت مباشرة برؤية "مراد"‪ ..‬و‬
‫إذ بدا كأنما يحاول استدعاء المصعد بال جدوى‬
‫!‬
‫لحظة أن رآها بدوره تفاجأ مثلها‪ ،‬وقفا اإلثنان‬
‫قبالة بعضهما جامدين‪ ،‬لم تقو على تجاهله‪،‬‬
‫مظهره الجديد كليا استرعى اهتمامها‬
‫كان يرتدي قميصا رمادي متناسق مع لونه‬
‫عيناه الحادتين‪ ،‬و سرواًل من الجينز الغامق‪،‬‬
‫كان قميصه بداخل السروال و هذا جديد عليه‪،‬‬
‫يحيط بخصره طوق من الجلد الثمين الالمع‪،‬‬
‫لحيته نمت قليال جدا و شاربه صار بارزا أكثر‪،‬‬
‫إنه يوحي بالنضج أكثر من أي وقت مضى‪ ..‬و‬
‫كأنها لم تراه منذ سنوات رغم إن آخر لقاء كان‬
‫قبل أسبوعين فقط !!!‬
‫‪-‬إزيك !‬
‫صوته القوي جردها من تخيالتها بغتة‬
‫كتمت شهقتها حين رأت يده تمتد نحوها‪ ،‬لكنها‬
‫أدركت الخطأ بنفس اللحظة عندما وجدت كفه‬
‫يلحق بباب المصعد قبل أن يغلق‪ ..‬إتخذت‬
‫خطوتين إلى الخارج على الفور‪ ،‬فترك الباب و‬
‫أدار جسده قليال ناحيتها‬
‫على عكس توقعها لم يبدو غاضبا منها‪ ،‬بل‬
‫شاهدت في عينيه سالم غريب ألول مرة‪ ،‬عالوة‬
‫عليه منحها ابتسامة رقيقة و هو يستطرد مرة‬
‫أخرى بدعابة ‪:‬‬
‫‪-‬مش مصدق‪ ..‬إيمان نازلة بتواجه العالم‬
‫لوحدها !‬
‫ردت عليه بشيء من الصالبة ‪:‬‬
‫‪-‬خارجة مع مالك‬
‫تالشت اإلبتسامة الطفيفة عن محياه و هو‬
‫يسألها ‪:‬‬
‫‪-‬خارجة معاه لوحدك‪ .‬قصدي أدهم سمح لك !؟‬
‫ابتسمت بسخرية ‪ :‬سمح لي ! ده جوزي !!‬
‫ًلحظت فكه ينقبض عندما أتمت جملتها هكذا‪،‬‬
‫توترت من مواصلة النظر إليه‪ ،‬فهربت بعينيها‬
‫بعيدا‪ ،‬بينما بقى محافظا على ثباته و هو ينفخ‬
‫نفسا سريعا قبل أن يقول بازدراء ‪:‬‬
‫‪-‬رغم إنك ممكن ماتصدقيش كالمي‪ ..‬لكن أنا‬
‫مبسوط عشانك جد يا إيمان‪ .‬و إنك قدرتي‬
‫تتخطي الماضي للمرة التانية !‬
‫قامت باًلتصال بالعين معه ثانية وردت بحدة ‪:‬‬
‫‪-‬قصدك للمرة التالتة ‪..‬‬
‫علت زاوية فمه بنصف ابتسامة ‪:‬‬
‫‪-‬أيا كان‪ .‬أنا بدعم قرارك‪ ..‬أكيد سعادتك مهمة‬
‫بالنسبة لي يا إيمان‪ .‬وطالما سعادتك مع مالك‬
‫ف ده شيء يطمني عليكي‪ .‬على األقل شوفته‬
‫بعيني‬
‫كان واضحا استهزائه بها و بعالقتها بشقيق‬
‫زوجها الراحل‪ ،‬مما أغاظها و جعل األجيج يعلو‬
‫بصدرها‪ ،‬تصرفت باندفاع و هي تستجمع‬
‫نفسها لتذهب من أمامه ‪...‬‬
‫لكنها أطلقت صرخة قصيرة‪ ،‬سرعان ما وأدتها‪،‬‬
‫فقد تبين أن المصعد قد أغلق على طرف ثوبها‪،‬‬
‫و إن قدمها تعثرت و كادت تنكفأ على وجهها‪،‬‬
‫لوًل ذراعاه التي إمتدتا و أمسكت بها في‬
‫اللحظة المناسبة ؛‬
‫و كأن العالم توقف تماما‪ ،‬بقيا على وضعيتهما‪،‬‬
‫كال منهما يحدق بعيني اآلخر‪ ،‬فقط المشاعر هي‬
‫المسيطرة اآلن‪ ..‬و هما عاجزين كالعادة‪..‬‬
‫العجز‪ ...‬آفة حبهما‬
‫الحاجة‪ ،‬الجنون‪ ،‬اإلدمان على بعضهما‬
‫البعض‪ ..‬ما كان لهما من عالج سوى البقاء معا‬
‫كم كان من الغباء‪ ،‬كليهما غبيا بطريقته‪ً ،‬ل‬
‫يمكن إًل أن يكونا سويا‬
‫هي له‬
‫هو لها ‪...‬‬
‫‪-‬إيـمــــان !!!!‬
‫تفاعل جسدها كله مع هذا النداء الغاضب‪ ،‬كان‬
‫مميز جدا‪ ،‬صوت "مالك" الذي عرفته على مر‬
‫السنين‪ ،‬اخترق حواسها قاطبة اآلن و بث فيها‬
‫رعب العالم كله !‬

‫يتبع ‪...‬‬
‫انتهى الفصل التاسع عشر ‪..‬‬
‫‪20‬‬

‫"بئس ما أنا عليه ؛ مهما حاولت ًل يفلح شيء‪،‬‬


‫فأنا ضعيفة‪ ،‬ملوثة‪ ،‬إنني فقط‪ ..‬أتوق لرجلي‬
‫األول‪ ...‬كياني برمته ًل يتقبل رجل سواه !"‬

‫_ إيمان‬

‫أطلقت "إيمان" أنفاسها المحبوسة بشدة‪،‬‬


‫ارتعدت فرائصها بعنف و أذنيها تعيدان صدى‬
‫اسمها الذي تفوه به "مالك" قبل لحظات‪،‬‬
‫ليست مضطرة ألن تستدير لتراه فهي متأكدة‪..‬‬
‫اللعنة !‬
‫تحركت للفكاك من بين "مراد" ‪ ،‬لكنه ضغط‬
‫عليها و أبقاها مكانها !!‬
‫‪-‬مراد !!! ‪ ..‬همست بغضب تنذره ليتركها‬
‫سوف يوقعها في مشكلة حتما‪ ،‬بل سيفضحها‬
‫اآلن علنا ‪...‬‬
‫‪-‬شيل إيدك عني يا مراد ! ‪ ..‬طلبت منه بتوسل‬
‫و التوتر يكاد يقتلها‬
‫كانت ترتعش بشكل مزري بين ئراعيه و قد‬
‫تندى جبينها عرقا ‪...‬‬
‫ارتفعت يدها إلى كتفه‪ ،‬و األخرى سندت بها‬
‫على ساعده محاولة اإلبتعاد ثانية‪ ،‬لكنه شدد‬
‫ذراعه حولها مرة أخرى و هو يخاطبها ببرودة‬
‫متعمدا رفع صوته ليكون مسموعا ‪:‬‬
‫‪-‬على مهلك يا إيمان‪ .‬طرف فستانك لسا‬
‫محشور في الباب‪ .‬على مهلك !‬
‫ثم تراجع و هو يجذبها معه و ًل يزال يمسك‬
‫بها‪ ،‬و أخيرا سمح لها باإلنزًلق من حضنه‪،‬‬
‫تململت بعصبية و هي تنسحب بعيدا عنه و‬
‫تحمر خجال تماما‪ ،‬بينما يمد يده ليسحب باب‬
‫المصعد دافعا بقدمه طرف ثوبها خارجه ‪...‬‬
‫‪-‬بس كده ! ‪ ..‬قالها "مراد" بمرونة و هو حتى‬
‫اآلن ًل يعير "مالك" أدنى اهتمام‬
‫كانت نظرات "إيمان" مركزة على زوجها‬
‫اآلن‪ ،‬و لو أن صفته الجديدة غير مقبولة‬
‫بالنسبة لها بعد‪ ،‬أشرب الرعب في قلبها و هي‬
‫تحدق في وجه "مالك"‪ ..‬سكونه و صمته‬
‫يثيران الذعر‪ .....‬تشعر "إيمان" و كأن نظراته‬
‫تلك كالرصاص يثقبها و يحرقها !!!‬
‫‪-‬مالك ! ‪ ..‬بالكاد استطاعت أن تنطق اسمه و‬
‫قلبها يخفق وجال‬
‫شاهدته "إيمان" و هو يدق يطحن فكه و‬
‫نظراته كما هي على جسدها‪ ،‬حتى رفع عينيه‬
‫أخيرا و نظر إليها‪ ،‬لم يكن "مراد" هو الهدف‬
‫اآلن‪ ..‬بل هي !‬
‫انطلق فجأة و سار نحوها بخطوات نزقة‪ ،‬كلما‬
‫اقترب منها خطوة كلما ازداد الغصات بحلقها و‬
‫صعبت عليها التنفس‪ ،‬شعرت بدوار طفيف و لم‬
‫يعد يفصله عنها سوى خطوتين‪ ..‬كان يمد يده‬
‫مشهرا عنفا صريحا و قد استعدت هي له‬
‫شاخصة العينين‬
‫و لكن ما لبثت فجأة أن وجدت حائط يقف‬
‫أمامها‬
‫حائط طوله ستة أقدام‪ ..‬يتشح بقميص رمادي و‬
‫تفوح منه رائحة خليط بين الحامض و التفاح‬
‫الحلو ‪...‬‬
‫مراد !‬
‫صنع حائل بينهما اآلن و ًل يبدو عليه نية‬
‫اًلبتعاد ؛‬
‫أطلق "مالك" نظرات الشرر إلى عيني غريمه‬
‫قائال بغلظة ‪:‬‬
‫‪-‬ابعد !‬
‫‪-‬ابعدني !! ‪ ..‬قالها "مراد" و في عينيه تحدي‬
‫واضح‬
‫انتفض فك "مالك" و هدرت حشرجة مخيفة‬
‫من صدره‪ ،‬حاولت "إيمان" درء "مراد" بعيدا‬
‫عنها و هي تقول ‪:‬‬
‫‪-‬لو سمحت يا مراد إوعى من قدامي‪ .‬لو سمحت‬
‫كفاية‪ .‬كفاية كده !‬
‫تجاهلها "مراد" و كأنها لم تتكلم و تابع كالمه‬
‫إلى الشاب اليافع جدا أمامه ‪:‬‬
‫‪-‬عايز إيمان ؟ ًلزم تعديني أنا األول !‬
‫نفث "مالك" أنفاسه الحارة عبر فتحتي أنفه‪،‬‬
‫العنف و الغضب يغليان بشرايينه‪ ،‬لم يحتاج أن‬
‫يفكر مرتين‪ ،‬فهو بالفعل مثار منذ رآه يضع‬
‫يديه اللعنتين على ما يخصه‪ ،‬و األدهى أن‬
‫األخيرة أظهرت خضوعا و انسجام سحق عقله‬
‫‪...‬‬
‫‪-‬إوعى بقى بقولك !!! ‪ ..‬صرخت "إيمان"‬
‫منفعلة و هي تدفع "مراد"‬
‫و كأنها شعرت بناقوس الخطر‪ ،‬رغم أن ابعاده‬
‫كان مستحيال‪ ،‬لكنه أذعن لرغبتها‪ ،‬و ليت هذا‬
‫خفف من جموح األخير‪ ..‬فما إن صارت في‬
‫متناول "مالك" حتى دفع يده إليها و شدها‬
‫بوحشية من ذراعها‪ ،‬ثم رفع يده األخرى عاليا‬
‫و متأهبا ليهوى بها نحوها‬
‫أغمضت "إيمان" عيناها مستعدة لما قرر أن‬
‫يعاقبها به‪ ،‬فإذا بها تشعر بقبضة أخرى تنتزع‬
‫قبضة "مالك" عنها بقوة مرعبة ‪...‬‬
‫فتحت عينيها من جديد و حدقت لتجد "مراد"‬
‫يتدخل للمرة الثانية‪ ،‬ممسكا قبضة "مالك"‬
‫التي كانت تصهر ذراعها‪ ،‬و أيضا يده الحرة قد‬
‫إلتقطها من الهواء فصار يمسكه من اإلثنتين و‬
‫هو يتراجع به بعيدا عنها صائحا بخشونة ‪:‬‬
‫‪-‬انت‪ ..‬بتمد إيدك عليها‪ .‬و في وجودي !!!!‬
‫تخلص "مالك" من قبضتيه مغمغما من بين‬
‫أسنانه ‪:‬‬
‫‪-‬و عليك انت نفسك‪ .‬وريني هاتعمل إيه ‪...‬‬
‫استفحل غضب "مراد" و استقبل لكمة‬
‫"مالك" في قبضة يده‪ ،‬ثم ألقى لكمته هو على‬
‫وجه الشاب‪ ..‬ارتد "مالك" للخلف مع انطالق‬
‫الصراخ من فم "إيمان"‬
‫نظر نحو "مراد" و قد سعر الحقد كل عضلة‬
‫في جسمه‪ ،‬قفز نحوه مستعدا للعراك كليا و‬
‫بدافع أكبر اآلن‪ ،‬ولكن هيهات‪ ،‬فقد بدا مثل‬
‫موجة عاتية تحاول كسر صخرة !‬
‫صد "مراد" لكمة أخرى منه‪ ،‬و أمسك بياقته و‬
‫رماه في أرجاء المدخل‪ ،‬اصطدمت رأس‬
‫"مالك" بالجدار الرخامي‪ ،‬تحسس أسفل حاجبه‬
‫بعد أن أحس بدفء‪ ،‬فإذا به يرى دماء تخضل‬
‫أنامله ‪...‬‬
‫‪-‬يابن الـ×××××× ! ‪ ..‬سبه "مالك" بلفظ نابي‬
‫انفجر داخله من الغيظ و إندفع صوب "مراد"‬
‫مجددا‪ ،‬هذه المرة أصابه في وجهه‪ ،‬فشعر‬
‫"مراد" بالطعم الصادئ للدم بفمه‪ ،‬إًل إنه أيضا‬
‫لم يفلته ‪...‬‬
‫‪-‬خليك راجل لآلخر و اتحمل نتيجة إللي قلته و‬
‫إللي عملته ! ‪ ..‬قالها "مراد" مزمجرا و قد‬
‫تحول وجهه إلى كتلة نارية‬
‫و بغتة رفع ركبته و ضرب "مالك" في‬
‫منتصف معدته‪ ،‬انحنى "مالك" صارخا‪ ،‬فثنى‬
‫"مراد" مرفقيه و ضربه على مؤخرة رأسه‪،‬‬
‫ليسقط على وجهه فورا‬
‫في الجهة األخرى ًل يزال صراخ "إيمان"‬
‫الملتاع يصدح و يمأل المنزل كله‪ ،‬لكن هذا لم‬
‫يوقف "مراد" و لو شبرا‪ ..‬مد يديه و أمسك‬
‫بثياب "مالك" حتى أوقفه قبالته من جديد‬
‫أرجع قبضته ليسدد له لكمة أخرى‪ ،‬لكنه أحس‬
‫بذراعين قويين يمسكان به من الخلف‪ ،‬ثم سمع‬
‫صوت "أدهم" الحازم ‪:‬‬
‫‪-‬إيه إللي بتعمله ده يا بيه يا محترم‪ .‬انت‬
‫اتجننت ؟‬
‫لم تمر لحظات أخرى إًل و انضمت أصوات‬
‫النساء‪ ،‬ميز صوت أمه و خالته‪ ،‬لكنه لم يلتفت‪،‬‬
‫بل تشنج أكثر و هو يصيح بغضب عارم ‪:‬‬
‫‪-‬سيبني يا أدهم‪ ..‬بقولك سيبني !!!‬
‫تقريبا كان "أدهم" يوازيه قوة‪ ،‬مما أضناه‬
‫قليال و دبغ بشرته بالحمرة فقط من الجهد‬
‫لإلبقاء على ابن خالته بمكانه و حماية "مالك"‬
‫من بطشه ‪...‬‬
‫‪-‬مش سايبك ! ‪ ..‬هتف "أدهم" بصرامة ‪:‬‬
‫‪-‬أقسم باهلل لو ماوقفتش التهريج ده حاًل‬
‫هاتشوف واحد تاني غير أدهم إللي تعرفه‪ .‬و‬
‫بعدها ًل انت ابن خالتي و ًل اعرفك‪ .‬سـامع ؟‬
‫كلمات التهديد أتت بنتائجها في الحال‪ ،‬فبدأ‬
‫جسد "مراد" يسترخي رغما عنه‪ ،‬و بدأ‬
‫يستنشق أنفاسه بعمق ليهدى غرائز الشر‬
‫بدواخله‪ ..‬أرخى "أدهم" يديه عنه عندما ضمن‬
‫خنوعه ‪...‬‬
‫‪-‬مــــالـك‪ .‬أخويــــا !!!‬
‫انطلقت تلك الصرخة من "مايا" التي اقتحمت‬
‫بوابة المدخل اآلن‪ ،‬ركضت من فورها تجاه‬
‫شقيقها و هي تصرخ ملتاعة ‪:‬‬
‫‪-‬أخويا‪ .‬مالك‪ ..‬حصل إيــه !!؟‬
‫نظرت إلى "أدهم" مطالبة بتفسير و هي تجثو‬
‫بجوار "مالك"‪ ،‬ثم حانت منها نظرة ناحية‬
‫"إيمان" التي ًلذت بأحضان كال من أمها و‬
‫خالتها‪ ،‬و كأنها تختبئ منهم جميعا‪ ،‬تتمنى لو‬
‫يتوقف العالم كله في هذه اللحظة فقط حتى ًل‬
‫يستجوبها أحد !‬
‫تراجع "مراد" خطوة و استدار حتى يتمكن من‬
‫مواجهة الجميع‪ ،‬و لكن بقيت عيناه بعيني‬
‫"أدهم" و هو يقول ‪:‬‬
‫‪-‬الدكر إللي وافقت تجوزه أختك‪ ..‬كان بيحاول‬
‫يمد إيده عليها‪ .‬لوًليا‪ .‬كان ضربها فعال يا أدهم‬
‫!‬

‫*****‬
‫‪-‬إحنا لحد دلوقتي ماتحسبناش على الكالم إللي‬
‫قلته آخر مرة ! ‪ ..‬قالها "أدهم" بلهجة فجة و‬
‫هو يقف مواجها "مراد" هنا بحديقة المنزل‬
‫كليهما على إنفراد‬
‫بعد أن أمر "مالك" بالرحيل عقب تصريح‬
‫"مراد" و الذي لم ينكره األخير‪ ،‬توجه "أدهم"‬
‫إلى شقيقته و استوضح منها عن األسباب و‬
‫المالبسات‪ ،‬فأخبرته بإيجاز أن "مالك" أساء‬
‫الفهم‪ ،‬و "مراد" وقف ليدافع عنها بهذا الشكل‬
‫أمال "أدهم" رأسه قليال و هو يقول مقطبا ‪:‬‬
‫‪-‬انت مفكر نفسك إيه يا مراد‪ .‬و اًل متخيل مثال‬
‫إن صبري مالوش حدود !؟؟‬
‫نفث "مراد" أنفاثا قصيرة‪ ،‬ثم قال بعصبية‬
‫طفيفة ‪:‬‬
‫‪-‬أدهم‪ .‬من فضلك أنا أساسا مش ناقص‪ .‬كل‬
‫إللي حصل إني حاولت أكون جدير بإيمان بس‬
‫فشلت‪ .‬دايما كنت بفشل و كالعادة بتصرف‬
‫بغباء‪ .‬أيوة أنا غلطان موافقك‪ .‬بس إيه‬
‫المطلوب مني يعني !؟‬
‫ارتفع حاجب "أدهم"‪ ..‬و كأنه يتساءل ما إذا‬
‫كان ذاك "مراد" الذي عرفه طوال عمره ‪:‬‬
‫‪-‬انت مشاكلك أكيد مأثرة عليك‪ .‬تعرف ان ده‬
‫السبب الوحيد إللي خالني عذرتك لما جيت‬
‫تطلب مني إيمان قبل كتب كتابها بلحظات !؟‬
‫رمقه "مراد" بنظرات محتقنة‪ ،‬و تمتم ‪:‬‬
‫‪-‬أنا لسا ماتجننتش يا أدهم !!‬
‫أدهم منفعال ‪ :‬لو كده تبقى خيبت ظني فيك‪.‬‬
‫تخليني أندم على كل لحظة وثقت فيك و آمنتك‬
‫على بيتي و أهلي‪ ..‬إيمان اتكلمت معايا و‬
‫شرحت لي شكل العالقة البريئة كانت ازاي و‬
‫فهمت ان ده كان طيش مراهقة‪ .‬لكن لما تيجي‬
‫و انت راجل كده و تقولي بحب أختك األرملة‪.‬‬
‫األم‪ ...‬تفتكر ممكن أتصرف معاك إزاي !!؟‬
‫بقيا يحدقان ببعضهما للحظات طويلة‪ ،‬ثم تنهد‬
‫"مراد" بشدة مغمضا عينيه‪ ،‬مرر أصابعه‬
‫خالل شعره و هو يقول بتعب واضح ‪:‬‬
‫‪-‬أنا عارف إني غلطان‪ .‬طول عمري غلط‪ ..‬بس‬
‫يا أدهم‪ .‬صدقني‪ .‬أنا و إيمان‪ .‬الفصل الوحيد في‬
‫حياتي إللي كان حقيقي‪ .‬كله من غيرها زيف‪.‬‬
‫مشاعرنا حقيقية يا أدهم و انا مش خايف و أنا‬
‫بقولك كده‪ .‬ليه مش مصدقني‪ .‬ليه ماوقفتش‬
‫جنبي‪ .‬انت بتقدر الحب‪ .‬انت بتحب سالف و‬
‫حبيتها قبل جوازكوا و انت إللي قلت لي كده‬
‫بنفسك !‬
‫أومأ "أدهم" موافقا على كالمه ‪:‬‬
‫‪-‬أيوة حبيت سالف قبل الجواز‪ .‬لكن عمري ما‬
‫صارحتها‪ .‬عمري ما حاولت أقرب لها غير في‬
‫إطار شرعي‪ ..‬عشان بحبها عملت كده‪ .‬حافظت‬
‫عليها حتى من نفسي‪ .‬و لغاية ما كتبت عليها و‬
‫هي كانت مراتي لكن إلتزمت معاها لحد ما تم‬
‫جوازنا‪ .‬الحب و المشاعر مش محصورين في‬
‫القرب و كسر الحدود يا مراد‪ .‬الحب إنك تصون‬
‫إللي بتحبها و تحميها حتى منك‪ .‬في حب ممكن‬
‫يعيش العمر كله منغير أي نوع من أنواع القرب‬
‫‪-‬أنا مش نبي يا أدهم ! ‪ ..‬غمغم "مراد" بحنق‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬أنا انسان‪ .‬و مقدرش أعيش على النمط إللي‬
‫بتحكي عنه‪ .‬أنا جيت لك و طلبتها منك و كنت‬
‫عارف إنها هاتكون سعيدة معايا‪ .‬يا ريتك انت‬
‫إللي تكون فهمت انت سلمتها لمين‪ .‬واحد مع‬
‫أول خالف بهدلها و كان هايمد إيده عليها ‪...‬‬
‫عبس "أدهم" ممعنا التفكير بكلماته‪ ،‬نظر له و‬
‫لم يتكلم‪ ..‬فأضاف "مراد" و هو يفرك جانب‬
‫وجهه بارهاق ‪:‬‬
‫‪-‬يا ريتك ماتندمش و ماتحسش بعدين إنك‬
‫ظلمت أختك للمرة التانية‪ .‬يا ريت إيمان تعيش‬
‫سعيدة‪ ..‬و يا ريتها ماتنكسرش المرة دي‪,‬‬
‫عشان صدقني لو حصل ًل انت و ًل أنا و ًل أي‬
‫مخلوق هايعرف يعالجها‪ .‬و أقسم لك على ده يا‬
‫أدهم !‬
‫و بدون أن يضيف كلمة أخرى‪ ،‬رحل و تركه‬
‫مستغرقا ببقايا حديثهما‪ً ...‬ل يدري‪ ..‬و لكن‬
‫ألول مرة يتأثر برأي عكس قناعاته‪ ...‬ألول مرة‬
‫يخاف أن يقبل الظلم و يكتبه على أقرب‬
‫المقربين إليه‬
‫شقيقته‪" ...‬إيمان" !‬

‫يتبع ‪...‬‬

‫انتهى الفصل العشرون‬


‫‪21‬‬

‫"سأجرك إلى الجحيم ؛ سأجرك إلى هناك‬


‫بنفسي !"‬

‫_ مالك‬

‫كان نافذ الصبر بالفعل‪ ،‬بينما تدفع "مايا"‬


‫مفتاح الشقة بالقفل‪ ،‬طفق ينفخ و يتململ‬
‫بعصبية‪ ،‬فتمتمت "مايا" بارتباك و هي تسرع‬
‫في حركاتها ‪:‬‬
‫‪-‬حاضر و هللا بفتحه‪ .‬إهدا شوية يا مالك !‬
‫محاولة أخرى و نجحت‪ ،‬فمد أخيها يده و‬
‫أزاحها من طريقه بعنف لدرجة إنها تأوهت‪،‬‬
‫شق "مالك" طريقه مباشرة إلى الحمام‪ ،‬فتح‬
‫صندوق اإلسعافات المعلق أعلى حوض المياه‪،‬‬
‫تناول بعض المناديل المبللة و أخذ يمسح شفته‬
‫المقطوعة من الدماء ‪...‬‬
‫‪-‬وريني كده ! ‪ ..‬هتفت "مايا" من ورائه و هي‬
‫تضع يدها على كتفه‬
‫لكن عضالته تشنجت تحت لمستها و لم‬
‫يستجيب لها‪ ،‬لم تقبل بهذا و استدارت حوله‬
‫حتى تمكنت من الوقوف أمامه‪ ،‬أمسكت بوجهه‬
‫بيديها و تفحصته و الجزع يفترش محياها‪ً ،‬ل‬
‫يوجد سوى بعض الكدمات‪ ،‬لكن فمه ينزف‬
‫بشدة ‪...‬‬
‫‪-‬يا خبر‪ .‬بؤك محتاج خياطة يا مالك ! ‪ ..‬قالتها‬
‫"مايا" عابسة بوهن شديد ‪:‬‬
‫‪-‬ماما لو شافتك كده هاتتخض‪ .‬ماينفعش توريها‬
‫نفسك خالص ‪...‬‬
‫زفر "مالك" بغضب و هو يدفع يديها بعيدا‬
‫عنه‪ ،‬ولى متوجها إلى غرفته فتبعته أخته‪ ،‬لكنه‬
‫لم يعطها الفرصة لتلج معه‪ ،‬أغلق الباب‬
‫بوجهها بالمفتاح‪ ،‬ثم مشى نحو خزانته‪ ،‬فتحها‬
‫مجتذبا أحد اًلدراج‪ ،‬عبث داخله للحظات‪ ،‬حتى‬
‫إلتقط انبوبا ضئيال‪ ،‬أخذه و وقف امام المرآة‪،‬‬
‫بعد أن نظف جرح شفته بالمنديل و المطهر‬
‫الذي كواه بشدة‪ ،‬فتح األنبوب و ضغط بسبابته‬
‫و ابهامه ليمأل الجرح بمادة الصمغ القوي‬
‫السريع‪ ،‬بمجرد أن أغلق به الجرح حتى إلتئم‬
‫في الحال و لم يعد ينزف ؛‬
‫أغلق الخزانة بعنف حين فرغ‪ ،‬و أخذ يطوف‬
‫بأرجاء الغرفة على غير هدى و هو يتذكر كل‬
‫شيء‪ ،‬كل المشاهد و األصوات تتداخل و‬
‫تتشابك برأسه اآلن‪ ،‬رفع يداه ممسكا بمؤخرة‬
‫عنقه بشدة و ذلك المشهد من أوله ًل ينفك‬
‫يضربه بقوة ‪...‬‬
‫*****‬

‫كان في الطريق إليها و قد اصطحب أخته إمتثاًل‬


‫آلوامر "أدهم"‪ ..‬لم يتبق على الوصول عند‬
‫بيتها سوى ثلث ساعة تقريبا‪ ،‬فأستل هاتفه و‬
‫أجرى إتصاًل بها ‪...‬‬
‫‪-‬أيوة يا حبيبتي‪ .‬جهزتي و اًل لسا !؟‬
‫‪-‬أنا بلبس يا مالك خمس دقايق و هابقى جاهزة‪.‬‬
‫انت قدامك أد إيه ؟‬
‫‪ً-‬ل أنا قربت عليكي خالص‬
‫‪-‬أنا مش هتأخر‪ .‬هاخلص بسرعة‬
‫‪-‬خدي راحتك يا إيمان ماتستعجليش‪ .‬أنا‬
‫مستنيكي‬
‫‪-‬تمام‪ .‬باي !‬
‫تركها هي لتغلق الخط من عندها و ألقى‬
‫بالهاتف أمامه فوق ًلئحة لقيادة‪ ،‬لم تمر‬
‫لحظات إًل و سمع أخته تتذمر‪ ،‬حانت منه نظرة‬
‫إليها‪ ،‬ليجدها تتأفف و هي تدس هاتفها‬
‫بحقيبتها مغمغمة ‪:‬‬
‫‪-‬إيه القرف ده بس‪ .‬موبايلي فصل شحن و‬
‫نسيت الباور بنك‪ ..‬امشي إزاي أنا دلوقتي !؟؟‬
‫مالك بسخرية ‪ :‬هو المشي ماينفعش من غير‬
‫موبايل‪ .‬فعال يعني‪ ..‬للدرجة دي !‬
‫ابتسمت له بالتواء قائلة ‪:‬‬
‫‪-‬يا ظريف‪ .‬خطيبي بيكلمني كل شوية‪ .‬أقوله إيه‬
‫لما يالقي موبايلي مقفول ؟‬
‫اخشوشن صوت "مالك" و هو يرد عليها ‪:‬‬
‫‪-‬قوليلي كنت مع أخويا‪ .‬يقدر يتكلم أصال !!‬
‫لوحت "مايا" بكفها في حركة تنم عن سأم‪ ،‬ثم‬
‫ما لبثت أن خطفت هاتفه و هي تقول ‪:‬‬
‫‪-‬وريني موبايلك ده‪ .‬على األقل نسمع أغاني‬
‫عليه بدل الملل ‪...‬‬
‫هز "مالك" رأسه بيأس و ركز على الطريق‬
‫أمامه‪ ،‬لكن "مايا" جذبت إنتباهه و هي تهتف‬
‫بتعجب ‪:‬‬
‫‪-‬هللا ! انت نسيت تقفل الخط‪ .‬موبايلك لسا فاتح‬
‫مكالمة مع إيمان‬
‫عبس "مالك" و هو يأخذ منها الهاتف قائال ‪:‬‬
‫‪-‬معقول‪ .‬إيمان شكلها نسيت الخط مفتوح ‪...‬‬
‫و وضع الهاتف على أذنه مرهفا السمع‪ ،‬فإذا به‬
‫يميز بعد عدة محاوًلت‪ ..‬صوت "سالف"‬
‫تجري حوارا حادا مع زوجته‪ ...‬حاد‪ ..‬بل صادم‬
‫للغاية !!!‬
‫إيمان ‪ :‬إنتي مالكيش حق تظني فيا السوء‬
‫بالذات و إنتي ماتعرفيش حاجة يا سالف‬
‫سالف ‪ :‬إيه إللي ماعرفوش يا ست إيمان‪ .‬إنتي‬
‫بعظمة لسانك حكيتي لي عن عالقتك القديمة‬
‫بمرادك‪ .‬اعترفتي إنك بتحبيه بس األكيد‬
‫ماكنتيش شجاعة كفاية تعترفي بذنبك و تقولي‬
‫إنك غلطتي معاه !؟‬
‫إيمان ‪ :‬إنتي مش فاهمة حاجة !‬
‫انتظر و هو على وشك أن يفقد عقله‪ ،‬يريدها‬
‫أن تنكر ما تتهمها زوجة أخيها‪ ،‬يريدها أن‬
‫تنفيه نفيا قاطع‪ ...‬لكنها لم تفعل‪ ..‬بل لم يسمع‬
‫صوتها بعد ذلك أبدا !!!!‬
‫‪-‬مالك !‬
‫انتزعه صوت أخته من استغراقه المميت‪ ،‬رفع‬
‫الهاتف عن أذنه و لم ينظر إليها ‪...‬‬
‫‪-‬مافيش حاجة !! ‪ ..‬رد "مالك" باقتضاب مريب‬
‫فنظرت له "مايا" بشك‪ ،‬لكنها لم تصر عليه‪ ،‬و‬
‫ًلحظت تاليا أنه قد زاد من سرعة السيارة‪،‬‬
‫بقيت إلى جواره صامتة و قد نسيت أمر‬
‫الترفيهات باألغاني تماما‬
‫كانت تشعر أن هناك أمر جلل‪ ..‬و قد صدق‬
‫حدسها و وصل ليرى بالدليل الدامغ‬
‫أرملة أخيه‪ ،‬و زوجته هو اآلن‪ ،‬في أحضان‬
‫حبيبها !‬

‫*****‬

‫خرج "مالك" من الذكرى محتقن الوجه بشدة‪،‬‬


‫و كأن الدخان سيأتي من أذنيه‪ ،‬كان يقبض‬
‫بيديه على حافة سريره‪ ،‬أحس أن واجهة‬
‫الخشب سوف تنكسر في قبضتيه لو ضغط أكثر‬
‫‪...‬‬
‫تراجع فجأة و هو يطلق السباب بصوت مكتوم‬
‫و يتوعد بينما ينظر إلنعكاسه الشيطاني بالمرآة‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬مش هاسيبك يا إيمان‪ ..‬و رب سيف‪ .‬أقسم باهلل‬
‫ما هاسيبك !!!‬

‫*****‬

‫مشيت أمه في إثره خطوة بخطوة و هي تحدثه‬


‫بال إجابة منه‪ ،‬هكذا وصوًل إلى غرفته‪ ،‬وقف‬
‫أمام الشرفة المفتوحة موليا لها ظهره‪ً ،‬ل‬
‫يريدها أن تقرأ مشاعره التي لم تنفك‬
‫تستوضحه عنها‪ ،‬و حتى هذه اللحظة لم تتوقف‬
‫‪...‬‬
‫‪-‬انت مش هاتعرف تهرب مني تاني ! ‪ ..‬صاحت‬
‫"رباب" بتحفظ به لمحة غضب‬
‫أمسكت بذراعه الصلب و جذبته بقوة ‪:‬‬
‫‪-‬بصلي يا مراد و كلمني‪ .‬بقولك بصلي أنا‬
‫عاوزة أفهم !!‬
‫كان مستحيال أن تجعله يلتفت رغم إرادته‪ ،‬لكنه‬
‫طاوع رغبتها و سمح لحركة يدها أن تديره‬
‫ناحيتها‪ ،‬رفع وجهه أخيرا و نظر إليها تلك‬
‫النظرة التي تكون فيها عينيه في كسرة مع‬
‫حاجبيه جبينه‪ ،‬رموشه الطويلة مسبلة قليال ؛‬
‫شعرت و كأنه عاد صبيا للتو‪ ،‬تلك النظرة التي‬
‫لم تكن بقادرة على مقاومتها‪ ،‬تعني أنه في‬
‫أصدق لحظاته و أكثرها حقيقة ‪...‬‬
‫‪-‬أنا بحب إيمان يا ماما ! ‪ ..‬اعترف "مراد"‬
‫بهدوء و ثبات‬
‫حدقت فيه "رباب" بغرابة بادئ األمر‬
‫لم تستطع إبتالع كلماته‪ ،‬رفعت حاجبها و كأنها‬
‫تتساءل إذا كانت قد سمعها بشكل صحيح ‪...‬‬
‫‪-‬انت بتقول إيه‪ .‬إيمان‪ ..‬إيمان بنت خالتك أمينة‬
‫!؟؟‬
‫أومأ برأسه مرة واحدة‪ ،‬ليتحول تعبيرها من‬
‫الذهول إلى الغضب ‪:‬‬
‫‪-‬مش ممكن‪ .‬انت أكيد بتهرج‪ .‬إيمان‪ ..‬إيمان دي‬
‫متجوزة دلوقتي !!!‬
‫رد عليها بخشونة ‪:‬‬
‫‪-‬و قبل ما تتجوز خالص كنت بحبها‪ .‬ماما‪..‬‬
‫بقولك بحب إيمان‪ .‬إيمان أول حب في حياتي‪ .‬و‬
‫عايزها‪ .‬أنا عايزها يا ماما و ًلزم تساعديني !‬
‫رباب مشدوهة ‪ :‬أساعدك ! انت بتقول إيه‬
‫أصال‪ .‬يابني انت من شهر فات كنت مطلق و في‬
‫حالة نفسية وحشة‪ .‬مش كنت بتحب هالة و‬
‫عاوز ترجعها ؟‬
‫مراد باستياء حانق ‪:‬‬
‫‪-‬خالص من فضلك يا ماما‪ .‬ماتجبيش سيرتها‪.‬‬
‫أنا مش بتكلم عن هالة دلوقتي !!‬
‫‪-‬ليه ؟ عشان لسا بتحبها هي و مشاعرك لسا‬
‫متلخبطة !‬
‫‪ً-‬ل مش عشان كده !!! ‪ ..‬صاح بفجاجة‬
‫كان كتفيه يرتعشان اآلن من شدة اإلنفعال‪ ،‬أصر‬
‫على كالمه و هو يستطرد بغلظة ‪:‬‬
‫‪-‬أنا بحب إيمان‪ .‬من و احنا عيال كنا بنحب‬
‫بعض‪ .‬جوازي من هالة كان جواز تقليدي‪.‬‬
‫ماكنش مبني على أي مشاعر بنت كانت مناسبة‬
‫ليا ماديا و اجتماعيا اتجوزتها‪ ..‬العالقة كانت‬
‫باردة‪ .‬ماحبتنيش‪ .‬و أنا كمان اكتشفت إن‬
‫عمري ما حبيت غير إيمان !‬
‫هزت رأسها غير مصدقة‪ ،‬و قالت بلهجة أكثر‬
‫لطفا و هي تتقرب إليه ‪:‬‬
‫‪-‬مراد يا حبيبي‪ .‬أكيد ده مش حب‪ ..‬بس لنفرض‬
‫إنك بتحبها‪ .‬و هي دلوقتي ست متجوزة‪ .‬و قبلها‬
‫أرملة و أم لطفلة‪ ..‬دي حياة صعبة و مسؤولية‬
‫تقيلة عليك‪ .‬انت عندك استعداد تدخل في‬
‫المشاكل دي كلها ؟ فكر في خالتك‪ .‬أدهم‪ .‬فكر‬
‫فينا كلنا‪ ..‬أنا مش فاهمة‪ .‬انت عاوز تعمل إيه‬
‫يعني أو طالب مني أساعدك إزاي !!؟‬
‫أغمض "مراد" عينيه مطلقا زفرة طويلة‪ ،‬ثم‬
‫نظر لها ثانية و قال بجفاء ‪:‬‬
‫‪-‬و ًل حاجة‪ .‬مش عايز مساعدتك خالص‪ ..‬أنا‬
‫هاعرف أتصرف كويس !‬
‫و أنتزع نفسه من بين يديها‪ ،‬حاولت استبقائه‬
‫بشتى الطرق‪ ،‬لكنه لم ينصت و غادر المنزل‬
‫كله‪ً ،‬ل يعرف وجهة يذهب إليها ‪...‬‬

‫*****‬
‫حانت ساعة العشاء‪" ..‬أدهم" يترأس المائدة‪،‬‬
‫أمه تجلس على يمينه‪ ،‬و زوجته تجلس على‬
‫شماله و صغارها يتراصون بجوارها‬
‫أما "إيمان" فجلست بجوار أمها‪ ،‬تضع طفلتها‬
‫"لمى" بحضنها‪ ،‬تحاول طوال الوقت حبس‬
‫الدموع بعينيها بينما تلهي نفسها باطعام‬
‫الصغيرة‪ ،‬و لم تغفل للحظة نظرات "سالف"‬
‫لها‪ ،‬نظرات كلها ًل تنم سوى عن اإلحتقار و‬
‫اإلشمئزاز‬
‫لقد تعرضت لآلذى كثيرا اليوم‪ ،‬تفتت فؤادها‬
‫بشكل مهين‪ ،‬اليوم تعرت و شعرت بتهديد كاد‬
‫يقتلها حقا ‪...‬‬
‫طوال العشاء تجنب "أدهم" الحديث عما جرى‬
‫ظهر اليوم‪ ،‬آثر فقط تبادل المزاح مع الصغار و‬
‫مناقشة أمه حول أصناف الطعام الشهية‪ ،‬كانت‬
‫نيته أن يجالس أخته فيما بعد و يتحدث إليها‪،‬‬
‫ذلك إن وجد حالتها تسمح الليلة بإثارة أي‬
‫حديث‬
‫ًل زال يدرسها‪ ..‬و لو لم يبدي ذلك مباشرة ‪...‬‬
‫‪-‬الباب يا عمتو ! ‪ ..‬قالتها "سالف" و هي تقوم‬
‫لتبحث عن نقابها‬
‫ربت "أدهم" على مرفق والدته قائال ‪:‬‬
‫‪-‬خليكي يا أمي أنا قايم أفتح ‪..‬‬
‫و قام "أدهم" ماسحا يديه بمنديل من القماش‪،‬‬
‫ثم توجه نحو باب الشقة‪ ،‬مد يده و فتحه على‬
‫الفور‪ ...‬كانت مالمحه عادية‪ ..‬حتى رآى أمامه‬
‫"مالك" !!‬
‫تصلب "أدهم" تماما‪ ،‬وقف مكانه يحدق بزوج‬
‫أخته فقط‪ ،‬أصابعه تمسك بمقبض الباب بقوة‪،‬‬
‫كلما تذكر كلمات "مراد" و أن ذاك األخير أراد‬
‫حقا أن يؤذي "إيمان" و يمد يده إليها بسوء‪،‬‬
‫كانت النيران تستعر بداخله‪ ،‬يحجم نفسه‬
‫بصعوبة حتى ًل يتهور عليه ‪...‬‬
‫‪-‬مساء الخير يا أدهم ! ‪ ..‬قالها "مالك" مبتسما‬
‫بوداعة‬
‫كان يضع الالصق الطبي أسفل حاجبه اآلن‪ ،‬و‬
‫قد بدل ثيابه الرسمية بأخرى رياضية مريحة ‪...‬‬
‫‪-‬إيمان موجودة !؟‬
‫تكلم "أدهم" بجمود فظ ‪:‬‬
‫‪-‬هاتروح فين يعني‪ .‬طبعا موجودة‪ ..‬خير يا‬
‫مالك عايز إيه ؟‬
‫مالك بلطف ‪ :‬إذا سمحت يعني‪ .‬ممكن أدخل‬
‫أشوفها !؟‬
‫‪-‬ليـه ؟ عشان تمد إيدك عليها تاني ؟؟‬
‫‪-‬أنا عايز أعتذرلها‪ .‬من فضلك يا أدهم‪ ..‬اسمح‬
‫لي بس أقعد معاها خمس دقايق‪ .‬أرجوك !‬
‫في النهاية فإن له كل الحق‬
‫إنها زوجته‪ ،‬و إذا أرادها فله ذلك بكل تأكيد‪ً ،‬ل‬
‫يحق لـ"أدهم" منعها عنه‪ ،‬لذلك‪ ،‬تنحى جانبا و‬
‫سمح له بالدخول أخيرا ‪...‬‬
‫دلف "مالك" مبتسما بود ‪:‬‬
‫‪-‬متشكر !‬
‫رافقه "أدهم" إلى الشرفة‪ ،‬جعله ينتظر هناك‪،‬‬
‫ثم عاد إلى حجرة الطعام ثانية ‪...‬‬
‫‪-‬إيمان ! ‪ ..‬هتف "أدهم" مناديا على أخته‬
‫برفق‬
‫تطلعت "إيمان" إليه و هي تناول طفلتها كأس‬
‫العصير خاصتها‪ ،‬رمقها األخير بتعاطف و قال ‪:‬‬
‫‪-‬مالك هنا‪ ..‬عاوز يشوفك !‬
‫شحب لون "إيمان" فورا‪ ،‬فطمأنها أخيها بثقة‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬لو مش عايزة تقابليه هاخليه يمشي ‪...‬‬
‫ابتلعت ريقها بصعوبة‪ ،‬و قالت بصوت أبح ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل‪ ..‬هاشوفه !!‬
‫رغم أن صوتا بداخلها توسلها أًل تفعل‪ ..‬لكنها‬
‫قمعته‪ ...‬و قامت متجهة إلى حيث يجلس‬
‫بانتظارها !‬

‫يتبع ‪...‬‬
‫انتهى الفصل الحادي والعشرون ‪..‬‬

‫‪" 22‬جزء أول"‬

‫"ًل أتقبل أني أفقدك !"‬

‫_ مراد‬
‫جلست "إيمان" على الكرسي أمام "مالك"‪..‬‬
‫ما زالت ترتدي حجابها من الرأس حتى أخمص‬
‫القدمين‪ ،‬مر الوقت و هي تتوتر فقط و ًل تنظر‬
‫إليه‪ ،‬لوًل أن الطقس المسائي منعش هنا في‬
‫الشرفة و الليل هادئ و صافي‪ ،‬ربما كل هذا‬
‫ساعدها و لو قليال ‪...‬‬
‫‪-‬هاتفضلي ساكتة كتير ؟ ‪ ..‬قالها "مالك" مادا‬
‫جسمه عبر الطاولة الفاصلة بينه و بين زوجته‬
‫كانت تعابيره أكثر رقة عما كانت ظهر اليوم‪،‬‬
‫كذلك لهجته كانت لطيفة جدا‪ ،‬و أضفى عليها‬
‫نبرات الإلعتذار و هو يستأنف محاوًل القبض‬
‫على نظراتها المنكسة ‪:‬‬
‫‪-‬إيمان‪ .‬أنا بقالي كتير بعتذر لك‪ ..‬بصي أنا حتى‬
‫مش بطالبك بتفسير‪ .‬عاوزك بس تعذريني‪ .‬و‬
‫تسامحيني أرجوكي !‬
‫بصعوبة كبيرة و لكن تحت إجبارها لنفسها‪،‬‬
‫رفعت رأسها لتنظر إليه‪ ،‬حدقت بعينيه في‬
‫شجاعة متزعزعة و هي تقول مدافعة بنبرة‬
‫المتهم ‪:‬‬
‫‪-‬انت مادتنيش فرصة أفهمك أصال‪ .‬و هللا‬
‫الموقف مش زي ما شوفته مـ آ ‪...‬‬
‫‪-‬قلت لك مش بطالبك بتفسير يا إيمان ! ‪..‬‬
‫قاطعها بحزم ‪:‬‬
‫‪-‬أنا جاي أعتذر لك و أقولك حقك عليا‪ .‬أكيد أنا‬
‫غلطان‪ .‬المفروض مهما حصل و شفت عمري‬
‫ما أفكر فيكي بسوء‪ .‬أنا أكتر حد يعرفك و‬
‫اتربيت معاكي‪ .‬إيمان إنتي أنقى واحدة شوفتها‬
‫في حياتي‪ .‬إنتي نضيفة جدا لدرجة إني أخاف‬
‫أوسخك بأي شكل ‪...‬‬
‫أجفلت حين قام فجأة من مكانه‪ ،‬رفرفت‬
‫بأجفانها و هي تراه يقترب منها‪ ،‬ثم يجثو فوق‬
‫ركبته امامها و يمسك بيديها‪ ،‬خفضت رأسها‬
‫لتالقي نظراته المتضرعة‪ ،‬بينما يقول ‪:‬‬
‫‪-‬إنتي مش عارفة قيمة نفسك يا إيمان‪ .‬محدش‬
‫إدالك قيمتك‪ .‬جايز عشان كده حبيتك بالسرعة‬
‫دي و قلبت معايا بغيرة‪ ..‬طبعا عمري ما أطيق‬
‫أشوف حد يقرب منك‪ .‬عايزك ليا أنا و بس‪ .‬و‬
‫هللا أنا بتمنى أعوضك عن كل حاجة وحشة‬
‫حصلك لك‪ .‬و أمسح كل الحزن إللي جواكي و‬
‫أحوله فرح و سعادة ‪...‬‬
‫ودت كثيرا أن تصدق ما قاله‪ ،‬إن ما وصفه اآلن‬
‫هو بالضبط ما تتوق إليه‪ ،‬و لكن ليس منه أو‬
‫من غيره‪ ..‬إنما هو رجل وحيد تريده بكل‬
‫جوارحها‪ ...‬هو "مراد" الذي تخضع له كل ذرة‬
‫بكيانها و تهتف باسمه و تنتمي إليه فقط‪ ..‬فقط‬
‫"مراد"‪ ..‬لعنة عشقه التي تالحقها ما دامت‬
‫حية و ربما حتى بعد مماتها !!!‬
‫كتمت شهقة عندما سحبها من يدها بغتة لتقف‪،‬‬
‫شدها بقوة نحو زاوية الشرفة المعتمة خلف‬
‫الشباك تماما‪ ،‬حاصرها هناك و قد اصطدم‬
‫صدره الصلب بصدرها الطري المتماسك ‪...‬‬
‫‪-‬مالك ! ‪ ..‬تمتمت "إيمان" بارتباك شديد‬
‫لكنها لم تفلح في تكوين جملة أخرى‪ ،‬ليفاجئها‬
‫و هو يجذب وجهها بكفيه نحو وجهه‪،‬‬
‫إيمان ‪:‬‬
‫‪-‬مايصحش كده يا مالك‪ .‬من فضلك‪ ..‬ماما و‬
‫أدهم‪ .‬و لمى كمان ممكن تيجي في أي لحظة‪.‬‬
‫مــالك !!‬
‫جمد فجأة ضدها‪ ،‬و أحست بجسده يتصلب و‬
‫يزداد حرارة‪ ،‬و األدهى حين نظرت بوجهه و‬
‫ًلحظت إلتماع عينيه بنظرة ضارية‪ ،‬ارتجف‬
‫قلبها بشدة ًل تعرف لماذا تشعر بهذه الخطورة‬
‫كلها إزائه‪ ..‬بينما تمكن أخيرا من ضبط نفسه و‬
‫استعادة هدوئه‬
‫تنفس بعمق و فك حجابها قليال‬
‫‪-‬مش قادر أصدق إنك بقيتي مراتي و مش‬
‫عارف إزاي أقرب منك زي ما بتمنى !!‬
‫كان همسه حارا‪ ،‬عزز نزعة الخوف بصدرها‪،‬‬
‫خوف غريب مجهول المصدر ‪...‬‬
‫مالك ‪:‬‬
‫‪-‬لما أمشي هاتقولي ألدهم إننا هانعمل مشوار‬
‫إنهاردة بكرة‪ .‬و أنا هاجيلك بكرة في نفس‬
‫المعاد الظهر‪ .‬هانكون لوحدنا‪ .‬مش هاجيب مايا‬
‫معايا‪ .‬هاخدك و نروح أي مكان نبقى فيه‬
‫لوحدنا !‬
‫تحفزت بين ذراعيه اآلن و هي تقول من فورها‬
‫بجمود ‪:‬‬
‫‪-‬إيه إللي بتقوله ده‪ .‬انت قصدك إيه يعني ؟ إللي‬
‫بتفكر فيه ده مش آ ا ‪...‬‬
‫‪-‬إهدي يا إيمان ! ‪ ..‬قاطعها للمرة الثانية‬
‫ثم سعى إلقناعها ضاغطا عليها ما استطاع‬
‫بحيله الماكرة ‪:‬‬
‫‪-‬أنا مش قصدي إللي فهمتيه‪ .‬كل إللي أنا عايزه‬
‫بس أحس إنك بتاعتي أنا‪ .‬نفسي مثال أضمك في‬
‫حضني براحتي‪ .‬من غير رقابة‪ .‬أقولك كالم‬
‫نفسي تسمعيه مني‪ ..‬عايز اتأكد إنك ليا أنا‪.‬‬
‫ماحسش بأي تهديد زي ما حسيت إنهاردة‪ .‬أنا‬
‫عارف إنه شعور وهمي‪ .‬لكن أنا محتاج أمحيه‬
‫خالص‪ .‬و منغير ما أضايقك‪ .‬صدقيني‪ ..‬و‬
‫خليكي واثقة فيا شوية‪ .‬إنتي مراتي يا إيمان‪.‬‬
‫محدش ممكن يخاف عليكي و يحميكي زيي !‬
‫أفكارها ًل تنسجم مع كلماته‪ ،‬جسدها ًل يستسيغ‬
‫أي من لمساته‪ ،‬إنه غريب‪ ،‬إنه مقيت‬
‫يا للقرف !!!‬
‫‪-‬مامي !‬
‫أعاد نداء "لمى" القريب األوضاع إلى نصابها‪،‬‬
‫و أطلق "مالك" سراحها‪ ،‬أخذت تعدل ثيابها‬
‫مسرعة و هي تخرج من وراء الشباك‪ ،‬في‬
‫نفس اللحظة ظهرت صغيرتها على أعتاب‬
‫الشرفة‪ ،‬وقفت "إيمان" أمامها مادة يدها‬
‫لتربت على رأسها ‪...‬‬
‫‪-‬نعم يا لمى عاوزة إيه يا حبيبتي ؟ ‪ ..‬تساءلت‬
‫"إيمان" و هي تداري احمرارها بكفها قدر‬
‫المستطاع‬
‫عقدت "لمى" حاجبيها قائلة بصوتها الطفولي‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬خالو أدهم مش عاوز يلعب معايا !‬
‫مسدت "إيمان" على خدها بلطف ‪:‬‬
‫‪-‬حبيبتي أكيد خالو تعبان و عاوز يستريح‪ .‬هو‬
‫لسا برا ؟‬
‫هزت الصغيرة رأسها ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل‪ .‬هو وخالتو سالف طلعوا و أخدوا آدم و‬
‫نور‪ .‬سابو عبده لتيتة بس ‪..‬‬
‫‪-‬طيب يا حبيبتي شفتي إنه طالع يستريح إزاي‬
‫!؟‬
‫لوت "لمى" فمها باستياء ‪:‬‬
‫‪-‬بس أنا بحب ألعب معاه‪ .‬و خالو بيحكي لي‬
‫حدوتة كل يوم‪ .‬إنهاردة مش هايحكي لي !‬
‫و أغرورقت عيناها بالدموع‪ ،‬حتى إنهمرت‬
‫بالفعل و أفلتت شهقات بكاء من بين شفاهها‪،‬‬
‫سارعت "إيمان" باحتضانها و هي تقول ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل يا حبيبتي‪ً .‬ل ماتعيطيش عشان خاطر‬
‫مامي‪ ..‬طيب مش أنا بحكي لك حواديت حلوة‬
‫بتعجبك !؟‬
‫‪-‬أنا عاوزة خالو ! ‪ ..‬نهنهت "لمى" ببكاء حار‬
‫و صوتها مكتوم في صدر أمها‬
‫تدخل "مالك" في هذه اللحظة جاذبا الصغيرة‬
‫إليه ‪:‬‬
‫‪-‬خالص يا لولي ماتزعليش‪ .‬تحبي أستنى أنا‬
‫معاكي و نلعب للصبح أو نعمل إللي إنتي‬
‫عاوزاه لحد ما تنامي ؟‬
‫قاومت "لمى" يدي عمها مغمغمة ‪:‬‬
‫‪-‬أنا عاوزة خالو أدهم‪ .‬عاوزة خالـووو ‪...‬‬
‫ضمتها "إيمان" إلى صدرها ثانية قائلة ‪:‬‬
‫‪-‬طيب خالص يا لمى‪ .‬خالص يا روحي هاعملك‬
‫إللي إنتي عاوزاه‪ .‬ماتعيطيش بقى عشان‬
‫خاطري !‬
‫في جهة أخرى‪ ،‬يتنهد "مالك" بسأم و هو يقول‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬إيمان أنا ماشي طيب‪ .‬هاكلمك لما أروح ‪...‬‬
‫أدارت "إيمان" رأسها و نظرت إليه‪ ،‬و كأنها‬
‫تمتن ألنه قال ذلك‪ ،‬أومأت له ‪:‬‬
‫‪-‬تمام‪ .‬هاستنى تليفونك‪ ..‬مع السالمة‬
‫لكنه لم يقبل بوداع كهذا‪ ،‬مد يده و مرر كفه‬
‫على ظهرها مما تسبب لها بقشعريرة قوية‪ ،‬كل‬
‫عصب ينطق بالنفور من لمسته‪ ،‬حتى قبض‬
‫على ذراعها‪ ،‬شدها مراعيا عدم لفت إنتباه‬
‫الصغيرة‪ ..‬غسلت أنفاسه الساخنة أذنها و هو‬
‫يهمس لها ‪:‬‬
‫‪-‬أوعديني ماتفكريش في حاجة طول الليل‬
‫غيري‪ .‬و إوعك تفكري تخلعي من معادنا بكرة‪..‬‬
‫هازعل منك أوي‪ .‬ماشي يا إيمي !‬
‫و سرق قبلة خاطفة من خدها ‪...‬‬
‫‪-‬باي يا لولي يا حبي ! ‪ ..‬قبل ابنة أخيه مودعا‬
‫‪-‬أشوفك بكرة بقى‪ .‬و ليكي عندي مفاجأة كبيرة‬
‫هاتعجبك‪ .‬بس تسمعي كالم مامي إتفقنا ؟‬
‫لم ترد عليه الصغيرة و اكتفت بالصمت و هي‬
‫تلوذ بأحضان أمها ؛‬
‫مر "مالك" متجاوزا "لمى" و من وراء‬
‫ظهرها بعث بقبلة في الهواء ألمها أتبعها‬
‫بغمزة‪ ،‬ثم اختفى‪ ..‬اختفى و لكنه ترك أثره‬
‫يزلزل تلك المسكينة ذعرا ‪...‬‬

‫*****‬

‫استيقظ اليوم متأخرا على غير عادته مؤخرا‪،‬‬


‫فقد قضى الليل كله ساهرا على أعماله الهامة‬
‫التي هو بصدد نقلها جميعا إلى هنا بلده األم‪،‬‬
‫حيث قرر سواء ظفر بـ"إيمان" أو ًل فإنه جاد‬
‫بشأن اًلستقرار هنا‬
‫لن يهاجر مجددا‪ ،‬لقد اكتفى من الغربة و‬
‫سنوات التيه‪ ،‬آن أوان التنعم بحياته الحقيقية‪،‬‬
‫و اعتناق شخصيته األصلية‪ ،‬ليست تلك‬
‫المصطنعة التي اكتسبها جراء فجراته و‬
‫غدراته‪ ،‬هو ليس هذا الرجل السيئ تماما‪ ،‬و‬
‫سيبذل وسعه ليثبت عكس ذلك ‪...‬‬
‫أفاق على صوت التنبيه الذي استبعده لقرابة‬
‫الساعتين حتى اآلن‪ ،‬مد ذراعه ليسكته فوق‬
‫الطاولة المحاذية لفراشه‪ ،‬تغلب على كسله‬
‫بسرعة و قام فورا إلى الحمام الملحق بغرفته‬
‫مشى عاري الجزع إلى هناك‪ ،‬و خرج بعد فترة‬
‫وجيزة مرتجيا مئزر اإلستحمام‪ ،‬كان قد توضأ‬
‫بالفعل ففتح خزانته و استخرج كنزة و سرواًل‬
‫من الجين‪ ،‬ارتدى مالبسه و ذهب إلى سجادة‬
‫الصالة بمنتصف الغرفة ليؤدي فريضة الظهر‬
‫المتأخرة عليه‬
‫انتهى تماما مع ارتفاع نغمة هاتفه معلنة عن‬
‫مكالمة واردة إليه‪ ..‬قام عن السجادة و توجه‬
‫نحو الهاتف المضاء بين أغطية فراشه ؛‬
‫ألقى نظرة على هوية المتصل‪ ،‬عبس عندما‬
‫تبين أنه رقم مجهول‪ ،‬لكنه رد في األخير‬
‫بصوت به نبرة مستوضحة ‪:‬‬
‫‪-‬آلو !‬
‫لم يأت أي رد في الحال‪ ..‬لكن ما هي إًل ثوان و‬
‫تسرب عبر السماعة صوت نحيب تعرف عليه‬
‫فورا‪ ...‬قبل حتى أن يتأكد صاح ‪:‬‬
‫‪-‬إيمـان ؟ ‪ ..‬إيمان‪ .‬رقم مين ده‪ .‬إنتي فين يا‬
‫إيمان ؟‬
‫أصابه الهلع بشدة حين عال صوت بكائها اآلن‪،‬‬
‫ثم صوتها هي و كأنه مكتوما ‪:‬‬
‫‪-‬مراد‪ ..‬أنا‪ ..‬باين‪ً .‬ل‪ .‬مش باين‪ ..‬أنا بموت يا‬
‫مراد !‬
‫فقد عقله كليا و هو يصرخ بالهاتف ‪:‬‬
‫‪-‬إنتـي فيـــن ؟‬
‫لم ينتظر ليسمع اإلجابة حاًل‪ ،‬قفز يجمع‬
‫حاجياته‪ ،‬سلسلة مفاتيحه و بعض المتعلقات‬
‫األخرى‪ ،‬ثم إنطلق خارج الغرفة صافعا الباب‬
‫خلفه‬
‫كان يتنفس بعنف و هو يهبط الدرج سامعا‬
‫نداءات والديه من حيث يجلسان هناك بالمطبخ‬
‫المفتوح‪ ،‬لكنه تجاهل كل شيء خاصة عندما‬
‫استمع لصوت رجولي يخاطب "إيمان" على‬
‫الطرف اآلخر‪ ،‬إًل أنه لم يلتقط الكلمات بدقة‪،‬‬
‫إنما أتاه صوتها هي ‪:‬‬
‫‪-‬مراد !‬
‫وصل اآلن بمرآب السيارات‪ ،‬فتح سيارته و‬
‫أستقل بها مسرعا و هو يجاوبها بصوته‬
‫الواهن المتألم ‪:‬‬
‫‪-‬أنا معاكي يا حبيبتي‪ .‬أنا جاي لك‪ .‬بس قوليلي‬
‫إنتي فين ؟‬
‫تأهب بتركيز ليسمع ما أراده و هو يشغل محرك‬
‫السيارة استعدادا لإلنطالق‪ ،‬لكن ما حدث هو‬
‫العكس تماما‪ ..‬استمع إلى كلمات جمدت الدماء‬
‫بعروقه ‪:‬‬
‫‪-‬ماتخليش‪ .‬مالك يقول‪ ..‬يقول حاجة ألدهم‪.‬‬
‫عشان خاطري‪ .‬مراد‪ ..‬ماتخليش أدهم‪ .‬يعرف‬
‫حاجة !!!‬
‫و بعدها لم يسمع منها أي شيء آخر‪ ،‬صعد قلبه‬
‫إلى حلقه اآلن‪ ،‬و كأنه يشق طريقه للخروج‪،‬‬
‫يدرك قلبه من خالل كل ما سمعه من تلك‬
‫المكالمة الهاتفية أن حبيبته في خطر‪ ،‬إن قلبه‬
‫يحارب بفوضى‪ ،‬يقاتل ليركض لها‪ً ..‬ل يلوم‬
‫قلبه‬
‫ًل يلومه إن انفجر بصدره في هذه اللحظة‪ ،‬إن‬
‫لم يذهب إليها‪ ،‬لكن أين هي "إيمان" ؟‬
‫أين هي حبيبته ؟‬
‫امرأة حياته و حبه الوحيد !!!‬
‫‪-‬إيمــان ! ‪ ..‬ردد بهمس مصدوم‬
‫ربما أنه قد فقد عقله بالفعل ‪...‬‬

‫*****‬

‫قبل ذلك بخمس ساعات !‬

‫اقتنع أخيها بسهولة عندما أخبرته برغبتها في‬


‫الذهاب مع "مالك"‪ ..‬سمح لها قبل ذهابه إلى‬
‫العمل مع تأكيدها الكاذب بأن "مايا" سترافقهما‬
‫أنهت "إيمان" الفطور لصغيرتها و لم ترحل إًل‬
‫حين فرغت من إطعامها جيدا‪ ،‬أوصت أمها‬
‫عليها مرة أخيرة‪ ،‬ثم نزلت لتقابل "مالك" أمام‬
‫البناية‪ ،‬حيث وجدته بانتظارها داخل سيارته ‪...‬‬
‫‪-‬وحشتيني ! ‪ ..‬قالها "مالك" مبتهجا لرؤيتها و‬
‫قد قبض على كفها بقوة سببت لها مشاعر‬
‫التوتر‬
‫حاولت "إيمان" سحب يدها من قبضته‪،‬‬
‫فبدوره لم يضايقها كثيرا و أفلتها‪ ،‬لترد عليه و‬
‫تعبير التحفز على وجهها ‪:‬‬
‫‪-‬وحشتك بالسرعة دي‪ .‬ماعداش يوم بحاله و‬
‫كنت لسا معاك إمبارح !!‬
‫مالك بنعومة مريبة ‪:‬‬
‫‪-‬إنتي بتوحشيني علطول يا قلبي‪ .‬لو تعرفي بس‬
‫بتوحشيني أد إيه هاتعذريني‬
‫سحبت "إيمان" نفسا مرتعشا و هي تسأله ‪:‬‬
‫‪-‬طيب إحنا هانعمل إيه دلوقتي بقى !؟‬
‫جاوبها بسؤال و قد حل تعبير جاد على مالمحه‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬قوليلي األول قولتي ألدهم إللي إتفقنا عليه ؟‬
‫أومأت ‪...‬‬
‫‪-‬أيوة‪ .‬لو كان عرف إني ماشية معاك لوحدي‬
‫ماكنش رضي ينزلني‪ .‬هو متفق معاك على كده‪.‬‬
‫مافيش خلوة غير بعد الفرح !‬
‫إنبلجت نصف ابتسامة على وجهه‪ ،‬و لم يرد‬
‫عليها بعد ذلك‪ ،‬أدار رأسه لينظر إلى الطريق‪،‬‬
‫ثم شغل المحرك و إنطلق ‪...‬‬

‫*****‬

‫بعد ساعة تقريبا‪ ،‬بلغا تخوم المدينة تقريبا‪ً ،‬ل‬


‫تستطيع "إيمان" التعرف على المناطق حولها‪،‬‬
‫لكنها أيضا ًل ترى سوى الرمال و البيوت‬
‫النائية‪ ..‬ثم ًلح أمامها أثر تعرفه جيدا‪ ..‬لم تزره‬
‫قط‪ ،‬لكنها تعرفه حتما‬
‫سقارة !‬
‫هرم سقارة !!!‬
‫ماذا قد يفعال هنا بحق الجحيم !؟؟‬
‫‪-‬هو إحنا رايحين فين يا مالك ؟ ‪ ..‬تساءلت‬
‫"إيمان" و ًل يمكن إخفاء نبرة القلق في‬
‫صوتها‬
‫ًل يمكن أن تحجم مشاعرها السلبية أكثر بعد‬
‫اآلن‪ ،‬انتظرت رده‪ ،‬لكنه ًل يتكلم‪ ،‬و لمحت فكه‬
‫يشتد بقساوة ساهمت في تفاقم وضعها ‪...‬‬
‫لم تجد صوتها أصال لتسأله مرة أخرى‪ ،‬ما هي‬
‫إًل دقيقة و إنحرف بالسيارة ليلج عبر بوابة‬
‫ضخمة إلى ممر حجري محفوف بالمزروعات‪،‬‬
‫في آخره باحة تتوسطها مسقاة كبيرة تنساب‬
‫منها جداول الماء بخرير مريح لألعصاب‪ ،‬ثم‬
‫في الواجهة تماما ذلك البيت المكون من طابق‬
‫واحد ؛‬
‫ما إن صفط سيارته بالباحة حتى برز فجأة رجل‬
‫غريب‪ ،‬طويل القامة‪ ،‬ربما طوله ما بين المائة‬
‫و ثمانون حتى التسعون‪ ،‬يرتدي مالبس‬
‫عصرية مؤلفة من جينز و قميص أزرق محلول‬
‫األزرار تقريبا‪ ،‬و شعره الطويل قد جمعه في‬
‫ربطة على شكل ذيل حصان‬
‫إنكمشت "إيمان" على نفسها عندما رأته‬
‫يخفض نظارة الشمس بإصبعه لينظر إليها‬
‫مباشرة‪ ..‬و ارتعدت فرائصها بعنف حين صاح‬
‫"مالك" بغتة و هو يترجل من السيارة ‪:‬‬
‫‪-‬المعلم رامز‪ .‬واحشني ياسطـا !‬
‫و هرول إليه ليأخذه في حضن رجولي لم‬
‫يستغرق ثانية‪ ،‬أمسكه المدعو "رامز" من‬
‫كتفه و قال مبتسما ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل يا شيخ‪ .‬و لما تاخد غرضك من رامز تبقى‬
‫خلصت خلصت حاجتي من جارتي و يبقى وشك‬
‫و ًل القمر صح ؟‬
‫قهقه "مالك" قائال ‪:‬‬
‫‪-‬إيه يا عم جو أمي و خالتك ده‪ .‬ماتكبرش‬
‫الحوارات كده‪ .‬إحنا مانستغناش عنك يا كبير‬
‫هز "رامز" رأسه و أخذ ينقل بصره بين‬
‫صديقه و مرافقته بالسيارة‪ ،‬و تمتم ‪:‬‬
‫‪-‬هي دي بقى مراتك ؟ مش كان بدري عليك‬
‫يابني‪ .‬ده انت لسا صغير مش حمل جواز و‬
‫واحدة ست تشيبك قبل األوان‬
‫ابتسم "مالك" و قال غامزا ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل ماتقلقش‪ .‬صاحبك جامد و مسيطر‪ .‬إللي‬
‫قدامك دي ماتقدرش ترفض لي طلب و خاتم‬
‫بصباعي‬
‫رفع األخير حاجبه ‪...‬‬
‫‪-‬أل‪ ٥‬ما هو باين‪ ..‬بتقول كاتب كتابك بس و‬
‫عرفت تجيبها هنا وكرنا‪ .‬بقيت معلم ياض !‬
‫أزهاه اإلطراء كثيرا‪ ،‬ليتنهد "رامز" رابتا على‬
‫كتفه ‪:‬‬
‫‪-‬بص‪ .‬عيش حياتك‪ .‬المزرعة كلها تحت أمرك‪.‬‬
‫بس مش عايز أي نوش فاهمني ؟‬
‫‪-‬عيب عليك ياسطا هي أول مرة !‬
‫‪-‬أمين ‪...‬‬
‫و مد يده خلسة إلى جيب سرواله الخلفي‪ ،‬سلمه‬
‫قنينة دواء صغيرة قائال بصوت خفيض ‪:‬‬
‫‪-‬امسك األمانة‪ .‬تعبت لحد ما جبتها لك في‬
‫الوقت القصير ده‬
‫إلتمعت أعين "مالك" بشيء هو أبلغ من الشر‬
‫و هو يقول ‪:‬‬
‫‪-‬تسلم األيادي ‪..‬‬
‫رفع "رامز" سبابته منذرا إياه ‪:‬‬
‫‪-‬بس خلي بالك‪ .‬هو نص قرص كفاية أوي‪.‬‬
‫المادة دي شديدة‪ .‬مش كل الحريم بيحبوا‬
‫ياخدوها كمان‪.‬‬
‫مالك بأريحية تامة ‪:‬‬
‫‪-‬قولنا ماتقلقش بقى‪ .‬مش تلميذ أنا يا رامز‬
‫‪-‬ماشي يا عم‪ ..‬أطير أنا بقى عشان عندي‬
‫مصلحة ‪...‬‬
‫و تصافحا مرة أخيرة‪ ..‬ثم إنطلق "رامز"‬
‫مغادرا على دراجته النارية‬
‫من مكانه‪ ،‬أشار "مالك" لزوجته بيده فقط‬
‫لتحضر إليه‪ ،‬أطاعته "إيمان" و هي تقدم رجل‬
‫و تؤخر أخرى‪ ،‬وقفت أمامه اآلن و عيناها‬
‫مآلى باألسئلة‪ ،‬لكنه لم يسمح لها بطرح أي‬
‫منها‪ ،‬ليس بعد‪ ..‬أشار لها برأسه أن تتقدمه‬
‫لداخل البيت‪ ،‬كان يقبض على ذراعها كالكماشة‬
‫بالكاد بقيت هادئة حتى دخال إحدى الغرف‪ ،‬رأت‬
‫بها أجواء شاعرية بحتة‪ ،‬فرش من القواني‪،‬‬
‫ستائر بيضاء‪ ،‬سرير في ضخم في صدر‬
‫الغرفة‪ ،‬و هناك بالوسط طاولة مستطيلة فوقها‬
‫ما لذ و طاب من الطعام و الشراب ‪...‬‬
‫‪-‬ممكن تفهمني بقى !! ‪ ..‬هتفت "إيمان"‬
‫بشجاعة واهية ‪:‬‬
‫‪-‬إيه المكان إللي إحنا فيه ده ؟ و جايبني هنا ليه‬
‫!؟؟‬
‫دارت نظراته المريبة عليها و هو يقول بلهجة‬
‫جوفاء ‪:‬‬
‫‪-‬مالك بس يا حبيبتي‪ .‬إيه التحقيقات دي كلها‪.‬‬
‫مش قايلك هانقضي وقت لطيف سوا‪ ..‬هانتغدا و‬
‫هافرجك المزرعة و بعدين أروحك‬
‫نظرت حولها من جديد‪ ،‬ثم استقرت عينيها‬
‫بعينيه ثانية و هي تقول بشك ‪:‬‬
‫‪-‬و الغدا ماينفعش غير في أوضة نوم زي دي‬
‫!!؟‬
‫ابتسم "مالك"و قال ‪:‬‬
‫‪-‬إنتي قلوقة أوي‪ ..‬عارفة‪ .‬إحنا نبدأ بالعصير‬
‫األول عشان تروقي دمك ‪...‬‬
‫و توجه نحو طاولة الغداء‪ ،‬لم ترى منه سوى‬
‫ظهره بينما تسمعه يعب العصير في كأسين‪ ،‬ثم‬
‫عاد لها مجددا‪ ،‬ناولها كأسها بابتسامة وديعة ‪:‬‬
‫‪-‬اشربي يا قلبي‪ .‬اشربي و أرمي كل حاجة ورا‬
‫ظهرك‪ ..‬أنا خدامك إنهاردة‪ .‬أحالمك كلها أوامر‬
‫!‬
‫متأثرة بتشجيعه لها‪ ،‬أخذت الكأس منه و بدأت‬
‫ترتشف‪ ،‬و لكن شعور الريبة ًل يزال يدق‬
‫أجراس اإلنذار بداخلها‪ ،‬و كأنها ردار اآلن‬
‫يلتقط الخطر الوشيك‪ ،‬لكن شخصها الجبان ًل‬
‫يصدق كالعادة‪ً ..‬ل يصدق حتى تقع الكارثة !!!‬
‫‪-‬اشربيه كله ! ‪ ..‬قالها "مالك" دافعا بيده‬
‫الكأس لفمها بتصميم‬
‫و برر فعلته فورا بشكل إحترافي ‪:‬‬
‫‪-‬وشك أصفر يا حبيبتي‪ .‬إنتي شكلك مش‬
‫بتتغذي كويس اليومين دول‪ .‬اشربيه كله عشان‬
‫خاطري ‪...‬‬
‫شهقت "إيمان" بقوة ما إن بعد يده عن فمها‬
‫أخيرا‪ ،‬سعلت قليال‪ ،‬بينما لمحت ابتسامة خبيثة‬
‫على جانب فمه‪ ،‬لم يحاول إخفائها اآلن و‬
‫شاهدته و هو يتجرع كأسه دفعة واحدة‪ ،‬ثم‬
‫يلقيه من يده على األرض ؛‬
‫أستل هاتفه و قنينة ضئيلة الحجم و رمى بهما‬
‫تجاه الفراش‪ ،‬رفع يديه و حل أمام عينيها‬
‫أزرار قميصه‪ ،‬في غضون ثوان ألقاه بجانب‬
‫الكأس عند قدميه و بقى عاري الجزع‪ ،‬علت‬
‫مستويات األدرينالين بشرايينها‬
‫لكن عجبا !‬
‫جسدها ًل يتخذ أي ردة فعل ‪..‬‬
‫تقف هكذا بال حراك‬
‫عقلها يسيطر عليه الدوار و الحيرة‬
‫و كأنها بالون هيليوم‬
‫في أي لحظة سيطير !!!‬
‫‪-‬قوليلي بقى إتعريتي مع كام واحد قبل أخويا ؟‬
‫‪ ..‬قالها "مالك" بفجاجة زلزلتها داخليا‬
‫قبل أن يمد يديه إليها و ينتزع مالبسها القطعة‬
‫تلو األخرى بسرعة و بال أدنى مقاومة منها ‪...‬‬
‫‪-‬و مع كام واحد بعده بردو‪ ..‬غير حبيب القلب‬
‫ابن خالتك ؟؟‬
‫جحظت عيناها‪ ،‬و كم أرادت أن ترد عنها كل ما‬
‫يفعله‪ ،‬تصرخ من داخلها لكن ًل يخرج من فمها‬
‫سوى العويل و البكاء الحار !‬
‫كانت لتسقط في هذه المرحلة‪ ،‬مع إتيان العقار‬
‫مفعوله شيئا فشيء‪ ،‬لكنه تلقفها‬
‫‪-‬هوب هوب هوب ! ‪ ..‬تمتم و هو يحملها‬
‫بسهولة إلى الفراش‬
‫‪-‬مسكتك يا مزتي ماتخافيش أقولك سر‪ ..‬أنا من‬
‫زمان كانت بتجيلي أحالم عنك‪ .‬ماكنتش متخيل‬
‫إنها ممكن تتحقق‪ .‬و اكتشفت من قريب إن طول‬
‫عمري نفسي أعمل كده !!‬
‫يرتعش فكها و يزداد اإلحتقان بوجهها و‬
‫عينيها‪ ،‬ترتعب مما يحدث معها و ينبض قلبها‬
‫اللعين بعنف في صدرها‪ ،‬تشعر بمزيد من‬
‫اإلسترخاء و بضعف في عضالتها‪ ،‬بينما‬
‫يستطرد مغتصبها بصوته الكريه‬
‫مباشرة ‪:‬‬
‫‪-‬أنا بشكرك إنك ادتيني سبب عشان أطلع مالك‬
‫الحقيقي إللي جوايا‪ .‬صعب عليا جدا استمتع‬
‫بحياتي على طريقتك‪ .‬بس من هنا و رايح كله‬
‫على طريقتي أنا يا‪ ..‬يا مزتي !‬
‫بدأ مفعول هذا الشيء في الزوال أخيرا‪ ،‬بدأت‬
‫في إستعادة السيطرة على جسمها‪ ،‬اختبرت هذا‬
‫في تحريك ساقها و يدها‪ ،‬نجحت‪... ،‬‬
‫‪-‬الحمام على إيدك اليمين ! ‪ ..‬هتف "مالك"‬
‫بجالفة‬
‫وقف عند حافة السرير و هو يقول ‪:‬‬
‫‪-‬جهزي نفسك عشان نمشي‪ .‬لسا ورايا مشاغل‬
‫أهم منك‪ .‬يال قـومي ‪...‬‬
‫غادرت "إيمان" الفراش ‪ ،‬سارت مثل الزومبي‬
‫وصوًل إلى دورة المياه بأقصى الغرفة مخلفة‬
‫ورائها مغتصبها يدنو من طاولة الطعام ليتغذى‬
‫بعد أن أستهلك قواه معها‬
‫أغلقت الباب ورائها و أوصدته بالمفتاح‬
‫الداخلي‪ ،‬استندت إلى الجدار المقابل‬
‫لعله لم يالحظها و هي تستل قنينة العقار من‬
‫جواره خلسة‪ ،‬لكنها أخذتها بدون تفكير‪ ،‬كما‬
‫تجرأت و قامت بسرقة هاتفه‪ ،‬بعد أن جردها‬
‫من كافة أشياؤها‪ ،‬و األهم‪ ..‬بعد أن منحها أعلى‬
‫أوسمة الدمار‪ ...‬و العار !!!‬
‫و ما يحرقها أكثر أنه أعلمها جيدا سبب تدميره‬
‫لها‪ ،‬لم يخفي شيء‪ ،‬قاله هكذا ليضاعف العذاب‬
‫أكثر‪ ،‬لم تعد تتحمل‪ ،‬هناك سالحان بيدها ؛‬
‫الهاتف‬
‫العقار‬
‫أيهما تختار !؟‬
‫إذا اختارت الهاتف فماذا عساها تفعل به بحق‬
‫الجحيم‪ ..‬بمن تتصل ؟‬
‫بأخيها ليتحقق أبشع كابوس في حياتها و يدري‬
‫بكل شيء ؟‬
‫أم تتصل بـ"سالف" التي لم ترى منها عونا قط‬
‫؟‬
‫أم تتصل بأمها و تكون سببا في مكروه قد‬
‫يحدث لها إن علمت‪ ..‬بل إنها بال شك سوف‬
‫تعلم‪ ...‬حتما الليلة سيذاع الخبر‬
‫لماذا اإلنكار ؟‬
‫عليها اإلعتراف‬
‫لقد انتهى‬
‫كل شيء انتهى ‪...‬‬
‫تلوى وجهها فجأة حين داهمها ذلك اإلحساس‬
‫المقيت مجددا‪ ،‬تلملمت مكانها و هي تئن و‬
‫تبكي من الخزي و ليس من أي شيء آخر مم‬
‫أدعى‪ ،‬كانت الدموع تنهمر من عينيها عزيرة و‬
‫ًل يمكن إيقافها أو السيطرة عليها‬
‫و للمرة الثانية تتصرف بال تفكير أو تعقل‪،‬‬
‫وضعت الهاتف جانبا و أمسكت بالقنينة‬
‫الصغيرة و أفرغت الحبوب الصغيرة كلها في‬
‫كفها‪ ،‬ثم دفعت بهم داخل فمها دفعة واحدة‪،‬‬
‫إنحنت صوب حوض المياه و ابتعلتهم بجرعتين‬
‫من الماء‪ ،‬ثم سمحت لساقيها بالتداعي أخيرا‬
‫بجوار حوض اإلستحمام ‪...‬‬
‫لم تكن تتوقع أن يأتي مفعول هذا الشيء‬
‫بسرعة هكذا‪ ،‬اآلن اإلعراض تتزايد‪ ،‬تشعر‬
‫بسخونة كالجحيم في سائر جسدها‪ ،‬و لكن حدث‬
‫النقيض المجنون أسرع‪ ،‬أحست ببرودة‬
‫مفاجأة‪ ،‬و فجأة و كأن قواها تخور‪ً ،‬ل تعرف‬
‫لماذا ساورها الندم في لحظة ما‬
‫حين أرادت أن تقف و لم تقدر‪ ،‬حتى دموعها‬
‫توقفت من تلقائها‪ ،‬شعرت بخفقات قلبها تتباطأ‬
‫بوتيرة مرعبة‪ ،‬تتصبب عرقا مثلجا‪ ،‬لم يكن‬
‫هناك وقت للتفكير‬
‫شحذت ما تبقى لها من إرادة و قوى‪ ،‬رفعت‬
‫يدها بصعوبة لتأخذ الهاتف المسنود فوق‬
‫رأسها تماما على حوض اإلستحمام‪ ،‬فتحته و‬
‫كانت تعرف جيدا بمن سوف تتصل‬
‫لم تتردد لحظة و هي تنقر بابهامها المرتجف و‬
‫البقية الباقية من حركاتها المعدودة‪ ،‬وضعت‬
‫رقم "مراد" الذي حفظته كأسمها في وقت‬
‫قصير‪ ،‬ثم رفعت الهاتف لتسنده بين كتفها و‬
‫أذنها ‪...‬‬
‫‪-‬آلو !‬
‫جاء صوته حائرا مستوضحا‪ ،‬ردة فعل طبيعية‬
‫على رقم مجهول‪ ..‬ما إن سمعت هي صوته‬
‫حتى تسرب من بين شفاهها نحيب مرير ‪...‬‬
‫‪-‬إيمان !؟؟؟ ‪ ..‬صوته أعلى بكثير اآلن ‪:‬‬
‫‪-‬إيمان‪ .‬رقم مين ده‪ .‬إنتي فين يا إيمان !!؟؟؟‬
‫بكت أكثر‪ ،‬ألنها ًل تعرف هل عليها أن تسعد أو‬
‫تحزن‪ ،‬فقد تعرف عليها من مجرد سماع‬
‫بكائها‪ ،‬عرفها دون أن تتكلم أو تفه بحرف ‪...‬‬
‫‪-‬مراد ! ‪ ..‬خرج صوتها من مكان سحيق‬
‫همسا بالكاد يسمع ‪...‬‬
‫‪-‬أنا‪ ..‬باين‪ً .‬ل‪ .‬مش باين‪ ..‬أنا بموت يا مراد !‬
‫‪-‬إنتي فـين !؟؟؟؟؟ ‪ ..‬كرر سؤاله و بإمكانها‬
‫سماع الذعر بصوته‬
‫بإمكانها أيضا سماعه و هو يقفز واقفا و‬
‫يتحرك قليال‪ ،‬قبل أن يصفع بابا ما و تخترق‬
‫أنفاسه العنيفة جراء الركض سماعة الهاتف ‪...‬‬
‫‪-‬إيمــان !!! ‪ ..‬صاح "مراد"‬
‫عصرت جفنيها بشدة‪ ،‬تزامنا مع قرع "مالك"‬
‫لباب الحمام اآلن بقوة و هو يهتف من الخارج‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬كل ده بتعملي إيـه‪ .‬إنجزي يا قلبي هنتأخر‪ .‬يال‬
‫و ماتقلقيش‪ ..‬هانيجي هنا تاني وعد‪ .‬أنا عارف‬
‫إنك حبيتي الموضوع‪ ..‬يــال بقـى عشان زهقت‬
‫!‬
‫بدأ الوعي ينفذ منها و هي تتشبث بالهاتف‬
‫بأقصى ما تستطيع حتى ًل ينزلق عن كتفها ‪...‬‬
‫‪-‬مراد ! ‪ ..‬نطقت بلهاث مضن‬
‫رد "مراد" و األلم يمزق نبراته ‪:‬‬
‫‪-‬أنا معاكي يا حبيبتي‪ .‬ماتخافيش‪ .‬أنا جاي لك‪.‬‬
‫بس قوليلي إنتي فيـن ؟‬
‫بدًل من إعطائه الجواب الذي ينشده‪ ،‬ناشدته‬
‫هي بكل ذرة حية في كيانها‪ ،‬آخر طلب في‬
‫حياتها تتمنى الحصول عليه ‪:‬‬
‫‪-‬ماتخليش‪ .‬مالك يقول‪ ..‬يقول حاجة ألدهم‪.‬‬
‫عشان خاطري‪ .‬يا مراد‪ ...‬ماتخليش أدهم‪.‬‬
‫يعرف حاجة !!!‬
‫و ابتالعها الظالم فجأة‪ ،‬هكذا تاركة ورائها‬
‫أسئلة ًل تهتم لمعرفة جوابها‪ً ..‬ل تهتم من أين‬
‫اكتشف "مالك" سرها مع "مراد"‪ ...‬لم يعد أي‬
‫شيء يهم‬
‫لينتهي كل شيء اآلن‪ ..‬لينتهي فقط !‬

‫يتبع ‪...‬‬
‫انتهى الفصل الثاني والعشرون ‪..‬‬

‫فصل جديد محندق لذيذ خالص 🤭️♥‬


‫‪23‬‬

‫"إنها طفلة عديمة الخبرة ؛ لكنها أكبر دافع‬


‫لحياتي‪ ..‬إنها إيماني !"‬

‫_ مراد‬

‫بلغ غضبه الذروة و هو يقف أمام باب الحمام‬


‫كل تلك المدة يقرع و هي ًل ترد‪ ،‬بما أنه يعرفها‬
‫جيدا يثق بأنها تصدر شخصيتها الهشة الجبانة‬
‫اآلن‪ ،‬تصنع دراما البؤس خاصتها التي أقامت‬
‫لها طوال حياتها القصيرة مع أخيه الراحل ‪...‬‬
‫نفذ صبره ظانا بها كل هذا‪ً ،‬ل يفكر في أمر‬
‫آخر‪ ،‬فرفع يده يضرب الباب بقوة و هو يصيح‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬هانفضل كده كتير‪ ..‬آلخر مرة بقولك افتحي يا‬
‫إيمان‪ .‬افتحي و إًل هاكسر الباب و لو دخلت لك‬
‫بالشكل مش هايحصل طيب‪ ...‬مش هاتفتحي‬
‫يعني !؟؟‬
‫لم يسألها ثانية‪ ،‬تراجع خطوة للخلف‪ ،‬ثم‬
‫بمنتهى العنف ركل الباب ركلة واحدة‪ ،‬فانكسر‬
‫القفل‪ ،‬دلف إليها و الشرر يتطاير من عينيه‪..‬‬
‫لكنه بهت و توقفت أعضاؤه قاطبة لوهلة حين‬
‫اصطدم برؤيتها على هذا المنظر‪ ....‬كانت‬
‫بمالبسها في يديها هاتفه‬
‫هاتفه لقد سرقته‬
‫و أيضا ما هذه‪ ..‬قنينة العقار اللعينة !!!‬
‫ماذا فعلت في نفسها بحق الجحيم !؟‬
‫و بمن اتصلت المجنونة ؟‬
‫‪-‬إيمــان !!!! ‪ ..‬صرخ "مالك" مذعورا و هو‬
‫يندفع نحوها‬
‫جثى بجوارها و أمسك بها و اخذ يهزها بقوة‬
‫‪...‬‬
‫‪-‬إيمان‪ .‬عملتي إيه في نفسك‪ .‬عملتـي إيه ؟‬
‫و جاءته اإلجابة لحظة تدحرجت قنينة العقار‬
‫الفارغة أمامه فوق الرخام‪ ،‬جحظت عيناه و‬
‫شحب كليا و هو يهمس مرتعبا ‪:‬‬
‫‪-‬يا نهار اسود !‬
‫لم يفكر مرتين‪ ،‬لكنه قبل أن يمس الهاتف ارتعد‬
‫حين دق فجـأة‪ ،‬إلتقطه بيد مرتعشة و نظر إلى‬
‫الشاشة المضاء‪ ..‬المعرف اآللي أطلعه فورا‬
‫على هوية الرقم غير المسجل ‪...‬‬
‫‪-‬مراد محمود !!! ‪ ..‬تمتم "مالك" مصعوقا‬
‫و تلقائيا رآى أمامه الرجل الذي قهره و جعله ًل‬
‫يساوي شيء‪ ،‬بقدر غضبه أحس بالخوف‪،‬‬
‫خوفه دفعه أًل يرد عليه مطلقا‪ ،‬و انتظر حتى‬
‫انقطعت المكالمة ليطلب صديقه في الحال ‪...‬‬
‫ما إن رد عليه األخير صاح فيه بهلع عبر‬
‫الهاتف ‪:‬‬
‫‪-‬رامـز إلحقني يا رامـز !‬
‫في غضون دقائق وصل "رامز"‪ ..‬كان‬
‫"مالك" قد ستر زوجته بالحجاب و لم يتزحزح‬
‫من جوارها‪ ،‬هب واقفا لدى رؤيته لصاحبه و‬
‫هتف برجفة في جسده و صوته ‪:‬‬
‫‪-‬إلحقني يا رامز‪ .‬أخدت الحبوب كلها‪ .‬جسمها‬
‫متلج و مابتنطق خالص !‬
‫تصرف "رامز" بهدوء و هو ينحني ليختبر‬
‫نبض "إيمان"‪ ..‬حيث وضع إصبعه فوق‬
‫شريانها السباتي على جانب عنقها للحظات ‪...‬‬
‫‪-‬مراتك دي ًلزم تتنقل المستشفى حاًل ! ‪ ..‬قرر‬
‫"رامز" بصرامة و اعتدل ليواجهه ثانية ‪:‬‬
‫‪-‬بدون دخول في تفاصيل‪ .‬أنا قلت لك مش عايز‬
‫نوش عندي يا مالك‪ .‬خدها من هنا و امشي ‪..‬‬
‫رد "مالك" بارتباك شديد ‪:‬‬
‫‪-‬أخدها إزاي بس و هي كده‪ .‬و لو روحت بيها‬
‫أي مستشفى هاتفضح و لو جرالها حاجة‬
‫هاروح في داهية يا رامز !!‬
‫رامز بغلظة ‪ :‬و أنا مش مافيا يا حبيب أخوك‪.‬‬
‫انت أخرك هنا كانت ساعة إنبساط‪ .‬لكن بالوي‬
‫و جرايم ماتالقيش ! ‪ ..‬ثم نظر صوب "إيمان"‬
‫مستطردا ‪:‬‬
‫‪-‬وقتك بينفد‪ .‬لو استنيت عليها أكتر من كده‬
‫هاتروح فيها و انت كمان هاتروح في داهية‬
‫بجد !!!‬
‫تراجع "مالك" عدة خطوات‪ ،‬جفل و أمسك‬
‫بيداه مؤخرة رقبته بإحكام‪ ،‬بقى على هذا‬
‫الوضع حتى دق هاتفه مجددا‪ ،‬انتفض و هو‬
‫يحدق فيه حيث هو فوق األرض ‪...‬‬
‫نظر له "رامز" مستفهما‪ ،‬فأخبره "مالك"‬
‫بصوت مهزوز ‪:‬‬
‫‪-‬ده‪ .‬ده‪ ..‬ابن خالة إيمان‪ .‬و‪ .‬حبيبها‪ .‬إيمان‬
‫اتصلت بيه من تليفوني قبل ما اكسر عليها‬
‫الباب !‬
‫إنقطع اإلتصال مع إتمام "مالك" سرد الحدث‪،‬‬
‫لكن لم تمر دقيقة أخرى و دق الهاتف مرة‬
‫أخرى‪ ،‬حينها لم يتردد "رامز"‪ ..‬إلتقط الهاتف‬
‫أمام عجز "مالك" الكامل و فتح الخط ‪...‬‬
‫*****‬

‫كان يقود كالمجنون حتى و هو ًل يعرف أين‬


‫عليه أن يذهب‪ً ،‬ل زال يجهل مكانها‪ ،‬محمر‬
‫العينين‪ ،‬محتقن المالمح‬
‫كان يلهج بأنفاسه العنيفة و هو يكرر كلماتها‬
‫بأذنيه و يتخيلها عندما أخبرته بأنها تموت ‪...‬‬
‫ًل يمكن‬
‫"إيمان"‬
‫ًل يمكن أن يحدث هذا !!!‬
‫أمسك هاتفه بعصبية و حاول اإلتصال مجددا‬
‫بالرقم الذي اتصلت به من خالله‪ ،‬لكنه ًل يرد‪..‬‬
‫ًل يرد أبدا‬
‫و ًل يستطيع أن يفعل أي شيء‪ً ،‬ل يستطيع حتى‬
‫أن يهاتف "أدهم"‪ ..‬ماذا يقول له !؟؟‬
‫بأي صفة يتجرأ و يتخطى الحدود معه من جديد‬
‫!!!!‬
‫اللعنة اللعنة اللعنة ‪...‬‬
‫‪-‬آاااااااااااه ! ‪ ..‬شقت صرخته المقهورة جنابات‬
‫السيارة و هو يضرب المقود بيديه المدمرتين‬
‫مرارا‬
‫إزداد وجهه احمرارا و طفرت الدموع من‬
‫عينيه‪ ،‬كان قاب قوسين أو أدنى من أن يفقد‬
‫عقله على األخير‪ ،‬فأمسك هاتفه و حاول‬
‫اإلتصال مرة أخرى ‪...‬‬
‫هذه المرة إنفتح الخط و رد عليه صوت رجولي‬
‫حاد ‪:‬‬
‫‪-‬لو عاوز تلحقها هاتيجي على العنوان إللي‬
‫هاقوله لك منغير شوشرة‪ .‬ماعندهاش وقت‬
‫كتير !!‬
‫‪-‬هـي فيــــن ؟؟ ‪ ..‬صاح "مراد" بضراوة‬
‫مستوحشة‬
‫أملل عليه الرجل عنوان مزرعة تقع في مربع‬
‫سقارة بالجيزة‪ ،‬إنطلق "مراد" في وقت قياسي‬
‫متفاديا عشرات الحوادث‪ ،‬هكذا وصوًل إلى‬
‫العنوان الذي تلقاه على هاتفه ‪...‬‬
‫صطف سيارته أمام بوابة المزرعة المفتوحة‪،‬‬
‫سحب في يده قطعة حديد يضعها دائما بالسيارة‬
‫تحسبا ألي طارئ ‪...‬‬
‫ترجل دون أن يغلق حتى باب سيارته‪ ،‬ركض‬
‫بسرعة إلى الداخل‪ ،‬كان باب البيت مفتوح‬
‫بدوره‪ ،‬اهتدى "مراد" بضوء الردهة على‬
‫يساره‪ ،‬أفضت به إلى الغرفة ذات الباب‬
‫الموارب‬
‫اقتحمها مناديا بأعلى صوته ‪:‬‬
‫‪-‬إيـمــــــان‪ ..‬إيـمــــــــــــان ‪...‬‬
‫‪-‬من هنا يا باشا !‬
‫أتى الصوت من أقصى الغرفة‪ ،‬شق "مراد"‬
‫طريقه نحو المصدر من فوره‪ ،‬أحكم قبضته‬
‫حول الحديدة بيده و دفع الباب بكتفه بهجوم‬
‫مخيف‪ ..‬أول من قابل بوجهه كان المدعو‬
‫"رامز" يختبئ خلفه "مالك" ‪...‬‬
‫‪-‬مراد أبو المجد !؟؟ ‪ ..‬قالها "رامز" مشدوها‬
‫و هو يحدق بـ"مراد"‬
‫كذلك "مراد" ذهل حين رآه و ردد ‪:‬‬
‫‪-‬رامز األمير !!؟‬
‫إنها صداقة قديمة‪ ،‬من األيام الخوالي‪ ،‬جمعت‬
‫بينه و بين صديق عمره "عثمان البحيري"‪..‬‬
‫كانوا مثلث صداقة محكم طوال فترة الدراسة‬
‫الجامعية‪ ،‬و سنوات العربدة و الفسوق قضوها‬
‫كلها سويا ‪...‬‬
‫كيف آلت "إيمان" إلى طريقه بحق اللعنة ؟‬
‫‪-‬بنت خالتي بتعمل عندك إيه يا رامز ؟ ‪ ..‬خرج‬
‫السؤال من بين أسنان "مراد" بحشرجة‬
‫ضارية‬
‫هز "رامز" رأسه مجفال ‪:‬‬
‫‪-‬أنا مش مجمع أي حاجة يا مراد‪ .‬ماعرفش إيه‬
‫الحوارات إللي معاك و ًل فاهم أي حاجة أقسم‬
‫لك‪ .‬انت عارفني كويس ماليش في الجو ده و‬
‫انت بالذات‪ ..‬انت صاحبي !‬
‫مراد بحدة مخيفة ‪:‬‬
‫‪-‬إيمان فين يا رامز ؟‬
‫تنحى األخير جانبا و هو يزيح "مالك" الذي‬
‫وقف يتابع ما يجري بتوجس و رعب‪ ،‬ليرى‬
‫"مراد" حبيبته‪ ..‬ابنة خالته‪" ...‬إيمان" على‬
‫تلك الشاكلة‬
‫كانت أمامه كالموتى فعال و قد خشى أن تكون‬
‫كذلك حقا‪ ،‬تجاهل كل شيء‪ ،‬تالشى أي تعبير‬
‫آخر غير الجزع عن وجهه‪ ،‬أسرع ناحيتها‬
‫هاتفا بتلهف ‪:‬‬
‫‪-‬إيمـان‪ ..‬إيمــان ردي عليـا‪ .‬فيكي إيـه‪ .‬حصلك‬
‫إيــه ؟‬
‫كانت بين أحضانه اآلن‪ ،‬جسدها بارد كالثلج‪ ،‬و‬
‫فمها منفرج ًل ينم عن أي مجرى للتنفس‪ ،‬مما‬
‫دب فيه الذعر و جعله يصرخ كالوحش و هو‬
‫يدير وجهه نحو الرجلين من خلفه ‪:‬‬
‫‪-‬عملتوا فيها إيـه يا رامز ؟‬
‫عبس "رامز" و هو يمأل فمه بأغلظ اآليمان ‪:‬‬
‫‪-‬و عزة هللا ما لمستها‪ .‬مالك فهمني انها مراته‬
‫و انها جاية هنا بمزاجها‪ .‬طلب مني أجيب له‬
‫و قلت له نص قرص كفاية عليها‪GHB .‬‬
‫مشيت و سيبتهم ًلقيته بيكلمني بعدها بساعتين‬
‫تقريبا و بيقولي بلعت األقراص كلها‪ ..‬بص يا‬
‫مراد أنا قلت لك مش فاهم إيه إللي بيحصل بس‬
‫لو دي تهمك ًلزم تلحقها بسرعة‪ .‬إللي بلعته ده‬
‫مخاطره انت عارفها و يمكن أسوأ !‬
‫و كأن تلك الكلمات تماما هي ما دفعته أسرع‪،‬‬
‫قام من ركوعه حامال إياها على ذراعيه‪،‬‬
‫استدار عازما الخروج‪ ،‬لكن قبل ذلك وقف‬
‫هنينهة أمام "مالك" قائال بتوعد ‪:‬‬
‫‪-‬تصحى إيمان و أطمن عليها‪ ..‬بعدها لو الموت‬
‫نفسه فوق راسك‪ .‬مش هاتنوله قبل ما أصفي‬
‫حسابي معاك !!!‬
‫لم ينتظر "مراد" ليقرأ ردة فعله على كلماته‪،‬‬
‫لم يكن مهتما‪ ،‬لم يكن هناك تركيزا سوى عليها‬
‫فقط‪ ،‬أخذها مسرعا إلى سيارته‬
‫وضعها بالمقعد الخلفي و هو يمسد على خدها‬
‫الشاحب متمتما بأنين متألم ‪:‬‬
‫‪-‬كل ده بسببي‪ .‬كل ده بسببي‪ ..‬ياريتني ما كنت‬
‫رجعت‪ .‬ياريتني ما كنت حبيتك يا إيمان !‬
‫تراجع بغتة مغلقا عليها باب السيارة بقوة‪،‬‬
‫استقل أمام المقود مجددا‪ ،‬و قاد رأسا إلى‬
‫مشفى المدينة الخصوصي !‬

‫يتبع ‪...‬‬
‫انتهى الفصل الثالث والعشرون‬

‫‪24‬‬

‫"عودي‪ ..‬حتى ًل تحرقي روح أخيك ؛ حتى ًل‬


‫تسلبي كل السعادة و األلوان من حياتي !"‬

‫_ أدهم عمران‬
‫بحلول ساعة المغرب‪ ،‬عاد "أدهم" من العمل‬
‫كعادة كل يوم _ ما لم يتطلب وجوده ضروريا‬
‫بالمشفى التي شارك فيها _ و مثل المعتاد أيضا‬
‫ولج عند شقة أمه أوًل‪ ،‬ليجد أوًلده و إبنة أخته‬
‫في انتظاره‪ ،‬أما "سالف" و "أمينة" بالتأكيد‬
‫في المطبخ تعدان العشاء‬
‫زقزق األطفال فور رؤيته‪ ،‬و تقافز التوائم‬
‫عليه‪ ،‬فركع نفسه ليمكنهم من نفسه و يضمهم‬
‫ثالثتهم ضاحكا ‪:‬‬
‫‪-‬حبايبي األبطال‪ .‬فرساني التالتة‪ ..‬انتوا كمان‬
‫وحشتوني أوي ‪...‬‬
‫و حانت منه نظرة صوب "لمى" التي وقفت‬
‫بعيدا‪ ،‬تشيح بوجهه عنه و تعقد ذراعيها أمام‬
‫صدرها‪ ،‬عبس "أدهم" مناديا عليها ‪:‬‬
‫‪-‬لمى‪ ..‬ماجتيش تسلمي عليا و تبوسيني ليه‬
‫زي كل يوم ؟‬
‫لكنها لم ترد عليه‪ ،‬فكرر ندائه باستغراب‬
‫مدهوش ‪:‬‬
‫‪-‬لمى‪ ..‬إنتي سمعاني !؟‬
‫ًل رد أيضا ‪...‬‬
‫فقام تاركا أوًلده ليمضي نحوها‪ ،‬وقف أمامها و‬
‫أمسك بكتفها بضغطة خفيفة و هو يقول بصوت‬
‫أجش ‪:‬‬
‫‪-‬أنا بكلمك يا لمى‪ .‬مش بتردي عليا !؟ ‪ ..‬ثم‬
‫أمرها بحزم ‪:‬‬
‫‪-‬بصيلي ‪...‬‬
‫أطاعت "لمى" و تطلعت إليه ببط‪ ،‬ركزت‬
‫عيناها الواسعتين كعيون الغزال مثل أمها على‬
‫عيني خالها الحادتين‪ ،‬ما إن إلتقت نظراتهما‬
‫حتى ًلنت نظراته و مسح على شعرها الناعم‬
‫متمتما ‪:‬‬
‫‪-‬بقى مش بتردي عليا يا لمى‪ ..‬إنتي زعالنة‬
‫مني يعني ؟‬
‫أومأت برأسها وهي تقلب شفتها السفلى بحزن‬
‫جم ‪...‬‬
‫تنهد "أدهم" و انحنى ليحملها على ذراعه‪،‬‬
‫مشى خطوتين و جلس فوق مقعد قريب‪ ،‬أجليها‬
‫على حضنه و قال بلطف و هو يربت على‬
‫ظهرها ‪:‬‬
‫‪-‬قوليلي بقى زعالنة ليه حبيبة خالها ؟‬
‫إلتمعت عيناها و هي تفتح فاها الصغير لتقول‬
‫بصوتها الطفولي الحلو ‪:‬‬
‫‪-‬عشان انت إمبارح طلعت و سبتني منغير ما‬
‫تحكيلي حدوتة زي ما بتعمل كل يوم ‪..‬‬
‫همهم و هو يخاطبها باسلوبه المقنع ‪:‬‬
‫‪-‬أمم‪ ..‬طيب مش أنا قلت لك إمبارح إني تعبان‬
‫طول اليوم و محتاج استريح و أنام عشان‬
‫شغلي ؟‬
‫أومأت ثانية‪ ،‬فابتسم مكمال ‪:‬‬
‫‪-‬يبقى تزعلي مني عشان كده‪ .‬إنتي تحبي خالو‬
‫يبقى تعبان !؟‬
‫هزت رأسها أن ًل و قالت بتأثر تشوبه نبرة‬
‫بكاء ‪:‬‬
‫‪-‬أنا زعلت عشان مش بقيت أعرف أنام كويس‬
‫غير لما تحيكلي الحدوتة و تحضني لحد ما أنام‪.‬‬
‫مامي مش بتعرف تعمل كده و بتفضل تعيط‬
‫طول الليل و أنا بكون صاحية زعالنة لحد ما‬
‫هي تنام !‬
‫زم شفتيه بتعاطف على الصغيرة و أسف على‬
‫أمها‪ ،‬لكنه بدد ذلك التعبير فورا و قال بنعومة ‪:‬‬
‫‪-‬حبيبتي إنتي بنت شاطرة و كبيرة‪ .‬صح‬
‫مابقتيش صغيرة‪ .‬يعني زي ما ماما بتاخد بالها‬
‫منك إنتي كمان تاخدي بالك من ماما‪ ..‬و أنا كلي‬
‫ليكي يا قلبي‪ .‬أوعدك كل يوم أحكيلك حدوتة إًل‬
‫مثال لو وقع مننا يوم كنت فيه تعبان زي‬
‫إمبارح‪ ..‬تمام ؟‬
‫أومأت له مرة أخرى ‪...‬‬
‫‪-‬يعني خالص صالحتيني !‬
‫ابتسمت و دنت لتقبله على لحيته الكثة‪ ،‬ففاجأها‬
‫و هو يظهر من جيب سترته مغلف الحلوى‬
‫المفضل لها‪ ،‬شهقت من اإلثارة‪ ،‬فقدمه لها‬
‫غامزا ‪:‬‬
‫‪-‬عشان تعرفي إني كده كده كنت جاي أصالحك‪.‬‬
‫مقدرش على زعل حبيبة قلبي‬
‫أخذته "لمى" من يده و صاحت و هي تحتضنه‬
‫بشدة ‪:‬‬
‫‪-‬خـالو حبيبي‪ .‬بحبك بحبك بحبك أد الدنياااااااا‬
‫‪....‬‬
‫علق "أدهم" مستاء ‪:‬‬
‫‪-‬الدنيا هاتخلص في يوم من األيام يا لمى‪ .‬كده‬
‫ممكن حبك ليا يخلص !؟‬
‫تراجعت لتنظر إليه‪ .‬فكرت قليال و قالت‬
‫بابتسامة متألقة ‪:‬‬
‫‪-‬أيوة خالص‪ .‬بحبك أد الجنة !‬
‫أعجبه ما قالت ‪...‬‬
‫‪-‬صح كده‪ .‬هو ده الكالم‪ .‬حبيبتي ! ‪ ..‬ثم سألها‬
‫بمرونة ‪:‬‬
‫‪-‬ماما رجعت إمتى ؟‬
‫جاوبته الصغيرة بهزة كتف ‪:‬‬
‫‪-‬لسا مارجعتش‬
‫قطب "أدهم" مرددا ‪:‬‬
‫‪-‬معقول‪ .‬كل ده برا ‪...‬‬
‫ما كاد يتمم جملته إًل و جاءت "سالف"‬
‫مسرعة من الداخل و في يدها هاتف "أمينة"‬
‫‪...‬‬
‫‪-‬أدهـم !!! ‪ ..‬هتفت "سالف" شاحبة الوجه‬
‫خفق قلب "أدهم" بين أضلعه بقوة لمرآها هكذا‬
‫و هب واقفا و هو يسألها بقلق ‪:‬‬
‫‪-‬في إيه يا سالف ؟‬
‫ردت "سالف" بالكاد و ًل زالت تحت تأثير‬
‫الصدمة ‪:‬‬
‫‪-‬سيبت عمتو أمينة بتلبس‪ .‬جات لها مكالمة‪ .‬حد‬
‫بيقول إيمان نقلوها المستشفى في حالة خطر‬
‫!!!‬

‫*****‬
‫جلس محطما أمام قسم الطوارئ‪ ،‬ساهم‬
‫النظرات‪ ،‬حواسه مفتوحة‪ ،‬لكنه ًل يسمع شيئا‬
‫و ًل يرى شيئا‪ ،‬فقط لحظات وصوله بها إلى هنا‬
‫و األحداث التي تلت ذلك هي كل ما يعاد أمام‬
‫ناظريه ‪...‬‬
‫_____‬

‫عندما اقتحم المشفى و هي على ذراعيه و قد‬


‫تساقط حجابها خالل هرولته المضطربة بها ‪...‬‬
‫‪-‬دكتور‪ .‬عايز دكتور‪ .‬دكتـوووور !!!‬
‫ظل يصيح و قد اجتمع حوله طاقم التمريض‪ ،‬و‬
‫سرعان ما شق طبيب شاب الجمع نحو مصدر‬
‫الغوغاء هاتفا ‪:‬‬
‫‪-‬إيـه إللي بيحصل هنا ؟‬
‫وقعت عيناه على الحالة التي يحملها "مراد" و‬
‫أخذ يرمقها‪ ،‬بينما يطالبه "مراد" منفعال ‪:‬‬
‫‪-‬مش شايفين اإلنسانة إللي على إيدي ؟ حد‬
‫يشوفهـا !‬
‫أعطى الطبيب الشاب أوامره ‪:‬‬
‫‪-‬هاتوا التروللي بسرعة و خدوها على‬
‫الطوارئ ‪...‬‬
‫أحضر الممرض السرير النقال مسرعا‪،‬‬
‫فوضعها "مراد" فوقه‪ ،‬دفعها طاقم التمريض‬
‫تجاه الطوارئ باسراع يتبعها "مراد" حتى‬
‫أغلق الباب بوجهه‪ ...‬ظل بالخارج يروح و‬
‫يجيئ أمام الغرفة في عصبية‬
‫إلى أن خرج الطبيب سارع نحوه متسائال ‪:‬‬
‫‪-‬دكتور‪ .‬طمني إيمان فاقت ؟‬
‫الطبيب بحدة ‪ :‬فاقت إيه يا أستاذ‪ .‬دي دخلت في‬
‫كوما‪ .‬أنا محتاج أعرف و حاًل إيه إللي حصل‬
‫!!‬
‫لم يتسوعب"مراد" الخبر و تدلى فكه من‬
‫الصدمة‪ ،‬ألح الطبيب بصالبة ‪:‬‬
‫‪ً-‬لزم أعرف األسباب عشان نكسب وقت‪.‬‬
‫الفحص المبدئي مبين إنها اتعرضت إلعتداء‪.‬‬
‫حصل إيـه كمـان ؟؟‬
‫قسر "مراد" نفسه على الخروج من الحالة‬
‫التي استبدت به‪ ،‬و جاوب الطبيب بصعوبة ‪:‬‬
‫‪-‬حاولت تنتحر‪ .‬بلعت أقراص ‪! .....‬‬
‫إحتقنت أعين الطبيب و هو يسأله مزمجرا ‪:‬‬
‫‪-‬حضرتك تقرب لها إيه ؟‬
‫رد "مراد" بأحرف متثاقلة ‪:‬‬
‫‪-‬تبقى بنت‪ .‬بنت خالتي ‪...‬‬
‫‪-‬انت إللي عملت فيها كده ؟ ‪ ..‬كان يشير ألمر‬
‫اإلعتداء‬
‫فتح فاهه لينفي في الحال‪ ،‬و لكن جملتها رنت‬
‫بأذنيه‪" :‬ماتخليش مالك يقول حاجة‪ .‬ماتخليش‬
‫أدهم يعرف حاجة !"‬
‫غص النفي كله بحلقه و لم يتكلم‪ ،‬فازداد غضب‬
‫الطبيب و هو يخبره ‪:‬‬
‫‪-‬كده كده الشرطة بتحضر في أي حادثة‪ .‬و في‬
‫عسكري هنا على باب المستشفى مش بيمشي‪.‬‬
‫هاندي له خبر و القسم هايبعت ضابط يفتح‬
‫محضر‪ ..‬عن إذنك !‬
‫و تركه عائدا إلى غرفة الطوارئ حيث‬
‫"إيمان" ‪...‬‬
‫_____‬

‫‪-‬مـراد !؟‬
‫أفاق "مراد" من استغراقه على صوت إبن‬
‫خالته‪ ،‬هو الوحيد الذي انتزعه صوته الدوامة‬
‫السحيقة ‪...‬‬
‫رفع رأسه تجاه الصوت‪ ،‬ليرى "أدهم" مقبال‬
‫عليه عبر الرواق الطويل في إثره خالته‪..‬‬
‫كالهما يمأل أعينهم الذعر و عالمات اإلستفهام‬
‫‪...‬‬
‫‪-‬إيه إللي حصل ؟ ‪ ..‬تساءل "أدهم" و هو يلهج‬
‫بأنفاس عنيفة ما إن وصل أمامه‬
‫قام "مراد" واقفا ليواجههم‪ ،‬و تسابقت‬
‫"أمينة" بالتساؤًلت عقب إبنها ‪:‬‬
‫‪-‬في أي يا مراد بنتي فيـن ؟‬
‫وجه "أدهم" السؤال البديهي في الحال ‪:‬‬
‫‪-‬انت بتعمل إيه هنا أساسا ؟ ‪ ..‬و نظر ألمه ‪:‬‬
‫‪-‬إيمان مش المفروض مع مالك ؟‬
‫نظرت "أمينة" بدورها إلى "مراد" منتظرة‬
‫جواب سؤال إبنها منه هو‪ ..‬لكنه لم يرد‪ ...‬وقف‬
‫عاجزا تماما‬
‫يحدق فيهم فقط و تعابيره كلها خالية من أي‬
‫مشاعر ‪...‬‬
‫‪-‬مـا تـرررررردددددددددد !!!! ‪ ..‬صرخ‬
‫"أدهم" فيه ‪:‬‬
‫‪-‬إنطــق و قـولي أختـــي فيـــن‪ .‬حصلـها إيــه ؟‬
‫‪-‬هدوء من فضلكوا !‬
‫أتى الصوت الرجولي الصارم من خلفهم فجأة‬
‫إلتفت الجميع إليه‪ ،‬و نظر "أدهم" ليرى امامه‬
‫ضابط يرتدي الملكي‪ ..‬قبل أن ينبس أي منهم‬
‫بكلمة‪ ،‬تكلم الضابط الثالثيني بشدة ‪:‬‬
‫‪-‬حضرتكوا أكيد أهل المجني عليها ‪...‬‬
‫‪-‬المجني عليها ؟ ‪ ..‬قاطعته "أمينة" نائحة ‪:‬‬
‫‪-‬بنتـي جرى لها إيه ياناس‪ .‬بنتي فين‪ .‬أختك‬
‫فين يا أدهم ؟‬
‫رد الضابط بحزم ‪:‬‬
‫‪-‬إهدي يا مدام من فضلك‪ .‬احنا واقفين في‬
‫مستشفى و في مرضى نحترم ده لو سمحتوا‬
‫‪-‬أختي فين و حصلها إيه يافندم ؟ ‪ ..‬سأله‬
‫"أدهم" مباشرة‬
‫تنهد الضابط‪ ،‬ثم قال مشيرا بذقنه ‪:‬‬
‫‪-‬أختك جوا بيسعفوها يا أستاذ‪ .‬جات لنا إخبارية‬
‫بوصولها في حادث ف جينا و فتحنا محضر و‬
‫تم اإلستجواب‪ .‬ناقص أقوالها هي لما تتجاوز‬
‫الخطر و تفوق إن شاء هللا‬
‫تماسك "أدهم" و هو يواصل أسئلته ‪:‬‬
‫‪-‬حادث إيه بالضبط !؟‬
‫صمت األخير هنيهة مدركا جيدا نتائج ما‬
‫سيقوله عليهم‪ ،‬لكنه قال و هو ينقل نظراته بين‬
‫األخ و ابن الخالة في الخلف ‪:‬‬
‫‪-‬الفحص بين إن أختك اتعرضت لإلغتصاب‪ .‬و‬
‫تناولت أو حد أجبرها تاخد حبوب على جدول‬
‫المخدرات‪ .‬الكمية إللي بلعتها كبيرة‪ .‬دخلت في‬
‫غيبوبة و وظائف الكلى عطلت تماما‪ .‬الدكاترة‬
‫بيعملوا إللي عليهم ‪...‬‬
‫كان هذا كثيرا ليستوعبوه‪ ،‬بينما كادت "أمينة"‬
‫أن تنهار لوًل ذراع "أدهم" الذي ساندها فورا‪،‬‬
‫ذلك لم يمنعه من طرح السؤال األخير و األهم‬
‫حتى يكون متأكدا مئة بالمئة ‪:‬‬
‫‪-‬مين إللي عملها ؟‬
‫حدق الضابط للحظات في "مراد" الذي بدا‬
‫باردا‪ ،‬غير واعيا‪ ،‬و قبل أن يجاوب أشار‬
‫لفردين من العساكر خلفه ليحضرا تحسبا ‪:‬‬
‫‪-‬األستاذ ده جابها على هنا‪ .‬بسؤاله عن ده‪..‬‬
‫مأنكرش !‬
‫قبل أن يتمكن أي أحد من مالحظة أي شيء‪،‬‬
‫وصلت قبضة "أدهم" إلى فم "مراد" ‪...‬‬
‫تعثر للخلف‪ ،‬لكن "أدهم" لحق به فورا‪ ،‬أمسكه‬
‫من ياقته و لكمه على أنفه بقوة‪ ،‬لم يفعل‬
‫"مراد" أي شيء‪ ،‬ألنه بطريقة ما يشعر‬
‫بالذنب‪ ،‬بطريقة ما يلقي باللوم كله على نفسه‬
‫ترك إبن خالته يظن هذا فيه كليا‪ ،‬و حتى لو‬
‫أراد أن يزهق روحه فلن يدافع عن نفسه ‪...‬‬
‫‪-‬سيبـــوووووووني‪ .‬محـدش يمسكنـي !!!!! ‪..‬‬
‫صاح "أدهم" بضراوة في إثنين من العساكر‬
‫األشداء‬
‫لو كانا أقل سعة في البدن لما تمكنا من تخليص‬
‫"مراد" منه مطلقا‪ ،‬قاطع المقعد المعدني‬
‫سقوط "مراد"‪ ..‬بينما يصرخ "أدهم" محاوًل‬
‫اإلفالت و عينيه صوب "مراد" تلتمعان‬
‫بوحشية ‪:‬‬
‫‪-‬مع إيمـان‪ .‬عملـت كده في أختــــي‪ .‬يا كلـب‪ .‬يا‬
‫خايــن‪ .‬مش هاسيبك‪ .‬مش هاسيبـك يـا‬
‫مـرااااااااااااااااد !!!!!‬
‫إندفع عسكر ثالث نحو "مراد" يمسك به‪،‬‬
‫يمنعه على فرض لو أراد رد الصاع إلبن خالته‬
‫الهائج‪ ،‬لكنه بقى هادئا‪ ،‬إن يفعل في أي شيء‬
‫فهو يستحق ذلك‪ ...‬و ًل يسعه اآلن إًل المثول‬
‫أمامه هكذا‪ ..‬يتلقى كلمات و نعوت تغرس‬
‫بروحه كنصال حادة‬
‫لو يقتله لكان أهون !‬

‫يتبع ‪...‬‬
‫انتهى الفصل الرابع والعشرون ‪..‬‬
‫‪25‬‬

‫كانت تشعر و كأنها نامت لسنوات طويلة‪ ..‬و ها‬


‫هي قد استيقظت للتو !‬
‫لحظة ‪...‬‬
‫إنها حية !!؟؟؟‬
‫لماذا بحق الجحيم ؟؟؟‬
‫لماذا بعد أن ظنت بأنه الخالص‪ ...‬تعود مجددا‬
‫!!!!‬
‫موصولة باألجهزة‪ ،‬و أنابيب األكسجين بفتحتي‬
‫أنفها‪ ،‬أحست بهبوط حاد في قواها‪ ،‬لم تتحرك‬
‫بسهولة كذلك فتحت عينيها بصعوبة بينما‬
‫يخرج صوتها عبارة عن همهمة ‪...‬‬
‫‪-‬إيمـان !‬
‫سمعت صوت أمها فوق رأسها‪ ،‬ثم ميزت‬
‫لمستها على وجهها و شعرها‪ ،‬أزاحت جفناها‬
‫بجهد و رأت خياًلت بادئ األمر‬
‫حتى صفت الرؤية تدريجيا و وضح وجه أمها‬
‫أمام عينيها ؛‬
‫صاحت "أمينة" بتلهف بينما الدموع تفيض‬
‫من عينيها ‪:‬‬
‫‪-‬حبيبتي يابنتي‪ .‬حمدهلل على سالمتك‪ .‬أنا كنت‬
‫بموت يا إيمان‪ .‬من خوفي عليكي‪ ..‬ربنا رحم‬
‫قلبي‪ .‬يارب يطمني عليكي يابنتي ماشوفش‬
‫فيكي سوء تاني يا إيمان !!‬
‫كانت مصابة بالجفاف لدرجة أنها بدأت تبكي‬
‫دون ذرف دمعة واحدة‪ ،‬ضمتها أمها إلى‬
‫صدرها مواسية ‪:‬‬
‫‪-‬بس‪ .‬بس يا حبيبتي‪ .‬اسم هللا عليكي‪..‬‬
‫ماتخافيش أنا امك هنا‪ .‬جنبك‪ .‬محدش يقدر‬
‫يئذيكي طول مانتي في حضني‪ .‬أنا طول الليل‬
‫كنت جنبك‪ .‬ماسبتكيش لحظة !‬
‫لم تستوعب "إيمان" إنها غابت عن الوعي‬
‫ليلة كاملة‪ ،‬أو لعلها أكثر من ليلة‪ً ..‬ل تدري ‪...‬‬
‫‪-‬آ‪ .‬أ أد هم ! ‪..‬تأتأت "إيمان" بمشقة‬
‫ردت عليها "أمينة" في الحال ‪:‬‬
‫‪-‬بنتك هاتتجنن عليكي‪ .‬أخوكي راح يجيبها‪.‬‬
‫زمانه على وصول يا حبيبتي اطمني ‪...‬‬
‫و نزحت دموعها بظاهر كفها قائلة ‪:‬‬
‫‪-‬أنا هاروح أدي خبر للدكتور إنك فوقتي‪ً .‬لزم‬
‫تخرجي من العناية دي‪ً .‬لزم تخرجي من‬
‫المستشفى دي كلها في أقرب فرصة‪ ..‬بيتك‬
‫أولى بيكي يابنتي !‬

‫*****‬
‫كان يجلس بالمخفر اآلن‪ ،‬في قفص اإلحتجاز و‬
‫األغالل بيديه‪ً ،‬ل يدرك أن فمه متورم و ينزف‬
‫ببط جراء لكمات ابن خالته‪ً ،‬ل زال في نفس‬
‫الحالة الواجمة التي كان عليها بالمشفى ‪...‬‬
‫تسيطر عليه فكرة فقدانها‪ ..‬يفكر كيف يمكنه‬
‫العيش بدونها !؟‬
‫بعد ضل بعدها لسنوات و عاد ليكتشف بأنها‬
‫أرضه و قراره‬
‫خارطته‪ ،‬وجهته‪ ،‬بوصلته‪ ،‬منارته‪ ...‬إنها امرأة‬
‫حياته كلها و حبه الوحيد‬
‫ًل‬
‫سيكون أكبر عقاب له‬
‫لن يتحمله و لن يقو على عيش أي حياة !!!‬
‫‪-‬مـرااااد !‬
‫إلتقطت أذنيه نداء والدته الهلوع‪ ،‬ردة فعله كلها‬
‫عبارة عن ًلمباًلة‪ ،‬لم يعير مطلق شيء إهتمام‪،‬‬
‫بينما والديه يقتحمان المخفر معهما المحامي‬
‫‪...‬‬
‫ركضت أمه إليه مباشرة و الفزع يعلو وجهها ‪:‬‬
‫‪-‬مراد‪ .‬إللي حصل ده حقيقي ؟؟؟ ررردددد عليا‬
‫يا مـراد صحيح إللي خالتك أمينة قالته ده‬
‫!!؟؟؟؟‬
‫لم تحصل منه على أي رد‪ ،‬و لم ترى من وجهه‬
‫شيء سوى أمارات الخواء‪ ،‬فكتمت فمها بكفيها‬
‫قبل أن تطلق صراخ الصدمة‪ ،‬ما لبث زوجها أن‬
‫لحق بها تاركا المحامي يلج أوًل إلى مالزم‬
‫القسم ؛‬
‫أحاط بكتفي زوجته و هو يتطلع إلى إبنه بغضب‬
‫مستطير و يهتف من بين أسنانه ‪:‬‬
‫‪-‬عملت إيـه ياًل‪ .‬هه‪ .‬فضتحتنا‪ ..‬إزاي تعمل كده‪.‬‬
‫كنت بتفكر إزاااي يا حيـوااان‪ .‬دي بنت خالتـك‬
‫!!!!‬
‫كان "محمود" قد ترك زوجته اآلن و إندفع‬
‫نحو القفص الحديدي محاوًل الوصول إلبنه‬
‫عبثا‪ ،‬أتى عسكري ليضع حدا لتلك المشادة‬
‫صائحا بصرامة ‪:‬‬
‫‪-‬ماينفعش كده يا أستاذ‪ .‬انت مفكر نفسك فين‪.‬‬
‫ابعد عن القفص لو سمحت !‬
‫تراجع "محمود" بزوجته مذعنا لآلوامر‪ ،‬في‬
‫نفس اللحظة يظهر "رامز األمير" برفقته‬
‫شخصية معروفة بالمخفر‪ ،‬رجل ضخم أسمر‬
‫البشرة أعطى أمره للعساكر ليفتحوا القفص‬
‫حتى يلج "رامز" إلى صديقه ‪...‬‬
‫‪-‬مراد إيه إللي حصل ده !؟ ‪ ..‬قالها "رامز"‬
‫بصوته األجش ما إن صار بداخل القفص مع‬
‫صاحبه‬
‫أغلق العسكري عليهما‪ ،‬ليقوم "مراد" واقفا‬
‫في مواجهته‪ ،‬نظر مباشرة في عينيه و قال‬
‫بقتامة ‪:‬‬
‫‪-‬رامز‪ ..‬بعد كل الوقت ده‪ .‬ماتخيلتش نتقابل‬
‫تاني في ظروف زي دي !‬
‫تنهد "رامز" بعمق متهمال في ردة فعله و قال‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬أنا حلفت لك‪ .‬ماعنديش أي فكرة عن كل إللي‬
‫حصل‪ ..‬جرى إيه يا مراد‪ .‬احنا معرفة إمبارح‪.‬‬
‫ده انت صاحبي ياض‪ .‬صاحبـي !!‬
‫عبس "مراد" قائال بلهجة ضبابية ‪:‬‬
‫‪-‬و عشان انت صاحبي‪ .‬أنا كلمتك‪ ..‬قولي يا‬
‫رامز كنت غلط لما كلمتك !؟‬
‫رامز بقوة تنم عن قسوة ‪:‬‬
‫‪-‬رامز األمير بيعرف يقف جنب أصحابه كويس‬
‫و انت عارف يا مراد‪..‬أنا رقبتي ليك‬
‫أومأ له و قد ًلح شبح ابتسامة على ثغره‪ ،‬دنى‬
‫منه قليال ليسأله ‪:‬‬
‫‪-‬الواد إللي اسمه مالك ده‪ .‬وقع في سكتك إزاي‬
‫؟‬
‫جاوبه "رامز" على الفور ‪:‬‬
‫‪-‬أخوه كان بيسهر مع شلتنا من زمان‪ .‬اتعرفت‬
‫على سيف بعد ما سافرت انت علطول‪ .‬ماكنش‬
‫صاحبي أوي بس كان بيجي عندي و كنت بجيب‬
‫له ‪ .......‬من إللي بنوزعها في سهراتنا بس‬
‫ًلقيته دخل في سكة أكبر و غوط أوي ف قطعت‬
‫معاه‪ .‬لحد ما عرفت بعد فترة إنه مات أوفردوز‬
‫و روحت أعزي فيه و شفت مالك‪ .‬من هنا بدأت‬
‫صحوبيتنا‪ .‬هو بان جدع و بصراحة ماعرفش‬
‫اتخدعت فيه إزاي‪ ..‬فهمني بقى انت إيه الحكاية‬
‫!!؟‬
‫كان "مراد" يصوغ جيدا القصة التي سردها‬
‫صديقه للتو‪ ..‬بينما األخير ًل يزال بانتظار رده‬
‫‪...‬‬
‫‪-‬مشيته من عندك ؟ ‪ ..‬سأله "مراد" محدقا‬
‫بعينيه من جديد‬
‫أومأ "رامز" ‪ :‬مشي بعد ما مشيت انت علطول‬
‫‪-‬تعرف تجيبه تاني ؟‬
‫‪-‬سهلة‪ .‬عايزه فين ؟‬
‫رد "مراد" ساهما و كأنما يرى لقطة من‬
‫المستقبل أمام عينيه ‪:‬‬
‫‪-‬في نفس المكان‪ .‬عندك‪ ..‬تجيبه و ماتسبهوش‬
‫غير لما أطلع و أجي لك !‬
‫رغم إنه لم يكن واثقا ما إذا كان سيخرج من‬
‫هنا ‪...‬‬

‫*****‬
‫تم نقلها بالفعل إلى غرفة مخصصة‪ ،‬بعد التأكد‬
‫من إفاقتها التامة و اإلطمئنان على مؤشراتها‬
‫الحيوية‪ ،‬بعد قضاء أكثر من ثماني عشر ساعة‬
‫بالعناية الفائقة‪ ..‬تلقى "أدهم" البشرى من أمه‬
‫عبر الهاتف بينما كان يقود في طريقه إلى‬
‫المشفى‬
‫كانت إبنة أخته تجلس في الكرسي بجواره‪ ،‬و‬
‫قد كفت عن البكاء بصعوبة بعد أن شرح لها‬
‫"أدهم" على قدر استيعابها سبب تواجد أمها‬
‫بالمشفى‪ ،‬دون الخوض في أي تفاصيل‪ ،‬نجح‬
‫في ترويض خوفها على أمها و وعدها أن كل‬
‫شيء بخير‬
‫من جهة أخرى عقله هو لم يكف عن التفكير‪،‬‬
‫كذا لم يكف عن محاولة التواصل مع زوج‬
‫أخته‪" ..‬مالك"‪ ...‬لكن ذاك األخير ًل يرد أبدا‬
‫على إتصاًلته !‬
‫أين هو يا ترى ؟‬
‫إن البارحة كلها لغزا‪ ،‬لن يفك هذا اللغز سوى‬
‫واحد من ثالثة‪" ..‬إيمان" أو "مالك"‪ ...‬أو‬
‫"مراد" !!!‬
‫على أية حال لن يثقل على أخته اآلن‪ ،‬لتتحسن‬
‫حالتها أوًل‪ ،‬ثم لكل حادث حديث‪ ،‬و لن يترك‬
‫ثأرها أبدا مهما كلفه األمر ‪...‬‬
‫‪-‬السالم عليكم ! ‪ ..‬قالها "أدهم" و هو يلج إلى‬
‫الغرفة الخاصة بأخته‬
‫تركت "لمى" يده و ركضت نحو السرير الذي‬
‫ترقد فوقه "إيمان" ‪...‬‬
‫كان "أدهم" يحمل في يده األخرى حقيبة‬
‫صغيرة بداخلها بعض المالبس لـ"إيمان" بعثت‬
‫"أمينة" في طلبها من زوجة إبنها‪ ،‬رتبتها‬
‫"سالف" بنفسها و أرسلتها مع زوجها‪ ،‬مضت‬
‫"أمينة" نحو ابنها و أخذتها منه متمتمة ‪:‬‬
‫‪-‬تسلم إيدك يا حبيبي‪ .‬هات عنك‬
‫‪-‬مـامــي ! ‪ ..‬هتفت "لمى" بشوق و لهفة على‬
‫أمها‬
‫كانت تقفز محاولة الصعود إلى جوارها‪ ،‬حتى‬
‫جاء خالها و رفعها على ذراعه لتجلس على‬
‫حافة السرير بجانب أمها‪ ،‬ثم تراجع للوراء‬
‫مانحا إياهما بعض المساحة‬
‫في هذه األثناء كانت "إيمان" ترمق إبنتها‬
‫بغرابة‪ ،‬كانت تراها بعين أخرى‪ ،‬و كأنها تنظر‬
‫إليها ألول مرة‪ً ..‬ل تعرف لماذا خافت بغتة !‬
‫‪-‬سالمتك يا مامي ! ‪ ..‬تمتمت الصغيرة بصوتها‬
‫الموسيقي الحلو‬
‫طوقت عنق أمها بذراعيها القصيرين و‬
‫احتضنتها بقوة‪ ،‬ثم ارتدت لتنظر إليها ثانية و‬
‫هي تقول بتلك اإلبتسامة الموروثة ‪:‬‬
‫‪-‬بعد الشر عليكي ‪...‬‬
‫إنقبض قلب "إيمان" و هي تحملق فيها‪ً ،‬ل‬
‫يسعها إًل رؤية "سيف"‪" ..‬سيف" قام من‬
‫األموات اآلن و يتجسد أمامها‪ ...‬حتى أن رائحة‬
‫الطفلة و كأنها رائحته هو تماما تنبعث من خالل‬
‫شعرها و ثيابها و كل شبر منها‬
‫و كأن قنبلة خوف انفجرت بداخلها‪ ،‬شحذت‬
‫"إيمان" قواها لتدفع بإبنتها من حضنها‪،‬‬
‫لدرجة أن حركتها المفاجئة أذتها أوًل و انتزعت‬
‫األنابيب التي تحيط برسغيها‬
‫سقطت "لمى" فوق األرض بقسوة و صدمت‬
‫رأسها ‪...‬‬
‫‪-‬آاااااه ! ‪ ..‬تأوهت "لمى" متألمة و شعرت‬
‫بالصدمة من تصرف أمها‬
‫بينما يندفع "أدهم" نحوها مسرعا و هو يصيح‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬إيـــه يا إيمــان‪ .‬لمــى قومـي يا حبيبتي على‬
‫مهلك !!!‬
‫و تطلع إلى أخته بغضب‪ ،‬كانت "أمينة" قد‬
‫تركت ما بيدها و أسرعت إلى إبنتها‪ ،‬أحاطت‬
‫بكتفيها هاتفة ‪:‬‬
‫‪-‬إيمان‪ .‬مالك يابنتي حصل إيـه !؟؟‬
‫إهتاجت "إيمان" و هي تنظر إلى صغيرتها بين‬
‫أحضان خالها و صرخت بهسترية ‪:‬‬
‫‪-‬خدوها من هنا‪ .‬ابعدوها عنـي‪ .‬مش عايـزة‬
‫أشوفهـا مش عايزاهـاا ‪...‬‬
‫ازدادت صدمة الصغيرة و هي ترى أمها تشير‬
‫إليها و تقول ذلك‪ ،‬انهمرت دموعها غريزيا و لم‬
‫يفلح تربيت "أدهم" عليها و ًل أي من مواسته‬
‫في تهدئتها ‪...‬‬
‫‪-‬بــس اسكتـي‪ .‬إنتي في وعـيك !! ‪ ..‬صاح‬
‫"أدهم" فيها غاضبا‬
‫لكنها لم تصمت‪ ،‬و لم تهدأ أبدا‪ ،‬و كأن شيطانا‬
‫تلبسها ‪...‬‬
‫‪-‬خدها من هنـا‪ .‬مشيها‪ .‬دي مش بنتي‪ .‬دي بنت‬
‫سيـف‪ .‬بنته هـو مش بنتـــي خدهـااااااااااااا ‪...‬‬
‫بدأ صوت بكاء الصغيرة يمأل الغرفة‪ ،‬و ناحت‬
‫من بين عويلها و هي تكافح ذراعي خالها‬
‫لتحاول العودة ألحضان أمها ‪:‬‬
‫‪-‬مامي‪ .‬أنا لمى‪ .‬أنا مش عفريتة‪ ..‬ماتخافيش‬
‫مني‪ .‬أنا لمى يا مامي !!!‬
‫لم تؤثر فيها مثقال ذرة و صممت "إيمان"‬
‫على رغبتها بصراخ مستميت ‪:‬‬
‫‪-‬خدوهـا من هنـا‪ .‬أنا بكرهـها‪ .‬بكرهـها و بكره‬
‫اليوم إللي جت فيه‪ .‬خدوا بنت سيف من هنا‬
‫مش عـايزاهــاااااااااااا ‪...‬‬
‫كان هذا كارثيا على الطفلة أن تسمعه‪ ،‬حتى أن‬
‫"أدهم" وضع كفيه على أذنيها لكي ًل تسمع ما‬
‫تقوله أمها‪ ،‬ثم ما لبث أن قام و أخذها بالفعل‬
‫إلى الخارج‬
‫ظل يحتضنها و يهدهد لها ماشيا بها في الرواق‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬إششش‪ .‬خالص يا حبيبتي‪ .‬ماتعيطيش‪ ..‬حقك‬
‫عليا أنا‪ .‬قوليلي في حاجة بتوجعك !؟‬
‫و جلس فوق أحد الكراسي المعدنية و أجلسها‬
‫فوق قدمه‪ ،‬أخذ يتفحص رأسها متمتما ‪:‬‬
‫‪-‬إتعورتي و ًل حاجة !؟‬
‫لكنها تقريبا لم تكن تسمعه‪ ،‬فغير بكائها الذي‬
‫غطى على صوته بأذنها‪ ،‬كانت كلمات أمها‬
‫تتردد على مسامعها مرارا و تكرارا‪ ..‬هذه‬
‫الطفلة الصغيرة المسكينة‬
‫اليوم عرفت ما هي الصدمة !‬

‫يتبع ‪...‬‬
‫انتهى الفصل الخامس والعشرون‬
‫‪26‬‬

‫"أما قبل ؛ كنت األول لك ‪ ،‬أما بعد‪ ..‬أنت‬


‫األخيرة لي !"‬

‫_ مراد‬

‫ربما تحسنت حالتها الصحية‪ ،‬و لكن حالتها‬


‫النفسية ًل زالت من سيئ إلى أسوأ‪ ،‬مع ذلك لم‬
‫يمتنع "أدهم" أكثر عن طرح أسئلته العاجلة‬
‫عليها‪ ،‬كان بحاجة أن يعرف ما صار معها مهما‬
‫كانت العواقب‪ ..‬كان سيخاطر بأي شيء‬
‫حتى حصل على ما أراد في األخير‪ ،‬اعترفت‬
‫"إيمان" بكل شيء‪ ،‬فقط حين أخبرها "أدهم"‬
‫بأن "مراد" موقفا بالمخفر‪ ،‬و أن هو المتهم‬
‫باختطافها و اإلعتداء عليها‪ ،‬عندما سمعت كل‬
‫هذا خرجت عن صمتها و خجلها و كل خزيها ؛‬
‫قالت له الحقيقة‪ ،‬و أن "مالك" زوجها هو الذي‬
‫فعل كل الجرائر التي ذكرها‪ ،‬لم يرف لها جفن و‬
‫هي تخبره بكل شيء جرى وقد إنشغل قلبها فقط‬
‫بما قصه عليها‪" ..‬مراد" !‬
‫لقد عرف مكانها‪ ..‬لقد أتى لينقذها و زوجها‬
‫اآلن هارب‬
‫ًل أحد يعرف بمكانه‬
‫"مراد" ‪...‬‬
‫إنه‪ ..‬بطلها !!!‬
‫ًلحقا تطلب األمر لتسكين روعها و آًلمها حقنة‬
‫مهدئة‪ ،‬خاصة و إنها ًل زالت عدائية تجاه‬
‫ابنتها‪ً ،‬ل تتقبلها أبدا مهما تحدثوا إليها‪ ،‬لو‬
‫أخبرها أحد بأن هذا اليوم آت و إنها سوف‬
‫تكرهها إلى هذا الحد لم تكن لتصدق‪ ،‬لكنه حدث‬
‫‪...‬‬
‫ًل تعرف كم مر عليها من الوقت نائمة‪ ،‬و لكن‬
‫في تقديرها فقد مر الكثير‪ ،‬ربما يوم أو يومين‪،‬‬
‫أو حتى شهر‪ ،‬كان الزمن بطيئا بالنسبة لها و‬
‫هي خاضعة هكذا للنوم اإلجباري‪ ،‬بعد أن ترك‬
‫الطبيب المنتدب لطب النفس مالحظة بأًل‬
‫يزورها أحد من عائلتها لفترة محددة‪ ،‬أرادت أن‬
‫تشكره على هذا‪ ،‬رغم شعورها بالوحدة و‬
‫الوحشة‪ ،‬لم تشعر إنها بحاجة ألمها أو أخيها أو‬
‫حتى إبنتها‪ ..‬بل الحقيقة كانت تحتاجه هو !‬
‫مرضها و شفائها في آن‪ ،‬روحها المنقسمة‬
‫منها ًل تكتمل إًل بوجوده‪ ،‬حبها الوحيد‪ ،‬الشيء‬
‫الذي ربما تموت ألجله‪ ،‬عشقها األناني‪ً ،‬ل‬
‫يمكنها أن تبرأ منه حتى و إن أرادت‪ ،‬إن جذوره‬
‫ممتدة بأعماقها‪ ،‬إن اقتلعتها خرجت روحها ‪...‬‬
‫ظنت أنه ربما كابوسا يراودها مثل كل مرة‪ ،‬في‬
‫السابق كان زوجها الراحل بطل كل تلك‬
‫الكوابيس‪ ،‬و مؤخرا أخيه‪ً ،‬ل تدري أيهما‬
‫سيزورها الليلة !‬
‫لكن للعجب ‪...‬‬
‫تشعر بأنها ليست نائمة‪ ،‬تعرف ذلك‪ ،‬و رغم‬
‫احساسها بالخطر إًل إنها ظلت متجمدة‪ً ،‬ل ترى‬
‫و ًل تتحرك‪ ،‬فقط تستمع لتلك الخطوات تقترب‬
‫منها‪ ...‬و فجأة !‬
‫انتشرت صعقة كهربائية من معدتها إلى كافة‬
‫أعضاؤها و شرايينها‪ ،‬ذلك إلدراكها بأن ما من‬
‫أحد غيره‪ ،‬هو‪" ..‬مراد" ‪...‬‬
‫هذا ليس حلما‪ ..‬و ًل يوجد رجل معها اآلن‬
‫سواه‬
‫ألنها تشعر به كشعورها بالحياة‪ ،‬و ألن ًل أحد‬
‫آخر يستطيع أن يجعل جسمها يتفاعل مثل اآلن‬
‫غيره هو‪ ،‬و حتى دون أن يلمسها ‪...‬‬
‫تغمض عينيها بشدة و تترقب بينما دقات قلبها‬
‫تتسارع و عضالتها تتصلب أكثر‪ ...‬إنها‬
‫مرتعبة‪ ،‬حائرة‪ ،‬بائسة !!!‬
‫شهقت "إيمان" دون أن تفتح عينيها في‬
‫اللحظة التي لمست كفه جبينها و شعرها‪،‬‬
‫جاشت مشاعرها من مجرد لمسته‪ ،‬أرادت أن‬
‫تنفجر‪ ،‬أن تصرخ و تعلم أن صرختها ستكون‬
‫أطنانا من الحسرة و الحزن ‪...‬‬
‫‪-‬إيماني !‬
‫ًل يصدق ما يمكن أن يفعله بقلبها سماع صوت‬
‫تمنت كثيرا أن تسمعه‪ ...‬نطق بكلمة واحدة‪ ،‬إًل‬
‫أنه بتلك الكلمة أذاب قلبها و أعاد قولبته من‬
‫جديد‬
‫يهمس "مراد" مرة أخرى مقابل شفتيها‬
‫مباشرة ‪:‬‬
‫‪-‬أنا عارف إنك صاحية و سمعاني‪ .‬أنا خدت لك‬
‫حقك‪ .‬و أدهم مش هايعرف حاجة‪ .‬خالص‪.‬‬
‫ماعادش حد يقدر يئذيكي من إنهاردة‪ ..‬عدي‬
‫من هنا لتالت شهور‪ .‬هاتجوزك‪ .‬هاعمل لك‬
‫أحلى فرح‪ .‬كل حاجة هانعملها من أول و جديد‬
‫سوا كأنها أول مرة‪ .‬مش هاتشوفي في إللي‬
‫باقي من عمرك غير السعادة‪ .‬السعادة و بس‪..‬‬
‫يا إيماني !‬
‫_____‬

‫قبل إثنى عشر ساعة ‪...‬‬


‫نجح "رامز األمير" بعالقاته و بعض نفوذه‬
‫بالحصول على أمر افراج عن صديقه مقابل‬
‫كفالة مالية‪ ،‬ليخرج "مراد" معه متجهين رأسا‬
‫إلى مزرعة "األمير"‪ ..‬حيث يتحفظ "رامز"‬
‫على "مالك" كما أوصاه صديقه‬
‫خلف الواجهة الخضراء‪ ،‬هناك عند اصطبل‬
‫الخيل‪ ،‬المبنى المخصص لتجهيز الجياد‪ ،‬كان‬
‫"مالك" يجلس مكلل باألغالل و قد وقف فوق‬
‫رأسه فردان من الحراسة‬
‫بدا أنه لم يلمسه أحد‪ ..‬حتى اآلن !!‬
‫‪-‬رامز ! ‪ ..‬صاح "مالك" ما إن رأى الرجل‬
‫الوحيد الذي يعرفه هنا‬
‫لم يخف هلعه و التوتر الشديد الذي ألم به‪ ،‬ما‬
‫كاد يستطرد شيئا آخر إًل و صدم برؤية‬
‫"مراد" و هو يظهر فجأة من وراء صديقه‪،‬‬
‫مظهره القاتم المفزع يوحي كما لو أنه قباض‬
‫األرواح حرفيا ‪...‬‬
‫في المقابل‪ ،‬سخن الغضب كل عضلة بجسم‬
‫"مراد" و هو يرى غريمه‪ ،‬ذاك الفتى الذي‬
‫قيمته بالكاد تساوي صفرا‪ ،‬أخذ منه حبيبته و لم‬
‫يكتف بهذا‪ ،‬دمرها‬
‫هذا الولد المريض على شاكلة أخيه‬
‫تسبب بتعاسة "إيمان" و أذاقها أمر كؤوس‬
‫الذل و المهانة و قد تخطى األمر حدود الكتمان‬
‫!!!‬
‫رفع "مراد" عينيه الغضب يسري بكثافة‬
‫بشرايينه‪ ،‬لم تنفصل نظراتيهما عن بعض بينما‬
‫ينطلق نحوه اآلن‪ ،‬كان على استعداد تام‬
‫لضربه‪ ،‬المرة السابقة أنقذه "أدهم" من بين‬
‫يديه‪ ،‬لكنه اليوم لن يجد من يخلصه ‪...‬‬
‫‪-‬فكوه ! ‪ ..‬قالها "مراد" محتدا و هو يحدق‬
‫مباشرة بعينيه‬
‫أراد أن يكون العراك بينهما متكافئا‪ ،‬و بالفعل‬
‫امتثل الرجلين ألمره و فكا القيود عن "مالك"‬
‫‪...‬‬
‫‪-‬أقف ياض ! ‪ ..‬هتف "مراد" و هو يخلع‬
‫ساعة يده الثمينة و الخاتم ذو حجر العقيق‬
‫األسود الضخم ببنصره‬
‫سلمهما لصديقه و بقى في انتظار األخير ‪...‬‬
‫ازدرد "مالك" ريقه بصعوبة و هو يرنو إلى‬
‫"مراد" مضيقا عينيه‪ ،‬فرك معصميه مدركا أن‬
‫ًل مهرب من هنا قبل أن يتغلب أحدهما على‬
‫اآلخر‪ ،‬رغم ثقته بأنه كفته لن تكون هي‬
‫الراجحة‪ ،‬لكنه كان مجبورا !‬
‫و مدفوعا بالحقد المختزن بدواخله تجاهه‪ ،‬وثب‬
‫"مالك" واقفا و هو يجمع قبضته و يرجعها‬
‫للخلف ليصوبها بكل قوته إلى وجه "مراد" ‪...‬‬
‫صد "مراد" الضربة بكفه و أطبق على قبضة‬
‫"مالك" بقبضته الفوًلذية‪ ،‬أمسك "مالك"‬
‫تأوها و حاول تسديد لكمة أخرى بقبضته‬
‫الثانية‪ ،‬صدها "مراد" من جديد و صار يعتقل‬
‫اإلثنتين‬
‫جاءت ردة فعله التالية مباغتة و هو يتجذبه‬
‫لينطحه برأسه في جبهته مباشرة‪ ،‬كانت ضربة‬
‫كفيلة لتفقده وعيه‪ ،‬لوًل أنه استمر في تكييل‬
‫المزيد إليه‪ ،‬سقط "مالك" فوق القش من شدة‬
‫الضربات التي يتلقاها‪ ،‬لم يجعله "مراد" يلتقط‬
‫أنفاسه‪ ،‬أمسكه من ثيابه و رماه في األرجاء‬
‫كان الدم يطفر من وجه "مالك" بالكامل‪ ،‬ما‬
‫دفع "رامز" للتدخل و هو بالكاد يلمس كتف‬
‫صديقه ‪:‬‬
‫‪-‬مراد‪ .‬إهدا يا راجل مش كده ‪...‬‬
‫‪-‬ماتلمسنيش يا راامـز !!! ‪ ..‬صاح "مراد"‬
‫مهتاجا‬
‫تراجع "رامز" مذعنا و لكنه بقى متأهبا ألي‬
‫تهور يقدم عليه الثور الهائج الذي أمامه ‪...‬‬
‫ما زال "مراد" متشبثا بـ"مالك" و لم يحرره‪،‬‬
‫ضرب رأسه على لوح معدني بالقرب‬
‫يلهث "مراد" و قد غطى العرق صدره و ظهره‬
‫و رئتيه تتوسالن للهواء‪ ،‬لكنه لم يحرم نفسه‬
‫من اإلجهازعليه بالقاضية‪ ،‬فسددها إليه بركبته‬
‫أسفل حزام خصره تماما ‪...‬‬
‫تلك الضربة التي امتصت أنفاسه و أفغرت فاهه‬
‫دون أن يسحب أو يزفر نفسا واحدا‪ ،‬تلون‬
‫وجهه باألزرق و األصفر و هو يضع يديه فوق‬
‫ذكورته‪ ،‬تركه "مراد" أخيرا ليسقط فوق‬
‫التراب و الحصى‪ ،‬استدار عنه شادا عضالته‬
‫المنقبضة و ساحبا إلى رئتيه بعض الهواء عبر‬
‫فمه‬
‫شد "مراد" المقعد الخشبي الوحيد ليجلس أمام‬
‫"مالك" الذي ًل يزال على وضعيته فوق‬
‫األرض‪ ،‬شمر عن ساعديه و فك زر آخر من‬
‫أزرار قميصه‪ ،‬ثم مد يديه ليمسكه من تالبيبه و‬
‫يرفعه نحوه قليال ‪...‬‬
‫‪ً-‬لاااا فوق لي كده ده إحنا لسا بنسخن ! ‪..‬‬
‫غمغم "مراد" بغلظة من بين لهاثه‬
‫‪-‬مش عامل فيها دكر ياض‪ .‬هه‪ .‬بـص لـــي‪ .‬أنا‬
‫مافيش اغراء ليا الساعة دي أد إني أدفنك حي‬
‫الليلة ‪..‬‬
‫تطلع "مالك" إليه و هو يبصق دما من فمه‪،‬‬
‫ارتسمت ابتسامة مزدرية على ثغر "مراد" و‬
‫هو يستطرد ‪:‬‬
‫‪-‬انت ماختش في إيدي غلوة ياًل‪ .‬رايح تعمل‬
‫راجل على واحدة ست !؟؟‬
‫أخذ األخير يسعل قليال‪ ،‬ثم إلتقط أنفاسه ليقول‬
‫بصعوبة ‪:‬‬
‫‪-‬أنا عارف كل حاجة‪ .‬عارف إللي بينك و بين‬
‫إيمان‪ ..‬عارف إنها كانت مقرطسة أخوها و‬
‫أخويا و بتنام معاك !‬
‫لم تؤثر فيه أقوال غريمه‪ ،‬فقد كان يتوقع مسبقا‬
‫علمه باألمر‪ ،‬مضى يقول بسخرية منه ‪:‬‬
‫‪-‬مقرطسة أخوها دي مالكش فيها‪ .‬أما بالنسبة‬
‫ألخوك‪ .‬مش يمكن كان يعرف إنها نامت معايا و‬
‫شادد بالستر على بؤه‪ .‬عمرك ما فكرت فيها ؟‬
‫حملق "مالك" فيه غير مصدقا‪ ،‬فأردف‬
‫"مراد" بتبجح ‪:‬‬
‫‪-‬أيوة إيمان نامت معايا‪ .‬و أخوك عرف من قبل‬
‫ما يتجوزها و قبلها على نفسه‪ .‬انت بقى عشان‬
‫ماستحملتش يا دكر مفكر إنك ممكن تنتقم‬
‫لرجولتك المعدومة انت و أخوك ؟‬
‫كانت الصدمة أشد اآلن على "مالك"‪ ..‬معرفته‬
‫بأن أخيه كان يعلم ذلك السر و تقبله !!!‬
‫عقله لم يستوعبها ‪...‬‬
‫‪-‬ده انا هافضحها و هافضحك ! ‪ ..‬غمغم‬
‫"مالك" و دماء الغضب محتقنة بوجهه‬
‫وكزه "مراد" بقبضته في كتفه‪ ،‬فكتم أنين متألم‬
‫بينما يستمع إلى صوته الصلب ‪:‬‬
‫‪-‬أنا عايزك تفكر تقرب ناحيتها تاني بس‪.‬‬
‫ساعتها هامحيك‪ .‬هاشيلك من على وش الدنيا‬
‫كلها‪ .‬و أنا أقدر أعمل كده بسهولة و أنا بشرب‬
‫فنجان قهوتي‪ .‬و بردو مش هاتعرف تضرها‬
‫طول ما أنا عايش و بتنفس ‪..‬‬
‫رمقه "مالك" بنظرات حاقدة مغلولة و هو‬
‫يقول مزمجرا ‪:‬‬
‫‪-‬انت عايز مني إيه‪ .‬جايبني هنا ليه !؟؟‬
‫تماوجت على شفتيه ابتسامة شيطانية و هو‬
‫يهتف دون أن يحيد ناظريه عنه ‪:‬‬
‫‪-‬رامــز !‬
‫جاء "رامز" من خلفه حامال في يده ظرف‬
‫ورقي‪ ،‬راقب "مالك" بتوجس ما يفعله‬
‫"مراد"‪ ..‬بينما يستل "مراد" أول ورقة‬
‫مستطيلة الشكل و هو يتمتم بأريحية ‪:‬‬
‫‪-‬طبعا الشيك ده مألوف ليك‪ .‬كنت ماضي على‬
‫بياض لرامز عشان يمول ورشة السيارات‬
‫بتاعتك‪ .‬بس إللي ماكنتش تعرفه جنابك إن‬
‫رامز األمير ده صاحبي‪ .‬شقيق عمري‪ .‬يعني‬
‫مايعزش عليا حاجة‪ ..‬الشيك ده يا أبو الرجال‬
‫قيمته ‪ 50‬مليون‪ .‬لو تعرف تسدده هاتجيب‬
‫سيرة إيمان ألي حد تعرفه أو ماتعرفوش ‪...‬‬
‫أخذ "مالك" يجفل مصدوما‪ ،‬ليظهر له "مراد"‬
‫المادة الثانية‪ ،‬ذلك القرص المدمج‪ ،‬لوح به أمام‬
‫عينيه قائال ‪:‬‬
‫‪-‬و الفالشة دي‪ .‬مش عايز أقولك عليها إيه‪.‬‬
‫رامز قالي كلمة سر‪ ..‬شقة المعادي !‬
‫غارت مالمح "مالك" من شدة الغضب‪ ،‬نظر‬
‫نحو "رامز" شزرا فاستقبل األخير نظراته‬
‫بمنتهى البرود مظهرا وًلئه الكامل لصديقه ‪...‬‬
‫أطلق "مراد" ضحكة مجلجلة و هو يقول‬
‫مسلما الظرف لـ"رامز" ثانية ‪:‬‬
‫‪-‬آه يا نمس‪ .‬صاحب مزاج ياض و مريض زي‬
‫أخوك‪ ..‬إيه المتعة لما تعلق كاميرا و توثق‬
‫الماتشات مش فاهم !؟‬
‫تنهد مكمال ‪ :‬ما علينا‪ .‬أنا مش هانصب لك‬
‫محكمة‪ .‬دي حريتك الشخصية‪ .‬إًل ‪...‬‬
‫و صمت و قد تالشى أي مظهر من مظاهر‬
‫المرح عن وجهه‪ ،‬مد جسمه لألمام و أمسك‬
‫بياقة األخير‪ ،‬قربه نحوه أكثر ليسمع صوته‬
‫األقرب للهمس ‪:‬‬
‫‪-‬لحظة ما هاخرج من هنا‪ .‬لو شوفتك صدفة‬
‫قصادي في أي مكان‪ .‬هادمر لك مستقبلك‪.‬‬
‫هاقضي على حياتك كلها و هاكون حريص‬
‫شخصيا إن مايبقاش ليك لقمة عيش في البلد‬
‫دي أو في أي مكان براها‪ .‬قيس على كده إيمان‪.‬‬
‫ورقة طالقها توصلها قبل ما ينقضي األسبوع‬
‫ده‪ .‬و لو نطقت بس اسمها بينك و بين نفسك‪.‬‬
‫ماتلومش حد غيرك‪ ..‬فهمت كويس !!؟‬
‫_____‬

‫إنفتح جفناها اآلن ‪...‬‬


‫لم تصدق ما أخبرها به‪ ،‬و أنه فعل من أجلها كل‬
‫ذلك‪ ،‬لم تتوقع حتى في أحالمها أن تحصل على‬
‫دعم كهذا و حماية ًل يمكن أن يمنحها إياها‬
‫سواه هو !‬
‫منذ عودته لم تخطط ابدا ًلسترداده‪ ،‬لم تتخيل‬
‫أنه سيعترف بحبها مرة ثانية و يريدها زوجة‪،‬‬
‫كيف جرى كل هذا ليفضي لتلك النتيجة ؟‬
‫إنه مصمم‪ ،‬يريدها حقا‪ ،‬و لن يتراجع عن هذا‪..‬‬
‫و إن من دواعي سرورها حتى في أحلك حقبات‬
‫عمرها حزن و كآبة‪ ...‬هي أيضا تريده‬
‫ًل يمكنها المضي قدما بدونه‪ ،‬إنه الوحيد الذي‬
‫يفهم عليها‪ ،‬الوحيد الذي يملك مقاليدها و كأنه‬
‫الذي رباها و علمها‬
‫ًل يمكنها التظاهر بالرفض مجددا‬
‫و تبا للجميع إنها تريده‪ ..‬تريده‪ ..‬تريده هو ًل‬
‫غيره !!!‬
‫‪-‬إيمان ! ‪ ..‬همس "مراد" باسمها‬
‫رفرفت بأجفانها و الدموع عالقة بهما‪ ،‬راقبته و‬
‫هو يزداد انفعاًل و كلماته التي ينطق بها بصدق‬
‫لم تعهده من قبل ‪:‬‬
‫‪-‬أنا بحبك‪ .‬مايهمنيش حد‪ .‬عايزك‪ ..‬مافيش‬
‫حاجة محتاج لها في حياتي أد ما أنا محتاج لك‪.‬‬
‫حاسس إن عقلي هايطير من غيرك‪ .‬بحبك‪.‬‬
‫إيمان !‬
‫لم يستطع إضافة كلمة أخرى‬
‫إذ إنفتح باب الغرفة و ظهر "أدهم" ‪...‬‬
‫تطلعت "إيمان" نحوه دون أن تفزع هذه‬
‫المرة‪ ،‬لقد وصلت لنهاية الطريق و سئمت‬
‫آًلمها و عذابها كله‬
‫هذه المرة كان "مراد" هو من تركها‬
‫قام متجها نحو أخيها و هو يقول بتأثر العالم ‪:‬‬
‫‪-‬أدهم‪ .‬لو سمحت آ ‪...‬‬
‫قاطعه "أدهم" بإشارة من يده‪ ،‬و دعاه ليخرج‬
‫أمامه‪ ،‬فعل "مراد" ما طلب منه‪ ،‬وقف‬
‫بالخارج قبالة "أدهم" و خلف باب غرفة‬
‫"إيمان" المغلق‬
‫نظر إليه بمزيج من الخجل و الرجاء و قال ‪:‬‬
‫‪-‬أدهم‪ .‬أرجوك‪ ..‬أنا بحبها‪ .‬و هي بتحبني !‬
‫‪-‬ليه ماقولتش الحقيقة !؟ ‪ ..‬سأله "أدهم"‬
‫مباشرة‬
‫لم يكن غاضبا كالمرة السابقة‪ ،‬و فورا فهم‬
‫"مراد" قصده‪ ..‬صمت بينما يتابع "أدهم" ‪:‬‬
‫‪-‬ليه ماقولتش إن جوزها إللي عمل كده‪ .‬محتاج‬
‫أفهم وجهة نظرك !‬
‫لم ينطق "مراد" سوى ‪:‬‬
‫‪-‬أنا بحبها‪ .‬بحب إيمان‪ .‬و أخاف أقولك إن رأيك‬
‫أو رأي أي حد مابقاش يفرق معايا‪ .‬أنا مش‬
‫هاسيب حد يزعلها تاني‪ .‬مش هاتعيش كده‬
‫تاني‪ ..‬و مش هاسمح بده و اعمل إللي تعمله‬
‫مش هارجع عن كلمة واحدة قلتها !!‬
‫علت ابتسامة "أدهم" تدريجيا‪ ،‬ثم قال بصوته‬
‫الهادئ الرخيم ‪:‬‬
‫‪-‬انت ماكنتش محتاج تقول أكتر من كده‪ .‬عشان‬
‫أسلمك أختي و قلبي مرتاح‪ .‬بعد ما هي بنفسها‬
‫حكت لي و عرفت إللي مالك عمله‪ .‬هو كمان‬
‫راح القسم و المحضر إللي ضدك سقط‪..‬‬
‫الظروف كلها كانت ضدك إمبارح‪ .‬إنهاردة كلها‬
‫في صفك و إيمان اتطلقت !‬
‫سحب "مراد" نفسا عميقا‪ً ،‬ل يستوعب مباركة‬
‫"أدهم" و كلماته المتضامنة بهذه السهولة‪،‬‬
‫بعد وجهه اآلخر الذي رآه قبل يوما واحدا ‪...‬‬
‫‪-‬حتى لو عاوز مش هقدر أبعدكوا عن بعض !‬
‫‪ ..‬قالها "أدهم" و ًل يزال محتفظا بابتسامته‬
‫و لم يستطع إخفاء نبرة الحزن في صوته و هو‬
‫يستطرد ‪:‬‬
‫‪-‬أختي لما فكرت إنها في آخر لحظاتها‪ .‬اختارت‬
‫تكلمك انت مش أنا‪ ..‬و المفاجأة إنك طلعت أد‬
‫الثقة إللي حطتها فيك‪ .‬جوزها غدر بيها‪ .‬و انت‬
‫حاميتها !‬
‫عبس "مراد" و لوهلة لم يطيق كل حسن الظن‬
‫هذا‪ ،‬فهو لم يكن مالكا كما يصفه "أدهم"‪..‬‬
‫أراده يكف عن قول ذلك‬
‫ليباغته "أدهم" و هو يجتذبه من كتفيه و‬
‫يحتضنه متمتما بامتنان ‪:‬‬
‫‪-‬أنا موافق‪ .‬طبعا موافق‪ ..‬اتجوزها‪ .‬خدها‪.‬‬
‫فرحها‪ ..‬إيمان ماتستاهلش غير كده‪ .‬أختي‬
‫تستاهل تفرح يا مراد‪ .‬أنا موافق‪ .‬موافق !‬

‫يتبع ‪...‬‬
‫انتهى الفصل السادس والعشرون‬

‫‪27‬‬

‫"كنت أتوق لقطرة ؛ فأنعم علي بالغيث !"‬

‫_ إيمان‬

‫دخل إلى غرفته مبعثر الهيئة‪ ،‬عابسا‪ ،‬تبدو‬


‫عليه آثار ست ساعات من السفر ذهاب و إياب‬
‫من القاهرة إلى اإلسكندرية‪ ..‬ارتمى فوق‬
‫سريره متنهدا‬
‫بينما أمه التي كانت في إثره منذ عودته إلى‬
‫المنزل‪ ،‬اتكأت هناك على باب الغرفة و قالت‬
‫بعدم رضا ‪:‬‬
‫‪-‬استفدت إيه ؟ قولي يابني‪ .‬أنا مابقتش فهماك‬
‫يا مراد !!‬
‫زفر "مراد" مطوًل و إلتقط هاتفه و استلقى‬
‫على سريره ليتظاهر بأن أمه ليست هنا ‪...‬‬
‫لكن أمه مشت تجاهه مستطردة بشيء من‬
‫اإلنفعال يزداد كلما تذكرت األخبار التي وصلتها‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬فريال تكلمني و تعاتب عليك بالشكل ده‪ .‬رايح‬
‫فرح طليقتك تزعق و تتخانق‪ .‬انت مين‪ .‬هه‪.‬‬
‫انت مش مراد إبني‪ .‬انت ساعة بتحب هالة و‬
‫ساعة عايز إيمان‪ ..‬انت أنهي فيهم‪ .‬ما ترد ؟‬
‫رفع "مراد" يده ليفرك عينيه بإرهاق بين‪ ،‬و‬
‫رغم التعب الذي يشعر به تطلع نحو أمه و‬
‫جاوبها بهدوء ‪:‬‬
‫‪-‬أنا ماروحتش الفرح أزعق و اتخانق عشان‬
‫هالة‪ ..‬أنا روحت عشان صاحبي‪ .‬عثمان !‬
‫قطبت ‪...‬‬
‫‪-‬مش فاهمة !؟‬
‫صمت لوهلة ساهما بنظراته‪ ،‬ثم قال بحزن ًل‬
‫يخلو من الندم ‪:‬‬
‫‪-‬أنا أكتر حاجة ندمان عليها دلوقتي هي جوازي‬
‫من هالة‪ .‬يارتني ما كنت شوفتها حتى‪ .‬عالقتي‬
‫بعثمان باظت بسببها‪ .‬ده صاحبي‪ .‬أقرب حد ليا‪.‬‬
‫في عز أزماتي و مشاكلي كنت بروح له هو‬
‫حتى لو بعيد عنه‪ .‬بسببها خسرته‪ ..‬لما قريت‬
‫خبر جواز هالة ماكنتش شايف قصادي غير‬
‫عثمان‪ .‬و لما روحت كانت حجة‪ .‬غضبي كله‬
‫طلع أول ما شوفته‪ .‬و زاد لما اتأكدت إننا‬
‫ماينفعش نبقى صحاب تاني‪ ...‬بس ماينفعش‪.‬‬
‫أنا مش متخيل حياتي الجاية من غير صاحبي‪.‬‬
‫من غير عثمان !!!‬
‫أذهلها رد ابنها‪ ،‬إلى حد ما‪ ،‬تبخر غضبها منه‪،‬‬
‫و حل مكانه تعاطف كبير‬
‫ينهض "مراد" من سريره مباشرا خلع مالبسه‬
‫و هو يقول بتعب ‪:‬‬
‫‪-‬أنا محتاج أنام شوية بس‪ً .‬لزم أروح إيمان‬
‫فايق‪ ..‬إنهاردة هقدم لها الشبكة‪ .‬ماتنسيش‬
‫تبلغي بابا !‬
‫لم تخف تذمرها و هي ترد عليه ‪:‬‬
‫‪-‬أبوك‪ ..‬من إمتى بتحط أبوك في الحسبان‪ .‬انت‬
‫عارف إنه واخد منك من يوم ما اتحبست و‬
‫قبلت تشيل تهمة مش بتاعتك !!‬
‫رأت عالئم الضجر تتجلى على قسماته‪ ،‬فكفت‬
‫عن مضايقته و هي تلملم من حوله قميصه و‬
‫كنزته و تطويهم له قائلة ‪:‬‬
‫‪-‬طيب خالص‪ .‬ريح شوية‪ ..‬تحب أصحيك !؟‬
‫أومأ لها و هو يرتمي فوق الفراش على وجهه‬
‫‪...‬‬
‫‪-‬أيوة‪ .‬كمان ساعتين بالضبط‪ .‬ماتنسيش يا أمي‬
‫!‬
‫لم يستغرق منه األمر طويال‪ ،‬ما هي إًل لحظات‬
‫أخرى ‪ ..‬و غط في نوم عميق ‪...‬‬
‫ابتسمت "رباب" و هي تتأمله بحب و اعجاب‪،‬‬
‫ًل تستطيع أن تنكر سعادتها به‪ ،‬هذا الفتى‪،‬‬
‫صغيرها "مراد"‪ ..‬لطالما كان رمزا للطيش و‬
‫اًلستهتار بحياته و حياة اآلخرين‬
‫اآلن قد نضج !‬
‫بالكاد تصدق ما تراه !!!‬
‫انحنت "رباب" صوبه ممسدة على شعره‬
‫بحنان‪ ،‬و ضغطت شفتيها على جانب جبهته في‬
‫قبلة طويلة‪ ،‬ثم تراجعت عنه و وضعت مالبسه‬
‫بالخزانة‪ ،‬أطفأت الضوء في طريقها و انصرفت‬
‫أخيرا مغلقة عليه باب غرفته‬
‫هكذا لينعم بالراحة و الهدوء أكثر وقت ممكن‬
‫‪...‬‬

‫*****‬

‫لم تظن أبدا أن نفس الحالة العاتية من الغضب‬


‫و الغل سوف تواتيها مجددا !‬
‫لكنه يحدث اآلن‪ ،‬إنها غاضبة‪ ،‬حاقدة إلى أقصى‬
‫حد‪ ،‬و هي تستمع إلى كلمات إبنها و عيناها‬
‫تقدحان شررا ‪...‬‬
‫‪-‬طلقتها ! ‪ ..‬قالها "مالك" واجما و آثار‬
‫الضرب و الكدمات الزرقاء بادية على وجهه و‬
‫عنقه‬
‫صاحت "راجية بجماع نفسها ‪:‬‬
‫‪-‬طلقتها‪ .‬إزاي تعمل كده‪ .‬إزااااااي و ليــه‪.‬‬
‫مافكرتش في بنت أخوك مافكرتش فيـــا !!؟؟؟؟‬
‫هب "مالك" واقفا أمام مقعدها المتحرك و هو‬
‫يهتف بعنف ‪:‬‬
‫‪-‬إنتي عارفة ليه‪ .‬عارفة طلقتها لي‪ .‬كل األسباب‬
‫إللي سمعتيها مش كافية‪ .‬كان مطلوب مني‬
‫أعمل إيه‪ .‬أخسر مستقبلي و اًل أموت عشان‬
‫خاطر واحدة ×××××× زي دي‪ .‬أيوة ابنك كان‬
‫متجوز ×××××× و ×××× عليها‪ .‬كان عارف‬
‫كل حاجة‪ .‬و رضي عشان كان بيحبها‪ .‬لكن أنا‬
‫أرضى ليه‪ .‬و فوق كل ده إتهانت و إتمسح‬
‫بكرامتي األرض !!!!!‬
‫احتقن وجهها بالدماء و هي تغمغم من نواصيها‬
‫بحرارة ‪:‬‬
‫‪-‬بنت الـ×××‪ .‬بنت الـ×××‪ .‬مش هاسيبها‪.‬‬
‫هاسيبها‪ ..‬بنت أخوك‪ .‬بنت سيف‪ .‬إبني سيف ‪...‬‬
‫لوح "مالك" بكفه نافذ الصبر ‪:‬‬
‫‪-‬إبنك هللا يرحمه‪ .‬و مراته دي تنسيها لو مش‬
‫عايزة تخسري إبنك التاني‪ .‬عالقتنا اتقطعت‬
‫بيها هي و بنتها سمعاني يا أمي‪ .‬اعتبري سيغ‬
‫ًل اتجوز و ًل خلف !‬
‫و استدار موليا عنها خارج الشقة كلها ‪...‬‬
‫تركها تتآكل من شدة الغيظ‪ ،‬و طفى على السطح‬
‫كل القبح الذي طمرته بداخلها منذ وفاة إبنها‪،‬‬
‫أطلقت لسانها بعبارات الوعيد ‪:‬‬
‫‪-‬مش هاسيبك يا إيمان‪ .‬هاخد حق إبني منك‪.‬‬
‫هاخلي حياتك جحيم‪ .‬وعد مني‪ .‬مش هاتشوفي‬
‫يوم هنا من بعده !!!‬
‫*****‬

‫الدموع‪ ،‬الدموع‪ ،‬الدموع‪ً ...‬ل يمكنها إيقافها !‬


‫ًل زالت الصغيرة تبكي‪ ،‬على حالها منذ يومان‪،‬‬
‫لم يفلح أحد باسكات الحزن عنها‪ ،‬حتى خالها‪،‬‬
‫كان له تأثير طفيف عليها‪ ،‬حيث جعلها تهدأ‪ ،‬و‬
‫لكنها لم تكف عن البكاء‬
‫كانت تريد أمها‪ ،‬و لكن أمها ًل تريدها‪ ،‬ظلت‬
‫"إيمان" بمعزل عن الجميع‪ً ،‬ل تبارح غرفتها‪،‬‬
‫توصدها بالمفتاح و ًل يرق قلبها طرفة عين‬
‫على صغيرتها التي تقف وراء بابها تطرق‬
‫عليها و هي تبكي و تستجدي عطفها‬
‫كدأب كل يوم‪ ،‬يعود "أدهم" من العمل يحضر‬
‫لها الحلوى‪ ،‬يتناول الغداء ثم يجلس معها‪،‬‬
‫يحاول أن يروح عنها و يسعدها بشتى الطرق‪،‬‬
‫لكنها ًل تستجيب‪ ،‬حتى فقد األمل بالفعل و كان‬
‫يخشى أن تخرب نفسية الطفلة و ًل تستطيع‬
‫تجاوز أزمة والدتها طوال عمرها ‪...‬‬
‫يدق جرس الباب‪ ،‬فيقوم "أدهم" حامال "لمى"‬
‫على ذراعه و هو يهتف لتسمعه كال من أمه و‬
‫زوجته ‪:‬‬
‫‪-‬أمي مراد وصل‪ .‬ادخلي شوفي إيمان !‬
‫مشى "أدهم" ليفتح الباب األمامي‪ ،‬و بالفعل‬
‫كان "مراد"‪ ..‬وصل في موعده ‪...‬‬
‫‪-‬على فكرة أنا واقف هنا بقالي ربع ساعة ! ‪..‬‬
‫قالها "مراد" مبتسما ببساطة ‪:‬‬
‫‪-‬بس ماحبتش أدخل قبل معادي‬
‫رفع "أدهم" حاجبيه مؤنبا إياه ‪:‬‬
‫‪-‬انت بتهرج‪ .‬على أساس سيادتك غريب يعني‬
‫!؟‬
‫حافظ "مراد" على ابتسامته و هو يذكره قائال‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬أنا مش ناسي إني خونت ثقتك قبل كده‪.‬‬
‫اعترافي بحبي إليمان كان خيانة بالنسبة لك‪.‬‬
‫من يومها و أنا لوحدي بعتبر نفسي غريب يا‬
‫أدهم !‬
‫رمقه "أدهم" بنظرة معاتبة و لطيفة في آن‪ ،‬ثم‬
‫أمسكه من رسغه و أمره بصرامة ‪:‬‬
‫‪-‬ادخل يا مراد !‬
‫انصاع "مراد" إليه‪ ،‬و دلف إلى الداخل‪ ،‬ساقه‬
‫"أدهم" إلى غرفة المعيشة بين األطفال و‬
‫ألعابهم و التلفاز الذي يعرض الرسوم‬
‫المتحركة‪ ،‬ذلك إثبات له إنه فردا من العائلة‪ً ،‬ل‬
‫ينقصه سوى أن يتزوج "إيمان" ليكتمل األمر‬
‫‪...‬‬
‫جلس "مراد" مداعبا األطفال‪ ،‬و أولى جل‬
‫اهتمامه بالصغيرة "لمى"‪ ..‬مد يديه صوبها‬
‫قائال ‪:‬‬
‫‪-‬لولي القمر‪ .‬ازيك يا حبيبتي‪ .‬مش هاتيجي‬
‫تسلمي عليا و تديني بوسة ؟‬
‫أطلق "أدهم" سراحها و حثها بلطف ‪:‬‬
‫‪-‬روحي يا حبيبتي !‬
‫ترددت الصغيرة بالبادئ متشبثة بحضن خالها‪،‬‬
‫كانت ترمق "مراد" بكراهية واضحة‪ ،‬لكنها‬
‫أذعنت في األخير و نزلت عن قدم "أدهم" و‬
‫مشت صوب األخير ببطء ؛‬
‫تلقفها "مراد" محتضنا إياها بعفوية‪ ،‬ثم رفعها‬
‫ليجلسها فوق قدمه و هو يمسح على شعرها‬
‫اللولبي الناعم ‪...‬‬
‫‪-‬بوسة بقى ! ‪ ..‬تمتم "مراد" مشيرا بسبابته‬
‫إلى خده‬
‫لتنظر الصغيرة نحو خالها نظرة كمن يطلب‬
‫اإلذن‪ ،‬فأومأ "أدهم" سامحا لها و هو يقول ‪:‬‬
‫‪-‬بوسيه يا لمى‪ .‬مراد بقى زي باباكي‪ .‬من هنا و‬
‫رايح ممكن تقوليله بابا لو حبيتي !‬
‫أول من جفل لهذا التصريح كان "مراد" نفسه‪،‬‬
‫كلمات "أدهم" خلقت بداخله شعور ألول مرة‬
‫يختبره‪ ،‬لكنه‪ ...‬شعور جميل !!!‬
‫‪-‬يعني هو ده مراد إللي مامي بتحبه ؟ ‪ ..‬وجهت‬
‫"لمى" سؤالها لخالها‬
‫بهت "أدهم" و لم يستطع إجابتها للحظات‪،‬‬
‫لتستطرد و هي تعبس بغضب و تدمع من جديد‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬ده مراد إللي مامي كل يوم بتعيط عشانه‪ .‬و‬
‫مش عاوزة تشوفني عشانه‪ ..‬أنا مش هاقوله‬
‫بابي‪ .‬ده مش بابي‪ .‬انا بكرهه‪ .‬بكرهه‪ .‬بكرهه‬
‫‪...‬‬
‫و انفجرت باكية و هي تقفز من على قدم‬
‫"مراد"‪ ..‬أطلقت ساقيها راكضة للداخل بينما‬
‫ينادي خالها عليها و اللوعة في صوته كبيرة ‪:‬‬
‫‪-‬لــمى‪ ..‬لـــمى !‬
‫و لكنها لم تتوقف‪ ،‬و اختفت بإحدى الغرف‪ ،‬أتت‬
‫"سالف" على إثر الصياح و الصراخ متسائلة‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬في إيه يا أدهم !؟‬
‫كانت تضع نقابها اآلن‪ ،‬أقلقها تعبير زوجها‬
‫الجازع بينما يخبرها ‪:‬‬
‫‪-‬لمى‪ .‬مش عارف أتصرف معاها إزاي‪ .‬من‬
‫فضلك يا سالف أدخلي شوفيها فين و حاولي‬
‫تهديها‬
‫أومأت "سالف" ‪ :‬حاضر‪ ..‬داخلة أهو حاًل‬
‫ذهبت إلى الصغيرة في الحال‪ ،‬ليتنهد "أدهم"‬
‫هازا رأسه بيأس و هو يقول بخفوت ‪:‬‬
‫‪-‬هللا يسامحك يا إيمان‪ ..‬هللا يسامحك يا أختي‬
‫ثم رفع رأسه لينظر إلى "مراد"‪ ..‬لم يكن أقل‬
‫توترا‪ ،‬زيادة عليه شعر بالخجل و الحرج الشديد‬
‫‪...‬‬
‫تنحنح "أدهم" و هو يمد يده رابتا على قدم‬
‫األخير و قال ‪:‬‬
‫‪-‬مراد‪ .‬ماتزعلش من لمى‪ .‬هي بس متاثرة‬
‫بحالة أمها النفسية‪ .‬و بعدين دي لسا طفلة !‬
‫أشاح "مراد" بنظراته لألمام و هو يقول‬
‫متصنعا إبتسامة ‪:‬‬
‫‪-‬مافيش حاجة يا أدهم‪ .‬معقول هازعل من لمى‪..‬‬
‫دي بقت بنتي زي ما قلت‪ .‬ربنا يقدرني و أكون‬
‫ليها األب إللي تتمناه‬
‫رد "أدهم" له اإلبتسامة قائال ‪:‬‬
‫‪-‬أنا واثق إنك هاتكون نعم األب ليها !‬
‫غير "مراد" مجرى الحديث متطلعا إليه مرة‬
‫أخرى ‪:‬‬
‫‪-‬ورقة الطالق وصلت ؟‬
‫‪-‬المحامي قال اإلجراءات كلها خلصت انهاردة‪.‬‬
‫يومين كمان و هاتوصل إن شاء هللا‬
‫‪-‬انت قابلت إللي اسمه مالك ده ؟‬
‫قست نظرات "أدهم" و هو يجاوبه بغلظة ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل‪ .‬هو نفسه بيتحشاني‪ .‬بصراحة كده أحسن‬
‫عشان مش ضامن نفسي لو شفته قصادي‪..‬‬
‫ممكن ارتكب جريمة !‬
‫ابتسم "مراد" بخفة مرردا بعقله ‪" :‬ماتقلقش‪..‬‬
‫أنا قمت بالواجب و زيادة !" ‪...‬‬
‫‪-‬تعالي يا إيمان ! ‪ ..‬هتف "أدهم" فجأة‬
‫لينظر "مراد" حيث وجه األخير نظراته !!!‬
‫أخيرا‪ ،‬ظهرت "إيمان" إلى جانب والدتها‪،‬‬
‫متشحة بعباءة سوداء‪ ،‬وجهها أبيض شاحب‬
‫في الحجاب الداكن‪ ،‬تنظر لألرض و ًل تتكلم‬
‫اقتربت فقط إنصياعا لكلمة أخيها‪ ،‬جلست في‬
‫الكرسي المجاور له و جلست "أمينة" في‬
‫األريكة الصغيرة وحدها ‪...‬‬
‫‪-‬مراد جاي يقدم لك هدية ! ‪ ..‬قالها "أدهم"‬
‫مخاطبا أخته‪ ،‬و تابع ناقال ناظريه بينها و بين‬
‫ابن خالته ‪:‬‬
‫‪-‬مش هاعتبرها هدية خطوبة ألن الخطبة في‬
‫فترة العدة محرمة‪ .‬لكن هو صمم يهاديكي و‬
‫الهدية مقبولة‪ ..‬و اًل مش حابة !؟‬
‫مرت لحظات طويلة من الصمت‪ ،‬ثم رفعت‬
‫"إيمان" رأسها و نظرت مباشرة في عيني‬
‫"مراد"‪ ..‬توقفت أنفاسه لبرهة و هو يحدق في‬
‫عيني المها خاصتها‬
‫كانت تبرق اآلن‪ ،‬الشيء الوحيد الذي يتوهج‬
‫في مالمحها الشاحبة‪ ،‬أسرته حتى في بؤسها و‬
‫كآبتها‪ ،‬و استطاع أن يرى تاثيره السريع عليها‬
‫في تخضيب وجنتيها بالحمرة الطفيفة اآلن‬
‫اطمئن‬
‫أدرك بأن األمل ًل زال معه‪ ،‬و أن بامكانه‬
‫مساعدتها‪ ،‬ألنها ًل زالت تريده ربما أكثر مما‬
‫يريدها ‪...‬‬
‫‪-‬حابة !‬
‫خرجت الموافقة من فمها جافة‪ ،‬فزحفت يد‬
‫"مراد" على الفور و أستل من جيب سترته‬
‫علبة مخملية مستطيلة الحجم‪ ،‬نظر إلى "أدهم"‬
‫يطلب اإلذن ‪:‬‬
‫‪-‬تسمح لي أقدمها لها !؟‬
‫حذره "أدهم" ‪ :‬حافظ على المسافة !‬
‫ابتسم "مراد" بامتنان‪ ،‬قام و مشى صوب‬
‫"إيمان"‪ ..‬توقف على بعد قدم و ركع أمامها‬
‫على ركبة واحدة‪ ،‬ثم فتح العلبة أمام عينيها‬
‫اًلمعتين‪ ،‬لتبرز إليها سلسلة من البالتين‬
‫الخالص‪ ،‬مرصعة باأللماس تتوسطها ما يشبه‬
‫الفقعة‬
‫كانت جميلة و مثالية كفاية حتى أوضح "مراد"‬
‫لها مشيرا بسبابته لتلك الفقعة ‪:‬‬
‫‪-‬دي عدسة صغيرة‪ ،‬لو بصيتي جواها هتقري‬
‫الجملة دي‪ ..‬بصي كده !‬
‫فعلت "إيمان" ما يمليه عليها‪ ،‬ألقت نظرة في‬
‫العدسة التي قربها إليها أكثر‪ ،‬و بالفعل‬
‫استطاعت قراءة هذا ‪" :‬أحبك بكل اللغات" ‪...‬‬
‫تلقائيا رفعت بصرها إليه مبهورة‪ ،‬رفرفت‬
‫بأجفانها بينما يبتسم لها برومانسية محركا‬
‫شفتيه لتقرأ ما يهمس به بال صوت ‪:‬‬
‫‪-‬بحبك !‬
‫و ألول مرة منذ فترة طويلة جدا‬
‫ابتسمت "إيمان" !!!‬
‫و أثرت سعادتها اللحظية على الجميع‪ ،‬أصابت‬
‫عدوى اًلبتسام كال من أخيها و أمها‪ ،‬و تنهد‬
‫"أدهم" براحة ممنيا نفسه بمستقبل مشرق و‬
‫هانئ للجميع ‪...‬‬

‫*****‬

‫يوم الزفـــــــاف !‬

‫يتبع ‪...‬‬
‫انتهى الفصل السابع والعشرون‪..‬‬
‫‪28‬‬

‫"سأعطي أي شيء ؛ مقابل أن أراك تبتسمين‬


‫!"‬

‫_ مراد‬

‫يوم الزفـاف ‪...‬‬


‫أخيرا إنقضت شهور العدة‪ ،‬بعد عناء و عذاب‬
‫استمر لسنوات طويلة‪ ...‬كل شيء مثالي اليوم‪،‬‬
‫رغم أن الزفاف سيقام هنا‪ ،‬بمنزل العروس‪،‬‬
‫كان هذا شرطها الوحيد‪ ،‬أن تخرج من بيت‬
‫أبيها كما خرجت منه أول مرة‪ ،‬أرادت أن تمحي‬
‫الذكرى األولى بالثانية‪ ،‬مع إن "مراد" رغب‬
‫كثيرا أن يصنع لها عرسا فخما و عرض عليها‬
‫اقتراحات عدة ؛‬
‫إذا أحبت أن يقام بأبرز فنادق المدينة‪ ،‬أو على‬
‫الشاطئ‪ ،‬أو حتى خارج البالد‬
‫كان سيفعل أي شيء تطلبه‪ ،‬لذا أذعن إلرادتها‬
‫في األخير و وافق أن يكون عرسهما بمنزلها‬
‫‪...‬‬
‫لكنه أيضا أصر أن تعيش ليلتها على أكمل‬
‫وجه‪ ،‬و أن تترسخ بذهنا أجمل اللحظات‪ ،‬الليلة‬
‫ستكون ليلة األحالم لحبيبته‬
‫ليلة عمرها الحقيقية‬
‫ما مضى بعمرها لم يكن سوى حلم سيئ‪ ..‬و‬
‫الليلة ستنال مرادها !‬

‫*****‬

‫إنه هنا منذ البارحة‪ ،‬بعد إنتهاء ليلة‬


‫"الحناء"‪ ..‬عرض "أدهم" عليه أن يمكثا معا‬
‫بشقته بينما "سالف" و األوًلد سيقضوا الليل‬
‫بشقة أمه‬
‫وافق "مراد" برحابة صدر‪ ،‬و استيقظ في‬
‫الصباح مليئا بالنشاط و السعادة‪ ،‬في تمام‬
‫الثامنة صباحا‪ ،‬كان هو و "أدهم" قد فرغا من‬
‫تناول الفطور‪ ،‬و تأهبا للذهاب إلى بيت األزياء‬
‫ليحضرا بدلة العريس‪ ،‬ثم بعدها إلى صالون‬
‫الرجال ليتجهزا سويا ‪...‬‬
‫‪-‬أنا مش ممكن أدخل أشوف إيمان !؟ ‪ ..‬تساءل‬
‫"مراد" و هو يقف بجوار "أدهم" داخل‬
‫المصعد‬
‫نظر له "أدهم" معلقا باستنكار ‪:‬‬
‫‪-‬واضح إن عندك مشكلة في تقدير األوضاع‪.‬‬
‫حضرتك ناسي إنك لسا ماكتبتش عليها‪ ..‬بأي‬
‫صفة تشوفها ؟‬
‫تأفف "مراد" ‪ :‬يا أدهم مش معقول كده‪ .‬الدنيا‬
‫كلها عارفة إن الليلة دي فرحنا أنا و إيمان‪.‬‬
‫يعني في نظر الكل إحنا في حكم المتجوزين‬
‫بتقفلها عليا ليـه !؟؟‬
‫أدهم بحدة ‪ :‬و جايز بردو يحصل أي ظرف و ًل‬
‫قدر هللا الجواز يتلغي‪ .‬يبقى نشيل وزر و خالص‬
‫!!‬
‫رفع "مراد" حاجبه متعجبا ‪:‬‬
‫‪-‬وزر إيه‪ .‬هو أنا بقولك أبوسها‪ .‬ده أنا بقولك‬
‫اشوفها بس !‬
‫عبس "أدهم" مبديا غضبه و قال بخشونة ‪:‬‬
‫‪-‬إتلم يا مراد‪ .‬خلي يومك معايا يعدي على خير‬
‫و ماتعكش كل حاجة على أخرتها كده ‪..‬‬
‫ثم أوقف المصعد بطابق والدته‪ ،‬دفع الباب و‬
‫خطى لألمام و هو يملي عليه بحزم ‪:‬‬
‫‪-‬استناني تحت‪ .‬هادخل أطمن عليهم بسرعة و‬
‫نازل لك !‬
‫و أغلق الباب من بعده ‪...‬‬
‫زفر "مراد" بضيق و ضغط زر المصعد‬
‫مستأنفا هبوطه لألسفل‪ ،‬خرج من البناية متلفتا‬
‫حوله‪ ،‬يرى العمالة ًل يزالوا هنا‪ ،‬لم ينصرفوا‬
‫إلى بيوتهم منذ ليلة أمس‪ ،‬قائمين على تحضير‬
‫أروع التصميمات ألجل العرس‪ ،‬من النظرة‬
‫األولى أطمئن بأن ما أراده هو ما سيكون تماما‪،‬‬
‫فقد كلف الكثير إلحضار أكثر محترفي هذه‬
‫المهنة ليجعلوا من حديقة هذا البيت العادية‬
‫قطعة من الجنة !‬
‫ابتسم "مراد" بغتة‪ ،‬و ًل شعوريا جرت يده‬
‫لتستل هاتفه من جيب سترته‪ ،‬أجرى اإلتصال‬
‫بها فورا‪ ..‬قرر إنه إن لم يتلقى ردا عند الدقة‬
‫الثالثة فسيغلق ألنها غالبا ستكون نائمة اآلن‬
‫و هو ًل يريد أن ينتزعها من غفوتها حتى تأخذ‬
‫كفايتها من الراحة‪ ..‬فاليوم طويل و لم يبدأ بعد‬
‫‪...‬‬
‫‪-‬آلو !‬
‫ردت‬
‫عند الثالثة تماما‬
‫تراقصت البسمة على ثغر "مراد" و هو يتذوق‬
‫صوتها بسمعه مجددا‪ ،‬كان مزيج من التوتر و‬
‫اللهفة‪ ،‬مثل لهفته عليها‪ ،‬إنه بالكاد يطيق صبرا‬
‫ليجتمعا وحدهما‪ ،‬فمهما وصف ًل يستطيع أن‬
‫يشرح معاناته طوال ثالثة أشهر و يومان و هو‬
‫يراها أمامه و ًل يمكنه حتى أن يمسها ‪...‬‬
‫‪-‬إيماني ! ‪ ..‬قالها "مراد" بلهجة هامسة‬
‫لترد "إيمان" كدأبها مؤخرا و كأنها كلمة السر‬
‫بينهما ‪:‬‬
‫‪-‬مرادي !‬
‫اتسعت إبتسامته فبانت بصوته و هو يرد عليها‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬عروستي صاحية بدري ليه ؟ مش قولنا تنامي‬
‫كويس‪ ..‬اليوم لسا طويل يا حبيبتي‬
‫‪-‬ماتقلقش أنا نمت بدري إمبارح‪ .‬لكن غصب‬
‫عني‪ .‬نومي كان متقطع‪ ..‬ف زهقت من نص‬
‫ساعة و قلت خالص هقوم بقى !‬
‫‪-‬قلقانة من إيه يا إيمان ؟ ‪ ..‬سألها "مراد" و قد‬
‫تالشت ابتسامته‬
‫كان يملؤه التعاطف تجاهها اآلن و هو يسمع‬
‫تجاوبه بلهجة مرتعشة ‪:‬‬
‫‪-‬كوابيس‪ ..‬كوابيس طول الليل يا مراد !!‬
‫تجعد جبينه الغض و هو يطلق نهدة عميقة من‬
‫صدره‪ ،‬ثم قال بلطف ‪:‬‬
‫‪-‬أوعدك‪ .‬من الليلة دي‪ .‬مش هاتشوفي‬
‫الكوابيس دي تاني أبدا‪ ..‬أحط بس إيدي عليكي‪.‬‬
‫و محدش له عندنا حاجة بعد كتب الكتاب‪.‬‬
‫هاتبقي بتاعتي أنا‪ .‬أنا بس !‬
‫سمعها تتنفس بسرعة‪ ،‬فهمهم مبتسما و‬
‫استطرد ‪:‬‬
‫‪-‬إنهاردة في جدول مفاجآت عشانك‪ .‬طبعا مش‬
‫هقولك عليهم كلهم‪ ..‬لكن ممكن ألمح عن آخر‬
‫مفاجأة ‪..‬‬
‫صمتت في انتظاره‪ ،‬فأضاف بحماسة مراعيا‬
‫عنصر التشويق عليها ‪:‬‬
‫‪-‬بعد الفرح‪ .‬من غير ما نقول ألي حد‪ .‬هاخدك‬
‫زي ما انتي بالفستان‪ ..‬هانهرب‪ .‬محدش‬
‫هايعرف لنا طريق لحد ما نظهر بمزاجنا !‬
‫استشف من تموجات أنفاسها أن الفكرة بالفعل‬
‫أثارتها‪ ،‬هنا يكمن جنون العشق بينهما‪ ،‬هنا‬
‫حيث التهور‪ ،‬الشغف‪ ..‬و أحيانا الخطر ‪...‬‬
‫‪-‬قولي إن الفكرة عجبتك ! ‪ ..‬تمتم "مراد"‬
‫مغمضا عينيه و هو يتخيلها حقا أمامه‬
‫بل و يلمسها بالفعل بكلماته ‪...‬‬
‫ردت "إيمان" متأثرة بكل أفكاره النشطة ‪:‬‬
‫‪-‬عجبتني‪ .‬بس‪ ..‬هانروح فين ؟‬
‫فتح عيناه اآلن قائال بمكر ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل‪ .‬ماتحاوليش‪ ..‬مش هقولك‬
‫لم تجادل معه عكس توقعاته‪ ،‬و قالت و قد عاود‬
‫التوتر نبرات صوتها من جديد ‪:‬‬
‫‪-‬طيب‪ .‬بس عشان خاطري‪ ..‬ماتتأخرش عليا‪.‬‬
‫تعالى بسرعة‬
‫عبس مرة أخرى و هو يسألها بجمود ‪:‬‬
‫‪-‬مالك يا إيمان‪ .‬انتي كنتي كويسة طول الفترة‬
‫إللي فاتت‪ ..‬هاتخليني أندم ليه إني سرعت‬
‫جوازنا ؟ انتي كان ًلزمك عالج فعال زي ما‬
‫أدهم قال !‬
‫ردت بجفاف ‪ :‬يعني أنا مجنونة يا مراد !؟‬
‫‪-‬ماقولتش كده‪ .‬بس انتي أكدتيلي دلوقتي إنك‬
‫كنتي بتمثلي عليا إنك بقيتي كويسة‪ .‬انتي لسا‬
‫ماتجاوزتيش إللي حصل‪ .‬و الدليل كان قصاد‬
‫عيني طول الوقت‬
‫‪-‬و هللا ! إيه هو الدليل بقى !؟؟‬
‫‪-‬لمـى !! ‪ ..‬قالها كأنما يسدد إليها ضربة‬
‫موجعة ‪:‬‬
‫‪-‬مش قادرة تتقبليها لحد إنهاردة‪ .‬عالقتك بيها‬
‫ادمرت يا إيمان‪ .‬دي بنتك !!!‬
‫أجفل عندما أصاب سمعه شهيق منتحب لها‪ ،‬لم‬
‫يتبعه شيء آخر‪ ،‬فعلم بأنها تكتم صوت بكائها و‬
‫هي ًل تزال معه على الخط ‪...‬‬
‫‪-‬إيمان ! ‪ ..‬دعاها بلهجة متشنجة ‪:‬‬
‫‪-‬خالص يا إيمان‪ .‬خالص حقك عليا‪ .‬كان ًلزم‬
‫اختار كالمي‪ .‬خاصة في يوم زي ده‪ ..‬أنا آسف‬
‫!‬
‫لم يصله أي رد منها‪ ،‬فكرر بقلق ‪:‬‬
‫‪-‬إيمان‪ .‬انتي كويسة‪ .‬إيمـان !!!؟‬
‫‪-‬معاك ! ‪ ..‬نطقت أخيرا بصوت أبح‬
‫تنفس الصعداء‪ ،‬و قال بصوت أكثر لطفا ‪:‬‬
‫‪-‬أنا آسف يا حبيبتي‪ .‬شوفتي مش لوحدك إللي‬
‫قلقانة و متوترة‪ .‬أنا كمان زيك لدرجة مش‬
‫عارف بقول إيه !‬
‫كان يصطنع اآلن ليلملم ما بعثره بنفسيتها ‪...‬‬
‫‪-‬و ًل يهمك‪ .‬أنا هاحل كل ده‪ .‬انتي بس قومي‬
‫روقي مزاجك كويس‪ .‬و استعدي‪ ..‬ساعات قليلة‬
‫جدا و هانكون سوا !‬

‫*****‬
‫مع حلول الثالثة عصرا ‪...‬‬
‫بدأ اإلحتفال تقريبا‪ ،‬بتوافد أعداد أكثر فأكثر من‬
‫العائلة و األصدقاء‪ ،‬امتألت ساحتي الرجال و‬
‫النساء‪ ،‬و كانا يقف كال من "مراد" و "أدهم"‬
‫عند الفاصل بين الطرفان‪ ،‬يمدوا يد المصافحة‬
‫للضيوف‪ ،‬كل منهما أنيق‪ ،‬و باألخص "مراد"‬
‫الذي ازدان بحلة سوداء كالسيكية‪ ،‬و قميص‬
‫ناصع البياض أسفلها‪ ،‬و ربطة عنق قاتمة‬
‫بخطوط بيضاء‬
‫وجه حليق و قد برزت مالمحه و حدوده الحادة‪،‬‬
‫فمه الدقيق‪ ،‬أنفه المستقيم‪ ،‬غمازة ذقنه العميقة‬
‫جدا‪ ،‬كل هذا يتألق مع لمعة عينيه الرماديتان‪..‬‬
‫أما قصة شعره البسيطة فكانت المتممة لكل هذا‬
‫البهاء و الجاذبية الكبيرة التي يتمتع بها‬
‫كان محط األنظار بمرور الوقت‪ ،‬الرجال و‬
‫النساء على حد سواء‪ً ،‬ل يصدقون بأن‬
‫"إيمان" المطلقة لمرتان‪ ،‬و األم لطفلة‪ ،‬واتتها‬
‫تلك الفرصة المذهلة لإلرتباط برجل مثل "مراد‬
‫أبو المجد" !!‬
‫إنه منحة‪ ،‬هدية‪ً ،‬ل تشوبه شائبة‪ ..‬كان السؤال‬
‫الذي يتبادر إلى ذهن الجميع ‪...‬‬
‫أسحرته ؟ أم ما الذي قد يدفع رجل مثله للزواج‬
‫من "إيمان" ؟‬
‫بل و تبدو عليه السعادة !!!!‬
‫كانت أعين النساء أقواس تطلق سهام الغيرة و‬
‫الحسد ‪...‬‬
‫‪-‬إيمان قدامها كتير يا أدهم ؟ ‪ ..‬تساءل "مراد"‬
‫و هو يميل صوب أذن "أدهم" ‪:‬‬
‫‪-‬أطلع شوف إيه مأخرها‪ .‬الفوتوجرافر وصل‬
‫من بدري و كمان المأذون لسا داخل !‬
‫دنى "أدهم" قليال منه و قال ‪:‬‬
‫‪-‬لسا قافل مع سالف من خمس دقايق‪ .‬خالص‬
‫مافضلش كتير‪ .‬دلوقتي تالقيها نزلت ‪..‬‬
‫و بالفعل‪ ،‬لم ينهي "أدهم" جملته‪ ،‬إًل و أعلن‬
‫عن ظهور العروس من جهة النساء بالزغاريد‬
‫التي تعالت و مألت المنطقة كلها ؛‬
‫إندفعت دفقات من الحماسة بشرايين "مراد" و‬
‫هو يلتفت ورائه‪ ،‬ليمسك "أدهم" بكتفه منبها ‪:‬‬
‫‪-‬إيه عينك رايحة فين‪ .‬ده مكان ستات !‬
‫برزت نصف ابتسامة على فم "مراد" و هو‬
‫يخبره بتباه ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل يا حبيبي انت تنسالي خالص حوار ستات و‬
‫رجالة ده‪ .‬أنا مش داخل عليهم الحمام‪ .‬أنا داخل‬
‫لمراتي‬
‫اقتبس "أدهم" نفس اًلبتسامة و هو يرد عليه‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬لسا مابقتش مراتك يا حلو !‬
‫رفع "مراد" حاجبه و هو يومئ برأسه‪ ،‬ثم‬
‫أشار إلبن خالته تجاه سرادق الرجال قائال ‪:‬‬
‫‪-‬تمام يا دكتور أدهم‪ .‬اتفضل بقى معايا‪ ..‬عشان‬
‫نكتب الكتاب‪ .‬العروسة نزلت و المأذون حاضر‬
‫!!‬
‫_____‬

‫بإطاللة ساحرة‪ ،‬و بفضل واحدة من أشهر‬


‫مصممي األزياء العرب‪ ،‬ظهرت "إيمان" و هي‬
‫تهبط الدرج بفستانها الملكي الذي ًل يقيده‬
‫حجاب‪ ،‬إنها العروس األولى بهذا البيت التي‬
‫تظهر بالزفاف دون حجاب‪ ،‬حتى وسط النساء‬
‫فقط لن ينظر إليها الرجال مطلقا‬
‫لم تكن رغبتها‪ ،‬إنما رغبة "مراد"‪ ..‬الذي أصر‬
‫أن تعيش ليلة استثنائية ًل تنسى‬
‫بين كال من "سالف" و "عائشة"‪ ...‬نزلت‬
‫"إيمان" الدرج ممسكة بتنورة الكشكش‬
‫لفستانها الثلجي الطويل‪ ،‬أكمامه منسدلة إلى‬
‫جانب طرحة طرحة مطرزة باًلكسسوارات‬
‫الفضية الالمعة‪ ،‬باإلضافة إلى مكياج دمج بين‬
‫لوني الزهري الفاتح و األبيض الشفاف مم‬
‫جعله يبدو كسنمائيا‬
‫و تسريحة شعرها الرقيقة‪ ،‬لم تكن أبدا متكلفة‪،‬‬
‫كان شعرها الفاحم الغزير ينساب حاكيا عن‬
‫طوله المبهر‬
‫كانت "إيمان" اآلن هي الثانية بعد "مراد"‬
‫محطا لألنظار‪ ،‬لدرجة أن أمها حملت المبخرة و‬
‫ذهبت نحوها مباشرة تطوف حولها و هي تردد‬
‫بعض آيات القرآن الكريم مخافة عليها من‬
‫الحسد ‪...‬‬
‫تلقفتها النساء فور وصولها إلى ساحتهم‬
‫الخاصة‪ ،‬و خالتها "رباب" التي بدت ممتعضة‬
‫قليال‪ ،‬جاملتها بابتسامة رقيقة و عانقتها لفترة‬
‫وجيزة‪ ،‬ثم قدمت لها جدة "مراد" ألبيه ‪:‬‬
‫‪-‬ماما نزلي يا إيمان‪ .‬تبقى جدة مراد والدة‬
‫محمود جوزي !‬
‫نظرت "إيمان" إلى السيدة الهرمة‪ ،‬كانت‬
‫تجلس منكمشة فوق كرسي متحرك‪ ،‬ربما يقدر‬
‫عمرها بالنظر إليها إلى الستون نحو السبعون‪،‬‬
‫ابتسمت لها "إيمان" رغم التوتر الذي يجيش‬
‫بأعماقها و أطرافها الباردة‬
‫سلمت عليها بدف و مودة ‪:‬‬
‫‪-‬إزي حضرتك !؟‬
‫رمقتها العجوز بنظرة فاحصة مبهمة و هي‬
‫تقول آمرة ‪:‬‬
‫‪-‬قوليلي ماما نازلي !‬
‫أجفلت "إيمان" و أطاعت أمرها تلقائيا ‪:‬‬
‫‪-‬ماما نازلي !!‬
‫و لم تتسنى لها فرصة أخرى‪ ،‬ارتعدت فرائصها‬
‫باللحظة التالية‪ ،‬عندما صدح صوت المأذون‬
‫عبر المكبرات يفتتح عقد القران ببعض الوعظ‬
‫وذكر أفضال الزواج و التعفف به‪ ..‬ذات‬
‫السيناريو الذي خاضته لمرتان من قبل ‪...‬‬
‫جلست "إيمان" بالركن المخصص لها‪ ،‬فوق‬
‫منصة صغيرة‪ ،‬هنا على كرسي وثير أبيض‬
‫اللون مثل فستانها تماما‪ ،‬بقيت ساكنة مكانها‪،‬‬
‫تضم يديها في عصبية مطرقة الرأس‪ ،‬تعلم أن‬
‫جميع العيون مصوبة ناحيتها‪ ،‬و في نفس‬
‫الوقت تستمع إلى ما يجري بالجهة األخرى ‪...‬‬
‫حتى حانت اللحظة المرتقبة‪ ،‬و سمعت المأذون‬
‫يرسل في طلبها إلى المنطقة المحايدة لتدلي‬
‫بموافقتها على الزواج‪ ،‬و كأنها تفعل ذلك للمرة‬
‫األولى !‬
‫يخفق قلبها بسرعة مجنونة‪ ،‬حين جاءت‬
‫"سالف" مبتسمة لها تلك اًلبتسامة الصافية‪،‬‬
‫بعد تسوية ما بينهما‪ ،‬رأت "سالف" أن ما من‬
‫داعي للخصومة‪ ،‬و أن تقبل األمر الواقع هو‬
‫الحل األصلح للجميع‪ ،‬فشقيقة زوجها ستتزوج‬
‫اليوم‬
‫من هي لتعارض ؟‬
‫من هي لتخرب هذا الجمع الذي قدره هللا ؟‬
‫ربما فقط إنها وصلت في الوقت الخاطئ‪ ..‬ما‬
‫كان ينبغي أن تعود إلى المنزل مبكرا هذا‬
‫اليوم‪ ...‬ما كان ينبغي أن تسمع أو ترى شيئا ًل‬
‫يخصها !!!‬
‫‪-‬يال يا إيمان ! ‪ ..‬هتفت "سالف" و هي تلقي‬
‫على رأس العروس بطرحة أخرى إلخفاء‬
‫شعرها‬
‫نظرت "إيمان" إلى يدها الممدودة‪ ،‬ثم لها‬
‫هي‪ ..‬لم تجعلها تطلب مرة أخرى‬
‫أودعت يدها بيد األخيرة‪ ،‬و قامت معها‪ ،‬سارت‬
‫إلى جانبها بينما ينضممن بقية النساء خلفهما‬
‫ليشهدن بقية إتمام العقد ‪...‬‬
‫وقف "مراد" هناك‪ ،‬طويل‪ ،‬ناضج و مثير جدا‪،‬‬
‫يتألق بابتسامته الواثقة التي تعبر أحيانا عن‬
‫غروره الفطري‪ ،‬خفق صدرها بالنبضات‪ ،‬بينما‬
‫قفلت عيناه على عينيها‪ ،‬لتسقط بعدها على‬
‫ثوبها األبيض‪ ،‬استطاعت أن تقرأ في نظراته كم‬
‫هي رائعة‪ ،‬و اكتسبت منه ثقة كبيرة بنفسها‬
‫جلس "مراد" بمجرد أن جلست هي ًل يفصل‬
‫بينهما سوى "أدهم" و المأذون‬
‫شرع الشيخ المسن بإنهاء هذا الجزء األخير‬
‫من العقد‪ ،‬بوضع يدي كال من "أدهم" و‬
‫"مراد" أسفل المنديل‪ ،‬و ترديد كالهما العهود‬
‫و المواثيق‪ ..‬تفاجأت "إيمان" في اللحظة التي‬
‫أعلنهما المأذون زوجين و أوجلتها الهتافات‬
‫نفسها و كأنها تسمعها ألول مرة اآلن ‪:‬‬
‫‪-‬بارك هللا لكما‪ .‬و بارك عليكما‪ .‬و جمع بينكما‬
‫في خير ‪...‬‬
‫لم تفيق من كل هذه المفاجآت‪ ،‬إًل و جاء‬
‫"مراد" كأنما يلحق بها قبل أن تهرب أو‬
‫تتالشى من أمامه‪ ،‬رأت ابتسامة النصر تجلل‬
‫وجهه‪ ،‬بينما يمسك بيده ليوقفها أمامه‪ ،‬مال‬
‫نحوها ليقبل خدها قبلة طويلة و عميقة‪ ،‬ثم‬
‫عانقها بقوة أمام عيني أخيها‬
‫ًل زالت ًل تستوعب كل هذا‪ ،‬و خافت كثيرا لوًل‬
‫إنها بين ذراعيه تشعر ببعض األمان ‪...‬‬
‫‪-‬تقدر تتكلم دلوقتي يا دكتور أدهم !؟ ‪ ..‬صاح‬
‫"مراد" مبالغا في اقترابه و لمسه لزوجته و‬
‫هو يضع عينيه بعيني أخيها‬
‫ًل يزال "أدهم" جالسا محله و هو يرد عليه‬
‫بغيظ غير مباشر ‪:‬‬
‫‪-‬حقك يا سيدي‪ً .‬ل طبعا‪ ..‬مقدرش أتكلم !‬
‫تعالت القهقهات من حولهما‬
‫سارعوا باإلنتقال للخطوة الثانية قبل غروب‬
‫الشمس‪ ،‬بالركن المخصص إللتقاط الصور‪،‬‬
‫ذهبا الزوجين برفقة المصورة الشابة‪ ،‬خلعت‬
‫"إيمان" الحجاب أمامها بحرية‪ ،‬بينما راحت‬
‫ترشدهما للوضيعات المثلى‪ ،‬إلتقطت صور‬
‫كثيرة لهما معا‪ ،‬و للعائلة أيضا معهما‪ ،‬ثم أتم‬
‫"مراد" جلسة التصوير بلقطة خاصة‬
‫أدار زوجته مسندا ظهرها على صدره‪ ،‬و تحرك‬
‫لليمين قليال متجذبا رأسها بعينيه ليحقق‬
‫اإلتصال البصري بينهما‪ ،‬طوق خصرها و‬
‫بطنها بيده اليمنى‪ ،‬و دس يده األخرى بجيبه‪،‬‬
‫ثم تفاجأت "إيمان" مجددا عندما دنى برأسه‬
‫بغتة مقبال ثغرها قبلة سطحية‪ ،‬و لكنها كانت‬
‫كفيلة بتجميدها مثل صنم‬
‫أعجبت المصورة كثيرا باللقطة‪ ،‬و أثنت عليها‬
‫و هي تعلن انتهاء جلسة التصوير ‪:‬‬
‫‪-‬أكتر لقطة توب هي األخيرة دي‪ .‬مبروك يا‬
‫عروسة‪ .‬يومين إن شاء هللا و الصور كلها‬
‫تكون جاهزة !‬
‫شكرها "مراد" بينما تلوذ زوجته بأحضانه من‬
‫أي عين تترصدها‪ ،‬و لكنهما بقيا وحدهما تماما‬
‫بمجرد خروج األخيرة من ركن التصوير ؛‬
‫مسد "مراد" على رأس زوجته متمتما ‪:‬‬
‫‪-‬إيمان‪ ..‬بسرعة من فضلك قبل ما نخرج‪.‬‬
‫هاعمل قصاد الناس دول كلهم حاجة غير‬
‫قانونية !!‬
‫تطلعت إليه في الحال عابسة‪ً ،‬ل تفهم ماذا‬
‫يعني‪..‬و لم يكلف نفسه عناء الشرح‬
‫أمسك وجهها بين راحتي يديه‪ ،‬و مرة أخرى‪،‬‬
‫بعد ثالثة عشر عاما‪،‬‬
‫ابتسم "مراد" و هو يكسر القبلة أخيرا‪..‬‬
‫‪-‬كانت فكرة مش مضبوطة ! ‪ ..‬تمتم "مراد"‬
‫بصوت خافت مقابل شفتيها‬
‫نظرت له باستغراب‪ ،‬فاستطرد ‪:‬‬
‫‪-‬كان ًلزم أصبر لما نكون في بيتنا‪ .‬كده مش‬
‫هاعرف أفكر في أي حاجة غيرك طول‬
‫السهرة‪ ..‬لسا قادرة تأثري عليا بالشكل ده و‬
‫أكتر يا إيمان !!‬
‫يهتز هاتفه في جيب سترته اآلن‪ ،‬فيمد يده و‬
‫يستله‪ ،‬ضحك بخفة عندما شاهد اسم المتصل‬
‫‪...‬‬
‫‪-‬أخوكي شكله بيستعجلنا‪ .‬شكله خايف يدخل‬
‫علينا أحسن يتصدم مثال !‬
‫‪-‬مراد ! ‪ ..‬غمغمت "إيمان" مؤنبة‬
‫مراد مبتسما ‪ :‬خالص‪ .‬هانرجع لهم ‪...‬‬
‫و فرك ظاهر أنامله على خدها برفق و هو‬
‫يضيف ‪:‬‬
‫‪-‬شوية مفاجئتك هاتوصل كمان‪ .‬مش عايزك‬
‫تفكري خالص‪ ..‬عيشي اللحظة و إنسي كل‬
‫حاجة‪ .‬ده يومنا يا إيمان‪ .‬و قصاد العالم كله‪.‬‬
‫بنتجوز أنا و انتي !‬

‫يتبع ‪...‬‬
‫انتهى الفصل الثامن والعشرون‬

‫‪29‬‬

‫"هذا كل شيء بالنسبة لي !"‬

‫_ إيمان‬
‫بدأ الليل يلقي بظالله على بيت آل"عمران"‪...‬‬
‫اإلحتفال حتى الساعة يسير وفق قواعد‬
‫"أدهم"‪ ..‬إلتزام‪ ،‬تهذيب‪ ،‬رزانة‬
‫في جهة الرجال‪ ،‬جميعهم حول "مراد" قسم‬
‫من أصدقاء "أدهم" و آخر من أفراد العائلة‪..‬‬
‫كان "مراد" وحيد هنا‬
‫رغم تجمع كل هؤًلء من حوله‪ ،‬لكنه شعر‬
‫بوحدة كبيرة‪ ،‬حتى صديقه "رامز" الذي‬
‫جمعتهما الصدفة مؤخرا بعد طول غياب‪ ،‬لم‬
‫يأت بعد !‬
‫لم يسمح مع ذلك ألي مشاعر سلبية أن تفسد‬
‫عليه ليلته‪ ،‬ابتسم متحديا الظروف و شرع‬
‫ينسجم مع الصحبة و يتفاعل معهم كما لو أنه‬
‫يعرفهم جيدا‪ ،‬إلى أن أحس بتلك القبضة التي‬
‫اجتذبته للخلف بخفة‬
‫استدار على الفور‪ ،‬لكنه جمد مصدوما فجأة‪ ،‬و‬
‫هو يرى أمام عينيه صديق عمره‪" ..‬عثمان‬
‫البحيري" !!!‬
‫إنه هو بذاته‪ ،‬بشحمه و لحمه‪ ،‬يقف قبالته‬
‫متأنقا مبتسما ‪...‬‬
‫‪-‬بتتجوز تاني من ورايا !؟ ‪ ..‬نطق "عثمان"‬
‫بصوت أجش متظاهرا بالحنق ‪:‬‬
‫‪-‬لو ماكنش الدكتور أدهم عزمني مش عايز‬
‫أقولك كنت هاعمل فيك إيه ‪...‬‬
‫و رقت نظرته بغتة و هو يضيف بصدق ‪:‬‬
‫‪-‬واحشني‪ .‬واحشني ياًل !‬
‫كانت هذه آخر نقطة تماسك لديه‪ ،‬و انهار‬
‫الجليد الذي أحاط بقلبه في طرفة عين‪ ،‬ألقى‬
‫بذراعيه حول صديقه و اجتذبه معانقا إياه‬
‫بقوة‪ ،‬أمام أعين الجميع‪ ،‬عبرا الصديقين عن‬
‫شوقهما بشكل يثير السعادة و اإلنبهار‬
‫رابطة األخوة بينهما تجلت بشدة‪ ،‬و لم يعد هنا‬
‫أي عداء أو أثر للخالفات‪ ،‬لم يعد هناك سوى‬
‫الصداقة‪ ..‬حب ًل مشروط ‪...‬‬
‫_____‬

‫أضفى حضور "عثمان" البهجة و السرور‬


‫على أجواء الزفاف‪ ،‬و قد ًلحظ الجميع التحسن‬
‫الكبير في مزاج العريس‪ ،‬كانت لمعة عينيه ما‬
‫ينقصه حقا‪ ،‬و الفضل يرجع لصديقه في ذلك ؛‬
‫جلسا يتبادًلن النكات و المرح‪ ،‬الرجال ينصتون‬
‫و ًل يستطيعون التوقف عن الضحك‪ ،‬لينضم و‬
‫فجأة إلى الثنائي الوقح ضلعهما الثالث صائحا‬
‫بجلبة ‪:‬‬
‫‪-‬الباشا الكبير وصل‪ .‬ابن الزوات هنا يا جدعان‪.‬‬
‫عثمان البحيري بنفسه ‪...‬‬
‫تطلع كال من "مراد" و "عثمان" إلى‬
‫صديقهما‪ ،‬علت الدهشة وجه "عثمان" بينما‬
‫يهتف "مراد" باستياء ‪:‬‬
‫‪-‬كل ده عشان معاليك تشرف ؟ ده إللي جاي من‬
‫اسكندرية سبقك يا رامز بيه !‬
‫يقف "عثمان" اآلن و هو يبتسم أكثر متمتما ‪:‬‬
‫‪-‬رامز األمير !!‬
‫يرد "رامز" اًلبتسامة محاكيا النظرة الثعلبية‬
‫بعين صديقه ‪:‬‬
‫‪-‬عثمان البحيري !‬
‫تضاحكا فجأة‪ ،‬و كأنها شيفرة بينهما‪ ،‬ثم اندفعا‬
‫تجاه بعضهما في عناق رجولي دام للحظات‪ ..‬ثم‬
‫تباعداه و هما يتصافحا بحرارة ‪...‬‬
‫‪ 4-‬سنين ماتفكرش تيجي عندي ياض !؟ ‪..‬‬
‫قالها "عثمان" معاتبا‬
‫ليرد "رامز" بنصف ابتسامته الشهيرة ‪:‬‬
‫‪-‬أديك انت إللي جيت لي برجليك‪ .‬اعمل حسابك‬
‫مانتاش راجع اًل بعد شهر مثال‪ .‬هاعيشك هنا‬
‫أيام ماتنسهاش‪ .‬نعيد أمجاد زمان !‬
‫قهقه "عثمان" معلقا ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل ياخويا خالص‪ .‬ولى الزمن ده‪ .‬أنا معايا‬
‫واحدة توبتني !‬
‫عبس "رامز" مدهوشا ‪:‬‬
‫‪-‬اتجوزت ؟‬
‫أومأ له ‪ :‬ما انت لو بتسأل كنت عرفت و كنت‬
‫عزمتك‪ .‬حتى رقمك إللي معايا مش بيفتح‬
‫خالص ! ‪ ..‬ثم سأله باهتمام ‪:‬‬
‫‪-‬قولي صحيح انت كنت فين طول السنين دي و‬
‫بتعمل إيه !؟؟‬
‫تنهد األخير قائال ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل الحكاوي دي عايزة قاعدة من بتوع زمان‬
‫ماينفعش في ليلة مفترجة زي دي !‬
‫و ألقى نظرة مداعبة على "مراد"‪ ..‬ليقوم هو‬
‫أيضا و يقف إلى جوارهما و لكنه غير متجاوبا‬
‫معهما‪ ،‬ينظر بهاتفه و يعبث فيه مشغوًل ‪...‬‬
‫‪-‬أنا آسف يا سادة ! ‪ ..‬قالها "مراد" بصوت‬
‫حاد ‪:‬‬
‫‪-‬مضطر أسيبكوا شوية بس‪ .‬خمسة كده عند‬
‫العروسة و راجع تاني‪ .‬لكن طبعا و أنا ضامن‬
‫إنكوا مش هاتزهقوا ‪...‬‬
‫نظرا إليه باستغراب‪ ،‬ليبتسم و هو يشير لهما‬
‫برأسه تجاه بوابة المنزل ‪:‬‬
‫‪-‬الليلة مش هاتخلص قبل ما تفرح العروسة‪ .‬و‬
‫أنا هاسيب لك الدكتور أدهم يا عثمان‪ .‬انت‬
‫أدرى بيه أكتر رامز لسا ما يعرفوش !‬
‫تبع "عثمان" مؤشرات صديقه و هو يومئ‬
‫قائال بمرح ‪:‬‬
‫‪-‬ماتقلقش‪ .‬روح فرح عروستك‪ .‬و سيب لي‬
‫الشيخ أدهم‪ ..‬أنا هاتصرف معاه !!!‬
‫*****‬
‫لقرابة الساعتين لم تتحرك "إيمان" من‬
‫مكانها‪ ،‬كانت محط األنظار‪ ،‬متوترة‪ ،‬مهزوزة‪،‬‬
‫و ربما‪ ..‬تشعر بالخواء‬
‫يفترض أن يكون هذا أجمل أيام حياتها‬
‫فقد بلغت مرادها !‬
‫حققت أمنيتها الغالية و تزوجت بحبيبها‬
‫هل هناك سبب أدعى للسعادة غير هذا !؟‬
‫و لكنها ًل تزال‪ ..‬و لسبب ما ‪...‬‬
‫واجمة !‬
‫ارتعدت فرائصها بغتة عندما فاجأها بلمسة‬
‫قوية‪ ،‬رفعت وجهها و اشتبكت عيناها بعينيه‬
‫بينما يطمئنها فورا ‪:‬‬
‫‪-‬ده أنا يا حبيبتي‪ .‬أنا !!‬
‫بدأت تسترخي قليال‪ ،‬و قد انتبهت لتركيز النساء‬
‫كلهم عليهما‪ ،‬فزحفت يدها متشبثة بيده تستمد‬
‫منه بعض القوة لمواجهة نوبات الهلع غير‬
‫المبررة تلك ‪...‬‬
‫‪-‬جاهزة للمفاجآت !؟ ‪ ..‬سألها "مراد" مبتسما‬
‫بحماسة‬
‫قطبت معاودة النظر إليه‪ ،‬فلم يمهلها فرصة‬
‫للشرح‪ ،‬إلتفت خلفه و ًل زال ممسكا بيدها‪،‬‬
‫وضع الهاتف فوق أذنه و فاه بكلمة واحدة ‪:‬‬
‫‪-‬دلوقتي !‬
‫شد زوجته لتقف إلى جواره‪ ،‬بينما يولي وجهها‬
‫صوبها الستار الفاصل بين سرادق الرجال و‬
‫النساء‪ ،‬يرتفع الستار شيئا فشيء‪ ،‬ليكشف عن‬
‫حائل زجاجي شفاف‪ ،‬كشف عن الجهة األخرى‬
‫بالكامل ‪...‬‬
‫سمع "مراد" شهقتها و ًلحظ ارتعاشتها و هي‬
‫تحاول التحرك لتستتر خلفه بفستانها و رأسها‬
‫المكشوف‪ ،‬شدد يديه حول كتفيها هامسا لها ‪:‬‬
‫‪-‬ماتقلقيش خالص‪ .‬اإلزاز معتم‪ .‬انتي تشوفي‬
‫إللي على الناحية التانية‪ .‬مستحيل حد هناك‬
‫يشوفك !‬
‫شرح لها بايجاز و هي تواصل النظر عبر‬
‫الزجاج الخاص الذي أحضره من أجلها‪ ،‬و لكن‬
‫لماذا ؟‬
‫جاء الجواب في الحال‪ ،‬لحظة ظهور ذاك‬
‫المطرب الشهير‪ ،‬أعقبه صوت "الدي جي"‬
‫يبث ألحان الغنوة الصيفية األشهر ‪...‬‬
‫طوق "مراد" خصرها و مد يده داعيا إلى‬
‫مراقصتها‪ ،‬و لكنها انشغلت للحظات برؤية‬
‫شقيقها يجادل أحد الرجال حول ما يجري حديثا‬
‫و قد بدا عليه الغضب‪ ،‬لكن الرجل الذي معه‬
‫احتوى غضبه تقريبا‪ ،‬فاطمأنت و التفتت نحو‬
‫زوجها‬
‫تنفست بعمق و هي تودع يدها بكفه الدافيء‪،‬‬
‫سلمت نفسها إليه كليا‪ ،‬ليسحبها إلى منتصف‬
‫الساحة‪ ،‬و أمام أعين األقارب نساء و فتيات‪،‬‬
‫اشتعلت نظرات الحسد بينما و هو يراقصها و‬
‫يتمايل بها بمرونة‬
‫يدورها حول نفسها و يتجاذبها و يضمها على‬
‫األنغام التالية ‪:‬‬
‫"كله عادي إًل إنت شمس طالعة‬
‫كله حلو إًل إنت بس روعة‬
‫شكلي وقعت فيكي‪ ،‬أوبس أوعى‬
‫معدية وفوق‬
‫إنت قمر وسط ليل هادي‬
‫إنت جو جميل قصادي‬
‫جمالك متفصل مش عادي‬
‫مليانة رقة وذوق‬
‫ًل دا إنت جنان‪ ،‬شمس وراسمها فنان‬
‫العيون عربية كمان‪ ،‬إيه بقى مش كدا عقلي أنا‬
‫هيطير‬
‫عينيكي بتجر من بصة شدت قلبي إتجر‬
‫جمال رباني‪ً ،‬ل‪ً ،‬ل مش سحر‬
‫ملفتة‪ ،‬نجمة في وسط الجماهير‬
‫ًل دا إنت جنان‪ ،‬شمس وراسمها فنان‬
‫العيون عربية كمان‪ ،‬إيه بقى مش كدا عقلي أنا‬
‫هيطير‬
‫عينيكي بتجر من بصة شدت قلبي إتجر‬
‫جمال رباني‪ً ،‬ل‪ً ،‬ل مش سحر‬
‫ملفتة‪ ،‬نجمة في وسط الجماهير‬
‫إنت في الشتا باريس أوروبا‬
‫مودك أحلى من المالديف وأوبا (أوبا)‬
‫الجمال دا مش خفيف دا طلقة‬
‫إنت جاية منين‬
‫إنت هواكي يرد الروح صافي‬
‫ضحكتك بتخلي الصبح دافي‬
‫حبك دا اللي رسيت عليه راسي‬
‫هو دا اللي حلمت بيه‬
‫ًل دا إنت جنان‪ ،‬شمس وراسمها فنان‬
‫العيون عربية كمان‪ ،‬إيه بقى مش كدا عقلي أنا‬
‫هيطير‬
‫عينيكي بتجر من بصة شدت قلبي إتجر‬
‫جمال رباني‪ً ،‬ل‪ً ،‬ل مش سحر‬
‫ملفتة‪ ،‬نجمة في وسط الجماهير"‬
‫ظل المطرب يتنقل بين أغانيه لمدة زمنية‬
‫قصيرة‪ ،‬إلى أن حلت مكانه تلك األخيرة‪،‬‬
‫المفضلة لزوجته بغنوتها األشهر على اإلطالق‪،‬‬
‫هذه المرة دخلت المطربة المعتزلة إلى سرادق‬
‫النساء و هي تفتتح غنوتها بصوتها المميز ‪...‬‬
‫أدارت "إيمان" رأسها لتنظر إلى زوجها‬
‫بذهول‪ ،‬تكاد ًل تصدق نفسها‪ً ،‬ل زال يتذكر‪،‬‬
‫أبرز ذكريات مراهقتهما‪ ،‬تلك الحقبة التي‬
‫عشقته فيها حد الجنون و كان هو أيضا متيما‬
‫بها‪ ،‬تلك الغنوة‪ ..‬كانا يستمعا لها سويا‬
‫باستمرار‬
‫ًل زال يتذكر !!!‬
‫ابتسم "مراد" و هو يمضي بها مشجعا جموح‬
‫شبابها الذي أجبرت على وأده من بعد هجره‬
‫لها‪ ،‬لم تحتاج أن تسأل مرتين‪ ،‬و ألول مرة‬
‫الليلة تضحك من قلبها و هي تطلق مواهبها‬
‫الدفينة و تجعل الجميع يرون الجانب اآلخر من‬
‫شخصيتها و أنوثتها التي لم يرها أحد غيره‪..‬‬
‫"مراد" ؛‬
‫بوجه متورد و أعين ًلمعة‪ ،‬ترقص "إيمان"‬
‫مع "مراد" و تتغونج بنعومة ساحرة و هي‬
‫تشارك المطربة الغناء ‪:‬‬
‫"كان مالي‬
‫إزاي ليه قلبي‪ ،‬بيحبك معقول‬
‫إيه ماله‪ ،‬إيه جرى له‬
‫كده فجأة روحه فيك‪ ،‬وًلقيه بين إيديك‬
‫وحالي حاله‪ ،‬وإيه جرى له‬
‫إيه جرى له‪ ،‬إيه جرى له‬
‫طب قل لي‪ ،‬قل لي‪ ،‬لو حب ده قل لي‬
‫قلبي تملي‪ ،‬خايف ًل يقاسي‬
‫طب قل لي‪ ،‬قل لي‪ ،‬أنا قلبي احتار رسيه‬
‫ويا ريتني ما حبيتك وأنا كان مالي‬
‫أنا يا اللي‪ ،‬يا اللي‪ ،‬الحب أنا ذبت فيه‬
‫كده‪ ،‬كده جاني إزاي وًل كان في بالي‬
‫أنا يا اللي‪ ،‬يا اللي‪ ،‬كده فجأة غرقت فيه‬
‫ويا ريتني ما حبيتك وأنا كان مالي إيه جرى لي‬
‫إزاي ليه تملي في عينيك أنا بسرح ليلي طال‪،‬‬
‫إيه جرى له‬
‫لي إنت بناديك وًلقيك وعينيك يا ما قالوا‬
‫إيه جرى له‪ ،‬إيه جرى له‪ ،‬إيه جرى له‬
‫طب قل لي‪ ،‬قل لي‪ ،‬لو حب ده قل لي‬
‫قلبي تملي‪ ،‬خايف ًل يقاسي‬
‫طب قل لي‪ ،‬قل لي‪ ،‬أنا قلبي احتار رسيه‬
‫ويا ريتني ما حبيتك وأنا كان مالي‬
‫أنا يا اللي‪ ،‬يا اللي‪ ،‬الحب أنا ذبت فيه‬
‫كده‪ ،‬كده جاني إزاي وًل كان في بالي‬
‫أنا يا اللي‪ ،‬يا اللي‪ ،‬أنا فجأة غرقت فيه‬
‫ويا ريتني ما حبيتك وأنا كان مالي‪ ،‬كان مالي"‬
‫أعادت المطربة أداء الغنوة مرارا‪،‬‬
‫مراد بحب‪:‬‬
‫‪-‬إيماني‪ ..‬أنا بحبك !‬

‫*****‬

‫يمرر أنامله في شعرها‪ ،‬رأسها يستند على‬


‫قدمه و هو يقود سيارته ألكثر من ثلث ساعة‪..‬‬
‫انتهى الزفاف أخيرا‬
‫و رحلت معه تاركة بيت أبيها‪ ،‬بعد أن ودعت‬
‫الجميع‪ ،‬عدا ابنتها‬
‫لم تود الفتاة في األصل توديع أمها‪ ،‬فقط كانت‬
‫تلوذ بأحضان خالها طوال السهرة‪ ،‬و أحيانا‬
‫تلهو مع أقرانها من األطفال‬
‫لم تكن تفكر "إيمان" فيها اآلن‪ ،‬لم تكن تفكر‬
‫في أي شيء‪ ،‬كان ذهنها فارغ‪ ،‬ضبابي يمكن !‬
‫تصحو "إيمان" فجأة‪ ،‬عندما تكتشف بأنه‬
‫يصفط سيارته بساحة واحد من أبرز فنادق‬
‫المدينة‪ ..‬في الحقيقة إنه ذات الفندق الذي‬
‫أشارت له ذات مرة في مراهقتها و هو كان‬
‫معها آنذاك‪ ،‬و كم أخبرته وقتها عن رغبتها‬
‫الشديد في قضاء ليلة زفافهما به‬
‫كان حلم طواه الزمن‬
‫لكن ها هو الليلة‬
‫يحققه لها‬
‫في ليلة زفافهما‬
‫أيتوجب أن تشعر كم هذا مثالي !؟؟‬
‫بعد أن انتهى "مراد" من إجراءات الدخول‪،‬‬
‫كان جناحهما محجوز بالفعل‪ ،‬لم يحضرا معهما‬
‫أي حقائب‪ ،‬فصعدا بمفردهما إلى طابق النخبة‪،‬‬
‫يفتح "مراد" الباب بالبطاقة التي معه‪ ،‬دعاها‬
‫للدخول أوًل‪ ..‬لبت دعوته دون تردد‬
‫مدت و ولجت إلى الجناح الخاص‪ ،‬كان كبيرا‪،‬‬
‫مجهزا على أكمل وجه لعروسين‪ ،‬حيث‬
‫البالونات الهاليوم موزعة باتقان حول الفراش‪،‬‬
‫و في السقيفة‪ ،‬األرض مفروشة بأوراق‬
‫الزهور‪ ،‬الشرفة العريضة مغطاة بستائر بيضاء‬
‫شفافة‪ ،‬و الصالون المقابل مزين بحاويات‬
‫الشموع المعطرة‬
‫كلها أجواء تبعث على‪ ...‬الحب !‬
‫انتفضت "إيمان" عندما سمعت صوت اغالق‬
‫الباب‬
‫استدارت ناظرة إلى زوجها‪ ،‬برزت اًلبتسامة‬
‫على طرف فمه و هو يمشي تجاهها ببطء‬
‫متمتما ‪:‬‬
‫‪-‬كان يوم متعب‪ .‬بس تعرفي‪ ..‬ده أحلى تعب‬
‫تعبته في حياتي‪ .‬و دي أحلى ليلة في عمري‬
‫كله ‪...‬‬
‫توقف على بعد خطوتين منها‪ ،‬و تابع و هو‬
‫يرمي سترته بعيدا و يحل ربطة عنقه ‪:‬‬
‫صعب‪ .‬عديت ‪-Game‬حاسس إني خلصت‬
‫مراحل كتير أوي عشان أوصل لك‪ ..‬ماكنتش‬
‫متخيل إني هاكون ملهوف عليكي أوي كده‪.‬‬
‫يعني انتي فهماني‪ .‬حصل قبل كده بينا‪ ..‬بس‬
‫إحساسي دلوقتي أقوى بكتير من أول مرة‪ .‬من‬
‫أي مرة يا إيمان‪ .‬و عارف إن انتي كمان زيي‪...‬‬
‫صح ؟‬
‫كانت تنظر إليه و تستمع إليه جيدا ‪...‬‬
‫لكنها ًل تعرف ماذا دهاها فجأة !!!‬
‫كتفاها يبدآن في اًلرتعاش‪ ،‬يسوء الوضع أكثر‬
‫عندما تهاجمها تلك النوبة المباغتة‪ ،‬فال‬
‫تستطيع احتواء التنهيدات التي خرجت على‬
‫شكل سلسلة من اًلنفعاًلت القوية ‪...‬‬
‫أجفل "مراد" و هو يراقبها متسائال بتوجس ‪:‬‬
‫‪-‬إيمان‪ .‬إنتي كويسة ؟‬
‫لم تعطه رد‬
‫لم تتمكن‬
‫و كأنها نسيت الكالم‬
‫انبعث من بين شفتيها أنين متألم‪ ،‬و اجتذبت‬
‫قطرات الدماء الناقرة فوق األرض أنظار‬
‫"مراد" الذي حدق مذعورا إلى يديها ‪...‬‬
‫‪-‬يا مجنونة‪ ..‬عورتي نفسك !! ‪ ..‬صاح بها و‬
‫هو ينتزع يديها بالقوة‬
‫نظر مذهوًل إلى كفيها حيث غرزت أظافرها‬
‫باللحم عميقا حتى أدمت نفسها‪ ،‬نظر تاليا إلى‬
‫وجهها و الكحل الممزوج بدموعها و الذي‬
‫خرب زينتها‬
‫لم يكاد يفتح فمه مرة أخرى ليوجه لها كلمة‪،‬‬
‫لتنتفض عليه فجأة ممسكة بخناقه صارخة و‬
‫هي تضربه بشدة على صدره ‪:‬‬
‫‪-‬أنا بكرهك‪ ..‬بكرهك‪ ..‬بكرهك‪ ...‬يا ندل يا حيوان‬
‫بكرهــــــــك !!!‬
‫كانت قبضتاها النازفتين قد لطختا قميصه ناصع‬
‫البياض‪ ،‬حاول أن يسيطر على حالتها‬
‫الهستيرية المباغتة بما و سعه من قوة و قد‬
‫فاجأته بذاءتها ؛‬
‫لكنها لم تهدأ بل و تجاهلت ثقل ثوب زفافها و‬
‫استدارت خلفها نحو منضدة الزينة لتقذفه بما‬
‫تقع عليه يدها أيما كان‪ ،‬شتم "مراد" و هو‬
‫يشدها ليشل حركتها‪ ،‬ثم طوقها بذراعيه و هو‬
‫يهمس متوسال ‪:‬‬
‫‪-‬إهدي يا إيمان‪ .‬إهدي أرجوكي !‬
‫كانت قواها قد خارت بالفعل‪ ،‬و لم تبدي أي‬
‫مقاومة بعد اآلن‪ ،‬إنما راحت تنتحب على صدره‬
‫بحرقة‪ ،‬بينما هو يحاول امتصاص حزنها قدر‬
‫استطاعته‪ ،‬فأخذها و أجلسها على الفراش‪،‬‬
‫فوق الورود تماما‪ ،‬ثم جثى فوق ركبتيه أمامها‬
‫‪...‬‬
‫ما زال ممسكا بيدها‪ ،‬فرفعت هي اليد األخرى و‬
‫مررت أصابعها في شعره الكثيف‪ ،‬و هي ترنو‬
‫إليها بنظرات مشوشة‪ ،‬إلتحم أمامها الماضي‬
‫بالحاضر‪ ،‬و استيقظت من جديد أحاسيس‬
‫قديمة‪ ،‬أطلقت بداخلها طوفانا من الذكريات‬
‫الحميمية بينهما‪ ،‬و التي كانت خطيئتها‪ ،‬ذنب‬
‫لبثت تكفر عنه سنوات طويلة‬
‫لم تتحمل كل هذا الضغط فانفجرت ثانية ناظرة‬
‫ألعلى‪ ،‬كأنما تخاطب السماء و هي تشد‬
‫قبتضتها على شعره بقوة لم تؤلمه بقدر ما‬
‫صدمه حديثها التالي ‪:‬‬
‫‪-‬ياااااااااااااااارب‪ ..‬يارب ده مراد‪ .‬ده مراد إللي‬
‫أنا عاصيتك فيه‪ .‬و ندمت يا ربي‪ .‬ندمت و وقفت‬
‫على بابك سنين تغفرلي و تسامحني‪ ..‬رجعته ليا‬
‫يارب‪ ...‬رجعته ليا تاني بس ماتكنش لسا‬
‫غضبان عليا‪ .‬لو لسا غضبان عليا خد مني كل‬
‫حاجة‪ .‬أنا راضية‪ .‬خدني أنا عندك‪ ..‬بس‬
‫تسامحني‪ ...‬يارب سامحني !‬
‫مأل الجزع تعابير وجهه و هو يرفع يديه ليفك‬
‫أصابعها المشتبكة بشعره بصعوبة‪ ،‬كانا كفاها‬
‫ملطخين بالدماء حتى اآلن‪ ،‬فجاءت ردة فعله‬
‫تلقائيا و هو يفتح أزرار قميصهو يخلعه منظفا‬
‫به جرحها ليرى مدى سوئه‬
‫لحسن الحظ لم يكن سيئا جدا‬
‫و النزيف توقف تماما‬
‫تنهد "مراد" و هو يمسح بكفه على رأسها‪،‬‬
‫ينزع عنها الطرحة برفق‪ ،‬و يحرر شعرها و في‬
‫نفس الوقت يمسح دموعها و هو يقول بأقصى‬
‫ما لديه من لطف متأثر ‪:‬‬
‫‪-‬حبيبتي‪ .‬انسي‪ .‬انسي أي حاجة ممكن تتعبك‬
‫الليلة دي‪ ..‬أنا هنا جنبك !‬
‫هزت رأسها بعصبية محاولة القيام من أمامه‪،‬‬
‫لكنه أبقى عليها بالقوة‪ ،‬شدها من خصرهاو‬
‫أجبرها على الرقود بحيث تموضع فوقها مكبال‬
‫حركتها دون أن أي احتكاك يشعرها بالخوف ‪...‬‬
‫تغرز أظافرها الحادة بجلد كتفه و ظهره‪ً ،‬ل‬
‫يصدر عنه سوى تأوه و هو يبذل ما بوسعه‬
‫ليحتوي ذعرها‪ ،‬ترتجف بين ذراعيه و تغص‬
‫بالبكاء دون صوت و عيناها الجاحظتين‬
‫معلقتان بعينيه الضبابيتان بلمحات من الوداعة‬
‫‪...‬‬
‫‪-‬بصيلي كويس يا إيمان ! ‪ ..‬همس مقابل‬
‫شفتيها يحثها بلطف‬
‫فوجل قلبها أكثر و حفرت اظافرها بجلده أعمق‬
‫حتى أدمته‪ ،‬تذمر "مراد" و هو يئن و يعبس‬
‫متألما‪ ،‬و رغم ذلك لم يتخلى عنها أو يتركها‪،‬‬
‫شدد ذراعيه حولها و هو يستطرد ضاربا على‬
‫جوارحها بشدة ‪:‬‬
‫‪-‬بصيلي‪ .‬أنا مش سيف‪ .‬و ًل مالك‪ ..‬أنا مراد‪...‬‬
‫أنا حبيبك !!‬
‫لعلها بدأت تتراجع قليال‪ ..‬و بدأ الخوف‬
‫باًلنحسار فجأة كما هاجم فجأة‬
‫لم يفعل "مراد" شيء‪ ،‬لم يفعل لها أي شيء‪،‬‬
‫إنما تحرك بحذر حتى أتى إلى جوارها‪ ،‬أدار‬
‫جسمها مقابله و ضمها إليه‪ ،‬استغرقها األمر‬
‫لحظات للتكيف معه‬
‫و أصبحت اآلن ملفوفة حوله بذراعيها و‬
‫ساقيها‪ ،‬هدأت نوعا ما‪ ،‬و بقيت رأسها مدفونة‬
‫في رقبتي و كأنها تنام‬
‫ليس و كأنها‬
‫إنها بالفعل ما لبثت أن غطت بالنوم‪ ،‬و كان هذا‬
‫فعال كاف بالنسبة إليه‪ ،‬يريدها أن تنعم بالسكينة‬
‫فقط !‬
‫يتبع ‪...‬‬
‫انتهى الفصل التاسع والعشرون‪..‬‬

‫‪30‬‬

‫"هل أبتعد ؟‪ً ..‬ل أبتعد ؛ تحبينني‪ ...‬و أنا‬


‫أعشقك!"‬

‫_ مراد‬

‫ناما حتى فترة بعد الظهر‪ ،‬و قد حرص "مراد"‬


‫أن يضع إشارة عدم اإلزعاج خارج باب الجناح‪،‬‬
‫لذلك فإنها استيقظت على راحتها‪ ..‬رغم أنه هو‬
‫مستيقظا منذ ساعة‬
‫لكنه لم يتحرك خشية أن يقلقها أو ما شابه‬
‫هي متعبة لدرجة إنها لم تتقلب و لو لمرة‬
‫واحدة خالل الليل !‬
‫كان يوما مرهق جدا‪ ،‬و لكنها تشعر بتحسن‬
‫كبير‪ ،‬و تقر بأنها لم تذق راحة في حياتها مثل‬
‫ليلة أمس‪ ،‬حتى نومها كان هانئا‪ ...‬هل يرجع‬
‫الفضل لهذا له !؟‬
‫استعادت كامل وعيها و هي تحس جيدا به‪ ،‬إنه‬
‫يرقد مقابلها‪ ،‬ذراعه تحت رأسها و األخرى‬
‫تحيط بخصرها‪ ،‬تستطيع أن تشعر بصدره‬
‫الدافئ أسفل خدها‪ ،‬و بقلبه النابض بثبات قرب‬
‫أذنها ‪...‬‬
‫‪-‬صباح الفل ! ‪ ..‬يتمتم لها بصوت أقرب للهمس‬
‫اضطربت "إيمان" قليال عندما اكتشفت بأنه‬
‫مستيقظ بالفعل‪ً ،‬لحظ هذا على الفور فأخذ‬
‫يربت على كتفها بحنان قائال ‪:‬‬
‫‪-‬إيه كل النوم ده يا إيمي‪ .‬تعرفي بقالنا كام‬
‫ساعة في السرير على نفس الوضع من ليلة‬
‫إمبارح ؟‪ 14 ..‬ساعة !!‬
‫أطلقت زفيرا مرتعشا و حاولت التمطي‪ ،‬لوهلة‬
‫أعاقتها ذراعاه‪ ،‬فابتعد عنها بالقدر الكافي شادا‬
‫عضالت جسمه بدوره‪ ،‬إنه و ًل شك بحاجة‬
‫لحمام دافئ ‪...‬‬
‫‪-‬مش متخيل إني نمت بالجزمة ! ‪ ..‬علق‬
‫"مراد" و ابتسامة مرحة في صوته‬
‫لم تكن "إيمان" أفضل حاًل منه‪ ،‬فهي األخرى‬
‫نامت في ثوب زفافها !‬
‫قام "مراد" جالسا على حافة الفراش‪ ،‬فرقع‬
‫فقرات رقبته‪ ،‬ثم انحنى ليخلع حذاؤه الزوج تلو‬
‫اآلخر‪ ،‬و استدار نحوها ثانية ‪...‬‬
‫كانت تحدق بالسقف و تمرر أصابعها في‬
‫شعرها المنتشر فوق الوسادة‪ ،‬بينما يسألها‬
‫"مراد" عابسا ‪:‬‬
‫‪-‬انتي مش بتردي عليا ليه يا إيمان ؟‬
‫لم تعطه جواب فورا‪ ،‬إنما قالت بعد لحظات‬
‫بصوت رائق ‪:‬‬
‫‪-‬أنا عاوزة أخد دش ساخن !‬
‫إنبلجت البسمة على طرف فمه و هو يقول ‪:‬‬
‫‪-‬كأنك بتقري أفكاري‪ .‬؟‬
‫رمقته بنظرة جانبية‪ ،‬ثم اجتهدت و هي تقوم‬
‫من الفراش تجر الثوب الثقيل قائلة ‪:‬‬
‫‪-‬تعال ساعدني‪ ..‬مش هاعرف أخلع الفستان‬
‫لوحدي‬
‫و قد كان حقا من دواعي سروره‪ ،‬ابتسم أكثر و‬
‫هو يقف على قدميه في الحال و يتجه نحوها ‪:‬‬
‫‪-‬أكيد يا حبيبتي‪ .‬جاي معاكي !‬
‫مشى ورائها وصوًل لقاعة الحمام المترفة‪،‬‬
‫وقفت "إيمان" بالمنتصف و أولت له ظهرها‬
‫ممسكة بحاشية ثوبها‪ ،‬سحب "مراد" نفسا‬
‫عميقا‪ ،‬ثم رفع يديه و تولت أصابعه فك أربطة‬
‫الفستان المعقدة‪ ،‬استغرق هذا منه سبع دقائق‬
‫تقريبا‬
‫صدرت عنه زفرة راحة بعد المجهود الذي‬
‫بذله‪ ،‬ثم قال و هو يحاول نزع الكتفين ليسقط‬
‫كله عنها ‪:‬‬
‫‪-‬أخيرا‪ .‬أنا مش عارف فساتينكوا بتبقى بالتعقيد‬
‫ده كله ليه‪ .‬الراجل مننا بينط في بدلته و خلصت‬
‫على كده !‬
‫ًلحظ "مراد" بأنها ًل تسمح له بنزع الفستان‪،‬‬
‫فردد مستغربا ‪:‬‬
‫‪-‬حصل إيه يا حبيبتي‪ .‬فكيته صح ؟‬
‫‪-‬أيوة فكيته‪ ..‬شكرا‪ .‬ممكن تخرج دلوقتي لحد ما‬
‫أخلص ‪...‬‬
‫رفع "مراد" حاجبيه مدركا مقصدها‪ ،‬استوقفه‬
‫تصرفها قليال‪ ،‬ثم تنهد و هو يستدير ليقف‬
‫أمامها‪ ،‬إتخذ وجهه تعبيرا جادا و هو يتحدث‬
‫إليها ممسكا بكتفيها ‪:‬‬
‫‪-‬أنا عارف إن كل ده كان غلط‪ .‬و أكبر غلط‬
‫عملته إني تممت الجواز قبل ما تتعالجي‪..‬‬
‫معلش‪ .‬لسا ممكن أصلح الغلطة دي‪ .‬بعد ما‬
‫نرجع من السفر هانتابع مع دكتورة‪ .‬أنا‬
‫هساعدك تخرجي من إللي انتي فيه يا إيمان !‬
‫تجهم وجهها و هي ترد عليه بحدة ‪:‬‬
‫‪-‬انت مفكرني مجنونة يا مراد !؟؟‬
‫هز رأسه و هو يمسك وجهها بكلتا يداه اآلن‪،‬‬
‫جاوبها بنبرة استجداء ‪:‬‬
‫‪-‬مش قصدي كده يا إيمان‪ .‬صدقيني‪ .‬أنا حاولت‬
‫أساعدك بس مقدرتش‪ .‬و كنت متصور لو‬
‫طاوعتك و سرعت جوازنا ده ممكن يخفف عنك‬
‫و ترجعي لنفسك واحدة واحدة‪ ..‬بس لألسف‪.‬‬
‫انتي لسا مش متزنة‪ .‬رغم كل إللي بعمله‪ .‬و ده‬
‫حقك‪ .‬ده مش عيب صدقيني‪ ..‬إللي مريتي بيه‬
‫مش سهل‪ .‬حطي بس ثقتك فيا‪ .‬أنا هاعمل‬
‫المستحيل عشان أرجع لك إيمان‪ .‬إيمان إللي‬
‫عرفتها من ‪ 13‬سنة و أكتر‪ .‬أنا حبيت البنت‬
‫دي‪ .‬و عايزها ترجع تاني !‬
‫أغرورقت عيناها بالدموع و هي تستمع إلى‬
‫كلماته‪ ،‬كرهت نظرة الصدق البادية في عينيه‪،‬‬
‫رفعت "إيمان" كفيها و وضعتهما فوق يديه‬
‫مغمغمة بأنفاس مخنوقة ‪:‬‬
‫‪-‬البنت دي لسا موجودة‪ .‬لو مش موجودة‬
‫ماكنتش هاعيش متعذبة كل العذاب ده‪ .‬البنت‬
‫دي كل يوم بتصحى في الليل‪ .‬من يوم ما سبتني‬
‫و هي مش بتبطل توبة و استغفار و دايما حاسة‬
‫بالذنب لسا عليها بسبب إنها فشلت تنساك‪ .‬أو‬
‫تكرهك‪ .‬كانت بتدعي كل يوم و كل ساعة إنها‬
‫تتصلح و انك تتصلح و ترجع ليها تاني‪ .‬قبل ما‬
‫تشوفك كانت بتدعي إن الشخص إللي يدق له‬
‫قلبها‪ .‬إللي تبصله عنيها‪ .‬إللي مشاعرها كلها‬
‫تتحرك عشانه يكون من نصيبها و محدش‬
‫غيره يدخل حياتها‪ ..‬و انت مش بس أخدت كل‬
‫ده‪ .‬انت أخدتني أنا شخصيا يا مراد‪ .‬و بعدها‬
‫سبتني‪ ..‬سبتني و جه غيرك إللي دوقني الذل و‬
‫المهانة‪ .‬أنا استنيتك كتير يا مراد‪ .‬ماجتش ليه‪.‬‬
‫ليه !!؟؟؟‬
‫اقترب "مراد" أكثر قبل أن تزداد حالتها سوءا‪،‬‬
‫لف ذراعيه حولها‪ ،‬و ضم وجهها إلى صدره‬
‫مبررا بصوت يمزقه الندم ‪:‬‬
‫‪-‬كنت صغير‪ .‬كنت طايش‪ ..‬ماكنتش مفكر إن‬
‫هايجي يوم و أشوفك تاني‪ ...‬فوق كل ده‪..‬‬
‫ماكنتش حاسس إني حبيتك أوي للدرجة دي‪.‬‬
‫زي ما أكون متخدر طول السنين إللي بعدتها‬
‫عنك‪ .‬مافيش واحدة في العالم ده كله ليها تأثير‬
‫عليا زيك‪ .‬مافيش واحدة حبتني غيرك‪ .‬و ًل أنا‬
‫حبيتك غيرك يا إيمان‪ ..‬عرفت قبلك و بعدك‪.‬‬
‫لكن انتي‪ ...‬انتي حبي األول‪ .‬و األخير !‬
‫ًل زالت تبكي على صدره‪ ،‬و ًل تعرف إلى أي‬
‫مدى هو صادق‪ ،‬لكن حتى لو كان نادما‪ ،‬هل‬
‫سيغير ندمه أي شيء !؟‬
‫يتعين أن يكون نادما‪ ..‬فإن الندم أقل ما يمكن‬
‫إظهاره ليكفر عن جريرته بحقها ‪...‬‬
‫‪-‬ممكن تخرج لحد ما أخلص بس ! ‪ ..‬تمتمت‬
‫"إيمان" بصعوبة دون أن تحاول إبعاده عنها‬
‫في الحقيقة ًل تريده أن يبتعد‪ ،‬عقلها يأمرها بأن‬
‫تبعده‪ ،‬لكن قلبها و جسمها يصرخان بتوسل‬
‫ليبقى !!!‬
‫لحظة أخرى و نفذ رغبتها‪ ،‬ابتعد للخلف قائال‬
‫بهدوء ‪:‬‬
‫‪-‬حاضر‪ .‬هاخرج أطلب الفطار على ما تخلصي‬
‫‪...‬‬
‫و أضاف قبل أن يمضي ليتجاوزها ‪:‬‬
‫‪-‬بس ماتطوليش‪ .‬انتي نمتي من غير عشا و‬
‫لسا مافطرتيش‪ .‬ماينفعش تجهدي نفسك أوي !‬
‫و خرج ‪...‬‬
‫بقيت وحيدة اآلن‪ ،‬لكنها تشعر باألمان‪ ،‬ألنها‬
‫تدرك بأنه هنا معها‬
‫على بعد عشرة أقدام‪ ..‬الشخص الوحيد الذي‬
‫يعطي معنى لحياتها‬
‫صار معها من اآلن‬
‫و إلى األبد ‪...‬‬
‫*****‬
‫عصر الجمعة‬
‫عطلة زوجها الوحيدة باًلسبوع‪ ،‬عادة ما يبدأها‬
‫بالذهاب من بكرة الصباح إلى صالة الرياضة ثم‬
‫يعود إلى البيت قبل موعد الصالة‪ ،‬كرهت أن‬
‫تقضي النهار بالبيت ألول مرة منذ وقت طويل‪،‬‬
‫باشرت تقطيع الفاكهة لصنع مرطبات و عصائر‬
‫ألوًلدها و والدهم‬
‫لكن ذلك على العكس أيضا لم يشكل أي إلهاء‬
‫كانت غاضبة جدا‪ ،‬و ًل يمكنها إًل أن تشعر‬
‫بالغيرة !‬
‫أجل‪ ..‬سالف" تغير !!!‬
‫لديها أسرة و زوج يحبها و تحبه‪ ،‬و لكن حياتها‬
‫تعاني من الرتابة الشديدة مؤخرا‪ ،‬ما حدث‬
‫األمس هو ما يحدث اليوم ما سيحدث غدا‬
‫ملل و الملل فقط‬
‫بينما هي الزوجة المطيعة المتعقلة تخوض حياة‬
‫كهذه‪ ،‬تنال شقيقة زوجها الطائشة كل ما تمنته‪،‬‬
‫الرجل الذي أحبته و اقترفت معه المحرمات‪،‬‬
‫زفاف األحالم و هي األرملة و المطلقة و األم‬
‫لطفلة ‪...‬‬
‫كيف يحدث هذا معها ؟‬
‫كيف يمكنها أن تحظى بكل ذلك في ظروف مثل‬
‫ظروفها !؟‬
‫كيف ؟‬
‫أًل يكفي أنها تحمل عنها وزر خطيئتها في‬
‫إخفاء ما رأته من فسوق و فجور سواء عن‬
‫عمتها أو زوجها !!‬
‫لقد نال منها المرض بسبب كتمان ذلك السر‬
‫اللعين‪ ،‬إلى متى عليها أن تكتمه و تتحمل‬
‫سخافات الجميع !؟؟‬
‫‪-‬اتفضل ! ‪ ..‬قالتها "سالف" باقتضاب و هي‬
‫تضع أمام زوجها كأس العصير‬
‫استرعت نبرتها انتباه "أدهم" الذي سلخ‬
‫ناظريه عن شاشة التلفاز التي تعرض مباراة‬
‫شيقة‬
‫تطلع إلى زوجته فوجدها تشيح عنه متعمدة و‬
‫هي تهتم بصغارها و تقدم لهم كؤوسهم المغطاة‬
‫‪...‬‬
‫‪-‬سالف ! ‪ ..‬هتف "أدهم" بصوته اللطيف‬
‫يتجذب إنتباهها‬
‫لكنها ترد دون أن تنظر إليه ‪:‬‬
‫‪-‬نعم ؟‬
‫رفع حاجبه و هو يسألها بغرابة ‪:‬‬
‫‪-‬مالك يا سالف !؟‬
‫ردت عليه بنفس اللهجة الجافة ‪:‬‬
‫‪-‬و ًل حاجة !‬
‫و حملت الصينية الفارغة عائدة أدراجها إلى‬
‫المطبخ ‪...‬‬
‫يترك "أدهم" المباراة و يلحق بها مناديا ‪:‬‬
‫‪-‬سالف !‬
‫لكنها ًل تتوقف‪ ،‬تصغي إليه‪ ،‬و تتجاهله ‪...‬‬
‫‪-‬انتي فعال سمعاني و مش بتردي !؟؟ ‪ ..‬صاح‬
‫"أدهم" من بين أسنانه و هو يقبض على‬
‫معصمها محاصرا إياها بمنتصف الرواق‬
‫كان يبذل أقصى جهد حتى ًل يستمع الصغار إلى‬
‫صوته العال ‪...‬‬
‫‪-‬أدهم‪ .‬بجد مش قادرة لك‪ .‬ابعد عني دلوقتي !!‬
‫الفتور في نظرتها‪ ،‬و العصبية في عمق صوتها‬
‫أثارتا حفيظته‪ ،‬فأخذ يهز يدها بقوة مغمغما ‪:‬‬
‫‪-‬في إيه يا سالف‪ .‬مالك !؟؟‬
‫إنفعلت بغتة و هي تسحب يدها من قبضته بكل‬
‫قوتها ‪:‬‬
‫‪-‬مافيش حاجة‪ .‬بطلب منك تسيبني بس‪ .‬مش‬
‫طايقة حاجة !!‬
‫و تركته ماضية داخل المطبخ‪ ،‬ليبقى هو مكانه‬
‫للحظات يفكر‪ ،‬يراجع نفسه‪ ..‬هل أخطأ ؟‬
‫ما هو موطن خطؤه معها تحديدا ؟‬
‫إنها تبدو غاضبة حتى قبل ان يحاول التحدث‬
‫إليها‪ ..‬و لكن مم هي غاضبة !؟؟‬
‫لم يبقى "أدهم" ليفكر في هذا أكثر‪ ،‬دلف‬
‫ورائها إلى المطبخ‪ ،‬فرآها تقف عند الحوض‬
‫تجلي بعض الصحون و يبدو من حركة يديها‬
‫العصبية و الكدر الشديد‪ ،‬تلك الحالة نادرا ما‬
‫تصل إليها‪ ،‬و غالبا يكون السبب حقا كبير و‬
‫ليس تافها مثل الذي تخترعه أحيانا لتتدلل عليه‬
‫!!!‬
‫‪-‬أنا آسف ! ‪ ..‬تمتم "أدهم" و هو يأتي من‬
‫خلفها مالمسا كتفها بلطف‬
‫سمعها تتنهد بحرارة‪ ،‬فأكمل بنفس الطريقة‬
‫دون أن يجازف باًلقتراب اكثر حتى ًل يزعجها‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬انفعلت عليكي و عاملتك بقسوة‪ .‬ماكنتش‬
‫أقصد يا حبيبتي‪ ..‬بس تصرفاتك فاجئتني‪.‬‬
‫ناديتك و ماردتيش عليا‪ .‬و حسيتك متضايقة‪.‬‬
‫قوليلي مالك‪ .‬انتي عارفة إني مش بحب أشوفك‬
‫متضايقة !‬
‫لم تتغير لهجتها‪ ،‬بل ازدادت حدة و هي ترتعش‬
‫تحت لمسة يده من فرط العصبية ‪:‬‬
‫‪-‬قلت لك مافيش حاجة‪ .‬ليه مش عايز تفهم‪ .‬ليه‬
‫مش عايز تسيبني في حالي !!؟؟؟‬
‫و استدارت صوبه متقدة العينين‪ ،‬كان يرمقها‬
‫بخيبة أمل و حزن بين‪ ،‬أراد جزء صغير‬
‫بداخلها أن تكف عن الغضب و النقمة عليه فقط‬
‫حتى ًل يظل ذلك التعبير على وجهه‪ ،‬لكنها لم‬
‫تتحكم بنفسها‪ ،‬فقدت تلك الصالحية تماما اآلن‬
‫‪...‬‬
‫اهتاجت األنفاس بصدرها و هي تفتح فاها‬
‫ليخرج الكالم دون سيطرة مرة أخرى ‪:‬‬
‫‪-‬خالص مابقتش حتى قادر تحترم إرادتي‪ .‬و ًل‬
‫عايز تديني مساحتي‪ .‬مطلوب مني أفضل‬
‫مضغوطة طول عمري !؟؟‬
‫قطب جبينه بشدة و هي يرد عليها بغلظة ‪:‬‬
‫‪-‬تقصدي أي نوع من الضغط يا مدام ؟ أنا‬
‫ماظنش بجهدك بطلباتي أبدا‪ .‬أنا أصال طول أيام‬
‫األسبوع برا البيت و مساحتك إللي بتتكلمي‬
‫عنها دي أكتر حاجة موفرهالك بسبب ظروف‬
‫شغلي‪ .‬كده مش ناقص غير تشتكي من خدمة‬
‫وًلدك‪ .‬بس حتى دول لو تعبتي و كليتي بيهم‬
‫عنك خالص و اعتبريهم مش ملزومين منك‪.‬‬
‫من دلوقتي ممكن أمي تتكفل بخدمتهم و ممكن‬
‫أجيب واحدة تساعدها كمان في غياب إيمان‪ .‬و‬
‫ًل إنك تضايقي نفسك و تتعصبي علينا كده‪ .‬مش‬
‫مستاهلة !!‬
‫و كأن كالمه ما ينقصها لتهبط نفسيتها للقاع‪،‬‬
‫كان بيدها طبق مسطح‪ ،‬هوت به بعنف صوب‬
‫األرض لينكسر في الحال محدثا جلبة كبيرة‪،‬‬
‫بينما تصرخ في وجهه و تصدمه أكثر ‪:‬‬
‫‪-‬محدش حاسس بيـا‪ ..‬انت كمان و ًل بقيت‬
‫تحس ‪...‬‬
‫و أضافت و هي تلهج بصعوبة و الدموع‬
‫تتساقط من عينيها ‪:‬‬
‫‪-‬أنا شايلة فوق طاقتي !‬
‫لم تكن لديه فرصة للرد‪ ،‬و ًل هي إلضافة شيء‬
‫آخر‪ ،‬شحبت فجأة و أزرقت شفتاها‪ ،‬داهمتها‬
‫نوبة الربو التي قطعتها ألشهر‪ ،‬هذه المرة‬
‫اعنف و أشد‬
‫تسعل و تشهق و كأنها بالنزع األخير‪ ،‬يتالشى‬
‫غضب "أدهم" منها كليا في هذه اللحظة‪،‬‬
‫يسارع عليها يلحق بها قبل ان تنهار فوق‬
‫ركبتيها‪ ،‬يسندها بين ذراعيه و يهزها هاتفا‬
‫بقلق شديد ‪:‬‬
‫‪-‬سالف‪ .‬إهدي يا حبيبتي‪ .‬إهدي و خدي نفس‬
‫‪...‬‬
‫حملها باللحظة التالية‪ ،‬و هرول بها إلى غرفة‬
‫النوم‪ ،‬وضعها فوق الفراش و إنقلب يفتش‬
‫بدرج الطاولة المحاذية‪ ،‬حتى جاء بقنينة‬
‫الدواء‪ ،‬عاد إليها و أمسك رأسها بزاوية بين‬
‫صدره و كتفه‪ ،‬وضع فوهة القنينة بفمها‪ ،‬ثم‬
‫ضغط الرأس ثالثا كما أشار الطبيب‪ ،‬لينتشر‬
‫البخاخ عبر القصبة الهوائية وصوًل إلى‬
‫الرئتين‬
‫و لعلها احتاجت لدقيقتين إلى ان تعافت من‬
‫النوبة القاسية‬
‫جلست هادئة بين ذراعيه‪ ،‬و هو بدوره لم يثير‬
‫أي نقاش‪ ،‬بل بقى يضمها هكذا و يمسح على‬
‫رأسها بحنان‪ ..‬حتى تطلعت إليه‬
‫و بأعين دامعة‪ ،‬مد كفها لتداعب لحيته‪ ،‬تبسم‬
‫لها ببساطة و لم يتكلم‪ ،‬فقالت هي الجملة التي‬
‫لم يتوقعها اآلن قط ‪:‬‬
‫‪-‬أنا عايزاك‪ ..‬دلوقتي !‬
‫أجفل "أدهم" بوضوح‪ ،‬كان غريبا على اذنيه‬
‫طلبها‪ ،‬إنها في الحقيقة لم تطلبه بلسانها طوال‬
‫سنين الزواج‪ ،‬أراد أن يظن أي شيء آخر غير‬
‫الذي فهمه‬
‫و لكن نظرتها تؤكده !!!‬
‫تنحنح "أدهم" مبددا ارتباكه و هو يتعاطى مع‬
‫األمر بحيادية قائال ‪:‬‬
‫‪-‬لو كنتي صبرتي شوية بس من غير كل إللي‬
‫حصل من عشر دقايق كنت انا إللي طلبت منك !‬
‫‪ ..‬و مسد على خدها مستطردا ‪:‬‬
‫‪-‬بس انتي شكلك مرهق‪ .‬ممكن ترتاحي شوية‬
‫بس !‬
‫واصلت التحديق إلى عينيه بقوة و هي تكرر ‪:‬‬
‫‪-‬دلوقتي يا أدهم !!‬
‫حاول أن يجاريها بشكل طبيعي حتى يفهم ما بها‬
‫بالتدريج‪ ،‬فقال مذعنا لرغبتها ‪:‬‬
‫‪-‬حاضر‪ ..‬هاخد الوًلد طيب و أنزلهم عند ماما‪.‬‬
‫و جاي لك علطول !‬
‫هزت رأسها موافقة‬
‫أفلتها برفق و مضى خارجا من الغرفة و عقله‬
‫ًل يكف عن تحليل تصرفاتها ‪...‬‬

‫*****‬
‫فرغت من حمامها بعد قضاء ساعة بالداخل‪،‬‬
‫لما عادت إلى الغرفة‪ ،‬وجدت الستائر مفتوحة و‬
‫ضوء النهار مبهرا‪ ،‬كان "مراد" يقف بمحاذاة‬
‫الشرفة العريضة يتحدث في هاتفه‪ً ،‬ل يزال‬
‫عاري الجزع و ًل يرتدي سوى سروال البذلة‬
‫ما إن شعر بوجودها حتى أنهى المكالمة‪ ،‬و‬
‫استدار ناحيتها مبتسما‪ ،‬بينما كانت تحدق اآلن‬
‫إلى كومة العلب هناك بجوار الخزانة الضخمة‪،‬‬
‫كلها تحمل عالمات الماركات العالمية الفاخرة‪..‬‬
‫كريستيان ديور‪ ،‬فيكتوريا سيكرت‪ ،‬إيف سان‬
‫لوران‪ ،‬جيمي تشو ‪...‬‬
‫‪-‬أخيرا خلصتي ! ‪ ..‬هتف "مراد" مقبال عليها‬
‫توقف على بعد خطوة منها‪ ،‬بينما تسأله مشيرة‬
‫إلى األغراض الكثيرة ‪:‬‬
‫‪-‬إيه كل الحاجات دي ؟‬
‫جاوبها "مراد" و هو يحك مؤخرة رأسه ‪:‬‬
‫‪-‬دي هدوم عشاني انا و انتي‪ .‬طلبتهم أون ًلين‪.‬‬
‫انتي ناسية إننا جينا على هنا من غير شنطة‬
‫هدوم‪ .‬مش معقول هاننزل من هنا بلبس الفرح‬
‫! ‪ ..‬و استطرد مطمئنا إياها ‪:‬‬
‫‪-‬ماتقلقيش انا اخترت لك هدوم تناسب الحجاب‪.‬‬
‫كلها فساتين واسعة و مانستش اإليشاربات‬
‫طبعا‪ .‬هاننزل من هنا على بيتنا نحضر شنطة‬
‫صغيرة ليا و ليكي‪ .‬و بالليل هانكون في المطار‬
‫إن شاء هللا‬
‫‪-‬هانروح فين !؟‬
‫حقا كان الفضول يطل من عينيها‪ ،‬فابتسم هازا‬
‫رأسه و هو يقول ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل ًل يا قطة مش هاتوقعيني‪ .‬مش هاتعرفي أي‬
‫حاجة دلوقتي‪ .‬قلت لك عندك جدول مفاجآت‪..‬‬
‫مش قلت ؟‬
‫زمت شفتيها مذعنة‪ ،‬فمد يده ممسكا ذقنها بين‬
‫سبابته و إبهامه قائال ‪:‬‬
‫‪-‬الفطار هناك في التراث‪ .‬غيري هدومك و‬
‫اقعدي افطري ماتستننيش أنا شربت القهوة و‬
‫خالص هاخد شاور بسرعة بس !‬
‫هم "مراد" باإلسراع للحمام‪ ،‬لكن زوجته‬
‫قبضت على رسغه و استوقفته‪ ،‬أدار وجهه لها‬
‫و هو يرمقها بتساؤًل‪ ،‬فبدا عليها القليل من‬
‫الحرج و التردد‬
‫اقتربت منه كثيرا حد اللصوق‪ ،‬و رفعت‬
‫ذراعيها لتشبكهما حول عنقه وتشب قليال‪،‬‬
‫وسط إجفاله ريبته‪ ،‬لم يحاول مقاطعتها عن أي‬
‫شيء تفعله‪ ،‬فتحت فاها متمتمة على إستحياء ‪:‬‬
‫‪-‬ممكن تبتسم !؟‬
‫عبس مستغربا من طلبها‪ ،‬لكن فك العبوس‬
‫بسرعة و فعل ما طلبت‪ ،‬رسم ابتسامة بسيطة‬
‫على ثغره‪ ،‬فقالت ‪:‬‬
‫‪-‬أكتر يا مراد‪ .‬ابتسامة أكبر !‬
‫ابتسم باتساع أكثر و هو يتساءل بداخله‬
‫عشرات األسئلة‪ ،‬يخشى لو أنها فقدت عقلها‬
‫اخيرا‪ ،‬لكنه تفاجأ حين دنت منه مقبلة جانبي‬
‫وجهه و الحفرة العميقة بذقنه ‪...‬‬
‫أسبلت عيناها في خجل من شدة تحديقه فيها‪،‬‬
‫ليسألها اآلن بصوت هادئ ‪:‬‬
‫‪-‬ممكن أعرف بس كان إيه ده‪ .‬و لو مافيش‬
‫مش مهم ! ‪It’s Okay‬سبب‬
‫تنهدت بعمق و جاوبته متحاشية النظر بعينيه ‪:‬‬
‫‪-‬من زمان‪ .‬من أول مرة شوفتك بتضحك‪ .‬كانت‬
‫جوايا أمنية شايلها لليوم ده‪ .‬انت فاهم يعني‬
‫عشان حرام أعمل كده و احنا مافيش صلة‬
‫بينا‪ ..‬انت عندك غمازات حلوة أوي‪ .‬دي الحاجة‬
‫الوحيدة إللي كنت مش بقدر أغض بصري‬
‫عنها‪ .‬دلوقتي مابقاش حرام حتى أفكر في كده‬
‫بس ‪...‬‬
‫كلماتها غير المرتبة فهمها جيدا‪ ،‬و جللت‬
‫وجهه ابتسامته األكثر جاذبية اآلن و هو يحاوط‬
‫خصرها ذراعيه ضاما إياها أشد و هو يهمس ‪:‬‬
‫‪-‬و أنا من دلوقتي عندي كل الوقت إللي أعرفك‬
‫فيه التفاصيل إللي بعشقها فيكي‪ ..‬في وشك‪.‬‬
‫شعرك‪ ..‬جسمك !!!‬
‫إن يده زحفت بالفعل لألسفل مغطية مؤخرتها‬
‫‪...‬‬
‫إتسعت عيناها من المفاجأة و‬
‫توجس على الفور و خاف ان يكون اثار الذعر‬
‫فيها من جديد‪ ،‬رفع يده و قال ‪:‬‬
‫‪-‬تمام‪ .‬قلت عندي وقت‪ .‬مش ًلزم يكون إنهاردة‬
‫أو حتى بكرة‪ ..‬ماتخافيش يا حبيبتي‪ .‬أنا مش‬
‫هاعمل غير إللي تعوزيه و بس‪ .‬إتفقنا ؟‬
‫و حاول الفكاك منها برفق‪ ،‬لكنها تشبثت به‬
‫أكثر‪ ،‬فوقف حائرا !!!‬
‫ازدردت "إيمان" ريقها بتوتر قائلة ‪:‬‬
‫‪-‬خليك معايا‪ ..‬أنا عندي ذكريات كتير وحشة‪.‬‬
‫مابعرفش أنام بسببها‪ .‬أول مرة أنام لحظة ما‬
‫أغمض عيني إمبارح و أنا في حضنك‪ ..‬من‬
‫فضلك خليك معايا‪ .‬ماتسبنيش !‬
‫تأثر بشدة إلقرارها و كره نفسه ألنه تسبب‬
‫بتعاستها لسنوات طويلة‪ ،‬في نفس الوقت‬
‫دعوتها الصريحة المباغتة ًل تقاوم حقا‪ ،‬خاصة‬
‫و هي تتمسك به بهذه الطريقة و ترمقه بتلك‬
‫النظرة ‪...‬‬
‫دقق النظر فيها وقال ‪:‬‬
‫‪-‬أنا بس خايف عليكي‪ .‬ممكن يكون ده مش في‬
‫مصلحتك دلوقتي‪ .‬على األقل لما نزور الدكتورة‬
‫و آ ‪...‬‬
‫‪-‬ماتقوليش دكاترة دلوقتي !! ‪ ..‬قاطعته منفعلة‪،‬‬
‫و أردفت بصوت أهدأ ‪:‬‬
‫‪-‬من فضلك‪ .‬مش عايزاهم ياخدوا الجزء ده‬
‫مني‪ .‬عايزة أنساهم‪ ..‬من فضلك يا مراد !‬
‫لم يكن واثقا على أية حال‪ ،‬يخشى أًل تكون‬
‫تعني ذلك حقا‪ ،‬لكن أمام إصرارها ًل يملك حجة‬
‫‪...‬‬
‫استعمل الحيلة األخيرة ألجل أن يمنحها فرصة‬
‫لتراجع نفسها‪ ،‬فأشار إلى التراث قائال ‪:‬‬
‫‪-‬طيب و الفطار !؟‬
‫أطل اآلسى من عينيها و هي تناشده بيأس ‪:‬‬
‫‪-‬مش عايزة فطار دلوقتي‪ .‬مش عايزة ‪...‬‬
‫*****‬
‫لم يفلح معها شيء‪ ..‬حتى بعد أن نفذ كل‬
‫طلباتها و طاوعها في كل رغباتها‬
‫ًل زالت بائسة‪ ،‬تنأى بنفسها داخل الحمام لوقت‬
‫طويل‪ ،‬بينما ينتظرها بالخارج‪ ،‬شعر بحركتها‬
‫وسط الرواق‪ ،‬فقام يتفقدها بغرفة النوم‬
‫وجدها بالفعل تجلس فوق األريكة المقابلة‬
‫للسرير‪ً ،‬ل يزال الفراش مبعثرا‪ ،‬و لكنها تبدو‬
‫غير مهتمة‪ ،‬تبدو هادئة‪ ،‬واجمة‪ ،‬شعرها‬
‫األشقر أكثر قتامة اآلن‪ ،‬يقطر منه الماء و‬
‫تتشربه المنشفة حول جسمها ؛‬
‫يمشي "أدهم" صوبها‪ ،‬يجلس إلى جانبها‬
‫مثيرا حديث بينهما ‪:‬‬
‫‪-‬سالف‪ .‬أنا لغاية اللحظة دي بسايسك و‬
‫مهاودك في كل حاجة‪ .‬ألني حاسس انك مش‬
‫مضبوطة‪ .‬و لألسف مقدرتش اعرف السبب‬
‫بردو‪ ..‬لو سمحتي ممكن تتكلمي و تقوليلي‬
‫مالك !!؟‬
‫بقي بانتظار ردها باصغاء‪ ،‬لتدير رأسها تجاهه‪،‬‬
‫تنظر في عينيه و تقول بثبات تحسد عليه ‪:‬‬
‫‪-‬أنا عايزة أطلق يا أدهم !‬

‫يتبع ‪...‬‬
‫انتهى الفصل الثالثون‪..‬‬
‫‪31‬‬

‫"لقد راهنت على حبي كثيرا !"‬

‫_ أدهم‬
‫وقف خلفها‪ ،‬أمام لوح المرايا الطويل‪ ،‬يعقد لها‬
‫طوق عنقها بينما ًل تزال ترجف تحت لمسته‪،‬‬
‫بدأ الضيق يساوره من جديد‪ ،‬من المفترض أن‬
‫تكون أفضل حاًل‬
‫‪-‬زي القمر يا حبيبتي ! ‪ ..‬تمتم "مراد" و هو‬
‫يدنو قليال ليلثم خدها برقة‬
‫لكنها أقشعرت من قربه الشديد‪ ،‬ما أدهشه و‬
‫أثار حفيظته‪ ،‬ليمسك بكتفيها و يلفها ليجعلها‬
‫تواجهه ؛‬
‫تعلقت عيناها بعينيه في لحظة صمت قبل أن‬
‫يسألها بجدية ‪:‬‬
‫‪-‬إيه إللي حصل يا إيمان‪ .‬أنا سيبتك لغاية ما‬
‫هديتي خالص‪ .‬عاوز أعرف تفسير إللي جرالك‬
‫بعد ما كنتي مبسوطة معايا‪ ..‬أنا عملت حاجة‬
‫غلط !!؟‬
‫هزت رأسها نفيا و لمعة الحزن قد عادت لتتألق‬
‫بعينها من جديد‪ ،‬مسد "مراد" على وجنتها‬
‫بأطراف أنامله و قال بلطف ‪:‬‬
‫‪-‬انتي لسا عقلك مشوش‪ .‬لسا بتخلطي بيني و‬
‫بينهم ؟‬
‫كانت إشارته صريحة لزوجيها السابقين‪،‬‬
‫تحفزت اآلًلم الكامنة بأعماقها‪ ،‬ليستطرد منتقيا‬
‫كلماته بعناية ‪:‬‬
‫‪-‬أقصد أقولك إن لو ده إللي بيحصل معاكي ف‬
‫تبقي غلطانة‪ .‬ألن أنا مش هما‪ .‬أنا حبيبك‪ ..‬أنا‬
‫عاوز أسألك سؤال‪ .‬انتي عمرك شوفتي مني‬
‫معاملة قاسية ؟ أنا جيت في يوم جرحت كرامتك‬
‫أو هينتك ؟ أنا عمري عملت معاكي أي حاجة‬
‫غصب عنك !؟؟‬
‫وافقت على كل أسئلته عدا السؤال األخير‪،‬‬
‫أقرت في عبوس ‪:‬‬
‫‪-‬كنت هاتعملها مرة !‬
‫أشارت بجملتها إلى ذلك النهارالشهير حيث تم‬
‫ضبطهما سويا من "سالف" !!‬
‫ابتسم "مراد" بخفة قائال ‪:‬‬
‫‪-‬عمري ما كنت هاعملها غصب عنك‪ .‬و قلت لك‬
‫في ساعتها‪ .‬أنا كنت بخوفك مش أكتر‪ .‬أعمل‬
‫إيه‪ .‬نشفتي دماغك فيها إيه لو كنتي طاوعتيني‪.‬‬
‫كان زمانا متجوزين من بدري و ماكنش كل ده‬
‫حصل بسبب عنادك !!!‬
‫أحس أن حديثه األخير ربما يكون قد أزعجها‪،‬‬
‫أو اثار الذكريات السيئة اكثر‪ ،‬فغيره في الحال‬
‫متوها بتودده إليها ‪:‬‬
‫‪-‬المهم إللي عايزك تستوعبيه كويس‪ .‬إن حياتك‬
‫إللي عدت خالص مابقاش ليها وجود‪ .‬احنا مع‬
‫بعض دلوقتي‪ .‬انتي بقيتي مراتي‪ .‬أيوة الحياة‬
‫فرقتنا زمان‪ .‬لكن ربنا شاء إنه يجمعنا تاني‪ .‬و‬
‫انتي عارفة إنها مش صدفة‪ ..‬صح ؟‬
‫غلفت عيناها طبقة من الدموع و هي تومئ‬
‫برأسها مؤيدة كلماته‪ ،‬بالطبع تؤيدها‪ ،‬تلك كانت‬
‫دعوتها‪ ،‬و قد أجيبت !‬
‫‪-‬أنا عمري ما هاسيبك‪ .‬و ًل ممكن أسمح ألي‬
‫حد إنه يئذيكي أو بس يزعلك‪.‬إللي باقي من‬
‫عمرنا مايخصش حد غيرنا‪ ..‬و أنا هاعوضك‪.‬‬
‫أوعدك كل إللي حلمتي بيه‪ .‬ده وعد ‪...‬‬
‫صدقته‪ ،‬و إن وجدت صعوبة أن تدمغها‬
‫بابتسامة‪ ،‬ابتسم هو ممسكا بيدها‪ ،‬و جعل يلفها‬
‫حول نفسها كما لو أنهما في رقصة و هو يقول‬
‫باعجاب ‪:‬‬
‫‪-‬أول مرة شوفتك و احنا صغيرين كنا في العيد‪.‬‬
‫كنت لسا راجع من السفر مع أبويا و أمي‪ .‬كان‬
‫عندك ‪ 13‬سنة‪ .‬كنتي لسا من غير حجاب‪ .‬و‬
‫كنتي ًلبسة فستان أصفر منقط أبيض زي إللي‬
‫انتي ًلبساه دلوقتي‪ ..‬أحلى صدفة حصلت‬
‫إنهاردة‪ .‬صح ؟‬
‫و كيف تنسى التفاصيل التي يثيرها بمخيلتها‪،‬‬
‫بالطبع تتذكر أول لقاء‪ ،‬أول شرارة إعجاب‪،‬‬
‫حبها الصبياني‪ ،‬و الذي تطور فيما بعد ليصبح‬
‫حب عمرها كله‪ ،‬سبب دمارها‪ ،‬و هو أيضا‬
‫القادر على عالجها ‪...‬‬
‫إنبلجت ابتسامة نادرة على محياها الجذاب و‬
‫هي تجاريه في هذا ‪:‬‬
‫‪-‬و انت كنت مطول شعرك‪ . .‬أول ما أدهم انتقدك‬
‫و قال عليك بنت وانت غضبت جدا و كرهت‬
‫شكلك كله‪ .‬و تاني يوم كنت حلقت شعرك !‬
‫قهقهت "إيمان" ضاحكة‪ ،‬فجعلته يبتهج ألنه‬
‫استطاع أن يحرز معها هذا التقدم السريع ‪...‬‬
‫‪-‬أنا بحبك ! ‪ ..‬همس "مراد"‬
‫ارتبكت و هي تنظر له فقط‪ً ،‬ل تجد ما تقوله‪،‬‬
‫ليتابع ضاحكا بمرح ‪:‬‬
‫‪-‬أنا نفسي أروح أشكر هالة بجد‪ .‬مش متخيل‬
‫إزاي كنت ممكن أكمل حياتي معاها‪ ..‬أنا كنت‬
‫تايه من غيرك !‬

‫*****‬
‫استنشق "أدهم"‪ ..‬نظر إليها و الصدمة‬
‫واضحة في عينيه‪ ،‬لكنه سألها مشككا بما قالته‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬هو إللي أنا سمعته ده صح‪ .‬انتي قولتي كده‬
‫فعال !؟؟‬
‫هبت "سالف" واقفة فجأة‪ ،‬فرفع وجهه متطلعا‬
‫إليها‪،‬‬
‫‪-‬أنا تعبت خالص ! ‪ ..‬هتفت "سالف" بنفاذ‬
‫صبر‬
‫عبس "أدهم" ممعنا في حالتها‪ ،‬ليست بغريبة‬
‫عليه‪ ،‬أحيانا تأتيها نوبات الهلع التي قد تصل‬
‫إلى مرحلة من مراحل الجنون‪ ،‬لكنه لطالما كان‬
‫بارعا في إمتصاص الطاقة السلبية عنها‪ ،‬كان‬
‫حقا جيد في هذا‬
‫لذلك تصرف بعقالنية و هو يقوم ليمشي صوبها‬
‫قائال بابتسامة رقيقة ‪:‬‬
‫‪-‬طيب يا سالف‪ .‬أوعدك هفكر في موضوع‬
‫الطالق ده‪ .‬بس دلوقتي أهم حاجة‪ ..‬ممكن تهدي‬
‫أعصابك شوية‪ .‬إيه رأيك أنزلك تشمي هوا أو آ‬
‫‪...‬‬
‫‪-‬مش عايـزة !!!! ‪ ..‬صرخت بغضب شديد‬
‫ألجمت لسانه و أذهلته‪ ،‬بقى ينظر إليها صامتا‬
‫فقط‪ ،‬فأردفت بنفس الطريقة الفجة ‪:‬‬
‫‪-‬أنا مش بهزر يا أدهم‪ .‬أنا بتكلم بجد‪ .‬المرة دي‬
‫مافيش مجال للهزار انت مش قادر تشوف ده‬
‫!؟‬
‫ازدرد ريقه بتوتر و هو يسألها ‪:‬‬
‫‪-‬طيب ليه‪ .‬إيه إللي حصل‪ .‬فهميني ؟‬
‫‪-‬تفهم إيه ؟ مافيش حاجة تفهمها‪ .‬بقولك عايزة‬
‫أطلق‪ .‬و أقولك على حاجة كمان‪ .‬أنا مابقاش ليا‬
‫قعاد في البيت ده !‬
‫و تركته يقف بمكانه و توجهت ثانية نحو‬
‫الخزانة‪ ،‬أخرجت حقيبة مالبسها الكبيرة و‬
‫أخذت تجمع أغراضها و ثيابها أمام عينيه‬
‫المذهولتين على األخير‪ ،‬فلم يشعر بنفسه إًل‬
‫ًلحقا بها‪ ،‬يقبض على كتفيها و يجتذبها بعيدا‬
‫عن كل ما تفعله صائحا ‪:‬‬
‫‪-‬انتي اتجننتي‪ .‬ليه بتعملي كده‪ .‬بصي في عنيا‬
‫و كلميني !‬
‫هزت رأسها بقوة و هي تصرخ ‪:‬‬
‫‪-‬سيبني يا أدهم‪ .‬سيبني !!‬
‫غطى صوته الخشن على صوتها و هو يرد‬
‫بعنف ‪:‬‬
‫‪-‬مش سايبك‪ .‬ما هو حاجة من اًلتنين‪ .‬يا انتي‬
‫اتجننتي فعال يا في سبب لكل إللي بتعمليه ده‪ .‬و‬
‫في الحالتين مش سايبك غير لما أعرف مـالك ؟‬
‫توقفت عن التملص منه‪ ،‬و ركزت حدقتيها‬
‫الفيروزيتان بعينيه المتآججة و هي تقول ‪:‬‬
‫‪-‬عايز تعرف مالي‪ .‬طيب‪ .‬أنا تعبت من الحياة‬
‫دي‪ .‬أيامي كلها بقت شبه بعض‪ .‬مابقتش حاسة‬
‫بحاجة بقيت زي المتخدرة بالضبط‪ .‬من الصبح‬
‫للليل في متاهة خالص مقررة عليا و حفظتها‪.‬‬
‫تعبت و زهقت‪ .‬تعبت و مابقتش قادرة أتحمل كل‬
‫ده تعبت ‪...‬‬
‫و كانت ترتعش من قمة الغضب و اًلنفعال‪ ،‬تأثر‬
‫بمعاناتها و إن كان لم يستوعبها بادئ المر‪،‬‬
‫لكنها مسته و صار أكثر تعاطفا معها‪ ،‬أرخى‬
‫قبضتيه عن كتفيها و لف ذراعيه حولها متمتما‬
‫بهدوء ‪:‬‬
‫‪-‬طيب‪ .‬إهدي‪ .‬خالص‪ ..‬شوفي انتي عايزة إيه و‬
‫انا أعملهولك‪ .‬هاعملك إللي انتي عايزاه‪ .‬بس‬
‫ماتضيقيش كده‪ .‬إهدي عشان خاطري !‬
‫ردت عليه و الدموع في صوتها بالفعل ‪:‬‬
‫‪-‬مابقتش عايزة حاجة خالص !!‬
‫أصر عليها و هو يمسح على رأسها بحنو بالغ‬
‫‪:‬‬
‫‪ً-‬ل إزاي‪ .‬حقك عليا‪ .‬أنا يمكن إنشغلت عنك‬
‫بقالي فترة‪ .‬ماكنتش مهتم بيكي أكتر‪ .‬لكن‬
‫خالص أوعدك من إنهاردة هاغير كل ده‪ .‬و‬
‫هاتشوفي يا حبيبتي !‬
‫كافحت من أجل اًلبتعاد عنه‪ ،‬فلم يستبقيها‬
‫رغما عنها‪ ،‬أفلتها كما أرادت بينما تغمغم بحنق‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬انت ليه مش راضي تفهم‪ .‬أنا مش عايزة‬
‫أكمل‪ .‬مش عايزة !!‬
‫قطب وجهه اآلن و قد شعر بخطورة الوضع‪،‬‬
‫فدفعه الخوف من خسارتها للتحدث بغلظة ‪:‬‬
‫‪-‬ليه‪ .‬انتي شايفة إيه إللي حصل كبير للدرجة‬
‫دي عشان تطلبي طلب زي ده‪ .‬سالف انتي ًلزم‬
‫تفوقي و تستوعبي كالمك‪ .‬انتي عايزة تهدي‬
‫حياتنا‪ .‬انا و انتي و الوًلد‪ .‬كل مرة كنتي بتقولي‬
‫كده كنت بحتويكي و بعديها عشان عارف إن‬
‫مسؤولياتك كبيرة و كتر خيرك إنك شايالها‬
‫أصال‪ .‬لكن مش قادر أصدق إنك مصممة دلوقتي‬
‫كل التصميم ده ! ‪ ..‬و قطع المسافة القصيرة‬
‫بينهما ممسكا بيديها‬
‫تنهد و هو ينظر إلى أسفل في أصابعهما‬
‫المتشابكة‪ ،‬عصر يديها بشكل مطمئن و هو‬
‫يقول بصوت أقرب إلى الهمس ‪:‬‬
‫‪-‬شوفي إنتي عايزة إيه‪ .‬أنا مستعد أعمل أي‬
‫حاجة تطلبيها‪ .‬لو عايزاني أخد إجازة و أقضي‬
‫وقت أكتر معاكي و أساعدك كمان في مسؤلية‬
‫البيت و الوًلد هاعمل كده‪ .‬لو عايزة أجيب‬
‫واحدة تساعدك و أنا مش موجود أجيبها من‬
‫بكرة‪ .‬لو عايزة نسافر تغيري جو في أي حتة‬
‫تختاريها هاعملك إللي تقولي عليه ‪...‬‬
‫‪-‬مش عايزة منك انت تحديدا أي حاجة !!! ‪..‬‬
‫صاحت فيه بغتة و هي تتنزع يديها من يديه و‬
‫ترتد خطوة للخلف‬
‫‪-‬أنا عملت فيكي إيه لكل ده !؟؟؟ ‪ ..‬ردد مشدوها‬
‫دمعت عيناها من شدة العصبية و هي تقول ‪:‬‬
‫‪-‬أنا بقيت عايشة في نفاق‪ .‬و الحياة دي‬
‫مكانتش بتاعتي‪ .‬أنا وافقت بيها عشان حبيتك و‬
‫رضيت بيها عشان ماكنتش عايزة أخسرك‪ .‬لكن‬
‫دلوقتي كل واحد بيعمل إللي على مزاجه حتى‬
‫انت ممشيني على مزاجك‪ .‬في األول اقعدي يا‬
‫سالف من الجامعة وًلدنا أولى بيكي‪ .‬سيبت‬
‫أحالمي و طموحاتي إللي فضلت سنين أخطط‬
‫لها عشانك و عشان البيت‪ .‬انت وظيفتك إنك‬
‫كنت بتهدي فيا و بس‪ .‬حتى الحاجة الوحيدة‬
‫إللي بقيت ليا‪ .‬أنوثتي بقيت تقتلها بإيدك‪.‬‬
‫ماتحطيش مكياج أنا مش بحبه و شكلك‬
‫بيعجيني من غيره‪ .‬ماتحطيش برفانات أوفر‬
‫ريحتك الطبيعية أحلى‪ .‬ممنوع أرقص ممنوع‬
‫أفرح بطريقتي و سكت و رضيت بكل إللي انت‬
‫عايزه و في اآلخر كل إللي حواليا يعيشوا الحياة‬
‫إللي كان مفروض أعيشها‪ .‬و أخرهم أختك إللي‬
‫لبست فستان مكشوف و رقصت و غنت كمان و‬
‫كل ده حصل في بيتك قصاد عينيك مش من‬
‫وراك كنت هديت و ارتحت !‬
‫بقى ينظر إليها و هي تتحدث غير مصدقا‪ ،‬أن‬
‫كل هذا بداخلها‪ ،‬و مع ذلك كانت لديه مبرراته‬
‫التي أدلى بها في الحال ‪:‬‬
‫‪-‬أوًل تعليمك أنا ماغصبتش عليكي تسيبيه‪ .‬أنا‬
‫قلت لك أدرسي في البيت و انزلي الجامعة على‬
‫اًلمتحانات و قلت كده عشان انتي بالفعل كنتي‬
‫لسا والدة و المسؤولية كبرت عليكي‪ .‬تانيا‬
‫موضوع أنوثتك إللي قتلتها دي تهمة باطلة في‬
‫حقي و إًل ماكنتيش هاتبقي أم لـ‪ 3‬أطفال‪ .‬مش‬
‫بالمكياج و ًل بالرقص يا مدام‪ .‬بالحب و‬
‫اًلهتمام إللي مابخلتش عليكي يوم بيهم‪ .‬بس‬
‫الظاهر إنهم ماكنوش كفاية بالنسبة لك‪ .‬تالتا‬
‫بقى أختي دي بقت على ذمة راجل‪ .‬و بيتي إللي‬
‫عملت فيه كده يبقى بيتها بردو‪ .‬إيمان وارثة‬
‫زي عائشة زي أمي‪ .‬لما تعمل كده و هي ست و‬
‫متجوزة أنا مقدرش أتكلم معاها ألنها راشدة و‬
‫بقت مسؤولة من زوج‪ ..‬ف بتحاسبيني على إيه‬
‫هنا !؟‬
‫صمتت لبرهة ترمقه بخيبة و قالت ‪:‬‬
‫‪-‬أنا بشر و مقدرش أتحمل أكتر من طاقتي !!‬
‫تضخمت لهجته و هو يسألها ‪:‬‬
‫‪-‬يعني إيه !؟‬
‫صاحت بنفاذ صبر و كأنها بالفعل فقدت عقلها ‪:‬‬
‫‪-‬يعني طلقني‪ .‬سيبني أرجع لحياتي و أرجع‬
‫ثقتي بنفسي إللي دمرتها انت و أختك‪ .‬كل حاجة‬
‫علمتها ليا بسببها بقيت أشك فيها‪ .‬أنا حتى‬
‫مابقتش البنت إللي انت نفسك حبيتها و أعجبت‬
‫بيها في البداية‪ .‬طلقني و خليني أًلقي نفسي‬
‫تاني‪ .‬لسا األوان مافتنيش‪ .‬لسا ممكن أبدأ من‬
‫جديد لسا صغيرة لسا حتى ممكن أتجوز آا ‪......‬‬
‫لم تتم كلمتها إًل و هوى كفه ألول مرة منذ رآها‬
‫صافعا إياها بعنف !‬
‫‪-‬انت بتضربني يا أدهم ؟ ‪ ..‬تمتمت مصدومة و‬
‫هي تتلمس موضع صفعته الساخن على خدها‬
‫األيسر‬
‫غمرت دموع غزيرة و غريبة عينيها و هي‬
‫تقول بصوت مليئ بالنشيج ‪:‬‬
‫‪-‬أنا عمري ما اضربت‪ ..‬حتى بابا عمره ما‬
‫عملها !‬
‫لم يرد‪ ،‬بل لم يحاول حتى أن يرد عليها‪ ،‬و لم‬
‫يبدو نادما أنه صفعها‬
‫عيناه حمروان‪ ،‬يضغط شفتيه بشدة‪ ،‬و تلك‬
‫الرجفة التي تعتري جسمه من لحظة ألخرى‬
‫تنبئ عن المجهود الخرافي الذي يبذله لكي ًل‬
‫يتهور عليها أكثر‪ ،‬ما قالته كان كثيرا‬
‫يخشى أن تتفوه بشيء آخر مثله فربما تدفعه‬
‫إليذائها دون أن يشعر ‪...‬‬
‫ابتلعت "سالف" كتلة مرة سدت حلقها‪ ،‬ثم‬
‫قالت بغضب أعمى ‪:‬‬
‫‪-‬انت هاتدفع تمن القلم ده غالي‪ .‬و تمنه إنك‬
‫مش هاتشوف وشي تاني يا أدهم !!‬
‫و استدارت نحو الخزانة مكملة إلقاء كل‬
‫أغراضها إليها بعشوائية و هي تغص و تبكي‬
‫بحرقة‪ ،‬بينما تشعر بقبضته القاسية تجتذبها من‬
‫رسغها بوحشية ؛‬
‫كتمت شهقة‪ ،‬و نظرت بقوة إلى عينيه‬
‫الحادتين‪ ،‬لم تستطع الكالم بسبب اًلحتقان‬
‫الضاغط على حنجرتها‪ ،‬بينما يقول ببطء و‬
‫هدوء أثارا رعبها ‪:‬‬
‫‪-‬سالف‪ ..‬لو مش عايزة وًلدنا يتيتموا إنهاردة‪.‬‬
‫اتقي شري‪ .‬أنا كمان بشر‪ .‬فاهمة !؟‬
‫لم تصدق أنه قال ذلك‪ ،‬لم يجعلها تفكر أساسا‬
‫فيه و هو ًل يزال أمامها‪ ،‬تركها فجأة و خرج‬
‫من الغرفة بخطوات واسعة‪ ،‬سريعة‬
‫و تبينت بأنه أغلق عليها الباب من الخارج‬
‫بالمفتاح !!!‬
‫حقا ‪...‬‬
‫لقد حبسها للتو !‬

‫يتبع ‪...‬‬
‫انتهى الفصل الحادي والثالثون‬

‫‪32‬‬

‫"ًل بأس حبيبتي‪ً ..‬ل بأس ؛ هاته !"‬


‫_ مراد‬

‫مطار العاصمة "إسطنبول ‪ /‬تركيا"‪ ..‬يخرج‬


‫الزوجان يدا بيد‬
‫بعد قضاء ما يربو عن ساعتين بالطائرة‪ ،‬لقد‬
‫غفت "إيمان" لبعض الوقت على كتف "مراد"‬
‫فكان ذلك من دواعي سروره‪ ،‬لم يقلقها طرفة‬
‫عين‪ ،‬حتى فتحت عيناها من تلقائها قبل الهبوط‬
‫بدقائق‬
‫ًل زالت تتألق بفستانها األصفر المنقط بأبيض‪،‬‬
‫و أسفل شمس "أيار" الدافئة‪ ،‬مشيت مالصقة‬
‫لزوجها تقريبا وصوًل إلى السيارة التي وقفت‬
‫بالساحة الخارجية في انتظارهما‬
‫فتح لها "مراد" الباب الخلفي لتجلس‪ ،‬ثم أقفله‬
‫و أستل من محفظته بعض النقود ليعطي الشاب‬
‫الذي حمل الحقائب إكراميته‪ ،‬شكره األخير‬
‫بابتسامة بسيطة‪ ،‬ليستقل "مراد" من الجهة‬
‫األخرى للسيارة الفارهة بجوار زوجته ‪...‬‬
‫‪-‬مبسوطة يا حبيبتي ؟‬
‫استمعت "إيمان" إلى سؤال زوجها بينما كانت‬
‫مولية وجهها نحو النافذة المفتوحة‪ ،‬تشاهد‬
‫شوارع المدينة و المارة‪ ،‬أدرات وجهها إليه‬
‫باللحظة التالية و قالت مبتسمة ‪:‬‬
‫‪-‬أوي يا مراد‪ .‬انت عندك ذاكرة قوية !‬
‫زحفت يده عبر المسافة بينهما على المقعد‪ ،‬ثم‬
‫خلل أصابعه بين أصابعها قائال بنعومة ‪:‬‬
‫‪-‬في إللي يخصك بس‪ .‬عشان تعرفي إنك حب‬
‫حياتي‪ ..‬حبيبتي !‬
‫أسبلت أهدابها مشيحة عنه جهة النافذة من‬
‫جديد‪ ،‬لكنها لم تترك يده‪ ،‬بقيت متشبثة به‬
‫تستمد منه الدفء‪ ،‬تنعم بشعور األمان الذي لم‬
‫تحصل عليه إًل حين عاد إليها ‪...‬‬
‫أسدل الليل ستاره على سماء جوهرة المدن‬
‫العثمانية "إسطنبول"‪ ..‬عندما شقت السيارة‬
‫المخصوصة طريقها داخل أحد أبرز المجمعات‬
‫السكنية الفاخرة‪ ،‬و ثم توقفت أمام فيال نائية‬
‫بنفسها قليال‪ ،‬كانت على حافة البحر تماما‪،‬‬
‫ترجل السائق‪ ،‬ومن خلفه "مراد" استدار ليفتح‬
‫الباب من جهة زوجته‪ ،‬أمسك بيدها يساعدها‬
‫على النزول‪ ،‬بينما يفتح السائق صندوق‬
‫السيارة الخلفي ليحمل حقيبة المالبس إلى‬
‫مدخل البيت‬
‫مشيا الزوجين على مهل‪ ،‬فسلم السائق مفتاح‬
‫السيارة إلى "مراد" في طريق عودته مخاطبا‬
‫إياه باًلنجليزية ‪:‬‬
‫‪-‬هاك مفتاح السيارة يا سيدي‪ .‬و معك رقم‬
‫هاتفي‪ .‬إذا كنت بحاجة ألي شيء اتصل بي‬
‫سأكون أمامك في الحال‬
‫شكره "مراد" بايماءة ‪:‬‬
‫‪-‬شكرا لك‪ .‬ربما احتاج مرافقتك معنا بسفرة‬
‫داخل البالد‪ .‬و لكن ليس قبل يومين على األقل‪.‬‬
‫فنحن لم نرى إسطنبول بعد !‬
‫ابتسم الشاب و لهجته المحلية تطغى على نطقه‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬أهال بك في بالدنا يا سيدي‪ .‬و أرجو أن تقضي‬
‫عطلة ممتعة !‬
‫و ذهب الشاب‬
‫ليأخذ "مراد" زوجته إلى الداخل‪ ،‬بدءا من‬
‫البوابة الخارجية و حتى باب البيت الداخلي‬
‫تجهيزات أمنية حديثة مبهرة‪ ،‬كل شيء هنا كان‬
‫منتقى بعناية و قد كان "مراد" يحفظ ما سبق‬
‫و وقع اختياره عليه قبل أن يضع قدما واحدة‬
‫هنا بالبلد‪ ،‬أمام "إيمان" فكانت مأخوذة بالحلم‬
‫الذي سقطت به‪ ،‬سايرت اللحظات الجميلة التي‬
‫تمر بها‪ ،‬و أخذت تتأمل في المكان‪ ،‬كل شيء‬
‫داخل البيت باللون األبيض و درجاته‪ ،‬األرض‬
‫الرخامية‪ ،‬و ورق الحائط المزين بزخرفة‬
‫الزهور‪ ،‬و األثاث الفخم‪ ،‬و الستائر الخفيفة‬
‫التي بالكاد تحجب من شفافيتها زجاج الشرفة‬
‫المطل على الشاطئ ‪...‬‬
‫‪-‬إيه رأيك يا حبيبي‪ .‬عجبك المكان !؟‬
‫إلتفتت "إيمان" لتنظر إلى زوجها‪ ،‬كان يتكئ‬
‫باسترخاء إلى عمود مستطيل قرب الدرج‪،‬‬
‫لوهلة استوقفتها مغازلته و راقتها الكلمة‬
‫الجديدة على أذنها‪ ،‬شبكت يديها خلف ظهرها و‬
‫تحركت خطوتين يمينا و شماًل و هي تقول‬
‫محدقة به ‪:‬‬
‫‪-‬حلو‪ .‬بس لسا ماشوفتوش كويس !!‬
‫أومأ قائال ‪ :‬تحبي أخدك في جولة‪ .‬و اًل تعبتي‪.‬‬
‫تريحي األول يعني و اًل عايزة تعملي إيه ؟ ‪ ..‬و‬
‫أشار بإبهامه للوراء ‪:‬‬
‫‪-‬في عشا جوا في المطبخ كنت موصي عليه‪.‬‬
‫يادوب واصل قبلنا من ساعة‪ ..‬مش جعانة ؟‬
‫تنهدت و هي تفك عقدة الحجاب ثم تخلعه‬
‫متلهفة على تهوية شعرها و المنطقة المكتومة‬
‫كلها‪ ،‬ألقت بالوشاح فوق طاولة قريبة‪ ،‬ثم‬
‫حررت شعرها و نفضته بأصابعها لينتشر و‬
‫يتغلغل بالهواء ‪...‬‬
‫‪-‬بصراحة مش مزاجي في أي حاجة من دي‬
‫دلوقتي ! ‪ ..‬عايزة اسبح‬
‫مراد ‪:‬‬
‫و ًل البحر ؟؟ ‪-Pool‬في الـ‬
‫برقت لمعة بعينها و هي تهمس له ‪:‬‬
‫‪-‬اًلتنين بس انت عارف‪ .‬انا اصال مش بعرف‬
‫أعوم‪ ..‬هكون معتمدة عليك في الحالتين !‬

‫*****‬
‫طوال مدة مكوثه عند أمه‪ ،‬لم تغفل عن رؤية‬
‫بصيص من الغضب بعينيه‪ ،‬رغم إنه تظاهر‬
‫بالعكس‪ ،‬لكنها لم تنخدع‪ ،‬و في نفس الوقت‬
‫تركته لعله يفصح لها من تلقائه كما يفعل أحيانا‬
‫لكنه جلس معها و مع الصغار‪ ،‬و انشغل قليال‬
‫بمجالسة إبنة أخته و التهوين عليها لفراق‬
‫أمها‪ ،‬ثم جاء ليقوم و يصعد إلى شقته‪،‬‬
‫استوقفته أمه ‪:‬‬
‫‪-‬على فين يا ادهم ؟‬
‫إلتفت "أدهم" ناحية أمه‪ ،‬حيث رأها تهدهد‬
‫صغيره المفضل إليه "عبد الرحمن"‪ ..‬عبس‬
‫قليال و هو يرد عليها ‪:‬‬
‫‪-‬معلش يا أمي أنا عارف إن الوًلد تعبوكي‪.‬‬
‫استأذنك بس تخليهم معاكي الليلة دي‪ .‬لو مش‬
‫هاتقدري عليهم مع لمى خالص هاخدهم التالتة‬
‫‪...‬‬
‫هزت "أمينة" رأسها و أعربت عن ترحيبها‬
‫بطلبه على الفور ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل يا حبيبي أقدر عليهم كلهم ماتقلقش‪ .‬لمى‬
‫بقت كبيرة و بتسمع كالمي‪ .‬و الوًلد كمان مش‬
‫بيتعبوني خالص‪ .‬هما أول مرة يباتوا عندي !؟‬
‫‪ ..‬و ابتسمت قائلة بلهجة ذات مغزى ‪:‬‬
‫‪-‬و بعدين تعبك انت و وًلدك راحة و على قلبي‬
‫زي العسل‪ .‬مش عايزة غير أشوفك متهني كده‬
‫على طول‪ .‬يال اطلع انت لمراتك !‬
‫ًلحظ "أدهم" ما ترمي إليه أمه تماما‪ ،‬لكنه‬
‫تركها تظن ما تريد و ابتسم لها بخفة‪ ،‬ثم‬
‫استدار ماشيا للخارج ‪...‬‬
‫صعد إلى شقته في غضون دقيقة واحدة‪ ،‬أقفل‬
‫الباب ورائه و استنشق نفسا عميقا‪ ،‬ثم توجه‬
‫صوب الرواق المفضي إلى الغرف‪ ،‬أستل مفتاح‬
‫غرفة النوم من جيبه و دسه بالقفل دون تردد‬
‫اكتسب وجهه تعبيرا صارما قبل أن يدير‬
‫المقبض و يدفع الباب !‬
‫لم يضطر للبحث مباشرة‪ ،‬فقد رآها تجلس‬
‫بمنتصف الفراش ضامة ساقيها إلى صدرها‪ ،‬ما‬
‫إن أطل عليها حتى وثبت قائمة‪ ،‬لكنه تعمد‬
‫اإلعراض عنها كليا‪ ،‬حتى عندما مر من جانبها‬
‫ماضيا نحو الخزانة‪ ،‬فتحها و أخرج منها بعض‬
‫الثياب له‪ ،‬بينما تراقب ما يفعله باستغراب ‪...‬‬
‫‪-‬أدهم‪ .‬انت بتعمل إيه !؟ ‪ ..‬سألته بصوت مثخن‬
‫بآثار البكاء‬
‫ما كان ليرد عليها‪ ،‬لوًل سماع تلك النبرات التي‬
‫نفذت إليه بالرغم عنه‪ ،‬لكنه استعمل لهجته‬
‫الجافة و هو يرد دون أن يعيرها نظره أو‬
‫اهتمامه ‪:‬‬
‫‪-‬الوًلد هايقضوا الليلة دي مع أمي و انا هانام‬
‫في أوضتهم‪ .‬من بكرة هالم كل حاجتي من هنا و‬
‫هافصل نفسي عنك !‬
‫برزت حدقتاها بشدة و هي تقول بجزع واضح ‪:‬‬
‫‪-‬يعني إيه هاتفصل نفسك عني‪ .‬هاتروح فين يا‬
‫أدهم و تسيبني ؟‬
‫حانت منه نظرة جانبية إليها و جاوبها بنفس‬
‫الجفاف ‪:‬‬
‫‪-‬شقتي فيها ‪ 3‬أوض غير مكتبي‪ .‬الليلة دي‬
‫هانام في أوضة الوًلد و من بكرة في أوضة‬
‫المكتب لغاية ما أجهز األوضة التالتة و أنقل‬
‫فيها‪ .‬انتي بقى اعتبري األوضة دي هي‬
‫مساحتك الخاصة‪ .‬أوعدك إني مش هقرب من‬
‫خصوصياتك بعد إنهاردة و ًل هازعجك !‬
‫و أقفل الخزانة موليا إلى خارج الغرفة‪ ،‬ذهب‬
‫رأسا إلى غرفة مكتبه و أشعل الضوء‪ ،‬فكانت‬
‫"سالف" في إثره تماما‪ ،‬تمشي خلفه و هي ًل‬
‫تكف عن الهتاف ‪:‬‬
‫‪-‬الكالم ده مش حقيقي طبعا‪ .‬انت أكيد بتهزر‪.‬‬
‫مش هاتعمل إللي بتقول عليه ده‪ .‬رد عليا يا‬
‫أدهم !!!‬
‫يلقي "أدهم" بكومة ثيابه فوق إحدى‬
‫الطاوًلت‪ ،‬و يفرك ما بين عينيه بارهاق واضح‬
‫و هو يقول ببرود ‪:‬‬
‫‪-‬من فضلك اطلعي برا‪ .‬أنا تعبان و عاوز أنام‬
‫عندي شغل الصبح بدري !‬
‫لم تستجيب لطلبه‪ ،‬بل و جاءت لتقف أمامه‬
‫مخضبة الوجه و قالت بشيء من اًلنفعال ‪:‬‬
‫‪-‬مش هاطلع‪ .‬انت بتعاقبني يعني‪ .‬مع إنك انت‬
‫الغلطان‪ .‬انت مديت إيدك عليا‪ .‬القلم إللي نزل‬
‫على وشي من إيدك ده أنا عمري ما هنساه‪ .‬أنا‬
‫محدش عملها معايا قبل كده و ًل حتى بابا‪ .‬جيت‬
‫انت إنهاردة و أهنتني بالطريقة دي !!‬
‫نظر إليها اآلن شادا على فكيه بشدة‪ ،‬بذل جهدا‬
‫كبيرا ليكظم غيظه نتيجة كالمها المستفز‪ ،‬من‬
‫الذي تلقى اإلهانة ؟‬
‫هي أم هو ؟‬
‫من الذي أهان اآلخر يا ترى ؟‬
‫‪-‬خالص ! ‪ ..‬دمدم "أدهم" بحدة سافرة ‪:‬‬
‫‪-‬أنا بعتذر لك على اإلهانة‪ .‬و عشان تضمني‬
‫إنها مش هاتحصل تاني‪ .‬بكرة هانقعد و‬
‫هانصفي كل إللي بينا‪ .‬لو عاوزة تتطلقي‬
‫هاطلقك‪ .‬و ماتقلقيش هاتاخدي كل حقوقك حتى‬
‫حقوقك في الوًلد‪ .‬مش هاظلمك نهائي ‪...‬‬
‫تجعدت قسماتها بتعابير الصدمة و هي تنظر‬
‫إليه غير مصدقة ما قاله‪ ،‬غمرها خوف عظيم‬
‫ألول مرة منذ النهار الذي فارق أبيها فيه‬
‫الحياة‪ ،‬شلت حركتها حتى تتمكن من استيعاب‬
‫كلماته عبثا‬
‫بينما يضيف "أدهم" ملقيا بنفسه فوق أحد‬
‫كراسي المكتب ‪:‬‬
‫‪-‬و دلوقتي اتفضلي برا‪ .‬وخدي الباب في إيدك‬
‫لو سمحتي !‬
‫كان الموقف جنونيا بالنسبة لها‪ ،‬لم تقدر على‬
‫التحمل من داخلها حتى برزت الدموع بعينيها‬
‫‪...‬‬
‫استدارت نحوه بغتة‪ ،‬ركعت بجوار الكرسي‬
‫الذي يجلس عليه‪ ،‬حثت على ركبتيها خطوتين‬
‫لتقترب منه أكثر‪ ،‬حضنت ساقه و أراحت رأسها‬
‫فوق قدمه تاركة لدموعها العنان و هي تقول‬
‫بلهجة كسيرة ‪:‬‬
‫‪-‬أنا آسفة‪ .‬أنا غلطانة‪ .‬سامحني أنا ماكنتش‬
‫أقصد اقولك كده‪ .‬أنا لو عيشت عمرين فوق‬
‫عمري مش هاًلقي راجل زيك‪ ..‬أدهم‪ .‬انت‬
‫حبيبي !‬
‫طال صمته‪ ،‬بينما تبكي في هدوء‪ ،‬تلتمس منه‬
‫العطف و هو ألول مرة يبخل عليها‪ ،‬فترفع‬
‫وجهها المغطى بالدموع إليه‪ ،‬لعل قلبه يرق لها‬
‫؛‬
‫لكنه ًل يحرك ساكنا‪ ،‬نفس النظرة القاسية من‬
‫عينيه الحادتين يسددها إليها‪ ،‬ثم قال أخيرا‬
‫بصوت أجش ‪:‬‬
‫‪-‬هاستعمل نفس جملتك‪ ..‬ابعدي عني يا سالف !‬
‫إنقبض قلبها و تضخم حلقها سادا الطريق‬
‫لمرور الكلمات‪ ،‬لكنها كافحت لتقول و هي‬
‫تقبض على يده الملقاة في حجره بشدة ‪:‬‬
‫‪-‬يبقى انت عمرك ما فهمتني يا أدهم‪ .‬عمرك ما‬
‫فهمت حبيبتك إللي كنت دايما بتهتم بيها و‬
‫بتراضيها‪ .‬إللي كنت ماتسيبهاش تنام زعالنة‬
‫مهما حصل ‪...‬‬
‫و حنت رأسها ثانية لتقبل يده مطوًل‪ ،‬ثم عاودت‬
‫النظر إليه عبر دموعها و هي تضيف بصوت‬
‫يمزقه النحيب ‪:‬‬
‫‪-‬أنا عمري ما قصدت كده‪ .‬كل مرة كنت بقولك‬
‫أبعد‪ .‬كانت معناها ماتبعدش‪ .‬كانت معناها قرب‪.‬‬
‫و انت كنت بتفهم ده‪ ..‬ألول مرة ماتفهموش يا‬
‫أدهم !!!‬
‫في هذه اللحظة لم تؤثر فيه معاناتها‪ ،‬إذ‬
‫تجسدت أمام عينيه المشادة بينهما و ترددت‬
‫أذنيه كلماتها المهينة لرجولته‪ ،‬فمد جزعه‬
‫لألمام و التقت يده اليمنى بمؤخرة رأسها‪ ،‬أخذ‬
‫حفنة من شعرها األشقر و شدها برفق حتى برز‬
‫وجهها كله أمام عينيه القاسيتين ‪...‬‬
‫و عندما فتح فمه مرة أخرى لم يشفق عليها و‬
‫هو يقول ‪:‬‬
‫‪-‬مين قال إني مافهمتش‪ .‬لكن المرة دي غير يا‬
‫سالف‪ .‬المرة دي انتي قولتيها في وشي‪ .‬و مش‬
‫هاتتمحي من الذاكرة أبدا‪ ..‬أنا إنهاردة عرفت‬
‫إني بالنسبة لك مش الزوج المثالي‪ .‬عرفت إني‬
‫مش مكفيكي‪ .‬و مش بعرف أسعدك و كمان‬
‫خانق عليكي‪ ..‬بعد كل إللي قولتيه ده‪ .‬أبقى مش‬
‫راجل فعال لو خليتك على ذمتي !‬
‫و أفلتها فجأة‪ ،‬لتسارع قائلة بدفاع ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل‪ .‬أنا ماكنتش أقصد كل إللي بتقوله ده‪ .‬أنا‬
‫كنت عصبية بس‪ .‬و أي كالم قلته ماكنتش‬
‫مركزة فيه !!‬
‫‪-‬بس طلع من جواكي‪ .‬يعني ماقولتيش غير‬
‫الحقيقة !!!‬
‫و قام واقفا‪ ،‬لتقوم بدورها و تحاول القبض على‬
‫نظراته‪ ،‬لكنه ًل يسمح لها‪ ،‬فتلقي بذراعيها من‬
‫حوله مطوقة عنقه بقوة و هي تقول بنبرة‬
‫متوسلة ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل يا أدهم‪ .‬دي مش الحقيقة‪ .‬و انت عارف كده‬
‫كويس‪ .‬أنا بحبك‪ .‬مقدرش ابعد عنك لو بعدت‬
‫عنك أموت !!‬
‫أغمض عينيه بشدة و فك ذراعيها من حوله‬
‫بحزم قائال ‪:‬‬
‫‪-‬اطلعي برا يا سالف‪ .‬أنا مش قابل منك أي‬
‫كالم‪ .‬مش عايز أشوفك أصال قصادي‪ .‬بكرة‬
‫نبقى نتكلم‪ ..‬اطلعي برا لو سمحتي !‬
‫أحست بالهزيمة اآلن‪ ،‬و كان آخر شيء تريده‬
‫أن تتركه‪ ،‬لكنها أذعنت ألمره و استدارت‬
‫خارجة من مكتبه مطأطأة الرأس‪ ،‬أقفلت بابه‬
‫كما أشار إليها‪ ،‬و فجأة صارت وحيدة تماما ‪...‬‬
‫وقفت بمنتصف الرواق تنظر في ثالث جهات‪..‬‬
‫غرفة نومها‪ ،‬غرفة أطفالها‪ ،‬غرفة المكتب !‬
‫لعلها كانت فكرة خاطئة مكوث الصغار الليلة‬
‫عند جدتهم‪ ،‬فأمهم بحاجة إليهم اآلن‪ ،‬في غياب‬
‫والدهم‪ ،‬من عساه يخفف عنها وطأة الهجر !؟؟‬
‫إنها تخاف‪ ،‬اآلن ًل تعرف شيئا سوى الخوف‪..‬‬
‫الخوف ‪...‬‬

‫*****‬

‫يتبع ‪...‬‬
‫انتهى الفصل الثاني والثالثون‪..‬‬

‫‪33‬‬

‫"ما الضرر الذي قد يسببه العشق !"‬


‫_ سالف‬

‫كل شيء يمضي على ما يرام‪ ،‬و ًل يمكنها أن‬


‫تتخيل شهر عسل أروع من ذلك حيث زوجها‬
‫هو "مراد"‪ ..‬حبيبها "مراد" هنا معها‪ ،‬كما‬
‫تمنت طوال حياتها‬
‫و لكن !‬
‫ما زال هناك ما يعكر صفوها‪ ،‬إنها تأتيها بغتة‪،‬‬
‫يرتجف قلبها خوفا‪ ،‬فتبتعد عنه و يبذل هو جهدا‬
‫إلزالة تلك المخاوف عنها‪ ،‬إنه ًل يسأم أبدا‪ ،‬و‬
‫لكنها تخشى أن يفعل بنهاية المطاف‪ ،‬ترعبها‬
‫فكرة خسارته مرة أخرى‪ ،‬لن تتحمل هذه المرة‬
‫‪...‬‬
‫‪-‬هو مافيش حد هنا !؟؟ ‪ ..‬تساءلت "إيمان" و‬
‫هي ترمق المكان حولها بتعجب‬
‫أسفل شمس الظهيرة المشرقة‪ ،‬و الطقس‬
‫لطيف‪ ،‬مشيت "إيمان" إلى جانب زوجها‬
‫متشابكي األيدي‪ ،‬وسط باحة الفندق الفخم‬
‫المتربع فوق حافة البحر الفيروزي‪... ،‬‬
‫أدار "مراد" رأسه ناحيتها و قال رافعا حاجبه‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬يعني انتي متصورة إني ممكن أمشيكي بالشكل‬
‫ده وسط ناس ؟ من غير حجابك‪.‬‬
‫ابتسمت و هي تشبع ناظريها من تعبيرات‬
‫وجهه المميزة للغاية‪ ،‬عبوسه‪ ،‬غروره‪ ،‬إنه‬
‫ليس جميال‪ ،‬و لكنه وسيم بدرجة جميل‪ ..‬كيف‬
‫ألي شخص أن يكون وسيما لهذه الدرجة !؟‬
‫‪-‬لما وصلنا كان في موظفين !‬
‫توقف "مراد" و لف يده األخرى حول‬
‫خاصرتها‪ ،‬ثم أشار لها بذقنه قائال ‪:‬‬
‫‪-‬الفندق ده كله لينا لوحدنا لمدة أسبوع‪ .‬المالك‬
‫بتاعه صديقي و شركة مقاوًلتنا ساهمت في‬
‫تنفيذه‪ .‬لما عرف خبر جوازنا و إننا هانقضي‬
‫شهر العسل هنا في تركيا صمم انه يقدم هديته‬
‫بالشكل ده‪ .‬مافيش مخلوق هنا غيري أنا و‬
‫انتي‪ .‬لكن طبعا األمن برا على البوابات !‬
‫انفرجت شفتاها في حركة تنم عن إنبهار و‬
‫قالت ‪:‬‬
‫‪-‬دي هدية مختلفة و تجنن يا مراد‪ .‬صديقك ده‬
‫تركي ؟‬
‫هز رأسه مجيبا ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل‪ .‬لبناني‪ .‬بش شغله و عيلته كلها هنا في‬
‫إسطنبول‬
‫إيمان بابتسامة ‪ :‬يا بختهم !‬
‫تشكلت خطوط جبهته و هو يعبس قليال و يقول‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬نفسك تعيشي هنا يعني ؟ أنا عندي استعداد‬
‫أنفذ لك رغباتك كلها‪ .‬بس مش هاتحني لمصر و‬
‫خالتي و أدهم !!‬
‫مضغت "إيمان" شفتيها و هي تقرب نفسها‬
‫إليه أكثر‪ ،‬تلقي بذراعيها ممسكة بكتفيه و‬
‫تهمس و عينيها في عينيه تماما ‪:‬‬
‫‪-‬أنا في المكان إللي تكون انت فيه‪ .‬مش عايزة‬
‫حاجة من الدنيا دي غيرك‪ ..‬بحبك‪ .‬بموت فيك !‬
‫تراقصت ابتسامة خفيفة على ثغره‪ ،‬لكنه قال‬
‫متخوفا ‪:‬‬
‫‪-‬أنا بخاف من الجانب الطري بتاعك ده‪ .‬عارفة‬
‫عامل زي حبة فاكهة كبيرة و لذيذة‪ .‬بس تالقي‬
‫في آخرها بذرة قاسية تكسر سنانك !!‬
‫قهقهت "إيمان" ضاحكة و علقت ‪:‬‬
‫‪-‬إيه التشبيه ده‪ .‬انتي شايفني بذرة !؟‬
‫‪-‬كامة فاكهة ماعدتش على ودانك خالص !!؟‬
‫ابتلعت ريقها و ابتسامتها تقل بالتدريج‪ ،‬تنفست‬
‫بعمق و قالت بينما ًل تهتم سوى للحظة الراهنة‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬ماتخافش‪ .‬انت بتساعدني كويس أوي‪ .‬و بتاخد‬
‫بالك مني‪..‬؟‬
‫رمقها بعاطفة ‪ ،‬و قال بصوت خفيض ملؤه‬
‫الحب و اًلهتمام ‪:‬‬
‫‪-‬طيب إيه إللي بيحصل لك في اآلخر ؟ ليه‬
‫بشوف الخوف في عنيكي‪ .‬ليه بتبعدي عني بعد‬
‫ما بنكون قريبين جدا من بعض ؟ أنا مش قادر‬
‫أفهم‪ .‬صارحيني إيه إللي بيحصل يا إيمان !؟‬
‫إنها تحب اسمها عندما ينطق به "مراد"‪ ..‬فهو‬
‫ًل يبتذله‪ ..‬يقوله بخفة و دفء ًل يمكن تصنعه‬
‫‪...‬‬
‫‪-‬أنا كنت متجوزة سيف يا مراد ! ‪ ..‬تمتمت‬
‫"إيمان" و قد تلبدت عيناها بالدموع فجأة‬
‫تشبثت بقميصه المفتوح مستشعرة سخونة‬
‫بشرته على يديها‪ ،‬و استطردت ‪:‬‬
‫‪-‬سيف كان أبشع كابوس مضطرة أعيشه كل‬
‫يوم طول سنين جوازي منه‪ .‬سيف كان‬
‫بيستنزفني‪ .‬عمل معايا كل حاجة ممكن تخطر‬
‫على بالك‪ .‬و ماكنتش بقدر أتكلم‪ ..‬انت فاهم‪.‬‬
‫فاهمني صح !؟‬
‫أومأ لها متفهما و الغضب يعتمل عميقا في‬
‫عينيه‪ ،‬غضب و سخط على نفسه قبل أن يكون‬
‫على أي شخص آخر‪ ،‬هو الذي عرضها لكل‬
‫ذلك‪ ،‬هو السبب الرئيسي لمعاناتها ‪...‬‬
‫‪-‬بس انتي شايفة إني بعمل زيه ؟ ‪ ..‬سألها‬
‫بهدوء ممسدا خدها براحة يده‬
‫اتكأت "إيمان" على راحته مغمضة العينين و‬
‫هي تقول بينما تتسرب دمعة من عينها لتنزلق‬
‫على يده ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل طبعا‪ .‬بقولك بشع‪ .‬انت مش زيه طبعا‪ ..‬بس‪.‬‬
‫غصب عني‪ .‬لسا مش قادرة انسى إللي كان‬
‫بيعمله فيا‪ .‬بتيجي قدامي فجاة‪ .‬بشوفه‪ .‬فبخاف‪..‬‬
‫و كمان‪ .‬مالك !‬
‫شعرت به يقبل شعرها‪ ،‬ضمها إلى صدره‪ ،‬فلفت‬
‫ذراعيها حول جذعه‪ ،‬و أغمضت عينيها مرة‬
‫أخرى لسماع ما يقوله ‪:‬‬
‫‪-‬خالص يا إيمان‪ .‬كل ده بقى ماضي‪ .‬مش‬
‫عايزك تخلي الماضي ده يأثر على حياتنا و‬
‫مستقبلنا مع بعض‪ .‬عايزك تبقي قوية‪ .‬انتي‬
‫فيكي كل الصفات إللي أي راجل يتمناها في‬
‫حبيبته‪ .‬انتي إيمان حبيبتي أنا‪ .‬بس ناقصك‬
‫تبقي قوية‪ .‬مافيش حاجة تهزك‪ .‬بس !‬
‫قالت و نبرتها النائحة تجعل األمر و كأنه‬
‫منشودا بشدة ‪:‬‬
‫‪-‬أنا بحاول‪ .‬و هللا بحاول‪ ..‬انت مش حاسس إني‬
‫بتحسن ؟ أنا عايزة أبقى كويسة يا مراد‪ .‬عايزة‬
‫أرجع طبيعية‪ .‬بس إللي أنا عيشته مكانش في‬
‫يوم و ليلة‪ .‬دي سنين طويلة !!‬
‫تنهد مطوًل‪ ،‬ثم قال هامسا قرب أذنها مغيرا‬
‫مجرى الحديث ‪:‬‬
‫‪-‬طيب تعالي‪ .‬تعالي نرجع أوضتنا‪ .‬أوردر الغدا‬
‫على وصول‪ .‬و اًل تحبي نخرج نتغدا برا ؟‬
‫سلمت أمرها إليه كليا قائلة ‪:‬‬
‫‪-‬إللي تشوفه !‬
‫‪....................‬‬

‫عادا إلى الجناح الخاص بهما‪ ،‬الشرفة بطوله‬


‫كله‪ ،‬مفتوحة اآلن‪ ،‬تطل على أروع المناظر‪،‬‬
‫الخضرة و البحر و السماء ‪...‬‬
‫طوال طريق العودة إنشغل باله بحديثها‪ ،‬و كان‬
‫غير مرتاحا‪ ،‬ما دفعها لسؤاله ما إن استقرا‬
‫بالداخل ‪:‬‬
‫‪-‬مالك يا مراد ؟‬
‫لم يكذب عليها‪ ،‬قال ما يحدث معه حرفيا و هو‬
‫يركز نظراته على وجهها ‪:‬‬
‫‪-‬بفكر في كالمك‪ ..‬مش عارف أبطل تفكير !!!‬
‫رفرفت بأجفانها و هي تمد كفها لتضعه على‬
‫جانب وجهه و تقول ‪:‬‬
‫‪-‬ماتشغلش بالك يا حبيبي‪ .‬أنا بحكي لك عشان‬
‫أفضفض معاك‪ .‬مش عشان أضايقك !‬
‫‪-‬ضايقيـني ! ‪ ..‬صاح فجأة‬
‫فأجفلت و رفعت يدها عنه فجأة ‪...‬‬
‫توجست منه قليال بينما يقترب هو منها‪ ..‬الحنق‬
‫يطغى على نبراته و هو يخبرها ‪:‬‬
‫‪-‬أنا السبب في كل إللي حصل لك‪ .‬و مش قادر‬
‫أسامح نفسي‪ .‬أنا كمان دمرتك زيهم‪ .‬و احتمال‬
‫تكوني لسا تعبانة و مش متوازنة‪ .‬أنا مش‬
‫هاسمع كالمك أكتر من كده و أول ما نرجع‬
‫مصر هاعرضك على دكتورة نفسية‪ .‬و مش‬
‫قصدي إنك مجنونة زي ما بتقوليلي كل مرة‪.‬‬
‫انتي محتاجة مساعدة‪ .‬فاهمة‪ً ..‬لزم تتعافي !!!‬
‫ضمت شفتيها بشدة اآلن مخافة أن تنفجر‬
‫بالبكاء بأي لحظة‪ ،‬بينما يهدأ "مراد" قليال و‬
‫هو يدنو صوبها أكثر‪ ،‬صوته الهامس الخشن‬
‫وقع على أذنها و هو يمسك وجهها بشدة ‪:‬‬
‫‪-‬أنا عايزك تنقلي كل ده ليا‪ .‬أنا عايز أخد وجعك‬
‫ده كله‪ ..‬أنا عايزه يا إيمان !‬
‫نظرت إليه و الدموع تحرق عينيها‪ ،‬كانت‬
‫ترتجف اآلن بين ذراعيه و قد استهلكها الحزن‬
‫و الذكريات األليمة‪ ،‬بالكاد خرج صوتها من‬
‫تحت وطأة الغصة التي تسد حلقها ‪:‬‬
‫‪-‬ياريت‪ ..‬ياريت أقدر أخلص منه بالسهولة دي‪.‬‬
‫ياريتك تقدر تشيله عني‪ ...‬ياريت‪ ..‬أنا مابقتش‬
‫قادرة عليه‪ .‬مابقتش قادرة خالص يا مراد !‬
‫و جرت دموعها من جديد و عال نحيبها‬
‫الهادئ‪ ،‬حاول أن يريحها بشتى الطرق‪ ،‬لكنها ًل‬
‫تستجيب و تضع يديها بينهما لتبقيه بعيدا‬
‫اهتدى إلى فكرته بغتة و هو ينفصل عنها محدقا‬
‫بعينيها الحمراوين المبللتين ‪:‬‬
‫‪-‬أنا هساعدك يا حبيبتي‪ ..‬أنا هساعدك !‬
‫رأى اليأس في نظراتها‪ ،‬لكنه أمسك بيدها و‬
‫قادها نحو المنضدة المستطيلة‪ ،‬و بال كلمة خلع‬
‫قميصه‪ ،‬فرمقته بارتباك قائلة ‪:‬‬
‫‪-‬انت بتعمل إيه !؟‬
‫لم يرد‪ ،‬حتى فك حزام خصره الفاخر‪ ،‬سحبه‬
‫أمام عينيها و أمسك بيدها يضعه بها مقررا ‪:‬‬
‫‪-‬طلعيه كله‪ ..‬ماتخليش حاجة جواكي‪ .‬سمعاني ؟‬
‫لم تفهم ما قصده بالضبط‪ ،‬فابتسم بالكاد بينما‬
‫تسيل دمعة على طول خده أسفا و ندما عليها‪،‬‬
‫ثم استدار حتى واجهت ظهره العاري‪ ،‬إنحنى‬
‫لألمام حتى ًلمس صدره خشب المنضدة‪ ،‬أراح‬
‫جانب وجهه فوقها و هتف على إستعداد ‪:‬‬
‫‪-‬ماتتردديش‪ ..‬أنا قدامك أهو‪ .‬خدي حقك مني‪.‬‬
‫خدي حقك مننا كلنا يا إيمان !‬
‫اآلن فهمت جيدا ما عناه‪ ،‬فافلتت منها شهقة و‬
‫هي تبكي بصوت و تشد على طوق خصره‬
‫بعصبية ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل يا مراد‪ .‬مـ آ ا ‪...‬‬
‫‪-‬قلت لك أعمليها ! ‪ ..‬قاطعها صائحا بغضب و‬
‫قد تشنجت عضالت ظهره أمامها‬
‫واصل محفزا إياها بتغذية كل مشاعر الحقد و‬
‫النقمة بداخلها ‪:‬‬
‫‪-‬افتكري إللي عملته فيكي‪ .‬افتكري إللي عمله‬
‫فيكي سيف‪ .‬و إللي عمله مالك‪ ..‬افتكري كل‬
‫حاجة وحشة حصلت لك على إيد كل واحد فينا‪.‬‬
‫خدي حقك‪ .‬ردي لي وجعك‪ .‬إديهولي كله‪.‬‬
‫حرري نفسك يا إيمـان ‪....‬‬
‫داهمها اإلنهيار مجددا‪ ،‬و رمت الحزام من يدها‬
‫مجهشة بنوبة جديدة من البكاء‪ ،‬لكنه بكاء من‬
‫نوع آخر‪ ،‬لم يكن سببه األلم‪ ،‬و ًل تجد له سببا‬
‫محدد‬
‫لكنها اآلن لم تعد نفس المرأة التي كانت عليها‬
‫منذ بضعة دقائق‪ ..‬هذا مؤكد ‪...‬‬
‫‪-‬بس ! ‪ ..‬قالها "مراد" مخطوف األنفاس‬
‫و هو يعتدل و يواجهها ثانية‪ ،‬ضم رأسها إلى‬
‫صدره متمتما بتعب شديد فوق شعرها ‪:‬‬
‫‪-‬إهدي يا حبيبتي‪ ..‬هاتبقي كويسة‪ .‬كل حاجة‬
‫هاتبقى أحسن‪ ...‬أوعدك !‬

‫*****‬
‫يعلم أنه بالغ في معاقبتها و هجرها‪ ،‬يدرك تماما‬
‫أن قسوته شديدة ألول مرة عليها‪ ،‬كم يوم و هو‬
‫ينأى بنفسه عنها !؟‬
‫لقد مر اسبوعا بالفعل‪ ،‬كل يوم يراها تذبل أكثر‬
‫عن اليوم الذي يسبقه‪ ،‬تمارس يومها بآلية‪،‬‬
‫بين تلبية احتياجات أطفالها و واجبها تجاهه‬
‫الذي حصره بتناول وجبة الغداء فقط معها و‬
‫مع أطفاله‪ ،‬أما وجبة العشاء فكان يتناوله برفقة‬
‫أمه ؛‬
‫كلما كانت تحاول اًلقتراب منه كان يبتعد فورا‬
‫معرضا عنها‪ ،‬كان يسمعها تبكي من وراء باب‬
‫الغرفة كل ليلة‪ ،‬و لكنه وضع على قلبه حجرا‬
‫ثقيال ليمضي في هذا التأديب العسير الذي‬
‫يلزمها‪ ،‬رغم أنه كان على وشك أن يضعف‬
‫أمامها مرات كثيرة‪ ،‬في كل مرة كان يذكر نفسه‬
‫بما قالته له من كلمات تجريحية تقلل من قيمته‪،‬‬
‫يعرف بأنه سوف يصالحها‪ ،‬و لكن ليس بهذه‬
‫السرعة ‪...‬‬
‫لوًل ما حصل اليوم‪ ،‬بلغ منها الضعف بسبب قلة‬
‫الغذاء مبلغا‪ ،‬حتى أنها كاد أن يغشى عليها‪،‬‬
‫راقب هو ذلك بقلب واجف أثناء مروره من أمام‬
‫المطبخ‪ ،‬ظل واقفا هناك يخشى عليها من‬
‫السقوط أو أن تؤذى بأي شكل‬
‫لم يكف عن المراقبة إًل عندما تركت كل شيء‬
‫و ذهبت إلى غرفة النوم لتنال قسطا من الراحة‪،‬‬
‫بقي في تأهب بالصالة‪ ،‬عينه على الرواق‬
‫ينتظر يقظتها‪ ،‬حتى قامت بالفعل ملبية نداء أحد‬
‫الصغار‪ ،‬فأمسك "أدهم" بهاتفه و أرسل في‬
‫طلب أمه بشكل عاجل‬
‫دقائق و كان الجرس يدق‪ ،‬قام ليفتح و همس‬
‫ألمه ‪:‬‬
‫‪-‬أمي شوفيها بس من غير ما تقولي إني‬
‫ناديتك‪ .‬و باهلل عليكي خليكي وراها لحد ما‬
‫تاكل‪ .‬أنا ماشوفتهاش كلت أي حاجة إنهاردة !‬
‫طمأنته "أمينة" محاكية نبرته الخافتة ‪:‬‬
‫‪-‬ماتقلقش يا حبيبي‪ .‬أنا هاتصرف معاها‪ .‬بس‬
‫بعدين لينا قاعدة أنا و انت و تفهمني إيه إللي‬
‫حصل بينكوا بالظبط‪ .‬ماشي ؟‬
‫أومأ له مستعجال ‪:‬‬
‫‪-‬حاضر يا أمي حاضر‪ .‬ادخلي بس األول و‬
‫شوفيها !!‬
‫ولجت "أمينة" مسرعة تحت إلحاحه‪ ،‬و هتفت‬
‫منادية على ابنة أخيها بلهجة طبيعية‪ ،‬حضرت‬
‫"سالف" في غضون لحظات‪ ،‬امتثلت أمامها‬
‫بهزل‪ ،‬شاحبة الوجه‪ ،‬الهاًلت السوداء تحيط‬
‫بعينيها‪ ،‬كان حالها يرثى له ‪...‬‬
‫‪-‬إزيك يا عمتو ! ‪ ..‬دمدمت "سالف" بلهجة‬
‫ضبابية‬
‫عبست "أمينة" بقلق و هي تقترب منها قائلة ‪:‬‬
‫‪-‬إيه ده يا سالف‪ .‬شكلك عامل كده ليه يابنتي‪.‬‬
‫انتي ضعفانة كده ليه !؟؟‬
‫في هذه اللحظة لمحت "سالف" زوجها و هو‬
‫يمر متجها نحو الشرفة و يحمل في يده نفس‬
‫الكتاب الذي يقرأ به منذ عدة أيام ؛‬
‫ابتسمت "سالف" بسخرية و قالت ‪:‬‬
‫‪-‬أنا كويسة يا عمتو‪ .‬كويسة أوي !‬
‫أبت "أمينة" ادعائها ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل مانتيش كويسة يا سالف‪ .‬بصي لنفسك في‬
‫المرايا‪ .‬قوليلي يابنتي مالك‪ .‬أنا كل ما أسأل‬
‫أدهم عليكي يقولي فوق‪ .‬مش بتنزلي و ًل‬
‫بتكلميني‪ .‬انتي تعبانة و اًل في حد مزعلك ؟‬
‫ساد الصمت بينهما للحظات‪ ،‬تحدق "سالف"‬
‫بعيني عمتها فقط‪ ،‬إلى أن برزت الدموع بعينيها‬
‫بغتة و قالت بصوت يمزقه النشيج ‪:‬‬
‫‪-‬أنا هموت يا عمتو !‬
‫جحظت عينا "أمينة" على الفور و نطقت بهلع‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬إيـه‪ .‬بتقولي إيــه ؟ هاتموتي إزاي ؟ فيكي إيـه‬
‫يا سالف اتكلمي !!!‬
‫‪...................‬‬

‫عندما نطقت جملتها قفز قلبه من موضعه‪ ،‬هو‬


‫نفسه وثب من مكانه و وضع قدما على مقدمة‬
‫الشرفة تأهبا للخروج إليها‪ ..‬لكنه جمد مستمعا‬
‫إلى صوتها و هي تقول باللحظة التالية ‪:‬‬
‫‪-‬بقالي يومين بشوف بابا في الحلم‪ .‬بيجي‬
‫يمسك إيدي و ياخدني معاه‪ .‬إنهاردة جه هو و‬
‫ماما و خدوني !!‬
‫أجفل "أدهم" مستوعبا ما تقوله‪ ،‬و لكنه هدأ‬
‫نسبيا حين كشفت بأن األمر يتعلق باألحالم‪ ،‬أخذ‬
‫نفسا عميقا و واصل اًلستماع لهما ‪...‬‬
‫أمينة ‪ :‬يابنتي فجعتيني‪ .‬حرام عليكي يا سالف‪.‬‬
‫ده حلم يا حبيبتي مجرد حلم‪ .‬حلم يعمل فيكي كل‬
‫ده‪ .‬ماتهوميش نفسك انتي كويسة !‬
‫سالف ‪ً :‬ل‪ .‬أنا مش كويسة‪ .‬أنا حاسة بنفسي‪ .‬و‬
‫حاسة إن مابقاش ليا ًلزمة في حياة أي حد‬
‫أصال !‬
‫أمينة ‪ :‬ليه‪ .‬ليه يا حبيبتي بتقولي كده‪ .‬ربنا‬
‫يخلي وًلدك و جوزك‪ .‬و ربنا يخليكي ليا‪.‬‬
‫محدش فينا يقدر يستغنى عنك‬
‫بدأت تبكي بصوت اآلن و هي ترد على أمه ‪:‬‬
‫‪-‬أنا تعبت خالص يا عمتو‪ .‬تعبت و مابقتش‬
‫قادرة أستحمل إللي أنا فيه‪ .‬مخنوقة !‬
‫لم يرفع الحجر الذي وضعه على قلبه‪ ،‬حتى و‬
‫هو يسمع صوت بكائها الذي يمأل أذنيه و هي‬
‫تخاطب أمه بهذه الحرقة‪ ،‬رغم إنه ًل يثق إن‬
‫كان سيصمد طويال !‬
‫لم يحركه سوى نداء أمه الصارخ‪ ،‬فوثب بغتة‬
‫مهروًل من الشرفة إلى مدخل الشقة‪ ،‬كانت‬
‫"أمينة" على أعتاب الباب تصرخ منادية ابنة‬
‫أخيها و زوجة ابنها ‪...‬‬
‫‪-‬في إيه يا أمي ؟ ‪ ..‬صاح "أدهم" من خلف‬
‫والدته‬
‫إلتفتت "أمينة" نحوه‪ ،‬ما إن رأت "أدهم" حتى‬
‫اسجارت به ‪:‬‬
‫‪-‬إلحق البت يا أدهم‪ .‬نزلت تجري بهدومها و‬
‫مش شايفة قصادها‪ .‬إلحقها قبل ما تخرج من‬
‫البيت و يجرى لها حاجة !!!‬
‫كانت تملي عليه آخر كلماتها و هو بالفعل قد‬
‫تركها و انطلق في إثر زوجته بعد أن تأكد بأنها‬
‫لم تتخذ المصعد‪ ،‬لحق بها قبل أن تبلغ الطابق‬
‫األرضي‪ ،‬عند شقة أمه مباشرة‪ ،‬امتدت يده‬
‫بسرعة و قبض على ذراعها مجتذبا إياها بعنف‬
‫‪...‬‬
‫‪-‬تعالـي هنا‪ .‬راحـة فيـن ؟‬
‫قاومت "سالف" يديه و هي تصرخ فيه‬
‫بضراوة ‪:‬‬
‫‪-‬اووعـى‪ .‬مالكش دعوة بيا‪ .‬سيبني ماتلمسنيش‬
‫!‬
‫كز "أدهم" على أسنانه مغمغما و هو يشدد‬
‫قبضتيه عليها إلى حد مؤلم ‪:‬‬
‫‪-‬أسيبك تنزلي بالشكل ده‪ .‬انتي في واعيك ؟‬
‫مش هاتخطي برا البيت ده على أي حال سامعة‬
‫؟‬
‫تمزق بعض من قماش ثوبها المنزلي المكشوف‬
‫بفعل مقاومتها العنيفة‪ ،‬و احتقنت عيناها بشدة‬
‫و هي ترد بصراخ مكتوم ‪:‬‬
‫‪-‬سيبني أنا مابقتش عايزاك خالص‪ .‬كنت بتقول‬
‫هاتطلقني‪ .‬طلقنــي !!!‬
‫تصل "أمينة" في هذه اللحظة و تحول بينهما‬
‫مبعدة ابنها بحزم و هي تهتف ‪:‬‬
‫‪-‬أعوذ باهلل من الشيطان الرجيم‪ .‬إيه إللي‬
‫بيحصل بينكوا ده‪ .‬استهدي باهلل يا سالف‪.‬‬
‫إهدي يابنتي مش كده مالك بس !!‬
‫أخذت "سالف" تدفع يدي عمتها صارخة ‪:‬‬
‫‪-‬سيبـوووني‪ .‬أنا هامشي‪ .‬أنا عايزة امشي من‬
‫هنا‪ .‬مش هاستنى في البيت ده دقيقة واحدة ‪...‬‬
‫لم تيأس "أمينة" من محاوًلت تهدئتها و بقيت‬
‫تكلمها بلين ‪:‬‬
‫‪-‬يا حبيبتي ده شيطان و دخل بينكوا‪ .‬إهدي انتي‬
‫بس‪ .‬عايزة تروحي فين‪ .‬ده بيتك و هنا وًلدك و‬
‫جوزك !‬
‫هزت "سالف" رأسها بقوة و قد جرت دموعها‬
‫اآلن بغزارة فوق خديها و هي تمضي قائلة‬
‫بصعوبة ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل ده مش بيتي‪ .‬و أنا ماليش حد هنا‪ .‬أنا بقيت‬
‫لوحدي‪ .‬مابقاش ليا حد بعد بابا و تيتة حليمة‪.‬‬
‫خالص ماليش حد !!!‬
‫و إنهارت فجأة باكية ‪...‬‬
‫و بطريقة ما وجدت الدموع طريقها لعيني‬
‫"أمينة" و أخذت تبكي معها و هي تمد يديها‬
‫لتشدها إلى صدرها بالقوة ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل‪ .‬اوعي تقولي كده تاني‪ .‬انتي عدمتي عمتك‬
‫؟ أنا أمك و أبوكي و كل حاجة ليكي يا سالف‪.‬‬
‫انتي مش لوحدك سامعة‪ .‬مش لوحدك !‬
‫جفل "أدهم" و هو يشاهد ما يجري أمامه‪،‬‬
‫احترقت عيناه بالدموع و شعر باأللم يعتصر‬
‫قلبه‪ ،‬يراها و هي تدفن وجهها في كفيها‪،‬‬
‫تنقسم أمام عينيه إلى نصفين و ًل توجد وسيلة‬
‫للعودة بها عن كل هذا ‪...‬‬
‫و اقشعر خوفا فجأة‪ ،‬عندما انتفض كتفاها و‬
‫هربت صيحات البكاء من فمها و هي تكافح من‬
‫أجل التنفس‪ ،‬تذكر قنينة الدواء خاصتها‪ ،‬إنها‬
‫باألعلى‬
‫كاد يتحرك من مكانه ليصعد و يأتي بها‪ ،‬لوًل أن‬
‫استوقفته صرختها‪ ،‬و لكن هذه المرة صرخة‬
‫متألمة ‪...‬‬
‫‪-‬آاااااااااه !!!‬
‫نظر إليها ملتاعا‪ ،‬فإذا بها تمسك أسفل معدتها‬
‫و تتلوى من األلم‪ ،‬جلل الرعب وجهي "أمينة"‬
‫و "أدهم" و هما يريا النزيف يتسرب حول‬
‫ساقيها ‪...‬‬
‫‪-‬أطلب اإلسعاف بسرعة يا أدهم !!! ‪ ..‬هتفت‬
‫"أمينة" و هي بالكاد تسند ابنة أخيها‬
‫و لكنها سقطت فوق ركبتيها في األخير من شدة‬
‫اآلًلم التي حاقت بها !‬

‫يتبع ‪...‬‬
‫انتهى الفصل الثالث والثالثون ‪..‬‬

‫‪34‬‬

‫"إن حبك في قلبي ًل يعرف النقصان ؛ بل إنه‬


‫في زيادة فقط‪ ..‬مهما فعلت أحبك !"‬
‫_ أدهم‬

‫حطت قدمها على أراضي الوطن من جديد‪ ،‬و ًل‬


‫يسعها إًل مقارنة نفسها قبل أن تغادر من هنا و‬
‫بعد أن وصلت اليوم‪ ،‬إنها حتما ليست كما‬
‫ذهبت‪ ،‬عشرة أيام في إسطنبول مع حبيبها و‬
‫زوجها "مراد" غيروا الكثير‬
‫ربما ليست على خير ما يرام مئة بالمئة‪ ،‬و لكن‬
‫ًل يمكن أن تنكر التحسن الذي تشعر به‪ ،‬الرهبة‬
‫قلت‪ ،‬إنه يطمئنها و يأخذ بيدها في كل شيء‪،‬‬
‫أول ما فعله لدى وصولهما هو الذهاب رأسا إلى‬
‫عيادة الطبيبة النفسية الشهيرة‪ ،‬و قد أذعنت‬
‫"إيمان" إلرادته و تركته يأخذها أينما شاء ؛‬
‫كانت الطبيبة في العقد الرابع من عمرها‪ ،‬سيدة‬
‫أنيقة‪ ،‬بشوشة‪ ،‬عيناها واعدتين تشي بذكاء و‬
‫حكمة‪ ،‬مددت "إيمان" أمامها فوق األريكة‬
‫المخصصة للزوار‪ ،‬و بناء على طلبها كان‬
‫"مراد" يجلس على مقربة منها‪ ،‬أرادت أن‬
‫يحضر الجلسة‪ ،‬فرحبت الطبيبة و نفذت ما تراه‬
‫"إيمان" مريحا بالنسبة لها ‪...‬‬
‫‪-‬ليه طلبتي مراد يحضر الجلسة يا إيمان ؟ ‪..‬‬
‫تساءلت الطبيبة بلهجتها الهادئة الوسطية‬
‫صوبت "إيمان" ناظريها نحو زوجها اآلن‪ ،‬ها‬
‫هو يجلس هناك أمامها‪ ،‬يضع ساق فوق‬
‫األخرى و يسند ذقنه إلى يده‪ ،‬ينظر إليها بتركيز‬
‫و ينتظر ردودها‬
‫تنفست "إيمان" بعمق و زفرت أنفاسها بتوتر‬
‫طفيف و هي ترد ‪:‬‬
‫‪-‬هو إللي صمم نيجي هنا‪ .‬و كمان أنا ماعنديش‬
‫أسرار أخبيها عنه‪ .‬هو الوحيد إللي يعرف عني‬
‫كل حاجة !‬
‫أومأت الطبيبة قائلة ‪:‬‬
‫‪-‬حلو أوي‪ .‬طيب إنتي دلوقتي قلقانة مثال إني أنا‬
‫كمان بقيت أعرف أسرارك‪ .‬عاوزة أعرف عندك‬
‫أي قلق في اللحظة دي بالذات ؟‬
‫رفرفت "إيمان" بأهدابها مقرة ‪:‬‬
‫‪-‬طبعا عندي قلق‪ .‬أنا عمري ما حكيت لحد‪ .‬غير‬
‫‪...‬‬
‫قاطعتها الطبيبة ‪ :‬غير زوجك السابق‪ .‬عارفة‪..‬‬
‫لكن عايزاكي إنتي كمان تعرفي يا إيمان إن كل‬
‫كلمة إتقالت هنا مش ممكن حد يعرفها‪ .‬أسرارك‬
‫كلها في أمان عندي‪ .‬الطبيب النفسي إستحالة‬
‫يفشي أسرار مرضاه‪ .‬أنا حتى ماشغلتش‬
‫التسجيل و احترمت رغبتك‬
‫بقيت "إيمان" صامتة‪ ،‬تفرك يديها معا فقط في‬
‫محاولة إلخفاء عصبيتها‪ ،‬ابتسمت الطبيبة بخفة‬
‫و استطردت ‪:‬‬
‫‪-‬طيب يا إيمان‪ .‬هسـألك سؤال أخير‪ ..‬إيه أكبر‬
‫خوف في حياتك ؟ إيه هي الحاجة إللي‬
‫ماتقدريش تواجهيها لو حصلت ؟؟‬
‫جاوبت "إيمان" على الفور ‪:‬‬
‫‪-‬إن أدهم أخويا يعرف !‬
‫عبست األخيرة ‪ :‬إشمعنا أدهم‪ .‬ليه مش مامتك‬
‫أو بقية عيلتك مثال !؟‬
‫ابتلعت ريقها و حلقها ينكمش بشكل مؤلم‪ ،‬ثم‬
‫قالت ‪:‬‬
‫‪-‬أدهم أخويا الكبير‪ .‬شبه بابا في الشكل و‬
‫الطباع‪ .‬يمكن بابا كان قاسي بس ‪ .‬أدهم مش‬
‫قاسي‪ .‬لكن هو نسخة من بابا‪ ..‬بابا كان بيعاني‬
‫من المثالية‪ .‬ماكنش بيطيق الغلط‪ .‬لو حد فينا‬
‫غلط كان بيتعاقب‪ .‬مش عقاب عنيف‪ .‬لكن عقاب‬
‫نفسي ممكن يوصل لشهور و سنين‪ .‬أدهم زيه‬
‫في كده‪ .‬أنا ماكنتش بحب بابا‪ .‬لكن بحب أدهم‪..‬‬
‫مش ممكن اخسره‪ .‬و لو عرف أكيد هاخسره‪.‬‬
‫مش هقدر !!‬
‫هزت الطبيبة رأسها في تفهم ‪...‬‬
‫طلبت منها أن تقوم عن األريكة و تلحق بها‪،‬‬
‫جلس ثالثتهم اآلن لدى المكتب‪ ،‬و بقي الزوجين‬
‫يصغيا لكلمات الطبيبة و هي تخاطب كليهما ‪:‬‬
‫‪-‬بصي يا إيمان‪ .‬انتي طول حياتك اتعرضتي‬
‫لتروما اكتر من مرة‪ .‬و لو مش عارفة يعني إيه‬
‫تروما ف هي ببساطة اضطراب كرب ما بعد‬
‫الصدمة أو التروما هي الحالة النفسية السيئة‬
‫إللي بيكون فيها الشخص بعد تعرضه لخطر‬
‫مفاجئ أو حادثة أو صدمة قوية بيقف عندها‬
‫العقل و بتسببله خوف عميق وعجز و رعب‪.‬‬
‫هي حالة من الضغط النفسي بتتجاوز قدرة‬
‫الفرد على التحمل و غصب عنه مابيقدرش‬
‫يرجع لحالة التوازن النفسي و بيدخل في حالة‬
‫تشتت قادرة تهز حياته أو تغير في شخصيته‬
‫بشكل نفسي أو عضوي‪ .‬معاكي إنتي كانت‬
‫بتضغط عليكي نفسيا للدرجة دي‪ .‬إللي خلتك مع‬
‫كتر المواقف السيئة إللي مريتي بيها فاقدة‬
‫األمان و الثقة و مؤخرا الحب‪ .‬زي إنك بقيتي‬
‫تنفري من بنتك ‪...‬‬
‫ثم نظرت نحو "مراد" و تابعت ماضية في‬
‫الشرح ‪:‬‬
‫‪-‬المشاعر السلبية دي ًل تطبق عليك يا مراد‪.‬‬
‫إيمان بتحبك و بتثق فيك و بتحس باألمان‬
‫معاك‪ .‬ألنك في ذاكرتها مرتبط بالمعاني دي‪.‬‬
‫كنت موجود في فترة الصفاء في حياتها قبل ما‬
‫تمر بأي أزمة مهلكة لنفسيتها‪ .‬فهمتي حالتك‬
‫ماشية إزاي !؟‬
‫أومأت لها "إيمان" و هي ترفع يدها مزيلة‬
‫بعض قطرات من الدموع علقت بأهدابها‪ ،‬مد‬
‫"مراد" يده اآلن و أمسك بيدها األخرى‬
‫ضاغطا عليها برفق ليطمئنها‪ ،‬و كم كانت ممتنة‬
‫ألنه فعل ‪...‬‬
‫تنهدت الطبيبة و سحبت ورقة من دفتر العالج‬
‫خاصتها و بدأت تدون مرددة ‪:‬‬
‫‪-‬بصي نص العالج إننا عرفنا أسبابه‪ .‬النص‬
‫التاني أمره سهل‪ .‬هانعمل انا و انتي كام جلسة‬
‫كمان‪ .‬ندردش سوا و هاكتب لك على نوعين‬
‫دوا مالهمش أي ضرر على صحتك النفسية أو‬
‫الجسدية‪ .‬مجرد ملطفات هاتاخدي من ده أول ما‬
‫تصحي و من ده قبل ما تنامي لمدة أسبوع‪ .‬و‬
‫بعدها أشوفك إن شاء هللا !‬
‫و انتهت الجلسة األولى من العالج‬
‫لتغادر "إيمان" برفقة زوجها‪ ،‬نزًل من العيادة‬
‫و فتح لها "مراد" باب السيارة األمامي‪ ،‬ثم‬
‫استدار و استقل وراء المقود ‪...‬‬
‫‪-‬بس إنتي ماقولتليش يعني على سبب كرهك‬
‫لبنتك يا إيمان ! ‪ ..‬قالها "مراد" بلهجة‬
‫مقتضبة‬
‫استدارت "إيمان" في المقعد لتواجهه قائلة ‪:‬‬
‫‪-‬كانت هاتفرق معاك‪ .‬ما انت أصال عارف إللي‬
‫كان بيحصل و قلت لك‪ .‬و بعدين أقول السبب‬
‫تحديدا ليه‪ .‬مش فارقة !!‬
‫مراد بحدة ‪ً :‬ل فارقة‪ .‬البنت دي بنتك إنتي‪.‬‬
‫بغض النظر عن الطريقة إللي جت بيها‪ .‬أوكي‬
‫فهمنا أبوها كان ×××××‪ ..‬بس هي حتة منك‪.‬‬
‫ماينفعش تكرهيها‪ .‬ماينفعش تبعدي عنها‪.‬‬
‫صدقيني لو عملتي كده و ارتحتي شوية بكرة‬
‫هاتندمي و لو حبيتي تصلحي غلطتك مش‬
‫هاينفع‪ .‬هايكون فات األوان‪ .‬هي إللي مش‬
‫هاتقبلك بعد كده مهما عملتي‪ .‬إنتي ًلزم تفوقي‬
‫يا إيمان‪ .‬فوقي قبل ما تخسريها‪ .‬دي بنتــك !‬
‫انهمرت الدموع من عينيها بالفعل أثناء حديثه‪،‬‬
‫رغم ذلك لم يرق قلبه لها هذه المرة‪ ،‬كان األمر‬
‫ضروريا و المواجهة حتمية‪ ،‬لقد عمل على‬
‫مجاراتها طوال الفترة الماضية‪ ،‬و لكن اآلن و‬
‫قد عادا‪ً ،‬ل يمكن ان يسمح لها بإقصاء إبنتها و‬
‫نبذها أكثر من ذلك‬
‫ًل يمكن ‪...‬‬
‫‪-‬معاك حق ! ‪ ..‬أقرت "إيمان" و ًل زالت تبكي‬
‫و اردفت من بين نهنهاتها ‪:‬‬
‫‪-‬أنا كنت أم وحشة‪ .‬أنا ضعت و كنت هاضيعها‬
‫معايا بتصرفاتي‪ ..‬معاك حق‪ ..‬خالص‪ .‬خالص‬
‫أنا هاعمل اللي تقول عليه‪ .‬روح هاتها‪ .‬هاتها‬
‫لي يا مراد‬
‫عبس قائال ‪ :‬و ليه ماتجيش معايا نجيبها سوا‬
‫!؟‬
‫كفكفت دموعها من جديد و هي ترد بقوة اآلن ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل‪ ..‬البيت ده مش هادخله‪ .‬على األقل دلوقتي !‬

‫*****‬

‫يقف "أدهم" خارج الغرفة‪ ،‬يراقب زوجته التي‬


‫تنال العناية الكافية من أمه‪ً ،‬ل تزال في‬
‫محاوًلتها معها لتجعلها تأكل‪ ،‬و لكن األخيرة‬
‫تأبى بشدة ‪...‬‬
‫ًل يدري ماذا يصنع معها !‬
‫لقد ضعفت كثيرا‪ ،‬و حالتها النفسية أكثر سوءا‪،‬‬
‫بعد أن كان ماضيا في معاقبتها‪ ،‬صار واقفا على‬
‫بابها ينتظر أن تعفو و تفصح عنه‪ ،‬فقط ًل يريد‬
‫أن يمسها مكروه‪ً ،‬ل يتحمل رؤيتها هكذا‪ ..‬حتى‬
‫هذه اللحظة لم ينسى ما جرى لها بسببه منذ‬
‫أكثر من أسبوع ‪...‬‬
‫_____‬
‫وقعت أمام عينيه و قد لطخت الدماء الجزء‬
‫السفلي من قميصها و األرض تحت قدميها‪ ،‬و‬
‫هو كالصنم‪ ،‬الصدمة شلته للحظات‪ ،‬و لم يبث‬
‫فيه الحركة مجددا سوى صراخ أمه‬
‫هرع إلى زوجته و حملها على ذراعيه‪ ،‬بينما‬
‫ولجت أمه بسرعة داخل شقتها‪ ،‬أحضرت عباءة‬
‫و ألبستها إياها بسرعة ؛‬
‫لينطلق "أدهم" بها إلى المشفى‪ ،‬لم ينتظر أمه‬
‫و لم ينصت إليها بطلب اإلسعاف‪ ،‬سيكون هو‬
‫أسرع من اإلسعاف‪ ،‬أخذها إلى مشفى‬
‫خصوصي قريب‪ ،‬دخلت على الفور حجرة‬
‫الكشف و رافقها بصفته طبيب بدوره‪ ،‬و من ثم‬
‫علم بأنها تجهض !!!!‬
‫لقد كانت حبلى !!!‬
‫هو الذي تسبب في ذلك‪ ..‬هو الذي تسبب في‬
‫موت طفله‪ ...‬ضغط عليها و قسى بشدة‬
‫هو المالم‪ ..‬هو ًل غيره ‪...‬‬
‫كانت تبكي بحرقة و هي تساق إلى غرفة‬
‫العمليات فوق السرير النقال‪ ،‬بينما يتبعها و‬
‫دموعها تتساقط ًل إراديا‪ ،‬أغلق باب العمليات‬
‫أمامه و بقي بمكانه ينتظر خروجها‪ ،‬لم يتحرك‬
‫مطلقا‪ ،‬حتى خرجت ليست كما دخلت‬
‫كانت مخدرة اآلن‪ ،‬مستنزفة‪ ،‬شاحبة‪ً ،‬ل تدري‬
‫بالدنيا من حولها ‪...‬‬
‫قضت يومان بالمشفى و لم يفارقها خاللهما‬
‫طرفة عين‪ ،‬رغم إنها شبه فقدت النطق‪ ،‬لم تأبه‬
‫له و هو يكلمها‪ ،‬و لم تستجيب ألي محاولة منه‬
‫إلستمالتها‬
‫و عاد بها إلى البيت في اليوم الثالث و ًل زالت‬
‫على صمتها‪ ،‬وحده صغيرها األكبر في أخويه‬
‫"عبد الرحمن"‪ ..‬هو من جعلها تتكلم حين جاء‬
‫و تسلق الفراش ليجلس بجوارها‬
‫كان والده يجلس على مقربة منهما‪ ،‬و جدته‬
‫تحاول مع أمه لتشرب كأس العصير‬
‫أتى هو و جلس على حضنها ًلفا ساقيه‬
‫الصغيرين حول خصرها‪ ،‬و مد يده الضئلية‬
‫ليمسد على خدها متمتما بلغته الطفولية و‬
‫طريقته التي توحي بأنه رجال صغير ‪:‬‬
‫‪-‬تعيطي ليه ؟‬
‫فعال كانت الدموع تجري من عينها بين حين و‬
‫آخر‪ ،‬نظرت "سالف" بعيني صغيرها و ًل تعلم‬
‫لماذا جلبت رؤيته المزيد من الدموع لعينيها‪ ،‬و‬
‫أخذت تبكي بهدوء بينما هو يمسح لها كل‬
‫دموعها و هو يقول عاقدا حاجبيه ‪:‬‬
‫‪-‬تعيطيش‪ ..‬ماما !‬
‫تدخلت "أمينة" في هذه اللحظة لتحمله بعيدا‬
‫عن أمه‪ ،‬إًل إن "سالف" تمسكت به مغمغمة‬
‫بصوتها الباكي ‪:‬‬
‫‪-‬خليه‪ .‬سبيه معايا ‪..‬‬
‫أذعنت "أمينة" لرغبتها مسرورة بأنها و‬
‫اخيرا فاهت بشيء‪ ،‬و تبادلت هي و "أدهم"‬
‫نظرات الفرح‪ ،‬تركوا الصغير مع أمه تستمد‬
‫منه بعض القوة‪ ،‬حضنها الصغير هو المالذ‬
‫اآلمن لها في محنتها‪ ،‬و قد وسع كل حزنها و‬
‫كآبتها‪ ،‬الشيء الذي ما ليمنحه إياها زوجها‪،‬‬
‫مهما حاول ‪...‬‬
‫_____‬

‫سحبه من أفكاره صوت أمه‪ ،‬إذ وجدها أمامه‬


‫بغتة‪ ،‬تنقر على كتفه ممسكة هاتفها ‪:‬‬
‫‪-‬أدهم‪ .‬أختك جت‪ .‬لسا واصلة !‬
‫تطلع إليها متسائال ‪:‬‬
‫‪-‬أختي مين !؟‬
‫‪-‬أختك إيمان رجعت من السفر هي و مراد‬
‫‪-‬إمم‪ .‬حمدهلل على سالمتهم ! ‪ ..‬و امتقع وجهه‬
‫قليال‬
‫لم يود أن تأتي أخته إلى البيت اآلن‪ ،‬ألن كل‬
‫هذه المشاكل و الكوارث حدثت بسببها‪ ،‬بسبب‬
‫زفافها المترف و الملذات التي تنعمت بها‪ ،‬كلها‬
‫تخالف معتقداته و ًل يستطيع أن يمنح زوجته‬
‫مثلها‪ ،‬سيكون أكبر منافق أمام ربه‬
‫إن رؤية أخته ستضايق زوجته مجددا‪ ،‬و الواقع‬
‫إنه ًل يريد أن يزعجها‪ ،‬لتبقى أخته بعيدا‬
‫عن زوجته لفترة‪ ،‬حتى يرى كيف سيعوض لها‬
‫خسارتها و اإلساءة التي ألحقها بها ‪...‬‬
‫‪-‬أمي من فضلك قولي إليمان ماتجيش دلوقتي !‬
‫‪ ..‬تمتم "أدهم" عابسا بشدة‬
‫رفعت "أمينة" حاجبها قائلة ‪:‬‬
‫‪-‬مش فاهمة يا أدهم !!‬
‫تنهد "أدهم" بحرارة‪ ،‬لكنه قال بتصميم غير‬
‫مراوغ ‪:‬‬
‫‪-‬أنا و سالف قاعدين عندك‪ .‬عشان بتاخدي بالك‬
‫منها و من الوًلد‪ .‬لو إيمان جت سالف مش‬
‫هاتبقى على راحتها‪ .‬و أنا مش عايزها تتضايق‬
‫أمينة باستنكار ‪ :‬يا سالم ! و من إمتى سالف‬
‫بتتضايق من إيمان !؟‬
‫أدهم بحزم ‪ :‬إيمان مابقتش لوحدها‪ .‬و بعدين يا‬
‫أمي أنا شايف فين راحة مراتي و وًلدي‪ .‬إنتي‬
‫أصريتي يقعدوا عندك اليومين دول و أنا مش‬
‫هقدر أقولك ماتخليش بنتك تيجي بيتها‪ .‬أنا‬
‫آسف‪ .‬ماكنش ينفع أقول كده فعال‪ .‬بس ينفع أخد‬
‫مراتي و وًلدي و نقعد في شقتنا !!‬
‫حدقت "أمينة" فيه و هي تقول مدهوشة ‪:‬‬
‫‪-‬إيه يابني على مهلك‪ .‬حصل إيه لكل ده و‬
‫متعصب كده ليه‪ .‬أنا مابقتش عارفة أحوالك انت‬
‫و مراتك بقيت غريبة و انت مش راضي‬
‫تفهمني !‬
‫تململ "أدهم" بمكانه بعصبية واضحة و تجنب‬
‫النظر ألمه تماما‪ ،‬فاستطردت "أمينة" بهدوء ‪:‬‬
‫‪-‬خالص هدي نفسك‪ .‬أختك مش جاية أصال‪ .‬هي‬
‫وصلت آه من شوية‪ .‬لكن راحت على بيتها‪.‬‬
‫مراد اتصل بيا بس و بيقول أحضر شنطة هدوم‬
‫لمى عشان أختك عايزاها‪ .‬أنا كنت جاية أقولك‬
‫كده‬
‫استغرق لحظات ليستوعب األخبار الجديدة‪ ،‬و‬
‫لم يستطع منع سروره و هو يعقب اآلن بارتياح‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬أخيرا إيمان عايزة لمى‪ ..‬ربنا يهديها عليها‪.‬‬
‫طيب يا أمي روحي‪ .‬روحي فرحي البنت و‬
‫حضري لها شنطة هدومها بسرعة‬
‫ابتسمت "أمينة" له‪ ..‬ثم مضت لتفعل ما قاله‬
‫لها‬
‫يسحب "أدهم" نفسا عميقا‪ ،‬و يزفره على‬
‫مهل‪ ،‬ثم يتوجه إلى داخل الغرفة‪ ،‬غرفة نومه‬
‫القديمة بشقة أمه‪ ،‬حيث ترقد زوجته فوق‬
‫سريره في هدوء‬
‫ما إن رأته حتى أشاحت بعيدا عنه كالعادة‪ ،‬فلم‬
‫ييأس‪ ،‬جاء و جلس على طرف الفراش عند‬
‫قدميها‪ ،‬كان يضع حول ربلة ساقها رباط‬
‫ضاغط‪ ،‬فقد تأثرت قليال بالسقوط فوق األرض‬
‫و رضت المنطقة كلها‬
‫و إذ كانت ترتدي أحد قمصانها البيتية‪ ،‬كانت‬
‫في نظره جذابة حتى و هي مريضة و متعبة‪،‬‬
‫دائما بهجة لنظره كعهدها منذ رآها أول مرة‪ً ،‬ل‬
‫يستطيع مقاومتها‪ ،‬فتنته !‬
‫مد "أدهم" يديه و أمسك بقدمها‪ ،‬انتهبت‬
‫لتصرفه‪ ،‬فأدارت رأسها و نظرت نحوه‪ ،‬فإذا به‬
‫يضع قدمها في حجره‪ ،‬ثم يبدأ بتدليك كاحلها‬
‫بلمسات لطيفة‪ ،‬و تقابلت نظراتيهما اآلن‪ ،‬فقال‬
‫بصوت خفيض ‪:‬‬
‫‪-‬إزي رجلك دلوقتي‪ .‬لسا بتوجعك ؟‬
‫لم ترد عليه‪ ،‬بقيت تنظر إليه فقط‪ ،‬فابتسم لها و‬
‫أردف ‪:‬‬
‫‪ً-‬لزم تخفي بسرعة إن شاء هللا‪ .‬أنا واخد إجازة‬
‫من المستشفى و الجامعة شهر بحاله‪ .‬مش‬
‫عايزين نقضيه في البيت‪ً .‬لزم تاكلي كويس‬
‫عشان تخفي أسرع‪ .‬عشان تقدري تمشي معايا‬
‫‪...‬‬
‫و أمام عينيها‪ ،‬دنى برأسه صوب قدمها‬
‫المصابة‪ ،‬و طبع قبلة مطولة هناك‪ ..‬حبست‬
‫أنفاسها لوهلة‪ ...‬إنه‪ ..‬قد قبل قدمها حقا للتو‬
‫!!!‬
‫ألول مرة يفعلها !‬
‫رفع "أدهم" رأسه و حدق بها‪ ،‬اآلن يرى‬
‫اًلحمرار يصطبغ على خديها‪ ،‬ابتسم ثانية و قد‬
‫أدرك بأن تأثيره عليها ًل يزال قائما ‪...‬‬
‫‪-‬بدعي ربنا في كل ركعة‪ .‬ماشوفش فيكي أي‬
‫سوء‪ ..‬و يحفظك ليا‪ ...‬حبيبتي !‬
‫و إن خفق قلبها لكلماته‪ ،‬و إن ألح عليها‬
‫شوقها إليه و لدفء أحضانه‪ ،‬و لكنها أظهرت‬
‫العكس‪ ،‬و أشاحت بوجهها بعيدا عنه من جديد‬
‫فجرحها منه عميق‪ ،‬هو الذي يعرفها أكثر من‬
‫نفسها‪ ،‬و يعرف منذ ارتبطا كيف يتعامل معها‪،‬‬
‫هذه المرة لم يراعي أي شيء و لم يتحملها‪ ..‬و‬
‫فوق كل هذا خسرت جنينها بسببه‬
‫بسببه هو و أخته ‪...‬‬

‫*****‬
‫استقبل "مراد" إبنة زوجته أمام البناية ‪...‬‬
‫نزلت برفقة البواب الذي حمل عنه حقيبة‬
‫مالبسها الصغيرة‪ ،‬ما إن رآها "مراد" حتى‬
‫فتح لها ذراعيه‪ ،‬فاضطرت _ تحت وطأة الخجل‬
‫و الخوف من توبيخ أمها إن اشتكى منها _ أن‬
‫تقبل عليه و تجعله يحتضنها و يحملها‪ ،‬بل أنه‬
‫أمطرها وابل من القبالت الرقيقة و هو يقول ‪:‬‬
‫‪-‬لولي القمر‪ .‬وحشتيني يا حبيبتي وحشتيني‬
‫أوووي !‬
‫و فتح للبواب صندوق السيارة ليضع حقيبة‬
‫الفتاة‪ ،‬ثم سحب محفظته و أكرمه ببخشيش‬
‫سخي‪ ،‬أشرق وجه الرجل األشيب و شكره‬
‫بحرارة‪ ،‬ليومئ "مراد" بتواضع و يأخذ‬
‫الصغيرة ليجلسها بالمقعد األمامي إلى جانبه‬
‫تفاجأت عندما أدار المحرك بكيسا يدفعه إليها‪،‬‬
‫مليئ بمختلف أنواع الحلوى الفاخرة‪ ،‬نظرت‬
‫إليه من مستواها‪ ،‬فابتسم بمرح ‪:‬‬
‫‪-‬أيوة الكيس ده كله ليكي‪ .‬طبعا خبيته من‬
‫مامتك عشان هي أعيل منك في الحاجات دي و‬
‫بتحبها‪ .‬لو كانت شافته كانت هاتخلصه كله و‬
‫أنا جايبه ليكي إنتي يا حبيبتي‬
‫عبست "لمى" و هي تسأله بحدة طفولية ‪:‬‬
‫‪-‬هي فين مامي ؟‬
‫‪-‬إيمان في البيت الجديد إللي نقلنا فيه يا لولي‪.‬‬
‫وصلتها و جيت عشان أخدك و نرجع لها سوا‬
‫صمتت للحظات‪ ..‬ثم قالت و قد فشلت بإخفاء‬
‫غضبها كليا ‪:‬‬
‫‪-‬و هي ليه ماجتش عند تيتة أمينة ؟ ده بيتنا‬
‫أصال !!‬
‫تالشت ابتسامة "مراد" و هو يقول ناقال‬
‫ناظريه بينها و بين الطريق ‪:‬‬
‫‪-‬ماينفعش ترجع عند تيتة يا لمى‪ .‬الوضع‬
‫اتغير!‬
‫يا للحماقة ‪...‬‬
‫كيف ستفهم الفتاة ما يقوله !؟‬
‫بالفعل برزت غمازة خدها و هي تعوج فمها‬
‫مشيحة بوجهها عنه للجهة األخرى‪ ،‬صطف‬
‫"مراد" السيارة على جانب من الطريق‪ ،‬ثم‬
‫استدار نحوها قائال بلطف ‪:‬‬
‫‪-‬أنا و مامتك متجوزين دلوقتي يا لمى‪ .‬و هي‬
‫مش هاينفع ترجع بيت تيتة أمينة تاني‪ً .‬لزم‬
‫تعيش معايا في بيتي‪ .‬و انتي كمان مكانك جنبنا‬
‫يا حبيبتي !‬
‫استغرقت لحظات من الصمت‪ ،‬ثم أدارت وجهها‬
‫إليه من جديد‪ ،‬و قالت و شرارات الغضب تتقافز‬
‫من عينيها الجميلتان ‪:‬‬
‫‪-‬بس أنا مش عايزة أعيش في بيتك‪ ..‬أنا مش‬
‫بحبك !!‬
‫كانت تلك حقيقة يعرفها مؤخرا‪ ،‬فبدل أن يبدي‬
‫ردة فعل سلبية‪ ،‬تبسم لها و قال بنعومة ‪:‬‬
‫‪-‬بس أنا بحبك‪ .‬اعمل إيه !؟‬
‫لم ترد الصغيرة بشيء آخر‪ ،‬فعبس "مراد"‬
‫قليال و سألها مادا يده بحذر ليمسح على شعرها‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬طيب ممكن أعرف ليه مش بتحبيني يا لمى ؟‬
‫مدفوعة بحقدها األعمى ردت على الفور ‪:‬‬
‫‪-‬عشان مامي بتحبك أكتر مني !‬
‫يهز "مراد" رأسه بالنفي قائال ‪:‬‬
‫‪-‬ماحصلش‪ .‬إيمان بتحبك انتي أكتر حد في‬
‫الدنيا‪ .‬عشان كده أول ما وصلنا إنهاردة قالت‬
‫لي روح هات لي لمى بسرعة ‪..‬‬
‫رمقته بنظرت شك واضحة‪ ،‬فاستطرد ماضيا في‬
‫كذبته ألجل خاطر الصغيرة ‪:‬‬
‫‪-‬و كمان أنا سايبها بتجهز لك أوضتك الجديدة‪.‬‬
‫أنا و هي اختارنا لك كل اللعب إللي بتحبيها‪ .‬و‬
‫أول ما نوصل هاتالقيها محضرة لك السفرة و‬
‫التشوكليت كيك إللي بتحبيها‪ .‬و يا حبيبتي أي‬
‫حاجة تانية تشاوري عليها فورا هاتبقى عندك‪.‬‬
‫انا و مامي رهن اشارتك ‪..‬‬
‫عبست مالمحها اآلن و لم تعد مشاعرها‬
‫واضحة‪ ،‬فاعتبر ذلك مؤشر جيد‪ ،‬ما دفعه أن‬
‫يدنو مقبال جبهتها بأبوة‪ ،‬ثم يتراجع محدقا‬
‫بسرور إلى محياها الجميل‪ ،‬و يعقب بابتسامة‬
‫حلوة ‪:‬‬
‫‪-‬مامتك ماكدبتش لما قالت عليكي شبهي‪ .‬انتي‬
‫من إنهاردة بنتي يا لمى !‬
‫انقلب مزاجها لألسوأ اآلن و هي ترد عليه‬
‫بعدائية سافرة ‪:‬‬
‫‪-‬أنا مش بنتك‪ ..‬أنا بنت سيف عزام !!!‬
‫بهت "مراد" من طريقتها‪ ،‬أدرك بأن الدرب‬
‫إليها سيكون وعر كثيرا‪ ،‬لن ترق له بسهولة‪ ،‬و‬
‫هو لم يعد يحاول أكثر‬
‫تحرك بالسيارة مرة أخرى‪ ،‬و لم يتكلم معها‬
‫لبقية الطريق حتى وصال إلى المجمع السكني‬
‫الفخم‪ ،‬و هدأ"مراد" السرعة أمام فيال معينة‪،‬‬
‫إنفتحت البوابة التي تعمل إلكترونيا بأمر منه‪،‬‬
‫فتوغل إلى الداخل و توقف وسط الباحة المظللة‬
‫بأغصان الشجر و الورود‪ ،‬و هناك خرير قريب‬
‫لجدول مياه من الخزف و الرخام ‪...‬‬
‫فتح للصغيرة بابها لتترجل‪ ،‬ثم أتى بحقيبتها و‬
‫أمسك بيدها ليرتقيا الدرج الصغير المفضي إلى‬
‫مدخل البيت‪ ،‬فتح "مراد" الباب بمفتاحه‬
‫الخاص و دعاها للدخول أمامه‪ ،‬و بدأ ينادي ما‬
‫إن دخال ‪:‬‬
‫‪-‬إيمان‪ ..‬إحنا جينا‪ ..‬لمى هنا يا حبيبتي !‬
‫و كانت أقرب مما يظن ‪...‬‬
‫زوجته‪ ..‬أمها‪ ...‬كانت تقف هناك أمام الشرفة‬
‫المطلة على الحديقة الخلفية‬
‫جميلة‪ ،‬مشرقة في ضوء الشمس المائل نحو‬
‫الغروب‪ ،‬دمعت عيني الصغيرة و هي تنظر إليها‬
‫اآلن‪ ،‬تفتقدها بشدة‪ ،‬تحتاج لحضنها ‪...‬‬
‫‪-‬مامي ! ‪ ..‬غمغمت "لمى" و رنة البكاء في‬
‫صوتها الناعم‬
‫ابتسمت لها "إيمان" و لمعة عيناها واضحة‪،‬‬
‫لمعة ًل تخلو من الشجن و الحزن الدفين‪ ،‬فتحت‬
‫لها ذراعيها و دعتها ‪:‬‬
‫‪-‬لمى‪ ..‬حبيبة أمها‪ .‬تعالي ‪...‬‬
‫قفزت الصغيرة في الحال و ركضت بسرعة إلى‬
‫أحضان أمها‪ ،‬ركعت "إيمان" في اللحظة التي‬
‫استقرت بها فلذة كبدها بين أحضانها‪ ،‬كلتاهما‬
‫تغمضان أعينهما‪ ،‬تبكيان في صمت‬
‫و تربت األم على شعر إبنتها و تهمس لها‬
‫بعبارات الحب و األسف ‪...‬‬
‫لم يكن هناك ما يدعو للسرور في نظره أكثر من‬
‫مشهد كهذا‪ ،‬و أخيرا فعلها "مراد"‪ ..‬و جمع‬
‫شملهما من جديد !‬

‫يتبع ‪...‬‬
‫انتهى الفصل الرابع والثالثون‬

‫‪35‬‬

‫"ما أصابني ليس ألني لم أعد أحبك ؛ و لكنني‬


‫أخشى أن افعل !"‬

‫_ سالف‬
‫أبر بوعده لها‪ ،‬ما أن تعافت قليال بحيث أمكنها‬
‫الوقوف على قدميها‪ ،‬استعادت قسما كبيرا من‬
‫عافيتها‪ ،‬فلم ينتظر زوجها و قام بالحجز بأول‬
‫طائرة إلى وجهتهما‪ ،‬الوجهة التي لم تعرفها إًل‬
‫عندما أعلن عنها من خالل المكبرات الصوتية‬
‫بالمطار‬
‫صعدا على متن الطائرة المتوجهة إلى "جزر‬
‫المالديف" وجهة و حلم العشاق‪ ،‬و قد تفاجأت‬
‫لما علمت إلى أين يأخذها‪ ،‬لم تستطع إًل أن‬
‫تتذكر و هي تخبره ذات مرة في ساعة صفو‬
‫بأمنيتها أن تزورها برفقته‪ ،‬و لكنه حينها مانع‬
‫بشدة لشهرة ذلك المكان بالعري و الفسوق !‬
‫ما الذي غير رأيه اآلن ؟‬
‫كيف تقبل هكذا بسهولة ؟‬
‫رغم كل ما يحدث جلست "سالف" طوال‬
‫الرحلة صامتة‪ ،‬حتى وجبة الغداء أكلتها على‬
‫مضض ألن مدة السفر حتى الوصول طويلة‪ ،‬و‬
‫بعد ثماني ساعات بدون محطة استراحة‪،‬‬
‫هبطت الطائرة فوق الجزيرة المعبدة بالمياه‬
‫الفيروزية ؛ مطار "فيالنا" الدولي المحتشد‬
‫بالسياح حتى في فصل الشتاء كما الحال اآلن‪،‬‬
‫فإن جزر "المالديف" تشتهر باعتدال مناخها‬
‫على مدار العام‪ ،‬و هي خيار العديد ممن يحب‬
‫التمتع بآشعة الشمس‬
‫تبينت "سالف" منذ لحظة وصولهما بأن‬
‫زوجها يسير ممسكا بيدها و كأنها طفلته‪ ،‬في‬
‫نفس الوقت يغض بصره قدر ما استطاع‪ ،‬حتى‬
‫وصال إلى زورق مخصوص كان بانتظارهما‪،‬‬
‫تحدث "أدهم" مع قائده باإلنجليزية لدقيقة‬
‫مبقيا زوجته على مقربة منه‪ ،‬فرغ معه ثم‬
‫ساعدها على الصعود إلى الزورق‪ ،‬لحقت بهما‬
‫أغراضهما‪ ،‬و انطلقا عبر المياه وصوًل إلى البر‬
‫اآلخر حيث أحد الشاليهات النائية المخصوصة‪،‬‬
‫كان إختيار "أدهم" األكثر أهمية في الرحلة‬
‫كلها‪ ،‬أًل يعرض زوجته لألعين المتلصصة بأي‬
‫حال من األحوال‪ ،‬و قد حرص أيضا أًل تقع‬
‫عيناه على أي مظهر من المظاهر المحرمة التي‬
‫تغضب هللا ‪...‬‬
‫‪-‬إيه رأيك في المكان يا حبيبتي ؟ ‪ ..‬قالها‬
‫"أدهم" و هو يتبع زوجته إلى داخل الشاليه‬
‫المفتوح من من كل الجهات‬
‫توغلت "سالف" أكثر بالداخل متأملة المساحة‬
‫الفسيحة‪ ،‬اإلنارة الصفراء المشعة بالسقف على‬
‫إنحاء متفرقة‪ ،‬أبرزت جمالية الديكور البسيط‪،‬‬
‫األثاث الخشبي العاري‪ ،‬و األرض الرخامية‬
‫البراقة‪ ،‬و الزينة المصنوعة كلها يدويا‪ ،‬من‬
‫حيث كانت واقفة كان بإمكانها رؤية غرفة النوم‬
‫هناك في الواجهة‪ ،‬محجوبة خلف ستار شفاف‪،‬‬
‫و في المنتصف حجرة معيشة تليها مطبخ‬
‫مكشوف‪ ،‬و قاعة الحمام في الطرف اآلخر تصل‬
‫إليها بدرج عريض و ليس بطويل‪،‬‬
‫استدارت نحوه أخيرا و قد تخلصت من النقاب‪،‬‬
‫أخذت تعبي الهواء إلى رئتيها المتعبتين‬
‫كان يبتسم إليها ببساطة‪ ،‬بينما ًل تزال تعبس‬
‫في وجهه‪ ،‬نزع قبعة الرأس الصوفية التي‬
‫أحاطت برأسه‪ ،‬ثم أخذ يقترب منها على مهل‬
‫مستطردا و هو يخلل أصابعه عبر خصالته‬
‫الملساء ‪:‬‬
‫‪-‬عجبك ؟ قوليلي لو ناقصك أي حاجة‪ .‬كل حاجة‬
‫ممكن نحتاجها موجودة هنا‪ .‬و في عشا‬
‫مخصوص في المطبخ ‪...‬‬
‫ًل زالت ًل ترد عليه‪ ،‬فتنهد بسهد واضح‪ ،‬وقف‬
‫أمامها ًل يفصلهما سوى سنتيمترات قليلة‪،‬‬
‫أمسك بيديها و اجتذب عينيها إلى عينيه متمتما‬
‫بصوت برزت به نبرة توسل ‪:‬‬
‫‪-‬سالف‪ .‬أنا عملت كل ده عشانك‪ .‬جبتك هنا‬
‫عشان أخليكي مبسوطة‪ ..‬ماتحسسنيش إني‬
‫قليل الحيلة أوي كده !‬
‫مستها كلماته المستعطفة‪ ،‬لكن صور األحداث‬
‫الماضية ًل تنفك تتراقص أمام عينيها اآلن‪..‬‬
‫اساءته إليها‪ ،‬صفعته‪ ،‬و آخر شيء فقدان‬
‫جنينها !!‬
‫كان هو المتسبب بذلك‪ ،‬لقد وعدها مسبقا‪،‬‬
‫عندما تزوجها بأنها لن تندم على إختياره‪ ،‬بأنه‬
‫سيكون مالذها اآلمن و حاميا لها‪ ،‬كيف إنقلب‬
‫عليها بلحظة !؟‬
‫ًل تستطيع أن تغفر له األيام و الليالي التي‬
‫هجرها و هو يعلم بأنها تعاني‪ ،‬فيما مضى لم‬
‫يكن يطيق أن يحزنها‪ ،‬مهما قالت و قامت‬
‫باستفزازه‪ ،‬كان يعرف كيف يحتويها ‪...‬‬
‫‪-‬ردي عليا يا حبيبتي ! ‪ ..‬توسلها مرة أخرى‬
‫ًل يذكر بأنه أقل بنفسه في أي وقت أمامها مثل‬
‫اآلن‪ ،‬لكنه كان على استعداد ليفعل أي شيء في‬
‫سبيل استعادتها‪ ،‬كان يعرف بأن هذه الرحلة‬
‫هي الفرصة األخيرة لعالقتهما‪ً ،‬ل يمكن أن‬
‫يخسرها‪ ،‬روحه متعلقة بها‪ ،‬يعشقها و يخشى‬
‫كثيرا أن تكرهه‪ ..‬أو لعلها كرهته بالفعل ‪...‬‬
‫أرعبته الفكرة و جعلته يستوضحها و الخوف‬
‫باد على مالمحه ‪:‬‬
‫‪-‬مش قادر أصدق إنك سالف إللي واقفة‬
‫قصادي‪ .‬و مش عايز أصدق إللي أنا حسه‪.‬‬
‫انتي‪ ..‬انتي كرهتيني يا سالف !؟؟‬
‫فتحت فاها ألول مرة منذ أقلعا من مطار‬
‫"القاهرة‪ "،‬و قالت و هي تمنع بصعوبة لهجة‬
‫الجزع من صوتها ‪:‬‬
‫‪-‬أنا مش بكرهك يا أدهم‪ .‬و ًل عمري أعرف‬
‫أكرهك‪ .‬بس‪ ..‬إللي عملته فيا مش قادرة أنساه‪.‬‬
‫انت عيشتني أيام صعبة‪ .‬سبتني لوحدي‪ .‬كنت‬
‫عارف إللي بمر بيه و بردو فضلت تعاقبني‪ ،‬أنا‬
‫مش ناسية إنك مديت إيدك عليا‪ .‬مش ناسية‬
‫قسوتك إللي أول مرة تكشف لي عنها‪ ..‬انت‬
‫خلتني أحس ألول مرة من يوم ما حبيتك إني‬
‫يتيمة و ماليش حد يا أدهم !‬
‫تغلغل بداخله شعور بسيط من الراحة‪ ،‬فقد‬
‫أخبرته بأنها ًل تكرهه‪ ،‬يعني إنها ًل تزال تحبه‪،‬‬
‫و لكن ما فعله بها يعطل مؤقتا مشاعرها‬
‫تجاهه‪ ،‬إذن فهو منذ اآلن سيأخذ على عاتقه‬
‫إعادة خلق هذه المشاعر‪ ،‬سوف يبذل جهده ‪...‬‬
‫‪-‬أنا عمري ما قصدت أجرحك أبدا يا سالف‪ .‬و‬
‫انتي عارفة‪ .‬انتي إللي جرحتيني‪ ..‬كنتي مستنية‬
‫مني إيه لما أًلقيكي بتقوليلي طلقني و أتجوز‪.‬‬
‫انتي جننتيني‪ .‬أنا سيطرت على نفسي بصعوبة‬
‫ساعتها‪ .‬الصورة إللي رسمتيها في عقلي مش‬
‫مقبولة أبدا أبدا !‬
‫نظرت له بشك معقبة ‪:‬‬
‫‪-‬و لما قلت إنك هاتطلقني بجد !؟‬
‫‪-‬أنا أطلقك ؟ ‪ ..‬علق باستنكار و هو يضغط على‬
‫يديها بقبضتيه إلى حد اإليالم‬
‫لكنها تحملت و بقيت مصغية إليه و هو يقول و‬
‫عنف مشاعره يكتسح نظراته ‪:‬‬
‫‪-‬سالف لو انتي تقدري تبعدي عني أنا مقدرش‪.‬‬
‫طول ما فيا روح مستحيل أسيبك‪ .‬انتي نسيتي و‬
‫ًل إيه ؟ انتي كنتي حلم بالنسبة لي‪ً .‬لزم أقولك‬
‫تاني‪ .‬إني كنت بنام و أقوم أدعي ربنا تكوني‬
‫ليا‪ .‬أو يشيلك من قلبي‪ ..‬انتي الحاجة الوحيدة‬
‫إللي فتنتني‪ .‬الحاجة الوحيدة إللي وقفت عاجز‬
‫قدامها‪ .‬و ما صدقت تكوني ليا‪ .‬و إنك كمان‬
‫بقيتي أم وًلدي‪ ..‬بعد كل ده متخيلة إني أطلقك ؟‬
‫كانت تنظر إلى عينيه بالتناوب‪ ،‬عابسة‪ ،‬تائهة‬
‫في تفاصيل ما يروي عليها من مشاعر‪ ،‬يذكرها‬
‫بعهد الغرام بينهما‪ ،‬ذكريات ما قبل الزواج‪ ،‬كل‬
‫شيء جميل مر بينهما في تلك الحقبة ‪...‬‬
‫‪-‬مش بسهولة ممكن أنسى يا أدهم ! ‪ ..‬تمتمت‬
‫"سالف" مصرة على موقفها ‪:‬‬
‫‪-‬انت كنت معودني على نمط معين في التعامل‬
‫بينا‪ .‬و فجأة حسيت إنك غدرتني‪ ..‬إديني وقتي‬
‫لما أنسى إللي حصل ‪...‬‬
‫قطب بشدة محتجا على ما تقوله‪ ،‬لكنه تصرف‬
‫بحكمة و هو يقترب منها أكثر حد اللصوق و‬
‫يقول ‪:‬‬
‫‪-‬وقت إيه يا سالف‪ .‬مش مستاهلة يا حبيبتي‪.‬‬
‫انتي بتحبيني و أنا روحي فيكي‪ ..‬قوليلي أعمل‬
‫إيه عشان أعوضك عن إللي حصل‪ .‬انتي‬
‫ماكنتيش عايزة تخلفي تاني !‬
‫بمجرد أن ذكر خسارتها العظيمة مجددا ذرفت‬
‫عيناها الدموع و هي ترد عليه بقهرة ‪:‬‬
‫‪-‬بس حصل‪ .‬حصل و حملت‪ ..‬إزاي مفكر إنها‬
‫سهلة عليا‪ .‬أخسر إبني أو بنتي !!‬
‫كانت تقمع إحساس الكرب الشديد بصعوبة‪،‬‬
‫بينما لم يتقبل ما تريد أن تفرض عليه من قيود‪،‬‬
‫إنه بالفعل يكاد يفقد عقله لطول البعد عنها‪ ،‬لن‬
‫يتحمل المزيد من الجفاء ‪...‬‬
‫‪-‬سالف ! ‪ ..‬غمغم "أدهم" مغمضا عينيه بشدة‬
‫يهدئ قدر ما استطاع من لوعة صوته ‪:‬‬
‫‪-‬أنا في العادي‪ .‬مابستحملش تبعدي عني ليلة‬
‫واحدة‪ ..‬ف انتي بتطلبي مني إيه ؟ مش كفاية‬
‫الفترة إللي فاتت دي كلها بعاد عن بعض‪.‬‬
‫أرجوكي ماتعمليش كده !‬
‫فتح عينيه ثانية‪ ،‬ليراها و قد احتقن وجهها‬
‫بحمرة الغضب و ًل يدري لماذا أثارته في هذا‬
‫الوضع‪ ،‬حتى هتفت من بين أسنانها و هي‬
‫تحاول سحب يديها من قبضته ‪:‬‬
‫‪-‬انت مش بتفكر غير في نفسك !!‬
‫ازدادت أنفاسه عنفا و هو يقول بخشونة ‪:‬‬
‫‪-‬أنا مش بفكر فيكي‪ .‬بعد كل إللي بعمله عشانك‪.‬‬
‫عايزاني أعمل إيه تاني عشان أرضيكي !!؟؟‬
‫هزت رأسها بعيدا عنه وجهه و صرخت‬
‫بعصبية ‪:‬‬
‫‪-‬اوعى يا أدهم‪ .‬أنا غلطانة‪ .‬ماكنش ًلزم أوافق‬
‫أجي معاك هنا‪ .‬إحنا ًلزم نرجع‪ .‬مش هقدر‬
‫أحقق توقعاتك دي‪ .‬أنا مش حيطة أنا إنسانة و‬
‫بحس‪ ..‬ابعد عنـي !!!‬
‫اضطر إلفالتها حين شعر بمقاومتها الركيكة‬
‫تستنزفها مقارنة بقوته هو‪ ،‬وقف ينظر إليها و‬
‫جسده ينتفض غضبا و حاجة إليها‪ ،‬بينما‬
‫شعرت بصدرها يضيق فجأة‪ ،‬فأخذت تحل أزرار‬
‫عباءتها و تتحرر كليا منها ملقية إياها أسفل‬
‫قدميها‬
‫و لم تعمل مشاهدته لها اآلن بهذا الشكل إًل‬
‫على تعذيبه أكثر‪ ،‬في ثوب خفيف أزرق يتماشى‬
‫مع لون عينيها الفيروزيتين‪ ،‬ها هي المرأة التي‬
‫يحب‪ ،‬زوجته‪ ،‬أجمل رزق سيق إليه‪ ،‬ترفض‬
‫وصاله بشدة هذه المرة‪ ،‬لم يكن مجرد تمنع‬
‫كدأبها من قبل‬
‫إنها حقا ًل تريده !‬
‫راقبها و هي توليه ظهرها متجهة صوب النافذة‬
‫التي أخذت عرض الجدار كله‪ ،‬أزاحت الستائر و‬
‫وقفت مستندة إلى حافتها‪ ،‬تستنشق الهواء‬
‫مرارا و تكرارا‬
‫شهيق‪ ..‬زفير‪ ..‬شهيق‪ ..‬زفير ‪...‬‬
‫تسيل دموعها اآلن و هي ترنو إلى ضوء القمر‬
‫الشاحب بالسماء الصافية‪ ،‬كل شيء ساكن من‬
‫حولها عدا أمواج البحر المتالطمة على الشاطئ‬
‫أمامها‪ ،‬و النسيم العليل الذي يصفع بشرتها‬
‫بلطف يسكر‬
‫تطورت دموعها لبكاء صامت و هي تلعن في‬
‫نفسها‪ ،‬كل شيء رائع هنا‪ ،‬لماذا حدث كل هذا‬
‫!؟‬
‫ابتداء من حادثة أخته المخزية و حتى فقدانها‬
‫لجنينها ‪...‬‬
‫إنها ليست بخير‪ ،‬لوًل كل هذا ما كانت لتفوت‬
‫على كليهما فرصة رائعة كهذه‪ ،‬كان حلمها أن‬
‫تأتي إلى هنا معه‪ ،‬اآلن هما معا‪ ،‬اآلن هما هنا‪،‬‬
‫في الحلم‪ ،‬و لكنها أتعس من أن تسعد‪ ،‬أو‬
‫تحاول حتى !‬
‫‪-‬سالف !‬
‫ناداها من ورائها بصوت خافت‪ ،‬لم يحاول‬
‫لمسها‪ ،‬فتنهدت بحرارة و رفعت يدها تكفكف‬
‫دموعها‪ ،‬ثم إلتفتت نحوه ببطء‪ ،‬فأخذ الهواء‬
‫يبعثر خصيالت شعرها الطويلة حول وجهها و‬
‫هي تواجهه بكآبة ًل تنقص من جاذبيتها شيء‬
‫‪...‬‬
‫كان يقف على بعد خطوتين منها‪ ،‬و رأته يزيح‬
‫معطفه الرياضي عن كتفيه ليسقط فوق األرض‬
‫منضما إلى عباءتها‪ ،‬رفعت عينيها لتحدق‬
‫بوجهه اآلن‪ ،‬و لكن صدمها ما رأت‪ ،‬بل هالها و‬
‫هزها في الصميم‬
‫إنها دموع !‬
‫دموعه هو في عينيه‪ ..‬دموع مختلفة عن تلك‬
‫التي ذرفها يوم وفاة جدتهما‪ ...‬و يوم فقدان‬
‫جنينهما‪ ..‬إنها دموع‪ ..‬اليأس !!!‬
‫إتسعت عيناها و تدلى فكها و هي تعلق عينيها‬
‫بعينيه‪ ،‬تقف بال حراك و قد صار أمامها من‬
‫جديد‪ ،‬ظلت ساكنة بينما يرفع كفه و يحيط‬
‫بجانب وجهها‪ ،‬تلك العبسة الواهنة فوق جبينه‬
‫البهي‪ ،‬مع إلتماع بؤبؤيه العسليان‪ ،‬كلها في‬
‫كفة‪ ،‬و صوته الذي خرج كسيرا أجشا في كفة‬
‫أخرى ‪:‬‬
‫‪-‬أعرفي كويس انتي بتدوسي على إيه‪ ..‬فكري‬
‫شوية لقدام‪ ...‬أنا بحبك‪ ..‬مش عايز أخسرك ‪...‬‬
‫ليزيد من صدمتها و هو يركع اآلن على ركبتيه‬
‫أمامها‪ ،‬مطأطأ الرأس‪ ،‬ممسكا بيديها‪ ،‬رفعهما‬
‫لفمه يقبلهما‪ ،‬ثم رفع رأسه ببطء‪ ،‬و احتاج كل‬
‫ما لديه من إرادة حتى يقول بصوت غليظ هزته‬
‫العاطفة ‪:‬‬
‫‪-‬ارحمي عزيز قوم ذل !‬
‫كان هذا كل ما تحتاجه لتفيق من غيها حقا ‪...‬‬
‫لم تتحمل رؤيته هكذا‪ ،‬أزاحت كآبتها و كل‬
‫كبريائها و غرورها جانبا‪ ،‬و جثت على ركبتيها‬
‫أمامه ًلهثة‪،‬‬
‫‪-‬بحبك‪ ..‬انتي أهم و أغلى الناس في حياتي‪..‬‬
‫بحبك !‬
‫ظل يدغدغ أذنها بهمسات العشق هذه و هو‬
‫يمسكها بذراعيه باحكام‪ ،‬يحتضنها بقوة و كأنه‬
‫يخشى أن تطير من بين يديه‪..‬‬
‫‪-‬أنا بحبك أكتر ! ‪ ..‬همست له و هي تلمس‬
‫لحيته الكثيفة بأناملها الرقيقة‬

‫يتبع ‪...‬‬
‫انتهى الفصل الخامس والثالثون‬

‫‪36‬‬

‫"نحن نهدف إلرضاء سيدتي ؛ سيدة قلبي و‬


‫حبيبتي !"‬

‫_ أدهم‬
‫‪-‬صباح الفل و الورد على عيون حبيبتي !‬
‫دغدغ صوته الهادئ اللطيف أذنها فجأة‪،‬‬
‫فابتسمت برقة و ًل زالت لم تفتح عيناها‪ ،‬إذن‬
‫فهو قد استيقظ قبلها و كان يعلم بأنها مستيقظة‬
‫للتو ‪...‬‬
‫‪-‬اصحي بقى يا سالف‪ .‬أنا فكرت هقعد مستنيكي‬
‫طول النهار عشان تصحي‪ .‬إيه النوم ده كله !؟‬
‫تنهدت "سالف" بعمق و هي تتمطى بكسل‬
‫فتحت عينيها أخيرا‪ ،‬فشع بريقهما الفيروزي‬
‫يسحره بجمالها الذي اكتمل اآلن‬
‫رأته يبتسم لها بعذوبة و كتفيه العريضين‬
‫يطالن عليها في هذه اللحظة و يحجبان أشعة‬
‫الشمس عنها جزئيا ‪...‬‬
‫‪-‬صباح الخير ! ‪ ..‬تمتمت "سالف" بصوت‬
‫ناعس‬
‫قال ماسحا بكفه على مقدمة رأسها ‪:‬‬
‫‪-‬تحبي تفطري هنا و ًل على البحر ؟‬
‫عقدت حاجبيها ترنو إليه مرفرفة‪ ،‬ثم قالت‬
‫بحماسة مبتسمة ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل ننزل السوق و نبقى نفطر في أي مطعم‬
‫يقابلنا‪ .‬أنا هاتجنن و أشوف األسواق هنا‬
‫سمعت إنها روعة‪ .‬و كمان عشان نشتري هدايا‬
‫!‬
‫حافظ "أدهم" على تعبيره اللطيف و هو يقول‬
‫بصرامة في نفس الوقت ‪:‬‬
‫‪-‬سالف‪ .‬مافيش نزول من هنا لحد ما نرجع‬
‫على المطار‪ .‬أنا وافقت نيجي لما رتبت إننا‬
‫هانكون في مكان لوحدنا بعيد عن الناس إللي‬
‫هنا تماما‪ .‬هانقضي اليومين في المكان ده و‬
‫هاسيبك تعملي كل إللي نفسك فيه‪ .‬الشاليه بعيد‬
‫و الواجهة الخلفية منها للبحر مافيش حاجة‬
‫قصادنا‪ .‬ف تقدري تلبسي إللي يعجبك و‬
‫تخرجي تحت الشمس‪ .‬براحتك‪ .‬لكن نزول‬
‫أسواق و مطاعم ًل‪ .‬آسف !!‬
‫ران الصمت بينهما و هما يتبادًلن النظرات‪،‬‬
‫هو يتمسك بكلمته و يخشى أن تغضب منه في‬
‫آن‪ ،‬بينما هي تحاول استيعاب ما يقوله‪،‬‬
‫فتوصلت بالنهاية إلى تقبل شروطه‪ ،‬و لم تشأ‬
‫أن تسبب له ضغطا أو حزن بعد كل ما فعله‬
‫ألجلها‪ ،‬و سعيه الدؤوب في إسعادها ‪...‬‬
‫ًلحت على فمها شبح ابتسامة و هي تقول برقة‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬حاضر‪ .‬إللي تشوفه يا أدهم !‬
‫جاش اإلرتياح من أعماقه اآلن عندما قالت‬
‫ذلك‪ ،‬ابتسم لها من جديد و تمتم و هو يدنو من‬
‫شفتيها بحميمية ‪:‬‬
‫‪-‬روحي‪ .‬هللا يقدرني و أسعدك دايما‪ .‬انتي‬
‫الوحيدة إللي على راس أولوياتي‪ .‬خليكي واثقة‬
‫إن مافيش حد أهم منك عندي‪ .‬انتي قبل حتى‬
‫وًلدي !‬

‫قضيا فترة بعد الظهر خارج الشاليه‪ ،‬بالواجهة‬


‫الخلفية التي ذكرها‪ ،‬ارتدت "سالف" أحد‬
‫الفساتين المكشوفة التي دستها عمتها‬
‫بأغراضها امتثاًل لطلبات "أدهم" و قد اختارت‬
‫لها "أمينة" مجموعتها المفضلة بالفعل‪ ،‬كان‬
‫فستان من قطعتين‪ ،‬أبيض ناصع‪،‬‬
‫خرجت معه بهذا الشكل و هو يرتدي األبيض‬
‫مثلها‪ ،‬خرجت معه و هي ًل تصدق نفسها‪ ،‬هي‬
‫تظهر بهذا العري تحت أشعة الشمس مع‬
‫زوجها الملتزم و المتشدد أحيانا كثيرة‪ ،‬إنه‬
‫يسمح لها‪ ،‬صحيح أن ًل أحد ممكن أن يراها‬
‫غيره هنا‪ ،‬لكن مجرد التفكير باألمر يثيرها ‪...‬‬
‫‪-‬مبسوطة يا روحي ؟‬
‫إلتفتت "سالف" نحو زوجها‪ ،‬كان يجلس فوق‬
‫الرمال البيضاء الرطبة‪ ،‬ممدا ساق و األخرى‬
‫يثنيها مسندا مرفقه عليها‪ ،‬يراقبها بتأمل‪،‬‬
‫مبتهجا لسعادتها الطفولية و هي تروح و تجيئ‬
‫أمامه مستمتعة بصفاء الجو و أحيانا متراقصة‬
‫مع إيقاع النسمات‪ ،‬بينما الهواء يعبث بشعرها‬
‫و تنورة فستانها فيكشف أكثر عن عريها‪ ،‬بقدر‬
‫ما كان الوضع يثيرها فهو أيضا يثيره بشدة‪،‬‬
‫حتى عندما كانا ينتزهان بالساحل في الوطن‪،‬‬
‫كان يسمح لها بأن تمارس حريتها ما داما‬
‫وحدهما‪ ،‬لكن هذه المرة غير‬
‫‪-‬مافيش حد في الدنيا دي مبسوط زيي ! ‪..‬‬
‫جاوبته و هي تركل مياه البحر المزبدة بقدميها‬
‫العاريتين‬
‫و استدارت بكامل جسدها تجاهه‪ ،‬و لكنها بقيت‬
‫بمكانها‪ ،‬رفعت يديها تشير له في حركات‬
‫متراقصة ألناملها أن يأتي إليها ‪...‬‬
‫‪-‬البحر مش واحشك ؟ تعال !‬
‫لم يستطع "أدهم" إًل أن يلبي ددعوتها‬
‫مبتسما‪،‬‬
‫تضاحكا بمرح ما إن اخترقا المياه العميقة‪،‬‬
‫كانت تجيد السباحة‪ ،‬و كان بارعا فيها‪ ،‬تعلم‬
‫ألنه ذكر لها أن والده كان مهتما بتعليمه العديد‬
‫من المهارات و النشاطات خالل فترة نشأته و‬
‫حتى شبابه‪ ،‬و كانت السباحة من ضمنها‬
‫قضيا وقتا ممتعا هناك‪ ،‬حتى اكتفت "سالف" و‬
‫طلبت منه الرجوع خرجا من البحر‪ ،‬تمددت‬
‫"سالف" هناك و هي تتشبث بكتفيه ‪:‬‬
‫‪-‬شكرا !‬
‫ارتفعت زاوية فمه و هو يحلق بنظرات والهة‬
‫فوق مالمحها‪ ،‬ثم يتمتم ممسكا بيدها و يخلل‬
‫أصابعهما معا ‪:‬‬
‫‪-‬أنا عاوز رضاكي‪ ..‬بس !‬

‫*****‬

‫أمام الموقد منذ عشر دقائق تقوم بتحضير‬


‫الفطور قبل أن تذهب لتوقظ كال من "مراد" و‬
‫"لمى"‪ ..‬و لكنها أثناء ذلك كانت مشغولة أيضا‬
‫بالتحدث إلى أمها عبر الهاتف ‪...‬‬
‫‪-‬يعني أدهم و سالف في المالديف دلوقتي !؟؟ ‪..‬‬
‫تساءلت "إيمان" مرة أخرى مذهولة‬
‫جاء تأكيد أمها لمرة ًل تحصى حتى اآلن ‪:‬‬
‫‪-‬أيوة يابنتي‪ .‬قلت لك مرات أخوكي حالتها‬
‫كانت كرب خالص بسبب اإلجهاض و المشاكل‬
‫إللي كانت بينها و بين أدهم‪ .‬خليها تفك عن‬
‫نفسها شوية‬
‫‪-‬و أدهم رضي ؟ مش معقول‪ .‬مش مصدقة !!‬
‫‪-‬و مايرضاش ليه بس‪ .‬طب على فكرة هو من‬
‫نفسه إللي حجز الرحلة و قالي أحضر لهم‬
‫الشنط في ليلتها و مشيوا تاني يوم علطول !‬
‫ارتفع حاجبي "إيمان" أكثر من الدهشة‪ ،‬لقد‬
‫طرأ تغيير ملحوظ حقا في سياسة أخيها‪ ،‬أن‬
‫يقبل بأشياء كان يرفضها بشدة‪ ،‬و لكن دهشتها‬
‫لم تدوم طويال‪ ،‬ألنها تعرف كم يعشق زوجته‪،‬‬
‫بالتأكيد سيفعل كل شيء ليرضيها و يسعدها‪،‬‬
‫فهي باألخص التي ًل يطيق رؤيتها حزينة أو‬
‫مكروبة كما قالت أمها ‪...‬‬
‫‪-‬ربنا يسعدهم و يعوضهم ! ‪ ..‬رددت "إيمان"‬
‫بال مباًلة اآلن‬
‫دعمت "أمينة" تمنيات إبنتها بحرارة ‪:‬‬
‫‪-‬اللهم آمين يا رب‪ .‬ربنا يهدي سالف و يبرد‬
‫قلبها‪ .‬اليومين إللي فاتوا كانوا كرب بجد علينا‪.‬‬
‫طول ما هي في الحالة دي أنا و أخوكي و العيال‬
‫مكناش عارفين نعيش اليوم بيومه خالص‪ .‬ربنا‬
‫يرجعها مهدية البال و رايقة كده‬
‫تنهدت "إيمان" قائلة بفتور ‪:‬‬
‫‪-‬آه صحيح‪.‬انتي بقى يا ماما قاعدة بالعيال‬
‫لوحدك ؟ بالتالتة !؟‬
‫‪-‬أيوة يا إيمان‪ .‬و فيها إيه يعني !‬
‫‪-‬مش تعب عليكي يا ماما‪ .‬التالتة مع بعض و‬
‫بعيد عن األم و األب أكيد مش هايسكتوا ‪..‬‬
‫‪-‬ياستي على قلبي زي العسل‪ .‬أهم حاجة عندي‬
‫سعادة أدهم و راحته‪ .‬انتي عارفة طول ما‬
‫سالف زعالنة هو كمان زعالن‬
‫‪-‬انتي هاتقوليلي‪ .‬طول عمره يهمه زعلها !!‬
‫و انجرف عقل "إيمان" لذكرى طرد أخيها‬
‫لزوجها الراحل "سيف" و هي برفقته‪ ،‬ذلك‬
‫عندما أخبرته زوجته بتحرش األخير بها و‬
‫محاولته إبتزازها ليقيم معها عالقة فاحشة‪ً ،‬ل‬
‫تنكر قذارة "سيف" في جميع األحوال‪ ،‬لكن‬
‫يخيفها تاثير "سالف" على أخيها‪ ،‬فماذا لو‬
‫وشت بها عنده ؟‬
‫‪-‬صباح الخير !‬
‫ابتهجت "إيمان" لسماع صوت "مراد" يمر‬
‫من خلفها‪ ،‬تتبعته بناظريها إذ كان يسير تجاه‬
‫الثالجة و آثار النوم تبدو عليه‪ ،‬سارعت بإنهاء‬
‫مع أمها ‪:‬‬
‫‪-‬طيب يا ماما هاقفل معاكي دلوقتي‪ .‬شوية و‬
‫أكلمك‪ ..‬سالم‬
‫و أقفلت معها‪ ،‬ثم استدارت نحو زوجها هاتفة ‪:‬‬
‫‪-‬تعال هنا‪ .‬العصير بتاعك جاهز أهو‪ .‬لسا فريش‬
‫!‬
‫و أشارت لدورق عصير البرتقال الذي قام‬
‫باعتصاره للتو‪ ،‬أومأ "مراد" لها‪ ،‬لكنه مضى‬
‫إلى طريقه المحدد كأنه يريد شيئا بعينه‬
‫أمسكت هي بعصير البرتقال و سكبت لنفسها‬
‫كوبا‪ ،‬ثم استندت إلى منضدة المطبخ تراقب‬
‫تحركاته مقابلها‪ ،‬إنه يتطلع إليها بدوره‪ ،‬يقف‬
‫أمام الثالجة‪ ،‬أمسك بزجاجة من الماء‪ ،‬فتحها‬
‫ثم شرب طويال و هو يمتصها بعينيه من رأسها‬
‫ألخمص قدميها‬
‫كانت تقف حافية‪ ،‬مثله‪ ،‬أنتهى من شرب المياه‪،‬‬
‫أعاد الغطاء إلى الزجاجة و وضعها بالثالجة‬
‫ثانية‪ ،‬ثم سار ناحيتها مبتسما بعذوبة ‪...‬‬
‫‪-‬لو سمحتي يا مزة ماتعرفيش أًلقي رف‬
‫التوابل فين ؟ ‪ ..‬قالها "مراد" و هو يحاصرها‬
‫اآلن بين ذراعيه متكئا بيديه على طرف‬
‫المنضدة ذات السطح الرخامي‬
‫ضحكت "إيمان" على دعابته و هي ترفع‬
‫الكوب عن فمها قائلة ‪:‬‬
‫‪-‬و انت محتاج التوابل في إيه !؟‬
‫‪-‬يعني صاحي نفسي هفاني على أومليت‬
‫بالخضار و كمان العصير إللي في إيدك ‪...‬‬

‫‪-‬اتفضل !‬
‫رمقها بخبث مغمغما ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل‪ .‬ده‪ ..‬مش بيتشرب كده !!‬
‫لم يفطن أحدهما للطفلة الصغيرة التي على ما‬
‫يبدو أنهما قد نسياها مشغولين ببعضهما فقط !!‬
‫كانت ترمقهما بغضب شديدة و دموع القهر‬
‫ملء عينيها‪ ،‬هذا زوج أمها الذي تمقته كثيرا‪،‬‬
‫كيف يستأثر بأمها و هي تسعد معه إلى هذه‬
‫الدرجة‪ ،‬بينما تظهر لها النفور و اإلباء‬
‫تلك هي الحقيقة الواضحة للجميع و ليست‬
‫لمجرد طفلة‬
‫أمها تحبه هو تكرهها هي‬
‫تحبه فقط ‪...‬‬
‫أغار صدر الصغيرة بالحقد‪ ،‬و لم تستطع أن‬
‫تمسك عليها لسانها و هي تنادي فجأة بمزيج‬
‫مختزن من الثورة و العصبية ‪:‬‬
‫‪-‬مامـي !!!‬
‫انتفض كالهما في نفس اللحظة‪ ،‬انسحب‬
‫"مراد" محرجا و تظاهر بالعبث بأدوات‬
‫المطبخ‪ ،‬بينما قفزت "إيمان" من على‬
‫المنضدة‪ ،‬غمرت وجهها حمرة غاضبة‪ ،‬و‬
‫دفعها الخجل للصراخ على الطفلة بعصبية ‪:‬‬
‫‪-‬إنتي مين قال لك تخرجي من أوضتك على هنا‪.‬‬
‫مش أنا إللي بصحيكي‪ .‬ما تردي يا بنت !!!‬
‫عبست "لمى" بشدة قائلة و هي ترمق أمها‬
‫بغضب مماثل ‪:‬‬
‫‪-‬سمعت صوتك ف صحيت لوحدي !‬
‫كانت "إيمان" تستشيط بالفعل‪ ،‬خاصة و هي‬
‫تالحظ محاكاة نظرات طفلتها بنظرات أبيها‪،‬‬
‫انفعلت عليها و هي تشير لها ‪:‬‬
‫‪-‬اتفضلي ارجعي على أوضتك‪ .‬لما أخلص إللي‬
‫في إيدي هانده لك‪ .‬يـال ‪...‬‬
‫تحركت الطفلة بنزق مهرولة إلى غرفتها كما‬
‫أمرتها أمها‪ ،‬و "إيمان" التي كانت ترتعش من‬
‫شدة التوتر‪ ،‬لم تستجيب للمسة "مراد" اللطيفة‬
‫و هو يأتي من خلفها ليقول بصوت صلب ‪:‬‬
‫‪-‬إيه إللي عملتيه ده يا إيمان‪ .‬البنت ماتستاهلش‬
‫منك العصبية دي كلها‪ .‬هي عملت إيه يعني ؟‬
‫احنا إللي غلطانين‪ .‬هي بقالها يومين و لسا‬
‫بننسى إنها معانا في نفس البيت‪ً .‬لزم ناخد بالنا‬
‫من تصرفاتنا !!‬
‫سحبت "إيمان" نفسا عميقا لعلها تهدئ‬
‫نفسها‪ ..‬ثم رفعت رأسها و واجهته ‪...‬‬
‫‪-‬أنا خايفة يا مراد ! ‪ ..‬تمتمت بيأس ًل يخلو من‬
‫الرعب‪ ،‬و أردفت ‪:‬‬
‫‪-‬مش قادرة أشوفها بنتي في كل األوقات‪.‬‬
‫ساعات لما ببصلها مش بشوف غير سيف‪ .‬أنا‬
‫خايفة تكرهني بالشكل ده !‬
‫تعاطف معها بشدة‪ ،‬أمسك بكتفيها و جاء أمامها‬
‫مباشرة‪ ،‬نظر داخل عينيها و قال بهدوء ‪:‬‬
‫‪ً-‬لزم تتعلمي‪ً .‬لزم تفرقي بينها و بينه‪ .‬لمى‬
‫مش سيف‪ .‬لمى بنتك‪ .‬بنتك انتي‪ .‬سيف خالص‬
‫ماعادش له وجود‪ .‬مش ممكن أذى منه يطولك‪.‬‬
‫و ًل من غيره أنا مش هاسمح‪ .‬سمعاني ؟‬
‫أومأت له مذعنة‪ ،‬فابتسم بتكلف و استطرد ‪:‬‬
‫‪-‬أوكي‪ .‬انتي دلوقتي هاتطلعي تصالحي لمى و‬
‫تاخدي بخاطرها و تنزلوا عشان نفطر سوا‪ .‬و‬
‫بعدين احنا مش عايزين أي جو مكهرب في‬
‫البيت إنهاردة‪ .‬ماما و بابا و معاهم نازلي هانم‬
‫جايين يزورونا ألول مرة‪ً ..‬لزم نبان في أحسن‬
‫صورة قصادهم‬
‫ابتسمت له مؤيدة كالمه‪ ،‬و تحفزت أكثر‬
‫لالستعجال من أجل التحضيرات للعزيمة‪ ،‬ما زال‬
‫النهار بطوله أمامها‪ ،‬و قد ألقى على عاتقها‬
‫تحضير سفرة عامرة لتنال اعجاب والدي‬
‫زوجها و جدته !‬

‫يتبع ‪...‬‬
‫انتهى الفصل السادس والثالثون‬
‫‪37‬‬

‫"أنت بحاجة لطفل يا حبيبتي !"‬

‫_ مراد‬

‫وقفت تجلي بقية الصحون بذهن شارد‪ ،‬رغم‬


‫إنها ليست مضطرة للقيام بهذا‪ ،‬فهناك مغسلة‬
‫مخصوصة تقوم بذلك عنها‪ ،‬لكنها كانت بحاجة‬
‫لعمل تلهي نفسها حتى ًل تتذكر تفاصيل النهار‬
‫المؤرقة لعقلها و نفسيتها !‬
‫والدي زوجها‪ ،‬جدته‪ ،‬لقد غادروا قبل ساعة‬
‫فقط‪ ،‬و ًل زالت تستعرض أمام عينيها ما‬
‫يضايقها حقا‪ً ،‬ل زال السيد "محمود" غير‬
‫راضيا عن زواج إبنه منها‪ ،‬ظهر ذلك في‬
‫طريقته الجافة معه و معها‪ ،‬باألخص في جملته‬
‫التي قالها قبل المغادرة مباشرة ‪" :‬المرة الجاية‬
‫نيجي نبارك في حفيدنا‪ .‬شدي حيلك بس يا‪..‬‬
‫عروسة!" !!!‬
‫شعرت حينها بأن قلبها تفتت لمليون قطعة‪،‬‬
‫بالكاد أمسكت دموعها‪ ،‬حتى خالتها بدت‬
‫منزعجة كثيرا من الوضع‪ ،‬إنها خالتها !‬
‫كيف تكون هكذا معها !؟‬
‫كانت لتتفهم لو أنها تزوجت من غريب‪ ،‬و لكن‪،‬‬
‫أمه‪ ..‬إنها شقيقة والدتها‪ ،‬إنهما من دم واحد‪،‬‬
‫إنها في مقام أمها‪ ،‬كيف ؟‬
‫الوحيدة التي أبدت لها القليل من العطف هي‬
‫الجدة "نازلي"‪ ..‬إنها امرأة مدهشة‬
‫جميلة حتى و هي في هذا العمر‪ ،‬طيبة‪ ،‬حنونة‪،‬‬
‫لم تجرحها بكلمة أو بنظرة حتى‪ ،‬و قد أثنت‬
‫على طعامها و شكلها‪ً ،‬ل تعلم لوًل دعمها هي و‬
‫"مراد" ماذا كان سيحدث لها بحلول اآلن !!؟‬
‫‪-‬إيمي !‬
‫وقع الصحن الزجاجي من يديها في الحوض‬
‫لحظة إتيان صوته من خلفها‪ ،‬أمسك "مراد"‬
‫بكتفيها باللحظة التالية و تمتم بلطف يطمئنها ‪:‬‬
‫‪-‬إيه يا حبيبي ماتتخضيش‪ .‬ده أنا ‪..‬‬
‫سمعها تتنهد بقوة‪ ،‬ثم تطرق برأسها و هي‬
‫تستند بيديها إلى الحافة الرخامية‪ ،‬كان يعي‬
‫بالضبط ما يحدث معها‪ ،‬لذلك بقي يالزمها‪ ،‬مد‬
‫يده مغلقا صنبور المياه‪ ،‬ثم أدارها في مقابلته‪،‬‬
‫لف ذراعه حول خصرها و بيده الحرة رفع‬
‫ذقنها ليجعلها تنظر إليه ‪...‬‬
‫‪-‬ممكن أعرف إيه الحالة دي ؟ ‪ ..‬تمتم بصوت‬
‫خافت و هو يأبى قطع إتصالهما البصري لحظة‬
‫واحدة‬
‫أحست "إيمان" بتردد أنفاسه الدافئة على‬
‫بشرتها‪ ،‬مع شعورها بيداه تلمسانها‪ ،‬كان هذا‬
‫اًلحتواء أكثر من كاف ليشجعها على التحدث‬
‫إليه‪ ..‬ففتحت فمها و صارحته بحزن بين ‪:‬‬
‫‪-‬زي ما قلت لك يا مراد‪ .‬جوازي منك لسا مش‬
‫مقبول بالنسبة لباباك و خالتي‪ .‬احساسي كان‬
‫في محله ‪..‬‬
‫عبس قائال بجدية ‪:‬‬
‫‪-‬بصرف النظر عن إيه إللي خالكي تقولي كده‪.‬‬
‫أيا كان السبب‪ً .‬لزم تعرفي حاجة واحدة بس‪.‬‬
‫أنا راجل راشد‪ .‬مش معنى إن امي و ابويا‬
‫موجودين إنهم يتحكموا فيا و في حياتي‪ .‬أنا‬
‫اختارتك‪ .‬أنا إللي هاعيش معاكي عمري الجاي‬
‫كله‪ .‬زي ما انتي قررتي تبدأي معايا من جديد و‬
‫سيبتي حياتك إللي فاتت كلها أنا كمان قررت‬
‫زيك‪ .‬مايهمكيش من حد‪ .‬أي حد مش عاجبه‬
‫دي مشكلته‪ .‬أنا و انتي لبعض‪ .‬انا و انتي بس‬
‫بنتشارك الحياة دي‪ .‬أمي و أبويا شوية و‬
‫هايرجعوا مكان ما جم‪ ..‬فهماني يا إيمان ؟‬
‫أومأت له و قد رقت نظرتها الدامعة‪ ،‬راح يمسد‬
‫على خدها هامسا بحنان ‪:‬‬
‫‪-‬أنا دلوقتي مش عايزك تفكري أي حاجة‬
‫سلبية‪ .‬إحنا كويسين‪ .‬أنا و انتي سوا و معانا‬
‫لمى‪ .‬بكرة هايبقى أحسن‪ ..‬عارفة انتي هاتبقي‬
‫كويسة إمتى يا إيمان ؟‬
‫نظرت له بتساؤل و قد مألها الفضول‪ ،‬ليبتسم و‬
‫هو يدنو ًلثما شفتها العلية و يغمغم ‪:‬‬
‫‪-‬لما نخاوي لمى ! لما تخافي مني بيبي مش‬
‫بس هاينسيكي الماضي‪ .‬ده هاينسيكي اسمك‬
‫من مسؤوليته هو و أخته !!‬
‫نجح أخيرا بانتزاع تلك الضحكة الملعلة منها‪،‬‬
‫اتسعت ابتسامته و هو يرى نتيجة جهوده تثمر‬
‫أمامه‪ ،‬أخذ يراقبها بحبور و قد انتبه مجددا‬
‫لذلك الرداء المنزلي الذي ترتديه منذ مجيئ‬
‫والديه و جدته‬
‫‪-‬بس انتي تعبتي إنهاردة أوي ! ‪ ..‬قالها ماسحا‬
‫على رأسها ‪:‬‬
‫‪-‬من حقك ترتاحي بعد المجهود ده‪ .‬يال تعالي‬
‫معايا على األوضة ‪..‬‬
‫و أمسك بيدها‪ ،‬لكنها قبضت على كفه مستوقفة‬
‫إياه ‪:‬‬
‫‪-‬لسا عندي شغل هنا‪ .‬و هاوضب الغدا بتاع‬
‫بكرة‬
‫أنهى "مراد" النقاش بصرامة ‪:‬‬
‫‪-‬سيبي كل حاجة‪ .‬أنا بكرة هاكلم عم رضا‬
‫البواب يخلي مراته تيجي تنظف لك‪ .‬و لو على‬
‫على الغدا نطلبه من برا أو نخرج ناكل برا‪ .‬مش‬
‫هاتعملي أي حاجة تاني الليلة دي أو بكرة‬
‫خالص انتهى !‬
‫أذعنت "إيمان" لرغبته مبتسمة‪ ،‬هذا الدًلل و‬
‫اًلهتمام اللذان يصبهما عليها صبا منذ‬
‫زواجهما‪ ،‬إنها حقا ممتنة ‪...‬‬

‫_____‬

‫الصغيرة التي جافاها النوم بسبب ظالل األشجار‬


‫المتراقصة على حائط غرفتها الخاصة‪ ،‬لم‬
‫تتمكن من اًلستلقاء براحة‪ ،‬كانت بحاجة ماسة‬
‫إلى أمها‪ ،‬فقفزت من سريرها بال تردد و‬
‫ركضت عبر الردهة الطويلة لتصل إلى الغرفة‬
‫التي تتشاركها أمها مع زوجها الجديد ‪...‬‬
‫كانت ستدق الباب‪ ،‬لكنها تصنمت بمكانها و هي‬
‫تستمع إلى ضحكات األخيرة‪ ،‬بدت لها سعيدة‪،‬‬
‫من مجرد صوت ضحكها‪ ،‬تماما كما كانت في‬
‫الصباح عندما نزلت من غرفتها و شاهدتها مع‬
‫"مراد" في المطبخ و كأنه يدغدغها كطفلة‬
‫ربطت "لمى" الفعل الذي هي مقدمة عليه‬
‫بنتيجة فعلتها في الصباح‪ ،‬إذا قامت بازعاجهما‬
‫اآلن ستغضب أمها من جديد و ستصرخ عليها‪،‬‬
‫لذلك لم تفعل‪ ،‬تراجعت "لمى" و الدموع ملء‬
‫عينيها‪ ،‬جمعت كل مخاوفها و حزنها و انطلقت‬
‫تجري إلى األسفل‪ ،‬أضاءت غرفة المعيشة و‬
‫شغلت التلفاز على الرسوم المتحركة‪ ،‬ثم اندست‬
‫في األريكة ضامة ساقيها القصيرين إلى صدرها‬
‫و هي تبكي في هدوء‬
‫حتى لمحت بالصدفة هاتف والدتها الخلوي‪ ،‬لم‬
‫تتردد و هي تمد يديها لتاخذه من فوق الطاولة‬
‫أمامها‪ ،‬فتحته بسهولة و نقرت على لوحة‬
‫المفاتيح رقم جدتها‪ ،‬وضعت الهاتف على أذنها‬
‫و دموعها تجري على خديها‪ ،‬لم تنتظر طويال‬
‫حتى برز صوت الجدة ‪...‬‬
‫‪-‬السالم عليكوا‪ .‬مين !؟‬
‫‪-‬تيتة راجية ! ‪ ..‬خرج صوت الصغيرة مختنقا‬
‫بالبكاء ‪:‬‬
‫‪-‬أنا‪ .‬أنا لمى !‬

‫يتبع ‪...‬‬
‫انتهى الفصل السابع والثالثون‬

‫‪38‬‬

‫"أعشقها ؛ و ًل أخشى في حبها لومة ًلئم !"‬

‫_ أدهم‬
‫استيقظت في الصباح يملؤها النشاط و البهجة‪،‬‬
‫على عكس زوجها الذي ما زال يغط في نوم‬
‫عميق‪ ،‬يعتمد على األيام القليلة المتبقية من‬
‫عطلة شهر العسل‪ ،‬يحاول اًلستمتاع قدر‬
‫استطاعته بكل شيء‪ ،‬بالراحة و بزوجته و حتى‬
‫بـ"لمى"‪ ..‬الصغيرة التي يعتبرها ابنته من اآلن‬
‫فصاعدا ‪...‬‬
‫‪-‬مراد ! ‪ ..‬همست "إيمان"‬
‫‪-‬حبيبي‪ .‬اصحى يا مراد‪ .‬بقينا الظهر ماينفعش‬
‫كده !!‬
‫أخيرا بدأ يتململ و هو يغمغم بكسل ‪:‬‬
‫‪-‬سبيني شوية بس يا إيمان‪ .‬نص ساعة كمان‬
‫إيمان باستنكار ‪ :‬نص ساعة إيه‪ .‬بقولك بقينا‬
‫الظهر‪ .‬قوم يا مراااد ‪..‬‬
‫تأفف "مراد" دافنا وجهه في الوسادة ‪:‬‬
‫‪-‬خالص قمت‪ .‬قمت يا إيمان !‬
‫أومأت له مبتسمة و هي تقوم من السرير‬
‫متئزرة بروبها القصير ‪:‬‬
‫‪-‬برافو‪ .‬شاطر يا حبيبي‪ ..‬أنا هاروح أصحي‬
‫لمى‪ .‬تكون دخلت انت خلصت الشاور بتاعك‬
‫عشان أخد بتاعي و ألحق أعلمكوا فطار‪ .‬يـالااا‬
‫يا مراد !‬
‫و سحبت الغطاء من فوقه‪ ،‬فشتم و هو ينقلب‬
‫ليقذفها بالوسادة‪ ،‬قهقهت ضاحكة و هي تفر‬
‫من أمامه ‪...‬‬
‫توجهت إلى غرفة صغيرتها‪ ،‬و قد حرصت على‬
‫الظهور أمامها بوجه صاف و ابتسامة حلوة‪ً ،‬ل‬
‫تعمد إلى مراضاتها اليوم و بذل بعض الجهد‬
‫حتى تنسى اساءتها إليها البارحة‪ ،‬بعد تشجيع‬
‫من زوجها و توجيه‪ ،‬بدأت تدرك بالفعل قدر‬
‫أهمية طفلتها بالنسبة لها‪ ،‬و إنها الكنز الحقيقي‬
‫لرحلة حياتها‪ً ،‬ل يمكن أن يعوضها أحد عنها‪،‬‬
‫صغيرتها‪ ،‬قطعة منها‬
‫أمسكت "إيمان" بمقبض باب الغرفة و أدارته‪،‬‬
‫ثم ولجت على الفور‪ ،‬لتتجمد بمكانها و قد‬
‫تالشت اًلبتسامة عن وجهها‪ ،‬ذلك عندما رأت‬
‫سرير الفتاة فارغا‪ ،‬تقدمت للداخل باحثة بعينيها‬
‫في كل مكان‪ ،‬حتى ركعت فوق األرض تفتش‬
‫تحت السرير و بداخل البيت العصير الذي‬
‫أشتراه "مراد" من أجلها ضمن كومة األلعاب‬
‫المختفلة‪ ،‬لكن ًل شيء !‬
‫ًل جود للصغيرة‬
‫لقد اختفت ببساطة ‪...‬‬
‫‪-‬مـراااااااااااااااااااااااااااد !!!!‬

‫*****‬

‫عادا إلى الوطن أخيرا‪ ،‬بعد قضاء ثالثة أيام‬


‫على جزر العشق‪ ،‬عادا ليس كما غادرا‪ ،‬كانت‬
‫ممسكة بيده‪ ،‬تشبك أصابعها في أصابعه و هما‬
‫يعبران بوابات المطار‪ ،‬و كانت ممتنة ألن‬
‫سيارة مخصوصة كانت بانتظارهما‪ ،‬فتولى‬
‫السائق أمر القيادة‪ ،‬بينما جلسا في المقعد‬
‫الخلفي متالصقين‪ ،‬تضع يدها في ذراعه و ًل‬
‫زالت يدها األخرى تشتبك في يده‪ ،‬تسند رأسها‬
‫إلى كتفه راسمة على ثغرها ابتسامة صافية‬
‫كانت سعيدة للغاية‪ ،‬تكاد تجزم أن ًل أحد على‬
‫هذه البسيطة يحظى بالسعادة التي تلفها‪ ،‬لقد تم‬
‫إنقاذ زواجها‪ ،‬نجح حبيبها بتآجيج العالقة و‬
‫إعادة األمور إلى نصابها ؛‬
‫سرعان ما وصال إلى البيت‪ ،‬و لم تستطع‬
‫"سالف" إًل أن تنسلخ عن زوجها اآلن‪ ،‬كانت‬
‫روحها تسبقها إلى صغارها‪ ،‬فور أن توقفت‬
‫السيارة أمام البيت نزلت منطلقة إلى الداخل‬
‫تتبعه نظرات "أدهم" الفرحة‪ ،‬نادى البواب‬
‫ليعاونه في حمل الحقائب‪ ،‬ثم لحق بزوجته ‪...‬‬
‫‪-‬وحشتـووووني‪ .‬وحشتـووني أوووي !!! ‪..‬‬
‫صاحت "سالف" و هي تنهال على الثالثة‬
‫أحضانا و تقبيال كلها ممتزجة بدموع الشوق‬
‫كانت تجثو أمامهم وسط مدخل الشقة‪ ،‬حال‬
‫الصغار ًل يختلف عن حالها‪ ،‬و كأنها بالنسبة‬
‫لهم الهواء و الحياة‪ ،‬تقاتلوا على البقاء‬
‫بأحضانها‪ ،‬فأخذتهم ثالثتهم و قعدت بهم هكذا‬
‫جلجلت ضحكة "أدهم" ما إن ولج إلى شقة أمه‬
‫و رأى هذا المشهد‪ ،‬ألقى التحية على أمه أوًل‪،‬‬
‫ترك الحقائب جانبا و اقترب ليحتضن أمه و‬
‫يقبلها‪ ،‬ثم إلتفت نحو زوجته و أوًلده هاتفا ‪:‬‬
‫‪-‬طيب على فكرة أنا كمان بابا‪ .‬مافيش بوسة و‬
‫حضن ليا أنا كمان !!؟‬
‫و لم يؤتي كالمه أي صدى‪ ،‬بقي الصغار بحضن‬
‫أمهم‪ ،‬فهز "أدهم" رأسه مرددا بدعابة ‪:‬‬
‫‪-‬مخلف عيال ندلة صحيح‪ .‬ماشي يا روح أمك‬
‫منك له‪ .‬لينا شقة تلمنا !‬
‫عال صوت "أمينة" من ورائه بحبور ‪:‬‬
‫‪-‬انتوا إنهاردة مش طالعين من عندي‪ .‬آ اعملوا‬
‫حسابكوا‪ .‬الليلة دي بيات معايا‪ .‬كلكوا !‬
‫بعد قليل إنفصلت "سالف" بصعوبة عن‬
‫صغارها‪ ،‬ذهبت إلى الغرفة الخاصة بها و‬
‫بزوجها في شقة عمتها‪ ،‬أرادت أن تبدل‬
‫مالبسها‪ ،‬فأبى الصغار أن يتركوها و تبعوها‬
‫إلى هناك مثل فراخ البطة ‪...‬‬
‫تضاحكا كال من "أدهم" و "أمينة" و علقت‬
‫بسرور ‪:‬‬
‫‪-‬ربنا ما يحرمكوا من بعض يا حبيبي و‬
‫يحفظلكوا وًلدكوا يا رب‬
‫ردد "أدهم" و الراحة تغمره أخيرا ‪:‬‬
‫‪-‬اللهم آمين‪ .‬مش مصدق إن العيال دول طلعوا‬
‫متعلقين بأمهم كده‪ .‬ده محدش فيهم عبرني !!‬
‫ضحكت "أمينة" قائلة ‪:‬‬
‫‪-‬يا حبيبي مش قصدهم‪ .‬أصل انت مش فاهم‪.‬‬
‫أمهم بتقعد في وشهم طول الليل و النهار‪ .‬ف‬
‫متعلقين بيها‪ .‬لكن انت أغلب اليوم بتكون في‬
‫شغلك و مش بتلحق تقعد معاهم غير يوم‬
‫اجازتك ! ‪ ..‬و أردفت بجدية ‪:‬‬
‫‪ -‬و هو ده على فكرة سبب المشكلة بينك و بين‬
‫مراتك‪ .‬الفترة األخيرة كنت مهمل في بيتك أوي‬
‫يا أدهم‪ .‬كله كان شغل شغل !!‬
‫تنهد "أدهم و قال معترفا ‪:‬‬
‫‪-‬أيوة يا أمي معاكي حق‪ .‬بس أنا خالص‬
‫هاضبط أموري من هنا و رايح‪ .‬األيام إللي فاتت‬
‫كانت صعبة علينا كلنا‪ .‬على سالف و عليا و‬
‫على الوًلد‪ .‬و عليكي انتي كمان‪ .‬مش عارف‬
‫أوفيكي حقك‪ .‬انتي تعبتي معانا أوي‪ .‬و كفاية‬
‫شيلتي مسؤلية ‪ 3‬أطفال لوحدك و احنا غايبين‬
‫‪..‬‬
‫عاتبته ‪ :‬عيب يابني‪ .‬الكالم ده تقوله لواحدة‬
‫غريبة‪ .‬أنا أمك يا أدهم‪ .‬خلي بالك من كالمك !‬
‫ابتسم لها و أمسك برأسها يقربها إليه ليطبع‬
‫قبلة على جبهتها‪ ،‬ثم قال ‪:‬‬
‫‪-‬هللا يحفظ لينا‪ .‬و يقدرني أرد جزء من فضلك‬
‫عليا ! ‪ ..‬و استطرد بفضول مرح ‪:‬‬
‫‪-‬بس صحيح العيال ماتعبوكيش‪ .‬دي سالف‬
‫نفسها مابتقدرش عليهم مع بعض !!!‬
‫قهقهت "أمينة" و جاوبته باستخفاف ‪:‬‬
‫‪-‬يابني سالف دي لسا عيلة زيهم‪ .‬دي يدوب‬
‫داخلة على ‪ 25‬سنة ماعندهاش خبرة‪ .‬أنا بقى‬
‫إللي ربيتك و ربيت اخواتك و وًلدهم‪ .‬مش‬
‫هقدر على وًلدك !؟‬
‫‪-‬سالف لسا صغيرة أوي فعال ! ‪ ..‬تمتم "أدهم"‬
‫ممعنا في جملتها ‪:‬‬
‫‪-‬لسا صغيرة بالنسبة لي !!‬
‫كان يفكر اآلن بفارق السن بينهما‪ ،‬كان هاجسه‬
‫منذ تزوج بها‪ ،‬رغم إنه ليسا كبيرا إلى هذا‬
‫الحد‪ً ،‬ل يزال ثالثينيا‪ ،‬بأواخر الثالثينات‪ ،‬لكنه‬
‫دائما يخشى أن يأتي الوقت الذي تندم فيه على‬
‫اختياره و الزواج منه‪ ،‬يخشى أن ينتهي حبه‬
‫في قلبها‪ ،‬مهما فعل ًل يستطيع أن يقلع عن هذا‬
‫الخوف !!!‬
‫ًلحظت "أمينة" على الفور حالة ابنها‪ ،‬و‬
‫علمت ما يشغل عقله‪ ،‬فأرادت أن تشتته و هي‬
‫تقول بتفكه أول ما خطر على بالها ‪:‬‬
‫‪-‬نسيت أقولك بقى‪ .‬اخواتك لما عرفوا انك‬
‫سافرت المكان إللي قلت عليه ده ماصدقوش‬
‫نفسهم‪ .‬بالذات إيمان‪ .‬عائشة فضلت تقرأ‬
‫عليكوا بس !‬
‫و ضحكت بانطالق ‪...‬‬
‫عبس "أدهم" مستوضحا ‪:‬‬
‫‪-‬و هما دخلهم إيه مش فاهم ؟‬
‫أربكتها لهجته الخشنة‪ ،‬فأوضحت له بمرح حتى‬
‫تبدد عبوسه ‪:‬‬
‫‪-‬مش قصدهم يدخلوا يا حبيبي‪ .‬أخواتك بس‬
‫استغربوا‪ .‬دي مش عوايدك حتى مع سالف‬
‫قبل كده كنت بتبقى حازم أكتر‪ ..‬أنا طبعا‬
‫ماسكتش و رديت عليهم‪ .‬لكن هما أصال‬
‫ماطولوش أنا بحكي لك بس !‬
‫إتخذ وجهه تعبيرا صارما و هو يقول ‪:‬‬
‫‪-‬أنا مايهمنيش من المخلوق‪ .‬أنا حر‪ .‬أعمل إللي‬
‫أنا عايزه طالما مابغضبش ربي‪ .‬مشكلة أي حد‬
‫شايف إني مدلع سالف زيادة‪ .‬بقولها تاني و‬
‫مستعد أقولها في وش أي حد‪ .‬أنا حر‪ .‬آه‬
‫مدلعها و هافضل أدلعها لحد ما تبوظ من الدلع‪.‬‬
‫محدش له عندها و ًل عندي حاجة !!!‬
‫هدأته بلطف ‪ :‬طيب خالص‪ .‬إهدى‪ .‬ماحصلش‬
‫حاجة‪ ..‬لو زعالن اوي من كالمهم أنا هاقولهم‬
‫مايتكلموش عنك خالص‪ .‬و ماعنتش هاحكي‬
‫أخبارك ليهم‪ .‬بس ماتتعصبش كده يابني‪ .‬مالك‬
‫بس انت كنت كويس من دقيقتين !‬
‫زفر "أدهم" مطوًل و قال و هو يفرك وجهه‬
‫بكفيه ‪:‬‬
‫‪-‬مافيش حاجة يا أمي‪ .‬أنا بس مرهق من‬
‫السفر‪ .‬هادخل أخد دش و هابقى كويس‪ .‬عن‬
‫إذنك !‬
‫و مضى من أمامها في الحال ‪...‬‬

‫*****‬
‫كانت ترتعش ذعرا من رأسها حتى أخمص‬
‫قدميها عندما أتى "مراد" خالل لحظات‪ ،‬بدت‬
‫عالئم القلق على وجهه و هو يقترب منها‬
‫صائحا ‪:‬‬
‫‪-‬في إيه يا إيمان !؟؟‬
‫و مد يديه ليساعدها على القيام‪ ،‬بينما تخبره‬
‫بلهجة يهزها الخوف ‪:‬‬
‫‪-‬لـ لمى‪ .‬مش ًلقية لمى‪ .‬دخلت الوضة‬
‫ماًلقتهاش !!!‬
‫أخذ يهدئها قائال ‪:‬‬
‫‪-‬طيب إهدي‪ .‬إهدي‪ .‬دورتي عليها كويس‪.‬‬
‫شوفتيها في بقية األوض‪ .‬نزلتي شوفتيها تحت‬
‫ممكن تكون نزلت زي ما عملت إمبارح أو‬
‫تالقيها هنا و ًل هنا‪ .‬إهدي بس و ماتخافيش‪.‬‬
‫هاتروح فين أكيد هنا‪ ..‬تعالي‪ .‬تعالي ندور عليها‬
‫!‬
‫و أمسكها جيدا و سارا معا إلى الخارج‪ ،‬كالهما‬
‫يفتشان الغرف و دورة المياه‪ ،‬و عندما لم‬
‫يجداها‪ ،‬هبطا لألسفل‪ ،‬توجهت "إيمان" للبحث‬
‫حول البهو و المطبخ‪ ،‬و ذهب "مراد"باتجاه‬
‫الشرفة و غرفة المعيشة ‪...‬‬
‫جمد بين المكانين و هو يحدق مذهوًل‬
‫بالصغيرة‪ ،‬حيث عثر عليها غافية فوق األرض‬
‫الرخامية و قد احتضنت غطاء من الزجاج‪ ،‬بد‬
‫أنه غطاء صحن الفاكهة‪ ،‬كانت تأسر بداخله‬
‫فراشة كبيرة‪ً ،‬ل يدري كيف حصلت عليها‪ ،‬و‬
‫لكنها حقا كانت آسرة‪ ،‬هي و فراشتها المرفرفة‬
‫‪...‬‬
‫‪-‬إيمان ! ‪ ..‬هتف "مراد" بصوت عال دون أن‬
‫يزيح ناظريه عن الصغيرة ‪:‬‬
‫‪-‬تعالي ًلقيتها ‪..‬‬
‫جاءت "إيمان" تهرول‪ ،‬و كتمت شهقة ملتاعة‬
‫ما إن رأتها على هذا الوضع‪ ،‬ارتمت إلى‬
‫جوارها في الحال و حملتها إلى حضنها باكية ‪:‬‬
‫‪-‬لمى‪ .‬يا حبيبتي‪ .‬ايه إللي نيمك هنا‪ .‬كده يا لمى‪.‬‬
‫تخضيني عليكي كده !!‬
‫بدأت الصغيرة تنتبه‪ ،‬أفاقت من غفوتها متطلعة‬
‫إلى أمها‪ ،‬تألأل بؤبيها الرماديين على ضوء‬
‫الشمس حيث أزاح "مراد" ستائر الشرفة‬
‫ليضيء لهم العتمة ‪...‬‬
‫‪-‬مامي ! ‪ ..‬غمغمت الصغيرة بصوت ناعس‬
‫أنهمر شعر "إيمان" حول وجه ابنتها و هي‬
‫تقول عاجزة عن التحكم بدموعها الجارية ‪:‬‬
‫‪-‬ليه نزلتي من أوضتك يا لمى ؟ ليه نمتي هنا‬
‫بالشكل ده !؟؟‬
‫و رفعت كفها تجس جبينها لتقيس حرارتها ‪...‬‬
‫‪-‬كويس لما تاخدي برد !!‬
‫عبست "لمى" و هي تبرر ببراءة ‪:‬‬
‫‪-‬أنا كنت خايفة أنام لوحدي‪ .‬لما كنا عند تيتة‬
‫كنت بنام معاكي و لما مشيتي كنت بنام معاها‪.‬‬
‫مش بعرف أنام لوحدي‪ .‬خفت ف نزلت أقعد‬
‫شوية هنا لحد ما نور ربنا يطلع‪ً .‬لقيت الفراشة‬
‫دي برا ! ‪ ..‬و أشارت إلى الشرفة القريبة ‪:‬‬
‫‪-‬فتحت ًلقيتها قربت عندي و وقفت على كتفي‪.‬‬
‫ف حطتها هنا ! ‪ ..‬و أشارت اآلن إلى الغطاء‬
‫الزجاجي بجوارها ‪:‬‬
‫‪-‬و فضلت قاعدة أتفرج عليها‪ .‬و بس‪ .‬انتي‬
‫جيتي تصحيني دلوقتي !!‬
‫أوهت "إيمان" و هي تنظر إليها بأسى‪ ،‬أنت‬
‫تكبح نشيجا و ضمتها إلى صدرها بقوة مغمغمة‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬أنا آسفة يا لمى‪ .‬أنا آسفة يا حبيبتي‪ .‬أنا مش‬
‫هاسيبك تنامي لوحدك تاني‪ ..‬مامي بتوعدك !‬
‫‪-‬من فضلك يا إيمان اسحبي وعدك ده عشان‬
‫لمى مش هتنام غير في حضني أنا من إنهاردة‬
‫!‬
‫أدارت "لمى" رأسها تنظر نحو "مراد" الذي‬
‫انضم لهما جاثيا بالقرب منهما‪ ،‬كان يبتسم‬
‫مقابل تكشيرة الصغيرة‪ ،‬و مد يده ماسحا على‬
‫رأسها بحنان و هو يستطرد ‪:‬‬
‫‪-‬دلوقتي نفطر سوا و مامي تجهزك عشان‬
‫نخرج في األماكن إللي بتحبيها‪ .‬و كمان نشتري‬
‫لعب كتـيييير و كل إللي انتي عايزاه‪ .‬انتي‬
‫تؤمري و انا أنفذ يا روحي‬
‫ابتسمت "إيمان" و هي تلمس كل هذه المحبة‬
‫و اًلهتمام من حبيبها إلبنتها هي‪ ،‬طفلة ليست‬
‫ابنته‪ً ،‬ل تقرب إليه بصلة‪ ،‬و لكنه يغدق عليها‬
‫من حبه و حنانه كرمى ألمها ‪...‬‬
‫‪-‬يال يا قلب مامي ! ‪ ..‬تمتمت "إيمان" و هي‬
‫تنهض حاملة الصغيرة على حضنها ‪:‬‬
‫سوا‪ .‬و نختار إللي ‪-Path‬تعالي نطلع ناخد الـ‬
‫هاتلبسيه !‬
‫ابتسمت "لمى" ابتسامة لم تصل إلى عينيها‪ ،‬و‬
‫قبل أن تخطو بها "إيمان" خطوة‪ ،‬دق هاتفها‬
‫الملقى هناك فوق إحدى األرائك‪ ،‬ذهب "مراد"‬
‫ليحضره إليها‪ ،‬و لم يمتنع عن النظر إلى هوية‬
‫المتصل‪ ،‬رفع وجهه نحوها مصرحا باقتضاب‬
‫حاد ‪:‬‬
‫‪-‬مـايـا !‬

‫يتبع ‪...‬‬
‫انتهى الفصل الثامن والثالثون‪..‬‬

‫‪39‬‬

‫"إن حبك قد أهلكني‪ ...‬بصدق !"‬


‫_ إيمان‬

‫كان يظن بأنها ستدعم رأيه‪ ،‬بل إنه لم يشك في‬


‫ثورة غضبها المتوقعة على إثر الطلب الذي‬
‫تقلياه منذ قليل‪ ،‬لكنها و لدهشته لم تبدي أي‬
‫رفض‪ ،‬بل رحبت و سمحت لعمة طفلتها بأن‬
‫تأتي و تصطحبها لترى جدتها‪ ،‬ربما ستصل بعد‬
‫دقائق‪ ،‬و الصغيرة بالفعل صارت جاهزة ‪...‬‬
‫‪-‬لمى‪ .‬زي ما اتفقنا‪ .‬أي حد يسألك عليا أو على‬
‫بابي مراد هاتقولي إيه ؟‬
‫وقفت الصغيرة بين يدي أمها مصغية بعناية‪ ،‬و‬
‫لكن بمكرها الثعلبي الذي ورثته عن أبيها‬
‫البيولوجي تعلم بأنها سوف تتفوه بعكس ما‬
‫أمرت به ‪:‬‬
‫‪-‬هقول ماعرفش‪ .‬مش بتتكلموا قصادي‪ .‬و بقعد‬
‫في أوضتي ألعب !‬
‫ابتسمت "إيمان" برضا‪ ،‬مسحت على رأسها‬
‫بحنان و هي تتأملها‪ ،‬كم هي جميلة طفلتها‪،‬‬
‫اآلن هي أكثر شبها بـ"مراد"‪ ..‬اآلن هي ًل ترى‬
‫"سيف" من خاللها ‪...‬‬
‫‪-‬برافوا يا حبيبتي ! ‪ ..‬تمتمت "إيمان"‬
‫باستحسان و هي ترتب لها ياقة ثوبها الزهري‬
‫القصير‬
‫رفعت لها الجوارب السميكة و ضبطتها جيدا‪،‬‬
‫ثم ألبستها معطفها‪ ،‬عندما دوى زامور سيارة‬
‫أمام المنزل‪ ،‬و جاء "مراد" بوجه متصلب‬
‫هاتفا ‪:‬‬
‫‪-‬مايا وصلت !‬
‫أدارت "إيمان" رأسها صوبه و ردت ‪:‬‬
‫‪-‬خالص البنت جاهزة‪ .‬بس معلش انت إللي‬
‫هاتوصلها لعمتها يا مراد‬
‫أومأ "مراد" موافقا دون يغير شيء من‬
‫تعبيره‪ ،‬إلتفتت "إيمان" إلى صغيرتها ثانية و‬
‫قالت منبهة ‪:‬‬
‫‪-‬بفكرك تاني يا لولي‪ .‬الساعة ‪ 9‬بالضبط تكوني‬
‫عندي هنا‪ .‬قولي لمايا الكالم ده‪ .‬أوكي ؟‬
‫لمى بطاعة ‪:‬أوكي مامي !‬
‫صدرت "إيمان" خدها في متناول الصغيرة‬
‫متمتمة ‪:‬‬
‫‪-‬بوسة لمامي بقى !‬
‫دنت "لمى" من أمها مطوقة إياها بذراعيها‪ ،‬و‬
‫طبعت قبلة مطولة على خدها‪ ،‬ضحكت "إيمان"‬
‫و هي تضمها بحرارة و تغدقها بمزيد من‬
‫العاطفة‪ ،‬ما غمر الصغيرة بمشاعر البنوة التي‬
‫افتقدتها بسبب الدخيل الذي هعو زوج أمها‪ ،‬لم‬
‫تكن تود أن تفارق أحضان أمها اآلن‪ ،‬و لكن‬
‫عمتها تنتظرها بالخارج ‪...‬‬
‫اضطرت "لمى" إليداع يدها الصغيرة بكف‬
‫"مراد" الكبير‪ ،‬و سارت معه دون أن تفه‬
‫بكلمة إلى الخارج‪ ،‬لم تودعه أو تلقي عليه‬
‫نظرة و هي تستقل سيارة عمتها‪ ،‬و لكن تلك‬
‫األخير شملته بنظرة فاحصة من أسفل نظارة‬
‫الشمس خاصتها‪ ،‬بقي "مراد" محدقا فيها بقوة‬
‫مخيفة‪ ،‬لم تجسر على إطالة النظر إلى وجهه‬
‫شغلت محرك السيارة و انطلقت‪ ،‬فعاد "مراد"‬
‫إلى الداخل بمجرد أن توارت السيارة عن‬
‫ناظريه‪ ،‬أقفل باب المنزل بعنف و اتجه من‬
‫جديد صوب غرفة المعيشة حيث تجلس زوجته‬
‫مسترخية فوق األريكة الواسعة‪ ،‬تستمتع بضوء‬
‫النهار المنهمر و نسماته من خالل الشرفة‬
‫المفتوحة على مصراعيها ‪...‬‬
‫‪-‬ممكن أعرف معناه إيه إللي عملتيه !؟؟ ‪..‬‬
‫صاح "مراد" بغلظة و هو يقف أمام زوجته‬
‫سادا عليها مجرى الهواء‬
‫تطلعت "إيمان" إليه و ًل زالت على‬
‫استرخائها‪ ،‬ربتت على مكان فارغ بجوارها و‬
‫دعته برقة ‪:‬‬
‫‪-‬تعال يا مراد‪ ..‬تعالى هنا جنبي !‬
‫تضرج وجهه بحمرة الغيظ و هو يهدر بغضب‬
‫مضاعف ‪:‬‬
‫‪-‬أنا فضلت ساكت من الصبح عشان البنت‪ .‬و‬
‫أدينا بقينا لوحدنا‪ً .‬لزم تديني سبب واحد‬
‫للتصرف ده‪ .‬قوليلي معناه إيه تتواصلي عادي‬
‫مع الناس دول‪ .‬الناس إللي دمروا حياتك‪ .‬سيف‬
‫و مالك نسيتي عملوا فيكي إيه ؟؟؟‬
‫أغمضت عينيها بشدة و كأنه صفعها بكلماته‬
‫األخيرة‪ ،‬لكنها ابتلعت مرارتها و استطردت‬
‫بتضرع ‪:‬‬
‫‪-‬مراد‪ ..‬تعالى جنبي‪ .‬عشان خاطري‪ ..‬تعال يا‬
‫حبيبي !!‬
‫لم يحرك ساكنا للحظات‪ ،‬ليتأفف بعصبية و‬
‫يمضي ناحيتها بنزق‪ ،‬جلس حيث أرادته إلى‬
‫جانبها‪ ،‬فأزالت وسادة صغيرة بينهما‪ ،‬و أمالت‬
‫جسدها تجاهه حتى استقرت رأسها على قدمه‪،‬‬
‫أمسكت بيده و ضمتها إلى صدرها‬
‫اعتصرت جفنيها لتنزلق دمعة جانبية و هي‬
‫تقول بلهجة مرتعشة ‪:‬‬
‫‪-‬أنا عارفة إنك متضايق من إللي عملته‪ .‬و‬
‫عندك حق‪ .‬أنا مانستش إللي حصل فيا من أي‬
‫حد‪ .‬و ًل عمري هانسى‪ ...‬بس‪ .‬أنا عملت كده‬
‫عشان لمى‪ .‬عمتها قالت لي راجية تعبانة و‬
‫عايزة تشوفها‪ .‬قولي دي لو جرالها حاجة‪ .‬و‬
‫جت مايا قالت لها في يوم من األيام إني منعتها‬
‫عنها‪ .‬بنتي ردة فعلها هاتبقى إيه معايا يا مراد‬
‫!؟‬
‫ظل صامتا حتى بعد أن فرغت لدقيقة‪ ..‬و لعل‬
‫كلماتها امتصت شيئا من غضبه ‪...‬‬
‫تنهد بعمق‪ ،‬ثم فرك جانب وجهه بقوة قائال ‪:‬‬
‫‪-‬طبعا شيء مايزعلنيش أبدا إهتمامك ببنتك‪.‬‬
‫لكن أنا مش بالع قصة أي عالقة بينك و بينهم‪.‬‬
‫قلت لك محدش فيهم يقدر يقرب لك طول مانا‬
‫عايش‪ً .‬ل راجية و ًل وًلدها و هما عارفين أنا‬
‫أقدر أعمل إيه‪ ..‬مش عايز خضوعك المفاجئ‬
‫ده يكون سببه خوفك منهم‪ .‬ساعتها أزعل منك‬
‫جدا !!!‬
‫هزت رأسها و فتحت عيناها تقابل نظراته‬
‫القوية‪ ،‬تنفست على مراحل متساوية ثم قالت ‪:‬‬
‫‪-‬أنا عمري ما أخاف و انت معايا‪ .‬صدقني‪.‬‬
‫الموضوع زي ما قلت لك‪ .‬عشان لمى‪ ..‬بس !‬
‫لوى "مراد" شفتيه مقنعا نفسه بما تقول‪ ،‬و‬
‫حاول إصراف عقله عن األفكار السلبية‪ ،‬فغير‬
‫مجرى الحديث ‪:‬‬
‫‪-‬طيب‪ .‬تحبي نعمل إيه دلوقتي‪ .‬لسا بدري على‬
‫ساعة رجوع لمى‪ ..‬عاوزة نخرج و ًل نفضل في‬
‫البيت ؟‬
‫ابتسمت له و قالت بحب ‪:‬‬
‫‪٦-‬أل‪ .‬خلينا في البيت‪ ..‬أنا هقوم أعمل لك غدا‬
‫حلو‪ .‬و بعدين نجيب فيلم حلو و نتفرج عليه‬
‫سوا‪ ...‬الكالم ده مش بيفكرك بحاجة !؟‬
‫ابتسم على الفور‪ ،‬فقد ذكرته بلمحات ماضيه‬
‫معها و الذي ًل ينساه أبدا ‪...‬‬
‫‪-‬انتي فاكرة كل حاجة ! ‪ ..‬تمتم "مراد" و هو‬
‫يحيط خصرها بذراعه اآلن‬
‫كانت قد تكومت على حضنه تقريبا‪ ،‬ترفع‬
‫رأسها ناظرة في عينيه‪ ،‬فتشعر بأنفاسه الدافئة‬
‫على بشرتها‪ ،‬و تجاوبه مبتسمة ‪:‬‬
‫‪-‬عمري ما نسيت‪ .‬ياااه يا مراد‪ .‬حبك تعبني‬
‫أوي‪ ..‬بجد‪ .‬تعبت !‬
‫لم يكن يرى أمامه في هذه اللحظة إًل صورة‬
‫الفتاة التي عشقها‪ ،‬أول و آخر عشق بحياته‪،‬‬
‫فتاة في الخامسة عشر‪ ،‬بريئة‪ ،‬جميلة‪ ،‬صعبة‬
‫المنال‪ ،‬و هو الذئب الذي ساومها بالحب على‬
‫شرفها‪ ،‬و قد أعماها الحب و جعلها بال حول و‬
‫ًل قوة أمامه ‪...‬‬
‫‪-‬أنا آسف ! ‪ ..‬ردد بصوت خافت و هو يمسك‬
‫بذقنها‬
‫كان يعنيها حقا و قد بان الندم في عينيه‬
‫كالنهار‪ ،‬عيناها الالمعتين جلبت الدموع لعينيه‪،‬‬
‫يفكر في ذكرياتها السوداء‪ ،‬التفاصيل التي‬
‫حكتها أمامه عند الطبيبة‪ ،‬كل شيء مفجع صار‬
‫لها كان هو سببا فيه ‪...‬‬
‫‪-‬أنا سامحتك ! ‪ ..‬قالتها بهمس كأنما قرأت‬
‫أفكاره‬
‫كسرت قلبه أكثر بهذا التصريح‪ ،‬سقطت دمعة‬
‫من عينه فوق خدها‪ ،‬فتبعتها دمعة من عينها‬
‫أيضا انزلقت لتندمج مع دمعته في خط طويل‬
‫حتى حافة فكها ‪...‬‬
‫سحبت نفسا مرتعشا و هي تحاول النهوض‬
‫حتى ًل يسهبا في الذكريات المحزنة أكثر‪ ،‬لكنه‬
‫لف ذراعيه حول كتفيها ممسكا بها في مكانها‪،‬‬
‫همس "مراد" ‪:‬‬
‫‪-‬أنا لسا مش مصدق إنك بين إيديا !‬
‫*****‬

‫جلست الصغيرة بين أحضان جدتها‪ ،‬تعتريها‬


‫رجفة خوف من حين آلخر‪ ،‬و هي ترى على‬
‫مقربة من سرير الجدة‪ ،‬تلك السيدة المسنة ذات‬
‫العباءة السوداء‪ ،‬تجلس فوق األرض‪ ،‬تفترش‬
‫بعض األغراض غريبة الشكل‬
‫من ضمنهم قطعة من مالبس "إيمان"‬
‫الداخلية‪ ،‬و ربما تلك عظمة‪ً ،‬ل هي عظمة‬
‫صغيرة‪ ،‬تشبه إلى حد كبير عظام اإلنسان !!!‬
‫و المنتصف صحن من الخشب‪ ،‬تطحن في‬
‫أوراق عشبية و تحرك شفتاها بأشياء غير‬
‫مسموعة‪ ،‬أمسكت اللباس الداخلي و مزقته إلى‬
‫نصفين‪ ،‬وضعته داخل الصحن و سحبت مطرقة‬
‫صغيرة‪ ،‬ثم إنهالت فوق العظمة تكسيرا حتى‬
‫صار فتاتها ناعما كالتراب‪ ،‬لملمته و نثرته‬
‫بالصحن‪ ،‬ثم سكبت سائل ما‪ ،‬و أشعلت كل هذا‬
‫بالنيران‪ ،‬أمام نظرات "لمى" المذعورة‬
‫تشبثت بأحضان جدتها أكثر‪ ،‬و هي ًل تزال ترى‬
‫السيدة تواصل فعلتها‪ ،‬حتى خمد الحريق‬
‫الصغير‪ ،‬جمدت الدماء بعروق الصغيرة ما إن‬
‫رفعت تلك السيدة رأسها و نظرت صوبها‪ ،‬و‬
‫عال صوتها المتحشرج مخاطبا الجدة ‪:‬‬
‫‪-‬دور مايخرش الماية‪ .‬مضبوط ضبط المرة‬
‫دي‪ ..‬هاتي البت يا راجية‬
‫ارتعدت "لمى" عندما سمعت الكلمة األخيرة‪،‬‬
‫إنها تريدها‪ ..‬لماذا !؟؟؟‬
‫‪ً-‬ل يا تيتة ! ‪ ..‬غمغمت "لمى" بصوت باكي ‪:‬‬
‫‪-‬أنا مش عايزة !!‬
‫جاء صوت السيدة صارما ‪:‬‬
‫‪-‬لو ماحصلتش الخطوة دي يبقى انسي كل إللي‬
‫عملناه من غير فايدة‪ً ..‬لزما وصلة بين‬
‫الماضي و الحاضر‪ .‬و إًل مش هايتالقى‪.‬‬
‫حفيدتك بيمشي دم ابنك في جسمها‪ .‬قطرة‬
‫واحدة من دمها كفاية !‬
‫تجعد وجه "راجية" بقساوة و هي تنظر بعيني‬
‫رفيقة السوء تلك‪ ،‬المرأة التي استعانت بها‬
‫على مدار سنين عمرها لقضاء كل األمور‬
‫المحرمة و الشعوذة التي خربت بها حياتها و‬
‫حياة اآلخرين‪ ..‬أحاطت حفيدتها بذراعيها و هي‬
‫تخاطب األخيرة في نفس الوقت ‪:‬‬
‫‪-‬انتي متأكدة المرة دي‪ ..‬محدش هايعرف‬
‫ينقذها‪ .‬و ًل حتى أدهم أخوها !‬
‫علت زاوية فم السيدة و هي تجاوبها و الثقة‬
‫ملء صدرها ‪:‬‬
‫‪-‬لو اجتمعت سحرة فرعون نفسه‪ .‬مش‬
‫هايعرفوا يفكوا إللي إتعمل‪ .‬دي سكة مالهاش‬
‫غير طريق واحد‪ .‬و إللي بيخرج منها بالموت‬
‫!!‬
‫أحست "راجية" بارتعاش الصغيرة أشد بين‬
‫يديها‪ ،‬فزجرت رفيقتها بتحذير من نطق كلمات‬
‫كهذه أمامها‪ ،‬ثم أخذت تهدئها ‪:‬‬
‫‪-‬ماتخافيش يا لمى‪ .‬مش هايحصل حاجة‪ .‬أنا‬
‫مش فهتمك ؟‬
‫أومأت الصغيرة و ًل تزال مختبئة بأحضان‬
‫جدتها ‪:‬‬
‫‪-‬أيوة‪ .‬و أنا سمعت كالمك و جبت هدوم من عند‬
‫مامي‪ .‬بس أنا مش عايزة مامي تموت يا تيتة‬
‫!!!!‬
‫و بدأت تبكي بحرقة‪ ،‬مسدت "راجية" على‬
‫ظهرها و فركت رأسها بلطف و هي تقول كاذبة‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬قلت لك ماتخافيش‪ .‬مش هاتموت‪ .‬هي بس‬
‫هاتتعب شوية لحد ما جوزها يزهق منها‪ .‬أول‬
‫ما يطلقها هاترجع كويسة تاني‪ .‬انتي مش‬
‫عايزة أمك ترجع ليكي لوحدك ؟‬
‫أومأت "لمى" أن نعم‪ ،‬فاستطردت "راجية"‬
‫مبتسمة بتشف ‪:‬‬
‫‪-‬خالص‪ .‬يبقى تسمعي كالمي‪ .‬أنا جدتك أم‬
‫أبوكي‪ .‬أبوكي إللي لو كان عايش مكانتش أمك‬
‫قدرت تعمل فيكي كده‪ .‬أبوكي الحقيقي مش‬
‫الراجل إللي راحت جابته ليكي أمك‪ .‬أبوكي هو‬
‫إللي بيحبك‪ .‬هو بس إللي تقوليله بابا‪ ..‬مش حد‬
‫تاني يا لمى سمعاني ؟‬
‫‪-‬سامعة ! ‪ ..‬قالتها الصغيرة تحت تأثير الضغط‬
‫النفسي الرهيب الذي تتعرض له‬
‫تنهدت "راجية" و هي تدفعها من حضنها آمرة‬
‫بغلظة ‪:‬‬
‫‪-‬مش هاتحسي بحاجة‪ .‬مجرد شكة بس‪ .‬يال !‬
‫أذعنت "لمى" ألمر جدتها في األخير‪ ،‬إذ ًل قبل‬
‫لها بصد األوامر و خاصة منها هي‪ ،‬مشيت‬
‫بخطوات مترددة ناحية السيدة المخيفة‪ ،‬ما إن‬
‫صارت في متناولها حتى قبضت على كف‬
‫المسكينة‪ ،‬إنكمشت "لمى" مشيحة بوجهها‬
‫بعيدا‪ ،‬و لم تشعر إًل بوخزة قاسية على إصبعها‬
‫السبابة إنتزعت منها صيحة ألم أشبه بعواء‬
‫ظبي جريح ‪...‬‬
‫أمسكت السيدة بيد الصغيرة و قطرت الدماء‬
‫المنهمرة من إصبعها داخل الصحن في قطرتين‬
‫كبيرتين‪ ،‬ثم تركتها لما بلغت مرادها‬
‫ركضت "لمى" عائدة إلى أحضان جدتها و لم‬
‫ينقطع بكاؤها‪ ،‬بينما تواسيها "راجية" و هي‬
‫تنظر إلى النتيجة النهائية التي صنعتها‬
‫المشعوذة‪ ..‬في هذه القنينة الصغيرة‬
‫دمار أرملة إبنها !‬
‫يتبع ‪...‬‬
‫انتهى الفصل التاسع والثالثون‬

‫‪40‬‬

‫"أكان هذا كله‪ ..‬مجرد حلما لعين !"‬

‫_ إيمان‬

‫كانت العودة من عند جدتها هي أمنية ظلت‬


‫تدعو بها‪ ،‬و لقد تنفست الصعداء و هدأ خوفها‬
‫ما إن أخذتها عمتها الشابة و أقلتها إلى منزل‬
‫زوج أمها‪ ،‬حيث كان "مراد" بانتظارها في‬
‫نفس المكان الذي ودعها فيه ‪...‬‬
‫نزلت "لمى" من سيارة "مايا" محتضنة‬
‫حقيبتها الصغيرة بكلتا يداها‪ ،‬و ألول مرة تقبل‬
‫نحو "مراد" بكل هذه اللهفة‪ ،‬ارتمت دون تردد‬
‫بين ذراعيه إذ فتح أحضانه على مصراعيها في‬
‫استقبالها‪ ،‬لدهشته ضحك بسعادة و هو يشعر‬
‫بمحبتها ألول مرة‬
‫ضمها إليه بأبوة خالصة و هو يقول ‪:‬‬
‫‪-‬حمدهلل على السالمة‪ .‬وحشتيني يا حبيبتي‪.‬‬
‫وحشتيني أوي يا لمى !‬
‫لم ترد عليه الصغيرة‪ ،‬فلم يأبه‪ ،‬و تحرك بها‬
‫عائدا إلى الداخل ما حتى قبل أن تنطلق سيارة‬
‫"مايا" مغادرة ‪...‬‬
‫‪-‬حبيبة مامي ! ‪ ..‬استقبلتها "إيمان" بابتسامة‬
‫جذلى‬
‫كانت بالمطبخ‪ ،‬تعد المائدة الصغيرة هناك‪ ،‬في‬
‫أبهى شكل لها ‪...‬‬
‫‪-‬تعالي في حضني يا روحي !‬
‫لبت الصغيرة دعوة أمها في الحال‪ ،‬استدارت‬
‫حول العازل الخرساني و هرولت إلى أحضان‬
‫"إيمان" متعلقة بعنقها‪ ،‬جثت "إيمان" على‬
‫ركبتها كي تتمكن من احتضان طفلتها‪ ،‬و طبعت‬
‫القبالت على وجنتيها مغمغمة ‪:‬‬
‫‪-‬قوليلي اتبسطي إنهاردة‪ .‬عملتي إيه هناك ؟‬
‫و أبعدتها قليال لتنظر إليها‪ ،‬لتجاوب الصغيرة‬
‫بقليل من الشحوب ‪:‬‬
‫‪-‬ماعملتش حاجة‪ .‬مايا عملت لي نودلز و تيتة‬
‫جابت لي شوكوًلتة‪ .‬و مالك ماكنش هناك تيتة‬
‫قالت لي مسافر !‬
‫كان "مراد" يتحرك بارجاء المطبخ حولهما‪،‬‬
‫بصعوبة تمالك نفسه و هو يستمع إلى اسم ذلك‬
‫الوغد الحقير الذي نال من حبيبته و اغتصبها‬
‫بورقة زواج‪ ،‬لألسف‪ ،‬هو لم يتجاوز تلك‬
‫الحادثة حتى اآلن‪ ،‬و لكنه يتجاهلها من أجل‬
‫زوجته‬
‫أحست "إيمان" بتوتره‪ ،‬فغيرت الحديث مع‬
‫ابنتها و أمرتها بالصعود إلى غرفتها و تبديل‬
‫مالبسها ثم النزول لتناول العشاء‪ ،‬نفذت‬
‫"لمى" أمر أمها‪ ،‬و عندما تأكدت "إيمان" من‬
‫انسحابها التام‪ ،‬إلتفتت نحو "مراد" ‪...‬‬
‫رأته يهتم بصحن الخضروات‪ ،‬يضيف القليل من‬
‫عصير الليمون عليه و بعض الزعتر‪ ،‬سحبت‬
‫نفسا عميقا‪ ،‬ثم مشت إليه مادة يديها صوبه‪،‬‬
‫عانقت ظهره متمتمة ‪:‬‬
‫‪-‬حبيبي !‬
‫رد عليها مهمهما ‪:‬‬
‫‪-‬همم‪ .‬عايزة حاجة ؟‬
‫شعر بهزة رأسها على كتفه‪ ،‬ثم سمعها تقول ‪:‬‬
‫‪-‬حسيت إنك اضايقت فجأة‪ ..‬لمى قالت حاجة‬
‫ضايقتك !؟‬
‫يترك "مراد" ما بيديه في هذه اللحظة‪ ،‬تسمعه‬
‫يتنهد بقوة‪ ،‬ثم تمتد يده مبعدة إياها قليال ليتمكن‬
‫من اإللتفات إليها‪ ،‬رأت وجهه جامد خال من‬
‫التعابير و هو يقول ممسكا بكتفيها ‪:‬‬
‫‪ً-‬لزم تعرفي إني مش حجر‪ .‬و إن أي سيرة‬
‫يكون فيها اسم سيف أو مالك بتيجي أوي على‬
‫رجولتي‪ .‬و أنا صريح معاكي و عارف إني‬
‫غلطت في حقك كتير‪ .‬لكن بردو و مهما حصل‪.‬‬
‫دي حاجة في دمي‪ .‬مقدرش أنسى إللي عمله‬
‫فيكي مالك بالذات‪ .‬ألني كنت معاكي‪ .‬و مقدرتش‬
‫أحميكي !!‬
‫شعر بارتجفاتها تحت لمساته و هو يسمعها ترد‬
‫باضطراب واضح ‪:‬‬
‫‪-‬انت ليه بس بتفتكر و بتفكرني‪ .‬احنا مش‬
‫اتفقنا هاننسى الماضي كله !؟‬
‫مراد بجدية ‪ :‬عشان ننسى فعال‪ .‬و أنا عارف إن‬
‫كل إللي مرينا بيه مايتنسيش‪ .‬لكن عشان نقدر‬
‫نعيش في سالم و نكون مبسوطين في حياتنا‪.‬‬
‫ماينفعش نصحي أشباحنا‪ .‬ماينفعش نحاوط‬
‫نفسنا بأماكن أو ناس تفتح جرح كبير بنحاول‬
‫نشفيه‪ .‬الجرح هايفضل أثره لكن لما نشفيه مش‬
‫هايوجعنا‪ .‬انتي مش فاكرة لما رجعنا مش شهر‬
‫العسل قولتيلي مش عايزة أروح البيت عند‬
‫خالتي ؟ انتي نفسك عارفة إيه إللي بيئذيكي يا‬
‫إيمان و اجتنبتيه مرة‪ .‬ليه عاملة نفسك جاهلة‬
‫المرة دي‪ .‬لمى مالهاش مرواح عند الناس دي‬
‫أساسا ‪...‬‬
‫أقرت بصدق كالمه و هي تومئ له قائلة بهدوء‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬انت صح‪ .‬انت صح و هللا يا حبيبي‪ ..‬خالص‪.‬‬
‫أنا مش هاوديها تاني عندهم‪ .‬هاعمل إللي تقول‬
‫عليه من هنا و رايح !‬
‫قطب "مراد" متأثرا و رفع كفيه يحيط بوجهها‬
‫‪...‬‬
‫‪-‬أنا عايز أساعدك تتعافي‪ .‬بس ! ‪ ..‬تمتم برفق‬
‫و قد بان الصدق في نبرته و نظرة عينيه‬
‫ابتسمت له ‪:‬‬
‫‪-‬عارفة‪ .‬و أنا بحبك مهما حصل‪ .‬بحبك يا مراد‬
‫!‬
‫ظهرت الصغيرة عند أعتاب المطبخ‪ ،‬لتجدهما‬
‫يضعان اللمسات األخيرة على المائدة‪ ،‬كانت‬
‫تخفي في جيب بيجامتها ما سبق و اتفقت مع‬
‫جدتها على دسه بأي غذاء تتناوله أمها‬
‫تنفست الصغيرة بعمق متحسسة موضع القنينة‬
‫الصغيرة بجيبها‪ ،‬ثم مضت نحو أمها و زوجها‪،‬‬
‫رحب "مراد" بها من جديد و حملها على‬
‫ذراعه كالريشة‪ ،‬أخذ يداعبها قليال و يراقصها‬
‫بحركات عفوية بينما تتردد أصداء ضحكات‬
‫"إيمان" من حولهما ‪...‬‬
‫__________‬

‫بحلول نهاية األمسية‪ ،‬أعلنت "إيمان" عن‬


‫كفاية الصغيرة الليلة من مشاهدة الرسوم‬
‫المتحركة‪ ،‬أطفأت التلفاز‪ ،‬و قد كانت "لمى"‬
‫مستسلمة ألحضان "مراد" الذي جلس يضمها‬
‫بأبوة‪ ،‬لم يتوقف عقلها عن التفكير بإمكانية فعل‬
‫ما طلبته منها جدتها‬
‫و لكن فكرة واحدة سيطرت عليها ‪...‬‬
‫لن تضع هذا الشيء ألمها‪ ،‬بل لـ"مراد"‪ً ..‬ل‬
‫يمكن أن تؤذي والدتها‬
‫ًل يمكن ‪...‬‬
‫‪-‬أنا هاحضر اللبن عشان لولي يا إيمان ! ‪..‬‬
‫هتف "مراد" مستوقفا زوجته التي أرادت‬
‫العروج تجاه المطبخ‬
‫وقف حامال الصغيرة بين ذراعيه و أردف‬
‫بابتسامة ‪:‬‬
‫‪-‬أطلعي انتي ريحي عشان تعبتي جدا إنهاردة‪.‬‬
‫أنا هاخد لمى ألوضتها و مش هاسيبها غير لما‬
‫تشرب اللبن بتاعها و تنام‬
‫ابتسمت له "إيمان" و شكرته بإيماءة‪ ،‬و‬
‫بالفعل أذعنت لكلمته و صعدت لألعلى‪ ،‬ليأخذ‬
‫"مراد" الطفلة و يجلسها فوق سطح رخام‬
‫المطبخ‪ ،‬يضع قدر الحليب فوق الموقد و يتركه‬
‫قليال ليدفأ‪ ،‬ثم يتجه نحو الثالجة‪ ،‬رأته يصب‬
‫أمامها كأسا من العصير‪ ،‬و تذكرت بأن أمها‬
‫تصنع ذلك العصير الطازج من أجله يوميا‪،‬‬
‫فبدون تفكير استغلت إلتفاته عنها ليعيد دورق‬
‫العصير إلى الثالجة‪ ،‬استلت من جيبها تلك‬
‫القنينة و على الفور انتزعت غطائها و سكبت‬
‫محتواها كله بالكأس‪ ،‬قلبته باصبعها بسرعة‪،‬‬
‫ثم اخفت القنينة بجيبها ثانية في لحظة إلتفاف‬
‫"مراد" ناحيتها مرة أخرى ‪...‬‬
‫تالقت أعينهم‪ ،‬فابتسم لها‪ ،‬ثم مضى يصب لها‬
‫الحليب بكأسها‪ ،‬أنزلها على األرض أوًل‪ ،‬ثم‬
‫حمل الكأسين على صينية صغيرة و طلب منها‬
‫أن تتقدمه‪ ،‬أخذها إلى غرفتها و وضعها‬
‫بالفراش‪ ،‬حرص على أن يراها تنهي كاس‬
‫الحليب خاصتها أمامه‪ ،‬و قد كان صبورا و‬
‫مراعيا جدا‪ ،‬لم يمل و قد قضى معها أكثر من‬
‫ثلث ساعة حتى رآها تغفو أخيرا‪ ،‬أو أن هذا ما‬
‫أرادته أن يظنه !‬
‫طبع قبلة رقيقة على جبينها‪ ،‬تأكد من غلق‬
‫الستائر جيدا لكي ًل تخيفها ظالل األشجار‬
‫بالخارج كما فعلت من قبل‪ ،‬أشعل لها ضوء‬
‫خافت‪ ،‬ثم ألقى عليها النظرة األخيرة‪ ،‬و غادر‬
‫مغلقا الباب من خلفه‬
‫لتفتح الطفلة عيناها اآلن‪ ..‬و قد علمت إنها لن‬
‫تنام الليلة ‪...‬‬

‫*****‬

‫أقبل عليها حامال الصينية البيضاوية‪ ،‬جلس‬


‫بجوارها على طرف السرير‪ ،‬وضع الصينية‬
‫فوق طاولة محاذية‪ ،‬ثم حمل الكأس و فتح كفه‬
‫اآلخر مقدما لها دوائها ‪:‬‬
‫‪-‬يال يا حبيبتي‪ .‬معاد الدوا بتاعك‪ .‬قبل النوم‬
‫علطول زي ما الدكتورة قالت‪ .‬و كمان هاتشربي‬
‫العصير ده وراه‪ ..‬يال‬
‫‪-‬انت مدلعني أوي على فكرة ! ‪ ..‬قالتها‬
‫"إيمان" مبتسمة بغنج‬
‫رد لها اإلبتسامة و مد يده ليدس حبة الدواء‬
‫بين شفتيها‪ ،‬و دفع بكأس العصير نحو فمها‬
‫مباشرة‪ ،‬ثم قال ‪:‬‬
‫‪-‬أنا دلوقتي عندي بنتين‪ .‬الكبيرة إيمان و‬
‫الصغيرة لمى‪ .‬طبعا مدلعك و هادلعك طول ما أنا‬
‫عايش‬
‫ازدردت "إيمان" حبة الدواء بجرعة من‬
‫العصير‪ ،‬ظل يراقبها مستمتعا‪ ،‬حتى أنهت‬
‫الكأس‪ ،‬أعادته له فارغا‪ ،‬فوضعه فوق الصينية‬
‫و عاود النظر إليها ثانية‬
‫تالشت ابتسامته فجأة و هو يرى وجهها يمتقع‬
‫بغرابة اآلن ‪...‬‬
‫‪-‬في إيه ؟ ‪ ..‬تساءل "مراد" باهتمام ‪:‬‬
‫‪-‬مالك يا إيمان !؟‬
‫تقلصت مالمحها أكثر و هي تحاول كبح شعور‬
‫بالغثيان ‪...‬‬
‫‪-‬مش عارفة ! ‪ ..‬جاوبته ًلهثة ‪:‬‬
‫‪-‬حسيت بدوخة فجأة‪ .‬و في مرارة شديدة على‬
‫لساني !‬
‫أجفل "مراد" متمتما ‪:‬‬
‫‪-‬ما يمكن الدوا له آثار جانبية‪ .‬ماتنسيش إنه‬
‫بيتحكم في األعصاب و ‪..‬‬
‫لم يكمل جملته‪ ،‬فقدت "إيمان" وعيها على‬
‫الفور و كادت تسقط من فوق الفراش لوًل‬
‫ذراعه التي لحقت بها‪ ،‬شحب وجهه على األخير‬
‫و هو يصرخ بأسمها ‪:‬‬
‫‪-‬إيمـــــــــــان !!!‬

‫*****‬

‫حالة من الوجوم التام إنتابت "لمى"‪ ..‬منذ‬


‫اخترقت أذنيها صرخة الرعب لزوج أمها‪،‬‬
‫أدركت حينها إنها قد فقدتها هي‪ ،‬ركوضها إلى‬
‫غرفتها كانت التأكيد على ظنها‪ ،‬هناك حيث‬
‫وجدت أمها ملقاة بأحضان "مراد" و األخير‬
‫يحاول إفاقتها بشتى الطرق‪ ،‬و ألول مرة تختبر‬
‫"لمى" الصدمة عندما رأت كأس العصير‬
‫الفارغ‪ ،‬و عرفت بأنها و بيدها قد قتلت أمها !‬
‫كابد "مراد" المشقة و هو يعتني بكال من األم‬
‫و إبنتها‪ ،‬و بجهد يحسب إليه استطاع نقل‬
‫زوجته إلى المشفى في زمن قياسي دون أن‬
‫يغفل عن الطفلة طرفة عين‪ ،‬و لم يشأ إخبار‬
‫خالته أو "أدهم" بل أراد أن يتولى اًلمر كليا‪،‬‬
‫متأمال في شفاء زوجته العاجل ‪...‬‬
‫أبقى الصغيرة أمامه بينما يهرع نحو الطبيب‬
‫الذي خرج لتوه من غرفة الفحص ‪:‬‬
‫‪-‬دكتور‪ .‬أرجوك طمني‪ .‬مراتي مالها حصلها إيه‬
‫بالضبط !؟؟‬
‫انتزع الطبيب نظارته و هو يخبره عابسا بشدة‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬بصراحة يافندم أنا ألول مرة في تاريخي الطبي‬
‫أقف عاجز قدام حالة‪ .‬مش أنا بس‪ .‬زمايلي إللي‬
‫كانوا جوا معايا و ًل حد فيهم قدر يفهم حاجة !!‬
‫برزت عيني "مراد" بخوف كبير و هو يسأله ‪:‬‬
‫‪-‬قصدك إيه ؟ إيمان هاتموت ؟‬
‫نفى الطبيب في الحال ‪:‬‬
‫‪ً-‬لًلًل مش كده خالص‪ .‬مافيش أي مؤشر بيقول‬
‫إن حالتها خطيرة‬
‫مراد بعصبية ‪ :‬أومال إيه طيب‪ .‬فهمني مالها‬
‫إيه إللي حصلها فجأة كده !!؟‬
‫الطبيب حائرا ‪ :‬ما هي دي المشكلة‪ .‬أنا مش‬
‫فاهم إيه إللي حصلها‪ .‬حالتها طبيعية جدا‪.‬‬
‫مافيش مشاكل خالص عندها‪ .‬كله طبيعي‪ ..‬رغم‬
‫كده فاقدة الوعي‪ .‬مش بتستجيب ألي محاولة‬
‫تفوقها‪ .‬مش بتفوق‪ .‬يعني من اآلخر دخلت في‬
‫غيبوبة‪ .‬و بدون أي أسباب !‬
‫رفع "مراد" حاجبيه مرددا باستنكار ‪:‬‬
‫‪-‬يعني إيه بدون أسباب‪ .‬هو في حاجة اسمها‬
‫كده‪ .‬طيب إيه العمل بردو مش فاهم ؟‬
‫تنهد الطبيب بعمق و قال ‪:‬‬
‫‪-‬و هللا يافندم العمل دلوقتي عمل ربنا‪ .‬يمكن‬
‫السبب نفسي‪ .‬هانكلم الدكتورة إللي حضرتك‬
‫قلت إنها مسؤولة عن عالجها النفسي‪ .‬هاتيجي‬
‫تشوفها هي كمان و هاتفضل تحت المالحظة‬
‫عندنا‪ .‬و ربنا معانا‬
‫‪-‬طيب أنا عاوز أشوفها ! ‪ ..‬تمتم "مراد"‬
‫باقتضاب‬
‫تأهب الطبيب للرحيل و هو يقول بهدوء ‪:‬‬
‫‪-‬أكيد‪ .‬دلوقتي تتنقل لغرفة خاصة و تقدر‬
‫تشوفها هناك‪ .‬عن أذنك !‬
‫و تركه متوجها إلى صالة الطوارئ إلستئناف‬
‫مناوبته ‪...‬‬
‫يسحب "مراد" نفسا عميقا و هو ًل يزال‬
‫بمكانه‪ ،‬يحدق بغرفة الفحص المغلقة‪ ،‬خلفها‬
‫حيث تخضع زوجته لجهود األطباء الحثيثة‬
‫إلنعاش وعيها‪ ..‬ترى ماذا أصابها ؟‬
‫ماذا جرى لك يا "إيمان" !؟‬
‫انتبه "مراد" لوجود "لمى" اآلن‪ ،‬استدار‬
‫ماضيا صوبها فوجدها تبكي‪ ،‬و ما كانت تبكي‬
‫طوال الطريق إلى هنا‪ ،‬الحقيقة إنها تنهار أمام‬
‫عينيه من البكاء ‪...‬‬
‫جلس فوق المقعد المعدني بجوارها‪ ،‬و اجتذبها‬
‫بلطف‪ ،‬حملها ليجلسها فوق قدمه‪ ،‬مسح على‬
‫رأسها بحنو و قبلها على خدها متمتما ‪:‬‬
‫‪-‬ماتخافيش يا لولي‪ .‬مامي هاتصحى‪ .‬هاتبقى‬
‫كويسة يا حبيبتي‪ .‬ماتخافيش ‪...‬‬
‫تعالت نهنهات الصغيرة و هي تبكي بحرقة و‬
‫ترد عليه بصعوبة ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل‪ .‬مامي مش هاتصحى‪ .‬مامي هاتموت !!‬
‫فزع "مراد" من كلمتها و قال مؤنبا في الحال‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬ماتقوليش كده يا لمى‪ .‬اوعي تقولي على‬
‫مامتك كده‪ .‬إيمان هاتخف‪ .‬مافيهاش حاجة و‬
‫انتي سمعتي الدكتور صح ؟‬
‫تطلعت إليه من خالل دموعها و قالت بأسى ‪:‬‬
‫‪-‬أنا كنت عارفة إنها مش هاتصحى‪ .‬لما شربت‬
‫العصير كنت عارفة إنها مش هاتصحى تاني !‬
‫عبس بشدة متسائال ‪:‬‬
‫‪-‬عصير إيه !؟؟‬
‫مضت تفصح له و ًل تزال تبكي و لم تخف نبرة‬
‫الحقد في صوتها ‪:‬‬
‫‪-‬العصير إللي كنت هاتشربه انت‪ .‬تيتة راجية‬
‫قالت لي ًلزم مامي تشربه‪ .‬لكن أنا حطيت لك‬
‫انت الدوا‪ ..‬بس انت شربته لمامي‪ .‬انت إللي‬
‫شربته ليها بإيدك‪ .‬انت إللي ًلزم تموت مش‬
‫مامي !!!!‬

‫*****‬

‫الغضب‬
‫و الغضب وحده الذي حركه بعد سماع‬
‫تصريحات الصغيرة‪ ،‬ربما حرى به أن يشعر‬
‫بالصدمة‪ ،‬و لكن ما روته عليه كان كارثي‪،‬‬
‫عقله لم يستوعب هذا الكم من الشر‬
‫ًل يتصور أن تستخدم الجدة حفيدتها في عملية‬
‫قتل !!!‬
‫أو أيا كان‪ ..‬تلك المجرمة أم المجرمين السفلة‬
‫إن كان "أدهم" قد عفى عنها من قبل فهو لن‬
‫يعفو‪ ،‬لن يعفو أبدا‪ ،‬سيكون لها عقابا من نوع‬
‫خاص‪ ،‬و لن يرحم عجزها ‪...‬‬
‫قبل أن يرحل أضطر "مراد" لإلتصال بخالته و‬
‫إخبارها بإيجاز عما حدث‪ ،‬طلب منها أن تأتي‬
‫لتعتني بـ"لمى" ريثما يقضي حاجة و يعود‪ ،‬لم‬
‫تتسنى له فرصة الشرح أكثر عندما جاءت‪ ،‬ترك‬
‫الكرة بملعبها مشيرا إلى "لمى" لتعرف منها‬
‫كل شيء‪ ،‬طلب منها فقط عنوان السيدة‬
‫"راجية‪ ،‬ثم غادر المشفى متجها إلى هناك و‬
‫الشياطين في إثره‬
‫للمرة الثالثة لهذه الليلة يرى وجه "مايا"‪..‬‬
‫اآلن كانت مذعورة حين فتحت له باب الشقة و‬
‫رأت اإلجرام التام على سحنته الغاضبة ‪...‬‬
‫‪-‬الست الوالدة فيــن ؟ ‪ ..‬هتف "مراد" بشر‬
‫مستطير و هو يزيح "مايا من طريقه بعنف‬
‫ليدخل‬
‫أطلقت "مايا" آهة متألمة و هي تتبعه للداخل‬
‫صائحة ‪:‬‬
‫‪-‬انت يا مجنون‪ .‬حصلت تتهجم علينا في بيتنا‪.‬‬
‫تعال هنا‪ .‬لو ماطلعتش برا حاًل هاطلب لك‬
‫البوليس !!!‬
‫كان يقتحم الغرف بالفعل أثناء سماعه‬
‫تهديداتها‪ ،‬في نفس اللحظة التي عثر فيها على‬
‫غرفة "راجية"‪ ..‬تعلقت أنظاره عليها‪ ،‬حيث‬
‫رآها تجلس في سريرها المحتل صدر الغرفة‪،‬‬
‫تطالعه بتشف و تحد سافر‪ ،‬تلك اًلبتسامة‬
‫الشيطانية تنبلج على محياها‪ ،‬تخبره بأنها كانت‬
‫تنتظر قدومه بالفعل ‪...‬‬
‫‪-‬أطلبي البوليس يا آنسة مايا ! ‪ ..‬غمغم‬
‫"مراد" من بين أسنانه و لم يحيد عن‬
‫"راجية" لحظة واحدة‬
‫مشى ناحيتها ببطء و هو يردف بوعيد ‪:‬‬
‫‪-‬أطلبيه بسرعة‪ .‬عشان ياخدنا كلنا و هناك‬
‫أحرر محضر في والدتك المصونة أتهمها فيه‬
‫بقتل إيمان‪ .‬مراتي‪ .‬بنت أخوها‪ .‬و مش كده و‬
‫بس‪ .‬كمان في تهمة استغالل طفلة في جريمة‬
‫بشعة زي دي‪ ..‬أطلبيه يا آنسة مايا !‬
‫انتفضت "مايا" مع نطقه بالكلمة األخيرة بكل‬
‫هذا العنف‪ ،‬و ًل تعلم لماذا خرس لسانها‪ ،‬فقط‬
‫بقيت عند أعتاب الغرفة تراقب ما يحدث و‬
‫الصدمة تبدو جلية على مالمحها و تصلب‬
‫جسدها‪ ،‬و كأنها لم تعرف بجريرة أمها إًل اآلن‪،‬‬
‫و كأنها ًل تصدق عودة أمها لتلك الظلمات و‬
‫المستنقعات القذرة ‪...‬‬
‫‪-‬إديني سبب واحد يمنعني عن آذيتك‪ .‬دلوقتي‬
‫حاًل ! ‪ ..‬همس "مراد" و هو يحني جزعه‬
‫ليكون وجهه بمستوى وجهها‬
‫حدقت "راجية" بعينيه الحمراوين و قالت‬
‫بشماتة ‪:‬‬
‫‪-‬أعمل إللي تعمله‪ .‬أنا من بعد سيف ابني و‬
‫مافيش حاجة تفرق لي‪ .‬و أكتر حاجة تبسطني‬
‫إني أموت و أنا واخدة بتاره‪ .‬إيمان مش‬
‫هاتشوف ساعة واحدة هنا من بعدي أنا و ابني‪.‬‬
‫و عذابها ابتدا من الليلة دي آلخر يوم في‬
‫عمرها ‪...‬‬
‫كور "مراد" قبضته و رفعها عاجزا عن تفريغ‬
‫غضبه على امرأة مسنة مثلها‪ ،‬كبح نفسه‬
‫بصعوبة و هو يشد على فكيه‪ ،‬هدأ أعصابه‬
‫بأعجوبة و تريث لحظات‪ ،‬ثم قال و شبح‬
‫ابتسامة ماكرة تلوح على شفتيه ‪:‬‬
‫‪-‬لسا عندك بنت و دكر‪ .‬صحيح هو فين‪ ..‬مش‬
‫سافر دبي بردو ؟ أنا حبايبي كلهم هناك عنده !‬
‫اختفى أي مظهر من مظاهر العبث على وجهها‬
‫عندما قال ذلك‪ ،‬و كأنها لم تفكر جيدا قبل أن‬
‫تقدم على ما فعلت‪ ،‬لم تفكر بابنها و ابنتها‬
‫الباقيان‪ ،‬لم تفكر بأنهما ًل يزاًل على قيد الحياة‬
‫‪...‬‬
‫يشهر "مراد" هاتفه أمام عينيها و هو يهمس‬
‫بوحشية ‪:‬‬
‫‪-‬أنا أقدر أدمره‪ .‬أنهيه بمكالمة واحدة‪ ..‬إيه رأيك‬
‫؟‬
‫قطبت بشدة و قد نجح بدب الخوف في قلبها‪،‬‬
‫لترد بفحيح نزق و كأنها األفعى بنفسها تواجهه‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬أنا مافيش في إيدي حاجة أعملها لك أو أعملها‬
‫لها !!‬
‫صاح بها بعنف ‪:‬‬
‫‪-‬أيا إن كان إللي حصل‪ .‬قوليلي مين إللي عمله‪.‬‬
‫لو مش عايزة تتحسري إللي باقي من عمرك‬
‫على ابنك و بنتك هاتقوليلي مين إللي عمل كده‬
‫في إيمان‪ .‬مين و أًلقيه فيــن ؟‬
‫عادت تكشر عن ابتسامة مستخفة من جديد و‬
‫هي تقول ‪:‬‬
‫‪-‬هقولك‪ ..‬بس افتكر‪ .‬مش هاتقدر تعمل حاجة !‬

‫*****‬

‫لم يكن األمر يشبه الروايات و األفالم التي عادة‬


‫ما يراها‪ ،‬بيت تلك المشعوذة التي أخذ عنوانها‬
‫من العمة المجرمة‪ ،‬كان مجرد بيتا عاديا‪ ،‬شقة‬
‫بسيطة في حي متواضع‪ ،‬تقطن بالطابق‬
‫األرضي امرأة عجوز‪ ،‬يعطف عليها الجميع‪ ،‬و‬
‫قد دله على بيتها عشرات من الجيران‬
‫أوصله فتى صغير إلى بابها‪ ،‬الباب الذي يغلق‬
‫أبدا كما سمع‪ ،‬ليراها تجلس فوق أريكة‬
‫مالصقة لشباك يطل على الحارة الصاخبة‪،‬‬
‫روائح الرطوبة و العفن تحيط به‪ ،‬لكنه يركز‬
‫على هدف وحيد‪ ،‬ما دفعه لإلتيان إلى هنا ‪...‬‬
‫‪-‬خطوة عزيزة يا بيه‪ .‬اتفضل خش‪ .‬نخدمك بإيه‬
‫؟‬
‫ينظر "مراد" إلى المرأة بإباء يتخلله القرف‪،‬‬
‫المقرفة بعباءتها السوداء التي تحمل قذراة‬
‫مخفية‪ ،‬وجهها المسود و ابتسامتها السمجة‪،‬‬
‫أسنانها الصدئة و خصيالت شعرها الرمادية‬
‫تتدلى من وشاح رأسها المهلهل‪ ،‬ما يجبره على‬
‫البقاء هو أمر يتعلق بحياته‪ ،‬زوجته التي ًل‬
‫يمكنه المضي بدونها ‪...‬‬
‫‪-‬انتي عارفة أنا مين ! ‪ ..‬قالها "مراد" و ًل زال‬
‫يقف بمكانه‬
‫تومئ األخيرة و ترد ‪:‬‬
‫‪-‬و كنت مستنياك‪ .‬أخبارك إللي وصلتني‪ .‬عرفت‬
‫إن راجل زيك دماغه ناشفة‪ .‬مش بيسلم‬
‫بسهولة‪ ..‬زي ما قالت لك راجية‪ .‬مش هاتقدر‬
‫تعمل حاجة !!‬
‫الكلمة ذاتها أفقدته عقله هذه المرة‪ ،‬فكاد يتهجم‬
‫عليها‪ ،‬و لم يفعل‪ ،‬إذ جمده ظهور مفاجئ لذلك‬
‫الكلب األجرب‪ً ،‬ل يعرف من أين جاء‪ ،‬و لكنه‬
‫وقف بوجهه يحيل بينه و بين سيدته‪ ،‬ضحكت‬
‫المرأة العجوز و هي تمد يدها تربت على رأس‬
‫كلبها الذي يزمجر بهياج في مواجهة "مراد"‬
‫‪...‬‬
‫تطلعت إليه ثانية و قالت بتشدق ‪:‬‬
‫‪-‬انت شكلك بتحبها فعال‪ ..‬و مستعد تعمل أي‬
‫حاجة عشانها‬
‫مراد بغضب أعمى ‪:‬‬
‫‪-‬عايزة كام‪ .‬قوليلي عملتي فيها إيه و إزاي‬
‫تقوم منها و أنا هادفع لك إللي تطلبيه‪ .‬إنطقي‬
‫!!!‬
‫قهقهت بتسلية أغاظته أكثر‪ ،‬ثم قالت بجدية ‪:‬‬
‫‪-‬انت لسا مافهمتش‪ .‬أنا مش عايزة فلوس‪ .‬أنا‬
‫أصال مابحبش الفلوس‪ .‬و إًل ماكنتش تالقيني‬
‫هنا في مكان زي ده !‬
‫‪-‬قوليلي عايزة إيــه ؟؟؟ ‪ ..‬هدر بصوت مصم‬
‫فلم تهتز لها شعرة‪ ،‬صمتت لهينية‪ ..‬و قالت ‪:‬‬
‫‪-‬مش عايزة حاجة‪ .‬بس ممكن أعمل معاك‬
‫إتفاق !‬
‫حثها من فوره ‪:‬‬
‫‪-‬قولي !!‬
‫قامت ببطء من مكانها‪ ،‬و إتجهت نحو دوًلب‬
‫صغير بالزاوية‪ ،‬أحضرت نفس القنينة التي‬
‫أشارت إليها "لمى" في حديثها‪ ،‬ثم مضت‬
‫صوبه مادة يدها إليه و هي تقول ‪:‬‬
‫‪-‬ده نفس إللي شربت منه مراتك‪ .‬هاتاخد رشفة‬
‫واحدة‪ .‬هايصيبك إللي صايبها دلوقتي‪ .‬هاتقدر‬
‫تكون معاها في نفس المكان إللي إتحبست فيه‪.‬‬
‫و لو قدرت تخرجها تبقى أنقذتها‪ ..‬بس خد‬
‫بالك‪ .‬انت كمان هاتتحبس‪ .‬انت كمان هاتواجه‬
‫أكبر خوف في حياتك‪ .‬لو دخلت مش هاتخرج‬
‫بالساهل‪ .‬و ممكن ماتخرجش خالص‪ .‬و هو ده‬
‫اًلتفاق‪ .‬لو نجحت هاتطلعوا انت اإلتنين و‬
‫هاتنقذها و تنقذ نفسك‪ .‬لو فشلت هاكسب أنا‪ .‬و‬
‫انتوا اإلتنين هاتكونوا ملكي في العالم ده‪ ...‬لو‬
‫موافق‪ .‬خده !‬
‫و مدت يدها أكثر بالقنينة‪ ،‬أمام عينيه‬
‫الذاهلتين‪ ،‬لم يصدق كل هذا الدجل و الخرافات‪،‬‬
‫و لكنه يجهل القوى التي جعلته يمد يده و يأخذ‬
‫منها أداة اإلنتحار هذه ‪...‬‬

‫*****‬
‫رأسها ثقيال‪ ،‬بالكاد رفعته من فوق الوسادة‪،‬‬
‫كانت جزعة و تشعر بالهلع‪ ،‬آخر ما تتذكره هو‬
‫وجه "مراد" المذعور و صراخه بأسمها‬
‫أمسكت رأسها بكلتا يداها و هي تباعد بين‬
‫جفنيها هاتفة ‪:‬‬
‫‪-‬مـرااااد !‬
‫و لكن ما من إجابة‬
‫فقط الفراغ من حولها‪ ،‬و‪ ..‬مهال ‪...‬‬
‫هذا ليس بيتها‬
‫ليس بيت "مراد"‪ ..‬أين هي ؟‬
‫أفزعتها الصدمة اآلن عندما استقرت عيناها‬
‫على الجدار المواجه لها‪ ،‬حيث إطار لصورة‬
‫زفاف‪ ،‬زفافها هي و "سيف" !!!!‬
‫إنها شقة الزوجية القديمة إذن ‪...‬‬
‫كيف أتت إلى هنا !؟؟‬
‫‪-‬صحي النوم يا كسالنة !‬
‫جمدت أطرافها تماما لدى وصول ذلك الصوت‬
‫الذي تعرفه جيدا إلى أذنيها‪ ،‬لم تصدق‪ ،‬و ًل‬
‫تريد أن تصدق‪ ،‬و لكنها لم تمنع نظراتها من‬
‫اإللتفات ناحيته‪ ،‬و قد كان أفظع شيء حدث لها‬
‫على اإلطالق‬
‫رؤيته من جديد‬
‫"سيف"‬
‫بشحمه و لحمه يقف أمامها عند باب غرفة‬
‫النوم‪ ،‬انتابتها حالة من النكران المصدوم عنيفة‬
‫جدا و هي تنظر إليه جاحظة العينين ‪...‬‬
‫‪-‬سيف ! ‪ ..‬نطقت بصوت مخنوق‬
‫غزت الرعشات جسمها كله و هي بالكاد‬
‫تستطيع الوقوف أمامه‪ ،‬و ًل زالت تنكر بفزع‬
‫مطلق ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل‪ً .‬ل مستحيل‪ ..‬انت مت‪ .‬انت مـت !!!‬
‫انتفض فك "سيف" و هو يحدق فيها بتلك‬
‫النظرة الثاقبة و ابتسامته التي تثير رعبها‪ ،‬ثم‬
‫قال ‪:‬‬
‫‪-‬دي أكيد أمنيتك‪ ..‬مفكرة إن ممكن تخلصي مني‬
‫بالسهولة دي ده لسا حسابنا ماخلصش يا‬
‫روحي !‬

‫يتبع ‪...‬‬
‫انتهى الفصل اًلربعون‬

‫( األخير )‬

‫"تحملي قليال فقط ؛ أنا آت إليك !"‬

‫_ مراد‬
‫شيء واحد تأكدت منه و كان وقعه عليها مؤلما‬
‫مميتا بقدر ما كان كارثيا‪ ،‬و هو أن كل مما‬
‫مضى‪ ،‬عودة "مراد"‪ ..‬زواجها من "مالك"‪..‬‬
‫ثم خطبتها لـ"مراد" بعد طالقها و زواجها منه‬
‫مباشرة بعد إنتهاء العدة‪ ..‬زفاف األحالم‪ ..‬شهر‬
‫العسل‪ ..‬كل الحب و الغراميات التي تاقت‬
‫لعيشها برفقته‪ ...‬مكانت محض أوهام‬
‫حلم و انتهى !!!‬
‫كانت ستفقد عقلها فعال لهذه الحقيقة الملموسة‪،‬‬
‫ها هي تقف أمام زوجها الحقيقي‪ ،‬تقف أمام‬
‫"سيف" الذي حسبته ميتا‪ ،‬إنه حي يرزق‬
‫أمامها‪ ،‬تعسا لها و لحظها !!!!‬
‫‪-‬أكيد بتنامي و تقومي تحلمي باليوم ده !‬
‫شحب جسمها تماما و هي تسمعه يقول ذلك‬
‫بنبرة جمدت الدماء بعروقها‪ ،‬و تراجعت للخلف‬
‫غريزيا حين بدأ باإلقتراب منها كالنمر المفترس‬
‫و هو يقول بصوت كالفحيح ‪:‬‬
‫‪-‬بتحلمي باليوم إللي تخلصي مني فيه‪ .‬مش كده‬
‫؟ بس أنا مش هاسيبك إًل لما أخلص عليكي‬
‫خالص يا إيمان‪ ..‬عارفة إن البيت فاضي علينا‬
‫إنهاردة‪ .‬و ماًلقتش أحسن من دي فرصة‬
‫عشان أوفي بوعدي ليكي‪ .‬فاكرة لما قلت لك‬
‫إنك أرخص حتى من إني أعزم أقل راجل في‬
‫شلتي عليكي ؟‬
‫في الواقع نعم !‬
‫إنها تذكر ذلك جيدا‪ ،‬لقد قال لها ذلك على سبيل‬
‫اإلهانة و المذلة التي يكيلها لها منذ صارت‬
‫زوجة له‪ ،‬و قد كانت تفزع من مجرد التهديد‬
‫بهذا و ًل يمكنها أن تستوعب إنه قد يفعل بها‬
‫ذلك ‪...‬‬
‫حملقت فيه و هي ًل تعي نواياه الخبيثة‪ ،‬و لكن‬
‫ترعبها نظراته الشيطانية و تضربها في‬
‫الصميم‪ ،‬بينما يستطرد مبتسما بقذارة ‪:‬‬
‫‪-‬أنا فكرت و ًلقيت إنك تستاهلي‪ .‬بجد‪ .‬أصلي‬
‫مش هاًلقي هدية قيمة زيك أقدمها لرجالة‬
‫مهمين في شغلي و حياتي عموما‪ ..‬انتي‬
‫إنهاردة نجمة الحفلة‪ .‬عاوزك تشرفيني !‬
‫عبست بعدم فهم‪ ،‬فاستدار ليفتح باب الغرفة‪ ،‬و‬
‫ليظهر على الفور مجموعة من الرجال ذوى‬
‫أجسام ضخمة‪ ،‬لم ترى في ضخامتهم طوال‬
‫حياتها‪ ،‬وجوههم مسودة‪ ،‬تكوينهم الجسماني‬
‫عجيب‪ ،‬مرعب‪ ،‬الصدمة جعلتها ًل تولي‬
‫تركيزها كله في أشكالهم‪ ،‬بل في الكارثة‬
‫الجديدة المحيقة بها ‪...‬‬
‫‪-‬اتفضلوا يا رجالة ! ‪ ..‬هتف "سيف" داعيا‬
‫رفقته للدخول‬
‫فتوافد داخل الغرفة عدد ثمانية أفراد تقريبا‪،‬‬
‫بالكاد صحت "إيمان" من صدمتها و تحركت‬
‫متقافزة بالمساحة اآلمنة التي تفصلها عن‬
‫أولئك الذئاب‪ ،‬تحاول إيجاد شيء تستر به‬
‫نفسها‪ ،‬جسمها الذي يغطيه قميصها الرقيق‪،‬‬
‫رأسها العاري‬
‫لكن ًل شيء‪ً ،‬ل شيء إطالقا‪ ،‬فتلقائيا رسخت‬
‫بمكانها و هي تصرخ مستغيثة بزوجها ‪:‬‬
‫‪-‬سيــــف‪ .‬إيه إللي بتعمله‪ ..‬طلعهم برا‪ .‬طلعهم‬
‫يا سيف !!!‬
‫ندت عنه ابتسامة إبليسية و هو يقول بلهجة‬
‫متضخمة ًل تشبه البتة صوته المألوف ‪:‬‬
‫‪-‬دول مش طالعين من هنا‪ .‬إًل لما تسلميهم‬
‫نفسك‪ .‬زي ما عملتي قبل ما تتجوزيني مع ابن‬
‫خالتك‪ ..‬هاياخدوكي بالذوق أو حتى بالعافية !‬
‫و بهذا المرسوم المفجع الذي تردد صداه في‬
‫جنبات الغرفة‪ ،‬سار إليها الرجال تباعا‪ ،‬و قد‬
‫فشلت بالهرب منهم مع أول خطوة فكرت أن‬
‫تتخذها بعيدا عنهم‪ ،‬دفعها أحدهم صوب الفراش‬
‫بعنف أنتزع من صرخة مدوية‪ ،‬لكن ذلك لم‬
‫يردع الذئاب عنها‪ ،‬تكالبوا عليها جميعهم في‬
‫مشهد لحيوانات برية تنقض على غزالة‬
‫أمام زوجها تجري عملية اغتصابها‪ ،‬تتعرى‬
‫تماما و تغتصب بالفعل و هي تصرخ و تبكي و‬
‫تناديه حتى كادت أحبالها الصوتية تتمزق ‪:‬‬
‫‪-‬سيــــــــــــــف‪ ..‬سيـــــــــــــــــف ‪...‬‬
‫و لكن عبثا‬
‫دون أي جدوى‬
‫كان عليها أن تعاني هذه المرة من أبشع واقعة‬
‫خشتها على اإلطالق‬
‫و ما من منقذ لها ‪...‬‬
‫*****‬

‫حامال في يده عمل السوء‪ ،‬حساء الشر‪ ،‬عاد‬


‫"مراد" إلى المشفى ليجد "أدهم" قد انضم‬
‫لخالته‪ ،‬اإلثنان بداخل الغرفة الخاصة التي نقلت‬
‫لها زوجته‪ ،‬زوجته الراقدة فوق السرير الطبي‪،‬‬
‫غائبة عن الوعي‪ ،‬تبدو و كأنها نائمة‪ً ،‬ل حول‬
‫لها و ًل قوة‬
‫و لكن من إنكماش جفناها‪ ،‬يستطيع تخمين‬
‫سجايا العذاب التي تعيشها داخل رأسها‪ ،‬ما‬
‫أعظم معاناتها‪ ،‬تلك الفتاة و الصبية و المرأة‬
‫الناضجة‪ ،‬كم تعذبت بحياتك يا "إيمان" ‪...‬‬
‫‪-‬مراد ! ‪ ..‬هتفت "أمينة" من حيث تقف عند‬
‫رأس ابنتها‬
‫إلتفت "أدهم" نحو ابن خالته و زوج أخته‪،‬‬
‫كانت حالته مزرية كما يرى‪ ،‬أشعث الرأس‪،‬‬
‫ذقنه نامية‪ ،‬الهاًلت السوداء تحيط بعينيه‪ ،‬كان‬
‫ضائعا ‪...‬‬
‫‪-‬كنت فين يا باشا ؟‬
‫بدت لهجة "أدهم" هجومية بالرغم من‬
‫مالحظته حالة "مراد"‪ ..‬بينما األخير لم يكن‬
‫يملك أي طاقة تخوله الخوض في مجادًلت‪...‬‬
‫أقبل صوب سرير زوجته‪ ..‬ألقى نظرة مطولة‬
‫عليها و هاله ما رآه في مالمح وجهها !‬
‫كأنما تنازع وحوش‪ ،‬كأن الفزع يفتك بها فتكا‪،‬‬
‫و كما لو أنه كان بحاجة لدفعة تحسم له‬
‫قراره‪ ...‬أفاق مرة أخرى على صوت "أدهم"‬
‫الغاضب ‪:‬‬
‫‪-‬انت ليه بتتصرف من دماغك‪ .‬و إيه إللي وداك‬
‫عند عمتي ؟ أمي عرفت كل حاجة من لمى‪ .‬ليه‬
‫ماستنتش لما أجي و نتصرف سوا‪ .‬بص لي هنا‬
‫و قولي عملت إيه !؟؟‬
‫لم يقاومه "مراد" و هو يقبض على ذراعه‬
‫ليديره تجاهه‪ ،‬صدم "أدهم" اآلن لمرآى تعبير‬
‫األخير‪ ،‬كان بارد كالموتى‪ ،‬بشرته شاحبة‪ ،‬و‬
‫كانه بالفعل مقبل على فخ مميت ‪...‬‬
‫‪-‬إيمان لوحدها يا أدهم ! ‪ ..‬نطق "مراد" أخيرا‬
‫بصوت ًل حياة فيه ‪:‬‬
‫‪-‬إيمان بعد ده كله‪ .‬ماتستاهلش تتساب لوحدها‪..‬‬
‫ًلزم أكون معاها !‬
‫عبس "أدهم" متسائال بدهشة ‪:‬‬
‫‪-‬انت بتقول إيه !؟‬
‫نظر له بقوة و كرر بهدوء كأنه يوصيه ‪:‬‬
‫‪-‬أنا ًلزم أكون مع إيمان‪ ..‬و انت‪ .‬انت كمان‬
‫مش هاتسيبها‪ .‬اوعى تسيبها يا أدهم‬
‫تمتم "أدهم" مجفال ‪:‬‬
‫‪-‬طيب اهدى‪ .‬اهدى يا مراد‪ .‬انت أعصابك آ ‪...‬‬
‫قاطعه "مراد" بحزم ‪:‬‬
‫‪-‬أنا خارج أعمل تليفون‪ .‬ماتتحركش من جنبها‪.‬‬
‫سامعني ؟ هاتعمل كل إللي في وسعك لحد ما‬
‫تخرجها من إللي هي فيه‬
‫و أشاح عنه ملقيا نظرة أخيرة عليها‪ ،‬كأنه‬
‫يودعها‪ ،‬ثم منح خالته و ابنها ابتسامة باهتة ما‬
‫هي إًل اعتذار صامت عن كل خطأ اقترفه‬
‫بحقهما‪ ،‬عن الخيانة و طعن شرف العائلة كلها‬
‫‪...‬‬
‫لم يفهم كالهما طبيعة نظراته على وجه الدقة‪،‬‬
‫بينما يخرج أمامهما بمنتهى الهدوء‪ ،‬قالت‬
‫"أمينة" بلهجة قلقة ‪:‬‬
‫‪-‬و بعدين يا أدهم‪ .‬قولي هانتصرف إزاي‪ .‬أختك‬
‫بتضيع مننا !!‬
‫يكز "أدهم" على أسنانه و ًل زال يحدق في إثر‬
‫"مراد"‪ ..‬إستدار محدقا في أمه و هو يقول‬
‫بغلظة ‪:‬‬
‫‪-‬مافيش فايدة‪ .‬عمتي راجية هي زي ما هي‪.‬‬
‫الشر بيجري في جسمها بدل الدم !‬
‫أمينة بنفاذ صبر ‪:‬‬
‫‪-‬أنا مش في عمتك دلوقتي‪ .‬ياكش تولع‪ .‬أنا في‬
‫بنتي‪ .‬هانسيب أختك كده يا أدهم ؟؟‬
‫فتح فاهه مجددا ليرد عليها‪ ،‬لكنه لم يكاد يفعل‪،‬‬
‫إذ اقتحمت الممرضة الغرفة فجأة صائحة ‪:‬‬
‫‪-‬دكتور أدهم‪ .‬األستاذ إللي لسا خارج من‬
‫عندكوا ًلقيناه واقع برا‪ .‬مش عارفين ماله و ًل‬
‫عارفين نفوقه !!!‬

‫*****‬
‫المشهد يتبدل من حوله‪ ،‬لقد كان منذ لحظات‬
‫برواق المشفى بعد أن خرج م غرفة زوجته‬
‫ليحتسي من تلك القنينة‪ ،‬بمجرد أن رفعها عن‬
‫فمه‪ ،‬وجد نفسه هنا !‬
‫في مكان يعرفه جيدا‪ ،‬شقة فاخرة‪ ،‬نوافذها‬
‫توضح بأن البناء عبارة عن ناطحة سحاب‪،‬‬
‫العلو الشاهق‪ ،‬البخار المائي المحيط بالمساحة‬
‫المربعة‪ ..‬إن لم يكن في مخطئ و هو حتما ًل‪..‬‬
‫فهو اآلن قد انتقل بطريقة ما إلى شقة الزوجية‬
‫التي شاركته العيش بها "هالة البحيري"‪..‬‬
‫طليقته‬
‫إذن‪ ..‬هل هذا بالفعل أكبر مخاوفه !؟‬
‫أن يلتقي بها من جديد !!‬
‫‪-‬مراد !‬
‫و ذاك الذي لم يحسب له حسابا‬
‫ًل يمكن أن تكون الدجالة على حق‬
‫من أين عرفت ؟ أنى لها أن تعرف أن لقاء كهذا‬
‫كفيل بزعزعة تماسكه !؟؟؟‬
‫اللعنة !‬
‫إنه حتى لم يرها بعد‪ ،‬إنما فقط سمع صوتها‬
‫منبعث من ورائه‪ ،‬تلك التي كان يعشقها يوما‬
‫ما‪ ،‬الفتاة التي أختارها و تزوجها و خطط‬
‫لقضاء حياته معها‪" ..‬هالة"‪ ..‬إنه معه اآلن‪..‬‬
‫معه ‪...‬‬
‫‪-‬حبيبي ! ‪ ..‬همس حميمي بأنفاس ساخنة‬
‫مالصق ألذنه‬
‫ليكتشف بأنها صارت تحتضنه من الخلف‪،‬‬
‫اآلن‪ ،‬تضمه بذراعيها‪ ،‬تناجيه بصوتها األنثوي‬
‫أرق من النسمات ‪:‬‬
‫‪-‬وحشتني أوي‪ .‬ياااااه‪ .‬وحشتني يا مراد‪ .‬أنا‬
‫مش مصدقة‪ ..‬انت رجعت لي تاني يا حبيبي‪ .‬انا‬
‫و انت بقينا مع بعض‪ .‬مراد‪ ..‬حبيبي مراد !‬
‫صوتها وحده‪ ،‬يعبث بعقله كمفعول الخمر ينسيه‬
‫واقعه و الهدف الذي خاض من أجله تلك‬
‫المغامرة الخطيرة‪ ،‬لوهلة صدق بأنه معها‬
‫بالفعل‪ ،‬و كأن هذا كله ليس وهما‪ ،‬ارتفعت يداه‬
‫ممسكا بذراعيها المحيطان بجزعه‪ ،‬رفعهما‬
‫عنه ليتمكن من اًلستدارة إليها‪ ،‬و علقت‬
‫أنفاسه بصدره لحظة وقع بصره عليها !!!‬
‫تبا لهذا‬
‫تبا‬
‫إنها هي‪ ،‬يقسم إنها هي‪ ،‬هي نفسها "هالة" و‬
‫كما يحب أن يراها تماما‪ ،‬جميلة‪ ،‬فاتنة‪،‬‬
‫مبتسمة‪ ،‬تبادله العشق بأشد مم يبادلها و قد‬
‫تجلى هذا في نظراتها الوالهة به و هي ترنو‬
‫إليه هكذا بطريقة لم يعهدها من قبل ‪...‬‬
‫‪-‬أخيرا رجعت لي يا حبيبي ! ‪ ..‬همست له‬
‫"هالة" باغواء دوما ما فلح معه‬
‫شملها "مراد" بنظرات مبهورة‪ ،‬حائرا بين‬
‫مشاعره‪ ،‬قبل عام تقريبا كان يتوق للعودة لها‪،‬‬
‫كاد يفقد عقله عندما طلقها و صارت محرمة‬
‫عليه‪ ،‬و ها هي اآلن بين يديه‪ ،‬تبدي له حبها‪،‬‬
‫فهل يرفض !؟‬
‫هذه الزوبعة المتفاقمة بعينيه قرأها الكائن الذي‬
‫يواجهه‪ ،‬لتبزغ ابتسامة ماكرة على شفتي‬
‫"هالة" المزعومة‪ ،‬تقرب وجهها إلى وجهه‬
‫متمتمة برقة متناهية ‪:‬‬
‫‪-‬أنا مش هاسيبك من إنهاردة‪ .‬أنا ما صدقت‬
‫ترجع لي‪ .‬هانفضل مع بعض لألبد‪ ..‬بحبك يا‬
‫مراد ‪...‬‬
‫و شبت قليال لتقبله على فمه‪ ،‬فمبجرد أن مست‬
‫شفاهها شفته السفلى ارتفعت يده و قبض على‬
‫عنقها بقوة‪ ،‬برزت عيني "هالة" بصدمة و‬
‫هي تقول بصعوبة لضغطه على أوردتها و‬
‫حنجرتها ‪:‬‬
‫‪-‬مراد‪ .‬انت بتعمل إيه‪ .‬شيل إيدك‪ .‬انت بتخنقني‬
‫!!‬
‫اخشوشن صوت "مراد" و هو يرمقها بوحشية‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬إنتي مش هالة !!!‬
‫و فجأة تالشى ذعر األخيرة‪ ..‬لتحل ذات‬
‫اًلبتسامة الشيطانية مكانه و هي تنظر إليه‬
‫بخبث اآلن و تقول ‪:‬‬
‫‪-‬كان أحسن لك تتعامل معايا عادي‪ .‬كده بوظت‬
‫اللعبة‪ .‬شوف ممكن تستحمل تقضي معايا أيامك‬
‫الجاية إزاي !‬
‫ابتسم "مراد" باستخفاف و هو يرد ‪:‬‬
‫‪-‬و انت أو انتي مفكرة إني هفضل هنا كتير ؟ أنا‬
‫خارج من هنا قريب أوي‬
‫خرج الصوت الشبيه بصوت "هالة" عاديا و‬
‫كأنه ًل يدعي اإلختناق ‪:‬‬
‫‪-‬وريني شطارتك !‬
‫استفزه التحدي الذي تلقاه من ذاك أيا من‬
‫يكون‪ ،‬فاحتدمت الدماء بعروقه و هو يستوجبها‬
‫بخشونة ‪:‬‬
‫‪-‬إيمـان فيـن ؟‬
‫واصلت األخيرة مضايقته قائلة ‪:‬‬
‫‪-‬فتشني يمكن تالقيها ‪...‬‬
‫تقلصت عضالت فكه بغضب ثائر‪ ،‬و مع ذلك‬
‫بقي هادئا‪ ،‬لترفع "هالة" المزعومة يدها‬
‫مزيحة قبضته عن عنقها بسهولة و هي تقول‬
‫بصوت مغناج ‪:‬‬
‫‪-‬انت مش خايف مني‪ .‬و ده واضح جدا‪ ..‬مش‬
‫مشكلة‪ .‬إيه رأيك نعمل إتفاق‪ .‬أنا ممكن أخلي‬
‫حياتك معايا هنا جنة‪ .‬انت مش كان نفسك ترجع‬
‫لهالة ؟ هالة أهيه بين إيديك‪ .‬يال اعترف‪.‬‬
‫اعترف إنك مانستهاش‪ .‬و إن أكبر خوف في‬
‫حياتك إنها تظهر تاني و انت خالص اتجوزت‬
‫إيمان‪ .‬اعترف إن الفكرة عمرها ما راحت من‬
‫بالك‪ .‬لو هالة ندمت عليك و رجعت‪ .‬ممكن‬
‫تسيب إيمان عشانها‪ ..‬قول إنك بتحب هالة و‬
‫إيمان كانت مجرد وسيلة تنسيك حبك‪ .‬قـول !!‬
‫تغالظت لهجتها بالكلمات األخيرة‪ ،‬و تسمرت‬
‫نظراتها الحمراء على عينيه الرماديتين‪ ،‬ظل‬
‫تعبيره واجما‪ ،‬لم يرد بشيء‪ ،‬فطفى ما يشبه‬
‫الغيظ على سلوك ذلك الكائن‪ ،‬لتقول نسخة‬
‫"هالة" بانفعال و قد انتفخ شعر رأسها و‬
‫حاجبيها مثل قطة في طور الهياج ‪:‬‬
‫‪-‬ماتحاولش تقاومني‪ً .‬لزم تستسلم‪ .‬انت مش‬
‫هاتالقي إيمان‪ .‬و مش هاتعرف تخرج من هنـا‬
‫!!!‬
‫__________‬
‫سلسلة العذاب ًل تنتهي‬
‫و ًل تعرف كم لبثت من أيام دون ان تعي أو‬
‫تكتشف حقيقة المؤامرة‪ ،‬كل ما تعرفه إنها‬
‫مستعبدة‪ ،‬تصدق ما يحدث لها‪ ،‬نجحت الخطة و‬
‫توهمت بأنها تعيش اإلعتداءات أليام‪ ،‬كم يوم‬
‫مر عليها و زوجها يحضر لها الرجال‬
‫ليغتصبوها أمام عينيه ؟‬
‫لقد تدمرت حقا‬
‫ًل سيما حين صوب نحوها كاميرا ليسجل‬
‫لحظات خزيها و هي عارية بين يدي الرجال و‬
‫يخبرها ‪:‬‬
‫‪-‬كنتي مفكرة إني ممكن أختفي بسهولة من‬
‫حياتك‪ .‬كل إللي بيحصل ده هايوصل إليد أدهم‬
‫أخوكي‪ .‬هايشوفك على حقيقتك‪ .‬هايشوفك زي‬
‫مانا شايفك من أول يوم اتجوزتك‪ ..‬مومس !‬
‫بقليل من الجهد‪ ،‬كانت لتدرك الخدعة التي‬
‫تمارس عليها‪ ،‬و لكن ما يحدث بدا حقيقيا‪،‬‬
‫حسيا‪ ،‬إنها تشعر و كأنه يحدث بالفعل‪ ،‬و قد‬
‫استنزفت كل طاقتها في البكاء و المقاومة‪ ،‬لم‬
‫تصمد‪ ،‬لم تنجح محاولة واحدة لردع الشر عنها‬
‫و ًل تعرف كيف تبدل المشهد من حولها‪ ،‬من‬
‫شدة الكمد لم تهتم بالتغييرات التي طرأت‪،‬‬
‫وجدت نفسها فجأة بهذا المكان‪ ،‬مكبلة من يديها‬
‫إلى عامود خرساني‪ ،‬تماثل أمامها كال من‬
‫"سيف" و "أدهم"‪" ...‬أدهم" !!!!‬
‫لقد جاء‬
‫لقد أخبره‪ ..‬ها قد تحقق أبشع كوابيسها‪...‬‬
‫شقيقها يقف أمامها‪ ..‬علم بكل بشيء‪ ..‬يواجهها‬
‫و الغضب يعتمل بنظراته و نبرات صوته التي‬
‫شابهت صوت أبيها إلى حد كبير ‪:‬‬
‫‪-‬انتي تعملي كده‪ .‬انتي تقعي في الذنب ده‪ .‬أختي‬
‫أنا‪ ..‬أختي انا تزني‪ .‬أختي إللي ربيتها‪ .‬إللي‬
‫اتعلمت من أبونا الشيخ صالح عمران و إللي‬
‫علمتها بنفسي‪ ..‬انتي توسخي اسم عيلتنا‪.‬‬
‫تحطي راسنا كلنا في الوحل‪ .‬انتي يا إيمـان ؟‬
‫تفلت الشهقات من بين شفاهها اآلن و هي‬
‫تنطق باكية بضعف كمن يهذي ‪:‬‬
‫‪-‬ماكنش قصدي‪ .‬كل حاجة حصلت غصب عني‪.‬‬
‫أنا حبيت مراد‪ .‬و سيف غدر بيا‪ ..‬أنا خالص‬
‫مش عايزة أعيش‪ .‬مش عايزة‪ .‬أرجوك ريحني‬
‫يا ادهم‪ .‬ريحني من العذاب‪ .‬مش قادرة أتحمله‪.‬‬
‫أرجوك ‪...‬‬
‫رد عليها أخيها بقساوة اقتنعت باسحقاقها ‪:‬‬
‫‪-‬احنا إللي هانرتاح منك‪ .‬أكيد‪ ..‬بس مش قبل ما‬
‫أبري ذمتي قدام أمك‪ .‬أمي ًلزم تعرف بنتها‬
‫عملت إيه !!‬
‫هزت "إيمان" رأسها ترجوه و ترجوه‪ ،‬تتوسله‬
‫‪:‬‬
‫‪ً-‬ل‪ .‬عشان خاطري‪ .‬أل يا أدهم‬
‫و لكنه ابتسم ببرود غير مباليا‪ ،‬أشار لها برأسه‬
‫لألمام‪ ،‬فتبعت إشارته‪ ،‬لترى عبر واجهة‬
‫زجاجية‪ ،‬والدتها تقف أمام رجل‪ ،‬تجادله و هي‬
‫تتساءل بذعر واضح عنهما ‪":‬وًلدي فيــــن؟"‬
‫راقبت "إيمان" بقلب واجف ما يجري بالخارج‬
‫و كأنها تراه عن قرب‪ ،‬من جميع الجهات ‪...‬‬

‫‪-‬بنتك يا حجة أمينة ارتكبت كبيرة من الكبائر‪.‬‬


‫الزنا‪ ..‬و هي بنفسها اعترفت بخطيئتها‪ .‬و‬
‫بموافقتها بردو هتنال جزائها‪ً .‬لجل ما تطهر‬
‫منه في الدنيا‪ .‬بدل ما يخلص منها في اآلخرة‪ .‬و‬
‫انتي عارفة الفرق بينهم إيه !‬
‫جحظت عيني "أمينة" و هي تسأله آلخر مرة‬
‫لتتأكد من شكها ‪:‬‬
‫‪-‬تطهر منه إزاي !؟؟‬
‫جاوبها اآلخير مكشرا بقتامة ‪:‬‬
‫‪-‬حسب اعترافاتها فعلته قبل الزواج‪ .‬يعني تقع‬
‫عليها نصف العقوبة‪ ..‬أي الجلد‪ .‬بنتك يا حجة‬
‫هاتجلد مائة جلدة‪ .‬و إللي هاينفذ الحد فيها إبنك‪.‬‬
‫الدكتور أدهم !‬
‫و هنا فقدت "أمينة" صوابها فورا صارخة ‪:‬‬
‫‪ً-‬لاااااااااااااااااااااااا‪ .‬ألاااااااااا‪.‬‬
‫أدهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم‪.‬‬
‫أدهــــــــــــــــــــــــــــم !!!!‬

‫على الطرف اآلخر تنهار "إيمان" بدورها و‬


‫هي تعاود النظر إلى أخيها‪ ،‬و كان عزاؤها‬
‫الوحيد بأنها مسألة وقت‪ ،‬هي واثقة من إنها‬
‫النهاية‬
‫كل شيء سينتهي‬
‫بقي القليل‬
‫القليل فقط ‪...‬‬
‫___________‬

‫لم يزيده ثورانها هذا إًل إصرارا على هدفه‪ ،‬و‬


‫ثقة بأنه قادرا على الخروج من هنا‪ ،‬رغم كل‬
‫المؤشرات التي تؤكد عدم إمكانية ذلك‪ ،‬فهذه‬
‫الشقة بال أبواب أو نوافذ مفتوحة‬
‫إنه حبيس‬
‫فكيف سيخرج !؟‬
‫بدأت نسخة "هالة" المزعومة تستعيد قناع‬
‫الخبث الواثق و هي ترى حيرة "مراد" تتزايد‪،‬‬
‫و قالت كأنما انتصرت بالفعل ‪:‬‬
‫‪-‬مافيش قدامك غير اًلستسالم‪ .‬طاوعني‪ ..‬و أنا‬
‫هاعيشك الباقي كله مبسوط و مرتاح !‬
‫ما لم تعرفه أن صمته لم ينم عن حيرة‪ ،‬بل كان‬
‫يدرس كالمها‪ ،‬و ًل يعرف ما الذي ربط بين‬
‫األبواب و كلمة السر بعقله‪ ،‬لقد قفزت هكذا‬
‫بخاطره تدله على المخرج الوحيد‬
‫كلمة السر‬
‫درس من دروس زوجته‪ ،‬كلما ضيعت شيء‪،‬‬
‫كلما أرادت شيء‪ً ،‬ل تردد سوى جملة واحدة‪..‬‬
‫و هي ما صاح بها ملء فمه و هو يصوب‬
‫نظراته القوية لعيني خصمه ‪:‬‬
‫‪-‬هللا أكبر !!!‬
‫يجفل للحظة حين يختل كل شيء من حوله‪ ،‬و‬
‫كأن العالم يتهاوى‪ ،‬بينما المجسم الذي إتخذ‬
‫شكل طليقته و كأنه بناء من رمال آيل للسقوط‪،‬‬
‫ابتعدت عنه في الحال و قد ارتسم الرعب على‬
‫وجهها الشيطاني ‪...‬‬
‫ابتسم "مراد" بانتصار من حقه هو اآلن‪،‬‬
‫فقالت األخيرة بلهجتها الغليظة الحقيقية ‪:‬‬
‫‪-‬حتى لو عرفت تخرج‪ .‬مش هاتقدر تخرجها‪.‬‬
‫ًلزم هي إللي تقرر !‬
‫و صدر صوت أقفال في هذه اللحظة‪ ،‬لينظر‬
‫"مراد" و يرى بوابتين مجاورتين بالجدار‬
‫أمامه‪ ،‬و سمع صوتها من ورائه تقول قبل أن‬
‫تختفي ‪:‬‬
‫‪-‬قدامك باب يخرجك من هنا‪ .‬و باب يوديك‬
‫إليمان‪ .‬عندك فرصة واحدة بس عشان تخرج‪.‬‬
‫لو روحت لها و ماخرجتش‪ .‬هاتفضلوا هنا لألبد‬
‫!!!‬
‫___________‬

‫أمامه سريران بالغرفة‪ ،‬بعد أن كان سريرا‬


‫واحد‪ ،‬صارت أخته و زوجها في نفس الحال‪،‬‬
‫غائبان عن الوعي لنفس األسباب المجهولة‪،‬‬
‫هذه "إيمان" و هذا "مراد"‪ ..‬كيف يصنع اآلن‬
‫؟‬
‫‪-‬دكتور أدهم !‬
‫إلتفت "أدهم" نحو زميله الذي اقتحم الغرفة‬
‫في هذه اللحظة ممسكا بتقريره الطبي ‪...‬‬
‫‪-‬نتيجة التحاليل طلعت‪ .‬العقار المتبقي مع زوج‬
‫أختك بيحتوي على نسبة من مخدر إكستاسي‬
‫أخذ أدهم األوراق من بين يديه و تفحصها‬
‫عابسا‪ ،‬قامت أمه من مكانها تقف إلى جواره و‬
‫هي تكف عن البكاء الصامت بصعوبة‪ ،‬تصيخ‬
‫السمع فقط لتطمئن‪ ،‬بينما يدمدم "أدهم" ‪:‬‬
‫‪-‬دي حبوب هلوسة !‬
‫أومأ زميله قائال ‪:‬‬
‫‪-‬بالضبط‪ .‬نسبتها كبيرة جدا‪ .‬و كمان في‬
‫مكونات تانية معظمها أعشاب و حمض نووي‪.‬‬
‫مركبات معقدة بس مش هي السبب الرئيسي‬
‫في فقدان الوعي‪ .‬السبب الرئيسي لألسف غير‬
‫محدد لغاية دلوقتي‬
‫زم "أدهم" شفتيه و هو يومئ متفهما و قال ‪:‬‬
‫‪-‬تمام يا دكتور‪ .‬متشكر‪ .‬هما على كل حال‬
‫هايفضلوا تحت المالحظة‪ .‬و بأمر هللا الليلة دي‬
‫هايناموا في بيتهم‪ .‬مش هنا !‬
‫يصرف "أدهم" زميله أوًل‪ ،‬ثم يستأذن من‬
‫والدته لبضع دقائق‪ ،‬و عندما عاد طلب منها أن‬
‫تنتظر قليال بالخارج فأطاعته‬
‫ليتوجه نحو الطاولة الوحيدة بالغرفة و يصب‬
‫كاسا من الماء‪ ،‬يضيف له كمية وفيرة من الملح‬
‫و يغطي فوهته بكفه و هو يحرك شفتيه بقراءة‬
‫بعض اآليات القرآنية و األدعية‬
‫ينتهي بعد دقائق‪ ،‬ثم يمضي صوب أخته‪ ،‬يدس‬
‫يده أسفل عنقها و يرفعها عن الوسادة ليتمكن‬
‫من دفع الكأس إلى حافة فمها ‪...‬‬
‫‪-‬بسم هللا ! ‪ ..‬يردد "أدهم" بحزم واثقا مم يفعل‬
‫يترك شقيقته و ينتقل إلى "مراد"‪ ..‬يفعل معه‬
‫المثل‬
‫ثم يقف بين اإلثنان و ًل زال يمسك كأس المياه‪،‬‬
‫إتسم وجهه بتعبير صارم و هو يخاطب كليهما‬
‫و كأنهما يسمعانه ‪:‬‬
‫‪-‬مراد و إيمان‪ .‬انتوا سامعيني‪ .‬انتوا كويسين‪.‬‬
‫إللي فيكوا ده مش حاجة‪ .‬انتوا متخدرين‪.‬‬
‫وعيكوا في إيديكوا‪ .‬انتوا إللي تقدروا تصحوا‬
‫بنفسكوا‪ .‬محدش فيكوا يصدق الخدعة دي‪ .‬أي‬
‫دجل أو خرافة مالهاش أصل و ًل معنى‪ ..‬أنا‬
‫عارف إنكوا سامعيني‪ ..‬بأكدها تاني‪ .‬دي خدعة‪.‬‬
‫ماتصدقوهاش !!‬

‫______‬
‫كانت تستعد ألول ضربة من السوط‪ ،‬و ًل تعرف‬
‫كيف جاء "مراد"‪ ..‬لم يكن هذا ما تريده‬
‫لكنه أتى‪ ،‬شعرت بذراعيه تحيطان بها‪ ،‬و‬
‫سمعت صوته يخترق أذنيها ‪:‬‬
‫‪-‬إيمـــان‪ .‬فتحي عنيكي‪ .‬بصيلي‪ .‬إيمان‪ .‬ده مش‬
‫حقيقي‪ .‬إللي شوفتيه كله مش حقيقي‪ .‬إيمــان‬
‫‪...‬‬
‫لكنها لم تنصت له‬
‫لم تصدقه‬
‫لم تسمع سوى صوت أخيها‪ ،‬و لم تصدق إًل ما‬
‫قاله‪ ،‬عندما إنبعث صوته من مكان ما‪ ،‬يخبرها‬
‫بأنها خدعة‪ ،‬كل هذا محض خداع‪ ،‬أوهام ًل‬
‫أساس لها‬
‫إنفتح جفناها في هذه اللحظة‪ ،‬لتصطدم برؤية‬
‫"مراد"‪ ..‬يطل عليها ممسكا وجهها بكلتا يداه‪،‬‬
‫القلق ملء عينيه ‪...‬‬
‫‪-‬مراد ! ‪ ..‬نطقت بصوت يقطر ألما‬
‫طمأنها "مراد" مآزرا ‪:‬‬
‫‪-‬ماتخافيش‪ .‬أنا هنا جنبك‪ .‬مش هاسيبك أبدا‪.‬‬
‫بس ساعديني يا إيمان‪ ..‬سمعتي أدهم‪ .‬ركزي‬
‫في كالمه‪ .‬أنا مش هاخرج من هنا إًل بيكي !‬
‫بدأ العالم المصطنع يتهاوى من حولهما بالفعل‪،‬‬
‫كلما صدقت ما قاله أخيها‪ ،‬كلما استمعت أكثر‬
‫إلى "مراد"‪ ..‬أغمضت عينيها مطلقة صرخة‬
‫من أعمق أعماقها لكي ًل تترك شيئا بداخلها و‬
‫هي تتحرر من كل هواجسها و كوابيسها ‪...‬‬

‫*****‬
‫يصب "أدهم" ما تبقى من كأس المياه في‬
‫راحة يده‪ ،‬لينثرها فوق وجهي "مراد" و‬
‫"إيمان" بالتساوي و هو يردد بصوت مسموع‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬أعوذ باهلل وقدرته من شر ما أجد وأحاذر‬
‫أذهب البأس رب الناس‪ ،‬واشف أنت الشافي ًل‬
‫شفاء إًل شفاؤك شفاء ًل يغادر سقما‪ .‬أعوذ‬
‫بكلمات هللا التامة من كل شيطان وهامة وكل‬
‫عين ًلمة‬
‫أعوذ بكلمات هللا التامات من شر ما خلق‬
‫اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت‬
‫على إبراهيم وعلى آل إبراهيم‪ ،‬إنك حميد مجيد‪،‬‬
‫اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما‬
‫باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في‬
‫العالمين إنك حميد مجيد‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‪ ..‬لو أنزلنا هذا القرآن‬
‫على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية َّللا‬
‫وتلك األمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون هو‬
‫َّللا الذي ًل إله إًل هو عالم الغيب والشهادة هو‬
‫الرحمن الرحيم هو َّللا الذي ًل إله إًل هو الملك‬
‫القدوس السالم المؤمن المهيمن العزيز الجبار‬
‫المتكبر سبحان َّللا عما يشركون هو َّللا الخالق‬
‫البارئ المصور له األسماء الحسنى يسبح له ما‬
‫في السماوات واألرض وهو العزيز الحكيم‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‪ ..‬قل أوحي إلي أنه‬
‫استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا‬
‫عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا‬
‫أحدا*وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة وًل‬
‫ولدا‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‪« ..‬وننزل من القرآن‬
‫ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين وًل يزيد‬
‫الظالمين إًل خسارا»‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‪ ..‬قالوا يا موسى إما أن‬
‫تلقي وإما أن نكون أول من ألقى ۝ قال بل‬
‫ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من‬
‫سحرهم أنها تسعى ۝ فأوجس في نفسه خيفة‬
‫موسى ۝ قلنا ًل تخف إنك أنت األعلى ۝‬
‫وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا‬
‫كيد ساحر وًل يفلح الساحر حيث أتى ‪...‬‬
‫لم يتوقف لسانه عن ترديد اآليات‪ ،‬بل أزداد و‬
‫هو يرى بوادر عودة كليهما إلى الوعي‪ ...‬ثم‬
‫جاءت صحوة "مراد" أوًل‬
‫إذ انتفض من السرير فاتحا عيناه على‬
‫مصراعيهما و هو يسعل بحدة‪ ،‬قفز من مكانه‬
‫تجاه النافذة القريبة‪ ،‬ليفرغ معدته على الفور‬
‫‪...‬‬
‫إتجه "أدهم" نحو أخته اآلن مناديا إياها بحزم‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬إيمان‪ .‬فوقي‪ .‬إصحي يا إيمان‪ .‬انت سامعاني‪..‬‬
‫أنا أدهم‪ .‬إيمان !!‬
‫تمتمت "إيمان" بصعوبة و من تحت وطأة‬
‫الغصة شديدة المرارة بحلقها ‪:‬‬
‫‪-‬أدهم !‬
‫لم تفتح عيناها بعد‪ ،‬و قد استشف "أدهم"‬
‫رغبتها بالتقيؤ هي األخرى‪ ،‬فحملها على الفور‬
‫من السرير إلى المرحاض الملحق بالغرفة‪ ،‬ما‬
‫لبث أن تبعهما "مراد" مرنحا‪ ،‬في نفس‬
‫اللحظة التي ولجت فيها "أمينة" مذهولة و‬
‫فرحة في آن‬
‫تهاتفت من وراء ظهري "مراد" و "أدهم" ‪:‬‬
‫‪-‬إيمان‪ .‬بنتي‪ ..‬يا حبيبتي يابنتي‪ .‬يا حبيبتي ‪...‬‬

‫*****‬

‫مأل الصياح المعترض البيت القذر للدجالة‬


‫الملعونة ‪...‬‬
‫ركلت المرجل المشتعل و هي تحتج على األخبار‬
‫التي وصلت إليها‪ ،‬و ًل ينفك لسانها يردد بغيظ‬
‫شديد ‪:‬‬
‫‪ً-‬ل‪ً .‬ل يا راجية‪ ..‬يا غبية‪ .‬حسابي معاكي بعدين‪.‬‬
‫انتي كنتي هاتضيعيني أنا‪ .‬ماقولتليش إنه قادر‬
‫كده‪ .‬ماقولتليش إنه عارف‪ ..‬عارف بيعمل إيه‪...‬‬
‫أنا مقدرتش عليه‪ .‬بس أنا هقدر عليكي انتي‪.‬‬
‫أصبري عليا يا راجية !!!‬

‫*****‬
‫‪-‬غسيل معوي ! ‪ ..‬قالها الطبيب الشاب مدهوشا‬
‫ابتسم له "أدهم" ببساطة و قال ‪:‬‬
‫‪-‬المركبات إللي دخلت جسمهم كانت عن طريق‬
‫أكل أو شرب‪ .‬فكرت أعمل محاولة و الحمدهلل‬
‫نجحت‬
‫آيده الطبيب قائال ‪:‬‬
‫‪-‬كنا هانعمل كده بالفعل بس لما يفوقوا‪ .‬الفكرة‬
‫إنهم فقدوا الوعي بطريقة غريبة‪ .‬لو استنيت‬
‫شوية كنا عملنا غسيل المعدة على أي حال‬
‫عشان نلحقهم بس‪ .‬كويس إنها ماطلعتش حالة‬
‫تسمم‬
‫انضم طبيب ثالث لهما مضيفا ‪:‬‬
‫‪-‬خبرة الدكتور أدهم جديرة باإلشادة‪ .‬احنا نضم‬
‫المستشفى بتاعتنا على بتاعته و نستفيد أكتر‬
‫منه‪ .‬ماينفعش كده‬
‫مازحه "أدهم" بلطف ‪:‬‬
‫‪-‬زي ما انتوا‪ .‬أنا ممكن أحط نفسي تحت الطلب‪.‬‬
‫بدوام جزئي يومين في األسبوع !‬
‫تضاحكوا بمرح أمام الغرفة الخاصة لشقيقته ‪...‬‬
‫أما بالداخل فقد بقي "مراد" برفقتها‪ ،‬لم يتركها‬
‫طرفة عين‪ ،‬بينما ذهبت "أمينة" لتحضر‬
‫"لمى" من المنزل و بعض المالبس من أجل‬
‫ابنتها‬
‫تنعمت "إيمان" بأحضان زوجها الدافئة‪،‬‬
‫خائفة‪ ،‬تائهة‪ ،‬ضربات قلبه المنتظمة تعيد إلى‬
‫نفسها األمان‪ ،‬يميل "مراد" برأسه على جبينها‬
‫مغمغما ‪:‬‬
‫‪-‬مش عايزة تقوليلي حاجة ؟‬
‫طال انتظاره لثوان‪ ،‬ثم جاوبته بصوت مهزوز ‪:‬‬
‫‪-‬مش فاكرة حاجة‪ .‬كل إللي جاي في بالي‬
‫سيف‪ ..‬صور من كوابيس قديمة كنت بشوفها‪.‬‬
‫بس مش فاكرة أي حاجة‪ .‬آخر حاجة فكراها أنا‬
‫و انت كنت في البيت‪ .‬كنت بتديني الدوا‪ .‬و‬
‫بعدها صحيت هنا !‬
‫و صمتت لبرهة‪ ،‬لتسأله ‪:‬‬
‫‪-‬و انت ؟‬
‫ندت عنه تنهيدة عميقة و هو يرد عليها برفق ‪:‬‬
‫‪-‬أنا كمان مش فاكر أي حاجة‪ .‬كأني نمت عادي‬
‫و شفت لمحات من أحالم أو مواقف قديمة‪..‬‬
‫مافيش حاجة محددة !‬
‫رفعت "إيمان" وجهها لتنظر إليه في عينيه‬
‫مباشرة‪ ،‬و استوضحته بفضول ‪:‬‬
‫‪-‬قولي ليه عملت كده !؟‬
‫‪-‬إيه إللي عملته ؟‬
‫‪-‬ليه خاطرت بحياتك‪ .‬شربت من إللي اتحطلي‬
‫في العصير‪ .‬إللي بنتي حطته ليا !‬
‫مراد بجدية ‪ :‬إيمان‪ .‬احنا اتفقنا‪ .‬لمى مالهاش‬
‫ذنب‪ .‬هي اتصرفت غريزيا‪ .‬كانت حاسة إنها‬
‫خسرتك و عايزاكي ليها لوحدها‪ .‬و هي اعترفت‬
‫لي إني أنا إللي كنت مقصود مش انتي‬
‫‪-‬بردو ماتتوهش الموضوع‪ .‬قولي ليه عملت‬
‫كده !؟؟‬
‫احتفظ بالرد لدقيقة‪ ..‬ثم قال صراحة ‪:‬‬
‫‪-‬أنا مافكرتش لما خدته من الست الدجالة دي‪.‬‬
‫افتكرت إنهم سمموكي‪ .‬فكرة إني خسرتك لألبد‬
‫مقدرتش أقبلها‪ .‬قلت مش هاسيبك لوحدك‪ .‬إللي‬
‫يسير عليكي ًلزم يسير عليا‪ ..‬أنا عمري ما‬
‫اتحطيت في اختيار‪ .‬بس إنهاردة حاسس إني‬
‫اتخيرت ما بينك و بين هالة‪ .‬جت في بالي‬
‫دلوقتي حاًل‪ .‬لو وقفت جمبك دلوقتي منغير قيود‬
‫تمنعني عنها‪ .‬هاسيبها هي وهاختارك انتي‪ .‬انا‬
‫أصال اخترتك يا إيمان‪ .‬اخترتك !‬
‫و فجأة رآى البريق العسلي لعيني المها‬
‫خاصتها‪ ،‬امتألت عيناها بدموع السعادة‪ ،‬و‬
‫ارتفعت أناملها مالمسة وجهه و هي تقول‬
‫بصوت مثقل بالعاطفة ‪:‬‬
‫‪-‬و أنا ماحبتش غيرك‪ .‬و ًل عمري اتخيلت‬
‫حياتي غير معاك‪ ..‬انت حياتي يا مراد ‪...‬‬
‫كانت تلوح قبلة في األفق خاتمة حديثهما‬
‫الحميمي‪ ،‬لوًل ظهور "أدهم" عند مدخل الغرفة‬
‫متنحنحا ‪:‬‬
‫‪-‬مش قادر أصدق إني بتعامل مع اتنين‬
‫متهورين و مضطر أستحملهم زي أخواتي طول‬
‫عمري !‬
‫نظرا كال من "أدهم" و "إيمان" إليه‪ ،‬ابتسما‬
‫له و قال "مراد" ‪:‬‬
‫‪-‬قدرك إننا اخواتك فعال‪ .‬لكن انت مش مضطر‬
‫تستحمل تهورنا‪ .‬أنا شخصيا هاعفيك من ده‬
‫قريب جدا‬
‫عبس "أدهم" متسائال ‪:‬‬
‫‪-‬اشرح من فضلك !‬
‫نظر "مراد" إلى وجه زوجته ذي التعبير‬
‫المستغرب و أجاب ‪:‬‬
‫‪-‬أنا قررت أخد إيمان و لمى و أرجع بيهم على‬
‫لندن‪ .‬هانعمل فريش ستارت كلنا‪ ..‬إيه رأيك يا‬
‫إيمي ؟‬
‫رفرفت "إيمان" بأهدابها قائلة ‪:‬‬
‫‪-‬مش عارفة‪ .‬أنا عمري ما فكرت إني أسيب هنا‬
‫و أسافر !‬
‫‪-‬مش هاتكوني لوحدك‪ .‬أنا و لمى معاكي‪ .‬و‬
‫ماما و بابا و تيتة نازلي‪ ..‬هناك هانبدأ من‬
‫جديد‪ .‬هانأسس حياتنا و عيلتنا الكبيرة‪ .‬و أكيد‬
‫هانزور هنا كل فترة‪ .‬صدقيني التغيير ده‬
‫هاينفعك‪ .‬هاينفع لمى كمان‪ .‬هانبعد عن أي‬
‫حاجة ممكن تضايقنا‬
‫صمتت "إيمان" بتفكير‪ ،‬ليقطع "أدهم" حبل‬
‫أفكارها قائال ‪:‬‬
‫‪-‬أنا شايف إن مراد عنده حق‪ .‬سفرك هو الحل‬
‫الوحيد لمشاكلك كلها يا إيمان‪ ..‬بيقولوا اإلنسان‬
‫مش ممكن يبقى كويس في المكان إللي تعب‬
‫فيه‪ .‬انتي قدامك فرصة تغيري حياتك‪ .‬أنا بشجع‬
‫قرار مراد !‬
‫ابتسمت "إيمان" دون أن تعطي موافقة نهائية‬
‫‪...‬‬
‫و في هذه اللحظة انضمت طفلتها برفقة‬
‫"أمينة" إليهم‪ ،‬و ركضت "لمى" رأسا إلى‬
‫أحضان أمها باكية ‪:‬‬
‫‪-‬مامـي !‬
‫حملها "مراد" من ذراعها ليجلسها على حضن‬
‫"إيمان"‪ ..‬تقبلتها دون أي تعنت أو غضب‬
‫بل ضمتها "إيمان" بحنان و أخذت تمسح على‬
‫شعرها‪ ،‬لتجهش الصغيرة بالبكاء أكثر مغمغمة‬
‫في صدر أمها ‪:‬‬
‫‪-‬مامي‪ .‬أنا آسفة‪ .‬أنا ماكنش قصدي‪ .‬تيتة راجية‬
‫‪...‬‬
‫‪-‬خالص يا لمى ! ‪ ..‬قاطعتها "إيمان" بحزم‬
‫لطيف‬
‫شددت ذراعيها من حولها مضيفة برفق ‪:‬‬
‫‪-‬أنا عارفة كل حاجة‪ .‬و مش زعالنة منك‪ ..‬مش‬
‫زعالنة يا حبيبتي‬
‫ابتعدت "لمى" قليال لتنظر في وجه والدتها‬
‫قائلة و دموعها تجري فوق خديها ‪:‬‬
‫‪-‬أنا مش هعمل كده تاني‪ .‬و هاسمع كالمك انتي‬
‫و بابي مراد‪ ..‬أنا بحبك يا مامي‬
‫أحاطت "إيمان" وجهها بكفيها متمتمة بحب‬
‫جارف ‪:‬‬
‫‪-‬و أنا بحبك يا روح أمك‪ .‬بحبك أوي !‬
‫و عادت لتضمها مرة أخرى أمام نظرات‬
‫السعادة المحيطة بهما من العائلة‬
‫أخيرا‪ ..‬اكتملت العائلة !‬

‫يتبع ( الخاتمة ) ‪....‬‬


‫ــــــــــــــــــــــــ‬
‫أعداد قناة روايات خليجية للقصص والروايات المميزة‬
‫تلجرام‬
‫‪@Storykaligi‬‬
‫مستندات الروايات‬
‫‪@Storykaligi_1‬‬
‫لسنا الوحيدين في عالم الروايات ولكننا متميزون بعرض اهم وأقوى‬
‫الروايات والقصص تابعونا‬
‫نتمنى لكم قراءة ممتعة‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫الخـاتمة‬

‫يوم واحد فقط متبقي على سفرها ‪...‬‬


‫لقد جمعت كل أغراضها‪ ،‬ودعت كل أحبائها‪ ،‬و‬
‫قضت أيام ًل تنسى من األنس و األلفة الدافئة‬
‫برفقة عائلتها‬
‫لم يعد هناك خصومة مع أحد‪ ،‬تصالحت مع‬
‫الجميع حتى الذين آذوها‪ ،‬لقد صفحت عنهم‬
‫مقابل السعادة الغامرة التي رزقت بها مؤخرا‪،‬‬
‫و لكن طبعا مسألة غفرانها ًل تعني لزوجها‬
‫شيء‪ ،‬إذ أن ما يقرره هو ما يحدث دائما سواء‬
‫شاءت أم أبت‪ ،‬لطالما عرفت تلك الحقيقة‪ ،‬و‬
‫أمنت بأنها لن تفلح بتغييرها‪ ،‬و قد كفت بالفعل‬
‫عن المحاولة‪ ،‬إنها تترك له زمام نفسها‪ ،‬و تثق‬
‫به ثقة عمياء‪ ،‬ألم يثبت لها وًلئه حقا وأنه‬
‫جدير بقلبها ؟‬
‫تراقصت ابتسامة "إيمان" تلقائيا عندما كسر‬
‫صفير اإلعجاب المنبعث من زوجها صمت‬
‫الغرفة المطبق‪ ..‬إستدارت نحوه من حيث تقف‬
‫أمام المرآة تتمم زينتها إستعدادا للظهور بحفل‬
‫الزفاف المرتقب لصديق زوجها المقرب‪..‬‬
‫"عثمان البحيري" و إن كان خبرا أثار‬
‫دهشتها‪ ..‬فهو متزوج بالفعل و لديه ولدان‬
‫ماذا قد يدفعه لتجديد العرس !؟‬
‫اكتفى "مراد" بإخبارها أن صديقه لم يقيم زفافا‬
‫ًلئقا لزوجته عندما عقد عليها‪ ،‬ذلك ألن والده‬
‫توفى بالفترة التي تعرف فيها "عثمان" على‬
‫زوجته "سمر" و أحبها‪ ،‬لم تكن الفرصة‬
‫سانحة له بإقامة أي مظهر من مظاهر الفرح‬
‫فتزوجا بتجمع عائلي بسيط دون أي صخب‪ ،‬و‬
‫لم يذكر "مراد" لها نهائيا و لو لمحة عن‬
‫زواجهما العرفي و الفضيحة التي تلته ‪...‬‬
‫‪-‬بفكر حقيقي أجي أشيل اإلشارب عن راسك و‬
‫أبوظ الروج األحمر إللي على شفايفك ده و‬
‫نفكس للفرح !‬
‫إزدادت إبتسامة "إيمان" إتساعا و هي تستمع‬
‫إلى غزل زوجها الصريح‪،‬‬
‫ابتسم "مراد" ‪:‬‬
‫‪-‬لو مش واثق إن عثمان هايقتلني إذا‬
‫ماحضرتش كنت ًلغيت كل حاجة و قضينا ليلتنا‬
‫األخيرة هنا لوحدنا‪ .‬بعيد عن الكل !‬
‫تحاول "إيمان" تشتيتت عقلها عن التفكير به‪،‬‬
‫لترد و هي تلوح ناحيته بكفها ‪:‬‬
‫‪-‬يعني انت مخلينا نسافر اإلسكندرية و نقضي‬
‫آخر يوم لينا في مصر هنا في فندق مخصوص‬
‫عشان تحضر فرح صاحبك و في اآلخر مش‬
‫عايز تحضر ؟ أنا لو منه أخنقك بصراحة !!‬
‫قهقه بانتعاش و هو يمضي صوبها ‪:‬‬
‫‪-‬ماتبقيش متلهفة أوي كده على الحضور‪ .‬قصر‬
‫البحيري الليلة دي مش بس هايستقبل نخبة‬
‫المجتمع‪ .‬ده هايكون في ستات من إللي يتشافوا‬
‫في اإلعالنات‪ .‬و مش هاخبي عليكي أنا عندي‬
‫عالقات شغل و صداقة مع كتير منهم‪ .‬و أنا‬
‫عارفك من زمان و مجرب غيرتك‪ ..‬أخاف‬
‫تخنقيني فعال هناك لو واحدة منهم سلمت عليا !‬
‫و استغرق في ضحكه من جديد‪ ،‬ليتالشى‬
‫مرحها هي اآلن و تقول بجمود ‪:‬‬
‫‪-‬أنا طبعا بغير عليك‪ .‬بغير عليك حتى من‬
‫هدومك‪ ..‬لكن و ًل واحدة تفرق معايا‪ .‬غير‪..‬‬
‫غير هالة !!!‬
‫‪-‬هالة ! ‪ ..‬تمتم و قد خبت ضحكته و اختفت‬
‫ابتسامته تماما‬
‫قطب قائال باستغراب ‪:‬‬
‫‪-‬انتي عايزة تقوليلي إنك قلقانة من ظهور هالة‬
‫قصادك‪ .‬و ممكن تغيري منها !!؟‬
‫صمتت "إيمان" و ظل فمها مطبقا بتوتر ‪...‬‬
‫يزفر "مراد" مطوًل و يفرك جانب وجهه بيده‬
‫الحرة مستطردا ‪:‬‬
‫‪-‬غيرتك منها مالهاش أي معنى يا إيمان‪ .‬بغض‬
‫النظر عن إن هالة مابقتش في حساباتي أصال و‬
‫ًل ممكن ألتفت ليها بأي شكل‪ .‬ماتنسيش إنها‬
‫ست متجوزة دلوقتي و عندها طفل‬
‫و كأنه تفوه ما تاقت لمناقشته فيه‪ ،‬فسألته على‬
‫الفور ‪:‬‬
‫‪-‬صحيح قولي يا مراد‪ .‬انت و هي قضيتوا فترة‬
‫متجوزين‪ .‬ليه ماخلفتش منها ؟‬
‫هز كتفيه و جاوب ببساطة ‪:‬‬
‫‪-‬الهانم طبعا تربية قصور و مدللة جدا‪ .‬لما‬
‫اتجوزنا أنا كنت حابب أوي نخلف بسرعة‪ .‬لكن‬
‫هي رفضت عشان تحافظ على شكل جسمها‪.‬‬
‫قالت لي بعد سنتين أو تالتة ممكن نجيب أول‬
‫طفل‪ .‬بس طبعا مع عشرتي ليها عرفت إنها‬
‫مش هاتنفذ كلمة من وعدها‬
‫‪-‬بس هي خلفت لما اتجوزت بعدك !‬
‫‪-‬و ده يثبت إنها ماحبتنيش ! ‪ ..‬قالها "مراد"‬
‫بابتسامة متصالحة‬
‫لم يبدي أي إنزعاج من أفكاره التي يطرحها و‬
‫التي صارت حقيقة منذ مدة للجميع ‪:‬‬
‫‪-‬أيا كان مين إللي اتجوزته هالة البحيري ف‬
‫هي حبته‪ .‬مش عشان قبلت تخلف منه بس‪ .‬دي‬
‫كمان اتنازلت عن حياة القصور و سافرت معاه‬
‫يبنوا حياتهم سوا‬
‫رفعت "إيمان" حاجبها معلقة بحدة ‪:‬‬
‫‪-‬ده انت متابع أخبارها بقى‪ .‬و عرفت إنها‬
‫سافرت !!‬
‫عاودت الضحكة تتغلغل طبقات صوته العميقة و‬
‫هو يرد عليها متفكها ‪:‬‬
‫‪-‬و هللا و ًل متابع و ًل حاجة‪ .‬انا عرفت من‬
‫عثمان لما جه يحضر فرحنا‪ .‬ألنها هي كانت‬
‫السبب إننا قاطعنا بعض أنا و هو ف قدملي‬
‫ملخص عن أحوالها و إنه ما صدق خلص من‬
‫مسؤوليتها لما جوزها ألخو مراته‪ .‬عثمان‬
‫ندمان لحد إنهاردة إنه سابني اتجوزها‪ .‬هي آه‬
‫بنت عمه‪ .‬لكن أنا و هو بالنسبة لبعض أخوات‪.‬‬
‫و هو كرهها جدا طول فترة خصامنا‬
‫أومأت بعينيها و إلتزمت الصمت مرة أخرى‪،‬‬
‫فحنى رأسه ليالمس رأس أنفها بأنفه و همس ‪:‬‬
‫‪-‬هاتشوفي بعنيكي الليلة دي‪ .‬إن عيني مش‬
‫هاتشوف واحدة غيرك‪ .‬أنا كلي ليكي يا إيمان‪..‬‬
‫انتي و بس !‬
‫همسه هذا كاد يخدر حواسها‪ ،‬فرفعت يدها‬
‫باسطة كفها فوق موضع قلبه تماما‪ ،‬تدفعه‬
‫بعيدا عنها بقوتها الضئيلة التي لم تزحزحه قيد‬
‫أنملة‪ ،‬إنما هو من أفلتها طواعية و هو يسمعها‬
‫تقول من بين أنفاسها المخطوفة ‪:‬‬
‫‪-‬ماتحاولش تغريني‪ .‬ماتبقاش شيطان ورانا‬
‫مشوار ًلزم نقضيه !‬
‫و تركته متوجهة صوب السرير حيث علبة‬
‫الحذاء الجديد مقفلة فوقه‪ ،‬ضحك "مراد"‬
‫بانطالق و مشى نحو الخزانة‪ ،‬فتحها ليأخذ‬
‫بذلته الرمادية الفاخرة‪ ،‬و قد اختارتها "إيمان"‬
‫تماشيا مع لون عينيه‪ ،‬بينما أختارت هي ثوب‬
‫للسهرة محتشم‪ ،‬بلون التوت‪ ،‬و نسقت مع‬
‫حجابا أسود‪ ،‬و أخيرا ها هي تفتح علبة‬
‫المستطيلة ليبرز هيكل الحذاء ذي الكعب العال‪،‬‬
‫مكشوف بخيوط سباغتي رفيعة مرصعة‬
‫بالجواهر المتأللئة‪ ،‬جلست على حافة السرير‬
‫العريض لترتديه في كلتا رجليها و هي تستمع‬
‫لصوت "مراد" ‪:‬‬
‫‪-‬أدهم و سالف جايين في الطريق و جايبين‬
‫معاهم لمى‪ .‬أنا لسا مكلمهم من شوية و‬
‫بيتحركوا‬
‫تطلعت "إيمان" إليه معقبة ‪:‬‬
‫‪-‬لسا بيتحركوا دول كده قدامهم كتير‪ .‬مش‬
‫هايلحقوا السهرة من أولها !‬
‫‪-‬و هو المطلوب‪ .‬انتي عارفة أخوكي مش بيحب‬
‫اًلختالط بالطبقة المتحررة‪ .‬و في نفس الوقت‬
‫بيلبي دعوة عثمان‪ .‬فقال يجي متأخر عشان‬
‫يبارك علطول و يمشي‬
‫‪-‬حاجة متوقعة جدا من أدهم ! ‪ ..‬ثم قالت و‬
‫لمحة حزن بعينيها ‪:‬‬
‫‪-‬كويس إني هاشوف سالف على األقل‪ .‬كفاية‬
‫مش هكون موجودة ساعة وًلدتها‪ ..‬حبيبتي‬
‫مرعوبة من يوم ما الدكتورة قالت إنها حامل‬
‫في توأم‬
‫‪-‬آه بس أدهم مبسوط‪ .‬خصوصا لما عرف إن‬
‫التوأم ولد و بنت‪ .‬كان نفسه في البنت أوي‪..‬‬
‫ربنا يحفظهم له‬
‫‪-‬يارب ‪...‬‬
‫أتم "مراد" ارتداء مالبسه في مدة وجيزة‪،‬‬
‫وقف أمام المرآة يصفف شعره بعناية و يضع‬
‫على ذقنه الحليقة "الكولونيا" الثمينة التي‬
‫لطالما جذبت أنوف النساء إليه‪ ،‬ثم اكتفى بنثر‬
‫القليل من العطر فوق كتفيه و على رسغيه‪،‬‬
‫ارتدى ساعة معصمه الباهظة و بقي يرمق‬
‫نفسه بالمرآة و هو يعدل هندامه و يضبط ياقتي‬
‫قميصه األسود‬
‫ًلحظ السكون الذي خيم منذ دقائق‪ ،‬فاستدار‬
‫نحو زوجته هاتفا ‪:‬‬
‫‪-‬جهزتي يا حبيبي ؟‬
‫و لكن الصمت‬
‫لم ترد عليه‪ ،‬فعبس مندفعا ناحيتها على الفور‬
‫‪...‬‬
‫‪-‬إيمان !‬
‫انتزعها نداؤه من شرودها‪ ،‬فرفعت وجهها‬
‫تحدق بوجهه المطل عليها متسائلة ‪:‬‬
‫‪-‬نعم يا مراد !؟‬
‫هبط بجسمه ليجلس بجوارها على طرف‬
‫السرير‪ ،‬زحفت يده إلى يدها الملقاة بحجرها‪،‬‬
‫قبض عليها بكفه الكبير يبث الدفء فيها و هو‬
‫يقول ‪:‬‬
‫‪-‬روحتي مني فين ؟‬
‫تنهدت بعمق و جاوبته بابتسامة منهكة ‪:‬‬
‫‪-‬أنا معاك !‬
‫رمقها بنظرة كما لو أنها لم تنطلي عليه‪ ،‬و قال‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬أنا احساسي ممكن يخوني في أي حاجة‪ .‬بس‬
‫مش ممكن أغلط باحساسي بيكي‪ ..‬قوليلي مالك‬
‫؟‬
‫واصلت النظر بعينيه لبرهة‪ ،‬ثم صارحته‬
‫بصوت مكتوم ‪:‬‬
‫‪-‬إنهاردة ماما قالت لي خبر زعلني‪ .‬و غصب‬
‫عني‪ .‬مش قادرة ماربطوش بيك !!‬
‫سألها عابسا ‪ :‬إيه هو الخبر !؟‬
‫‪-‬انت ليك يد في فسخ خطوبة مايا ؟ ماما قالت‬
‫لي خطيبها راح لها شغلها في الجامعة و قطع‬
‫عالقته بيها قصاد الناس كلها‪ .‬كانت فضيحة‬
‫لدرجة إن ماما عرفت من برا‪ .‬الناس مالهاش‬
‫سيرة غير إللي حصل لمايا‪ ..‬من فضلك يا مراد‬
‫قول إنك ماعملتش حاجة !‬
‫بقي صامتا و لم يرد‪ ،‬وجهه الخال من التعابير‬
‫افقدها صوابها و هي تستنطقه بعصبية ‪:‬‬
‫‪-‬مراااد‪ .‬رد عليا !!!‬
‫‪-‬كنتي متوقعة مني إيه يا إيمان ! ‪ ..‬رد أخيرا‬
‫بهدوء‬
‫و لكن هدوء صدمها‪ ،‬فقست مالمحه و هو‬
‫يتابع بخشونة ‪:‬‬
‫‪-‬آه‪ .‬أنا وصلت لخطيبها و أثبت له إن أمها إللي‬
‫هي عمتك ست ًل عندها ضمير و ًل دين‪ .‬حكيت‬
‫له كل حاجة عملتها فيكي و في أخوكي أدهم من‬
‫قبلك و إللي ممكن تعمله فيه لو اتجوز بنتها‪ .‬أه‬
‫أنا إللي نصحته يفسخ الخطوبة في أسرع وقت‬
‫فرغت فاها مرددة ‪:‬‬
‫‪-‬ليه كده‪ .‬طيب و مايا ذنبها إيه ؟ انت مش‬
‫بتعمل غير إللي في راسك‪ .‬حتى لما أتسببت في‬
‫سجن مالك هناك في دبي‪ .‬ماقولتش و ًل أخدت‬
‫رأي حد !!‬
‫هز كتفيه غير مباليا و قال ‪:‬‬
‫‪-‬أنا مافترتش عليه‪ .‬هو إللي بيغش في شغله‪.‬‬
‫يستاهل عقابه ! ‪ ..‬ثم أضاف بوحشية مفاجئة ‪:‬‬
‫‪-‬و بعدين انتي بتدافعي عنه ؟‬
‫همست من بين أنفاسها بغضب ‪:‬‬
‫‪-‬أنا مش بدافع عن حد‪ .‬أنا بس مش عايزة أبقى‬
‫زيهم‪ .‬مع عايزة أتسبب في أذية حد‬
‫مراد بصرامة عنيفة ‪:‬‬
‫‪-‬انتي حرة في نفسك‪ .‬مش عايزة تئذي براحتك‪.‬‬
‫لكن أنا مابعرفش أسامح إللي يئذيني‪ .‬و إللي‬
‫آذاكي كأنه آذاني بالضبط و مش هاسامح !‬
‫بدأ هجومها عليه ينحسر تدريجيا‪ ،‬بينما لم‬
‫يخف و لو قليال تأجج وجهه بالحمرة الخطرة و‬
‫إلتهاب الرماد في عينيه المتسعتين بشراسة‪ ،‬لم‬
‫تجد ما تقوله‪ ،‬فقامت من أمامه يتبعها بعينيه‪،‬‬
‫أمسك برسغها يستوقفها بخشونة ‪:‬‬
‫‪-‬رايحة فين ؟‬
‫‪-‬جاية ! ‪ ..‬تمتمت بصوت بالكاد سمعه‬
‫و راقبها و هي تمضي نحو الخزانة‪ ،‬تستل‬
‫حقيبة يدها المتوسطة و تسحب منها شيئا لم‬
‫يراه‪ ،‬عادت إليه اآلن و وقت قبالته و هو ًل‬
‫يزال جالسا‪ ،‬تطلع إليها و هي ترمقه بعينين‬
‫ملؤهما الدموع‪ ،‬ثم تقول قبل أن تظهر ذلك‬
‫الشريط الطبي أمام عينيه ‪:‬‬
‫‪-‬أنا ماكنتش بخلف بسهولة‪ .‬و مش عارفة‬
‫إزاي حملت في لمى و انا كنت محتاجة أتعالج‪..‬‬
‫ماتعالجتش‪ .‬و لحد ما اتجوزتك ماتعالجتش‪ ..‬و‬
‫حصل تاني‪ .‬و مش عارفة إزاي بسهولة كده‪.‬‬
‫ده فعال رزق و مكتوب مهما كانت الظروف‪.‬‬
‫آلخر لحظة ماكنتش مصدقة‪ .‬لحد ما أكدتلي‬
‫دكتورة سالف !‬
‫كان يحدق اآلن لما بين يديها‪ ،‬مشدوها‪،‬‬
‫مصدوما‪ ،‬و ما لبث أن عاود النظر إليها ثانية‪،‬‬
‫و استطاع أن يتكلم و هو ًل يصدق ما يحدث ‪:‬‬
‫‪-‬انتي حامل !؟؟؟‬
‫أغرورقت عيناها بالدموع حتى ساحت فوق‬
‫خدها و هي تومئ له مرتان مغمغمة بصعوبة ‪:‬‬
‫‪-‬أيوة‪ .‬أيوة يا مراد‪ .‬أنا حامل‪ ..‬و مش قادرة‬
‫أصدق إن أحالمي كلها اتحققت كده‪ .‬أنا حامل‬
‫منك انت‪ .‬هاجيب طفل منك انت !!‬
‫انتقلت الدموع إلى عينيه هو اآلن‪ ،‬لتفلت‬
‫أنفاسه المحبوسة من صدره و هو يهب واقفا‬
‫ليأخذها في عناق محموم‪ ،‬هي تبكي‪ ،‬هو يدمع‬
‫و يقبلها‪ ،‬همس بأنفاس متالحقة مغمضا عينيه‬
‫‪:‬‬
‫‪-‬أنا عمري ما كنت مهووس باألطفال‪ .‬لكن دي‬
‫كانت أمنيتي‪ ..‬أنا هابقى أب‪ .‬هابقى أب !‬
‫ظل يكررها و كأنه ًل يزال غير متاكدا‪ ،‬لتؤكدها‬
‫له "إيمان" محيطة وجهه بكفيها الناعمين ‪:‬‬
‫‪-‬هاتبقى أب يا مراد‪ ..‬هاتبقى أب يا حبيبي !!‬
‫ابتعد عنها قليال لكي يتمكن من النظر إليها و‬
‫عاتبها بلوعة ‪:‬‬
‫‪-‬ليه ماقولتليش أول ما عرفتي ؟‬
‫ابتسمت له بشجن قائلة ‪:‬‬
‫‪-‬كنت بفكر إزاي أعملها لك مفاجأة‪ .‬و ماكنتش‬
‫ناوية أقولك الليلة دي كمان‪ ..‬بس اضطريت‬
‫عشان عايزاك توعدني !‬
‫هز رأسه و هو يخبرها بعاطفة جياشة ‪:‬‬
‫‪-‬قولي‪ .‬قولي عايزة إيه‪ .‬أطلبي مني إللي انتي‬
‫عايزاه !!‬
‫هدأت و هي تسحب نفسا عميقا إلى رئتيها‪ ،‬ثم‬
‫تقول بجدية ‪:‬‬
‫‪-‬إحنا قررنا نبدأ حياة جديدة‪ .‬قررنا سوا إننا‬
‫هانرمي كل الماضي ورا ضهرنا و نعيش‬
‫مستقبلنا زي ما احنا عايزين‪ ..‬أرجوك‪ً .‬لزم‬
‫تنسى فكرة اإلنتقام‪ .‬تشيلها من راسك‪ .‬و كفاية‬
‫إللي عملته‪ .‬فكر في أدهم و سمعته‪ .‬فكر في‬
‫بنتي‪ ..‬احنا هنسافر و نبعد بس أدهم هايفضل‬
‫موجود هنا‪ .‬و لمى مسيرها ترجع‪ ..‬أرجوك يا‬
‫مراد‪ .‬أوعدني !‬
‫و لو أن إنتقامه هكذا سيبقى ناقصا‪ ،‬فما زالت‬
‫"راجية" على قائمته‪ ،‬و قد احتار كيف‬
‫يعاقبها‪ ..‬و لكن ما تلقاه من أخبار سعيدة الليلة‬
‫كان كفيال بقلب خططه رأسا على عقب‬
‫فلم يمنع نفسه من تقديم وعده لها بثقة ‪:‬‬
‫‪-‬أوعدك يا إيمان‪ ..‬أوعدك بس انتي كده إدبستي‬
‫خالص‪ .‬فيني لألبد‬
‫أحاطت عنقه بذراعيه هامسة بكل ما يعتمل‬
‫بداخلها من شوق ًل يفنى و ًل يبلى إليه ‪:‬‬
‫‪-‬أنا إللي مش هقبل إنك تبعد عني لحظة واحدة‪..‬‬
‫مش هاسمح لك !‬
‫تمـت‬
‫‪#‬أوصيك_بقلبي_عشقا‬
‫‪#‬وكفى_بها_فتنة‬
‫‪#‬مريم_محمد_غريب‬
‫ــــــــــــــــــــــــ‬
‫أعداد قناة روايات خليجية للقصص والروايات المميزة‬
‫تلجرام‬
‫‪@Storykaligi‬‬
‫مستندات الروايات‬
‫‪@Storykaligi_1‬‬
‫لسنا الوحيدين في عالم الروايات ولكننا متميزون بعرض اهم وأقوى‬
‫الروايات والقصص تابعونا‬
‫نتمنى لكم قراءة ممتعة‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

You might also like