Professional Documents
Culture Documents
أوصيك بقلبي عشقا
أوصيك بقلبي عشقا
"تمهيد"
"مراد" ...
كال ،هذا ليس حقيقيا ،بل ليس عادًل ،لقد
اعتقدت بأنها نسيته منذ زمن بعيد ،بعيد جدا،
فإذا به يقرر أن يظهر اآلن ...من أين له بتلك
الجرأة !!!؟
-ايمان !
دق باب غرفتها ،فخرجت من استغراقها ،كان
صوت أمها واضحا و قريبا ..ربما شعرت بها،
بل أكيد ،بالنظر إلى أنها تعلم القصة كلها
و تعلم تحديدا ماذا يعني "مراد" ًلبنتها ..أو
ماذا كان يعني لها منذ زمن خلى ...
-نعم يا ماما ؟ ..ردت "ايمان" من وراء الباب
المغلق
لم يخف الجزع الضامر بصوتها ،لكن أمها
تجاهلته :
-معاد خروج لمى من الحضانة قرب يا حبيبتي..
مش هاتنزلي تجبيها !؟
تنهدت "ايمان" بتعب واضح و هي تمسح
وجهها المرهق بكف مرتعش :
ً-ل يا ماما مش قادرة انزل .معلش لو مش
هاتعبك ..ممكن تجبيها انتي انهاردة !
بيد أن أمها قد فهمت العلة من رفضها ،فهي ًل
تأبى النزول فقط ،بل أيضا ًل تريد أن يراها أحد
اآلن ..بعد إذاعة خبر مجئ "مراد" ..فضلت أن
تتوارى عن األنظار حتى ًل يستشف أحد أي من
اضطراباتها ...
-ماشي يا حبيبتي على راحتك.
ارتاحت "ايمان" بالفعل عندما أبدت أمها
ترحيبا بإقالل الصغيرة من الروضة للبيت ،و
خرجت من الغرفة بمجرد تأكدها من مغادرة
أمها ،جالت بأرجاء الشقة الواسعة على غير
هدى ،سارحة ،ساهمة ،غير قلقة من أن يراها
أحد اآلن ..فهي وحدها تماما
بعد وفاة جدتها ،صارت الشقة فارغة على
أمها ،فقررت أن تنتقل معها هي و صغيرتها
لتؤنسها ،في الواقع كانت هي من تلتمس األنس
و الرعاية أكثر ..بعد وفاة زوجها الذي أحببته
حقا من كل قلبها
تحطمت ..ظنت أن حياتها قد انتهت و رتبت
بالفعل أمورها على هذا المنوال ،الوحدة،
العيش بال رجل ،و التفرغ التام لتربية ابنتها
لكن ...
بظهور "مراد" مجددا في حياتها ،سيختل
توازنها و ًل ريب ..لماذا ؟
لماذا هو قادم ؟ ألم يقرر بنفسه الرحيل ..ألم
يتزوج و يؤسس حياته الخاصة مثلما فعلت
هي ..ماذا حدث قلب خططه رأسا على عقب ؟
لماذا طلق زوجته ؟ ًل يمكن أن يكون بسببها..
حتما ًل
فهو ليس بهذه الحماقة
لو تعرف فقط ماذا ينوي من وراء تلك الزيارة
كانت لترتاح
و إنما حتى لو جاءً ،ل يمكن أن تراه ،لن تكون
هنا عندما يأتي ستذهب إلى أي مكان ...
و لكن تبا !!
مم هي خائفة بالضبط !؟؟
هل أحبته هو أم أحبت زوجها الراحل ...من
أحبت بحق هللا !
"حبيته هو يا ايمان ..ماتكدبيش على
نفسك!" ..خرجت هذه الجملة من أعماقها
ذلك الصوت اللعين بداخلها ،مهما حاولت لن
تهرب منه ..أبدا ...
عادت مهرولة إلى غرفتها ،فتحت ذاك الدرج
السري ،و من بين دفتي كتاب كانت قد نسيت
وجوده ،سحبت تلك الصورة التي جمعتها به في
الصبا ،في الفترة التي كان يمضيها مع والديه
هنا ،قبيل أن يغتربا و يقرر هو أن يشق طريقه
بنفسه و يحقق توقه لالستقالل
و كانت خطوة اًلستقالل األولى هي اًلبتعاد
عنها ،رغم ما كان يربط بينهما من غرام عميق
وقتها ،أو لعله كان محض عبث ،مراهقة و
انتهت
و لكن كيف انتهت !
لقد تحابا ،لقد تحابا و قد جرحها ..ترك أثرا في
قلبها و أذى لن يمحوه الزمن؛
تهاوت "ايمان" فوق سريرها و راحت
تسترجع الماضي ..أسوأ ذكرياتها على اإلطالق
...
*****
لم تكن بحاجة لمزيد من األحزان و الصدمات،
بعد أتى و أخبرها بأنه راحل مع والديه و أن
عالقتهما قد انتهت ،و أن عليها أن تنساه لألبد
كانت تمر بحالة اكتئاب شديد ،حتى أن أمها قد
ًلحظت ،و بطريقة ما صارحتها "ايمان" ألنها
لو ما كانت أفصحت عما بصدرها لماتت كمدا
بكل تأكيد
فهي قد أحبته كثيرا ،رغم البيئة المتشددة التي
نشأت فيها ،عاشت معه حقبة مليئة بالغرام و
الشباب و الشقاوة ،لقد علمها الحب ،أبصرت
على يديه عالم آخر غير الذي تخيلته مع الجنس
اآلخر ..عالم ساحر و جميل
ما لبث أن خربته العواصف و األعاصير،
خاصة حين جاءها الخبر المميت ،بلسان أكثر
الفتيات حقدا و جماًل في آن ضمن مجموعة
زميالتها بالمدرسة الثانوية ،لم تكن تصدق
األخيرة أن تفوز "ايمان" بشاب وسيم و ثري
إلى هذا الحد و هي بنظر الجميع رجعية و
متواضعة الجمال أرادت أن تسرقه منها ،و
كانت "ايمان" تعلم نواياها ،لكنها كانت تثق
بحبيبها ،حبيبها الذي وعدها بأنها له و أنه لها
مهما حدث ..صدقته ،حتى عندما أخبرها بتلك
الترهات و أنه ينوي الرحيل
لم تفقد فيه األمل ،حتى و هي تخرج من بيتها و
تحث الخطى إلى ذلك المكان الذي أرسلته لها
زميلتها برسالة عبر الهاتف ،ذهبت و هي
متيقنة بأنها لن تجده و أن األخيرة كاذبة ًل تريد
سوى اغاظتها فقط ،ذهبت لكي تغيظها هي و
تثبت لها أنه ما كان ليخونها في السر أو العلن
...
و لكنها
و لكنها وجدته
وجدته ،في حفل عيد الميالد الذي ضم حفنة من
المراهقين ،و هو األكبر بينهم ،يقف بالوسط
إلى جوار ملكة الحفل ،يحيط خصرها بذراعيه و
يتمايالن في انسجام ..ما إن رأتها الفتاة ذات
الرداء الداعر ،حتى أسرفت أكثر في تصرفاتها
الفاحشة و هي تضع عينيها بعينيها مباشرة،
أخذته من يده و هي ترميها بنظرة هي مزيج
من التحد و الشماتة ...
بدون أن تشعر ،تتبعت "ايمان" خطواتهما،
عندما لحقت بهما كانا وراء احد األعمدة
الضخمة ،يتبادًلن القبل بحرارة ،و تلك
الوضيعة عيناها مفتوحتان على مصراعيها،
تنظر بتشف إلى "ايمان" التي ندت عنها آهة
متألمة و هي تستند بسرعة إلى جدار قريب
الجلبة الناجمة عن حركاتها المضطربة نزعت
الهدوء الحميمي ،فانفصل "مراد" عن طريدته
المراهقة و التفت وراءه ،ليصدم برؤية حبيبته،
حبيبته التي وضع حدا لعالقته بها
انفطر فؤاده و هو يراها مجروحة و باكية بهذا
الشكل ،كان مكتوف األيدي و ًل يدري ماذا
يفعل ،حتى رآها تستدير مكممة فاها الصارخ
بالبكاء و تركض خارج المكان كله ...
هرول خلفها مناديا اسمها ،لكنها لم تتوقف
أبدا ،إًل أنه أدركها قبل أن تبلغ بوابة نادي
النخبة الشهير ،قبض على يدها و شدها ليقفا
في محاذاة السور المسيج ،فقاومته صائحة :
-اوعـى .شيل ايدك عني .بقولك سيبني يا
مرااااد سيبني ...
-اهدي يا ايمان ! ..هتف بها بصرامة
و لم يتركها ،قال بتصميم زاجرا :
-مش هاتمشي لوحدك بالشكل ده .مستحيل
اسيبك هاوصلك !
نظرت له مشدوهة و قالت :
-هو ده كل إللي بتقوله ؟ بعد القرف إللي
شوفتك بتعمله مع السافلة دي ..و ًل كأنك
عملت حـاجــة !!؟
عال صوتها بصراخ في أواخر العبارة ،فحذرها
بحزم :
-صوتك .اوعي تعلي صوتك تاني سامعة ؟ انتي
اصال ايه إللي جابك هنا ؟ و ازاي خرجتي من
بيتكوا الساعة دي ؟؟
جاوبته بمرارة :جيت بدعوة من نادين هانم.
جيت أخزيها و أثبت لها إن حبيبي ًل يمكن
يخوني و ًل يجرحني الجرح ده .عمره ما يبص
لواحدة غيري و خصوصا هي ..بس .لألسف
ًلقيتك معاها و ...
بترت كالمها عاجزة عن اإلتمام و جرت الدموع
ثانية فوق خديها ،بان الجزع على محيا
"مراد" للحظات ،قبل أن يحاول أن يكون صلبا
معها :
-بس انتي مش من حقك يا ايمان .و أنا
خالص ..مابقتش حبيبك .أنا قلت لك عالقتنا
انتهت .و إللي بينا اصال ماكنش حب.
أصيب رأسها بدوار طفيف بفعل كلماته
القاسية ،فرددت بأنفاس مخطوفة :
-ماكنش حب ! كل اللي عيشنا ده ماكنش حب يا
مراد !!؟
رد منجرفا وراء مشاعره المحبطة كليا منها :
-أيوة يا ايمان ماكنش حب .مستغربة ليه ؟ احنا
مش شبه بعض .و أنا ًل يمكن أكمل في عالقة
عقيمة زي دي.
ضربة أخرى أشد إيالما من النار ...
-عقيمة !؟
-آه عقيمة .انتي بالنسبة لي ماينفعش تكوني
أكتر من بنت خالتي و بس .ألني مقدرش أخون
صلة القرابة يا ايمان.
-و انت مسمي وعدك ليا بالجواز خيانة لصلة
القرابة !؟؟
-جواز إيه يا مجنونة انتي احنا لسا طلبة ..و
بعدين في كل األحوال إنتي ماتنفعنيش .أنا
مقدرش أتجوز واحدة زيك .كل حاجة عندك
حرام .قربي منك حرام .مسكة أيدينا دي بردو
بالنسبة لك حرام .أنا البنت إللي هاتجوزها
ماينفعش تقولي ابعد عني .ماينفعش أجي أمسك
ايدها تقولي شيل ايدك ..ده مايبقاش اسمه حب
و ماينفعش يتبني عليه عالقة .على األقل
بالنسبة لشخص زيي !
مع كل كلمة خرجت من فاهه كان يسدد لها
صدمة أقوى من التي قبلها ،حتى منحها أخيرا
سببا لتكف عن عويلها و بكائها ..سحبت يدها
برفق من قبضته و هذه المرة أفلتها
فرفعت رأسها و حدقت بقوة إلى عينيه و أعلنت
:
-صح .انت صح يا مراد ..إللي بينا ماكنش حب.
ألن انت أصال ماينفعش تتحب .و ًل هاتعرف
تحب !!
*****
الفصل األول..
"كان ثمن الهجرة منك غربة و مذلة ؛ و كأني
أسير حرب مهان ،اآلن و قد عدت إلى وطني..
ًل آبه إن تشردت أو تسولت ..أو حتى
أعتقلت!"
*****
*****
أسفل منزل "آل عمران" ...عثر "مراد" على
مكان يركن فيه سيارته
ترجل منها و قد كان البواب بالقرب ،لديه خبر
بمجئ الضيف ،بمجرد أن أفصح عن هويته
تلقى الترحيب الشديد و فتح له الرجل الشديد
بوابة المنزل على مصراعيها
دخل "مراد" البناية الراقية ،لم يتخذ المصعد
الكهربائي و فضل أن يصعد الدراج مثنى مثنى،
حتى وصل إلى الطابق األول ؛
كانت خالته "أمينة" بانتظاره ،أخذته باألحضان
ما إن فتحت الباب و رأته ،ضمها "مراد"
بدوره مغمغما بصدق :
-وحشتيني يا خالتو !
ربتت األخيرة على ظهره العريض و ًل زالت
تحتضنه بعاطفة أمومية جياشة :
-حبيبي يا مراد .حبيب خالتك .ياااه ده انت
واحشني أوي ..بس ايه ده .مال هدومك مبلولة
كده ليه !؟؟
تباعدا على مهل و شرح لها بايجاز مع ابتسامة
باهتة :
-كانت بتشتي في اسكندرية !
شدته "أمينة" من يده للداخل :
-طيب ادخل .ادخل في الدفا و أنا هادخل أجيب
لك غيار من دوًلب أدهم.
قبض "مراد" على كفها قائال :
-مالوش لزوم يا خالتو .أنا مش مطول .أنا جاي
بس ألدهم في موضوع مهمً ..لزم أمشي.
-هاتمشي فين بس انت لحقت ؟ عايز تروح فين
!؟
-لحد ما أخلص إللي جيت عشانه .هاحجز في
أي أوتيل ...
-مش عيب تقول الكالم ده و انت واقف في بيت
صالح عمران المفتوح للغريب قبل القريب يا
أستاذ مراد !؟؟
إلتفت "مراد"مبتسما نحو مصدر الصوت ،كان
صوت "أدهم عمران" الذي ًل يخطئه السمع
أبدا ..كان قد أتى للتو من الخارج
تأمال بعض للحظات ،ثم تعانقا عناق الرجال ،و
تباعدا خالل لحظة ،ليقول "أدهم" بحبور :
-أهال و سهال ..شرفت و نورت يا مراد.
-ده نوركو يا أدهم .متشكر أوي.
تداخل صوت "أمينة" في هذه اللحظة :
-قول حاجة بقى يا أدهم ..ابن خالتك قال ايه
جاي عشان يمشي تاني !
نقل "أدهم" ناظريه بينهما و هو يقول :
-مافيش الكالم ده يا أمي .البيه هايقعد عندنا
شوية ماتقلقيش.
حاول "مراد" أن يعترض :
-ماينفعش يا أدهـ ...
قاطعه "أدهم" بصرامة :
-بقولك إيه .أنا كلمتي محدش يقدر يردها .قلت
هاتقعد يعني هاتقعد ..خلص الكالم !
*****
يتبع ...
انتهى الفصل األول..
2
*****
*****
رحل "مراد" …
رحل بعد اًلنتهاء من فعلته مباشرة ،رحل دون
أن يقول كلمة ،أو حتى وداع انتهت النزوة،
احترقت اللذة و فنت ،و ذهب هو تاركا إياها
مجللة بالخسائر
خسارة نفسها ،خسارة مبادئها و تربيتها
القويمة ،و األهم من كل هذا ..خسارة الميثاق
اإللهي ،لقد ارتكبت الكبائر ،لقد زنتً ،ل تصدق
أنها وقعت بخطيئة كهذه
ما العمل اآلن ..ماذا يتوجب عليها أن تفعل
لتتطهر من ذاك اإلثم ؟
ًل يمكن أن تموت قبل أن تكفر عنه
ًل يمكن أن تلقى هللا به… ًل يمكن !!!
استيقظت على صوت أمها في الصباح :
-إيمان ..إصحي يا حبيبتي بقينا الظهر .إيه
النوم ده كله !
باعدت "إيمان" بين جفنيها بصعوبة ،شعرت
سلفا بشعاع الشمس النافذ عبر الستائر التي
فتحتها أمها على مصراعيها ،فتحت عينيها
اآلن و قد ضايقتها حدة الضوء ،فغطت وجهها
بكفيها :
-جيتوا يا ماما !؟
-من بدري يا حبيبتي بس ًلقيتك نايمة ماحبتش
اصحيكي.
-تيتة عاملة إيه ؟
-بقت أحسن الحمدهلل .و التحاليل كلها تمام..
هي بس تقلت في العشا و الحلو إمبارح ف ده
إللي تعبها.
كانت سترد عليها بتلقائية ،لوًل أن ضربتها
ذكريات الليلة الماضية ،تزامن ذلك مع صياح
أمها الهلوع :
-إيـه ده يا إيمـان !!؟؟؟
انتفضت "إيمان" عندما شعرت بالمالءة
تسحب من أسفلها و قامت نصف جالسة فورا،
تطلعت إلى أمها بتشوش ،خافت من تعبير
"أمينة" المصدوم ،إذ حملت بين يديها مالءة
ملوثة بالدماء الغزيرة …
-أصل أنا نمت معدتي بتوجعني أوي إمبارح يا
ماما ! ..قالت "إيمان" ما خطر على بالها حاًل
فقط لتتخلص من هذ التعبير على وجه أمها
-شكل الضيفة المزعجة دي جت !!
عبست "أمينة" بدهشة :
-هللا ! انتي مش لسا خالصة منها اًلسبوع إللي
فات ..لحقت !؟
حاولت "إيمان" إقناعها بشتى الطرق :
-عادي يا ماما بتحصل .و حصلت قبل كده..
مش فاكرة ؟
سكتت "أمينة" و هي تمعن النظر بما تمسك،
ثم قالت بتعجب :
-تقوم تيجي بالشكل ده..أعوذ باهللً .ل بصي
طالما اتكررت كده نروح نكشف أحسن يكون
عندك حاجة يابنتي !
رفضت "إيمان" في الحال و قد اعتراها التوتر
اآلن :
ً-ل يا أمي نكشف إيه ..أنا مابحبش الدكاترة و
انتي عارفةً .ل مالهاش ًلزمة صدقيني.
-إزاي مالهاش ًلزمة بس .دي حاجة مهمة
أوي يا إيمانً .ل مش هطاوعك.
قامت "إيمان" من سريرها متجاهلة آًلمها
المبرحة و وقفت أمام أمها :
-يا أمي يا حبيبتي صدقيني أنا .أنا حاسة إني
كويسة ..و بعدين أنا بقولك معدتي وجعتني قبل
ما أنام يعني ماكنتش عاملة حسابي ..بصي
نعديها المرة دي .لو حصلت تاني هانعمل إللي
انتي عايزاه .خالص ؟
اقتنعت األم بعد عناء ،لم تقتنع في الحقيقة،
لكنها أذعنت فرادة ابنتها ،إذ تعلم كم إنها بالفعل
تخشى األطباء و المشافي منذ طفولتها ،لم تشأ
ترويعها و فضلت اًلنتظار حتى الموعد التالي
…
*****
*****
-يعني إيه مش هاتطلعي تسلمي على ابن
خالتك .انتي اتجننتي يابت !؟
للمرة العاشرة حتى اآلن تحاول "أمينة" عبثا
إقناع ابنتها بالعدول عن قرارها األحمق غير
المبرر ،و لكن "إيمان" لم تتزحزح من مكانها
فوق الفراش ،حيث مددت باسترخاء غير مبالية
...
-ماما ريحي نفسك .مش هاطلع !
ثارت "أمينة" بحنق :
-طيب لـيه ؟ أفهم لــيه !!؟؟
تنهدت "إيمان" بعمق و قامت نصف جالسة
على مضض ،نظرت إلى أمها و قالت بهدوء :
-ماما .من اآلخر ..انتي مصممة ليه على
خروجي من أوضتي عشان أسلم عليه ؟
أمينة ببالهة :يعني إيه مش فاهمة ؟ إيه
السؤال ده !!
تململت "إيمان" بشيء من العصبية ،و قالت
من جديد :
-ماما ..أنا عارفاكي كويس .من غير لف و
دوران .إللي في دماغك مش هايحصل ..مش
معنى إنه إتزفت طلق و أنا أرملة يبقى احنا
مناسبين لبعض و إن دي فرصةً ..ل .مش
هايحصل !
رمقتها "أمينة" بتعبير خاوي ،ثم قالت عاقدة
ذراعيها أمام صدرها :
-انتي يعني لسا باقية على عشرة المرحوم
سيف .صحيح يا إيمان ناوية تكملي بقية عمرك
من غير راجل ؟ هاتقدري يا إيمان !؟
إيمان بثقة :آه يا ماما هقدر .هقدر أوي كمان.
أمينة بسخرية :هه ..متهيألك .يابنتي انتي لسا
شابة .في عز شبابك .لو مش إنهاردة بكرة
هاتالقي نفسك محتاجة راجل .هي دي طبيعتنا
إللي خلقنا عليها ربنا .مش هاتقدري على
الوحدة يابنتي طاوعيني !
تأففت "إيمان" بانفعال :
-خالص بقـى يا ماما .ماتضغطيش عليا من
فضلك ..موضوع اًلرتباط ده ادفن تحت األرض
مع سيف .انتهينا خالص !
أغمضت "أمينة" عينيها بشدة متأسفة و
حزينة في نفس الوقت على حياة ابنتها ،أطلقت
نهدة حارة من صدرها ،ثم مشت ناحيتها على
مهل ،جلست قبالتها على طرف السرير،
أمسكت بيديها و خاطبتها بلين اآلن :
-طيب يا إيمان .مش هاغصب عليكي ..بس
عشان خاطري .من باب الذوق .اخرجي سلمي
على ابن خالتك و اقعدي معانا .ماتسوديش
وشي !
*****
يتبع ...
انتهى الفصل الثالث ..
4
*****
*****
استعادت "إيمان" وعيها أخيرا ...
كان األمر أشبه بحالة من "الديجافو" ..شعرت
بأن الموقف يتكرر مرة أخرى
إذ ترى وجهي أمها و أخيها يطالن عليها بقلق،
و تشعر بوخز في يدها ،تأوهت و هي تحاول
رفع معصمها ،فبادر صوت "أدهم" مستبقيا
يدها كما هي :
ً-ل يا إيمان .سيبي إيدك زي ما هي ..لسا
المحلول ماخلصش !
-محلول ! ..رددت "إيمان" بوهن
-هو إيه إللي حصل !؟
و أخذت تتلفت حولها ،فتبينت بأنها قد نقلت إلى
غرفتها ،بينما تجاوبها "أمينة" :
-أغمى عليكي يا حبيبتي .بس انتي كويسة
دلوقتي الحمدهلل ..ضغطك كان شوية.
تساءلت "إيمان" بتلهف :
-فين لمى ..بنتي فين !؟؟
طمأنها "أدهم" على الفور :
-ماتخافيش يا حبيبتي .لمى نزلت مع مراد أنا
بعته يجيب لك شوية أدوية ..و هو كمان إللي
نزل جاب لوازم المحلول.
احتجت :ليه نزلت البنت معاه يا أدهم ؟
أجاب بمنطقية :البنت كانت خايفة عليكي و
منهارة .أكيد ماكنتش هاخليها تشوفك كده ..و
في نفس الوقت ارتاحت و سكتت معاه .إيه
المشكلة !؟
لم تجد ردا
فصمتت و أشاحت بوجهها للجهة األخرى،
شعرت بيد أمها تربت على قدمها و سمعتها
تقول بحنان :
-خوفتيني عليكي يا حبيبتي .ربنا ما يوريني
فيكي وحش أبدا.
-إحم إحم ! ..صدرت تلك النحنحة من جهة باب
الغرفة
و تعرفت "إيمان" على صوته فورا قبل أن
ينادي من عند العتبة :
-أدهم !
رد "أدهم" و هو يثب واقفا :
-أيوة يا مراد جايلك أهو ...
بقيت "إيمان" راقدة مكانها ،تشد الحجاب الذي
حلته أمها قليال عن رأسها ،ثم بقيت تنصت و
تترقب :
-دي كل األدوية إللي كتبتها .جبتهم كلهم.
-ألف شكر يا سيدي.
-العفو ..المهم إيمان تبقى كويسة بس.
-الحمدهلل بقت أحسن .حتى فاقت جوا أهيه.
-بجد ؟ الحمدهلل ...
و عال صوت في اللحظة التالية :
-سالمتك يا إيمان .ألف سالمة عليكي !
سمعته جيدا و اخترق صوته حواسها المتألمة،
لكنها لم تمنحه ردا ،فلم يبدو أنه تأثر بذلك ..بل
سرعان ما انسحب و ترك األسرة على حدة و
قد أعاد الصغيرة إلى خالها
ولج "أدهم" حامال "لمى" على ذراعه ،سلمها
إلى أحضان أمها التي ضمتها إلى صدرها بشدة
و قبلتها على رأسها بقوة :
-انتي لسا تعبانة يا مامي ؟
ترقرقت الدموع بعيني "إيمان" و هي ترد
عليها بتأثر :
ً-ل يا حبيبتي أنا كويسة .أنا كويسة خالص..
بس ماكلتش كويس انهاردة .شوفتي بقى إللي
مش بياكل بيجراله إيه .عشان تبقي تسمعي
كالمي و تخلصي األكل بتاعك كله.
أومأت الصغيرة محتضنة أمها بذراعيها
القصيرين :
-هاسمع الكالم و هاخلص أكلي كله ..بس تبقي
كويسة تاني يا مامي !
تنهدت "إيمان" بحرارة و هي تمسح على
شعرها الكستنائي برفق متمتمة :
-أنا هابقى كويسة يا لمى ..هابقى كويسة
عشانك ! !.
يتبع ...
انتهى الفصل الرابع
5
سالف البارودي
جلس يهز قدمه اليمنى بعصبية واضحة ،بينما
"أدهم" أمامه يمسك بهاتفه يضعه على أذنه،
بعد أن دون رقم المدعو "عثمان البحيري" من
هاتف ابن خالته ،ها هو يخابره ..يتحدث على
مرآى و مسمع من "مراد" الذي كان أشبه
بالقدر المسود من شدة الغليان ...
-أستاذ عثمان البحيري معايا ..أنا أدهم عمران.
مراد صديقك يبقى ابن خالتي ..أهال بيك ..هو
عندي هنا و أنا عارف كل حاجة يا أستاذ
عثمان ..أكيد عاوزين نحل ..بس مش هاينفع
الكالم على التليفون كده ..أنا بدعيك تشرفني
هنا في القاهرة .أرض محايدة بينكم و بين ابن
خالتي .إذا ماعندكش مانع ..تمام .إن شاء هللا
بكرة الساعة 8مساء هاكون في انتظارك..
العنوان ...
و أنهى المكالمة معه على عجالة ،ثم إلتفت نحو
"مراد" هاتفا :
-خالص يا عم .أديني هاجيبه لحد عندك نتفاهم
و كلمته بنفسي و عافيتك من المهمة دي..
مستريح ؟
تنهد "مراد" بثقل و مد جسمه لألمام ممسكا
رأسه بكلتا يديه :
-مافيش راحة يا أدهم ..أنا تعبان جدا .عشان
كده مش هقدر أحملكوا تعبي ده .أنا مش عارف
أشكرك إزاي على استقبالك ليا هنا .أنا قايم
أغير هدومي و ماشي ...
-بطل هبل يا واد إنت ! ..زجره "أدهم" و هو
يشير له بالبقاء جالسا بمكانه
-مافيش الكالم ده .انت مش هاتتحرك من هنا
طول فترة وجودك في القاهرة .خلص الكالم.
أصر "مراد" على موقفه بجدية :
-يا أدهم من فضلك .مش هاينفع .أنا مقدرش
أقعد و أقيد حرية خالتي و إيمان ًل أنا و ًل هما
هانكون مرتاحين !
أدهم رافعا حاجبه :
-و مين قالك أصال إني كنت هاسيبك تقعد هنا
مع خالتك و إيمان ؟ يمكن كان يحصل لو كانت
إيمان متجوزة مثال .كنت هاتقعد مع خالتك
عادي .لكن في وجود إيمان ..زي ما انت عارف
جوزها مات و قاعدة هنا مع ماما ...
عبس "مراد" متمتما :
-أمال انت تقصد إيه يعني مش هامشي إزاي
كده !؟
شرح له "أدهم" و هو يعبث بهاتفه :
-انت هاتقعد في شقة عمتي راجية.
مراد بغرابة :هللا .و أنا أقعد عند عمتك ليه بس
يا أدهم !!؟
تأفف "أدهم" بسأم و صاح بنفاذ صبر :
-يابني الشقة فاضية .عمتي سابتها هي و
عيالها بعد موت سيف على طول .سابتها و
مش هاترجع تاني.
-إممم فهمت !
-الحمدهلل إنك فهمت ياخويا ...
ثم أضاف يحثه :
-يال بقى قوم معايا نطلع نوضب لك أمورك .زي
ما قلت لك الشقة فاضية .بس لحسن الحظ
مراتي حبت تغير أوضة وًلدنا بعد ما خلفنا انت
عارف إنهم تالتة ما شاء هللا .ف احنا كنا
جايبين سرير واحد ماكنش هاينفعهم .نقلنا
األوضة كلها شقة عمتي .هو السرير صغير
شوية .بش معلش دبر نفسك الليلة دي بس و
بكرة هاننقل أوضتي إللي في شقة أمي هنا
عشانك فوق.
لم يتحمل "مراد" كل ما سمعه فحاول
اًلعتراض :
ً-ل أرجوك يا أدهم كده كتير .أنا مش جاي
أتعبكوا .ماتخلنيش أندم إني جيت !!
أدهم بصرامة :مراااد .أنا مابحبش الكالم
الكتير .انت لو وجودك مش مرغوب فيه
هاقولك في وشك .عيب عليك إللي بتقوله .إحنا
أهل يا محترم ..و اًل انت شايف إيه !؟
ابتلع "مراد" ريقه و هو يتطلع إليه و ًل يرى
بعد كلماته سوى فعلته القديمة ،تتجسد أمامه،
تحول بينه و بين ابن خالته ،تشعره بفداحة
غلطته اآلن ..اآلن ...
*****
كانت ًل تزال راقدة بفراشها ،حزينة ،مكتئبة،
تحتضن طفلتها الغافية على صدرها
بينما زوجة أخيها تلج إلى الغرفة حاملة صينية
الطعام و هي تهتف معتذرة للمرة العاشرة :
-حقك عليا يا إيمي .و هللا الوًلد مش عارفة
جرالهم إيه إنهاردة .شابطانين فيا بطريقة
غريبة .ما صدقت نايمتهم و نزلت لك.
تبسمت "إيمان" و هي تقول بوهن :
-طيب سبتيهم و نزلتي ليه يا سالف .اطلعي
أحسن يصحوا و مايالقوكيش يتخضوا.
جلست "سالف" و أسندت الصينية فوق
الطاولة المجاورة للسرير ،تنهدت و هي تسحب
هاتفها مشيرة لشقيقة زوجها قائلة :
-ماتقلقيش .لو همسوا بس هاعرف ! ..ثم
تناولت صحن الحساء و بدأت تطعم األخيرة
-يال بقى كلي عشان تعوضي الضعف ده .بالهنا
و الشفا يا حبيبتي.
استجابت "إيمان" لها و أنهت الطعام على
مهل ..فاطمأنت "سالف" ًلستقرار حالتها
بحلول اآلن و بدأت تتحدث بحذر :
-قوليلي بقى .إنتي حصل لك إيه فجأة ؟ حد
ضايقك ؟
سألتها بوضوح أكثر :
-مراد ضايقك !؟؟
لعلها لم تتوقع ردة فعلها ،لكن حرفيا عينا
"إيمان" امتألتا بالدموع بغتة و صارت غير
قادرة على النطق ..توترت "سالف" و هي
تقول مجفلة :
-في إيه بس يا إيمان .إيه اللي وصلك للحالة
دي ..ما كنا كويسين إنهاردة و أنا سايباكي زي
الفل !
ًل إراديا ،بدأت تجهش بالبكاء ،فذعرت
"سالف" و اقتربت لتحضنها على الفور :
-بسم هللا عليكي ..إيه ده كله .ليه .ليه يا إيمان
!؟؟
تركت "إيمان" طفلتها و تشبثت بأحضان
"سالف" منتحبة بحرارة :
-مش طايقاه .مش طايقة أشوفه و ًل أسمع
صوته ..هو جه ليه ؟ رجع ليه يا سالف أنا
بموووت .مش قادرة أستحمل خالص !!!
أخذت تربت عليها و تهدئها قدر ما استطاعت :
-طيب اهديً .ل حول و ًل قوة إًل باهلل .اهدي يا
حبيبتي ...
لم تساهم مواساة "سالف" في التخفيف عنها
إطالقا ،إنما كانت تزداد بؤسا كلما تذكرته و
ترددت صدى كلماته في أذنيها ..إن كان ًل يزال
يحب زوجته
فما الذي جاء به بحق هللا !
*****
*****
يتبع ...
6
"هنا يمكنك أن ترى أن إيمان كانت تحب مراد
دائما !"
يتبع ...
انتهى الفصل السادس ..
7
_ إيمان
حل الصباح و ألول مرة يبيت كالهما
متخاصمان ،فقد نفذت "سالف" ما برأسها و
عاقبته ،لكنه هذه المرة لم يقع في شراكها كليا،
لم يشأ أن يتقرب إليها ليلة أمس حتى ًل تقابله
بالجفاء و البرودة ،تحمل أن يطبق جفونه و
يغفو دون أن تكون بين ذراعيه مثل كل ليلة ،و
قرر أن يحل ما بينهما حين يستقيظا ؛
و لكنها لم تكن بجواره اآلن ،و قد فتح عيناه و
لم يجدها في فراشه ،خمن فورا بأنها ذهبت إلى
الصغار ،تثاءب "أدهم" و هو ينفض عنه
الكسل في الحال ،أطفأ المنبه و قام مرتديا
خفيه ،مضى رأسا إلى الحمام أوًل ،أدى روتينه
الصباحي و توضأ ،ثم خرج و عاد إلى غرفته
أثناء مروره بالرواق سمع قهقهات صغاره و
أمهم فابتسم
و بعد فرغ من صالته خرج و عرج عليهم
بغرفة األطفال ،ليجد "سالف" قد أطعمتهم و
ألبستهم مالبس غير التي ناموا فيها _ كعادة كل
يوم _ و ها هي تنهي تمشيط شعر طفلها
األوسط ،كانوا جميعهم آية في الجمال و بهجة
لنظره ،فمكث مكانه دون أن يصدر صوت
يراقبهم و هو يبتسم بحب و مودة
حتى صرخ طفله األصغر بسعادة عندما ًلحظ
وجوده ،قام عن قوائمه و مشى كما يسير طائر
"البطريق" وصوًل إليه ...
-بـ بـ بااااااااا !
انحنى "أدهم" بلحظة و حمله بين ذراعيه
هاتفا :
-حبيب بابا .روحي .صباح الفل يا نور عيني !
كانت قافيته الشهيرة دائما في محلها ،متناغمة
مع اسم طفله "نور" ..احتضنه و قبله دون أن
يحيد بعينيه عن زوجته التي ما زالت تعامله
بجفاف و بل أزادت عليه التجاهل ،فلم يجد بدا
من إتخاذ الخطوة األولى كعهده ،سار ناحيتها
حيث كانت تجلس فوق كرسي صغير و تضع
في حجرها الصغير "آدم" تضع له المرطبات
العطرية الخاصة ببشرة األطفال ...
-نور عامل إيه إنهاردة .حساسيته هديت ؟ ..
تساءل "أدهم" بصوته الهادئ الرزين
جاوبته "سالف" دون أن تنظر إليه :
-كويس على دراعك أهو .العالج إللي مشي
عليه كان سريع الحمدهلل
تمتم إثرها :الحمدهلل .هللا يعافيه و يحفظه هو
اخواته
و قبل الصغير مرة أخرى ،ثم أنزله على قدميه،
و إلتفت ألمه :
-عايزك يا سالف من فضلك !
ردت بصوتها الناعم الطبيعي و لكن باللهجة الال
مبالية نفسها :
-حاضر .هاخلص مع الوًلد بسرعة و هاروح
أحضر لك الفطار .مسافة ما تغير هدومك
هايكون جاهز
أدهم بصرامة :أنا مش عايز فطار .أنا عايزك..
حاًل !!
و أدار لها ظهره فورا ،عاد أدراجه إلى غرفة
النوم و انتظرها هناك و هو يقف مستعرضا
محتويات خزانته ،لم تمر دقائق إًل و أتت إليه
في الحال كما أمرها ...
-نعم !
انبعث صوتها ناعما من خلفه ،فالمسه بنفس
ذات النعومة و جعله تواقا أكثر إليها ،تنهد
"أدهم" و إلتفت نحوها ..كانت تقف أمامه
بمنتهى األريحية ،كما لو أنها لم تضايقه أبدا مم
استفزه
لكنه كظم غيظه من جديد و تحدث برفق :
-تعالي يا سالف ..قربي عندي
أطاعته و مشيت إليه وئيدا ،حتى وقفت قبالته،
تطلعت إليه بشجاعة ،فظل فقط ينظر إليها
لبضع لحظات دون كالم ،تنهد من أعماقه و هو
يرفع كفه ليحط به جانب وجهها قائال بلطف :
-هانوصل لفين يا سالف ؟ في كل مرة نختلف
فيها .ليه الخالفات بتاخد أكتر من قيمتها .بدل
حبنا ..ليه مش هو اللي يتغلب على عنادك .ليه
بتتعمدي تقسي كده و أنا عمري ما قسيت
عليكي !
رفعت حاجبيها و رددت بذهول :
ً-ل بجد .و هللا ..انت عمرك ما قسيت عليا يا
أدهم ؟ انت بتكدب يا دكتور ؟ أمال إللي عملته
فيا إمبارح على السلم ده كان إيه ؟
عبس بتأثر متمتما :
-ماكنش قصدي .إنتي عارفة ..أنا في األساس
مابستحملش أشوف فيكي أي سوء .إزاي ممكن
تفكري إني آذيكي يا سالف !؟
بالفعل أقرت بصدق قوله ،فهو الوحيد من بعد
والديها و جدتها المرحومة الذي حملها حرفيا
في قلبه و عاملها بأبوة في المقام األول قبل أن
يكون زوجها ،و لكن ًل يمكنها أن تتغافل أيضا
عن عما فعله ليلة أمس ،كان جديدا و ًل تريده
أن يتكرر حتى و لو كان بدون قصد ...
كانت ستقول له ذلك ،لكنه استبقها بالقول :
-و بعدين اسلوبك كله غلط .يعني إيه تفرضي
عليا عقوبة كل ما تحصل بينا مشكلة ؟ أنا دايما
بحاول أحل معاكي أي حاجة و إنتي كالعادة
بتعندي .ليه بتعملي معايا كده .بتبقي مبسوطة
لما كل واحد فينا يكون في طرف .ده بيعجبك..
ردي من فضلك يا سالف !!
كان السأم المرير يجلل قسماته الوسيمة بشكل
أنساها غضبها منه ،محيى كل شيء و لم يبقى
أمامها سواه ،أثار حقيقته بداخلها و ماذا يعني
لها ،زوجها "أدهم" يمثل لها الهواء الذي
تتنفسه ،قلبها ينبض ألجله و ًل تتخيل حياتها
باله ؛
جاءت ردة فعلها مندفعة ..حيث شبت على
أطراف أصابعها و تعلقت بعنقه و مقبلة إياه بكل
حبها و شوقها الدائم إليه ...
طفا تجاوبه معها في اللحظة نفسها ،أخيرا ذاب
الجليد و ألقت أسلحتها أسرع مم توقع هذه
المرة ،كان بينهما تلهف ،وصب ،رغبة
سافرة ...و لكن !
-الوًلد !!! ..غمغمت "سالف" بين
همس لها "أدهم" :
-أنا مش نازل طول النهار .و ماما مش هاتقول
حاجة .دلوقتي أكلمها تاخدهم عندها و نقضي
الوقت ده كله لوحدنا ..إيه رأيك ؟
توردت خجال و هي تبتسم ،ثم قالت على
استحياء :
-أوكي .حطهم في العربية بتاعتهم و نزلهم في
األسانسير ..و أنا .أنا هاخد شاور بسرعة و
أرجع لك
ابتسم بدوره و قال بحماسة و هو يستل هاتفه
ليحدث أمه :
-تمام .بس ماتتأخريش !
ضحكت بانطالق و شقاوة و ركضت بسرعة من
أمامه ،أما هو و قد استعاد إشراقة وجهه و
نشاطه ،زفر بارتياح شديد و مضى مسرعا
ليحضر صغاره للنزول إلى جدتهم ...
*****
يتبع ...
8
_ إيمان
طالع "مراد" خالته مشدوها للحظات ،قبل أن
يدفعه عقله للحديث أخيرا :
-يعني إيه سابت البيت ؟ هي متعودة تمشي
فجأة كده !؟؟
هزت "أمينة" رأسها نفيا :
ً-ل يابني طبعا .إيمان عمرها ما عملتها !!
-طيب إيه العمل دلوقت .أكلم أدهم ينزل يدور
عليها ! ..و هم بإخراج هاتفه ليجري اًلتصال
استوقفته "أمينة" فورا :
ً-ل ماتتصلش بأدهم .سيبه ماتزعجهوش ..أنا
هاكلمها األول
و استدارت باحثة عن هاتفها الخلوي ،سرعان
ما وجدته فوق طاولة جانبية ،أمسكت به و
عبثت فيه لحظات ،ثم وضعته على أذنها و
انتظرت ؛
لم يطول إنتظارها ،إًل و صاحت ملتاعة :
-إيمـان ...إنتي فين يابنتي ؟ روحتي فين يا
إيمـان ردي عليا ....إيـه ؟ و إيه إللي وداكي
عند راجية ..طيب إزاي تمشي كده من غير ما
تقولي لحدً ...ل يا إيمان إللي عملتيه مايصحش
أبدا .أقول إيه ألخوكي لما يسأل عنك ...طيب
هاترجعي إمتى ..ماشي يا إيمان .ماشي !
و أقفلت الخط معها مطلقة تنهيدة عميقة ...
نظرت إلتفتت نحو "مراد" ثانية و قالت :
-الحمدهلل على األقل اطمنت عليها ..
تساءل "مراد" بتردد :
-خير يا خالتو حصل إيه ؟
-خير ..قامت الصبح بدري على رسالة من
عمتها راجية .أم المرحوم سيف أبو لمى .كلهم
كان نفسهم يشوفوها هي و البنت وحشينهم .ف
لمت هدومهم و راحت تقعد لها كام يوم عندهم
-طيب الحمدهلل طلع الموضوع بسيط ! ..علق
"مراد" مرتاحا ،و تابع بضحك متوتر :
-أنا كنت مفكرها مشيت بسببي يعني
أمينة ببالهة متعمدة :
-و هي هاتمشي بسببك ليه يا مراد !؟
تندى جبينه و هو يجاوبها هاربا بعينيه من
نظراتها الثاقبة :
-يعني .ممكن تكون مش واخدة راحتها في
وجودي ..و عندها حق بصراحة .أنا ماكنش
ينفع أطب عليكوا كده و أقلب نظام البيت !
إرتفعت زاوية فمها و هي ترد بشيء من التهكم
:
-بتتكلم كأنك حد غريب عننا .أنا فاكرة إنك انت
و إيمان كنتوا قريبين من بعض في يوم من
األيام ...
و هنا نظر "مراد" إليها ،أجفل مرتبكا بادئ
األمر ،لكنه ما لبث أن قال بثبات متكلف :
-صحيح .كنا صغيرين و بتربط بينا صداقة
قوية ..و لحد إنهاردة .إيمان غالية عليا أوي
تنامى صمت سحيق بينهما لدقيقة كاملة ،لم
يتخلى "مراد" عن هدوئه ،إلى أن دعته
"أمينة" بآلية و هي تدنو من عربة الصغار
لتحررهم و ينطلقوا في أرجاء الشقة :
-طيب يال على السفرة .الفطار لو استنى أكتر
من كده مش هايتبلع ..و أنا عارفاك .بتحب
الحاجة طازة .فريش يعني
تأكدت من سالمة الصغار الثالثة ،ثم مشيت
أمامه فتبعها وصوًل إلى حجرة الطعام ،أشارت
إليه ليجلس على رأس المائدة ،ففعل ،و جلست
هي إلى جواره ،بدأ كليهما في تناول الفطور ،و
انتظرت "أمينة" بتمحيص مدروس حتى ابتلع
بضعة لقيمات كافية ليستقبل حديثها التالي ...
-قولي صحيح يا مراد ! ..تكلمت "أمنية"
بلطف و هي تصب له فنجان الشاي
-انت صحيح ناوي ترجع مراتك ؟
توقف "مراد" عن المضغ ثوان ،ثم قال و هو
يرفع ناظريه إليها :
-و هللا يا خالتو أنا جاي ألدهم مخصوص عشان
كده .أنا عملت غلطة كبيرة أوي لما طلقتها..
بس لسا عندي أمل .و أيوة ..عاوز أرجعها .أنا
بحبها !
احتقن وجهها بالدماء في هذه اللحظة ،سيطرت
على أعصابها بجهد و قد جمدت أصابعها حول
دورق الشاي الخزفي ،استرعى ذلك إنتباه
"مراد" ..لكنه آثر الصمت
و فجأة وضعت "أمينة" كل شيء من يدها ،ثم
أسندت ذقنها إلى يديها و هي تصوب نحوه
نظراتها اآلن ...
-لما انت بتحبها أوي كده .إيه إللي جابك لحد
هنا تاني ؟ كان ممكن تطلب أدهم يجي لك .ليه
تيجي لحد هنا و تخلي إيمان تعيش خيبة األمل
تاني ؟
حدق فيها مصعوقا ،و قال بصعوبة :
-إنتي .إنتي عارفة يا خالتو ؟؟
أمينة بحدة :طبعا عارفة ..عارفة كل حاجة من
زمان يا مراد !
تضاعفت صدمته و شخصت عيناه على األخير،
إنتابه الخرس تماما ،بينما تعاود الحديث قائلة :
-من أول يوم و بنتي عمرها ما دارت عني
حاجة .قالت لي إنها بتحبك من أول يوم يا مراد.
و إنك انت كمان بتحبها حسب قوالتك ليها ..و
تعرف سيبتكوا ليه على كده ؟ ألن ثقتي في
بنتي مالهاش حدود .و متأكدة دايما إنها ًل
يمكن تعمل حاجة غلط أبدا ..بس تعرف بردو ؟
أنا طلعت غلطانة .ألن إللي حصل بينكوا زمان
ده كان لعب عيال .و كان ًلزم أفهم إنه مش
هايوصل ألي حاجة غير حسرة و وجع قلب
بنتي ..و انت فوق إللي عملته راجع تكمل
عليها .و أنا إللي فكرت إنك عقلت و رجعت
عشانها !
استغرقه األمر كله بعض الوقت ليدرك مقاصد
خالته بوضوح ،و قد تبين له بأنها لم تكن تعني
بأنها تعلم ما جرى بينهماً ،ل زال السر
محفوظا ،و ًل أحد يعلمه سوى هو و "إيمان"
و زوجها الراحل ،العالقة الحميمة التي أقاماها
في لحظة طيشً ...ل زالت طي الكتمان !!
-يا خالتو أنا عمري ما خدعت إيمان ! ..غمغم
"مراد" و الخجل يتآكله
لم يستطع النظر بعيني خالته اآلن و هو يكمل :
-زي ما قلت لك كنا صغيرين .و أنا حبيتها بجد
و هللا ..و لسا بحبها .لكن طريقنا اختلف من
زمان .أنا و إيمان ماينفعش نمشي سكة واحدة.
و ده في األصل سبب إنفصالنا .إحنا طول عمرنا
مختلفين !
ظلت "أمينة" ساكنة لبرهة ،تتمعن كلماته ،ثم
أومأت متقبلة قراره األخير و نتيجة محاولتها
معه ألجل ابنتها ،و قالت بهدوء :
-ماشي يا مراد ..إللي تشوفه طبعا .و مقدرش
أقول غير ربنا يوفقك في حياتك مع أي واحدة
تختارها ..انا بردو أبقى خالتك .في مقام أمك يا
حبيبي ...
ثم قامت فجأة هاتفة :
-أقعد انت كمل فطارك .أنا هاروح أشوف على
وًلد أدهم
و لكنه استبقاها مسرعا :
-لحظة واحدة يا خالتو من فضلك ...
قام بدوره عن المائدة ،و أتى ليقف أمامها،
عبس مطرقا برأسه و هو يقول بصوت أجش :
-أنا كده كده مش مطول هنا .و ماشي إنهاردة
بعد القاعدة إللي اقترحها أدهم ..كلمي إيمان و
قوليلها ترجع البيت .أنا عارف إنها مشيت
بسببي ...عن إذنك !
و لم ينتظر ردها ،ولى هاربا بسرعة ...
*****
*****
جحظت عيني "إيمان" و هي تستمع إلى كلمات
أمها كابحة إنفعالها لكي ًل يسمعها أحد في
الخارج :
-إزاي تعملي كده يا ماما ..مين قالك تقولي كده
لمراد !؟
-يعني كنتي عاوزاني أعمل إيه .وأنا شايفاكي
مقهورة و بالذات لما جه .قلت أحاول مرة
أخيرة يابنتي ..على األقل عشان ربنا
مايحاسبنيش عليكي
-إنتي عارفة عملتي إيـه ؟ إنتي رميتي إللي
باقي من كرامتي في األرض .حرام عليكي يا
ماما
-ماتكبريش الموضوع يا إيمان بقى .ماحصلش
حاجة .كانوا كلمتين و راحوا لحالهم ..خالص.
بصي المهم دلوقتي تاخدي بعضك انتي و بنتك
و ترجعوا دلوقتي حاًل .لسا أخوكي أدهم واخده
و راحوا المضافة بتاعة أبوكي .أخوكي سأل
عليكي و قلت له بتزوري عمتك .مش هاينفع
يرجع مايالقكيش هنا !
دق باب غرفتها المخصصة ،فاضطرت لقطع
المكالمة ،و استدارت و الدموع ملء عينيها
الواسعتين ؛
فإذا بها تجد "مايا" أمامها" ..مايا" شقيقة
"سيف" و عمة صغيرتها "لمى" ...
-إيمان ! ..هتفت "مايا" بعفوية
-يال الغدا جاهز
أومأت لها "إيمان" و قالت بصوت أبح :
-حاضر يا مايا جاية وراكي
قطبت األخيرة حاجبيها و هي تشير ناحيتها
بذقنها :
-إنتي معيطة و ًل إيه يا إيمان !؟
لم تنكر "إيمان" ..لكنها اختلقت كذبة و هي
تكفكف دموعها بظاهر يدها :
-أيوة .شوية ..أصلي افتكرت سيف هللا يرحمه.
وحشني أوي يا مايا !
تأثرت "مايا" كثيرا و دلفت إليها ،بدون
مقدمات عانقتها و شاطرتها حزنها المفتعل
متمتمة بحزن شديد :
-إنتي عارفة كل ما بيوحشني بعمل إيه ؟ ببص
في عيون لمى .و بحضنها جامد .لمى حتة من
سيف يا إيمان ..لمى هي سيف .مش بيقولوا
إللي خلف مامتش !؟
تنهدت "إيمان" بحرارة ،و ابتعدت عنها
"مايا" ..ابتسمت لها و دعتها ثانية :
-يال عشان الغدا .كلنا ماستنيينك !
بادلتها "إيمان" اًلبتسامة و قالت :
-حاضر ..بس أنا مضطرة أمشي بعد الغدا
علطولً .لزم أرجع البيت
مايا باحباط :ليه كده بس يا إيمان ..هو لحقنا
نشبع منكوا ؟؟
إيمان متأسفة :معلش يا مايا .ماما تعبت و
سالف كلمتني من وراهاً ..لزم أكون جنبها !
*****
جلس كال من "عثمان" و "صالح" إلى
مقعدين متجاورين ،بينما يجلس مقابلهما ذلك
الرجل المهيب ذو اللحية السوداء الكثة المشذبة
بعناية ،و "مراد" الذي ما زال صامتا حتى اآلن
و لم ينطق بحرف ...
هذا السكون الثقيل قد بدأ يوتر األجواء ،حتى
أن بعض تململ أصاب "صالح" و شعر بأنه
قاب قوسين أو أدنى من فقدان سيطرته على
نفسه ..إًل أن صوت المدعو "أدهم" سرعان
ما برز قالبا موازين الجلسة إلى صالحه فقط ...
-منورين مكاني المتواضع يا سادة ! ..قالها
"أدهم" بصوته القوي مزيدا الترحيب بضيوفه
رد "عثمان" التحية بنفسه و نيابة عن إبن
عمه الغضوب :
-بنورك يا دكتور أدهم .متشكرين أوي على
حسن إستقبالك لينا و خاصة إننا أغراب عنك
أدهم معاتبا بحليمية :
-عيب تقول كده يا أستاذ عثمان .مراد ده يبقى
إبن خالتي حتى لو مش بنشوفه إًل كل كام سنة
مرة ..و ضحك مكمال :
-و حضرتك تبقى صاحبه و صديق عمره زي ما
حكالي .يعني تقريبا بقيت مننا و علينا زي ما
بيقولوا
-صحح كالمك يا أدهم من فضلك ! ..صاح
"مراد" بحدة فجأة
تركزت األنظار عليه ،ليتابع بنفس اإلسلوب :
-الصداقة دي كانت في الماضي و خالص
خلصت ..أنا صحابي رجالة .مش زبالة و
أنجاس زيه !
يتمالك "عثمان" أعصابه بصعوبة عندما سمع
هذا الكالم يخرج من فم صديقه المقرب ألول
مرة ،بينما يلتفت "أدهم" نحو "مراد" موبخا
:
-مراد ! إحنا قولنا إيه ؟ القاعدة دي إتعملت
عشان نحل الموضوع مش نعقده و نجرح في
الناس كده من غير ما نفهم كل حاجة كويس
مراد بسخرية :إنت فاكر إن ده بيتجرح ؟ ده
أبرد من لوح التلج .ده يجيبلك شلل و إنت قاعد
صلى عالنبي يا أدهم إنت ماتعرفوش أدي
أدهم بهدوء :عليه الصالة و السالم ..يا سيدي
طبيعي ماعرفوش و إنت تعرفه أكتر مني عشان
صاحبك .بس ًلزم نتكلم و نتناقش بالمعروف.
دي مش طريقة يا مراد إهدا عشان تفهم
يقطب "مراد" جبينه بشدة مغمغما :
-أنا مش طايقه .مش طايق أي حاجة تيجي من
ناحيته .و مش عارف يا أدهم إنت صممت على
القاعدة دي ليه ؟ ده واحد قذر عايش طول
عمره في نجاسة و قرف و ماستبعدش أبدا إنه
يكون غوى بنت عمه و إنهم إستغفلوني هما
اإلتنين
في هذه اللحظة لم يستطع "صالح" كبح نفسه
أكثر ،فقفز واقفا لينقض على "مراد" بلمح
البصر ،فيكيل له الضرب و اللكمات العنيفة ...
يهب على الفور كال من "عثمان" و "أدهم"
للحؤول بينهما ،و رغم أن ذلك كان صعبا بادئ
األمر خاصة و أن "مراد" إستطاع أن يتغلب
على "صالح" في لحظة و كاد ينال منه ..أًل أن
"عثمان" حال دون ذلك و أمسك بتالبيب إبن
عمه و إجتذبه بعنف صائحا :
-تعال هنـــا ! إنت إتجننت ؟ إثبت .إرجع مكانك
و إوعى تتحرك سامعنـــي ؟ يا إما تنزل
تستناني تحت !
يتراجع "صالح" مذعنا ألمر "عثمان" ..لكن
ما زال غضبه يتفاقم ،فيدس يده يجيب سترته و
يخرج قارورة الكحول الفضية التي يحملها دائما
و بدون مقدمات يفتحها و يفرغ منها بقوة داخل
جوفه ...
بنفس اللحظة "أدهم" يترك "مراد" بعد أن
ضمن سيطرته على نفسه ،يلتفت فيرى
"صالح" يتجرع هذا الشيء ،فتجحظ عيناه و
هو يصيح بلهجة مهددة :
-إنت بتشرب إيه يا بيـه ؟
أبعد "صالح" القارورة عن فمه ،لينقل نظراته
بينها و بين ذاك الذي أطلق سؤاله الساذج
بالنسبة إليه ،ثم يرد بمنتهى البساطة :
-تيكيال !
-خمـــرة !!! ..هدر "أدهم" بغضب شديد
-بـــرا .إطلعوا بـــرا كلكوا !
حاول "عثمان" أن يهدئ "أدهم" عبثا لم
يستطع التفاهم معه ،إذ كان مصمما على
طردهم و بدا أن ًل نقاش سيجدي معه ..ورغم
شدة إضطراب "عثمان" إًل أنه أصر اًل يخرج
من هنا إًل بالحل النهائي ،فهداه عقله إلى
تصرف يرضي مضيفهم
ليلتفت نحو إبن عمه بوجهه المحتقن غضبا،
يدفع به إلى خارج الغرفة بطريقته الهمجية
ليخفف من غضب "أدهم" عليهم ..و هكذا طرد
"صالح" و أمره بالبقاء في األسفل ريثما يهبط
إليه ،ثم عاد إلى المجلس الصغير و قال و هو
يعدل هندامه الذي تشعث كليا إثر هذه الفوضى
:
-إللي إنت عايزه يادكتور أدهم ..ماتزعلش
نفسك .صالح مشي خالص .ممكن بقى نتكلم في
المفيد ؟ أنا سامع !
أغمض "أدهم" عيناه مطلقا زفيرا مشحونا و
قال بجفاف شديد :
-أستغفر هللا ..بص يا أستاذ عثمان .إنتوا
بصراحة ماتشجعوش على أي نقاش .لسا ردود
أفعالكوا هوجاء و طايشين و ده ماينفعش .إذا
كنت إنت و اًل إبن خالتي إنتوا اإلتنين غلطانين
!
عثمان بصالبة :أنا مش جاي أسأل مين
الغلطان يا دكتور .أنا جيت عشان حضرتك
كلمتني و قولتلي جايز الموضوع يتحل ..أنا
عايز أعرف بقى هايتحل إزاي ؟
صمت "أدهم" قليال يستجمع عقالنيته كاملة،
ثم أشار نحو "مراد" قائال :
-البيه ده لسا بيحب بنت عم حضرتك و عايزها
و ندمان على إللي عمله .سيبك من كالمه ده.
أنا متأكد من إللي بقوله هو بس كان رافض
يصارحني عشان رجولته ناقحة عليه أوي !
عقد "عثمان" حاجبيه ممعنا النظر بكلماته،
تطلع إلى صديقه فوجده يجلس نفس الجلسة
المتوترة و منكمشا على نفسه بطريقة
مضطربة ...
بعد تأمله لبرهة بدأ يقتنع بأقوال "أدهم" نوعا
ما ،لكنه عاد يقول له بجدية :
-الكالم ده جميل .و من ناحيتي أقسملك باهلل إن
مافيش حاجة حصلت بيني و بين بنت عمي و
إنها طول عمرها زي أختي .و طبعا رجوعها
لمراد شيء هايبسطنا و يريحنا كلنا ..بس إزاي
يا دكتور ؟!!
أدهم بجدية مماثلة :
-ده إللي كنت عاوزك فيه ..مراد زي ما قولتلك
رافض يصارحني .هو قالي إنه طلقها أكتر من
مرة .بس بيلف و يدور عليا مش عايز يقولي
كام مرة بالضبط
3-مرات يا دكتور ! ..أجابه "عثمان"
بصرامة
عبس "أدهم" قائال بلهجة متشددة :
-متأكد ؟!
أومأ "عثمان" :متأكد
و هنا ساد صمت مريب ،فتململ "مراد" قلقا و
رغما عنه تطلع نحو "أدهم" منتظرا رده ..فلم
يجعله ينتظر طويال ...
-كده يبقى الموضوع منتهي !
مراد بتوتر :يعني إيه منتهي يا أدهم ؟!!
نظر "أدهم" له و قال بصوته القوي :
-يعني خالص متحرمة عليك يا مرادً .لزم
محلل ..و المحلل عندنا في الدين لو بغرض
الرجوع للزوج األوًلني محرم لقول النبي صلى
هللا عليه و سلم« :لعن َّللا المحلل والمحلل له»،
-طيب ما هو زواج المحلل مش محرم يا دكتور
! ..قالها "عثمان" مستفهما
إلتفت "أدهم" إليه ،ليكمل موضحا :
-في ناس كتير بتعمل كده .أعتقد إنه شيء
مكروه في الدين لكن مش محرم !
رفع "أدهم" حاجبيه مدهوشا من تفكيره و
جداله حتى بعد أن آتاه بالبينة ...
أراد أن يبرهن له أكثر على صحة كالمه ،لكنه
أمسك بآخر لحظة و عوض ذلك قال بغلظة :
-حتى لو ده ينفع ..أعتقد مافيش راجل يقبلها
على نفسه !
عثمان بتساؤل :يقبل إيه بالضبط ؟ الجواز ؟ و
مين الزوج و ًل المحلل ؟!!
أدهم بحدة :اإلتنين .و بعدين ده مش مجرد
جواز على ورق ..شروط المحلل عشان ترجع
للزوج األول ماتطلقش "حتى يذوق عسيلتها و
تذوق عسيلته" ..ده حديث عن النبي بردو
مراد بقلق أكبر:
-يعني إيه الكالم ده يا أدهم ؟!
نظر "أدهم" إليه من جديد و فسر له بمنتهى
الصراحة :
-يعني المحلل ده ًلزم يدخل عليها يا رايق
عشان ترجعلك !
جحظت عيني "مراد" بصدمة و ما لبث أن نقل
ناظريه نحو "عثمان" و كأنه أخيرا يناشده
الحل و المساعدة ...
إًل أن "عثمان" لم يكن هنا أبدا ،كان يفكر
بعمق ...بمسألة حساسة جدا للغاية !
يتبع ...
انتهى الفصل ٨
9
"ًل تنظري هكذا أرجوك ؛ تحطمين قلبي
بدموعك ..هي ما ًل أتحملها!"
_ مراد
*****
*****
يتبع ...
انتهى الفصل التاسع ..
10
*****
عادت إلى شقة أمها منتفضة البدن ،أغلقت
الباب ورائها واستندت إليه لبضعة دقائق
محاولة تهدئة أعصابها ،لكن بال جدوى
جرت قدميها ناحية الرواق ،لم تتجه إلى
غرفتها ،بل مشيت رأسا صوب المرحاض،
مدت ساقيها الساق وراء األخرى داخل حوض
اًلستحمام ،و فتحت الصنبور و هي تقف أسفله
بمالبسها لينهمر فوق رأسها رذاذ بارد كالثلج
أخذت تجهش بالبكاء و هي تلتقط زجاجة
الصابون و تسكب على نفسها
قضت ساعة كاملة تحاول محو آثاره ،كررت
الذنب الذي خرب حياتها ،صحيح أنه ليس كامال
لكن ًل فرق
بعد ما حدث ليس لها الحق في التوبة
ليس لها الحق في الوقوف بين يدي خالقها و
طلب العفو بعد أن عاهدته و نقضت عهدها
هذا ما حدثت به نفسها المحطمة و هي تخرج
من المرحاض بمالبسها المشبعة بالماء ،دلفت
إلى غرفتها و تهاوت فورا أمام السرير ،تركته
لطفلتها و رقدت فوق األرض الصلدة الباردة
و كما لو أنها لم تنم أليام ،غفت من فورها،
كالمغشي عليه ...
*****
وصلة أستحمام
ضمت الزوجين "أدهم" و "سالف" ..إذ جعلوا
صغارهم هم العرايا فقط ،كانت بهجة كبيرة
داخل قاعة المرحاض و لهو مرح كبير
تسلم "أدهم" اثنين من الصغار ،و فضلت
"سالف" األقرب دوما إلى قلبها و األرهف
إحساسا بين إخوته "نور" ..حممته و لم تتركه
لحظة و هو اآلخر لم يكن أقل تعلقا بها ؛
تناولوا جميعهم الفطور بعد ذلك في غرفة
الصغار ،عقب أن ارتدوا مالبسهم و تناوبوا
على تلبيس أطفالهم و إطعامهم ...
-إنقضى يوم الشاور على خير ! ..قالتها
"سالف" بظفر و هي ترتشف القليل من
قهوتها بالحليب
كانت تقف على عتبة غرفة الصغار بجوارها
زوجها يتآمالن مرح أطفالهم بسعادة ...
-مش عارفة لو ربنا ماكنش رزقني بزوج
متعاون زيك كنت عملت إيه مع التالتة دول يا
دومي !؟
ابتسم "أدهم" لها و قال غامزا بعينه :
-ما هي دي شركة بينا يا حبيبتي .و بعدين لسا
اخواتهم ماجوش أنا كده ماقدمتش أقصى ما
عندي
تالشت ابتسامتها في هذه اللحظة و هي تعلق :
-ثواني ..أنت متخيل إني ممكن أخلف تاني يا
أدهم ؟
هز كتفيه :طبعا .و ليه ًل يا حبيبتي .إحنا أصال
متفقين
سالف باستنكار :متفقين على إيـه !!؟
-إيه هاتسحبي كالمك ؟ قبل ما دول يجوا قلتي
لي نفسي أجيب منك .10أنا ذاكرتي كويسة و
مش هقبل أقل من العدد ده
قهقهت بعلو و قالت :
ً-لااا ده انت بتصدق الهزار فعال .يا حبيبي دي
كانت لحظة حماس و راحت لحالها ! ..ثم
أضافت بحدة :
-أنا عمري ما هانسى يوم الوًلدة .أنا كنت
بموت يا أدهم حرام عليك و خالص جاتلي
ترومة من الحمل .إنسى
و تركته مولية تجاه غرفة النوم ،فتبعها هاتفا :
-استني بس يا سالف ..هانتفاهم يا حبيبتي
لم تتوقف األخيرة حتى غابت بالداخل صائحة :
-إنســــى ...
ولج ورائها و أمسك بذراعها ،أدارها صوبه و
حاول التعاطي معها بهدوء :
-إيه بس إللي راعبك كده .أنا بتكلم جد دلوقتي..
إنتي فعال مش عايزة تخلفي مني تاني ؟
تأففت بضيق :أدهم و أنا بتكلم جد .مش قصة
مش عايزة أخلف منك ..بس ده شيء متعب و
يكاد يكون مميت .انت ماجربتوش بس أنا
جربته
حاول استعطافها :يعني وًلدنا طلعوا
مايستحقوش التجربة دي يا سالف
إنفعلت قليال :انت ليه مصمم كده .ما انت عندك
3صبيان .عايز إيه تاني يا أدهم !؟؟
جاوبها مبتسما :عايز زيهم بنات .و بإذن هللا
هايكونوا معانا قريب !
تدلى فكها و هي تعقب :
3-زيهم و قريب كمان ؟ ًل انت بجد بجد بتحلم
يا أدهم .مستحيــل ...
و هربت من أمامه للخارج مجددا ،بينما ظل
مكانه يضحك عليها ،إلى أن قاطعه صوت
الهاتف ،أستله من جيب سرواله و نظر إلى
الشاشة المضاءة ،فعبس مستغربا لرؤية اسم
ابن عمته الكبيرة ،لكنه رد في األخير :
-السالم عليكم ..أهال يا مالك !
*****
إنقطع صمت و سكون البيت بصراخ الطفلة
الباكية لحظة أن استيقظت و لم تجد أمها في
الفراش بجوارها ،اقتحمت "أمينة" الغرفة
مذعورة على صوتها ،و لكنها ازدادت هلعا
حين رأت ابنتها مكومة أمام الفراش
ظنت أنها فقدت الوعي كما هو حالها دائما
عندما تصاب بتعب نفسي ،هبت "أمينة" إليها،
جثت إلى جوارها و أمسكت بها صائحة :
-إيمــاااااان .مالـك يابنتي حصل لك إيــه..
إيمـااااااان !!!
كانت استجابتها أسرع مما توقعت ،فقد إنفتح
جفناها و نظرت بعيني أمها ،زفرت "أمينة"
بارتياح بينما تمتمت "إيمان" :
-إيه يا ماما ..في إيه مين بيزعق كده !؟
أمينة بتوبيخ :إنتي إللي بتعملي إيه على
األرض إيمان .إيه منيمك بالشكل ده وقعتي قلبي
!!
كانت الصغيرة "لمى" قد نزلت عن السرير و
جاءت لتجلس بحضن أمها ،استقبلتها "إيمان"
محتضنة إياها و هي تجلس بمساعدة أمها التي
ًلمست عرضيا جبينها الملتهب :
-يا لهوي ! إنتي سخنة مولعة كده ليه ؟
كانت أسئلتها الملتاعة كثيرة ،لكن األخيرة
عمدت إلى تهدئتها بأقصى ما استطاعت :
-اهدي يا ماما أنا كويسة .كل الحكاية إني دخلت
استحميت قبل ما أنام و قعدت شوية هنا لحد ما
شعري ينشف .ماحستش بنفسي باين نمت
مكاني !
نهرتها "أمينة" مجددا :
-إيه تصرفات العيال دي ؟ عجبك يعني تاخدي
برد و كمان باين إمن هدومك مندية .إنتي بليتي
نفسك و ًل إيه !؟
غمغمت "إيمان" بنفاذ صبر :
-يا ماما قلت لك مافياش حاجة .أنا هقوم أفطر
و أشرب حاجة سخنة و هابقى كويسة ..خالص
لو سمحتي بقى !
أذعنت "أمينة" إلرادة إبنتها و كفت لسانها،
لتسألها "إيمان" تاليا :
-هي الساعة كام دلوقتي ؟
-الساعة 12الظهر يا حبيبتي
-ياااااه ! ..ردت و هي تدلك رأسها الذي يؤلمها
-ده أنا اتأخرت إنهاردة في النوم أوي
-أنا صاحية من النجمة و هللا .بس ماحبتش
أصحيكي قلت أسيبك براحتك
نظرت لها باستغراب :
-و إيه صحاكي بدري أوي ؟
أخبرتها بايجاز و قد بدا عليها اًلمتعاض :
-مراد ابن خالتك .نزل يديني مفتاح الشقة
الساعة 6الصبح و مشي
شحبت "إيمان" و هي تسألها بال حسيب :
-مشي راح فين ؟
-ماقالش يابنتي .كل اللي قاله إنه هايبقى يكلم
أدهم و يشرح له .يشرح إيه بقى ماعرفش !
ارتجف قلبها بين أضلعها و هي تتلقى األخبار
إذن فعل مثل المرة السابقة ..تركها و أدار
ظهره كما أول مرة دون أن ينبس ببنت شفة
لن يتغير أبدا
و لن تكون ذكراه في حياتها إًل عبارة عن األلم
تبا للحب ...لقد كرهته لألبد بسببه !
يتبع ...
انتهى الفصل العاشر
11 ..
*****
يتبع ...
12
"لقد وقعت في فخك ؛ و هذا ما كنت تسعي
إليه ..ادركت أخيرا أن أهم شيء هو الحب ...و
لكن بعد فوات األوان !"
_ مراد
*****
*****
يتبع ...
انتهى الفصل الثاني عشر
13
*****
*****
حضرت "إيمان" القهوة التي لطالما أعدتها
لشقيق زوجها الراحل في أوقات الدراسة و
حتى بعد أن راجال مستقال ،اآلن هي تعدها من
أجله و لكن بصفة أخرى ،فهو قريبا سيغدو
رجلها ..أجل
ذلك الولد الذي درست له في فترة صباه ،و
نصحت له في أمور العشق بمراهقته ،و كانت
تعامله كأخ مقرب طيلة سنوات زواجها و حتى
بعد أن ترملت
حتى هذه اللحظة ًل تعرف كيف بات ينظر إليها
تلك النظرة !!؟
صحيح أن قبلت به ،و لكن حتى و لو كان غيره
الذي أتاه كانت لترضى هربا من ماضيها الذي
ًل ينفك يالحقها ،كانت لترضى بأي رجل مخافة
أن تقع في وحل اآلثام من جديد ؛
لكن ..ماذا عنه هو ؟
كيف طاوعته نفسه أن يتقبل مثل هذا ..إنها
زوجة أخيه ،في مكانة أخته ،هل يمكن هذا ،هل
يمكنه أن يتخيلها بين ذراعيه ؟
بعد أن كانت ملكا ألخيه ..هذا شيء ًل يصدق !
و لكنها الحقيقة لألسف" ..مالك" يريدها" و
هي قبلته و انتهى ...
حملت "إيمان" صينية القهوة ،و خرجت على
مهل مطرقة الرأس ،وصلت إلى حجرة المعيشة
متماسكة ،و لكن اًلرتباك ما لبث إغتالها حين
خبت األصوات فجأة عند ظهورها ،رغما عنها
رفعت وجهها لتشتبك نظراتها بنظراته
ارتعش بداخلها و هي ترى عيناه تتفحصانها
ألول مرة بهذا التدقيق و الجرأة ،ابتلعت ريقها
بتوتر و أجبرت نفسها على العدو بنفس الوتيرة
المتزنة ،وصوًل إلى أمها أوًل ...
قدمت إليها شايا كما تفضل ،ثم إنتقلت إلى
"مايا" و قدمت لها العصير الطازج ،و أخيرا
انتهى بها المطاف أمامه ....ليست المرة األولى
التي تقف قبالته هذا الموقف ...لكنها المرة
األولى و هي تعلم جيدا النوايا التي تطل من
عينيه اآلن ..كان ًل بد أن تثير تلك القشعريرة
التي سرت بأوصالها مشاعر محببة ...إنما ًل..
العينين ليست عيني "مراد" ..النظرات ليست
له ..تبا
تبا له و تعسا لحظها إذ ما زالت تراه في كل
شيء و كأنه مركز الكون و حياتها تتوقف
عليه ..هي كذلك بالفعل ...
-تسلم إيديكي ! ..قالها "مالك" ممتنا لها و قد
تالمست أيديهما عرضيا
فأنتفضت "إيمان" و ارتجت الصينية بين يديها
و إنسكب الماء و العصير المخصص لطفلتها،
جمدت المسكينة مضطربة أشد اًلضطراب،
بينما يسارع "مالك" لتفادي الضرر الواقع قدر
استطاعته ...
-مافيش حاجة .حصل خير .على مهلك ! ..
حاول "مالك" أن يلطف األجواء ليخفف عنها
لم تقوى "إيمان" على النطق ،و قد كانت أمها
تقف إلى جوارها خالل تلك األثناء ،ربتت على
كتفها مرة ثم قالت و هي تنحني لتجمع ما سقط
فوق األرض :
-معلش يا حبيبتي فداكي .خالص يا مالك يا
حبيبي .أنا هالم إللي وقع قوم يابني عيب ..
لم يصغي "مالك" ألمرها و أعاد الكؤوس إلى
الصينية ،ثم نهض مبتسما و قال :
-عيب إيه يا طنط أمينة .هو أنا غريب يعني !؟
-يا حبيبي مش القصد .طيب ماشي .تسلم إيدك
! ..و حملت الصينية عن ابنتها بالفارغ و
أردفت :
-أنا بقى عاملة على الغدا مفاجأة هاتعجبك انت
و أختك أوي يا مالك ..تعالي معايا يا مايا و ًل
لسا مش بتدخلي المطبخ ؟
أخذت "مايا" كأسها و قامت على الفور مرحبة
:
ً-ل يا طنط و ده معقول .أنا خالص بقى معايا
كتكوت .و مستوايا في المطبخ بقى عالي أوي
..
و غمزت لها
ضحكت "أمينة" مجلجلة :
-طيب ياختي الماية تكدب الغطاس .تعالي ورايا
! ..و لكنها إلتفتت نحو ابنتها أوًل و قالت :
-و إنتي يا إيمان روحي إنتي و مالك الفراندة
عشان تتكلموا براحتكوا .و خلي معاكوا لمى
تلعب حواليكوا على المرجيحة و ًل بلعبها جنبك
..
و لم تعطها فرصة الرد ،هكذا قامت بتدبيسها و
فرت مع "مايا" ..لتجد "إيمان" نفسها وجها
لوجه أمام "مالك" !!!
لم تجرؤ على النظر إليه البتة ،هي التي كانت
تكيل له المزح و الدًلل ،صار الوضع أكثر
غرابة و غير معقوًل اآلن ...
-إيمان !
أجبرت نفسها على النظر إليه ،كان وجهها
محتقنا بشدة ،و في المقابل كان هو أكثر
استرخاء و مرحاً ..ل زال يبتسم لها ابتسامته
العذبة الجذابة و هو يستطرد :
-مالك يابنتي في إيه .متنشنة ليه من ساعة ما
شوفتيني .أنا مش واخد عليكي كده !
ارتعش فكها بشكل طفيف و ملحوظ لفت إنتباهه
و جعله يحدق أكثر إلى فمها المغر و هي تتحدث
بتوتر :
-أنا تمام يا مالك .مافياش حاجة ..ممكن تاخد
قهوتك و احنا داخلين الفراندة !
أومأ لها و استدار ليحمل فنجان قهوته ،في
نفس اللحظة تصيح هي منادية صغيرتها التي
جلست فوق اآلريكة وحدها مشغولة بالدمى و
الهدايا التي جلبها عمها ألجلها :
-لمى ..يال يا قلبي تعالي معايا و هاتي عروستك
معاكي
أذعنت الصغيرة ألمها ،قامت مصطحبة معها
الدمية الشقراء الجديدة ،أخذتها و جلست فوق
األرجوحة و انخرطت في حوار هزلي معها ؛
جلسا كال منهما إلى الطاولة الوحيدة بالشرفة
األنيقة ،و عدا عن صوت "لمى" الطفولي
الناعم ،كان الجو هادئا ،إًل أن "إيمان" لم
تشعر بالراحة مطلقا ،خاصة و هي تشعر
بنظراته تكتنفها ،ثم تسمع صوته مبغتة :
-أظن طنط أمينة قالت هاتسيبنا على إنفراد
عشان نتكلم براحتنا ..بس أنا حاسك غريبة
أوي إنهاردة يا إيمان !!
وجهت ناظريها إليه و هو يتحدث إمتثاًل آلداب
الحديث ،ثم قالت و هي تبتسم بخفة :
-انت متهيألك يا مالك .أنا كويسة خالص و هللا
-فعال ؟
-أيوة !
-إمم ..طيب إنتي عارفة أنا جاي ليه إنهاردة !؟
ًلحظ على شعاع الظهيرة الشتوية الغائم
قسماتها الرقيقة المتعبة ،و عينيها العسليتان
منطفئتين قليال ،لكن مع ذلك كانت جميلة كما
هي شيمتها ،بعيدة عن التكلف ،طبيعية ،و هنا
يكمن سر جاذبيتها ..منذ أن جاء اليوم و كلما
نظر إليها شعر بما يشبه صعقة كهربائية ...
-جاي تكلم أدهم و ماما ! ..تمتمت "إيمان"
بشيء من اإلرتباك
راوغ "مالك" قائال باسلوبه الماكر :
-أكلمهم في إيه ؟ ماتعرفيش !؟؟
تنحنحت "إيمان" و هي تقول بمزيد من
اًلضطراب :
-مالك ..المسألة مش ناقصة إحراج أكتر من
كده .أنا عارفة إنك طلبت تتجوزني و أنا
موافقة .خالص بقى من فضلك !
إنحسر مرحه فجأة و هو يرد عليها بحدة :
-خالص يعني إيه ؟ إنتي شايفاني إيه قدامك يا
إيمان ..أنا مش الولد الصغير إبن إمبارح إللي
كنتي تعرفيه .أنا بقيت واحد تاني و إنتي دلوقتي
في حكم خطيبتي .مهما كانت الظروف .مهما
كانت العوائق بينا من وجهة نظرك ده ماينفيش
إني راشد كفاية وراجل أقدر أتحمل قراراتي..
أنا اخترت ارتبط بيكي بارادتي .و إوعك تفكري
إن فارق السن ده يديكي أفضلية عليا بأي شكل.
جايز مقدرش أثبت لك ده دلوقتي .لكن لحظة ما
تبقي مراتي هاتتأكدي مليون في المية من
كالمي !!
تلميحاته المبطنة أصابت معدتها بألم حاد ،هذا
التطور ًل يزيد الوضع إًل سوءً ،ل يمكنها تحمل
األفكار التي يشير إليها ،رغم أنها فرصتها لتنال
حياة أكثر آدمية
لكنها ًل تريدها معه ،إنه رجل و راشد كما قال،
بل و يمتلك من الوسامة ما يميزه عن أخيه
الراحل و يجعله متفوقا عليه ،لكن كل هذا ًل
يحرك فيها شعرة ،قلبها لم يكن يوما ملكا
ألخيه ،و حتما لن يكون له ؛
"منك هلل يا مراد .مش مسامحاك" ..همست
بهذه العبارة بينها و بين نفسها و قد فشلت
بحبس الدموع التي طفرت من عينيها بغتة و
خانتها جارية على خديها ...
تجمد "مالك" من الصدمة ،حين رآى دموعها
تبخرت كل مخططاته للسيطرة عليها منذ
البادئ ،هب واقفا من فوره ،أتى بجوارها و مد
لها منديل قائال بارتباك كان نصيبه هو هذه
المرة :
-إيمان .إنتي بتعيطي بجد .ليه ؟ خدي طيب ..
أخذت من المنديل الورقي دون أن تنظر إليه،
لكنه كان غير كافيا لتجفيف مدامعها التي فتحت
على اآلخير و لم يعد لها سلطان عليها ،و لما
عجزت أكثر حجبت وجهها بكفيه و راحت
تجهش ببكاء مرير اجتذب نظرات الصغيرة
"لمى" نحوها
من جهة أخرى شعر "مالك" بتأنيب الضمير
أكثر و هو يحاول معها مرة أخرى :
-أنا آسف و هللا .و هللا مقصدش أزعلك .حقك
عليا طيب ..يا إيمان .إهدي عشان أشرح لك.
إنتي أهم عندي أنا باألخص من كل حاجة .مهما
حصل أنا مش ممكن أغلط في حقك .أنا جايز
أكون فهمتك غلط و قلت كالم زعلك ..أنا آسف
تاني !
-ماما !
تناهى صوت "لمى" إلى مسامعها في هذه
اللحظة
غصت نشيجها في الحال حابسة أنفاسها ،ثم
كفكفت عينيها في كم كنزتها قبل أن تتطلع
إليها ...كانت الصغيرة تقف إلى جوار عمها ،و
لكن أقرب إليها ...
-نعم يا حبيبتي !؟ ..خاطبتها "إيمان" بلهجة
منكسرة
قلبت "لمى" شفتها السفلى و هي تشير إلى
آثار الدوع الالمعة على وجنتيها :
-إنتي بتعيطي !
هزت رأسها سلبا و هي تقول بشبه ابتسامة :
ً-ل يا روحي .أنا عيني دخل فيها تراب بس .أنا
كويسة ..بصي روحي هاتيلي كوباية ماية من
عند تيتة بسرعة و تعالي
-حاضر !
قبلتها "إيمان" على خدها أوًل ،ثم تركتها
تركض حيث أمرتها ،أخذت تستغل هذا الوقت
في غيابها لتكبح كل هذا الجزع و الضعف الذي
طفى على السطح فجأة
كان "مالك" ًل يزال واقفا مكانه ،رفعت
"إيمان" رأسها لتنظر إليه بعينيها الالمعتان ...
-أنا مش هسامح نفسي على إللي عملته فيكي
ده ! ..قالها بندم جم
عبست محدقة فيه بغرابة ،أجل هي تعلم أن ردة
فعلها مبالغ بها ،على األقل بالنسبة إليه ،لكن
رده هو أدهشها ..لماذا يشعر بكل هذا األسى ؟
يتحتم أن يراها سلبية و رمزا للكآبة و النكد كما
كان يتفنن أخيه بتلقيبها !!
تفاجأت "إيمان" و هي تراه يجثو فوق ركبته
باللحظة التالية ،و لم تأت بحركة عندما قبض
على يدها بكف ،و بكفه األخرى يمسح على
رأسها المغطى بالوشاح الزهري
بقيت هادئة كليا و هي تنصت إلى همسه
المسموع و الذي كان ليذيب أخريات غيرها :
-أنا بقدرك جدا ..إنتي عارفة .مافيش راجل
مايتمناش واحدة زيك .إنتي جوهرة نادرة يا
إيمان .لسا حلوة و جميلة زي مانتي ..صدقيني.
أنا مش زي سيف .أنا عمري ما هاسيئ
معاملتك ..أنا هاعوضك عن كل إللي عشتيه
معاه .و هاتشوفي ...
-مـالك !!!
بدد هتاف "أدهم" هدوء األجواء بقساوة
مفاجئة و دب الذعر بقلب "إيمان" !!
يتبع ...
انتهى الفصل الثالث عشر ..
14
_ مراد
على عكس "إيمان" التي ماتت بجلدها فور
ظهور أخيها فجأة و ضبطها متلبسة ،تصرف
"مالك" بمنتهى الهدوء و هو يقوم من ركوعه
و إستدار ليالقي "أدهم" مبتسما :
-أدهم ! ازيك يا كبير واحشني جدا و هللا ..
اقترب "أدهم" خطوتين منه و عيناه تقدحان
شررا :
-الظاهر إني كنت غلطان في تقديري ليك .انت
ماتفرقش حاجة عن أخوك !
قامت "إيمان" محاولة تلطيف الجو :
-يا أدهم آ ...
-اسكتـي إنتـي خـالص ! ..صاح "أدهم"
بغضب مستطير
فألجم لسان "إيمان" و جمدها بمكانها من
الرعب
فهي نعم ،تخشى أخيها ...و ليس فقط تحترمه ؛
نقل "أدهم" نظراته المتقدة محدقا بـ"مالك"
ثانية ...
-انت بتكلم إيمان بالشكل ده ليه يا أدهم ؟ ..
قالها "مالك" بأريحية ًل تخفي احتجاجه
-كالمك معايا أنا .كنت بتقول إني مافرقش حاجة
عن سيف صح !؟
كور "أدهم" قبضته ممسكا شره بصعوبة و هو
يقول بخفوت مخيف :
-قدامك 3ثواني عشان تمشي من وشي يا
مالك .و إًل ...
مالك بتحد :و إًل إيه يا دكتور ؟ بتهددني !!
لم يتعاطى معه "أدهم" بكلمة أخرى ،هجم عليه
شادا إياه من تالبيبه بعنف كبير ،لتقفز
"إيمان" فوق مقعدها صارخة ...
خالل لحظات كانت كال من "أمينة" و "مايا"
هنا ،كتمت "مايا" صرخة ملتاعة بكفيها لمرآى
شقيقها في هذا الوضع بين يدي "أدهم" ..بينما
"أمينة" قد هرعت نحو إبنها في الحال هاتفة و
هي تحاول الحؤول بينه و بين األخير :
-أدهــم ..إيـه إللي بتعمله ده يابني .ماسك في
ابن عمتك كده ليه بس .ســيبه بـقى !؟؟
تركه "أدهم" بصعوبة و هو يلتفت صائحا بأمه
و قد خرج عن شعوره :
-أسيـبه طبعا .مانتي كمان سايبة السايب في
السايب يا أمي .أدخل عليهم أًلقي ماسك إيدها
و بيحسس عليها .إزاي .نـايمة على ودانك ؟
إلتفتت "أمينة" نحو "مالك" ناظرة إليه بمزيج
الحنق و خيبة أمل :
-كده يا مالك .كده بردو تخون ثقتي و تسود
وشي قصاد إبني ؟؟
-إوعي بقى كده إنتي لسا هاتعاتبي !
تأوهت "أمينة" مصدومة حين شعرت بقبضة
"أدهم" تشدها للوراء كي تبقى بعيدا ،ألول
مرة يمد ابنها يده إليها بهذه الطريقة ،مما يعني
أنه قد بلغ من الغضب عتيا لم يصل إليه بحياته
كلها ؛
وقف "أدهم" أمام "مالك" قريبا منه إلى حد
خطير ...
-أطلع برا يا مالك ..البيت ده مش هاتدخله تاني
أبدا !
*****
*****
يتبع ...
انتهى الفصل الرابع عشر
15
16
*****
ً-ل يا سيفً .ل حرام عليك بقى .كفاية كده.
كفاية تعمل معايا كل ده كفـااااااااااااية !
صراخها ملء الغرفة و بلغ سمعيه بشدة ،بينما
يحاول تهدئتها عبثا ،أمسك بمعصميها و ًل يزال
مسيطرا على جسمها المتشنج ،هتف فيها بقوة
:
-إيمـان .فوقي يا إيمان ..أنا مراد .مـرااد مش
سيف .إيمان !
لم يبدو أنها سمعته جيدا ،كانت و كأنها بغيبوبة
و هي على قيد الوعي ،و كأنها ترى شخصا
آخر مكانه هو ،األمر الذي أقلقه بشدة و ،أخذ
يهزها بعنف صائحا :
-إيمـاااان ..فوقي .ماتخافيش يا حبيبتي.
ماتخافيش مش هاعمل لك حاجة .و هللا و
ماكنتش ناوي أعمل حاجة أصال ..أنا بس كنت
عايز أثبت لك إني لسا في قلبك .إنك لسا
بتحبيني و ماتقدريش تكوني مع حد غيري ...
أخيرا بدأت تستجيب له ،و تعود للوقع من
جديد ،لكن األسى كان يغمرها حد اإلختناق،
فانفجرت ببكاء عارم
تنهد "مراد" في استياء ونطق بندم :
-أنا آسف .أنا آسف جدا ..أنا غلطان .أنا آسف
...
*****
ترجلت "سالف" من سيارتها واضعة الهاتف
فوق أذنها :
-أيوة يا أدهم .وصلت البيت خالصً ..ل أنا
هاطلع أجيب شهادة ميالد لمى من فوق هانزل
علطول ..مش عارفة عمتو نسيتها إزاي بس ..
استقلت المصعد و هي تردف له :
ً-ل يا حبيبي تيجي فين بس ..مافيش أي تعب
عليا و هللا ..حاضر هامشي على مهلي ..
توقفت أمام باب شقة عمتها ،دفعت المفتاح
بالقفل ضاحكة و هي تسند الهاتف إلى أذنها
أكثر :
-ماترجعش تفتح الموضوع ده معايا بالطريقة
دي ..أيوة عمرك ما هاتغريني بالخلفة تاني..
خالاااص بقى يا أدهم مش وقته ..أوكي يا
حبيبي أنا مستنياك دايما ..ترجع لنا بالسالمة..
ماشي ..و أنا كمان بحبك ...محمد رسول هللا !
و أغلقت معه و هي تلج إلى الشقة رافعة النقاب
عن وجهها
تنهدت مغلقة الباب خلفها ،وضعت حقيبتها
فوق أحد الكراسي ،ثم شقت طريقها للداخل
قاصدة غرفة عمتها ،حيث نسيت بها شهادة
ميالد "لمى" ...
و لكن ..استوقفها شيء فجأة ...أمام غرفة
"إيمان" ..توقفت لبرهة و هي تلمس الباب
بتعاطف ...
-حبيبتي يا إيمان !
هزت رأسها في شفقة على حال تلك المسكينة
التي تبكي خلف باب غرفتها ،كانت حائرة ،و
هي تستمع إلى نحيبها المرير ،هل تلج
لتواسيها ،أم تتركها ؟
إنها دائما ما تبكي ،الجميع يعلم إنها تبكي ،و
الغريب أن ًل أحد يهتم ،يتركونها في كل أوقات
حزنها و بؤسها ...
تنهدت "سالف" و هي ترفع يدها عن مقبض
الباب و قد تخلت هي أيضا عن مواساتهاً ،ل
لشيء سوى عدم إحراجها و زيادة الطين بلة..
لكنها توقفت فجأة حين تناهى إلى سمعها صوت
آخر غير صوت "إيمان" !!!
قربت "سالف" أذنها من الباب و أصاخت
السمع ،فإذا بالصوت يختلط بصوتها ثانية ،لم
يستغرق األمر طويال حتى تبين لها أن هناك
رجل معها بالداخل و أن ذلك الصوت له ؛
جن جنون "سالف" لهذا اإلكتشاف ،و ارتمت
بجسدها كله على الباب و هي تفتحه مقتحمة
الغرفة ...
ً-ل ! ..كانت هذه الكلمة الوحيدة التي تمكنت
"سالف" من قولها
بمجرد أن دلفت و رأت تلك البشاعة كلها ...
شقيقة زوجها ..و ابن خالتهما" ..إيمان" و
"مراد" معا في الغرفة صحيح بمالبسهم وكل
واحد بعيد عن الثاني بس انصدمت!!!
ً-لااااااااااااااااااا !!!! ..صرخت "سالف"
مصدومة
في المقابل جمد الفزع كال من "مراد" و
"إيمان" ...
ً-ل مستحيلً .لً .ل مش معقـول ! ً ..ل تزال
"سالف" على إنكارها الهستيري
وقف "مراد" ، ..بينما "إيمان" أخذت تجهش
بالبكاء مجددا مغطية وجهها بكفيها غير قادرة
على النظر تجاه زوجة أخيها ؛
-سالف .سالف من فضلك إهدي ! ..قالها
"مراد" و هو يمشي نحو "سالف" محاوًل
تهدئتها
هزت "سالف" رأسها ،شعرت أن الصدمة
تتحول إلى غضب و هي تستمع إلى ذاك النذل،
إلتفتت إليه كإعصار ،لم يرها "مراد" غاضبة
هكذا من قبل ،لم يرها أصال في حياته على
الطبيعة إًل اآلن حين كان النقاب مرفوعا عن
وجهها المتآجج ،لم يتسنى له أي وقت ليتأملها
أو يتفاجأ بجمالها غير العادي ...
ازدرد ريقه بتوتر و هو يقول بحرج شديد :
-الوضع مش زي مانتي فاهمة .أقسم لك باهلل..
مش زي مانتي فاهمة !
نظرت "سالف" إليه كما لو أنه أحقر ما رأت
عيناها قط ،حتى "سيف" بذاته لم يصل إلى
تلك الدرجة من الدناءة و الخسة" ..سيف"
الذي حاول اًلعتداء عليها من قبل
إنما هذا ...هذا يدنس شرف أهله
يخون خالته ،ابن خالته ..الرجل الذي وثق فيه
كثيرا !!!
رمقته "سالف" باشمئزاز و غضب شديدين :
-حيـوان !
و لم تستطع البقاء هنا أكثر ،استدارت مهرولة
إلى الخارج
أسرع "مراد" ،ثم توقف لحظة و جثى على
ركبتيه أمام "إيمان": ..
-ماتخافيش يا حبيبتي .أنا هاحل الموضوع.
مش هاسيبك المرة دي يا إيمان .مافيش مخلوق
يقدر يفرق بينا خالص .أوعدك !
و نهض ًلحقا بـ"سالف" ...
وجدها تجلس بالصالة و ًل تزال كاشفة وجهها،
بدت متعبة و كأنها تعب الهواء إلى رئتيها بشق
األنفس ،فتح "مراد" فمه ليتحدث ،لكن شكلها
و شحوبها المفاجئ استوقفه ،فبدل قوله قلقا :
-سالف ..إنتي كويسة !؟
رفعت بصرها المستوحش إليه مزمجرة
بصعوبة :
-إمشي .إطلع برا ..إمشـــي من هنــا !!!
خفض "مراد" رأسه للحظات و صمت ..في
الحقيقة لم يجد ما يقوله لها و خشى لو أتى
شخص آخر اآلن فتصير حفلة
تنهد رامقا إياها بنظرة أسف أخيرة ،ثم إلتفت و
رحل أخيرا
بينما بقيت "سالف" مكانها ،أسندت رأسها إلى
ظهر الكرسي الوثير ،حاولت أن تنظم أنفاسها
مجددا ،هكذا في هذا الهدوء أمكنها سماع
شقيقة زوجها و هي ًل تزال تبكي في غرفتها !
يتبع ...
انتهى الفصل السادس عشر
_ سالف
لفت "لمى" ذراعيها حول عنق خالها فور أن
فتح باب السيارة األمامي من جهة أمه و تلقى
منها الصغيرة ،بينما توجهت "أمينة" لتفتح
الباب الخلفي و تتلقى بدورها التوأم الثالثة من
المقاعد المعززة ...
كان "أدهم" يسرع في خطاه نحو المنزل و
التوتر باد على أقل تحركاته ،هكذا وصوًل إلى
شقة والدته ،فتح باب الشقة بنسخته الخاصة
من المفتاح ،أنزل الصغيرة "لمى" و هو يهتف
مناديا عبر الشقة :
-سـالف ..ســالف ..سـالف !
لم يتلق ردا و قد فتش جميع الغرف حتى توقف
أمام غرفة أخته ،وجدها مغلقة فلم يشأ أن
يزعجها ،إن كانت زوجته هنا لخرجت عند
سماع صوته
قابل "أدهم" لدى خروجه أمام المصعد ،كانت
تهم بالخروج بعد الصغار و استوقفته بقلق :
-إيه يا أدهم خير يابني !؟
جاوبها "أدهم" متخذا مكانها داخل المصعد و
هو يكبس زر طابقه بسرعة :
-مالقتهاش جوا يا أمي .أكيد طلعت فوق أنا
طالع لها أهو !
أكدت عليه قبل أن ينغلق المصعد :
-إبقى طمني طيب !!
بالكاد رأته يومئ لها برأسه ،لحظات و دفع
"أدهم" باب المصعد منطلقا صوب شقته،
اقتحمها في الحال متجها رأسا إلى غرفة النوم،
و قد صدق حدسه و وجدها هناك ،تستلقي فوق
الفراش و ًل تزال في عباءتها السوداء ،كان
التعب واضحا عليها ...
-سالف ! ..صاح "أدهم" هارعا إليها
شعرت "سالف" بالمرتبة تنخفض بجوراها،
كانت غاطة بالنوم ،أو لعلها غيبوبة قصيرة،
عندما فتحت عيناها من جديد رأت وجه زوجها
الحبيب يطل عليها ؛
ابتسمت له بارهاق و هي ترفرف بأجفانها،
بينما يحاوطها بين ذراعيه قائال بقلق شديد :
-إيه يا حبيبتي مالك ؟ حاسة بإيه يا سالف
قوليلي !!؟
و كان يمسك بذقنها بلطف بين سبابته و إبهامه
يقلب وجهها يمنة و يسرا ليتفحصه عن كثب ...
-أنا كويسة يا أدهم ! ..قالتها "سالف" بصوت
ضعيف عكس إدعاءاتها
-ماتخافش انت قلقان أوي كده ليه ؟
أدهم بصوت أجش :
-قلقان ليه ! بعد ما قفلت معاكي و أكدتي إنك
راجعة بشهادة ميالد لمى لماما و فجأة بعدها
بشوية تكلميني تاني و تقوليلي مش هاتقدري
تنزلي أفهم أنا إيه !!؟
سألته عابسة :انت ماجتش تاخد شهادة الميالد
و توصلها لعمتو أمينة زي ما قلت لك !؟؟
رد دون أن يرف له جفن :
ً-ل طبعا .التطعيمات تستنى يروحوا بكرة أو
بعده ..إنتي كنتي متخيلة إني ممكن أروح لهم و
أسيبك !؟؟
سالف بشيء من اإلنفعال :
-يعني سبتهم هما هناك يا أدهم !!؟؟
زفر بامتعاض :إهدي يا سالف ماسبتش حد.
أنا عديت خدتهم في سكتي و جيت على هنا
فورا .أكيد ماكنتش هاجي أخد الشهادة و أروح
أستنى معاهم كل ده و أسيبك إنتي هنا لوحدك !
أغمضت عيناها متنهدة و هي تسند رأسها إلى
الوسادة بعمق ،أخذت تسعل بخفة فجأة ،ثم ما
برح سعالها أن إزداد حدة و أخذت تتأرجح
مكانها من شدة السعال ..في المقابل يراقبها
"أدهم" بتوجس ما لبث أن استحال خوف
عليها ...
-فيكي إيه بس يا سالف !!؟ ..غمغم "أدهم"
بجزع و هو يضم رأسها إلى صدره
و ًل تعلم لماذا كرهت نفسها في تلك اللحظة،
ألنها تسببت في قلقه و زعزعة استقرارهم
جميعا اليوم ..هي و هو و األطفال
ربما ما كان عليها أن تعود إلى المنزل ،ربما
كان يجب أن تتأكد قبل أن يذهبوا بأن كل ما
يلزم لتلقي التطعيمات جاهز ،هي المالمة ..أيا
كان ما فعلته شقيقة زوجها مع ابن عمتها
يخصهما وحدهما ،لم يكن عليها أن تتواجد في
هذا الوقت و تكتشف أمرهما ،لم يكن عليها
تحمل هذا العبء كله ...
-يال قومي هانروح المستشفى ! ..شد يدها
بحزم أجفلها
لو أراد ألقتلعها من الفراش بسهولة ،لكنه
إنصاع لقبضة يدها التي شددت على كفه فسكن
على الفور منصتا إليها :
-استنى بس يا أدهم .مستشفى إيه .مش
مستاهلة
تململ بغضب :مش مستاهلة إزاي .انت بقالك
فترة تعبانة و صدرك تاعبك .بس إنهاردة زادت
أوي الحكاية ! ..ثم هتف بصرامة :
-إستحالة أقف اتفرج عليكي .مش هاسمع
كالمك المرة دي .يال قومي بقولك هانروح
المستشفى !!
*****
! -Asthma Syndrome
أعلن الطبيب الخمسيني تشخيص حالة مريضته
بعد الكشف الدقيق عليها
كانا كال الزوجين يجلسان أمامه ،و قد كانت
"سالف" رافعة نقابها لعجزها عن التنفس
بشكل طبيعي ،لم تكن تفهم ما أدلى به ..و لكنها
أيقنت من وجه "أدهم" بأنها علة غير حميدة
على اإلطالق ...
-انت متأكد يا دكتور !؟ ..تساءل "أدهم"
محاوًل إخفاء صدمته قدر المستطاع
-ربو ؟ متأكد !؟
شحب وجه "سالف" فوق شحوبه و هي
تستمع إلى هذا الخبر يخرج من فم زوجها،
جمدت تماما و لم تستطع نطقا ..أحس بها
"أدهم" و ألقى عليها نظرة
كما العاجز ،كالغريق الذي يتعلق بقشة مد يده و
قبض بقوة على كفها الملقى بحجرها و هو
يعاود النظر إلى الطبيب قائال بانفعال :
-ممكن تتأكد تاني يا دكتور .ممكن نعمل تحاليل
آشعة أي حاجة .إزاي شخصت بالسرعة دي
!!؟
إنبلجت ابتسامة على وجه الطبيب ،و قال مهدئا
و هو يخلع نظارته :
-بالراحة يا دكتور أدهم .مالك بس أنا لسا
ماكملتش كالمي ..أكيد هانعمل تحاليل و أشعة.
بس أنا متأكد كمان من إللي بقوله .و في نفس
الوقت بطمنكوا .الوضع مش خطير .النوع ده
من الربو تافه جدا .عامل زي الحساسية
المزمنة كده .هانحدد له عالج إن شاء هللا بعد
ما تطلع نتايج التحاليل .ماتقلقش المدام زي
الفل و هللا
كان يتنفس بثقل و هو ًل يزال يشعر بإعياء
الخوف عليها ،ازدرد ريقه ضاما يدها بقبضته
أكثر ...
-أدهم يابني انت بتثق فيا و اًل ًل !؟ ..حدثه
الطبيب بجدية
أدهم عابسا بوهن شديد :
-أكيد يا دكتور أمجد !
الطبيب بحزم :خالص يبقى تصدقني و
ماشوفش وش القلق ده عليك ! ..و حول
ناظريه نحو "سالف" مكمال :
-و إنتي يابنتي .ماتخافيش إنتي كويسة ..ممكن
اسألك سؤال ؟
بالكاد خرج صوت "سالف" هامسا أبحا :
-اتفضل !
-إنتي حصلت معاكي حاجة إنهاردة ضايقتك
صح ؟
إتسعت حدقتاها و ارتبكت فجأة من تلك
المباغتة ،بينما بقى "ادهم" هادئا في انتظار
ردها الذي تأخر كثيرا ،بل لم يأتي أصال،
ليسترخي الطبيب للوراء قليال و قد خمن
اإلجابة ،فقال بهدوء :
-طيب أيا كان يا مدام .إنتي المرض إللي عندك
ده مزمن .و مش بيظهر أعراضه غير في
حالتين .مواسم الخريف و الربيع .و الحالة
التانية ناتجة عن الحالة المزاجية .زي إنك مثال
تسمعي خبر يضايقك .حد يزعلك كده يعني ..ف
كل ده بردو حاجات ًل تدعو ألي قلق .مبدئيا
الوقاية .أولها النقاب دهً .لزم يتخلع !
-نعم ! ..خرج هذا اًلعتراض من فاه "أدهم"
فأردف الطبيب ناظرا إليه بقوة :
-مش بمزاجك و ًل مزاجها يا دكتور .أي حالة
ربو ماينفعش معاها خنقة النفس أبدا .قوًل
واحدا النقاب ًلزم يتخلع !
*****
*****
*****
-ها يا سيدي .أدينا على إنفراد ..ممكن أفهم بقى
إيه الضروري إللي خالك تقومني من كتب
الكتاب بالشكل ده !؟
وقف "مراد" قبالة "أدهم" متوترا بشدة ،كان
يرتب كلماته عبثا ،فهو ًل يعرف كيف يصوغ له
كل هذا ..إًل أنه عمل جاهدا و باسراع ...
-هو أنا جايز اتأخرت كتير .جايز غلط إللي
بعمله ..بس عشان أكون على األقل مرتاح إني
ماكنتش جبان .تيجي مني دلوقتي في آخر
لحظة .أحسن لو ماجتش خالص ...
حدجه "أدهم" بتعبير مستغرب ،فضغط األخير
فكيه بشدة مدركا عواقب ما سيتفوه به ،لكنه
أردف بشجاعة ألول مرة في سبيلها :
-أنا بطلب منك إيد إيمان يا أدهم ..بطلب منك
تلغي الجواز ده و تحط إيدك في إيدي أنا !
رمقه "أدهم" مدهوشا ،و صمت للحظات
طويلة ...ثم قال بهدوء :
-مراد ..انت بتقول إيه؟ إنهاردة كتب كتاب
أختي .و انت جاي تطلبها مني ! ..و استطرد
بذهول أشد :
-أنا مش فاهم إيه الحكاية !!!
أفصح "مراد" بال تردد و بكثير من اًلنفعال :
-الحكاية إن انا و إيمان بنحب بعض .من
زمان.عمرها الجرأة ما جات لي أقول لك الكالم
ده بس خالص مش قادر .لتاني مرة بتضيع
مني ..أنا بحبها يا أدهم !
رجع "أدهم" للخلف قليال في صدمة :
-إيه !!؟
أومأ "مراد" بقوة و اعتمد القليل من الكذب
تاليا :
-زي ما سمعت .من و احنا عيال لحد ما وصلنا
المدرسة و بعدها كمان .لحد ما سافرت و كنت
مفكر إني أقدر انساها أو حياتي تشغلني عنها و
إنها مجرد حب طفولة ..لكن دي مش الحقيقة.
ًل ليا و ًل ليها .إحنا لسا بنحب بعض .أنا و هي
عارفين كده بس إللي بيحصل إنهاردة أكبر
غلط .إيمان مش بتحب مالك .إيمان بتحبني أنا
بس ماعندهاش الشجاعة توافق على ده !
ظل "أدهم" صامتا للحظات ،و هو يحدق إليه
بنظرات جامدة ،بدا و كأنه يتعرف إليه ألول
مرة ...
توقع "مراد" أن يرى الغضب أو ربما العنف
في عينيه ،لكنه أخيرا ..لم يجد فيهما سوى...
الجرح !
هل كان من المفترض أن ينتظر منه جواب،
حسنا ..لم يحصل منه و لو على كلمة
فجأة استدار "أدهم" و مضى نحو الداخل مرة
أخرى ...
*****
يتبع ...
انتهى الفصل السابع عشر
18 ..
*****
إرتعدت بقوة ،عندما أغلق عليهما باب واحد،
كانت توليه ظهرها و هي تفكر بمئات
اإلحتماًلت ..اليوم مجرد عقد قران ،لماذا إذن
طلب أن ينفرد بها بعض الوقت !؟
ماذا يريد منها ؟
الجدير بالذكر بأن المكان الذي تطأ قدميه اآلن
هو غرفة نومها في بيت والدها الراحل ،غرفة
نومها التي لم يلج إليها رجل من غير محارمها
سوى "مراد" ..حتى زوجها الراحل ...طوال
سنوات الزواج لم يدخل إلى هنا أبدا ...هذا األمر
يسبب لها توتر كبير !!!
-إيمان ! ..همس من ورائها بالقرب من أذنها
تماما
تسبب هذا بقشعريرة مخيفة تسللت إليها ،أحس
بها ،و لعله ظن إنها متأثرة به كما هو حاله
معها ..و لكنها كانت في قرارة نفسها تسخر من
األمر برمته
فهذا الفتى ،أو الشاب "مالك" الذي كانت في
وقت ما تداعبه و تالطفه و هو ولد صغير ،إنه
اآلن يحاول أن يغازلها !!
أجفلت حين تنحنح قليال قبل أن يقول بهدوء
مرح :
-بصي أنا طبعا كان نفسي أول مرة نكون مع
بعض لوحدنا في مكان مميز .لكن إنتي عارفة
أدهم مشدد علينا إزاي و كان شرطه بعد كتب
الكتاب مانخرجش من البيت لوحدنا لغاية معاد
الفرح ..عشان كده طلبت على األقل أقعد معاكي
شوية في أوضتك !
و ضحك بخفة و أردف :
-و لو إني كنت موجود لما اتجوز هو و سالف
و شوفتهم بعد كتب الكتاب خارجين لوحدهم..
بس عادي .أنا مش هعارضه في أي حاجة.
ألني بحبه و بحترمه جدا
وسعت زاويتي شفتاها مظهرة إبتسامة مجاملة،
ليستطرد و قد توقف عن اإلبتسام للحظة و هو
يمد يده تجاه رأسها ،تذبذبت عندما شعرت
براحته الدافئة فوق حجابها الرقيق ...
-أنا مش عايز أكون متطلب أوي ! ..تمتم
"مالك" محدقا بعينيها بثبات :
-لكن في حاجات لسا مش قادر أتخطاها .زي..
زي إني مش قادر أحل محل أخويا !
تفاجأت من كلماته لدرجة نست تلك اليد التي ًل
يزال يضعها فوق رأسها ،بينما يتابع "مالك"
بتوتر متزايد :
-أنا معجب بيكي آه يا إيمان .لكن لسا شايفك
مرات أخويا ..أنا عارف إنه خالص إنتهى .و إن
الميت مش بيصحى و إن من حقنا نكمل عادي..
بس عشان أقدر أكمل يا إيمان و أحس إنك
بقيتي ليا أناً .لزم تسمحي لي !
تسارع وجيب قلبها لرؤية اللمعة بعينه ،تعرف
جيدا إلى ماذا يلمح ،فنطقت غريزيا محاولة
صده بأقصى ما تستطيع من لباقة :
-مالك ..إحنا في حكم المخطوبين .و ماما و
أدهم برا !!
علت ابتسامته و هز رأسه قائال :
-فهمتيني غلط .أكيد مش هكون عايز حاجة زي
دي و أهلنا على بعد مترين ..لو حصل هاتكون
فضيحة !!!
تلميحه األخير جعلها تشعر بالفزع ،حاولت
إقناع نفسها بأنه ًل يقصد معنى آخر حميمي
مما قد يحدث بينهما بالمستقبل ،إنه يأخذ األمور
بجدية تماما !
ماذا كانت تتوقع !؟؟
يزدرد "مالك" ريقه بشيء من اإلرتباك و هو
ينظر إليها ببطء من فوق لتحت مغمغما :
-كل إللي محتاجه بس جزء صغير من حقوقي.
من غير ماتتخضي ..بس إنتي طول عمرك كنتي
زي مايا بالنسبة لي .مع ذلك كنتي محجوبة
عني .يعني مثال عمري ما شفتك من غير
الطرحة ..ف ...
و صمت ممسكا بمشبك الحجاب بين سبابته و
إبهامه ،طلب أذنها أوًل :
-تسمحيلي أشيله !؟
مدفوعة بإنعدام الثقة بنفسها و الشعور بأنها
قليلة و مدانة ،وجدت نفسها تومئ له بالسماح،
فلم يضيع الفرصة و قبل أن تفكر مرة أخرى،
شد المشبك ،فأخذ الحجاب يتفكك من تلقائه،
حتى إنزلق عن رأسها إلى األرض ،و لم يتبق
سوى البطانة ،تلك كان أمرها سهال ،سحبها
للخلف رويدا رويدا كاشفا عن خصيالت شعرها
البنية الناعمة
لحظات و كان رأسها مكشوفا أمامه ،و إذ
شعرت من نظراته التي تتفرسها و كأنها
عارية ،لم تلحظ شيء آخر ،ألن خطوته التالية
جاءت على حين غرة بعد أن تمتم كلمة لم
تسمعها جيدا...قفز قلبها بين ضلعوها حين
ضمها !
جحظت عيناها من الصدمة ،بينما يرفع يداه و
يجذب وجهها نحو وجهه أكثر،
فجأة سمع انينها فتركها :
-أنا آسف ! ..تمتم "مالك" معتذرا دون أن
يتحرك من مكانه
لكنها ًل ترد ،جلس على طرف الفراش
بجوارها ،يمسك بها و يجلسها بسهولة و هي
مذعنة تماما إليه ،يراها بهذا الخضوع و
البؤس فيكره نفسه كثيرا ...
-إيمان أنا آسف ! ..كرر "مالك" هذه المرة
بصدق أكبر
دار ليجثو فوق ركبته أمامها ،أمسك بيدها و
توسلها قائال :
-ردي عليا أرجوكي .أنا ماكنش قصدي أوصلك
لكده ..و هللا .أنا آسف جدا .بس مافكرتش إنك
لسا مش جاهزة للخطوة دي .أنا ماكنتش ناوي
أعمل كده أصال .أنا عرفت بنات كتير .بس
ماحصلش إني ارتبطت بواحدة مرت بظروفك.
سامحيني ..ماعرفتش أتعامل معاكي .إيمان باهلل
إتكلمي .قولي أي حاجة !!
-حصل خير ! ..نطقت ًلهثة و كأنها طفت اآلن
على سطح بحر هائج األمواج
زفر مرتاحا و هو يترك إحدى يديها ليمسح على
جانب وجهها :
-صدقيني .إنتي عندي غالية جدا ..مكانتك
خاصة .بكرة لما نعيش سوا هاثبت لك ده.
هاعمل كل إللي في وسعي عشان أسعدك يا
إيمان .إنتي ماتستاهليش غير السعادة .و أنا
هاديها لك .أوعدك !
أومأت له دون أن تنظر إليه ،كانت ًل تزال
تشعر بدوي قلبها المرعب ،كانت تخشى لو
توقف من شدته و سرعته ،إنه عادة ًل يخفق
بهذا الجنون سوى لـ"مراد" ..و كانت تلك
أسعد لحظاتها فيما مضى ،و لكنها اآلن تشعر
بفخاخ الموت قريبة منها في كل خطوة تخطوها
...
-مالك ! ..كان هذا صوت "مايا"
تناهى إليهما من خلف باب الغرفة ،فصاح
"مالك" من مكانه :
-إيـه يا مايا !؟
-ماما إتصلت .بتستعجلنا .يال بقى انت عارف
إنها لوحدها !
-ماشي جاي ..إسبقيني إنتي
-ما تتأخرش !
و ابتعدت خطواتها عن الغرفة ...
عاود "مالك" النظر إلى "إيمان" ..أرملة أخيه
و المرأة التي هي زوجته رسميا اآلن ؛
ابتسم لها و قرب يدها من فمه ،وضع قبلة
عميقة داخل كفها دون أن يفقد إتصالهما
البصري ،ثم قال واعدا برقة :
-هاتحبيني يا إيمان ..و هاتخلفي وًلدي كلهم.
افتكري كالمي كويس !
لم يتسبب هذا الوعد لها إًل بالكرب و القهر
الشديد !
.
_ مراد
*****
*****
إنفض اإلحتفال ،و ذهب كل إلى سبيله ثانية ،و
لكن "أدهم"ً ..ل يزال "أدهم" لم يتخطى
اعترافات ابن خالته قبل عقد قران أخته مباشرة
كان في حالة من الذهول و اإلنكار ،اإلنكار أكثر
ألن "مراد" ادعى بأن هناك عالقة حب متبادلة
بينه و بين "إيمان" ..هو ًل يصدق ذلك ،فأخته
طوال عمرها كانت فتاة محافظة ،خجولة ،حتى
عندما تزوجت ،يذكر بأنها لم تتأقلم بسرعة في
حياتها الزوجية ،فكيف إذن يأتي و يخبره بهذا
الهراء !!؟
حتما هناك خطب ،لم يفهم جيدا ،و لكن األمر لن
يمر مرور الكرام ..فها هي "إيمان" تجلس
أمامه ،هو و هي في شقته على حدة ،أما
زوجته و أمه فمع األطفال باألسفل
صنع لنفسه فنجان قهوة ألنه شعر بحاجة ماسة
إليه ،و اآلن هو واقف أمام أخته بغرفة
المعيشة ،يحتسي قهوته و ينظر إليها مليا و
يدرسها ،بينما تنكس هي رأسها آبية النظر
إليه ..أو لعلها ...خائفة !!!
-فاكرة يا إيمان لما سيف مات ! ..دمدم
"أدهم" بهدوء
و لكنه لم يغفل ارتجافتها لمجرد سماع صوته،
أردف رغم ذلك بنفس األسلوب :
-جيت لك بعدها بفترة عشان استأذنك نعمل فرح
عائشة .فاكرة يومها قلتي لي و أنا بلمح لك بس
باحتمال إنك ترتبطي من بعده .ثورتي عليا في
لحظتها و قلتي لي مش هايحصل .أنا فاكر
بالحرف الجملة إللي قلتيها و لسا في وداني..
قلتي .بعد سيف الرجالة خلصوا بالنسبة لي !
ترك فنجان قهوته جانبا ،مشى ناحيتها حتى
جلس في كرسي مجاور لها تماما ،مد جسمه
قريبا منها ...
-إيه إللي حصل غير رأيك يا إيمان .و إشمعنا
قبلتي بمالك و اتجوزتيه بالسرعة دي .على
الرغم إن أتقدم لك رجالة كتير بعد سيف .كلهم
في نظري أحسن منه و من مالك .ماكنتش
أتمنى لك أكتر من أي راجل فيهم ...ردي عليا يا
إيمـان !
هكذا فقد السيطرة على نفسه بغتة و انفعل
عليها ...
ارتعدت بقوة و ضغطت على عينيها بشدة ،لم
تكن على استعداد مطلقا ألي استجوابات يريد
طرحها ،لم تكن لديها أي طاقة و هو ما كان
واضحا
لكن "أدهم" لم يبالي و كرر عليها بحدة أكبر :
-بصيلي و كلميني يا إيمان .مش هاسيبك إًل لما
أفهم ..قوليلي إيه عالقتك بمراد ؟
ما خافت منه طوال عمرها قد حدث للتو
ها هو أخيها يعلم بسرها ،و لكن إلى مدى تصل
معرفته ،تتمنى اآلن لو تختفي من الوجود
بفرقعة اصبعينً ،ل يمكنها أن تجلس و تتحدث
معه عن هذا الشأنً ..ل يمكن ...
-بقولك بصيـلي !
تحت إصراره الشديد ،رفعت رأسها و نظرت
إليه عبر نظراتها الغائمة ،إنه يحدق فيها
بتصميم ،لم يتراجع أبدا ،إنه مخيف للغاية اآلن
أكثر من أي وقت رأته هكذا من قبل ...
-إيه إللي تعرفه يا أدهم !؟ ..تساءلت "إيمان"
بشجاعة
ربما كانت حذرة فقط مخافة على أخيها من
الصدمة فيها ،و ليس خوفا عليها هي ..الوضع
برمته مزري بما يكفي لو يعلم أخيها !
لم يتحرك و لم تتغير تعبيراته الصارمة شبرا
واحدا ،لكن فكه توتر و هو يقول :
-يعني صحيح ؟ صحيح إللي سمعته منه ..كانت
بينك و بينه عالقة حب ؟
غمرتها بعض الراحة بداخلها و هو يدلي لها
بالذي عرفه من "مراد" ..ما أكد لها بأن األخير
لم يفضح سرهما األشنع ،قامت واقفة فجأة و
هي تقول بعصبية :
-الكالم ده كان زمان .كنا عيال يا أدهم ..أيوة
كنا بنحب بعض .بس انت عارف الباقي هو
مشي و انا اتجوزت .كل حاجة انتهت ف جاي
بتحاسبني على إيه دلوقتي !؟؟
هب واقفا هو اآلخر و هو يصيح بغضب :
-بحاسبك على ثقتي فيكي إللي ضايعتيها.
متخيلة تفكيري عامل إزاي بعد ما عرفت حاجة
زي دي .إنتي كنتي تربية إيدي أنا يا إيمـان.
إنتي كنتي أقرب ليا حتى من عائشة .إزاي
عملتي كده من ورا ظهري ..إزااااي ؟
إنهالت مدامعها في هذه اللحظة و هي ترد عليه
منتحبة :
-غصب عني .مش بإيدي .كنت محتاجة له .أنا
كنت لسا بنت صغيرة و ماعنديش أي خبرة .و
انت كنت بتحافظ عليا دايما و مجنبني أي
احتكاك .مراد كان قريب مني ..اتعودت على
وجوده جنبي .حبيته يا أدهم .حبيته غصب عني
!!
ثار عليها غير مصدقا :
-و كان فين عقلك ..هه .قوليلي كان فين دينك و
خوفك من ربك و إنتي بتعصيه و بتواعدي شاب
من ورا أهلك ؟
أغمضت عينيها بشدة فور تفوهه بالكلمة
األخيرة ،إنه يشير لنقطة هي أهون ما بالقصة،
فماذا لو عرف السر الكبير ..كيف يستطيع تقبله
؟
السؤال أساسا هو كيف تبرأ من عشقها األثيم..
كيف يمكنها أن تنتزع "مراد" من قلبها ...إنه
يسكنها ..في دماؤها و قلبها و عقلهاً ..ل ينفك
عنها كالمرض الخبيث
و ًل جدوى أبدا من الشفاء ،إنها تحبهً ،ل زالت
تحبه و تريدهً ،ل زالت ضعيفة ،و تعرف أنه لو
أتاها محاوًل فإنها ستسقط في شباكه عن طيب
خاطر و تخسر توبتها و كل المعاناة التي
خاضتها ...
فجأة هبطت "إيمان" على ركبتيها أمام أخيها،
قبضت بكفيها على نسيج السجاد السميك
أسفلها حتى أقتلعته تقريبا ،كتفاها يبدآن في
اإلرتعاش بسبب تلك الشهقات التي جاهدت
لتكتمها ،فأفلتت منها بقوة و أخذت تبكي مثل
طفلة
تبكي و تبكي بشكل مثير للشفقة و هي تهز
رأسها متمتمة بحسرة :
-مافيش فايدة ..موتني .بحبه يا أدهم .موتني
بحبه ..بحبه ..بحبه ...بحبه ..بحبه !
أخذت تعيد الكلمة كما لو أنها اسطوانة
مشروخة ،لم يكن هناك ما يشير إلى أنها
ستتوقف ...
بقى "أدهم" عاجزا بمكانه ،مصدوما من
رؤيتها هكذا ،لقرابة الدقيقتين و هو في حيرة
من أمره ..حتى غلبه فؤاده لدموعها و سماع
األلم يكتسح نبراتها
جثى أمامها بدون تفكير ،وضع يده عليها ،فرك
ظهرها و مسد على شعرها ،ضمها إلى صدره
بقوة مرددا بلطف :
-طيب ..طيب خالص .خالص يا إيمان ...طيب
خالص !
لم يسعه أن يواسيها بكلمات أخرى ،فمن جهة
ًل يزال غاضبا عليها ،و من جهة ًل يحتمل أن
يراها متألمة إلى هذا الحد ..هو يعرف أن أخته
ًل تستحق ذلك
أخته "إيمان" ًل تستحق أي سوء يحيق بها ًل
تستحق أبدا ...
*****
19
*****
-مش قادرة أصدق إنك هنا من أسبوعين و
مافكرتيش تزوريني إًل إنهاردة !
ابتسمت "رباب" و هي تجاوب شقيقتها مرة
أخرى على استحياء ًل يخلو الرقة :
-تاني هقولك يا أمينة .مراد من ساعة ما وصلنا
ماكنش مخلينا قاعدين أنا و أبوه .قلت لك حالته
كانت غريبة أوي ..و هللا ما ركزت في حاجة
غيره طول الوقت ده و إًل كنت جيت لك في
نفس يوم وصولي .ده إنتي أختي الوحيدة !
-و هو عامل إيه دلوقتي ؟ ..صدر السؤال عن
"أدهم" الجالس أمامها في المقعد الوثير
نظرت "رباب" إليه و ردت بايماءة :
-الحمدهلل بقى أحسن .لسا بنتعامل معاه بحذر
لكن مقدرش أتجاهل الجانب المدهش إللي ظهر
عليه فجأة
أدهم باهتمام :جانب إيه !؟
-مراد اتغير يا أدهم .مابقاش إبني إللي أعرفه.
و بصراحة ده تغيير حلو جدا يعني بدل ما كان
متأثر بالتحضر و مهتم بس باللعب و التنطيط
هنا و هناكً .ل .مابقاش كده دلوقتي ..أنا قعدت
معاه أسبوعين .ماشوفتوش فوت فرضً .ل و
الجمعتين إللي فاتوا كمان باباه نزل معاه
المسجد ..أنا كنت مذهولة .و في نفس الوقت
قلقانة عليه .بس لما شوفته بدأ يتحسن و يهتم
بشغله كمان عرفت إن التغيير كان من جواه و
اطمنت
ابتسم لها "أدهم" بوقار و هو يقول :
-هللا يثبته و يتم عليه الهدى .أيا كان إللي حصل
خير طالما رجع عليه بالنتيجة إللي سمعتها دي
!
و قد كان يعلم جيدا ماذا حدث مع ابن خالته،
لكنه تظاهر بالجهل طبعا ،و آثر اإلستماع
تاليا ...حتى ظهرت زوجته ؛
انتبه إليها عندما أحس باضطراب ما نحوها،
أوًلها نظراته ليراها تستند إلى الجدار بكفيها و
قد بدت و كأنها تنازع ًللتفاط أنفاسها ،هوى
قلبه بين قدميه و وثب قائما بلحظة ،كان
بجوارها في ثانية ،أمسك برسغها و لف ذراعه
األخرى حولها مغمغما بقلق :
-حبيبتي .إنتي كويسة ؟
نظرت "سالف" له و هي تحاول تعبئة الهواء
إلى رئتيها عبثا ...
فوق ! ..أخبرته بصعوبة و -pumpنسيت الـ
عيناها تغربان
قطب حاجبيه بجزع و هو يحملها دون إنتظار
قائال :
-طيب إهدي .حاولي تهدي نفسك دقيقة واحدة
و هانكون فوق !
و انطلق "أدهم" بها خارجا من الشقة ،في
إثرهما نظرات كال من "أمينة" و "رباب" ...
-إيه إللي حصل يا أمينة ؟ ..تساءلت "رباب"
بريبة
تنهدت "أمينة" قائلة :
-و هللا ًل كان على البال و ًل الخاطر .فجأة كده
سالف تتعب و الدكتور يقرر لها تعيش على
أدوية للربو و بخاخة ماتسيبش شنطة إيدها !
رباب بشفقة :يا ساتر يا رب .لوحدها كده !؟
هزت "أمينو" كتفيها ...
-هانقول إيه ..الحمدهلل على كل حال
-السالم عليكم !
نظرت "رباب" نحو مصدر الصوت ،فإذا بها
ترى "إيمان" ..تهللت أساريرها و هي تقوم
لتتلقاها بين أحضانها في الحال :
-مش معقول ..إيه ده يا إيمان .إنتي بتصغري و
بتحلوي .هللا أكبر إيه الجمال ده كله يا حبيبة
قلبي !
-إزيك يا خالتو !! ..تمتمت "إيمان" بابتسامة
لم تصل إلى عينيها
رجعت "رباب" بجسمها لتنظر إلى ابنة أختها
جيدا ،و قالت :
-الحمدهلل يا حبيبتي بخير .إنتي إزيك يا
عروسة .أنا لسا عارفة من أمك إن كتب كتابك
كان في نفس اليوم إللي رجعت فيه ..يارتني
كنت أعرف
إيمان بلهجة تنكف سخرية خفية :
-ماضيقيش نفسك يا خالتو .مراد كان هنا و قام
بالواجب ..شهد على عقد جوازي
عبست "رباب" مرددة :
-بجد .الولد ده ماقاليش حاجة خالص ..غريبة
بس لما أشوفك يا مراد !
شعرت "إيمان" باهتزاز هاتفها داخل حقيبة
يدها ،فقالت ألمها دون الحاجة إلستكشاف األمر
:
-أمي أنا ًلزم أنزل .مايا و مالك خالص وصلوا
أمينة مبتسمة :طيب يا حبيبتي .على مهلك و
سلمي لي عليهم
أومأت "إيمان" و خاطبت خالتها مرة أخيرة :
-أنا آسفة يا خالتو مضطرة أنزل .إن شاء هللا
أشوفك قريب و أقعد معاكي مدة أطول
عانقتها "رباب" و قبلتها قائلة :
-يا حبيبتي كفاية إني شفتك .ربنا يسعدك و
يهنيكي يا إيمان ..تستاهلي كل خير !
إنسحبت "إيمان" في هدوء ،و هكذا بقيت
الشقيقتان على إنفراد تام ...
-العيال كبروا يا أمينة ! ..علقت "رباب" و
دموع الحنين ملء عيناها
وافقتها "أمينة" بنفس التعبير :
-سنة الحياة يا رباب .لسا إمبارح كانوا
صغيرين حوالينا .دلوقتي خلونا أجداد ..عقبال
ما تفرحي بعوض مراد و تشيلي صبيانه و بناته
يا حبيبتي
لم تكاد ترد عليها ،دق هاتفها في هذه اللحظة
فابتسمت و هي تلقي نظرة على الشاشة
المضاءة ...
-جبنا سيرة القط .أهو الباشا بيتصل !
و فتحت "رباب" الخط :
-آلو ..إيه يا حبيبيً ..ل خالص خلصت قعدتي
مع خالتك ..إنت قريب يعني ..تحت البيت ..طيب
ما تطلع يابني سلم على خالتك ..اطلع يا مراد
هاتعمل مكسوف أومال لو ماكنتش طبيت عليهم
قبلي ..أطلع يابني محدش غيري أنا و خالتك
هنا ..يال بقى ماتزعلهاش منك ..يال يا حبيبي ...
و أغلقت مبتسمة بشدة و هي تعلن :
-مراد طالع !
*****
يتبع ...
انتهى الفصل التاسع عشر ..
20
_ إيمان
*****
-إحنا لحد دلوقتي ماتحسبناش على الكالم إللي
قلته آخر مرة ! ..قالها "أدهم" بلهجة فجة و
هو يقف مواجها "مراد" هنا بحديقة المنزل
كليهما على إنفراد
بعد أن أمر "مالك" بالرحيل عقب تصريح
"مراد" و الذي لم ينكره األخير ،توجه "أدهم"
إلى شقيقته و استوضح منها عن األسباب و
المالبسات ،فأخبرته بإيجاز أن "مالك" أساء
الفهم ،و "مراد" وقف ليدافع عنها بهذا الشكل
أمال "أدهم" رأسه قليال و هو يقول مقطبا :
-انت مفكر نفسك إيه يا مراد .و اًل متخيل مثال
إن صبري مالوش حدود !؟؟
نفث "مراد" أنفاثا قصيرة ،ثم قال بعصبية
طفيفة :
-أدهم .من فضلك أنا أساسا مش ناقص .كل
إللي حصل إني حاولت أكون جدير بإيمان بس
فشلت .دايما كنت بفشل و كالعادة بتصرف
بغباء .أيوة أنا غلطان موافقك .بس إيه
المطلوب مني يعني !؟
ارتفع حاجب "أدهم" ..و كأنه يتساءل ما إذا
كان ذاك "مراد" الذي عرفه طوال عمره :
-انت مشاكلك أكيد مأثرة عليك .تعرف ان ده
السبب الوحيد إللي خالني عذرتك لما جيت
تطلب مني إيمان قبل كتب كتابها بلحظات !؟
رمقه "مراد" بنظرات محتقنة ،و تمتم :
-أنا لسا ماتجننتش يا أدهم !!
أدهم منفعال :لو كده تبقى خيبت ظني فيك.
تخليني أندم على كل لحظة وثقت فيك و آمنتك
على بيتي و أهلي ..إيمان اتكلمت معايا و
شرحت لي شكل العالقة البريئة كانت ازاي و
فهمت ان ده كان طيش مراهقة .لكن لما تيجي
و انت راجل كده و تقولي بحب أختك األرملة.
األم ...تفتكر ممكن أتصرف معاك إزاي !!؟
بقيا يحدقان ببعضهما للحظات طويلة ،ثم تنهد
"مراد" بشدة مغمضا عينيه ،مرر أصابعه
خالل شعره و هو يقول بتعب واضح :
-أنا عارف إني غلطان .طول عمري غلط ..بس
يا أدهم .صدقني .أنا و إيمان .الفصل الوحيد في
حياتي إللي كان حقيقي .كله من غيرها زيف.
مشاعرنا حقيقية يا أدهم و انا مش خايف و أنا
بقولك كده .ليه مش مصدقني .ليه ماوقفتش
جنبي .انت بتقدر الحب .انت بتحب سالف و
حبيتها قبل جوازكوا و انت إللي قلت لي كده
بنفسك !
أومأ "أدهم" موافقا على كالمه :
-أيوة حبيت سالف قبل الجواز .لكن عمري ما
صارحتها .عمري ما حاولت أقرب لها غير في
إطار شرعي ..عشان بحبها عملت كده .حافظت
عليها حتى من نفسي .و لغاية ما كتبت عليها و
هي كانت مراتي لكن إلتزمت معاها لحد ما تم
جوازنا .الحب و المشاعر مش محصورين في
القرب و كسر الحدود يا مراد .الحب إنك تصون
إللي بتحبها و تحميها حتى منك .في حب ممكن
يعيش العمر كله منغير أي نوع من أنواع القرب
-أنا مش نبي يا أدهم ! ..غمغم "مراد" بحنق
:
-أنا انسان .و مقدرش أعيش على النمط إللي
بتحكي عنه .أنا جيت لك و طلبتها منك و كنت
عارف إنها هاتكون سعيدة معايا .يا ريتك انت
إللي تكون فهمت انت سلمتها لمين .واحد مع
أول خالف بهدلها و كان هايمد إيده عليها ...
عبس "أدهم" ممعنا التفكير بكلماته ،نظر له و
لم يتكلم ..فأضاف "مراد" و هو يفرك جانب
وجهه بارهاق :
-يا ريتك ماتندمش و ماتحسش بعدين إنك
ظلمت أختك للمرة التانية .يا ريت إيمان تعيش
سعيدة ..و يا ريتها ماتنكسرش المرة دي,
عشان صدقني لو حصل ًل انت و ًل أنا و ًل أي
مخلوق هايعرف يعالجها .و أقسم لك على ده يا
أدهم !
و بدون أن يضيف كلمة أخرى ،رحل و تركه
مستغرقا ببقايا حديثهماً ...ل يدري ..و لكن
ألول مرة يتأثر برأي عكس قناعاته ...ألول مرة
يخاف أن يقبل الظلم و يكتبه على أقرب
المقربين إليه
شقيقته" ...إيمان" !
يتبع ...
_ مالك
*****
*****
*****
حانت ساعة العشاء" ..أدهم" يترأس المائدة،
أمه تجلس على يمينه ،و زوجته تجلس على
شماله و صغارها يتراصون بجوارها
أما "إيمان" فجلست بجوار أمها ،تضع طفلتها
"لمى" بحضنها ،تحاول طوال الوقت حبس
الدموع بعينيها بينما تلهي نفسها باطعام
الصغيرة ،و لم تغفل للحظة نظرات "سالف"
لها ،نظرات كلها ًل تنم سوى عن اإلحتقار و
اإلشمئزاز
لقد تعرضت لآلذى كثيرا اليوم ،تفتت فؤادها
بشكل مهين ،اليوم تعرت و شعرت بتهديد كاد
يقتلها حقا ...
طوال العشاء تجنب "أدهم" الحديث عما جرى
ظهر اليوم ،آثر فقط تبادل المزاح مع الصغار و
مناقشة أمه حول أصناف الطعام الشهية ،كانت
نيته أن يجالس أخته فيما بعد و يتحدث إليها،
ذلك إن وجد حالتها تسمح الليلة بإثارة أي
حديث
ًل زال يدرسها ..و لو لم يبدي ذلك مباشرة ...
-الباب يا عمتو ! ..قالتها "سالف" و هي تقوم
لتبحث عن نقابها
ربت "أدهم" على مرفق والدته قائال :
-خليكي يا أمي أنا قايم أفتح ..
و قام "أدهم" ماسحا يديه بمنديل من القماش،
ثم توجه نحو باب الشقة ،مد يده و فتحه على
الفور ...كانت مالمحه عادية ..حتى رآى أمامه
"مالك" !!
تصلب "أدهم" تماما ،وقف مكانه يحدق بزوج
أخته فقط ،أصابعه تمسك بمقبض الباب بقوة،
كلما تذكر كلمات "مراد" و أن ذاك األخير أراد
حقا أن يؤذي "إيمان" و يمد يده إليها بسوء،
كانت النيران تستعر بداخله ،يحجم نفسه
بصعوبة حتى ًل يتهور عليه ...
-مساء الخير يا أدهم ! ..قالها "مالك" مبتسما
بوداعة
كان يضع الالصق الطبي أسفل حاجبه اآلن ،و
قد بدل ثيابه الرسمية بأخرى رياضية مريحة ...
-إيمان موجودة !؟
تكلم "أدهم" بجمود فظ :
-هاتروح فين يعني .طبعا موجودة ..خير يا
مالك عايز إيه ؟
مالك بلطف :إذا سمحت يعني .ممكن أدخل
أشوفها !؟
-ليـه ؟ عشان تمد إيدك عليها تاني ؟؟
-أنا عايز أعتذرلها .من فضلك يا أدهم ..اسمح
لي بس أقعد معاها خمس دقايق .أرجوك !
في النهاية فإن له كل الحق
إنها زوجته ،و إذا أرادها فله ذلك بكل تأكيدً ،ل
يحق لـ"أدهم" منعها عنه ،لذلك ،تنحى جانبا و
سمح له بالدخول أخيرا ...
دلف "مالك" مبتسما بود :
-متشكر !
رافقه "أدهم" إلى الشرفة ،جعله ينتظر هناك،
ثم عاد إلى حجرة الطعام ثانية ...
-إيمان ! ..هتف "أدهم" مناديا على أخته
برفق
تطلعت "إيمان" إليه و هي تناول طفلتها كأس
العصير خاصتها ،رمقها األخير بتعاطف و قال :
-مالك هنا ..عاوز يشوفك !
شحب لون "إيمان" فورا ،فطمأنها أخيها بثقة
:
-لو مش عايزة تقابليه هاخليه يمشي ...
ابتلعت ريقها بصعوبة ،و قالت بصوت أبح :
ً-ل ..هاشوفه !!
رغم أن صوتا بداخلها توسلها أًل تفعل ..لكنها
قمعته ...و قامت متجهة إلى حيث يجلس
بانتظارها !
يتبع ...
انتهى الفصل الحادي والعشرون ..
_ مراد
جلست "إيمان" على الكرسي أمام "مالك"..
ما زالت ترتدي حجابها من الرأس حتى أخمص
القدمين ،مر الوقت و هي تتوتر فقط و ًل تنظر
إليه ،لوًل أن الطقس المسائي منعش هنا في
الشرفة و الليل هادئ و صافي ،ربما كل هذا
ساعدها و لو قليال ...
-هاتفضلي ساكتة كتير ؟ ..قالها "مالك" مادا
جسمه عبر الطاولة الفاصلة بينه و بين زوجته
كانت تعابيره أكثر رقة عما كانت ظهر اليوم،
كذلك لهجته كانت لطيفة جدا ،و أضفى عليها
نبرات الإلعتذار و هو يستأنف محاوًل القبض
على نظراتها المنكسة :
-إيمان .أنا بقالي كتير بعتذر لك ..بصي أنا حتى
مش بطالبك بتفسير .عاوزك بس تعذريني .و
تسامحيني أرجوكي !
بصعوبة كبيرة و لكن تحت إجبارها لنفسها،
رفعت رأسها لتنظر إليه ،حدقت بعينيه في
شجاعة متزعزعة و هي تقول مدافعة بنبرة
المتهم :
-انت مادتنيش فرصة أفهمك أصال .و هللا
الموقف مش زي ما شوفته مـ آ ...
-قلت لك مش بطالبك بتفسير يا إيمان ! ..
قاطعها بحزم :
-أنا جاي أعتذر لك و أقولك حقك عليا .أكيد أنا
غلطان .المفروض مهما حصل و شفت عمري
ما أفكر فيكي بسوء .أنا أكتر حد يعرفك و
اتربيت معاكي .إيمان إنتي أنقى واحدة شوفتها
في حياتي .إنتي نضيفة جدا لدرجة إني أخاف
أوسخك بأي شكل ...
أجفلت حين قام فجأة من مكانه ،رفرفت
بأجفانها و هي تراه يقترب منها ،ثم يجثو فوق
ركبته امامها و يمسك بيديها ،خفضت رأسها
لتالقي نظراته المتضرعة ،بينما يقول :
-إنتي مش عارفة قيمة نفسك يا إيمان .محدش
إدالك قيمتك .جايز عشان كده حبيتك بالسرعة
دي و قلبت معايا بغيرة ..طبعا عمري ما أطيق
أشوف حد يقرب منك .عايزك ليا أنا و بس .و
هللا أنا بتمنى أعوضك عن كل حاجة وحشة
حصلك لك .و أمسح كل الحزن إللي جواكي و
أحوله فرح و سعادة ...
ودت كثيرا أن تصدق ما قاله ،إن ما وصفه اآلن
هو بالضبط ما تتوق إليه ،و لكن ليس منه أو
من غيره ..إنما هو رجل وحيد تريده بكل
جوارحها ...هو "مراد" الذي تخضع له كل ذرة
بكيانها و تهتف باسمه و تنتمي إليه فقط ..فقط
"مراد" ..لعنة عشقه التي تالحقها ما دامت
حية و ربما حتى بعد مماتها !!!
كتمت شهقة عندما سحبها من يدها بغتة لتقف،
شدها بقوة نحو زاوية الشرفة المعتمة خلف
الشباك تماما ،حاصرها هناك و قد اصطدم
صدره الصلب بصدرها الطري المتماسك ...
-مالك ! ..تمتمت "إيمان" بارتباك شديد
لكنها لم تفلح في تكوين جملة أخرى ،ليفاجئها
و هو يجذب وجهها بكفيه نحو وجهه،
إيمان :
-مايصحش كده يا مالك .من فضلك ..ماما و
أدهم .و لمى كمان ممكن تيجي في أي لحظة.
مــالك !!
جمد فجأة ضدها ،و أحست بجسده يتصلب و
يزداد حرارة ،و األدهى حين نظرت بوجهه و
ًلحظت إلتماع عينيه بنظرة ضارية ،ارتجف
قلبها بشدة ًل تعرف لماذا تشعر بهذه الخطورة
كلها إزائه ..بينما تمكن أخيرا من ضبط نفسه و
استعادة هدوئه
تنفس بعمق و فك حجابها قليال
-مش قادر أصدق إنك بقيتي مراتي و مش
عارف إزاي أقرب منك زي ما بتمنى !!
كان همسه حارا ،عزز نزعة الخوف بصدرها،
خوف غريب مجهول المصدر ...
مالك :
-لما أمشي هاتقولي ألدهم إننا هانعمل مشوار
إنهاردة بكرة .و أنا هاجيلك بكرة في نفس
المعاد الظهر .هانكون لوحدنا .مش هاجيب مايا
معايا .هاخدك و نروح أي مكان نبقى فيه
لوحدنا !
تحفزت بين ذراعيه اآلن و هي تقول من فورها
بجمود :
-إيه إللي بتقوله ده .انت قصدك إيه يعني ؟ إللي
بتفكر فيه ده مش آ ا ...
-إهدي يا إيمان ! ..قاطعها للمرة الثانية
ثم سعى إلقناعها ضاغطا عليها ما استطاع
بحيله الماكرة :
-أنا مش قصدي إللي فهمتيه .كل إللي أنا عايزه
بس أحس إنك بتاعتي أنا .نفسي مثال أضمك في
حضني براحتي .من غير رقابة .أقولك كالم
نفسي تسمعيه مني ..عايز اتأكد إنك ليا أنا.
ماحسش بأي تهديد زي ما حسيت إنهاردة .أنا
عارف إنه شعور وهمي .لكن أنا محتاج أمحيه
خالص .و منغير ما أضايقك .صدقيني ..و
خليكي واثقة فيا شوية .إنتي مراتي يا إيمان.
محدش ممكن يخاف عليكي و يحميكي زيي !
أفكارها ًل تنسجم مع كلماته ،جسدها ًل يستسيغ
أي من لمساته ،إنه غريب ،إنه مقيت
يا للقرف !!!
-مامي !
أعاد نداء "لمى" القريب األوضاع إلى نصابها،
و أطلق "مالك" سراحها ،أخذت تعدل ثيابها
مسرعة و هي تخرج من وراء الشباك ،في
نفس اللحظة ظهرت صغيرتها على أعتاب
الشرفة ،وقفت "إيمان" أمامها مادة يدها
لتربت على رأسها ...
-نعم يا لمى عاوزة إيه يا حبيبتي ؟ ..تساءلت
"إيمان" و هي تداري احمرارها بكفها قدر
المستطاع
عقدت "لمى" حاجبيها قائلة بصوتها الطفولي
:
-خالو أدهم مش عاوز يلعب معايا !
مسدت "إيمان" على خدها بلطف :
-حبيبتي أكيد خالو تعبان و عاوز يستريح .هو
لسا برا ؟
هزت الصغيرة رأسها :
ً-ل .هو وخالتو سالف طلعوا و أخدوا آدم و
نور .سابو عبده لتيتة بس ..
-طيب يا حبيبتي شفتي إنه طالع يستريح إزاي
!؟
لوت "لمى" فمها باستياء :
-بس أنا بحب ألعب معاه .و خالو بيحكي لي
حدوتة كل يوم .إنهاردة مش هايحكي لي !
و أغرورقت عيناها بالدموع ،حتى إنهمرت
بالفعل و أفلتت شهقات بكاء من بين شفاهها،
سارعت "إيمان" باحتضانها و هي تقول :
ً-ل يا حبيبتيً .ل ماتعيطيش عشان خاطر
مامي ..طيب مش أنا بحكي لك حواديت حلوة
بتعجبك !؟
-أنا عاوزة خالو ! ..نهنهت "لمى" ببكاء حار
و صوتها مكتوم في صدر أمها
تدخل "مالك" في هذه اللحظة جاذبا الصغيرة
إليه :
-خالص يا لولي ماتزعليش .تحبي أستنى أنا
معاكي و نلعب للصبح أو نعمل إللي إنتي
عاوزاه لحد ما تنامي ؟
قاومت "لمى" يدي عمها مغمغمة :
-أنا عاوزة خالو أدهم .عاوزة خالـووو ...
ضمتها "إيمان" إلى صدرها ثانية قائلة :
-طيب خالص يا لمى .خالص يا روحي هاعملك
إللي إنتي عاوزاه .ماتعيطيش بقى عشان
خاطري !
في جهة أخرى ،يتنهد "مالك" بسأم و هو يقول
:
-إيمان أنا ماشي طيب .هاكلمك لما أروح ...
أدارت "إيمان" رأسها و نظرت إليه ،و كأنها
تمتن ألنه قال ذلك ،أومأت له :
-تمام .هاستنى تليفونك ..مع السالمة
لكنه لم يقبل بوداع كهذا ،مد يده و مرر كفه
على ظهرها مما تسبب لها بقشعريرة قوية ،كل
عصب ينطق بالنفور من لمسته ،حتى قبض
على ذراعها ،شدها مراعيا عدم لفت إنتباه
الصغيرة ..غسلت أنفاسه الساخنة أذنها و هو
يهمس لها :
-أوعديني ماتفكريش في حاجة طول الليل
غيري .و إوعك تفكري تخلعي من معادنا بكرة..
هازعل منك أوي .ماشي يا إيمي !
و سرق قبلة خاطفة من خدها ...
-باي يا لولي يا حبي ! ..قبل ابنة أخيه مودعا
-أشوفك بكرة بقى .و ليكي عندي مفاجأة كبيرة
هاتعجبك .بس تسمعي كالم مامي إتفقنا ؟
لم ترد عليه الصغيرة و اكتفت بالصمت و هي
تلوذ بأحضان أمها ؛
مر "مالك" متجاوزا "لمى" و من وراء
ظهرها بعث بقبلة في الهواء ألمها أتبعها
بغمزة ،ثم اختفى ..اختفى و لكنه ترك أثره
يزلزل تلك المسكينة ذعرا ...
*****
*****
*****
يتبع ...
انتهى الفصل الثاني والعشرون ..
_ مراد
يتبع ...
انتهى الفصل الثالث والعشرون
24
_ أدهم عمران
بحلول ساعة المغرب ،عاد "أدهم" من العمل
كعادة كل يوم _ ما لم يتطلب وجوده ضروريا
بالمشفى التي شارك فيها _ و مثل المعتاد أيضا
ولج عند شقة أمه أوًل ،ليجد أوًلده و إبنة أخته
في انتظاره ،أما "سالف" و "أمينة" بالتأكيد
في المطبخ تعدان العشاء
زقزق األطفال فور رؤيته ،و تقافز التوائم
عليه ،فركع نفسه ليمكنهم من نفسه و يضمهم
ثالثتهم ضاحكا :
-حبايبي األبطال .فرساني التالتة ..انتوا كمان
وحشتوني أوي ...
و حانت منه نظرة صوب "لمى" التي وقفت
بعيدا ،تشيح بوجهه عنه و تعقد ذراعيها أمام
صدرها ،عبس "أدهم" مناديا عليها :
-لمى ..ماجتيش تسلمي عليا و تبوسيني ليه
زي كل يوم ؟
لكنها لم ترد عليه ،فكرر ندائه باستغراب
مدهوش :
-لمى ..إنتي سمعاني !؟
ًل رد أيضا ...
فقام تاركا أوًلده ليمضي نحوها ،وقف أمامها و
أمسك بكتفها بضغطة خفيفة و هو يقول بصوت
أجش :
-أنا بكلمك يا لمى .مش بتردي عليا !؟ ..ثم
أمرها بحزم :
-بصيلي ...
أطاعت "لمى" و تطلعت إليه ببط ،ركزت
عيناها الواسعتين كعيون الغزال مثل أمها على
عيني خالها الحادتين ،ما إن إلتقت نظراتهما
حتى ًلنت نظراته و مسح على شعرها الناعم
متمتما :
-بقى مش بتردي عليا يا لمى ..إنتي زعالنة
مني يعني ؟
أومأت برأسها وهي تقلب شفتها السفلى بحزن
جم ...
تنهد "أدهم" و انحنى ليحملها على ذراعه،
مشى خطوتين و جلس فوق مقعد قريب ،أجليها
على حضنه و قال بلطف و هو يربت على
ظهرها :
-قوليلي بقى زعالنة ليه حبيبة خالها ؟
إلتمعت عيناها و هي تفتح فاها الصغير لتقول
بصوتها الطفولي الحلو :
-عشان انت إمبارح طلعت و سبتني منغير ما
تحكيلي حدوتة زي ما بتعمل كل يوم ..
همهم و هو يخاطبها باسلوبه المقنع :
-أمم ..طيب مش أنا قلت لك إمبارح إني تعبان
طول اليوم و محتاج استريح و أنام عشان
شغلي ؟
أومأت ثانية ،فابتسم مكمال :
-يبقى تزعلي مني عشان كده .إنتي تحبي خالو
يبقى تعبان !؟
هزت رأسها أن ًل و قالت بتأثر تشوبه نبرة
بكاء :
-أنا زعلت عشان مش بقيت أعرف أنام كويس
غير لما تحيكلي الحدوتة و تحضني لحد ما أنام.
مامي مش بتعرف تعمل كده و بتفضل تعيط
طول الليل و أنا بكون صاحية زعالنة لحد ما
هي تنام !
زم شفتيه بتعاطف على الصغيرة و أسف على
أمها ،لكنه بدد ذلك التعبير فورا و قال بنعومة :
-حبيبتي إنتي بنت شاطرة و كبيرة .صح
مابقتيش صغيرة .يعني زي ما ماما بتاخد بالها
منك إنتي كمان تاخدي بالك من ماما ..و أنا كلي
ليكي يا قلبي .أوعدك كل يوم أحكيلك حدوتة إًل
مثال لو وقع مننا يوم كنت فيه تعبان زي
إمبارح ..تمام ؟
أومأت له مرة أخرى ...
-يعني خالص صالحتيني !
ابتسمت و دنت لتقبله على لحيته الكثة ،ففاجأها
و هو يظهر من جيب سترته مغلف الحلوى
المفضل لها ،شهقت من اإلثارة ،فقدمه لها
غامزا :
-عشان تعرفي إني كده كده كنت جاي أصالحك.
مقدرش على زعل حبيبة قلبي
أخذته "لمى" من يده و صاحت و هي تحتضنه
بشدة :
-خـالو حبيبي .بحبك بحبك بحبك أد الدنياااااااا
....
علق "أدهم" مستاء :
-الدنيا هاتخلص في يوم من األيام يا لمى .كده
ممكن حبك ليا يخلص !؟
تراجعت لتنظر إليه .فكرت قليال و قالت
بابتسامة متألقة :
-أيوة خالص .بحبك أد الجنة !
أعجبه ما قالت ...
-صح كده .هو ده الكالم .حبيبتي ! ..ثم سألها
بمرونة :
-ماما رجعت إمتى ؟
جاوبته الصغيرة بهزة كتف :
-لسا مارجعتش
قطب "أدهم" مرددا :
-معقول .كل ده برا ...
ما كاد يتمم جملته إًل و جاءت "سالف"
مسرعة من الداخل و في يدها هاتف "أمينة"
...
-أدهـم !!! ..هتفت "سالف" شاحبة الوجه
خفق قلب "أدهم" بين أضلعه بقوة لمرآها هكذا
و هب واقفا و هو يسألها بقلق :
-في إيه يا سالف ؟
ردت "سالف" بالكاد و ًل زالت تحت تأثير
الصدمة :
-سيبت عمتو أمينة بتلبس .جات لها مكالمة .حد
بيقول إيمان نقلوها المستشفى في حالة خطر
!!!
*****
جلس محطما أمام قسم الطوارئ ،ساهم
النظرات ،حواسه مفتوحة ،لكنه ًل يسمع شيئا
و ًل يرى شيئا ،فقط لحظات وصوله بها إلى هنا
و األحداث التي تلت ذلك هي كل ما يعاد أمام
ناظريه ...
_____
-مـراد !؟
أفاق "مراد" من استغراقه على صوت إبن
خالته ،هو الوحيد الذي انتزعه صوته الدوامة
السحيقة ...
رفع رأسه تجاه الصوت ،ليرى "أدهم" مقبال
عليه عبر الرواق الطويل في إثره خالته..
كالهما يمأل أعينهم الذعر و عالمات اإلستفهام
...
-إيه إللي حصل ؟ ..تساءل "أدهم" و هو يلهج
بأنفاس عنيفة ما إن وصل أمامه
قام "مراد" واقفا ليواجههم ،و تسابقت
"أمينة" بالتساؤًلت عقب إبنها :
-في أي يا مراد بنتي فيـن ؟
وجه "أدهم" السؤال البديهي في الحال :
-انت بتعمل إيه هنا أساسا ؟ ..و نظر ألمه :
-إيمان مش المفروض مع مالك ؟
نظرت "أمينة" بدورها إلى "مراد" منتظرة
جواب سؤال إبنها منه هو ..لكنه لم يرد ...وقف
عاجزا تماما
يحدق فيهم فقط و تعابيره كلها خالية من أي
مشاعر ...
-مـا تـرررررردددددددددد !!!! ..صرخ
"أدهم" فيه :
-إنطــق و قـولي أختـــي فيـــن .حصلـها إيــه ؟
-هدوء من فضلكوا !
أتى الصوت الرجولي الصارم من خلفهم فجأة
إلتفت الجميع إليه ،و نظر "أدهم" ليرى امامه
ضابط يرتدي الملكي ..قبل أن ينبس أي منهم
بكلمة ،تكلم الضابط الثالثيني بشدة :
-حضرتكوا أكيد أهل المجني عليها ...
-المجني عليها ؟ ..قاطعته "أمينة" نائحة :
-بنتـي جرى لها إيه ياناس .بنتي فين .أختك
فين يا أدهم ؟
رد الضابط بحزم :
-إهدي يا مدام من فضلك .احنا واقفين في
مستشفى و في مرضى نحترم ده لو سمحتوا
-أختي فين و حصلها إيه يافندم ؟ ..سأله
"أدهم" مباشرة
تنهد الضابط ،ثم قال مشيرا بذقنه :
-أختك جوا بيسعفوها يا أستاذ .جات لنا إخبارية
بوصولها في حادث ف جينا و فتحنا محضر و
تم اإلستجواب .ناقص أقوالها هي لما تتجاوز
الخطر و تفوق إن شاء هللا
تماسك "أدهم" و هو يواصل أسئلته :
-حادث إيه بالضبط !؟
صمت األخير هنيهة مدركا جيدا نتائج ما
سيقوله عليهم ،لكنه قال و هو ينقل نظراته بين
األخ و ابن الخالة في الخلف :
-الفحص بين إن أختك اتعرضت لإلغتصاب .و
تناولت أو حد أجبرها تاخد حبوب على جدول
المخدرات .الكمية إللي بلعتها كبيرة .دخلت في
غيبوبة و وظائف الكلى عطلت تماما .الدكاترة
بيعملوا إللي عليهم ...
كان هذا كثيرا ليستوعبوه ،بينما كادت "أمينة"
أن تنهار لوًل ذراع "أدهم" الذي ساندها فورا،
ذلك لم يمنعه من طرح السؤال األخير و األهم
حتى يكون متأكدا مئة بالمئة :
-مين إللي عملها ؟
حدق الضابط للحظات في "مراد" الذي بدا
باردا ،غير واعيا ،و قبل أن يجاوب أشار
لفردين من العساكر خلفه ليحضرا تحسبا :
-األستاذ ده جابها على هنا .بسؤاله عن ده..
مأنكرش !
قبل أن يتمكن أي أحد من مالحظة أي شيء،
وصلت قبضة "أدهم" إلى فم "مراد" ...
تعثر للخلف ،لكن "أدهم" لحق به فورا ،أمسكه
من ياقته و لكمه على أنفه بقوة ،لم يفعل
"مراد" أي شيء ،ألنه بطريقة ما يشعر
بالذنب ،بطريقة ما يلقي باللوم كله على نفسه
ترك إبن خالته يظن هذا فيه كليا ،و حتى لو
أراد أن يزهق روحه فلن يدافع عن نفسه ...
-سيبـــوووووووني .محـدش يمسكنـي !!!!! ..
صاح "أدهم" بضراوة في إثنين من العساكر
األشداء
لو كانا أقل سعة في البدن لما تمكنا من تخليص
"مراد" منه مطلقا ،قاطع المقعد المعدني
سقوط "مراد" ..بينما يصرخ "أدهم" محاوًل
اإلفالت و عينيه صوب "مراد" تلتمعان
بوحشية :
-مع إيمـان .عملـت كده في أختــــي .يا كلـب .يا
خايــن .مش هاسيبك .مش هاسيبـك يـا
مـرااااااااااااااااد !!!!!
إندفع عسكر ثالث نحو "مراد" يمسك به،
يمنعه على فرض لو أراد رد الصاع إلبن خالته
الهائج ،لكنه بقى هادئا ،إن يفعل في أي شيء
فهو يستحق ذلك ...و ًل يسعه اآلن إًل المثول
أمامه هكذا ..يتلقى كلمات و نعوت تغرس
بروحه كنصال حادة
لو يقتله لكان أهون !
يتبع ...
انتهى الفصل الرابع والعشرون ..
25
*****
كان يجلس بالمخفر اآلن ،في قفص اإلحتجاز و
األغالل بيديهً ،ل يدرك أن فمه متورم و ينزف
ببط جراء لكمات ابن خالتهً ،ل زال في نفس
الحالة الواجمة التي كان عليها بالمشفى ...
تسيطر عليه فكرة فقدانها ..يفكر كيف يمكنه
العيش بدونها !؟
بعد ضل بعدها لسنوات و عاد ليكتشف بأنها
أرضه و قراره
خارطته ،وجهته ،بوصلته ،منارته ...إنها امرأة
حياته كلها و حبه الوحيد
ًل
سيكون أكبر عقاب له
لن يتحمله و لن يقو على عيش أي حياة !!!
-مـرااااد !
إلتقطت أذنيه نداء والدته الهلوع ،ردة فعله كلها
عبارة عن ًلمباًلة ،لم يعير مطلق شيء إهتمام،
بينما والديه يقتحمان المخفر معهما المحامي
...
ركضت أمه إليه مباشرة و الفزع يعلو وجهها :
-مراد .إللي حصل ده حقيقي ؟؟؟ ررردددد عليا
يا مـراد صحيح إللي خالتك أمينة قالته ده
!!؟؟؟؟
لم تحصل منه على أي رد ،و لم ترى من وجهه
شيء سوى أمارات الخواء ،فكتمت فمها بكفيها
قبل أن تطلق صراخ الصدمة ،ما لبث زوجها أن
لحق بها تاركا المحامي يلج أوًل إلى مالزم
القسم ؛
أحاط بكتفي زوجته و هو يتطلع إلى إبنه بغضب
مستطير و يهتف من بين أسنانه :
-عملت إيـه ياًل .هه .فضتحتنا ..إزاي تعمل كده.
كنت بتفكر إزاااي يا حيـوااان .دي بنت خالتـك
!!!!
كان "محمود" قد ترك زوجته اآلن و إندفع
نحو القفص الحديدي محاوًل الوصول إلبنه
عبثا ،أتى عسكري ليضع حدا لتلك المشادة
صائحا بصرامة :
-ماينفعش كده يا أستاذ .انت مفكر نفسك فين.
ابعد عن القفص لو سمحت !
تراجع "محمود" بزوجته مذعنا لآلوامر ،في
نفس اللحظة يظهر "رامز األمير" برفقته
شخصية معروفة بالمخفر ،رجل ضخم أسمر
البشرة أعطى أمره للعساكر ليفتحوا القفص
حتى يلج "رامز" إلى صديقه ...
-مراد إيه إللي حصل ده !؟ ..قالها "رامز"
بصوته األجش ما إن صار بداخل القفص مع
صاحبه
أغلق العسكري عليهما ،ليقوم "مراد" واقفا
في مواجهته ،نظر مباشرة في عينيه و قال
بقتامة :
-رامز ..بعد كل الوقت ده .ماتخيلتش نتقابل
تاني في ظروف زي دي !
تنهد "رامز" بعمق متهمال في ردة فعله و قال
:
-أنا حلفت لك .ماعنديش أي فكرة عن كل إللي
حصل ..جرى إيه يا مراد .احنا معرفة إمبارح.
ده انت صاحبي ياض .صاحبـي !!
عبس "مراد" قائال بلهجة ضبابية :
-و عشان انت صاحبي .أنا كلمتك ..قولي يا
رامز كنت غلط لما كلمتك !؟
رامز بقوة تنم عن قسوة :
-رامز األمير بيعرف يقف جنب أصحابه كويس
و انت عارف يا مراد..أنا رقبتي ليك
أومأ له و قد ًلح شبح ابتسامة على ثغره ،دنى
منه قليال ليسأله :
-الواد إللي اسمه مالك ده .وقع في سكتك إزاي
؟
جاوبه "رامز" على الفور :
-أخوه كان بيسهر مع شلتنا من زمان .اتعرفت
على سيف بعد ما سافرت انت علطول .ماكنش
صاحبي أوي بس كان بيجي عندي و كنت بجيب
له .......من إللي بنوزعها في سهراتنا بس
ًلقيته دخل في سكة أكبر و غوط أوي ف قطعت
معاه .لحد ما عرفت بعد فترة إنه مات أوفردوز
و روحت أعزي فيه و شفت مالك .من هنا بدأت
صحوبيتنا .هو بان جدع و بصراحة ماعرفش
اتخدعت فيه إزاي ..فهمني بقى انت إيه الحكاية
!!؟
كان "مراد" يصوغ جيدا القصة التي سردها
صديقه للتو ..بينما األخير ًل يزال بانتظار رده
...
-مشيته من عندك ؟ ..سأله "مراد" محدقا
بعينيه من جديد
أومأ "رامز" :مشي بعد ما مشيت انت علطول
-تعرف تجيبه تاني ؟
-سهلة .عايزه فين ؟
رد "مراد" ساهما و كأنما يرى لقطة من
المستقبل أمام عينيه :
-في نفس المكان .عندك ..تجيبه و ماتسبهوش
غير لما أطلع و أجي لك !
رغم إنه لم يكن واثقا ما إذا كان سيخرج من
هنا ...
*****
تم نقلها بالفعل إلى غرفة مخصصة ،بعد التأكد
من إفاقتها التامة و اإلطمئنان على مؤشراتها
الحيوية ،بعد قضاء أكثر من ثماني عشر ساعة
بالعناية الفائقة ..تلقى "أدهم" البشرى من أمه
عبر الهاتف بينما كان يقود في طريقه إلى
المشفى
كانت إبنة أخته تجلس في الكرسي بجواره ،و
قد كفت عن البكاء بصعوبة بعد أن شرح لها
"أدهم" على قدر استيعابها سبب تواجد أمها
بالمشفى ،دون الخوض في أي تفاصيل ،نجح
في ترويض خوفها على أمها و وعدها أن كل
شيء بخير
من جهة أخرى عقله هو لم يكف عن التفكير،
كذا لم يكف عن محاولة التواصل مع زوج
أخته" ..مالك" ...لكن ذاك األخير ًل يرد أبدا
على إتصاًلته !
أين هو يا ترى ؟
إن البارحة كلها لغزا ،لن يفك هذا اللغز سوى
واحد من ثالثة" ..إيمان" أو "مالك" ...أو
"مراد" !!!
على أية حال لن يثقل على أخته اآلن ،لتتحسن
حالتها أوًل ،ثم لكل حادث حديث ،و لن يترك
ثأرها أبدا مهما كلفه األمر ...
-السالم عليكم ! ..قالها "أدهم" و هو يلج إلى
الغرفة الخاصة بأخته
تركت "لمى" يده و ركضت نحو السرير الذي
ترقد فوقه "إيمان" ...
كان "أدهم" يحمل في يده األخرى حقيبة
صغيرة بداخلها بعض المالبس لـ"إيمان" بعثت
"أمينة" في طلبها من زوجة إبنها ،رتبتها
"سالف" بنفسها و أرسلتها مع زوجها ،مضت
"أمينة" نحو ابنها و أخذتها منه متمتمة :
-تسلم إيدك يا حبيبي .هات عنك
-مـامــي ! ..هتفت "لمى" بشوق و لهفة على
أمها
كانت تقفز محاولة الصعود إلى جوارها ،حتى
جاء خالها و رفعها على ذراعه لتجلس على
حافة السرير بجانب أمها ،ثم تراجع للوراء
مانحا إياهما بعض المساحة
في هذه األثناء كانت "إيمان" ترمق إبنتها
بغرابة ،كانت تراها بعين أخرى ،و كأنها تنظر
إليها ألول مرةً ..ل تعرف لماذا خافت بغتة !
-سالمتك يا مامي ! ..تمتمت الصغيرة بصوتها
الموسيقي الحلو
طوقت عنق أمها بذراعيها القصيرين و
احتضنتها بقوة ،ثم ارتدت لتنظر إليها ثانية و
هي تقول بتلك اإلبتسامة الموروثة :
-بعد الشر عليكي ...
إنقبض قلب "إيمان" و هي تحملق فيهاً ،ل
يسعها إًل رؤية "سيف"" ..سيف" قام من
األموات اآلن و يتجسد أمامها ...حتى أن رائحة
الطفلة و كأنها رائحته هو تماما تنبعث من خالل
شعرها و ثيابها و كل شبر منها
و كأن قنبلة خوف انفجرت بداخلها ،شحذت
"إيمان" قواها لتدفع بإبنتها من حضنها،
لدرجة أن حركتها المفاجئة أذتها أوًل و انتزعت
األنابيب التي تحيط برسغيها
سقطت "لمى" فوق األرض بقسوة و صدمت
رأسها ...
-آاااااه ! ..تأوهت "لمى" متألمة و شعرت
بالصدمة من تصرف أمها
بينما يندفع "أدهم" نحوها مسرعا و هو يصيح
:
-إيـــه يا إيمــان .لمــى قومـي يا حبيبتي على
مهلك !!!
و تطلع إلى أخته بغضب ،كانت "أمينة" قد
تركت ما بيدها و أسرعت إلى إبنتها ،أحاطت
بكتفيها هاتفة :
-إيمان .مالك يابنتي حصل إيـه !؟؟
إهتاجت "إيمان" و هي تنظر إلى صغيرتها بين
أحضان خالها و صرخت بهسترية :
-خدوها من هنا .ابعدوها عنـي .مش عايـزة
أشوفهـا مش عايزاهـاا ...
ازدادت صدمة الصغيرة و هي ترى أمها تشير
إليها و تقول ذلك ،انهمرت دموعها غريزيا و لم
يفلح تربيت "أدهم" عليها و ًل أي من مواسته
في تهدئتها ...
-بــس اسكتـي .إنتي في وعـيك !! ..صاح
"أدهم" فيها غاضبا
لكنها لم تصمت ،و لم تهدأ أبدا ،و كأن شيطانا
تلبسها ...
-خدها من هنـا .مشيها .دي مش بنتي .دي بنت
سيـف .بنته هـو مش بنتـــي خدهـااااااااااااا ...
بدأ صوت بكاء الصغيرة يمأل الغرفة ،و ناحت
من بين عويلها و هي تكافح ذراعي خالها
لتحاول العودة ألحضان أمها :
-مامي .أنا لمى .أنا مش عفريتة ..ماتخافيش
مني .أنا لمى يا مامي !!!
لم تؤثر فيها مثقال ذرة و صممت "إيمان"
على رغبتها بصراخ مستميت :
-خدوهـا من هنـا .أنا بكرهـها .بكرهـها و بكره
اليوم إللي جت فيه .خدوا بنت سيف من هنا
مش عـايزاهــاااااااااااا ...
كان هذا كارثيا على الطفلة أن تسمعه ،حتى أن
"أدهم" وضع كفيه على أذنيها لكي ًل تسمع ما
تقوله أمها ،ثم ما لبث أن قام و أخذها بالفعل
إلى الخارج
ظل يحتضنها و يهدهد لها ماشيا بها في الرواق
:
-إششش .خالص يا حبيبتي .ماتعيطيش ..حقك
عليا أنا .قوليلي في حاجة بتوجعك !؟
و جلس فوق أحد الكراسي المعدنية و أجلسها
فوق قدمه ،أخذ يتفحص رأسها متمتما :
-إتعورتي و ًل حاجة !؟
لكنها تقريبا لم تكن تسمعه ،فغير بكائها الذي
غطى على صوته بأذنها ،كانت كلمات أمها
تتردد على مسامعها مرارا و تكرارا ..هذه
الطفلة الصغيرة المسكينة
اليوم عرفت ما هي الصدمة !
يتبع ...
انتهى الفصل الخامس والعشرون
26
_ مراد
يتبع ...
انتهى الفصل السادس والعشرون
27
_ إيمان
*****
*****
يوم الزفـــــــاف !
يتبع ...
انتهى الفصل السابع والعشرون..
28
_ مراد
*****
*****
مع حلول الثالثة عصرا ...
بدأ اإلحتفال تقريبا ،بتوافد أعداد أكثر فأكثر من
العائلة و األصدقاء ،امتألت ساحتي الرجال و
النساء ،و كانا يقف كال من "مراد" و "أدهم"
عند الفاصل بين الطرفان ،يمدوا يد المصافحة
للضيوف ،كل منهما أنيق ،و باألخص "مراد"
الذي ازدان بحلة سوداء كالسيكية ،و قميص
ناصع البياض أسفلها ،و ربطة عنق قاتمة
بخطوط بيضاء
وجه حليق و قد برزت مالمحه و حدوده الحادة،
فمه الدقيق ،أنفه المستقيم ،غمازة ذقنه العميقة
جدا ،كل هذا يتألق مع لمعة عينيه الرماديتان..
أما قصة شعره البسيطة فكانت المتممة لكل هذا
البهاء و الجاذبية الكبيرة التي يتمتع بها
كان محط األنظار بمرور الوقت ،الرجال و
النساء على حد سواءً ،ل يصدقون بأن
"إيمان" المطلقة لمرتان ،و األم لطفلة ،واتتها
تلك الفرصة المذهلة لإلرتباط برجل مثل "مراد
أبو المجد" !!
إنه منحة ،هديةً ،ل تشوبه شائبة ..كان السؤال
الذي يتبادر إلى ذهن الجميع ...
أسحرته ؟ أم ما الذي قد يدفع رجل مثله للزواج
من "إيمان" ؟
بل و تبدو عليه السعادة !!!!
كانت أعين النساء أقواس تطلق سهام الغيرة و
الحسد ...
-إيمان قدامها كتير يا أدهم ؟ ..تساءل "مراد"
و هو يميل صوب أذن "أدهم" :
-أطلع شوف إيه مأخرها .الفوتوجرافر وصل
من بدري و كمان المأذون لسا داخل !
دنى "أدهم" قليال منه و قال :
-لسا قافل مع سالف من خمس دقايق .خالص
مافضلش كتير .دلوقتي تالقيها نزلت ..
و بالفعل ،لم ينهي "أدهم" جملته ،إًل و أعلن
عن ظهور العروس من جهة النساء بالزغاريد
التي تعالت و مألت المنطقة كلها ؛
إندفعت دفقات من الحماسة بشرايين "مراد" و
هو يلتفت ورائه ،ليمسك "أدهم" بكتفه منبها :
-إيه عينك رايحة فين .ده مكان ستات !
برزت نصف ابتسامة على فم "مراد" و هو
يخبره بتباه :
ً-ل يا حبيبي انت تنسالي خالص حوار ستات و
رجالة ده .أنا مش داخل عليهم الحمام .أنا داخل
لمراتي
اقتبس "أدهم" نفس اًلبتسامة و هو يرد عليه
:
-لسا مابقتش مراتك يا حلو !
رفع "مراد" حاجبه و هو يومئ برأسه ،ثم
أشار إلبن خالته تجاه سرادق الرجال قائال :
-تمام يا دكتور أدهم .اتفضل بقى معايا ..عشان
نكتب الكتاب .العروسة نزلت و المأذون حاضر
!!
_____
يتبع ...
انتهى الفصل الثامن والعشرون
29
_ إيمان
بدأ الليل يلقي بظالله على بيت آل"عمران"...
اإلحتفال حتى الساعة يسير وفق قواعد
"أدهم" ..إلتزام ،تهذيب ،رزانة
في جهة الرجال ،جميعهم حول "مراد" قسم
من أصدقاء "أدهم" و آخر من أفراد العائلة..
كان "مراد" وحيد هنا
رغم تجمع كل هؤًلء من حوله ،لكنه شعر
بوحدة كبيرة ،حتى صديقه "رامز" الذي
جمعتهما الصدفة مؤخرا بعد طول غياب ،لم
يأت بعد !
لم يسمح مع ذلك ألي مشاعر سلبية أن تفسد
عليه ليلته ،ابتسم متحديا الظروف و شرع
ينسجم مع الصحبة و يتفاعل معهم كما لو أنه
يعرفهم جيدا ،إلى أن أحس بتلك القبضة التي
اجتذبته للخلف بخفة
استدار على الفور ،لكنه جمد مصدوما فجأة ،و
هو يرى أمام عينيه صديق عمره" ..عثمان
البحيري" !!!
إنه هو بذاته ،بشحمه و لحمه ،يقف قبالته
متأنقا مبتسما ...
-بتتجوز تاني من ورايا !؟ ..نطق "عثمان"
بصوت أجش متظاهرا بالحنق :
-لو ماكنش الدكتور أدهم عزمني مش عايز
أقولك كنت هاعمل فيك إيه ...
و رقت نظرته بغتة و هو يضيف بصدق :
-واحشني .واحشني ياًل !
كانت هذه آخر نقطة تماسك لديه ،و انهار
الجليد الذي أحاط بقلبه في طرفة عين ،ألقى
بذراعيه حول صديقه و اجتذبه معانقا إياه
بقوة ،أمام أعين الجميع ،عبرا الصديقين عن
شوقهما بشكل يثير السعادة و اإلنبهار
رابطة األخوة بينهما تجلت بشدة ،و لم يعد هنا
أي عداء أو أثر للخالفات ،لم يعد هناك سوى
الصداقة ..حب ًل مشروط ...
_____
*****
30
_ مراد
*****
فرغت من حمامها بعد قضاء ساعة بالداخل،
لما عادت إلى الغرفة ،وجدت الستائر مفتوحة و
ضوء النهار مبهرا ،كان "مراد" يقف بمحاذاة
الشرفة العريضة يتحدث في هاتفهً ،ل يزال
عاري الجزع و ًل يرتدي سوى سروال البذلة
ما إن شعر بوجودها حتى أنهى المكالمة ،و
استدار ناحيتها مبتسما ،بينما كانت تحدق اآلن
إلى كومة العلب هناك بجوار الخزانة الضخمة،
كلها تحمل عالمات الماركات العالمية الفاخرة..
كريستيان ديور ،فيكتوريا سيكرت ،إيف سان
لوران ،جيمي تشو ...
-أخيرا خلصتي ! ..هتف "مراد" مقبال عليها
توقف على بعد خطوة منها ،بينما تسأله مشيرة
إلى األغراض الكثيرة :
-إيه كل الحاجات دي ؟
جاوبها "مراد" و هو يحك مؤخرة رأسه :
-دي هدوم عشاني انا و انتي .طلبتهم أون ًلين.
انتي ناسية إننا جينا على هنا من غير شنطة
هدوم .مش معقول هاننزل من هنا بلبس الفرح
! ..و استطرد مطمئنا إياها :
-ماتقلقيش انا اخترت لك هدوم تناسب الحجاب.
كلها فساتين واسعة و مانستش اإليشاربات
طبعا .هاننزل من هنا على بيتنا نحضر شنطة
صغيرة ليا و ليكي .و بالليل هانكون في المطار
إن شاء هللا
-هانروح فين !؟
حقا كان الفضول يطل من عينيها ،فابتسم هازا
رأسه و هو يقول :
ً-ل ًل يا قطة مش هاتوقعيني .مش هاتعرفي أي
حاجة دلوقتي .قلت لك عندك جدول مفاجآت..
مش قلت ؟
زمت شفتيها مذعنة ،فمد يده ممسكا ذقنها بين
سبابته و إبهامه قائال :
-الفطار هناك في التراث .غيري هدومك و
اقعدي افطري ماتستننيش أنا شربت القهوة و
خالص هاخد شاور بسرعة بس !
هم "مراد" باإلسراع للحمام ،لكن زوجته
قبضت على رسغه و استوقفته ،أدار وجهه لها
و هو يرمقها بتساؤًل ،فبدا عليها القليل من
الحرج و التردد
اقتربت منه كثيرا حد اللصوق ،و رفعت
ذراعيها لتشبكهما حول عنقه وتشب قليال،
وسط إجفاله ريبته ،لم يحاول مقاطعتها عن أي
شيء تفعله ،فتحت فاها متمتمة على إستحياء :
-ممكن تبتسم !؟
عبس مستغربا من طلبها ،لكن فك العبوس
بسرعة و فعل ما طلبت ،رسم ابتسامة بسيطة
على ثغره ،فقالت :
-أكتر يا مراد .ابتسامة أكبر !
ابتسم باتساع أكثر و هو يتساءل بداخله
عشرات األسئلة ،يخشى لو أنها فقدت عقلها
اخيرا ،لكنه تفاجأ حين دنت منه مقبلة جانبي
وجهه و الحفرة العميقة بذقنه ...
أسبلت عيناها في خجل من شدة تحديقه فيها،
ليسألها اآلن بصوت هادئ :
-ممكن أعرف بس كان إيه ده .و لو مافيش
مش مهم ! It’s Okayسبب
تنهدت بعمق و جاوبته متحاشية النظر بعينيه :
-من زمان .من أول مرة شوفتك بتضحك .كانت
جوايا أمنية شايلها لليوم ده .انت فاهم يعني
عشان حرام أعمل كده و احنا مافيش صلة
بينا ..انت عندك غمازات حلوة أوي .دي الحاجة
الوحيدة إللي كنت مش بقدر أغض بصري
عنها .دلوقتي مابقاش حرام حتى أفكر في كده
بس ...
كلماتها غير المرتبة فهمها جيدا ،و جللت
وجهه ابتسامته األكثر جاذبية اآلن و هو يحاوط
خصرها ذراعيه ضاما إياها أشد و هو يهمس :
-و أنا من دلوقتي عندي كل الوقت إللي أعرفك
فيه التفاصيل إللي بعشقها فيكي ..في وشك.
شعرك ..جسمك !!!
إن يده زحفت بالفعل لألسفل مغطية مؤخرتها
...
إتسعت عيناها من المفاجأة و
توجس على الفور و خاف ان يكون اثار الذعر
فيها من جديد ،رفع يده و قال :
-تمام .قلت عندي وقت .مش ًلزم يكون إنهاردة
أو حتى بكرة ..ماتخافيش يا حبيبتي .أنا مش
هاعمل غير إللي تعوزيه و بس .إتفقنا ؟
و حاول الفكاك منها برفق ،لكنها تشبثت به
أكثر ،فوقف حائرا !!!
ازدردت "إيمان" ريقها بتوتر قائلة :
-خليك معايا ..أنا عندي ذكريات كتير وحشة.
مابعرفش أنام بسببها .أول مرة أنام لحظة ما
أغمض عيني إمبارح و أنا في حضنك ..من
فضلك خليك معايا .ماتسبنيش !
تأثر بشدة إلقرارها و كره نفسه ألنه تسبب
بتعاستها لسنوات طويلة ،في نفس الوقت
دعوتها الصريحة المباغتة ًل تقاوم حقا ،خاصة
و هي تتمسك به بهذه الطريقة و ترمقه بتلك
النظرة ...
دقق النظر فيها وقال :
-أنا بس خايف عليكي .ممكن يكون ده مش في
مصلحتك دلوقتي .على األقل لما نزور الدكتورة
و آ ...
-ماتقوليش دكاترة دلوقتي !! ..قاطعته منفعلة،
و أردفت بصوت أهدأ :
-من فضلك .مش عايزاهم ياخدوا الجزء ده
مني .عايزة أنساهم ..من فضلك يا مراد !
لم يكن واثقا على أية حال ،يخشى أًل تكون
تعني ذلك حقا ،لكن أمام إصرارها ًل يملك حجة
...
استعمل الحيلة األخيرة ألجل أن يمنحها فرصة
لتراجع نفسها ،فأشار إلى التراث قائال :
-طيب و الفطار !؟
أطل اآلسى من عينيها و هي تناشده بيأس :
-مش عايزة فطار دلوقتي .مش عايزة ...
*****
لم يفلح معها شيء ..حتى بعد أن نفذ كل
طلباتها و طاوعها في كل رغباتها
ًل زالت بائسة ،تنأى بنفسها داخل الحمام لوقت
طويل ،بينما ينتظرها بالخارج ،شعر بحركتها
وسط الرواق ،فقام يتفقدها بغرفة النوم
وجدها بالفعل تجلس فوق األريكة المقابلة
للسريرً ،ل يزال الفراش مبعثرا ،و لكنها تبدو
غير مهتمة ،تبدو هادئة ،واجمة ،شعرها
األشقر أكثر قتامة اآلن ،يقطر منه الماء و
تتشربه المنشفة حول جسمها ؛
يمشي "أدهم" صوبها ،يجلس إلى جانبها
مثيرا حديث بينهما :
-سالف .أنا لغاية اللحظة دي بسايسك و
مهاودك في كل حاجة .ألني حاسس انك مش
مضبوطة .و لألسف مقدرتش اعرف السبب
بردو ..لو سمحتي ممكن تتكلمي و تقوليلي
مالك !!؟
بقي بانتظار ردها باصغاء ،لتدير رأسها تجاهه،
تنظر في عينيه و تقول بثبات تحسد عليه :
-أنا عايزة أطلق يا أدهم !
يتبع ...
انتهى الفصل الثالثون..
31
_ أدهم
وقف خلفها ،أمام لوح المرايا الطويل ،يعقد لها
طوق عنقها بينما ًل تزال ترجف تحت لمسته،
بدأ الضيق يساوره من جديد ،من المفترض أن
تكون أفضل حاًل
-زي القمر يا حبيبتي ! ..تمتم "مراد" و هو
يدنو قليال ليلثم خدها برقة
لكنها أقشعرت من قربه الشديد ،ما أدهشه و
أثار حفيظته ،ليمسك بكتفيها و يلفها ليجعلها
تواجهه ؛
تعلقت عيناها بعينيه في لحظة صمت قبل أن
يسألها بجدية :
-إيه إللي حصل يا إيمان .أنا سيبتك لغاية ما
هديتي خالص .عاوز أعرف تفسير إللي جرالك
بعد ما كنتي مبسوطة معايا ..أنا عملت حاجة
غلط !!؟
هزت رأسها نفيا و لمعة الحزن قد عادت لتتألق
بعينها من جديد ،مسد "مراد" على وجنتها
بأطراف أنامله و قال بلطف :
-انتي لسا عقلك مشوش .لسا بتخلطي بيني و
بينهم ؟
كانت إشارته صريحة لزوجيها السابقين،
تحفزت اآلًلم الكامنة بأعماقها ،ليستطرد منتقيا
كلماته بعناية :
-أقصد أقولك إن لو ده إللي بيحصل معاكي ف
تبقي غلطانة .ألن أنا مش هما .أنا حبيبك ..أنا
عاوز أسألك سؤال .انتي عمرك شوفتي مني
معاملة قاسية ؟ أنا جيت في يوم جرحت كرامتك
أو هينتك ؟ أنا عمري عملت معاكي أي حاجة
غصب عنك !؟؟
وافقت على كل أسئلته عدا السؤال األخير،
أقرت في عبوس :
-كنت هاتعملها مرة !
أشارت بجملتها إلى ذلك النهارالشهير حيث تم
ضبطهما سويا من "سالف" !!
ابتسم "مراد" بخفة قائال :
-عمري ما كنت هاعملها غصب عنك .و قلت لك
في ساعتها .أنا كنت بخوفك مش أكتر .أعمل
إيه .نشفتي دماغك فيها إيه لو كنتي طاوعتيني.
كان زمانا متجوزين من بدري و ماكنش كل ده
حصل بسبب عنادك !!!
أحس أن حديثه األخير ربما يكون قد أزعجها،
أو اثار الذكريات السيئة اكثر ،فغيره في الحال
متوها بتودده إليها :
-المهم إللي عايزك تستوعبيه كويس .إن حياتك
إللي عدت خالص مابقاش ليها وجود .احنا مع
بعض دلوقتي .انتي بقيتي مراتي .أيوة الحياة
فرقتنا زمان .لكن ربنا شاء إنه يجمعنا تاني .و
انتي عارفة إنها مش صدفة ..صح ؟
غلفت عيناها طبقة من الدموع و هي تومئ
برأسها مؤيدة كلماته ،بالطبع تؤيدها ،تلك كانت
دعوتها ،و قد أجيبت !
-أنا عمري ما هاسيبك .و ًل ممكن أسمح ألي
حد إنه يئذيكي أو بس يزعلك.إللي باقي من
عمرنا مايخصش حد غيرنا ..و أنا هاعوضك.
أوعدك كل إللي حلمتي بيه .ده وعد ...
صدقته ،و إن وجدت صعوبة أن تدمغها
بابتسامة ،ابتسم هو ممسكا بيدها ،و جعل يلفها
حول نفسها كما لو أنهما في رقصة و هو يقول
باعجاب :
-أول مرة شوفتك و احنا صغيرين كنا في العيد.
كنت لسا راجع من السفر مع أبويا و أمي .كان
عندك 13سنة .كنتي لسا من غير حجاب .و
كنتي ًلبسة فستان أصفر منقط أبيض زي إللي
انتي ًلبساه دلوقتي ..أحلى صدفة حصلت
إنهاردة .صح ؟
و كيف تنسى التفاصيل التي يثيرها بمخيلتها،
بالطبع تتذكر أول لقاء ،أول شرارة إعجاب،
حبها الصبياني ،و الذي تطور فيما بعد ليصبح
حب عمرها كله ،سبب دمارها ،و هو أيضا
القادر على عالجها ...
إنبلجت ابتسامة نادرة على محياها الجذاب و
هي تجاريه في هذا :
-و انت كنت مطول شعرك . .أول ما أدهم انتقدك
و قال عليك بنت وانت غضبت جدا و كرهت
شكلك كله .و تاني يوم كنت حلقت شعرك !
قهقهت "إيمان" ضاحكة ،فجعلته يبتهج ألنه
استطاع أن يحرز معها هذا التقدم السريع ...
-أنا بحبك ! ..همس "مراد"
ارتبكت و هي تنظر له فقطً ،ل تجد ما تقوله،
ليتابع ضاحكا بمرح :
-أنا نفسي أروح أشكر هالة بجد .مش متخيل
إزاي كنت ممكن أكمل حياتي معاها ..أنا كنت
تايه من غيرك !
*****
استنشق "أدهم" ..نظر إليها و الصدمة
واضحة في عينيه ،لكنه سألها مشككا بما قالته
:
-هو إللي أنا سمعته ده صح .انتي قولتي كده
فعال !؟؟
هبت "سالف" واقفة فجأة ،فرفع وجهه متطلعا
إليها،
-أنا تعبت خالص ! ..هتفت "سالف" بنفاذ
صبر
عبس "أدهم" ممعنا في حالتها ،ليست بغريبة
عليه ،أحيانا تأتيها نوبات الهلع التي قد تصل
إلى مرحلة من مراحل الجنون ،لكنه لطالما كان
بارعا في إمتصاص الطاقة السلبية عنها ،كان
حقا جيد في هذا
لذلك تصرف بعقالنية و هو يقوم ليمشي صوبها
قائال بابتسامة رقيقة :
-طيب يا سالف .أوعدك هفكر في موضوع
الطالق ده .بس دلوقتي أهم حاجة ..ممكن تهدي
أعصابك شوية .إيه رأيك أنزلك تشمي هوا أو آ
...
-مش عايـزة !!!! ..صرخت بغضب شديد
ألجمت لسانه و أذهلته ،بقى ينظر إليها صامتا
فقط ،فأردفت بنفس الطريقة الفجة :
-أنا مش بهزر يا أدهم .أنا بتكلم بجد .المرة دي
مافيش مجال للهزار انت مش قادر تشوف ده
!؟
ازدرد ريقه بتوتر و هو يسألها :
-طيب ليه .إيه إللي حصل .فهميني ؟
-تفهم إيه ؟ مافيش حاجة تفهمها .بقولك عايزة
أطلق .و أقولك على حاجة كمان .أنا مابقاش ليا
قعاد في البيت ده !
و تركته يقف بمكانه و توجهت ثانية نحو
الخزانة ،أخرجت حقيبة مالبسها الكبيرة و
أخذت تجمع أغراضها و ثيابها أمام عينيه
المذهولتين على األخير ،فلم يشعر بنفسه إًل
ًلحقا بها ،يقبض على كتفيها و يجتذبها بعيدا
عن كل ما تفعله صائحا :
-انتي اتجننتي .ليه بتعملي كده .بصي في عنيا
و كلميني !
هزت رأسها بقوة و هي تصرخ :
-سيبني يا أدهم .سيبني !!
غطى صوته الخشن على صوتها و هو يرد
بعنف :
-مش سايبك .ما هو حاجة من اًلتنين .يا انتي
اتجننتي فعال يا في سبب لكل إللي بتعمليه ده .و
في الحالتين مش سايبك غير لما أعرف مـالك ؟
توقفت عن التملص منه ،و ركزت حدقتيها
الفيروزيتان بعينيه المتآججة و هي تقول :
-عايز تعرف مالي .طيب .أنا تعبت من الحياة
دي .أيامي كلها بقت شبه بعض .مابقتش حاسة
بحاجة بقيت زي المتخدرة بالضبط .من الصبح
للليل في متاهة خالص مقررة عليا و حفظتها.
تعبت و زهقت .تعبت و مابقتش قادرة أتحمل كل
ده تعبت ...
و كانت ترتعش من قمة الغضب و اًلنفعال ،تأثر
بمعاناتها و إن كان لم يستوعبها بادئ المر،
لكنها مسته و صار أكثر تعاطفا معها ،أرخى
قبضتيه عن كتفيها و لف ذراعيه حولها متمتما
بهدوء :
-طيب .إهدي .خالص ..شوفي انتي عايزة إيه و
انا أعملهولك .هاعملك إللي انتي عايزاه .بس
ماتضيقيش كده .إهدي عشان خاطري !
ردت عليه و الدموع في صوتها بالفعل :
-مابقتش عايزة حاجة خالص !!
أصر عليها و هو يمسح على رأسها بحنو بالغ
:
ً-ل إزاي .حقك عليا .أنا يمكن إنشغلت عنك
بقالي فترة .ماكنتش مهتم بيكي أكتر .لكن
خالص أوعدك من إنهاردة هاغير كل ده .و
هاتشوفي يا حبيبتي !
كافحت من أجل اًلبتعاد عنه ،فلم يستبقيها
رغما عنها ،أفلتها كما أرادت بينما تغمغم بحنق
:
-انت ليه مش راضي تفهم .أنا مش عايزة
أكمل .مش عايزة !!
قطب وجهه اآلن و قد شعر بخطورة الوضع،
فدفعه الخوف من خسارتها للتحدث بغلظة :
-ليه .انتي شايفة إيه إللي حصل كبير للدرجة
دي عشان تطلبي طلب زي ده .سالف انتي ًلزم
تفوقي و تستوعبي كالمك .انتي عايزة تهدي
حياتنا .انا و انتي و الوًلد .كل مرة كنتي بتقولي
كده كنت بحتويكي و بعديها عشان عارف إن
مسؤولياتك كبيرة و كتر خيرك إنك شايالها
أصال .لكن مش قادر أصدق إنك مصممة دلوقتي
كل التصميم ده ! ..و قطع المسافة القصيرة
بينهما ممسكا بيديها
تنهد و هو ينظر إلى أسفل في أصابعهما
المتشابكة ،عصر يديها بشكل مطمئن و هو
يقول بصوت أقرب إلى الهمس :
-شوفي إنتي عايزة إيه .أنا مستعد أعمل أي
حاجة تطلبيها .لو عايزاني أخد إجازة و أقضي
وقت أكتر معاكي و أساعدك كمان في مسؤلية
البيت و الوًلد هاعمل كده .لو عايزة أجيب
واحدة تساعدك و أنا مش موجود أجيبها من
بكرة .لو عايزة نسافر تغيري جو في أي حتة
تختاريها هاعملك إللي تقولي عليه ...
-مش عايزة منك انت تحديدا أي حاجة !!! ..
صاحت فيه بغتة و هي تتنزع يديها من يديه و
ترتد خطوة للخلف
-أنا عملت فيكي إيه لكل ده !؟؟؟ ..ردد مشدوها
دمعت عيناها من شدة العصبية و هي تقول :
-أنا بقيت عايشة في نفاق .و الحياة دي
مكانتش بتاعتي .أنا وافقت بيها عشان حبيتك و
رضيت بيها عشان ماكنتش عايزة أخسرك .لكن
دلوقتي كل واحد بيعمل إللي على مزاجه حتى
انت ممشيني على مزاجك .في األول اقعدي يا
سالف من الجامعة وًلدنا أولى بيكي .سيبت
أحالمي و طموحاتي إللي فضلت سنين أخطط
لها عشانك و عشان البيت .انت وظيفتك إنك
كنت بتهدي فيا و بس .حتى الحاجة الوحيدة
إللي بقيت ليا .أنوثتي بقيت تقتلها بإيدك.
ماتحطيش مكياج أنا مش بحبه و شكلك
بيعجيني من غيره .ماتحطيش برفانات أوفر
ريحتك الطبيعية أحلى .ممنوع أرقص ممنوع
أفرح بطريقتي و سكت و رضيت بكل إللي انت
عايزه و في اآلخر كل إللي حواليا يعيشوا الحياة
إللي كان مفروض أعيشها .و أخرهم أختك إللي
لبست فستان مكشوف و رقصت و غنت كمان و
كل ده حصل في بيتك قصاد عينيك مش من
وراك كنت هديت و ارتحت !
بقى ينظر إليها و هي تتحدث غير مصدقا ،أن
كل هذا بداخلها ،و مع ذلك كانت لديه مبرراته
التي أدلى بها في الحال :
-أوًل تعليمك أنا ماغصبتش عليكي تسيبيه .أنا
قلت لك أدرسي في البيت و انزلي الجامعة على
اًلمتحانات و قلت كده عشان انتي بالفعل كنتي
لسا والدة و المسؤولية كبرت عليكي .تانيا
موضوع أنوثتك إللي قتلتها دي تهمة باطلة في
حقي و إًل ماكنتيش هاتبقي أم لـ 3أطفال .مش
بالمكياج و ًل بالرقص يا مدام .بالحب و
اًلهتمام إللي مابخلتش عليكي يوم بيهم .بس
الظاهر إنهم ماكنوش كفاية بالنسبة لك .تالتا
بقى أختي دي بقت على ذمة راجل .و بيتي إللي
عملت فيه كده يبقى بيتها بردو .إيمان وارثة
زي عائشة زي أمي .لما تعمل كده و هي ست و
متجوزة أنا مقدرش أتكلم معاها ألنها راشدة و
بقت مسؤولة من زوج ..ف بتحاسبيني على إيه
هنا !؟
صمتت لبرهة ترمقه بخيبة و قالت :
-أنا بشر و مقدرش أتحمل أكتر من طاقتي !!
تضخمت لهجته و هو يسألها :
-يعني إيه !؟
صاحت بنفاذ صبر و كأنها بالفعل فقدت عقلها :
-يعني طلقني .سيبني أرجع لحياتي و أرجع
ثقتي بنفسي إللي دمرتها انت و أختك .كل حاجة
علمتها ليا بسببها بقيت أشك فيها .أنا حتى
مابقتش البنت إللي انت نفسك حبيتها و أعجبت
بيها في البداية .طلقني و خليني أًلقي نفسي
تاني .لسا األوان مافتنيش .لسا ممكن أبدأ من
جديد لسا صغيرة لسا حتى ممكن أتجوز آا ......
لم تتم كلمتها إًل و هوى كفه ألول مرة منذ رآها
صافعا إياها بعنف !
-انت بتضربني يا أدهم ؟ ..تمتمت مصدومة و
هي تتلمس موضع صفعته الساخن على خدها
األيسر
غمرت دموع غزيرة و غريبة عينيها و هي
تقول بصوت مليئ بالنشيج :
-أنا عمري ما اضربت ..حتى بابا عمره ما
عملها !
لم يرد ،بل لم يحاول حتى أن يرد عليها ،و لم
يبدو نادما أنه صفعها
عيناه حمروان ،يضغط شفتيه بشدة ،و تلك
الرجفة التي تعتري جسمه من لحظة ألخرى
تنبئ عن المجهود الخرافي الذي يبذله لكي ًل
يتهور عليها أكثر ،ما قالته كان كثيرا
يخشى أن تتفوه بشيء آخر مثله فربما تدفعه
إليذائها دون أن يشعر ...
ابتلعت "سالف" كتلة مرة سدت حلقها ،ثم
قالت بغضب أعمى :
-انت هاتدفع تمن القلم ده غالي .و تمنه إنك
مش هاتشوف وشي تاني يا أدهم !!
و استدارت نحو الخزانة مكملة إلقاء كل
أغراضها إليها بعشوائية و هي تغص و تبكي
بحرقة ،بينما تشعر بقبضته القاسية تجتذبها من
رسغها بوحشية ؛
كتمت شهقة ،و نظرت بقوة إلى عينيه
الحادتين ،لم تستطع الكالم بسبب اًلحتقان
الضاغط على حنجرتها ،بينما يقول ببطء و
هدوء أثارا رعبها :
-سالف ..لو مش عايزة وًلدنا يتيتموا إنهاردة.
اتقي شري .أنا كمان بشر .فاهمة !؟
لم تصدق أنه قال ذلك ،لم يجعلها تفكر أساسا
فيه و هو ًل يزال أمامها ،تركها فجأة و خرج
من الغرفة بخطوات واسعة ،سريعة
و تبينت بأنه أغلق عليها الباب من الخارج
بالمفتاح !!!
حقا ...
لقد حبسها للتو !
يتبع ...
انتهى الفصل الحادي والثالثون
32
*****
طوال مدة مكوثه عند أمه ،لم تغفل عن رؤية
بصيص من الغضب بعينيه ،رغم إنه تظاهر
بالعكس ،لكنها لم تنخدع ،و في نفس الوقت
تركته لعله يفصح لها من تلقائه كما يفعل أحيانا
لكنه جلس معها و مع الصغار ،و انشغل قليال
بمجالسة إبنة أخته و التهوين عليها لفراق
أمها ،ثم جاء ليقوم و يصعد إلى شقته،
استوقفته أمه :
-على فين يا ادهم ؟
إلتفت "أدهم" ناحية أمه ،حيث رأها تهدهد
صغيره المفضل إليه "عبد الرحمن" ..عبس
قليال و هو يرد عليها :
-معلش يا أمي أنا عارف إن الوًلد تعبوكي.
استأذنك بس تخليهم معاكي الليلة دي .لو مش
هاتقدري عليهم مع لمى خالص هاخدهم التالتة
...
هزت "أمينة" رأسها و أعربت عن ترحيبها
بطلبه على الفور :
ً-ل يا حبيبي أقدر عليهم كلهم ماتقلقش .لمى
بقت كبيرة و بتسمع كالمي .و الوًلد كمان مش
بيتعبوني خالص .هما أول مرة يباتوا عندي !؟
..و ابتسمت قائلة بلهجة ذات مغزى :
-و بعدين تعبك انت و وًلدك راحة و على قلبي
زي العسل .مش عايزة غير أشوفك متهني كده
على طول .يال اطلع انت لمراتك !
ًلحظ "أدهم" ما ترمي إليه أمه تماما ،لكنه
تركها تظن ما تريد و ابتسم لها بخفة ،ثم
استدار ماشيا للخارج ...
صعد إلى شقته في غضون دقيقة واحدة ،أقفل
الباب ورائه و استنشق نفسا عميقا ،ثم توجه
صوب الرواق المفضي إلى الغرف ،أستل مفتاح
غرفة النوم من جيبه و دسه بالقفل دون تردد
اكتسب وجهه تعبيرا صارما قبل أن يدير
المقبض و يدفع الباب !
لم يضطر للبحث مباشرة ،فقد رآها تجلس
بمنتصف الفراش ضامة ساقيها إلى صدرها ،ما
إن أطل عليها حتى وثبت قائمة ،لكنه تعمد
اإلعراض عنها كليا ،حتى عندما مر من جانبها
ماضيا نحو الخزانة ،فتحها و أخرج منها بعض
الثياب له ،بينما تراقب ما يفعله باستغراب ...
-أدهم .انت بتعمل إيه !؟ ..سألته بصوت مثخن
بآثار البكاء
ما كان ليرد عليها ،لوًل سماع تلك النبرات التي
نفذت إليه بالرغم عنه ،لكنه استعمل لهجته
الجافة و هو يرد دون أن يعيرها نظره أو
اهتمامه :
-الوًلد هايقضوا الليلة دي مع أمي و انا هانام
في أوضتهم .من بكرة هالم كل حاجتي من هنا و
هافصل نفسي عنك !
برزت حدقتاها بشدة و هي تقول بجزع واضح :
-يعني إيه هاتفصل نفسك عني .هاتروح فين يا
أدهم و تسيبني ؟
حانت منه نظرة جانبية إليها و جاوبها بنفس
الجفاف :
-شقتي فيها 3أوض غير مكتبي .الليلة دي
هانام في أوضة الوًلد و من بكرة في أوضة
المكتب لغاية ما أجهز األوضة التالتة و أنقل
فيها .انتي بقى اعتبري األوضة دي هي
مساحتك الخاصة .أوعدك إني مش هقرب من
خصوصياتك بعد إنهاردة و ًل هازعجك !
و أقفل الخزانة موليا إلى خارج الغرفة ،ذهب
رأسا إلى غرفة مكتبه و أشعل الضوء ،فكانت
"سالف" في إثره تماما ،تمشي خلفه و هي ًل
تكف عن الهتاف :
-الكالم ده مش حقيقي طبعا .انت أكيد بتهزر.
مش هاتعمل إللي بتقول عليه ده .رد عليا يا
أدهم !!!
يلقي "أدهم" بكومة ثيابه فوق إحدى
الطاوًلت ،و يفرك ما بين عينيه بارهاق واضح
و هو يقول ببرود :
-من فضلك اطلعي برا .أنا تعبان و عاوز أنام
عندي شغل الصبح بدري !
لم تستجيب لطلبه ،بل و جاءت لتقف أمامه
مخضبة الوجه و قالت بشيء من اًلنفعال :
-مش هاطلع .انت بتعاقبني يعني .مع إنك انت
الغلطان .انت مديت إيدك عليا .القلم إللي نزل
على وشي من إيدك ده أنا عمري ما هنساه .أنا
محدش عملها معايا قبل كده و ًل حتى بابا .جيت
انت إنهاردة و أهنتني بالطريقة دي !!
نظر إليها اآلن شادا على فكيه بشدة ،بذل جهدا
كبيرا ليكظم غيظه نتيجة كالمها المستفز ،من
الذي تلقى اإلهانة ؟
هي أم هو ؟
من الذي أهان اآلخر يا ترى ؟
-خالص ! ..دمدم "أدهم" بحدة سافرة :
-أنا بعتذر لك على اإلهانة .و عشان تضمني
إنها مش هاتحصل تاني .بكرة هانقعد و
هانصفي كل إللي بينا .لو عاوزة تتطلقي
هاطلقك .و ماتقلقيش هاتاخدي كل حقوقك حتى
حقوقك في الوًلد .مش هاظلمك نهائي ...
تجعدت قسماتها بتعابير الصدمة و هي تنظر
إليه غير مصدقة ما قاله ،غمرها خوف عظيم
ألول مرة منذ النهار الذي فارق أبيها فيه
الحياة ،شلت حركتها حتى تتمكن من استيعاب
كلماته عبثا
بينما يضيف "أدهم" ملقيا بنفسه فوق أحد
كراسي المكتب :
-و دلوقتي اتفضلي برا .وخدي الباب في إيدك
لو سمحتي !
كان الموقف جنونيا بالنسبة لها ،لم تقدر على
التحمل من داخلها حتى برزت الدموع بعينيها
...
استدارت نحوه بغتة ،ركعت بجوار الكرسي
الذي يجلس عليه ،حثت على ركبتيها خطوتين
لتقترب منه أكثر ،حضنت ساقه و أراحت رأسها
فوق قدمه تاركة لدموعها العنان و هي تقول
بلهجة كسيرة :
-أنا آسفة .أنا غلطانة .سامحني أنا ماكنتش
أقصد اقولك كده .أنا لو عيشت عمرين فوق
عمري مش هاًلقي راجل زيك ..أدهم .انت
حبيبي !
طال صمته ،بينما تبكي في هدوء ،تلتمس منه
العطف و هو ألول مرة يبخل عليها ،فترفع
وجهها المغطى بالدموع إليه ،لعل قلبه يرق لها
؛
لكنه ًل يحرك ساكنا ،نفس النظرة القاسية من
عينيه الحادتين يسددها إليها ،ثم قال أخيرا
بصوت أجش :
-هاستعمل نفس جملتك ..ابعدي عني يا سالف !
إنقبض قلبها و تضخم حلقها سادا الطريق
لمرور الكلمات ،لكنها كافحت لتقول و هي
تقبض على يده الملقاة في حجره بشدة :
-يبقى انت عمرك ما فهمتني يا أدهم .عمرك ما
فهمت حبيبتك إللي كنت دايما بتهتم بيها و
بتراضيها .إللي كنت ماتسيبهاش تنام زعالنة
مهما حصل ...
و حنت رأسها ثانية لتقبل يده مطوًل ،ثم عاودت
النظر إليه عبر دموعها و هي تضيف بصوت
يمزقه النحيب :
-أنا عمري ما قصدت كده .كل مرة كنت بقولك
أبعد .كانت معناها ماتبعدش .كانت معناها قرب.
و انت كنت بتفهم ده ..ألول مرة ماتفهموش يا
أدهم !!!
في هذه اللحظة لم تؤثر فيه معاناتها ،إذ
تجسدت أمام عينيه المشادة بينهما و ترددت
أذنيه كلماتها المهينة لرجولته ،فمد جزعه
لألمام و التقت يده اليمنى بمؤخرة رأسها ،أخذ
حفنة من شعرها األشقر و شدها برفق حتى برز
وجهها كله أمام عينيه القاسيتين ...
و عندما فتح فمه مرة أخرى لم يشفق عليها و
هو يقول :
-مين قال إني مافهمتش .لكن المرة دي غير يا
سالف .المرة دي انتي قولتيها في وشي .و مش
هاتتمحي من الذاكرة أبدا ..أنا إنهاردة عرفت
إني بالنسبة لك مش الزوج المثالي .عرفت إني
مش مكفيكي .و مش بعرف أسعدك و كمان
خانق عليكي ..بعد كل إللي قولتيه ده .أبقى مش
راجل فعال لو خليتك على ذمتي !
و أفلتها فجأة ،لتسارع قائلة بدفاع :
ً-ل .أنا ماكنتش أقصد كل إللي بتقوله ده .أنا
كنت عصبية بس .و أي كالم قلته ماكنتش
مركزة فيه !!
-بس طلع من جواكي .يعني ماقولتيش غير
الحقيقة !!!
و قام واقفا ،لتقوم بدورها و تحاول القبض على
نظراته ،لكنه ًل يسمح لها ،فتلقي بذراعيها من
حوله مطوقة عنقه بقوة و هي تقول بنبرة
متوسلة :
ً-ل يا أدهم .دي مش الحقيقة .و انت عارف كده
كويس .أنا بحبك .مقدرش ابعد عنك لو بعدت
عنك أموت !!
أغمض عينيه بشدة و فك ذراعيها من حوله
بحزم قائال :
-اطلعي برا يا سالف .أنا مش قابل منك أي
كالم .مش عايز أشوفك أصال قصادي .بكرة
نبقى نتكلم ..اطلعي برا لو سمحتي !
أحست بالهزيمة اآلن ،و كان آخر شيء تريده
أن تتركه ،لكنها أذعنت ألمره و استدارت
خارجة من مكتبه مطأطأة الرأس ،أقفلت بابه
كما أشار إليها ،و فجأة صارت وحيدة تماما ...
وقفت بمنتصف الرواق تنظر في ثالث جهات..
غرفة نومها ،غرفة أطفالها ،غرفة المكتب !
لعلها كانت فكرة خاطئة مكوث الصغار الليلة
عند جدتهم ،فأمهم بحاجة إليهم اآلن ،في غياب
والدهم ،من عساه يخفف عنها وطأة الهجر !؟؟
إنها تخاف ،اآلن ًل تعرف شيئا سوى الخوف..
الخوف ...
*****
يتبع ...
انتهى الفصل الثاني والثالثون..
33
*****
يعلم أنه بالغ في معاقبتها و هجرها ،يدرك تماما
أن قسوته شديدة ألول مرة عليها ،كم يوم و هو
ينأى بنفسه عنها !؟
لقد مر اسبوعا بالفعل ،كل يوم يراها تذبل أكثر
عن اليوم الذي يسبقه ،تمارس يومها بآلية،
بين تلبية احتياجات أطفالها و واجبها تجاهه
الذي حصره بتناول وجبة الغداء فقط معها و
مع أطفاله ،أما وجبة العشاء فكان يتناوله برفقة
أمه ؛
كلما كانت تحاول اًلقتراب منه كان يبتعد فورا
معرضا عنها ،كان يسمعها تبكي من وراء باب
الغرفة كل ليلة ،و لكنه وضع على قلبه حجرا
ثقيال ليمضي في هذا التأديب العسير الذي
يلزمها ،رغم أنه كان على وشك أن يضعف
أمامها مرات كثيرة ،في كل مرة كان يذكر نفسه
بما قالته له من كلمات تجريحية تقلل من قيمته،
يعرف بأنه سوف يصالحها ،و لكن ليس بهذه
السرعة ...
لوًل ما حصل اليوم ،بلغ منها الضعف بسبب قلة
الغذاء مبلغا ،حتى أنها كاد أن يغشى عليها،
راقب هو ذلك بقلب واجف أثناء مروره من أمام
المطبخ ،ظل واقفا هناك يخشى عليها من
السقوط أو أن تؤذى بأي شكل
لم يكف عن المراقبة إًل عندما تركت كل شيء
و ذهبت إلى غرفة النوم لتنال قسطا من الراحة،
بقي في تأهب بالصالة ،عينه على الرواق
ينتظر يقظتها ،حتى قامت بالفعل ملبية نداء أحد
الصغار ،فأمسك "أدهم" بهاتفه و أرسل في
طلب أمه بشكل عاجل
دقائق و كان الجرس يدق ،قام ليفتح و همس
ألمه :
-أمي شوفيها بس من غير ما تقولي إني
ناديتك .و باهلل عليكي خليكي وراها لحد ما
تاكل .أنا ماشوفتهاش كلت أي حاجة إنهاردة !
طمأنته "أمينة" محاكية نبرته الخافتة :
-ماتقلقش يا حبيبي .أنا هاتصرف معاها .بس
بعدين لينا قاعدة أنا و انت و تفهمني إيه إللي
حصل بينكوا بالظبط .ماشي ؟
أومأ له مستعجال :
-حاضر يا أمي حاضر .ادخلي بس األول و
شوفيها !!
ولجت "أمينة" مسرعة تحت إلحاحه ،و هتفت
منادية على ابنة أخيها بلهجة طبيعية ،حضرت
"سالف" في غضون لحظات ،امتثلت أمامها
بهزل ،شاحبة الوجه ،الهاًلت السوداء تحيط
بعينيها ،كان حالها يرثى له ...
-إزيك يا عمتو ! ..دمدمت "سالف" بلهجة
ضبابية
عبست "أمينة" بقلق و هي تقترب منها قائلة :
-إيه ده يا سالف .شكلك عامل كده ليه يابنتي.
انتي ضعفانة كده ليه !؟؟
في هذه اللحظة لمحت "سالف" زوجها و هو
يمر متجها نحو الشرفة و يحمل في يده نفس
الكتاب الذي يقرأ به منذ عدة أيام ؛
ابتسمت "سالف" بسخرية و قالت :
-أنا كويسة يا عمتو .كويسة أوي !
أبت "أمينة" ادعائها :
ً-ل مانتيش كويسة يا سالف .بصي لنفسك في
المرايا .قوليلي يابنتي مالك .أنا كل ما أسأل
أدهم عليكي يقولي فوق .مش بتنزلي و ًل
بتكلميني .انتي تعبانة و اًل في حد مزعلك ؟
ساد الصمت بينهما للحظات ،تحدق "سالف"
بعيني عمتها فقط ،إلى أن برزت الدموع بعينيها
بغتة و قالت بصوت يمزقه النشيج :
-أنا هموت يا عمتو !
جحظت عينا "أمينة" على الفور و نطقت بهلع
:
-إيـه .بتقولي إيــه ؟ هاتموتي إزاي ؟ فيكي إيـه
يا سالف اتكلمي !!!
...................
يتبع ...
انتهى الفصل الثالث والثالثون ..
34
*****
*****
استقبل "مراد" إبنة زوجته أمام البناية ...
نزلت برفقة البواب الذي حمل عنه حقيبة
مالبسها الصغيرة ،ما إن رآها "مراد" حتى
فتح لها ذراعيه ،فاضطرت _ تحت وطأة الخجل
و الخوف من توبيخ أمها إن اشتكى منها _ أن
تقبل عليه و تجعله يحتضنها و يحملها ،بل أنه
أمطرها وابل من القبالت الرقيقة و هو يقول :
-لولي القمر .وحشتيني يا حبيبتي وحشتيني
أوووي !
و فتح للبواب صندوق السيارة ليضع حقيبة
الفتاة ،ثم سحب محفظته و أكرمه ببخشيش
سخي ،أشرق وجه الرجل األشيب و شكره
بحرارة ،ليومئ "مراد" بتواضع و يأخذ
الصغيرة ليجلسها بالمقعد األمامي إلى جانبه
تفاجأت عندما أدار المحرك بكيسا يدفعه إليها،
مليئ بمختلف أنواع الحلوى الفاخرة ،نظرت
إليه من مستواها ،فابتسم بمرح :
-أيوة الكيس ده كله ليكي .طبعا خبيته من
مامتك عشان هي أعيل منك في الحاجات دي و
بتحبها .لو كانت شافته كانت هاتخلصه كله و
أنا جايبه ليكي إنتي يا حبيبتي
عبست "لمى" و هي تسأله بحدة طفولية :
-هي فين مامي ؟
-إيمان في البيت الجديد إللي نقلنا فيه يا لولي.
وصلتها و جيت عشان أخدك و نرجع لها سوا
صمتت للحظات ..ثم قالت و قد فشلت بإخفاء
غضبها كليا :
-و هي ليه ماجتش عند تيتة أمينة ؟ ده بيتنا
أصال !!
تالشت ابتسامة "مراد" و هو يقول ناقال
ناظريه بينها و بين الطريق :
-ماينفعش ترجع عند تيتة يا لمى .الوضع
اتغير!
يا للحماقة ...
كيف ستفهم الفتاة ما يقوله !؟
بالفعل برزت غمازة خدها و هي تعوج فمها
مشيحة بوجهها عنه للجهة األخرى ،صطف
"مراد" السيارة على جانب من الطريق ،ثم
استدار نحوها قائال بلطف :
-أنا و مامتك متجوزين دلوقتي يا لمى .و هي
مش هاينفع ترجع بيت تيتة أمينة تانيً .لزم
تعيش معايا في بيتي .و انتي كمان مكانك جنبنا
يا حبيبتي !
استغرقت لحظات من الصمت ،ثم أدارت وجهها
إليه من جديد ،و قالت و شرارات الغضب تتقافز
من عينيها الجميلتان :
-بس أنا مش عايزة أعيش في بيتك ..أنا مش
بحبك !!
كانت تلك حقيقة يعرفها مؤخرا ،فبدل أن يبدي
ردة فعل سلبية ،تبسم لها و قال بنعومة :
-بس أنا بحبك .اعمل إيه !؟
لم ترد الصغيرة بشيء آخر ،فعبس "مراد"
قليال و سألها مادا يده بحذر ليمسح على شعرها
:
-طيب ممكن أعرف ليه مش بتحبيني يا لمى ؟
مدفوعة بحقدها األعمى ردت على الفور :
-عشان مامي بتحبك أكتر مني !
يهز "مراد" رأسه بالنفي قائال :
-ماحصلش .إيمان بتحبك انتي أكتر حد في
الدنيا .عشان كده أول ما وصلنا إنهاردة قالت
لي روح هات لي لمى بسرعة ..
رمقته بنظرت شك واضحة ،فاستطرد ماضيا في
كذبته ألجل خاطر الصغيرة :
-و كمان أنا سايبها بتجهز لك أوضتك الجديدة.
أنا و هي اختارنا لك كل اللعب إللي بتحبيها .و
أول ما نوصل هاتالقيها محضرة لك السفرة و
التشوكليت كيك إللي بتحبيها .و يا حبيبتي أي
حاجة تانية تشاوري عليها فورا هاتبقى عندك.
انا و مامي رهن اشارتك ..
عبست مالمحها اآلن و لم تعد مشاعرها
واضحة ،فاعتبر ذلك مؤشر جيد ،ما دفعه أن
يدنو مقبال جبهتها بأبوة ،ثم يتراجع محدقا
بسرور إلى محياها الجميل ،و يعقب بابتسامة
حلوة :
-مامتك ماكدبتش لما قالت عليكي شبهي .انتي
من إنهاردة بنتي يا لمى !
انقلب مزاجها لألسوأ اآلن و هي ترد عليه
بعدائية سافرة :
-أنا مش بنتك ..أنا بنت سيف عزام !!!
بهت "مراد" من طريقتها ،أدرك بأن الدرب
إليها سيكون وعر كثيرا ،لن ترق له بسهولة ،و
هو لم يعد يحاول أكثر
تحرك بالسيارة مرة أخرى ،و لم يتكلم معها
لبقية الطريق حتى وصال إلى المجمع السكني
الفخم ،و هدأ"مراد" السرعة أمام فيال معينة،
إنفتحت البوابة التي تعمل إلكترونيا بأمر منه،
فتوغل إلى الداخل و توقف وسط الباحة المظللة
بأغصان الشجر و الورود ،و هناك خرير قريب
لجدول مياه من الخزف و الرخام ...
فتح للصغيرة بابها لتترجل ،ثم أتى بحقيبتها و
أمسك بيدها ليرتقيا الدرج الصغير المفضي إلى
مدخل البيت ،فتح "مراد" الباب بمفتاحه
الخاص و دعاها للدخول أمامه ،و بدأ ينادي ما
إن دخال :
-إيمان ..إحنا جينا ..لمى هنا يا حبيبتي !
و كانت أقرب مما يظن ...
زوجته ..أمها ...كانت تقف هناك أمام الشرفة
المطلة على الحديقة الخلفية
جميلة ،مشرقة في ضوء الشمس المائل نحو
الغروب ،دمعت عيني الصغيرة و هي تنظر إليها
اآلن ،تفتقدها بشدة ،تحتاج لحضنها ...
-مامي ! ..غمغمت "لمى" و رنة البكاء في
صوتها الناعم
ابتسمت لها "إيمان" و لمعة عيناها واضحة،
لمعة ًل تخلو من الشجن و الحزن الدفين ،فتحت
لها ذراعيها و دعتها :
-لمى ..حبيبة أمها .تعالي ...
قفزت الصغيرة في الحال و ركضت بسرعة إلى
أحضان أمها ،ركعت "إيمان" في اللحظة التي
استقرت بها فلذة كبدها بين أحضانها ،كلتاهما
تغمضان أعينهما ،تبكيان في صمت
و تربت األم على شعر إبنتها و تهمس لها
بعبارات الحب و األسف ...
لم يكن هناك ما يدعو للسرور في نظره أكثر من
مشهد كهذا ،و أخيرا فعلها "مراد" ..و جمع
شملهما من جديد !
يتبع ...
انتهى الفصل الرابع والثالثون
35
_ سالف
أبر بوعده لها ،ما أن تعافت قليال بحيث أمكنها
الوقوف على قدميها ،استعادت قسما كبيرا من
عافيتها ،فلم ينتظر زوجها و قام بالحجز بأول
طائرة إلى وجهتهما ،الوجهة التي لم تعرفها إًل
عندما أعلن عنها من خالل المكبرات الصوتية
بالمطار
صعدا على متن الطائرة المتوجهة إلى "جزر
المالديف" وجهة و حلم العشاق ،و قد تفاجأت
لما علمت إلى أين يأخذها ،لم تستطع إًل أن
تتذكر و هي تخبره ذات مرة في ساعة صفو
بأمنيتها أن تزورها برفقته ،و لكنه حينها مانع
بشدة لشهرة ذلك المكان بالعري و الفسوق !
ما الذي غير رأيه اآلن ؟
كيف تقبل هكذا بسهولة ؟
رغم كل ما يحدث جلست "سالف" طوال
الرحلة صامتة ،حتى وجبة الغداء أكلتها على
مضض ألن مدة السفر حتى الوصول طويلة ،و
بعد ثماني ساعات بدون محطة استراحة،
هبطت الطائرة فوق الجزيرة المعبدة بالمياه
الفيروزية ؛ مطار "فيالنا" الدولي المحتشد
بالسياح حتى في فصل الشتاء كما الحال اآلن،
فإن جزر "المالديف" تشتهر باعتدال مناخها
على مدار العام ،و هي خيار العديد ممن يحب
التمتع بآشعة الشمس
تبينت "سالف" منذ لحظة وصولهما بأن
زوجها يسير ممسكا بيدها و كأنها طفلته ،في
نفس الوقت يغض بصره قدر ما استطاع ،حتى
وصال إلى زورق مخصوص كان بانتظارهما،
تحدث "أدهم" مع قائده باإلنجليزية لدقيقة
مبقيا زوجته على مقربة منه ،فرغ معه ثم
ساعدها على الصعود إلى الزورق ،لحقت بهما
أغراضهما ،و انطلقا عبر المياه وصوًل إلى البر
اآلخر حيث أحد الشاليهات النائية المخصوصة،
كان إختيار "أدهم" األكثر أهمية في الرحلة
كلها ،أًل يعرض زوجته لألعين المتلصصة بأي
حال من األحوال ،و قد حرص أيضا أًل تقع
عيناه على أي مظهر من المظاهر المحرمة التي
تغضب هللا ...
-إيه رأيك في المكان يا حبيبتي ؟ ..قالها
"أدهم" و هو يتبع زوجته إلى داخل الشاليه
المفتوح من من كل الجهات
توغلت "سالف" أكثر بالداخل متأملة المساحة
الفسيحة ،اإلنارة الصفراء المشعة بالسقف على
إنحاء متفرقة ،أبرزت جمالية الديكور البسيط،
األثاث الخشبي العاري ،و األرض الرخامية
البراقة ،و الزينة المصنوعة كلها يدويا ،من
حيث كانت واقفة كان بإمكانها رؤية غرفة النوم
هناك في الواجهة ،محجوبة خلف ستار شفاف،
و في المنتصف حجرة معيشة تليها مطبخ
مكشوف ،و قاعة الحمام في الطرف اآلخر تصل
إليها بدرج عريض و ليس بطويل،
استدارت نحوه أخيرا و قد تخلصت من النقاب،
أخذت تعبي الهواء إلى رئتيها المتعبتين
كان يبتسم إليها ببساطة ،بينما ًل تزال تعبس
في وجهه ،نزع قبعة الرأس الصوفية التي
أحاطت برأسه ،ثم أخذ يقترب منها على مهل
مستطردا و هو يخلل أصابعه عبر خصالته
الملساء :
-عجبك ؟ قوليلي لو ناقصك أي حاجة .كل حاجة
ممكن نحتاجها موجودة هنا .و في عشا
مخصوص في المطبخ ...
ًل زالت ًل ترد عليه ،فتنهد بسهد واضح ،وقف
أمامها ًل يفصلهما سوى سنتيمترات قليلة،
أمسك بيديها و اجتذب عينيها إلى عينيه متمتما
بصوت برزت به نبرة توسل :
-سالف .أنا عملت كل ده عشانك .جبتك هنا
عشان أخليكي مبسوطة ..ماتحسسنيش إني
قليل الحيلة أوي كده !
مستها كلماته المستعطفة ،لكن صور األحداث
الماضية ًل تنفك تتراقص أمام عينيها اآلن..
اساءته إليها ،صفعته ،و آخر شيء فقدان
جنينها !!
كان هو المتسبب بذلك ،لقد وعدها مسبقا،
عندما تزوجها بأنها لن تندم على إختياره ،بأنه
سيكون مالذها اآلمن و حاميا لها ،كيف إنقلب
عليها بلحظة !؟
ًل تستطيع أن تغفر له األيام و الليالي التي
هجرها و هو يعلم بأنها تعاني ،فيما مضى لم
يكن يطيق أن يحزنها ،مهما قالت و قامت
باستفزازه ،كان يعرف كيف يحتويها ...
-ردي عليا يا حبيبتي ! ..توسلها مرة أخرى
ًل يذكر بأنه أقل بنفسه في أي وقت أمامها مثل
اآلن ،لكنه كان على استعداد ليفعل أي شيء في
سبيل استعادتها ،كان يعرف بأن هذه الرحلة
هي الفرصة األخيرة لعالقتهماً ،ل يمكن أن
يخسرها ،روحه متعلقة بها ،يعشقها و يخشى
كثيرا أن تكرهه ..أو لعلها كرهته بالفعل ...
أرعبته الفكرة و جعلته يستوضحها و الخوف
باد على مالمحه :
-مش قادر أصدق إنك سالف إللي واقفة
قصادي .و مش عايز أصدق إللي أنا حسه.
انتي ..انتي كرهتيني يا سالف !؟؟
فتحت فاها ألول مرة منذ أقلعا من مطار
"القاهرة "،و قالت و هي تمنع بصعوبة لهجة
الجزع من صوتها :
-أنا مش بكرهك يا أدهم .و ًل عمري أعرف
أكرهك .بس ..إللي عملته فيا مش قادرة أنساه.
انت عيشتني أيام صعبة .سبتني لوحدي .كنت
عارف إللي بمر بيه و بردو فضلت تعاقبني ،أنا
مش ناسية إنك مديت إيدك عليا .مش ناسية
قسوتك إللي أول مرة تكشف لي عنها ..انت
خلتني أحس ألول مرة من يوم ما حبيتك إني
يتيمة و ماليش حد يا أدهم !
تغلغل بداخله شعور بسيط من الراحة ،فقد
أخبرته بأنها ًل تكرهه ،يعني إنها ًل تزال تحبه،
و لكن ما فعله بها يعطل مؤقتا مشاعرها
تجاهه ،إذن فهو منذ اآلن سيأخذ على عاتقه
إعادة خلق هذه المشاعر ،سوف يبذل جهده ...
-أنا عمري ما قصدت أجرحك أبدا يا سالف .و
انتي عارفة .انتي إللي جرحتيني ..كنتي مستنية
مني إيه لما أًلقيكي بتقوليلي طلقني و أتجوز.
انتي جننتيني .أنا سيطرت على نفسي بصعوبة
ساعتها .الصورة إللي رسمتيها في عقلي مش
مقبولة أبدا أبدا !
نظرت له بشك معقبة :
-و لما قلت إنك هاتطلقني بجد !؟
-أنا أطلقك ؟ ..علق باستنكار و هو يضغط على
يديها بقبضتيه إلى حد اإليالم
لكنها تحملت و بقيت مصغية إليه و هو يقول و
عنف مشاعره يكتسح نظراته :
-سالف لو انتي تقدري تبعدي عني أنا مقدرش.
طول ما فيا روح مستحيل أسيبك .انتي نسيتي و
ًل إيه ؟ انتي كنتي حلم بالنسبة ليً .لزم أقولك
تاني .إني كنت بنام و أقوم أدعي ربنا تكوني
ليا .أو يشيلك من قلبي ..انتي الحاجة الوحيدة
إللي فتنتني .الحاجة الوحيدة إللي وقفت عاجز
قدامها .و ما صدقت تكوني ليا .و إنك كمان
بقيتي أم وًلدي ..بعد كل ده متخيلة إني أطلقك ؟
كانت تنظر إلى عينيه بالتناوب ،عابسة ،تائهة
في تفاصيل ما يروي عليها من مشاعر ،يذكرها
بعهد الغرام بينهما ،ذكريات ما قبل الزواج ،كل
شيء جميل مر بينهما في تلك الحقبة ...
-مش بسهولة ممكن أنسى يا أدهم ! ..تمتمت
"سالف" مصرة على موقفها :
-انت كنت معودني على نمط معين في التعامل
بينا .و فجأة حسيت إنك غدرتني ..إديني وقتي
لما أنسى إللي حصل ...
قطب بشدة محتجا على ما تقوله ،لكنه تصرف
بحكمة و هو يقترب منها أكثر حد اللصوق و
يقول :
-وقت إيه يا سالف .مش مستاهلة يا حبيبتي.
انتي بتحبيني و أنا روحي فيكي ..قوليلي أعمل
إيه عشان أعوضك عن إللي حصل .انتي
ماكنتيش عايزة تخلفي تاني !
بمجرد أن ذكر خسارتها العظيمة مجددا ذرفت
عيناها الدموع و هي ترد عليه بقهرة :
-بس حصل .حصل و حملت ..إزاي مفكر إنها
سهلة عليا .أخسر إبني أو بنتي !!
كانت تقمع إحساس الكرب الشديد بصعوبة،
بينما لم يتقبل ما تريد أن تفرض عليه من قيود،
إنه بالفعل يكاد يفقد عقله لطول البعد عنها ،لن
يتحمل المزيد من الجفاء ...
-سالف ! ..غمغم "أدهم" مغمضا عينيه بشدة
يهدئ قدر ما استطاع من لوعة صوته :
-أنا في العادي .مابستحملش تبعدي عني ليلة
واحدة ..ف انتي بتطلبي مني إيه ؟ مش كفاية
الفترة إللي فاتت دي كلها بعاد عن بعض.
أرجوكي ماتعمليش كده !
فتح عينيه ثانية ،ليراها و قد احتقن وجهها
بحمرة الغضب و ًل يدري لماذا أثارته في هذا
الوضع ،حتى هتفت من بين أسنانها و هي
تحاول سحب يديها من قبضته :
-انت مش بتفكر غير في نفسك !!
ازدادت أنفاسه عنفا و هو يقول بخشونة :
-أنا مش بفكر فيكي .بعد كل إللي بعمله عشانك.
عايزاني أعمل إيه تاني عشان أرضيكي !!؟؟
هزت رأسها بعيدا عنه وجهه و صرخت
بعصبية :
-اوعى يا أدهم .أنا غلطانة .ماكنش ًلزم أوافق
أجي معاك هنا .إحنا ًلزم نرجع .مش هقدر
أحقق توقعاتك دي .أنا مش حيطة أنا إنسانة و
بحس ..ابعد عنـي !!!
اضطر إلفالتها حين شعر بمقاومتها الركيكة
تستنزفها مقارنة بقوته هو ،وقف ينظر إليها و
جسده ينتفض غضبا و حاجة إليها ،بينما
شعرت بصدرها يضيق فجأة ،فأخذت تحل أزرار
عباءتها و تتحرر كليا منها ملقية إياها أسفل
قدميها
و لم تعمل مشاهدته لها اآلن بهذا الشكل إًل
على تعذيبه أكثر ،في ثوب خفيف أزرق يتماشى
مع لون عينيها الفيروزيتين ،ها هي المرأة التي
يحب ،زوجته ،أجمل رزق سيق إليه ،ترفض
وصاله بشدة هذه المرة ،لم يكن مجرد تمنع
كدأبها من قبل
إنها حقا ًل تريده !
راقبها و هي توليه ظهرها متجهة صوب النافذة
التي أخذت عرض الجدار كله ،أزاحت الستائر و
وقفت مستندة إلى حافتها ،تستنشق الهواء
مرارا و تكرارا
شهيق ..زفير ..شهيق ..زفير ...
تسيل دموعها اآلن و هي ترنو إلى ضوء القمر
الشاحب بالسماء الصافية ،كل شيء ساكن من
حولها عدا أمواج البحر المتالطمة على الشاطئ
أمامها ،و النسيم العليل الذي يصفع بشرتها
بلطف يسكر
تطورت دموعها لبكاء صامت و هي تلعن في
نفسها ،كل شيء رائع هنا ،لماذا حدث كل هذا
!؟
ابتداء من حادثة أخته المخزية و حتى فقدانها
لجنينها ...
إنها ليست بخير ،لوًل كل هذا ما كانت لتفوت
على كليهما فرصة رائعة كهذه ،كان حلمها أن
تأتي إلى هنا معه ،اآلن هما معا ،اآلن هما هنا،
في الحلم ،و لكنها أتعس من أن تسعد ،أو
تحاول حتى !
-سالف !
ناداها من ورائها بصوت خافت ،لم يحاول
لمسها ،فتنهدت بحرارة و رفعت يدها تكفكف
دموعها ،ثم إلتفتت نحوه ببطء ،فأخذ الهواء
يبعثر خصيالت شعرها الطويلة حول وجهها و
هي تواجهه بكآبة ًل تنقص من جاذبيتها شيء
...
كان يقف على بعد خطوتين منها ،و رأته يزيح
معطفه الرياضي عن كتفيه ليسقط فوق األرض
منضما إلى عباءتها ،رفعت عينيها لتحدق
بوجهه اآلن ،و لكن صدمها ما رأت ،بل هالها و
هزها في الصميم
إنها دموع !
دموعه هو في عينيه ..دموع مختلفة عن تلك
التي ذرفها يوم وفاة جدتهما ...و يوم فقدان
جنينهما ..إنها دموع ..اليأس !!!
إتسعت عيناها و تدلى فكها و هي تعلق عينيها
بعينيه ،تقف بال حراك و قد صار أمامها من
جديد ،ظلت ساكنة بينما يرفع كفه و يحيط
بجانب وجهها ،تلك العبسة الواهنة فوق جبينه
البهي ،مع إلتماع بؤبؤيه العسليان ،كلها في
كفة ،و صوته الذي خرج كسيرا أجشا في كفة
أخرى :
-أعرفي كويس انتي بتدوسي على إيه ..فكري
شوية لقدام ...أنا بحبك ..مش عايز أخسرك ...
ليزيد من صدمتها و هو يركع اآلن على ركبتيه
أمامها ،مطأطأ الرأس ،ممسكا بيديها ،رفعهما
لفمه يقبلهما ،ثم رفع رأسه ببطء ،و احتاج كل
ما لديه من إرادة حتى يقول بصوت غليظ هزته
العاطفة :
-ارحمي عزيز قوم ذل !
كان هذا كل ما تحتاجه لتفيق من غيها حقا ...
لم تتحمل رؤيته هكذا ،أزاحت كآبتها و كل
كبريائها و غرورها جانبا ،و جثت على ركبتيها
أمامه ًلهثة،
-بحبك ..انتي أهم و أغلى الناس في حياتي..
بحبك !
ظل يدغدغ أذنها بهمسات العشق هذه و هو
يمسكها بذراعيه باحكام ،يحتضنها بقوة و كأنه
يخشى أن تطير من بين يديه..
-أنا بحبك أكتر ! ..همست له و هي تلمس
لحيته الكثيفة بأناملها الرقيقة
يتبع ...
انتهى الفصل الخامس والثالثون
36
_ أدهم
-صباح الفل و الورد على عيون حبيبتي !
دغدغ صوته الهادئ اللطيف أذنها فجأة،
فابتسمت برقة و ًل زالت لم تفتح عيناها ،إذن
فهو قد استيقظ قبلها و كان يعلم بأنها مستيقظة
للتو ...
-اصحي بقى يا سالف .أنا فكرت هقعد مستنيكي
طول النهار عشان تصحي .إيه النوم ده كله !؟
تنهدت "سالف" بعمق و هي تتمطى بكسل
فتحت عينيها أخيرا ،فشع بريقهما الفيروزي
يسحره بجمالها الذي اكتمل اآلن
رأته يبتسم لها بعذوبة و كتفيه العريضين
يطالن عليها في هذه اللحظة و يحجبان أشعة
الشمس عنها جزئيا ...
-صباح الخير ! ..تمتمت "سالف" بصوت
ناعس
قال ماسحا بكفه على مقدمة رأسها :
-تحبي تفطري هنا و ًل على البحر ؟
عقدت حاجبيها ترنو إليه مرفرفة ،ثم قالت
بحماسة مبتسمة :
ً-ل ننزل السوق و نبقى نفطر في أي مطعم
يقابلنا .أنا هاتجنن و أشوف األسواق هنا
سمعت إنها روعة .و كمان عشان نشتري هدايا
!
حافظ "أدهم" على تعبيره اللطيف و هو يقول
بصرامة في نفس الوقت :
-سالف .مافيش نزول من هنا لحد ما نرجع
على المطار .أنا وافقت نيجي لما رتبت إننا
هانكون في مكان لوحدنا بعيد عن الناس إللي
هنا تماما .هانقضي اليومين في المكان ده و
هاسيبك تعملي كل إللي نفسك فيه .الشاليه بعيد
و الواجهة الخلفية منها للبحر مافيش حاجة
قصادنا .ف تقدري تلبسي إللي يعجبك و
تخرجي تحت الشمس .براحتك .لكن نزول
أسواق و مطاعم ًل .آسف !!
ران الصمت بينهما و هما يتبادًلن النظرات،
هو يتمسك بكلمته و يخشى أن تغضب منه في
آن ،بينما هي تحاول استيعاب ما يقوله،
فتوصلت بالنهاية إلى تقبل شروطه ،و لم تشأ
أن تسبب له ضغطا أو حزن بعد كل ما فعله
ألجلها ،و سعيه الدؤوب في إسعادها ...
ًلحت على فمها شبح ابتسامة و هي تقول برقة
:
-حاضر .إللي تشوفه يا أدهم !
جاش اإلرتياح من أعماقه اآلن عندما قالت
ذلك ،ابتسم لها من جديد و تمتم و هو يدنو من
شفتيها بحميمية :
-روحي .هللا يقدرني و أسعدك دايما .انتي
الوحيدة إللي على راس أولوياتي .خليكي واثقة
إن مافيش حد أهم منك عندي .انتي قبل حتى
وًلدي !
*****
-اتفضل !
رمقها بخبث مغمغما :
ً-ل .ده ..مش بيتشرب كده !!
لم يفطن أحدهما للطفلة الصغيرة التي على ما
يبدو أنهما قد نسياها مشغولين ببعضهما فقط !!
كانت ترمقهما بغضب شديدة و دموع القهر
ملء عينيها ،هذا زوج أمها الذي تمقته كثيرا،
كيف يستأثر بأمها و هي تسعد معه إلى هذه
الدرجة ،بينما تظهر لها النفور و اإلباء
تلك هي الحقيقة الواضحة للجميع و ليست
لمجرد طفلة
أمها تحبه هو تكرهها هي
تحبه فقط ...
أغار صدر الصغيرة بالحقد ،و لم تستطع أن
تمسك عليها لسانها و هي تنادي فجأة بمزيج
مختزن من الثورة و العصبية :
-مامـي !!!
انتفض كالهما في نفس اللحظة ،انسحب
"مراد" محرجا و تظاهر بالعبث بأدوات
المطبخ ،بينما قفزت "إيمان" من على
المنضدة ،غمرت وجهها حمرة غاضبة ،و
دفعها الخجل للصراخ على الطفلة بعصبية :
-إنتي مين قال لك تخرجي من أوضتك على هنا.
مش أنا إللي بصحيكي .ما تردي يا بنت !!!
عبست "لمى" بشدة قائلة و هي ترمق أمها
بغضب مماثل :
-سمعت صوتك ف صحيت لوحدي !
كانت "إيمان" تستشيط بالفعل ،خاصة و هي
تالحظ محاكاة نظرات طفلتها بنظرات أبيها،
انفعلت عليها و هي تشير لها :
-اتفضلي ارجعي على أوضتك .لما أخلص إللي
في إيدي هانده لك .يـال ...
تحركت الطفلة بنزق مهرولة إلى غرفتها كما
أمرتها أمها ،و "إيمان" التي كانت ترتعش من
شدة التوتر ،لم تستجيب للمسة "مراد" اللطيفة
و هو يأتي من خلفها ليقول بصوت صلب :
-إيه إللي عملتيه ده يا إيمان .البنت ماتستاهلش
منك العصبية دي كلها .هي عملت إيه يعني ؟
احنا إللي غلطانين .هي بقالها يومين و لسا
بننسى إنها معانا في نفس البيتً .لزم ناخد بالنا
من تصرفاتنا !!
سحبت "إيمان" نفسا عميقا لعلها تهدئ
نفسها ..ثم رفعت رأسها و واجهته ...
-أنا خايفة يا مراد ! ..تمتمت بيأس ًل يخلو من
الرعب ،و أردفت :
-مش قادرة أشوفها بنتي في كل األوقات.
ساعات لما ببصلها مش بشوف غير سيف .أنا
خايفة تكرهني بالشكل ده !
تعاطف معها بشدة ،أمسك بكتفيها و جاء أمامها
مباشرة ،نظر داخل عينيها و قال بهدوء :
ً-لزم تتعلميً .لزم تفرقي بينها و بينه .لمى
مش سيف .لمى بنتك .بنتك انتي .سيف خالص
ماعادش له وجود .مش ممكن أذى منه يطولك.
و ًل من غيره أنا مش هاسمح .سمعاني ؟
أومأت له مذعنة ،فابتسم بتكلف و استطرد :
-أوكي .انتي دلوقتي هاتطلعي تصالحي لمى و
تاخدي بخاطرها و تنزلوا عشان نفطر سوا .و
بعدين احنا مش عايزين أي جو مكهرب في
البيت إنهاردة .ماما و بابا و معاهم نازلي هانم
جايين يزورونا ألول مرةً ..لزم نبان في أحسن
صورة قصادهم
ابتسمت له مؤيدة كالمه ،و تحفزت أكثر
لالستعجال من أجل التحضيرات للعزيمة ،ما زال
النهار بطوله أمامها ،و قد ألقى على عاتقها
تحضير سفرة عامرة لتنال اعجاب والدي
زوجها و جدته !
يتبع ...
انتهى الفصل السادس والثالثون
37
_ مراد
_____
يتبع ...
انتهى الفصل السابع والثالثون
38
_ أدهم
استيقظت في الصباح يملؤها النشاط و البهجة،
على عكس زوجها الذي ما زال يغط في نوم
عميق ،يعتمد على األيام القليلة المتبقية من
عطلة شهر العسل ،يحاول اًلستمتاع قدر
استطاعته بكل شيء ،بالراحة و بزوجته و حتى
بـ"لمى" ..الصغيرة التي يعتبرها ابنته من اآلن
فصاعدا ...
-مراد ! ..همست "إيمان"
-حبيبي .اصحى يا مراد .بقينا الظهر ماينفعش
كده !!
أخيرا بدأ يتململ و هو يغمغم بكسل :
-سبيني شوية بس يا إيمان .نص ساعة كمان
إيمان باستنكار :نص ساعة إيه .بقولك بقينا
الظهر .قوم يا مراااد ..
تأفف "مراد" دافنا وجهه في الوسادة :
-خالص قمت .قمت يا إيمان !
أومأت له مبتسمة و هي تقوم من السرير
متئزرة بروبها القصير :
-برافو .شاطر يا حبيبي ..أنا هاروح أصحي
لمى .تكون دخلت انت خلصت الشاور بتاعك
عشان أخد بتاعي و ألحق أعلمكوا فطار .يـالااا
يا مراد !
و سحبت الغطاء من فوقه ،فشتم و هو ينقلب
ليقذفها بالوسادة ،قهقهت ضاحكة و هي تفر
من أمامه ...
توجهت إلى غرفة صغيرتها ،و قد حرصت على
الظهور أمامها بوجه صاف و ابتسامة حلوةً ،ل
تعمد إلى مراضاتها اليوم و بذل بعض الجهد
حتى تنسى اساءتها إليها البارحة ،بعد تشجيع
من زوجها و توجيه ،بدأت تدرك بالفعل قدر
أهمية طفلتها بالنسبة لها ،و إنها الكنز الحقيقي
لرحلة حياتهاً ،ل يمكن أن يعوضها أحد عنها،
صغيرتها ،قطعة منها
أمسكت "إيمان" بمقبض باب الغرفة و أدارته،
ثم ولجت على الفور ،لتتجمد بمكانها و قد
تالشت اًلبتسامة عن وجهها ،ذلك عندما رأت
سرير الفتاة فارغا ،تقدمت للداخل باحثة بعينيها
في كل مكان ،حتى ركعت فوق األرض تفتش
تحت السرير و بداخل البيت العصير الذي
أشتراه "مراد" من أجلها ضمن كومة األلعاب
المختفلة ،لكن ًل شيء !
ًل جود للصغيرة
لقد اختفت ببساطة ...
-مـراااااااااااااااااااااااااااد !!!!
*****
*****
كانت ترتعش ذعرا من رأسها حتى أخمص
قدميها عندما أتى "مراد" خالل لحظات ،بدت
عالئم القلق على وجهه و هو يقترب منها
صائحا :
-في إيه يا إيمان !؟؟
و مد يديه ليساعدها على القيام ،بينما تخبره
بلهجة يهزها الخوف :
-لـ لمى .مش ًلقية لمى .دخلت الوضة
ماًلقتهاش !!!
أخذ يهدئها قائال :
-طيب إهدي .إهدي .دورتي عليها كويس.
شوفتيها في بقية األوض .نزلتي شوفتيها تحت
ممكن تكون نزلت زي ما عملت إمبارح أو
تالقيها هنا و ًل هنا .إهدي بس و ماتخافيش.
هاتروح فين أكيد هنا ..تعالي .تعالي ندور عليها
!
و أمسكها جيدا و سارا معا إلى الخارج ،كالهما
يفتشان الغرف و دورة المياه ،و عندما لم
يجداها ،هبطا لألسفل ،توجهت "إيمان" للبحث
حول البهو و المطبخ ،و ذهب "مراد"باتجاه
الشرفة و غرفة المعيشة ...
جمد بين المكانين و هو يحدق مذهوًل
بالصغيرة ،حيث عثر عليها غافية فوق األرض
الرخامية و قد احتضنت غطاء من الزجاج ،بد
أنه غطاء صحن الفاكهة ،كانت تأسر بداخله
فراشة كبيرةً ،ل يدري كيف حصلت عليها ،و
لكنها حقا كانت آسرة ،هي و فراشتها المرفرفة
...
-إيمان ! ..هتف "مراد" بصوت عال دون أن
يزيح ناظريه عن الصغيرة :
-تعالي ًلقيتها ..
جاءت "إيمان" تهرول ،و كتمت شهقة ملتاعة
ما إن رأتها على هذا الوضع ،ارتمت إلى
جوارها في الحال و حملتها إلى حضنها باكية :
-لمى .يا حبيبتي .ايه إللي نيمك هنا .كده يا لمى.
تخضيني عليكي كده !!
بدأت الصغيرة تنتبه ،أفاقت من غفوتها متطلعة
إلى أمها ،تألأل بؤبيها الرماديين على ضوء
الشمس حيث أزاح "مراد" ستائر الشرفة
ليضيء لهم العتمة ...
-مامي ! ..غمغمت الصغيرة بصوت ناعس
أنهمر شعر "إيمان" حول وجه ابنتها و هي
تقول عاجزة عن التحكم بدموعها الجارية :
-ليه نزلتي من أوضتك يا لمى ؟ ليه نمتي هنا
بالشكل ده !؟؟
و رفعت كفها تجس جبينها لتقيس حرارتها ...
-كويس لما تاخدي برد !!
عبست "لمى" و هي تبرر ببراءة :
-أنا كنت خايفة أنام لوحدي .لما كنا عند تيتة
كنت بنام معاكي و لما مشيتي كنت بنام معاها.
مش بعرف أنام لوحدي .خفت ف نزلت أقعد
شوية هنا لحد ما نور ربنا يطلعً .لقيت الفراشة
دي برا ! ..و أشارت إلى الشرفة القريبة :
-فتحت ًلقيتها قربت عندي و وقفت على كتفي.
ف حطتها هنا ! ..و أشارت اآلن إلى الغطاء
الزجاجي بجوارها :
-و فضلت قاعدة أتفرج عليها .و بس .انتي
جيتي تصحيني دلوقتي !!
أوهت "إيمان" و هي تنظر إليها بأسى ،أنت
تكبح نشيجا و ضمتها إلى صدرها بقوة مغمغمة
:
-أنا آسفة يا لمى .أنا آسفة يا حبيبتي .أنا مش
هاسيبك تنامي لوحدك تاني ..مامي بتوعدك !
-من فضلك يا إيمان اسحبي وعدك ده عشان
لمى مش هتنام غير في حضني أنا من إنهاردة
!
أدارت "لمى" رأسها تنظر نحو "مراد" الذي
انضم لهما جاثيا بالقرب منهما ،كان يبتسم
مقابل تكشيرة الصغيرة ،و مد يده ماسحا على
رأسها بحنان و هو يستطرد :
-دلوقتي نفطر سوا و مامي تجهزك عشان
نخرج في األماكن إللي بتحبيها .و كمان نشتري
لعب كتـيييير و كل إللي انتي عايزاه .انتي
تؤمري و انا أنفذ يا روحي
ابتسمت "إيمان" و هي تلمس كل هذه المحبة
و اًلهتمام من حبيبها إلبنتها هي ،طفلة ليست
ابنتهً ،ل تقرب إليه بصلة ،و لكنه يغدق عليها
من حبه و حنانه كرمى ألمها ...
-يال يا قلب مامي ! ..تمتمت "إيمان" و هي
تنهض حاملة الصغيرة على حضنها :
سوا .و نختار إللي -Pathتعالي نطلع ناخد الـ
هاتلبسيه !
ابتسمت "لمى" ابتسامة لم تصل إلى عينيها ،و
قبل أن تخطو بها "إيمان" خطوة ،دق هاتفها
الملقى هناك فوق إحدى األرائك ،ذهب "مراد"
ليحضره إليها ،و لم يمتنع عن النظر إلى هوية
المتصل ،رفع وجهه نحوها مصرحا باقتضاب
حاد :
-مـايـا !
يتبع ...
انتهى الفصل الثامن والثالثون..
39
40
_ إيمان
*****
*****
*****
الغضب
و الغضب وحده الذي حركه بعد سماع
تصريحات الصغيرة ،ربما حرى به أن يشعر
بالصدمة ،و لكن ما روته عليه كان كارثي،
عقله لم يستوعب هذا الكم من الشر
ًل يتصور أن تستخدم الجدة حفيدتها في عملية
قتل !!!
أو أيا كان ..تلك المجرمة أم المجرمين السفلة
إن كان "أدهم" قد عفى عنها من قبل فهو لن
يعفو ،لن يعفو أبدا ،سيكون لها عقابا من نوع
خاص ،و لن يرحم عجزها ...
قبل أن يرحل أضطر "مراد" لإلتصال بخالته و
إخبارها بإيجاز عما حدث ،طلب منها أن تأتي
لتعتني بـ"لمى" ريثما يقضي حاجة و يعود ،لم
تتسنى له فرصة الشرح أكثر عندما جاءت ،ترك
الكرة بملعبها مشيرا إلى "لمى" لتعرف منها
كل شيء ،طلب منها فقط عنوان السيدة
"راجية ،ثم غادر المشفى متجها إلى هناك و
الشياطين في إثره
للمرة الثالثة لهذه الليلة يرى وجه "مايا"..
اآلن كانت مذعورة حين فتحت له باب الشقة و
رأت اإلجرام التام على سحنته الغاضبة ...
-الست الوالدة فيــن ؟ ..هتف "مراد" بشر
مستطير و هو يزيح "مايا من طريقه بعنف
ليدخل
أطلقت "مايا" آهة متألمة و هي تتبعه للداخل
صائحة :
-انت يا مجنون .حصلت تتهجم علينا في بيتنا.
تعال هنا .لو ماطلعتش برا حاًل هاطلب لك
البوليس !!!
كان يقتحم الغرف بالفعل أثناء سماعه
تهديداتها ،في نفس اللحظة التي عثر فيها على
غرفة "راجية" ..تعلقت أنظاره عليها ،حيث
رآها تجلس في سريرها المحتل صدر الغرفة،
تطالعه بتشف و تحد سافر ،تلك اًلبتسامة
الشيطانية تنبلج على محياها ،تخبره بأنها كانت
تنتظر قدومه بالفعل ...
-أطلبي البوليس يا آنسة مايا ! ..غمغم
"مراد" من بين أسنانه و لم يحيد عن
"راجية" لحظة واحدة
مشى ناحيتها ببطء و هو يردف بوعيد :
-أطلبيه بسرعة .عشان ياخدنا كلنا و هناك
أحرر محضر في والدتك المصونة أتهمها فيه
بقتل إيمان .مراتي .بنت أخوها .و مش كده و
بس .كمان في تهمة استغالل طفلة في جريمة
بشعة زي دي ..أطلبيه يا آنسة مايا !
انتفضت "مايا" مع نطقه بالكلمة األخيرة بكل
هذا العنف ،و ًل تعلم لماذا خرس لسانها ،فقط
بقيت عند أعتاب الغرفة تراقب ما يحدث و
الصدمة تبدو جلية على مالمحها و تصلب
جسدها ،و كأنها لم تعرف بجريرة أمها إًل اآلن،
و كأنها ًل تصدق عودة أمها لتلك الظلمات و
المستنقعات القذرة ...
-إديني سبب واحد يمنعني عن آذيتك .دلوقتي
حاًل ! ..همس "مراد" و هو يحني جزعه
ليكون وجهه بمستوى وجهها
حدقت "راجية" بعينيه الحمراوين و قالت
بشماتة :
-أعمل إللي تعمله .أنا من بعد سيف ابني و
مافيش حاجة تفرق لي .و أكتر حاجة تبسطني
إني أموت و أنا واخدة بتاره .إيمان مش
هاتشوف ساعة واحدة هنا من بعدي أنا و ابني.
و عذابها ابتدا من الليلة دي آلخر يوم في
عمرها ...
كور "مراد" قبضته و رفعها عاجزا عن تفريغ
غضبه على امرأة مسنة مثلها ،كبح نفسه
بصعوبة و هو يشد على فكيه ،هدأ أعصابه
بأعجوبة و تريث لحظات ،ثم قال و شبح
ابتسامة ماكرة تلوح على شفتيه :
-لسا عندك بنت و دكر .صحيح هو فين ..مش
سافر دبي بردو ؟ أنا حبايبي كلهم هناك عنده !
اختفى أي مظهر من مظاهر العبث على وجهها
عندما قال ذلك ،و كأنها لم تفكر جيدا قبل أن
تقدم على ما فعلت ،لم تفكر بابنها و ابنتها
الباقيان ،لم تفكر بأنهما ًل يزاًل على قيد الحياة
...
يشهر "مراد" هاتفه أمام عينيها و هو يهمس
بوحشية :
-أنا أقدر أدمره .أنهيه بمكالمة واحدة ..إيه رأيك
؟
قطبت بشدة و قد نجح بدب الخوف في قلبها،
لترد بفحيح نزق و كأنها األفعى بنفسها تواجهه
:
-أنا مافيش في إيدي حاجة أعملها لك أو أعملها
لها !!
صاح بها بعنف :
-أيا إن كان إللي حصل .قوليلي مين إللي عمله.
لو مش عايزة تتحسري إللي باقي من عمرك
على ابنك و بنتك هاتقوليلي مين إللي عمل كده
في إيمان .مين و أًلقيه فيــن ؟
عادت تكشر عن ابتسامة مستخفة من جديد و
هي تقول :
-هقولك ..بس افتكر .مش هاتقدر تعمل حاجة !
*****
*****
رأسها ثقيال ،بالكاد رفعته من فوق الوسادة،
كانت جزعة و تشعر بالهلع ،آخر ما تتذكره هو
وجه "مراد" المذعور و صراخه بأسمها
أمسكت رأسها بكلتا يداها و هي تباعد بين
جفنيها هاتفة :
-مـرااااد !
و لكن ما من إجابة
فقط الفراغ من حولها ،و ..مهال ...
هذا ليس بيتها
ليس بيت "مراد" ..أين هي ؟
أفزعتها الصدمة اآلن عندما استقرت عيناها
على الجدار المواجه لها ،حيث إطار لصورة
زفاف ،زفافها هي و "سيف" !!!!
إنها شقة الزوجية القديمة إذن ...
كيف أتت إلى هنا !؟؟
-صحي النوم يا كسالنة !
جمدت أطرافها تماما لدى وصول ذلك الصوت
الذي تعرفه جيدا إلى أذنيها ،لم تصدق ،و ًل
تريد أن تصدق ،و لكنها لم تمنع نظراتها من
اإللتفات ناحيته ،و قد كان أفظع شيء حدث لها
على اإلطالق
رؤيته من جديد
"سيف"
بشحمه و لحمه يقف أمامها عند باب غرفة
النوم ،انتابتها حالة من النكران المصدوم عنيفة
جدا و هي تنظر إليه جاحظة العينين ...
-سيف ! ..نطقت بصوت مخنوق
غزت الرعشات جسمها كله و هي بالكاد
تستطيع الوقوف أمامه ،و ًل زالت تنكر بفزع
مطلق :
ً-لً .ل مستحيل ..انت مت .انت مـت !!!
انتفض فك "سيف" و هو يحدق فيها بتلك
النظرة الثاقبة و ابتسامته التي تثير رعبها ،ثم
قال :
-دي أكيد أمنيتك ..مفكرة إن ممكن تخلصي مني
بالسهولة دي ده لسا حسابنا ماخلصش يا
روحي !
يتبع ...
انتهى الفصل اًلربعون
( األخير )
_ مراد
شيء واحد تأكدت منه و كان وقعه عليها مؤلما
مميتا بقدر ما كان كارثيا ،و هو أن كل مما
مضى ،عودة "مراد" ..زواجها من "مالك"..
ثم خطبتها لـ"مراد" بعد طالقها و زواجها منه
مباشرة بعد إنتهاء العدة ..زفاف األحالم ..شهر
العسل ..كل الحب و الغراميات التي تاقت
لعيشها برفقته ...مكانت محض أوهام
حلم و انتهى !!!
كانت ستفقد عقلها فعال لهذه الحقيقة الملموسة،
ها هي تقف أمام زوجها الحقيقي ،تقف أمام
"سيف" الذي حسبته ميتا ،إنه حي يرزق
أمامها ،تعسا لها و لحظها !!!!
-أكيد بتنامي و تقومي تحلمي باليوم ده !
شحب جسمها تماما و هي تسمعه يقول ذلك
بنبرة جمدت الدماء بعروقها ،و تراجعت للخلف
غريزيا حين بدأ باإلقتراب منها كالنمر المفترس
و هو يقول بصوت كالفحيح :
-بتحلمي باليوم إللي تخلصي مني فيه .مش كده
؟ بس أنا مش هاسيبك إًل لما أخلص عليكي
خالص يا إيمان ..عارفة إن البيت فاضي علينا
إنهاردة .و ماًلقتش أحسن من دي فرصة
عشان أوفي بوعدي ليكي .فاكرة لما قلت لك
إنك أرخص حتى من إني أعزم أقل راجل في
شلتي عليكي ؟
في الواقع نعم !
إنها تذكر ذلك جيدا ،لقد قال لها ذلك على سبيل
اإلهانة و المذلة التي يكيلها لها منذ صارت
زوجة له ،و قد كانت تفزع من مجرد التهديد
بهذا و ًل يمكنها أن تستوعب إنه قد يفعل بها
ذلك ...
حملقت فيه و هي ًل تعي نواياه الخبيثة ،و لكن
ترعبها نظراته الشيطانية و تضربها في
الصميم ،بينما يستطرد مبتسما بقذارة :
-أنا فكرت و ًلقيت إنك تستاهلي .بجد .أصلي
مش هاًلقي هدية قيمة زيك أقدمها لرجالة
مهمين في شغلي و حياتي عموما ..انتي
إنهاردة نجمة الحفلة .عاوزك تشرفيني !
عبست بعدم فهم ،فاستدار ليفتح باب الغرفة ،و
ليظهر على الفور مجموعة من الرجال ذوى
أجسام ضخمة ،لم ترى في ضخامتهم طوال
حياتها ،وجوههم مسودة ،تكوينهم الجسماني
عجيب ،مرعب ،الصدمة جعلتها ًل تولي
تركيزها كله في أشكالهم ،بل في الكارثة
الجديدة المحيقة بها ...
-اتفضلوا يا رجالة ! ..هتف "سيف" داعيا
رفقته للدخول
فتوافد داخل الغرفة عدد ثمانية أفراد تقريبا،
بالكاد صحت "إيمان" من صدمتها و تحركت
متقافزة بالمساحة اآلمنة التي تفصلها عن
أولئك الذئاب ،تحاول إيجاد شيء تستر به
نفسها ،جسمها الذي يغطيه قميصها الرقيق،
رأسها العاري
لكن ًل شيءً ،ل شيء إطالقا ،فتلقائيا رسخت
بمكانها و هي تصرخ مستغيثة بزوجها :
-سيــــف .إيه إللي بتعمله ..طلعهم برا .طلعهم
يا سيف !!!
ندت عنه ابتسامة إبليسية و هو يقول بلهجة
متضخمة ًل تشبه البتة صوته المألوف :
-دول مش طالعين من هنا .إًل لما تسلميهم
نفسك .زي ما عملتي قبل ما تتجوزيني مع ابن
خالتك ..هاياخدوكي بالذوق أو حتى بالعافية !
و بهذا المرسوم المفجع الذي تردد صداه في
جنبات الغرفة ،سار إليها الرجال تباعا ،و قد
فشلت بالهرب منهم مع أول خطوة فكرت أن
تتخذها بعيدا عنهم ،دفعها أحدهم صوب الفراش
بعنف أنتزع من صرخة مدوية ،لكن ذلك لم
يردع الذئاب عنها ،تكالبوا عليها جميعهم في
مشهد لحيوانات برية تنقض على غزالة
أمام زوجها تجري عملية اغتصابها ،تتعرى
تماما و تغتصب بالفعل و هي تصرخ و تبكي و
تناديه حتى كادت أحبالها الصوتية تتمزق :
-سيــــــــــــــف ..سيـــــــــــــــــف ...
و لكن عبثا
دون أي جدوى
كان عليها أن تعاني هذه المرة من أبشع واقعة
خشتها على اإلطالق
و ما من منقذ لها ...
*****
*****
المشهد يتبدل من حوله ،لقد كان منذ لحظات
برواق المشفى بعد أن خرج م غرفة زوجته
ليحتسي من تلك القنينة ،بمجرد أن رفعها عن
فمه ،وجد نفسه هنا !
في مكان يعرفه جيدا ،شقة فاخرة ،نوافذها
توضح بأن البناء عبارة عن ناطحة سحاب،
العلو الشاهق ،البخار المائي المحيط بالمساحة
المربعة ..إن لم يكن في مخطئ و هو حتما ًل..
فهو اآلن قد انتقل بطريقة ما إلى شقة الزوجية
التي شاركته العيش بها "هالة البحيري"..
طليقته
إذن ..هل هذا بالفعل أكبر مخاوفه !؟
أن يلتقي بها من جديد !!
-مراد !
و ذاك الذي لم يحسب له حسابا
ًل يمكن أن تكون الدجالة على حق
من أين عرفت ؟ أنى لها أن تعرف أن لقاء كهذا
كفيل بزعزعة تماسكه !؟؟؟
اللعنة !
إنه حتى لم يرها بعد ،إنما فقط سمع صوتها
منبعث من ورائه ،تلك التي كان يعشقها يوما
ما ،الفتاة التي أختارها و تزوجها و خطط
لقضاء حياته معها" ..هالة" ..إنه معه اآلن..
معه ...
-حبيبي ! ..همس حميمي بأنفاس ساخنة
مالصق ألذنه
ليكتشف بأنها صارت تحتضنه من الخلف،
اآلن ،تضمه بذراعيها ،تناجيه بصوتها األنثوي
أرق من النسمات :
-وحشتني أوي .ياااااه .وحشتني يا مراد .أنا
مش مصدقة ..انت رجعت لي تاني يا حبيبي .انا
و انت بقينا مع بعض .مراد ..حبيبي مراد !
صوتها وحده ،يعبث بعقله كمفعول الخمر ينسيه
واقعه و الهدف الذي خاض من أجله تلك
المغامرة الخطيرة ،لوهلة صدق بأنه معها
بالفعل ،و كأن هذا كله ليس وهما ،ارتفعت يداه
ممسكا بذراعيها المحيطان بجزعه ،رفعهما
عنه ليتمكن من اًلستدارة إليها ،و علقت
أنفاسه بصدره لحظة وقع بصره عليها !!!
تبا لهذا
تبا
إنها هي ،يقسم إنها هي ،هي نفسها "هالة" و
كما يحب أن يراها تماما ،جميلة ،فاتنة،
مبتسمة ،تبادله العشق بأشد مم يبادلها و قد
تجلى هذا في نظراتها الوالهة به و هي ترنو
إليه هكذا بطريقة لم يعهدها من قبل ...
-أخيرا رجعت لي يا حبيبي ! ..همست له
"هالة" باغواء دوما ما فلح معه
شملها "مراد" بنظرات مبهورة ،حائرا بين
مشاعره ،قبل عام تقريبا كان يتوق للعودة لها،
كاد يفقد عقله عندما طلقها و صارت محرمة
عليه ،و ها هي اآلن بين يديه ،تبدي له حبها،
فهل يرفض !؟
هذه الزوبعة المتفاقمة بعينيه قرأها الكائن الذي
يواجهه ،لتبزغ ابتسامة ماكرة على شفتي
"هالة" المزعومة ،تقرب وجهها إلى وجهه
متمتمة برقة متناهية :
-أنا مش هاسيبك من إنهاردة .أنا ما صدقت
ترجع لي .هانفضل مع بعض لألبد ..بحبك يا
مراد ...
و شبت قليال لتقبله على فمه ،فمبجرد أن مست
شفاهها شفته السفلى ارتفعت يده و قبض على
عنقها بقوة ،برزت عيني "هالة" بصدمة و
هي تقول بصعوبة لضغطه على أوردتها و
حنجرتها :
-مراد .انت بتعمل إيه .شيل إيدك .انت بتخنقني
!!
اخشوشن صوت "مراد" و هو يرمقها بوحشية
:
-إنتي مش هالة !!!
و فجأة تالشى ذعر األخيرة ..لتحل ذات
اًلبتسامة الشيطانية مكانه و هي تنظر إليه
بخبث اآلن و تقول :
-كان أحسن لك تتعامل معايا عادي .كده بوظت
اللعبة .شوف ممكن تستحمل تقضي معايا أيامك
الجاية إزاي !
ابتسم "مراد" باستخفاف و هو يرد :
-و انت أو انتي مفكرة إني هفضل هنا كتير ؟ أنا
خارج من هنا قريب أوي
خرج الصوت الشبيه بصوت "هالة" عاديا و
كأنه ًل يدعي اإلختناق :
-وريني شطارتك !
استفزه التحدي الذي تلقاه من ذاك أيا من
يكون ،فاحتدمت الدماء بعروقه و هو يستوجبها
بخشونة :
-إيمـان فيـن ؟
واصلت األخيرة مضايقته قائلة :
-فتشني يمكن تالقيها ...
تقلصت عضالت فكه بغضب ثائر ،و مع ذلك
بقي هادئا ،لترفع "هالة" المزعومة يدها
مزيحة قبضته عن عنقها بسهولة و هي تقول
بصوت مغناج :
-انت مش خايف مني .و ده واضح جدا ..مش
مشكلة .إيه رأيك نعمل إتفاق .أنا ممكن أخلي
حياتك معايا هنا جنة .انت مش كان نفسك ترجع
لهالة ؟ هالة أهيه بين إيديك .يال اعترف.
اعترف إنك مانستهاش .و إن أكبر خوف في
حياتك إنها تظهر تاني و انت خالص اتجوزت
إيمان .اعترف إن الفكرة عمرها ما راحت من
بالك .لو هالة ندمت عليك و رجعت .ممكن
تسيب إيمان عشانها ..قول إنك بتحب هالة و
إيمان كانت مجرد وسيلة تنسيك حبك .قـول !!
تغالظت لهجتها بالكلمات األخيرة ،و تسمرت
نظراتها الحمراء على عينيه الرماديتين ،ظل
تعبيره واجما ،لم يرد بشيء ،فطفى ما يشبه
الغيظ على سلوك ذلك الكائن ،لتقول نسخة
"هالة" بانفعال و قد انتفخ شعر رأسها و
حاجبيها مثل قطة في طور الهياج :
-ماتحاولش تقاومنيً .لزم تستسلم .انت مش
هاتالقي إيمان .و مش هاتعرف تخرج من هنـا
!!!
__________
سلسلة العذاب ًل تنتهي
و ًل تعرف كم لبثت من أيام دون ان تعي أو
تكتشف حقيقة المؤامرة ،كل ما تعرفه إنها
مستعبدة ،تصدق ما يحدث لها ،نجحت الخطة و
توهمت بأنها تعيش اإلعتداءات أليام ،كم يوم
مر عليها و زوجها يحضر لها الرجال
ليغتصبوها أمام عينيه ؟
لقد تدمرت حقا
ًل سيما حين صوب نحوها كاميرا ليسجل
لحظات خزيها و هي عارية بين يدي الرجال و
يخبرها :
-كنتي مفكرة إني ممكن أختفي بسهولة من
حياتك .كل إللي بيحصل ده هايوصل إليد أدهم
أخوكي .هايشوفك على حقيقتك .هايشوفك زي
مانا شايفك من أول يوم اتجوزتك ..مومس !
بقليل من الجهد ،كانت لتدرك الخدعة التي
تمارس عليها ،و لكن ما يحدث بدا حقيقيا،
حسيا ،إنها تشعر و كأنه يحدث بالفعل ،و قد
استنزفت كل طاقتها في البكاء و المقاومة ،لم
تصمد ،لم تنجح محاولة واحدة لردع الشر عنها
و ًل تعرف كيف تبدل المشهد من حولها ،من
شدة الكمد لم تهتم بالتغييرات التي طرأت،
وجدت نفسها فجأة بهذا المكان ،مكبلة من يديها
إلى عامود خرساني ،تماثل أمامها كال من
"سيف" و "أدهم"" ...أدهم" !!!!
لقد جاء
لقد أخبره ..ها قد تحقق أبشع كوابيسها...
شقيقها يقف أمامها ..علم بكل بشيء ..يواجهها
و الغضب يعتمل بنظراته و نبرات صوته التي
شابهت صوت أبيها إلى حد كبير :
-انتي تعملي كده .انتي تقعي في الذنب ده .أختي
أنا ..أختي انا تزني .أختي إللي ربيتها .إللي
اتعلمت من أبونا الشيخ صالح عمران و إللي
علمتها بنفسي ..انتي توسخي اسم عيلتنا.
تحطي راسنا كلنا في الوحل .انتي يا إيمـان ؟
تفلت الشهقات من بين شفاهها اآلن و هي
تنطق باكية بضعف كمن يهذي :
-ماكنش قصدي .كل حاجة حصلت غصب عني.
أنا حبيت مراد .و سيف غدر بيا ..أنا خالص
مش عايزة أعيش .مش عايزة .أرجوك ريحني
يا ادهم .ريحني من العذاب .مش قادرة أتحمله.
أرجوك ...
رد عليها أخيها بقساوة اقتنعت باسحقاقها :
-احنا إللي هانرتاح منك .أكيد ..بس مش قبل ما
أبري ذمتي قدام أمك .أمي ًلزم تعرف بنتها
عملت إيه !!
هزت "إيمان" رأسها ترجوه و ترجوه ،تتوسله
:
ً-ل .عشان خاطري .أل يا أدهم
و لكنه ابتسم ببرود غير مباليا ،أشار لها برأسه
لألمام ،فتبعت إشارته ،لترى عبر واجهة
زجاجية ،والدتها تقف أمام رجل ،تجادله و هي
تتساءل بذعر واضح عنهما ":وًلدي فيــــن؟"
راقبت "إيمان" بقلب واجف ما يجري بالخارج
و كأنها تراه عن قرب ،من جميع الجهات ...
______
كانت تستعد ألول ضربة من السوط ،و ًل تعرف
كيف جاء "مراد" ..لم يكن هذا ما تريده
لكنه أتى ،شعرت بذراعيه تحيطان بها ،و
سمعت صوته يخترق أذنيها :
-إيمـــان .فتحي عنيكي .بصيلي .إيمان .ده مش
حقيقي .إللي شوفتيه كله مش حقيقي .إيمــان
...
لكنها لم تنصت له
لم تصدقه
لم تسمع سوى صوت أخيها ،و لم تصدق إًل ما
قاله ،عندما إنبعث صوته من مكان ما ،يخبرها
بأنها خدعة ،كل هذا محض خداع ،أوهام ًل
أساس لها
إنفتح جفناها في هذه اللحظة ،لتصطدم برؤية
"مراد" ..يطل عليها ممسكا وجهها بكلتا يداه،
القلق ملء عينيه ...
-مراد ! ..نطقت بصوت يقطر ألما
طمأنها "مراد" مآزرا :
-ماتخافيش .أنا هنا جنبك .مش هاسيبك أبدا.
بس ساعديني يا إيمان ..سمعتي أدهم .ركزي
في كالمه .أنا مش هاخرج من هنا إًل بيكي !
بدأ العالم المصطنع يتهاوى من حولهما بالفعل،
كلما صدقت ما قاله أخيها ،كلما استمعت أكثر
إلى "مراد" ..أغمضت عينيها مطلقة صرخة
من أعمق أعماقها لكي ًل تترك شيئا بداخلها و
هي تتحرر من كل هواجسها و كوابيسها ...
*****
يصب "أدهم" ما تبقى من كأس المياه في
راحة يده ،لينثرها فوق وجهي "مراد" و
"إيمان" بالتساوي و هو يردد بصوت مسموع
:
-أعوذ باهلل وقدرته من شر ما أجد وأحاذر
أذهب البأس رب الناس ،واشف أنت الشافي ًل
شفاء إًل شفاؤك شفاء ًل يغادر سقما .أعوذ
بكلمات هللا التامة من كل شيطان وهامة وكل
عين ًلمة
أعوذ بكلمات هللا التامات من شر ما خلق
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت
على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ،إنك حميد مجيد،
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما
باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في
العالمين إنك حميد مجيد
بسم هللا الرحمن الرحيم ..لو أنزلنا هذا القرآن
على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية َّللا
وتلك األمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون هو
َّللا الذي ًل إله إًل هو عالم الغيب والشهادة هو
الرحمن الرحيم هو َّللا الذي ًل إله إًل هو الملك
القدوس السالم المؤمن المهيمن العزيز الجبار
المتكبر سبحان َّللا عما يشركون هو َّللا الخالق
البارئ المصور له األسماء الحسنى يسبح له ما
في السماوات واألرض وهو العزيز الحكيم
بسم هللا الرحمن الرحيم ..قل أوحي إلي أنه
استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا
عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا
أحدا*وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة وًل
ولدا
بسم هللا الرحمن الرحيم« ..وننزل من القرآن
ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين وًل يزيد
الظالمين إًل خسارا»
بسم هللا الرحمن الرحيم ..قالوا يا موسى إما أن
تلقي وإما أن نكون أول من ألقى قال بل
ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من
سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة
موسى قلنا ًل تخف إنك أنت األعلى
وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا
كيد ساحر وًل يفلح الساحر حيث أتى ...
لم يتوقف لسانه عن ترديد اآليات ،بل أزداد و
هو يرى بوادر عودة كليهما إلى الوعي ...ثم
جاءت صحوة "مراد" أوًل
إذ انتفض من السرير فاتحا عيناه على
مصراعيهما و هو يسعل بحدة ،قفز من مكانه
تجاه النافذة القريبة ،ليفرغ معدته على الفور
...
إتجه "أدهم" نحو أخته اآلن مناديا إياها بحزم
:
-إيمان .فوقي .إصحي يا إيمان .انت سامعاني..
أنا أدهم .إيمان !!
تمتمت "إيمان" بصعوبة و من تحت وطأة
الغصة شديدة المرارة بحلقها :
-أدهم !
لم تفتح عيناها بعد ،و قد استشف "أدهم"
رغبتها بالتقيؤ هي األخرى ،فحملها على الفور
من السرير إلى المرحاض الملحق بالغرفة ،ما
لبث أن تبعهما "مراد" مرنحا ،في نفس
اللحظة التي ولجت فيها "أمينة" مذهولة و
فرحة في آن
تهاتفت من وراء ظهري "مراد" و "أدهم" :
-إيمان .بنتي ..يا حبيبتي يابنتي .يا حبيبتي ...
*****
*****
-غسيل معوي ! ..قالها الطبيب الشاب مدهوشا
ابتسم له "أدهم" ببساطة و قال :
-المركبات إللي دخلت جسمهم كانت عن طريق
أكل أو شرب .فكرت أعمل محاولة و الحمدهلل
نجحت
آيده الطبيب قائال :
-كنا هانعمل كده بالفعل بس لما يفوقوا .الفكرة
إنهم فقدوا الوعي بطريقة غريبة .لو استنيت
شوية كنا عملنا غسيل المعدة على أي حال
عشان نلحقهم بس .كويس إنها ماطلعتش حالة
تسمم
انضم طبيب ثالث لهما مضيفا :
-خبرة الدكتور أدهم جديرة باإلشادة .احنا نضم
المستشفى بتاعتنا على بتاعته و نستفيد أكتر
منه .ماينفعش كده
مازحه "أدهم" بلطف :
-زي ما انتوا .أنا ممكن أحط نفسي تحت الطلب.
بدوام جزئي يومين في األسبوع !
تضاحكوا بمرح أمام الغرفة الخاصة لشقيقته ...
أما بالداخل فقد بقي "مراد" برفقتها ،لم يتركها
طرفة عين ،بينما ذهبت "أمينة" لتحضر
"لمى" من المنزل و بعض المالبس من أجل
ابنتها
تنعمت "إيمان" بأحضان زوجها الدافئة،
خائفة ،تائهة ،ضربات قلبه المنتظمة تعيد إلى
نفسها األمان ،يميل "مراد" برأسه على جبينها
مغمغما :
-مش عايزة تقوليلي حاجة ؟
طال انتظاره لثوان ،ثم جاوبته بصوت مهزوز :
-مش فاكرة حاجة .كل إللي جاي في بالي
سيف ..صور من كوابيس قديمة كنت بشوفها.
بس مش فاكرة أي حاجة .آخر حاجة فكراها أنا
و انت كنت في البيت .كنت بتديني الدوا .و
بعدها صحيت هنا !
و صمتت لبرهة ،لتسأله :
-و انت ؟
ندت عنه تنهيدة عميقة و هو يرد عليها برفق :
-أنا كمان مش فاكر أي حاجة .كأني نمت عادي
و شفت لمحات من أحالم أو مواقف قديمة..
مافيش حاجة محددة !
رفعت "إيمان" وجهها لتنظر إليه في عينيه
مباشرة ،و استوضحته بفضول :
-قولي ليه عملت كده !؟
-إيه إللي عملته ؟
-ليه خاطرت بحياتك .شربت من إللي اتحطلي
في العصير .إللي بنتي حطته ليا !
مراد بجدية :إيمان .احنا اتفقنا .لمى مالهاش
ذنب .هي اتصرفت غريزيا .كانت حاسة إنها
خسرتك و عايزاكي ليها لوحدها .و هي اعترفت
لي إني أنا إللي كنت مقصود مش انتي
-بردو ماتتوهش الموضوع .قولي ليه عملت
كده !؟؟
احتفظ بالرد لدقيقة ..ثم قال صراحة :
-أنا مافكرتش لما خدته من الست الدجالة دي.
افتكرت إنهم سمموكي .فكرة إني خسرتك لألبد
مقدرتش أقبلها .قلت مش هاسيبك لوحدك .إللي
يسير عليكي ًلزم يسير عليا ..أنا عمري ما
اتحطيت في اختيار .بس إنهاردة حاسس إني
اتخيرت ما بينك و بين هالة .جت في بالي
دلوقتي حاًل .لو وقفت جمبك دلوقتي منغير قيود
تمنعني عنها .هاسيبها هي وهاختارك انتي .انا
أصال اخترتك يا إيمان .اخترتك !
و فجأة رآى البريق العسلي لعيني المها
خاصتها ،امتألت عيناها بدموع السعادة ،و
ارتفعت أناملها مالمسة وجهه و هي تقول
بصوت مثقل بالعاطفة :
-و أنا ماحبتش غيرك .و ًل عمري اتخيلت
حياتي غير معاك ..انت حياتي يا مراد ...
كانت تلوح قبلة في األفق خاتمة حديثهما
الحميمي ،لوًل ظهور "أدهم" عند مدخل الغرفة
متنحنحا :
-مش قادر أصدق إني بتعامل مع اتنين
متهورين و مضطر أستحملهم زي أخواتي طول
عمري !
نظرا كال من "أدهم" و "إيمان" إليه ،ابتسما
له و قال "مراد" :
-قدرك إننا اخواتك فعال .لكن انت مش مضطر
تستحمل تهورنا .أنا شخصيا هاعفيك من ده
قريب جدا
عبس "أدهم" متسائال :
-اشرح من فضلك !
نظر "مراد" إلى وجه زوجته ذي التعبير
المستغرب و أجاب :
-أنا قررت أخد إيمان و لمى و أرجع بيهم على
لندن .هانعمل فريش ستارت كلنا ..إيه رأيك يا
إيمي ؟
رفرفت "إيمان" بأهدابها قائلة :
-مش عارفة .أنا عمري ما فكرت إني أسيب هنا
و أسافر !
-مش هاتكوني لوحدك .أنا و لمى معاكي .و
ماما و بابا و تيتة نازلي ..هناك هانبدأ من
جديد .هانأسس حياتنا و عيلتنا الكبيرة .و أكيد
هانزور هنا كل فترة .صدقيني التغيير ده
هاينفعك .هاينفع لمى كمان .هانبعد عن أي
حاجة ممكن تضايقنا
صمتت "إيمان" بتفكير ،ليقطع "أدهم" حبل
أفكارها قائال :
-أنا شايف إن مراد عنده حق .سفرك هو الحل
الوحيد لمشاكلك كلها يا إيمان ..بيقولوا اإلنسان
مش ممكن يبقى كويس في المكان إللي تعب
فيه .انتي قدامك فرصة تغيري حياتك .أنا بشجع
قرار مراد !
ابتسمت "إيمان" دون أن تعطي موافقة نهائية
...
و في هذه اللحظة انضمت طفلتها برفقة
"أمينة" إليهم ،و ركضت "لمى" رأسا إلى
أحضان أمها باكية :
-مامـي !
حملها "مراد" من ذراعها ليجلسها على حضن
"إيمان" ..تقبلتها دون أي تعنت أو غضب
بل ضمتها "إيمان" بحنان و أخذت تمسح على
شعرها ،لتجهش الصغيرة بالبكاء أكثر مغمغمة
في صدر أمها :
-مامي .أنا آسفة .أنا ماكنش قصدي .تيتة راجية
...
-خالص يا لمى ! ..قاطعتها "إيمان" بحزم
لطيف
شددت ذراعيها من حولها مضيفة برفق :
-أنا عارفة كل حاجة .و مش زعالنة منك ..مش
زعالنة يا حبيبتي
ابتعدت "لمى" قليال لتنظر في وجه والدتها
قائلة و دموعها تجري فوق خديها :
-أنا مش هعمل كده تاني .و هاسمع كالمك انتي
و بابي مراد ..أنا بحبك يا مامي
أحاطت "إيمان" وجهها بكفيها متمتمة بحب
جارف :
-و أنا بحبك يا روح أمك .بحبك أوي !
و عادت لتضمها مرة أخرى أمام نظرات
السعادة المحيطة بهما من العائلة
أخيرا ..اكتملت العائلة !
الخـاتمة