Professional Documents
Culture Documents
97رسالة_في_شرح_قاعدة_الأمر_المطلق_عن_القرينة
97رسالة_في_شرح_قاعدة_الأمر_المطلق_عن_القرينة
1
واملرجو منك تكراره عدة مرات حىت حتفظه حفظا ال نسيان بعده إن شاء هللا تعاىل ،تقول القاعدة
-:
{ األمر املطلق عن القرينة يفيد الوجوب ،وابلقرينة يفيد ما تفيده القرينة }
قوله ( األمر ) عرف العلماء األمر لغة أبنه احلال أو الشأن ،ومنه قوله تعاىل عن فرعون َ وَما أ َْمُر
فِْر َع ْو َن بَِرِشيد ويطلق ويراد به الطلب ،وهو املراد هنا ،فاألمر يف اللغة هو الطلب ،وأما يف
االصطالح فقد اختلفت عبارات أهل العلم رمحهم هللا تعاىل فيه ،واألقرب إىل الفهم والصواب إن
شاء هللا تعاىل أن يقال -:طلب الفعل ممن هو دونه ،فقوهلم ( طلب الفعل ) أخرج النهي ،ألن
النهي طلب الكف عن الفعل ،وقوهلم ( ممن هو دونه ،أخرج أمرين -:األول -:أخرج الدعاء
والطلب والسؤال ،ألهنا طلب الفعل ممن هو أعلى ،كقول العبد لربه (رب اغفر يل) فهنا فيه طلب
للفعل ،وهو املغفرة ،ولكن هل يقال هنا إن العبد أمر هللا تعاىل أبن يغفر له ؟ واجلواب -:ابلطبع
ال ،بل يقال -:دعا العبد ربه وطلب منه وسأله املغفرة فاألمر هنا صدر من األدىن -وهو العبد
-إىل األعلى -وهو هللا تعاىل -فهنا ال يقال فيه (أمر) بل يقال فيه (سأل) أو (دعا) أو (طلب)
فاألمر من األدىن إىل األعلى يسمى طلب ودعاء وسؤال والثاين -:خيرج طلب الفعل من اآلمر
ملن يساويه يف الرتبة ،كقول األخ ألخيه من أمه وأبيه مثال ( أعطين هذا الشيء ) أو قول الطالب
لطالب له جم اور له ( أعطين قلما ) وحنو هذا فهذا ال يقال له ( أمر ) بل هذا يسميه أهل العلم (
التماسا ) يعين أن ك تلتمس منه أن ينفذ لك ما طلبت منه ،فصار األمر من حيث صدوره ال خيلو
-:إم ا أن يصدر من األدىن إىل األعلى وهذا ال يدخل معنا يف تعريف األمر ،وإما أن يصدر
منك إىل من يساويك يف الرتبة ،وهذا ال يدخل معنا يف تعريف األمر ،وإما أن يصدر منك إىل
من هو أدىن منك يف الرتب ة ،فهذا هو الذي يدخل معنا يف تعريف األمر ،وهو الذي نعنيه بقولنا (
ممن هو دونه ) فهو قيد مهم يف التعريف أخرج صدور األمر من األدىن إىل األعلى ،ومن اإلنسان
ملن يساويه ،فانتبه هلذا ونضرب لك أمثلة حىت يتضح لك املراد أكثر ،األول -:قول العبد لربه (
رب ارمحين ) هل هذا أمر ؟ واجلواب -:ال ،فإن قلت -:وملاذا ؟ فتقول -:ألن الطلب هنا
صدر من األدىن إىل األعلى فأقول لك -:أحسنت ،الثاين -:لو قال الصاحب لصاحبه ممن
يساويه يف الرتبة (بعين سيارتك) فهل هذا أمر ؟ واجلواب -:ال ،فإن قلت -:وملاذا ؟ فتقول -:
أل ن األمر هنا صدر منك إىل من يساويك يف الرتبة ،فأقول لك -:أحسنت ،الثالث -:يف قوله
2
الصالََة َوآتُواْ َّ
الزَكا َة هل هذا أمر ؟ واجلواب -:نعم ،فإن قلت لك -:وملاذا يمواْ َِّ
هللا تعاىل َ وأَق ُ
؟ فتقول -:ألن األمر هنا صدر من األعلى -وهو هللا تعاىل -إىل األدىن -وهو العبد -فأقول
لك -:أحسنت ،فهذا ابلنسبة إىل تعريف األمر على القول الراجح ،قوله ( املطلق ) أي املنفك
،ألن املطلق يف اللغة هو املنفك عن القيود حسية كانت أو معنوية ،قوله ( عن القرينة ) املراد هبا
العالمة الظاهرة الدالة على الشيء ،وهي األمر املقارن ألمر آخر ،واملراد هبا هنا ما يصرف األمر
عن اببه الذي هو الوجوب إىل أمر آخر ،وقد تكون دليال من القرآن أو صحيح السنة أو إمجاعا
أو فهما عن سلف األمة وأئمتها ،وال بد أن تكون هذه القرينة الصارفة لألمر عن اببه إىل ابب
آخر ال بد وأن تكون قرينة مقبولة ،وأما القرائن اليت ال وجه العتبارها يف الشرع فإهنا ال تقبل يف
صرف األمر من اببه إىل ابب آخر ،كما سيأيت توضيحه وبيانه إن شاء هللا تعاىل ،قوله ( يفيد
الوجوب ) أي يفيد حتتم الفعل ولزومه ،حبيث ال جتوز خمالفته ،وقد عرف أهل العلم رمحهم هللا
وهبَا تعاىل الوجوب يف اللغة أبنه اللزوم والسقوط ،فمن السقوط قول هللا تعاىل فَِإ َذا َو َجَب ْ
ت ُجنُ ُ
أي سقطت الزمة األرض ،ومن اللزوم قول النيب صلى هللا عليه وسلم " غسل يوم اجلمعة واجب
على كل حمتلم " أي اثبت الزم متأكد ،وأما يف االصطالح فقد عرفه أهل العلم رمحهم هللا تعاىل
أبنه طلب الفعل على جهة اإللزام ،فقوهلم ( طلب الفعل ) خيرج التحرمي والكراهة ،ألهنا طلب
للرتك ال للفعل ،وقوهلم ( على جهة اللزوم ) خيرج الندب ألنه وإن كان طلبا للفعل ،إال أنه على
غري وجه اإللزام ،قوله ( وابلقرينة ) أي وإن ورد لفظ األمر مصحواب ابلقرينة الصارفة ،قوله ( يفيد
ما تفيده القرينة ) أي ننظر إىل هذه القرينة الصارفة وما تدل عليه فنقول -:إن صيغة األمر هنا ال
يراد هبا األمر بل يراد هبا كذا وكذا مما تفيده هذه القرينة الصارفة ،كما سيأيت بيانه إن شاء هللا تعاىل
،وهللا أعلم .
( فصل )
إذا علمت هذا فاع لم ابرك هللا تعاىل فيك أنه إن ورد لفظ األمر يف الكتاب والسنة الصحيحة فإن
األصل أنك أوال حتمله على أنه يفيد الوجوب ،وال تنتقل من الوجوب إىل أمر آخر إال إن دلت
القرينة الصارفة على أمر آخر ،وهذا يف كل ألفاظ األمر الواردة يف الكتاب والسنة ،فأول ما جيب
أن يت طرق يف فهمك من املعاين هو أن هذه اللفظة تفيد الوجوب ،فامحله مباشرة على الوجوب ،
إال ابلقرينة الصارفة ،فإن دلت القرينة على شيء فاعمل به ،وإال فاعلم أن األصل فيها الوجوب ،
3
واملتقرر أن األصل هو البقاء على األصل حىت يرد الناقل ،ومن قال لك غري ذلك فاعلم أنه إمنا
يريد أن ينقلك عن األصل املتقرر إىل أمر آخر ،وانتقاله هذا ال يقبل إال إن جاء ابلدليل الدال
على صحته ،فإن جاء به صحيحا قبلناه وعلى العني والرأس ،وإن مل أيت به فنحن نعتذر عن
قبول كالمه وانتقاله هذا الذي يدعوان إليه ،ألن املتقرر أن الدليل يطلب من الناقل عن األصل ال
من الثابت عليه ،فكل أوامر الشرع تفيد الوجوب ،كما وردت به األدلة الواردة اليت سرتاها إن
شاء هللا تعاىل ،إال تلك األوامر اليت وردت هلا القرائن الصارفة ،فإنه تفيد ما أفادته تلك القرينة ،
ويبقى ما عداها من األوامر ال تفيد إال الوجوب ،فاحفظ هذا فإنه من أفيد ما حيصله الطالب يف
مسريته العلمية التقعيدية ،وهللا أعلم .
( فصل )
فإن قلت -:وما األلفاظ اليت تفيد األمر ،حىت إذا مرت علينا يف الكتاب والسنة نعرف إهنا من
ألفاظ األمر فنطبق عليها تلك القاعدة ،فأقول -:نعم ،وعلى العني والرأس ،وهذا الفصل مهم
جدا ،ألن فهم هذه القاعدة مبين على معرفة ألفاظ األمر ،وقد قرر أهل العلم رمحهم هللا تعاىل أن
ألفاظ األمر كثرية ،وهي كما يلي -:
األول -:فعل األمر وما تصرف منه ،واملراد بفعل األمر أي ( افعل ) واملراد بقولنا ( وما تصرف
منه ) أي ما يكون منه على املثىن واجلمع والتذكري والتأنيث ،كقولك للمؤنثة الواحدة (افعلي)
وللجمع ( افعلن ) وجلمع الذكور ( افعلوا ) وللمثىن ( افعال ) وهكذا ،وهي أم الصيغ يف هذا
س وقوله َّم ِ الباب ،وأكثرها ورودا يف الكتاب والسنة ،ومنه قوله تعاىل أَقِِم َّ ِ ِ
الصالََة ل ُدلُوك الش ْ
ني وقوله تعاىل فَا ْذ َهبَا ِِب َايتِنَا إِ َّان َم َع ُكم ُّم ْستَ ِم ُعو َن وقوله تعاىل َ وُههِزي تعاىل وقُ ِ ِ ِِ
ومواْ هلِل قَانت َ
َ ُ
ك ُرطَبًا َجنِيًّا وقوله تعاىل فَ ُكلِي َوا ْشَرِِب َوقَهِري َعْي نًا وحنو ذلك َّخلَ ِة تُساقِ ْط َعلَي ِ
ْ
ِ ِ ِِ
إلَْيك ِب ْذ ِع الن ْ َ
.
الثانية -:اسم فعل األمر ،وهو ما كان متضمنا فعل األمر ،ولكن ال يدل على فعل األمر بلفظه
بل مبعناه ،كقول املؤذن ( حي على الصالة ،حي على الفالح ) فإن قوله ( حي ) ليست فعل
أمر ،بل هي اسم يتضمن فعل األمر ،ألنه معناه ( هلموا وتعالوا وأقبلوا ) وكقول النيب صلى هللا
عليه وسلم لعائشة رضي هللا تعاىل عنها " مه اي عائشة ،عليكم من األعمال مبا تطيقون ...
احلديث " وهو يف الصحيح ،فقوله ( مه ) أي اسكيت وغريي هذا الكالم ،فهي ليست فعل أمر ،
4
ولكنه تضمنت فعل األمر ،فسموه ( اسم فعل األمر ) وكقولك ملن أكثر الكالم أو تكلم فيما ال
يعنيه ( صه ) ومعناه ( اسكت ) ولكنك مل تعب عنه بفعل األمر ( اسكت ) ولكن عبت عنه
ابسم فعل األمر ،أي يتضمن فعل األمر ،وهو قليل يف األدلة ،وهللا أعلم .
الثالث -:املصدر النائب عن فعل األمر ،وذلك أن العرب تعب عن الفعل ابملاضي أحياان
وابملضارع أحياان وابألمر أحياان وابملصدر أحياان ،فتقول -:ضرب ،يضرب ،ضراب ،اضرب
وتقول -:دخل ،يدخل ،ادخل ،دخوال ،والصيغة هنا ليس فعل األمر ،ولكنها املصدر النائب
الرقَ ِ ِ ِ
اب ...اآلية فقوله "فضرب" ب هِ عن فعل األمر ،كما قال تعاىل فَِإذا لَقيتُ ُم الَّذي َن َك َفُروا فَ َ
ض ْر َ
هذا مصدر ،ولكنه يتضمن فعل األمر ،والتعبري به أبلغ من التعبري بفعل األمر املباشر أي إن
لقيتم الكفار يف احلرب فاضربوا رقاهبم ،لكنه مل يعب عن األمر بفعل األمر ،وإمنا عب عنه ابملصدر
الذي انب مناب فعل األمر ،وهذه الصيغة كذلك قليل ورودها يف األدلة مقارنة ابلصيغ األخرى .
الرابعة -:الفعل املضارع املقرون بالم األمر ،فاألصل أن الفعل املضارع إمنا يفيد احلالية واالستقبال
،ولكنه إن سبق بالم األمر فإنه يفيد األمر مباشرة ،وهي كثرية يف األدلة ،ومنه قوله تعاىل َ وَمن
وف فقوله " فليستعفف" وقوله " فليأكل " َكا َن َغنِيًّا فَ ْليست ع ِفف ومن َكا َن فَِقريا فَ ْليأْ ُكل ِابْلمعر ِ
ً َ ْ َ ُْ َ َْ ْ ْ َ َ
ِ
الِلُ فقوله " هو فعل مضارع مقرون بالم األمر ،فيفيد األمر ،ومنه قوله تعاىل فَ ْليُ ِنف ْق ممَّا َ
آَت ُه َّ
ب ِ
فلينفق " فعل مضارع دخلت عليه الم األمر ،فيفيد األمر ،وقوله تعاىل َ ولْيَ ْكتُب بَّْي نَ ُك ْم َكات ٌ
ِابلْ َع ْد ِل فقوله " فليكتب " فعل مضارع دخلت عليه الم األمر ،فأفاد األمر بعد دخوهلا عليه ،
واألمثلة على هذا كثرية ،وابجلملة فأكثر الصيغ ورودا يف األدلة هي األوىل والرابعة ،وأما الثانية
والثالثة فإن ورودها يف األ دلة قليل ،واخلالصة أنه إن وردت عليك لفظة من هذه األلفاظ فاعلم أن
الشارع يريد هبا األمر ،فامحل هذه الصيغة مباشرة على الوجوب حىت ترد القرينة الصارفة عن
الوجوب إىل أمر آخر ،وهللا أعلم .
( فصل )
واعلم رمحك هللا تعاىل وأجزل هللا تعاىل لك األجر واملثوبة ووفقنا وإايك للحق استماعا وقبوال أن
هذه الصيغ إن أطلقت عن القرينة فإهنا تفيد الوجوب ولو كانت خمالفة ملذهب اجلمهور ،فلو أن
اجلمهور رمحهم هللا تعاىل قالوا يف صيغة من الصيغ أبهنا تفيد الندب مثال ،وال صارف هلا عن ابهبا
األصلي الذي هو الوجوب فاعلم أن الراجح مع من قال أبنه للوجوب ولو كان خبالف ما قاله
5
اجلمهور ،مع أننا وهللا ن عظم قول اجلمهور وله يف قلبنا مكانة عالية رفيعة ،ولكن كل يؤخذ من
قوله ويرتك إال املعصوم صلى هللا عليه وسلم ،وهذا سرتاه كثريا يف التفريع ،فاجلمهور يف مواضع كثرية
يقولون -:إن هذه الصيغة تفيد الندب ،مث ن بحث عن الصارف هلا عن ابهبا األصلي الذي هو
الوجوب ،وال جن د ،فنخالفهم إىل القول أبهنا على ابهبا األصل ،أي أهنا تفيد الوجوب ،فيعارضنا
غريان أبن قولكم هذا خيالف قول اجلمهور ،فاعلم أننا ال أنبه بقول هذا القائل ،ألن األصل معنا ،
وقول اجلمهور ليس فصال يف حمل النزاع ،وليس هو من األقوال املعصومة اليت ال بد من األخذ هبا
،فنحن أصلنا أصال وقعدان قاعدة ،واألدلة قد دلت على صدقها وصحتها ،فنحن ندور مع هذه
القاعدة حيث دارت ،فما ورد له الصارف فنحن نقول -:إنه يفيد ما تفيده تلك القرينة ،وما مل
أيت فيه قرينة صارفة فاألصل عندان فيه أنه يفيد الوجوب ،وال نعتمد أن من الصوارف عن
الوجوب إىل الندب قول اجلمهور ،فقول اجلمهور يستدل له ،ال به ،كما هو مقرر يف موضع
آخر ،واملهم أن تعلم ابرك هللا تعاىل فيك أنه ليس من الصوارف املعتمدة قول اجلمهور .واعلم
كذلك أن صيغة األمر تفيد الوجوب إن أطلقت حىت وإن كانت يف ابب اآلداب والفضائل ،فليس
من الصوارف هلا ورودها يف ابب اآلداب والفضائل ،بل هي تفيد الوجوب مطلقا إن مل أتت هلا
قرينة صارفة ،وليس كوهنا وردت إبثبات فضيلة من الفضائل أو أداب من اآلداب يوجب ذلك
صرفها عن ابهبا األصلي إىل ابب الندب ،ال ،وهذا جنزم به إن شاء هللا تعاىل ولنا يف ذلك عدة
أدلة -:
األول -:إطالق األدلة اليت سنذكرها لك إن شاء هللا تعاىل يف سياق التدليل على صحة قاعدتنا
فإهنا أدلة وردت عامة ومطلقة ،ومل تفصل بني ابب وابب ،واألصل املتقرر هو وجب بقاء العموم
على عمومه وال خيصص إال بدليل ،واألصل املتقرر هو وجوب بقاء املطلق على إطالقه وال يقيد
إال بدليل ،فاألدلة الدالة على أن األمر املطلق يفيد الوجوب وردت عامة ومطلقة فاألصل هو
البقاء على األصل فيها حىت يرد املخصص واملقيد .
الثاين -:أن التفريق بني ابب العبادات وابب اآلداب ليس له قانون مستقيم وال ضابط ال ينخرم
فإننا لو فتحنا هذا الباب ملا كان له شيء يضبطه إال ابالجتهادات ،وأما شيء يف األدلة يضبط لنا
الفرق بني البابني فإنه ال وجود له فيما أظن وهللا أعلم ،وحيث إن الشريعة مل تفرق بينهما ابلفرق
الذي ال ينخرم فإنه يعسر جدا علينا أن نقول -:هذا من ابب اآلداب فاألمر فيه يفيد الندب
6
واالستحباب ،وهذا من ابب العبادات فاألمر فيه يفيد الوجوب والتحتم ،ووهللا إنين اطلعت على
كالم املفرقني بني ابب العبادات وابب اآلدا ب فلم أجد بينهم اتفاقا على شيء ،ومل أجد ما ترَتح
له النفس يف التفريق بني البابني ،فاألصل املتقرر عندان أن التفريق الذي يؤثر يف احلكم الشرعي ال
بد وأن يكون مستقى من الشرع ،والتقسيم الشرعي ال بد فيه من دليل ،ألنه حكم شرعي ويرتتب
عليه حكم شرعي ،فال بد فيه من الدليل الشرعي الذي يثبت صحته ،ألن املتقرر أن األحكام
الشرعية تفتقر يف ثبوهتا لألدلة الصحيحة الصرحية ،ومن املعلوم أن من مقاصد الشارع سد أبواب
االختالف يف الدين ،والتفريق بني هذين البابني حيث مل يرد يف األدلة ورد إىل االجتهادات والعقول
والنظر فناهيك عن كثرة االختالف احلاصل بسبب هذا وأما لو جعلنا الباب اباب واحدا فإنه سينسد
ابب االختالف ،وهللا أعلم .
الثالث -:أن املتقرر يف الشريعة أن ما كانت حاجة الناس له ماسة فإنه جيب على النيب صلى هللا
عليه وسلم أن يبينه بياان كافيا شافيا قاطعا للعذر ،والتفريق بني ابب العبادات وابب اآلداب يف
هذه املسألة مما يشتد حاجة الناس له ،ألننا إن قلنا -:هذا مندوب فإنه جيوز فيه الفعل والرتك
وإن قلنا -:هذا واجب فإنه ال جيوز فيه إال الفعل فقط ،والناس حيتاجون احلاجة الكبرية إىل معرفة
الفرق بني ما جيب عليهم فعله وال جيوز هلم تركه ،وبني ما هم خمريون فيه بني الفعل والرتك ،فلو
كان التف ريق يف هذه املسألة بني ابب العبادات وبني ابب اآلداب من املعتب يف الشرع لكانت
احلاجة إىل بيانه ماسة جدا ،ولكننا ال ن عرف كلمة واحدة وال حرفا واحدا عن النيب صلى هللا عليه
وسلم يف التفريق بني ابب العبادات وابب اآلداب يف ابب األمر ،بل كان النيب صلى هللا عليه
وسلم يطلق األمر وميتثل الصحابة رضي هللا عنهم ،وال يقول هلم -:هذا يف ابب كذا وهذا يف ابب
كذا ،ومن كان يعرف شيئا يف التفريق بينهما فليأت به ،وهللا أعلم .
الرابع -:أن املتقرر يف القواعد أن الشريعة ال تفرق بني متماثلني كما أهنا ال جتمع بني خمتلفني
وابب األمر يف الدين ابب واحد والقول فيه قول واحد ،ال خيتلف وال يفرتق ،فكل أمر فهو
للوجوب إال ما ورد له الصارف ،وهذا القول الواحد يف كل أمر من أوامر الشريعة ،سواء أكان يف
ابب اآلداب أو يف ابب العبادات ،وأما التفريق بني البابني فإنه تفريق بني املتماثلني وهذا ال أتيت به
الشريعة ،فما يقال يف ابب العبادات فإنه يقال يف ابب اآلداب ،وما يقال يف ابب اآلداب فإنه
يقال يف ابب العبادات ،فالقول يف لفظ األمر فيهما قول واحد ،فإن قلنا -:إنه يفيد الوجوب ،
7
فلنجعله مفيدا للوجوب يف كل البابني ،وإن قلنا -:إنه يفيد الندب فلنجعله مفيدا للندب يف كال
البابني ،وأما أن جنعله مفيدا للوجوب يف ابب ومفيدا للندب يف ابب آخر فإن هذا مما حيتاج إىل
دليل ،وهللا أعلم .
اخلامس -:أننا جن د كثريا من األوامر اليت وردت يف ابب اآلداب ومع ذلك فإهنا تفيد الوجوب كما
يف قوله صلى هللا عليه وسلم " اي غالم ،سم هللا ،وكل بيمينك ،وكل مما يليك " فهنا ثالثة أوامر
كلها يف ابب اآلداب ،ومع ذلك فإننا نقول فيه إهنا واجبة ،وليس حنن فقط ،بل حنن وهم ،
فالتسمية على الطعام من الواجبات ،واألكل ابليمني من الواجبات ،واألكل مما يليك من
الواجبات ،مع أهنا يف ابب اآلداب ،وكذلك قوله صلى هللا عليه وسلم " إذا أرسلت كلبك املعلم
وذكرت اسم هللا عليه فكل ...احلديث " أعين بذلك األدلة الدالة على أن التسمية شرط يف حل
الذبيحة ،فإنه وإن كانت يف ابب اآلداب إال أننا حنن وهم نقول -:إن من شروط حل الذبيحة
أن يذكر عليها اسم هللا تعاىل ،واألمثلة على هذا كثرية ،فانظر اي أخي بعني اإلنصاف فهذه أوامر
وردت يف ابب اآلداب ومع ذلك فإننا ن قول فيه إهنا للوجوب ،فهذا يفيدك أن التفريق الذي ذكروه
ال دليل عليه ،بل الدليل ورد خبالفه ،وهللا أعلم .
السادس -:سوف أسألك سؤاال ،وهو -:لو أنك فعلت أداب من اآلداب فهل تفعله على أنه
عبادة هلل تعاىل ،أو أنك تفعله على أنه جمرد أدب فقط ؟ واجلواب -:بل أان أفعله تعبدا هلل تعاىل
إذا تلك اآلداب اليت نصت على فعلها الشريعة ورغبت يف فعلها األدلة هي يف حقيقتها عبادات هلل
تعاىل ،فقولنا -:هذا من ابب العبادا ت ،وهذا من ابب اآلداب كأنه يشعر أن مثة فرقا بينهما ،
مع أن كال البابني مما يتعبد به هلل تعاىل ،أال ترى أن الشريعة أصال كلها آداب ،ولكن منها ما هو
أدب مع هللا تعاىل ،ومنه ما هو أدب مع النفس ،ومنها ما هو أدب مع املخلوق فالشرع كله
آداب ،وهذا مما يفيدك عسر الفرق بني البابني ،فالصالة عبادة وأدب ،والزكاة عبادة وأدب واحلج
عبادة وأدب والصوم عبادة وأدب ،واألكل ابليمني عبادة وأدب ،والتسمية على الذبيحة عبادة
وأدب ،واألكل مما يليك عبادة وأدب ،واألدب مع الزوجة عبادة وأدب والقيام حبق الوالدين
واإلخوان هو عبادة وأدب ،وهكذا ،فقوهلم -:هذا عبادة وهذا أدب ،ال وجه له ،وال دليل عليه
،فبان لك هبذا أن القول الصحيح والرأي الراجح املليح هو أنه ال فرق بني ابب اآلداب وابب
العبادات ،فلفظ األمر إن ورد يف ابب العبادات فإنه يفيد الوجوب حىت يرد الصارف ،ولفظ األمر
8
إن ورد يف ابب اآلداب فإنه يفيد الوجوب حىت يرد الصارف ،هذا ما توصلنا له حبسب البحث
والنظر والتحقيق ،وهللا أعلم .
( تنبيه ) وقولنا هذا ابرك هللا تعاىل فيك ال يلغي أن بعض األوامر أكب من بعض ،فاألمر ابلتوحيد
أكب من األمر ابلصالة ،واألمر ابلصالة أكب من األمر ابلزكاة واألمر ابلزكاة أكب من األمر
ابلصوم وهكذا ،واألمر بب الوالدين أكب وأفخم من األمر ابإلحسان إىل األصدقاء ،وهذا واضح
،فلعل الذين قالوا ابلتفريق بني البابني إمنا أرادوا أن األوامر يف ابب العبادات أكب من األوامر يف
ابب اآلداب ،فإن كانوا يريدون ه ذا احلد فال جرم أنه صحيح ،وأما إن كانوا يفرقون بني ما يفيده
األمر يف البابني فليس بصحيح ،واملهم أنه ال بد من األدب مع أهل العلم فإن أهل العلم رمحهم هللا
تعاىل هم أعالم اهلدى ومصابيح الدجى ،وهلم الفضل بعد هللا تعاىل ببيان احلق وهداية اخللق ،
فالواجب احرتامهم وتقديرهم وإنزاهلم منزلتهم ،جزاهم هللا خري اجلزاء وابرك لنا فيهم ويف علمهم ،
وهللا ربنا أعلى وأعلم.
( فصل )
إذا علمت هذا فاعلم أن هذه الصيغة ال ختلو إما أن ترد جمردة عن القرائن وإما أن تكون مقرونة
بقرينة ،فإن كانت مقرونة بقرينة فإهنا تفيد ما أفادت هذه القرينة ،فإن اقرتنت هبا قرينة الندب
وه ْم إِ ْن َعلِ ْمتُ ْم فِي ِه ْم َخ ْ ًريا فهذا أمر ندب ألهنا ملا نزلت مل يكاتب ِ
فهي ندب حنو قوله فَ َكاتبُ ُ
النيب رقيقه وكذلك كثري من الصحابة مل يكاتبوهم مما يدل على أن األمر فيها للندب ولذلك جتد
أن األصوليني يبحثون معاين هذه الصيغة يف ابب األمر ،فيقولون :من معانيها الندب وتقدم
ادوا والتعجيز كقوله تعاىل قُ ْل ُكونُوا ِح َج َارةً أ َْو َح ِد ًيدا اصطَ ُ واإلابحة كقوله تعاىل فَ ْ
ِِ ِ
ت الْ َع ِز ُيز الْ َك ِرميُ ني واإلهانة كقوله تعاىل ذُ ْق إِن َ
َّك أَنْ َ والتسخري كقوله تعاىل ُ كونُوا قَرَد ًة َخاسئ َ
صِبُوا َس َواءٌ َعلَْي ُك ْم والتهديد كقوله تعاىل ْ اع َملُوا َما اصِ ُبوا أ َْو ال تَ ْ
والتسوية كقوله تعاىل فَ ْ
ِشْئ تُ ْم وحنوها كالدعاء واإلكرام واخلب ،فصيغة (افعل) فيما مضى ال تدخل يف حبثنا ألنه قد
اقرتنت قرائن أخرجتها إىل غري ابهبا األصلي فإذا اقرتن هبذه الصيغة قرائن فإهنا تدل على ما دلت
عليه القرينة وليس هذا هو جمال حبثنا .
احلالة الثانية :أن أتيت جمردة عن القرائن فإذا وردت جمردة عن القرائن فماذا تفيد ؟ وما هو األصل
فيها حىت نبقى عليه فال ننتقل عنه حىت أيتينا الناقل ؟ هذا هو ما تفيده هذه القاعدة ،وقبل ذلك
9
أقول :اختلف العلماء رمحهم هللا تعاىل يف صيغة األمر إذا وردت جمردة عن القرائن ماذا تفيد ؟
فقال بعضهم :هي تفيد الوجوب وهو قول مجهور األصوليني ،وقيل :بل تفيد الندب وقيل :بل
معىن من املعاين ألهنا حقيقة
تفيد اإلابحة ،وقيل :بل يتوقف فيها إىل ورود القرينة الصارفة هلا إىل ً
مشرتكة بني معان كثرية ،والصواب هو القول األول وما عداه فباطل ،فالقول الصحيح هو أن
صيغة األمر إذا وردت جمردة عن القرائن فإهنا تفيد الوجوب ،وهو ما تفيده قاعدتنا هذه ،والدليل
على أن هذا القول هو الراجح عدة أمور :
اب أَلِ ٌيم ِ ِ ِ ِ
ين ُخيَال ُفو َن َع ْن أ َْم ِرهِ أَ ْن تُصيبَ ُه ْم فْت نَةٌ أ َْو يُصيبَ ُه ْم َع َذ ٌ
َّ ِ
منها :قوله تعاىل فَ ْلَي ْح َذ ْر الذ َ
فحذر هللا تعاىل الذين خيالفون أمر النيب هبذه العقوبة الشديدة وهي إصابتهم ابلفنت والعذاب
األليم يف الدنيا واآل خرة ،فهذا يدل على وجوب القيام أبمره وتنفيذه ،وذلك ألن الواجب هو ما
يذم َتركه مطلقاً ،أو هو ما توعد ابلعقاب على تركه ،فلما توعد هللا من خالف األمر ابلعقاب
الشديد دل ذلك على وجوب هذا األمر وأن األصل فيه الوجوب وهذا هو املطلوب إذ لو مل يكن
واجباً ملا عاقبهم على خمالفته لكن ملا عاقبهم على خمالفته فهذا دليل وجوبه .
يس َملْ يَ ُك ْن ِم ْن ومن األدلة :قوله تعاىل وإِ ْذ قُ ْلنا لِْلمالئِ َك ِة اسجدوا آلدم فَسجدوا إِال إِبلِ
ْ َ ْ ُ ُ ََ َ َ ُ َ َ َ
ك وقال تعاىل يف آية أخرى فَ َس َج َد الْ َمالئِ َكةُ اج ِ
الس ِ
ك أَال تَ ْس ُج َد إِ ْذ أ ََم ْرتُ َ
ال َما َمنَ َع َ
ين * قَ َ د
َّ َ
ال اي إِبلِ اج ِ
الس ِ َمجعو َن * إِال إِبلِ
ك أَال تَ ُكو َن َم َع يس َما لَ َ ُ ْ َ َ ق
َ * ين
َ د َّ ع
َ م
َ نَ و ك
ُ َي نْ َ
أ ََب
َ أ يس
ْ َ ُكلُّ ُه ْم أ َْ ُ
ك اللَّ ْعنَةَ إِ َىل يَ ْوِم ال هِدي ِن ال فَاخرج ِمْن ها فَِإن ِ
َّك َرج ٌيم * َوإِ َّن َعلَْي َ
َ ين ويف آية أخرى قَ َ ْ ُ ْ َ
اج ِ
د
َّ َ
الس ِ
ووجه الداللة من ذلك :أن هللا تعاىل ملا أمر املالئكة ابلسجود سارعوا إىل ذلك وامتنع إبليس عن
السجود وعارض النص برأيه فوخبه هللا وذمه وعاقبه ابلطرد واللعنة واإلهباط من اجلنة فهذه العقوبة
اس ُج ُدوا يفيد الوجوب ولذلك ملا
بني هللا أهنا على ترك األمر فهذا يدل على أن األمر يف قوله ْ
خالفه انل ما ان له من التوبيخ والذم والعقوبة ولو كان األمر املوجه للمالئكة ال يفيد الوجوب لقال
علي لكن ملا مل يقل ذلك دل على أنه كان يفهم منه الوجوب ،
إبليس :مل تعاقبين على ما مل جيب َّ
وال يقال :إن إبليس مل يسجد ألنه ليس من املالئكة ألننا نقول هو من املالئكة بوصفه ومن اجلن
أبصله كما هو اختيار أِب العباس ابن تيمية وهو الراجح ،فلما أمر هللا املالئكة ابلسجود دخل
يس إبليس يف ضمنهم بوصفه ومثاله لكنه خالف األمر برجوعه إىل أصله ولذلك قال تعاىل إِال إِبلِ
ْ َ
اجلِ هِن فَ َف َس َق … فقرن احلكم ابلفاء بعيد وصف مما يدل على أن سبب فسقه هو ألنهَكا َن ِم ْن ْ
10
من اجلن وطبعهم الفسق واملخالفة ،وخالصة األمر أن إبليس من املالئكة بوصفه ومثاله لكنه من
اجلن أبصله ،فيكون داخالً يف ضمن األمر للمالئكة ابلسجود فلما خالف األمر وأَب واستكب
وم ِسخ على أقبح صورة مما يدل على أن األمر املطلق يفيد الوجوب ،وهللا أعلم . لُعن وطُِرد ُ
ِ
ِ ِ ِ ومن األدلة أيضاً :قوله تعاىل وإِ َذا قِ
ني فذمهم يل َهلُْم ْارَك ُعوا ال يَْرَك ُعو َن * َويْ ٌل يَ ْوَمئذ ل ْل ُم َك هذبِ َ
َ َ
هللا تعاىل وتوعدهم ابلويل على عدم امتثاهلم لألمر مما يدل على أن األمر يفيد الوجوب ألن عالمة
الوجوب أن يذم التارك له وهنا ذمهم هللا على خمالفة األمر فدل على أنه للوجوب .
ِ ِ ِ
الِلُ َوَر ُسولُهُ أ َْمراً أَ ْن يَ ُكو َن َهلُْم
ضى َّ ومن األدلة أيضاً :قوله تعاىل َ وَما َكا َن ل ُم ْؤمن َوال ُم ْؤمَنة إِذَا قَ َ
ضالالً ُمبِيناً فاهلل تعاىل هنا أخب أنه إذا قضى ض َّل َ الِلَ َوَر ُسولَهُ فَ َق ْد َ
ص َّاخلََِريُة ِم ْن أ َْم ِرِه ْم َوَم ْن يَ ْع ِ
ْ
أمراً مل يكن ألحد أن يتخري فيه وجعل خمالفته معصيةً وضالالً وإذا كانت خمالفة األمر عصياانً
وضالالً فإن ذلك دليل على أن األمر يفيد الوجوب ألنه لو مل يفد الوجوب ملا كانت خمالفته معصية
وضالالً وهذا واضح .
ومن األدلة على ذلك :أن النيب َ مَّر برجل يصلي فدعاه فلم جيبه فلما فرغ من الصالة قال :
(( ما منعك أن جتيبين ؟ )) قال :اي رسول هللا كنت يف الصالة ،فقال " أما مسعت هللا يقول :
لِل ولِ َّلرس ِ
ول إِ َذا َد َعا ُك ْم لِ َما ُْحييِي ُك ْم " وهذا ظاهر فإنه عاتبه على اي أَيُّها الَّ ِذين آمنُوا ِ ِ ِ
اسَتجيبُوا َّ َ ُ
َ َ ْ َ َ
خمالفة أمر هللا ،واملعاتبة واللوم ال تكون إال على ترك واجب فدل ذلك على أن قوله تعاىل
ول على الوجوب إذ لو كان ال يفيد الوجوب ملا استحق ذلك الصحاِب لِل ولِ َّلرس ِ
ِ ِِ
استَجيبُوا َّ َ ُ ْ
العتاب وال اللوم وهذا دليل على أن األمر املطلق يفيد الوجوب .
ومن األدلة أيضاً :حديث أِب هريرة مرفوعاً " :لوال أن أشق على أميت ألمرهتم ابلسواك عند كل
صالة " متفق عليه ،فدل ذلك على أن املشقة حتصل ابألمر للزوم االمتثال حينئذ لكنه ترك األمر
،لوجود املشقة ،فدل ذلك على أن األمر يفيد الوجوب ألنه لو مل يفد الوجوب ملا حصلت املشقة
،لكن ملا كان األمر يفيد الوجوب والوجوب فيه مشقة ترك األمر به ،وهللا أعلم.
ومن األدلة على ذلك :حديث بريرة بعد أن أعتقتها عائشة وكان زوجها عبداً فخريها النيب
بني مفارقة زوجها وعدمه فاختارت فراقه وكان زوجها مغيث حيبها وكان ميشي خلفها يف األسواق
يبكي فلما رأى النيب ذلك ذهب إىل بريرة فقال هلا "لو راجعتيه فإنه أبو أوالدك" فقالت :
11
أأتمرين اي رسول هللا ،فقال " ال إمنا أان شافع " فقالت :ال حاجة يل فيه .فدل ذلك أنه لو كان
أمراً للزمها الطاعة واالنقياد ولذلك استفسرت من كالمه هذا :أهو أمر فتمتثل أو ال؟ فأخبها أنه
إمنا هو شافع ،فدل ذلك على أن األمر يفيد الوجوب ،وهللا أعلم .
ومن األدلة :اليت ذكرها القاضي أبو يعلى يف كتابه العظيم العدة على ذلك -أي أن األمر املطلق
يفيد الوجوب -إمجاع الصحابة على ذلك حيث إهنم كانوا يرجعون إىل جمرد األوامر يف الفعل
أو االمتناع من غري توقف فكل أمر كانوا يسمعونه من الكتاب والسنة حيملونه على الوجوب
ولذلك مل يرد عنهم أهنم كانوا يسألون النيب عن املراد هبذا األمر بل كانوا ميتثلون األمر وحيملونه
على الوجوب إال إذا اقرتن به قرينة تصرفه إىل غريه ومل يعرف منهم منكر لذلك فكان إمجاعاً وهذا
ثبت يف وقائع كثرية
منها :أهنم استدلوا على وجوب الصالة عند ذكرها ابألمر املطلق يف حديث أنس مرفوعاً " من انم
عن صالة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها " .
ومنها :أهنم أمجعوا على وجوب غسل اإلانء من ولوغ الكلب بقوله " إذا ولغ الكلب يف اإلانء
فاغسلوه سبعاً " .
ومنها :أن أاب بكر استدل على وجوب قتال مانعي الزكاة بقوله تعاىل َ وآتُوا َّ
الزَكا َة وقال "
والزكاة من حقها " ي قصد :أن الزكاة من مجلة حقوق ال إله إال هللا ،ووافقه عمر .ذكره القاضي
يف العدة .
ومنها :أن عمر أخذ اجلزية من اجملوس بقوله " سنوا هبم سنة أهل الكتاب " ومل ينكر عليه
أحد فكان إمجاعاً .فدلت هذه الوقائع على ما ادعيناه من إمجاع الصحابة على أن األمر املطلق
يفيد الوجوب .
ِ ِ ِ
الِلَ َما أ ََمَرُه ْم فدل على ومن األدلة أيضاً :قوله تعاىل َ علَْي َها َمالئ َكةٌ غال ٌظ ش َد ٌاد ال يَ ْع ُ
صو َن َّ
أن خمالفة األمر معصية وما ذلك إال لوجوبه وهو املطلوب .
ويدل على أن األمر اجملرد عن القرائن للوجوب من النظر ولغة العرب :أن السيد لو قال لعبده
:اسقين ماء ،فامتثل العبد فإنه يستحق املدح والثناء ،وإن مل ميتثل فإنه يستحق الذم والعقوبة ،
فرآه العقالء وهو يعاقبه فقالوا له :مل تعاقبه ؟ فقال :إين أمرته أنه يسقيين ماءً فعصاين ومل يفعل ،
12
فإن هؤالء يتفقون معه على حسن لومه وعقابه نظراً ملخالفته األمر فدل ذلك على أنه ما استحق
الذم والعقوبة إال ألنه ترك واجباً ألن الواجب هو الذي يذم على تركه مطلقاً وهذا متقرر يف أذهان
العقالء .
فهذه األدلة تفيدك أيها الطالب إفاد ًة صرحية أن صيغة األمر املطلقة أي املتجردة عن القرائن تفيد
الوجوب ،فإذا تقرر لك ذلك فاعلم أن هذه القاعدة مطردة يف مجيع الفروع فكل أمر مير عليك يف
الكتاب أو السنة فامحله على الوجوب إال إذا ورد الصارف له عن اببه إىل ابب آخر ،من غري فرق
بني ابب العبادات وابب اآلداب وهللا ربنا أعلى وأعلم .
( فصل )
إذا علمت هذا فلم يبق عندان إال شرح القاعدة ابعتبار التفريع ،والفروع كثرية جدا ،وقد مجعت
لك منها قدرا كبريا ،فال تستطل التفريع ،ألن املقصود زايدة التوضيح والتفهيم ،وكل فرع منها
يعتب مبثابة حكم شرعي جديد ،فهو وإن كان مما يتخرج على القاعدة إال أنك تستفيد منه أيضا
احلكم يف املسألة اليت ي قررها النص ،وإن بعض الناس فيه خبل يف التفريع ،مع أنه قد فتح هللا عليه
من العلم الشيء الكثري ،ولكنك ال تراه يذكر لك إال فرعا أو فرعني ،وهذا أمر ال ينبغي ،بل ال
بد من احلرص على تفهيم الطالب حىت يغلب على الظن أن القاعدة قد استقرت يف قلبه استقرارا ال
مزيد عليه ،وهذا ال يكون إال بكثرة التفريع ،وألن تكثري الفروع يستفاد منه -غري ما ذكر -أنك
قد ال تتفق مع القارئ الكرمي يف هذه الفروع القليلة اليت اقتصرت عليها ،ولكن مع تكثري الفروع
فإنه ال بد وأن تتفق معه يف أغلبها ،إن كان قد فهم القاعدة فهما جليا وأحسنت أنت يف ختريج
الفرع على القاعدة ،واملهم أن الطريقة اليت نسري عليها هي تكثري األدلة والفروع ،فنطرق من ذلك
ما استطعنا إليه سبيال ،فأما تكثري األدلة فنستفيد منه تقرير صحة القاعدة يف قلب الطالب ،وأما
تكثري التفريع فنستفيد منه تفيهم الطالب كيفية ختريج الفروع على هذا األصل املقرر ،واختالف
الطرق يف هذه األمور من مجلة خالف التنوع ،وهللا ويل التوفيق ،وإىل الفروع ،فأقول وابهلل تعاىل
التوفيق ،ومنه أستمد العون والفضل وحسن التحقيق -:
الفرع األول :قوله للغالم الذي رآه تطيش يده يف الطعام (( اي ُغالم َس ِهم هللا وكل بيمينك وكل
مما يليك )) فهذه ثالثة أوامر ،األول ( :سم هللا) فهو أمر ابلتسمية فاألصل فيه الوجوب إذ ال
قرينة هنا تصرفه عن اببه ،فنقول :التسمية عند الطعام واجبة وقد دلت أدلة أخرى على هذا
13
احلكم وأكدته أبن ترك التسمية سبب الستحالل الشيطان للطعام .الثاين :قوله (وكل بيمينك)
فهذا أمر فاألصل فيه الوجوب ،فنقول :األكل ابليمني واجب وقد دلت أدلة أخرى على ذلك
وأكدته أبن الشيطان أيكل بشماله ،الثالث ( :وكل مما يليك) فهذا أمر واألمر يفيد الوجوب ،
فنقول :جيب على اإلنسان أن ال أيكل إال مما يليه ،لكن عندان حديث أنس أن النيب كان
يتتبع الدابء من القصعة ،فظن بعض العلماء أنه صارف لألمر عن الوجوب إىل الندب وهذا ليس
بصحيح ،بل الصواب أن يقال :إذا كان الطعام واحداً أي نوع واحد فيجب على اإلنسان أن
أيكل مما يليه ،وإذا كان الطعام أصنافاً متنوعة فلإلنسان حق االختيار وأيكل مما شاء فاألمر يف
قوله ( :وكل مما يليك) على اببه وهو الوجوب لكن فيما إذا كان الطعام واحداً وهللا أعلم .
الفرع الثاين :قوله (( أسبغ الوضوء وخلل بني األصابع وابلغ يف االستنشاق إال أن تكون
صائما )) رواه األربعة ،وألِب داود (( إذا توضأت فمضمض )) فها هنا عدة أوامر ،األول :قوله
( :اسبغ الوضوء) أمر ابإلسباغ فيكون واجباً واإلسباغ هو تعميم العضو ابملاء مع اإلسالة وهذا
صحيح فاألمر فيه يفيد الوجوب ،الثاين :قوله ( :وخلل بني األصابع) أمر واألصل أنه يفيد
الوجوب لكن ن ظران فوجدان قرينة تصرفه إىل الندب وهو أن مجيع الذين وصفوا وضوءه مل يذكروا
أنه كان خيلل أصابعه مما يدل على أنه مل يكن يواظب عليه إذ لو كان مما يواظب عليه لنقله هؤالء
فلما مل ينقلوه دل على أن قوله ( :وخلل بني األصابع) ليس على اببه الذي هو الوجوب وإمنا هو
للندب فيكون التخليل مندوابً ،الثالث :قوله ( :وابلغ يف االستنشاق) هنا أمران :أمر
ابالستنشاق ،وأمر ابملبالغة ،فأما األمر ابالستنشاق فهو على اببه وهو الوجوب ويتأيد ذلك بقوله
(( إذا توضأ أحدكم فليجعل يف أنفه ماءً )) ،ويف رواية (( ومن توضأ فليستنشق )) ويف رواية
(( فليستنشق مبنخريه من املاء )) ،فاألمر ابالستنشاق على اببه وهو الوجوب .فنقول :من
واجبات الوضوء االستنشاق ،وأما املبالغة فأمر هبا هنا يف حديث لقيط بن صبة ولكنه مل أيمر هبا
يف حديث أِب هريرة ومجيع الواصفني لوضوئه مل يذكروا أنه كان يبالغ يف االستنشاق فدل ذلك على
أن املبالغة فيه سنة لورود القرينة الصارفة ،الرابع :قوله (إذا توضأت فمضمض) وهذا أمر
ابملضمضة واألصل يف األمر املطلق الوجوب ،فنقول :املضمضة واجبة ومل أتت قرينة تصرفه عن
اببه بل أتيد ذلك أبحاديث أخرى تفيد أن األمر هبا يراد به الوجوب ،وهللا أعلم .
14
الفرع الثالث -:حديث أِب هريرة مرفوعاً " إذا صلى أحدكم الركعتني اللتني قبل صالة الصبح
فليضطجع على شقه األمين " فهذا أمر ابالضطجاع بعد سنة الفجر ،واألصل أنه للوجوب ،لكن
ورد له ما يصرفه عن اببه إىل الندب وذلك يف حديث أِب قتادة عند مسلم يف قصة نومهم عن
صالة الفجر قال " فأذن بالل فصلى النيب ركعيت الفجر مث أقيمت الصالة فصنع كما كان
يصنع كل يوم " فهنا مل يضطجع بعد ركعيت الفجر ففعله هذا صرف األمر عن اببه إىل الندب ،
فنقول :االضطجاع على الشق األمين بعد ركعيت الفجر سنة .
الفرع الرابع :قوله (( صلوا قبل املغرب ،صلوا قبل املغرب ،صلوا قبل املغرب )) مث قال ((
ملن شاء كراهية أن يتخذها الناس سنة )) رواه البخاري ،فقد أمر ابلصالة قبل املغرب فاألصل
يف أمره الوجوب لكنه قال (ملن شاء) وهذه قرينة تصرف األمر عن الوجوب إىل الندب ولو مل ترد
هذه اللفظة لقلنا إن الصالة قبل املغرب واجبة لكن ملا وردت القرينة الصارفة لألمر إىل الندب قلنا
هبا .
الفرع اخلامس :قوله (( توضؤوا من حلوم اإلبل )) فهذا أمر ابلوضوء من حلمها واألصل يف
األمر أنه للوجوب ،وال أعلم قرينة تصرف األمر عن اببه فالبقاء عليه هو املتعني ،فنقول :الوضوء
من أكل حلم اإلبل واجب لألمر به وهذا هو الراجح وهو من مفردات اإلمام أمحد .
الفرع السادس :قوله (( من غسل ميتاً فليغتسل ومن محله فليتوضأ )) على التسليم أبنه حيتج
به فإن األمرين فيه لالستحباب ال للوجوب بدليل قوله يف احلديث اآلخر (( ليس عليكم من غسل
ميتكم غسل فإن ميتكم ميوت طاهراً )) ومثله أن أم عطية تولت هي وبعض النساء غسل بنت
رسول هللا وذكرت أنه دخل عليهن وأمرهن أن يغسلوها ثالاثً أو مخساً أو أكثر من ذلك وأنه
أعطاهن حقوه ومل تذكر أنه أمرهن بعد الفراغ من غسلها أن يغتسلن أو يتوضأن ولو أمرهن لنقلته
لنا فلما مل أيمرهن ابالغتسال دل ذلك على عدم وجوبه ألن أتخري البيان عن وقت احلاجة ال جيوز
،وغسلت أمساء بنت عميس رضي هللا عنها أاب بكر وخرجت وسألت الصحابة هل عليها
غسل ؟ فقالوا :ال ،فهذا يُ َع ُّد صارفاً لألمر يف احلديث ،فنقول :من غسل ميًتا فليغتسل
استحباابً ومن محله فليتوضأ استحباابً هذا إذا سلمنا سالمة احلديث لالحتجاج وإال فقد قال أمحد
:ال يصح يف هذا الباب شيء ،وهللا أعلم .
15
الفرع السابع :قوله يف املذي (( توضأ واغسل ذكرك )) فهذا أمر وهو للوجوب وال نعلم له
صارفاً ،فنقول :من خرج منه مذي فيجب عليه أن يغسل ذكره ويتوضأ لألمر به ،وهللا أعلم .
الفرع الثامن :قوله (( إذا مسعتم املؤذن فقولوا مثل ما يقول املؤذن )) فهذا أمر واألصل فيه
الوجوب ،وبه قال بعض أهل العلم ،لكن ورد ما يصرفه عن اببه وهو ما رواه مسلم يف صحيحه
أن النيب مسع مؤذانً يؤذن فقال :هللا أكب هللا أكب ،فقال :على الفطرة ،مث قال املؤذن :
أشهد أن ال إله إال هللا أشهد أن حممداً رسول هللا ،فقال :خرجت من النار … فلو كانت
اإلجابة واجبة ألجابه النيب .
الفرع التاسع :حتية املسجد ،فقد قال (( إذا دخل أحدكم املسجد فلريكع ركعتني قبل أن
جيلس )) متفق عليه ،فقد أمر بتحية املسجد ،واألصل يف األمر الوجوب ،وقال به بعض العلماء
لكن هناك قرينة تصرف األمر عن اببه وهو حديث طلحة بن عبيد هللا ملا سأل النيب عن
علي غريها ،قال (( ال ،إال أن
اإلسالم فقال (( مخس صلوات يف اليوم والليلة )) قال :هل ه
تطوع )) فوصف ما عدا الصلوات اخلمس أبهنا تطوع ،وكذلك ملا دخل رجل املسجد يوم اجلمعة
وختطى رقاب الناس قال له النيب (( اجلس فقد آذيت وآنيت )) ومل أيمره أن يصلي ركعتني فلو
كانت واجبة ألمره هبا ،فهاَتن القرينتان تصرفان األمر عن اببه إىل االستحباب وهو الصحيح إن
شاء هللا تعاىل ،ولو مل يردا ،لقلنا ابلوجوب ألن األمر املطلق عن القرائن يفيد الوجوب.
الفرع العاشر :أن النيب أمر اجلنب إذا أراد أن ينام أن يتوضأ واحلديث صحيح ،فهذا أمر
واألمر يفيد الوجوب لكن حبثنا فوجدان أن له صارفاً وهو حديث عائشة رضي هللا عنها " أن النيب
كان ينام وهو جنب من غري أن ميس ماءً " رواه األربعة بسند حسن ،فهذه القرينة صرفت
األمر عن اببه إىل الندب وهو الصواب ولو مل ترد لقلنا ابلوجوب ألن األمر املطلق عن القرائن يفيد
الوجوب .
الفرع احلادي عشر :حديث أِب هريرة مرفوعاً " إذا توضأ أحدكم فليجعل يف أنفه ماءً مث لينتثر "
فهذا أمر ابالنتثار وهو للوجوب وال أعلم له صارفاً عن اببه إىل الندب بل أتيد األمر القويل ابلفعل
الدائم ،فنقول :االس تننثار واجب من واجبات الوضوء ألنه أمر به واألمر يفيد الوجوب إذا خال
عن القرينة .
16
الفرع الثاين عشر :قال الشنقيطي رمحه هللا تعاىل يف أضواء البيان وهو يتكلم عن مسائل زكاة الفطر
،فقال (أما حكمها فهي فرض عني عند أمحد والشافعي وعند أِب حنيفة هي واجب على
اصطالحه أي ما وجب ابلسنة.وعند املالكية واجبة وقيل :سنة .قال يف خمتصر خليل بن إسحاق
جيب ابلسنة صاع إخل.والسبب يف اختالفهم هذا هل هي داخلة يف عموم َ وآتُوا َّ
الزَكا َة أي
شرعت أب صل مشروعية الزكاة يف الكتاب والسنة أم أهنا شرعت بنص مستقل عنها.فمن قال
بفرضيتها قال إهنا داخلة يف عموم إجياب الزكاة ومن قال بوجوهبا فهذا اصطالح لألحناف وال
خيتلف األمر يف ن تيجة التكليف إال أن عندهم ال يكفر ِبحودها.وقال املالكية :جيب ابلسنة صاع
من بر إخل ،أي :أن وجوهبا ابلسنة ال ابلكتاب.وعندهم :ال يقاتل أهل بلد على منعها ويقتل من
جحد مشروعيتها وهذا هو الفرق بينهم وبني األحناف .ولكن يف عبارة مالك يف املوطأ إطالق
الوجوب أنه قال :أحسن ما مسعت فيما جيب على الرجل من زكاة الفطر أن الرجل يؤدي ذلك عن
كل من يضمن نفقته إخل.ومن أسباب اخلالف بني األئمة رمحهم هللا نصوص السنة منها قوهلم فرض
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من متر أو صاعا من شعري احلديث.فلفظة (فرض)
أخذ منها من قال ابلفرضية وأخذ منها اآلخرون مبعىن قدر ألن الفرض القدر والقطع.وحديث قيس
بن سعد بن عبادة عند النسائي قال :أمران رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بصدقة الفطر قبل أن
تنزل الزكاة فلما نزلت الزكاة مل أيمران ومل ينهنا وحنن نفعله.فمن قال ابلوجوب والفرض قال األمر
لألول للوجوب وفرضية زكاة املال مشلتها بعمومها فلم حيتج معها لتجديد أمر ومل تنسخ فنهى عنها
وبقيت على الوجوب األول ،وحديث :فرض رسول هللا صلى هللا عليه وسلم زكاة الفطر طهرة
للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكني "من أداها قبل الصالة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد
الصالة فهي صدقة من الصدقات" فمن مل يقل بفرضيتها قال إهنا طهرة للصائم وطعمة للمساكني
فهي لعلة مربوطة هبا وتفوت بفوات وقتها ولو كانت فرضا ملا فاتت بفوات الوقت وأجاب اآلخرون
أبن ذلك على سبيل احلث على املبادرة ألدائها وال مانع من أن تكون فرضا وأن تكون
ص َدقَ ًة تُطَ هِهُرُه ْم َوتَُزهكِي ِه ْم ِهبَا فهي فريضة وهي ِِ ِ
طهرة.ويشهد هلذا قوله تعاىل ُ خ ْذ م ْن أ َْم َواهل ْم َ
طهرة والراجح من ذلك كله أهنا فرض للفظ احلديث فرض رسول هللا صلى هللا عليه وسلم "زكاة
الفطر صاعا من متر" ألن لفظ فرض إن كان ابتداء فهو للوجوب وإن كان مبعىن قدر فيكون
الوجوب بعموم آايت الزكاة وهو أقوى.وحديث خطبنا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فأمر بصدقة
17
الفطر صاعا من متر .احلديث رواه أبو داود واألمر للوجوب وال صارف له هنا .وقد قال النووي إن
القول ابلوجوب هو قول مجهور العلماء وهذا هو القول الذي تبأ به الذمة وخيرج به العبد من
العهدة وهللا تعاىل أعلم ) قلت -:وهو احلق بال ريب ،ألن األمر هبا ال صارف له عن اببه ،
واملتقرر أن األمر املطلق عن القرينة يفيد الوجوب ،وهللا أعلم .
الثالث عشر :اختلف أهل العلم رمحهم هللا تعاىل يف إمتام صوم النفل ،مع اتفاقهم على أن إكماله
هو األفضل واألكمل ،ولكن هل إمتامه واجب ،حبيث ال جيوز قطعه مع الشروع فيه إال بعذر ،أم
أنه جيوز قطعه ولو بال عذر؟ فيه خالف ،ومذهب اجلمهور اجلواز ولو بال عذر ومذهب احلنفية
أن صوم النَّفل جيب إمتامه بقوله تعاىل أَِمتُّواْ متسكوا هبذه اآلية الكرمية يف َّ
املنع إال بعذر ،احلنفيَّة َّ
الصيام واألمر للوجوب فيتناول ُك َّل صيام .وأجيبوا أب َّن هذا إمنا ورد يف بيان أحكام صوم الفرض؛
املتطوع أمري نفسه ،إن شاء صام ،وإن شاء أفطر » السالم قال « الصائم هِ الصالة و َّ بدليل أنَّه عليه َّ
ِ وعن ِهأم هاىنء َّ :
ب ُ ،مثَّ ان َوَهلَا ،أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم َد َخ َل َعَلْي َها فَ َد َعا بِ َشَراب فَ َش ِر َ
ِ الِلِ ،أَما ِإين ُكْنت ِ
ت أن ُأرَّد ُس ْؤَرَك ،فقال « إ ْن صائ َمةً َولَك ْن َك ِرْه ُ ول َّ َ ه ُ َ ت ،فقالت َ :اي َر ُس َ فَ َش ِربَ ْ
ت فَالَ ت فاقْضي ،وإ ْن ِشْئ ِ ضا َن ،فا ْقضي م َكانَهُ ،وإ ْن َكا َن تَطَُّوعاً ،فإن ِشْئ ِ َكا َن قَ ِ
ضاءً م ْن َرَم َ
َ
َ َُ
ضي » وهذان احلديثان صرفا األمر يف صوم النفل من وجوب اإلمتام إىل ندبيته فقط ،مع أن تَ ْق ِ
األمر يفيد الوجوب ،إال أنه هنا مصروف عن الوجوب إىل الندب ملا رويناه لك من األحاديث ،
فالصحيح يف هذه املسألة هو قول اجلمهور بل والصحيح عندان أن النفل ال يلزم ابلشروع إال يف
النسكني ،وهللا أعلم .
الرابع عشر -:اعلم رمحك هللا تعاىل أنه جيب على املكلف ابلصالة أن يرتك البيع بعد نداء اجلمعة
الثاين ،وهو األذان الذي يكون واإلمام على املنب ،وهذا الوجوب هو احلق يف هذه املسألة إن شاء
هللا تعاىل ودليله قوله تعاىل َ وذَ ُروا الْبَ ْي َع فقوله " وذروا " أمر ،واملتقرر أن األمر يفيد الوجوب ،
وال صارف هلذا األمرم عن اببه ،فحيث ال صارف ،فاألصل هو البقاء على األصل فيه حىت يرد
الناقل ،وهللا أعلم .
رسول هللا صلى
أن َ اخلامس عشر :روى أصحاب الصحيح وغريهم عن أِب هريرة رضي هللا عنه « َّ
فرد ،
النيب صلى هللا عليه وسلم َّ
هللا عليه وسلم دخل املسجد ،فدخل رجل فصلى ،فسلم على ِه
فصل فإنك مل ِه
تصل ،فرجع فصلى كما صلى ،مث جاء فسلم على النيب صلى هللا وقال :ارجع ِه
18
فصل فإنك مل ِه
تصل -فرجع ثالاث -فقال :والذي بعثك ابحلق ،ما فرده وقال :ارجع ِه عليه وسلم َّ
ِ
تيسَر معك من القرآن ،مث قمت إىل الصالة ِه
فكب ،مث اقرأ ما َّ غريه ،فعله ْمين ،فقال :إذا َ
أُحسن َ
تعتدل قائما ،مث اسجد حىت تطمئن ساجدا ،مث ارفع حىت
اركع حىت تطمئن راكعا ،مث ارفع حىت َ
تطمئن جالسا ،وافعل ذلك يف صالتك كلهِها» ويف رواية بنحوه ،وفيه «وعليك السالم ،ارجع -
فكب مث اقرأ مبا تيسر معك من
وفيه : -فإذا قمت إىل الصالة فأسبغ الوضوء ،مث استقبل القبلة َّ
القرآن ..وذكر حنوه وزاد يف آخره -بعد قوله :حىت تطمئن جالسا -مث اسجد حىت تطمئن
ساجدا ،مث ارفع حىت تطمئن جالسا ،مث افعل ذلك يف صالتك كلهِها» أخرجه اجلماعة إال املوطأ.
وزاد مع غريه من األدلة أبو داود يف رواية له «فإذا فعلت هذه متت صالتك ،وما انتقصت من هذا
فإمنا انتقصته من صالتك» .وهذا يسميه العلماء ( حديث املسيء صالته ،وقد جعله أهل العلم
رمحهم هللا عمدة يف معرفة أركان الصالة وواجباهتا ،فما ورد فيه من األوامر والواجبات فهو الواجب
يف الصالة ،وما مل يرد فيه من األوامر فإنه ليس بواجب ،قال الشوكاين رمحه هللا تعاىل (وقد تقرر
أن حديث املسيء هو املرجع يف معرفة واجبات الصالة وأن كل ما هو مذكور فيه واجب وما خرج
عنه وقامت عليه أدلة تدل على وجوبه ففيه خالف سنذكره إن شاء هللا يف شرحه يف املوضع الذي
سيذكره فيه املصنف ) وقال يف النيل أيضا (قال ابن دقيق العيد :تقرر من الفقهاء االستدالل هبذا
احلديث على وجوب ما ذكر فيه وعدم وجوب ما مل يذكر فيه فأما وجوب ما ذكر فيه فلتعلق األمر
به وأما عدم وجوب غريه فليس ذلك مبجرد كون األصل عدم الوجوب بل ألمر زائد على ذلك وهو
أن املوضع موضع تعليم وبيان للجاهل وتعريف لواجبات الصالة وذلك يقتضي احنصار الواجبات
فيما ذكر ويقوي مرتبة احلصر أنه صلى هللا عليه و سلم ذكر ما تعلقت به اإلساءة من هذا املصلي
وما مل يتعلق به إساءته من واجبات الصالة .وهذا يدل على أنه مل يقصر املقصود على ما وقعت به
اإلساءة فقط .فإذا تقرر هذا فكل موضع اختلفت العلماء يف وجوبه وكان مذكورا يف هذا احلديث
فلنا أن ن تمسك به يف وجوبه وكل موضع اختلفوا يف عدم وجوبه ومل يكن مذكورا يف هذا احلديث
فلنا أنن،متسك به يف عدم وجوبه لكونه غري مذكور على ما تقدم من كونه موضع تعليم مث قال :
إال أن على طالب التحقيق ثالث وظائف :أحدها أن جيمع طرق احلديث وحيصي األمور املذكورة
فيه وأيخذ ابلزائد فالزائد فإن األخذ ابلزائد واجب .اثنيها إذا أقام دليال على أحد األمرين إما
الوجوب أو عدم الوجوب فالواجب العمل به ما مل يعارضه ما هو أقوى وهذا عند النفي جيب
19
التحرز فيه أكثر فلينظر عند التعارض أقوى الدليلني يعمل به قال :وعندان أنه إذا استدل على عدم
وجوب شيء بعدم ذكره يف احلديث وجاءت صيغة األمر به يف حديث آخر فاملقدم صيغة األمر
وإن كان ميكن أن يقال احلديث دليل على عدم الوجوب وحيمل صيغة األمر على الندب مث ضعفه
أبنه إمنا يتم إذا كان عدم الذكر يف الرواية يدل على عدم الذكر يف نفس األمر وليس كذلك فإن
عدم الذكر إمنا يدل على عدم الوجوب وهو غري عدم الذكر يف نفس األمر فيقدم ما دل على
الوجوب ألنه إثبات لزايدة يتعني العمل هبا -مث قال الشوكاين رمحه هللا تعاىل معلقا على كالم ابن
دقيق هذا -والوظائف اليت أرشد إليها قد امتثلنا رمسه فيها فجمعنا من طرق هذا احلديث يف هذا
الشرح عند الكالم على مفرداته ما تدعو احلاجة إليه وتظهر لالختالف يف ألفاظه مزيد فائدة
وعملنا ابلزائد فالزائد من ألفاظه فوجدان اخلارج عما اشتمل عليه حديث الباب .الشهادتني بعد
الوضوء .وتكبري االنتقال .والتسميع .واإلقامة .وقراءة الفاحتة .ووضع اليدين على الركبتني حال
الركوع .ومد الظهر .ومتكني السجود .وجلسة االسرتاحة .وفرش الفخذ .والتشهد األوسط .
واألمر ابلتحميد وال تكبري والتهليل والتمجيد عند عدم استطاعة القراءة .وقد تقدم الكالم على
مجيعها إال التشهد األوسط وجلسة االسرتاحة وفرش الفخذ فسيأيت الكالم على ذلك .واخلارج عن
مجيع ألفاظه من الواجبات املتفق عليها كما قال احلافظ والنووي النية .والقعود األخري .ومن
املختلف فيها التشهد األخري والصالة على النيب صلى هللا عليه وسلم فيه .والسالم يف آخر الصالة
.وقد قدمنا الكالم على النية يف الوضوء وسيأيت الكالم على الثالثة األخرية .وأما قوله أهنا تقدم
صيغة األمر إذا جاءت يف حديث آخر واختياره لذلك من دون تفصيل فنحن ال نوافقه بل نقول
إذا جاءت صيغة أمر قاضية بوجوب زائد على ما يف هذا احلديث فإن كانت متقدمة على َترخيه
كان صارفا هلا إىل الندب ألن اقتصاره صلى هللا عليه وسلم يف التعليم على غريها وتركه هلا من
أعظم املشعرات بعدم وجوب ما تضمنته ملا تقرر من أن أتخري البيان عن وقت احلاجة ال جيوز وإن
كانت متأخرة عنه فهو غري صاحل لصرفها ألن الواجبات الشرعية ما زالت تتجدد وقتا فوقتا وإال لزم
قصر واجبات الشريعة على اخلمس املذكورة يف حديث ضمام بن ثعلبة وغريه أعين الصالة والصوم
واحلج والزكاة والشهادتني ألن النيب صلى هللا عليه وسلم اقتصر عليها يف مقام التعليم والسؤال عن
مجيع الواجبات والالزم ابطل فامللزوم مثله .وإن كانت صيغة األمر الواردة بوجوب زايدة على هذا
احلديث غري معلومة التقدم عليه وال التأخر وال املقارنة فهذا حمل اإلشكال ومقام االحتمال واألصل
20
عدم الوجوب والباءة منه حىت يقوم دليل يوجب االنتقال عن األصل والباءة وال شك أن الدليل
املفيد للزايدة على حديث املسيء إذا التبس َترخيه حمتمل لتقدمه عليه وأتخره فال ينتهض
لالستدالل به على الوجوب وهذا التفصيل ال بد منه وترك مراعاته خارج عن االعتدال إىل حد
اإلفراط أو التفريط ألن قصر الواجبات على حديث املسيء فقط وإهدار األدلة الواردة بعده ختيال
لصالحيته لصرف كل دليل يرد بعده داال على الوجوب سد لباب التشريع ورد ملا جتدد من واجبات
الصالة ومنع للشارع من إجياب شيء منها وهو ابطل ملا عرفت من جتدد الواجبات يف األوقات ،
والقول بوجوب كل ما ورد األمر به من غري تفصيل يؤدي إىل إجياب كل أقوال الصالة وأفعاهلا اليت
ثبتت عنه صلى هللا عليه وآله وسلم من غري فرق بني أن يكون ثبوهتا قبل حديث املسيء أو بعده
ألهنا بيان لألمر القرآين أعين قوله تعاىل {أقيموا الصالة } ولقوله صلى هللا عليه وآله وسلم ( صلوا
كما رأيتموين أصلي ) وهو ابطل الستل زامه أتخري البيان عن وقت احلاجة وهو ال جيوز عليه صلى
هللا عليه وآله وسلم ،وهكذا الكالم يف كل دليل يقضي بوجوب أمر خارج عن حديث املسيء
ليس بصيغة األمر كالتوعد على الرتك أو الذم ملن مل يفعل .وهكذا يفصل يف كل دليل يقتضي عدم
وجوب شيء مما اشتمل عليه حديث املسيء أو حترميه إن فرضنا وجوده ) ا.ه .كالمه رمحه هللا
تعاىل .وعليه فإنه ال غىن لطالب العلم عن النظر يف هذا احلديث وال غىن له عن النظر يف مجيع
رواايته وألفاظه ،والنظر فيها صحة وضعفا فما ورد فيه من األوامر فإنه واجب ،ما مل يرد منها
فأنه ينظر فإن ورد به األمر يف غريه فهو واجب ،وإال فيقال فيه إنه سنة ،وهللا أعلم .
السادس عشر :اعلم رمحك هللا تعاىل أن الواجب على اجلاهل ابحلكم الشرعي أن يسأل أهل
العلم به ،فال جيوز له اإلقدام على ما ال يدري عن حقيقة حاله من األمور ،بل ال بد وجواب من
سؤال أهل العلم عن احلكم الشرعي يف املسائل الشرعية ،فمن فعل األمر على عواهنه كيفما اتفق
من غري سؤال أهل العلم مع قدرته على الوصول هلم وسؤاهلم ،فإنه آمث يستحق العقوبة التعزيرية اليت
تردعه وأمثاله عن اللعب ابلشريعة ،فإن قلت -:من أين أتيت هبذا الوجوب ؟ فأقول -:أتينا به
اسأَلُواْ أ َْه َل ال هِذ ْك ِر إِن ُكنتُ ْم الَ تَ ْعلَ ُمو َن فقوله " فاسألوا " أمر واملتقرر
من قوله تعاىل وتقدس فَ ْ
أن األمر يفيد الوجوب إال لصارف ،وال صارف هنا ،بل األدلة الكثرية قد دلت على أمهية التعلم
ومدح العلم والتعليم ،وهللا أعلم .
21
السابع عشر :مما استدل به أهل العلم رمحهم هللا تعاىل على وجوب اخلتان قوله تعاىل ُ مثَّ أ َْو َحْي َنا
ك أ َِن اتَّبِ ْع ِملَّةَ إِبْ َر ِاه َيم َحنِي ًفا واخلتان من ملة إبراهيم ،ففي الصحيح من حديث أِب هريرة
إِلَْي َ
رضي هللا عنه قال -:قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم " اختنت إبراهيم خليل الرمحن عليه السالم
بعدما أتت عليه مثانون ،واختنت ابلقدوم " فحيث كان اخلتان من ملة إبراهيم عليه وعلى نبينا
الصالة والسالم فيكون من مجلة الواجبات على هذه األمة ،ألن هللا تعاىل أمر نبيها أن يتبع ملة
إبراهيم ،واألمر يفيد الوجوب ،واخلتان من ملة إبراهيم فيكون واجبا ،واألمر للنيب صلى هللا عليه
ومسلم أمر له وألمته ،ألن املتقرر أن كل حكم ثبت يف حق النيب صلى هللا عليه وسلم فإنه يثبت
يف حق األمة تبعا إال بدليل االختصاص ،وهذا استدالل صحيح إن شاء هللا تعاىل ،فانظر كيف
استفاد أهل العلم رمحهم هللا تعاىل الوجوب من األمر يف قول هللا تعاىل أ َِن اتَّبِ ْع ِملَّةَ إِبَْر ِاه َيم َحنِي ًفا
وهللا أعلم .
الفرع الثامن عشر :قال النووي رمحه هللا تعاىل يف شرحه على صحيح مسلم رمحه هللا تعاىل وهو
يتكلم عن حكم اغتسال العائن للمعني ،أي املصاب ابلعني ،فقال رمحه هللا تعاىل (وقد اختلف
العلماء ىف العائن هل جيب على الوضوء للمعني أم ال واحتج من أوجبه بقوله صلى هللا عليه وسلم
يف رواية مسلم هذه وإذا استغسلتم فاغسلوا وبرواية املوطأ الىت ذكرانها أنه صلى هللا عليه وسلم أمره
ابلوضوء واألمر للوجوب قال املازري والصحيح عندي الوجوب ويبعد اخلالف فيه إذا خشي على
املعني اهلالك وكان وضوء العائن مما جرت العادة ابلبء به أو كان الشرع أخب به خبا عاما ومل يكن
زوال اهلالك إال بوضوء العائن فانه يصري من ابب من تعني عليه إحياء نفس مشرفة على اهلالك وقد
تقرر أنه جيب على بذل الطعام للمضطر فهذا أوىل وهبذا التقرير يرتفع اخلالف فيه هذا آخر كالم
املازري) قلت -:واحلق هو الوجوب ،فمن حتقق اهتامه ابلعني وأن هو املتسبب إبصابة هذا
الشخص املعني ،فإنه جيب عليه عند طلب اغتساله أن يباشر ويغسل بعض بدنه ،ألن قوله "
فاغتسلوا " هذا أمر ،وقد تقرر يف األصول أن األمر املطلق عن القرينة يفيد الوجوب ،وال نعلم
صارفا يصرف هذا األمر عن اببه إىل االستحباب ،بل أتيد هذا األمر ابألحاديث والنصوص
الكثرية املفيدة لكف األذى وبذل الندى والتعاون على الب والتقوى وإنقاذ النفس املعصومة من
اهللكة ،وهللا أعلم .
22
التاسع عشر :قوله صلى هللا عليه وسلم (( صلوا كما رأيتموين أصلي )) رواه البخاري ،فيه أمر
وهو قوله ( صلوا ) فيحمل ذلك األمر على الوجوب ،فكل فعل فعله النيب صلى هللا عليه وسلم
يف الصالة فإنه واجب إال ما دلت القرائن على أنه سنة فيخرج من هذا العموم ،ويبقى ابقي
األفعال واألقوال على الوجوب هلذا األمر ،وكذلك حديث املسيء صالته خرج خمرج األمر فقال
صلى هللا عليه وسلم له (( أسبغ الوضوء مث استقبل القبلة فكب مث اقرأ ما تيسر معك من القرآن…
اخل )) كل ذلك خرج بصيغة األمر فيحمل على الوجوب إال فيما وردت فيه قرينة تصرفه عن اببه
إىل الندب فيحمل على الندب ،وهللا أعلم .
الفرع املويف للعشرين :قوله صلى هللا عليه وسلم (( خذوا عين مناسككم )) دليل على أن كل
شيء فعله صلى هللا عليه وسلم يف حجة الوداع أنه للوجوب ألمره أبخذه ،واألمر للوجوب إال فيما
وردت القرائن بصرفه عن اببه إىل الندب فيحمل عليه ،وهللا أعلم .
وه ْم إ ْن َعلِ ْمتُ ْم فِي ِه ْم َخ ْ ًريا دليل على وجوب ِ
احلادي والعشرون :قوله تعاىل يف العبيد فَ َكاتبُ ُ
مكاتبة السيد عبده إن علم فيه قدرة على الكسب والعمل حىت يؤدي ما عليه ،لكن هذا األمر
وه ْم ليس على اببه وهو الوجوب ؛ ألنه دلت القرينة على أنه للندب ِ
أعين قوله تعاىل فَ َكاتبُ ُ
أيضا كاتبوا
وذلك ألن النيب صلى هللا عليه وسلم بعد هذا األمر مل يكاتب عبيده ،وال الصحابة ً
اجبا المتثلوه أمت امتثال ،لكن عدم امتثاهلم صرف األمر من الوجوب إىل
عبيدهم ،فلو كان األمر و ً
االستحباب ،فتكون مكاتبة السيد لعبده ابلشرط املذكور يف اآلية مستحبة ال واجبة .
الثاين والعشرون :قوله صلى هللا عليه وسلم (( إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن
يدخلهما يف اإلانء ثالاثً فإنه ال يدري أين ابتت يده )) فقوله ( فليغسل ) صيغة من صيغ األمر
وهو الفعل املضارع املقرون بالم األمر ،فيدل على أن غسل اليدين بعد االستيقاظ من نوم الليل
خاصة واجب ثال ًاث ،ألن األمر املطلق عن القرائن يفيد الوجوب إال بقرينة ،ومل أتت قرينة تصرف
هذا األمر عن اببه ،فقلنا أنه يفيد الوجوب ،وهللا أعلم .
الثالث والعشرون :القول الصحيح إن شاء هللا تعاىل هو أن الويل جيب عليه أمر من حتت يده من
الصغار ابلصالة إن بلغوا سبع سنني ،وجيب عليه عقوبتهم على تركها إن بلغوا عشر سنني وجيب
عليه كذلك التفريق بينهم يف املضاجع ،أي يف األماكن اليت ينامون فيها ،وهذا األمر من الواجبات
23
يف حق الويل ،وبرهان هذا اإلجياب قوله صلى هللا عليه وسلم " مروا أوالدكم ابلصالة وهم أبناء
سبع سنني واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنني ،وفرقوا بينهم يف املضاجع " واحلديث سنده جيد
،فقوله " مروا " وقوله " واضربوهم " وقوله " وفرقوا " هذه كلها أوامر واملتقرر يف لفظ األمر أنه
يفيد الوجوب إال لصارف ،وال نعلم صارفا لألمر هنا عن اببه إىل الندب ،وحيث ال صارف ،
فاألصل هو البقاء على األصل حىت يرد الناقل ،وهللا تعاىل أعلى وأعلم .
الرابع والعشرون :لقد تقرر عند أهل العلم رمحهم هللا تعاىل أن األعمال ال تقبل إال بشرطي
اإلخالص واملتابعة ،فاإلخالص واملتابعة مها شرطا قبول العمل ،ألن هللا تعاىل أمر هبما ،وأمر هبما
النيب صلى هللا عليه وسلم ،واألمر يفيد الوجوب ،قال تعاىل وما أ ُِمروا إَِّال لِي عب ُدوا َّ ِ ِ
ني لَهُ
الِلَ خمُْلص َ َ ُْ ََ ُ
ِ ِ
ين ُحنَ َفاء وقال تعاىل قُ ْل إِن ُكنتُ ْم ُحتُّبو َن ه
الِلَ فَاتَّبِ ُع ِوين ُْحيِبْب ُك ُم ا هلِلُ وقال تعاىل َ واتَِّب ُعوهُ ال هد َ
لَ َعلَّ ُك ْم َهتْتَ ُدو َن والنصوص يف هذا املعىن كثرية ،وكلها مما يفيد أن اإلخالص واملتابعة من أهم
واجبات العمل ،ومها شرطان متالزمان يف كل عبادة ،وهللا أعلم .
اخلامس والعشرون :قال عبدالعزيز خباري رمحه هللا تعاىل يف كشف األسرار عن أصول الفخر
البزدوي رحم هللا اجلميع رمحة واسعة ،وهو يتكلم عن حكم قتال البغاة من اخلوارج وغريهم قال
رفع هللا درجته يف الفردوس األعلى ( قوله -أي البزدوي " -ووجبت اجملاهدة حملاربتهم" أي ألجل
حماربتهم يعين إمنا وجبت مقاتلتهم بطريق الدفع ال أن جتب ابتداء كما جتب مقاتلة الكفار فإن عليا
رضي هللا عنه قال للخوارج يف خطبته ولن نقاتلكم حىت تقاتلوان يعين حىت تعزموا على القتال
ابلتجمع والتحيز عن أهل العدل فدل أهنم ما مل يعزموا على اخلروج ال يتعرض هلم ابلقتل واحلبس
فإذا جتمعوا وعزموا على اخلروج وجب على كل من يقوى على القتال أن يقاتلهم مع إمام املسلمني
ُخَرى فَ َقاتِلُوا الَِّيت تَْبغِي َح َّىت تَِفيءَ إِ َىل أ َْم ِر َّ
الِلِ واألمر ت إِ ْح َد ُامهَا َعلَى ْاأل ْ
لقوله تعاىل فَِإ ْن بَغَ ْ
للوجوب وألهنم قصدوا أذى املسلمني وهتييج الفتنة وإماطة األذى وتسكني الفتنة من أبواب الدين.
وخروجهم معصية ففي القيام بقتاهلم هني عن املنكر وهو فرض) قلت -:وما قاله حق ،وهو
مذهب أهل السنة رمحهم هللا تعاىل ،وهللا أعلم.
السادس والعشرون :القول الصحيح أن غسل اإلانء من ولوغ الكلب سبعا إحداها برتاب من
الواجبات ،ألن النيب صلى هللا عليه وسلم قال " فليغسله سبعا أوالهن ابلرتاب " والصحيح أن إراقة
املاء من اإلانء الذي ولغ فيه الكلب من الواجبات أيضا ،ألن النيب صلى هللا عليه وسلم أمر إبراقته
24
فقال " فلريقه ،مث ليغسله سبع مرات " فهذه األوامر ال بد وأن حيكم هلا مبا هو متقرر يف ابب
األمر ،من أن األمر يفيد الوجوب إال لصارف ،وال ن علم صارفا يصح أن يعتمد عليه يف هذا
الباب ،فحيث ال صارف فاألصل هو البقاء على األصل حىت يرد الناقل ،وهللا أعلم .
السابع والعشرون :القول الصحيح أن الذابب إن وقع يف الشراب وأراد صاحبه الشرب منه فإنه
جيب عليه لزاما أن يغمس ا لذابب كله فيه ،مث يطرحه خارجا ،وقلنا ابلوجوب ألن النيب صلى هللا
عليه وسلم قال " إذا وقع الذابب يف شراب أحدكم فليغمسه كله ،مث ليطرحه ،فإن يف أحد
جناحيه شفاء ،ويف اآلخر داء " رواه البخاري ،وألِب داود " وإنه يتقي ِبناحه الذي فيه الداء ،
وال عبة مبن شكك يف صحة هذا احلديث أو استحى من ذكره أمام الناس ،فإن حق هذا الصنف
من الناس أن يغمس أنفه مع الذابب أو يغمس الذابب يف أنفه ،وليخسأ من يطعن فيما صح من
سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم من أجل خمالفته لعقله الذي هو أصال يف أسته وهللا املوفق
واهلادي ،وهو أعلى وأعلم .واملهم أن قوله " فليغمسه كله " وقوله " مث ليطرحه " كلها أوامر ،
واألمر يفيد الوجوب ،وال صارف هنا يصرف األمر من الوجوب إىل االستحباب وهللا أعلم .
الثامن والعشرون :قال الشيخ حممد بن عثيمني رمحه هللا تعاىل يف الشرح املمتع يف حكم تذكري
اإلمام حال النسيان والسهو (مسألة :هل جيب على املأموم أن يُنبهِه إمامه إذا قام إىل زائدة أو ال
سيت فذ هكُِروين» واألمر
النيب صهلى هللا عليه وسهلم «إذا ن ُ جيب؟اجلواب :جيب أن هِ
ينب َهه ،لقول ِه
للوجوب) وهللا أعلم .
التاسع والعشرون :القول الصحيح أن طواف الوداع من واجبات احلج ،فال جيوز لآلفاقي اخلروج
من احلرم ألهله بعد أداء فريضة احلج إال بعد أن يطوف ابلبيت سبعا ،وجيعله آخر أعماله ،
وبرهان هذا اإلجياب قول ابن عباس رصي هللا عنهما -:أمروا أبن يكون آخر عهدهم ابلبيت ،أي
الطواف ،إال أنه خفف عن احلائض ،فقوله " أمروا " يفيد الوجوب ،وال صارف هلذا األمر عن
اببه إىل الندب ،واألصل هو البقاء على األصل حىت يرد الناقل ،ويؤيده قول أم املؤمنني " كان
الناس يصدرون -يعين يسافرون -من فجاج مىن وعرفات .فأمروا أن جيعلوا آخر عهدهم ابلبيت
طوافا" فدل على أنه واجب ،وهذا مذهب مجهور العلماء رمحهم هللا .فال خيرج إال بعد أن يطوف
طواف الوداع ،هذا ابلنسبة هلذا النوع من الطواف أنه واجب ،ويكون وجوبه عند اخلروج عند
السفر والذهاب إىل البلد وهللا أعلم .
25
الفرع املويف للثالثني :اختلف أهل العلم يف األمر ابلغسل يوم اجلمعة هل هو للوجوب أو للندب
فذهب أهل الظا هر إىل وجوب الغسل يوم اجلمعة متمسكني بظاهر حديث " من أتى اجلمعة
فليغتسل " وبقوله صلى هللا عليه وسلم يف حديث أِب سعيد املتفق عليه " غسل اجلمعة واجب على
كل حمتلم " وحكاه ابن حزم عن عمر ومجع من الصحابة .وذهب مجهور العلماء من السلف
واخللف وفقهاء األمصار إىل أن ه سنة مؤكدة ،وقال ابن عبد الب يف التمهيد (أمجع املسلمون قدمياً
وحديثاً على أن غسل اجلمعة ليس بفرض واجب ويف ذلك ما يكفي ويغين عن اإلكثار وال جيوز
على األمة أبسرها جهل معىن السنة ومعىن الكتاب وهذا مفهوم عند ذوي األلباب إال أن العلماء
مع إمجاعهم على أن غسل اجلمعة ليس بفرض واجب اختلفوا فيه هل هو مسنون لألمة أم هو
استحباب وفضل أو كان لعلة فارتفعت وليس بفرض ،فذهب مالك والثوري ومجاعة من أهل العلم
إىل أنه سنة مؤكدة ألهنا قد عمل هبا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم واخللفاء بعده واملسلمون
فاستحبوها وندبوا إليها وهذا سبيل السنن املذكورة فمن حجة من ذهب إىل هذا املذهب حديث
أِب هريرة رضي هللا عنه " من أغتسل يوم اجلمعة غسل اجلنابة مث راح فكأمنا قرب بدنة ..إخل
احلديث " ا.ه .قلت :ووجه االستدالل من هذا احلديث أن النيب صلى هللا عليه وسلم رتب عليه
فضالً ومن مل يفعل ذلك حرم الفضل فقط ومل يرتب عليه إمثاً يف تركه .ومما يستدل به على عدم
الوجوب ما رواه البخاري ومسلم وغريمها من إنكار عمر رضي هللا عنه على عثمان رضي هللا عنه
التأخر فقال ( إين شغلت فلم انقلب إىل أهلي حىت مسعت التأذين فلم أزد على أن توضأت فقال
عمر والوضوء أيضاً وقد علمت أن النيب صلى هللا عليه وسلم كان أيمر ابلغسل ) أما وجه الداللة
منه فالذي يظهر أن عمر رضي هللا عنه إمنا احتج على عثمان رضي هللا عنه يف ترك سنة مع أنه من
السابقني ومل حيتج عليه يف ترك فرض قال النووي (وفيه إشارة إىل أنه إمنا ترك الغسل ألنه يستحب ،
فرأى اشتغا له بقصد اجلمعة أوىل من أن جيلس للغسل بعد النداء وهلذا مل أيمره عمر رضي هللا عنه
ابلرجوع للغسل ) وقال أيضاً ( واحتج اجلمهور أبحاديث صحيحة منها حديث الرجل الذي دخل
وعمر خيطب وقد ترك الغسل وقد ذكره مسلم وهذا الرجل هو عثمان بن عفان ووجه الداللة أن
عثمان فعله وأقره عمر وحاضروا اجلمعة وهم أهل احلل والعقد ولو كان واجباً ملا تركه وأللزموه )ا.ه .
يعين أللزموه ابلرجوع لالغتسال ومن هذا يتبني للناظر أن غسل اجلمعة ليس فرضاً وال شرطاً يف
صحة اجلمعة وإمنا هو سنة يثاب من فعلها وال يعاقب من تركها ،ومن األدلة على أنه ليس بواجب
26
أيضا قوله صلى هللا عليه وسلم يف حديث احلسن عن مسرة " من توضأ يوم اجلمعة فبها ونعمت
ومن اغتسل فالغسل أفضل " وهو حديث حسن ،ومن الصوارف أيضا ما رواه مسلم يف الصحيح
من قوله صلى هللا عليه وسلم " من توضأ مث أتى اجلمعة ...احلديث " وهو نص يف املوضوع ،ومن
ادع ى أن لفظة " من توضأ " لفظة شاذة فإنه مطالب الدليل الدال على صحة هذه الدعوى ،
واملهم أن القول الصحيح يف هذه املسألة هو أن غسل يوم اجلمعة سنة متأكدة وليس بفريضة واجبة
،وأما حديث " غسل يوم اجلمعة واجب على كل حمتلم " فإن الوجوب هنا معناها التأكد ،فهو
سنة مؤكدة ،مجعا بني األدلة ،فلو مل تكن تلك الصوارف لقلنا إن صيغة األمر الواردة يف غسل يوم
اجلمعة تفيد الوجوب ،ولكن ملا ورد الصارف قلنا أبن هذه الصيغة مصروفة من الوجوب إىل الندب
،وهللا أعلم .
احلادي والثالثون :اختلف أهل العلم رمحهم هللا تعاىل يف األمر ابإلسراع ابجلنازة الوارد يف قوله
صلى هللا عليه وسلم " اسرعوا ابجلنازة ،فإهنا إن تك صاحلة فخري تقدموهنا إليه ،وإن تك غري
ذلك فشر تضعونه عن رقابكم " متفق عليه ،فقوله " أسرعوا " هل يفيد الندب أو الوجوب ؟ فيه
خالف ،فذهب اجلمهور إىل أنه للندب ،وذهب الظاهرية وبعض أهل العلم إىل أنه يفيد الوجوب
،واألقرب إن شاء هللا تعاىل أنه للوجوب ،ألن املتقرر يف القواعد أن األمر املتجرد عن القرينة يفيد
الوجوب ،وال أ علم هلذا األمر صارفا عن اببه إىل االستحباب ،وحيث ال صارف فاألصل هو
البقاء على األصل حىت يرد الناقل ،وأنت خبري أبن مذهب اجلمهور ال يصلح أن يكون من
الصوارف كما قدمنا لك ،وأنت خبري أيضا أبن ورود األمر يف ابب اآلداب أيضا ال يصلح أن
يكون من الصوارف له عن الوجوب إىل االستحباب ،بل السلف رمحهم هللا تعاىل طبقوا هذا األمر
تطبيقا عمليا ،فكانوا يسرعون ابجلنازة ،ولكن ليس هو اإلسراع الذي يشني ابلرجل ،وخياف منه
على اجلنازة من السقوط ،بل هو اإلسراع قليال مبا دون اخلبب ،وهلذا قال ابن دقيق العيد وذلك
حبيث ال ينتهي اإلسراع إىل شدة خياف منها حدوث مفسدة ابمليت وقد جعل هللا لكل شيء قدراً
،وهو ما يفعله املسلمون يف األقطار ،فإهنم يسرعون إذا محلوا اجلنازة تطبيقا هلذا احلديث ،قال
األلباين رمحه هللا تعاىل (قلت :ظاهر األمر الوجوب وبه قال ابن حزم ومل جند دليال يصرفه إىل
االستحباب فوقفنا عنده ) وقال ابن القيم يف زاد املعاد ( وأما دبيب الناس اليوم خطوة خطوة فبدعة
مكروهة خمالفة للسنة ومتضمنة للتشبه أبهل الكتاب :اليهود ) وهللا أعلم .
27
الثاين والثالثون :قال النيب صلى هللا عليه وسلم " مطل الغين ظلم ،ومن أحيل على مليء
فليحتل" وهو ما يسميه أهل العلم رمحهم هللا تعاىل بعقد احلوالة ،وهي نقل الدين من ذمة املدين
إىل ذمة مدين آخر ،مبعىن أن زيدا مثال استدان مين عشرة آالف رايل ،وملا حل وقت السداد
أحالين زيد يف سدادها على عمرو ،ألن زيدا له عند عمرو عشرة آالف رايل فإن حولين زيد على
عمرو ألستويف احلق منه ،فهل جيب علي التحول ،مبعىن أنه ال جيوز يل أن أطلب زيدا بعد هذا
التحويل مبا عليه من الدين ،هذا ه و احلوالة ،اليت ينص عليها الفقهاء رمحهم هللا تعاىل يف كتبهم ،
وإمنا شرحتها لك حىت تفهم ما الذي نتكلم عنه ،إذا علمت هذا ،فهل األمر يف قوله "فليحتل"
يفيد الوجوب ،أو ال يفيد إال الندب ؟ اختلف العلماء يف هذا األمر فذهبت الظاهرية إىل وجوب
ذلك على من أحيل عل ى مليء أي وجوب قبول احلوالة وذهب اجلمهور من الفقهاء إىل أنه أمر
ن دب ملا فيه من اإلحسان إىل احمليل لتحصيل مقصوده وهو حتويل احلق عنه واإلحسان ال جيب
فكان مندوابً ،ولكن القول الصحيح إن شاء هللا تعاىل هو القول ابلوجوب ،ولكنه مشروط
بشروط مذكورة يف كتب الفقه ،منها -:أن يكون احملال عليه واجدا للسداد ،الثاين -:أن يكون
ابذال للحق من حني طلبه ،فال يكون معروفا ابملماطلة والتالعب ،الثالث -:أن يكون الدين يف
ذمة احملال عليه بقدر الدين الذي يف ذمة احمليل ،أو أزيد ،املهم أنه ال يكون أنقص ،فإن قلت
-:وهل ال بد من رضا احملال ،واحملال عليه ؟ فأقول -:إن عملية احلوالة ال يشرتط فيها إال رضا
احمليل فقط ،وهو يف مثالنا السابق ( زيد ) وأما احملال ،وهو يف املثال ( أان ) أو احملال عليه ،وهو
يف املثال ( عمرو ) فإنه ال يشرط رضاان ،بل جيب على احملال واحملال عليه قبول هذه احلوالة وعدم
النقاش فيها فيما إن كانت شروطها متوفرة ،ألن األمر يف قوله "فليتبع" أمر وجوب ،إذ ال صارف
له عن اببه إىل الندب ،وال حق للمحال أن يعارض يف أمر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،وال
حق للمحال عليه أن يناقش يف هذه احلوالة فيقبلها أو يرفضها ألن األمر مفصول من قبل الشرع ،
وال خرية هلما فيه ،وهللا أعلم .
الثالث والثالثون :أقول -:قال النيب صلى هللا عليه وسلم " إذا أتى أحدكم أهله مث أراد أن يعود
فليتوضأ " ويف رواية " فإنه أنشط للعود " فهل األمر يف قوله " فليتوضأ " على الوجوب مبعىن أنه ال
جيوز له اجلماع الثاين إال بعد أن يتوضأ ،أو أن األمر على الندب واالستحباب ؟ فيه خالف ،قال
املباركفوري رمحه هللا تعاىل يف التحفة (اختلف العلماء يف الوضوء بينهما فقال أبو يوسف ال
28
يستحب وقال اجلمهور يستحب وقال بن حبيب املالكي وأهل الظاهر جيب ،وقال اجلمهور إن
األمر ابلوضوء يف هذا احلديث لالستحباب ال للوجوب ،واستدلوا على ذلك مبا رواه الطحاوي عن
عائشة قالت كان النيب صلى هللا عليه وسلم جيامع مث يعود وال يتوضأ واستدل بن خزمية على أن
األمر فيه ابلوضوء للندب مبا رواه يف هذا احلديث فقال "فإنه أنشط للعود" فدل على أن األمر
لإلرشاد أو للندب وحديث الباب حجة على أِب يوسف ) واألقرب عندي يف هذه املسألة إن شاء
هللا تعاىل هو ما ذهب له اجلمهور ،وهو أن األمر يف هذا احلديث ليس على اببه الذي هو
الوجوب والتحتم ،وإمنا هو الندب املؤكد ،والصارف لألمر عن اببه عدة أشياء ،األول -:أنه
قال " فإنه أنشط للعود " ويفهم من هذا أن من كان قواي ابألصالة لشدة الرغبة وقوة الطبع ،فإنه
ال حيتاج إىل الوضوء بينهما ،النتفاء العلة يف حقه ،فإنه أصال نشيط ،وال حيتاج إىل ما يزيد يف
ن شاطه ،وهذا يفيد أن األمر للندب ال للوجوب ،إذ لو كان للوجوب لوجب على اجلميع ،الثاين
-:أنه ثبت عنه صلى هللا عليه وسلم أنه أتى نساءه مجيعا بغسل واحد ،واحلديث صحيح ،
وظاهر هذا احلديث أنه مل يتوضأ بني اجلماعني ،مع أنه ليس يف احلديث ما ينفيه ،ولكن الظاهر
ال يدل عليه ،فلهذا قلنا -:أبن األمر هنا للندب ال للوجوب ،وهللا أعلم .
الرابع والثالثون :األمر يف قول النيب صلى هللا عليه وسلم " إذا رأيتم اجلنازة فقوموا " فهل األمر
هنا للوجوب أو الندب؟ أقول -:فيه خالف بني أهل العلم رمحهم هللا تعاىل على أقوال والقول
الصحيح منها إن شاء هللا تعاىل أن القيام هلا ليس للوجوب ،بل هو للندب ،وذلك ألن النيب
صلى هللا عليه وسلم كان أيمر ابلقيام هلا ،مث قعد وأمر ابلقعود ،وهذا ليس نسخا لكل أحاديث
األمر ابلقيام ،بل هو ن سخ للوجوب فقط ،واملتقرر أنه إن نسخ الوجوب ثبت االستحباب ،
فالقيام هلا إمنا ن سخ وجوبه فقط ،وأما استحبابه فباق ،وقد ثبت عنه صلى هللا عليه وسلم القعود
مع مرور اجلنازة يف عدة أحاديث ،مما يفيد أن األمر ليس على الوجوب ،بل على االستحباب ،
قال اإلمام األلباين رمحه هللا تعاىل (والقيام هلا منسوخ ،وهو على نوعني:
أ -قيام اجلالس إذا مرت به.
ب -وقيام املشيع هلا عند انتهائها إىل القب حىت توضع على االرض.والدليل على ذلك حديث
علي رضي هللا عنه ،وله ألفاظ :األول " :قام رسول هللا صلى هللا عليه وسلم للجنازة فقمنا ،مث
جلس فجلسنا ".أخرجه مسلم وابن ماجه والطحاوي والطيالسي وأمحد ،الثاين " :كان يقوم يف
29
اجلنائز ،مث جلس بعد "رواه مالك وعنه الشافعي يف " األم " وأبو داود ،الثالث :من طريق واقد بن
عمرو بن سعد بن معاذ قال " :شهدت جنازة يف بين سلمة ،فقمت ،فقال يل انفع بن جبري:
اجلس فإين سأخبك يف هذا بثبت ،حدثين مسعود بن احلكم الزرقي أنه مسع علي بن أِب طالب
رضي هللا عنه برحبة الكوفة وهو يقول " كان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أيمران ابلقيام يف
اجلنازة ،مث جلس بعد ذلك ،وأمران ابجللوس " أخرجه الشافعي وأمحد والطحاوي وابن حبان يف "
صحيحه " هذا الوجه بلفظ آخر وهو ،الرابع " :قام رسول هللا صلى هللا عليه وسلم مع اجلنائز حىت
توضع ،وقام الناس معه ،مث قعد بعد ذلك ،وأمر هم ابلقعود " .اخلامس :من طريق إمساعيل بن
مسعود بن احلكم الزرقي عن أبيه قال " شهدت جنازة ابلعراق ،فرأيت رجاال قياما ينتظرون أن
توضع ،ورأيت علي ابن أِب طالب رضي هللا عنه يشري إليهم أن اجلسوا ،فإن النيب صلى هللا عليه
وسلم قد أمران ابجللوس بعد القيام " أخرجه الطحاوي بسند حسن)ا.ه .كالمه رمحه هللا تعاىل
.واملراد ابلنسخ هنا ،نسخ الوجوب ال نسخ الندب ،وألن املتقرر أن اجلمع بني األدلة واجب ما
أمكن ،وأن ال يصار إىل النسخ مع إمكانية اجلمع بني األدلة ،وهللا أعلم .
ِ ِ ِ َّ ِ
َجل ُّم َس ًّمى اخلامس والثالثون :قال هللا تبارك وتعاىل َ اي أَيُّ َها الذ َ
ين َآمنُواْ إ َذا تَ َدايَنتُم ب َديْن إ َىل أ َ
وه فقوله " فاكتبوه " هذا أمر ،فهل هو للوجوب أو لالستحباب ؟ فيه خالف بني أهل فَا ْكتُ بُ ُ
العلم رمحهم هللا تعاىل ،قال الشيخ الشنقيطي رمحه هللا تعاىل يف أضواء البيان (ظاهر هذه اآلية
الكرمية أن كتابة الدين واجبة؛ ألن األمر من هللا يدل على الوجوب .ولكنه أشار إىل أنه أمر إرشاد
ِ ِ
ال إجياب بقوله َ وإِ ْن ُكْن تُ ْم َعلَى َس َفر َوَملْ َجت ُدوا َكاتباً فَ ِرَها ٌن َم ْقبُ َ
وضةٌ اآلية؛ ألن الرهن ال جيب
إمجاعا وهو بدل من الكتابة عند تعذرها يف اآلية فلو كانت الكتابة واجبة لكان بدهلا واجبا .وصرح
ض ُك ْم بَ ْعضاً فَ ْليُ َؤهِد الَّ ِذي ْاؤُمتِ َن أ ََمانَتَهُ اآلية ،فالتحقيق أن األمر ِ
بعدم الوجوب بقوله فَِإ ْن أَم َن بَ ْع ُ
يف قوله {فَا ْكتُبُوهُ} للندب واإلرشاد؛ ألن لرب الدين أن يهبه ويرتكه إمجاعا ،فالندب إىل الكتابة فيه
إمنا هو على جهة احليطة للناس ) وهو األقرب إن شاء هللا تعاىل وهللا أعلم .
السادس والثالثون :لقد وردت األدلة آمرة ابختاذ السرتة أمام املصلي ،فقال النيب صلى هللا عليه
وسلم " ليسترت أحدكم يف الصالة ولو بسهم " فهل األوامر يف هذه األحاديث الواردة يف هذا الباب
تفيد الوجوب أو االستحباب ؟ أقول ،فيه خالف بني أهل العلم رمحهم هللا تعاىل وقد سئل الشيخ
حممد بن عثيمني رمحه هللا تعاىل عن هذه املسألة فقال (السرتة للمأموم ليست مبشروعة ألن سرتة
30
اإلمام سرتٌة له وملن وراءه وأما لإلمام واملنفرد فهي مشروعة فيسن أن ال يصلي إال إىل سرتة ولكنها
ليست بواجبة على القول الراجح الذي عليه مجهور أهل العلم حلديث ابن عباس رضي هللا عنهما
أن النيب صلى هللا عليه وسلم كان يصلي يف مىن إىل غري جدار وكان راكباً على محار أَتن أي أنثى
فمر بني يدي بعض الصف فلم ينكر ذلك عليه أحد فقوله إىل غري جدار قال بعض أهل العلم إمنا
أراد رضي هللا عنه إىل غري سرتة ألن الغالب يف عهد الرسول صلى هللا عليه وسلم أن مىن ليس فيها
بناء وحلديث أِب سعيد " إذا صلى أحدكم إىل شيء يسرته من الناس فأراد أحد أن جيتاز بني يديه
فليدفعه" فقوله إذا صلى إىل شيء يسرته يدل على أن الصالة إىل السرتة ليست بالزمة وإال ملا
احتيج إىل القيد وعلى هذا فيكون األمر ابلسرتة أمراً للندب وليس للوجوب هذا هو القول الراجح
يف اختاذ السرتة وأما قول السائل هل يكفي اخلط فنقول إنه قد روي عن النيب صلى هللا عليه وسلم
أنه أمر ابختاذ السرتة وقال فإن مل جيد فليخط خطاً وهذا احلديث علله بعض العلماء وطعن فيه أبنه
مضطرب ولكن ابن حجر يف بلوغ املرام قال (مل يصب من زعم أنه مضطرب بل هو حسن) وهلذا
لو كان اإلنسان ليس عنده ما يكون شاخصاً جيعله سرتة فليخط خطاً وإذا مل يكن له سرتة فله حق
حق يف منع الناس من املرور به إال إذا كان مبقدار ما ينتهي إليه سجوده وما وراء ذلك فليس له ٌ
يصلي على سجادة أو حنوها فإن له احلق يف منع من مير على هذه السجادة) وهللا أعلم .
الِلُ هل األمر هنا يفيد وه َّن ِم ْن َحْي ُ
ث أ ََمَرُك ُم ه السابع والثالثون :قوله تعاىل فَِإ َذا تَطَ َّه ْر َن فَأْتُ ُ
الوجوب أم ماذا ؟ واجلواب -:أن األمر هنا ال يفيد الوجوب وال الندب ،بل يفيد اإلابحة فقط ،
وذلك أنه قد تقرر يف األصول أن األمر بعد احلظر يفيد ما كان يفيده قبل احلظر واجلماع كان قبل
النهي عنه مباح ،مث حرم بسبب احليض ،مث عاد الشارع وأمر به بعد الطهر واالغتسال ،فهذا أمر
بعد منع ،واألمر بعد املنع يفيد اإلابحة ،وعليه -:فمن مجلة الصوارف لألمر عن اببه إىل اإلابحة
ادواْ فإن الصيد كان حالال وروده بعد املنع ،كما هنا ،وكما يف قوله تعاىل َ وإِذَا َحلَْلتُ ْم فَ ْ
اصطَ ُ
يف األصل ،مث حرمه هللا تعاىل على احملرم ،مث عاد فأ مره هللا تعاىل به بعد حتلله من النسك ،فهو
أمر بعد منع ،واملتقرر أن األمر بعد املنع يفيد اجلواز فقط وكما يف قوله صلى هللا عليه وسلم "
كنت هنيتكم عن ادخار حلوم األضاحي من أجل الدافة ،أال فكلوا وادخروا " فقوله " وادخروا " أمر
بعد حظر ،أي منع ،فيفيد جواز االدخار فقط ،ألن ادخار شيء من حلم األضاحي كان مباحا
،مث منع من أجل الدافة ،وهم الفقراء من األعراب وغريهم ،مث عاد فأمر به مرة أخرى ،فال يفيد
31
بعد األمر به إال ما كان يفيده قبل النهي عنه وقد كان قبل النهي عنه مباحا ،فهو اآلن مباح ،
تضي ِ
ِ ِ
ألن املتقرر أن األمر بعد احلظر يفيد ما كان يفيده قبل احلظر ،وكما يف قوله تعاىل فَإ َذا قُ َ
الِلِ أي ابلبيع والشراء ،وقد كان هنى عنه قبل ذلك ض َوابْتَ غُوا ِمن فَ ْ
ض ِل َّ الص َال ُة فَانتَ ِشُروا ِيف ْاأل َْر ِ
َّ
بقوله َ وذَ ُروا الْبَ ْي َع فالبيع هنا مأمور به ،ولكنه مأمور به من بعد منع ،فهو أمر بعد حظر ،
واألمر بعد احلظر يفيد ما كان يفيده قبل احلظر ،والبيع كان قبل املنع جائزا ،فهو بعد األمر به
كذلك مباح ،وهللا أعلم .
الثامن والثالثون :سئل الشيخ حممد بن عثيمني رمحه هللا تعاىل عن حكم احللق أو التقصري ابلنسبة
للعمرة ؟ فأجاب بقوله (احللق أو التقصري ابلنسبة للعمرة واجب ألن النيب ،صلى هللا عليه وسلم ملا
قدم مكة حجة الوداع وطاف وسعى أمر كل من مل يسق اهلدي أن يقصر مث حيلق فلما أمرهم أن
يقصروا واألصل يف األمر للوجوب دل على أنه البد من التقصري ،ويدل لذلك أن النيب عليه الصالة
والس الم أمرهم حني أُحصروا يف غزوة احلديبية أمرهم أن حيلقوا حىت أنه صلى هللا عليه وسلم غضب
حني توانوا يف ذلك ،وأما هل األفضل يف العمرة التقصري أو احللق فاألفضل احللق إال للمتمتع الذي
قدم متأخراً ،فإن األفضل يف حقه التقصري من أجل أن يتوفر احللق للحج) وهو كما قال ،وهللا
أعلم .
وه ْم ِيف ِ الِل صلَّى َّ ِ التاسع والثالثون :قال رس َ ِ
ُحد يف شأن الشهداء " َزهملُ ُ الِلُ َعَلْيه َو َسلَّ َم يَ ْوَم أ ُ ول َّ َ َُ
ال " رِمي رجل بِسهم ِيف ص ْد ِرهِ ،أَو ِيف ح ْل ِق ِ ِ ِِ
ِج ِيف
َ ر د
ْ ُ
أ ف
َ ات
َ مَ ف
َ ، ه ْ َ َ وع ْن َجابِر رضي هللا عنه قَ َ ُ َ َ ُ ٌ َ ْ ثيَاهب ْم " َ
الِلُ َعَلْي ِه َو َسلَّ َم " رواه أبو داود أقول -:اختلف صلَّى َّ ول َِّ
ال :وَْحنن مع رس ِ ِ ِِ
الِل َ ثيَابه َك َما ُه َو ،قَ َ َ ُ َ َ َ ُ
الفقهاء يف أمر النيب صلى هللا عليه وسلم بدفن الشهداء يف ثياهبم ،هل هو على سبيل االستحباب
واألولوية ،أم على سبيل الوجوب ؟ على قولني ،األول :أنه على سبيل االستحباب ،قال به
الشافعية وبعض احلنابلة ،قال النووي ( مث وليه ابخليار إن شاء كفنه مبا عليه ،وإن شاء نزعه وكفنه
بغريه ،وتركه أفضل ) وقال ابن قدامة ( وليس هذا حبتم ،لكنه األوىل ،وللويل أن ينزع عنه ثيابه
ويكفنه بغريه ا ) واستدلوا على عدم الوجوب مبا رواه أمحد عن الزبري أن أمه صفية ( وهي أخت
ِ محزة ) أتت يوم أحد بثوبني وقالت :ه َذ ِان ثَواب ِن ِجْئ ِِ ِ
ت هب َما ألَخي َمحَْزَة فَ َق ْد بَلَغَِين َم ْقتَ لُهُ فَ َك هفنُ ُ
وه ُ َْ َ
يل قَ ْد فُعِ َل بِِه ني لِنُ َك هِفن فِي ِهما َمحزةَ فَِإذَا إِ َىل جْنبِ ِه رجل ِمن األَنْصا ِر قَتِ ال :فَ ِجْئ نَا ِابلثَّوبَْ ِ َ َق ، ام فِي ِ
ه
ٌ َ ْ ٌ ُ َ َ َ ْ َ َ ْ َ
ي ال َك َف َن لَهُ ، صا ِر ُّ اض ًة و َحيَاء أَ ْن ن َك هِفن َمحَْزَة ِيف ثَوبَْ ِ
ني َواألَنْ َ َك َما فُعِ َل ِ َحب ْمَزَة ،قَ َ
ْ َ ض َ َ ً ال :فَ َو َج ْد َان َغ َ
32
ِ فَ ُق ْلنا ِ :حلمزَة ثَو ِ
اآلخ ِر فَأَقْ َر ْعنَا بَْي نَ ُه َما فَ َك َّفنَّا
َح ُد ُمهَا أَ ْك ََب م ْن َ صا ِر ِهي ثَ ْو ٌ
ب فَ َق َد ْرَان ُمهَا فَ َكا َن أ َ ب َولألَنْ َ
َ َْ َ ْ ٌ
ِ ِ ِ ِ
ص َار لَهُ .القول الثاين :أن األمر على سبيل الوجوب ،وهو ُك َّل َواحد مْن ُه َما ِيف الث َّْوب الَّذي َ
مذهب املالكية واحلنابلة واختاره ابن القيم والشوكاين ،قال املرداوي ( والصحيح يف املذهب أنه جيب
دفنه يف ثيابه اليت قتل فيها ) وقال اإلمام مالك ( إن أراد وليه أن يزيد على ما عليه وقد حصل له
ما جيزئ يف الكفن مل يكن له ذلك ،وال يزاد عليه شيء ) وقال الشوكاين ( والظاهر أن األمر بدفن
الشهيد مبا قتل فيه من الثياب للوجوب) وأجابوا عن حديث محزة :أبنه كفن يف كفن آخر ألن
الكفار كانوا مثلوا به وبقروا بطنه ،واستخرجوا كبده ،وأخذوا ثيابه ،فلذلك كفن يف كفن آخر .
قاله ابن القيم وقال ابن رشد ( من عراه العدو ال رخصة يف ترك تكفينه ،بل ذلك الزم ،كفن
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم الشهداء يوم أحد اثنان يف ثوب ) والقول الصحيح هو القول الثاين
،وهو أن األمر للوجوب ،إذ ال صارف لألمر هنا عن اببه ،وهللا أعلم .
الفرع املويف لألربعني :سئلت اللجنة الدائمة عن حكم إعفاء اللحية يف اإلسالم وهل أيمث من
حيلقها أو ال؟ فأجابوا بقوهلم ( احلمد هلل وحده والصالة والسالم على رسوله وآله وصحبه ..وبعد:
ثبت يف احلديث الصحيح أن النيب صلى هللا عليه وسلم قال « جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا
اجملوس » رواه أمحد ومسلم وقال صلى هللا عليه وسلم « خالفوا املشركني ،وفروا اللحى وأحفوا
الشوارب » رواه أمحد والبخاري ومسلم .والصحيح أن األمر للوجوب كما هو األصل فيه وخاصة
إذا أحتفت به قرائن كما يف هذين احلديثني فمن حلق حليته فقد أساء وخالف مقتضى الفطرة
ابتفاق املسلمني وأمث حبلقه هلا ) وقالوا يف موضع آخر ( إن ه من املستقر يف الشرع املطهر وجوب
إ عفاء اللحية بداللة الفطرة وسنة النيب صلى هللا عليه وسلم وأمر النيب صلى هللا عليه وسلم بتوفري
اللحية ،واألصل يف األمر أنه للوجوب ،واألمر مبخالفة املشركني من اجملوس وغريهم ،واألصل يف
النهي أنه للتحرمي ،وأنه حيرم على املسلم التعرض للحيته حبلق أو قص أو نتف ملخالفته الدالئل
املذكورة ،وأدلة هذا احلكم كما أييت :أما داللة الفطرة :فقد ثبت من حديث عائشة رضي هللا
عنها أن النيب صلى هللا عليه وسلم قال « عشر من الفطرة :قص الشارب ،وإعفاء اللحية والسواك
» احلديث .رواه أمحد ومسلم وأصحاب السنن وغريهم .وأما سنة النيب صلى هللا عليه وسلم فقد
ثبت من صفة النيب صلى هللا عليه وسلم أنه « كان صلى هللا عليه وسلم كث اللحية » ويف لفظ «
كثري شعر اللحية » وكانت قراءته صلى هللا عليه وسلم يف الصالة السرية يعرفها من خلفه
33
ابضطراب حليته ،كما يف صحيح البخاري وغريه من حديث أِب معمر رضي هللا عنه .وأما أمر
النيب صلى هللا عليه وسلم :فقد كثرت السنن الصحيحة بذلك صرحية يف األمر هبا بلفظ « أعفوا
اللحى » ولفظ " أرخوا " ولفظ " وفروا " ولفظ "أوفوا" وهذه األلفاظ تعين عدم التعرض للحية
حبلق أو قص أو نتف .وهذا األمر إبعفاء اللحية قد حكى اإلمجاع على وجوبه ابن حزم رمحه هللا
تعاىل ،كما نقله عنه ابن مفلح رمحه هللا تعاىل يف الفروع ،هلذا فيجب على كل مسلم إعفاء حليته
؛ إبقاء للفطرة ،وأتسيا ابلنيب صلى هللا عليه وسلم يف فعله ،وامتثاال ألمره صلى هللا عليه وسلم
إبعفائها ومعلوم أن األمر يقتضي الوجوب حىت يوجد صارف لذلك عن أصله وال نعلم ما يصرفه
عن ذلك وأنه ال جيوز ملسلم التعرض للحية حبلق أو قص أو نتف ،فإن ذلك حرام على املسلم فعله
؛ ملخالفته الدالئل املذكورة ،وهني النيب صلى هللا عليه وسلم عن مشاهبة املشركني من اجملوس وغريهم
،وأصل النهي للتحرمي حىت يوجد صارف له عن أصله ،وال نعلم دليال يصلح لالحتجاج به يصرفه
عن ذلك األصل .وبناء على ما ذكر فإن القول ِبواز قص ما زاد على القبضة قول معارض هلذه
ول فَ ُخ ُذوهُ َوَما َ ،ها ُك ْم
الر ُس ُ
آَت ُك ُم َّ
األدلة اجللية من السنة النبوية ،وهللا سبحانه وتعاىل يقول َ وَما َ
ُس َوةٌ َح َسنَةٌ ويقول عز من قائل ول َِّ َعْنه فَانْتَ هوا وقوله عز شأنه لََق ْد َكا َن لَ ُكم ِيف رس ِ
الِل أ ْ ْ َُ ُ ُ
اخلََِريةُ ِم ْن أ َْم ِرِه ْم فالواجب على الِلُ َوَر ُسولُهُ أ َْمًرا أَ ْن يَ ُكو َن َهلُُم ْ ِ ِ ِ
َوَما َكا َن ل ُم ْؤمن َوَال ُم ْؤمنَة إِ َذا قَ َ
ضى َّ
املسلم طاعة هللا تعاىل وطاعة رسوله صلى هللا عليه وسلم وترك االلتفات إىل ما خيالف األدلة
الشرعية فإن الواجب هو اتباع املعصوم صلى هللا عليه وسلم كما أن ما ذهب إليه املؤلف من كراهة
الصبغ ابلسواد قول خمالف للصواب ؛ ألن األدلة من السنة صحيحة صرحية يف النهي عنه وأصل
ا لنهي للتحرمي ،ومل يوجد دليل صارف عنه .هلذا رأت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء
إصدار هذه الفتوى ؛ بياان للسنة ونصرة هلا وحتذيرا من االغرتار ابألقوال املهجورة املخالفة للسنة
ومنها ما ذهب إليه صاحب الكتاب املذكور ،وننصحه أبن عليه مراجعة احلق والرجوع إليه والكف
عن ن شر مثل هذا الرأي الذي خيالف السنة القولية والفعلية ،وما جرى عليه عامة املسلمني من
الصدر األول الصحابة رضي هللا عنهم إىل عصران ،وملا يف نشر اآلراء املخالفة لألدلة الشرعية من
ترقيق الداينة وجترئة الناس على خمالفة السنة .وابهلل التوفيق ،وصلى هللا على نبينا حممد وآله
وصحبه وسلم ) وهللا أعلم .
34
احلادي واألربعون :وسئلوا أيضا عن حكم الوضوء من مس الذكر ،فأجابوا بقوهلم ( الراجح من
أقوال العلماء يف هذه املسألة قول اجلمهور ،وهو نقض وضوء من مس ذكره ؛ ألن حديث « ما هو
إال بضعة منك » ضعيف ،ال يقوى ع لى معارضة األحاديث الصحيحة الدالة على أن من مس
ذكره فعليه الوضوء .واألصل أن األمر للوجوب وعلى تقدير عدم ضعفه فهو منسوخ حبديث « من
مس ذكره فليتوضأ ») وهو كما قالوا ،وهللا أعلم .
الثاين واألربعون :وسئلوا أيضا سؤاال هذا نصه -:هللا تعاىل يقول يف القرآن الكرمي وقوله حق
ضى إىل آخر اآلية ،وهل القراءة املذكورة يف ِ فَاقْ رءوا ما تَي َّسر ِمن الْ ُقر ِ ِ
آن َعل َم أَ ْن َسيَ ُكو ُن مْن ُك ْم َم ْر َ َُ َ َ َ َ ْ
وم أ َْد َىن
َّك تَ ُق ُ هذه اآلية متعلقة بصالة النافلة أو الفريضة؟ فأجابوا بقوهلم ( آية إِ َّن َربَّ َ
ك يَ ْعلَ ُم أَن َ
ِ ِمن ثُلُث ِي اللَّي ِل ونِص َفه وثُلُثه وطَائَِفةٌ ِمن الَّ ِذين معك و َّ ِ
صوهُ الِلُ يُ َق هد ُر اللَّْي َل َوالن َ
َّه َار َعل َم أَ ْن لَ ْن ُْحت ُ َ َ ََ َ َ ْ َ ْ َ ْ ُ َ َُ َ
اب َعلَْي ُك ْم فَاقْ َرءُوا َما تَيَ َّسَر ِم َن الْ ُق ْرآ ِن …إىل آخرها ،نزلت يف صالة الليل وقد ثبت أن النيب فَتَ َ
صلى هللا عليه وسلم قال ملن أساء يف صالته « إذا قمت إىل الصالة فكب مث اقرأ ما تيسر معك من
القرآن » احلديث فأمره بقراءة املتيسر من القرآن بعد تكبرية اإلحرام واملراد بذلك الفاحتة ،واألمر
للوجوب ،والصالة عا مة للفريضة والنافلة فدل ذلك على وجوب قراءة الفاحتة يف الصالة مطلقا،
وبني ذلك وأكده حديث عبادة بن الصامت أن النيب صلى هللا عليه وسلم قال « ال صالة ملن مل
يقرأ بفاحتة الكتاب »رواه البخاري ومسلم وغريمها )
الثالث واألربعون :وسئلوا أيضا عن األمر الوارد بقراءة املعوذتني دبر الصالة ،هل هو للوجوب أو
للندب ؟ فأجابوا بقوهلم ( األمر يف احلديث بقراءة املعوذتني دبر كل صالة لالستحباب وليس
للوجوب وهذا إلمجاع املسلمني على عدم وجوب هذه القراءة ) وهللا أعلم .
الرابع واألربعون :قوله صلى هللا عليه وسلم " إذا توضأمت فابدءوا مبيامنكم " هذا أمر ،واألصل أنه
يفيد الوجوب ،ولكن الصارف له عن الوجوب إىل االستحباب إمجاع أهل العلم رمحهم هللا تعاىل
على أن التيامن يف الوضوء ليس من الواجبات ،بل من املندوابت ،واإلمجاع من األدلة الشرعية
اليت تصلح أن تصرف األمر عن اببه إىل االستحباب ،وال عبة خبالف ابن حزم ألنه مسبوق
ابإلمجاع يف هذه املسألة ،فالقول أبن التيامن يف الضوء فيما هو كالعضو الواحد كاليدين والرجلني
هو مندوب فقط ،فلو أخل به فال حرج ،فالتَّيَ ُامن يف الوضوء بِغَ ْس ِل اليُمىن قبل اليُسرى
35
َّيام َن ِيف ُك هل َش ْيء َوأ ََمَر بِه املسلمني، سول صلى هللا عليه وسلم كان ُِحي ُّ
ب الت ُ الر َ فمستحب؛ َّ
ألن َّ ٌّ
ب وحرص على تنفيذه؛ فعن عائشةَ رضي هللا عنها قالت " كان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ُِ
حي
ه
وترجله وطهورهِ ،ويف شأْنِه ُكهله" متَّفق عليه .وهو مذهب اجلمهور؛ قال النووي ( تنعلِه ُّ َّيامن ِيف ُّ
الت ُ
استحباب البداءة ابليمني ِيف ُك هل ما كان من ابب التَّكرمي والتَّزيني ،وما كان
ُ املستمرة
َّ قاعدة الشرع
أن تقدميَ اليمني يف الوضوء ُسنَّةَ ،م ْن خالفها العلماءُ على َّ بِ ِ
َمجَع ُ
استحب فيه التَّياسر ،قال :وأ ْ
َّ ض هدها
وضوؤه ) وهللا أعلم .
الفضل ومتَّ ُ ُ فاتَهُ
اخلامس واألربعون :سئل الشيخ حممد بن عثيمني رمحه هللا تعاىل عن حكم أتخري الزواج هل أيمث
من يفعله ؟ فأجاب رمحه هللا تعاىل ب قوله ( أتخري الزواج للرجل إذا كان قادرا قدرة مالية وبدنية
خمالف لتوجيه الرسول عليه الصالة والسالم فإن الرسول صلى هللا عليه وسلم قال " اي معشر
الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن مل يستطع فعليه
ابلصوم فإنه له وجاء " واختلف العلماء رمحهم هللا يف الشاب الذي له شهوة وقدرة على النكاح هل
أيمث يف أتخريه أو ال أيمث فمنهم من قال إنه أيمث ألن األمر فيه للوجوب وأتخري الواجب حمرم ومنهم
من قال إنه ال أيمث ألن األمر فيه لإلرشاد إال أن خياف الزان برتكه فحينئذ جيب عليه درءاً هلذه
املفسدة وعلى كل حال فإن ن صيحيت إلخواين الذين أعطاهم هللا عز وجل املال وعندهم شهوة أن
يتزوجوا إن كانوا مل يتزوجوا أول مرة فليتزوجوا وليبادروا وإن كان عندهم زوجات وكانوا حمتاجني إىل
زوجات أخرى فإهنم يتزوجون وقد أابح هللا هلم أن يتزوجوا أربعا والنيب عليه الصالة والسالم حث
على كثرة األوالد يف األمة اإلسالمية وقال " تزوجوا الودود الولود فإين مكاثر بكم األمم يوم القيامة
" فال شك أن تعدد الزوجات سبب ل كثرة األوالد وصح عن عبد هللا بن عباس رضي هللا عنهما أنه
قال "خري هذه األمة أكثرها نساء" ولكن التعدد جائز أو حممود ومشروع بشرط أن يكون اإلنسان
قادراً على العدل قدرة بدنية وقدرة مالية فإن خاف أن ال يعدل فقد قال هللا تعاىل فَ ِ
انك ُحوا َما
ِ ِ ِ ِ ِ
ك ع فَِإ ْن خ ْفتُ ْم أَالَّ تَ ْعدلُوا فَ َواح َد ًة أ َْو َما َملَ َك ْ
ت أَْميَانُ ُك ْم َذل َ اب لَ ُك ْم ِم َن النهِ َساء َمثْ َىن َوثُ َ
الث َوُرَاب َ طَ َ
أ َْد َىن أَالَّ تَ ُعولُوا )
السادس واألربعون :أقول -:قد ثبت أن النيب صلى هللا عليه وسلم أمر بقتل احليات يف أحاديث
كثرية ،منها -:ما رواه مسلم عن عائشة رضي هللا عنها أن النيب صلى هللا عليه وسلم قال "مخس
فواسق يقتلن يف احلل واحلرم :احلية ،والغراب األبقع ،والفأرة ،والكلب العقور واحلُ َد َّاي " وما رواه
36
مسلم وغريه أن رجالً سأل ابن عمر رضي هللا عنهما :ما يقتل الرجل من الدواب وهو حمرم؟ قال
حدثتين إحدى ن سوة النيب صلى هللا عليه وسلم أنه كان أيمر بقتل الكلب العقور ،والفأرة،
والعقرب ،واحلداي ،والغراب واحلية ،قال :ويف الصالة أيضاً ،وما رواه أبو داود والرتمذي من حديث
أِب هريرة رضي هللا عنه أن الرسول صلى هللا عليه وسلم " أمر بقتل األسودين يف الصالة :احلية
والعقرب" ويف هذه األحاديث أيمر النيب صلى هللا عليه وسلم بقتل احليات ،واألصل يف األوامر أهنا
للوجوب ،ولذلك فإنه جيب على كل من رأى هذه احليات أن يقتلها إن استطاع ذلك ،اتقاءً
لشرها ودفعاً لضررها عن الناس ،إذ لو تركها لرمبا أصابت إنساانً فأحلقت به األذى ،أو تعرضت
حليوان فأهلكته ،وحنو ذلك .وهبذا يتبني املقصود من أمر النيب صلى هللا عليه وسلم من قتل احليات
،وهو :دفع ضررها وخطرها وأذاها عن الناس .ومن قال إن األوامر يف هذه األحاديث ال تفيد إال
الندب فإنه مطالب ابلدليل الدال على صحة دعواه ،ألن املتقرر أن األمر املطلق عن القرينة يفيد
الوجوب ،وهللا أعلم .
السابع واألربعون :اختلف أهل العلم رمحهم هللا تعاىل يف مسألة نقض املرأة لرأسها يف الغسل
الواجب ،فذهب البعض إىل القول ابلوجوب ،مستدلني أبمر النيب صلى هللا عليه وسلم لعائشة
بنقض شعرها ،يف قوله " انقضي شعرك وامتشطي " وأبمره ألمساء بدلك شعرها دلكا شديدا
وذهب بعض أهل العلم رمحهم هللا تعاىل إىل القول أبن النقض من املندوابت إن كان املاء يتخلل
ألصول الشعر بال ن قض ،وأما إن كان املاء ال يصل إىل أصول الشعر إال ابلنقض فالواجب نقضه
ألن ما ال يتم الواجب إال به فهو واجب ،وهذا القول هو الصحيح إن شاء هللا تعاىل ،فإن قلت
-:وما الصارف لألمر يف األحاديث السابقة من الوجوب إىل الندب ؟ فأقول -:الصارف هلا
حديث أم سلمة رضي هللا عنها أهنا قالت للنيب صلى هللا عليه وسلم " إين امرأة أشد ظفر رأسي ،
أفأنقضه لغسل اجلنابة -ويف رواية واحليضة -فقال " ال ،إمنا يكفيك أن حتثي على رأسك ثالث
حثيات ،مث تفيضني عليك املاء فتطهرين " رواه مسلم ،فتجويزه هلا أن تغتسل بال نقض لشعرها
دليل على أن األمر ابلنقض ليس على اببه وإمنا هو مصروف عنه إىل الندب ،ولكن أقول -:إن
استحباب النقض يف غسل احليض آكد من استحباب النقض يف غسل اجلنابة ،قال الشيخ حممد
بن إبراهيم رمحه هللا تعاىل ( الراجح يف الدليل عدم وجوب نقضه يف احمليض كعدم وجوبه يف اجلنابة،
ين ْامَرأَة))ِِ ِ
إال أَنه يف احمليض مشروع لألَدلة ،واألَمر فيه ليس للوجوب ،بدليل حديث أُم سلمة ((إ هْ
37
مندواب يف حقها النقض وكان يراه ً وهذا اختيار صاحب اإلنصاف والزركشي .وأَما اجلنابة فليس
مشروعا يف اجلنابة
ً عبدهللا بن عمرو وكانت عائشة تقول :أَفال أَمرهن أَن حيلقنه .احلاصل أَنه ليس
وهو متأَكد يف احمليض وأتَكده خيتلف قوًة وضع ًفا حبسب بعده عن النقض وقربه ) .
الثامن واألربعون :سئل اإلمام الشيخ األلباين رمحه هللا تعاىل عن حكم صالة الوتر؟ فأجاب رمحه
ص َال ِة ِ هللا تعاىل بقوله ( قال عليه الصالة السالم " إِ َّن َّ
ني َ صُّل َ
وها بَْ َ ص َال ًة َوه َي الْ ِوتْ ُر فَ َ
الِلَ َزا َد ُك ْم َ
الْعِ َش ِاء إِ َىل ص َالةِ الْ َفج ِر " يدل ظاهر األمر يف قوله صلَّى َّ ِ
وها) على وجوب صلُّ َ
الِلُ َعلَْيه َو َسلَّ َم (فَ َ َ ْ َ
صالة الوتر ،وبذلك قال احلنفية ،خالفاً للجماهري ،ولوال أنه ثبت ابألدلة القاطعة كقول هللا
تعاىل يف حديث املعراج " هن مخس يف العمل مخسون يف األجر ال يبدل القول لدي " متفق عليه ،
الِلُ َعلَْي ِه َو َسلَّ َم لألعراِب حني قال :ال أزيد عليهن وال أنقص " أفلح الرجل إن صدق صلَّى َّ
وكقوله َ
" متفق عليه حصر الصلوات املفروضات يف كل يوم وليلة خبمس صلوات لكان قول احلنفية أقرب
إىل الصواب ،ولذلك فال بد من القول أبن األمر هنا ليس للوجوب ،بل لتأكيد االستحباب ،
وكم من أوامر كرمية صرفت من الوجوب أبدىن من تلك األدلة القاطعة وقد انفك األحناف عنها
بقوهلم :إهنم ال يقولون أبن الوتر واجب كوجوب الصلوات اخلمس بل هو واسطة بينها وبني
السنن ،أضعف من هذه ثبوَتً ،وأقوى من تلك أتكيداً .فليعلم أن قول احلنفية هذا قائم على
اصطالح هلم خاص حادث ،ال تعرفه الصحابة وال السلف الصاحل ،وهو تفريقهم بني الفرض
والواجب ثبوَتً وجزاء ،كما هو مفصل يف كتبهم .وإن قوهلم هبذا معناه التسليم أبن َترك الوتر
معذب يوم القيامة عذاابً دون عذاب َترك الفرض ،كما هو مذهبهم يف اجتهادهم ،وحينئذ يقال
الِلُ َعلَْي ِه َو َسلَّ َم ملن عزم على أن ال يصلي غري الصلواتصلَّى َّ
هلم :وكيف يصح ذلك مع قوله َ
الِلُ َعلَْي ِه َو َسلَّ َم
صلَّى َّ
اخلمس ( أفلح الرجل ) ؟ وكيف يلتقي الفالح مع العذاب ؟ فال شك أن قوله َ
هذا وحده كاف لبيان أن صالة الوتر ليست بواجبة ،وهلذا اتفق مجاهري العلماء على سنيته وعدم
وجوبه ،وهو احلق .ن قول هذا مع التذكري والنصح ابالهتمام ابلوتر ،وعدم التهاون عنه ،هلذا
احلديث وغريه ،وهللا أعلم)ا.ه .كالمه رمحه هللا تعاىل ،فبان لك هبذا أن الوتر من السنن املؤكدة ،
ألن صيغة األمر به قد ورد هلا ما يصرفها عن ابهبا إال الندب ،وهللا أعلم .
الِلُ َعلَْي ِه َو َسلَّ َم «من
صلَّى َّ
التاسع واألربعون :عن ابن عمر رضي هللا عنهما قال :قال رسول هللا َ
سأل ابهلل فأعطوه ؛ ومن استعاذ ابهلل ؛ فأعيذوه ،ومن دعاكم ؛ فأجيبوه ،ومن صنع إليكم معروفا
38
؛ فكافئوه ،فإن مل جتدوا ما تكافئوه ،فادعوا له حىت تروا أنكم قد كافأمتوه » رواه أبو داود
والنسائي بسند صحيح ،قال الشيخ حممد رمحه هللا تعاىل ( قوله " فأعطوه " األمر هنا للوجوب ما
مل يتضمن السؤال إمثا أو ضررا على املسؤول ؛ ألن يف إعطائه إجابة حلاجته وتعظيما هلل عز وجل
الذي سأل به .وال يشرتط أن يكون سؤاله بلفظ اجلاللة بل بكل اسم خيتص ابهلل ،كما قال امللك
الذي جاء إىل األبرص والقرع واألعمى « أسألك ابلذي أعطاك كذا وكذا » ) وهللا أعلم .
ضَّق َعلَ َّي أَِِب بِبَ ْع ِ
صد َ
ال (( تَ َ ان بْ ِن بَ ِشري رضي هللا عنهما قَ َ الفرع املويف للخمسني :ع ِن النُّعم ِ
َ َْ
ول َِّ الِلِ ،فَانْطَلَق أَِِب َإىل رس ِ مالِِه .فَ َقالَ ِ
الِل َُ َ ول َّضى َح َّىت تُ ْش ِه َد َر ُس َ احةَ :ال أ َْر َ ت َرَو َت أ هُمي َع ْمَرةُ بِْن ُ
ْ َ
ال " اتَّ ُقوا ََّ
الِل ال :ال .قَ َ ت َه َذا بَِولَ ِد َك ُكلهِ ِه ْم ؟" قَ َ ول َِّ
الِل " أَفَ َع ْل َ ال لَهُ َر ُس ُ ليُ ْش ِه َده َعلَى َ
ص َدقَِيت فَ َق َ ِ
ِ ِ
الص َدقَةَ " َوِيف لَ ْفظ " فَال تُ ْش ِه ْدِين إذاً ،فَِإِهين ال أَ ْش َه ُد ك َّ َو ْاعدلُوا ِيف أ َْوالد ُك ْم " فََر َج َع أَِِب ،فََرَّد تِْل َ
َعلَى َج ْور " هذا احلديث فيه مشروعية العدل بني األوالد [ ذكوراً وإاناثً ] يف العطية وهذا ابإلمجاع
.واختلفوا هل هي واجبة أم مستحبة ،القول األول :أن املساواة واجبة يف عطية األوالد .فال جيوز
أن يعطي الولد دون البنت ،أو البنت دون الولد ،أو ولد دون ولد .قال الشوكاين (وبه صرح
البخاري ،وهو قول طاووس والثوري وأمحد وإسحاق وبعض املالكية) واستدلوا :بقوله " اتقوا هللا
واعدلوا بني أوالدكم " القول الثاين :أن التسوية مستحبة ال واجبة وهذا مذهب اجلمهور وعلى هذا
القول :فلو أعطى ولداً ومل يعط اآلخر ،فال حيرم ،وإذا أعطى ولداً دون بنت ،فال حيرم ومحلوا
األمر يف حديث الباب على االستحباب .وأجابوا عن حديث الباب أبجوبة كثرية ذكرها احلافظ
ابن حجر يف فتح الباري :
منها :أن املوهوب للنعمان كان مجيع مال والده ،حكاه ابن عبد الب ،وتعقب :أبن كثرياً من
طرق احلديث مصرحة ابلبعضية ،كما يف حديث الباب ( تصدق علي أِب ببعض ماله)
ومنها :أن العطية املذكورة مل تنجز ،وإمنا جاء بشري يستشري النيب ( يف ذلك فأشار عليه أبن ال
يفعل فرتك .وتعقب :أبن أمر النيب له ابالرجتاع يشعر ابلتنجيز .
ومنها :أن قوله " أشهد على هذا غريي " إذن ابإلشهاد على ذلك ،وإمنا امتنع من ذلك لكونه
اإلمام ،وكأنه قال :ال أشهد ألن اإلمام ليس من شأنه أن حيكم .وتعقب :أن اإلذن املذكور املراد
به التوبيخ ،ملا تدل عليه بقية الرواايت .وغريها من األجوبة الضعيفة .والراجح القول األول ،ألن
األمر يف قوله " اتقوا هللا واعدلوا بني أوالدكم " ال صارف له ،بل يدل عليه ويؤيده األدلة العامة
39
اآلمرة ابلعدل ،وحيث ال صارف هلا فاألصل هو البقاء على الوجوب حىت يرد الناقل ،وهللا تعاىل
أعلى وأعلم .
الِل صلى هللا عليه وسلم َرأَى َعْب َد ول َِّ َن َر ُس َس بْ ِن َمالِك (( أ َّ الفرع احلادي واخلمسون َ :ع ْن أَنَ ِ
ول َِّ ِ
ت ْامَرأًَة ،
الِل تََزَّو ْج ُ ال َ :اي َر ُس َ ال النِ ُّ
َّيب " َم ْهَي ْم "؟ فَ َق َ الر ْمحَ ِن بْ َن َع ْوف َ ،و َعلَْيه َرْد ُ
ع َز ْع َفَران .فَ َق َ َّ
ك ،أ َْوِملْ َولَ ْو بِ َشاة " وقد الِلُ لَ َ
ال " فَبَ َارَك َّ ال َ :وْز َن ن َواة ِم ْن َذ َهب قَ َ َص َدقْ تَ َها "؟ قَ َ
ال " َما أ ْ فَ َق َ
اختلف العلماء يف حكمها على قولني :القول األول :أهنا مستحبة .وهذا مذهب مجاهري العلماء
.لقوله ( أومل ) ...وهذا أمر ،وأقل أحواله االستحباب .القول الثاين :أهنا واجبة .وهذا مذهب
الظاهرية .لقوله لعبد الرمحن بن عوف ( أومل ) ...وهذا أمر واألمر يقتضي الوجوب ولقوله " إنه ال
بد للعروس من وليمة " .رواه أمحد قال ابن حجر ( سنده ال أبس به ) والراجح األول .قالوا :إن
األمر يف حديث ( أومل ) ...لالستحباب ،بدليل أنه ( أمر ابلشاة ،وال خالف أنه ال جيب عليه
اإليالم ابلشاة ،وقد أومل بغري الشاة مع أنه أمر هبا .ففي حديث أنس :أنه " أومل على صفية
وكانت وليمته حيساً " ويف الصحيح أنه " أومل على امرأة من نسائه مبدين شعري " فهذه الصوارف
تصلح أن تكون صارفة األمر عن اببه الذي هو الوجوب إىل ابب الندب وهللا أعلم .
الفرع الثاين واخلمسون :قال النيب صلى هللا عليه وسلم" اجعلوا آخر صالتكم ابلليل وترا " هذا
أمر فهل يفيد الوجوب والتحتم ،أم الندب واالستحباب فقط ؟ قال يف أتسيس األحكام (يؤخذ
من هذا احلديث وجوب ختم صالة الليل ابلوتر وجعله يف آخرها ،وقد اختلفوا يف ذلك هل هو
على اإلجياب أم على الندب ؟ .فذهب مجاعة إىل وجوب جعل الصالة من آخر الليل وتراً
واحتجوا بقوله صلى هللا عليه وسلم " اجعلوا آخر صالتكم ابلليل وتراً " حكى ذلك عنهم املروزي
يف قيام الليل ،وقال :منهم إسحاق بن إبراهيم ومجاعة من أصحابنا يذهبون إىل هذا وهؤالء
أيمرون من أوتر من أول الليل مث قام آخره أن يشفع وتره بركعة مث يصلي مثىن ،فإذا كان آخر
صالته أوتر ،وهذا مروي عن مجاعة من الصحابة منهم عثمان بن عفان قال :إين إذا أردت أن
أقوم من الليل أوترت بركعة فإذا قمت ضممت إليها ركعة ،فما شبهتها إال ابلغريبة من اإلبل تضم
إىل اإلبل وفعله عبد هللا بن عمر وأخب أنه من رأيه ال رواية وهو مروي أيضاً أي الشفع بركعة عن
أِب سعيد اخلدري وعروة بن الزبري ،وأسامة بن زيد وأَب ذلك األكثرون وقالوا :إذا أوتر أول الليل
مث قام آخر الليل فصلى ركعة أخرى لتشفع وتره األول بعد السالم والكالم واحلدث والنوم مل تشفعه
40
بعد ما ذُكر بل تكون وتراً آخراً ،فإذا أوتر من آخر صالته كان قد صلى ثالثة أوَتر وخالفوا قول
النيب صلى هللا عليه وسلم " ال وتران يف ليلة " وعن ابن عباس أنه ملا بلغه فعل ابن عمر مل يعجبه
وقال ابن عمر يوتر يف ليلة ثالثة أوَتر .وهؤالء يقولون إن أوتر مث قام من آخر الليل صلى شفعاً
حىت يصبح فإنه إذا صلى شفعاً إىل الوتر يكون قد قطع صالته على الوتر وممن قال هبذا القول عبد
هللا بن عباس وعائشة وأبو هريرة ورافع بن خديج وأبو بكر الصديق وعمار بن ايسر وعائذ ابن
عمرو ومن التابعني سعيد بن جبري وسعيد بن املسيب وأبو سلمة بن عبد الرمحن قال حممد بن نصر
إيل وإن شفع وتره إتباعاً لألخبار اليت رويناها رأيته جائزاً .
وهذا مذهب الشافعي وأمحد وهو أحب ه
وروى ابن أِب شيبة يف املصنف عن الشعيب أنه سئل عن نقص الوتر فقال إمنا أمران ابإلبرام ومل نؤمر
ابلنقص وروى عدم النقض عمن ذكروا سابقاً وعن سعد بن أِب وقاص وعلقمة واحلسن وإبراهيم
النخعي ومكحول وقال الرتمذي وهو قول سفيان الثوري ومالك بن أنس وأمحد وابن املبارك وهذا
أصح ألنه روى من غري وجه أن النيب صلى هللا عليه وسلم قد صلى بعد الوتر ركعتني .قلت :
الصالة بعد الوتر قد أخرجها مسلم وأمحد وأبو داود والنسائي يف حديث سعد بن هشام عن عائشة
رضي هللا عنها وأخرجه أبو داود من طريق علقمة بن وقاص عن عائشة وأخرج الرتمذي وأمحد وابن
ماجة أن النيب صلى هللا عليه وسلم كان يصلي بعد الوتر ركعتني زاد ابن ماجة وهو جالس من طريق
احلسن عن أمه عن أم سلمة وحكى الساعايت تصحيحه عن الدارقطين وأخرج أمحد أيضاً عن أِب
أمامة رضي هللا عنه الركعتني بعد الوتر وهو جالس وقال فقرأ ب { إذا زلزلت } و { قل اي أيها
الكافرون } وإذ قد ثبت أن النيب صلى هللا عليه وسلم صلى بعد الوتر ركعتني فاجلمع بني هذه
األحاديث وبني قول النيب صلى هللا عليه وسلم " اجعلوا آخر صالتكم ابلليل وترا " أن هذه
األحاديث اليت أثبتت أن النيب صلى هللا عليه وسلم صلى بعد الوتر ركعتني صرفت األمر يف قوله
اجعلوا آخر صالتكم ابلليل وتراً من اإلجياب إىل الندبية إذ أن فعله كان بياانً للجواز .هذا هو رأي
اجلمهور قال النووي الصواب أن هاتني الركعتني فعلهما صلى هللا عليه وسلم بعد الوتر جالساً لبيان
اجلواز ومل يواظب على ذلك وأَب ذلك الشوكاين يف النيل فقال أما األحاديث اليت فيها األمر لألمة
ِبعل آخر صالة الليل وترا فال معارضة بينها وبني فعله صلى هللا عليه وسلم للركعتني بعد الوتر ملا
تقرر يف األصول أن فعله ال يعارض القول اخلاص ابألمة بال معىن لالستنكار .اه .وأقول :احلق أن
األصل يف أفعاله ص لى هللا عليه وسلم التشريع إال ما دل الدليل على خصوصيته به وال دليل على
41
اخلصوصية هنا فلم يبق سوى التشريع وبذلك يرتجح قول من قال أن النيب صلى هللا عليه وسلم
فعلها لبيان اجلواز وخالصة هذا البحث أن حديث "اجعلوا آخر صالتكم ابلليل وترا" حممول على
االستحباب وأن األفضل يف الوتر أن يكون آخر صالة الليل شفعاً ،وأن من أوتر أول الليل وقام يف
شفع ،وأن نقص الوتر ال ميكن وال يشرع بل هو اجتهاد من غري معصومآخره تشرع له الصالة ً
خالف النص .وهللا أعلم )ا.ه .كالمه رمحه هللا تعاىل ،وهو حتقيق طيب ،ال مزيد عليه ،
واخلالصة من ه أن األمر يف قوله " اجعلوا آخر صالتكم ابلليل وترا " ليس على الوجوب ،ألنه صلى
هللا عليه وسلم صلى ركعتني بعد الوتر وهو جالس ،واجلمع بني األدلة واجب ما أمكن ،فنحمل
األمر يف احلديث على الندب والصارف له هو فعله صلى هللا عليه وسلم ،وهللا أعلم .
الثالث واخلمسون :يف قول هللا تعاىل َ و َشا ِوْرُه ْم ِيف األ َْم ِر قال الشيخ الطاهر ابن عاشور رمحه
هللا تعاىل يف تفسريه الطيب التحرير والتنوير ( واختلف العلماء يف مدلول قوله {وشاورهم} هل هو
للوجوب أو للندب ،وهل هو خاص ابلرسول عليه الصالة والسالم ،أو عام له ولوالة أمور األمة
كلهم .فذهب املالكية إىل الوجوب والعموم ،قال ابن خوير منداد :واجب على الوالة املشاورة،
فيشاورون العلماء فيما يشكل من أمور الدين ،ويشاورون وجوه اجليش فيما يتعلق ابحلرب،
ويشاورون وجوه الناس فيما يتعلق مبصاحلهم ويشاورون وجوه الكتاب والعمال والوزراء فيما يتعلق
مبصاحل البالد وعمارهتا .وأشار ابن العرِب إىل وجوهبا أبهنا سبب للصواب فقال :والشورى مسبار
العقل وسبب الصواب .يشري إىل أننا مأمورون بتحري الصواب يف مصاحل األمة ،وما يتوقف عليه
الواجب فهو واجب .وقال ابن عطية :الشورى من قواعد الشريعة وعزائم األحكام ،ومن ال يستشري
أهل العلم والدين فعزله واجب .وهذا ما ال اختالف فيه .واعرتض عليه ابن عرفة قوله :فعزله
واجب ،ومل يعرتض كوهنا واجبة ،إال أن ابن عطية ذكر تلك جازما به وابن عرفة اعرتضه ابلقياس
على قول علماء الكالم بعدم عزل األمري إذا ظهر فسقه ،يعين وال يزيد ترك الشورى على كونه ترك
واجب فهو فسق .وقلت :من حفظ حجة على من مل حيفظ ،وإن القياس فيه فارق معتب فإن
الفسق مضرته قاصرة على النفس وترك التشاور تعريض مبصاحل املسلمني للخطر والفوات ،وحممل
األمر عند املالكية للوجوب واألصل عندهم عدم اخلصوصية يف التشريع إال لدليل .وعن الشافعي أن
هذا لالستحباب ،ولتقتدي به األمة ،وهو عام للرسول وغريه ،تطييبا لنفوس أصحابه ورفعا
ألقدارهم ،وروي مثله عن قتادة ،والربيع ،وابن إسحاق .ورد هذا أبو بكر أمحد بن علي الرازي
42
احلنفي املعروف ابجلصاص بقوله :لو كان معلوما عندهم أهنم إذا استفرغوا جهدهم يف استنباط
الصواب عما سئلوا عنه ،مث مل يكن معموال به ،مل يكن يف ذلك تطييب لنفوسهم وال رفع ألقدارهم،
بل فيه إحياشهم فاملشاورة مل تفقد شيئا فهذا أتويل ساقط .وقال النووي ،يف صدر كتاب الصالة من
شرح مسلم :الصحيح عندهم وجوهبا وهو املختار .وقال الفخر :ظاهر األمر أنه للوجوب .ومل
ينسب العلماء للحنفية قوال يف هذا األمر إال أن اجلصاص قال يف كتابه أحكام القرآن عند قوله
تعاىل َ وأ َْمُرُه ْم ُش َورى بَْي نَ ُه ْم هذا يدل على جاللة موقع املشورة لذكرها مع اإلميان وإقامة الصالة
ويدل على أننا مأمورون هبا .وجمموع كالمي اجلصاص يدل أن مذهب أِب حنيفة وجوهبا .ومن
السلف من ذهب إىل اختصاص الوجوب ابلنيب صلى هللا عليه وسلم قاله احلسن وسفيان ،وإمنا أمر
هبا ليقتدي به غريه وتشيع يف أمته وذلك فيما ال وحي فيه .وقد استشار النيب صلى هللا عليه وسلم
أصحابه يف اخلروج لبدر ،ويف اخلروج إىل أحد ،ويف شأن األسرى يوم بدرا ،واستشار عموم اجليش
يف رد سيب هوازن .والظاهر أهنا ال تكون يف األحكام الشرعية ألن األحكام إن كانت بوحي
فظاهر ،وإن كانت اجتهادية ،بناء على جواز االجتهاد للنيب صلى هللا عليه وسلم يف األمور
الشرعية ،فاالجتهاد إمنا يستند لألدلة ال لآلراء وإذا كان اجملتهد من أمته ال يستشري يف اجتهاده،
فكيف جتب االستشارة على النيب صلى هللا عليه وسلم مع أنه لو اجتهد وقلنا ِبواز اخلطأ عليه فإنه
ال يقر على خطأ ابتفاق العلماء .ومل يزل من سنة خلفاء العدل استشارة أهل الرأي يف مصاحل
املسلمني ،قال البخاري يف كتاب االعتصام من صحيحه وكانت األئمة بعد النيب صلى هللا عليه
وسلم يستشريون األمناء من أهل العلم ،وكان القراء أصحاب مشورة عمر :كهوال أو شباان ،وكان
وقافا عند كتاب هللا .وأخرج اخلطيب عن علي قال :قلت :اي رسول هللا األمر ينزل بعدك مل ينزل فيه
القرآن ومل يسمع منك فيه شيء قال" :امجعوا له العابد من أميت واجعلوه بينكم شورى وال تقضوه
برأي واحد" .واستشار أبو بكر يف قتال أهل الردة ،وتشاور الصحابة يف أمر اخلليفة بعد وفاة النيب
صلى هللا عليه وسلم ،وجعل عمر رضي هللا عنه األمر شورى بعده يف ستة عينهم ،وجعل مراقبة
الشورى خلمسني من األنصا ر ،وكان عمر يكتب لعماله أيمرهم ابلتشاور ،ويتمثل هلم يف كتبه بقول
الشاعر مل أقف على أمسه:
أشريا علي ابلذي تراين خليلي ليس الرأي يف صدر واحد
43
هذا والشورى مما جبل هللا عليه اإلنسان يف فطرته السليمة أي فطرة على حمبة الصالح وتطلب
النجاح يف املساعي )ا.ه .كالمه ،والقول الصحيح إن شاء هللا تعاىل هو القول ابلوجوب ألنه أمر
،واملتقرر أن األمر املطلق عن القرينة يفيد الوجوب ،وألهنا من ابب حتقيق املصاحل العامة
للمسلمني ،وألهنا أبعد عن اهلوى وحتكيم الرأي ،وأما دعوى أن هذا من خصائص النيب صلى هللا
عليه وسلم فليس ب شيء ،ألن املتقرر أن كل حكم يف حقه صلى هللا عليه وسلم ،فإنه يثبت يف
حق األمة تبعا إال بدليل االختصاص ،فاحلق يف هذه املسألة أن مبدأ الشورى من مجلة الواجبات
على ويل األمر ،وهي عامة يف الوالة وأصحاب األمر من احلكام ،وهللا أعلم .
الرابع واخلمسون :القول ال صحيح أن الويل على مال اليتيم إن كان فقريا فله أن أيكل من مال
اليتيم ابملعروف ،أي له أجرة مثله بال وكس وال شطط ،وإن كان غنيا ال حيتاج فاألصل وجوب
االستعفاف عن مال اليتيم فيعمل يف مال اليتيم ابجملان ،ألن هللا تعاىل يقول َ وَمن َكا َن َغنِيًّا
ف واألمر هنا للوجوب ،وال صارف له عن اببه ،والقول الصحيح أن دفع الويل املال ِ
فَ ْليَ ْستَ ْعف ْ
لليتيم عند إيناس الرشد منه واختباره والتأكد من رشده أمر واجب ،فال جتوز املماطلة وال املماحلة
ِ َّ ِ
،وال جيوز التأخري الذي ال داعي له ،وليحذر كل احلذر من ذلك فإن هللا تعاىل يقول إ َّن الذ َ
ين
صلَ ْو َن َسعِ ًريا وهللا تعاىل يقول فَِإ ْن ِِ
َأيْ ُكلُو َن أ َْم َو َال الْيَ تَ َامى ظُْل ًما إَِّمنَا َأيْ ُكلُو َن ِيف بُطُوهن ْم َان ًرا َو َسَي ْ
آنَ ْستُم ِهمْن ُه ْم ُر ْش ًدا فَ ْادفَ ُعواْ إِلَْي ِه ْم أ َْم َوا َهلُْم واألمر هنا يفيد الوجوب وال شك وال نعلم فيه خالفا ،
والقول الصحيح أنه ال بد من اإلشهاد بعد دفع املال كامال موفرا ،خروجا من هوة اخلالف
والدعاوى اليت ال جيىن منها إال التفرق وتصرم األواصر ،وألن هللا تعاىل أيمران بذلك يف قوله تعاىل
َإِذَا َدفَ ْعتُ ْم إِلَْي ِه ْم أ َْم َوا َهلُْم فَأَ ْش ِه ُدواْ َعلَْي ِه ْم َوَك َفى ِاب هلِلِ َح ِسيبًا واألمر ابإلشهاد هنا أمر وجوب
وحتم ،قطعا ملادة الفساد ،وحفظا ملال اليتيم ،وتبئة لذمة الويل ،وال نعلم لألمر هنا صارفا يصرفه
عن اببه إال الندب ،فبان لك إن شاء هللا تعاىل أن األوامر الثالثة الواردة يف هذه اآلية كلها على
الوجوب واحلتم ،فال جيوز اإلخالل هبا ،ألن املتقرر يف القواعد أن األمر املطلق عن القرينة يفيد
الوجوب ،وهللا أعلم .
اخلامس واخلمسون :القول الصحيح أن القراءة يف الصالة من الواجبات ،لقول النيب صلى هللا
عليه وسلم للمسيء يف صالته " مث اقرأ ما تيسر معك من القرآن " وهذا أمر واألمر يفيد الوجوب ،
ولكنه أمر مطلق ،وقد قيدت القراءة الواجبة يف الصالة ابلفاحتة لقول النيب صلى هللا عليه وسلم "
44
ال صالة ملن مل يقرأ بفاحتة الكتاب " وحديث " كل صالة ال يقرأ فيها بفاحتة الكتاب فهي خداج
-ثالاث -غري متام ...احلديث " والقول الصحيح أن من مل يستطع أن أيخذ شيئا من القرآن
فالواجب عليه أن يقول يف موضع قراءة الفاحتة ( سبحان هللا واحلمد هلل وال إله إال هللا وهللا أكب وال
حول وال قوة إال ابهلل ) ألن النيب صلى هللا عليه وسلم أمر هبا يف قوله " فإن كان معك قرآن فاقرأ
وإال فامحد هللا تعاىل وكبه وهلله " وقد تقرر يف القواعد أنه إن تعذر األصل فإنه يصار إىل البدل ،
وهللا أعلم .
السادس واخلمسون :القول الصحيح أن الداخل للمجلس إن كان اجمللس ضيقا وقال -:تفسحوا
يل لَ ُك ْم تَ َف َّس ُحوا ِيف ،فالواجب على من يف اجمللس فعل ذلك ،ألن هللا تعاىل يقول إِ َذا قِ
َ
الِلُ لَ ُك ْم وهذا أمر ،واألمر يفيد الوجوب ،وال نعلم صارفا يصرفه عن الْ َم َجالِ ِ
س فَافْ َس ُحوا يَ ْف َس ِح َّ
اببه إىل الندب ،والقول الصحيح أن صاحب املكان إن قال ملن يف بيته -:انشزوا أي قوموا
واهنضوا ،وهو كناية عن القيام من اجمللس ،فالواجب على من يف اجمللس فعل هذا ألن صاحب
انشُزوا وهذا أمر ،واملتقرر أن البيت له احلق يف هذا ،وألن هللا تعاىل يقول وإِذَا قِ
انشُزوا فَ ُ
يل َُ َ
األمر يفيد الوجوب ،وال ن علم له صارفا يصرفه عن اببه ،ومن كان عنده شيء من الصوارف
املقبولة يف هذين األمرين فليتفضل هبا ،وال يقول لنا -:إنه أمر ورد يف ابب اآلداب فيكون على
الندب .ألننا سنقول -:لقد قدمنا لك اجلواب عن هذا الكالم يف أول الرسالة ،وهللا أعلم .
السابع واخلمسون :لقد أمر هللا تعاىل ابألكل من اهلدي يف قوله تعاىل فَ ُكلُوا ِمْن َها َوأَطْعِ ُموا
س الْ َف ِق َري فهل األمر هنا يفيد الوجوب أو الندب فقط ؟ أجاب عن ذلك الشيخ الشنقيطي الْبائِ
َ َ
رمحه هللا تعاىل يف أضواء البيان بقوله ( قال مقيده عفا هللا عنه -:أقوى القولني دليالً :وجوب
األكل واإلطعام من اهلدااي والضحااي ،ألن هللا تعاىل قال {فَ ُكلُوا ِمْن َها} يف موضعني .وقد قدمنا أن
الشرع واللغة دال على أن صيغة افعل :تدل على الوجوب إال لدليل صارف عن الوجوب وذكران
صيبَ ُه ْم فِْت نَةٌ أ َْو يُ ِصيبَ ُه ْم
اآلايت الدالة على ذلك كقوله فَ ْليح َذ ِر الَّ ِذين ُخيَالُِفو َن عن أَم ِرِه أَ ْن تُ ِ
َْ ْ َ َْ
اب أَلِ ٌيم وأوضحنا مجيع أدل ة ذلك يف مواضع متعددة من هذا الكتاب املبارك ،منها آية احلج َع َذ ٌ
اليت ذكران عندها مسائل احلج .ومما يؤيد أن األمر يف اآلية يدل على وجوب األكل وأتكيده " أن
النيب صلى هللا عليه وسلم حنر مائة من اإلبل فأمر بقطعة حلم من كل واحدة ،منها فأكل منها
وشرب من مرقها " وهو دل يل واضح على أنه أراد أال تبقى واحدة ،من تلك اإلبل الكثرية إال وقد
45
أكل منها أو شرب من مرقها ،وهذا يدل على أن األمر يف قوله {فَ ُكلُوا ِمْن َها} ليس جملرد
االستحباب والتخيري ،إذ لو كان كذلك الكتفي ابألكل من بعضها ،وشرب مرقه دون بعض،
وكذلك اإلطعام فاألظهر فيه الوجوب .واحلاصل :أن املشهور عند األصوليني :أن صيغة افعل :تدل
على الوجوب إال لصارف عنه ،وقد أمر ابألكل من الذابئح مرتني ،ومل يقم دليل جيب الرجوع إليه
صارف عن الوجوب وكذلك اإلطعام ،هذا هو الظاهر حبسب الصناعة األصولية ،وقد دلت عليها
أدلة الوحي ،كما قدمنا إيضاحه .وقال أبو حيان يف البحر احمليط :والظاهر وجوب األكل واإلطعام
وقيل ابستحباهبما .وقيل :ابستحباب األكل ،ووجوب اإلطعام واألظهر أنه :ال حتديد للقدر الذي
أيكله والقدر الذي يتصدق به ،فيأكل ما شاء ويتصدق مبا شاء ،وقد قال بعض أهل العلم:
س ِ ِ ِ
يتصدق ابلنصف ،وأيكل النصف ،واستدل لذلك بقوله تعاىل :فَ ُكلُوا مْن َها َوأَطْع ُموا الْبَائ َ
الْ َف ِق َري قال :فجزأها نصفني ن صف له ،ونصف للفقراء ،وقال بعضهم :جيعلها ثالثة أجزاء ،أيكل
الثلث ويتصدق ابلثلث ،ويهدي الثلث ،واستدل بقوله تعاىل :فَ ُكلُوا ِمْن َها َوأَطْعِ ُموا الْ َقانِ َع َوالْ ُم ْع ََّرت
فجزأها ثالثة أجزاء ،ثلث له ،وثلث للقانع ،وثلث للمعرت .هكذا قالوا وأظهرها األول ،والعلم
عند هللا تعاىل ) قلت -:وحسبك به وال مزيد عليه وهللا أعلم .
الثامن واخلمسون :قلت يف كتاِب اإلفادة الشرعية يف بعض األحكام الطبية يف مبحث ذكر التدابري
ا ملقررة يف الشريعة واليت يتم هبا حفظ الصحة وتتحقق هبا السالمة ( فمن ذلك -:اإلرشاد لتغطية
اإلانء وإيكاء السقاء وذلك حلفظ الطعام من التلوث الذي قد يضر بصحة اإلنسان فعن أِب محيد
الساعدي رضي هللا عنه قال -:أتيت النيب صلى هللا عليه وسلم بقدح لنب من النقيع ليس خممراً
فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم (( أال مخرته؟ ولو تعرض عليه عوداً )) قال أبو محيد -:إمنا أمر
ابألسقية أن توكأ ليالً واألبواب أن تغلق ليالً .رواه مسلم وعن جابر رضي هللا عنه قال قال رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم (( غطوا اإلانء وأوكوا السقاء وأغلقوا األبواب وأطفئوا السراج فإن الشيطان
ال حيل سقاءً وال يفتح ابابً وال يكشف إانءً فإن مل جيد أحدكم إال أن يعرض على إانئه عوداً َُ
ويذكر اسم هللا فليفعل )) متفق عليه ،ويف رواية (( فأكفئوا اإلانء أو مخروا اإلانء )) ويف لفظ ((
ومخروا الطعام والشراب )) ويف طرق أخرى ( ( وأوكوا قربكم واذكروا اسم هللا ومخروا آنيتكم واذكروا
اسم هللا ولو أن تعرضوا عليها شيئاً )) ويف رواية ((غطوا اإلانء وأوكوا السقاء فإن يف السنة ليلة ينزل
فيها وابء ال مير إبانء ليس عليه وكاء إال نزل فيه من ذلك الوابء )) وقوله يف هذه األحاديث ((
46
غطوا )) وقوله (( أوكوا )) وحنوها ال خيفى عليك أهنا صيغة أمر وقد تقرر يف األصول أن األمر
للوجوب إال لصارف أو قرينة وال أعلم هناك ما يوجب االنصراف عن الوجوب إىل االستحباب،
ن عم ذهب أكثر أهل العلم إىل االستحباب لكن أنت خبري أبن مذهب األكثر ليس من مجلة
الصوارف ،وبناءً علي ه فالصحيح يف حكم التغطية واإليكاء أنه للوجوب ومن قال ابالستحباب
فليذكر الصارف وهللا املستعان ) .
التاسع واخلمسون :قال أبو العباس ابن تيمية رمحه هللا تعاىل وهو يتكلم عن املسائل يف قوله تعاىل
اب أَلِ ٌيم وذكر ِ ِ ِ ِ
وتقدس امسه فَ ْليَ ْح َذ ِر الذين ُخيَال ُفو َن َع ْن أ َْم ِرِه أَن تُصيبَ ُه ْم فْت َنةٌ أ َْو يُصيبَ ُه ْم َع َذ ٌ
املسألة األوىل والثانية ،مث قال يف املسألة الثالثة ( املسألة الثالثة :اآلية تدل على أن ظاهر األمر
للوجوب ،ووجه االستدالل به أن نقول َ :ترك املأمور به خمالف لذلك األمر وخمالف األمر
مستحق للعقاب فتارك املأمور به مستحق للعقاب وال معىن للوجوب إال ذلك ،إمنا قلنا إن َترك
املأمور به خمالف لذلك األمر ،ألن موافقة األمر عبارة عن اإلتيان مبقتضاه ،واملخالفة ضد املوافقة
فكانت خمالفة األمر عبارة عن اإلخالل مبقتضاه فثبت أن َترك املأمور به خمالف ،وإمنا قلنا إن
صيبَ ُه ْم فِْت نَةٌ أ َْو
خمالف األمر مستحق للعقاب لقوله تعاىل فَ ْليح َذ ِر الذين ُخيَالُِفو َن عن أَم ِرِه أَن تُ ِ
َْ ْ َْ
اب أَلِ ٌيم فأمر خمالف هذا األمر ابحلذر عن العقاب ،واألمر ابحلذر عن العقاب إمنا ِ
يُصيبَ ُه ْم َع َذ ٌ
يكون بعد قيام املقتضى لنزول العقاب ،ف ثبت أن خمالف أمر هللا تعاىل أو أمر رسوله قد وجد يف
حقه ما يقتضي نزول العذاب ) وهو كما قال رمحه هللا تعاىل ،فإن األمر يف قوله "فليحذر" يفيد
الوجوب ،بل ويفيد أن األمر يفيد الوجوب ،وهللا أعلم .
الفرع املويف للستني :لقد استدل الفقهاء رمحهم هللا تعاىل على وجوب إزالة اخلارج ابحلجر أو
ابملاء ابألمر يف قوله صلى هللا عليه وسلم " إذا ذهب أحدكم إىل الغائط فليذهب معه بثالثة أحجار
فإهنا جتزئ عنه " ويف رواية " فليستطب " ألن هذا أمر واألمر يفيد الوجوب ،وبقوله صلى هللا عليه
وسلم " إذا استجمر أحدكم فليستجمر ثالاث " رواه أمحد من حديث جابر بن عبدهللا رضي هللا
عنهما ،واألمر هنا يفيد الوجوب ،وبنحو هذه األدلة اآلمرة إبزالة اخلارج ابحلجر أو ابملاء ،وهو
استدالل صحيح ،ألن املتقرر يف القواعد أن األمر املطلق عن القرينة يفيد الوجوب ،وهللا أعلم .
احلادي والستون :أقول -:اعلم رمحك هللا تعاىل إنك إن أردت إزالة اخلارج ابحلجر فعليك
واجبان ال بد منهما مجيعا ،وأيهما حصل قبل صاحبه فالواجب حتصيل اآلخر -:اإلنقاء
47
واستيفاء ثالث مسحات ،وبرهان ذلك حديث سلمان الفارسي السابق ،وفيه " وأن نستنجي
بثالثة أحجار " وهذا أمر وهو للوجوب ،وعن جابر مرفوعا " إذا استجمر أحدكم فليستجمر ثالاث
" رواه أمحد ،ويف حديث عائشة " فليستطب بثالثة أحجار " ويف احلديث " فليذهب معه بثالثة
أحجار " ويف حديث ابن مسعود " فأمرين أن آتيه بثالثة أحجار " ويف حديث خزمية بن اثبت "
بثالثة أحجار ليس فيها رجيع " وكل هذه األحاديث خرجت خمرج األمر وهو للوجوب إال
لصارف ،فإن قلت -:فبأي شيء استدل احلنفية على قوهلم ابالكتفاء ابحلجرين ؟ فأقول -:من
أوضح أدلتهم على ذلك أن ابن مسعود ملا مل جيد إال احلجرين قال -:فأتيته بروثة ،فأخذمها وألقى
الروثة وقال " هذا رجس " أو " ركس" وهو عند البخاري ،فقالوا -:فاكتفى النيب صلى هللا عليه
وسلم ابحلجرين ،وأقول -:هذا ليس بصحيح ،ألن اإلمام أمحد روى هذا احلديث بزايدة " ائتين
حبجر " أي اثلث ،وهي زايدة من الثقة ،وقد تقرر يف القواعد أن الزايدة من الثقة مقبولة ،فاحلق
يف هذه املسألة أنه ال بد من ثالث مسحات ،وال جيوز النقص عنها وأما اإلنقاء ،فلحديث "
فليستطب " وحنوه ،وألن األحجار إمنا شرعت إلزالة أثر اخلارج ،وقد ذكر أهل العلم من أصحابنا
أن اإلنقاء يف احلجر هو -:أن يبقى أثر ال يزله إال املاء ،أي أن يذهب اخلارج عينا وجرما ،وأما
الريح فإن احلجر ال يق طعها ،فبقاء الريح بعد اإلنقاء واستيفاء الثالث معفو عنه شرعا ،وهللا أعلم
.
الثاين والستون :القول الصحيح والرأي الراجح املليح هو أنه يشرتط ملن أراد احلج عن غريه أنه ال
بد أوال أن يكون قد حج عن نفسه ،فال جيوز له تقدمي غريه على نفسه يف النسك ،بل ال بد وأن
تبأ ذمته أوال منه مث إن شاء حج عن غريه ،وهذا أمر واجب ،بل حىت لو أحرم عن غريه من مل
حيج عن نفسه فإن النسك ينقلب له ،والدليل على الوجوب حديث ابن عباس واملعروف حبديث
شبمة ،وأن رجال قال -:لبيك عن شبمة ،فقال له النيب صلى هللا عليه وسلم " من شبمة ؟"
فقال -:أخ يل ،أو قريب يل ،فقال " أحججت عن نفسك ؟" قال -:ال ،فقال "حج عن
نفسك ،مث حج عن شبمة" فقوله " حج عن نفسك " أمر ،واألمر يفيد الوجوب فيجب على
املكلف أن يقدم احلج عن ن فسه على احلج عن غريه ،وأما األمر يف قوله " مث حج عن شبمة "
فإنه ال يفيد الوجوب ،إلمجاع أهل العلم رمحهم هللا تعاىل أنه ال جيب على أحد أن حيج عن أحد
ابألصالة ،وهللا أعلم.
48
الثالث والستون :اعلم رمحك هللا تعاىل أن من واجبات الشريعة أن يستنزه العبد من البول ،وأن
يتحفظ من رشاشه ،وأن يستجمر منه قبل رفع سراويله ،والدليل على الوجوب أن النيب صلى هللا
عليه وسلم قال " استنزهوا من البول فإ ن عامة عذاب القب منه " رواه الدارقطين ،وهذا أمر واملتقرر
أن األمر يفيد الوجوب ،مع أن العقوبة البليغة قد ثبتت شرعا ملن يهمل يف ذلك ،كما يف حديث
ابن عباس رضي هللا عنهما يف حديث صاحيب القبين وأهنما يعذابن ...واحلديث معروف ،وهللا
أعلم.
الرابع والستون :اعلم رمحك هللا تعاىل أن اآلنية اليت حتققنا عن يقني أو عن غلبة ظن أهنا جنسة
فإنه ال جيوز لنا استعماهلا إال بعد غسلها لتزول عني النجاسة عنها ،فغسل اآلنية النجسة عن يقني
أو عن غلبة ظن من األمور الواجبة ال يت ال خيار للعبد فيها ،وهذا الوجوب استفدانه من حديث
أِب ثعلبة اخلشين رضي هللا عنه قال -:قلت -:اي رسول هللا ،إان أبرض قوم أهل كتاب أفنأكل
يف آنيتهم؟ فقال " ال أتكلوا فيها إال أن ال جتدوا غريها فاغسلوها وكلوا فيه " متفق عليه وألمحد
وأِب داود -:إان أبرض أهل الكتاب ،وإهنم أيكلون يف آنيتهم اخلنزير ويشربون اخلمر فكيف نصنع
بقدورهم وآنيتهم ؟ فقال " إن مل جتدوا غريها فارحضوها ابملاء واطبخوا فيها واشربوا " والرحض
الغسل ،وللرتمذي -:سئل النيب صلى هللا عليه وسلم عن قدور اجملوس فقال " أنقوها غسال
واطبخوا فيها " فاألوامر هنا تفيد الوجوب ،ألن املتقرر أن األمر املطلق عن القرينة يفيد الوجوب ،
وهو حممول على اآلنية النجسة ،وهللا أعلم .
اخلامس والستون :قال النيب صلى هللا عليه وسلم " توضؤا مما مست النار " فهذا أمر ،فهل هو
للوجوب أو ال ؟ أقول -:نعم هو للوجوب لو مل أتت القرينة الصارفة له من الوجوب إىل الندب ،
وهي أنه قد ثبت عنه صلى هللا عليه وسلم أنه أكل حلما طبخ على النار ومل يتوضأ ففي الصحيح
أن النيب صلى هللا عليه وسلم احتز من كتف شاة فأكل منها ،فدعي إىل الصالة ،فقام وطرح
السكني ،وصلى ومل يتوضأ ...واألحاديث يف هذا كثرية ،وهذه األحاديث على القول الصحيح
إمنا نسخت الوجوب فقط ،واملتقرر أنه إن ن سخ الوجوب بقي االستحباب ،واختاره أبو العباس
ابن تيمية رمحه هللا تعاىل ،فنجعل األحاديث اآلمرة ابلوضوء مما مست النار تفيد االستحباب
والندب ،والصارف لألمر فيها هي األحاديث الواردة يف أنه صلى بعد أكل اللحم املطبوخ على
النار ومل يتوضأ ،وهللا أعلم .
49
السادس والستون :قلت يف كتاِب أحكام املسلم اجلديد ( هل جيب على املسلم اجلديد أن يغتسل
بعد إسالمه ؟ واجلواب أقول -:فيه خالف ،واألصح وهللا أعلم أنه جيب عليه أن يغتسل والدليل
على ذلك أن مثامة بن أاثل عندما أسلم أمره النيب صلى هللا عليه وسلم أن يغتسل ورواية االغتسال
وإن مل تكن يف الصحيحني إال أهنا صحت يف غريمها ،وكذلك عندما أسلم قيس بن عاصم أمره
النيب صلى هللا عليه وسلم أن يغتسل ،وكذلك ملا أسلم أسيد بن حضري وسعد بن معاذ قاال بعد
إسالمهما -:كيف تصنعون إذا دخلتم يف هذا األمر ؟ فقال هلما مصعب وأسعد بن زرارة -:
ن غتسل ونشهد شهادة احلق ،وهذا يدل على ظهور األمر وانتشاره ،وقد تقرر أن حكم النيب صلى
هللا عليه وسلم على الواحد حكم على مجيع األمة إال بدليل االختصاص ،وتقرر أن احلديث إذا
صح ومل ي نسخ وجب العمل به ،ألنه حجة يف ذاته ،ولو كان يف مسألة تعم هبا البلوى ،ألن احلق
هو أن حديث اآلحاد حجة فيما تعم به البلوى ،وألن الكافر يف الغالب ال خيلو من جنابة وغسله
منها حال كفره ال يصح ،فوجب عليه الغسل بعد اإلسالم .وهللا أعلم )
السابع والستون :يف قول النيب صلى هللا عليه وسلم " إذا اشتد احلر فأبردوا ابلصالة فإن شدة احلر
من فيح جهنم " فقوله " أبردوا " أمر ،فهل هو للوجوب ؟ أقول -:نعم هو للوجوب لو مل يرد له
الصارف ،والصارف هو إمجاع أهل العلم رمحهم هللا تعاىل على صحة الصالة املفروضة يف أي جزء
من أجزاء وقتها املختار ،فمىت ما أوقع املكلف الصالة يف أي جزء من أجزاء وقتها فقد برئت ذمته
،وهذا اإلمجاع يدل على أن األمر ابإلبراد ابلظهر يف شدة احلر ال يراد به الوجوب والتحتم ،بل
يراد به الندب واالستحباب ،وهللا أعلم .
ِ ِ َِّ ِ
الثامن والستون :قال هللا تعاىل َ واخت ُذواْ من َّم َقام إِبَْراه َيم ُم َ
صلًّى فهذا أمر ،واألمر يفيد
الوجوب ،ولكن هذا األمر ورد له ما يصرفه من الوجوب إىل الندب ،وهو إمجاع أهل العلم رمحهم
هللا تعاىل على صحة ركعيت الطواف يف أي جهة من جهات الكعبة ،قال احلافظ ابن حجر رمحه
هللا تعاىل على هذه اآلية من صحيح البخاري رمحه هللا تعاىل ( واألمر دال على الوجوب لكن انعقد
اإلمجاع على جواز الصالة إىل مجيع جهات الكعبة فدل على عدم التخصيص وهذا بناء على أن
املراد مبقام إبراهيم احلجر الذي فيه أثر قدميه وهو موجود إىل اآلن وقال جماهد املراد مبقام إبراهيم
احلرم كله واألول أصح وقد ثبت دليله عند مسلم من حديث جابر وسيأيت عند املصنف أيضا قوله
مصلى أي قبلة قاله احلسن البصري وغريه وبه يتم االستدالل وقال جماهد أي مدعى يدعي عنده
50
وال يصح محله على مكان الصالة ألنه ال يصلي فيه بل عنده ويرتجح قول احلسن أبنه جار على
املعىن ا لشرعي واستدل املصنف على عدم التخصيص أيضا بصالته صلى هللا عليه و سلم داخل
الكعبة فلو تعني استقبال املقام ملا صحت هناك ألنه كان حينئذ غري مستقبله وهذا هو السر يف
إيراد حديث بن عمر عن بالل يف هذا الباب وقد روى األزرقي يف أخبار مكة أبسانيد صحيحة أن
املقام كان يف عهد النيب صلى هللا عليه و سلم وأِب بكر وعمر يف املوضع الذي هو فيه اآلن حىت
جاء سيل يف خالفه عمر فاحتمله حىت وجد أبسفل مكة فأتى به فربط إىل أستار الكعبة حىت قدم
عمر فاستثبت يف أمره حىت حتقق موضعه األول فأعاده إليه وبىن حوله فاستقر مث إىل اآلن ) .
التاسع والستون :قال الشنقيطي رمحه هللا تعاىل وهو يتكلم عن فروع يف أحكام التلبية ( اعلم أنه
ينبغي للرجال رفع أصواهتم ابلتلبية ،ملا رواه مالك يف املوطأ ،والشافعي ،وأمحد ،وأصحاب السنن،
وابن حبان ،واحلاكم .من حديث خالد بن السائب األنصاري ،عن أبيه السائب بن خالد بن
سويد رضي هللا عنه :أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال " أَتين جبيل فأمرين أن آمر أصحاِب
أن يرفعوا أصواهتم ابلتلبية " ولفظ مالك يف موطئه " أَتين جبيل فأمرين أن آمر أصحاِب ،أو من
معي أن يرفعوا أصواهتم ابلتلبية أو ابإلهالل " يريد أحدمها .وقال الرتمذي يف هذا احلديث :حديث
حسن صحيح ،ومجهور أهل العلم على أن هذا األمر املذكور يف احلديث لالستحباب ،وذهب
الظاهرية إىل أنه للوجوب ،والقاعدة املقررة يف األصول مع الظاهرية ،وهي أن األمر يقتضي الوجوب
إال لدليل صارف عنه ،وأما النساء فال ينبغي هلن رفع الصوت ابلتلبية كما عليه مجاهري أهل
ِ
الصوت ابلتلبية، العلم.قال مالك يف موطئه :إنه مسع أهل العلم يقولون :ليس على النساء رفع
لِتُ ِ
سمع املرأة ن ْف َسها ،وعلل بعض أهل العلم خفض املرأة صوهتا ابلتلبية خبوف االفتتان بصوهتا.وقال
الرافعي يف شرحه الكبري املسمى فتح العزيز يف شرح الوجيز :وإمنا يستحب الرفع يف حق الرجل ،وال
يرفع حيث جيهد ويقطع صوته ،والنساء يقتصرن على إمساع أنفسهن ،وال جيهرن كما ال جيهرن
ابلقراءة يف الصالة.قال القاضي الروايين :ولو رفعت صوهتا ابلتلبية مل حيرم ،ألن صوهتا ليس بعورة
خالفاً لبعض أصحابنا اه .وذكر حنوه النووي عن الروايين مث قال :وكذا قال غريه :ال حيرم لكن يكره
صرح به الدارمي ،والقاضي أبو الطيب والبندنيجي ،وخيفض اخلنثى صوته كاملرأة ذكره صاحب
البيان وهو ظاهر.قال مقيده عفا هللا عنه وغفر له :أما املرأة الشابة الرخيمة الصوت ،فال شك أن
51
صوهتا من مفاتن النساء وال جيوز هلا رفعه حبال ،ومن املعلوم أن الصوت الرخيم من حماسن النساء
ومفاتنها ،وألجل ذلك يكثر ذكره يف التشبيب ابلنساء)ا.ه .كالمه رمحه هللا تعاىل .
الفرع املويف للسبعني :وقال رمحه هللا تعاىل يف األضواء ( واألمر يف قوله يف هذه اآلية َ وتُوبُوا إِ َىل
مجيعاً الظاه ر أنه للوجوب وهو كذلك ،فالتوبة واجبة على كل مكلف ،من كل ذنب اقرتفه، َِّ
الِل َِ
وأتخريها ال جيوز فتجب منه التوبة أيضا ) وهو احلق وال شك .
احلادي والسبعون :اعلم رمحك هللا تعاىل أن األمر يف قوله تعاىل يف آية الصيام َ وُكلُواْ َوا ْشَربُواْ
َس َوِد ِم َن الْ َف ْج ِر فقوله " فكلوا " وقوله "واشربوا" هذه ط األَب يض ِمن ْ ِ
اخلَْيط األ ْ اخلَْي ُ َْ ُ َ
ني لَ ُك ُم ْ
َح َّىت يَتَبَ َّ َ
أوامر ،ولكنها هنا ال تفيد إال اإلابحة ،ألهنا أمر من بعد هني ،فإن الصائم كان ممنوعا من األكل
والشرب يف النهار ،مث أمر به بعد ذلك يف الليل ،فهذا أمر بعد حظر واملتقرر يف األصول أن األمر
بعد احلظر يفيد ما كان يفيده قبل احلظر ،وقد كان حكم األكل والشرب قبل احلظر مباحا ،فهو
اآلن مباح ،وهللا أعلم.
الثاين والسبعون :من املعلوم أن النيب صلى هللا عليه وسلم قد أمر بتسوية الصفوف ،فقال عليه
سووا صفوفكم فإن تسوية الصف من متام الصالة " وعن أنس قال :كان رسول الصالة والسالم " ه
هللا صلى هللا عليه وسلم يقبل علينا وجهه قبل أن يكب فيقول " تراصوا واعتدلوا " وعن النعمان بن
بشري قال :كان رسول هللا صلى هللا عليه و سلم يسوي صفوفنا كأمنا يسوي به القداح حىت رأى أان
قد عقلنا عنه مث خرج يوما فقام حىت كاد أن يكب فرأى رجال ابداي صدره من الصف فقال " :عباد
هللا لتسون صفوفكم أو ليخالفن هللا بني وجوهكم " رواه اجلماعة إال البخاري فإن له منه " لتسون
صفوفكم أو ليخالفن هللا بني وجوهكم " وألمحد وأِب داود يف رواية قال :فرأيت الرجل يلزق كعبه
بكعب صاحبه وركبته بركبته ومنكبه مبنكبه .فهذه األحاديث تفيد أن تسوية الصفوف من
الواجبات اليت ال بد منها يف الصالة ،وذلك ألمور منها -:أن قوله "سووا " وقوله " تراصوا" وقوله
" اعتدلوا" كل هذه أوامر ،واملتقرر أن األمر املطلق عن القرينة يفيد الوجوب ،وال نعلم صارف له
عن اببه ،بل أتيد الوجوب مبا سيأيت إن شاء هللا تعاىل ،ومنها -:أنه علق متام الصالة بتسوية
الصفوف ،فقال " فإن تسوية الصف من متام الصالة " أي من متامها الواجب الذي ال بد منه ،
ومن املعلوم أن إمتام الصالة من الواجبات وال يتم هذا الواجب إال بتسوية الصفوف ،فيكون
تسوية الصفوف من الواجبات ،ألن املتقرر عند أهل العلم رمحهم هللا تعاىل أن ما ال يتم الواجب
52
إال به فهو واجب ،ومنها -:أنه توعد على عدم التسوية ابلوعيد الذي ذكره الدليل السابق ،ومن
املعلوم املتقرر أن عالمات الواجب العقوبة على الرتك ،فلما توعد على ترك التسوية فهمنا من هذا
الوعيد أنه من الواجبات ،وهللا أعلم .
الثالث والسبعون :أقول -:قال بعض العلماء ( إنه ينبغي للمسلم أن يكون مستعداً لصالته
معتنياً بوقتها حبيث يوفق بينه وبني وقت الطعام ،فال يشتغل ابلطعام يف الوقت الذي يعلم أن
الصالة تقام فيه ،ل كن لو حضر الطعام وأقيمت الصالة استحب له تقدمي الطعام ال سيما إذا كانت
ن فسه تتوق إليه ،أو كان الطعام يفسده التأخري ،مث يصلي بعد انتهائه منه ،هذا إذا حضرت الصالة
قبل أن يبدأ ابلطعام ،فما ابلك مبن أقيمت الصالة عليه وهو يتعشى ،ففي الصحيحني أنه عليه
الصالة والس الم قال :إذا حضر العشاء وأقيمت الصالة فابدؤوا ابلعشاء .متفق عليه ،ويف لفظ
البخاري :إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصالة فابدؤوا ابلعشاء ،وال يعجل حىت يفرغ منه .وكان
ابن عمر يوضع له الطعام وتقام الصالة فال أيتيها حىت يفرغ ،وإنه ليسمع قراءة اإلمام .وللبخاري
أيضاً :إذا كان أحدكم على الطعام فال يعجل حىت يقضي حاجته منه وإن أقيمت الصالة .قال ابن
حجر يف فتح الباري :قوله :فابدؤوا ابلعشاء محل اجلمهور هذا األمر على الندب ،مث اختلفوا فمنهم
من قيده مبن كان حمتاجاً إىل األكل وهو املشهور عند الشافعية وزاد الغزايل :ما إذا خشي فساد
املأكول ،ومنهم من مل يقيده وهو قول الثوري وأمحد وإسحاق وعليه يدل فعل ابن عمر .انتهى.
وقال ابن قدامة يف املغين :إذا حضر العشاء يف وقت الصالة فاملستحب أن يبدأ ابلعشاء قبل
الصالة ،ليكون أفرغ لقلبه وأحضر لباله ،وال يستحب أن يعجل عن عشائه أو غدائه ،فإن أنساً
روى عن النيب صلى هللا عليه وسلم أنه قال " إذا قرب العشاء وحضرت الصالة فابدؤوا به قبل أن
تصلوا صالة املغرب ،وال تعجلوا عن عشائكم " انتهى .ومن هذا يعلم أن الصواب كان مع من
أكملوا عشاءهم مث صلوا بعد ذلك قبل أن يفوت الوقت ،والدليل على ذلك هو ما ذكران ،وأن
التأخري عن حضور الصالة هنا مشروع بسبب االشتغال ابلطعام يف حق الفرد فكيف ابجلماعة ،مث
إن ما استدل به من قطع العشاء وذهب إىل الصالة ليس حديثاً ،ولكنه من كالم وكيع بن اجلراح
رمحه هللا تعاىل كما يف حلية األولياء ففيها :وقال وكيع :من هتاون ابلتكبرية األوىل فاغسل يديك
منه .انتهى وهللا ربنا أعلى وأعلم وال حول وال قوة إال ابهلل العلي العظيم .
53
الرابع والسبعون :عن أِب هريرة أن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم قال " إذا أمن اإلمام فأمنوا
فإن من وافق أتمينه أتمني املالئكة غفر له ما تقدم من ذنبه " وقال ابن شهاب :كان رسول هللا
صلى هللا عليه وآله وسلم يقول آمني .رواه اجلماعة إال أن الرتمذي مل يذكر قول ابن شهاب .ويف
رواية " إذا قال اإلمام غري املغضوب عليهم وال الضالني فقولوا آمني فإن املالئكة تقول آمني وإن
اإلمام يقول آمني فمن وافق أتمينه أتمني املالئكة غفر له ما تقدم من ذنبه " رواه أمحد والنسائي ،
فهل األمر ابلتأمني يفيد الوجوب أو ال ؟ قال الشوكاين رمحه هللا تعاىل يف نيل األوطار يف بيان فوائد
هذه األحاديث ( واحلديث يدل على مشروعية التأمني قال احلافظ :وهذا األمر عند اجلمهور
للندب .وحكى ابن بزيزة عن بعض أهل العلم وجوبه على املأموم عمال بظاهر األمر .وأوجبته
الظاهرية على كل من يصلي .والظاهر من احلديث الوجوب على املأموم فقط لكن ال مطلقا بل
مقيدا أبن يؤمن اإلمام وأما اإلمام واملنفرد فمندوب فقط وحكى املهدي يف البحر عن العرتة مجيعا
أن التأمني بدعة وقد عرفت ثبوته عن علي عل يه السالم من فعله وروايته عن النيب صلى هللا عليه
وآله وسلم يف كتب أهل البيت وغريهم على أنه قد حكى السيد العالمة اإلمام حممد بن إبراهيم
الوزير عن اإلمام مهدي حممد بن املطهر وهو أحد أئمتهم املشاهري أنه قال يف كتابه الرايض الندية :
إن رواة التأمني جم غفري قال :وهو مذهب زيد بن علي وأمحد بن عيسى انتهى ،وقد استدل
صاحب البحر على أن التأمني بدعة حبديث معاوية بن احلكم السلمي إن هذه صالتنا ال يصلح
فيها شيء من كالم الناس وال يشك أن أحاديث التأمني خاصة وهذا عام وإن كانت أحاديثه
الواردة عن مجع من الصحابة ال يقوى بعضها على ختصيص حديث واحد من الصحابة مع أهنا
مندرجة حتت العمومات القاضية مبشروعية مطلق الدعاء يف الصالة ألن التأمني دعاء فليس يف
الصالة تشهد وقد أثبتته العرتة فما هو جواهبم يف إثباته فهو اجلواب يف إثبات ذلك على أن املراد
بكالم الناس يف احلديث هو تكليمهم ألنه اسم مصدر كلم ال تكلم ،ويدل على أن ذلك السبب
املذكور يف احلديث .وأما القدح يف مشروعية التأمني أبنه من طريق وائل بن حجر فهو اثبت من
طريق غريه يف كتب أهل البيت وغريها فإنه مروي من جهة ذلك العدد الكثري) وأان أجد نفسي إىل
ما قاله الشيخ الشوكاين ،وهللا أعلم .
اخلامس والسبعون :عن ابن عباس قال " أمر النيب صلى هللا عليه وآله وسلم أن يسجد على سبعة
أعضاء وال يكف شعرا وال ثواب اجلبهة واليدين والركبتني والرجلني " أخرجاه ويف لفظ قال النيب
54
صلى هللا عليه وآله وسلم " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم على اجلبهة وأشار بيده على أنفه
واليدين والركبتني والقدمني " متفق عليه .ويف رواية " أمرت أن أسجد على سبع وال أكفت الشعر
وال الثياب اجلبهة واألنف واليدين والركبتني والقدمني " رواه مسلم والنسائي واحلديث يدل على
وجوب السجود على هذه األعضاء السبعة ،ألن لفظة ( أمرت ) صرحية يف إرادة الوجوب ،وال
صارف يصرف هذا األم ر عن اببه إىل الندب ،فيجب السجود على اجلبهة على الصحيح خالفا
للحنفية ،فإهنم ال يقولون به ،وجيب السجود على األنف على الصحيح خالفا للجمهور ،وجيب
السجود على بقية األعضاء ،ألن املتقرر ألن األمر املطلق عن القرينة يفيد الوجوب ،قال الشوكاين
رمحه هللا تعاىل يف النيل ( واحلديث يدل على وجوب السجود على السبعة األعضاء مجيعا ) وهللا
أعلم
السادس والسبعون :القاعدة املتقررة عند أهل السنة واجلماعة رمحهم هللا تعاىل أنه ال جيوز احللف
ابملخلوقات ،بل ال جيوز احللف إال ابسم من أمساء هللا تعاىل أو صفة من صفاته ،وبناء عليه -:
فالقول الصحيح أن من حلف بغري هللا تعاىل فإنه ال كفارة فيه عند أهل السنة ،بل كفارهتا أن
يقول ( ال إله إال هللا ) وذلك ألنه جرح توحيده ،فإما أن يكون حلفه بتعظيم كتعظيم هللا تعاىل
فمن فعل هذا فقد كفر وأشرك وخلع ربقة اإلسالم من عنقه ابلكلية ،فتكون كلمة التوحيد جمددة
له اإلسالم ،وأما إن كان هذا احللف مما جرى على لسانه وال يقصد به التعظيم ،فإنه من الشرك
األصغر ،فيكون قول كلمة التوحيد بعده من جوابر الكسر الذي حصل ،والسؤال هنا -:هل
قول ( ال إله إال هللا ) بعد احللف بغري هللا تعاىل من الواجبات املتحتمات أو من املندوابت
املستحبات ؟ أقول -:احلق احلقيق ابلقبول هو أهنا من الواجبات املتحتمات ،وأنه إن مل يقلها فهو
آمث ألنه قد أخل ابلواجب ،وبرهان هذا اإلجياب األمر هب ا يف قوله صلى هللا عليه وسلم " من
صدَّق " ِ
ف فقال يف حلفه :والالت فليَ ُق ْل :ال إله إال هللا ومن قال لصاحبه :تعال أُقام ْرك فليََت َ
َحلَ َ
فهذان أمران واجبان ،األول -:أن من حلف بغري هللا تعاىل فإنه ال كفارة ليمينه هذه إال أبن يقول
( ال إله إال هللا ) ألن النيب صلى هللا عليه وسلم قد أمر هبا يف هذا احلديث ،واملتقرر أن األمر
املطلق عن القرينة يفيد الوجوب ،الثاين -:أن من قال لصاحبه( تعال أقامرك ) أي ألعب معك
لعبة القمار ،والعياذ ابهلل ،فإن الواجب عليه يف هذه احلالة أن يتصدق بشيء ،ألن النيب صلى
هللا عليه وسلم قد أمر به يف احلديث ،واألمر املطلق عن القرينة يفيد الوجوب ،وقلنا ( يتصدق
55
بشيء ) ألنه غري حمدد يف احلديث مقدار هذه الصدقة واملتقرر أن األصل وجوب بقاء املطلق على
إطالقه وال يقيد إال بدليل ،ولكن عندي أنه لو تصدق ابملال الذي عزم املقامرة عليه لكان هو
األوىل ،وبيان هذا أنه قد عزم أن يعصي هللا تعاىل هبذا املال ،فمعاملة للنفس األمارة ابلسوء
بنقيض قصدها وحىت ينقلب األمر على الشيطان ال بد وأن يبذل هذا املال يف سبيل هللا تعاىل ،
ألنه كان سيبذل يف سبيل الشيطان واهلوى واملعصية فتحولت الدفة بفضل هللا تعاىل ،إىل طريق
اخلري ،فكما أنه كان سينفق املال الكثري يف املقامرة وهي معصية فألن يبذل هذا املال كله يف
الطاعة من ابب أوىل وأحرى ،واألمر إىل هللا تعاىل من قبل ومن بعد ،ولكن كما ذكرت لك أنه ال
تقدير يف الصدقة ،وإمنا الكالم السابق من ابب االستحسان فقط ،وهللا أعلم .
السابع والسبعون :عن جابر أن النيب صلى هللا عليه وسلم أمر بوضع اجلوائح ...ويف رواية قَ َ
ال
ول اَ َِّ
َصابَْتهُ َجائِ َحةٌ ،فَ َال َِحي ُّل لَ َ
ك أَ ْن َأتْ ُخ َذ يك َمثَراً فَأ َ
لِل صلى هللا عليه وسلم " لَو بِعت ِمن أ ِ
َخ َ ْ ْ َ ْ َر ُس ُ
يك بِغَ ِْري َح هق؟" ...وقد اختلفت كلمة أهل العلم رمحهم هللا تعاىل يف َخ َ ِمْنهُ َشْي ًئاِِ .بَ َأتْ ُخ ُذ َم َ
ال أ ِ
هذه املسألة ،فذهب قوم إىل االستحباب ،أي أنه إن اشرتيت مترا وقبل قبضه نزل عليه أمر هللا
تعاىل من السماء ففسد ،وكنت أنت قد دفعت مثنه ،فهل جيب على البائع أن يرد عليك الثمن
كله ،أو أن رد الثمن من ابب االستحباب ؟ فقال قوم هبذا ،وقال قوم هبذا ،والصحيح يف هذه
املسألة هو الوقوف على لفظ األمر وما يفيده يف الشريعة ،وهو أن قوله " أمر " يفيد الوجوب ،
فوضع اجلوائح من األمور الواجبة ،ويؤيد الوجوب قوله صلى هللا عليه وسلم يف الرواية األخرى " ِب
أتخذ مال أخيك بغري حق " وهذا دليل على أن البائع لو مل يرد املال إىل املشرتي ،لكان هذا من
أكل املال ابلباطل ،وأنت خبري أبن هذا من األمور احملرمة ألن هللا تعاىل يقول َ والَ َأتْ ُكلُواْ
اط ِل وأكل املال ابلباطل له صور كثرية ،ومنها -:تلك الصورة اليت ذكرها أَموالَ ُكم ب ي نَ ُكم ِابلْب ِ
َ ْ َ َْ
احلديث ،وأي ذ نب للمشرتي أن يؤخذ ماله بغري حق ،بل امسع إىل قوله " فال حيل لك أن أتخذ
من مال أخيك شيئا " واملتقرر أن قوله " ال حيل " يرادف قوله (حيرم هذا) فإن قلت -:وما ذنب
البائع أيضا ؟ فأقول -:هذا أمر هللا وقضاؤه ،وقد نزل على مثرته وهي ال تزال يف ضمانه ،وهللا
تعاىل هو احلكم العدل الذي ال يظلم أحدا ،وقضاء الشرع كله حق وعدل وإن كنا ال نعرف
حقيقة احلكمة فيه ،ألننا مؤمنون أن ربنا جل وعال هو احلكيم يف قضائه وقدره وحكمه ،واملهم أن
56
لفظة " أمر " هنا تفيد الوجوب ،يعين أنه ال حيل للبائع شيء من مال املشرتي ،بل حيب عليه أن
يرده كله إن كان قد قبضه ،وإن مل يقبضه فال حق له ابملطالبة به ،وهللا ربنا أعلى وأعلم .
الثامن والسبعون :القول الصحيح إن شاء هللا تعاىل هو أن اإلشهاد على الرجعة من األمور
الواجبة ،فالرجعة ال تصح مع الكتمان حبال ،أفاده أبو العباس ابن تيمية رمحه هللا تعاىل ،وسدا
لذريعة التالعب أبمر الطالق والرجعة ،وبرهان هذا اإلجياب هو املر به يف قوله تعاىل َ وأَ ْش ِه ُدوا
َذ َو ْي َع ْدل ِهمن ُك ْم واألمر هنا يفيد الوجوب ،وال أعلم له صارفا عن الوجوب إىل الندب ،وهللا
أعلم .
ث َو َج ُّ ِ ِ
وه ْم
دمتُ ُ احلُُرُم فَاقْ تُلُواْ الْ ُم ْش ِرك َ
ني َحْي ُ التاسع والسبعون :يف قول هللا تعاىل فَإ َذا ا َ
نسلَ َخ األَ ْش ُهُر ْ
هذا األ مر يف اآلية يفيد الوجوب ،مع أنه أمر بعد منع ،ولكنه قد تقرر لنا سابقا أن األمر بعد
احلظر يفيد ما كان يفيده قبل احلظر ،وقتال املشركني قبل األشهر احلرم كان من الواجبات ،فيكون
حكمه بعد فك احلظر من الواجبات أيضا ،وهللا أعلم .
الفرع املويف للثمانني :عن الضحاك بن فريوز عن أبيه قال " أسلمت وعندي امرأَتن أختان فأمرين
النيب صلى هللا عليه وآله وسلم أن أطلق أحدامها " رواه اخلمسة إال النسائي .ويف لفظ الرتمذي "
اخرت أيتهما شئت " وعن الزهري عن سامل عن ابن عمر قال " أسلم غيالن الثقفي وحتته عشر نسوة
يف اجلاهلية فأسلمن معه فأمره النيب صلى هللا عليه وآله وسلم أن خيتار منهن أربعا " رواه أمحد وابن
ماجه والرتمذي ،وهذا هو حكم هللا تعاىل فيمن كان هبذه احلالة ،واألمر يف قوله " فأمرين " وقوله "
فأمره " كله للوجوب ،أي جيب أن يتخري منهن أربعا إن كن أكثر أو واحدة من األختني إن كان
حتته أختان ،وهو شريعة يف كل من كان حتته من ال جيوز اجلمع بينهن من النساء ،فإن أَب أن
خيتار وأصر على بقائهن حتته فإن احلاكم جيبه على االختيار ابحلبس والتعزير ،ومبا يراه مناسبا
حلالته ،وأظن أن الفقهاء رمحهم هللا تعاىل قد نصوا على أن احلاكم ال حق له يف أن يتوىل االختيار
هو بنفسه ،ألن األمر يرجه إىل شهوة الزوج ورغبته ،قال الشوكاين رمحه هللا تعاىل يف النيل (
وحديث الضحاك استدل به حترمي اجلمع بني األختني وال أعرف يف ذلك خالفا وهو نص القرآن
ف فإذا أسلم كافر وعنده أختان أجب على ُختَ ْ ِ
ني إَالَّ َما قَ ْد َسلَ َ ني األ ْ
قال هللا تعاىل َ وأَن َْجت َم ُعواْ بَْ َ
تطليق إحدامها ويف ترك استفصاله عن املتقدمة منهما من املتأخرة دليل على أنه حيكم لعقود الكفار
ابلصحة وإن مل توافق اإلسال م فإذا أسلموا أجرينا عليهم يف األنكحة أحكام املسلمني ،وقد ذهب
57
إىل هذا مالك والشافعي وأمحد وداود وذهبت العرتة وأبو حنيفة وأبو يوسف والثوري واألوزاعي
والزهري وأحد قويل الشافعي إىل أنه ال يقر من أنكحة الكفار إال ما وافق اإلسالم فيقولون إذا أسلم
الكافر وحتته أختان وجب عليه إرسال من أتخر عقدها وكذلك إذا كان حتته أكثر من مخس أمسك
من تقدم العقد عليها منهن وأرسل من أتخر عقدها إذا كانت خامسة أو حنو ذلك وإذا وقع العقد
على األختني أو على أكثر من أربع مرة واحدة بطل وأمسك من شاء من األختني وأرسل من شاء
وأمسك أربعا من الزوجات خيتارهن ويرسل الباقيات والظاهر ما قاله األولون لرتكه صلى هللا عليه
وآله وسلم لالستفصال يف حديث الضحاك وحديث غيالن وملا يف قوله " أخرت أيتهما " ويف قوله "
أخرت أربعا " من اإلطالق ) وهللا أعلم .
احلادي والثمانون :ما احلكم لو أخر دفع مال أمر بدفعه ؟ قال يف اإلنصاف يف اإلجابة عن هذا
السؤال ( لو أخر دفع مال أمر بدفعه بال عذر ضمن كما تقدم نظريه يف الوديعة وهذا الصحيح من
املذهب وعليه مجاهري األصحاب.وقيل :ال يضمن واختاره أبو املعايل بناء على اختصاص الوجوب
أبمر الشرع.قلت :األمر اجملرد عن القرينة هل يقتضي الوجوب أم ال؟ فيه مخسة عشر قوال للعلماء.
من مجلتها :أن أمر الشارع للوجوب دون غريه كما اختاره أبو املعايل.والصحيح من املذهب :أنه
للوجوب مطلقا ) قلت -:وهو احلق ،وهللا أعلم .
الثاين والثمانون :اعلم رمحك هللا تعاىل أن النكاح سنة ،ملن له شهوة وال خياف على نفسه العنت
أي الزان ،فهو سنة يف مذهب مجاهري العلماء ،وقال الظاهرية وهو رواية عن اإلمام أمحد اختارها
طائفة من أصحابه كأِب بكر عبد العزيز وأِب حفص البمكي وابن أِب موسى من أصحاب اإلمام
أمحد :أن النكاح ملن له شهوة وعنده قدرة مالية على ذلك فإنه واجب يف حقه واستدلوا مبا ثبت يف
الصحيحني أن النيب صلى هللا عليه وسلم قال " اي معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج
فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ،ومن مل يستطع فعليه ابلصوم فإنه له وجاء " والشاهد قوله (
فليتزوج ) واألمر للوجوب ،وهذا القول هو األظهر ملوافقته لظاهر قوله صلى هللا عليه وسلم (
فليتزوج ) واجلمهور محلوا األمر الوارد يف احلديث على االستحباب واألظهر أنه للوجوب.وأما إذا
كان غري قادر على النكاح مباله فال جيب عليه النكاح بل يستحب ،ملفهوم قوله صلى هللا عليه
وسلم " اي معشر الشباب من استطاع منكم الباءة " والباءة هي مؤنة النكاح من مهر وغريه ،فقد
أوجب الزواج على من استطاع الباءة ،فدل على أن الفقري ال جيب عليه ،لكن يستحب له ،وقد
58
ضلِ ِه هذا إن كان له شهوة ،وأما من ال شهوة له
الِلُ ِمن فَ ْ
قال تعاىل إِن يَ ُكونُوا فُ َقَراء يُ ْغنِ ِه ُم َّ
كالعنني الذي ال أييت النساء ،أو الكبري اهلرم فال جيب النكاح وال يستحب يف حقهم ،وذلك لزوال
املعىن املقتضي لإلجياب واالستحباب فيكون مباحاً يف حقه لكن من غري أن يرتتب على هذا ضرر
على املرأة ،فإن طلبت الطالق ،فإن فيه مصلحة له بقيام هذه املرأة بشأنه وهي أيضاً هلا مصلحة
إبنفاق هذا الزوج عليها ،إذن من ال شهوة له وعنده قدرة مالية فإن النكاح يباح وقد يستحب
حيث كان يف ذلك مصلحة ظاهرة للمرأة كأن تكون املرأة حمتاجة ،واملهم أن األمر يف قوله صلى
هللا عليه وسلم " فليتزوج " يفيد الوجوب ابلشرط املذكور قبال ،وهللا أعلم .
الثالث والثمانون :ثبت أن النيب صلى هللا عليه وسلم قال للمستحاضة " وتوضئي لكل صالة "
فقالوا" :توضئي" أمر ،واألصل يف األمر أنه للوجوب ،وبناءً على ذلك :جيب على املستحاضة أن
تتوضأ لكل صالة ،هذا القول األول ،واملراد أي وقت كل صالة ،فكلما دخل عليها وقت الصالة
فإهنا مأمورة ابلوضوء ،مث تصلي ما شاءت يف هذا الوقت من النوافل حىت خيرج هذا الوقت ،مث
تفعل يف الوقت الثاين ما فعلته يف الوقت األول وهكذا ،فاألمر يف قوله " وتوضئي " يفيد الوجوب
،ألنه ال صارف له ،بل يف حديث أمساء بنت عميس يف شأن املستحاضة ،أن النيب صلى هللا
عليه وسلم قال " وتتوضأ فيما بني ذلك " وقد استفدان من هذا احلديث حكما عاما يف كل من
حدثه دائم ،وقرران يف هذا قاعدة تقول ( من حدثه دائم فإنه يتوضأ لوقت كل صالة ويصلي وال
يضر خروج حدثه ) وهللا تعاىل أعلم .
الرابع والثمانون :القول الصحيح والرأي الراجح املليح هو أن سجود السهو من واجبات الصالة
إن كان السهو حصل فيما يبطل عمده الصالة ،يعين أنه إن وقع منك السهو يف صورة من الصور
فاسأل نفسك -:لقد فعلت هذه الصورة سهوا ،ولكن مال احلكم لو أنين فعلتها عمدا ،فإن كان
اجلواب -:بطالن الصالة مع العمد فاعلم أن سجود السهو هلذه الصورة من الواجبات ،والدليل
على هذا أن النيب صلى هللا عليه وسلم أمر هبا يف غري ما حديث ،عن عبد الرمحن بن عوف قال :
مسعت رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم يقول " إذا شك أحدكم يف صالته فلم يدر أواحدة
صلى أم ثنتني فليجعلها واحدة وإذا مل يدر ثنتني صلى أم ثالاث فليجعلها ثنتني وإذا مل يدر ثالاث
صلى أم أربعا فليجعلها ثالاث مث يسجد إذا فرغ من صالته وهو جالس قبل أن يسلم سجدتني "
وعن أِب سعيد اخلدري قال قال رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم " إذا شك أحدكم يف صالته
59
فلم يدر كم صلى ثالاث أم أربعا فليطرح الشك ولينب على ما استيقن مث يسجد سجدتني قبل أن
يسلم فإن كان صلى مخسا شفعن له صالته وإن كان صلى إمتاما ألربع كانتا ترغيما للشيطان " رواه
أمحد ومسلم وعن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود قال :صلَّى النيب صلى هللا عليه وآله وسلم (
قال إبراهيم :ال أدري زاد أو نقص ) فلما سلم قيل له :اي رسول هللا حدث يف الصالة شيء قال
" ال وما ذاك " قالوا :صليت كذا وكذا فثىن رجليه واستقبل القبلة فسجد سجدتني مث سلم مث أقبل
علينا بوجهه فقال " إنه لو حدث يف الصالة شيء أنبأتكم به ولكن إمنا أان بشر أنسى كما تنسون
فإذا ن سيت فذكروين وإذا شك أحدكم يف صالته فليتحر الصواب فليتم عليه مث ليسلم مث ليسجد
سجدتني " رواه اجلماعة إال الرتمذي .ويف لفظ ابن ماجه ومسلم يف رواية " فلينظر أقرب ذلك إىل
الصواب " وعن أِب هريرة أن النيب صلى هللا عليه وسلم قال " إن الشيطان يدخل بني ابن آدم وبني
ن فسه فال يدري كم صلى فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتني قبل أن يسلم " فهذه األوامر
كلها تفيد الوجوب ،ألن املتقرر أن األمر املطلق يفيد الوجوب ،وال أعلم قرينة تصرف األمر عن
اببه ،وقد فصلنا القول يف أحوال سجود السهو يف رسالة مستقلة ،وهللا أعلم .
اخلامس والثمانون :قال الشيخ حممد املختار الشنقيطي رمحه هللا تعاىل يف شرحه على الزاد يف
مبحث صالة اخلوف ( صالة اخلوف على صفات ،لكن سنذكر منها املشروع :الصفة األوىل :أن
يقسم اإلمام اجليش إىل طائفتني ،فيكون اجليش صفني :الصف األول يلي اإلمام ،والثاين من بعده،
ويصلون وهم حاملون للسالح ،فتقام الصالة وكل واحد معه سالحه الذي ال يزعجه يف صالته،
كالسالح الذي يدفع به العدو وال مينعه من الركوع والسجود ،وال مينعه من أداء أركان الصلوات:
وقد اختلف العلماء يف حكم محلة سالحه ،فقال بعضهم :جيب عليهم أن أيخذوا السالح لظاهر
قوله سبحانه وتعاىل َ و ُخ ُذوا ِح ْذ َرُك ْم فأمر سبحانه وتعاىل أبخذ احلذر وقال تعاىل َ ولْيَأْ ُخ ُذوا
َسلِ َحتَ ُه ْم فكونه أيمر أبخذ السالح يدل على الوجوب؛ ألن األصل يف األمر أنه للوجوب ،وهذا أْ
مذهب الظاهرية وطائفة ،وهو أقوى القولني ،أهنم أيخذون السالح ) وهو كما قال رمحه هللا تعاىل .
السادس والثمانون :القول الصحيح عندي وهللا تعاىل أعلم أن األمر ابألخذ من الشارب أمر
وجوب وحتتم ،وبرهان هذا أن النيب صلى هللا عليه وسلم أمر به فقال " جزوا الشوارب " وقوله "
أحفوا الشوارب " وغريها ،وهذه األوامر تفيد الوجوب ،ويؤيد هذا القول ما رواه أمحد والنسائي
بسند صحيح من حديث زيد بن أرقم رضي هللا عنه قال -:قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم "
60
من مل أيخذ من شاربه فليس منا " واملتقرر أن قوله يف بعض األمور ( من فعله فليس منا ) دليل
على التحرمي ،ولكن ورد ما يقيد هذا التحرمي مبا زاد على األربعني ليلة فاألخذ من الشارب فيما
دون ذلك من السنة ،وأما ما زاد عليها فهو من الواجبات ،ففي الصحيح من حديث انس بن
مالك رضي هللا عنه قال -:وقت لنا يف قص الشارب وتقليم األظفار ونتف اإلبط وحلق العانة أن
ال نرتك أكثر من أربعني ليلة .وألمحد وأِب داود :وقت لنا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم .واملتقرر
أن اجلمع بني األدلة واجب ما أمكن ،ومبا قلناه جيتمع مشلها ويتآلف نظامها ،وهللا أعلى وأعلم .
السابع والثمانون :عن أِب هريرة رضي هللا عنه قال قال رسول هللا صلى هللا عليه و سلم " ال
يشربن أحدكم قائما فمن نسى فليستقيء " وعن ابن عباس سقيت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم
من زمزم فشرب وهو قائم وىف الرواية األخرى أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم شرب من زمزم وهو
قائم ويف صحيح البخاري أن عليا رضى هللا عنه شرب قائما وقال رأيت رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم فعل كما رأيتموين فعلت .قال النووي رمحه هللا تعاىل ( على أن هذه األحاديث أشكل
معناها على بعض العلماء حىت قال فيها أقواال ابطلة وزاد حىت جتاسر ورام أن يضعف بعضها
وادعى فيها دعاوى ابطلة ال غرض لنا ىف ذكرها وال وجه إلشاعة األابطيل والغلطات يف تفسري
السنن بل نذكر الصواب ويشار إىل التحذير من االغرتار مبا خالفه وليس يف هذه األحاديث حبمد
هللا تعاىل إشكال وال فيها ضعف بل كلها صحيحة والصواب فيها أن النهى فيها حممول على كراهة
التنزيه وأما شربه صلى هللا عليه وسلم قائما فبيان للجواز فال إشكال وال تعارض وهذا الذي ذكرانه
يتعني املصري إليه وأما من زعم ن سخا أو غريه فقد غلط غلطا فاحشا وكيف يصار إىل النسخ مع
إمكان اجلمع بني األحاديث لو ثبت التاريخ وأىن له بذلك وهللا أعلم فإن قيل كيف يكون الشرب
قائما مكروها وقد فعله النيب صلى هللا عليه وسلم فاجلواب أن فعله صلى هللا عليه و سلم إذا كان
بياان للجواز ال يكون مكروها بل البيان واجب عليه صلى هللا عليه وسلم فكيف يكون مكروها وقد
ثبت عنه أنه صلى هللا عليه و سلم توضأ مرة مرة وطاف على بعري مع أن اإلمجاع على أن الوضوء
ثالاث والطواف ماشيا أكمل ونظائر هذا غري منحصرة فكان صلى هللا عليه وسلم ينبه على جواز
الشيء مرة أو مرات ويواظب على األفضل منه وهكذا كان أكثر وضوئه صلى هللا عليه وسلم ثالاث
ثالاث وأكثر طوافه ماشيا وأكثر شربه جالسا وهذا واضح ال يتشكك فيه من له أدىن نسبة إىل علم
وهللا أعلم وأما قوله صلى هللا عليه و سلم " فمن نسى فليستقىء " فمحمول على االستحباب
61
والندب فيستحب ملن شرب قائما أن يتقاأيه هلذا احلديث الصحيح الصريح فان األمر إذا تعذر
محله على الوجوب محل على االستحباب وأما قول القاضي عياض ال خالف بني أهل العلم أن من
شرب انسيا ليس عليه أن يتقيأه فأشار بذلك إىل تضعيف احلديث فال يلتفت إىل إشارته وكون
أهل العلم مل يوجبوا االستقاءة ال مينع كوهنا مستحبة فإن ادعى مدع منع االستحباب فهو جمازف ال
يلتفت إليه فمن أين له اإلمجاع على منع االستحباب وكيف ترتك هذه السنة الصحيحة الصرحية
ابلتومهات والدعاوى والرتهات مث اعلم أنه تستحب االستقاءة ملن شرب قائما انسيا أو متعمدا
وذكر الناسي ىف احلديث ليس املراد به أن القاصد خيالفه بل للتنبيه به على غريه بطريق األوىل ألنه
إذا أمر به الناسي وهو غري خماطب فالعامد املخاطب املكلف أوىل وهذا واضح الشك فيه ) وبه
تعلم أن األ مر ابالستقاءة بعد الشرب واقفا ليس على اببه الذي هو الوجوب ،بل هو مصروف منه
إىل الندب ،ألنه ثبت أنه صلى هللا عليه وسلم شرب قائما فلم يستقئ ،وهللا أعلم .
الثامن والثمانون :ال خالف بني أهل العلم رمحهم هللا تعاىل فيما نعلم على أن غسل امليت من
فروض الكفاايت ،وهذا الوجوب دليله اإلمجاع ،وكذلك األمر به يف قوله عليه الصالة والسالم ملن
يغسلن ابنته ملا ماتت " اغسلنها ثالاث أو سبعا أو أكثر من ذلك إن رأينت ذلك " وقال يف احملرم
الذي سقط عن راحلته فمات " اغسلوه مباء وسدر " وهذه األوامر مطلقة عن الصارف ،واملتقرر
أن األمر اجملرد عن القرينة يفيد الوجوب ،وعليه عمل املسلمني خالفا عن سالف ،وهللا أعلم .
التاسع والثمانون :قال ابن رشد رمحه هللا تعاىل يف بداية اجملتهد ( اتفق العلماء على أن سرت العورة
فرض إبطالق ،واختلفوا هل هو شرط من شروط صحة الصالة أم ال؟ وكذلك اختلفوا يف حد
العورة من الرجل واملرأة ،وظاهر مذهب مالك أهنا من سنن الصالة ،وذهب أبو حنيفة والشافعي إىل
أهنا من فروض الصالة وسبب اخلالف يف ذلك تعارض اآلاث ر واختالفهم يف مفهوم قوله تعاىل َ اي
آد َم ُخ ُذوا ِزينَتَ ُك ْم ِعْن َد ُك ِهل َم ْس ِجد هل األمر بذلك على الوجوب أو على الندب؟ فمن محله
بَِين َ
على الوجوب قال :املراد به سرت العورة ،واحتج لذلك أبن سبب نزول هذه اآلية كان أن املرأة كانت
تطوف ابلبيت عراينة وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فال أحله
فنزلت هذه اآلية وأمر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أال حيج بعد العام مشرك وال يطوف ابلبيت
عراين ومن محله على الندب قال :املراد بذلك الزينة الظاهرة من الرداء وغري ذلك من املالبس اليت
62
هي زينة ،واحتج لذلك مبا جاء يف احلديث من أنه كان رجال يصلون مع النيب عليه الصالة والسالم
عاقدي أزرهم على أعناقهم كهيئة الصبيان ،ويقال للنساء ال ترفعن رؤوسكن حىت يستوي الرجال
جلوسا قالوا :ولذلك من مل جيد ما به يسرت عورته مل خيتلف يف أنه يصلي واختلف فيمن عدم
الطهارة هل يصلي أم ال يصلي؟) قلت -:والقول الصحيح أن اآلية تفيد الوجوب فيما هو من
سرت العورة الواجب سرتها ،وتفيد الندب فيما زاد على العورة الواجب سرتها ،وهللا أعلم .
وه َوالَ تَتَّبِ ُعواْ ُّ ِ ِ ِ
السبُ َل َن َه َذا صَراطي ُم ْستَق ًيما فَاتَّبِ ُع ُ
الفرع املويف للتسعني :يف قوله هللا تعاىل َ وأ َّ
فَتَ َفَّر َق بِ ُك ْم َعن َسبِيلِ ِه وما أشبهها من اآلايت اآلمرة ابتباع طريق حممد صلى هللا عليه وسلم هذه
اآلايت فيها برد اليقني أبنه ال جيوز اتباع الطرق املخالفة لطريق حممد عليه الصالة والسالم وأن كل
حنلة غري حنلته ،وأي ملة سوى ملته فإنه زيغ وضالل وبعد عن طريق احلق واهلدى ويف هذا قطع
أللسنة من يدعو إىل وحدة التقريب بني األداين ،وأن كل أحد يعبد هللا تعاىل ملا هو عليه من
الدين وإن كان خمالفا ملا جاء به حممد صلى هللا عليه وسلم ،وأنه ال جيوز ألحد أن ينكر على
املخالف له يف العقيدة ،وأنه ال بد من فرض التعايش السلمي بني الطوائف املختلفة يف عقيدهتا ،
وأن لكل دينه الذي يراه حقا ،إىل غري ذلك من اخلرافات اليت ال برهان هلا وال نص يعضدها ،
وإمنا هو اهلوى والتخرص يف دين هللا تعاىل ،فرتى الواحد منهم يلوك لسانه هبذا الكالم كما تلوكه
البقرة ،وهو ال يدري عن املخالفة اليت يتضمنها كالمه ،وهذه الدعوى ابطلة ،وال خري فيها ،
وهي عارية عن احلق ،بل هي مصادمة للحق ،فإن احلق أن املنهج واحد وطريق النجاة واحد وال
طريق إىل هللا تعاىل وال إىل اجلنة إال ابتباع ما جاء به النيب صلى هللا عليه وسلم ،وال جيوز ألحد أن
خيالف منهجه وال يتبع غري ملته ،والواجب اإلنكار على من يتبع غري شريعته ،وال حيل السكوت
عنه بوجه من الوجوه ،ولكن ال بد وأن يكون اإلنكار منبثقا من النصوص الشرعية ومراعاة املصاحل
واملفاسد ،وأما أن نتميع يف دين هللا ونرتك األمر على الغارب فال ،وألف ال ،فإن هذه األوامر
الواردة يف اآلايت واآلمرة ابتباع حممد صلى هللا عليه وسلم كلها تفيد الوجوب ،وال جيوز ألحد من
علماء الشرع التساهل يف ذلك ،كما ن سمعه من بعض أهل العلم املعاصرين ،بل الواجب علينا رد
الناس إىل حياض الكتاب والسنة ،والوقوف يف وجه تلك الدعاوى اليت يراد منها نسف الدين
وخمالفة هدي سيد املرسلني ،ولكن ابلعقل املضبوط ابلنص وهدي السلف الصاحل ،ال ابلعنف
والقتل الذي ال جيوز يف الشرع ،وقد انقسم الناس يف هذه املسألة على ثالثة أقسام ،على طريف
63
نقيض ووسط ،وخري األمور أوساطها ،فمن الناس من صار ينكر هذه األشياء ابلتفجري والتكفري
والقتل ،وهذا أمر ال جرم أنك تعلم كالم أهل العلم فيه ،وصار قسم يقولون -:ال بد من
التعايش مع الطرف اآلخر وإزالة األحقاد القلبية بني الطوائف ،وترك كل ذي عقيدة على ما هو
عليه ،هلم دينهم ولنا ديننا ،فال ينكر عليه ،وهذا أمر مرفوض ،وأما الوسط وهم خيار هذه األمة
من العلماء والصاحلني من األمراء فإهنم قالوا -:ال بد من دعوة الناس إىل احلق ،وال بد من رد
الناس إىل الكتاب والسنة ،وال بد من اإلنكار على من خالف الشريعة بعقيدة أو عمل ،ولكن ال
بد من اتباع الكتاب والسنة يف مسألة اإلنكا ر ،وال بد من النظر يف هدي السلف الصاحل يف
اإلنكار ،فال إفراط وال تفريط يف ذلك ،فال ن رتك األمر مفتوحا ألصحاب الدعوات الباطلة ،وال
ننكر عليهم اإلنكار املرفوض الذي ال يقره الدين ،بل ال بد من مراعاة الضوابط الشرعية والنصوص
املرعية وهدي خري البية وهذا هو احلق يف هذه املسألة اليت صارت من فنت الزمان ،نسأل هللا تعاىل
أن يعيذان من مضالت الفنت ما ظهر منها وما بطن ،واملقصود أن األوامر ابتباع املعصوم صلى هللا
عليه وسلم تفيد الوجوب ،وهي قاطعة للطريق على كل الدعاوى اليت ختالف ذلك ،وهللا املستعان
.
احلادي والتسعون :قال صلى هللا عليه وسلم " إذا صلى أحدكم اجلمعة فليصل بعدها أربعا " رواه
مسلم ،فهل األمر هنا للوجوب ؟ أقول -:القول الصحيح أنه للندب ال للوجوب ،فإن قلت -:
وما الصارف ؟ فأقول -:ألنه صلى هللا عليه وسلم كان أحياان يقتصر على صالة ركعتني بعد
اجلمعة يف بيته ،كما ثبت ذلك يف الصحيح من حديث ابن عمر رضي هللا عنهما ففي احلديث "
وركعتني بعد اجلمعة يف بيته " وحلديث " مخس صلوات كتبهن هللا على العباد " ويف احلديث "
مخس صلوات يف اليوم والليلة " ملا سأله األعراِب عن اإلسالم ،وهو يف الصحيح ومن ابب الفائدة
أقول -:لق د اختار أبو العباس ابن تيمية رمحه هللا تعاىل أن من صلى بعد اجلمعة يف بيته فالسنة له
االقتصار على ركعتني ،ومن صلى بعد اجلمعة يف املسجد فالسنة له أن يصلي أربعا ،ومبا قال أقول
،وهللا أعلم .
الثاين والتسعون :عن الباء بن عازب رضي هللا عنه قال " أمران رسول هللا صلى هللا عليه وسلم
بسبع وهناان عن سبع أمران بعيادة املريض واتباع اجلنازة وتشميت العاطس وإبرار القسم .أو املقسم
ونصر املظلوم وإجابة الداعي وإفشاء السالم وهناان عن خواتيم -أو عن ختتم -ابلذهب وعن
64
الشرب ابلفضة وعن املياثر وعن القسي وعن لبس احلرير واإلستبق والديباج" وهو يف الصحيح ،
وقد خرج خمرج األمر ،واملتقرر أن األمر يفيد الوجوب ،وعلى ذلك -:فالقول الصحيح أن عيادة
املريض من واجبات الكفاية ،واختاره شيخ اإلسالم ،والقول الصحيح أن اتباع اجلنازة من واجبات
الكفاية أيضا ،واختاره شيخ اإلسالم ،والقول الصحيح أن تشميت العاطس من واجبات الكفاية
،ولكن ملا ن ظران إىل قوله صلى هللا عليه وسلم " فحق على كل من مسعه أن يقول له يرمحك هللا "
علمنا أنه من األمور املؤكدة يف حق كل من مسع أخاه املسلم يعطس وحيمد هللا ،والقول الصحيح
أن إبرار املقسم من األمور الواجبة إن مل ي كن مثة مانع شرعي أو عريف ،وال ضرر على املقسم عليه
يف تنفيذ وإبرار قسم أخيه ،والقول الصحيح أن ابتداء السالم من األمور الواجبة ،ورده كذلك من
األمور الواجبة ،وما اشتهر عن الفقهاء من قوهلم ( ابتداء السالم سنة ) فإنه حيتاج إىل دليل ،ألن
األمر املطلق عن القرينة يفيد الوجوب وال صارف نعلمه يصرف هذا األمر عن اببه ،والقول
الصحيح أن األمر بنصر املظلوم أمر وجوب ولكن كل أمر يف الشرع فإنه مقيد ابلقدرة ،فنصر
املظلوم واجب يف حق القادر على نصره ألن األمر به يفيد الوجوب ،والقول الصحيح أن إجابة
الدعوة من األمور الواجب ة بشرط القدرة وأن ال يكون فيها مثة منكر ،واملهم أن األوامر يف هذا
احلديث كلها تفيد الوجوب ،كما أن النواهي فيه كلها تفيد التحرمي ،وهللا أعلم .
الثالث والتسعون :عن أِب الشعثاء قال كنا مع أِب هريرة يف املسجد فخرج رجل حني أذن املؤذن
فقال أبو هريرة أما هذا فقد عصى أاب القاسم مث قال أمران رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إذا كنتم
يف املسجد فنودي ابلصالة فال خيرج أحدكم حىت يصلي ،وأخرج ابن ماجة عن عثمان ابن عفان
قال قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم " من أدرك اآلذان يف املسجد مث خرج مل خيرج حلاجة وهو
ال يريد الرجعة فهو منافق "...فقوله يف احلديث " أمران رسول هللا " هذا األمر يفيد الوجوب ،أي
جيب على من كان يف املسجد إن مسع األذان وهو فيه أن ال خيرج منه إال ملا له حاجة ،ويؤيد هذا
وصف أِب هريرة رضي هللا عنه من فعل هذا أبنه عاص ،ومن املعلوم أن الوصف ابلعصيان ال
يكون إال على خمالفة األمر الواجب ،وهللا أعلم .
الرابع والتسعون :قال الشيخ عبدالعزيز بن ابز رمحه هللا تعاىل وهو يتكلم عن مسألة األمر بقطع
اخلف للمحرم ،هل هو للوجوب أو للتحرمي ؟ قال رمحه هللا تعاىل ( السنة أن حيرم الذكر يف نعلني
ألنه جاء عنه ،صلى هللا عليه وسلم ،أنه قال " ليحرم أحدكم يف إزار ورداء ونعلني " فاألفضل أن
65
حيرم يف ن علني حىت يتوقى الشوك والرمضاء والشيء البارد ،فإن مل حيرم يف نعلني فال حرج عليه ،فإن
مل جيد ن علني جاز له أن حيرم يف خفني وهل يقطعهما أم ال؟ على خالف بني أهل العلم وقد ثبت
عنه صلى هللا عليه وسلم أنه قال " من مل جيد ن علني فليلبس خفني وليقطعهما أسفل من الكعبني "
وجاء يف خطبته يف حجة الوداع يف عرفات أنه أمر من مل جيد نعلني أن يلبس اخلفني ومل أيمر
بقطعهما فاختلف العلماء يف ذلك فقال بعضهم أن األمر األول منسوخ فله أن يلبس من دون قطع
وقال آخرون ليس مبنسوخ ولكنه للندب ال للوجوب بدليل سكوته عنه يف عرفات .واألرجح إن
شاء هللا َّ
أن القطع منسوخ ألن النيب صلى هللا عليه وسلم خطب الناس يف عرفات وقد حضر خطبته
اجلمع الغفري من الناس من احلاضرة والبادية ممن مل حيضر خطبته يف املدينة اليت أمر فيها ابلقطع ،فلو
كان القطع واجباً أو مشروعاً لبينه لألمة ،فلما سكت عن ذلك يف عرفات دل على أنه منسوخ،
وأن هللا جل وعال عفا وسامح العباد عن القطع مل فيه من إفساد اخلف وهللا أعلم .أما املرأة فال
الشَّراب ألهنا عورة ولكن متنع من شيئني من النقاب ومن القفازين
حرج عليها إذا لبست اخلفني أو ُ
َّ
ألن الرسول صلى هللا عليه وسلم هنى عن ذلك فقال " ال تنتقب املرأة وال تلبس القفازين " والنقاب
هو الشيء الذي يصنع للوجه كالبقع فال تلبسه وهي حمرمة ولكن عليها أن تغطي وجهها مبا تشاء
عند وجود الرجال األجانب سوى النقاب ألن وجهها عورة فإذا كانت بعيدة عن الرجال كشفت
وجهها ،وال جيوز هلا أن تضع عليه النقاب وال البقع وال جيوز هلا أن تلبس القفازين ومها غشاءان
يصنعان لليدين فال تلبسهما احملرمة ولكن تغطي يديها بشيء آخر ) وهللا أعلم .
اخلامس والتسعون :ثبت أن النيب صلى هللا عليه وسلم قال يف مسألة زايرة القبور " كنت هنيتكم
عن زايرة القبور فقد أذن حملمد يف زايرة قب أمه فزوروها فإهنا تذكر ابآلخرة " رواه الرتمذي وصححه
،والنسائي وابن ماجه واإلمام أمحد .وعن أِب هريرة رضي هللا عنه قال :زار النيب صلى هللا عليه
وسلم قب أمه فبكى وأبكى من حوله ،فقال " استأذنت رِب يف أن أستغفر هلا فلم يؤذن يل ،
واستأذنته يف أن أزور قبها فأذن يل ،فزوروا القبور فإهنا تذكر ابملوت " رواه مسلم ،فأمر النيب
صلى هللا عليه وسلم ابلزايرة يف هذين احلديثني محله أكثر أهل العلم على الندب ،ومحله ابن حزم
على الوجوب ،ولكن احلق أهنا للندب ،ألهنا أمر بعد منع ،فيفيد ما كان يفيده قبل املنع ،وقد
كانت زايرة القبور على اإلابحة ،فهي بعد فك املنع تفيد اإلابحة ولكن ملا كانت حمققة لتذكر
66
اآلخرة وللدعاء لألموات ،ارتفع حكمها من اإلابحة إىل الندب وهو الذي عليه أكثر احملققني من
العلماء ،وهللا أعلم .
السادس والتسعون :القول الصحيح أن االستماع لإلمام يف القراءة اجلهرية من الواجبات ،فال
جيوز للمأموم أن يقرأ حال جهر إمامه ابلقراءة ،إال يف الفاحتة فقط ،فالواجب على املأموم قراءهتا
ئ الْ ُقرآ ُن فَاستَ ِمعواْ لَه وأ ِ ِ
َنصتُواْ ْ ُ َُ يف السرية واجلهرية ،والدليل على هذا اإلجياب قوله تعاىل َ وإ َذا قُِر َ ْ
لَ َعلَّ ُك ْم تُْر َمحُو َن فقوله " فاستمعوا " أمر ،واملتقرر أن األمر يفيد الوجوب ،وقد حكى اإلمام أمحد
رمحه هللا تعاىل اإلمجاع على أن هذه اآلية يف الصالة ،ولكن أقول -:حىت مع هذا اإلمجاع ،فإن
املتقرر عند أهل العلم رمحهم هللا تعاىل أن العبة بعموم اللفظ ال خبصوص السبب ،وعليه فالقول
الراجح عندي يف هذه املسألة أنه جيب االستماع للقرآن حىت خارج الصالة ،وهللا أعلم .
السابع والتسعون :قال النيب صلى هللا عليه وسلم " من سألكم ابهلل تعاىل فأعطوه " فما حكم
إعطاء من سألنا ابهلل ؟ أقول -:قلت يف إحتاف أهل األلباب جوااب على هذا السؤال ( من سألنا
ابهلل تعاىل فال خيلو :إما أن يكون السؤال ابهلل من معني ملعني يف أمر يسوغ بذله ،كأن يسأل زيد
عمرا ابهلل أن يعطيه كذا وكذا ،فهذا جتب إجابته وحيرم رده ،لكن هذا الواجب مشروط ابلقدرة ً
واالستطاعة ،وذلك لقوله « من سأل ابهلل فأعطوه» احلديث ،واألمر يفيد الوجوب وألنه ملا
سألك ابهلل فإنه يكون بذلك قد سألك ابلعظيم الكبري الذي ال أعظم وال أكب منه ،فإجابة سؤاله
تعظيم هلل تعاىل وتعظيم ذلك من إكمال التوحيد ومن حتقيق التوحيد.وأما إذا كان السؤال من معني
لغري م عني ،كالذين يقفون يف املساجد ويسألون املصلني ابهلل ،فهؤالء تستحب إجابتهم ويكره
ردهم ،هذا إذا مل يغلب على الظن كذهبم .وأما إذا سألنا أحد ابهلل يف أمر حمرم كإسقاط حد بعد
ثبوته عند والة األمر أو سألنا ابهلل أن نؤويه بعد أن أحدث حداثً يف البلد يوجب عقوبته واألخذ
على يديه وحنو ذلك ،فهذا حترم إجابته وجيب رده وال كرامة ،بل وجتب عقوبته ألنه مستخف ابهلل
تعاىل حيث جعل السؤال به وسيلة للتوصل ألمور حمرمة ،فهو مستخف مبقام األلوهية والربوبية ورده
حينئذ من تعظيم هللا جل وعال ،وهللا أعلم ) .
ني لِ َم ْن
ني َك ِاملَ ْ ِ
الد ُه َّن َحولَ ْ ِ
ْ
ِ ِ
الثامن والتسعون :قال هللا تعاىل يف حمكم كتابه َ والْ َوال َد ُ
ات يُْرض ْع َن أ َْو َ
س إَِّال ُو ْس َع َها ال ف
ْ ن ف وف ال تُ َكلَّ ود لَه ِرْزقُه َّن وكِسوُهتُ َّن ِابلْمعر ِ الرضاعةَ وعلَى الْمولُ ِ
َّ م
َّ أَراد أَ ْن يتِ
ٌ ُ ْ
َُ َ َْ ُ ُ َْ َ َ َ َ ََ ُ
صاالً َع ْن تََراض ِمْن ُه َما ِ ِ ود لَه بِولَ ِد ِه وعلَى الْوا ِر ِ ِ ِ ِ
ث ِمثْ ُل َذل َ
ك فَِإ ْن أ ََر َادا ف َ ض َّار َوال َد ٌة ب َولَد َها َوال َم ْولُ ٌ ُ َ َ َ َ تُ َ
67
اح َعلَْي ِه َما قوله " ويرضعن أوالدهن" خب معناه األمر ،قيل :هو على الوجوب، َوتَ َش ُاور فَال ُجَن َ
وقيل :على الندب وهو الصحيح إذا مل يلحق الرضيع من ذلك ضرر ،وإذا حلقه بذلك ضرر فال
اعةَ وعلى والد ضَ تقطع عنه الرضاعة قبل احلولني ،يدل عليه قوله تعاىل لِ َم ْن أ ََر َاد أَ ْن يُتِ َّم َّ
الر َ
الرضيع اإلنفاق عليه بواسطة أمه املطلقة اليت ترضعه وحتضنه ،قال تعاىل وعلَى الْمولُ ِ
ود لَهُ ِرْزقُ ُه َّن َ َ َْ
وف قال القرطيب :وعلى األب وجوابً نفقة الولد وأجرة املرضع واحلاضنة إن كان وكِسوُهتُ َّن ِابلْمعر ِ
َ ُْ َ َْ
له مال ،وهي أحق ابحلضانة ما دامت مل تتزوج .واحلاصل :أن األفضل واألكمل أن ترضع ابنتها
مدة سنتني كاملتني إذا مل يشق عليها ذلك أو يضر هبا ،وجيوز هلا أن تفطمها قبل ذلك إذا مل يلحق
ذلك ضررا ابلبنت ،وهلا احلق الكامل يف املطالبة ابلنفقة من أِب البنت ،وإذا مل يستجب فلها أن
ترفع األمر إىل القاضي لينصفها وأيخذ هلا حقها.
التاسع والتسعون :سئلت اللجنة الدائمة عن األوامر يف احلديث الصحيح الذي رواه البخاري «
إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكم . .مث جاء فيه :وأطفئوا مصابيحكم » فهل هذا
األمر للوجوب ؟ وإن كان لالستحباب فما هي القرينة الصارفة له عن الوجوب ؟ فأجابوا بقوهلم (
هذه األوامر الواردة يف احلديث حممولة على الندب واإلرشاد عند أكثر العلماء ،كما نص عليه
مجاعة من أهل العلم ،منهم :ابن مفلح يف الفروع واحلافظ ابن حجر يف فتح الباري وهللا أعلم )
الفرع املويف للمائة :قال النيب صلى هللا عليه وسلم " إذا تثاءب أحدكم يف الصالة فيكظم ما
استطاع ...احلديث " فهذا األمر هنا هل هو على الوجوب أو الندب ؟ أقول -:فيه خالف بني
أهل العلم رمحهم هللا تعاىل على أقوال ،واألقرب عندي أنه للوجوب ،ومن قال ابلندب فليأت
ابلصارف الدال على إرادة الندب ،وهللا أعلم .
وبه تنتهي الفروع على هذه القاعدة الكبرية ،وقد حاولت جهدي يف تيسري فهمها لك مبا قدرت
عليه ،فالعذر العذر مما تراه من النقص والتقصري ،وأستغفر هللا تعاىل من الزلل يف القول والعمل ،
وأسأله جل وعال أن يرفع ن زل أهل العلم وأن يغفر هلم املغفرة الكاملة ،وأن جيزيهم عنا وعن
املسلمني خري اجلزاء ،وأن ينفعنا بعلمهم ،وأن يبارك يف جهودهم ،وآخر دعواان أن احلمد هلل رب
العاملني ،وصلى هللا على نبينا حممد وعلى آله وصحبه وسلم ،وقد وقع الفراغ منها بعد العصر يف
اليوم الثالث عشر من شهر شعبان عام ثالثني وأربعمائة وألف للهجرة ،وهللا أعلم .
................
68