Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 70

‫أتليف‬

‫غفر هللا له ولوالديه وجلميع املسلمني‬


‫احلمد هلل رب العاملني والصالة والسالم على خامت النبيني ‪ ،‬وأشهد أال إله إال هللا وحده ال شريك له‬
‫‪ ،‬وأشهد أن حممدا عبده ورسوله صلى هللا عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثريا ‪ ،‬مث أما بعد ‪،‬‬
‫فإنين ال زلت حبم د هللا تعاىل أنتقي من قواعد الشريعة أوسعها وأكثرها تفريعا ‪ ،‬وأخصها ابلشرح‬
‫والتدليل والتفريع ‪ ،‬من ابب االهتمام هبا ‪ ،‬وال زلت أاندي أبعلى صويت طلبة العلم أبن يهتموا‬
‫ابلتقعيد والتأصيل ‪ ،‬والتدرب على ذلك ‪ ،‬برد الفروع إىل أصوهلا واجلزئيات إىل كلياهتا فإهنا الطريقة‬
‫اليت تعطي الطالب العلم يف أهبى صوره وأحلى حلله ‪ ،‬وهلا من الفوائد والعوائد الطيبة ما قررته يف‬
‫مواضع كثرية ‪ ،‬فاهلل هللا اي طلبة العلم ‪ ،‬فإن هذا املنهج من أقرب املناهج للرسوخ يف العلم ‪ ،‬وأان يف‬
‫هذه الكتاب اجلديدة أحب أن أطلعك اي طالب العلم على قاعدة من كبايت القواعد يف امللة‬
‫اإلسالمية ‪ ،‬بل هي نصف الدين ‪ ،‬وهي القاعدة يف ابب األمر ‪ ،‬فإن الشريعة إما أن أتمر وإما أن‬
‫تنهى ‪ ،‬واألمر إما أمر إجياب أو أمر استحباب ‪ ،‬والنهي إما هني حترمي أو كراهة ‪ ،‬فصار األمر‬
‫نصف التشريع ‪ ،‬وقاعدتنا اليت حنن بصدد شرحها اآلن تتكلم عن األصل يف أوامر الشريعة ‪ ،‬فما‬
‫األصل يف األمر ‪ ،‬وما ن ص القاعدة فيه ؟ وما األدلة عليها من الكتاب والسنة ‪ ،‬وما صيغ األمر ؟‬
‫وما القواعد املتفرعة على هذه القاعدة واألصل الكبري وكيف يتم تطبيق هذه القاعدة على الفروع‬
‫الفقهية والعقدية ؟ كل هذا ستعرفه يف هذه الوريقات اليسرية إن شاء هللا تعاىل ‪ ،‬وسوف تكون‬
‫الكتابة يف هذه القاعدة على ما اعتدته مين من ذكر نص القاعدة جمزوما به على القول الراجح ‪،‬‬
‫مث أشرحه القاعدة شرحا إفراداي ‪ ،‬مث أنتقل منه إىل الشرح اإلمجايل ‪ ،‬مث أنتقل منه إىل قيد األدلة على‬
‫صحة القاعدة ‪ ،‬مث بعد ذلك نبدأ بسرد الفروع الفقهية املخرجة على هذه القاعدة ‪ ،‬مع بعض‬
‫التفاصيل اليت ال بد منها لفهم هذا األصل الطيب ‪ ،‬وأمسيت هذه الوريقات ( رسالة يف شرح قاعدة‬
‫األمر املطلق عن القرينة ) وهللا أسأل أن ينفع هبا مؤلفها وقارئها وشارحها وأن ينزل فيها البكة تلو‬
‫البكة ‪ ،‬وأن يشرح هلا الصدور ويرزقها ومؤلفها التوفيق والقبول ‪ ،‬وهللا حسبنا ونعم الوكيل وال حول‬
‫وال قوة إال ابهلل العلي العظيم ‪ ،‬وإىل املقصود من هذه الكتابة من غري تطويل وال أتخري ‪ ،‬فأقول‬
‫وابهلل تعاىل التوفيق ومنه أستمد العون والفضل وحسن التحقيق ‪ -:‬نذكر لك أوال نص القاعدة ‪،‬‬

‫‪1‬‬
‫واملرجو منك تكراره عدة مرات حىت حتفظه حفظا ال نسيان بعده إن شاء هللا تعاىل ‪ ،‬تقول القاعدة‬
‫‪-:‬‬
‫{ األمر املطلق عن القرينة يفيد الوجوب ‪ ،‬وابلقرينة يفيد ما تفيده القرينة }‬
‫قوله ( األمر ) عرف العلماء األمر لغة أبنه احلال أو الشأن ‪ ،‬ومنه قوله تعاىل عن فرعون ‪َ ‬وَما أ َْمُر‬
‫فِْر َع ْو َن بَِرِشيد ‪ ‬ويطلق ويراد به الطلب ‪ ،‬وهو املراد هنا ‪ ،‬فاألمر يف اللغة هو الطلب ‪ ،‬وأما يف‬
‫االصطالح فقد اختلفت عبارات أهل العلم رمحهم هللا تعاىل فيه ‪ ،‬واألقرب إىل الفهم والصواب إن‬
‫شاء هللا تعاىل أن يقال ‪ -:‬طلب الفعل ممن هو دونه ‪ ،‬فقوهلم ( طلب الفعل ) أخرج النهي ‪ ،‬ألن‬
‫النهي طلب الكف عن الفعل ‪ ،‬وقوهلم ( ممن هو دونه ‪ ،‬أخرج أمرين ‪ -:‬األول ‪ -:‬أخرج الدعاء‬
‫والطلب والسؤال ‪ ،‬ألهنا طلب الفعل ممن هو أعلى ‪ ،‬كقول العبد لربه (رب اغفر يل) فهنا فيه طلب‬
‫للفعل ‪ ،‬وهو املغفرة ‪ ،‬ولكن هل يقال هنا إن العبد أمر هللا تعاىل أبن يغفر له ؟ واجلواب ‪ -:‬ابلطبع‬
‫ال ‪ ،‬بل يقال ‪ -:‬دعا العبد ربه وطلب منه وسأله املغفرة فاألمر هنا صدر من األدىن ‪ -‬وهو العبد‬
‫‪ -‬إىل األعلى ‪ -‬وهو هللا تعاىل ‪ -‬فهنا ال يقال فيه (أمر) بل يقال فيه (سأل) أو (دعا) أو (طلب)‬
‫فاألمر من األدىن إىل األعلى يسمى طلب ودعاء وسؤال والثاين ‪ -:‬خيرج طلب الفعل من اآلمر‬
‫ملن يساويه يف الرتبة ‪ ،‬كقول األخ ألخيه من أمه وأبيه مثال ( أعطين هذا الشيء ) أو قول الطالب‬
‫لطالب له جم اور له ( أعطين قلما ) وحنو هذا فهذا ال يقال له ( أمر ) بل هذا يسميه أهل العلم (‬
‫التماسا ) يعين أن ك تلتمس منه أن ينفذ لك ما طلبت منه ‪ ،‬فصار األمر من حيث صدوره ال خيلو‬
‫‪ -:‬إم ا أن يصدر من األدىن إىل األعلى وهذا ال يدخل معنا يف تعريف األمر ‪ ،‬وإما أن يصدر‬
‫منك إىل من يساويك يف الرتبة ‪ ،‬وهذا ال يدخل معنا يف تعريف األمر ‪ ،‬وإما أن يصدر منك إىل‬
‫من هو أدىن منك يف الرتب ة ‪ ،‬فهذا هو الذي يدخل معنا يف تعريف األمر ‪ ،‬وهو الذي نعنيه بقولنا (‬
‫ممن هو دونه ) فهو قيد مهم يف التعريف أخرج صدور األمر من األدىن إىل األعلى ‪ ،‬ومن اإلنسان‬
‫ملن يساويه ‪ ،‬فانتبه هلذا ونضرب لك أمثلة حىت يتضح لك املراد أكثر ‪ ،‬األول ‪ -:‬قول العبد لربه (‬
‫رب ارمحين ) هل هذا أمر ؟ واجلواب ‪ -:‬ال ‪ ،‬فإن قلت ‪ -:‬وملاذا ؟ فتقول ‪ -:‬ألن الطلب هنا‬
‫صدر من األدىن إىل األعلى فأقول لك ‪ -:‬أحسنت ‪ ،‬الثاين ‪ -:‬لو قال الصاحب لصاحبه ممن‬
‫يساويه يف الرتبة (بعين سيارتك) فهل هذا أمر ؟ واجلواب ‪ -:‬ال ‪ ،‬فإن قلت ‪ -:‬وملاذا ؟ فتقول ‪-:‬‬
‫أل ن األمر هنا صدر منك إىل من يساويك يف الرتبة ‪ ،‬فأقول لك ‪ -:‬أحسنت ‪ ،‬الثالث‪ -:‬يف قوله‬
‫‪2‬‬
‫الصالََة َوآتُواْ َّ‬
‫الزَكا َة ‪ ‬هل هذا أمر ؟ واجلواب ‪ -:‬نعم ‪ ،‬فإن قلت لك ‪ -:‬وملاذا‬ ‫يمواْ َّ‬‫ِ‬
‫هللا تعاىل ‪َ ‬وأَق ُ‬
‫؟ فتقول ‪ -:‬ألن األمر هنا صدر من األعلى ‪ -‬وهو هللا تعاىل ‪ -‬إىل األدىن ‪ -‬وهو العبد ‪ -‬فأقول‬
‫لك ‪ -:‬أحسنت ‪ ،‬فهذا ابلنسبة إىل تعريف األمر على القول الراجح ‪ ،‬قوله ( املطلق ) أي املنفك‬
‫‪ ،‬ألن املطلق يف اللغة هو املنفك عن القيود حسية كانت أو معنوية ‪ ،‬قوله ( عن القرينة ) املراد هبا‬
‫العالمة الظاهرة الدالة على الشيء ‪ ،‬وهي األمر املقارن ألمر آخر ‪ ،‬واملراد هبا هنا ما يصرف األمر‬
‫عن اببه الذي هو الوجوب إىل أمر آخر ‪ ،‬وقد تكون دليال من القرآن أو صحيح السنة أو إمجاعا‬
‫أو فهما عن سلف األمة وأئمتها ‪ ،‬وال بد أن تكون هذه القرينة الصارفة لألمر عن اببه إىل ابب‬
‫آخر ال بد وأن تكون قرينة مقبولة ‪ ،‬وأما القرائن اليت ال وجه العتبارها يف الشرع فإهنا ال تقبل يف‬
‫صرف األمر من اببه إىل ابب آخر ‪ ،‬كما سيأيت توضيحه وبيانه إن شاء هللا تعاىل ‪ ،‬قوله ( يفيد‬
‫الوجوب ) أي يفيد حتتم الفعل ولزومه ‪ ،‬حبيث ال جتوز خمالفته ‪ ،‬وقد عرف أهل العلم رمحهم هللا‬
‫وهبَا ‪‬‬ ‫تعاىل الوجوب يف اللغة أبنه اللزوم والسقوط ‪ ،‬فمن السقوط قول هللا تعاىل ‪ ‬فَِإ َذا َو َجَب ْ‬
‫ت ُجنُ ُ‬
‫أي سقطت الزمة األرض ‪ ،‬ومن اللزوم قول النيب صلى هللا عليه وسلم " غسل يوم اجلمعة واجب‬
‫على كل حمتلم " أي اثبت الزم متأكد ‪ ،‬وأما يف االصطالح فقد عرفه أهل العلم رمحهم هللا تعاىل‬
‫أبنه طلب الفعل على جهة اإللزام ‪ ،‬فقوهلم ( طلب الفعل ) خيرج التحرمي والكراهة ‪ ،‬ألهنا طلب‬
‫للرتك ال للفعل ‪ ،‬وقوهلم ( على جهة اللزوم ) خيرج الندب ألنه وإن كان طلبا للفعل ‪ ،‬إال أنه على‬
‫غري وجه اإللزام ‪ ،‬قوله ( وابلقرينة ) أي وإن ورد لفظ األمر مصحواب ابلقرينة الصارفة ‪ ،‬قوله ( يفيد‬
‫ما تفيده القرينة ) أي ننظر إىل هذه القرينة الصارفة وما تدل عليه فنقول ‪ -:‬إن صيغة األمر هنا ال‬
‫يراد هبا األمر بل يراد هبا كذا وكذا مما تفيده هذه القرينة الصارفة ‪ ،‬كما سيأيت بيانه إن شاء هللا تعاىل‬
‫‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫( فصل )‬
‫إذا علمت هذا فاع لم ابرك هللا تعاىل فيك أنه إن ورد لفظ األمر يف الكتاب والسنة الصحيحة فإن‬
‫األصل أنك أوال حتمله على أنه يفيد الوجوب ‪ ،‬وال تنتقل من الوجوب إىل أمر آخر إال إن دلت‬
‫القرينة الصارفة على أمر آخر ‪ ،‬وهذا يف كل ألفاظ األمر الواردة يف الكتاب والسنة ‪ ،‬فأول ما جيب‬
‫أن يت طرق يف فهمك من املعاين هو أن هذه اللفظة تفيد الوجوب ‪ ،‬فامحله مباشرة على الوجوب ‪،‬‬
‫إال ابلقرينة الصارفة ‪ ،‬فإن دلت القرينة على شيء فاعمل به ‪ ،‬وإال فاعلم أن األصل فيها الوجوب ‪،‬‬
‫‪3‬‬
‫واملتقرر أن األصل هو البقاء على األصل حىت يرد الناقل ‪ ،‬ومن قال لك غري ذلك فاعلم أنه إمنا‬
‫يريد أن ينقلك عن األصل املتقرر إىل أمر آخر ‪ ،‬وانتقاله هذا ال يقبل إال إن جاء ابلدليل الدال‬
‫على صحته ‪ ،‬فإن جاء به صحيحا قبلناه وعلى العني والرأس ‪ ،‬وإن مل أيت به فنحن نعتذر عن‬
‫قبول كالمه وانتقاله هذا الذي يدعوان إليه ‪ ،‬ألن املتقرر أن الدليل يطلب من الناقل عن األصل ال‬
‫من الثابت عليه ‪ ،‬فكل أوامر الشرع تفيد الوجوب ‪ ،‬كما وردت به األدلة الواردة اليت سرتاها إن‬
‫شاء هللا تعاىل ‪ ،‬إال تلك األوامر اليت وردت هلا القرائن الصارفة ‪ ،‬فإنه تفيد ما أفادته تلك القرينة ‪،‬‬
‫ويبقى ما عداها من األوامر ال تفيد إال الوجوب ‪ ،‬فاحفظ هذا فإنه من أفيد ما حيصله الطالب يف‬
‫مسريته العلمية التقعيدية ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫( فصل )‬
‫فإن قلت ‪ -:‬وما األلفاظ اليت تفيد األمر ‪ ،‬حىت إذا مرت علينا يف الكتاب والسنة نعرف إهنا من‬
‫ألفاظ األمر فنطبق عليها تلك القاعدة ‪ ،‬فأقول ‪ -:‬نعم ‪ ،‬وعلى العني والرأس ‪ ،‬وهذا الفصل مهم‬
‫جدا ‪ ،‬ألن فهم هذه القاعدة مبين على معرفة ألفاظ األمر ‪ ،‬وقد قرر أهل العلم رمحهم هللا تعاىل أن‬
‫ألفاظ األمر كثرية ‪ ،‬وهي كما يلي ‪-:‬‬
‫األول ‪ -:‬فعل األمر وما تصرف منه ‪ ،‬واملراد بفعل األمر أي ( افعل ) واملراد بقولنا ( وما تصرف‬
‫منه ) أي ما يكون منه على املثىن واجلمع والتذكري والتأنيث ‪ ،‬كقولك للمؤنثة الواحدة (افعلي)‬
‫وللجمع ( افعلن ) وجلمع الذكور ( افعلوا ) وللمثىن ( افعال ) وهكذا ‪ ،‬وهي أم الصيغ يف هذا‬
‫س ‪ ‬وقوله‬ ‫َّم ِ‬ ‫الباب ‪ ،‬وأكثرها ورودا يف الكتاب والسنة ‪ ،‬ومنه قوله تعاىل ‪ ‬أَقِِم َّ ِ ِ‬
‫الصالََة ل ُدلُوك الش ْ‬
‫ني ‪ ‬وقوله تعاىل ‪ ‬فَا ْذ َهبَا ِِب َايتِنَا إِ َّان َم َع ُكم ُّم ْستَ ِم ُعو َن ‪ ‬وقوله تعاىل ‪َ ‬وُههِزي‬ ‫تعاىل ‪ ‬وقُ ِ ِ ِِ‬
‫ومواْ هلِل قَانت َ‬
‫َ ُ‬
‫ك ُرطَبًا َجنِيًّا ‪ ‬وقوله تعاىل ‪ ‬فَ ُكلِي َوا ْشَرِِب َوقَهِري َعْي نًا ‪ ‬وحنو ذلك‬ ‫َّخلَ ِة تُساقِ ْط َعلَي ِ‬
‫ْ‬
‫ِ ِ ِِ‬
‫إلَْيك ِب ْذ ِع الن ْ َ‬
‫‪.‬‬
‫الثانية ‪ -:‬اسم فعل األمر ‪ ،‬وهو ما كان متضمنا فعل األمر ‪ ،‬ولكن ال يدل على فعل األمر بلفظه‬
‫بل مبعناه ‪ ،‬كقول املؤذن ( حي على الصالة ‪ ،‬حي على الفالح ) فإن قوله ( حي ) ليست فعل‬
‫أمر ‪ ،‬بل هي اسم يتضمن فعل األمر ‪ ،‬ألنه معناه ( هلموا وتعالوا وأقبلوا ) وكقول النيب صلى هللا‬
‫عليه وسلم لعائشة رضي هللا تعاىل عنها " مه اي عائشة ‪ ،‬عليكم من األعمال مبا تطيقون ‪...‬‬
‫احلديث " وهو يف الصحيح ‪ ،‬فقوله ( مه ) أي اسكيت وغريي هذا الكالم ‪ ،‬فهي ليست فعل أمر ‪،‬‬
‫‪4‬‬
‫ولكنه تضمنت فعل األمر ‪ ،‬فسموه ( اسم فعل األمر ) وكقولك ملن أكثر الكالم أو تكلم فيما ال‬
‫يعنيه ( صه ) ومعناه ( اسكت ) ولكنك مل تعب عنه بفعل األمر ( اسكت ) ولكن عبت عنه‬
‫ابسم فعل األمر ‪ ،‬أي يتضمن فعل األمر ‪ ،‬وهو قليل يف األدلة ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫الثالث ‪ -:‬املصدر النائب عن فعل األمر ‪ ،‬وذلك أن العرب تعب عن الفعل ابملاضي أحياان‬
‫وابملضارع أحياان وابألمر أحياان وابملصدر أحياان ‪ ،‬فتقول ‪ -:‬ضرب ‪ ،‬يضرب ‪ ،‬ضراب ‪ ،‬اضرب‬
‫وتقول ‪ -:‬دخل‪ ،‬يدخل ‪ ،‬ادخل ‪ ،‬دخوال ‪ ،‬والصيغة هنا ليس فعل األمر ‪ ،‬ولكنها املصدر النائب‬
‫الرقَ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫اب‪ ...‬اآلية ‪ ‬فقوله "فضرب"‬ ‫ب هِ‬ ‫عن فعل األمر ‪ ،‬كما قال تعاىل ‪ ‬فَِإذا لَقيتُ ُم الَّذي َن َك َفُروا فَ َ‬
‫ض ْر َ‬
‫هذا مصدر ‪ ،‬ولكنه يتضمن فعل األمر ‪ ،‬والتعبري به أبلغ من التعبري بفعل األمر املباشر أي إن‬
‫لقيتم الكفار يف احلرب فاضربوا رقاهبم ‪ ،‬لكنه مل يعب عن األمر بفعل األمر ‪ ،‬وإمنا عب عنه ابملصدر‬
‫الذي انب مناب فعل األمر ‪ ،‬وهذه الصيغة كذلك قليل ورودها يف األدلة مقارنة ابلصيغ األخرى ‪.‬‬
‫الرابعة ‪ -:‬الفعل املضارع املقرون بالم األمر ‪ ،‬فاألصل أن الفعل املضارع إمنا يفيد احلالية واالستقبال‬
‫‪ ،‬ولكنه إن سبق بالم األمر فإنه يفيد األمر مباشرة ‪ ،‬وهي كثرية يف األدلة ‪ ،‬ومنه قوله تعاىل ‪َ ‬وَمن‬
‫وف ‪ ‬فقوله " فليستعفف" وقوله " فليأكل "‬ ‫َكا َن َغنِيًّا فَ ْليست ع ِفف ومن َكا َن فَِقريا فَ ْليأْ ُكل ِابْلمعر ِ‬
‫ً َ ْ َ ُْ‬ ‫َ َْ ْ ْ َ َ‬
‫ِ‬
‫الِلُ ‪ ‬فقوله "‬ ‫هو فعل مضارع مقرون بالم األمر ‪ ،‬فيفيد األمر ‪ ،‬ومنه قوله تعاىل ‪ ‬فَ ْليُ ِنف ْق ممَّا َ‬
‫آَت ُه َّ‬
‫ب‬ ‫ِ‬
‫فلينفق " فعل مضارع دخلت عليه الم األمر ‪ ،‬فيفيد األمر ‪ ،‬وقوله تعاىل ‪َ ‬ولْيَ ْكتُب بَّْي نَ ُك ْم َكات ٌ‬
‫ِابلْ َع ْد ِل ‪ ‬فقوله " فليكتب " فعل مضارع دخلت عليه الم األمر ‪ ،‬فأفاد األمر بعد دخوهلا عليه ‪،‬‬
‫واألمثلة على هذا كثرية ‪ ،‬وابجلملة فأكثر الصيغ ورودا يف األدلة هي األوىل والرابعة ‪ ،‬وأما الثانية‬
‫والثالثة فإن ورودها يف األ دلة قليل ‪ ،‬واخلالصة أنه إن وردت عليك لفظة من هذه األلفاظ فاعلم أن‬
‫الشارع يريد هبا األمر ‪ ،‬فامحل هذه الصيغة مباشرة على الوجوب حىت ترد القرينة الصارفة عن‬
‫الوجوب إىل أمر آخر ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫( فصل )‬
‫واعلم رمحك هللا تعاىل وأجزل هللا تعاىل لك األجر واملثوبة ووفقنا وإايك للحق استماعا وقبوال أن‬
‫هذه الصيغ إن أطلقت عن القرينة فإهنا تفيد الوجوب ولو كانت خمالفة ملذهب اجلمهور ‪ ،‬فلو أن‬
‫اجلمهور رمحهم هللا تعاىل قالوا يف صيغة من الصيغ أبهنا تفيد الندب مثال ‪ ،‬وال صارف هلا عن ابهبا‬
‫األصلي الذي هو الوجوب فاعلم أن الراجح مع من قال أبنه للوجوب ولو كان خبالف ما قاله‬
‫‪5‬‬
‫اجلمهور ‪ ،‬مع أننا وهللا ن عظم قول اجلمهور وله يف قلبنا مكانة عالية رفيعة ‪ ،‬ولكن كل يؤخذ من‬
‫قوله ويرتك إال املعصوم صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬وهذا سرتاه كثريا يف التفريع‪ ،‬فاجلمهور يف مواضع كثرية‬
‫يقولون ‪ -:‬إن هذه الصيغة تفيد الندب ‪ ،‬مث ن بحث عن الصارف هلا عن ابهبا األصلي الذي هو‬
‫الوجوب ‪ ،‬وال جن د ‪ ،‬فنخالفهم إىل القول أبهنا على ابهبا األصل ‪ ،‬أي أهنا تفيد الوجوب ‪ ،‬فيعارضنا‬
‫غريان أبن قولكم هذا خيالف قول اجلمهور ‪ ،‬فاعلم أننا ال أنبه بقول هذا القائل ‪ ،‬ألن األصل معنا ‪،‬‬
‫وقول اجلمهور ليس فصال يف حمل النزاع ‪ ،‬وليس هو من األقوال املعصومة اليت ال بد من األخذ هبا‬
‫‪ ،‬فنحن أصلنا أصال وقعدان قاعدة ‪ ،‬واألدلة قد دلت على صدقها وصحتها ‪ ،‬فنحن ندور مع هذه‬
‫القاعدة حيث دارت ‪ ،‬فما ورد له الصارف فنحن نقول‪ -:‬إنه يفيد ما تفيده تلك القرينة ‪ ،‬وما مل‬
‫أيت فيه قرينة صارفة فاألصل عندان فيه أنه يفيد الوجوب ‪ ،‬وال نعتمد أن من الصوارف عن‬
‫الوجوب إىل الندب قول اجلمهور ‪ ،‬فقول اجلمهور يستدل له ‪ ،‬ال به ‪ ،‬كما هو مقرر يف موضع‬
‫آخر ‪ ،‬واملهم أن تعلم ابرك هللا تعاىل فيك أنه ليس من الصوارف املعتمدة قول اجلمهور ‪ .‬واعلم‬
‫كذلك أن صيغة األمر تفيد الوجوب إن أطلقت حىت وإن كانت يف ابب اآلداب والفضائل ‪ ،‬فليس‬
‫من الصوارف هلا ورودها يف ابب اآلداب والفضائل ‪ ،‬بل هي تفيد الوجوب مطلقا إن مل أتت هلا‬
‫قرينة صارفة ‪ ،‬وليس كوهنا وردت إبثبات فضيلة من الفضائل أو أداب من اآلداب يوجب ذلك‬
‫صرفها عن ابهبا األصلي إىل ابب الندب ‪ ،‬ال ‪ ،‬وهذا جنزم به إن شاء هللا تعاىل ولنا يف ذلك عدة‬
‫أدلة ‪-:‬‬
‫األول ‪ -:‬إطالق األدلة اليت سنذكرها لك إن شاء هللا تعاىل يف سياق التدليل على صحة قاعدتنا‬
‫فإهنا أدلة وردت عامة ومطلقة ‪ ،‬ومل تفصل بني ابب وابب ‪ ،‬واألصل املتقرر هو وجب بقاء العموم‬
‫على عمومه وال خيصص إال بدليل ‪ ،‬واألصل املتقرر هو وجوب بقاء املطلق على إطالقه وال يقيد‬
‫إال بدليل ‪ ،‬فاألدلة الدالة على أن األمر املطلق يفيد الوجوب وردت عامة ومطلقة فاألصل هو‬
‫البقاء على األصل فيها حىت يرد املخصص واملقيد ‪.‬‬
‫الثاين ‪ -:‬أن التفريق بني ابب العبادات وابب اآلداب ليس له قانون مستقيم وال ضابط ال ينخرم‬
‫فإننا لو فتحنا هذا الباب ملا كان له شيء يضبطه إال ابالجتهادات ‪ ،‬وأما شيء يف األدلة يضبط لنا‬
‫الفرق بني البابني فإنه ال وجود له فيما أظن وهللا أعلم ‪ ،‬وحيث إن الشريعة مل تفرق بينهما ابلفرق‬
‫الذي ال ينخرم فإنه يعسر جدا علينا أن نقول ‪ -:‬هذا من ابب اآلداب فاألمر فيه يفيد الندب‬

‫‪6‬‬
‫واالستحباب ‪ ،‬وهذا من ابب العبادات فاألمر فيه يفيد الوجوب والتحتم ‪ ،‬ووهللا إنين اطلعت على‬
‫كالم املفرقني بني ابب العبادات وابب اآلدا ب فلم أجد بينهم اتفاقا على شيء‪ ،‬ومل أجد ما ترَتح‬
‫له النفس يف التفريق بني البابني ‪ ،‬فاألصل املتقرر عندان أن التفريق الذي يؤثر يف احلكم الشرعي ال‬
‫بد وأن يكون مستقى من الشرع ‪ ،‬والتقسيم الشرعي ال بد فيه من دليل ‪ ،‬ألنه حكم شرعي ويرتتب‬
‫عليه حكم شرعي ‪ ،‬فال بد فيه من الدليل الشرعي الذي يثبت صحته‪ ،‬ألن املتقرر أن األحكام‬
‫الشرعية تفتقر يف ثبوهتا لألدلة الصحيحة الصرحية ‪ ،‬ومن املعلوم أن من مقاصد الشارع سد أبواب‬
‫االختالف يف الدين ‪ ،‬والتفريق بني هذين البابني حيث مل يرد يف األدلة ورد إىل االجتهادات والعقول‬
‫والنظر فناهيك عن كثرة االختالف احلاصل بسبب هذا وأما لو جعلنا الباب اباب واحدا فإنه سينسد‬
‫ابب االختالف ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫الثالث ‪ -:‬أن املتقرر يف الشريعة أن ما كانت حاجة الناس له ماسة فإنه جيب على النيب صلى هللا‬
‫عليه وسلم أن يبينه بياان كافيا شافيا قاطعا للعذر ‪ ،‬والتفريق بني ابب العبادات وابب اآلداب يف‬
‫هذه املسألة مما يشتد حاجة الناس له ‪ ،‬ألننا إن قلنا ‪ -:‬هذا مندوب فإنه جيوز فيه الفعل والرتك‬
‫وإن قلنا ‪ -:‬هذا واجب فإنه ال جيوز فيه إال الفعل فقط ‪ ،‬والناس حيتاجون احلاجة الكبرية إىل معرفة‬
‫الفرق بني ما جيب عليهم فعله وال جيوز هلم تركه ‪ ،‬وبني ما هم خمريون فيه بني الفعل والرتك ‪ ،‬فلو‬
‫كان التف ريق يف هذه املسألة بني ابب العبادات وبني ابب اآلداب من املعتب يف الشرع لكانت‬
‫احلاجة إىل بيانه ماسة جدا ‪ ،‬ولكننا ال ن عرف كلمة واحدة وال حرفا واحدا عن النيب صلى هللا عليه‬
‫وسلم يف التفريق بني ابب العبادات وابب اآلداب يف ابب األمر ‪ ،‬بل كان النيب صلى هللا عليه‬
‫وسلم يطلق األمر وميتثل الصحابة رضي هللا عنهم ‪ ،‬وال يقول هلم ‪ -:‬هذا يف ابب كذا وهذا يف ابب‬
‫كذا ‪ ،‬ومن كان يعرف شيئا يف التفريق بينهما فليأت به ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫الرابع ‪ -:‬أن املتقرر يف القواعد أن الشريعة ال تفرق بني متماثلني كما أهنا ال جتمع بني خمتلفني‬
‫وابب األمر يف الدين ابب واحد والقول فيه قول واحد ‪ ،‬ال خيتلف وال يفرتق ‪ ،‬فكل أمر فهو‬
‫للوجوب إال ما ورد له الصارف ‪ ،‬وهذا القول الواحد يف كل أمر من أوامر الشريعة ‪ ،‬سواء أكان يف‬
‫ابب اآلداب أو يف ابب العبادات ‪ ،‬وأما التفريق بني البابني فإنه تفريق بني املتماثلني وهذا ال أتيت به‬
‫الشريعة ‪ ،‬فما يقال يف ابب العبادات فإنه يقال يف ابب اآلداب ‪ ،‬وما يقال يف ابب اآلداب فإنه‬
‫يقال يف ابب العبادات ‪ ،‬فالقول يف لفظ األمر فيهما قول واحد ‪ ،‬فإن قلنا ‪ -:‬إنه يفيد الوجوب ‪،‬‬

‫‪7‬‬
‫فلنجعله مفيدا للوجوب يف كل البابني ‪ ،‬وإن قلنا ‪ -:‬إنه يفيد الندب فلنجعله مفيدا للندب يف كال‬
‫البابني ‪ ،‬وأما أن جنعله مفيدا للوجوب يف ابب ومفيدا للندب يف ابب آخر فإن هذا مما حيتاج إىل‬
‫دليل ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫اخلامس ‪ -:‬أننا جن د كثريا من األوامر اليت وردت يف ابب اآلداب ومع ذلك فإهنا تفيد الوجوب كما‬
‫يف قوله صلى هللا عليه وسلم " اي غالم ‪ ،‬سم هللا ‪ ،‬وكل بيمينك ‪ ،‬وكل مما يليك " فهنا ثالثة أوامر‬
‫كلها يف ابب اآلداب ‪ ،‬ومع ذلك فإننا نقول فيه إهنا واجبة ‪ ،‬وليس حنن فقط ‪ ،‬بل حنن وهم ‪،‬‬
‫فالتسمية على الطعام من الواجبات ‪ ،‬واألكل ابليمني من الواجبات ‪ ،‬واألكل مما يليك من‬
‫الواجبات ‪ ،‬مع أهنا يف ابب اآلداب ‪ ،‬وكذلك قوله صلى هللا عليه وسلم " إذا أرسلت كلبك املعلم‬
‫وذكرت اسم هللا عليه فكل ‪ ...‬احلديث " أعين بذلك األدلة الدالة على أن التسمية شرط يف حل‬
‫الذبيحة ‪ ،‬فإنه وإن كانت يف ابب اآلداب إال أننا حنن وهم نقول ‪ -:‬إن من شروط حل الذبيحة‬
‫أن يذكر عليها اسم هللا تعاىل ‪ ،‬واألمثلة على هذا كثرية ‪ ،‬فانظر اي أخي بعني اإلنصاف فهذه أوامر‬
‫وردت يف ابب اآلداب ومع ذلك فإننا ن قول فيه إهنا للوجوب ‪ ،‬فهذا يفيدك أن التفريق الذي ذكروه‬
‫ال دليل عليه ‪ ،‬بل الدليل ورد خبالفه ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫السادس ‪ -:‬سوف أسألك سؤاال ‪ ،‬وهو ‪ -:‬لو أنك فعلت أداب من اآلداب فهل تفعله على أنه‬
‫عبادة هلل تعاىل ‪ ،‬أو أنك تفعله على أنه جمرد أدب فقط ؟ واجلواب ‪ -:‬بل أان أفعله تعبدا هلل تعاىل‬
‫إذا تلك اآلداب اليت نصت على فعلها الشريعة ورغبت يف فعلها األدلة هي يف حقيقتها عبادات هلل‬
‫تعاىل ‪ ،‬فقولنا ‪ -:‬هذا من ابب العبادا ت ‪ ،‬وهذا من ابب اآلداب كأنه يشعر أن مثة فرقا بينهما ‪،‬‬
‫مع أن كال البابني مما يتعبد به هلل تعاىل ‪ ،‬أال ترى أن الشريعة أصال كلها آداب ‪ ،‬ولكن منها ما هو‬
‫أدب مع هللا تعاىل ‪ ،‬ومنه ما هو أدب مع النفس ‪ ،‬ومنها ما هو أدب مع املخلوق فالشرع كله‬
‫آداب ‪ ،‬وهذا مما يفيدك عسر الفرق بني البابني ‪ ،‬فالصالة عبادة وأدب ‪ ،‬والزكاة عبادة وأدب واحلج‬
‫عبادة وأدب والصوم عبادة وأدب ‪ ،‬واألكل ابليمني عبادة وأدب ‪ ،‬والتسمية على الذبيحة عبادة‬
‫وأدب ‪ ،‬واألكل مما يليك عبادة وأدب ‪ ،‬واألدب مع الزوجة عبادة وأدب والقيام حبق الوالدين‬
‫واإلخوان هو عبادة وأدب ‪ ،‬وهكذا ‪ ،‬فقوهلم ‪ -:‬هذا عبادة وهذا أدب ‪ ،‬ال وجه له ‪ ،‬وال دليل عليه‬
‫‪ ،‬فبان لك هبذا أن القول الصحيح والرأي الراجح املليح هو أنه ال فرق بني ابب اآلداب وابب‬
‫العبادات ‪ ،‬فلفظ األمر إن ورد يف ابب العبادات فإنه يفيد الوجوب حىت يرد الصارف ‪ ،‬ولفظ األمر‬

‫‪8‬‬
‫إن ورد يف ابب اآلداب فإنه يفيد الوجوب حىت يرد الصارف ‪ ،‬هذا ما توصلنا له حبسب البحث‬
‫والنظر والتحقيق ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫( تنبيه ) وقولنا هذا ابرك هللا تعاىل فيك ال يلغي أن بعض األوامر أكب من بعض ‪ ،‬فاألمر ابلتوحيد‬
‫أكب من األمر ابلصالة ‪ ،‬واألمر ابلصالة أكب من األمر ابلزكاة واألمر ابلزكاة أكب من األمر‬
‫ابلصوم وهكذا ‪ ،‬واألمر بب الوالدين أكب وأفخم من األمر ابإلحسان إىل األصدقاء ‪ ،‬وهذا واضح‬
‫‪ ،‬فلعل الذين قالوا ابلتفريق بني البابني إمنا أرادوا أن األوامر يف ابب العبادات أكب من األوامر يف‬
‫ابب اآلداب ‪ ،‬فإن كانوا يريدون ه ذا احلد فال جرم أنه صحيح ‪ ،‬وأما إن كانوا يفرقون بني ما يفيده‬
‫األمر يف البابني فليس بصحيح ‪ ،‬واملهم أنه ال بد من األدب مع أهل العلم فإن أهل العلم رمحهم هللا‬
‫تعاىل هم أعالم اهلدى ومصابيح الدجى ‪ ،‬وهلم الفضل بعد هللا تعاىل ببيان احلق وهداية اخللق ‪،‬‬
‫فالواجب احرتامهم وتقديرهم وإنزاهلم منزلتهم ‪ ،‬جزاهم هللا خري اجلزاء وابرك لنا فيهم ويف علمهم ‪،‬‬
‫وهللا ربنا أعلى وأعلم‪.‬‬
‫( فصل )‬
‫إذا علمت هذا فاعلم أن هذه الصيغة ال ختلو إما أن ترد جمردة عن القرائن وإما أن تكون مقرونة‬
‫بقرينة ‪ ،‬فإن كانت مقرونة بقرينة فإهنا تفيد ما أفادت هذه القرينة ‪ ،‬فإن اقرتنت هبا قرينة الندب‬
‫وه ْم إِ ْن َعلِ ْمتُ ْم فِي ِه ْم َخ ْ ًريا ‪ ‬فهذا أمر ندب ألهنا ملا نزلت مل يكاتب‬ ‫ِ‬
‫فهي ندب حنو قوله ‪ ‬فَ َكاتبُ ُ‬
‫النيب ‪ ‬رقيقه وكذلك كثري من الصحابة مل يكاتبوهم مما يدل على أن األمر فيها للندب ولذلك جتد‬
‫أن األصوليني يبحثون معاين هذه الصيغة يف ابب األمر ‪ ،‬فيقولون ‪ :‬من معانيها الندب وتقدم‬
‫ادوا ‪ ‬والتعجيز كقوله تعاىل ‪ ‬قُ ْل ُكونُوا ِح َج َارةً أ َْو َح ِد ًيدا ‪‬‬ ‫اصطَ ُ‬ ‫واإلابحة كقوله تعاىل ‪ ‬فَ ْ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ت الْ َع ِز ُيز الْ َك ِرميُ‬ ‫ني ‪ ‬واإلهانة كقوله تعاىل ‪ ‬ذُ ْق إِن َ‬
‫َّك أَنْ َ‬ ‫والتسخري كقوله تعاىل ‪ُ ‬كونُوا قَرَد ًة َخاسئ َ‬
‫صِبُوا َس َواءٌ َعلَْي ُك ْم ‪ ‬والتهديد كقوله تعاىل ‪ْ ‬اع َملُوا َما‬ ‫اصِ ُبوا أ َْو ال تَ ْ‬
‫‪ ‬والتسوية كقوله تعاىل ‪ ‬فَ ْ‬
‫ِشْئ تُ ْم ‪ ‬وحنوها كالدعاء واإلكرام واخلب ‪ ،‬فصيغة (افعل) فيما مضى ال تدخل يف حبثنا ألنه قد‬
‫اقرتنت قرائن أخرجتها إىل غري ابهبا األصلي فإذا اقرتن هبذه الصيغة قرائن فإهنا تدل على ما دلت‬
‫عليه القرينة وليس هذا هو جمال حبثنا ‪.‬‬
‫احلالة الثانية ‪ :‬أن أتيت جمردة عن القرائن فإذا وردت جمردة عن القرائن فماذا تفيد ؟ وما هو األصل‬
‫فيها حىت نبقى عليه فال ننتقل عنه حىت أيتينا الناقل ؟ هذا هو ما تفيده هذه القاعدة‪ ،‬وقبل ذلك‬
‫‪9‬‬
‫أقول ‪ :‬اختلف العلماء رمحهم هللا تعاىل يف صيغة األمر إذا وردت جمردة عن القرائن ماذا تفيد ؟‬
‫فقال بعضهم ‪ :‬هي تفيد الوجوب وهو قول مجهور األصوليني ‪ ،‬وقيل ‪ :‬بل تفيد الندب وقيل ‪ :‬بل‬
‫معىن من املعاين ألهنا حقيقة‬
‫تفيد اإلابحة ‪ ،‬وقيل ‪ :‬بل يتوقف فيها إىل ورود القرينة الصارفة هلا إىل ً‬
‫مشرتكة بني معان كثرية ‪ ،‬والصواب هو القول األول وما عداه فباطل ‪ ،‬فالقول الصحيح هو أن‬
‫صيغة األمر إذا وردت جمردة عن القرائن فإهنا تفيد الوجوب ‪ ،‬وهو ما تفيده قاعدتنا هذه ‪ ،‬والدليل‬
‫على أن هذا القول هو الراجح عدة أمور ‪:‬‬
‫اب أَلِ ٌيم ‪‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين ُخيَال ُفو َن َع ْن أ َْم ِرهِ أَ ْن تُصيبَ ُه ْم فْت نَةٌ أ َْو يُصيبَ ُه ْم َع َذ ٌ‬
‫َّ ِ‬
‫منها ‪ :‬قوله تعاىل ‪ ‬فَ ْلَي ْح َذ ْر الذ َ‬
‫فحذر هللا تعاىل الذين خيالفون أمر النيب ‪ ‬هبذه العقوبة الشديدة وهي إصابتهم ابلفنت والعذاب‬
‫األليم يف الدنيا واآل خرة ‪ ،‬فهذا يدل على وجوب القيام أبمره وتنفيذه ‪ ،‬وذلك ألن الواجب هو ما‬
‫يذم َتركه مطلقاً ‪ ،‬أو هو ما توعد ابلعقاب على تركه ‪ ،‬فلما توعد هللا من خالف األمر ابلعقاب‬
‫الشديد دل ذلك على وجوب هذا األمر وأن األصل فيه الوجوب وهذا هو املطلوب إذ لو مل يكن‬
‫واجباً ملا عاقبهم على خمالفته لكن ملا عاقبهم على خمالفته فهذا دليل وجوبه ‪.‬‬
‫يس َملْ يَ ُك ْن ِم ْن‬ ‫ومن األدلة ‪ :‬قوله تعاىل ‪ ‬وإِ ْذ قُ ْلنا لِْلمالئِ َك ِة اسجدوا آلدم فَسجدوا إِال إِبلِ‬
‫ْ َ‬ ‫ْ ُ ُ ََ َ َ ُ‬ ‫َ َ َ‬
‫ك ‪ ‬وقال تعاىل يف آية أخرى ‪ ‬فَ َس َج َد الْ َمالئِ َكةُ‬ ‫اج ِ‬
‫الس ِ‬
‫ك أَال تَ ْس ُج َد إِ ْذ أ ََم ْرتُ َ‬
‫ال َما َمنَ َع َ‬
‫ين * قَ َ‬ ‫د‬
‫َّ َ‬
‫ال اي إِبلِ‬ ‫اج ِ‬
‫الس ِ‬ ‫َمجعو َن * إِال إِبلِ‬
‫ك أَال تَ ُكو َن َم َع‬ ‫يس َما لَ َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ق‬
‫َ‬ ‫*‬ ‫ين‬
‫َ‬ ‫د‬ ‫َّ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫و‬ ‫ك‬
‫ُ‬ ‫َ‬‫ي‬ ‫ن‬‫ْ‬ ‫َ‬
‫أ‬ ‫ََب‬
‫َ‬ ‫أ‬ ‫يس‬
‫ْ َ‬ ‫ُكلُّ ُه ْم أ َْ ُ‬
‫ك اللَّ ْعنَةَ إِ َىل يَ ْوِم ال هِدي ِن ‪‬‬ ‫ال فَاخرج ِمْن ها فَِإن ِ‬
‫َّك َرج ٌيم * َوإِ َّن َعلَْي َ‬
‫َ‬ ‫ين ‪ ‬ويف آية أخرى ‪ ‬قَ َ ْ ُ ْ َ‬
‫اج ِ‬
‫د‬
‫َّ َ‬
‫الس ِ‬
‫ووجه الداللة من ذلك ‪ :‬أن هللا تعاىل ملا أمر املالئكة ابلسجود سارعوا إىل ذلك وامتنع إبليس عن‬
‫السجود وعارض النص برأيه فوخبه هللا وذمه وعاقبه ابلطرد واللعنة واإلهباط من اجلنة فهذه العقوبة‬
‫اس ُج ُدوا ‪ ‬يفيد الوجوب ولذلك ملا‬
‫بني هللا أهنا على ترك األمر فهذا يدل على أن األمر يف قوله ‪ْ ‬‬
‫خالفه انل ما ان له من التوبيخ والذم والعقوبة ولو كان األمر املوجه للمالئكة ال يفيد الوجوب لقال‬
‫علي لكن ملا مل يقل ذلك دل على أنه كان يفهم منه الوجوب ‪،‬‬
‫إبليس ‪ :‬مل تعاقبين على ما مل جيب َّ‬
‫وال يقال ‪ :‬إن إبليس مل يسجد ألنه ليس من املالئكة ألننا نقول هو من املالئكة بوصفه ومن اجلن‬
‫أبصله كما هو اختيار أِب العباس ابن تيمية وهو الراجح ‪ ،‬فلما أمر هللا املالئكة ابلسجود دخل‬
‫يس‬ ‫إبليس يف ضمنهم بوصفه ومثاله لكنه خالف األمر برجوعه إىل أصله ولذلك قال تعاىل ‪ ‬إِال إِبلِ‬
‫ْ َ‬
‫اجلِ هِن فَ َف َس َق …‪ ‬فقرن احلكم ابلفاء بعيد وصف مما يدل على أن سبب فسقه هو ألنه‬‫َكا َن ِم ْن ْ‬
‫‪10‬‬
‫من اجلن وطبعهم الفسق واملخالفة ‪ ،‬وخالصة األمر أن إبليس من املالئكة بوصفه ومثاله لكنه من‬
‫اجلن أبصله ‪ ،‬فيكون داخالً يف ضمن األمر للمالئكة ابلسجود فلما خالف األمر وأَب واستكب‬
‫وم ِسخ على أقبح صورة مما يدل على أن األمر املطلق يفيد الوجوب ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬ ‫لُعن وطُِرد ُ‬
‫ِ‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫ومن األدلة أيضاً ‪ :‬قوله تعاىل ‪ ‬وإِ َذا قِ‬
‫ني ‪ ‬فذمهم‬ ‫يل َهلُْم ْارَك ُعوا ال يَْرَك ُعو َن * َويْ ٌل يَ ْوَمئذ ل ْل ُم َك هذبِ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫هللا تعاىل وتوعدهم ابلويل على عدم امتثاهلم لألمر مما يدل على أن األمر يفيد الوجوب ألن عالمة‬
‫الوجوب أن يذم التارك له وهنا ذمهم هللا على خمالفة األمر فدل على أنه للوجوب ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫الِلُ َوَر ُسولُهُ أ َْمراً أَ ْن يَ ُكو َن َهلُْم‬
‫ضى َّ‬ ‫ومن األدلة أيضاً ‪ :‬قوله تعاىل ‪َ ‬وَما َكا َن ل ُم ْؤمن َوال ُم ْؤمَنة إِذَا قَ َ‬
‫ضالالً ُمبِيناً ‪ ‬فاهلل تعاىل هنا أخب أنه إذا قضى‬ ‫ض َّل َ‬ ‫الِلَ َوَر ُسولَهُ فَ َق ْد َ‬
‫ص َّ‬‫اخلََِريُة ِم ْن أ َْم ِرِه ْم َوَم ْن يَ ْع ِ‬
‫ْ‬
‫أمراً مل يكن ألحد أن يتخري فيه وجعل خمالفته معصيةً وضالالً وإذا كانت خمالفة األمر عصياانً‬
‫وضالالً فإن ذلك دليل على أن األمر يفيد الوجوب ألنه لو مل يفد الوجوب ملا كانت خمالفته معصية‬
‫وضالالً وهذا واضح ‪.‬‬
‫ومن األدلة على ذلك ‪ :‬أن النيب ‪َ ‬مَّر برجل يصلي فدعاه فلم جيبه فلما فرغ من الصالة قال ‪:‬‬
‫(( ما منعك أن جتيبين ؟ )) قال ‪ :‬اي رسول هللا كنت يف الصالة ‪ ،‬فقال " أما مسعت هللا يقول ‪ :‬‬
‫لِل ولِ َّلرس ِ‬
‫ول إِ َذا َد َعا ُك ْم لِ َما ُْحييِي ُك ْم ‪ " ‬وهذا ظاهر فإنه ‪ ‬عاتبه على‬ ‫اي أَيُّها الَّ ِذين آمنُوا ِ ِ ِ‬
‫اسَتجيبُوا َّ َ ُ‬
‫َ َ ْ‬ ‫َ َ‬
‫خمالفة أمر هللا ‪ ،‬واملعاتبة واللوم ال تكون إال على ترك واجب فدل ذلك على أن قوله تعاىل ‪‬‬
‫ول ‪ ‬على الوجوب إذ لو كان ال يفيد الوجوب ملا استحق ذلك الصحاِب‬ ‫لِل ولِ َّلرس ِ‬
‫ِ ِِ‬
‫استَجيبُوا َّ َ ُ‬ ‫ْ‬
‫العتاب وال اللوم وهذا دليل على أن األمر املطلق يفيد الوجوب ‪.‬‬
‫ومن األدلة أيضاً ‪ :‬حديث أِب هريرة مرفوعاً ‪ " :‬لوال أن أشق على أميت ألمرهتم ابلسواك عند كل‬
‫صالة " متفق عليه ‪ ،‬فدل ذلك على أن املشقة حتصل ابألمر للزوم االمتثال حينئذ لكنه ترك األمر‬
‫‪ ،‬لوجود املشقة ‪ ،‬فدل ذلك على أن األمر يفيد الوجوب ألنه لو مل يفد الوجوب ملا حصلت املشقة‬
‫‪ ،‬لكن ملا كان األمر يفيد الوجوب والوجوب فيه مشقة ترك األمر به ‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫ومن األدلة على ذلك ‪ :‬حديث بريرة بعد أن أعتقتها عائشة وكان زوجها عبداً فخريها النيب ‪‬‬
‫بني مفارقة زوجها وعدمه فاختارت فراقه وكان زوجها مغيث حيبها وكان ميشي خلفها يف األسواق‬
‫يبكي فلما رأى النيب ‪ ‬ذلك ذهب إىل بريرة فقال هلا "لو راجعتيه فإنه أبو أوالدك" فقالت ‪:‬‬

‫‪11‬‬
‫أأتمرين اي رسول هللا ‪ ،‬فقال " ال إمنا أان شافع " فقالت ‪ :‬ال حاجة يل فيه ‪ .‬فدل ذلك أنه لو كان‬
‫أمراً للزمها الطاعة واالنقياد ولذلك استفسرت من كالمه هذا ‪ :‬أهو أمر فتمتثل أو ال؟ فأخبها أنه‬
‫إمنا هو شافع ‪ ،‬فدل ذلك على أن األمر يفيد الوجوب ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫ومن األدلة‪ :‬اليت ذكرها القاضي أبو يعلى يف كتابه العظيم العدة على ذلك ‪ -‬أي أن األمر املطلق‬
‫يفيد الوجوب ‪ -‬إمجاع الصحابة ‪ ‬على ذلك حيث إهنم كانوا يرجعون إىل جمرد األوامر يف الفعل‬
‫أو االمتناع من غري توقف فكل أمر كانوا يسمعونه من الكتاب والسنة حيملونه على الوجوب‬
‫ولذلك مل يرد عنهم أهنم كانوا يسألون النيب ‪ ‬عن املراد هبذا األمر بل كانوا ميتثلون األمر وحيملونه‬
‫على الوجوب إال إذا اقرتن به قرينة تصرفه إىل غريه ومل يعرف منهم منكر لذلك فكان إمجاعاً وهذا‬
‫ثبت يف وقائع كثرية‬
‫منها ‪ :‬أهنم استدلوا على وجوب الصالة عند ذكرها ابألمر املطلق يف حديث أنس مرفوعاً " من انم‬
‫عن صالة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها " ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أهنم أمجعوا على وجوب غسل اإلانء من ولوغ الكلب بقوله ‪ " ‬إذا ولغ الكلب يف اإلانء‬
‫فاغسلوه سبعاً " ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن أاب بكر ‪ ‬استدل على وجوب قتال مانعي الزكاة بقوله تعاىل ‪َ ‬وآتُوا َّ‬
‫الزَكا َة ‪ ‬وقال "‬
‫والزكاة من حقها " ي قصد ‪ :‬أن الزكاة من مجلة حقوق ال إله إال هللا ‪ ،‬ووافقه عمر ‪ .‬ذكره القاضي‬
‫يف العدة ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن عمر ‪ ‬أخذ اجلزية من اجملوس بقوله ‪ " ‬سنوا هبم سنة أهل الكتاب " ومل ينكر عليه‬
‫أحد فكان إمجاعاً ‪ .‬فدلت هذه الوقائع على ما ادعيناه من إمجاع الصحابة على أن األمر املطلق‬
‫يفيد الوجوب ‪.‬‬
‫ِ ِ ِ‬
‫الِلَ َما أ ََمَرُه ْم ‪ ‬فدل على‬ ‫ومن األدلة أيضاً ‪ :‬قوله تعاىل ‪َ ‬علَْي َها َمالئ َكةٌ غال ٌظ ش َد ٌاد ال يَ ْع ُ‬
‫صو َن َّ‬
‫أن خمالفة األمر معصية وما ذلك إال لوجوبه وهو املطلوب ‪.‬‬
‫ويدل على أن األمر اجملرد عن القرائن للوجوب من النظر ولغة العرب ‪ :‬أن السيد لو قال لعبده‬
‫‪ :‬اسقين ماء ‪ ،‬فامتثل العبد فإنه يستحق املدح والثناء ‪ ،‬وإن مل ميتثل فإنه يستحق الذم والعقوبة ‪،‬‬
‫فرآه العقالء وهو يعاقبه فقالوا له ‪ :‬مل تعاقبه ؟ فقال ‪ :‬إين أمرته أنه يسقيين ماءً فعصاين ومل يفعل ‪،‬‬

‫‪12‬‬
‫فإن هؤالء يتفقون معه على حسن لومه وعقابه نظراً ملخالفته األمر فدل ذلك على أنه ما استحق‬
‫الذم والعقوبة إال ألنه ترك واجباً ألن الواجب هو الذي يذم على تركه مطلقاً وهذا متقرر يف أذهان‬
‫العقالء ‪.‬‬
‫فهذه األدلة تفيدك أيها الطالب إفاد ًة صرحية أن صيغة األمر املطلقة أي املتجردة عن القرائن تفيد‬
‫الوجوب ‪ ،‬فإذا تقرر لك ذلك فاعلم أن هذه القاعدة مطردة يف مجيع الفروع فكل أمر مير عليك يف‬
‫الكتاب أو السنة فامحله على الوجوب إال إذا ورد الصارف له عن اببه إىل ابب آخر ‪ ،‬من غري فرق‬
‫بني ابب العبادات وابب اآلداب وهللا ربنا أعلى وأعلم ‪.‬‬
‫( فصل )‬
‫إذا علمت هذا فلم يبق عندان إال شرح القاعدة ابعتبار التفريع ‪ ،‬والفروع كثرية جدا ‪ ،‬وقد مجعت‬
‫لك منها قدرا كبريا ‪ ،‬فال تستطل التفريع ‪ ،‬ألن املقصود زايدة التوضيح والتفهيم ‪ ،‬وكل فرع منها‬
‫يعتب مبثابة حكم شرعي جديد ‪ ،‬فهو وإن كان مما يتخرج على القاعدة إال أنك تستفيد منه أيضا‬
‫احلكم يف املسألة اليت ي قررها النص ‪ ،‬وإن بعض الناس فيه خبل يف التفريع ‪ ،‬مع أنه قد فتح هللا عليه‬
‫من العلم الشيء الكثري ‪ ،‬ولكنك ال تراه يذكر لك إال فرعا أو فرعني ‪ ،‬وهذا أمر ال ينبغي ‪ ،‬بل ال‬
‫بد من احلرص على تفهيم الطالب حىت يغلب على الظن أن القاعدة قد استقرت يف قلبه استقرارا ال‬
‫مزيد عليه ‪ ،‬وهذا ال يكون إال بكثرة التفريع ‪ ،‬وألن تكثري الفروع يستفاد منه ‪ -‬غري ما ذكر ‪ -‬أنك‬
‫قد ال تتفق مع القارئ الكرمي يف هذه الفروع القليلة اليت اقتصرت عليها ‪ ،‬ولكن مع تكثري الفروع‬
‫فإنه ال بد وأن تتفق معه يف أغلبها ‪ ،‬إن كان قد فهم القاعدة فهما جليا وأحسنت أنت يف ختريج‬
‫الفرع على القاعدة ‪ ،‬واملهم أن الطريقة اليت نسري عليها هي تكثري األدلة والفروع ‪ ،‬فنطرق من ذلك‬
‫ما استطعنا إليه سبيال ‪ ،‬فأما تكثري األدلة فنستفيد منه تقرير صحة القاعدة يف قلب الطالب ‪ ،‬وأما‬
‫تكثري التفريع فنستفيد منه تفيهم الطالب كيفية ختريج الفروع على هذا األصل املقرر ‪ ،‬واختالف‬
‫الطرق يف هذه األمور من مجلة خالف التنوع ‪ ،‬وهللا ويل التوفيق ‪ ،‬وإىل الفروع ‪ ،‬فأقول وابهلل تعاىل‬
‫التوفيق ‪ ،‬ومنه أستمد العون والفضل وحسن التحقيق ‪-:‬‬
‫الفرع األول‪ :‬قوله ‪ ‬للغالم الذي رآه تطيش يده يف الطعام (( اي ُغالم َس ِهم هللا وكل بيمينك وكل‬
‫مما يليك )) فهذه ثالثة أوامر ‪ ،‬األول ‪( :‬سم هللا) فهو أمر ابلتسمية فاألصل فيه الوجوب إذ ال‬
‫قرينة هنا تصرفه عن اببه ‪ ،‬فنقول ‪ :‬التسمية عند الطعام واجبة وقد دلت أدلة أخرى على هذا‬
‫‪13‬‬
‫احلكم وأكدته أبن ترك التسمية سبب الستحالل الشيطان للطعام ‪ .‬الثاين ‪ :‬قوله (وكل بيمينك)‬
‫فهذا أمر فاألصل فيه الوجوب ‪ ،‬فنقول ‪ :‬األكل ابليمني واجب وقد دلت أدلة أخرى على ذلك‬
‫وأكدته أبن الشيطان أيكل بشماله ‪ ،‬الثالث ‪( :‬وكل مما يليك) فهذا أمر واألمر يفيد الوجوب ‪،‬‬
‫فنقول ‪ :‬جيب على اإلنسان أن ال أيكل إال مما يليه ‪ ،‬لكن عندان حديث أنس أن النيب ‪ ‬كان‬
‫يتتبع الدابء من القصعة ‪ ،‬فظن بعض العلماء أنه صارف لألمر عن الوجوب إىل الندب وهذا ليس‬
‫بصحيح ‪ ،‬بل الصواب أن يقال ‪ :‬إذا كان الطعام واحداً أي نوع واحد فيجب على اإلنسان أن‬
‫أيكل مما يليه ‪ ،‬وإذا كان الطعام أصنافاً متنوعة فلإلنسان حق االختيار وأيكل مما شاء فاألمر يف‬
‫قوله ‪( :‬وكل مما يليك) على اببه وهو الوجوب لكن فيما إذا كان الطعام واحداً وهللا أعلم ‪.‬‬
‫الفرع الثاين ‪ :‬قوله ‪ (( ‬أسبغ الوضوء وخلل بني األصابع وابلغ يف االستنشاق إال أن تكون‬
‫صائما )) رواه األربعة ‪ ،‬وألِب داود (( إذا توضأت فمضمض )) فها هنا عدة أوامر ‪ ،‬األول ‪ :‬قوله‬
‫‪( :‬اسبغ الوضوء) أمر ابإلسباغ فيكون واجباً واإلسباغ هو تعميم العضو ابملاء مع اإلسالة وهذا‬
‫صحيح فاألمر فيه يفيد الوجوب ‪ ،‬الثاين ‪ :‬قوله ‪( :‬وخلل بني األصابع) أمر واألصل أنه يفيد‬
‫الوجوب لكن ن ظران فوجدان قرينة تصرفه إىل الندب وهو أن مجيع الذين وصفوا وضوءه ‪ ‬مل يذكروا‬
‫أنه كان خيلل أصابعه مما يدل على أنه مل يكن يواظب عليه إذ لو كان مما يواظب عليه لنقله هؤالء‬
‫فلما مل ينقلوه دل على أن قوله ‪( :‬وخلل بني األصابع) ليس على اببه الذي هو الوجوب وإمنا هو‬
‫للندب فيكون التخليل مندوابً ‪ ،‬الثالث ‪ :‬قوله ‪( :‬وابلغ يف االستنشاق) هنا أمران ‪ :‬أمر‬
‫ابالستنشاق ‪ ،‬وأمر ابملبالغة‪ ،‬فأما األمر ابالستنشاق فهو على اببه وهو الوجوب ويتأيد ذلك بقوله‬
‫‪ (( ‬إذا توضأ أحدكم فليجعل يف أنفه ماءً )) ‪ ،‬ويف رواية (( ومن توضأ فليستنشق )) ويف رواية‬
‫(( فليستنشق مبنخريه من املاء )) ‪ ،‬فاألمر ابالستنشاق على اببه وهو الوجوب ‪ .‬فنقول ‪ :‬من‬
‫واجبات الوضوء االستنشاق ‪ ،‬وأما املبالغة فأمر هبا هنا يف حديث لقيط بن صبة ولكنه مل أيمر هبا‬
‫يف حديث أِب هريرة ومجيع الواصفني لوضوئه مل يذكروا أنه كان يبالغ يف االستنشاق فدل ذلك على‬
‫أن املبالغة فيه سنة لورود القرينة الصارفة ‪ ،‬الرابع ‪ :‬قوله (إذا توضأت فمضمض) وهذا أمر‬
‫ابملضمضة واألصل يف األمر املطلق الوجوب ‪ ،‬فنقول ‪ :‬املضمضة واجبة ومل أتت قرينة تصرفه عن‬
‫اببه بل أتيد ذلك أبحاديث أخرى تفيد أن األمر هبا يراد به الوجوب ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫الفرع الثالث‪ -:‬حديث أِب هريرة مرفوعاً " إذا صلى أحدكم الركعتني اللتني قبل صالة الصبح‬
‫فليضطجع على شقه األمين " فهذا أمر ابالضطجاع بعد سنة الفجر ‪ ،‬واألصل أنه للوجوب‪ ،‬لكن‬
‫ورد له ما يصرفه عن اببه إىل الندب وذلك يف حديث أِب قتادة عند مسلم يف قصة نومهم عن‬
‫صالة الفجر قال " فأذن بالل فصلى النيب ‪ ‬ركعيت الفجر مث أقيمت الصالة فصنع كما كان‬
‫يصنع كل يوم " فهنا مل يضطجع ‪ ‬بعد ركعيت الفجر ففعله هذا صرف األمر عن اببه إىل الندب ‪،‬‬
‫فنقول ‪ :‬االضطجاع على الشق األمين بعد ركعيت الفجر سنة ‪.‬‬
‫الفرع الرابع‪ :‬قوله ‪ (( ‬صلوا قبل املغرب ‪ ،‬صلوا قبل املغرب ‪ ،‬صلوا قبل املغرب )) مث قال ((‬
‫ملن شاء كراهية أن يتخذها الناس سنة )) رواه البخاري ‪ ،‬فقد أمر ‪ ‬ابلصالة قبل املغرب فاألصل‬
‫يف أمره الوجوب لكنه قال (ملن شاء) وهذه قرينة تصرف األمر عن الوجوب إىل الندب ولو مل ترد‬
‫هذه اللفظة لقلنا إن الصالة قبل املغرب واجبة لكن ملا وردت القرينة الصارفة لألمر إىل الندب قلنا‬
‫هبا ‪.‬‬
‫الفرع اخلامس ‪ :‬قوله ‪ (( ‬توضؤوا من حلوم اإلبل )) فهذا أمر ابلوضوء من حلمها واألصل يف‬
‫األمر أنه للوجوب ‪ ،‬وال أعلم قرينة تصرف األمر عن اببه فالبقاء عليه هو املتعني ‪ ،‬فنقول ‪ :‬الوضوء‬
‫من أكل حلم اإلبل واجب لألمر به وهذا هو الراجح وهو من مفردات اإلمام أمحد ‪.‬‬
‫الفرع السادس ‪ :‬قوله ‪ (( ‬من غسل ميتاً فليغتسل ومن محله فليتوضأ )) على التسليم أبنه حيتج‬
‫به فإن األمرين فيه لالستحباب ال للوجوب بدليل قوله يف احلديث اآلخر (( ليس عليكم من غسل‬
‫ميتكم غسل فإن ميتكم ميوت طاهراً )) ومثله أن أم عطية تولت هي وبعض النساء غسل بنت‬
‫رسول هللا ‪ ‬وذكرت أنه دخل عليهن وأمرهن أن يغسلوها ثالاثً أو مخساً أو أكثر من ذلك وأنه‬
‫أعطاهن حقوه ومل تذكر أنه أمرهن بعد الفراغ من غسلها أن يغتسلن أو يتوضأن ولو أمرهن لنقلته‬
‫لنا فلما مل أيمرهن ابالغتسال دل ذلك على عدم وجوبه ألن أتخري البيان عن وقت احلاجة ال جيوز‬
‫‪ ،‬وغسلت أمساء بنت عميس رضي هللا عنها أاب بكر ‪ ‬وخرجت وسألت الصحابة هل عليها‬
‫غسل ؟ فقالوا ‪ :‬ال ‪ ،‬فهذا يُ َع ُّد صارفاً لألمر يف احلديث ‪ ،‬فنقول ‪ :‬من غسل ميًتا فليغتسل‬
‫استحباابً ومن محله فليتوضأ استحباابً هذا إذا سلمنا سالمة احلديث لالحتجاج وإال فقد قال أمحد‬
‫‪ :‬ال يصح يف هذا الباب شيء ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫الفرع السابع ‪ :‬قوله ‪ ‬يف املذي (( توضأ واغسل ذكرك )) فهذا أمر وهو للوجوب وال نعلم له‬
‫صارفاً ‪ ،‬فنقول ‪ :‬من خرج منه مذي فيجب عليه أن يغسل ذكره ويتوضأ لألمر به ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫الفرع الثامن ‪ :‬قوله ‪ (( ‬إذا مسعتم املؤذن فقولوا مثل ما يقول املؤذن )) فهذا أمر واألصل فيه‬
‫الوجوب ‪ ،‬وبه قال بعض أهل العلم ‪ ،‬لكن ورد ما يصرفه عن اببه وهو ما رواه مسلم يف صحيحه‬
‫أن النيب ‪ ‬مسع مؤذانً يؤذن فقال ‪ :‬هللا أكب هللا أكب ‪ ،‬فقال ‪ :‬على الفطرة ‪ ،‬مث قال املؤذن ‪:‬‬
‫أشهد أن ال إله إال هللا أشهد أن حممداً رسول هللا ‪ ،‬فقال ‪ :‬خرجت من النار … فلو كانت‬
‫اإلجابة واجبة ألجابه النيب ‪. ‬‬
‫الفرع التاسع ‪ :‬حتية املسجد ‪ ،‬فقد قال ‪ (( ‬إذا دخل أحدكم املسجد فلريكع ركعتني قبل أن‬
‫جيلس )) متفق عليه ‪ ،‬فقد أمر بتحية املسجد ‪ ،‬واألصل يف األمر الوجوب ‪ ،‬وقال به بعض العلماء‬
‫لكن هناك قرينة تصرف األمر عن اببه وهو حديث طلحة بن عبيد هللا ملا سأل النيب ‪ ‬عن‬
‫علي غريها ‪ ،‬قال (( ال ‪ ،‬إال أن‬
‫اإلسالم فقال (( مخس صلوات يف اليوم والليلة )) قال ‪ :‬هل ه‬
‫تطوع )) فوصف ما عدا الصلوات اخلمس أبهنا تطوع ‪ ،‬وكذلك ملا دخل رجل املسجد يوم اجلمعة‬
‫وختطى رقاب الناس قال له النيب ‪ (( ‬اجلس فقد آذيت وآنيت )) ومل أيمره أن يصلي ركعتني فلو‬
‫كانت واجبة ألمره هبا ‪ ،‬فهاَتن القرينتان تصرفان األمر عن اببه إىل االستحباب وهو الصحيح إن‬
‫شاء هللا تعاىل ‪ ،‬ولو مل يردا ‪ ،‬لقلنا ابلوجوب ألن األمر املطلق عن القرائن يفيد الوجوب‪.‬‬
‫الفرع العاشر‪ :‬أن النيب ‪ ‬أمر اجلنب إذا أراد أن ينام أن يتوضأ واحلديث صحيح ‪ ،‬فهذا أمر‬
‫واألمر يفيد الوجوب لكن حبثنا فوجدان أن له صارفاً وهو حديث عائشة رضي هللا عنها " أن النيب‬
‫‪ ‬كان ينام وهو جنب من غري أن ميس ماءً " رواه األربعة بسند حسن ‪ ،‬فهذه القرينة صرفت‬
‫األمر عن اببه إىل الندب وهو الصواب ولو مل ترد لقلنا ابلوجوب ألن األمر املطلق عن القرائن يفيد‬
‫الوجوب ‪.‬‬
‫الفرع احلادي عشر ‪ :‬حديث أِب هريرة مرفوعاً " إذا توضأ أحدكم فليجعل يف أنفه ماءً مث لينتثر "‬
‫فهذا أمر ابالنتثار وهو للوجوب وال أعلم له صارفاً عن اببه إىل الندب بل أتيد األمر القويل ابلفعل‬
‫الدائم ‪ ،‬فنقول ‪ :‬االس تننثار واجب من واجبات الوضوء ألنه أمر به واألمر يفيد الوجوب إذا خال‬
‫عن القرينة ‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫الفرع الثاين عشر‪ :‬قال الشنقيطي رمحه هللا تعاىل يف أضواء البيان وهو يتكلم عن مسائل زكاة الفطر‬
‫‪ ،‬فقال (أما حكمها فهي فرض عني عند أمحد والشافعي وعند أِب حنيفة هي واجب على‬
‫اصطالحه أي ما وجب ابلسنة‪.‬وعند املالكية واجبة وقيل‪ :‬سنة‪ .‬قال يف خمتصر خليل بن إسحاق‬
‫جيب ابلسنة صاع إخل‪.‬والسبب يف اختالفهم هذا هل هي داخلة يف عموم ‪َ ‬وآتُوا َّ‬
‫الزَكا َة ‪ ‬أي‬
‫شرعت أب صل مشروعية الزكاة يف الكتاب والسنة أم أهنا شرعت بنص مستقل عنها‪.‬فمن قال‬
‫بفرضيتها قال إهنا داخلة يف عموم إجياب الزكاة ومن قال بوجوهبا فهذا اصطالح لألحناف وال‬
‫خيتلف األمر يف ن تيجة التكليف إال أن عندهم ال يكفر ِبحودها‪.‬وقال املالكية‪ :‬جيب ابلسنة صاع‬
‫من بر إخل‪ ،‬أي‪ :‬أن وجوهبا ابلسنة ال ابلكتاب‪.‬وعندهم‪ :‬ال يقاتل أهل بلد على منعها ويقتل من‬
‫جحد مشروعيتها وهذا هو الفرق بينهم وبني األحناف‪ .‬ولكن يف عبارة مالك يف املوطأ إطالق‬
‫الوجوب أنه قال‪ :‬أحسن ما مسعت فيما جيب على الرجل من زكاة الفطر أن الرجل يؤدي ذلك عن‬
‫كل من يضمن نفقته إخل‪.‬ومن أسباب اخلالف بني األئمة رمحهم هللا نصوص السنة منها قوهلم فرض‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من متر أو صاعا من شعري احلديث‪.‬فلفظة (فرض)‬
‫أخذ منها من قال ابلفرضية وأخذ منها اآلخرون مبعىن قدر ألن الفرض القدر والقطع‪.‬وحديث قيس‬
‫بن سعد بن عبادة عند النسائي قال‪ :‬أمران رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بصدقة الفطر قبل أن‬
‫تنزل الزكاة فلما نزلت الزكاة مل أيمران ومل ينهنا وحنن نفعله‪.‬فمن قال ابلوجوب والفرض قال األمر‬
‫لألول للوجوب وفرضية زكاة املال مشلتها بعمومها فلم حيتج معها لتجديد أمر ومل تنسخ فنهى عنها‬
‫وبقيت على الوجوب األول ‪،‬وحديث‪ :‬فرض رسول هللا صلى هللا عليه وسلم زكاة الفطر طهرة‬
‫للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكني "من أداها قبل الصالة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد‬
‫الصالة فهي صدقة من الصدقات" فمن مل يقل بفرضيتها قال إهنا طهرة للصائم وطعمة للمساكني‬
‫فهي لعلة مربوطة هبا وتفوت بفوات وقتها ولو كانت فرضا ملا فاتت بفوات الوقت وأجاب اآلخرون‬
‫أبن ذلك على سبيل احلث على املبادرة ألدائها وال مانع من أن تكون فرضا وأن تكون‬
‫ص َدقَ ًة تُطَ هِهُرُه ْم َوتَُزهكِي ِه ْم ِهبَا ‪ ‬فهي فريضة وهي‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫طهرة‪.‬ويشهد هلذا قوله تعاىل ‪ُ ‬خ ْذ م ْن أ َْم َواهل ْم َ‬
‫طهرة والراجح من ذلك كله أهنا فرض للفظ احلديث فرض رسول هللا صلى هللا عليه وسلم "زكاة‬
‫الفطر صاعا من متر" ألن لفظ فرض إن كان ابتداء فهو للوجوب وإن كان مبعىن قدر فيكون‬
‫الوجوب بعموم آايت الزكاة وهو أقوى‪.‬وحديث خطبنا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فأمر بصدقة‬
‫‪17‬‬
‫الفطر صاعا من متر‪ .‬احلديث رواه أبو داود واألمر للوجوب وال صارف له هنا‪ .‬وقد قال النووي إن‬
‫القول ابلوجوب هو قول مجهور العلماء وهذا هو القول الذي تبأ به الذمة وخيرج به العبد من‬
‫العهدة وهللا تعاىل أعلم ) قلت ‪ -:‬وهو احلق بال ريب ‪ ،‬ألن األمر هبا ال صارف له عن اببه ‪،‬‬
‫واملتقرر أن األمر املطلق عن القرينة يفيد الوجوب ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫الثالث عشر ‪ :‬اختلف أهل العلم رمحهم هللا تعاىل يف إمتام صوم النفل ‪ ،‬مع اتفاقهم على أن إكماله‬
‫هو األفضل واألكمل‪ ،‬ولكن هل إمتامه واجب ‪ ،‬حبيث ال جيوز قطعه مع الشروع فيه إال بعذر ‪ ،‬أم‬
‫أنه جيوز قطعه ولو بال عذر؟ فيه خالف ‪ ،‬ومذهب اجلمهور اجلواز ولو بال عذر ومذهب احلنفية‬
‫أن صوم النَّفل جيب إمتامه بقوله تعاىل ‪ ‬أَِمتُّواْ‬ ‫متسكوا هبذه اآلية الكرمية يف َّ‬
‫املنع إال بعذر ‪ ،‬احلنفيَّة َّ‬
‫الصيام ‪ ‬واألمر للوجوب فيتناول ُك َّل صيام ‪.‬وأجيبوا أب َّن هذا إمنا ورد يف بيان أحكام صوم الفرض؛‬
‫املتطوع أمري نفسه ‪ ،‬إن شاء صام ‪ ،‬وإن شاء أفطر »‬ ‫السالم قال « الصائم هِ‬ ‫الصالة و َّ‬ ‫بدليل أنَّه عليه َّ‬
‫ِ‬ ‫وعن ِهأم هاىنء ‪َّ :‬‬
‫ب ‪ُ ،‬مثَّ ان َوَهلَا ‪،‬‬‫أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم َد َخ َل َعَلْي َها فَ َد َعا بِ َشَراب فَ َش ِر َ‬
‫ِ‬ ‫الِلِ ‪ ،‬أَما ِإين ُكْنت ِ‬
‫ت أن ُأرَّد ُس ْؤَرَك ‪ ،‬فقال « إ ْن‬ ‫صائ َمةً َولَك ْن َك ِرْه ُ‬ ‫ول َّ َ ه ُ َ‬ ‫ت ‪ ،‬فقالت ‪َ :‬اي َر ُس َ‬ ‫فَ َش ِربَ ْ‬
‫ت فَالَ‬ ‫ت فاقْضي ‪ ،‬وإ ْن ِشْئ ِ‬ ‫ضا َن ‪ ،‬فا ْقضي م َكانَهُ ‪ ،‬وإ ْن َكا َن تَطَُّوعاً ‪ ،‬فإن ِشْئ ِ‬ ‫َكا َن قَ ِ‬
‫ضاءً م ْن َرَم َ‬
‫َ‬
‫َ َُ‬
‫ضي » وهذان احلديثان صرفا األمر يف صوم النفل من وجوب اإلمتام إىل ندبيته فقط ‪ ،‬مع أن‬ ‫تَ ْق ِ‬
‫األمر يفيد الوجوب ‪ ،‬إال أنه هنا مصروف عن الوجوب إىل الندب ملا رويناه لك من األحاديث ‪،‬‬
‫فالصحيح يف هذه املسألة هو قول اجلمهور بل والصحيح عندان أن النفل ال يلزم ابلشروع إال يف‬
‫النسكني ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫الرابع عشر ‪ -:‬اعلم رمحك هللا تعاىل أنه جيب على املكلف ابلصالة أن يرتك البيع بعد نداء اجلمعة‬
‫الثاين ‪ ،‬وهو األذان الذي يكون واإلمام على املنب ‪ ،‬وهذا الوجوب هو احلق يف هذه املسألة إن شاء‬
‫هللا تعاىل ودليله قوله تعاىل ‪َ ‬وذَ ُروا الْبَ ْي َع ‪ ‬فقوله " وذروا " أمر ‪ ،‬واملتقرر أن األمر يفيد الوجوب ‪،‬‬
‫وال صارف هلذا األمرم عن اببه ‪ ،‬فحيث ال صارف ‪ ،‬فاألصل هو البقاء على األصل فيه حىت يرد‬
‫الناقل ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫رسول هللا صلى‬
‫أن َ‬ ‫اخلامس عشر ‪ :‬روى أصحاب الصحيح وغريهم عن أِب هريرة رضي هللا عنه « َّ‬
‫فرد ‪،‬‬
‫النيب صلى هللا عليه وسلم َّ‬
‫هللا عليه وسلم دخل املسجد ‪ ،‬فدخل رجل فصلى ‪ ،‬فسلم على ِه‬
‫فصل فإنك مل ِه‬
‫تصل ‪ ،‬فرجع فصلى كما صلى ‪ ،‬مث جاء فسلم على النيب صلى هللا‬ ‫وقال ‪ :‬ارجع ِه‬
‫‪18‬‬
‫فصل فإنك مل ِه‬
‫تصل ‪ -‬فرجع ثالاث ‪ -‬فقال ‪ :‬والذي بعثك ابحلق ‪ ،‬ما‬ ‫فرده وقال ‪ :‬ارجع ِه‬ ‫عليه وسلم َّ‬
‫ِ‬
‫تيسَر معك من القرآن‪ ،‬مث‬ ‫قمت إىل الصالة ِه‬
‫فكب ‪ ،‬مث اقرأ ما َّ‬ ‫غريه‪ ،‬فعله ْمين ‪ ،‬فقال ‪ :‬إذا َ‬
‫أُحسن َ‬
‫تعتدل قائما ‪ ،‬مث اسجد حىت تطمئن ساجدا‪ ،‬مث ارفع حىت‬
‫اركع حىت تطمئن راكعا ‪ ،‬مث ارفع حىت َ‬
‫تطمئن جالسا ‪ ،‬وافعل ذلك يف صالتك كلهِها» ويف رواية بنحوه ‪ ،‬وفيه «وعليك السالم ‪ ،‬ارجع ‪-‬‬
‫فكب مث اقرأ مبا تيسر معك من‬
‫وفيه‪ : -‬فإذا قمت إىل الصالة فأسبغ الوضوء ‪ ،‬مث استقبل القبلة َّ‬
‫القرآن‪ ..‬وذكر حنوه وزاد يف آخره ‪ -‬بعد قوله ‪ :‬حىت تطمئن جالسا ‪ -‬مث اسجد حىت تطمئن‬
‫ساجدا ‪ ،‬مث ارفع حىت تطمئن جالسا ‪ ،‬مث افعل ذلك يف صالتك كلهِها» أخرجه اجلماعة إال املوطأ‪.‬‬
‫وزاد مع غريه من األدلة أبو داود يف رواية له «فإذا فعلت هذه متت صالتك ‪ ،‬وما انتقصت من هذا‬
‫فإمنا انتقصته من صالتك»‪ .‬وهذا يسميه العلماء ( حديث املسيء صالته ‪ ،‬وقد جعله أهل العلم‬
‫رمحهم هللا عمدة يف معرفة أركان الصالة وواجباهتا ‪ ،‬فما ورد فيه من األوامر والواجبات فهو الواجب‬
‫يف الصالة ‪ ،‬وما مل يرد فيه من األوامر فإنه ليس بواجب ‪ ،‬قال الشوكاين رمحه هللا تعاىل (وقد تقرر‬
‫أن حديث املسيء هو املرجع يف معرفة واجبات الصالة وأن كل ما هو مذكور فيه واجب وما خرج‬
‫عنه وقامت عليه أدلة تدل على وجوبه ففيه خالف سنذكره إن شاء هللا يف شرحه يف املوضع الذي‬
‫سيذكره فيه املصنف ) وقال يف النيل أيضا (قال ابن دقيق العيد ‪ :‬تقرر من الفقهاء االستدالل هبذا‬
‫احلديث على وجوب ما ذكر فيه وعدم وجوب ما مل يذكر فيه فأما وجوب ما ذكر فيه فلتعلق األمر‬
‫به وأما عدم وجوب غريه فليس ذلك مبجرد كون األصل عدم الوجوب بل ألمر زائد على ذلك وهو‬
‫أن املوضع موضع تعليم وبيان للجاهل وتعريف لواجبات الصالة وذلك يقتضي احنصار الواجبات‬
‫فيما ذكر ويقوي مرتبة احلصر أنه صلى هللا عليه و سلم ذكر ما تعلقت به اإلساءة من هذا املصلي‬
‫وما مل يتعلق به إساءته من واجبات الصالة ‪ .‬وهذا يدل على أنه مل يقصر املقصود على ما وقعت به‬
‫اإلساءة فقط ‪ .‬فإذا تقرر هذا فكل موضع اختلفت العلماء يف وجوبه وكان مذكورا يف هذا احلديث‬
‫فلنا أن ن تمسك به يف وجوبه وكل موضع اختلفوا يف عدم وجوبه ومل يكن مذكورا يف هذا احلديث‬
‫فلنا أنن‪،‬متسك به يف عدم وجوبه لكونه غري مذكور على ما تقدم من كونه موضع تعليم مث قال ‪:‬‬
‫إال أن على طالب التحقيق ثالث وظائف ‪ :‬أحدها أن جيمع طرق احلديث وحيصي األمور املذكورة‬
‫فيه وأيخذ ابلزائد فالزائد فإن األخذ ابلزائد واجب ‪ .‬اثنيها إذا أقام دليال على أحد األمرين إما‬
‫الوجوب أو عدم الوجوب فالواجب العمل به ما مل يعارضه ما هو أقوى وهذا عند النفي جيب‬

‫‪19‬‬
‫التحرز فيه أكثر فلينظر عند التعارض أقوى الدليلني يعمل به قال ‪ :‬وعندان أنه إذا استدل على عدم‬
‫وجوب شيء بعدم ذكره يف احلديث وجاءت صيغة األمر به يف حديث آخر فاملقدم صيغة األمر‬
‫وإن كان ميكن أن يقال احلديث دليل على عدم الوجوب وحيمل صيغة األمر على الندب مث ضعفه‬
‫أبنه إمنا يتم إذا كان عدم الذكر يف الرواية يدل على عدم الذكر يف نفس األمر وليس كذلك فإن‬
‫عدم الذكر إمنا يدل على عدم الوجوب وهو غري عدم الذكر يف نفس األمر فيقدم ما دل على‬
‫الوجوب ألنه إثبات لزايدة يتعني العمل هبا ‪ -‬مث قال الشوكاين رمحه هللا تعاىل معلقا على كالم ابن‬
‫دقيق هذا ‪ -‬والوظائف اليت أرشد إليها قد امتثلنا رمسه فيها فجمعنا من طرق هذا احلديث يف هذا‬
‫الشرح عند الكالم على مفرداته ما تدعو احلاجة إليه وتظهر لالختالف يف ألفاظه مزيد فائدة‬
‫وعملنا ابلزائد فالزائد من ألفاظه فوجدان اخلارج عما اشتمل عليه حديث الباب ‪ .‬الشهادتني بعد‬
‫الوضوء ‪ .‬وتكبري االنتقال ‪ .‬والتسميع ‪ .‬واإلقامة ‪ .‬وقراءة الفاحتة ‪ .‬ووضع اليدين على الركبتني حال‬
‫الركوع ‪ .‬ومد الظهر ‪ .‬ومتكني السجود ‪ .‬وجلسة االسرتاحة ‪ .‬وفرش الفخذ ‪ .‬والتشهد األوسط ‪.‬‬
‫واألمر ابلتحميد وال تكبري والتهليل والتمجيد عند عدم استطاعة القراءة ‪ .‬وقد تقدم الكالم على‬
‫مجيعها إال التشهد األوسط وجلسة االسرتاحة وفرش الفخذ فسيأيت الكالم على ذلك ‪ .‬واخلارج عن‬
‫مجيع ألفاظه من الواجبات املتفق عليها كما قال احلافظ والنووي النية ‪ .‬والقعود األخري ‪ .‬ومن‬
‫املختلف فيها التشهد األخري والصالة على النيب صلى هللا عليه وسلم فيه ‪ .‬والسالم يف آخر الصالة‬
‫‪ .‬وقد قدمنا الكالم على النية يف الوضوء وسيأيت الكالم على الثالثة األخرية ‪ .‬وأما قوله أهنا تقدم‬
‫صيغة األمر إذا جاءت يف حديث آخر واختياره لذلك من دون تفصيل فنحن ال نوافقه بل نقول‬
‫إذا جاءت صيغة أمر قاضية بوجوب زائد على ما يف هذا احلديث فإن كانت متقدمة على َترخيه‬
‫كان صارفا هلا إىل الندب ألن اقتصاره صلى هللا عليه وسلم يف التعليم على غريها وتركه هلا من‬
‫أعظم املشعرات بعدم وجوب ما تضمنته ملا تقرر من أن أتخري البيان عن وقت احلاجة ال جيوز وإن‬
‫كانت متأخرة عنه فهو غري صاحل لصرفها ألن الواجبات الشرعية ما زالت تتجدد وقتا فوقتا وإال لزم‬
‫قصر واجبات الشريعة على اخلمس املذكورة يف حديث ضمام بن ثعلبة وغريه أعين الصالة والصوم‬
‫واحلج والزكاة والشهادتني ألن النيب صلى هللا عليه وسلم اقتصر عليها يف مقام التعليم والسؤال عن‬
‫مجيع الواجبات والالزم ابطل فامللزوم مثله ‪ .‬وإن كانت صيغة األمر الواردة بوجوب زايدة على هذا‬
‫احلديث غري معلومة التقدم عليه وال التأخر وال املقارنة فهذا حمل اإلشكال ومقام االحتمال واألصل‬

‫‪20‬‬
‫عدم الوجوب والباءة منه حىت يقوم دليل يوجب االنتقال عن األصل والباءة وال شك أن الدليل‬
‫املفيد للزايدة على حديث املسيء إذا التبس َترخيه حمتمل لتقدمه عليه وأتخره فال ينتهض‬
‫لالستدالل به على الوجوب وهذا التفصيل ال بد منه وترك مراعاته خارج عن االعتدال إىل حد‬
‫اإلفراط أو التفريط ألن قصر الواجبات على حديث املسيء فقط وإهدار األدلة الواردة بعده ختيال‬
‫لصالحيته لصرف كل دليل يرد بعده داال على الوجوب سد لباب التشريع ورد ملا جتدد من واجبات‬
‫الصالة ومنع للشارع من إجياب شيء منها وهو ابطل ملا عرفت من جتدد الواجبات يف األوقات ‪،‬‬
‫والقول بوجوب كل ما ورد األمر به من غري تفصيل يؤدي إىل إجياب كل أقوال الصالة وأفعاهلا اليت‬
‫ثبتت عنه صلى هللا عليه وآله وسلم من غري فرق بني أن يكون ثبوهتا قبل حديث املسيء أو بعده‬
‫ألهنا بيان لألمر القرآين أعين قوله تعاىل {أقيموا الصالة } ولقوله صلى هللا عليه وآله وسلم ( صلوا‬
‫كما رأيتموين أصلي ) وهو ابطل الستل زامه أتخري البيان عن وقت احلاجة وهو ال جيوز عليه صلى‬
‫هللا عليه وآله وسلم ‪ ،‬وهكذا الكالم يف كل دليل يقضي بوجوب أمر خارج عن حديث املسيء‬
‫ليس بصيغة األمر كالتوعد على الرتك أو الذم ملن مل يفعل ‪ .‬وهكذا يفصل يف كل دليل يقتضي عدم‬
‫وجوب شيء مما اشتمل عليه حديث املسيء أو حترميه إن فرضنا وجوده ) ا‪.‬ه ‪ .‬كالمه رمحه هللا‬
‫تعاىل ‪ .‬وعليه فإنه ال غىن لطالب العلم عن النظر يف هذا احلديث وال غىن له عن النظر يف مجيع‬
‫رواايته وألفاظه ‪ ،‬والنظر فيها صحة وضعفا فما ورد فيه من األوامر فإنه واجب ‪ ،‬ما مل يرد منها‬
‫فأنه ينظر فإن ورد به األمر يف غريه فهو واجب ‪ ،‬وإال فيقال فيه إنه سنة ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫السادس عشر ‪ :‬اعلم رمحك هللا تعاىل أن الواجب على اجلاهل ابحلكم الشرعي أن يسأل أهل‬
‫العلم به ‪ ،‬فال جيوز له اإلقدام على ما ال يدري عن حقيقة حاله من األمور ‪ ،‬بل ال بد وجواب من‬
‫سؤال أهل العلم عن احلكم الشرعي يف املسائل الشرعية‪ ،‬فمن فعل األمر على عواهنه كيفما اتفق‬
‫من غري سؤال أهل العلم مع قدرته على الوصول هلم وسؤاهلم ‪ ،‬فإنه آمث يستحق العقوبة التعزيرية اليت‬
‫تردعه وأمثاله عن اللعب ابلشريعة ‪ ،‬فإن قلت ‪ -:‬من أين أتيت هبذا الوجوب ؟ فأقول ‪ -:‬أتينا به‬
‫اسأَلُواْ أ َْه َل ال هِذ ْك ِر إِن ُكنتُ ْم الَ تَ ْعلَ ُمو َن ‪ ‬فقوله " فاسألوا " أمر واملتقرر‬
‫من قوله تعاىل وتقدس ‪ ‬فَ ْ‬
‫أن األمر يفيد الوجوب إال لصارف ‪ ،‬وال صارف هنا ‪ ،‬بل األدلة الكثرية قد دلت على أمهية التعلم‬
‫ومدح العلم والتعليم ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫السابع عشر‪ :‬مما استدل به أهل العلم رمحهم هللا تعاىل على وجوب اخلتان قوله تعاىل ‪ُ ‬مثَّ أ َْو َحْي َنا‬
‫ك أ َِن اتَّبِ ْع ِملَّةَ إِبْ َر ِاه َيم َحنِي ًفا ‪ ‬واخلتان من ملة إبراهيم ‪ ،‬ففي الصحيح من حديث أِب هريرة‬
‫إِلَْي َ‬
‫رضي هللا عنه قال ‪ -:‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم " اختنت إبراهيم خليل الرمحن عليه السالم‬
‫بعدما أتت عليه مثانون ‪ ،‬واختنت ابلقدوم " فحيث كان اخلتان من ملة إبراهيم عليه وعلى نبينا‬
‫الصالة والسالم فيكون من مجلة الواجبات على هذه األمة ‪ ،‬ألن هللا تعاىل أمر نبيها أن يتبع ملة‬
‫إبراهيم ‪ ،‬واألمر يفيد الوجوب ‪ ،‬واخلتان من ملة إبراهيم فيكون واجبا ‪ ،‬واألمر للنيب صلى هللا عليه‬
‫ومسلم أمر له وألمته ‪ ،‬ألن املتقرر أن كل حكم ثبت يف حق النيب صلى هللا عليه وسلم فإنه يثبت‬
‫يف حق األمة تبعا إال بدليل االختصاص ‪ ،‬وهذا استدالل صحيح إن شاء هللا تعاىل ‪ ،‬فانظر كيف‬
‫استفاد أهل العلم رمحهم هللا تعاىل الوجوب من األمر يف قول هللا تعاىل ‪ ‬أ َِن اتَّبِ ْع ِملَّةَ إِبَْر ِاه َيم َحنِي ًفا‬
‫‪ ‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫الفرع الثامن عشر ‪ :‬قال النووي رمحه هللا تعاىل يف شرحه على صحيح مسلم رمحه هللا تعاىل وهو‬
‫يتكلم عن حكم اغتسال العائن للمعني ‪ ،‬أي املصاب ابلعني ‪ ،‬فقال رمحه هللا تعاىل (وقد اختلف‬
‫العلماء ىف العائن هل جيب على الوضوء للمعني أم ال واحتج من أوجبه بقوله صلى هللا عليه وسلم‬
‫يف رواية مسلم هذه وإذا استغسلتم فاغسلوا وبرواية املوطأ الىت ذكرانها أنه صلى هللا عليه وسلم أمره‬
‫ابلوضوء واألمر للوجوب قال املازري والصحيح عندي الوجوب ويبعد اخلالف فيه إذا خشي على‬
‫املعني اهلالك وكان وضوء العائن مما جرت العادة ابلبء به أو كان الشرع أخب به خبا عاما ومل يكن‬
‫زوال اهلالك إال بوضوء العائن فانه يصري من ابب من تعني عليه إحياء نفس مشرفة على اهلالك وقد‬
‫تقرر أنه جيب على بذل الطعام للمضطر فهذا أوىل وهبذا التقرير يرتفع اخلالف فيه هذا آخر كالم‬
‫املازري) قلت ‪ -:‬واحلق هو الوجوب ‪ ،‬فمن حتقق اهتامه ابلعني وأن هو املتسبب إبصابة هذا‬
‫الشخص املعني ‪ ،‬فإنه جيب عليه عند طلب اغتساله أن يباشر ويغسل بعض بدنه ‪ ،‬ألن قوله "‬
‫فاغتسلوا " هذا أمر ‪ ،‬وقد تقرر يف األصول أن األمر املطلق عن القرينة يفيد الوجوب ‪ ،‬وال نعلم‬
‫صارفا يصرف هذا األمر عن اببه إىل االستحباب ‪ ،‬بل أتيد هذا األمر ابألحاديث والنصوص‬
‫الكثرية املفيدة لكف األذى وبذل الندى والتعاون على الب والتقوى وإنقاذ النفس املعصومة من‬
‫اهللكة ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫التاسع عشر ‪ :‬قوله صلى هللا عليه وسلم (( صلوا كما رأيتموين أصلي )) رواه البخاري ‪ ،‬فيه أمر‬
‫وهو قوله ( صلوا ) فيحمل ذلك األمر على الوجوب ‪ ،‬فكل فعل فعله النيب صلى هللا عليه وسلم‬
‫يف الصالة فإنه واجب إال ما دلت القرائن على أنه سنة فيخرج من هذا العموم ‪ ،‬ويبقى ابقي‬
‫األفعال واألقوال على الوجوب هلذا األمر ‪ ،‬وكذلك حديث املسيء صالته خرج خمرج األمر فقال‬
‫صلى هللا عليه وسلم له (( أسبغ الوضوء مث استقبل القبلة فكب مث اقرأ ما تيسر معك من القرآن…‬
‫اخل )) كل ذلك خرج بصيغة األمر فيحمل على الوجوب إال فيما وردت فيه قرينة تصرفه عن اببه‬
‫إىل الندب فيحمل على الندب ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫الفرع املويف للعشرين ‪ :‬قوله صلى هللا عليه وسلم (( خذوا عين مناسككم )) دليل على أن كل‬
‫شيء فعله صلى هللا عليه وسلم يف حجة الوداع أنه للوجوب ألمره أبخذه ‪ ،‬واألمر للوجوب إال فيما‬
‫وردت القرائن بصرفه عن اببه إىل الندب فيحمل عليه ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫وه ْم إ ْن َعلِ ْمتُ ْم فِي ِه ْم َخ ْ ًريا ‪ ‬دليل على وجوب‬ ‫ِ‬
‫احلادي والعشرون ‪ :‬قوله تعاىل يف العبيد ‪ ‬فَ َكاتبُ ُ‬
‫مكاتبة السيد عبده إن علم فيه قدرة على الكسب والعمل حىت يؤدي ما عليه ‪ ،‬لكن هذا األمر‬
‫وه ْم ‪ ‬ليس على اببه وهو الوجوب ؛ ألنه دلت القرينة على أنه للندب‬ ‫ِ‬
‫أعين قوله تعاىل ‪ ‬فَ َكاتبُ ُ‬
‫أيضا كاتبوا‬
‫وذلك ألن النيب صلى هللا عليه وسلم بعد هذا األمر مل يكاتب عبيده ‪ ،‬وال الصحابة ً‬
‫اجبا المتثلوه أمت امتثال ‪ ،‬لكن عدم امتثاهلم صرف األمر من الوجوب إىل‬
‫عبيدهم ‪ ،‬فلو كان األمر و ً‬
‫االستحباب ‪ ،‬فتكون مكاتبة السيد لعبده ابلشرط املذكور يف اآلية مستحبة ال واجبة ‪.‬‬
‫الثاين والعشرون ‪ :‬قوله صلى هللا عليه وسلم (( إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن‬
‫يدخلهما يف اإلانء ثالاثً فإنه ال يدري أين ابتت يده )) فقوله ( فليغسل ) صيغة من صيغ األمر‬
‫وهو الفعل املضارع املقرون بالم األمر ‪ ،‬فيدل على أن غسل اليدين بعد االستيقاظ من نوم الليل‬
‫خاصة واجب ثال ًاث ‪ ،‬ألن األمر املطلق عن القرائن يفيد الوجوب إال بقرينة‪ ،‬ومل أتت قرينة تصرف‬
‫هذا األمر عن اببه ‪ ،‬فقلنا أنه يفيد الوجوب ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫الثالث والعشرون ‪ :‬القول الصحيح إن شاء هللا تعاىل هو أن الويل جيب عليه أمر من حتت يده من‬
‫الصغار ابلصالة إن بلغوا سبع سنني ‪ ،‬وجيب عليه عقوبتهم على تركها إن بلغوا عشر سنني وجيب‬
‫عليه كذلك التفريق بينهم يف املضاجع ‪ ،‬أي يف األماكن اليت ينامون فيها ‪ ،‬وهذا األمر من الواجبات‬

‫‪23‬‬
‫يف حق الويل ‪ ،‬وبرهان هذا اإلجياب قوله صلى هللا عليه وسلم " مروا أوالدكم ابلصالة وهم أبناء‬
‫سبع سنني واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنني‪ ،‬وفرقوا بينهم يف املضاجع " واحلديث سنده جيد‬
‫‪ ،‬فقوله " مروا " وقوله " واضربوهم " وقوله " وفرقوا " هذه كلها أوامر واملتقرر يف لفظ األمر أنه‬
‫يفيد الوجوب إال لصارف ‪ ،‬وال نعلم صارفا لألمر هنا عن اببه إىل الندب ‪ ،‬وحيث ال صارف ‪،‬‬
‫فاألصل هو البقاء على األصل حىت يرد الناقل ‪ ،‬وهللا تعاىل أعلى وأعلم ‪.‬‬
‫الرابع والعشرون ‪ :‬لقد تقرر عند أهل العلم رمحهم هللا تعاىل أن األعمال ال تقبل إال بشرطي‬
‫اإلخالص واملتابعة ‪ ،‬فاإلخالص واملتابعة مها شرطا قبول العمل ‪ ،‬ألن هللا تعاىل أمر هبما ‪ ،‬وأمر هبما‬
‫النيب صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬واألمر يفيد الوجوب ‪ ،‬قال تعاىل ‪ ‬وما أ ُِمروا إَِّال لِي عب ُدوا َّ ِ ِ‬
‫ني لَهُ‬
‫الِلَ خمُْلص َ‬ ‫َ ُْ‬ ‫ََ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين ُحنَ َفاء ‪ ‬وقال تعاىل ‪ ‬قُ ْل إِن ُكنتُ ْم ُحتُّبو َن ه‬
‫الِلَ فَاتَّبِ ُع ِوين ُْحيِبْب ُك ُم ا هلِلُ ‪ ‬وقال تعاىل ‪َ ‬واتَِّب ُعوهُ‬ ‫ال هد َ‬
‫لَ َعلَّ ُك ْم َهتْتَ ُدو َن ‪ ‬والنصوص يف هذا املعىن كثرية ‪ ،‬وكلها مما يفيد أن اإلخالص واملتابعة من أهم‬
‫واجبات العمل ‪ ،‬ومها شرطان متالزمان يف كل عبادة ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫اخلامس والعشرون ‪ :‬قال عبدالعزيز خباري رمحه هللا تعاىل يف كشف األسرار عن أصول الفخر‬
‫البزدوي رحم هللا اجلميع رمحة واسعة ‪ ،‬وهو يتكلم عن حكم قتال البغاة من اخلوارج وغريهم قال‬
‫رفع هللا درجته يف الفردوس األعلى ( قوله ‪ -‬أي البزدوي ‪ " -‬ووجبت اجملاهدة حملاربتهم" أي ألجل‬
‫حماربتهم يعين إمنا وجبت مقاتلتهم بطريق الدفع ال أن جتب ابتداء كما جتب مقاتلة الكفار فإن عليا‬
‫رضي هللا عنه قال للخوارج يف خطبته ولن نقاتلكم حىت تقاتلوان يعين حىت تعزموا على القتال‬
‫ابلتجمع والتحيز عن أهل العدل فدل أهنم ما مل يعزموا على اخلروج ال يتعرض هلم ابلقتل واحلبس‬
‫فإذا جتمعوا وعزموا على اخلروج وجب على كل من يقوى على القتال أن يقاتلهم مع إمام املسلمني‬
‫ُخَرى فَ َقاتِلُوا الَِّيت تَْبغِي َح َّىت تَِفيءَ إِ َىل أ َْم ِر َّ‬
‫الِلِ ‪ ‬واألمر‬ ‫ت إِ ْح َد ُامهَا َعلَى ْاأل ْ‬
‫لقوله تعاىل ‪ ‬فَِإ ْن بَغَ ْ‬
‫للوجوب وألهنم قصدوا أذى املسلمني وهتييج الفتنة وإماطة األذى وتسكني الفتنة من أبواب الدين‪.‬‬
‫وخروجهم معصية ففي القيام بقتاهلم هني عن املنكر وهو فرض) قلت ‪ -:‬وما قاله حق ‪ ،‬وهو‬
‫مذهب أهل السنة رمحهم هللا تعاىل ‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫السادس والعشرون ‪ :‬القول الصحيح أن غسل اإلانء من ولوغ الكلب سبعا إحداها برتاب من‬
‫الواجبات ‪ ،‬ألن النيب صلى هللا عليه وسلم قال " فليغسله سبعا أوالهن ابلرتاب " والصحيح أن إراقة‬
‫املاء من اإلانء الذي ولغ فيه الكلب من الواجبات أيضا ‪ ،‬ألن النيب صلى هللا عليه وسلم أمر إبراقته‬
‫‪24‬‬
‫فقال " فلريقه ‪ ،‬مث ليغسله سبع مرات " فهذه األوامر ال بد وأن حيكم هلا مبا هو متقرر يف ابب‬
‫األمر ‪ ،‬من أن األمر يفيد الوجوب إال لصارف ‪ ،‬وال ن علم صارفا يصح أن يعتمد عليه يف هذا‬
‫الباب ‪ ،‬فحيث ال صارف فاألصل هو البقاء على األصل حىت يرد الناقل ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫السابع والعشرون ‪ :‬القول الصحيح أن الذابب إن وقع يف الشراب وأراد صاحبه الشرب منه فإنه‬
‫جيب عليه لزاما أن يغمس ا لذابب كله فيه ‪ ،‬مث يطرحه خارجا ‪ ،‬وقلنا ابلوجوب ألن النيب صلى هللا‬
‫عليه وسلم قال " إذا وقع الذابب يف شراب أحدكم فليغمسه كله ‪ ،‬مث ليطرحه ‪ ،‬فإن يف أحد‬
‫جناحيه شفاء ‪ ،‬ويف اآلخر داء " رواه البخاري ‪ ،‬وألِب داود " وإنه يتقي ِبناحه الذي فيه الداء ‪،‬‬
‫وال عبة مبن شكك يف صحة هذا احلديث أو استحى من ذكره أمام الناس ‪ ،‬فإن حق هذا الصنف‬
‫من الناس أن يغمس أنفه مع الذابب أو يغمس الذابب يف أنفه ‪ ،‬وليخسأ من يطعن فيما صح من‬
‫سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم من أجل خمالفته لعقله الذي هو أصال يف أسته وهللا املوفق‬
‫واهلادي ‪ ،‬وهو أعلى وأعلم ‪.‬واملهم أن قوله " فليغمسه كله " وقوله " مث ليطرحه " كلها أوامر ‪،‬‬
‫واألمر يفيد الوجوب ‪ ،‬وال صارف هنا يصرف األمر من الوجوب إىل االستحباب وهللا أعلم ‪.‬‬
‫الثامن والعشرون ‪ :‬قال الشيخ حممد بن عثيمني رمحه هللا تعاىل يف الشرح املمتع يف حكم تذكري‬
‫اإلمام حال النسيان والسهو (مسألة‪ :‬هل جيب على املأموم أن يُنبهِه إمامه إذا قام إىل زائدة أو ال‬
‫سيت فذ هكُِروين» واألمر‬
‫النيب صهلى هللا عليه وسهلم «إذا ن ُ‬ ‫جيب؟اجلواب‪ :‬جيب أن هِ‬
‫ينب َهه‪ ،‬لقول ِه‬
‫للوجوب) وهللا أعلم ‪.‬‬
‫التاسع والعشرون‪ :‬القول الصحيح أن طواف الوداع من واجبات احلج ‪ ،‬فال جيوز لآلفاقي اخلروج‬
‫من احلرم ألهله بعد أداء فريضة احلج إال بعد أن يطوف ابلبيت سبعا ‪ ،‬وجيعله آخر أعماله ‪،‬‬
‫وبرهان هذا اإلجياب قول ابن عباس رصي هللا عنهما ‪ -:‬أمروا أبن يكون آخر عهدهم ابلبيت ‪ ،‬أي‬
‫الطواف ‪ ،‬إال أنه خفف عن احلائض ‪ ،‬فقوله " أمروا " يفيد الوجوب ‪ ،‬وال صارف هلذا األمر عن‬
‫اببه إىل الندب ‪ ،‬واألصل هو البقاء على األصل حىت يرد الناقل ‪ ،‬ويؤيده قول أم املؤمنني " كان‬
‫الناس يصدرون ‪-‬يعين يسافرون‪ -‬من فجاج مىن وعرفات ‪ .‬فأمروا أن جيعلوا آخر عهدهم ابلبيت‬
‫طوافا" فدل على أنه واجب ‪ ،‬وهذا مذهب مجهور العلماء رمحهم هللا ‪ .‬فال خيرج إال بعد أن يطوف‬
‫طواف الوداع ‪ ،‬هذا ابلنسبة هلذا النوع من الطواف أنه واجب ‪ ،‬ويكون وجوبه عند اخلروج عند‬
‫السفر والذهاب إىل البلد وهللا أعلم ‪.‬‬
‫‪25‬‬
‫الفرع املويف للثالثني‪ :‬اختلف أهل العلم يف األمر ابلغسل يوم اجلمعة هل هو للوجوب أو للندب‬
‫فذهب أهل الظا هر إىل وجوب الغسل يوم اجلمعة متمسكني بظاهر حديث " من أتى اجلمعة‬
‫فليغتسل " وبقوله صلى هللا عليه وسلم يف حديث أِب سعيد املتفق عليه " غسل اجلمعة واجب على‬
‫كل حمتلم " وحكاه ابن حزم عن عمر ومجع من الصحابة ‪.‬وذهب مجهور العلماء من السلف‬
‫واخللف وفقهاء األمصار إىل أن ه سنة مؤكدة ‪ ،‬وقال ابن عبد الب يف التمهيد (أمجع املسلمون قدمياً‬
‫وحديثاً على أن غسل اجلمعة ليس بفرض واجب ويف ذلك ما يكفي ويغين عن اإلكثار وال جيوز‬
‫على األمة أبسرها جهل معىن السنة ومعىن الكتاب وهذا مفهوم عند ذوي األلباب إال أن العلماء‬
‫مع إمجاعهم على أن غسل اجلمعة ليس بفرض واجب اختلفوا فيه هل هو مسنون لألمة أم هو‬
‫استحباب وفضل أو كان لعلة فارتفعت وليس بفرض ‪ ،‬فذهب مالك والثوري ومجاعة من أهل العلم‬
‫إىل أنه سنة مؤكدة ألهنا قد عمل هبا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم واخللفاء بعده واملسلمون‬
‫فاستحبوها وندبوا إليها وهذا سبيل السنن املذكورة فمن حجة من ذهب إىل هذا املذهب حديث‬
‫أِب هريرة رضي هللا عنه " من أغتسل يوم اجلمعة غسل اجلنابة مث راح فكأمنا قرب بدنة ‪..‬إخل‬
‫احلديث " ا‪.‬ه ‪ .‬قلت ‪ :‬ووجه االستدالل من هذا احلديث أن النيب صلى هللا عليه وسلم رتب عليه‬
‫فضالً ومن مل يفعل ذلك حرم الفضل فقط ومل يرتب عليه إمثاً يف تركه ‪ .‬ومما يستدل به على عدم‬
‫الوجوب ما رواه البخاري ومسلم وغريمها من إنكار عمر رضي هللا عنه على عثمان رضي هللا عنه‬
‫التأخر فقال ( إين شغلت فلم انقلب إىل أهلي حىت مسعت التأذين فلم أزد على أن توضأت فقال‬
‫عمر والوضوء أيضاً وقد علمت أن النيب صلى هللا عليه وسلم كان أيمر ابلغسل ) أما وجه الداللة‬
‫منه فالذي يظهر أن عمر رضي هللا عنه إمنا احتج على عثمان رضي هللا عنه يف ترك سنة مع أنه من‬
‫السابقني ومل حيتج عليه يف ترك فرض قال النووي (وفيه إشارة إىل أنه إمنا ترك الغسل ألنه يستحب ‪،‬‬
‫فرأى اشتغا له بقصد اجلمعة أوىل من أن جيلس للغسل بعد النداء وهلذا مل أيمره عمر رضي هللا عنه‬
‫ابلرجوع للغسل ) وقال أيضاً ( واحتج اجلمهور أبحاديث صحيحة منها حديث الرجل الذي دخل‬
‫وعمر خيطب وقد ترك الغسل وقد ذكره مسلم وهذا الرجل هو عثمان بن عفان ووجه الداللة أن‬
‫عثمان فعله وأقره عمر وحاضروا اجلمعة وهم أهل احلل والعقد ولو كان واجباً ملا تركه وأللزموه )ا‪.‬ه ‪.‬‬
‫يعين أللزموه ابلرجوع لالغتسال ومن هذا يتبني للناظر أن غسل اجلمعة ليس فرضاً وال شرطاً يف‬
‫صحة اجلمعة وإمنا هو سنة يثاب من فعلها وال يعاقب من تركها ‪ ،‬ومن األدلة على أنه ليس بواجب‬
‫‪26‬‬
‫أيضا قوله صلى هللا عليه وسلم يف حديث احلسن عن مسرة " من توضأ يوم اجلمعة فبها ونعمت‬
‫ومن اغتسل فالغسل أفضل " وهو حديث حسن ‪ ،‬ومن الصوارف أيضا ما رواه مسلم يف الصحيح‬
‫من قوله صلى هللا عليه وسلم " من توضأ مث أتى اجلمعة ‪ ...‬احلديث " وهو نص يف املوضوع ‪ ،‬ومن‬
‫ادع ى أن لفظة " من توضأ " لفظة شاذة فإنه مطالب الدليل الدال على صحة هذه الدعوى ‪،‬‬
‫واملهم أن القول الصحيح يف هذه املسألة هو أن غسل يوم اجلمعة سنة متأكدة وليس بفريضة واجبة‬
‫‪ ،‬وأما حديث " غسل يوم اجلمعة واجب على كل حمتلم " فإن الوجوب هنا معناها التأكد‪ ،‬فهو‬
‫سنة مؤكدة ‪ ،‬مجعا بني األدلة ‪ ،‬فلو مل تكن تلك الصوارف لقلنا إن صيغة األمر الواردة يف غسل يوم‬
‫اجلمعة تفيد الوجوب ‪ ،‬ولكن ملا ورد الصارف قلنا أبن هذه الصيغة مصروفة من الوجوب إىل الندب‬
‫‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫احلادي والثالثون ‪ :‬اختلف أهل العلم رمحهم هللا تعاىل يف األمر ابإلسراع ابجلنازة الوارد يف قوله‬
‫صلى هللا عليه وسلم " اسرعوا ابجلنازة ‪ ،‬فإهنا إن تك صاحلة فخري تقدموهنا إليه ‪ ،‬وإن تك غري‬
‫ذلك فشر تضعونه عن رقابكم " متفق عليه ‪ ،‬فقوله " أسرعوا " هل يفيد الندب أو الوجوب ؟ فيه‬
‫خالف ‪ ،‬فذهب اجلمهور إىل أنه للندب ‪ ،‬وذهب الظاهرية وبعض أهل العلم إىل أنه يفيد الوجوب‬
‫‪ ،‬واألقرب إن شاء هللا تعاىل أنه للوجوب ‪ ،‬ألن املتقرر يف القواعد أن األمر املتجرد عن القرينة يفيد‬
‫الوجوب ‪ ،‬وال أ علم هلذا األمر صارفا عن اببه إىل االستحباب ‪ ،‬وحيث ال صارف فاألصل هو‬
‫البقاء على األصل حىت يرد الناقل ‪ ،‬وأنت خبري أبن مذهب اجلمهور ال يصلح أن يكون من‬
‫الصوارف كما قدمنا لك ‪ ،‬وأنت خبري أيضا أبن ورود األمر يف ابب اآلداب أيضا ال يصلح أن‬
‫يكون من الصوارف له عن الوجوب إىل االستحباب ‪ ،‬بل السلف رمحهم هللا تعاىل طبقوا هذا األمر‬
‫تطبيقا عمليا ‪ ،‬فكانوا يسرعون ابجلنازة ‪ ،‬ولكن ليس هو اإلسراع الذي يشني ابلرجل ‪ ،‬وخياف منه‬
‫على اجلنازة من السقوط ‪ ،‬بل هو اإلسراع قليال مبا دون اخلبب ‪ ،‬وهلذا قال ابن دقيق العيد وذلك‬
‫حبيث ال ينتهي اإلسراع إىل شدة خياف منها حدوث مفسدة ابمليت وقد جعل هللا لكل شيء قدراً‬
‫‪ ،‬وهو ما يفعله املسلمون يف األقطار ‪ ،‬فإهنم يسرعون إذا محلوا اجلنازة تطبيقا هلذا احلديث ‪ ،‬قال‬
‫األلباين رمحه هللا تعاىل (قلت ‪ :‬ظاهر األمر الوجوب وبه قال ابن حزم ومل جند دليال يصرفه إىل‬
‫االستحباب فوقفنا عنده ) وقال ابن القيم يف زاد املعاد ( وأما دبيب الناس اليوم خطوة خطوة فبدعة‬
‫مكروهة خمالفة للسنة ومتضمنة للتشبه أبهل الكتاب ‪ :‬اليهود ) وهللا أعلم ‪.‬‬
‫‪27‬‬
‫الثاين والثالثون ‪ :‬قال النيب صلى هللا عليه وسلم " مطل الغين ظلم ‪ ،‬ومن أحيل على مليء‬
‫فليحتل" وهو ما يسميه أهل العلم رمحهم هللا تعاىل بعقد احلوالة ‪ ،‬وهي نقل الدين من ذمة املدين‬
‫إىل ذمة مدين آخر ‪ ،‬مبعىن أن زيدا مثال استدان مين عشرة آالف رايل ‪ ،‬وملا حل وقت السداد‬
‫أحالين زيد يف سدادها على عمرو ‪ ،‬ألن زيدا له عند عمرو عشرة آالف رايل فإن حولين زيد على‬
‫عمرو ألستويف احلق منه ‪ ،‬فهل جيب علي التحول ‪ ،‬مبعىن أنه ال جيوز يل أن أطلب زيدا بعد هذا‬
‫التحويل مبا عليه من الدين ‪ ،‬هذا ه و احلوالة ‪ ،‬اليت ينص عليها الفقهاء رمحهم هللا تعاىل يف كتبهم ‪،‬‬
‫وإمنا شرحتها لك حىت تفهم ما الذي نتكلم عنه ‪ ،‬إذا علمت هذا ‪ ،‬فهل األمر يف قوله "فليحتل"‬
‫يفيد الوجوب ‪ ،‬أو ال يفيد إال الندب ؟ اختلف العلماء يف هذا األمر فذهبت الظاهرية إىل وجوب‬
‫ذلك على من أحيل عل ى مليء أي وجوب قبول احلوالة وذهب اجلمهور من الفقهاء إىل أنه أمر‬
‫ن دب ملا فيه من اإلحسان إىل احمليل لتحصيل مقصوده وهو حتويل احلق عنه واإلحسان ال جيب‬
‫فكان مندوابً ‪ ،‬ولكن القول الصحيح إن شاء هللا تعاىل هو القول ابلوجوب ‪ ،‬ولكنه مشروط‬
‫بشروط مذكورة يف كتب الفقه ‪ ،‬منها ‪ -:‬أن يكون احملال عليه واجدا للسداد‪ ،‬الثاين‪ -:‬أن يكون‬
‫ابذال للحق من حني طلبه ‪ ،‬فال يكون معروفا ابملماطلة والتالعب ‪ ،‬الثالث ‪ -:‬أن يكون الدين يف‬
‫ذمة احملال عليه بقدر الدين الذي يف ذمة احمليل ‪ ،‬أو أزيد ‪ ،‬املهم أنه ال يكون أنقص ‪ ،‬فإن قلت‬
‫‪ -:‬وهل ال بد من رضا احملال ‪ ،‬واحملال عليه ؟ فأقول‪ -:‬إن عملية احلوالة ال يشرتط فيها إال رضا‬
‫احمليل فقط ‪ ،‬وهو يف مثالنا السابق ( زيد ) وأما احملال‪ ،‬وهو يف املثال ( أان ) أو احملال عليه ‪ ،‬وهو‬
‫يف املثال ( عمرو ) فإنه ال يشرط رضاان ‪ ،‬بل جيب على احملال واحملال عليه قبول هذه احلوالة وعدم‬
‫النقاش فيها فيما إن كانت شروطها متوفرة ‪ ،‬ألن األمر يف قوله "فليتبع" أمر وجوب ‪ ،‬إذ ال صارف‬
‫له عن اببه إىل الندب ‪ ،‬وال حق للمحال أن يعارض يف أمر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬وال‬
‫حق للمحال عليه أن يناقش يف هذه احلوالة فيقبلها أو يرفضها ألن األمر مفصول من قبل الشرع ‪،‬‬
‫وال خرية هلما فيه ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫الثالث والثالثون ‪ :‬أقول ‪ -:‬قال النيب صلى هللا عليه وسلم " إذا أتى أحدكم أهله مث أراد أن يعود‬
‫فليتوضأ " ويف رواية " فإنه أنشط للعود " فهل األمر يف قوله " فليتوضأ " على الوجوب مبعىن أنه ال‬
‫جيوز له اجلماع الثاين إال بعد أن يتوضأ ‪ ،‬أو أن األمر على الندب واالستحباب ؟ فيه خالف ‪ ،‬قال‬
‫املباركفوري رمحه هللا تعاىل يف التحفة (اختلف العلماء يف الوضوء بينهما فقال أبو يوسف ال‬
‫‪28‬‬
‫يستحب وقال اجلمهور يستحب وقال بن حبيب املالكي وأهل الظاهر جيب ‪ ،‬وقال اجلمهور إن‬
‫األمر ابلوضوء يف هذا احلديث لالستحباب ال للوجوب ‪ ،‬واستدلوا على ذلك مبا رواه الطحاوي عن‬
‫عائشة قالت كان النيب صلى هللا عليه وسلم جيامع مث يعود وال يتوضأ واستدل بن خزمية على أن‬
‫األمر فيه ابلوضوء للندب مبا رواه يف هذا احلديث فقال "فإنه أنشط للعود" فدل على أن األمر‬
‫لإلرشاد أو للندب وحديث الباب حجة على أِب يوسف ) واألقرب عندي يف هذه املسألة إن شاء‬
‫هللا تعاىل هو ما ذهب له اجلمهور ‪ ،‬وهو أن األمر يف هذا احلديث ليس على اببه الذي هو‬
‫الوجوب والتحتم ‪ ،‬وإمنا هو الندب املؤكد ‪ ،‬والصارف لألمر عن اببه عدة أشياء ‪ ،‬األول ‪ -:‬أنه‬
‫قال " فإنه أنشط للعود " ويفهم من هذا أن من كان قواي ابألصالة لشدة الرغبة وقوة الطبع ‪ ،‬فإنه‬
‫ال حيتاج إىل الوضوء بينهما ‪ ،‬النتفاء العلة يف حقه ‪ ،‬فإنه أصال نشيط ‪ ،‬وال حيتاج إىل ما يزيد يف‬
‫ن شاطه ‪ ،‬وهذا يفيد أن األمر للندب ال للوجوب ‪ ،‬إذ لو كان للوجوب لوجب على اجلميع ‪ ،‬الثاين‬
‫‪ -:‬أنه ثبت عنه صلى هللا عليه وسلم أنه أتى نساءه مجيعا بغسل واحد ‪ ،‬واحلديث صحيح ‪،‬‬
‫وظاهر هذا احلديث أنه مل يتوضأ بني اجلماعني ‪ ،‬مع أنه ليس يف احلديث ما ينفيه ‪ ،‬ولكن الظاهر‬
‫ال يدل عليه ‪ ،‬فلهذا قلنا ‪ -:‬أبن األمر هنا للندب ال للوجوب ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫الرابع والثالثون ‪ :‬األمر يف قول النيب صلى هللا عليه وسلم " إذا رأيتم اجلنازة فقوموا " فهل األمر‬
‫هنا للوجوب أو الندب؟ أقول‪ -:‬فيه خالف بني أهل العلم رمحهم هللا تعاىل على أقوال والقول‬
‫الصحيح منها إن شاء هللا تعاىل أن القيام هلا ليس للوجوب ‪ ،‬بل هو للندب ‪ ،‬وذلك ألن النيب‬
‫صلى هللا عليه وسلم كان أيمر ابلقيام هلا ‪ ،‬مث قعد وأمر ابلقعود ‪ ،‬وهذا ليس نسخا لكل أحاديث‬
‫األمر ابلقيام ‪ ،‬بل هو ن سخ للوجوب فقط ‪ ،‬واملتقرر أنه إن نسخ الوجوب ثبت االستحباب ‪،‬‬
‫فالقيام هلا إمنا ن سخ وجوبه فقط ‪ ،‬وأما استحبابه فباق ‪ ،‬وقد ثبت عنه صلى هللا عليه وسلم القعود‬
‫مع مرور اجلنازة يف عدة أحاديث ‪ ،‬مما يفيد أن األمر ليس على الوجوب ‪ ،‬بل على االستحباب ‪،‬‬
‫قال اإلمام األلباين رمحه هللا تعاىل (والقيام هلا منسوخ‪ ،‬وهو على نوعني‪:‬‬
‫أ ‪ -‬قيام اجلالس إذا مرت به‪.‬‬
‫ب ‪ -‬وقيام املشيع هلا عند انتهائها إىل القب حىت توضع على االرض‪.‬والدليل على ذلك حديث‬
‫علي رضي هللا عنه‪ ،‬وله ألفاظ‪ :‬األول‪ " :‬قام رسول هللا صلى هللا عليه وسلم للجنازة فقمنا‪ ،‬مث‬
‫جلس فجلسنا "‪.‬أخرجه مسلم وابن ماجه والطحاوي والطيالسي وأمحد‪ ،‬الثاين‪ " :‬كان يقوم يف‬
‫‪29‬‬
‫اجلنائز‪ ،‬مث جلس بعد "رواه مالك وعنه الشافعي يف " األم " وأبو داود‪ ،‬الثالث‪ :‬من طريق واقد بن‬
‫عمرو بن سعد بن معاذ قال‪ " :‬شهدت جنازة يف بين سلمة‪ ،‬فقمت‪ ،‬فقال يل انفع بن جبري‪:‬‬
‫اجلس فإين سأخبك يف هذا بثبت‪ ،‬حدثين مسعود بن احلكم الزرقي أنه مسع علي بن أِب طالب‬
‫رضي هللا عنه برحبة الكوفة وهو يقول " كان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أيمران ابلقيام يف‬
‫اجلنازة‪ ،‬مث جلس بعد ذلك‪ ،‬وأمران ابجللوس " أخرجه الشافعي وأمحد والطحاوي وابن حبان يف "‬
‫صحيحه " هذا الوجه بلفظ آخر وهو‪ ،‬الرابع ‪ " :‬قام رسول هللا صلى هللا عليه وسلم مع اجلنائز حىت‬
‫توضع‪ ،‬وقام الناس معه‪ ،‬مث قعد بعد ذلك‪ ،‬وأمر هم ابلقعود "‪ .‬اخلامس‪ :‬من طريق إمساعيل بن‬
‫مسعود بن احلكم الزرقي عن أبيه قال " شهدت جنازة ابلعراق‪ ،‬فرأيت رجاال قياما ينتظرون أن‬
‫توضع‪ ،‬ورأيت علي ابن أِب طالب رضي هللا عنه يشري إليهم أن اجلسوا‪ ،‬فإن النيب صلى هللا عليه‬
‫وسلم قد أمران ابجللوس بعد القيام " أخرجه الطحاوي بسند حسن)ا‪.‬ه ‪ .‬كالمه رمحه هللا تعاىل‬
‫‪.‬واملراد ابلنسخ هنا ‪ ،‬نسخ الوجوب ال نسخ الندب ‪،‬وألن املتقرر أن اجلمع بني األدلة واجب ما‬
‫أمكن ‪ ،‬وأن ال يصار إىل النسخ مع إمكانية اجلمع بني األدلة ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫َجل ُّم َس ًّمى‬ ‫اخلامس والثالثون ‪ :‬قال هللا تبارك وتعاىل ‪َ ‬اي أَيُّ َها الذ َ‬
‫ين َآمنُواْ إ َذا تَ َدايَنتُم ب َديْن إ َىل أ َ‬
‫وه ‪ ‬فقوله " فاكتبوه " هذا أمر ‪ ،‬فهل هو للوجوب أو لالستحباب ؟ فيه خالف بني أهل‬ ‫فَا ْكتُ بُ ُ‬
‫العلم رمحهم هللا تعاىل ‪ ،‬قال الشيخ الشنقيطي رمحه هللا تعاىل يف أضواء البيان (ظاهر هذه اآلية‬
‫الكرمية أن كتابة الدين واجبة؛ ألن األمر من هللا يدل على الوجوب‪ .‬ولكنه أشار إىل أنه أمر إرشاد‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ال إجياب بقوله ‪َ ‬وإِ ْن ُكْن تُ ْم َعلَى َس َفر َوَملْ َجت ُدوا َكاتباً فَ ِرَها ٌن َم ْقبُ َ‬
‫وضةٌ ‪ ‬اآلية؛ ألن الرهن ال جيب‬
‫إمجاعا وهو بدل من الكتابة عند تعذرها يف اآلية فلو كانت الكتابة واجبة لكان بدهلا واجبا‪ .‬وصرح‬
‫ض ُك ْم بَ ْعضاً فَ ْليُ َؤهِد الَّ ِذي ْاؤُمتِ َن أ ََمانَتَهُ ‪ ‬اآلية‪ ،‬فالتحقيق أن األمر‬ ‫ِ‬
‫بعدم الوجوب بقوله ‪ ‬فَِإ ْن أَم َن بَ ْع ُ‬
‫يف قوله {فَا ْكتُبُوهُ} للندب واإلرشاد؛ ألن لرب الدين أن يهبه ويرتكه إمجاعا‪ ،‬فالندب إىل الكتابة فيه‬
‫إمنا هو على جهة احليطة للناس ) وهو األقرب إن شاء هللا تعاىل وهللا أعلم ‪.‬‬
‫السادس والثالثون ‪ :‬لقد وردت األدلة آمرة ابختاذ السرتة أمام املصلي ‪ ،‬فقال النيب صلى هللا عليه‬
‫وسلم " ليسترت أحدكم يف الصالة ولو بسهم " فهل األوامر يف هذه األحاديث الواردة يف هذا الباب‬
‫تفيد الوجوب أو االستحباب ؟ أقول ‪ ،‬فيه خالف بني أهل العلم رمحهم هللا تعاىل وقد سئل الشيخ‬
‫حممد بن عثيمني رمحه هللا تعاىل عن هذه املسألة فقال (السرتة للمأموم ليست مبشروعة ألن سرتة‬
‫‪30‬‬
‫اإلمام سرتٌة له وملن وراءه وأما لإلمام واملنفرد فهي مشروعة فيسن أن ال يصلي إال إىل سرتة ولكنها‬
‫ليست بواجبة على القول الراجح الذي عليه مجهور أهل العلم حلديث ابن عباس رضي هللا عنهما‬
‫أن النيب صلى هللا عليه وسلم كان يصلي يف مىن إىل غري جدار وكان راكباً على محار أَتن أي أنثى‬
‫فمر بني يدي بعض الصف فلم ينكر ذلك عليه أحد فقوله إىل غري جدار قال بعض أهل العلم إمنا‬
‫أراد رضي هللا عنه إىل غري سرتة ألن الغالب يف عهد الرسول صلى هللا عليه وسلم أن مىن ليس فيها‬
‫بناء وحلديث أِب سعيد " إذا صلى أحدكم إىل شيء يسرته من الناس فأراد أحد أن جيتاز بني يديه‬
‫فليدفعه" فقوله إذا صلى إىل شيء يسرته يدل على أن الصالة إىل السرتة ليست بالزمة وإال ملا‬
‫احتيج إىل القيد وعلى هذا فيكون األمر ابلسرتة أمراً للندب وليس للوجوب هذا هو القول الراجح‬
‫يف اختاذ السرتة وأما قول السائل هل يكفي اخلط فنقول إنه قد روي عن النيب صلى هللا عليه وسلم‬
‫أنه أمر ابختاذ السرتة وقال فإن مل جيد فليخط خطاً وهذا احلديث علله بعض العلماء وطعن فيه أبنه‬
‫مضطرب ولكن ابن حجر يف بلوغ املرام قال (مل يصب من زعم أنه مضطرب بل هو حسن) وهلذا‬
‫لو كان اإلنسان ليس عنده ما يكون شاخصاً جيعله سرتة فليخط خطاً وإذا مل يكن له سرتة فله حق‬
‫حق يف منع الناس من املرور به إال إذا كان‬ ‫مبقدار ما ينتهي إليه سجوده وما وراء ذلك فليس له ٌ‬
‫يصلي على سجادة أو حنوها فإن له احلق يف منع من مير على هذه السجادة) وهللا أعلم ‪.‬‬
‫الِلُ ‪ ‬هل األمر هنا يفيد‬ ‫وه َّن ِم ْن َحْي ُ‬
‫ث أ ََمَرُك ُم ه‬ ‫السابع والثالثون ‪ :‬قوله تعاىل ‪ ‬فَِإ َذا تَطَ َّه ْر َن فَأْتُ ُ‬
‫الوجوب أم ماذا ؟ واجلواب ‪ -:‬أن األمر هنا ال يفيد الوجوب وال الندب ‪ ،‬بل يفيد اإلابحة فقط ‪،‬‬
‫وذلك أنه قد تقرر يف األصول أن األمر بعد احلظر يفيد ما كان يفيده قبل احلظر واجلماع كان قبل‬
‫النهي عنه مباح ‪ ،‬مث حرم بسبب احليض ‪ ،‬مث عاد الشارع وأمر به بعد الطهر واالغتسال ‪ ،‬فهذا أمر‬
‫بعد منع ‪ ،‬واألمر بعد املنع يفيد اإلابحة ‪ ،‬وعليه ‪ -:‬فمن مجلة الصوارف لألمر عن اببه إىل اإلابحة‬
‫ادواْ ‪ ‬فإن الصيد كان حالال‬ ‫وروده بعد املنع ‪ ،‬كما هنا ‪ ،‬وكما يف قوله تعاىل ‪َ ‬وإِذَا َحلَْلتُ ْم فَ ْ‬
‫اصطَ ُ‬
‫يف األصل ‪ ،‬مث حرمه هللا تعاىل على احملرم ‪ ،‬مث عاد فأ مره هللا تعاىل به بعد حتلله من النسك ‪ ،‬فهو‬
‫أمر بعد منع ‪ ،‬واملتقرر أن األمر بعد املنع يفيد اجلواز فقط وكما يف قوله صلى هللا عليه وسلم "‬
‫كنت هنيتكم عن ادخار حلوم األضاحي من أجل الدافة ‪ ،‬أال فكلوا وادخروا " فقوله " وادخروا " أمر‬
‫بعد حظر ‪ ،‬أي منع ‪ ،‬فيفيد جواز االدخار فقط ‪ ،‬ألن ادخار شيء من حلم األضاحي كان مباحا‬
‫‪ ،‬مث منع من أجل الدافة ‪ ،‬وهم الفقراء من األعراب وغريهم ‪ ،‬مث عاد فأمر به مرة أخرى ‪ ،‬فال يفيد‬
‫‪31‬‬
‫بعد األمر به إال ما كان يفيده قبل النهي عنه وقد كان قبل النهي عنه مباحا ‪ ،‬فهو اآلن مباح ‪،‬‬
‫ت‬‫ضي ِ‬
‫ِ ِ‬
‫ألن املتقرر أن األمر بعد احلظر يفيد ما كان يفيده قبل احلظر ‪ ،‬وكما يف قوله تعاىل ‪ ‬فَإ َذا قُ َ‬
‫الِلِ ‪ ‬أي ابلبيع والشراء ‪ ،‬وقد كان هنى عنه قبل ذلك‬ ‫ض َوابْتَ غُوا ِمن فَ ْ‬
‫ض ِل َّ‬ ‫الص َال ُة فَانتَ ِشُروا ِيف ْاأل َْر ِ‬
‫َّ‬
‫بقوله ‪َ ‬وذَ ُروا الْبَ ْي َع ‪ ‬فالبيع هنا مأمور به ‪ ،‬ولكنه مأمور به من بعد منع ‪ ،‬فهو أمر بعد حظر ‪،‬‬
‫واألمر بعد احلظر يفيد ما كان يفيده قبل احلظر ‪ ،‬والبيع كان قبل املنع جائزا ‪ ،‬فهو بعد األمر به‬
‫كذلك مباح ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫الثامن والثالثون ‪ :‬سئل الشيخ حممد بن عثيمني رمحه هللا تعاىل عن حكم احللق أو التقصري ابلنسبة‬
‫للعمرة ؟ فأجاب بقوله (احللق أو التقصري ابلنسبة للعمرة واجب ألن النيب‪ ،‬صلى هللا عليه وسلم ملا‬
‫قدم مكة حجة الوداع وطاف وسعى أمر كل من مل يسق اهلدي أن يقصر مث حيلق فلما أمرهم أن‬
‫يقصروا واألصل يف األمر للوجوب دل على أنه البد من التقصري‪ ،‬ويدل لذلك أن النيب عليه الصالة‬
‫والس الم أمرهم حني أُحصروا يف غزوة احلديبية أمرهم أن حيلقوا حىت أنه صلى هللا عليه وسلم غضب‬
‫حني توانوا يف ذلك‪ ،‬وأما هل األفضل يف العمرة التقصري أو احللق فاألفضل احللق إال للمتمتع الذي‬
‫قدم متأخراً‪ ،‬فإن األفضل يف حقه التقصري من أجل أن يتوفر احللق للحج) وهو كما قال ‪ ،‬وهللا‬
‫أعلم ‪.‬‬
‫وه ْم ِيف‬ ‫ِ‬ ‫الِل صلَّى َّ ِ‬ ‫التاسع والثالثون ‪ :‬قال رس َ ِ‬
‫ُحد يف شأن الشهداء " َزهملُ ُ‬ ‫الِلُ َعَلْيه َو َسلَّ َم يَ ْوَم أ ُ‬ ‫ول َّ َ‬ ‫َُ‬
‫ال " رِمي رجل بِسهم ِيف ص ْد ِرهِ ‪ ،‬أَو ِيف ح ْل ِق ِ‬ ‫ِ ِِ‬
‫ِج ِيف‬
‫َ‬ ‫ر‬ ‫د‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫أ‬ ‫ف‬
‫َ‬ ‫ات‬
‫َ‬ ‫م‬‫َ‬ ‫ف‬
‫َ‬ ‫‪،‬‬ ‫ه‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫وع ْن َجابِر رضي هللا عنه قَ َ ُ َ َ ُ ٌ َ ْ‬ ‫ثيَاهب ْم " َ‬
‫الِلُ َعَلْي ِه َو َسلَّ َم " رواه أبو داود أقول ‪ -:‬اختلف‬ ‫صلَّى َّ‬ ‫ول َِّ‬
‫ال ‪ :‬وَْحنن مع رس ِ‬ ‫ِ ِِ‬
‫الِل َ‬ ‫ثيَابه َك َما ُه َو ‪ ،‬قَ َ َ ُ َ َ َ ُ‬
‫الفقهاء يف أمر النيب صلى هللا عليه وسلم بدفن الشهداء يف ثياهبم ‪ ،‬هل هو على سبيل االستحباب‬
‫واألولوية ‪ ،‬أم على سبيل الوجوب ؟ على قولني ‪ ،‬األول ‪ :‬أنه على سبيل االستحباب ‪ ،‬قال به‬
‫الشافعية وبعض احلنابلة ‪ ،‬قال النووي ( مث وليه ابخليار إن شاء كفنه مبا عليه ‪ ،‬وإن شاء نزعه وكفنه‬
‫بغريه ‪ ،‬وتركه أفضل ) وقال ابن قدامة ( وليس هذا حبتم ‪ ،‬لكنه األوىل ‪ ،‬وللويل أن ينزع عنه ثيابه‬
‫ويكفنه بغريه ا ) واستدلوا على عدم الوجوب مبا رواه أمحد عن الزبري أن أمه صفية ( وهي أخت‬
‫ِ‬ ‫محزة ) أتت يوم أحد بثوبني وقالت ‪ :‬ه َذ ِان ثَواب ِن ِجْئ ِِ ِ‬
‫ت هب َما ألَخي َمحَْزَة فَ َق ْد بَلَغَِين َم ْقتَ لُهُ فَ َك هفنُ ُ‬
‫وه‬ ‫ُ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬
‫يل قَ ْد فُعِ َل بِِه‬ ‫ني لِنُ َك هِفن فِي ِهما َمحزةَ فَِإذَا إِ َىل جْنبِ ِه رجل ِمن األَنْصا ِر قَتِ‬ ‫ال ‪ :‬فَ ِجْئ نَا ِابلثَّوبَْ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬‫ق‬ ‫‪،‬‬ ‫ا‬‫م‬ ‫فِي ِ‬
‫ه‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ي ال َك َف َن لَهُ ‪،‬‬ ‫صا ِر ُّ‬ ‫اض ًة و َحيَاء أَ ْن ن َك هِفن َمحَْزَة ِيف ثَوبَْ ِ‬
‫ني َواألَنْ َ‬ ‫َك َما فُعِ َل ِ َحب ْمَزَة ‪ ،‬قَ َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ض َ َ ً‬ ‫ال ‪ :‬فَ َو َج ْد َان َغ َ‬
‫‪32‬‬
‫ِ‬ ‫فَ ُق ْلنا ‪ِ :‬حلمزَة ثَو ِ‬
‫اآلخ ِر فَأَقْ َر ْعنَا بَْي نَ ُه َما فَ َك َّفنَّا‬
‫َح ُد ُمهَا أَ ْك ََب م ْن َ‬ ‫صا ِر ِهي ثَ ْو ٌ‬
‫ب فَ َق َد ْرَان ُمهَا فَ َكا َن أ َ‬ ‫ب َولألَنْ َ‬
‫َ َْ َ ْ ٌ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ص َار لَهُ ‪ .‬القول الثاين ‪ :‬أن األمر على سبيل الوجوب ‪ ،‬وهو‬ ‫ُك َّل َواحد مْن ُه َما ِيف الث َّْوب الَّذي َ‬
‫مذهب املالكية واحلنابلة واختاره ابن القيم والشوكاين‪ ،‬قال املرداوي ( والصحيح يف املذهب أنه جيب‬
‫دفنه يف ثيابه اليت قتل فيها ) وقال اإلمام مالك ( إن أراد وليه أن يزيد على ما عليه وقد حصل له‬
‫ما جيزئ يف الكفن مل يكن له ذلك ‪ ،‬وال يزاد عليه شيء ) وقال الشوكاين ( والظاهر أن األمر بدفن‬
‫الشهيد مبا قتل فيه من الثياب للوجوب) وأجابوا عن حديث محزة ‪ :‬أبنه كفن يف كفن آخر ألن‬
‫الكفار كانوا مثلوا به وبقروا بطنه ‪ ،‬واستخرجوا كبده ‪ ،‬وأخذوا ثيابه ‪ ،‬فلذلك كفن يف كفن آخر ‪.‬‬
‫قاله ابن القيم وقال ابن رشد ( من عراه العدو ال رخصة يف ترك تكفينه ‪ ،‬بل ذلك الزم ‪ ،‬كفن‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم الشهداء يوم أحد اثنان يف ثوب ) والقول الصحيح هو القول الثاين‬
‫‪ ،‬وهو أن األمر للوجوب ‪ ،‬إذ ال صارف لألمر هنا عن اببه ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫الفرع املويف لألربعني ‪ :‬سئلت اللجنة الدائمة عن حكم إعفاء اللحية يف اإلسالم وهل أيمث من‬
‫حيلقها أو ال؟ فأجابوا بقوهلم ( احلمد هلل وحده والصالة والسالم على رسوله وآله وصحبه‪ ..‬وبعد‪:‬‬
‫ثبت يف احلديث الصحيح أن النيب صلى هللا عليه وسلم قال « جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا‬
‫اجملوس » رواه أمحد ومسلم وقال صلى هللا عليه وسلم « خالفوا املشركني‪ ،‬وفروا اللحى وأحفوا‬
‫الشوارب » رواه أمحد والبخاري ومسلم ‪ .‬والصحيح أن األمر للوجوب كما هو األصل فيه وخاصة‬
‫إذا أحتفت به قرائن كما يف هذين احلديثني فمن حلق حليته فقد أساء وخالف مقتضى الفطرة‬
‫ابتفاق املسلمني وأمث حبلقه هلا ) وقالوا يف موضع آخر ( إن ه من املستقر يف الشرع املطهر وجوب‬
‫إ عفاء اللحية بداللة الفطرة وسنة النيب صلى هللا عليه وسلم وأمر النيب صلى هللا عليه وسلم بتوفري‬
‫اللحية ‪ ،‬واألصل يف األمر أنه للوجوب ‪ ،‬واألمر مبخالفة املشركني من اجملوس وغريهم ‪ ،‬واألصل يف‬
‫النهي أنه للتحرمي ‪ ،‬وأنه حيرم على املسلم التعرض للحيته حبلق أو قص أو نتف ملخالفته الدالئل‬
‫املذكورة ‪ ،‬وأدلة هذا احلكم كما أييت ‪ :‬أما داللة الفطرة ‪ :‬فقد ثبت من حديث عائشة رضي هللا‬
‫عنها أن النيب صلى هللا عليه وسلم قال « عشر من الفطرة ‪ :‬قص الشارب ‪ ،‬وإعفاء اللحية والسواك‬
‫» احلديث ‪ .‬رواه أمحد ومسلم وأصحاب السنن وغريهم ‪ .‬وأما سنة النيب صلى هللا عليه وسلم فقد‬
‫ثبت من صفة النيب صلى هللا عليه وسلم أنه « كان صلى هللا عليه وسلم كث اللحية » ويف لفظ «‬
‫كثري شعر اللحية » وكانت قراءته صلى هللا عليه وسلم يف الصالة السرية يعرفها من خلفه‬
‫‪33‬‬
‫ابضطراب حليته ‪ ،‬كما يف صحيح البخاري وغريه من حديث أِب معمر رضي هللا عنه ‪ .‬وأما أمر‬
‫النيب صلى هللا عليه وسلم ‪ :‬فقد كثرت السنن الصحيحة بذلك صرحية يف األمر هبا بلفظ « أعفوا‬
‫اللحى » ولفظ " أرخوا " ولفظ " وفروا " ولفظ "أوفوا" وهذه األلفاظ تعين عدم التعرض للحية‬
‫حبلق أو قص أو نتف ‪ .‬وهذا األمر إبعفاء اللحية قد حكى اإلمجاع على وجوبه ابن حزم رمحه هللا‬
‫تعاىل ‪ ،‬كما نقله عنه ابن مفلح رمحه هللا تعاىل يف الفروع ‪ ،‬هلذا فيجب على كل مسلم إعفاء حليته‬
‫؛ إبقاء للفطرة ‪ ،‬وأتسيا ابلنيب صلى هللا عليه وسلم يف فعله ‪ ،‬وامتثاال ألمره صلى هللا عليه وسلم‬
‫إبعفائها ومعلوم أن األمر يقتضي الوجوب حىت يوجد صارف لذلك عن أصله وال نعلم ما يصرفه‬
‫عن ذلك وأنه ال جيوز ملسلم التعرض للحية حبلق أو قص أو نتف ‪ ،‬فإن ذلك حرام على املسلم فعله‬
‫؛ ملخالفته الدالئل املذكورة ‪ ،‬وهني النيب صلى هللا عليه وسلم عن مشاهبة املشركني من اجملوس وغريهم‬
‫‪ ،‬وأصل النهي للتحرمي حىت يوجد صارف له عن أصله ‪ ،‬وال نعلم دليال يصلح لالحتجاج به يصرفه‬
‫عن ذلك األصل ‪ .‬وبناء على ما ذكر فإن القول ِبواز قص ما زاد على القبضة قول معارض هلذه‬
‫ول فَ ُخ ُذوهُ َوَما ‪َ ،‬ها ُك ْم‬
‫الر ُس ُ‬
‫آَت ُك ُم َّ‬
‫األدلة اجللية من السنة النبوية ‪ ،‬وهللا سبحانه وتعاىل يقول ‪َ ‬وَما َ‬
‫ُس َوةٌ َح َسنَةٌ ‪ ‬ويقول عز من قائل ‪‬‬ ‫ول َِّ‬ ‫َعْنه فَانْتَ هوا ‪ ‬وقوله عز شأنه ‪ ‬لََق ْد َكا َن لَ ُكم ِيف رس ِ‬
‫الِل أ ْ‬ ‫ْ َُ‬ ‫ُ ُ‬
‫اخلََِريةُ ِم ْن أ َْم ِرِه ْم ‪ ‬فالواجب على‬ ‫الِلُ َوَر ُسولُهُ أ َْمًرا أَ ْن يَ ُكو َن َهلُُم ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َوَما َكا َن ل ُم ْؤمن َوَال ُم ْؤمنَة إِ َذا قَ َ‬
‫ضى َّ‬
‫املسلم طاعة هللا تعاىل وطاعة رسوله صلى هللا عليه وسلم وترك االلتفات إىل ما خيالف األدلة‬
‫الشرعية فإن الواجب هو اتباع املعصوم صلى هللا عليه وسلم كما أن ما ذهب إليه املؤلف من كراهة‬
‫الصبغ ابلسواد قول خمالف للصواب ؛ ألن األدلة من السنة صحيحة صرحية يف النهي عنه وأصل‬
‫ا لنهي للتحرمي ‪ ،‬ومل يوجد دليل صارف عنه ‪.‬هلذا رأت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية واإلفتاء‬
‫إصدار هذه الفتوى ؛ بياان للسنة ونصرة هلا وحتذيرا من االغرتار ابألقوال املهجورة املخالفة للسنة‬
‫ومنها ما ذهب إليه صاحب الكتاب املذكور ‪ ،‬وننصحه أبن عليه مراجعة احلق والرجوع إليه والكف‬
‫عن ن شر مثل هذا الرأي الذي خيالف السنة القولية والفعلية ‪ ،‬وما جرى عليه عامة املسلمني من‬
‫الصدر األول الصحابة رضي هللا عنهم إىل عصران ‪ ،‬وملا يف نشر اآلراء املخالفة لألدلة الشرعية من‬
‫ترقيق الداينة وجترئة الناس على خمالفة السنة ‪ .‬وابهلل التوفيق ‪ ،‬وصلى هللا على نبينا حممد وآله‬
‫وصحبه وسلم ) وهللا أعلم ‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫احلادي واألربعون ‪ :‬وسئلوا أيضا عن حكم الوضوء من مس الذكر ‪ ،‬فأجابوا بقوهلم ( الراجح من‬
‫أقوال العلماء يف هذه املسألة قول اجلمهور‪ ،‬وهو نقض وضوء من مس ذكره ؛ ألن حديث « ما هو‬
‫إال بضعة منك » ضعيف‪ ،‬ال يقوى ع لى معارضة األحاديث الصحيحة الدالة على أن من مس‬
‫ذكره فعليه الوضوء‪ .‬واألصل أن األمر للوجوب وعلى تقدير عدم ضعفه فهو منسوخ حبديث « من‬
‫مس ذكره فليتوضأ ») وهو كما قالوا ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫الثاين واألربعون ‪ :‬وسئلوا أيضا سؤاال هذا نصه ‪ -:‬هللا تعاىل يقول يف القرآن الكرمي وقوله حق ‪‬‬
‫ضى ‪ ‬إىل آخر اآلية‪ ،‬وهل القراءة املذكورة يف‬ ‫ِ‬ ‫فَاقْ رءوا ما تَي َّسر ِمن الْ ُقر ِ ِ‬
‫آن َعل َم أَ ْن َسيَ ُكو ُن مْن ُك ْم َم ْر َ‬ ‫َُ َ َ َ َ ْ‬
‫وم أ َْد َىن‬
‫َّك تَ ُق ُ‬ ‫هذه اآلية متعلقة بصالة النافلة أو الفريضة؟ فأجابوا بقوهلم ( آية ‪ ‬إِ َّن َربَّ َ‬
‫ك يَ ْعلَ ُم أَن َ‬
‫ِ‬ ‫ِمن ثُلُث ِي اللَّي ِل ونِص َفه وثُلُثه وطَائَِفةٌ ِمن الَّ ِذين معك و َّ ِ‬
‫صوهُ‬ ‫الِلُ يُ َق هد ُر اللَّْي َل َوالن َ‬
‫َّه َار َعل َم أَ ْن لَ ْن ُْحت ُ‬ ‫َ َ ََ َ َ‬ ‫ْ َ ْ َ ْ ُ َ َُ َ‬
‫اب َعلَْي ُك ْم فَاقْ َرءُوا َما تَيَ َّسَر ِم َن الْ ُق ْرآ ِن ‪ …‬إىل آخرها‪ ،‬نزلت يف صالة الليل وقد ثبت أن النيب‬ ‫فَتَ َ‬
‫صلى هللا عليه وسلم قال ملن أساء يف صالته « إذا قمت إىل الصالة فكب مث اقرأ ما تيسر معك من‬
‫القرآن » احلديث فأمره بقراءة املتيسر من القرآن بعد تكبرية اإلحرام واملراد بذلك الفاحتة‪ ،‬واألمر‬
‫للوجوب‪ ،‬والصالة عا مة للفريضة والنافلة فدل ذلك على وجوب قراءة الفاحتة يف الصالة مطلقا‪،‬‬
‫وبني ذلك وأكده حديث عبادة بن الصامت أن النيب صلى هللا عليه وسلم قال « ال صالة ملن مل‬
‫يقرأ بفاحتة الكتاب »رواه البخاري ومسلم وغريمها )‬
‫الثالث واألربعون ‪ :‬وسئلوا أيضا عن األمر الوارد بقراءة املعوذتني دبر الصالة ‪ ،‬هل هو للوجوب أو‬
‫للندب ؟ فأجابوا بقوهلم ( األمر يف احلديث بقراءة املعوذتني دبر كل صالة لالستحباب وليس‬
‫للوجوب وهذا إلمجاع املسلمني على عدم وجوب هذه القراءة ) وهللا أعلم ‪.‬‬
‫الرابع واألربعون ‪ :‬قوله صلى هللا عليه وسلم " إذا توضأمت فابدءوا مبيامنكم " هذا أمر ‪ ،‬واألصل أنه‬
‫يفيد الوجوب ‪ ،‬ولكن الصارف له عن الوجوب إىل االستحباب إمجاع أهل العلم رمحهم هللا تعاىل‬
‫على أن التيامن يف الوضوء ليس من الواجبات ‪ ،‬بل من املندوابت ‪ ،‬واإلمجاع من األدلة الشرعية‬
‫اليت تصلح أن تصرف األمر عن اببه إىل االستحباب ‪ ،‬وال عبة خبالف ابن حزم ألنه مسبوق‬
‫ابإلمجاع يف هذه املسألة ‪ ،‬فالقول أبن التيامن يف الضوء فيما هو كالعضو الواحد كاليدين والرجلني‬
‫هو مندوب فقط ‪ ،‬فلو أخل به فال حرج ‪ ،‬فالتَّيَ ُامن يف الوضوء بِغَ ْس ِل اليُمىن قبل اليُسرى‬

‫‪35‬‬
‫َّيام َن ِيف ُك هل َش ْيء َوأ ََمَر بِه املسلمني‪،‬‬ ‫سول صلى هللا عليه وسلم كان ُِحي ُّ‬
‫ب الت ُ‬ ‫الر َ‬ ‫فمستحب؛ َّ‬
‫ألن َّ‬ ‫ٌّ‬
‫ب‬ ‫وحرص على تنفيذه؛ فعن عائشةَ رضي هللا عنها قالت " كان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ُِ‬
‫حي‬
‫ه‬
‫وترجله وطهوره‪ِ ،‬ويف شأْنِه ُكهله" متَّفق عليه‪ .‬وهو مذهب اجلمهور؛ قال النووي (‬ ‫تنعلِه ُّ‬ ‫َّيامن ِيف ُّ‬
‫الت ُ‬
‫استحباب البداءة ابليمني ِيف ُك هل ما كان من ابب التَّكرمي والتَّزيني‪ ،‬وما كان‬
‫ُ‬ ‫املستمرة‬
‫َّ‬ ‫قاعدة الشرع‬
‫أن تقدميَ اليمني يف الوضوء ُسنَّة‪َ ،‬م ْن خالفها‬ ‫العلماءُ على َّ‬ ‫بِ ِ‬
‫َمجَع ُ‬
‫استحب فيه التَّياسر‪ ،‬قال‪ :‬وأ ْ‬
‫َّ‬ ‫ض هدها‬
‫وضوؤه ) وهللا أعلم ‪.‬‬
‫الفضل ومتَّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫فاتَهُ‬
‫اخلامس واألربعون ‪ :‬سئل الشيخ حممد بن عثيمني رمحه هللا تعاىل عن حكم أتخري الزواج هل أيمث‬
‫من يفعله ؟ فأجاب رمحه هللا تعاىل ب قوله ( أتخري الزواج للرجل إذا كان قادرا قدرة مالية وبدنية‬
‫خمالف لتوجيه الرسول عليه الصالة والسالم فإن الرسول صلى هللا عليه وسلم قال " اي معشر‬
‫الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن مل يستطع فعليه‬
‫ابلصوم فإنه له وجاء " واختلف العلماء رمحهم هللا يف الشاب الذي له شهوة وقدرة على النكاح هل‬
‫أيمث يف أتخريه أو ال أيمث فمنهم من قال إنه أيمث ألن األمر فيه للوجوب وأتخري الواجب حمرم ومنهم‬
‫من قال إنه ال أيمث ألن األمر فيه لإلرشاد إال أن خياف الزان برتكه فحينئذ جيب عليه درءاً هلذه‬
‫املفسدة وعلى كل حال فإن ن صيحيت إلخواين الذين أعطاهم هللا عز وجل املال وعندهم شهوة أن‬
‫يتزوجوا إن كانوا مل يتزوجوا أول مرة فليتزوجوا وليبادروا وإن كان عندهم زوجات وكانوا حمتاجني إىل‬
‫زوجات أخرى فإهنم يتزوجون وقد أابح هللا هلم أن يتزوجوا أربعا والنيب عليه الصالة والسالم حث‬
‫على كثرة األوالد يف األمة اإلسالمية وقال " تزوجوا الودود الولود فإين مكاثر بكم األمم يوم القيامة‬
‫" فال شك أن تعدد الزوجات سبب ل كثرة األوالد وصح عن عبد هللا بن عباس رضي هللا عنهما أنه‬
‫قال "خري هذه األمة أكثرها نساء" ولكن التعدد جائز أو حممود ومشروع بشرط أن يكون اإلنسان‬
‫قادراً على العدل قدرة بدنية وقدرة مالية فإن خاف أن ال يعدل فقد قال هللا تعاىل ‪ ‬فَ ِ‬
‫انك ُحوا َما‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك‬ ‫ع فَِإ ْن خ ْفتُ ْم أَالَّ تَ ْعدلُوا فَ َواح َد ًة أ َْو َما َملَ َك ْ‬
‫ت أَْميَانُ ُك ْم َذل َ‬ ‫اب لَ ُك ْم ِم َن النهِ َساء َمثْ َىن َوثُ َ‬
‫الث َوُرَاب َ‬ ‫طَ َ‬
‫أ َْد َىن أَالَّ تَ ُعولُوا ‪) ‬‬
‫السادس واألربعون ‪ :‬أقول ‪ -:‬قد ثبت أن النيب صلى هللا عليه وسلم أمر بقتل احليات يف أحاديث‬
‫كثرية‪ ،‬منها ‪ -:‬ما رواه مسلم عن عائشة رضي هللا عنها أن النيب صلى هللا عليه وسلم قال "مخس‬
‫فواسق يقتلن يف احلل واحلرم‪ :‬احلية ‪ ،‬والغراب األبقع‪ ،‬والفأرة‪ ،‬والكلب العقور واحلُ َد َّاي " وما رواه‬
‫‪36‬‬
‫مسلم وغريه أن رجالً سأل ابن عمر رضي هللا عنهما‪ :‬ما يقتل الرجل من الدواب وهو حمرم؟ قال‬
‫حدثتين إحدى ن سوة النيب صلى هللا عليه وسلم أنه كان أيمر بقتل الكلب العقور‪ ،‬والفأرة‪،‬‬
‫والعقرب‪ ،‬واحلداي‪ ،‬والغراب واحلية‪ ،‬قال‪ :‬ويف الصالة أيضاً‪ ،‬وما رواه أبو داود والرتمذي من حديث‬
‫أِب هريرة رضي هللا عنه أن الرسول صلى هللا عليه وسلم " أمر بقتل األسودين يف الصالة ‪ :‬احلية‬
‫والعقرب" ويف هذه األحاديث أيمر النيب صلى هللا عليه وسلم بقتل احليات‪ ،‬واألصل يف األوامر أهنا‬
‫للوجوب ‪ ،‬ولذلك فإنه جيب على كل من رأى هذه احليات أن يقتلها إن استطاع ذلك ‪ ،‬اتقاءً‬
‫لشرها ودفعاً لضررها عن الناس ‪ ،‬إذ لو تركها لرمبا أصابت إنساانً فأحلقت به األذى ‪ ،‬أو تعرضت‬
‫حليوان فأهلكته‪ ،‬وحنو ذلك‪ .‬وهبذا يتبني املقصود من أمر النيب صلى هللا عليه وسلم من قتل احليات‬
‫‪ ،‬وهو‪ :‬دفع ضررها وخطرها وأذاها عن الناس‪ .‬ومن قال إن األوامر يف هذه األحاديث ال تفيد إال‬
‫الندب فإنه مطالب ابلدليل الدال على صحة دعواه ‪ ،‬ألن املتقرر أن األمر املطلق عن القرينة يفيد‬
‫الوجوب ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫السابع واألربعون ‪ :‬اختلف أهل العلم رمحهم هللا تعاىل يف مسألة نقض املرأة لرأسها يف الغسل‬
‫الواجب ‪ ،‬فذهب البعض إىل القول ابلوجوب ‪ ،‬مستدلني أبمر النيب صلى هللا عليه وسلم لعائشة‬
‫بنقض شعرها ‪ ،‬يف قوله " انقضي شعرك وامتشطي " وأبمره ألمساء بدلك شعرها دلكا شديدا‬
‫وذهب بعض أهل العلم رمحهم هللا تعاىل إىل القول أبن النقض من املندوابت إن كان املاء يتخلل‬
‫ألصول الشعر بال ن قض ‪ ،‬وأما إن كان املاء ال يصل إىل أصول الشعر إال ابلنقض فالواجب نقضه‬
‫ألن ما ال يتم الواجب إال به فهو واجب ‪ ،‬وهذا القول هو الصحيح إن شاء هللا تعاىل‪ ،‬فإن قلت‬
‫‪ -:‬وما الصارف لألمر يف األحاديث السابقة من الوجوب إىل الندب ؟ فأقول ‪ -:‬الصارف هلا‬
‫حديث أم سلمة رضي هللا عنها أهنا قالت للنيب صلى هللا عليه وسلم " إين امرأة أشد ظفر رأسي ‪،‬‬
‫أفأنقضه لغسل اجلنابة ‪ -‬ويف رواية واحليضة ‪ -‬فقال " ال ‪ ،‬إمنا يكفيك أن حتثي على رأسك ثالث‬
‫حثيات ‪ ،‬مث تفيضني عليك املاء فتطهرين " رواه مسلم ‪ ،‬فتجويزه هلا أن تغتسل بال نقض لشعرها‬
‫دليل على أن األمر ابلنقض ليس على اببه وإمنا هو مصروف عنه إىل الندب‪ ،‬ولكن أقول ‪ -:‬إن‬
‫استحباب النقض يف غسل احليض آكد من استحباب النقض يف غسل اجلنابة ‪ ،‬قال الشيخ حممد‬
‫بن إبراهيم رمحه هللا تعاىل ( الراجح يف الدليل عدم وجوب نقضه يف احمليض كعدم وجوبه يف اجلنابة‪،‬‬
‫ين ْامَرأَة))‬‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫إال أَنه يف احمليض مشروع لألَدلة‪ ،‬واألَمر فيه ليس للوجوب‪ ،‬بدليل حديث أُم سلمة ((إ هْ‬
‫‪37‬‬
‫مندواب يف حقها النقض وكان يراه‬ ‫ً‬ ‫وهذا اختيار صاحب اإلنصاف والزركشي‪ .‬وأَما اجلنابة فليس‬
‫مشروعا يف اجلنابة‬
‫ً‬ ‫عبدهللا بن عمرو وكانت عائشة تقول‪ :‬أَفال أَمرهن أَن حيلقنه‪ .‬احلاصل أَنه ليس‬
‫وهو متأَكد يف احمليض وأتَكده خيتلف قوًة وضع ًفا حبسب بعده عن النقض وقربه ) ‪.‬‬
‫الثامن واألربعون ‪ :‬سئل اإلمام الشيخ األلباين رمحه هللا تعاىل عن حكم صالة الوتر؟ فأجاب رمحه‬
‫ص َال ِة‬ ‫ِ‬ ‫هللا تعاىل بقوله ( قال عليه الصالة السالم " إِ َّن َّ‬
‫ني َ‬ ‫صُّل َ‬
‫وها بَْ َ‬ ‫ص َال ًة َوه َي الْ ِوتْ ُر فَ َ‬
‫الِلَ َزا َد ُك ْم َ‬
‫الْعِ َش ِاء إِ َىل ص َالةِ الْ َفج ِر " يدل ظاهر األمر يف قوله صلَّى َّ ِ‬
‫وها) على وجوب‬ ‫صلُّ َ‬
‫الِلُ َعلَْيه َو َسلَّ َم (فَ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫صالة الوتر ‪ ،‬وبذلك قال احلنفية ‪ ،‬خالفاً للجماهري ‪ ،‬ولوال أنه ثبت ابألدلة القاطعة كقول هللا‬
‫تعاىل يف حديث املعراج " هن مخس يف العمل مخسون يف األجر ال يبدل القول لدي " متفق عليه ‪،‬‬
‫الِلُ َعلَْي ِه َو َسلَّ َم لألعراِب حني قال ‪ :‬ال أزيد عليهن وال أنقص " أفلح الرجل إن صدق‬ ‫صلَّى َّ‬
‫وكقوله َ‬
‫" متفق عليه حصر الصلوات املفروضات يف كل يوم وليلة خبمس صلوات لكان قول احلنفية أقرب‬
‫إىل الصواب ‪ ،‬ولذلك فال بد من القول أبن األمر هنا ليس للوجوب ‪ ،‬بل لتأكيد االستحباب ‪،‬‬
‫وكم من أوامر كرمية صرفت من الوجوب أبدىن من تلك األدلة القاطعة وقد انفك األحناف عنها‬
‫بقوهلم ‪ :‬إهنم ال يقولون أبن الوتر واجب كوجوب الصلوات اخلمس بل هو واسطة بينها وبني‬
‫السنن ‪ ،‬أضعف من هذه ثبوَتً ‪ ،‬وأقوى من تلك أتكيداً‪ .‬فليعلم أن قول احلنفية هذا قائم على‬
‫اصطالح هلم خاص حادث ‪ ،‬ال تعرفه الصحابة وال السلف الصاحل ‪ ،‬وهو تفريقهم بني الفرض‬
‫والواجب ثبوَتً وجزاء ‪ ،‬كما هو مفصل يف كتبهم‪ .‬وإن قوهلم هبذا معناه التسليم أبن َترك الوتر‬
‫معذب يوم القيامة عذاابً دون عذاب َترك الفرض ‪ ،‬كما هو مذهبهم يف اجتهادهم ‪ ،‬وحينئذ يقال‬
‫الِلُ َعلَْي ِه َو َسلَّ َم ملن عزم على أن ال يصلي غري الصلوات‬‫صلَّى َّ‬
‫هلم ‪ :‬وكيف يصح ذلك مع قوله َ‬
‫الِلُ َعلَْي ِه َو َسلَّ َم‬
‫صلَّى َّ‬
‫اخلمس ( أفلح الرجل ) ؟ وكيف يلتقي الفالح مع العذاب ؟ فال شك أن قوله َ‬
‫هذا وحده كاف لبيان أن صالة الوتر ليست بواجبة ‪ ،‬وهلذا اتفق مجاهري العلماء على سنيته وعدم‬
‫وجوبه ‪ ،‬وهو احلق‪ .‬ن قول هذا مع التذكري والنصح ابالهتمام ابلوتر ‪ ،‬وعدم التهاون عنه ‪ ،‬هلذا‬
‫احلديث وغريه ‪ ،‬وهللا أعلم)ا‪.‬ه ‪ .‬كالمه رمحه هللا تعاىل‪ ،‬فبان لك هبذا أن الوتر من السنن املؤكدة ‪،‬‬
‫ألن صيغة األمر به قد ورد هلا ما يصرفها عن ابهبا إال الندب ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫الِلُ َعلَْي ِه َو َسلَّ َم «من‬
‫صلَّى َّ‬
‫التاسع واألربعون ‪ :‬عن ابن عمر رضي هللا عنهما قال ‪ :‬قال رسول هللا َ‬
‫سأل ابهلل فأعطوه ؛ ومن استعاذ ابهلل ؛ فأعيذوه ‪ ،‬ومن دعاكم ؛ فأجيبوه ‪ ،‬ومن صنع إليكم معروفا‬
‫‪38‬‬
‫؛ فكافئوه ‪ ،‬فإن مل جتدوا ما تكافئوه ‪ ،‬فادعوا له حىت تروا أنكم قد كافأمتوه » رواه أبو داود‬
‫والنسائي بسند صحيح ‪ ،‬قال الشيخ حممد رمحه هللا تعاىل ( قوله " فأعطوه " األمر هنا للوجوب ما‬
‫مل يتضمن السؤال إمثا أو ضررا على املسؤول ؛ ألن يف إعطائه إجابة حلاجته وتعظيما هلل عز وجل‬
‫الذي سأل به ‪.‬وال يشرتط أن يكون سؤاله بلفظ اجلاللة بل بكل اسم خيتص ابهلل ‪ ،‬كما قال امللك‬
‫الذي جاء إىل األبرص والقرع واألعمى « أسألك ابلذي أعطاك كذا وكذا » ) وهللا أعلم ‪.‬‬
‫ض‬‫َّق َعلَ َّي أَِِب بِبَ ْع ِ‬
‫صد َ‬
‫ال (( تَ َ‬ ‫ان بْ ِن بَ ِشري رضي هللا عنهما قَ َ‬ ‫الفرع املويف للخمسني ‪ :‬ع ِن النُّعم ِ‬
‫َ َْ‬
‫ول َِّ‬ ‫الِلِ ‪ ،‬فَانْطَلَق أَِِب َإىل رس ِ‬ ‫مالِِه ‪ .‬فَ َقالَ ِ‬
‫الِل‬ ‫َُ‬ ‫َ‬ ‫ول َّ‬‫ضى َح َّىت تُ ْش ِه َد َر ُس َ‬ ‫احةَ ‪ :‬ال أ َْر َ‬ ‫ت َرَو َ‬‫ت أ هُمي َع ْمَرةُ بِْن ُ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ال " اتَّ ُقوا ََّ‬
‫الِل‬ ‫ال ‪ :‬ال‪ .‬قَ َ‬ ‫ت َه َذا بَِولَ ِد َك ُكلهِ ِه ْم ؟" قَ َ‬ ‫ول َِّ‬
‫الِل " أَفَ َع ْل َ‬ ‫ال لَهُ َر ُس ُ‬ ‫ليُ ْش ِه َده َعلَى َ‬
‫ص َدقَِيت فَ َق َ‬ ‫ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الص َدقَةَ " َوِيف لَ ْفظ " فَال تُ ْش ِه ْدِين إذاً ‪ ،‬فَِإِهين ال أَ ْش َه ُد‬ ‫ك َّ‬ ‫َو ْاعدلُوا ِيف أ َْوالد ُك ْم " فََر َج َع أَِِب ‪ ،‬فََرَّد تِْل َ‬
‫َعلَى َج ْور " هذا احلديث فيه مشروعية العدل بني األوالد [ ذكوراً وإاناثً ] يف العطية وهذا ابإلمجاع‬
‫‪ .‬واختلفوا هل هي واجبة أم مستحبة‪ ،‬القول األول ‪ :‬أن املساواة واجبة يف عطية األوالد ‪.‬فال جيوز‬
‫أن يعطي الولد دون البنت ‪ ،‬أو البنت دون الولد ‪ ،‬أو ولد دون ولد ‪.‬قال الشوكاين (وبه صرح‬
‫البخاري ‪ ،‬وهو قول طاووس والثوري وأمحد وإسحاق وبعض املالكية) واستدلوا ‪ :‬بقوله " اتقوا هللا‬
‫واعدلوا بني أوالدكم " القول الثاين ‪ :‬أن التسوية مستحبة ال واجبة وهذا مذهب اجلمهور وعلى هذا‬
‫القول ‪ :‬فلو أعطى ولداً ومل يعط اآلخر ‪ ،‬فال حيرم ‪ ،‬وإذا أعطى ولداً دون بنت ‪ ،‬فال حيرم ومحلوا‬
‫األمر يف حديث الباب على االستحباب ‪.‬وأجابوا عن حديث الباب أبجوبة كثرية ذكرها احلافظ‬
‫ابن حجر يف فتح الباري ‪:‬‬
‫منها ‪ :‬أن املوهوب للنعمان كان مجيع مال والده ‪ ،‬حكاه ابن عبد الب ‪ ،‬وتعقب ‪ :‬أبن كثرياً من‬
‫طرق احلديث مصرحة ابلبعضية ‪ ،‬كما يف حديث الباب ( تصدق علي أِب ببعض ماله)‬
‫ومنها ‪ :‬أن العطية املذكورة مل تنجز ‪،‬وإمنا جاء بشري يستشري النيب ( يف ذلك فأشار عليه أبن ال‬
‫يفعل فرتك ‪.‬وتعقب ‪:‬أبن أمر النيب له ابالرجتاع يشعر ابلتنجيز ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن قوله " أشهد على هذا غريي " إذن ابإلشهاد على ذلك ‪ ،‬وإمنا امتنع من ذلك لكونه‬
‫اإلمام ‪ ،‬وكأنه قال ‪ :‬ال أشهد ألن اإلمام ليس من شأنه أن حيكم ‪ .‬وتعقب ‪:‬أن اإلذن املذكور املراد‬
‫به التوبيخ ‪ ،‬ملا تدل عليه بقية الرواايت ‪.‬وغريها من األجوبة الضعيفة ‪ .‬والراجح القول األول ‪ ،‬ألن‬
‫األمر يف قوله " اتقوا هللا واعدلوا بني أوالدكم " ال صارف له ‪ ،‬بل يدل عليه ويؤيده األدلة العامة‬
‫‪39‬‬
‫اآلمرة ابلعدل ‪ ،‬وحيث ال صارف هلا فاألصل هو البقاء على الوجوب حىت يرد الناقل ‪ ،‬وهللا تعاىل‬
‫أعلى وأعلم ‪.‬‬
‫الِل صلى هللا عليه وسلم َرأَى َعْب َد‬ ‫ول َِّ‬ ‫َن َر ُس َ‬‫س بْ ِن َمالِك (( أ َّ‬ ‫الفرع احلادي واخلمسون ‪َ :‬ع ْن أَنَ ِ‬
‫ول َِّ‬ ‫ِ‬
‫ت ْامَرأًَة ‪،‬‬
‫الِل تََزَّو ْج ُ‬ ‫ال ‪َ :‬اي َر ُس َ‬ ‫ال النِ ُّ‬
‫َّيب " َم ْهَي ْم "؟ فَ َق َ‬ ‫الر ْمحَ ِن بْ َن َع ْوف ‪َ ،‬و َعلَْيه َرْد ُ‬
‫ع َز ْع َفَران ‪ .‬فَ َق َ‬ ‫َّ‬
‫ك ‪ ،‬أ َْوِملْ َولَ ْو بِ َشاة " وقد‬ ‫الِلُ لَ َ‬
‫ال " فَبَ َارَك َّ‬ ‫ال ‪َ :‬وْز َن ن َواة ِم ْن َذ َهب قَ َ‬ ‫َص َدقْ تَ َها "؟ قَ َ‬
‫ال " َما أ ْ‬ ‫فَ َق َ‬
‫اختلف العلماء يف حكمها على قولني ‪:‬القول األول ‪ :‬أهنا مستحبة ‪.‬وهذا مذهب مجاهري العلماء‬
‫‪.‬لقوله ( أومل ‪ ) ...‬وهذا أمر ‪ ،‬وأقل أحواله االستحباب ‪ .‬القول الثاين ‪ :‬أهنا واجبة ‪.‬وهذا مذهب‬
‫الظاهرية ‪ .‬لقوله لعبد الرمحن بن عوف ( أومل ‪ ) ...‬وهذا أمر واألمر يقتضي الوجوب ولقوله " إنه ال‬
‫بد للعروس من وليمة " ‪ .‬رواه أمحد قال ابن حجر ( سنده ال أبس به ) والراجح األول ‪ .‬قالوا ‪ :‬إن‬
‫األمر يف حديث ( أومل ‪ ) ...‬لالستحباب ‪ ،‬بدليل أنه ( أمر ابلشاة ‪ ،‬وال خالف أنه ال جيب عليه‬
‫اإليالم ابلشاة ‪ ،‬وقد أومل بغري الشاة مع أنه أمر هبا ‪.‬ففي حديث أنس ‪ :‬أنه " أومل على صفية‬
‫وكانت وليمته حيساً " ويف الصحيح أنه " أومل على امرأة من نسائه مبدين شعري " فهذه الصوارف‬
‫تصلح أن تكون صارفة األمر عن اببه الذي هو الوجوب إىل ابب الندب وهللا أعلم ‪.‬‬
‫الفرع الثاين واخلمسون ‪ :‬قال النيب صلى هللا عليه وسلم" اجعلوا آخر صالتكم ابلليل وترا " هذا‬
‫أمر فهل يفيد الوجوب والتحتم ‪ ،‬أم الندب واالستحباب فقط ؟ قال يف أتسيس األحكام (يؤخذ‬
‫من هذا احلديث وجوب ختم صالة الليل ابلوتر وجعله يف آخرها ‪ ،‬وقد اختلفوا يف ذلك هل هو‬
‫على اإلجياب أم على الندب ؟ ‪ .‬فذهب مجاعة إىل وجوب جعل الصالة من آخر الليل وتراً‬
‫واحتجوا بقوله صلى هللا عليه وسلم " اجعلوا آخر صالتكم ابلليل وتراً " حكى ذلك عنهم املروزي‬
‫يف قيام الليل ‪ ،‬وقال ‪ :‬منهم إسحاق بن إبراهيم ومجاعة من أصحابنا يذهبون إىل هذا وهؤالء‬
‫أيمرون من أوتر من أول الليل مث قام آخره أن يشفع وتره بركعة مث يصلي مثىن ‪ ،‬فإذا كان آخر‬
‫صالته أوتر ‪ ،‬وهذا مروي عن مجاعة من الصحابة منهم عثمان بن عفان قال ‪ :‬إين إذا أردت أن‬
‫أقوم من الليل أوترت بركعة فإذا قمت ضممت إليها ركعة ‪ ،‬فما شبهتها إال ابلغريبة من اإلبل تضم‬
‫إىل اإلبل وفعله عبد هللا بن عمر وأخب أنه من رأيه ال رواية وهو مروي أيضاً أي الشفع بركعة عن‬
‫أِب سعيد اخلدري وعروة بن الزبري ‪ ،‬وأسامة بن زيد وأَب ذلك األكثرون وقالوا ‪ :‬إذا أوتر أول الليل‬
‫مث قام آخر الليل فصلى ركعة أخرى لتشفع وتره األول بعد السالم والكالم واحلدث والنوم مل تشفعه‬
‫‪40‬‬
‫بعد ما ذُكر بل تكون وتراً آخراً ‪ ،‬فإذا أوتر من آخر صالته كان قد صلى ثالثة أوَتر وخالفوا قول‬
‫النيب صلى هللا عليه وسلم " ال وتران يف ليلة " وعن ابن عباس أنه ملا بلغه فعل ابن عمر مل يعجبه‬
‫وقال ابن عمر يوتر يف ليلة ثالثة أوَتر ‪ .‬وهؤالء يقولون إن أوتر مث قام من آخر الليل صلى شفعاً‬
‫حىت يصبح فإنه إذا صلى شفعاً إىل الوتر يكون قد قطع صالته على الوتر وممن قال هبذا القول عبد‬
‫هللا بن عباس وعائشة وأبو هريرة ورافع بن خديج وأبو بكر الصديق وعمار بن ايسر وعائذ ابن‬
‫عمرو ومن التابعني سعيد بن جبري وسعيد بن املسيب وأبو سلمة بن عبد الرمحن قال حممد بن نصر‬
‫إيل وإن شفع وتره إتباعاً لألخبار اليت رويناها رأيته جائزاً ‪.‬‬
‫وهذا مذهب الشافعي وأمحد وهو أحب ه‬
‫وروى ابن أِب شيبة يف املصنف عن الشعيب أنه سئل عن نقص الوتر فقال إمنا أمران ابإلبرام ومل نؤمر‬
‫ابلنقص وروى عدم النقض عمن ذكروا سابقاً وعن سعد بن أِب وقاص وعلقمة واحلسن وإبراهيم‬
‫النخعي ومكحول وقال الرتمذي وهو قول سفيان الثوري ومالك بن أنس وأمحد وابن املبارك وهذا‬
‫أصح ألنه روى من غري وجه أن النيب صلى هللا عليه وسلم قد صلى بعد الوتر ركعتني ‪ .‬قلت ‪:‬‬
‫الصالة بعد الوتر قد أخرجها مسلم وأمحد وأبو داود والنسائي يف حديث سعد بن هشام عن عائشة‬
‫رضي هللا عنها وأخرجه أبو داود من طريق علقمة بن وقاص عن عائشة وأخرج الرتمذي وأمحد وابن‬
‫ماجة أن النيب صلى هللا عليه وسلم كان يصلي بعد الوتر ركعتني زاد ابن ماجة وهو جالس من طريق‬
‫احلسن عن أمه عن أم سلمة وحكى الساعايت تصحيحه عن الدارقطين وأخرج أمحد أيضاً عن أِب‬
‫أمامة رضي هللا عنه الركعتني بعد الوتر وهو جالس وقال فقرأ ب { إذا زلزلت } و { قل اي أيها‬
‫الكافرون } وإذ قد ثبت أن النيب صلى هللا عليه وسلم صلى بعد الوتر ركعتني فاجلمع بني هذه‬
‫األحاديث وبني قول النيب صلى هللا عليه وسلم " اجعلوا آخر صالتكم ابلليل وترا " أن هذه‬
‫األحاديث اليت أثبتت أن النيب صلى هللا عليه وسلم صلى بعد الوتر ركعتني صرفت األمر يف قوله‬
‫اجعلوا آخر صالتكم ابلليل وتراً من اإلجياب إىل الندبية إذ أن فعله كان بياانً للجواز ‪ .‬هذا هو رأي‬
‫اجلمهور قال النووي الصواب أن هاتني الركعتني فعلهما صلى هللا عليه وسلم بعد الوتر جالساً لبيان‬
‫اجلواز ومل يواظب على ذلك وأَب ذلك الشوكاين يف النيل فقال أما األحاديث اليت فيها األمر لألمة‬
‫ِبعل آخر صالة الليل وترا فال معارضة بينها وبني فعله صلى هللا عليه وسلم للركعتني بعد الوتر ملا‬
‫تقرر يف األصول أن فعله ال يعارض القول اخلاص ابألمة بال معىن لالستنكار ‪.‬اه ‪ .‬وأقول ‪ :‬احلق أن‬
‫األصل يف أفعاله ص لى هللا عليه وسلم التشريع إال ما دل الدليل على خصوصيته به وال دليل على‬

‫‪41‬‬
‫اخلصوصية هنا فلم يبق سوى التشريع وبذلك يرتجح قول من قال أن النيب صلى هللا عليه وسلم‬
‫فعلها لبيان اجلواز وخالصة هذا البحث أن حديث "اجعلوا آخر صالتكم ابلليل وترا" حممول على‬
‫االستحباب وأن األفضل يف الوتر أن يكون آخر صالة الليل شفعاً ‪ ،‬وأن من أوتر أول الليل وقام يف‬
‫شفع ‪ ،‬وأن نقص الوتر ال ميكن وال يشرع بل هو اجتهاد من غري معصوم‬‫آخره تشرع له الصالة ً‬
‫خالف النص ‪ .‬وهللا أعلم )ا‪.‬ه ‪ .‬كالمه رمحه هللا تعاىل ‪ ،‬وهو حتقيق طيب ‪ ،‬ال مزيد عليه ‪،‬‬
‫واخلالصة من ه أن األمر يف قوله " اجعلوا آخر صالتكم ابلليل وترا " ليس على الوجوب ‪ ،‬ألنه صلى‬
‫هللا عليه وسلم صلى ركعتني بعد الوتر وهو جالس ‪ ،‬واجلمع بني األدلة واجب ما أمكن ‪ ،‬فنحمل‬
‫األمر يف احلديث على الندب والصارف له هو فعله صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫الثالث واخلمسون ‪ :‬يف قول هللا تعاىل ‪َ ‬و َشا ِوْرُه ْم ِيف األ َْم ِر ‪ ‬قال الشيخ الطاهر ابن عاشور رمحه‬
‫هللا تعاىل يف تفسريه الطيب التحرير والتنوير ( واختلف العلماء يف مدلول قوله {وشاورهم} هل هو‬
‫للوجوب أو للندب‪ ،‬وهل هو خاص ابلرسول عليه الصالة والسالم ‪ ،‬أو عام له ولوالة أمور األمة‬
‫كلهم‪ .‬فذهب املالكية إىل الوجوب والعموم‪ ،‬قال ابن خوير منداد‪ :‬واجب على الوالة املشاورة‪،‬‬
‫فيشاورون العلماء فيما يشكل من أمور الدين‪ ،‬ويشاورون وجوه اجليش فيما يتعلق ابحلرب‪،‬‬
‫ويشاورون وجوه الناس فيما يتعلق مبصاحلهم ويشاورون وجوه الكتاب والعمال والوزراء فيما يتعلق‬
‫مبصاحل البالد وعمارهتا‪ .‬وأشار ابن العرِب إىل وجوهبا أبهنا سبب للصواب فقال‪ :‬والشورى مسبار‬
‫العقل وسبب الصواب‪ .‬يشري إىل أننا مأمورون بتحري الصواب يف مصاحل األمة‪ ،‬وما يتوقف عليه‬
‫الواجب فهو واجب‪ .‬وقال ابن عطية‪ :‬الشورى من قواعد الشريعة وعزائم األحكام‪ ،‬ومن ال يستشري‬
‫أهل العلم والدين فعزله واجب‪ .‬وهذا ما ال اختالف فيه‪ .‬واعرتض عليه ابن عرفة قوله‪ :‬فعزله‬
‫واجب‪ ،‬ومل يعرتض كوهنا واجبة‪ ،‬إال أن ابن عطية ذكر تلك جازما به وابن عرفة اعرتضه ابلقياس‬
‫على قول علماء الكالم بعدم عزل األمري إذا ظهر فسقه‪ ،‬يعين وال يزيد ترك الشورى على كونه ترك‬
‫واجب فهو فسق‪ .‬وقلت‪ :‬من حفظ حجة على من مل حيفظ‪ ،‬وإن القياس فيه فارق معتب فإن‬
‫الفسق مضرته قاصرة على النفس وترك التشاور تعريض مبصاحل املسلمني للخطر والفوات‪ ،‬وحممل‬
‫األمر عند املالكية للوجوب واألصل عندهم عدم اخلصوصية يف التشريع إال لدليل‪ .‬وعن الشافعي أن‬
‫هذا لالستحباب‪ ،‬ولتقتدي به األمة‪ ،‬وهو عام للرسول وغريه‪ ،‬تطييبا لنفوس أصحابه ورفعا‬
‫ألقدارهم‪ ،‬وروي مثله عن قتادة‪ ،‬والربيع‪ ،‬وابن إسحاق‪ .‬ورد هذا أبو بكر أمحد بن علي الرازي‬
‫‪42‬‬
‫احلنفي املعروف ابجلصاص بقوله‪ :‬لو كان معلوما عندهم أهنم إذا استفرغوا جهدهم يف استنباط‬
‫الصواب عما سئلوا عنه‪ ،‬مث مل يكن معموال به‪ ،‬مل يكن يف ذلك تطييب لنفوسهم وال رفع ألقدارهم‪،‬‬
‫بل فيه إحياشهم فاملشاورة مل تفقد شيئا فهذا أتويل ساقط‪ .‬وقال النووي‪ ،‬يف صدر كتاب الصالة من‬
‫شرح مسلم‪ :‬الصحيح عندهم وجوهبا وهو املختار‪ .‬وقال الفخر‪ :‬ظاهر األمر أنه للوجوب‪ .‬ومل‬
‫ينسب العلماء للحنفية قوال يف هذا األمر إال أن اجلصاص قال يف كتابه أحكام القرآن عند قوله‬
‫تعاىل ‪َ ‬وأ َْمُرُه ْم ُش َورى بَْي نَ ُه ْم ‪ ‬هذا يدل على جاللة موقع املشورة لذكرها مع اإلميان وإقامة الصالة‬
‫ويدل على أننا مأمورون هبا‪ .‬وجمموع كالمي اجلصاص يدل أن مذهب أِب حنيفة وجوهبا‪ .‬ومن‬
‫السلف من ذهب إىل اختصاص الوجوب ابلنيب صلى هللا عليه وسلم قاله احلسن وسفيان‪ ،‬وإمنا أمر‬
‫هبا ليقتدي به غريه وتشيع يف أمته وذلك فيما ال وحي فيه‪ .‬وقد استشار النيب صلى هللا عليه وسلم‬
‫أصحابه يف اخلروج لبدر‪ ،‬ويف اخلروج إىل أحد‪ ،‬ويف شأن األسرى يوم بدرا‪ ،‬واستشار عموم اجليش‬
‫يف رد سيب هوازن‪ .‬والظاهر أهنا ال تكون يف األحكام الشرعية ألن األحكام إن كانت بوحي‬
‫فظاهر‪ ،‬وإن كانت اجتهادية‪ ،‬بناء على جواز االجتهاد للنيب صلى هللا عليه وسلم يف األمور‬
‫الشرعية‪ ،‬فاالجتهاد إمنا يستند لألدلة ال لآلراء وإذا كان اجملتهد من أمته ال يستشري يف اجتهاده‪،‬‬
‫فكيف جتب االستشارة على النيب صلى هللا عليه وسلم مع أنه لو اجتهد وقلنا ِبواز اخلطأ عليه فإنه‬
‫ال يقر على خطأ ابتفاق العلماء‪ .‬ومل يزل من سنة خلفاء العدل استشارة أهل الرأي يف مصاحل‬
‫املسلمني‪ ،‬قال البخاري يف كتاب االعتصام من صحيحه وكانت األئمة بعد النيب صلى هللا عليه‬
‫وسلم يستشريون األمناء من أهل العلم‪ ،‬وكان القراء أصحاب مشورة عمر‪ :‬كهوال أو شباان‪ ،‬وكان‬
‫وقافا عند كتاب هللا‪ .‬وأخرج اخلطيب عن علي قال‪ :‬قلت‪ :‬اي رسول هللا األمر ينزل بعدك مل ينزل فيه‬
‫القرآن ومل يسمع منك فيه شيء قال‪" :‬امجعوا له العابد من أميت واجعلوه بينكم شورى وال تقضوه‬
‫برأي واحد"‪ .‬واستشار أبو بكر يف قتال أهل الردة‪ ،‬وتشاور الصحابة يف أمر اخلليفة بعد وفاة النيب‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وجعل عمر رضي هللا عنه األمر شورى بعده يف ستة عينهم‪ ،‬وجعل مراقبة‬
‫الشورى خلمسني من األنصا ر‪ ،‬وكان عمر يكتب لعماله أيمرهم ابلتشاور‪ ،‬ويتمثل هلم يف كتبه بقول‬
‫الشاعر مل أقف على أمسه‪:‬‬
‫أشريا علي ابلذي تراين‬ ‫خليلي ليس الرأي يف صدر واحد‬

‫‪43‬‬
‫هذا والشورى مما جبل هللا عليه اإلنسان يف فطرته السليمة أي فطرة على حمبة الصالح وتطلب‬
‫النجاح يف املساعي )ا‪.‬ه ‪ .‬كالمه ‪ ،‬والقول الصحيح إن شاء هللا تعاىل هو القول ابلوجوب ألنه أمر‬
‫‪ ،‬واملتقرر أن األمر املطلق عن القرينة يفيد الوجوب ‪ ،‬وألهنا من ابب حتقيق املصاحل العامة‬
‫للمسلمني ‪ ،‬وألهنا أبعد عن اهلوى وحتكيم الرأي ‪ ،‬وأما دعوى أن هذا من خصائص النيب صلى هللا‬
‫عليه وسلم فليس ب شيء ‪ ،‬ألن املتقرر أن كل حكم يف حقه صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬فإنه يثبت يف‬
‫حق األمة تبعا إال بدليل االختصاص ‪ ،‬فاحلق يف هذه املسألة أن مبدأ الشورى من مجلة الواجبات‬
‫على ويل األمر ‪ ،‬وهي عامة يف الوالة وأصحاب األمر من احلكام ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫الرابع واخلمسون ‪ :‬القول ال صحيح أن الويل على مال اليتيم إن كان فقريا فله أن أيكل من مال‬
‫اليتيم ابملعروف ‪ ،‬أي له أجرة مثله بال وكس وال شطط ‪ ،‬وإن كان غنيا ال حيتاج فاألصل وجوب‬
‫االستعفاف عن مال اليتيم فيعمل يف مال اليتيم ابجملان ‪ ،‬ألن هللا تعاىل يقول ‪َ ‬وَمن َكا َن َغنِيًّا‬
‫ف ‪ ‬واألمر هنا للوجوب ‪ ،‬وال صارف له عن اببه ‪ ،‬والقول الصحيح أن دفع الويل املال‬ ‫ِ‬
‫فَ ْليَ ْستَ ْعف ْ‬
‫لليتيم عند إيناس الرشد منه واختباره والتأكد من رشده أمر واجب ‪ ،‬فال جتوز املماطلة وال املماحلة‬
‫ِ َّ ِ‬
‫‪ ،‬وال جيوز التأخري الذي ال داعي له ‪ ،‬وليحذر كل احلذر من ذلك فإن هللا تعاىل يقول ‪ ‬إ َّن الذ َ‬
‫ين‬
‫صلَ ْو َن َسعِ ًريا ‪ ‬وهللا تعاىل يقول ‪ ‬فَِإ ْن‬ ‫ِِ‬
‫َأيْ ُكلُو َن أ َْم َو َال الْيَ تَ َامى ظُْل ًما إَِّمنَا َأيْ ُكلُو َن ِيف بُطُوهن ْم َان ًرا َو َسَي ْ‬
‫آنَ ْستُم ِهمْن ُه ْم ُر ْش ًدا فَ ْادفَ ُعواْ إِلَْي ِه ْم أ َْم َوا َهلُْم ‪ ‬واألمر هنا يفيد الوجوب وال شك وال نعلم فيه خالفا ‪،‬‬
‫والقول الصحيح أنه ال بد من اإلشهاد بعد دفع املال كامال موفرا‪ ،‬خروجا من هوة اخلالف‬
‫والدعاوى اليت ال جيىن منها إال التفرق وتصرم األواصر ‪ ،‬وألن هللا تعاىل أيمران بذلك يف قوله تعاىل‬
‫‪ َ‬إِذَا َدفَ ْعتُ ْم إِلَْي ِه ْم أ َْم َوا َهلُْم فَأَ ْش ِه ُدواْ َعلَْي ِه ْم َوَك َفى ِاب هلِلِ َح ِسيبًا ‪ ‬واألمر ابإلشهاد هنا أمر وجوب‬
‫وحتم ‪ ،‬قطعا ملادة الفساد ‪ ،‬وحفظا ملال اليتيم ‪ ،‬وتبئة لذمة الويل‪ ،‬وال نعلم لألمر هنا صارفا يصرفه‬
‫عن اببه إال الندب ‪ ،‬فبان لك إن شاء هللا تعاىل أن األوامر الثالثة الواردة يف هذه اآلية كلها على‬
‫الوجوب واحلتم ‪ ،‬فال جيوز اإلخالل هبا ‪ ،‬ألن املتقرر يف القواعد أن األمر املطلق عن القرينة يفيد‬
‫الوجوب ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫اخلامس واخلمسون ‪ :‬القول الصحيح أن القراءة يف الصالة من الواجبات ‪ ،‬لقول النيب صلى هللا‬
‫عليه وسلم للمسيء يف صالته " مث اقرأ ما تيسر معك من القرآن " وهذا أمر واألمر يفيد الوجوب ‪،‬‬
‫ولكنه أمر مطلق ‪ ،‬وقد قيدت القراءة الواجبة يف الصالة ابلفاحتة لقول النيب صلى هللا عليه وسلم "‬
‫‪44‬‬
‫ال صالة ملن مل يقرأ بفاحتة الكتاب " وحديث " كل صالة ال يقرأ فيها بفاحتة الكتاب فهي خداج‬
‫‪ -‬ثالاث ‪ -‬غري متام ‪ ...‬احلديث " والقول الصحيح أن من مل يستطع أن أيخذ شيئا من القرآن‬
‫فالواجب عليه أن يقول يف موضع قراءة الفاحتة ( سبحان هللا واحلمد هلل وال إله إال هللا وهللا أكب وال‬
‫حول وال قوة إال ابهلل ) ألن النيب صلى هللا عليه وسلم أمر هبا يف قوله " فإن كان معك قرآن فاقرأ‬
‫وإال فامحد هللا تعاىل وكبه وهلله " وقد تقرر يف القواعد أنه إن تعذر األصل فإنه يصار إىل البدل ‪،‬‬
‫وهللا أعلم ‪.‬‬
‫السادس واخلمسون ‪ :‬القول الصحيح أن الداخل للمجلس إن كان اجمللس ضيقا وقال ‪ -:‬تفسحوا‬
‫يل لَ ُك ْم تَ َف َّس ُحوا ِيف‬‫‪ ،‬فالواجب على من يف اجمللس فعل ذلك ‪ ،‬ألن هللا تعاىل يقول ‪ ‬إِ َذا قِ‬
‫َ‬
‫الِلُ لَ ُك ْم ‪ ‬وهذا أمر ‪ ،‬واألمر يفيد الوجوب ‪ ،‬وال نعلم صارفا يصرفه عن‬ ‫الْ َم َجالِ ِ‬
‫س فَافْ َس ُحوا يَ ْف َس ِح َّ‬
‫اببه إىل الندب ‪ ،‬والقول الصحيح أن صاحب املكان إن قال ملن يف بيته ‪ -:‬انشزوا أي قوموا‬
‫واهنضوا ‪ ،‬وهو كناية عن القيام من اجمللس ‪ ،‬فالواجب على من يف اجمللس فعل هذا ألن صاحب‬
‫انشُزوا ‪ ‬وهذا أمر ‪ ،‬واملتقرر أن‬ ‫البيت له احلق يف هذا ‪ ،‬وألن هللا تعاىل يقول ‪ ‬وإِذَا قِ‬
‫انشُزوا فَ ُ‬
‫يل ُ‬‫َ‬ ‫َ‬
‫األمر يفيد الوجوب ‪ ،‬وال ن علم له صارفا يصرفه عن اببه ‪ ،‬ومن كان عنده شيء من الصوارف‬
‫املقبولة يف هذين األمرين فليتفضل هبا ‪ ،‬وال يقول لنا ‪ -:‬إنه أمر ورد يف ابب اآلداب فيكون على‬
‫الندب ‪ .‬ألننا سنقول ‪ -:‬لقد قدمنا لك اجلواب عن هذا الكالم يف أول الرسالة ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫السابع واخلمسون ‪ :‬لقد أمر هللا تعاىل ابألكل من اهلدي يف قوله تعاىل ‪ ‬فَ ُكلُوا ِمْن َها َوأَطْعِ ُموا‬
‫س الْ َف ِق َري ‪ ‬فهل األمر هنا يفيد الوجوب أو الندب فقط ؟ أجاب عن ذلك الشيخ الشنقيطي‬ ‫الْبائِ‬
‫َ َ‬
‫رمحه هللا تعاىل يف أضواء البيان بقوله ( قال مقيده عفا هللا عنه ‪ -:‬أقوى القولني دليالً‪ :‬وجوب‬
‫األكل واإلطعام من اهلدااي والضحااي‪ ،‬ألن هللا تعاىل قال {فَ ُكلُوا ِمْن َها} يف موضعني‪ .‬وقد قدمنا أن‬
‫الشرع واللغة دال على أن صيغة افعل‪ :‬تدل على الوجوب إال لدليل صارف عن الوجوب وذكران‬
‫صيبَ ُه ْم فِْت نَةٌ أ َْو يُ ِصيبَ ُه ْم‬
‫اآلايت الدالة على ذلك كقوله ‪ ‬فَ ْليح َذ ِر الَّ ِذين ُخيَالُِفو َن عن أَم ِرِه أَ ْن تُ ِ‬
‫َْ ْ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬
‫اب أَلِ ٌيم ‪ ‬وأوضحنا مجيع أدل ة ذلك يف مواضع متعددة من هذا الكتاب املبارك‪ ،‬منها آية احلج‬ ‫َع َذ ٌ‬
‫اليت ذكران عندها مسائل احلج‪ .‬ومما يؤيد أن األمر يف اآلية يدل على وجوب األكل وأتكيده " أن‬
‫النيب صلى هللا عليه وسلم حنر مائة من اإلبل فأمر بقطعة حلم من كل واحدة‪ ،‬منها فأكل منها‬
‫وشرب من مرقها " وهو دل يل واضح على أنه أراد أال تبقى واحدة‪ ،‬من تلك اإلبل الكثرية إال وقد‬
‫‪45‬‬
‫أكل منها أو شرب من مرقها‪ ،‬وهذا يدل على أن األمر يف قوله {فَ ُكلُوا ِمْن َها} ليس جملرد‬
‫االستحباب والتخيري‪ ،‬إذ لو كان كذلك الكتفي ابألكل من بعضها‪ ،‬وشرب مرقه دون بعض‪،‬‬
‫وكذلك اإلطعام فاألظهر فيه الوجوب‪ .‬واحلاصل‪ :‬أن املشهور عند األصوليني‪ :‬أن صيغة افعل‪ :‬تدل‬
‫على الوجوب إال لصارف عنه‪ ،‬وقد أمر ابألكل من الذابئح مرتني‪ ،‬ومل يقم دليل جيب الرجوع إليه‬
‫صارف عن الوجوب وكذلك اإلطعام‪ ،‬هذا هو الظاهر حبسب الصناعة األصولية‪ ،‬وقد دلت عليها‬
‫أدلة الوحي‪ ،‬كما قدمنا إيضاحه‪ .‬وقال أبو حيان يف البحر احمليط‪ :‬والظاهر وجوب األكل واإلطعام‬
‫وقيل ابستحباهبما‪ .‬وقيل‪ :‬ابستحباب األكل‪ ،‬ووجوب اإلطعام واألظهر أنه‪ :‬ال حتديد للقدر الذي‬
‫أيكله والقدر الذي يتصدق به‪ ،‬فيأكل ما شاء ويتصدق مبا شاء‪ ،‬وقد قال بعض أهل العلم‪:‬‬
‫س‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يتصدق ابلنصف‪ ،‬وأيكل النصف‪ ،‬واستدل لذلك بقوله تعاىل‪  :‬فَ ُكلُوا مْن َها َوأَطْع ُموا الْبَائ َ‬
‫الْ َف ِق َري ‪ ‬قال‪ :‬فجزأها نصفني ن صف له‪ ،‬ونصف للفقراء‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬جيعلها ثالثة أجزاء‪ ،‬أيكل‬
‫الثلث ويتصدق ابلثلث‪ ،‬ويهدي الثلث‪ ،‬واستدل بقوله تعاىل‪  :‬فَ ُكلُوا ِمْن َها َوأَطْعِ ُموا الْ َقانِ َع َوالْ ُم ْع ََّرت‬
‫‪ ‬فجزأها ثالثة أجزاء‪ ،‬ثلث له‪ ،‬وثلث للقانع‪ ،‬وثلث للمعرت‪ .‬هكذا قالوا وأظهرها األول‪ ،‬والعلم‬
‫عند هللا تعاىل ) قلت ‪ -:‬وحسبك به وال مزيد عليه وهللا أعلم ‪.‬‬
‫الثامن واخلمسون ‪ :‬قلت يف كتاِب اإلفادة الشرعية يف بعض األحكام الطبية يف مبحث ذكر التدابري‬
‫ا ملقررة يف الشريعة واليت يتم هبا حفظ الصحة وتتحقق هبا السالمة ( فمن ذلك‪ -:‬اإلرشاد لتغطية‬
‫اإلانء وإيكاء السقاء وذلك حلفظ الطعام من التلوث الذي قد يضر بصحة اإلنسان فعن أِب محيد‬
‫الساعدي رضي هللا عنه قال‪ -:‬أتيت النيب صلى هللا عليه وسلم بقدح لنب من النقيع ليس خممراً‬
‫فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم (( أال مخرته؟ ولو تعرض عليه عوداً )) قال أبو محيد‪ -:‬إمنا أمر‬
‫ابألسقية أن توكأ ليالً واألبواب أن تغلق ليالً‪ .‬رواه مسلم وعن جابر رضي هللا عنه قال قال رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم (( غطوا اإلانء وأوكوا السقاء وأغلقوا األبواب وأطفئوا السراج فإن الشيطان‬
‫ال حيل سقاءً وال يفتح ابابً وال يكشف إانءً فإن مل جيد أحدكم إال أن يعرض على إانئه عوداً َُ‬
‫ويذكر اسم هللا فليفعل )) متفق عليه‪ ،‬ويف رواية (( فأكفئوا اإلانء أو مخروا اإلانء )) ويف لفظ ((‬
‫ومخروا الطعام والشراب )) ويف طرق أخرى ( ( وأوكوا قربكم واذكروا اسم هللا ومخروا آنيتكم واذكروا‬
‫اسم هللا ولو أن تعرضوا عليها شيئاً )) ويف رواية ((غطوا اإلانء وأوكوا السقاء فإن يف السنة ليلة ينزل‬
‫فيها وابء ال مير إبانء ليس عليه وكاء إال نزل فيه من ذلك الوابء )) وقوله يف هذه األحاديث ((‬
‫‪46‬‬
‫غطوا )) وقوله (( أوكوا )) وحنوها ال خيفى عليك أهنا صيغة أمر وقد تقرر يف األصول أن األمر‬
‫للوجوب إال لصارف أو قرينة وال أعلم هناك ما يوجب االنصراف عن الوجوب إىل االستحباب‪،‬‬
‫ن عم ذهب أكثر أهل العلم إىل االستحباب لكن أنت خبري أبن مذهب األكثر ليس من مجلة‬
‫الصوارف‪ ،‬وبناءً علي ه فالصحيح يف حكم التغطية واإليكاء أنه للوجوب ومن قال ابالستحباب‬
‫فليذكر الصارف وهللا املستعان ) ‪.‬‬
‫التاسع واخلمسون ‪ :‬قال أبو العباس ابن تيمية رمحه هللا تعاىل وهو يتكلم عن املسائل يف قوله تعاىل‬
‫اب أَلِ ٌيم ‪ ‬وذكر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وتقدس امسه ‪ ‬فَ ْليَ ْح َذ ِر الذين ُخيَال ُفو َن َع ْن أ َْم ِرِه أَن تُصيبَ ُه ْم فْت َنةٌ أ َْو يُصيبَ ُه ْم َع َذ ٌ‬
‫املسألة األوىل والثانية ‪ ،‬مث قال يف املسألة الثالثة ( املسألة الثالثة ‪ :‬اآلية تدل على أن ظاهر األمر‬
‫للوجوب ‪ ،‬ووجه االستدالل به أن نقول ‪َ :‬ترك املأمور به خمالف لذلك األمر وخمالف األمر‬
‫مستحق للعقاب فتارك املأمور به مستحق للعقاب وال معىن للوجوب إال ذلك ‪ ،‬إمنا قلنا إن َترك‬
‫املأمور به خمالف لذلك األمر ‪ ،‬ألن موافقة األمر عبارة عن اإلتيان مبقتضاه ‪ ،‬واملخالفة ضد املوافقة‬
‫فكانت خمالفة األمر عبارة عن اإلخالل مبقتضاه فثبت أن َترك املأمور به خمالف ‪ ،‬وإمنا قلنا إن‬
‫صيبَ ُه ْم فِْت نَةٌ أ َْو‬
‫خمالف األمر مستحق للعقاب لقوله تعاىل ‪ ‬فَ ْليح َذ ِر الذين ُخيَالُِفو َن عن أَم ِرِه أَن تُ ِ‬
‫َْ ْ‬ ‫َْ‬
‫اب أَلِ ٌيم ‪ ‬فأمر خمالف هذا األمر ابحلذر عن العقاب ‪ ،‬واألمر ابحلذر عن العقاب إمنا‬ ‫ِ‬
‫يُصيبَ ُه ْم َع َذ ٌ‬
‫يكون بعد قيام املقتضى لنزول العقاب ‪ ،‬ف ثبت أن خمالف أمر هللا تعاىل أو أمر رسوله قد وجد يف‬
‫حقه ما يقتضي نزول العذاب ) وهو كما قال رمحه هللا تعاىل ‪ ،‬فإن األمر يف قوله "فليحذر" يفيد‬
‫الوجوب ‪ ،‬بل ويفيد أن األمر يفيد الوجوب ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫الفرع املويف للستني ‪ :‬لقد استدل الفقهاء رمحهم هللا تعاىل على وجوب إزالة اخلارج ابحلجر أو‬
‫ابملاء ابألمر يف قوله صلى هللا عليه وسلم " إذا ذهب أحدكم إىل الغائط فليذهب معه بثالثة أحجار‬
‫فإهنا جتزئ عنه " ويف رواية " فليستطب " ألن هذا أمر واألمر يفيد الوجوب ‪ ،‬وبقوله صلى هللا عليه‬
‫وسلم " إذا استجمر أحدكم فليستجمر ثالاث " رواه أمحد من حديث جابر بن عبدهللا رضي هللا‬
‫عنهما ‪ ،‬واألمر هنا يفيد الوجوب ‪ ،‬وبنحو هذه األدلة اآلمرة إبزالة اخلارج ابحلجر أو ابملاء ‪ ،‬وهو‬
‫استدالل صحيح ‪ ،‬ألن املتقرر يف القواعد أن األمر املطلق عن القرينة يفيد الوجوب ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫احلادي والستون ‪ :‬أقول ‪ -:‬اعلم رمحك هللا تعاىل إنك إن أردت إزالة اخلارج ابحلجر فعليك‬
‫واجبان ال بد منهما مجيعا ‪ ،‬وأيهما حصل قبل صاحبه فالواجب حتصيل اآلخر ‪ -:‬اإلنقاء‬
‫‪47‬‬
‫واستيفاء ثالث مسحات ‪ ،‬وبرهان ذلك حديث سلمان الفارسي السابق ‪ ،‬وفيه " وأن نستنجي‬
‫بثالثة أحجار " وهذا أمر وهو للوجوب ‪ ،‬وعن جابر مرفوعا " إذا استجمر أحدكم فليستجمر ثالاث‬
‫" رواه أمحد ‪،‬ويف حديث عائشة " فليستطب بثالثة أحجار " ويف احلديث " فليذهب معه بثالثة‬
‫أحجار " ويف حديث ابن مسعود " فأمرين أن آتيه بثالثة أحجار " ويف حديث خزمية بن اثبت "‬
‫بثالثة أحجار ليس فيها رجيع " وكل هذه األحاديث خرجت خمرج األمر وهو للوجوب إال‬
‫لصارف‪ ،‬فإن قلت ‪ -:‬فبأي شيء استدل احلنفية على قوهلم ابالكتفاء ابحلجرين ؟ فأقول ‪ -:‬من‬
‫أوضح أدلتهم على ذلك أن ابن مسعود ملا مل جيد إال احلجرين قال ‪ -:‬فأتيته بروثة ‪ ،‬فأخذمها وألقى‬
‫الروثة وقال " هذا رجس " أو " ركس" وهو عند البخاري ‪ ،‬فقالوا ‪ -:‬فاكتفى النيب صلى هللا عليه‬
‫وسلم ابحلجرين ‪ ،‬وأقول ‪ -:‬هذا ليس بصحيح ‪ ،‬ألن اإلمام أمحد روى هذا احلديث بزايدة " ائتين‬
‫حبجر " أي اثلث ‪ ،‬وهي زايدة من الثقة ‪ ،‬وقد تقرر يف القواعد أن الزايدة من الثقة مقبولة ‪ ،‬فاحلق‬
‫يف هذه املسألة أنه ال بد من ثالث مسحات ‪ ،‬وال جيوز النقص عنها وأما اإلنقاء ‪ ،‬فلحديث "‬
‫فليستطب " وحنوه ‪ ،‬وألن األحجار إمنا شرعت إلزالة أثر اخلارج‪ ،‬وقد ذكر أهل العلم من أصحابنا‬
‫أن اإلنقاء يف احلجر هو ‪ -:‬أن يبقى أثر ال يزله إال املاء ‪ ،‬أي أن يذهب اخلارج عينا وجرما ‪ ،‬وأما‬
‫الريح فإن احلجر ال يق طعها ‪ ،‬فبقاء الريح بعد اإلنقاء واستيفاء الثالث معفو عنه شرعا ‪ ،‬وهللا أعلم‬
‫‪.‬‬
‫الثاين والستون ‪ :‬القول الصحيح والرأي الراجح املليح هو أنه يشرتط ملن أراد احلج عن غريه أنه ال‬
‫بد أوال أن يكون قد حج عن نفسه ‪ ،‬فال جيوز له تقدمي غريه على نفسه يف النسك ‪ ،‬بل ال بد وأن‬
‫تبأ ذمته أوال منه مث إن شاء حج عن غريه ‪ ،‬وهذا أمر واجب ‪ ،‬بل حىت لو أحرم عن غريه من مل‬
‫حيج عن نفسه فإن النسك ينقلب له ‪ ،‬والدليل على الوجوب حديث ابن عباس واملعروف حبديث‬
‫شبمة ‪ ،‬وأن رجال قال ‪ -:‬لبيك عن شبمة ‪ ،‬فقال له النيب صلى هللا عليه وسلم " من شبمة ؟"‬
‫فقال ‪ -:‬أخ يل ‪ ،‬أو قريب يل ‪ ،‬فقال " أحججت عن نفسك ؟" قال ‪ -:‬ال ‪ ،‬فقال "حج عن‬
‫نفسك ‪ ،‬مث حج عن شبمة" فقوله " حج عن نفسك " أمر ‪ ،‬واألمر يفيد الوجوب فيجب على‬
‫املكلف أن يقدم احلج عن ن فسه على احلج عن غريه ‪ ،‬وأما األمر يف قوله " مث حج عن شبمة "‬
‫فإنه ال يفيد الوجوب ‪ ،‬إلمجاع أهل العلم رمحهم هللا تعاىل أنه ال جيب على أحد أن حيج عن أحد‬
‫ابألصالة ‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫‪48‬‬
‫الثالث والستون ‪ :‬اعلم رمحك هللا تعاىل أن من واجبات الشريعة أن يستنزه العبد من البول‪ ،‬وأن‬
‫يتحفظ من رشاشه ‪ ،‬وأن يستجمر منه قبل رفع سراويله ‪ ،‬والدليل على الوجوب أن النيب صلى هللا‬
‫عليه وسلم قال " استنزهوا من البول فإ ن عامة عذاب القب منه " رواه الدارقطين ‪ ،‬وهذا أمر واملتقرر‬
‫أن األمر يفيد الوجوب ‪ ،‬مع أن العقوبة البليغة قد ثبتت شرعا ملن يهمل يف ذلك ‪ ،‬كما يف حديث‬
‫ابن عباس رضي هللا عنهما يف حديث صاحيب القبين وأهنما يعذابن ‪ ...‬واحلديث معروف ‪ ،‬وهللا‬
‫أعلم‪.‬‬
‫الرابع والستون ‪ :‬اعلم رمحك هللا تعاىل أن اآلنية اليت حتققنا عن يقني أو عن غلبة ظن أهنا جنسة‬
‫فإنه ال جيوز لنا استعماهلا إال بعد غسلها لتزول عني النجاسة عنها ‪ ،‬فغسل اآلنية النجسة عن يقني‬
‫أو عن غلبة ظن من األمور الواجبة ال يت ال خيار للعبد فيها ‪ ،‬وهذا الوجوب استفدانه من حديث‬
‫أِب ثعلبة اخلشين رضي هللا عنه قال ‪ -:‬قلت ‪ -:‬اي رسول هللا ‪ ،‬إان أبرض قوم أهل كتاب أفنأكل‬
‫يف آنيتهم؟ فقال " ال أتكلوا فيها إال أن ال جتدوا غريها فاغسلوها وكلوا فيه " متفق عليه وألمحد‬
‫وأِب داود ‪ -:‬إان أبرض أهل الكتاب ‪ ،‬وإهنم أيكلون يف آنيتهم اخلنزير ويشربون اخلمر فكيف نصنع‬
‫بقدورهم وآنيتهم ؟ فقال " إن مل جتدوا غريها فارحضوها ابملاء واطبخوا فيها واشربوا " والرحض‬
‫الغسل ‪ ،‬وللرتمذي ‪ -:‬سئل النيب صلى هللا عليه وسلم عن قدور اجملوس فقال " أنقوها غسال‬
‫واطبخوا فيها " فاألوامر هنا تفيد الوجوب ‪ ،‬ألن املتقرر أن األمر املطلق عن القرينة يفيد الوجوب ‪،‬‬
‫وهو حممول على اآلنية النجسة ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫اخلامس والستون ‪ :‬قال النيب صلى هللا عليه وسلم " توضؤا مما مست النار " فهذا أمر ‪ ،‬فهل هو‬
‫للوجوب أو ال ؟ أقول ‪ -:‬نعم هو للوجوب لو مل أتت القرينة الصارفة له من الوجوب إىل الندب ‪،‬‬
‫وهي أنه قد ثبت عنه صلى هللا عليه وسلم أنه أكل حلما طبخ على النار ومل يتوضأ ففي الصحيح‬
‫أن النيب صلى هللا عليه وسلم احتز من كتف شاة فأكل منها ‪ ،‬فدعي إىل الصالة ‪ ،‬فقام وطرح‬
‫السكني ‪ ،‬وصلى ومل يتوضأ ‪ ...‬واألحاديث يف هذا كثرية ‪ ،‬وهذه األحاديث على القول الصحيح‬
‫إمنا نسخت الوجوب فقط ‪ ،‬واملتقرر أنه إن ن سخ الوجوب بقي االستحباب ‪ ،‬واختاره أبو العباس‬
‫ابن تيمية رمحه هللا تعاىل ‪ ،‬فنجعل األحاديث اآلمرة ابلوضوء مما مست النار تفيد االستحباب‬
‫والندب ‪ ،‬والصارف لألمر فيها هي األحاديث الواردة يف أنه صلى بعد أكل اللحم املطبوخ على‬
‫النار ومل يتوضأ ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫‪49‬‬
‫السادس والستون ‪ :‬قلت يف كتاِب أحكام املسلم اجلديد ( هل جيب على املسلم اجلديد أن يغتسل‬
‫بعد إسالمه ؟ واجلواب أقول ‪ -:‬فيه خالف ‪ ،‬واألصح وهللا أعلم أنه جيب عليه أن يغتسل والدليل‬
‫على ذلك أن مثامة بن أاثل عندما أسلم أمره النيب صلى هللا عليه وسلم أن يغتسل ورواية االغتسال‬
‫وإن مل تكن يف الصحيحني إال أهنا صحت يف غريمها ‪ ،‬وكذلك عندما أسلم قيس بن عاصم أمره‬
‫النيب صلى هللا عليه وسلم أن يغتسل ‪ ،‬وكذلك ملا أسلم أسيد بن حضري وسعد بن معاذ قاال بعد‬
‫إسالمهما ‪ -:‬كيف تصنعون إذا دخلتم يف هذا األمر ؟ فقال هلما مصعب وأسعد بن زرارة ‪-:‬‬
‫ن غتسل ونشهد شهادة احلق ‪ ،‬وهذا يدل على ظهور األمر وانتشاره ‪ ،‬وقد تقرر أن حكم النيب صلى‬
‫هللا عليه وسلم على الواحد حكم على مجيع األمة إال بدليل االختصاص‪ ،‬وتقرر أن احلديث إذا‬
‫صح ومل ي نسخ وجب العمل به ‪ ،‬ألنه حجة يف ذاته ‪ ،‬ولو كان يف مسألة تعم هبا البلوى ‪ ،‬ألن احلق‬
‫هو أن حديث اآلحاد حجة فيما تعم به البلوى ‪ ،‬وألن الكافر يف الغالب ال خيلو من جنابة وغسله‬
‫منها حال كفره ال يصح ‪ ،‬فوجب عليه الغسل بعد اإلسالم ‪ .‬وهللا أعلم )‬
‫السابع والستون ‪ :‬يف قول النيب صلى هللا عليه وسلم " إذا اشتد احلر فأبردوا ابلصالة فإن شدة احلر‬
‫من فيح جهنم " فقوله " أبردوا " أمر ‪ ،‬فهل هو للوجوب ؟ أقول ‪ -:‬نعم هو للوجوب لو مل يرد له‬
‫الصارف ‪ ،‬والصارف هو إمجاع أهل العلم رمحهم هللا تعاىل على صحة الصالة املفروضة يف أي جزء‬
‫من أجزاء وقتها املختار ‪ ،‬فمىت ما أوقع املكلف الصالة يف أي جزء من أجزاء وقتها فقد برئت ذمته‬
‫‪ ،‬وهذا اإلمجاع يدل على أن األمر ابإلبراد ابلظهر يف شدة احلر ال يراد به الوجوب والتحتم ‪ ،‬بل‬
‫يراد به الندب واالستحباب ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫ِ ِ‬ ‫َِّ ِ‬
‫الثامن والستون ‪ :‬قال هللا تعاىل ‪َ ‬واخت ُذواْ من َّم َقام إِبَْراه َيم ُم َ‬
‫صلًّى ‪ ‬فهذا أمر ‪ ،‬واألمر يفيد‬
‫الوجوب ‪ ،‬ولكن هذا األمر ورد له ما يصرفه من الوجوب إىل الندب ‪ ،‬وهو إمجاع أهل العلم رمحهم‬
‫هللا تعاىل على صحة ركعيت الطواف يف أي جهة من جهات الكعبة ‪ ،‬قال احلافظ ابن حجر رمحه‬
‫هللا تعاىل على هذه اآلية من صحيح البخاري رمحه هللا تعاىل ( واألمر دال على الوجوب لكن انعقد‬
‫اإلمجاع على جواز الصالة إىل مجيع جهات الكعبة فدل على عدم التخصيص وهذا بناء على أن‬
‫املراد مبقام إبراهيم احلجر الذي فيه أثر قدميه وهو موجود إىل اآلن وقال جماهد املراد مبقام إبراهيم‬
‫احلرم كله واألول أصح وقد ثبت دليله عند مسلم من حديث جابر وسيأيت عند املصنف أيضا قوله‬
‫مصلى أي قبلة قاله احلسن البصري وغريه وبه يتم االستدالل وقال جماهد أي مدعى يدعي عنده‬
‫‪50‬‬
‫وال يصح محله على مكان الصالة ألنه ال يصلي فيه بل عنده ويرتجح قول احلسن أبنه جار على‬
‫املعىن ا لشرعي واستدل املصنف على عدم التخصيص أيضا بصالته صلى هللا عليه و سلم داخل‬
‫الكعبة فلو تعني استقبال املقام ملا صحت هناك ألنه كان حينئذ غري مستقبله وهذا هو السر يف‬
‫إيراد حديث بن عمر عن بالل يف هذا الباب وقد روى األزرقي يف أخبار مكة أبسانيد صحيحة أن‬
‫املقام كان يف عهد النيب صلى هللا عليه و سلم وأِب بكر وعمر يف املوضع الذي هو فيه اآلن حىت‬
‫جاء سيل يف خالفه عمر فاحتمله حىت وجد أبسفل مكة فأتى به فربط إىل أستار الكعبة حىت قدم‬
‫عمر فاستثبت يف أمره حىت حتقق موضعه األول فأعاده إليه وبىن حوله فاستقر مث إىل اآلن ) ‪.‬‬
‫التاسع والستون ‪ :‬قال الشنقيطي رمحه هللا تعاىل وهو يتكلم عن فروع يف أحكام التلبية ( اعلم أنه‬
‫ينبغي للرجال رفع أصواهتم ابلتلبية‪ ،‬ملا رواه مالك يف املوطأ‪ ،‬والشافعي‪ ،‬وأمحد‪ ،‬وأصحاب السنن‪،‬‬
‫وابن حبان‪ ،‬واحلاكم‪ .‬من حديث خالد بن السائب األنصاري‪ ،‬عن أبيه السائب بن خالد بن‬
‫سويد رضي هللا عنه‪ :‬أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال " أَتين جبيل فأمرين أن آمر أصحاِب‬
‫أن يرفعوا أصواهتم ابلتلبية " ولفظ مالك يف موطئه " أَتين جبيل فأمرين أن آمر أصحاِب‪ ،‬أو من‬
‫معي أن يرفعوا أصواهتم ابلتلبية أو ابإلهالل " يريد أحدمها‪ .‬وقال الرتمذي يف هذا احلديث‪ :‬حديث‬
‫حسن صحيح‪ ،‬ومجهور أهل العلم على أن هذا األمر املذكور يف احلديث لالستحباب‪ ،‬وذهب‬
‫الظاهرية إىل أنه للوجوب‪ ،‬والقاعدة املقررة يف األصول مع الظاهرية‪ ،‬وهي أن األمر يقتضي الوجوب‬
‫إال لدليل صارف عنه‪ ،‬وأما النساء فال ينبغي هلن رفع الصوت ابلتلبية كما عليه مجاهري أهل‬
‫ِ‬
‫الصوت ابلتلبية‪،‬‬ ‫العلم‪.‬قال مالك يف موطئه‪ :‬إنه مسع أهل العلم يقولون‪ :‬ليس على النساء رفع‬
‫لِتُ ِ‬
‫سمع املرأة ن ْف َسها‪ ،‬وعلل بعض أهل العلم خفض املرأة صوهتا ابلتلبية خبوف االفتتان بصوهتا‪.‬وقال‬
‫الرافعي يف شرحه الكبري املسمى فتح العزيز يف شرح الوجيز‪ :‬وإمنا يستحب الرفع يف حق الرجل‪ ،‬وال‬
‫يرفع حيث جيهد ويقطع صوته‪ ،‬والنساء يقتصرن على إمساع أنفسهن‪ ،‬وال جيهرن كما ال جيهرن‬
‫ابلقراءة يف الصالة‪.‬قال القاضي الروايين‪ :‬ولو رفعت صوهتا ابلتلبية مل حيرم‪ ،‬ألن صوهتا ليس بعورة‬
‫خالفاً لبعض أصحابنا اه ‪ .‬وذكر حنوه النووي عن الروايين مث قال‪ :‬وكذا قال غريه‪ :‬ال حيرم لكن يكره‬
‫صرح به الدارمي‪ ،‬والقاضي أبو الطيب والبندنيجي‪ ،‬وخيفض اخلنثى صوته كاملرأة ذكره صاحب‬
‫البيان وهو ظاهر‪.‬قال مقيده عفا هللا عنه وغفر له‪ :‬أما املرأة الشابة الرخيمة الصوت‪ ،‬فال شك أن‬

‫‪51‬‬
‫صوهتا من مفاتن النساء وال جيوز هلا رفعه حبال‪ ،‬ومن املعلوم أن الصوت الرخيم من حماسن النساء‬
‫ومفاتنها‪ ،‬وألجل ذلك يكثر ذكره يف التشبيب ابلنساء)ا‪.‬ه ‪ .‬كالمه رمحه هللا تعاىل ‪.‬‬
‫الفرع املويف للسبعني ‪ :‬وقال رمحه هللا تعاىل يف األضواء ( واألمر يف قوله يف هذه اآلية ‪َ ‬وتُوبُوا إِ َىل‬
‫مجيعاً ‪ ‬الظاه ر أنه للوجوب وهو كذلك‪ ،‬فالتوبة واجبة على كل مكلف‪ ،‬من كل ذنب اقرتفه‪،‬‬ ‫َِّ‬
‫الِل َِ‬
‫وأتخريها ال جيوز فتجب منه التوبة أيضا ) وهو احلق وال شك ‪.‬‬
‫احلادي والسبعون ‪ :‬اعلم رمحك هللا تعاىل أن األمر يف قوله تعاىل يف آية الصيام ‪َ ‬وُكلُواْ َوا ْشَربُواْ‬
‫َس َوِد ِم َن الْ َف ْج ِر ‪ ‬فقوله " فكلوا " وقوله "واشربوا" هذه‬ ‫ط األَب يض ِمن ْ ِ‬
‫اخلَْيط األ ْ‬ ‫اخلَْي ُ َْ ُ َ‬
‫ني لَ ُك ُم ْ‬
‫َح َّىت يَتَبَ َّ َ‬
‫أوامر ‪ ،‬ولكنها هنا ال تفيد إال اإلابحة ‪ ،‬ألهنا أمر من بعد هني ‪ ،‬فإن الصائم كان ممنوعا من األكل‬
‫والشرب يف النهار ‪ ،‬مث أمر به بعد ذلك يف الليل ‪ ،‬فهذا أمر بعد حظر واملتقرر يف األصول أن األمر‬
‫بعد احلظر يفيد ما كان يفيده قبل احلظر ‪ ،‬وقد كان حكم األكل والشرب قبل احلظر مباحا ‪ ،‬فهو‬
‫اآلن مباح ‪،‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫الثاين والسبعون ‪ :‬من املعلوم أن النيب صلى هللا عليه وسلم قد أمر بتسوية الصفوف ‪ ،‬فقال عليه‬
‫سووا صفوفكم فإن تسوية الصف من متام الصالة " وعن أنس قال ‪ :‬كان رسول‬ ‫الصالة والسالم " ه‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم يقبل علينا وجهه قبل أن يكب فيقول " تراصوا واعتدلوا " وعن النعمان بن‬
‫بشري قال ‪ :‬كان رسول هللا صلى هللا عليه و سلم يسوي صفوفنا كأمنا يسوي به القداح حىت رأى أان‬
‫قد عقلنا عنه مث خرج يوما فقام حىت كاد أن يكب فرأى رجال ابداي صدره من الصف فقال "‪ :‬عباد‬
‫هللا لتسون صفوفكم أو ليخالفن هللا بني وجوهكم " رواه اجلماعة إال البخاري فإن له منه " لتسون‬
‫صفوفكم أو ليخالفن هللا بني وجوهكم " وألمحد وأِب داود يف رواية قال ‪ :‬فرأيت الرجل يلزق كعبه‬
‫بكعب صاحبه وركبته بركبته ومنكبه مبنكبه ‪ .‬فهذه األحاديث تفيد أن تسوية الصفوف من‬
‫الواجبات اليت ال بد منها يف الصالة ‪ ،‬وذلك ألمور منها‪ -:‬أن قوله "سووا " وقوله " تراصوا" وقوله‬
‫" اعتدلوا" كل هذه أوامر ‪ ،‬واملتقرر أن األمر املطلق عن القرينة يفيد الوجوب ‪ ،‬وال نعلم صارف له‬
‫عن اببه ‪ ،‬بل أتيد الوجوب مبا سيأيت إن شاء هللا تعاىل ‪ ،‬ومنها ‪ -:‬أنه علق متام الصالة بتسوية‬
‫الصفوف ‪ ،‬فقال " فإن تسوية الصف من متام الصالة " أي من متامها الواجب الذي ال بد منه ‪،‬‬
‫ومن املعلوم أن إمتام الصالة من الواجبات وال يتم هذا الواجب إال بتسوية الصفوف ‪ ،‬فيكون‬
‫تسوية الصفوف من الواجبات ‪ ،‬ألن املتقرر عند أهل العلم رمحهم هللا تعاىل أن ما ال يتم الواجب‬
‫‪52‬‬
‫إال به فهو واجب ‪ ،‬ومنها ‪ -:‬أنه توعد على عدم التسوية ابلوعيد الذي ذكره الدليل السابق ‪ ،‬ومن‬
‫املعلوم املتقرر أن عالمات الواجب العقوبة على الرتك ‪ ،‬فلما توعد على ترك التسوية فهمنا من هذا‬
‫الوعيد أنه من الواجبات ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫الثالث والسبعون ‪ :‬أقول ‪ -:‬قال بعض العلماء ( إنه ينبغي للمسلم أن يكون مستعداً لصالته‬
‫معتنياً بوقتها حبيث يوفق بينه وبني وقت الطعام‪ ،‬فال يشتغل ابلطعام يف الوقت الذي يعلم أن‬
‫الصالة تقام فيه‪ ،‬ل كن لو حضر الطعام وأقيمت الصالة استحب له تقدمي الطعام ال سيما إذا كانت‬
‫ن فسه تتوق إليه‪ ،‬أو كان الطعام يفسده التأخري‪ ،‬مث يصلي بعد انتهائه منه‪ ،‬هذا إذا حضرت الصالة‬
‫قبل أن يبدأ ابلطعام‪ ،‬فما ابلك مبن أقيمت الصالة عليه وهو يتعشى‪ ،‬ففي الصحيحني أنه عليه‬
‫الصالة والس الم قال‪ :‬إذا حضر العشاء وأقيمت الصالة فابدؤوا ابلعشاء‪ .‬متفق عليه‪ ،‬ويف لفظ‬
‫البخاري ‪ :‬إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصالة فابدؤوا ابلعشاء‪ ،‬وال يعجل حىت يفرغ منه‪ .‬وكان‬
‫ابن عمر يوضع له الطعام وتقام الصالة فال أيتيها حىت يفرغ‪ ،‬وإنه ليسمع قراءة اإلمام‪ .‬وللبخاري‬
‫أيضاً‪ :‬إذا كان أحدكم على الطعام فال يعجل حىت يقضي حاجته منه وإن أقيمت الصالة‪ .‬قال ابن‬
‫حجر يف فتح الباري‪ :‬قوله‪ :‬فابدؤوا ابلعشاء محل اجلمهور هذا األمر على الندب‪ ،‬مث اختلفوا فمنهم‬
‫من قيده مبن كان حمتاجاً إىل األكل وهو املشهور عند الشافعية وزاد الغزايل‪ :‬ما إذا خشي فساد‬
‫املأكول‪ ،‬ومنهم من مل يقيده وهو قول الثوري وأمحد وإسحاق وعليه يدل فعل ابن عمر ‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫وقال ابن قدامة يف املغين‪ :‬إذا حضر العشاء يف وقت الصالة فاملستحب أن يبدأ ابلعشاء قبل‬
‫الصالة‪ ،‬ليكون أفرغ لقلبه وأحضر لباله‪ ،‬وال يستحب أن يعجل عن عشائه أو غدائه‪ ،‬فإن أنساً‬
‫روى عن النيب صلى هللا عليه وسلم أنه قال " إذا قرب العشاء وحضرت الصالة فابدؤوا به قبل أن‬
‫تصلوا صالة املغرب‪ ،‬وال تعجلوا عن عشائكم " انتهى‪ .‬ومن هذا يعلم أن الصواب كان مع من‬
‫أكملوا عشاءهم مث صلوا بعد ذلك قبل أن يفوت الوقت‪ ،‬والدليل على ذلك هو ما ذكران‪ ،‬وأن‬
‫التأخري عن حضور الصالة هنا مشروع بسبب االشتغال ابلطعام يف حق الفرد فكيف ابجلماعة‪ ،‬مث‬
‫إن ما استدل به من قطع العشاء وذهب إىل الصالة ليس حديثاً‪ ،‬ولكنه من كالم وكيع بن اجلراح‬
‫رمحه هللا تعاىل كما يف حلية األولياء ففيها‪ :‬وقال وكيع‪ :‬من هتاون ابلتكبرية األوىل فاغسل يديك‬
‫منه‪ .‬انتهى وهللا ربنا أعلى وأعلم وال حول وال قوة إال ابهلل العلي العظيم ‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫الرابع والسبعون ‪ :‬عن أِب هريرة أن رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم قال " إذا أمن اإلمام فأمنوا‬
‫فإن من وافق أتمينه أتمني املالئكة غفر له ما تقدم من ذنبه " وقال ابن شهاب ‪ :‬كان رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وآله وسلم يقول آمني ‪ .‬رواه اجلماعة إال أن الرتمذي مل يذكر قول ابن شهاب ‪ .‬ويف‬
‫رواية " إذا قال اإلمام غري املغضوب عليهم وال الضالني فقولوا آمني فإن املالئكة تقول آمني وإن‬
‫اإلمام يقول آمني فمن وافق أتمينه أتمني املالئكة غفر له ما تقدم من ذنبه " رواه أمحد والنسائي ‪،‬‬
‫فهل األمر ابلتأمني يفيد الوجوب أو ال ؟ قال الشوكاين رمحه هللا تعاىل يف نيل األوطار يف بيان فوائد‬
‫هذه األحاديث ( واحلديث يدل على مشروعية التأمني قال احلافظ ‪ :‬وهذا األمر عند اجلمهور‬
‫للندب ‪ .‬وحكى ابن بزيزة عن بعض أهل العلم وجوبه على املأموم عمال بظاهر األمر ‪ .‬وأوجبته‬
‫الظاهرية على كل من يصلي ‪ .‬والظاهر من احلديث الوجوب على املأموم فقط لكن ال مطلقا بل‬
‫مقيدا أبن يؤمن اإلمام وأما اإلمام واملنفرد فمندوب فقط وحكى املهدي يف البحر عن العرتة مجيعا‬
‫أن التأمني بدعة وقد عرفت ثبوته عن علي عل يه السالم من فعله وروايته عن النيب صلى هللا عليه‬
‫وآله وسلم يف كتب أهل البيت وغريهم على أنه قد حكى السيد العالمة اإلمام حممد بن إبراهيم‬
‫الوزير عن اإلمام مهدي حممد بن املطهر وهو أحد أئمتهم املشاهري أنه قال يف كتابه الرايض الندية ‪:‬‬
‫إن رواة التأمني جم غفري قال ‪ :‬وهو مذهب زيد بن علي وأمحد بن عيسى انتهى ‪ ،‬وقد استدل‬
‫صاحب البحر على أن التأمني بدعة حبديث معاوية بن احلكم السلمي إن هذه صالتنا ال يصلح‬
‫فيها شيء من كالم الناس وال يشك أن أحاديث التأمني خاصة وهذا عام وإن كانت أحاديثه‬
‫الواردة عن مجع من الصحابة ال يقوى بعضها على ختصيص حديث واحد من الصحابة مع أهنا‬
‫مندرجة حتت العمومات القاضية مبشروعية مطلق الدعاء يف الصالة ألن التأمني دعاء فليس يف‬
‫الصالة تشهد وقد أثبتته العرتة فما هو جواهبم يف إثباته فهو اجلواب يف إثبات ذلك على أن املراد‬
‫بكالم الناس يف احلديث هو تكليمهم ألنه اسم مصدر كلم ال تكلم ‪ ،‬ويدل على أن ذلك السبب‬
‫املذكور يف احلديث ‪ .‬وأما القدح يف مشروعية التأمني أبنه من طريق وائل بن حجر فهو اثبت من‬
‫طريق غريه يف كتب أهل البيت وغريها فإنه مروي من جهة ذلك العدد الكثري) وأان أجد نفسي إىل‬
‫ما قاله الشيخ الشوكاين ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫اخلامس والسبعون ‪ :‬عن ابن عباس قال " أمر النيب صلى هللا عليه وآله وسلم أن يسجد على سبعة‬
‫أعضاء وال يكف شعرا وال ثواب اجلبهة واليدين والركبتني والرجلني " أخرجاه ويف لفظ قال النيب‬
‫‪54‬‬
‫صلى هللا عليه وآله وسلم " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم على اجلبهة وأشار بيده على أنفه‬
‫واليدين والركبتني والقدمني " متفق عليه ‪ .‬ويف رواية " أمرت أن أسجد على سبع وال أكفت الشعر‬
‫وال الثياب اجلبهة واألنف واليدين والركبتني والقدمني " رواه مسلم والنسائي واحلديث يدل على‬
‫وجوب السجود على هذه األعضاء السبعة ‪ ،‬ألن لفظة ( أمرت ) صرحية يف إرادة الوجوب ‪ ،‬وال‬
‫صارف يصرف هذا األم ر عن اببه إىل الندب ‪ ،‬فيجب السجود على اجلبهة على الصحيح خالفا‬
‫للحنفية ‪ ،‬فإهنم ال يقولون به ‪ ،‬وجيب السجود على األنف على الصحيح خالفا للجمهور ‪ ،‬وجيب‬
‫السجود على بقية األعضاء ‪ ،‬ألن املتقرر ألن األمر املطلق عن القرينة يفيد الوجوب ‪ ،‬قال الشوكاين‬
‫رمحه هللا تعاىل يف النيل ( واحلديث يدل على وجوب السجود على السبعة األعضاء مجيعا ) وهللا‬
‫أعلم‬
‫السادس والسبعون ‪ :‬القاعدة املتقررة عند أهل السنة واجلماعة رمحهم هللا تعاىل أنه ال جيوز احللف‬
‫ابملخلوقات ‪ ،‬بل ال جيوز احللف إال ابسم من أمساء هللا تعاىل أو صفة من صفاته ‪ ،‬وبناء عليه ‪-:‬‬
‫فالقول الصحيح أن من حلف بغري هللا تعاىل فإنه ال كفارة فيه عند أهل السنة ‪ ،‬بل كفارهتا أن‬
‫يقول ( ال إله إال هللا ) وذلك ألنه جرح توحيده ‪ ،‬فإما أن يكون حلفه بتعظيم كتعظيم هللا تعاىل‬
‫فمن فعل هذا فقد كفر وأشرك وخلع ربقة اإلسالم من عنقه ابلكلية ‪ ،‬فتكون كلمة التوحيد جمددة‬
‫له اإلسالم ‪ ،‬وأما إن كان هذا احللف مما جرى على لسانه وال يقصد به التعظيم ‪ ،‬فإنه من الشرك‬
‫األصغر ‪ ،‬فيكون قول كلمة التوحيد بعده من جوابر الكسر الذي حصل ‪ ،‬والسؤال هنا ‪ -:‬هل‬
‫قول ( ال إله إال هللا ) بعد احللف بغري هللا تعاىل من الواجبات املتحتمات أو من املندوابت‬
‫املستحبات ؟ أقول ‪ -:‬احلق احلقيق ابلقبول هو أهنا من الواجبات املتحتمات ‪ ،‬وأنه إن مل يقلها فهو‬
‫آمث ألنه قد أخل ابلواجب ‪ ،‬وبرهان هذا اإلجياب األمر هب ا يف قوله صلى هللا عليه وسلم " من‬
‫صدَّق "‬ ‫ِ‬
‫ف فقال يف حلفه ‪ :‬والالت فليَ ُق ْل ‪ :‬ال إله إال هللا ومن قال لصاحبه ‪ :‬تعال أُقام ْرك فليََت َ‬
‫َحلَ َ‬
‫فهذان أمران واجبان ‪ ،‬األول ‪ -:‬أن من حلف بغري هللا تعاىل فإنه ال كفارة ليمينه هذه إال أبن يقول‬
‫( ال إله إال هللا ) ألن النيب صلى هللا عليه وسلم قد أمر هبا يف هذا احلديث ‪ ،‬واملتقرر أن األمر‬
‫املطلق عن القرينة يفيد الوجوب ‪ ،‬الثاين ‪ -:‬أن من قال لصاحبه( تعال أقامرك ) أي ألعب معك‬
‫لعبة القمار ‪ ،‬والعياذ ابهلل ‪ ،‬فإن الواجب عليه يف هذه احلالة أن يتصدق بشيء ‪ ،‬ألن النيب صلى‬
‫هللا عليه وسلم قد أمر به يف احلديث ‪ ،‬واألمر املطلق عن القرينة يفيد الوجوب ‪ ،‬وقلنا ( يتصدق‬
‫‪55‬‬
‫بشيء ) ألنه غري حمدد يف احلديث مقدار هذه الصدقة واملتقرر أن األصل وجوب بقاء املطلق على‬
‫إطالقه وال يقيد إال بدليل ‪ ،‬ولكن عندي أنه لو تصدق ابملال الذي عزم املقامرة عليه لكان هو‬
‫األوىل ‪ ،‬وبيان هذا أنه قد عزم أن يعصي هللا تعاىل هبذا املال ‪ ،‬فمعاملة للنفس األمارة ابلسوء‬
‫بنقيض قصدها وحىت ينقلب األمر على الشيطان ال بد وأن يبذل هذا املال يف سبيل هللا تعاىل ‪،‬‬
‫ألنه كان سيبذل يف سبيل الشيطان واهلوى واملعصية فتحولت الدفة بفضل هللا تعاىل ‪ ،‬إىل طريق‬
‫اخلري ‪ ،‬فكما أنه كان سينفق املال الكثري يف املقامرة وهي معصية فألن يبذل هذا املال كله يف‬
‫الطاعة من ابب أوىل وأحرى ‪ ،‬واألمر إىل هللا تعاىل من قبل ومن بعد ‪ ،‬ولكن كما ذكرت لك أنه ال‬
‫تقدير يف الصدقة ‪ ،‬وإمنا الكالم السابق من ابب االستحسان فقط ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫السابع والسبعون ‪ :‬عن جابر أن النيب صلى هللا عليه وسلم أمر بوضع اجلوائح ‪ ...‬ويف رواية قَ َ‬
‫ال‬
‫ول اَ َِّ‬
‫َصابَْتهُ َجائِ َحةٌ‪ ،‬فَ َال َِحي ُّل لَ َ‬
‫ك أَ ْن َأتْ ُخ َذ‬ ‫يك َمثَراً فَأ َ‬
‫لِل صلى هللا عليه وسلم " لَو بِعت ِمن أ ِ‬
‫َخ َ‬ ‫ْ ْ َ ْ‬ ‫َر ُس ُ‬
‫يك بِغَ ِْري َح هق؟" ‪ ...‬وقد اختلفت كلمة أهل العلم رمحهم هللا تعاىل يف‬ ‫َخ َ‬ ‫ِمْنهُ َشْي ًئا‪ِِ .‬بَ َأتْ ُخ ُذ َم َ‬
‫ال أ ِ‬
‫هذه املسألة ‪ ،‬فذهب قوم إىل االستحباب ‪ ،‬أي أنه إن اشرتيت مترا وقبل قبضه نزل عليه أمر هللا‬
‫تعاىل من السماء ففسد ‪ ،‬وكنت أنت قد دفعت مثنه ‪ ،‬فهل جيب على البائع أن يرد عليك الثمن‬
‫كله ‪ ،‬أو أن رد الثمن من ابب االستحباب ؟ فقال قوم هبذا ‪ ،‬وقال قوم هبذا ‪ ،‬والصحيح يف هذه‬
‫املسألة هو الوقوف على لفظ األمر وما يفيده يف الشريعة ‪ ،‬وهو أن قوله " أمر " يفيد الوجوب ‪،‬‬
‫فوضع اجلوائح من األمور الواجبة ‪ ،‬ويؤيد الوجوب قوله صلى هللا عليه وسلم يف الرواية األخرى " ِب‬
‫أتخذ مال أخيك بغري حق " وهذا دليل على أن البائع لو مل يرد املال إىل املشرتي ‪ ،‬لكان هذا من‬
‫أكل املال ابلباطل ‪ ،‬وأنت خبري أبن هذا من األمور احملرمة ألن هللا تعاىل يقول ‪َ ‬والَ َأتْ ُكلُواْ‬
‫اط ِل ‪ ‬وأكل املال ابلباطل له صور كثرية ‪ ،‬ومنها‪ -:‬تلك الصورة اليت ذكرها‬ ‫أَموالَ ُكم ب ي نَ ُكم ِابلْب ِ‬
‫َ‬ ‫ْ َ َْ‬
‫احلديث ‪ ،‬وأي ذ نب للمشرتي أن يؤخذ ماله بغري حق ‪ ،‬بل امسع إىل قوله " فال حيل لك أن أتخذ‬
‫من مال أخيك شيئا " واملتقرر أن قوله " ال حيل " يرادف قوله (حيرم هذا) فإن قلت ‪ -:‬وما ذنب‬
‫البائع أيضا ؟ فأقول ‪ -:‬هذا أمر هللا وقضاؤه ‪ ،‬وقد نزل على مثرته وهي ال تزال يف ضمانه ‪ ،‬وهللا‬
‫تعاىل هو احلكم العدل الذي ال يظلم أحدا ‪ ،‬وقضاء الشرع كله حق وعدل وإن كنا ال نعرف‬
‫حقيقة احلكمة فيه ‪ ،‬ألننا مؤمنون أن ربنا جل وعال هو احلكيم يف قضائه وقدره وحكمه ‪ ،‬واملهم أن‬

‫‪56‬‬
‫لفظة " أمر " هنا تفيد الوجوب ‪ ،‬يعين أنه ال حيل للبائع شيء من مال املشرتي ‪ ،‬بل حيب عليه أن‬
‫يرده كله إن كان قد قبضه ‪ ،‬وإن مل يقبضه فال حق له ابملطالبة به ‪ ،‬وهللا ربنا أعلى وأعلم ‪.‬‬
‫الثامن والسبعون ‪ :‬القول الصحيح إن شاء هللا تعاىل هو أن اإلشهاد على الرجعة من األمور‬
‫الواجبة ‪ ،‬فالرجعة ال تصح مع الكتمان حبال ‪ ،‬أفاده أبو العباس ابن تيمية رمحه هللا تعاىل ‪ ،‬وسدا‬
‫لذريعة التالعب أبمر الطالق والرجعة‪ ،‬وبرهان هذا اإلجياب هو املر به يف قوله تعاىل ‪َ ‬وأَ ْش ِه ُدوا‬
‫َذ َو ْي َع ْدل ِهمن ُك ْم ‪ ‬واألمر هنا يفيد الوجوب ‪ ،‬وال أعلم له صارفا عن الوجوب إىل الندب‪ ،‬وهللا‬
‫أعلم ‪.‬‬
‫ث َو َج ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وه ْم‬
‫دمتُ ُ‬ ‫احلُُرُم فَاقْ تُلُواْ الْ ُم ْش ِرك َ‬
‫ني َحْي ُ‬ ‫التاسع والسبعون ‪ :‬يف قول هللا تعاىل ‪ ‬فَإ َذا ا َ‬
‫نسلَ َخ األَ ْش ُهُر ْ‬
‫‪ ‬هذا األ مر يف اآلية يفيد الوجوب ‪ ،‬مع أنه أمر بعد منع ‪ ،‬ولكنه قد تقرر لنا سابقا أن األمر بعد‬
‫احلظر يفيد ما كان يفيده قبل احلظر ‪ ،‬وقتال املشركني قبل األشهر احلرم كان من الواجبات ‪ ،‬فيكون‬
‫حكمه بعد فك احلظر من الواجبات أيضا ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫الفرع املويف للثمانني ‪ :‬عن الضحاك بن فريوز عن أبيه قال " أسلمت وعندي امرأَتن أختان فأمرين‬
‫النيب صلى هللا عليه وآله وسلم أن أطلق أحدامها " رواه اخلمسة إال النسائي ‪ .‬ويف لفظ الرتمذي "‬
‫اخرت أيتهما شئت " وعن الزهري عن سامل عن ابن عمر قال " أسلم غيالن الثقفي وحتته عشر نسوة‬
‫يف اجلاهلية فأسلمن معه فأمره النيب صلى هللا عليه وآله وسلم أن خيتار منهن أربعا " رواه أمحد وابن‬
‫ماجه والرتمذي ‪ ،‬وهذا هو حكم هللا تعاىل فيمن كان هبذه احلالة‪ ،‬واألمر يف قوله " فأمرين " وقوله "‬
‫فأمره " كله للوجوب ‪ ،‬أي جيب أن يتخري منهن أربعا إن كن أكثر أو واحدة من األختني إن كان‬
‫حتته أختان ‪ ،‬وهو شريعة يف كل من كان حتته من ال جيوز اجلمع بينهن من النساء ‪ ،‬فإن أَب أن‬
‫خيتار وأصر على بقائهن حتته فإن احلاكم جيبه على االختيار ابحلبس والتعزير ‪ ،‬ومبا يراه مناسبا‬
‫حلالته ‪ ،‬وأظن أن الفقهاء رمحهم هللا تعاىل قد نصوا على أن احلاكم ال حق له يف أن يتوىل االختيار‬
‫هو بنفسه ‪ ،‬ألن األمر يرجه إىل شهوة الزوج ورغبته‪ ،‬قال الشوكاين رمحه هللا تعاىل يف النيل (‬
‫وحديث الضحاك استدل به حترمي اجلمع بني األختني وال أعرف يف ذلك خالفا وهو نص القرآن‬
‫ف‪ ‬فإذا أسلم كافر وعنده أختان أجب على‬ ‫ُختَ ْ ِ‬
‫ني إَالَّ َما قَ ْد َسلَ َ‬ ‫ني األ ْ‬
‫قال هللا تعاىل ‪َ ‬وأَن َْجت َم ُعواْ بَْ َ‬
‫تطليق إحدامها ويف ترك استفصاله عن املتقدمة منهما من املتأخرة دليل على أنه حيكم لعقود الكفار‬
‫ابلصحة وإن مل توافق اإلسال م فإذا أسلموا أجرينا عليهم يف األنكحة أحكام املسلمني ‪ ،‬وقد ذهب‬
‫‪57‬‬
‫إىل هذا مالك والشافعي وأمحد وداود وذهبت العرتة وأبو حنيفة وأبو يوسف والثوري واألوزاعي‬
‫والزهري وأحد قويل الشافعي إىل أنه ال يقر من أنكحة الكفار إال ما وافق اإلسالم فيقولون إذا أسلم‬
‫الكافر وحتته أختان وجب عليه إرسال من أتخر عقدها وكذلك إذا كان حتته أكثر من مخس أمسك‬
‫من تقدم العقد عليها منهن وأرسل من أتخر عقدها إذا كانت خامسة أو حنو ذلك وإذا وقع العقد‬
‫على األختني أو على أكثر من أربع مرة واحدة بطل وأمسك من شاء من األختني وأرسل من شاء‬
‫وأمسك أربعا من الزوجات خيتارهن ويرسل الباقيات والظاهر ما قاله األولون لرتكه صلى هللا عليه‬
‫وآله وسلم لالستفصال يف حديث الضحاك وحديث غيالن وملا يف قوله " أخرت أيتهما " ويف قوله "‬
‫أخرت أربعا " من اإلطالق ) وهللا أعلم ‪.‬‬
‫احلادي والثمانون ‪ :‬ما احلكم لو أخر دفع مال أمر بدفعه ؟ قال يف اإلنصاف يف اإلجابة عن هذا‬
‫السؤال ( لو أخر دفع مال أمر بدفعه بال عذر ضمن كما تقدم نظريه يف الوديعة وهذا الصحيح من‬
‫املذهب وعليه مجاهري األصحاب‪.‬وقيل‪ :‬ال يضمن واختاره أبو املعايل بناء على اختصاص الوجوب‬
‫أبمر الشرع‪.‬قلت‪ :‬األمر اجملرد عن القرينة هل يقتضي الوجوب أم ال؟ فيه مخسة عشر قوال للعلماء‪.‬‬
‫من مجلتها‪ :‬أن أمر الشارع للوجوب دون غريه كما اختاره أبو املعايل‪.‬والصحيح من املذهب‪ :‬أنه‬
‫للوجوب مطلقا ) قلت ‪ -:‬وهو احلق ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫الثاين والثمانون ‪ :‬اعلم رمحك هللا تعاىل أن النكاح سنة‪ ،‬ملن له شهوة وال خياف على نفسه العنت‬
‫أي الزان‪ ،‬فهو سنة يف مذهب مجاهري العلماء‪ ،‬وقال الظاهرية وهو رواية عن اإلمام أمحد اختارها‬
‫طائفة من أصحابه كأِب بكر عبد العزيز وأِب حفص البمكي وابن أِب موسى من أصحاب اإلمام‬
‫أمحد‪ :‬أن النكاح ملن له شهوة وعنده قدرة مالية على ذلك فإنه واجب يف حقه واستدلوا مبا ثبت يف‬
‫الصحيحني أن النيب صلى هللا عليه وسلم قال " اي معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج‬
‫فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج‪ ،‬ومن مل يستطع فعليه ابلصوم فإنه له وجاء " والشاهد قوله (‬
‫فليتزوج ) واألمر للوجوب‪ ،‬وهذا القول هو األظهر ملوافقته لظاهر قوله صلى هللا عليه وسلم (‬
‫فليتزوج ) واجلمهور محلوا األمر الوارد يف احلديث على االستحباب واألظهر أنه للوجوب‪.‬وأما إذا‬
‫كان غري قادر على النكاح مباله فال جيب عليه النكاح بل يستحب‪ ،‬ملفهوم قوله صلى هللا عليه‬
‫وسلم " اي معشر الشباب من استطاع منكم الباءة " والباءة هي مؤنة النكاح من مهر وغريه‪ ،‬فقد‬
‫أوجب الزواج على من استطاع الباءة‪ ،‬فدل على أن الفقري ال جيب عليه‪ ،‬لكن يستحب له‪ ،‬وقد‬
‫‪58‬‬
‫ضلِ ِه ‪ ‬هذا إن كان له شهوة‪ ،‬وأما من ال شهوة له‬
‫الِلُ ِمن فَ ْ‬
‫قال تعاىل ‪ ‬إِن يَ ُكونُوا فُ َقَراء يُ ْغنِ ِه ُم َّ‬
‫كالعنني الذي ال أييت النساء‪ ،‬أو الكبري اهلرم فال جيب النكاح وال يستحب يف حقهم‪ ،‬وذلك لزوال‬
‫املعىن املقتضي لإلجياب واالستحباب فيكون مباحاً يف حقه لكن من غري أن يرتتب على هذا ضرر‬
‫على املرأة‪ ،‬فإن طلبت الطالق ‪ ،‬فإن فيه مصلحة له بقيام هذه املرأة بشأنه وهي أيضاً هلا مصلحة‬
‫إبنفاق هذا الزوج عليها‪ ،‬إذن من ال شهوة له وعنده قدرة مالية فإن النكاح يباح وقد يستحب‬
‫حيث كان يف ذلك مصلحة ظاهرة للمرأة كأن تكون املرأة حمتاجة ‪ ،‬واملهم أن األمر يف قوله صلى‬
‫هللا عليه وسلم " فليتزوج " يفيد الوجوب ابلشرط املذكور قبال ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫الثالث والثمانون ‪ :‬ثبت أن النيب صلى هللا عليه وسلم قال للمستحاضة " وتوضئي لكل صالة "‬
‫فقالوا‪" :‬توضئي" أمر‪ ،‬واألصل يف األمر أنه للوجوب‪ ،‬وبناءً على ذلك‪ :‬جيب على املستحاضة أن‬
‫تتوضأ لكل صالة‪ ،‬هذا القول األول ‪ ،‬واملراد أي وقت كل صالة ‪ ،‬فكلما دخل عليها وقت الصالة‬
‫فإهنا مأمورة ابلوضوء ‪ ،‬مث تصلي ما شاءت يف هذا الوقت من النوافل حىت خيرج هذا الوقت ‪ ،‬مث‬
‫تفعل يف الوقت الثاين ما فعلته يف الوقت األول وهكذا ‪ ،‬فاألمر يف قوله " وتوضئي " يفيد الوجوب‬
‫‪ ،‬ألنه ال صارف له ‪ ،‬بل يف حديث أمساء بنت عميس يف شأن املستحاضة ‪ ،‬أن النيب صلى هللا‬
‫عليه وسلم قال " وتتوضأ فيما بني ذلك " وقد استفدان من هذا احلديث حكما عاما يف كل من‬
‫حدثه دائم ‪ ،‬وقرران يف هذا قاعدة تقول ( من حدثه دائم فإنه يتوضأ لوقت كل صالة ويصلي وال‬
‫يضر خروج حدثه ) وهللا تعاىل أعلم ‪.‬‬
‫الرابع والثمانون ‪ :‬القول الصحيح والرأي الراجح املليح هو أن سجود السهو من واجبات الصالة‬
‫إن كان السهو حصل فيما يبطل عمده الصالة ‪ ،‬يعين أنه إن وقع منك السهو يف صورة من الصور‬
‫فاسأل نفسك ‪ -:‬لقد فعلت هذه الصورة سهوا ‪ ،‬ولكن مال احلكم لو أنين فعلتها عمدا ‪ ،‬فإن كان‬
‫اجلواب ‪ -:‬بطالن الصالة مع العمد فاعلم أن سجود السهو هلذه الصورة من الواجبات ‪ ،‬والدليل‬
‫على هذا أن النيب صلى هللا عليه وسلم أمر هبا يف غري ما حديث ‪ ،‬عن عبد الرمحن بن عوف قال ‪:‬‬
‫مسعت رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم يقول " إذا شك أحدكم يف صالته فلم يدر أواحدة‬
‫صلى أم ثنتني فليجعلها واحدة وإذا مل يدر ثنتني صلى أم ثالاث فليجعلها ثنتني وإذا مل يدر ثالاث‬
‫صلى أم أربعا فليجعلها ثالاث مث يسجد إذا فرغ من صالته وهو جالس قبل أن يسلم سجدتني "‬
‫وعن أِب سعيد اخلدري قال قال رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم " إذا شك أحدكم يف صالته‬
‫‪59‬‬
‫فلم يدر كم صلى ثالاث أم أربعا فليطرح الشك ولينب على ما استيقن مث يسجد سجدتني قبل أن‬
‫يسلم فإن كان صلى مخسا شفعن له صالته وإن كان صلى إمتاما ألربع كانتا ترغيما للشيطان " رواه‬
‫أمحد ومسلم وعن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود قال‪ :‬صلَّى النيب صلى هللا عليه وآله وسلم (‬
‫قال إبراهيم ‪ :‬ال أدري زاد أو نقص ) فلما سلم قيل له ‪ :‬اي رسول هللا حدث يف الصالة شيء قال‬
‫" ال وما ذاك " قالوا ‪ :‬صليت كذا وكذا فثىن رجليه واستقبل القبلة فسجد سجدتني مث سلم مث أقبل‬
‫علينا بوجهه فقال " إنه لو حدث يف الصالة شيء أنبأتكم به ولكن إمنا أان بشر أنسى كما تنسون‬
‫فإذا ن سيت فذكروين وإذا شك أحدكم يف صالته فليتحر الصواب فليتم عليه مث ليسلم مث ليسجد‬
‫سجدتني " رواه اجلماعة إال الرتمذي ‪ .‬ويف لفظ ابن ماجه ومسلم يف رواية " فلينظر أقرب ذلك إىل‬
‫الصواب " وعن أِب هريرة أن النيب صلى هللا عليه وسلم قال " إن الشيطان يدخل بني ابن آدم وبني‬
‫ن فسه فال يدري كم صلى فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتني قبل أن يسلم " فهذه األوامر‬
‫كلها تفيد الوجوب ‪ ،‬ألن املتقرر أن األمر املطلق يفيد الوجوب ‪ ،‬وال أعلم قرينة تصرف األمر عن‬
‫اببه ‪ ،‬وقد فصلنا القول يف أحوال سجود السهو يف رسالة مستقلة ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫اخلامس والثمانون ‪ :‬قال الشيخ حممد املختار الشنقيطي رمحه هللا تعاىل يف شرحه على الزاد يف‬
‫مبحث صالة اخلوف ( صالة اخلوف على صفات‪ ،‬لكن سنذكر منها املشروع‪ :‬الصفة األوىل‪ :‬أن‬
‫يقسم اإلمام اجليش إىل طائفتني‪ ،‬فيكون اجليش صفني‪ :‬الصف األول يلي اإلمام‪ ،‬والثاين من بعده‪،‬‬
‫ويصلون وهم حاملون للسالح‪ ،‬فتقام الصالة وكل واحد معه سالحه الذي ال يزعجه يف صالته‪،‬‬
‫كالسالح الذي يدفع به العدو وال مينعه من الركوع والسجود‪ ،‬وال مينعه من أداء أركان الصلوات‪:‬‬
‫وقد اختلف العلماء يف حكم محلة سالحه‪ ،‬فقال بعضهم‪ :‬جيب عليهم أن أيخذوا السالح لظاهر‬
‫قوله سبحانه وتعاىل ‪َ ‬و ُخ ُذوا ِح ْذ َرُك ْم ‪ ‬فأمر سبحانه وتعاىل أبخذ احلذر وقال تعاىل ‪َ ‬ولْيَأْ ُخ ُذوا‬
‫َسلِ َحتَ ُه ْم ‪ ‬فكونه أيمر أبخذ السالح يدل على الوجوب؛ ألن األصل يف األمر أنه للوجوب‪ ،‬وهذا‬ ‫أْ‬
‫مذهب الظاهرية وطائفة‪ ،‬وهو أقوى القولني‪ ،‬أهنم أيخذون السالح ) وهو كما قال رمحه هللا تعاىل ‪.‬‬
‫السادس والثمانون ‪ :‬القول الصحيح عندي وهللا تعاىل أعلم أن األمر ابألخذ من الشارب أمر‬
‫وجوب وحتتم ‪ ،‬وبرهان هذا أن النيب صلى هللا عليه وسلم أمر به فقال " جزوا الشوارب " وقوله "‬
‫أحفوا الشوارب " وغريها ‪ ،‬وهذه األوامر تفيد الوجوب ‪ ،‬ويؤيد هذا القول ما رواه أمحد والنسائي‬
‫بسند صحيح من حديث زيد بن أرقم رضي هللا عنه قال ‪ -:‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم "‬
‫‪60‬‬
‫من مل أيخذ من شاربه فليس منا " واملتقرر أن قوله يف بعض األمور ( من فعله فليس منا ) دليل‬
‫على التحرمي ‪ ،‬ولكن ورد ما يقيد هذا التحرمي مبا زاد على األربعني ليلة فاألخذ من الشارب فيما‬
‫دون ذلك من السنة ‪ ،‬وأما ما زاد عليها فهو من الواجبات ‪ ،‬ففي الصحيح من حديث انس بن‬
‫مالك رضي هللا عنه قال ‪ -:‬وقت لنا يف قص الشارب وتقليم األظفار ونتف اإلبط وحلق العانة أن‬
‫ال نرتك أكثر من أربعني ليلة ‪ .‬وألمحد وأِب داود ‪ :‬وقت لنا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ .‬واملتقرر‬
‫أن اجلمع بني األدلة واجب ما أمكن ‪ ،‬ومبا قلناه جيتمع مشلها ويتآلف نظامها ‪ ،‬وهللا أعلى وأعلم ‪.‬‬
‫السابع والثمانون ‪ :‬عن أِب هريرة رضي هللا عنه قال قال رسول هللا صلى هللا عليه و سلم " ال‬
‫يشربن أحدكم قائما فمن نسى فليستقيء " وعن ابن عباس سقيت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫من زمزم فشرب وهو قائم وىف الرواية األخرى أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم شرب من زمزم وهو‬
‫قائم ويف صحيح البخاري أن عليا رضى هللا عنه شرب قائما وقال رأيت رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم فعل كما رأيتموين فعلت ‪ .‬قال النووي رمحه هللا تعاىل ( على أن هذه األحاديث أشكل‬
‫معناها على بعض العلماء حىت قال فيها أقواال ابطلة وزاد حىت جتاسر ورام أن يضعف بعضها‬
‫وادعى فيها دعاوى ابطلة ال غرض لنا ىف ذكرها وال وجه إلشاعة األابطيل والغلطات يف تفسري‬
‫السنن بل نذكر الصواب ويشار إىل التحذير من االغرتار مبا خالفه وليس يف هذه األحاديث حبمد‬
‫هللا تعاىل إشكال وال فيها ضعف بل كلها صحيحة والصواب فيها أن النهى فيها حممول على كراهة‬
‫التنزيه وأما شربه صلى هللا عليه وسلم قائما فبيان للجواز فال إشكال وال تعارض وهذا الذي ذكرانه‬
‫يتعني املصري إليه وأما من زعم ن سخا أو غريه فقد غلط غلطا فاحشا وكيف يصار إىل النسخ مع‬
‫إمكان اجلمع بني األحاديث لو ثبت التاريخ وأىن له بذلك وهللا أعلم فإن قيل كيف يكون الشرب‬
‫قائما مكروها وقد فعله النيب صلى هللا عليه وسلم فاجلواب أن فعله صلى هللا عليه و سلم إذا كان‬
‫بياان للجواز ال يكون مكروها بل البيان واجب عليه صلى هللا عليه وسلم فكيف يكون مكروها وقد‬
‫ثبت عنه أنه صلى هللا عليه و سلم توضأ مرة مرة وطاف على بعري مع أن اإلمجاع على أن الوضوء‬
‫ثالاث والطواف ماشيا أكمل ونظائر هذا غري منحصرة فكان صلى هللا عليه وسلم ينبه على جواز‬
‫الشيء مرة أو مرات ويواظب على األفضل منه وهكذا كان أكثر وضوئه صلى هللا عليه وسلم ثالاث‬
‫ثالاث وأكثر طوافه ماشيا وأكثر شربه جالسا وهذا واضح ال يتشكك فيه من له أدىن نسبة إىل علم‬
‫وهللا أعلم وأما قوله صلى هللا عليه و سلم " فمن نسى فليستقىء " فمحمول على االستحباب‬
‫‪61‬‬
‫والندب فيستحب ملن شرب قائما أن يتقاأيه هلذا احلديث الصحيح الصريح فان األمر إذا تعذر‬
‫محله على الوجوب محل على االستحباب وأما قول القاضي عياض ال خالف بني أهل العلم أن من‬
‫شرب انسيا ليس عليه أن يتقيأه فأشار بذلك إىل تضعيف احلديث فال يلتفت إىل إشارته وكون‬
‫أهل العلم مل يوجبوا االستقاءة ال مينع كوهنا مستحبة فإن ادعى مدع منع االستحباب فهو جمازف ال‬
‫يلتفت إليه فمن أين له اإلمجاع على منع االستحباب وكيف ترتك هذه السنة الصحيحة الصرحية‬
‫ابلتومهات والدعاوى والرتهات مث اعلم أنه تستحب االستقاءة ملن شرب قائما انسيا أو متعمدا‬
‫وذكر الناسي ىف احلديث ليس املراد به أن القاصد خيالفه بل للتنبيه به على غريه بطريق األوىل ألنه‬
‫إذا أمر به الناسي وهو غري خماطب فالعامد املخاطب املكلف أوىل وهذا واضح الشك فيه ) وبه‬
‫تعلم أن األ مر ابالستقاءة بعد الشرب واقفا ليس على اببه الذي هو الوجوب ‪ ،‬بل هو مصروف منه‬
‫إىل الندب ‪ ،‬ألنه ثبت أنه صلى هللا عليه وسلم شرب قائما فلم يستقئ ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫الثامن والثمانون ‪ :‬ال خالف بني أهل العلم رمحهم هللا تعاىل فيما نعلم على أن غسل امليت من‬
‫فروض الكفاايت ‪ ،‬وهذا الوجوب دليله اإلمجاع ‪ ،‬وكذلك األمر به يف قوله عليه الصالة والسالم ملن‬
‫يغسلن ابنته ملا ماتت " اغسلنها ثالاث أو سبعا أو أكثر من ذلك إن رأينت ذلك " وقال يف احملرم‬
‫الذي سقط عن راحلته فمات " اغسلوه مباء وسدر " وهذه األوامر مطلقة عن الصارف ‪ ،‬واملتقرر‬
‫أن األمر اجملرد عن القرينة يفيد الوجوب ‪ ،‬وعليه عمل املسلمني خالفا عن سالف ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫التاسع والثمانون ‪ :‬قال ابن رشد رمحه هللا تعاىل يف بداية اجملتهد ( اتفق العلماء على أن سرت العورة‬
‫فرض إبطالق‪ ،‬واختلفوا هل هو شرط من شروط صحة الصالة أم ال؟ وكذلك اختلفوا يف حد‬
‫العورة من الرجل واملرأة‪ ،‬وظاهر مذهب مالك أهنا من سنن الصالة‪ ،‬وذهب أبو حنيفة والشافعي إىل‬
‫أهنا من فروض الصالة وسبب اخلالف يف ذلك تعارض اآلاث ر واختالفهم يف مفهوم قوله تعاىل ‪َ ‬اي‬
‫آد َم ُخ ُذوا ِزينَتَ ُك ْم ِعْن َد ُك ِهل َم ْس ِجد ‪ ‬هل األمر بذلك على الوجوب أو على الندب؟ فمن محله‬
‫بَِين َ‬
‫على الوجوب قال‪ :‬املراد به سرت العورة‪ ،‬واحتج لذلك أبن سبب نزول هذه اآلية كان أن املرأة كانت‬
‫تطوف ابلبيت عراينة وتقول‪:‬‬
‫اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فال أحله‬
‫فنزلت هذه اآلية وأمر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أال حيج بعد العام مشرك وال يطوف ابلبيت‬
‫عراين ومن محله على الندب قال‪ :‬املراد بذلك الزينة الظاهرة من الرداء وغري ذلك من املالبس اليت‬
‫‪62‬‬
‫هي زينة‪ ،‬واحتج لذلك مبا جاء يف احلديث من أنه كان رجال يصلون مع النيب عليه الصالة والسالم‬
‫عاقدي أزرهم على أعناقهم كهيئة الصبيان‪ ،‬ويقال للنساء ال ترفعن رؤوسكن حىت يستوي الرجال‬
‫جلوسا قالوا‪ :‬ولذلك من مل جيد ما به يسرت عورته مل خيتلف يف أنه يصلي واختلف فيمن عدم‬
‫الطهارة هل يصلي أم ال يصلي؟) قلت ‪ -:‬والقول الصحيح أن اآلية تفيد الوجوب فيما هو من‬
‫سرت العورة الواجب سرتها ‪ ،‬وتفيد الندب فيما زاد على العورة الواجب سرتها ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫وه َوالَ تَتَّبِ ُعواْ ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫السبُ َل‬ ‫َن َه َذا صَراطي ُم ْستَق ًيما فَاتَّبِ ُع ُ‬
‫الفرع املويف للتسعني ‪ :‬يف قوله هللا تعاىل ‪َ ‬وأ َّ‬
‫فَتَ َفَّر َق بِ ُك ْم َعن َسبِيلِ ِه ‪ ‬وما أشبهها من اآلايت اآلمرة ابتباع طريق حممد صلى هللا عليه وسلم هذه‬
‫اآلايت فيها برد اليقني أبنه ال جيوز اتباع الطرق املخالفة لطريق حممد عليه الصالة والسالم وأن كل‬
‫حنلة غري حنلته ‪ ،‬وأي ملة سوى ملته فإنه زيغ وضالل وبعد عن طريق احلق واهلدى ويف هذا قطع‬
‫أللسنة من يدعو إىل وحدة التقريب بني األداين ‪ ،‬وأن كل أحد يعبد هللا تعاىل ملا هو عليه من‬
‫الدين وإن كان خمالفا ملا جاء به حممد صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬وأنه ال جيوز ألحد أن ينكر على‬
‫املخالف له يف العقيدة ‪ ،‬وأنه ال بد من فرض التعايش السلمي بني الطوائف املختلفة يف عقيدهتا ‪،‬‬
‫وأن لكل دينه الذي يراه حقا ‪ ،‬إىل غري ذلك من اخلرافات اليت ال برهان هلا وال نص يعضدها ‪،‬‬
‫وإمنا هو اهلوى والتخرص يف دين هللا تعاىل ‪ ،‬فرتى الواحد منهم يلوك لسانه هبذا الكالم كما تلوكه‬
‫البقرة ‪ ،‬وهو ال يدري عن املخالفة اليت يتضمنها كالمه ‪ ،‬وهذه الدعوى ابطلة ‪ ،‬وال خري فيها ‪،‬‬
‫وهي عارية عن احلق ‪ ،‬بل هي مصادمة للحق ‪ ،‬فإن احلق أن املنهج واحد وطريق النجاة واحد وال‬
‫طريق إىل هللا تعاىل وال إىل اجلنة إال ابتباع ما جاء به النيب صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬وال جيوز ألحد أن‬
‫خيالف منهجه وال يتبع غري ملته ‪ ،‬والواجب اإلنكار على من يتبع غري شريعته ‪ ،‬وال حيل السكوت‬
‫عنه بوجه من الوجوه ‪ ،‬ولكن ال بد وأن يكون اإلنكار منبثقا من النصوص الشرعية ومراعاة املصاحل‬
‫واملفاسد ‪ ،‬وأما أن نتميع يف دين هللا ونرتك األمر على الغارب فال ‪ ،‬وألف ال ‪ ،‬فإن هذه األوامر‬
‫الواردة يف اآلايت واآلمرة ابتباع حممد صلى هللا عليه وسلم كلها تفيد الوجوب ‪ ،‬وال جيوز ألحد من‬
‫علماء الشرع التساهل يف ذلك ‪ ،‬كما ن سمعه من بعض أهل العلم املعاصرين ‪ ،‬بل الواجب علينا رد‬
‫الناس إىل حياض الكتاب والسنة ‪ ،‬والوقوف يف وجه تلك الدعاوى اليت يراد منها نسف الدين‬
‫وخمالفة هدي سيد املرسلني ‪ ،‬ولكن ابلعقل املضبوط ابلنص وهدي السلف الصاحل ‪ ،‬ال ابلعنف‬
‫والقتل الذي ال جيوز يف الشرع ‪ ،‬وقد انقسم الناس يف هذه املسألة على ثالثة أقسام ‪ ،‬على طريف‬
‫‪63‬‬
‫نقيض ووسط ‪ ،‬وخري األمور أوساطها‪ ،‬فمن الناس من صار ينكر هذه األشياء ابلتفجري والتكفري‬
‫والقتل ‪ ،‬وهذا أمر ال جرم أنك تعلم كالم أهل العلم فيه ‪ ،‬وصار قسم يقولون ‪ -:‬ال بد من‬
‫التعايش مع الطرف اآلخر وإزالة األحقاد القلبية بني الطوائف ‪ ،‬وترك كل ذي عقيدة على ما هو‬
‫عليه ‪ ،‬هلم دينهم ولنا ديننا ‪ ،‬فال ينكر عليه ‪ ،‬وهذا أمر مرفوض ‪ ،‬وأما الوسط وهم خيار هذه األمة‬
‫من العلماء والصاحلني من األمراء فإهنم قالوا ‪ -:‬ال بد من دعوة الناس إىل احلق ‪ ،‬وال بد من رد‬
‫الناس إىل الكتاب والسنة ‪ ،‬وال بد من اإلنكار على من خالف الشريعة بعقيدة أو عمل ‪ ،‬ولكن ال‬
‫بد من اتباع الكتاب والسنة يف مسألة اإلنكا ر ‪ ،‬وال بد من النظر يف هدي السلف الصاحل يف‬
‫اإلنكار ‪ ،‬فال إفراط وال تفريط يف ذلك ‪ ،‬فال ن رتك األمر مفتوحا ألصحاب الدعوات الباطلة ‪ ،‬وال‬
‫ننكر عليهم اإلنكار املرفوض الذي ال يقره الدين ‪ ،‬بل ال بد من مراعاة الضوابط الشرعية والنصوص‬
‫املرعية وهدي خري البية وهذا هو احلق يف هذه املسألة اليت صارت من فنت الزمان ‪ ،‬نسأل هللا تعاىل‬
‫أن يعيذان من مضالت الفنت ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬واملقصود أن األوامر ابتباع املعصوم صلى هللا‬
‫عليه وسلم تفيد الوجوب ‪ ،‬وهي قاطعة للطريق على كل الدعاوى اليت ختالف ذلك ‪ ،‬وهللا املستعان‬
‫‪.‬‬
‫احلادي والتسعون ‪ :‬قال صلى هللا عليه وسلم " إذا صلى أحدكم اجلمعة فليصل بعدها أربعا " رواه‬
‫مسلم ‪ ،‬فهل األمر هنا للوجوب ؟ أقول ‪ -:‬القول الصحيح أنه للندب ال للوجوب ‪ ،‬فإن قلت ‪-:‬‬
‫وما الصارف ؟ فأقول ‪ -:‬ألنه صلى هللا عليه وسلم كان أحياان يقتصر على صالة ركعتني بعد‬
‫اجلمعة يف بيته ‪ ،‬كما ثبت ذلك يف الصحيح من حديث ابن عمر رضي هللا عنهما ففي احلديث "‬
‫وركعتني بعد اجلمعة يف بيته " وحلديث " مخس صلوات كتبهن هللا على العباد " ويف احلديث "‬
‫مخس صلوات يف اليوم والليلة " ملا سأله األعراِب عن اإلسالم ‪ ،‬وهو يف الصحيح ومن ابب الفائدة‬
‫أقول ‪ -:‬لق د اختار أبو العباس ابن تيمية رمحه هللا تعاىل أن من صلى بعد اجلمعة يف بيته فالسنة له‬
‫االقتصار على ركعتني ‪ ،‬ومن صلى بعد اجلمعة يف املسجد فالسنة له أن يصلي أربعا ‪ ،‬ومبا قال أقول‬
‫‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫الثاين والتسعون ‪ :‬عن الباء بن عازب رضي هللا عنه قال " أمران رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫بسبع وهناان عن سبع أمران بعيادة املريض واتباع اجلنازة وتشميت العاطس وإبرار القسم‪ .‬أو املقسم‬
‫ونصر املظلوم وإجابة الداعي وإفشاء السالم وهناان عن خواتيم ‪ -‬أو عن ختتم ‪ -‬ابلذهب وعن‬
‫‪64‬‬
‫الشرب ابلفضة وعن املياثر وعن القسي وعن لبس احلرير واإلستبق والديباج" وهو يف الصحيح ‪،‬‬
‫وقد خرج خمرج األمر ‪ ،‬واملتقرر أن األمر يفيد الوجوب ‪ ،‬وعلى ذلك ‪ -:‬فالقول الصحيح أن عيادة‬
‫املريض من واجبات الكفاية ‪ ،‬واختاره شيخ اإلسالم ‪ ،‬والقول الصحيح أن اتباع اجلنازة من واجبات‬
‫الكفاية أيضا ‪ ،‬واختاره شيخ اإلسالم ‪ ،‬والقول الصحيح أن تشميت العاطس من واجبات الكفاية‬
‫‪ ،‬ولكن ملا ن ظران إىل قوله صلى هللا عليه وسلم " فحق على كل من مسعه أن يقول له يرمحك هللا "‬
‫علمنا أنه من األمور املؤكدة يف حق كل من مسع أخاه املسلم يعطس وحيمد هللا ‪ ،‬والقول الصحيح‬
‫أن إبرار املقسم من األمور الواجبة إن مل ي كن مثة مانع شرعي أو عريف ‪ ،‬وال ضرر على املقسم عليه‬
‫يف تنفيذ وإبرار قسم أخيه ‪ ،‬والقول الصحيح أن ابتداء السالم من األمور الواجبة ‪ ،‬ورده كذلك من‬
‫األمور الواجبة ‪ ،‬وما اشتهر عن الفقهاء من قوهلم ( ابتداء السالم سنة ) فإنه حيتاج إىل دليل ‪ ،‬ألن‬
‫األمر املطلق عن القرينة يفيد الوجوب وال صارف نعلمه يصرف هذا األمر عن اببه ‪ ،‬والقول‬
‫الصحيح أن األمر بنصر املظلوم أمر وجوب ولكن كل أمر يف الشرع فإنه مقيد ابلقدرة ‪ ،‬فنصر‬
‫املظلوم واجب يف حق القادر على نصره ألن األمر به يفيد الوجوب ‪ ،‬والقول الصحيح أن إجابة‬
‫الدعوة من األمور الواجب ة بشرط القدرة وأن ال يكون فيها مثة منكر ‪ ،‬واملهم أن األوامر يف هذا‬
‫احلديث كلها تفيد الوجوب ‪ ،‬كما أن النواهي فيه كلها تفيد التحرمي ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫الثالث والتسعون ‪ :‬عن أِب الشعثاء قال كنا مع أِب هريرة يف املسجد فخرج رجل حني أذن املؤذن‬
‫فقال أبو هريرة أما هذا فقد عصى أاب القاسم مث قال أمران رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إذا كنتم‬
‫يف املسجد فنودي ابلصالة فال خيرج أحدكم حىت يصلي‪ ،‬وأخرج ابن ماجة عن عثمان ابن عفان‬
‫قال قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم " من أدرك اآلذان يف املسجد مث خرج مل خيرج حلاجة وهو‬
‫ال يريد الرجعة فهو منافق ‪ "...‬فقوله يف احلديث " أمران رسول هللا " هذا األمر يفيد الوجوب ‪ ،‬أي‬
‫جيب على من كان يف املسجد إن مسع األذان وهو فيه أن ال خيرج منه إال ملا له حاجة ‪ ،‬ويؤيد هذا‬
‫وصف أِب هريرة رضي هللا عنه من فعل هذا أبنه عاص ‪ ،‬ومن املعلوم أن الوصف ابلعصيان ال‬
‫يكون إال على خمالفة األمر الواجب ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫الرابع والتسعون ‪ :‬قال الشيخ عبدالعزيز بن ابز رمحه هللا تعاىل وهو يتكلم عن مسألة األمر بقطع‬
‫اخلف للمحرم ‪ ،‬هل هو للوجوب أو للتحرمي ؟ قال رمحه هللا تعاىل ( السنة أن حيرم الذكر يف نعلني‬
‫ألنه جاء عنه‪ ،‬صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬أنه قال " ليحرم أحدكم يف إزار ورداء ونعلني " فاألفضل أن‬
‫‪65‬‬
‫حيرم يف ن علني حىت يتوقى الشوك والرمضاء والشيء البارد‪ ،‬فإن مل حيرم يف نعلني فال حرج عليه‪ ،‬فإن‬
‫مل جيد ن علني جاز له أن حيرم يف خفني وهل يقطعهما أم ال؟ على خالف بني أهل العلم وقد ثبت‬
‫عنه صلى هللا عليه وسلم أنه قال " من مل جيد ن علني فليلبس خفني وليقطعهما أسفل من الكعبني "‬
‫وجاء يف خطبته يف حجة الوداع يف عرفات أنه أمر من مل جيد نعلني أن يلبس اخلفني ومل أيمر‬
‫بقطعهما فاختلف العلماء يف ذلك فقال بعضهم أن األمر األول منسوخ فله أن يلبس من دون قطع‬
‫وقال آخرون ليس مبنسوخ ولكنه للندب ال للوجوب بدليل سكوته عنه يف عرفات‪ .‬واألرجح إن‬
‫شاء هللا َّ‬
‫أن القطع منسوخ ألن النيب صلى هللا عليه وسلم خطب الناس يف عرفات وقد حضر خطبته‬
‫اجلمع الغفري من الناس من احلاضرة والبادية ممن مل حيضر خطبته يف املدينة اليت أمر فيها ابلقطع‪ ،‬فلو‬
‫كان القطع واجباً أو مشروعاً لبينه لألمة‪ ،‬فلما سكت عن ذلك يف عرفات دل على أنه منسوخ‪،‬‬
‫وأن هللا جل وعال عفا وسامح العباد عن القطع مل فيه من إفساد اخلف وهللا أعلم‪ .‬أما املرأة فال‬
‫الشَّراب ألهنا عورة ولكن متنع من شيئني من النقاب ومن القفازين‬
‫حرج عليها إذا لبست اخلفني أو ُ‬
‫َّ‬
‫ألن الرسول صلى هللا عليه وسلم هنى عن ذلك فقال " ال تنتقب املرأة وال تلبس القفازين " والنقاب‬
‫هو الشيء الذي يصنع للوجه كالبقع فال تلبسه وهي حمرمة ولكن عليها أن تغطي وجهها مبا تشاء‬
‫عند وجود الرجال األجانب سوى النقاب ألن وجهها عورة فإذا كانت بعيدة عن الرجال كشفت‬
‫وجهها‪ ،‬وال جيوز هلا أن تضع عليه النقاب وال البقع وال جيوز هلا أن تلبس القفازين ومها غشاءان‬
‫يصنعان لليدين فال تلبسهما احملرمة ولكن تغطي يديها بشيء آخر ) وهللا أعلم ‪.‬‬
‫اخلامس والتسعون ‪ :‬ثبت أن النيب صلى هللا عليه وسلم قال يف مسألة زايرة القبور " كنت هنيتكم‬
‫عن زايرة القبور فقد أذن حملمد يف زايرة قب أمه فزوروها فإهنا تذكر ابآلخرة " رواه الرتمذي وصححه‬
‫‪ ،‬والنسائي وابن ماجه واإلمام أمحد ‪ .‬وعن أِب هريرة رضي هللا عنه قال ‪ :‬زار النيب صلى هللا عليه‬
‫وسلم قب أمه فبكى وأبكى من حوله ‪ ،‬فقال " استأذنت رِب يف أن أستغفر هلا فلم يؤذن يل ‪،‬‬
‫واستأذنته يف أن أزور قبها فأذن يل ‪ ،‬فزوروا القبور فإهنا تذكر ابملوت " رواه مسلم ‪ ،‬فأمر النيب‬
‫صلى هللا عليه وسلم ابلزايرة يف هذين احلديثني محله أكثر أهل العلم على الندب‪ ،‬ومحله ابن حزم‬
‫على الوجوب ‪ ،‬ولكن احلق أهنا للندب ‪ ،‬ألهنا أمر بعد منع ‪ ،‬فيفيد ما كان يفيده قبل املنع ‪ ،‬وقد‬
‫كانت زايرة القبور على اإلابحة ‪ ،‬فهي بعد فك املنع تفيد اإلابحة ولكن ملا كانت حمققة لتذكر‬

‫‪66‬‬
‫اآلخرة وللدعاء لألموات ‪ ،‬ارتفع حكمها من اإلابحة إىل الندب وهو الذي عليه أكثر احملققني من‬
‫العلماء ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫السادس والتسعون ‪ :‬القول الصحيح أن االستماع لإلمام يف القراءة اجلهرية من الواجبات ‪ ،‬فال‬
‫جيوز للمأموم أن يقرأ حال جهر إمامه ابلقراءة ‪ ،‬إال يف الفاحتة فقط ‪ ،‬فالواجب على املأموم قراءهتا‬
‫ئ الْ ُقرآ ُن فَاستَ ِمعواْ لَه وأ ِ‬ ‫ِ‬
‫َنصتُواْ‬ ‫ْ ُ َُ‬ ‫يف السرية واجلهرية ‪ ،‬والدليل على هذا اإلجياب قوله تعاىل ‪َ ‬وإ َذا قُِر َ ْ‬
‫لَ َعلَّ ُك ْم تُْر َمحُو َن ‪ ‬فقوله " فاستمعوا " أمر ‪ ،‬واملتقرر أن األمر يفيد الوجوب ‪ ،‬وقد حكى اإلمام أمحد‬
‫رمحه هللا تعاىل اإلمجاع على أن هذه اآلية يف الصالة ‪ ،‬ولكن أقول ‪ -:‬حىت مع هذا اإلمجاع ‪ ،‬فإن‬
‫املتقرر عند أهل العلم رمحهم هللا تعاىل أن العبة بعموم اللفظ ال خبصوص السبب ‪ ،‬وعليه فالقول‬
‫الراجح عندي يف هذه املسألة أنه جيب االستماع للقرآن حىت خارج الصالة ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫السابع والتسعون ‪ :‬قال النيب صلى هللا عليه وسلم " من سألكم ابهلل تعاىل فأعطوه " فما حكم‬
‫إعطاء من سألنا ابهلل ؟ أقول ‪ -:‬قلت يف إحتاف أهل األلباب جوااب على هذا السؤال ( من سألنا‬
‫ابهلل تعاىل فال خيلو‪ :‬إما أن يكون السؤال ابهلل من معني ملعني يف أمر يسوغ بذله‪ ،‬كأن يسأل زيد‬
‫عمرا ابهلل أن يعطيه كذا وكذا‪ ،‬فهذا جتب إجابته وحيرم رده‪ ،‬لكن هذا الواجب مشروط ابلقدرة‬ ‫ً‬
‫واالستطاعة‪ ،‬وذلك لقوله ‪« ‬من سأل ابهلل فأعطوه» احلديث‪ ،‬واألمر يفيد الوجوب وألنه ملا‬
‫سألك ابهلل فإنه يكون بذلك قد سألك ابلعظيم الكبري الذي ال أعظم وال أكب منه‪ ،‬فإجابة سؤاله‬
‫تعظيم هلل تعاىل وتعظيم ذلك من إكمال التوحيد ومن حتقيق التوحيد‪.‬وأما إذا كان السؤال من معني‬
‫لغري م عني‪ ،‬كالذين يقفون يف املساجد ويسألون املصلني ابهلل‪ ،‬فهؤالء تستحب إجابتهم ويكره‬
‫ردهم‪ ،‬هذا إذا مل يغلب على الظن كذهبم‪ .‬وأما إذا سألنا أحد ابهلل يف أمر حمرم كإسقاط حد بعد‬
‫ثبوته عند والة األمر أو سألنا ابهلل أن نؤويه بعد أن أحدث حداثً يف البلد يوجب عقوبته واألخذ‬
‫على يديه وحنو ذلك‪ ،‬فهذا حترم إجابته وجيب رده وال كرامة‪ ،‬بل وجتب عقوبته ألنه مستخف ابهلل‬
‫تعاىل حيث جعل السؤال به وسيلة للتوصل ألمور حمرمة‪ ،‬فهو مستخف مبقام األلوهية والربوبية ورده‬
‫حينئذ من تعظيم هللا جل وعال‪ ،‬وهللا أعلم ) ‪.‬‬
‫ني لِ َم ْن‬
‫ني َك ِاملَ ْ ِ‬
‫الد ُه َّن َحولَ ْ ِ‬
‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الثامن والتسعون ‪ :‬قال هللا تعاىل يف حمكم كتابه ‪َ ‬والْ َوال َد ُ‬
‫ات يُْرض ْع َن أ َْو َ‬
‫س إَِّال ُو ْس َع َها ال‬ ‫ف‬
‫ْ‬ ‫ن‬ ‫ف‬ ‫وف ال تُ َكلَّ‬ ‫ود لَه ِرْزقُه َّن وكِسوُهتُ َّن ِابلْمعر ِ‬ ‫الرضاعةَ وعلَى الْمولُ ِ‬
‫َّ‬ ‫م‬
‫َّ‬ ‫أَراد أَ ْن يتِ‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫َُ‬ ‫َ َْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ ُ‬
‫صاالً َع ْن تََراض ِمْن ُه َما‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ود لَه بِولَ ِد ِه وعلَى الْوا ِر ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ث ِمثْ ُل َذل َ‬
‫ك فَِإ ْن أ ََر َادا ف َ‬ ‫ض َّار َوال َد ٌة ب َولَد َها َوال َم ْولُ ٌ ُ َ َ َ َ‬ ‫تُ َ‬
‫‪67‬‬
‫اح َعلَْي ِه َما ‪ ‬قوله " ويرضعن أوالدهن" خب معناه األمر‪ ،‬قيل‪ :‬هو على الوجوب‪،‬‬ ‫َوتَ َش ُاور فَال ُجَن َ‬
‫وقيل‪ :‬على الندب وهو الصحيح إذا مل يلحق الرضيع من ذلك ضرر‪ ،‬وإذا حلقه بذلك ضرر فال‬
‫اعةَ‪ ‬وعلى والد‬ ‫ضَ‬ ‫تقطع عنه الرضاعة قبل احلولني‪ ،‬يدل عليه قوله تعاىل ‪‬لِ َم ْن أ ََر َاد أَ ْن يُتِ َّم َّ‬
‫الر َ‬
‫الرضيع اإلنفاق عليه بواسطة أمه املطلقة اليت ترضعه وحتضنه‪ ،‬قال تعاىل ‪‬وعلَى الْمولُ ِ‬
‫ود لَهُ ِرْزقُ ُه َّن‬ ‫َ َ َْ‬
‫وف‪ ‬قال القرطيب ‪ :‬وعلى األب وجوابً نفقة الولد وأجرة املرضع واحلاضنة إن كان‬ ‫وكِسوُهتُ َّن ِابلْمعر ِ‬
‫َ ُْ‬ ‫َ َْ‬
‫له مال‪ ،‬وهي أحق ابحلضانة ما دامت مل تتزوج‪ .‬واحلاصل‪ :‬أن األفضل واألكمل أن ترضع ابنتها‬
‫مدة سنتني كاملتني إذا مل يشق عليها ذلك أو يضر هبا‪ ،‬وجيوز هلا أن تفطمها قبل ذلك إذا مل يلحق‬
‫ذلك ضررا ابلبنت‪ ،‬وهلا احلق الكامل يف املطالبة ابلنفقة من أِب البنت‪ ،‬وإذا مل يستجب فلها أن‬
‫ترفع األمر إىل القاضي لينصفها وأيخذ هلا حقها‪.‬‬
‫التاسع والتسعون ‪ :‬سئلت اللجنة الدائمة عن األوامر يف احلديث الصحيح الذي رواه البخاري «‬
‫إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكم ‪ . .‬مث جاء فيه ‪ :‬وأطفئوا مصابيحكم » فهل هذا‬
‫األمر للوجوب ؟ وإن كان لالستحباب فما هي القرينة الصارفة له عن الوجوب ؟ فأجابوا بقوهلم (‬
‫هذه األوامر الواردة يف احلديث حممولة على الندب واإلرشاد عند أكثر العلماء ‪ ،‬كما نص عليه‬
‫مجاعة من أهل العلم ‪ ،‬منهم ‪ :‬ابن مفلح يف الفروع واحلافظ ابن حجر يف فتح الباري وهللا أعلم )‬
‫الفرع املويف للمائة ‪ :‬قال النيب صلى هللا عليه وسلم " إذا تثاءب أحدكم يف الصالة فيكظم ما‬
‫استطاع ‪ ...‬احلديث " فهذا األمر هنا هل هو على الوجوب أو الندب ؟ أقول ‪ -:‬فيه خالف بني‬
‫أهل العلم رمحهم هللا تعاىل على أقوال ‪ ،‬واألقرب عندي أنه للوجوب ‪ ،‬ومن قال ابلندب فليأت‬
‫ابلصارف الدال على إرادة الندب ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫وبه تنتهي الفروع على هذه القاعدة الكبرية ‪ ،‬وقد حاولت جهدي يف تيسري فهمها لك مبا قدرت‬
‫عليه ‪ ،‬فالعذر العذر مما تراه من النقص والتقصري ‪ ،‬وأستغفر هللا تعاىل من الزلل يف القول والعمل ‪،‬‬
‫وأسأله جل وعال أن يرفع ن زل أهل العلم وأن يغفر هلم املغفرة الكاملة ‪ ،‬وأن جيزيهم عنا وعن‬
‫املسلمني خري اجلزاء ‪ ،‬وأن ينفعنا بعلمهم ‪ ،‬وأن يبارك يف جهودهم ‪ ،‬وآخر دعواان أن احلمد هلل رب‬
‫العاملني ‪ ،‬وصلى هللا على نبينا حممد وعلى آله وصحبه وسلم ‪ ،‬وقد وقع الفراغ منها بعد العصر يف‬
‫اليوم الثالث عشر من شهر شعبان عام ثالثني وأربعمائة وألف للهجرة ‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫‪................‬‬
‫‪68‬‬

You might also like