Professional Documents
Culture Documents
توأم البحر - عواد علي
توأم البحر - عواد علي
توأم البحر - عواد علي
عواد عيل
وزارة الثقافة والسياحة واآلثار
دار الشؤون الثقافية العامة
العنوان ـ بغداد ـ األعظمية ـ حي تونس
الربيد االلكرتوينinfo@darculture.com :
توأم البحر
تأليف :عواد عيل
موضوع الكتاب :رواية
بغداد ــ 2023
حقـــوق النشـــر حمفوظـة ،اليسمح بإعـادة إصـــدار هذا الكتـاب أو أي جـزء منه ،أو
ختزينــه يف نطــاق اســتعادة املعلومــات أو نقلـــه بــأي شــكل مــن األشــكال ،مــن دون
إذن خطــي مــن النــارش.
All right reserved. No part of this book may be reproduced، stored in a retrieval
system، or transmitted in any form or by any means without prior permission
in writing of the publisher.
عواد علي
توأم البحر
رواية
بغداد ــ 2023
ّ
«كل من ُولد ً
رجل عليه أن يتآخى مع البحر منذ الصغر حتى يعرفه»
جنكيز آيتماتوف
راع» وصوتي ّ
والش ْ َ «كان البحر نافذتي
نوري الجراح
5
1
7
أحيانًأ كنت ُأبتلى بزبائن مزعجين ال ُيطاقون .ذات مرة جاءتني امرأتان،
واحدة بيضاء قدّ رت عمرها بين الخامسة والثالثين واألربعين ،ذات بنية
بدينة ،وشفتين منتفختين ،ووجنتين ملطختين بحمرة فاقعة ،ونظرات
مخاتلة ،والثانية ذات بشرة سمراء غامقة نحيلة للغاية كأن في بطنها ديدان،
هزيلة الوجه ،شفتاها بلون التوت الداكن ،تع ّلق على كتفها حقيب ًة مر ّقط ًة
تشبه جلد نمر .كانت سحنتاهما تنبئان بأنهما عاهرتان مبتذلتان ،فوجدت
علي أن أكون يق ًظا وأراقبهما جيدً ا ،فالنساء على شاكلتهما عديمات
لزا ًما ّ
يتورعن عن السرقة.
الحياء ،وال ّ
تسرني
اقتربت مني السمراء ،وأحنت رأسها تجاهي كأنها تريد أن ّ
بشيء ،فأفغمت رائحة عطرها الرخيص أنفي ،وسألتني بنبرة غنجة:
ــ هل أجد عندك سيجارة ح ّبوب؟
تراجعت إلى الوراء:
ُ
ــ آسف ال أدخن.
تصنّعت االمتعاض وتوجهت صوب رف زجاجي مخصص للساعات
الرجالية خلف ظهر صاحبتها البدينة .وبعد هنيهة سحبت ساع ًة ّ
ولوحت
بها:
ــ ح ّبوب ،بكم تبيع هذه الساعة؟
ــ هذه رجالية.
مررت راحة كفها على شفتيها وقالت:
ّ
ــ أعرف ،أريد أن أشتريها لزوجي.
8
ــ تسعون ألف.
شهقت:
ــ هل أنت جاد؟
ــ ولِ َم أمزح؟
أوي! أنت «مغلواني» جدً ا.
ــ ْ
ــ هذا سعرها.
أما البدينة فقد ارتدت ساع ًة نسائي ًة في معصمها ،ومدّ ت ذراعها إلى
وجهي حتى المست أناملها ذقني ،ثم مالت بجذعها إلى األمام ،وفتحت
مترهلين ،وسألتني
ّ بيدها األخرى الزر العلوي لقميصها ،فبان ثدياها
بصوت متحذلق ممطوط إن كانت الساعة تنسجم مع قالدتها وخاتمها ،في
حين حجب جسدها عني رفيقتها النحيلة .أدركت على الفور أنها تحاول
فأزحت ذراعها بسرعة وأفشلت خ ّطتها.
ُ إلهائي ليتسنى للثانية أن تسرق،
تعبيرا قاس ًيا ،واضطرمت في
أثارت حركتي حنقها ،فرسمت على وجهها ً
واتنزعت الساعة من معصمها ووضعتها في يدي بشدة،
ْ عينيها نار صفراء،
ورفعت عقيرتها زاعق ًة:
خسيس ال تحترم زبائنك.
ــ خذها ،خرا عليك وعلى ساعتك ،أنت ّ
وجرتها بانزعاج ،وثغثغت بكالم
ّ ثم أمسكت صاحبتها من ساعدها
بالكاد فهمت منه:
ِ
عليك أن تختاري هذا المحل الزبالة لنشتري ــ ِ
أنت السبب ،ما كان
منه؟
9
ش ّيعتهما بهزة من رأسي ،من دون أن أنطق بكلمة تجن ًبا لحدوث مشادة
قد تدفعهما إلى افتعال فضيحة ،وما إن بلغتا الباب حتى استدارت البدينة
ناحيتي ومدّ ت لسانها بطريقة شائنة .كتمت غيضي ،وأشفقت عليها «بائسة،
بارت حرفتها فتحولت إلى ّ
نشالة».
أخرج من جيبه هات ًفا خلو ًّيا حدي ًثا من نوع آيفون ،وسألني بصوت فيه
كنت أرغب في مقايضته بساعة روتري حتى لو كان سعرها نصف
خنّة إن ُ
سعر الهاتف .لحظتئذ ث ُبتَت ريبتي فيه ،وأيقنت أنه لص ،فاعتذرت منه ،بيد
لمح فيها إلى الصليب في رقبتي،
أنه امتعض وتلفظ ببعض كلمات وقحةّ ،
خرجت من منخريه مع دفقة هواء ،ثم انصرف.
ً
بنطال ضي ًقا ذا وفي مرة ثالثة دخل إلى المحل شاب نحيل أملط ،يلبس
وسوارا في
ً خصر واطئ ،يظِهر شي ًئا من سرواله الداخلي ،وطو ًقا في عنقه
معصمه .نظر إلى أرفف الساعات ،وسألني بجرس أنثوي:
قلت:
ــ إذا كان موديلها قد انتهى فلماذ ال نغير المحل إلى مطعم فالفل؟
10
ــ أنت سريع الزعل ،حسبتك شا ًبا سبورتي!
ــ طيب ،لست زعالن ،بماذا أخدمك؟
داعي ،أنت لست من النوع الذي في بالي ،باي.
ــ كنت أود أن ...لكن ال َ
صحت به:
ــ تعال ،ماذا في بالك؟
رفع يده:
إنس ،أنت ال تميل إلى...
ــ َ
ــ إلى ماذا؟
ــ باي.
أخفيت عن أبي ما جرى لي مع العاهرتين والشاب المخنّث ،وأطلعته
على قصة الرجل ذي العمامة ،فضحك وقال «أعرفه ،كان موظ ًفا ساب ًقا في
األوقاف و ُطرد بسبب سرقاته العديدة».
11
2
أذكر أن أبي قال لي «في هذا اليوم انفتحت السموات ،وانطلق صوت
ينادي هذا هو ابني الحبيب فله اسمعوا» .كان أبي آنذاك على شيء من
التد ّين ،لكنه تغ ّير بعد سنوات .وبينما كان المركب يقترب من المرفأ ،أثناء
عودتنا ،ألقى رجل ،يرتدي ردا ًء كهنوت ًّيا ،صلي ًبا في الماء ،وطبطب على
عجل» .نضى الشاب معطفه وألقى به
ظهر أحد الش ّبان كأنما يقول له «ه ّيا ّ
إلى سيدة واقفة على يمينه ،وكان يرتدي تحته لباس البحر ،ثم رسم عالمة
المصلوب وقفز إلى الماء.
12
لم أفهم مغزى ذلك ،حسبته لعب ًة ،ولبثت فاغر الفم ،مرتع ًبا ،خشية أن
يغرق الشاب ،لكن أبي طمأنني:
ومدرب على
َّ عوام ماهر
ــ ال تخف ،إنه طقس أرثوذكسي ،الشاب ّ
الغطس ،سيلتقط الصليب من دون إبطاء كما يلتقط الخ ّباز الشعرة من
العجين.
ــ أال تفترسه أسماك القرش؟
ــ أسماك القرش ال تقترب من الشاطئ إالّ إذا جرى استفزازها ،أو
شمت رائحة الدم.
ّ
متمسكًا بمعصم أبي ،ال تفارق عيناي
ّ تالشى خوفي ً
قليل ،وبقيت
ملو ًحا بالصليب،
الماء ،وما إن انقضت دقائق حتى أخرج الشاب رأسه ّ
وصار يسبح صوب الشاطئ.
أدهشني في حينها امتداد البحر على مدى البصر ،حسبته من دون
نهاية مثل السماء ،وله روح مثل الكائنات الحية ،ينام ،ويأكل ،ويضحك،
ويمرض ،ويجلس القرفصاء ،ويغريني بأن أعقد معه صداق ًة أزلي ًة .بعدئذ
صرت مسكونًا به ،ال أستطيع منه فكاكًا ،يالزمني ،يتراءى لي في أحالمي
بين الفينة والفينة ،وفي بعض األحالم كان يتحول إلى سرير مائل أستلقي
عليه ،دون أن ينزاح جسدي عنه ،وكأنه صفيحة مغناطيسية وأنا قطعة حديد.
في المدرسة أصبح البحر موضوعي األثير خالل حصة الرسم ،ما إن
منظرا
يقترح المعلم على التالميذ رسم منظر طبيعي حتى أستحضر ال إراد ًّيا ً
للبحر مفتوح األفق ،وأهب السماء لونه الرصاصي الفاتح .وفي كل مرة
كنت أجعل فوق أمواجه سفين ًة أو مرك ًبا شراع ًّيا ،أو أستنبت على سطحه
13
زوارق صغير ًة ذات ألوان مختلفة تشبه الزنابق .ليس هذا فحسب ،بل ك ّلما
نفضله في رحلتنا المدرسية
الصف عن المكان الذي ّ
كان يسألنا مرشد ّ
خمن
ألح ،على أن يكون شاطئ البحر ،وبسبب ذلك ّ
كنت أقترح ،وأحيانًا ّ
بح ًارا .أما زمالئي فقد كانوا يسمعونني تعليقات
أنني سأنتهي إلى أن أكون ّ
غريب ًة ،فريق يقول إنني سأصبح عالِم بحار ومحيطات ،وفريق آخر يقول
إنني سأصبح ضاب ًطا بحر ًّيا .ميخائيل الملعون فقط ّ
شذ عنهم ،ظل مد ًة
يردد بخبث أنني سأكون ص ّياد سمك .زعلت منه بالطبع وقاطعته وصرت
أرفض أن يرافقني إلى المدرسة ،أو يسير معي أثناء إيابنا ،ولم أغفر له إالّ
بعد أن أتى إلى شقتنا صحبة أبيه واعتذر مني .بعدئذ راح يتم ّلقني ،ويتمنى
مهندسا بحر ًّيا .سألته:
ً لي أن أكون
ــ هل تعرف ماذا يعمل المهندس البحري؟
لم ِ
يحر جوا ًبا.
ــ لِ َم تتمنى لي أن أكونه إ ًذا؟
ــ أبي ل ّقنني.
ماهرا ،وكلدان ًّيا محتر ًما ،كريم
ً كان أبوه جورج ميكانيكي س ّيارات
النفس ،يقدّ مه أبي على جميع أصدقائه ،ولم يكن يحلو له السهر إالّ معه،
تار ًة عنده وتار ًة عندنا ،وفي أحيان متباعدة كانا يترافقان إلى بيت صديق
ثالث في نفس الحي الذي نقيم فيه ،رغم اعتراضات أمي ،يذهبان ويعودان
وكثيرا ما كان العم جورج يص ّلح عطالت سيارتنا من
ً سيرا على أقدامهما،
ً
غير مقابل ،قبل أن يترك أبي السياقة إثر حادث اصطدام ارتكبه في ليلة
شتائية مثلجة ،ونجونا منه بأعجوبة .لكن تلك قصة سأحكيها في ما بعد.
14
حين بلغت س ّن الشباب أخذت أمضي إلى البحر من دون انقطاع .أشعر
بأنه يدعوني يوم ًيا إلى حدّ خلت أنني أنحدر من سلف كان طوطمهم أحد
مخلوقاته ،وأن الفردوس التي يغرينا بها الله عائمة على سطح البحر .لم
الصيف ،وال الصقيع ،وال الهواء الذع البرودة في منعي من
ّ يفلح هجير
علي.
الذهاب إليه ،أو إخماد جذوة عشقي له ،أو ردع سطوته ّ
كان الشاطئ وقتها يبعد ثالثة كيلومترات عن الحي الذي نسكن فيه،
ً
راجل أو بسيارة أجرة ،أما اليوم فهو على بعد سبعة كيلومترات عن أقصده
الحي الذي انتقلنا إليه.
قي تلك السن ،صرت أتمنى أن أغوص إلى أعماق البحر لرؤية أشكال
الحياة فيها ،وسبر أغوارها ،واستجالء مكامن أسرارها العظيمة الشأن،
وأحظى بمشاهدة العروض المذهلة لألسماك ذات األلوان الزاهية ،التي
اعتاد الغواصون على تسميتها «الراقصات اإلسبانيات» ألن عروضها
تذكّرهم برقصة الفالمنكو الشهيرة ،رغم أنها تؤديها وقت الهروب من
الكائنات البحرية المفترسة.
دفعني ولعي بالبحر إلى مشاهدة كل ما يقع في يدي من أفالم تجري
أحداثها على شواطئه أو على سطحه أو في باطنه ،وقراءة الكتب التي
تتحدث عن عالمه .كنت أشتري بعضها ،وأستعير بعضها اآلخر من المكتبة
تجهز لي مجموعة روايات،
العامة ،حتى أن أمينتها ،السيدة شرمين ،كانت ّ
حسب ذائقتها ،معتقد ًة أنها تلبي رغبتي ،قبل أن يحل موعد ذهابي إليها
قسما منها على ٍ
نحو مفرط، مر ًة أو مرتين في الشهر .أحيانًا كانت تمتدح ً
قرأت مقاالت عنها في مجلة أو صحيفة .والحق
ْ خاص ًة تلك التي قرأتَها أو
مرات أخرى .أصابت في مدح بعضها،ٍ ٍ
مرات وتبالغ أنها كانت تصدق
15
َ
يحظ البحر فيها بالصورة اإلبداعية وأخفقت في إطرائها على روايات لم
التي يستحق.
من أجمل ما قرأت تخ ّيالت األدباء أن للبحر ألوانًا عديد ًة مثل ألوان
أسماكه ونباتاته ،رماد ًّيا عند انبالج الفجر ،أبيض في الصباح مثل النوارس،
أزرق في الظهيرة مثل السماء ،الزورد ًيا في العصر ،أصفر أثناء الغسق مثل
لون الياقوت ،وأسود في الليل مثل قطرات الجحيم ،وثمة ضوء أخضر
ثواني قالئل فقط ،عند التقاء أشعة الشمس بسطحه أثناء الشروق
َ يظهر،
والغروب .لكن من أعجب ما قرأت أنه يكون بلون الكريولين الحليبي
المخضوضر في الصباح ،وفي المساء مثل ثمرة أفوكادو مقسومة تتوسطها
البذرة الكبيرة الحمراء.
جرب ،ذهبت إلى الشاطئ في كل هذه األوقات ،ومكثت كل قلت ف ُ
أل ّ
مرة نصف ساعة أو أكثر ،لك ّن شي ًئا من ذلك لم يظهر ،فأقنعت نفسي «ال
بأس ،لعل المكان غير مناسب ،أو ربما يحدث األمر في بعض البحار
وليس في ك ّلها» .إالّ أن أغرب منظر رأيته كان قبيل فجر يوم صيفي ،عندما
بدأ القمر يلفظ آخر ذرات النور على الماء .قلت في دخيلتي إنه أفضل
وقت للسمر على الشاطئ لو أن الظروف األمنية تسمح بذلك.
بعد سنوات ،إثر تخرجي في الجامعة ،حققت أمنيتي في النزول إلى
سائحا ،رفقة صديق لي ،ومنها إلى خليج
ً عمان
باطن البحر .سافرت إلى ّ
العقبة .حجزنا غرف ًة في قارب ّ
غواصة ،ذات واجهات زجاجية مكّنتنا من
مشاهدة أشكال الحياة البحرية تحت الماء .كانت رحل ًة رائع ًة في جوف
تلك الغواصة التي يسمونها «نيبتون» ،قضينا خاللها ساع ًة ونصف الساعة
في أجمل مواقع الشعاب المرجانية .لكننا لم ننعم لألسف بمشاهدة
16
«الراقصات اإلسبانيات» ،بل رأينا سالحف كبير ًة بحجم البشر ذات
زعانف مرقطة كستنائية اللون تشبه جلد الزرافة.
كنت أرغب في دراسة علم البحار ،بيد أن عدم وجود هذا التخصص
في جامعة أرابخا حال دون تحقيق رغبتي ،كما أني لم أفلح في نيل بعثة أو
منحة دراسية خارج البلد .يا حسرتي ،من أين لي الواسطة؟ في حين أنني
أعرف طال ًبا من مدينتي ،أنهى الثانوية معي ،انتزع له أبوه ،النافذ سياس ًيا ،بعث ًة
إلى «نانت» بفرنسا لدراسة هذا العلم ،رغم ّ
أن درجاته في البكالوريا كانت
أقل من درجاتي .وقد كتب لي مرةً ،كمن يغيضني ،أنه مستمتع بمقررات
الدراسة وموادها التي تشتمل على علم األحياء البحرية ،واألنظمة البيئية،
واألمواج والتيارات البحرية ،وتكتونيات الصفائح ،وجيولوجيا قيعان
البحار ،وغير ذلك الكثير الكثير ،وأكد أنه سيحصل على دروس عملية في
كيلومترا .وحين نال تلك
ً المحيط األطلسي الذي يبعد عن المدينة خمسين
صورا له صحبة طالبات فرنسيات وجزائريات وأخريات
الدروس أرسل لي ً
من جنسيات مختلفة ،ولم ينس بالطبع إغاضتي أكثر بأن أرفقها ببضع صور
التقطها على الساحل يحتضن فيها فتا ًة شقراء ترتدي البكينيً ،
قائل إنها
التخرج ،ويعيش معها
ّ حبيبته ،ومن ُأسرة باريسية عريقة ،وسيقترن بها بعد
في فرنسا .وختم كالمه بعبارة استفزازية «ال جدوى من العودة إلى العراق
البائس».
رغم تع ّلقي بالبحر أوثر أكل أسماك النهر على أسماكه .وليس في هذا ما
فجدّ ي لم يكن ّ
يلتذ بالسمك يثير استغرا ًبا ،هكذا ألفيت نفسي منذ طفولتيَ ،
المشوي إالّ إذا كان من تلك األنواع التي تصطادها ِشباك الصيادين في
األنهر ،مثل «الق ّطان» و«البني» و«السمتي» و«الشبوط» ،شريطة أن يرافقه
17
على المائدة خبز تنور ساخن وطرشي (مخلل) و َعن ّبة وصحن خضار،
ويعقبه شاي مه ّيل .وجر ًيا على عادة معارفنا المسلمين ،كان يوم األربعاء
المفضل لتناوله ،ألنه يجلب الرزق حسب االعتقاد الشائع .أما ّ هو اليوم
سمك «الزبيدي» البحري فكان جدي يأكله مت ّب ًل مقل ًّيا بالزيت مع الرز،
وهو ما ُيعرف بـ«المط ّبق» .لذا ما فتئت أسرتي كلها تتّبع هذا التقليد ،وال
تحيد عنه.
قبل مدة دعانا ابن عم لي قادم من لندن ،ممتلئ الجيب ،إلى مطعم
متخصص بالسمك المسقوف والدجاج بالتنور ،وال أدري كيف أقنع أبي
يجرب سمك القاروص (السيباس) البحري ،المستورد ال أدري من بأن ّ
ممتعضا «هذا
ً أين .وما إن التهم أول لقمة حتى أزاح الطبق من أمامه وقال
خراء وليس سمكًا» ،ونادى على صاحب المطعم ،وطلب منه أن يشوي له
سمك ًة نهري ًة .أما أنا وأمي فقد أكلنا القاروص على مضض مجامل ًة البن
عمي .وحين خرجنا سألته «أين تعيش هذه السمكة؟» قال «في البحر
المتوسط والبحر األسود والشواطئ األوروبية من المحيط األطلسي»،
وأضاف مستغر ًبا «لِم لم يح ّبها عمي ،مع أنها تحمي من السرطان وتحافظ
على صحة القلب والشرايين».
18
3
19
مسألة واحدة تح ّيرني في عمران هي إدمانه على الثِرب (بيض السمك).
ينكب على تناوله
ّ شخصا يحب أكله بهذا القدر.
ً ما رأيت في حياتي قط
جوزا مخلو ًطا بالعسل؛ اعتقا ًدا
فطرا مقل ًّيا مع بيض الدجاج أو ً
كما لو كان ً
منه بقدرته على زيادة فحولة الرجل ،وتحسين أدائه الجنسي ،ومكافحة
السماك الذي
ّ رسخ هذا االعتقاد في رأسه أخوه
عالمات الشيخوخةّ .
يجلب له كم ّي ًة من الثِرب بين حين وآخر.
بسبب ذلك بدا لي أن صيد األسماك الحوامل أمر بغيض ،ولو تُركت
في الماء حتى تضع بيوضها لجنى الصيادون المزيد من هذه الثروة .لكن
أنّى لشباكهم العمياء أن تم ّيز الحوامل عن غير الحوامل؟ األحرى أن يصدر
قرار يمنع الصيد في فترة تكاثر األسماك.
حاولت إقناع عمران ذات مرة بأن يقلع عن هذه العادة ألن بعض أنواع
الثِرب يحتوي على نسبة عالية من الكولسترول ،ويسبب له متاعب صحي ًة،
علي بأريحية «ال تشغل بالك ،اعتدت على تناوله ،لكن ليس
إال أنه ر ّد ّ
بشراهة بل باعتدال ،إنه كافيار الفقراء ،وأخي خبير يعرف كل أنواعه.
إلي طال ًبا أن أسعفك
ستتذكر حاجتك إليه بعد سنين من زواجك ،وستهرع ّ
بشيء منه».
حياة عمران بسيطة ،وهو مقتنع بها ،ال يشخص ببصره خارج ما تمنحه
له عن استحقاق ،وحين يسأله أحدهم «كيف هي أمور دنياك؟» يجيبه ّ
«كل
شيء تمام لوال تشاؤمي من الوضع العام الذي يعكّر صفوها».
كان وما برح رفيقي الدائم في االستئناس بالبحر .كالنا نعدّ ه الوجهة
المفضلة للترويح عن النفس ،ولطالما اتخذنا شاطئه مكانًا لالسترخاء
ّ
20
والتغ ّلب على من ّغصات الحياة اليوميةَّ .
أحب ركوب أمواجه مذ كان مراه ًقا
مؤخرا عن مهنته وفتح ًّ
محل ً صحبة أخيه الكبير صياد السمك ،الذي تخلى
لبيع ثمار البحر .وقبل ذلك ،كان في طفولته يرافق أباه أحيانًا بقارب خشبي
يطوق بلدة «راوة» ،مسقط رأسه ،من ثالث
للصيد في نهر الفرات ،الذي ّ
جهات.
تعرفت إليه:
قال لي ،عندما ّ
نهرا أم
ــ أنا سليل أسرة تحب الماء مثل الصابئة المندائيين ،سواء أكان ً
بحر ًا .تآخيت معه منذ الصغر ،ولدت وترعرعت في شبه جزيرة محصورة
معبرا إلى بالد الشام .وكان بيتنا
بين الجبل ونهر الفرات ،كانت في ما مضى ً
مواجها لخرائب قلعة في الجبل أزيلت وأنا رضيع.
ً
ع ّل ُ
قت:
ــ مثل قلعتنا التي لم يبق منها سوى أطالل.
َ
أكمل:
ــ لم تكن قديم ًة جدً اُ ،بنيت إبان حكم الوالي العثماني مدحت باشا
لحماية حركة النقل المائي.
كثيرا ما اصطحبت عمران إلى كنيستنا في مناسبات عديدة .كان
ً
يستمتع بالشعائر والطقوس التي تُقام فيها ،واإلصغاء إلى أنغام موسيقاها
وتراتيلها ،ويبدي سعادته باالطالع على تقاليدنا االجتماعية ،وينخرط
أحيانًا ،بعد انتهاء المناسبة ،في حوار مع راعي الكنيسة حول قضايا معقدة
في عالم الكهنوت والليوتورجيا .ومهما بدا األمر بعيدً ا عن التصديق فقد
21
كان يحاور بروية وعقل مفتوح جعلني أعيد النظر ببعض المسلمات التي
أؤمن بها .في لقائه األول بالكاهن سأله هذا «أنت مسلم ،أال تشعر بالحرج
من حضورك إلى الكنيسة؟» ،أجابه عمران بأنه منفتح ،ووجدانه ال يحول
دون ذلك.
وفي عيد الميالد ورأس السنة يحتفل عمران معنا في البيت ،يأتي
ً
حامل زجاجتي نبيذ وويسكي ،أو نبيذ وعرق حسب رغبته، رفقة زوجته
وينغمس مع أنغام الموسيقى ويرقص ببساطة متناهية ،مع أنه ال يحسن
الرقص ،أو ألقل ال يجيده بإتقان مثلي ،وحين يغادر ،بعد انتهاء الحفل،
يمشي بطريقة تشي بأنه ما زال تحت تأثير إيقاع الرقص.
ً
فضل عن ذلك ،بسمة ما عهدتها عند أصدقائي يتميز عمران،
اآلخرين ،إنه يلبي أي رغبة تع ّن لي عن طيب خاطر ،وبشعور عظيم
بالمودة ،حتى لو كانت سخيف ًة أو تتعارض مع مزاجه ،إالّ إذا كان لديه
سبب قاهر يحول دون تلبيتها .وبالمقابل ما تخ ّلفت يو ًما ما عن فعل
أي شيء من أجله .وال أنسى ما حييت رحلتي الرائعة معه إلى بحيرة
«دوكان» في الصيف قبل الماضي .ذهبنا بسيارتي إلى السليمانية أوالً
ثم إلى البحيرة ،ومنها إلى قلعة «سارتكه» على الضفة المواجهة للنهر
المتدفق من سد دوكان .سحرتني مياه البحيرة وأسماكها ،ومزارع العنب
والجوز والتوت ،وشجرات الصنوبر واليوكاليبتوس في محيطها .وفي
الطريق الموصل إليها استوقفني ،مثلما استوقف غيري من السياح
والمصطافين ،منظر جبل «سارة» الشاهق ،الذي يشبه جسد امرأة نائمة
تتطلع إلى السماء.
في هذه المرة كان لدى عمران ،ال ريب ،عذر وجيه ،فقد سلخ ما
22
يزيد عن سنتين قاسيتين في كتابة أطروحته «األختام األسطوانية والفكر
االجتماعي في العصر األكدي» ،وهي أطروحة مهمة ،حسب األستاذ
توصل فيها إلى أن تلك األختام كانت فنًّا شعب ًّيا ،تعايشت
المشرف عليهاّ ،
مضامينها مع وسيط بيئي خاص.
يتبق أمام عمران سوى مدة قصيرة لمناقشة تلك من ناحية أخرى لم ّ
األطروحة ونيل الدكتوراه ،التي يع ّلق كل آماله عليها كي تفتح له باب
االنتقال من التدريس في المدرسة الثانوية إلى إحدى الجامعات .لذا ما
كان من الالئق ،بداه ًة ،أن ّ
ألح عليه لمرافقتي إلى البحر.
كانت حياة عمران سلسل ًة من المصاعب منذ دخوله الجامعة ،أقساها
تعرضه لمضايقات الميليشيات ،وقد نجا بأعجوبة مرةً ،أيام االقتتال
الطائفي قبل تسع سنين ،حينما أمطر كمين الباص التي كانت تق ّله مع
جماعة من الركّاب ،وهو قادم من بغداد ،برشقة رصاص ،فح ّطمت
زجاجها ،وأصابت إحداها ذراعه األيمن ،في حين أودت رصاصات
أخرى بحياة سيدة ورجل مسن وجرحت آخرين.
حدث ذلك ،كما روى لي ،ذات صيف حار في وضح النهار ،عند
غيضة شجرات في منعطف مباغت ،ولوال شهامة السائق ،الذي قاد الباص
بأقصى سرعة إلى مستشفى في بلدة على الطريق ،لنزف الجرحى حتى
الموت.
أضحى عمران ،بعد تلك الحادثة ،أكثر تشاؤ ًما ،ال يني يردد أن البلد
ضاع ،الجميع تعاضدوا لالنتقام منه ونهبه وتحطيمه ،أعداؤه في الخارج،
ّ
وشذاذ اآلفاق في الداخل. والحمقى ،والعمالء ،والمتناهون في الصغر،
23
وأذكر أني قلت له ،حين سمعته أول مرة يتحدث بحرقة عن ذلك« ،ليس
أمرا جديدً أ على البلد وال بدّ أن يتعافى» ،بيد أنه ر ّد جاز ًما «المرحلة
هذا ً
مر بها ساب ًقا».
اآلن ،يا نينوس ،أخطر من أي مرحلة تاريخية ّ
مع مرور الوقت ،وتعاظم الكوارث التي صارت تحل بالبلد وجدت
عمران مح ًّقا في تشاؤمه.
24
4
خميس ٍ
رائق بساعتين حين عزمت على الذهاب ٍ كان الوقت ُبعيد ظهر
تمزق السحب ،على ق ّلتها ،في سماء
إلى البحر ،وكانت أشعة الشمس ّ
المدينة ،كما تراءت لي من خالل نافذة غرفتي في الطابق العلوي ،والرطوبة
أرحم بكثير من األيام المنصرمة.
حلقت ذقني ورششت ماء الكولونيا على وجهي وعنقي ،كما كنت
أفعل كل مرة حين أتوجه إلى البحر ،واحتسيت علبة بيرة مع سندويتشة
خفيفة ،وارتديت مايوه سباحة تحت بنطالي ،على أنغام أغنية ذات إيقاع
ً
متسلل من جميل يوقظ المشاعر من غفوتها ،يبلغني صوتها من بعيد،
ً
حامل معه رائحة تلفزيون جارتنا أسين ،عبر شرفة بيتها المقابلة لبيتنا،
زهور الخزامى المنبعثة من األصيص الفخاري الكبير فيها.
المخرمة نصف مزاحة،
ّ مفتوحا وستارته
ً كان باب الشرفة الزجاجي
ِ
وأسين تمسك بطرفها ،من غير حراك ،مرهف ًة بصرها إلى السماء كأنها ّ
تلم
شتات نفسها ،وتتطلع إلى حياة جديدة مع طفلتها الوحيدة نورجان ذات
األعوام األربعة.
لم يسبق لي رؤيتها أبدً ا تطل من الشرفة ،وفوجئت بارتدائها ثو ًبا
مشج ًرا ،يضفي عليه شعاع الشمس رون ًقا ،بعد حداد دام سنتين
ّ فيروز ًّيا
25
على زوجها ياووز الذي لقي حتفه في تفجير سيارة ّ
مفخخة استهدفت مقر
الجبهة التركمانية التي ينتمي إليها.
كانت أسين أرصن أرملة عرفتها في حياتي ،بل ً
مثال لألرامل ،قديس ًة
صبورا على أشد األمور مش ّق ًة ،تشغل معظم
ً أي كان،
ال تتكلم بسوء عن ٍّ
وقت فراغها في البيت بالقراءة أو بالرسم أو تصحيح أوراق االمتحانات،
وال تحفل بالعمل السياسي ،باألحرى ليست السياسة من اهتماماتها ،على
غاطسا فيها ،راهنًا مصيره بالتنظيم الحزبي،
ً النقيض من ياووز الذي كان
رقما قياس ًّيا في تك ّبره ،يتط ّير من أي التزام اجتماعي،
مغرورا بنفسه ،ضار ًبا ً
ً
فاتر الصلة بالجيران ،وإذا ما س ّلم على واحد منهم فمن وراء أنفه ،يقطع
الزقاق مثل طاووس منفوش الريش ،مرتد ًيا بدل ًة رسمي ًة مع ربطة عنق
أن إحدى يديه كانتزرقاء منقطة بنجوم بيضاء شبيهة ب َعلم الجبهة ،رغم ّ
إلى األمام واألخرى إلى الوراء .لذلك كانت أسين ممتعض ًة منه على
مسرة ما ،وقد سمعتها مر ًة تتحدث عنه إلى
الدوام ،ليس في تعايشها معه ّ
أختي سلفانا:
يسمي تخطيطاتي
قط موهبتي ،تصوري ّ ــ إنه ال يفهمني ،وال يقدّ ر ّ
خربشات ليس فيها أي نفع وكأنها جريمة تستحق العقاب.
ر ّدت عليها:
ــ ربما أفقده العمل الحزبي اإلحساس بالجمال ،وج ّففت األيديولوجيا
شخصا يحب الشعر مثلي.
ً روحه .أنا لن أتزوج ّإل
ــ تفكيرك صائب.
ــ أتقرأين الشعر أم تفضلين الروايات فقط؟
26
ــ أحيانًا أقرأ ،أحب شعر السياب ومحمود درويش ويوسف الصائغ.
ِ
عليك .أبكتني مجموعته «سيدة التفاحات األربع». ــ الصائغ! الله
استغرقت في شجنه الموجع ،لوعة فقده لزوجته جولي ،رثائه العميق لذاته
ُ
ٍ
مرات بعدد واحتفائه بالخوف والهشاشة .هل تصدقين أنني قرأتها أربع
تفاحاته ،وا ّطلعت على معظم ما كتبه النقاد عنها؟
أردت أن أشاركهما في النقاش فقلت:
ــ أنا أحب مجموعته «انتظريني عند تخوم البحر».
قالت سلفانا:
ــ تحبها ألنك ممسوس بالبحر.
ثم عادت تسأل أسين:
ــ أتقرأين الشعر التركماني؟
ــ قرأت لبعض الشعراء.
ِ
سمعت بسركون بولص؟ ــ هل
ــ سمعت به ،وقرأت له قصائد قليل ًة.
المفضل ،قصائده تع ّبر عن قلق النفس وتمزقاتها والبحث
ّ ــ إنه شاعري
ِ
أحببت أعيرك إحدى مجموعاته. عن الخالص بصور مدهشة .إذا
ــ نعم أريدها ،سأسهر معها الليلة بعد أن ينام حامل األيديولوجيا.
قهقهت سلفانا على وصفها البارع لزوجها بحامل األيديولوجيا ،ثم
نهضت واتجهت إلى غرفتها لجلب مجموعة سركون بولص .شاركتُها في
ردة فعلها ،وقلت ألسين «أنت ِ
لست مرهف ًة في الرسم فقط».
27
أنهت أسين دراسة الرسم في معهد الفنون قبل زواجها ببضع سنوات،
وهي تمتلك مهار ًة في التخطيط على الورق بقلم الرصاص أو الفحم،
وتفضله على الرسم بالزيت أو باأللوان المائية ،وغال ًبا ما تميل إلى التظليل،
ّ
اعتقا ًدا منها بأنه يضفي الضوء والعمق على اللوحة.
28
وأرسلت لي معها رواي ًة ،وفي داخلها ورقة مكتوبة بخط يدها تقول «هذه
فورا ،إنها قطعة من العذوبة والجمال الحزين رواية أم الخيال .إقرأها ً
وأخمن أنك
ّ يختلط فيها الحلم بالواقع .أنا التهمتُها في جلسة واحدة،
ستفعل مثلي .وإذا كانت لديك رواية أخرى للكاتب نفسه أعرنيها ،شريطة
أن تكون قصيرةً ،ألنني لم أعد أستطيع هضم الروايات البدينة» .أضحكتني
عبارتها الظريفة أول األمر ،ثم رأيت أنها مح ّقة ،فالقارئ في زمننا ما عاد
يتحمل اإلطناب.
ّ
29
5
30
صورا لقديسين؟ في األقل يحفظونك من مخاطر
ً ــ لماذا ال تضع معها
البحر.
ــ الله الحافظ وليس القديسين.
ــ ال تجدّ ف ،لهم شفاعة عند اآلبَ .من يسمعك يحسبك من أتباع
الكنيسة البروتستانتية!
ــ لماذا؟
ــ ألنهم يستكثرون على كنيستنا أن تطلب توسالت القديسين من أجلها!
ــ أال تكفي الصور المعلقة في الصالة؟
ــ اإلكثار منها بركة وإحسان ،سأطلب من خالك سرجون أن يجلب
مجموع ًة ألضعها بنفسي هنا.
ــ لكنك ستحولين غرفتي إلى معرض للصور المتنافرة.
ــ ال شأن لك .اذهب إلى الشاطئ وإياك أن تنزل إلى الماء ،أمس رأيت
مزعجا.
ً حلما
ً
ــ هل تخشين أن يختطفني منك؟ الماء ينبوع الحياة.
ــ ال تجازف ،البحر غدّ ار ،ليس له أمان.
ــ ال تهتمي ،إنه صديقي.
ــ كل خرا واسمع كالمي.
ــ سأفعل.
رغم ّ
أن أمي تخاطبتي بألفاظ غير محتشمة أحيانًا ،حسب ما يأتي
31
تفرط في صلواتها .سعادتها القصوى تكمن على لسانها ،فإنها متد ّينة ،ال ّ
الرب وباب السماء ،تحرص على في ارتياد الكنيسة ،التي تسميها بيت ّ
الذهاب إليها مبكّر ًة لتحضر القدّ اس من أوله ،وال تبرحها إال قبل غياب
سيرا على قدميها بلهفة ،بكل اشتياق القلب ،ألن بذل الشمس .تقصدها ً
الرب كما تقول .وقبل ذهابها تستعد لدخولها روح ًّيا
الجهد دليل على حب ّ
وجسد ًّيا ،تصوم وترتدي مالبس نظيف ًة .وبسبب ذلك كانت تتمتع باحترام
الجيران ،المسيحيين والمسلمين ،وهي التي أجبرتني على لبس الصليب
منذ صغري ،وال أزال ألبسه ،مراعا ًة لمشاعرها ،رغم عدم تد ّيني .أما أبي
كثيرا بالطقوس الدينية ،يحضر القدّ اس في األعياد والمناسبات فال يحفل ً
فقط ،وله نزوات نسائية.
32
6
يعج برجال ونساء حين وطأت قدماي الزقاق وجدته ،كالعادةّ ،
ومراهقين يعرضون للبيع ،على طاوالت صغيرة ،أصنا ًفا من العطور
الرخيصة والحلي والمسابح والخواتم والساعات واألحزمة ومحافظ
ّ
والمنشطات الجنسية والواقيات الذكرية النقود وعلب الدخان
وترهات أخرى .وال أستبعد أن بعضهم يخبئ في جيوبه حبوب هلوسة
أو مخدّ رة ،لكنه ال يجرؤ على بيعها إالّ للمدمنين على تناولها ،وهو
المصفرة وأيديهم وشفاههم
ّ يستطيع أن يميزهم من وجوههم النحيلة
المرتجفة.
ركبت سيارتي وقدتها على مهل لئال أصدم أحد الباعة .استوقفني
علي علبة منشط جنسي
أحد المراهقين ،واتّكأ على حافة النافذة ،وعرض ّ
بحجم كف اليد ،وقال:
ــ بالله عليك اشترها .فيها عسل ملكي ماليزي ممتاز يجعلك تستمتع
ثالث مرات في اليوم مدة أسبوع .ال تفوتها إنها آخر علبة.
ضحكت على طريقة ترويجه لبضاعته بتزويق الكالم ،وأجبته:
ــ ما حاجتي إليها وأنا ال أزال أعزب؟
علي بخبث:
ر ّد ّ
33
عزاب مثلك،
ــ والله ستحتاجها .معظم الزبائن الذين يشترون مني ّ
خذها لن تندم.
ضحكت ثاني ًة ،لكن هذه المرة على براعة المراهق في التك ّيف السريع
باسما ،متله ًفا
ً مع حجتي ،ولبثت لحظات أنظر إليه ،وهو يستقبل نظراتي
إلى أن أستجيب لعرضه ،ثم أخرجت ورق ًة نقدي ًة من محفظتي ودسستها
في يده ،ومضيت في سبيلي ،من غير أن آخذ علبة العسل.
توقفت ُقبا َلة دكان على بعد أمتار عن المبنى لشراء علبة سجائر .أعرف
صاحبها منذ طفولتي ،رجل بدين أشعث ،ذقنه قصيرة تشبه القش ،شارباه
ك ّثان معقوفان إلى األعلى مثل قرني جاموس ،تحت عينيه قوسان سوداوان
كالكدمات ،يلف رأسه بشماغ .لكنني لم أجد عنده نوع السجائر التي
ّ
أدخنها ،قال لي إنه نسي أن يعرضها على الرف ،وطلب مني أن أنتظر ،ثم
استدار واتّجه إلى مخزن خلفي.
34
ــ هذا خبر قديم ،توجد أخبار جديدة.
ــ مثل ماذا؟
ــ أخشى إن أخبرتك لن تشري.
ــ ثق سأشتري.
ــ فرنسا دخلت على خط المواجهة ،وأرسلت قوات خاص ًة إلى
كردستان.
ــ هل أنت من أرابخا أم نازح؟ من لهجتك يبدو أنك من الموصل.
ــ أنا من بلدة حمام العليل.
ِ
هات واحد ًة إ ًذا .بلدتك لها فضل علينا ،وأنت تمتلك مؤهالت ــ
إعالمي ال بائع صحف.
سره كالمي وأعطاني صحيف ًة ،فنقدته ثمنها ومضى في سبيلهّ ،
ملو ًحا ّ
باحدى الصحف التي يحملها .قلت في سريرتي «فتى ذكي سترغمه
الظروف على ترك تعليمه» .آالف األُسر مثل ُأسرته نزحت من حمام
العليل وبلدات أخرى خو ًفا من اعتداءات اإلرهابيين .أذكر أنني زرت تلك
البلدة قبل ثالث سنوات رفقة أمي لتتعالج بمياه عيونها الكبريتية الحارة من
مرض الصدفية الذي أصابها .كانت رائحة البخار الخارجة من تلك العيون
نفاذ ًة والذع ًة للغاية ،وقد برأت أمي بالفعل من مرضها بعد استحمامها أكثر
من مرة في حوض العين الكبيرة.
في وهو
عاد صاحب الدكان بمجموعة علب سجائر ،وشرع يدقق النظر ّ
يقدّ م لي واحد ًة من غير أن ينبس بكلمة ،كأنه يحاول أن يتذكّرني حسبما بدا
لي ،مع أنني نادر ًا ما كنت أشتري منه حاج ًة في السنين الخوالي.
35
تفاديت نظرته ،ونقدته ثمن العلبة وأخذتها منه ،وبينما كنت أهم في
إشعال سيجارة سألني:
الست ابن هرمز اآلثوري؟
َ ــ
أجبته:
ــ بلى ،أنا نينوس.
ــ لم تتغير مالمحك مذ رحلتم ،هل توظفت؟
ــ نعم ،أعمل في التدريس لكني متفرغ اآلن للدراسات العليا.
ــ كيف حال أبيك؟
ــ في خير.
ــ هل ما زال في نفس عمله؟
ــ نعم.
ــ أبلغه سالمي ،وقل له يسألك أبو مهدي لماذا ال تزوره.
ــ سأفعل .لكن َمن أبو مهدي؟
ــ أنا.
ــ آسف عمي.
ــ وإذا نسيت قل له هاشم الكاكائي.
ــ لن أنسى.
ّلوحت بيدي ألودعه فإذا به يستوقفني ،ويتأملني من أعلى إلى أسفل
ويسألني:
ــ هل تزوجت أم أنك ما زلت تضاجع يدك؟
36
بم أر ّد عليه.
شعرت بامتعاض من وقاحته ،وبقيت مستغر ًبا ال أعرف ّ
دهمته بغت ًة نوبة سعال حاد مصحوب بصوت غرغرة ،وانتصب طرفا
ولوح لي بيده الثانية المرتخية طال ًبا
شاربيه ،فغطى فمه براحة يده اليمنىّ ،
معتل ،أو مصاب بالتهاب فايروسي في صدره، مني أن أبتعد .أدركت أنه ّ
فعجلت بقطع الشارع صوب سيارتي.
ّ
في األثناء أبصرت السيدة ديانا الكلدانية ،جارتنا في المبنى الذي كنّا
نسكن احدى شققه قبل سنين ،وعشت فيها أجمل أيامي .كانت منهمك ًة في
محاذرا
ً حديث مع امرأة متناسقة القوام أمام البوابة ،وصرت أتط ّلع إليهما،
أن ألفت انتباههما ،أو في األقل انتباه ديانا لئال تعرفني .أصبحت مترهل ًة،
وتخضب بالشيب شعرها الذي كانت
ّ ازداد وزنها ً
قليل ،وكبرت عجيزتها،
تصبغه في األيام الخوالي باللون البرغندي الغامق ،ورسم الزمان على
وجهها شيئ ًا من عالماته حتى بات يصعب تصور أنها كانت شاب ًة ذات يوم،
ولعلها أصبحت َجدّ ًة ألوالد ابنها الذي يكبرني ببضع سنوات.
كانت ديانا جشع ًة ،مرائي ًة ،مهذارةً ،خالي ًة من الرحمة ،وقح ًة إذا
غضبت ،ال تبالي بما تقول ،إذا انفلت لسانها من عقاله ال تستطيع أن
تنتزع منها كلم ًة طيب ًة ،تنتف ريش َمن يغيضها ،شره ًة في جمع المال ،بل
ال حدود لشراهتهاّ ،
طلبة هدايا في كل مناسبة ،وأحيانًا من غير مناسبة،
تغلق بابها في وجه كل متسولة وسائل للمساعدة ..كانت في جملتها امرأ ًة
ذات طباع سيئة إلى أبعد الحدود ،أتذكّرها اآلن بوضوح كما لو أنها على
ذكرا داخل قفص
راحة يدي بكل ما فيها من بشاعة .كانت تربي ببغاء هند ًيا ً
مدر ًبا تدري ًبا جيدً ا على
كبير في شقتها ،ثالثي األلوان .حين اشترته لم يكن َّ
كثيرا ،ومحضته الو ّد
تقليد األصوات ،وكان ينفر منها في البداية ،فاعتنت به ً
37
حتى ألفها وصارت قريب ًة إلى نفسه ،خاص ًة بعدما أخذت تنوع له غذاءه،
ووضعت له في القفص ألعا ًبا عديد ًة مثل جرس ذي صوت رنان ،وكرات
بالستيكية مجوفة ،إضاف ًة إلى أغصان شجرات ُ
لمحاكاة البيئة األصلية.
وشي ًئا فشي ًئا استطاعت أن تطلق لسانه ،وتح ّفظه عشرات الكلمات .وفي
الم َجن ،باعته لتاجر طيور بأضعاف الثمن نهاية المطاف قلبت له ظهر ِ
الذي اشترته به ،متذرع ًة بأن ابنها جعل لسانه ،من غير علمها ،بذي ًئا يوخزها
حارا إلى رأسه من
بألفاظ الذعة ،فظة ،وأحيانًا فاحشة عندما يندفع الدم ًّ
شدة الهستيريا بسبب توبيخها له.
أما المرأة متناسقة القوام فقد بدت أصغر سنًّا من ديانا بكثير ،في حدود
جذاب ،ووجه لطيف ناعم يشع إثارةً ،وفم صغير الثالثين ،ذات مظهر ّ
يتسم بالكبرياء ،وشعر مقصوص أشبه بشعر غالم ،تضع قرطين كبيرين
ورموشا صناعي ًة كثيف ًة ،وترتدي تنور ًة ليلكية اللون ،مشقوق ًة
ً في أذنيها،
من األسفل نحو شبر تغطي ركبتيها ،وتبرز تحتها ساقان فاتنتان شديدتا
البياض ،تشبهان سيقان فتيات عروض األزياء ،ش َب َه الماء بالماء ،وعلى
األرجح أنها كنّة ديانا أو إحدى قريباتها.
بعد أقل من دقيقتين توقفت سيارة سوداء فارهة ذات دفع رباعي ،من
نوع كاديالك ،أمام المرأتين ،ركبتا فيها على عجل فانطلقت بهما كالسهم،
متنح ًيا جان ًبا .تابعتها عبر المرآة حتى
ّ وكادت تدهس ً
طفل لوال أنه قفز
ناظري ،ثم رفعت بصري عبر نافذة السيارة إلى شرفة ش ّقة
ّ غابت عن
ديانا ،فسرحت بعيدً ا ،أسترجع من وراء تخوم الذاكرة غرامياتي السرية
مع ابنتها الصبية هيلين ،التي نلت منها أول قبلة في حياتي ،أعني من ثغر
أنثى ،جعلت قلبي يخفق ،وغنمت من جسدها أول لمسة إيروسية ،تفوق
38
فجرت كوامن اإلثارة في أعماقي .حدث ذلك وأنا ملتصق بها في
الروعةّ ،
رقصة بطيئة ،إثر بضع جرعات نبيذ ،أثناء حفلة أقمناها في شقتنا لمناسبة
عيد الميالد ،في حين كانت ديانا تساعد أمي في إعداد العشاء بعد أن نهلت
قصيرا ضي ًقا بلون الكرنب
ً كأسين من العرق .كانت هيلين ترتدي فستانًا
األحمر ،مكشوف الظهر ،بال أكمام ،تبرز فتحة عنقه العميقة نهديها
المتوثبين ،وقد أضفى عليها الضوء الخافت فتن ًة ال تُقاوم.
عمن أسماها هيلين ،قالت:
ليلتها خطر لي أن أسألها ّ
ــ أمي اختارته لي باقتراح من خالي المقيم في أثينا ،وهو اسم يوناني
قديم يعنى النور ،وكانت تحمله زوجة أحد الحكّام في ذلك الزمان.
استحضرت في تلك اللحظة خلواتي بهاّ ،
ولذة السويعات معها في ُ
أدرسها مادة الجغرافية الطبيعية ،التي كانت تشكو
غرفتها ،حيث كنت ّ
من صعوبة في فهمها ،وتجد نفسها وقت االمتحانات كأنها فأر وقع في
مصيدة ،فال تم ّيز بين العمليات الجيومورفولوجية الخارجية والداخلية،
وال بين التوزيع األفقي والتوزيع اليومي والفصلي لدرجات الحرارة،
وتفقد ثقتها بنفسها.
في نهاية كل درس كانت هيلين تفتح الموسيقى ،وتسقيني كأس عصير،
أو كأس نبيذ أحمر مح ّلي معتّق ،من غير علم أمها ،وتقول لي «خذ معها
قبل ًة ناعم ًة يا نينو» ،وتحيط رقبتي بذراعيها ،مغمضة العينين كالقطة ،وتلثم
شفتي ،فتلسعني أنوثتها المتوهجة ،ويسكرني عبق عطرها ،ويرفعني إلى
ّ
ذرى شاهقة ،ويغريني القتيادها إلى السرير ونيل مشتهاي منها ،لكن بنت
علي نيلها ،وتنفلت من يدي
يشق ّ
الكلب كانت تتمنّع ،تتظاهر بأنها صعبة ّ
39
دورا في فيلم ميلودرامي رديء ،تارك ًة إياي فريس ًة لهيجان
كمن تؤدي ً
َ
تذر ًعا منها تار ًة بالخوف من
شرس ،ليس بسبب تصنعها للفضيلة ،بل ّ
دخول أمها إلى الغرفة ،وتار ًة بالخشية من أن أسلب منها عذر ّيتها.
في كل مرة كنت أخدع نفسي ً
قائل «ربما ستطيعني في المرة القادمة
وتنقاد» .الحق أنني كنت ً
طائشا ال أفكر في مآل توقي المجنون إلى جسدها.
آنذاك كانت هيلين في السابعة عشرة وأنا في العشرين ،غير أنني كنت
متقدّ ًما عليها في الثانوية بمرحلة واحدة ألني تركت الدراسة سنتين ثم عدت
إليها .كانت فائقة الجمال ،تصدح الحياة على وجنتيها وشفتيها الزهريتين
الشهوانيتين ،ذات عينين واسعتين عسليتين كثمرة البلوط ،ونهدين ناضجين
تحت رافعتهما ال يناسبان سنّها ،كأنهما تفاحتان صينيتان ،وزوج من أدق
السيقان التي رأيتها في حياتي ،تضفر شعرها في غديرة طويلة تتدلى على
ظهرها حتى خصرها ،وتجمع بين العذوبة والمكر وتق ّلب األهواء والبراعة
في إثارة إعجاب اآلخرين بها ،وحين تبتسم ترقص ابتسامتها على وجهها
ك ّله.
كانت هيلين ّ
تلتذ بالروايات البوليسية ،تواظب على قراءتها ،تلتهمها
عمتها العانس التي
كما لو أنها رقائق بطاطا ،وقد جاءتها هذه العدوى من ّ
ومشوش في السينما واألدب ،في حين
ّ تهوى كل شيء بوليسي وغامض
تدير هي ،أعني هيلين ،ظهرها للكتب الدينية التي تحتل نصف مكتبة أبيها
بولص السرياني في الش ّقة ،رغم ّ
أن أمها ،التي تتظاهر أمام الناس بالتقوى،
عروسا للمسيح.
ً لتترهب وتصير
ّ كانت تشيع أنها تريد إرسالها إلى دير
متنفسا
ً أثناء أوبتها من المدرسة كان لعاب ش ّبان كثيرين ،ممن ال يجدون
40
مغتر ًة بنفسها ،محتضن ًة كتبها
لغرائزهم الطبيعية ،يسيل لمرآها ،وهي تسير ّ
ودفاترها.
أحيانًا كان يتبعها عدد منهم ،بأعين شهوانية تبرق بالشبق ،وآمال
مستحيلة ،ويرمون لها قصاصات ورق ،في ظني أنها ،ال بل من المؤكد،
كانت تحتوي على أرقام هواتفهم وكلمات غزل فقيرة وتافهة .لكن
هيهات ،ففي األخير كان عمال النظافة يكنسون تلك القصاصات مع قمامة
الشارع لتنتهي إلى المكب.
في ظهيرة يوم من األيام ،وكان التيار الكهربائي مقطو ًعا ،سمعت طرقات
رقيق ًة على باب شقتنا ،فتحته من دون أن أسأل َمن الطارق ،فإذا به هيلين.
كانت تستولي على وجهها حمرة مشوبة باالصفرار ،وترتعد وتتنفس بقلق،
وفي عينيها تترقرق الدموع ،كأنما مصابة بالحمى .استغربت من منظرها،
وأمسكت بيدها إلدخالها إلى الشقة ،لكنها لم تتزحزح من مكانها .سألتها:
ــ هيلين ما بك ،لماذا ال تدخلين؟ هل تشكين من شيء؟
غمغمت قائل ًة:
ــ اعترض أحد النكرات طريقي وقرصني من هنا بشدّ ة.
وضعت كفها على نهدها ،وتابعت تقول:
ولى هار ًبا ،وامتطى دراج ًة ناري ًة كان سائقها بانتظاره عند
ــ فعل ذلك ثم ّ
ناصية الشارع.
ــ هل توجعك القرصة؟
مسحت عينيها بمنديل ،وقالت بمرارة:
41
كثيرا كأنها لسعة حشرة.
ــ إي ،توجعني ً
يدي ،وقلت:
تناولت يدها بكلتا ّ
ــ ادخلي كي أتحقق من أثرها ،ال أحد في الشقة سواي ،أمي وأختي
خرجتا ولن تعودا إالّ مسا ًء.
أطرقت رأسها ،ولبثت شارد ًة لحظ ًة ،ثم قالت:
ــ ال ،لست راغب ًة في الدخول.
ــ حسنًا ،هل رأى الناس ابن الكلب وهو يقرصك؟ ألم يتعقبه أحد؟
ضمت إحدى يديها إلى صدرها ،وقالت:
ّ
التفوه بكلمة ،شعرت كأني ــ ما أدراني؟ لحظتها تأ ّلمت ،لم َ
أقو على ّ
عزالء في صحراء ،وحين نظرت إلى الخلف لمحت النذل يقفز إلى ظهر
الدراجة .لبثت بعدئذ حائر ًة ال أستطيع فعل أي شيء ،ثم جئت مسرع ًة
إلى المبنى ،وخطر في بالي ،وأنا أرتقي الدرج ،أن آتي إليك قبل أن أدخل
شقتنا ،وأروي لك ما جرى لعلك تعرفه من أوصافه.
ــ كيف لي أن أعرفه؟
ــ ال بدّ أنه من أبناء الحي وإالّ لما عرف اسمي.
ــ هل نطق باسمك؟
ــ إي.
ــ ما أوصافه؟
ــ شاب طويل القامة ،وجهه نحيل ،وعيناه زائغتان ،ولحيته مشعثة،
42
علي
وشعره مقصوص على طريقة المارينز .في البداية استوقني وعرض ّ
زاعما أنها أصلية ،وحين أشرت له
ً بيع زجاجة عطر نسائي بثمن بخس
بالرفض مدّ يده إلى صدري وقرصني بشدّ ة ثم ّفر مسر ًعا.
شخصا بهذه األوصاف.
ً ــ كأني رأيت
ــ أنا واثقة من أنه يسكن في ح ّينا.
تمهلت لحظ ًة ،ثم قلت:
ّ
آلو جهدً ا لمعرفته ،لكن ما الفائدة يا هيلين؟ ماذا بوسعنا أن نفعل
ــ لن َ
ِ
عليك من اآلن فصاعدً أ أن تنتبهي لنفسك. ونحن ضعفاء في البلد.
ــ كيف؟
تموهي على جمالك، ــ أقول لك بمنتهى الصراحة :ما من سبيل إالّ أن ّ
إخفه عن أعين الناس ،كفي عن ارتداء هذه المالبس الضيقة التي تبرز ِ
43
ً
طويل ،سنة وبضعة أشهر ،حدث لسوء الطالع لم تدم عالقتي بهيلين
بعدها ما ال يخطر في البال على اإلطالق ،لغز من تلك األلغاز التي يصعب
ح ّلها ،اختفت فجأ ًة وكأنها حلم تالشى مع انبالج أول تباشير الفجر ،أو أن
ريحا حملتها وألقت بها إلى حيث ال أعلم.
ً
في ما بعد ،عقب أشهر علمت أنها سافرت إلى األردن مع قريب لها
حاصل على اللجوء اإلنساني في أميركا ،ومن هناك إلى ديترويت بعد
زواجهما .هذا ما أخبرتني به أمي ً
نقل عن أمها ،فوقعت فريسة ألم فظيع.
زوجا ،فقد تب ّين لي
تمت خطوبتهما وال كيف قبلت به ً
ال أدري متى ّ
الح ًقا أنه شخص وضيع ،أتفه من قشرة بصلة ،تدور حوله نميمة بأنه
د ّيوث .لكن يبدو أن حلم السفر إلى بالد العم سام أعمى بصيرتها ،أو
جسرا يوصلها إليها ،ثم تنفصل عنه بعد
ً أنها خ ّططت التخاذ ذلك الوضيع
حين ،أليس للمكر أفانين كما يقولون؟
علي ،بلغ بي التأثر كل مبلغ ،اكتنفتني لوعة
عسيرا جدً ا ّ
ً كان األمر
إلي قاهرة ،كأن هيلين ابتداء الحياة وانتهائها ،وركبني الحزنُ ،
وخ ّيل ّ
أنني لن ُأشفى من هواها ،وكدت أتعثر في دراستي ،ولبثت أفكّر فيها
أحس بوحشة لفراقها ،لتالشيها كالدخان،
ّ آناء الليل وأطراف النهار،
أستصعب عدم وجودها في حياتي ،كأني مضغوط بين حاجزين ِ
ً
مفروشا اسمنتيين ،أو أسير على سطح من زجاج هش ،أو أطأ در ًبا
قدمي.
ّ بالجمر يحرق
ويقض مضجعي تخ ّي ُلها في
ّ أكثر ما كان يقبض روحي ويثير حنقي
الفراش ،مستسلم ًة لمصير حماقتها ،تسفح أنوثتها ،تهدر جمالها مع ديوث
44
جديرا بها ،يتحسس جسدها ويعبث بتضاريسه وشعابه
ً ليس ً
أهل لها ،وال
وكأنه يمتلكها لمجرد أنه أوصلها إلى أميركا.
كانت تلك التخ ّيالت أشبه بسوط يجلدني ،يعذبني ،يسلخ جلدي،
وأخذت أنحي بالالئمة على ديانا وزوجها البليد ،عديم الشخصية ،الذي
ال يحل وال يربط ،ولم يزحزح تهالكه على مطالعة الكتب الدينية بالدته
قيد أنملة ،ألنهما وافقا على تلك الزيجة البائسة ،متناسيين ادعاءهما بأنهما
توه ًما منهما بأن كنوز الدنيا ستُفتحينويان إرسال البنت إلى الدير لتترهبّ ،
لها متى ما ه ّبت رياحها في أميركا ،وتعيش مر ّفه ًة عيش ًة رغيد ًة مثل أميرة،
تلم شملهما معها .وقد تأكّد لي حين رأيت
وسوف يكون بميسورها أن ّ
ديانا بعد عشر سنين أن البنت لم تحقق لهما حلمهما ،لسبب ما ،فته ّل ُ
لت
شمات ًة بهما.
في ما بعد عقدت عزمي على إلقاء هيلين في غياهب النسيان ،بل محوها
من ذاكرتي مر ًة واحد ًة وإلى األبد وكأنها لم توجد قط ،ووجدت أن أفضل
وسيلة هي البحث عن فتاة تمأل حياتي وتكون سلواي ،خاص ًة بعد انتقالي
سهل ،بقيت الصبية ساكن ًة في أعماقي
إلى الجامعة .لكن ذلك لم يكن ً
طوال السنة الدراسية األولى ،أتذكّر بين الفينة والفينة اللحظات التي كنت
أقضيها معها .وما إن ح ّلت السنة الثانية حتى ّ
تعرفت إلى طالبة أرمنية
تعرفت إليها بالمصادفة
اسمها سيرانوش تدرس علم النفس في الجامعةّ .
دعما نفس ًيا صدّ ع سطوة هيلين
في مكتبة الكلية ،وبفضل حديثها معي نلت ً
بت ال أتذكرها إالّ في أحايين متباعدة،
على مشاعري ،شي ًئا فشي ًئا ،حتى ّ
مع ّ
أن عالقتي بسيرانوش لم تقم على تجاذب عاطفي ،أقلها من جانبي،
فقد كانت أكبر مني سنًا ،وال تتمتع بجمال يدفع إلى الغرام بها ،في حين
45
أن األرمنيات ُيضرب المثل بجمالهن ،وأنا بطبعي أميل إلى الحسناوات
الصغيرات.
قالت سيرانوش في يوم من األيام ،ونحن نتحدث عن العالقات
العاطفية في الوسط الجامعي« ،إن عدم التوافق في السن ال يحول دون
التقاء قلبين ،الحب أقوى من هذا الحاجز» ،وضربت ً
مثل بشكسبير الذي
أحب امرأ ًة تكبره بسبع سنين وتزوجها .غير أني تحاشيت الخوض في
الموضوع ،إدراكًا مني أنني لن أستطيع مجاراتها في مناقشته ،وتحدثت
عن أمور أخرى.
من ناحية أخرى كانت سيرانوش على جانب كبير من االستقامة ،ذات
كثيرا بدراستها ،وتنتظر أن تتخرج في نهاية تلك
عقل ناضج ،منفتح ،تهتم ً
السنة ،ولم تكن لقاءاتي بها تتعدى عا َلم الجامعة.
تفضل العالِم النفساني ألفرد أدلر على فرويد ويونغ ،وتنحاز كانت ّ
إلى نظرته لإلنسان نظر ًة حقيقي ًة عميق ًة كما هو ،حسب رأيها ،ال تبالغ به
وتجعله فوق منزلته ،وال تنزل به ليكون كالحيوان أو كاآللة .وأذكر أنني
قرأت ،بتأثير من سيرانوش ،العديد من كتب علم النفس ،غير أنني انحزت،
على النقيض منها ،إلى نظرية فرويد حول مراحل نمو الرغبة الجنسية عند
تفسر انحيازي للنظرية بمنتهى الذكاء.
اإلنسان ،وكانت ّ
لم انقطع عن التواصل مع سيرانوش ،بعد هجرتها إلى أرمينيا رفقة
أسرتها .صرنا نتحدث بالماسنجر في أمور شتى ،والحظت أنها تتفاخر
بكونها أرمني ًة ،وتع ّظم أرمينيا؛ مأخوذةً ،كأنها ّ
منومة مغناطيس ًيا ،بجمال
يريفان ،تبالغ في الزهو بمعالمها وتاريخها ،وترفع من قدر أهلها كأنهم
46
مالئكة ،وتتنكّر ،من غير لبس ،لهويتها العراق ّية .وفي نوع من الرثاء المب ّطن
لي تغمز من قناتي ،مشير ًة إلى عدم وجود دولة تم ّثل هويتي اإلثنية يمكن
وأن حلم تأسيس دولة أو حتى إقليم باسم «آشوريا» أو أن أهاجر إليهاّ ،
«آشورستان» قبض ريح .وألن دوافعها كانت واضح ًة بالنسبة لي كنت
أتغاضى عن ذلك ،وأمضي في إطالعها على الكوارث التي تترى في
البلد ،وفضائح الطبقة السياسية الفاسدة ،وجرائم العصابات والميليشيات
المسلحة خلف ستار من الصمت الخانق ،الذي يشبه الجمر المخ ّبأ وراء
رماد.
ذات يوم كتبت لي رسال ًة تقول فيها «أود أن أنبئك بخبر ٍّ
سار .تعرفت
فضل أن يكونأيضا ،لكنه ّ
إلى شاب وسيم أصغر مني ،متخصص في اآلثار ً
له عمل خاص ،مطعم يجتذب عشرات الس ّياح ،وفي غضون أيام أفضى
أخيرا بأن خطبني من أهلي
تعارفنا إلى عالقة حب ،وقد ّتوجها الشاب ً
أمس ،وسنتزوج قري ًبا .أتمنى أن يحالفك الحظ وترتبط بواحدة أصغر منك
سنًّا بعشر سنين».
أستوعبت مغزى رسالتها ،وكتبت لها «عزيزتي سيرانوش ،أبارك لك
علي».
خطوبتك ،وأرجو أن نظل صديقين ..لن أنسى فضلك ّ
لكن تب ّين لي ،الح ًقا ،أنها ما عادت راغب ًة في التواصل معي ،ولم يطل
بها األمر حتى توقفت عن الرد على رسائلي!
47
7
ُبعيد انقضاء ثالث سنوات على سفر هيلين ،فاجأتني برسالة بعثتها
إلى بريدي اإللكتروني أعلمتني فيها أنها تر ّملت ،مات زوجها في حادث
اصطدام سيارة غامض ،غير أنها ال تزال صلب ًة وليست حزين ًة ،خالف ما
يحدث للنساء اللواتي يتر ّملن ،كونها لم تكن منسجم ًة معه ،وفي مستطاعها
تشق طريقها بنفسها وجهدها .وأفاضت في وصف حالها ،واألفكار التي
أن ّ
تراودها لتأسيس حياة جديدة.
زت ولم أر ّد عليها ألشعرها بأنني ال أحفل بها .وما هي إال شهور
تعز ُ
ّ
تعرفت إلى رجل أميركي
حتى وصلتني رسالة ثانية منها باحت لي فيها أنها ّ
من أصول التينية ،ينتمي إلى الطبقة المخملية ،يقيم في مدينة سانتا
كروز بوالية كاليفورنيا ،وقد خطبها وأغرقها في بحر ثروته ،وسيتزوجان
ويقضيان شهر العسل في ريو دي جانيرو ،حيث يسكن أهله ،وأنشأت
تتغنى بالشاطئ البحري للمدينة ،وكيف تستمتع بجمال مياهه الزرقاء وهي
تطل إليه من شرفة الشقة التي يمتلكها خطيبها.
48
معز ًيا بوفاة زوجها الراحل ،لكن
شعرت حيالها بالشفقة ،وكتبت لها ّ
التطرق إلى موضوع زواجها الثاني .ومن يومهاّ بعبارات وجيزة ،متجنّ ًبا
ك ّفت عن مراسلتي ،وما ُعدت أعرف شي ًئا من أخبارها.
49
8
50
ــ ستهب ريح عاصفة.
ــ ال أظن ،الطقس لطيف جدً ا اليوم.
تط ّلعت إلى البحر ،تراءى لي فاتر الهمة ،صفحته ملساء كالزجاج من
دون حركة ،تنعكس عليها أشعة الشمس ،وفي العمق زورق إنقاذ ويخت
للنزهة وقوارب صيد خشبية.
منحدرا السفح بخطوات
ً وشوش كالم الشاب ذهني ،فشققت طريقي
حثيثةً ،
بدل من أن أسلك الطريق اآلمن الذي يسلكه الناس للوصول إلى
الشاطئ.
جذل كأني على موعد غرامي مثالي ،وكان الحصى تحت ً كنت
صريرا .تع ّثرت ببعض األنقاض :إطارات وخرق وصناديق
ً حذائي يصدر
وطاوالت وزجاج مكسور وعلب فارغة وأقفاص ومقاعد بالستيكية
قدمي،
ّ مهشمة ،وكدت أسقط على وجهي ،لكنني تمالكت واستويت على
وصببت اللعنات على السفلة الذين رموا تلك المخ ّلفات.
مكتضا بالناس ،والطقس هادئًا ،ال ينذر بتغ ّير سيء ،يسمح
ًّ كان الشاطئ
بالتفرج على مناظر السنونوات الرشيقة المح ّلقة على ارتفاع منخفض،
والنوارس البيض الشبيهة بالمناديل التي تتراشق في رحاب الفضاء ،وطيور
البجع المهيبة على مقربة من حافة البحر ،وهي تمرح وتقفز قفزات متتالي ًة،
أو تغوص في الماء اللتقاط األسماك وقناديل البحر الصغيرة ،وبراعة
طيور الغاق في السباحة والغوص في الماء لخطف األسماك وتخزينها في
المسرة» قلت في دخيلتي،
ّ أجربتها« .آه لو كان عمران معي ليشاركني هذه
وأنا أكاد أبلغ الشاطئ.
51
واكفهر في
ّ الجو تر ّدى فجأةً ،على غير المعتاد في أول الخريف،
لكن ّ
لحظة خاطفة ،كأنما أصابه الجنون ،ووجدت نفسي بين فكّي ريح شرقية
يقشعر لها البدن ،آخذ ًة باالشتداد ،متداركة الهبوب ،تخلع أسقف
ّ عاتية
األكشاك على بعد قليل من الشاطئ ،وتدفعني بضراوة إلى البحر الذي صار
مخي ًفا ،يترجرج مثل مرآة تعلو وتهبط ،وراح صفيرها المدوي ّ
يدق طبلتَي
ذني حتى ليكاد يوقرهما ،ويقذف الرعب في قلبي كما لو أني واقع في ُأ ّ
َش َرك .وبعكس اتجاه الريح أخذت تجتازني كالب هائمة على وجوهها،
إعصارا وشيكًا آت ًيا من أعماق البحر.
ً تنهب الرمل نه ًبا كأنها استشعرت
صرت أسعل ،وقلت في نفسي «ليتني صدّ قت تحذير الشاب»،
ً
منديل من جيبي وكممت أنفي ،وبحثت غريز ًّيا عن مكان ألوذ وسحبت
به ،فلم أجد سوى المغارة المطلة على البحرُ ،قبالة المرفأ الطبيعي الصغير،
المغارة التي اعتاد بعض الش ّبان ارتيادها ،وافتراش قاعها المغطى بالرمل
لتعاطي الكحول ،خلس ًة ،بعيدً ا عن أنظار الناس.
لم يسبق لي أن غشيت تلك المغارة لكأن بيني وبينها خصومة .كنت
أكتفي ،مرات عديدةً ،بالوقوف أمامها ،والنظر إلى جوفها عبر فوهتها .كان
لغزا ،رغم شيوع حكايتين عنها ،األولى فحواها
وجودها في الشاطئ يشكّل ً
أن ناسكًا زرادشت ًّيا ،ليس من أهل أرابخا في األصل ،وال ُيعرف منبته ،كان
يلجها فجر ّ
كل يوم ،أثناء احتالل اإليلخانيين الوثنيين للبالد ،ليتع ّبد فيها
ويتأمل في الخير والشر حتى بزوغ الشمس ،وحين كان يغادرها ال يراه
الناس كأنه يرتدي طاقية إخفاء .وإذا لم تكن الحكاية خراف ًة فإن الرجل
قدم من إيران واستوطن المدينة ،حاله حال المئات من المستوطنين ربما ِ
الذين حملتهم أرجلهم إلى البلد بدوافع مختلفة.
52
الحكاية الثانية تقول إن جماع ًة من الغجر كانت تتخذ منها مأوى في
أشهر الربيع ،أيام االحتالل العثماني ،وتقيم داخلها حفالت غناء ورقص،
تحرش األشقياء
لقاء حصولها على المال أو المؤونة ،يحميها الجندرمة من ّ
واستفزازاتهم.
خلعت قميصي حالما دلفت إلى المغارة ،ونفضت عنه ذرات الغبار،
شاعرا بالخيبة وبطعم مرارة في حلقي.
ً وأزلت ما التصق منها بجسمي؛
كانت بارد ًة إلى حد ما ،تعبق برائحة تشبه رائحة الطمي على ضفاف
األنهار التي تجري بكسل ،ومساحتها رحبة ،يبلغ عرضها نحو عشرة
مترا ،دانية السقف ،تتدلى منه رواسب
أمتار ،وعمقها أكثر من خمسة عشر ً
كلسية (هوابط) تشبه الثريات ،نسجت بينها عناكب ضئيلة بيوتًا لها بترتيب
متناسق المسافات ،لكنها لم تبعث في نفسي أيما هواجس مقلقة ،فقد كنت
معتا ًدا عليها منذ طفولتي.
كان الضوء المنسكب على المغارة من الخارج يكفي لرؤية رسوم
وكتابات منقوشة على جدرانها الصخرية ،على هيئة حيوانات وطيور
مختلفة :غزالن ووعول وماعز جبلي ونمور وذئاب وثعالب ونسور وكراكي،
وكتابات مفرطة في بدائيتها وغموضها ،لع ّلها تعاويذ الستدعاء قوى خارقة،
أو عالمات مش ّفرة لصلوات أو لتضرعات أو إلرشادات دنيوية ،غير أنني لم
أد ّقق النظر فيها ألن ذهني كان منصر ًفا إلى البحر ،الذي صار موجه يندفع
لينقض
ّ عال ًيا ،من دون هوادة ،إلى كتل الصخور ،بعضه راك ًبا فوق بعض،
ضروسا ضدها ،إالّ أنه
ً هادرا ،كأنه يخوض حر ًبا عليها في النهاية صاخ ًبا ً
ٍ
وفقاعات ٍ
ذؤابات بيضاء ً
مخذول ،مخ ّل ًفا وراءه يتكسر فوقها ويتراجع
ّ
سرعان ما تتطاير في الهواء وتختفي ،ثم يعاود الكرة من غير طائل.
53
عصرا ،وكأن الزمن
ً مقفرا في وقت لم يجاوز الثالثة
ً أصبح الشاطئ
توقف ،ال شيء سوى أصوات متداخلة تنبعث من مكبرات الصوت في
المساجد تتضرع «اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح ،وخير ما فيها ،وخير
وشر ما ُأ ِم ْ
رت به». وشر ما فيهاّ ،
شر هذه الريحّ ،
رت به ،ونعوذ بك من ّ ما ُأ ِم ْ
كان الوضع أشبه بكارثة ،أين ّفر المتنزهون؟ أين اختبأوا؟ هل تبخروا؟
يعج بعشرات الرجال والفتيان
َمن يرى الشاطئ ال يصدّ ق أنه قبل دقائق كان ّ
والنسوة واآلن أصبح خاو ًيا ،اختفت كل معالم الحياة فيه.
مرت ساعة وأنا في تلك الحال ،استأت وتعاظم ضيقي من عزلتي ّ
في المغارة ،كما لو أنني محبوس في مصح عقلي ،أرصد قوارب صيد
ٍ
شرسة ٍ
مواجهة ّ
يحث أصحابها على التجذيف ،في السمك الصغيرة ،التي
مع عصف الريح وتالطم األمواج ،ساعين إلى بلوغ الشاطئ قبل أن يلقوا
حتفهم ويصبحوا فريس ًة آلفات البحر.
شراعي بصاريتين وص ّفين
ّ خلف تلك القوارب كان يظهر للعيان مركب
من المجاذيف ،يلتمع كالفضة تحت أشعة الشمس ،ال يفتأ يعلو ويهبط في
صراعه مع ال ُعباب من أجل بلوغ المرفأ.
ً
محال أن نظيرا لذلك المركب ،بل كان
لم أكن أحسب ،بتاتًا ،أن أرى ً
أتخ ّيله ،تهتز صاريتاه كسعفتين وهو يترجرج على سطح الماء المضطرب.
وثمة سرب نوارس يرفرف على ارتفاع منخفض؛ مقاو ًما الريح .قلت في
وخيما يلوح في األفق».
ً أمرا
سري «ال ريب في أن ً
ّ
خف غضب الريح ،ثم سكن عزيفها بغت ًة،
ّ بعد قرابة نصف ساعة
فانحسر عني شعور الفزع ،ونزلت السكينة على قلبي ،كأنما انزاح عن
54
كف عن الهياج وثاب إلى هدوئه،صدري حجر ثقيل الوطأة .أما البحر فقد ّ
وعادت أسراب الطيور تح ّلق فوقه ،تار ًة إلى األعلى وتار ًة إلى األسفل،
وتمكّن الصيادون ،الذين كان أكثرهم ش ّبانًا بسراويل قصيرة ذوي أجسام
قوية ،من الوصول إلى الشاطئ بقواربهم سالمين ،وربطوها إلى أوتاد
أن التجذيف ضد اتجاه الريحمغروزة إلى منتصفها في األرض ،رغم ّ
أنهكهم كما لو أنهم كانوا يشقون طري ًقا وسط دغل كثيف.
السير ،قانطين ،صوب عجالتهم في موقف السيارات،َ ّ
غذ عدد منهم
حاملين زنابيل كبير ًة منسوج ًة من السعف ،وصناديق بالستيكي ًة بطريقة
تنبئ عن خلوها من السمك ،وعن خيبة سعيهم وراء الصيد ذلك اليوم ،في
حين انشغل آخرون بخطف األسماك والحالزين والسراطين ،التي وهبتها
األمواج للبر ،قبل أن يبرحوا الشاطئ.
استطعت أن أم ّيز أحد هؤالء الصيادين من حدبته ،فلطالما رأيته في
ح ّينا يقود ستوت ًة مزركش ًة يبيع بها األن ُعل والمجوهرات المق ّلدة واأللعاب
والحاجات المنزلية الرخيصة ،وهو يرتدي مالبس هجين ًة ،ويبث من جهاز
تسجيل أغاني متعددة اللغات لينتفع من الجميع ،ويكاد يعرف أسماء وكُنى
معظم النساء اللواتي يتبضعن منه .ويبدو أن تجارته تلك قد كسدت بسبب
كثرة البائعين من أمثاله ،فتحول إلى صياد سمك.
شعرت بجفاف في حلقي وضيق في صدري ،فتمنيت أن لو أعثر على
قنينة ماء متروكة في المغارة ،ورأيت أنه من الصواب أن أبحث فلربما أعثر
على واحدة ،وفيما طفقت في البحث وقعت عيناي على شريط يشبه حمالة
حقيبة ،يظهر جزء منه والباقي مدفون في الرمل .أثار فضولي فسحبته ،وإذا
شخصا ما دفنها
ً به ينتهي بالفعل إلى حقيبة مصنوعة من الكتّان ،يبدو أن
55
سحابها بشيء من القلق ألفاجأ لسبب ما ،أو أنه كان ً
ثمل فنسيها .فتحت ّ
بوجود غليون في داخلها مع قارورة نبيذ بيتي ،لونها أخضر صنوبري
ضارب إلى البني المحروق.
ركزت اهتمامي على القارورة وأهملت الغليون ،رفعت السدادة عنها
منخري ،فلفحتني رائحة مغرية أقرب إلى رائحة
ّ بعناية ،وشممتها بطرف
السنديان الضارب إلى الفانيال« .هذه هي فرصتي ألروي ظمأي» قلت.
أخذت أول رشفة صغيرة وتركتها تتدفق على لساني ،شعرت بسالسة
طعم النبيذ ،وهو ينزل مزغر ًدا في صدري ،وكأني ما ذقت أزكى منه في
حياتي كلها ،ثم أتبعتها برشفة ثانية أقوى منها جعلتني أشتهي سيجارةً.
أخرجت علبة سجائري ،وطفقت أرتشف مع كل ضربة دخان في رأسي
رشف ًة أقوى من السابقة.
مهجورا ،تصلح أن تكون
ً خطر في بالي أن المغارة ،التي تشبه سردا ًبا
وضمنتها لمغامر
ّ حان ًة تشرف على البحر ،فقط لو اعتنت بها دائرة السياحة،
مسيحي ال يهاب المتشدّ دين .أليس ذلك أفضل من تركها مرت ًعا سر ًّيا
لنزوات الش ّبان؟
دنو المركب الشراعي ،الذي حريصا ،أثناء ذلك ،على متابعة ّ
ً كنت
أصبح شغلي الشاغل ،يمألني الفضول لمعرفة َمن على متنه .بدا لي شكله،
وأنا أتط ّلع إليه بالمنظار ،أقرب إلى المراكب في األفالم التاريخية ،لم يعهد
بحرنا ً
مثيل له.
حين أجهزت على ثالثة أرباع القارورة داخلني الخدر ،وشعرت بنعاس
ً
جاعل منها وساد ًة رقراق ،فمألت الحقيبة بالرمل ،واستلقيت على ظهري،
متأرجحا بين النوم واليقظة.
ً تحت رأسي ،وواصلت استطالع البحر،
56
أجفلني بغت ًة أزيز تردد صداه داخل المغارة ،ثم صار خشخش ًة مريب ًة.
مذعورا فإذا بشبح كائن ضئيل
ً جالسا ،وأخذت أتل ّفت حولي ً استويت
يلوح على الجدار الصخري األيسر ،ذي وجه قاتم يثير االشمئزاز ،بل
وجها أكثر قتام ًة منه ،يخزرني بعينين ساخطتين،
ً يستحيل أن يرى المرء
ويتموج كإفعوان ،وما إن رآني مبهوتًا ،فاغر الفم حتى راح يجأر بكالم
ّ
صاخب عصي على الفهم.
ً
تمثال من لبث في تلك الحال نحو دقيقة أو أكثر ثم تحول إلى ما يشبه
الرخام ،وأسنانه كلها ظاهرة للعيان ،ثم اتخذ شكل حيوان مفترس يبعث
الرهبة في النفس ،ثم انقلب إلى مثل (ال أدري مثل ماذا) قبل أن يختفي عن
انتصارا ساح ًقا.
ً علي
ناظري كما لو أنه انتصر ّ
ّ
خلت أنه شبح الناسك الزرادشتي في الحكاية الثانية ،انبثق من أعماق
ويقرعني ألني انتهكت حرمة مكان
ماضيه ،أو تراءى لي ليفسد نشوتيّ ،
شريرا).
ً تعبده (ال بدّ أنه وجده سلوكًا
في غمرة تخبطي كان وجيب قلبي يتسارع ،وشعرت بدمي يدوي في
داخلي ،وخفت أن يعاود الشبح الظهور ثاني ًة ويمسني بسوء ،وتحول
فطوحت بالقارورة بعيدً ا ،ماذا كان بوسعي أن أفعل ،لم
خوفي إلى هلعّ ،
يكن أمامي خيار آخر ،ورسمت إشارة الصليب على صدري ،وقررت أن
ً
متسلل إلى الخارج كحلزون ينزلق من أنصرف .لملمت نفسي وحبوت
ٍ
خطوات عن المغارة. ناهضا وابتعدت
قوقعته ،ثم استجمعت ً
وجدت كارتون ًة ملقي ًة على الرمل فتر ّبعت عليها ،متعكّر المزاج،
أحول بصري
وشرعت في استنشاق الهواء ببطء ،ومن حين آلخر صرت ّ
57
ً
وجل من ذلك الشبح ،وتساءلت في فوهة المغارة ،كنت ال أزال
إلى ّ
أيضا أم أنه الح لي فقط ألنني
سريرتي «تُرى أكان يلوح لمتعاطي الخمور ً
ّ
وأتمله ،يغمرني فضول كنت وحدي؟» ،ثم رحت أحملق إلى البحر
لمعرفة سر المركب الشراعي الذي صار يزداد مهاب ًة ّ
كلما اقترب.
تغييرا طرأ على الطقس بعد توقف الريح ،كُسرت ً تنبهت إلى أن
حرارته وأصبح أم َيل إلى البرودة ،ولفحتني نسائم قادمة من البحر غمرتني
باكرا لم يبلغ الخامسة بعد ،واستعاد
باالنتعاش ،مع أن الوقت كان ال يزال ً
الخط الفاصل بين الماء والشاطئ زهو طيور البجع وقفزاتها على ٍ
نحو
مضاعف ،وهنالك على أسطح البنايات القريبة من محيط الشاطئ صبيان
وش ّبان يهتفون ويص ّفرون ويص ّفقونّ ،
ويهزون أذرعهم عال ًيا ،أو ويرفعون
أيديهم بإشارة النصر ،مبتهجين ،كأنما يحتفلون باندحار الريح.
ً
طويل ،لكنها جعلت بعد دقائق نزلت قطرات مطر خفيفة ،لم تستمر
الجو شفي ًفا ،وفي البحر صارت األمواج صغير ًة تجري إلى الشاطئ،
وحينما تبلغ الصخور المدببة والملساء تلعقها بألسنتها ،ثم تلقي عليها
زبدها فتفقد روحها وتموت في رفق.
خذت به كأني طفل تقع عيناه عليه أول مرة،
ُ مثيراُ ،أ
تراءى لي المشهد ً
وانتابتني هواجس عن عالقة البحر باليابسة :لماذا تكون صاخب ًة عنيف ًة
ٍ
مرات وأليف ًة مرات أخرى ،حتى أن أحدهما يبوح لآلخر بأشجانه ولواعجه
الوجدانية؟ هل تشبه عالقتهما عالقة اإلنسان بأخيه اإلنسان؟ ال ال ،ليست
كذلك ،صحيح أن البحر يهب اليابسة الكثير من المنافع لكنه يسبب لها
الكثير من الفواجع في الوقت نفسه ،وكذلك تفعل اليابسة حين ترمي في
البحر مخ ّلفاتها وسمومها وزيوتها القاتلة.
58
في أثناء ذلك بلغ المركب حافة المرفأ ،مدفو ًعا بريح خفيفة أخذت
تهب من جهة الغرب ،ورسا في غضون دقائق قالئل ،و ُأنزلت األشرعة،ّ
البحارة المرساة ،وهبط عدد وافر من الرجال وأربعة نساء ،وأخذوا
وألقى ّ
يخطون على لوح العبور إلى الرصيف .أثاروا فضولي فاستخدمت المنظار
ألرقبهم عن كثب .كان يتقدمهم رجل ذو شعر كثيف يعتمر غطاء رأس
يشبه الطربوش ،وله لحية طويلة مسترسلة تصل إلى صدره وتمنحه هيب ًة،
فبدا لي أنه زعيمهم.
اصطف الجمع ،مثل فصيل عسكري ،خلف مصاطب خشبية مث ّبتة
ّ
وصوبوا أبصارهم ناحية قلعة المدينة ،منبهرين من مدخلها
ّ في الرصيف،
الضخم ذي القوسين المدببين نصف الدائريين .لكن الزعيم ما لبث أن
جلس على إحدى المصاطب جلس َة رجل رزين ذي صالبة حازمة ،وتبعه
فتى إلى ميمنته ،ثم النساء األربع على مصطبة مجاورة إلى ميسرته ،وفجأ ًة
لفت انتباهه الرمل المائل إلى الصفرة على بعد خطوات عنه ،وأخذ يحدّ ق
إليه باستغراب شديد ،وقد بدت عيناه تحت حاجبيه ثاقبتين تتأججان
شراس ًة ،ثم نهض من مكانه ،مكفهر الوجه ،واتجه إلى الرمل ،وجثا على
ويشمه،
ّ ركبتيه ،ومال بجذعه إلى األمام وغرف حفن ًة منه ،وأنشأ يتفحصه
ثم فتح يده وتركه يتسرب من بين أصابعه.
أيضا ،يغطونكان الرجال أشدّ اء مفتولي السواعد ،ذوي لحى طويلة ً
ٍ
موغل ٍ
ماض قدي ٍم ٍ
بخوذ نحاسية ،ويرتدون ثيا ًبا من رؤوسهم غزيرة الشعر
القدم ،ويتس ّلحون بسيوف ،ودروع جلدية ،وأقواس ونبال ،ورماح تبلغ في ِ
طول ،ويحمل بعضهم صرر ًا وصناديق بأحجام مختلفة عليها مثل قاماتهم ً
أقراص مجنّحة بارزةِ ،خلت أنها مع ّبأة بالجواهر .وثمة اثنان يحمل أحدهما
59
ً
منقوشا بكتابات مسمارية ونخلة ضخما مصنو ًعا من ناب فيل،
ً بو ًقا عاج ًّيا
ذات جذع طويل (شجرة الحياة) ،ويمسك اآلخر بسلسلة حديدية تنتهي
إلى ربقة تحيط بعنق فهد ينحدر من زاوية عينيه خ ّطان أسودان ،وكالهما
يتقلد سي ًفا ً
أيضا.
أوج تفتّحهن ،هيفاوات ،لهن
أما النساء فقد كانت ثالث منهن في ّ
أجساد تحبس األنفاس ،تشي ر ّقتهن ّ
األخاذة بأنهن أميرات ،إحداهن صبية
غضة العود ،يانعة مثل ثمرة تين في أول نضوجها ،مالحتها ال أحلى منها
تقلن أنوث ًة عنها .ك ّن يغطين األجزاء
وال أشهى ،واثنتان في نحو العشرين ال ّ
العليا من رؤوسهن بأحجبة معقودة من الخلف ،ويتركن شعورهن مسبل ًة
على أكتافهن ،ويز ّين رقابهن بقالئد من أحجار كريمة ،ويرتدين فساتين طويل ًة
مطرزة بنقوش مذهبة وحبات
ذات أكمام موشحة بالزخارف ،فوقها شاالت ّ
خرز وحواشي مشرشبة ،وينتعلن أحذي ًة من غير كعوب أقرب ما تكون إلى
الصنادل ،في حين كانت الرابعة تحت الخمسين من عمرها ،ال تزال تحتفظ
تطوق رأسها بإكليل نصف دائري ،وتلبس فوق بقسط وفير من الجمالّ ،
وتلف رقبتها بوشاح مح ّلى بالزهور.
ّ أيضا،
فستانها عباء ًة موشا ًة بالزخارف ً
وسيما ،ذا
ً أكون انطبا ًعا قو ًّيا أنها ملكة .أما الفتى فكان
وقد جعلني مظهرها ّ
أنف يميل إلى الدقة ،ويحزم شعره ،الذي يغطي أذنيه ،بحزام أبيض ُمحاك.
نهضت على احتراس بالغ ،متحاش ًيا النظر إلى الجمع ،ومترد ًدا بين أن
رأيت شي ًئا ،وبين أن أهرب
َ أمضي ،على هوني ،إلى حال سبيلي كأني ما
على جناح السرعة .لم تكن المسافة ،التي تفصلني عنهم ،تسمح لي
بالنجاة إذا ما لذت بالفرار ،فانعطفت إلى اليمين ،وسرت بقدر ما أستطيع
لساقي.
ّ من بطء ،وفي اندفاع غير عقالني أطلقت العنان
60
ثوان قالئل ترامى إلى سمعي من الخلف صوت عظيم للبوق يتردد بعد ٍ
ً
طويل بطي ًئا في الفضاء ،فأدركت من فوري أنهم يأمرونني بالتوقف. صداه
وقدمي
َ ساقي تخوران،
ّ لم أتمكّن من مواصلة الجري ،أحسست بأن
تتداعيان كما لو أني سقطت من ٍّ
عل ،وقلبي ينتفض فز ًعا .توقفت وأدرت
ذراعي إلى األعلى مثل أسير ،وكأن عشرات البنادق
ّ على عقبي؛ راف ًعا
إلي.
مسددة ّ
أومأ لي الزعيم بأن أتقدم ،فازداد الخفقان في صدري« .يالها من ساعة
شؤم ،أي شغف أحمق أخرجني اليوم إلى شاطئ البحر؟» قلت في دخيلتي،
ورجعت القهقرى اله ًثا حتى توقفت على مبعدة نحو عشرة أمتار عنه .لكنه
صاغرا ،ومثلت أمامه قل ًقا ه ّيا ًبا.
ً أومأ لي ثاني ًة بأن أقترب أكثر ،فطاوعته
كانت يداه تعبثان بشيء لم أستطع تحديده ،وعيناه تضطرمان بشرر
الغضب كأنه محارب عائد ًّتوا من معركة خاسرة .تشتّت نظري بين
المحزز والنساء الحسناوات الالئي يخطف
ّ هيأته المهيبة والفهد والبوق
ِ
جمالهن األبصار ،وراودني إحساس بأنني رأيت أصغرهن ،ذات المبسم
الشهي والعينين الرماديتين المائلتين إلى الزرقة ،والبشرة البيضاء المز ّينة
بنمشات صغيرة ،في مكان ما ،فهفا قلبي إليها.
علي ،وأرغى وأزبد ،ثم سألني
صوب الزعيم نظره الثاقب كالصقر ّ
ّ
بصوت أجش:
ــ عال َم فررت حين رأيتنا؟ هل أنت من أهل أرابخا؟
شفتي:
ّ أجبته بكلمات تع ّثرت على
توجست.
ــ إي ،بلى ..أنا من أهلها ..كنت في ريب من أمركم ..أقصد ّ
61
رفع حاجبيه من فرط الدهشة وقال:
نعض؟
ــ هل يبدو علينا أننا ّ
نفيت بحركة من رأسي ،وابتلعت ريقي وقلت:
علي.
ينقض ّ
ــ ارتعبت من الفهد ،خشيت أن ّ
ألقى بالشيء الذي كان يعبث به على الفتى الجالس جنبه ،لكنه سقط
على األرض ،وللحظة استطعت أن أم ّيزه ،كان مجموعة أحجار كريمة
يجمعها خيط كالمسبحة ،أسرع الفتى إلى التقاطه .أشار الزعيم بيده إلى
أحد رجاله ،فاستخرج الرجل قارور ًة جلدي ًة من أحد الصناديق ،وسكب
منها ً
سائل في كأس خزفي وقدّ مه له .رفع الزعيم رأسه وأفرغ الكأس في
يصب ما ًء في قاع حفرة ،وقال:
ّ جوفه مثل َمن
مروض ،يستهدف الفرائس الصغيرة فقط وال يهاجم
ــ ال تخف ،إنه َّ
البشر.
قلت:
أيضا.
ــ وهيئاتكم الغريبة ً
خبط الهواء بقبضته أمام وجهه وسأل:
ــ أين وجه الغرابة فيها؟
قلت:
ــ إنها تعطي انطبا ًعا بأنكم ِ
مفزعون ..أعني أنكم غرباء ،لستم من
عصرنا.
62
قال:
ــ هل أفهم من ذلك أننا سنُفزع أهل المدينة؟
ــ أتريدون دخولها بثيابكم هذه؟
أصدر الجمع أصوتًا مضطرب ًة وغامض ًة ،وسألني الزعيم متبر ًما:
ــ ما بها ثيابنا؟
صمت ً
قليل ،ثم قلت مترد ًدا: ّ
ــ سيخالكم الناس جماع ًة إرهابي ًة.
نتأت حدقتا عينيه ،وسألني مستغر ًبا:
ــ ما معنى جماعة إرهابية؟
ــ مسلحون في غاية الخطورة ،يقتلون وينهبون ويغتصون ،احتلوا مدنًا
ٍ
وبلدات وقرى كثير ًة في بالدنا وفي بالد الشام ،وأذ ّلوا سكانها ،وسبوا
نساءها ،واستولوا على مواردها.
ــ اللعنة ،هل لهم موطئ قدم في أرابخا؟
أجبته متأس ًّيا:
ــ في بعض البلدات والقرى التابعة لها ،و ُيقال إن عناصر منهم مختبئون
يسمونهم خاليا نائمة.
ــ أتشبه ثيابهم ثيابنا؟
ــ إلى حد ما .إنهم يرتدون ز ًّيا موحدً ا ُيعرف بالزي القندهاري.
63
أرضا اسمها گندهارة شرق مملكة عالمتو.
ــ قندهاري؟ أعرف ً
ــ أكيد هي ذاتها في دولة أفغانستان اليوم.
ــ أفغانستان! ربما هو االسم الذي تطلقونه اليوم على إحدى ممالك
الميديين التي كانت تقع فيها گندهارة.
ــ تخمينك في محله يا سيدي.
ــ بعض أعواني حاول إقناعي يو ًما ما بأن أبسط سيطرتي على تلك
تحمست لألمر .هل يسيطر
المملكة وما جاورها من ممالك ،لكنني ما ّ
أيضا؟
هؤالء اإلرهابيون على قندهار ً
ــ ال ،كانت قبل سنوات عاصمة إمارة حركة متطرفة اسمها طالبان
أيضا.
سيطرت على معظم مناطق أفغانستان ،وهي إرهابية ً
ــ ما أكثر المتطرفين واإلرهابيين في عالمكم!
الهم على القلب ،وللمشكلة وجه
ــ صدقت يا سيدي ،إنهم أكثر من ّ
آخر..
ــ أي وجه؟
أيضا توجد بينهم جماعات تسلك مسلكها في
ــ خصوم هذه الجماعة ً
قتل األبرياء أو تشريدهم ونهب ممتلكاتهم.
شبك الزعيم رؤوس أصابعه بعضها ببعض وقال:
دمت توجس خيف ًة من
ــ هل يتع ّين علينا إذن ارتداء ثياب مثل ثيابك ما َ
أمر ثيابنا؟
64
قلت:
ــ طبع ًا ،من األفضل أن ترتدوا ثيا ًبا مثل ثياب أهل المدينة.
إلي،
التفت الزعيم إلى زوجته وهمس في أذنها ،فهزت رأسها ،ثم نظر ّ
وعلى محياه ابتسامة عريضة ،وأشار تجاهي بإبهامه ً
قائل:
ــ ستكون أنت عونًا لنا.
ــ أنا؟ كيف أعينكم؟
سألته ،فرد واث ًقا:
ــ تجلب ألحد رجالي ثيا ًبا مثل ثيابك وأنا أكافئك.
أشرت إلى حاشيته:
ــ واآلخرون؟
قال:
ــ سيرافقك أحد جنودي ليبتاع ما يكفينا جمي ًعا .هل تقايضون الثياب
بالذهب؟
قلت:
ــ ال ،نحن نتعامل بالنقود الورقية ،لكن يمكنه أن يستبدل الذهب
بالنقود ،أعني يبيعه ألحد الصاغة.
قال:
ــ األمر سهل إ ًذا ،ستكون أنت ً
دليل له.
65
سألت:
ــ وكيف سيحمل ما يكفيكم جمي ًعا من الثياب واألحذية؟
ــ أال توجد وسائط للنقل في المدينة؟
ــ بلى توجد.
ــ أهي عربات تجرها الخيل؟
ــ ال يا سيدي ،إنها عجالت تعمل بمحركات ويقودها سائقون.
وأشرت إلى موقف السيارات ،وأضفت:
ــ مثل تلك المركونة هناك أو التي تسير في الشارع.
ــ أرأيت؟ إن األمر سهل كما قلت.
ــ لكن يجب أالّ يراكم سائق السيارة بثيابكم وسيوفكم هذه.
رفع يده وقال:
ــ لماذا سائق آخر ،أال تمتلك أنت سيارةً؟
ــ بلى ،لكنها صغيرة ال تستوعب الحمل ،ويجب أن نكتري واحد ًة
تسمى شاحن ًة.
وجدت الحل ،أما بشأننا فال تقلق ،سنختفي داخل المركب أو
َ ــ ها قد
هنا.
وأشار إلى المغارة ،وقال:
ــ لئال يرانا السائق.
66
ــ وإذا سألني ماذا تفعل بالبضاعة في مكان كهذا؟
ــ ال تع ّقد األمر ،قل له إنك تريد نقلها بذلك المركب الراسي على
المرفأ إلى مكان آخر.
بدا لي الزعيم حاذ ًقا ،ذك ًّيا ،فسألته:
ــ كم من الوقت تنوون البقاء في المدينة؟
ــ ريثما تنتهي مهمتنا.
ــ هل أستطيع أن أعرف اسمك؟
أسمعت باسم آشور ناصر بال الثاني؟
َ ــ
قلت بثقة:
ــ طب ًعا ،قرأت عنه في كتب التاريخ ،إنه ملك آشوري ا ّدعى بأنه باني
مدينتنا.
تهلل وجه الزعيم وقال:
ــ أنا هو.
انتابني ُ
الذهول:
ــ أنت الملك آشور ناصر بال الثاني؟!
قال:
ــ بلحمه ودمه.
تاجا على رأسك!
عفوا يا سيدي ،ال تضع ً
ــ لكنكً ،
67
ــ سقط في البحر.
ــ يا للهول!
ــ كنت على شفير المركب حين ه ّبت العاصفة فسقط من رأسي .لكن
دعك من هذا.
أومأ إلى النساء ،واستطرد:
ــ هذه زوجتي الملكة موليشومو ،وهؤالء بناتي :أميديا وإيشارا
وشميرام.
شبها بأمه ،وتبدو عيناه يقظتين
ثم ربت على كتف الفتى ،الذي يعطي ً
مبتهجتين:
ــ وهذا ابني وولي عهدي األمير شلمانو .لديه خصال عظيمة يندر أن
تجدها في َمن هم في سنه ،يسلك مسلك الحكمة والقوة ،وينبذ األهواء
التي ال يسفر عنها إالّ ضياع هيبة أبناء الملوك.
قلت:
الرب.
ــ فليحفظه ّ
صمت لحظ ًة ،ثم اضفت:
ُّ
ــ لكنني قرأت يا سيدي أن أرابخا تعود إلى عصر أور السومرية.
كر ًة أخرى إلى أحد رجاله،
احمر وجه الملك وانتفخت أوداجه ،وأشار ّ
ّ
ً
منفعل بصوت خرج من معدة كأسا ثان ًي ًة ،شربها دفع ًة واحدةً ،ور ّد
فقدّ م له ً
ممتلئة ،وهو يمس أنفه:
68
ــ ت ًّبا ،أي هزأة كتب ذلك؟
متوج ًسا:
ّ قلت
ــ كل االحترام لك جاللة الملك ،إنه والله رجل حكيم وليس هزأةً.
استشاط غض ًبا وقال:
ــ أتصدّ ق ً
رجل من زمانكم وتكذبني أيها الصعلوك؟
انعقد لساني لحظ ًة ثم تمتمت:
ــ على هونك يا سيدي ال تغضب.
أحنى جسمه وسألني:
ــ إص ِغ أيها الشاب ،كم عمرك؟
ــ ست وعشرون عا ًما.
ــ ومهنتك؟
ولدي محاوالت في كتابة الرواية.
ّ أدرس علم اآلثار،
ــ ُ
تدرس في هذا العلم؟
ــ ماذا ُ
ورقم
أدرس ذخائر وكنوز حضاراتنا القديمة من عمائر ومنحوتات ُ
ــ ُ
و ُلقى وما ال يخطر في ُحسبان.
اعتدل في جلسته وقال:
أيضا؟
ــ هذا أمر جيد ،وماذا عن الثانية التي أسميتها رواية؟ هل هي علم ً
ــ ال ،إنها نوع من أنواع األدب ،سرد طويل يحكي أحدا ًثا ،ويصف
شخصيات خيالي ًة أو واقعي ًة ،ويشبه األدب الملحمي في العصور القديمة.
69
تلمس آشور بشرته بلمسات من بنان أصابعه ،وقال:
ــ مثل قصة جلجامش؟
دونها سين -ليقي -أونني
ــ أحسنت يا سيدي .هل قرأت النسخة التي ّ
باللغة األكدية في أوروك؟
ــ ال.
قال على ٍ
نحو قاطع ،وأردف:
ــ قرأها على سمعي أحد كتبتنا في ألواح مكتوبة بلغتنا اآلشورية.
قلت بنبرة استحسان:
ــ تما ًما يا سيدي.
انطلقت أسارير الملك ،وبدا أن فكر ًة الحت له ،فقال بعد أن أدار رأسه
نصف دورة إلى رجاله:
قمت به من أفعال
تدون ما ُ
ــ ما دمت تهوى تدوين الروايات فلعلك ّ
عظيمة أحنى الجبابرة جباههم لها .سأقصصها عليك بالتفصيل ،بل
مشدوها من هولها ،وعليك أن تضيف
ً سأبتعثها لك في صور حية تجعلك
لها الكثير من توابل التشويق والخيال والشعر.
ــ في خدمتك يا سيدي ،هذا شرف كبير لي.
وسعت أرابخا ون ّظمتها ،وكانت قبل ذلك بلد ًة صغير ًة
ــ إصغِ ،أنا الذي ّ
علي الحاكم الميدي َارياق
ومركزا لعبادة إله الرعد والبرق أدد ،وحين تمرد ّ
ً
حاكما عليها اسمه كرمي ،وأمرته ببناء قلعة فيها،
ً عزلته وعينت بدالً منه
70
أتم بناءها جاء بألف من أتباعه وأسكنهم فيها ،فتوسعت عمارتها
وعندما ّ
وعظمت أهميتها ،ومنذ ذلك التاريخ أصبحت حصنًا دفاع ًيا أمام هجمات
األعداء الطامعين في االستيالء على المدينة.
حين أنهى كالمه شعرت بأنه كان يقذف الهواء بألفاظه ،فخطر لي أن
أقول له إن بيوت القلعة ُأزيلت كلها بعد أن ُأرغم ساكنوها على مغادرتها،
يبق فيها سوى بعض اآلثار القديمة ،إالّ أنني خشيت أن أصدمه،
ولم َ
فتمالكت نفسي وسألته:
ــ هل كانت هذه المغارة موجودة حين ُبنيت القلعة؟
حراس المرفأ من الريح والمطر.
ــ نعم ،كانت مأوى تعصم ّ
فكّرت في إطالعه على الحكايتين الشائعتين عنها ،لكني لم أجد الفكرة
مناسب ًة ،ومضيت في الحديث عن المدينة:
أيضا إن الملك آشور بانيبال ،أو
ــ اعذرني جاللة الملك ،ثمة من يقول ً
سردنابال الملقب بملك العالم هو باني القلعة.
مزمجرا:
ً تشنّج وجه الملك ،وصاح
ــ هراء.
قلت بصوت خافت:
ــ إنه ابن الملك آسرحدون وحفيد الملك سنحاريب.
ً
متسائل: كان لر ّدي فعل القنبلة ،فانتفض في سورة غضب
ــ من أين تأتي بهذه المزاعم أيها الصعلوك؟
71
أجهدت ذهني الستخلص جوا ًبا ال يزعجه ،وقلت:
ــ أرجوك يا سيدي ال تغضب ،هكذا ع ّلمنا التاريخ.
لكنه ر ّد ساخ ًطا:
ــ ليذهب التاريخ الذي ع ّلمكم هذا الهرف إلى الجحيم.
الجبن عن المضي في محاججته فتمتمت:
أوقفني ُ
ــ ليذهب يا سيدي ،ما شأني أنا.
رفع سبابته وقال ّ
محذ ًرا:
ــ افتح أذنيك جيدً ا ،عليك أن تمحو من رأسك كل هذا الهذيان ،أنا
الذي ش ّيدت أرابخا ،واليوم جئت ألتفقد أحوالها ،بلغتني معلومات تقول
إنها تفتقد إلى األمان ،وإن جماعات عديد ًة تتنازع لالستئثار بها.
ــ صحيح يا سيدي ،كل جماعة تزعم أن اللبن الذي في ضرع المدينة
تجتر العاقول والشوك.
ملك لها فيما هي ّ
تبدّ ت نظرة زاخرة باألسى على وجهه ،وقال بصوت يتراوح بين
الفوران والخفوت:
ــ ت ًّبا لهم جمي ًعا .ليعنّي اإلله على إعادة األمان والوحدة إليها .كانت
ساب ًقا مرت ًعا ألناس من شتى األعراق والمنابت ،يتعايشون في إلفة رائعة،
ومرها ،أما اآلن فيبدو أن شي ًئا ما تغلغل في بواطن
يتقاسمون الحياة حلوها ّ
أعراقها وصدّ عها.
ثم أمر أحد رجاله بأن يفتح الصندوق الصغير الذي يحمله ،وحين فتحه
الرجل تناول منه قطع ًة ذهبي ًة وقال:
72
ــ أترى قطعة الذهب هذه؟
ــ ال شك في أنها ثمينة يا سيدي.
ــ سأمنحك عد ًدا منها بعد عودتك.
ألقيت نظر ًة خاطف ًة إلى ابنته الصغرى وقلت:
ــ أطمح إلى هدية أثمن.
ــ أية هدية؟
أشرت بإصبعي إلى ابنته الصغرى ،ففتح عينيه على وسعهما وقال:
ــ األميرة شميرام؟
قلت:
ــ يا له من اسم جميل ،لقد مال قلبي إليها وأحلم أن أتزوجها.
شررا كما لو أني
سرت دمدمة بين الجمع ،وقدحت عينا الملك آشور ً
ح ّطمت كبرياءه:
ــ ماذا قلت أيها الصعلوك؟
ــ لِ َم ال يا صاحب الجاللة ،هل يعوزني شيء؟ أنا شاب آشوري أعزب،
وسأحوز قري ًبا على شهادة الماجستير وأصبح عالم آثار.
ــ أجل ،يعوزك أنك ال تنتمي إلى طبقة راقية ،بل إلى عامة الناس ،وأنا
أخضعت كركميش وأرض توم
ُ ملك ابن ملك .ألم تقرأ أنني رجل عظيم
واستوليت على مدنها الحصينة ،وبسطت نفوذي على كيروري وجعلت
سكانها يؤدون لي الجزية من الخيل والذهب والفضة والقصدير والنحاس،
73
وضممت أرض كيرهي إلى مملكتي ،وث ّبت سيادتي على زامو وتشخان
وكينابوو بيت زماني ،وأخمدت التمرد في الق وخنداق وسوخو وقضيت
عليها ،وأقمت لوح ًة تذكاري ًة عند نهر الكلب؟
تذكرت أنني قرأت ذات يوم شي ًئا من ذلك ،فأجبته:
ــ بلى.
ً
متسائل بازدراء: ر ّد
ــ كيف تجرؤ إ ًذا على طلب يد ابنتي؟
ــ ألنها راقت لي وأحببتها ،سبق أن رأيتها ذات مرة.
ارتسمت على وجه الصبية ابتسامة مفعمة بالخجل والحيرة ،صاحبتها
تعبيرا
ً نظرة هائمة في الفراغ ،في حين قطب الملك جبينه ،واتخذ وجهه
جهما مغل ًقا ،وقال كمن أصابه فالج:
ً
ــ ما هذا القول األخرق؟ هل أنت عاقل أم مجنون؟
ــ عاقل طب ًعا يا جاللة الملك.
ــ إن كنت ً
عاقل كيف تقول إنك رأيتها ذات مرة؟
ــ ال أدري ،ربما حدث ذلك في الحلم.
بش وجهه ً
قليل ،وقال: ّ
يزوج الملوك بناتهم من أبناء عامة
حلمت بها ،لكن هل ّ
َ ــ حسنًا ،ربما
الناس في زمنكم؟ أال يراعون المقامات؟
يزوجون إذا توافقت القلوب.
ــ نعم ّ
74
ــ يا لك من َجسور! تتحدث وكأنك تملك قلب ابنتي .أنت تحيرني
يا ...ما اسمك؟
ــ نينوس.
اسما آشور ًّيا.
ــ نينوس؟! هذا ليس ً
ــ أجل يا سيدي ،المؤرخون اختلفوا في أصله ،بعضم يقول إنه االسم
الذي أطلقه اليونانيون على نينوى ،وبعضهم اآلخر يقول إنه االسم الذي
أطلقوه على بانيها الملك توكولتي نينورتا األول.
ــ إنه أحد أجدادي ،أخضع كل أمم الشرق ما عدا الهنود والبخاترة،
قادرا على تجييش مليوني جندي.
وكان ً
ــ إذن أنا من أحفادكم يا سيدي.
قهقه الملك ،وقال:
ــ غلبتني في هذا ،يبدو أنك شاب مستنير .واآلن اهرع وانجز المهمة
التي كلفتك بها ،وحينما تعود سأنظر في موضوع زواجك من احدى بناتي.
ــ شميرام بالذات يا سيدي ،قلبي تع ّلق بها.
ــ سأنظر في الموضوع.
ــ تنظر أم تعدني بالموافقة؟
ِ
امض إلنجاز المهمة. لحوحا،
ً ــ ال تكن
ــ سأفعل يا جاللة الملك المع ّظم.
ّلوحت بيدي مود ًعا لالنصراف ،بيد أنني تفكّرت فجأ ًة في الفهد،
فقلت:
75
ــ نسيت أن أخبرك بشأن ذلك الحيوان.
ــ ما به؟
سيروع أهل المدينة إذا رافقكم.
ّ ــ
مروضه في المركب.
ــ ال تقلق ،سيمكث مع ّ
أخرجت هاتفي الخلوي أللتقط صور ًة للجمع لكني وجدت
بطاريته خالي ًة من الشحن تما ًما .هرعت إلى سيارتي ،سالكًا مسار ًا آخر
أقل عثرات ،ورأسي يمور بتساؤالت شتى :أأصدّ ق أنه الملك آشور أم
أنه أ ّفاق ينتحل شخصيته ،أم زعيم نفر من القراصنة؟ ْ
إن كان هو بلحمه
ودمه كما يقول فلماذا لم يرشده أحد آلهته ،أو أحد حكماء مملكته في
األقل ،إلى أفضل السبل لدخول المدينة؟ ...ال ،ال ،إن هيبته تشير إلى
أنه ملك بالفعل ،لكن هل ُيعقل أنه جاء فقط بغية تف ّقد أحوال المدينة؟
حملني إياه أم أحقق مراده؟
أأتناساه وأفلت من العبء المرهق الذي ّ
أضعت فرصة الزواج من ابنته الصبية الساحرة الجمال،
ُ تناسيت
ُ إذا
وخسرت مكافأته الثمينة التي سيحوزها ،ببساطة ،شخص آخر ،ربما
ُ
رجل مستطرق .أجل ،من الحكمة أن أكون عونًا للملك آشور كما
أراد ،وأقايض العبء بالصبية والمكافأة .أظنه اقتنع بأنني نبتة طالعة
من بذرة آشورية وإالّ لما قال سأنظر في موضوع زواجك من ابنتي.
مازحا؟ الله ما أجملها ..شميرام ،شميرام ..إنه أحد
ً لكن أكان جا ًّدا أم
أسماء محبوبة الحمام الملكة القوية شمورامات ذات الحسن والذكاء
الخارقين .سأكون محظو ًظا إن تزوجتها ورافقت أهلها إلى عاصمتهم
كلحو الجميلة .سأستمتع برؤية جدارية نمرود ،والمشغوالت العاجية
76
والمسالت والتماثيل الضخة التي قرأت عنها ،وأزور معبد نبو أل ّطلع
الرقم المسمارية التي نُقشت عليها نصوص عهود الوالء المقدَّ مة
على ُ
من الحكام التابعين للدولة اآلشورية.
77
9
حين بلغت البيت ضغطت على الجرس عدة مرات فلم يفتحه أحد .بعد
برهة فتح جاري رشيد ،الطاعن في الشيخوخة ،اآليل للزوال والمصاب
وتفحصني بعينين زائغتين ال تقدران على تركيز
ّ بالزهايمر ،نافذة بيته،
النظر ،وسألني ،بصوت مطحون ،وفكه األسفل يرتعش ،السؤال الذي
اعتاد أن يسألنيه كلما رآني:
ــ أعتقد أنها في السوق وستعود بعد قليل ،واسمي نينوس وليس
نيموس.
ــ انتظر.
78
انتزع سدارته السوداء ((( من رأسه ،وفتح فمه فبانت لثته عاري ًة من
األسنان:
ــ ال يروق لي أن تذهب زوجتي وحدها إلى السوق.
ــ لماذا؟
ــ أخاف عليها من كائنات غير مرئية ال تتوقف أبدً ا عن مضايقة النساء.
مازحته ثاني ًة:
ــ كان هذا يحدث أيام كانت زوجتك شاب ًة ،أما اآلن فال خوف عليها.
يعيش جارنا هذا مع حفيدته العانس نازك ،الممرضة في المستشفى
الجمهوري .كان جند ًيا في جيش هتلر أيام الحرب العالمية الثانية .وصل
إلى ألمانيا رفقة أبيه وهو في سن الثالثة ،وحصل على جنسيتها .وحين
وزجوه مع قوات
قامت الحرب كان في الثامنة عشرة فساقوه إلى الجيشّ ،
ضخمة في عملية «بارباروسا» التي شنتها قوات المحور لغزو االتحاد
السوفييتي ،لكنه ُجرح في بداية المعارك ،وتمكّن من الفرار إلى تركيا،
متنكرا بهيئة غجري ،ومنها دخل إلى العراق .سألتُه ذات مرة لماذا أطلق
ً
هتلر على تلك العملية اسم باربروسا؟ قال «الفوهرر ابن قحبة ،كان يتوهم
أن ابن القحبة باربروسا سيستيقظ من سباته وينقذ ألمانيا حينما تحتاجه!».
تق ّلب رشيد بين مهن مختلفة ،كانت آخر واحدة «تيتي» (قاطع تذاكر
في القطار) ،خرج منها متقاعدً ا ،وماتت زوجته قبل اثنين وعشرين عا ًما،
(((لباس الرأس املعروف بـ«الفيصلية» نسب ًة إىل امللك فيصل األول الذي ّ
صممها واعتمرها
أول مرة يف العراق.
79
ولم يكن أنجب منها سوى بنتًا واحد ًة هي أم حفيدته المسكينة نازك ،ولما
أيضا في سن األربعين لم يعد يرعاه غير هذه الحفيدة .أما
ماتت البنت ً
أحفاده الثالثة البنين فقد قضوا نحبهم في ظروف مختلفةُ ،قتل واحد في
بداية االحتالل بصاروخ أميركي قصف وحدته العسكرية ،وغرق ٍ
ثان في
البحر أثناء محاولة تهريبه إلى أوروبا مع مجموعة الجئين غير شرعيين،
مخيما مؤقتًا في غابة بالبوسنة
ً و ُفقد الثالث أثناء عاصفة ثلجية ضربت
بعد نجاحه في الهروب من تركيا إلى تلك الدولة .وقيل إنه ربما ُقتل بلغم
أرضي من مخلفات الحروب التي عاشتها يوغوسالفيا ،لكن جثته لم ُيعثر
عليها.
بقيت نازك عزباء من أجل َجدّ ها هذا ،تجتر معاناة فقد األم واألشقاء،
وكرست نفسها له .تذهب إلى عملها في ودخلت دور ًة في التمريض ّ
عصرا ،وتستقبل في األماسي بعض النساء
ً صباحا وتعود في الرابعة
ً السابعة
المريضات اللواتي يحتجن إلى غرز إبر .عانس طيبة ،ذات مروءة وأخالق
حميدة ،على عكس ما يشاع عن الممرضات .تتزاور هي وأسين من ٍ
آن ُ
آلخر ،وفي بداية كل شتاء تقصدها أمي لتغرزها إبر ًة مضاد ًة لإلنفلونزا،
وحين تعود تقول بثقة متناهية «وحق العذرا إن نازك أفضل من أطباء زمننا
األغبر».
أراد رشيد أن يواصل حديثه معي لكن جارتتنا أم سيمون ،التي دخلت
ولوحت
ًّتوا عقدها السابع ،فرجت باب بيتها ،وأخرجت رأسها منه ّ
أيضا ،إالّ
لي .اتجهت إليها ،ظنًّا مني أنها تريد أن تسألني عن زوجها ً
أنها أخبرتني بأن أمي تركت لي المفتاح عندها وذهبت إلى المستشفى
الجمهوري .صعقني النبأ:
80
ــ ماذا حدث لها؟
قالت:
ــ اطمئن ،لم تُصب بأذى ،ذهبت ألمر يتعلق بأبيك؟
ــ أبي؟
ــ اتصل بها من المستشفى قبل ما يزيد عن ساعة .صدمته سيارة في
شارع أطلس وسببت له بعض الرضوض.
ــ اللعنة ،أفي مثل هذا الوقت؟
ــ ال تلعن أحدً ا يا ولدي ،القديس يوحنا يوصينا بأن نبارك حتى على
الذين يضطهدوننا ال أن نلعنهم.
أخذت المفتاح من المرأة وشكرتها ببرود .كان ذهني مشتتًا بين خيارين:
واجبي حيال أبي وحرصي على تنفيذ المهمة التي جئت من أجلها .في
فخمنت ّ
أن أم أثناء ذلك لمحت أسين ّ
تطل من شرفة بيتها مخطوفة الوجهّ ،
سيمون أخطرتها بما حدث ألبي.
أوصلت هاتفي بشاحن السيارة ،وتكلمت مع أمي على الفور ،فإذا
علي باللوم والتقريع ،بيد أني لم أجد بدًّ ا من مسايرتها ،ابتلعت
بها تنهال ّ
علي بأنها غير مقلقة حسب
كالمها وسألتها في هدوء عن إصابة أبي ،ر ّدت ّ
نجاه بفضل إيمانه به مخ ّل ًصا.
الرب ّ
رأي الطبيب ،وأضافت أن ّ
بلغت الجناح الذي يرقد فيه أبي خالل أقل من نصف ساعة ،فوجدته
يغط في غفوة عميقة ،وعلى حافة سريره تجلس أمي ساهم ًة .خزرتني
بنظرة صارمة ،وأومأت لي بأالّ أصدر صوتًا ،ثم نهضت ودفعتني أمامها
إلى الخارج.
81
سألتني ،ونحن نجتاز البوابة إلى حديقة المستشفى الفسيحة ،والغضب
يمأل وجهها:
ــ لماذا كان هاتفك مغل ًقا؟ اتصلت بك عشر مرات ،وقبلي اتصل بك
أبوك أكثر من مرة!
كثيرا من التقريع والتوبيخ ،لكني آثرت الصمت،
وأضافت أشياء أخرىً ،
أقسمت لها كذا قسم بأن الهاتف كان
ُ تركتها تفرغ جعبتها ،وحين اكتفت
خف غضبها
فاقد الشحن ،واعتذرت كما لم أعتذر ألحد في حياتي .عندئذ ّ
ً
قليل ،واتجهت إلى مصطبة حجرية وجلست عليها ،وأخذت تعاين حركة
الناس والسيارات من خلل سياج الحديقة ،المصنوع من قضبان معدنية
تتيح المسافات بينها للناظر رؤية ما يجري في الشارع.
إلي وطلبت أن
لحقت بها وجلست لصقها وق ّبلتها من رأسها ،فالتفت ّ
أشعل لها سيجارةً .لم تكن مدخن ًة بالمعنى المتعارف عليه ،لكن عندما
يحملها أحد على الغيظ تفرغ شحنة غيظها بسيجارة.
هزت
سألتها عما إذا أخطرت سلفانا بالحادث الذي تعرض له أبيّ ،
لصدمت».رأسها نافي ًة ،ثم قالت بعد هنيهة «لو أعلمتها ُ
تناهى إلى سمعنا من بعيد دوي انفجارات متتالية ،أعقبته على الفور
أصوات إطالق رصاص ،فأجفلت أمي ،كأن شي ًئا ما تهاوى في داخلها،
وص ّلت بإشارة بالصليب «باسم اآلب واالبن والروح القدس» .استدرت
إليها وأمسكت بكتفها ،وأنهضتها وأنا أتمتم «ال تفزعي ،إنها عملية
إرهابية كالعادة» .وأسرعنا في مبارحة الحديقة إلى الداخل ،وما إن ارتقينا
الرب:
نفسا وناجت ّ
الدرجات حتى أخذت أمي ً
82
ــ إنّا أسلمنا أرواحنا إلى يديك يا يسوع الحبيب ،ألطِف بنا يا أبا المراحم،
أخشى أالّ ينقضي اليوم بسالم.
لحظت في ضوء المصباح شحو ًبا على وجهها ،فقلت لها مهدّ ئًا من
روعها:
ــ ال ترتعدي ،ألِفنا سماع دوي االنفجارات وأزيز الرصاص.
تنهدّ ت وقالت:
ــ لوال دراستك لكنا اآلن في أميركا أو أستراليا حالنا حال اآلخرين.
ــ هذا ما يريده هؤالء اإلرهابيون ،إرغامنا على الهجرة واجتثاثنا من
جذورنا.
تعرض له أبوك ،لع ّله كان مد ّب ًرا.
ــ صرت أرتاب من الحادث الذي ّ
ــ ال أعتقد ،لو أن جه ًة إرهابي ًة استهدفته الغتالته بالسالح ً
بدل من حادث
دهس نتيجته غير مضمونة ،ثم ّ
أن أبي رجل مسالم فلماذا يستهدفونه؟
ــ ابني أنت تناقض نفسك ،ألم تقل إنهم يريدون إرغامنا على الهجرة؟
ــ بلى قلت ،لكنني قصدت أنهم يقومون بما هو أدهى وأمر مثل تفجير
الكنائس واألديرة.
ّ
رن هاتف أمي داخل حقيبتها ،فالتقطته بسرعة ور ّدت بصوت واهن
«ألو» .كانت أسين على الجانب اآلخر تسأل عن أبي ،قالت لها« :اطمئني
حبيبتي ،رضوض بسيطة وإن شاء الرب لن يبيت الليلة في المستشفى».
ضغطت على مكبر الصوت ،من باب الفضول ،فإذا بي أسمع أسين تقول:
ُ
83
ــ تمنيت أن آتي مع نينوس ،لكنك تعرفين ،اعذريني خالتي.
عمك.
ــ أعرف حبيبتي .ستأتين إلى البيت مع الجيران وتطمئنين على ّ
ــ سآتي طب ًعا .أبلغيه سالمي ودعائي له بالشفاء العاجل.
حين ناهزت الساعة الثامنة ً
ليل سمح الطبيب ألبي بالخروج من
المستشفى على مسؤوليتنا .في الحق كان أبي هو المبادر إلى ذلك ،فقد بدا
تحسن ،وليسقائل «وضعي الصحي ّ مسترسل الطمأنينة ،وأكد للطبيب ً
ثمة ما يدعو إلى القلق ،وسأكتفي بالحبوب المسكنة ،ناهيك عن كوني
ال أطيق المستشفيات ً
أصل ألنها تق ّيد حركتي ،وتبعث الملل في نفسي».
إ ّذاك لمحت ،من زجاج النافذة الواقعة خلف سرير أبي ،وميض
سيارات إسعاف تلج المستشفى ،قفزت من مكاني وفتحت النافذة
على سعتها وأطللت برأسي إلى الخارج ،لكن أبي سحبني من ذراعي،
إلي نظر ًة شزراء كأني ارتكبت
ورفع جذعه وأغلق النافذة ،وسدّ د ّ
حماق ًة .بعد لحظات حدث هرج ومرج في ممرات المستشفى،
كثرا أصيبوا
أناسا ً
وسمعت أصوات ممرضين يتراكضون ،فقدّ رت أن ً
في العملية اإلرهابية.
و ّقعت على نموذج الخروج من المستشفى ،وفي داخلي كانت تتسع
رغبة شديدة في العودة إلى المرفأ ،لك ّن مكالم ًة هاتفي ًة من عمران ،لحظة
وصولنا إلى البيت ،نسفت ّ
كل آمالي .أخطرني بأن العاصفة التي ضربت
علي ،لكن هاتفي
كثيرا ،فاتصل بي ليطمئن ّ
شاطئ البحر عصر اليوم أقلقته ً
كان مغل ًقا فلحق بي إلى المرفأ ولم يجدني.
سألته بصوت يضمر لهف ًة:
84
ــ متى كنت هناك بالضبط؟
ــ بعد انتهاء العاصفة بساعتين على وجه التقريب.
ــ لِ َم لم تتصل ثاني ًة؟
ــ خرجت على عجل ونسيت هاتفي في البيت.
ــ هل وجدت أحدً ا على رصيف المرفأ؟
ــ رأيت عد ًدا من صيادي السمك في حال ُيرثى لها.
ــ أكان هناك صيادون؟ يا له من أمر عجيب!
ــ لِ َم العجب؟ نعم كان يوجد صيادون ،وقد أخطرني واحد منهم أن
ثالثة من زمالئه ُفقدوا في البحر بسبب العاصفة ،ويخشى أن يكونوا قد
لقوا حتفهم.
ــ ماذا تقول؟ أنت تجنّني!
ــ أجنّنك؟ أين وجه الغرابة في ذلك؟ أما كنت هناك حين ه ّبت الريح
العاتية؟
ــ بلى كنت.
ــ أما رأيت كيف اصطخب موج البحر؟
ــ بلى ،وقد احتميت بالمغارة ،ومكثت فيها ساع ًة ونصف الساعة تقري ًبا.
ــ عجيب أمرك! ما الذي جعلك تقضي فيها كل هذه المدة؟ هل غفوت؟
ــ ال ،كنت أراقب البحر .لكن قل لي هل لمحت مرك ًبا شراع ًّيا راس ًيا
في المرفأ؟
85
ــ ما لفت انتباهي شيء من ذلك .ماذا يعنيك من أمره؟
ــ في ما بعد سأحكي لك ّ
كل شيء.
كنت عاز ًما على العودة إلى البحر ،غير أن مكالمة عمران أحبطتني،
فأجلت األمر إلى صباح الغد ،واضطجعت على سريري مكروب النفس،
ّ
طويل ،نه ًبا لتفكير ممض ،وعب ًثا جهدت أن أستجلب
ً ولبثت أتقلب
أغف إالّ
النعاس ،فقد ظلت عيناي يقظتين ،يستعصي عليهما النوم ،ولم ُ
حين أضحى تنفس الفجر وشيكًا ،بعد أن شربت كأسي فودكا.
دهمتني وجه الصبح أحالم مضطربة ،لكن الحلم الوحيد الذي
تذكّرته بالتفصيل ،ربما ألنه كان األخير ،حلم اختطاف شميرام أثناء
ُعرسنا .كنا أنا وإياها رفقة أمي وأختي سلفانا داخل استوديو للتصوير
ً
طويل في اإلعداد الفوتوغرافي ،تغمرنا فرحة الزفاف الذي استغرقنا وقتًا
له .كانت عيناها تحتفظان بتلك المسحة من البراءة التي ال تمتلكها فتاة
غيرها ،أما وجهها فكان ساط ًعا كالبدر ،يفيض حيوي ًة تحت حزمة ناعمة
من الضوء الذي تفنن المصور في توجيهه ،تاركًا مساحات من العتمة هنا
وهناك.
لم نتبادل سوى القليل من الكلمات ،كان المصور وحده يتكلم بصوت
وجها لوجه
ً رخيم قاطع ،محدّ ًدا لنا أوضا ًعا رومانسي ًة مختلف ًة :تقابال
وليق ّبل كل واحد منكما كف اآلخر ،اقعدا على هذه األرجوحة المزينة
بالورود وابتسما ،ضع يديك على كتفيها واطبع قبل ًة على جبينها ،اتخذي
وضعية راقصة فالمنكو واعتمر أنت هذه القبعة اإلسبانية واعزف على
وأحط أنت خصرها بذراعك وأديراأنت بباقة الورد هذه ِ
الجيتار ،امسكي ِ
86
بحرا أم
وجهيكما إلى الجدار ،سأغير الخلفية بالفوتوشوب« ،أتريدانها ً
بحرا» قلت من فوري.
بستانًا؟»« ،نريدها ً
عندما انتهينا من التقاط الصور خرجنا من األستوديو متشابكي الذراعين
انقض علينا بضعة مسلحين ملثمين.
جذلين ،وما كدنا نخطوا خطوتين حتى ّ
يدي وبطحوني على األرض ووجهوا رشاشاتهم
أمسك بي ثالثة منهم وكتّفوا ّ
إلى رأسي ،وحمل اثنان شميرام إلى سيارة همر رمادية ذات شكل شرس
وعدائي ،فانطلق سائقها على وجه السرعة ،ولحق بها اآلخرون على متن
سيارة ثانية بعد أن أطلق أحدهم عدة رصاصات في الهواء.
كان الوقت قبيل الغروب ،والنهار يوشك أن يلفظ أنفاسه ،والمكان
مقفرا كأننا في جزيرة نائية خالية من البشر .تغلغت برودة في رئتي،
ً
وشعرت بأن روحي تكاد تغادرني ،وراح عويل أمي وسلفانا يشق الفضاء
حتى أنني كان بوسعي سماع صداه يتردد في األفق البعيد.
رفعت سلفانا جسدي عن األرض بمشقة ،وجرجرتني إلى السيارة
مستسلما
ً وقادتها بنفسها .لبثت فريس ًة للقلق ،أفكّر في النكبة التي ح ّلت بي،
لليأس ال أعرف إلى أين أذهب .طلبت أمي من سلفانا ،والعبرة تخنقها ،أن
تسرع إلى أقرب مركز للشرطة.
شبيها بوجه نافخ البوق المرافق للملك
قال الضابط ،الذي بدا لي وجهه ً
آشور:
ــ نحن ال نستطيع أن نفعل شي ًئا.
ثم تثاءب ونهض من كرس ّيه ،كأنه يشير إلينا أن ننصرف ،لكننا لبثنا في
مكاننا.
87
قلت له:
ــ كيف ال تستطيعون أن تفعلوا شي ًئا وهي عملية إرهابية؟
إلي نظرة المباغض المستهين ،وقال:
نظر ّ
ــ اذهب وب ّلط البحر.
خرجنا من عنده ،في أشد حاالت الغيظ ،واتجهنا إلى الشاطئ .بدت
الطريق طويل ًة وشائك ًة كأننا لم نسلكها ساب ًقا .عند وصولنا فوجئنا بمشهد
مهول يصيب المرء بقشعريرة ،رأينا البحر يقلع ببطء ،مخل ًفا وراءه هاوي ًة
المتناهية االتساع ،يعتليه المركب الشراعي ،ثابتًا ال يتأرجح ،تسطع شميرام
على متنه تحت أثير ضوئي مثل مالك ،وهي تمسك بإحدى يديها حبل
شراعه ،وتومئ بالثانية مو ّدع ًة ،فرفعت ذراعي وبادلتها إيماءة الوداع .وما
هي إالّ دقائق حتى تحرك البحر صوب الشرق ،ثم غ ّير اتجاهه إلى الغرب،
ثم تراجع وأخذ يح ّلق عال ًيا في السماء .ناديته «تر ّفق بي يا صديقيُ ،عد
أدراجك وخذني ألصحب شميرام» ،لكنه لم يسمعني ،أخذ يبتعد شي ًئا
فشي ًئا ،تنهمر منه خيوط مائية مضيئة ،كأنه في غربال ،تشبه شه ًبا طائش ًة،
ثم تقلص شي ًئا فشي ًئا حتى أصبح بحجم قوقعة واختفى بغت ًة في الغمام .أما
رمل الشاطئ فقد غدا لونه أسود كالقار ،وخالل دقائق تشكّلت فوقه ،على
ارتفاع يسير ،سحابة من النوارس يمأل عويلها الفضاء.
لم نكن وحدنا هناك في تلك اللحظات العجيبة ،بل آالف مؤلفة،
موج بشري متالطم من أبناء أرابخا ،الذين توافدوا ،قادتهم أقدامهم من
األنحاء كلها ،واكتظ بهم الشاطئ ومدخل القلعة ليلقوا نظر ًة أخير ًة على
بحرهم ويودعوه .بدوا كتل ًة من الحزن واأللم ،نساء ينتحبن ،تسيل من
88
تخضب ثيابهن ،وأيديهن مرفوعة إلى السماء ،ورجال
أعينهن دموع كبيرة ّ
يسجلون
ّ ينشجون ،مطرقين رؤوسهم ،وثمة بضع مصورين سينمائيين
صورا فوتوغرافي ًة له ،في
ً الحدث الرهيب بكاميراتهم ،وآخرون يلتقطون
حين كانت تنبعث موسيقى حزينة من مك ّبرات صوت في نوافد المنازل
القريبة.
قالت أمي وهي تمسك من ذراعي:
ــ يا لها من قسمة سوداء ،طار البحر وشميرام دفع ًة واحدةً.
وقال شيخ ،على قدر من الهزال والشحوب ،لعجوز ترافقه بنبرة اختلج
فيها األسى:
ِ
أرأيت؟ حتى البحر ارتحل بسبب جورهم ،لن ننعم بعد اآلن بنسمة ــ
عليلة.
سألته العجوز:
ــ جور ّمن؟
أجابها:
ــ جور المسعورين المتس ّلطين على رقابنا.
ر ّدت عليه سلفانا:
ــ لم يرتحل من تلقاء نفسه يا عم ،حاولوا اختطافه.
التفت إليها رجل عيناه محاطتان بسواد غامق وقال:
بحرا آخر مح ّله. ِ
ــ صدقت يا ابنتي ،يريدون أن يو ّطنوا ً
89
قت إلى سلفانا بنظرة قانطة ،وقلت بصوت متهدّ ج:
حدّ ُ
ــ وا أسفاه على بحرنا رهيف القلب.
رسمت إشارة الصليب على صدرها:
ــ ال تقلق ،يخامرني إحساس بأنه سيعود .الحياة مليئة بالمفاجآت.
ــ وشميرام؟
أيضا.
ــ ستعود ً
90
10
91
ــ ابنة الملك آشور.
ربتت على كتفي وغمغمت:
زلت تهذي ،هيا انهض.
ــ ما َ
ــ على مهلك.
ــ هل قبضت راتبك؟
ــ إي قبضت.
ينفض.
ــ اذهب إلى سوق الغنم قبل أن ّ
ــ ماذا أفعل في سوق الغنم؟
سألتها بذهن شارد ،فقالت:
ــ اشتر لنا خرو ًفا.
رفعت رأسي واحتسيت كأس ماء كانت موضوع ًة على طاولة محاذية
لسريري ،ولويت وجهي وقلت:
ــ ما حاجتك إليه ،هل ستعملين وليم ًة؟
ــ ال وليمة وال هم يحزنون ،نذرت أمس أن أعطي خرو ًفا للكنيسة.
أعدت رأسي إلى الوسادة متذ ّم ًرا:
ــ يا إلهي! ما مناسبة هذا النذر؟
قالت:
ــ نجاة والدك من الموت.
92
وهزت السرير بعنف ،وأضافت
وشمرت عن ساعديها ّ
ّ علي،
ر ّدت ّ
بنبرة آمرة:
فورا ،واحترس أن تشتري خرو ًفا أعرج أو مشقوق األذن.
ــ انهض ً
قلت متأ ّف ًفا:
ــ لماذا ال تعطين ثمن الخروف نقدً ا للكاهن؟
جذبت شحمة أذني ،وكأني ما فتئت ً
طفل ،وقالت:
ــ ال يجوز ،يجب أن ُين ّفذ النذر كما يخرج من الفم.
مضطرا.
ًّ لم أكن أمتلك داف ًعا كاف ًيا لمغادرة الفراش ،لكني نهضت
تناولت إفطاري على مضض ،وجمعت كتبي المتناثرة على األرض
وأعدتها إلى رف المكتبة ،وخرجت من البيت .غير أني ً
بدل من الذهاب
إلى سوق الغنم مباشر ًة قصدت الشاطئ ،يراودني األمل في أن أجد
المركب ال يزال في المرفأ.
ركنت سيارتي جنب عربة األطعمة المتنقلة ،وأخذت أنظر عبر زجاجها
األمامي إلى البحر ،لكن ،واخيبتاه ،لم يكن ثمة أي أثر للمركب .مألت
كياني موجة كرب على شيء أضعته ،حلم ّ
تبخر سري ًعا مثل ماء يغلي
أتنهد، ِ
في مرجل أو غيمة شاردة ،فأسندت رأسي إلى مقود السيارة ،وأنا ّ
وأخذت أسترجع صورة شميرام.
اقترب مني الشاب بائع األطعمة ،وسألني:
ــ ألست أنت الذي ّ
حذرته أمس من العاصفة؟
ــ بلى.
93
ــ هل غادرت الشاطئ قبل هبوبها؟
ــ ال ،احتميت بالمغارة.
جئت أمس كانت المغارة خالي ًة من زبائننا بسبب العاصفة.
ــ حين َ
ــ هل يرتادونها كل يوم؟
ــ قبل المغيب عادةً ،يقضون فيها ساع ًة أو أكثر ثم يغادرونها منتشين.
ــ أال يخشون األشباح فيها؟
ــ أشباح؟! هل ظهرت لك عندما احتميت بها؟
94
ــ وما عالقة المركب بكوني مسيح ًّيا؟
ــ ربما يكون أصحابه إرهابيين.
ــ ما هذا الهراء؟ كان على متنه ملك آشوري وحاشيته.
ــ يبدو أنك أفرطت في الشرب أمس قبل مجيئك.
ــ أال تصدّ قني؟
ــ سأصدّ قك إذا وفيت بوعدك.
ــ أي وعد؟
ــ وعدتني أمس بأنك ستشتري مني علبة بيرة.
ــ أعطني ثالث .اللعنة ،سأحتسيها الليلة.
جلب لي العلب في كيس بالستيكي ،فسدّ دت له ثمنها ،وخبأتها تحت
ترجلت من السيارة وسألته:
مقعدي ،ثم ّ
ــ واآلن ،قل لي هل رأيت المركب؟ وما الذي يدعوك إلى الظن بأن
أصحابه ربما يكونون إرهابيين؟
ــ ال ،لم أره ،لكني سمعت أن اإلرهابيين يمكن أن يدخلوا المدينة من
البحر متنكّرين ،إنهم أبالسة ،وربما جاؤا بالفعل ووقعوا في كمين.
ــ يتنكّرون بأزياء آشوري ّة! ما هذا الهراء؟ لقد تحدّ ثت إلى الملك وكانت
ترافقه نساء حسناوات من أجمل ما خلق الله.
ــ يبدو أنك كنت ً
ثمل جدً ا ولم ألحظ ذلك .أشباح ،ملك ،نساء! عجيب
أمرك.
95
شكّكني كالم الشاب في نفسي ،لكني لم أر ّد عليه ،بل رحت أجول
يعج بقوارب الصيادين الراسية ،ترفرف
ببصري على طول الشاطئ ،كان ّ
الطيور فوقها.
بعد دقائق معدودة برحت المكان إلى سوق الغنم عبر شوارع المدينة
المتعرجة ،الهاجعة ،المقفرة في ذلك اليوم ،عدا من بعض السيارات
ّ
والسابلة .فتحت الراديو ،صوت خشن يقرأ نشرة األخبار في إذاعة محلية:
«انفجرت سيارة مفخخة قرب مرقد ديني وسط بلدة «داقوق» التابعة
فجروا
ألرابخا ،وقال مدير شرطة المحافظة ،اليوم الجمعة ،إن مجهولين ّ
سيار ًة مفخخ ًة عن بعد كانت مركون ًة قرب ضريح ديني في البلدة .وأضاف
مدير الشرطة أن التفجير لم يسفر عن سقوط ضحايا بشرية ،لكنه تسبب في
خسائر مادية فقط .وأشار إلى أنهم ال يعلمون حتى الساعة الجهة التي تقف
وراء التفجير ،واص ًفا إياه بـاإلرهابي ،وأكد أن الهجوم يهدف إلى زعزعة
استقرار البلدة».
راحت تضرب رأسي موجات من الذكريات المؤلمة .كانت أول واحدة
مقتل جون ابن خالتي في انفجار عبوة ناسفة على جسر أرابخا الثالث ،قبل
سنتين ،وهو في طريقه إلى الكلية يرافقه أحد أصدقائه .ما حزنت في حياتي
على موت شخص عزيز مثلما حزت عليه .كان في سنته الدراسية األخيرة،
مهندسا زراع ًيا ،ويجد فرص ًة للتعيين كي يتسنى له أن
ً يحلم أن يتخرج
مخلصا
ً يتزوج فتاة أحالمه .كان ذك ًّيا على ٍ
نحو مدهش ،مستغر ًقا في ذاته،
أحب الزراعة منذ
ّ لدراسته إلى حد صارم ،يصف نفسه بأنه نصف ّ
فلح،
صباه بسبب قضائه معظم العطل الصيفية في مزرعة جده العامرة بشجرات
الزيتون والسمسم في قرية «باز» الجبلية بدهوك.
96
قبيل بلوغي سوق الغنم أثارت انتباهي منازل حي «النور» الشعبي الواقع
على طريقه .كان ُيطلق عليه في ما مضى «الممدودة» ،وما زال بعض الناس
متمسكا بتلك التسمية ،وال أدري من أين اكتسبها ،بيد أنه من األحياء التي
ً
ُأنشئت عشوائ ًيا في المدينة .ليس هذا هو المهم ،بل التغيير الذي طرأ على
أشكال بيوته ،فقد كانت مبني ًة على عجل بال ِّلبن والطينُ ،
وهدِّ م معظمها
باآلجر ،وفتح سكان
ُ الح ًقا ،وأعيد بناؤه بالطوب الخرساني أو بالحجر أو
ً
وورشا لتصليح األجهزة بعض منها على امتداد الشارع الرئيسي ب ّقاالت
الكهربائية ،ومحالت للهواتف الخلوية والمواد الغذائية والخضار
وصالونات الحالقة« :ورشة السعيد لتصليح الثالجات والمجمدات»،
«المستقبل لنك لألندرويد»« ،أبو سهيل للدجاج واللحوم المجمدة»،
«صالون حالقة الشباب» ،وج ّللت حيطان عدد من البيوت الفتات نعي
سوداء تحمل أسماء قتلى قضوا نحبهم في تفجير ستوتة ّ
مفخخة في تلك
اآلونة .تق ّلصت عضالت وجهي ً
تأثرا ،وشعرت بارتجافة في ذقني كأني
غطست في بحيرة متجمدة .كنت أقود سيارتي ببطء ،لكني زدت من
سرعتها ال إراد ًّيا حالما وقعت عيناي على تلك الالفتات.
لم أجد السوق في مكانه السابق ،سألت أحد سكان المنطقة عن مكانه
الجديد ،فأخبرني بأنه انتقل قبل بضع سنوات إلى جنوب المدينة .حين
بلغته فوجئت به مقفرا ،قلت في نفسي ال بدّ أن تكون العطلة هي السبب.
حرت ماذا أفعل ،ثم ّقر عزمي على الرجوع إلى البيت خائ ًبا ،ومحاولة إقناع
أمي بأن تنزع الفكرة من رأسها وتعطي ثمن الخروف نقدً ا لكاهن الكنيسة،
والله وحده يعلم ْ
إن كانت ستقتنع ،أو بأن أعود إلى السوق غدً ا ،رغم مقتي
له ،وقرفي من رائحة فضالت الحيوانات فيه.
97
سمعت وأنا اتجه إلى سيارتي صوتًا يناديني عن بعد «ما طلبك أيها
الشاب؟» .مشيت صوبه فإذا به رجل يغطي رأسه بغترة تتدلى على كتفيه،
وتمأل وجهه تجاعيد الزمن ولحية وافرة شيباء تضفي عليه هيب ًة ،يجلس
على مقعد خشبي صغير من غير مسند ذي قوائم قصيرة ،ويمسك بيده
اليسرى عكّازةً.
ص ّبحت عليه فآثر أن يصافحني بيده الثانية التي تبرز عظامها وأوردتها.
تأسى في الحلم على البحر.
كانت مالمحه أقرب إلى مالمح الشيخ الذي ّ
مبتسما «وصلت إلى مرامك» ،ثم أشار إلى دار كبيرة مبن ّية
ً أنبأته بطلبي فقال
باآلجر في مكان غير بعيد عن السوق ،وأنشأ يشرح لي ببطء وتفخيم:
ُ
ــ اذهب إلى تلك الدار واقرع بابها ،قل لصاحبها أرسلني إليك شيخ
عاشور ،إنه ير ّبي خرا ًفا ممتازةً ،وستجد عنده طلبك .هل تريده أضح ّي ًة أم
لعمل وليمة؟
كدت أطلق ضحك ًة ألن اسمه يشبه اسم آشور ،لكنني حبستها احترا ًما
له ،وقلت:
ــ توكّل على الله .ليس لديه خروف أعرج وال مشقوق األذن وال أعور.
شكرته وتوجهت إلى الدار التي أرشدني إليها .حين بلغتها تقاطعت
في رأسي بعض الهواجس ،وأوشكت على التراجع خشية أن يكون في
األمر خدعة ،إالّ أن هيئة الشيخ الوقور ما كانت تبعث على الريبة ،فتحول
شعوري ،في ٍ
ثوان ،إلى نقيضه.
98
كان سياج الدار األسمنتي عال ًيا ،ارتفاعه نحو ثالثة أمتار ،كأنه سياج
ثكنة عسكرية ،وبوابتها الحديدية المطلية بلون كاكي أعرض من المعتاد،
بحيث تسمح لشاحنة كبيرة أن تمر منها وهي مسرعة.
حانت مني التفاتة إلى الشيخ ،فإذا به يرفع عكّازته ويخبط بها الهواء
مرتين ،فهمت منها أنه يدعوني إلى أن أقرع البوابة ،لكنني انتبهت إلى
وجود زر جرس كهربائي على جنب فضغطته ،وما هي إالّ برهة حتى
سمعت صوت خطوات مقبلة.
ُفتحت البوابة ،بصرير مزعج ،وأخرجت صبية ،تشبه شميرام ،جسدها
عسل ،رغم ُلكنتها،
ً من بين دفتيها ،وح ّيتني على استحياء بلهجة تقطر
وسألتني عن مبتغاي .طار صوابي حين رأيت وجهها البلوري ذا الخدين
المتوردين ،والعينين المشرقتين الشبيهتبن بلون البحر ،والفم الصغير،
وخصالت شعرها الذهبية التي تطفو على كتفيها ،وصدرها الناهد.
تلعثمت وأنا أسألها عن رجل الدار ،فابتسمت ابتسام ًة ساحرةً ،وأومأت
قليل حتى تنادي عليه .تمنيت أن تطيل بقاءها ألروي ظمئيلي بأن أنتظر ً
من جمالها ،لكنها أولتني ظهرها وغادرت إلى داخل الدار ،تارك ًة البوابة
مفتوح ًة ،متباطئ ًة في مشيها ،بمباهاة وخفة ورشاقة ،تعمد إلى تقديم ساق
اله َوينى.
على ساق ،كظبية تسير ُ
«يا يسوع ،هل أنا في حلم؟» تساءلت في ذاتي ،وأنا أتأمل المخلوقة،
وأقارن بينها وبين شميرام .كان ردفاها المكوران ،الوارفان ،المصبوبان
ارتجاجا فاتنًا ،كأنهما ردفا
ً يرتجان
تحت بيجامة ضيقة ذات نسيج خفيفّ ،
فتاة في العشرين.
99
مشوش أعجز عن
لبثت شار ًدا بعد اختفائها ،وساورني شعور غامضّ ،
وصفه ،فوضعت يدي على جبيني وأسندت ظهري إلى الحائط.
عقب انتظار ،بدا لي مفر ًطا في الطول ،جاء رجل في نحو األربعين من
العمر ،طويل القامة ،ذو كاهلين قويين منحدرين ،وكان شعره خفي ًفا تهدّ ده
بداية صلع ،وعيناه رماديتين ثاقبتين ،وفي حركاته غلظة واضحة ،يرتدي
دشداش ًة تبنية اللون .صافحني بقبضتين خشنتين ،واعتذر عن تأخره،
وعرفني إلى نفسه ً
قائل إن ورحب بي بحرارة كأنما بيننا معرفة قديمةّ ،ّ
اسمه يونس .حين أخبرته ببغيتي أدخلني إلى فِناء الدار ،وطلب مني أن
أنتظر ً
قليل.
كان ِ
الفناء يفضي إلى بيتين لكل منهما باب خاص ،واحد مفتوح والثاني
مغلق .تتوزع في محيط الدار شجرات حمضيات متناسقة ،تأتي منها رائحة
الخريف الذع ًة ،ويشبه منظرها لوح ًة انطباعي ًة ،وفي إحدى زوايا ِ
الفناء يقبع
كلب سلوقي ذو وجه قاتم داخل قفص ،يبدو هادئ الطبع ،يرسل بصره إلى
مجموعة يمامات تحط على سياج السطح .وفي الزاوية المقابلة شجرتان
إحداهما شجرة تين كثيرة العقد تظ ّلل المكان لكثافة أوراقها الغامقة التي
تكاد تكون سوداء ،وتحتها أرجوحة تسع أكثر من شخصين ،والثانية شجرة
سفرجل ذات ساق قصيرة ،متساقطة األوراق ،ال تزال أثمارها الناضجة
تتدلى من أغصانها .تل ّف ُت يمن ًة ويسر ًة طم ًعا في رؤية الصبية ،لكني لم
ألمحها لسوء الحظ.
عاد يونس بعد قليل وأشار لي أن أتبعه .قادني إلى حظيرة خلف الدار،
تبعد مساف ًة تنوف على مائة متر ،تكفي ألن تحول دون وصول رائحة
مخلفات الحيوانات إلى البيتين ،نصف مضللة ،تحوي عشرات الخراف
100
ً
سروال في َأعمار مختلفة ،وثمة رجل رأسه أصلع كقشرة بيضة ،يرتدي
عرفني إليه ً
قائل إنه صهره ياسر، فضفاضا ،منهمك في تقديم العلف لهاّ .
ً
س ّلمت عليه فحدّ ق ّ
إلي بعينين بارزتين تبدوان كأنهما ستخرجان من
وحرك فمه مرح ًبا بي.
محجريهما ،ومدّ يده لمصافحتيّ ،
اختار يونس خرو ًفا ،وقال:
ــ هذا مواصفاته ممتازة ،يلبي مبتغاك تما ًما ،سمين ونشط ،لم يبخل
عليه ياسر بالعلف المركّز الغني بالطاقة والبروتين.
وتحسسه جيد ًا ،وأضاف:
ّ ثم دعاني إلى وضع يدي على ظهر الخروف
ــ لن تشعر بفقرات ظهره ألنه ممتلئ باللحم.
قلت:
ــ أشكرك ،من الواضح أنه معافى.
نقدته ثمنه ،والتمست من ياسر أن يحمله إلى السيارة ،لك ّن يونس أومأ
برأسه إلى ياسر ،وقال لي:
ــ لن أدعك تذهب قبل أن تتناول الفطور معنا.
كانت تنبض في داخلي أمنية ملحة بأن يدعوني لشرب استكان شاي،
طم ًعا مني في رؤية الصبية ،فقلت له ،من غير تردد:
ــ سأكتفي بشرب استكان شاي فقط ،أما الفطور فأرجو تأجيله إلى يوم
آخر.
ــ كما تشاء ،تفضل إلى البيت.
101
ربت يونس على كتفي ،ونحن ندلف إلى حجرة االستقبال في بيته،
المؤثثة تأثي ًثا بسي ًطا ،ودعاني للجلوس على أريكة قبالة نافذتها المشرعة
على الفناء ،ثم استأذن بأن يغيب عني بعض الوقت.
أخذت أثناء غيابه أستطلع جدران الحجرة ،ثمة ساعة من الطراز
الكالسيكي فوق النافذة بجوارها لوحة تخطيط ،موغلة في ِ
القدم ،لجمال
تحف بها سلسلة ورود اصطناعية ،ولوحة أخرى شاحبة تحتشد
ّ عبد الناصر
بفواكه ،وكف من السيراميك زرقاء اللون في وسطها عين واحدة ،تتدلى
فوق إطار الباب مباشرةً ،وسجادة حائط فوق األريكة التي أجلس عليها،
إضاف ًة إلى الكثير من الصور الشخصية هنا وهناك ،وقد فوجئت بأن عد ًدا
ببزة ضابط في الجيش ،بعضها وهو في رتبة مالزم ٍ
ثان، منها صور ليونس ّ
وأخرى وهو مالزم أول ،وبعضها وهو نقيب.
رجع يونس ،بعد نحو خمس دقائق ،تتبعه سيدة تحمل صينية شاي،
أربعينية محجبة ،قمحية البشرة ،ذات فم بلون البرقوق األحمر الداكن يتسم
ّ
مشذبين قليل كوجنتي أرنب ،وحاجبين بالكبرياء ،ووجنتين منتفختين ً
ً
طويل خ ّبازي اللون ،وتشع من عينيها السوداوين بساطة بعناية ،ترتدي ثو ًبا
ريفية .قال:
ــ أم مالك زوجتي.
وأشار لها أن تضع الصينية على طاولة زجاجية في منتصف الحجرة،
فأجبت بلطف:
ــ لي الشرف.
وتساءلت في داخلي «هل يض ّيف جميع زبائنه هكذا؟».
102
صب يونس الشاي في استكانين ،وقدّ م لي واحدةً ،فارتشفت منها
ّ
وقلت:
ــ ال ّ
ألذ من الشاي باالستكان .نحن في البيت صرنا نشربه باألقداح
لألسف.
ــ خاص ًة إذا كان مخدّ ًرا بالهيل.
أردت أن أطيل الحديث معه لع ّلي أحظى برؤية الصبية ،فرفعت رأسي
إلى الجدار وألقيت تظر ًة مقتضب ًة إلى الصور ،وسألته:
كنت ضاب ًطا؟
ــ َ
أذكى سؤالي جمر ًة كانت خامد ًة في صدره ،فتنهد وقال:
يبق من ذلك العهد سوى الذكريات وهذه الصور
ــ قبل االحتالل .لم َ
التي ال يمكن ط ّيها.
تمهل مدى لحظات ،ثم أردف:
ّ
ــ ك ّبلتني الحياة .بعدما ّ
حل الحاكم األميركي بريمر الجيش لم ي ُعد لي
أي عمل .لعنة الله عليه وعلى بوش الخنزير.
ــ هل انضممت إلى المقاومة مثلما فعل عسكريون آخرون؟
ــ لم أستطع ،كنت مرا ّق ًبا من طرف عمالء متعاونين مع االحتالل،
علي البقاء في الدار.
وعملي في تربية الخراف حتّم ّ
لكنت اآلن ربما في رتبة عقيد.
َ ــ لو لم ُي َحل الجيش
قلت ذلك ،وافترضت في داخلي أن أي شخص آخر لو كان في مكانه
لمات غي ًظا من المهانة.
103
جرحا استوطن روحه:
عزيته ،أو المست ً
علي وكأني ّ
ر ّد ّ
كثيرا ،أظنك ال تعرف مدى صعوبة تأقلم العسكري المحترف ــ أشكرك ً
مع مهنة غير مهنته ،خاص ًة إذا كان معتدًّ ا بنفسه.
كر ًة ثاني ًة وقال:
صب استكاني شاي ً
ّ
ــ ماذا كان بوسعي أن أعمل؟ سائق تاكسي أم بائع ُخضار ألعيل
أسرتي؟ ما كان في استطاعتي أن أمتهن هاتين المهنتين ،بل وجدت ضا ّلتي
في تربية الخراف كما ترى .هكذا حكمت الظروف .في بادئ األمر ..كيف
أع ّبر لك؟ ..عانيت من هذه المهنة وضقت ذر ًعا بها ،لكن لم يكن هناك
مناص من ترويض النفس على القبول بها .وهكذا مضيت في مزاولتها،
ومع مرور الوقت اكتسبت خبر ًة من عمي عاشور.
ــ عاشور عمك؟
ــ عمي وأبو زوجتي .كان يمتهن هذه المهنة قبل أن تقعده الشيخوخة
عن العمل ،لكنه ال يستطيع مفارقة سوق الغنم ،يجد فيه مال ًذا ،يحمل
مقعده الصغير صباح كل يوم ويذهب إليه ليبدد ساعتين في استطالعه حتى
يوم الجمعة ،ثم يعود أدراجه ،وأحيانًا يرشد إلى بيتي َمن يحدس أنه زبون
جديد مثلك.
حتما له في السوق ذكريات وهواجس مضى زمنها،
ــ يا له من ولع! ً
لكنها تمنحه سعادةً .هل يقيم معك؟
ــ ال ،إنه يقيم مع ابنه.
ــ وهذا البيت ُملكك بالطبع؟
104
ــ أجل ،وكذلك البيت المالصق .ورثتهما من أبي.
مؤجر؟
ــ آسف إلزعاجك بأسئلتي ،هل البيت الثاني َّ
سألته بنية معرفة َمن يسكن فيه ،وكان فضولي يتزايد لمعرفة سر الصبية،
فأجاب:
خصصته ألسرة نازحة من الموصل.
ــ الّ ،
ــ أهي آشورية أم كلدانية؟
ــ آثورية.
أيضا.
ــ أجل ،أجل ..وأنا ً
أتشرف بك.
ــ ّ
ــ كيف وصلت هذه األُسرة؟
المقربين ،أعني أنها أسرة صديق شهيد
ّ ــ هي ليست غريب ًة بل من معارفي
علي جدً ا اسمه يوسف ،والصبية التي فتحت لك البوابة ابنته مارينا.
عزيز ّ
كنا أنا وإياه ضابطين في كتيبة عسكرية واحدة قبل االحتالل ،وتربطني
ُبأسرته عالقة عائلية عميقة ،وعندما جرى حل الجيش عمل في مهنة حرة
أيضا ،ويوم دخل اإلرهابيون المدينة شارك هو وشقيقه في مقاومتهم حتى
ً
نفدت ذخيرتهما واستشهدا .وبعد سيطرة أولئك اإلرهابيين على المدينة
أصدروا بيانًا خ ّيروا فيه المسيحيين بين التحول إلى اإلسالم ،أو دفع
الجزية ،أو المغادرة من غير ممتلكاتهم بوصفها غنائم ،أو الموت ،وما كان
أمام أرملة صديقي وابنتها وولدها من خيار سوى المغادرة فاستقبلتهم في
جزأتها إلى بيتين.
داري .وألن الدار كانت كبير ًة تفيض عن حاجة أسرتي ّ
105
أن يونسسري ألن الصبية آشورية ،وأوحى لي حدسي ّ ابتهجت في ّ
حتما جميلة ما دامت مارينا خارج ًة
يخطط التخاذ أمها زوج ًة ثاني ًة ،فهي ً
من رحمها ،في حين أن زوجته ينقصها الجمال« .لكن هل ستقبل به وهو
مسلم وله زوجة؟!» تساءلت في داخلي ،ثم قلت «ربما ستقبل على مضض
ألنها مكسورة الجناح».
بعد انتهائنا من شرب الشاي استقمت واق ًفا لالنصراف ،فلمحت مارينا
من النافذة تعبر مسرع ًة إلى جهة شجرة التين ،مثل نسمة ،وقد استبدلت
إحساسا بالغبطة اعتراني ،وخطوت إلى
ً بيجامتها بثوب مزركش .أخفيت
باب الخروج ،وسبقت مض ّيفي في فتحه.
حمل ياسر الخروف ووضعه في صندوق السيارة ،فأجزلت له الشكر،
شاعرا
ً وتبادلت ويونس أرقام الهاتف ،وودعته وقفلت راج ًعا إلى البيت؛
علي بأن أو ّثق عالقتي به أكثر لع ّلي أخطب و ّد مارينا بعدما
يلح ّ
بخاطر قوي ّ
فقدت األمل في شميرام.
106
11
زارتنا أسين وابنتها مساء ذلك اليوم لتطمئن على أبي ،وكانت سلفانا
أيضا من أربيل .بدت حزين ًة ،ثمة عتمة في داخلها .الحظنا
وزوجها قادمين ً
ذلك من انطفاء نظرتها واختفاء ابتسامتها ودعاباتها التي عهدناها .وحين
أصرت عليها سلفانا أن تبوح بما يختلج في نفسها قالت ،بعد تر ّدد ،إن
ّ
تفضل الموت على
قسرا من أحد أقاربهم ،لكنها ّ
أهلها يريدون تزويجها ً
القبول به.
ــ ما مواصفاته؟
سألتُها ،فر ّدت:
نج ًارا ،ويعيل بنتًا في الثانية عشرة
ــ يكبرني بعشرين سنة ،أرمل يعمل ّ
وولدً ا في العاشرة ،وليس له من التحصيل الدراسي سوى االبتدائية.
ــ تستطيعين أن ترفضي.
سيتبرؤون مني إن لم أوافق.
ّ ــ هدّ دوني بأنهم
قالت سلفانا:
ــ ليذهبوا إلى الجحيمِ ،
لست في حاجة إليهم ،أنت معلمة تعيشين من
عرق جبينك.
107
فلتت من عينيها دمعتان:
ــ مشكلتي نورجان ،أين أتركها عندما أذهب إلى المدرسة؟ أمي لن
تقبل...
قاطعتها:
سجليها في الروضة.
ــ ّ
لكن أمي بادرت قائل ًة:
ِ
يعجبك هذا الحل. ــ أنا أتك ّفل برعايتها أثناء غيابك إن لم
ــ أشكرك خالتي ،أنت بمنزلة أمي ،لكني ال أريد أن أرهقك ،نورجان
إزعاجا .فكّرت في تسجيلها في روضة
ً كثيرة الحركة ،وستسبب لك
حكومية ،رغم كونها بعيدةً ،وأخشى أن يصيب تفجير ما السيارة التي تقلها،
فهي تقطع شوارع رئيس ًة مزدحم ًة بين الحي والروضة .يا الله ،سأموت إن
حدث ذلك.
سحبت أمي الطفلة من يدها برفق وأجلستها على حجرها وقالت
بتصميم:
ــ ستبقى إ ًذا كل يوم عندي خال يوم األحد الذي أذهب فيه إلى الكنيسة
كما تعلمين ،وال أتوقع أن المدرسة ستعارض مرافقتها لك يو ًما واحدً ا في
األسبوع.
وأضفت ً
قائل: ُ أيدنا جميعنا أمي،
ــ سنتان فقط وتبلغ نورجان السادسة ،حينئذ ستكون تلميذ ًة في
مدرستك.
108
لبثت أسين مطرق ًة لحظات ،ثم طفح وجهها بغت ًة بابتسامة مشرقة،
ونهضت وق ّبلت أمي من رأسها ،وما إن عادت إلى مكانها حتى سمعنا
هز أركان البيت ،وح ّطم زجاج نافذته المطلة على دوي انفجار قريب ّ
الزقاق .استغاثت أمي «يا يسوع» وهي تشدّ الطفلة إلى حضنها ،فيما اعترى
أوجه ،انقطع التيار الكهربائي بعد
الذهول اآلخرين .ولكي يبلغ الموقف ّ
برهة فغرقنا في الظلمة.
109
12
التقيت عمران ،بعد يومين ،في مطعم «القلعة» على مقربة من الشاطئ،
كنا قد اعتدنا ارتياده بين الفينة والفينة .ذكّرته بسؤالي عن المركب الشراعي،
ثم حكيت له ما حدث في المغارة والمرفأ ً
أول ،ثم المصادفة التي جعلتني
أرى مارينا .صدّ ق الحكاية الثانية ،ووصف األولى بأنها استيهام أنتجه
النبيذ الذي جرعته في المغارة ،أو أن ّ
جل ما في األمر أنني غفوت بعض
الوقت فتج ّلت لي في الحلم ،وبلغت من القوة حدًّ ا جعلتني أعتقد أن
أحداثها حقيقية.
ــ بِ َم أجيبك؟
110
ــ كيف تعقل رجوع الملك آشور وحاشيته إلى الحياة بعدما شبعوا موتًا
منذ ثالثة آالف سنة؟
أعملت فكري وقلت:
ــ ثمة احتماالن ،إما أن تكون أرواحهم ح ّلت في أجسام آخرين عن
طريق التناسخ ،أو أنهم كائنات بحرية حولتهم قوة سحرية تسكن في
أعماق البحر إلى بشر بهذه الهيئة.
ــ هل تؤمن بفكرة التناسخ؟
ــ ماليين الناس في العالم يؤمنون بها ،خذ أتباع الديانات الهندوسية
والسيخية والبوذية والتاوية ،وحتى بعض الفرق اإلسالمية.
ــ هذا من قبيل الهراء ،وأنت مسيحي.
ــ لو كان هرا ًء لما وجد طريقه إلى عقول آالف المسيحيين اللوثريين
في الغرب.
ــ هؤالء اآلالف يعانون من خلل روحي بسبب غرقهم في الماديات،
ً
ضئيل جدً ا من حاجات الروح. والكنيسة عاجزة ،أو ال تو ّفر لهم إالّ جان ًبا
أقول هذا رغم إعجابي بالتقدم الذي حققه الغرب.
ــ واالحتمال الثاني؟
ــ هذا أضرط من االحتمال األول.
صمت هنيه ًة ثم قال:
ــ لدي اقتراح.
111
ــ هاتِه.
ــ استثمر االستيهام بر ّمته في كتابة رواية.
ــ رواية؟
ــ اجعل اللقاء بالملك آشور بداي ًة ألحداث الحقة تقع بعد دخوله
المدينة .أكتب ما يطوف في مخيلتك ،واحبكه بمهارتك السردية.
قلت:
ــ لكنها ستكون رواي ًة فانتازي ًة.
قال:
ــ لتكن ،أين المشكلة؟
ــ أنت تعرف أن كل محاوالتي الروائية السابقة واقعية .صحيح أن
أحداثها متخ ّيلة لكنها محتملة الوقوع ،أو قابلة للتصديق.
ــ ال تع ّقد األمر ،تخ ّيل واكتب واسترسل على هواك.
ــ المسألة ليست ه ّينة يا صديقي .كيف أجمع بين شميرام ومارينا في
رواية واحدة؟
ــ و َمن طلب منك أن تجمع بينهما؟ دعك من مارينا ،إنها شخصية
واقعية وال صلة لها باألحداث المتخ َّيلة.
ــ أي طعم يبقى فيها من غير مارينا؟
ــ عزيزي ،مارينا موجودة ،احتفظ بها لمشروع آخر ربما تقدم عليه.
ــ أي مشروع؟
112
ــ ربما ستفكّر في االقتران بها ما دامت جميل ًة مثل شميرام .و ّثق عالقتك
بيونس لتصل إليها.
أطرقت ً
قليل ،وقلت:
ــ ثمة فكرة أخرى راودتني اآلن.
ــ ما هي؟
ــ رسالة الماجستير التي أنوي كتابتها.
ــ ما بها؟
متحمسا للبحث في موضوع آثارنا المنهوبة أيام االحتالل،
ً عدت
ّ ــ ما
فيه مالبسات كثيرة ستوقعني في إشكاليات بحثية عوصاء.
ــ وما عالقة هذا الموضوع بالرواية؟
أخصص الرسالة للملك آشور.
ــ ّ
ــ ما أدراك أن واحدً ا غيرك لم يكتب بح ًثا عنه؟
ــ تسألني وأنت األعلم مني؟
ــ ماذا ستكتب عنه؟
ــ أكتب عن حياته ،أفعاله العظيمة ،فتوحاته ،وبطوالته.
ــ إن كنت راغ ًبا في كتابة رسالتك عنه فضع في حسبانك أن تكون
موضوع ًّيا.
ــ كيف؟
113
أيضا.
ــ تتناول مسالكه البشعة ً
ــ ماذا تعني بمسالكه البشعة؟
ــ استبداده ،عنفه المفرط مع خصومه ،قسوته الشديدة مع أسرى
الحروب ورميهم في النار ،أسلوب القتل والتعذيب الذي كان يط ّبقه على
بعض المدن والقرى التي تستعصي على الجيش اآلشوري فتحها ،أو
ترفض السماح له بالمرور على أراضيها ،وليس آخرها توطين اآلشوريين
في المدن المفتوحة ليصبحوا سادتها ،وينتفعوا بخيراتها ،ويخمدوا ثورات
أهلها.
ــ تتحدث عنه وكأنه الملك الوحيد في التاريخ الذي شهر سيف
االستبداد ،ومارس العنف بإفراط ضد خصومه.
ــ ال أبدً ا ،ال أزعم ذلك ،معظم الملوك واألباطرة والرؤساء في التاريخ
يصح أن تعمي األهواء والميول أعيننا ونتناسى فسادهم
من هذا النوع ،وال ّ
حين نكتب عنهم.
ــ أشكرك على هذه النصيحة ،لكنني ال أستطيع األخذ بها.
ــ لماذا؟
ــ إعجا ًبا مني بالملك ووفا ًء النتمائي اآلشوري.
تأشورت؟ أول مرة أسمع منك هذا الكالم ،مذ عرفتك
َ أيضا
ــ أنت ً
آثوري.
ّ وأنت
واهما.
ً ــ كنت
ــ لكن باحثين عديدين يؤكدون أن اآلثوريين سريان من أتباع الكنيسة
114
النسطورية ،وال يوجد أي سند علمي تاريخي أو أنثروبولوجي يثبت أنهم
أحفاد اآلشوريين.
ــ ليقولوا ما يقولون ،إنهم سريان أو كلدان وأنا أخالفهم.
ــ على ماذا تستند؟
ــ ال أحتاج إلى سند ،مصطلح آثوري تحريف لمصطلح آشوري،
جلي كالشمس في رابعة النهار.
واألمر ّ
ــ اعذرني نينوس ،أنت راكب رأسك اليوم ،تسير وراء سراب ،أنتم
آثوريون ال آشوريين ،وهذا ال ينتقص منكم ،أما الحركات السياسية التي
تشيع ذلك فإنها تهدف إلى تحقيق أهداف سياسية أقلها إنشاء إقليم باسم
آشورستان أو آشوريا.
ــ ولِ َم ال؟ هل األكراد أعرق منا؟
ــ ال أحد أعرق من أحد ،لك ّن اسم اإلقليم سيطمس أسماء إثنيات
أخرى.
أيضا يطمس أسماء إثنيات غير كردية.
ــ اسم كردستان ً
ــ يبدو أنك انضممت إلى إحدى هذه الحركات؟
ــ لم أنضم ،لكن ربما سأنضم إلى الحركة الديمقرطية اآلشورية.
ــ َزوعا؟!
ــ ما بها؟ إنها تدافع عن الوجود القومي اآلشوري.
ــ في رأي الكثيرين من السريان والكلدان أنها حركة إقصائية ،ابتدعت
115
اسما مطاط ًّيا لها يصفونه بـ«القطاري» (كلداني -سرياني -آشوري)، ً
ويرفضونها ألنها تضع الجميع في سلة قومية واحدة هي اآلشورية ،وت ُعدّ
السريان والكلدان مذهبين كنسيين تاب َعين لها .ال بل إنها تعتبر الجنس
جنسا متفو ًقا وينبغي على اآلخرين الخضوع له.
اآلشوري ً
ــ هؤالء الذين تشير إليهم قلة وليسوا كثيرين ،ليذهبوا إلى الجحيم.
ــ أوف! أوف! أنت اليوم خربان من اآلخر يا صديقي.
116
13
في اليوم التالي للقائي العاصف بعمران ُأجبرت على مرافقة أمي إلى
أربيل لحضور حفل عيد ميالد أختي سلفانا التاسع والعشرين .ما كان
بمقدوري اإلفالت من إداء هذا الواجب رغم مشاغلي .حاولت أقناع
أيضا ،متع ّل ًل بأن لديه التزامات عديد ًة مع
أبي بمرافقتها لكنه تم ّلص ً
زبائنه في المحل .لكني شككت في عذره ،بدا لي غير مقنع ألبتّة ،فالزبائن
أمرا ما،
علي الظن أن في باله ً
باستطاعتهم أن يصبروا يو ًما أو يومين ،وغلب ّ
وسيكون غيابنا ،أنا وأمي ،فرص ًة مناسب ًة لتحقيقه .كنت أعلم أن لديه عالقة
بامرأة تمتّعه ،اكتشفت األمر حين حللت محله في العمل أثناء مرضه ،إال
أني كتمت السر .كيف حدث ذلك؟ ذات مرة جاءت إلى المحل امرأة لم
ّ
تتخط سن األربعين ،ذات مظهر جميل ،مليئة بالحيوية ،تضع على بشرتها
علي التحية ،وسألتني عن أبي قائل ًة
مكياجا خفي ًفا يمنحها جاذبي ًة .ألقت ّ
ً
إنها تعلم بمرضه وترجو أن ُأطمئنها عليه ،وقبل أن أفتح فمي أضافت:
ــ وددت أن أتصل به لكني لم أجرؤ.
سألتها:
ــ لماذا ال تجرؤين ما دمت تعرفينه؟
ترددت ً
قليل ،ثم أجابت:
117
ــ أخشى أن تر ّد أمك على الهاتف ُفأحرج.
ــ هل أنت من زبائنه؟
تبسمت بتصنّع:
ّ
ــ ال ،زوجي المرحوم كان صديقه.
ــ َمن أعلمك بمرضه؟
ــ أرسل لي رسال ًة نص ّي ًة منذ بضعة أيام خلت ،وطلب...
قطع جارنا ،صاحب محل الحلويات ،كالمها مناد ًيا من الباب:
ــ نينوس ،هل تحسنت صحة والدك؟
وواصلت الحديث مع المرأة:
ُ مريضا،
أجبته بأنه ال يزال ً
ــ ماذا طلب منك؟
ــ طلب أالّ أر ّد على رسالته.
ــ هذا غير ممكن ،انتظري سأتصل به.
والتقطت هاتفي من ُدرج طاولة الحساب،
ُ تراجعت خطو ًة إلى الوراء
ُ
رغم أنني لم أكن أنوي االتصال بأبي ً
فعل ،وإنما أردت أن أعرف ردة
فعلها ،أما هي فقد فتحت فمها كما لو أنها أرادت أن تأخذ جرعة هواء ،ثم
أسرعت في مغادرة المحل ،من دون أن تنبس بكلمة .بعد هنيهة لمعت في
ذهني فكرة اللحاق بها وسؤالها عن اسمها ،غير أنها كانت قد توارت عن
خرجت.
ُ األنظار عندما
أدركت يومها أن ألبي صلة غير بريئة بتلك المرأة ،وقد كذبت في
ُ
118
ادعائها أنه كان صدي ًقا لزوجها المرحوم ،وال أدري لماذا تصرفت بتلك
الحماقة التي فضحت عالقتهما!
بعد عودتي من أربيل الحظت عالمات االنشراح بادي ًة على وجه أبي،
حتى أنه من شدة غبطته كان قد فاجأ أمي ،بسيطة العقل ،بهدية ثمينة اشتراها
لها ،وهي عبارة عن قالدة ذهبية تنتهي بصليب ،زاعم ًا أنه ربح ً
مال وفير ًا في
صفقة ساعات سويسرية باعها لساعاتي ِ
قدم من بغداد أثناء غيابنا ،فأيقنت
أنه نال مبتغاه من عشيقته.
هل أعدّ سلوك أبي هذا نزوةً ،إن لم أقل انحرا ًفا في جميع األحوال؟
علي مواجهته ،رغم كونه هو األب وأنا األبن ،وتذكيره بأن ما يفعله هل ّ
خطيئ ًة؟ صحيح أنه غير ملتزم دين ًّيا ،لك ّن ما يفعله يجرح كرامة أمي ،وال
يناسب سنّه ،فهو في التاسعة والخمسين ،وقد صار َجدًّ ا منذ بضعة أعوام.
إالّ أني ال أستطيع إعفاء أمي من السبب ً
أيضا ،فهي لم ت ُعد تعتني بنفسها
مثلما كانت تفعل قبل سنوات ،أصبح التد ّين والكنيسة والمقدّ سات
شاغلها األول ،تتمسك بها وتدير ظهرها ألنوثتها وتهمل رغبات أبي ،مع
أنها تحبه ،وسنها أصغر من سنه باثنتي عشرة سنة .وال أزعم بالطبع أن أبي
متنفسا لغريزته ،فهو
ً يهوى تلك المرأة بالمعنى الرومانسي ،بل يجد فيها
حسي ينجذب إلى النساء الجميالت اللواتي يعتنين بزينتهن ،ويبرزن
رجل ّ
مفاتنهن ،وال يحفل بعواطفهن .عرفت ذلك حين صحبته مر ًة إلى شقة
العم جورج خالل سنتي الدراسية األولى في الجامعة .كنا أنا وميخائيل في
الصالة نصغي إلى حديثهما وهما يحتسيان العرق في غرفة مجاورة ،وكان
يتغزل بالمرأة التي ال تدّ خر وسع ًا في جذب الرجل إليها ،وتحريك
أبي ّ
غرائزه بما تمتلكه من فن اإلغراء ،ويذم المرأة التي تهمل أنوثتها ،فتواطأ
119
معه العم جورج ،الذي يتعته عاد ًة إثر كأسين ،وذهب إلى أبعد من ذلك،
وسط النقاش المتصاعدً ،
قائل« :هيه يا صاحبي! وحق العذرا إن العشيقة
فقط تمتاز بهذا الفن ،أما الزوجة فإن ِعشرتها تغدو بعد بضع سنوات باهت ًة
وروتيني ًة إذا لم تسلك سلوك العشيقة ،إذا لم تلعب دورها بذكاء في إثارة
مزة في فمه
كأسا معه في مخدعهما ،تدندن له ،تدس ملعقة ّ
بعلها ،تشرب ً
بين حين وآخر ،ترقص له مثل راقصات الستربتيز ،وتفعل أشياء أخرى
يفتقدها في بيته ،ثم تجره عنو ًة إلى الفراش وهي في كامل عريها!» .أستُثير
أبي على الفور فضرب الطاولة بيده ،ثم رفع كأسه وهتف «وحق الشيطان
أنت لست ميكانيك ًّيا يا جورج بل الشيطان نفسه .بصحتك يا صاحبي...
ألذ من العشيقة حين تتعرى حتى لو كانت قحب ًة!».
ما أحلى كالمك ..ال ّ
صحيحا ،كيف
ً لكن العم جورج احتج ً
قائل «قحبة! ال يا حمار ،هذا ليس
ودب؟» .شعر أبي لحظتها
هب ّ تستمتع بها إذا كانت تفتح فخذيها لكل من ّ
كأسا أخرى ولم ينبس ببنت ش ّفة.
بالهزيمة فمأل ً
ليلتها شرب أبي أكثر من طاقته .كان السكر باد ًيا عليه ،فكيف يا ترى
ثلجا؟ وقتها ما كنت أجيد السياقة ،فاقترحت سيقود سيارته والسماء ّ
تنث ً
عليه أن نترك السيارة ونذهب إلى البيت بتاكسي أو أن نبيت عند العم
جورج ،لكنه ركب رأسه وأصر على قيادة السيارة .جلست بجانبه وأنا
أرتعد من الخوف .ناشدته أن يسوق على مهل فلم يعرني أذنًا صاغي ًة،
كثيرا وعيناه جاحظتان تحدقان إلى زجاج السيارة
كان يبتسم فقط ،يبتسم ً
األمامي الذي يغشاه ضباب خفيف ،وإلى ماسحتيه اللتين يتهالك الثلج
تحت حركتيهما ،ويصغي إلى الصرير الصادر عنهما ،وأخذ يسرع كأنه
يسلك طري ًقا خارج ًيا ،غير ٍ
مبال ال باإلشارات الضوئية وال بضيق الشوارع.
120
تمنيت أن تعترضنا في تلك األثناء سيارة شرطة مرور أو نجدة لتحجز
السيارة أو تخالفه وتلزمه على السير ببطء ،لكن الشوارع كانت خالي ًة
أن الوقت لم يكن قدلسوء الحظ وكأننا في مدينة يقطنها المالئكة ،رغم ّ
غرة إلىتعدى الحادية عشرة .وفي منتصف المسافة انعطف أبي على حين ّ
شارع فرعي من دون أن يخفف من السرعة ،فحادت السيارة عن الشارع
وصدمت دعام ًة خرساني ًة الحدى المباني على الرصيف ،وتح ّطم نصفها
أي منا بأذى ،عدا بكدمات بسيطة ،لك ّن الحادث كاناألمامي .لم ُيصب ّ
ً
فاصل بين أبي وقيادة أي سيارة في ما بعد.
121
14
122
15
شعرت ،وأنا أدخل إلى الزقاق المؤدي إلى بيتنا ،كأنني عائد من رحلة
لوا من الباعة ،يغ ّلفه السكون .ال بدّ أن تكون العاصفة ِ
طويلة وشاقة .كان خ ًّ
شردتهم وإال لما تركوا أماكنهم قبل مغيب الشمس.
قد ّ
من حسن الحظ لم تكن أمي في البيت ،ربما كانت في زيارة لجارتنا أم
سيمون أو عند أسين .غ ّيرت مالبسي وتع ّطرت ،واستخرجت من خزانتي
بعضا من ثيابي وحذا ًء ما عدت أستعمله منذ مدة ،ودسستها في حقيبة
ً
صغيرة ،ومضيت إلى الشاطئ؛ سالكًا الشوارع نفسها التي سلكتها ُبعيد
الظهر.
عند اجتيازي الدكان التي اشتريت منها علبة سجائر فوجئت بتو ّقف
تعبيرا عن نفاد
ً حركة السير تما ًما ،وأبواق السيارات تمأل الشارع زعي ًقأ
صبر أصحابها وانزعاجهم .حدست أن حاد ًثا ما قد وقع ،أو أن موكب
يسارا فإذا بي ُأفاجأ
مسؤول كبير يمر فع ّطلت الشرطة السير .أدرت رأسي ً
بالسيارة التي أق ّلت ديانا ورفيقتها واقف ًة أمام البوابة ،وسائقها قابع ًا خلف
منشغل بمكالمة هاتفية ،ينفث دخان سيجار ثخين على ٍ
نحو ً مقودها،
متقطع ،ويتل ّفت كأنه في انتظار شخص ما.
تسنّت لي هذه المرة رؤية الرجل عن كثب ،نصف أصلع ،وجهه أحمر
123
مكتنز ،حليق الشارب ،نافر األذنين ،عيناه واسعتان كعيني حرذون ،يرتدي
كمين قصيرين بكسرتين في طرفيهما يصالن حتى قميص كاروهات ذا ّ
خمنت أنه ِم ّمن يسمونهم حديثي النعمة ،أحشاؤه
منتصف العضدينّ .
مملوءة بمال الفساد.
تحدثت
ْ كيسا مزخر ًفا.
بعد دقائق خرجت ديانا من البوابة تحمل بيدها ً
إلى الرجل ،عبر نافذة السيارة ،بضع ٍ
ثوان ،وس ّلمته الكيس وأقفلت راجع ًة.
لم ُأ ِ
ول األمر أهمي ًة كبيرةً ،فأنا ال أعرف طبيعة العالقة بينهما ،كان أهم
شيء بالنسبة لي أن تُستأنف حركة السير ألصل إلى مرامي من دون تأخير.
في أثناء ذلك لمحت الفتى النازح بائع الصحف قاد ًما من الجهة التي أنوي
أن أسلكها .كان يرتدي مالبس رياضي ًة ،ويحمل مجموعة رزنامات إلى
إلي:
جانب الصحفّ .لوحت له بذراعي فهرول ّ
ــ أتريد الزمان أم المدى؟
سألني.
قلت:
بأي منهما.
ــ ال حاجة لي ٍّ
ــ وال رزنامة؟
ــ ال.
ارتسمت على وجهه المرهق الشاحب عالمة حزن:
ــ لماذا ناديتني إ ًذا؟
124
ــ ألسألك عن سبب تو ّقف السير.
ــ كالعادة.
ــ حادث؟
قال بشيء من التر ّدد:
ــ ال ،موكب مسؤول أجرب ال يساوي قمري(((.
أعجبتني جرأته ،فأعطيته ثمن صحيفتين .أشار إلى رزمة الصحف:
ــ أتريد كليهما؟
متبرع بهما لك .ما أخبار حمام العليل؟
ــ ال ،أنا ّ
طفرت دمعات من عينيه ،فبدا لي أنني أثرت شي ًئا من األسى في نفسه.
تنهدّ وقال بصوت خفيض.
ــ ال جديد.
شعرت ّ
بأن سؤالي كان خال ًيا من المعنى ،فاستدركت الموقف:
ــ ستفرج إن شاء الله يا صديقي .امسح دموعك ،ما اسمك؟
ــ مروان.
ــ اسم فخم يليق بك .هل يضايقك أحد في الشارع؟
ــ أشخاص قليلون ..حين يعرفون أنني نازح.
(((تسمية شعبية كانت تُطلق عىل عملة «اآلنة» اهلندية قبل عقود ،و ُيش َّبه هبا الشخص الذي
ال يساوي شي ًئا.
125
ــ ُطز فيهم ،هؤالء ً
أيضا ال يساوي أحدهم قمر ًّيا .احرص على نفسك،
دائما.
و ُعد إلى البيت قبل مغيب الشمس ً
هز الفتى رأسه وشكرني ومضى.
ّ
أردت أن أفتح راديو السيارة وأسمع أغني ًة أو موسيقى مهدّ ئ ًة لألعصاب،
لكن نغمة بريدي اإللكتروني في هاتفي شغلتني عنه .يا للعجب! رسالة من
هيلين بعد كل هذه السنين:
عزيزي نينو،
أنا نادمة.
فادحا ،هل تقبل اعتذاري؟
خطأ ًاقترفت ً
126
أموري ،فعدت إلى ديترويت ،وأقمت مؤقتًا عند أسرة عراقية مهاجرة إلى
أن عثرت على عمل في متجر تملكه سيدة ،يفتح 24ساع ًة ،فسمحت لي
بالسكن في مخزن متروك بالطابق العلوي.
بعد مدة ضقت ذر ًعا من ذلك المخزن ،شعرت باالختناق ،ال أنيسة لي
فيه تكلمني وأكلمها ،وجدت نفسي المرأة األشد عزل ًة في األرض فقررت
علي زميلة مناوبة لي في العمل اسمها نازنين أن أن أغادره .عرضت ّ
أشاركها غرفتها في شقة أهلها ،وهي عراقية فيل ّية من ديالى ،عزباء أكبر مني
بست سنينُ .أسرتها صغيرة تتكون من والديها وجدّ تها السبعينية ،ولها أخ
توأم يعمل ويقيم في بلدة قريبة .وافقت طب ًعا ،وصرت أعينها في النفقات
علي بكرم لطفها وسجاياها الطيبة.
واألعمال المنزلية ،فأغدقت األسرة ّ
ً
طويل ،تهاوت بسبب األخ التوأم ،صار يكثر من لكن راحتي لم تدم
ً
مستغل غياب أخته في العمل ،وحينما كنت ويتحرش بي،
ّ زياراته ألهله،
أصده يسمعني كال ًما خشنًا .إالّ أني لم أخبر نازنين حتى ال تحدث مشكلة
عذرا ورجعت إلى سكني في المخزن البائس إلى أن
بينهما ،اختلقت ً
يفرجها الله.
ماذا أفعل؟ أشعر اآلن بتعاسة شديدة ،وال أدري إن كنت سأقاوم أو
أسلك طري ًقا آخر أنافس فيه تعيسات أخرياتّ .
جل ما أخشاه أن أنتهي إلى
لدي ما أخسره .بذلت جهدً ا في التفكير باألمر ولم
هذا المآل ألنني لم يعد ّ
أصل إلى نتيجة.
صدّ قني يا نينو ال أجد أحدً ا غيرك أشكو له حالي بعد أن أصبحت
حياتي إحبا ًطا يوم ًيا.
127
أنا منكسرة اآلن فبماذا تنصحني؟
آلمتني رسالة هيلين ،وشعرت بإشفاق ،إن لم تكن دفقة عاطفة،
تجاهها ،لكني لم ُأ ِ
سد العون لها .فكّرت في أن أنصحها بالرجوع إلى
أرابخا ،إالّ أني دفنت الفكرة خشية أن تحاول التقرب ّ
إلي إذا رجعت ،في
حين ما عدت أنا نينوس الذي كان يهيم ح ًّبا بها ،كففت عن ذلك منذ زمن
طويل ،أو باألحرى دفنت هيامي بها في قبر الماضي ،طردتها من قلبي،
وأصبح لكلينا طريق يختلف عن اآلخر .كل شيء يتغير بفعل الزمن.
إثر ربع ساعة انقطع زعيق األبواق ،وتحرك طابور السيارات ببطء أوالً
ثم بسرعة.
128
16
حين بلغت الشاطئ ركنت سيارتي جنب عربة األطعمة المتن ّقلة .لم
تكن موجود ًة حين غادرت الشاطئ ،ربما جاءت في ما بعد.
أترجل دار في بالي سؤال مهم للغاية :أين سيقيم الملك آشور
قبل أن ّ
وحاشيته؟ وحتى لو أني وجدت فند ًقا يسعهم ك ّلهم كيف سأقنع إدارته
بأنهم ال يحملون وثائق إثبات الشخصية؟
ما العمل إ ًذا؟
تع ّثر تفكيري ،وأنا أرسل بصري إلى المركب ،الذي عاد إليه الجمع،
واتخذوا مواقعهم فيه بانتظار قدومي ،وترددت في إنجاز المهمة ،وكدت
جارا أذيال الخيبة .لكن بغت ًة شرقت نفسي بإلهام داخلي،
أبرح المكانًّ ،
أوحت لي بفكرة لم أجد أنسب منها :أن أستأجر حافل ًة كبيرةً ،وآخذهم إلى
نادينا الرياضي ،و ُأطلع مديره عوديشو ،الذي تربطني به عالقة قرابة ،على
المسألة لع ّله يستضيفهم.
اجتذبتني الفكرة« ،لِ َم لم يتس ّن لي استحضارها من أول وهلة؟ إنها
أن من األفضل عرضها على عوديشو ً
أول .تلفنت الحل األمثل» .ورأيت ّ
له فلم يرد .كررت المحاولة ثاني ًة ثم ثالث ًة لكن من دون فائدة ،في كل
مرة كان يأتيني الرد اآللي «الرقم المطلوب ال يمكن االتصال به اآلن،
129
ُيرجى االتصال في وقت الحق» .قلت في ذاتي فألغامر ..ال أعتقد أنه
سيخذلني.
اقترب مني الشاب بائع األطعمة ،الذي سبق أن ّ
حذرني من حدوث
عاصفة ،وقال:
ــ ها أنت ذا عدت ثاني ًة ،هل غادرت قبل هبوب العاصفة؟
ً
طويل. ــ لم أمكث
كثيرا.
ــ يبدو أنك تحب البحر ً
ــ إحساسك صحيح ،منذ متى بدأت تعمل هنا؟
ــ منذ شهر تقري ًبا.
انقطعت أنا عن المجيء بسبب مشاغلي.
ُ ــ خالل هذه المدة
ــ وعدتني بأنك ستشتري مني بعد عودتك من البحر لكنك لم تعد.
ــ حين عدت لم أجدك .اعطني أربع علب هاينكن.
ــ كبيرة أم صغيرة؟
ــ كبيرة.
ر ّد مالط ًفا «تد ّلل» ،وأسرع في جلب علب البيرة بكيس بالستيكي.
سدّ دت له ثمنها ،وفتحت واحد ًة فاندفعت منها رغوة شفطتها على عجل،
ثم كرعت العلبة وخبأت الباقي تحت مقعدي.
سألت الشاب:
ــ هل لمحت أحدً ا على متن المركب الراسي على المرفأ؟
130
ــ لمحت ثالث فتيات عند حافته يرتدين مالبس غريب ًة .ألقت احداهن
شي ًئا ما إلى الماء ،ربما كان بقايا غذاء ،طعا ًما للسمك ،ثم اختفين .في
فيلما؟
الحق لم يمكثن أكثر من دقيقتين .هل يصورون ً
باغتني سؤاله ،فترددت لحظ ًة ثم أجبت:
فيلما تاريخ ًّيا.
ــ نعم ،يمثلون ً
ــ ال بدّ أنهم أصحابك.
ــ أجل ،أجل.
ــ ما داموا أصحابك قل لهم إنني في خدمتهم ،مستعد لتلبية طلباتهم من
الطعام والمشروبات .وإذا احتاجوا إلى ممثلين كومبارس يمكنني أن آتي
لهم بأصدقائي.
ــ تد ّلل ،سأفعل.
ــ ربما ال تصدّ ق أن أحد أصدقائي بارع في التمثيل الفكاهي ،يق ّلد مستر
بن وكأنه هو سبحان الله!
ــ لكن الفيلم الذي يصورونه ليس كوميد ًيا.
دورا صامتًا ،مثل جندي أو طباخ أو خادم .صدّ قني
ــ يمكن أن يعطوه ً
إنه من عائلة فقيرة ينفعها أي مبلغ يمنحونه له.
ــ إن شاء الله ،سأحاول.
انحدرت إلى المرفأ ،وما إن وطأت قدماي لوح العبور حتى رأيت
واحدً ا من جنود الملك على ظهر المركب؛ متك ًئا بمرفقيه على طرفه
131
الجانبي ،ما ّدا عنقه إلى الماء لمراقبة مجموعة أسماك تطفو على سطحه،
وهي تتنافس على التهام فضالت من الغذاء ،ربما ألقتها إحدى النساء من
مسلحا برمح ودرع وسيف ورأسه محم ًّيا بخوذة،
ً كوة قمرتها .كان وحيدً ا،
ّ
علي أن أناديه ،بيد أني
فتوجب ّ
ّ له بشرة المعة ولحية خفيفة .لم يلمحني
كنت أجهل اسمه .ص ّفرت له فاستعدل واق ًفا ،وبانت قامته معتدل ًة مثل
قامتي تقري ًبا ،أو هكذا رأيتها في أقل تقدير ،وبدا لي أنه الشخص الذي
ّ
المشذبة ،فربما يكون الملك قد أمر خمنت ذلك من لحيتهسيرافقنيّ .
جميع الرجال بقص لحاهم وشعر رؤوسهم .هرع إلى مقدمة المركب
وح ّياني راف ًعا درعه إلى األعلىّ .لوحت له بالحقيبة فأشار لي أن أرميها له،
رميتها في احتراس فالتقطها وقال متباه ًيا:
علي .انتظرني ريثما أرتدي ثيابك ،وأضع قطع
ــ وقع اختيار الملك ّ
الذهب محلها .كم واحدة تكفي؟
فاجأني سؤاله ،قلت:
ــ ِ
هات عشر قطع.
«يا إلهي! عشر قطع ،إنها ثروة» قلت في نفسي مغتب ًطا ،ثم خاطبته:
ــ وال تنسى أن تترك الخوذة يا .....ما اسمك؟
ــ أمينو.
أومأت برأسي استحسانًا فمضى وهبط إلى قعر المركب.
خطوت بعض خطوات على رصيف المرفأ ،وأخذت أتطلع إلى نوافذ
قمرات المركب لعلي أحظى برؤية شميرام ،لكنّي وجدتها مغلق ًة ،عدا
132
ً
متأمل خرائب القلعة ،وكأني به يقول واحدة ّ
يطل منها األمير شلمانو،
ملو ًحا بيدي ،فر ّد
لنفسه «ليس من العدل أن تؤول إلى هذا المآل» .حييته ّ
التحية بتلويحة مماثلة ثم اختفى داخل قمرته .قفلت عائدً إلى لوح العبور،
ودخنت سيجار ًة بانتظار عودة أمينو .لم يطل به الوقت ،عشر دقائق تقري ًبا،
رجع بهيئة رجل عصري ،بقميص سمائي وبنطال كحلي كأنهما مفصالن
خصيصا له .قفز إلى لوح العبور برشاقة وخ ّفة وناولني الحقيبة .فتحتها
ً
ألتأكد من عدد قطع الذهب ،لم أجد فيها سوى ثالث.
ــ ما هذا يا أمينو؟
ــ ماذا؟
ــ ثالث فقط!
ــ اعذرني ،إرادة سيدنا الملك.
أردت أن أقول له « ُعد إليه وابلغه بأنها ال تكفي» ،لكني خشيت أن يأخذ
الملك انطبا ًعا سي ًئا عني ،ربما يتصورني خدّ ا ًعا ويتراجع عن وعده بتزويج
ابنته مني ،لذا آثرت الصمت.
طلبت من أمينو ،حال ركوبنا السيارة ،أن يحدثني عن شميرام ،إالّ أنه
سألني:
ــ هل راقت لك؟
كثيرا.
ــ ً
ــ لكنها ال تزال صغيرةً .وال أتصور أن الملك يزوجها قبل زواج أختيها
األكبر منها أميديا وإيشارا.
133
ــ لقد وعدني ،وأنا أحب الفتيات الصغيرات.
ــ لم يعدك ،قال إنه سينظر في األمر.
ــ ال ،ال ،سيوافق ،كم عمرها؟
ــ ال تزال فرخ ًة ،خمسة عشر عا ًما.
ــ البركة في الفرخات .لكنها تبدو أكبر من هذا العمر.
باكرا.
ــ ذلك ألنها بلغت ً
ــ كيف عرفت؟
ــ منذ عام فقط احتفلوا بدخولها سن البلوغ.
ــ عج ًبا ،تحتفلون ببلوغ الفتاة؟
ــ ما وجه العجب؟ أال تحتفلون أنتم؟
ــ في بلدنا ال ،لكن في بلدان أخرى نعم .هنالك ترافق االحتفال طقوس
غريبة.
ــ هل هذه البلدان قريبة؟
ــ بعضها قريب وبعضها اآلخر بعيد.
مهما.
ــ ياه !..أنت تعرف أشياء كثيرةً ،لكنك ال تعرف شي ًئا ًّ
ــ أي شيء؟
ــ شميرام...
ــ ما بها؟
134
ــ لسانها معقود ،ال تنطق.
سألت مصعوقأ:
ــ بكماء؟!
ــ تلفظ بضع كلمات فقط ال تكاد تفهم منها شي ًئا .لكنها طيبة القلب،
تختلف عن أخواتها في الطباع.
ــ مستحيل! أنت تمزح.
ــ ال أمزح ،هكذا جاءت إلى الدنيا .هل يثير ذلك سخطك؟
ــ أبدً ا..
ــ نغمة صوتك أوحت لي بذلك.
يعوض عن لسانها.
ــ ال يا أمينو ..جمالها ّ
أخرجت علبة بيرة من الكيس ،وشرعت باحتسائها ،ثم سألته:
ــ منذ متى تعمل في حراسة الملك؟
ــ منذ سبع سنين.
كثيرا.
ــ يبدو أنه يثق بك ً
ــ كيف ال يثق بي وهو خالي؟
ــ الملك آشور خالك؟
ــ نعم ،أمي أخته.
ــ عج ًبا!
135
ــ لماذا؟
ــ الملك خالك وأنت جندي؟
ــ لست جند ًّيا عاد ًّيا ،أنا رئيس الحرس الملكي.
ــ هل أنت متزوج؟
ــ ال ،أعزب.
ــ لِ َم ال يزوجك خالك من أميديا أو إيشارا؟
ــ الزواج ليس سلق بيض ،أنا أحب فتا ًة من عامة الناس وسأقترن بها.
ــ حكمة.
ــ تعلمتها من أبي.
خ ّيم الصمت علينا ثاني ًة ،فخطر لي أن أسأله:
ــ هل تشرب الج ّعة؟ أستطيع أن أسقيك علب ًة.
ــ ال أتعاطاها ،إنها تسبب الدوار أول األمر ثم تصيب الرأس بالصدع.
نحن الذين نخدم في بالط الملك نسميها حساء الشعير ،وفي رأيي ،وأرجو
أالّ تزعل ،ال ُبلهاء فقط عندنا في كلحو يحتسونها ويسرفون فيها حد الثمالة
والعربدة ،أما نحن فنحتسي شراب الكرمة.
ــ أعتقد أن َمن تسميهم ُبلهاء يتعاطون الج ّعة ألن ثمنها زهيد.
يخصصون لكل
ــ ال ،إنها تُعطى لهم مجانًا ،المشرفون على اإلعاشة ّ
واحد حص ًة يومي ًة منها بحسب منزلته االجتماعية.
أيضا أعطيك مجانًا.
ــ وأنا ً
136
تحملها. ِ
ــ هات واحد ًة ألع ّبها وليعنّي اإلله آشور على ّ
ــ خذ ،واعطني رأيك فيها .أريد أن أعرف أيهما ألذ مذا ًقا ج ّعتنا أم
ج ّعتكم؟
احتسى جرع ًة من العلبة ،وقال:
أيضا.
ــ فيها طعم شعير ً
ــ طب ًعا ،لكنها أنقى من ج ّعتكم ألنها تُصنع بأجهزة متطورة .أليست
لذيذةً؟
ــ بلى ،إنها ّ
ألذ من جعتنا.
ــ توجد أنواع أخرى منها ذات ألوان مختلفة ،وتُقام لها مهرجانات
واحتفاالت في كثير من دول العالم.
ــ أنتم مر ّفهون ،أما نحن فقد قضينا أعمارنا في حروب وغزوات.
ــ أنت واهم ،اص ِغ ّ
إلي ،نحن أسوأ منكم بكثير ،أكلت أعمارنا حروب
وغزوات ،وعشنا انكسارات وهزائم ،وال يزال الوضع على حاله.
ــ هل شاركت في أحد هذه الحروب؟
ــ لم أشارك ،لكني أتنفس الحرب كل حين ،رئتي ممتلئة بسمومها .ماذا
عنك أنت؟
ــ أنا رافقت الملك في العديد من حمالته العسكرية.
ــ هل صحيح أنه مجرم حرب ،نهب البلدان التي دخلها في تلك
الحمالت ،واتّبع أسلوب القسوة والتدمير والبطش والقتل الجماعي
والتمثيل باألسرى وبجثث القتلى؟
137
ــ هذا افتراء ،كذب ،صحيح أنه كان شديدً ا ُيعاقب الذين يتمردون
على ُحكمه ،ويهزم جيوشهم وأعوانهم لكنه لم يغلب عامة الناس على
ِ
يستول على أمرهم ،ولم يرغمهم على ترك آلهتهم وعبادة آلهتنا ،ولم
ممتلكاتهم ،بل كان يرفق بهم ،ويأمر جنده بعدم االقتراب من نسائهم أو
يتطوعون
إتالف محاصيلهم الزراعية أو قلع أشجارهم ،لذا كان أبناؤهم ّ
في جيشنا عرفانًا بجميل الملك في نزع الظلم واالسترقاق عن رقابهم.
وكرسوا صور ًة شوهاء له.
ــ معنى ذلك أن المؤرخين تحاملوا عليه ّ
138
17
راجعت في اليوم التالي ما كتبت ،فأدركت أنّه يبعث على الخزي ،فيه
وأن َمن تك ّلم عن
تزوير صادم للحقيقة ،وكأني كتبته وأنا في حالة سكرّ ،
ونزهه عما ألصقه المؤرخون به في رواياتهم هو أنا وليس الملك آشورّ ،
ورمزا إنسان ًيا
ً أمينو ،وبدا لي أنني رسمت صور ًة ذهبي ًة له ،وجعلته أمثول ًة
تعبيرا عن رغبة في داخلي ،ورحت أسترجع ما قاله عنه عمران «تناول
ً
أيضا ،استبداده ،وعنفه المفرط مع خصومه ،وقسوته
مسالكه البشعة ً
الشديدة مع أسرى الحروب ورميهم في النار ،»...فشعرت باالستحياء من
نفسي ،وخ ّفت حماستي للرواية ،باألحرى بدأت تتفتت إلى نتف ،لكني
ارتأيت أن أسمع رأي عمران بما كتبته ً
أول.
أرسلته له بالماسنجر ،فقرأه واقترح أن نلتقي في مطعم «القلعة».
أخذت معي نصف قارورة فودكا خبأتها في حقيبة ،كان صاحب المطعم
يسمح لي ،متواط ًئا ،بأن أشرب شريطة أالّ يراني الزبائن .وصلت قبل
عمران وكان الوقت بعد الغسق بقليل ،اخترت مكانًا يشرف على البحر
ُع ّلق على جداره قفص يحبس ً
طائرا رشي ًقا مذهل الجمال من فصيلة الببغاء
ذا ذيل مدبب وتدرجات لونية زاهية كأنها مقتطعة من قوس قزح .سألت
النادل عن الطائر قال:
ــ اسمه كنيور ،ثرثار وهزلي.
139
ــ يتك ّلم؟
ــ ومليء بالطاقة والحيوية ،وإذا شتمته شتمك بكلمات غاية في القبح.
زعق الطائر بكلمات لم أفهم مغزاها ،لكنها بدت أقرب إلى االحتجاج،
فأشرت إلى النادل بأالّ يستفزه ،ثم طلبت منه أن يضع شمع ًة على الطاولة
ويجهز سمك ًة مشو ّي ًة تكفي إثنين.
ّ
متأخرا ثلث ساعة عن الموعد ،متع ّل ًل بعطل طارئ في
ً جاء عمران
سيارته .قال ،بعد أن شربنا كأسي عصير أضفت إليهما الفودكا خفي ًة:
ذهبت
َ ــ قرأت ما كتبتَه .أسلوبك جذاب صراح ًة ،لكنه لن يشفع لك،
بعيدً ا في تخ ّيلك وأنت ما زلت في بداية الرواية.
علي أن أطلق العنان لمخيلتي وأسترسل على...
ــ أنت َمن اقترح ّ
قاطعني:
ــ ما دار في َخلدي أنك ستجريها هذا المجرى.
علي أن أعاكسها؟
يتوجب ّ
ــ هل كان ّ
شخصا
ً ــ كان في مستطاعك أن تتحكم بها .وحبذا لو أنك جعلت البطل
آخر غيرك ،وال يحمل اسمك تالف ًيا للنرجسية ،وحتى ال يبدو األمر وكأنك
تكتب عن نفسك مثلما يكتب بعضهم سيرته.
سموا أبطال رواياتهم
ّ كثر
ضيرا ،ثمة كتّاب ٌ
ــ بالنسبة إلسمي ال أجد ً
على أسمائهم.
تمهل عمران ليأخذ رشف ًة من كأسه ثم قال:
ّ
140
كتبت.
َ تسوغ ذلك أسحب مالحظتي وأذهب مباشر ًة إلى ما ــ ما دمت ّ
في األدب ،لست أدري كيف أع ّبر ..أنا لست ناقدً ا وأنت أدرى مني ،أعتقد
أن عنصر اإلقناع مهم جدً ا .يبدو لي أنك حشوت النص بمسائل غير مهمة.
ــ مثل ماذا؟
بعضا منها :تناولك اإلرهابيين وحركةــ األمثلة كثيرة سأذكر لك ً
المطول عنهم ،إسرافك في الكالم عن ديانا وقريبتها
َّ طالبان والحوار
والرجل الذي يقلهما بسيارته ،تع ّطل حركة السير ولقاؤك الفتى النازح
بائع الصحف والحديث عن بلدته حمام العليل ،رسالة هيلين المفاجئة،
أما الطامة الكبرى فهي إخفاء الحارس أمينو فظائع خاله الملك آشور
يخرف.
وتصويره على غير حقيقته كأنه ّ
نفسا منها ،وأضاف:
طال عمران سيجار ًة من علبة دخاني ،وسحب ً
ــ هذا طب ًعا غيض من فيض ،وثمة أمثلة أخرى في الرواية ال تحضرني
اآلن.
بدت مؤاخذاته أشبه بصفعة ،فأشعلت بدوري سيجار ًة ونفثت دخانها
وقلت:
تسرعت.
ــ أعلم أنني ّ
ــ تستطيع أن تعدّ ل فيها وتنجزها على مهل.
ــ ال أدري ،خ ّفت رغبتي في مواصلة كتابتها.
141
18
ظل كالم عمران يرن في رأسي ذلك اليوم مثل جرس إنذار. ّ
ً
فاشلة ً
طويل فوجدته صائ ًبا مئة في المئة .ستكون الرواية فكّرت فيه
ً
فاشلة ،ولن يجازف أي ناشر حتما إن لم أر ّمم ما كتبت .أجل ستكون
ً
نزيها يفعل ذلك،
تحمل كلفة طباعتها ،وحتى لو وجدت واحدً ا ً
في ّ
ً
مهينة ،فلن أجدي طا علي شرو ً
شرها يفرض ّ
ً أو في أقل تقدير ليس
منها تقري ًظا ما ،ال بل سأكون محظو ً
ظا إذا نجوت من البهدلة ،لذلك
آثرت أن أهجرها مد ًة ال أدري كم ستطول ،ثم أراجعها وأعيد كتابتها
بتأن ،وفي غضون ذلك أفيئ إلى مشروع بحثي لرسالة الماجستير عن ِّ
الثقافة اآلشورية التي د ّمر المخربون والغزاة واللصوص معظمها.
ً
قائلة ستطرب سلفانا للموضوع أكيدً ا ،فلطالما حثتني على تناوله
«ستسهم من خالله في إسكات الذين ال يرون في اإلمبراطورية
اآلشورية سوى مظهرها العنيف ،حروبها وغزواتها ،ويتناسون أن
سور الصين بأبهته وعظمته فكرة آشورية خالصة أخذها الصينيون عن
أيضا .وفي الوقت
سر عمران بالموضوع ً
سور نينوى المذهل» ،وس ُي ّ
أتعرف إلى مارينا وأمها ،وأقتنص فرصة
سأحج بيت يونس لعلي ّ
ّ ذاته
سترحب برغبتي في
ّ جس نبض السيدة ،مع أني شبه متأكد من أنها
ّ
طلب يد ابنتها ،فأنا أقلها سأخفف عنها شي ًئا من العبء ،فال تكون
142
ً
مسؤولة سوى عن رعاية أبنها .وال بدّ لي بعدئذ أن أقنع أمي بأن
ً
آشورية ،وجمالها تخطبها لي .لن تمانع من دون شك ما دامت البنت
نادر المثال.
143
19
التقيت يونس في ما بعد مرتين ،في المرة األولى قصدت بيته بحجة
تهنئته على صدور قرار بمنحه راتب تقاعدي من الجيش كان ينتظره منذ
سنوات ،لكني لم َ
أحظ بلقاء مارينا وأمها ألنهما كانتا خارج البيت للتسوق
رفقة زوجته .أخبرني بذلك حين أعدّ الشاي وقدّ مه لي بنفسه .وأصاب
حدسي يومها بأنه يخطط للزواج من أم مارينا ،ففي لحظة مكاشفة زعم
أنه يرغب في إنجاب ولد آخر لكن زوجته مصابة بمرض ال يسمح لها
باإلنجاب ،وليس أمامه حل سوى االقتران بامرأة أخرى ،وألمح إلى أنها
أرملة وفي متناول اليد.
حفزني تلميحه إلى لقاء أم مارينا بأي طريقة ،ولم أجد أفضل من دعوته
ّ
إلى مطعم «القلعة» ،مصطح ًبا المرأة و ُأسرتها .نجحت خطتي بسهولة،
فكان لقائي الثاني به .استقبل الدعوة من دون تردد ،ال بل اغتبط بها،
فأدركت أنه وجدها فرص ًة ذهبي ًة ليتحدث إلى المرأة بحرية ،و ُق ّيض لي أن
ألتقيها أول مرة ،وأعرف أن اسمها جانيت .سألتني عن عملي ،وأعطتني
نبذ ًة عن نفسها« :كنت موظف ًة في مركز للتأهيل االجتماعي بالموصل ،من
ُأسرة هاجر معظم أفرادها إلى الخارج ،ومن تب ّقى منها نزح إلى المخيمات
في الشمال» .قدّ رت أنها في منتصف الثالثينات ،ذات محيا هادئ ،جسدها
ً
جمال ورق ًة ،رغم مأساة فقدان زوجها ،الذي ما انفكت صلب ،تفيض
144
ترتدي السواد حدا ًدا عليه ،وثمة شيء مشترك بينها وبين ابنتها :لون عينيها
وسعتهما وصغر فمها .كما أتيح لي أن أحادث مارينا ،قالت إن عمرها 16
عا ًما ،وبعد شهر ستحتفل بعيد ميالها السابع عشر ،وتواصل دراستها في
الثانوية ،وتهوى الموسيقى وقراءة الروايات والقصص العاطفية ،وحكت
لي عن آخر رواية قر َأتها« ،قصة حب مجوسية» التي كنت قد قرأتها قبل
بضع سنوات ،إالّ أنني تظاهرت بعدم معرفتي بها لئال أطفئ رغبتها في
تلخيص أحداثها .وقد أدهشني تعاطفها مع بطل الرواية ،وتحديه لكاهن
الكنيسة ،وبحثه عن معشوقته ليليان في َحواري المدينة الغامضة الحزينة.
الحظت عالمات السرور في وجه السيدة جانيت وهي ترمقنا مبتسم ًة
بوداعة ،لك ّن مالمحها تغ ّيرت فجأ ًة عندما ذهب يونس إلى المرحاض،
اكفهر وجهها ،وبدت تائه ًة كأنها في قلب غابة .سألتها:
ّ
ــ ما ِ
بك؟
أشارت إلى حيث مضى يونس وقالت:
كثيرا منه ،وما كنت ألرافقه إلى هذه الدعوة لوال أنه
ــ أنا منزعجة ً
أخبرني بأنك آثوري...
ــ آشوري ..آشوري.
ــ لم أعتد على ذلك بعد ،المهم أردت أن ألتقيك...
تناهى إلينا نعيق بومة من شجرة في الباحة الخارجية للمطعم ،فأشارت
بإصبعها إلى جهة الصوت وكأنها تستشهد بالشؤم الذي يوحي إليه.
ــ بماذا يضايقك؟
145
ــ يكذب في ادعائه أن زوجته لم تعد قادر ًة على اإلنجاب ،ويبتزني
كأنني رهينة عنده بإلحاحه على الزواج مني.
ــ سبق أن ألمح إلى أنه يريد الزواج من أرملة في متناول اليد فأدركت
أنه يقصدك.
ــ يا لحقارته! أنا في متناول اليد؟
ِ
صبرت عليه كل هذه المدة؟ ــ كيف
تنهدت وقالت:
ــ لم يكن هكذا في البداية ،لكنه تغير منذ بضعة أشهر ،ال أدري أي
شيطان لعب برأسه.
ــ نذالة.
ــ أنا اآلن قلقة رغم رفضي المطلق الزواج منه ،وبات بقائي في بيته
خطرا يؤرقني ،لكني كسيرة الجناح يتآكلني الخوف.
ً
أرسلت نظرة سريع ًة إلى جهة المرحاض ،وواصلت:
ــ أنا في أمس الحاجة إلى مساعدتك لتنقذني من المحنة ،ال أعرف
أحدً ا في المدينة يمكن أن أستغيث به.
علي أن أسلكه؟
ــ أنا مستعد لفعل أي شي ،ما السبيل الذي يتعين ّ
قالت بصوت خافت محترس:
ــ ِجد لنا مكانًا آمنًا يأوينا ولك دين في رقبتي.
أخجلني كالمها:
ــ أي دين حاشا لله؟
146
أشارت إلى مارينا:
ــ أظنك مغرم بها وسأزوجك إياها.
ــ طب ًعا طب ًعا ،يشرفني ،لكن ليس كمقايضة.
أحببت.
َ ــ أعني إن
نظرت إلى مارينا:
ُ
أيضا.
ــ وإن أح ّب ْت هي ً
ابتسمت الصبية ابتسام ًة رقيق ٌة خجلى فقلت ألمها بحم ّية:
ــ تكرمين ،سأفعل.
أخذت رقم هاتفها ووعدتها بأن أنقذها في أقرب وقت .فكّرت على
الفور في أسين ،فهي تعيش وحدها مع ابنتها ،وال أخالها تر ّد طلبي ،خاص ًة
إذا أسررتها برغبتي في خطوبة مارينا.
هاتفت أسين فور عودتي إلى البيت وشرحت لها أمر جانيت ،فإذا بها
مرحب ًة بها في ِ
كما توقعت ،لم تبد أي اعتراض ،بل فتحت قلبها الدافئ ّ
ويقوي من عزيمتها في بيتها ،وقالت إن وجودها إلى جانبها سيسعدهاّ ،
رفض مخطط أهلها المشؤوم ،فهي ستتك ّفل برعاية ابنتها أثناء غيابها في
تعهد بها ألمي.
المدرسة ،ولن تضطر إلى أن َ
أبلغت جانيت بالحل الذي وجدته لها ،فطارت من الفرح ،وشكرتني
على التزامي بالوعد ،وخالل يومين جمعت حاجاتها ،لم يكن في حوزتها
سوى النزر اليسير منها :مالبس وأحذية وكتب مارينا ودفاترها دستها في
حقيبتين ،وانتقلت إلى بيت أسين ،مستغل ًة غياب يونس عن البيت ،وكان
147
لزوجته دور عظيم ،تستحق الثناء عليه ،في تسهيل المهمة .أما يونس فقد
طار عقله حين علم باألمر ،وحاول أن يعرف الجهة التي قصدتها جانيت،
لك ّن زوجته نفت معرفتها بالمكان .ذلك ما استخلصته من جانيت ً
نقل عن
الزوجة التي اتص َل ْت بها مساء اليوم الذي رحلت فيه وأخطرتها بما حدث،
ون ّبهتها إلى أن تغلق هاتفها وال تفتحه إال بعد تغيير شريحته.
ِ
أخف األمر عن أمي ،فقد كانت ستعرف به في نهاية المطاف من لم
لسان أسين حين تخبرها بأنها ما عادت في حاجة إلى ترك ابنتها عندها،
فعلت ،لكنها
ُ وستكشف لها عن القصة كما جرت .أثنت أمي على ما
عاتبتني ألني لم آخذ رأيها قبل أن أقدم عليه .ومن باب الفضول زارت
أسين وتعرفت إلى جانيت ومارينا ،وعندما عادت أشادت بهما ،وكانت
لديها رغبة في أن تجعل األم ترافقها إلى الكنيسة «ليحفظها القديس بطرس
شفيع األرامل» ،وميل خفي إلى أن تكون البنت كنّتها «مهذبة رقيقة ،والحق
يقال إنها غادة ،حلوة كالشهد ،أحلى من تلك السريانية الحمقاء التي
ض ّيعت نفسها في أميركا».
الح َسن أن السنة الدراسية لم تكن قد بدأت ،وإالّ لما تردد يونس
من َ
عن الذهاب إلى موقع مدرسة مارينا ليتصيدها أثناء خروجها ،ويتقصى
أيضا أن جانيت كانت تدّ خر
الح َسن ً
عنوان المكان الذي لجأوا إليه .ومن َ
بعض المجوهرات ،التي يكفي ثمنها تأمين نفقات ُأسرتها الصغيرة إلى أن
تحصل على رواتبها المتوقفة من الحكومة منذ سنتين.
اقترحت على أمي أن تدعو ُأسرتَي جانيت وأسين إلى مأدبة عشاء في
ُ
بيتنا .كنت أتوق إلى أن تتذوق مارينا طبخ حماتها ،فهي ماهرة جدً ا في
148
إعداد الكبة والدولمة ((( ،وال تباريها امرأة أخرى في هذا المجال .ل ّبت
االقتراح عن طيب خاطر ،وساعدتها جانيت لتبرهن لها أنها ال تقل براع ًة
عنها ،خاص ًة في الدولمة على الطريقة الموصلية.
كاد يونس يفسد ُأنس ليلتنا تلك باتصاله بي ،وكنت أتوقع ذلك .كان
منزعجا إلى أبعد الحدود .سألني عما إذا كانت لدي أي معلومات عن
ً
جانيت وكأنها زوجته أو عشيقته ،لكني تظاهرت بأني ال أعرف أي شيء،
وراح يكشف لي عما أقدمت عليه ،واص ًفا إياها بأنها ناكرة جميل ،أهانته
بهروبها ،ورجا مني أن أبلغه بأي معلومة تقع في يدي عن المكان الذي
قصدته .وختم كالمه بأن لديه طر ًقا خاص ًة للتح ّقق من أمرها.
لم ُأخطر جانيت بمكالمته ،فأمضينا الليلة بسعادة ،وأطلعت خاللها
مارينا على مكتبتي .تناولت منها كتابين أحدهما مجموعة قصص قصيرة
مترجمة لتشيخوف ،والثاني رواية «عصر الحب» لنجيب محفوظ.
صباح اليوم التالي أردت أن أغ ّير رقم هاتفي ،لكني أدركت أن يونس
ّ
سيشك في األمر ،فاكتفيت بشراء شريحة جديدة لهاتف جانيت باسمي،
وأوصيتها بأن ّ
تتوخى الحذر ،ال أحد يخرج من البيت مدة شهر ،ال هي وال
مارينا وال فادي .وحمدت الله على أني لم ِ
أعط عنوان بيتي ليونس ،ولم
أخبره بتفرغي للدراسة في الجامعة ،بل قلت له حين سألني في لقائي الثاني
به عن طبيعة عملي إني مدرس ،مدرس فقط من دون أي تفاصيل أخرى.
وهذا ما طمأنني.
((( الدوملة :طبخة تتكون من ورق العنب أو السلق والباذنجان والكوسا ،وغري ذلك،
املحشوة باألرز واللحم املفروم.
149
20
عرضت على عمران ،عقب بضعة أيام ،أن نلتقي في مكان آخر غير
مطعم «القلعة» .اقترح أن يكون اللقاء في مقهى «النافورة» على الشاطئ
عصر اليوم نفسه ،واشترط أالّ يطول أكثر من ساعة ألنه على موعد مس َبق
مع األستاذ المشرف على أطروحته قبيل المغيب لترتيب مسألة ما.
عصرا ،واخترنا
ً وصلنا إلى المقهى في وقت واحد تقري ًبا ،الرابعة
الجلوس على مقعدين من الخيزران في ظل شجرة كاتالبا في باحتها
الخارجية .كانت المقهى نظيف ًة وهادئ ًة ،تتوسطها نافورة محاطة بمصابيح
زرق ،وتز ّين جنباتها جرار فخارية كبيرة ُزرعت فيها ورود مختلفة :أقحوان
وخزامى وزعفران ،ومن الصالة الداخلية كانت تترامى إلينا أصداء موسيقى
ناعمة عبر نوافذها المشرعة.
باشرت الحديث مع عمران ،بعد أن احتسينا استكاني شاي .أنبأته بقرار
أول وبِن ّيتي خطبة مارينا ثان ًيا .لم يع ّلق على النبأ األول ،وكأنه
تأجيل الرواية ً
كان يتوقعه ،في حين استقبل النبأ الثاني ِ
فر ًحا:
ــ شيء جميل أن أسمع منك ذلك .هل كنت على تواصل مع...؟
ــ يونس .نعم زرته مرةً ،ودعوته و ُأسرة مارينا إلى مطعم «القلعة».
ــ كيف وجدت األم؟
150
سألني ،فقلت:
وس ّرت حين حادثت مارينا.
ــ سيدة رائعة ،نقية وطيبة ومتواضعةُ .
عريسا البنتها أفضل منك؟
ً حتما ..هل تجد
ــ ً
هربتها قبل يومين ،هي ومارينا وابنها ،إلى بيت
ــ ليس هذا فحسب بل ّ
جارتنا أسين من غير علم يونس.
ــ لماذا؟
ــ يريد أن يقسرها على الزواج منه.
تسول له نفسه وهي أرملة صديقه؟ ال بدّ أنه است ّغل ــ يا إلهي! كيف ّ
ب أن إيواءها في بيته يمنحه الحق في امتالكها. ِ
ضعفها فحس َ
ــ طمع بها الحقير .ولوال تلك الدعوة التي جعلتني أنفرد بها بضع دقائق
لما علمت باألمر.
ــ ليكن الله في عونها.
ــ لقد أنقذتُها.
ــ أحسنت ،إنه فعل بطولي.
ــ ربما تكون مأساتها أخف من مأساة غيرها من النازحات اللواتي فقدن
أزواجهن.
ــ اللعنة على الذين تس ّببوا في هذه الكارثة.
ــ بل خرا عليهم كما تقول أمي.
أوصيت النادل أن يسقينا فنجانين قهوة ،ثم أعلمت عمران بموضوع
151
فشجعني على البحث فيه ،بل أكثر من ذلك
رسالة الماجستير الذي اخترتهّ ،
قال «إنه يتّسق تما ًمأ وعصبيتك الجديدة».
لم تستفزني عبارته هذه ،فقد سبق أن سمعت منه عبارات مشابه ًة ،لكني
محاججا:
ً لم أفسح له المجال لقول المزيد ،قلت له
يتعصب إلى انتمائه اإلثني هذه األيام وإنما ماليين
لست وحدي َمن ّ
ــ ُ
الناس في البلد كما تعرف ،وثمة َمن يعتصمون بوالءات ضيقة تتقلص
مظهرا فرع ًيا.
ً لدى بعضهم لتأخذ
ألقى نظر ًة خاطف ًة على ساعته ثم قال:
ــ ال أخالفك ،هذا هو واقع الحال.
شعرت بشيء من الزهو فابتسمت له ،ونهضت واتجهت إلى سياج
المقهى المطل على البحر .اتكأت عليه ورحت أتط ّلع إلى القوارب
والزوارق التي تشق عباب الماء .كان أحد القوارب ،وهو يشبه المركب
حجما ومزود بمحرك ،يقترب إلى األعمدة ً اآلشوري ،لكنه أصغر
الخرسانية التي تدعم باحة المقهى حتى خلت أنه سيصطدم بها ،إالّ أنه
سرعان ما أبطأ وغ ّير اتجاهه ،ثم استدار ورجع على األثر ،مخ ّل ًفا وراءه
ٍ
أغان حلقات من الزبد .كان على متنه بضعة ش ّبان يرقصون على أنغام
محل ّية ،فهطلت على رأسي فكرة مثل زخة مطر مباغتة .ناديت عمران من
فوري:
ــ تعال أنظر.
جاء مستغر ًبا:
152
خيرا؟
ــ ً
أشرت إلى البحر:
ــ أال يبعث في النفس بهج ًة؟
ــ طب ًعا .لكن ما الجديد في األمر؟
ــ خامرتني فكرة ،لكني لن أطلعك عليها اآلن ،سأفاجئك بها في ما بعد.
ــ كما تشاء.
153
21
في أواخر تشرين الثاني ،قرع الشتاء أبواب أرابخا مبك ًّرا ،وجرت مناقشة
ضاج بأحداث رهيبة ،تفجيرات واغتياالت دارت
أطروحة عمران نهار يوم ٍّ
حولها األلسن ،وانتهت المناقشة بقرار منحه درجة امتياز.
خشينا يومها أن ُيعلن عن حظر للتجوال في المدينة يحول دون إقامة
احتفال يليق بعمران ،لكن من حسن الحظ لم يحدث ذلك.
أجلت إطالع عمران عليها ،قد حان وهي إقامة
كان أوان الفكرة ،التي ّ
طلب حفلة له على ظهر مركب يجري في البحر ،يشارك فيها جمع من ّ
قسم اآلثار بالكلية ،بينهم أربعة يجيدون الغناء والعزف على آالت موسيقية
بإتقان.
كنت قد هيأت متطلبات الحفلة قبل يومين من دون علم عمران،
مزود ًا بمحرك ،واشتريت
وضعت قائم ًة بالمشاركين ،وأستأجرت مرك ًبا ّ
أوراق زينة ملونة على شكل ورود وقلوب ،واتفقت مع مطعم «القلعة»
إلعداد وجبات طعام سريعة ومشروبات وعصائر وحلوى وفواكه.
بحت بفكرتي لعمران وأنا أقدّ م له باقة زهور وأعانقه مهنّ ًئا ،فاغتبط بها
ُ
علي أن أدعو ُأسرة مارينا وجارتي أسينً ،
قائل إنها فرصة كثيرا ،واقترح ّ
ً
ألن يرى الصبية ،ففاجأته بأن األُسرة موجودة في القاعة ،عدا أسين ،ثم
154
عرفته إليها :السيدة جانيت ،مارينا ابنتها ،وفادي ابنها .وكان أخوه وزوجته
ّ
حاضرين فدعوتهما لالنضمام إلينا.
َ
حين غادرنا الكلية عاتبني عمران ألني لم أحضر أمي معي لتبتهج
بتخرجه ،فهي تك ّن له ولزوجته مود ًة كبيرةً .ضحكت وقلت له:
أحد موعد ذهابها إلى الكنيسة؟
ــ ماذا دهاك ،هل نسيت أن اليوم ّ
ضرب جبينه بباطن كفه ،وص ّفر ً
قائل:
ــ ياه! كيف لم أفطن إلى ذلك؟
دوختك مناقشات األساتذة.
ــ ّ
بعد ساعة كان الجميع يحتفلون على ظهر المركب ،تحت سماء تز ّينها
غيوم شفيفة تصطف على شكل أشرطة متوازية كأنها بلورات جليدية؛
ٍ
أغان تصدح بكل لغات المدينة ،يرافقها عزف على العود مندمجين مع
والساز والمزمار والطبلة ،وما هي إالّ دقائق حتى سرى سحرها في
أجسادهم كالخدر ،فأخذ بعضهم يرقص بانتشاء وحيوية وسط حلقة من
المصفقين ،بينما راح آخرون يرددون مع المغنين أغانيهم وهم يتمايلون
بأجسادهم على مقاعدهم أو واقفين على أقدامهم ،وثمة َمن كانت تربطهم
عالقة غرامية ببعض الطالبات فشرعوا في مغازلتهن.
أحد هؤالء صديقي دلير ،شيوعي مأخوذ بأفكار تروتسكي حول الثورة
ومزاح مدهش ،يحفظ عشرات النكات ،ويلقيها
الدائمة ،ومتمرد وصعلوك ّ
ً
جاعل من سامعيه من دون توقف ،مثل رشاش يقذف الرصاص متتال ًيا؛
يستغرقون في ضحك متواصل .كان يبدو في غاية االنتعاش ،أظنه شرب
155
يفوت فرص ًة مثل هذه دون أن يكون قد خ ّبأ ربع قارورة
كأسا ،فهو غال ًبا ما ال ّ
ً
في حقيبته .وكان يضع ذراعه على كتف طالبة جميلة ،ينسدل شعرها بحرية
غمازتها بشاهد يده األخرى بين لحظة وأخرى،
حتى خصرها ،ويلمس ّ
ويهمس في أذنها ،في حين كانت البنت تزوي ما بين حاجبيها ،وتبدو على
وجهها أمارات الخجل.
وثمة طالب آخر ُيدعى جليل ،قصير القامة ،ذو فم ممطوط كأنه فم
ضفدع ،يعتمر قبع ًة مائل ًة إلى ما فوق حاجبيه ،وجهه ٍ
خال من أي تعبير،
عدا عينيه النهمتين الشبيهتين بعيني ماعزُ ،يشاع عنه أنه ليس سليم الطوية،
والتلون ،على النقيض من اسمه ،ترافقه طالبة أقصرّ أ ّفاك كثير المخاتلة
مدور ،وشعر قصير جعد كأنه كيس ورق عتيق ،وصدر كبير منه ،ذات وجه ّ
مندفع إلى األمام تحت بلوزتها إلى درجة يكاد يشبه حدب ًة ،تز ّين عنقها
قالدة زائفة ،وتستنشق وردة جوري في يدها ،وترتسم على مح ّياها ابتسامة
تعبيرا عن سرورها بعبارات التشبب التي يناجيها بها ،وكأنها جاءت
الرضا ً
لتحقيق هذا الهدف دون سواه ،حيث يبدو من إيماءاتها وحركاتها بر ّمتها
أنها ظمأى للغزل ،وسهلة االنزالق في المشاعر.
مدونًا في قائمة المشاركين
لم تكن تربطني بجليل عالقة ،ولم يكن اسمه ّ
حشرا ،واصطحب معه البنت المسالمة التي ً في الحفلة ،لكنه حشر نفسه
تشبه بط ًة داجن ًة ،وكأني به خطط إلغوائها بعد انتهاء الحفلة ،فراح يسمعها
ً
معسول. كال ًما
جل اهتمامي منص ًّبا على مارينا وأمها .كانت الصبية أما أنا فقد كان ّ
ترفل في حلة السعادة ،ال تفارق االبتسامة وجهها ،متألق ًة بفستانها األزرق
أخا ًذا من زجاجة
عطرا ّ
المخضر الذي اشتريته لها ،وقد رشت على رقبتها ً
ّ
156
أهديتها لها ونحن ندلف إلى المركب ،وأخذت تتمايل وإيقاع الموسيقى
مثل اآلخرين ،لكن بخفر ،فشعرت كأني على عتبة الفردوس ،ووددت أن
أحتضنها أمام الجميع ،وأطبع قبل ًة على شفتيها ،ثم أرفعها بكلتا ّ
يدي وأديم
النظر إليها حتى األبد.
تكف عن اختالس النظر
ّ الحظت احدى الطالبات ،اسمها ليندا ،ال
إلي بعينين فيهما غواية مستميتة ،حتى وهي ترقص ،كلما دنوت من مارينا
ّ
وأمها ،فاستغربت من فضولها .كانت ترتدي تنور ًة حمراء تنتهي إلى
ركبتيها ،وكنزة جينز زرقاء قصيرة ال تغطي عجيزتها المس ّطحة ،ولم يكن
لها محيط خصر كأنها رجل .قصدتها حين أنهت رقصتها واستفسرت منها
عما إذا كانت تضمر في نفسها شي ًئا ،ارتبكت في البداية ثم قالت:
ــ لفتت انتباهي الصبية ،هل هي أختك؟
ــ ال ،إنها خطيبتي.
انتابتها الدهشة:
عذرا لتدخلي ،تبدو مراهق ًة.
ــ خطيبتك؟ يا يسوع! إنهاً ،
ــ هذا أفضل ،عمرها 16عا ًما.
ر ّدت بشيء من االمتعاض:
ــ لكنها قاصر ،دمية.
ــ هذه الدمية ينبوع سعادة ال ينضب.
ــ هل نلتها؟
157
ــ احفظي لسانك.
ــ ظننتك...
أردت أن أستثيرها فقاطعتها:
ــ ال أميل إلى اللواتي في سنّك.
رمقتني باستهجان:
ــ أنا أصغر منك بسنتين.
ِ
عرفت سنّي؟ ــ كيف
ــ عرفته من وداد.
ــ آه ،وداد تعرف طب ًعا ألنها زميلتي في الماجستير.
أيضا سأقدّ م للماجستير.
ــ أنا ً
ــ سأدعوك إ ًذا إلى حفلة عرسي بعد تخرجي ،هل ستحضرين؟
تصنّعت ابتسام ًة ،ووضعت سا ًقا على ساق وقالت:
ــ ال أدري ،سأفكّر.
لم تدخل ليندا بعدئذ حلقة الرقص قط ،ظلت منكفئ ًة على نفسها .ال
أعرف شي ًئا عنها سوى أنها سريانية في المرحلة الثالثة بقسم اآلثار ،سبق
لي أن لمحتها مرتين أو ثال ًثا في مكتبة الكلية ،وقد دعتها وداد لحضور
الحفلة.
كان عمران يجلس لصق زوجته رباب مسترخ ًيا على مقعده مثل ملك
متوج ،لكنه بدا متع ًبا .تقدّ مت إليهما ،وسألت:
ّ
158
ــ لم أسمع رأيكما في مارينا ،أليست جميل ًة؟
ر ّدت رباب بحبور ممتزج بدهشة:
ــ جميلة فقط! مالك ما شاء الله ،تأخذ العقل.
وتثاءب عمران وقال:
فعل ،إنها مزيج من الفتنة والبراءة خليقة بأن تتو ّله بها وتهبها خالصة
ــ ً
نفسك.
ألقيت نظر ًة خاطف ًة على مارينا ،وقلت لعمران:
ــ عندي فكرة.
ــ هاتِها.
نيلي
ــ ما رأيك أن أعمل حفلة الزفاف على متن هذا المركب بعد َ
الشهادة ،ويكون لون بدلتينا أنا ومارينا رصاص ًّيا بلون البحر؟
أجاب مستغر ًبا:
ــ أهووو! لِ َم أنت عجول تقدّ م العربة على الحصان؟ أخطب ً
أول ثم
فكّر في الزفاف.
قلت:
ــ الخطوبة مضمونة.
ــ ومراسم الزواج في الكنيسة؟
ــ نعملها ً
أول ثم نكملها في المركب.
159
ــ هل استلهمت الفكرة اآلن من الحفلة؟
ــ ال ،راودتني منذ مدة ،ألهمنيها االبحر.
ــ أنت تستلهم كل أوهامك منه ..ينقصك أن تكون مارينا خارج ًة من
أعماقه مثل حورية بحر.
ــ ليتها كذلك.
شاعرا ال
ً ــ يا لسطوته على رأسك كأنك توأمه .أنت تصلح أن تكون
روائ ًّيا.
ــ في عالقتي به فقط.
أيضا.
ــ وبالصبايا الجميالت ً
ــ معنى ذلك أنني ربما أتحول إلى شاعر .لكن ماذا عنك أنت؟
ــ أنا؟ ال أصلح إالّ لنبش الماضي.
ــ ليس هذا ما أعنيه ،بل عالقتك بالبحر ،تتحدث وكأنك لست مول ًعا
به!
ــ ليس مثل ولعك.
ــ ألم تقل لي ذات يوم أنك تآخيت مع الماء منذ الصغر؟
ــ بلى ،غير أنه ال يوسوس في صدري مثلك ،وال أستبعد أن تلقى حتفك
بين لججه يو ًما ما فتزدردك إحدى آ ّفاته.
ــ أليس ذلك أفضل من أن يأكل الدود لحمي في جحر من األرض؟
بعد انقضاء ساعتين من البهجة ،التي أضفت عليها نسائم البحر بها ًء،
160
أن النعاس أطفأ عمران تما ًما .أشارت لي زوجته بيدها إشار ًة الحظت ّ
فهمت منها أنه ال بدّ أن يرتاح إثر يوم حافل بالتعب .هززت رأسي مواف ًقا
وقصدت قائد المركب وأبلغته بأننا اكتفينا ونريد العودة .كان الرجل متع ًبا
أيضا ،فغ ّير اتجاه المركب ،ومضى به صوب المرفأ .عندما صرنا على بعد
ً
نحو مائتي متر عنه انتفضت جانيت كالنابض ،وأفلتت من فمها عبارةً ،بنبرة
يغلب عليها الفزع:
ــ َويلي يا نينوس ،أنظر هناك..
ــ ماذا؟
ــ يونس على الرصيف!
ً
رجل يذرع أرسلت بصري إلى الناحية التي أشارت إليها فرأيت
الرصيف بمشية شبه عسكرية ،ويتلفت إلى البحر تار ًة وإلى القلعة تار ًة
أخرى .افترضت أنه يونس بالفعل ،أوصافه تنطبق عليه تما ًما :القامة
الطويلة والشعر الخفيف الذي تهدّ ده بداية صلع ،لكن من حسن الحظ
كانت المسافة التي تفصلنا عنه بعيد ًة تحول دون تمكّنه من تمييز األشخاص
على متن المركب ،الذين ينوف عددهم على الثالثين ،فأسرعت إلى قائد
المركب وطلبت منه أن يغ ّير اتجاهه ويعود إلى الوراء ،ووعدته بأن أزيد
أجرته .استجاب الرجل من غير أن يسألني عن السبب ،فص ّفق بعض
المحتفلين ظنًا منهم أنني أردت إطالة أمد الحفلة ،أما جانيت ومارينا
وفادي فتركوا مقاعدهم وجلسوا على أرض المركب هلعين ،ملتمسين
أخفاء أنفسهم ،واستسلم عمران إلى إغفاءة على كتف زوجته ،ال يعرف
شي ًئا عن األمر.
161
«كيف جاء هذا السافل إلى المرفأ؟ تساءلت «أهي محض مصادفة أم أنه
ِ
علم بوجودنا؟» .كان بودي لو أني أحمل إذ ذاك منظاري ألتأكد منه وأقطع
الشك باليقين ،لكن لم يخطر في بالي أننا سنواجه مثل هذا الموقف .قلت
لنفسي «لِ َم ال أسأل قائد المركب فلربما لديه واحد؟» ،قال «إي ،عندي
يقرب األشياء أضعاف المرات» ،ثم أمر مساعده بأن يفتحمنظار ألماني ّ
خزان ًة خلفه ويستخرجه لي.
حركت قرص التقريب
عيني وشرعت أنظرّ .
التقطته منه ووضعته على ّ
إلى أقصى مداه فإذا بي أفاجأ بأن الشخص الذي عنته جانيت ليس يونس،
بل شخص آخر يشبهه ،خاص ًة عندما توقف عن المشي وأدار جسمه ً
كامل
صوب البحر .داخلني شعور باالرتياح ،وشكرت قائد المركب ورجوته أن
يعود إلى المرفأ .لكنه سألني هذه المرة عما إذا كنت قد شككت في وجود
شخصا على
ً مشكلة أو أمر مزعج بانتظاري ،أجبت «تصورت أني رأيت
رصيف المرفأ ال أرغب في رؤيته ،لكن تبين أنه ليس الشخص ذاته ..أنا
آسف» .وبدا لي جوابي أنه الجواب الوحيد المعقول.
رجعت إلى جانيت ومارينا مته ّلل الوجه وأخبرتهما بما رأيت ،فتنهدتا
وانزاحت عنهما تعابير القلق في الحال ،ثم نهضتا وجلستا على مقعديهما،
في حين انتصب فادي واق ًفاّ ،
ومس شعره بأصابعه ،وراح يسدّ د نظره إلى
جهة القلعة ،حيث بدت تحت ظالل الغيوم كأنها لوحة تكعيبية مخططة
باألبيض واألسود ،فأعادني منظره إلى صباي ،وأخذني الحنين إلى ذلك
اعتليت فيه ظهر المركب السياحي ،أول مرة ،صحبة أبي.
ُ اليوم الذي
دنوت من فادي وطبطبت على كتفه ،وأشرت إلى القلعة:
162
ــ كم هي جميلة حين تنظر إليها من البحر.
ــ إنها تذكّرني بقلعة باشطابيا في الموصل.
أردت أن أعلمه بأن اإلرهابيين د ّمروا تلك القلعة قبل سنة ،إالّ أني
أعرضت عن ذلك لئال ّ
أهشم صورتها في ذاكرته وأسبب له حزنًا ،وقلت:
ــ هذه أقدم بكثير من قلعة باشطابيا ،وكان الناس يسكنونها إلى عهد
قريب.
ــ أو ّد أن أطل منها على منظر البحر.
ــ سآخذك إليها في عيد ميالدك.
وهم باحتضاني ،متل ّف ًظا بعبارات الشكر ،لك ّن
فرحا ّ
شع وجه فادي ًّ
حد ًثا مري ًعا وقع في تلك اللحظة لم يشهد البحر ً
مثيل له مذ بدأت عالقتي
دوى انفجار رهيب ،صحبه انكسار في سكون الهواء واضطراب
به .لقد ّ
التفت إلى الجهة التي بلغنا منها
ُّ كأن عاصف ًة تالعبت بالبحر.
في الموج ّ
صوت االنفجار فإذا بي أبصر يختًا تشتعل فيه النار ،وقد تناثرت أشالء
منه على سطح الماء .كان ذلك اليخت قد مر من جنبنا قبل ٍ
ثوان مبط ًئا في ّ
سيره ،وخلفه زورق حماية على متنه مس ّلحون ،لكن ال أحد منا تمكّن من
رؤية األشخاص الذين يستقلون اليخت ،فقد كان سطحه مغطى وزجاج
نوافذه معتمة ،ولم يكن لحظة انفجاره يبعد عن مركبنا أكثر من كيلومتر
واحد.
أصيب جميع رفقائي في المركب بالذعر ،وتعالى صراخهم وزعيقهم،
وانبطح العديد منهم ،خاصة النساء ،على بطونهم هل ًعا ،ووضعوا أكفهم
163
مفخ ًخا ،ال بدّ أن على رؤوسهم .لم يخامرني الشك في ّ
أن اليخت كان ّ
أحدهم زرع فيه حزمة ديناميت ،لذا هرعت من فوري إلى قائد المركب
توج ًسا من وجود يخوت أخرى ّ
مفخخة راسية في وأعجلته بتغيير وجهته ّ
المرفأ ،يمكن تفجيرها عن بعد .بدّ ل الرجل دفة مركبه ،ولكن بشيء من
معاكسا موجاته الزاحفة
ً االستياء هذه المرة ،ومضى به إلى عرض البحر،
صوب الشاطئ كأنها مخلوقات حية مفزوعة.
في تلك األثناء هامت سحابة من ضباب ،أشبه بدغل كثيف ،سرعان
ما تعاظمت ،والحت لنا من داخلها زوارق ذات لون رمادي غامق
أحاطت بالمركب فجأةً ،وحين تميزناها كانت أربع ًة على متنها مس ّلحون
مل ّثمون ،ذوو هيئات غريبةّ ،
وجهوا بنادقهم إلينا ،ونادى أحدهم بمك ّبر
صوت محمول آمر ًا قائد المركب أن يتجه إلى جزيرة صغيرة على مبعدة
بضعة كيلومترات تُدعى «شوشة» .كانت معلوماتي عن تلك الجزيرة أنها
مستعمرة لثعالب وبنات آوى وطيور جارحة .مأل الذعر قلوب الجميع مر ًة
وتسمروا في أماكنهم .أما قائد المركب فقد
ّ أخرى ،إالّ أنهم كتموا أنفاسهم
رضخ لألمر وسار إلى الجزيرة ،بينما سحابة الضباب التي باتت ً
دغل ال
تلم بنا.
تزال ّ
بعد لحظات ،ومن قلب تلك السحابة الهائلة ،عاد حامل مك ّبر الصوت
لينادي ،وقد بات شبحه أكبر مما بدا أول مرة:
ــ اسمعوا جمي ًعا ،ال شأن لنا بكم ،نريد واحدً ا منكم فقط هو نينوس
اآلثوري.
شخصت أبصار َمن في المركب نحوي مشدوه ًة ،عدا مارينا وأمها ،فقد
164
بدت نظرتهما مكتنز ًة برذاذ البحر ،يعتريها قلق موجع ولوعة على أشدّ ها.
وفي السماء ح ّلق سرب من خ ّطاف البحر على ارتفاع قليل؛ ِ
مطل ًقا زقزقات
المتخ ّلى عنها ،أو
يحط على الشاطئ لكنس بقايا الصيد ُ ّ صاخب ًة قبل أن
يغطس في الماء من أجل التقاط األسماك الصغيرة.
من جوف تلك البرهة الغامرة بضبابها ورعبها قفز إلى ذاكرتي حلم
نجاة شميرام من خاطفيها ،وتواريها رفقة البحر في الغمام ،وقلت لنفسي
«إنهم الخاطفون أنفسهم وقد ح ّلوا في أجساد مختلفة ،لكن أنّى لي أن
أتوارى عن عيونهم المتر ّبصة وأنا لست في حلم ،لست أبدً ا في حلم؟».
165