‎⁨توأم البحر - عواد علي⁩

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 168

‫توأم البحر‬

‫عواد عيل‬
‫وزارة الثقافة والسياحة واآلثار‬
‫دار الشؤون الثقافية العامة‬
‫العنوان ـ بغداد ـ األعظمية ـ حي تونس‬
‫الربيد االلكرتوين‪info@darculture.com :‬‬

‫توأم البحر‬
‫تأليف‪ :‬عواد عيل‬
‫موضوع الكتاب‪ :‬رواية‬
‫بغداد ــ ‪2023‬‬

‫املدير العام ورئيس جملس اإلدارة‪ :‬عارف الساعدي‬


‫قياس الكتاب‪cm 21 × 14 :‬‬
‫عدد الصفحات‪168 :‬‬
‫‪ISBN‬‬ ‫الرقم الدويل‪:‬‬
‫رقم اإليداع يف دار الكتب والوثائق ببغداد‪ ) ( :‬لسنة ‪2023‬‬

‫حقـــوق النشـــر حمفوظـة‪ ،‬اليسمح بإعـادة إصـــدار هذا الكتـاب أو أي جـزء منه‪ ،‬أو‬
‫ختزينــه يف نطــاق اســتعادة املعلومــات أو نقلـــه بــأي شــكل مــن األشــكال‪ ،‬مــن دون‬
‫إذن خطــي مــن النــارش‪.‬‬
‫‪All right reserved. No part of this book may be reproduced، stored in a retrieval‬‬
‫‪system، or transmitted in any form or by any means without prior permission‬‬
‫‪in writing of the publisher.‬‬
‫عواد علي‬

‫توأم البحر‬

‫رواية‬

‫بغداد ــ ‪2023‬‬
‫ّ‬
‫«كل من ُولد ً‬
‫رجل عليه أن يتآخى مع البحر منذ الصغر حتى يعرفه»‬
‫جنكيز آيتماتوف‬
‫راع»‬ ‫وصوتي ّ‬
‫والش ْ‬ ‫َ‬ ‫«كان البحر نافذتي‬
‫نوري الجراح‬

‫‪5‬‬
‫‪1‬‬

‫تشهيت الخروج إلى‬


‫مع تباشير الخريف‪ ،‬التي الحت مبكّر ًة هذا العام‪ّ ،‬‬
‫بحر أرابخا الذي ال وجود له على الخارطة‪ .‬لم أهنأ بلقياه منذ منتصف‬
‫الربيع‪ .‬هاج شغفي به‪ ،‬وتحرقت شو ًقا ِ‬
‫لعناقه‪ .‬قررت أن أقصده وأس ّلم‬ ‫ّ‬
‫عليه‪ِ ،‬‬
‫وأعده بأن أظل ملتز ًما ميثاق المحبة بيني وبينه‪ ،‬أواظب على زيارته‪،‬‬
‫ُأصغي إلى رجيف أمواجه‪ ،‬أرتمي في حضنه واستنشق رائحته‪ ،‬وأفضي‬
‫بأسراري إليه‪.‬‬
‫أخذني عنه ً‬
‫أخذا انشغالي بامتحانات السنة التحضيرية للماجستير‪،‬‬
‫ألم به مرض ألزمه الفراش‪ .‬كنت أقضي‬
‫وإدارة محل أبي للساعات حين َّ‬
‫موزع الذهن بين مراجعة دروسي وتلبية طلبات الزبائن‪ ،‬هذا يريد‬
‫وقتي َّ‬
‫زاعما‬
‫ً‬ ‫إصالح ساعته المع ّطلة‪ ،‬وذاك يريد أن يبيعني ساعة روليكس مق ّلد ًة‬
‫أنها أصلية‪ ،‬وثالث يطلب ساعة جيب سويسري ًة َ‬
‫لجدّ ه‪ ،‬ورابع يريد استبدال‬
‫زجاج ساعته المتصدع‪ ،‬وخامس يسأل عن ساعة عليها صورة زعيم راحل‪،‬‬
‫يتسرب الماء إليها أثناء استحمامه ّن‪.‬‬
‫وفتيات يبحثن عن ساعات يدوية ال ّ‬
‫الحق أنني كنت ّ‬
‫ألتذ بالحديث مع الجميالت منه ّن عن ذلك األمر‪،‬‬ ‫ّ‬
‫أتخ ّيل أجساده ّن تحت الدوش‪ ،‬وانحدار رغوة الصابون‪ ،‬الشبيهة بزبد‬
‫متعرجة‪.‬‬
‫البحر‪ ،‬من أعناقه ّن إلى صدوره ّن وأردافه ّن في خطوط ّ‬

‫‪7‬‬
‫أحيانًأ كنت ُأبتلى بزبائن مزعجين ال ُيطاقون‪ .‬ذات مرة جاءتني امرأتان‪،‬‬
‫واحدة بيضاء قدّ رت عمرها بين الخامسة والثالثين واألربعين‪ ،‬ذات بنية‬
‫بدينة‪ ،‬وشفتين منتفختين‪ ،‬ووجنتين ملطختين بحمرة فاقعة‪ ،‬ونظرات‬
‫مخاتلة‪ ،‬والثانية ذات بشرة سمراء غامقة نحيلة للغاية كأن في بطنها ديدان‪،‬‬
‫هزيلة الوجه‪ ،‬شفتاها بلون التوت الداكن‪ ،‬تع ّلق على كتفها حقيب ًة مر ّقط ًة‬
‫تشبه جلد نمر‪ .‬كانت سحنتاهما تنبئان بأنهما عاهرتان مبتذلتان‪ ،‬فوجدت‬
‫علي أن أكون يق ًظا وأراقبهما جيدً ا‪ ،‬فالنساء على شاكلتهما عديمات‬
‫لزا ًما ّ‬
‫يتورعن عن السرقة‪.‬‬
‫الحياء‪ ،‬وال ّ‬
‫تسرني‬
‫اقتربت مني السمراء‪ ،‬وأحنت رأسها تجاهي كأنها تريد أن ّ‬
‫بشيء‪ ،‬فأفغمت رائحة عطرها الرخيص أنفي‪ ،‬وسألتني بنبرة غنجة‪:‬‬
‫ــ هل أجد عندك سيجارة ح ّبوب؟‬
‫تراجعت إلى الوراء‪:‬‬
‫ُ‬
‫ــ آسف ال أدخن‪.‬‬
‫تصنّعت االمتعاض وتوجهت صوب رف زجاجي مخصص للساعات‬
‫الرجالية خلف ظهر صاحبتها البدينة‪ .‬وبعد هنيهة سحبت ساع ًة ّ‬
‫ولوحت‬
‫بها‪:‬‬
‫ــ ح ّبوب‪ ،‬بكم تبيع هذه الساعة؟‬
‫ــ هذه رجالية‪.‬‬
‫مررت راحة كفها على شفتيها وقالت‪:‬‬
‫ّ‬
‫ــ أعرف‪ ،‬أريد أن أشتريها لزوجي‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫ــ تسعون ألف‪.‬‬
‫شهقت‪:‬‬
‫ــ هل أنت جاد؟‬
‫ــ ولِ َم أمزح؟‬
‫أوي! أنت «مغلواني» جدً ا‪.‬‬
‫ــ ْ‬
‫ــ هذا سعرها‪.‬‬
‫أما البدينة فقد ارتدت ساع ًة نسائي ًة في معصمها‪ ،‬ومدّ ت ذراعها إلى‬
‫وجهي حتى المست أناملها ذقني‪ ،‬ثم مالت بجذعها إلى األمام‪ ،‬وفتحت‬
‫مترهلين‪ ،‬وسألتني‬
‫ّ‬ ‫بيدها األخرى الزر العلوي لقميصها‪ ،‬فبان ثدياها‬
‫بصوت متحذلق ممطوط إن كانت الساعة تنسجم مع قالدتها وخاتمها‪ ،‬في‬
‫حين حجب جسدها عني رفيقتها النحيلة‪ .‬أدركت على الفور أنها تحاول‬
‫فأزحت ذراعها بسرعة وأفشلت خ ّطتها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫إلهائي ليتسنى للثانية أن تسرق‪،‬‬
‫تعبيرا قاس ًيا‪ ،‬واضطرمت في‬
‫أثارت حركتي حنقها‪ ،‬فرسمت على وجهها ً‬
‫واتنزعت الساعة من معصمها ووضعتها في يدي بشدة‪،‬‬
‫ْ‬ ‫عينيها نار صفراء‪،‬‬
‫ورفعت عقيرتها زاعق ًة‪:‬‬
‫خسيس ال تحترم زبائنك‪.‬‬
‫ــ خذها‪ ،‬خرا عليك وعلى ساعتك‪ ،‬أنت ّ‬
‫وجرتها بانزعاج‪ ،‬وثغثغت بكالم‬
‫ّ‬ ‫ثم أمسكت صاحبتها من ساعدها‬
‫بالكاد فهمت منه‪:‬‬
‫ِ‬
‫عليك أن تختاري هذا المحل الزبالة لنشتري‬ ‫ــ ِ‬
‫أنت السبب‪ ،‬ما كان‬
‫منه؟‬

‫‪9‬‬
‫ش ّيعتهما بهزة من رأسي‪ ،‬من دون أن أنطق بكلمة تجن ًبا لحدوث مشادة‬
‫قد تدفعهما إلى افتعال فضيحة‪ ،‬وما إن بلغتا الباب حتى استدارت البدينة‬
‫ناحيتي ومدّ ت لسانها بطريقة شائنة‪ .‬كتمت غيضي‪ ،‬وأشفقت عليها «بائسة‪،‬‬
‫بارت حرفتها فتحولت إلى ّ‬
‫نشالة»‪.‬‬

‫وحدث أن أتى مر ًة رجل خمسيني ذو لحية‪ ،‬وجهه غامض محاط‬


‫بالكتمان‪ ،‬يضع على عينيه ن ّظارات شمسي ًة معتم ًة‪ ،‬ويعتمر عمام ًة‪ ،‬وفي يده‬
‫مسبحة طويلة‪ ،‬ما يوحي للرائي أنه رجل دين‪ ،‬وخلفه امرأة تغطي وجهها‬
‫بنقاب‪ .‬لك ّن ما أثار ريبتي حذاؤه ذو المقدمة المدببة‪ ،‬الشاذ تما ًما عن‬
‫هندامه وعمامته‪.‬‬

‫أخرج من جيبه هات ًفا خلو ًّيا حدي ًثا من نوع آيفون‪ ،‬وسألني بصوت فيه‬
‫كنت أرغب في مقايضته بساعة روتري حتى لو كان سعرها نصف‬
‫خنّة إن ُ‬
‫سعر الهاتف‪ .‬لحظتئذ ث ُبتَت ريبتي فيه‪ ،‬وأيقنت أنه لص‪ ،‬فاعتذرت منه‪ ،‬بيد‬
‫لمح فيها إلى الصليب في رقبتي‪،‬‬
‫أنه امتعض وتلفظ ببعض كلمات وقحة‪ّ ،‬‬
‫خرجت من منخريه مع دفقة هواء‪ ،‬ثم انصرف‪.‬‬
‫ً‬
‫بنطال ضي ًقا ذا‬ ‫وفي مرة ثالثة دخل إلى المحل شاب نحيل أملط‪ ،‬يلبس‬
‫وسوارا في‬
‫ً‬ ‫خصر واطئ‪ ،‬يظِهر شي ًئا من سرواله الداخلي‪ ،‬وطو ًقا في عنقه‬
‫معصمه‪ .‬نظر إلى أرفف الساعات‪ ،‬وسألني بجرس أنثوي‪:‬‬

‫ــ واو! هل ما زال الناس يشترون الساعات في زمن الموبايل؟‬

‫قلت‪:‬‬

‫ــ إذا كان موديلها قد انتهى فلماذ ال نغير المحل إلى مطعم فالفل؟‬

‫‪10‬‬
‫ــ أنت سريع الزعل‪ ،‬حسبتك شا ًبا سبورتي!‬
‫ــ طيب‪ ،‬لست زعالن‪ ،‬بماذا أخدمك؟‬
‫داعي‪ ،‬أنت لست من النوع الذي في بالي‪ ،‬باي‪.‬‬
‫ــ كنت أود أن‪ ...‬لكن ال َ‬
‫صحت به‪:‬‬
‫ــ تعال‪ ،‬ماذا في بالك؟‬
‫رفع يده‪:‬‬
‫إنس‪ ،‬أنت ال تميل إلى‪...‬‬
‫ــ َ‬
‫ــ إلى ماذا؟‬
‫ــ باي‪.‬‬
‫أخفيت عن أبي ما جرى لي مع العاهرتين والشاب المخنّث‪ ،‬وأطلعته‬
‫على قصة الرجل ذي العمامة‪ ،‬فضحك وقال «أعرفه‪ ،‬كان موظ ًفا ساب ًقا في‬
‫األوقاف و ُطرد بسبب سرقاته العديدة»‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫‪2‬‬

‫خمسا وعشرين شمع ًة من عمري‪ ،‬لكني أشعر‬


‫في الشتاء الفائت أطفأت ً‬
‫أحيانًا بأني أصغر من ذلك بكثير‪ ،‬كأني ولدت قبل سبعة عشر عا ًما‪ ،‬يوم‬
‫دخلت أول مرة بحر أرابخا المنسي‪.‬‬
‫ُ‬
‫أصطحبني أبي في رحلة ترفيه ّية على متن مركب سياحي‪ ،‬رفقة جمع من‬
‫أقاربنا ومعارفه‪ ،‬رجال ونساء وأطفال‪ ،‬في عيد الغ ّطاس‪ ،‬ذكرى معمودية‬
‫يسوع على يد يوحنّا المعمدان‪ .‬لم أكن أعرف أحدً ا من األطفال سوى‬
‫اثنين‪ ،‬أحدهما جون ابن خالتي والثاني ميخائيل ابن جارنا في السكن‪ .‬كان‬
‫ينث الثلج ببطء على شكل خيوط دقيقة‪ ،‬إالّ أن الجميع احتاط‬
‫قارسا ّ‬
‫الجو ً‬
‫من البرد بمعاطف أو قماصل مبطنة بالفرو‪.‬‬

‫أذكر أن أبي قال لي «في هذا اليوم انفتحت السموات‪ ،‬وانطلق صوت‬
‫ينادي هذا هو ابني الحبيب فله اسمعوا»‪ .‬كان أبي آنذاك على شيء من‬
‫التد ّين‪ ،‬لكنه تغ ّير بعد سنوات‪ .‬وبينما كان المركب يقترب من المرفأ‪ ،‬أثناء‬
‫عودتنا‪ ،‬ألقى رجل‪ ،‬يرتدي ردا ًء كهنوت ًّيا‪ ،‬صلي ًبا في الماء‪ ،‬وطبطب على‬
‫عجل»‪ .‬نضى الشاب معطفه وألقى به‬
‫ظهر أحد الش ّبان كأنما يقول له «ه ّيا ّ‬
‫إلى سيدة واقفة على يمينه‪ ،‬وكان يرتدي تحته لباس البحر‪ ،‬ثم رسم عالمة‬
‫المصلوب وقفز إلى الماء‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫لم أفهم مغزى ذلك‪ ،‬حسبته لعب ًة‪ ،‬ولبثت فاغر الفم‪ ،‬مرتع ًبا‪ ،‬خشية أن‬
‫يغرق الشاب‪ ،‬لكن أبي طمأنني‪:‬‬
‫ومدرب على‬
‫َّ‬ ‫عوام ماهر‬
‫ــ ال تخف‪ ،‬إنه طقس أرثوذكسي‪ ،‬الشاب ّ‬
‫الغطس‪ ،‬سيلتقط الصليب من دون إبطاء كما يلتقط الخ ّباز الشعرة من‬
‫العجين‪.‬‬
‫ــ أال تفترسه أسماك القرش؟‬
‫ــ أسماك القرش ال تقترب من الشاطئ إالّ إذا جرى استفزازها‪ ،‬أو‬
‫شمت رائحة الدم‪.‬‬
‫ّ‬
‫متمسكًا بمعصم أبي‪ ،‬ال تفارق عيناي‬
‫ّ‬ ‫تالشى خوفي ً‬
‫قليل‪ ،‬وبقيت‬
‫ملو ًحا بالصليب‪،‬‬
‫الماء‪ ،‬وما إن انقضت دقائق حتى أخرج الشاب رأسه ّ‬
‫وصار يسبح صوب الشاطئ‪.‬‬
‫أدهشني في حينها امتداد البحر على مدى البصر‪ ،‬حسبته من دون‬
‫نهاية مثل السماء‪ ،‬وله روح مثل الكائنات الحية‪ ،‬ينام‪ ،‬ويأكل‪ ،‬ويضحك‪،‬‬
‫ويمرض‪ ،‬ويجلس القرفصاء‪ ،‬ويغريني بأن أعقد معه صداق ًة أزلي ًة‪ .‬بعدئذ‬
‫صرت مسكونًا به‪ ،‬ال أستطيع منه فكاكًا‪ ،‬يالزمني‪ ،‬يتراءى لي في أحالمي‬
‫بين الفينة والفينة‪ ،‬وفي بعض األحالم كان يتحول إلى سرير مائل أستلقي‬
‫عليه‪ ،‬دون أن ينزاح جسدي عنه‪ ،‬وكأنه صفيحة مغناطيسية وأنا قطعة حديد‪.‬‬
‫في المدرسة أصبح البحر موضوعي األثير خالل حصة الرسم‪ ،‬ما إن‬
‫منظرا‬
‫يقترح المعلم على التالميذ رسم منظر طبيعي حتى أستحضر ال إراد ًّيا ً‬
‫للبحر مفتوح األفق‪ ،‬وأهب السماء لونه الرصاصي الفاتح‪ .‬وفي كل مرة‬
‫كنت أجعل فوق أمواجه سفين ًة أو مرك ًبا شراع ًّيا‪ ،‬أو أستنبت على سطحه‬

‫‪13‬‬
‫زوارق صغير ًة ذات ألوان مختلفة تشبه الزنابق‪ .‬ليس هذا فحسب‪ ،‬بل ك ّلما‬
‫نفضله في رحلتنا المدرسية‬
‫الصف عن المكان الذي ّ‬
‫كان يسألنا مرشد ّ‬
‫خمن‬
‫ألح‪ ،‬على أن يكون شاطئ البحر‪ ،‬وبسبب ذلك ّ‬
‫كنت أقترح‪ ،‬وأحيانًا ّ‬
‫بح ًارا‪ .‬أما زمالئي فقد كانوا يسمعونني تعليقات‬
‫أنني سأنتهي إلى أن أكون ّ‬
‫غريب ًة‪ ،‬فريق يقول إنني سأصبح عالِم بحار ومحيطات‪ ،‬وفريق آخر يقول‬
‫إنني سأصبح ضاب ًطا بحر ًّيا‪ .‬ميخائيل الملعون فقط ّ‬
‫شذ عنهم‪ ،‬ظل مد ًة‬
‫يردد بخبث أنني سأكون ص ّياد سمك‪ .‬زعلت منه بالطبع وقاطعته وصرت‬
‫أرفض أن يرافقني إلى المدرسة‪ ،‬أو يسير معي أثناء إيابنا‪ ،‬ولم أغفر له إالّ‬
‫بعد أن أتى إلى شقتنا صحبة أبيه واعتذر مني‪ .‬بعدئذ راح يتم ّلقني‪ ،‬ويتمنى‬
‫مهندسا بحر ًّيا‪ .‬سألته‪:‬‬
‫ً‬ ‫لي أن أكون‬
‫ــ هل تعرف ماذا يعمل المهندس البحري؟‬
‫لم ِ‬
‫يحر جوا ًبا‪.‬‬
‫ــ لِ َم تتمنى لي أن أكونه إ ًذا؟‬
‫ــ أبي ل ّقنني‪.‬‬
‫ماهرا‪ ،‬وكلدان ًّيا محتر ًما‪ ،‬كريم‬
‫ً‬ ‫كان أبوه جورج ميكانيكي س ّيارات‬
‫النفس‪ ،‬يقدّ مه أبي على جميع أصدقائه‪ ،‬ولم يكن يحلو له السهر إالّ معه‪،‬‬
‫تار ًة عنده وتار ًة عندنا‪ ،‬وفي أحيان متباعدة كانا يترافقان إلى بيت صديق‬
‫ثالث في نفس الحي الذي نقيم فيه‪ ،‬رغم اعتراضات أمي‪ ،‬يذهبان ويعودان‬
‫وكثيرا ما كان العم جورج يص ّلح عطالت سيارتنا من‬
‫ً‬ ‫سيرا على أقدامهما‪،‬‬
‫ً‬
‫غير مقابل‪ ،‬قبل أن يترك أبي السياقة إثر حادث اصطدام ارتكبه في ليلة‬
‫شتائية مثلجة‪ ،‬ونجونا منه بأعجوبة‪ .‬لكن تلك قصة سأحكيها في ما بعد‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫حين بلغت س ّن الشباب أخذت أمضي إلى البحر من دون انقطاع‪ .‬أشعر‬
‫بأنه يدعوني يوم ًيا إلى حدّ خلت أنني أنحدر من سلف كان طوطمهم أحد‬
‫مخلوقاته‪ ،‬وأن الفردوس التي يغرينا بها الله عائمة على سطح البحر‪ .‬لم‬
‫الصيف‪ ،‬وال الصقيع‪ ،‬وال الهواء الذع البرودة في منعي من‬
‫ّ‬ ‫يفلح هجير‬
‫علي‪.‬‬
‫الذهاب إليه‪ ،‬أو إخماد جذوة عشقي له‪ ،‬أو ردع سطوته ّ‬
‫كان الشاطئ وقتها يبعد ثالثة كيلومترات عن الحي الذي نسكن فيه‪،‬‬
‫ً‬
‫راجل أو بسيارة أجرة‪ ،‬أما اليوم فهو على بعد سبعة كيلومترات عن‬ ‫أقصده‬
‫الحي الذي انتقلنا إليه‪.‬‬
‫قي تلك السن‪ ،‬صرت أتمنى أن أغوص إلى أعماق البحر لرؤية أشكال‬
‫الحياة فيها‪ ،‬وسبر أغوارها‪ ،‬واستجالء مكامن أسرارها العظيمة الشأن‪،‬‬
‫وأحظى بمشاهدة العروض المذهلة لألسماك ذات األلوان الزاهية‪ ،‬التي‬
‫اعتاد الغواصون على تسميتها «الراقصات اإلسبانيات» ألن عروضها‬
‫تذكّرهم برقصة الفالمنكو الشهيرة‪ ،‬رغم أنها تؤديها وقت الهروب من‬
‫الكائنات البحرية المفترسة‪.‬‬
‫دفعني ولعي بالبحر إلى مشاهدة كل ما يقع في يدي من أفالم تجري‬
‫أحداثها على شواطئه أو على سطحه أو في باطنه‪ ،‬وقراءة الكتب التي‬
‫تتحدث عن عالمه‪ .‬كنت أشتري بعضها‪ ،‬وأستعير بعضها اآلخر من المكتبة‬
‫تجهز لي مجموعة روايات‪،‬‬
‫العامة‪ ،‬حتى أن أمينتها‪ ،‬السيدة شرمين‪ ،‬كانت ّ‬
‫حسب ذائقتها‪ ،‬معتقد ًة أنها تلبي رغبتي‪ ،‬قبل أن يحل موعد ذهابي إليها‬
‫قسما منها على ٍ‬
‫نحو مفرط‪،‬‬ ‫مر ًة أو مرتين في الشهر‪ .‬أحيانًا كانت تمتدح ً‬
‫قرأت مقاالت عنها في مجلة أو صحيفة‪ .‬والحق‬
‫ْ‬ ‫خاص ًة تلك التي قرأتَها أو‬
‫مرات أخرى‪ .‬أصابت في مدح بعضها‪،‬‬‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫مرات وتبالغ‬ ‫أنها كانت تصدق‬

‫‪15‬‬
‫َ‬
‫يحظ البحر فيها بالصورة اإلبداعية‬ ‫وأخفقت في إطرائها على روايات لم‬
‫التي يستحق‪.‬‬
‫من أجمل ما قرأت تخ ّيالت األدباء أن للبحر ألوانًا عديد ًة مثل ألوان‬
‫أسماكه ونباتاته‪ ،‬رماد ًّيا عند انبالج الفجر‪ ،‬أبيض في الصباح مثل النوارس‪،‬‬
‫أزرق في الظهيرة مثل السماء‪ ،‬الزورد ًيا في العصر‪ ،‬أصفر أثناء الغسق مثل‬
‫لون الياقوت‪ ،‬وأسود في الليل مثل قطرات الجحيم‪ ،‬وثمة ضوء أخضر‬
‫ثواني قالئل فقط‪ ،‬عند التقاء أشعة الشمس بسطحه أثناء الشروق‬
‫َ‬ ‫يظهر‪،‬‬
‫والغروب‪ .‬لكن من أعجب ما قرأت أنه يكون بلون الكريولين الحليبي‬
‫المخضوضر في الصباح‪ ،‬وفي المساء مثل ثمرة أفوكادو مقسومة تتوسطها‬
‫البذرة الكبيرة الحمراء‪.‬‬
‫جرب‪ ،‬ذهبت إلى الشاطئ في كل هذه األوقات‪ ،‬ومكثت كل‬ ‫قلت ف ُ‬
‫أل ّ‬
‫مرة نصف ساعة أو أكثر‪ ،‬لك ّن شي ًئا من ذلك لم يظهر‪ ،‬فأقنعت نفسي «ال‬
‫بأس‪ ،‬لعل المكان غير مناسب‪ ،‬أو ربما يحدث األمر في بعض البحار‬
‫وليس في ك ّلها»‪ .‬إالّ أن أغرب منظر رأيته كان قبيل فجر يوم صيفي‪ ،‬عندما‬
‫بدأ القمر يلفظ آخر ذرات النور على الماء‪ .‬قلت في دخيلتي إنه أفضل‬
‫وقت للسمر على الشاطئ لو أن الظروف األمنية تسمح بذلك‪.‬‬
‫بعد سنوات‪ ،‬إثر تخرجي في الجامعة‪ ،‬حققت أمنيتي في النزول إلى‬
‫سائحا‪ ،‬رفقة صديق لي‪ ،‬ومنها إلى خليج‬
‫ً‬ ‫عمان‬
‫باطن البحر‪ .‬سافرت إلى ّ‬
‫العقبة‪ .‬حجزنا غرف ًة في قارب ّ‬
‫غواصة‪ ،‬ذات واجهات زجاجية مكّنتنا من‬
‫مشاهدة أشكال الحياة البحرية تحت الماء‪ .‬كانت رحل ًة رائع ًة في جوف‬
‫تلك الغواصة التي يسمونها «نيبتون»‪ ،‬قضينا خاللها ساع ًة ونصف الساعة‬
‫في أجمل مواقع الشعاب المرجانية‪ .‬لكننا لم ننعم لألسف بمشاهدة‬

‫‪16‬‬
‫«الراقصات اإلسبانيات»‪ ،‬بل رأينا سالحف كبير ًة بحجم البشر ذات‬
‫زعانف مرقطة كستنائية اللون تشبه جلد الزرافة‪.‬‬
‫كنت أرغب في دراسة علم البحار‪ ،‬بيد أن عدم وجود هذا التخصص‬
‫في جامعة أرابخا حال دون تحقيق رغبتي‪ ،‬كما أني لم أفلح في نيل بعثة أو‬
‫منحة دراسية خارج البلد‪ .‬يا حسرتي‪ ،‬من أين لي الواسطة؟ في حين أنني‬
‫أعرف طال ًبا من مدينتي‪ ،‬أنهى الثانوية معي‪ ،‬انتزع له أبوه‪ ،‬النافذ سياس ًيا‪ ،‬بعث ًة‬
‫إلى «نانت» بفرنسا لدراسة هذا العلم‪ ،‬رغم ّ‬
‫أن درجاته في البكالوريا كانت‬
‫أقل من درجاتي‪ .‬وقد كتب لي مرةً‪ ،‬كمن يغيضني‪ ،‬أنه مستمتع بمقررات‬
‫الدراسة وموادها التي تشتمل على علم األحياء البحرية‪ ،‬واألنظمة البيئية‪،‬‬
‫واألمواج والتيارات البحرية‪ ،‬وتكتونيات الصفائح‪ ،‬وجيولوجيا قيعان‬
‫البحار‪ ،‬وغير ذلك الكثير الكثير‪ ،‬وأكد أنه سيحصل على دروس عملية في‬
‫كيلومترا‪ .‬وحين نال تلك‬
‫ً‬ ‫المحيط األطلسي الذي يبعد عن المدينة خمسين‬
‫صورا له صحبة طالبات فرنسيات وجزائريات وأخريات‬
‫الدروس أرسل لي ً‬
‫من جنسيات مختلفة‪ ،‬ولم ينس بالطبع إغاضتي أكثر بأن أرفقها ببضع صور‬
‫التقطها على الساحل يحتضن فيها فتا ًة شقراء ترتدي البكيني‪ً ،‬‬
‫قائل إنها‬
‫التخرج‪ ،‬ويعيش معها‬
‫ّ‬ ‫حبيبته‪ ،‬ومن ُأسرة باريسية عريقة‪ ،‬وسيقترن بها بعد‬
‫في فرنسا‪ .‬وختم كالمه بعبارة استفزازية «ال جدوى من العودة إلى العراق‬
‫البائس»‪.‬‬
‫رغم تع ّلقي بالبحر أوثر أكل أسماك النهر على أسماكه‪ .‬وليس في هذا ما‬
‫فجدّ ي لم يكن ّ‬
‫يلتذ بالسمك‬ ‫يثير استغرا ًبا‪ ،‬هكذا ألفيت نفسي منذ طفولتي‪َ ،‬‬
‫المشوي إالّ إذا كان من تلك األنواع التي تصطادها ِشباك الصيادين في‬
‫األنهر‪ ،‬مثل «الق ّطان» و«البني» و«السمتي» و«الشبوط»‪ ،‬شريطة أن يرافقه‬

‫‪17‬‬
‫على المائدة خبز تنور ساخن وطرشي (مخلل) و َعن ّبة وصحن خضار‪،‬‬
‫ويعقبه شاي مه ّيل‪ .‬وجر ًيا على عادة معارفنا المسلمين‪ ،‬كان يوم األربعاء‬
‫المفضل لتناوله‪ ،‬ألنه يجلب الرزق حسب االعتقاد الشائع‪ .‬أما‬ ‫ّ‬ ‫هو اليوم‬
‫سمك «الزبيدي» البحري فكان جدي يأكله مت ّب ًل مقل ًّيا بالزيت مع الرز‪،‬‬
‫وهو ما ُيعرف بـ«المط ّبق»‪ .‬لذا ما فتئت أسرتي كلها تتّبع هذا التقليد‪ ،‬وال‬
‫تحيد عنه‪.‬‬
‫قبل مدة دعانا ابن عم لي قادم من لندن‪ ،‬ممتلئ الجيب‪ ،‬إلى مطعم‬
‫متخصص بالسمك المسقوف والدجاج بالتنور‪ ،‬وال أدري كيف أقنع أبي‬
‫يجرب سمك القاروص (السيباس) البحري‪ ،‬المستورد ال أدري من‬ ‫بأن ّ‬
‫ممتعضا «هذا‬
‫ً‬ ‫أين‪ .‬وما إن التهم أول لقمة حتى أزاح الطبق من أمامه وقال‬
‫خراء وليس سمكًا»‪ ،‬ونادى على صاحب المطعم‪ ،‬وطلب منه أن يشوي له‬
‫سمك ًة نهري ًة‪ .‬أما أنا وأمي فقد أكلنا القاروص على مضض مجامل ًة البن‬
‫عمي‪ .‬وحين خرجنا سألته «أين تعيش هذه السمكة؟» قال «في البحر‬
‫المتوسط والبحر األسود والشواطئ األوروبية من المحيط األطلسي»‪،‬‬
‫وأضاف مستغر ًبا «لِم لم يح ّبها عمي‪ ،‬مع أنها تحمي من السرطان وتحافظ‬
‫على صحة القلب والشرايين»‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫‪3‬‬

‫اتصلت بصديقي عمران‪ ،‬وعرضت عليه أن يرافقني إلى البحر‪ ،‬لكنه‬


‫اعتذر‪ ،‬للدقة تع ّلل بأن لديه موعدً ا مع األستاذ المشرف على أطروحته‪.‬‬
‫كان مزاجه متعك ًّرا بسبب كثرة األخطاء الطباعية التي وقعت فيها زوجته‬
‫كبيرا في‬
‫ّب عليه أن يبذل جهدً ا ً‬
‫حديثة العهد في استخدام الكومبيوتر‪ ،‬وترت َ‬
‫تصحيحها‪.‬‬
‫يكبرني عمران بأربع سنوات‪ ،‬ويسبقني في قسم اآلثار بالكلية‪ .‬شاب‬
‫نذرا من الوسامة‪ ،‬قلبه من ذهب‪ ،‬دافئ المشاعر‪ ،‬يأسرني‬
‫مديد القامة‪ُ ،‬وهب ً‬
‫مفوه ال ُيشق له غبار‪ ،‬يقرأ بسرعة ما‬‫بنزاهته وصدقه‪ ،‬ألمعي الذهن‪ ،‬متكلم ّ‬
‫وعلي أن أعترف بأنه أكثر عقالني ًة مني‪ ،‬ال ينقاد‬
‫ّ‬ ‫يدور في رأسي من أفكار‪.‬‬
‫وراء عاطفته وهواه‪ ،‬وال يضعف أمام اإلغراءات‪ ،‬يختار أصدقاءه بدقة‪ ،‬له‬
‫ويتصرف بوحي من تفكيره‪،‬‬
‫ّ‬ ‫نظرة ثاقبة‪ ،‬ويعاين األمور من مختلف الوجوه‪،‬‬
‫حتى أنه رفض أكثر من مرة عرض زوجته عليه بأن ينفصال‪ ،‬بسبب عقمها‪،‬‬
‫ويتزوج امرأ ًة أخرى‪ ،‬فهو يحبها جدً ا‪ ،‬وال يريد أن يضحي بها من أجل ذرية‬
‫قد ال تكون صالح ًة‪ ،‬وقد تنتهي إلى الضياع في بلد ضائع‪ ،‬كما يقول‪ .‬عدا‬
‫معمقة‬
‫عن ذلك‪ ،‬ال أحد من أقرانه طلبة الدكتوراه في قسم اآلثار لديه معرفة ّ‬
‫متقص ًيا الصغيرة والكبيرة فيها‪،‬‬
‫في تاريخنا القديم‪ ،‬ينغمس في درره ونفاياته؛ ّ‬
‫لذلك أعدّ ه مرج ًعا موثو ًقا حول أي موضوع غامض‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫مسألة واحدة تح ّيرني في عمران هي إدمانه على الثِرب (بيض السمك)‪.‬‬
‫ينكب على تناوله‬
‫ّ‬ ‫شخصا يحب أكله بهذا القدر‪.‬‬
‫ً‬ ‫ما رأيت في حياتي قط‬
‫جوزا مخلو ًطا بالعسل؛ اعتقا ًدا‬
‫فطرا مقل ًّيا مع بيض الدجاج أو ً‬
‫كما لو كان ً‬
‫منه بقدرته على زيادة فحولة الرجل‪ ،‬وتحسين أدائه الجنسي‪ ،‬ومكافحة‬
‫السماك الذي‬
‫ّ‬ ‫رسخ هذا االعتقاد في رأسه أخوه‬
‫عالمات الشيخوخة‪ّ .‬‬
‫يجلب له كم ّي ًة من الثِرب بين حين وآخر‪.‬‬
‫بسبب ذلك بدا لي أن صيد األسماك الحوامل أمر بغيض‪ ،‬ولو تُركت‬
‫في الماء حتى تضع بيوضها لجنى الصيادون المزيد من هذه الثروة‪ .‬لكن‬
‫أنّى لشباكهم العمياء أن تم ّيز الحوامل عن غير الحوامل؟ األحرى أن يصدر‬
‫قرار يمنع الصيد في فترة تكاثر األسماك‪.‬‬
‫حاولت إقناع عمران ذات مرة بأن يقلع عن هذه العادة ألن بعض أنواع‬
‫الثِرب يحتوي على نسبة عالية من الكولسترول‪ ،‬ويسبب له متاعب صحي ًة‪،‬‬
‫علي بأريحية «ال تشغل بالك‪ ،‬اعتدت على تناوله‪ ،‬لكن ليس‬
‫إال أنه ر ّد ّ‬
‫بشراهة بل باعتدال‪ ،‬إنه كافيار الفقراء‪ ،‬وأخي خبير يعرف كل أنواعه‪.‬‬
‫إلي طال ًبا أن أسعفك‬
‫ستتذكر حاجتك إليه بعد سنين من زواجك‪ ،‬وستهرع ّ‬
‫بشيء منه»‪.‬‬
‫حياة عمران بسيطة‪ ،‬وهو مقتنع بها‪ ،‬ال يشخص ببصره خارج ما تمنحه‬
‫له عن استحقاق‪ ،‬وحين يسأله أحدهم «كيف هي أمور دنياك؟» يجيبه ّ‬
‫«كل‬
‫شيء تمام لوال تشاؤمي من الوضع العام الذي يعكّر صفوها»‪.‬‬
‫كان وما برح رفيقي الدائم في االستئناس بالبحر‪ .‬كالنا نعدّ ه الوجهة‬
‫المفضلة للترويح عن النفس‪ ،‬ولطالما اتخذنا شاطئه مكانًا لالسترخاء‬
‫ّ‬

‫‪20‬‬
‫والتغ ّلب على من ّغصات الحياة اليومية‪َّ .‬‬
‫أحب ركوب أمواجه مذ كان مراه ًقا‬
‫مؤخرا عن مهنته وفتح ًّ‬
‫محل‬ ‫ً‬ ‫صحبة أخيه الكبير صياد السمك‪ ،‬الذي تخلى‬
‫لبيع ثمار البحر‪ .‬وقبل ذلك‪ ،‬كان في طفولته يرافق أباه أحيانًا بقارب خشبي‬
‫يطوق بلدة «راوة»‪ ،‬مسقط رأسه‪ ،‬من ثالث‬
‫للصيد في نهر الفرات‪ ،‬الذي ّ‬
‫جهات‪.‬‬
‫تعرفت إليه‪:‬‬
‫قال لي‪ ،‬عندما ّ‬
‫نهرا أم‬
‫ــ أنا سليل أسرة تحب الماء مثل الصابئة المندائيين‪ ،‬سواء أكان ً‬
‫بحر ًا‪ .‬تآخيت معه منذ الصغر‪ ،‬ولدت وترعرعت في شبه جزيرة محصورة‬
‫معبرا إلى بالد الشام‪ .‬وكان بيتنا‬
‫بين الجبل ونهر الفرات‪ ،‬كانت في ما مضى ً‬
‫مواجها لخرائب قلعة في الجبل أزيلت وأنا رضيع‪.‬‬
‫ً‬
‫ع ّل ُ‬
‫قت‪:‬‬
‫ــ مثل قلعتنا التي لم يبق منها سوى أطالل‪.‬‬
‫َ‬
‫أكمل‪:‬‬
‫ــ لم تكن قديم ًة جدً ا‪ُ ،‬بنيت إبان حكم الوالي العثماني مدحت باشا‬
‫لحماية حركة النقل المائي‪.‬‬
‫كثيرا ما اصطحبت عمران إلى كنيستنا في مناسبات عديدة‪ .‬كان‬
‫ً‬
‫يستمتع بالشعائر والطقوس التي تُقام فيها‪ ،‬واإلصغاء إلى أنغام موسيقاها‬
‫وتراتيلها‪ ،‬ويبدي سعادته باالطالع على تقاليدنا االجتماعية‪ ،‬وينخرط‬
‫أحيانًا‪ ،‬بعد انتهاء المناسبة‪ ،‬في حوار مع راعي الكنيسة حول قضايا معقدة‬
‫في عالم الكهنوت والليوتورجيا‪ .‬ومهما بدا األمر بعيدً ا عن التصديق فقد‬

‫‪21‬‬
‫كان يحاور بروية وعقل مفتوح جعلني أعيد النظر ببعض المسلمات التي‬
‫أؤمن بها‪ .‬في لقائه األول بالكاهن سأله هذا «أنت مسلم‪ ،‬أال تشعر بالحرج‬
‫من حضورك إلى الكنيسة؟»‪ ،‬أجابه عمران بأنه منفتح‪ ،‬ووجدانه ال يحول‬
‫دون ذلك‪.‬‬
‫وفي عيد الميالد ورأس السنة يحتفل عمران معنا في البيت‪ ،‬يأتي‬
‫ً‬
‫حامل زجاجتي نبيذ وويسكي‪ ،‬أو نبيذ وعرق حسب رغبته‪،‬‬ ‫رفقة زوجته‬
‫وينغمس مع أنغام الموسيقى ويرقص ببساطة متناهية‪ ،‬مع أنه ال يحسن‬
‫الرقص‪ ،‬أو ألقل ال يجيده بإتقان مثلي‪ ،‬وحين يغادر‪ ،‬بعد انتهاء الحفل‪،‬‬
‫يمشي بطريقة تشي بأنه ما زال تحت تأثير إيقاع الرقص‪.‬‬
‫ً‬
‫فضل عن ذلك‪ ،‬بسمة ما عهدتها عند أصدقائي‬ ‫يتميز عمران‪،‬‬
‫اآلخرين‪ ،‬إنه يلبي أي رغبة تع ّن لي عن طيب خاطر‪ ،‬وبشعور عظيم‬
‫بالمودة‪ ،‬حتى لو كانت سخيف ًة أو تتعارض مع مزاجه‪ ،‬إالّ إذا كان لديه‬
‫سبب قاهر يحول دون تلبيتها‪ .‬وبالمقابل ما تخ ّلفت يو ًما ما عن فعل‬
‫أي شيء من أجله‪ .‬وال أنسى ما حييت رحلتي الرائعة معه إلى بحيرة‬
‫«دوكان» في الصيف قبل الماضي‪ .‬ذهبنا بسيارتي إلى السليمانية أوالً‬
‫ثم إلى البحيرة‪ ،‬ومنها إلى قلعة «سارتكه» على الضفة المواجهة للنهر‬
‫المتدفق من سد دوكان‪ .‬سحرتني مياه البحيرة وأسماكها‪ ،‬ومزارع العنب‬
‫والجوز والتوت‪ ،‬وشجرات الصنوبر واليوكاليبتوس في محيطها‪ .‬وفي‬
‫الطريق الموصل إليها استوقفني‪ ،‬مثلما استوقف غيري من السياح‬
‫والمصطافين‪ ،‬منظر جبل «سارة» الشاهق‪ ،‬الذي يشبه جسد امرأة نائمة‬
‫تتطلع إلى السماء‪.‬‬
‫في هذه المرة كان لدى عمران‪ ،‬ال ريب‪ ،‬عذر وجيه‪ ،‬فقد سلخ ما‬

‫‪22‬‬
‫يزيد عن سنتين قاسيتين في كتابة أطروحته «األختام األسطوانية والفكر‬
‫االجتماعي في العصر األكدي»‪ ،‬وهي أطروحة مهمة‪ ،‬حسب األستاذ‬
‫توصل فيها إلى أن تلك األختام كانت فنًّا شعب ًّيا‪ ،‬تعايشت‬
‫المشرف عليها‪ّ ،‬‬
‫مضامينها مع وسيط بيئي خاص‪.‬‬
‫يتبق أمام عمران سوى مدة قصيرة لمناقشة تلك‬ ‫من ناحية أخرى لم ّ‬
‫األطروحة ونيل الدكتوراه‪ ،‬التي يع ّلق كل آماله عليها كي تفتح له باب‬
‫االنتقال من التدريس في المدرسة الثانوية إلى إحدى الجامعات‪ .‬لذا ما‬
‫كان من الالئق‪ ،‬بداه ًة‪ ،‬أن ّ‬
‫ألح عليه لمرافقتي إلى البحر‪.‬‬
‫كانت حياة عمران سلسل ًة من المصاعب منذ دخوله الجامعة‪ ،‬أقساها‬
‫تعرضه لمضايقات الميليشيات‪ ،‬وقد نجا بأعجوبة مرةً‪ ،‬أيام االقتتال‬
‫الطائفي قبل تسع سنين‪ ،‬حينما أمطر كمين الباص التي كانت تق ّله مع‬
‫جماعة من الركّاب‪ ،‬وهو قادم من بغداد‪ ،‬برشقة رصاص‪ ،‬فح ّطمت‬
‫زجاجها‪ ،‬وأصابت إحداها ذراعه األيمن‪ ،‬في حين أودت رصاصات‬
‫أخرى بحياة سيدة ورجل مسن وجرحت آخرين‪.‬‬
‫حدث ذلك‪ ،‬كما روى لي‪ ،‬ذات صيف حار في وضح النهار‪ ،‬عند‬
‫غيضة شجرات في منعطف مباغت‪ ،‬ولوال شهامة السائق‪ ،‬الذي قاد الباص‬
‫بأقصى سرعة إلى مستشفى في بلدة على الطريق‪ ،‬لنزف الجرحى حتى‬
‫الموت‪.‬‬
‫أضحى عمران‪ ،‬بعد تلك الحادثة‪ ،‬أكثر تشاؤ ًما‪ ،‬ال يني يردد أن البلد‬
‫ضاع‪ ،‬الجميع تعاضدوا لالنتقام منه ونهبه وتحطيمه‪ ،‬أعداؤه في الخارج‪،‬‬
‫ّ‬
‫وشذاذ اآلفاق في الداخل‪.‬‬ ‫والحمقى‪ ،‬والعمالء‪ ،‬والمتناهون في الصغر‪،‬‬

‫‪23‬‬
‫وأذكر أني قلت له‪ ،‬حين سمعته أول مرة يتحدث بحرقة عن ذلك‪« ،‬ليس‬
‫أمرا جديدً أ على البلد وال بدّ أن يتعافى»‪ ،‬بيد أنه ر ّد جاز ًما «المرحلة‬
‫هذا ً‬
‫مر بها ساب ًقا»‪.‬‬
‫اآلن‪ ،‬يا نينوس‪ ،‬أخطر من أي مرحلة تاريخية ّ‬
‫مع مرور الوقت‪ ،‬وتعاظم الكوارث التي صارت تحل بالبلد وجدت‬
‫عمران مح ًّقا في تشاؤمه‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫‪4‬‬
‫خميس ٍ‬
‫رائق بساعتين حين عزمت على الذهاب‬ ‫ٍ‬ ‫كان الوقت ُبعيد ظهر‬
‫تمزق السحب‪ ،‬على ق ّلتها‪ ،‬في سماء‬
‫إلى البحر‪ ،‬وكانت أشعة الشمس ّ‬
‫المدينة‪ ،‬كما تراءت لي من خالل نافذة غرفتي في الطابق العلوي‪ ،‬والرطوبة‬
‫أرحم بكثير من األيام المنصرمة‪.‬‬
‫حلقت ذقني ورششت ماء الكولونيا على وجهي وعنقي‪ ،‬كما كنت‬
‫أفعل كل مرة حين أتوجه إلى البحر‪ ،‬واحتسيت علبة بيرة مع سندويتشة‬
‫خفيفة‪ ،‬وارتديت مايوه سباحة تحت بنطالي‪ ،‬على أنغام أغنية ذات إيقاع‬
‫ً‬
‫متسلل من‬ ‫جميل يوقظ المشاعر من غفوتها‪ ،‬يبلغني صوتها من بعيد‪،‬‬
‫ً‬
‫حامل معه رائحة‬ ‫تلفزيون جارتنا أسين‪ ،‬عبر شرفة بيتها المقابلة لبيتنا‪،‬‬
‫زهور الخزامى المنبعثة من األصيص الفخاري الكبير فيها‪.‬‬
‫المخرمة نصف مزاحة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫مفتوحا وستارته‬
‫ً‬ ‫كان باب الشرفة الزجاجي‬
‫ِ‬
‫وأسين تمسك بطرفها‪ ،‬من غير حراك‪ ،‬مرهف ًة بصرها إلى السماء كأنها ّ‬
‫تلم‬
‫شتات نفسها‪ ،‬وتتطلع إلى حياة جديدة مع طفلتها الوحيدة نورجان ذات‬
‫األعوام األربعة‪.‬‬
‫لم يسبق لي رؤيتها أبدً ا تطل من الشرفة‪ ،‬وفوجئت بارتدائها ثو ًبا‬
‫مشج ًرا‪ ،‬يضفي عليه شعاع الشمس رون ًقا‪ ،‬بعد حداد دام سنتين‬
‫ّ‬ ‫فيروز ًّيا‬

‫‪25‬‬
‫على زوجها ياووز الذي لقي حتفه في تفجير سيارة ّ‬
‫مفخخة استهدفت مقر‬
‫الجبهة التركمانية التي ينتمي إليها‪.‬‬
‫كانت أسين أرصن أرملة عرفتها في حياتي‪ ،‬بل ً‬
‫مثال لألرامل‪ ،‬قديس ًة‬
‫صبورا على أشد األمور مش ّق ًة‪ ،‬تشغل معظم‬
‫ً‬ ‫أي كان‪،‬‬
‫ال تتكلم بسوء عن ٍّ‬
‫وقت فراغها في البيت بالقراءة أو بالرسم أو تصحيح أوراق االمتحانات‪،‬‬
‫وال تحفل بالعمل السياسي‪ ،‬باألحرى ليست السياسة من اهتماماتها‪ ،‬على‬
‫غاطسا فيها‪ ،‬راهنًا مصيره بالتنظيم الحزبي‪،‬‬
‫ً‬ ‫النقيض من ياووز الذي كان‬
‫رقما قياس ًّيا في تك ّبره‪ ،‬يتط ّير من أي التزام اجتماعي‪،‬‬
‫مغرورا بنفسه‪ ،‬ضار ًبا ً‬
‫ً‬
‫فاتر الصلة بالجيران‪ ،‬وإذا ما س ّلم على واحد منهم فمن وراء أنفه‪ ،‬يقطع‬
‫الزقاق مثل طاووس منفوش الريش‪ ،‬مرتد ًيا بدل ًة رسمي ًة مع ربطة عنق‬
‫أن إحدى يديه كانت‬‫زرقاء منقطة بنجوم بيضاء شبيهة ب َعلم الجبهة‪ ،‬رغم ّ‬
‫إلى األمام واألخرى إلى الوراء‪ .‬لذلك كانت أسين ممتعض ًة منه على‬
‫مسرة ما‪ ،‬وقد سمعتها مر ًة تتحدث عنه إلى‬
‫الدوام‪ ،‬ليس في تعايشها معه ّ‬
‫أختي سلفانا‪:‬‬
‫يسمي تخطيطاتي‬
‫قط موهبتي‪ ،‬تصوري ّ‬ ‫ــ إنه ال يفهمني‪ ،‬وال يقدّ ر ّ‬
‫خربشات ليس فيها أي نفع وكأنها جريمة تستحق العقاب‪.‬‬
‫ر ّدت عليها‪:‬‬
‫ــ ربما أفقده العمل الحزبي اإلحساس بالجمال‪ ،‬وج ّففت األيديولوجيا‬
‫شخصا يحب الشعر مثلي‪.‬‬
‫ً‬ ‫روحه‪ .‬أنا لن أتزوج ّإل‬
‫ــ تفكيرك صائب‪.‬‬
‫ــ أتقرأين الشعر أم تفضلين الروايات فقط؟‬

‫‪26‬‬
‫ــ أحيانًا أقرأ‪ ،‬أحب شعر السياب ومحمود درويش ويوسف الصائغ‪.‬‬
‫ِ‬
‫عليك‪ .‬أبكتني مجموعته «سيدة التفاحات األربع»‪.‬‬ ‫ــ الصائغ! الله‬
‫استغرقت في شجنه الموجع‪ ،‬لوعة فقده لزوجته جولي‪ ،‬رثائه العميق لذاته‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫مرات بعدد‬ ‫واحتفائه بالخوف والهشاشة‪ .‬هل تصدقين أنني قرأتها أربع‬
‫تفاحاته‪ ،‬وا ّطلعت على معظم ما كتبه النقاد عنها؟‬
‫أردت أن أشاركهما في النقاش فقلت‪:‬‬
‫ــ أنا أحب مجموعته «انتظريني عند تخوم البحر»‪.‬‬
‫قالت سلفانا‪:‬‬
‫ــ تحبها ألنك ممسوس بالبحر‪.‬‬
‫ثم عادت تسأل أسين‪:‬‬
‫ــ أتقرأين الشعر التركماني؟‬
‫ــ قرأت لبعض الشعراء‪.‬‬
‫ِ‬
‫سمعت بسركون بولص؟‬ ‫ــ هل‬
‫ــ سمعت به‪ ،‬وقرأت له قصائد قليل ًة‪.‬‬
‫المفضل‪ ،‬قصائده تع ّبر عن قلق النفس وتمزقاتها والبحث‬
‫ّ‬ ‫ــ إنه شاعري‬
‫ِ‬
‫أحببت أعيرك إحدى مجموعاته‪.‬‬ ‫عن الخالص بصور مدهشة‪ .‬إذا‬
‫ــ نعم أريدها‪ ،‬سأسهر معها الليلة بعد أن ينام حامل األيديولوجيا‪.‬‬
‫قهقهت سلفانا على وصفها البارع لزوجها بحامل األيديولوجيا‪ ،‬ثم‬
‫نهضت واتجهت إلى غرفتها لجلب مجموعة سركون بولص‪ .‬شاركتُها في‬
‫ردة فعلها‪ ،‬وقلت ألسين «أنت ِ‬
‫لست مرهف ًة في الرسم فقط»‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫أنهت أسين دراسة الرسم في معهد الفنون قبل زواجها ببضع سنوات‪،‬‬
‫وهي تمتلك مهار ًة في التخطيط على الورق بقلم الرصاص أو الفحم‪،‬‬
‫وتفضله على الرسم بالزيت أو باأللوان المائية‪ ،‬وغال ًبا ما تميل إلى التظليل‪،‬‬
‫ّ‬
‫اعتقا ًدا منها بأنه يضفي الضوء والعمق على اللوحة‪.‬‬

‫تُع ّلم أسين الرسم في مدرسة ابتدائية للبنات ال تبعد ً‬


‫كثيرا عن ح ّينا‪،‬‬
‫تحملها‬‫همة‪ ،‬لكن إدارة المدرسة ّ‬
‫بكل ّ‬‫وهي ناجحة في عملها‪ ،‬تقبل عليه ّ‬
‫فوق طاقتها‪ ،‬توكل إليها تعليم التلميذات مواد أخرى إلكمال نصابها‬
‫المقرر‪ .‬تترك طفلتها عند َجدّ تها‪ ،‬التي تسكن في بيت قريب على طريق‬
‫ّ‬
‫المدرسة‪ ،‬وتأتي بها بعد انتهاء دوامها‪.‬‬
‫مرحا‬
‫كانت تزورنا بين وقت وآخر أيام كان زوجها ح ًّيا‪ ،‬وتمأل بيتنا ً‬
‫وضحكات يتردد صداها في جنباته بسخرياتها ونكاتها ودعاباتها اللطيفة‪،‬‬
‫صحبة سلفانا قبل أن تتزوج وتغادرنا إلى أربيل مع زوجها الذي يعمل‬
‫أستا ًذا لألدب في الجامعة‪ .‬وفي بعض المناسبات واألعياد كانتا تتعاونان‬
‫في إعداد الحلوى‪ ،‬أو تلوين بيض الفصح المسلوق وزخرفته‪.‬‬
‫بعد تر ّمل أسين زارتنا مرات قالئل‪ ،‬لم تكن تمكث سوى نصف ساعة‬
‫أو أكثر‪ ،‬تستعير خاللها بعض الروايات من مكتبتي وتقفل راجع ًة إلى بيتها‪،‬‬
‫تتقول نسوة الجوار‪ ،‬المتمرسات في‬
‫ثم توقفت نهائ ًّيا عن زيارتنا خشية أن ّ‬
‫النميمة واختالق اإلشاعات‪ ،‬بما يقدح في أخالقها ويخدش سمعتها‪.‬‬
‫الحق في احتراسها‪ ،‬قائل ًة إن ترددها علينا اآلن يشكّل‬‫َّ‬ ‫أعطتها أمي‬
‫أدسم طعا ٍم لمدّ عيات الع ّفة‪ ،‬وصارت تزورها أحيانًا لتتف ّقد أحوالها‪ ،‬وفي‬
‫أسرتها أسين بأن أهلها أخذوا يح ّثونها على إنهاء حدادها‪،‬‬
‫آخر زيارة لها ّ‬

‫‪28‬‬
‫وأرسلت لي معها رواي ًة‪ ،‬وفي داخلها ورقة مكتوبة بخط يدها تقول «هذه‬
‫فورا‪ ،‬إنها قطعة من العذوبة والجمال الحزين‬ ‫رواية أم الخيال‪ .‬إقرأها ً‬
‫وأخمن أنك‬
‫ّ‬ ‫يختلط فيها الحلم بالواقع‪ .‬أنا التهمتُها في جلسة واحدة‪،‬‬
‫ستفعل مثلي‪ .‬وإذا كانت لديك رواية أخرى للكاتب نفسه أعرنيها‪ ،‬شريطة‬
‫أن تكون قصيرةً‪ ،‬ألنني لم أعد أستطيع هضم الروايات البدينة»‪ .‬أضحكتني‬
‫عبارتها الظريفة أول األمر‪ ،‬ثم رأيت أنها مح ّقة‪ ،‬فالقارئ في زمننا ما عاد‬
‫يتحمل اإلطناب‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪29‬‬
‫‪5‬‬

‫انتعلت صندلي‪ ،‬وحملت منظاري‪ ،‬الذي اعتدت رؤية الزوارق‬


‫وهبطت الدرج‪ .‬سألتني أمي‪:‬‬
‫ّ‬ ‫وقوارب الصيد على سطح البحر من خالله‪،‬‬
‫ــ إلى أين؟‬
‫قلت‪:‬‬
‫ــ إلى الشاطئ‪ ،‬البحر بانتظاري‪.‬‬
‫ــ وحدك أم مع عمران؟‬
‫ــ وحدي هذه المرة‪ ،‬عمران مشغول‪.‬‬

‫ــ أرأيت؟ إنه أعقل منك‪ ،‬لِ َم ال تنشغل أنت ً‬


‫أيضا بدراستك؟‬
‫أروح عن نفسي‪.‬‬
‫ــ انتهيت من االمتحانات وأريد أن ّ‬
‫ــ أال تجد مكانًا آخر غير البحر؟ ال أدري متى يخرج وسواسه من‬
‫رأسك‪.‬‬
‫وسواسا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ــ إنه عشق وليس‬
‫وسواسا وأنت تمأل جدران غرفتك بهذه الرسوم؟‬
‫ً‬ ‫ــ كيف ليس‬
‫ــ أليست جميل ًة؟ إنها مستنسخة عن لوحات لرسامين عالميين‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫صورا لقديسين؟ في األقل يحفظونك من مخاطر‬
‫ً‬ ‫ــ لماذا ال تضع معها‬
‫البحر‪.‬‬
‫ــ الله الحافظ وليس القديسين‪.‬‬
‫ــ ال تجدّ ف‪ ،‬لهم شفاعة عند اآلب‪َ .‬من يسمعك يحسبك من أتباع‬
‫الكنيسة البروتستانتية!‬
‫ــ لماذا؟‬
‫ــ ألنهم يستكثرون على كنيستنا أن تطلب توسالت القديسين من أجلها!‬
‫ــ أال تكفي الصور المعلقة في الصالة؟‬
‫ــ اإلكثار منها بركة وإحسان‪ ،‬سأطلب من خالك سرجون أن يجلب‬
‫مجموع ًة ألضعها بنفسي هنا‪.‬‬
‫ــ لكنك ستحولين غرفتي إلى معرض للصور المتنافرة‪.‬‬
‫ــ ال شأن لك‪ .‬اذهب إلى الشاطئ وإياك أن تنزل إلى الماء‪ ،‬أمس رأيت‬
‫مزعجا‪.‬‬
‫ً‬ ‫حلما‬
‫ً‬
‫ــ هل تخشين أن يختطفني منك؟ الماء ينبوع الحياة‪.‬‬
‫ــ ال تجازف‪ ،‬البحر غدّ ار‪ ،‬ليس له أمان‪.‬‬
‫ــ ال تهتمي‪ ،‬إنه صديقي‪.‬‬
‫ــ كل خرا واسمع كالمي‪.‬‬
‫ــ سأفعل‪.‬‬
‫رغم ّ‬
‫أن أمي تخاطبتي بألفاظ غير محتشمة أحيانًا‪ ،‬حسب ما يأتي‬

‫‪31‬‬
‫تفرط في صلواتها‪ .‬سعادتها القصوى تكمن‬ ‫على لسانها‪ ،‬فإنها متد ّينة‪ ،‬ال ّ‬
‫الرب وباب السماء‪ ،‬تحرص على‬ ‫في ارتياد الكنيسة‪ ،‬التي تسميها بيت ّ‬
‫الذهاب إليها مبكّر ًة لتحضر القدّ اس من أوله‪ ،‬وال تبرحها إال قبل غياب‬
‫سيرا على قدميها بلهفة‪ ،‬بكل اشتياق القلب‪ ،‬ألن بذل‬ ‫الشمس‪ .‬تقصدها ً‬
‫الرب كما تقول‪ .‬وقبل ذهابها تستعد لدخولها روح ًّيا‬
‫الجهد دليل على حب ّ‬
‫وجسد ًّيا‪ ،‬تصوم وترتدي مالبس نظيف ًة‪ .‬وبسبب ذلك كانت تتمتع باحترام‬
‫الجيران‪ ،‬المسيحيين والمسلمين‪ ،‬وهي التي أجبرتني على لبس الصليب‬
‫منذ صغري‪ ،‬وال أزال ألبسه‪ ،‬مراعا ًة لمشاعرها‪ ،‬رغم عدم تد ّيني‪ .‬أما أبي‬
‫كثيرا بالطقوس الدينية‪ ،‬يحضر القدّ اس في األعياد والمناسبات‬ ‫فال يحفل ً‬
‫فقط‪ ،‬وله نزوات نسائية‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫‪6‬‬

‫يعج برجال ونساء‬ ‫حين وطأت قدماي الزقاق وجدته‪ ،‬كالعادة‪ّ ،‬‬
‫ومراهقين يعرضون للبيع‪ ،‬على طاوالت صغيرة‪ ،‬أصنا ًفا من العطور‬
‫الرخيصة والحلي والمسابح والخواتم والساعات واألحزمة ومحافظ‬
‫ّ‬
‫والمنشطات الجنسية والواقيات الذكرية‬ ‫النقود وعلب الدخان‬
‫وترهات أخرى‪ .‬وال أستبعد أن بعضهم يخبئ في جيوبه حبوب هلوسة‬
‫أو مخدّ رة‪ ،‬لكنه ال يجرؤ على بيعها إالّ للمدمنين على تناولها‪ ،‬وهو‬
‫المصفرة وأيديهم وشفاههم‬
‫ّ‬ ‫يستطيع أن يميزهم من وجوههم النحيلة‬
‫المرتجفة‪.‬‬
‫ركبت سيارتي وقدتها على مهل لئال أصدم أحد الباعة‪ .‬استوقفني‬
‫علي علبة منشط جنسي‬
‫أحد المراهقين‪ ،‬واتّكأ على حافة النافذة‪ ،‬وعرض ّ‬
‫بحجم كف اليد‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ــ بالله عليك اشترها‪ .‬فيها عسل ملكي ماليزي ممتاز يجعلك تستمتع‬
‫ثالث مرات في اليوم مدة أسبوع‪ .‬ال تفوتها إنها آخر علبة‪.‬‬
‫ضحكت على طريقة ترويجه لبضاعته بتزويق الكالم‪ ،‬وأجبته‪:‬‬
‫ــ ما حاجتي إليها وأنا ال أزال أعزب؟‬
‫علي بخبث‪:‬‬
‫ر ّد ّ‬

‫‪33‬‬
‫عزاب مثلك‪،‬‬
‫ــ والله ستحتاجها‪ .‬معظم الزبائن الذين يشترون مني ّ‬
‫خذها لن تندم‪.‬‬
‫ضحكت ثاني ًة‪ ،‬لكن هذه المرة على براعة المراهق في التك ّيف السريع‬
‫باسما‪ ،‬متله ًفا‬
‫ً‬ ‫مع حجتي‪ ،‬ولبثت لحظات أنظر إليه‪ ،‬وهو يستقبل نظراتي‬
‫إلى أن أستجيب لعرضه‪ ،‬ثم أخرجت ورق ًة نقدي ًة من محفظتي ودسستها‬
‫في يده‪ ،‬ومضيت في سبيلي‪ ،‬من غير أن آخذ علبة العسل‪.‬‬

‫افترعت أحشاء المدينة‪ ،‬ثم انعطفت إلى حي «السالم»‪ ،‬وتوغلت بعد‬


‫اجتياز كنيسة مار كيوركيس الشهيد‪ ،‬من غير تخطيط‪ ،‬في شارع «الياسمين»‪،‬‬
‫بالمارة‪ ،‬يقع فيه مبنى صغير ذو‬
‫ّ‬ ‫وهو شريان عريض للمواصالت‪ ،‬مزدحم‬
‫طابقين كنّا نقطن إحدى شققه زمن دراستي الثانوية‪.‬‬

‫توقفت ُقبا َلة دكان على بعد أمتار عن المبنى لشراء علبة سجائر‪ .‬أعرف‬
‫صاحبها منذ طفولتي‪ ،‬رجل بدين أشعث‪ ،‬ذقنه قصيرة تشبه القش‪ ،‬شارباه‬
‫ك ّثان معقوفان إلى األعلى مثل قرني جاموس‪ ،‬تحت عينيه قوسان سوداوان‬
‫كالكدمات‪ ،‬يلف رأسه بشماغ‪ .‬لكنني لم أجد عنده نوع السجائر التي‬
‫ّ‬
‫أدخنها‪ ،‬قال لي إنه نسي أن يعرضها على الرف‪ ،‬وطلب مني أن أنتظر‪ ،‬ثم‬
‫استدار واتّجه إلى مخزن خلفي‪.‬‬

‫مر بجانبي فتى يحمل ِرزمة صحف ويعتمر قبع ًة‪،‬‬


‫في غضون ذلك ّ‬
‫علي أن أشتري واحدةً‪ ،‬وأضاف‪:‬‬
‫وعرض ّ‬
‫أخبارا عن اإلرهابيين؟‬
‫ً‬ ‫ــ أال تريد أن تقرأ‬
‫ــ أعرف أن أوباما أمر بتكثيف الغارات عليهم‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫ــ هذا خبر قديم‪ ،‬توجد أخبار جديدة‪.‬‬
‫ــ مثل ماذا؟‬
‫ــ أخشى إن أخبرتك لن تشري‪.‬‬
‫ــ ثق سأشتري‪.‬‬
‫ــ فرنسا دخلت على خط المواجهة‪ ،‬وأرسلت قوات خاص ًة إلى‬
‫كردستان‪.‬‬
‫ــ هل أنت من أرابخا أم نازح؟ من لهجتك يبدو أنك من الموصل‪.‬‬
‫ــ أنا من بلدة حمام العليل‪.‬‬
‫ِ‬
‫هات واحد ًة إ ًذا‪ .‬بلدتك لها فضل علينا‪ ،‬وأنت تمتلك مؤهالت‬ ‫ــ‬
‫إعالمي ال بائع صحف‪.‬‬
‫سره كالمي وأعطاني صحيف ًة‪ ،‬فنقدته ثمنها ومضى في سبيله‪ّ ،‬‬
‫ملو ًحا‬ ‫ّ‬
‫باحدى الصحف التي يحملها‪ .‬قلت في سريرتي «فتى ذكي سترغمه‬
‫الظروف على ترك تعليمه»‪ .‬آالف األُسر مثل ُأسرته نزحت من حمام‬
‫العليل وبلدات أخرى خو ًفا من اعتداءات اإلرهابيين‪ .‬أذكر أنني زرت تلك‬
‫البلدة قبل ثالث سنوات رفقة أمي لتتعالج بمياه عيونها الكبريتية الحارة من‬
‫مرض الصدفية الذي أصابها‪ .‬كانت رائحة البخار الخارجة من تلك العيون‬
‫نفاذ ًة والذع ًة للغاية‪ ،‬وقد برأت أمي بالفعل من مرضها بعد استحمامها أكثر‬
‫من مرة في حوض العين الكبيرة‪.‬‬
‫في وهو‬
‫عاد صاحب الدكان بمجموعة علب سجائر‪ ،‬وشرع يدقق النظر ّ‬
‫يقدّ م لي واحد ًة من غير أن ينبس بكلمة‪ ،‬كأنه يحاول أن يتذكّرني حسبما بدا‬
‫لي‪ ،‬مع أنني نادر ًا ما كنت أشتري منه حاج ًة في السنين الخوالي‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫تفاديت نظرته‪ ،‬ونقدته ثمن العلبة وأخذتها منه‪ ،‬وبينما كنت أهم في‬
‫إشعال سيجارة سألني‪:‬‬
‫الست ابن هرمز اآلثوري؟‬
‫َ‬ ‫ــ‬
‫أجبته‪:‬‬
‫ــ بلى‪ ،‬أنا نينوس‪.‬‬
‫ــ لم تتغير مالمحك مذ رحلتم‪ ،‬هل توظفت؟‬
‫ــ نعم‪ ،‬أعمل في التدريس لكني متفرغ اآلن للدراسات العليا‪.‬‬
‫ــ كيف حال أبيك؟‬
‫ــ في خير‪.‬‬
‫ــ هل ما زال في نفس عمله؟‬
‫ــ نعم‪.‬‬
‫ــ أبلغه سالمي‪ ،‬وقل له يسألك أبو مهدي لماذا ال تزوره‪.‬‬
‫ــ سأفعل‪ .‬لكن َمن أبو مهدي؟‬
‫ــ أنا‪.‬‬
‫ــ آسف عمي‪.‬‬
‫ــ وإذا نسيت قل له هاشم الكاكائي‪.‬‬
‫ــ لن أنسى‪.‬‬
‫ّلوحت بيدي ألودعه فإذا به يستوقفني‪ ،‬ويتأملني من أعلى إلى أسفل‬
‫ويسألني‪:‬‬
‫ــ هل تزوجت أم أنك ما زلت تضاجع يدك؟‬

‫‪36‬‬
‫بم أر ّد عليه‪.‬‬
‫شعرت بامتعاض من وقاحته‪ ،‬وبقيت مستغر ًبا ال أعرف ّ‬
‫دهمته بغت ًة نوبة سعال حاد مصحوب بصوت غرغرة‪ ،‬وانتصب طرفا‬
‫ولوح لي بيده الثانية المرتخية طال ًبا‬
‫شاربيه‪ ،‬فغطى فمه براحة يده اليمنى‪ّ ،‬‬
‫معتل‪ ،‬أو مصاب بالتهاب فايروسي في صدره‪،‬‬ ‫مني أن أبتعد‪ .‬أدركت أنه ّ‬
‫فعجلت بقطع الشارع صوب سيارتي‪.‬‬
‫ّ‬
‫في األثناء أبصرت السيدة ديانا الكلدانية‪ ،‬جارتنا في المبنى الذي كنّا‬
‫نسكن احدى شققه قبل سنين‪ ،‬وعشت فيها أجمل أيامي‪ .‬كانت منهمك ًة في‬
‫محاذرا‬
‫ً‬ ‫حديث مع امرأة متناسقة القوام أمام البوابة‪ ،‬وصرت أتط ّلع إليهما‪،‬‬
‫أن ألفت انتباههما‪ ،‬أو في األقل انتباه ديانا لئال تعرفني‪ .‬أصبحت مترهل ًة‪،‬‬
‫وتخضب بالشيب شعرها الذي كانت‬
‫ّ‬ ‫ازداد وزنها ً‬
‫قليل‪ ،‬وكبرت عجيزتها‪،‬‬
‫تصبغه في األيام الخوالي باللون البرغندي الغامق‪ ،‬ورسم الزمان على‬
‫وجهها شيئ ًا من عالماته حتى بات يصعب تصور أنها كانت شاب ًة ذات يوم‪،‬‬
‫ولعلها أصبحت َجدّ ًة ألوالد ابنها الذي يكبرني ببضع سنوات‪.‬‬
‫كانت ديانا جشع ًة‪ ،‬مرائي ًة‪ ،‬مهذارةً‪ ،‬خالي ًة من الرحمة‪ ،‬وقح ًة إذا‬
‫غضبت‪ ،‬ال تبالي بما تقول‪ ،‬إذا انفلت لسانها من عقاله ال تستطيع أن‬
‫تنتزع منها كلم ًة طيب ًة‪ ،‬تنتف ريش َمن يغيضها‪ ،‬شره ًة في جمع المال‪ ،‬بل‬
‫ال حدود لشراهتها‪ّ ،‬‬
‫طلبة هدايا في كل مناسبة‪ ،‬وأحيانًا من غير مناسبة‪،‬‬
‫تغلق بابها في وجه كل متسولة وسائل للمساعدة‪ ..‬كانت في جملتها امرأ ًة‬
‫ذات طباع سيئة إلى أبعد الحدود‪ ،‬أتذكّرها اآلن بوضوح كما لو أنها على‬
‫ذكرا داخل قفص‬
‫راحة يدي بكل ما فيها من بشاعة‪ .‬كانت تربي ببغاء هند ًيا ً‬
‫مدر ًبا تدري ًبا جيدً ا على‬
‫كبير في شقتها‪ ،‬ثالثي األلوان‪ .‬حين اشترته لم يكن َّ‬
‫كثيرا‪ ،‬ومحضته الو ّد‬
‫تقليد األصوات‪ ،‬وكان ينفر منها في البداية‪ ،‬فاعتنت به ً‬

‫‪37‬‬
‫حتى ألفها وصارت قريب ًة إلى نفسه‪ ،‬خاص ًة بعدما أخذت تنوع له غذاءه‪،‬‬
‫ووضعت له في القفص ألعا ًبا عديد ًة مثل جرس ذي صوت رنان‪ ،‬وكرات‬
‫بالستيكية مجوفة‪ ،‬إضاف ًة إلى أغصان شجرات ُ‬
‫لمحاكاة البيئة األصلية‪.‬‬
‫وشي ًئا فشي ًئا استطاعت أن تطلق لسانه‪ ،‬وتح ّفظه عشرات الكلمات‪ .‬وفي‬
‫الم َجن‪ ،‬باعته لتاجر طيور بأضعاف الثمن‬ ‫نهاية المطاف قلبت له ظهر ِ‬
‫الذي اشترته به‪ ،‬متذرع ًة بأن ابنها جعل لسانه‪ ،‬من غير علمها‪ ،‬بذي ًئا يوخزها‬
‫حارا إلى رأسه من‬
‫بألفاظ الذعة‪ ،‬فظة‪ ،‬وأحيانًا فاحشة عندما يندفع الدم ًّ‬
‫شدة الهستيريا بسبب توبيخها له‪.‬‬
‫أما المرأة متناسقة القوام فقد بدت أصغر سنًّا من ديانا بكثير‪ ،‬في حدود‬
‫جذاب‪ ،‬ووجه لطيف ناعم يشع إثارةً‪ ،‬وفم صغير‬ ‫الثالثين‪ ،‬ذات مظهر ّ‬
‫يتسم بالكبرياء‪ ،‬وشعر مقصوص أشبه بشعر غالم‪ ،‬تضع قرطين كبيرين‬
‫ورموشا صناعي ًة كثيف ًة‪ ،‬وترتدي تنور ًة ليلكية اللون‪ ،‬مشقوق ًة‬
‫ً‬ ‫في أذنيها‪،‬‬
‫من األسفل نحو شبر تغطي ركبتيها‪ ،‬وتبرز تحتها ساقان فاتنتان شديدتا‬
‫البياض‪ ،‬تشبهان سيقان فتيات عروض األزياء‪ ،‬ش َب َه الماء بالماء‪ ،‬وعلى‬
‫األرجح أنها كنّة ديانا أو إحدى قريباتها‪.‬‬
‫بعد أقل من دقيقتين توقفت سيارة سوداء فارهة ذات دفع رباعي‪ ،‬من‬
‫نوع كاديالك‪ ،‬أمام المرأتين‪ ،‬ركبتا فيها على عجل فانطلقت بهما كالسهم‪،‬‬
‫متنح ًيا جان ًبا‪ .‬تابعتها عبر المرآة حتى‬
‫ّ‬ ‫وكادت تدهس ً‬
‫طفل لوال أنه قفز‬
‫ناظري‪ ،‬ثم رفعت بصري عبر نافذة السيارة إلى شرفة ش ّقة‬
‫ّ‬ ‫غابت عن‬
‫ديانا‪ ،‬فسرحت بعيدً ا‪ ،‬أسترجع من وراء تخوم الذاكرة غرامياتي السرية‬
‫مع ابنتها الصبية هيلين‪ ،‬التي نلت منها أول قبلة في حياتي‪ ،‬أعني من ثغر‬
‫أنثى‪ ،‬جعلت قلبي يخفق‪ ،‬وغنمت من جسدها أول لمسة إيروسية‪ ،‬تفوق‬

‫‪38‬‬
‫فجرت كوامن اإلثارة في أعماقي‪ .‬حدث ذلك وأنا ملتصق بها في‬
‫الروعة‪ّ ،‬‬
‫رقصة بطيئة‪ ،‬إثر بضع جرعات نبيذ‪ ،‬أثناء حفلة أقمناها في شقتنا لمناسبة‬
‫عيد الميالد‪ ،‬في حين كانت ديانا تساعد أمي في إعداد العشاء بعد أن نهلت‬
‫قصيرا ضي ًقا بلون الكرنب‬
‫ً‬ ‫كأسين من العرق‪ .‬كانت هيلين ترتدي فستانًا‬
‫األحمر‪ ،‬مكشوف الظهر‪ ،‬بال أكمام‪ ،‬تبرز فتحة عنقه العميقة نهديها‬
‫المتوثبين‪ ،‬وقد أضفى عليها الضوء الخافت فتن ًة ال تُقاوم‪.‬‬
‫عمن أسماها هيلين‪ ،‬قالت‪:‬‬
‫ليلتها خطر لي أن أسألها ّ‬
‫ــ أمي اختارته لي باقتراح من خالي المقيم في أثينا‪ ،‬وهو اسم يوناني‬
‫قديم يعنى النور‪ ،‬وكانت تحمله زوجة أحد الحكّام في ذلك الزمان‪.‬‬
‫استحضرت في تلك اللحظة خلواتي بها‪ّ ،‬‬
‫ولذة السويعات معها في‬ ‫ُ‬
‫أدرسها مادة الجغرافية الطبيعية‪ ،‬التي كانت تشكو‬
‫غرفتها‪ ،‬حيث كنت ّ‬
‫من صعوبة في فهمها‪ ،‬وتجد نفسها وقت االمتحانات كأنها فأر وقع في‬
‫مصيدة‪ ،‬فال تم ّيز بين العمليات الجيومورفولوجية الخارجية والداخلية‪،‬‬
‫وال بين التوزيع األفقي والتوزيع اليومي والفصلي لدرجات الحرارة‪،‬‬
‫وتفقد ثقتها بنفسها‪.‬‬
‫في نهاية كل درس كانت هيلين تفتح الموسيقى‪ ،‬وتسقيني كأس عصير‪،‬‬
‫أو كأس نبيذ أحمر مح ّلي معتّق‪ ،‬من غير علم أمها‪ ،‬وتقول لي «خذ معها‬
‫قبل ًة ناعم ًة يا نينو»‪ ،‬وتحيط رقبتي بذراعيها‪ ،‬مغمضة العينين كالقطة‪ ،‬وتلثم‬
‫شفتي‪ ،‬فتلسعني أنوثتها المتوهجة‪ ،‬ويسكرني عبق عطرها‪ ،‬ويرفعني إلى‬
‫ّ‬
‫ذرى شاهقة‪ ،‬ويغريني القتيادها إلى السرير ونيل مشتهاي منها‪ ،‬لكن بنت‬
‫علي نيلها‪ ،‬وتنفلت من يدي‬
‫يشق ّ‬
‫الكلب كانت تتمنّع‪ ،‬تتظاهر بأنها صعبة ّ‬

‫‪39‬‬
‫دورا في فيلم ميلودرامي رديء‪ ،‬تارك ًة إياي فريس ًة لهيجان‬
‫كمن تؤدي ً‬
‫َ‬
‫تذر ًعا منها تار ًة بالخوف من‬
‫شرس‪ ،‬ليس بسبب تصنعها للفضيلة‪ ،‬بل ّ‬
‫دخول أمها إلى الغرفة‪ ،‬وتار ًة بالخشية من أن أسلب منها عذر ّيتها‪.‬‬
‫في كل مرة كنت أخدع نفسي ً‬
‫قائل «ربما ستطيعني في المرة القادمة‬
‫وتنقاد»‪ .‬الحق أنني كنت ً‬
‫طائشا ال أفكر في مآل توقي المجنون إلى جسدها‪.‬‬
‫آنذاك كانت هيلين في السابعة عشرة وأنا في العشرين‪ ،‬غير أنني كنت‬
‫متقدّ ًما عليها في الثانوية بمرحلة واحدة ألني تركت الدراسة سنتين ثم عدت‬
‫إليها‪ .‬كانت فائقة الجمال‪ ،‬تصدح الحياة على وجنتيها وشفتيها الزهريتين‬
‫الشهوانيتين‪ ،‬ذات عينين واسعتين عسليتين كثمرة البلوط‪ ،‬ونهدين ناضجين‬
‫تحت رافعتهما ال يناسبان سنّها‪ ،‬كأنهما تفاحتان صينيتان‪ ،‬وزوج من أدق‬
‫السيقان التي رأيتها في حياتي‪ ،‬تضفر شعرها في غديرة طويلة تتدلى على‬
‫ظهرها حتى خصرها‪ ،‬وتجمع بين العذوبة والمكر وتق ّلب األهواء والبراعة‬
‫في إثارة إعجاب اآلخرين بها‪ ،‬وحين تبتسم ترقص ابتسامتها على وجهها‬
‫ك ّله‪.‬‬
‫كانت هيلين ّ‬
‫تلتذ بالروايات البوليسية‪ ،‬تواظب على قراءتها‪ ،‬تلتهمها‬
‫عمتها العانس التي‬
‫كما لو أنها رقائق بطاطا‪ ،‬وقد جاءتها هذه العدوى من ّ‬
‫ومشوش في السينما واألدب‪ ،‬في حين‬
‫ّ‬ ‫تهوى كل شيء بوليسي وغامض‬
‫تدير هي‪ ،‬أعني هيلين‪ ،‬ظهرها للكتب الدينية التي تحتل نصف مكتبة أبيها‬
‫بولص السرياني في الش ّقة‪ ،‬رغم ّ‬
‫أن أمها‪ ،‬التي تتظاهر أمام الناس بالتقوى‪،‬‬
‫عروسا للمسيح‪.‬‬
‫ً‬ ‫لتترهب وتصير‬
‫ّ‬ ‫كانت تشيع أنها تريد إرسالها إلى دير‬
‫متنفسا‬
‫ً‬ ‫أثناء أوبتها من المدرسة كان لعاب ش ّبان كثيرين‪ ،‬ممن ال يجدون‬

‫‪40‬‬
‫مغتر ًة بنفسها‪ ،‬محتضن ًة كتبها‬
‫لغرائزهم الطبيعية‪ ،‬يسيل لمرآها‪ ،‬وهي تسير ّ‬
‫ودفاترها‪.‬‬
‫أحيانًا كان يتبعها عدد منهم‪ ،‬بأعين شهوانية تبرق بالشبق‪ ،‬وآمال‬
‫مستحيلة‪ ،‬ويرمون لها قصاصات ورق‪ ،‬في ظني أنها‪ ،‬ال بل من المؤكد‪،‬‬
‫كانت تحتوي على أرقام هواتفهم وكلمات غزل فقيرة وتافهة‪ .‬لكن‬
‫هيهات‪ ،‬ففي األخير كان عمال النظافة يكنسون تلك القصاصات مع قمامة‬
‫الشارع لتنتهي إلى المكب‪.‬‬
‫في ظهيرة يوم من األيام‪ ،‬وكان التيار الكهربائي مقطو ًعا‪ ،‬سمعت طرقات‬
‫رقيق ًة على باب شقتنا‪ ،‬فتحته من دون أن أسأل َمن الطارق‪ ،‬فإذا به هيلين‪.‬‬
‫كانت تستولي على وجهها حمرة مشوبة باالصفرار‪ ،‬وترتعد وتتنفس بقلق‪،‬‬
‫وفي عينيها تترقرق الدموع‪ ،‬كأنما مصابة بالحمى‪ .‬استغربت من منظرها‪،‬‬
‫وأمسكت بيدها إلدخالها إلى الشقة‪ ،‬لكنها لم تتزحزح من مكانها‪ .‬سألتها‪:‬‬
‫ــ هيلين ما بك‪ ،‬لماذا ال تدخلين؟ هل تشكين من شيء؟‬
‫غمغمت قائل ًة‪:‬‬
‫ــ اعترض أحد النكرات طريقي وقرصني من هنا بشدّ ة‪.‬‬
‫وضعت كفها على نهدها‪ ،‬وتابعت تقول‪:‬‬
‫ولى هار ًبا‪ ،‬وامتطى دراج ًة ناري ًة كان سائقها بانتظاره عند‬
‫ــ فعل ذلك ثم ّ‬
‫ناصية الشارع‪.‬‬
‫ــ هل توجعك القرصة؟‬
‫مسحت عينيها بمنديل‪ ،‬وقالت بمرارة‪:‬‬

‫‪41‬‬
‫كثيرا كأنها لسعة حشرة‪.‬‬
‫ــ إي‪ ،‬توجعني ً‬
‫يدي‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫تناولت يدها بكلتا ّ‬
‫ــ ادخلي كي أتحقق من أثرها‪ ،‬ال أحد في الشقة سواي‪ ،‬أمي وأختي‬
‫خرجتا ولن تعودا إالّ مسا ًء‪.‬‬
‫أطرقت رأسها‪ ،‬ولبثت شارد ًة لحظ ًة‪ ،‬ثم قالت‪:‬‬
‫ــ ال‪ ،‬لست راغب ًة في الدخول‪.‬‬
‫ــ حسنًا‪ ،‬هل رأى الناس ابن الكلب وهو يقرصك؟ ألم يتعقبه أحد؟‬
‫ضمت إحدى يديها إلى صدرها‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫ّ‬
‫التفوه بكلمة‪ ،‬شعرت كأني‬ ‫ــ ما أدراني؟ لحظتها تأ ّلمت‪ ،‬لم َ‬
‫أقو على ّ‬
‫عزالء في صحراء‪ ،‬وحين نظرت إلى الخلف لمحت النذل يقفز إلى ظهر‬
‫الدراجة‪ .‬لبثت بعدئذ حائر ًة ال أستطيع فعل أي شيء‪ ،‬ثم جئت مسرع ًة‬
‫إلى المبنى‪ ،‬وخطر في بالي‪ ،‬وأنا أرتقي الدرج‪ ،‬أن آتي إليك قبل أن أدخل‬
‫شقتنا‪ ،‬وأروي لك ما جرى لعلك تعرفه من أوصافه‪.‬‬
‫ــ كيف لي أن أعرفه؟‬
‫ــ ال بدّ أنه من أبناء الحي وإالّ لما عرف اسمي‪.‬‬
‫ــ هل نطق باسمك؟‬
‫ــ إي‪.‬‬
‫ــ ما أوصافه؟‬
‫ــ شاب طويل القامة‪ ،‬وجهه نحيل‪ ،‬وعيناه زائغتان‪ ،‬ولحيته مشعثة‪،‬‬

‫‪42‬‬
‫علي‬
‫وشعره مقصوص على طريقة المارينز‪ .‬في البداية استوقني وعرض ّ‬
‫زاعما أنها أصلية‪ ،‬وحين أشرت له‬
‫ً‬ ‫بيع زجاجة عطر نسائي بثمن بخس‬
‫بالرفض مدّ يده إلى صدري وقرصني بشدّ ة ثم ّفر مسر ًعا‪.‬‬
‫شخصا بهذه األوصاف‪.‬‬
‫ً‬ ‫ــ كأني رأيت‬
‫ــ أنا واثقة من أنه يسكن في ح ّينا‪.‬‬
‫تمهلت لحظ ًة‪ ،‬ثم قلت‪:‬‬
‫ّ‬
‫آلو جهدً ا لمعرفته‪ ،‬لكن ما الفائدة يا هيلين؟ ماذا بوسعنا أن نفعل‬
‫ــ لن َ‬
‫ِ‬
‫عليك من اآلن فصاعدً أ أن تنتبهي لنفسك‪.‬‬ ‫ونحن ضعفاء في البلد‪.‬‬
‫ــ كيف؟‬
‫تموهي على جمالك‪،‬‬ ‫ــ أقول لك بمنتهى الصراحة‪ :‬ما من سبيل إالّ أن ّ‬
‫إخفه عن أعين الناس‪ ،‬كفي عن ارتداء هذه المالبس الضيقة التي تبرز‬ ‫ِ‬

‫مفاتنك‪ ،‬وتوحي للناس بأنك فتاة مغناج طائشة‪.‬‬


‫قطبت حاجبيها من الدهشة‪:‬‬
‫ــ هل تريدني أن أرتدي جلبا ًبا إسالم ًّيا وأضع حجا ًبا على رأسي؟‬
‫ــ ال‪ ،‬أعني ال أعرف‪ ،‬هيا أدخلي‪.‬‬
‫تهم بالدخول‪ ،‬بعد أن تالشى تمنّعها‪:‬‬
‫قالت وهي ّ‬
‫ــ لكنني لن أريك نهدي‪.‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ــ ال أطمع في لمسه يا هبالء‪ ،‬بل سأبلل قطعة قماش بماء مثلج وأضعه‬
‫عليه‪ .‬هذا كل ما في األمر‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫ً‬
‫طويل‪ ،‬سنة وبضعة أشهر‪ ،‬حدث‬ ‫لسوء الطالع لم تدم عالقتي بهيلين‬
‫بعدها ما ال يخطر في البال على اإلطالق‪ ،‬لغز من تلك األلغاز التي يصعب‬
‫ح ّلها‪ ،‬اختفت فجأ ًة وكأنها حلم تالشى مع انبالج أول تباشير الفجر‪ ،‬أو أن‬
‫ريحا حملتها وألقت بها إلى حيث ال أعلم‪.‬‬
‫ً‬
‫في ما بعد‪ ،‬عقب أشهر علمت أنها سافرت إلى األردن مع قريب لها‬
‫حاصل على اللجوء اإلنساني في أميركا‪ ،‬ومن هناك إلى ديترويت بعد‬
‫زواجهما‪ .‬هذا ما أخبرتني به أمي ً‬
‫نقل عن أمها‪ ،‬فوقعت فريسة ألم فظيع‪.‬‬
‫زوجا‪ ،‬فقد تب ّين لي‬
‫تمت خطوبتهما وال كيف قبلت به ً‬
‫ال أدري متى ّ‬
‫الح ًقا أنه شخص وضيع‪ ،‬أتفه من قشرة بصلة‪ ،‬تدور حوله نميمة بأنه‬
‫د ّيوث‪ .‬لكن يبدو أن حلم السفر إلى بالد العم سام أعمى بصيرتها‪ ،‬أو‬
‫جسرا يوصلها إليها‪ ،‬ثم تنفصل عنه بعد‬
‫ً‬ ‫أنها خ ّططت التخاذ ذلك الوضيع‬
‫حين‪ ،‬أليس للمكر أفانين كما يقولون؟‬
‫علي‪ ،‬بلغ بي التأثر كل مبلغ‪ ،‬اكتنفتني لوعة‬
‫عسيرا جدً ا ّ‬
‫ً‬ ‫كان األمر‬
‫إلي‬ ‫قاهرة‪ ،‬كأن هيلين ابتداء الحياة وانتهائها‪ ،‬وركبني الحزن‪ُ ،‬‬
‫وخ ّيل ّ‬
‫أنني لن ُأشفى من هواها‪ ،‬وكدت أتعثر في دراستي‪ ،‬ولبثت أفكّر فيها‬
‫أحس بوحشة لفراقها‪ ،‬لتالشيها كالدخان‪،‬‬
‫ّ‬ ‫آناء الليل وأطراف النهار‪،‬‬
‫أستصعب عدم وجودها في حياتي‪ ،‬كأني مضغوط بين حاجزين‬ ‫ِ‬
‫ً‬
‫مفروشا‬ ‫اسمنتيين‪ ،‬أو أسير على سطح من زجاج هش‪ ،‬أو أطأ در ًبا‬
‫قدمي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بالجمر يحرق‬
‫ويقض مضجعي تخ ّي ُلها في‬
‫ّ‬ ‫أكثر ما كان يقبض روحي ويثير حنقي‬
‫الفراش‪ ،‬مستسلم ًة لمصير حماقتها‪ ،‬تسفح أنوثتها‪ ،‬تهدر جمالها مع ديوث‬

‫‪44‬‬
‫جديرا بها‪ ،‬يتحسس جسدها ويعبث بتضاريسه وشعابه‬
‫ً‬ ‫ليس ً‬
‫أهل لها‪ ،‬وال‬
‫وكأنه يمتلكها لمجرد أنه أوصلها إلى أميركا‪.‬‬
‫كانت تلك التخ ّيالت أشبه بسوط يجلدني‪ ،‬يعذبني‪ ،‬يسلخ جلدي‪،‬‬
‫وأخذت أنحي بالالئمة على ديانا وزوجها البليد‪ ،‬عديم الشخصية‪ ،‬الذي‬
‫ال يحل وال يربط‪ ،‬ولم يزحزح تهالكه على مطالعة الكتب الدينية بالدته‬
‫قيد أنملة‪ ،‬ألنهما وافقا على تلك الزيجة البائسة‪ ،‬متناسيين ادعاءهما بأنهما‬
‫توه ًما منهما بأن كنوز الدنيا ستُفتح‬‫ينويان إرسال البنت إلى الدير لتترهب‪ّ ،‬‬
‫لها متى ما ه ّبت رياحها في أميركا‪ ،‬وتعيش مر ّفه ًة عيش ًة رغيد ًة مثل أميرة‪،‬‬
‫تلم شملهما معها‪ .‬وقد تأكّد لي حين رأيت‬
‫وسوف يكون بميسورها أن ّ‬
‫ديانا بعد عشر سنين أن البنت لم تحقق لهما حلمهما‪ ،‬لسبب ما‪ ،‬فته ّل ُ‬
‫لت‬
‫شمات ًة بهما‪.‬‬
‫في ما بعد عقدت عزمي على إلقاء هيلين في غياهب النسيان‪ ،‬بل محوها‬
‫من ذاكرتي مر ًة واحد ًة وإلى األبد وكأنها لم توجد قط‪ ،‬ووجدت أن أفضل‬
‫وسيلة هي البحث عن فتاة تمأل حياتي وتكون سلواي‪ ،‬خاص ًة بعد انتقالي‬
‫سهل‪ ،‬بقيت الصبية ساكن ًة في أعماقي‬
‫إلى الجامعة‪ .‬لكن ذلك لم يكن ً‬
‫طوال السنة الدراسية األولى‪ ،‬أتذكّر بين الفينة والفينة اللحظات التي كنت‬
‫أقضيها معها‪ .‬وما إن ح ّلت السنة الثانية حتى ّ‬
‫تعرفت إلى طالبة أرمنية‬
‫تعرفت إليها بالمصادفة‬
‫اسمها سيرانوش تدرس علم النفس في الجامعة‪ّ .‬‬
‫دعما نفس ًيا صدّ ع سطوة هيلين‬
‫في مكتبة الكلية‪ ،‬وبفضل حديثها معي نلت ً‬
‫بت ال أتذكرها إالّ في أحايين متباعدة‪،‬‬
‫على مشاعري‪ ،‬شي ًئا فشي ًئا‪ ،‬حتى ّ‬
‫مع ّ‬
‫أن عالقتي بسيرانوش لم تقم على تجاذب عاطفي‪ ،‬أقلها من جانبي‪،‬‬
‫فقد كانت أكبر مني سنًا‪ ،‬وال تتمتع بجمال يدفع إلى الغرام بها‪ ،‬في حين‬

‫‪45‬‬
‫أن األرمنيات ُيضرب المثل بجمالهن‪ ،‬وأنا بطبعي أميل إلى الحسناوات‬
‫الصغيرات‪.‬‬
‫قالت سيرانوش في يوم من األيام‪ ،‬ونحن نتحدث عن العالقات‬
‫العاطفية في الوسط الجامعي‪« ،‬إن عدم التوافق في السن ال يحول دون‬
‫التقاء قلبين‪ ،‬الحب أقوى من هذا الحاجز»‪ ،‬وضربت ً‬
‫مثل بشكسبير الذي‬
‫أحب امرأ ًة تكبره بسبع سنين وتزوجها‪ .‬غير أني تحاشيت الخوض في‬
‫الموضوع‪ ،‬إدراكًا مني أنني لن أستطيع مجاراتها في مناقشته‪ ،‬وتحدثت‬
‫عن أمور أخرى‪.‬‬
‫من ناحية أخرى كانت سيرانوش على جانب كبير من االستقامة‪ ،‬ذات‬
‫كثيرا بدراستها‪ ،‬وتنتظر أن تتخرج في نهاية تلك‬
‫عقل ناضج‪ ،‬منفتح‪ ،‬تهتم ً‬
‫السنة‪ ،‬ولم تكن لقاءاتي بها تتعدى عا َلم الجامعة‪.‬‬
‫تفضل العالِم النفساني ألفرد أدلر على فرويد ويونغ‪ ،‬وتنحاز‬ ‫كانت ّ‬
‫إلى نظرته لإلنسان نظر ًة حقيقي ًة عميق ًة كما هو‪ ،‬حسب رأيها‪ ،‬ال تبالغ به‬
‫وتجعله فوق منزلته‪ ،‬وال تنزل به ليكون كالحيوان أو كاآللة‪ .‬وأذكر أنني‬
‫قرأت‪ ،‬بتأثير من سيرانوش‪ ،‬العديد من كتب علم النفس‪ ،‬غير أنني انحزت‪،‬‬
‫على النقيض منها‪ ،‬إلى نظرية فرويد حول مراحل نمو الرغبة الجنسية عند‬
‫تفسر انحيازي للنظرية بمنتهى الذكاء‪.‬‬
‫اإلنسان‪ ،‬وكانت ّ‬
‫لم انقطع عن التواصل مع سيرانوش‪ ،‬بعد هجرتها إلى أرمينيا رفقة‬
‫أسرتها‪ .‬صرنا نتحدث بالماسنجر في أمور شتى‪ ،‬والحظت أنها تتفاخر‬
‫بكونها أرمني ًة‪ ،‬وتع ّظم أرمينيا؛ مأخوذةً‪ ،‬كأنها ّ‬
‫منومة مغناطيس ًيا‪ ،‬بجمال‬
‫يريفان‪ ،‬تبالغ في الزهو بمعالمها وتاريخها‪ ،‬وترفع من قدر أهلها كأنهم‬

‫‪46‬‬
‫مالئكة‪ ،‬وتتنكّر‪ ،‬من غير لبس‪ ،‬لهويتها العراق ّية‪ .‬وفي نوع من الرثاء المب ّطن‬
‫لي تغمز من قناتي‪ ،‬مشير ًة إلى عدم وجود دولة تم ّثل هويتي اإلثنية يمكن‬
‫وأن حلم تأسيس دولة أو حتى إقليم باسم «آشوريا» أو‬ ‫أن أهاجر إليها‪ّ ،‬‬
‫«آشورستان» قبض ريح‪ .‬وألن دوافعها كانت واضح ًة بالنسبة لي كنت‬
‫أتغاضى عن ذلك‪ ،‬وأمضي في إطالعها على الكوارث التي تترى في‬
‫البلد‪ ،‬وفضائح الطبقة السياسية الفاسدة‪ ،‬وجرائم العصابات والميليشيات‬
‫المسلحة خلف ستار من الصمت الخانق‪ ،‬الذي يشبه الجمر المخ ّبأ وراء‬
‫رماد‪.‬‬

‫ذات يوم كتبت لي رسال ًة تقول فيها «أود أن أنبئك بخبر ٍّ‬
‫سار‪ .‬تعرفت‬
‫فضل أن يكون‬‫أيضا‪ ،‬لكنه ّ‬
‫إلى شاب وسيم أصغر مني‪ ،‬متخصص في اآلثار ً‬
‫له عمل خاص‪ ،‬مطعم يجتذب عشرات الس ّياح‪ ،‬وفي غضون أيام أفضى‬
‫أخيرا بأن خطبني من أهلي‬
‫تعارفنا إلى عالقة حب‪ ،‬وقد ّتوجها الشاب ً‬
‫أمس‪ ،‬وسنتزوج قري ًبا‪ .‬أتمنى أن يحالفك الحظ وترتبط بواحدة أصغر منك‬
‫سنًّا بعشر سنين»‪.‬‬
‫أستوعبت مغزى رسالتها‪ ،‬وكتبت لها «عزيزتي سيرانوش‪ ،‬أبارك لك‬
‫علي»‪.‬‬
‫خطوبتك‪ ،‬وأرجو أن نظل صديقين‪ ..‬لن أنسى فضلك ّ‬
‫لكن تب ّين لي‪ ،‬الح ًقا‪ ،‬أنها ما عادت راغب ًة في التواصل معي‪ ،‬ولم يطل‬
‫بها األمر حتى توقفت عن الرد على رسائلي!‬

‫‪47‬‬
‫‪7‬‬

‫ُبعيد انقضاء ثالث سنوات على سفر هيلين‪ ،‬فاجأتني برسالة بعثتها‬
‫إلى بريدي اإللكتروني أعلمتني فيها أنها تر ّملت‪ ،‬مات زوجها في حادث‬
‫اصطدام سيارة غامض‪ ،‬غير أنها ال تزال صلب ًة وليست حزين ًة‪ ،‬خالف ما‬
‫يحدث للنساء اللواتي يتر ّملن‪ ،‬كونها لم تكن منسجم ًة معه‪ ،‬وفي مستطاعها‬
‫تشق طريقها بنفسها وجهدها‪ .‬وأفاضت في وصف حالها‪ ،‬واألفكار التي‬
‫أن ّ‬
‫تراودها لتأسيس حياة جديدة‪.‬‬

‫زت ولم أر ّد عليها ألشعرها بأنني ال أحفل بها‪ .‬وما هي إال شهور‬
‫تعز ُ‬
‫ّ‬
‫تعرفت إلى رجل أميركي‬
‫حتى وصلتني رسالة ثانية منها باحت لي فيها أنها ّ‬
‫من أصول التينية‪ ،‬ينتمي إلى الطبقة المخملية‪ ،‬يقيم في مدينة سانتا‬
‫كروز بوالية كاليفورنيا‪ ،‬وقد خطبها وأغرقها في بحر ثروته‪ ،‬وسيتزوجان‬
‫ويقضيان شهر العسل في ريو دي جانيرو‪ ،‬حيث يسكن أهله‪ ،‬وأنشأت‬
‫تتغنى بالشاطئ البحري للمدينة‪ ،‬وكيف تستمتع بجمال مياهه الزرقاء وهي‬
‫تطل إليه من شرفة الشقة التي يمتلكها خطيبها‪.‬‬

‫رجحت أنها تكذب‪ ،‬ليست أكثر من عشيقة أو محظية لذلك الرجل‪،‬‬


‫ّ‬
‫الذي ُيحتمل أن له من العمر ثالثة أضعاف ما لها‪ ،‬تساكنه من غير زواج‪،‬‬
‫وتعيش على قفاه بعد أن أصبحت عاجز ًة عن تدبير معيشها‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫معز ًيا بوفاة زوجها الراحل‪ ،‬لكن‬
‫شعرت حيالها بالشفقة‪ ،‬وكتبت لها ّ‬
‫التطرق إلى موضوع زواجها الثاني‪ .‬ومن يومها‬‫ّ‬ ‫بعبارات وجيزة‪ ،‬متجنّ ًبا‬
‫ك ّفت عن مراسلتي‪ ،‬وما ُعدت أعرف شي ًئا من أخبارها‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫‪8‬‬

‫عندما بلغت مشارف األرض الرملية المنبسطة على الشاطئ ركنت‬


‫سيارتي في موقف السيارات المفتوح على البحر‪ .‬كانت تصطف فيه‪،‬‬
‫كالعادة‪ ،‬أنواع مختلفة من العجالت‪ :‬سيارات صالون‪ ،‬وستوتات تسحب‬
‫أحواضا شبيه ًة بأحواض البيك آب‪ ،‬تعود ملكيتها لصيادي السمك‪،‬‬
‫ً‬
‫أو لتجار صغار يشترون منهم ثمار البحر بأسعار أقل من أسعارها في‬
‫سوق الجملة‪ .‬وثمة عربة متنقلة تبيع أطعم ًة سريعة التحضير وعصائر‬
‫دون عليها عبارة «كُل‬
‫ومشروبات‪ ،‬ذات فتحتين صغيرتين من الجانبين‪ُ ،‬م َّ‬
‫واشرب حتى تشبع»‪ ،‬يديرها شخصان‪ ،‬أحدهما شاب شعره محلوق على‬
‫الصفر‪ ،‬والثاني في منتصف العمر‪.‬‬
‫ترجلي من السيارة‪:‬‬
‫قال لي الشاب حال ّ‬
‫كنت تتعاطى البيرة لدينا ألمانية وهولندية‪.‬‬
‫ــ إن َ‬
‫ــ شربت في البيت‪ ،‬لكن سأبتاع منك بعد عودتي من البحر‪.‬‬
‫ــ لن تجدنا هنا‪ ،‬نحن على وشك أن نغادر‪ ،‬وأنصحك بأالّ تطيل بقاءك‪.‬‬
‫ــ لماذا؟‬
‫ــ أما سمعت األخبار؟‬
‫ــ أية أخبار؟‬

‫‪50‬‬
‫ــ ستهب ريح عاصفة‪.‬‬
‫ــ ال أظن‪ ،‬الطقس لطيف جدً ا اليوم‪.‬‬
‫تط ّلعت إلى البحر‪ ،‬تراءى لي فاتر الهمة‪ ،‬صفحته ملساء كالزجاج من‬
‫دون حركة‪ ،‬تنعكس عليها أشعة الشمس‪ ،‬وفي العمق زورق إنقاذ ويخت‬
‫للنزهة وقوارب صيد خشبية‪.‬‬
‫منحدرا السفح بخطوات‬
‫ً‬ ‫وشوش كالم الشاب ذهني‪ ،‬فشققت طريقي‬
‫حثيثة‪ً ،‬‬
‫بدل من أن أسلك الطريق اآلمن الذي يسلكه الناس للوصول إلى‬
‫الشاطئ‪.‬‬
‫جذل كأني على موعد غرامي مثالي‪ ،‬وكان الحصى تحت‬ ‫ً‬ ‫كنت‬
‫صريرا‪ .‬تع ّثرت ببعض األنقاض‪ :‬إطارات وخرق وصناديق‬
‫ً‬ ‫حذائي يصدر‬
‫وطاوالت وزجاج مكسور وعلب فارغة وأقفاص ومقاعد بالستيكية‬
‫قدمي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫مهشمة‪ ،‬وكدت أسقط على وجهي‪ ،‬لكنني تمالكت واستويت على‬
‫وصببت اللعنات على السفلة الذين رموا تلك المخ ّلفات‪.‬‬
‫مكتضا بالناس‪ ،‬والطقس هادئًا‪ ،‬ال ينذر بتغ ّير سيء‪ ،‬يسمح‬
‫ًّ‬ ‫كان الشاطئ‬
‫بالتفرج على مناظر السنونوات الرشيقة المح ّلقة على ارتفاع منخفض‪،‬‬
‫والنوارس البيض الشبيهة بالمناديل التي تتراشق في رحاب الفضاء‪ ،‬وطيور‬
‫البجع المهيبة على مقربة من حافة البحر‪ ،‬وهي تمرح وتقفز قفزات متتالي ًة‪،‬‬
‫أو تغوص في الماء اللتقاط األسماك وقناديل البحر الصغيرة‪ ،‬وبراعة‬
‫طيور الغاق في السباحة والغوص في الماء لخطف األسماك وتخزينها في‬
‫المسرة» قلت في دخيلتي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أجربتها‪« .‬آه لو كان عمران معي ليشاركني هذه‬
‫وأنا أكاد أبلغ الشاطئ‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫واكفهر في‬
‫ّ‬ ‫الجو تر ّدى فجأةً‪ ،‬على غير المعتاد في أول الخريف‪،‬‬
‫لكن ّ‬
‫لحظة خاطفة‪ ،‬كأنما أصابه الجنون‪ ،‬ووجدت نفسي بين فكّي ريح شرقية‬
‫يقشعر لها البدن‪ ،‬آخذ ًة باالشتداد‪ ،‬متداركة الهبوب‪ ،‬تخلع أسقف‬
‫ّ‬ ‫عاتية‬
‫األكشاك على بعد قليل من الشاطئ‪ ،‬وتدفعني بضراوة إلى البحر الذي صار‬
‫مخي ًفا‪ ،‬يترجرج مثل مرآة تعلو وتهبط‪ ،‬وراح صفيرها المدوي ّ‬
‫يدق طبلتَي‬
‫ذني حتى ليكاد يوقرهما‪ ،‬ويقذف الرعب في قلبي كما لو أني واقع في‬ ‫ُأ ّ‬
‫َش َرك‪ .‬وبعكس اتجاه الريح أخذت تجتازني كالب هائمة على وجوهها‪،‬‬
‫إعصارا وشيكًا آت ًيا من أعماق البحر‪.‬‬
‫ً‬ ‫تنهب الرمل نه ًبا كأنها استشعرت‬
‫صرت أسعل‪ ،‬وقلت في نفسي «ليتني صدّ قت تحذير الشاب»‪،‬‬
‫ً‬
‫منديل من جيبي وكممت أنفي‪ ،‬وبحثت غريز ًّيا عن مكان ألوذ‬ ‫وسحبت‬
‫به‪ ،‬فلم أجد سوى المغارة المطلة على البحر‪ُ ،‬قبالة المرفأ الطبيعي الصغير‪،‬‬
‫المغارة التي اعتاد بعض الش ّبان ارتيادها‪ ،‬وافتراش قاعها المغطى بالرمل‬
‫لتعاطي الكحول‪ ،‬خلس ًة‪ ،‬بعيدً ا عن أنظار الناس‪.‬‬
‫لم يسبق لي أن غشيت تلك المغارة لكأن بيني وبينها خصومة‪ .‬كنت‬
‫أكتفي‪ ،‬مرات عديدةً‪ ،‬بالوقوف أمامها‪ ،‬والنظر إلى جوفها عبر فوهتها‪ .‬كان‬
‫لغزا‪ ،‬رغم شيوع حكايتين عنها‪ ،‬األولى فحواها‬
‫وجودها في الشاطئ يشكّل ً‬
‫أن ناسكًا زرادشت ًّيا‪ ،‬ليس من أهل أرابخا في األصل‪ ،‬وال ُيعرف منبته‪ ،‬كان‬
‫يلجها فجر ّ‬
‫كل يوم‪ ،‬أثناء احتالل اإليلخانيين الوثنيين للبالد‪ ،‬ليتع ّبد فيها‬
‫ويتأمل في الخير والشر حتى بزوغ الشمس‪ ،‬وحين كان يغادرها ال يراه‬
‫الناس كأنه يرتدي طاقية إخفاء‪ .‬وإذا لم تكن الحكاية خراف ًة فإن الرجل‬
‫قدم من إيران واستوطن المدينة‪ ،‬حاله حال المئات من المستوطنين‬ ‫ربما ِ‬
‫الذين حملتهم أرجلهم إلى البلد بدوافع مختلفة‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫الحكاية الثانية تقول إن جماع ًة من الغجر كانت تتخذ منها مأوى في‬
‫أشهر الربيع‪ ،‬أيام االحتالل العثماني‪ ،‬وتقيم داخلها حفالت غناء ورقص‪،‬‬
‫تحرش األشقياء‬
‫لقاء حصولها على المال أو المؤونة‪ ،‬يحميها الجندرمة من ّ‬
‫واستفزازاتهم‪.‬‬
‫خلعت قميصي حالما دلفت إلى المغارة‪ ،‬ونفضت عنه ذرات الغبار‪،‬‬
‫شاعرا بالخيبة وبطعم مرارة في حلقي‪.‬‬
‫ً‬ ‫وأزلت ما التصق منها بجسمي؛‬
‫كانت بارد ًة إلى حد ما‪ ،‬تعبق برائحة تشبه رائحة الطمي على ضفاف‬
‫األنهار التي تجري بكسل‪ ،‬ومساحتها رحبة‪ ،‬يبلغ عرضها نحو عشرة‬
‫مترا‪ ،‬دانية السقف‪ ،‬تتدلى منه رواسب‬
‫أمتار‪ ،‬وعمقها أكثر من خمسة عشر ً‬
‫كلسية (هوابط) تشبه الثريات‪ ،‬نسجت بينها عناكب ضئيلة بيوتًا لها بترتيب‬
‫متناسق المسافات‪ ،‬لكنها لم تبعث في نفسي أيما هواجس مقلقة‪ ،‬فقد كنت‬
‫معتا ًدا عليها منذ طفولتي‪.‬‬
‫كان الضوء المنسكب على المغارة من الخارج يكفي لرؤية رسوم‬
‫وكتابات منقوشة على جدرانها الصخرية‪ ،‬على هيئة حيوانات وطيور‬
‫مختلفة‪ :‬غزالن ووعول وماعز جبلي ونمور وذئاب وثعالب ونسور وكراكي‪،‬‬
‫وكتابات مفرطة في بدائيتها وغموضها‪ ،‬لع ّلها تعاويذ الستدعاء قوى خارقة‪،‬‬
‫أو عالمات مش ّفرة لصلوات أو لتضرعات أو إلرشادات دنيوية‪ ،‬غير أنني لم‬
‫أد ّقق النظر فيها ألن ذهني كان منصر ًفا إلى البحر‪ ،‬الذي صار موجه يندفع‬
‫لينقض‬
‫ّ‬ ‫عال ًيا‪ ،‬من دون هوادة‪ ،‬إلى كتل الصخور‪ ،‬بعضه راك ًبا فوق بعض‪،‬‬
‫ضروسا ضدها‪ ،‬إالّ أنه‬
‫ً‬ ‫هادرا‪ ،‬كأنه يخوض حر ًبا‬ ‫عليها في النهاية صاخ ًبا ً‬
‫ٍ‬
‫وفقاعات‬ ‫ٍ‬
‫ذؤابات بيضاء‬ ‫ً‬
‫مخذول‪ ،‬مخ ّل ًفا وراءه‬ ‫يتكسر فوقها ويتراجع‬
‫ّ‬
‫سرعان ما تتطاير في الهواء وتختفي‪ ،‬ثم يعاود الكرة من غير طائل‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫عصرا‪ ،‬وكأن الزمن‬
‫ً‬ ‫مقفرا في وقت لم يجاوز الثالثة‬
‫ً‬ ‫أصبح الشاطئ‬
‫توقف‪ ،‬ال شيء سوى أصوات متداخلة تنبعث من مكبرات الصوت في‬
‫المساجد تتضرع «اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح‪ ،‬وخير ما فيها‪ ،‬وخير‬
‫وشر ما ُأ ِم ْ‬
‫رت به»‪.‬‬ ‫وشر ما فيها‪ّ ،‬‬
‫شر هذه الريح‪ّ ،‬‬
‫رت به‪ ،‬ونعوذ بك من ّ‬ ‫ما ُأ ِم ْ‬
‫كان الوضع أشبه بكارثة‪ ،‬أين ّفر المتنزهون؟ أين اختبأوا؟ هل تبخروا؟‬
‫يعج بعشرات الرجال والفتيان‬
‫َمن يرى الشاطئ ال يصدّ ق أنه قبل دقائق كان ّ‬
‫والنسوة واآلن أصبح خاو ًيا‪ ،‬اختفت كل معالم الحياة فيه‪.‬‬
‫مرت ساعة وأنا في تلك الحال‪ ،‬استأت وتعاظم ضيقي من عزلتي‬ ‫ّ‬
‫في المغارة‪ ،‬كما لو أنني محبوس في مصح عقلي‪ ،‬أرصد قوارب صيد‬
‫ٍ‬
‫شرسة‬ ‫ٍ‬
‫مواجهة‬ ‫ّ‬
‫يحث أصحابها على التجذيف‪ ،‬في‬ ‫السمك الصغيرة‪ ،‬التي‬
‫مع عصف الريح وتالطم األمواج‪ ،‬ساعين إلى بلوغ الشاطئ قبل أن يلقوا‬
‫حتفهم ويصبحوا فريس ًة آلفات البحر‪.‬‬
‫شراعي بصاريتين وص ّفين‬
‫ّ‬ ‫خلف تلك القوارب كان يظهر للعيان مركب‬
‫من المجاذيف‪ ،‬يلتمع كالفضة تحت أشعة الشمس‪ ،‬ال يفتأ يعلو ويهبط في‬
‫صراعه مع ال ُعباب من أجل بلوغ المرفأ‪.‬‬
‫ً‬
‫محال أن‬ ‫نظيرا لذلك المركب‪ ،‬بل كان‬
‫لم أكن أحسب‪ ،‬بتاتًا‪ ،‬أن أرى ً‬
‫أتخ ّيله‪ ،‬تهتز صاريتاه كسعفتين وهو يترجرج على سطح الماء المضطرب‪.‬‬
‫وثمة سرب نوارس يرفرف على ارتفاع منخفض؛ مقاو ًما الريح‪ .‬قلت في‬
‫وخيما يلوح في األفق»‪.‬‬
‫ً‬ ‫أمرا‬
‫سري «ال ريب في أن ً‬
‫ّ‬
‫خف غضب الريح‪ ،‬ثم سكن عزيفها بغت ًة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بعد قرابة نصف ساعة‬
‫فانحسر عني شعور الفزع‪ ،‬ونزلت السكينة على قلبي‪ ،‬كأنما انزاح عن‬

‫‪54‬‬
‫كف عن الهياج وثاب إلى هدوئه‪،‬‬‫صدري حجر ثقيل الوطأة‪ .‬أما البحر فقد ّ‬
‫وعادت أسراب الطيور تح ّلق فوقه‪ ،‬تار ًة إلى األعلى وتار ًة إلى األسفل‪،‬‬
‫وتمكّن الصيادون‪ ،‬الذين كان أكثرهم ش ّبانًا بسراويل قصيرة ذوي أجسام‬
‫قوية‪ ،‬من الوصول إلى الشاطئ بقواربهم سالمين‪ ،‬وربطوها إلى أوتاد‬
‫أن التجذيف ضد اتجاه الريح‬‫مغروزة إلى منتصفها في األرض‪ ،‬رغم ّ‬
‫أنهكهم كما لو أنهم كانوا يشقون طري ًقا وسط دغل كثيف‪.‬‬
‫السير‪ ،‬قانطين‪ ،‬صوب عجالتهم في موقف السيارات‪،‬‬‫َ‬ ‫ّ‬
‫غذ عدد منهم‬
‫حاملين زنابيل كبير ًة منسوج ًة من السعف‪ ،‬وصناديق بالستيكي ًة بطريقة‬
‫تنبئ عن خلوها من السمك‪ ،‬وعن خيبة سعيهم وراء الصيد ذلك اليوم‪ ،‬في‬
‫حين انشغل آخرون بخطف األسماك والحالزين والسراطين‪ ،‬التي وهبتها‬
‫األمواج للبر‪ ،‬قبل أن يبرحوا الشاطئ‪.‬‬
‫استطعت أن أم ّيز أحد هؤالء الصيادين من حدبته‪ ،‬فلطالما رأيته في‬
‫ح ّينا يقود ستوت ًة مزركش ًة يبيع بها األن ُعل والمجوهرات المق ّلدة واأللعاب‬
‫والحاجات المنزلية الرخيصة‪ ،‬وهو يرتدي مالبس هجين ًة‪ ،‬ويبث من جهاز‬
‫تسجيل أغاني متعددة اللغات لينتفع من الجميع‪ ،‬ويكاد يعرف أسماء وكُنى‬
‫معظم النساء اللواتي يتبضعن منه‪ .‬ويبدو أن تجارته تلك قد كسدت بسبب‬
‫كثرة البائعين من أمثاله‪ ،‬فتحول إلى صياد سمك‪.‬‬
‫شعرت بجفاف في حلقي وضيق في صدري‪ ،‬فتمنيت أن لو أعثر على‬
‫قنينة ماء متروكة في المغارة‪ ،‬ورأيت أنه من الصواب أن أبحث فلربما أعثر‬
‫على واحدة‪ ،‬وفيما طفقت في البحث وقعت عيناي على شريط يشبه حمالة‬
‫حقيبة‪ ،‬يظهر جزء منه والباقي مدفون في الرمل‪ .‬أثار فضولي فسحبته‪ ،‬وإذا‬
‫شخصا ما دفنها‬
‫ً‬ ‫به ينتهي بالفعل إلى حقيبة مصنوعة من الكتّان‪ ،‬يبدو أن‬

‫‪55‬‬
‫سحابها بشيء من القلق ألفاجأ‬ ‫لسبب ما‪ ،‬أو أنه كان ً‬
‫ثمل فنسيها‪ .‬فتحت ّ‬
‫بوجود غليون في داخلها مع قارورة نبيذ بيتي‪ ،‬لونها أخضر صنوبري‬
‫ضارب إلى البني المحروق‪.‬‬
‫ركزت اهتمامي على القارورة وأهملت الغليون‪ ،‬رفعت السدادة عنها‬
‫منخري‪ ،‬فلفحتني رائحة مغرية أقرب إلى رائحة‬
‫ّ‬ ‫بعناية‪ ،‬وشممتها بطرف‬
‫السنديان الضارب إلى الفانيال‪« .‬هذه هي فرصتي ألروي ظمأي» قلت‪.‬‬
‫أخذت أول رشفة صغيرة وتركتها تتدفق على لساني‪ ،‬شعرت بسالسة‬
‫طعم النبيذ‪ ،‬وهو ينزل مزغر ًدا في صدري‪ ،‬وكأني ما ذقت أزكى منه في‬
‫حياتي كلها‪ ،‬ثم أتبعتها برشفة ثانية أقوى منها جعلتني أشتهي سيجارةً‪.‬‬
‫أخرجت علبة سجائري‪ ،‬وطفقت أرتشف مع كل ضربة دخان في رأسي‬
‫رشف ًة أقوى من السابقة‪.‬‬
‫مهجورا‪ ،‬تصلح أن تكون‬
‫ً‬ ‫خطر في بالي أن المغارة‪ ،‬التي تشبه سردا ًبا‬
‫وضمنتها لمغامر‬
‫ّ‬ ‫حان ًة تشرف على البحر‪ ،‬فقط لو اعتنت بها دائرة السياحة‪،‬‬
‫مسيحي ال يهاب المتشدّ دين‪ .‬أليس ذلك أفضل من تركها مرت ًعا سر ًّيا‬
‫لنزوات الش ّبان؟‬
‫دنو المركب الشراعي‪ ،‬الذي‬ ‫حريصا‪ ،‬أثناء ذلك‪ ،‬على متابعة ّ‬
‫ً‬ ‫كنت‬
‫أصبح شغلي الشاغل‪ ،‬يمألني الفضول لمعرفة َمن على متنه‪ .‬بدا لي شكله‪،‬‬
‫وأنا أتط ّلع إليه بالمنظار‪ ،‬أقرب إلى المراكب في األفالم التاريخية‪ ،‬لم يعهد‬
‫بحرنا ً‬
‫مثيل له‪.‬‬
‫حين أجهزت على ثالثة أرباع القارورة داخلني الخدر‪ ،‬وشعرت بنعاس‬
‫ً‬
‫جاعل منها وساد ًة‬ ‫رقراق‪ ،‬فمألت الحقيبة بالرمل‪ ،‬واستلقيت على ظهري‪،‬‬
‫متأرجحا بين النوم واليقظة‪.‬‬
‫ً‬ ‫تحت رأسي‪ ،‬وواصلت استطالع البحر‪،‬‬

‫‪56‬‬
‫أجفلني بغت ًة أزيز تردد صداه داخل المغارة‪ ،‬ثم صار خشخش ًة مريب ًة‪.‬‬
‫مذعورا فإذا بشبح كائن ضئيل‬
‫ً‬ ‫جالسا‪ ،‬وأخذت أتل ّفت حولي‬ ‫ً‬ ‫استويت‬
‫يلوح على الجدار الصخري األيسر‪ ،‬ذي وجه قاتم يثير االشمئزاز‪ ،‬بل‬
‫وجها أكثر قتام ًة منه‪ ،‬يخزرني بعينين ساخطتين‪،‬‬
‫ً‬ ‫يستحيل أن يرى المرء‬
‫ويتموج كإفعوان‪ ،‬وما إن رآني مبهوتًا‪ ،‬فاغر الفم حتى راح يجأر بكالم‬
‫ّ‬
‫صاخب عصي على الفهم‪.‬‬
‫ً‬
‫تمثال من‬ ‫لبث في تلك الحال نحو دقيقة أو أكثر ثم تحول إلى ما يشبه‬
‫الرخام‪ ،‬وأسنانه كلها ظاهرة للعيان‪ ،‬ثم اتخذ شكل حيوان مفترس يبعث‬
‫الرهبة في النفس‪ ،‬ثم انقلب إلى مثل (ال أدري مثل ماذا) قبل أن يختفي عن‬
‫انتصارا ساح ًقا‪.‬‬
‫ً‬ ‫علي‬
‫ناظري كما لو أنه انتصر ّ‬
‫ّ‬
‫خلت أنه شبح الناسك الزرادشتي في الحكاية الثانية‪ ،‬انبثق من أعماق‬
‫ويقرعني ألني انتهكت حرمة مكان‬
‫ماضيه‪ ،‬أو تراءى لي ليفسد نشوتي‪ّ ،‬‬
‫شريرا)‪.‬‬
‫ً‬ ‫تعبده (ال بدّ أنه وجده سلوكًا‬
‫في غمرة تخبطي كان وجيب قلبي يتسارع‪ ،‬وشعرت بدمي يدوي في‬
‫داخلي‪ ،‬وخفت أن يعاود الشبح الظهور ثاني ًة ويمسني بسوء‪ ،‬وتحول‬
‫فطوحت بالقارورة بعيدً ا‪ ،‬ماذا كان بوسعي أن أفعل‪ ،‬لم‬
‫خوفي إلى هلع‪ّ ،‬‬
‫يكن أمامي خيار آخر‪ ،‬ورسمت إشارة الصليب على صدري‪ ،‬وقررت أن‬
‫ً‬
‫متسلل إلى الخارج كحلزون ينزلق من‬ ‫أنصرف‪ .‬لملمت نفسي وحبوت‬
‫ٍ‬
‫خطوات عن المغارة‪.‬‬ ‫ناهضا وابتعدت‬
‫قوقعته‪ ،‬ثم استجمعت ً‬
‫وجدت كارتون ًة ملقي ًة على الرمل فتر ّبعت عليها‪ ،‬متعكّر المزاج‪،‬‬
‫أحول بصري‬
‫وشرعت في استنشاق الهواء ببطء‪ ،‬ومن حين آلخر صرت ّ‬

‫‪57‬‬
‫ً‬
‫وجل من ذلك الشبح‪ ،‬وتساءلت في‬ ‫فوهة المغارة‪ ،‬كنت ال أزال‬
‫إلى ّ‬
‫أيضا أم أنه الح لي فقط ألنني‬
‫سريرتي «تُرى أكان يلوح لمتعاطي الخمور ً‬
‫ّ‬
‫وأتمله‪ ،‬يغمرني فضول‬ ‫كنت وحدي؟»‪ ،‬ثم رحت أحملق إلى البحر‬
‫لمعرفة سر المركب الشراعي الذي صار يزداد مهاب ًة ّ‬
‫كلما اقترب‪.‬‬
‫تغييرا طرأ على الطقس بعد توقف الريح‪ ،‬كُسرت‬ ‫ً‬ ‫تنبهت إلى أن‬
‫حرارته وأصبح أم َيل إلى البرودة‪ ،‬ولفحتني نسائم قادمة من البحر غمرتني‬
‫باكرا لم يبلغ الخامسة بعد‪ ،‬واستعاد‬
‫باالنتعاش‪ ،‬مع أن الوقت كان ال يزال ً‬
‫الخط الفاصل بين الماء والشاطئ زهو طيور البجع وقفزاتها على ٍ‬
‫نحو‬
‫مضاعف‪ ،‬وهنالك على أسطح البنايات القريبة من محيط الشاطئ صبيان‬
‫وش ّبان يهتفون ويص ّفرون ويص ّفقون‪ّ ،‬‬
‫ويهزون أذرعهم عال ًيا‪ ،‬أو ويرفعون‬
‫أيديهم بإشارة النصر‪ ،‬مبتهجين‪ ،‬كأنما يحتفلون باندحار الريح‪.‬‬
‫ً‬
‫طويل‪ ،‬لكنها جعلت‬ ‫بعد دقائق نزلت قطرات مطر خفيفة‪ ،‬لم تستمر‬
‫الجو شفي ًفا‪ ،‬وفي البحر صارت األمواج صغير ًة تجري إلى الشاطئ‪،‬‬
‫وحينما تبلغ الصخور المدببة والملساء تلعقها بألسنتها‪ ،‬ثم تلقي عليها‬
‫زبدها فتفقد روحها وتموت في رفق‪.‬‬
‫خذت به كأني طفل تقع عيناه عليه أول مرة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫مثيرا‪ُ ،‬أ‬
‫تراءى لي المشهد ً‬
‫وانتابتني هواجس عن عالقة البحر باليابسة‪ :‬لماذا تكون صاخب ًة عنيف ًة‬
‫ٍ‬
‫مرات وأليف ًة مرات أخرى‪ ،‬حتى أن أحدهما يبوح لآلخر بأشجانه ولواعجه‬
‫الوجدانية؟ هل تشبه عالقتهما عالقة اإلنسان بأخيه اإلنسان؟ ال ال‪ ،‬ليست‬
‫كذلك‪ ،‬صحيح أن البحر يهب اليابسة الكثير من المنافع لكنه يسبب لها‬
‫الكثير من الفواجع في الوقت نفسه‪ ،‬وكذلك تفعل اليابسة حين ترمي في‬
‫البحر مخ ّلفاتها وسمومها وزيوتها القاتلة‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫في أثناء ذلك بلغ المركب حافة المرفأ‪ ،‬مدفو ًعا بريح خفيفة أخذت‬
‫تهب من جهة الغرب‪ ،‬ورسا في غضون دقائق قالئل‪ ،‬و ُأنزلت األشرعة‪،‬‬‫ّ‬
‫البحارة المرساة‪ ،‬وهبط عدد وافر من الرجال وأربعة نساء‪ ،‬وأخذوا‬
‫وألقى ّ‬
‫يخطون على لوح العبور إلى الرصيف‪ .‬أثاروا فضولي فاستخدمت المنظار‬
‫ألرقبهم عن كثب‪ .‬كان يتقدمهم رجل ذو شعر كثيف يعتمر غطاء رأس‬
‫يشبه الطربوش‪ ،‬وله لحية طويلة مسترسلة تصل إلى صدره وتمنحه هيب ًة‪،‬‬
‫فبدا لي أنه زعيمهم‪.‬‬
‫اصطف الجمع‪ ،‬مثل فصيل عسكري‪ ،‬خلف مصاطب خشبية مث ّبتة‬
‫ّ‬
‫وصوبوا أبصارهم ناحية قلعة المدينة‪ ،‬منبهرين من مدخلها‬
‫ّ‬ ‫في الرصيف‪،‬‬
‫الضخم ذي القوسين المدببين نصف الدائريين‪ .‬لكن الزعيم ما لبث أن‬
‫جلس على إحدى المصاطب جلس َة رجل رزين ذي صالبة حازمة‪ ،‬وتبعه‬
‫فتى إلى ميمنته‪ ،‬ثم النساء األربع على مصطبة مجاورة إلى ميسرته‪ ،‬وفجأ ًة‬
‫لفت انتباهه الرمل المائل إلى الصفرة على بعد خطوات عنه‪ ،‬وأخذ يحدّ ق‬
‫إليه باستغراب شديد‪ ،‬وقد بدت عيناه تحت حاجبيه ثاقبتين تتأججان‬
‫شراس ًة‪ ،‬ثم نهض من مكانه‪ ،‬مكفهر الوجه‪ ،‬واتجه إلى الرمل‪ ،‬وجثا على‬
‫ويشمه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ركبتيه‪ ،‬ومال بجذعه إلى األمام وغرف حفن ًة منه‪ ،‬وأنشأ يتفحصه‬
‫ثم فتح يده وتركه يتسرب من بين أصابعه‪.‬‬
‫أيضا‪ ،‬يغطون‬‫كان الرجال أشدّ اء مفتولي السواعد‪ ،‬ذوي لحى طويلة ً‬
‫ٍ‬
‫موغل‬ ‫ٍ‬
‫ماض قدي ٍم‬ ‫ٍ‬
‫بخوذ نحاسية‪ ،‬ويرتدون ثيا ًبا من‬ ‫رؤوسهم غزيرة الشعر‬
‫القدم‪ ،‬ويتس ّلحون بسيوف‪ ،‬ودروع جلدية‪ ،‬وأقواس ونبال‪ ،‬ورماح تبلغ‬ ‫في ِ‬
‫طول‪ ،‬ويحمل بعضهم صرر ًا وصناديق بأحجام مختلفة عليها‬ ‫مثل قاماتهم ً‬
‫أقراص مجنّحة بارزة‪ِ ،‬خلت أنها مع ّبأة بالجواهر‪ .‬وثمة اثنان يحمل أحدهما‬

‫‪59‬‬
‫ً‬
‫منقوشا بكتابات مسمارية ونخلة‬ ‫ضخما مصنو ًعا من ناب فيل‪،‬‬
‫ً‬ ‫بو ًقا عاج ًّيا‬
‫ذات جذع طويل (شجرة الحياة)‪ ،‬ويمسك اآلخر بسلسلة حديدية تنتهي‬
‫إلى ربقة تحيط بعنق فهد ينحدر من زاوية عينيه خ ّطان أسودان‪ ،‬وكالهما‬
‫يتقلد سي ًفا ً‬
‫أيضا‪.‬‬
‫أوج تفتّحهن‪ ،‬هيفاوات‪ ،‬لهن‬
‫أما النساء فقد كانت ثالث منهن في ّ‬
‫أجساد تحبس األنفاس‪ ،‬تشي ر ّقتهن ّ‬
‫األخاذة بأنهن أميرات‪ ،‬إحداهن صبية‬
‫غضة العود‪ ،‬يانعة مثل ثمرة تين في أول نضوجها‪ ،‬مالحتها ال أحلى منها‬
‫تقلن أنوث ًة عنها‪ .‬ك ّن يغطين األجزاء‬
‫وال أشهى‪ ،‬واثنتان في نحو العشرين ال ّ‬
‫العليا من رؤوسهن بأحجبة معقودة من الخلف‪ ،‬ويتركن شعورهن مسبل ًة‬
‫على أكتافهن‪ ،‬ويز ّين رقابهن بقالئد من أحجار كريمة‪ ،‬ويرتدين فساتين طويل ًة‬
‫مطرزة بنقوش مذهبة وحبات‬
‫ذات أكمام موشحة بالزخارف‪ ،‬فوقها شاالت ّ‬
‫خرز وحواشي مشرشبة‪ ،‬وينتعلن أحذي ًة من غير كعوب أقرب ما تكون إلى‬
‫الصنادل‪ ،‬في حين كانت الرابعة تحت الخمسين من عمرها‪ ،‬ال تزال تحتفظ‬
‫تطوق رأسها بإكليل نصف دائري‪ ،‬وتلبس فوق‬ ‫بقسط وفير من الجمال‪ّ ،‬‬
‫وتلف رقبتها بوشاح مح ّلى بالزهور‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أيضا‪،‬‬
‫فستانها عباء ًة موشا ًة بالزخارف ً‬
‫وسيما‪ ،‬ذا‬
‫ً‬ ‫أكون انطبا ًعا قو ًّيا أنها ملكة‪ .‬أما الفتى فكان‬
‫وقد جعلني مظهرها ّ‬
‫أنف يميل إلى الدقة‪ ،‬ويحزم شعره‪ ،‬الذي يغطي أذنيه‪ ،‬بحزام أبيض ُمحاك‪.‬‬
‫نهضت على احتراس بالغ‪ ،‬متحاش ًيا النظر إلى الجمع‪ ،‬ومترد ًدا بين أن‬
‫رأيت شي ًئا‪ ،‬وبين أن أهرب‬
‫َ‬ ‫أمضي‪ ،‬على هوني‪ ،‬إلى حال سبيلي كأني ما‬
‫على جناح السرعة‪ .‬لم تكن المسافة‪ ،‬التي تفصلني عنهم‪ ،‬تسمح لي‬
‫بالنجاة إذا ما لذت بالفرار‪ ،‬فانعطفت إلى اليمين‪ ،‬وسرت بقدر ما أستطيع‬
‫لساقي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫من بطء‪ ،‬وفي اندفاع غير عقالني أطلقت العنان‬

‫‪60‬‬
‫ثوان قالئل ترامى إلى سمعي من الخلف صوت عظيم للبوق يتردد‬ ‫بعد ٍ‬
‫ً‬
‫طويل بطي ًئا في الفضاء‪ ،‬فأدركت من فوري أنهم يأمرونني بالتوقف‪.‬‬ ‫صداه‬
‫وقدمي‬
‫َ‬ ‫ساقي تخوران‪،‬‬
‫ّ‬ ‫لم أتمكّن من مواصلة الجري‪ ،‬أحسست بأن‬
‫تتداعيان كما لو أني سقطت من ٍّ‬
‫عل‪ ،‬وقلبي ينتفض فز ًعا‪ .‬توقفت وأدرت‬
‫ذراعي إلى األعلى مثل أسير‪ ،‬وكأن عشرات البنادق‬
‫ّ‬ ‫على عقبي؛ راف ًعا‬
‫إلي‪.‬‬
‫مسددة ّ‬
‫أومأ لي الزعيم بأن أتقدم‪ ،‬فازداد الخفقان في صدري‪« .‬يالها من ساعة‬
‫شؤم‪ ،‬أي شغف أحمق أخرجني اليوم إلى شاطئ البحر؟» قلت في دخيلتي‪،‬‬
‫ورجعت القهقرى اله ًثا حتى توقفت على مبعدة نحو عشرة أمتار عنه‪ .‬لكنه‬
‫صاغرا‪ ،‬ومثلت أمامه قل ًقا ه ّيا ًبا‪.‬‬
‫ً‬ ‫أومأ لي ثاني ًة بأن أقترب أكثر‪ ،‬فطاوعته‬
‫كانت يداه تعبثان بشيء لم أستطع تحديده‪ ،‬وعيناه تضطرمان بشرر‬
‫الغضب كأنه محارب عائد ًّتوا من معركة خاسرة‪ .‬تشتّت نظري بين‬
‫المحزز والنساء الحسناوات الالئي يخطف‬
‫ّ‬ ‫هيأته المهيبة والفهد والبوق‬
‫ِ‬
‫جمالهن األبصار‪ ،‬وراودني إحساس بأنني رأيت أصغرهن‪ ،‬ذات المبسم‬
‫الشهي والعينين الرماديتين المائلتين إلى الزرقة‪ ،‬والبشرة البيضاء المز ّينة‬
‫بنمشات صغيرة‪ ،‬في مكان ما‪ ،‬فهفا قلبي إليها‪.‬‬
‫علي‪ ،‬وأرغى وأزبد‪ ،‬ثم سألني‬
‫صوب الزعيم نظره الثاقب كالصقر ّ‬
‫ّ‬
‫بصوت أجش‪:‬‬
‫ــ عال َم فررت حين رأيتنا؟ هل أنت من أهل أرابخا؟‬
‫شفتي‪:‬‬
‫ّ‬ ‫أجبته بكلمات تع ّثرت على‬
‫توجست‪.‬‬
‫ــ إي‪ ،‬بلى‪ ..‬أنا من أهلها‪ ..‬كنت في ريب من أمركم‪ ..‬أقصد ّ‬

‫‪61‬‬
‫رفع حاجبيه من فرط الدهشة وقال‪:‬‬
‫نعض؟‬
‫ــ هل يبدو علينا أننا ّ‬
‫نفيت بحركة من رأسي‪ ،‬وابتلعت ريقي وقلت‪:‬‬
‫علي‪.‬‬
‫ينقض ّ‬
‫ــ ارتعبت من الفهد‪ ،‬خشيت أن ّ‬
‫ألقى بالشيء الذي كان يعبث به على الفتى الجالس جنبه‪ ،‬لكنه سقط‬
‫على األرض‪ ،‬وللحظة استطعت أن أم ّيزه‪ ،‬كان مجموعة أحجار كريمة‬
‫يجمعها خيط كالمسبحة‪ ،‬أسرع الفتى إلى التقاطه‪ .‬أشار الزعيم بيده إلى‬
‫أحد رجاله‪ ،‬فاستخرج الرجل قارور ًة جلدي ًة من أحد الصناديق‪ ،‬وسكب‬
‫منها ً‬
‫سائل في كأس خزفي وقدّ مه له‪ .‬رفع الزعيم رأسه وأفرغ الكأس في‬
‫يصب ما ًء في قاع حفرة‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ّ‬ ‫جوفه مثل َمن‬
‫مروض‪ ،‬يستهدف الفرائس الصغيرة فقط وال يهاجم‬
‫ــ ال تخف‪ ،‬إنه َّ‬
‫البشر‪.‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫أيضا‪.‬‬
‫ــ وهيئاتكم الغريبة ً‬
‫خبط الهواء بقبضته أمام وجهه وسأل‪:‬‬
‫ــ أين وجه الغرابة فيها؟‬
‫قلت‪:‬‬
‫ــ إنها تعطي انطبا ًعا بأنكم ِ‬
‫مفزعون‪ ..‬أعني أنكم غرباء‪ ،‬لستم من‬
‫عصرنا‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫قال‪:‬‬
‫ــ هل أفهم من ذلك أننا سنُفزع أهل المدينة؟‬
‫ــ أتريدون دخولها بثيابكم هذه؟‬
‫أصدر الجمع أصوتًا مضطرب ًة وغامض ًة‪ ،‬وسألني الزعيم متبر ًما‪:‬‬
‫ــ ما بها ثيابنا؟‬
‫صمت ً‬
‫قليل‪ ،‬ثم قلت مترد ًدا‪:‬‬ ‫ّ‬
‫ــ سيخالكم الناس جماع ًة إرهابي ًة‪.‬‬
‫نتأت حدقتا عينيه‪ ،‬وسألني مستغر ًبا‪:‬‬
‫ــ ما معنى جماعة إرهابية؟‬
‫ــ مسلحون في غاية الخطورة‪ ،‬يقتلون وينهبون ويغتصون‪ ،‬احتلوا مدنًا‬
‫ٍ‬
‫وبلدات وقرى كثير ًة في بالدنا وفي بالد الشام‪ ،‬وأذ ّلوا سكانها‪ ،‬وسبوا‬
‫نساءها‪ ،‬واستولوا على مواردها‪.‬‬
‫ــ اللعنة‪ ،‬هل لهم موطئ قدم في أرابخا؟‬
‫أجبته متأس ًّيا‪:‬‬
‫ــ في بعض البلدات والقرى التابعة لها‪ ،‬و ُيقال إن عناصر منهم مختبئون‬
‫يسمونهم خاليا نائمة‪.‬‬
‫ــ أتشبه ثيابهم ثيابنا؟‬
‫ــ إلى حد ما‪ .‬إنهم يرتدون ز ًّيا موحدً ا ُيعرف بالزي القندهاري‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫أرضا اسمها گندهارة شرق مملكة عالمتو‪.‬‬
‫ــ قندهاري؟ أعرف ً‬
‫ــ أكيد هي ذاتها في دولة أفغانستان اليوم‪.‬‬
‫ــ أفغانستان! ربما هو االسم الذي تطلقونه اليوم على إحدى ممالك‬
‫الميديين التي كانت تقع فيها گندهارة‪.‬‬
‫ــ تخمينك في محله يا سيدي‪.‬‬
‫ــ بعض أعواني حاول إقناعي يو ًما ما بأن أبسط سيطرتي على تلك‬
‫تحمست لألمر‪ .‬هل يسيطر‬
‫المملكة وما جاورها من ممالك‪ ،‬لكنني ما ّ‬
‫أيضا؟‬
‫هؤالء اإلرهابيون على قندهار ً‬
‫ــ ال‪ ،‬كانت قبل سنوات عاصمة إمارة حركة متطرفة اسمها طالبان‬
‫أيضا‪.‬‬
‫سيطرت على معظم مناطق أفغانستان‪ ،‬وهي إرهابية ً‬
‫ــ ما أكثر المتطرفين واإلرهابيين في عالمكم!‬
‫الهم على القلب‪ ،‬وللمشكلة وجه‬
‫ــ صدقت يا سيدي‪ ،‬إنهم أكثر من ّ‬
‫آخر‪..‬‬
‫ــ أي وجه؟‬
‫أيضا توجد بينهم جماعات تسلك مسلكها في‬
‫ــ خصوم هذه الجماعة ً‬
‫قتل األبرياء أو تشريدهم ونهب ممتلكاتهم‪.‬‬
‫شبك الزعيم رؤوس أصابعه بعضها ببعض وقال‪:‬‬
‫دمت توجس خيف ًة من‬
‫ــ هل يتع ّين علينا إذن ارتداء ثياب مثل ثيابك ما َ‬
‫أمر ثيابنا؟‬

‫‪64‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ــ طبع ًا‪ ،‬من األفضل أن ترتدوا ثيا ًبا مثل ثياب أهل المدينة‪.‬‬
‫إلي‪،‬‬
‫التفت الزعيم إلى زوجته وهمس في أذنها‪ ،‬فهزت رأسها‪ ،‬ثم نظر ّ‬
‫وعلى محياه ابتسامة عريضة‪ ،‬وأشار تجاهي بإبهامه ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫ــ ستكون أنت عونًا لنا‪.‬‬
‫ــ أنا؟ كيف أعينكم؟‬
‫سألته‪ ،‬فرد واث ًقا‪:‬‬
‫ــ تجلب ألحد رجالي ثيا ًبا مثل ثيابك وأنا أكافئك‪.‬‬
‫أشرت إلى حاشيته‪:‬‬
‫ــ واآلخرون؟‬
‫قال‪:‬‬
‫ــ سيرافقك أحد جنودي ليبتاع ما يكفينا جمي ًعا‪ .‬هل تقايضون الثياب‬
‫بالذهب؟‬
‫قلت‪:‬‬
‫ــ ال‪ ،‬نحن نتعامل بالنقود الورقية‪ ،‬لكن يمكنه أن يستبدل الذهب‬
‫بالنقود‪ ،‬أعني يبيعه ألحد الصاغة‪.‬‬
‫قال‪:‬‬
‫ــ األمر سهل إ ًذا‪ ،‬ستكون أنت ً‬
‫دليل له‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫سألت‪:‬‬
‫ــ وكيف سيحمل ما يكفيكم جمي ًعا من الثياب واألحذية؟‬
‫ــ أال توجد وسائط للنقل في المدينة؟‬
‫ــ بلى توجد‪.‬‬
‫ــ أهي عربات تجرها الخيل؟‬
‫ــ ال يا سيدي‪ ،‬إنها عجالت تعمل بمحركات ويقودها سائقون‪.‬‬
‫وأشرت إلى موقف السيارات‪ ،‬وأضفت‪:‬‬
‫ــ مثل تلك المركونة هناك أو التي تسير في الشارع‪.‬‬
‫ــ أرأيت؟ إن األمر سهل كما قلت‪.‬‬
‫ــ لكن يجب أالّ يراكم سائق السيارة بثيابكم وسيوفكم هذه‪.‬‬
‫رفع يده وقال‪:‬‬
‫ــ لماذا سائق آخر‪ ،‬أال تمتلك أنت سيارةً؟‬
‫ــ بلى‪ ،‬لكنها صغيرة ال تستوعب الحمل‪ ،‬ويجب أن نكتري واحد ًة‬
‫تسمى شاحن ًة‪.‬‬
‫وجدت الحل‪ ،‬أما بشأننا فال تقلق‪ ،‬سنختفي داخل المركب أو‬
‫َ‬ ‫ــ ها قد‬
‫هنا‪.‬‬
‫وأشار إلى المغارة‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ــ لئال يرانا السائق‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫ــ وإذا سألني ماذا تفعل بالبضاعة في مكان كهذا؟‬
‫ــ ال تع ّقد األمر‪ ،‬قل له إنك تريد نقلها بذلك المركب الراسي على‬
‫المرفأ إلى مكان آخر‪.‬‬
‫بدا لي الزعيم حاذ ًقا‪ ،‬ذك ًّيا‪ ،‬فسألته‪:‬‬
‫ــ كم من الوقت تنوون البقاء في المدينة؟‬
‫ــ ريثما تنتهي مهمتنا‪.‬‬
‫ــ هل أستطيع أن أعرف اسمك؟‬
‫أسمعت باسم آشور ناصر بال الثاني؟‬
‫َ‬ ‫ــ‬
‫قلت بثقة‪:‬‬
‫ــ طب ًعا‪ ،‬قرأت عنه في كتب التاريخ‪ ،‬إنه ملك آشوري ا ّدعى بأنه باني‬
‫مدينتنا‪.‬‬
‫تهلل وجه الزعيم وقال‪:‬‬
‫ــ أنا هو‪.‬‬
‫انتابني ُ‬
‫الذهول‪:‬‬
‫ــ أنت الملك آشور ناصر بال الثاني؟!‬
‫قال‪:‬‬
‫ــ بلحمه ودمه‪.‬‬
‫تاجا على رأسك!‬
‫عفوا يا سيدي‪ ،‬ال تضع ً‬
‫ــ لكنك‪ً ،‬‬

‫‪67‬‬
‫ــ سقط في البحر‪.‬‬
‫ــ يا للهول!‬
‫ــ كنت على شفير المركب حين ه ّبت العاصفة فسقط من رأسي‪ .‬لكن‬
‫دعك من هذا‪.‬‬
‫أومأ إلى النساء‪ ،‬واستطرد‪:‬‬
‫ــ هذه زوجتي الملكة موليشومو‪ ،‬وهؤالء بناتي‪ :‬أميديا وإيشارا‬
‫وشميرام‪.‬‬
‫شبها بأمه‪ ،‬وتبدو عيناه يقظتين‬
‫ثم ربت على كتف الفتى‪ ،‬الذي يعطي ً‬
‫مبتهجتين‪:‬‬
‫ــ وهذا ابني وولي عهدي األمير شلمانو‪ .‬لديه خصال عظيمة يندر أن‬
‫تجدها في َمن هم في سنه‪ ،‬يسلك مسلك الحكمة والقوة‪ ،‬وينبذ األهواء‬
‫التي ال يسفر عنها إالّ ضياع هيبة أبناء الملوك‪.‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫الرب‪.‬‬
‫ــ فليحفظه ّ‬
‫صمت لحظ ًة‪ ،‬ثم اضفت‪:‬‬
‫ُّ‬
‫ــ لكنني قرأت يا سيدي أن أرابخا تعود إلى عصر أور السومرية‪.‬‬
‫كر ًة أخرى إلى أحد رجاله‪،‬‬
‫احمر وجه الملك وانتفخت أوداجه‪ ،‬وأشار ّ‬
‫ّ‬
‫ً‬
‫منفعل بصوت خرج من معدة‬ ‫كأسا ثان ًي ًة‪ ،‬شربها دفع ًة واحدةً‪ ،‬ور ّد‬
‫فقدّ م له ً‬
‫ممتلئة‪ ،‬وهو يمس أنفه‪:‬‬

‫‪68‬‬
‫ــ ت ًّبا‪ ،‬أي هزأة كتب ذلك؟‬
‫متوج ًسا‪:‬‬
‫ّ‬ ‫قلت‬
‫ــ كل االحترام لك جاللة الملك‪ ،‬إنه والله رجل حكيم وليس هزأةً‪.‬‬
‫استشاط غض ًبا وقال‪:‬‬
‫ــ أتصدّ ق ً‬
‫رجل من زمانكم وتكذبني أيها الصعلوك؟‬
‫انعقد لساني لحظ ًة ثم تمتمت‪:‬‬
‫ــ على هونك يا سيدي ال تغضب‪.‬‬
‫أحنى جسمه وسألني‪:‬‬
‫ــ إص ِغ أيها الشاب‪ ،‬كم عمرك؟‬
‫ــ ست وعشرون عا ًما‪.‬‬
‫ــ ومهنتك؟‬
‫ولدي محاوالت في كتابة الرواية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أدرس علم اآلثار‪،‬‬
‫ــ ُ‬
‫تدرس في هذا العلم؟‬
‫ــ ماذا ُ‬
‫ورقم‬
‫أدرس ذخائر وكنوز حضاراتنا القديمة من عمائر ومنحوتات ُ‬
‫ــ ُ‬
‫و ُلقى وما ال يخطر في ُحسبان‪.‬‬
‫اعتدل في جلسته وقال‪:‬‬
‫أيضا؟‬
‫ــ هذا أمر جيد‪ ،‬وماذا عن الثانية التي أسميتها رواية؟ هل هي علم ً‬
‫ــ ال‪ ،‬إنها نوع من أنواع األدب‪ ،‬سرد طويل يحكي أحدا ًثا‪ ،‬ويصف‬
‫شخصيات خيالي ًة أو واقعي ًة‪ ،‬ويشبه األدب الملحمي في العصور القديمة‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫تلمس آشور بشرته بلمسات من بنان أصابعه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ــ مثل قصة جلجامش؟‬
‫دونها سين‪ -‬ليقي‪ -‬أونني‬
‫ــ أحسنت يا سيدي‪ .‬هل قرأت النسخة التي ّ‬
‫باللغة األكدية في أوروك؟‬
‫ــ ال‪.‬‬
‫قال على ٍ‬
‫نحو قاطع‪ ،‬وأردف‪:‬‬
‫ــ قرأها على سمعي أحد كتبتنا في ألواح مكتوبة بلغتنا اآلشورية‪.‬‬
‫قلت بنبرة استحسان‪:‬‬
‫ــ تما ًما يا سيدي‪.‬‬
‫انطلقت أسارير الملك‪ ،‬وبدا أن فكر ًة الحت له‪ ،‬فقال بعد أن أدار رأسه‬
‫نصف دورة إلى رجاله‪:‬‬
‫قمت به من أفعال‬
‫تدون ما ُ‬
‫ــ ما دمت تهوى تدوين الروايات فلعلك ّ‬
‫عظيمة أحنى الجبابرة جباههم لها‪ .‬سأقصصها عليك بالتفصيل‪ ،‬بل‬
‫مشدوها من هولها‪ ،‬وعليك أن تضيف‬
‫ً‬ ‫سأبتعثها لك في صور حية تجعلك‬
‫لها الكثير من توابل التشويق والخيال والشعر‪.‬‬
‫ــ في خدمتك يا سيدي‪ ،‬هذا شرف كبير لي‪.‬‬
‫وسعت أرابخا ون ّظمتها‪ ،‬وكانت قبل ذلك بلد ًة صغير ًة‬
‫ــ إصغِ‪ ،‬أنا الذي ّ‬
‫علي الحاكم الميدي َارياق‬
‫ومركزا لعبادة إله الرعد والبرق أدد‪ ،‬وحين تمرد ّ‬
‫ً‬
‫حاكما عليها اسمه كرمي‪ ،‬وأمرته ببناء قلعة فيها‪،‬‬
‫ً‬ ‫عزلته وعينت بدالً منه‬

‫‪70‬‬
‫أتم بناءها جاء بألف من أتباعه وأسكنهم فيها‪ ،‬فتوسعت عمارتها‬
‫وعندما ّ‬
‫وعظمت أهميتها‪ ،‬ومنذ ذلك التاريخ أصبحت حصنًا دفاع ًيا أمام هجمات‬
‫األعداء الطامعين في االستيالء على المدينة‪.‬‬
‫حين أنهى كالمه شعرت بأنه كان يقذف الهواء بألفاظه‪ ،‬فخطر لي أن‬
‫أقول له إن بيوت القلعة ُأزيلت كلها بعد أن ُأرغم ساكنوها على مغادرتها‪،‬‬
‫يبق فيها سوى بعض اآلثار القديمة‪ ،‬إالّ أنني خشيت أن أصدمه‪،‬‬
‫ولم َ‬
‫فتمالكت نفسي وسألته‪:‬‬
‫ــ هل كانت هذه المغارة موجودة حين ُبنيت القلعة؟‬
‫حراس المرفأ من الريح والمطر‪.‬‬
‫ــ نعم‪ ،‬كانت مأوى تعصم ّ‬
‫فكّرت في إطالعه على الحكايتين الشائعتين عنها‪ ،‬لكني لم أجد الفكرة‬
‫مناسب ًة‪ ،‬ومضيت في الحديث عن المدينة‪:‬‬
‫أيضا إن الملك آشور بانيبال‪ ،‬أو‬
‫ــ اعذرني جاللة الملك‪ ،‬ثمة من يقول ً‬
‫سردنابال الملقب بملك العالم هو باني القلعة‪.‬‬
‫مزمجرا‪:‬‬
‫ً‬ ‫تشنّج وجه الملك‪ ،‬وصاح‬
‫ــ هراء‪.‬‬
‫قلت بصوت خافت‪:‬‬
‫ــ إنه ابن الملك آسرحدون وحفيد الملك سنحاريب‪.‬‬
‫ً‬
‫متسائل‪:‬‬ ‫كان لر ّدي فعل القنبلة‪ ،‬فانتفض في سورة غضب‬
‫ــ من أين تأتي بهذه المزاعم أيها الصعلوك؟‬

‫‪71‬‬
‫أجهدت ذهني الستخلص جوا ًبا ال يزعجه‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫ــ أرجوك يا سيدي ال تغضب‪ ،‬هكذا ع ّلمنا التاريخ‪.‬‬
‫لكنه ر ّد ساخ ًطا‪:‬‬
‫ــ ليذهب التاريخ الذي ع ّلمكم هذا الهرف إلى الجحيم‪.‬‬
‫الجبن عن المضي في محاججته فتمتمت‪:‬‬
‫أوقفني ُ‬
‫ــ ليذهب يا سيدي‪ ،‬ما شأني أنا‪.‬‬
‫رفع سبابته وقال ّ‬
‫محذ ًرا‪:‬‬
‫ــ افتح أذنيك جيدً ا‪ ،‬عليك أن تمحو من رأسك كل هذا الهذيان‪ ،‬أنا‬
‫الذي ش ّيدت أرابخا‪ ،‬واليوم جئت ألتفقد أحوالها‪ ،‬بلغتني معلومات تقول‬
‫إنها تفتقد إلى األمان‪ ،‬وإن جماعات عديد ًة تتنازع لالستئثار بها‪.‬‬
‫ــ صحيح يا سيدي‪ ،‬كل جماعة تزعم أن اللبن الذي في ضرع المدينة‬
‫تجتر العاقول والشوك‪.‬‬
‫ملك لها فيما هي ّ‬
‫تبدّ ت نظرة زاخرة باألسى على وجهه‪ ،‬وقال بصوت يتراوح بين‬
‫الفوران والخفوت‪:‬‬
‫ــ ت ًّبا لهم جمي ًعا‪ .‬ليعنّي اإلله على إعادة األمان والوحدة إليها‪ .‬كانت‬
‫ساب ًقا مرت ًعا ألناس من شتى األعراق والمنابت‪ ،‬يتعايشون في إلفة رائعة‪،‬‬
‫ومرها‪ ،‬أما اآلن فيبدو أن شي ًئا ما تغلغل في بواطن‬
‫يتقاسمون الحياة حلوها ّ‬
‫أعراقها وصدّ عها‪.‬‬
‫ثم أمر أحد رجاله بأن يفتح الصندوق الصغير الذي يحمله‪ ،‬وحين فتحه‬
‫الرجل تناول منه قطع ًة ذهبي ًة وقال‪:‬‬

‫‪72‬‬
‫ــ أترى قطعة الذهب هذه؟‬
‫ــ ال شك في أنها ثمينة يا سيدي‪.‬‬
‫ــ سأمنحك عد ًدا منها بعد عودتك‪.‬‬
‫ألقيت نظر ًة خاطف ًة إلى ابنته الصغرى وقلت‪:‬‬
‫ــ أطمح إلى هدية أثمن‪.‬‬
‫ــ أية هدية؟‬
‫أشرت بإصبعي إلى ابنته الصغرى‪ ،‬ففتح عينيه على وسعهما وقال‪:‬‬
‫ــ األميرة شميرام؟‬
‫قلت‪:‬‬
‫ــ يا له من اسم جميل‪ ،‬لقد مال قلبي إليها وأحلم أن أتزوجها‪.‬‬
‫شررا كما لو أني‬
‫سرت دمدمة بين الجمع‪ ،‬وقدحت عينا الملك آشور ً‬
‫ح ّطمت كبرياءه‪:‬‬
‫ــ ماذا قلت أيها الصعلوك؟‬
‫ــ لِ َم ال يا صاحب الجاللة‪ ،‬هل يعوزني شيء؟ أنا شاب آشوري أعزب‪،‬‬
‫وسأحوز قري ًبا على شهادة الماجستير وأصبح عالم آثار‪.‬‬
‫ــ أجل‪ ،‬يعوزك أنك ال تنتمي إلى طبقة راقية‪ ،‬بل إلى عامة الناس‪ ،‬وأنا‬
‫أخضعت كركميش وأرض توم‬
‫ُ‬ ‫ملك ابن ملك‪ .‬ألم تقرأ أنني رجل عظيم‬
‫واستوليت على مدنها الحصينة‪ ،‬وبسطت نفوذي على كيروري وجعلت‬
‫سكانها يؤدون لي الجزية من الخيل والذهب والفضة والقصدير والنحاس‪،‬‬

‫‪73‬‬
‫وضممت أرض كيرهي إلى مملكتي‪ ،‬وث ّبت سيادتي على زامو وتشخان‬
‫وكينابوو بيت زماني‪ ،‬وأخمدت التمرد في الق وخنداق وسوخو وقضيت‬
‫عليها‪ ،‬وأقمت لوح ًة تذكاري ًة عند نهر الكلب؟‬
‫تذكرت أنني قرأت ذات يوم شي ًئا من ذلك‪ ،‬فأجبته‪:‬‬
‫ــ بلى‪.‬‬
‫ً‬
‫متسائل بازدراء‪:‬‬ ‫ر ّد‬
‫ــ كيف تجرؤ إ ًذا على طلب يد ابنتي؟‬
‫ــ ألنها راقت لي وأحببتها‪ ،‬سبق أن رأيتها ذات مرة‪.‬‬
‫ارتسمت على وجه الصبية ابتسامة مفعمة بالخجل والحيرة‪ ،‬صاحبتها‬
‫تعبيرا‬
‫ً‬ ‫نظرة هائمة في الفراغ‪ ،‬في حين قطب الملك جبينه‪ ،‬واتخذ وجهه‬
‫جهما مغل ًقا‪ ،‬وقال كمن أصابه فالج‪:‬‬
‫ً‬
‫ــ ما هذا القول األخرق؟ هل أنت عاقل أم مجنون؟‬
‫ــ عاقل طب ًعا يا جاللة الملك‪.‬‬
‫ــ إن كنت ً‬
‫عاقل كيف تقول إنك رأيتها ذات مرة؟‬
‫ــ ال أدري‪ ،‬ربما حدث ذلك في الحلم‪.‬‬
‫بش وجهه ً‬
‫قليل‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫ّ‬
‫يزوج الملوك بناتهم من أبناء عامة‬
‫حلمت بها‪ ،‬لكن هل ّ‬
‫َ‬ ‫ــ حسنًا‪ ،‬ربما‬
‫الناس في زمنكم؟ أال يراعون المقامات؟‬
‫يزوجون إذا توافقت القلوب‪.‬‬
‫ــ نعم ّ‬

‫‪74‬‬
‫ــ يا لك من َجسور! تتحدث وكأنك تملك قلب ابنتي‪ .‬أنت تحيرني‬
‫يا‪ ...‬ما اسمك؟‬
‫ــ نينوس‪.‬‬
‫اسما آشور ًّيا‪.‬‬
‫ــ نينوس؟! هذا ليس ً‬
‫ــ أجل يا سيدي‪ ،‬المؤرخون اختلفوا في أصله‪ ،‬بعضم يقول إنه االسم‬
‫الذي أطلقه اليونانيون على نينوى‪ ،‬وبعضهم اآلخر يقول إنه االسم الذي‬
‫أطلقوه على بانيها الملك توكولتي نينورتا األول‪.‬‬
‫ــ إنه أحد أجدادي‪ ،‬أخضع كل أمم الشرق ما عدا الهنود والبخاترة‪،‬‬
‫قادرا على تجييش مليوني جندي‪.‬‬
‫وكان ً‬
‫ــ إذن أنا من أحفادكم يا سيدي‪.‬‬
‫قهقه الملك‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ــ غلبتني في هذا‪ ،‬يبدو أنك شاب مستنير‪ .‬واآلن اهرع وانجز المهمة‬
‫التي كلفتك بها‪ ،‬وحينما تعود سأنظر في موضوع زواجك من احدى بناتي‪.‬‬
‫ــ شميرام بالذات يا سيدي‪ ،‬قلبي تع ّلق بها‪.‬‬
‫ــ سأنظر في الموضوع‪.‬‬
‫ــ تنظر أم تعدني بالموافقة؟‬
‫ِ‬
‫امض إلنجاز المهمة‪.‬‬ ‫لحوحا‪،‬‬
‫ً‬ ‫ــ ال تكن‬
‫ــ سأفعل يا جاللة الملك المع ّظم‪.‬‬
‫ّلوحت بيدي مود ًعا لالنصراف‪ ،‬بيد أنني تفكّرت فجأ ًة في الفهد‪،‬‬
‫فقلت‪:‬‬

‫‪75‬‬
‫ــ نسيت أن أخبرك بشأن ذلك الحيوان‪.‬‬
‫ــ ما به؟‬
‫سيروع أهل المدينة إذا رافقكم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ــ‬
‫مروضه في المركب‪.‬‬
‫ــ ال تقلق‪ ،‬سيمكث مع ّ‬
‫أخرجت هاتفي الخلوي أللتقط صور ًة للجمع لكني وجدت‬
‫بطاريته خالي ًة من الشحن تما ًما‪ .‬هرعت إلى سيارتي‪ ،‬سالكًا مسار ًا آخر‬
‫أقل عثرات‪ ،‬ورأسي يمور بتساؤالت شتى‪ :‬أأصدّ ق أنه الملك آشور أم‬
‫أنه أ ّفاق ينتحل شخصيته‪ ،‬أم زعيم نفر من القراصنة؟ ْ‬
‫إن كان هو بلحمه‬
‫ودمه كما يقول فلماذا لم يرشده أحد آلهته‪ ،‬أو أحد حكماء مملكته في‬
‫األقل‪ ،‬إلى أفضل السبل لدخول المدينة؟‪ ...‬ال‪ ،‬ال‪ ،‬إن هيبته تشير إلى‬
‫أنه ملك بالفعل‪ ،‬لكن هل ُيعقل أنه جاء فقط بغية تف ّقد أحوال المدينة؟‬
‫حملني إياه أم أحقق مراده؟‬
‫أأتناساه وأفلت من العبء المرهق الذي ّ‬
‫أضعت فرصة الزواج من ابنته الصبية الساحرة الجمال‪،‬‬
‫ُ‬ ‫تناسيت‬
‫ُ‬ ‫إذا‬
‫وخسرت مكافأته الثمينة التي سيحوزها‪ ،‬ببساطة‪ ،‬شخص آخر‪ ،‬ربما‬
‫ُ‬
‫رجل مستطرق‪ .‬أجل‪ ،‬من الحكمة أن أكون عونًا للملك آشور كما‬
‫أراد‪ ،‬وأقايض العبء بالصبية والمكافأة‪ .‬أظنه اقتنع بأنني نبتة طالعة‬
‫من بذرة آشورية وإالّ لما قال سأنظر في موضوع زواجك من ابنتي‪.‬‬
‫مازحا؟ الله ما أجملها‪ ..‬شميرام‪ ،‬شميرام‪ ..‬إنه أحد‬
‫ً‬ ‫لكن أكان جا ًّدا أم‬
‫أسماء محبوبة الحمام الملكة القوية شمورامات ذات الحسن والذكاء‬
‫الخارقين‪ .‬سأكون محظو ًظا إن تزوجتها ورافقت أهلها إلى عاصمتهم‬
‫كلحو الجميلة‪ .‬سأستمتع برؤية جدارية نمرود‪ ،‬والمشغوالت العاجية‬

‫‪76‬‬
‫والمسالت والتماثيل الضخة التي قرأت عنها‪ ،‬وأزور معبد نبو أل ّطلع‬
‫الرقم المسمارية التي نُقشت عليها نصوص عهود الوالء المقدَّ مة‬
‫على ُ‬
‫من الحكام التابعين للدولة اآلشورية‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫‪9‬‬

‫حين بلغت البيت ضغطت على الجرس عدة مرات فلم يفتحه أحد‪ .‬بعد‬
‫برهة فتح جاري رشيد‪ ،‬الطاعن في الشيخوخة‪ ،‬اآليل للزوال والمصاب‬
‫وتفحصني بعينين زائغتين ال تقدران على تركيز‬
‫ّ‬ ‫بالزهايمر‪ ،‬نافذة بيته‪،‬‬
‫النظر‪ ،‬وسألني‪ ،‬بصوت مطحون‪ ،‬وفكه األسفل يرتعش‪ ،‬السؤال الذي‬
‫اعتاد أن يسألنيه كلما رآني‪:‬‬

‫ــ هل رأيت زوجتي يا نيموس؟‬

‫مازحا‪ ،‬كما في كل‬


‫ً‬ ‫كانت زوجته قد توفيت منذ سنوات طويلة‪ ،‬فأجبته‬
‫مرة‪:‬‬

‫ــ أعتقد أنها في السوق وستعود بعد قليل‪ ،‬واسمي نينوس وليس‬
‫نيموس‪.‬‬

‫خطوت خطوتين فسمعته ينادي‪:‬‬

‫ــ انتظر‪.‬‬

‫مكرها‪ ،‬ووضعت يدي على النافذة‪:‬‬


‫ً‬ ‫عدت إليه‪،‬‬

‫ــ هل تريد أن تقول شي ًئا آخر؟‬

‫‪78‬‬
‫انتزع سدارته السوداء ((( من رأسه‪ ،‬وفتح فمه فبانت لثته عاري ًة من‬
‫األسنان‪:‬‬
‫ــ ال يروق لي أن تذهب زوجتي وحدها إلى السوق‪.‬‬
‫ــ لماذا؟‬
‫ــ أخاف عليها من كائنات غير مرئية ال تتوقف أبدً ا عن مضايقة النساء‪.‬‬
‫مازحته ثاني ًة‪:‬‬
‫ــ كان هذا يحدث أيام كانت زوجتك شاب ًة‪ ،‬أما اآلن فال خوف عليها‪.‬‬
‫يعيش جارنا هذا مع حفيدته العانس نازك‪ ،‬الممرضة في المستشفى‬
‫الجمهوري‪ .‬كان جند ًيا في جيش هتلر أيام الحرب العالمية الثانية‪ .‬وصل‬
‫إلى ألمانيا رفقة أبيه وهو في سن الثالثة‪ ،‬وحصل على جنسيتها‪ .‬وحين‬
‫وزجوه مع قوات‬
‫قامت الحرب كان في الثامنة عشرة فساقوه إلى الجيش‪ّ ،‬‬
‫ضخمة في عملية «بارباروسا» التي شنتها قوات المحور لغزو االتحاد‬
‫السوفييتي‪ ،‬لكنه ُجرح في بداية المعارك‪ ،‬وتمكّن من الفرار إلى تركيا‪،‬‬
‫متنكرا بهيئة غجري‪ ،‬ومنها دخل إلى العراق‪ .‬سألتُه ذات مرة لماذا أطلق‬
‫ً‬
‫هتلر على تلك العملية اسم باربروسا؟ قال «الفوهرر ابن قحبة‪ ،‬كان يتوهم‬
‫أن ابن القحبة باربروسا سيستيقظ من سباته وينقذ ألمانيا حينما تحتاجه!»‪.‬‬
‫تق ّلب رشيد بين مهن مختلفة‪ ،‬كانت آخر واحدة «تيتي» (قاطع تذاكر‬
‫في القطار)‪ ،‬خرج منها متقاعدً ا‪ ،‬وماتت زوجته قبل اثنين وعشرين عا ًما‪،‬‬

‫(((لباس الرأس املعروف بـ«الفيصلية» نسب ًة إىل امللك فيصل األول الذي ّ‬
‫صممها واعتمرها‬
‫أول مرة يف العراق‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫ولم يكن أنجب منها سوى بنتًا واحد ًة هي أم حفيدته المسكينة نازك‪ ،‬ولما‬
‫أيضا في سن األربعين لم يعد يرعاه غير هذه الحفيدة‪ .‬أما‬
‫ماتت البنت ً‬
‫أحفاده الثالثة البنين فقد قضوا نحبهم في ظروف مختلفة‪ُ ،‬قتل واحد في‬
‫بداية االحتالل بصاروخ أميركي قصف وحدته العسكرية‪ ،‬وغرق ٍ‬
‫ثان في‬
‫البحر أثناء محاولة تهريبه إلى أوروبا مع مجموعة الجئين غير شرعيين‪،‬‬
‫مخيما مؤقتًا في غابة بالبوسنة‬
‫ً‬ ‫و ُفقد الثالث أثناء عاصفة ثلجية ضربت‬
‫بعد نجاحه في الهروب من تركيا إلى تلك الدولة‪ .‬وقيل إنه ربما ُقتل بلغم‬
‫أرضي من مخلفات الحروب التي عاشتها يوغوسالفيا‪ ،‬لكن جثته لم ُيعثر‬
‫عليها‪.‬‬
‫بقيت نازك عزباء من أجل َجدّ ها هذا‪ ،‬تجتر معاناة فقد األم واألشقاء‪،‬‬
‫وكرست نفسها له‪ .‬تذهب إلى عملها في‬ ‫ودخلت دور ًة في التمريض ّ‬
‫عصرا‪ ،‬وتستقبل في األماسي بعض النساء‬
‫ً‬ ‫صباحا وتعود في الرابعة‬
‫ً‬ ‫السابعة‬
‫المريضات اللواتي يحتجن إلى غرز إبر‪ .‬عانس طيبة‪ ،‬ذات مروءة وأخالق‬
‫حميدة‪ ،‬على عكس ما يشاع عن الممرضات‪ .‬تتزاور هي وأسين من ٍ‬
‫آن‬ ‫ُ‬
‫آلخر‪ ،‬وفي بداية كل شتاء تقصدها أمي لتغرزها إبر ًة مضاد ًة لإلنفلونزا‪،‬‬
‫وحين تعود تقول بثقة متناهية «وحق العذرا إن نازك أفضل من أطباء زمننا‬
‫األغبر»‪.‬‬
‫أراد رشيد أن يواصل حديثه معي لكن جارتتنا أم سيمون‪ ،‬التي دخلت‬
‫ولوحت‬
‫ًّتوا عقدها السابع‪ ،‬فرجت باب بيتها‪ ،‬وأخرجت رأسها منه ّ‬
‫أيضا‪ ،‬إالّ‬
‫لي‪ .‬اتجهت إليها‪ ،‬ظنًّا مني أنها تريد أن تسألني عن زوجها ً‬
‫أنها أخبرتني بأن أمي تركت لي المفتاح عندها وذهبت إلى المستشفى‬
‫الجمهوري‪ .‬صعقني النبأ‪:‬‬

‫‪80‬‬
‫ــ ماذا حدث لها؟‬
‫قالت‪:‬‬
‫ــ اطمئن‪ ،‬لم تُصب بأذى‪ ،‬ذهبت ألمر يتعلق بأبيك؟‬
‫ــ أبي؟‬
‫ــ اتصل بها من المستشفى قبل ما يزيد عن ساعة‪ .‬صدمته سيارة في‬
‫شارع أطلس وسببت له بعض الرضوض‪.‬‬
‫ــ اللعنة‪ ،‬أفي مثل هذا الوقت؟‬
‫ــ ال تلعن أحدً ا يا ولدي‪ ،‬القديس يوحنا يوصينا بأن نبارك حتى على‬
‫الذين يضطهدوننا ال أن نلعنهم‪.‬‬
‫أخذت المفتاح من المرأة وشكرتها ببرود‪ .‬كان ذهني مشتتًا بين خيارين‪:‬‬
‫واجبي حيال أبي وحرصي على تنفيذ المهمة التي جئت من أجلها‪ .‬في‬
‫فخمنت ّ‬
‫أن أم‬ ‫أثناء ذلك لمحت أسين ّ‬
‫تطل من شرفة بيتها مخطوفة الوجه‪ّ ،‬‬
‫سيمون أخطرتها بما حدث ألبي‪.‬‬
‫أوصلت هاتفي بشاحن السيارة‪ ،‬وتكلمت مع أمي على الفور‪ ،‬فإذا‬
‫علي باللوم والتقريع‪ ،‬بيد أني لم أجد بدًّ ا من مسايرتها‪ ،‬ابتلعت‬
‫بها تنهال ّ‬
‫علي بأنها غير مقلقة حسب‬
‫كالمها وسألتها في هدوء عن إصابة أبي‪ ،‬ر ّدت ّ‬
‫نجاه بفضل إيمانه به مخ ّل ًصا‪.‬‬
‫الرب ّ‬
‫رأي الطبيب‪ ،‬وأضافت أن ّ‬
‫بلغت الجناح الذي يرقد فيه أبي خالل أقل من نصف ساعة‪ ،‬فوجدته‬
‫يغط في غفوة عميقة‪ ،‬وعلى حافة سريره تجلس أمي ساهم ًة‪ .‬خزرتني‬
‫بنظرة صارمة‪ ،‬وأومأت لي بأالّ أصدر صوتًا‪ ،‬ثم نهضت ودفعتني أمامها‬
‫إلى الخارج‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫سألتني‪ ،‬ونحن نجتاز البوابة إلى حديقة المستشفى الفسيحة‪ ،‬والغضب‬
‫يمأل وجهها‪:‬‬
‫ــ لماذا كان هاتفك مغل ًقا؟ اتصلت بك عشر مرات‪ ،‬وقبلي اتصل بك‬
‫أبوك أكثر من مرة!‬
‫كثيرا من التقريع والتوبيخ‪ ،‬لكني آثرت الصمت‪،‬‬
‫وأضافت أشياء أخرى‪ً ،‬‬
‫أقسمت لها كذا قسم بأن الهاتف كان‬
‫ُ‬ ‫تركتها تفرغ جعبتها‪ ،‬وحين اكتفت‬
‫خف غضبها‬
‫فاقد الشحن‪ ،‬واعتذرت كما لم أعتذر ألحد في حياتي‪ .‬عندئذ ّ‬
‫ً‬
‫قليل‪ ،‬واتجهت إلى مصطبة حجرية وجلست عليها‪ ،‬وأخذت تعاين حركة‬
‫الناس والسيارات من خلل سياج الحديقة‪ ،‬المصنوع من قضبان معدنية‬
‫تتيح المسافات بينها للناظر رؤية ما يجري في الشارع‪.‬‬
‫إلي وطلبت أن‬
‫لحقت بها وجلست لصقها وق ّبلتها من رأسها‪ ،‬فالتفت ّ‬
‫أشعل لها سيجارةً‪ .‬لم تكن مدخن ًة بالمعنى المتعارف عليه‪ ،‬لكن عندما‬
‫يحملها أحد على الغيظ تفرغ شحنة غيظها بسيجارة‪.‬‬
‫هزت‬
‫سألتها عما إذا أخطرت سلفانا بالحادث الذي تعرض له أبي‪ّ ،‬‬
‫لصدمت»‪.‬‬‫رأسها نافي ًة‪ ،‬ثم قالت بعد هنيهة «لو أعلمتها ُ‬
‫تناهى إلى سمعنا من بعيد دوي انفجارات متتالية‪ ،‬أعقبته على الفور‬
‫أصوات إطالق رصاص‪ ،‬فأجفلت أمي‪ ،‬كأن شي ًئا ما تهاوى في داخلها‪،‬‬
‫وص ّلت بإشارة بالصليب «باسم اآلب واالبن والروح القدس»‪ .‬استدرت‬
‫إليها وأمسكت بكتفها‪ ،‬وأنهضتها وأنا أتمتم «ال تفزعي‪ ،‬إنها عملية‬
‫إرهابية كالعادة»‪ .‬وأسرعنا في مبارحة الحديقة إلى الداخل‪ ،‬وما إن ارتقينا‬
‫الرب‪:‬‬
‫نفسا وناجت ّ‬
‫الدرجات حتى أخذت أمي ً‬

‫‪82‬‬
‫ــ إنّا أسلمنا أرواحنا إلى يديك يا يسوع الحبيب‪ ،‬ألطِف بنا يا أبا المراحم‪،‬‬
‫أخشى أالّ ينقضي اليوم بسالم‪.‬‬
‫لحظت في ضوء المصباح شحو ًبا على وجهها‪ ،‬فقلت لها مهدّ ئًا من‬
‫روعها‪:‬‬
‫ــ ال ترتعدي‪ ،‬ألِفنا سماع دوي االنفجارات وأزيز الرصاص‪.‬‬
‫تنهدّ ت وقالت‪:‬‬
‫ــ لوال دراستك لكنا اآلن في أميركا أو أستراليا حالنا حال اآلخرين‪.‬‬
‫ــ هذا ما يريده هؤالء اإلرهابيون‪ ،‬إرغامنا على الهجرة واجتثاثنا من‬
‫جذورنا‪.‬‬
‫تعرض له أبوك‪ ،‬لع ّله كان مد ّب ًرا‪.‬‬
‫ــ صرت أرتاب من الحادث الذي ّ‬
‫ــ ال أعتقد‪ ،‬لو أن جه ًة إرهابي ًة استهدفته الغتالته بالسالح ً‬
‫بدل من حادث‬
‫دهس نتيجته غير مضمونة‪ ،‬ثم ّ‬
‫أن أبي رجل مسالم فلماذا يستهدفونه؟‬
‫ــ ابني أنت تناقض نفسك‪ ،‬ألم تقل إنهم يريدون إرغامنا على الهجرة؟‬
‫ــ بلى قلت‪ ،‬لكنني قصدت أنهم يقومون بما هو أدهى وأمر مثل تفجير‬
‫الكنائس واألديرة‪.‬‬
‫ّ‬
‫رن هاتف أمي داخل حقيبتها‪ ،‬فالتقطته بسرعة ور ّدت بصوت واهن‬
‫«ألو»‪ .‬كانت أسين على الجانب اآلخر تسأل عن أبي‪ ،‬قالت لها‪« :‬اطمئني‬
‫حبيبتي‪ ،‬رضوض بسيطة وإن شاء الرب لن يبيت الليلة في المستشفى»‪.‬‬
‫ضغطت على مكبر الصوت‪ ،‬من باب الفضول‪ ،‬فإذا بي أسمع أسين تقول‪:‬‬
‫ُ‬

‫‪83‬‬
‫ــ تمنيت أن آتي مع نينوس‪ ،‬لكنك تعرفين‪ ،‬اعذريني خالتي‪.‬‬
‫عمك‪.‬‬
‫ــ أعرف حبيبتي‪ .‬ستأتين إلى البيت مع الجيران وتطمئنين على ّ‬
‫ــ سآتي طب ًعا‪ .‬أبلغيه سالمي ودعائي له بالشفاء العاجل‪.‬‬
‫حين ناهزت الساعة الثامنة ً‬
‫ليل سمح الطبيب ألبي بالخروج من‬
‫المستشفى على مسؤوليتنا‪ .‬في الحق كان أبي هو المبادر إلى ذلك‪ ،‬فقد بدا‬
‫تحسن‪ ،‬وليس‬‫قائل «وضعي الصحي ّ‬ ‫مسترسل الطمأنينة‪ ،‬وأكد للطبيب ً‬
‫ثمة ما يدعو إلى القلق‪ ،‬وسأكتفي بالحبوب المسكنة‪ ،‬ناهيك عن كوني‬
‫ال أطيق المستشفيات ً‬
‫أصل ألنها تق ّيد حركتي‪ ،‬وتبعث الملل في نفسي»‪.‬‬
‫إ ّذاك لمحت‪ ،‬من زجاج النافذة الواقعة خلف سرير أبي‪ ،‬وميض‬
‫سيارات إسعاف تلج المستشفى‪ ،‬قفزت من مكاني وفتحت النافذة‬
‫على سعتها وأطللت برأسي إلى الخارج‪ ،‬لكن أبي سحبني من ذراعي‪،‬‬
‫إلي نظر ًة شزراء كأني ارتكبت‬
‫ورفع جذعه وأغلق النافذة‪ ،‬وسدّ د ّ‬
‫حماق ًة‪ .‬بعد لحظات حدث هرج ومرج في ممرات المستشفى‪،‬‬
‫كثرا أصيبوا‬
‫أناسا ً‬
‫وسمعت أصوات ممرضين يتراكضون‪ ،‬فقدّ رت أن ً‬
‫في العملية اإلرهابية‪.‬‬
‫و ّقعت على نموذج الخروج من المستشفى‪ ،‬وفي داخلي كانت تتسع‬
‫رغبة شديدة في العودة إلى المرفأ‪ ،‬لك ّن مكالم ًة هاتفي ًة من عمران‪ ،‬لحظة‬
‫وصولنا إلى البيت‪ ،‬نسفت ّ‬
‫كل آمالي‪ .‬أخطرني بأن العاصفة التي ضربت‬
‫علي‪ ،‬لكن هاتفي‬
‫كثيرا‪ ،‬فاتصل بي ليطمئن ّ‬
‫شاطئ البحر عصر اليوم أقلقته ً‬
‫كان مغل ًقا فلحق بي إلى المرفأ ولم يجدني‪.‬‬
‫سألته بصوت يضمر لهف ًة‪:‬‬

‫‪84‬‬
‫ــ متى كنت هناك بالضبط؟‬
‫ــ بعد انتهاء العاصفة بساعتين على وجه التقريب‪.‬‬
‫ــ لِ َم لم تتصل ثاني ًة؟‬
‫ــ خرجت على عجل ونسيت هاتفي في البيت‪.‬‬
‫ــ هل وجدت أحدً ا على رصيف المرفأ؟‬
‫ــ رأيت عد ًدا من صيادي السمك في حال ُيرثى لها‪.‬‬
‫ــ أكان هناك صيادون؟ يا له من أمر عجيب!‬
‫ــ لِ َم العجب؟ نعم كان يوجد صيادون‪ ،‬وقد أخطرني واحد منهم أن‬
‫ثالثة من زمالئه ُفقدوا في البحر بسبب العاصفة‪ ،‬ويخشى أن يكونوا قد‬
‫لقوا حتفهم‪.‬‬
‫ــ ماذا تقول؟ أنت تجنّني!‬
‫ــ أجنّنك؟ أين وجه الغرابة في ذلك؟ أما كنت هناك حين ه ّبت الريح‬
‫العاتية؟‬
‫ــ بلى كنت‪.‬‬
‫ــ أما رأيت كيف اصطخب موج البحر؟‬
‫ــ بلى‪ ،‬وقد احتميت بالمغارة‪ ،‬ومكثت فيها ساع ًة ونصف الساعة تقري ًبا‪.‬‬
‫ــ عجيب أمرك! ما الذي جعلك تقضي فيها كل هذه المدة؟ هل غفوت؟‬
‫ــ ال‪ ،‬كنت أراقب البحر‪ .‬لكن قل لي هل لمحت مرك ًبا شراع ًّيا راس ًيا‬
‫في المرفأ؟‬

‫‪85‬‬
‫ــ ما لفت انتباهي شيء من ذلك‪ .‬ماذا يعنيك من أمره؟‬
‫ــ في ما بعد سأحكي لك ّ‬
‫كل شيء‪.‬‬
‫كنت عاز ًما على العودة إلى البحر‪ ،‬غير أن مكالمة عمران أحبطتني‪،‬‬
‫فأجلت األمر إلى صباح الغد‪ ،‬واضطجعت على سريري مكروب النفس‪،‬‬
‫ّ‬
‫طويل‪ ،‬نه ًبا لتفكير ممض‪ ،‬وعب ًثا جهدت أن أستجلب‬
‫ً‬ ‫ولبثت أتقلب‬
‫أغف إالّ‬
‫النعاس‪ ،‬فقد ظلت عيناي يقظتين‪ ،‬يستعصي عليهما النوم‪ ،‬ولم ُ‬
‫حين أضحى تنفس الفجر وشيكًا‪ ،‬بعد أن شربت كأسي فودكا‪.‬‬
‫دهمتني وجه الصبح أحالم مضطربة‪ ،‬لكن الحلم الوحيد الذي‬
‫تذكّرته بالتفصيل‪ ،‬ربما ألنه كان األخير‪ ،‬حلم اختطاف شميرام أثناء‬
‫ُعرسنا‪ .‬كنا أنا وإياها رفقة أمي وأختي سلفانا داخل استوديو للتصوير‬
‫ً‬
‫طويل في اإلعداد‬ ‫الفوتوغرافي‪ ،‬تغمرنا فرحة الزفاف الذي استغرقنا وقتًا‬
‫له‪ .‬كانت عيناها تحتفظان بتلك المسحة من البراءة التي ال تمتلكها فتاة‬
‫غيرها‪ ،‬أما وجهها فكان ساط ًعا كالبدر‪ ،‬يفيض حيوي ًة تحت حزمة ناعمة‬
‫من الضوء الذي تفنن المصور في توجيهه‪ ،‬تاركًا مساحات من العتمة هنا‬
‫وهناك‪.‬‬
‫لم نتبادل سوى القليل من الكلمات‪ ،‬كان المصور وحده يتكلم بصوت‬
‫وجها لوجه‬
‫ً‬ ‫رخيم قاطع‪ ،‬محدّ ًدا لنا أوضا ًعا رومانسي ًة مختلف ًة‪ :‬تقابال‬
‫وليق ّبل كل واحد منكما كف اآلخر‪ ،‬اقعدا على هذه األرجوحة المزينة‬
‫بالورود وابتسما‪ ،‬ضع يديك على كتفيها واطبع قبل ًة على جبينها‪ ،‬اتخذي‬
‫وضعية راقصة فالمنكو واعتمر أنت هذه القبعة اإلسبانية واعزف على‬
‫وأحط أنت خصرها بذراعك وأديرا‬‫أنت بباقة الورد هذه ِ‬
‫الجيتار‪ ،‬امسكي ِ‬

‫‪86‬‬
‫بحرا أم‬
‫وجهيكما إلى الجدار‪ ،‬سأغير الخلفية بالفوتوشوب‪« ،‬أتريدانها ً‬
‫بحرا» قلت من فوري‪.‬‬
‫بستانًا؟»‪« ،‬نريدها ً‬
‫عندما انتهينا من التقاط الصور خرجنا من األستوديو متشابكي الذراعين‬
‫انقض علينا بضعة مسلحين ملثمين‪.‬‬
‫جذلين‪ ،‬وما كدنا نخطوا خطوتين حتى ّ‬
‫يدي وبطحوني على األرض ووجهوا رشاشاتهم‬
‫أمسك بي ثالثة منهم وكتّفوا ّ‬
‫إلى رأسي‪ ،‬وحمل اثنان شميرام إلى سيارة همر رمادية ذات شكل شرس‬
‫وعدائي‪ ،‬فانطلق سائقها على وجه السرعة‪ ،‬ولحق بها اآلخرون على متن‬
‫سيارة ثانية بعد أن أطلق أحدهم عدة رصاصات في الهواء‪.‬‬
‫كان الوقت قبيل الغروب‪ ،‬والنهار يوشك أن يلفظ أنفاسه‪ ،‬والمكان‬
‫مقفرا كأننا في جزيرة نائية خالية من البشر‪ .‬تغلغت برودة في رئتي‪،‬‬
‫ً‬
‫وشعرت بأن روحي تكاد تغادرني‪ ،‬وراح عويل أمي وسلفانا يشق الفضاء‬
‫حتى أنني كان بوسعي سماع صداه يتردد في األفق البعيد‪.‬‬
‫رفعت سلفانا جسدي عن األرض بمشقة‪ ،‬وجرجرتني إلى السيارة‬
‫مستسلما‬
‫ً‬ ‫وقادتها بنفسها‪ .‬لبثت فريس ًة للقلق‪ ،‬أفكّر في النكبة التي ح ّلت بي‪،‬‬
‫لليأس ال أعرف إلى أين أذهب‪ .‬طلبت أمي من سلفانا‪ ،‬والعبرة تخنقها‪ ،‬أن‬
‫تسرع إلى أقرب مركز للشرطة‪.‬‬
‫شبيها بوجه نافخ البوق المرافق للملك‬
‫قال الضابط‪ ،‬الذي بدا لي وجهه ً‬
‫آشور‪:‬‬
‫ــ نحن ال نستطيع أن نفعل شي ًئا‪.‬‬
‫ثم تثاءب ونهض من كرس ّيه‪ ،‬كأنه يشير إلينا أن ننصرف‪ ،‬لكننا لبثنا في‬
‫مكاننا‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫قلت له‪:‬‬
‫ــ كيف ال تستطيعون أن تفعلوا شي ًئا وهي عملية إرهابية؟‬
‫إلي نظرة المباغض المستهين‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫نظر ّ‬
‫ــ اذهب وب ّلط البحر‪.‬‬
‫خرجنا من عنده‪ ،‬في أشد حاالت الغيظ‪ ،‬واتجهنا إلى الشاطئ‪ .‬بدت‬
‫الطريق طويل ًة وشائك ًة كأننا لم نسلكها ساب ًقا‪ .‬عند وصولنا فوجئنا بمشهد‬
‫مهول يصيب المرء بقشعريرة‪ ،‬رأينا البحر يقلع ببطء‪ ،‬مخل ًفا وراءه هاوي ًة‬
‫المتناهية االتساع‪ ،‬يعتليه المركب الشراعي‪ ،‬ثابتًا ال يتأرجح‪ ،‬تسطع شميرام‬
‫على متنه تحت أثير ضوئي مثل مالك‪ ،‬وهي تمسك بإحدى يديها حبل‬
‫شراعه‪ ،‬وتومئ بالثانية مو ّدع ًة‪ ،‬فرفعت ذراعي وبادلتها إيماءة الوداع‪ .‬وما‬
‫هي إالّ دقائق حتى تحرك البحر صوب الشرق‪ ،‬ثم غ ّير اتجاهه إلى الغرب‪،‬‬
‫ثم تراجع وأخذ يح ّلق عال ًيا في السماء‪ .‬ناديته «تر ّفق بي يا صديقي‪ُ ،‬عد‬
‫أدراجك وخذني ألصحب شميرام»‪ ،‬لكنه لم يسمعني‪ ،‬أخذ يبتعد شي ًئا‬
‫فشي ًئا‪ ،‬تنهمر منه خيوط مائية مضيئة‪ ،‬كأنه في غربال‪ ،‬تشبه شه ًبا طائش ًة‪،‬‬
‫ثم تقلص شي ًئا فشي ًئا حتى أصبح بحجم قوقعة واختفى بغت ًة في الغمام‪ .‬أما‬
‫رمل الشاطئ فقد غدا لونه أسود كالقار‪ ،‬وخالل دقائق تشكّلت فوقه‪ ،‬على‬
‫ارتفاع يسير‪ ،‬سحابة من النوارس يمأل عويلها الفضاء‪.‬‬
‫لم نكن وحدنا هناك في تلك اللحظات العجيبة‪ ،‬بل آالف مؤلفة‪،‬‬
‫موج بشري متالطم من أبناء أرابخا‪ ،‬الذين توافدوا‪ ،‬قادتهم أقدامهم من‬
‫األنحاء كلها‪ ،‬واكتظ بهم الشاطئ ومدخل القلعة ليلقوا نظر ًة أخير ًة على‬
‫بحرهم ويودعوه‪ .‬بدوا كتل ًة من الحزن واأللم‪ ،‬نساء ينتحبن‪ ،‬تسيل من‬

‫‪88‬‬
‫تخضب ثيابهن‪ ،‬وأيديهن مرفوعة إلى السماء‪ ،‬ورجال‬
‫أعينهن دموع كبيرة ّ‬
‫يسجلون‬
‫ّ‬ ‫ينشجون‪ ،‬مطرقين رؤوسهم‪ ،‬وثمة بضع مصورين سينمائيين‬
‫صورا فوتوغرافي ًة له‪ ،‬في‬
‫ً‬ ‫الحدث الرهيب بكاميراتهم‪ ،‬وآخرون يلتقطون‬
‫حين كانت تنبعث موسيقى حزينة من مك ّبرات صوت في نوافد المنازل‬
‫القريبة‪.‬‬
‫قالت أمي وهي تمسك من ذراعي‪:‬‬
‫ــ يا لها من قسمة سوداء‪ ،‬طار البحر وشميرام دفع ًة واحدةً‪.‬‬
‫وقال شيخ‪ ،‬على قدر من الهزال والشحوب‪ ،‬لعجوز ترافقه بنبرة اختلج‬
‫فيها األسى‪:‬‬
‫ِ‬
‫أرأيت؟ حتى البحر ارتحل بسبب جورهم‪ ،‬لن ننعم بعد اآلن بنسمة‬ ‫ــ‬
‫عليلة‪.‬‬
‫سألته العجوز‪:‬‬
‫ــ جور ّمن؟‬
‫أجابها‪:‬‬
‫ــ جور المسعورين المتس ّلطين على رقابنا‪.‬‬
‫ر ّدت عليه سلفانا‪:‬‬
‫ــ لم يرتحل من تلقاء نفسه يا عم‪ ،‬حاولوا اختطافه‪.‬‬
‫التفت إليها رجل عيناه محاطتان بسواد غامق وقال‪:‬‬
‫بحرا آخر مح ّله‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ــ صدقت يا ابنتي‪ ،‬يريدون أن يو ّطنوا ً‬

‫‪89‬‬
‫قت إلى سلفانا بنظرة قانطة‪ ،‬وقلت بصوت متهدّ ج‪:‬‬
‫حدّ ُ‬
‫ــ وا أسفاه على بحرنا رهيف القلب‪.‬‬
‫رسمت إشارة الصليب على صدرها‪:‬‬
‫ــ ال تقلق‪ ،‬يخامرني إحساس بأنه سيعود‪ .‬الحياة مليئة بالمفاجآت‪.‬‬
‫ــ وشميرام؟‬
‫أيضا‪.‬‬
‫ــ ستعود ً‬

‫‪90‬‬
‫‪10‬‬

‫جفني كأنهما قطعتا رصاص‪،‬‬


‫ّ‬ ‫أيقظتني أمي قبيل الضحى‪ .‬أحسست بثقل‬
‫ووجدت صعوب ًة في فتح ّ‬
‫عيني‪ .‬فركتهما ألطرد صور األحالم التي ظلت‬
‫متعر ًقا وعطشان كما لو أني ركضت‬
‫ملتصق ًة بهما‪ ،‬وتنفست بعمق‪ .‬كنت ّ‬
‫مساف ًة طويل ًة في هجير النهار‪ ،‬وكانت الشمس ترسل أشعتها عبر الفرجات‬
‫الزجاجية للنافدة المزاحة عنها الستارة‪ ،‬ناشر ًة بريق الضوء في الغرفة‪ ،‬فبدا‬
‫ضخما‪ ،‬كشبح على الجدار المقابل لها‪.‬‬
‫ً‬ ‫ظل أمي‬
‫ومررت أصابعها على مفرق شعري‪:‬‬
‫أحنت جذعها ّ‬
‫ــ سمعتك تهذي بصوت ٍ‬
‫عال وأنت نائم‪ ،‬ماذا رأيت؟‬
‫ــ رأيت البحر يرتفع إلى السماء‪.‬‬
‫ليتمجد اسمه‪ ،‬ارتفع إلى السماء‪ ،‬إلى‬
‫ّ‬ ‫ــ كل خرا‪ ،‬ال أحد غير ر ّبنا يسوع‪،‬‬
‫فردوس النور بعد قيامه من بين األموات‪.‬‬
‫ــ وحق ر ّبنا رأيته يصعد وعلى متنه مركب شميرام حتى توارى في‬
‫الغمام‪ ،‬وكنتما ِ‬
‫أنت وسلفانا معي‪.‬‬
‫ر ّدت بعصبية‪:‬‬
‫ــ ال تشركني في أحالمك المخبولة‪ ،‬من تكون شميرام؟‬

‫‪91‬‬
‫ــ ابنة الملك آشور‪.‬‬
‫ربتت على كتفي وغمغمت‪:‬‬
‫زلت تهذي‪ ،‬هيا انهض‪.‬‬
‫ــ ما َ‬
‫ــ على مهلك‪.‬‬
‫ــ هل قبضت راتبك؟‬
‫ــ إي قبضت‪.‬‬
‫ينفض‪.‬‬
‫ــ اذهب إلى سوق الغنم قبل أن ّ‬
‫ــ ماذا أفعل في سوق الغنم؟‬
‫سألتها بذهن شارد‪ ،‬فقالت‪:‬‬
‫ــ اشتر لنا خرو ًفا‪.‬‬
‫رفعت رأسي واحتسيت كأس ماء كانت موضوع ًة على طاولة محاذية‬
‫لسريري‪ ،‬ولويت وجهي وقلت‪:‬‬
‫ــ ما حاجتك إليه‪ ،‬هل ستعملين وليم ًة؟‬
‫ــ ال وليمة وال هم يحزنون‪ ،‬نذرت أمس أن أعطي خرو ًفا للكنيسة‪.‬‬
‫أعدت رأسي إلى الوسادة متذ ّم ًرا‪:‬‬
‫ــ يا إلهي! ما مناسبة هذا النذر؟‬
‫قالت‪:‬‬
‫ــ نجاة والدك من الموت‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫وهزت السرير بعنف‪ ،‬وأضافت‬
‫وشمرت عن ساعديها ّ‬
‫ّ‬ ‫علي‪،‬‬
‫ر ّدت ّ‬
‫بنبرة آمرة‪:‬‬
‫فورا‪ ،‬واحترس أن تشتري خرو ًفا أعرج أو مشقوق األذن‪.‬‬
‫ــ انهض ً‬
‫قلت متأ ّف ًفا‪:‬‬
‫ــ لماذا ال تعطين ثمن الخروف نقدً ا للكاهن؟‬
‫جذبت شحمة أذني‪ ،‬وكأني ما فتئت ً‬
‫طفل‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫ــ ال يجوز‪ ،‬يجب أن ُين ّفذ النذر كما يخرج من الفم‪.‬‬
‫مضطرا‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫لم أكن أمتلك داف ًعا كاف ًيا لمغادرة الفراش‪ ،‬لكني نهضت‬
‫تناولت إفطاري على مضض‪ ،‬وجمعت كتبي المتناثرة على األرض‬
‫وأعدتها إلى رف المكتبة‪ ،‬وخرجت من البيت‪ .‬غير أني ً‬
‫بدل من الذهاب‬
‫إلى سوق الغنم مباشر ًة قصدت الشاطئ‪ ،‬يراودني األمل في أن أجد‬
‫المركب ال يزال في المرفأ‪.‬‬
‫ركنت سيارتي جنب عربة األطعمة المتنقلة‪ ،‬وأخذت أنظر عبر زجاجها‬
‫األمامي إلى البحر‪ ،‬لكن‪ ،‬واخيبتاه‪ ،‬لم يكن ثمة أي أثر للمركب‪ .‬مألت‬
‫كياني موجة كرب على شيء أضعته‪ ،‬حلم ّ‬
‫تبخر سري ًعا مثل ماء يغلي‬
‫أتنهد‪،‬‬ ‫ِ‬
‫في مرجل أو غيمة شاردة‪ ،‬فأسندت رأسي إلى مقود السيارة‪ ،‬وأنا ّ‬
‫وأخذت أسترجع صورة شميرام‪.‬‬
‫اقترب مني الشاب بائع األطعمة‪ ،‬وسألني‪:‬‬
‫ــ ألست أنت الذي ّ‬
‫حذرته أمس من العاصفة؟‬
‫ــ بلى‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫ــ هل غادرت الشاطئ قبل هبوبها؟‬
‫ــ ال‪ ،‬احتميت بالمغارة‪.‬‬
‫جئت أمس كانت المغارة خالي ًة من زبائننا بسبب العاصفة‪.‬‬
‫ــ حين َ‬
‫ــ هل يرتادونها كل يوم؟‬
‫ــ قبل المغيب عادةً‪ ،‬يقضون فيها ساع ًة أو أكثر ثم يغادرونها منتشين‪.‬‬
‫ــ أال يخشون األشباح فيها؟‬
‫ــ أشباح؟! هل ظهرت لك عندما احتميت بها؟‬

‫ــ ال أدري بالضبط‪ ،‬ربما ُخ ّيل ّ‬


‫إلي أني رأيت واحدً ا‪.‬‬
‫ــ أرجوك ال تشع ذلك بين الناس‪.‬‬
‫ــ لماذا؟‬
‫ــ ألنك ستقطع رزقنا‪.‬‬
‫ــ حسنًا حسنًا‪ ،‬لكن قل لي هل لمحت في المرفأ مرك ًبا شراع ًّيا من تلك‬
‫المراكب التي نشاهدها في األفالم التاريخية؟‬
‫ــ لِ َم تسأل عنه‪ ،‬هل تعرف أصحابه؟‬
‫ــ ال أعرفهم‪ ،‬أثار فضولي فقط‪.‬‬
‫إنس أمره‪ ،‬ألست مسيح ًّيا؟‬
‫ــ َ‬
‫ــ بلى‪ ،‬كيف عرفت؟‬
‫ــ من الصليب في رقبتك‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫ــ وما عالقة المركب بكوني مسيح ًّيا؟‬
‫ــ ربما يكون أصحابه إرهابيين‪.‬‬
‫ــ ما هذا الهراء؟ كان على متنه ملك آشوري وحاشيته‪.‬‬
‫ــ يبدو أنك أفرطت في الشرب أمس قبل مجيئك‪.‬‬
‫ــ أال تصدّ قني؟‬
‫ــ سأصدّ قك إذا وفيت بوعدك‪.‬‬
‫ــ أي وعد؟‬
‫ــ وعدتني أمس بأنك ستشتري مني علبة بيرة‪.‬‬
‫ــ أعطني ثالث‪ .‬اللعنة‪ ،‬سأحتسيها الليلة‪.‬‬
‫جلب لي العلب في كيس بالستيكي‪ ،‬فسدّ دت له ثمنها‪ ،‬وخبأتها تحت‬
‫ترجلت من السيارة وسألته‪:‬‬
‫مقعدي‪ ،‬ثم ّ‬
‫ــ واآلن‪ ،‬قل لي هل رأيت المركب؟ وما الذي يدعوك إلى الظن بأن‬
‫أصحابه ربما يكونون إرهابيين؟‬
‫ــ ال‪ ،‬لم أره‪ ،‬لكني سمعت أن اإلرهابيين يمكن أن يدخلوا المدينة من‬
‫البحر متنكّرين‪ ،‬إنهم أبالسة‪ ،‬وربما جاؤا بالفعل ووقعوا في كمين‪.‬‬
‫ــ يتنكّرون بأزياء آشوري ّة! ما هذا الهراء؟ لقد تحدّ ثت إلى الملك وكانت‬
‫ترافقه نساء حسناوات من أجمل ما خلق الله‪.‬‬
‫ــ يبدو أنك كنت ً‬
‫ثمل جدً ا ولم ألحظ ذلك‪ .‬أشباح‪ ،‬ملك‪ ،‬نساء! عجيب‬
‫أمرك‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫شكّكني كالم الشاب في نفسي‪ ،‬لكني لم أر ّد عليه‪ ،‬بل رحت أجول‬
‫يعج بقوارب الصيادين الراسية‪ ،‬ترفرف‬
‫ببصري على طول الشاطئ‪ ،‬كان ّ‬
‫الطيور فوقها‪.‬‬
‫بعد دقائق معدودة برحت المكان إلى سوق الغنم عبر شوارع المدينة‬
‫المتعرجة‪ ،‬الهاجعة‪ ،‬المقفرة في ذلك اليوم‪ ،‬عدا من بعض السيارات‬
‫ّ‬
‫والسابلة‪ .‬فتحت الراديو‪ ،‬صوت خشن يقرأ نشرة األخبار في إذاعة محلية‪:‬‬
‫«انفجرت سيارة مفخخة قرب مرقد ديني وسط بلدة «داقوق» التابعة‬
‫فجروا‬
‫ألرابخا‪ ،‬وقال مدير شرطة المحافظة‪ ،‬اليوم الجمعة‪ ،‬إن مجهولين ّ‬
‫سيار ًة مفخخ ًة عن بعد كانت مركون ًة قرب ضريح ديني في البلدة‪ .‬وأضاف‬
‫مدير الشرطة أن التفجير لم يسفر عن سقوط ضحايا بشرية‪ ،‬لكنه تسبب في‬
‫خسائر مادية فقط‪ .‬وأشار إلى أنهم ال يعلمون حتى الساعة الجهة التي تقف‬
‫وراء التفجير‪ ،‬واص ًفا إياه بـاإلرهابي‪ ،‬وأكد أن الهجوم يهدف إلى زعزعة‬
‫استقرار البلدة»‪.‬‬
‫راحت تضرب رأسي موجات من الذكريات المؤلمة‪ .‬كانت أول واحدة‬
‫مقتل جون ابن خالتي في انفجار عبوة ناسفة على جسر أرابخا الثالث‪ ،‬قبل‬
‫سنتين‪ ،‬وهو في طريقه إلى الكلية يرافقه أحد أصدقائه‪ .‬ما حزنت في حياتي‬
‫على موت شخص عزيز مثلما حزت عليه‪ .‬كان في سنته الدراسية األخيرة‪،‬‬
‫مهندسا زراع ًيا‪ ،‬ويجد فرص ًة للتعيين كي يتسنى له أن‬
‫ً‬ ‫يحلم أن يتخرج‬
‫مخلصا‬
‫ً‬ ‫يتزوج فتاة أحالمه‪ .‬كان ذك ًّيا على ٍ‬
‫نحو مدهش‪ ،‬مستغر ًقا في ذاته‪،‬‬
‫أحب الزراعة منذ‬
‫ّ‬ ‫لدراسته إلى حد صارم‪ ،‬يصف نفسه بأنه نصف ّ‬
‫فلح‪،‬‬
‫صباه بسبب قضائه معظم العطل الصيفية في مزرعة جده العامرة بشجرات‬
‫الزيتون والسمسم في قرية «باز» الجبلية بدهوك‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫قبيل بلوغي سوق الغنم أثارت انتباهي منازل حي «النور» الشعبي الواقع‬
‫على طريقه‪ .‬كان ُيطلق عليه في ما مضى «الممدودة»‪ ،‬وما زال بعض الناس‬
‫متمسكا بتلك التسمية‪ ،‬وال أدري من أين اكتسبها‪ ،‬بيد أنه من األحياء التي‬
‫ً‬
‫ُأنشئت عشوائ ًيا في المدينة‪ .‬ليس هذا هو المهم‪ ،‬بل التغيير الذي طرأ على‬
‫أشكال بيوته‪ ،‬فقد كانت مبني ًة على عجل بال ِّلبن والطين‪ُ ،‬‬
‫وهدِّ م معظمها‬
‫باآلجر‪ ،‬وفتح سكان‬
‫ُ‬ ‫الح ًقا‪ ،‬وأعيد بناؤه بالطوب الخرساني أو بالحجر أو‬
‫ً‬
‫وورشا لتصليح األجهزة‬ ‫بعض منها على امتداد الشارع الرئيسي ب ّقاالت‬
‫الكهربائية‪ ،‬ومحالت للهواتف الخلوية والمواد الغذائية والخضار‬
‫وصالونات الحالقة‪« :‬ورشة السعيد لتصليح الثالجات والمجمدات»‪،‬‬
‫«المستقبل لنك لألندرويد»‪« ،‬أبو سهيل للدجاج واللحوم المجمدة»‪،‬‬
‫«صالون حالقة الشباب»‪ ،‬وج ّللت حيطان عدد من البيوت الفتات نعي‬
‫سوداء تحمل أسماء قتلى قضوا نحبهم في تفجير ستوتة ّ‬
‫مفخخة في تلك‬
‫اآلونة‪ .‬تق ّلصت عضالت وجهي ً‬
‫تأثرا‪ ،‬وشعرت بارتجافة في ذقني كأني‬
‫غطست في بحيرة متجمدة‪ .‬كنت أقود سيارتي ببطء‪ ،‬لكني زدت من‬
‫سرعتها ال إراد ًّيا حالما وقعت عيناي على تلك الالفتات‪.‬‬
‫لم أجد السوق في مكانه السابق‪ ،‬سألت أحد سكان المنطقة عن مكانه‬
‫الجديد‪ ،‬فأخبرني بأنه انتقل قبل بضع سنوات إلى جنوب المدينة‪ .‬حين‬
‫بلغته فوجئت به مقفرا‪ ،‬قلت في نفسي ال بدّ أن تكون العطلة هي السبب‪.‬‬
‫حرت ماذا أفعل‪ ،‬ثم ّقر عزمي على الرجوع إلى البيت خائ ًبا‪ ،‬ومحاولة إقناع‬
‫أمي بأن تنزع الفكرة من رأسها وتعطي ثمن الخروف نقدً ا لكاهن الكنيسة‪،‬‬
‫والله وحده يعلم ْ‬
‫إن كانت ستقتنع‪ ،‬أو بأن أعود إلى السوق غدً ا‪ ،‬رغم مقتي‬
‫له‪ ،‬وقرفي من رائحة فضالت الحيوانات فيه‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫سمعت وأنا اتجه إلى سيارتي صوتًا يناديني عن بعد «ما طلبك أيها‬
‫الشاب؟»‪ .‬مشيت صوبه فإذا به رجل يغطي رأسه بغترة تتدلى على كتفيه‪،‬‬
‫وتمأل وجهه تجاعيد الزمن ولحية وافرة شيباء تضفي عليه هيب ًة‪ ،‬يجلس‬
‫على مقعد خشبي صغير من غير مسند ذي قوائم قصيرة‪ ،‬ويمسك بيده‬
‫اليسرى عكّازةً‪.‬‬

‫ص ّبحت عليه فآثر أن يصافحني بيده الثانية التي تبرز عظامها وأوردتها‪.‬‬
‫تأسى في الحلم على البحر‪.‬‬
‫كانت مالمحه أقرب إلى مالمح الشيخ الذي ّ‬
‫مبتسما «وصلت إلى مرامك»‪ ،‬ثم أشار إلى دار كبيرة مبن ّية‬
‫ً‬ ‫أنبأته بطلبي فقال‬
‫باآلجر في مكان غير بعيد عن السوق‪ ،‬وأنشأ يشرح لي ببطء وتفخيم‪:‬‬
‫ُ‬
‫ــ اذهب إلى تلك الدار واقرع بابها‪ ،‬قل لصاحبها أرسلني إليك شيخ‬
‫عاشور‪ ،‬إنه ير ّبي خرا ًفا ممتازةً‪ ،‬وستجد عنده طلبك‪ .‬هل تريده أضح ّي ًة أم‬
‫لعمل وليمة؟‬

‫كدت أطلق ضحك ًة ألن اسمه يشبه اسم آشور‪ ،‬لكنني حبستها احترا ًما‬
‫له‪ ،‬وقلت‪:‬‬

‫ــ أريده أضح ّي ًة‪ ،‬ال أعرج وال مشقوق األذن‪.‬‬

‫ــ توكّل على الله‪ .‬ليس لديه خروف أعرج وال مشقوق األذن وال أعور‪.‬‬

‫شكرته وتوجهت إلى الدار التي أرشدني إليها‪ .‬حين بلغتها تقاطعت‬
‫في رأسي بعض الهواجس‪ ،‬وأوشكت على التراجع خشية أن يكون في‬
‫األمر خدعة‪ ،‬إالّ أن هيئة الشيخ الوقور ما كانت تبعث على الريبة‪ ،‬فتحول‬
‫شعوري‪ ،‬في ٍ‬
‫ثوان‪ ،‬إلى نقيضه‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫كان سياج الدار األسمنتي عال ًيا‪ ،‬ارتفاعه نحو ثالثة أمتار‪ ،‬كأنه سياج‬
‫ثكنة عسكرية‪ ،‬وبوابتها الحديدية المطلية بلون كاكي أعرض من المعتاد‪،‬‬
‫بحيث تسمح لشاحنة كبيرة أن تمر منها وهي مسرعة‪.‬‬
‫حانت مني التفاتة إلى الشيخ‪ ،‬فإذا به يرفع عكّازته ويخبط بها الهواء‬
‫مرتين‪ ،‬فهمت منها أنه يدعوني إلى أن أقرع البوابة‪ ،‬لكنني انتبهت إلى‬
‫وجود زر جرس كهربائي على جنب فضغطته‪ ،‬وما هي إالّ برهة حتى‬
‫سمعت صوت خطوات مقبلة‪.‬‬
‫ُفتحت البوابة‪ ،‬بصرير مزعج‪ ،‬وأخرجت صبية‪ ،‬تشبه شميرام‪ ،‬جسدها‬
‫عسل‪ ،‬رغم ُلكنتها‪،‬‬
‫ً‬ ‫من بين دفتيها‪ ،‬وح ّيتني على استحياء بلهجة تقطر‬
‫وسألتني عن مبتغاي‪ .‬طار صوابي حين رأيت وجهها البلوري ذا الخدين‬
‫المتوردين‪ ،‬والعينين المشرقتين الشبيهتبن بلون البحر‪ ،‬والفم الصغير‪،‬‬
‫وخصالت شعرها الذهبية التي تطفو على كتفيها‪ ،‬وصدرها الناهد‪.‬‬
‫تلعثمت وأنا أسألها عن رجل الدار‪ ،‬فابتسمت ابتسام ًة ساحرةً‪ ،‬وأومأت‬
‫قليل حتى تنادي عليه‪ .‬تمنيت أن تطيل بقاءها ألروي ظمئي‬‫لي بأن أنتظر ً‬
‫من جمالها‪ ،‬لكنها أولتني ظهرها وغادرت إلى داخل الدار‪ ،‬تارك ًة البوابة‬
‫مفتوح ًة‪ ،‬متباطئ ًة في مشيها‪ ،‬بمباهاة وخفة ورشاقة‪ ،‬تعمد إلى تقديم ساق‬
‫اله َوينى‪.‬‬
‫على ساق‪ ،‬كظبية تسير ُ‬
‫«يا يسوع‪ ،‬هل أنا في حلم؟» تساءلت في ذاتي‪ ،‬وأنا أتأمل المخلوقة‪،‬‬
‫وأقارن بينها وبين شميرام‪ .‬كان ردفاها المكوران‪ ،‬الوارفان‪ ،‬المصبوبان‬
‫ارتجاجا فاتنًا‪ ،‬كأنهما ردفا‬
‫ً‬ ‫يرتجان‬
‫تحت بيجامة ضيقة ذات نسيج خفيف‪ّ ،‬‬
‫فتاة في العشرين‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫مشوش أعجز عن‬
‫لبثت شار ًدا بعد اختفائها‪ ،‬وساورني شعور غامض‪ّ ،‬‬
‫وصفه‪ ،‬فوضعت يدي على جبيني وأسندت ظهري إلى الحائط‪.‬‬
‫عقب انتظار‪ ،‬بدا لي مفر ًطا في الطول‪ ،‬جاء رجل في نحو األربعين من‬
‫العمر‪ ،‬طويل القامة‪ ،‬ذو كاهلين قويين منحدرين‪ ،‬وكان شعره خفي ًفا تهدّ ده‬
‫بداية صلع‪ ،‬وعيناه رماديتين ثاقبتين‪ ،‬وفي حركاته غلظة واضحة‪ ،‬يرتدي‬
‫دشداش ًة تبنية اللون‪ .‬صافحني بقبضتين خشنتين‪ ،‬واعتذر عن تأخره‪،‬‬
‫وعرفني إلى نفسه ً‬
‫قائل إن‬ ‫ورحب بي بحرارة كأنما بيننا معرفة قديمة‪ّ ،‬‬‫ّ‬
‫اسمه يونس‪ .‬حين أخبرته ببغيتي أدخلني إلى فِناء الدار‪ ،‬وطلب مني أن‬
‫أنتظر ً‬
‫قليل‪.‬‬
‫كان ِ‬
‫الفناء يفضي إلى بيتين لكل منهما باب خاص‪ ،‬واحد مفتوح والثاني‬
‫مغلق‪ .‬تتوزع في محيط الدار شجرات حمضيات متناسقة‪ ،‬تأتي منها رائحة‬
‫الخريف الذع ًة‪ ،‬ويشبه منظرها لوح ًة انطباعي ًة‪ ،‬وفي إحدى زوايا ِ‬
‫الفناء يقبع‬
‫كلب سلوقي ذو وجه قاتم داخل قفص‪ ،‬يبدو هادئ الطبع‪ ،‬يرسل بصره إلى‬
‫مجموعة يمامات تحط على سياج السطح‪ .‬وفي الزاوية المقابلة شجرتان‬
‫إحداهما شجرة تين كثيرة العقد تظ ّلل المكان لكثافة أوراقها الغامقة التي‬
‫تكاد تكون سوداء‪ ،‬وتحتها أرجوحة تسع أكثر من شخصين‪ ،‬والثانية شجرة‬
‫سفرجل ذات ساق قصيرة‪ ،‬متساقطة األوراق‪ ،‬ال تزال أثمارها الناضجة‬
‫تتدلى من أغصانها‪ .‬تل ّف ُت يمن ًة ويسر ًة طم ًعا في رؤية الصبية‪ ،‬لكني لم‬
‫ألمحها لسوء الحظ‪.‬‬
‫عاد يونس بعد قليل وأشار لي أن أتبعه‪ .‬قادني إلى حظيرة خلف الدار‪،‬‬
‫تبعد مساف ًة تنوف على مائة متر‪ ،‬تكفي ألن تحول دون وصول رائحة‬
‫مخلفات الحيوانات إلى البيتين‪ ،‬نصف مضللة‪ ،‬تحوي عشرات الخراف‬

‫‪100‬‬
‫ً‬
‫سروال‬ ‫في َأعمار مختلفة‪ ،‬وثمة رجل رأسه أصلع كقشرة بيضة‪ ،‬يرتدي‬
‫عرفني إليه ً‬
‫قائل إنه صهره ياسر‪،‬‬ ‫فضفاضا‪ ،‬منهمك في تقديم العلف لها‪ّ .‬‬
‫ً‬
‫س ّلمت عليه فحدّ ق ّ‬
‫إلي بعينين بارزتين تبدوان كأنهما ستخرجان من‬
‫وحرك فمه مرح ًبا بي‪.‬‬
‫محجريهما‪ ،‬ومدّ يده لمصافحتي‪ّ ،‬‬
‫اختار يونس خرو ًفا‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ــ هذا مواصفاته ممتازة‪ ،‬يلبي مبتغاك تما ًما‪ ،‬سمين ونشط‪ ،‬لم يبخل‬
‫عليه ياسر بالعلف المركّز الغني بالطاقة والبروتين‪.‬‬
‫وتحسسه جيد ًا‪ ،‬وأضاف‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ثم دعاني إلى وضع يدي على ظهر الخروف‬
‫ــ لن تشعر بفقرات ظهره ألنه ممتلئ باللحم‪.‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ــ أشكرك‪ ،‬من الواضح أنه معافى‪.‬‬
‫نقدته ثمنه‪ ،‬والتمست من ياسر أن يحمله إلى السيارة‪ ،‬لك ّن يونس أومأ‬
‫برأسه إلى ياسر‪ ،‬وقال لي‪:‬‬
‫ــ لن أدعك تذهب قبل أن تتناول الفطور معنا‪.‬‬
‫كانت تنبض في داخلي أمنية ملحة بأن يدعوني لشرب استكان شاي‪،‬‬
‫طم ًعا مني في رؤية الصبية‪ ،‬فقلت له‪ ،‬من غير تردد‪:‬‬
‫ــ سأكتفي بشرب استكان شاي فقط‪ ،‬أما الفطور فأرجو تأجيله إلى يوم‬
‫آخر‪.‬‬
‫ــ كما تشاء‪ ،‬تفضل إلى البيت‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫ربت يونس على كتفي‪ ،‬ونحن ندلف إلى حجرة االستقبال في بيته‪،‬‬
‫المؤثثة تأثي ًثا بسي ًطا‪ ،‬ودعاني للجلوس على أريكة قبالة نافذتها المشرعة‬
‫على الفناء‪ ،‬ثم استأذن بأن يغيب عني بعض الوقت‪.‬‬
‫أخذت أثناء غيابه أستطلع جدران الحجرة‪ ،‬ثمة ساعة من الطراز‬
‫الكالسيكي فوق النافذة بجوارها لوحة تخطيط‪ ،‬موغلة في ِ‬
‫القدم‪ ،‬لجمال‬
‫تحف بها سلسلة ورود اصطناعية‪ ،‬ولوحة أخرى شاحبة تحتشد‬
‫ّ‬ ‫عبد الناصر‬
‫بفواكه‪ ،‬وكف من السيراميك زرقاء اللون في وسطها عين واحدة‪ ،‬تتدلى‬
‫فوق إطار الباب مباشرةً‪ ،‬وسجادة حائط فوق األريكة التي أجلس عليها‪،‬‬
‫إضاف ًة إلى الكثير من الصور الشخصية هنا وهناك‪ ،‬وقد فوجئت بأن عد ًدا‬
‫ببزة ضابط في الجيش‪ ،‬بعضها وهو في رتبة مالزم ٍ‬
‫ثان‪،‬‬ ‫منها صور ليونس ّ‬
‫وأخرى وهو مالزم أول‪ ،‬وبعضها وهو نقيب‪.‬‬
‫رجع يونس‪ ،‬بعد نحو خمس دقائق‪ ،‬تتبعه سيدة تحمل صينية شاي‪،‬‬
‫أربعينية محجبة‪ ،‬قمحية البشرة‪ ،‬ذات فم بلون البرقوق األحمر الداكن يتسم‬
‫ّ‬
‫مشذبين‬ ‫قليل كوجنتي أرنب‪ ،‬وحاجبين‬ ‫بالكبرياء‪ ،‬ووجنتين منتفختين ً‬
‫ً‬
‫طويل خ ّبازي اللون‪ ،‬وتشع من عينيها السوداوين بساطة‬ ‫بعناية‪ ،‬ترتدي ثو ًبا‬
‫ريفية‪ .‬قال‪:‬‬
‫ــ أم مالك زوجتي‪.‬‬
‫وأشار لها أن تضع الصينية على طاولة زجاجية في منتصف الحجرة‪،‬‬
‫فأجبت بلطف‪:‬‬
‫ــ لي الشرف‪.‬‬
‫وتساءلت في داخلي «هل يض ّيف جميع زبائنه هكذا؟»‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫صب يونس الشاي في استكانين‪ ،‬وقدّ م لي واحدةً‪ ،‬فارتشفت منها‬
‫ّ‬
‫وقلت‪:‬‬
‫ــ ال ّ‬
‫ألذ من الشاي باالستكان‪ .‬نحن في البيت صرنا نشربه باألقداح‬
‫لألسف‪.‬‬
‫ــ خاص ًة إذا كان مخدّ ًرا بالهيل‪.‬‬
‫أردت أن أطيل الحديث معه لع ّلي أحظى برؤية الصبية‪ ،‬فرفعت رأسي‬
‫إلى الجدار وألقيت تظر ًة مقتضب ًة إلى الصور‪ ،‬وسألته‪:‬‬
‫كنت ضاب ًطا؟‬
‫ــ َ‬
‫أذكى سؤالي جمر ًة كانت خامد ًة في صدره‪ ،‬فتنهد وقال‪:‬‬
‫يبق من ذلك العهد سوى الذكريات وهذه الصور‬
‫ــ قبل االحتالل‪ .‬لم َ‬
‫التي ال يمكن ط ّيها‪.‬‬
‫تمهل مدى لحظات‪ ،‬ثم أردف‪:‬‬
‫ّ‬
‫ــ ك ّبلتني الحياة‪ .‬بعدما ّ‬
‫حل الحاكم األميركي بريمر الجيش لم ي ُعد لي‬
‫أي عمل‪ .‬لعنة الله عليه وعلى بوش الخنزير‪.‬‬
‫ــ هل انضممت إلى المقاومة مثلما فعل عسكريون آخرون؟‬
‫ــ لم أستطع‪ ،‬كنت مرا ّق ًبا من طرف عمالء متعاونين مع االحتالل‪،‬‬
‫علي البقاء في الدار‪.‬‬
‫وعملي في تربية الخراف حتّم ّ‬
‫لكنت اآلن ربما في رتبة عقيد‪.‬‬
‫َ‬ ‫ــ لو لم ُي َحل الجيش‬
‫قلت ذلك‪ ،‬وافترضت في داخلي أن أي شخص آخر لو كان في مكانه‬
‫لمات غي ًظا من المهانة‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫جرحا استوطن روحه‪:‬‬
‫عزيته‪ ،‬أو المست ً‬
‫علي وكأني ّ‬
‫ر ّد ّ‬
‫كثيرا‪ ،‬أظنك ال تعرف مدى صعوبة تأقلم العسكري المحترف‬ ‫ــ أشكرك ً‬
‫مع مهنة غير مهنته‪ ،‬خاص ًة إذا كان معتدًّ ا بنفسه‪.‬‬
‫كر ًة ثاني ًة وقال‪:‬‬
‫صب استكاني شاي ً‬
‫ّ‬
‫ــ ماذا كان بوسعي أن أعمل؟ سائق تاكسي أم بائع ُخضار ألعيل‬
‫أسرتي؟ ما كان في استطاعتي أن أمتهن هاتين المهنتين‪ ،‬بل وجدت ضا ّلتي‬
‫في تربية الخراف كما ترى‪ .‬هكذا حكمت الظروف‪ .‬في بادئ األمر‪ ..‬كيف‬
‫أع ّبر لك؟‪ ..‬عانيت من هذه المهنة وضقت ذر ًعا بها‪ ،‬لكن لم يكن هناك‬
‫مناص من ترويض النفس على القبول بها‪ .‬وهكذا مضيت في مزاولتها‪،‬‬
‫ومع مرور الوقت اكتسبت خبر ًة من عمي عاشور‪.‬‬
‫ــ عاشور عمك؟‬
‫ــ عمي وأبو زوجتي‪ .‬كان يمتهن هذه المهنة قبل أن تقعده الشيخوخة‬
‫عن العمل‪ ،‬لكنه ال يستطيع مفارقة سوق الغنم‪ ،‬يجد فيه مال ًذا‪ ،‬يحمل‬
‫مقعده الصغير صباح كل يوم ويذهب إليه ليبدد ساعتين في استطالعه حتى‬
‫يوم الجمعة‪ ،‬ثم يعود أدراجه‪ ،‬وأحيانًا يرشد إلى بيتي َمن يحدس أنه زبون‬
‫جديد مثلك‪.‬‬
‫حتما له في السوق ذكريات وهواجس مضى زمنها‪،‬‬
‫ــ يا له من ولع! ً‬
‫لكنها تمنحه سعادةً‪ .‬هل يقيم معك؟‬
‫ــ ال‪ ،‬إنه يقيم مع ابنه‪.‬‬
‫ــ وهذا البيت ُملكك بالطبع؟‬

‫‪104‬‬
‫ــ أجل‪ ،‬وكذلك البيت المالصق‪ .‬ورثتهما من أبي‪.‬‬
‫مؤجر؟‬
‫ــ آسف إلزعاجك بأسئلتي‪ ،‬هل البيت الثاني َّ‬
‫سألته بنية معرفة َمن يسكن فيه‪ ،‬وكان فضولي يتزايد لمعرفة سر الصبية‪،‬‬
‫فأجاب‪:‬‬
‫خصصته ألسرة نازحة من الموصل‪.‬‬
‫ــ ال‪ّ ،‬‬
‫ــ أهي آشورية أم كلدانية؟‬
‫ــ آثورية‪.‬‬
‫أيضا‪.‬‬
‫ــ أجل‪ ،‬أجل‪ ..‬وأنا ً‬
‫أتشرف بك‪.‬‬
‫ــ ّ‬
‫ــ كيف وصلت هذه األُسرة؟‬
‫المقربين‪ ،‬أعني أنها أسرة صديق شهيد‬
‫ّ‬ ‫ــ هي ليست غريب ًة بل من معارفي‬
‫علي جدً ا اسمه يوسف‪ ،‬والصبية التي فتحت لك البوابة ابنته مارينا‪.‬‬
‫عزيز ّ‬
‫كنا أنا وإياه ضابطين في كتيبة عسكرية واحدة قبل االحتالل‪ ،‬وتربطني‬
‫ُبأسرته عالقة عائلية عميقة‪ ،‬وعندما جرى حل الجيش عمل في مهنة حرة‬
‫أيضا‪ ،‬ويوم دخل اإلرهابيون المدينة شارك هو وشقيقه في مقاومتهم حتى‬
‫ً‬
‫نفدت ذخيرتهما واستشهدا‪ .‬وبعد سيطرة أولئك اإلرهابيين على المدينة‬
‫أصدروا بيانًا خ ّيروا فيه المسيحيين بين التحول إلى اإلسالم‪ ،‬أو دفع‬
‫الجزية‪ ،‬أو المغادرة من غير ممتلكاتهم بوصفها غنائم‪ ،‬أو الموت‪ ،‬وما كان‬
‫أمام أرملة صديقي وابنتها وولدها من خيار سوى المغادرة فاستقبلتهم في‬
‫جزأتها إلى بيتين‪.‬‬
‫داري‪ .‬وألن الدار كانت كبير ًة تفيض عن حاجة أسرتي ّ‬

‫‪105‬‬
‫أن يونس‬‫سري ألن الصبية آشورية‪ ،‬وأوحى لي حدسي ّ‬ ‫ابتهجت في ّ‬
‫حتما جميلة ما دامت مارينا خارج ًة‬
‫يخطط التخاذ أمها زوج ًة ثاني ًة‪ ،‬فهي ً‬
‫من رحمها‪ ،‬في حين أن زوجته ينقصها الجمال‪« .‬لكن هل ستقبل به وهو‬
‫مسلم وله زوجة؟!» تساءلت في داخلي‪ ،‬ثم قلت «ربما ستقبل على مضض‬
‫ألنها مكسورة الجناح»‪.‬‬
‫بعد انتهائنا من شرب الشاي استقمت واق ًفا لالنصراف‪ ،‬فلمحت مارينا‬
‫من النافذة تعبر مسرع ًة إلى جهة شجرة التين‪ ،‬مثل نسمة‪ ،‬وقد استبدلت‬
‫إحساسا بالغبطة اعتراني‪ ،‬وخطوت إلى‬
‫ً‬ ‫بيجامتها بثوب مزركش‪ .‬أخفيت‬
‫باب الخروج‪ ،‬وسبقت مض ّيفي في فتحه‪.‬‬
‫حمل ياسر الخروف ووضعه في صندوق السيارة‪ ،‬فأجزلت له الشكر‪،‬‬
‫شاعرا‬
‫ً‬ ‫وتبادلت ويونس أرقام الهاتف‪ ،‬وودعته وقفلت راج ًعا إلى البيت؛‬
‫علي بأن أو ّثق عالقتي به أكثر لع ّلي أخطب و ّد مارينا بعدما‬
‫يلح ّ‬
‫بخاطر قوي ّ‬
‫فقدت األمل في شميرام‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫‪11‬‬

‫زارتنا أسين وابنتها مساء ذلك اليوم لتطمئن على أبي‪ ،‬وكانت سلفانا‬
‫أيضا من أربيل‪ .‬بدت حزين ًة‪ ،‬ثمة عتمة في داخلها‪ .‬الحظنا‬
‫وزوجها قادمين ً‬
‫ذلك من انطفاء نظرتها واختفاء ابتسامتها ودعاباتها التي عهدناها‪ .‬وحين‬
‫أصرت عليها سلفانا أن تبوح بما يختلج في نفسها قالت‪ ،‬بعد تر ّدد‪ ،‬إن‬
‫ّ‬
‫تفضل الموت على‬
‫قسرا من أحد أقاربهم‪ ،‬لكنها ّ‬
‫أهلها يريدون تزويجها ً‬
‫القبول به‪.‬‬
‫ــ ما مواصفاته؟‬
‫سألتُها‪ ،‬فر ّدت‪:‬‬
‫نج ًارا‪ ،‬ويعيل بنتًا في الثانية عشرة‬
‫ــ يكبرني بعشرين سنة‪ ،‬أرمل يعمل ّ‬
‫وولدً ا في العاشرة‪ ،‬وليس له من التحصيل الدراسي سوى االبتدائية‪.‬‬
‫ــ تستطيعين أن ترفضي‪.‬‬
‫سيتبرؤون مني إن لم أوافق‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ــ هدّ دوني بأنهم‬
‫قالت سلفانا‪:‬‬
‫ــ ليذهبوا إلى الجحيم‪ِ ،‬‬
‫لست في حاجة إليهم‪ ،‬أنت معلمة تعيشين من‬
‫عرق جبينك‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫فلتت من عينيها دمعتان‪:‬‬
‫ــ مشكلتي نورجان‪ ،‬أين أتركها عندما أذهب إلى المدرسة؟ أمي لن‬
‫تقبل‪...‬‬
‫قاطعتها‪:‬‬
‫سجليها في الروضة‪.‬‬
‫ــ ّ‬
‫لكن أمي بادرت قائل ًة‪:‬‬
‫ِ‬
‫يعجبك هذا الحل‪.‬‬ ‫ــ أنا أتك ّفل برعايتها أثناء غيابك إن لم‬
‫ــ أشكرك خالتي‪ ،‬أنت بمنزلة أمي‪ ،‬لكني ال أريد أن أرهقك‪ ،‬نورجان‬
‫إزعاجا‪ .‬فكّرت في تسجيلها في روضة‬
‫ً‬ ‫كثيرة الحركة‪ ،‬وستسبب لك‬
‫حكومية‪ ،‬رغم كونها بعيدةً‪ ،‬وأخشى أن يصيب تفجير ما السيارة التي تقلها‪،‬‬
‫فهي تقطع شوارع رئيس ًة مزدحم ًة بين الحي والروضة‪ .‬يا الله‪ ،‬سأموت إن‬
‫حدث ذلك‪.‬‬
‫سحبت أمي الطفلة من يدها برفق وأجلستها على حجرها وقالت‬
‫بتصميم‪:‬‬
‫ــ ستبقى إ ًذا كل يوم عندي خال يوم األحد الذي أذهب فيه إلى الكنيسة‬
‫كما تعلمين‪ ،‬وال أتوقع أن المدرسة ستعارض مرافقتها لك يو ًما واحدً ا في‬
‫األسبوع‪.‬‬
‫وأضفت ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫أيدنا جميعنا أمي‪،‬‬
‫ــ سنتان فقط وتبلغ نورجان السادسة‪ ،‬حينئذ ستكون تلميذ ًة في‬
‫مدرستك‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫لبثت أسين مطرق ًة لحظات‪ ،‬ثم طفح وجهها بغت ًة بابتسامة مشرقة‪،‬‬
‫ونهضت وق ّبلت أمي من رأسها‪ ،‬وما إن عادت إلى مكانها حتى سمعنا‬
‫هز أركان البيت‪ ،‬وح ّطم زجاج نافذته المطلة على‬ ‫دوي انفجار قريب ّ‬
‫الزقاق‪ .‬استغاثت أمي «يا يسوع» وهي تشدّ الطفلة إلى حضنها‪ ،‬فيما اعترى‬
‫أوجه‪ ،‬انقطع التيار الكهربائي بعد‬
‫الذهول اآلخرين‪ .‬ولكي يبلغ الموقف ّ‬
‫برهة فغرقنا في الظلمة‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫‪12‬‬

‫التقيت عمران‪ ،‬بعد يومين‪ ،‬في مطعم «القلعة» على مقربة من الشاطئ‪،‬‬
‫كنا قد اعتدنا ارتياده بين الفينة والفينة‪ .‬ذكّرته بسؤالي عن المركب الشراعي‪،‬‬
‫ثم حكيت له ما حدث في المغارة والمرفأ ً‬
‫أول‪ ،‬ثم المصادفة التي جعلتني‬
‫أرى مارينا‪ .‬صدّ ق الحكاية الثانية‪ ،‬ووصف األولى بأنها استيهام أنتجه‬
‫النبيذ الذي جرعته في المغارة‪ ،‬أو أن ّ‬
‫جل ما في األمر أنني غفوت بعض‬
‫الوقت فتج ّلت لي في الحلم‪ ،‬وبلغت من القوة حدًّ ا جعلتني أعتقد أن‬
‫أحداثها حقيقية‪.‬‬

‫استفزني كالمه فقلت محتدًّ ا‪:‬‬


‫ّ‬
‫ــ بئس الشيطان‪ ،‬أنت تشكّك في قواي الذهنية وتهدم ّ‬
‫كل شيء مثل بائع‬
‫األطعمة عند الشاطئ‪.‬‬

‫ــ ماذا قال لك؟‬


‫ــ زعم أنني كنت ً‬
‫ثمل‪ ،‬وأن َمن كانوا على متن المركب ربما إرهابيين‬
‫متنكرين‪.‬‬

‫ــ اهدأ يا صديقي‪ ،‬وأجبني فقط‪..‬‬

‫ــ بِ َم أجيبك؟‬

‫‪110‬‬
‫ــ كيف تعقل رجوع الملك آشور وحاشيته إلى الحياة بعدما شبعوا موتًا‬
‫منذ ثالثة آالف سنة؟‬
‫أعملت فكري وقلت‪:‬‬
‫ــ ثمة احتماالن‪ ،‬إما أن تكون أرواحهم ح ّلت في أجسام آخرين عن‬
‫طريق التناسخ‪ ،‬أو أنهم كائنات بحرية حولتهم قوة سحرية تسكن في‬
‫أعماق البحر إلى بشر بهذه الهيئة‪.‬‬
‫ــ هل تؤمن بفكرة التناسخ؟‬
‫ــ ماليين الناس في العالم يؤمنون بها‪ ،‬خذ أتباع الديانات الهندوسية‬
‫والسيخية والبوذية والتاوية‪ ،‬وحتى بعض الفرق اإلسالمية‪.‬‬
‫ــ هذا من قبيل الهراء‪ ،‬وأنت مسيحي‪.‬‬
‫ــ لو كان هرا ًء لما وجد طريقه إلى عقول آالف المسيحيين اللوثريين‬
‫في الغرب‪.‬‬
‫ــ هؤالء اآلالف يعانون من خلل روحي بسبب غرقهم في الماديات‪،‬‬
‫ً‬
‫ضئيل جدً ا من حاجات الروح‪.‬‬ ‫والكنيسة عاجزة‪ ،‬أو ال تو ّفر لهم إالّ جان ًبا‬
‫أقول هذا رغم إعجابي بالتقدم الذي حققه الغرب‪.‬‬
‫ــ واالحتمال الثاني؟‬
‫ــ هذا أضرط من االحتمال األول‪.‬‬
‫صمت هنيه ًة ثم قال‪:‬‬
‫ــ لدي اقتراح‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫ــ هاتِه‪.‬‬
‫ــ استثمر االستيهام بر ّمته في كتابة رواية‪.‬‬
‫ــ رواية؟‬
‫ــ اجعل اللقاء بالملك آشور بداي ًة ألحداث الحقة تقع بعد دخوله‬
‫المدينة‪ .‬أكتب ما يطوف في مخيلتك‪ ،‬واحبكه بمهارتك السردية‪.‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ــ لكنها ستكون رواي ًة فانتازي ًة‪.‬‬
‫قال‪:‬‬
‫ــ لتكن‪ ،‬أين المشكلة؟‬
‫ــ أنت تعرف أن كل محاوالتي الروائية السابقة واقعية‪ .‬صحيح أن‬
‫أحداثها متخ ّيلة لكنها محتملة الوقوع‪ ،‬أو قابلة للتصديق‪.‬‬
‫ــ ال تع ّقد األمر‪ ،‬تخ ّيل واكتب واسترسل على هواك‪.‬‬
‫ــ المسألة ليست ه ّينة يا صديقي‪ .‬كيف أجمع بين شميرام ومارينا في‬
‫رواية واحدة؟‬
‫ــ و َمن طلب منك أن تجمع بينهما؟ دعك من مارينا‪ ،‬إنها شخصية‬
‫واقعية وال صلة لها باألحداث المتخ َّيلة‪.‬‬
‫ــ أي طعم يبقى فيها من غير مارينا؟‬
‫ــ عزيزي‪ ،‬مارينا موجودة‪ ،‬احتفظ بها لمشروع آخر ربما تقدم عليه‪.‬‬
‫ــ أي مشروع؟‬

‫‪112‬‬
‫ــ ربما ستفكّر في االقتران بها ما دامت جميل ًة مثل شميرام‪ .‬و ّثق عالقتك‬
‫بيونس لتصل إليها‪.‬‬
‫أطرقت ً‬
‫قليل‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫ــ ثمة فكرة أخرى راودتني اآلن‪.‬‬
‫ــ ما هي؟‬
‫ــ رسالة الماجستير التي أنوي كتابتها‪.‬‬
‫ــ ما بها؟‬
‫متحمسا للبحث في موضوع آثارنا المنهوبة أيام االحتالل‪،‬‬
‫ً‬ ‫عدت‬
‫ّ‬ ‫ــ ما‬
‫فيه مالبسات كثيرة ستوقعني في إشكاليات بحثية عوصاء‪.‬‬
‫ــ وما عالقة هذا الموضوع بالرواية؟‬
‫أخصص الرسالة للملك آشور‪.‬‬
‫ــ ّ‬
‫ــ ما أدراك أن واحدً ا غيرك لم يكتب بح ًثا عنه؟‬
‫ــ تسألني وأنت األعلم مني؟‬
‫ــ ماذا ستكتب عنه؟‬
‫ــ أكتب عن حياته‪ ،‬أفعاله العظيمة‪ ،‬فتوحاته‪ ،‬وبطوالته‪.‬‬
‫ــ إن كنت راغ ًبا في كتابة رسالتك عنه فضع في حسبانك أن تكون‬
‫موضوع ًّيا‪.‬‬
‫ــ كيف؟‬

‫‪113‬‬
‫أيضا‪.‬‬
‫ــ تتناول مسالكه البشعة ً‬
‫ــ ماذا تعني بمسالكه البشعة؟‬
‫ــ استبداده‪ ،‬عنفه المفرط مع خصومه‪ ،‬قسوته الشديدة مع أسرى‬
‫الحروب ورميهم في النار‪ ،‬أسلوب القتل والتعذيب الذي كان يط ّبقه على‬
‫بعض المدن والقرى التي تستعصي على الجيش اآلشوري فتحها‪ ،‬أو‬
‫ترفض السماح له بالمرور على أراضيها‪ ،‬وليس آخرها توطين اآلشوريين‬
‫في المدن المفتوحة ليصبحوا سادتها‪ ،‬وينتفعوا بخيراتها‪ ،‬ويخمدوا ثورات‬
‫أهلها‪.‬‬
‫ــ تتحدث عنه وكأنه الملك الوحيد في التاريخ الذي شهر سيف‬
‫االستبداد‪ ،‬ومارس العنف بإفراط ضد خصومه‪.‬‬
‫ــ ال أبدً ا‪ ،‬ال أزعم ذلك‪ ،‬معظم الملوك واألباطرة والرؤساء في التاريخ‬
‫يصح أن تعمي األهواء والميول أعيننا ونتناسى فسادهم‬
‫من هذا النوع‪ ،‬وال ّ‬
‫حين نكتب عنهم‪.‬‬
‫ــ أشكرك على هذه النصيحة‪ ،‬لكنني ال أستطيع األخذ بها‪.‬‬
‫ــ لماذا؟‬
‫ــ إعجا ًبا مني بالملك ووفا ًء النتمائي اآلشوري‪.‬‬
‫تأشورت؟ أول مرة أسمع منك هذا الكالم‪ ،‬مذ عرفتك‬
‫َ‬ ‫أيضا‬
‫ــ أنت ً‬
‫آثوري‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وأنت‬
‫واهما‪.‬‬
‫ً‬ ‫ــ كنت‬
‫ــ لكن باحثين عديدين يؤكدون أن اآلثوريين سريان من أتباع الكنيسة‬

‫‪114‬‬
‫النسطورية‪ ،‬وال يوجد أي سند علمي تاريخي أو أنثروبولوجي يثبت أنهم‬
‫أحفاد اآلشوريين‪.‬‬
‫ــ ليقولوا ما يقولون‪ ،‬إنهم سريان أو كلدان وأنا أخالفهم‪.‬‬
‫ــ على ماذا تستند؟‬
‫ــ ال أحتاج إلى سند‪ ،‬مصطلح آثوري تحريف لمصطلح آشوري‪،‬‬
‫جلي كالشمس في رابعة النهار‪.‬‬
‫واألمر ّ‬
‫ــ اعذرني نينوس‪ ،‬أنت راكب رأسك اليوم‪ ،‬تسير وراء سراب‪ ،‬أنتم‬
‫آثوريون ال آشوريين‪ ،‬وهذا ال ينتقص منكم‪ ،‬أما الحركات السياسية التي‬
‫تشيع ذلك فإنها تهدف إلى تحقيق أهداف سياسية أقلها إنشاء إقليم باسم‬
‫آشورستان أو آشوريا‪.‬‬
‫ــ ولِ َم ال؟ هل األكراد أعرق منا؟‬
‫ــ ال أحد أعرق من أحد‪ ،‬لك ّن اسم اإلقليم سيطمس أسماء إثنيات‬
‫أخرى‪.‬‬
‫أيضا يطمس أسماء إثنيات غير كردية‪.‬‬
‫ــ اسم كردستان ً‬
‫ــ يبدو أنك انضممت إلى إحدى هذه الحركات؟‬
‫ــ لم أنضم‪ ،‬لكن ربما سأنضم إلى الحركة الديمقرطية اآلشورية‪.‬‬
‫ــ َزوعا؟!‬
‫ــ ما بها؟ إنها تدافع عن الوجود القومي اآلشوري‪.‬‬
‫ــ في رأي الكثيرين من السريان والكلدان أنها حركة إقصائية‪ ،‬ابتدعت‬

‫‪115‬‬
‫اسما مطاط ًّيا لها يصفونه بـ«القطاري» (كلداني‪ -‬سرياني‪ -‬آشوري)‪،‬‬ ‫ً‬
‫ويرفضونها ألنها تضع الجميع في سلة قومية واحدة هي اآلشورية‪ ،‬وت ُعدّ‬
‫السريان والكلدان مذهبين كنسيين تاب َعين لها‪ .‬ال بل إنها تعتبر الجنس‬
‫جنسا متفو ًقا وينبغي على اآلخرين الخضوع له‪.‬‬
‫اآلشوري ً‬
‫ــ هؤالء الذين تشير إليهم قلة وليسوا كثيرين‪ ،‬ليذهبوا إلى الجحيم‪.‬‬
‫ــ أوف! أوف! أنت اليوم خربان من اآلخر يا صديقي‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫‪13‬‬

‫في اليوم التالي للقائي العاصف بعمران ُأجبرت على مرافقة أمي إلى‬
‫أربيل لحضور حفل عيد ميالد أختي سلفانا التاسع والعشرين‪ .‬ما كان‬
‫بمقدوري اإلفالت من إداء هذا الواجب رغم مشاغلي‪ .‬حاولت أقناع‬
‫أيضا‪ ،‬متع ّل ًل بأن لديه التزامات عديد ًة مع‬
‫أبي بمرافقتها لكنه تم ّلص ً‬
‫زبائنه في المحل‪ .‬لكني شككت في عذره‪ ،‬بدا لي غير مقنع ألبتّة‪ ،‬فالزبائن‬
‫أمرا ما‪،‬‬
‫علي الظن أن في باله ً‬
‫باستطاعتهم أن يصبروا يو ًما أو يومين‪ ،‬وغلب ّ‬
‫وسيكون غيابنا‪ ،‬أنا وأمي‪ ،‬فرص ًة مناسب ًة لتحقيقه‪ .‬كنت أعلم أن لديه عالقة‬
‫بامرأة تمتّعه‪ ،‬اكتشفت األمر حين حللت محله في العمل أثناء مرضه‪ ،‬إال‬
‫أني كتمت السر‪ .‬كيف حدث ذلك؟ ذات مرة جاءت إلى المحل امرأة لم‬
‫ّ‬
‫تتخط سن األربعين‪ ،‬ذات مظهر جميل‪ ،‬مليئة بالحيوية‪ ،‬تضع على بشرتها‬
‫علي التحية‪ ،‬وسألتني عن أبي قائل ًة‬
‫مكياجا خفي ًفا يمنحها جاذبي ًة‪ .‬ألقت ّ‬
‫ً‬
‫إنها تعلم بمرضه وترجو أن ُأطمئنها عليه‪ ،‬وقبل أن أفتح فمي أضافت‪:‬‬
‫ــ وددت أن أتصل به لكني لم أجرؤ‪.‬‬
‫سألتها‪:‬‬
‫ــ لماذا ال تجرؤين ما دمت تعرفينه؟‬
‫ترددت ً‬
‫قليل‪ ،‬ثم أجابت‪:‬‬

‫‪117‬‬
‫ــ أخشى أن تر ّد أمك على الهاتف ُفأحرج‪.‬‬
‫ــ هل أنت من زبائنه؟‬
‫تبسمت بتصنّع‪:‬‬
‫ّ‬
‫ــ ال‪ ،‬زوجي المرحوم كان صديقه‪.‬‬
‫ــ َمن أعلمك بمرضه؟‬
‫ــ أرسل لي رسال ًة نص ّي ًة منذ بضعة أيام خلت‪ ،‬وطلب‪...‬‬
‫قطع جارنا‪ ،‬صاحب محل الحلويات‪ ،‬كالمها مناد ًيا من الباب‪:‬‬
‫ــ نينوس‪ ،‬هل تحسنت صحة والدك؟‬
‫وواصلت الحديث مع المرأة‪:‬‬
‫ُ‬ ‫مريضا‪،‬‬
‫أجبته بأنه ال يزال ً‬
‫ــ ماذا طلب منك؟‬
‫ــ طلب أالّ أر ّد على رسالته‪.‬‬
‫ــ هذا غير ممكن‪ ،‬انتظري سأتصل به‪.‬‬
‫والتقطت هاتفي من ُدرج طاولة الحساب‪،‬‬
‫ُ‬ ‫تراجعت خطو ًة إلى الوراء‬
‫ُ‬
‫رغم أنني لم أكن أنوي االتصال بأبي ً‬
‫فعل‪ ،‬وإنما أردت أن أعرف ردة‬
‫فعلها‪ ،‬أما هي فقد فتحت فمها كما لو أنها أرادت أن تأخذ جرعة هواء‪ ،‬ثم‬
‫أسرعت في مغادرة المحل‪ ،‬من دون أن تنبس بكلمة‪ .‬بعد هنيهة لمعت في‬
‫ذهني فكرة اللحاق بها وسؤالها عن اسمها‪ ،‬غير أنها كانت قد توارت عن‬
‫خرجت‪.‬‬
‫ُ‬ ‫األنظار عندما‬
‫أدركت يومها أن ألبي صلة غير بريئة بتلك المرأة‪ ،‬وقد كذبت في‬
‫ُ‬

‫‪118‬‬
‫ادعائها أنه كان صدي ًقا لزوجها المرحوم‪ ،‬وال أدري لماذا تصرفت بتلك‬
‫الحماقة التي فضحت عالقتهما!‬
‫بعد عودتي من أربيل الحظت عالمات االنشراح بادي ًة على وجه أبي‪،‬‬
‫حتى أنه من شدة غبطته كان قد فاجأ أمي‪ ،‬بسيطة العقل‪ ،‬بهدية ثمينة اشتراها‬
‫لها‪ ،‬وهي عبارة عن قالدة ذهبية تنتهي بصليب‪ ،‬زاعم ًا أنه ربح ً‬
‫مال وفير ًا في‬
‫صفقة ساعات سويسرية باعها لساعاتي ِ‬
‫قدم من بغداد أثناء غيابنا‪ ،‬فأيقنت‬
‫أنه نال مبتغاه من عشيقته‪.‬‬
‫هل أعدّ سلوك أبي هذا نزوةً‪ ،‬إن لم أقل انحرا ًفا في جميع األحوال؟‬
‫علي مواجهته‪ ،‬رغم كونه هو األب وأنا األبن‪ ،‬وتذكيره بأن ما يفعله‬ ‫هل ّ‬
‫خطيئ ًة؟ صحيح أنه غير ملتزم دين ًّيا‪ ،‬لك ّن ما يفعله يجرح كرامة أمي‪ ،‬وال‬
‫يناسب سنّه‪ ،‬فهو في التاسعة والخمسين‪ ،‬وقد صار َجدًّ ا منذ بضعة أعوام‪.‬‬
‫إالّ أني ال أستطيع إعفاء أمي من السبب ً‬
‫أيضا‪ ،‬فهي لم ت ُعد تعتني بنفسها‬
‫مثلما كانت تفعل قبل سنوات‪ ،‬أصبح التد ّين والكنيسة والمقدّ سات‬
‫شاغلها األول‪ ،‬تتمسك بها وتدير ظهرها ألنوثتها وتهمل رغبات أبي‪ ،‬مع‬
‫أنها تحبه‪ ،‬وسنها أصغر من سنه باثنتي عشرة سنة‪ .‬وال أزعم بالطبع أن أبي‬
‫متنفسا لغريزته‪ ،‬فهو‬
‫ً‬ ‫يهوى تلك المرأة بالمعنى الرومانسي‪ ،‬بل يجد فيها‬
‫حسي ينجذب إلى النساء الجميالت اللواتي يعتنين بزينتهن‪ ،‬ويبرزن‬
‫رجل ّ‬
‫مفاتنهن‪ ،‬وال يحفل بعواطفهن‪ .‬عرفت ذلك حين صحبته مر ًة إلى شقة‬
‫العم جورج خالل سنتي الدراسية األولى في الجامعة‪ .‬كنا أنا وميخائيل في‬
‫الصالة نصغي إلى حديثهما وهما يحتسيان العرق في غرفة مجاورة‪ ،‬وكان‬
‫يتغزل بالمرأة التي ال تدّ خر وسع ًا في جذب الرجل إليها‪ ،‬وتحريك‬
‫أبي ّ‬
‫غرائزه بما تمتلكه من فن اإلغراء‪ ،‬ويذم المرأة التي تهمل أنوثتها‪ ،‬فتواطأ‬

‫‪119‬‬
‫معه العم جورج‪ ،‬الذي يتعته عاد ًة إثر كأسين‪ ،‬وذهب إلى أبعد من ذلك‪،‬‬
‫وسط النقاش المتصاعد‪ً ،‬‬
‫قائل‪« :‬هيه يا صاحبي! وحق العذرا إن العشيقة‬
‫فقط تمتاز بهذا الفن‪ ،‬أما الزوجة فإن ِعشرتها تغدو بعد بضع سنوات باهت ًة‬
‫وروتيني ًة إذا لم تسلك سلوك العشيقة‪ ،‬إذا لم تلعب دورها بذكاء في إثارة‬
‫مزة في فمه‬
‫كأسا معه في مخدعهما‪ ،‬تدندن له‪ ،‬تدس ملعقة ّ‬
‫بعلها‪ ،‬تشرب ً‬
‫بين حين وآخر‪ ،‬ترقص له مثل راقصات الستربتيز‪ ،‬وتفعل أشياء أخرى‬
‫يفتقدها في بيته‪ ،‬ثم تجره عنو ًة إلى الفراش وهي في كامل عريها!»‪ .‬أستُثير‬
‫أبي على الفور فضرب الطاولة بيده‪ ،‬ثم رفع كأسه وهتف «وحق الشيطان‬
‫أنت لست ميكانيك ًّيا يا جورج بل الشيطان نفسه‪ .‬بصحتك يا صاحبي‪...‬‬
‫ألذ من العشيقة حين تتعرى حتى لو كانت قحب ًة!»‪.‬‬
‫ما أحلى كالمك‪ ..‬ال ّ‬
‫صحيحا‪ ،‬كيف‬
‫ً‬ ‫لكن العم جورج احتج ً‬
‫قائل «قحبة! ال يا حمار‪ ،‬هذا ليس‬
‫ودب؟»‪ .‬شعر أبي لحظتها‬
‫هب ّ‬ ‫تستمتع بها إذا كانت تفتح فخذيها لكل من ّ‬
‫كأسا أخرى ولم ينبس ببنت ش ّفة‪.‬‬
‫بالهزيمة فمأل ً‬
‫ليلتها شرب أبي أكثر من طاقته‪ .‬كان السكر باد ًيا عليه‪ ،‬فكيف يا ترى‬
‫ثلجا؟ وقتها ما كنت أجيد السياقة‪ ،‬فاقترحت‬ ‫سيقود سيارته والسماء ّ‬
‫تنث ً‬
‫عليه أن نترك السيارة ونذهب إلى البيت بتاكسي أو أن نبيت عند العم‬
‫جورج‪ ،‬لكنه ركب رأسه وأصر على قيادة السيارة‪ .‬جلست بجانبه وأنا‬
‫أرتعد من الخوف‪ .‬ناشدته أن يسوق على مهل فلم يعرني أذنًا صاغي ًة‪،‬‬
‫كثيرا وعيناه جاحظتان تحدقان إلى زجاج السيارة‬
‫كان يبتسم فقط‪ ،‬يبتسم ً‬
‫األمامي الذي يغشاه ضباب خفيف‪ ،‬وإلى ماسحتيه اللتين يتهالك الثلج‬
‫تحت حركتيهما‪ ،‬ويصغي إلى الصرير الصادر عنهما‪ ،‬وأخذ يسرع كأنه‬
‫يسلك طري ًقا خارج ًيا‪ ،‬غير ٍ‬
‫مبال ال باإلشارات الضوئية وال بضيق الشوارع‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫تمنيت أن تعترضنا في تلك األثناء سيارة شرطة مرور أو نجدة لتحجز‬
‫السيارة أو تخالفه وتلزمه على السير ببطء‪ ،‬لكن الشوارع كانت خالي ًة‬
‫أن الوقت لم يكن قد‬‫لسوء الحظ وكأننا في مدينة يقطنها المالئكة‪ ،‬رغم ّ‬
‫غرة إلى‬‫تعدى الحادية عشرة‪ .‬وفي منتصف المسافة انعطف أبي على حين ّ‬
‫شارع فرعي من دون أن يخفف من السرعة‪ ،‬فحادت السيارة عن الشارع‬
‫وصدمت دعام ًة خرساني ًة الحدى المباني على الرصيف‪ ،‬وتح ّطم نصفها‬
‫أي منا بأذى‪ ،‬عدا بكدمات بسيطة‪ ،‬لك ّن الحادث كان‬‫األمامي‪ .‬لم ُيصب ّ‬
‫ً‬
‫فاصل بين أبي وقيادة أي سيارة في ما بعد‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫‪14‬‬

‫حاولت أن أكابر في البداية‪ ،‬وأتجاهل اقتراح عمران بأن استثمر حكايتي‬


‫مع الملك آشور في كتابة رواية‪ ،‬وأمضي في مشروع رسالة الماجستير عنه‪،‬‬
‫وأخيرا‬
‫ً‬ ‫لكنني لم أستطع‪ .‬قضيت أسبو ًعا ً‬
‫كامل وأنا أفكّر في الموضوع‪،‬‬
‫فترت حماستي وانتهيت إلى إلغائه‪ .‬قلت لنفسي «في مستطاع الكثيرين أن‬
‫يكتبوا أبحا ًثا أكاديمي ًة عنه‪ ،‬لكن ال أعتقد أن كات ًبأ فكّر في استحضاره بعمل‬
‫سردي فانتازي»‪.‬‬‫ّ‬
‫ق ّلبت الفكرة في رأسي ً‬
‫مرارا حتى ّقر قراري أن أكتب ما يطوف في‬
‫مخ ّيلتي‪ ،‬كما قال عمران‪ ،‬وأسرد ما جرى بعد أوبتي من الشاطئ على‬
‫النحو اآلتي‪:‬‬

‫‪122‬‬
‫‪15‬‬

‫شعرت‪ ،‬وأنا أدخل إلى الزقاق المؤدي إلى بيتنا‪ ،‬كأنني عائد من رحلة‬
‫لوا من الباعة‪ ،‬يغ ّلفه السكون‪ .‬ال بدّ أن تكون العاصفة‬ ‫ِ‬
‫طويلة وشاقة‪ .‬كان خ ًّ‬
‫شردتهم وإال لما تركوا أماكنهم قبل مغيب الشمس‪.‬‬
‫قد ّ‬
‫من حسن الحظ لم تكن أمي في البيت‪ ،‬ربما كانت في زيارة لجارتنا أم‬
‫سيمون أو عند أسين‪ .‬غ ّيرت مالبسي وتع ّطرت‪ ،‬واستخرجت من خزانتي‬
‫بعضا من ثيابي وحذا ًء ما عدت أستعمله منذ مدة‪ ،‬ودسستها في حقيبة‬
‫ً‬
‫صغيرة‪ ،‬ومضيت إلى الشاطئ؛ سالكًا الشوارع نفسها التي سلكتها ُبعيد‬
‫الظهر‪.‬‬
‫عند اجتيازي الدكان التي اشتريت منها علبة سجائر فوجئت بتو ّقف‬
‫تعبيرا عن نفاد‬
‫ً‬ ‫حركة السير تما ًما‪ ،‬وأبواق السيارات تمأل الشارع زعي ًقأ‬
‫صبر أصحابها وانزعاجهم‪ .‬حدست أن حاد ًثا ما قد وقع‪ ،‬أو أن موكب‬
‫يسارا فإذا بي ُأفاجأ‬
‫مسؤول كبير يمر فع ّطلت الشرطة السير‪ .‬أدرت رأسي ً‬
‫بالسيارة التي أق ّلت ديانا ورفيقتها واقف ًة أمام البوابة‪ ،‬وسائقها قابع ًا خلف‬
‫منشغل بمكالمة هاتفية‪ ،‬ينفث دخان سيجار ثخين على ٍ‬
‫نحو‬ ‫ً‬ ‫مقودها‪،‬‬
‫متقطع‪ ،‬ويتل ّفت كأنه في انتظار شخص ما‪.‬‬
‫تسنّت لي هذه المرة رؤية الرجل عن كثب‪ ،‬نصف أصلع‪ ،‬وجهه أحمر‬

‫‪123‬‬
‫مكتنز‪ ،‬حليق الشارب‪ ،‬نافر األذنين‪ ،‬عيناه واسعتان كعيني حرذون‪ ،‬يرتدي‬
‫كمين قصيرين بكسرتين في طرفيهما يصالن حتى‬ ‫قميص كاروهات ذا ّ‬
‫خمنت أنه ِم ّمن يسمونهم حديثي النعمة‪ ،‬أحشاؤه‬
‫منتصف العضدين‪ّ .‬‬
‫مملوءة بمال الفساد‪.‬‬
‫تحدثت‬
‫ْ‬ ‫كيسا مزخر ًفا‪.‬‬
‫بعد دقائق خرجت ديانا من البوابة تحمل بيدها ً‬
‫إلى الرجل‪ ،‬عبر نافذة السيارة‪ ،‬بضع ٍ‬
‫ثوان‪ ،‬وس ّلمته الكيس وأقفلت راجع ًة‪.‬‬
‫لم ُأ ِ‬
‫ول األمر أهمي ًة كبيرةً‪ ،‬فأنا ال أعرف طبيعة العالقة بينهما‪ ،‬كان أهم‬
‫شيء بالنسبة لي أن تُستأنف حركة السير ألصل إلى مرامي من دون تأخير‪.‬‬
‫في أثناء ذلك لمحت الفتى النازح بائع الصحف قاد ًما من الجهة التي أنوي‬
‫أن أسلكها‪ .‬كان يرتدي مالبس رياضي ًة‪ ،‬ويحمل مجموعة رزنامات إلى‬
‫إلي‪:‬‬
‫جانب الصحف‪ّ .‬لوحت له بذراعي فهرول ّ‬
‫ــ أتريد الزمان أم المدى؟‬
‫سألني‪.‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫بأي منهما‪.‬‬
‫ــ ال حاجة لي ٍّ‬
‫ــ وال رزنامة؟‬
‫ــ ال‪.‬‬
‫ارتسمت على وجهه المرهق الشاحب عالمة حزن‪:‬‬
‫ــ لماذا ناديتني إ ًذا؟‬

‫‪124‬‬
‫ــ ألسألك عن سبب تو ّقف السير‪.‬‬
‫ــ كالعادة‪.‬‬
‫ــ حادث؟‬
‫قال بشيء من التر ّدد‪:‬‬
‫ــ ال‪ ،‬موكب مسؤول أجرب ال يساوي قمري(((‪.‬‬
‫أعجبتني جرأته‪ ،‬فأعطيته ثمن صحيفتين‪ .‬أشار إلى رزمة الصحف‪:‬‬
‫ــ أتريد كليهما؟‬
‫متبرع بهما لك‪ .‬ما أخبار حمام العليل؟‬
‫ــ ال‪ ،‬أنا ّ‬
‫طفرت دمعات من عينيه‪ ،‬فبدا لي أنني أثرت شي ًئا من األسى في نفسه‪.‬‬
‫تنهدّ وقال بصوت خفيض‪.‬‬
‫ــ ال جديد‪.‬‬
‫شعرت ّ‬
‫بأن سؤالي كان خال ًيا من المعنى‪ ،‬فاستدركت الموقف‪:‬‬
‫ــ ستفرج إن شاء الله يا صديقي‪ .‬امسح دموعك‪ ،‬ما اسمك؟‬
‫ــ مروان‪.‬‬
‫ــ اسم فخم يليق بك‪ .‬هل يضايقك أحد في الشارع؟‬
‫ــ أشخاص قليلون‪ ..‬حين يعرفون أنني نازح‪.‬‬

‫(((تسمية شعبية كانت تُطلق عىل عملة «اآلنة» اهلندية قبل عقود‪ ،‬و ُيش َّبه هبا الشخص الذي‬
‫ال يساوي شي ًئا‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫ــ ُطز فيهم‪ ،‬هؤالء ً‬
‫أيضا ال يساوي أحدهم قمر ًّيا‪ .‬احرص على نفسك‪،‬‬
‫دائما‪.‬‬
‫و ُعد إلى البيت قبل مغيب الشمس ً‬
‫هز الفتى رأسه وشكرني ومضى‪.‬‬
‫ّ‬
‫أردت أن أفتح راديو السيارة وأسمع أغني ًة أو موسيقى مهدّ ئ ًة لألعصاب‪،‬‬
‫لكن نغمة بريدي اإللكتروني في هاتفي شغلتني عنه‪ .‬يا للعجب! رسالة من‬
‫هيلين بعد كل هذه السنين‪:‬‬
‫عزيزي نينو‪،‬‬
‫أنا نادمة‪.‬‬
‫فادحا‪ ،‬هل تقبل اعتذاري؟‬
‫خطأ ً‬‫اقترفت ً‬

‫علي‪ .‬أرجو أن تغفر لي حماقتي‪.‬‬


‫أعرف أنه اعتذار متأخر‪ ،‬وأنك حانق ّ‬
‫المنومة‬
‫ّ‬ ‫جازفت‪ ،‬انسقت وراء حلم غبي أغواني‪ ،‬ألهب خيالي فتبعته مثل‬
‫سمني ما شئت‪ ،‬وها هو الحلم‬‫كنت صغيرةً‪ ،‬طائش ًة‪ ،‬أو ّ‬
‫وتركتك مصدو ًما‪ُ .‬‬
‫قد ّ‬
‫تبخر‪ ،‬وانهالت الحقيقة فوق رأسي‪.‬‬
‫أتذك ُُر أنني حدثتك في رسالتي الثانية قبل خمس سنوات عن أميركي‬
‫من أصول التينية؟ وعدني بأن يتزوجني‪ ،‬ويأخذني في رحلة شهر عسل‬
‫إلى ريو دي جانيرو‪ ،‬ويغرقني في بحر ثروته‪ .‬لك ّن النذل خدعني بعد أن‬
‫أقمت معه ثالثة أشهر في شقته‪ .‬اختفى على حين غفلة مني من دون أن‬
‫يترك لي سنتًا واحدً ا‪.‬‬
‫لم أجرؤ على طلب المساعدة من أهلي ألني خذلتهم‪ ،‬واضطررت إلى‬
‫علي أن أتد ّبر‬
‫مغادرة الشقة حين تب ّين لي أنها ليست ملكه كما زعم‪ ،‬وكان ّ‬

‫‪126‬‬
‫أموري‪ ،‬فعدت إلى ديترويت‪ ،‬وأقمت مؤقتًا عند أسرة عراقية مهاجرة إلى‬
‫أن عثرت على عمل في متجر تملكه سيدة‪ ،‬يفتح ‪ 24‬ساع ًة‪ ،‬فسمحت لي‬
‫بالسكن في مخزن متروك بالطابق العلوي‪.‬‬
‫بعد مدة ضقت ذر ًعا من ذلك المخزن‪ ،‬شعرت باالختناق‪ ،‬ال أنيسة لي‬
‫فيه تكلمني وأكلمها‪ ،‬وجدت نفسي المرأة األشد عزل ًة في األرض فقررت‬
‫علي زميلة مناوبة لي في العمل اسمها نازنين أن‬ ‫أن أغادره‪ .‬عرضت ّ‬
‫أشاركها غرفتها في شقة أهلها‪ ،‬وهي عراقية فيل ّية من ديالى‪ ،‬عزباء أكبر مني‬
‫بست سنين‪ُ .‬أسرتها صغيرة تتكون من والديها وجدّ تها السبعينية‪ ،‬ولها أخ‬
‫توأم يعمل ويقيم في بلدة قريبة‪ .‬وافقت طب ًعا‪ ،‬وصرت أعينها في النفقات‬
‫علي بكرم لطفها وسجاياها الطيبة‪.‬‬
‫واألعمال المنزلية‪ ،‬فأغدقت األسرة ّ‬
‫ً‬
‫طويل‪ ،‬تهاوت بسبب األخ التوأم‪ ،‬صار يكثر من‬ ‫لكن راحتي لم تدم‬
‫ً‬
‫مستغل غياب أخته في العمل‪ ،‬وحينما كنت‬ ‫ويتحرش بي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫زياراته ألهله‪،‬‬
‫أصده يسمعني كال ًما خشنًا‪ .‬إالّ أني لم أخبر نازنين حتى ال تحدث مشكلة‬
‫عذرا ورجعت إلى سكني في المخزن البائس إلى أن‬
‫بينهما‪ ،‬اختلقت ً‬
‫يفرجها الله‪.‬‬
‫ماذا أفعل؟ أشعر اآلن بتعاسة شديدة‪ ،‬وال أدري إن كنت سأقاوم أو‬
‫أسلك طري ًقا آخر أنافس فيه تعيسات أخريات‪ّ .‬‬
‫جل ما أخشاه أن أنتهي إلى‬
‫لدي ما أخسره‪ .‬بذلت جهدً ا في التفكير باألمر ولم‬
‫هذا المآل ألنني لم يعد ّ‬
‫أصل إلى نتيجة‪.‬‬
‫صدّ قني يا نينو ال أجد أحدً ا غيرك أشكو له حالي بعد أن أصبحت‬
‫حياتي إحبا ًطا يوم ًيا‪.‬‬

‫‪127‬‬
‫أنا منكسرة اآلن فبماذا تنصحني؟‬
‫آلمتني رسالة هيلين‪ ،‬وشعرت بإشفاق‪ ،‬إن لم تكن دفقة عاطفة‪،‬‬
‫تجاهها‪ ،‬لكني لم ُأ ِ‬
‫سد العون لها‪ .‬فكّرت في أن أنصحها بالرجوع إلى‬
‫أرابخا‪ ،‬إالّ أني دفنت الفكرة خشية أن تحاول التقرب ّ‬
‫إلي إذا رجعت‪ ،‬في‬
‫حين ما عدت أنا نينوس الذي كان يهيم ح ًّبا بها‪ ،‬كففت عن ذلك منذ زمن‬
‫طويل‪ ،‬أو باألحرى دفنت هيامي بها في قبر الماضي‪ ،‬طردتها من قلبي‪،‬‬
‫وأصبح لكلينا طريق يختلف عن اآلخر‪ .‬كل شيء يتغير بفعل الزمن‪.‬‬
‫إثر ربع ساعة انقطع زعيق األبواق‪ ،‬وتحرك طابور السيارات ببطء أوالً‬
‫ثم بسرعة‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫‪16‬‬

‫حين بلغت الشاطئ ركنت سيارتي جنب عربة األطعمة المتن ّقلة‪ .‬لم‬
‫تكن موجود ًة حين غادرت الشاطئ‪ ،‬ربما جاءت في ما بعد‪.‬‬
‫أترجل دار في بالي سؤال مهم للغاية‪ :‬أين سيقيم الملك آشور‬
‫قبل أن ّ‬
‫وحاشيته؟ وحتى لو أني وجدت فند ًقا يسعهم ك ّلهم كيف سأقنع إدارته‬
‫بأنهم ال يحملون وثائق إثبات الشخصية؟‬
‫ما العمل إ ًذا؟‬
‫تع ّثر تفكيري‪ ،‬وأنا أرسل بصري إلى المركب‪ ،‬الذي عاد إليه الجمع‪،‬‬
‫واتخذوا مواقعهم فيه بانتظار قدومي‪ ،‬وترددت في إنجاز المهمة‪ ،‬وكدت‬
‫جارا أذيال الخيبة‪ .‬لكن بغت ًة شرقت نفسي بإلهام داخلي‪،‬‬
‫أبرح المكان‪ًّ ،‬‬
‫أوحت لي بفكرة لم أجد أنسب منها‪ :‬أن أستأجر حافل ًة كبيرةً‪ ،‬وآخذهم إلى‬
‫نادينا الرياضي‪ ،‬و ُأطلع مديره عوديشو‪ ،‬الذي تربطني به عالقة قرابة‪ ،‬على‬
‫المسألة لع ّله يستضيفهم‪.‬‬
‫اجتذبتني الفكرة‪« ،‬لِ َم لم يتس ّن لي استحضارها من أول وهلة؟ إنها‬
‫أن من األفضل عرضها على عوديشو ً‬
‫أول‪ .‬تلفنت‬ ‫الحل األمثل»‪ .‬ورأيت ّ‬
‫له فلم يرد‪ .‬كررت المحاولة ثاني ًة ثم ثالث ًة لكن من دون فائدة‪ ،‬في كل‬
‫مرة كان يأتيني الرد اآللي «الرقم المطلوب ال يمكن االتصال به اآلن‪،‬‬

‫‪129‬‬
‫ُيرجى االتصال في وقت الحق»‪ .‬قلت في ذاتي فألغامر‪ ..‬ال أعتقد أنه‬
‫سيخذلني‪.‬‬
‫اقترب مني الشاب بائع األطعمة‪ ،‬الذي سبق أن ّ‬
‫حذرني من حدوث‬
‫عاصفة‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ــ ها أنت ذا عدت ثاني ًة‪ ،‬هل غادرت قبل هبوب العاصفة؟‬
‫ً‬
‫طويل‪.‬‬ ‫ــ لم أمكث‬
‫كثيرا‪.‬‬
‫ــ يبدو أنك تحب البحر ً‬
‫ــ إحساسك صحيح‪ ،‬منذ متى بدأت تعمل هنا؟‬
‫ــ منذ شهر تقري ًبا‪.‬‬
‫انقطعت أنا عن المجيء بسبب مشاغلي‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ــ خالل هذه المدة‬
‫ــ وعدتني بأنك ستشتري مني بعد عودتك من البحر لكنك لم تعد‪.‬‬
‫ــ حين عدت لم أجدك‪ .‬اعطني أربع علب هاينكن‪.‬‬
‫ــ كبيرة أم صغيرة؟‬
‫ــ كبيرة‪.‬‬
‫ر ّد مالط ًفا «تد ّلل»‪ ،‬وأسرع في جلب علب البيرة بكيس بالستيكي‪.‬‬
‫سدّ دت له ثمنها‪ ،‬وفتحت واحد ًة فاندفعت منها رغوة شفطتها على عجل‪،‬‬
‫ثم كرعت العلبة وخبأت الباقي تحت مقعدي‪.‬‬
‫سألت الشاب‪:‬‬
‫ــ هل لمحت أحدً ا على متن المركب الراسي على المرفأ؟‬

‫‪130‬‬
‫ــ لمحت ثالث فتيات عند حافته يرتدين مالبس غريب ًة‪ .‬ألقت احداهن‬
‫شي ًئا ما إلى الماء‪ ،‬ربما كان بقايا غذاء‪ ،‬طعا ًما للسمك‪ ،‬ثم اختفين‪ .‬في‬
‫فيلما؟‬
‫الحق لم يمكثن أكثر من دقيقتين‪ .‬هل يصورون ً‬
‫باغتني سؤاله‪ ،‬فترددت لحظ ًة ثم أجبت‪:‬‬
‫فيلما تاريخ ًّيا‪.‬‬
‫ــ نعم‪ ،‬يمثلون ً‬
‫ــ ال بدّ أنهم أصحابك‪.‬‬
‫ــ أجل‪ ،‬أجل‪.‬‬
‫ــ ما داموا أصحابك قل لهم إنني في خدمتهم‪ ،‬مستعد لتلبية طلباتهم من‬
‫الطعام والمشروبات‪ .‬وإذا احتاجوا إلى ممثلين كومبارس يمكنني أن آتي‬
‫لهم بأصدقائي‪.‬‬
‫ــ تد ّلل‪ ،‬سأفعل‪.‬‬
‫ــ ربما ال تصدّ ق أن أحد أصدقائي بارع في التمثيل الفكاهي‪ ،‬يق ّلد مستر‬
‫بن وكأنه هو سبحان الله!‬
‫ــ لكن الفيلم الذي يصورونه ليس كوميد ًيا‪.‬‬
‫دورا صامتًا‪ ،‬مثل جندي أو طباخ أو خادم‪ .‬صدّ قني‬
‫ــ يمكن أن يعطوه ً‬
‫إنه من عائلة فقيرة ينفعها أي مبلغ يمنحونه له‪.‬‬
‫ــ إن شاء الله‪ ،‬سأحاول‪.‬‬
‫انحدرت إلى المرفأ‪ ،‬وما إن وطأت قدماي لوح العبور حتى رأيت‬
‫واحدً ا من جنود الملك على ظهر المركب؛ متك ًئا بمرفقيه على طرفه‬

‫‪131‬‬
‫الجانبي‪ ،‬ما ّدا عنقه إلى الماء لمراقبة مجموعة أسماك تطفو على سطحه‪،‬‬
‫وهي تتنافس على التهام فضالت من الغذاء‪ ،‬ربما ألقتها إحدى النساء من‬
‫مسلحا برمح ودرع وسيف ورأسه محم ًّيا بخوذة‪،‬‬
‫ً‬ ‫كوة قمرتها‪ .‬كان وحيدً ا‪،‬‬
‫ّ‬
‫علي أن أناديه‪ ،‬بيد أني‬
‫فتوجب ّ‬
‫ّ‬ ‫له بشرة المعة ولحية خفيفة‪ .‬لم يلمحني‬
‫كنت أجهل اسمه‪ .‬ص ّفرت له فاستعدل واق ًفا‪ ،‬وبانت قامته معتدل ًة مثل‬
‫قامتي تقري ًبا‪ ،‬أو هكذا رأيتها في أقل تقدير‪ ،‬وبدا لي أنه الشخص الذي‬
‫ّ‬
‫المشذبة‪ ،‬فربما يكون الملك قد أمر‬ ‫خمنت ذلك من لحيته‬‫سيرافقني‪ّ .‬‬
‫جميع الرجال بقص لحاهم وشعر رؤوسهم‪ .‬هرع إلى مقدمة المركب‬
‫وح ّياني راف ًعا درعه إلى األعلى‪ّ .‬لوحت له بالحقيبة فأشار لي أن أرميها له‪،‬‬
‫رميتها في احتراس فالتقطها وقال متباه ًيا‪:‬‬
‫علي‪ .‬انتظرني ريثما أرتدي ثيابك‪ ،‬وأضع قطع‬
‫ــ وقع اختيار الملك ّ‬
‫الذهب محلها‪ .‬كم واحدة تكفي؟‬
‫فاجأني سؤاله‪ ،‬قلت‪:‬‬
‫ــ ِ‬
‫هات عشر قطع‪.‬‬
‫«يا إلهي! عشر قطع‪ ،‬إنها ثروة» قلت في نفسي مغتب ًطا‪ ،‬ثم خاطبته‪:‬‬
‫ــ وال تنسى أن تترك الخوذة يا‪ .....‬ما اسمك؟‬
‫ــ أمينو‪.‬‬
‫أومأت برأسي استحسانًا فمضى وهبط إلى قعر المركب‪.‬‬
‫خطوت بعض خطوات على رصيف المرفأ‪ ،‬وأخذت أتطلع إلى نوافذ‬
‫قمرات المركب لعلي أحظى برؤية شميرام‪ ،‬لكنّي وجدتها مغلق ًة‪ ،‬عدا‬

‫‪132‬‬
‫ً‬
‫متأمل خرائب القلعة‪ ،‬وكأني به يقول‬ ‫واحدة ّ‬
‫يطل منها األمير شلمانو‪،‬‬
‫ملو ًحا بيدي‪ ،‬فر ّد‬
‫لنفسه «ليس من العدل أن تؤول إلى هذا المآل»‪ .‬حييته ّ‬
‫التحية بتلويحة مماثلة ثم اختفى داخل قمرته‪ .‬قفلت عائدً إلى لوح العبور‪،‬‬
‫ودخنت سيجار ًة بانتظار عودة أمينو‪ .‬لم يطل به الوقت‪ ،‬عشر دقائق تقري ًبا‪،‬‬
‫رجع بهيئة رجل عصري‪ ،‬بقميص سمائي وبنطال كحلي كأنهما مفصالن‬
‫خصيصا له‪ .‬قفز إلى لوح العبور برشاقة وخ ّفة وناولني الحقيبة‪ .‬فتحتها‬
‫ً‬
‫ألتأكد من عدد قطع الذهب‪ ،‬لم أجد فيها سوى ثالث‪.‬‬
‫ــ ما هذا يا أمينو؟‬
‫ــ ماذا؟‬
‫ــ ثالث فقط!‬
‫ــ اعذرني‪ ،‬إرادة سيدنا الملك‪.‬‬
‫أردت أن أقول له « ُعد إليه وابلغه بأنها ال تكفي»‪ ،‬لكني خشيت أن يأخذ‬
‫الملك انطبا ًعا سي ًئا عني‪ ،‬ربما يتصورني خدّ ا ًعا ويتراجع عن وعده بتزويج‬
‫ابنته مني‪ ،‬لذا آثرت الصمت‪.‬‬
‫طلبت من أمينو‪ ،‬حال ركوبنا السيارة‪ ،‬أن يحدثني عن شميرام‪ ،‬إالّ أنه‬
‫سألني‪:‬‬
‫ــ هل راقت لك؟‬
‫كثيرا‪.‬‬
‫ــ ً‬
‫ــ لكنها ال تزال صغيرةً‪ .‬وال أتصور أن الملك يزوجها قبل زواج أختيها‬
‫األكبر منها أميديا وإيشارا‪.‬‬

‫‪133‬‬
‫ــ لقد وعدني‪ ،‬وأنا أحب الفتيات الصغيرات‪.‬‬
‫ــ لم يعدك‪ ،‬قال إنه سينظر في األمر‪.‬‬
‫ــ ال‪ ،‬ال‪ ،‬سيوافق‪ ،‬كم عمرها؟‬
‫ــ ال تزال فرخ ًة‪ ،‬خمسة عشر عا ًما‪.‬‬
‫ــ البركة في الفرخات‪ .‬لكنها تبدو أكبر من هذا العمر‪.‬‬
‫باكرا‪.‬‬
‫ــ ذلك ألنها بلغت ً‬
‫ــ كيف عرفت؟‬
‫ــ منذ عام فقط احتفلوا بدخولها سن البلوغ‪.‬‬
‫ــ عج ًبا‪ ،‬تحتفلون ببلوغ الفتاة؟‬
‫ــ ما وجه العجب؟ أال تحتفلون أنتم؟‬
‫ــ في بلدنا ال‪ ،‬لكن في بلدان أخرى نعم‪ .‬هنالك ترافق االحتفال طقوس‬
‫غريبة‪.‬‬
‫ــ هل هذه البلدان قريبة؟‬
‫ــ بعضها قريب وبعضها اآلخر بعيد‪.‬‬
‫مهما‪.‬‬
‫ــ ياه‪ !..‬أنت تعرف أشياء كثيرةً‪ ،‬لكنك ال تعرف شي ًئا ًّ‬
‫ــ أي شيء؟‬
‫ــ شميرام‪...‬‬
‫ــ ما بها؟‬

‫‪134‬‬
‫ــ لسانها معقود‪ ،‬ال تنطق‪.‬‬
‫سألت مصعوقأ‪:‬‬
‫ــ بكماء؟!‬
‫ــ تلفظ بضع كلمات فقط ال تكاد تفهم منها شي ًئا‪ .‬لكنها طيبة القلب‪،‬‬
‫تختلف عن أخواتها في الطباع‪.‬‬
‫ــ مستحيل! أنت تمزح‪.‬‬
‫ــ ال أمزح‪ ،‬هكذا جاءت إلى الدنيا‪ .‬هل يثير ذلك سخطك؟‬
‫ــ أبدً ا‪..‬‬
‫ــ نغمة صوتك أوحت لي بذلك‪.‬‬
‫يعوض عن لسانها‪.‬‬
‫ــ ال يا أمينو‪ ..‬جمالها ّ‬
‫أخرجت علبة بيرة من الكيس‪ ،‬وشرعت باحتسائها‪ ،‬ثم سألته‪:‬‬
‫ــ منذ متى تعمل في حراسة الملك؟‬
‫ــ منذ سبع سنين‪.‬‬
‫كثيرا‪.‬‬
‫ــ يبدو أنه يثق بك ً‬
‫ــ كيف ال يثق بي وهو خالي؟‬
‫ــ الملك آشور خالك؟‬
‫ــ نعم‪ ،‬أمي أخته‪.‬‬
‫ــ عج ًبا!‬

‫‪135‬‬
‫ــ لماذا؟‬
‫ــ الملك خالك وأنت جندي؟‬
‫ــ لست جند ًّيا عاد ًّيا‪ ،‬أنا رئيس الحرس الملكي‪.‬‬
‫ــ هل أنت متزوج؟‬
‫ــ ال‪ ،‬أعزب‪.‬‬
‫ــ لِ َم ال يزوجك خالك من أميديا أو إيشارا؟‬
‫ــ الزواج ليس سلق بيض‪ ،‬أنا أحب فتا ًة من عامة الناس وسأقترن بها‪.‬‬
‫ــ حكمة‪.‬‬
‫ــ تعلمتها من أبي‪.‬‬
‫خ ّيم الصمت علينا ثاني ًة‪ ،‬فخطر لي أن أسأله‪:‬‬
‫ــ هل تشرب الج ّعة؟ أستطيع أن أسقيك علب ًة‪.‬‬
‫ــ ال أتعاطاها‪ ،‬إنها تسبب الدوار أول األمر ثم تصيب الرأس بالصدع‪.‬‬
‫نحن الذين نخدم في بالط الملك نسميها حساء الشعير‪ ،‬وفي رأيي‪ ،‬وأرجو‬
‫أالّ تزعل‪ ،‬ال ُبلهاء فقط عندنا في كلحو يحتسونها ويسرفون فيها حد الثمالة‬
‫والعربدة‪ ،‬أما نحن فنحتسي شراب الكرمة‪.‬‬
‫ــ أعتقد أن َمن تسميهم ُبلهاء يتعاطون الج ّعة ألن ثمنها زهيد‪.‬‬
‫يخصصون لكل‬
‫ــ ال‪ ،‬إنها تُعطى لهم مجانًا‪ ،‬المشرفون على اإلعاشة ّ‬
‫واحد حص ًة يومي ًة منها بحسب منزلته االجتماعية‪.‬‬
‫أيضا أعطيك مجانًا‪.‬‬
‫ــ وأنا ً‬

‫‪136‬‬
‫تحملها‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ــ هات واحد ًة ألع ّبها وليعنّي اإلله آشور على ّ‬
‫ــ خذ‪ ،‬واعطني رأيك فيها‪ .‬أريد أن أعرف أيهما ألذ مذا ًقا ج ّعتنا أم‬
‫ج ّعتكم؟‬
‫احتسى جرع ًة من العلبة‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫أيضا‪.‬‬
‫ــ فيها طعم شعير ً‬
‫ــ طب ًعا‪ ،‬لكنها أنقى من ج ّعتكم ألنها تُصنع بأجهزة متطورة‪ .‬أليست‬
‫لذيذةً؟‬
‫ــ بلى‪ ،‬إنها ّ‬
‫ألذ من جعتنا‪.‬‬
‫ــ توجد أنواع أخرى منها ذات ألوان مختلفة‪ ،‬وتُقام لها مهرجانات‬
‫واحتفاالت في كثير من دول العالم‪.‬‬
‫ــ أنتم مر ّفهون‪ ،‬أما نحن فقد قضينا أعمارنا في حروب وغزوات‪.‬‬
‫ــ أنت واهم‪ ،‬اص ِغ ّ‬
‫إلي‪ ،‬نحن أسوأ منكم بكثير‪ ،‬أكلت أعمارنا حروب‬
‫وغزوات‪ ،‬وعشنا انكسارات وهزائم‪ ،‬وال يزال الوضع على حاله‪.‬‬
‫ــ هل شاركت في أحد هذه الحروب؟‬
‫ــ لم أشارك‪ ،‬لكني أتنفس الحرب كل حين‪ ،‬رئتي ممتلئة بسمومها‪ .‬ماذا‬
‫عنك أنت؟‬
‫ــ أنا رافقت الملك في العديد من حمالته العسكرية‪.‬‬
‫ــ هل صحيح أنه مجرم حرب‪ ،‬نهب البلدان التي دخلها في تلك‬
‫الحمالت‪ ،‬واتّبع أسلوب القسوة والتدمير والبطش والقتل الجماعي‬
‫والتمثيل باألسرى وبجثث القتلى؟‬

‫‪137‬‬
‫ــ هذا افتراء‪ ،‬كذب‪ ،‬صحيح أنه كان شديدً ا ُيعاقب الذين يتمردون‬
‫على ُحكمه‪ ،‬ويهزم جيوشهم وأعوانهم لكنه لم يغلب عامة الناس على‬
‫ِ‬
‫يستول على‬ ‫أمرهم‪ ،‬ولم يرغمهم على ترك آلهتهم وعبادة آلهتنا‪ ،‬ولم‬
‫ممتلكاتهم‪ ،‬بل كان يرفق بهم‪ ،‬ويأمر جنده بعدم االقتراب من نسائهم أو‬
‫يتطوعون‬
‫إتالف محاصيلهم الزراعية أو قلع أشجارهم‪ ،‬لذا كان أبناؤهم ّ‬
‫في جيشنا عرفانًا بجميل الملك في نزع الظلم واالسترقاق عن رقابهم‪.‬‬
‫وكرسوا صور ًة شوهاء له‪.‬‬
‫ــ معنى ذلك أن المؤرخين تحاملوا عليه ّ‬

‫‪138‬‬
‫‪17‬‬

‫راجعت في اليوم التالي ما كتبت‪ ،‬فأدركت أنّه يبعث على الخزي‪ ،‬فيه‬
‫وأن َمن تك ّلم عن‬
‫تزوير صادم للحقيقة‪ ،‬وكأني كتبته وأنا في حالة سكر‪ّ ،‬‬
‫ونزهه عما ألصقه المؤرخون به في رواياتهم هو أنا وليس‬ ‫الملك آشور‪ّ ،‬‬
‫ورمزا إنسان ًيا‬
‫ً‬ ‫أمينو‪ ،‬وبدا لي أنني رسمت صور ًة ذهبي ًة له‪ ،‬وجعلته أمثول ًة‬
‫تعبيرا عن رغبة في داخلي‪ ،‬ورحت أسترجع ما قاله عنه عمران «تناول‬
‫ً‬
‫أيضا‪ ،‬استبداده‪ ،‬وعنفه المفرط مع خصومه‪ ،‬وقسوته‬
‫مسالكه البشعة ً‬
‫الشديدة مع أسرى الحروب ورميهم في النار‪ ،»...‬فشعرت باالستحياء من‬
‫نفسي‪ ،‬وخ ّفت حماستي للرواية‪ ،‬باألحرى بدأت تتفتت إلى نتف‪ ،‬لكني‬
‫ارتأيت أن أسمع رأي عمران بما كتبته ً‬
‫أول‪.‬‬
‫أرسلته له بالماسنجر‪ ،‬فقرأه واقترح أن نلتقي في مطعم «القلعة»‪.‬‬
‫أخذت معي نصف قارورة فودكا خبأتها في حقيبة‪ ،‬كان صاحب المطعم‬
‫يسمح لي‪ ،‬متواط ًئا‪ ،‬بأن أشرب شريطة أالّ يراني الزبائن‪ .‬وصلت قبل‬
‫عمران وكان الوقت بعد الغسق بقليل‪ ،‬اخترت مكانًا يشرف على البحر‬
‫ُع ّلق على جداره قفص يحبس ً‬
‫طائرا رشي ًقا مذهل الجمال من فصيلة الببغاء‬
‫ذا ذيل مدبب وتدرجات لونية زاهية كأنها مقتطعة من قوس قزح‪ .‬سألت‬
‫النادل عن الطائر قال‪:‬‬
‫ــ اسمه كنيور‪ ،‬ثرثار وهزلي‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫ــ يتك ّلم؟‬
‫ــ ومليء بالطاقة والحيوية‪ ،‬وإذا شتمته شتمك بكلمات غاية في القبح‪.‬‬
‫زعق الطائر بكلمات لم أفهم مغزاها‪ ،‬لكنها بدت أقرب إلى االحتجاج‪،‬‬
‫فأشرت إلى النادل بأالّ يستفزه‪ ،‬ثم طلبت منه أن يضع شمع ًة على الطاولة‬
‫ويجهز سمك ًة مشو ّي ًة تكفي إثنين‪.‬‬
‫ّ‬
‫متأخرا ثلث ساعة عن الموعد‪ ،‬متع ّل ًل بعطل طارئ في‬
‫ً‬ ‫جاء عمران‬
‫سيارته‪ .‬قال‪ ،‬بعد أن شربنا كأسي عصير أضفت إليهما الفودكا خفي ًة‪:‬‬
‫ذهبت‬
‫َ‬ ‫ــ قرأت ما كتبتَه‪ .‬أسلوبك جذاب صراح ًة‪ ،‬لكنه لن يشفع لك‪،‬‬
‫بعيدً ا في تخ ّيلك وأنت ما زلت في بداية الرواية‪.‬‬
‫علي أن أطلق العنان لمخيلتي وأسترسل على‪...‬‬
‫ــ أنت َمن اقترح ّ‬
‫قاطعني‪:‬‬
‫ــ ما دار في َخلدي أنك ستجريها هذا المجرى‪.‬‬
‫علي أن أعاكسها؟‬
‫يتوجب ّ‬
‫ــ هل كان ّ‬
‫شخصا‬
‫ً‬ ‫ــ كان في مستطاعك أن تتحكم بها‪ .‬وحبذا لو أنك جعلت البطل‬
‫آخر غيرك‪ ،‬وال يحمل اسمك تالف ًيا للنرجسية‪ ،‬وحتى ال يبدو األمر وكأنك‬
‫تكتب عن نفسك مثلما يكتب بعضهم سيرته‪.‬‬
‫سموا أبطال رواياتهم‬
‫ّ‬ ‫كثر‬
‫ضيرا‪ ،‬ثمة كتّاب ٌ‬
‫ــ بالنسبة إلسمي ال أجد ً‬
‫على أسمائهم‪.‬‬
‫تمهل عمران ليأخذ رشف ًة من كأسه ثم قال‪:‬‬
‫ّ‬

‫‪140‬‬
‫كتبت‪.‬‬
‫َ‬ ‫تسوغ ذلك أسحب مالحظتي وأذهب مباشر ًة إلى ما‬ ‫ــ ما دمت ّ‬
‫في األدب‪ ،‬لست أدري كيف أع ّبر‪ ..‬أنا لست ناقدً ا وأنت أدرى مني‪ ،‬أعتقد‬
‫أن عنصر اإلقناع مهم جدً ا‪ .‬يبدو لي أنك حشوت النص بمسائل غير مهمة‪.‬‬
‫ــ مثل ماذا؟‬
‫بعضا منها‪ :‬تناولك اإلرهابيين وحركة‬‫ــ األمثلة كثيرة سأذكر لك ً‬
‫المطول عنهم‪ ،‬إسرافك في الكالم عن ديانا وقريبتها‬
‫َّ‬ ‫طالبان والحوار‬
‫والرجل الذي يقلهما بسيارته‪ ،‬تع ّطل حركة السير ولقاؤك الفتى النازح‬
‫بائع الصحف والحديث عن بلدته حمام العليل‪ ،‬رسالة هيلين المفاجئة‪،‬‬
‫أما الطامة الكبرى فهي إخفاء الحارس أمينو فظائع خاله الملك آشور‬
‫يخرف‪.‬‬
‫وتصويره على غير حقيقته كأنه ّ‬
‫نفسا منها‪ ،‬وأضاف‪:‬‬
‫طال عمران سيجار ًة من علبة دخاني‪ ،‬وسحب ً‬
‫ــ هذا طب ًعا غيض من فيض‪ ،‬وثمة أمثلة أخرى في الرواية ال تحضرني‬
‫اآلن‪.‬‬
‫بدت مؤاخذاته أشبه بصفعة‪ ،‬فأشعلت بدوري سيجار ًة ونفثت دخانها‬
‫وقلت‪:‬‬
‫تسرعت‪.‬‬
‫ــ أعلم أنني ّ‬
‫ــ تستطيع أن تعدّ ل فيها وتنجزها على مهل‪.‬‬
‫ــ ال أدري‪ ،‬خ ّفت رغبتي في مواصلة كتابتها‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫‪18‬‬

‫ظل كالم عمران يرن في رأسي ذلك اليوم مثل جرس إنذار‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫فاشلة‬ ‫ً‬
‫طويل فوجدته صائ ًبا مئة في المئة‪ .‬ستكون الرواية‬ ‫فكّرت فيه‬
‫ً‬
‫فاشلة‪ ،‬ولن يجازف أي ناشر‬ ‫حتما إن لم أر ّمم ما كتبت‪ .‬أجل ستكون‬
‫ً‬
‫نزيها يفعل ذلك‪،‬‬
‫تحمل كلفة طباعتها‪ ،‬وحتى لو وجدت واحدً ا ً‬
‫في ّ‬
‫ً‬
‫مهينة‪ ،‬فلن أجدي‬ ‫طا‬ ‫علي شرو ً‬
‫شرها يفرض ّ‬
‫ً‬ ‫أو في أقل تقدير ليس‬
‫منها تقري ًظا ما‪ ،‬ال بل سأكون محظو ً‬
‫ظا إذا نجوت من البهدلة‪ ،‬لذلك‬
‫آثرت أن أهجرها مد ًة ال أدري كم ستطول‪ ،‬ثم أراجعها وأعيد كتابتها‬
‫بتأن‪ ،‬وفي غضون ذلك أفيئ إلى مشروع بحثي لرسالة الماجستير عن‬ ‫ِّ‬
‫الثقافة اآلشورية التي د ّمر المخربون والغزاة واللصوص معظمها‪.‬‬
‫ً‬
‫قائلة‬ ‫ستطرب سلفانا للموضوع أكيدً ا‪ ،‬فلطالما حثتني على تناوله‬
‫«ستسهم من خالله في إسكات الذين ال يرون في اإلمبراطورية‬
‫اآلشورية سوى مظهرها العنيف‪ ،‬حروبها وغزواتها‪ ،‬ويتناسون أن‬
‫سور الصين بأبهته وعظمته فكرة آشورية خالصة أخذها الصينيون عن‬
‫أيضا‪ .‬وفي الوقت‬
‫سر عمران بالموضوع ً‬
‫سور نينوى المذهل»‪ ،‬وس ُي ّ‬
‫أتعرف إلى مارينا وأمها‪ ،‬وأقتنص فرصة‬
‫سأحج بيت يونس لعلي ّ‬
‫ّ‬ ‫ذاته‬
‫سترحب برغبتي في‬
‫ّ‬ ‫جس نبض السيدة‪ ،‬مع أني شبه متأكد من أنها‬
‫ّ‬
‫طلب يد ابنتها‪ ،‬فأنا أقلها سأخفف عنها شي ًئا من العبء‪ ،‬فال تكون‬

‫‪142‬‬
‫ً‬
‫مسؤولة سوى عن رعاية أبنها‪ .‬وال بدّ لي بعدئذ أن أقنع أمي بأن‬
‫ً‬
‫آشورية‪ ،‬وجمالها‬ ‫تخطبها لي‪ .‬لن تمانع من دون شك ما دامت البنت‬
‫نادر المثال‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫‪19‬‬

‫التقيت يونس في ما بعد مرتين‪ ،‬في المرة األولى قصدت بيته بحجة‬
‫تهنئته على صدور قرار بمنحه راتب تقاعدي من الجيش كان ينتظره منذ‬
‫سنوات‪ ،‬لكني لم َ‬
‫أحظ بلقاء مارينا وأمها ألنهما كانتا خارج البيت للتسوق‬
‫رفقة زوجته‪ .‬أخبرني بذلك حين أعدّ الشاي وقدّ مه لي بنفسه‪ .‬وأصاب‬
‫حدسي يومها بأنه يخطط للزواج من أم مارينا‪ ،‬ففي لحظة مكاشفة زعم‬
‫أنه يرغب في إنجاب ولد آخر لكن زوجته مصابة بمرض ال يسمح لها‬
‫باإلنجاب‪ ،‬وليس أمامه حل سوى االقتران بامرأة أخرى‪ ،‬وألمح إلى أنها‬
‫أرملة وفي متناول اليد‪.‬‬
‫حفزني تلميحه إلى لقاء أم مارينا بأي طريقة‪ ،‬ولم أجد أفضل من دعوته‬
‫ّ‬
‫إلى مطعم «القلعة»‪ ،‬مصطح ًبا المرأة و ُأسرتها‪ .‬نجحت خطتي بسهولة‪،‬‬
‫فكان لقائي الثاني به‪ .‬استقبل الدعوة من دون تردد‪ ،‬ال بل اغتبط بها‪،‬‬
‫فأدركت أنه وجدها فرص ًة ذهبي ًة ليتحدث إلى المرأة بحرية‪ ،‬و ُق ّيض لي أن‬
‫ألتقيها أول مرة‪ ،‬وأعرف أن اسمها جانيت‪ .‬سألتني عن عملي‪ ،‬وأعطتني‬
‫نبذ ًة عن نفسها‪« :‬كنت موظف ًة في مركز للتأهيل االجتماعي بالموصل‪ ،‬من‬
‫ُأسرة هاجر معظم أفرادها إلى الخارج‪ ،‬ومن تب ّقى منها نزح إلى المخيمات‬
‫في الشمال»‪ .‬قدّ رت أنها في منتصف الثالثينات‪ ،‬ذات محيا هادئ‪ ،‬جسدها‬
‫ً‬
‫جمال ورق ًة‪ ،‬رغم مأساة فقدان زوجها‪ ،‬الذي ما انفكت‬ ‫صلب‪ ،‬تفيض‬

‫‪144‬‬
‫ترتدي السواد حدا ًدا عليه‪ ،‬وثمة شيء مشترك بينها وبين ابنتها‪ :‬لون عينيها‬
‫وسعتهما وصغر فمها‪ .‬كما أتيح لي أن أحادث مارينا‪ ،‬قالت إن عمرها ‪16‬‬
‫عا ًما‪ ،‬وبعد شهر ستحتفل بعيد ميالها السابع عشر‪ ،‬وتواصل دراستها في‬
‫الثانوية‪ ،‬وتهوى الموسيقى وقراءة الروايات والقصص العاطفية‪ ،‬وحكت‬
‫لي عن آخر رواية قر َأتها‪« ،‬قصة حب مجوسية» التي كنت قد قرأتها قبل‬
‫بضع سنوات‪ ،‬إالّ أنني تظاهرت بعدم معرفتي بها لئال أطفئ رغبتها في‬
‫تلخيص أحداثها‪ .‬وقد أدهشني تعاطفها مع بطل الرواية‪ ،‬وتحديه لكاهن‬
‫الكنيسة‪ ،‬وبحثه عن معشوقته ليليان في َحواري المدينة الغامضة الحزينة‪.‬‬
‫الحظت عالمات السرور في وجه السيدة جانيت وهي ترمقنا مبتسم ًة‬
‫بوداعة‪ ،‬لك ّن مالمحها تغ ّيرت فجأ ًة عندما ذهب يونس إلى المرحاض‪،‬‬
‫اكفهر وجهها‪ ،‬وبدت تائه ًة كأنها في قلب غابة‪ .‬سألتها‪:‬‬
‫ّ‬
‫ــ ما ِ‬
‫بك؟‬
‫أشارت إلى حيث مضى يونس وقالت‪:‬‬
‫كثيرا منه‪ ،‬وما كنت ألرافقه إلى هذه الدعوة لوال أنه‬
‫ــ أنا منزعجة ً‬
‫أخبرني بأنك آثوري‪...‬‬
‫ــ آشوري‪ ..‬آشوري‪.‬‬
‫ــ لم أعتد على ذلك بعد‪ ،‬المهم أردت أن ألتقيك‪...‬‬
‫تناهى إلينا نعيق بومة من شجرة في الباحة الخارجية للمطعم‪ ،‬فأشارت‬
‫بإصبعها إلى جهة الصوت وكأنها تستشهد بالشؤم الذي يوحي إليه‪.‬‬
‫ــ بماذا يضايقك؟‬

‫‪145‬‬
‫ــ يكذب في ادعائه أن زوجته لم تعد قادر ًة على اإلنجاب‪ ،‬ويبتزني‬
‫كأنني رهينة عنده بإلحاحه على الزواج مني‪.‬‬
‫ــ سبق أن ألمح إلى أنه يريد الزواج من أرملة في متناول اليد فأدركت‬
‫أنه يقصدك‪.‬‬
‫ــ يا لحقارته! أنا في متناول اليد؟‬
‫ِ‬
‫صبرت عليه كل هذه المدة؟‬ ‫ــ كيف‬
‫تنهدت وقالت‪:‬‬
‫ــ لم يكن هكذا في البداية‪ ،‬لكنه تغير منذ بضعة أشهر‪ ،‬ال أدري أي‬
‫شيطان لعب برأسه‪.‬‬
‫ــ نذالة‪.‬‬
‫ــ أنا اآلن قلقة رغم رفضي المطلق الزواج منه‪ ،‬وبات بقائي في بيته‬
‫خطرا يؤرقني‪ ،‬لكني كسيرة الجناح يتآكلني الخوف‪.‬‬
‫ً‬
‫أرسلت نظرة سريع ًة إلى جهة المرحاض‪ ،‬وواصلت‪:‬‬
‫ــ أنا في أمس الحاجة إلى مساعدتك لتنقذني من المحنة‪ ،‬ال أعرف‬
‫أحدً ا في المدينة يمكن أن أستغيث به‪.‬‬
‫علي أن أسلكه؟‬
‫ــ أنا مستعد لفعل أي شي‪ ،‬ما السبيل الذي يتعين ّ‬
‫قالت بصوت خافت محترس‪:‬‬
‫ــ ِجد لنا مكانًا آمنًا يأوينا ولك دين في رقبتي‪.‬‬
‫أخجلني كالمها‪:‬‬
‫ــ أي دين حاشا لله؟‬

‫‪146‬‬
‫أشارت إلى مارينا‪:‬‬
‫ــ أظنك مغرم بها وسأزوجك إياها‪.‬‬
‫ــ طب ًعا طب ًعا‪ ،‬يشرفني‪ ،‬لكن ليس كمقايضة‪.‬‬
‫أحببت‪.‬‬
‫َ‬ ‫ــ أعني إن‬
‫نظرت إلى مارينا‪:‬‬
‫ُ‬
‫أيضا‪.‬‬
‫ــ وإن أح ّب ْت هي ً‬
‫ابتسمت الصبية ابتسام ًة رقيق ٌة خجلى فقلت ألمها بحم ّية‪:‬‬
‫ــ تكرمين‪ ،‬سأفعل‪.‬‬
‫أخذت رقم هاتفها ووعدتها بأن أنقذها في أقرب وقت‪ .‬فكّرت على‬
‫الفور في أسين‪ ،‬فهي تعيش وحدها مع ابنتها‪ ،‬وال أخالها تر ّد طلبي‪ ،‬خاص ًة‬
‫إذا أسررتها برغبتي في خطوبة مارينا‪.‬‬
‫هاتفت أسين فور عودتي إلى البيت وشرحت لها أمر جانيت‪ ،‬فإذا بها‬
‫مرحب ًة بها في‬ ‫ِ‬
‫كما توقعت‪ ،‬لم تبد أي اعتراض‪ ،‬بل فتحت قلبها الدافئ ّ‬
‫ويقوي من عزيمتها في‬ ‫بيتها‪ ،‬وقالت إن وجودها إلى جانبها سيسعدها‪ّ ،‬‬
‫رفض مخطط أهلها المشؤوم‪ ،‬فهي ستتك ّفل برعاية ابنتها أثناء غيابها في‬
‫تعهد بها ألمي‪.‬‬
‫المدرسة‪ ،‬ولن تضطر إلى أن َ‬
‫أبلغت جانيت بالحل الذي وجدته لها‪ ،‬فطارت من الفرح‪ ،‬وشكرتني‬
‫على التزامي بالوعد‪ ،‬وخالل يومين جمعت حاجاتها‪ ،‬لم يكن في حوزتها‬
‫سوى النزر اليسير منها‪ :‬مالبس وأحذية وكتب مارينا ودفاترها دستها في‬
‫حقيبتين‪ ،‬وانتقلت إلى بيت أسين‪ ،‬مستغل ًة غياب يونس عن البيت‪ ،‬وكان‬

‫‪147‬‬
‫لزوجته دور عظيم‪ ،‬تستحق الثناء عليه‪ ،‬في تسهيل المهمة‪ .‬أما يونس فقد‬
‫طار عقله حين علم باألمر‪ ،‬وحاول أن يعرف الجهة التي قصدتها جانيت‪،‬‬
‫لك ّن زوجته نفت معرفتها بالمكان‪ .‬ذلك ما استخلصته من جانيت ً‬
‫نقل عن‬
‫الزوجة التي اتص َل ْت بها مساء اليوم الذي رحلت فيه وأخطرتها بما حدث‪،‬‬
‫ون ّبهتها إلى أن تغلق هاتفها وال تفتحه إال بعد تغيير شريحته‪.‬‬
‫ِ‬
‫أخف األمر عن أمي‪ ،‬فقد كانت ستعرف به في نهاية المطاف من‬ ‫لم‬
‫لسان أسين حين تخبرها بأنها ما عادت في حاجة إلى ترك ابنتها عندها‪،‬‬
‫فعلت‪ ،‬لكنها‬
‫ُ‬ ‫وستكشف لها عن القصة كما جرت‪ .‬أثنت أمي على ما‬
‫عاتبتني ألني لم آخذ رأيها قبل أن أقدم عليه‪ .‬ومن باب الفضول زارت‬
‫أسين وتعرفت إلى جانيت ومارينا‪ ،‬وعندما عادت أشادت بهما‪ ،‬وكانت‬
‫لديها رغبة في أن تجعل األم ترافقها إلى الكنيسة «ليحفظها القديس بطرس‬
‫شفيع األرامل»‪ ،‬وميل خفي إلى أن تكون البنت كنّتها «مهذبة رقيقة‪ ،‬والحق‬
‫يقال إنها غادة‪ ،‬حلوة كالشهد‪ ،‬أحلى من تلك السريانية الحمقاء التي‬
‫ض ّيعت نفسها في أميركا»‪.‬‬
‫الح َسن أن السنة الدراسية لم تكن قد بدأت‪ ،‬وإالّ لما تردد يونس‬
‫من َ‬
‫عن الذهاب إلى موقع مدرسة مارينا ليتصيدها أثناء خروجها‪ ،‬ويتقصى‬
‫أيضا أن جانيت كانت تدّ خر‬
‫الح َسن ً‬
‫عنوان المكان الذي لجأوا إليه‪ .‬ومن َ‬
‫بعض المجوهرات‪ ،‬التي يكفي ثمنها تأمين نفقات ُأسرتها الصغيرة إلى أن‬
‫تحصل على رواتبها المتوقفة من الحكومة منذ سنتين‪.‬‬
‫اقترحت على أمي أن تدعو ُأسرتَي جانيت وأسين إلى مأدبة عشاء في‬
‫ُ‬
‫بيتنا‪ .‬كنت أتوق إلى أن تتذوق مارينا طبخ حماتها‪ ،‬فهي ماهرة جدً ا في‬

‫‪148‬‬
‫إعداد الكبة والدولمة (((‪ ،‬وال تباريها امرأة أخرى في هذا المجال‪ .‬ل ّبت‬
‫االقتراح عن طيب خاطر‪ ،‬وساعدتها جانيت لتبرهن لها أنها ال تقل براع ًة‬
‫عنها‪ ،‬خاص ًة في الدولمة على الطريقة الموصلية‪.‬‬
‫كاد يونس يفسد ُأنس ليلتنا تلك باتصاله بي‪ ،‬وكنت أتوقع ذلك‪ .‬كان‬
‫منزعجا إلى أبعد الحدود‪ .‬سألني عما إذا كانت لدي أي معلومات عن‬
‫ً‬
‫جانيت وكأنها زوجته أو عشيقته‪ ،‬لكني تظاهرت بأني ال أعرف أي شيء‪،‬‬
‫وراح يكشف لي عما أقدمت عليه‪ ،‬واص ًفا إياها بأنها ناكرة جميل‪ ،‬أهانته‬
‫بهروبها‪ ،‬ورجا مني أن أبلغه بأي معلومة تقع في يدي عن المكان الذي‬
‫قصدته‪ .‬وختم كالمه بأن لديه طر ًقا خاص ًة للتح ّقق من أمرها‪.‬‬
‫لم ُأخطر جانيت بمكالمته‪ ،‬فأمضينا الليلة بسعادة‪ ،‬وأطلعت خاللها‬
‫مارينا على مكتبتي‪ .‬تناولت منها كتابين أحدهما مجموعة قصص قصيرة‬
‫مترجمة لتشيخوف‪ ،‬والثاني رواية «عصر الحب» لنجيب محفوظ‪.‬‬
‫صباح اليوم التالي أردت أن أغ ّير رقم هاتفي‪ ،‬لكني أدركت أن يونس‬
‫ّ‬
‫سيشك في األمر‪ ،‬فاكتفيت بشراء شريحة جديدة لهاتف جانيت باسمي‪،‬‬
‫وأوصيتها بأن ّ‬
‫تتوخى الحذر‪ ،‬ال أحد يخرج من البيت مدة شهر‪ ،‬ال هي وال‬
‫مارينا وال فادي‪ .‬وحمدت الله على أني لم ِ‬
‫أعط عنوان بيتي ليونس‪ ،‬ولم‬
‫أخبره بتفرغي للدراسة في الجامعة‪ ،‬بل قلت له حين سألني في لقائي الثاني‬
‫به عن طبيعة عملي إني مدرس‪ ،‬مدرس فقط من دون أي تفاصيل أخرى‪.‬‬
‫وهذا ما طمأنني‪.‬‬

‫((( الدوملة‪ :‬طبخة تتكون من ورق العنب أو السلق والباذنجان والكوسا‪ ،‬وغري ذلك‪،‬‬
‫املحشوة باألرز واللحم املفروم‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫‪20‬‬

‫عرضت على عمران‪ ،‬عقب بضعة أيام‪ ،‬أن نلتقي في مكان آخر غير‬
‫مطعم «القلعة»‪ .‬اقترح أن يكون اللقاء في مقهى «النافورة» على الشاطئ‬
‫عصر اليوم نفسه‪ ،‬واشترط أالّ يطول أكثر من ساعة ألنه على موعد مس َبق‬
‫مع األستاذ المشرف على أطروحته قبيل المغيب لترتيب مسألة ما‪.‬‬
‫عصرا‪ ،‬واخترنا‬
‫ً‬ ‫وصلنا إلى المقهى في وقت واحد تقري ًبا‪ ،‬الرابعة‬
‫الجلوس على مقعدين من الخيزران في ظل شجرة كاتالبا في باحتها‬
‫الخارجية‪ .‬كانت المقهى نظيف ًة وهادئ ًة‪ ،‬تتوسطها نافورة محاطة بمصابيح‬
‫زرق‪ ،‬وتز ّين جنباتها جرار فخارية كبيرة ُزرعت فيها ورود مختلفة‪ :‬أقحوان‬
‫وخزامى وزعفران‪ ،‬ومن الصالة الداخلية كانت تترامى إلينا أصداء موسيقى‬
‫ناعمة عبر نوافذها المشرعة‪.‬‬
‫باشرت الحديث مع عمران‪ ،‬بعد أن احتسينا استكاني شاي‪ .‬أنبأته بقرار‬
‫أول وبِن ّيتي خطبة مارينا ثان ًيا‪ .‬لم يع ّلق على النبأ األول‪ ،‬وكأنه‬
‫تأجيل الرواية ً‬
‫كان يتوقعه‪ ،‬في حين استقبل النبأ الثاني ِ‬
‫فر ًحا‪:‬‬
‫ــ شيء جميل أن أسمع منك ذلك‪ .‬هل كنت على تواصل مع‪...‬؟‬
‫ــ يونس‪ .‬نعم زرته مرةً‪ ،‬ودعوته و ُأسرة مارينا إلى مطعم «القلعة»‪.‬‬
‫ــ كيف وجدت األم؟‬

‫‪150‬‬
‫سألني‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫وس ّرت حين حادثت مارينا‪.‬‬
‫ــ سيدة رائعة‪ ،‬نقية وطيبة ومتواضعة‪ُ .‬‬
‫عريسا البنتها أفضل منك؟‬
‫ً‬ ‫حتما‪ ..‬هل تجد‬
‫ــ ً‬
‫هربتها قبل يومين‪ ،‬هي ومارينا وابنها‪ ،‬إلى بيت‬
‫ــ ليس هذا فحسب بل ّ‬
‫جارتنا أسين من غير علم يونس‪.‬‬
‫ــ لماذا؟‬
‫ــ يريد أن يقسرها على الزواج منه‪.‬‬
‫تسول له نفسه وهي أرملة صديقه؟ ال بدّ أنه است ّغل‬ ‫ــ يا إلهي! كيف ّ‬
‫ب أن إيواءها في بيته يمنحه الحق في امتالكها‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ضعفها فحس َ‬
‫ــ طمع بها الحقير‪ .‬ولوال تلك الدعوة التي جعلتني أنفرد بها بضع دقائق‬
‫لما علمت باألمر‪.‬‬
‫ــ ليكن الله في عونها‪.‬‬
‫ــ لقد أنقذتُها‪.‬‬
‫ــ أحسنت‪ ،‬إنه فعل بطولي‪.‬‬
‫ــ ربما تكون مأساتها أخف من مأساة غيرها من النازحات اللواتي فقدن‬
‫أزواجهن‪.‬‬
‫ــ اللعنة على الذين تس ّببوا في هذه الكارثة‪.‬‬
‫ــ بل خرا عليهم كما تقول أمي‪.‬‬
‫أوصيت النادل أن يسقينا فنجانين قهوة‪ ،‬ثم أعلمت عمران بموضوع‬

‫‪151‬‬
‫فشجعني على البحث فيه‪ ،‬بل أكثر من ذلك‬
‫رسالة الماجستير الذي اخترته‪ّ ،‬‬
‫قال «إنه يتّسق تما ًمأ وعصبيتك الجديدة»‪.‬‬
‫لم تستفزني عبارته هذه‪ ،‬فقد سبق أن سمعت منه عبارات مشابه ًة‪ ،‬لكني‬
‫محاججا‪:‬‬
‫ً‬ ‫لم أفسح له المجال لقول المزيد‪ ،‬قلت له‬
‫يتعصب إلى انتمائه اإلثني هذه األيام وإنما ماليين‬
‫لست وحدي َمن ّ‬
‫ــ ُ‬
‫الناس في البلد كما تعرف‪ ،‬وثمة َمن يعتصمون بوالءات ضيقة تتقلص‬
‫مظهرا فرع ًيا‪.‬‬
‫ً‬ ‫لدى بعضهم لتأخذ‬
‫ألقى نظر ًة خاطف ًة على ساعته ثم قال‪:‬‬
‫ــ ال أخالفك‪ ،‬هذا هو واقع الحال‪.‬‬
‫شعرت بشيء من الزهو فابتسمت له‪ ،‬ونهضت واتجهت إلى سياج‬
‫المقهى المطل على البحر‪ .‬اتكأت عليه ورحت أتط ّلع إلى القوارب‬
‫والزوارق التي تشق عباب الماء‪ .‬كان أحد القوارب‪ ،‬وهو يشبه المركب‬
‫حجما ومزود بمحرك‪ ،‬يقترب إلى األعمدة‬ ‫ً‬ ‫اآلشوري‪ ،‬لكنه أصغر‬
‫الخرسانية التي تدعم باحة المقهى حتى خلت أنه سيصطدم بها‪ ،‬إالّ أنه‬
‫سرعان ما أبطأ وغ ّير اتجاهه‪ ،‬ثم استدار ورجع على األثر‪ ،‬مخ ّل ًفا وراءه‬
‫ٍ‬
‫أغان‬ ‫حلقات من الزبد‪ .‬كان على متنه بضعة ش ّبان يرقصون على أنغام‬
‫محل ّية‪ ،‬فهطلت على رأسي فكرة مثل زخة مطر مباغتة‪ .‬ناديت عمران من‬
‫فوري‪:‬‬
‫ــ تعال أنظر‪.‬‬
‫جاء مستغر ًبا‪:‬‬

‫‪152‬‬
‫خيرا؟‬
‫ــ ً‬
‫أشرت إلى البحر‪:‬‬
‫ــ أال يبعث في النفس بهج ًة؟‬
‫ــ طب ًعا‪ .‬لكن ما الجديد في األمر؟‬
‫ــ خامرتني فكرة‪ ،‬لكني لن أطلعك عليها اآلن‪ ،‬سأفاجئك بها في ما بعد‪.‬‬
‫ــ كما تشاء‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫‪21‬‬

‫في أواخر تشرين الثاني‪ ،‬قرع الشتاء أبواب أرابخا مبك ًّرا‪ ،‬وجرت مناقشة‬
‫ضاج بأحداث رهيبة‪ ،‬تفجيرات واغتياالت دارت‬
‫أطروحة عمران نهار يوم ٍّ‬
‫حولها األلسن‪ ،‬وانتهت المناقشة بقرار منحه درجة امتياز‪.‬‬
‫خشينا يومها أن ُيعلن عن حظر للتجوال في المدينة يحول دون إقامة‬
‫احتفال يليق بعمران‪ ،‬لكن من حسن الحظ لم يحدث ذلك‪.‬‬
‫أجلت إطالع عمران عليها‪ ،‬قد حان وهي إقامة‬
‫كان أوان الفكرة‪ ،‬التي ّ‬
‫طلب‬ ‫حفلة له على ظهر مركب يجري في البحر‪ ،‬يشارك فيها جمع من ّ‬
‫قسم اآلثار بالكلية‪ ،‬بينهم أربعة يجيدون الغناء والعزف على آالت موسيقية‬
‫بإتقان‪.‬‬
‫كنت قد هيأت متطلبات الحفلة قبل يومين من دون علم عمران‪،‬‬
‫مزود ًا بمحرك‪ ،‬واشتريت‬
‫وضعت قائم ًة بالمشاركين‪ ،‬وأستأجرت مرك ًبا ّ‬
‫أوراق زينة ملونة على شكل ورود وقلوب‪ ،‬واتفقت مع مطعم «القلعة»‬
‫إلعداد وجبات طعام سريعة ومشروبات وعصائر وحلوى وفواكه‪.‬‬
‫بحت بفكرتي لعمران وأنا أقدّ م له باقة زهور وأعانقه مهنّ ًئا‪ ،‬فاغتبط بها‬
‫ُ‬
‫علي أن أدعو ُأسرة مارينا وجارتي أسين‪ً ،‬‬
‫قائل إنها فرصة‬ ‫كثيرا‪ ،‬واقترح ّ‬
‫ً‬
‫ألن يرى الصبية‪ ،‬ففاجأته بأن األُسرة موجودة في القاعة‪ ،‬عدا أسين‪ ،‬ثم‬

‫‪154‬‬
‫عرفته إليها‪ :‬السيدة جانيت‪ ،‬مارينا ابنتها‪ ،‬وفادي ابنها‪ .‬وكان أخوه وزوجته‬
‫ّ‬
‫حاضرين فدعوتهما لالنضمام إلينا‪.‬‬
‫َ‬
‫حين غادرنا الكلية عاتبني عمران ألني لم أحضر أمي معي لتبتهج‬
‫بتخرجه‪ ،‬فهي تك ّن له ولزوجته مود ًة كبيرةً‪ .‬ضحكت وقلت له‪:‬‬
‫أحد موعد ذهابها إلى الكنيسة؟‬
‫ــ ماذا دهاك‪ ،‬هل نسيت أن اليوم ّ‬
‫ضرب جبينه بباطن كفه‪ ،‬وص ّفر ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫ــ ياه! كيف لم أفطن إلى ذلك؟‬
‫دوختك مناقشات األساتذة‪.‬‬
‫ــ ّ‬
‫بعد ساعة كان الجميع يحتفلون على ظهر المركب‪ ،‬تحت سماء تز ّينها‬
‫غيوم شفيفة تصطف على شكل أشرطة متوازية كأنها بلورات جليدية؛‬
‫ٍ‬
‫أغان تصدح بكل لغات المدينة‪ ،‬يرافقها عزف على العود‬ ‫مندمجين مع‬
‫والساز والمزمار والطبلة‪ ،‬وما هي إالّ دقائق حتى سرى سحرها في‬
‫أجسادهم كالخدر‪ ،‬فأخذ بعضهم يرقص بانتشاء وحيوية وسط حلقة من‬
‫المصفقين‪ ،‬بينما راح آخرون يرددون مع المغنين أغانيهم وهم يتمايلون‬
‫بأجسادهم على مقاعدهم أو واقفين على أقدامهم‪ ،‬وثمة َمن كانت تربطهم‬
‫عالقة غرامية ببعض الطالبات فشرعوا في مغازلتهن‪.‬‬
‫أحد هؤالء صديقي دلير‪ ،‬شيوعي مأخوذ بأفكار تروتسكي حول الثورة‬
‫ومزاح مدهش‪ ،‬يحفظ عشرات النكات‪ ،‬ويلقيها‬
‫الدائمة‪ ،‬ومتمرد وصعلوك ّ‬
‫ً‬
‫جاعل من سامعيه‬ ‫من دون توقف‪ ،‬مثل رشاش يقذف الرصاص متتال ًيا؛‬
‫يستغرقون في ضحك متواصل‪ .‬كان يبدو في غاية االنتعاش‪ ،‬أظنه شرب‬

‫‪155‬‬
‫يفوت فرص ًة مثل هذه دون أن يكون قد خ ّبأ ربع قارورة‬
‫كأسا‪ ،‬فهو غال ًبا ما ال ّ‬
‫ً‬
‫في حقيبته‪ .‬وكان يضع ذراعه على كتف طالبة جميلة‪ ،‬ينسدل شعرها بحرية‬
‫غمازتها بشاهد يده األخرى بين لحظة وأخرى‪،‬‬
‫حتى خصرها‪ ،‬ويلمس ّ‬
‫ويهمس في أذنها‪ ،‬في حين كانت البنت تزوي ما بين حاجبيها‪ ،‬وتبدو على‬
‫وجهها أمارات الخجل‪.‬‬
‫وثمة طالب آخر ُيدعى جليل‪ ،‬قصير القامة‪ ،‬ذو فم ممطوط كأنه فم‬
‫ضفدع‪ ،‬يعتمر قبع ًة مائل ًة إلى ما فوق حاجبيه‪ ،‬وجهه ٍ‬
‫خال من أي تعبير‪،‬‬
‫عدا عينيه النهمتين الشبيهتين بعيني ماعز‪ُ ،‬يشاع عنه أنه ليس سليم الطوية‪،‬‬
‫والتلون‪ ،‬على النقيض من اسمه‪ ،‬ترافقه طالبة أقصر‬‫ّ‬ ‫أ ّفاك كثير المخاتلة‬
‫مدور‪ ،‬وشعر قصير جعد كأنه كيس ورق عتيق‪ ،‬وصدر كبير‬ ‫منه‪ ،‬ذات وجه ّ‬
‫مندفع إلى األمام تحت بلوزتها إلى درجة يكاد يشبه حدب ًة‪ ،‬تز ّين عنقها‬
‫قالدة زائفة‪ ،‬وتستنشق وردة جوري في يدها‪ ،‬وترتسم على مح ّياها ابتسامة‬
‫تعبيرا عن سرورها بعبارات التشبب التي يناجيها بها‪ ،‬وكأنها جاءت‬
‫الرضا ً‬
‫لتحقيق هذا الهدف دون سواه‪ ،‬حيث يبدو من إيماءاتها وحركاتها بر ّمتها‬
‫أنها ظمأى للغزل‪ ،‬وسهلة االنزالق في المشاعر‪.‬‬
‫مدونًا في قائمة المشاركين‬
‫لم تكن تربطني بجليل عالقة‪ ،‬ولم يكن اسمه ّ‬
‫حشرا‪ ،‬واصطحب معه البنت المسالمة التي‬ ‫ً‬ ‫في الحفلة‪ ،‬لكنه حشر نفسه‬
‫تشبه بط ًة داجن ًة‪ ،‬وكأني به خطط إلغوائها بعد انتهاء الحفلة‪ ،‬فراح يسمعها‬
‫ً‬
‫معسول‪.‬‬ ‫كال ًما‬
‫جل اهتمامي منص ًّبا على مارينا وأمها‪ .‬كانت الصبية‬ ‫أما أنا فقد كان ّ‬
‫ترفل في حلة السعادة‪ ،‬ال تفارق االبتسامة وجهها‪ ،‬متألق ًة بفستانها األزرق‬
‫أخا ًذا من زجاجة‬
‫عطرا ّ‬
‫المخضر الذي اشتريته لها‪ ،‬وقد رشت على رقبتها ً‬
‫ّ‬

‫‪156‬‬
‫أهديتها لها ونحن ندلف إلى المركب‪ ،‬وأخذت تتمايل وإيقاع الموسيقى‬
‫مثل اآلخرين‪ ،‬لكن بخفر‪ ،‬فشعرت كأني على عتبة الفردوس‪ ،‬ووددت أن‬
‫أحتضنها أمام الجميع‪ ،‬وأطبع قبل ًة على شفتيها‪ ،‬ثم أرفعها بكلتا ّ‬
‫يدي وأديم‬
‫النظر إليها حتى األبد‪.‬‬
‫تكف عن اختالس النظر‬
‫ّ‬ ‫الحظت احدى الطالبات‪ ،‬اسمها ليندا‪ ،‬ال‬
‫إلي بعينين فيهما غواية مستميتة‪ ،‬حتى وهي ترقص‪ ،‬كلما دنوت من مارينا‬
‫ّ‬
‫وأمها‪ ،‬فاستغربت من فضولها‪ .‬كانت ترتدي تنور ًة حمراء تنتهي إلى‬
‫ركبتيها‪ ،‬وكنزة جينز زرقاء قصيرة ال تغطي عجيزتها المس ّطحة‪ ،‬ولم يكن‬
‫لها محيط خصر كأنها رجل‪ .‬قصدتها حين أنهت رقصتها واستفسرت منها‬
‫عما إذا كانت تضمر في نفسها شي ًئا‪ ،‬ارتبكت في البداية ثم قالت‪:‬‬
‫ــ لفتت انتباهي الصبية‪ ،‬هل هي أختك؟‬
‫ــ ال‪ ،‬إنها خطيبتي‪.‬‬
‫انتابتها الدهشة‪:‬‬
‫عذرا لتدخلي‪ ،‬تبدو مراهق ًة‪.‬‬
‫ــ خطيبتك؟ يا يسوع! إنها‪ً ،‬‬
‫ــ هذا أفضل‪ ،‬عمرها ‪ 16‬عا ًما‪.‬‬
‫ر ّدت بشيء من االمتعاض‪:‬‬
‫ــ لكنها قاصر‪ ،‬دمية‪.‬‬
‫ــ هذه الدمية ينبوع سعادة ال ينضب‪.‬‬
‫ــ هل نلتها؟‬

‫‪157‬‬
‫ــ احفظي لسانك‪.‬‬
‫ــ ظننتك‪...‬‬
‫أردت أن أستثيرها فقاطعتها‪:‬‬
‫ــ ال أميل إلى اللواتي في سنّك‪.‬‬
‫رمقتني باستهجان‪:‬‬
‫ــ أنا أصغر منك بسنتين‪.‬‬
‫ِ‬
‫عرفت سنّي؟‬ ‫ــ كيف‬
‫ــ عرفته من وداد‪.‬‬
‫ــ آه‪ ،‬وداد تعرف طب ًعا ألنها زميلتي في الماجستير‪.‬‬
‫أيضا سأقدّ م للماجستير‪.‬‬
‫ــ أنا ً‬
‫ــ سأدعوك إ ًذا إلى حفلة عرسي بعد تخرجي‪ ،‬هل ستحضرين؟‬
‫تصنّعت ابتسام ًة‪ ،‬ووضعت سا ًقا على ساق وقالت‪:‬‬
‫ــ ال أدري‪ ،‬سأفكّر‪.‬‬
‫لم تدخل ليندا بعدئذ حلقة الرقص قط‪ ،‬ظلت منكفئ ًة على نفسها‪ .‬ال‬
‫أعرف شي ًئا عنها سوى أنها سريانية في المرحلة الثالثة بقسم اآلثار‪ ،‬سبق‬
‫لي أن لمحتها مرتين أو ثال ًثا في مكتبة الكلية‪ ،‬وقد دعتها وداد لحضور‬
‫الحفلة‪.‬‬
‫كان عمران يجلس لصق زوجته رباب مسترخ ًيا على مقعده مثل ملك‬
‫متوج‪ ،‬لكنه بدا متع ًبا‪ .‬تقدّ مت إليهما‪ ،‬وسألت‪:‬‬
‫ّ‬

‫‪158‬‬
‫ــ لم أسمع رأيكما في مارينا‪ ،‬أليست جميل ًة؟‬
‫ر ّدت رباب بحبور ممتزج بدهشة‪:‬‬
‫ــ جميلة فقط! مالك ما شاء الله‪ ،‬تأخذ العقل‪.‬‬
‫وتثاءب عمران وقال‪:‬‬
‫فعل‪ ،‬إنها مزيج من الفتنة والبراءة خليقة بأن تتو ّله بها وتهبها خالصة‬
‫ــ ً‬
‫نفسك‪.‬‬
‫ألقيت نظر ًة خاطف ًة على مارينا‪ ،‬وقلت لعمران‪:‬‬
‫ــ عندي فكرة‪.‬‬
‫ــ هاتِها‪.‬‬
‫نيلي‬
‫ــ ما رأيك أن أعمل حفلة الزفاف على متن هذا المركب بعد َ‬
‫الشهادة‪ ،‬ويكون لون بدلتينا أنا ومارينا رصاص ًّيا بلون البحر؟‬
‫أجاب مستغر ًبا‪:‬‬
‫ــ أهووو! لِ َم أنت عجول تقدّ م العربة على الحصان؟ أخطب ً‬
‫أول ثم‬
‫فكّر في الزفاف‪.‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ــ الخطوبة مضمونة‪.‬‬
‫ــ ومراسم الزواج في الكنيسة؟‬
‫ــ نعملها ً‬
‫أول ثم نكملها في المركب‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫ــ هل استلهمت الفكرة اآلن من الحفلة؟‬
‫ــ ال‪ ،‬راودتني منذ مدة‪ ،‬ألهمنيها االبحر‪.‬‬
‫ــ أنت تستلهم كل أوهامك منه‪ ..‬ينقصك أن تكون مارينا خارج ًة من‬
‫أعماقه مثل حورية بحر‪.‬‬
‫ــ ليتها كذلك‪.‬‬
‫شاعرا ال‬
‫ً‬ ‫ــ يا لسطوته على رأسك كأنك توأمه‪ .‬أنت تصلح أن تكون‬
‫روائ ًّيا‪.‬‬
‫ــ في عالقتي به فقط‪.‬‬
‫أيضا‪.‬‬
‫ــ وبالصبايا الجميالت ً‬
‫ــ معنى ذلك أنني ربما أتحول إلى شاعر‪ .‬لكن ماذا عنك أنت؟‬
‫ــ أنا؟ ال أصلح إالّ لنبش الماضي‪.‬‬
‫ــ ليس هذا ما أعنيه‪ ،‬بل عالقتك بالبحر‪ ،‬تتحدث وكأنك لست مول ًعا‬
‫به!‬
‫ــ ليس مثل ولعك‪.‬‬
‫ــ ألم تقل لي ذات يوم أنك تآخيت مع الماء منذ الصغر؟‬
‫ــ بلى‪ ،‬غير أنه ال يوسوس في صدري مثلك‪ ،‬وال أستبعد أن تلقى حتفك‬
‫بين لججه يو ًما ما فتزدردك إحدى آ ّفاته‪.‬‬
‫ــ أليس ذلك أفضل من أن يأكل الدود لحمي في جحر من األرض؟‬
‫بعد انقضاء ساعتين من البهجة‪ ،‬التي أضفت عليها نسائم البحر بها ًء‪،‬‬

‫‪160‬‬
‫أن النعاس أطفأ عمران تما ًما‪ .‬أشارت لي زوجته بيدها إشار ًة‬ ‫الحظت ّ‬
‫فهمت منها أنه ال بدّ أن يرتاح إثر يوم حافل بالتعب‪ .‬هززت رأسي مواف ًقا‬
‫وقصدت قائد المركب وأبلغته بأننا اكتفينا ونريد العودة‪ .‬كان الرجل متع ًبا‬
‫أيضا‪ ،‬فغ ّير اتجاه المركب‪ ،‬ومضى به صوب المرفأ‪ .‬عندما صرنا على بعد‬
‫ً‬
‫نحو مائتي متر عنه انتفضت جانيت كالنابض‪ ،‬وأفلتت من فمها عبارةً‪ ،‬بنبرة‬
‫يغلب عليها الفزع‪:‬‬
‫ــ َويلي يا نينوس‪ ،‬أنظر هناك‪..‬‬
‫ــ ماذا؟‬
‫ــ يونس على الرصيف!‬
‫ً‬
‫رجل يذرع‬ ‫أرسلت بصري إلى الناحية التي أشارت إليها فرأيت‬
‫الرصيف بمشية شبه عسكرية‪ ،‬ويتلفت إلى البحر تار ًة وإلى القلعة تار ًة‬
‫أخرى‪ .‬افترضت أنه يونس بالفعل‪ ،‬أوصافه تنطبق عليه تما ًما‪ :‬القامة‬
‫الطويلة والشعر الخفيف الذي تهدّ ده بداية صلع‪ ،‬لكن من حسن الحظ‬
‫كانت المسافة التي تفصلنا عنه بعيد ًة تحول دون تمكّنه من تمييز األشخاص‬
‫على متن المركب‪ ،‬الذين ينوف عددهم على الثالثين‪ ،‬فأسرعت إلى قائد‬
‫المركب وطلبت منه أن يغ ّير اتجاهه ويعود إلى الوراء‪ ،‬ووعدته بأن أزيد‬
‫أجرته‪ .‬استجاب الرجل من غير أن يسألني عن السبب‪ ،‬فص ّفق بعض‬
‫المحتفلين ظنًا منهم أنني أردت إطالة أمد الحفلة‪ ،‬أما جانيت ومارينا‬
‫وفادي فتركوا مقاعدهم وجلسوا على أرض المركب هلعين‪ ،‬ملتمسين‬
‫أخفاء أنفسهم‪ ،‬واستسلم عمران إلى إغفاءة على كتف زوجته‪ ،‬ال يعرف‬
‫شي ًئا عن األمر‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫«كيف جاء هذا السافل إلى المرفأ؟ تساءلت «أهي محض مصادفة أم أنه‬
‫ِ‬
‫علم بوجودنا؟»‪ .‬كان بودي لو أني أحمل إذ ذاك منظاري ألتأكد منه وأقطع‬
‫الشك باليقين‪ ،‬لكن لم يخطر في بالي أننا سنواجه مثل هذا الموقف‪ .‬قلت‬
‫لنفسي «لِ َم ال أسأل قائد المركب فلربما لديه واحد؟»‪ ،‬قال «إي‪ ،‬عندي‬
‫يقرب األشياء أضعاف المرات»‪ ،‬ثم أمر مساعده بأن يفتح‬‫منظار ألماني ّ‬
‫خزان ًة خلفه ويستخرجه لي‪.‬‬
‫حركت قرص التقريب‬
‫عيني وشرعت أنظر‪ّ .‬‬
‫التقطته منه ووضعته على ّ‬
‫إلى أقصى مداه فإذا بي أفاجأ بأن الشخص الذي عنته جانيت ليس يونس‪،‬‬
‫بل شخص آخر يشبهه‪ ،‬خاص ًة عندما توقف عن المشي وأدار جسمه ً‬
‫كامل‬
‫صوب البحر‪ .‬داخلني شعور باالرتياح‪ ،‬وشكرت قائد المركب ورجوته أن‬
‫يعود إلى المرفأ‪ .‬لكنه سألني هذه المرة عما إذا كنت قد شككت في وجود‬
‫شخصا على‬
‫ً‬ ‫مشكلة أو أمر مزعج بانتظاري‪ ،‬أجبت «تصورت أني رأيت‬
‫رصيف المرفأ ال أرغب في رؤيته‪ ،‬لكن تبين أنه ليس الشخص ذاته‪ ..‬أنا‬
‫آسف»‪ .‬وبدا لي جوابي أنه الجواب الوحيد المعقول‪.‬‬
‫رجعت إلى جانيت ومارينا مته ّلل الوجه وأخبرتهما بما رأيت‪ ،‬فتنهدتا‬
‫وانزاحت عنهما تعابير القلق في الحال‪ ،‬ثم نهضتا وجلستا على مقعديهما‪،‬‬
‫في حين انتصب فادي واق ًفا‪ّ ،‬‬
‫ومس شعره بأصابعه‪ ،‬وراح يسدّ د نظره إلى‬
‫جهة القلعة‪ ،‬حيث بدت تحت ظالل الغيوم كأنها لوحة تكعيبية مخططة‬
‫باألبيض واألسود‪ ،‬فأعادني منظره إلى صباي‪ ،‬وأخذني الحنين إلى ذلك‬
‫اعتليت فيه ظهر المركب السياحي‪ ،‬أول مرة‪ ،‬صحبة أبي‪.‬‬
‫ُ‬ ‫اليوم الذي‬
‫دنوت من فادي وطبطبت على كتفه‪ ،‬وأشرت إلى القلعة‪:‬‬

‫‪162‬‬
‫ــ كم هي جميلة حين تنظر إليها من البحر‪.‬‬
‫ــ إنها تذكّرني بقلعة باشطابيا في الموصل‪.‬‬
‫أردت أن أعلمه بأن اإلرهابيين د ّمروا تلك القلعة قبل سنة‪ ،‬إالّ أني‬
‫أعرضت عن ذلك لئال ّ‬
‫أهشم صورتها في ذاكرته وأسبب له حزنًا‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫ــ هذه أقدم بكثير من قلعة باشطابيا‪ ،‬وكان الناس يسكنونها إلى عهد‬
‫قريب‪.‬‬
‫ــ أو ّد أن أطل منها على منظر البحر‪.‬‬
‫ــ سآخذك إليها في عيد ميالدك‪.‬‬
‫وهم باحتضاني‪ ،‬متل ّف ًظا بعبارات الشكر‪ ،‬لك ّن‬
‫فرحا ّ‬
‫شع وجه فادي ً‬‫ّ‬
‫حد ًثا مري ًعا وقع في تلك اللحظة لم يشهد البحر ً‬
‫مثيل له مذ بدأت عالقتي‬
‫دوى انفجار رهيب‪ ،‬صحبه انكسار في سكون الهواء واضطراب‬
‫به‪ .‬لقد ّ‬
‫التفت إلى الجهة التي بلغنا منها‬
‫ُّ‬ ‫كأن عاصف ًة تالعبت بالبحر‪.‬‬
‫في الموج ّ‬
‫صوت االنفجار فإذا بي أبصر يختًا تشتعل فيه النار‪ ،‬وقد تناثرت أشالء‬
‫منه على سطح الماء‪ .‬كان ذلك اليخت قد مر من جنبنا قبل ٍ‬
‫ثوان مبط ًئا في‬ ‫ّ‬
‫سيره‪ ،‬وخلفه زورق حماية على متنه مس ّلحون‪ ،‬لكن ال أحد منا تمكّن من‬
‫رؤية األشخاص الذين يستقلون اليخت‪ ،‬فقد كان سطحه مغطى وزجاج‬
‫نوافذه معتمة‪ ،‬ولم يكن لحظة انفجاره يبعد عن مركبنا أكثر من كيلومتر‬
‫واحد‪.‬‬
‫أصيب جميع رفقائي في المركب بالذعر‪ ،‬وتعالى صراخهم وزعيقهم‪،‬‬
‫وانبطح العديد منهم‪ ،‬خاصة النساء‪ ،‬على بطونهم هل ًعا‪ ،‬ووضعوا أكفهم‬

‫‪163‬‬
‫مفخ ًخا‪ ،‬ال بدّ أن‬ ‫على رؤوسهم‪ .‬لم يخامرني الشك في ّ‬
‫أن اليخت كان ّ‬
‫أحدهم زرع فيه حزمة ديناميت‪ ،‬لذا هرعت من فوري إلى قائد المركب‬
‫توج ًسا من وجود يخوت أخرى ّ‬
‫مفخخة راسية في‬ ‫وأعجلته بتغيير وجهته ّ‬
‫المرفأ‪ ،‬يمكن تفجيرها عن بعد‪ .‬بدّ ل الرجل دفة مركبه‪ ،‬ولكن بشيء من‬
‫معاكسا موجاته الزاحفة‬
‫ً‬ ‫االستياء هذه المرة‪ ،‬ومضى به إلى عرض البحر‪،‬‬
‫صوب الشاطئ كأنها مخلوقات حية مفزوعة‪.‬‬
‫في تلك األثناء هامت سحابة من ضباب‪ ،‬أشبه بدغل كثيف‪ ،‬سرعان‬
‫ما تعاظمت‪ ،‬والحت لنا من داخلها زوارق ذات لون رمادي غامق‬
‫أحاطت بالمركب فجأةً‪ ،‬وحين تميزناها كانت أربع ًة على متنها مس ّلحون‬
‫مل ّثمون‪ ،‬ذوو هيئات غريبة‪ّ ،‬‬
‫وجهوا بنادقهم إلينا‪ ،‬ونادى أحدهم بمك ّبر‬
‫صوت محمول آمر ًا قائد المركب أن يتجه إلى جزيرة صغيرة على مبعدة‬
‫بضعة كيلومترات تُدعى «شوشة»‪ .‬كانت معلوماتي عن تلك الجزيرة أنها‬
‫مستعمرة لثعالب وبنات آوى وطيور جارحة‪ .‬مأل الذعر قلوب الجميع مر ًة‬
‫وتسمروا في أماكنهم‪ .‬أما قائد المركب فقد‬
‫ّ‬ ‫أخرى‪ ،‬إالّ أنهم كتموا أنفاسهم‬
‫رضخ لألمر وسار إلى الجزيرة‪ ،‬بينما سحابة الضباب التي باتت ً‬
‫دغل ال‬
‫تلم بنا‪.‬‬
‫تزال ّ‬
‫بعد لحظات‪ ،‬ومن قلب تلك السحابة الهائلة‪ ،‬عاد حامل مك ّبر الصوت‬
‫لينادي‪ ،‬وقد بات شبحه أكبر مما بدا أول مرة‪:‬‬
‫ــ اسمعوا جمي ًعا‪ ،‬ال شأن لنا بكم‪ ،‬نريد واحدً ا منكم فقط هو نينوس‬
‫اآلثوري‪.‬‬
‫شخصت أبصار َمن في المركب نحوي مشدوه ًة‪ ،‬عدا مارينا وأمها‪ ،‬فقد‬

‫‪164‬‬
‫بدت نظرتهما مكتنز ًة برذاذ البحر‪ ،‬يعتريها قلق موجع ولوعة على أشدّ ها‪.‬‬
‫وفي السماء ح ّلق سرب من خ ّطاف البحر على ارتفاع قليل؛ ِ‬
‫مطل ًقا زقزقات‬
‫المتخ ّلى عنها‪ ،‬أو‬
‫يحط على الشاطئ لكنس بقايا الصيد ُ‬ ‫ّ‬ ‫صاخب ًة قبل أن‬
‫يغطس في الماء من أجل التقاط األسماك الصغيرة‪.‬‬
‫من جوف تلك البرهة الغامرة بضبابها ورعبها قفز إلى ذاكرتي حلم‬
‫نجاة شميرام من خاطفيها‪ ،‬وتواريها رفقة البحر في الغمام‪ ،‬وقلت لنفسي‬
‫«إنهم الخاطفون أنفسهم وقد ح ّلوا في أجساد مختلفة‪ ،‬لكن أنّى لي أن‬
‫أتوارى عن عيونهم المتر ّبصة وأنا لست في حلم‪ ،‬لست أبدً ا في حلم؟»‪.‬‬

‫‪165‬‬

You might also like