Professional Documents
Culture Documents
نصوص مجزوءة المعرفة . علوم
نصوص مجزوءة المعرفة . علوم
نصوص مجزوءة المعرفة . علوم
مجزوءة المعرفة
النظرية
الحقيقة
والتجربة
يعتبر مبحث المعرفة من بين المباحث األساسية التي اهتم بها الفالسفة
قديما وحديثا وخصصوا لها حيزا من كتاباتهم ،لما لها من دور وأهمية في
تشكيل الوعي اإلنساني باالنشغاالت التي تكون موضوع اهتمامه وبحثه
سواء كانت ذات طبيعة علمية تطبيقية أو تأملية نظرية .
لقد حقق اإلنسان تطورا متسارعا في مجل المعرفة العلمية بفضل القطع التام
مع التفسيرات الخرافية والتأمالت الميتافيزيقية ،مكنه ذلك من بسط سيطرته
على الطبيعة والتحكم فيها بعد فَ ْهم واستيعاب قوانينها ،مستعينا في ذلك بعدة
منهجية قوامها عقالنية منفتحة وتجريب علمي ،وهو ما يمكن الوقوف عنده
مع الزوج المفهومي النظرية والتجربة ،من خالل البحث عن األسس
والمعايير التي من شئنها جعل المعرفة العلمية أكثر صالبة ومصداقية
وعلمية .
وإذا كان المبحث العلمي حقق درجات من التطور واإلبداع فهو ال يعني
اإلقرار ببلوغ الحقيقة المطلقة ،بل إنه دائم البحث عنها ،وكلما أدرك جزءا
منها إال وانكشفت أمامه مسارات تستفزه لسبر أغوارها والتعمق في
دالالتها .والحديث عن الحقيقة هو حديث عن معاييرها وأسسها ،دون إغفال
لقيمتها باعتبارها غاية لكل باحث يسعى إليها من خالل تمحيصها وتمييزها
قدر اإلمكان عن الشائع والمتداول من اآلراء.
1
النظرية والتجربة
3
معايير علمية العقالنية التجربة
النظريات العلمية العلمية والتجريب
إن المتأمل لمفهومي النظرية والتجربة يقف على نوع من االختالف الظاهري القائم بينهما :فالنظرية
مقترنة بالتفكير والتأمل في حين التجربة مرتبطة بالممارسة والتطبيق ،النظرية تنتمي للعقل بينما
التجربة تنتمي إلى الواقع ومن هنا انبثق السؤال حول عالقة الفكر بالواقع .
غير أن الحديث عن المفهومين في ظل الممارسة العلمية باعتبارهما وسيلتين أساسيتين لتفسير ظواهر
الكون جعل العالقة بينهما تتأرجح بين االختالف و التداخل ،فقد تجاوز العلم مرحلة االختالف إلى مرحلة
التكامل والحوار.
يحمل مفهوم النظرية في التمثل المشترك معاني القول والحكم والرأي ،والنظرية حسب هذا التمثل تكون
إما سلبية أو إيجابية ،سلبية إذا لم يسندها الفعل والعمل وإيجابية إذا تحولت إلى أداة للفعل والعمل وجلب
المنافع ،وبهذا يتبين أن التمثل المشترك ازدرى التنظير واحتقره ،مما يبرز مدى قصوره ومحدودية
أفقه ،أما في الداللة الفلسفية اعتبرها "الالند" بمثابة "إنشاء تأملي للفكر ،يربط نتائج بمبادئ"،
ليستخلص من هذا التعريف أن النظرية عقلية ،وبذلك فهي تتقابل مع الممارسة والتطبيق.
أما مفهوم التجربة فيحمل في التمثل المشترك معاني االحتكاك واالرتباط بالواقع التي تسمح للفرد،
باكتساب خبرة معينة في مجال معين( ،تدريس ،بناء )......أما في المجال العلمي فتعني القيام بخطوات
منظمة من طرف العالم الستنباط القوانين المتحكمة في الظاهرة المدروسة .
وقد تمكن العلماء ،بفضل مجهوداتهم الفكرية الكبيرة والمتواصلة ،من بناء معرفة ونظريات علمية.
وهي معرفة متميزة عن المعرفة العامية والتمثل المشترك ،فإذا كانت المعرفة الثانية تنتج هن التجربة
الحسية المباشرة وعن الخبرة الذاتية ،فإن المعرفة األولى وليدة التجربة العلمية والتجريب بمعناه
العلمي .لكن رغم هذا التميز الذي تتصف به المعرفة العلمية عن المعرفة العامية فهي ال تتميز بالدوام
واالستمرارية ،بل إنها قابلة للتغير والفناء ،فالعلم ال يسير في خط تصاعدي مستقيم بل تحدث فيه
مجموعة من الرجات واألزمات ،فالعلم كما يقول "غاستون باشالر" هو "تاريخ أخطائه وأزماته
وقطائعه" األمر الذي دفع بالعلماء إلى إعادة قراءة المعارف والنظريات العلمية وانتقادها قصد
تصنيفها ،فأصبحنا نتحدث عن علم كالسيكي قائم على مبادئ وأسس عقالنية كالسيكية ( ديكارت مثال)
وعن علم معاصر قائم على أسس عقالنية معاصرة ( باشالر مثال ) .وأصبحنا نتحدث كذلك عما يجعل
من النظريات العلمية تتميز بصفة العلمية ،أي عن المعايير التي يمكن أن نعرف من خاللها مدى صحة
وصدق النظريات العلمية .إذن وفي ظل هذا النقاش العلمي ستتبلور مجموعة من التساؤالت يمكن
صياغتها على الشكل التالي :إن الحديث عن التجربة يجعلنا نتساءل :هل المراد بها التجربة الخام
المتمثلة في معطيات الواقع التي على العالم مالحظتها بدقة واإلصغاء إليها بأمانة وبدون أية أحكام
مسبقة ،أم المقصود بها التجربة المصطنعة التي تتم في ظروف ووفق شروط محددة مسبقا بالنظرية
نفسها المراد التأكد من صحتها ؟ ما الفرق بين التجربة والتجريب ؟ وما طبيعة التجربة :هل هي مادية
أم خيالية؟ وعلى ماذا تتأسس النظرية العلمية ؟ ما دور كل من العقل والتجربة في بلورة النظرية العلمية
؟ وما هي معايير التأكد من صحة وصدق النظريات العلمية ؟
المحور األول :التجربة والتجريب
ال يمكن لنظرية ما أن تتصف بالعلمية ما لم يم التأكد منها تجريبيا والتحقق من صحتها عبر
التجربة ،هذا القول يطرحنا أمام بعض التساؤالت تتعلق بدور التجربة في النظرية العلمية :فما
4
هي التجربة التي نعنيها ونقصدها في هذا القول ؟هل قيام العالم بالتجربة معناه أن يصغي للواقع
الجاهز القائم بذاته في استقالل عنه ،أم معناه أن يشيد ويبني واقعا جديدا اعتمادا على وسائله
الخاصة ووفق خطوات يحددها هو بنفسه ؟ وبعبارة موجزة ما يثبت صحة وصدق نظرية ما هو
التجربة الخام في الواقع أم التجريب باعتباره مسائلة واستنطاق له ؟ وما دور التجربة الخيالية
في التأكد من صحة النظريات العلمية ؟
كلود
برنار
على العالم الذي يريد اإلحاطة بمجموع مبادئ المنهج التجريبي أن يستوفي نظامين من الشروط ،وأن يتميز
بخاصيتين فكريتين ،تعتبر كلها ضرورية لتحقيق هدفه والتوصل إلى الحقيقة العلمية .أوال ،على العالم أن تكون
لديه فكرة يخضعها للفحص في ضوء الواقع ،لكنه يكون مطالبا في نفس الوقت بالتأكد من أن الوقائع التي تمثل
منطلقا لفحص فكرته هي وقائع صحيحة ومنظمة .لهذا السبب عليه أن يكون مالحظا ومجربا في نفس الوقت.
ثانيا ،إن المالحظ يعاين فقط بساطة الظاهرة الماثلة أمامه ،فهمه الوحيد هو الحذر من الوقوع في أخطاء
المالحظة التي قد تؤدي به إلى إدراك غير كامل للظاهرة ،أو إلى تعريفها تعريفا خاطئا .ولكي تكون معاينة
الظاهرة معاينة سليمة يستخدم المالحظ كل األدوات التي من شأنها جعل مالحظته للظاهرة مالحظة أكثر
شمولية.
عل المالحظ أن يكون إذن ،أثناء معاينته للظواهر بمثابة آلة تصوير تنقل بالضبط ما هو موجود في الطبيعة :
حيث يجب أن يالحظ بدون فكرة مسبقة .وعليه أن ينصت إلى الطبيعة ،وأن يسجل ما تمليه عليه .وبعد معاينة
الواقعة والمالحظة الجيدة للظواهر ،تبرز الفكرة ويتدخل االستدالل العقلي ،فيظهر المجرب لتفسير الظاهرة .إن
العالم التجريبي هو الذي يستطيع بفضل تفسير محتمل ومسبق للظواهر المالحظة ،أن يؤسس التجربة بحيث
تسمح بالتحقق من الفرضية ( )...إن العالم المتكامل هو الذي يجمع بين الفكر النظري والممارسة التجريبية
عبر الخطوات التالية :
/1يعاين واقعة /2ميالد فكرة في ذهنه تبعا للمعاينة /3انطالقا من هذه الفكرة يستدل عليها ويلجأ إلى التجربة
بعد أن تصورها ذهنيا /4تنتج عن التجربة ظواهر جديدة عليه أن يالحظها وهكذا دواليك .
يشتغل ذهن العالم ،إذن ،انطالقا من هذه الخطوات ،بين مالحظتين ،تمثل األولى منطلق االستدالل العلمي،
وتمثل الثانية خالصة االستدالل( أي التجربة ) .
كلود برنار،المدخل لدراسة تطور الطب التجريبي،فالماريون 1984،ص 55-51 :
روني توم
5
أعتقد أن واقعة تجريبية ال يمكن أن تكون علمية إال إذا استوفت شرطين هما :
أوال :أن تكون قابلة إلعادة الصنع ( )...في أزمنة وأمكنة أخرى...
ثانيا :أن تثير اهتماما قد يكون تطبيقيا أو نظريا .يستجيب االهتمام التطبيقي لحاجيات
بشرية ،أما االهتمام النظري فإنه يعني أن البحث يدخل ضمن إشكالية علمية قائمة...
وفي هذه الحالة ،يكون الهدف من التجريب حسب التصور التقليدي هو التحقق من
صدق أو صحة فرضية .
فمن أين تأتي الفرضية ؟
الوجود لفرضية بدون وجول شكل من أشكال "النظرية" .وتتضمن النظرية دائما
كيانات خيالية يتم التسليم بوجودها .ويتعلق األمر هنا بالعالقات السببية التي تربط
السبب بالنتيجة .وتهدف التجربة إلى إثبات أو تكذيب وجود كيانات نظرية مسلم بها أو
متواجهة ...لقد ذهب المؤسس التاريخي للمنهج التجريبي "فرانسيس بيكون" إلى
االعتقاد بان استخدام التجريب يتيح وحده التحليل السببي لظاهرة من الظواهر ،وهذا
وهم .إن التجريب وحده عاجز عن اكتشاف سبب أو أسباب ظاهرة ما .ففي جميع
األحوال ينبغي إكمال الواقعي بالخيالي .هذه القفزة نحو الخيالي هي أساسا عملية ذهنية،
أو تجربة ذهنية ،وال يمكن ألي جهاز آلي أن يعوضها...ال يمكن للتجريب ،ليكون علميا
وذا مغزى ،أن يستغني عن التفكير ،غير أن التفكير عملية صعبة تنفلت من كل رتابة
ومن كل منهج .
روني توم،فلسفة العلوم اليوم،جوتي فيالر، 1986،باريس،ص10 :ـ, 12
ر .كارناب
6
" إن النظرية غالبا ما تظهر في البداية كنوع من الخيال ،ذلك الخيال الذي يأتي للعالم على
شكل إلهام قبل أن يتمكن من اكتشاف قواعد المطابقة التي تساعده على إثبات نظريته.
وعندما قال "ديموقريطس" إن كل شيء يتكون من ذرات ،لم يكن لديه بالتأكيد أدنى دليل
تجريبي على صحة نظريته ،ومع ذلك كانت لديه عبقرية فذة ،وفراسة عظيمة .ذلك ألنه بعد
مضي أكثر من ألفي سنة أمكن اثبات ما تخيله .ولهذا السبب ال ينبغي أن نتهور ونعارض أي
خيال توقعي لنظرية ما ،بشرط أن يكون في اإلمكان اختباره في زمن مستقبلي ما .والواقع
أننا نقف على أرض صلبة ،ولكن إذا كنا نتوخى الحذر حقيقة ،فال يمكن أن تدعى الفرضية
أنها علمية إال إذا كانت هناك إمكانية الختبارها .وليس المطلوب إثباتها حتى تصبح فرضية،
وإنما المطلوب أن تكون ثمة قواعد مطابقة تسمح ،ولو مبدئيا ،بأن تكون لدينا وسائل إلثبات
أو عدم إثبات نظرية ما .
ردولف كارناب،األسس الفلسفية للفيزياء،ترجمة السيد نفاذي،دار الثقافة الجديدة،القاهرة، 2003،ص 278
وضعيات تقويمية
وضح محدودية التجريب المادي عند اشتغال العلماء على موضوعات ووقائع غير قابلة
للمالحظة المادية (وقائع ميكرو فيزيائية)؟
المحور الثاني :العقالنية العلمية
مما ال ريب فيه أن أحد أهم العوامل المسؤولة عن القفزة النوعية التي حققتها المجتمعات الغربية في
مختلف المجاالت والميادين هو ظهور نمط جديد من العقالنية ،يعرف بالعقالنية العلمية التي حلت محل 7
العقالنية الالهوتية للقرون الوسطى ،فما هي الخصائص والمميزات التي اتصفت بها هذه العقالنية ؟ ما
هي أسسها ومرتكزاتها ؟ هل االنتماء إلى العقالنية العلمية معناه االيمان بأن العقل وحده هو مصدر
المعرفة ،أم التجربة هي ذاك المصدر ،أم هما معا ؟ وعند حديثنا عن العقل سنتساءل أي عقل نعني :
عقل يقيني منغلق على ذاته ومطلق ،أم عقل نسبي منفتح و دائم الرجوع إلى ذاته باستمرار ؟
محمد
أركون
"ينبغي أن نعلم أن العقل في أوربا الغربية قد أخد يقلع حضاريا بدءا من القرن السادس عشر أو
السابع عشر .بدءا من تلك اللحظة راح ينطلق على أسس جديدة غير تلك التي كان يعرفها سابقا.
وحينما أعود إلى اسبينوزا وديكارت وأرى ماذا فعال في القرن السابع عشر؟...أرى أن ما فعاله ال
يقدر بثمن .لقد أعطيا االستقاللية الذاتية للعقل البشري وللذات البشرية بعد أن انتزعاها انتزاعا
من براثن العقل الالهوتي (للقرون الوسطى) .هل تعلم ماذا يعني ذلك ،وما هو حجم الثورة
االنقالبية التي يشكلها في تاريخ الفكر؟...
أصبحنا اليوم أمام عقل جديد ،أقصد أمام عقالنية جديدة أمنت للغرب تفوقه على جميع شعوب
األرض .هذا الشيء ينبغي أن يقال وأن يوضح لكي نفهم سر تفوق الغرب .وهكذا انتقلنا ـ أو قل
انتقلت أوربا ـ من مرحلة العقل الالهوتي (للقرون الوسطي) إلى مرحلة العقل الحديث الكالسيكي
وكذلك األمر ،فإن أوربا تنتقل اآلن من مرحلة العقل الكالسيكي ،المرتكز على اليقينيات المطلقة،
إلى مرحلة العقل النسبي أو النقدي الذي يعود إلى نفسه باستمرار من أجل تصحيح مساره أو
تعديله إذا لزم األمر .وهو ما يدعوه بعضهم اآلن بعقل ما بعد الحداثة ،أي عقل أكثر تواضعا،
ولكن أكثر دقة وحركية في األن معا...ولكن هذا العقل الجديد ال يتراجع عن بلورة المعرفة
وااليمان بإمكانية التقدم .وإال فإنه يسقط في هاوية العدمية والضياع ...الفرق الوحيد بين عقل
الحداثة/وعقل ما بعد الحداثة هو أن الثاني وهو يبلور المعارف الجديدة يعرف أنه لن يصل إلى
الحقيقة المطلقة .إنه يصل إلى حقائق نسبية ،مؤقتة ،قد تدوم طويال أو كثيرا ،ولكنها حتما لن
تدوم أبدا .أما سبينوزا وديكارت فكانا يعتقدان بأن العقل يمكن أن يصل إلى حقائق مطلقة ويقينية
أو نهائية ".
محمد أركون،قضايا في نقد العقل الديني،ترجمة هاشم صالح،دار الطليعة بيروت، 1998،ص 316:ـ. 317
أ .إنشتاين
8
إذا كانت التجربة في بداية معرفتنا للواقع وفي نهايتها فأي دور يتبقى للعقل في العلم؟ إن نسقا
كامال من الفيزياء النظرية سيتكون من مفاهيم وقوانين أساسية للربط بين تلك المفاهيم
والنتائج التي تشتق منها بواسطة االستنباط المنطقي وهذه النتائج هي التي يجب أن تتطابق
. معها تجاربنا الخاصة
هكذا نكون قد عينا لكل من العقل والتجربة موقعه ضمن نسق الفيزياء النظرية ،فالعقل يمنح
النسق بنيته ،أما معطيات التجربة وعالقاتها المتبادلة فيجب أن تطابق نتائج النظرية.
وتستند قيمة مجموع النسق وتبريره على إمكانية ذلك التطابق فقط .التطابق بين المفاهيم
األساسية والقوانين القاعدية ،وإال بقيت مجرد ابداعات حرة للعقل البشري دون أ يمبرر قبلي
. سواء من طبيعة العقل البشري أو من أية طبيعة كانت
وتمثل المفاهيم والقوانين األساسية التي ال يمكن الدفع باختزالها المنطقي أكثر ،الجزء
الضروري في النظرية والذي ال يمكن استنباطه عقليا ،وال يمكن قط نفي أن الهدف األسمى لكل
نظرية هو العمل على تبسيط وتقليص عدد تلك العناصر األساسية غير القابلة لالختزال قدر
االمكان ،دون أن يعني ذلك التخلي عن امكانية تمثل ولو معطى واحدا من التجربة تمثال
مالئما...إن كان صحيحا أنه ال يمكن استنتاج القاعدة األكسيومية للفيزياء النظرية انطالقا من
التجربة ،إذ يجب أن تكون إبداعا حرا .أليس من حقنا أن نأمل العثور على الطريق القويم؟...
إنني متيقن أن البناء الرياضي الخالص مكننا من اكتشاف المفاهيم والقوانين التي تحكمها
والتي تمكننا من مفتاح فهم الظواهر الطبيعية .طبعا يمكن للتجربة أن ترشدنا في اختيار
المفاهيم الرياضية التي سنستعملها إال أنها ال يمكن أن تكون هي المنبع الذي تصدر عنه ،وإن
بقيت حقا معيار المنفعة الوحيد ،بالنسبة للفيزياء ،على الرغم من الطابع الرياضي لبنائها فإن
. المبدأ الخالق الحقيقي يوجد في الرياضيات
أ.إنشتاين عن كتاب المنهاج التجريبي وفلسفة الفيزياء.لروبير بالنشي.أرمان كوالن1969.ص 274.كتاب الفكر اإلسالمي
والفلسفة
ه .رايشنبا
9
"إن معطيات المالح ظة هي نق طة بدء ال منهج العل مي ،غ ير أن ها ال ت ستنفذ هذا ال منهج
وإنما يكملها التفسير الرياضي الذي يتجاوز بكثير نطاق إقرار ما لوحظ بالفعل ،ثم تطبق
ع لى التف سير ن تائج ريا ضية تظ هر صراحة ن تائج معي نة تو جد ف يه ب صورة ضمنية،
وتخت بر هذه الن تائج ال ضمنية بمالح ظات .هذه المالح ظات هي ال تي ت ترك ل ها مه مة
اإلجابةةة "بةةنعم" أو "ال" ،ويظةةل المةةنهج إلةةى هةةذا الحةةد تجريبيةةا .غيةةر أن مةةا تؤكةةد
المالحظات صحته يزيد كثيرا على تقوله مباشرة .فهي تثبت تفسيرا رياضيا م جردا ،أي
تثبةةةةت نظريةةةةة يمكةةةةن اسةةةةتنباط الوقةةةةائع المالحظةةةةة منهةةةةا بطريقةةةةة رياضةةةةية
والواقع أن المنهج الرياضي هو الذي أكسب الفيزياء الحديثة قدرتها التنبؤ ية .وع لى كل
من يتحدث عن العلم التجريبي أن يذكر أن المالح ظة والتجر بة لم يتمك نا من ب ناء الع لم
ال حديث إال ألنه ما اقتر نا باال ستنباط الريا ضي ...إن أي عالم لم ي كن لي ستطيع ،و لو
اقتصر على ج مع الو قائع المالح ظة ،أن يكت شف قانون الجاذب ية ،فاال ستنباط الريا ضي
مقترنةةةةةةا بالمالحظةةةةةةة هةةةةةةو األداة التةةةةةةي تعلةةةةةةل نجةةةةةةا العلةةةةةةم الحةةةةةةديث "
هـــانز ريشـــنبا " :نشـــاة الفلســـفة العلميـــة"ترجمـــة فـــؤاد زكريـــا،دار الكاتـــب العربـــي للطباعـــة والنشـــر،القاهرة،1968،ص 98-97 :
وضعيات تقويمية
يقول ألكستدر كويري " :تتقدم النظرية على الوقائع ،و ال فائدة من اللجوء إلى التجربة ما دام
ي تجربة." . العالِم يملك المعرفة التي يبحث عنها حتى قبل أن يُجري أ ّ
بيِّن (ي) ،انطالقا من القولة ،مدى إمكانية االستغناء عن التجربة في بناء المعرفة العلمية.
االمتحان الوطني ،الدورة العادية ،2018مسلك اآلداب
معايير علمية النظريات العلمية:المحور الثالث
10
تعددت األطروحات واختلفت في شأن بناء النظريات العلمية ومدى صالحيتها ومصداقيتها،
فاعتبار النظرية تفسير وتنظيم للواقع ،يجعل معيار صدقها وصالحيتها لن يكون شيئا آخر غير
التحقق التجريبي ،كما أن استحالة التحقق بشكل كلي من النظريات يجعل صدقها رهين بمدى
صمودها أمام التكذيبات التي تطالها ،فيكون صدقها رهين بمبدأ القابلية للتكذيب ،كما أن اعتبار
النظريات العلمية بناء عقلي عليها االستجابة لمعايير العقل واالنسجام المنطقي بين المقدمات
والنتائج ،سيجعل من مبدأ التماسك الداخلي المعيار األساسي لصدقها وصالحيتها ،أمام هذا
االختالف في شأن معايير صالحية النظريات نطرح اإلشكال التالي :ما هي معايير ومقاييس
صدق النظريات العلمية وصالحيتها ؟
كارل بوبر
ينبغي أن يكون في إمكاننا أن نعرف معرفة نهائية صدق وخطأ عبارات العلم التجريبي بأكملها...
ونحن إذ نؤكد بأنه ينبغي أن يكون في إمكاننا أن نحسم في صدق تلك العبارات أو خطأها حسما
فإننا نعني بذلك أنها ينبغي أن تصاغ بصورة تمكننا ،منطقيا ،من أن نتأكد من صحتها بقدر ما
تمكننا من أن نتأكد من خطأها ...و بناءا على ذلك فمن غير المقبول منطقيا ،في نظرنا ،استنتاج
نظريات انطالقا من عبارات مفردة "أثبتت التجربة صحتها")...(.علينا أن نأخذ بمعيار يمكننا
من أن نقبل ضمن مجال العلم التجريبي العبارات التي ال يمكننا أن نتأكد من صحتها.
وبالرغم من ذلك ،فإننا نسلم بأن منظومة ال تكون تجريبية أو علمية ،إال إذا كان في إمكانها أن
تخضع لفحوص تجريبية .وفي العبارات ما يومئ إلى أن قابلية التفنيد ال قابلية التحقق ،هي التي
ينبغي أن تؤخذ معيارا للفصل ،وبعبارة أخرى ،فنحن ال نتطلب من المنظومة العلمية أن تختار
اختيارا نهائيا وتقبل قبوال نهائيا بمعنى إيجابي ،وإنما نشترط في صورتها المنطقية أن تكون
بحيث تميز ،عن طريق فحوص تجريبية ،فتقبل قبوال سلبيا ،ومعنى ذلك أن المنظومة التي
تنتمي إلى العلم التجريبي ينبغي أن يكون في إمكان التجربة أن تفندها.
كارل بوبر،المعرفة العلمية،دفاتر فلسفية،إعداد وترجمة :محمد سبيال وعبد السالم بنعبدالعالي ط الثالثة 2009ص : 28-29
غ .باشالر
11
ال يم كن تأ سيس الع لوم الفيزيائ ية دون ا لدخول في حوار فل سفي بين ال عالم العقال ني وال عالم
التجريبـــــــي( )...وبعبـــــــارة أخـــــــرى يحتـــــــاج عـــــــالم الفيزيـــــــاء ليقـــــــين مـــــــزدوج :
أوال :يقين بوجود الوا قع في قب ضة ما هو عق لي ،في كون بذلك م ستحقا ال سم الوا قع العل مي .
ثانيــا :يقــين بــأن الحجــج العقليــة المرتبطــة بالتجربــة هــي مــن صــميم لحظــات هــذه التجرب ـة.
وباختصار ال توجد عقالنية فارغة ،كما ال توجد اختبارية عمياء .هذان ه ما اإللزا مان الفل سفيان
ال لذان يؤس سان الترك يب ا لدقيق والحث يث ل كل من النظر ية والتجر بة في الفيز ياء المعا صرة .
( )...إن هذا اليقين المزدوج ال يم كن أن يتح قق إال في إ طار فل سفة ل ها ن شاطان يمار سان ع بر
حوار دقيق ووثيق بين العقل والواقع ،لدرجة أننا ال نعثر في هذا ال حوار ع لى أ ثر لت لك الثنائ ية
القديمة بين الفالسفة (العقالنيين والتجريبيين) .إذ لم يعد األمر يتعلق بمواجهة بين ع قل م عزول
وعالم مستقل عن الذات .لقد أصبح المطلوب اآلن ،أن يتموضع العالم في مركز بح يث ي كون ف يه
الع قل ال عارف م شروطا بمو ضوع معرف ته ،وبح يث ت كون ف يه التجر بة تت حدد ب شكل أدق .إن نا
ن حاول بذلك أن نتمو ضع دا خل هذا المر كز ا لذي تتج لى ف يه عقالن ية مطب قة مع ماد ية مبن ية.
وضعيات تقويمية
"ال نستطيع أن نقوم بمالحظة تجريبية جيدة ما لم نطرح على أنفسنا أسئلة نظرية بصورة
مستمرة".
أوضح )ي( مضمون هذه القولة و بيِّن )ي( أبعادها
ةةة االمتحان الوطني ،الدورة العادية ،2014مسلك اآلداب
ـــ وما قيمة تكامل المعيارين العقالني والتجريبي في بناء النظريات العلمية ؟
12
مفهوم الحقيقة
13
الحقيقة بوصفها
معايير الحقيقة الرأي والحقيقة
قيمة
ماكس
ليبنيز
بالنك
إن الرأي القائم على االحتمال قد يستحق اسم " ال فرق في الطبيعة بين االستدالل
المعرفة ،وإال سوف يتم إسقاط كل معرفة تاريخية العلمي واالستدالل العادي اليومي إنما
وغيرها من المعارف .وبدون الدخول في نزاعات الفرق بينهما في درجة النقاء والدقة.
لفظية ،فأنا أعتقد أن البحث في درجات االحتمال وهذا االختالف شبيه ،شيئا ما
سيكون أكثر أهمية لنا ،وهو ما نفتقر إليه ،إذ يعتبر ،باالختالف بين المجهر والعين المجردة.
بمثابة النقص الذي تشكو منه علوم المنطق لدينا. وما يوضح حقيقة هذا الحكم ...هو أن
ذلك أننا عندما ال نستطيع أن نجزم في مسألة ما األمر يتعلق بصورة من صور المنطق.
بشكل قطعي ،فإنه بإمكاننا أن نحدد درجة االحتمال فالمنطق العلمي ليس في وسعه أن
انطالقا من المعطيات المتوفرة ،ومن ثمة نستطيع يستنبط من مقدمات معطاة ،شيئا مغايرا
أن نحكم بطريقة عقالنية على الجزء األكثر جالء . لما يستطيع منطق الحس المشترك
إن الرأي الخاص بأولئك األشخاص الذين لديهم العادي أن يستنبطه .إن التمثل الذي
وزن و سلطة ،هو رأي يقوم على االحتمال ،ولكن يقدمه العلم عن العالم ال يختلف في
ليس كل هذا ما يجعله كذلك .لقد كان كوبرنيك وحيدا الطبيعة عن التمثل الذي تقدمه عنه
في رأيه ،وكان ذلك الرأي أكثر احتماال بشكل ال يقبل الحياة اليومية ،وإنما يختلف عنه في
المقارنة مع رأي باقي النوع البشري .إال أنني ال رهافة بنيته ودقتها .إن نسبة ذلك التمثل
أعرف ما إذا كان تأسيس فن لتقدير االحتماالت للعالم إلى تمثله السائد في الحياة
سيكون أكثر جدوى من أغلبية العلوم البرهانية اليومية ،هو كنسبة تمثل الراشد للعالم
عندنا ،وهذا ما فكرت فيه أكثر من مرة . إلى تمثل الطفل له "
Leibnez ;nouveaux essais sur l’entendement ماكس بالنك،سيرة ذاتية علمية،ألبان ميشيل
humain ;Flammarion ;p372 . 1960 ،ص 134-136 :
غاستون
باشالر
15
يتعارض العلم من حيث حاجته إلى االكتمال ومن حيث المبدأ ،تماما مع الرأي .وإذا حصل له أن
منح الشرعية للرأي بصدد نقطة خاصة ،فذلك ألسباب غير األسباب التي يتأسس عليها الرأي.
. إن الرأي من الناحية النظرية ،دائما على خطأ.
والرأي تفكير سيء ،بل إن الرأي ال يفكر البتة .فهو يترجم الحاجات إلى معارف .وبتعيين
األشياء ،حسب فائدتها ،يمتنع عن معرفتها .ال يمكن تأسيس أي شيء على الرأي ،بل ينبغي
هدمه .فالرأي هو أول عائق يلزمنا تخطيه .وال يكفي ،على سبيل المثال ،تصحيح الرأي في
جوانب خاصة واالحتفاظ بمعرفة عامية مؤقتة بوصفها نوعا من األخالق المؤقتة.
إن الفكر العلمي يمنعنا من تكوين رأي حول قضايا نفهمها ،وحول أسئلة ال نحسن صياغتها
بوضوح ،إذ ينبغي ،قبل كل شيء ،أن نعرف جيدا كيف نطرح المشاكل .ومهما قيل ،داخل الحياة
. العلمية ،فإن المشاكل ال تطرح تلقائيا.
إن معنى المشكلة بالضبط هو ما يمنح العالمة الدالة عل التفكير العلمي الصحيح .وبالنسبة للفكر
العلمي تعتبر كل معرفة جوابا عن سؤال ،وإن لم يكن ثمة سؤال ،فمن غير الممكن قيام أية
. "معرفة علمية" .ال شيء يحدث تلقائيا ،ال شيء يعطى ،كل شيء يبنى .
وضعية تقويمية
ر .ديكارت
سنقوم هنا بتعداد جميع األفعال العقلية التي نتمكن بواسطتها من الوصول إلى حقيقة األشياء
دون خشية من الوقوع في الخطأ ،وهما اثنان فقط :الحدس واالستنباط .
فالحدس هو التصور الصارم لذهن خالص ويقظ ،يصدر عن نور العقل وحده .وهو لبساطته
يكون خالصا أكثر من االستنباط ذاته ( )...هكذا يمكن لكل واحد أن يبصر بالحدس أنه موجود ،و
أنه يفكر ،وأن المثلث يعرف بثالثة أضالع فقط ،وأشياء من هذا القبيل ،وهي أكثر عددا مما
يعتقد غالبية الناس ،لكونهم يتأففون من توجيه ذهنهم نحو األمور البسيطة جدا (. )...
لقد تمكنا سلفا من التساؤل ،لماذا أضفنا إلى الحدس نمطا آخر للمعرفة يتم عن طريق عملية
االستنباط ،ونقصد بها كل ما يتم استنتاجه بالضرورة من أشياء أخرى ،معلومة من قبل بنوع
من اليقين ،وبهذه الكيفية نعلم أن آخر حلقة من السلسلة الطويلة ترتبط بالحلقة األولى...
بالتتابع .
وتبعا لما سلف يمكن القول أننا نتمكن من الوصول حينا بالحدس وحينا باالستنباط
رونيه ديكارت،قواعد لقيادة العقل ،القاعدة الثالثة،غارنيي ،باريس، 1963،ص 88:ـ (87بتصرف) .
اسبينوزا ليبنيز
17
هل الحقيقة معيار ذاتها ؟ "يُطرح سؤال حول ما إذا كانت جميع الحقائق
فمن يملك فكرة صادقة يعرف في تعتمد على التجربة الحسية أي على االستقراء
الوقت نفسه أن له فكرة صادقة وال واألمثلة أم أن بعضها له أساس آخر ،ألنه إذا كنا
يمكنه أن يشك في حقيقة نستطيع التنبؤ بوقوع بعض األحداث من غير
معرفته()...ذلك أن كل من يملك فكرة اختبار سابق عليها ،فمن الواضح أن عقلنا يساهم
صادقة ال يجهل أن الفكرة الصادقة بشيء من عنده في هذا األمر .إن الحواس ،رغم
تتضمن أعلى يقين .فأن تكون لدينا أنها الزمة لمعرفتنا الحالية ،فإنها ليست كافية
فكرة صادقة ،ال يعني سوى معرفة لتعطينا جميع المعارف بما أنها ال تقدم لنا أبدا
شيء معرفة كاملة أو أحسن ما يمكن. سوى أمثلة أي حقائق خاصة أو فردية .والحال أن
وأنا أتساءل :من يستطيع أن يعلم أنه
جميع األمثلة التي تؤكد حقيقة عامة ،أيا كان
يعرف شيئا ما ،إذا لم يعرف مسبقا
عددها ،ال تكون كافية إلثبات الضرورة الكونية
ذلك الشيء؟ أي من يستطيع أن يعرف
لهذه الحقيقة نفسها ،ذلك أن ال شيء يضمن لنا أن
أنه متأكد من شيء إذا لم يكن على
يقين من هذا الشيء مسبقا ؟ ومن ما قد حدث سيحدث دائما وبنفس الطريقة .فقد
جهة أخرى هل هناك معيار للحقيقة الحظ اليونان والرومان وغيرهم من شعوب العالم
أكثر وضوحا وتأكدا من الفكرة القديم أنه ،دائما ،قبل متم أربع وعشرين ساعة
الصادقة؟ ومن األكيد أنه مثلما يعرف ينقلب النهار إلى ليل والليل إلى نهار .ولكن من
النور بذاته ويعرف بالظالم ،كذلك تصح في كل ِ الخطأ االعتقاد أن هذه القاعدة
الحقيقة هي معيار ذاتها ومعيار الكذب . األماكن ،فقد تأكد أن األمر على خالف ذلك في
القطب الشمالي مثال( )...من هنا يظهر أن الحقائق
بارو اسبينوزا،األخالق،كارنيي فالماريون،ص : الضرورية يجب أن تقوم على مبادئ ال تكون
( 117-118الفكر اإلسالمي والفلسفة )
براهينها متوقفة على األمثلة وال على شهادة
الحواس ،وذلك على الرغم من أنه لوال الحواس ما
كان لنا أن نُفكر في تلك الحقائق .
Leibniz: Nouveaux essais sur l’entendement
وضعية تقويمية humain, Ed. Flammarion, p 95/96(2013
"ال حاجة لنا إلى معيار آخر لتمييز الحقيقة سوى الوضوح الذاتي الذي يطبعها"
بين ما إذا كان الوضوح الذاتي معيارا كافيا للحقيقة
االمتحان الوطني ،الدورة العادية،2017مسلك اآلداب
إمانويل
كانط
يذكر كانط في سياق رده ،بأن الفيلسوف الفرنسي بنيامين كونستان كان قد كتب ما
يلي :
"إن المبدأ األخالقي المتمثل في أن قول الحقيقة أمر واجب أخالقيا ،إذا ما نظر إليه
بصورة مطلقة ،وبعيدا عن أية اعتبارات تتعلق بسياقات تطبيقيه ،فإنه سيجعل قيام
مجتمع أمرا مستحيال .لذلك فإن الكذب على مجرمين يسألونك عما إذا كان صديقنا
الذي يطاردونه موجودا لدينا في البيت ،ليس جريمة"
فرد كانط "إن من يكذب ،مهما كانت نيته ومقاصده ،يتعين أن يتحمل ويتقبل نتائج
وتبعات كذبه ( )...وأن يؤدي ثمن موقفه ،كيفما كانت النتائج والتبعات غير المتوقعة.
وذلك ألن قول الحقيقة واجب يتعين اعتباره بمثابة أساس وقاعدة لكل الواجبات التي
يتعين تأسيسها وإقامتها على عقد قانوني ،والن القانون ،إذا ما تسامحنا فيه ولو
بأقل استثناء ممكن ،فإنه سيصبح قانونا متذبذبا ومبتذال".
المهم ،على ما أعتقد ،هو أن الحقيقة ليست ماذا ينبغي لنا أن نفهم من كون
خارج السلطة وليست بدون سلطة .إن الحقيقة الحقيقة ،حسب مقتضى تعريفها
هي من هذا العالم ،فهي ناتجة فيه بفضل عدة
إكراهات .وهي تمتلك فيه عدة تأثيرات منتظمة
الشائع ،هي مطابقة الواقع ؟ مطابقة
مرتبطة بالسلطة .لكل مجتمع نظامه الخاص واقع ما ،بالمعنى األوسع لكلمة
المتعلق بالحقيقة ،و" سياسته العامة" حول مطابقة ،ال يمكن أن تكون غير أحد
الحقيقة :أي أنماط الخطاب التي يقبلها هذا أمرين :إما االتجاه رأسا إلى هذا
المجتمع ويدفعها إلى تأدية وظيفتها كخطابات الواقع أو إلى محيطه القريب ،وإما
صحيحة ،لكل مجتمع اآلليات والهيئات التي
االتصال الفعلي والفعال به ،على نحو
تمكنه من التمييز بين المنطوقات الصحيحة
والخاطئة ،والطريقة التي نتبين بها هاته من يتيح التأثير فيه مباشرة أو عبر
تلك ،وكذا التقنيات واإلجراءات المشار إليها واسطة .وأضيف بأن األمر يتعلق
من أجل التوصل إلى الحقية ،وكذا مكانة أولئك بالتأثير في مجال الفكر وفى مجال
الذين توكل إليهم مهمة تحديد ما يمكن اعتباره العمل على حد سواء .علي ،أوال ،أن
. حقيقيا أذكركم بأن امتالك أفكار صحيحة
إن" االقتصاد السياسي" للحقيقة ،في
مجتمعات كمجتمعنا يتميز بخمس سمات مهمة يعني ،على وجه الدقة ،امتالك أدوات
تاريخيا :ف"الحقيقة" متمركزة على شكل ثمينة للعمل .كما أن علي أن أذكركم
الخطاب العلمي وعلى المؤسسات التي تنجه، أيضا بأن وجوب اكتساب هذه
فهي خاضعة لنوع من التحريض االقتصادي الحقائق ،بدال من أن يكون صيغة أمر
والسياسي الدائم .فالحقيقة هي موضوع نشر جوفاء توجه إلينا فجأة ال ندري من
واستهالك ( تتداول في أجهزة التربية واإلعالم)
والحقيقة يتم إنتاجها ونقلها تحت المراقبة ال
أين ،فإنه ،على عكس ذلك ،يستمد
الخاصة بل المهيمنة لبعض األجهزة السياسية مبرره من دواع عملية ممتازة
أو االقتصادية الكبرى ( الجامعة،الجيش،وسائل وأختصر كل هذا قائال :يقوم الحقيقي
االتصال الجماهيرية) وأخيرا فهي مدار كل بكل بساطة في ما هو مفيد لفكرنا
نقاش سياسي وكل صراع اجتماعي(صراعات و الصائب في ما هو مفيد لسلوكنا .
. أيديولوجية) William James, le pragmatisme
ميشال فوكو،دفاتر فلسفية ،نصوص مختارة،الحقيقة،إعداد : trad.E.burn flammarion, 1968 p 158
محمد سبيال و عبد السالم بنعبد العالي الطبعة الثانية 2005ص :
116
ف .نيتشه
20
وضعية تقويمية
"ما كل حقيقة تصلح ألن نجهر بها .وال ينبغي أن نجيب عن كل األسئلة ،أو على األقل ال نقول كل
شيء ألي كان .ثمة حقائق ينبغي أن نعالجها بضروب من الحذر الشديد ،بواسطة كل ألوان
الكنايات والتوريات .بحيث ال يقع الفكر عليها إال بعد أن يحوم راسما دوائر كبرى وكأنه يطير() ...
فليس من الممكن الجهر بحقيقة كل شيء ،وفي جميع األوقات ،وبكل الحقيقة()...إذ يستلزم التلفظ
بالحقيقة أن يكون بالتدريج ،فنجربها وكأنها إكسير قوي ،قد يكون قاتال ،بأن نزيد في الجرعة كل
يوم حتى نمكن الفكر من التعود ".
فالدمير جانكلفتش،السخرية،غارنيي فالمريون ،1964،ص51 :
انطالقا من النص :هل فعال كل تصريح أو بو بالحقيقة يستلزم بالضرورة وعيا بالشروط
الموضوعية المحيطة ؟
خطاطة مفهوم الحقيقة
معايير الحقيقة