نصوص مجزوءة المعرفة . علوم

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 21

‫نصـوص مـختـارة‬

‫السنة الثانية باكالوريا‬


‫مادة الفلسفة‬
‫كل مسالك الشعب العلمية‬
‫والتقنية‬

‫مجزوءة المعرفة‬

‫ذ‪ .‬بن عربة عبد الرفيع‬


‫‪1‬‬

‫صفحة بيت الحكمة للدرس الفلسفي‬


‫قناة بيت الحكمة للدرس الفلسفي‬
‫‪https://baitelhikmaa.blogspot.com/‬‬
‫المعرفة‬
‫‪2‬‬

‫النظرية‬
‫الحقيقة‬
‫والتجربة‬

‫يعتبر مبحث المعرفة من بين المباحث األساسية التي اهتم بها الفالسفة‬
‫قديما وحديثا وخصصوا لها حيزا من كتاباتهم‪ ،‬لما لها من دور وأهمية في‬
‫تشكيل الوعي اإلنساني باالنشغاالت التي تكون موضوع اهتمامه وبحثه‬
‫سواء كانت ذات طبيعة علمية تطبيقية أو تأملية نظرية ‪.‬‬
‫لقد حقق اإلنسان تطورا متسارعا في مجل المعرفة العلمية بفضل القطع التام‬
‫مع التفسيرات الخرافية والتأمالت الميتافيزيقية‪ ،‬مكنه ذلك من بسط سيطرته‬
‫على الطبيعة والتحكم فيها بعد فَ ْهم واستيعاب قوانينها‪ ،‬مستعينا في ذلك بعدة‬
‫منهجية قوامها عقالنية منفتحة وتجريب علمي‪ ،‬وهو ما يمكن الوقوف عنده‬
‫مع الزوج المفهومي النظرية والتجربة‪ ،‬من خالل البحث عن األسس‬
‫والمعايير التي من شئنها جعل المعرفة العلمية أكثر صالبة ومصداقية‬
‫وعلمية ‪.‬‬
‫وإذا كان المبحث العلمي حقق درجات من التطور واإلبداع فهو ال يعني‬
‫اإلقرار ببلوغ الحقيقة المطلقة‪ ،‬بل إنه دائم البحث عنها‪ ،‬وكلما أدرك جزءا‬
‫منها إال وانكشفت أمامه مسارات تستفزه لسبر أغوارها والتعمق في‬
‫دالالتها‪ .‬والحديث عن الحقيقة هو حديث عن معاييرها وأسسها‪ ،‬دون إغفال‬
‫لقيمتها باعتبارها غاية لكل باحث يسعى إليها من خالل تمحيصها وتمييزها‬
‫قدر اإلمكان عن الشائع والمتداول من اآلراء‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫النظرية والتجربة‬
‫‪3‬‬
‫معايير علمية‬ ‫العقالنية‬ ‫التجربة‬
‫النظريات العلمية‬ ‫العلمية‬ ‫والتجريب‬

‫إن المتأمل لمفهومي النظرية والتجربة يقف على نوع من االختالف الظاهري القائم بينهما ‪ :‬فالنظرية‬
‫مقترنة بالتفكير والتأمل في حين التجربة مرتبطة بالممارسة والتطبيق‪ ،‬النظرية تنتمي للعقل بينما‬
‫التجربة تنتمي إلى الواقع ومن هنا انبثق السؤال حول عالقة الفكر بالواقع ‪.‬‬
‫غير أن الحديث عن المفهومين في ظل الممارسة العلمية باعتبارهما وسيلتين أساسيتين لتفسير ظواهر‬
‫الكون جعل العالقة بينهما تتأرجح بين االختالف و التداخل‪ ،‬فقد تجاوز العلم مرحلة االختالف إلى مرحلة‬
‫التكامل والحوار‪.‬‬
‫يحمل مفهوم النظرية في التمثل المشترك معاني القول والحكم والرأي‪ ،‬والنظرية حسب هذا التمثل تكون‬
‫إما سلبية أو إيجابية‪ ،‬سلبية إذا لم يسندها الفعل والعمل وإيجابية إذا تحولت إلى أداة للفعل والعمل وجلب‬
‫المنافع‪ ،‬وبهذا يتبين أن التمثل المشترك ازدرى التنظير واحتقره‪ ،‬مما يبرز مدى قصوره ومحدودية‬
‫أفقه‪ ،‬أما في الداللة الفلسفية اعتبرها "الالند" بمثابة "إنشاء تأملي للفكر‪ ،‬يربط نتائج بمبادئ"‪،‬‬
‫ليستخلص من هذا التعريف أن النظرية عقلية‪ ،‬وبذلك فهي تتقابل مع الممارسة والتطبيق‪.‬‬
‫أما مفهوم التجربة فيحمل في التمثل المشترك معاني االحتكاك واالرتباط بالواقع التي تسمح للفرد‪،‬‬
‫باكتساب خبرة معينة في مجال معين‪( ،‬تدريس‪ ،‬بناء‪ )......‬أما في المجال العلمي فتعني القيام بخطوات‬
‫منظمة من طرف العالم الستنباط القوانين المتحكمة في الظاهرة المدروسة ‪.‬‬
‫وقد تمكن العلماء‪ ،‬بفضل مجهوداتهم الفكرية الكبيرة والمتواصلة‪ ،‬من بناء معرفة ونظريات علمية‪.‬‬
‫وهي معرفة متميزة عن المعرفة العامية والتمثل المشترك‪ ،‬فإذا كانت المعرفة الثانية تنتج هن التجربة‬
‫الحسية المباشرة وعن الخبرة الذاتية‪ ،‬فإن المعرفة األولى وليدة التجربة العلمية والتجريب بمعناه‬
‫العلمي‪ .‬لكن رغم هذا التميز الذي تتصف به المعرفة العلمية عن المعرفة العامية فهي ال تتميز بالدوام‬
‫واالستمرارية‪ ،‬بل إنها قابلة للتغير والفناء‪ ،‬فالعلم ال يسير في خط تصاعدي مستقيم بل تحدث فيه‬
‫مجموعة من الرجات واألزمات‪ ،‬فالعلم كما يقول "غاستون باشالر" هو "تاريخ أخطائه وأزماته‬
‫وقطائعه" األمر الذي دفع بالعلماء إلى إعادة قراءة المعارف والنظريات العلمية وانتقادها قصد‬
‫تصنيفها‪ ،‬فأصبحنا نتحدث عن علم كالسيكي قائم على مبادئ وأسس عقالنية كالسيكية ( ديكارت مثال)‬
‫وعن علم معاصر قائم على أسس عقالنية معاصرة ( باشالر مثال ) ‪.‬وأصبحنا نتحدث كذلك عما يجعل‬
‫من النظريات العلمية تتميز بصفة العلمية‪ ،‬أي عن المعايير التي يمكن أن نعرف من خاللها مدى صحة‬
‫وصدق النظريات العلمية ‪.‬إذن وفي ظل هذا النقاش العلمي ستتبلور مجموعة من التساؤالت يمكن‬
‫صياغتها على الشكل التالي ‪ :‬إن الحديث عن التجربة يجعلنا نتساءل‪ :‬هل المراد بها التجربة الخام‬
‫المتمثلة في معطيات الواقع التي على العالم مالحظتها بدقة واإلصغاء إليها بأمانة وبدون أية أحكام‬
‫مسبقة‪ ،‬أم المقصود بها التجربة المصطنعة التي تتم في ظروف ووفق شروط محددة مسبقا بالنظرية‬
‫نفسها المراد التأكد من صحتها ؟ ما الفرق بين التجربة والتجريب ؟ وما طبيعة التجربة‪ :‬هل هي مادية‬
‫أم خيالية؟ وعلى ماذا تتأسس النظرية العلمية ؟ ما دور كل من العقل والتجربة في بلورة النظرية العلمية‬
‫؟ وما هي معايير التأكد من صحة وصدق النظريات العلمية ؟‬
‫المحور األول ‪ :‬التجربة والتجريب‬
‫ال يمكن لنظرية ما أن تتصف بالعلمية ما لم يم التأكد منها تجريبيا والتحقق من صحتها عبر‬
‫التجربة ‪،‬هذا القول يطرحنا أمام بعض التساؤالت تتعلق بدور التجربة في النظرية العلمية ‪ :‬فما‬
‫‪4‬‬
‫هي التجربة التي نعنيها ونقصدها في هذا القول ؟هل قيام العالم بالتجربة معناه أن يصغي للواقع‬
‫الجاهز القائم بذاته في استقالل عنه ‪،‬أم معناه أن يشيد ويبني واقعا جديدا اعتمادا على وسائله‬
‫الخاصة ووفق خطوات يحددها هو بنفسه ؟ وبعبارة موجزة ما يثبت صحة وصدق نظرية ما هو‬
‫التجربة الخام في الواقع أم التجريب باعتباره مسائلة واستنطاق له ؟ وما دور التجربة الخيالية‬
‫في التأكد من صحة النظريات العلمية ؟‬

‫كلود‬
‫برنار‬

‫على العالم الذي يريد اإلحاطة بمجموع مبادئ المنهج التجريبي أن يستوفي نظامين من الشروط‪ ،‬وأن يتميز‬
‫بخاصيتين فكريتين‪ ،‬تعتبر كلها ضرورية لتحقيق هدفه والتوصل إلى الحقيقة العلمية‪ .‬أوال‪ ،‬على العالم أن تكون‬
‫لديه فكرة يخضعها للفحص في ضوء الواقع‪ ،‬لكنه يكون مطالبا في نفس الوقت بالتأكد من أن الوقائع التي تمثل‬
‫منطلقا لفحص فكرته هي وقائع صحيحة ومنظمة‪ .‬لهذا السبب عليه أن يكون مالحظا ومجربا في نفس الوقت‪.‬‬
‫ثانيا‪ ،‬إن المالحظ يعاين فقط بساطة الظاهرة الماثلة أمامه‪ ،‬فهمه الوحيد هو الحذر من الوقوع في أخطاء‬
‫المالحظة التي قد تؤدي به إلى إدراك غير كامل للظاهرة‪ ،‬أو إلى تعريفها تعريفا خاطئا‪ .‬ولكي تكون معاينة‬
‫الظاهرة معاينة سليمة يستخدم المالحظ كل األدوات التي من شأنها جعل مالحظته للظاهرة مالحظة أكثر‬
‫شمولية‪.‬‬
‫عل المالحظ أن يكون إذن‪ ،‬أثناء معاينته للظواهر بمثابة آلة تصوير تنقل بالضبط ما هو موجود في الطبيعة ‪:‬‬
‫حيث يجب أن يالحظ بدون فكرة مسبقة‪ .‬وعليه أن ينصت إلى الطبيعة‪ ،‬وأن يسجل ما تمليه عليه‪ .‬وبعد معاينة‬
‫الواقعة والمالحظة الجيدة للظواهر‪ ،‬تبرز الفكرة ويتدخل االستدالل العقلي‪ ،‬فيظهر المجرب لتفسير الظاهرة‪ .‬إن‬
‫العالم التجريبي هو الذي يستطيع بفضل تفسير محتمل ومسبق للظواهر المالحظة‪ ،‬أن يؤسس التجربة بحيث‬
‫تسمح بالتحقق من الفرضية (‪ )...‬إن العالم المتكامل هو الذي يجمع بين الفكر النظري والممارسة التجريبية‬
‫عبر الخطوات التالية ‪:‬‬
‫‪ /1‬يعاين واقعة ‪ /2‬ميالد فكرة في ذهنه تبعا للمعاينة ‪ /3‬انطالقا من هذه الفكرة يستدل عليها ويلجأ إلى التجربة‬
‫بعد أن تصورها ذهنيا ‪ /4‬تنتج عن التجربة ظواهر جديدة عليه أن يالحظها وهكذا دواليك ‪.‬‬
‫يشتغل ذهن العالم‪ ،‬إذن‪ ،‬انطالقا من هذه الخطوات‪ ،‬بين مالحظتين‪ ،‬تمثل األولى منطلق االستدالل العلمي‪،‬‬
‫وتمثل الثانية خالصة االستدالل( أي التجربة ) ‪.‬‬
‫كلود برنار‪،‬المدخل لدراسة تطور الطب التجريبي‪،‬فالماريون‪ 1984،‬ص ‪55-51 :‬‬
‫روني توم‬
‫‪5‬‬

‫أعتقد أن واقعة تجريبية ال يمكن أن تكون علمية إال إذا استوفت شرطين هما ‪:‬‬
‫أوال‪ :‬أن تكون قابلة إلعادة الصنع (‪ )...‬في أزمنة وأمكنة أخرى‪...‬‬
‫ثانيا‪ :‬أن تثير اهتماما قد يكون تطبيقيا أو نظريا‪ .‬يستجيب االهتمام التطبيقي لحاجيات‬
‫بشرية‪ ،‬أما االهتمام النظري فإنه يعني أن البحث يدخل ضمن إشكالية علمية قائمة‪...‬‬
‫وفي هذه الحالة‪ ،‬يكون الهدف من التجريب حسب التصور التقليدي هو التحقق من‬
‫صدق أو صحة فرضية ‪.‬‬
‫فمن أين تأتي الفرضية ؟‬
‫الوجود لفرضية بدون وجول شكل من أشكال "النظرية"‪ .‬وتتضمن النظرية دائما‬
‫كيانات خيالية يتم التسليم بوجودها‪ .‬ويتعلق األمر هنا بالعالقات السببية التي تربط‬
‫السبب بالنتيجة‪ .‬وتهدف التجربة إلى إثبات أو تكذيب وجود كيانات نظرية مسلم بها أو‬
‫متواجهة‪ ...‬لقد ذهب المؤسس التاريخي للمنهج التجريبي "فرانسيس بيكون" إلى‬
‫االعتقاد بان استخدام التجريب يتيح وحده التحليل السببي لظاهرة من الظواهر‪ ،‬وهذا‬
‫وهم‪ .‬إن التجريب وحده عاجز عن اكتشاف سبب أو أسباب ظاهرة ما‪ .‬ففي جميع‬
‫األحوال ينبغي إكمال الواقعي بالخيالي‪ .‬هذه القفزة نحو الخيالي هي أساسا عملية ذهنية‪،‬‬
‫أو تجربة ذهنية‪ ،‬وال يمكن ألي جهاز آلي أن يعوضها‪...‬ال يمكن للتجريب‪ ،‬ليكون علميا‬
‫وذا مغزى‪ ،‬أن يستغني عن التفكير‪ ،‬غير أن التفكير عملية صعبة تنفلت من كل رتابة‬
‫ومن كل منهج ‪.‬‬
‫روني توم‪،‬فلسفة العلوم اليوم‪،‬جوتي فيالر‪، 1986،‬باريس‪،‬ص‪10 :‬ـ‪, 12‬‬
‫ر‪ .‬كارناب‬
‫‪6‬‬

‫" إن النظرية غالبا ما تظهر في البداية كنوع من الخيال‪ ،‬ذلك الخيال الذي يأتي للعالم على‬
‫شكل إلهام قبل أن يتمكن من اكتشاف قواعد المطابقة التي تساعده على إثبات نظريته‪.‬‬
‫وعندما قال "ديموقريطس" إن كل شيء يتكون من ذرات‪ ،‬لم يكن لديه بالتأكيد أدنى دليل‬
‫تجريبي على صحة نظريته‪ ،‬ومع ذلك كانت لديه عبقرية فذة‪ ،‬وفراسة عظيمة ‪ .‬ذلك ألنه بعد‬
‫مضي أكثر من ألفي سنة أمكن اثبات ما تخيله‪ .‬ولهذا السبب ال ينبغي أن نتهور ونعارض أي‬
‫خيال توقعي لنظرية ما ‪ ،‬بشرط أن يكون في اإلمكان اختباره في زمن مستقبلي ما ‪.‬والواقع‬
‫أننا نقف على أرض صلبة‪ ،‬ولكن إذا كنا نتوخى الحذر حقيقة‪ ،‬فال يمكن أن تدعى الفرضية‬
‫أنها علمية إال إذا كانت هناك إمكانية الختبارها‪ .‬وليس المطلوب إثباتها حتى تصبح فرضية‪،‬‬
‫وإنما المطلوب أن تكون ثمة قواعد مطابقة تسمح‪ ،‬ولو مبدئيا‪ ،‬بأن تكون لدينا وسائل إلثبات‬
‫أو عدم إثبات نظرية ما ‪.‬‬
‫ردولف كارناب‪،‬األسس الفلسفية للفيزياء‪،‬ترجمة السيد نفاذي‪،‬دار الثقافة الجديدة‪،‬القاهرة‪، 2003،‬ص ‪278‬‬

‫وضعيات تقويمية‬

‫هل اللجوء إلى التجربة هو الذي يضمن علمية النظريات العلمية ؟‬


‫االمتحان الوطني‪ ،‬الدورة العادية ‪ ،2018‬كل مسالك الشعب العلمية والتقنية واألصيلة ‪.‬‬

‫هل يمكن لنظرية ال تؤكدها التجربة أن تكون علمية ؟‬


‫االمتحان الوطني‪ ،‬الدورة العادية ‪ ،2014‬كل مسالك الشعب العلمية والتقنية واألصيلة ‪.‬‬

‫وضح محدودية التجريب المادي عند اشتغال العلماء على موضوعات ووقائع غير قابلة‬
‫للمالحظة المادية (وقائع ميكرو فيزيائية)؟‬
‫المحور الثاني ‪ :‬العقالنية العلمية‬
‫مما ال ريب فيه أن أحد أهم العوامل المسؤولة عن القفزة النوعية التي حققتها المجتمعات الغربية في‬
‫مختلف المجاالت والميادين هو ظهور نمط جديد من العقالنية ‪،‬يعرف بالعقالنية العلمية التي حلت محل ‪7‬‬
‫العقالنية الالهوتية للقرون الوسطى‪ ،‬فما هي الخصائص والمميزات التي اتصفت بها هذه العقالنية ؟ ما‬
‫هي أسسها ومرتكزاتها ؟ هل االنتماء إلى العقالنية العلمية معناه االيمان بأن العقل وحده هو مصدر‬
‫المعرفة‪ ،‬أم التجربة هي ذاك المصدر‪ ،‬أم هما معا ؟ وعند حديثنا عن العقل سنتساءل أي عقل نعني ‪:‬‬
‫عقل يقيني منغلق على ذاته ومطلق ‪،‬أم عقل نسبي منفتح و دائم الرجوع إلى ذاته باستمرار ؟‬

‫محمد‬
‫أركون‬

‫"ينبغي أن نعلم أن العقل في أوربا الغربية قد أخد يقلع حضاريا بدءا من القرن السادس عشر أو‬
‫السابع عشر‪ .‬بدءا من تلك اللحظة راح ينطلق على أسس جديدة غير تلك التي كان يعرفها سابقا‪.‬‬
‫وحينما أعود إلى اسبينوزا وديكارت وأرى ماذا فعال في القرن السابع عشر؟‪...‬أرى أن ما فعاله ال‬
‫يقدر بثمن‪ .‬لقد أعطيا االستقاللية الذاتية للعقل البشري وللذات البشرية بعد أن انتزعاها انتزاعا‬
‫من براثن العقل الالهوتي (للقرون الوسطى)‪ .‬هل تعلم ماذا يعني ذلك‪ ،‬وما هو حجم الثورة‬
‫االنقالبية التي يشكلها في تاريخ الفكر؟‪...‬‬
‫أصبحنا اليوم أمام عقل جديد‪ ،‬أقصد أمام عقالنية جديدة أمنت للغرب تفوقه على جميع شعوب‬
‫األرض‪ .‬هذا الشيء ينبغي أن يقال وأن يوضح لكي نفهم سر تفوق الغرب‪ .‬وهكذا انتقلنا ـ أو قل‬
‫انتقلت أوربا ـ من مرحلة العقل الالهوتي (للقرون الوسطي) إلى مرحلة العقل الحديث الكالسيكي‬
‫وكذلك األمر‪ ،‬فإن أوربا تنتقل اآلن من مرحلة العقل الكالسيكي‪ ،‬المرتكز على اليقينيات المطلقة‪،‬‬
‫إلى مرحلة العقل النسبي أو النقدي الذي يعود إلى نفسه باستمرار من أجل تصحيح مساره أو‬
‫تعديله إذا لزم األمر ‪ .‬وهو ما يدعوه بعضهم اآلن بعقل ما بعد الحداثة‪ ،‬أي عقل أكثر تواضعا‪،‬‬
‫ولكن أكثر دقة وحركية في األن معا‪...‬ولكن هذا العقل الجديد ال يتراجع عن بلورة المعرفة‬
‫وااليمان بإمكانية التقدم‪ .‬وإال فإنه يسقط في هاوية العدمية والضياع ‪...‬الفرق الوحيد بين عقل‬
‫الحداثة‪/‬وعقل ما بعد الحداثة هو أن الثاني وهو يبلور المعارف الجديدة يعرف أنه لن يصل إلى‬
‫الحقيقة المطلقة‪ .‬إنه يصل إلى حقائق نسبية‪ ،‬مؤقتة‪ ،‬قد تدوم طويال أو كثيرا‪ ،‬ولكنها حتما لن‬
‫تدوم أبدا‪ .‬أما سبينوزا وديكارت فكانا يعتقدان بأن العقل يمكن أن يصل إلى حقائق مطلقة ويقينية‬
‫أو نهائية "‪.‬‬
‫محمد أركون‪،‬قضايا في نقد العقل الديني‪،‬ترجمة هاشم صالح‪،‬دار الطليعة بيروت‪، 1998،‬ص ‪316:‬ـ‪. 317‬‬
‫أ ‪ .‬إنشتاين‬
‫‪8‬‬

‫إذا كانت التجربة في بداية معرفتنا للواقع وفي نهايتها فأي دور يتبقى للعقل في العلم؟ إن نسقا‬
‫كامال من الفيزياء النظرية سيتكون من مفاهيم وقوانين أساسية للربط بين تلك المفاهيم‬
‫والنتائج التي تشتق منها بواسطة االستنباط المنطقي وهذه النتائج هي التي يجب أن تتطابق‬
‫‪.‬‬ ‫معها تجاربنا الخاصة‬
‫هكذا نكون قد عينا لكل من العقل والتجربة موقعه ضمن نسق الفيزياء النظرية‪ ،‬فالعقل يمنح‬
‫النسق بنيته‪ ،‬أما معطيات التجربة وعالقاتها المتبادلة فيجب أن تطابق نتائج النظرية‪.‬‬
‫وتستند قيمة مجموع النسق وتبريره على إمكانية ذلك التطابق فقط‪ .‬التطابق بين المفاهيم‬
‫األساسية والقوانين القاعدية‪ ،‬وإال بقيت مجرد ابداعات حرة للعقل البشري دون أ يمبرر قبلي‬
‫‪.‬‬ ‫سواء من طبيعة العقل البشري أو من أية طبيعة كانت‬
‫وتمثل المفاهيم والقوانين األساسية التي ال يمكن الدفع باختزالها المنطقي أكثر‪ ،‬الجزء‬
‫الضروري في النظرية والذي ال يمكن استنباطه عقليا‪ ،‬وال يمكن قط نفي أن الهدف األسمى لكل‬
‫نظرية هو العمل على تبسيط وتقليص عدد تلك العناصر األساسية غير القابلة لالختزال قدر‬
‫االمكان‪ ،‬دون أن يعني ذلك التخلي عن امكانية تمثل ولو معطى واحدا من التجربة تمثال‬
‫مالئما‪...‬إن كان صحيحا أنه ال يمكن استنتاج القاعدة األكسيومية للفيزياء النظرية انطالقا من‬
‫التجربة‪ ،‬إذ يجب أن تكون إبداعا حرا‪ .‬أليس من حقنا أن نأمل العثور على الطريق القويم؟‪...‬‬
‫إنني متيقن أن البناء الرياضي الخالص مكننا من اكتشاف المفاهيم والقوانين التي تحكمها‬
‫والتي تمكننا من مفتاح فهم الظواهر الطبيعية‪ .‬طبعا يمكن للتجربة أن ترشدنا في اختيار‬
‫المفاهيم الرياضية التي سنستعملها إال أنها ال يمكن أن تكون هي المنبع الذي تصدر عنه‪ ،‬وإن‬
‫بقيت حقا معيار المنفعة الوحيد‪ ،‬بالنسبة للفيزياء‪ ،‬على الرغم من الطابع الرياضي لبنائها فإن‬
‫‪.‬‬ ‫المبدأ الخالق الحقيقي يوجد في الرياضيات‬

‫أ‪.‬إنشتاين عن كتاب المنهاج التجريبي وفلسفة الفيزياء‪.‬لروبير بالنشي‪.‬أرمان كوالن‪1969.‬ص‪ 274.‬كتاب الفكر اإلسالمي‬
‫والفلسفة‬
‫ه‪ .‬رايشنبا‬
‫‪9‬‬

‫"إن معطيات المالح ظة هي نق طة بدء ال منهج العل مي‪ ،‬غ ير أن ها ال ت ستنفذ هذا ال منهج‬
‫وإنما يكملها التفسير الرياضي الذي يتجاوز بكثير نطاق إقرار ما لوحظ بالفعل‪ ،‬ثم تطبق‬
‫ع لى التف سير ن تائج ريا ضية تظ هر صراحة ن تائج معي نة تو جد ف يه ب صورة ضمنية‪،‬‬
‫وتخت بر هذه الن تائج ال ضمنية بمالح ظات ‪ .‬هذه المالح ظات هي ال تي ت ترك ل ها مه مة‬
‫اإلجابةةة "بةةنعم" أو "ال"‪ ،‬ويظةةل المةةنهج إلةةى هةةذا الحةةد تجريبيةةا‪ .‬غيةةر أن مةةا تؤكةةد‬
‫المالحظات صحته يزيد كثيرا على تقوله مباشرة‪ .‬فهي تثبت تفسيرا رياضيا م جردا‪ ،‬أي‬
‫تثبةةةةت نظريةةةةة يمكةةةةن اسةةةةتنباط الوقةةةةائع المالحظةةةةة منهةةةةا بطريقةةةةة رياضةةةةية‬
‫والواقع أن المنهج الرياضي هو الذي أكسب الفيزياء الحديثة قدرتها التنبؤ ية‪ .‬وع لى كل‬
‫من يتحدث عن العلم التجريبي أن يذكر أن المالح ظة والتجر بة لم يتمك نا من ب ناء الع لم‬
‫ال حديث إال ألنه ما اقتر نا باال ستنباط الريا ضي ‪ ...‬إن أي عالم لم ي كن لي ستطيع‪ ،‬و لو‬
‫اقتصر على ج مع الو قائع المالح ظة‪ ،‬أن يكت شف قانون الجاذب ية‪ ،‬فاال ستنباط الريا ضي‬
‫مقترنةةةةةةا بالمالحظةةةةةةة هةةةةةةو األداة التةةةةةةي تعلةةةةةةل نجةةةةةةا العلةةةةةةم الحةةةةةةديث "‬

‫هـــانز ريشـــنبا ‪" :‬نشـــاة الفلســـفة العلميـــة"ترجمـــة فـــؤاد زكريـــا‪،‬دار الكاتـــب العربـــي للطباعـــة والنشـــر‪،‬القاهرة‪،1968،‬ص ‪98-97 :‬‬

‫وضعيات تقويمية‬

‫يقول ألكستدر كويري ‪ " :‬تتقدم النظرية على الوقائع‪ ،‬و ال فائدة من اللجوء إلى التجربة ما دام‬
‫ي تجربة‪." .‬‬ ‫العالِم يملك المعرفة التي يبحث عنها حتى قبل أن يُجري أ ّ‬

‫بيِّن (ي)‪ ،‬انطالقا من القولة‪ ،‬مدى إمكانية االستغناء عن التجربة في بناء المعرفة العلمية‪.‬‬
‫االمتحان الوطني‪ ،‬الدورة العادية ‪،2018‬مسلك اآلداب‬
‫معايير علمية النظريات العلمية‪:‬المحور الثالث‬
‫‪10‬‬
‫تعددت األطروحات واختلفت في شأن بناء النظريات العلمية ومدى صالحيتها ومصداقيتها‪،‬‬
‫فاعتبار النظرية تفسير وتنظيم للواقع ‪ ،‬يجعل معيار صدقها وصالحيتها لن يكون شيئا آخر غير‬
‫التحقق التجريبي‪ ،‬كما أن استحالة التحقق بشكل كلي من النظريات يجعل صدقها رهين بمدى‬
‫صمودها أمام التكذيبات التي تطالها‪ ،‬فيكون صدقها رهين بمبدأ القابلية للتكذيب‪ ،‬كما أن اعتبار‬
‫النظريات العلمية بناء عقلي عليها االستجابة لمعايير العقل واالنسجام المنطقي بين المقدمات‬
‫والنتائج‪ ،‬سيجعل من مبدأ التماسك الداخلي المعيار األساسي لصدقها وصالحيتها‪ ،‬أمام هذا‬
‫االختالف في شأن معايير صالحية النظريات نطرح اإلشكال التالي ‪ :‬ما هي معايير ومقاييس‬
‫صدق النظريات العلمية وصالحيتها ؟‬

‫كارل بوبر‬

‫ينبغي أن يكون في إمكاننا أن نعرف معرفة نهائية صدق وخطأ عبارات العلم التجريبي بأكملها‪...‬‬
‫ونحن إذ نؤكد بأنه ينبغي أن يكون في إمكاننا أن نحسم في صدق تلك العبارات أو خطأها حسما‬
‫فإننا نعني بذلك أنها ينبغي أن تصاغ بصورة تمكننا‪ ،‬منطقيا‪ ،‬من أن نتأكد من صحتها بقدر ما‬
‫تمكننا من أن نتأكد من خطأها‪ ...‬و بناءا على ذلك فمن غير المقبول منطقيا‪ ،‬في نظرنا‪ ،‬استنتاج‬
‫نظريات انطالقا من عبارات مفردة "أثبتت التجربة صحتها"‪)...(.‬علينا أن نأخذ بمعيار يمكننا‬
‫من أن نقبل ضمن مجال العلم التجريبي العبارات التي ال يمكننا أن نتأكد من صحتها‪.‬‬
‫وبالرغم من ذلك‪ ،‬فإننا نسلم بأن منظومة ال تكون تجريبية أو علمية‪ ،‬إال إذا كان في إمكانها أن‬
‫تخضع لفحوص تجريبية‪ .‬وفي العبارات ما يومئ إلى أن قابلية التفنيد ال قابلية التحقق‪ ،‬هي التي‬
‫ينبغي أن تؤخذ معيارا للفصل‪ ،‬وبعبارة أخرى‪ ،‬فنحن ال نتطلب من المنظومة العلمية أن تختار‬
‫اختيارا نهائيا وتقبل قبوال نهائيا بمعنى إيجابي‪ ،‬وإنما نشترط في صورتها المنطقية أن تكون‬
‫بحيث تميز‪ ،‬عن طريق فحوص تجريبية‪ ،‬فتقبل قبوال سلبيا‪ ،‬ومعنى ذلك أن المنظومة التي‬
‫تنتمي إلى العلم التجريبي ينبغي أن يكون في إمكان التجربة أن تفندها‪.‬‬

‫كارل بوبر‪،‬المعرفة العلمية‪،‬دفاتر فلسفية‪،‬إعداد وترجمة ‪ :‬محمد سبيال وعبد السالم بنعبدالعالي ط الثالثة ‪ 2009‬ص ‪: 28-29‬‬
‫غ‪ .‬باشالر‬
‫‪11‬‬

‫ال يم كن تأ سيس الع لوم الفيزيائ ية دون ا لدخول في حوار فل سفي بين ال عالم العقال ني وال عالم‬
‫التجريبـــــــي(‪ )...‬وبعبـــــــارة أخـــــــرى يحتـــــــاج عـــــــالم الفيزيـــــــاء ليقـــــــين مـــــــزدوج ‪:‬‬
‫أوال ‪ :‬يقين بوجود الوا قع في قب ضة ما هو عق لي‪ ،‬في كون بذلك م ستحقا ال سم الوا قع العل مي ‪.‬‬
‫ثانيــا ‪ :‬يقــين بــأن الحجــج العقليــة المرتبطــة بالتجربــة هــي مــن صــميم لحظــات هــذه التجرب ـة‪.‬‬
‫وباختصار ال توجد عقالنية فارغة‪ ،‬كما ال توجد اختبارية عمياء‪ .‬هذان ه ما اإللزا مان الفل سفيان‬
‫ال لذان يؤس سان الترك يب ا لدقيق والحث يث ل كل من النظر ية والتجر بة في الفيز ياء المعا صرة ‪.‬‬
‫(‪ )...‬إن هذا اليقين المزدوج ال يم كن أن يتح قق إال في إ طار فل سفة ل ها ن شاطان يمار سان ع بر‬
‫حوار دقيق ووثيق بين العقل والواقع‪ ،‬لدرجة أننا ال نعثر في هذا ال حوار ع لى أ ثر لت لك الثنائ ية‬
‫القديمة بين الفالسفة (العقالنيين والتجريبيين)‪ .‬إذ لم يعد األمر يتعلق بمواجهة بين ع قل م عزول‬
‫وعالم مستقل عن الذات‪ .‬لقد أصبح المطلوب اآلن‪ ،‬أن يتموضع العالم في مركز بح يث ي كون ف يه‬
‫الع قل ال عارف م شروطا بمو ضوع معرف ته‪ ،‬وبح يث ت كون ف يه التجر بة تت حدد ب شكل أدق‪ .‬إن نا‬
‫ن حاول بذلك أن نتمو ضع دا خل هذا المر كز ا لذي تتج لى ف يه عقالن ية مطب قة مع ماد ية مبن ية‪.‬‬

‫غاســتون باشــالر‪،‬العقالنية المطبقة‪،‬المنشــورات الجامعيــة الفرنســية‪ ،1949،‬ص ‪( 9-3 :‬بتصــرف)‬

‫وضعيات تقويمية‬

‫"ال نستطيع أن نقوم بمالحظة تجريبية جيدة ما لم نطرح على أنفسنا أسئلة نظرية بصورة‬
‫مستمرة‪".‬‬
‫أوضح )ي( مضمون هذه القولة و بيِّن )ي( أبعادها‬
‫ةةة االمتحان الوطني‪ ،‬الدورة العادية‪ ،2014‬مسلك اآلداب‬

‫ــــ ما معايير علمية النظريات العلمية ؟‬

‫ـــ وما قيمة تكامل المعيارين العقالني والتجريبي في بناء النظريات العلمية ؟‬

‫ـــ هل يعتبر التحقق التجريبي معيارا وحيدا لصدق النظريات العلمية ؟‬


‫خطاطة عامة لمفهومي النظرية والتجربة‬

‫معايير علمية النظريات العلمية‬

‫العقالنية العلمية‬ ‫معايير وأسس أخرى‬ ‫التجربة والتجريب‬

‫المعيار العقالني‬ ‫المعيار العقالني‪-‬التجريبي‬ ‫المعيار التجريبي‬

‫العقالنية‬ ‫العقالنية‬ ‫اليقين‬ ‫القابلبة‬ ‫التجربة‬ ‫التجربة‬


‫المعاصرة‬ ‫الكالسيكية‬ ‫المزدوج‬ ‫للتكذيب‬ ‫الخيالية‬ ‫المادية‬

‫ألبرت‬ ‫روني‬ ‫روني‬ ‫كلود‬


‫غاستون‬ ‫كارل‬
‫انشتاين‬ ‫ديكارت‬ ‫توم‬ ‫برنار‬
‫باشالر‬ ‫بوبر‬

‫‪12‬‬
‫مفهوم الحقيقة‬
‫‪13‬‬

‫الحقيقة بوصفها‬
‫معايير الحقيقة‬ ‫الرأي والحقيقة‬
‫قيمة‬

‫تمثل الحقيقة الرهان األساسي لكل معرفة بشرية والغاية‬


‫القصوى لكل ممارسة عملية‪ .‬فمن الفلسفة اليونانية‬
‫واإلسالمية وحتى الحديثة هناك دوما نفس الرهان ونفس‬
‫الهاجس‪ ،‬رهان اكتشاف الحقيقة وهاجس قولها وتبليغها‪ .‬لكن‬
‫بالنظر لكل من خاضوا هذا الغمار نجد أن ما كان يعتبره‬
‫بعضهم حقيقة هو ليس بالنسبة لآلخرين سوى وهم وخطأ‪،‬‬
‫إلى حد يمكن القول أن لكل عالم ولكل فيلسوف حقيقته‬
‫الخاصة به‪ ،‬كما لكل إنسان رأيه الخاص به‪ ،‬األمر الذي دفع‬
‫بأحدهم (ديوجين الكلبي) ذات يوم فخرج يحمل مصباحا في‬
‫واضحة النهار قاصدا السوق حيث عامة الناس منشغلون‬
‫بحياتهم اليومية‪ ،‬وهو يردد "أنا أبحث عن الحقيقة" فهل‬
‫نحتاج للبحث عن الحقيقة إلى مصباح في واضحة النهار حيث‬
‫كل شيء واضح وجلي ؟ هذا السؤال يفتح الباب أمام جملة‬
‫من اإلشكاالت الفلسفية العميقة من قبيل ‪ :‬ما الحقيقة ؟أو‬
‫بتعبير أدق ما حقيقة الحقيقة ؟ما معاييرها ؟ما طبيعة العالقة‬
‫القائمة بينها وبين الرأي والمعرفة العامية ؟هل نبحث عن‬
‫الحقيقة لذاتها أم للمنافع التي نجنيها من ورائها ؟‬
‫المحور األول ‪ :‬الرأي والحقيقة‬
‫كي ينجز اإلنسان أفعاله ويدبر حياته نادرا ما يلجأ إلى العلم وإلى ما يقدمه من حقائق‪ ،‬بل غالبا ما‬
‫يكتفي بالرأي‪ ،‬أي بما يمتلكه من أفكار خاصة‪ ،‬وما يكتسبه من معارف شائعة ومتداولة ‪.‬فهل يعني أن ‪14‬‬
‫في تلك اآلراء الخاصة وتلك المعارف المتداولة‪ ،‬هناك حقائق ليست الحقائق العلمية إال امتداد لها؟ فما‬
‫عالقة الحقيقة بالرأي‪ ،‬هل هي عالقة اتصال واستمرارية أم عالقة انفصال وقطيعة؟ هل الرأي‬
‫والحقيقة نوعان مختلفان ومتعارضان من المعرفة أم أنهما درجتان متفاوتتان من نفس النوع ؟ هل‬
‫يمكن للرأي أن يتطور ويصل إلى مستوى الحقيقة أم أنه عائق أمامها؟‬

‫ماكس‬
‫ليبنيز‬
‫بالنك‬

‫إن الرأي القائم على االحتمال قد يستحق اسم‬ ‫" ال فرق في الطبيعة بين االستدالل‬
‫المعرفة‪ ،‬وإال سوف يتم إسقاط كل معرفة تاريخية‬ ‫العلمي واالستدالل العادي اليومي إنما‬
‫وغيرها من المعارف‪ .‬وبدون الدخول في نزاعات‬ ‫الفرق بينهما في درجة النقاء والدقة‪.‬‬
‫لفظية‪ ،‬فأنا أعتقد أن البحث في درجات االحتمال‬ ‫وهذا االختالف شبيه‪ ،‬شيئا ما‬
‫سيكون أكثر أهمية لنا‪ ،‬وهو ما نفتقر إليه‪ ،‬إذ يعتبر‬ ‫‪،‬باالختالف بين المجهر والعين المجردة‪.‬‬
‫بمثابة النقص الذي تشكو منه علوم المنطق لدينا‪.‬‬ ‫وما يوضح حقيقة هذا الحكم ‪ ...‬هو أن‬
‫ذلك أننا عندما ال نستطيع أن نجزم في مسألة ما‬ ‫األمر يتعلق بصورة من صور المنطق‪.‬‬
‫بشكل قطعي‪ ،‬فإنه بإمكاننا أن نحدد درجة االحتمال‬ ‫فالمنطق العلمي ليس في وسعه أن‬
‫انطالقا من المعطيات المتوفرة‪ ،‬ومن ثمة نستطيع‬ ‫يستنبط من مقدمات معطاة‪ ،‬شيئا مغايرا‬
‫أن نحكم بطريقة عقالنية على الجزء األكثر جالء ‪.‬‬ ‫لما يستطيع منطق الحس المشترك‬
‫إن الرأي الخاص بأولئك األشخاص الذين لديهم‬ ‫العادي أن يستنبطه‪ .‬إن التمثل الذي‬
‫وزن و سلطة‪ ،‬هو رأي يقوم على االحتمال‪ ،‬ولكن‬ ‫يقدمه العلم عن العالم ال يختلف في‬
‫ليس كل هذا ما يجعله كذلك‪ .‬لقد كان كوبرنيك وحيدا‬ ‫الطبيعة عن التمثل الذي تقدمه عنه‬
‫في رأيه‪ ،‬وكان ذلك الرأي أكثر احتماال بشكل ال يقبل‬ ‫الحياة اليومية‪ ،‬وإنما يختلف عنه في‬
‫المقارنة مع رأي باقي النوع البشري‪ .‬إال أنني ال‬ ‫رهافة بنيته ودقتها‪ .‬إن نسبة ذلك التمثل‬
‫أعرف ما إذا كان تأسيس فن لتقدير االحتماالت‬ ‫للعالم إلى تمثله السائد في الحياة‬
‫سيكون أكثر جدوى من أغلبية العلوم البرهانية‬ ‫اليومية‪ ،‬هو كنسبة تمثل الراشد للعالم‬
‫عندنا‪ ،‬وهذا ما فكرت فيه أكثر من مرة ‪.‬‬ ‫إلى تمثل الطفل له "‬
‫‪Leibnez ;nouveaux essais sur l’entendement‬‬ ‫ماكس بالنك‪،‬سيرة ذاتية علمية‪،‬ألبان ميشيل‬
‫‪humain ;Flammarion ;p372‬‬ ‫‪. 1960 ،‬ص ‪134-136 :‬‬
‫غاستون‬
‫باشالر‬
‫‪15‬‬

‫يتعارض العلم من حيث حاجته إلى االكتمال ومن حيث المبدأ‪ ،‬تماما مع الرأي‪ .‬وإذا حصل له أن‬
‫منح الشرعية للرأي بصدد نقطة خاصة‪ ،‬فذلك ألسباب غير األسباب التي يتأسس عليها الرأي‪.‬‬
‫‪.‬‬ ‫إن الرأي من الناحية النظرية‪ ،‬دائما على خطأ‪.‬‬
‫والرأي تفكير سيء‪ ،‬بل إن الرأي ال يفكر البتة‪ .‬فهو يترجم الحاجات إلى معارف‪ .‬وبتعيين‬
‫األشياء‪ ،‬حسب فائدتها‪ ،‬يمتنع عن معرفتها‪ .‬ال يمكن تأسيس أي شيء على الرأي‪ ،‬بل ينبغي‬
‫هدمه‪ .‬فالرأي هو أول عائق يلزمنا تخطيه‪ .‬وال يكفي‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬تصحيح الرأي في‬
‫جوانب خاصة واالحتفاظ بمعرفة عامية مؤقتة بوصفها نوعا من األخالق المؤقتة‪.‬‬
‫إن الفكر العلمي يمنعنا من تكوين رأي حول قضايا نفهمها‪ ،‬وحول أسئلة ال نحسن صياغتها‬
‫بوضوح‪ ،‬إذ ينبغي‪ ،‬قبل كل شيء‪ ،‬أن نعرف جيدا كيف نطرح المشاكل‪ .‬ومهما قيل‪ ،‬داخل الحياة‬
‫‪.‬‬ ‫العلمية‪ ،‬فإن المشاكل ال تطرح تلقائيا‪.‬‬
‫إن معنى المشكلة بالضبط هو ما يمنح العالمة الدالة عل التفكير العلمي الصحيح‪ .‬وبالنسبة للفكر‬
‫العلمي تعتبر كل معرفة جوابا عن سؤال‪ ،‬وإن لم يكن ثمة سؤال‪ ،‬فمن غير الممكن قيام أية‬
‫‪.‬‬ ‫"معرفة علمية"‪ .‬ال شيء يحدث تلقائيا‪ ،‬ال شيء يعطى‪ ،‬كل شيء يبنى ‪.‬‬

‫غاستون باشالر‪ ،‬تكوين الفكر العلمي‪ ،‬فران‪،1970‬ص‪. 239-240 :‬‬

‫وضعية تقويمية‬

‫لما االعتراض على الرأي باسم الحقيقة ؟‬


‫االمتحان الوطني‪ ،‬الدورة العادلة ‪،2013‬مسلك العلوم اإلنسانية‬

‫هل يرقى الرأي إلى مستوى الحقيقة؟‬


‫االمتحان الوطني‪ ،‬الدورة العادلة ‪،2016‬مسلك اآلداب‬

‫هل الحقيقة إقصاء للرأي؟‬


‫االمتحان الوطني‪ ،‬الدورة العادلة ‪،2018‬مسلك العلوم اإلنسانية‬
‫المحور الثاني ‪ :‬معايير الحقيقة‬
‫فنفس السفينة تبدو من بعيد صغيرة وساكنة‪ ،‬ومن قريب تبدو كبيرة ومتحركة‪ ،‬ونفس ‪16‬‬
‫البرج يبدو مستديرا من بعيد ومربعا من قريب‪ .‬هذا فيما يتعلق بالمسافات‪ ،‬أما فيما‬
‫يتعلق باألماكن‪ ،‬فإن ضوء المصبا يبدو مظلما في الشمس والمعا في الظلمة‪ ،‬ونفس‬
‫المجداف يبدو في الماء منكسرا وخارج الماء مستقيما‪ .‬وفيما يتعلق باألوضاع‪ :‬نفس‬
‫الصورة مقلوبة إلى الخلف تبدو مستوية‪ ،‬وإذا انحنت قليال تبدو فيها نتوءات وتجاذيف‪.‬‬
‫ورقبة الحمامة تظهر ألوانا مختلفة حسب درجة انحناء الرقبة‪ .‬وما دمنا نشهد كل ألوان‬
‫المظاهر بحسب المسافات‪ ،‬فإن كل وضع يأتي بتغير في اإلدراك فإننا مضطرون إلى‬
‫تعليق الحكم ‪.‬‬
‫سيكتوس أمبيريكوس‪،‬األعمال الكاملة‪،‬عن بدوي‪،‬مدخل جديد إلى الفلسفة‪.‬الكويت‪،‬دفاتر فلسفية(الحقيقة)ص ‪43-44‬‬

‫ر ‪ .‬ديكارت‬

‫سنقوم هنا بتعداد جميع األفعال العقلية التي نتمكن بواسطتها من الوصول إلى حقيقة األشياء‬
‫دون خشية من الوقوع في الخطأ ‪،‬وهما اثنان فقط ‪ :‬الحدس واالستنباط ‪.‬‬
‫فالحدس هو التصور الصارم لذهن خالص ويقظ ‪،‬يصدر عن نور العقل وحده ‪ .‬وهو لبساطته‬
‫يكون خالصا أكثر من االستنباط ذاته (‪ )...‬هكذا يمكن لكل واحد أن يبصر بالحدس أنه موجود‪ ،‬و‬
‫أنه يفكر‪ ،‬وأن المثلث يعرف بثالثة أضالع فقط‪ ،‬وأشياء من هذا القبيل‪ ،‬وهي أكثر عددا مما‬
‫يعتقد غالبية الناس‪ ،‬لكونهم يتأففون من توجيه ذهنهم نحو األمور البسيطة جدا (‪. )...‬‬
‫لقد تمكنا سلفا من التساؤل‪ ،‬لماذا أضفنا إلى الحدس نمطا آخر للمعرفة يتم عن طريق عملية‬
‫االستنباط‪ ،‬ونقصد بها كل ما يتم استنتاجه بالضرورة من أشياء أخرى‪ ،‬معلومة من قبل بنوع‬
‫من اليقين‪ ،‬وبهذه الكيفية نعلم أن آخر حلقة من السلسلة الطويلة ترتبط بالحلقة األولى‪...‬‬
‫بالتتابع ‪.‬‬
‫وتبعا لما سلف يمكن القول أننا نتمكن من الوصول حينا بالحدس وحينا باالستنباط‬
‫رونيه ديكارت‪،‬قواعد لقيادة العقل ‪،‬القاعدة الثالثة‪،‬غارنيي ‪،‬باريس‪، 1963،‬ص ‪88:‬ـ ‪(87‬بتصرف) ‪.‬‬
‫اسبينوزا‬ ‫ليبنيز‬

‫‪17‬‬
‫هل الحقيقة معيار ذاتها ؟‬ ‫"يُطرح سؤال حول ما إذا كانت جميع الحقائق‬
‫فمن يملك فكرة صادقة يعرف في‬ ‫تعتمد على التجربة الحسية أي على االستقراء‬
‫الوقت نفسه أن له فكرة صادقة وال‬ ‫واألمثلة أم أن بعضها له أساس آخر‪ ،‬ألنه إذا كنا‬
‫يمكنه أن يشك في حقيقة‬ ‫نستطيع التنبؤ بوقوع بعض األحداث من غير‬
‫معرفته(‪)...‬ذلك أن كل من يملك فكرة‬ ‫اختبار سابق عليها‪ ،‬فمن الواضح أن عقلنا يساهم‬
‫صادقة ال يجهل أن الفكرة الصادقة‬ ‫بشيء من عنده في هذا األمر‪ .‬إن الحواس‪ ،‬رغم‬
‫تتضمن أعلى يقين‪ .‬فأن تكون لدينا‬ ‫أنها الزمة لمعرفتنا الحالية‪ ،‬فإنها ليست كافية‬
‫فكرة صادقة‪ ،‬ال يعني سوى معرفة‬ ‫لتعطينا جميع المعارف بما أنها ال تقدم لنا أبدا‬
‫شيء معرفة كاملة أو أحسن ما يمكن‪.‬‬ ‫سوى أمثلة أي حقائق خاصة أو فردية‪ .‬والحال أن‬
‫وأنا أتساءل‪ :‬من يستطيع أن يعلم أنه‬
‫جميع األمثلة التي تؤكد حقيقة عامة‪ ،‬أيا كان‬
‫يعرف شيئا ما‪ ،‬إذا لم يعرف مسبقا‬
‫عددها‪ ،‬ال تكون كافية إلثبات الضرورة الكونية‬
‫ذلك الشيء؟ أي من يستطيع أن يعرف‬
‫لهذه الحقيقة نفسها‪ ،‬ذلك أن ال شيء يضمن لنا أن‬
‫أنه متأكد من شيء إذا لم يكن على‬
‫يقين من هذا الشيء مسبقا ؟ ومن‬ ‫ما قد حدث سيحدث دائما وبنفس الطريقة‪ .‬فقد‬
‫جهة أخرى هل هناك معيار للحقيقة‬ ‫الحظ اليونان والرومان وغيرهم من شعوب العالم‬
‫أكثر وضوحا وتأكدا من الفكرة‬ ‫القديم أنه‪ ،‬دائما‪ ،‬قبل متم أربع وعشرين ساعة‬
‫الصادقة؟ ومن األكيد أنه مثلما يعرف‬ ‫ينقلب النهار إلى ليل والليل إلى نهار‪ .‬ولكن من‬
‫النور بذاته ويعرف بالظالم‪ ،‬كذلك‬ ‫تصح في كل‬ ‫ِ‬ ‫الخطأ االعتقاد أن هذه القاعدة‬
‫الحقيقة هي معيار ذاتها ومعيار الكذب ‪.‬‬ ‫األماكن‪ ،‬فقد تأكد أن األمر على خالف ذلك في‬
‫القطب الشمالي مثال(‪ )...‬من هنا يظهر أن الحقائق‬
‫بارو اسبينوزا‪،‬األخالق‪،‬كارنيي فالماريون‪،‬ص ‪:‬‬ ‫الضرورية يجب أن تقوم على مبادئ ال تكون‬
‫‪ ( 117-118‬الفكر اإلسالمي والفلسفة )‬
‫براهينها متوقفة على األمثلة وال على شهادة‬
‫الحواس‪ ،‬وذلك على الرغم من أنه لوال الحواس ما‬
‫كان لنا أن نُفكر في تلك الحقائق ‪.‬‬
‫‪Leibniz: Nouveaux essais sur l’entendement‬‬
‫وضعية تقويمية‬ ‫‪humain, Ed. Flammarion, p 95/96(2013‬‬

‫"ال حاجة لنا إلى معيار آخر لتمييز الحقيقة سوى الوضوح الذاتي الذي يطبعها"‬
‫بين ما إذا كان الوضوح الذاتي معيارا كافيا للحقيقة‬
‫االمتحان الوطني‪ ،‬الدورة العادية‪،2017‬مسلك اآلداب‬

‫"الحقيقة هي تطابق الفكر مع الواقع‪ ،‬فمعرفة التطابق تعني معرفة الحقيقة"‬


‫بين مدى إمكانية االكتفاء بالتطابق مع الواقع معيارا للحقيقة‬
‫االمتحان الوطني‪ ،‬الدورة العادية‪،2019‬مسلك العلوم اإلنسانية‬
‫المحور الثالث ‪ :‬الحقيقة بوصفها قيمة‬
‫عادة ما يجد الواحد منا نفسه مدفوعا لمعرفة الحقيقة‪ ،‬فأي حادث نصادفه‪ ،‬وأية واقعة نسمع‬
‫عنها ال يطمئن لنا بال وال تهدأ لنا نفس إال بعد أن نعرف حقيقتها‪ ،‬فما الذي يجعل الحقيقة غاية ‪18‬‬
‫في حياتنا‪ ،‬وهاجسا من هواجس وجودنا ؟ه ل نريد الحقيقة من أجل الحقيقة‪ ،‬من أجل إشباع‬
‫غريزة شريفة فينا يمكن تسميتها بغريزة الحقيقة‪ ،‬أم أننا نريد الحقيقة ألنها تمثل أحد الوسائل‬
‫األكثر نجاعة وفاعلية في ضمان استمرار الوجود وإشباع غريزة البقاء ؟هل الحقيقة غاية في‬
‫ذاتها أن أنها مجرد وسيلة من أجل تحقيق غايات معينة مثل الربح والثروة والتفوق والسيطرة؟‬
‫ما الذي يمنح للحقيقة سموها وشرفها ويجعل منها قيمة ‪:‬هل شرف وغريزة حب الحقيقة‬
‫واقترانها بملكة العقل‪ ،‬أم عمق غريزة حب البقاء وما يقترن بها من حاجات ومنافع ليست‬
‫الحقيقة سوى أحد األدوات األكثر نجاة إلشباعها وتحقيقها ؟‬

‫إمانويل‬
‫كانط‬

‫يذكر كانط في سياق رده‪ ،‬بأن الفيلسوف الفرنسي بنيامين كونستان كان قد كتب ما‬
‫يلي ‪:‬‬
‫"إن المبدأ األخالقي المتمثل في أن قول الحقيقة أمر واجب أخالقيا‪ ،‬إذا ما نظر إليه‬
‫بصورة مطلقة‪ ،‬وبعيدا عن أية اعتبارات تتعلق بسياقات تطبيقيه‪ ،‬فإنه سيجعل قيام‬
‫مجتمع أمرا مستحيال‪ .‬لذلك فإن الكذب على مجرمين يسألونك عما إذا كان صديقنا‬
‫الذي يطاردونه موجودا لدينا في البيت‪ ،‬ليس جريمة"‬
‫فرد كانط "إن من يكذب‪ ،‬مهما كانت نيته ومقاصده‪ ،‬يتعين أن يتحمل ويتقبل نتائج‬
‫وتبعات كذبه (‪ )...‬وأن يؤدي ثمن موقفه‪ ،‬كيفما كانت النتائج والتبعات غير المتوقعة‪.‬‬
‫وذلك ألن قول الحقيقة واجب يتعين اعتباره بمثابة أساس وقاعدة لكل الواجبات التي‬
‫يتعين تأسيسها وإقامتها على عقد قانوني‪ ،‬والن القانون‪ ،‬إذا ما تسامحنا فيه ولو‬
‫بأقل استثناء ممكن‪ ،‬فإنه سيصبح قانونا متذبذبا ومبتذال"‪.‬‬

‫‪(E.Kant ;sir un pretendu driot de mentir ;Trad.fr.Paris.ed.La plieade ;pp437-438‬بتصرف)‬


‫ميشال‬ ‫وليام‬
‫فوكو‬ ‫جيمس‬
‫‪19‬‬

‫المهم ‪،‬على ما أعتقد‪ ،‬هو أن الحقيقة ليست‬ ‫ماذا ينبغي لنا أن نفهم من كون‬
‫خارج السلطة وليست بدون سلطة‪ .‬إن الحقيقة‬ ‫الحقيقة‪ ،‬حسب مقتضى تعريفها‬
‫هي من هذا العالم‪ ،‬فهي ناتجة فيه بفضل عدة‬
‫إكراهات‪ .‬وهي تمتلك فيه عدة تأثيرات منتظمة‬
‫الشائع ‪ ،‬هي مطابقة الواقع ؟ مطابقة‬
‫مرتبطة بالسلطة‪ .‬لكل مجتمع نظامه الخاص‬ ‫واقع ما‪ ،‬بالمعنى األوسع لكلمة‬
‫المتعلق بالحقيقة‪ ،‬و" سياسته العامة" حول‬ ‫مطابقة ‪ ،‬ال يمكن أن تكون غير أحد‬
‫الحقيقة ‪ :‬أي أنماط الخطاب التي يقبلها هذا‬ ‫أمرين ‪ :‬إما االتجاه رأسا إلى هذا‬
‫المجتمع ويدفعها إلى تأدية وظيفتها كخطابات‬ ‫الواقع أو إلى محيطه القريب ‪ ،‬وإما‬
‫صحيحة‪ ،‬لكل مجتمع اآلليات والهيئات التي‬
‫االتصال الفعلي والفعال به‪ ،‬على نحو‬
‫تمكنه من التمييز بين المنطوقات الصحيحة‬
‫والخاطئة‪ ،‬والطريقة التي نتبين بها هاته من‬ ‫يتيح التأثير فيه مباشرة أو عبر‬
‫تلك‪ ،‬وكذا التقنيات واإلجراءات المشار إليها‬ ‫واسطة‪ .‬وأضيف بأن األمر يتعلق‬
‫من أجل التوصل إلى الحقية‪ ،‬وكذا مكانة أولئك‬ ‫بالتأثير في مجال الفكر وفى مجال‬
‫الذين توكل إليهم مهمة تحديد ما يمكن اعتباره‬ ‫العمل على حد سواء‪ .‬علي‪ ،‬أوال‪ ،‬أن‬
‫‪.‬‬ ‫حقيقيا‬ ‫أذكركم بأن امتالك أفكار صحيحة‬
‫إن" االقتصاد السياسي" للحقيقة‪ ،‬في‬
‫مجتمعات كمجتمعنا يتميز بخمس سمات مهمة‬ ‫يعني‪ ،‬على وجه الدقة‪ ،‬امتالك أدوات‬
‫تاريخيا ‪ :‬ف"الحقيقة" متمركزة على شكل‬ ‫ثمينة للعمل‪ .‬كما أن علي أن أذكركم‬
‫الخطاب العلمي وعلى المؤسسات التي تنجه‪،‬‬ ‫أيضا بأن وجوب اكتساب هذه‬
‫فهي خاضعة لنوع من التحريض االقتصادي‬ ‫الحقائق‪ ،‬بدال من أن يكون صيغة أمر‬
‫والسياسي الدائم‪ .‬فالحقيقة هي موضوع نشر‬ ‫جوفاء توجه إلينا فجأة ال ندري من‬
‫واستهالك ( تتداول في أجهزة التربية واإلعالم)‬
‫والحقيقة يتم إنتاجها ونقلها تحت المراقبة ال‬
‫أين‪ ،‬فإنه‪ ،‬على عكس ذلك‪ ،‬يستمد‬
‫الخاصة بل المهيمنة لبعض األجهزة السياسية‬ ‫مبرره من دواع عملية ممتازة‬
‫أو االقتصادية الكبرى ( الجامعة‪،‬الجيش‪،‬وسائل‬ ‫وأختصر كل هذا قائال ‪ :‬يقوم الحقيقي‬
‫االتصال الجماهيرية) وأخيرا فهي مدار كل‬ ‫بكل بساطة في ما هو مفيد لفكرنا‬
‫نقاش سياسي وكل صراع اجتماعي(صراعات‬ ‫و الصائب في ما هو مفيد لسلوكنا ‪.‬‬
‫‪.‬‬ ‫أيديولوجية)‬ ‫‪William James, le pragmatisme‬‬
‫ميشال فوكو‪،‬دفاتر فلسفية ‪،‬نصوص مختارة‪،‬الحقيقة‪،‬إعداد ‪:‬‬ ‫‪trad.E.burn flammarion, 1968 p 158‬‬
‫محمد سبيال و عبد السالم بنعبد العالي الطبعة الثانية ‪ 2005‬ص ‪:‬‬
‫‪116‬‬
‫ف ‪ .‬نيتشه‬
‫‪20‬‬

‫من أين يمكن أن تأتي غريزة الحقيقة في هذا العالم ؟‬


‫بقدر ما يعمل الفرد على حفظ بقائه اتجاه اآلخرين‪ ،‬بقدر ما يميل غالبا إلى استخدام العقل في‬
‫الظروف العادية من أجل الكتمان‪ .‬غير أن رغبة اإلنسان في أن يعيش مع اآلخرين داخل المجتمع‪،‬‬
‫تدفعه إلى مسالمة الغير‪...‬ويصاحب حالة المسالمة هذه ما يشبه الخطوة األولى نحو اكتساب‬
‫غريزة الحقيقة الغامضة‪ ،‬أي أن استتباب السلم يتم معه تثبيت وإقرار ما ينبغي أن يكون " حقيقة‬
‫إن اإلنسان ال يبتغي الحقيقة سوى في معناها الضيق ‪ :‬إنه يطمع في العواقب الحميدة والممتعة‬
‫للحقيقة‪ ،‬أي تلك التي تحفظ الحياة‪ ,‬أما المعرفة الخالصة وغير المثيرة فهو ال يكترث بها‪ ،‬بل إنه‬
‫مستعد لمعاداة الحقائق المؤذية والهدامة‪...‬فما الحقيقة إذن ؟ إنها حشد متحرك من االستعارات‬
‫والكنايات والتشبيهات‪ ،‬وهي باختصار جملة من العالقات البشرية التي تم تحويرها وتجميلها‬
‫شعريا وبالغيا‪ ،‬حتى غدت – بعد طول استعمال – تبدو لشعب من الشعوب دقيقة ومشروعة وذات‬
‫سلطة قسرية‪ .‬إال أن الحقائق هي أوهام نسينا أنها كذلك‪ ،‬واستعارات فقدت – من فرط االستعمال‬
‫– قوتها ‪.‬‬
‫‪ ...‬إن كل ما هو طيب وخير وكل ما هو جميل مصدره الوهم‪ .‬إن الحقيقة تقتل‪ ،‬بل أكثر من ذلك‪،‬‬
‫إنها تقتل نفسها عندما تكتشف أن أساسها هو الخطأ‬
‫‪Nietzsche ;le livre du philosophe ;tra ;A ;Kremer-Matietti ;éd ;Flammarion 1969 :pp 175 et suite‬‬

‫وضعية تقويمية‬

‫"ما كل حقيقة تصلح ألن نجهر بها‪ .‬وال ينبغي أن نجيب عن كل األسئلة‪ ،‬أو على األقل ال نقول كل‬
‫شيء ألي كان‪ .‬ثمة حقائق ينبغي أن نعالجها بضروب من الحذر الشديد‪ ،‬بواسطة كل ألوان‬
‫الكنايات والتوريات‪ .‬بحيث ال يقع الفكر عليها إال بعد أن يحوم راسما دوائر كبرى وكأنه يطير(‪) ...‬‬
‫فليس من الممكن الجهر بحقيقة كل شيء‪ ،‬وفي جميع األوقات‪ ،‬وبكل الحقيقة(‪)...‬إذ يستلزم التلفظ‬
‫بالحقيقة أن يكون بالتدريج‪ ،‬فنجربها وكأنها إكسير قوي‪ ،‬قد يكون قاتال‪ ،‬بأن نزيد في الجرعة كل‬
‫يوم حتى نمكن الفكر من التعود "‪.‬‬
‫فالدمير جانكلفتش‪،‬السخرية‪،‬غارنيي فالمريون‪ ،1964،‬ص‪51 :‬‬

‫انطالقا من النص ‪ :‬هل فعال كل تصريح أو بو بالحقيقة يستلزم بالضرورة وعيا بالشروط‬
‫الموضوعية المحيطة ؟‬
‫خطاطة مفهوم الحقيقة‬

‫‪21‬‬ ‫الرأي والحقيقة‬

‫الحقيقة العقالنية‬ ‫الرأي‬ ‫الرأي إحتمال‬


‫الرأي أساس‬
‫تتأسس على القطع‬ ‫عائق‬ ‫واالحتمال قد يفيد‬
‫مع الحواس‬ ‫للحقيقة‬ ‫الحقيقة كذلك‬ ‫الحقيقة‬

‫معايير الحقيقة‬

‫الحقيقة معيار‬ ‫المعيار‬ ‫المعيار‬ ‫المعيار‬


‫ذاتها‬ ‫النفعي‬ ‫التجريبي‬ ‫العقالني‬

‫الحقيقة بوصفها قيمة‬

‫توظف للسلطة‬ ‫الحقيقة‬ ‫الحقيقة فضيلة‬


‫الحقيقة غاية‬
‫والمنفعة والبقاء‬ ‫وسيلة‬ ‫أخالقية(كانط)‬

You might also like