Download as doc, pdf, or txt
Download as doc, pdf, or txt
You are on page 1of 3

‫افتتاحية‬ ‫العدد‬ ‫مجلة المظاهر‬

‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬ ‫افتتاحية العدد‬

‫الدين والتطرف‬

‫د‪.‬شاكر فُّر خ الندوي‬


‫إن العصر الذي نعيشه عصر مأساة إنسانية وعصر غلو وتط رف‪ ،‬يعيش‬
‫فيه اإلنسان حياة غريبة‪ ،‬يميل إلى فكرة معينة ويقوم بترويجها بكل م ا يملك ه من‬
‫وسائل‪ ،‬وهناك أمور كثيرة ت دع اإلنس ان مش دوًها متح يًرا ال ي دري م اذا يفع ل؟‬
‫ولكن هناك نكتة مثيرة لالهتمام في ه ذه الحي اة الحديث ة أن كلم ة التط رف‪ -‬ال تي‬
‫تأتي بمعنى إتيان منتهى الشيء والوصول إلى طرف ه‪ ،‬وبمع نى مج اوزة التوس ط‬
‫واالعتدال في األمر‪ -‬قد تم ربطها بالدين والحياة الدينية والمشاعر الدينية‪ ،‬فحينما‬
‫ُتستخدم ه ذه الكلم ة في الح وار أو اإلعالم المعاص ر أو َتبحث عن م دلولها على‬
‫اإلنترنت فستجد أن الكلمة اس ُتخدمت للتط رف ال ديني وخاص ة للمس لمين ال ذين‬
‫يمارسون اإلسالم ويمتثلون أوامره بتوسك واعت دال‪ ،‬وال ريب في ذل ك أن هن اك‬
‫بعض المسلمين يوج د ل ديهم الغل و في فك رة‪ ،‬أو م ذهب‪ ،‬فهم يج اوزون الح دود‬
‫ويجانبون التوسط ‪ .‬ولكن اليعني ذلك أن كل من يعمل باإلسالم ويقوم بالدعوة إليه‬
‫ويتحدث عن الدين يكون متطرًفا‪.‬‬
‫ونرى في حياتن ا اليومي ة أن الرج ل يك د ويجته د لج ني الم ال واكتس اب‬
‫المن افع واألرب اح‪ ،‬وفي معظم األحي ان يح اول أن يغلب على التج ار اآلخ رين‬
‫ويكسب أرباًحا كبيرة‪ ،‬فيخطط للغلبة عليهم‪ ،‬حتى في بعض األحي ان يك ون س بًبا‬
‫إلزعاجهم‪ ،‬ومع ذلك ال تجد أحدًا يطلق علي ه لقب متط رف؛ ب ل على العكس من‬
‫ذلك‪ ،‬سيوصف برجل أعمال ناجح ورجل أعمال مث الي وت اجر ل ه فطن ة وذك اء‬
‫وما إلى ذلك من الكلمات التي ت وحي بالم دح واإلط راء‪ ،‬وهك ذا نج د العب ًا مثال‬
‫فإنه يكرس حياته بأكملها للعب ة م ا‪ .‬فال يق وم وال يقع د إال وه و يتح دث عن تل ك‬
‫اللعبة وعن مبادئه ا وعن نجومه ا الب ارزين‪ ،‬وال يطل ق علي ه أح د بأن ه ش خص‬
‫متطرف‪ ،‬بل نجد الشعب يطلق علي ه بأن ه العب مث الي وبط ل األم ة‪ .‬وع ارض‬
‫أزياء وممثل‪ ،‬فإنه يكرس حيات ه كله ا للفن وخدمت ه‪ ،‬ومن خالل أفك اره وأعمال ه‬
‫الفنية يجذب أبناء األمة إلى فنه ذلك؛ لكن ال يلقب بالمتطرف‪.‬‬
‫منجذبا للدين ويفرض ال دين على حيات ه كله ا؛ حيث‬ ‫ً‬ ‫ولكن إذا كان الرجل‬
‫يمتثل أوامره في حيات ه الفردي ة والجماعي ة‪ ،‬ويتح دث عن مزاي اه أم ام مجتمع ه‬
‫الذي يعيش فيه بنية اإلصالح‪ ،‬فمن المؤكد أن األمر لن يستغرق وقتًا طويًال حتى‬

‫ابعة‬ ‫نة الس‬ ‫الس‬ ‫‪3‬‬

‫العدد السادس‬
‫افتتاحية‬ ‫العدد‬ ‫مجلة المظاهر‬

‫يحصل على سمعة المتطرف‪ ،‬ويتحدث عنه الناس بالغلو والتطرف‪ ،‬ويرونه عيًبا‬
‫فيه‪.‬‬
‫ويق ول بعض الن اس‪ :‬إن المش كلة ليس ت في األفك ار وأنم اط الحي اة‬
‫والمشاعر؛ بل المشكلة تأتي من إصراره على األفكار وأساليب الحياة والمش اعر‬
‫وفرض ها على اآلخ رين‪ .‬ويص ر أص حاب ه ذا الموق ف على أن المت دينين ال‬
‫يصرون فقط على طريقتهم الخاص ة في الش عور والعيش؛ ب ل يفرض ونها أيًض ا‬
‫على اآلخرين‪ .‬هذا هو التطرف وهذا أمر مرفوض‪ .‬وال ريب في ذلك فإن العدي د‬
‫من المتدينين هم من هذا القبيل‪ ،‬لكن المشكلة هي أن المت دينين ليس وا وح دهم من‬
‫يتبنون هذا السلوك؛ بل نجد هناك رج اال آخ رين يس لكون ه ذا الطري ق‪ ،‬فه ؤالء‬
‫الذين يسمون بالليبراليين ال يتخلفون عن المتدينين في هذا المج ال‪ ،‬ون رى حولن ا‬
‫أن الرج ال ال ذين يع دون ق دوة في أيامن ا ه ذه ال نج د فيهم رج ال دين؛ ب ل نج د‬
‫الشخصيات الشعبية األخرى قدوة للناس أجمعين‪ .‬فهناك رياض يون‪ ،‬وراقص ون‪،‬‬
‫ومغنون‪ ،‬ونجوم أفالم‪ ،‬ورجال أعم ال‪ ،‬وص ناعيون‪ ،‬وب يروقراطيون‪ ،‬وزعم اء‬
‫سياس يون يع دهم الن اس ق دوة لهم في حي اتهم‪ ،‬يتبع ونهم وينظ رون إليهم نظ رة‬
‫إعجاب‪ ،‬ويحرصون أشد الحرص على أن يعيش وا مثلهم‪ ،‬وهم ال ذين يس يطرون‬
‫على وس ائل اإلعالم‪ ،‬يتح دث اإلعالم عنهم ص باح مس اء ولي ل نه ار‪ ،‬ويجعلهم‬
‫أسوة للناس في حياتهم‪ .‬ويحاول أن يفرض معاييرهم على اآلخرين‪.‬‬
‫وفي هذا الصدد‪ ،‬قد يكون من المفي د إلق اء نظ رة على الس يناريو ال دولي‪،‬‬
‫فإن العالم الغربي يقف حاليًا رمزًا لليبرالية والحرية والتح رر‪ ،‬وم ا يج ري ع بر‬
‫اإلعالم من الحوارات ضد التطرف الديني إنما تأتي من الغرب الحديث‪ ،‬والغرب‬
‫نفس ه يعلن أن القيم ال تي يتخ ذها إنم ا هي قيم مثالي ة‪ ،‬والمجتم ع الغ ربي مجتم ع‬
‫مثالي‪ ،‬ومن هذا المنطلق يطالب العالم كله بقبول هذه القيم‪ ،‬ويرى أنه اليمكن بناء‬
‫مجتمع متحضر إال على أساس هذه القيم‪ ،‬هذا ه و موق ف الغرب يين من ه ذه القيم‬
‫التي تبنوها‪ .‬والعالم الغربي يصر على هذا الموق ف ويح اول ف رض ه ذه القيم –‬
‫ال تي يراه ا مثالي ة في زعم ه ‪ -‬على الع الم أجم ع من خالل الغ زو اإلعالمي‬
‫والثقافي والسياسات المختلفة‪ .‬وهذا تطرف غير مسبوق في ت اريخ البش رية‪ .‬لكن‬
‫رغم ذلك فإن الغرب ليس متطرفًا وال يتس مه الن اس ب الغلو والتط رف؛ ب ل على‬
‫العكس من ذلك يراه الناس رمزًا للتسامح والرفق والعقلي ة المتوازن ة‪ .‬وهن ا ينش أ‬
‫السؤال‪ ،‬لماذا هذا الفرق الهائل بين المنتمين إلى اإلس الم‪ ،‬وبين ه ؤالء المفك رين‬
‫الغربيين‪ ،‬وبين تعاليم اإلسالم والقيم الغربية الالدينية؟‬
‫وحين يربط الغرب الحديث بين التطرف وال دين‪ ،‬فه و في الواق ع يتح دث‬
‫عن تلك الأسباب التي أدت إلى فصل الكنيسة عن الدول ة‪ .‬ومن ل ه إلم ام بالت اريخ‬
‫يدرك أن الص راع بين الكنيس ة والش عب ك ان قائًم ا في الغ رب ح تى ق ام بعض‬
‫المفكرين الغربيين وفصلوا الكنيسة عن الدولة‪ ،‬وووجهوا الشعب إلى أن الكنيس ة‬
‫ابعة‬ ‫نة الس‬ ‫الس‬ ‫‪4‬‬

‫العدد السادس‬
‫افتتاحية‬ ‫العدد‬ ‫مجلة المظاهر‬

‫ال تستطيع أن تحل مشاكلهم التي تحدث وتتجدد في العصر المتطور الح ديث‪ ،‬أي‬
‫أن الكنيسة أو الديانة المسيحية ال تواكب الزمن المعاصر ومقتضياته‪ ،‬ف إذا أردن ا‬
‫أن نتط ور ون واكب العص ر فيجب علين ا أن ن ترك ال دين وتعاليم ه ونتخلى عن‬
‫الكنيس ة وطقوس ها‪ ،‬وه ذه الفك رة عن الديان ة وعن الكنيس ة ق د س يطرت على‬
‫نفوسهم وعق ولهم ح تى أص بحوا ي رون أن ك ل دين توج د في ه المش اكل نفس ها‪،‬‬
‫فعمموا تج ربتهم ه ذه وطبقوه ا على ك ل دين‪ .‬وه ذا م رض نفس ي وت اريخي ال‬
‫عالج له‪ .‬فقيامهم ضد الكنيسة كان رد فع ل على طغي ان الكنيس ة‪ ،‬وم ا يق ال‪ :‬إن‬
‫طغيان الكنيسة كان فظيًعا حًقا ومهّد الطريق للتمرد على نفسها‪ .‬وكان اضطهادها‬
‫أمًرا س يًئا للغاي ة‪ ،‬ربم ا يك ون ه ذا الكالم حًق ا‪ ،‬لكن م ا ن راه الي وم من االعت داء‬
‫والطغيان ‪-‬الذي أتى كرّد فعل العتداء الكنيس ة باس م القيم المثالي ة وفرض ها على‬
‫الشعوب العالمية التي تنتمي إلى ديانات مختلفة‪ -‬أشد خطًرا من اضطهاد الكنيس ة‬
‫واعتدائها‪ ،‬فلم تكن تملك الكنيسة الفقيرة الوسائل الحديث ة والم وارد والج و العقلي‬
‫المتاح للغرب الحديث‪.‬‬
‫ومن الواضح أن المشكلة الحقيقي ة هي الظلم واالعت داء والقم ع‪ ،‬والغ رب‬
‫الحديث يخترع أساليب جديدة للظلم واالعت داء والقم ع‪ ،‬فإن ه اليعطي ح ق الحي اة‬
‫لمن يختلف معه ومع فكرت ه؟ يق وم ببطش ه وقتل ه وفتك ه أو يترك ه على اله امش‬
‫ويجعله مهجوًر ا ال قيمة له في الحياة‪ ،‬ويتحق ق ذل ك عن دما ت أتي أمامن ا التجرب ة‬
‫الحياتية ألفراد المجتمع المهجورين والمهملين بتفاصيلها‪.‬‬
‫ال بد لنا أن نفهم هذه الحقائق وندركها إدراًك ا‪ ،‬ثم نتقدم إلى األمام بوس طية‬
‫اإلس الم المثالي ة‪ ،‬ون برز أم ام الع الم م يزات ه ذا ال دين‪ ،‬ونق ارن بين اض طهاد‬
‫الكنيسة وعدل اإلسالم‪ ،‬وبين القيم المثالية – التي ينعق بها الغرب‪ ،‬ويس تخدم له ا‬
‫جل الوسائل‪ -‬والقيم اإلسالمية النبيلة التي تغنى بها سلفنا الصالح‪ ،‬والتي بها قادوا‬
‫العالم وأبدوا للناس محاس ن اإلس الم والحضارة اإلس المية الخال دة‪ ،‬ح تى يطل ع‬
‫الناس على أن اإلسالم ال يخ الف التط ور واالزده ار؛ ب ل إن ه يحث الن اس على‬
‫ذل ك‪ ،‬وإن تعاليم ه المش رقة تفتح للبش رية مج اال لل رقي واالزده ار والتق دم إلى‬
‫األمام‪ ،‬وهذه مسئولية العلماء وأهل الدين أن يقدموا اإلسالم نموذًجا حًيا مثالًيا‪.‬‬

‫ابعة‬ ‫نة الس‬ ‫الس‬ ‫‪5‬‬

‫العدد السادس‬

You might also like