Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 212

‫مدخل �إىل‬

‫اال�شرتاكية العلمية‬

‫اليسار‬
‫الثوري‬ ‫�أرن�ست ماندل‬
‫ئ‪ٚ‬الـ ئؾطڃح‪ ٍ٪‬أڀ غىٌز‬
‫مدخل إلى‬

‫االشتراكية العلمية‬

‫أرنست ماندل‬

‫‪1‬‬
‫كتبه‬
‫أنست ماندل‬
‫ونشرت الطبعة األوىل‬
‫عام ‪4791‬‬

‫الغالف‬
‫تفصيلة من لوحة‬
‫االنسان في مفترق الطريق‬
‫للفنان املكسيسي‬
‫دييجو ريبيرا مورال‬
‫ويظهر فيها األعالم الرئيسية لالشرتاكية العلمية؛‬
‫كارل ماركس‪ ،‬فريدريك أجنلز‪ ،‬فالدميري أ‪ .‬لينني‪،‬‬
‫ليون تروتسكي‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫توطئة‬
‫هذا املدخل إىل املاركسية هو نتاج جتارب دروس عديدة ألقيت يف مناضلني‬
‫شباب‪ ،‬يف حلظات خمتلفة من السنوات اخلمس عشرة األخرية‪ .‬وهو مرتبط‬
‫باالحتياجات الرتبوية اليت ملسناها واليت قد ختتلف من بلد إىل آخر ومن وسط إىل‬
‫آخر‪ .‬لذا ال ن ّدعي البتة أنه مدخل «منوذجي»‪.‬‬
‫وهو‪ ،‬فضال عن كونه يتضمن العناصر األساسية يف نظرية املادية التارخيية‬
‫والنظرية االقتصادية املاركسية وتاريخ احلركة العمالية وقضايا اسرتاتيجية احلركة‬
‫حمريا للوهلة األوىل ‪ :‬فإن‬
‫العمالية املعاصرة وتكتيكها‪ ،‬حيتوي على «ابتكار» يبدو ّ‬
‫الفصل املتعلق بالديالكتيك املادي والفصل الذي يعرض عرضا منهجيا نظرية‬
‫املادية التارخيية يردان يف هناية الكتاب وليس يف بدايته‪.‬‬
‫طبعا‪ ،‬ليس هذا االبتكار «مراجعة منهجية»‪ ،‬بل هو عربة مستمدة من‬
‫مالحظة اختبارية‪ :‬أن عرضا حول الدياليكتيك يصلح فاحتة ملدرسة تكوين كوادر‬
‫أكثر مما ملدرسة مناضلني مبتدئني‪ .‬فهؤالء يستوعبون النظرية بصورة أفضل إذا‬
‫ُشرحت هلم بشكل ملموس إىل أبعد حد ممكن‪ .‬وانه ألفضل بالتايل االنطالق مما‬
‫يستطيع املرء التأكد منه مباشرة ‪ -‬التفاوت االجتماعي‪ ،‬النضال الطبقي‪،‬‬
‫االستغالل الرأمسايل ‪ -‬وصوال إىل مفاهيم الديالكتيك األكثر جتريدا وأساسية‪،‬‬
‫بوصفها املنطق العام للحركة والتناقض‪ ،‬وذلك بعد توضيح حركة اجملتمع‬
‫والتناقضات اليت متزقه‪.‬‬
‫ليس يف األمر سوى اختيار مبين على خربة تربوية شخصية‪ .‬ومن البديهي أن‬
‫جتارب أخرى قد تؤدي إىل استنتاجات خمتلفة‪ .‬هذا ونبقى على استعداد للعودة‬
‫إىل بنية أكثر تقليدية هلذا املدخل‪ ،‬إذا أثبت لنا‪ ،‬على ضوء جتارب‪ ،‬أن طريقة‬

‫‪3‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫العرض التقليدية تسمح ملناضلي القاعدة أن يستوعبوا جوهر املاركسية بصورة‬


‫أفضل‪ .‬بيد أننا جنيز لنفسنا أن نشك يف هذا األمر يف الوقت الراهن‪.‬‬
‫إرنست ماندل‬

‫‪4‬‬
‫(‪)1‬‬
‫التفاوت االجتماعي‬
‫والنضاالت االجتماعية عبر التاريخ‬
‫‪ .1‬التفاوت االجتماعي في المجتمع الرأسمالي المعاصر‬

‫يف بلجيكا‪ ،‬يوجد توزيع هرمي للثروة وللسلطة االجتماعية‪ .‬ففي قاعدة هذا اهلرم‪،‬‬
‫جند ثلث املواطنني ال ميلكون شيئا سوى ما يكسبونه ويصرفونه‪ ،‬سنة بعد سنة‪ .‬إهنم‬
‫االدخار وال على التملك‪ .‬ويف قمة اهلرم‪ ،‬جند ‪ % 4‬من املواطنني‬ ‫غري قادرين على ّ‬
‫ميلكون نصف الثروة القومية اخلاصة‪ .‬إن ما يقل عن ‪ % 1‬من البلجيكيني ميلكون‬
‫أكثر من نصف ثروة البالد املنقولة‪ .‬وبينهم ‪ 022‬عائلة تتحكم بالشركات الكربى‬
‫(‪ )holdings‬اليت تسيطر على جممل احلياة االقتصادية القومية‪.‬‬
‫إن دراسة نشرها حديثا معهد اإلحصاءات والدراسات االقتصادية القومي أشارت‬
‫إىل أن ‪ % 02‬من األمة الفرنسية مل يكونوا ميلكون أكثر من ‪ % 0‬من الثروة القومية‬
‫عام ‪ ،1790‬بينما نصف هذه الثروة بني أيدي أقل من ‪ % 12‬من األسر‪ ،‬وذلك‬
‫مع حسبان املساكن وودائع صناديق التوفري يف فئة "الثروات"‪ّ .‬أما ثروة ‪ % 1‬من‬
‫األسر األكثر ثراء فقد ازدادت بني عامي ‪ 1747‬و‪ 1790‬بوثرية مقدارها ضعفا ثروة‬
‫األسر ذات املداخيل املتواضعة‪.‬‬
‫أما يف الواليات املتحدة‪ ،‬فقد جاء يف تقدير إحدى جلان جملس الشيوخ أن ما‬
‫يقل عن‪ % 1‬من العائالت األمريكية متلك ‪ % 12‬من مجيع أسهم الشركات‬
‫املسامهة‪ ،‬وأن ‪ % 2،0‬من العائالت متلك أكثر من ثلثي هذه األسهم‪ .‬ويف سويسرا‪،‬‬
‫ميلك ‪ % 0‬من السكان أكثر من ‪ % 79‬من الثروة اخلاصة‪ .‬وملا كان جممل الصناعة‬
‫والقطاع املايل األمريكيني (عدا بعض االستثناءات) منظما على أساس "الشركة‬

‫‪5‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫املغفلة"‪ ،‬نستطيع القول أن لدى ‪ % 77‬من املواطنني األمريكيني سلطة اقتصادية‬


‫أدىن مما لدى ‪ % 2،1‬من السكان‪.‬‬
‫ليس تفاوت املداخيل والثروات واقعا اقتصاديا وحسب‪ ،‬بل يستتبع تفاوتا يف‬
‫احتماالت البقاء‪ ،‬تفاوتا أمام املوت‪ .‬هكذا جند أن معدل وفيات األطفال كان يف‬
‫عائالت العمال غري املتخصصني‪ ،‬يف بريطانيا‪ ،‬قبل احلرب‪ ،‬أكثر من ضعفي ما كان‬
‫يف العائالت البورجوازية‪ .‬وتشري إحصائية رمسية إىل أن معدل وفيات األطفال ارتفع يف‬
‫فرنسا‪ ،‬سنة ‪ ،1701‬إىل ‪ 17،1‬وفاة لكل ألف والدة يف املهن احلرة‪ ،‬و‪ 0,،7‬وفاة‬
‫يف البورجوازية الرأمسالية‪ ،‬و‪ 0,،0‬وفاة عند موظفي التجارة‪ ،‬و‪ ,4،0‬وفاة عند‬
‫التجار‪ ،‬و‪ ,7،4‬وفاة عند احلرفيني‪ ،‬و‪ 40،0‬وفاة عند العمال املتخصصني‪ ،‬و‪44،7‬‬
‫وفاة الفالحني والعمال الزراعيني‪ ،‬و‪ 01،7‬وفاة عند العمال نصف املتخصصني‬
‫و‪ 71،9‬وفاة عند العمال غري املتخصصني! هذه النسب مل تتغري عمليا حىت اليوم‪،‬‬
‫بالرغم من أن معدل وفيات األطفال قد اخنفض يف مجيع الفئات‪.‬‬
‫وقد نشرت مؤخرا الصحيفة البلجيكية احملافظة "الليرب بلجيك" دراسة مكربة‬
‫بتكون اللغة عند الطفل‪ .‬تؤكد هذه الدراسة أن العبء اإلضايف الذي غالبا ما‬
‫تتعلق ّ‬
‫يعاين منه طفل عائلة فقرية خالل السنتني األوليني من حياته‪ ،‬من جراء التخلف‬
‫جير عواقب دائمة من حيث إمكانية‬
‫الثقايف الذي يفرضه اجملتمع الطبقي‪ ،‬هذا العبء ّ‬
‫استيعاب مواضيع علمية‪ ،‬وهي عواقب ال يستطيع تعليم "متساو"‪ ،‬ال يقصد التعويض‬
‫قصدا‪ ،‬أن يبطلها‪ .‬فإن عبارة الروائي اليت تقول أن التفاوت االجتماعي خينق تطور‬
‫ألوف من أمثال موزار وشيكسبري وأينشتاين بني أوالد الشعب‪ ،‬هذه العبارة ما زالت‬
‫صحيحة لألسف حىت يف عصر دولة اخلدمات االجتماعية (‪!)Welfare state‬‬
‫ويف عصرنا هذا‪ ،‬ال يتوجب علينا أن نأخذ بعني االعتبار الفروقات االجتماعية‬
‫القائمة داخل كل بلد وحسب‪ .‬بل يهم أن نأخذ أيضا بعني االعتبار التفاوت القائم‬
‫بني عدد قليل من البلدان املتقدمة صناعيا والقسم األعظم من البشرية الذي يعيش يف‬
‫املستعمرة)‪.‬‬
‫َ‬ ‫املستعمرة والشبه‬
‫َ‬ ‫البلدان املسماة باملتخلفة (البلدان‬

‫‪6‬‬
‫التفاوت االجتماعي والنضاالت االجتماعية عرب التاريخ‬

‫فالواليات املتحدة تنتج أكثر من نصف اإلنتاج الصناعي وتستهلك أكثر من‬
‫نصف العديد من املواد األولية الصناعية يف العامل الرأمسايل‪ .‬ويتصرف ‪ 002‬مليونا من‬
‫اهلنود بكميات من الفوالذ والطاقة تقل عما يتصرف به ‪ 7‬ماليني من البلجيكيني‪ّ .‬أما‬
‫الدخل الفردي الواقعي يف أفقر بلدان العامل فال يتعدى ‪ % ,‬من الدخل الفردي يف‬
‫البلدان األخرى‪ .‬وال حيصل ‪ % 79‬من سكان الكرة األرضية سوى على ‪ % 10‬من‬
‫الدخل العاملي‪ .‬ويف اهلند‪ ،‬يبلغ عدد األمهات اللوايت مينت من جراء العواقب املباشرة‬
‫لألمومة‪ ،‬مقابل كل ‪ 122‬ألف والدة‪ ،‬ثالثني ضعف عددهن يف الواليات املتحدة‪.‬‬
‫النتائج‪ :‬يأكل املواطن اهلندي كل يوم ما ال يزيد عن نصف احلراريات اليت يتناوهلا‬
‫مواطن البلدان املتقدمة يف الغرب‪ .‬والعمر املتوسط الذي يتعدى ‪ 70‬عاما يف الغرب‪،‬‬
‫ليصل إىل ‪ 92‬عاما يف بعض البلدان‪ ،‬يكاد ال يبلغ ‪ ,2‬عاما يف اهلند‪.‬‬

‫‪ .2‬التفاوت االجتماعي في المجتمعات السابقة‬

‫جند تفاوتا اجتماعيا مماثال للذي هو قائم يف العامل الرأمسايل‪ ،‬يف مجيع اجملتمعات‬
‫السابقة اليت تعاقبت خالل التاريخ (أي خالل تلك املرحلة من وجود البشرية على‬
‫األرض‪ ،‬اليت منلك عنها شهادات خطية)‪ .‬هاكم وصفا لبؤس الفالحني الفرنسيني يف‬
‫هناية القرن ‪ 19‬نقلناه عن "أطباع" البرويري(‪:)1‬‬
‫"نرى بعض الحيوانات المتوحشة‪ ،‬ذكورا وإناثا‪ ،‬منتشرة في الريف‪ ،‬سوداء‪،‬‬
‫دكناء‪ ،‬حرقتها الشمس‪ ،‬مرتبطة باألرض التي تنبشها وتحركها بمثابرة ال تقهر‪ .‬لها ما‬
‫يشبه الصوت الناطق‪ ،‬وعندما تقف على أرجلها‪ ،‬تظهر وجها إنسانيا وهي بالفعل من‬
‫البشر‪ .‬ينسحبون عند المساء إلى أوكار‪ ،‬حيث يعيشون من الخبز األسود والماء‬
‫والجذور … "‬

‫)‪ (1‬البرويري ( ‪ :) 1774 - 1740‬أديب فرنسي‪ ،‬مؤلف كتاب (‪" )Les caractéres‬األطباع"‬
‫عن أخالق زمانه (م)‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫قارنوا هذه الصورة عن فالحي ذلك العصر بصورة احلفالت الباهرة اليت أقامها‬
‫لويس الرابع عشر(‪ )0‬يف حديقة قصر فرساي‪ ،‬قارنوها بتخمة النبالء وإسراف امللك‪،‬‬
‫تكونون قد رمستم صورة آ ّخاذة عن التفاوت االجتماعي‪.‬‬
‫يف جمتمع بداية العصر الوسيط(‪ ),‬الذي شهد هيمنة القنانة‪ ،‬كان السيد النبيل‬
‫يستأثر يف معظم األحيان بنصف عمل الفالحني األقنان أو بنصف حمصوهلم‪ .‬وكان‬
‫مثة أسياد عديدون يعمل على أرضهم مئات بل ألوف األقنان‪ .‬فكان كل سيد حيصل‬
‫سنويا على ما يساوي حمصول مئات بل ألوف الفالحني‪.‬‬
‫وكان األمر على هذه الصورة يف شىت جمتمعات الشرق الكالسيكي (مصر‪،‬‬
‫سومر‪ ،‬بابل‪ ،‬فارس‪ ،‬اهلند‪ ،‬الصني‪ ،‬اخل) حيث كان اجملتمع قائما على الزراعة وكان‬
‫املالك العقاريون ّأما أسيادا أو ملوكا (ميثلهم كتبة وكالء ملصلحة الضرائب امللكية)‪.‬‬
‫لقد ترك لنا كتاب "هجاء املهن" الذي ُكتب يف مصر الفرعونية‪ ،‬قبل ‪,022‬‬
‫عام‪ ،‬صورة عن الفالحني الذين استغلهم هؤالء الكتبة امللكيون وقد قارهنم املزارعون‬
‫الناقمون باحليوانات الضارة واحلشرات الطفيلية‪.‬‬
‫ّأما العصور القدمية اليونانية والرومانية‪ ،‬فقد كان قائما على العبودية‪ .‬وإذا استطاع‬
‫ذلك اجملتمع أن يبلغ مستوى عاليا من الثقافة‪ ،‬فسبب األمر يعود جزئيا إىل أن سكان‬
‫املدن القدمية متكنوا من ختصيص قسم هام من وقتهم لنشاطات سياسية وثقافية وفنية‬
‫ورياضية‪ ،‬حيث تُرك العمل اليدوي أكثر فأكثر للعبيد وحدهم‪.‬‬

‫‪ .3‬التفاوت االجتماعي والتفاوت الطبقي‬

‫ليست كل تفاوت اجتماعي بتفاوت طبقي‪ .‬فإن الفرق بني أجر عامل غري‬
‫متخصص وأجر عامل ذي اختصاص عال ال جيعل منهما عضوي طبقتني‬

‫(‪ )0‬لويس ‪ ،)1910 - 17,,( 14‬من اعظم ملوك فرنسا (م)‪.‬‬


‫(‪ ),‬أي القرون الوسطى (بني القرن اخلامس والقرن اخلامس عشر امليالديني)‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫التفاوت االجتماعي والنضاالت االجتماعية عرب التاريخ‬

‫اجتماعيتني خمتلفتني‪ .‬إن التفاوت االجتماعي تفاوت ميد جذوره يف بنية احلياة‬
‫االقتصادية وسريها الطبيعي‪ ،‬وحتافظ عليه املؤسسات االجتماعية والقانونية الرئيسية‬
‫يف عصره‪ ،‬وتزيد من حدته‪ .‬فلنوضح هذا التعريف ببعض األمثلة‪:‬‬
‫لكي يصبح املرء رب عمل كبري يف بلجيكا‪ ،‬عليه مجع رساميل تقدر بنصف‬
‫مليون فرنك(‪ )4‬مقابل كل عامل جيري استئجاره‪ .‬إن مصنعا صغريا يستخدم ‪122‬‬
‫عامل يتطلب بالتايل مجع رأمسال ال يقل عن ‪ 122‬مليون فرنك‪ .‬واحلال أن أجر‬
‫العامل الصايف ال يتعدى أبدا تقريبا ‪ 022‬ألف فرنك سنويا فحىت إذا عمل مخسني‬
‫عاما دون أن يصرف فلسا واحدا لألكل والعيش‪ ،‬ال يستطيع العامل مجع ما يكفي‬
‫من املال ليصبح رأمساليا‪ .‬فالعمل املأجور‪ ،‬الذي هو أحد ميزات بنية االقتصاد‬
‫الرأمسايل‪ ،‬يشكل إذا أحد جذور انقسام اجملتمع الرأمسايل إىل طبقتني خمتلفتني‬
‫باألساس‪ :‬الطبقة العاملة اليت ال تستطيع أبدا أن تصبح بواسطة مداخيلها مالكة‬
‫وسائل إنتاج‪ ،‬وطبقة مالكي وسائل اإلنتاج أو الرأمساليني‪.‬‬
‫صحيح أنه يوجد إىل جانب الرأمساليني حبصر املعىن بعض التقنيني الذين‬
‫يستطيعون أن يصلوا إىل مراكز إدارة املنشآت‪ .‬غري أن التكوين التقين املطلوب هو‬
‫تكوين جامعي‪ .‬واحلال أن ‪ 0‬إىل ‪ % 9‬فقط من الطالب اجلامعيني يف بلجيكا‪ ،‬يف‬
‫العقود األخرية‪ ،‬هم من أبناء العمال ‪ ...‬واحلالة هي نفسها يف معظم البلدان‬
‫االمربيالية‪.‬‬
‫إن املؤسسات االجتماعية تقطع الطريق إىل امللكية الرأمسالية أمام العمال‪ ،‬سواء‬
‫من جهة مداخيلهم أو من جهة منط التعليم العايل‪ .‬هذه املؤسسات تبقى انقسام‬
‫اجملتمع إىل طبقات كما هو قائم اليوم‪ ،‬وحتافظ عليه وتدميه‪ .‬حىت يف الواليات املتحدة‬
‫حيث حيلو لبعضهم أن يذكروا أمثاال عن "أبناء عمال جمتهدين أصبحوا من أصحاب‬
‫تبني نتيجة استقصاء أن ‪ %72‬من مدراء املنشآت‬ ‫املليارات بفضل دأهبم يف العمل"‪ّ ،‬‬
‫اهلامة ذوو أصول برجوازية كبرية ومتوسطة‪.‬‬

‫)‪ )4‬الدوالر األمريكي يساوي ‪ 00‬فرنك بلجيكيا تقريبا‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫هكذا جند عرب التاريخ تفاوتا اجتماعيا تبلور يف تفاوت طبقي‪ .‬ففي كل جمتمع من‬
‫اجملتمعات املذكورة‪ ،‬جند طبقة من املنتجني تعيل بعملها اجملتمع بأسره وطبقة مسيطرة‬
‫تعيش من عمل الغري‪ :‬فالحون وكهنة أو أسياد أو كتبة يف إمرباطوريات الشرق‪ ،‬عبيد‬
‫وأسياد عبيد يف العصور القدمية اليونانية والرومانية‪ ،‬أقنان وأسياد إقطاعيون يف بداية‬
‫العصر الوسيط‪ ،‬عمال ورأمساليون يف العصر الربجوازي‪.‬‬

‫‪ .4‬المساواة االجتماعية في ما قبل التاريخ البشري‬

‫غري أن التاريخ ال يشكل سوى جزء بسيط من حياة البشرية على الكرة األرضية‪.‬‬
‫فقد سبقه ما قبل التاريخ‪ ،‬أي تلك املرحلة من وجود البشرية اليت كانت خالهلا‬
‫الكتابة واحلضارة جمهولتني‪ .‬وقد بقيت بعض الشعوب البدائية يف شروط العيش ما قبل‬
‫التارخيية حىت زمن قريب‪ ،‬بل حىت أيامنا هذه‪ .‬واحلال أن البشرية جهلت التفاوت‬
‫الطبقي طوال القسم األعظم من وجودها ما قبل التارخيي‪.‬‬
‫وسوف يتضح لنا الفرق األساسي بني مجاعة بدائية وجمتمع طبقي من خالل‬
‫استعراضنا لبعض مؤسسات تلك اجلماعات‪.‬‬
‫فقد حدثنا العديد من علماء األناسة (أنثربولوجيا) عن عادة جندها عند شعوب‬
‫بدائية كثرية وهي عادة تنظيم احتفاالت مسهبة بعد احلصاد‪ .‬وقد وصفت لنا عاملة‬
‫األناسة مارغريت ميد هذه االحتفاالت عند شعب آرابيش البابو(‪ )5‬يف غينيا اجلديدة‪،‬‬
‫حيث مجيع الذين حصدوا حمصوال فوق املتوسط‪ ،‬يدعون عائالهتم بكاملها ومجيع‬
‫جرياهنم إىل املشاركة يف احتفاالت تستمر حىت استهالك القسم األعظم من فائض‬
‫ذلك احملصول‪ .‬وتضيف مارغريت ميد‪:‬‬
‫"إن هذه االحتفاالت تشكل إجراء مالئما لمنع الفرد من مراكمة ثروات"‬

‫)‪ )0‬البابو‪ :‬من شعوب أوقيانيا السوداء‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫التفاوت االجتماعي والنضاالت االجتماعية عرب التاريخ‬

‫من جهة أخرى‪ ،‬درس عامل األناسة آش نظام وتقاليد قبيلة قطنت جنوب‬
‫الواليات املتحدة‪ ،‬هي قبيلة اهلويب‪ .‬يف هذه القبيلة‪ ،‬وخبالف جمتمعنا‪ ،‬يعترب مبدأ‬
‫املزامحة الفردية مبدأ مدانا من وجهة النظر األخالقية‪ .‬فعندما يلعب األوالد اهلويب‬
‫ألعابا رياضية‪ ،‬ال حيسبون أبدا العالمات وجيهلون من "ربح"‪.‬‬
‫إن املشاعات البدائية اليت مل تنقسم بعد إىل طبقات‪ ،‬عندما متارس الزراعة كنشاط‬
‫اقتصادي رئيسي وحتتل أرضا معينة‪ ،‬ال تقوم باستثمار األرض مجاعيا‪ .‬بل حتصل كل‬
‫عائلة على حقل تستثمره لفرتة‪ .‬بيد أن احلقول يعاد توزيعها مرارا للحؤول دون متتع‬
‫أي عضو من أعضاء املشاعة بامتيازات على حساب اآلخرين‪ّ .‬أما املروج والغابات‬
‫فإن استثمارها مجاعي‪ .‬إن نظام املشاعة القروية هذا‪ ،‬املبين على غياب امللكية اخلاصة‬
‫لألرض‪ ،‬قد وجد عند البحث يف نشوء الزراعة لدى مجيع شعوب العامل تقريبا‪ .‬أنه‬
‫يثبت أن اجملتمع يف تلك الفرتة مل يكن منقسما إىل طبقات على صعيد القرية‪ّ .‬أما‬
‫األفكار الشائعة اليت تردد دائما والقائلة أن التفاوت االجتماعي جيد جذوره يف تفاوت‬
‫مواهب األفراد أو كفاءاهتم‪ ،‬وأن انقسام اجملتمع إىل طبقات هو نتاج "أنانية اإلنسان‬
‫الغريزية" وبالتايل نتاج "الطبيعة اإلنسانية"‪ ،‬فهي أفكار ال أساس علمي هلا‪ .‬إن‬
‫اضطهاد طبقة اجتماعية لطبقة أخرى ليس نتاج "الطبيعة اإلنسانية"‪ ،‬بل نتاج تطور‬
‫تارخيي للمجتمع‪ .‬إنه اضطهاد مل يكن موجودا دوما ولن يبقى إىل األبد‪ .‬فلم يكن مثة‬
‫أغنياء وفقراء دوما ولن يبقى أغنياء وفقراء إىل األبد‪.‬‬

‫‪ .5‬التمرد ضد التفاوت االجتماعي عبر التاريخ‬

‫إن انقسام اجملتمع إىل طبقات وامللكية اخلاصة لألرض ولوسائل اإلنتاج ليسا‬
‫إطالقا‪ ،‬إذا‪ ،‬نتاج "الطبيعة اإلنسانية"‪ .‬إهنما نتاج تطور للمجتمع وللمؤسسات‬
‫االقتصادية واالجتماعية‪ .‬وسوف نرى ملاذا نشآ وكيف سيزوالن‪ .‬يف الواقع‪ ،‬ما أن‬
‫يظهر انقسام اجملتمع إىل طبقات حىت يبدي اإلنسان حنينه إىل احلياة املشاعية‬
‫القدمية‪ .‬وجند تعبريات هذا احلنني يف حلم "العصر الذهيب" الذي يقال أنه ساد عند‬
‫فجر وجود البشرية على األرض والذي وصفه األدباء الكالسيكيون الصينيون‪ ،‬شأهنم‬
‫‪11‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫يف ذلك شأن الكتاب اإلغريق والالتينيني‪ .‬ويقول فرجيليوس(‪ )7‬بوضوح أن احملاصيل‪،‬‬
‫يف ذلك العصر الذهيب‪ ،‬كان جيري تقامسها مجاعيا‪ ،‬أي أن امللكية اخلاصة مل تكن‬
‫موجودة‪.‬‬
‫هذا وقد اعترب العديد من الفالسفة والعلماء الشهريين أن انقسام اجملتمع إىل‬
‫طبقات يشكل مصدر القلق االجتماعي‪ ،‬وقد وضعوا مشاريع إلزالة هذا االنقسام‪.‬‬
‫هو ذا الفيلسوف اليوناين أفالطون(‪ )9‬حيدد أصل املصائب اليت تصيب اجملتمع‪:‬‬
‫"حتى أصغر مدينة منقسمة إلى قسمين‪ ،‬مدينة فقراء ومدينة أغنياء تتعارضان‬
‫(وكأنهما) في حالة حرب‪".‬‬

‫كذلك‪ ،‬فإن الشيع اليهودية اليت تكاثرت يف عصر املسيح ومن مث آباء الكنيسة‬
‫املسيحية األول الذين حافظوا على تراث تلك الشيع بني القرن الثالث واخلامس‬
‫امليالديني‪ ،‬كانوا دعاة متحمسني لعودة إىل مشاعية األمالك‪ .‬فقد كتب القديس‬
‫برنابا‪:‬‬
‫" لن تتكلم أبدا عن ملكيتك‪ ،‬ألنك إذا كنت تنعم بثرواتك الروحية بالمشاع‪،‬‬
‫فحري أن تنعم بثرواتك المادية بالمشاع"‬

‫وقد ألقى القديس قربيانوس مرافعات عديدة دعا فيها إىل تقاسم الثروات املتساوي‬
‫بني مجيع الناس‪ .‬وكان القديس يوحنا فم الذهب أول من صاح‪" :‬امللكية هي‬
‫السرقة"‪ .‬والقديس أوغسطينوس‪ ،‬حىت هو‪ ،‬بدأ بإلقاء مسؤولية العنف والصراعات‬
‫االجتماعية على امللكية اخلاصة‪ ،‬قبل أن يغري الحقا وجهة نظره‪.‬‬

‫(‪ )7‬فرجيليوس ( ‪ 17 - 91‬ق م)‪ :‬أعظم شعراء روما‪.‬‬


‫)‪ )9‬أفالطون ( ‪ ,49 - 409‬ق م)‪ :‬أحد أشهر فالسفة اليونان‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫التفاوت االجتماعي والنضاالت االجتماعية عرب التاريخ‬

‫وقد استمر هذا التقليد طوال العصر الوسيط‪ ،‬ال سيما عند القديس فرنسيس‬
‫األسيزي وعند رواد اإلصالح(‪ .),‬هاكم ما قاله الرائد اإلنكليزي جون بول يف القرن‬
‫الرابع عشر‪:‬‬
‫"يجب إلغاء القنانة وجعل جميع البشر متساوين‪ .‬إن الذين يسمون باألسياد‬
‫يستهلكون ما ننتجه نحن ‪ ..‬إن ترفهم ناتج عن كدحنا‪".‬‬

‫ويف العصر احلديث‪ ،‬أخريا‪ ،‬نرى مشاريع جمتمع املساواة تصبح أدق وأدق‪ ،‬سيما‬
‫يف كتاب "يوتوبيا" لإلنكليزي توماس مور‪ ،‬وكتاب "مدينة الشمس" لإليطايل توماس‬
‫كامبانيلال‪ ،‬وكتابات الفرنسي فوراس داللي (القرن ‪ ،)19‬ويف "وصية جان ميلييه"‬
‫و"قانون الطبيعة" للفرنسي موريللي (القرن ‪.)1,‬‬
‫وإىل جانب هذا التمرد الفكري ضد التفاوت االجتماعي‪ ،‬كانت مثة متردات فعلية‬
‫املضطهدة ضد مضط ِهديها‪ .‬إن تاريخ‬‫َ‬ ‫ال حتصى‪ ،‬أي انتفاضات من قبل الطبقات‬
‫مجيع اجملتمعات الطبقية هو تاريخ الصراعات الطبقية اليت متزقها‪.‬‬

‫‪ .6‬الصراعات الطبقية عبر التاريخ‬

‫إن الصراعات بني الطبقة املستغِلة والطبقة املستغَلة أو بني خمتلف الطبقات‬
‫املستغِلة تتخذ أكثر األشكال تنوعا حسب اجملتمع املعين ومرحلة تطوره احملددة‪.‬‬
‫هكذا فقد حصلت متردات عديدة يف جمتمعات ما يسمى بـ"منط اإلنتاج‬
‫اآلسيوي" (إمرباطوريات الشرق الكالسيكي)‪ .‬وقد تعاقبت انتفاضات فالحية ال‬
‫حتصى يف تاريخ السالالت اليت سادت بالتتايل يف اإلمرباطوريات الصينية‪ .‬وشهدت‬
‫اليابان أيضا عددا كبريا من االنتفاضات الفالحية ‪ ،‬خاصة يف القرن الثامن عشر‪.‬‬
‫وقد عرفت العصور القدمية اليونانية والرومانية سلسلة غري منقطعة من متردات‬
‫العبيد ‪ -‬كان أشهرها بقيادة سبارتكوس ‪ -‬اليت سامهت إىل حد بعيد يف سقوط‬

‫)‪ ),‬اإلصالح‪ :‬حركة دينية أدت إىل االنفصال عن الكنيسة الكاثوليكية وتأسيس الربوتيستنتية‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫اإلمرباطورية الرومانية‪ .‬ونشب بني "األحرار" صراع عنيف بني طبقة من الفالحني‬
‫املستدينني وجتار ‪ -‬مرابني‪ ،‬بني غري مالكني ومالكني‪.‬‬
‫ويف العصر الوسيط‪ ،‬يف ظل النظام اإلقطاعي‪ ،‬جرت صراعات طبقية بني األسياد‬
‫اإلقطاعيني وبلدات حرة قائمة على اإلنتاج البضاعي الصغري‪ ،‬وبني احلرفيني والتجار‬
‫داخل هذه البلدات‪ ،‬وبني بعض احلرفيني املدينيني والفالحني اجملاورين للمدن‪ .‬وجرت‬
‫باألخص صراعات طبقية عنيفة بني النبالء اإلقطاعيني والفالحني الذين حاولوا‬
‫التخلص من النري اإلقطاعي‪ ،‬واختذت هذه الصراعات أشكاال ثورية متاما يف عاميات‬
‫فرنسا وحروب الفالحني يف إنكلرتا وبوهيميا وأملانيا يف القرن السادس عشر‪.‬‬
‫وعرفت األزمنة احلديثة صراعات طبقية بني النبالء والربجوازية‪ ،‬وبني املعلمني‬
‫احلرفيني والصناع‪ ،‬وبني رجال املصارف والتجار األغنياء من جهة و"السواعد العارية"‬
‫يف املدن من اجلهة األخرى‪ ،‬اخل ‪ ..‬هذه الصراعات هي مقدمة الثورات الربجوازية‬
‫والرأمسالية احلديثة ونضال الربوليتاريا الطبقي ضد الربجوازية‪.‬‬

‫المراجع‬
‫ك‪ .‬ماركس وف‪ .‬إجنلس البيان الشيوعي‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫ف‪ .‬إجنلس‪ ،‬دحض دوهرنغ (اجلزءان الثاين والثالث)‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫ماكس بري‪ ،‬تاريخ االشتراكية‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫ك‪ .‬كاوتسكي‪ ،‬مصادر االشتراكية‪ ،‬توماس مور‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫مورتون‪ ،‬الطوبى اإلنكليزية‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫‪14‬‬
‫(‪)2‬‬
‫المصادر االقتصادية للتفاوت االجتماعي‬
‫‪ .1‬المشاعات البدائية القائمة على الفقر‬

‫طوال القسم األعظم من وجوده ما قبل التارخيي‪ ،‬عاش اإلنسان يف شروط من‬
‫الفقر املدقع‪ .‬ومل يكن للبشر من وسائل للحصول على القوت الضروري لعيشهم‬
‫سوى القنص وصيد األمساك وقطف الثمار‪ .‬كانت البشرية تعيش بالتطفل على‬
‫الطبيعة‪ ،‬حيث مل تكن تزيد املوارد الطبيعية اليت كانت أساس بقائها‪ .‬بل مل يكن‬
‫لديها أية سيطرة على هذه املوارد‪.‬‬
‫كانت املشاعات البدائية منظمة بشكل يضمن بقاءها اجلماعي يف شروط‬
‫عيش بالغة الصعوبة‪ .‬وكان كل فرد يشارك إلزاميا يف العمل حيث أن عمل كل فرد‬
‫ضروري لبقاء املشاعة‪ ،‬وإنتاج القوت يكفي بالكاد إلطعام اجلماعة‪ .‬ولو وجدت‬
‫امتيازات مادية حلكمت على قسم من القبيلة باجملاعة وحرمتها من إمكانية العمل‬
‫بصورة عقالنية ونسفت بالتايل شروط البقاء اجلماعي‪ .‬هو ذا السبب الذي جعل‬
‫التنظيم اإلجتماعي‪ ،‬يف تلك املرحلة من تطور اجملتمعات البشرية‪ ،‬ينزع إىل احملافظة‬
‫على حد أقصى من املساواة داخل اجلماعات البشرية‪.‬‬
‫وقد الحظ علماء األناسة اإلنكليز هوهباوس ووهيلر وغينسربغ‪ ،‬بعد دراستهم‬
‫للمؤسسات االجتماعية يف ‪ 400‬قبيلة بدائية‪ ،‬الحظوا غيابا تاما للطبقات‬
‫االجتماعية لدى مجيع القبائل اليت جهلت الزراعة‪.‬‬

‫‪ .2‬ثورة عصر الحجر المصقول‬

‫هذا الوضع من الفقر األساسي مل يعدل بصورة ثابتة إالّ بعد تكون تقنيات‬
‫زراعة األرض وتربية احليوانات‪ .‬إن الفضل يف اكتشاف تقنية زراعة األرض‪ ،‬وهو‬

‫‪15‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫أكرب ثورة اقتصادية يف وجود البشرية‪ ،‬يعود إىل النساء‪ ،‬كما يعود هلن فضل سلسلة‬
‫من االكتشافات اهلامة األخرى يف ما قبل التاريخ (السيما تقنية اخلزافة واحلياكة)‪.‬‬
‫وقد تدعمت الزراعة منذ ‪ 10‬ألف سنة قبل امليالد‪ ،‬تقريبا‪ ،‬يف أمكنة عديدة من‬
‫الكرة األرضية‪ ،‬بدءا على األرجح بآسيا الصغرى وبالد ما بني النهرين وإيران‬
‫وتركستان‪ ،‬وامتدت تدرجييا إىل مصر واهلند والصني وإفريقيا الشمالية وأوروبا‬
‫املتوسطية‪ .‬ويسمى انتشار الزراعة بثورة عصر احلجر املصقول ألنه حصل يف عصر‬
‫من العصور احلجرية كانت فيه أدوات عمل اإلنسان الرئيسية مصنوعة من احلجر‬
‫املصقول (وهو أحدث العصور احلجرية)‪.‬‬
‫لقد جعلت ثورة عصر احلجر املصقول اإلنسان قادرا على إنتاج قوته بنفسه‬
‫وقادرا بالتايل ‪ -‬إىل حد ما ‪ -‬على التحكم ببقائه‪ .‬وقد قلصت ارهتان اإلنسان‬
‫البدائي بقوى الطبيعة‪ .‬ومسحت بتكوين خمزونات من املؤن‪ ،‬األمر الذي مسح‬
‫بدوره بتحرير بعض أعضاء املشاعة من ضرورة إنتاج قوهتم‪ .‬هكذا أصبح باإلمكان‬
‫تطور تقسيم اقتصادي للعمل‪ ،‬أي ختصص مهين‪ ،‬يزيد إنتاجية العمل البشري‪.‬‬
‫هذا التخصص ال يبدو بعد سوى مالحمه يف اجملتمع البدائي‪ ،‬ألنه كما قال أحد‬
‫الرحالة اإلسبان األوائل يف القرن السادس عشر‪ ،‬متحدثا عن اهلنود‪:‬‬
‫"يريد البدائيون استعمال كل ما لديهم من الوقت لجمع المؤن‪ ،‬ألنهم لو‬
‫استعملوه بطريقة أخرى لعانوا من الجوع"‪.‬‬

‫‪ .3‬النتاج الضروري والنتاج االجتماعي الفائض‬

‫إن ظهور فائض كبري ودائم من املؤن هو الذي حيدث انقالبا يف شروط‬
‫التنظيم االجتماعي‪ .‬فعندما يكون هذا الفائض صغريا نسبيا ومبعثرا بني قرية‬
‫وأخرى‪ ،‬ال يغري البنية املتساوية للمشاعة القروية‪ .‬إنه يسمح فقط بإعالة بعض‬
‫احلرفيني واملوظفني‪ ،‬أمثال الذين بقوا خالل آالف السنني يف القرى اهلندية‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫املصادر االقتصادية للتفاوت االجتماعي‬

‫لكن عندما يتم حصر هذه الفوائض على مساحات كبرية من قبل زعماء‬
‫عسكريني أو دينيني‪ ،‬أو عندما تتكاثر الفوائض يف القرية بفضل تطوير أساليب‬
‫الزراعة‪ ،‬تستطيع خلق شروط ظهور تفاوت اجتماعي‪ ،‬ميكن استعماهلا إلعالة‬
‫أسرى احلرب أو أسرى عمليات القرصنة (الذين كانوا يقتلون سابقا بسبب قلة‬
‫املؤن)‪ .‬وميكن إجبار هؤالء على العمل ألجل املنتصرين لقاء قوهتم‪ ،‬هكذا ظهرت‬
‫العبودية يف العامل اإلغريقي‪ .‬وميكن استعمال الفائض ذاته إلعالة طائفة من الكهنة‬
‫واجلنود واملوظفني واألسياد وامللوك‪ ،‬هكذا ظهرت الطبقات املسيطرة يف‬
‫إمرباطوريات الشرق القدمي (مصر‪ ،‬بابل‪ ،‬إيران‪ ،‬اهلند‪ ،‬الصني)‪.‬‬
‫عندها يستكمل التقسيم االقتصادي للعمل بتقسيم اجتماعي‪ .‬وينتهي‬
‫استعمال اإلنتاج االجتماعي مبجمله لسد حاجات املنتجني‪ .‬بل ينقسم هذا‬
‫اإلنتاج بعدئذ إىل قسمني‪:‬‬
‫الناتج الضروري‪ ،‬أي قوت املنتجني الذين لوال عملهم ألهنار اجملتمع بأسره‪.‬‬
‫النتاج االجتماعي الفائض‪ ،‬أي الفائض الذي ينتجه املنتجون والذي حتتكره‬
‫الطبقات املالكة‪.‬‬
‫هاكم وصف املؤرخ هايشلهامي لظهور املدن األوىل يف العامل القدمي‪:‬‬
‫"يتألف سكان المراكز المدنية الجديدة بقسمهم األعظم من شريحة عليا‬
‫تعيش من الريوع (‪ )‬مؤلفة من أسياد ونبالء وكهنة‪ .‬ويجب أن نضيف إليهم‬
‫الموظفين والمستخدمين والخدام الذين تعيلهم هذه الشريحة العليا بصورة غير‬
‫مباشرة‪".‬‬

‫هكذا يؤدي ظهور الطبقات االجتماعية ‪ -‬الطبقات املنتجة والطبقات‬


‫املسيطرة ‪ -‬إىل والدة الدولة اليت هي املؤسسة الرئيسية حلفظ الشروط االجتماعية‬

‫(‪ )‬أي أهنا تتملك فائض نتاج العمل الزراعي ( أ‪.‬م‪.).‬‬

‫‪17‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫القائمة‪ ،‬أي التفاوت االجتماعي‪ .‬إن انقسام اجملتمع إىل طبقات يتدعم بتملك‬
‫الطبقات املسيطرة لوسائل اإلنتاج‪.‬‬

‫‪ .4‬اإلنتاج والتراكم‬

‫إن تَ َك ُّون الطبقات االجتماعية ومتلك النتاج االجتماعي الفائض من قبل جزء‬
‫من اجملتمع ينتجان عن صراع اجتماعي وال يستمران إالّ بفضل صراع اجتماعي‬
‫دائم‪ .‬بيد أن ظهور الطبقات يشكل يف الوقت نفسه مرحلة ‪ -‬حتمية ‪ -‬من‬
‫التقدم االقتصادي‪ ،‬لكونه يسمح بفصل وظيفتني اقتصاديتني أساسيتني مها وظيفة‬
‫اإلنتاج ووظيفة املراكمة‪.‬‬
‫يف اجملتمع البدائي‪ ،‬كان مجيع الرجال والنساء القادرين يعملون يف إنتاج القوت‬
‫بصورة رئيسية‪ .‬ومل يكن بوسعهم‪ ،‬يف تلك الشروط‪ ،‬أن خيصصوا سوى القليل من‬
‫الوقت لصنع أدوات العمل وختزينها والتخصص يف صنعها والبحث املنهجي عن‬
‫أدوات عمل أخرى والتمرس يف تقنيات عمل معقدة (كعمل التعدين مثال)‬
‫واملراقبة املنهجية لظواهر الطبيعة‪ ،‬اخل…‬
‫إن إنتاج نتاج اجتماعي فائض يسمح مبنح قسم من البشرية ما يكفي من‬
‫وقت الفراغ ليتفرغ جململ تلك النشاطات اليت تيسر ازدياد إنتاجية العمل‪ .‬فأوقات‬
‫الفراغ هذه هي أساس احلضارة وتطور أوىل التقنيات العلمية (علوم الفلك‬
‫واهلندسة واملياه واملعادن اخل ‪ )...‬والكتابة‪ .‬ويرافق انفصال اجملتمع إىل طبقات‬
‫انفصال العمل الذهين عن العمل اليدوي‪ ،‬الذي هو نتاج أوقات الفراغ تلك‪.‬‬
‫يشكل إذن انقسام اجملتمع إىل طبقات شرطا للتقدم التارخيي‪ ،‬طاملا أن اجملتمع‬
‫أفقر من أن يتيح جلميع أعضائه التفرغ للعمل الذهين (لوظيفة املراكمة)‪ .‬غري أن‬
‫مثن هذا التقدم باهظ‪ .‬فحىت عشية الرأمسالية احلديثة‪ ،‬ال يستفيد من منافع ازدياد‬
‫إنتاجية العمل إالّ الطبقات املالكة‪ .‬وبالرغم من كل تقدم التقنية والعلم خالل‬
‫السنوات األربعة آالف اليت تفصل بني بدايات احلضارة القدمية والقرن السادس‬

‫‪18‬‬
‫املصادر االقتصادية للتفاوت االجتماعي‬

‫عشر‪ ،‬جند أن وضع الفالح اهلندي والصيين واملصري‪ ،‬بل حىت اليوناين والساليف‪،‬‬
‫مل يتبدل بصورة حسية‪.‬‬

‫‪ .5‬سبب فشل كافة ثورات الماضي من أجل المساواة‬

‫عندما ال يكفي الفائض الذي ينتجه اجملتمع البشري‪ ،‬أي النتاج االجتماعي‬
‫الفائض‪ ،‬لتحرير البشرية بأسرها من الكدح املرهق الدائم‪ ،‬فإن أية ثورة اجتماعية‬
‫هتدف إىل إعادة املساواة البدائية بني البشر ثورة حمكوم عليها بالفشل سلفا‪ .‬فهي‬
‫ال تستطيع أن جتد سوى خمرجني من التفاوت االجتماعي القدمي‪.‬‬
‫أما تدمري كل نتاج اجتماعي فائض عمدا والعودة إىل الفقر املدقع البدائي‪.‬‬
‫عندها سوف تؤدي إعادة ظهور التقدم التقين بسرعة إىل التفاوتات االجتماعية‬
‫ذاهتا اليت كانت الغاية إلغاءها‪ .‬أو نزع ملكية الطبقة املالكة القدمية لصاحل طبقة‬
‫مالكة جديدة‪ .‬هذا ما حصل يف انتفاضة عبيد روما بقيادة سبارتكوس‪ ،‬ويف أوىل‬
‫الشيع املسيحية واألديرة‪ ،‬ويف خمتلف االنتفاضات الفالحية اليت تتالت يف‬
‫اإلمرباطورية الصينية‪ ،‬ويف ثورة اهلراطقة املسيحيني يف بوهيميا يف القرن ‪ ،10‬ويف‬
‫املستعمرات الشيوعية اليت أسسها املهاجرون يف أمريكا ‪ ..‬إخل‪.‬‬
‫ودون أن ندعي أن الثورة الروسية أدت إىل الوضع ذاته‪ ،‬فإن إعادة ظهور‬
‫تفاوت اجتماعي حاد يف االحتاد السوفيايت اليوم جتد تفسريها األساسي يف فقر‬
‫روسيا غداة الثورة‪ ،‬يف عدم كفاية مستوى تطور قواها املنتجة ويف انعزال الثورة يف‬
‫بلد متأخر بنتيجة إخفاق الثورة يف أوروبا الوسطى خالل مرحلة ‪.170,-171,‬‬
‫إن جمتمعا متساويا قائما على الوفرة وليس على الفقر ‪ -‬هو ذا هدف‬
‫االشرتاكية ‪ -‬ال يستطيع أن يتطور إالّ على قاعدة اقتصاد متقدم يكون النتاج‬
‫االجتماعي الفائض مرتفعا فيه إىل حد أنه يسمح بتحرير مجيع املنتجني من كدح‬
‫مرهق ومينح اجملتمع بأسره ما يكفي من أوقات الفراغ ليتمكن هذا األخري من‬

‫‪19‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫القيام مجاعيا بالوظائف اإلدارية يف احلياة االقتصادية واالجتماعية (وضيفة‬


‫املراكمة)‪.‬‬
‫ملاذا احتاج االقتصاد البشري إىل ‪ 10‬ألف سنة من النتاج االجتماعي الفائض‬
‫حىت متكن من االنطالق الضروري لظهور مالمح حل اشرتاكي للتفاوت‬
‫االجتماعي ؟ سبب ذلك هو أنه طاملا متلكت الطبقات املالكة النتاج االجتماعي‬
‫الفائض بشكل منتجات (قيم استعمالية)‪ ،‬شكل استهالكها اخلاص (استهالك‬
‫غري منتج) سقف ازدياد اإلنتاج الذي رغبت بتحقيقه‪.‬‬
‫إن معابد وملوك الشرق القدمي‪ ،‬وأسياد العبيد يف العصور القدمية اليونانية‬
‫والرومانية‪ ،‬واألسياد النبالء والتجار الصينيني واهلنود واليابانيني والبيزنطيني والعرب‪،‬‬
‫والنبالء اإلقطاعيني يف العصر الوسيط‪ ،‬مجيعهم مل جيدوا مصلحة يف زيادة اإلنتاج‬
‫طاملا كدسوا يف قصورهم وبالطاهتم ما كفاهم من املؤن واملالبس الفخمة والتحف‬
‫الفنية‪ .‬فثمة حدود ال يستطيع االستهالك والرتف جتاوزها (مثل مضحك ‪ :‬يف‬
‫اجملتمع اإلقطاعي جلزر هاواي‪ ،‬اختذ النتاج االجتماعي الفائض شكل الغذاء‬
‫حصرا وكانت املكانة االجتماعية مرهونة بالتايل بوزن كل فرد)‪.‬‬
‫وعندما يتخذ الناتج االجتماعي الفائض شكل النقد ‪ -‬شكل فائض القيمة‬
‫‪ -‬ويصبح باإلمكان استعماله ليس القتناء سلع استهالكية وحسب بل أيضا سلع‬
‫جتهيزية (سلع إنتاجية)‪ ،‬عند ذلك فقط جتد الطبقة املسيطرة اجلديدة ‪ -‬البورجوازية‬
‫‪ -‬مصلحة يف ازدياد غري حمدود لإلنتاج‪ .‬هكذا تولد الشروط االجتماعية الضرورية‬
‫لتطبيق مجيع االكتشافات العلمية يف االنتاج‪ ،‬أي الشروط الضرورية لظهور‬
‫الرأمسالية الصناعية احلديثة‪.‬‬

‫‪ .6‬اضطهاد النساء‪ ،‬أول شكل واسع لال مساواة االجتماعية‪.‬‬

‫بني اجملتمع الشيوعي البدائي للجماعة والعشرية‪ ،‬واألشكال األوىل للمجتمع‬


‫القائم على سيطرة طبقية على أخرى (كاجملتمع العبودي مثال)‪ ،‬هنالك مرحلة‬

‫‪21‬‬
‫املصادر االقتصادية للتفاوت االجتماعي‬

‫انتقالية مل تكن قد تطورت خالهلا بشكل كامل طبقة مسيطرة مالكة‪ ،‬لكن‬
‫تأسست إباهنا ال مساواة اجتماعية واضحة‪ .‬يشهد على وجود هذا النموذج من‬
‫اجملتمعات العديد من اآلثار واألوصاف املاضية اليت ما تزال بارزة على وجه‬
‫اخلصوص يف األساطري واخلرافات والديانات "البدائية"‪ ،‬لكن كذلك اجملتمع القرايب‬
‫القائم اليوم يف جزء من أرياف إفريقيا السوداء‪ ،‬وإن بشكل أكثر فأكثر تشويها‪،‬‬
‫تبعا الندماجه باجملتمع الطبقي املسيطر يف كل البلدان اليت ما يزال على قيد احلياة‬
‫فيها‪.‬‬
‫هذا الشكل األول املؤسس لال مساواة واالضطهاد االجتماعيني هو شكل‬
‫اضطهاد النساء على يد الرجال يف اجملتمعات البدائية اليت بلغت هذا الطور من‬
‫التقدم‪ .‬واضطهاد النساء مل يكن موجودا منذ البدء‪ ،‬فهو ليس ناتج جربية‬
‫بيولوجية تلقي بثقلها على اجلنس النسوي‪ .‬ال بل مثة معطيات كثرية تعود إىل ما‬
‫قبل التاريخ وإىل جمتمع شيوعية العشرية وتؤكد أن املساواة بني اجلنسني بقيت‬
‫قائمة زمنا طويال‪ .‬ومع أنه تنقصنا املعطيات اليت تسمح لنا بتعميم هذه الظاهرة‬
‫على جممل البشرية البدائية‪ ،‬فثمة دالئل ساطعة على أن النساء لعنب دورا‬
‫اجتماعيا مهيمنا يف العديد من اجملتمعات على األقل‪ .‬ويكفي أن نتذكر الظاهرة‬
‫واسعة االنتشار لـ"إهلة اخلصب" كسيدة للسماء‪ ،‬لدى فجر الزراعة اليت اخرتعتها‬
‫النساء‪ ،‬من أجل االستنتاج أن اإلحالل املعمم لآلهلة الذكور (مث لإلله الواحد)‬
‫حمل هذه اآلهلة‪ ،‬ال ميكن أن يكون عرضيا‪ .‬إن الثورة يف السماء تعكس ثورة‬
‫حدثت على سطح األرض‪ ،‬وقلب املفاهيم الدينية ناتج عن قلب الشروط‬
‫االجتماعية للعالقات املتبادلة بني الرجال والنساء‪.‬‬
‫وميكن أن يبدو غريبا للوهلة األوىل أن يفتتح شيئا فشيئا عصر استعباد النساء‬
‫االجتماعي حني يتكرس دورهن االقتصادي املهيمن عن طريق وظيفتهن األساسية‬
‫يف أعمال احلقول (الثورة النيوليتية)‪ .‬إالّ أنه ليس مثة أي تناقض حقيقي‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫فبمقدار ما تزدهر الزراعة البدائية تصبح النساء املصدر الرئيسي لثروة القبيلة‪،‬‬
‫بشكل مضاعف‪ :‬من حيث هن املنتجات الرئيسيات لألغذية ومن حيث هن‬
‫منجبات لألطفال‪ .‬ذلك أن التطور الدميوغرايف مل يعد يستشعر به كتهديد‪ ،‬بل‬
‫كنعمة حمتملة انطالقا فقط من قاعدة متون باألغذية مضمونة إىل هذا احلد أو‬
‫ذاك‪ ،‬ولقد أصبحت النساء بفعل ذلك موضوعات جشع اقتصادي وهو ما مل‬
‫يكن ممكنا يف عصر الصيد وقطاف األمثار‪.‬‬
‫وليمكن إجناز هذه التبعية‪ ،‬توجب حدوث سلسلة متالزمة من التحوالت‬
‫االجتماعية‪ .‬مت نزع سالح النساء‪ ،‬أي أن مهنة األسلحة أصبحت حكرا على‬
‫الذكور‪ .‬وهذا الواقع مل يكن سائدا منذ البدء‪ ،‬تشهد على ذلك األساطري العديدة‬
‫املتعلقة باألمازونات(‪ )9‬واليت مل تزل حتيا يف أذهان الناس يف كل القارات‪ .‬كما أن‬
‫وضع املرأة قد تغري بشكل عميق بفعل تعديالت جذرية أدخلت على قواعد‬
‫الزواج وإضفاء الطابع االجتماعي على األطفال‪ ،‬بغية ضمان هيمنة نظام األبوة‪.‬‬
‫(‪)12‬‬
‫ومع تطور امللكية اخلاصة‪ ،‬ومن مث توطيدها‪ ،‬اختذت العائلة البطريركية‬
‫بالتدريج الشكل النهائي الذي احتفظت به‪ ،‬رغم تعديالت متتالية‪ ،‬على امتداد‬
‫قسم مهم من تاريخ اجملتمعات الطبقية‪ .‬ولقد أصبحت هي ذاهتا واحدة من‬
‫املؤسسات الرئيسية‪ ،‬اليت ال ميكن االستعاضة عنها‪ ،‬واليت تضمن استمرار امللكية‬
‫اخلاصة عرب اإلرث والقمع االجتماعي بكل صوره (مبا فيها البىن الذهنية اليت تؤبد‬
‫املوافقة على السلطة "اآلتية من عل" والطاعة العمياء)‪ .‬غدت منطلقا لعمليات‬
‫متييز ال حتصى على حساب النساء يف كل دوائر احلياة االجتماعية‪ .‬والتربيرات‬
‫األيديولوجية واملسبقات املنافقة اليت تنطوي على هذه التمييزات جزء ال يتجزأ من‬
‫األيديولوجية املسيطرة املرتبطة بالطبقات املالكة مجعاء اليت تعاقبت يف التاريخ‪.‬‬

‫)‪ (7‬النساء احملاربات يف آسيا الصغرى‪( .‬م)‬


‫)‪ )12‬على أساس النظام األبوي املرتكز على سيطرة األب‪( .‬م)‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫املصادر االقتصادية للتفاوت االجتماعي‬

‫وهي بذلك قد طبعت‪ ،‬جزئيا على األقل‪ ،‬ذهنية الطبقات املستغَلة‪ ،‬مبا فيها ذهنية‬
‫الربوليتاريا احلديثة يف النظام الرأمسايل وغداة إطاحته‪.‬‬

‫المراجع‪:‬‬
‫‪ ‬ك‪ .‬ماركس ف‪ .‬إجنلس البيان الشيوعي‪.‬‬
‫‪ ‬اجنلس‪ ،‬دحض دوهرينغ (اجلزء الثاين والثالث)‪.‬‬
‫‪ ‬غوردن شايلد‪ ،‬ماذا حدث في التاريخ ؟‬
‫‪ ‬غوردن شايلد‪ ،‬اإلنسان صنع نفسه‪.‬‬
‫‪ ‬غلوتز‪ ،‬العمل في اليونان القديمة‪.‬‬
‫‪ ‬بواسوناد‪ ،‬العمل في العصر الوسيط‪.‬‬
‫‪ ‬أ‪ .‬ماندل‪ ،‬النظرية االقتصادية الماركسية (الفصول األربعة األوىل)‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫(‪)3‬‬
‫الدولة‪ ،‬أداة السيطرة الطبقية‬
‫‪ .1‬التقسيم االجتماعي للعمل ونشوء الدولة‬

‫يف اجملتمع البدائي الال طبقي‪ ،‬كان مجهور املواطنني يقوم بالوظائف االدارية‪.‬‬
‫وكان كل فرد مسلحا وكل فرد يشارك يف اجلمعيات العامة اليت كانت تصدر‬
‫القرارات املتعلقة باحلياة اجلماعية وبعالقات املشاعة بالعامل اخلارجي‪ .‬وكذلك فإن‬
‫النزاعات الداخلية كان حيسمها أعضاء اجملتمع‪.‬‬
‫طبعا ليس من داع إىل جتميل الوضع الذي ساد يف تلك املشاعات البدائية‬
‫اليت عاشت يف ظل شيوعية العشرية أو القبيلة فقد كان جمتمعا فقريا منتهى الفقر‪.‬‬
‫وكان اإلنسان يعيش حتت رمحة قوى الطبيعة‪ّ .‬أما األخالق والتقاليد وقواعد‬
‫التحكيم يف النزاعات الداخلية واخلارجية‪ ،‬فإذا صح أهنا كانت تطبق مجاعيا‪ ،‬يبقى‬
‫أهنا كانت مطبوعة باجلهل واخلوف واملعتقدات السحرية‪ .‬إن الذي جيب التشديد‬
‫عليه باملقابل هو أن اجملتمع كان حيكم نفسه بنفسه يف حدود معلوماته وإمكاناته‪.‬‬
‫ليس صحيحا بالتايل أن مفاهيم "اجملتمع" و"اجلماعة البشرية" و"الدولة"‬
‫كانت متماثلة تقريبا وتشمل بعضها بعضا عرب العصور‪ .‬بالعكس متاما؛ فقد‬
‫عاشت البشرية طوال آالف وآالف السنني يف جمتمعات مل يكن فيها دولة‪.‬‬
‫تولد الدولة عندما تصبح وظائف كان جمموعة أعضاء اجملتمع يقوم هبا يف‬
‫البدء‪ ،‬حكرا على جتمع منفصل من الرجال‪:‬‬
‫‪-‬جيش منفصل عن مجهور املواطنني املسلحني‪.‬‬
‫‪ -‬قضاة منفصلون عن مجهور املواطنني الذين حياكمون أشباههم‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫الدولة‪ ،‬أداة للسيطرة الطبقية‬

‫‪ -‬زعماء وراثيون‪ ،‬ملوك‪ ،‬نبالء‪ ،‬بدل ممثلني أو قادة هلذا النشاط أو ذاك يعينون‬
‫مؤقتا وهم قابلون دوما لإلبدال‪.‬‬
‫‪"-‬منتجو أيديولوجية" (كهنة‪ ،‬كتبة‪ ،‬مدرسون‪ ،‬فالسفة‪ ،‬مثقفون متنفذون)‬
‫منفصلون عن سائر اجملتمع‪.‬‬
‫إن والدة الدولة هي إذن نتاج حتول مزدوج؛ ظهور نتاج اجتماعي فائض دائم‬
‫يسمح بتحرير قسم من اجملتمع من إلزام القيام بعمل لتأمني عيشه مبا خيلق‬
‫الشروط املادية لتخصص هذا القسم يف وظائف املراكمة واإلدارة‪ ،‬ومن جهة ثانية‪،‬‬
‫حتول اجتماعي وسياسي يسمح بعزل سائر أعضاء اجلماعة عن ممارسة الوظائف‬
‫السياسية اليت كانت باألمس وظائف اجلميع‪.‬‬

‫‪ .2‬الدولة في خدمة الطبقات المسيطرة‬

‫كون الوظائف اليت كان ميارسها يف البدء مجيع أعضاء اجملتمع أصبحت‪ ،‬منذ‬
‫حلظة معينة‪ ،‬حكرا على جتمع منفصل من الرجال‪ ،‬هذا الواقع يشري حبد ذاته إىل‬
‫أن مثة أناسا هلم مصلحة يف القيام هبذا العزل‪ .‬إن الطبقات املسيطرة هي اليت‬
‫تتنظم لعزل أعضاء الطبقات املستغَلة واملنتجة عن ممارسة وظائف قد تسمح هلم‬
‫بإزالة االستغالل الذي مت فرضه عليهم‪.‬‬
‫إن مثال اجليش والتسلح هلو أسطع برهان على ما سبق‪ .‬فإن والدة الطبقات‬
‫املسيطرة تتم عن طريق متلك النتاج االجتماعي الفائض من قبل جزء من اجملتمع‪.‬‬
‫وقد شهد العديد من القبائل والقرى اإلفريقية‪ ،‬خالل القرون األخرية‪ ،‬تكرار لتطور‬
‫هو أصل والدة الدولة يف أقدم إمرباطوريات الشرق (مصر‪ ،‬بالد ما بني النهرين‪،‬‬
‫إيران‪ ،‬الصني‪ ،‬اهلند اخل‪).‬؛ فإن هبات وهدايا وخدمات يف شكل مساعدة‬
‫متبادلة‪ ،‬كانت تعطى جمانيا يف البدء جلميع األسر‪ ،‬أصبحت تدرجييا إلزامية‬
‫وحتولت إىل ريوع وضرائب وسخرات‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫بيد أنه ينبغي أيضا تأمني هذه الفرائض‪ .‬وهذا يتم باألخص حتت إكراه‬
‫األسلحة‪ .‬فإن جتمعات من الرجال املسلحني ‪ -‬مهما كانت تسميتهم‪ ،‬جنودا أو‬
‫ذركيني أو قراصنة أو لصوصا ‪ -‬جترب املزارعني ومريب احليوانات‪ ،‬والحقا احلرفيني‬
‫والتجار‪ ،‬على التخلي عن قسم من إنتاجهم لصاحل الطبقات املسيطرة‪ .‬وحتمل‬
‫تلك التجمعات السالح هلذا الغرض‪ ،‬ويتوجب عليها منع املنتجني من أن‬
‫يتسلحوا هم أيضا‪.‬‬
‫يف العصور القدمية اليونانية والرومانية‪ ،‬كان اقتناء السالح حمرما على العبيد‬
‫حترميا صارما‪ .‬وكذلك األمر بالنسبة ألقنان العصر الوسيط‪ .‬وباألصل‪ ،‬فإن العبيد‬
‫والفالحني األولني غالبا ما هم ّإما أسرى حرب مل يعدموا‪ ،‬أو فالحو مناطق‬
‫حمتلة‪ ،‬أي ضحايا سريورة نزع السالح من البعض اليت متنح البعض اآلخر احتكار‬
‫السالح‪.‬‬
‫إن فريدريك إجنلس على حق‪ ،‬هبذا املعىن‪ ،‬عندما يلخص تعريف الدولة‬
‫بصيغة؛ جتمع من الرجال املسلحني‪ .‬طبعا‪ ،‬فإن الدولة تقوم بوظائف أخرى غري‬
‫تسليح الطبقة املالكة ونزع السالح من الطبقة املنتجة‪ .‬غري أن وظيفتها‪ ،‬يف‬
‫التحليل األخري‪ ،‬هي وظيفة إكراه ميارسها قسم من اجملتمع ضد قسم آخر‪ .‬وليس‬
‫يف التاريخ من شيء يسمح بتربير األطروحة الليربالية ‪ -‬الربجوازية القائلة أن الدولة‬
‫ولدت مبوجب "عقد" أو "إتفاق" أبرمه طوعا مجيع أعضاء جمتمع ما‪ .‬بل يؤكد كل‬
‫شيء‪ ،‬على العكس‪ ،‬إن الدولة نتاج إكراه وعنف ميارسه بعضهم ضد بعضهم‬
‫اآلخر‪.‬‬
‫وإذا كان ظهور الدولة يتيح للطبقات املسيطرة أن حتافظ على متلك النتاج‬
‫االجتماعي الفائض‪ ،‬فإن هذا التملك يسمح كذلك بتعويض أعضاء جهاز‬
‫الدولة‪ .‬وكلما كان النتاج االجتماعي الفائض أهم‪ ،‬كلما أمكن للدولة أن تتنظم‬
‫بعدد من اجلنود واملوظفني واأليديولوجيني مرتفع أكثر فأكثر‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫الدولة‪ ،‬أداة للسيطرة الطبقية‬

‫إن تطور الدولة يف العصر الوسيط اإلقطاعي قد جعل هذه العالقات شفافة‬
‫بصورة خاصة‪ .‬فعندما يبلغ النظام اإلقطاعي ذروته‪ ،‬كان كل نبيل إقطاعي يف‬
‫إقطاعيته قائد اجليش وجايب الضرائب وذا صالحية إلصدار العملة ومديرا عاما‬
‫لالقتصاد‪ .‬لكن اتساع بعض اإلقطاعات وقيام مراتب بني النبالء وظهور دوقات‬
‫وكونتات ذوي سلطة على مساحات شاسعة من األراضي‪ ،‬أمور جعلت من‬
‫ممارسة الوظائف آنفة الذكر بصفة شخصية عمال مستحيال‪ .‬ويصح األمر‬
‫باألحرى بالنسبة للملوك واألباطرة‪.‬‬
‫هكذا تظهر شخصيات جتسد االنفصال بني تلك الوظائف؛ القهارمة‬
‫واملارشاالت‪ ،‬الوزراء واألمناء‪ ،‬اخل‪ .‬ويبني لنا علم االشتقاق أن هذه الشخصيات‬
‫كانت باألصل من العبيد أو أقنان السيد‪ ،‬أي أهنا كانت خاضعة كليا للطبقة‬
‫املسيطرة‪.‬‬

‫‪ .3‬اإلكراه العنيف واالحتواء اإليديولوجي‬

‫إذا كانت الدولة‪ ،‬يف التحليل األخري‪ ،‬جتمعا من الرجال املسلحني‪ ،‬وإذا كانت‬
‫سلطة طبقة مسيطرة قائمة يف التعيني األخري على اإلكراه العنيف‪ ،‬يبقى أن هذه‬
‫السلطة ال تستطيع أن تقتصر حصرا على هذا اإلكراه‪ .‬قال نابليون بونابرت أنه‬
‫ميكن عمل أي شيء باحلراب‪ ،‬عدا اجللوس عليها‪ .‬فإن جمتمعا طبقيا ال يقوم إالّ‬
‫على العنف املسلح قد يصبح يف حال من احلرب األهلية الدائمة‪ ،‬أي يف حال‬
‫من األزمة بالغة احلدة‪.‬‬
‫لذا ال غىن من أجل تدعيم سيطرة طبقة على أخرى‪ ،‬ال غىن على اإلطالق‬
‫عن جعل املنتجني‪ ،‬أعضاء الطبقة املستغَلة‪ ،‬يقبلون بتملك النتاج االجتماعي‬
‫الفائض من قبل أقلية على أنه أمر حتمي ودائم وعادل‪ .‬وهلذا السبب ال تقوم‬
‫الدولة بوظيفة قمع فحسب‪ ،‬بل تقوم أيضا بوظيفة احتواء أيديولوجي‪ .‬إن‬
‫"منتجي األيديولوجية" هم الذين يؤمنون هذه الوظيفة األخرية‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫إن من خصائص البشرية أهنا ال تستطيع تأمني عيشها إالّ بواسطة عمل‬
‫اجتماعي يقتضي قيام روابط‪ ،‬أي عالقات إنتاج‪ ،‬بني البشر‪.‬‬
‫هذه الروابط اليت ال غىن عنها تفرض ضرورة تواصل‪ ،‬أي لغة‪ ،‬بني البشر‪،‬‬
‫األمر الذي يسمح بتطور الوعي والفكر و"إنتاج األفكار" (أي املفاهيم)‪ .‬هكذا‬
‫فإن مجيع األعمال اهلامة يف احلياة البشرية مرفقة بتفكري حوهلا يف ذهن البشر‪.‬‬
‫غري أن هذا التفكري ال جيري بصورة عفوية متاما‪ .‬وال خيرتع دوما كل فرد أفكارا‬
‫جديدة‪ .‬بل يفكر معظم األفراد بواسطة أفكار تعلموها يف املدرسة أو الكنيسة‬
‫وأيضا‪ ،‬يف عصرنا هذا بواسطة أفكار مستعارة من التلفزيون أو الراديو‪ ،‬من‬
‫اإلعالنات أو من الصحف‪ .‬إن إنتاج األفكار‪ ،‬ونظم األفكار املسماة‬
‫باإليديولوجيات‪ ،‬هو إذا حمدود جدا‪ .‬وهو يظهر أيضا كاحتكار ألقلية صغرية يف‬
‫اجملتمع‪ .‬إن اإليديولوجية السائدة‪ ،‬يف كل جمتمع طبقي‪ ،‬هي أيديولوجية الطبقة‬
‫السائدة‪ .‬والسبب األول يف ذلك هو أن منتجي األيديولوجية مرهتنون ماديا‬
‫مبالكي االنتاج االجتماعي الفائض‪.‬‬
‫يف بداية العصر الوسيط‪ ،‬كان األسياد والكنيسة (وهي مالك عقاري إقطاعي‬
‫كبري‪ ،‬إىل جانب النبالء) ينفقون على الشعراء والرسامني والفالسفة‪ .‬وعندما تبدل‬
‫الوضع االجتماعي واالقتصادي‪ ،‬أوصى التجار ورجال املصارف األغنياء هم أيضا‬
‫على أعمال أدبية أو فلسفية أو فنية‪ .‬بيد أن االرهتان املادي مل خيف‪ ،‬حىت جاءت‬
‫الرأمسالية وظهر معها منتجو أيديولوجية مل يعد عملهم خاضعا مباشرة للطبقة‬
‫السائدة‪ ،‬بل عملوا ألجل "سوق مغفلة"‪.‬‬
‫مهما يكن من أمر‪ ،‬فإن وظيفة األيديولوجية السائدة هي بال جدال وظيفة‬
‫مثبتة للمجتمع كما هو‪ ،‬أي للسيطرة الطبقية‪ .‬إن القانون حيمي شكل امللكية‬
‫السائدة ويربره‪ .‬وتلعب العائلة الدور ذاته‪ّ .‬أما الدين فيعظ املستغَلني بقبول‬
‫مصريهم‪ .‬وحتاول األفكار السياسية واألخالقية السائدة أن تربر حكم الطبقة‬
‫السائدة بواسطة سفسطات أو حقائق نصفية (مثال‪ ،‬األطروحة اليت صاغها‬

‫‪28‬‬
‫الدولة‪ ،‬أداة للسيطرة الطبقية‬

‫غوته(‪ )11‬أثناء الثورة الفرنسية وضدها‪ ،‬والقائلة أن الفوضى اليت خيلقها النضال ضد‬
‫ضد الظلم هي أسوأ من الظلم ذاته‪ .‬خالصة القول‪ :‬ال تغريوا النظام القائم)‪.‬‬

‫‪ .4‬األيديولوجية السائدة واأليديولوجية الثورية‬

‫لكن إذا صح أن األيديولوجية السائدة يف كل عصر هي أيديولوجية الطبقة‬


‫السائدة‪ ،‬فهذا ال يعين قط أن األفكار الوحيدة املوجودة يف جمتمع طبقي معني هي‬
‫أفكار الطبقة السائدة‪ .‬بصورة عامة ‪ -‬ومبسطة ‪ -‬جتول يف كل جمتمع طبقي‬
‫ثالث فئات كبرية من األفكار‪ ،‬على األقل‪:‬‬
‫‪ -‬األفكار اليت تعكس مصاحل الطبقة السائدة يف عصرها‪ ،‬وهي األفكار السائدة‪.‬‬
‫‪ -‬أفكار طبقات سادت سابقا‪ ،‬وقد هزمت وأزحيت عن السلطة‪ ،‬لكنها ال تزال‬
‫متارس نفوذا على الناس‪ .‬هذا األمر يعود إىل قوة ثبات الوعي‪ ،‬الذي هو دائما‬
‫متأخر بالنسبة للواقع املادي‪ .‬فإن نقل األفكار ونشرها مستقالن جزئيا عما‬
‫جيري يف دائرة اإلنتاج املادي‪ .‬وجيوز بالتايل أن يبقى لقوى اجتماعية مل تعد‬
‫سائدة نفوذ على األفكار‪.‬‬
‫‪ -‬أفكار طبقة جديدة ثورية صاعدة‪ ،‬ال تزال حتت سيادة غريها‪ ،‬لكنها قد‬
‫بدأت كفاحها من أجل حتررها‪ ،‬ويتوجب عليها أن تتخلص‪ ،‬ولو جزئيا‪ ،‬من‬
‫أفكار مضطهديها قبل أن تتمكن من إطاحة االضطهاد بالفعل‪.‬‬
‫إن مثال القرن التاسع عشر يف فرنسا منوذجي جدا يف هذا الصدد‪ .‬فالطبقة‬
‫السائدة كانت الربجوازية‪ .‬وكان لديها مفكرون ورجال قانون وأيديولوجيون‬
‫وفالسفة وأخالقيون وأدباء خاصون هبا‪ ،‬من بداية القرن حىت هنايته‪ .‬وكانت طبقة‬
‫النبالء نصف اإلقطاعية قد أزحيت بوصفها طبقة سائدة من قبل الثورة الفرنسية‬
‫العظمى‪ .‬ومل تعد إىل السلطة بواسطة رجوع عائلة البوربون إىل العرش سنة‬

‫)‪ (11‬غوته ( ‪ : )1,,0 - 1947‬من مشاهري األدباء األملان‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫‪ .1,10‬غري أن أيديولوجيتها‪ ،‬ال سيما االكلريوسية‪ ،‬استمرت مبمارسة نفوذ‬


‫عميق‪ ،‬طوال عقود‪ ،‬ليس فقط على بقايا النبالء‪ ،‬بل أيضا على أجزاء من‬
‫الربجوازية وشرائح من الربجوازية الصغرية (فالحني) وحىت من الطبقة العاملة‪.‬‬
‫بيد أنه‪ ،‬إىل جانب األيديولوجية الربجوازية واأليديولوجية نصف اإلقطاعية‪،‬‬
‫كانت الربوليتاريا قد أخذت تتطور‪ ،‬بدءا بأيديولوجية البابوفيني(‪ ،)10‬مث‬
‫البالنكيني(‪ )1,‬مث املشاعيني‪ ،‬وصوال إىل املاركسية وعامية باريس‪.‬‬

‫‪ .5‬الثورات االجتماعية والثورات السياسية‬

‫كلما زاد استقرار جمتمع طبقي‪ ،‬خفت املعارضة لسيادة الطبقة السائدة‬
‫واحنصر الصراع الطبقي يف نزاعات حمدودة ال هتدد بنية ذلك اجملتمع‪ ،‬أي ما‬
‫يسميه املاركسيون عالقات اإلنتاج أو منط اإلنتاج‪ .‬ويف املقابل‪ ،‬كلما تصدع‬
‫االستقرار االقتصادي واالجتماعي لنمط إنتاج معني‪ ،‬تصاعدت املعارضة لسيادة‬
‫الطبقة احلاكمة وتطور الصراع الطبقي إىل حد طرح مسألة إسقاط هذه السيادة‪،‬‬
‫مسألة الثورة االجتماعية‪.‬‬
‫تنفجر ثورة اجتماعية عندما ال تعود الطبقات املستغَلة واخلاضعة تقبل‬
‫باستغالهلا على أنه حتمي ودائم وعادل‪ ،‬عندما ال تعود ختاف من إكراه احلكام‬
‫العنيف وال تقبل بقمعهم هلا وال باأليديولوجية اليت تربر حكمهم‪ ،‬وعندما جتمع‬
‫القوى املادية واملعنوية الضرورية إلسقاط الطبقة السائدة‪ .‬مثل هذه الشروط ينتج‬
‫عن حتوالت اقتصادية عميقة‪ .‬فالتنظيم االجتماعي ومنط اإلنتاج القائمان‪ ،‬اللذان‬
‫مسحا خالل مرحلة معينة بتطوير القوى املنتجة وثروة اجملتمع املادية‪ ،‬يصبحان‬

‫)‪ )10‬بابوف ( ‪ : ) 1979 - 1972‬قائد ثوري فرنسي‪ ،‬له مذهب قريب من الشيوعية‪.‬‬
‫)‪ )1,‬بالنكي ( ‪ ) 1,,1 - 1,20‬قائد انتفاضة ثورية يف فرنسا سنة ‪ 1,,7‬وأحد قادة ثورة‬
‫‪.1,4,‬‬

‫‪31‬‬
‫الدولة‪ ،‬أداة للسيطرة الطبقية‬

‫عائقا لتطورها الحقا‪ .‬فيصطدم توسع اإلنتاج بتنظيمه االجتماعي‪ ،‬وبعالقات‬


‫اإلنتاج االجتماعية؛ هوذا املصدر األساسي جلميع الثورات االجتماعية يف التاريخ‪.‬‬
‫إن الثورة االجتماعية تستبدل حكم طبقة حبكم طبقة أخرى‪ .‬وتفرتض إزاحة‬
‫الطبقة السائدة سابقا عن سلطة الدولة‪ .‬فكل ثورة اجتماعية مرفقة إذا بثورة‬
‫سياسية‪ .‬وتتميز الثورات الربجوازية بصورة عامة بإلغاء امللكية املطلقة واستبداهلا‬
‫بسلطة سياسية هي يف قبضة جمالس تنتخبها الربجوازية‪ .‬فقد ألغت اجلمعيات‬
‫العامة سلطة امللك فيليب الثاين يف ثورة البلدان الواطئة‪ .‬وحطم الربملان اإلنكليزي‬
‫ملكية شارل األول املطلقة يف ثورة ‪ 1747‬اإلنكليزية‪ .‬وحطم الكونغرس األمريكي‬
‫سيادة امللك جورج الثالث على الواليات املتحدة الثالث عشرة‪ .‬وحطمت‬
‫اجلمعيات املختلفة ملكية البوربون يف ثورة ‪ 19,7‬الفرنسية‪.‬‬
‫بيد أنه إذا صح أن كل ثورة اجتماعية هي يف الوقت نفسه ثورة سياسية‪،‬‬
‫فليست كل ثورة سياسية بالضرورة ثورة اجتماعية‪ .‬إن ثورة سياسية فقط تقتضي‬
‫االستبدال الثوري لشكل من السيادة‪ ،‬لشكل من دولة طبقة‪ ،‬بشكل آخر من‬
‫دولة الطبقة ذاهتا‪ .‬هكذا فإن الثورات الفرنسية يف أعوام ‪ 1,,2‬و‪1,4,‬‬
‫و‪ 1,92‬كانت ثورات سياسية أقامت بالتتايل ملكية يوليو واجلمهورية الثانية‬
‫واجلمهورية الثالثة بعد اإلمرباطورية الثانية‪ ،‬وكلها أشكال سياسية خمتلفة حلكم‬
‫غري الثورات السياسية‬
‫طبقة اجتماعية وحيدة واحدة‪ :‬الربجوازية‪ .‬بصورة عامة‪ ،‬تُ ر‬
‫شكل دولة الطبقة االجتماعية ذاهتا‪ ،‬انسجاما مع مصاحل مهيمنة لشرائح وأقسام‬
‫شىت من هذه الطبقة تتعاقب يف السلطة‪ .‬غري أن منط اإلنتاج األساسي ال تغريه‬
‫أبدا هذه الثورات‪.‬‬

‫‪ .6‬خصائص الدولة البرجوازية‬

‫مل ختلق الربجوازية احلديثة جهاز دولتها من العدم‪ .‬بل اكتفت عموما‬
‫باالستيالء على جهاز دولة امللكية املطلقة‪ ،‬ومن مث أعادت ترتيبه لتجعل منه أداة‬

‫‪31‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫ختدم مصاحلها الطبقية‪ .‬تتميز الدولة الربجوازية بأهنا‪ ،‬فضال عن وظيفتها القمعية‬
‫ووظيفتها األيديولوجية (االحتوائية)‪ ،‬تقوم بوظيفة ال غىن عنها حلسن سري‬
‫االقتصاد الرأمسايل؛ وظيفة تأمني الشروط العامة لإلنتاج الرأمسايل‪ .‬فاإلنتاج‬
‫الرأمسايل‪ ،‬بالفعل‪ ،‬إنتاج قائم على امللكية اخلاصة وبالتايل على املزامحة‪ .‬وهذا‬
‫الواقع بالذات حيول دون التماثل بني املصلحة اجلماعية للبورجوازية بوصفها طبقة‬
‫ومصلحة أي رأمسايل ولو كان األغىن‪ .‬فتحصل الدولة على استقالل معني لتتمكن‬
‫من متثيل تلك املصلحة اجلماعية‪ :‬إهنا "الرأمسايل اجلماعي املثايل" (ف‪ .‬اجنلس)‪.‬‬
‫ولكي يستطيع االقتصاد الرأمسايل أن يعمل بصورة طبيعية‪ ،‬بل مثالية‪ ،‬يقتضي‬
‫وجود شروط قانونية وأمنية مستقرة ومتساوية بالنسبة جلميع الرأمساليني‪ .‬يقتضي‬
‫على األقل سوقا قومية موحدة ونظاما نقديا قائما على عملة واحدة أو على عدد‬
‫حمدود نسبيا يف العمالت القومية‪ .‬كل هذه الشروط ال ميكن أن تنجم عفويا عن‬
‫امللكية اخلاصة أو عن املزامحة الرأمساليتني‪ .‬إن الدولة الربجوازية هي اليت ختلقها‪.‬‬
‫وعندما تكون الربجوازية مزدهرة وصاعدة اقتصاديا ومتأكدة من سيطرهتا‬
‫اجتماعيا وسياسيا‪ ،‬متيل إىل تقليص الوظائف االقتصادية للدولة إىل احلد األدىن‬
‫الذي وصفناه توا‪ّ .‬أما يف شروط إضعاف احلكم الربجوازي واحنداره‪ ،‬فتحاول‪،‬‬
‫على العكس‪ ،‬أن توسع هذه الوظائف لتؤمن لنفسها ضمانات ربح خاص‪.‬‬
‫المراجع‬
‫ك‪ .‬ماركس وف‪ .‬إجنلس‪ ،‬البيان الشيوعي‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫ف‪ .‬اجنلس‪ ،‬أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫هرمن غورتر‪ ،‬المادية التاريخية‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫بوخارين‪ ،‬نظرية المادية التاريخية‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫بليخانوف‪ ،‬المسائل األساسية في الماركسية‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫ك كاوتسكي‪ ،‬األخالق والتصور المادي للتاريخ‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫أ‪ .‬موريه وج‪ .‬دايف‪ ،‬من العشائر إلى اإلمبراطوريات‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫‪32‬‬
‫(‪)4‬‬
‫من اإلنتاج البضاعي الصغير إلى نمط اإلنتاج الرأسمالي‬
‫‪ .1‬اإلنتاج من أجل سد الحاجات واإلنتاج من أجل التبادل‬

‫يف اجملتمع البدائي‪ ،‬مث داخل املشاعة القروية اليت خلقتها ثورة عصر احلجر‬
‫املصقول‪ ،‬كان اإلنتاج يهدف باألساس إىل سد حاجات اجلماعات املنتجة‪ .‬ومل‬
‫يكن التبادل سوى طارئ‪ ،‬وال يطول غري جزء طفيف جدا من املنتوجات اليت‬
‫كانت يف حوزة املشاعة‪.‬‬
‫ويفرتض مثل هذا الشكل من اإلنتاج تنظيما متعمدا للعمل‪ .‬والعمل فيه هو‬
‫بالتايل اجتماعي مباشرة‪ .‬والقول أن تنظيم العمل متعمد ال يعين بالضرورة أنه‬
‫تنظيم واع (وليس علميا بالتأكيد)‪ ،‬وال تنظيم دقيق‪ .‬بل ميكن أن يكون العديد‬
‫من األمور مرتوكا للصدفة‪ ،‬بالضبط ألنه ليس من دافع إىل اإلثراء اخلاص يتحكم‬
‫بالنشاط االقتصادي‪ .‬فاألخالق والعادات السلفية والتقاليد والطقوس والدين‬
‫والسحر ميكنها مجيعا أن حتدد تناوب النشاطات املنتجة ووتريهتا‪ .‬بيد أن هذه‬
‫النشاطات خمصصة دوما بشكل أساسي لسد احلاجات املباشرة للجماعات‪،‬‬
‫وليس للتبادل أو لإلثراء بوصفه هدفا حبد ذاته‪.‬‬
‫وينبثق تدرجييا من مثل هذا التنظيم للحياة االقتصادية شكل من التنظيم‬
‫االقتصادي هو نقيضه الكلي‪ .‬فبعد تقدم تقسيم العمل وظهور فائض معني‪،‬‬
‫تتفتت طاقة عمل اجلماعة تدرجييا إىل وحدات (عائالت كربى‪ ،‬عائالت أبوية)‬
‫تعمل باالستقالل بعضها عن البعض اآلخر‪ .‬ويفصل بني أعضاء اجلماعة الطابع‬
‫اخلاص للعمل وامللكية اخلاصة ملنتوجات العمل‪ ،‬بل لوسائل اإلنتاج‪ .‬فيمنع هذا‬
‫الطابع اخلاص أعضاء اجلماعة من عقد عالقات اقتصادية اجتماعية متعمدة‬

‫‪33‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫ومباشرة‪ ،‬فيما بينهم‪ .‬ومل يعد من تشارك مباشر بني الوحدات أو األفراد يف احلياة‬
‫االقتصادية‪ ،‬بل أصبحت العالقات تتم بواسطة تبادل منتجات عملهم‪.‬‬
‫إن البضاعة نتاج للعمل االجتماعي خيصصه منتجه للتبادل وليس الستهالكه‬
‫اخلاص أو استهالك اجلماعة اليت ينتمي إليها مباشرة‪ ،‬فهي‪ ،‬أي البضاعة‪ ،‬تفرتض‬
‫وضعا اجتماعيا خمتلفا اختالفا عميقا عن الوضع الذي كانت فيه كتلة املنتجات‬
‫خمصصة لالستهالك املباشر من قبل اجلماعات اليت أنتجتها‪ .‬طبعا‪ ،‬مثة حاالت‬
‫انتقالية (مثال‪ ،‬مزارع سد احلاجات املعيشية يف عصرنا‪ ،‬اليت تبيع فائضا صغريا يف‬
‫السوق)‪ .‬لكن إذا أردنا أن ندرك جيدا الفرق األساسي بني وضع اجتماعي يكون‬
‫فيه االنتاج خمصصا بصورة رئيسية الستهالك املنتجني املباشر ووضع يكون فيه‬
‫اإلنتاج خمصصا للتبادل‪ ،‬فلنتذكر اجلواب الساخر الذي أجاب به االشرتاكي‬
‫األملاين فردينان السال أحد االقتصاديني الليرباليني يف عصره ‪ :‬رمبا أن السيد فالنا‬
‫بن فالن‪ ،‬وهو مقاول يف شؤون اجلنازات‪ ،‬ينتج نعوشا الستعماله اخلاص أوال‬
‫والستعمال أعضاء أسرته‪ ،‬وال يبيع سوى الفائض الذي يبقى لديه‪.‬‬

‫‪ .2‬اإلنتاج البضاعي الصغير‬

‫ظهر إنتاج البضائع أوال قبل ما يقارب ‪ 12‬ألف أو ‪ 10‬ألف سنة‪ ،‬يف الشرق‬
‫األوسط‪ ،‬يف إطار تقسيم أساسي أويل للعمل بني حرفيني مهنيني وفالحني‪ ،‬أي‬
‫بنتيجة ظهور املدن‪ .‬إننا نطلق على التنظيم االقتصادي الذي يغلب فيه اإلنتاج‬
‫من أجل التبادل من قبل منتجني ال يزالون أسياد شروط إنتاجهم‪ ،‬نطلق عليه‬
‫اسم‪ :‬اإلنتاج البضاعي الصغري‪ .‬وبالرغم من أنه كانت مثة أشكال متعددة لإلنتاج‬
‫البضاعي الصغري‪ ،‬ال سيما يف العصور القدمية وضمن منط اإلنتاج اآلسيوي‪ ،‬مل‬
‫يشهد اإلنتاج البضاعي الصغري ازدهاره الرئيسي إالّ بني القرنني الربع عشر‬
‫والسادس عشر يف إيطاليا الشمالية والوسطى ويف البلدان الواطئة اجلنوبية‬
‫والشمالية‪ ،‬نظرا الضمحالل القنانة يف هذه املناطق ويف تلك العصور‪ ،‬ولكون‬

‫‪34‬‬
‫من االنتاج البضاعي الصغري إىل منط االنتاج الرأمسايل‬

‫مالكي البضائع الذين التقوا يف أسواقها أحرارا عموما ومتساوين باحلقوق إىل هذا‬
‫احلد أو ذاك‪.‬‬
‫إن طابع احلرية واملساواة النسبيتني هذا الذي ميز مالكي البضائع‪ ،‬ضمن‬
‫جمتمع قائم على اإلنتاج البضاعي الصغري‪ ،‬هو بالضبط الذي يسمح بإدراك وظيفة‬
‫التبادل بعينها ‪ :‬السماح باستمرارية مجيع النشاطات املنتجة الرئيسية‪ ،‬بالرغم من‬
‫تقسيم للعمل بات متقدما وبدون أن ترهتن هذه النشاطات بقرارات متعمدة من‬
‫قبل اجلماعات أو أسيادها‪.‬‬
‫فمحل تنظيم العمل القائم على التوزيع‪ ،‬املتعمد‪ ،‬واملدبر سلفا‪ ،‬لليد العاملة‬
‫بني شىت فروع النشاط الرئيسية لسد حاجات اجملتمع املباشرة‪ ،‬حيل تقسيم للعمل‬
‫"فوضوي" و"حر" إىل هذا احلد أو ذاك‪ ،‬يبدو فيه أن الصدفة تتحكم بذاك‬
‫التوزيع للطاقات اإلنتاجية احلية أو امليتة (أدوات العمل)‪ .‬وحمل التخطيط التقليدي‬
‫أو الواعي لتوزيع هذه الطاقات حيل التبادل‪ .‬لكنه ينبغي عليه أن حيل بطريقة‬
‫تضمن استمرارية احلياة االقتصادية (ليس بدون العديد من "احلوادث العابرة"‬
‫واألزمات وانقطاعات إعادة اإلنتاج) وتضمن عموما أن جتد مجيع النشاطات‬
‫الرئيسية من ميارسها‪.‬‬

‫‪ .3‬قانون القيمة‬

‫إن الطريقة اليت تتحكم بالتبادل هي بالذات ما يضمن هذه النتيجة‪ ،‬يف‬
‫األجل املتوسط على األقل‪ .‬فتبادل البضائع حبسب كميات العمل الضرورية‬
‫إلنتاجها‪ .‬وتبادل نتاجات يوم عمل مزارع بنتاجات يوم عمل حائك‪ .‬وأنه لواضح‬
‫أن التبادل ال يستطيع أن يقوم سوى على هذا التعادل‪ ،‬بالضبط عند بداية اإلنتاج‬
‫البضاعي الصغري‪ ،‬عندما ال يزال تقسيم العمل بني الفالح واحلريف تقسيما أوليا‬
‫وعندما ال تزال نشاطات حرفية عديدة متارس يف املزرعة‪ .‬ولوال ذلك لرتك هذا‬
‫النشاط املنتج أو ذاك بسرعة‪ ،‬إذا كان يكافأ بأقل من النشاطات األخرى‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫وحلصل نقص يف هذا اجملال‪ ،‬نقص يرفع األسعار ويرفع بالتايل املكافأة اليت جينيها‬
‫القائمون هبذا النشاط‪ .‬هكذا تكون النشاطات املنتجة قد أعيد توزيعها بني‬
‫خمتلف قطاعات النشاط‪ ،‬مبا يعيد قاعدة التعادل ‪ :‬لقاء كمية معينة من العمل‬
‫املبذول‪ ،‬احلصول على الكمية ذاهتا من القيمة يف التبادل‪.‬‬
‫إننا نطلق اسم "قانون القيمة" على القانون الذي حيكم تبادل البضائع‬
‫وحيكم‪ ،‬بواسطة هذا التبادل‪ ،‬توزيع القوى العاملة ومجيع الطاقات اإلنتاجية بني‬
‫شىت فروع النشاط‪ .‬إنه بالفعل‪ ،‬إذا‪ ،‬قانون اقتصادي يقوم يف جوهره على شكل‬
‫من تنظيم العمل‪ ،‬على عالقات معقودة بني البشر ومتميزة عن العالقات اليت‬
‫تشرف على تنظيم لالقتصاد خمطط وفقا لتقاليد منتجني متشاركني أو إلختياراهتم‬
‫الواعية‪.‬‬
‫يضمن قانون القيمة االعرتاف االجتماعي بالعمل بعد أن أصبح عمال خاصا‪.‬‬
‫وهبذا املعىن‪ ،‬ينبغي أن يستند القانون إىل أساس من املقاييس املوضوعية‪ ،‬املتساوية‬
‫للجميع‪ .‬فال يعقل بالتايل أن يكون إسكايف كسول‪ ،‬حيتاج إىل يومي عمل إلنتاج‬
‫حذاءين ينتجهما إسكايف ماهر يف يوم عمل‪ ،‬ال يعقل أن يكون قد أنتج يف هناية‬
‫املطاف ضعفي القيمة اليت أنتجها اإلسكايف املاهر‪ .‬مثل هذا التنظيم للسوق‪،‬‬
‫يكافئ الكسل أو قلة املهارة‪ ،‬لو وجد ألدى مبجتمع قائم على تقسيم العمل‬
‫والعمل اخلاص إىل االرتداد السريع‪ ،‬بل إىل االضمحالل‪.‬‬
‫إن تعادل أيام العمل‪ ،‬الذي يضمنه قانون القيمة‪ ،‬هو هلذا السبب تعادل‬
‫عمل بإنتاجية متوسطة اجتماعيا‪ .‬هذه اإلنتاجية املتوسطة هي إمجاال مستقرة‬
‫ومعروفة لدى اجلميع يف جمتمع ما قبل رأمسايل‪ ،‬ألن التقنية اإلنتاجية تتطور فيه‬
‫ببط شديد أو ال تتطور قطعا‪ .‬نقول إذا إن قيمة البضائع حتددها كمية العمل‬
‫الضروري اجتماعيا إلنتاجها‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫من االنتاج البضاعي الصغري إىل منط االنتاج الرأمسايل‬

‫‪ .4‬ظهور الرأسمال‬

‫يف اإلنتاج البضاعي الصغري‪ ،‬يصل املزارع الصغري واحلريف الصغري إىل السوق‬
‫ومعهما منتجات عملهما‪ .‬فيبيعاهنا ليشرتيا منتجات حيتاجان إليها إلستهالكهما‬
‫اجلاري وال ينتجاهنا بنفسيهما وميكن تلخيص نشاطهما يف السوق بصيغة ‪ :‬البيع‬
‫من أجل الشراء‪.‬‬
‫بيد أنه سريعا ما يقتضي اإلنتاج البضاعي الصغري ظهور وسيلة تبادل مقبولة‬
‫لدى العموم (يطلق عليها أيضا اسم "املعادل العام") لتسهيل التبادل‪ .‬إن وسيلة‬
‫التبادل هذه‪ ،‬اليت ميكن مبادلة مجيع البضائع هبا دون فرق‪ ،‬هي النقد‪ .‬ومع ظهور‬
‫النقد‪ ،‬يصبح باإلمكان أن تظهر بنتيجة تقدم جديد يف التقسيم االجتماعي‬
‫للعمل شخصية اجتماعية أخرى‪ ،‬طبقة اجتماعية أخرى‪ :‬صاحب املال‪ ،‬املستقل‬
‫عن مالك البضائع بذاهتا واملقابل له‪ .‬إنه املرايب أو التاجر املتخصص يف التجارة‬
‫الدولية‪ .‬ويقوم صاحب املال هذا بنشاط يف السوق خمتلف جدا عن نشاط‬
‫الفالح الصغري أو احلريف‪ .‬فبما أنه يصل إىل السوق ومعه مبلغ معني من املال‪ ،‬مل‬
‫يعد شغله أن يبيع لكي يشرتي‪ ،‬بل على العكس أن يشرتي لكي يبيع‪ .‬إن‬
‫عما ينتجانه‬
‫الفالح أو احلريف الصغريين يبيعان لكي يشرتيا بضاعة خمتلفة ّ‬
‫بنفسيهما‪ ،‬غري أن اهلدف من العملية يبقى سد حاجات مباشرة إىل هذا احلد أو‬
‫ذاك‪ .‬وبالعكس‪ ،‬فإن صاحب املال ال يستطيع أن "يشرتي لكي يبيع" من أجل‬
‫سد حاجاته فقط‪ .‬إن "الشراء من أجل البيع" ال معىن له يف نظر صاحب‬
‫املصرف أو التاجر إالّ إذا باع لقاء مبلغ يفوق املبلغ الذي جاء به إىل السوق‪ .‬إن‬
‫ازدياد قيمة املال عن طريق احلصول على فائض قيمة‪ ،‬أي اإلثراء بوصفه هدفا‬
‫بذاته‪ ،‬هو معىن نشاط املرايب أو التاجر‪.‬‬
‫إن الرأمسال ‪ -‬إذ أنه هو املعين‪ ،‬بشكله األويل والبدائي‪ ،‬شكل الرأمسال‬
‫النقدي ‪ -‬هو إذا كل قيمة حتاول أن حتصل على فائض قيمة‪ ،‬كل قيمة تنطلق‬
‫حبثا عن فائض قيمة‪ .‬هذا التعريف املاركسي للرأمسال يتعارض مع التعريف الشائع‬

‫‪37‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫يف املوجزات الربجوازية والقائل أن الرأمسال هو ببساطة كل أداة عمل‪ ،‬أو حىت‪،‬‬
‫مبزيد من اإلهبام‪" ،‬كل سلعة دائمة"‪ .‬مبثل هذا التعريف‪ ،‬فإن أول قرد ضرب‬
‫شجرة موز بعصا للحصول على موز هو أول رأمسايل …‬
‫فلنؤكد مرة أخرى على الفكرة‪ :‬إن مقولة "الرأمسال"‪ ،‬شأهنا شأن مجيع‬
‫"املقوالت االقتصادية"‪ ،‬ال ميكن فهمها إالّ بالنظر إىل كوهنا قائمة على عالقة‬
‫اجتماعية بني البشر‪ ،‬أي عالقة تتيح لصاحب رأمسال أن يتملك فائض قيمة‪.‬‬

‫‪ .5‬من الرأسمال إلى الرأسمالية‬

‫ال يتطابق وجود الرأمسال مع وجود منط اإلنتاج الرأمسايل‪ .‬بالعكس‪ ،‬فإن‬
‫رساميل قد وجدت وجرى تداوهلا طوال آالف السنني ‪ ،‬قبل والدة منط اإلنتاج‬
‫الرأمسايل يف أوروبا الغربية يف القرنني اخلامس عشر والسادس عشر‪.‬‬
‫وقد ظهر املرايب والتاجر أوال داخل جمتمعات ما قبل رأمسالية‪ ،‬عبودية‪ ،‬إقطاعية‬
‫أو قائمة على منط اإلنتاج االسيوي‪ .‬إهنما يعمالن يف هذه اجملتمعات خارج دائرة‬
‫اإلنتاج بصورة رئيسية‪ .‬ويؤمنان دخول املال إىل جمتمع طبيعي (هذا املال يأيت من‬
‫اخلارج عموما)‪ ،‬ويدخالن منتجات كمالية أتت من بعيد‪ ،‬ويوفران حدا أدىن من‬
‫التسليف للطبقات املالكة اليت ال حتوز على ثروات منقولة وللملوك واألباطرة‬
‫أيضا‪ .‬مثل هذا الرأمسال ضعيف سياسيا‪ ،‬وليس مبنأى عن االبتزاز والسلب‬
‫واملصادرة‪ .‬وهو ذا أصال مصريه االعتيادي‪ .‬لذا حيمي صاحب املال ثروته بغريه‪،‬‬
‫حىت أنه خيفي جزءا منها وحيرص على أالّ يوظفها بكاملها خوفا من أن جتري‬
‫مصادرهتا‪ .‬فقد طالت املصادرات بعض أثرى جتمعات أصحاب الرساميل يف‬
‫العصر الوسيط‪ ،‬أمثال فرسان املعبد(‪ )14‬يف القرن الرابع عشر يف فرنسا‪ .‬وقد خسر‬

‫(‪ )14‬فرسان املعبد‪ :‬مجعية فرسان شاركوا يف احلروب الصليبية واغتنوا فاصبحوا رجال مصاريف‪ .‬وقد‬
‫صودرت ثروهتم واعدموا حرقا يف القرن الرابع عشر‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫من االنتاج البضاعي الصغري إىل منط االنتاج الرأمسايل‬

‫رجال املصارف اإليطاليون ثرواهتم بعد أن مولوا حروب ملوك إنكلرتا‪ ،‬ألن هؤالء‬
‫امللوك مل يسددوا ديوهنم‪.‬‬
‫إن الرأمسال ال يستطيع أن يرتاكم ‪ -‬أن ينمو ‪ -‬بصورة متواصلة إىل هذا احلد‬
‫أو ذاك‪ ،‬إالّ عندما يكون ميزان القوى السياسي قد تغري إىل حد أصبحت عنده‬
‫املصادرات أصعب فأصعب‪ .‬منذ ذلك احلني‪ ،‬يصبح دخول الرأمسال يف دائرة‬
‫اإلنتاج ممكنا‪ ،‬وتصبح معه والدة منط اإلنتاج الرأمسايل‪ ،‬والدة الرأمسالية احلديثة‪،‬‬
‫ممكنة‪.‬‬
‫مل يعد اآلن صاحب الرساميل جمرد مراب أو مصريف أو تاجر‪ .‬إنه مالك‬
‫وسائل إنتاج‪ ،‬ومستأجر سواعد ومنظم لإلنتاج وصاحب معمل أو مصنع‪ .‬ومل‬
‫يعد فائض القيمة مستخرجا من دائرة التوزيع‪ .‬بل هو منتج بصورة مستمرة خالل‬
‫سريورة اإلنتاج ذاهتا‪.‬‬

‫‪ .6‬ما هو فائض القيمة ؟‬

‫يف اجملتمع ما قبل الرأمسايل عندما يعمل أصحاب الرساميل يف دائرة التداول‬
‫بصورة رئيسية‪ ،‬ال يستطيعون أن يتملكوا فائض قيمة إالّ باستغالل مداخيل‬
‫طبقات أخرى يف اجملتمع بشكل طفيلي‪ .‬وميكن أن يكون أصل فائض القيمة‬
‫الطفيلي هذا ّأما جزءا من الفائض الزراعي (من الريع اإلقطاعي مثال) امتلكه أوال‬
‫النبالء أو االكلريوس‪ ،‬و ّأما جزءا من مداخيل احلرفيني والفالحني الضامرة‪ .‬إن‬
‫فائض القيمة هذا هو يف جوهره نتاج اخلداع والسلب‪ .‬وقد لعبت القرصنة والنهب‬
‫وجتارة الرقيق دورا رئيسيا يف تكون أوىل ثروات جتار إيطاليني وفرنسيني وفلمنديني‬
‫وأملان وإنكليز‪ ،‬يف العصر الوسيط‪ .‬ولعبت الحقا ممارسة شراء البضائع يف أسواق‬
‫بعيدة بأقل من قيمتها‪ ،‬مث إعادة بيعها بأكثر من قيمتها يف أسواق منطقة البحر‬
‫املتوسط أو أوروبا الغربية والوسطى‪ ،‬لعبت دورا مماثال‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫إنه ملن الواضح أن فائض قيمة كهذا ال ينجم سوى عن نشاطات حتويل‪ .‬وال‬
‫يزداد هبا جممل ثروة اجملتمع بأسره‪ .‬بل خيسر بعضهم ما يرحبه بعضهم اآلخر‪.‬‬
‫وبالفعل فإن الثروة املنقولة اإلمجالية للبشرية مل تزد طوال آالف السنني إالّ ازديادا‬
‫بسيطا‪ ،‬إالّ أن األمر قد تبدل منذ والدة منط اإلنتاج الرأمسايل‪ .‬ذلك أن فائض‬
‫القيمة مل يعد‪ ،‬منذ ذلك احلني‪ ،‬مسحوبا ببساطة من سريورة تداول البضائع‪ .‬بل‬
‫هو اآلن منتج بصورة مستمرة‪ ،‬وبالتايل يزداد توسعا بصورة مستمرة‪ ،‬خالل اإلنتاج‬
‫بالذات‪.‬‬
‫لقد رأينا أن املنتجني (عبيدا‪ ،‬وأقنانا‪ ،‬وفالحني) يف مجيع اجملتمعات الطبقية ما‬
‫قبل الرأمسالية كانوا مضطرين لتقسيم أسبوع عملهم أو إنتاجهم السنوي إىل قسم‬
‫كان بوسعهم استهالكه بأنفسهم (النتاج الضروري)‪ ،‬وقسم كانت الطبقة السائدة‬
‫تتملكه (النتاج االجتماعي الفائض)‪ .‬فإن الظاهرة ذاهتا حتصل يف املصنع‬
‫الرأمسايل‪ ،‬بالرغم من أهنا مموهة مبظهر العالقات التجارية اليت تبدو كأهنا حتكم‬
‫"الشراء احلر والبيع احلر" لقوة العمل بني الرأمسايل والعامل‪.‬‬
‫عندما يبدأ العامل العمل يف املصنع‪ ،‬يف بداية يوم عمله (أو أسبوع عمله)‪،‬‬
‫فإنه يضيف قيمة إىل املواد األولية اليت يعمل هبا‪ .‬وبعد عدد من ساعات (أو أيام)‬
‫العمل‪ ،‬يكون قد أعاد إنتاج قيمة تعادل بالضبط أجره اليومي (أو األسبوعي)‪.‬‬
‫ولو توقف عن العمل يف تلك اللحظة بالذات‪ ،‬يكون الرأمسايل مل حيصل على‬
‫فلس من فائض القيمة‪ .‬غري أن الرأمسايل لن تكون لديه يف هذه الشروط أية‬
‫مصلحة يف شراء قوة العمل‪ .‬فهو كاملرايب أو التاجر يف العصر الوسيط‪" ،‬يشرتي‬
‫لكي يبيع"‪ .‬إنه يشرتي قوة العمل ليحصل منها على نتاج أعلى مما أنفقه ليشرتيها‬
‫هذه "الزودة"‪ ،‬هذه "اإلضافة"‪ ،‬هي بالضبط فائض قيمته‪ ،‬أي رحبه‪ .‬وأنه ملفهوم‬
‫بالتايل أن العامل‪ ،‬إذا كان ينتج معادل أجره خالل أربع ساعات عمل‪ ،‬سوف‬
‫يعمل ليس أربع ساعات بل ستا أو سبعا أو مثاين أو تسعا‪ .‬فهو‪ ،‬خالل الساعتني‬
‫أو الثالث أو األربع أو اخلمس "اإلضافية"‪ ،‬ينتج فائض قيمة لصاحل الرأمسايل وال‬

‫‪41‬‬
‫من االنتاج البضاعي الصغري إىل منط االنتاج الرأمسايل‬

‫يلقى شيئا مقابله‪ .‬إن مصدر فائض القيمة هو إذا عمل إضايف‪ ،‬عمل جماين‪،‬‬
‫يتملكه الرأمسايل‪ .‬وسوف يصرخ بعضهم‪" :‬بل هذه سرقة !"‪ .‬واجلواب ينبغي أن‬
‫يكون "نعم وكال"‪ .‬نعم من وجهة نظر العامل‪ ،‬وكال من وجهة نظر الرأمسايل‬
‫و"قوانني السوق"‪.‬‬
‫وبالفعل فإن الرأمسايل مل يشرت يف السوق "القيمة املنتجة أو اليت سوف ينتجها‬
‫العامل"‪ .‬مل يشرت "عمل" العامل‪ ،‬أي العمل الذي سوف يقوم به العامل (لو فعل‬
‫ذلك ألرتكب فعال سرقة بكل معىن الكلمة ودفع ألف فرنك لقاء ما قيمته ألفا‬
‫فرنك)‪ .‬لكنه اشرتى قوة عمل العامل‪ .‬ولقوة العمل هذه قيمة خاصة‪ ،‬كما أن‬
‫لكل بضاعة قيمتها‪ .‬فإن قيمة قوة العمل حتددها كمية العمل الضرورية إلعادة‬
‫إنتاجها‪ ،‬أي إلعالة العامل وأسرته‪ .‬وجيد فائض القيمة مصدره يف ظهور فارق بني‬
‫القيمة اليت ينتجها العامل وقيمة البضائع الضرورية لتأمني عيشه (باملعىن العريض‬
‫للكلمة)‪ .‬هذا الفارق يعود الزدياد إنتاجية عمل العامل‪ .‬ويستطيع الرأمسايل أن‬
‫يتملك فوائد ازدياد إنتاجية العمل‪ ،‬ألن قوة العمل أصبحت بضاعة وألن العامل‬
‫قد وضع يف شروط مل تعد ختوله إنتاج عيشه اخلاص‪.‬‬

‫‪ .7‬شروط ظهور الرأسمالية الحديثة‬

‫إن الرأمسالية احلديثة نتاج ثالثة حتوالت اقتصادية واجتماعية‪:‬‬


‫أ‪ .‬فصل املنتجني عن وسائلهم لإلنتاج والعيش‪ .‬وقد جرى هذا الفصل‪ ،‬ال سيما‬
‫يف الزراعة‪ ،‬بطرد الفالحني الصغار من أراضي األسياد اليت مت حتويلها إىل‬
‫مروج‪ ،‬ويف الصناعة احلرفية‪ ،‬بتحطيم مجعيات احلرف القروسطية‪ ،‬وبتطور‬
‫الصناعة املنزلية وبالتملك اخلاص لألراضي العذراء‪ ،‬اخل‪.‬‬
‫ب‪ .‬تكون طبقة اجتماعية حتتكر وسائل اإلنتاج‪ :‬هي الربجوازية احلديثة‪ .‬وظهور‬
‫هذه الطبقة يفرتض أوال تراكمها للرساميل بشكل نقدي‪ ،‬مث حتوال يف وسائل‬
‫اإلنتاج جيعلها مثينة إىل حد أن أصحاب الرساميل النقدية اهلامة وحدهم‬

‫‪41‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫يستطيعون احلصول عليها‪ .‬وقد حققت ثورة القرن الثامن عشر الصناعية‪ ،‬اليت‬
‫جعلت اآلالت أساس اإلنتاج‪ ،‬حققت هذا التحول بصورة هنائية‪.‬‬
‫ج‪ .‬حتول قوة العمل إىل بضاعة‪ .‬هذا التحول ينتج عن ظهور طبقة ال متلك شيئا‬
‫سوى قوة عملها وهي مضطرة‪ ،‬من أجل العيش‪ ،‬أن تبيع قوة العمل هذه‬
‫ملالكي وسائل اإلنتاج‪.‬‬
‫" أناس فقراء وكادحون يتحمل العديد منهم عبء نساء والعديد من األوالد‬
‫وال يملكون شيئا سوى ما يمكنهم كسبه بعمل أيديهم ‪" ..‬‬

‫هو ذا وصف بارع للربوليتاريا احلديثة‪ ،‬ورد يف التماس كتب يف مدينة اليد (يف‬
‫البلدان الواطئة) يف هناية القرن السادس عشر‪.‬‬
‫وملا كان هذا اجلمهور من الربوليتاريني ال ميلك حرية االختيار ‪ -‬سوى‬
‫االختيار بني بيع قوة عمله واجلوع الدائم‪ -‬فهو مضطر ألن يقبل كثمن لقوة عمله‬
‫الثمن الذي تفرضه الشروط الرأمسالية العادية يف «سوق العمل»‪ ،‬أي احلد األدىن‬
‫املعيشي املقر اجتماعيا‪ .‬إن الربوليتاريا هي طبقة الذين يضطرهم هذا االكراه‬
‫االقتصادي إىل بيع قوة عملهم بصورة متواصلة إىل هذا احلد أو ذاك‪.‬‬

‫المراجع‬
‫‪ ‬ك‪ .‬ماركس‪ ،‬األجور واألسعار واألرباح‪.‬‬
‫‪ ‬ر‪ .‬لوكسمبورغ‪ ،‬مدخل إلى االقتصاد السياسي‪.‬‬
‫‪ ‬أ‪ .‬ماندل‪ ،‬مدخل إلى النظرية االقتصادية الماركسية‪.‬‬
‫‪ ‬أ‪ .‬ماندل‪ ،‬النظرية االقتصادية الماركسية‪.‬‬
‫‪ ‬ب‪ .‬سالمة وج‪ .‬فالييه‪ ،‬مدخل إلى االقتصاد السياسي‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫(‪)5‬‬
‫االقتصاد الرأسمالي‬
‫‪ .1‬خصائص االقتصاد الرأسمالي‬

‫يعمل االقتصاد الرأمسايل وفقا جلملة من املميزات اخلاصة به واليت نذكر من‬
‫بينها‪:‬‬
‫أ‪ .‬ان اإلنتاج هو يف جوهره إنتاج بضائع‪ ،‬أي إنتاج معد للبيع يف السوق‪ .‬فبدون‬
‫البيع الفعلي للبضائع املنتجة‪ ،‬ال تستطيع املنشآت الرأمسالية والطبقة الربجوازية‬
‫مبجملها أن حتقق فائض القيمة الذي أنتجه الشغيلة والذي حتتوي عليه قيمة‬
‫البضائع املصنوعة‪.‬‬
‫ب‪ .‬جيري اإلنتاج ضمن شروط امللكية اخلاصة لوسائل اإلنتاج‪ .‬هذه امللكية‬
‫اخلاصة ليست مبقولة حقوقية يف املقام األول‪ ،‬بل هي مقولة اقتصادية‪ .‬إهنا‬
‫تعين أن سلطة التصرف بالقوى املنتجة (وسائل اإلنتاج والقوى العاملة) ليست‬
‫يف حوزة اجملتمع‪ ،‬بل هي مفتتة بني املنشآت منفصلة بعضها عن البعض اآلخر‬
‫تسيطر عليها جتمعات رأمسالية متميزة (مالكون فرديون‪ ،‬عائالت‪ ،‬شركات‬
‫مغفلة أو جتمعات مالية)‪ .‬إن قرارات التوظيف اليت تؤثر إىل حد بعيد على‬
‫الظرف االقتصادي تتخذ هي أيضا بشكل مفتت‪ ،‬على أساس املصلحة‬
‫اخلاصة واملستقلة لكل وحدة رأمسالية أو جتمع رأمسايل‪.‬‬
‫ج‪ .‬يتم اإلنتاج ألجل سوق مغفلة وحتكمه ضرورات املزامحة‪ .‬ومبا أن اإلنتاج مل‬
‫تعد حتد منه التقاليد (كما يف املشاعات البدائية) أو التشريعات (كما يف‬
‫مجعيات احلرف يف العصر الوسيط)‪ ،‬فإن كل رأمسال خاص (كل مالك‪ ،‬كل‬
‫منشأة أو كل جتمع رأمسايل) يسعى جهده لبلوغ أعلى رقم للمبيعات‬

‫‪43‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫والحتكار القسم األكرب من السوق دون املباالة بالقرارات املماثلة اليت تتخذها‬
‫منشآت أخرى تعمل يف اجملال ذاته‪.‬‬
‫د‪ .‬إن هدف اإلنتاج الرأمسايل هو حتقيق احلد األقصى من الربح‪ .‬وبينما كانت‬
‫الطبقات املالكة ما قبل الرأمسالية تعتاش من النتاج االجتماعي الفائض‬
‫وتستهلكه إمجاال بصورة غري منتجة‪ ،‬يتحتم على الطبقة الرأمسالية هي أيضا أن‬
‫تستهلك جزءا من النتاج االجتماعي الفائض‪ ،‬أي من األرباح اليت حققتها‪،‬‬
‫بصورة غري منتجة‪ .‬غري أنه ينبغي عليها‪ ،‬لكي حتقق هذه األرباح‪ ،‬أن تتمكن‬
‫من بيع بضائعها‪ ،‬األمر الذي يقتضي أن تستطيع بيعها يف السوق بسعر أدىن‬
‫من أسعار املنافسني‪ .‬وينبغي يف سبيل ذلك أن تقدر على خفض تكاليف‬
‫اإلنتاج‪ّ .‬أما الوسيلة األجنع خلفض تكاليف اإلنتاج (سعر التكلفة) فهي توسيع‬
‫قاعدة االنتاج‪ ،‬أي زيادة اإلنتاج‪ ،‬بواسطة آالت أكثر فأكثر اتقانا‪ .‬غري أن‬
‫هذا يتطلب رساميل أعظم فأعظم‪ .‬إن سوط املزامحة هو إذا الذي جيرب‬
‫الرأمسالية على السعي وراء احلد األقصى من الربح لتتمكن من تطوير‬
‫التوظيفات املنتجة إىل أقصى حد‪.‬‬
‫ه‪ .‬هكذا يتبني أن اإلنتاج الرأمسايل ليس إنتاجا يف سبيل الربح فحسب‪ ،‬بل إنتاج‬
‫من أجل تراكم الرأمسال‪ .‬فإن منطق الرأمسالية يقتضي بالفعل أن يراكم القسم‬
‫األعظم من فائض القيمة بصورة منتجة (أي أن يتم حتويله إىل رأمسال إضايف‬
‫بشكل آالت ومواد أولية إضافية‪ ،‬ويد عاملة إضافية)‪ ،‬ال أن يستهلك بصورة‬
‫غري منتجة (االستهالك اخلاص للربجوازية وخدمها)‪.‬‬
‫ويؤدي اإلنتاج من أجل تراكم الرأمسال إىل نتائج متناقضة‪ .‬فمن جهة‪ ،‬يستتبع‬
‫تطور اآلالت املستمر ازدهارا للقوى املنتجة وإلنتاجية العمل خيلق األسس املادية‬
‫لتحرر اإلنسانية من اضطرارها مكرهة إىل "العمل بعرق جبينها"‪ .‬هي ذي الوظيفة‬
‫التقدمية تارخييا للرأمسالية‪ .‬لكن تطور اآلالت‪ ،‬الذي يفرضه البحث عن احلد‬
‫األقصى من الربح وعن تراكم الرساميل املتزايد بدون انقطاع‪ ،‬هذا التطور يستتبع‪،‬‬

‫‪44‬‬
‫االقتصاد الرأمسايل‬

‫من جهة أخرى‪ ،‬إخضاع العامل لآللة بصورة أكثر فأكثر قساوة وإخضاع‬
‫اجلماهري الكادحة لـ"قوانني السوق" اليت تفقدها دوريا التخصص والعمل‪.‬‬
‫إن االزدهار الرأمسايل للقوى املنتجة هو يف الوقت نفسه تطور متزايد احلدة‬
‫الستالب الشغيلة (وبصورة غري مباشرة‪ ،‬استالب مجيع أفراد اجملتمع الربجوازي)‬
‫على صعيد أدوات عملهم ومنتجات عملهم وشروط عملهم وشروط عيشهم‬
‫عامة (مبا فيها شروط استهالكهم واستعماهلم لـ"وقت الفراغ") وعالقاهتم اإلنسانية‬
‫حقا مبواطنيهم‪.‬‬

‫‪ .2‬سير االقتصاد الرأسمالي‬

‫من أجل احلصول على احلد األقصى من الربح وتطوير تراكم الرأمسال إىل أبعد‬
‫حد ممكن‪ ،‬يتوجب على الرأمساليني أن يقلصوا إىل أقصى حد ذاك القسم من‬
‫ِ‬
‫بشكل أُجور‪ .‬فإن هذه‬ ‫القيمة اجلديدة‪ ،‬اليت أنتجتها قوة العمل والذي يعود إليها‬
‫القيمة اجلديدة‪ ،‬هذا "الدخل املخلوق"‪ ،‬تتحدد بالفعل يف سريورة اإلنتاج ذاهتا‪،‬‬
‫باستقالل عن أية مشكلة توزيع‪ .‬وهي تقاس مبجموع ساعات العمل اليت بذهلا‬
‫جممل املنتجني املأجورين‪ .‬فبقدر ما تكرب حصة األجور الفعلية اليت يدفعها ذاك‬
‫اجملموع‪ ،‬تصغر حتميا حصة فائض القيمة‪ .‬وكلما سعى الرأمساليون لزيادة احلصة‬
‫العائدة لفائض القيمة‪ ،‬كلما اضطروا إىل تقليص احلصة املخصصة لألجور‪ .‬إن‬
‫الوسيلتني الرئيسيتني اللتني جيهد الرأمساليون بواسطتهما لزيادة حصتهم‪ ،‬أي لزيادة‬
‫فائض القيمة مها‪:‬‬
‫أ‪ .‬إطالة يوم العمل (من القرن السادس عشر إىل منتصف التاسع عشر يف‬
‫الغرب‪ ،‬وحىت أيامنا يف العديد من البلدان شبه املستعمرة) وتقليص األجور‬
‫الفعلية وختفيض "الحد األدنى" املعيشي‪ .‬هذا ما يسميه ماركس زيادة فائض‬
‫القيمة املطلق‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫ب‪ .‬زيادة كثافة العمل وإنتاجيته يف دائرة السلع االستهالكية (وقد سادت هذه‬
‫الوسيلة يف الغرب منذ النصف الثاين للقرن التاسع عشر)‪ .‬وبالفعل‪ ،‬فإذا‬
‫مسحت زيادة إنتاجية العمل يف صناعات السلع االستهالكية ويف الزراعة‪ ،‬إذا‬
‫مسحت للعامل الصناعي املتوسط بأن يعيد إنتاج قيمة تشكيلة حمددة من تلك‬
‫السلع االستهالكية بثالث ساعات عمل بدل االضطرار إىل العمل مخس‬
‫ساعات إلنتاجها‪ ،‬يصبح بامكان فائض القيمة الذي يقدمه العامل لرب‬
‫عمله االنتقال من نتاج ثالث ساعات إىل نتاج مخس ساعات عمل مع بقاء‬
‫يوم العمل حمددا بثماين ساعات‪ .‬هذا ما يسميه ماركس زيادة فائض القيمة‬
‫النسيب‪.‬‬
‫كل رأمسايل يسعى للحصول على احلد األقصى من الربح‪ .‬ويسعى أيضا من‬
‫أجل ذلك لزيادة اإلنتاج إىل أقصى حد‪ ،‬وألن ينخفض باستمرار سعر الكلفة‬
‫وسعر املبيع (اللذين حيددان بوحدات نقدية ثابتة)‪ .‬وبنتيجة ذلك‪ ،‬جتري املزامحة‬
‫يف األمد املتوسط اختيارا بني املنشآت الرأمسالية‪ ،‬فتبقى األكثر إنتاجية واألكثر‬
‫"إيرادية" دون سواها‪ّ .‬أما املنشآت اليت تبيع بأسعار عالية فهي ال حتقق "احلد‬
‫األقصى من الربح"‪ ،‬بل ينتهي هبا األمر إىل زوال رحبها كليا‪ .‬إهنا تفلس أو‬
‫يستوعبها املنافسون‪.‬‬
‫إن املزامحة بني الرأمساليني تؤدي إىل تساوي معدل الربح‪ .‬فينتهي األمر مبعظم‬
‫املنشآت إىل اضطرارها إىل االكتفاء بربح متوسط حتدده يف التحليل األخري الكتلة‬
‫اإلمجالية للرأمسال االجتماعي املوظف والكتلة اإلمجالية لفائض القيمة الذي ينتجه‬
‫جممل املأجورين املنتجني‪ .‬وحدها املنشآت اليت تنعم بتقدم هام يف اإلنتاجية أو‬
‫هبذا الوضع االحتكاري أو ذاك‪ ،‬حتصل على أرباح فائضة‪ ،‬أي على أرباح تفوق‬
‫ذلك املتوسط‪ .‬غري أن املزامحة الرأمسالية ال تسمح إمجاال لألرباح الفائضة أو‬
‫لالحتكارات بأن تستمر لوقت غري حمدود‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫االقتصاد الرأمسايل‬

‫إن الفروقات بالنسبة لذلك الربح املتوسط هي اليت تتحكم إىل حد بعيد‬
‫بالتوظيفات يف منط اإلنتاج الرأمسايل‪ .‬فترتك الرساميل القطاعات حيث الربح أدىن‬
‫من املتوسط وتتدفق حنو قطاعات حيث الربح أعلى من املتوسط (كانت‪ ،‬مثال‪،‬‬
‫الرساميل تتدفق حنو صناعة السيارات يف الستينات‪ ،‬مث تركتها لتتدفق حنو قطاع‬
‫الطاقة يف سبعينات قرننا)‪ .‬لكن هذه الرساميل‪ ،‬بتدفقها حنو القطاعات حيث‬
‫معدل الربح أعلى من املتوسط‪ ،‬ختلق يف هذه القطاعات مزامحة حادة وفيض إنتاج‬
‫واخنفاضا ألسعار املبيع ولألرباح حىت يستقر معدل الربح يف املستوى ذاته إىل هذا‬
‫احلد أو ذاك يف مجيع القطاعات‪.‬‬

‫‪ .3‬تطور األجور‬

‫إحدى ميزات الرأمسالية هي أهنا حتول قوة العمل البشرية إىل بضاعة‪ .‬وحتدد‬
‫قيمة البضاعة ‪ -‬قوة العمل بتكاليف إعادة إنتاجها (أي قيمة مجيع البضائع‬
‫الضروري استهالكها إلعادة تكوين قوة العمل)‪ .‬إن األمر يتعلق هنا إذا بكم‬
‫موضوعي‪ ،‬مستقل عن التقديرات الذاتية أو العرضية لتجمعات أفراد‪ ،‬أكانوا‬
‫عماال أو أرباب عمل‪.‬‬
‫بيد أن لقيمة قوة العمل ميزة خاصة باملقارنة مع قيمة أية بضاعة أخرى‪ :‬إهنا‬
‫تتضمن‪ ،‬عالوة على عنصر قابل للقياس بدقة‪ ،‬عنصرا متغريا‪ .‬إن العنصر الثابت‬
‫هو قيمة البضائع اليت تقتضيها إعادة تكوين قوة العمل من وجهة النظر‬
‫الفيسيولوجية (أي البضائع اليت تسمح للعامل باستعادة حراريات وفيتامينات‪،‬‬
‫والقدرة على بذل طاقة عضلية وعصبية حمددة يعجز بدوهنا عن العمل بالوترية‬
‫"العادية" اليت يفرضها التنظيم الرأمسايل للعمل يف برهة معينة)‪ّ .‬أما العنصر املتغري‬
‫فهو قيمة البضائع اليت تدخل يف "احلد األدىن املعيشي العادي" يف زمن وبلد‬
‫حمددين‪ ،‬واليت ليست جزءا من احلد األدىن املعيشي الفيسيولوجي‪ .‬ويسمي‬
‫ماركس هذه احلصة األخرية من قيمة قوة العمل باجلزء "التارخيي ‪ -‬األخالقي"‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫هذا يعين أنه ليس أيضا جبزء عرضي‪ ،‬بل هو نتاج تطور تارخيي وحالة معينة يف‬
‫ميزان القوى بني الرأمسال والعمل‪ .‬وعند هذه النقطة بالذات من التحليل‬
‫االقتصادي املاركسي‪ ،‬يصبح الصراع الطبقي مباضيه وحاضره عامال مسامها يف‬
‫حتديد االقتصاد الرأمسايل‪.‬‬
‫األجر هو سعر السوق لقوة العمل‪ .‬وكجميع أسعار السوق‪ ،‬يتذبذب حول‬
‫قيمة البضاعة املعنية‪ .‬إن متوجات اجليش االحتياطي الصناعي‪ ،‬أي جيش البطالة‬
‫تساهم بصورة خاصة يف حتديد تذبذبات األجر‪ ،‬وذلك بثالثة معان‪:‬‬
‫أ‪ .‬عندما يعاين بلد رأمسايل من بطالة دائمة بالغة األمهية (عندما يكون بالتايل‬
‫متخلفا صناعيا)‪ ،‬تتعرض األجور ألن تكون دائما ّإما دون قيمة قوة العمل أو‬
‫يف مستواها‪ .‬هذه القيمة تكاد تقرتب من احلد األدىن املعيشي الفيسيولوجي‪.‬‬
‫ب‪ .‬عندما تتقلص البطالة اجلماهريية الدائمة يف األمد الطويل‪ ،‬ال سيما بنتيجة‬
‫التصنيع يف العمق واهلجرة اجلماهريية‪ ،‬تستطيع األجور أن ترتقي فوق قيمة قوة‬
‫العمل يف مراحل الظرف االقتصادي املالئم‪ .‬ويستطيع النضال العمايل أن‬
‫يؤدي يف األمد الطويل إىل دمج قيمة بضائع جديدة يف قيمة قوة العمل‪.‬‬
‫وميكن للحد األدىن املعيشي املعرتف به اجتماعيا أن يزداد ازديادا فعليا‪ ،‬أي‬
‫أن يتضمن حاجات جديدة‪.‬‬
‫ج‪ .‬ليست متوجات جيش االحتياط الصناعي مرهونة حبركات السكان (معدل‬
‫الوالدات والوفيات) وحركات اهلجرة الدولية للربوليتاريا فحسب‪ ،‬بل هي‬
‫مرهونة أيضا وخاصة مبنطق تراكم الرأمسال عينه‪ .‬ففي الصراع من أجل البقاء‬
‫يف وجه املزامحة‪ ،‬ينبغي على الرأمساليني أن يستبدلوا اليد العاملة بآالت ("عمل‬
‫ميت")‪ .‬ويقذف هذا االستبدال بصورة دائمة أفواجا من اليد العاملة خارج‬
‫اإلنتاج‪ .‬وتلعب األزمات الدور نفسه‪ .‬ويف املقابل‪ ،‬يف مراحل الظرف‬
‫االقتصادي املالئم و"سخونة" االقتصاد‪ ،‬عندما يتقدم تراكم الرأمسال بوترية‬
‫حادة‪ ،‬يتقلص جيش االحتياط الصناعي‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫االقتصاد الرأمسايل‬

‫ليس إذا من قانون صارم يتحكم بتطور األجور‪ .‬فإن الصراع الطبقي بني‬
‫الرأمسال والعمل حيدد جزئيا هذا التطور‪ ،‬حيث جيتهد الرأمسال لتخفيض األجور‬
‫إىل احلد األدىن املعيشي الفيسيولوجي وجيتهد العمال لتوسيع العنصر التارخيي‬
‫واملعنوي يف تركيب األجر وذلك بدمج املزيد من احلاجات اجلديدة املطلوب‬
‫تلبيتها يف هذا األجر‪ .‬إن درجة االنسجام والتنظيم والتضامن والكفاحية والوعي‬
‫الطبقي يف صفوف الربوليتاريا هي إذا عوامل تساهم يف حتديد تطور األجور‪ .‬غري‬
‫أنه يف األمد الطويل ميكن أن نالحظ بصورة غري قابلة للجدل ميال إىل اإلفقار‬
‫النسيب للطبقة العاملة‪ .‬فإن حصة القيمة اجلديدة اليت ختلقها الربوليتاريا واليت تعود‬
‫إىل الشغيلة‪ ،‬متيل إىل االخنفاض (األمر الذي ميكن باألصل أن يرافقه ارتفاع يف‬
‫األجور الواقعية)‪ .‬إن الفارق بني احلاجات اجلديدة اليت أثارها تطور القوى املنتجة‬
‫وازدهار اإلنتاج الرأمسايل بالذات‪ ،‬من جهة‪ ،‬والقدرة على تلبية احلاجات بواسطة‬
‫األجور املقبوضة من جهة أخرى‪ ،‬مييل إىل التوسع‪.‬‬
‫إن الفارق املتعاظم بني ازدياد إنتاجية العمل يف األمد الطويل وازدياد األجور‬
‫الواقعية هلو مؤشر واضح لإلفقار النسيب‪ .‬فمنذ بداية القرن العشرين حىت بداية‬
‫السبعينات‪ ،‬ازدادت إنتاجية العمل حبوايل مخسة أو ستة أضعاف يف الصناعة‬
‫والزراعة يف الواليات املتحدة األمريكية ويف أوروبا الغربية والوسطى‪ .‬لكن أجور‬
‫العمال الواقعية مل تزدد سوى بضعفني أو ثالثة أضعاف خالل احلقبة ذاهتا‪.‬‬

‫‪ .4‬قوانين تطور الرأسمالية‬

‫إن منط اإلنتاج الرأمسايل‪ ،‬من حيث ميزات سريه بذاهتا‪ ،‬يتطور وفقا لقوانني‬
‫تطور معينة ختص بالتايل طبيعته اخلاصة‪:‬‬
‫ا‪ .‬تركز الرأمسال ومتركزه‬
‫يف املزامحة‪ ،‬تبتلع األمساك الكبرية األمساك الصغرية‪ .‬فتتغلب املنشآت الكبرية‬
‫على املنشآت األصغر حجما اليت حتوز على إمكانيات أقل وال تستطيع أن‬

‫‪49‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫تستفيد من إجيابيات اإلنتاج واسع النطاق وال أن تدخل التقنية األكثر تقدما‬
‫وكلفة‪ .‬فيزداد بالتايل حجم املنشآت الطليعية باستمرار (تركز الرأمسال)‪ .‬قبل قرن‪،‬‬
‫كانت املنشآت اليت يعمل فيها ‪ 022‬أجري استثناء‪ّ .‬أما اليوم‪ ،‬فثمة منشآت‬
‫يعمل فيها أكثر من ‪ 122‬ألف أجري‪ .‬ويف الوقت نفسه‪ ،‬يتم ابتالع العديد من‬
‫املنشآت املغلوبة يف املزامحة من قبل منافسيها الظافرين (متركز الرأمسال)‪.‬‬
‫ب‪ .‬تبلرت السكان العاملني التدرجيي‬
‫يقتضي متركز الرأمسال بأن يتقلص باستمرار عدد أرباب العمل الصغار العاملني‬
‫حلساهبم اخلاص‪ .‬وال ينفك قسم السكان العاملني املضطر إىل بيع قوة عمله‬
‫للعيش يزداد‪ .‬هي ذي األرقام املتعلقة هبذا التطور يف الواليات املتحدة‪ ،‬وهي تؤكد‬
‫امليل بصورة ساطعة‪:‬‬
‫تطور البنية الطبقية في الواليات المتحدة‬
‫(بالنسبة املئوية من السكان العاملني)‬
‫السنة‬ ‫األجراء‬ ‫المقاولون والمستقلون‬
‫‪1,,2‬‬ ‫‪% 70‬‬ ‫‪% ,7672‬‬
‫‪1,72‬‬ ‫‪% 70‬‬ ‫‪% ,,6,2‬‬
‫‪1722‬‬ ‫‪% 7967‬‬ ‫‪% ,26,2‬‬
‫‪1712‬‬ ‫‪% 9167‬‬ ‫‪% 076,2‬‬
‫‪1702‬‬ ‫‪% 9,67‬‬ ‫‪% 0,602‬‬
‫‪17,2‬‬ ‫‪% 976,‬‬ ‫‪% 026,2‬‬
‫‪17,7‬‬ ‫‪% 9,60‬‬ ‫‪% 1,6,2‬‬
‫‪1702‬‬ ‫‪% 976,‬‬ ‫‪% 19612‬‬
‫‪1772‬‬ ‫‪% ,460‬‬ ‫‪% 14622‬‬
‫‪1792‬‬ ‫‪% ,767‬‬ ‫‪% ,672‬‬

‫‪51‬‬
‫االقتصاد الرأمسايل‬

‫وخالفا ألسطورة شائعة‪ ،‬فإن هذا اجلمهور الربوليتاري‪ ،‬بالرغم من انقسامه إىل‬
‫شرائح عديدة‪ ،‬تزداد درجة انسجامه ازديادا هاما بدل أن ترتاجع‪ .‬إن الفرق بني‬
‫عامل يدوي ومستخدم يف مصرف وموظف حكومي صغري هو أقل اليوم مما كان‬
‫قبل نصف قرن أو قرن‪ ،‬سواء من حيث مستوى املعيشة أو من حيث النزوع إىل‬
‫االنضمام إىل نقابة وإىل اإلضراب أو من حيث احتمال بلوغ الوعي املعادي‬
‫للرأمسالية‪.‬‬
‫إن تبلرت السكان التدرجيي يف النظام الرأمسايل ينجم باألخص عن إعادة‬
‫اإلنتاج التلقائية لعالقات اإلنتاج الرأمسالية من جراء التوزيع الربجوازي للمداخيل‪،‬‬
‫وهي إعادة إنتاج سبق أن ذكرناها أعاله‪ .‬فاألجور‪ ،‬منخفضة كانت أو مرتفعة‪ ،‬ال‬
‫تستخدم إالّ لتلبية حاجات الربوليتاريني االستهالكية (سواء مباشرة أو مؤجلة)‪.‬‬
‫ويعجز الربوليتاريون عن مراكمة ثروات‪ .‬من جهة أخرى‪ ،‬يستتبع تركز الرأمسال‬
‫تكاليف إنشاء أكثر فأكثر ارتفاعا تقطع الطريق إىل ملكية املنشآت الصناعية‬
‫والتجارية الكبرية ليس أمام جمموع الطبقة العاملة وحسب‪ ،‬بل أيضا أمام الغالبية‬
‫العظمى من الربجوازية الصغرية‪.‬‬
‫ج‪ .‬ازدياد الرتكيب العضوي للرأمسال‬
‫ميكن تقسيم رأمسال كل رأمسايل‪ ،‬وبالتايل رأمسال مجيع الرأمساليني‪ ،‬إىل قسمني‪.‬‬
‫يكرس األول لشراء آالت وأبنية ومواد أولية‪ .‬وتبقى قيمته ثابتة خالل اإلنتاج‪،‬‬
‫حيث حتافظ عليها قوة العمل وتنقل جزءا منها إىل املنتجات اليت تصنعها‪ .‬يطلق‬
‫ماركس على هذا القسم اسم الرأمسال الثابت‪ .‬ويكرس القسم الثاين لشراء قوة‬
‫العمل‪ ،‬أي لدفع األجور‪ .‬ويطلق ماركس عليه اسم الرأمسال املتغري‪ .‬هذا القسم‬
‫وحده ينتج فائض القيمة‪.‬‬
‫إن نسبة الرأمسال الثابت إىل الرأمسال املتغري هي يف آن واحد نسبة تقنية ‪-‬‬
‫الستعمال هذه اآلالت أو تلك بصورة مرحبة‪ ،‬جيب إعطاؤها هذه الكمية من‬
‫املواد األولية وجيب ختصيص هذا العدد من العمال والعامالت للعمل عليها ‪-‬‬

‫‪51‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫ونسبة بالقيمة‪ :‬هذا القدر من األجور منفق لشراء هذا العدد من العمال لتشغيل‬
‫هذا العدد من اآلالت اليت كلفت هذا املبلغ‪ ،‬لتحويل مواد أولية هبذا السعر‪ .‬يشري‬
‫ماركس إىل هذه النسبة املزدوجة بني الرأمسال الثابت والرأمسال املتغري بعبارة‬
‫الرتكيب العضوي للرأمسال‪.‬‬
‫ومع تطور الرأمسالية الصناعية‪ ،‬متيل هذه النسبة إىل االزدياد‪ .‬فإن كتلة متزايدة‬
‫من املواد األولية وعددا متزايدا (وأكثر فأكثر تعقيدا) من اآلالت سوف حيركها‬
‫عامل واحد (أو ‪ 12‬أو ‪ 122‬أو ‪ .)1222‬وسوف تقابل كتلة واحدة من األجور‬
‫قيمة متيل إىل االرتفاع أكثر فأكثر منفقة لشراء مواد أولية وآالت وطاقة وأبنية‪.‬‬
‫د‪ .‬ميل املعدل الوسطي للربح إىل االخنفاض‬
‫هذا القانون يتبع بصورة منطقية القانون السابق‪ .‬فإذا ازداد الرتكيب العضوي‬
‫للرأمسال‪ ،‬نزع الربح إىل االخنفاض بالنسبة إىل الرأمسال اإلمجايل مبا أن الرأمسال‬
‫املتغري وحده ينتج فائض القيمة‪ ،‬أي الربح‪.‬‬
‫إننا بصدد قانون ميلي وليس بصدد قانون يفرض نفسه بصورة "مستقيمة"‬
‫مثل قانون تركز الرأمسال أو قانون تبلرت السكان العاملني‪ .‬وبالفعل‪ ،‬فإن عوامل‬
‫شىت تعاكس هذا امليل‪ .‬أهم هذه العوامل هو ازدياد معدل استغالل األجراء‪،‬‬
‫ازدياد معدل فائض القيمة (نسبة الكتلة اإلمجالية لفائض القيمة إىل الكتلة‬
‫اإلمجالية لألجور)‪ .‬بيد أنه ال بد من أن نالحظ أن ازدياد معدل فائض القيمة ال‬
‫يستطيع أن يبطل االخنفاض امليلي للمعدل الوسطي للربح بصورة ثابتة‪ .‬فثمة حد‬
‫ال يستطيع األجر الواقعي وال حىت األجر النسيب أن يسقطا حتته بدون هتديد‬
‫إنتاجية العمل االجتماعية ومردود اليد العاملة‪ ،‬يف حني ليس من حد الزدياد‬
‫الرتكيب العضوي للرأمسال (فهو يستطيع أن يرتفع بال حدود يف املنشآت املؤلّلة‬
‫‪.)automatisées‬‬

‫‪52‬‬
‫االقتصاد الرأمسايل‬

‫ه‪ .‬التحول املوضوعي لإلنتاج إىل إنتاج اجتماعي‬


‫يف بداية اإلنتاج البضاعي‪ ،‬كانت كل منشأة خلية مستقلة عن األخرى ال‬
‫ممونني وزبائن‪ .‬وكلما تطور النظام الرأمسايل‪ ،‬انعقدت‬
‫تقيم سوى عالقات عابرة مع ّ‬
‫روابط من االرهتان املتبادل الدائم‪ ،‬التقين واالجتماعي‪ ،‬بني منشآت وفروع من‬
‫عدد متزايد من البلدان والقارات‪ .‬فتنعكس أزمة يف قطاع ما على مجيع القطاعات‬
‫األخرى‪ .‬هكذا تولد‪ ،‬للمرة األوىل منذ نشأة اجلنس البشري‪ ،‬بنية حتتية اقتصادية‬
‫مشرتكة بني مجيع البشر هي أساس تضامنهم يف عامل الغد الشيوعي‪.‬‬

‫‪ .5‬التناقضات المالزمة لنمط اإلنتاج الرأسمالي‬

‫ميكن استخالص مجلة من التناقضات األساسية يف منط اإلنتاج الرأمسايل على‬


‫أساس قوانني تطوره تلك‪:‬‬
‫أ‪ .‬التناقض بني تنظيم اإلنتاج داخل كل منشأة رأمسالية‪ ،‬وهو تنظيم متعمد وواع‬
‫أكثر فأكثر‪ ،‬والفوضى املتفاقمة أكثر فأكثر يف جممل اإلنتاج الرأمسايل والناجتة‬
‫عن بقاء امللكية اخلاصة واإلنتاج البضاعي املعمم‪.‬‬
‫ب‪ .‬التناقض بني التحول املوضوعي لإلنتاج إىل إنتاج اجتماعي‪ ،‬واحملافظة على‬
‫التملك اخلاص ملنتجات والربح ووسائل اإلنتاج‪ .‬وأنه عندما يبلغ االرهتان‬
‫املتبادل بني املنشآت والفروع والبلدان والقارات‪ ،‬حده األقصى‪ ،‬يسفر عن‬
‫كون هذا النظام برمته ال يسري إالّ وفقا ألوامر حفنة من أثرياء الرأمساليني‬
‫وحسابات رحبهم‪ ،‬يسفر عن طابعه العبثي اقتصاديا واملقيت اجتماعيا يف آن‬
‫واحد‪.‬‬
‫ج‪ .‬التناقض بني ميل النظام الرأمسايل إىل تطوير القوى املنتجة بشكل غري حمدود‪،‬‬
‫واحلدود الضيقة اليت ال بد من أن يفرضها على االستهالك الفردي‬

‫‪53‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫واالجتماعي جلمهور العاملني‪ ،‬طاملا أن هدف اإلنتاج هو احلد األقصى من‬


‫فائض القيمة‪ ،‬األمر الذي يقتضي بالضرورة حتديد األجور‪.‬‬
‫د‪ .‬التناقض بني ازدهار عظيم للعلم والتقنية مع ما ميثالنه من طاقة لتحرر‬
‫اإلنسان‪ ،‬وإخضاع هذه الطاقة من القوى املنتجة ملقتضيات بيع البضائع وإثراء‬
‫الرأمساليني‪ ،‬األمر الذي حيول دوريا هذه القوى املنتجة إىل قوى تدمري (السيما‬
‫يف زمن األزمات االقتصادية واحلروب ووالدة أنظمة الديكتاتورية الفاشية‬
‫الدموية‪ ،‬بل أيضا يف األخطار اليت هتدد بيئة اإلنسان الطبيعية)‪ ،‬واضعا البشرية‬
‫هكذا أمام خيار‪ :‬اشرتاكية أو مهجية‪.‬‬
‫ه‪ .‬التطور احملتم للصراع الطبقي بني الرأمسال والعمل‪ ،‬الذي ينسف دوريا الشروط‬
‫العادية إلعادة إنتاج اجملتمع الربجوازي‪ .‬وسوف ننظر يف هذه املسألة بصورة‬
‫أكثر تفصيال يف الفصول ‪ ,‬و‪ 7‬و‪ 11‬و‪.14‬‬

‫‪ .6‬أزمات فيض اإلنتاج الدورية‬

‫مجيع التناقضات املالزمة لنمط اإلنتاج الرأمسايل تنفجر دوريا يف أزمات فيض‬
‫اإلنتاج‪ .‬فإن امليل إىل أزمات فيض اإلنتاج الدورية‪ ،‬وإىل سري اإلنتاج بدورات‬
‫جيتاز عربها بالتتايل مراحل اإلنعاش والرواج و"السخونة" واألزمة والكساد‪ ،‬هذا‬
‫امليل مالزم لنمط اإلنتاج الرأمسايل‪ ،‬وله وحده‪ .‬ميكن أن خيتلف اتساع هذه‬
‫التموجات بني حقبة وأخرى‪ ،‬غري أهنا واقع حتمي يف النظام الرأمسايل‪.‬‬
‫لقد حصلت أزمات اقتصادية (مبعىن انقطاعات يف إعادة اإلنتاج االعتيادية)‬
‫يف اجملتمعات ما قبل الرأمسالية‪ ،‬وحتصل أيضا أزمات يف اجملتمع ما بعد الرأمسايل‪.‬‬
‫لكنها ليست يف كال احلالني أزمات فيض اإلنتاج بضائع ورساميل‪ ،‬بل هي‬
‫باألحرى أزمات نقص يف إنتاج قيم استعمالية‪ .‬إن الذي مييز أزمة فيض اإلنتاج‬
‫الرأمسالية هو أن املداخيل تنخفض والبطالة تنتشر والبؤس (واجلوع غالبا) حيالن‪،‬‬
‫ليس ألن اإلنتاج املادي قد اخنفض بل عكس ذلك‪ ،‬ألنه ازداد بصورة ختطت‬

‫‪54‬‬
‫االقتصاد الرأمسايل‬

‫بكثري القوة الشرائية املتوفرة‪ .‬فينخفض النشاط االقتصادي ألن املنتجات مل يعد‬
‫بيعها ممكنا وليس ألهنا نقصت ماديا‪.‬‬
‫يف أساس أزمات فيض اإلنتاج الدورية‪ ،‬جند يف آن واحد‪ ،‬اخنفاض املعدل‬
‫الوسطي للربح وفوضى اإلنتاج الرأمسايل وامليل إىل تطوير اإلنتاج دون اعتبار‬
‫احلدود اليت يفرضها منط التوزيع الربجوازي على استهالك اجلماهري الكادحة‪ .‬إن‬
‫قسما متزايدا من الرساميل يصبح عاجزا عن احلصول على ربح كاف بنتيجة‬
‫اخنفاض معدل الربح‪ .‬فتتقلص التوظيفات وتنتشر البطالة‪ .‬ويتضافر مع هذا‬
‫العامل البيع خبسارة لعدد متزايد من البضائع ليسرع يف هبوط عام لفرص العمل‬
‫واملداخيل والقوة الشرائية والنشاط االقتصادي مبجمله‪.‬‬
‫إن أزمة فيض اإلنتاج هي يف آن واحد نتاج هذه العوامل والوسيلة اليت حيوز‬
‫عليها النظام الرأمسايل ليبطل مفعوهلا جزئيا فاألزمة تؤدي إىل اخنفاض قيمة البضائع‬
‫وإفالس منشآت عديدة‪ .‬وتتقلص بالتايل قيمة الرأمسال اإلمجايل‪ .‬هذا األمر يسمح‬
‫بإعادة صعود ملعدل الربح ونشاط الرتاكم‪ .‬وتسمح البطالة اجلماهريية بزيادة معدل‬
‫استغالل اليد العاملة‪ ،‬األمر الذي يؤدي إىل النتيجة ذاهتا‪.‬‬
‫إن األزمة االقتصادية تفاقم التناقضات االجتماعية وميكنها أن تنفذ إىل أزمة‬
‫اجتماعية وسياسية متفجرة‪ .‬إهنا تشري إىل أن النظام الرأمسايل أصبح ناضجا‬
‫الستبداله بنظام أكثر فعالية وأكثر إنسانية‪ ،‬ال يب ّذر املوارد البشرية واملادية‪ .‬لكنها‬
‫ال تؤدي تلقائيا إىل اهنيار هذا النظام‪ ،‬بل ينبغي أن يطيحه عمل واع من قبل‬
‫الطبقة الثورية اليت خلقها‪ :‬الطبقة العاملة‪.‬‬

‫‪ .7‬توحيد البروليتاريا وتفتيتها‬

‫ختلق الرأمسالية الربوليتاريا‪ ،‬وتركزها يف مشاريع تتزايد أمهية‪ ،‬وتبث فيها‬


‫االنضباط الصناعي‪ ،‬ومع هذا االنضباط التعاضد والتضامن األويل يف مواقع‬
‫العمل‪ .‬إالّ أ ّن هذا كله يرتافق مع السعي وراء أقصى األرباح ‪ -‬سواء بالنسبة لكل‬

‫‪55‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫مشروع رأمسايل مأخوذ على حدة أو بالنسبة للطبقة البورجوازية ككل‪ .‬وهذه‬
‫الطبقة واعية متاما للواقع الذي أكدته أوىل انفجارات النضاالت العمالية‪ ،‬واملتمثلة‬
‫بأن تركيز القوى الربوليتارية وتوحيدها يشكالن هتديدا عظيما ملصاحلها‪.‬‬
‫لذا فتطور منط اإلنتاج مصحوب حبركة متناقضة مزدوجة‪ :‬فمن جهة‪ ،‬مثة امليل‬
‫التارخيي ‪ -‬األساسي على املدى الطويل ‪ -‬إىل توحيد الربوليتاريا‪ ،‬أو جممل‬
‫الشغيلة املأجورين‪ ،‬وإدخال التجانس إىل صفوفها‪ ،‬ومن جهة أخرى‪ ،‬هنالك‬
‫حماوالت متكررة لتفتيت الطبقة الربوليتارية وتقسيمها إىل شرائح عن طريق إخضاع‬
‫بعض شرائحها الستغالل مضاعف والضطهاد من نوع خاص‪ ،‬يف حني يتم متييز‬
‫شرائح أخرى نسبيا‪ .‬إن أيديولوجيات خاصة‪ ،‬من مثل العنصرية‪ ،‬والتمييز‬
‫اجلنسي‪ ،‬والشوفينية‪ ،‬وكره األجانب‪ ،‬تلعب دور تربير وتثبيت هذه األشكال‬
‫اخلاصة من االستغالل املضاعف واالضطهاد‪ ،‬اليت ولدت داخل البلدان الرأمسالية‬
‫األوىل بالذات‪ ،‬لكن اليت زادها االستعمار واإلمربيالية حدة وارتفعا هبا إىل الذروة‬
‫على املستوى العاملي‪.‬‬
‫لقد كان االستخدام الكثيف لعمل النساء واألحداث واحدة من الوسائل‬
‫املفضلة اليت استخدمها الصناعيون األولون‪ ،‬من أجل "كسر" األجور يف‬
‫املانيفاكتورات واملصانع األوىل‪ .‬يف الوقت ذاته‪ ،‬استندت البورجوازية إىل الكنيسة‪،‬‬
‫على وجه اخلصوص‪ ،‬وإىل وكاالت أخرى لنشر األيديولوجيات الرجعية‪ ،‬لكي تزرع‬
‫داخل الطبقة العاملة وشرائح كادحة أخرى من السكان الفكرة القائلة بأن "مكان‬
‫املرأة هو يف األسرة" وأنه ينبغي أالّ تتوىل النساء املهن املميزة (حيث قد يؤدي‬
‫ذلك أيضا إىل خفض األجور)‪.‬‬
‫إن العامالت واملستخدمات يف النظام الرأمسايل يتعرضن يف الواقع لالستغالل‬
‫املضاعف من وجهتني‪ .‬أوال ألهنن حيصلن مبعظمهن على مكافأة أدىن من مكافأة‬
‫الرجال‪ ،‬سواء بتصنيفهن املتدين أو بدفع أجور أدىن هلن لقاء عمل متساو‪ ،‬وهو‬
‫ما يزيد مباشرة مبلغ فائض القيمة الذي يتملكه رأس املال‪ .‬مث ألن تنظيم احلياة‬

‫‪56‬‬
‫االقتصاد الرأمسايل‬

‫االجتماعية ‪ -‬االقتصادية البورجوازية يتمحور حول العائلة البطريركية مبا هي خلية‬


‫أساسية لالستهالك وإعادة اإلنتاج املادي لقوى العمل‪ .‬واحلال أن النساء‬
‫مضطرات ليقدمن داخل العائلة عمال ال يتلقني مقابال له خمصصا لتهيئة الطعام‪،‬‬
‫والتدفئة والغسل وتعهد األطفال وتربيتهم‪ ،‬اخل‪ .‬هذا العمل ليس مصدرا مباشرا‬
‫لفائض القيمة‪ ،‬ألنه ال يتجسد يف سلع‪ ،‬إالّ أنه يزيد بصورة غري مباشرة من مبلغ‬
‫فائض القيمة االجتماعي‪ ،‬مبقدار ما خيفض تكاليف إعادة إنتاج قوة العمل اليت‬
‫على عاتق الطبقة الربجوازية‪ .‬وإذا كان على الربوليتاري أن يشرتي كل وجباته‬
‫والبسته وخدمات التنظيف والتدفئة من السوق‪ ،‬وإذا كان عليه أن يدفع خدمات‬
‫حراسة وتربية ألطفاله خارج الدوامات املدرسية‪ ،‬كان ال بد ألجره املتوسط أن يزيد‬
‫بشكل ملموس عما هو عليه‪ ،‬طاملا بوسعه أن يلجأ إىل العمل غري املدفوع أجره‬
‫الذي تضطلع به شريكته وبناته ووالدته‪ ،‬اخل‪ ..‬وهو ما خيفض فائض القيمة‬
‫االجتماعي بالقدر نفسه‪.‬‬
‫إن الطابع املتشنج لإلنتاج الرأمسايل‪ ،‬بزياداته املفاجئة وختفيضاته لالنتاج‬
‫الصناعي‪ ،‬يتطلب حركة ال تقل تشنجا من تدفق اليد العاملة ومن تصفياهتا‬
‫الدورية يف "سوق العمل"‪ .‬وخلفض التكاليف السياسية واالجتماعية هلذه احلركات‬
‫العنيفة املصحوبة بتوترات وتعاسات إنسانية ال يستهان هبا‪ ،‬من مصلحة رأس املال‬
‫أن يتزود بيد عاملة قادمة من بلدان أقل تصنيعا‪ .‬فهو يعتمد على طاعتها النامجة‬
‫عن البؤس والنقص يف االستخدام‪ ،‬يف البدء‪ ،‬األكثر حدة بكثري‪ ،‬كما على‬
‫االختالفات يف العادات والتقاليد بني هذه اليد العاملة والطبقة العاملة "الوطنية"‬
‫من أجل إعاقة تطور تضامن حقيقي ووحدة طبقية يشمالن جممل الربوليتاريني من‬
‫كل البلدان ومن كل األمم‪.‬‬
‫إن حركات هجرة كبرية صاحبت هكذا كل تاريخ منط اإلنتاج الرأمسايل‪.‬‬
‫فااليرلنديون يتوجهون إىل إنكلرتا واسكتلندا‪ ،‬والبولونيون إىل أملانيا‪ ،‬واإليطاليون‬
‫مث األفريقيون الشماليون واالسبانيون والربتغاليون إىل فرنسا‪ ،‬واهلنود إىل املستعمرات‬

‫‪57‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫الربيطانية يف البدء‪ ،‬مث إىل بريطانيا فيما بعد‪ ،‬والصينيون إىل كل مناطق احمليط‬
‫اهلادي‪ ،‬والكوريون إىل اليابان‪ ،‬وموجات متتالية من املهاجرين إىل أمريكا الشمالية‬
‫(إنكليز‪ ،‬وايرلنديون‪ ،‬وإيطاليون‪ ،‬ويهود‪ ،‬وبولونيون‪ ،‬ويونانيون‪ ،‬ومكسيكيون‪،‬‬
‫وبورتوريكيون‪ ،‬باإلضافة إىل العبيد السود يف القرون السابع عشر والثامن عشر‬
‫والتاسع عشر) واألرجنتني وأسرتاليا‪.‬‬
‫كل من هذه املوجات من اهلجرة الكثيفة قد صاحبتها بدرجات خمتلفة‬
‫ظاهرات متشاهبة من االستغالل املضاعف واالضطهاد‪ .‬فاملهاجرون يعملون يف‬
‫القطاعات األقل أجرا‪ ،‬وجيربون على أداء األشغال األكثر إساءة للصحة‪،‬‬
‫حمشورين يف الغيتوات واألكواخ‪ ،‬حمرومني عموما من كل تعليم بلغاهتم األم‪ .‬وهم‬
‫يتعرضون ملا ال حيصى من أشكال التمييز (السيما من أجل احلصول على احلقوق‬
‫املدنية والسياسية والنقابية املتساوية)‪ ،‬بغية إعاقة تطورهم الثقايف واألديب وإبقائهم‬
‫فاقدي املعنويات معرضني لالستغالل املضاعف‪ ،‬وتركهم يف حالة "عدم استقرار"‬
‫تفوق حالة الربوليتاريا الوطنية واملنظمة (تتضمن الطرد إىل بلدان املنشأ أو اإلبعاد‬
‫التعسفي)‪.‬‬
‫إن املسبقات األيديولوجية املنتشرة يف صفوف الربوليتاريا "الوطنية" تربر بنظرها‬
‫االستغالل املضاعف وتبقي التفتيت والتجزئة الدائمني للطبقة العاملة إىل راشدين‬
‫وأحداث‪ ،‬رجال ونساء‪" ،‬وطنيني" ومهاجريني‪ ،‬مسيحيني ويهود‪ ،‬سود وبيض‪،‬‬
‫عربانيني وعرب‪ ،‬اخل‪.‬‬
‫وال ميكن للربوليتاريا أن ختوض بنجاح نضاهلا للتحرر ‪ -‬مبا فيه على مستوى‬
‫الدفاع عن مصاحلها األكثر مباشرة واألكثر أولية ‪ -‬إالّ إذا احتدت وتنظمت‬
‫بصورة تؤكد التضامن الطبقي والوحدة على صعيد كل املأجورين‪.‬‬
‫لذا فإن النضال ضد كل أشكال التمييز واالستغالل املضاعف اليت تتعرض هلا‬
‫النساء واألحداث واملهاجرون والقوميات واألعراق املضطهدة ليس واجبا إنسانيا‬
‫وسياسيا أوليا وحسب‪ ،‬بل يتوافق كذلك مع املصلحة الطبقية جلميع الشغيلة‪ .‬إن‬

‫‪58‬‬
‫االقتصاد الرأمسايل‬

‫الرتبية املنهجية للشغيلة باجتاه جعلهم ينبذون كل املسبقات القائمة على التمييز‬
‫بني اجلنسني والعنصرية والشوفينية وكره األجانب‪ ،‬اليت تشكل قاعدة لالستغالل‬
‫املضاعف وجلهود التفتيت والتجزئة الدائمني للربوليتاريا‪ ،‬هي إذا من املهمات‬
‫األساسية للحركة العمالية‪.‬‬

‫المراجع‪:‬‬
‫ك‪ .‬ماركس‪ ،‬األجور‪ ،‬األسعار واألرباح‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫ماركس‪-‬إجنلس‪ ،‬البيان الشيوعي‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫ف‪ .‬إجنلس‪ ،‬دحض دوهرينغ (الجزء الثاني)‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫ك‪ .‬كاوتسكي‪ ،‬مذهب كارل ماركس االقتصادي‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫ر‪ .‬لكسمبورغ‪ ،‬مدخل إلى االقتصاد السياسي‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫أ‪ .‬ماندل‪ ،‬مدخل إلى النظرية االقتصادية الماركسية‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫ب‪ .‬سالمة ج‪ .‬فالييه‪ ،‬مدخل إلى االقتصاد السياسي‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫أ‪ .‬ماندل‪ ،‬النظرية االقتصادية الماركسية‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫أ‪.‬ماندل ج‪ .‬نوفاك‪ ،‬النظرية الماركسية في االستالب‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫‪59‬‬
‫(‪)6‬‬
‫رأسمالية االحتكارات‬
‫ال يبقى سري منط اإلنتاج الرأمسايل على حاله منذ نشأته‪ .‬فبدون تناول رأمسالية‬
‫املانيفكتورات اليت متتد من القرن السادس عشر حىت الثامن عشر‪ ،‬ميكن متييز‬
‫طورين يف تاريخ الرأمسالية الصناعية حبصر املعىن‪:‬‬
‫طور رأمسالية املزامحة احلرة الذي يبدأ بالثورة الصناعية (بعد عام ‪)1972‬‬
‫وينتهي يف مثانينات القرن التاسع عشر‪.‬‬
‫طور اإلمربيالية الذي ميتد منذ مثانينات القرن التاسع عشر حىت يومنا هذا‪.‬‬

‫‪ .1‬من المزاحمة الحرة إلى االتفاقات الرأسمالية‬

‫طوال الطور األول من وجود الرأمسالية الصناعية متيزت بوجود عدد كبري من‬
‫املنشآت املستقلة يف كل فرع من الفروع الصناعية‪ .‬ومل يكن بوسع أية منشأة أن‬
‫تسيطر على السوق‪ .‬فكانت كل واحدة حتاول أن تبيع بثمن أقل لتتمكن من‬
‫تصريف بضاعتها‪.‬‬
‫تبدل هذا الوضع عندما أدى الرتكز والتمركز الرأمساليان إىل أنه مل يبق يف مجلة‬
‫من الفروع الصناعية سوى عدد حمدود من املنشآت ينتج مبجمله ‪ % 72‬أو ‪92‬‬
‫‪ %‬أو ‪ % ,2‬من اإلنتاج‪ .‬فأصبح بإمكان هذه املنشآت أن تتحد لتحاول‬
‫اهليمنة على السوق‪ ،‬أي الكف عن خفض أسعار املبيع‪ ،‬وذلك بتوزيع منافذ‬
‫التصريف بينها حسب ميزان القوى الراهن‪.‬‬
‫لقد سهلت مثل هذا االحندار للمزامحة احلرة الرأمسالية ثورة تكنولوجية هامة‬
‫حدثت يف الوقت نفسه‪ :‬استبدال احملرك البخاري باحملرك الكهربائي واحملرك‬

‫‪61‬‬
‫رأمسالية االحتكارات‬

‫االنفجاري كمصدر الطاقة الرئيسي يف الصناعة وفروع النقليات الرئيسية‪ .‬فتطورت‬


‫مجلة من الصناعات احلديثة ‪ -‬الصناعة الكهربائية‪ ،‬صناعة األجهزة الكهربائية‪،‬‬
‫الصناعة النفطية‪ ،‬صناعة السيارات‪ ،‬الكيمياء الرتكيبية ‪ -‬تطلبت تكاليف إنشاء‬
‫أهم بكثري مما يف الفروع الصناعية القدمية‪ ،‬األمر الذي قلص منذ البدء عدد‬
‫املتزامحني املمكنني‪ .‬إن األشكال الرئيسية لالحتادات بني الرأمساليني هي‪:‬‬
‫الكارتيل والنقابة يف فرع صناعي‪ ،‬حيث حتافظ كل منشأة مشرتكة يف االحتاد‬ ‫‪‬‬
‫على استقالهلا‪.‬‬
‫الرتوست واندماج املنشآت‪ ،‬حيث يزول هذا االستقالل ضمن شركة عمالقة‬ ‫‪‬‬
‫واحدة‪.‬‬
‫اجملموعة املالية والشركات الكربى ( ‪ ) holding‬حيث يسيطر عدد صغري‬ ‫‪‬‬
‫من الرأمساليني على منشآت عديدة يف بضعة فروع صناعية‪ ،‬تبقى مستقلة‬
‫قانونيا بعضها عن البعض اآلخر‪.‬‬

‫‪ .2‬التركزات المصرفية والرأسمال المالي‬

‫إن سريورة تركز ومتركز الرأمسال ذاهتا اليت تتحقق يف جمال الصناعة والنقاليات‬
‫حتصل أيضا يف جمال املصارف‪ .‬ويف هناية هذا التطور‪ ،‬يهيمن عدد صغري من‬
‫املصارف العمالقة على جممل احلياة املالية يف البلدان الرأمسالية‪.‬‬
‫إن الدور الرئيسي للمصارف يف النظام الرأمسايل هو منح قروض للمنشآت‪.‬‬
‫وعندما يصبح الرتكز املصريف متقدما جدا‪ ،‬حيوز عدد صغري من رجال املصارف‬
‫على احتكار فعلي ملنح القروض‪ .‬وجيرهم هذا األمر إىل ختطي سلوك الدائنني‬
‫السلبيني‪ ،‬الذين يكتفون بقبض الفوائد على الرساميل املقروضة بانتظار تسديد‬
‫القروض عندما يبلغ الدين أجله‪ .‬فاملصارف اليت متنح قروضا للمنشآت العاملة يف‬
‫نشاطات متماثلة أو متصلة‪ ،‬جتد مصلحة كبرية يف ضمان إيرادية مجيع هذه‬
‫املنشآت ومالءهتا‪ .‬إن مصلحتها تقتضي بأن حتول دون سقوط األرباح إىل الصفر‬

‫‪61‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫بنتيجة مزامحة شرسة‪ .‬فتتدخل املصارف بالتايل لإلسراع يف الرتكز والتمركز‬


‫الصناعيني‪ ،‬ولفرضهما أحيانا‪.‬‬
‫ويف قيامها هبذا الدور‪ ،‬تستطيع أن تتخذ مبادرات تنشيط خللق تروستات‬
‫كبرية‪ .‬وتستطيع كذلك أن تستعمل مواقعها االحتكارية يف جمال االقراض لتحصل‬
‫لقاء القروض على مسامهات يف رأمسال املنشآت الكبرية‪ .‬هكذا يتطور الرأمسال‬
‫املايل‪ ،‬أي الرأمسال املصريف الذي يدخل يف الصناعة وحيتل فيها موقع مهيمنا‪.‬‬
‫فتربز يف قمة هرم السلطة يف عصر رأمسالية االحتكارات جمموعات مالية‬
‫تسيطر يف آن واحد على املصارف وعلى مؤسسات مالية أخرى (مثل شركات‬
‫التأمني) وعلى الرتوستات الكبرية يف الصناعة والنقليات وعلى املخازن الكربى‪،‬‬
‫اخل‪ .‬إن حفنة من كبار الرأمساليني‪ ،‬اشتهرت بينها "العائالت الستون" يف الواليات‬
‫املتحدة األمريكية "واملائتا عائلة" يف فرنسا‪ ،‬متسك بيدها مجيع مقاليد السلطة‬
‫االقتصادية يف البلدان اإلمربيالية‪.‬‬
‫يف بلجيكا‪ ،‬تسيطر حنو عشر جمموعات مالية على القسم األساسي من‬
‫االقتصاد‪ ،‬إىل جانب بعض اجملموعات األجنبية الكبرية‪ .‬ويف الواليات املتحدة‪،‬‬
‫متارس بعض اجملموعات املالية (السيما مورغان‪ ،‬روكفيلر‪ ،‬ديبون‪ ،‬ملون‪ ،‬جمموعة‬
‫شيكاغو‪ ،‬جمموعة كليفالند‪ ،‬بنك أوف أمريكا‪ ،‬اخل) هيمنة واسعة جدا على جممل‬
‫احلياة االقتصادية‪ .‬واألمر كذلك يف اليابان حيث أعادت الزيباتسو (تراستات)‬
‫القدمية تشكيل نفسها بسهولة بعد أن بدا أهنا تفككت إثر احلرب العاملية الثانية‪.‬‬
‫واجملموعات اليابانية الرئيسية؛ ميتسوبيشي وميستوي وايتوه وسوميدومو وماروبيين‪.‬‬

‫‪ .3‬رأسمالية االحتكارات ورأسمالية المزاحمة الحرة‪.‬‬

‫ال يعين ظهور االحتكارات أن املزامحة احلرة زالت‪ .‬وال يعين باألحرى أن كل‬
‫فرع صناعي أصبح حتت اهليمنة النهائية ملنشأة واحدة‪ .‬بل يعين قبل كل شيء ويف‬
‫قطاعات االحتكارات‪:‬‬

‫‪62‬‬
‫رأمسالية االحتكارات‬

‫أ‪ .‬إن املزامحة مل تعد جتري بصورة عادية عن طريق خفض األسعار‪.‬‬
‫ب‪ .‬أن الرتوستات الكبرية أصبحت‪ ،‬بنتيجة ذلك‪ ،‬حتصل على أرباح فائضة‬
‫احتكارية‪ ،‬أي على معدل ربح أعلى من معدل ربح املنشآت العاملة يف‬
‫القطاعات غري االحتكارية‪.‬‬
‫وتستمر املزامحة من جهة أخرى‪:‬‬
‫أ‪ .‬داخل قطاعات االقتصاد غري االحتكارية وهي ال زالت عديدة‪.‬‬
‫ب‪ .‬بني االحتكارات‪ ،‬بصورة عادية عن طريق تقنيات غري خفض أسعار املبيع‬
‫(ال سيما خفض سعر الكلفة‪ ،‬واالعالنات‪ ،‬اخل)‪ ،‬وبصورة استثنائية أيضا‬
‫عن طريق "حرب أسعار"‪ ،‬خاصة عندما يكون ميزان القوى بني‬
‫الرتوستات قد تغري‪ ،‬وتكون الغاية تكييف تقسيم األسواق مع ميزان القوى‬
‫اجلديد هذا‪.‬‬
‫ج‪ .‬بني االحتكارات "القومية" يف السوق العاملية‪ ،‬عن الطريق "العادية"‬
‫لـ"حرب األسعار" بصورة رئيسية‪ .‬بيد أن تركز الرأمسال ميكن أن يتقدم إىل‬
‫حد أنه حىت يف السوق العاملية‪ ،‬ال يبقى سوى بعض املنشآت يف فرع من‬
‫الفروع الصناعية‪ ،‬األمر الذي ميكن أن يؤدي إىل خلق كارتيالت دولية‬
‫تتقاسم منافذ التصريف‪.‬‬

‫‪ .4‬تصدير الرساميل‬

‫ال تستطيع االحتكارات أن تسيطر على األسواق االحتكارية إالّ شرط أن حتد من‬
‫ازدياد اإلنتاج فيها‪ ،‬وبالتايل تراكم الرأمسال‪ .‬لكن هذه االحتكارات ذاهتا حتوز من‬
‫جهة أخرى على رساميل وافرة‪ ،‬ال سيما بنتيجة األرباح الفائضة االحتكارية اليت‬
‫حتققها‪ .‬إن عصر الرأمسالية اإلمربيايل يتميز إذا بظاهرة الرساميل الفائضة يف أيدي‬
‫احتكارات البلدان اإلمربيالية‪ ،‬وهي رساميل تبحث عن حقول جديدة للتوظيفات‬
‫فيصبح تصدير الرساميل هو أيضا ميزة رئيسية للعصر اإلمربيايل‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫هذه الرساميل تصدر حنو بلدان ميكن أن حتقق فيها رحبا أعلى من الربح‬
‫املتوسط يف القطاعات املتزامحة يف البلدان اإلمربيالية‪ ،‬لتحفز يف تلك البلدان‬
‫صناعات مكملة للصناعة اإلمربيالية‪ .‬وجيري استعماهلا قبل كل شيء لتطوير إنتاج‬
‫مواد أولية نباتية ومعدنية يف البلدان املتخلفة (يف آسيا وأفريقيا وأمريكا الالتينية)‪.‬‬
‫طاملا كانت الرأمسالية تعمل يف السوق العاملية لبيع بضائعها وشراء مواد أولية‬
‫ومؤن فحسب‪ ،‬مل يكن لديها مصلحة كبرية يف شق طريقها بالقوة العسكرية (بيد‬
‫أن هذه القوة كانت تستعمل هلدم احلواجز أمام دخول البضائع ‪ -‬مثال‪ ،‬حرب‬
‫األفيون اليت خاضتها بريطانيا العظمى لتجرب اإلمرباطورية الصينية على رفع املوانع‬
‫اليت أعاقت استرياد األفيون القادم من اهلند الربيطانية)‪ .‬لكن هذا الوضع تغري‬
‫عندما بدأ تصدير الرساميل حيتل مكانة مهيمنة يف عمليات الرأمسال الدولية‪.‬‬
‫ويف حني يدفع مثن بضاعة مباعة خالل بضعة أشهر كحد أقصى‪ ،‬ال يتم‬
‫استهالك رساميل موظفة يف بلد ما سوى بعد سنوات طويلة‪ .‬فتصبح بالتايل لدى‬
‫القوى اإلمربيالية مصلحة كبرية يف إقامة رقابة دائمة على البلدان اليت وظفت فيها‬
‫تلك الرساميل‪ .‬وميكن أن تكون هذه الرقابة غري مباشرة ‪ -‬من خالل حكومات‬
‫عميلة للخارج لكنها يف دول مستقلة شكليا ‪ -‬يف البلدان شبه املستعمرة‪ .‬كما‬
‫ميكن أن تكون مباشرة ‪ -‬من خالل إدارة تابعة مباشرة للدول اإلمربيالية ‪ -‬يف‬
‫البلدان املستعمرة‪ .‬إن العصر اإلمربيايل يتميز إذا بـميل إىل تقسيم العامل إىل‬
‫إمرباطوريات استعمارية ومناطق نفوذ للدول اإلمربيالية الكربى‪.‬‬
‫لقد حصل هذا التقسيم يف فرتة معينة (خاصة يف حقبة ‪)1722-1,,2‬‬
‫وفقا مليزان القوى القائم يف تلك الفرتة‪ :‬هيمنة بريطانيا العظمى‪ ،‬القوة اهلامة‬
‫لإلمربياليات الفرنسية واهلولندية والبلجيكية‪ ،‬الضعف النسيب للدول اإلمربيالية‬
‫"الشابة" ‪ :‬أملانيا‪ ،‬الواليات املتحدة‪ ،‬إيطاليا واليابان‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫رأمسالية االحتكارات‬

‫وسوف جتهد الدول اإلمربيالية "الشابة" بواسطة سلسلة من احلروب اإلمربيالية‬


‫لتستعمل تبدل ميزان القوى من أجل تغيري هذا التقسيم للعامل لصاحلها‪ :‬احلرب‬
‫الروسية ‪ -‬اليابانية‪ ،‬احلرب العاملية األوىل‪ ،‬احلرب العاملية الثانية‪.‬‬
‫إهنا حروب ختاض ألجل النهب‪ ،‬للحصول على حقول لتوظيف الرساميل‬
‫ومصادر مواد أولية ومنافذ تصريف مميزة‪ ،‬وليست حروب من أجل "مثال"‬
‫سياسي ("مع الديموقراطية أو ضدها"‪ ،‬مع االستبدادية أو ضدها‪ ،‬مع الفاشية‬
‫أو ضدها) واملالحظة ذاهتا تنطبق على حروب الفتح االستعماري اليت تتخلل‬
‫العصر اإلمربيايل (ال سيما‪ ،‬يف القرن العشرين‪ ،‬حرب إيطاليا ضد تركيا واحلرب‬
‫الصينية ‪ -‬اليابانية وحرب إيطاليا ضد احلبشة) أو احلروب االستعمارية ضد‬
‫حركات حترر الشعوب (حرب اجلزائر‪ ،‬حرب فيتنام‪ ،‬اخل)‪ .‬اليت يسعى فيها أحد‬
‫املستعمر أو شبه املستعمر عن قضية‬
‫َ‬ ‫الطرفني وراء النهب بينما يدافع الشعب‬
‫عادلة بسعيه وراء اإلفالت من االستعباد اإلمربيايل‪.‬‬

‫‪ .5‬البلدان اإلمبريالية والبلدان التابعة‬

‫هكذا‪ ،‬فإن العصر اإلمربيايل ال يشهد إقامة سيطرة حلفنة من كبار رجال املال‬
‫والصناعة على األمم اإلمربيالية فحسب‪ .‬بل يتميز أيضا بإقامة سيطرة للربجوازية‬
‫اإلمربيالية يف حفنة من البلدان على شعوب البلدان املستعمرة وشبه املستعمرة‪،‬‬
‫اليت متثل ثلثي اجلنس البشري‪.‬‬
‫وتستخرج الربجوازية اإلمربيالية ثروات طائلة من البلدان املستعمرة وشبه‬
‫املستعمرة‪ .‬وتدر رساميلها املوظفة يف هذه البلدان أرباحا فائضة استعمارية‪ ،‬يتم‬
‫تصديرها من جديد إىل الدول اإلمربيالية‪ .‬إن التقسيم العاملي للعمل القائم على‬
‫مبادلة منتجات الصناعة اإلمربيالية مبواد أولية مستخرجة يف املستعمرات‪ ،‬هذا‬
‫التقسيم يؤدي إىل تبادل غري متساو‪ ،‬تبادل فيه البلدان الفقرية كميات كربى من‬
‫العمل (ألنه عمل أقل كثافة) بكميات أدىن من العمل (ألنه عمل أكثر كثافة)‬

‫‪65‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫تصدرها البلدان اإلمربيالية‪ .‬وتتمول اإلدارة االستعمارية بواسطة ضرائب تنتزعها‬


‫من الشعوب املستعمرة‪ ،‬وتصدر جزءا هاما منها إىل الدولة اإلمربيالية‪.‬‬
‫مجيع هذه املوارد املستخرجة من البلدان التابعة تضيع بالنسبة لتمويل منوها‬
‫االقتصادي‪ .‬هكذا فإن اإلمربيالية أحد مصادر التخلف الرئيسية بالنسبة جلنوب‬
‫الكرة األرضية‪.‬‬

‫‪ .6‬عصر الرأسمالية المتأخرة‬

‫ميكن تقسيم العصر اإلمربيايل بدوره إىل طورين‪ :‬عصر اإلمربيالية‬


‫"الكالسيكية" الذي يشمل حقبة ما قبل احلرب العاملية األوىل وحقبة ما بني‬
‫احلربني‪ ،‬وعصر الرأمسالية املتأخرة الذي يبدأ مع احلرب العاملية الثانية أو مع‬
‫هنايتها‪.‬‬
‫يف هذا العصر من احندار الرأمسالية‪ ،‬ميتد تركز ومتركز الرأمسال أكثر فأكثر على‬
‫الصعيد العاملي‪ .‬ففي حني شكل الرتوست االحتكاري القومي "الخلية‬
‫األساسية" يف العصر اإلمربيايل الكالسيكي‪ ،‬أصبحت الشركة متعددة القوميات‬
‫هي "الخلية األساسية" يف عصر الرأمسالية املتأخرة‪ .‬بيد أن عصر الرأمسالية املتأخرة‬
‫يتميز يف الوقت نفسه بتسارع لالبتكار التكنولوجي وحبقب أقصر الستهالك‬
‫الرأمسال املوظف يف اآلالت وباضطرار املنشآت الكربى حلساب تكاليفها‬
‫وتوظيفاهتا ولتخطيطها بصورة أكثر دقة‪ ،‬وبامليل إىل الربجمة االقتصادية للدولة‬
‫الذي ينجم بصورة طبيعية عن ذاك االضطرار‪.‬‬
‫لتعوم‬
‫كذلك فإن تدخل الدولة االقتصادي يتزايد بنتيجة اضطرار الربجوازية ّ‬
‫مبساعدة الدولة قطاعات صناعية أصبحت يف وضع من اإلفالس املزمن‪ ،‬ولتمول‬
‫بواسطة الدولة قطاعات طليعية مل تصبح بعد مرحبة‪ ،‬ولتؤمن عن طريق الدولة‬

‫‪66‬‬
‫رأمسالية االحتكارات‬

‫ضمانة ألرباح االحتكارات الكربى‪ ،‬السيما بواسطة طلبيات الدولة (خاصة‪،‬‬


‫وليس حصرا‪ ،‬طلبيات عسكرية) واإلعانات واملساعدات‪ ،‬اخل‪.‬‬
‫هذا التداول املتزايد لإلنتاج من جهة‪ ،‬وهذا التدخل املتزايد للدولة القومية يف‬
‫احلياة االقتصادية من جهة أخرى‪ ،‬يسببان مجلة من التناقضات اجلديدة يف عصر‬
‫الرأمسالية املتأخرة‪ ،‬أحد تعبرياهتا الرئيسية أزمة النظام النقدي العاملي اليت يغذيها‬
‫التضخم الدائم‪.‬‬
‫ويتميز عصر الرأمسالية املتأخرة أيضا بتفكك معمم لإلمرباطوريات االستعمارية‬
‫وبتحول البلدان املستعمرة إىل بلدان شبه مستعمرة وبإعادة توجيه تصديرات‬
‫الرساميل اليت أصبحت اآلن تنتقل قبل كل شيء من بلد إمربيايل إىل آخر وليس‬
‫من البلدان اإلمربيالية إىل البلدان املستعمرة‪ ،‬وببداية تصنيع (حمصور خاصة يف‬
‫دائرة السلع االستهالكية) يف البلدان شبه املستعمرة‪ .‬إن هذا التصنيع ليس فقط‬
‫حماولة من قبل الربجوازية احمللية يف البلدان التابعة لكبح حركات التمرد الشعبية‪ ،‬بل‬
‫هو أيضا نتيجة لكون تصديرات اآلالت والسلع التجهيزية تشكل اليوم القسم‬
‫األعظم من تصديرات البلدان االمربيالية ذاهتا‪.‬‬
‫فال التحوالت اليت حدثت يف سري االقتصاد الرأمسايل داخل البلدان اإلمربيالية‬
‫بالذات‪ ،‬وال التحوالت املتعلقة باقتصاد البلدان شبه املستعمرة وبالسري اإلمجايل‬
‫للنظام اإلمربيايل‪ ،‬تسمح إذا بإعادة النظر يف االستنتاج الذي وصل اليه لينني قبل‬
‫أكثر من نصف قرن واملتعلق باملعىن التارخيي اإلمجايل للعصر اإلمربيايل‪ .‬إنه عصر‬
‫تفاقم مجيع التناقضات بني اإلمربياليات‪ .‬إنه عصر شعاره النزاعات العنيفة‬
‫واحلروب اإلمربيالية وحروب التحرر القومي واحلروب األهلية‪ .‬إنه عصر الثورات‬
‫والثورات املضادة‪ ،‬واالنفجارات األكثر فأكثر خطورة‪ ،‬وليس عصر تقدم هادئ‬
‫وسلمي للحضارة‪.‬‬
‫وكم هو أحرى أن نستبعد األساطري اليت تقول أن االقتصاد الغريب احلايل مل‬
‫يعد اقتصادا رأمساليا حبصر املعىن‪ .‬إن االنكماش املعمم لالقتصاد الرأمسايل الدويل‬

‫‪67‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫يف سنيت ‪ 1790-1794‬قد سدد ضربة قاضية لألطروحة القائلة أننا نعيش يف‬
‫"اقتصاد مختلط" مزعوم‪ ،‬يسمح فيه تنظيم احلياة االقتصادية من قبل السلطات‬
‫العامة بتأمني النمو االقتصادي والعمالة الكاملة وتوسيع رفاهية اجلميع بصورة غري‬
‫منقطعة‪ .‬لقد أثبت الواقع مرة أخرى أن مقتضيات الربح اخلاص ال زالت تتحكم‬
‫هبذا االقتصاد وتتسبب فيه دوريا ببطالة مجاهريية وفيض إنتاج‪ ،‬وأنه بالتايل اقتصاد‬
‫ال يزال رأمساليا‪.‬‬
‫كذلك فإن األطروحة القائلة أن املدراء والبريوقراطية‪ ،‬بل التكنوقراطيني‬
‫والعلماء‪ ،‬ال أكرب التجمعات الرأمسالية‪ ،‬هم الذين يديرون اجملتمع الغريب‪ ،‬أطروحة‬
‫ال تستند إىل أي برهان علمي جدي‪ .‬إن العديد من "سادة" اجملتمع هؤالء قد‬
‫فقدوا منصبهم خالل فرتيت االنكماش األخريتني‪ .‬فإن انتداب السلطات الذي‬
‫يقبل به الرأمسال الكبري وحيسنه داخل الشركات العمالقة اليت يسيطر عليها‪،‬‬
‫يشمل معظم صالحياته التقليدية‪ ،‬ما عدا اجلوهري‪ :‬قرارات التعيني األخري حول‬
‫األشكال والتوجهات األساسية الستثمار الرأمسال وتراكمه‪ ،‬أي كل ما يتعلق‬
‫بـ"أقدس المقدسات"‪ :‬أولوية ربح االحتكارات‪ ،‬اليت ميكن التضحية يف سبيلها‬
‫بتوزيع أرباح األسهم على املسامهني‪ .‬فالذين يرون يف هذا األمر برهانا على أن‬
‫امللكية اخلاصة مل تعد مهمة‪ ،‬ينسون امليل إىل التضحية مبلكية الصغار اخلاصة‬
‫ألجل ملكية حفنة من الكبار‪ ،‬وهو ميل مهيمن منذ بداية الرأمسالية‪.‬‬

‫المراجع‪:‬‬
‫لينني‪ ،‬اإلمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫ر‪ .‬هيلفردنغ‪ ،‬الرأسمال المالي‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫ماندل‪ ،‬النظرية االقتصادية الماركسية (الفصول ‪.)14 ،10،1,‬‬ ‫‪‬‬
‫ب‪ .‬جاليه‪ ،‬اإلمبريالية عام ‪.1771‬‬ ‫‪‬‬
‫ب‪ .‬سالمة‪ ،‬سيرورة التخلف‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫‪68‬‬
‫(‪)7‬‬
‫النظام اإلمبريالي‬
‫‪ .1‬التصنيع الرأسمالي وقانون التطور المتفاوت والمركب‬

‫ولدت الرأمسالية الصناعية احلديثة يف بريطانيا العظمى‪ .‬وامتدت تدرجييا‪ ،‬خالل‬


‫القرن التاسع عشر‪ ،‬إىل معظم بلدان أوروبا الغربية والوسطى وإىل الواليات‬
‫املتحدة‪ ،‬والحقا إىل اليابان‪ .‬وقد بدا أن وجود بعض البلدان ذات التصنيع األويل‬
‫مل يكن حائال دون دخول الرأمسالية الصناعية وتوسعها يف سلسلة متتالية من‬
‫البلدان السائرة على درب التصنيع‪.‬‬
‫على العكس‪ ،‬فقد دمرت الصناعة الكبرية الربيطانية والبلجيكية والفرنسية‪،‬‬
‫دمرت يف تلك البلدان وبدون رمحة أشكال اإلنتاج ما قبل الصناعية (الصناعة‬
‫احلرفية والصناعة املنزلية)‪ .‬لكن الرساميل الربيطانية والبلجيكية والفرنسية كانت ال‬
‫تزال لديها حقول واسعة للتوظيفات مفتوحة أمامها يف بلداهنا اخلاصة‪ .‬وهكذا‬
‫فقد حلت إمجاال صناعة حديثة قومية تدرجييا حمل الصناعة احلرفية اليت دمرهتا‬
‫مزامحة البضائع األجنبية الرخيصة‪ .‬هذا ما حصل باألخص بالنسبة إلنتاج‬
‫املنسوجات يف أملانيا وإيطاليا وإسبانيا والنمسا وبوهيميا وروسيا القيصرية (مبا فيها‬
‫بولندا) والبلدان الواطئة‪ ،‬اخل‪.‬‬
‫ومع والدة العصر اإلمربيايل ورأمسالية االحتكارات‪ ،‬تبدل هذا الوضع تبدال‬
‫كليا‪ .‬فمنذ ذلك التاريخ‪ ،‬مل يعد سري السوق الرأمسالية العاملية يسهل التطور‬
‫الرأمسايل "العادي"‪ ،‬والسيما التصنيع يف العمق‪ ،‬للبلدان املتخلفة‪ ،‬بل أصبح‬
‫بالعكس يعرقله‪ .‬وتفقد عبارة ماركس القائلة "أن كل بلد متقدم يدل بلدا اقل‬
‫تطورا على صورة مستقبله الخاص"‪ ،‬تفقد هذه العبارة صحتها اليت حافظت‬
‫عليها طوال عصر الرأمسالية املزامحة احلرة‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫ثالثة عوامل رئيسية (وعوامل إضافية عديدة لن نذكرها) حتدد هذا التغري‬
‫األساسي يف سري االقتصاد الرأمسايل الدويل‪:‬‬
‫أ‪ .‬اتساع اإلنتاج باجلملة للعديد من بضائع البلدان اإلمربيالية اليت تغرق‬
‫السوق العاملية وحتوز على تقدم يف اإلنتاجية وسعر الكلفة بالنسبة لكل‬
‫إنتاج صناعي أويل يف البلدان املتخلفة إىل حد أن هذا اإلنتاج األخري ال‬
‫يعود يستطيع أن ينطلق فعال على صعيد واسع ويصمد جديا يف وجه‬
‫مزامحة اإلنتاج األجنيب‪ .‬فتصبح الصناعة الغربية (والحقا الصناعة اليابانية‬
‫أيضا) هي اليت تستفيد أكثر فأكثر بعد تلك املرحلة من اإلفالس التدرجيي‬
‫للصناعة احلرفية والصناعة املنزلية واملانيفكتورة يف بلدان أوروبا الشرقية‬
‫وأمريكا الالتينية وآسيا وأفريقيا‪.‬‬
‫ب‪ .‬أن فائض الرساميل‪ ،‬الذي يظهر بصورة دائمة إىل هذا احلد أو ذاك يف‬
‫البلدان الرأمسالية املصنعة اليت تسيطر االحتكارات عليها تدرجييا‪ ،‬يطلق‬
‫حركة واسعة من تصدير الرساميل حنو البلدان املتخلفة ويطور فيها فروع‬
‫إنتاج مكملة وليست منافسة بالنسبة للصناعة الغربية‪ .‬هكذا فإن الرساميل‬
‫األجنبية اليت هتيمن على اقتصاد هذه البلدان تفرض عليها التخصص يف‬
‫إنتاج املواد األولية املعدنية والنباتية ويف إنتاج املؤن‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬ففي‬
‫هذه البلدان اليت تنحدر تدرجييا إىل وضع البلدان املستعمرة أو شبه‬
‫املستعمرة‪ ،‬تدافع الدولة قبل كل شيء عن مصاحل الرأمسال األجنيب‪ .‬فهي‬
‫ال تتخذ بالتايل حىت اإلجراءات البسيطة حلماية الصناعة اجلنينية ضد‬
‫مزامحة املنتجات املستوردة‪.‬‬
‫ج‪ .‬ختلق هيمنة الرساميل األجنبية على اقتصاد البلدان التابعة وضعا اقتصاديا‬
‫واجتماعيا حتافظ فيه الدولة على مصاحل الطبقات السائدة القدمية‬
‫وتدعمها‪ ،‬بربطها مبصاحل الرأمسال اإلمربيايل‪ ،‬بدل إزالتها بصورة جذرية إىل‬

‫‪71‬‬
‫النظام االمربيايل‬

‫هذا احلد أو ذاك كما جرى خالل الثورات الدميوقراطية ‪ -‬الربجوازية‬


‫الكربى يف أوروبا الغربية والواليات املتحدة‪.‬‬
‫إن جممل هذا التطور اجلديد لالقتصاد الرأمسايل الدويل يف عصر اإلمربيايل‬
‫ميكن تلخيصه بقانون التطور املتفاوت واملركب‪ .‬فالبنية االجتماعية واالقتصادية يف‬
‫البلدان املتخلفة ‪ -‬أو يف مجلة من هذه البلدان على األقل ‪ -‬ليست يف مساهتا‬
‫األساسية بنية جمتمع إقطاعي صرف وال بنية جمتمع رأمسايل صرف‪ .‬حتت تأثري‬
‫هيمنة الرأمسال اإلمربيايل‪ ،‬تدمج هذه البنية بصورة استثنائية مسات إقطاعية وشبه‬
‫إقطاعية وشبه رأمسالية ورأمسالية‪ .‬إن القوة االجتماعية السائدة هي قوة الرأمسال ‪-‬‬
‫لكنه إمجاال الرأمسال األجنيب‪ .‬فالبورجوازية احمللية ال متارس بالتايل السلطة‬
‫السياسية‪ .‬وال تتألف غالبية السكان بالتايل من األجراء‪ ،‬وال من األقنان بوجه‬
‫عام‪ ،‬بل من فالحني خيضعون بدرجات متفاوتة البتزاز املالك العقاريني شبه‬
‫اإلقطاعيني وشبه الرأمساليني والتجار ‪ -‬املرابني وجباة الضرائب‪ .‬وبالرغم من أن‬
‫هذا اجلمهور الكبري يعيش جزئيا خارج اإلنتاج البضاعي بل خارج اإلنتاج‬
‫النقدي‪ ،‬فإنه يصاب بالنتائج الكارثية لتذبذبات أسعار املواد األولية يف السوق‬
‫اإلمربيالية العاملية من خالل النتائج اإلمجالية اليت جترها هذه التذبذبات على‬
‫االقتصاد القومي‪.‬‬

‫‪ .2‬استغالل البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة من قبل الرأسمال اإلمبريالي‬

‫إن تدفق الرساميل األجنبية حنو البلدان التابعة‪ ،‬املستعمرة وشبه املستعمرة‪ ،‬قد‬
‫تسبب طوال عقود متعاقبة بالنهب واالستغالل واالضطهاد ألكثر من مليار‬
‫إنسان من قبل الرأمسال اإلمربيايل‪ ،‬األمر الذي يشكل إحدى اجلرائم الرئيسية اليت‬
‫تقع مسئوليتها على النظام الرأمسايل يف تارخيه‪ .‬وإذا ظهرت الرأمسالية على األرض‬
‫وهي تنضح الدم والعرق من جميع مسامها كما قال ماركس‪ ،‬فإن هذا التعريف‬
‫ال ينطبق يف مكان بالدقة اليت ينطبق هبا يف البلدان التابعة‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫يندرج العصر اإلمربيايل يف املقام األول حتت شعار الفتح االستعماري‪ .‬طبعا‪،‬‬
‫إن االستعمار أقدم من اإلمربيالية‪ .‬فقد سبق أن أحل الفاحتون اإلسبان‬
‫والربتغاليون احلرق والقتل يف اجلزر اخلضراء والرأس األخضر وكذلك يف بلدان‬
‫أمريكا الوسطى واجلنوبية‪ ،‬مبيدين يف كل مكان تقريبا قسما كبريا من السكان‬
‫احملليني‪ ،‬إن مل يكن مجيعهم‪ .‬ومل يتصرف املستعمرون البيض بطريقة أكثر إنسانية‬
‫إزاء هنود أمريكا الشمالية‪ .‬وترافق فتح إمرباطورية اهلند من قبل بريطانيا العظمى‬
‫بسلسلة من الفظاعات‪ ،‬وكذلك بالنسبة لفتح اجلزائر من قبل فرنسا‪.‬‬
‫ومع والدة العصر اإلمربيايل‪ ،‬امتدت هذه الفظاعات إىل قسم كبري من إفريقيا‬
‫وآسيا وأوقيانيا‪ .‬فتعاقبت على نطاق واسع اجملازر ونقل السكان وطرد الفالحني‬
‫من أراضيهم وإدخال العمل اإلجباري‪ ،‬إن مل يكن القنانة بالفعل‪.‬‬
‫إن العنصرية «تربر» هذه املمارسات الال إنسانية بتأكيدها على تفوق العرق‬
‫األبيض و«رسالته التارخيية احلضارية»‪ .‬وبصورة أكثر حذاقة‪ ،‬جترد العنصرية‬
‫الشعوب املستعمرة من ماضيها اخلاص وثقافتها اخلاصة وعزهتا العرقية‪ ،‬ال بل‬
‫جتردها من لغتها يف الوقت نفسه الذي تنتزع فيه منها ثرواهتا القومية وقسما هاما‬
‫من مثار عملها‪.‬‬
‫وإذا جترأ العبيد املستعمرون على التمرد ضد السيطرة االستعمارية‪ ،‬جرى‬
‫قمعهم بوحشية أفظع من أن توصف‪ .‬نساء وأطفال هنود ذهبوا ضحية اجملازر يف‬
‫حرب اهلنود يف الواليات املتحدة‪« ،‬متمردون» هنديون وضعوا أمام مدافع أطلقت‬
‫النار‪ ،‬قبائل يف الشرق األوسط قصفها الطريان امللكي الربيطاين بال رمحة‪ ،‬عشرات‬
‫اآلالف من اجلزائريني املدنيني ذهبوا ضحية اجملازر «انتقاما» من االنتفاضة الوطنية‬
‫يف مايو ‪ :1740‬كل ذلك ينذر بأوحش فظاعات النازية‪ ،‬مبا فيها اإلبادة‬
‫اجلماعية الصرحية‪ ،‬بل يكررها متاما‪ .‬وإذا سخط برجوازيو أوروبا وأمريكا على هتلر‬
‫سخطا شديدا‪ ،‬فألنه ارتكب جرمية انتهاك العرق األبيض عندما طبق على‬

‫‪72‬‬
‫النظام االمربيايل‬

‫شعوب أوروبية‪ ،‬حلساب اإلمربيالية األملانية‪ ،‬ما أصاب شعوب آسيا وأمريكا‬
‫وأفريقيا على يد اإلمربيالية العاملية‪.‬‬
‫إن اقتصاد البلدان التابعة خاضع برمته ملصاحل الرأمسال األجنيب وما يفرضه‪.‬‬
‫ففي معظم هذه البلدان‪ ،‬تصل السكك احلديدية مراكز اإلنتاج العاملة من أجل‬
‫التصدير باملوانئ‪ ،‬لكنها ال تصل املراكز املدينة الرئيسية بعضها ببعض‪ .‬وخيدم‬
‫املؤمن نشاطات االسترياد والتصدير‪ّ ،‬أما الشبكات املدرسية والصحية‬
‫البناء التحيت َّ‬
‫والثقافية فتعاين من ختلف خميف‪ .‬إن القسم األعظم من السكان يعاين من األمية‬
‫واجلهل والبؤس‪.‬‬
‫أكيد أن دخول الرأمسال األجنيب قد مسح بتطور معني للقوى املنتجة وخلق‬
‫وطور جنينا متفاوت األمهية من الربوليتاريا يف املوانئ‬ ‫بعض املدن الصناعية الكبرية ّ‬
‫واملناجم واملزارع والسكك احلديدية واإلدارة العامة‪.‬‬
‫بيد أننا نستطيع أن نقول بدون مبالغة أن مستوى معيشة السكان املتوسطني‬
‫يف آسيا وأفريقيا وأمريكا الالتينية (عدا بعض البلدان صاحبة االمتيازات) قد راوح‬
‫مكانه أو تراجع خالل ثالث أرباع القرن اليت تفصل بني بداية االندفاع حنو‬
‫االستعمار الشامل للبلدان املتخلفة وانتصار الثورة الصينية‪.‬‬

‫‪« .3‬الكتلة الطبقية» الحاكمة في البلدان شبه المستعمرة‬

‫لكي نفهم فهما أكثر تعمقا الطريقة اليت «مجدت» هبا السيطرة اإلمربيالية‬
‫البلدان املستعمرة وشبه املستعمرة يف تطورها وحالت دون تصنيع تدرجيي «عادي»‬
‫فيها على النمط الرأمسايل الغريب‪ ،‬جيب أن نوسع الشرح أكثر حول طبيعة «كتلة‬
‫الطبقات االجتماعية» احلاكمة يف هذه البلدان خالل العصر اإلمربيايل‬
‫«الكالسيكي» وما تستتبعه هذه «الكتلة» بالنسبة للتطور االقتصادي‬
‫واالجتماعي‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫عندما يدخل الرأمسال األجنيب بكثافة إىل البلدان املستعمرة وشبه املستعمرة‪،‬‬
‫تكون الطبقة السائدة احمللية مؤلفة إمجاال من مالك عقاريني (شبه إقطاعيني وشبه‬
‫رأمساليني مبقادير ختتلف حسب البلد املعين) متحالفني مع الرأمسال التجاري‬
‫واملصريف أواملرايب‪ّ .‬أما يف البلدان األكثر ختلفا كبلدان أفريقيا السوداء‪ ،‬فإننا جند‬
‫جمتمعات قبلية يف طور التفكك حتت التأثري املديد لتجارة العبيد‪.‬‬
‫ويتحالف إمجاال الرأمسال األجنيب مع هذه الطبقات السائدة احمللية ويعاملها‬
‫كوسيطات الستغالل الفالحني والشغيلة احملليني ويدعم عالقاهتا االستغاللية مع‬
‫شعوهبا اخلاصة‪ .‬حىت أنه يرفع أحيانا بصورة هامة درجة االستغالل هذا بشكله ما‬
‫قبل الرأمسايل ويدجمه مع إدخال أشكال جديدة من االستغالل الرأمسايل‪ .‬ففي‬
‫حول االستعمار الربيطاين الزمندار‪ ،‬الذين كانوا يف األمس جمرد جباة‬ ‫البنغال‪ّ ،‬‬
‫ضرائب يف خدمة األباطرة املغول‪ ،‬حوهلم إىل مالك كاملي احلقوق لألراضي اليت‬
‫كانوا جيبون الضرائب عليها‪ .‬هكذا تظهر ثالث طبقات اجتماعية هجينة يف‬
‫جمتمع البلدان املتخلفة‪ ،‬تطبع بطابعها جتميد تطور هذه البلدان االقتصادي‬
‫واالجتماعي‪:‬‬
‫طبقة البرجوازية الكومبرادورية‪ ،‬وهي برجوازية حملية تتكون يف البدء من جمرد‬ ‫‪‬‬
‫شركاء تعينهم املؤسسات األجنبية لالسترياد والتصدير‪ ،‬ويغتنون من مث‬
‫ويتحولون تدرجييا إىل مقاولني مستقلني‪ .‬غري أن منشآهتم تنحصر بصورة‬
‫رئيسية يف دائرة التجارة و«اخلدمات» ّأما أرباحهم فتوظف إمجاال يف التجارة‬
‫والربا وشراء األراضي واملضاربة العقارية‪.‬‬
‫طبقة التجار‪ -‬المرابين ( أو التجار‪ -‬المرابين ‪ -‬الكوالك)‪ .‬إن الدخول‬ ‫‪‬‬
‫البطيء لالقتصاد النقدي يفكك تقاليد التعاون داخل املشاعة القروية‪ .‬ومع‬
‫تعاقب احملاصيل السيئة واجليدة‪ ،‬على أراض خصبة إىل هذا احلد أو ذاك‪،‬‬
‫يتقدم التفاضل االجتماعي يف القرية بدون رمحة‪ .‬ويتواجه الفالحون األغنياء‬
‫والفالحون الفقراء‪ ،‬وخيضع هؤالء أكثر فأكثر ألولئك‪ ،‬حيث يضطر‬

‫‪74‬‬
‫النظام االمربيايل‬

‫الفالحون الفقراء إىل االستدانة لشراء البذور واملؤن عندما ال يكفي احملصول‬
‫حىت لتغطية احلاجات األكثر أولية‪ .‬فيقعون حتت تبعية التجار ‪ -‬املرابني ‪-‬‬
‫الفالحني األغنياء الذين يصادرون منهم تدرجييا ملكية حقوهلم وخيضعوهنم‬
‫إلبتزازات ال حتصى‪.‬‬
‫طبقة شبه البروليتاريا الريفية (اليت مشلت الحقا «اهلامشيني» املدينيني)‪ .‬إن‬ ‫‪‬‬
‫الفالحني املفقرين واملطرودين من أراضيهم ال جيدون عمال يف الصناعة‪ ،‬نظرا‬
‫لتخلفها‪ .‬فيضطرون إىل البقاء يف الريف أو يؤجرون سواعدهم للفالحني‬
‫األغنياء أو يستأجرون قطع أرض لكي حيصلوا منها على عيشة بائسة لقاء‬
‫ريع عقاري (أو حصة من احملصول يف نظام احملاصصة) أكثر فأكثر هبظا‪.‬‬
‫وكلما زاد بؤسهم ونقص استخدامهم قوة‪ ،‬كان الريع الذي هم على استعداد‬
‫لدفعه الستئجار حقل أكثر ارتفاعا‪ .‬وكلما كان الريع العقاري أكثر ارتفاعا‪،‬‬
‫تراجعت مصلحة أصحاب الرساميل يف توظيفها يف الصناعة بل يستخدمون‬
‫رساميلهم باألحرى لشراء األرض‪ .‬وكلما كان بؤس مجهور الفالحني أكرب‪،‬‬
‫ضاقت السوق الداخلية للسلع االستهالكية وبقيت الصناعة متخلفة وبقي‬
‫نقص االستخدام قويا‪.‬‬
‫ليس التخلف إذا نتيجة لنقص مطلق يف الرساميل أو املوارد‪ .‬بل بعكس ذلك‪،‬‬
‫غالبا ما تشكل حصة النتاج االجتماعي الفائض من الدخل القومي حصة أكرب‬
‫يف البلدان املتخلفة مما يف البلدان املصنعة‪ .‬إن التخلف نتاج بنية اجتماعية‬
‫واقتصادية‪ ،‬نامجة عن السيطرة االمربيالية‪ ،‬جتعل تراكم الرساميل النقدية ال يتجه‬
‫بصورة رئيسية حنو التصنيع وال حىت حنو التوظيف املنتج‪ ،‬األمر الذي يتسبب يف‬
‫نقص استخدام (كمي ونوعي) ضخم إذا ما قورن بالبلدان اإلمربيالية‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫‪ .4‬حركة التحرر القومي‬

‫كان حمتما مع مرور الزمن أال خيضع مئات املاليني من البشر لنظام استغالل‬
‫واضطهاد كانت تفرضه عليهم حفنة من كبار رأمساليي البلدان اإلمربيالية بواسطة‬
‫األجهزة اإلدارية والقمعية اليت يف خدمتها‪ .‬فمدت حركة حترر قومي جذورها‬
‫تدرجييا يف صفوف املثقفني الشباب يف بلدان أمريكا الالتينية وآسيا وأفريقيا‪ ،‬حركة‬
‫تبنت أفكارا دميوقراطية ‪ -‬برجوازية بل شبه اشرتاكية واشرتاكية من أفكار الغرب‪،‬‬
‫لتعارض السيطرة األجنبية على بالدها‪ .‬إن النزعة القومية ذات التوجه املعادي‬
‫لإلمربيالية‪ ،‬تتمحور يف البلدان التابعة حول املصاحل املختلفة لثالث قوى‬
‫اجتماعية‪:‬‬
‫يتم تبنيها قبل كل شيء من قبل البرجوازية القومية الصناعية الفتية‪ ،‬يف كل‬ ‫‪‬‬
‫مكان حتوز فيه هذه األخرية على قاعدة مادية خاصة جتعل مصاحلها تتزاحم‬
‫مع مصاحل الدول اإلمربيالية املسيطرة‪ .‬إن املثال األكثر منوذجية يف هذا الصدد‬
‫هو مثال حزب املؤمتر اهلندي الذي قاده غاندي والذي دعمته بقوة اجملموعات‬
‫الصناعية اهلندية الكبرية‪.‬‬
‫حبفز من الثورة الروسية‪ ،‬ميكن أن يتم تبين النزعة القومية من قبل الحركة‬ ‫‪‬‬
‫العمالية الناشئة اليت سوف جتعل منها على األخص أداة تعبئة للجماهري‬
‫املدينية والقروية ضد السلطة القائمة‪ .‬إن املثال األكثر منوذجية يف هذا الصدد‬
‫هو مثال احلزب الشيوعي الصيين منذ العشرينات ومثال احلزب الشيوعي يف‬
‫اهلند الصينية يف العقود الالحقة‪.‬‬
‫ميكن أن حتفز النزعة القومية انفجار متردات للبرجوازية الصغيرة المدينية‬ ‫‪‬‬
‫وللفالحين‪ ،‬تتخذ كشكل سياسي شكل النزعة الشعبية القومية‪ .‬إن ثورة‬
‫‪ 1712‬املكسيكية هي النموذج األخص هلذا الشكل من احلركة املناهضة‬
‫لإلمربيالية‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫النظام االمربيايل‬

‫بوجه عام‪ ،‬فإن تأزم النظام اإلمربيايل الذي عرف متزقات داخلية متتالية ‪-‬هزمية‬
‫روسيا القيصرية يف احلرب ضد اليابان يف سنيت ‪ ،1720 -1724‬ثورة عام‬
‫‪ 1720‬الروسية‪ ،‬احلرب العاملية األوىل‪ ،‬ثورة عام ‪ 1719‬الروسية‪ ،‬ظهور احلركة‬
‫اجلماهريية يف اهلند والصني‪ ،‬أزمة سنوات ‪ 17,0 -1707‬االقتصادية‪ ،‬احلرب‬
‫العاملية الثانية‪ ،‬هزائم اإلمربيالية الغربية على يد اإلمربيالية اليابانية يف سنيت‬
‫‪ ، 1740-1741‬هزمية اإلمربيالية اليابانية يف سنة ‪ -1740‬تأزم النظام‬
‫اإلمربيايل هذا قد حفز حركة التحرر القومي يف البلدان التابعة حفزا قويا‪ .‬وقد‬
‫تلقت هذه احلركة دفعها الرئيسي عند انتصار الثورة الصينية عام ‪.1747‬‬
‫إن املشكالت التكتيكية واالسرتاتيجية اليت تنجم عن ظهور حركة التحرر‬
‫املستعمرة‪ ،‬بالنسبة للحركة العمالية العاملية‬
‫َ‬ ‫املستعمرة والشبه‬
‫َ‬ ‫القومي يف البلدان‬
‫(واحمللية يف البلدان التابعة)‪ ،‬سوف يتم تناوهلا بصورة أكثر تفصيال يف الفصل‬
‫العاشر‪ ،‬النقطة ‪ ،4‬والفصل الثالث عشر‪ ،‬النقطة ‪ .4‬أما هنا فنكتفي بالتأكيد‬
‫على أن الواجب اخلاص للحركة العمالية يف البلدان اإلمربيالية هو أن تؤيد بال‬
‫املستعمرة والشبه‬
‫َ‬ ‫شروط كل حركة وكل عمل فعلي تقوم هبما مجاهري البلدان‬
‫املستعمرة ضد االستغالل واالضطهاد اللذين تعاين منهما على يد الدول‬ ‫َ‬
‫اإلمربيالية‪ .‬هذا الواجب يقتضي متييزا صارما بني احلروب اإلمربيالية‪ ،‬وهي حروب‬
‫رجعية‪ ،‬وحروب التحرر القومي اليت هي حروب عادلة بصرف النظر عن القوة‬
‫السياسية اليت تقود الشعب املضطهد يف هذه املرحلة من النضال أو تلك‪ ،‬وينبغي‬
‫على الربوليتاريا العاملية يف هذه احلروب أن تعمل ألجل انتصار الشعوب‬
‫املضطهدة‪.‬‬

‫‪ .5‬االستعمار الجديد‬

‫إن ازدهار حركة التحرر القومي غداة احلرب العاملية الثانية قد جر اإلمربيالية‬
‫إىل تعديل أشكال سيطرهتا على البلدان املتخلفة‪ .‬فقد حتولت هذه السيطرة‬

‫‪77‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫تدرجييا من سيطرة مباشرة إىل غري مباشرة‪ .‬وقد تقلص بسرعة عدد املستعمرات‬
‫حبصر املعىن‪ ،‬اليت تديرها الدول االستعمارية مباشرة‪ .‬وانتقل هذا العدد‪ ،‬يف غضون‬
‫عقدين‪ ،‬من حوايل السبعني إىل بعض الوحدات فقط‪ .‬واهنارت مبعظمها‬
‫اإلمرباطوريات االستعمارية اإليطالية والربيطانية واهلولندية والفرنسية وأخريا الربتغالية‬
‫واإلسبانية‪.‬‬
‫مل حيصل طبعا زوال اإلمرباطوريات االستعمارية هذا دون مقاومة دموية‬
‫ومضادة للثورة من قبل قطاعات هامة من الرأمسال اإلمربيايل‪ .‬تشهد على ذلك‬
‫احلروب االستعمارية الدموية اليت خاضتها اإلمربيالية اهلولندية يف أندونيسيا‪،‬‬
‫واإلمربيالية الربيطانية يف ماليزيا ويف كينيا‪ ،‬واإلمربيالية الفرنسية يف اهلند الصينية ويف‬
‫اجلزائر‪ ،‬كما تشهد عليه «احلمالت» األقصر مدة لكن اليت ال تقل دموية كحملة‬
‫السويس سنة ‪ 1707‬ضد مصر‪ .‬غري أن هذه األعمال املشؤومة تبدو تارخييا‬
‫كمعارك رجعية‪ .‬يقينا أن االستعمار املباشر كان حمكوما عليه بالزوال‪.‬‬
‫بيد أن زواله ال يعين البتة تفكك النظام اإلمربيايل العاملي‪ .‬بل يستمر هذا‬
‫النظام يف الوجود‪ ،‬وإن يف أشكال معدلة‪ .‬فتبقى الغالبية العظمى من البلدان‬
‫شبه املستعمرة حمصورة يف تصدير املواد األولية‪ .‬وتظل خاضعة جلميع النتائج‬
‫املضرة للتبادل االستغاليل غري املتساوي‪ .‬ويستمر التباعد‪ ،‬بدل التقارب‪ ،‬بني‬
‫درجة تطور هذه البلدان ودرجة تطور البلدان اإلمربيالية‪ .‬ويزداد بعد املسافة بني‬
‫القسم «الشمايل» والقسم «اجلنويب» من الكرة األرضية‪ ،‬من حيث الدخل‬
‫الفردي ومستوى الرفاهية‪.‬‬
‫هذا ويقتضي حتول السيطرة اإلمربيالية املباشرة إىل سيطرة إمربيالية غري مباشرة‬
‫على البلدان املتخلفة‪ ،‬إشراكا أوثق للربجوازية الصناعية «القومية» يف استغالل‬
‫اجلماهري الكادحة يف هذه البلدان‪ ،‬ويستتبع أيضا إسراعا ما لسريورة التصنيع يف‬
‫مجلة من البلدان شبه املستعمرة‪ .‬هذا ينجم يف آن واحد عن تبدل موازين القوى‬

‫‪78‬‬
‫النظام االمربيايل‬

‫السياسية (أي أنه يشكل تنازال حمتما للنظام حتت ضغط اجلماهري املتعاظم) وعن‬
‫تبدل املصاحل األساسية للمجموعات اإلمربيالية الرئيسية بذاهتا‪.‬‬
‫إن طبيعة البضائع املصدرة من قبل البلدان اإلمربيالية قد شهدت بالفعل تبدال‬
‫هاما‪ .‬وأصبحت فئة «اآلالت والسلع التجهيزية ووسائل النقل» حتتل فيها‬
‫الصدارة بعد أن كانت حتتلها فئتا السلع االستهالكية والفوالذ‪ .‬واحلال أنه‬
‫يستحيل أن تصدر الرتوستات االحتكارية الرئيسية قدرا أكرب فأكرب من اآلالت‬
‫إىل البلدان التابعة دون أن حتفز فيها بعض أشكال التصنيع (احملصور إمجاال وبوجه‬
‫خاص يف صناعة السلع االستهالكية)‪.‬‬
‫ومن جهة أخرى‪ ،‬فإن الشركات متعددة القوميات جتد يف إطار اسرتاتيجيتها‬
‫العاملية مصلحة يف االنغراس يف عدد من البلدان التابعة لتحتل فيها السوق منذ‬
‫البدء تقريبا‪ ،‬نظرا لتوسع املبيعات الالحق الذي تتوقعه‪ .‬هكذا تتعمم صيغة‬
‫املنشآت املشرتكة (‪ )joint-ventures‬بني الرأمسال اإلمربيايل والرأمسال الصناعي‬
‫«القومي» يف تلك البلدان‪ ،‬أكان رأمساال خاصا أو رأمسال دولة‪ ،‬حيث تشكل‬
‫هذه الصيغة إحدى ميزات البنية شبه االستعمارية‪ .‬ويزداد بالتايل ثقل الطبقة‬
‫العاملة يف اجملتمع‪.‬‬
‫هذه البنية تظل منخرطة يف منظومة إمربيالية قاسية واستغاللية‪ .‬ويبقى التصنيع‬
‫حمدودا‪ ،‬حيث تكاد «سوقه الداخلية» ال تتعدى إمجاال ما بني ‪ %02‬و‪%00‬‬
‫من السكان‪ :‬الطبقات امليسورة ‪ +‬التقنيون والكوادر‪ ،‬إخل ‪ +‬الفالحون األغنياء‪.‬‬
‫ويظل بؤس اجلماهري هائال‪ ،‬فتتزايد التناقضات االجتماعية بدل أن تتقلص‪ :‬من‬
‫هنا تبقى طاقة االنفجارات الثورية املتتالية يف البلدان التابعة‪.‬‬
‫يف هذه الشروط‪ ،‬تكتسب شرحية اجتماعية جديدة أمهية‪ :‬أهنا بريوقراطية‬
‫الدولة اليت «تدير» إمجاال قطاعا مؤمما هاما وتنصب نفسها ممثلة لالهتمامات‬

‫‪79‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫القومية جتاه اخلارج‪ ،‬لكنها تستغل يف الواقع احتكارها لإلدارة لتجري تراكمها‬
‫اخلاص على نطاق واسع‪.‬‬

‫المراجع‪:‬‬
‫‪ ‬لينني‪ ،‬اإلمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية‪.‬‬
‫‪ ‬تروتسكي‪ ،‬الثورة الدائمة‪.‬‬
‫‪ ‬تروتسكي‪ ،‬األممية الثالثة بعد لينين‪.‬‬
‫‪ ‬ر‪ .‬لكسمبورغ‪ ،‬تراكم الرأسمال (الفصول الستة األخرية)‪.‬‬
‫‪ ‬ن‪ .‬بوخارين‪ ،‬اإلمبريالية واالقتصاد العالمي‪.‬‬
‫‪ ‬جاليه‪ ،‬اإلمبريالية عام ‪.1771‬‬
‫‪ ‬ب‪.‬سالمة‪ ،‬سيرورة التخلف‪.‬‬
‫‪ ‬ب‪ .‬باران‪ ،‬االقتصاد السياسي للتنمية‪.‬‬
‫‪ ‬هوبت ‪ -‬لويف ‪ -‬فايل‪ ،‬الماركسيون والمسألة القومية (نصوص خمتارة)‪.‬‬
‫‪ ‬ميخايل برات ‪ -‬براون‪ ،‬بعد اإلمبريالية‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫(‪)8‬‬
‫نشأة الحركة العمالية الحديثة‬
‫منذ أن وجد عمال مأجورون‪ ،‬أي قبل تكون الرأمسالية احلديثة بكثري‪ ،‬حصلت‬
‫ظاهرات صراع طبقي بني أرباب العمل والعمال‪ .‬فالصراع الطبقي ليس بنتاج‬
‫نشاطات حتريضية من قبل أفراد «يدعون إليه»‪ .‬بالعكس‪ ،‬فإن مذهب الصراع‬
‫الطبقي هو نتاج ممارسة الصراع الطبقي اليت سبقته‪.‬‬

‫‪ .1‬الصراع الطبقي األولي للبروليتاريا‬

‫تتمحور التجليات األولية لصراع األجراء الطبقي حول مطالب ثالثة على‬
‫الدوام‪ .‬هذه املطالب هي التالية‪:‬‬
‫أ‪ .‬زيادة األجور؛ وهي وسيلة فورية لتعديل توزيع الناتج االجتماعي بني‬
‫أرباب العمل والعمال لصاحل األجراء‪.‬‬
‫ب‪ .‬إنقاص ساعات العمل دون ختفيض األجر‪ ،‬وهي وسيلة مباشرة أخرى‬
‫لتعديل هذا التوزيع لصاحل الشغيلة‪.‬‬
‫ج‪ .‬حرية التنظيم؛ ففي حني يستحوذ رب العمل‪ ،‬مالك رأس املال ووسائل‬
‫اإلنتاج‪ ،‬على القوة االقتصادية‪ ،‬جيد العمال أنفسهم منزوعي السالح طاملا‬
‫هم خيوضون فيها بينهم صراعا تنافسيا للحصول على عمل‪ .‬ضمن هذه‬
‫الشروط‪ ،‬تصب «قواعد اللعبة» يف صاحل الرأمساليني على وجه احلصر‪،‬‬
‫الذين يستطيعون ختفيض مستوى األجور قدر ما يشاءون‪ ،‬فيما يضطر‬
‫العمال للقبول هبا خشية فقدان عملهم‪ ،‬وبالتايل لقمة عيشهم‪ .‬ليس‬
‫للشغيلة فرصة احلصول على منافع من خالل النضال الذي يواجهون به‬
‫أرباب العمل‪ ،‬إالّ عن طريق إلغاء هذه املنافسة اليت تفرق بينهم‪ ،‬ورفضهم‬

‫‪81‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫مجيعا أن يعملوا ضمن شروط غري ممكن قبوهلا‪ .‬إن التجربة تعلمهم سريعا‬
‫أنه إن مل تكن هلم حرية التنظيم‪ ،‬كانوا منزوعي السالح يف مواجهة‬
‫الضغط الرأمسايل‪.‬‬
‫لقد اختذ الصراع الطبقي األويل الذي خيوضه الربوليتاريون طابعا تقليديا يتمثل‬
‫بالرفض اجلماعي للعمل‪ ،‬أي باإلضراب‪ .‬وينقل لنا مدونو أخبار‪ ،‬قصص‬
‫إضرابات حدثت يف مصر والصني القدميتني‪ .‬لدينا كذلك وقائع إضرابات حدثت‬
‫يف مصر يف ظل اإلمرباطورية الرومانية‪ ،‬السيما يف القرن األول من التاريخ‬
‫امليالدي‪.‬‬

‫‪ .2‬الوعي الطبقي األولي للبروليتاريا‬

‫إن تنظيم إضراب يتطلب على الدوام درجة ما ‪ -‬أولية ‪ -‬من التنظيم الطبقي‪.‬‬
‫يتطلب على وجه اخلصوص معرفة أن خالص كل من األجراء يتوقف على عمل‬
‫مجاعي‪ ،‬وهو حل قائم على التضامن الطبقي‪ ،‬بالتعارض مع احلل الفردي (املتمثل‬
‫مبحاولة زيادة الربح الفردي دون اهتمام بدخول بقية األجراء)‪.‬‬
‫هذه املعرفة هي الشكل األوىل للوعي الطبقي الربوليتاري‪ .‬يضاف إىل ذلك أن‬
‫املأجورين يتعلمون فطريا خالل تنظيم إضراب أن ينشئوا صناديق مساعدة‪ .‬يتم‬
‫إنشاء صناديق مساعدة والتعاون هذه أيضا للتخفيف قليال من عدم استقرار‬
‫الوجود العمايل‪ ،‬وللسماح للربوليتاريني بالدفاع عن أنفسهم خالل فرتات البطالة‪،‬‬
‫إخل‪ .‬تلك هي األشكال األولية للتنظيم الطبقي‪ .‬إالّ أن هذه األشكال األولية من‬
‫الوعي والتنظيم الطبقيني ال تتطلب وعي األهداف التارخيية للحركة العمالية‪ ،‬وال‬
‫فهم ضرورة عمل سياسي مستقل من جانب الطبقة العاملة‪.‬‬
‫هكذا جتد األشكال األوىل للعمل السياسي العمايل موقعها إىل أقصى يسار‬
‫الراديكالية الربجوازية الصغرية‪ .‬إن مؤامرة املتساوين اليت نظمها غراكوس‬

‫‪82‬‬
‫نشأة احلركة العمالية احلديثة‬

‫بابوف(‪ ،)10‬واليت متثل أول حركة سياسية حديثة هتدف إىل جتميع وسائل اإلنتاج‪،‬‬
‫ظهرت إبان الثورة الفرنسية إىل أقصى يسار اليعاقبة‪.‬‬
‫‪London‬‬ ‫يهيئ جمليء جمتمع اشرتاكي‪ ،‬ويهيئ القوى املادية واألدبية‪،‬‬
‫‪ Corresponding Society‬اليت حاولت تنظيم حركة تضامن مع الثورة‬
‫الفرنسية‪ .‬إالّ أن القمع البوليسي متكن من سحق املنظمة املذكورة‪ .‬لكن نشأت‬
‫على الفور‪ ،‬بعد هناية احلروب النابوليونية‪ ،‬رابطة االقرتاع العام اليت تشكلت يف‬
‫منطقة مانشسرت‪ -‬ليفربول الصناعية من عمال على وجه اخلصوص‪ ،‬وكانت إىل‬
‫أقصى يسار احلزب الراديكايل (البورجوازي الصغري)‪ .‬لقد تسارع بعد أحداث‬
‫بيرتلو الدامية يف عام ‪ 1,19‬انفصال حركة عمالية مستقلة عن احلركة البورجوازية‬
‫الصغرية‪ ،‬ونشأ هكذا بعد قليل احلزب الشارطي أول حزب عمايل بصورة أساسية‪،‬‬
‫يطالب باالقرتاع العام‪.‬‬

‫‪ .3‬االشتراكية الطوباوية‬

‫تلك احلركات األولية للطبقة العاملة قادها كلها إىل حد بعيد عمال بالذات‪،‬‬
‫أي عصاميون ‪ autodidactes‬كانوا غالبا ما يصوغون أفكار ساذجة حول‬
‫موضوعات تارخيية واقتصادية واجتماعية‪ ،‬تتطلب دراسات علمية متينة كي تتم‬
‫معاجلتها بعمق‪ .‬تطورت تلك احلركات إذا على هامش التطور العلمي يف القرنني‬
‫‪ 19‬و‪ .1,‬على عكس ذلك‪ ،‬ويف إطار هذا التطور العلمي بالذات تقع جهود‬
‫أوائل املفكرين الكبار الطوباويني من أمثال توماس مور (مستشار إنكلرتا يف القرن‬
‫‪ ،)17‬وكامبانيال (كاتب إيطايل يف القرن ‪ ،)19‬وروبيرت أوين‪ ،‬وشارل فورييه‬

‫(‪ )10‬أحد الوجوه األآثر تقدما اليت برزت إبان الثورة الفرنسية ومثلت مصاحل الكادحني الفرنسيني‬
‫لتلك الفرتة‪( .‬م)‬

‫‪83‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫وسان سيمون (كتّاب يف القرنني ‪ 1,‬و‪ .)17‬حاول هؤالء الكتّاب أن جيمعوا‬


‫كل معارف عصرهم العلمية ليقوموا بصياغة‪:‬‬
‫أ‪ .‬نقد حاد لال مساواة االجتماعية‪ ،‬ال سيما تلك اليت متيز اجملتمع‬
‫البورجوازي (وهو ما يعين أوين وفورييه وسان سيمون)‪،‬‬
‫ب‪ .‬خمطط تنظيم جمتمع متساو‪ ،‬قائم على امللكية اجلماعية‪.‬‬
‫هبدين الوجهني لعمل كبار االشرتاكيني الطوباويني‪ ،‬يشكل هؤالء الرواد‬
‫احلقيقيني لالشرتاكية احلديثة‪ .‬إالّ أن ضعف نظامهم يكمن يف‪:‬‬
‫أ‪ .‬واقع أن اجملتمع املثايل الذي حيلمون به (من هنا تعبري االشرتاكية الطوباوية)‬
‫ينطرح كمثل أعلى مطلوب بناؤه وبلوغه دفعة واحدة عرب جهد للفهم‬
‫يبذله الناس وإرادة حسنة‪ ،‬وذلك من دومنا عالقة بالتطور التارخيي الذي‬
‫يؤدي إليه اجملتمع الرأمسايل بالذات إىل هذا احلد أو ذاك‪.‬‬
‫ب‪ .‬واقع أن تفسريات الظروف اليت ظهرت خالهلا الال مساواة االجتماعية‬
‫واليت ميكن أن ختتفي خالهلا‪ ،‬هي تفسريات ناقصة علميا وتقوم على‬
‫عوامل ثانوية (العنف‪ ،‬األخالق‪ ،‬املال‪ ،‬علم النفس‪ ،‬اجلهل‪ ،‬اخل)‪ ،‬وال‬
‫تنطلق من املشكالت البنيوية االقتصادية واالجتماعية‪ ،‬مشكالت التفاعل‬
‫بني عالقات اإلنتاج ومستوى تطور قوى اإلنتاج‪.‬‬

‫‪ .4‬والدة النظرية الماركسية ‪ -‬البيان الشيوعي‬

‫يف هذين احلقلني بالذات‪ ،‬نرى أن إرساء النظرية املاركسية يف األيديولوجية‬


‫األملانية (‪ ،)1,40‬وخصوصا‪ ،‬يف البيان الشيوعي (‪ )1,49‬الذي وضعه ماركس‬
‫وإجنلز‪ ،‬إمنا يشكل تقدما حامسا‪ .‬فمع النظرية املاركسية‪ ،‬يتجسد الوعي الطبقي‬
‫العمايل يف نظرية علمية من املستوى األرفع‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫نشأة احلركة العمالية احلديثة‬

‫مل يكتشف ماركس وإجنلز مفهومي الطبقة االجتماعية والصراع الطبقي‪،‬‬


‫فهذان املفهومان كان يعرفهما االشرتاكيون الطوباويون وبورجوازيون آخرون من‬
‫مثل املؤرخني الفرنسيني تيريي وغيزو‪ .‬بيد أهنما شرحا علميا أصل الطبقات‪،‬‬
‫وأسباب تطور الطبقات‪ ،‬وواقع إمكان تفسري التاريخ اإلنساين بكامله انطالقا من‬
‫مفهوم صراع الطبقات‪ ،‬وعلى وجه اخلصوص الشروط املادية واملعنوية اليت مبوجبها‬
‫ميكن النقسام اجملتمع إىل طبقات أن خيلي اجملال جملتمع اشرتاكي خال من‬
‫الطبقات‪.‬‬
‫لقد فسرا من جهة أخرى كيف أن تطور الرأمسالية بالذات يهيء جمليء جمتمع‬
‫اشرتاكي‪ ،‬ويهيئ القوى املادية واألدبية اليت تضمن انتصار اجملتمع اجلديد‪ .‬ال يعود‬
‫هذا اجملتمع يظهر مذاك كمجرد حمصلة ألحالم الناس ورغباهتم‪ ،‬بل كالناتج‬
‫املنطقي لتطور التاريخ البشري‪.‬‬
‫هكذا ميثل البيان الشيوعي شكال أمسى من الوعي الطبقي الربوليتاري‪ .‬يعلّم‬
‫الطبقة العاملة أن اجملتمع االشرتاكي سوف يكون ناتج صراعها الطبقي ضد‬
‫البورجوازية‪ .‬إنه يعلمها ضرورة أالّ تكتفي بالنضال من أجل زيادة األجور‪ ،‬وأن‬
‫تعمل بالتايل إللغاء العمل املأجور‪ .‬يعلمها على وجه اخلصوص ضرورة تشكيل‬
‫أحزاب عمالية مستقلة‪ ،‬وأن تستكمل عملها املتمثل مبطالب اقتصادية بعمل‬
‫سياسي على الصعيدين القومي واألممي‪ .‬لقد ولدت احلركة العمالية احلديثة إذا من‬
‫االندماج بني الصراع الطبقي األويل للطبقة العاملة والوعي الطبقي الربوليتاري‬
‫البالغ درجته العليا من التعبري املتجسدة يف النظرية املاركسية‪.‬‬

‫‪ .5‬األممية األولى‬

‫هذا االندماج هو مآل كل تطور احلركة العمالية األممية بني اخلمسينات‬


‫والثمانينات من القرن ‪ .17‬وخالل ثورات ‪ 1,4,‬اليت هزت أركان معظم بلدان‬
‫أوروبا‪ ،‬مل تظهر الطبقة العاملة يف أي مكان‪ ،‬ما عدا يف أملانيا (يف مجعية‬

‫‪85‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫الشيوعيني الصغرية‪ ،‬اليت كان يقودها ماركس) كحزب سياسي باملعىن احلديث‬
‫للكلمة‪ .‬كانت تسري يف كل مكان يف ذيل الراديكالية البورجوازية الصغرية‪ ،‬إالّ أهنا‬
‫انفصلت يف فرنسا عن هذه األخرية إبان أيام يونيو الدامية عام ‪ ،1,4,‬دون أن‬
‫تتمكن من تشكيل حزب سياسي مستقل (كانت اجملموعات الثورية اليت شكلها‬
‫أوغست بالنكي نواته إىل هذا احلد أو ذاك)‪ .‬وأثر سنوات الردة الرجعية اليت تلت‬
‫هزمية ثورة ‪ ،1,4,‬كانت املنظمات النقابية والتعاونية التابعة للطبقة العاملة هي‬
‫اليت تطورت قبل كل شيء يف معظم البلدان‪ ،‬باستثناء أملانيا‪ ،‬حيث مسح‬
‫التحريض من أجل االقرتاع العام لالسال أن يشكل حزبا سياسيا عماليا هو‬
‫اجلمعية العامة للشغيلة األملان‪.‬‬
‫لقد اندمج ماركس واجملموعة الصغرية من نصرائه اندماجا حقيقيا مع احلركة‬
‫العمالية األولية يف ذلك العصر بتأسيس األممية األوىل عام ‪ ،1,74‬وقد هيأوا‬
‫بذلك تشكيل األحزاب االشرتاكية يف معظم بلدان أوروبا‪ .‬ومن قبيل املفارقة‬
‫البالغة أن األحزاب اليت اجتمعت لتشكيل األممية األوىل مل تكن أحزابا عمالية‪ .‬إن‬
‫تشكيل هذه األخرية هو الذي مسح بالتجميع القومي جملموعات حملية ونقابية‬
‫انضمت إىل األممية األوىل‪.‬‬
‫وحني تصدعت األممية بعد هزمية كومونة باريس احتفظ العمال الطليعيون‬
‫بوعي ضرورة جتمع من هذا النوع على املستوى القومي‪ .‬وخالل السبعينات‬
‫والثمانينات‪ ،‬وبعد العديد من احملاوالت الفاشلة‪ ،‬تشكلت هنائيا أحزاب اشرتاكية‬
‫مستندة إىل احلركة العمالية األولية يف ذلك الزمن‪ .‬وكانت اإلستثناءات املهمة‬
‫الوحيدة هلذه السريورة هي بريطانيا العظمى والواليات املتحدة‪ ،‬فاألحزاب‬
‫االشرتاكية اليت تشكلت فيهما يف ذلك العصر بالذات بقيت على هامش حركة‬
‫نقابية كانت قد أصبحت قوية‪ .‬ومل يظهر حزب العمال املستند إىل النقابات يف‬
‫بريطانيا إالّ يف القرن العشرين‪ .‬ويف الواليات املتحدة‪ ،‬ما يزال إنشاء حزب من هذا‬
‫النوع هو املهمة امللحة للحركة العمالية‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫نشأة احلركة العمالية احلديثة‬

‫‪ .6‬األشكال المختلفة لتنظيم الحركة العمالية‬

‫‪mutualites‬‬ ‫يسمح لنا هذا بأن نوضح أن النقابات وشركات التعاون‬


‫واألحزاب االشرتاكية قد ظهرت تقريبا كالنواتج العفوية احملتومة للنضال داخل‬
‫اجملتمع الرأمسايل‪ ،‬وأن األمر يتوقف يف النهاية على عوامل متعلقة بالرتاث واألحوال‬
‫القومية إذا كان شكل ما يتطور قبل شكل آخر‪.‬‬
‫ّأما التعاونيات فليست الناتج العفوي للصراع الطبقي‪ ،‬بل ناتج املبادرة اليت قام‬
‫هبا روبريت أوين ورفاقه عام ‪ 1,44‬حني أسسوا أول تعاونية يف روشدال يف‬
‫إنكلرتا‪.‬‬
‫إن أمهية احلركة التعاونية ال تنكر‪ ،‬ال فقط ألنه ميكنها أن تكون مدرسة تسيري‬
‫عمايل لالقتصاد بالنسبة للطبقة العاملة‪ ،‬بل خصوصا ألهنا ميكن أن هتيئ داخل‬
‫اجملتمع الرأمسايل بالذات حل واحدة من املشكالت األكثر صعوبة يف اجملتمع‬
‫االشرتاكي‪ ،‬مشكلة التوزيع‪ .‬بيد أهنا تنطوي يف الوقت ذاته على طاقة كامنة‬
‫خطرية من املنافسة االقتصادية داخل النظام الرأمسايل مع مشاريع رأمسالية‪ ،‬وهي‬
‫منافسة ال ميكن إالّ أن تؤدي إىل نتائج مشؤومة بالنسبة إىل الطبقة العاملة‬
‫وخصوصا إىل ختريب الوعي الطبقي الربوليتاريا‪.‬‬

‫‪ .7‬كومونة باريس‬

‫تلخص كومونة باريس كل االجتاهات اليت برزت يف أصل احلركة العمالية‬


‫احلديثة ويف أوائل تفتحها‪ .‬لقد ولدت من احلركة العمالية اجلماهريية العفوية ال من‬
‫خطة أو برنامج وضعهما حزب عمايل بصورة مسبقة‪ ،‬وبيّنت اجتاه الطبقة العاملة‬
‫لتخفي الطور االقتصادي الصرف من نضاهلا ‪ -‬إن األصل املباشر للكومونة‬
‫سياسي للغاية‪ ،‬وهو يتمثل يف حذر عمال باريس جتاه البورجوازية املتهمة بنيتها‬
‫تسليم املدينة للجيوش الربوسية اليت كانت حتاصرها ‪ -‬وذلك بالدمج املستمر‬

‫‪87‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫للمطالب االقتصادية واملطالب السياسية‪ .‬محلت الطبقة العاملة للمرة األوىل على‬
‫استالم السلطة السياسية‪ ،‬ولو على أرض مدينة واحدة‪ .‬لقد عكست اجتاه الطبقة‬
‫العاملة لتدمري جهاز الدولة البورجوازي واستبدال الدميوقراطية البورجوازية‬
‫بدميوقراطية بروليتارية هي شكل رفيع من الدميوقراطية‪ .‬بيّنت كذلك أنه من دون‬
‫قيادة ثورية واعية فإن البطولة العارمة اليت تعرب عنها الربوليتاريا يف خضم معركة‬
‫ثورية تظل غري كافية لضمان النصر‪.‬‬

‫المراجع‪:‬‬
‫‪ ‬ماركس وإجنلز‪ ،‬البيان الشيوعي‪.‬‬
‫‪ ‬إجنلز‪ ،‬من االشتراكية الطوباوية إلى االشتراكية العلمية‪.‬‬
‫‪ ‬بري‪ ،‬تاريخ االشتراكية‪.‬‬
‫‪ ‬ماركس‪ ،‬الحرب األهلية في فرنسا‪.‬‬
‫‪ ‬ليساغاري‪ ،‬كومونة باريس‪.‬‬
‫‪ ‬مورتون وتيت‪ ،‬تاريخ الحركة العمالية اإلنجليزية‪.‬‬
‫‪ ‬أبندروت‪ ،‬تاريخ الحركة العمالية األوروبية‪.‬‬
‫تكون الطبقة العاملة اإلنجليزية‪.‬‬
‫‪ ‬تومسون‪ّ ،‬‬

‫‪88‬‬
‫(‪)7‬‬
‫إصالحات وثورة‬
‫إن والدة احلركة العمالية احلديثة وتطورها داخل اجملتمع الرأمسايل يقدمان لنا‬
‫مثال عن العمل املتبادل الذي ميارسه الواحد حيال اآلخر‪ ،‬كل من الوسط‬
‫االجتماعي الذي يتواجد ضمنه الناس‪ ،‬باالستقالل عن إرادهتم‪ ،‬والعمل الواعي‬
‫إىل هذا احلد أو ذاك الذي يطورونه لتغيري هذا الوسط‪.‬‬

‫‪ .1‬التطور والثورة عبر التاريخ‬

‫أن التغيريات على صعيد النظام االجتماعي‪ ،‬اليت حدثت عرب العصور‪ ،‬كانت‬
‫على الدوام نتيجة تغيري مفاجئ وعنيف‪ ،‬بفعل حروب أو ثورات أو شيء من هذه‬
‫وتلك‪ .‬ليس من دولة قائمة يف أيامنا هذه إالّ وكانت ناتج هكذا خضات ثورية‪،‬‬
‫فلقد قامت الدولة األمريكية على قاعدة ثورة ‪ 1997‬وحرب ‪1,70-1,71‬‬
‫األهلية‪ ،‬ونشأت الدولة الربيطانية عن ثورة ‪ 174,‬وثورة ‪ ،17,7‬والدولة الفرنسية‬
‫عن ثورات ‪ 19,7‬و‪ 1,,2‬و‪ 1,4,‬و‪ ،1,92‬والدولة البلجيكية عن ثورة‬
‫‪ .1,,2‬والدولة النريلندية عن ثورة البلدان الواطئة يف القرن ‪ ،17‬والدولة األملانية‬
‫عن حروب ‪ ،1,91 -1,92‬و‪ 171, -1714‬و‪ ،1740 -17,7‬وعن‬
‫ثورات ‪ 1,4,‬و‪ 171,‬اخل‪..‬‬
‫إالّ أنه من قبيل اخلطأ االفرتاض أنه يكفي استخدام العنف للتمكن من تغيري‬
‫البنية االجتماعية حسب مشيئة املقاتلني‪ .‬فلكي تقوم ثورة بإحداث تغيري حقيقي‬
‫يف اجملتمع ويف ظروف حياة الطبقات الكادحة‪ ،‬ينبغي أن يسبقها تطور خيلق‬
‫داخل اجملتمع القدمي القواعد املادية (االقتصادية والتقنية و…) والبشرية (الطبقات‬
‫االجتماعية املتميزة ببعض السمات النوعية اخلاصة هبا) للمجتمع اجلديد‪ ،‬إذ حني‬

‫‪89‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫ال تتوفر تلك القواعد‪ ،‬تنتهي الثورات‪ ،‬مهما تكن عنيفة‪ ،‬إىل وضع تعيد معه‬
‫إنتاج الظروف اليت هدفت إىل إلغائها‪.‬‬
‫إن االنتفاضات الفالحية الظافرة اليت تتعاقب على امتداد التاريخ الصيين تقدم‬
‫لنا املثال الكالسيكي على هذا الواقع‪ ،‬فهي متثل يف كل مرة رد فعل الشعب ضد‬
‫املظامل واألعباء الضريبية اليت ال تطاق‪ ،‬اليت كانت تلحق بالفالحني يف فرتات‬
‫احنطاط السالالت املتعاقبة اليت حكمت اإلمرباطورية السماوية‪ .‬وقد كانت تؤدي‬
‫تلك االنتفاضات إىل قلب ساللة ووصول أخرى إىل السلطة‪ ،‬منبثقة غالبا عن‬
‫قادة االنتفاضة الفالحية ذاهتم‪ ،‬كما كانت احلال مع ساللة اهلانيني‪.‬‬
‫إن الساللة اجلديدة تشرع بإرساء شروط معيشة أفضل بالنسبة للفالحني‪.‬‬
‫لكن بقدر ما تتوطد سلطتها وتتدعم إدارهتا‪ ،‬تزيد نفقات الدولة‪ ،‬وهو ما يستتبع‬
‫زيادة الضرائب‪ ،‬فيشرع املاندرينيون(‪ ،)17‬الذين يدفع هلم يف البداية صندوق الدولة‪،‬‬
‫بإساءة استخدام سلطتهم ويقتطعون ألنفسهم ملكيات اعتباطية على حساب‬
‫أراضي الفالحني‪ ،‬ناهبني منها ريعا «عقاريا» يضاف إىل الضريبة‪.‬‬
‫هكذا تعقب عقودا من احلياة الفضلى عودة الفالحني إىل مهاوي البؤس‪ .‬إن‬
‫انعدام حدوث «قفزة إىل األمام» على صعيد قوى اإلنتاج‪ ،‬وغياب تطور صناعة‬
‫حديثة قائمة على استخدام اآلالت‪ ،‬يفسران هذا الطابع الدوري للثورات‬
‫االجتماعية يف الصني القدمية‪ ،‬واستحالة توصل الفالحني إىل حترر طويل األمد‪.‬‬

‫‪ .2‬التطور والثورة في الرأسمالية الحديثة‬

‫لقد جنمت الرأمسالية املعاصرة هي األخرى عن الثورات االجتماعية والسياسية‪،‬‬


‫ونعين بذلك الثورات البورجوازية الكربى اليت توالت بني القرنني ‪ 17‬و‪ ،1,‬واليت‬
‫كانت يف أساس قيام الدولة القومية‪ .‬لقد مهد هلذه الثورات تطور سابق متثل بنمو‬

‫(‪ )17‬املوظفني الكبار يف الصني القدمية‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫اصالحات وثورة‬

‫قوى اإلنتاج داخل اجملتمع اإلقطاعي‪ ،‬تلك القوى اليت غدت متعارضة مع استمرار‬
‫القنانة والنقابات احلرفية والتضييقات املفرطة على التداول احلر للسلع‪.‬‬
‫لقد ولّد هذا التطور كذلك طبقة اجتماعية جديدة هي البورجوازية احلديثة اليت‬
‫تدربت على النضال السياسي يف إطار كومونة القرون الوسطى‪ ،‬واملناوشات اليت‬
‫كانت تتم يف ظل امللكية املطلقة‪ ،‬قبل االنطالق يف طريق االستيالء على السلطة‬
‫السياسية‪.‬‬
‫إن اجملتمع البورجوازي يتصف عند نقطة معينة من منوه بتطور ميهد حتما لثورة‬
‫اجتماعية جديدة‪.‬‬
‫فعلى املستوى املادي‪ ،‬تنمو قوى اإلنتاج إىل احلد الذي تصبح معه أكثر‬
‫فأكثر تصادما مع امللكية اخلاصة لوسائل اإلنتاج وعالقات اإلنتاج الرأمسالية‪ .‬إن‬
‫منو الصناعة الكبرية‪ ،‬وتركز الرأمسال وخلق الرتوستات‪ ،‬والتدخل املتزايد من جانب‬
‫الدولة البورجوازية بغية «تنظيم» مسرية االقتصاد الرأمسايل‪ ،‬متهد الطريق أمام‬
‫تشريك (التملك اجلماعي) وسائل اإلنتاج‪ ،‬وأمام تسيريها من جانب املنتجني‬
‫املتشاركني بالذات‪ ،‬وفقا خلطة موضوعة مسبقا‪.‬‬
‫ّأما على الصعيد البشري (االجتماعي) فتتكون وتتوطد طبقة جتمع شيئا فشيئا‬
‫كل امليزات املطلوبة لتحقيق هذه الثورة االجتماعية‪« :‬إن الرأمسالية تنتج مع‬
‫الربوليتاريا حفاري قبورها»‪ ،‬هذه الربوليتاريا املرتكزة يف مشاريع كربى فاقدة أي أمل‬
‫باالرتقاء االجتماعي الفردي‪ ،‬تكتسب عرب نضاهلا الطبقي اليومي تلك الصفات‬
‫األساسية‪ ،‬املتمثلة بالتضامن اجلماعي والتعاون واالنضباط يف العمل‪ ،‬اليت تسمح‬
‫بإعادة تنظيم أساسية لكل احلياة االقتصادية واالجتماعية‪.‬‬
‫وكلما تفاقمت التناقضات املالزمة للرأمسالية كلما احتدم الصراع الطبقي‪،‬‬
‫وكلما مهد تطور الرأمسالية طريق الثورة‪ ،‬كلما أخذ وجهة انفجارات متنوعة‬

‫‪91‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫(اقتصادية واجتماعية وسياسية وعسكرية ومالية‪ ،‬اخل‪ )..‬ميكن للربوليتاريا أن تعمل‬


‫خالهلا النتزاع السلطة السياسية وإجناز الثورة االجتماعية‪.‬‬

‫‪ .3‬تطور الحركة العمالية الحديثة‬

‫إالّ أن تاريخ الرأمسالية وتاريخ احلركة العمالية مل يتبعا خطا واضحا ومستقيما‬
‫بالقدر الذي كان يأمله املاركسيون حوايل عام ‪.1,,2‬‬
‫إن التناقضات الداخلية لالقتصاد واجملتمع يف البلدان اإلمربيالية مل حتتدم فورا‪.‬‬
‫على العكس من ذلك‪ ،‬شهدت أوروبا الغربية والواليات املتحدة ما بني هزمية‬
‫كومونة باريس واندالع احلرب العاملية األوىل مرحلة طويلة من االزدهار لقوى‬
‫اإلنتاج‪ ،‬بطيء تارة‪ ،‬ومتسارع طورا‪ ،‬غطى «النشاط التدمريي» لتناقضات النظام‬
‫الداخلية وطمسه‪.‬‬
‫تلك التناقضات انفجرت بعنف عام ‪ ،1714‬وقد كان بني عالماهتا األوىل‬
‫على وجه اخلصوص ثورة ‪ 1720‬الروسية واإلضراب العام لشغيلة النمسا يف العام‬
‫ذاته‪ .‬إالّ أن التجربة املباشرة للشغيلة واحلركة العمالية يف تلك البلدان مل تكن‬
‫تعكس تعمقا لتناقضات النظام‪ ،‬بل على العكس االعتقاد بتطور تدرجيي‪ ،‬سلمي‬
‫إىل حد بعيد وال رجعة فيه‪ ،‬للتقدم حنو االشرتاكية (مل يكن األمر هو ذاته يف‬
‫أوروبا الشرقية‪ ،‬من هنا الوزن احملدود لتلك األوهام يف بلداهنا املختلفة)‪.‬‬
‫ال شك أن األرباح الكولونيالية الفائضة اليت راكمها اإلمربياليون مسحت هلم‬
‫بتقدمي إصالحات لشغيلة البلدان الغربية‪ .‬إالّ أنه ينبغي أن نأخذ باحلسبان عوامل‬
‫أخرى لفهم هذا التطور‪.‬‬
‫إن اهلجرة الواسعة حنو البلدان البعيدة وازدهار الصادرات األوروبية وجهة سائر‬
‫بلدان املعمور حدث على املدى الطويل من «ضخامة جيش االحتياط‬
‫الصناعي»‪ .‬لقد حتسنت هكذا موازين القوى بني رأس املال والعمل‪ ،‬يف «سوق‬

‫‪92‬‬
‫اصالحات وثورة‬

‫العمل»‪ ،‬لصاحل الشغيلة‪ ،‬مما خلق قواعد الزدهار نقابية مجاهريية ال تقتصر على‬
‫العمال املتخصصني وحدهم‪ .‬لقد ارتعبت البورجوازية إزاء كومونة باريس‬
‫واإلضرابات العنيفة يف بلجيكا (‪ ،)1,7, -1,,7‬والصعود الذي ال يقاوم يف‬
‫الظاهر لالشرتاكية ‪ -‬الدميوقراطية األملانية‪ ،‬كما عملت على هتدئة اجلماهري‬
‫املنتفضة عن طريق إصالحات اجتماعية‪.‬‬
‫كانت النتيجة العملية للتطور املشار إليه حركة عمالية يف الغرب تكتفي على‬
‫الصعيد العملي بالنضال من أجل إصالحات ممكنة التحقيق فورا‪ :‬من مثل زيادة‬
‫األجور وتدعيم التشريع االجتماعي وتوسيع احلريات الدميوقراطية‪ ،‬اخل… كانت‬
‫تلك احلركة حتول املعركة من أجل ثورة اجتماعية إىل حقل الدعاية األدبية وتربية‬
‫الكادرات‪ .‬توقفت هكذا عن إعداد نفسها بصورة واعية للثورة االشرتاكية‪ ،‬معتقدة‬
‫أنه تكفي تقوية املنظمات اجلماهريية للربوليتاريا لكي تلعب هذه القوة العمالقة‬
‫آليا‪« ،‬ما أن حتل ساعة احلسم»‪ ،‬دورا ثوريا‪.‬‬

‫‪ .4‬االنتهازية اإلصالحية‬

‫مل تكتف األحزاب والنقابات اجلماهريية يف أوروبا الغربية بأن تعكس تطورا‬
‫مؤقتا لصراعات طبقية حمصورة مبعظمها يف حقل االصالحات‪ ،‬لقد أصبحت‬
‫بدورها قوة سياسية زادت من حدة تكيف احلركة العمالية اجلماهريية مع الرأمسالية‬
‫«املزدهرة» للبلدان اإلمربيالية‪ .‬أمهلت االنتهازية االشرتاكية ‪ -‬الدميوقراطية عملية‬
‫إعداد الشغيلة للتغريات املفاجئة يف املناخ االجتماعي والسياسي واالقتصادي اليت‬
‫كانت تعلن عن نفسها‪ ،‬وأصبحت هكذا عامال مهما سهل استمرار الرأمسالية‬
‫على قيد احلياة يف خضم سنوات ‪.170, - 1714‬‬
‫جتلت االنتهازية على الصعيد النظري عن طريق مراجعة للماركسية أطلقها‬
‫رمسيا إدوارد برنشتاين («احلركة كل شيء‪ ،‬اهلدف ال شيء») الذي كان يطلب‬
‫من االشرتاكية ‪ -‬الدميوقراطية أن تتخلى عن كل نشاط عدا ذلك الذي يتوخى‬

‫‪93‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫إحداث إصالحات يف صلب النظام‪ّ .‬أما «احلركة املاركسية الوسطية» املتمحورة‬


‫حول كاوتسكي فقد كافحت النزعة املراجعة‪ ،‬إالّ أهنا قدمت هلا يف الوقت ذاته‬
‫العديد من التنازالت‪ ،‬السيما عن طريق تربير ممارسة لألحزاب والنقابات كانت‬
‫تقرتب أكثر فأكثر من النزعة املراجعة‪.‬‬
‫لقد جتلت االنتهازية على الصعيد العملي بقبول التحالف االنتخايب مع‬
‫أحزاب بورجوازية «ليربالية»‪ ،‬وبالقبول التدرجيي للمشاركة الوزارية يف حكومات‬
‫حتالف مع البورجوازية‪ ،‬وبانعدام نضال منسجم ضد االستعمار وجتليات أخرى‬
‫لإلمربيالية‪ .‬إذا كانت هذه االنتهازية قد تلقت ضربة قاسية من نتائج ثورة ‪1720‬‬
‫يف روسيا‪ ،‬فقد جتلت على وجه اخلصوص يف أملانيا برفض املوافقة على اقرتاح روزا‬
‫لوكسمبورغ تفجري إضرابات مجاهريية ألهداف سياسية‪ .‬كانت تعكس يف الواقع‬
‫املصاحل اخلاصة جبهاز بريوقراطي إصالحي (نواب اشرتاكيون دميوقراطيون‪،‬‬
‫وموظفون يف احلزب والنقابات حصلوا على مكاسب وفرية داخل اجملتمع‬
‫البورجوازي)‪.‬‬
‫ويدل هذا املثال على أن اكتساح االنتهازية اإلصالحية للحركة العمالية مل‬
‫يكن أمرا حمتوما‪ .‬لقد كان باإلمكان القيام بنشاطات غري برملانية وبإضرابات أكثر‬
‫فأكثر اتساعا خالل السنوات اليت سبقت احلرب العاملية األوىل‪ ،‬وكان بإمكان‬
‫تلك النشاطات أن تعد اجلماهري العمالية للمهام اليت طرحها الصعود الثوري عند‬
‫هناية تلك احلرب‪.‬‬

‫‪ .5‬ضرورة بناء حزب طليعي‬

‫تثبت التجربة هكذا العناصر األساسية للنظرية اللينينية حول حزب الطليعة‪.‬‬
‫إذا كان للطبقة العاملة أن تنخرط بذاهتا يف نضاالت طبقية بالغة االتساع حول‬
‫أهداف فورية‪ ،‬وإذا كان بإمكاهنا أن تبلغ مستوى أوليا من الوعي الطبقي‪ ،‬فال‬
‫ميكنها أن تصل تلقائيا إىل األشكال العليا من الوعي الطبقي السياسي‪ ،‬اليت ال‬

‫‪94‬‬
‫اصالحات وثورة‬

‫غىن عنها من أجل توقع املنعطفات املفاجئة للوضع املوضوعي للتمكن من إجناز‬
‫مهام احلركة العمالية اليت ترتتب عليها‪ ،‬واليت ال غىن عنها كذلك لالنتصار على‬
‫املناورات البورجوازية وعلى كل التأثريات اليت ميكن أن متارسها األيديولوجية‬
‫البورجوازية والبورجوازية الصغرية على اجلماهري الكادحة‪.‬‬
‫زد على ذلك أن احلركة اجلماهريية متر حتما حباوالت متفاوتة فاجلماهري‬
‫الواسعة ال تبقى على الدوام عند مستوى مرتفع من النشاط السياسي‪ .‬إن منظمة‬
‫مجاهريية تسعى للتكيف مع املستوى املتوسط من نشاط تلك اجلماهري ووعيها‬
‫سوف تلعب إذا دورا كاحبا لتفتح النشاط الثوري الذي ال يتم إال يف فرتات‬
‫حمددة‪.‬‬
‫هلذه األسباب مجيعا ال غىن عن بناء منظمة طليعية للطبقة العاملة‪ ،‬ال غىن عن‬
‫بناء حزب ثوري‪ .‬هذا احلزب سوف يبقى أقليا يف األزمنة العادية‪ ،‬إالّ أنه سيبقى‬
‫على استمرارية نشاط مناضليه وعلى مستوى وعيهم‪ .‬سوف يسمح باحلفاظ على‬
‫مكاسب التجربة النضالية وبنشرها يف الطبقة‪ ،‬ويظل مشدودا حنو نضاالت ثورية‬
‫قادمة‪ ،‬ويرى يف هتيئة تلك النضاالت رسالته األساسية‪ ،‬وهو سيسهل هكذا إىل‬
‫حد بعيد حدوث االنعطافات يف ذهنية الشغيلة املنظمني واجلماهري الكادحة‬
‫الواسعة ويف سلوكها‪ ،‬وهي االنعطافات اليت تتطلبها التبدالت املفاجئة للوضع‬
‫املوضوعي‪.‬‬
‫طبعا‪،‬ال ميكن ألحزاب طليعية كهذه أن حتل حمل اجلماهري للسعي وراء حتقيق‬
‫ثورة اجتماعية بالنيابة عنها‪« .‬ال ميكن لتحرير الشغيلة أن يكون إالّ على أيدي‬
‫الشغيلة أنفسهم»‪ .‬إن كسب أغلبية الشغيلة إىل جانب برنامج احلزب الثوري‬
‫واسرتاتيجيته وتكتيكه هو الشرط املسبق الذي ال بد منه لكي يتمكن حزب‬
‫طليعي من لعب دوره بالكامل‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫لن يكون هذا الكسب ممكنا بصورة طبيعية إالّ يف حلظات «حارة» من األزمنة‬
‫ما قبل الثورية أو الثورية «يشري إليها» إنفجار حركات مجاهريية عفوية ضخمة‪.‬‬
‫لذا ليس من تعارض مطلق بني عفوية اجلماهري وضرورة بناء منظمة ثورية طليعية‪،‬‬
‫فهذه األخرية تستند إىل تلك العفوية وتواصلها وتكملها وتسمح هلا باالنتصار عن‬
‫طريق تركيز كل طاقتها على النقطة احلساسة‪ ،‬املتمثلة بقلب السلطة السياسية‬
‫واالقتصادية لرأس املال‪.‬‬

‫‪ .6‬الثوريون إزاء النضال من أجل اإلصالحات‬

‫لقد تطورت‪ ،‬داخل شرائح أقلية يف احلركة العمالية والطبقة العاملة‪ ،‬مواقف‬
‫يسارية متطرفة ترفض أي نضال من أجل حتقيق اإلصالحات‪ ،‬وذلك كرد فعل‬
‫جتاه االنتهازية اإلصالحية‪.‬‬
‫إن النزعة اإلصالحية ال تتماثل إطالقا مع النضال من أجل اإلصالحات‪ ،‬يف‬
‫نظر املاركسيني الثوريني‪ ،‬فاإلصالحية هي وهم إلغاء الرأمسالية تدرجييا‪ ،‬عن طريق‬
‫مراكمة اإلصالحات‪ .‬إالّ أنه ميكن دمج املسامهة يف نضاالت لتحقيق إصالحات‬
‫فورية مع إعداد الطليعة العمالية لنضاالت مناهضة لرأس املال يصل حجمها إىل‬
‫حد التسبب بأزمة ثورية يف اجملتمع‪.‬‬
‫إن الرفض اجلذري لكل نضال من أجل إجناز إصالحات يستتبع القبول‬
‫السليب برتدي وضع الطبقة العاملة‪ ،‬إىل أن يأيت اليوم الذي تصبح هذه قادرة فيه‬
‫على قلب النظام الرأمسايل بضربة واحدة‪ .‬هذا املوقف هو يف الوقت ذاته طوباوي‬
‫ورجعي‪.‬‬
‫هو طوباوي ألنه يتجاهل أن الشغيلة املنقسمني على أنفسهم وفاقدي‬
‫املعنويات‪ ،‬يوما بعد يوم‪ ،‬بفعل عجزهم عن الدفاع عن مستوى معيشتهم‪ ،‬وعن‬
‫عملهم وحرياهتم وحقوقهم األولية‪ ،‬ليسوا بقادرين أبدا على مواجهة ظافرة حيال‬
‫طبقة اجتماعية متتلك الثروة والتجربة السياسية‪ ،‬هي البورجوازية احلديثة‪ .‬وهو‬

‫‪96‬‬
‫اصالحات وثورة‬

‫رجعي ألنه خيدم موضوعيا قضية رأس املال وأرباب العمل الذين هلم مصلحة يف‬
‫خفض األجور واإلبقاء على بطالة كثيفة وإلغاء النقابات وحق اإلضراب فيما لو‬
‫ترك الشغيلة أنفسهم يتحولون إىل عبيد مكتويف األيدي‪.‬‬
‫يرى املاركسيون الثوريون يف حترر الشغيلة وقلب الرأمسالية هناية مطاف حقبة‬
‫من القوة التنظيمية املتزايدة لدى الربوليتاريا‪ ،‬والتماسك والتضامن الطبقي‬
‫املضاعف‪ ،‬والثقة املتنامية بقواها اخلاصة‪ .‬وال ميكن هلذه التحوالت الذاتية أن‬
‫تنجم عن الدعاية وحدها أو الرتبية الفكرية‪ .‬إهنا حاصل جناحات مرتاكمة إبان‬
‫نضاالت يومية هي النضاالت من أجل اإلصالحات‪.‬‬
‫ليست اإلصالحية الناتج اآليل لتلك النضاالت أو النجاحات‪ .‬إهنا نتيجتها يف‬
‫حالة واحدة تتحقق حني متتنع الطليعة العمالية عن تربية الطبقة على فكرة ضرورة‬
‫إطاحة النظام‪ ،‬حني متتنع عن مكافحة تأثري األيديولوجيا البورجوازية الصغرية‬
‫والبورجوازية داخل الطبقة العاملة‪ ،‬وعن االخنراط عمليا يف نضاالت مجاهريية غري‬
‫برملانية معادية لرأس املال تستهدف جتاوز طور اإلصالحات‪.‬‬
‫البد لألسباب ذاهتا من أن ينشط الثوريون يف النقابات اجلماهريية ويناضلوا‬
‫لتقوية املنظمات النقابية ال إلضعافها‪.‬‬
‫طبعا‪ ،‬تكون النقابات عاجزة عادة عن اإلعداد ملعارك ثورية وعن تنظيمها‪،‬‬
‫فليست تلك وظيفتها‪ ،‬إالّ أهنا ضرورية للدفاع عن مصاحل الشغيلة يوما بيوم يف‬
‫وجه مصاحل رأس املال‪ .‬إن النضال الطبقي اليومي ال خيتفي‪ ،‬حىت يف عصر‬
‫احنطاط الرأمسالية‪ ،‬فبدون نقابات قوية تضم جزءا عظيما من الطبقة العاملة‪ ،‬يتمتع‬
‫أرباب العمل بفرص كبرية للخروج منتصرين من تلك املناوشات اليومية‪ .‬إن‬
‫التشكك واحلذر‪ ،‬من جانب اجلماهري العمالية الواسعة حيال قواها اخلاصة هبا‪،‬‬
‫اللذين ينتجان عن جتارب بائسة كهذه‪ ،‬يضران إىل حد بعيد بنمو وعي طبقي‬
‫رفيع لدى تلك اجلماهري‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫يضاف إىل ذلك أن العمل النقايب مل يعد يتقوقع حتما يف دائرة النضال من‬
‫أجل رفع األجور‪ ،‬ومن أجل خفض عدد ساعات العمل‪ ،‬يف عصر الرأمسالية‬
‫احلديثة‪ ،‬إذ أنه تواجه الشغيلة يوما بعد يوم مشكالت اقتصادية شاملة تؤثر على‬
‫مستوى حياهتم‪ ،‬من مثل التضخم وإغالق املعامل والبطالة وتسريع وثائر العمل‬
‫وحماوالت الدولة للحد من ممارسة حق اإلضراب والتفاوض احلر خبصوص األجور‪،‬‬
‫اخل… هكذا جتد النقابة نفسها جمربة على اختاذ موقف‪ ،‬عاجال أو آجال‪ ،‬من كل‬
‫تلك املسائل‪ ،‬فتصبح إذا مدرسة تربية للطبقة العاملة تتناول بني ما تتناول‬
‫مشكالت شاملة تطرحها الرأمسالية واالشرتاكية‪ .‬تصبح حلبة تتواجه فيها اجتاهات‬
‫مؤيدة للتعاون الطبقي الدائم‪ ،‬ال بل لدمج النقابات يف الدولة البورجوازية‪،‬‬
‫واجتاهات نضال طبقي ترفض إحلاق مصاحل الشغيلة بـ «مصلحة عامة» مزعومة‪،‬‬
‫ليست سوى مصلحة رأس املال وقد مت متويهها قليال‪ .‬ومبا أن الثوريني املنخرطني‬
‫يف اجتاه الصراع الطبقي يدافعون ضمن هذه الشروط عن املصاحل املباشرة للجمهور‬
‫الكبري‪ ،‬يف وجه حماوالت حرف النقابات عن وظيفتها األساسية‪ ،‬فإن لديهم حظا‬
‫بالتأثري املتنامي داخل النقابات‪ ،‬شريطة أن يعملوا بصرب ومثابرة وأال يتخلوا عن‬
‫حقل العمل اجلماهريي هذا للبريوقراطيني واإلصالحيني واليمينيني من كل األنواع‪.‬‬
‫يسعى الثوريون لكي يكونوا أفضل النقابيني أي لكي يضغطوا باجتاه تبين‬
‫النقابات وأعضائها لالقرتاحات املتعلقة بأهداف النضال وأشكال تنظيم‬
‫النضاالت‪ ،‬تلك االقرتاحات األكثر توافقا مع املصاحل الطبقية الفورية للشغيلة‪.‬‬
‫إهنم ال يتوانون أبدا عن الدفاع عن تلك املصاحل الفورية‪ ،‬يف حني يطورون بال‬
‫انقطاع دعايتهم العامة لصاحل الثورة االشرتاكية اليت ال ميكن بدوهنا توطيد أي‬
‫مكسب عمايل‪ ،‬وال تقدمي حل هنائي ألي مشكلة حيوية ختص الطبقة العاملة‪.‬‬
‫زد على ذلك أن البريوقراطية النقابية األكثر فأكثر اندماجا يف الدولة‬
‫البورجوازية‪ ،‬واليت تعمد أكثر فأكثر إىل إحالل سياسة مصاحلة طبقية و«سالم‬
‫اجتماعي» حمل مهمتها األصلية املتمثلة بالدفاع الذي ال يلني عن مصاحل أعضاء‬

‫‪98‬‬
‫اصالحات وثورة‬

‫النقابات‪ ،‬تتوىل إضعاف النقابة موضوعيا إذ تدوس بأقدامها يوما بعد يوم مشاغل‬
‫وقناعات املنتسبني إليها‪ .‬إن النضال من أجل الدميوقراطية النقابية والنضال من‬
‫أجل نقابية قائمة على الصراع الطبقي يتكامالن هكذا بصورة منطقية‪ ،‬يف خضم‬
‫املعارك اليومية‪.‬‬

‫المراجع‪:‬‬
‫‪ ‬لينني‪ ،‬ما العمل ؟‬
‫‪ ‬لينني‪« ،‬اليسارية» مرض الشيوعية الطفولي‪.‬‬
‫‪ ‬روزا لوكسمبورغ‪ ،‬إصالح أم ثورة ؟‬
‫‪ ‬روزا لوكسمبورغ‪ ،‬اإلضراب الجماهيري‪.‬‬
‫‪ ‬ل‪ .‬تروتسكي‪ ،‬النقابات في مرحلة انحطاط الرأسمالية‪.‬‬
‫‪ ‬ج‪ .‬لوكاش‪ ،‬لينين‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫(‪)11‬‬
‫الديموقراطية البورجوازية والديموقراطية البروليتارية‬
‫‪ .1‬الحرية االقتصادية والحرية السياسية‬
‫إن احلرية السياسية واحلرية االقتصادية مفهومان متساويات يف نظر الكثريين‬
‫ممن ال يفكرون هبذه املسألة‪ ،‬وهو ما تؤكده العقيدة الليربالية على وجه اخلصوص‪،‬‬
‫هذه العقيدة اليت تزعم اليوم اصطفافها «جبانب احلرية» يف مجيع احلقول‪،‬‬
‫وبالطريقة ذاهتا‪ .‬إالّ أنه إذا أمكن حتديد احلرية السياسية بسهولة‪ ،‬حبيث ال تستتبع‬
‫حرية البعض استعباد الغري‪ ،‬فليس األمر هو ذاته بالنسبة للحرية االقتصادية‪ .‬إن‬
‫حلظة من التفكري تربهن أن معظم مظاهر هذه «احلرية االقتصادية» تستتبع الال‬
‫مساواة على وجه التحديد‪ ،‬وحرمان جزء كبري من اجملتمع من إمكانية االستمتاع‬
‫هبذه احلرية بالذات‪.‬‬
‫إن حرية شراء عبيد وبيعهم تفرتض أن يكون اجملتمع منقسما إىل جمموعتني‪:‬‬
‫جمموعة العبيد وجمموعة أسياد العبيد‪ ،‬وتفرتض حرية متلك وسائل اإلنتاج الكربى‬
‫متلكا شخصيا وجود طبقة اجتماعية مضطرة لبيع قوة عملها‪ ،‬إذ ما الذي ميكن‬
‫أن يفعله مالك مصنع كبري لو مل يكن أحد مضطرا للعمل حلساب الغري؟‬
‫لقد دافع بورجوازيو عصر صعود الرأمسالية املنسجمون مع أنفسهم عن مبدأ‬
‫حرية تشغيل األطفال يف سن العشر سنوات باألعمال املنجمية‪ ،‬وحرية إجبار‬
‫الشغيلة على الكد ما بني ‪ 10‬و‪ 14‬ساعة يف اليوم‪ ،‬إالّ أهنم حظروا بشدة حرية‬
‫واحدة‪ ،‬هي حرية جتمع الشغيلة اليت منعها يف فرنسا قانون لوشابلييه الذي مت تبنيه‬
‫يف أوج الثورة الفرنسية‪ ،‬حبجة حتظري كل التكتالت من أصل حريف(‪.)19‬‬

‫)‪ )19‬املقصود بـ ‪ Corporatiste‬أو «حريف» ما ينسب إىل مجعيات أهل احلرفة‪ ،‬املنتشرة يف املرحلة‬
‫اإلقطاعية (م)‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫الدميقراطية الربجوازية والدميقراطية الربوليتارية‬

‫ختتفي هذه التناقضات الظاهرة يف األيديولوجية البورجوازية منذ يعاد تنظيم‬


‫كامل تلك املواقف حول موضوعة مركزية واحدة‪ ،‬تتمثل بالدفاع عن امللكية‬
‫واملصلحة الطبقية الرأمساليتني‪ .‬تلك هي قاعدة األيديولوجية البورجوازية مبجملها‪،‬‬
‫ال جمرد دفاع حازم عن «مبدأ» احلرية‪.‬‬
‫يظهر هذا بوضوح أكرب يف تاريخ حق التصويت‪ ،‬فالربملانية احلديثة نشأت‬
‫كتعبري عن حق البورجوازية يف فرض رقابتها على النفقات العامة اليت متوهلا‬
‫الضرائب اليت تتوىل هي دفعها‪ .‬لقد أعلنت إبان ثورة ‪ 1747‬اإلنكليزية أن «ال‬
‫ضرائب دون متثيل» (برملاين)(‪ ،)1,‬واستتبع ذلك منطقيا إنكار حق الطبقات‬
‫الشعبية‪ ،‬اليت ال تدفع ضرائب‪ ،‬بأن تديل بأصواهتا‪ .‬أال جيد ممثلوها‬
‫«الدمياغوجيون» أنفسهم مدفوعني للتصويت «باستمرار» لصاحل نفقات جديدة‪،‬‬
‫طاملا يتوىل دفعها آخرون؟‬
‫جمددا نقول أن ما يوجد يف أساس األيديولوجية البورجوازية ليس مبدأ مساواة‬
‫كل املواطنني يف احلقوق (إن حق التصويت الذي يتمتع به دافعو الضرائب يدوس‬
‫هذا املبدأ بالكثري من الوقاحة) وال مبدأ احلرية السياسية املضمونة للجميع‪ ،‬بل‬
‫مبدأ الدفاع عن اخلزانات املالية وكبار املتمولني!‬

‫‪ .2‬الدولة البرجوازية في خدمة مصالح رأس المال الطبقية‬

‫هكذا مل يكن صعبا إبان القرن ‪ 17‬التوجه إىل الشغيلة بشرح مفاده أن الدولة‬
‫الربجوازية مل تكن يوما «حيادية» يف الصراع الطبقي‪ ،‬ومل تكن «حكما» بني رأس‬
‫املال والعمل‪ ،‬وهي املكلفة بالدفاع عن «املصلحة العامة»‪ ،‬ال بل أهنا مثلت أداة‬
‫للدفاع عن مصاحل رأس املال يف وجه مصاحل العمل‪ .‬لقد كان حق التصويت‬
‫موقوفا على الربجوازية وحدها‪ ،‬وهلا وحدها احلق املطلق لرفض تشغيل الشغيلة‪.‬‬

‫)‪.No Taxation without representation (1,‬‬

‫‪111‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫وما أن أضرب العمال ورفضوا مبجموعهم بيع قوة عملهم بالشروط اليت ميليها رأس‬
‫املال‪ ،‬حىت ووجهوا برجال الدرك أواجليش الذين أطلقوا عليهم النار‪ .‬لقد كانت‬
‫العدالة عدالة طبقية مبا ال يقبل الشك‪ ،‬فالربملانيون والقضاء وكبار الضباط وكبار‬
‫املوظفني االستعماريني والوزراء واملطارنة كانوا ينتمون مجيعا إىل الطبقة االجتماعية‬
‫ذاهتا‪ ،‬وكانوا يرتبطون فيما بينهم مجيعا بالروابط ذاهتا‪ ،‬عنينا روابط املال واملصلحة‪،‬‬
‫ال بل العائلة‪ .‬أما الطبقة العاملة فكانت مستبعدة كليا عن هذا العامل اجلميل!‬
‫تعدل هذا الوضع بدءا من اللحظة اليت انطلقت فيها احلركة العمالية احلديثة‪،‬‬
‫واكتسبت قوة تنظيمية مرهونة‪ ،‬وانتزعت حق التصويت العام عن طريق نضاالت‬
‫مباشرة فرضت نفسها (إضرابات سياسية يف بلجيكا والنمسا والسويد وهولندا‬
‫وإيطاليا‪ ،‬اخل‪ .).‬أصبح للطبقة العاملة متثيل واسع يف الربملان (وهي وجدت نفسها‬
‫جمربة بذلك على أن تدفع حصة أكرب من الضرائب‪ ،‬إالّ أن هذه قصة أخرى)‪ .‬مثة‬
‫أحزاب عمالية إصالحية تشارك يف حكومات حتالف مع الربجوازية‪ ،‬إالّ أهنا بدأت‬
‫تشكل أحيانا حكومات مؤلفة من ممثلني ألحزاب اشرتاكية ‪ -‬دميوقراطية على‬
‫وجه احلصر (بريطانيا‪ ،‬سكاندينافيا)‪.‬‬
‫مذ ذاك أصبح وهم قيام دولة «دميوقراطية» فوق الطبقات تكون «حكما»‬
‫حقيقيا و«مصاحلا» للتعارضات الطبقية‪ ،‬أمرا مقبوال بشكل أسهل داخل الطبقة‬
‫العاملة‪ ،‬وأهنا إلحدى الوظائف األساسية للنزعة اإلصالحية املراجعة أن تنشر تلك‬
‫األوهام بصورة واسعة‪ .‬لقد كان ذلك حكرا على االشرتاكية ‪ -‬الدميوقراطية يف‬
‫املاضي‪ ،‬إال أ ّن األحزاب الشيوعية املنخرطة يف طريق إصالحي جديد تنشر اليوم‬
‫النوع ذاته من األوهام‪ .‬إالّ أن الطبيعة احلقيقية للدولة الربجوازية‪ ،‬حىت األكثر‬
‫«دميوقراطية» تظهر للعيان حاال إذا تفحصنا يف الوقت ذاته مسارها العملي‬
‫والشروط املادية هلذا املسار‪.‬‬
‫إنه لنموذجي أنه كلما انتزعت اجلماهري الكادحة حق االقرتاع العام ودخل‬
‫املمثلون العماليون إىل الربملان بقوة كلما انتقل مركز ثقل الدولة القائمة على‬

‫‪112‬‬
‫الدميقراطية الربجوازية والدميقراطية الربوليتارية‬

‫الدميوقراطية الربملانية من الربملان إىل جهاز الدولة الربجوازي الدائم‪« :‬الوزراء يأتون‬
‫وميضون‪ّ ،‬أما الشرطة فتبق»‪.‬‬
‫واحلال أن جهاز الدولة هذا يفرز توحدا كامال مع الربجوازيتني الوسطى‬
‫والكربى‪ ،‬بالطريقة اليت يتم هبا اختيار قياداته‪ ،‬وبتلك اليت ينظم تسلسله وفقا هلا‪،‬‬
‫وبقواعد االختيار واملهنة اليت حتكمه‪ .‬مثة وشائج أيديولوجية واجتماعية واقتصادية‬
‫ال تنفصم تشد هذا اجلهاز إىل الطبقة الربجوازية‪ ،‬فكل املوظفني الكبار يقبضون‬
‫معاشات تسمح هلم مبراكمة خاصة لرأس املال ال بأس هبا‪ ،‬ولو كانت متواضعة‬
‫أحيانا‪ ،‬وهو ما حيفز هؤالء األشخاص بالذات‪ ،‬على الصعيد الفردي‪ ،‬للدفاع عن‬
‫امللكية اخلاصة‪ ،‬ويثري اهتمامهم بسري االقتصاد الرأمسايل سريا حسنا‪.‬‬
‫يضاف إىل ذلك أن الدولة القائمة على الربملانية الربجوازية تنشد كليا إىل رأس‬
‫املال بواسطة السالسل الذهبية للتبعية املالية والدين العام‪ .‬وال ميكن ألي حكومة‬
‫برجوازية أن حتكم دون اللجوء باستمرار إىل التسليف الذي تشرف عليه املصاريف‬
‫ورأس املال املايل والربجوازية الكربى‪ .‬إن أي سياسة معادية للرأمسالية تكتفي‬
‫حكومة إصالحية برسم خطوطها العريضة تصطدم فورا بالتخريب املايل‬
‫واالقتصادي من جانب الرأمساليني‪ .‬فـ«إضراب التثمريات»‪ ،‬وهرب الرساميل‪،‬‬
‫والتضخم‪ ،‬والسوق السوداء‪ ،‬وهبوط اإلنتاج‪ ،‬والبطالة‪ ،‬تنجم مجيعها عن هذا الرد‬
‫يف مهلة زمنية قصرية جدا‪.‬‬
‫إن تاريخ القرن العشرين مبجمله يؤكد استحالة استخدام الربملان الربجوازي‬
‫واحلكومة املرتكزين إىل امللكية الرأمسالية والدولة الربجوازية استخداما منطقيا يف‬
‫وجه الربجوازية‪ .‬فكل سياسة تود أن تتبع عمليا طريقا مناهضة للرأمسالية تصطدم‬
‫سريعا خبيار مصريي‪ّ :‬أما االستسالم لقدرة رأس املال حتت تأثري االبتزاز والتهويل‪،‬‬
‫أو حتطيم جهاز الدولة الربجوازية وإحالل التملك اجلماعي لوسائل اإلنتاج حمل‬
‫عالقات امللكية الرأمسالية‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫‪ .3‬حدود الحريات الديموقراطية البورجوازية‬

‫ليس صدفة أن تكون احلركة العمالية يف طليعة النضال من أجل احلريات‬


‫الدميوقراطية يف القرنني ‪ 17‬و‪ .02‬فاحلركة العمالية إذ تدافع عن احلريات تدافع يف‬
‫الوقت ذاته عن أفضل شروط ارتقائها‪ ،‬والطبقة العاملة هي الطبقة األكرب عددا يف‬
‫اجملتمع املعاصر‪ .‬إن اكتساب احلريات الدميوقراطية يسمح هلا بأن تنظم نفسها‬
‫وتضمن إىل جانبها العدد األكرب من الناس‪ ،‬وترجح كفتها أكثر فأكثر يف موازين‬
‫القوى‪.‬‬
‫زد على ذلك أن احلريات الدميوقراطية اليت مث انتزاعها يف ظل النظام الرأمسايل‬
‫متثل املدرسة الفضلى للدميوقراطية اجلوهرية اليت سوف يستمتع هبا الشغيلة الحقا‪،‬‬
‫بعد إطاحة مملكة رأس املال‪.‬‬
‫يتكلم تروتسكي‪ ،‬وهو حمق‪ ،‬على «خاليا الدميوقراطية الربوليتارية داخل‬
‫الدميوقراطية الربجوازية» اليت متثلها التنظيمات اجلماهريية للطبقة العاملة‪ ،‬وقدرة‬
‫الشغيلة على عقد مؤمتراهتم وتسيري مواكبهم وتنظيم إضرابات ومظاهرات مجاهريية‬
‫وامتالكهم صحافتهم ومدارسهم ومسارحهم وصاالهتم السينمائية‪ ،‬اخل‪.‬‬
‫ولكن هتم معرفة حدود الدميوقراطية الربملانية الربجوازية مهما تكن متقدمة‪ ،‬ألن‬
‫احلريات الدميوقراطية تكتسب بالضبط أمهية جوهرية يف نظر الشغيلة‪.‬‬
‫فالدميوقراطية الربملانية الربجوازية هي دميوقراطية غري مباشرة قبل كل شيء‪ ،‬يعد‬
‫باآلالف من الوكالء فقط‪ ،‬أو بعشرات اآلالف (نوابا وشيوخا وخمتارين وعمدا‬
‫وأعضاء جمالس البلديات أو جمالس عامة‪ ،‬اخل) من يشاركون يف ظلها بإدارة‬
‫الدولة‪ ،‬بينما حترم من تلك املشاركة أكثرية املواطنني الساحقة‪ ،‬اليت تكمن سلطتها‬
‫الوحيدة يف وضع بطاقة االقرتاع يف صندوق كل أربع سنوات أو مخس‪.‬‬
‫مث إن املساواة السياسية يف دميوقراطية برملانية برجوازية هي مساواة شكلية ال‬
‫أكثر‪ ،‬وليست مساواة حقيقية‪ .‬فمن حيث الشكل‪ ،‬يتمتع الغين والفقري «باحلق»‬

‫‪114‬‬
‫الدميقراطية الربجوازية والدميقراطية الربوليتارية‬

‫ذاته‪« ،‬حق» تأسيس جريدة يكلف إصدارها مئات املاليني من الفرنكات‪ ،‬ومن‬
‫حيث الشكل يتمتع الغين والفقري بـ«احلق» ذاته‪ ،‬حق شراء فرتة ظهور على شاشة‬
‫التلفزيون‪ ،‬وبـ«القدرة» ذاهتا يف التأثري على الناخبني‪ .‬إالّ أنه ملا كانت املمارسة‬
‫العملية لتلك احلقوق تفرتض مسبقا حتريك وسائل مادية ذات شأن فليس لغري‬
‫الغين وحسب أن يتمتع هبا كليا‪ .‬سوف ينجح الرأمسايل يف التأثري على عدد كبري‬
‫من الناخبني الذين يرتبطون به ماديا‪ ،‬ويف شراء صحف وحمطات إذاعة أو فرتات‬
‫بث تلفزيوين‪ ،‬بفضل إمكاناته املالية‪ .‬سوف «يقبض على ناصية» برملانيني‬
‫وحكومات بقوة رأمساله‪.‬‬
‫حىت لو طرحنا جانبا يف هناية املطاف كل هذه احلدود اليت تقف عندها‬
‫الدميوقراطية الربملانية الربجوازية‪ ،‬ولو افرتضنا خاطئني أنه ال ينقصها شيء‪ ،‬يبقى‬
‫أهنا ليست أكثر من دميوقراطية سياسية‪ .‬لكن ما نفع مساواة سياسية بني الغين‬
‫والفقري ‪ -‬وهي مساواة ال عالقة هلا بالواقع ‪ -‬إذا كانت تتطابق يف الوقت ذاته مع‬
‫المساواة اقتصادية واجتماعية عظيمة‪ ،‬ال تنفك تتعاظم‪ ،‬وذلك منذ أكثر من‬
‫نصف قرن‪ ،‬ال بل منذ أكثر من قرن؟ حىت لو كان األغنياء والفقراء يتمتعون‬
‫باحلقوق السياسية ذاهتا‪ ،‬فاألولون حيتفظون مع ذلك بسلطة اقتصادية واجتماعية‬
‫عظيمة ال ميتلكها األخريون‪ ،‬سلطة ختضع األخريين لألولني حتما يف احلياة‬
‫اليومية‪.‬‬

‫‪ .4‬القمع والديكتاتوريات البرجوازية‬

‫إن الطبيعة الطبقية للدولة املرتكزة إىل الدميوقراطية الربملانية الربجوازية تبدو‬
‫واضحة متاما حني نتفحص دورها القمعي‪ .‬فنحن نعرف ما ال حيصى من‬
‫النزاعات االجتماعية اليت تدخل فيها رجال الشرطة والدرك واجليش بغية «حتطيم»‬
‫فرق إضراب‪ ،‬وتفريق مظاهرات عمالية‪ ،‬وإخالء معامل حيتلها الشغيلة وإطالق‬
‫النار على املضربني‪ ،‬بينما ال نعرف حالة واحدة تدخلت فيها الشرطة والدرك أو‬

‫‪115‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫جيش الربجوازية لتوقيف أرباب عمل يصرفون عماال‪ ،‬أو ملساعدة شغيلة على‬
‫احتالل معامل أغلقها رأس املال‪ ،‬أو إلطالق النار على برجوازيني ينظمون غالء‬
‫املعيشة أو هرب الرساميل أو الغش الضرييب‪.‬‬
‫سوف يرد املدافعون عن الدميوقراطية الربجوازية بأن العمال أنتهكوا حرمة‬
‫«القانون» يف كل احلاالت آنفة الذكر‪ ،‬وأهنم كانوا يهددون «النظام العام» الذي‬
‫يفرتض بقوى القمع أن تدافع عنه‪ّ .‬أما حنن فنجيب بأن ذلك يؤكد متاما أن‬
‫«القانون» ليس حياديا على اإلطالق‪ ،‬بل هو قانون برجوازي حيمي امللكية‬
‫الرأمسالية‪ ،‬وأن قوى القمع يف خدمة تلك امللكية‪ ،‬لذا فهي تتصرف بصورة خمتلفة‬
‫جدا حسبما يكون العمال‪ ،‬أو الرأمساليون هم الذين يقرتفون انتهاكات شكلية‬
‫حبق «القانون»‪ ،‬وأنه ال شيء يثبت بأفضل من ذلك الطابع الربجوازي قبل كل‬
‫شيء الذي تتسم به الدولة‪.‬‬
‫ال تلعب أجهزة القمع يف الظروف العادية أكثر من دور هامشي يف احلفاظ‬
‫على النظام الرأمسايل‪ ،‬ال سيما أن هذا النظام حيظى باحرتام فعلي‪ ،‬يف احلياة‬
‫اليومية‪ ،‬من جانب الغالبية العظمى للطبقات الكادحة‪ .‬إالّ أن األمر خيتلف كليا‬
‫يف فرتات األزمات احلادة (أكانت اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو عسكرية‬
‫أو مالية)‪ ،‬حني يكون النظام الرأمسايل عرضة هلزات عميقة‪ ،‬وحني تبدي الطبقات‬
‫الكادحة إرادهتا يف إسقاط النظام‪ ،‬أو حني ال يعود هذا األخري قادرا على العمل‬
‫بشكل طبيعي‪.‬‬
‫إذ ذاك يتصدر القمع املسرح السياسي‪ ،‬وتظهر الطبيعة األساسية للدولة‬
‫الربجوازية فجأة بكل عريها‪ :‬جمموعة من الناس املسلحني يف خدمة رأس املال‪.‬‬
‫هكذا تتأكد قاعدة أكثر عمومية يف تاريخ اجملتمعات الطبقية‪ :‬فكلما كان هذا‬
‫اجملتمع أكثر استقرارا كلما أمكنه منح حريات شكلية متنوعة للمضطهدين‪ ،‬وكلما‬
‫كان عدمي االستقرار هتزه أزمات عميقة كلما كان عليه أن ميارس السلطة السياسية‬
‫عن طريق العنف الصريح‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫الدميقراطية الربجوازية والدميقراطية الربوليتارية‬

‫هكذا نالحظ أن تاريخ القرنني ‪ 17‬و‪ 02‬هو تاريخ العديد من جتارب القمع‪،‬‬
‫متارسها الديكتاتوريات الربجوازية ضد احلريات الدميوقراطية للشغيلة‪ ،‬سواء كانت‬
‫ديكتاتوريات عسكرية أو بونابرتية أو فاشية‪ ،‬إالّ أ ّن الديكتاتورية الفاشية هي‬
‫الشكل األكثر شراسة ومهجية للديكتاتورية املوضوعة يف خدمة رأس املال الكبري‪.‬‬
‫تتميز هذه الديكتاتورية على وجه اخلصوص بكوهنا ال تكتفي بإلغاء احلريات‬
‫املتعلقة باملنظمات الثورية أو الراديكالية للطبقة العاملة‪ ،‬بل تسعى كذلك إىل‬
‫حتطيم كل شكل من أشكال التنظيم اجلماعي لدى الشغيلة‪ ،‬ومن أشكال‬
‫مقاومتهم‪ ،‬مبا فيها النقابات وأشكال اإلضرابات األكثر بدائية‪ .‬إهنا تتميز كذلك‬
‫بواقع أن حماولة تذرير الطبقة العاملة ال ميكن أن حتضى بالفعالية عن طريق‬
‫االستناد فقط إىل جهاز القمع التقليدي (اجليش والدرك والشرطة والقضاة)‪ ،‬بل‬
‫هي حتتاج إىل عصابات مسلحة خاصة تنبثق هي األخرى عن حركة مجاهريية‪،‬‬
‫هي حركة الربجوازية الصغرية املفقرة‪ ،‬اليت أيأستها األزمة والتضخم‪ ،‬واليت مل تفلح‬
‫احلركة العمالية يف جرها إىل خندقها عرب سياسة هجوم جريئة يف مواجهة رأس‬
‫املال‪.‬‬
‫وال ميكن للطبقة العاملة وطليعتها الثورية أن تكونا حياديتني إزاء صعود‬
‫الفاشية‪ ،‬بل عليهما أن تستميتا يف الدفاع عن حرياهتما الدميوقراطية‪ .‬لذا عليهما‬
‫أن تشكال جبهة موحدة تضم كل املنظمات العمالية‪ ،‬مبا فيها أكثرها إصالحية‬
‫واعتداال‪ ،‬من أجل مواجهة صعود الفاشية وسحق الوحش الشرير وهو ما يزال يف‬
‫البيضة‪ .‬عليهما أن خيلقا وحداهتما للدفاع الذايت يف وجه عصابات رأس املال‬
‫املسلحة‪ ،‬وإالّ يثقا حبماية الدولة الربجوازية‪ .‬إن الطريق من أجل احلؤول دون‬
‫اهلمجية الفاشية املؤدية إىل معسكرات االعتقال واملذابح وعمليات التعذيب‪ ،‬من‬
‫بوشنفالد إىل أوشويتز‪ ،‬إمنا تكمن يف بناء املليشيات العمالية املستندة إىل مجاهري‬
‫الشغيلة‪ ،‬حبيث تضم كل املنظمات العمالية ومتنع أي حماولة فاشية إلرهاب قطاع‬
‫من القطاعات اجلماهريية أو لكسر إضراب واحد‪ ،‬أو لـ«ختريب» ندوة واحدة‬

‫‪117‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫ملنظمة عمالية‪ .‬إن أي جناح على هذا الطريق يسمح للجماهري الكادحة باالنتقال‬
‫جبزم إىل اهلجوم املضاد وإىل اإلجهاز على اخلطر الفاشي‪ ،‬ويف الوقت ذاته على‬
‫النظام الرأمسايل الذي أطلقه وغذاه‪.‬‬

‫‪ .5‬الديموقراطية البروليتارية‬

‫إن الدولة العمالية وديكتاتورية الربوليتاريا والدميوقراطية الربوليتارية اليت يريد‬


‫املاركسيون أن حيلوها حمل الدولة الربجوازية اليت تظل يف احملصلة النهائية ديكتاتورية‬
‫الربجوازية حىت وهي تتلبس الشكل األكثر دميوقراطية‪ ،‬إمنا تتميز بتوسيع احلريات‬
‫الدميوقراطية الفعلية جلمهور املواطنني الكادحني ال باحلد منها‪ .‬ال بد من التذكري‬
‫بشدة هبذا املبدأ األساسي‪ ،‬السيما بعد التجربة املريعة للستالينية اليت دمرت‬
‫مصداقية اإلميان الدميوقراطية اليت أقسمتها األحزاب الشيوعية الرمسية‪.‬‬
‫سوف تكون الدولة العمالية أكثر دميوقراطية من الدول املستندة إىل‬
‫الدميوقراطية الربملانية‪ ،‬مبقدار ما سوف توسع من مساحة الدميوقراطية املباشرة‪.‬‬
‫سوف تكون دولة تشرع بالزوال منذ والدهتا‪ ،‬عن طريق تسليم ميادين كاملة من‬
‫النشاط االجتماعي إىل التسيري الذايت واإلدارة الذاتية للمواطنني املعنيني (الربيد‬
‫واملواصالت السلكية والصحة والتعليم والثقافة‪ ،‬اخل)‪ ،‬وتشرك مجهور الشغيلة‬
‫املنظمني يف جمالس عمالية يف ممارسة السلطة مباشرة‪ ،‬عن طريق إلغاء احلدود‬
‫الومهية بني السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية‪ .‬كما سوف تلغي االحرتاف من‬
‫احلياة العامة عرب احلد من أجور املوظفني‪ ،‬مبن فيهم من هم يف أعلى املناصب‪،‬‬
‫حيث ال تزيد عن أجرة العامل املتخصص املتوسط‪ ،‬وتعيق تشكيل فئة مغلقة‬
‫جديدة من املدراء ‪ -‬مدى ‪ -‬احلياة عرب إدخال مبدأ التناوب اإللزامي إىل كل‬
‫انتداب للسلطة‪.‬‬
‫سوف تكون الدولة العمالية أكثر دميوقراطية من الدولة القائمة على‬
‫الدميوقراطية الربملانية‪ ،‬مبقدار ما ستخلق القواعد املادية ملمارسة اجلميع للحريات‬

‫‪118‬‬
‫الدميقراطية الربجوازية والدميقراطية الربوليتارية‬

‫الدميوقراطية‪ .‬تصبح املطابع وحمطات اإلذاعة والتلفزيون وقاعات االجتماع ملكية‬


‫مجاعية وتوضع حتت التصرف الفعلي لكل جمموعة من الشغيلة تطلبها‪ .‬إن حق‬
‫خلق العديد من املنظمات السياسية‪ ،‬مبا فيها املنظمات املعارضة‪ ،‬وخلق صحافة‬
‫معارضة‪ ،‬والسماح لألقليات السياسية بالتعبري عن آرائها عرب الصحافة واالداعة‬
‫والتلفزيون‪ ،‬هذا احلق سوف تدافع عنه اجملالس العمالية دفاع املستميت‪ّ .‬أما‬
‫التسليح العام للجماهري الكادحة وإلغاء اجليش الدائم وأجهزة القمع‪ ،‬وانتخاب‬
‫القضاة‪ ،‬والعلنية التامة لكل احملاكمات‪ ،‬فسوف تكون الضمانة األقوى للحيلولة‬
‫دون متكن أي أقلية من ادعاء حق استبعاد أي جمموعة من املواطنني الكادحني‬
‫من ممارسة احلريات الدميوقراطية‪.‬‬

‫مراجع‪:‬‬
‫‪ ‬كارل ماركس‪ ،‬الحرب األهلية في فرنسا‪.‬‬
‫‪ ‬لينني‪ ،‬الدولة والثورة‪.‬‬
‫‪ ‬لينني‪ ،‬الثورة البروليتارية‪ ،‬والمرتد كاوتسكي‪.‬‬
‫‪ ‬ل‪ .‬تروتسكي‪ ،‬كتابات عن ألمانيا‪.‬‬
‫‪ ‬املؤمتر اخلامس لألممية الرابعة‪ :‬موضوعات حول انحدار الستالينية وسقوطها‬
‫(تضم وصفا مفصال ملؤسسات الدميوقراطية الربوليتارية يف ظل ديكتاتورية‬
‫الربوليتاريا)‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫(‪)11‬‬
‫الحرب العالمية األولى والثورة الروسية‬
‫إن اندالع احلرب العاملية األوىل قد مثل اإلشارة األكثر وضوحا إىل أن‬
‫الرأمسالية قد دخلت يف طور احندارها‪ ،‬فكل ما استطاعت أن تؤدي إليه من تقدم‬
‫للبشرية يتعرض ُمذ ذاك للتهديد‪ .‬يتم تدمري دوري ملوارد مادية عظيمة‪ :‬احلرب‬
‫العاملية‪ ،‬األزمة االقتصادية ألعوام ‪ ،17,0-1707‬احلرب العاملية الثانية‪ ،‬احلروب‬
‫اإلستعمارية‪ ،‬والعديد من أزمات الركود االقتصادي‪ .‬إن استمرار الرأمسالية على قيد‬
‫احلياة ينتهي إىل جمازر حقيقية لألرواح البشرية‪ .‬والديكتاتوريات الدامية‪ ،‬أكانت‬
‫عسكرية أو فاشية‪ ،‬تأخذ يف طريقها مكتسبات الثورات الدميوقراطية الربجوازية‬
‫الكربى‪ .‬إن البشرية أمام خيار مصريي فأما االشرتاكية و ّأما اهلمجية‪.‬‬

‫‪ .1‬الحركة العمالية العالمية حيال الحرب اإلمبريالية‬

‫خالل العقد الذي سبق عام ‪ ،1714‬اجتهدت األممية االشرتاكية وكل احلركة‬
‫العمالية األممية يف تربية اجلماهري الكادحة وتعبئتها ضد صعود هتديدات احلرب‪.‬‬
‫فسباق التسلح وتزايد النزاعات «احمللية» وتفاقم التناقضات يف الصفوف اإلمربيالية‬
‫أنذرت باالنفجار الوشيك‪ .‬لقد ذكرت األممية الشغيلة من كل البلدان بأن‬
‫مصاحلهم مشرتكة وأنه ليس عليهم أن يتحملوا أعباء اخلصومات املقرفة بني‬
‫املالكني‪ ،‬وهي خصومات ألجل اقتسام األرباح املنهوبة من الربوليتاريني ومن‬
‫شعوب العامل املستعمرة‪.‬‬
‫بيد أنه حني انفجرت احلرب عام ‪ 1714‬ألقت القيادات االشرتاكية ‪-‬‬
‫الدميوقراطية السالح أمام املوجة الشوفينية اليت أطلقتها البورجوازية‪ .‬لقد التحقت‬
‫كل منها مبعسكر"ها" اإلمربيايل ضد معسكر خصوم برجوازيتها اخلاصة هبا‪ ،‬ومل‬

‫‪111‬‬
‫احلرب العاملية األوىل والثورة الروسية‬

‫تنقصها األعذار‪ .‬فاألمر كان يتعلق بالنسبة للقادة االشرتاكيني الدميوقراطيني‬


‫األملان والنمساويني حبماية الشعوب ضد مهجية «احلكم القيصري املطلق»‪ ،‬بينما‬
‫اعترب القادة االشرتاكيون ‪ -‬الدميوقراطيون البلجيكيون والفرنسيون والربيطانيون أن‬
‫النضال ضد «العسكرية الربوسية» يتقدم على كل شيء‪.‬‬
‫إن االصطفاف الشوفيين يف كال املعسكرين إىل جانب الدفاع القومي عن‬
‫«الوطن» اإلمربيايل قد استتبع وقف الدعاية االشرتاكية الثورية ضد العسكرية‪ ،‬ال‬
‫بل وقف كل دفاع عن املصاحل الطبقية للشغيلة‪ ،‬حىت املباشرة منها‪ .‬مت إعالن‬
‫«الوحدة املقدسة» للربوليتاريني والرأمساليني إزاء «العدو األجنيب»‪ .‬لكن ملا كانت‬
‫تلك «الوحدة املقدسة» واحلرب اليت خيضت حتت رايتها مل تعدال يف شيء من‬
‫الطبيعة الرأمسالية‪ ،‬أي االستغاللية‪ ،‬لالقتصاد واجملتمع‪ ،‬فلقد استتبعت النزعة‬
‫االشرتاكية ‪ -‬الوطنية القبول العملي لتفاقم ظروف معيشة العمال وشروط عملهم‪،‬‬
‫وللثراء الفاحش للرتوستات وغريها من املستفيدين الرأمساليني من احلرب‪.‬‬

‫‪ .2‬الحرب اإلمبريالية تصب في األزمة الثورية‬

‫مذ ذاك كان على تناقضات االشرتاكية ‪ -‬الوطنية أن تنفجر سريعا‪ ،‬فالقادة‬
‫االصالحيون األكثر مكرا برروا مواقفهم بكون اجلماهري مؤيدة للحرب وبأن حزبا‬
‫عماليا مجاهرييا عاجز عن الوقوف يف وجه املشاعر الشعبية املهيمنة‪ .‬بيد أنه‬
‫سرعان ما مالت املشاعر اجلماهريية املهيمنة حنو االستياء‪ ،‬ومعارضة احلرب‪،‬‬
‫والتمرد‪ .‬إالّ أن القادة االشرتاكيني ‪ -‬الوطنيني األملان من أمثال شايدمان‬
‫ونوسكي‪ ،‬والفرنسيني من أمثال رونوديل وجول غيسر‪ ،‬مل يفعلوا شيئا حينذاك من‬
‫أجل «التكيف مع املشاعر املهيمنة داخل الطبقة العاملة»‪ .‬ال بل حاولوا على‬
‫العكس أن يتحاشوا جبميع الوسائل انفجار اإلضرابات واملظاهرات اجلماهريية‪،‬‬
‫داخلني يف حكومات حتالف مع الربجوازية‪ ،‬مساعدينها على قمع الدعاية املعادية‬
‫للنزعة العسكرية والداعية لإلضرابات والثورة‪ ،‬خمربني تطور النضاالت العمالية‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫وحني انفجرت بعض الثورات عاد القادة االشرتاكيون ‪ -‬الدميوقراطيون‪ ،‬الذين‬


‫كانوا أيدوا اجملازر حبق ماليني اجلنود ملصلحة اخلزنات املالية‪ ،‬فاكتشفوا من جديد‪،‬‬
‫فجأة‪ ،‬ميال إىل السالم يف أعماقهم وهو ما دفعهم إىل االبتهال إىل العمال كي ال‬
‫يلجأوا إىل العنف وال يكونوا سببا يف اهراق املزيد من الدماء‪.‬‬
‫ّأما يف بدء احلرب‪ ،‬حني كانت اجلماهري مرتبكة بفعل الدعاية الربجوازية‬
‫وخيانة قيادات تلك اجلماهري بالذات‪ ،‬فلم تبق إالّ قبضة من االشرتاكيني الثوريني‬
‫أمينة لألممية الربوليتارية‪ ،‬رافضة أن ختلط الرايات مع بورجوازية بلداهنا‪ .‬بني هؤالء‬
‫الثوريني كارل ليبكنخت وروزا لوكسمبورغ يف أملانيا‪ ،‬مونات وروزمري يف فرنسا‪،‬‬
‫لينني وقسم من البالشفة وتروتسكي ومارتوف يف روسيا‪ ،‬واحلزب االشرتاكي‬
‫الدميوقراطي يف هولندا وماك لني يف بريطانيا‪ ،‬ودبس يف الواليات املتحدة‪ .‬كما أن‬
‫أغلبية احلزب االشرتاكي الدميوقراطي يف إيطاليا والصرب وبلغاريا حافظت على‬
‫مواقف أممية‪.‬‬
‫لقد سقطت األممية االشرتاكية إىل احلضيض‪ ،‬وعاد األمميون إىل التجمع يف‬
‫البدء يف مؤمتري زميرفالد (‪ )1710‬وكينتال (‪ ،)1717‬إالّ أهنم انقسموا مع ذلك‬
‫إىل تيارين‪ :‬التيار الوسطي الذي كان يرغب يف الواقع أن يعيد بناء أممية معاد‬
‫توحيدها مع االشرتاكيني ‪ -‬الوطنيني‪ ،‬والتيار الثوري الذي اجته حنو تشكيل األممية‬
‫الثالثة‪ .‬إن لينني‪ ،‬الذي كان روح اليسار الزميرفالدي‪ ،‬أرسى حتليالته على اليقني‬
‫بأن احلرب ستفاقم كل التناقضات داخل النظام اإلمربيايل وتؤدي إىل أزمة ثورية‬
‫واسعة املدى‪ .‬كان بوسع األمميني أن يتصوروا ضمن هذا املنظور قلبا مشهودا‬
‫ملوازين القوى بني أقصى اليسار يف احلركة العمالية وميينها‪.‬‬
‫تلك التوقعات تأكدت منذ عام ‪ ،1719‬فلقد انفجرت الثورة الروسية يف‬
‫مارس من ذلك العام‪ ،‬وانفجرت الثورة يف نوفمرب من العام التايل يف أملانيا ويف‬
‫النمسا ‪ -‬هنغاريا‪ .‬ويف العامني ‪ 1702-1717‬شهدت إيطاليا صعودا ثوريا‬
‫عظيما ال سيما يف مناطق الشمال الصناعية‪ .‬كما اتسع الشرخ بني االشرتاكيني‬

‫‪112‬‬
‫احلرب العاملية األوىل والثورة الروسية‬

‫‪ -‬الوطنيني واألمميني ليصبح شرخا بني االشرتاكيني ‪ -‬الدميوقراطيني الرافضني قطع‬


‫عالقتهم بالدولة الربجوازية وبالرأمسالية‪ ،‬والشيوعيني امليممني وجههم شطر انتصار‬
‫الثورة الربوليتارية ومجهوريات اجملالس العمالية‪ .‬لقد تبىن األولون موقفا معاديا للثورة‬
‫بصورة جذرية منذ هددت اجلماهري أركان الربجوازية‪.‬‬

‫‪ .3‬ثورة فبراير ‪ 1717‬في روسيا‬

‫يف فرباير ‪( 1719‬مارس حسب التقومي الغريب) هتاوت االستبدادية القيصرية‬


‫حتت الضريات املزدوجة النتفاضات اجلوع العمالية‪ ،‬ولتفكك اجليش‪ ،‬أي‬
‫للمعارضة املتنامية للحرب داخل طبقة الفالحني‪ .‬لقد كان وراء إخفاق ثورة‬
‫‪ 1720‬الروسية غياب التالحم بني احلركة العمالية وحركة الفالحني‪ ،‬من هنا كان‬
‫توفر ذلك التالحم عام ‪ 1719‬ذا نتائج قاصمة بالنسبة للقيصرية‪.‬‬
‫لقد لعبت الطبقة العاملة الدور األساسي يف األحداث الثورية اليت تفجرت يف‬
‫فرباير ‪ .1719‬إالّ أن افتقادها لقيادة ثورية جعلها حترم من مثار انتصارها‪،‬‬
‫فالسلطة التنفيذية اليت انتزعت من القيصرية مت تسليمها حلكومة مؤقتة جتمع‬
‫األحزاب الربجوازية‪ ،‬ويف مقدمتها حزب الكاديت (الدميوقراطيني ‪ -‬الدستوريني)‪،‬‬
‫إىل اجملموعات املعتدلة داخل احلركة العمالية (املناشفة واالشرتاكيني ‪ -‬الثوريني)‪.‬‬
‫بيد أن حركة اجلماهري كانت قوية إىل حد أهنا استطاعت امتالك بنية تنظيمية‬
‫خاصة هبا‪ ،‬متثلت مبجالس (سوفييتات) مندويب العمال واجلنود والفالحني يسندها‬
‫حراس محر مدججون بالسالح‪ .‬هكذا شهدت روسيا منذ فرباير ‪ 1719‬نظام‬
‫ازدواجية سلطة فعلية‪ .‬ففي وجه احلكومة املؤقتة اليت تقف على رأس جهاز دولة‬
‫برجوازية يف حالة تفكك بطيء كان هنالك شبكة من السوفييتات تبين سلطة‬
‫دولة عمالية يوما بعد يوم‪.‬‬
‫قدمت األحداث هكذا برهانا ساطعا على صحة التوقع الذي صاغه ليون‬
‫تروتسكي منذ هناية ثورة ‪ 1720‬الروسية‪ ،‬والذي رأى أن روسيا سوف تكتسحها‬

‫‪113‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫السوفييتات يف ثورهتا القادمة‪ .‬كان على املاركسيني الروس والعامليني أن يعيدوا‬


‫النظر هكذا بتحليلهم للطبيعة االجتماعية للثورة الروسية القائمة‪.‬‬
‫هؤالء املاركسيون كانوا قد اعتربوا أن الثورة الروسية سوف تكون ثورة برجوازية‪،‬‬
‫ذلك أنه ملا كانت روسيا بلدا متخلفا فقد بدا هلم أن املهام األساسية اليت على‬
‫تلك الثورة أن حتلها شبيهة مبهمات الثورات الدميوقراطية ‪ -‬الربجوازية الكربى يف‬
‫القرنني ‪ 1,‬و‪ ،17‬ختتصرها شعارات إطاحة احلكم االستبدادي املطلق‪ ،‬وانتزاع‬
‫احلريات الدميوقراطية والدستور‪ ،‬وحترير الفالحني من الرواسب نصف االقطاعية‪،‬‬
‫وحترير القوميات املضطهدة وخلق سوق قومية موحدة لضمان االزدهار السريع‬
‫للرأمسالية الصناعية الذي ال بد منه من أجل هتيئة انتصار ثورة اشرتاكية الحقة‪.‬‬
‫وقد جنم عن ذلك اسرتاتيجية حتالف بني الربجوازية الليربالية واحلركة العمالية‪،‬‬
‫حبيث تكتفي األخرية بالنضال من أجل أهداف طبقية مباشرة (يوم عمل من مثاين‬
‫ساعات‪ ،‬حرية التنظيم واإلضراب‪ ،‬اخل‪ ،).‬يف حني تدفع الربجوازية لتستكمل‬
‫بصورة أكثر جذرية عمل ثورتـ"ها"‪.‬‬
‫لقد رفض لينني هذه االسرتاتيجية عام ‪ ،1720‬وذكر بتحليل ماركس ملسلك‬
‫الربجوازية منذ ثورة ‪ ،1,4,‬فحني ظهرت الربوليتاريا على املسرح السياسي‬
‫انزلقت الربجوازية إىل املعسكر املضاد للثورة‪ ،‬خوفا من الثورة العاملية‪ .‬وهو مل يعدل‬
‫حتليل املهام التارخيية للثورة الروسية‪ ،‬كما صاغها املاركسيون الروس من قبل‪ ،‬إالّ أنه‬
‫استنتج من الطابع املعادي للثورة بوضوح‪ ،‬الذي اختذه مسلك البورجوازية‪،‬‬
‫استحالة إجناز تلك املهام عن طريق حتالف بني الربجوازية والربوليتاريا‪ .‬من هنا فهو‬
‫أحل حمل ذلك فكرة التحالف بني الربوليتاريا والفالحني‪.‬‬

‫‪ .4‬نظرية الثورة الدائمة‬

‫لقد تصور لينني هذه «الديكتاتورية الدميوقراطية للعمال والفالحني» على‬


‫قاعدة اقتصاد ال يزال رأمساليا ويف إطار دولة مل تزل بورجوازية‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫احلرب العاملية األوىل والثورة الروسية‬

‫ّأما تروتسكي فقد الحظ ضعف هذا التصور الكامن يف عجز الفالحني املزمن‬
‫(الذي وافق عليه لينني بعد عام ‪ )1719‬عن التشكل يف قوة سياسية مستقلة‪.‬‬
‫فعلى امتداد التاريخ احلديث مبجمله تلتحق طبقة الفالحني على الدوام بقيادة‬
‫بورجوازية أو بقيادة بروليتارية‪ .‬فإذا كانت البورجوازية سوف تنتقل حتما إىل‬
‫معسكر الثورة املضادة‪ ،‬يتوقف مصري الثورة على قدرة الربوليتاريا على اكتساب‬
‫اهليمنة السياسية داخل احلركة الفالحية‪ ،‬وإرساء التحالف بني العمال والفالحني‬
‫بقيادهتا هي‪ .‬بتعبري آخر‪ ،‬مل يكن يف وسع الثورة الروسية أن تنتصر وتنجز مهامها‬
‫الثورية إالّ إذا استولت الربوليتاريا على السلطة السياسية وأقامت دولة عمالية‪،‬‬
‫مستندة إىل التحالف مع الفالحني الكادحني‪.‬‬
‫تعلن نظرية الثورة الدائمة هكذا أن املهام التارخيية للثورة الدميوقراطية ‪-‬‬
‫البورجوازية (الثورة الزراعية‪ ،‬االستقالل القومي‪ ،‬احلريات الدميوقراطية‪ ،‬توحيد البالد‬
‫ألجل إفساح اجملال أمام ازدهار الصناعة) يف عصر اإلمربيالية ال ميكن أن تتحقق‬
‫إالّ عن طريق إرساء ديكتاتورية الربوليتاريا املستندة إىل الفالحني الكادحني‪ ،‬وذلك‬
‫ألن روابط ال حتصى تشد البورجوازية املسماة «قومية» أو «ليربالية» يف البلدان‬
‫املتخلفة إىل اإلمربيالية األجنبية من جهة‪ ،‬وإىل الطبقات املالكة القدمية من جهة‬
‫أخرى‪ .‬إن هذا التوقع الذي صاغه تروتسكي عام ‪ 1727‬قد تأكدت صحته كليا‬
‫يف جمرى ثورة ‪ 1719‬الروسية‪ ،‬كما تأكد كذلك يف جمرى كل الثورات اليت‬
‫انفجرت مذ ذاك‪ ،‬يف البلدان املتخلفة‪.‬‬

‫‪ .5‬ثورة أكتوبر ‪1717‬‬

‫إن لينني العائد إىل روسيا من املهجر ملس ملس اليد اإلمكانات الثورية‬
‫العظيمة‪ ،‬فأعاد توجيه احلزب البلشفي عن طريق «موضوعات أبريل» ضمن خط‬
‫نظرية الثورة الدائمة‪ :‬ينبغي النضال من أجل استالم السوفييتات للسلطة‪ ،‬ومن‬
‫أجل إرساء ديكتاتورية الربوليتاريا‪ .‬هذا املوقف الذي طعن فيه يف البدء القادة‬

‫‪115‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫البالشفة القدامى (ومن بينهم ستالني وكامينيف ومولوتوف) الذين متسكوا بصيغ‬
‫عام ‪ ،1720‬وكانوا يرغبون بالتوحد جمددا مع املناشفة وبتقدمي دعم نقدي‬
‫للحكومة املؤقتة‪ ،‬سرعان ما وافق عليه جممل احلزب‪ ،‬ال سيما حتت ضغط العمال‬
‫البالشفة الطليعيني الذين تبنوه تلقائيا حىت قبل أن يصوغه لينني بصورة واعية‪.‬‬
‫هكذا اندمج أنصار تروتسكي مع البالشفة‪ ،‬وهبوا مجيعا لكسب أغلبية الشغيلة‪.‬‬
‫بعد تطورات عديدة (انتفاضة يوليو املبكرة‪ ،‬واالنقالب الفاشل املعادي للثورة‬
‫الذي قام به اجلنرال كورنيلوف يف أغسطس) حتولت تلك األغلبية لصاحل البالشفة‬
‫يف سوفييتات املدن الكربى منذ سبتمرب ‪ .1719‬مذ ذاك وضع النضال من أجل‬
‫االستيالء على السلطة على جدول األعمال‪ .‬وهو ما حتقق يف أكتوبر (نوفمرب‬
‫حسب التقومي الغريب) بقيادة اللجنة العسكرية الثورية ملدينة برتوغراد‪ ،‬اليت كان‬
‫يرأسها تروتسكي وتنبثق من سوفييت تلك املدينة‪.‬‬
‫جنح ذلك السوفييت يف أن يضمن مسبقا والء كل الفيالق تقريبا‪ ،‬املتمركزة‬
‫داخل العاصمة القيصرية القدمية‪ ،‬فلقد رفضت تلك الفيالق أن تطيع هيئة أركان‬
‫اجليش البورجوازي‪ .‬هكذا رأينا أن االنتفاضة اليت تطابق موعدها مع موعد انعقاد‬
‫املؤمتر الثاين للسوفييتات لعموم روسيا حتققت تقريبا دون اهراق الدماء‪ .‬هتاوى إىل‬
‫احلضيض جهاز الدولة القدمي واحلكومة املؤقتة‪ ،‬بينما صوت املؤمتر الثاين‬
‫للسوفييتات بأغلبية كربى على انتقال السلطة لسوفييتات العمال والفالحني‪،‬‬
‫وللمرة األوىل يف التاريخ أقيمت على كامل أرض بلد كبري دولة تتخذ مثاال هلا‬
‫كومونة باريس‪ ،‬دولة عمالية‪.‬‬

‫‪ .6‬تحطيم الرأسمالية في روسيا‬

‫توقع تروتسكي يف نظريته عن الثورة الدائمة أنه ال ميكن للربوليتاريا‪ ،‬بعد أن‬
‫تستويل على السلطة‪ ،‬االكتفاء بتحقيق املهام التارخيية للثورة الدميوقراطية ‪-‬‬
‫الربجوازية‪ ،‬بل يكون عليها أن تبادر إىل االستيالء على املعامل وإلغاء االستغالل‬

‫‪116‬‬
‫احلرب العاملية األوىل والثورة الروسية‬

‫الرأمسايل والبدء ببناء جمتمع اشرتاكي‪ .‬وهو ما حدث بالفعل يف روسيا بعد أكتوبر‬
‫‪.1719‬‬
‫فربنامج احلكومة اليت تولت السلطة يف املؤمتر الثاين للسوفييتات اكتفى للوهلة‬
‫األوىل بإقامة الرقابة العمالية على اإلنتاج‪ ،‬على أساس أن املهام الفورية لثورة‬
‫أكتوبر هي قبل كل شيء إعادة السالم وتوزيع األراضي وحل املسألة القومية‬
‫وخلق سلطة سوفياتية حقيقية على كامل األراضي الروسية‪.‬‬
‫إالّ أن البورجوازية ما لبثت أن بدأت خترب تطبيق سياسة السلطة اجلديدة‪ّ .‬أما‬
‫العمال الذين وجدوا أنفسهم أقوى فلم يتساحموا مع استغالل الرأمساليني‪ ،‬وال مع‬
‫ختريبهم‪ .‬هكذا مت االنتقال سريعا من إرساء الرقابة العمالية إىل تأميم املصارف‬
‫واملعامل الكربى ووسائط النقل‪ .‬وسرعان ما أصبحت كل وسائل اإلنتاج ‪ -‬ما‬
‫خال تلك العائدة إىل الفالحني وصغار احلرفيني ‪ -‬بني أيدي الشعب‪.‬‬
‫كان على تنظيم اقتصاد قائم على امللكية اجلماعية لوسائل اإلنتاج أن يصطدم‬
‫حتما بالعديد من الصعوبات يف بلد شديد التخلف حيث مل تكن الرأمسالية قد‬
‫أجنزت ولو من بعيد مهمة خلق األسس املادية لالشرتاكية‪ ،‬وكان البالشفة واعني‬
‫هذه الصعوبة وعيا تاما‪ .‬إالّ أهنم كانوا على قناعة بأهنم لن يبقوا معزولني ملدة‬
‫طويلة‪ ،‬فالثورة الربوليتارية كانت على وشك االندالع يف العديد من البلدان‬
‫املتقدمة صناعيا‪ ،‬والسيما يف أملانيا‪ .‬إن االندماج بني الثورة الروسية والثورة األملانية‬
‫والثورة اإليطالية كان قادرا على خلق قاعدة انطالق مادية ال تتزعزع لبناء جمتمع ال‬
‫طبقي‪.‬‬
‫لقد برهن التاريخ على أن تلك اآلمال مل تكن من دون أساس‪ ،‬فالثورة‬
‫انفجرت عمليا يف أملانيا‪ ،‬وكانت إيطاليا يف وضع شبيه جدا بني عامي ‪1717‬‬
‫و‪ .1702‬وقد لعبت الثورة الروسية دورها كمفجر ومنوذج حمفز للثورة االشرتاكية‬
‫العاملية‪ .‬إن االشرتاكيني ‪ -‬الدميوقراطيني الروس األوروبيني الذين سخروا فيما بعد‬
‫معتربين أن «أحالم» لينني وتروتسكي حول الثورة العاملية كانت من دون أساس‪،‬‬

‫‪117‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫وأنه حمكوم على الثورة الروسية أن تنعزل‪ ،‬وأنه من قبيل الطوباوية التفكري ببناء‬
‫اقتصاد اشرتاكي يف بلد متخلف‪ ،‬إمنا ينسون أن هزمية الصعود الثوري لعامي‬
‫‪ 1702-1717‬يف أوروبا الوسطى مل تكن نامجة إطالقا عن غياب النضاالت أو‬
‫العنفوان الثوري لدى اجلماهري‪ ،‬بل عن الدور املضاد للثورة الذي لعبته االشرتاكية‬
‫‪ -‬الدميوقراطية العاملية عن سابق تصور وتصميم‪.‬‬
‫هبذه املعىن‪ ،‬فإن لينني وتروتسكي ورفاقهما بقيادهتم لربوليتاريا بلد أول حنو‬
‫االستيالء على السلطة السياسية‪ ،‬فعلوا الشيء الوحيد الذي ميكن أن يفعله‬
‫ماركسيون ثوريون لتعديل موازين القوى لصاحل طبقتهم‪ ،‬أال وهو االستغالل العميق‬
‫للفرص األكثر مناسبة اليت توجد يف بلد من البلدان‪ ،‬من أجل إطاحة سلطة رأس‬
‫املال‪ .‬وهذا ال يكفي حبد ذاته لتقرير مصري الصراع األممي بني رأس املال والعمل‪،‬‬
‫إالّ أنه يشكل يف كل حال الوسيلة الوحيدة للتأثري على مصري هذا الصراع يف اجتاه‬
‫مالئم ملصاحل الربوليتاريا‪.‬‬

‫المراجع‪:‬‬
‫‪ ‬لينني‪ ،‬خطتا االشتراكية ‪ -‬الديموقراطية‪.‬‬
‫‪ ‬لينني‪ ،‬الكارثة المحدقة وكيف نواجهها‪.‬‬
‫‪ ‬لينني‪ ،‬هل يحتفظ البالشفة بالسلطة ؟‬
‫‪ ‬روزا لوكسمبورغ‪ ،‬كراس جونيوس‪.‬‬
‫‪ ‬روزا لوكسمبورغ‪ ،‬الثورة الروسية‪.‬‬
‫‪ ‬ليون تروتسكي‪ ،‬تصورات ثالثة للثورة الروسية ‪ /‬خطاب كوبنهاغن‬
‫(‪( .)1732‬ومها ملخصان لنظرية الثورة الدائمة)‬
‫‪ ‬ليون تروتسكي‪ ،‬تاريخ الثورة الروسية‪.‬‬
‫‪ ‬ليون تروتسكي‪ ،‬الثورة الدائمة‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫(‪)12‬‬
‫الستالينية‬
‫‪ .1‬إخفاق الصعود الثوري ألعوام ‪ 1723-1718‬في أوروبا‬

‫عام ‪ 171,‬انفجرت الثورة العاملية اليت انتظرهتا الربوليتاريا الروسية والقادة‬


‫البالشفة‪ ،‬وأقيمت جمالس عمال وجنود يف أملانيا والنمسا‪ .‬ويف هنغاريا أعلن يف‬
‫مارس ‪ 1717‬قيام مجهورية اجملالس‪ ،‬ويف بافيري خالل شهر أبريل ‪ .1717‬أما‬
‫العمال يف مشايل إيطاليا‪ ،‬الذين كانوا يف حالة غليان متنامية منذ عام ‪ 1717‬فقد‬
‫احتلوا كل املصانع يف أبريل ‪ .1702‬واكتسحت تيارات ثورية بلدانا أخرى‪ ،‬من‬
‫مثل فنلندا وبولونيا وتشيكوسلوفاكيا ويوغوسالفيا وبلغاريا‪ .‬بدت مقدمات إضراب‬
‫عام يف هولندا‪ ،‬بينما أقام العمال يف بريطانيا العظمى «التحالف الثالثي»‬
‫للنقابات الثالث الكربى يف البالد‪ ،‬الذي زعزع أركان احلكم‪.‬‬
‫إالّ أن هذه املوجة الثورية انتهت باإلخفاق‪ ،‬وقد كان وراء ذلك اإلخفاق‬
‫األسباب التالية‪:‬‬
‫‪ -‬إن روسيا السوفييتات كانت متزقها احلرب األهلية‪ ،‬فاملالكون العقاريون‬
‫القدامى والضباط القيصريون‪ ،‬يدعمهم الرأمساليون الروس واألجانب‪ ،‬حاولوا‬
‫أن يقلبوا بقوة السالح أول مجهورية للعمال والفالحني‪ .‬من هنا مل يكن بوسع‬
‫سلطة السوفييتات أن تقدم إالّ عونا ماديا وعسكريا حمدودا للثورات األوروبية‪،‬‬
‫اليت كانت تقاتلها اجليوش اإلمربيالية كافة‪.‬‬
‫‪-‬مل ترتدد االشرتاكية ‪ -‬الدميوقراطية العاملية يف االنضمام إىل معسكر الثورة‬
‫املضادة‪ ،‬ساعية بكل أنواع الوعود واملخادعات املمكن تصورها (وعدت يف‬
‫أملانيا منذ فرباير ‪ 1717‬بالتشريك الفوري للصناعات الكربى‪ ،‬وهو ما مل‬

‫‪119‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫يتحقق على اإلطالق) أن حترف الشغيلة عن النضال ألجل السلطة‪ .‬كما مل‬
‫ترتدد كذلك يف تنظيم العنف املعادي للثورة‪ ،‬ال سيما عن طريق تنظيم الفرق‬
‫غري النظامية اليت دعاها نوسكي للنجدة يف مواجهة الثورة األملانية‪ ،‬ولقد‬
‫كانت تلك الفرق نواة العصابات النازية الحقا‪.‬‬
‫‪-‬إن األحزاب الشيوعية الفتية اليت أسست األممية الثالثة كانت تنقصها التجربة‬
‫والنضج فاقرتفت العديد من األخطاء «اليسارية» أو اليمينية‪.‬‬
‫إن البورجوازية اليت أرعبها شبح الثورة قدمت تنازالت اقتصادية مهمة للشغيلة‬
‫دفعة واحدة‪ ،‬السيما يوم العمل من مثاين ساعات واالقرتاع العام يف بلدان عدة‪،‬‬
‫وهو ما أوقف الصعود الثوري يف العديد من تلك البلدان‪ .‬لقد انتهت االخفاقات‬
‫األوىل للثورة هبزائم دامية يف هنغاريا حيث رافق سحق مجهورية اجملالس اهراق دم‬
‫غزير‪ ،‬كما يف إيطاليا حيث استولت الفاشية على السلطة عام ‪ .1700‬إالّ أن‬
‫تقوى تدرجييا واكتسب قاعدة مجاهريية أكثر فأكثر‬ ‫احلزب الشيوعي يف أملانيا ّ‬
‫اتساعا‪ ،‬وانطلق يف ‪ 170,-1700‬لكسب النقابات الكربى وجمالس املشاريع‪.‬‬
‫ولقد كان عام ‪ 170,‬عام أزمة ثورية استثنائية يف البلد املذكور‪ ،‬فاجليش‬
‫الفرنسي احتل الروهر‪ ،‬وتفاقم التضخم‪ ،‬وانفجر إضراب عام ظافر جنح يف قلب‬
‫احلكومة‪ ،‬كما تشكلت حكومة حتالف بني االشرتاكيني اليساريني والشيوعيني يف‬
‫ساكس وتورينج‪ .‬إالّ أن احلزب الشيوعي الذي أساءت األممية الشيوعية نصحه‬
‫فشل يف التنظيم املنهجي لالنتفاضة املسلحة يف اللحظة املناسبة‪ ،‬فاستطاع رأس‬
‫املال الكبري أن يعيد تثبيت الوضع واستقرار املارك‪ ،‬وأن يعيد إىل السلطة حتالفا‬
‫بورجوازيا‪ ،‬مما أدى إىل وضع حد لألزمة الثورية ملا بعد احلرب‪.‬‬

‫‪ .2‬صعود البيروقراطية السوفياتية‬

‫لقد خرجت روسيا السوفياتية منتصرة من احلرب األهلية عام ‪-1702‬‬


‫‪ ،1701‬إالّ أهنا خرجت منهكة من تلك احلرب‪ ،‬فاإلنتاج الزراعي والصناعي‬

‫‪121‬‬
‫الستالينية‬

‫اخنفض بشكل ذريع وأصابت اجملاعة مناطق واسعة من البالد‪ .‬وبانتظار صعود‬
‫جديد للثورة العاملية‪ ،‬ومن أجل تقدمي العالج هلذا الوضع‪ ،‬قرر لينني وتروتسكي‬
‫القيام برتاجع اقتصادي‪ .‬فلقد أبقى على امللكية املؤممة مبا خيص الصناعة الكربى‬
‫مبجملها واملصارف ونظام النقل‪ ،‬إالّ أنه أعيدت حرية التجارة بصدد الفوائض‬
‫الزراعية بعد متام دفع الضريبة العينية‪ ،‬باإلضافة إىل األعمال احلرفية والتجارة‬
‫والطناعية الصغرية اخلاصة‪.‬‬
‫كان البالشفة ينظرون إىل ذلك على أنه جمرد عمل مؤقت حسبوا خماطره على‬
‫الصعيد االقتصادي‪ ،‬إذ أنه كان بإمكان الربجوازية الصغرية املغتنمة أن تعيد‬
‫باستمرار إنتاج الرتاكم الرأمسايل اخلاص‪ .‬إالّ أن النتائج االجتماعية والسياسية‬
‫النعزال الثورة الربوليتارية يف بلد متخلف كانت أكثر رهبة من تلك املخاطر‬
‫االقتصادية‪ .‬وهي تتلخص كالتايل‪ :‬لقد فقدت الربوليتاريا الروسية يوما بعد يوم‬
‫املمارسة املباشرة للسلطة السياسية واالقتصادية‪ .‬بدأت شرحية جديدة ذات‬
‫امتيازات تعتلي ظهرها‪ ،‬وقد اكتسبت هذه البريوقراطية احتكارا حقيقيا ملمارسة‬
‫السلطة يف كل حقول اجملتمع‪.‬‬
‫مل تكن تلك السريورة نتيجة مؤامرة عن سابق تصور وتصميم‪ ،‬بل جنمت عن‬
‫تفاعل جمموعة من العوامل‪ .‬فلقد ضعفت الربوليتاريا عدديا بفعل اخنفاض اإلنتاج‬
‫الصناعي والنزوح إىل الريف‪ ،‬كما فقدت تسيسها جزئيا حتت وطأة اجلوع‬
‫واحلرمانات‪ّ .‬أما عناصرها األكثر وعيا فامتصها اجلهاز السوفيايت‪ ،‬وكان الكثري من‬
‫أفضل أفرادها قد سقطوا يف احلرب األهلية‪ .‬إن تلك الفرتة املضطربة مبجملها مل‬
‫تكن مناسبة لتكوين الكادرات املتميزة تقنيا وثقافيا داخل الطبقة العاملة‪ .‬هكذا‬
‫احتفظت األنتليجنسيا البورجوازية الصغرية والبورجوازية باحتكارها للمعارف‪ ،‬ذلك‬
‫أن فرتة قحط عظيم مالئمة الكتساب امتيازات مادية والدفاع عنها‪.‬‬
‫ال نعتقد أن هذه السريورة قد بقيت خارج إدراك املاركسيني الثوريني الروس‪،‬‬
‫فمنذ عام ‪ 1702‬قرعت املعارضة العمالية داخل احلزب الشيوعي السوفيايت جرس‬

‫‪121‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫اإلنذار‪ ،‬وطرحت يف الوقت ذاته حلوال غري مناسبة إىل حد بعيد‪ .‬ومنذ عام‬
‫‪ 1701‬أصبح شغل لينني الشاغل التفكري باخلطر البريوقراطي‪ ،‬وكان يسمي الدولة‬
‫الروسية دولة عمالية مشوهة بريوقراطيا ويشري شبه عاجز إىل سطوة البريوقراطية‬
‫الوليدة على جهاز احلزب بالذات‪ .‬ومنذ عام ‪ 170,‬تشكلت املعارضة اليسارية‬
‫الرتوتسكية اليت سوف جتعل من النضال ضد البريوقراطية نقطة من النقاط‬
‫األساسية يف برناجمها‪.‬‬
‫وقد يكون من قبيل اخلطأ االعتقاد أن صعود البريوقراطية السوفياتية ميثل ظاهرة‬
‫حتمية‪ ،‬فإذا كانت تغرز جذورا عميقة يف الواقع االجتماعي واالقتصادي الروسي‬
‫يف أوائل العشرينات‪ ،‬فقد كان ممكنا يف الوقت ذاته جماهبتها مع حظوظ جناح‬
‫حقيقية‪ .‬كان برنامج املعارضة اليسارية الرتوتسكية يتجه مبجمله خللق شروط‬
‫مالئمة لتقومي الوضع من جديد‪.‬‬
‫أ‪ .‬عن طريق تسريع تصنيع روسيا‪ ،‬بزيادة الوزن النوعي للربوليتاريا يف اجملتمع‪.‬‬
‫ب‪ .‬بزيادة األجور ومكافحة البطالة بغية تنمية ثقة اجلماهري العمالية بذاهتا‪.‬‬
‫ج‪ .‬بالتوسيع الفوري للدميوقراطية السوفياتية والدميوقراطية داخل احلزب‪ ،‬بغية رفع‬
‫مستوى النشاط السياسي ومستوى وعي الربوليتاريا الطبقي‪.‬‬
‫د‪ .‬بزيادة حدة التمايز داخل الفالحني‪ ،‬عن طريق مساعدة الفالحني الفقراء عرب‬
‫تقدمي قروض وآالت زراعية اليهم يف بناء تعاونيات إنتاجية‪ ،‬وفرض ضرائب‬
‫تصاعدية على الفالحني األغنياء‪.‬‬
‫هـ‪ .‬باإلبقاء على التوجه شطر الثورة العاملية‪ ،‬وبتصحيح األخطاء التكتيكية‬
‫واالسرتاتيجية للكومنرتن‪.‬‬
‫لو فهم جممل القادة والكادرات البالشفة ضرورة إجناز برنامج من هذا النوع‬
‫وإمكان ذلك‪ ،‬لكانت إعادة إطالق السوفييتات وممارسة الربوليتاريا للسلطة ممكنة‬
‫منذ أواسط العشرينات‪ .‬إالّ أن معظم كادرات احلزب كانوا قد اخنرطوا من جانبهم‬

‫‪122‬‬
‫الستالينية‬

‫يف سريورة البقرطة‪ .‬معظم القادة تأخروا كثريا يف فهم خطر املميت لصعود‬
‫البريوقراطية‪ .‬إن ضعف «العامل الذايت» (أي احلزب الثوري) انظم إىل الشروط‬
‫املوضوعية املالئمة‪ ،‬لتفسري انتصار البريوقراطية الستالينية يف االحتاد السوفيايت‪.‬‬

‫‪ .3‬طبيعة البيروقراطية وطبيعة االتحاد السوفياتي‬

‫ليست البريوقراطية طبقة مسيطرة جديدة‪ .‬وهي ال تلعب أي دور ضروري يف‬
‫سريورة اإلنتاج‪ .‬إهنا شرحية ذات امتيازات اغتصبت ممارسة وظائف اإلدارة يف‬
‫الدولة واالقتصاد السوفياتيني‪ ،‬ومتنح لنفسها على أساس احتكار السلطة هذا‬
‫منافع وفرية يف حقل االستهالك (أجور مرتفعة‪ ،‬منافع عينية‪ ،‬خمازن خاصة‪ ،‬اخل)‪.‬‬
‫ليست مالكة لوسائل اإلنتاج‪ ،‬وال متلك أي ضمانة لالحتفاظ بتلك املنافع أو‬
‫توريثها ألوالدها‪ ،‬إمنا كل شيء مرتبط مبمارسة وظائف نوعية خاصة‪.‬‬
‫إهنا شرحية اجتماعية متميزة من الربوليتاريا تقيم سلطتها على مكاسب ثورة‬
‫أكتوبر االشرتاكية‪ ،‬كتأميم وسائل اإلنتاج والتخطيط االقتصادي واحتكار الدولة‬
‫للتجارة اخلارجية‪ .‬وهي حمافظة كما احلال مع أي بريوقراطية عمالية‪ ،‬إهنا تضع‬
‫احلفاظ على ما مت اكتسابه فوق كل مشروع يرمي إىل التوسع باملكاسب الثورية‪.‬‬
‫إهنا ختاف من الثورة العاملية اليت قد تؤدي إىل إنعاش النشاط السياسي‬
‫للربوليتاريا السوفييتية وتدمري سلطة البريوقراطية على هذا األساس‪ .‬من هنا فهي‬
‫ترغب يف احلفاظ على الوضع القائم العاملي‪ .‬إال أهنا تبقى‪ ،‬من حيث هي شرحية‬
‫اجتماعية‪ ،‬ضد إعادة الرأمسالية إىل االحتاد السوفيايت‪ ،‬ذلك أن هذه قد تدمر‬
‫أسس امتيازاهتا بالذات (وهو ما ال مينع البريوقراطية من أن تكون الوسط املالئم‬
‫لنمو جمموعات ثانوية واجتاهات فرعية ميكن أن حتاول التحول إىل رأمساليني‬
‫جدد)‪.‬‬
‫ليس االحتاد السوفيايت جمتمعا اشرتاكيا‪ ،‬أي جمتمعا بال طبقات‪ .‬إنه ما يزال‪،‬‬
‫متاما كما غداة ثورة أكتوبر ‪ ،1719‬جمتمعا انتقاليا بني الرأمسالية واالشرتاكية‪،‬‬

‫‪123‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫وميكن أن تتم إعادة الرأمسالية فيه‪ ،‬لكن على أساس ثورة مضادة اجتماعية‪ .‬كما‬
‫ميكن باملقابل إعادة إرساء السلطة املباشرة للشغيلة فيه‪ ،‬لكن على أساس ثورة‬
‫سياسية تكسر احتكار ممارسة السلطة بأيدي البريوقراطية‪.‬‬
‫رغم أن االقتصاد السوفيايت هو نظام «سيطرة البريوقراطية على املنتجني»‪،‬‬
‫ورغم أنه أعطى األولوية زمنا طويال لتطور اآلالت على حساب استهالك‬
‫اجلماهري‪ ،‬فهو ال يستحق وصمه بـ«الرأمسالية»‪ .‬إن الرأمسالية نظام نوعي خاص‬
‫للسيطرة الطبقية‪ ،‬يتصف بامللكية اخلاصة لوسائل اإلنتاج‪ ،‬وباملنافسة واإلنتاج‬
‫البضاعي املعمم‪ ،‬وبالطابع البضاعي لقوة العمل‪ ،‬وحبتمية األزمات الدورية لفيض‬
‫اإلنتاج املعمم‪ ،‬وحنن ال جند أيا من هذه املالمح األساسية يف االقتصاد السوفيايت‪.‬‬
‫إالّ أنه إذا مل يكن االقتصاد السوفيايت رأمساليا فهو ليس اشرتاكيا أيضا‪ ،‬على‬
‫األقل باملعىن التقليدي للكلمة‪ ،‬كما يتبني من كتابات ماركس واجنلز ولينني‬
‫بالذات‪ .‬فاالقتصاد االشرتاكي يتحدد بنظام املنتجني املتشاركني الذين ينظمون‬
‫بأنفسهم حياهتم اإلنتاجية واالجتماعية عن طريق وضع تسلسل يف احلاجات اليت‬
‫ينبغي كفايتها تبعا للموارد اليت يف حوزهتم ولوقت العمل الذي هم مستعدون‬
‫لتكريسه للجهد اإلنتاجي‪ ،‬واالحتاد السوفيايت على بعد بعيد عن هذا الوضع‪ .‬إن‬
‫اقتصادا اشرتاكيا يتحدد بزوال كل إنتاج بضاعي‪ ،‬وماركس واجنلز يوضحان أن‬
‫هذا الزوال ليس خاصا «باملرحلة الثانية» من اجملتمع الال طبقي‪ ،‬اليت تطلق عليها‬
‫عادة تسمية «املرحلة الشيوعية»‪ ،‬بل هو من مسات املرحلة األوىل املسماة‬
‫«اشرتاكية»‪ ،‬وذلك على عكس العقيدة املعتمدة رمسيا يف االحتاد السوفيايت‪.‬‬
‫إن ستالني الذي فضل النظرية املضادة للماركسية حول اإلمكانية املزعومة‬
‫إلجناز بناء االشرتاكية يف بلد واحد‪ ،‬إمنا كان يعرب بصورة جتريبية عن النزعة احملافظة‬
‫الربجوازية الصغرية لدى البريوقراطية السوفياتية املؤلفة من خليط من املوظفني‬
‫القدامى يف الدولة الربجوازية ومن حمدثي النعمة يف جهاز الدولة السوفياتية‬

‫‪124‬‬
‫الستالينية‬

‫وشيوعيني مفسدين ومستخفني‪ ،‬وتقنيني شباب راغبني يف «النجاح يف املهنة»‬


‫دون أدىن مراعاة للمصاحل الطبقية للربوليتاريا‪.‬‬
‫لقد واجه تروتسكي واملعارضة اليسارية هذه النظرية مببادئ أساسية يف‬
‫املاركسية («ال ميكن حتقيق اجملتمع الال طبقي إال على املستوى العاملي‪ ،‬حبيث‬
‫يضم على األقل بعضا من الدول املصنعة الرئيسية» ‪« -‬تشرع الثورة باالنتصار يف‬
‫بلد من البلدان‪ ،‬مث متتد على الصعيد الدويل‪ ،‬وختوض يف هناية املطاف معركة‬
‫حامسة على املستوى العاملي»)‪ ،‬ومها مل يدافعا بذلك عن موقف «انتظاري» أو‬
‫«اهنزامي» جتاه الثورة الروسية‪ .‬لقد سعيا حلفز فوري لتصنيع البالد‪ ،‬وذلك قبل‬
‫ستالني وبصورة أكثر عقالنية‪ ،‬وكانا نصريين للدفاع عن االحتاد السوفيايت ضد‬
‫عما بقي من مكاسب ثورة أكتوبر ضد أي حماولة إلعادة‬ ‫االمربيالية‪ ،‬وللدفاع ّ‬
‫الرأمسالية يف االحتاد السوفيايت‪ ،‬وقد ظال كذلك إىل النهاية‪ .‬إالّ أهنما فهما أن‬
‫مصري االحتاد السوفيايت سوف حيسمه يف هناية املطاف ما يؤول إليه الصراع‬
‫الطبقي على املستوى العاملي‪ ،‬وهو استنتاج ال يزال اليوم صحيحا كما كان‬
‫صحيحا باألمس‪.‬‬

‫‪ .4‬ما هي الستالينية ؟‬

‫حني ألقى خروتشيف مرافعته املشهورة ضد جرائم ستالني يف املؤمتر العشرين‬


‫للحزب الشيوعي السوفيايت‪ ،‬فسر تلك اجلرائم بـ« عبادة الشخصية » اليت هيمنت‬
‫خالل ديكتاتورية ستالني‪ .‬وهذا التفسري الذايت‪ ،‬ال بل السيكولوجي‪ ،‬لنظام‬
‫سياسي قلب رأسا على عقب حياة عشرات املاليني من الكائنات البشرية‪ ،‬ال‬
‫يتفق إطالقا مع املاركسية‪ .‬فظاهرة الستالينية ال ميكن اختصارها باخلصائص‬
‫السيكولوجية أو السياسية لرجل فرد‪ .‬إن األمر يتعلق بظاهرة اجتماعية ينبغي تعرية‬
‫جذورها االجتماعية‪ .‬إن الستالينية يف االحتاد السوفيايت هي التعبري عن االحنطاط‬
‫البريوقراطي ألول دولة عمالية‪ ،‬حيث اغتصبت شرحية اجتماعية ذات امتيازات‬

‫‪125‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫ممارسة السلطة االقتصادية والسياسية‪ .‬إن األشكال الفظة (اإلرهاب البوليسي‪،‬‬


‫التطهريات اجلماعية يف الثالثينات واألربعينات‪ ،‬اغتيال جممل الكادرات القدمية‬
‫للحزب الشيوعي السوفيايت تقريبا‪ ،‬وحماكمات موسكو‪ ،‬اخل‪ ).‬واألكثر «دقة» هلذه‬
‫السلطة البريوقراطية ميكن أن تتبدل‪ ،‬إالّ أ ّن أسس االحنطاط البريوقراطي تبقى‬
‫قائمة بعد ستالني كما يف ظل ستالني‪.‬‬
‫يسريها‬
‫فالسلطة ال متارسها سوفييتات ينتخبها كل الشغيلة حبرية‪ ،‬واملشاريع ال ّ‬
‫الشغيلة‪ .‬ال الطبقة العاملة وال أعضاء احلزب الشيوعي يتمتعون باحلريات‬
‫الدميوقراطية الضرورية للتمكن حبرية من حتديد اخليارات الكربى بصدد السياسة‬
‫االقتصادية والثقافية‪ ،‬الداخلية والعاملية‪.‬‬
‫إن الستالينية تعين يف العامل الرأمسايل قيام األحزاب اليت تتبع سياسة الكرميلني‬
‫بإخضاع مصاحل الثورة االشرتاكية يف بلداهنا إىل مصاحل دبلوماسية الكرميلني‪ .‬فهذا‬
‫األخري يستخدم األحزاب الشيوعية الستالينية‪ ،‬وحركة اجلماهري اليت تشرف عليها‪،‬‬
‫كمجرد عملة للتبادل يف جهوده لتكريس الوضع القائم العاملي مع االمربيالية‪.‬‬
‫إن الستالينية متثل على الصعيد االيديولوجي تشويها تربيريا وجتريبيا للنظرية‬
‫املاركسية‪ .‬فبدل أن تلعب النظرية املاركسية دور أداة حتليلية لتطور تناقضات‬
‫الرأمسالية وموازين القوى بني الطبقات والواقع املوضوعي للمجتمع االنتقايل من‬
‫الرأمسالية إىل االشرتاكية‪ ،‬بغية إسناد نضال الربوليتاريا التحرري‪ ،‬جيري احلط منها‬
‫إىل مستوى أداة تربير لكل من «االنعطافات التكتيكية» للكرميلني واألحزاب‬
‫الستالينية‪.‬‬
‫تسعى الستالينية لتربير هذه املناورات باسم حاجات الدفاع عن االحتاد‬
‫السوفيايت‪« ،‬القلعة الرئيسية للثورة العاملية» كما كان يسمى قبل احلرب العاملية‬
‫الثانية‪ ،‬و«مركز املعسكر العاملي لالشرتاكية» كما أصبح يسمى منذ احلرب العاملية‬
‫الثانية‪ .‬وبالفعل على الشغيلة أن يدافعوا عن االحتاد السوفيايت ضد حماوالت‬
‫اإلمربيالية إعادة سلطة رأس املال إليه‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫الستالينية‬

‫إالّ أن املناورات التكتيكية الستالينية اليت سامهت يف هزمية كذا من الثورات يف‬
‫العامل‪ ،‬واليت سهلت وصول هتلر إىل السلطة يف أملانيا عام ‪ ،17,,‬وحكمت‬
‫على الثورة اإلسبانية لعام ‪ 17,7‬باهلزمية‪ ،‬وأجربت اجلماهري الشيوعية الفرنسية‬
‫واإليطالية على إعادة بناء الدولة البورجوازية واالقتصاد الرأمسايل يف بالدها ما بني‬
‫‪ 1744‬و‪ ،1747‬وأدت إىل سحق احلركة الثورية يف أندونيسيا والربازيل والشيلي‬
‫والعديد من البلدان األخرى مذ ذاك‪ ،‬ال تتوافق إطالقا مع مصاحل االحتاد‬
‫السوفيايت كدولة‪ ،‬بل مع املصاحل الضيقة املتعلقة بالدفاع عن امتيازات البريوقراطية‬
‫السوفياتية املتناقضة يف كل من تلك احلاالت مع املصاحل احلقيقية لالحتاد‬
‫السوفيايت‪.‬‬

‫‪ .5‬أزمة الستالينية‬

‫إن احندار الثورة العاملية بعد عام ‪ 170,‬والوضع املتخلف لالقتصاد السوفيايت‬
‫مها الدعامتان الرئيسيتان لسلطة البريوقراطية يف االحتاد السوفيايت‪ ،‬وهاتان‬
‫الدعامتان قد تآكلتا تدرجييا منذ هناية األربعينات‪.‬‬
‫فلقد تال عشرين عاما من هزائم الثورة صعود جديد للثورة العاملية‪ ،‬احنصر يف‬
‫البدء يف بلدان متخلفة هي األخرى (يوغسالفيا‪ ،‬الصني‪ ،‬فيتنام‪ ،‬كوبا)‪ ،‬إالّ أنه‬
‫امتد إىل الغرب منذ مايو ‪ .177,‬وبعد سنوات من جهود «الرتاكم االشرتاكي»‪،‬‬
‫توقف االحتاد السوفيايت عن أن يكون بلدا متخلفا‪ ،‬إذ هو اليوم القوة الصناعية‬
‫الثانية يف العامل‪ ،‬ويبلغ املستوى التقين والثقايف فيه مستوى العديد من البلدان‬
‫الرأمسالية املتقدمة‪ّ .‬أما الربوليتاريا السوفياتية فهي‪ ،‬إىل جانب بروليتاريا الواليات‬
‫املتحدة‪ ،‬الربوليتاريا األقوى من حيث العدد‪.‬‬
‫ضمن هذه الشروط‪ ،‬بدأت تزول أسس سلبية اجلماهري يف البلدان اليت تسيطر‬
‫عليها البريوقراطية السوفياتية‪ ،‬حيث تتوافق مع انتعاش النشاطات املعارضة‬
‫انقصافات داخل البريوقراطية بالذات اليت ختضع‪ ،‬منذ القطيعة بني ستالني وتيتو‬

‫‪127‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫عام ‪ ،174,‬لسريورة متايز متنامية‪ .‬إن التداخل بني العاملني يشجع على فورات‬
‫مفاجئة للنشاط السياسي اجلماهريي تنطلق على طريق الثورة السياسية‪ ،‬كما‬
‫حدث يف أكتوبر ‪ -‬نوفمرب ‪ 1707‬يف هنغاريا‪ ،‬أو خالل «ربيع براغ» عام‬
‫‪ 177,‬يف مجهورية تشيكوسلوفاكيا االشرتاكية‪.‬‬
‫جرى إىل اآلن قمع هذه احلركات اجلماهريية عرب التدخل العسكري‬
‫للبريوقراطية السوفياتية‪ ،‬إالّ أنه مبقدار ما تنضج هذه السريورات ذاهتا يف االحتاد‬
‫السوفيايت فلن يكون بإمكان أية قوة خارجية أن توقف أمواج الثورة السياسية يف‬
‫أوروبا الشرقية واالحتاد السوفيايت‪ ،‬وسوف يعاد إرساء الدميوقراطية السوفياتية‪ ،‬ويتم‬
‫التحطيم النهائي ألي خطر يهدد بعودة الرأمسالية‪ .‬سوف ميارس السلطة السياسية‬
‫الشغيلة والفالحون الكادحون‪ ،‬كما سيصبح النضال من أجل الثورة االشرتاكية يف‬
‫سائر أحناء العامل أسهل مبا ال يقاس‪.‬‬

‫‪ .6‬اإلصالحات االقتصادية‬

‫بعد موت ستالني‪ ،‬والسيما يف بداية الستينات‪ ،‬بدأت حركة إصالح واسعة‬
‫لطرائق التخطيط والتسيري يف االحتاد السوفيايت ويف العديد من «الدميوقراطيات‬
‫الشعبية»‪ .‬وقد كانت اإلصالحات األكثر إحلاحا يف ميدان الزراعة‪ ،‬حيث كان‬
‫إنتاج املواد الغذائية على أساس الفرد عند وفاة ستالني أدىن بعض األحيان مما كان‬
‫عليه عام ‪ ،170,‬وأدىن فيما خيص اإلنتاج احليواين‪ ،‬مما كان عليه يف عهد‬
‫القياصرة‪ .‬استهدفت تدابري متتالية إثارة اهتمام الفالحني‪ ،‬وعقلنة استخدام‬
‫اآلالت الزراعية (اليت بيعت للكوخلوزات)‪ ،‬وإقامة مزارع دولة عمالقة على‬
‫«األراضي البكر» يف كازاخستان‪ ،‬واملضاعفة الكثيفة للتثمريات يف الزراعة‪.‬‬
‫ّأما اإلصالحات على صعيد الصناعة فكانت أكثر بطءا وترددا‪ ،‬فالضرورة‬
‫املوضوعية لتلك اإلصالحات جنمت عن أزمة منو االقتصاد السوفيايت وعن‬
‫اخنفاض يف نسبة النمو السنوية لإلنتاج الصناعي‪ ،‬وهي تتوافق مع نفاذ احلوافز‬

‫‪128‬‬
‫الستالينية‬

‫اليت مسحت بالتسيري كيفما أتفق لعملية التصنيع الواسع‪ ،‬أي دون بذل جهد‬
‫لتوفري أقصى ما ميكن من نفقات اليد العاملة‪ ،‬واملواد األولية واألراضي‪ .‬لقد أدى‬
‫استنفاد االحتياطي لضرورة اعتماد حساب أكثر دقة‪ ،‬وخيار أكثر عقالنية بني‬
‫خمتلف مشاريع التثمريات‪ .‬إن ازدهار االقتصاد ومضاعفة املشاريع وموارها هددا‬
‫بزيادة التبذير إىل احلد األقصى ما مل يتم اعتماد طرائق إدارة وختطيط أكثر‬
‫عقالنية‪.‬‬
‫إن ضغط اجلماهري الكادحة اليت أهنكتها عقود من التضحيات والتوترات‬
‫وترغب يف حتسني استهالكها وتنويعه‪ ،‬باإلضافة إىل ضرورة االقرتاب بالقرارات ‪-‬‬
‫على مستوى الصناعة اخلفيفة ‪ -‬من تلك الرغبات االستهالكية‪ ،‬قد فعال فعلهما‬
‫يف االجتاه ذاته‪ .‬وقد شجع عنصر آخر أيضا السعي وراء االصالحات‪ ،‬ونقصد‬
‫بذلك التأخر التكنولوجي املتناهي بالنسبة للثورة التكنولوجية الثالثة لالقتصاد‬
‫الرأمسايل‪ ،‬وهو تأخر ناجم عن نظام حوافز مادية بالنسبة للبريوقراطية يثبط اهلمم‬
‫إزاء االختبار والتجديد على صعيد التكنولوجيا‪ ،‬لذا مت تعديل شكل تلك احلوافز‬
‫ُمذ ذاك‪ .‬لقد جرى االعتقاد باحلؤول دون تبذير املواد األولية وقوة العمل‬
‫وبتشجيع استخدام للتجهيز أكثر عقالنية‪ ،‬عن طريق ربط العالوات املقدمة‬
‫للمديرين بـ«الربح» (الفرق بني سعر الكلفة وسعر املبيع) املفرتض أنه «يؤلف»‬
‫النتيجة اإلمجالية النهائية للمشروع‪ ،‬بدل ربطها باإلنتاج اخلام املعرب عنه‬
‫مبصطلحات مادية‪ .‬كانت النتائج متواضعة‪ ،‬لكن إجيابية يف الصناعة اخلفيفة‪ ،‬إالّ‬
‫أهنا مل تعدل أبدا يف طبيعة النظام اهلجينة‪ ،‬ألن أسعار املبيع ظلت حتددها‬
‫سلطات اخلطة املركزية‪.‬‬
‫إن أمهية تلك اإلصالحات مجيعا حمدودة‪ ،‬بقدر ما ال حتل املشكلة األساسية‪،‬‬
‫فما من «آلية اقتصادية»‪ ،‬خارج الرقابة الدميوقراطية والعامة اليت ميارسها مجهور‬
‫املنتجني واملستهلكني‪ ،‬ميكنها أن تبلغ احلد األقصى من املردود مقابل احلد األدىن‬
‫من اجلهود‪ .‬كل إصالح مييل إىل إحالل شكل جديد من التعسفات البريوقراطية‬

‫‪129‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫والتبذيرات حمل الشكل السابق‪ ،‬وليس هناك من عقلنة إمجالية للتخطيط ممكنة يف‬
‫ظل سلطة البريوقراطية وانتفاعها املادي املعترب حمركا رئيسيا لتنفيذ اخلطة‪ .‬إن‬
‫اإلصالحات مل تعد الرأمسالية ومل تعد إدخال ربح املشاريع كدليل لقرارات التثمري‪،‬‬
‫إالّ أهنا زادت من تناقضات النظام الداخلية‪ .‬فمن جهة زادت من حدة اندفاع‬
‫جناح من البريوقراطية لصاحل استقالل أكرب ملديري املعامل‪ ،‬وألغت بعض مكاسب‬
‫الطبقة العاملة من مثل ضمان حق العمل‪ ،‬وزادت من جهة أخرى من حدة‬
‫مقاومة الشغيلة للميول إىل حتطيم تلك املكتسبات واالقتصاد املخطط‪.‬‬

‫‪ .7‬الماوية‬

‫كان انتصار الثورة الصينية الثالثة عام ‪ 1747‬أهم انتصار حققته الثورة العاملية‬
‫منذ انتصار ثورة أكتوبر االشرتاكية‪ .‬فهو كسر التطويق الرأمسايل لالحتاد السوفيايت‬
‫وحفز حفزا عظيما سريورة الثورة الدائمة يف آسيا وأفريقيا وأمريكا الالتينية‪ ،‬وعدل‬
‫موازين القوى بشكل حمسوس على املستوى العاملي على حساب اإلمربيالية‪ .‬ولقد‬
‫مت ذلك االنتصار ألن القيادة املاوية للحزب الشيوعي الصيين قطعت على مستوى‬
‫املمارسة مع اخلط الستاليين القائل بـ«كتلة الطبقات األربع» وبالثورة على مراحل‪،‬‬
‫وقادت انتفاضة زراعية واسعة واجتهت حنو تدمري اجليش والدولة الربجوازية‪ ،‬رغم‬
‫إعالناهتا املؤيدة لتحالف مع تشانغ كاي تشيك‪.‬‬
‫إالّ أن هذه الثورة الظافرة كانت منذ البدء مشوهة بريوقراطيا‪ ،‬فالقيادة املاوية‬
‫ح ّدت من نشاط الربوليتاريا املستقل‪ ،‬إذا مل متنعه منعا تاما‪ ،‬والدولة العمالية اليت‬
‫أقيمت مل يتم إرساؤها على أساس اجملالس العمالية والفالحية املنتخبة دميوقراطيا‪.‬‬
‫انتشرت أشكال إدارة وامتيازات بريوقراطية تتشبه بتلك القائمة يف روسيا‬
‫الستالينية‪ .‬وهو ما أدى إىل استياء متنام لدى اجلماهري‪ ،‬السيما اجلماهري العمالية‬
‫والشابة‪ ،‬سعى ماو إىل احتوائه عن طريق تفجري «الثورة الثقافية الربوليتارية‬
‫الكربى» بني عامي ‪ 1774‬و‪.1770‬‬

‫‪131‬‬
‫الستالينية‬

‫هذه «الثورة» دجمت أشكاال أصيلة من التعبئة والوعي املعاديني للبريوقراطية‬


‫جلماهري املدن مع حماولة ماو تطهري جهاز احلزب الشيوعي من خصومه داخل‬
‫البريوقراطية‪ .‬وعندما هددت تعبئة اجلماهري والتطور األيديولوجي األكثر فأكثر‬
‫نقدية من جانب «احلراس احلمر» باإلفالت من رقابة اجلناح املاوي‪ ،‬أوقف هذا‬
‫اجلناح «الثورة الثقافية»‪ ،‬وأعاد إىل حد بعيد وحدة البريوقراطية‪ ،‬مرجعا إىل مراكز‬
‫القيادة معظم البريوقراطيني الذين متت تنحيتهم حني بلغت تلك «الثورة» ذروهتا‪.‬‬
‫إن النزاع الصيين ‪ -‬السوفيايت الذي أثارته حماولة البريوقراطية السوفياتية فرض‬
‫رقابة صارمة على قيادة احلزب الشيوعي الصيين‪ ،‬وإلغاء املساعدة االقتصادية‬
‫والعسكرية املقدمة جلمهورية الصني الشعبية ردا على رفض ماو االحنناء أمام تلك‬
‫القرارات التعسفية‪ ،‬حتول تدرجييا من نزاع بني البريوقراطيتني إىل نزاع على مستوى‬
‫الدولة وإىل معركة تنظيمية وأيديولوجية داخل احلركة الستالينية العاملية‪ .‬لقد وجهت‬
‫النزعة القومية الضيقة للبريوقراطيتني السوفياتية والصينية ضربة قاصمة ملصاحل احلركة‬
‫العمالية واملعادية لإلمربيالية على املستوى العاملي‪ ،‬ومسحت لإلمربيالية باملناورة‬
‫الستغالل النزاع الصيين ‪ -‬السوفيايت‪.‬‬
‫متثل املاوية على املستوى األيديولوجي تيارا خاصا داخل احلركة العمالية‪،‬‬
‫العديد من وجوهه تنويع من التشويه الستاليين للماركسية ‪ -‬اللينينية‪ ،‬إالّ أنه ال‬
‫ميكن حصره بالستالينية‪ .‬ففيما الستالينية ناتج وتعبري يف الوقت ذاته عن ثورة‬
‫مضادة سياسية داخل ثورة بروليتارية ظافرة‪ ،‬فاملاوية هي يف الوقت ذاته تعبري عن‬
‫انتصار ثورة اشرتاكية وعن الطبيعة املشوهة بريوقراطيا منذ البدء لتلك الثورة‪ .‬إهنا‬
‫تدمج إذا مالمح مقاربة أكثر مرونة وأكثر انتقائية للعالقات بني األجهزة‬
‫واجلماهري‪ ،‬مع مالمح مميزة خلنق كل استقالل لنشاط اجلماهري وتنظيمها‪ ،‬السيما‬
‫اجلماهري العمالية‪ .‬وهي تتميز على وجه اخلصوص بعدم فهم الطبيعة االجتماعية‬
‫للبريوقراطية العمالية وأصول االحنطاط البريوقراطي احملتمل للثورات االشرتاكية‬
‫والدول العمالية‪ ،‬طاملا هي بذاهتا التعبري األيديولوجي عن واحد من أجنحة‬

‫‪131‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫البريوقراطية‪ .‬وهي إذ متاثل بصورة غري مسؤولة وغري علمية بني «البريوقراطية»‬
‫و«بورجوازية الدولة» يف االحتاد السوفيايت‪ ،‬تربر مسبقا كل انعطافات السياسة‬
‫اخلارجية الصينية واجملموعات املاوية‪ ،‬إىل حد وضع اإلمربيالية األمريكية واالحتاد‬
‫السوفيايت‪ ،‬واألحزاب الربجوازية واألحزاب الشيوعية‪ ،‬على قدم املساواة‪ ،‬ال بل إىل‬
‫حد اعتبار االحتاد السوفيايت واألحزاب الشيوعية «العدو الرئيسي للشعوب»‪،‬‬
‫عارضة التحالف مع القوى اإلمربيالية العظمى واألحزاب البورجوازية يف وجه‬
‫االحتاد السوفيايت واألحزاب الشيوعية‪ .‬زد على أن هذه التكتيكات تستند إىل‬
‫املوضوعة اليت تقول أن معظم البلدان الرأمسالية ليست اليوم إزاء مهمة الثورة‬
‫االشرتاكية‪ ،‬بل فقط إزاء مهمة «النضال من أجل االستقالل القومي يف مواجهة‬
‫القوى العظمى»‪.‬‬
‫إن الطابع االعتباطي هلذه النظريات مجيعا‪ ،‬اليت ليست يف هناية املطاف أكثر‬
‫من تربيرات الحقة ملناورات بيكني الديبلوماسية‪ ،‬متد جذورها يف تشويه املاركسية‬
‫املثايل واإلرادي‪ ،‬فبحجة مكافحة «النزعة االقتصادية» اليت هي املراجعة‬
‫«األخطر» للماركسية‪ ،‬يتوقف «املاويون األورثوذكسيون» عن اعتبار الطبقات‬
‫االجتماعية كحقائق موضوعية حتددها عالقات اإلنتاج اليت تعقدها يف إنتاجها‬
‫حلياهتا املادية‪ .‬جتري مماثلة الطبقات االجتماعية مع خيارات إيديولوجية‪ ،‬وال تعود‬
‫الربوليتاريا جمموع من حيصلون على أجور لقاء عملهم‪ ،‬بل أولئك الذين «يسريون‬
‫وفقا خلط ماو تسي تونغ»‪ .‬وهبذه الطريقة جتري مماثلة تيارات ذات أيديولوجية‬
‫بورجوازية أو بورجوازية صغرية داخل الطبقة العاملة مع «البورجوازية» أو‬
‫«ممثليها»‪ ،‬والنضال األيديولوجي داخل احلركة العمالية مع «الصراع الطبقي بني‬
‫الربوليتاريا والبورجوازية»‪ .‬يشكل ذلك مذ ذاك ركيزة رفض الدميوقراطية العمالية‪،‬‬
‫وتربير استخدام العنف والقمع داخل احلركة العمالية‪ ،‬ورفض كل الرتاث املاركسي‬
‫‪ -‬اللينيين للنضال من أجل اجلبهة املوحدة للمنظمات العمالية يف وجه العدو‬
‫الطبقي املشرتك‪ .‬تتم مماثلة ديكتاتورية الربوليتاريا مع «فكر ماو تسي تونغ»‪،‬‬

‫‪132‬‬
‫الستالينية‬

‫وميارسها «حزب ماو تسي تونغ»‪ .‬هكذا تغلق احللقة‪ ،‬وبعد الدخول يف حرب‬
‫ضد سلطة البريوقراطية يف االحتاد السوفيايت‪ ،‬تنتهي القيادة املاوية إىل تنصيب نظام‬
‫قيادة بريوقراطية شبيهة جدا بتلك املوجودة يف االحتاد السوفيايت‪ ،‬حىت ولو‬
‫أحاطت هبا هبارج «دميوقراطية مباشرة» و«مشاركة» مجاهريية باختاذ القرارات‪ .‬وال‬
‫يقل رفض ماو عن رفض ستالني أو خروتشيف أو برجينيف للنظرية اللينينية حول‬
‫ديكتاتورية الربوليتاريا كديكتاتورية مرتكزة إىل ممارسة السلطة من جانب جمالس‬
‫العمال والفالحني املنتخبة انتخابا حرا ودميوقراطيا‪.‬‬

‫المراجع‪:‬‬
‫‪ ‬أرنست ماندل‪ ،‬حل البيروقراطية‪.‬‬
‫‪ ‬ل‪ .‬تروتسكي‪ ،‬دروس أكتوبر‪.‬‬
‫‪ ‬ل‪ .‬تروتسكي‪ ،‬المجرى الجديد‪.‬‬
‫‪ ‬ل‪ .‬تروتسكي‪ ،‬الثورة المغدورة‪.‬‬
‫‪ ‬م‪ .‬ليفن‪ ،‬معركة لينين األخيرة‪.‬‬
‫‪ ‬موضوعات املؤمتر الرابع واخلامس لألممية الرابعة‪ :‬صعود الستالينية وانحدارها‬
‫‪ -‬انحدار الستالينية وسقوطها‪.‬‬
‫‪ ‬مسيزدات أ (منشورات سوي)‪.‬‬
‫‪ ‬بولونيا ‪ -‬هنغاريا ‪( 1756‬منشورات ‪ F.D.I‬باريس)‪.‬‬

‫‪133‬‬
‫(‪)13‬‬
‫من النضاالت الجارية التي تخوضها الجماهير‬
‫إلى الثورة االشتراكية العالمية‬
‫منذ احلرب العاملية األوىل والشروط املادية الضرورية لقيام جمتمع اشرتاكي قيد‬
‫الوجود‪ .‬فاملنشأة الكبرية أصبحت قاعدة اإلنتاج‪ ،‬والتقسيم العاملي للعمل بلغ‬
‫مستوى عاليا‪ ،‬وحتقق التداخل بني البشر مجيعا ‪« -‬التشريك املوضوعي للعمل»‬
‫‪ -‬إىل حد بعيد‪ .‬مذ ذاك أصبح ممكنا من الناحية املوضوعية استبدال نظام امللكية‬
‫اخلاصة واملنافسة واقتصاد السوق بنظام قائم على التشارك بني مجيع املنتجني‬
‫وختطيط االقتصاد بغية حتقيق أغراض خمتارة حبرية‪.‬‬

‫‪ .1‬شروط انتصار الثورة االشتراكية‬

‫إالّ أن الثورة االشرتاكية‪ ،‬على نقيض كل الثورات االجتماعية املاضية‪ ،‬تتطلب‬


‫جهدا واعيا وإراديا من جانب الطبقة الثورية‪ ،‬أي من جانب الربوليتاريا‪ .‬ففي حني‬
‫أحلت ثورات املاضي نظام استغالل اقتصادي للمنتجني حمل نظام آخر‪ ،‬واكتفت‬
‫هكذا بإزالة احلواجز من على طريق اشتغال هذه اآللية االقتصادية أو تلك‪ ،‬تسعى‬
‫الثورة االشرتاكية إلعادة تنظيم االقتصاد واجملتمع وفقا ملشروع متصور مسبقا‪،‬‬
‫يكمن يف التنظيم الواعي لالقتصاد هبدف كفاية كل احلاجات العقالنية لدى‬
‫البشر وضمان التفتح الكامل لشخصيتهم‪.‬‬
‫مشروع من هذا النوع ال يتحقق آليا‪ ،‬إنه يتطلب من الطبقة الثورية وعيا كامال‬
‫ألهدافها ولوسائل بلوغ تلك األهداف‪ ،‬السيما أن على طبقة الشغيلة خالل‬
‫نضاهلا من أجل الثورة االشرتاكية أن تواجه عدوا طبقيا‪ ،‬منظما تنظيما عاليا‪ ،‬ميلك‬

‫‪134‬‬
‫من النضاالت اجلارية اليت ختوضها اجلماهري إىل الثورة االشرتاكية العاملية‬

‫أكثر فأكثر شبكة عاملية من القوى العسكرية واملالية والسياسية والتجارية‬


‫واأليديولوجية بغية تأبيد سيطرته‪.‬‬
‫يتطلب انتصار الثورة االشرتاكية إذا نوعني من الشروط ليضمن النجاح‪:‬‬
‫شروطا موضوعية ‪ -‬كما يقال ‪ -‬أي مستقلة عن مستوى وعي الربوليتاريني‬
‫والثوريني‪ ،‬ومن بينها نضج الشروط املادية واالجتماعية (القاعدة االقتصادية وقوة‬
‫الربوليتاريا العددية) ‪ -‬احلاصلة على املستوى العاملي بصورة مستمرة منذ ما قبل‬
‫عام ‪ .1714‬ينبغي أن نضيف كذلك شروطا سياسية‪ ،‬من مثل عجز الطبقة‬
‫البورجوازية عن احلكم وانقساماهتا الداخلية املتعاظمة‪ ،‬ورفض الطبقات املنتجة‬
‫لسلطة البورجوازيني ومتردها املتعاظم على تلك السلطة‪ .‬هذه الشروط السياسية‬
‫املوضوعية الضرورية النتصار ثورة اجتماعية يتم اكتساهبا دوريا يف العديد من‬
‫البلدان‪ ،‬إبان أزمات سابقة للثورة وأزمات ثورية عميقة تنفجر فيها‪.‬‬
‫وشروطا ذاتية‪ ،‬أي متعلقة مبستوى وعي الطبقة الربوليتاريا وبدرجة نضج قيادهتا‬
‫الثورية أو حزهبا الثوري وتأثري تلك القيادة وقوهتا‪.‬‬
‫ميكن أن نستخلص أن الثورات االشرتاكية الظافرة منذ احلرب العاملية األوىل‬
‫كانت ممكنة موضوعيا يف العديد من املرات ويف العديد من البلدان‪ ،‬ونكتفي يف‬
‫هذا اجملال باإلشارة إىل البلدان املتقدمة صناعيا‪ ،‬من مثل أملانيا بني ‪171,‬‬
‫و‪ ،1702‬وعام ‪ ،170,‬ويف أعوام ‪ ،17,0-17,2‬وإيطاليا بني ‪1717‬‬
‫و‪ 1702‬وبني ‪ 1747‬و‪ ،174,‬وبني ‪ 1777‬و‪ ،1792‬وفرنسا عام ‪،17,7‬‬
‫وبني ‪ 1744‬و‪ ،1749‬ويف مايو ‪ ،177,‬وبريطانيا بني ‪ 1717‬و‪ ،1702‬وعام‬
‫‪ ،1707‬وعام ‪ ،1740‬وإسبانيا بني ‪ 17,7‬و‪ 17,9‬اخل‪ .‬اخل‪.‬‬
‫باملقابل‪ ،‬مل تكن الشروط الذاتية ناضجة النتصار الثورة‪ ،‬فغياب االنتصارات‬
‫الثورية يف الغرب مرهتن إىل اآلن قبل كل شيء بـ«أزمة العامل الذايت للتاريخ»‪،‬‬
‫أزمة الوعي الطبقي والقيادة الثورية للربوليتاريا‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫‪ .2‬بناء األممية الرابعة‬

‫انطالقا من هذا التحليل املرتكز إىل اإلفالس التارخيي لإلصالحية والستالينية‬


‫يف قيادة الربوليتاريا إىل النصر‪ ،‬اضطلع تروتسكي وقبضة من الشيوعيني املعارضني‬
‫منذ عام ‪ 17,,‬مبهمة بناء قيادة ثورية جديدة للربوليتاريا العاملية‪ ،‬وقد أسسوا عام‬
‫‪ 17,,‬األممية الرابعة هلذه الغاية‪.‬‬
‫طبعا مل تصبح حبد ذاهتا األممية الثورية اجلماهريية اليت ستكون وحدها قادرة‬
‫على العمل كهيئة أركان عامة للثورة العاملية‪ ،‬إالّ أهنا تنقل برنامج هكذا أممية ثورية‬
‫مجاهريية وتتقنه وحتسنه‪ ،‬بفضل نشاطاهتا الدائبة يف قلب الصراع الطبقي يف‬
‫مخسني بلدا‪ .‬وهي تكون كادرات ثورية على قاعدة هذا الربنامج وعرب نشاطاهتا‬
‫املتعددة‪ ،‬وحتفز هكذا عن سابق تصور وتصميم توحيد جتارب الثوريني ووعيهم‬
‫على املستوى العاملي‪ ،‬عن طريق تعليمهم العمل داخل تنظيم واحد بدل أن‬
‫ينتظروا عبثا توحيدا من هذا النوع من النتائج العفوية النطالق القوى الثورية يف‬
‫خمتلف بلدان العامل وأجزائه‪ ،‬تلك القوى اليت تتطور منفصلة بعضها عن البعض‬
‫اآلخر‪.‬‬
‫ال تكتفي األممية الرابعة بأن تنتظر بصورة سلبية «ذلك املساء العظيم» فيما‬
‫تنجز إبان ذلك برناجمها‪ .‬وهي ال تتقوقع يف الدعاية اجملردة هلذا الربنامج‪ .‬كما أهنا‬
‫ال تبذر كذلك قواها يف نشاطية وحتريض عقيمني‪ ،‬حمصورين يف دعم النضاالت‬
‫املباشرة للجماهري املستغلة‪.‬‬
‫إن بناء أحزاب ثورية جديدة وأممية ثورية جديدة ينطوي يف الوقت ذاته على‬
‫الدفاع احلازم عن الربنامج املاركسي الثوري الذي جيمع دروس كل التجارب املاضية‬
‫للصراع الطبقي‪ ،‬وعلى الدعاية والتحريض من أجل برنامج عمل هو جزء من‬
‫الربنامج املاركسي ‪ -‬الثوري العام‪ ،‬دعاه تروتسكي برنامج املطالب االنتقالية وهو‬
‫يستوحي تعابري استخدمها قادة األممية الشيوعية خالل سنواهتا األوىل‪ ،‬وعلى‬

‫‪136‬‬
‫من النضاالت اجلارية اليت ختوضها اجلماهري إىل الثورة االشرتاكية العاملية‬

‫التدخل املتواصل يف نضاالت اجلماهري بغية الوصول هبا إىل أن تتبىن عمليا برنامج‬
‫العمل هذا‪ ،‬وبغية تزويد تلك النضاالت بأشكال تنظيم تؤول إىل خلق جمالس‬
‫عمالية‪.‬‬
‫إن ضرورة قيام أممية ثورية‪ ،‬هي أكثر من مجع أحزاب ثورية قومية‪ ،‬ضرورة‬
‫ترتكز إىل قواعد مادية صلبة‪ .‬فالعصر اإلمربيايل هو عصر االقتصاد والسياسة‬
‫واحلروب العاملية‪ ،‬واإلمربيالية هي نظام عاملي متمفصل‪ ،‬وقوى اإلنتاج أصبحت‬
‫دولية منذ زمن بعيد‪ّ .‬أما رأس املال فينتظم يوما بعد يوم على املستوى الدويل يف‬
‫تروستاته الكبرية متعددة اجلنسيات‪ ،‬والدولة القومية صارت منذ زمن بعيد عائقا‬
‫دون التطورات الالحقة لإلنتاج واحلضارة‪ .‬من هنا ال ميكن حل مشكالت‬
‫اإلنسانية إالّ على املستوى العاملي‪ ،‬تلك املشكالت اليت خنتصرها باألمور التالية‪:‬‬
‫احلؤول دون احلرب النووية العاملية‪ ،‬سد جوع نصف الكرة اجلنويب‪ ،‬ختطيط النمو‬
‫االقتصادي‪ ،‬التوزيع العادل للموارد واملداخيل بني الشعوب مجعاء‪ ،‬محاية البيئة‪،‬‬
‫وضع العلم يف خدمة اإلنسان‪.‬‬
‫إنه ملن قبيل الطوباوية أن نريد ضمن هذه الشروط التقدم حنو االشرتاكية‬
‫فرادى‪ ،‬أن نريد اإلجهاز على خصم منظم عامليا فيما حنتقر كل تنسيق أممي‬
‫للمشروع الثوري‪ ،‬ال بل أن نريد مواجهة تروستات متعددة اجلنسيات عرب‬
‫نضاالت عمالية مقصورة على بلد واحد‪.‬‬
‫أضف إىل ذلك أن للنضاالت الثورية اجتاها موضوعيا وعفويا لالمتداد على‬
‫املستوى الدويل‪ ،‬ال فقط ردا على تدخالت مضادة للثورة من جانب العدو‬
‫الطبقي‪ ،‬بل كذلك‪ ،‬على وجه اخلصوص‪ ،‬بفعل احلافز الذي متارسه على شغيلة‬
‫العديد من البلدان‪ .‬إن التأخري املتواصل خللق منظمة أممية حقيقية للثوريني ال يعين‬
‫التأخر فقط بالنسبة للضرورات املوضوعية لعصرنا بل كذلك بالنسبة لالجتاهات‬
‫العفوية للقطاعات اجلماهريية األكثر تقدما‪.‬‬

‫‪137‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫يف إطار الصعود اجلديد للنضاالت العمالية ولتجذر الشبيبة عرب العامل منذ‬
‫هناية الستينات‪ ،‬الذي يرمز إليه مايو ‪ 177,‬يف فرنسا‪ ،‬متكنت األممية الرابعة من‬
‫مضاعفة قواها بشكل حمسوس‪ .‬إهنا اآلن موجودة يف ‪ 70‬بلدا‪ ،‬ويف كل القارات‪.‬‬
‫عشرون من منظماهتا شهدت تطورا ذا شأن إذ حققت انغراسا حقيقيا وسط‬
‫اجلماهري‪ ،‬وشاركت أحيانا من مستوى القيادة‪ ،‬يف نضاالت طبقية مهمة‪ .‬نشري يف‬
‫هذا اجملال إىل دور الرتوتسكيني الفرنسيني يف مايو ‪ 177,‬ويف تشكيل طليعة‬
‫عمالية ونقابية جديدة مذ ذاك‪ .‬وإىل دور الرتوتسكيني األمريكيني يف التعبئة ضد‬
‫احلرب القذرة يف فيتنام ! وإىل دور الرتوتسكيني اإلسبانيني يف تكوين طليعة ثورية‬
‫جديدة ! وإىل دور الرتوتسكيني األرجنتينيني واملكسيكيني والكولومبيني يف خلق‬
‫تيار طبقي داخل احلركة اجلماهريية يف بلداهنم ! وإىل دور الرتوتسكيني السيالنيني‬
‫يف إعادة إطالق اليسار العمايل بعد احندار القيادة القدمية للحركة العمالية إىل‬
‫حضيض التعاون الطبقي‪ .‬تلك األدوار تشكل بعض النتائج الرئيسية اليت مت‬
‫التوصل إليها ما بني ‪ 177,‬و‪.1799‬‬

‫‪ .3‬المطالب المباشرة والمطالب االنتقالية‬

‫إن االستغالل واالضطهاد اإلمربياليني‪ ،‬يف عصرنا‪ ،‬يدفعان اجلماهري يف كل مرة‬


‫من جديد على طريق معارك كربى‪ .‬إالّ أن اجلماهري‪ ،‬مرتوكة لذاهتا‪ ،‬ال تصوغ أكثر‬
‫من أهداف مباشرة لتلك النضاالت‪ ،‬من مثل الدفاع عن األجور الفعلية أو زيادهتا‬
‫والدفاع عن بعض احلريات الدميوقراطية األساسية أو انتزاعها‪ ،‬وإسقاط حكومات‬
‫قمعية بوجه خاص‪ ،‬اخل‪.‬‬
‫ميكن للربجوازية أن تقدم تنازالت للجماهري املناضلة تالفيا لتطور معاركها إىل‬
‫درجة هتديد جممل االستغالل الرأمسايل‪ .‬وهي تسمح لنفسها بذلك‪ ،‬السيما أهنا‬
‫متتلك العديد من األدوات الصاحلة لالستعمال من أجل إفراغ تلك التنازالت من‬
‫مضامنها‪ ،‬واستعادة يد ما تقدمه اليد األخرى‪ .‬فإذا كانت تقبل بزيادات يف‬

‫‪138‬‬
‫من النضاالت اجلارية اليت ختوضها اجلماهري إىل الثورة االشرتاكية العاملية‬

‫األجور‪ ،‬ميكن لرفع األسعار أن يبقي األرباح عند مستواها األصلي‪ ،‬وإذا مت احلد‬
‫من دوام العمل ميكن تسريع وثريته‪ ،‬وإذا انتزع الشغيلة تدابري ضمان اجتماعي‬
‫ميكن مضاعفة الضرائب اليت تصيب مداخيلهم‪ ،‬حبيث يدفعون بذاهتم ما يبدو أن‬
‫الدولة متنحهم إياه‪ ،‬اخل‪.‬‬
‫من أجل اخلروج من هذه الدائرة املفرغة‪ ،‬ينبغي دفع اجلماهري لتضع ألنفسها‬
‫أهدافا لنضاالهتا اجلارية تتمثل مبطالب انتقالية يتعارض حتقيقها مع املسار الطبيعي‬
‫لالقتصاد الرأمسايل والدولة الربجوازية‪ ،‬وينبغي أن تصاغ هذه املطالب حبيث‬
‫تفهمها اجلماهري‪ ،‬وإالّ بقيت حربا على ورق‪ .‬يلزم أن تكون يف الوقت ذاته قادرة‬
‫على أن تثري مبضموهنا‪ ،‬وباتساع النضاالت اليت تستثريها‪ ،‬رفضا إمجاليا للنظام‬
‫الرأمسايل ووالدة أجهزة من النموذج السوفيايت‪ ،‬أجهزة ازدواجية سلطة‪ .‬ليست‬
‫املطالب االنتقالية صاحلة فقط يف فرتة األزمة الثورية احلادة ‪ -‬ومن بينها مطلب‬
‫الرقابة العمالية‪ -‬بل هي تتجه على وجه التحديد حنو توليد هكذا أزمة ثورية‪ ،‬عرب‬
‫دفع الشغيلة إىل رفض النظام الرأمسايل‪ ،‬سواء على املستوى العملي أو على‬
‫مستوى وعيهم‪.‬‬

‫‪ .4‬القطاعات الثالث للثورة العالمية في أيامنا‬

‫بفعل تأخر الثورة االشرتاكية يف البلدان الصناعية املتقدمة جتد الربوليتاريا العاملية‬
‫نفسها يف مواجهة مهام خمتلفة يف أجزاء خمتلفة من العامل‪.‬‬
‫ففي البلدان املستعمرة وشبه املستعمرة‪ ،‬ال ميكن للشغيلة والفالحني الفقراء أن‬
‫ينتظروا هرع عمال البلدان املصنعة ملساعدهتم‪ .‬إن اندالع نضاالت مجاهريية‬
‫وحركات ثورية واسعة أمر حمتوم بفعل العبء الثقيل من القمع والبؤس الذي فرضته‬
‫اإلمربيالية على اجلماهري العمالية والفالحية يف تلك البلدان‪ .‬على الشغيلة أن‬
‫يدعموا كل حركة مجاهريية معادية لإلمربيالية‪ ،‬سواء كانت موجهة ضد السيطرة‬
‫األجنبية أو ضد االستغالل الذي متارسه الرتوستات األجنبية‪ ،‬وسواء استهدفت‬

‫‪139‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫الثورة الفالحية أو تصفية ديكتاتوريات حملية دموية‪ .‬إن الربوليتاريا اليت اكتسبت‬
‫القيادة السياسية لتلك احلركات اجلماهريية‪ ،‬بفضل حزمها واجتهادها يف تبين‬
‫املطالب التقدمية لكل طبقات األمة وشرائحها املستغلة‪ ،‬إمنا تقاتل ألجل استالم‬
‫السلطة‪ ،‬ولتطيح يف الوقت ذاته مبلكية الربجوازية الصناعية وسلطتها‪.‬‬
‫ويف البلدان العمالية املتبقرطة‪ ،‬تنتفض اجلماهري من أجل انتزاع حريتها‬
‫الدميوقراطية‪ ،‬وذلك يف وجه احتكار ممارسة السلطة من جانب البريوقراطية‪ ،‬وضد‬
‫انبعاث االضطهاد القومي‪ ،‬وضد الفوضى والتبذير واالمتيازات املادية املالزمة‬
‫للتسيري البريوقراطي لالقتصاد‪ .‬إهنا تطالب بتسيري الدولة العمالية بواسطة الشغيلة‬
‫أنفسهم‪ ،‬املنظمني يف جمالسهم (السوفييتات)‪ ،‬وبتسيري االقتصاد املخطط عن‬
‫طريق نظام جمالس شغيلة ممركز دميوقراطيا‪.‬‬
‫أما يف البلدان اإلمربيالية فتتحول حركات اجلماهري ضد االستغالل الرأمسايل‬
‫والتضييق على احلريات الدميوقراطية أو إلغائها‪ ،‬بفضل الربامج االنتقايل وبناء قيادة‬
‫ثورية جديدة‪ ،‬إىل نضاالت إلطاحة الدولة الربجوازية ومصادرة رأس املال‪ ،‬فإىل‬
‫ثورة اشرتاكية ظافرة‪.‬‬
‫إن املهام املختلفة اليت تواجه الربوليتاريا والثوريني يف أجزاء خمتلفة من العامل ‪-‬‬
‫أي مهام الثورة الدائمة يف البلدان املتخلفة ومهام الثورة السياسية املناهضة‬
‫للبريوقراطية يف البلدان العمالية املتبقرطة‪ ،‬ومهام الثورة الربوليتارية يف البلدان‬
‫اإلمربيالية ‪ -‬إمنا تعكس التطور الال متساوي واملركب للثورة العاملية‪ .‬فهذه األخرية‬
‫ال تنفجر بصورة متشاهبة يف كل البلدان‪ ،‬إذ ال تعيش كل البلدان ضمن شروط‬
‫اجتماعية واقتصادية وسياسية متماثلة‪.‬‬
‫تكمن املهمة العليا للماركسيني الثوريني يف التوحيد التدرجيي لتلك احلركات‬
‫الثورة الثالث يف السريورة ذاهتا للثورة االشرتاكية العاملية‪ .‬هذا التوحيد ممكن‬
‫موضوعيا بفضل كون طبقة اجتماعية واحدة‪ ،‬هي الربوليتاريا‪ ،‬قادرة لوحدها على‬
‫أن تقود إىل الشاطئ األمني املهام التارخيية املتمايزة للثورة يف كل من القطاعات‬

‫‪141‬‬
‫من النضاالت اجلارية اليت ختوضها اجلماهري إىل الثورة االشرتاكية العاملية‬

‫الثالثة اليت أشرنا إليها‪ ،‬وسيصبح هذا التوحيد حقيقيا بفضل الرتبية والسياسة‬
‫األمميتني للطليعة الثورية اليت سوف تستخلص من النضاالت اجلارية يوما بعد يوم‬
‫جتارب تضامن أممي بني الشغيلة واملضطهدين يف كل البلدان‪ ،‬وتقاتل بصورة‬
‫منهجية كره األجنيب والعنصرية وخمتلف املسبقات القومية‪ ،‬من أجل إدخال هذا‬
‫الوعي األممي إىل أعماق اجلماهري الواسعة‪.‬‬

‫‪ .5‬الديموقراطية العمالية والتنظيم الذاتي للجماهير والثورة االشتراكية‬

‫إن أحد الوجوه الرئيسية لعمل اجلماهري املباشرة‪ ،‬حلركات التظاهر أو اإلضراب‬
‫الضخمة اليت يقومون هبا‪ ،‬إمنا هو رفع مستوى وعيهم عن طريق تزايد ثقتهم‬
‫بأنفسهم‪.‬‬
‫يعتاد الشغيلة والفالحون الفقراء وصغار احلرفيني والنساء والشباب واألقليات‬
‫القومية والعرقية على التعرض خالل احلياة اليومية لالنسحاق واالستغالل‬
‫واالضطهاد من جانب خليط من املالكني واألقوياء‪ .‬لديهم انطباع أن التمرد‬
‫مستحيل وغري جمد‪ ،‬وأن قوة خصومهم كبرية لدرجة ينتهي معها كل شيء إىل‬
‫«العودة للنظام» على الدوام‪ .‬إالّ أن هذا اخلوف‪ ،‬هذا اإلحباط‪ ،‬هذا الشعور‬
‫بالدونية والعجز‪ ،‬يذوب فجأة يف مصهر التعبئة واملعارك اجلماهريية الكربى‪.‬‬
‫فاجلماهري تكتسب إذ ذاك وعيا عميقا لسلطتها العظيمة الكامنة‪ ،‬منذ تتحرك‬
‫جمتمعة‪ ،‬بصورة مجاعية ومتضامنة‪ ،‬منذ تتنظم وتنظم معركتها بفعالية‪.‬‬
‫لذا يعلق املاركسيون الثوريون أمهية قصوى على كل ما يضاعف هذا الشعور‬
‫بالثقة بالذات لدى اجلماهري‪ ،‬على كل ما حيررهم من السلوك املطواع واخلاضع‬
‫الذي تشربوه خالل اآلالف من سنوات سيطرة الطبقات املالكة‪« .‬لسنا شيئا‪،‬‬
‫فلنكن كل شيء»‪ :‬إن هذه الكلمات من املقطع األول يف نشيدنا‪« ،‬نشيد‬
‫األممية»‪ ،‬تلخص بصورة مدهشة تلك الثورة النفسية اليت ال بد منها ألجل انتصار‬
‫ثورة اشرتاكية‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫على طريق التنظيم الذايت للجماهري‪ ،‬تلعب دورا حيويا مجعيات دميوقراطية‬
‫للمضربني تنتخب جلان إضراب‪ ،‬وكل آلية مشاهبة داخل أشكال أخرى للعمل‬
‫اجلماهريي‪ .‬يف تلك اجلمعيات تتمرن اجلماهري على حكم ذاهتا بذاهتا‪ ،‬وبتعلمها‬
‫قيادة نضاالهتا اخلاصة هبا تتعلم كيف تدير الدولة واالقتصاد غدا‪ .‬إن أشكال‬
‫التنظيم اليت تعتاد هكذا عليها هي األشكال اجلنينية للمجالس العمالية القادمة‪،‬‬
‫للسوفييتات القادمة‪ ،‬هي أشكال التنظيم األساسية للدولة العمالية اليت ينبغي‬
‫بناؤها‪.‬‬
‫إن وحدة العمل اليت ال بد منها من أجل مجع قوى الشغيلة املبعثرة‪ ،‬الروح‬
‫الوحدوية العظيمة اليت جتمع عرب حاالت التعبئة واألعمال اجلماهريية الكربى‬
‫ماليني األشخاص الذين مل يعتادوا على العمل معا‪ ،‬ال ميكن حتقيقها من دون‬
‫ممارسة أوسع قدر من الدميوقراطية العمالية‪ .‬ينبغي للجنة إضراب منتخبة دميوقراطيا‬
‫أن تكون‪ ،‬من حيث حتديدها‪ ،‬منبثقة من كل املضربني يف املنشأة‪ ،‬أو يف الفرع‬
‫الصناعي‪ ،‬أو املدينة‪ ،‬أو املنطقة‪ ،‬أو البلد الذي يشهد حالة اإلضراب‪ .‬إن استبعاد‬
‫ممثلي هذا القطاع أو ذاك من الشغيلة املعنيني‪ ،‬حبجة أن آراءهم السياسية أو‬
‫الفلسفية ال تناسب قادة اإلضراب املؤقتني‪ ،‬هو كسر لوحدة اإلضراب‪ ،‬وبالتايل‬
‫كسر لإلضراب‪.‬‬
‫يطبق املبدأ ذاته على كل أشكال العمل اجلماهريي الواسع وعلى أشكال‬
‫التنظيم التمثيلية اليت يتخذها‪ .‬إن الوحدة اليت ال غىن عنها من أجل حتقيق النصر‬
‫تفرتض الدميوقراطية العمالية مسبقا‪ ،‬أي مبدأ عدم استبعاد أي تيار من املقاتلني‪.‬‬
‫فللكل احلق يف الكالم والتمثيل‪ ،‬وللكل احلق يف الدفاع عن اقرتاحاهتم اخلاصة هبم‬
‫بغية تتويج النضال بالنصر‪.‬‬
‫إذا مت احرتام تلك الدميوقراطية فسوف حترتم األقليات بدورها قرارات‬
‫األكثريات ألهنا حتتفظ بإمكانية تعديلها على ضوء التجربة‪ .‬وهبذا التأكيد‬
‫للدميوقراطية العمالية تبشر أشكال التنظيم الدميوقراطية لنضاالت الشغيلة بإحدى‬

‫‪142‬‬
‫من النضاالت اجلارية اليت ختوضها اجلماهري إىل الثورة االشرتاكية العاملية‬

‫خصائص الدولة العمالية القادمة‪ ،‬املتمثلة بتوسيع احلريات الدميوقراطية ال احلد‬


‫منها‪.‬‬

‫مراجع‪:‬‬
‫‪ ‬ليون تروتسكي‪ ،‬احتضار الرأسمالية ومهام األممية الرابعة (الربنامج‬
‫االنتقايل)‪.‬‬
‫‪ ‬مؤمتر إعادة توحيد (املؤمتر العاملي السابع)‪.‬‬
‫‪ ‬األممية الرابعة‪ :‬الديالكتيك الحالي للثورة العمالية‪.‬‬
‫‪ ‬أرنست ماندل‪ ،‬الرقابة العمالية‪.‬‬
‫‪ ‬أرنست ماندل‪ ،‬الرقابة العمالية‪ ،‬المجالس العمالية‪ ،‬التسيير الذاتي‬
‫(نصوص خمتارة)‪.‬‬
‫‪ ‬العصبة الشيوعية‪ :‬مشروع برنامج‪.‬‬
‫‪ ‬وثائق المؤتمرين العالميين التاسع والعاشر لألممية الرابعة‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫(‪)14‬‬
‫كسب الثوريين للجماهير‬
‫‪ .1‬التمايز السياسي داخل البروليتاريا‬

‫لقد رأينا (الفصل ‪ ،7‬النقطة ‪ )0‬كيف تولد احلاجة إىل حزب طليعي ثوري‬
‫من تقطع العمل املباشر ألوسع اجلماهري‪ ،‬كما من الطابع العلمي لالسرتاتيجية‬
‫الضرورية لقلب سلطة الربجوازية‪ .‬وعلينا أن نضيف اآلن عنصرا إضافيا هلذا‬
‫التحليل‪ ،‬هو التمايز السياسي داخل الربوليتاريا‪.‬‬
‫تظهر احلركة العمالية يف كل بلدان العامل كمجموعة تيارات إيديولوجية خمتلفة‪.‬‬
‫وميكن أن نشري يف هذا اجملال إىل التيارات التالية‪ :‬التيار االشرتاكي ‪-‬الدميوقراطي‪،‬‬
‫وهو إصالحي تقليدي ! تيار األحزاب الشيوعية املوالية ملوسكو‪ ،‬وهي من أصل‬
‫ستاليين وذات توجه إصالحي جديد متنام‪ ،‬التيار الفوضوي أو النقايب الثوري !‬
‫التيار املاوي ! التيار املاركسي الثوري (األممية الرابعة)‪ .‬تضاف إىل ذلك يف العديد‬
‫من البلدان تشكيالت وسيطة (وسطية) بني هذه التيارات األيديولوجية الرئيسية‪.‬‬
‫هلذا التمايز األيديولوجي داخل احلركة العمالية جذور موضوعية عديدة يف واقع‬
‫الربوليتاريا ويف تارخيها‪.‬‬
‫ليست الطبقة العاملة متجانسة كليا من زاوية ظروفها اإلجتماعية‪ ،‬فحسبما‬
‫يكون الشغيلة يعملون يف الصناعة الكربى أو الصغرية‪ ،‬استقروا يف املدينة منذ‬
‫أجيال عديدة أو فقط منذ زمن قريب‪ ،‬تلقوا تدريبا عاليا أو متوسطا‪ ،‬يؤدي ذلك‬
‫هبم لفهم أسرع أو أبطأ لصحة بعض األفكار األساسية لالشرتاكية العلمية‪.‬‬
‫فالعمال املتخصصون يفهمون ضرورة تنظيم نقايب بسرعة أكرب مما يفعل عمال‬
‫عاطلون عن العمل خالل نصف حياهتم‪ .‬إالّ أن تنظيمهم النقايب مهدد أيضا‬

‫‪144‬‬
‫كسب الثوريني للجماهري‬

‫بالوقوع بسرعة أكرب ضحية النزعة احلرفية الضيقة‪ ،‬اليت ختضع املصاحل العامة‬
‫للطبقة العاملة إىل املصاحل اخلاصة ألريستوقراطية عمالية تدافع على وجه اخلصوص‬
‫عن املكاسب املستحصل عليها فيما حتاول منع الوصول إىل مواقعها املهنية‪ ،‬إنه‬
‫ألسهل لعمال املدن الكربى والصناعات الكبرية أن يعوا القوة الكامنة العظيمة‬
‫جلمهور الربوليتاريا الواسع وأن يؤمنوا بإمكانية نضال ظافر للربوليتاريا حنو انتزاع‬
‫السلطة واملصانع من الربجوازية‪ ،‬بينما األمر أقل سهولة بالنسبة لعمال يشتغلون يف‬
‫مؤسسات صغرية ويعيشون يف مدن صغرية‪.‬‬
‫يضاف إىل انعدام جتانس الطبقة العاملة تنوع التجربة النضالية وتنوع طاقات‬
‫الشغيلة الفردية‪ .‬فهذا الفريق العمايل خاض جتربة عشرة إضرابات (معظمها تتوج‬
‫بالنصر) والعديد من املظاهرات العمالية‪ ،‬وهذه التجربة حتدد لديه جزئيا وعيا‬
‫خمتلفا عن وعي فريق آخر من الربوليتاريني مل خيض أكثر من جتربة إضراب واحد‬
‫(مين بالفشل) خالل عشر سنوات‪ ،‬ومل يشارك ككتلة واحدة يف نضال سياسي‪.‬‬
‫هذا العامل أو املستخدم يندفع بشكل طبيعي إىل الدراسة‪ ،‬يقرأ الكراسات‬
‫والكتب باإلضافة إىل قراءة صحيفته املفضلة‪ ،‬بينما ال يقرأ عامل آخر على‬
‫اإلطالق‪ .‬هذا ذو طبع مشاكس‪ ،‬ال بل يتمتع مبواهب قيادية‪ ،‬بينما ذاك ذو‬
‫شخصية سلبية ويفضل السكوت خالل االجتماعات‪ .‬واحد يعقد صالت‬
‫بالرفاق دون صعوبة‪ ،‬بينما اآلخر مشدود إىل حياة املنزل ويفضل االهتمام بعائلته‪.‬‬
‫كل ذلك يؤثر جزئيا يف سلوك الشغيلة وخيارهم السياسي على املستوى الفردي‪،‬‬
‫كما يؤثر يف مستوى وعيهم الطبقي عند حلظة حمددة‪.‬‬
‫ينبغي أن نأخذ بعني االعتبار أخريا التاريخ اخلاص للحركة العمالية يف كل بلد‪،‬‬
‫وتقاليدها القومية‪ .‬فالطبقة العاملة الربيطانية اليت كانت األوىل اليت تصل إىل تنظيم‬
‫نفسها تنظيما طبقيا مستقال عن طريق احلركة الشارتية مل تعرف يوما حزبا‬
‫مجاهرييا مستندا إىل برنامج أو تربية ماركسيني‪ ،‬ولو بدائيني‪ .‬إن حزهبا اجلماهريي‬
‫قائم على النقابية اجلماهريية‪ ،‬ومنبثق عنها‪ ،‬عنينا حزب العمال‪ّ .‬أما الطبقة العاملة‬

‫‪145‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫الفرنسية اليت ومستها بعمق تقاليد النصف األول من القرن ‪( 17‬البابوفية والبالنكية‬
‫والربودونية) فقد كبح اعتناقها للماركسية ضعف الصناعة الكربى النسيب وتوزعها‬
‫النسيب يف مدن املقاطعات الصغرية نسبيا‪ .‬لقد توجب انتظار ازدهار املصانع‬
‫الكربى يف ضواحي باريس وليون ومارسيليا والشمال يف العشرينات والثالتينات‬
‫من هذا القرن‪ ،‬الذي زاد حدة يف اخلمسينات والستينات ليتمكن اإلضراب‬
‫اجلماهريي من التحكم باجملرى العام للنضال الطبقي (يونيو ‪ ،17,7‬إضرابات‬
‫‪ ،174, - 1749‬مايو ‪ )177,‬وليصبح احلزب الشيوعي الفرنسي احلزب‬
‫املهيمن داخل الطبقة العاملة‪ ،‬مضفيا عليها طابعا ينتمي بوضوح إىل املاركسية‪.‬‬
‫ولقد انطبعت الطبقة العاملة واحلركة العمالية اإلسبانيتان‪ ،‬ملدة طويلة‪ ،‬بتقاليد‬
‫النقابية الثورية اليت تأثرت عميقا بالتخلف احلاد للصناعة الكربى يف شبه اجلزيرة‬
‫اإليبريية ‪ ..‬إخل‪.‬‬
‫نتج تنوع التيارات األيديولوجية للحركة العمالية عن منطقها وتارخيها اخلاصني‬
‫هبا‪ ،‬أي عن النقاشات والتعارضات النامجة عن جمرى النضال الطبقي بالذات‪.‬‬
‫فقد حدثت يف البدء القطيعة بني املاركسيني والفوضويني داخل األممية األوىل‬
‫انطالقا من اخلالف حول مسألة ضرورة االستيالء على السلطة السياسية‪ ،‬مث‬
‫القطيعة بني الثوريني واإلصالحيني داخل األممية الثانية حول مسألة املشاركة يف‬
‫حكومات بورجوازية‪ ،‬ودعم الدفاع القومي يف البلدان اإلمربيالية‪ ،‬ودعم النضال‬
‫الثوري اجلماهريي الذي يهدد استمرار االقتصاد الرأمسايل والدولة الربجوازية‬
‫املستندة إىل الدميوقراطية الربملانية‪ ،‬أو خنق ذلك النضال ! مث القطيعة بني‬
‫الستالينيني والرتوتسكيني (املاركسيني الثوريني) داخل األممية الثالثة واحلركة الشيوعية‬
‫الدولية‪ ،‬بني أنصار نظرية الثورة الدائمة وخصومها‪ ،‬وبني أنصار نظرية «الثورة على‬
‫مراحل» وخصومها‪ ،‬بني أنصار طوىب إجناز بناء االشرتاكية يف بلد واحد‬
‫وخصومه‪ ،‬وبالتايل أنصار إخضاع مصاحل الثورة العاملية للضرورات املزعومة هلذا‬
‫اإلجناز وخصومه‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫كسب الثوريني للجماهري‬

‫إالّ أن هلذا التنوع يف التيارات األيديولوجية أيضا جذورا موضوعية ومادية أشد‬
‫عمقا‪ ،‬من مثل تلك اليت قمنا إىل اآلن بتعريتها‪.‬‬

‫‪ .2‬الجبهة العمالية الموحدة ضد العدو الطبقي‬

‫قاد تنوع التيارات األيديولوجية داخل احلركة العمالية إىل تفتيت املنظمات‬
‫السياسية للطبقة العاملة‪ .‬ففي حني جند الوحدة النقابية يف العديد من البلدان‬
‫(بريطانيا‪ ،‬البلدان السكندينافية‪ ،‬أملانيا االحتادية‪ ،‬النمسا)‪ ،‬جند االنقسام الشامل‬
‫على صعيد املنظمات السياسية‪ .‬وبوصفنا ماديني‪ ،‬علينا أن نفهم أن وراء ذلك‬
‫أسبابا موضوعية‪ ،‬وليس ناجتا صدفة عن «جرائم» «االنشقاقيني» أو عن «الدور‬
‫املشؤوم» هلذا أو ذاك من األفراد‪.‬‬
‫وإذا نظرنا إىل هذا االنقسام السياسي حبد ذاته فليس شرا‪ ،‬فالطبقة العاملة‬
‫حققت العديد من انتصاراهتا األكثر دويا ضمن شروط تعايش أحزاب عدة‬
‫واجتاهات عدة تنتسب مجيعا إىل احلركة العمالية‪ .‬إن مؤمتر السوفييتات الثاين لعامة‬
‫روسيا‪ ،‬الذي قرر نقل مجيع السلطات إىل السوفييتات‪ ،‬كان يتميز بالتفتت إىل‬
‫أحزاب واجتاهات سياسية خمتلفة على صعيد الطبقة العاملة‪ ،‬تفتت أكثر حدة مما‬
‫نعرفه اآلن يف الغرب‪ .‬إن انقسام الطبقة العاملة األملانية إىل أحزاب كبرية ثالثة‬
‫(والعديد من الشلل والتيارات الصغرية) مل حيل دون انتصار اإلضراب العام يف‬
‫مارس ‪ 1702‬الذي خنق يف البيضة حماولة االنقالب الرجعية الفاشية اليت قام هبا‬
‫فون كاب‪ ،‬كما أن تنوع املنظمات السياسية والنقابية للربوليتاريا اإلسبانية يف يوليو‬
‫‪ 17,7‬مل مينعها من التغلب على االنتفاضة العسكرية ‪ -‬الفاشية يف معظم‬
‫أحواض البالد الصناعية‪.‬‬
‫إالّ أن الشرط املسبق لكيال يؤدي التبعثر السياسي للحركة العمالية إىل‬
‫إضعاف قوة اهلجوم لدى الطبقة العاملة مبجملها‪ ،‬هو أالّ حيول دون وحدة عمل‬
‫الشغيلة ضد العدو الطبقي املتمثل بأرباب العمل والربجوازية الكربى واحلكومة‬

‫‪147‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫الربجوازية والدولة الربجوازية‪ّ .‬أما الشرط املسبق اآلخر فهو أالّ حيول دون النضال‬
‫السياسي واأليديولوجي من أجل هيمنة املاركسية الثورية داخل الطبقة العاملة‬
‫هبدف بناء احلزب الثوري اجلماهريي وبالتايل إعادة الدميوقراطية العمالية إىل عقر‬
‫دار احلركة العمالية املنظمة‪.‬‬
‫إن الرد الوحدوي للطبقة العاملة أمر ال غىن عنه على اإلطالق مبواجهة‬
‫هجمات الربجوازية على وجه اخلصوص‪ .‬وميكن أن تكون تلك اهلجمات‬
‫اقتصادية‪ ،‬من مثل الصرف من العمل وإقفال املنشآت وخفض األجور الفعلية‪،‬‬
‫اخل‪ .‬كما ميكن أن تكون سياسية‪ ،‬كاهلجمات ضد حق اإلضراب واحلريات‬
‫النقابية‪ ،‬وضد احلريات الدميوقراطية للجماهري واحلركة العمالية‪ ،‬وحماوالت إرساء‬
‫أنظمة تسلطية‪ ،‬أو فاشية سافرة‪ ،‬تلغي حرية التنظيم والعمل للحركة العمالية‬
‫مبجموعها‪ .‬يف هذه احلاالت مجيعا‪ ،‬ميكن فقط لرد مجاهريي وموحد أن يؤدي‬
‫باهلجوم الربجوازي إىل الفشل‪ .‬ووحدة العمل الفعلية لدى الطبقة العاملة متر‬
‫باجلبهة الواحدة الفعلية لكل املنظمات العمالية‪ ،‬بقدر ما تبقى سطوهتا داخل‬
‫قطاعات مهمة من الربوليتاريا واقعا حيا‪.‬‬
‫لقد كانت إحدى املآسي الكربى يف القرن ‪ 02‬هزمية الربوليتاريا األملانية بفعل‬
‫استيالء هتلر على السلطة يف ‪ ,2‬يناير ‪ ،17,,‬كنتيجة لرفض قياديت احلزب‬
‫الشيوعي األملاين واحلزب االشرتاكي األملاين أن تعقدا يف اللحظة املناسبة اتفاقا‬
‫إلقامة جبهة موحدة ضد الصعود النازي‪ ،‬وعجزمها عن القيام بذلك‪ .‬إن عواقب‬
‫تلك املأساة كانت على درجة من اخلطورة حبيث على مجيع الشغيلة أن حيفظوا‬
‫عن ظهر قلب الدرس الرئيسي لتلك التجربة‪ :‬يف مواجهة صعود الفاشية‪ ،‬ال غىن‬
‫عن اجلبهة املوحدة لكل املنظمات العمالية‪ ،‬بغية احليلولة دون ارتقاء القتلة‬
‫واجلالدين سدة السلطة‪ ،‬عن طريق عمل حازم وموحد تضطلع به اجلماهري‬
‫الكادحة‪.‬‬

‫‪148‬‬
‫كسب الثوريني للجماهري‬

‫إن الذرائع والعوائق دون حتقيق اجلبهة املوحدة ذات طبيعة أيديولوجية وسياسية‬
‫قبل كل شيء‪ ،‬فمعظم الشغيلة يؤيدون تلقائيا كل مبادرة وحدوية‪ .‬بني تلك‬
‫العوائق ذات الطبيعة السياسية واأليديولوجية ما يلي‪:‬‬
‫املمارسات القمعية للقادة االشرتاكيني ‪ -‬الدميوقراطيني الذين يضطلعون‬
‫مبسؤوليات داخل الدولة الربجوازية‪ ،‬وللقادة الستالينيني يف الظروف ذاهتا‪ .‬إن‬
‫الشرائح املتجذرة من الطبقة العاملة تشعر بالسخط على هكذا ممارسات تبدأ‬
‫بكسر اإلضرابات وتصل إىل التنظيم املنهجي للتجسس داخل املنظمات العمالية‪،‬‬
‫ال بل إىل تنظيم اغتيال القادة الثوريني أو حىت العمال العاديني (نوسكي !)‪.‬‬
‫املمارسات البريوقراطية للقادة النقابيني اإلصالحيني والستالينيني‪ ،‬ولقادة يف‬
‫األحزاب الشيوعية وصلوا إىل مواقع قيادية يف احلركة العمالية‪ ،‬اخل‪ .‬هذه املمارسات‬
‫اليت تعترب امتدادا ملمارسات البريوقراطية القمعية حيث متارس السلطة‪ ،‬تثري كذلك‬
‫امشئزازا مربرا لدى العديد من شرائح الشغيلة‪.‬‬
‫الدور املعادي للثورة بصورة منهجية للقيادات التقليدية للحركة العمالية اليت‬
‫حتول دون منو الوعي الطبقي وتساعد موضوعيا (ال بل إراديا يف الغالب) على‬
‫حتقيق مشاريع معادية للثورة والعمال يقف وراءها رأس املال‪ ،‬وتنشر األيديولوجية‬
‫البورجوازية والبورجوازية الصغرية يف صفوف الطبقة العاملة‪ ،‬اخل‪.‬‬
‫إالّ أنه ضروري مكافحة العصبوية والتطرف اليساري جتاه منظمات الطبقة‬
‫العاملة اجلماهريية التقليدية‪ ،‬اللذين ال حيوالن فقط دون حتقيق اجلبهة العمالية‬
‫املوحدة يف وجه العدو الطبقي‪ ،‬بل كذلك دون النضال الفعال ضد هيمنة‬
‫القيادات اإلصالحية والستالينية على أغلبية الطبقة العاملة‪.‬‬
‫جند يف أساس األخطاء العصبوية واليسارية املتطرفة انعدام فهم الطبيعة املزدوجة‬
‫واملتناقضة للمنظمات اجلماهريية التقليدية واملتبقرطة يف احلركة العمالية‪ .‬فالعصبوية‬
‫تتميز عموما على الصعيد الفكري بتضخيم وجه خاص للتكتيك أو‬

‫‪149‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫لالسرتاتيجية‪ ،‬وبالعجز عن رؤية مشكلة النضال الطبقي والثورة الربوليتارية بكل‬


‫تعقيداهتا ومبجملها‪ .‬وإذا كان صحيحا أن سياسة قيادات تلك املنظمات لصاحل‬
‫البورجوازية إىل حد بعيد‪ ،‬وأن تلك القيادات متارس التعاون الطبقي وتضعف‬
‫نضال الربوليتاريا الطبقي‪ ،‬وهي بالتايل مسؤولة عن هزائم ال حتصى حلقت بالطبقة‬
‫العاملة‪ ،‬فصحيح أيضا أن وجود تلك املنظمات يسمح للشغيلة ببلوغ احلد األدىن‬
‫من الوعي والقوة الطبقيتني‪ ،‬اللذين بدوهنما يصبح تقدم ذلك الوعي أصعب‬
‫بكثري‪ .‬إن وجود هذه املنظمات يسمح كذلك بتعديل موازين القوى اليومية بني‬
‫رأس املال والعمل الذي بدونه هتتز ثقة الطبقة العاملة بنفسها اهتزازا شديدا‪.‬‬
‫وحده استبداهلا املباشر بأشكال أعلى من التنظيم الطبقي (سوفييتات) قد يسمح‬
‫بأالّ ينتهي إضعافها برتاجع الطبقة العاملة أو شللها‪.‬‬
‫باملقابل فإن إضعافها‪ ،‬لكي ال نقول تدمري الرجعية الرأمسالية هلا‪ ،‬يشكل‬
‫إضعافا وتراجعا خطريين جململ الربوليتاريا‪ .‬هذه هي القاعدة املبدئية اليت يركز‬
‫املاركسيون الثوريون عليها سياستهم املتمثلة باجلبهة العمالية املوحدة ضد الرجعية‬
‫الرأمسالية‪.‬‬

‫‪ .3‬الدينامية الهجومية لجبهة «طبقة ضد طبقة»‬

‫مبواجهة أي هجوم رأمسايل ضد الطبقة العاملة‪ ،‬وال سيما مبواجهة أي هتديد‬


‫فاشي أو إقامة ديكتاتورية ميينية‪ ،‬يدعو املاركسيون الثوريون إىل تشكيل جبهة‬
‫موحدة من مجيع املنظمات العمالية‪ ،‬من القاعدة إىل القمة‪ ،‬وجيتهدون يف أن‬
‫يدخلوا إىل هذه اجلبهة املوحدة كل املنظمات اليت تنتسب إىل احلركة العمالية مبا‬
‫فيها األكثر اعتداال‪ ،‬اليت يقودها أشد الناس انتهازية وأشدهم مراجعة‪ .‬كما‬
‫يتوجهون منهجيا إىل قادة احلزب االشرتاكي واحلزب الشيوعي والنقابات‬
‫اإلصالحية واملسيحية لكي يتم إرساء جبهة موحدة بني القيادات القومية‪،‬‬

‫‪151‬‬
‫كسب الثوريني للجماهري‬

‫واملنطقية واحمللية‪ ،‬كما بني الفروع داخل املنشآت واألحياء‪ ،‬وذلك ملواجهة اهلجوم‬
‫املعادي بكل الوسائل املتوفرة‪.‬‬
‫إن رفض توسيع اجلبهة املوحدة لتشمل قيادة االشرتاكية ‪ -‬الدميوقراطية‬
‫اواألحزاب الشيوعية (وهي السياسة املسماة «سياسة املرحلة الثالثة» للكومنرتن‪،‬‬
‫اليت يستعيدها اليوم العديد من املنظمات املاوية ‪ -‬الستالينية) يقوم على عدم فهم‬
‫قصوي وطفويل للوظيفة املوضوعية لوحدة اجلبهة الربوليتارية ولشروطها املسبقة‬
‫الذاتية‪ .‬إنه يفرتض مسبقا أن يكون مجهور الشغيلة االشرتاكيني (أو التابعني‬
‫للحزب الشيوعي) مستعدا لالخنراط يف العمل املوحد مع الشغيلة الثوريني‪ ،‬دون‬
‫املوافقة املسبقة لقياداته «االشرتاكية‪-‬الفاشية» أو «املراجعة»‪ .‬أي أهنا تفرتض‬
‫كون املهمة اليت ينبغي حلها قد مت حلها‪ ،‬إالّ وهي مهمة فصل هذا اجلمهور عرب‬
‫جتربته اخلاصة عن قياداته االنتهازية‪ .‬ولكن توجيه الدعوة بالضبط إىل قادة احلزب‬
‫االشرتاكي واحلزب الشيوعي لاللتقاء داخل جبهة موحدة يف وجه هجوم الرجعية‪،‬‬
‫يسمح للشغيلة الذين يتبعون تلك القيادات بان يعيشوا جتربة مثينة وال غىن عنها‬
‫مبا خيص مصداقية اولئك القادة وفعالياهتم وحسن نواياهم‪.‬‬
‫زد على ذلك أن افرتاض عدم ضرورة اخنراط قيادات احلزب االشرتاكي واحلزب‬
‫الشيوعي يف اجلبهة املوحدة العمالية‪ ،‬إمنا خيتصر هذه اجلبهة إىل أقلية داخل الطبقة‬
‫العاملة‪ ،‬وينشر أوهاما خطرية حول إمكانية دفع أرباب العمل‪ ،‬أو الدولة‬
‫البورجوازية‪ ،‬أو التهديد الفاشي‪ ،‬إىل الوراء‪ ،‬حتت ضربات نشاطات أقلية‪.‬‬
‫هل يعين ذلك أن تكتيك اجلبهة املوحدة حمدود بأهداف دفاعية؟ كال بالطبع‪،‬‬
‫فتنظيم كامل الطبقة العاملة كتشكيل مثايل ‪ -‬ولو ألهداف دفاعية يف البدء ‪-‬‬
‫يعدل موازين القوى بني الطبقات ويقوي إىل حد بعيد قتالية الطبقات الكادحة‪،‬‬
‫وقوهتا الضاربة‪ ،‬وقدرهتا على العمل السياسي وثقتها بأنفسهما‪ ،‬فيخلق بالتايل‬
‫احتياطيا عظيما إضافيا للنضال‪ ،‬ميكنه أن يتوىل التحويل السريع للنضال الدفاعي‬
‫إىل نضال هجومي‪ .‬فأثناء االنقالب الفاشل الذي نظمه فون كاب يف مارس‬

‫‪151‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫‪ 1702‬يف أملانيا‪ ،‬خلق الرد الظافر واملوحد للمنظمات العمالية األملانية‪ ،‬خالل‬
‫أيام قليالت‪ ،‬وضعا وافق أثناءه مناضلو منظمات عديدة ‪ -‬مبا فيها منظمات‬
‫إصالحية ‪ -‬على تشكيل ميليشيات عمالية مسلحة يف العديد من مدن الرور‪ ،‬ال‬
‫بل طرح القادة النقابيون األكثر اعتداال ضرورة قيام حكومة عمالية‪ .‬إن الرد الظافر‬
‫والوحدوي للجماهري اإلسبانية ضد االنقالب الفاشي الفاشل يف يوليو ‪ 17,7‬يف‬
‫معظم املدن الكربى أدى إىل التسليح الشامل للربوليتاريا وإىل االستيالء على‬
‫املصانع‪.‬‬
‫إن املاركسيني الثوريني الذين يرمون إىل االستفادة ما أمكن من هذه الطاقة‬
‫اهلجومية الكامنة للجبهة العمالية املوحدة ينادون بضرورة بناء اجلبهة املوحدة يف‬
‫القاعدة كما يف القمة‪ ،‬دون أن يشكل هذا البناء إنذارا موجها ألحزاب الربوليتاريا‬
‫أو نقاباهتا أو مجاهريها‪ .‬ويفرتض بناء من هذا النوع أن تضم اجلبهة املوحدة‪،‬‬
‫باإلضافة إىل االتفاقات و«الكارتيالت» القومية‪ ،‬والنطقية‪ ،‬اخل‪ ..‬للمنظمات‬
‫العمالية‪ ،‬جلانا قاعدية يف املنشآت واألحياء والنواحي‪ ،‬جلانا ينبغي أن تكون‬
‫بأسرع ما ميكن جلانا منتخبة دميوقراطيا‪ ،‬ومنخرطة يف حشودات وأعمال مجاهريية‬
‫منهجية‪ .‬إن الدينامية اهلجومية لبنية من هذا النوع‪ ،‬تفتح الطريق يف الواقع أمام‬
‫وضع ثوري‪ ،‬إمنا هي أمر بديهي‪.‬‬

‫‪ .4‬الجبهة الموحدة العمالية والجبهة الشعبية‬

‫بقدر ما املاركسيون الثوريون هم أنصار األكثر حزما لسياسة جبهة عمالية‬


‫موحدة‪ ،‬بقدر ما يرفضون سياسة «اجلبهة الشعبية»‪ ،‬اليت طرحت من جديد منذ‬
‫املؤمتر السابع للكومنرتن‪ ،‬وهي السياسة اإلصالحية االشرتاكية ‪ -‬الدميوقراطية‬
‫القدمية القاضية بالتحالف بني الربجوازية «الليربالية» (أو «القومية»‪ ،‬أو «املعادية‬
‫للفاشية») واحلركة العمالية («كارتيل اليسار»)‪.‬‬

‫‪152‬‬
‫كسب الثوريني للجماهري‬

‫إن التمييز اجلوهري بني اجلبهة العمالية املوحدة و«كارتيل اليسار»‪ ،‬أو‬
‫«اجلبهة الشعبية»‪ ،‬يكمن يف أن اجلبهة العمالية املوحدة تستثري مبنطقها الرافع‬
‫لشعار «طبقة ضد طبقة» دينامية تصعيدية لنضال الربوليتاريا ضد الربجوازية‪،‬‬
‫بينما تستثري سياسة اجلبهة الشعبية باملقابل‪ ،‬انطالقا من منطقها القائل بالتعاون‬
‫الطبقي‪ ،‬دينامية كبح للنضاالت العمالية‪ ،‬ال بل قمع للشرائح العمالية األكثر‬
‫جتذرا‪ .‬ففي حني ال تنطوي اجلبهة العمالية املوحدة يف وجه اهلجوم الرأمسايل على‬
‫أي شرط مسبق للدفاع عن النظام الربجوازي وامللكية الرأمسالية (مهما يكن تعلق‬
‫القادة اإلصالحيني هبكذا دفاع)‪ ،‬تقوم اجلبهة الشعبية على احرتام النظام‬
‫البورجوازي وامللكية‪ ،‬الذي يؤدي انعدامه‪ ،‬كما يقال‪ ،‬إىل استحالة استقبال‬
‫«الربجوازية التقدمية» يف اجلبهة‪ ،‬مبا «ميكن أن يقوي الرجعية»‪ .‬إن كل منطق‬
‫اجلبهة الشعبية يتجه إذا إىل حرف النضاالت اجلماهريية‪ ،‬أو احتوائها‪ ،‬أو‬
‫حتطيمها‪ ،‬وهو ما ليس واردا يف حال اتفاقات اجلبهة العمالية املوحدة‪.‬‬
‫طبعا‪ ،‬إن التمييز بني جبهة عمالية موحدة وجبهة شعبية ال ينطوي على‬
‫اختالف «مطلق»‪ ،‬وإن كان يطرح اختالفا ذا شأن‪ ،‬تبعا للطبيعة الطبقية‬
‫املوضوعية لنوعي االتفاق‪ .‬إذ ميكن أن يكون هنالك تطبيقات انتهازية لتكتيك‬
‫اجلبهة العمالية املوحدة يبدأ خالهلا قادة املنظمات اليت تزعم أهنا منظمات ثورية‬
‫بكبح النضاالت اجلماهريية بدورهم‪ ،‬بذريعة «عدم إرعاب القادة اإلصالحيني»‪،‬‬
‫بينما ميكن للجماهري أن تنطلق يف بعض احلاالت من أوهام وحدوية تبذرها‬
‫اتفاقات جبهة شعبية من أجل زيادة حدة نضاالهتا‪ ،‬ال بل خلق بىن تنظيم ذايت‪،‬‬
‫وهي مبادرات على املاركسيني الثوريني أن يؤيدوها بالطبع ويدعموها بكل‬
‫الوسائل‪.‬‬
‫لكن مهما تكن هذه احلاالت الوسيطة‪ ،‬تبقى القضية املبدئية قضية حيوية‪ ،‬إذ‬
‫علينا من وجهة نظر الصراع الطبقي أن ندعم سياسة اجلبهة العمالية املوحدة‪ ،‬وأن‬

‫‪153‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫نكافح كل اتفاق سياسي مع أحزاب بورجوازية‪ - ،‬حىت لو كانت «يسارية» ‪-‬‬


‫يعيد النظر يف االستقالل السياسي الطبقي للربوليتاريا‪.‬‬

‫‪ .5‬االستقالل السياسي الطبقي والتنظيم الموحد للطبقة‬

‫هكذا فإن إشكالية اجلبهة املوحدة العمالية‪ ،‬كما إشكالية اجلبهة الشعبية‪،‬‬
‫تعيدنا يف النهاية إىل مسألة حيوية واحدة‪ ،‬هي كيف ميكن للطبقة العاملة أن تنجز‬
‫تنظيما توحيديا لقوهتا‪ ،‬باالستقالل التام عن البورجوازية‪ ،‬رغم تفتتها إىل تيارات‬
‫أيديولوجية وأحزاب وشلل وبدع سياسية خمتلفة‪ ،‬ورغم النقص يف مستوى املتوسط‬
‫لوعيها الطبقي‪.‬‬
‫إن الذين يدعون إىل الزوال املسبق هلذا التفتت‪ ،‬كشرط مسبق لتحقيق التنظيم‬
‫الطبقي املوحد‪ ،‬يالحقون سرابا ال أكثر‪ ،‬فهذا التفتت موجود منذ قرن‪ ،‬وال أدىن‬
‫إشارة إىل أنه سوف يزول قريبا‪ .‬إن اعتبار هذا الزوال شرطا متهيديا يشبه القول‬
‫علميا أن وحدة اجلبهة الربوليتارية (إذا انتصارها) مستحيلة حىت مستقبل غري‬
‫منظور‪.‬‬
‫إن الذين يرون يف حتقيق وحدة عمل الطبقة ناتج اتفاقات على صعيد القمة‪،‬‬
‫باالستقالل عن املضمون الطبقي والدينامية املوضوعية اليت تثريها تلك االتفاقات‬
‫‪ -‬عن طريق املماثلة مثال بني اجلبهة العمالية املوحدة واجلبهة الشعبية ‪ -‬ينسون أن‬
‫الوحدة احلقيقية للجبهة الربوليتارية مستحيلة إالّ على أساس طبقي‪ .‬ليس معقوال‬
‫أن تقبل كل قطاعات الطبقة العاملة وشرائحها الكبح الذايت والبرت الذايت اللذين‬
‫تنطوي عليهما اتفاقات تعاون طبقي‪.‬‬
‫مثة إذا رابط وثيق بني وحدة عمل الطبقة العاملة مبجملها واألهداف النضالية‬
‫اليت يوافق عليها اجلميع‪ ،‬ال بل أشكال النضال اليت تتبناها الطبقة‪ .‬واملاركسيون‬
‫الثوريون يتمسكون حبزم بكل مبادرة وحدوية حقيقية‪ ،‬ألهنم مقتنعون أن هكذا‬

‫‪154‬‬
‫كسب الثوريني للجماهري‬

‫مبادرات تقوي على الدوام كفاحية الشغيلة ووعيهم‪ ،‬باجتاه النضال الطبقي احلازم‬
‫ضد رأس املال‪.‬‬
‫إن استقالل الربوليتاريا الطبقي‪ ،‬الذي ال ميكن أن تتحقق بدونه وحدهتا‪ ،‬يقع‬
‫حيال أرباب العمل على مستوى املشروع الصناعي والفرع‪ .‬كما يقع حيال‬
‫األحزاب البورجوازية‪ ،‬ال بل حىت حيال الدولة البورجوازية‪ ،‬والدولة الدميوقراطية‪-‬‬
‫البورجوازية األكثر حرية‪ .‬فالثقة بالنفس اليت تكسبها الطبقة العاملة‪ ،‬اليت متر‬
‫بتجربة وحدوية حقيقية تشمل الطبقة بأكملها‪ ،‬حتفزها للقبض بيديها االثنتني‬
‫على ناصية حل مشكالهتا مجيعا‪ ،‬مبا فيها املشكالت املرتوكة عادة للربملان‪ ،‬وهذا‬
‫سبب إضايف لكي يكون الثوريون احملامني األشد حزما وصالبة عن وحدة عمل‬
‫الطبقة العاملة كلها‪.‬‬

‫‪ .6‬االستقالل الطبقي والتحالفات بين الطبقات‬

‫إن التمييز املبدئي‪ ،‬الذي نقيمه بني اجلبهة العمالية املوحدة واجلبهة الشعبية‪،‬‬
‫تعرض غالبا لالهتام بأنه «دوغمائي»‪ .‬والناقدون يرون أنه «ينكر ضرورة‬
‫التحالفات»‪ ،‬وأنه بدون «حتالفات طبقية» ال جمال النتصار الثورة االشرتاكية‪.‬‬
‫لينني ذاته‪ ،‬أمل يركز كل االسرتاتيجية البلشفية على ضرورة قيام حتلف بني‬
‫الربوليتاريا والفالحني؟‬
‫فلنشر أوال إىل أن كل مقارنة بني البلدان اإلمربيالية حاليا وروسيا القيصرية‬
‫مقارنة خادعة‪ .‬ففي روسيا مل تكن متثل الربوليتاريا أكثر من ‪ %02‬من السكان‬
‫العاملني‪ّ .‬أما يف البلدان اإلمربيالية ‪ -‬باستثناء الربتغال ‪ -‬فالربوليتاريا‪ ،‬أي مجهور‬
‫الذين يضطرون لبيع قوة عملهم‪ ،‬متثل األغلبية الساحقة داخل األمة‪ ،‬أو ‪%92‬‬
‫إىل ‪ %72‬من السكان العاملني يف معظم تلك البلدان‪ .‬إن وحدة اجلبهة‬
‫الربوليتارية (اليت تضم فيما تضم املستخدمني بالطبع) هي أمر أكثر حيوية بكثري‬
‫بالنسبة للثورة من التحالف مع الفالحني‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫نضيف إىل ذلك أن املاركسيني الثوريني ليسوا معادين أبدا لتحالف بني‬
‫الربوليتاريا والبورجوازية الصغرية الكادحة (غري املستغِلة) يف املدن واألرياف‪ ،‬حىت‬
‫يف البلدان اليت تكون هذه األخرية فيها أقلية‪ .‬ففي العديد من البلدان اإلمربيالية‪،‬‬
‫مثل الربتغال وإسبانيا وإيطاليا وفرنسا‪ ،‬ما يزال إرساء التحالف العمايل ‪ -‬الفالحي‬
‫ذا أمهية سياسية كربى‪ ،‬وخصوصا اقتصادية‪ ،‬من أجل انتصار الثورة االشرتاكية‬
‫وتدعيمها‪.‬‬
‫ّأما ما نرفضه فهو أن يكون التحالف بني األحزاب العمالية واألحزاب‬
‫البورجوازية ضروريا إلقامة حتالف الطبقات الكادحة‪ .‬على العكس من ذلك‪،‬‬
‫فتحرير الفالحني وصغار البورجوازيني املدينيني من سيطرة البورجوازية يفرتض‬
‫مسبقا حتريرهم من الدعم الذي يقدمونه لألحزاب السياسية البورجوازية‪ .‬ميكن‬
‫للتحالف ‪ -‬ال بل ينبغي ‪ -‬أن يقوم على اساس مصاحل مشرتكة‪ ،‬وعلى الربوليتاريا‬
‫وأحزاهبا أن تقدم هلاتني الطبقتني أهدافا اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية‬
‫هتمها وتعجز الربجوازية عن حتقيقها هلا‪ .‬وإذا كانت التجربة تثبت إرادة الربوليتاريا‬
‫انتزاع السلطة وحتقيق برناجمها‪ ،‬فيمكنها أن حتوز على دعم جزء مهم من‬
‫البورجوازية الصغرية بغية حتقيق تلك األهداف‪.‬‬

‫‪ .7‬حركات تحرر النساء واألقليات القومية المضطهدة في انطالق النضاالت‬


‫المعادية للرأسمالية‬

‫تقليديا‪ ،‬فهمت احلركة العمالية املنظمة مشكلة «التحالفات» كمشكلة‬


‫انتخابية وسياسية (حتالف بني عدة أحزاب)‪ ،‬أو كتحالف بني الطبقة العاملة‬
‫وطبقة الفالحني الكادحني وشرائح أخرى مستغلة من البورجوازية الصغرية‪ .‬إالّ أنه‬
‫خالل الثورات الربوليتارية املاضية الكربى‪ ،‬السيما الثورة الروسية والثورة اإلسبانية‪،‬‬
‫لعب الدمج بني الثورة االجتماعية وحركات حترر القوميات املضطهدة دورا مرموقا‪.‬‬

‫‪156‬‬
‫كسب الثوريني للجماهري‬

‫وإذ تغوص الرأمسالية املعاصرة يف أزمة اجتماعية أكثر فأكثر تعميما (ال سيما‬
‫منذ النصف الثاين من الستينات)‪ ،‬تتسم الصراعات االجتماعية ‪ -‬السياسية يف‬
‫البلدان اإلمربيالية بالدمج بني النضاالت الربوليتارية «الصرفة» وانفجارات استياء‬
‫ومترد اجتماعي لقطاعات واسعة من السكان ال تتشكل بكاملها من الربوليتاريا‪:‬‬
‫حركة مترد الشبيبة‪ ،‬حركة حترر النساء‪ ،‬حركة مترد القوميات املضطهدة‪.‬‬
‫حني نقول «ال تتشكل بكاملها من الربوليتاريا»‪ ،‬نريد أن نقول ذلك‬
‫وحسب‪ .‬إنه ملن العبث أن نعترب الشبيبة أو النساء أو األقليات العرقية والساللية‬
‫كـ«غري بروليتاري»‪ ،‬ال بل «بورجوازية صغرية» مبجملها‪ ،‬تبعا ملعايري أيديولوجية‬
‫نفسية‪ .‬فجزء متزايد من النساء يف البلدان اإلمربيالية (أكثر من ‪ %02‬يف بعض‬
‫البلدان) يتألف من مأجورات وليس من ربات منازل‪ ،‬وجزء مهم من الشباب‬
‫يتألف من شغيلة شبان ومن متدربني‪ .‬إن السود البورتوركيني والشيكانو يف‬
‫الواليات املتحدة‪ ،‬وااليرلنديني واملهاجرين من آسيا واهلند الغربية إىل بريطانيا‪،‬‬
‫والباسكيني والقشتاليني يف إسبانيا ‪ -‬وحنن نقتصر على هذه األمثلة الثالثة ‪ -‬مل‬
‫يتبلرتوا فقط إىل حد بعيد‪ ،‬بل يشكلون كذلك جزءا مهما من بروليتاريا تلك‬
‫الدول بصورة إمجالية‪.‬‬
‫إن شروط حياة كل هذه الشرائح اليت يف وضع التمرد من نوع خاص ‪-‬نساء‪،‬‬
‫وشباب وأقليات عرقية وقومية ‪ -‬ومطالبها اخلاصة هبا‪ ،‬تستحق انتباها خاصا من‬
‫جانب احلركة العمالية وطليعتها الثورية ألسباب ثالثة بديهية‪.‬‬
‫أوال‪ ،‬ألن هذه الشرائح تضم عموما القسم األكثر تعرضا لالستغالل واألكثر‬
‫بؤسا من الربوليتاريا الذي يتطلب اهتماما خاصا من جانب كل شغيل واع‪ .‬مث إن‬
‫هذه الشرائح هي عموما ضحايا اضطهاد مزدوج‪ ،‬مبا هي بروليتاريون ونساء‬
‫وشبيبة وأقليات ومهاجرون يف الوقت ذاته ‪ ...‬واحلال أن الربوليتاريا ليست قادرة‬
‫على التحرر هنائيا‪ ،‬وال أن تلغي العمل املأجور وتبين جمتمعا ال طبقيا‪ ،‬من دون أن‬
‫تصفي جذريا كل أشكال التمييز واالضطهاد والال مساواة االجتماعية‪ .‬أخريا‪،‬‬

‫‪157‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫تسمح حركة مترد تلك الشرائح وحتررها باخنراط قطاعات غري بروليتارية‪ ،‬تشكل‬
‫أجزاء من الشرائح املضطهدة املشار إليها أعاله‪ ،‬يف النضال من أجل الثورة‬
‫االشرتاكية‪.‬‬
‫هذا التحالف ليس آليا طبعا‪ ،‬فهو يتوقف على وزن التفاوت الطبقي الذي‬
‫سيستثريه التقاطب األقصى للقوى االجتماعية‪ ،‬خالل السريورة الثورية‪ ،‬داخل‬
‫حركة حترر النساء والشبيبة والقوميات واألعراق املضطهدة‪ .‬إالّ أنه يتوقف أيضا‬
‫على قدرة احلركة العمالية‪ ،‬وال سيما على قدرة طليعتها الثورية أن تقبض جبرأة على‬
‫ناصية القضية العادلة اليت يقاتل من أجلها املتعرضون لالضطهاد‪.‬‬
‫إن املاركسيني الثوريني يعرتفون مبربرات حركات التحرر املستقلة للنساء والشبيبة‬
‫والقوميات واألعراق املضطهدة‪ ،‬ال فقط قبل اهنيار الرأمسالية‪ ،‬بل حىت بعده‪ ،‬هذا‬
‫االهنيار الذي ال ميحو بني ليلة وضحاها رواسب آالف السنني من املسبقات‬
‫القائمة على التمييز بني اجلنسني‪ ،‬أو العرقية أو الشوفينية‪ ،‬أو احلاقدة على‬
‫األجانب‪ ،‬داخل اجلماهري الكادحة‪ .‬ولسوف يسعون لكي يكونوا أفضل‬
‫املكافحني‪ ،‬داخل هذه حلركات اجلماهريية املستقلة‪ ،‬من أجل كل املطالب العادلة‬
‫والتقدمية‪ ،‬ولكي يكونوا وراء التعبئات والنضال األكثر اتساعا واألكثر توحيدية‪.‬‬
‫كما سيكافحون يف الوقت ذاته منهجيا لصاحل حلول سياسية واجتماعية‬
‫إمجالية ‪ -‬استيالء الطبقة العاملة على السلطة وإلغاء النظام الرأمسايل ‪ -‬بدوهنا‬
‫يستحيل تقدمي حل عام ودائم للتمييز بني اجلنسني وللتمييز العرقي والشوفيين‪.‬‬
‫وسيكونون بصورة ليست أقل منهجية املدافعني األشداء عن تضامن كل املستغَلني‬
‫(بفتح الغني) وكل الربوليتاريني يف النضال من أجل مصاحلهم الطبقية‪ ،‬بغض النظر‬
‫عن كل اختالف يف اجلنس أو العرق أو القومية‪ .‬وكلما كانت معركتهم ضد كل‬
‫أشكال االضطهاد اخلاصة‪ ،‬اليت تعاين منها هذه الشرائح املتعرضة الستغالل‬
‫مضاعف‪ ،‬معركة أكثر حزما واقناعا‪ ،‬كلما أصبح هذا النضال من أجل التضامن‬
‫الطبقي العام داخلها أكثر فعالية‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫كسب الثوريني للجماهري‬

‫المراجع‪:‬‬
‫‪ ‬قرارات المؤتمر الثالث لألممية الشيوعية حول التكتيك‪.‬‬
‫‪ ‬لينني‪« ،‬اليسارية» مرض الشيوعية الطفولي‪.‬‬
‫‪ ‬تروتسكي‪ ،‬إلى أين تتجه فرنسا ؟‬
‫‪ ‬تروتسكي‪ ،‬كتابات حول إسبانيا‪.‬‬
‫‪ ‬تروتسكي‪ ،‬كتابات حول ألمانيا‪.‬‬
‫‪ ‬تروتسكي‪ ،‬الحركة الشيوعية في فرنسا‪.‬‬
‫‪ ‬ماندل‪ ،‬حول الفاشية‪.‬‬
‫‪ ‬دانييل غريان‪ ،‬الفاشية ورأس المال الكبير‪.‬‬
‫‪ ‬هنري فيرب‪ ،‬الماركسية والوعي الطبقي‪.‬‬
‫‪ ‬ماندل‪ ،‬لينين والوعي الطبقي البروليتاري‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫(‪)15‬‬
‫حول المجتمع الال طبقي‬
‫‪ .1‬الهدف االشتراكي المقصود‬

‫إن اهلدف االشرتاكي الذي نرمي إىل بلوغه هو استبدال اجملتمع البورجوازي‪،‬‬
‫القائم على نضال اجلميع ضد اجلميع‪ ،‬مبجتمع مجاعي ال طبقي‪ ،‬حيث حيل‬
‫التضامن االجتماعي حمل الرغبة يف الثراء الفردي كمحرك أساسي للنشاط‪ ،‬وحيث‬
‫يضمن ثراء اجملتمع التطور املنسجم جلميع األفراد‪.‬‬
‫إن املاركسيني ال يطمحون إىل «جعل الناس مجيعا متساوين» كما يزعم كل‬
‫اخلصوم اجلاهلني لالشرتاكية‪ ،‬بل يودون أن يفسحوا يف اجملال‪ ،‬للمرة األوىل يف‬
‫التاريخ البشري‪ ،‬أمام تطور السلسلة الال متناهية من إمكانات الفكر والعمل لدى‬
‫كل فرد‪ .‬إالّ أهنم يفهمون أن املساواة االقتصادية واالجتماعية‪ ،‬وحترر اإلنسان من‬
‫ضرورة الكفاح ألجل خبزه اليومي‪ ،‬ميثالن شرطا مسبقا للحصول على هذا‬
‫التحقيق الفعلي للشخصية اإلنسانية لدى كل األفراد‪.‬‬
‫إن جمتمعا اشرتاكيا يتطلب إذا اقتصادا متطورا إىل حد يلغي معه اإلنتاج وفقا‬
‫للحاجات اإلنتاج هبدف الربح‪ .‬فاإلنسانية االشرتاكية لن تعود تنتج سلعا معدة‬
‫للتبادل يف السوق لقاء املال‪ ،‬بل ستنتج قيما استعمالية توزع على مجيع أعضاء‬
‫اجملتمع هبدف كفاية كل حاجاهتم‪.‬‬
‫إن جمتمعا من هذا النوع سيحرر اإلنسان من قيود التقسيم االجتماعي‬
‫واالقتصادي للعمل‪ .‬فاملاركسيون يرفضون املوضوعة اليت ترى أن بعض الناس‬
‫«ولدوا للقيادة» والبعض اآلخر «ولدوا للطاعة»‪ .‬وليس أي من الناس معدا‬
‫بطبيعته ليكون طيلة حياته عامل منجم أو فرازا أو سائق حافلة كهربائية‪ .‬يف كل‬

‫‪161‬‬
‫الدياليكتيك املادي‬

‫إنسان هتجع رغبة ممارسة عدد كبري من النشاطات املختلفة‪ ،‬ويكفي أن نراقب‬
‫الشغيلة يف أوقات فراغهم لنتأكد من ذلك‪ .‬ويف اجملتمع االشرتاكي‪ ،‬سوف يسمح‬
‫املستوى الرفيع من التأهيل التقين والثقايف ألي مواطن أن يشغل نفسه بالعديد من‬
‫املهمات املتنوعة املفيدة للجماعة‪ ،‬ولن يفرض اختيار «املهنة» فرضا على الناس‪،‬‬
‫بفعل قوى أو شروط مادية مستقلة عن إرادهتم‪ ،‬بل سيتوقف ذلك االختيار على‬
‫حاجتهم اخلاصة هبم‪ ،‬وعلى تطورهم الفردي‪ .‬سيتوقف العمل عن أن يكون‬
‫نشاطا مفروضا يتهرب املرء منه‪ ،‬ليصبح حتقيقا للذات وحسب‪ ،‬وسيكون اإلنسان‬
‫حرا باملعىن احلقيقي للكلمة‪ .‬إن جمتمعا من هذا النوع سوف جيهد إلزالة كل‬
‫أسباب النزاعات بني البشر‪ ،‬وسيكرس للنضال ضد األمراض ولتكوين الطبع لدى‬
‫الطفل‪ ،‬وللرتبية والفنون اجلميلة‪ ،‬املوارد اهلائلة املبذرة اليوم على أهداف التدمري‬
‫والقسر‪ .‬وبإزالة كل التناقضات االقتصادية واالجتماعية بني الناس تتم إزالة كل‬
‫أسباب احلرب أو الصراعات العنيفة‪ .‬إن ارساء جمتمع اشرتاكي يشمل العامل‬
‫بأمجعه هو وحده الكفيل بتأمني هذا السلم الشامل الذي يصري شرطا الستمرار‬
‫اجلنس البشري على قيد احلياة يف عصر األسلحة الذرية والنووية احلرارية‪.‬‬

‫‪ .2‬الشروط االقتصادية واالجتماعية لبلوغ هذا الهدف‬

‫إذا كنا ال نكتفي باحللم مبستقبل مشرق‪ ،‬وإذا كنا نريد الكفاح من أجل بلوغ‬
‫هذا املستقبل‪ ،‬علينا أن نفهم أن بناء جمتمع اشرتاكي يقلب رأس على عقب‬
‫تقاليد الناس وعاداهتم اليت تبلورت خالل آالف السنني يف جمتمعات منقسمة إىل‬
‫طبقات‪ ،‬هذا البناء خيضع لتحوالت مادية ليست أقل زعزعة ينبغي إجنازها مسبقا‪.‬‬
‫يتطلب بلوغ االشرتاكية قبل كل شيء إلغاء امللكية اخلاصة لوسائل اإلنتاج‪.‬‬
‫هذه امللكية تفرتض حتما يف عصر الصناعة الكربى والتقنية احلديثة (اليت ال ميكن‬
‫إلغاؤها دون حشر البشرية يف زاوية الفقر املعمم) قسمة اجملتمع إىل أقلية من‬
‫الرأمساليني املستغِلني (بكسر الغني) وأكثرية مستغَلة (بفتح الغني) من مأجورين‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫إن بلوغ اجملتمع االشرتاكي يتطلب إلغاء العمل املأجور وبيع قوة العمل لقاء‬
‫أجرة ثابت من املال جيعل من املنتج جزءا عاجزا من احلياة االقتصادية‪ .‬ينبغي أن‬
‫حيل حمل العمل املأجور تعويض العمل باحلصول احلر على كل اخلريات الضرورية‬
‫لكفاية حاجات املنتجني‪ ،‬وال ميكن أن يولد وعي اجتماعي جديد وموقف جديد‬
‫يتخذه الناس بعضهم جتاه البعض اآلخر إالّ يف جمتمع يضمن لإلنسان هكذا وفرة‬
‫يف اخلريات‪.‬‬
‫هكذا وفرة يف اخلريات ليست طوباوية إطالقا‪ ،‬شرط إدخاهلا تدرجييا‬
‫واالنطالق من عقلنة تدرجيية حلاجات الناس الذين حترروا من إكراه املنافسة‪ ،‬ومن‬
‫مطاردة الثراء الفردي‪ ،‬ومن استخدام اإلعالن الذي يهتم خبلق حالة عدم اكتفاء‬
‫دائم لدى األفراد‪ .‬هكذا خلقت التطورات يف مستوى احلياة حالة إشباع‬
‫االستهالك اخلبز والبطاطا واخلضار وبعض الفواكه‪ ،‬ال بل منتجات احلليب‬
‫والسمنة واللحم يف اجلزء األقل فقرا من سكان البلدان اإلمربيالية‪ .‬كما أن اجتاها‬
‫مماثال يتجلى على صعيد األلبسة الداخلية واألحذية واألثاث املنزيل األساسي‪،‬‬
‫إخل‪ .‬فهذه املنتجات مجيعا ميكن أن توزع بالتدريج جمانا‪ ،‬دون تدخل املال‪ ،‬ودون‬
‫أن يؤدي هذا إىل زيادات مهمة يف اإلنفاقات اجلماعية‪ .‬واإلمكانية ذاهتا قائمة‬
‫بالنسبة للخدمات االجتماعية كالتعليم والعناية بالصحة والنقل املشرتك‪ ،‬إخل‪.‬‬
‫إالّ أن إلغاء العمل املأجور ال يتطلب تبديل شروط املكافأة وتوزيع األموال‬
‫االستهالكية وحسب‪ ،‬بل كذلك تبديل بنية املشروع التسلسلية‪ ،‬وإحالل نظام‬
‫دميوقراطية املنتجني حمل نظام األمر احملصور باملدير (يساعده رؤساء املشاغل‬
‫ورؤساء الفرق‪ ،‬إخل‪ .).‬إن هدف االشرتاكية حكم الناس ذاهتم بذاهتم على كل‬
‫مستويات احلياة االجتماعية ابتداء باحلياة االقتصادية‪ .‬إنه استبدال كل املندوبني‬
‫املعينني بقادة منتخبني‪ ،‬كل املندوبني الدائمني بقادة ميارسون وظيفتهم بالتناوب‪.‬‬
‫على هذه الطريق يتم التوصل خللق شروط مساواة حقيقية‪.‬‬

‫‪162‬‬
‫الدياليكتيك املادي‬

‫إن الثروة االجتماعية اليت تسمح بإرساء نظام وفرة‪ ،‬غري ممكن بلوغها إالّ عن‬
‫طريق ختطيط االقتصاد‪ ،‬الذي يسمح بتاليف كل تبذير يتمثل بعدم استخدام‬
‫وسائل اإلنتاج والبطالة‪ ،‬أو باستخدامها ألهداف متعارضة مع مصاحل البشرية‪.‬‬
‫ويبقى حترير العمل خاضعا للتطور العظيم للتقنية احلديثة (التطبيق اإلنتاجي للطاقة‬
‫الذرية بعد استجماع شروط األمن القصوى‪ ،‬والبحث املكثف عن موارد طاقة‬
‫بديلة‪ ،‬اإللكرتونيك والتوجيه من بعيد اللذان يسمحان باألمتتة الكلية لإلنتاج)‬
‫الذي حيرر اإلنسان أكثر فأكثر من املهام الثقيلة واحملطة‪ .‬هكذا جييب التاريخ‬
‫مقدما على االعرتاض املبتذل القدمي على االشرتاكية‪« :‬من سيمارس إذا املهمات‬
‫الدنيا يف جمتمع اشرتاكي ؟»‬
‫إن التطور األقصى لإلنتاج ضمن الشروط األكثر ريعية بالنسبة للبشرية يتطلب‬
‫اإلبقاء على تقسيم دويل للعمل والتوسع به‪ ،‬تقسيم معدل مع ذلك بعمق من‬
‫أجل إلغاء االنقسام إىل بلدان «متقدمة» وبلدان «تابعة»‪ ،‬وإلغاء احلدود وختطيط‬
‫االقتصاد على املستوى العاملي‪ .‬إن إلغاء احلدود والتوحيد الفعلي للجنس البشري‬
‫هو أيضا أمر سيكولوجي من أوامر االشرتاكية‪ ،‬والوسيلة الوحيدة إللغاء الالّ‬
‫مساواة االقتصادية واالجتماعية بني األمم‪ .‬وال يعين إلغاء احلدود إلغاء الشخصية‬
‫الثقافية اخلاصة بكل أمة‪ ،‬بل يسمح على العكس بتأكيد هذه الشخصية بصورة‬
‫أكثر سطوعا مما هي احلال اليوم‪ ،‬يف امليدان اخلاص هبا‪.‬‬
‫إن تسيري الشغيلة للمشاريع‪ ،‬وتسيري مؤمتر جمالس الشغيلة لالقتصاد‪ ،‬وتسيري‬
‫كل دوائر احلياة االجتماعية عن طريق التجمعات املعنية‪ ،‬يتطلب هو اآلخر‬
‫شروط حتقيق مادية‪ ،‬إذا شاء أالّ يكون ومهيا‪ .‬وال غىن عن اخلفض اجلذري ليوم‬
‫العمل ‪ -‬أو اتباع الدوام النصفي ‪ -‬من أجل أن يتوفر للمنتجني الوقت لتسيري‬
‫املشاريع والكومونات‪ ،‬ولكي ال تتشكل شرحية جديدة من املدراء احملرتفني‪.‬‬
‫ال غىن عن تعميم التعليم العايل ‪ -‬وتوزيع جديد لـ«وقت الدراسة» و«وقت‬
‫العمل» على امتداد كل حياة الرشد للرجل واملرأة ‪ -‬من أجل أن يزول بالتدريج‬

‫‪163‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫فصل العمل اليدوي عن العمل الذهين‪ .‬كما ال غىن عن املساواة الدقيقة يف‬
‫املكافأة ويف التمثيل وفرص التأهيل العايل للنساء من أجل أالّ تستمر الال مساواة‬
‫بني اجلنسني بعد زوال الال مساواة بني الطبقات االجتماعية‪.‬‬

‫‪ .3‬الشروط السياسية‪ ،‬واأليديولوجية‪ ،‬والنفسية والثقافية لبلوغ هذا الهدف‬

‫إن الشروط املادية لبلوغ جمتمع ال طبقي هي شروط ضرورية لكنها غري كافية‪،‬‬
‫فاالشرتاكية والشيوعية لن تكونا الناتج اآليل لتطور قوى اإلنتاج‪ ،‬والختفاء النقص‬
‫يف احلاجيات‪ ،‬والرتفاع مستوى التأهيل التقين والثقايف للبشرية‪ .‬ينبغي كذلك‬
‫تبديل العادات والتقاليد والبىن الذهنية اليت تنتج عن آالف السنوات من‬
‫االستغالل والقمع وعن الشروط االجتماعية اليت تالئم الرغبة يف اإلثراء الفردي‪.‬‬
‫قبل كل شيء‪ ،‬ينبغي انتزاع كل سلطة سياسية من الطبقات املسيطرة ومنعها‬
‫من استعادة تلك السلطة‪ .‬إن التسليح العام للشغيلة‪ ،‬الذي حيل حمل اجليوش‬
‫الدائمة‪ ،‬مث التدمري التدرجيي لكل األسلحة وعجز أنصار حمتملني إلعادة حكم‬
‫األقلية عن إنتاج تلك األسلحة‪ ،‬كل ذلك ينبغي أن يسمح ببلوغ اهلدف املشار‬
‫إليه‪.‬‬
‫إن ما يضمن استمرار الشروط اليت يستحيل معها العودة لنظام قمع واستغالل‬
‫يتلخص باألمور التالية‪ :‬دميوقراطية جمالس الشغيلة‪ ،‬ممارسة تلك اجملالس لكامل‬
‫السلطة السياسية‪ ،‬الرقابة العامة على اإلنتاج وتوزيع الثروات‪ ،‬تأمني علنية تامة‬
‫للنقاشات اليت تؤدي إىل القرارات السياسية واالقتصادية الكربى‪ ،‬وصول الشغيلة‬
‫مجيعا إىل وسائل اإلعالم وتكوين الرأي العام‪.‬‬
‫يتعلق األمر فيما بعد خبلق الشروط املالئمة لكي يعتاد املنتجون على العيش‬
‫بأمان ويتوقفوا عن قياس جهودهم تبعا للمكافآت اليت يتوقعوهنا لقاءها‪ .‬وال ميكن‬
‫هلذه الثورة النفسية أن تظهر إالّ حني تعلم التجربة الناس أن اجملتمع االشرتاكي‬

‫‪164‬‬
‫الدياليكتيك املادي‬

‫يضمن فعليا‪ ،‬وبصورة دائمة‪ ،‬كفاية حاجاهتم األساسية‪ ،‬دون حساب كل واحد‬
‫منهم‪ ،‬باملقابل‪ ،‬يف الثروة االجتماعية‪.‬‬
‫إن جمانية الغداء واللباس الضروري‪ ،‬واخلدمات العامة‪ ،‬والعناية بالصحة‪،‬‬
‫والتعليم‪ ،‬واخلدمات الثقافية‪ ،‬سوف تسمح ببلوغ هذا اهلدف بعدما يكون قد مر‬
‫على اعتمادها جيالن أو ثالثة‪ .‬فمنذ ذاك ال يعود ينظر إىل العمل كوسيلة‬
‫«لكسب املعيشة» أو لتأمني االستهالك اجلاري‪ ،‬بل يصبح حاجة للنشاط اخلالق‬
‫الذي يساهم كل واحد عربه يف رخاء اجلميع وتطورهم‪.‬‬
‫إن التبديل الراديكايل لبىن القمع املتمثلة بالعائلة البطريركية وباملدرسة املتسلطة‬
‫املتقوقعة يف برجها العاجي‪ ،‬وباالستهالك السليب لألفكار و«اخلريات الثقافية»‪،‬‬
‫سوف يتالزم مع هذه التحوالت االجتماعية والسياسية‪.‬‬
‫لن تتوىل ديكتاتورية الربوليتاريا قمع أية فكرة وأي تيار علمي أو أديب أو ثقايف‬
‫أو فين‪ ،‬فهي لن ختاف من األفكار‪ ،‬لقناعتها بتفوق األفكار الشيوعية‪ .‬ومع ذلك‬
‫فلن تكون حيادية إزاء النضال األيديولوجي الذي يستمر‪ .‬وسوف ختلق كل‬
‫الشروط املالئمة من أجل أن تتمثل الربوليتاريا املتحررة أفضل منتجات الثقافية‬
‫القدمية‪ ،‬وتبين بالتدريج عناصر الثقافة الشيوعية املوحدة للبشرية القادمة‪ .‬إن الثورة‬
‫الثقافية اليت ستطبع خبامتها بناء الشيوعية ستكون قبل كل شيء ثورة الشروط اليت‬
‫خيلق الناس من ضمنها ثقافتهم اخلاصة هبم‪ ،‬وحتويل مجهور املواطنني من‬
‫مستهلكني سلبيني إىل منتجني ثقافيني فاعلني وخالقني‪.‬‬
‫والعائق األكرب الذي يبقى على البشرية أن تتخطاه خللق عامل شيوعي إمنا هو‬
‫املسافة الضخمة اليت تفصل اإلنتاج ومستوى معيشة الفرد يف البلدان املتقدمة‬
‫صناعيا عنهما يف البلدان املتخلفة‪ .‬فاملاركسية تنبذ الطوىب الرجعية لشيوعية قائمة‬
‫على التقشف والعسر‪ .‬إن تفتح احلياة االقتصادية واالجتماعية لشعوب نصف‬
‫الكرة اجلنويب ال يتطلب فقط ختطيطا اشرتاكيا لالقتصاد العاملي‪ ،‬بل كذلك إعادة‬
‫توزيع جذرية للموارد لصاحل تلك الشعوب‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫إن تبديل أمناط التفكري األنانية وقصرية النظر البورجوازية الصغرية اليت تواصل‬
‫احلياة اليوم على مستوى جزء مهم من الطبقة العاملة يف نصف الكرة الشمايل‬
‫سيسمح وحده ببلوغ هذا اهلدف‪ .‬وعلى الرتبية األممية أن تسري حنو هذا اهلدف‬
‫جنبا إىل جنب مع عادة الوفرة اليت ستربهن أنه ميكن القيام بإعادة التوزيع تلك‬
‫دون إحداث تراجع يف مستوى معيشة اجلماهري الشمالية‪.‬‬

‫‪ .4‬أطوار المجتمع غير الطبقي‬

‫على أساس التجربة الغنية للثورات الربوليتارية منذ أكثر من قرن ‪-‬أي منذ‬
‫كومونة باريس ‪ -‬ميكن أن منيز ثالثة أطوار من بناء جمتمع ال طبقي‪:‬‬
‫‪ -‬طور االنتقال من الرأمسالية إىل االشرتاكية‪ ،‬وهو طور ديكتاتورية الربوليتاريا‪،‬‬
‫واستمرار الرأمسالية يف بلدان مهمة‪ ،‬واالستمرار اجلزئي لإلنتاج البضاعي‬
‫واالقتصاد النقدي‪ ،‬واستمرار العديد من الطبقات والشرائح االجتماعية داخل‬
‫البلدان املنخرطة يف هذا الطور‪ ،‬وبالتايل ضرورة استمرار الدولة من أجل الدفاع‬
‫عن مصاحل الشغيلة ضد مجيع أنصار العودة إىل مملكة رأس املال‪.‬‬
‫‪ -‬طور االشرتاكية‪ ،‬اليت ينجز بناؤها واليت تتميز بزوال الطبقات االجتماعية («‬
‫االشرتاكية هي اجملتمع الال طبقي » حسب تعبري لينني)‪ ،‬وبزوال االقتصاد‬
‫البضاعي والنقدي واخفتاء الدولة وانتصار اجملتمع اجلديد على املستوى‬
‫العاملي‪ .‬إالّ أ ّن مكافأة كل شخص يف الطور االشرتاكي (بغض النظر عن‬
‫الكفاية اجملانية للحاجات األساسية) سيستمر قياسها تبعا لكمية العمل الذي‬
‫يقدمه هذا الشخص للمجتمع‪.‬‬
‫‪ -‬طور الشيوعية‪ ،‬الذي يتميز بالتطبيق الكامل ملبدأ « من كل حسب قدرته‪،‬‬
‫ولكل حسب حاجته »‪ ،‬وبزوال التقسيم االجتماعي للعمل والفصل بني‬
‫العمل اليدوي والعمل الذهين‪ ،‬وبزوال الفروق بني املدينة والريف‪ .‬سوف تعيد‬
‫البشرية تنظيم نفسها بشكل كومونات حرة من املنتجني‪-‬املستهلكني‪،‬‬

‫‪166‬‬
‫الدياليكتيك املادي‬

‫القادرين على إدارة أوضاعهم بأنفسهم دون أي جهاز منفصل‪ ،‬وقد أعيد‬
‫دجمهم يف وسط طبيعي معاد تأهيله‪ ،‬وقدمت هلم احلماية ضد خماطر تدمري‬
‫توازن البيئة‪.‬‬
‫إال أنه حني جند أنفسنا أمام جمتمع الحق للرأمسالية ختلص من احتكار السلطة‬
‫بني يدي شرحية بريوقراطية ‪ -‬أي إزاء سلطة فعلية للشغيلة ‪ -‬لن تعود هناك‬
‫حاجة ألية ثورة وأية قطيعة مفاجئة لتسجيل تعاقب هذه األطوار‪ ،‬فهي ستنتج عن‬
‫تطور تدرجيي لعالقات اإلنتاج والعالقات االجتماعية‪ ،‬وستكون تعبريا عن‬
‫االضمحالل التدرجيي للمقاوالت البضاعية واملال والطبقات االجتماعية والدولة‬
‫والتقسيم االجتماعي للعمل والبىن الذهنية اليت جنمت عن كل املاضي القائم على‬
‫الال مساواة والصراع االجتماعيني‪ .‬إن اجلوهري يكمن يف الشروع حاال بسريورات‬
‫االضمحالل وعدم تأجيلها ألجيال قادمة‪.‬‬
‫هذا هو مثلنا األعلى الشيوعي‪ ،‬وهو يشكل احلل الوحيد للمشكالت احلادة‬
‫اليت تواجهها اإلنسانية‪ .‬وتكريس احلياة لتحقيقه يربهن عن اجلدارة بفطنة أفضل‬
‫أوالد جنسنا وشهامتهم‪ ،‬باملفكرين األكثر جسارة واملقاتلني األكثر جرأة من أجل‬
‫حترير العمل‪ ،‬باألمس كما اليوم‪.‬‬

‫المراجع‪:‬‬
‫‪ ‬كارل ماركس‪ ،‬نقد برنامج غوتا‪.‬‬
‫‪ ‬فريدريك إجنلز‪ ،‬دحض دوهرينغ‪ ،‬اجلزء الثالث‪ « :‬االشرتاكية »‪.‬‬
‫‪ ‬لينني‪ ،‬الدولة والثورة‪.‬‬
‫‪ ‬بوخارين وبريو براجنسكي‪ ،‬ألف باء الشيوعية‪.‬‬
‫‪ ‬ليون تروتسكي‪ ،‬األدب والثورة ‪ -‬مشكالت احلياة اليومية‪.‬‬
‫‪ ‬الفارغ‪ ،‬حق الكسل‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫(‪)16‬‬
‫الدياليكتيك المادي‬
‫‪ .1‬الحركة الشاملة‬

‫إذا ع ــدنا إىل مض ــمون الفص ــول اخلمس ــة عش ــر الس ــابقة وحاولن ــا أن خنتص ــرها‬
‫بصــيغة واحــدة‪ ،‬ال ميكننــا أن جنــد أفضــل مــن الصــيغة التاليــة‪ :‬كــل شــيء يتغــري‪ ،‬كــل‬
‫شيء يف حركة دائمة‪.‬‬
‫لقــد انتقلــت البش ـرية مــن اجملتمــع البــدائي غــري الطبقــي إىل اجملتمــع املنقســم إىل‬
‫طبقات‪ ،‬الذي سيكون بدوره منطلقا للمجتمع االشـرتاكي الـال طبقـي الالحـق‪ .‬إن‬
‫أمناط اإلنتاج تتعاقب‪ ،‬وحىت قبل أن تزول ختضع لتبدالت متواصلة‪ .‬ختتلف الطبقـة‬
‫املســيطرة اليــوم كث ـريا عــن طبقــة مــالكي العبيــد الــيت كانــت مهيمنــة يف اإلمرباطوريــة‬
‫الرومانيــة‪ ،‬والربوليتــاري املعاصــر خيتلــف كلي ــا عــن القــن يف القــرون الوســطى‪ .‬وب ــني‬
‫الرأمســايل صــاحب املعمــل الصــغري يف بدايــة القــرن التاســع عشــر‪ ،‬والســيد روكفلــر أو‬
‫صــاحب تروســت رون بولنــك يف أيامنــا هــذه‪ ،‬بــون شاســع‪ .‬كــل شــيء يتغــري‪ ،‬كــل‬
‫شيء يف حركة دائمة‪.‬‬
‫هــذه احلركــة الشــاملة ميكــن أن جنــدها علــى كــل مســتويات الواقــع‪ ،‬ولــيس فقــط‬
‫مســتوى تــاريخ اجملتمعــات البش ـرية‪ .‬فــاألفراد يتبــدلون‪ ،‬خاضــعني لقــدر حمتــوم‪ .‬إهنــم‬
‫يولــدون ويكــربون وينضــجون ويرشــدون‪ ،‬مث يشــرعون باالحنــدار وينتهــون إىل املــوت‪،‬‬
‫وهذا القدر يصيب األنواع احلية كما يصيب األفراد‪ .‬فـاجلنس البشـري مل يكـن حيـا‬
‫علــى الــدوام‪ ،‬والعديــد مــن األن ـواع الــيت كانــت تقطــن يف املاضــي كوكبنــا‪ ،‬مــن مثــل‬
‫الزواحــف العمالقــة يف العصــر الثالــث‪ ،‬قــد انــدثرت‪ ،‬بينمــا تنــدثر اآلن حتــت أعيننــا‬
‫أن ـواع أخــرى نباتيــة وحيوانيــة‪ ،‬وذلــك جزئيــا كنتيجــة ألشــكال اخللــل الفوضــوية الــيت‬
‫أحدثها منط اإلنتاج الرأمسايل يف البيئة األرضية‪.‬‬

‫‪168‬‬
‫الدياليكتيك املادي‬

‫إن كوكبنا بدوره لن حييا إىل األبد‪ ،‬ففقدان الطاقة حيكـم عليـه بـالزوال حتمـا يف‬
‫يــوم مــن األيــام‪ .‬كمــا أنــه مل يكــن موجــودا منــذ البــدء‪ ،‬فقــد ولــد مــن جمموعــة جنــوم‬
‫ليســت حبــد ذاهتــا إالّ واحــدة مــن جمموعــات ال حتصــى مشــاهبة هلــا يف الكــون‪ .‬إن‬
‫احلرك ــة أو التط ــور الش ــامل ت ــتحكم بك ــل وج ــود‪ ،‬وه ــذا الوج ــود م ــادي حب ــت‪ ،‬ويف‬
‫أس ــاس امل ــادة ذرات تت ــألف ه ــي األخ ــرى م ــن دق ــائق أص ــغر‪ ،‬وإدغام ــات ال ــذرات‬
‫تش ــكل جزيئ ــات تك ـ ّـون فيم ــا بينه ــا العناص ــر األساس ــية املختلف ــة للقش ــرة األرض ــية‬
‫واجلو‪ .‬هكذا فإن األوكسجني واهليدروجني‪ ،‬بعد أن يدخال يف إدغام مع ّـني‪ ،‬مرمـوز‬
‫إليه بـ ‪ H2O‬يؤلفان املاء‪ ،‬بينمـا تشـكل اجلزيئـات األسـس الـيت تقـود عمليـة تكـوين‬
‫احلوامض األمينية‪.‬‬
‫هكــذا نــرى أن تطــور املــادة غــري العضــوية أدى إىل والدة املــادة العضــوية‪ ،‬ضــمن‬
‫شــروط حمــددة‪ .‬فــاحلوامض األمينيــة تشــكل الربوتيينــات الــيت تعمــل كخاليــا‪ ،‬وهــذه‬
‫األخرية تسـتثري تطـور األنـواع احليـة‪ ،‬أكانـت نباتيـة أو حيوانيـة‪ .‬وتولـد يف جمـرى هـذا‬
‫التطور الكائنات احلية العليـا‪ ،‬أو الثـدييات‪ ،‬وتتفـرع عنهـا القرديـات الـيت حتـدر منهـا‬
‫النوع البشري‪.‬‬

‫‪ .2‬الدياليكتيك‪ ،‬منطق الحركة‬

‫مبا أن حركة شاملة متيز ‪-‬كما يبدو‪ -‬كل وجود‪ ،‬فينبغـي أن نسـتخلص مالمـح‬
‫مشــرتكة بــني حركــة املــادة (أو الطبيعــة) وحركــة اجملتمــع اإلنســاين وحركــة معارفنــا (أو‬
‫العلــم‪ ،‬الفكــر اإلنســاين)‪ .‬إن الــدياليكتيك املــادي الــذي بلــوره مــاركس وإجنلــز يؤكــد‬
‫عرى يف الواقع هذه املالمح املشرتكة للحركة الشاملة‪.‬‬ ‫أنه ّ‬
‫يتجلى الدياليكتيك إذا‪ ،‬أو منطق احلركة‪ ،‬على ثالثة مستويات‪:‬‬
‫ديالكتيك الطبيعة وهو ديالكتيك موضوعي كليا‪ ،‬أي مستقل عن الوجود‬ ‫‪‬‬
‫اإلنساين وعن مشاريع اإلنسان ونواياه أو حوافزه‪ ،‬وهو ال يفعل مباشرة يف‬

‫‪169‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫التاريخ البشري‪ .‬ال يستبعد ذلك أن تتمكن البشرية مع تطور قوى اإلنتاج‬
‫من استخدام قوانني الطبيعة من أجل إعادة تكييف بيئتها الطبيعية‪.‬‬
‫ديالكتيك التاريخ‪ ،‬وهو ديالكتيك موضوعي إىل حد بعيد أوال‪ ،‬ولكن‬ ‫‪‬‬
‫يشكل اقتحامه من جانب مشروع الربوليتاريا‪ ،‬القاضي بإعادة بناء اجملتمع‬
‫وفقا لربنامج معد مسبقا‪ ،‬إنعطافا ثوريا‪ ،‬حىت لو ارتبط وضع هذا املشروع‬
‫وحتقيقه بشروط مادية موضوعية موجودة مسبقا ومستقلة عن إرادة البشر‪.‬‬
‫ديالكتيك املعرفة (الفكر اإلنساين) الذي هو ديالكتيك املوضوع ‪ -‬الذات‬ ‫‪‬‬
‫بامتياز‪ ،‬وناتج تفاعل مستمر بني املوضوعات املطلوبة معرفتها (موضوعات‬
‫كل فرع من العلوم) وعمل الذوات اليت تسعى لفهمها واليت يشرطها‬
‫وضعها االجتماعي‪ ،‬ووسائل التقصي املوروثة املوضوعة حتت تصرفها ‪-‬‬
‫وسائل العمل كما املفاهيم ‪ -‬وحتويل تلك الوسائل عرب النشاط‬
‫االجتماعي اجلاري‪ ،‬اخل‪.‬‬
‫مبقــدار مــا يشــكل اكتشــاف الــديالكتيك املوضــوعي طــورا مــن تــاريخ املعــارف‬
‫والفك ــر البشـ ــري (بلـ ــور ال ــديالكتيك يف البـ ــدء فالسـ ــفة إغرب ــق مثـ ــل هرياقلـ ــيط‪ ،‬مث‬
‫استعاده سبينوزا وط ّـوره هيغـل)‪ ،‬ميكـن أن خنضـع إلغـراء إرجـاع كـل الـديالكتيك إىل‬
‫ديالكتيك املوضوع ‪-‬الذات‪ ،‬وهو ما ميكن اعتباره خطأ‪.‬‬
‫واضـح أن كـل مــا نعرفـه‪ ،‬ومـن بينــه مـا لــه عالقـة بـديالكتيك الطبيعــة‪ ،‬إمنـا نعرفــه‬
‫بواسـ ــطة دماغنـ ــا وأفكارنـ ــا وممارسـ ــتنا االجتماعيـ ــة‪ ،‬الـ ــيت حتـ ــددها شـ ــروط وجودنـ ــا‬
‫االجتم ــاعي‪ .‬إالّ أن ه ــذا الواق ــع الب ــديهي ال حي ــول دون أن ن ــتمكن م ــن معرف ــة أن‬
‫احلياة أقدم من الفكر اإلنساين (ومـن التأكيـد مـن صـحة ذلـك‪ ،‬ورؤيـة إثبـات ذلـك‬
‫عــن طريــق بـراهني عمليــة متعــددة)‪ ،‬وأن األرض أقــدم مــن احليــاة‪ ،‬والكــون أقــدم مــن‬
‫األرض‪ ،‬وأن كل هذه احلركة هي حركة مستقلة عن العمـل وعـن وجـود اإلنسـان أو‬
‫فكره‪ ،‬وأ ّن الفكر اإلنسـاين ذاتـه هـو نـاتج تلـك احلركـة‪ :‬فـالفكر هـو املـادة الـيت تعـي‬
‫ذاهتا‪ .‬ذلكم هو املعىن الدقيق ملفهوم‪« :‬الديالكتيك املادي»‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫الدياليكتيك املادي‬

‫أكثر من ذلك‪ ،‬فبقدر ما تتحسن معارفنا وتصبح علمية أكثـر فـأكثر‪ ،‬وبقـدرما‬
‫تقرتب املعرفة من الواقع (إن تطابقا كليا للمعرفـة والواقـع مسـتحيل‪ ،‬ال سـيما لكـون‬
‫ه ــذا األخ ــري يف حال ــة تب ــدل دائ ــم)‪ ،‬مبق ــدار م ــا تت ــابع مس ــرية تل ــك املعرف ــة احلرك ــة‬
‫املوضوعية للمادة أكثر فـأكثر‪ .‬إن بوسـع ديالكتيـك فكرنـا العلمـي‪ ،‬أو الـديالكتيك‬
‫املــادي‪ ،‬أن يقــارب الواقــع‪ ،‬بالضــبط لكــون حركتــه اخلاصــة تتوافــق أكثــر فــأكثر مــع‬
‫حركة املادة‪ ،‬ال سيما بفضل املمارسة االجتماعية اليت تعرب عن سيطرة متنامية على‬
‫قــوى الطبيعــة‪ ،‬ألن ق ـوانني املعرفــة والفهــم الــذهين للواقــع الــذي تطبقــه تتوافــق أكثــر‬
‫فأكثر مع القوانني اليت تقود احلركة الشاملة للواقع املوضوعي‪.‬‬
‫ينبغي أن نشري إىل وجود اختالف كبري بني تطور العلوم الطبيعيـة وتطـور العلـوم‬
‫االجتماعية أي معارفنا املتعلقة بكل ما يتخذ احلياة االجتماعيـة موضـوعا للبحـث‪،‬‬
‫مبا فيها معارفنا حول بدايات تطور العلوم مجيعا‪ ،‬ومن بينها العلوم الطبيعية‪ ،‬وحول‬
‫ديالكتيكها‪.‬‬
‫إن تط ــور العل ــوم الطبيعي ــة حم ــدد ه ــو اآلخ ــر تارخيي ــا واجتماعي ــا‪ ،‬فالن ــاس‪ ،‬وم ــن‬
‫بيــنهم العبــاقرة األكثــر جســارة‪ ،‬عــاجزون عــن أن يطرحـوا أكثــر مــن عــدد معــني مــن‬
‫املشكالت العلمية يف كل عصـر‪ ،‬وعـن أن حيلـوا أكثـر منـه‪ .‬إهنـم خيضـعون لألفكـار‬
‫والرتبية املتلقاة‪ ،‬واإلشكاليات اجلديدة تولد يف هذا السياق‪ ،‬يف عالقـة مـع تبـدالت‬
‫مادية‪ ،‬ال سيما تلك املتعلقة بالعمـل وبـأدوات العمـل وأدوات االستقصـاء العلميـة‪،‬‬
‫اخل‪ .‬إالّ أن األمــر يتعلــق بتحدي ــد غــري مباش ــر‪ ،‬ال تتوســطه بش ــكل مباشــر مص ــاحل‬
‫مادية طبقية‪ .‬وال ميكن دحض نظريات علمية تقوم على براهني اختبارية عن طريـق‬
‫الرج ــوع إىل ال ــديالكتيك عموم ــا أو إىل األص ــل االجتم ــاعي أو املواق ــف السياس ــية‬
‫لــدى العلم ــاء ال ــذين ص ــاغوا تل ــك النظري ــات‪ .‬ال ميك ــن دحض ــها إالّ ع ــرب نظري ــات‬
‫علميــة أخــرى جــرى الربهــان علــى صــحتها اختباريــا‪ ،‬نظريــات حتلــل بشــكل أفضــل‬
‫واقعا أكثر تعقيدا‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫خيتلــف األم ــر مــع العل ــوم االجتماعي ــة‪ ،‬إذ هــي تتن ــاول ع ــن كثــب أكث ــر تنظ ــيم‬
‫اجملتمــع الطبقــي وبنيتــه‪ .‬ووزن «األفكــار املتلقــاة واملوروثــة» أكــرب فيهــا‪ ،‬ال ســيما أن‬
‫هذه األفكـار ليسـت سـوى التعبـري‪ ،‬علـى املسـتوى اإليـديولوجي‪ ،‬عـن مصـاحل ترمـي‬
‫للمحافظة على الواقع االجتماعي أو للثورة االجتماعية‪ ،‬مصـاحل ميكـن إرجاعهـا يف‬
‫هناية املطاف إىل مواقف طبقيـة متضـادة‪ .‬ودون أن نريـد حتويـل الفالسـفة واملـؤرخني‬
‫واالقتصاديني وعلماء االجتماع واألنتبولوجيا إىل «عمالء» واعني هلذه أو تلك من‬
‫الطبق ـ ــات االجتماعي ـ ــة‪ ،‬منخ ـ ــرطني يف «مـ ـ ـؤامرة» لل ـ ــدفاع ع ـ ــن الوض ـ ــع الق ـ ــائم أو‬
‫ل ـ ـ ـ«تنظ ـ ــيم التخريـ ـ ــب»‪ ،‬م ـ ــن البـ ـ ــديهي أن التحدي ـ ــد االجتمـ ـ ــاعي لتط ـ ــور العلـ ـ ــوم‬
‫االجتماعيــة هــو أكثــر مباشــرة وفوريــة بكثــري مــن تطــور العلــوم الطبيعيــة‪ .‬ويف الوقــت‬
‫ذاته‪ ،‬فإن موضوع العلـوم االجتماعيـة يتحـدد فـورا‪ ،‬وبقـوة األشـياء‪ ،‬ببنيـة اجملتمعـات‬
‫ال ــيت تـ ـرتبط هب ــا الوق ــائع املدروس ــة وبتارخيه ــا‪ ،‬وه ــو م ــا ل ــيس ح ــال موض ــوع العل ــوم‬
‫الطبيعية‪.‬‬

‫‪ .3‬الديالكتيك والمنطق الصوري‬

‫يتميـز الــديالكتيك‪ ،‬أو منطــق احلركـة‪ ،‬عــن املنطــق الصـوري أو املنطــق الســكوين‪.‬‬
‫فاملنطق الصوري يقوم على ثالثة قوانني أساسية‪:‬‬
‫قانون التماثل‪ :‬أ = أ‪ .‬يبقى الشيء مساويا لذاته على الدوام‪.‬‬ ‫‪‬‬
‫قــانون التضــاد‪ :‬أ‪ ،‬خمتلفــة عــن ال‪ -‬أ‪ ،‬أ ال ميكــن أن تكــون مســاوية أبــدا لـ ـ‬ ‫‪‬‬
‫ال‪ -‬أ‪.‬‬
‫قانون الثالـث املسـتبعد‪ّ :‬أمـا أ‪ ،‬و ّأمـا ال‪ -‬أ‪ .‬ال ميكـن لشـيء أن ال يكـون أ‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫وأن ال يكون ال‪ -‬أ‪.‬‬
‫تســمح لنــا حلظــة مــن التأمــل باالســتنتاج أن مــا مييــز املنطــق الصــوري هــو املســار‬
‫الـ ــذي يكمـ ــن يف وضـ ــع احلركـ ــة والتبـ ــدل بـ ــني هاللـ ــني‪ .‬كـ ــل الق ـ ـوانني الـ ــيت أوردنـ ــا‬
‫صــحيحة‪ ،‬إذا مل نأخــذ احلركــة باالعتبــار‪ .‬أ تبقــى مســاوية لــذاهتا طاملــا مل تتغــري‪ .‬أ‬

‫‪172‬‬
‫الدياليكتيك املادي‬

‫ختتلــف عــن ال‪ -‬أ طاملــا مل تتحــول إىل نقيضــها‪ .‬هنالــك أ‪ ،‬او ال‪ -‬أ طاملــا ليســت‬
‫هناك حركـة تـدغم أ مـع ال‪ -‬أ‪ ،‬إخل‪ ،‬إخل‪ .‬إزاء حتـول الشـرنقة إىل فراشـة واملراهـق إىل‬
‫راشد‪ ،‬يصبح «قانون التماثل» غري كاف‪ ،‬بوضوح‪.‬‬
‫إن غض النظـر عـن احلركـة والتحـول والتبـدالت مفيـد مـن زاويتـني‪ :‬أوال للـتمكن‬
‫مــن دراســة ظــاهرات معينــة بصــورة معزولــة ومتواصــلة‪ ،‬وهــو مــا يســمح‪ ،‬دون شــك‪،‬‬
‫بتعمي ــق معارفن ــا ح ــول ه ــذه الظ ــاهرات‪ .‬وبالت ــايل‪ ،‬م ــن زاوي ــة عملي ــة‪ ،‬ح ــني تك ــون‬
‫التبدالت احلادثة طفيفة للغاية حبيث ميكن جتاهلها عمليا‪.‬‬
‫فإذا اشرتيت كيلو سكر من حانوت السمان‪ ،‬فاملساواة اليت يشري إليهـا امليـزان‪:‬‬
‫‪ 1‬ك ــج س ــكر = ‪ 1‬ك ــج‪ ،‬ذات قيم ــة بالنس ــبة إيل‪ ،‬نظـ ـرا لله ــدف العمل ــي للشـ ـراء‪.‬‬
‫فللتمكن من حتلية قهويت واإلبقاء على توازن موازنيت املنزلية‪ ،‬ال يهم كثريا أالّ يكون‬
‫ال ــوزن الفعل ــي هل ــذه الرزم ــة كيل ــو غرام ــا‪ ،‬ب ــل فق ــط ‪ 777‬غ‪ ،‬وأن يك ــون وزن تل ــك‬
‫الرزمة األخرى ‪ 7,2‬غ (بسبب رطوبة اجلـو علـى األقـل)‪ ،‬ففـرق صـغري جـدا ميكـن‬
‫جتاهلها من الزاوية العملية‪.‬‬
‫هــذا هــو الســبب يف أن املنطــق الصــوري مــا ي ـزال يســتخدم يف النظريــة كمــا يف‬
‫املمارس ــة‪ ،‬ويف أن ال ــديالكتيك امل ــادي ال «ينك ــر» املنط ــق الص ــوري ب ــل يس ــتوعبه‪،‬‬
‫يعت ــربه أداة حتلي ــل ومعرف ــة مقبول ــة ‪ -‬لك ــن مقبول ــة ش ــرط فه ــم ح ــدودها‪ :‬أي فه ــم‬
‫اســتحالة تطبيقهــا علــى ظــاهرات احلركــة وســريورة التبــدل‪ .‬فمــذ نصــبح إزاء هكــذا‬
‫ظــاهرات يفــرض اللجــوء إىل مقــوالت الــديالكتيك‪ ،‬أو منطــق احلركــة‪ ،‬نفســه‪ ،‬وهــي‬
‫مقوالت خمتلفة عن مقوالت املنطق الصوري‪.‬‬

‫‪ .4‬الحركة‪ ،‬تبعا للتناقض‬

‫ط‪ .‬فمــن زاويــة س ــكونية‪ ،‬ال ميكــن لشــيء حم ــدد أن‬


‫احلركــة بطبيعتهــا عبــور وخت ـ ّ‬
‫يكون يف مكانني خمتلفني يف الوقت ذاته (ولو كان هذا الوقـت يف منتهـى القصـر)‪.‬‬

‫‪173‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫وحركــة الشــيء‪ ،‬مــن وجهــة النظــر الديناميــة‪ ،‬هــي بالتحديــد انتقالــه مــن نقطــة إىل‬
‫أخرى‪.‬‬
‫يــدرس الــدياليكتيك أو منطــق احلركــة إذا ق ـوانني احلركــة علــى وجــه اخلصــوص‪،‬‬
‫واألشــكال الــيت تتبناهــا‪ .‬وســوف نــتفحص تلــك الق ـوانني مــن وجهتــني‪ :‬احلركــة تبعــا‬
‫للتناقض‪ ،‬واحلركة تبعا للكلية‪.‬‬
‫لكل حركة سبب دائما‪ ،‬والسـببية واحـدة مـن مقـوالت الـدياليكتيك األساسـية‪،‬‬
‫متامــا كمــا هــي مقولــة أساســية يف كــل علــم‪ .‬وإنكــار الســببية هــو إنكــار إلمكانيــة‬
‫املعرفة‪ ،‬يف هناية املطاف‪.‬‬
‫إن الســبب األخــري لكــل حركــة‪ ،‬ولكــل تبــدل‪ ،‬يكمــن يف التناقضــات الداخليــة‬
‫للموضــوع املتبــدل‪ .‬كــل موضــوع‪ ،‬كــل ظــاهرة‪ ،‬يتغــري‪ ،‬يتحــرك‪ ،‬يتعــدل‪ ،‬ويتحــول يف‬
‫التحليــل األخــري حتــت تــأثري تناقضــاته الداخليـة والتناقضــات الــيت تنــتج عــن عالقاتــه‬
‫بظاهرات أخرى (تناقضـات داخليـة يف « نظـام » املوضـوعات والظـاهرات الـيت هـو‬
‫جــزء منهــا)‪ .‬هبــذا املعــىن‪ ،‬غالبــا مــا مســي الــدياليكتيك‪ ،‬حبــق‪ ،‬علــم التناقضــات‪ .‬إن‬
‫منطق احلركة ومنطق التناقضات تعريفان متماثالن عمليا للديالكتيك‪.‬‬
‫ينبغ ــي إذا لتحلي ــل ك ــل موض ــوع‪ ،‬وك ــل ظ ــاهرة أو جمموع ــة م ــن الظ ــاهرات‪ ،‬أن‬
‫يهدف لتحديد ما هي عناصره املكونـة املتناقضـة‪ ،‬ومـا هـي احلركـة أو الديناميـة الـيت‬
‫تستثريها تلك التناقضات‪.‬‬
‫هكذا رأينا على امتداد عرضنا إىل أي حد يقوم الصراع الطبقي ‪ -‬وهـو حمصـلة‬
‫وجــود طبقــات اجتماعيــة متضــادة داخــل اجملتمــع ‪ -‬بتوجيــه حركــة تــاريخ اجملتمعــات‬
‫املنقسمة إىل طبقات‪ .‬ميكننا أن نقول‪ ،‬وحنن نشمل يف الوقت ذاتـه اجملتمـع البـدائي‬
‫غــري الطبقــي واجملتمــع املنقســم إىل طبقــات واجملتمــع االشـرتاكي القــادم‪ ،‬أن التنــاقض‬
‫بني املستوى الذي بلغه يف بعض العهود تطـور قـوى اإلنتـاج (درجـة حتكـم اإلنسـان‬

‫‪174‬‬
‫الدياليكتيك املادي‬

‫بالطبيعـة)‪ ،‬وعالقــات االنتــاج (التنظـيم االجتمــاعي) املنبثقــة يف التحليـل األخــري مــن‬


‫مستويات تطور سابقة لقوى االنتاج ذاهتا‪ ،‬إمنا يوجه كل التطور البشري‪.‬‬
‫ميكننــا وحنــن خنتصــر األمــور إىل درجــة ال متناهيــة أن نشــري إىل الق ـوانني التاليــة‬
‫للحركـة‪ ،‬أو األشـكال الرئيسـية الـيت تتخــذها‪ ،‬والـيت تقـدم مقـوالت أساسـية للمنطــق‬
‫الدياليكتيكي أو منطق احلركة‪:‬‬
‫أ‪ .‬وحدة األضداد وتداخلها وصراعها‬
‫من يقل حركة يقل تناقضا‪ ،‬ومن يقل تناقضا يقل تعايشـا بـني عناصـر متعارضـة‬
‫بعضــها مــع الــبعض اآلخــر‪ ،‬تعايشــا وصـراعا يف الوقــت ذاتــه بــني تلــك العناصــر‪ .‬إذا‬
‫كــان مثــة جتــانس كلــي وانعــدام كامــل لعناصــر متعــارض بعضــها عــن الــبعض اآلخــر‪،‬‬
‫فليس هناك تناقض وليس هناك حركة‪ ،‬ال حياة هنالك وال وجود‪ .‬يتشـكل الوجـود‬
‫من وحدة عناصر متضادة ومن تداخلها وصراعها‪ ،‬أي من حركتها‪.‬‬
‫‪totalité‬‬ ‫إن وج ـ ــود عناص ـ ــر متناقض ـ ــة يش ـ ــمل تعايش ـ ــها يف كلي ـ ــة مبني ـ ــة‬
‫‪ ،structurée‬يف جممــوع لكــل مــن هــذه العناصــر مكانــه ضــمنه‪ ،‬ويف الوقــت ذاتــه‬
‫ص ـراع تلــك العناصــر لتحطــيم هــذا اجملمــوع‪ .‬ليســت الرأمساليــة ممكنــة دون الوجــود‬
‫املــتالزم لـرأس املــال والعمــل املــأجور‪ ،‬للبورجوازيــة والربوليتاريــا‪ .‬وال ميكــن للواحــد أن‬
‫يوج ــد دون اآلخ ــر‪ ،‬إال أن ه ــذا ال يع ــين أن ال يس ــعى الواح ــد باس ــتمرار ليكب ــت‬
‫اآلخ ــر‪ ،‬وأن ال تس ــعى الربوليتاري ــا إللغ ــاء رأس امل ــال والعم ــل امل ــأجور‪ ،‬إذا لتخط ــي‬
‫الرأمسالية‪.‬‬
‫ب‪ .‬حتوالت كمية وحتوالت نوعية‬
‫تتخــذ احلركــة شــكل حتــوالت تبقــي علــى بنيــة (أو نوعيــة) الظــاهرات‪ ،‬وســوف‬
‫نــتكلم يف هــذه احلالــة علــى تبــدل كمــي‪ ،‬غالبــا مــا يكــون غــري ملحــوظ‪ .‬منــذ بلــوغ‬
‫«عتبة» معينة‪ ،‬يتحول التبـدل الكمـي إىل تبـدل نـوعي‪ ،‬ومنـذ تلـك «العتبـة»‪ ،‬بـدل‬
‫أن حيــدث التبــدل الكمــي تــدرجييا يــتم ب ـ«قفــزة»‪ ،‬وتظهــر للحــال «نوعيــة» جديــدة‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫ميكــن لقريــة صــغرية أن تتحــول تــدرجييا إىل قريــة كبــرية أو دســكرة‪ ،‬ال بــل إىل مدينــة‬
‫صغرية‪ .‬لكن بني مدينة وقرية‪ ،‬ليس هنالك فرق كمي (عدد السكان واألبنية‪ ،‬اخل)‬
‫وحســب‪ ،‬بــل كــذلك فــرق نــوعي‪ .‬فالنشــاط املهــين الغلبــة الســكان قــد تغــري‪ ،‬وحــل‬
‫حمل املزارع العامل واملستخدم‪ .‬لقد ولـدت بيئـة اجتماعيـة جديـدة تطـرح مشـكالت‬
‫اجتماعية مل تكن قائمة يف القرية‪ ،‬من مثل مشكلة النقل املشـرتك‪ ،‬وتظهـر طبقـات‬
‫اجتماعية جديدة وتناقضات جديدة فيما بينها‪.‬‬
‫جـ‪ .‬النفي والتخطي‬
‫كل حركة متيل النتاج نفي لبعض ظاهراهتا‪ ،‬ولتحويـل موضـوعات إىل نقيضـها‪.‬‬
‫احليــاة تنــتج املــوت‪ ،‬وال ميكــن الشــعور بــاحلرارة إالّ تبعــا للــربد‪ ،‬واجملتمــع الــال طبقــي‬
‫ينــتج اجملتمــع املنقســم إىل طبقــات‪ ،‬الــذي ينــتج بــدوره جمتمعــا غــري طبقــي‪ .‬إالّ أنــه‬
‫ينبغي التمييز بني النفي «الصرف» و«نفـي النفـي»‪ ،‬الـذي هـو ختطـي التنـاقض إىل‬
‫مستوى أعلى‪ ،‬يستتبع يف الوقت ذاته نفيا وحمافظة وارتفاعا إىل مستوى أعلى‪ .‬لقد‬
‫كان للمجتمع البدائي الالطبقـي مسـتوى عـال مـن التماسـك الـداخلي‪ ،‬تبعـا لفقـره‬
‫علــى وجــه التحديــد‪ ،‬وخلضــوعه شــبه الكلــي لقــوى الطبيعــة‪ .‬إن اجملتمــع املنقســم إىل‬
‫طبقات هو مرحلة من السيطرة العليا لإلنسان على قوى الطبيعة‪ ،‬مثنها متزق أعمـق‬
‫للتنظـيم االجتمـاعي‪ّ .‬أمـا يف اجملتمـع االشـرتاكي القـادم فهـذا التنـاقض سـيتم ختطيــه‪،‬‬
‫وســوف ينــدمج إذاك شــكل رفيــع مــن ســيطرة اإلنســان علــى الطبيعــة بشــكل رفيــع‬
‫أيضا من التماسك االجتماعي والتعاضد‪ ،‬بفضل وجود جمتمع ال طبقي‪.‬‬

‫‪ .5‬بعض المشكالت اإلضافية بخصوص ديالكتيك المعرفة‬

‫أ‪ .‬املضمون والشكل‬


‫كل حركة تتخذ بالضرورة أشكاال متتالية‪ ،‬ميكن أن تتبـدل وفقـا لعـدد كبـري مـن‬
‫الظــروف‪ ،‬ولــيس بوســعها أن تــتخلص آليــا مــن هــذا الشــكل أو ذاك الــذي مت تبنيــه‬
‫مــن قبــل‪ ،‬فهــو يقــاوم وهــذه املقاومــة ينبغــي حتطيمهــا‪ .‬ينبغــي أن يتوافــق الشــكل مــع‬

‫‪176‬‬
‫الدياليكتيك املادي‬

‫املضمون‪ ،‬وهو يتوافق معه إذا‪ ،‬إالّ أن ذلك ال يتعدى درجة معينة‪ .‬فطبيعة الشكل‬
‫األكثــر حتجـرا تتعــارض مــع كــل توافــق مطلــق ودائــم مــع حركــة هــي النقــيض بالــذات‬
‫لكل ما هو متحجر‪.‬‬
‫ب‪ .‬األسباب والنتائج‬
‫كل حركة تربز كسلسلة متداخلة من األسباب والنتـائج‪ ،‬ميزجهـا بعضـها بـبعض‬
‫تفاعــل معقــد جــدا‪ ،‬للوهلــة األوىل‪ .‬إن ســبب العمــل املــأجور هــو التملــك اخلــاص‬
‫لوســائل االنتــاج الــيت أصــبحت حكـرا علــى طبقــة اجتماعيــة‪ ،‬إالّ أن هــذا االحتكــار‬
‫يس ــتمر بالض ــبط كنتيج ــة للعم ــل امل ــأجور‪ .‬ف ــاألجور ال تس ــمح باكتس ــاب العم ــال‬
‫وسائل اإلنتاج‪ ،‬والعمل املأجور ينتج فائض قيمة يستملكه الرأمسـاليون ويتحـول إىل‬
‫ملكية بورجوازية لوسائل إنتاج إضافية‪ ،‬وهكذا دواليك‪.‬‬
‫لك ــي ال نق ــع يف انتقائي ــة مبتذل ــة وعقيم ــة‪ ،‬علين ــا تطبي ــق الطريق ــة التكوني ــة‪ ،‬أي‬
‫البحــث عــن األصــل التــارخيي للحركــة الــيت حنـن بصــددها‪ .‬هكــذا جنــد أن رأس املــال‬
‫وفائض القيمة سـابقان للعمـل املـأجور‪ ،‬وأهنمـا انبثقـا مـن خـارج دائـرة اإلنتـاج‪ ،‬وأنـه‬
‫قد حصل تراكم بدائي لرأس املال‪ ،‬يكسر حلقة األسباب والنتائج‪ ،‬عمل مـأجور‪-‬‬
‫رأس املال‪-‬عمل مأجور‪ ،‬هذه احللقة املقفلة يف الظاهر‪.‬‬
‫جـ‪ .‬العام واخلاص‬
‫لكل حركـة وكـل ظـاهرة ميـزات خاصـة هبـا‪ .‬ورغـم هـذه امليـزات النوعيـة اخلاصـة‪،‬‬
‫فكــل حركــة‪ ،‬كــل ظــاهرة‪ ،‬ال ميكــن فهمهــا وتفســريها إالّ يف إطــار جمموعــات أوســع‬
‫وأعــم‪ ،‬فالرأمساليــة الربيطانيــة يف القــرن التاســع عشــر ال تشــبه الرأمساليــة الربيطانيــة يف‬
‫النصــف الثــاين مــن القــرن العش ـرين‪ ،‬وال الرأمساليــة األمريكيــة احلاليــة‪ .‬كــل مــن هــذه‬
‫الرأمساليــات ميثــل تكوينــا اجتماعيــا خاصــا‪ ،‬مــع االخن ـراط اخلــاص يف اقتصــاد عــاملي‬
‫تغ ــري ج ــدا يف ظ ــرف ق ــرن‪ .‬بي ــد أن ــه ال ميك ــن فه ــم الرأمسالي ــة الربيطاني ــة يف العص ــر‬
‫الفيكتوري‪ ،‬وال الرأمسالية الربيطانية اآلفلة املعاصـرة‪ ،‬وال الرأمساليـة األمريكيـة احلاليـة‪،‬‬

‫‪177‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫خارج قوانني التطور العامة اليت تطبع الرأمسالية عمومـا‪ .‬فالـديالكتيك العـام واخلـاص‬
‫ال يكتفـي ب ـ«دغـم» حتليــل «العـام» و«اخلـاص»‪ .‬إنـه جيتهــد يف تفسـري اخلـاص تبعــا‬
‫للقوانني العامة‪ ،‬ويف تعديل القوانني العامة تبعا لفعل العديد من العوامل اخلاصة‪.‬‬
‫د‪ .‬النسيب واملطلق‬
‫إن فهــم احلركــة أو التبــدل الشــامل هــو فهــم وجــود مــا ال هنايــة لــه مــن احلــاالت‬
‫االنتقاليــة‪« .‬احلركــة هــي وحــدة التواصــل واالنقطــاع» (هيغــل)‪ .‬لــذا فــإن واحــدة مــن‬
‫امليـزات األساســية للــديالكتيك هــي فهــم نســبية األشــياء‪ ،‬هــي رفــض إقامــة ح ـواجز‬
‫مطلق ــة ب ــني املق ــوالت‪ ،‬الس ــعي وراء توس ــطات ب ــني العناص ــر املتعارض ــة‪ .‬ويس ــتتبع‬
‫التط ــور الش ــامل وج ــود ظ ــاهرات هجين ــة‪ ،‬وج ــود أوض ــاع وح ــاالت «انتقالي ــة» ب ــني‬
‫احليات واملوت‪ ،‬بني األنواع النباتية واحليوانية‪ ،‬بني العصـافري والثيـديات‪ ،‬بـني القـرود‬
‫واإلنسان‪ ،‬جتعل التمايزات بني كل هذه املقوالت نسبية‪.‬‬
‫بي ــد أن ال ــدياليكتيك ق ــد اس ــتخدم مـ ـرارا عدي ــدة بص ــورة ذاتي ــة‪ ،‬ك ـ ـ«ف ــن خل ــط‬
‫املفارق ــات» أو «ف ــن ال ــدفاع ع ــن املفارق ــات»‪ .‬ويكم ــن الف ــرق ب ــني ال ــدياليكتيك‬
‫العلمـ ــي‪ ،‬أداة معرفـ ــة الواقـ ــع‪ ،‬والـ ــديالكتيك الـ ــذايت أو السفسـ ــطائية‪ ،‬يف أن نسـ ــبية‬
‫الظــاهرات واملقــوالت تصــبح بــدورها شــيئا مطلقــا لــدى السفســطائيني‪ .‬إهنــم ينســون‬
‫(أو يتناسون) أن نسبية املقوالت ليست سوى نسبية جزئية‪ ،‬ال نسبية مطلقة‪ ،‬وأنه‬
‫ينبغي إذا تنسيب النسبية‪.‬‬
‫يق ــول ال ــديالكتيك العلم ــي أن الف ــرق «املطل ــق» ب ــني احلي ــاة وامل ــوت حي ــد م ــن‬
‫إطالقيته وجود حاالت إنتقاليـة‪ .‬كـل شـيء نسـيب‪ ،‬فلـيس الفـرق بـني احليـاة واملـوت‬
‫إذا إال نس ـ ـ ـ ــبيا‪ ،‬إذا مل يك ـ ـ ـ ــن مع ـ ـ ـ ــدوما‪ ،‬حس ـ ـ ـ ــب ادع ـ ـ ـ ــاء السفس ـ ـ ـ ــطائي‪ .‬إالّ أن‬
‫الديالكتيكي يرد عليه بقوله‪ :‬مثة شيء مطلق يف الفرق بني احلياة واملـوت‪ ،‬ال نسـيب‬
‫وحسب‪ .‬جيـب أالّ خنـرج باالسـتنتاج العبثـي الـذي يكمـن يف إنكـار أن املـوت يبقـى‬
‫نفي احلياة‪ ،‬إنطالقا من الواقع الثابت أن مثة العديد من املراحل الوسطية‪.‬‬

‫‪178‬‬
‫الدياليكتيك املادي‬

‫‪ .6‬الحركة‪ ،‬تبعا للكلية ‪ -‬المجردة والملموس‬

‫رأينا أن كل حركـة تـرتبط علـى الـدوام بالتناقضـات الداخليـة للظـاهرة أو جملموعـة‬


‫الظــاهرات املــأخوذة باالعتبــار‪ .‬كــل ظــاهرة ‪-‬أكانــت خليــة حيــة‪ ،‬أو بيئــة طبيعي ــة‬
‫تتعــايش فيهــا أجنــاس متنوعــة‪ ،‬أو جمتمعــا إنســانيا‪ ،‬أو نظامــا كواكبيــا ‪ -‬تنطــوي مــع‬
‫ذلــك عل ـى مــا ال حيصــى مــن الوجــوه والعناصــر املكونــة‪ .‬وال تتجمــع هــذه العناصــر‬
‫بعضــها مــع بعــض بصــورة عرضــية ومتبدلــة باســتمرار‪ ،‬بــل تشــكل جمموعــات مبنيــة‪،‬‬
‫تشكل كلية مركبة بناء على قوانني حمددة‪.‬‬
‫هك ــذا فالعالق ــات املتبادل ــة واملتض ــادة‪ ،‬يف اجملتم ــع البورج ـوازي‪ ،‬ب ــني رأس امل ــال‬
‫والعمــل ليســت عرض ـية علــى االطــالق‪ ،‬بــل حيــددها االضــطرار االقتصــادي للعامــل‬
‫املــأجور إىل بيــع قــوة عملــه للرأمســايل مالــك وســائل اإلنتــاج ووســائل االســتمرار علــى‬
‫قيــد احليــاة‪ ،‬بشــكل بضــائع‪ .‬إن عالقــات متبادلــة خمتلفــة نوعيــا عــن هــذه العالقــات‬
‫أنتج ــت جمتمع ــات أخ ــرى قائم ــة عل ــى االس ــتغالل‪ ،‬إالّ أهن ــا مل تك ــن مبجتمع ــات‬
‫رأمسالية‪.‬‬
‫على الدياليكتيك املادي إذا أن يتناول كل ظاهرة‪ ،‬وكل موضوع حتليل ومعرفـة‪،‬‬
‫ال فقــط ليحــدد تناقضــاته الداخليــة الــيت تــتحكم بتطــوره (« ق ـوانني تطــوره »)‪ ،‬بــل‬
‫علي ــه أن يس ــعى ك ــذلك لتن ــاول تل ــك الظ ــاهرة بص ــورة امجالي ــة‪ ،‬وأن يفهمه ــا بك ــل‬
‫جوانبهــا‪ ،‬ويعتربهــا بكليتهــا‪ ،‬ويتحاشــى كــل مقاربــة مــن جانــب واحــد‪ ،‬تعــزل هــذا‬
‫الوجه اخلاص أو ذاك من وجوه الواقع عزال اعتباطيا‪ ،‬وتلغي باالعتباط ذاتـه هـذا أو‬
‫ذاك مــن وجــوه‪ ،‬وتعجــز بالتــايل عــن فهــم التناقضــات مبجملهــا‪ ،‬إذا عــن فهــم احلركــة‬
‫بكليتها‪.‬‬
‫إن ق ــدرة ال ــدياليكتيك ه ــذه عل ــى أن ي ــدمج يف حتليل ــه امل ــنهج «الش ــمويل» (أو‬
‫‪ Allseitigkeit‬كما يقول لينني باألملانية والروسية) هي إحدى جداراتـه الرئيسـية‪.‬‬
‫و«منطــق احلركــة» و«منطــق التنــاقض» و«منطــق الكليــة» مرادفــات علــى املســتوى‬

‫‪179‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫العمل ــي‪ .‬إن بع ــض املفكـ ـرين غ ــري ال ــديالكتيكيني ميض ــون م ــن الكل ــي إىل اجلزئ ــي‪،‬‬
‫مفــرغني التنــاقض والكليــة يف الوقــت ذاتــه‪ ،‬وذلــك فيمــا يغمضــون األعــني إزاء بعــض‬
‫عناصر الواقع املتناقضة اليت تبدو كما لو كانت جتعل التحليل « عظيم التعقيد »‪.‬‬
‫طبعا إن اختزاال ما‪« ،‬حصرا» لـ«الكليـة» بعناصـرها املكونـة احلامسـة‪ ،‬أمـر حمتـوم‬
‫كمســعى أول ملقاربــة أي حتليــل علمــي‪ .‬وهــذا األخــري هــو يف البــدء جمــرد بالضــرورة‪،‬‬
‫فب ــدون ه ــذا التجري ــد يس ــتحيل حتلي ــل الظ ــاهرة يف حركته ــا وم ــع تناقض ــاهتا‪ .‬ك ــل‬
‫«تفســري» يبق ــى متعلق ــا بالظ ــاهرات الظ ــاهرة هــو وص ــف أكث ــر من ــه تفس ــري علم ــي‬
‫جلوهر تلـك الظـاهرات‪ .‬إن األسـعار مـثال هـي ظـاهرات ظـاهرة‪ ،‬والقيمـة‪ ،‬أو العمـل‬
‫االجتماعي‪ ،‬هي اجلوهر‪.‬‬
‫إالّ أنــه ينبغــي أالّ ننســى أن س ـريورة التجريــد احملتومــة هــذه تفقــر الواقــع‪ .‬فكلمــا‬
‫اقرتبنا أكثر من الواقع كلما اقرتبنا من كلية غنية مبا ال حيصـى مـن الوجـوه الـيت علـى‬
‫التحليـل العلمـي واملعرفـة أن يفسـراها يف عالقاهتـا املتبادلـة ويف عالقاهتـا املتناقضــة يف‬
‫الوقت ذاته‪« :‬احلقيقة دائما ملموسة » (لينني)‪ « .‬احلقيقي هو الكلية » (هيغـل)‪.‬‬
‫إن الكلية هي جممل اجلوهر‪ ،‬ومظاهره‪ ،‬والتوسطات اليت تفسـر ملـاذا يتجلـى اجلـوهر‬
‫يف هذه املظاهر بالضبط ال يف مظاهر أخرى‪.‬‬

‫‪ .7‬النظرية والممارسة‬

‫إن الدياليكتيك نظرية‪ ،‬أو أداة‪ ،‬للمعرفة‪ .‬ميكن أن نعـرف الـدياليكتيك املـادي‪،‬‬
‫تارخييا‪ ،‬كنظرية املعرفة لدى الربوليتاريا (وهـو مـا ال يـنقص يف شـيء طابعهـا العلمـي‬
‫املوضــوعي الــذي يتطلــب تثبتــا دائمــا‪ ،‬وصــارما‪ ،‬وموضــوعيا‪ ،‬مــن دون مســبقات أو‬
‫حتيّـزات‪ ،‬يف امليــدان العلمــي أيضــا)‪ .‬وكــل نظريـة للمعرفــة ختضــع المتحــان صــارم هــو‬
‫امتحان املمارسة‪.‬‬
‫ليس ــت املعرف ــة ذاهت ــا‪ ،‬يف التحلي ــل األخ ــري‪ ،‬ظـ ـاهرة منفص ــلة ع ــن حي ــاة الن ــاس‬
‫ومصاحلهم‪ .‬فهي سالح للمحافظة على النوع‪ ،‬وسالح يسـمح لالنسـان بالسـيطرة‬

‫‪181‬‬
‫الدياليكتيك املادي‬

‫علــى قــوى الطبيعــة‪ ،‬وســالح لفهــم (الحــق) جلــذور «املســألة االجتماعيــة» ووســائل‬
‫حلهــا‪ .‬لقــد انبثقــت املعرفــة إذا مــن املمارســة االجتماعيــة لــدى االنســان‪ ،‬ووظيفتهــا‬
‫حتسـ ــني هـ ــذه املمارسـ ــة‪ .‬وتقـ ــاس فعاليتهـ ــا يف التحليـ ــل األخـ ــري بنتائجهـ ــا العمليـ ــة‪،‬‬
‫فالتثبت العملي من صحتها أفضل سالح ضد السفسطائيني واملتشككني‪.‬‬
‫ال يعــين ذلــك أن النظريــة تــذوب يف برنــامج مبتــذل قصــري النظــر‪ .‬فغالبــا مــا ال‬
‫تظه ــر ف ــورا الفعالي ــة العملي ــة‪ ،‬والط ــابع «الص ــحيح» أو«املغل ــوط» لفرض ــية علمي ــة‪.‬‬
‫هنا ل ـ ــك حاج ـ ــة للوق ـ ــت‪ ،‬للمس ـ ــافة‪ ،‬لتج ـ ــارب جدي ـ ــدة‪ ،‬ولسلس ـ ــلة متتالي ـ ــة م ـ ــن‬
‫«امتحانات املمارسة» قبل أن يتمكن الطابع العملي لنظرية حمددة من فرض نفسه‬
‫فعليا يف املمارسة‪ .‬ميكن للعديـد مـن الرجـال والنسـاء‪ ،‬أسـرى املظـاهر‪ ،‬وأسـرى رؤيـة‬
‫جزئية وسطحية للواقع‪ ،‬رؤية مؤقتة للسريورة الثورية (اليت حتددها بدورها أيديولوجية‬
‫الطبق ــات أو الشـ ـرائح االجتماعي ــة غ ــري الثوري ــة)‪ ،‬أن يش ــكوا‪ ،‬رغ ــم أفض ــل النواي ــا‬
‫والقناعات االشرتاكية‪ ،‬بعضهم بالطابع البورجـوازي للدميوقراطيـة الربملانيـة‪ ،‬وبعضـهم‬
‫بضـ ــرورة ديكتاتوري ـ ــة الربوليتاري ـ ــا‪ ،‬وال ـ ــبعض اآلخـ ــر بض ـ ــرورة انتص ـ ــار الث ـ ــورة األممي ـ ــة‬
‫الستكمال بناء جمتمع اشرتاكي حقا يف االحتاد السوفيايت أو يف بلد آخر‪.‬‬
‫بيــد أن الوقــائع تنتهــي يف خامتــة املطــاف باثبــات أي نظريــة كانــت علميــة حقــا‪،‬‬
‫أي قــادرة علــى فهــم الواقــع بكــل تناقضــاته‪ ،‬وكــل حركتــه االمجاليــة وأي الفرضــيات‬
‫كانــت خاطئــة‪ ،‬إي قــادرة علــى أن تفهــم فقــط أج ـزاء مــن الواق ـع‪ ،‬عــرب عزهلــا عــن‬
‫الكليــة املبنيــة‪ ،‬وبالتــايل عــاجزة عــن فهــم احلركــة علــى املــدى الطويــل بالــدياليكتيكها‬
‫األساســي‪ .‬إن انتص ــار الثــورة االش ـرتاكية العامليــة‪ ،‬وبل ــوغ جمتمــع ال طبق ــي‪ ،‬س ــوف‬
‫يثبتان عمليا صحة النظرية املاركسية الثورية‪.‬‬

‫المراجع‬
‫‪ ‬فريدريك إجنلز‪ ،‬لودينغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكالسيكية األلمانية‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫‪ ‬فريدريك إجنلز‪ ،‬دحض دوهرينغ‪ ،‬اجلزء األول‪.‬‬


‫‪ ‬لينني‪ ،‬دفاتر حول الديالكتيك‪.‬‬
‫‪ ‬هنري لوفيفر‪ ،‬المنطق الصوري والمنطق الديالكتيكي‪.‬‬
‫‪ ‬بليخانوف‪ ،‬مسائل أساسية في الماركسية‪.‬‬
‫‪ ‬جورج نوفاك‪ ،‬مدخل إلى المنطق الماركسي‪.‬‬
‫‪ ‬بوخارين‪ ،‬المادية التاريخية‪.‬‬
‫‪ ‬جورج لوكاش‪ ،‬التاريخ والوعي الطبقي (الفصالن األوالن)‬

‫‪182‬‬
‫(‪)17‬‬
‫المادية التاريخية‬
‫نــرى يف اخلتــام أن نصــوغ بصــورة أكثــر منهجيــة املوضــوعات األساســية للماديــة‬
‫التارخيية‪ ،‬اليت جرى اإلملام هبا سريعا يف الفصول األوىل من هذا الكتيب‪.‬‬

‫‪ .1‬اإلنتاج والتواصالت اإلنسانية‬

‫املخلوق الذي أصـبح إنسـانا حيـوان خـاص مـن حيـث مواصـفاته ونقـاط ضـعفه‬
‫البدنية‪ .‬فمن جهـة هنـاك القامـة الواقفـة‪ ،‬واليـد ذات اإلهبـام احلـر واملطـواع‪ ،‬والعينـان‬
‫املرتفعتــان اللتــان تســمحان بالرؤيــة الناتئــة‪ ،‬واللســان واحللــق واألوتــار الصــوتية الــيت‬
‫تسمح بالتلفظ بأصوات متقطعة ومدموجة‪ ،‬والفـص اجلبهـي مـن الـدماغ والتالفيـف‬
‫املخية وقشـرة الـدماغ املتطـورة جـدا‪ ،‬والتكـوير اجلمجمـي واحلـد مـن مسـاحة الوجـه‪،‬‬
‫اليت تسمح هبذا التطور‪ :‬هذه الصفات اجلسدية مجيعا ال غىن عنها مـن أجـل صـنع‬
‫األدوات‪ ،‬وهي تتحسن مع حتسن األدوات والعمل اإلنتاجي‪.‬‬
‫لكـن مــن جهــة أخــرى‪ ،‬معظــم احلـواس واألعضــاء البشــرية أقــل تطــورا منهــا لــدى‬
‫أن ـواع حيوانيــة متخصصــة جــدا‪ .‬فلــم يكــن بوســع اإلنســان البــدائي‪ ،‬املضــطر حتــت‬
‫وطأة تغيـري يف املنـاخ حتمـا للرتجـل مـن األشـجار والعـيش يف السـهول املعشـبة علـى‬
‫غــذاء متنــوع‪ ،‬أن يــدافع عــن نفســه ضــد آكــالت اللحــوم مــن احليوانــات عــن طريــق‬
‫ال ـ ــركض ك ـ ــالظيب‪ ،‬وال ع ـ ــن طري ـ ــق التس ـ ــلق كالش ـ ــمبانزي‪ ،‬وال ع ـ ــن طري ـ ــق الط ـ ـريان‬
‫كالعصــفور‪ ،‬وال باالكتفــاء بقوتــه البدنيــة كاجلــاموس أو الغــوريال‪ ،‬وال بفضــل قوقعــة‬
‫كتلك اليت لوحيد القرن‪ .‬مل يكـن بوسـعه احلصـول لوحـده علـى الغـداء األكثـر إثـارة‬
‫للقابلي ــة‪ ،‬نظـ ـرا لوج ــود ع ــدد ال حيص ــى م ــن اجملـ ـرتات ال ــيت تع ــيش مع ــه يف الس ــهل‬
‫املعشــب‪ .‬مث أن الوليــد البشــري كــان س ـريع العطــب وعــاجزا بوجــه خــاص‪ ،‬وغرائــزه‬

‫‪183‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫قليل ــة النم ــو بوض ــوح‪ ،‬وه ــو مبثاب ــة جن ــني حقيق ــي خ ــارج ال ــرحم حمت ــاج كلي ــا لعناي ــة‬
‫أمهـات اجلماعـة (إن وضــع الوقـوف الــذي ضـيّق حـوض النســاء سـاهم بالتأكيــد يف‬
‫هذا الطابع املبكر للوضع لدى أفراد اجلنس البشري)‪.‬‬
‫يف هـ ــذا اخللـ ــيط مـ ــن املي ـ ـزات ونقـ ــاط الضـ ــعف متـ ــد اجلـ ــذور إمكانيـ ــة التنظـ ــيم‬
‫االجتماعي وضرورته‪ .‬فاإلنسان عاجز عن احلياة منعزال وعـن تـأمني معيشـته خـارج‬
‫التعــاون مــع آخـرين مــن نوعــه‪ .‬وال تســمح لــه أعضــاء جســده غــري الناميــة باحلصــول‬
‫مباشــرة علــى طعامــه‪ ،‬إذ عليــه أن ينــتج هــذا الطعــام بصــورة مجاعيـة‪ ،‬بواســطة أدوات‬
‫تشكل امتدادا ألعضائه وحتسينا هلا‪ .‬ذلك هو العمل املشـرتك جملموعـة بشـرية تـؤمن‬
‫هذا اإلنتاج‪ .‬إن األطفال البشريني ينـدجمون باجلماعـة عـن طريـق الكسـب التـدرجيي‬
‫للطـ ــابع االجتمـ ــاعي ويتعلمـ ــون قواعـ ــد االسـ ــتمرار يف احليـ ــاة وتقنيتـ ــه كأعضـ ــاء يف‬
‫اجلماعة‪.‬‬
‫إن التنظــيم االجتمــاعي للبشــر واكتســاب األطفــال الطــابع االجتمــاعي يفرضــان‬
‫مســبقا أشــكاال عاليــة نوعيــا مــن التواصــالت بــني أعضــاء اجلماعــة البشـرية‪ ،‬بالنســبة‬
‫إىل تلك اليت تعرفها أنواع حيوانية أخرى‪ .‬هذه األشـكال الرفيعـة مـن اللغـة‪ ،‬املرتبطـة‬
‫بتطــور القشــرة الدماغيــة‪ ،‬تســمح بــانطالق القــدرة علــى التجريــد‪ ،‬وعلــى الــتعلم‪ ،‬أي‬
‫حفــظ دروس التجــارب ونقلهــا‪ ،‬كمــا تســمح بإنتــاج املفــاهيم والفكــر والــوعي‪ .‬هبــذا‬
‫املع ــىن‪ ،‬تـ ـرتبط مواص ــفات اإلنس ــان املختلف ــة ‪« -‬ص ــفتنا األنرتبولوجي ــة» ‪ -‬ارتباط ــا‬
‫وثيقا بعضها بالبعض اآلخر‪ .‬فلكون االنسان «قردا عاريـا يسـري واقفـا» وألنـه يبقـى‬
‫بعد والدتـه «جنينـا خـارج الـرحم»‪ ،‬عليـه أن يصـري صـانع أدوات‪ ،‬حيوانـا اجتماعيـا‬
‫مطــورا للغتــه‪ ،‬خيتــزن االنطباعــات والصــور املتتاليــة‪ ،‬قــادرا علــى اســتخدامها لغايــات‬
‫التجريد‪ ،‬قادرا على التفكري والتخيل واالخرتاع‪.‬‬
‫إن التفاعـل بــني هــذه املواصـفات ودغمهــا أمــر حاســم‪ ،‬فثمـة قــرود متطــورة جــدا‬
‫تســتخدم أدوات وتس ــتطيع ح ــىت أن تتخط ــى أحيان ــا عتب ــة ص ــناعتها البدائي ــة‪ ،‬ومث ــة‬
‫العديد من األنواع اليت تعرف أشكاال غريزية من التعاون اجلمـاعي‪ ،‬ال بـل مثـة أنـواع‬

‫‪184‬‬
‫املادية التارخيية‬

‫كثــرية تعــرف أشــكاال بدائيــة مــن التواصــل‪ .‬إالّ أن النــوع البشــري هــو الوحيــد القــادر‬
‫علــى صــنع األدوات بصــورة واعيــة أكثــر فــأكثر‪ ،‬مــن أجــل أن تصــري أكثــر فــأكثر‬
‫اتقان ــا‪ ،‬بع ــد أن مت تص ــميمها عل ــى ه ــذا احل ــال بش ــكل واع‪ ،‬عل ــى قاع ــدة التجرب ــة‬
‫التدرجييــة‪ ،‬الــيت يــتم نقلهــا بفضــل وســائل اتصــال أكثــر فــأكثر تنوعــا وأكثــر فــأكثر‬
‫اتقانـا‪ .‬فـاألدوات تسـمح بتحريـر الفهـم‪ ،‬وهـو مـا يسـمح بتحسـني األداة عـن طريــق‬
‫إتقان اللغة والقدرة على التجريد‪ّ .‬أما اليد فتطور الدماغ الذي خيلـق شـروط حتسـني‬
‫قدراته عن طريق حتسني استخدام اليد‪.‬‬
‫إذا كــان حتويــل املقــدمات البشـرية إىل بشــر مشــروطا بوجــود بنيــة حتتيــة تشــرحيية‬
‫وعصــبية‪ ،‬فهــو ال يقتصــر علــى هــذه البنيــة التحتيــة‪ .‬فالــديالكتيك «إنتــاج‪ /‬وســائل‬
‫اتصال» خيلق إمكانيـة تطـور غـري حمـدود لصـنع األدوات‪ ،‬وبالتـايل اإلنتـاج البشـري‪،‬‬
‫تط ــور غ ــري حم ــدود للتج ــارب وإمكان ــات ال ــتعلم البش ـرية‪ ،‬إذا مطاوع ــة وق ــدرة عل ــى‬
‫التكيف غري حمدودتني عمليـا لـدى اجلـنس البشـري‪ .‬يصـبح اجملتمـع وثقافـة اإلنسـان‬
‫املادية طبيعته الثانية‪.‬‬
‫ينتج عن ذلك أنـه مـن العبـث إعـالن هـذه أو تلـك مـن املؤسسـات االجتماعيـة‬
‫(امللكية اخلاصة‪ ،‬انعدام امللكية اخلاصة) «متعارضة مع الطبيعة البشرية»‪ ،‬فاإلنسان‬
‫عاش‪ ،‬وميكنه أن يعيش‪ ،‬ضمن أقصى الشروط تنوعا‪ ،‬وما من مؤسسة بدت ممتنعة‬
‫على التحول أو شرطا مسبقا مطلقا الستمرار اإلنسان على قيد احلياة‪ .‬إن التأكيد‬
‫أن «الغريزة العدوانية» سوف هتيمن على التطور البشـري إمنـا هـو اخللـط بـني وجـود‬
‫ميل (يتعايش يف كـل حـال مـع نفيـه‪ ،‬الـذي هـو غريـزة احلـس االجتمـاعي والتعـاون)‬
‫وحتقيق ــه‪ .‬فالت ــاريخ وم ــا قب ــل الت ــاريخ يؤك ــدان وج ــود مؤسس ــات وش ــروط اجتماعي ــة‬
‫تسمح باحتواء هذا االجتاه وكبته‪ ،‬بينما مثة مؤسسـات أخـرى تشـجع علـى العكـس‬
‫جتليه األكثر فأكثر إفراطا‪.‬‬
‫إن ديالكتيــك «اإلنتــاج ‪ -‬التـواص » يــتحكم بالشــرط اإلنســاين بكاملــه‪ .‬فكــل‬
‫مـا يصــنعه اإلنســان «ميــر عــرب رأســه»‪ ،‬واإلنتــاج البشــري يتميــز عــن التملــك احليـواين‬

‫‪185‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫للغذاء بواقع كونه لـيس نشـاطا غريزيـا‪ .‬إنـه يشـكل عمومـا تنفيـذا ملشـروع جيـول أوال‬
‫يف رأســه‪ ،‬إالّ أن هــذا «املشــروع» ال يســقط مــن الســماء‪ ،‬وهــو لــيس ســوى عمــد‬
‫دم ـ ــاغ اإلنس ـ ــان إىل إع ـ ــادة إنت ـ ــاج‪ ،‬أو ت ـ ــأليف‪ ،‬عناص ـ ــر نش ـ ــاطات ال غ ـ ــىن عنه ـ ــا‬
‫الستمراره ومشكالهتا‪ ،‬اليت اختربها هذا الدماغ وسجلها مئات املرات علـى أسـاس‬
‫ممارســة فعليــة‪ .‬إن املاديــة التارخييــة هــي علــم اجملتمعــات اإلنســانية الــذي حيــاول أن‬
‫يعطي صورة عن ديالكتيك «اإلنتاج ‪ -‬التواصالت البشرية» وأن يشرحه‪.‬‬

‫‪ .2‬القاعدة والبنية الفوقية االجتماعيتان‬

‫علــى كــل جمتمــع بشــري أن ينــتج لكــي يســتمر علــى قيــد احليــاة‪ ،‬فإنتــاج وســائل‬
‫العــيش ‪ -‬بــاملعىن الضــيق أو الواســع للكلمــة‪ ،‬أي كفايــة احلاجــات االســتهالكية ‪-‬‬
‫وأدوات العمــل وم ـواده الضــرورية هلــذا اإلنتــاج‪ ،‬هــو الشــرط املســبق لكــل تنظــيم أو‬
‫نشاط اجتماعي أكثر تعقيدا‪.‬‬
‫تعت ــرب املادي ــة التارخيي ــة أن الطريق ــة ال ــيت ي ــنظم الن ــاس وفق ــا هل ــا إنت ــاجهم امل ــادي‬
‫تشــكل أســاس كــل تنظــيم اجتمــاعي‪ .‬وحيــدد هــذا األســاس بــدوره كــل النشــاطات‬
‫االجتماعيــة األخــرى‪ ،‬مــن مثــل إدارة العالقــات بــني اجلماعــات البش ـرية (ال ســيما‬
‫ظهــور الدولــة وتطورهــا)‪ ،‬واإلنتــاج الفكــري‪ ،‬والقــانون واألخــالق والــدين اخل‪ .‬وهــذه‬
‫النشــاطات العائــدة ‪ -‬كمــا يقــال ‪ -‬للبنيــة الفوقيــة يف اجملتمــع‪ ،‬يــتم ربطهــا باألســاس‬
‫دائما‪ ،‬بصورة أو بأخرى‪.‬‬
‫لقــد صــدمت هــذه الفكــرة الكثــري مــن النــاس وال ت ـزال تصــدمهم‪ .‬فهــل ميكــن‬
‫لألناجي ــل‪ ،‬وش ــعر ه ــومريوس‪ ،‬ومب ــادئ احل ــق الروم ــاين‪ ،‬ومس ــرح شكس ــبري‪ ،‬ورس ــم‬
‫ميكــايالنج‪ ،‬وإعــالن حقــوق اإلنســان‪ ،‬والبيــان الشــيوعي بالــذات‪ ،‬أن تتوقــف علــى‬
‫الطريقــة الــيت كــان معاصــروها حيرثــون حقــوهلم وفقــا هلــا أو يــدعكون األج ـواخ ؟ إن‬
‫فهم موضوعة املادية التارخيية يتطلب البدء بصياغتها بشكل صحيح‪.‬‬

‫‪186‬‬
‫املادية التارخيية‬

‫ال تؤكد املادية التارخيية أبدا أن اإلنتاج املـادي (« العامـل االقتصـادي ») حيـدد‬
‫بص ــورة مباش ــرة وفوري ــة مض ــمون ك ــل النش ــاطات‪ ،‬ال ــيت تنس ــب إىل البني ــة الفوقي ــة‪،‬‬
‫وشـكلها‪ .‬واألسـاس االجتمـاعي ‪ -‬لـيس النشــاط اإلنتـاجي مـن حيـث هـو كــذلك‪،‬‬
‫كما ليس «اإلنتاج املادي» منظورا إليه لوحده‪ ،‬بـل هـو العالقـات االجتماعيـة الـيت‬
‫يعق ــدها الن ــاس فيم ــا ينتج ــون حي ــاهتم املادي ــة‪ .‬فاملادي ــة التارخيي ــة ليس ــت إذا حتمي ــة‬
‫اجتماعية ‪ -‬اقتصادية‪.‬‬
‫مث إن النش ــاطات عل ــى مس ــتوى البني ــة الفوقي ــة ال ت ــنجم مباش ــرة ع ــن عالق ــات‬
‫اإلنت ــاج االجتماعي ــة ه ــذه‪ ،‬وال تتح ــدد هب ــا إالّ بالدرج ــة األخ ــرية‪ .‬فب ــني مسـ ــتويي‬
‫النشـاط االجتمــاعي سلسـلة مــن التوسـطات ســوف منـر هبــا بإجيـاز يف النقطــة الثالثــة‬
‫من هذا الفصل‪.‬‬
‫أخ ـ ـ ـريا‪ ،‬إذا كـ ـ ــان األسـ ـ ــاس االجتمـ ـ ــاعي حي ـ ــدد بالتحليـ ـ ــل األخـ ـ ــري الظـ ـ ــاهرات‬
‫والنش ــاطات عل ــى مس ــتوى البني ــة الفوقي ــة‪ ،‬ميك ــن هل ــذه اإلخ ــرية أن تبادل ــه الفع ــل‪.‬‬
‫ونكتف ــي مبث ــال يف ه ــذا اجمل ــال‪ .‬فللدول ــة عل ــى ال ــدوام طبيع ــة طبقي ــة حم ــددة‪ ،‬وه ــي‬
‫تتناسب ذا مع قاعدة اجتماعية ‪-‬اقتصادية حمددة‪ ،‬إالّ أهنا تسـتطيع بـدورها تعـديل‬
‫تلك القاعدة جزئيا‪ .‬فدولة امللكية املطلقة (يف القرون السادس عشر والسـابع عشـر‬
‫والثامن عشر‪ ،‬يف أوروبا) الـيت علمـت خـالل قـرون عديـدة علـى انقـاد طبقـة النـبالء‬
‫اإلقطاعية من الدمار االقتصادي عن طريق اقتطاعات من مداخيل طبقة اجتماعية‬
‫أخــرى‪ ،‬كانــت إىل حــد بعيــد وراء إحــالل منــط اإلنتــاج الرأمســايل حمــل منــط اإلنتــاج‬
‫اإلقطاعي عرب تطوير املركنتيلية واالستعمار وتشـجيع املـانيفكتورات والنظـام النقـدي‬
‫القومي‪ ،‬اخل‪.‬‬
‫إن ك ــون النش ــاطات عل ــى مس ــتوى البني ــة الفوقي ــة تتح ــدد يف التحلي ــل األخ ــري‬
‫بالقاعدة االجتماعية ميكن تفسريه بعدة أسباب‪ .‬فمن يشرفون على اإلنتـاج املـادي‬
‫وفائض اإلنتاج اإلجتماعي يشرفون يف الوقـت ذاتـه علـى مـن يتعيشـون علـى فـائض‬
‫اإلنتــاج االجتمــاعي‪ .‬وسـواء وافــق املنظــرون والفنــانون والعلمــاء علــى هــذه التبعيــة أو‬

‫‪187‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫متــردوا عليهــا‪ ،‬فهــي حتــدد مــع ذلــك إطــار نشــاطهم‪ .‬والعالقــات االجتماعيــة علــى‬
‫صعيد اإلنتـاج تولـد نتـائج مـن حيـث أشـكال النشـاط يف دائـرة البنيـة الفوقيـة‪ ،‬وهـذا‬
‫أيضــا مــن قبيــل التكييــف هلــا والــتحكم هبــا‪ .‬إن عالقــات اإلنتــاج ترتافــق بأشــكال‬
‫تواصـل مسـيطرة يف كــل منـوذج مــن اجملتمعـات‪ ،‬وهـو مــا يـؤدي إىل ظهــور بـىن ذهنيــة‬
‫مسيطرة تكيّف أشكال الفكر واخللق الفين اخل‪ .‬اخل‪.‬‬

‫‪ .3‬اإلنتاج المادي واإلنتاج الفكري‬

‫إن ديالكتي ــك األس ــاس‪/‬البني ــة الفوقي ــة االجتم ــاعيني يعي ــدنا إىل العالق ــات ب ــني‬
‫اإلنتاج املادي واإلنتاج الفكري‪ .‬ويسمح تفحص أكثر تعمقا هلذه العالقـات بفهـم‬
‫افضل لتعقيد هذا الدياليكتيك‪ ،‬كما يسـمح كـذلك بـإبراز أمهيـة العنصـر الفاعـل يف‬
‫هذا الدياليكتيك‪ ،‬وهو عنصر ستتم معاجلته يف هناية هذا الفصل‪.‬‬
‫تعترب املادية التارخيية أن عالقات اإلنتاج تشكل أساس كـل جمتمـع‪ ،‬الـذي تقـوم‬
‫علي ــه البني ــة الفوقي ــة‪ :‬ه ــذان املس ــتويان يتعلق ــان يف الواق ــع بش ــكلني متم ــايزين م ــن‬
‫النش ــاط االجتم ــاعي‪ .‬فاإلنت ــاج امل ــادي ه ــو املوض ــوع األساس ــي للنش ــاطات عل ــى‬
‫مس ــتوى األس ــاس االجتم ــاعي واإلنت ــاج األي ــديولوجي (الفلس ــفي وال ــديين والق ــانوين‬
‫والسياســي‪ ،‬اخل) واإلنتــاج الفــين والعلمــي هــو املوض ـوع األساســي للنشــاطات علــى‬
‫مستوى البنية الفوقية االجتماعية‪ .‬طبعا تشمل هذه األخـرية أيضـا نشـاطات جهـاز‬
‫الدولة الـيت ال تقتصـر أبـدا علـى امليـدان اإليـديولوجي وحـده (عاجلنـا مشـكلة الدولـة‬
‫يف الفصل الثالث)‪ .‬لكن إذا استثنينا ذلك‪ ،‬يبدو التمييز الذي أدخلناه مالئما‪.‬‬
‫وجتته ــد املادي ــة التارخيي ــة يف ش ــرح تط ــور ك ــل م ــن ه ــاتني ال ــدائرتني‪ ،‬وت ــداخلهما‬
‫وعالقاهتما املتبادلة‪ ،‬هذا الشرح يدمج أربعة مستويات من التحديد‪:‬‬
‫أ‪ -‬كــل إنتــاج فكــري م ـرتبط بصــورة أو بــأخرى بســريورات عمــل مــادي‪ ،‬وه ــو‬
‫يعمــل علــى الــدوام مــع بنيــة حتتيــة ماديــة خاصــة بــه‪ .‬إن بعــض الفنــون هــي يف البــدء‬

‫‪188‬‬
‫املادية التارخيية‬

‫انبثاق مباشر من العمل املادي (الوظيفة السحرية للرسم البدائي‪ ،‬أصول الـرقص يف‬
‫وضع قواعد احلركات اإلنتاجية‪ ،‬دمج األناشيد يف اإلنتاج‪ ،‬اخل‪.).‬‬
‫إن الثورات التكنولوجية تؤثر تأثريا عميقا يف الفن والعلم واإلنتاج األيـديولوجي‪،‬‬
‫ومثــة علــوم كاهلندســة وعلــم الفلــك واهليــدروغرافيا والبيولوجيــا والكيميــاء انبثقــت يف‬
‫عالقة وثيقـة مـع الزراعـة املرويـة والرتبيـة املتقدمـة للمواشـي وعلـم التعـدين الوليـد‪ّ .‬أمـا‬
‫تقنية الطباعة يف القرن السـادس عشـر‪ ،‬والراديـو والتلفزيـون يف القـرن العشـرين‪ ،‬فهـي‬
‫مل تــؤثر فقــط تــأثريا عميقــا علــى نشــر األفكــار‪ ،‬بــل كــذلك علــى شــكلها‪ ،‬وبعــض‬
‫مضامينها‪ .‬وال جدال يف تأثري اآلالت اإلليكرتونية على تطور العلم خالل الثالثـني‬
‫سنة األخرية‪.‬‬
‫ب‪ -‬كــل إنتــاج فكــري يتطــور تبعــا لــدياليكتيك داخلــي خــاص بتارخيــه‪ .‬فكــل‬
‫فيلسوف‪ ،‬أو حقوقي‪ ،‬أو كاهن‪ ،‬أو عامل‪ ،‬يبدأ طالبا‪ ،‬وعرب دراساته يتمثل مفاهيم‬
‫(أو أنظمــة مفــاهيم) مت إنتاجهــا ســابقا ونقله ــا مــن حيــث هــي مفــاهيم إىل اجلي ــل‬
‫احل ـ ــايل‪ .‬إن املنتج ـ ــني الفك ـ ـريني حيفظ ـ ــون ه ـ ــذه املف ـ ــاهيم‪ ،‬أو فرض ـ ــيات العم ـ ــل أو‬
‫يعدلوهنا أو يقلبوهنا رأسا على عقب‪ ،‬وفقـا لطـرق إنتـاج يسـتعريوهنا أو يبتـدعوهنا يف‬
‫إط ــار ال ــدياليكتيك اخل ــاص لنش ــاطهم‪ .‬وك ــل جي ــل جدي ــد يعم ــل عل ــى اإلحتف ــاظ‬
‫بأجوبة على استفهامات نامجة عن املادة املعاجلة‪ ،‬أو على تعميقها‪ ،‬أو نفضها مـن‬
‫األس ــاس‪ .‬وميكن ــه يف بع ــض األحي ــان أن يكتش ــف اس ــتفهامات جدي ــدة (تتطل ــب‬
‫م ــذاك أجوب ــة « ثوري ــة »‪ :‬الث ــورات العلمي ــة‪ ،‬والفني ــة‪ ،‬والفلس ــفية‪ ،‬اخل‪ ،).‬أو إع ــادة‬
‫اكتشاف استفهامات حنتها جانبا أجيال عديدة سابقة‪.‬‬
‫ج‪ -‬إال أن ه ـ ــذه التع ـ ــديالت يف معاجل ـ ــة املف ـ ــاهيم األيديولوجي ـ ــة‪ ،‬واألش ـ ــكال‬
‫الفنيــة‪ ،‬وفرضــيات العمــل العلميــة‪ ،‬ال حتصــل بشــكل اعتبــاطي‪ ،‬وال ضــمن أي مــن‬
‫الش ــروط االجتماعي ــة‪-‬التارخيي ــة‪ ،‬ب ــل يكيفه ــا‪ ،‬أو يس ــتثريها‪ ،‬أو يس ــمح هب ــا س ــياق‬

‫‪189‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫وحاجــات اجتماعيــة‪-‬اقتصــادية‪ .‬إن االنتقــال مــن االروحيــة (‪ animisme )17‬إىل‬


‫اإلميان باالله الواحـد مل يتحقـق داخـل مجاعـات بدائيـة صـغرية متقوقعـة يف القطـاف‬
‫والص ــيد‪ ،‬كم ــا مل يظه ــر املفه ــوم الث ــوري للح ــق اخل ــاص قب ــل التأس ــيس االجتم ــاعي‬
‫للملكي ــة اخلاص ــة‪ ،‬ومل ميك ــن للنظري ــة العلمي ــة ح ــول القيم ــة‪-‬العم ــل أن تتط ــور قب ــل‬
‫ظهــور الرأمساليــة احلديثــة‪ ،‬كمــا أن تطــور الفيزيــاء امليكانيكيــة وثيــق االرتبــاط بتطــور‬
‫اآلالت‪.‬‬
‫هـذه التحـوالت الكبـرية يف اإلنتـاج الفكــري مرتبطـة ببـىن ذهنيـة خاصـة‪ ،‬حتــددها‬
‫مس ــبقا ب ــىن اجتماعي ــة‪ .‬فل ــيس ص ــدفة أن ك ــل احمل ــاوالت الك ــربى للث ــورة السياس ــية‬
‫واالجتماعية من القـرن الثالـث عشـر إىل القـرن السـابع عشـر قـد عـربت عـن نفسـها‬
‫مجيعـا بالشـكل األيــديولوجي للنضـاالت الدينيــة‪ ،‬نظـرا لألولويـة الــيت اكتسـبها الــدين‬
‫يف البنية الفوقية للمجتمـع اإلقطـاعي‪ .‬كـذلك فـإن صـعود البورجوازيـة احلديثـة خلـق‬
‫ابتداء بالنصف الثاين من القرن السادس عشر بنية ذهنية تنقل االستقالل واملنافسة‬
‫ل ــدى م ــالكي الس ــلع إىل ك ــل حق ــوق اإلنت ــاج الفك ــري (احل ــق الطبيع ــي‪ ،‬امل ــذاهب‬
‫الرتبوي ــة االنس ــية‪ ،‬الفلس ــفة املثالي ــة األملاني ــة‪ ،‬رس ــوم األش ــخاص والطبيع ــة امليت ــة يف‬
‫الرسم‪ ،‬الليربالية السياسية‪ ،‬االقتصاد السياسي الكالسيكي الليربايل‪ ،‬اخل‪.).‬‬
‫د‪ -‬يتحــدد تطــور اإلنتــاج الفكــري أخـريا بالصـراعات بــني املصــاحل االجتماعيــة‪.‬‬
‫فالك ــل يع ــرف أن أعم ــال االنس ــيكلوبيديني وحماج ــات فـ ـولرت وفلس ــفة ج ــان ج ــاك‬
‫روسو السياسية أو حتليل ماديي القرن الثـامن عشـر‪ ،‬كانـت مجيعهـا قـذائف مدفعيـة‬
‫أطلقته ــا البورجوازي ــة املانيفاكتوريـ ــة الص ــاعدة ض ــد امللكيـ ــة املطلق ــة وبقاي ــا اجملتمـ ــع‬
‫اإلقط ــاعي‪ .‬إن الوظيف ــة ال ــيت لعبهـ ـا اإلشـ ـرتاكيون الطوب ــاويون‪ ،‬مث م ــاركس وإجنل ــز‪،‬‬
‫لتسريع وعي الربوليتاريا لطبيعتها الطبقيـة وملوقعهـا ومهامهـا جتـاه اجملتمـع البورجـوازي‬
‫هي كذلك أمر بديهي‪ .‬واليوم أيضا‪ ،‬ال ميكن الشك بوظيفة التنجيم وبعـض البـدع‬

‫)‪ (17‬مذهب حيوية املادة القائل بأن النفس مبدأ الفكر واحلياة العضوية يف آن معا‪( .‬املعرب)‬

‫‪191‬‬
‫املادية التارخيية‬

‫الديني ــة والص ــوفية‪ ،‬والفلس ــفات ال ــيت متج ــد الالعق ــالين وم ــذاهب «ال ــدم واألرض»‬
‫(‪ )Blut und Boden‬مــن حيــث هــي أســلحة معاديــة للعمــال ومعاديــة للثــورة‬
‫تشجع منو مناخ سابق للفاشية‪.‬‬
‫ال تس ــتتبع ه ــذه التحدي ــدات فك ــرة «مـ ـؤامرة منظم ــة» ب ــني طبق ــات اجتماعي ــة‬
‫حمـددة ومنتجــني فكـريني مـن حيــث هــم أفـراد‪ ،‬وال فكــرة تواطــؤ واع مـن جانــب كــل‬
‫هؤالء املنتجني مع مشاريع سياسية حمددة‪ .‬إهنا تعكس تفاعال موضوعيا‪ ،‬ميكـن أن‬
‫يــتم أحيانــا‪ ،‬لكــن لــيس بالضــرورة‪ .‬فــاملنتجون الفكريــون ميكــن أن تســتخدمهم قــوى‬
‫اجتماعي ــة م ــن دون علمه ــم‪ ،‬لك ــن ذل ــك ال يفع ــل أكث ــر م ــن تأكي ــد أن الوج ــود‬
‫االجتمـاعي هــو الـذي حيــدد الــوعي‪ ،‬ال فقـط مبعــىن تكييفــه يف التحليـل األخــري‪ ،‬بــل‬
‫كذلك مبعىن تعيني وظيفة حمددة له يف بنية جمتمع معني ويف تطور هذا اجملتمع‪.‬‬

‫‪ .4‬قوى اإلنتاج وعالقات اإلنتاج االجتماعية وأنماط اإلنتاج‬

‫كــل منــتَج يصــنعه اإلنســان هــو نــاتج دمــج عناصــر ثــالث هــي‪ :‬موضــوع العمــل‬
‫وهو مادة أولية أنتجتها الطبيعة مباشرة أو مداورة‪ ،‬وأداة العمـل‪ ،‬وهـي وسـيلة إنتـاج‬
‫متطورة إىل هذا احلد أو ذاك خلقها اإلنسان (من قضبان اخلشب األوىل ومضارب‬
‫احلجــر املقطــوع إىل املاكينــات اآلليــة األكثــر تطــورا حاليــا‪ ،‬والــذات القائمــة بالعمــل‪،‬‬
‫أي الشــغيل‪ .‬وملــا كــان العمــل دائمــا اجتماعيــا وغــري فــردي بالدرجــة األخــرية‪ ،‬فــإن‬
‫الذات العاملة تدخل حتما يف عالقة إنتاج اجتماعية‪.‬‬
‫وحىت لو كان موضوع العمل وأداة العمل عنصرين ال غىن عنهما لكل إنتاج‪،‬‬
‫ال ميكن تصور عالقات اإلنتاج االجتماعي بصورة « مشيأة » أي ال ينبغي النظر‬
‫إليها كما لو كانت تتعلق بعالقات بني األشياء‪ ،‬أو بني ناس وأشياء‪ .‬إن عالقات‬
‫اإلنتاج االجتماعية تتعلق بعالقات بني البشر‪ ،‬وفقط بعالقات بني البشر‪ .‬وتشمل‬
‫جمموع العالقات اليت يعقدها الناس فيما بينهم أثناء إنتاج حياهتم املادية‪ .‬وال يعين‬
‫« جمموع العالقات » العالقات يف أمكنة العمل حبصر املعىن (« ‪at the point‬‬

‫‪191‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫‪ )» of production‬وحسب‪ ،‬بل كذلك العالقات اليت تتعلق بتداول خمتلف‬


‫عناصر الناتج االجتماعي الضرورية هلذا االنتاج املادي‪ ،‬وبتوزيع تلك العناصر‪،‬‬
‫السيما الطريقة اليت تصل هبا موضوعات العمل وأدوات العمل إىل املنتجني‬
‫املباشرين‪ ،‬والطريقة اليت حيصل هبا هؤالء على معاشهم‪ ،‬اخل‪.‬‬
‫يتوافــق عمومــا مــع درجــة حمــددة مــن تطــور قــوى اإلنتــاج‪ ،‬مــع مقــدار حمــدد مــن‬
‫وسـائل إنتــاج‪ ،‬ومــع تقنيــة عمـل وتنظــيم لــه حمــددين‪ ،‬عالقـات إنتــاج تالئمهــا‪ .‬فلقــد‬
‫كـان صــعبا يف عصــر احلجـر املقطــوع ختطــي الشـيوعية البدائيــة للجماعــة أو القبيلــة‪.‬‬
‫إن الزراعــة علــى أســاس الــري أو بواســطة أدوات حديديــة تنــتج فــائض إنتــاج دائــم‬
‫مهم يؤدي إىل والدة جمتمع طبقي (اجملتمع العبودي وجمتمع منط اإلنتـاج اآلسـيوي‪،‬‬
‫اخل)‪ .‬وختلق الزراعة على أساس إراحة األرض مرة كل ثالث سـنوات أسـس اجملتمـع‬
‫اإلقطـ ــاعي املاديـ ــة‪ّ .‬أمـ ــا والدة اسـ ــتخدام اآلالت فكفلـ ــت هنائيـ ــا صـ ــعود الرأمساليـ ــة‬
‫احلديث ـ ــة‪ .‬إن ـ ــه لص ـ ــعب أن نتصـ ـ ــور التألي ـ ــل املعم ـ ــم دون زوال اإلنت ـ ــاج البضـ ـ ــاعي‬
‫واالقتصاد النقدي‪ ،‬أي خارج جمتمع اشرتاكي مكتمل التطور ومستقر‪.‬‬
‫لكن إذا كان هنالك توافق عام بني درجة تطور قوى اإلنتـاج وعالقـات اإلنتـاج‬
‫االجتماعية‪ ،‬فهذا التوافق ليس مطلقا وال دائما‪ .‬ميكن أن ينـتج فيمـا بينهـا اخـتالل‬
‫مزدوج يف التمفصل‪ .‬فعالقات إنتاج حمددة ميكن أن تصري معيقات النطـالق قـوى‬
‫اإلنتــاج‪ ،‬وتل ــك ه ــي أوض ــح عالم ــة علــى أن ش ــكال اجتماعي ــا معين ــا حمك ــوم علي ــه‬
‫بـ ــالزوال‪ .‬علـ ــى عكـ ــس ذلـ ــك‪ ،‬ميكـ ــن لعالقـ ــات انتـ ــاج جديـ ــدة انبثقـ ــت مـ ــن ثـ ــورة‬
‫اجتماعيــة ظــافرة أن تكــون متقدمــة علــى درجــة تطــور قــوى اإلنتــاج يف البلــد املعــين‪.‬‬
‫تلك كانت حال الثورة الربجوازية الظافرة يف هولندا يف القرن السادس عشر‪ ،‬والثورة‬
‫االشرتاكية الظافرة يف روسيا يف أكتوبر ‪.1719‬‬
‫ليس صـدفة أن تتعلـق هاتـان احلالتـان الرئيسـيتان مـن اخـتالل التمفصـل بفـرتات‬
‫تارخيي ـ ــة تش ـ ــهد هـ ـ ـزات اجتماعي ـ ــة عميق ـ ــة وث ـ ــورات اجتماعي ـ ــة‪ .‬وميك ـ ــن الخ ـ ــتالل‬
‫التمفص ــل أن حي ــدث ك ــذلك مبع ــىن تراج ــع ده ــري لق ــوى اإلنت ــاج‪ ،‬كم ــا يف عص ــر‬

‫‪192‬‬
‫املادية التارخيية‬

‫احنط ــاط اإلمرباطوري ــة الروماني ــة يف الغ ــرب‪ ،‬أو احنط ــاط اخلالف ــة املش ــرقية يف الش ــرق‬
‫األوسط‪.‬‬
‫إن الدياليكتيك بني قوى اإلنتاج وعالقات اإلنتاج االجتماعية هو الـذي حيـدد‬
‫يف القسم األكرب توايل العصور الكربى يف التاريخ اإلنساين‪ ،‬وهـذا أصـح مـن تصـور‬
‫التفاعل فيمـا بينهـا كمـا لـو كـان توافقـا آليـا‪ .‬كـل منـط إنتـاج ميـر مبراحـل متتاليـة مـن‬
‫الــوالدة والصــعود والنضــج واالحنطــاط والســقوط والــزوال‪ .‬هــذه املراحــل تتوقــف يف‬
‫التحليل األخري على الطريقة الـيت تالئـم هبـا عالقـات اإلنتـاج ‪-‬الـيت تكـون يف البـدء‬
‫جديــدة‪ ،‬مث تتوطــد‪ ،‬مث تــدخل يف أزمــة‪ -‬إنطــالق قــوى اإلنتــاج‪ ،‬أو تســمح بــه‪ ،‬أو‬
‫تعيق ــه يوم ــا بع ــد ي ــوم‪ .‬إن التمفص ــل ب ــني ه ــذا ال ــدياليكتيك والصـ ـراع الطبق ــي أم ــر‬
‫بــديهي‪ ،‬فع ــرب عم ــل طبقــة اجتماعي ــة أو ع ــدة طبقــات اجتماعي ــة معين ــة وحس ــب‪،‬‬
‫ميكن لعالقات انتاج حمددة أن تُدخل أو حيافظ عليها أو يتم قلبها‪.‬‬
‫إن كــل تشــكيل اجتمــاعي‪ ،‬أي كــل جمتمــع يف بلــد حمــدد وفــرتة حمــددة‪ ،‬يتســم‬
‫دائما مبجموعة عالقات إنتاج‪ ،‬فتشكيل اجتماعي ليس فيه عالقات إنتاج هو بلد‬
‫ال عمــل فيــه وال إنتــاج‪ ،‬أي بلــد ال ســكان فيــه وال جمتمــع‪ .‬إالّ أن كــل جمموعــة مــن‬
‫عالق ــات اإلنت ــاج االجتماعي ــة ال تس ــتتبع بالض ــرورة وج ــود من ــط إنت ــاج مس ــتقر‪ ،‬وال‬
‫جتانس عالقات اإلنتاج املشار إليها‪.‬‬
‫إن منــط انتــاج مســتقر هــو جمموعــة عالقــات إنتــاج تعيــد إنتــاج ذاهتــا بصــورة آليــة‬
‫إىل هـذا احلـد أو ذاك‪ ،‬عـرب ســري االقتصـاد بالـذات‪ ،‬أو احلركــة العاديـة إلعـادة إنتــاج‬
‫ق ــوى اإلنت ــاج‪ ،‬م ــع وج ــود دور مالئ ــم‪ ،‬مه ــم إىل ه ــذا احل ــد أو ذاك‪ ،‬تت ــواله بع ــض‬
‫عوامل البنية الفوقية االجتماعيـة‪ .‬كانـت تلـك هـي احلـال خـالل قـرون عديـدة‪ ،‬ويف‬
‫بلــدان كثــرية‪ ،‬مــع منــط اإلنتــاج األســيوي‪ ،‬والعبــودي‪ ،‬واإلقطــاعي‪ ،‬والرأمســايل‪ ،‬كمــا‬
‫كانت تلـك هـي حـال منـط إنتـاج الشـيوعية القبليـة‪ ،‬خـالل آالف السـنني‪ .‬إن منـط‬
‫إنتــاج هــو هبــذا املعــىن بنيــة ال ميكــن تعــديلها بشــكل أساســي عــن طريــق التطــور‪ ،‬أو‬
‫التوفيق أو اإلصالح الذايت‪ ،‬إذ ال ميكن ختطي منطقه الداخلي إالّ عرب قلبه‪.‬‬

‫‪193‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫باملقابــل‪ ،‬ميكــن أن نشــهد يف ف ـرتات تارخييــة مــن اخلضــات االجتماعيــة العميقــة‬


‫جمموعــات عالقــات إنتــاج ليســت هلــا طبيعــة منــط إنتــاج مســتقر‪ ،‬واملثــال النمــوذجي‬
‫علــى ذلــك هــو عصــر ســيطرة اإلنتــاج البضــاعي الصــغري (يف القـرنني اخلــامس عشــر‬
‫والسادس عشـر يف هولنـدا وإيطاليـا الشـمالية مث إنكلـرتا) حيـث ال تتفـوق العالقـات‬
‫بــني الســادة واألقنــان‪ ،‬وال عالقــات الرأمس ــاليني واملنتجــني املــأجورين‪ ،‬بــل عالق ــات‬
‫املنتجني األحرار غري املفصولني عن وسائل إنتاجهم‪ .‬واألمر ذاتـه بالنسـبة لعالقـات‬
‫اإلنتــاج املميــزة للــدول العماليــة املبقرطــة اليــوم‪ ،‬ففــي كــال احلــالني ال جنــد منــط إنتــاج‬
‫مستقرا‪ .‬يف كل جمتمعات مراحل االنتقال تلك‪ ،‬ال تكـون عالقـات اإلنتـاج اهلجينـة‬
‫بـىن تعيــد إنتــاج ذاهتــا بـذاهتا بصــورة آليــة إىل هــذا احلـد أو ذاك‪ .‬ميكنهــا أن تقــود إمــا‬
‫إىل إعادة اجملتمع القدمي أو إىل قيـام منـط إنتـاج جديـد‪ .‬هـذا اخليـار التـارخيي حتسـمه‬
‫جمموعة من العوامل اليت يدخل فيها على وجـه اخلصـوص االنطـالق الكـايف أو غـري‬
‫الكايف لقوى اإلنتاج‪ ،‬ونتيجة الصراع الطبقي يف البلد املعين وعلى املستوى العاملي‪،‬‬
‫وتأثري عناصر تابعة للبنية الفوقية وذاتية (دور الدولة‪ ،‬دور احلـزب‪ ،‬مسـتوى كفاحيـة‬
‫الطبقة الثورية ووعيها‪ ،‬اخل)‪.‬‬
‫من جهة أخرى حىت حني يوجد منط إنتـاج مسـتقر‪ ،‬ال تكـون عالقـات اإلنتـاج‬
‫متجانسـ ــة بالضـ ــرورة‪ ،‬ال بـ ــل ال تكـ ــون كـ ــذلك أبـ ــدا‪ .‬مثـ ــة دائمـ ــا يف كـ ــل تشـ ــكيل‬
‫اجتمـاعي ملمــوس‪ ،‬إدغــام بـني عالقــات إنتــاج مميــزة لـنمط إنتــاج قــائم‪ ،‬ورواســب مل‬
‫يــتم امتصاصــها كليــا لعالقــات إنتــاج ســابقة مت ختطيهــا تارخييــا منــذ زمــن طويــل‪ .‬إن‬
‫كــل البلــدان اإلمربياليــة مــا تـزال تعــرف عمليــا‪ ،‬علــى ســبيل املثــال‪ ،‬رواســب اإلنتــاج‬
‫البض ـ ــاعي الص ـ ــغري ( فالح ـ ــون ص ـ ــغار‪ ،‬م ـ ــالكون يعمل ـ ــون دون اللج ـ ــوء لي ـ ــد عامل ـ ــة‬
‫مأجورة)‪ ،‬ال بل رواسب عالقات إنتاج إقطاعية (كاملزارعة)‪ .‬إنه ملربر أن نتكلم يف‬
‫تلك احلاالت على منط إنتاج مستقر حني تكون سيطرة عالقات اإلنتاج املميـزة لـه‬
‫قويــة لدرجــة إعــادة إنتاجهــا آليــا‪ ،‬وفــرض ســيطرة منطقهــا الــداخلي وق ـوانني تطورهــا‬
‫على جممل احلياة االقتصادية‪.‬‬

‫‪194‬‬
‫املادية التارخيية‬

‫إن املثـل املميــز لعالقــات إنتـاج هجينــة يســيطر فيهـا منــط إنتــاج مهيمنـة هــو مثــل‬
‫التش ــكيالت االجتماعي ــة املس ــماة « عاملثالثي ــة » (نس ــبة للع ــامل الثال ــث أو البل ــدان‬
‫املتخلف ــة‪ ،‬أنظ ــر الفص ــل الس ــابع)‪ .‬تتج ــاور هن ــا عالق ــات إنت ــاج س ــابقة للرأمسالي ــة‪،‬‬
‫ونصف رأمسالية‪ ،‬ورأمسالية‪ ،‬مندجمة بصورة جامدة حتت ضغط بىن االقتصاد العاملي‬
‫اإلمربياليــة‪.‬رغــم هيمنــة رأس املــال‪ ،‬ورغــم االخن ـراط يف النظــام االمربيــايل‪ ،‬ال تــتعمم‬
‫عالقات اإلنتاج الرأمسالية (وقبل كل شيء العالقة « عمل مأجور‪-‬رأس مـال منـتج‬
‫»)‪ ،‬رغــم أهن ــا قائم ــة وتتم ــدد ب ــبطء‪ .‬إالّ أن ه ــذا الواق ــع ال ي ــربر أب ــدا اعتب ــار ه ــذه‬
‫التش ــكيالت االجتماعي ــة كم ــا ل ــو كان ــت « بل ــدانا إقطاعي ــة » وال فرض ــية هيمن ــة‬
‫عالقــات اإلنتــاج اإلقطاعيــة أو نصــف اإلقطاعيــة داخلهــا‪ ،‬وهــو خطــأ نظــري يقرتفــه‬
‫العديد من املنظرين الستالينيني أو املاويني‪.‬‬

‫‪ .5‬الحتمية التاريخية والممارسة الثورية‬

‫املادية التارخيية مذهب حتمي‪ .‬فموضوعته األساسية تؤكد أن الوجود‬


‫االجتماعي هو الذي حيدد الوعي االجتماعي‪ .‬وتاريخ اجملتمعات اإلنسانية قابل‬
‫للتفسري وليس عرضيا أو اعتباطيا‪ ،‬فمسريته ال تتوقف على نزوات غري متوقعة‬
‫للتحوالت الوراثية‪ ،‬أو لبعض « الرجال العظام » أو حلشد تعرض لإلشعاعات‬
‫الذرية‪ ،‬وهو يفسر يف التحليل األخري بنية اجملتمع األساسية يف كل عصر حمدد‬
‫وبالتناقضات اجلوهرية لتلك البنية‪ .‬وطاملا بقي اجملتمع منقسما إىل طبقات‪ ،‬فهو‬
‫يفسر إذا بالصراع الطبقي‪.‬‬
‫بيد أنه إذا كانت املادية التارخيية مذهبا حتميا‪ ،‬فهي كذلك باملعىن‬
‫الديالكتيكي للكلمة ال باملعىن امليكانيكي‪ ،‬إذ املاركسية تستبعد اجلربية‪ .‬وملزيد من‬
‫الدقة‪ ،‬فإن كل حماولة لتحويل املاركسية إىل جربية أو إىل تطورية آلية‪ ،‬إمنا تزيل‬
‫منها بعدا أساسيا‪.‬‬

‫‪195‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫ومع أن خيارات البشرية حتددها مسبقا ضغوطات مادية واجتماعية ال ميكنها‬


‫أن تتالفاها‪ ،‬فهي قادرة على أن تصنع مصريها يف إطار هذه الضغوطات‪ .‬إن‬
‫الناس يصنعون تارخيهم‪ ،‬فإذا كانوا نتاج شروط مادية حمددة‪ ،‬فهذه الشروط املادية‬
‫هي بدورها نتاج ممارسة الناس االجتماعية‪.‬‬
‫هذا التخطي للمثالية التارخيية القدمية (« األفكار‪ ،‬أو الرجال العظام‪ ،‬يصنعون‬
‫التاريخ ») وللمادية امليكانيكية القدمية (« الناس نتاج الظروف ») هو بشكل ما‬
‫وثيقة والدة املاركسية‪ .‬جنده يف « املوضوعات حول فيورباخ » اليت تشكل خالصة‬
‫« األيديولوجية األملانية » ملاركس وإجنلز‪.‬‬
‫يعين هذا بني ما يعين أن نتيجة كل عصر كبري من التشنجات االجتماعية يف‬
‫التاريخ غري أكيدة‪ ،‬فقد تؤدي إىل انتصار الطبقة الثورية‪ ،‬وقد تؤدي إىل االحنالل‬
‫املتبادل لكل الطبقات األساسية يف اجملتمع املعني‪ ،‬كما كانت احلال يف هناية منط‬
‫اإلنتاج العبودي القدمي‪ .‬فليس التاريخ جمموع تطورات مستقيمة‪ ،‬والكثري من‬
‫التشكيالت االجتماعية املاضية زالت دون أن ترتك آثارا‪ ،‬السيما بفعل غياب‬
‫طبقة ثورية قادرة على شق الطريق إىل التقدم‪ ،‬أو بفعل ضعفها‪.‬‬
‫إن االحنطاط الواضح للرأمسالية املعاصرة ال يصب يف انتصار االشرتاكية‬
‫اجلربي‪ ،‬بل يف اخليار بني االشرتاكية والرببرية‪ .‬فاالشرتاكية ضرورة تارخيية للسماح‬
‫بانطالق جديد لقوى اإلنتاج موافق إلمكانات العلم والتقنية املعاصرين‪ .‬وهي‬
‫ضرورة إنسانية على وجه اخلصوص‪ ،‬للسماح بكفاية احلاجات اليت أيقضتها‬
‫تطورات العامل الثقنية لدى الناس‪ ،‬ولكفاية هذه احلاجات ضمن شروط تضمن‬
‫تفتح كل الطاقات البشرية الكامنة‪ ،‬لدى كل األفراد‪ ،‬من كل الشعوب‪ ،‬دون‬
‫تدمري توازن البيئة‪ .‬إال أن ما هو ضروري ال يتحقق حتما‪ ،‬فأمل الربوليتاريا الثوري‬
‫والواعي وحده هو الذي يضمن انتصار االشرتاكية‪ ،‬وإالّ فإن الطاقة اإلنتاجية‬
‫الضخمة الكامنة للعلم والتقنية املعاصرين ستظهر يف شكل أكثر فأكثر تدمريا‬
‫للحضارة والثقافة واالنسان والطبيعة‪ ،‬ال بل للحياة على كوكبنا‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫املادية التارخيية‬

‫إن ممارسة الناس االجتماعية هي اليت ختلق البىن االجتماعية اليت حتتويهم فيما‬
‫بعد‪ ،‬وباملمارسة االجتماعية الثورية ميكن قلب هذه البىن بالذات‪ .‬واملاركسية‬
‫حتمية بقدرما تؤكد أن هذه اخلضات ال ميكن أن حتصل يف أي من االجتاهات‪،‬‬
‫فعلى أساس القوى اإلنتاجية املعاصرة تستحيل إعادة إدخال اإلقطاعية أو شيوعية‬
‫مجاعات صغرية مكتفية ذاتيا من املنتجني‪-‬املستهلكني‪ .‬إهنا حتمية مبعىن أن ثورات‬
‫اجتماعية تقدمية (« ‪ )» fortschrittliche‬غري ممكنة إالّ إذا نضجت داخل‬
‫اجملتمع القدمي الشروط املادية املسبقة والقوى االجتماعية اليت تسمح خبلق تنظيم‬
‫اجتماعي أعلى‪.‬‬
‫إالّ أن املاركسية ليست جربية ألهنا ال تفرتض أن جميئ هذا اجملتمع اجلديد‬
‫سيكون الناتج احلتمي لنضج الشروط املسبقة املادية واالجتماعية الضرورية‬
‫لظهوره‪ .‬فهذا اجمليء ال ميكن أن ينجم إال عن نتيجة الصراعات القوى‬
‫االجتماعية احلية‪ .‬إنه ينتج إذا يف التحليل األخري عن درجة فعالية العمل الثوري‪.‬‬
‫فإذا كان هذا بدوره مشروطا جزئيا بظروف وموازين قوى اجتماعية‪ ،‬ميكن للعمل‬
‫يسرعه‪.‬‬
‫الثوري أن يقلب بدوره تطور هذه الظروف وموازين القوى أو يكبحه أو ّ‬
‫حىت موازين قوى مالئمة للغاية ميكن أن « خترهبا » نقاط ضعف ذاتية لدى‬
‫الطبقة الثورية‪ .‬هبذا املعىن يلعب « العامل الذايت التارخيي » (الوعي الطبقي‬
‫والقيادة الثورية للربوليتاريا)‪ ،‬يف عصرنا عصر الثورات والثورات املضادة‪ ،‬دورا رئيسيا‬
‫يف حتديد نتيجة املعارك الطبقية الكربى‪ ،‬لتقرير مستقبل النوع البشري‪.‬‬

‫‪ .6‬االستالب والتحرر‬

‫لقد عاشت البشرية طوال آالف السنني حياة التبعية الشديدة لقوى الطبيعة‬
‫اهلوجاء‪ .‬مل يكن يف وسعها إالّ أن تسعى للتكيف مع بيئة طبيعية معينة‪ ،‬وكل‬
‫جتمع بشري صغري مع بيئته اخلاصة به‪ ،‬وكانت أسرية أفق ضيق وحمدود حىت ولو‬

‫‪197‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫استطاعت جمتمعات بدائية عديدة أن تطور بعض اإلمكانات البشرية بشكل‬


‫مرموق (كالرسم الباليولييت مثال)‪.‬‬
‫ومع تطور قوى االنتاج تتوصل البشرية شيئا فشيئا إىل قلب عالقة التبعية‬
‫املطلقة تلك‪ ،‬وتنجح يف إخضاع قوى الطبيعة أكثر فأكثر‪ ،‬ويف اإلشراف عليها‬
‫وتدجينها واستخدامها بوعي هبدف زيادة إنتاجها وتنويع حاجاهتا وتطوير طاقاهتا‪،‬‬
‫وتوسيع عالقاهتا االجتماعية اليت ختلص إىل مشول كل كوكبنا وإىل احتمال توحيد‬
‫البشرية مجعاء‪.‬‬
‫لكن كلما حترر الناس حيال قوى الطبيعة كلما استلبهم تنظيمهم االجتماعي‬
‫اخلاص هبم‪ .‬فبقدر ما تزيد قوى اإلنتاج‪ ،‬ويتقدم االنتاج املادي‪ ،‬وتصبح عالقات‬
‫اإلنتاج عالقات جمتمع منقسم إىل طبقات‪ ،‬ال تعود البشرية تشرف على جممل‬
‫إنتاجها وال على جممل نشاطها اإلنتاجي‪ ،‬وال تعود تشرف بالتايل على مصريها‬
‫االجتماعي‪ ،‬وفقدان اإلشراف هذا يف اجملتمع الرأمسايل يصبح كليا‪ .‬إن البشرية اليت‬
‫تتحرر من اخلضوع جلربية الطبيعة‪ ،‬تبدو أكثر فأكثر خضوعا جلربية تنظيمها‬
‫االجتماعي‪ .‬كما لو أن مصريا أعمى حيكم عليها بأن ختضع‪ ،‬ال للنتائج احلتمية‬
‫للفيضانات والزالزل واألوبئة ومتوجات اجلفاف‪ ،‬بل لنتائج احلروب واألزمات‬
‫االقتصادية والديكتاتوريات الدموية والتدمري اإلجرامي لقوى اإلنتاج‪ ،‬ال بل اإلبادة‬
‫النووية‪ .‬ويوحي اخلوف من هذه الكوارث بقلق أعظم مما كان يوحي به اخلوف من‬
‫الصواعق واملرض واملوت‪.‬‬
‫إالّ أن التطور اجلامح ذاته‪ ،‬على صعيد قوى اإلنتاج‪ ،‬الذي يدفع إىل احلدود‬
‫القصوى استالب اإلنسان حيال إنتاجه وجمتمعه اخلاصني به‪ ،‬خيلق يف ظل‬
‫الرأمسالية إمكانية حترر حقيقي لإلنسان‪ ،‬كما سبق وأشرنا يف هناية الفصل الثاين‪.‬‬
‫وينبغي أن نتصور هذه اإلمكانية مبعىن مزدوج‪ ،‬فاإلنسانية سوف تصبح أكثر‬
‫فأكثر متكنا من اإلشراف على تطورها االجتماعي كما على خضات البيئة‬
‫الطبيعية اليت حيدث ضمنها‪ ،‬ومن التحكم بذلك كله ذاتيا‪ .‬سوف تتمكن أكثر‬

‫‪198‬‬
‫املادية التارخيية‬

‫فأكثر من تفجري كل امكانات التطور الفردي واإلجتماعي اليت خينقها أو يشوهها‬


‫إىل اآلن تقصريها يف االشراف على قوى الطبيعة وعلى التنظيم والصريورة‬
‫االجتماعيني‪.‬‬
‫ويستتبع بناء جمتمع غري طبقي‪ ،‬مث قيام جمتمع شيوعي‪ ،‬حترر العمل أو حترر‬
‫االنسان من حيث هو منتج‪ .‬يصبح الشغيلة أسياد منتجاهتم وسريورات عملهم‪،‬‬
‫فيختارون حبرية سلم األولويات يف توزيع الناتج االجتماعي‪ ،‬ويقررون مجاعيا‬
‫ودميوقراطيا أعباء اإلنتاج والتضحيات بأوقات الفراغ وباالستهالك اجلاري‪ ،‬اليت‬
‫سوف تتحكم بعملية التوزيع‪.‬‬
‫هذه اخليارات ستظل تتم بالطبع يف إطار ال خيلو من اإلكراه‪ ،‬فما من جمتمع‬
‫بشري قادر على أن يستهلك أكثر مما ينتج‪ ،‬من دون أن حيد من احتياطيه ومن‬
‫موارده اإلنتاجية‪ ،‬أو أن حيكم على نفسه باحلد الحقا من استهالكه املعتاد‪ ،‬مذ‬
‫يبلغ نفاد االحتياطي واحلد من املوارد اإلنتاجية مستوى معينا‪ .‬هبذا املعىن فإن‬
‫عبارة فريديريك إجنلز‪ ،‬اليت ترى أن احلرية هي االعرتاف بالضرورة‪ ،‬تبقى صحيحة‬
‫حىت بالنسبة لإلنسانية الشيوعية‪ .‬وقد يكون استبدال تعبري « االعرتاف بالضرورة‬
‫» بتعبري « االضطالع بأعباء الضرورة » أصح‪ ،‬ألنه كلما زاد إشراف اإلنسان‬
‫على شروط وجوده الطبيعية واالجتماعية كلما زادت أشكال الردود املمكنة على‬
‫الشروط االكراهية وكلما حترر اإلنسان من واجب تبين شكل واحد من الرد‪.‬‬
‫إالّ أن هنالك بعدا ثانيا لتحرير اإلنسان من االستالب يوسع بصورة فريدة‬
‫دائرة احلرية اإلنسانية‪ ،‬فعندما تتم كفاية كل حاجات الناس األساسية‪ ،‬وعندما‬
‫تتأمن إعادة إنتاج هذه الوفرة‪ ،‬يتوقف حل املشكالت املادية عن أن يكون املهمة‬
‫األوىل أمام البشرية‪ ،‬ويتحرر اإلنسان من استعباد العمل اآليل غري اخلالق‪ ،‬ويتحرر‬
‫من ضرورة الوزن الوضيع الستخدام وقته‪ ،‬وختصيصه لإلنتاج املادي على وجه‬
‫اخلصوص‪ .‬يتفوق إذاك تطوير النشاطات اخلالقة لديه وشخصيته الغنية‪ ،‬وتطوير‬

‫‪199‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫عالقات إنسانية أوسع فأوسع‪ ،‬على املراكمة املتواصلة خلريات مادية أقل فأقل‬
‫نفعا‪.‬‬
‫إن املمارسة االجتماعية الثورية سوف ال تكتفي مذاك بقلب عالقات اإلنتاج‪،‬‬
‫بل ستقلب كل التنظيم االجتماعي‪ ،‬وكل العادات التقليدية‪ ،‬كما ستقلب ذهنية‬
‫الناس ونفسيتهم‪ .‬وتذبل األنانية املادية وروح املنافسة بعد أن تكون التجربة اليومية‬
‫واملصاحل العظمى توقفت عن مدمها بالغذاء‪.‬‬
‫وسوف ختص البشرية بيئتها اجلغرافية‪ ،‬وتبدل شكل الكرة وطبيعة املناخ‪،‬‬
‫وتوزيع احتياطات املياه الكربى‪ ،‬يف حني حتفظ التوازن البيئي أو تعيده‪ ،‬ال بل‬
‫ستهز إىل األعماق أساساهتا البيولوجية اخلاصة هبا‪ .‬وهي لن تتمكن من اجناح‬
‫هذه املراهنات بصورة إرادية مطلقة‪ ،‬باالستقالل عن شروط مسبقة وبنية حتتية‬
‫مادية كافية‪ .‬لكن ما أن تتأمن هذه البنية التحتية حىت تصبح البشرية الفاعلة‪،‬‬
‫واألكثر فأكثر حرية يف خياراهتا‪ ،‬الرافعة الرئيسية خللق إنسان جديد‪ ،‬اإلنسان‬
‫الشيوعي احلر واملتخلص من االستالب‪ .‬هبذا املعىن يصح أن نتكلم على أنسية‬
‫ماركسية وشيوعية‪.‬‬

‫المراجع‬
‫‪ ‬كارل ماركس‪ ،‬مقدمة «مساهمة في نقد االقتصاد السياسي»‪.‬‬
‫‪ ‬كارل ماركس وف‪ .‬إجنلز‪ ،‬األيديولوجية األلمانية‪.‬‬
‫‪ ‬ف‪ .‬إجنلز‪ ،‬لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكالسيكية األلمانية‪.‬‬
‫‪ ‬ف‪ .‬إجنلز‪ ،‬من االشتراكية الطوباوية إلى االشتراكية العلمية‪.‬‬
‫‪ ‬ف‪ .‬إجنلز‪ ،‬دور العمل في تحول القرد إلى إنسان‪.‬‬
‫‪ ‬بوخارين‪ ،‬المادية التاريخية‪.‬‬
‫‪ ‬مهرينغ‪ ،‬أسطورة لسنغ‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫املادية التارخيية‬

‫‪ ‬مهرينغ‪ ،‬دراسات حول المادية التاريخية‪.‬‬


‫‪ ‬كاوتسكي‪ ،‬األخالق والفهم المادي للتاريخ‪.‬‬
‫‪ ‬بليخانوف‪ ،‬الفن والتصور المادي للتاريخ‪.‬‬
‫‪ ‬غرامشي‪ ،‬المادية التاريخية (مقتطفات من دفاتر السجن)‪.‬‬
‫‪ ‬غورتر‪ ،‬المادية التاريخية‪.‬‬
‫‪ ‬لوكاش‪ ،‬نقد كتاب السوسيولوجيا لـ ن‪ .‬بوخارين (جملة «اإلنسان واجملتمع»‪،‬‬
‫العدد الثاين‪.)1777 ،‬‬
‫‪ ‬تران‪-‬دوك‪-‬تو‪ ،‬حول والدة الوعي واللغة‪.‬‬
‫‪ ‬ماندل‪ ،‬تكوين الفكر االقتصادي لدى كارل ماركس (الفصالن األخريان)‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫المحتويات مفصلة‬
‫توطئة ‪3....................................... ................................‬‬
‫(‪ )1‬التفاوت االجتماعي والنضاالت االجتماعية عبر التاريخ ‪5....................‬‬
‫‪ .1‬التفاوت االجتماعي يف اجملتمع الرأمسايل املعاصر ‪0 .................................‬‬
‫‪ .0‬التفاوت االجتماعي يف اجملتمعات السابقة ‪9 ......................................‬‬
‫‪ .,‬التفاوت االجتماعي والتفاوت الطبقي‪, ..........................................‬‬
‫‪ .4‬املساواة االجتماعية يف ما قبل التاريخ البشري ‪12 .................................‬‬
‫‪ .0‬التمرد ضد التفاوت االجتماعي عرب التاريخ ‪11 ...................................‬‬
‫‪ .7‬الصراعات الطبقية عرب التاريخ ‪1, ...............................................‬‬
‫(‪ )2‬المصادر االقتصادية للتفاوت االجتماعي ‪15 ...............................‬‬
‫‪ .1‬املشاعات البدائية القائمة على الفقر ‪10 .........................................‬‬
‫‪ .0‬ثورة عصر احلجر املصقول ‪10 ..................................................‬‬
‫‪ .,‬النتاج الضروري والنتاج االجتماعي الفائض ‪17 ...................................‬‬
‫‪ .4‬اإلنتاج والرتاكم ‪1, ............................................................‬‬
‫‪ .0‬سبب فشل كافة ثورات املاضي من أجل املساواة ‪17 ..............................‬‬
‫‪ .7‬اضطهاد النساء‪ ،‬أول شكل واسع لال مساواة االجتماعية‪02 ..................... .‬‬
‫(‪ )3‬الدولة‪ ،‬أداة السيطرة الطبقية ‪24 ...........................................‬‬
‫‪ .1‬التقسيم االجتماعي للعمل ونشوء الدولة ‪42 .....................................‬‬
‫‪ .0‬الدولة يف خدمة الطبقات املسيطرة ‪42 ...........................................‬‬
‫‪ .,‬اإلكراه العنيف واالحتواء اإليديولوجي ‪42 ........................................‬‬
‫‪ .4‬األيديولوجية السائدة واأليديولوجية الثورية ‪42 ....................................‬‬
‫‪ .0‬الثورات االجتماعية والثورات السياسية ‪03 .......................................‬‬
‫‪ .7‬خصائص الدولة الربجوازية ‪03 ..................................................‬‬

‫‪212‬‬
‫احملتويات‬

‫(‪ )4‬من اإلنتاج البضاعي الصغير إلى نمط اإلنتاج الرأسمالي ‪33 ..................‬‬
‫‪ .1‬اإلنتاج من أجل سد احلاجات واإلنتاج من أجل التبادل ‪,, .......................‬‬
‫‪ .0‬اإلنتاج البضاعي الصغري ‪,4 ....................................................‬‬
‫‪ .,‬قانون القيمة‪,0 ...............................................................‬‬
‫‪ .4‬ظهور الرأمسال ‪,9 .............................................................‬‬
‫‪ .0‬من الرأمسال إىل الرأمسالية‪,, ....................................................‬‬
‫‪ .7‬ما هو فائض القيمة ؟ ‪,7 ......................................................‬‬
‫‪ .9‬شروط ظهور الرأمسالية احلديثة ‪41 ...............................................‬‬
‫(‪ )5‬االقتصاد الرأسمالي ‪43 ................... ................................‬‬
‫‪ .1‬خصائص االقتصاد الرأمسايل ‪4, .................................................‬‬
‫‪ .0‬سري االقتصاد الرأمسايل‪40 ......................................................‬‬
‫‪ .,‬تطور األجور ‪49 ..............................................................‬‬
‫‪ .4‬قوانني تطور الرأمسالية ‪47 .......................................................‬‬
‫ا‪ .‬تركز الرأمسال ومتركزه‪47 .......................................................‬‬
‫ب‪ .‬تبلرت السكان العاملني التدرجيي ‪02 ..........................................‬‬
‫ج‪ .‬ازدياد الرتكيب العضوي للرأمسال‪01 ..........................................‬‬
‫د‪ .‬ميل املعدل الوسطي للربح إىل االخنفاض ‪00 ...................................‬‬
‫ه‪ .‬التحول املوضوعي لإلنتاج إىل إنتاج اجتماعي ‪0, ..............................‬‬
‫‪ .0‬التناقضات املالزمة لنمط اإلنتاج الرأمسايل ‪0, .....................................‬‬
‫‪ .7‬أزمات فيض اإلنتاج الدورية ‪04 .................................................‬‬
‫‪ .9‬توحيد الربوليتاريا وتفتيتها ‪00 ...................................................‬‬
‫(‪ )6‬رأسمالية االحتكارات ‪61 .................. ................................‬‬
‫‪ .1‬من املزامحة احلرة إىل االتفاقات الرأمسالية ‪72 ......................................‬‬
‫‪ .0‬الرتكزات املصرفية والرأمسال املايل ‪71 .............................................‬‬
‫‪ .,‬رأمسالية االحتكارات ورأمسالية املزامحة احلرة‪70 ................................... .‬‬
‫‪ .4‬تصدير الرساميل ‪7, ...........................................................‬‬
‫‪ .0‬البلدان اإلمربيالية والبلدان التابعة‪70 .............................................‬‬
‫‪ .7‬عصر الرأمسالية املتأخرة‪77 ......................................................‬‬

‫‪213‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫(‪ )7‬النظام اإلمبريالي ‪67 ...................... ................................‬‬


‫‪ .1‬التصنيع الرأمسايل وقانون التطور املتفاوت واملركب ‪77 ..............................‬‬
‫‪ .0‬استغالل البلدان املستعمرة وشبه املستعمرة من قبل الرأمسال اإلمربيايل ‪91 ............‬‬
‫‪« .,‬الكتلة الطبقية» احلاكمة يف البلدان شبه املستعمرة‪9, ............................‬‬
‫‪ .4‬حركة التحرر القومي‪97 ........................................................‬‬
‫‪ .0‬االستعمار اجلديد ‪99 ..........................................................‬‬
‫(‪ )8‬نشأة الحركة العمالية الحديثة ‪81 ..........................................‬‬
‫‪ .1‬الصراع الطبقي األويل للربوليتاريا ‪,1 .............................................‬‬
‫‪ .0‬الوعي الطبقي األويل للربوليتاريا ‪,0 ..............................................‬‬
‫‪ .,‬االشرتاكية الطوباوية ‪,, ........................................................‬‬
‫‪ .4‬والدة النظرية املاركسية ‪ -‬البيان الشيوعي ‪,4 .....................................‬‬
‫‪ .0‬األممية األوىل‪,0 ...............................................................‬‬
‫‪ .7‬األشكال املختلفة لتنظيم احلركة العمالية ‪,9 ......................................‬‬
‫‪ .9‬كومونة باريس ‪,9 .............................................................‬‬
‫(‪ )7‬إصالحات وثورة ‪87 ...................... ................................‬‬
‫‪ .1‬التطور والثورة عرب التاريخ ‪,7 ...................................................‬‬
‫‪ .0‬التطور والثورة يف الرأمسالية احلديثة ‪72 ............................................‬‬
‫‪ .,‬تطور احلركة العمالية احلديثة ‪70 .................................................‬‬
‫‪ .4‬االنتهازية اإلصالحية ‪7, .......................................................‬‬
‫‪ .0‬ضرورة بناء حزب طليعي‪74 ....................................................‬‬
‫‪ .7‬الثوريون إزاء النضال من أجل اإلصالحات ‪77 ...................................‬‬
‫(‪ )11‬الديموقراطية البورجوازية والديموقراطية البروليتارية ‪111 ...................‬‬
‫‪ .1‬احلرية االقتصادية واحلرية السياسية‪122 ...........................................‬‬
‫‪ .0‬الدولة الربجوازية يف خدمة مصاحل رأس املال الطبقية‪121 ...........................‬‬
‫‪ .,‬حدود احلريات الدميوقراطية البورجوازية‪124 .......................................‬‬
‫‪ .4‬القمع والديكتاتوريات الربجوازية ‪120 ............................................‬‬
‫‪ .0‬الدميوقراطية الربوليتارية ‪12, .....................................................‬‬

‫‪214‬‬
‫احملتويات‬

‫(‪ )11‬الحرب العالمية األولى والثورة الروسية ‪111 .............................‬‬


‫‪ .1‬احلركة العمالية العاملية حيال احلرب اإلمربيالية‪112.................................‬‬
‫‪ .0‬احلرب اإلمربيالية تصب يف األزمة الثورية ‪111.....................................‬‬
‫‪ .,‬ثورة فرباير ‪ 1719‬يف روسيا ‪11,................................................‬‬
‫‪ .4‬نظرية الثورة الدائمة‪114........................................................‬‬
‫‪ .0‬ثورة أكتوبر ‪110....................................................... 1719‬‬
‫‪ .7‬حتطيم الرأمسالية يف روسيا ‪117..................................................‬‬
‫(‪ )12‬الستالينية ‪117 ......................... ................................‬‬
‫‪ .1‬إخفاق الصعود الثوري ألعوام ‪ 170,-171,‬يف أوروبا ‪117......................‬‬
‫‪ .0‬صعود البريوقراطية السوفياتية‪102................................................‬‬
‫‪ .,‬طبيعة البريوقراطية وطبيعة االحتاد السوفيايت ‪10,...................................‬‬
‫‪ .4‬ما هي الستالينية ؟ ‪100........................................................‬‬
‫‪ .0‬أزمة الستالينية ‪109............................................................‬‬
‫‪ .7‬اإلصالحات االقتصادية ‪10,...................................................‬‬
‫‪ .9‬املاوية ‪1,2....................................................................‬‬
‫(‪ )13‬من النضاالت الجارية التي تخوضها الجماهير إلى الثورة االشتراكية العالمية‬
‫‪134 ........................................ ................................‬‬
‫‪ .1‬شروط انتصار الثورة االشرتاكية ‪1,4.............................................‬‬
‫‪ .0‬بناء األممية الرابعة‪1,7..........................................................‬‬
‫‪ .,‬املطالب املباشرة واملطالب االنتقالية ‪1,,.........................................‬‬
‫‪ .4‬القطاعات الثالث للثورة العاملية يف أيامنا‪1,7.....................................‬‬
‫‪ .0‬الدميوقراطية العمالية والتنظيم الذايت للجماهري والثورة االشرتاكية ‪141................‬‬
‫(‪ )14‬كسب الثوريين للجماهير ‪144 ..........................................‬‬
‫‪ .1‬التمايز السياسي داخل الربوليتاريا ‪144...........................................‬‬
‫‪ .0‬اجلبهة العمالية املوحدة ضد العدو الطبقي ‪149...................................‬‬
‫‪ .,‬الدينامية اهلجومية جلبهة «طبقة ضد طبقة»‪102..................................‬‬
‫‪ .4‬اجلبهة املوحدة العمالية واجلبهة الشعبية ‪100......................................‬‬

‫‪215‬‬
‫مدخل إىل االشرتاكية العلمية‬

‫‪ .0‬االستقالل السياسي الطبقي والتنظيم املوحد للطبقة‪104 ...........................‬‬


‫‪ .7‬االستقالل الطبقي والتحالفات بني الطبقات ‪100 .................................‬‬
‫‪ .9‬حركات حترر النساء واألقليات القومية املضطهدة يف انطالق النضاالت املعادية‬
‫للرأمسالية‪107 .....................................................................‬‬
‫(‪ )15‬حول المجتمع الال طبقي ‪161 ..........................................‬‬
‫‪ .1‬اهلدف االشرتاكي املقصود ‪172 .................................................‬‬
‫‪ .0‬الشروط االقتصادية واالجتماعية لبلوغ هذا اهلدف‪171 ............................‬‬
‫‪ .,‬الشروط السياسية‪ ،‬واأليديولوجية‪ ،‬والنفسية والثقافية لبلوغ هذا اهلدف ‪174 ..........‬‬
‫‪ .4‬أطوار اجملتمع غري الطبقي ‪177 ..................................................‬‬
‫(‪ )16‬الدياليكتيك المادي ‪168 ............... ................................‬‬
‫‪ .1‬احلركة الشاملة ‪17, ............................................................‬‬
‫‪ .0‬الدياليكتيك‪ ،‬منطق احلركة ‪177 .................................................‬‬
‫‪ .,‬الديالكتيك واملنطق الصوري‪190 ................................................‬‬
‫‪ .4‬احلركة‪ ،‬تبعا للتناقض‪19, .......................................................‬‬
‫أ‪ .‬وحدة األضداد وتداخلها وصراعها ‪190 ........................................‬‬
‫ب‪ .‬حتوالت كمية وحتوالت نوعية ‪190 ...........................................‬‬
‫جـ‪ .‬النفي والتخطي‪197 ........................................................‬‬
‫‪ .0‬بعض املشكالت اإلضافية خبصوص ديالكتيك املعرفة ‪197 .........................‬‬
‫أ‪ .‬املضمون والشكل ‪197 .......................................................‬‬
‫ب‪ .‬األسباب والنتائج‪199 ......................................................‬‬
‫جـ‪ .‬العام واخلاص‪199 ..........................................................‬‬
‫د‪ .‬النسيب واملطلق ‪19, .........................................................‬‬
‫‪ .7‬احلركة‪ ،‬تبعا للكلية ‪ -‬اجملردة وامللموس ‪197 .......................................‬‬
‫‪ .9‬النظرية واملمارسة ‪1,2 ..........................................................‬‬
‫(‪ )17‬المادية التاريخية ‪183 ................... ................................‬‬
‫‪ .1‬اإلنتاج والتواصالت اإلنسانية‪1,, ...............................................‬‬
‫‪ .0‬القاعدة والبنية الفوقية االجتماعيتان ‪1,7 .........................................‬‬

‫‪216‬‬
‫احملتويات‬

‫‪ .,‬اإلنتاج املادي واإلنتاج الفكري ‪1,,.............................................‬‬


‫‪ .4‬قوى اإلنتاج وعالقات اإلنتاج االجتماعية وأمناط اإلنتاج ‪171......................‬‬
‫‪ .0‬احلتمية التارخيية واملمارسة الثورية ‪170............................................‬‬
‫‪ .7‬االستالب والتحرر ‪179........................................................‬‬

‫‪217‬‬
‫المحتويات‬
‫توطئة ‪, ....................................... ................................‬‬
‫(‪ )1‬التفاوت االجتماعي والنضاالت االجتماعية عرب التاريخ ‪0 .......................‬‬
‫(‪ )0‬املصادر االقتصادية للتفاوت االجتماعي ‪10 ...................................‬‬
‫(‪ ),‬الدولة‪ ،‬أداة السيطرة الطبقية ‪04 ............. ................................‬‬
‫(‪ )4‬من اإلنتاج البضاعي الصغري إىل منط اإلنتاج الرأمسايل ‪,, .......................‬‬
‫(‪ )0‬االقتصاد الرأمسايل ‪4, ...................... ................................‬‬
‫(‪ )7‬رأمسالية االحتكارات ‪72 .................... ................................‬‬
‫(‪ )9‬النظام اإلمربيايل ‪77 ........................ ................................‬‬
‫(‪ ),‬نشأة احلركة العمالية احلديثة ‪,1 .............. ................................‬‬
‫(‪ )7‬إصالحات وثورة ‪,7 ....................... ................................‬‬
‫(‪ )12‬الدميوقراطية البورجوازية والدميوقراطية الربوليتارية ‪122...........................‬‬
‫(‪ )11‬احلرب العاملية األوىل والثورة الروسية ‪112....................................‬‬
‫(‪ )10‬الستالينية ‪117........................... ................................‬‬
‫(‪ )1,‬من النضاالت اجلارية اليت ختوضها اجلماهري إىل الثورة االشرتاكية العاملية ‪1,4.....‬‬
‫(‪ )14‬كسب الثوريني للجماهري ‪144............. ................................‬‬
‫(‪ )10‬حول اجملتمع الال طبقي ‪172............... ................................‬‬
‫(‪ )17‬الدياليكتيك املادي ‪17,.................. ................................‬‬
‫(‪ )19‬املادية التارخيية ‪1,,....................... ................................‬‬

‫‪218‬‬
‫ئ‪ٚ‬الـ ئؾطڃح‪ ٍ٪‬أڀ غىٌز‬
‫من نحن‬
‫الي�سار الثوري احد تيارات اال�شرتاكية امل�رصية‪.‬‬
‫�أهدافنا هي ‪ :‬الإطاحة بالنظام الر�أ�سمايل منبع‬
‫الف�ساد والظلم والإثراء من عرق ودم ال�شعب‪،‬‬
‫و�إقامة دولة العدل الإجتماعى وامل�ساواة‪ ،‬دولة‬
‫بال ا�ستغالل �أو طبقية‪ ،‬بال �سادة �أو عبيد‪ ،‬الكل‬
‫فيها مواطنون �أحرار مت�ساوون‪ ،‬مت�شاركون يف‬
‫العمل والرثوة والعائد و�إدارة املجتمع‪.‬‬
‫و�سيلتنا هي ‪ :‬الثورة اجلماهريية يف مقدمتها العاملون‬
‫والفقراء يف املدن والريف‪ ،‬تعمل بهم‪ ،‬ومن‬
‫مدخل �إىل‬ ‫اجلهم‪ ،‬وتقيم نظامهم‪.‬‬
‫نرف�ض ‪ :‬اى متييز بني الب�رش على �أ�سا�س العقيدة �أو‬
‫اال�شرتاكية العلمية‬ ‫اللون �أو اجلن�س �أو العرق‪.‬‬
‫ننا�ضل �ضد ‪ :‬اال�ستغالل الطبقي واال�ستبداد‬
‫هذا الكتاب عبارة عن جمموعة من‬ ‫والعن�رصية والتمييز بجميع �صوره واال�ستعمار‬
‫املحا�رضات حول اال�شرتاكية العلمية‪ ،‬مبادئها‬ ‫وال�صهيونية‪.‬‬
‫و�أ�سا�سيتها‪ ،‬يت�ضمن العنا�رص الأ�سا�سية يف‬ ‫ن�ؤيد ‪ :‬حق ال�شعوب يف احلرية وفى مقاومة اال�ستعمار‬
‫نظرية املادية التاريخية والنظرية االقت�صادية‬ ‫واال�ستبداد مبا يف ذلك املقاومة امل�سلحة ونتم�سك‬
‫املارك�سية وتاريخ احلركة العمالية وق�ضايا‬ ‫بحق الفل�سطينني يف كامل �أر�ضهم‪.‬‬
‫احلركة العمالية انطالق ًا من الق�ضايا امللمو�سة‬ ‫نقاوم ‪ :‬م�شاريع ال�سيطرة الإمربيالية والأمريكية‪،‬‬
‫ب�شكل مبا�رش للب�رش و�صو ًال اىل املفاهيم املجردة‪.‬‬ ‫والتدخل اال�ستعماري يف منطقتنا �أو يف اى مكان‪.‬‬
‫وميكن ا�ستخدام هذا الكتاب للتثقيف املبدئي‬ ‫مند �أيدينا ‪� :‬إىل كل القوى التي تقاوم اال�ستبداد‬
‫للمنا�ضلني اال�شرتاكيني‪ ،‬وهو الهدف الذي جمع‬ ‫واالمربيالية واال�ستغالل الطبقي والتدخل‬
‫اال�ستعماري‪ ،‬للتعاون من اجل حتقيق العدل‬
‫من �أجله املنا�ضل املارك�سي البلجيكي‪� /‬أرن�ست‬ ‫واحلرية‪.‬‬
‫ماندل هذه املحا�رضات و�صاغها يف هذا الكتاب يف‬
‫عام ‪.1974‬‬ ‫�أ�شقائنا ‪ :‬كل ثوار العامل وكل املناه�ضني للر�أ�سمالية‬
‫واال�ستغالل وامل�شاريع اال�ستعمارية‪.‬‬
‫نحن ‪ :‬جزء من �شعب م�رص نعي�ش �آالمه ونحارب‬
‫توا�صل معنا‬ ‫معركته ون�سعى معه للتحرر من امل�ستغلني �أو‬
‫‪egy.revolutionary@gmail.com‬‬
‫امل�ستبدين‪ ،‬حلمنا حلمه‪ ،‬وطريقنا طريقه‪.‬‬
‫موقعنا على االنرتنت‬ ‫�شعارنا هو ‪ :‬حترير اجلماهري بيد اجلماهري‪.‬‬
‫‪www.elthawry.wordpress.com‬‬ ‫الي�سار الثوري‬

You might also like