Professional Documents
Culture Documents
مدخل الى الاشتراكية العلمية
مدخل الى الاشتراكية العلمية
اال�شرتاكية العلمية
اليسار
الثوري �أرن�ست ماندل
ئٚالـ ئؾطڃح ٍ٪أڀ غىٌز
مدخل إلى
االشتراكية العلمية
أرنست ماندل
1
كتبه
أنست ماندل
ونشرت الطبعة األوىل
عام 4791
الغالف
تفصيلة من لوحة
االنسان في مفترق الطريق
للفنان املكسيسي
دييجو ريبيرا مورال
ويظهر فيها األعالم الرئيسية لالشرتاكية العلمية؛
كارل ماركس ،فريدريك أجنلز ،فالدميري أ .لينني،
ليون تروتسكي.
2
توطئة
هذا املدخل إىل املاركسية هو نتاج جتارب دروس عديدة ألقيت يف مناضلني
شباب ،يف حلظات خمتلفة من السنوات اخلمس عشرة األخرية .وهو مرتبط
باالحتياجات الرتبوية اليت ملسناها واليت قد ختتلف من بلد إىل آخر ومن وسط إىل
آخر .لذا ال ن ّدعي البتة أنه مدخل «منوذجي».
وهو ،فضال عن كونه يتضمن العناصر األساسية يف نظرية املادية التارخيية
والنظرية االقتصادية املاركسية وتاريخ احلركة العمالية وقضايا اسرتاتيجية احلركة
حمريا للوهلة األوىل :فإن
العمالية املعاصرة وتكتيكها ،حيتوي على «ابتكار» يبدو ّ
الفصل املتعلق بالديالكتيك املادي والفصل الذي يعرض عرضا منهجيا نظرية
املادية التارخيية يردان يف هناية الكتاب وليس يف بدايته.
طبعا ،ليس هذا االبتكار «مراجعة منهجية» ،بل هو عربة مستمدة من
مالحظة اختبارية :أن عرضا حول الدياليكتيك يصلح فاحتة ملدرسة تكوين كوادر
أكثر مما ملدرسة مناضلني مبتدئني .فهؤالء يستوعبون النظرية بصورة أفضل إذا
ُشرحت هلم بشكل ملموس إىل أبعد حد ممكن .وانه ألفضل بالتايل االنطالق مما
يستطيع املرء التأكد منه مباشرة -التفاوت االجتماعي ،النضال الطبقي،
االستغالل الرأمسايل -وصوال إىل مفاهيم الديالكتيك األكثر جتريدا وأساسية،
بوصفها املنطق العام للحركة والتناقض ،وذلك بعد توضيح حركة اجملتمع
والتناقضات اليت متزقه.
ليس يف األمر سوى اختيار مبين على خربة تربوية شخصية .ومن البديهي أن
جتارب أخرى قد تؤدي إىل استنتاجات خمتلفة .هذا ونبقى على استعداد للعودة
إىل بنية أكثر تقليدية هلذا املدخل ،إذا أثبت لنا ،على ضوء جتارب ،أن طريقة
3
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
4
()1
التفاوت االجتماعي
والنضاالت االجتماعية عبر التاريخ
.1التفاوت االجتماعي في المجتمع الرأسمالي المعاصر
يف بلجيكا ،يوجد توزيع هرمي للثروة وللسلطة االجتماعية .ففي قاعدة هذا اهلرم،
جند ثلث املواطنني ال ميلكون شيئا سوى ما يكسبونه ويصرفونه ،سنة بعد سنة .إهنم
االدخار وال على التملك .ويف قمة اهلرم ،جند % 4من املواطنني غري قادرين على ّ
ميلكون نصف الثروة القومية اخلاصة .إن ما يقل عن % 1من البلجيكيني ميلكون
أكثر من نصف ثروة البالد املنقولة .وبينهم 022عائلة تتحكم بالشركات الكربى
( )holdingsاليت تسيطر على جممل احلياة االقتصادية القومية.
إن دراسة نشرها حديثا معهد اإلحصاءات والدراسات االقتصادية القومي أشارت
إىل أن % 02من األمة الفرنسية مل يكونوا ميلكون أكثر من % 0من الثروة القومية
عام ،1790بينما نصف هذه الثروة بني أيدي أقل من % 12من األسر ،وذلك
مع حسبان املساكن وودائع صناديق التوفري يف فئة "الثروات"ّ .أما ثروة % 1من
األسر األكثر ثراء فقد ازدادت بني عامي 1747و 1790بوثرية مقدارها ضعفا ثروة
األسر ذات املداخيل املتواضعة.
أما يف الواليات املتحدة ،فقد جاء يف تقدير إحدى جلان جملس الشيوخ أن ما
يقل عن % 1من العائالت األمريكية متلك % 12من مجيع أسهم الشركات
املسامهة ،وأن % 2،0من العائالت متلك أكثر من ثلثي هذه األسهم .ويف سويسرا،
ميلك % 0من السكان أكثر من % 79من الثروة اخلاصة .وملا كان جممل الصناعة
والقطاع املايل األمريكيني (عدا بعض االستثناءات) منظما على أساس "الشركة
5
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
6
التفاوت االجتماعي والنضاالت االجتماعية عرب التاريخ
فالواليات املتحدة تنتج أكثر من نصف اإلنتاج الصناعي وتستهلك أكثر من
نصف العديد من املواد األولية الصناعية يف العامل الرأمسايل .ويتصرف 002مليونا من
اهلنود بكميات من الفوالذ والطاقة تقل عما يتصرف به 7ماليني من البلجيكينيّ .أما
الدخل الفردي الواقعي يف أفقر بلدان العامل فال يتعدى % ,من الدخل الفردي يف
البلدان األخرى .وال حيصل % 79من سكان الكرة األرضية سوى على % 10من
الدخل العاملي .ويف اهلند ،يبلغ عدد األمهات اللوايت مينت من جراء العواقب املباشرة
لألمومة ،مقابل كل 122ألف والدة ،ثالثني ضعف عددهن يف الواليات املتحدة.
النتائج :يأكل املواطن اهلندي كل يوم ما ال يزيد عن نصف احلراريات اليت يتناوهلا
مواطن البلدان املتقدمة يف الغرب .والعمر املتوسط الذي يتعدى 70عاما يف الغرب،
ليصل إىل 92عاما يف بعض البلدان ،يكاد ال يبلغ ,2عاما يف اهلند.
جند تفاوتا اجتماعيا مماثال للذي هو قائم يف العامل الرأمسايل ،يف مجيع اجملتمعات
السابقة اليت تعاقبت خالل التاريخ (أي خالل تلك املرحلة من وجود البشرية على
األرض ،اليت منلك عنها شهادات خطية) .هاكم وصفا لبؤس الفالحني الفرنسيني يف
هناية القرن 19نقلناه عن "أطباع" البرويري(:)1
"نرى بعض الحيوانات المتوحشة ،ذكورا وإناثا ،منتشرة في الريف ،سوداء،
دكناء ،حرقتها الشمس ،مرتبطة باألرض التي تنبشها وتحركها بمثابرة ال تقهر .لها ما
يشبه الصوت الناطق ،وعندما تقف على أرجلها ،تظهر وجها إنسانيا وهي بالفعل من
البشر .ينسحبون عند المساء إلى أوكار ،حيث يعيشون من الخبز األسود والماء
والجذور … "
) (1البرويري ( :) 1774 - 1740أديب فرنسي ،مؤلف كتاب (" )Les caractéresاألطباع"
عن أخالق زمانه (م).
7
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
قارنوا هذه الصورة عن فالحي ذلك العصر بصورة احلفالت الباهرة اليت أقامها
لويس الرابع عشر( )0يف حديقة قصر فرساي ،قارنوها بتخمة النبالء وإسراف امللك،
تكونون قد رمستم صورة آ ّخاذة عن التفاوت االجتماعي.
يف جمتمع بداية العصر الوسيط( ),الذي شهد هيمنة القنانة ،كان السيد النبيل
يستأثر يف معظم األحيان بنصف عمل الفالحني األقنان أو بنصف حمصوهلم .وكان
مثة أسياد عديدون يعمل على أرضهم مئات بل ألوف األقنان .فكان كل سيد حيصل
سنويا على ما يساوي حمصول مئات بل ألوف الفالحني.
وكان األمر على هذه الصورة يف شىت جمتمعات الشرق الكالسيكي (مصر،
سومر ،بابل ،فارس ،اهلند ،الصني ،اخل) حيث كان اجملتمع قائما على الزراعة وكان
املالك العقاريون ّأما أسيادا أو ملوكا (ميثلهم كتبة وكالء ملصلحة الضرائب امللكية).
لقد ترك لنا كتاب "هجاء املهن" الذي ُكتب يف مصر الفرعونية ،قبل ,022
عام ،صورة عن الفالحني الذين استغلهم هؤالء الكتبة امللكيون وقد قارهنم املزارعون
الناقمون باحليوانات الضارة واحلشرات الطفيلية.
ّأما العصور القدمية اليونانية والرومانية ،فقد كان قائما على العبودية .وإذا استطاع
ذلك اجملتمع أن يبلغ مستوى عاليا من الثقافة ،فسبب األمر يعود جزئيا إىل أن سكان
املدن القدمية متكنوا من ختصيص قسم هام من وقتهم لنشاطات سياسية وثقافية وفنية
ورياضية ،حيث تُرك العمل اليدوي أكثر فأكثر للعبيد وحدهم.
ليست كل تفاوت اجتماعي بتفاوت طبقي .فإن الفرق بني أجر عامل غري
متخصص وأجر عامل ذي اختصاص عال ال جيعل منهما عضوي طبقتني
8
التفاوت االجتماعي والنضاالت االجتماعية عرب التاريخ
اجتماعيتني خمتلفتني .إن التفاوت االجتماعي تفاوت ميد جذوره يف بنية احلياة
االقتصادية وسريها الطبيعي ،وحتافظ عليه املؤسسات االجتماعية والقانونية الرئيسية
يف عصره ،وتزيد من حدته .فلنوضح هذا التعريف ببعض األمثلة:
لكي يصبح املرء رب عمل كبري يف بلجيكا ،عليه مجع رساميل تقدر بنصف
مليون فرنك( )4مقابل كل عامل جيري استئجاره .إن مصنعا صغريا يستخدم 122
عامل يتطلب بالتايل مجع رأمسال ال يقل عن 122مليون فرنك .واحلال أن أجر
العامل الصايف ال يتعدى أبدا تقريبا 022ألف فرنك سنويا فحىت إذا عمل مخسني
عاما دون أن يصرف فلسا واحدا لألكل والعيش ،ال يستطيع العامل مجع ما يكفي
من املال ليصبح رأمساليا .فالعمل املأجور ،الذي هو أحد ميزات بنية االقتصاد
الرأمسايل ،يشكل إذا أحد جذور انقسام اجملتمع الرأمسايل إىل طبقتني خمتلفتني
باألساس :الطبقة العاملة اليت ال تستطيع أبدا أن تصبح بواسطة مداخيلها مالكة
وسائل إنتاج ،وطبقة مالكي وسائل اإلنتاج أو الرأمساليني.
صحيح أنه يوجد إىل جانب الرأمساليني حبصر املعىن بعض التقنيني الذين
يستطيعون أن يصلوا إىل مراكز إدارة املنشآت .غري أن التكوين التقين املطلوب هو
تكوين جامعي .واحلال أن 0إىل % 9فقط من الطالب اجلامعيني يف بلجيكا ،يف
العقود األخرية ،هم من أبناء العمال ...واحلالة هي نفسها يف معظم البلدان
االمربيالية.
إن املؤسسات االجتماعية تقطع الطريق إىل امللكية الرأمسالية أمام العمال ،سواء
من جهة مداخيلهم أو من جهة منط التعليم العايل .هذه املؤسسات تبقى انقسام
اجملتمع إىل طبقات كما هو قائم اليوم ،وحتافظ عليه وتدميه .حىت يف الواليات املتحدة
حيث حيلو لبعضهم أن يذكروا أمثاال عن "أبناء عمال جمتهدين أصبحوا من أصحاب
تبني نتيجة استقصاء أن %72من مدراء املنشآت املليارات بفضل دأهبم يف العمل"ّ ،
اهلامة ذوو أصول برجوازية كبرية ومتوسطة.
9
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
هكذا جند عرب التاريخ تفاوتا اجتماعيا تبلور يف تفاوت طبقي .ففي كل جمتمع من
اجملتمعات املذكورة ،جند طبقة من املنتجني تعيل بعملها اجملتمع بأسره وطبقة مسيطرة
تعيش من عمل الغري :فالحون وكهنة أو أسياد أو كتبة يف إمرباطوريات الشرق ،عبيد
وأسياد عبيد يف العصور القدمية اليونانية والرومانية ،أقنان وأسياد إقطاعيون يف بداية
العصر الوسيط ،عمال ورأمساليون يف العصر الربجوازي.
غري أن التاريخ ال يشكل سوى جزء بسيط من حياة البشرية على الكرة األرضية.
فقد سبقه ما قبل التاريخ ،أي تلك املرحلة من وجود البشرية اليت كانت خالهلا
الكتابة واحلضارة جمهولتني .وقد بقيت بعض الشعوب البدائية يف شروط العيش ما قبل
التارخيية حىت زمن قريب ،بل حىت أيامنا هذه .واحلال أن البشرية جهلت التفاوت
الطبقي طوال القسم األعظم من وجودها ما قبل التارخيي.
وسوف يتضح لنا الفرق األساسي بني مجاعة بدائية وجمتمع طبقي من خالل
استعراضنا لبعض مؤسسات تلك اجلماعات.
فقد حدثنا العديد من علماء األناسة (أنثربولوجيا) عن عادة جندها عند شعوب
بدائية كثرية وهي عادة تنظيم احتفاالت مسهبة بعد احلصاد .وقد وصفت لنا عاملة
األناسة مارغريت ميد هذه االحتفاالت عند شعب آرابيش البابو( )5يف غينيا اجلديدة،
حيث مجيع الذين حصدوا حمصوال فوق املتوسط ،يدعون عائالهتم بكاملها ومجيع
جرياهنم إىل املشاركة يف احتفاالت تستمر حىت استهالك القسم األعظم من فائض
ذلك احملصول .وتضيف مارغريت ميد:
"إن هذه االحتفاالت تشكل إجراء مالئما لمنع الفرد من مراكمة ثروات"
11
التفاوت االجتماعي والنضاالت االجتماعية عرب التاريخ
من جهة أخرى ،درس عامل األناسة آش نظام وتقاليد قبيلة قطنت جنوب
الواليات املتحدة ،هي قبيلة اهلويب .يف هذه القبيلة ،وخبالف جمتمعنا ،يعترب مبدأ
املزامحة الفردية مبدأ مدانا من وجهة النظر األخالقية .فعندما يلعب األوالد اهلويب
ألعابا رياضية ،ال حيسبون أبدا العالمات وجيهلون من "ربح".
إن املشاعات البدائية اليت مل تنقسم بعد إىل طبقات ،عندما متارس الزراعة كنشاط
اقتصادي رئيسي وحتتل أرضا معينة ،ال تقوم باستثمار األرض مجاعيا .بل حتصل كل
عائلة على حقل تستثمره لفرتة .بيد أن احلقول يعاد توزيعها مرارا للحؤول دون متتع
أي عضو من أعضاء املشاعة بامتيازات على حساب اآلخرينّ .أما املروج والغابات
فإن استثمارها مجاعي .إن نظام املشاعة القروية هذا ،املبين على غياب امللكية اخلاصة
لألرض ،قد وجد عند البحث يف نشوء الزراعة لدى مجيع شعوب العامل تقريبا .أنه
يثبت أن اجملتمع يف تلك الفرتة مل يكن منقسما إىل طبقات على صعيد القريةّ .أما
األفكار الشائعة اليت تردد دائما والقائلة أن التفاوت االجتماعي جيد جذوره يف تفاوت
مواهب األفراد أو كفاءاهتم ،وأن انقسام اجملتمع إىل طبقات هو نتاج "أنانية اإلنسان
الغريزية" وبالتايل نتاج "الطبيعة اإلنسانية" ،فهي أفكار ال أساس علمي هلا .إن
اضطهاد طبقة اجتماعية لطبقة أخرى ليس نتاج "الطبيعة اإلنسانية" ،بل نتاج تطور
تارخيي للمجتمع .إنه اضطهاد مل يكن موجودا دوما ولن يبقى إىل األبد .فلم يكن مثة
أغنياء وفقراء دوما ولن يبقى أغنياء وفقراء إىل األبد.
إن انقسام اجملتمع إىل طبقات وامللكية اخلاصة لألرض ولوسائل اإلنتاج ليسا
إطالقا ،إذا ،نتاج "الطبيعة اإلنسانية" .إهنما نتاج تطور للمجتمع وللمؤسسات
االقتصادية واالجتماعية .وسوف نرى ملاذا نشآ وكيف سيزوالن .يف الواقع ،ما أن
يظهر انقسام اجملتمع إىل طبقات حىت يبدي اإلنسان حنينه إىل احلياة املشاعية
القدمية .وجند تعبريات هذا احلنني يف حلم "العصر الذهيب" الذي يقال أنه ساد عند
فجر وجود البشرية على األرض والذي وصفه األدباء الكالسيكيون الصينيون ،شأهنم
11
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
يف ذلك شأن الكتاب اإلغريق والالتينيني .ويقول فرجيليوس( )7بوضوح أن احملاصيل،
يف ذلك العصر الذهيب ،كان جيري تقامسها مجاعيا ،أي أن امللكية اخلاصة مل تكن
موجودة.
هذا وقد اعترب العديد من الفالسفة والعلماء الشهريين أن انقسام اجملتمع إىل
طبقات يشكل مصدر القلق االجتماعي ،وقد وضعوا مشاريع إلزالة هذا االنقسام.
هو ذا الفيلسوف اليوناين أفالطون( )9حيدد أصل املصائب اليت تصيب اجملتمع:
"حتى أصغر مدينة منقسمة إلى قسمين ،مدينة فقراء ومدينة أغنياء تتعارضان
(وكأنهما) في حالة حرب".
كذلك ،فإن الشيع اليهودية اليت تكاثرت يف عصر املسيح ومن مث آباء الكنيسة
املسيحية األول الذين حافظوا على تراث تلك الشيع بني القرن الثالث واخلامس
امليالديني ،كانوا دعاة متحمسني لعودة إىل مشاعية األمالك .فقد كتب القديس
برنابا:
" لن تتكلم أبدا عن ملكيتك ،ألنك إذا كنت تنعم بثرواتك الروحية بالمشاع،
فحري أن تنعم بثرواتك المادية بالمشاع"
وقد ألقى القديس قربيانوس مرافعات عديدة دعا فيها إىل تقاسم الثروات املتساوي
بني مجيع الناس .وكان القديس يوحنا فم الذهب أول من صاح" :امللكية هي
السرقة" .والقديس أوغسطينوس ،حىت هو ،بدأ بإلقاء مسؤولية العنف والصراعات
االجتماعية على امللكية اخلاصة ،قبل أن يغري الحقا وجهة نظره.
12
التفاوت االجتماعي والنضاالت االجتماعية عرب التاريخ
وقد استمر هذا التقليد طوال العصر الوسيط ،ال سيما عند القديس فرنسيس
األسيزي وعند رواد اإلصالح( .),هاكم ما قاله الرائد اإلنكليزي جون بول يف القرن
الرابع عشر:
"يجب إلغاء القنانة وجعل جميع البشر متساوين .إن الذين يسمون باألسياد
يستهلكون ما ننتجه نحن ..إن ترفهم ناتج عن كدحنا".
ويف العصر احلديث ،أخريا ،نرى مشاريع جمتمع املساواة تصبح أدق وأدق ،سيما
يف كتاب "يوتوبيا" لإلنكليزي توماس مور ،وكتاب "مدينة الشمس" لإليطايل توماس
كامبانيلال ،وكتابات الفرنسي فوراس داللي (القرن ،)19ويف "وصية جان ميلييه"
و"قانون الطبيعة" للفرنسي موريللي (القرن .)1,
وإىل جانب هذا التمرد الفكري ضد التفاوت االجتماعي ،كانت مثة متردات فعلية
املضطهدة ضد مضط ِهديها .إن تاريخَ ال حتصى ،أي انتفاضات من قبل الطبقات
مجيع اجملتمعات الطبقية هو تاريخ الصراعات الطبقية اليت متزقها.
إن الصراعات بني الطبقة املستغِلة والطبقة املستغَلة أو بني خمتلف الطبقات
املستغِلة تتخذ أكثر األشكال تنوعا حسب اجملتمع املعين ومرحلة تطوره احملددة.
هكذا فقد حصلت متردات عديدة يف جمتمعات ما يسمى بـ"منط اإلنتاج
اآلسيوي" (إمرباطوريات الشرق الكالسيكي) .وقد تعاقبت انتفاضات فالحية ال
حتصى يف تاريخ السالالت اليت سادت بالتتايل يف اإلمرباطوريات الصينية .وشهدت
اليابان أيضا عددا كبريا من االنتفاضات الفالحية ،خاصة يف القرن الثامن عشر.
وقد عرفت العصور القدمية اليونانية والرومانية سلسلة غري منقطعة من متردات
العبيد -كان أشهرها بقيادة سبارتكوس -اليت سامهت إىل حد بعيد يف سقوط
) ),اإلصالح :حركة دينية أدت إىل االنفصال عن الكنيسة الكاثوليكية وتأسيس الربوتيستنتية.
13
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
اإلمرباطورية الرومانية .ونشب بني "األحرار" صراع عنيف بني طبقة من الفالحني
املستدينني وجتار -مرابني ،بني غري مالكني ومالكني.
ويف العصر الوسيط ،يف ظل النظام اإلقطاعي ،جرت صراعات طبقية بني األسياد
اإلقطاعيني وبلدات حرة قائمة على اإلنتاج البضاعي الصغري ،وبني احلرفيني والتجار
داخل هذه البلدات ،وبني بعض احلرفيني املدينيني والفالحني اجملاورين للمدن .وجرت
باألخص صراعات طبقية عنيفة بني النبالء اإلقطاعيني والفالحني الذين حاولوا
التخلص من النري اإلقطاعي ،واختذت هذه الصراعات أشكاال ثورية متاما يف عاميات
فرنسا وحروب الفالحني يف إنكلرتا وبوهيميا وأملانيا يف القرن السادس عشر.
وعرفت األزمنة احلديثة صراعات طبقية بني النبالء والربجوازية ،وبني املعلمني
احلرفيني والصناع ،وبني رجال املصارف والتجار األغنياء من جهة و"السواعد العارية"
يف املدن من اجلهة األخرى ،اخل ..هذه الصراعات هي مقدمة الثورات الربجوازية
والرأمسالية احلديثة ونضال الربوليتاريا الطبقي ضد الربجوازية.
المراجع
ك .ماركس وف .إجنلس البيان الشيوعي.
ف .إجنلس ،دحض دوهرنغ (اجلزءان الثاين والثالث).
ماكس بري ،تاريخ االشتراكية.
ك .كاوتسكي ،مصادر االشتراكية ،توماس مور.
مورتون ،الطوبى اإلنكليزية.
14
()2
المصادر االقتصادية للتفاوت االجتماعي
.1المشاعات البدائية القائمة على الفقر
طوال القسم األعظم من وجوده ما قبل التارخيي ،عاش اإلنسان يف شروط من
الفقر املدقع .ومل يكن للبشر من وسائل للحصول على القوت الضروري لعيشهم
سوى القنص وصيد األمساك وقطف الثمار .كانت البشرية تعيش بالتطفل على
الطبيعة ،حيث مل تكن تزيد املوارد الطبيعية اليت كانت أساس بقائها .بل مل يكن
لديها أية سيطرة على هذه املوارد.
كانت املشاعات البدائية منظمة بشكل يضمن بقاءها اجلماعي يف شروط
عيش بالغة الصعوبة .وكان كل فرد يشارك إلزاميا يف العمل حيث أن عمل كل فرد
ضروري لبقاء املشاعة ،وإنتاج القوت يكفي بالكاد إلطعام اجلماعة .ولو وجدت
امتيازات مادية حلكمت على قسم من القبيلة باجملاعة وحرمتها من إمكانية العمل
بصورة عقالنية ونسفت بالتايل شروط البقاء اجلماعي .هو ذا السبب الذي جعل
التنظيم اإلجتماعي ،يف تلك املرحلة من تطور اجملتمعات البشرية ،ينزع إىل احملافظة
على حد أقصى من املساواة داخل اجلماعات البشرية.
وقد الحظ علماء األناسة اإلنكليز هوهباوس ووهيلر وغينسربغ ،بعد دراستهم
للمؤسسات االجتماعية يف 400قبيلة بدائية ،الحظوا غيابا تاما للطبقات
االجتماعية لدى مجيع القبائل اليت جهلت الزراعة.
هذا الوضع من الفقر األساسي مل يعدل بصورة ثابتة إالّ بعد تكون تقنيات
زراعة األرض وتربية احليوانات .إن الفضل يف اكتشاف تقنية زراعة األرض ،وهو
15
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
أكرب ثورة اقتصادية يف وجود البشرية ،يعود إىل النساء ،كما يعود هلن فضل سلسلة
من االكتشافات اهلامة األخرى يف ما قبل التاريخ (السيما تقنية اخلزافة واحلياكة).
وقد تدعمت الزراعة منذ 10ألف سنة قبل امليالد ،تقريبا ،يف أمكنة عديدة من
الكرة األرضية ،بدءا على األرجح بآسيا الصغرى وبالد ما بني النهرين وإيران
وتركستان ،وامتدت تدرجييا إىل مصر واهلند والصني وإفريقيا الشمالية وأوروبا
املتوسطية .ويسمى انتشار الزراعة بثورة عصر احلجر املصقول ألنه حصل يف عصر
من العصور احلجرية كانت فيه أدوات عمل اإلنسان الرئيسية مصنوعة من احلجر
املصقول (وهو أحدث العصور احلجرية).
لقد جعلت ثورة عصر احلجر املصقول اإلنسان قادرا على إنتاج قوته بنفسه
وقادرا بالتايل -إىل حد ما -على التحكم ببقائه .وقد قلصت ارهتان اإلنسان
البدائي بقوى الطبيعة .ومسحت بتكوين خمزونات من املؤن ،األمر الذي مسح
بدوره بتحرير بعض أعضاء املشاعة من ضرورة إنتاج قوهتم .هكذا أصبح باإلمكان
تطور تقسيم اقتصادي للعمل ،أي ختصص مهين ،يزيد إنتاجية العمل البشري.
هذا التخصص ال يبدو بعد سوى مالحمه يف اجملتمع البدائي ،ألنه كما قال أحد
الرحالة اإلسبان األوائل يف القرن السادس عشر ،متحدثا عن اهلنود:
"يريد البدائيون استعمال كل ما لديهم من الوقت لجمع المؤن ،ألنهم لو
استعملوه بطريقة أخرى لعانوا من الجوع".
إن ظهور فائض كبري ودائم من املؤن هو الذي حيدث انقالبا يف شروط
التنظيم االجتماعي .فعندما يكون هذا الفائض صغريا نسبيا ومبعثرا بني قرية
وأخرى ،ال يغري البنية املتساوية للمشاعة القروية .إنه يسمح فقط بإعالة بعض
احلرفيني واملوظفني ،أمثال الذين بقوا خالل آالف السنني يف القرى اهلندية.
16
املصادر االقتصادية للتفاوت االجتماعي
لكن عندما يتم حصر هذه الفوائض على مساحات كبرية من قبل زعماء
عسكريني أو دينيني ،أو عندما تتكاثر الفوائض يف القرية بفضل تطوير أساليب
الزراعة ،تستطيع خلق شروط ظهور تفاوت اجتماعي ،ميكن استعماهلا إلعالة
أسرى احلرب أو أسرى عمليات القرصنة (الذين كانوا يقتلون سابقا بسبب قلة
املؤن) .وميكن إجبار هؤالء على العمل ألجل املنتصرين لقاء قوهتم ،هكذا ظهرت
العبودية يف العامل اإلغريقي .وميكن استعمال الفائض ذاته إلعالة طائفة من الكهنة
واجلنود واملوظفني واألسياد وامللوك ،هكذا ظهرت الطبقات املسيطرة يف
إمرباطوريات الشرق القدمي (مصر ،بابل ،إيران ،اهلند ،الصني).
عندها يستكمل التقسيم االقتصادي للعمل بتقسيم اجتماعي .وينتهي
استعمال اإلنتاج االجتماعي مبجمله لسد حاجات املنتجني .بل ينقسم هذا
اإلنتاج بعدئذ إىل قسمني:
الناتج الضروري ،أي قوت املنتجني الذين لوال عملهم ألهنار اجملتمع بأسره.
النتاج االجتماعي الفائض ،أي الفائض الذي ينتجه املنتجون والذي حتتكره
الطبقات املالكة.
هاكم وصف املؤرخ هايشلهامي لظهور املدن األوىل يف العامل القدمي:
"يتألف سكان المراكز المدنية الجديدة بقسمهم األعظم من شريحة عليا
تعيش من الريوع ( )مؤلفة من أسياد ونبالء وكهنة .ويجب أن نضيف إليهم
الموظفين والمستخدمين والخدام الذين تعيلهم هذه الشريحة العليا بصورة غير
مباشرة".
17
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
القائمة ،أي التفاوت االجتماعي .إن انقسام اجملتمع إىل طبقات يتدعم بتملك
الطبقات املسيطرة لوسائل اإلنتاج.
.4اإلنتاج والتراكم
إن تَ َك ُّون الطبقات االجتماعية ومتلك النتاج االجتماعي الفائض من قبل جزء
من اجملتمع ينتجان عن صراع اجتماعي وال يستمران إالّ بفضل صراع اجتماعي
دائم .بيد أن ظهور الطبقات يشكل يف الوقت نفسه مرحلة -حتمية -من
التقدم االقتصادي ،لكونه يسمح بفصل وظيفتني اقتصاديتني أساسيتني مها وظيفة
اإلنتاج ووظيفة املراكمة.
يف اجملتمع البدائي ،كان مجيع الرجال والنساء القادرين يعملون يف إنتاج القوت
بصورة رئيسية .ومل يكن بوسعهم ،يف تلك الشروط ،أن خيصصوا سوى القليل من
الوقت لصنع أدوات العمل وختزينها والتخصص يف صنعها والبحث املنهجي عن
أدوات عمل أخرى والتمرس يف تقنيات عمل معقدة (كعمل التعدين مثال)
واملراقبة املنهجية لظواهر الطبيعة ،اخل…
إن إنتاج نتاج اجتماعي فائض يسمح مبنح قسم من البشرية ما يكفي من
وقت الفراغ ليتفرغ جململ تلك النشاطات اليت تيسر ازدياد إنتاجية العمل .فأوقات
الفراغ هذه هي أساس احلضارة وتطور أوىل التقنيات العلمية (علوم الفلك
واهلندسة واملياه واملعادن اخل )...والكتابة .ويرافق انفصال اجملتمع إىل طبقات
انفصال العمل الذهين عن العمل اليدوي ،الذي هو نتاج أوقات الفراغ تلك.
يشكل إذن انقسام اجملتمع إىل طبقات شرطا للتقدم التارخيي ،طاملا أن اجملتمع
أفقر من أن يتيح جلميع أعضائه التفرغ للعمل الذهين (لوظيفة املراكمة) .غري أن
مثن هذا التقدم باهظ .فحىت عشية الرأمسالية احلديثة ،ال يستفيد من منافع ازدياد
إنتاجية العمل إالّ الطبقات املالكة .وبالرغم من كل تقدم التقنية والعلم خالل
السنوات األربعة آالف اليت تفصل بني بدايات احلضارة القدمية والقرن السادس
18
املصادر االقتصادية للتفاوت االجتماعي
عشر ،جند أن وضع الفالح اهلندي والصيين واملصري ،بل حىت اليوناين والساليف،
مل يتبدل بصورة حسية.
عندما ال يكفي الفائض الذي ينتجه اجملتمع البشري ،أي النتاج االجتماعي
الفائض ،لتحرير البشرية بأسرها من الكدح املرهق الدائم ،فإن أية ثورة اجتماعية
هتدف إىل إعادة املساواة البدائية بني البشر ثورة حمكوم عليها بالفشل سلفا .فهي
ال تستطيع أن جتد سوى خمرجني من التفاوت االجتماعي القدمي.
أما تدمري كل نتاج اجتماعي فائض عمدا والعودة إىل الفقر املدقع البدائي.
عندها سوف تؤدي إعادة ظهور التقدم التقين بسرعة إىل التفاوتات االجتماعية
ذاهتا اليت كانت الغاية إلغاءها .أو نزع ملكية الطبقة املالكة القدمية لصاحل طبقة
مالكة جديدة .هذا ما حصل يف انتفاضة عبيد روما بقيادة سبارتكوس ،ويف أوىل
الشيع املسيحية واألديرة ،ويف خمتلف االنتفاضات الفالحية اليت تتالت يف
اإلمرباطورية الصينية ،ويف ثورة اهلراطقة املسيحيني يف بوهيميا يف القرن ،10ويف
املستعمرات الشيوعية اليت أسسها املهاجرون يف أمريكا ..إخل.
ودون أن ندعي أن الثورة الروسية أدت إىل الوضع ذاته ،فإن إعادة ظهور
تفاوت اجتماعي حاد يف االحتاد السوفيايت اليوم جتد تفسريها األساسي يف فقر
روسيا غداة الثورة ،يف عدم كفاية مستوى تطور قواها املنتجة ويف انعزال الثورة يف
بلد متأخر بنتيجة إخفاق الثورة يف أوروبا الوسطى خالل مرحلة .170,-171,
إن جمتمعا متساويا قائما على الوفرة وليس على الفقر -هو ذا هدف
االشرتاكية -ال يستطيع أن يتطور إالّ على قاعدة اقتصاد متقدم يكون النتاج
االجتماعي الفائض مرتفعا فيه إىل حد أنه يسمح بتحرير مجيع املنتجني من كدح
مرهق ومينح اجملتمع بأسره ما يكفي من أوقات الفراغ ليتمكن هذا األخري من
19
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
21
املصادر االقتصادية للتفاوت االجتماعي
انتقالية مل تكن قد تطورت خالهلا بشكل كامل طبقة مسيطرة مالكة ،لكن
تأسست إباهنا ال مساواة اجتماعية واضحة .يشهد على وجود هذا النموذج من
اجملتمعات العديد من اآلثار واألوصاف املاضية اليت ما تزال بارزة على وجه
اخلصوص يف األساطري واخلرافات والديانات "البدائية" ،لكن كذلك اجملتمع القرايب
القائم اليوم يف جزء من أرياف إفريقيا السوداء ،وإن بشكل أكثر فأكثر تشويها،
تبعا الندماجه باجملتمع الطبقي املسيطر يف كل البلدان اليت ما يزال على قيد احلياة
فيها.
هذا الشكل األول املؤسس لال مساواة واالضطهاد االجتماعيني هو شكل
اضطهاد النساء على يد الرجال يف اجملتمعات البدائية اليت بلغت هذا الطور من
التقدم .واضطهاد النساء مل يكن موجودا منذ البدء ،فهو ليس ناتج جربية
بيولوجية تلقي بثقلها على اجلنس النسوي .ال بل مثة معطيات كثرية تعود إىل ما
قبل التاريخ وإىل جمتمع شيوعية العشرية وتؤكد أن املساواة بني اجلنسني بقيت
قائمة زمنا طويال .ومع أنه تنقصنا املعطيات اليت تسمح لنا بتعميم هذه الظاهرة
على جممل البشرية البدائية ،فثمة دالئل ساطعة على أن النساء لعنب دورا
اجتماعيا مهيمنا يف العديد من اجملتمعات على األقل .ويكفي أن نتذكر الظاهرة
واسعة االنتشار لـ"إهلة اخلصب" كسيدة للسماء ،لدى فجر الزراعة اليت اخرتعتها
النساء ،من أجل االستنتاج أن اإلحالل املعمم لآلهلة الذكور (مث لإلله الواحد)
حمل هذه اآلهلة ،ال ميكن أن يكون عرضيا .إن الثورة يف السماء تعكس ثورة
حدثت على سطح األرض ،وقلب املفاهيم الدينية ناتج عن قلب الشروط
االجتماعية للعالقات املتبادلة بني الرجال والنساء.
وميكن أن يبدو غريبا للوهلة األوىل أن يفتتح شيئا فشيئا عصر استعباد النساء
االجتماعي حني يتكرس دورهن االقتصادي املهيمن عن طريق وظيفتهن األساسية
يف أعمال احلقول (الثورة النيوليتية) .إالّ أنه ليس مثة أي تناقض حقيقي.
21
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
فبمقدار ما تزدهر الزراعة البدائية تصبح النساء املصدر الرئيسي لثروة القبيلة،
بشكل مضاعف :من حيث هن املنتجات الرئيسيات لألغذية ومن حيث هن
منجبات لألطفال .ذلك أن التطور الدميوغرايف مل يعد يستشعر به كتهديد ،بل
كنعمة حمتملة انطالقا فقط من قاعدة متون باألغذية مضمونة إىل هذا احلد أو
ذاك ،ولقد أصبحت النساء بفعل ذلك موضوعات جشع اقتصادي وهو ما مل
يكن ممكنا يف عصر الصيد وقطاف األمثار.
وليمكن إجناز هذه التبعية ،توجب حدوث سلسلة متالزمة من التحوالت
االجتماعية .مت نزع سالح النساء ،أي أن مهنة األسلحة أصبحت حكرا على
الذكور .وهذا الواقع مل يكن سائدا منذ البدء ،تشهد على ذلك األساطري العديدة
املتعلقة باألمازونات( )9واليت مل تزل حتيا يف أذهان الناس يف كل القارات .كما أن
وضع املرأة قد تغري بشكل عميق بفعل تعديالت جذرية أدخلت على قواعد
الزواج وإضفاء الطابع االجتماعي على األطفال ،بغية ضمان هيمنة نظام األبوة.
()12
ومع تطور امللكية اخلاصة ،ومن مث توطيدها ،اختذت العائلة البطريركية
بالتدريج الشكل النهائي الذي احتفظت به ،رغم تعديالت متتالية ،على امتداد
قسم مهم من تاريخ اجملتمعات الطبقية .ولقد أصبحت هي ذاهتا واحدة من
املؤسسات الرئيسية ،اليت ال ميكن االستعاضة عنها ،واليت تضمن استمرار امللكية
اخلاصة عرب اإلرث والقمع االجتماعي بكل صوره (مبا فيها البىن الذهنية اليت تؤبد
املوافقة على السلطة "اآلتية من عل" والطاعة العمياء) .غدت منطلقا لعمليات
متييز ال حتصى على حساب النساء يف كل دوائر احلياة االجتماعية .والتربيرات
األيديولوجية واملسبقات املنافقة اليت تنطوي على هذه التمييزات جزء ال يتجزأ من
األيديولوجية املسيطرة املرتبطة بالطبقات املالكة مجعاء اليت تعاقبت يف التاريخ.
22
املصادر االقتصادية للتفاوت االجتماعي
وهي بذلك قد طبعت ،جزئيا على األقل ،ذهنية الطبقات املستغَلة ،مبا فيها ذهنية
الربوليتاريا احلديثة يف النظام الرأمسايل وغداة إطاحته.
المراجع:
ك .ماركس ف .إجنلس البيان الشيوعي.
اجنلس ،دحض دوهرينغ (اجلزء الثاين والثالث).
غوردن شايلد ،ماذا حدث في التاريخ ؟
غوردن شايلد ،اإلنسان صنع نفسه.
غلوتز ،العمل في اليونان القديمة.
بواسوناد ،العمل في العصر الوسيط.
أ .ماندل ،النظرية االقتصادية الماركسية (الفصول األربعة األوىل).
23
()3
الدولة ،أداة السيطرة الطبقية
.1التقسيم االجتماعي للعمل ونشوء الدولة
يف اجملتمع البدائي الال طبقي ،كان مجهور املواطنني يقوم بالوظائف االدارية.
وكان كل فرد مسلحا وكل فرد يشارك يف اجلمعيات العامة اليت كانت تصدر
القرارات املتعلقة باحلياة اجلماعية وبعالقات املشاعة بالعامل اخلارجي .وكذلك فإن
النزاعات الداخلية كان حيسمها أعضاء اجملتمع.
طبعا ليس من داع إىل جتميل الوضع الذي ساد يف تلك املشاعات البدائية
اليت عاشت يف ظل شيوعية العشرية أو القبيلة فقد كان جمتمعا فقريا منتهى الفقر.
وكان اإلنسان يعيش حتت رمحة قوى الطبيعةّ .أما األخالق والتقاليد وقواعد
التحكيم يف النزاعات الداخلية واخلارجية ،فإذا صح أهنا كانت تطبق مجاعيا ،يبقى
أهنا كانت مطبوعة باجلهل واخلوف واملعتقدات السحرية .إن الذي جيب التشديد
عليه باملقابل هو أن اجملتمع كان حيكم نفسه بنفسه يف حدود معلوماته وإمكاناته.
ليس صحيحا بالتايل أن مفاهيم "اجملتمع" و"اجلماعة البشرية" و"الدولة"
كانت متماثلة تقريبا وتشمل بعضها بعضا عرب العصور .بالعكس متاما؛ فقد
عاشت البشرية طوال آالف وآالف السنني يف جمتمعات مل يكن فيها دولة.
تولد الدولة عندما تصبح وظائف كان جمموعة أعضاء اجملتمع يقوم هبا يف
البدء ،حكرا على جتمع منفصل من الرجال:
-جيش منفصل عن مجهور املواطنني املسلحني.
-قضاة منفصلون عن مجهور املواطنني الذين حياكمون أشباههم.
24
الدولة ،أداة للسيطرة الطبقية
-زعماء وراثيون ،ملوك ،نبالء ،بدل ممثلني أو قادة هلذا النشاط أو ذاك يعينون
مؤقتا وهم قابلون دوما لإلبدال.
"-منتجو أيديولوجية" (كهنة ،كتبة ،مدرسون ،فالسفة ،مثقفون متنفذون)
منفصلون عن سائر اجملتمع.
إن والدة الدولة هي إذن نتاج حتول مزدوج؛ ظهور نتاج اجتماعي فائض دائم
يسمح بتحرير قسم من اجملتمع من إلزام القيام بعمل لتأمني عيشه مبا خيلق
الشروط املادية لتخصص هذا القسم يف وظائف املراكمة واإلدارة ،ومن جهة ثانية،
حتول اجتماعي وسياسي يسمح بعزل سائر أعضاء اجلماعة عن ممارسة الوظائف
السياسية اليت كانت باألمس وظائف اجلميع.
كون الوظائف اليت كان ميارسها يف البدء مجيع أعضاء اجملتمع أصبحت ،منذ
حلظة معينة ،حكرا على جتمع منفصل من الرجال ،هذا الواقع يشري حبد ذاته إىل
أن مثة أناسا هلم مصلحة يف القيام هبذا العزل .إن الطبقات املسيطرة هي اليت
تتنظم لعزل أعضاء الطبقات املستغَلة واملنتجة عن ممارسة وظائف قد تسمح هلم
بإزالة االستغالل الذي مت فرضه عليهم.
إن مثال اجليش والتسلح هلو أسطع برهان على ما سبق .فإن والدة الطبقات
املسيطرة تتم عن طريق متلك النتاج االجتماعي الفائض من قبل جزء من اجملتمع.
وقد شهد العديد من القبائل والقرى اإلفريقية ،خالل القرون األخرية ،تكرار لتطور
هو أصل والدة الدولة يف أقدم إمرباطوريات الشرق (مصر ،بالد ما بني النهرين،
إيران ،الصني ،اهلند اخل).؛ فإن هبات وهدايا وخدمات يف شكل مساعدة
متبادلة ،كانت تعطى جمانيا يف البدء جلميع األسر ،أصبحت تدرجييا إلزامية
وحتولت إىل ريوع وضرائب وسخرات.
25
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
بيد أنه ينبغي أيضا تأمني هذه الفرائض .وهذا يتم باألخص حتت إكراه
األسلحة .فإن جتمعات من الرجال املسلحني -مهما كانت تسميتهم ،جنودا أو
ذركيني أو قراصنة أو لصوصا -جترب املزارعني ومريب احليوانات ،والحقا احلرفيني
والتجار ،على التخلي عن قسم من إنتاجهم لصاحل الطبقات املسيطرة .وحتمل
تلك التجمعات السالح هلذا الغرض ،ويتوجب عليها منع املنتجني من أن
يتسلحوا هم أيضا.
يف العصور القدمية اليونانية والرومانية ،كان اقتناء السالح حمرما على العبيد
حترميا صارما .وكذلك األمر بالنسبة ألقنان العصر الوسيط .وباألصل ،فإن العبيد
والفالحني األولني غالبا ما هم ّإما أسرى حرب مل يعدموا ،أو فالحو مناطق
حمتلة ،أي ضحايا سريورة نزع السالح من البعض اليت متنح البعض اآلخر احتكار
السالح.
إن فريدريك إجنلس على حق ،هبذا املعىن ،عندما يلخص تعريف الدولة
بصيغة؛ جتمع من الرجال املسلحني .طبعا ،فإن الدولة تقوم بوظائف أخرى غري
تسليح الطبقة املالكة ونزع السالح من الطبقة املنتجة .غري أن وظيفتها ،يف
التحليل األخري ،هي وظيفة إكراه ميارسها قسم من اجملتمع ضد قسم آخر .وليس
يف التاريخ من شيء يسمح بتربير األطروحة الليربالية -الربجوازية القائلة أن الدولة
ولدت مبوجب "عقد" أو "إتفاق" أبرمه طوعا مجيع أعضاء جمتمع ما .بل يؤكد كل
شيء ،على العكس ،إن الدولة نتاج إكراه وعنف ميارسه بعضهم ضد بعضهم
اآلخر.
وإذا كان ظهور الدولة يتيح للطبقات املسيطرة أن حتافظ على متلك النتاج
االجتماعي الفائض ،فإن هذا التملك يسمح كذلك بتعويض أعضاء جهاز
الدولة .وكلما كان النتاج االجتماعي الفائض أهم ،كلما أمكن للدولة أن تتنظم
بعدد من اجلنود واملوظفني واأليديولوجيني مرتفع أكثر فأكثر.
26
الدولة ،أداة للسيطرة الطبقية
إن تطور الدولة يف العصر الوسيط اإلقطاعي قد جعل هذه العالقات شفافة
بصورة خاصة .فعندما يبلغ النظام اإلقطاعي ذروته ،كان كل نبيل إقطاعي يف
إقطاعيته قائد اجليش وجايب الضرائب وذا صالحية إلصدار العملة ومديرا عاما
لالقتصاد .لكن اتساع بعض اإلقطاعات وقيام مراتب بني النبالء وظهور دوقات
وكونتات ذوي سلطة على مساحات شاسعة من األراضي ،أمور جعلت من
ممارسة الوظائف آنفة الذكر بصفة شخصية عمال مستحيال .ويصح األمر
باألحرى بالنسبة للملوك واألباطرة.
هكذا تظهر شخصيات جتسد االنفصال بني تلك الوظائف؛ القهارمة
واملارشاالت ،الوزراء واألمناء ،اخل .ويبني لنا علم االشتقاق أن هذه الشخصيات
كانت باألصل من العبيد أو أقنان السيد ،أي أهنا كانت خاضعة كليا للطبقة
املسيطرة.
إذا كانت الدولة ،يف التحليل األخري ،جتمعا من الرجال املسلحني ،وإذا كانت
سلطة طبقة مسيطرة قائمة يف التعيني األخري على اإلكراه العنيف ،يبقى أن هذه
السلطة ال تستطيع أن تقتصر حصرا على هذا اإلكراه .قال نابليون بونابرت أنه
ميكن عمل أي شيء باحلراب ،عدا اجللوس عليها .فإن جمتمعا طبقيا ال يقوم إالّ
على العنف املسلح قد يصبح يف حال من احلرب األهلية الدائمة ،أي يف حال
من األزمة بالغة احلدة.
لذا ال غىن من أجل تدعيم سيطرة طبقة على أخرى ،ال غىن على اإلطالق
عن جعل املنتجني ،أعضاء الطبقة املستغَلة ،يقبلون بتملك النتاج االجتماعي
الفائض من قبل أقلية على أنه أمر حتمي ودائم وعادل .وهلذا السبب ال تقوم
الدولة بوظيفة قمع فحسب ،بل تقوم أيضا بوظيفة احتواء أيديولوجي .إن
"منتجي األيديولوجية" هم الذين يؤمنون هذه الوظيفة األخرية.
27
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
إن من خصائص البشرية أهنا ال تستطيع تأمني عيشها إالّ بواسطة عمل
اجتماعي يقتضي قيام روابط ،أي عالقات إنتاج ،بني البشر.
هذه الروابط اليت ال غىن عنها تفرض ضرورة تواصل ،أي لغة ،بني البشر،
األمر الذي يسمح بتطور الوعي والفكر و"إنتاج األفكار" (أي املفاهيم) .هكذا
فإن مجيع األعمال اهلامة يف احلياة البشرية مرفقة بتفكري حوهلا يف ذهن البشر.
غري أن هذا التفكري ال جيري بصورة عفوية متاما .وال خيرتع دوما كل فرد أفكارا
جديدة .بل يفكر معظم األفراد بواسطة أفكار تعلموها يف املدرسة أو الكنيسة
وأيضا ،يف عصرنا هذا بواسطة أفكار مستعارة من التلفزيون أو الراديو ،من
اإلعالنات أو من الصحف .إن إنتاج األفكار ،ونظم األفكار املسماة
باإليديولوجيات ،هو إذا حمدود جدا .وهو يظهر أيضا كاحتكار ألقلية صغرية يف
اجملتمع .إن اإليديولوجية السائدة ،يف كل جمتمع طبقي ،هي أيديولوجية الطبقة
السائدة .والسبب األول يف ذلك هو أن منتجي األيديولوجية مرهتنون ماديا
مبالكي االنتاج االجتماعي الفائض.
يف بداية العصر الوسيط ،كان األسياد والكنيسة (وهي مالك عقاري إقطاعي
كبري ،إىل جانب النبالء) ينفقون على الشعراء والرسامني والفالسفة .وعندما تبدل
الوضع االجتماعي واالقتصادي ،أوصى التجار ورجال املصارف األغنياء هم أيضا
على أعمال أدبية أو فلسفية أو فنية .بيد أن االرهتان املادي مل خيف ،حىت جاءت
الرأمسالية وظهر معها منتجو أيديولوجية مل يعد عملهم خاضعا مباشرة للطبقة
السائدة ،بل عملوا ألجل "سوق مغفلة".
مهما يكن من أمر ،فإن وظيفة األيديولوجية السائدة هي بال جدال وظيفة
مثبتة للمجتمع كما هو ،أي للسيطرة الطبقية .إن القانون حيمي شكل امللكية
السائدة ويربره .وتلعب العائلة الدور ذاتهّ .أما الدين فيعظ املستغَلني بقبول
مصريهم .وحتاول األفكار السياسية واألخالقية السائدة أن تربر حكم الطبقة
السائدة بواسطة سفسطات أو حقائق نصفية (مثال ،األطروحة اليت صاغها
28
الدولة ،أداة للسيطرة الطبقية
غوته( )11أثناء الثورة الفرنسية وضدها ،والقائلة أن الفوضى اليت خيلقها النضال ضد
ضد الظلم هي أسوأ من الظلم ذاته .خالصة القول :ال تغريوا النظام القائم).
29
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
كلما زاد استقرار جمتمع طبقي ،خفت املعارضة لسيادة الطبقة السائدة
واحنصر الصراع الطبقي يف نزاعات حمدودة ال هتدد بنية ذلك اجملتمع ،أي ما
يسميه املاركسيون عالقات اإلنتاج أو منط اإلنتاج .ويف املقابل ،كلما تصدع
االستقرار االقتصادي واالجتماعي لنمط إنتاج معني ،تصاعدت املعارضة لسيادة
الطبقة احلاكمة وتطور الصراع الطبقي إىل حد طرح مسألة إسقاط هذه السيادة،
مسألة الثورة االجتماعية.
تنفجر ثورة اجتماعية عندما ال تعود الطبقات املستغَلة واخلاضعة تقبل
باستغالهلا على أنه حتمي ودائم وعادل ،عندما ال تعود ختاف من إكراه احلكام
العنيف وال تقبل بقمعهم هلا وال باأليديولوجية اليت تربر حكمهم ،وعندما جتمع
القوى املادية واملعنوية الضرورية إلسقاط الطبقة السائدة .مثل هذه الشروط ينتج
عن حتوالت اقتصادية عميقة .فالتنظيم االجتماعي ومنط اإلنتاج القائمان ،اللذان
مسحا خالل مرحلة معينة بتطوير القوى املنتجة وثروة اجملتمع املادية ،يصبحان
) )10بابوف ( : ) 1979 - 1972قائد ثوري فرنسي ،له مذهب قريب من الشيوعية.
) )1,بالنكي ( ) 1,,1 - 1,20قائد انتفاضة ثورية يف فرنسا سنة 1,,7وأحد قادة ثورة
.1,4,
31
الدولة ،أداة للسيطرة الطبقية
مل ختلق الربجوازية احلديثة جهاز دولتها من العدم .بل اكتفت عموما
باالستيالء على جهاز دولة امللكية املطلقة ،ومن مث أعادت ترتيبه لتجعل منه أداة
31
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
ختدم مصاحلها الطبقية .تتميز الدولة الربجوازية بأهنا ،فضال عن وظيفتها القمعية
ووظيفتها األيديولوجية (االحتوائية) ،تقوم بوظيفة ال غىن عنها حلسن سري
االقتصاد الرأمسايل؛ وظيفة تأمني الشروط العامة لإلنتاج الرأمسايل .فاإلنتاج
الرأمسايل ،بالفعل ،إنتاج قائم على امللكية اخلاصة وبالتايل على املزامحة .وهذا
الواقع بالذات حيول دون التماثل بني املصلحة اجلماعية للبورجوازية بوصفها طبقة
ومصلحة أي رأمسايل ولو كان األغىن .فتحصل الدولة على استقالل معني لتتمكن
من متثيل تلك املصلحة اجلماعية :إهنا "الرأمسايل اجلماعي املثايل" (ف .اجنلس).
ولكي يستطيع االقتصاد الرأمسايل أن يعمل بصورة طبيعية ،بل مثالية ،يقتضي
وجود شروط قانونية وأمنية مستقرة ومتساوية بالنسبة جلميع الرأمساليني .يقتضي
على األقل سوقا قومية موحدة ونظاما نقديا قائما على عملة واحدة أو على عدد
حمدود نسبيا يف العمالت القومية .كل هذه الشروط ال ميكن أن تنجم عفويا عن
امللكية اخلاصة أو عن املزامحة الرأمساليتني .إن الدولة الربجوازية هي اليت ختلقها.
وعندما تكون الربجوازية مزدهرة وصاعدة اقتصاديا ومتأكدة من سيطرهتا
اجتماعيا وسياسيا ،متيل إىل تقليص الوظائف االقتصادية للدولة إىل احلد األدىن
الذي وصفناه تواّ .أما يف شروط إضعاف احلكم الربجوازي واحنداره ،فتحاول،
على العكس ،أن توسع هذه الوظائف لتؤمن لنفسها ضمانات ربح خاص.
المراجع
ك .ماركس وف .إجنلس ،البيان الشيوعي.
ف .اجنلس ،أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة.
هرمن غورتر ،المادية التاريخية.
بوخارين ،نظرية المادية التاريخية.
بليخانوف ،المسائل األساسية في الماركسية.
ك كاوتسكي ،األخالق والتصور المادي للتاريخ.
أ .موريه وج .دايف ،من العشائر إلى اإلمبراطوريات.
32
()4
من اإلنتاج البضاعي الصغير إلى نمط اإلنتاج الرأسمالي
.1اإلنتاج من أجل سد الحاجات واإلنتاج من أجل التبادل
يف اجملتمع البدائي ،مث داخل املشاعة القروية اليت خلقتها ثورة عصر احلجر
املصقول ،كان اإلنتاج يهدف باألساس إىل سد حاجات اجلماعات املنتجة .ومل
يكن التبادل سوى طارئ ،وال يطول غري جزء طفيف جدا من املنتوجات اليت
كانت يف حوزة املشاعة.
ويفرتض مثل هذا الشكل من اإلنتاج تنظيما متعمدا للعمل .والعمل فيه هو
بالتايل اجتماعي مباشرة .والقول أن تنظيم العمل متعمد ال يعين بالضرورة أنه
تنظيم واع (وليس علميا بالتأكيد) ،وال تنظيم دقيق .بل ميكن أن يكون العديد
من األمور مرتوكا للصدفة ،بالضبط ألنه ليس من دافع إىل اإلثراء اخلاص يتحكم
بالنشاط االقتصادي .فاألخالق والعادات السلفية والتقاليد والطقوس والدين
والسحر ميكنها مجيعا أن حتدد تناوب النشاطات املنتجة ووتريهتا .بيد أن هذه
النشاطات خمصصة دوما بشكل أساسي لسد احلاجات املباشرة للجماعات،
وليس للتبادل أو لإلثراء بوصفه هدفا حبد ذاته.
وينبثق تدرجييا من مثل هذا التنظيم للحياة االقتصادية شكل من التنظيم
االقتصادي هو نقيضه الكلي .فبعد تقدم تقسيم العمل وظهور فائض معني،
تتفتت طاقة عمل اجلماعة تدرجييا إىل وحدات (عائالت كربى ،عائالت أبوية)
تعمل باالستقالل بعضها عن البعض اآلخر .ويفصل بني أعضاء اجلماعة الطابع
اخلاص للعمل وامللكية اخلاصة ملنتوجات العمل ،بل لوسائل اإلنتاج .فيمنع هذا
الطابع اخلاص أعضاء اجلماعة من عقد عالقات اقتصادية اجتماعية متعمدة
33
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
ومباشرة ،فيما بينهم .ومل يعد من تشارك مباشر بني الوحدات أو األفراد يف احلياة
االقتصادية ،بل أصبحت العالقات تتم بواسطة تبادل منتجات عملهم.
إن البضاعة نتاج للعمل االجتماعي خيصصه منتجه للتبادل وليس الستهالكه
اخلاص أو استهالك اجلماعة اليت ينتمي إليها مباشرة ،فهي ،أي البضاعة ،تفرتض
وضعا اجتماعيا خمتلفا اختالفا عميقا عن الوضع الذي كانت فيه كتلة املنتجات
خمصصة لالستهالك املباشر من قبل اجلماعات اليت أنتجتها .طبعا ،مثة حاالت
انتقالية (مثال ،مزارع سد احلاجات املعيشية يف عصرنا ،اليت تبيع فائضا صغريا يف
السوق) .لكن إذا أردنا أن ندرك جيدا الفرق األساسي بني وضع اجتماعي يكون
فيه االنتاج خمصصا بصورة رئيسية الستهالك املنتجني املباشر ووضع يكون فيه
اإلنتاج خمصصا للتبادل ،فلنتذكر اجلواب الساخر الذي أجاب به االشرتاكي
األملاين فردينان السال أحد االقتصاديني الليرباليني يف عصره :رمبا أن السيد فالنا
بن فالن ،وهو مقاول يف شؤون اجلنازات ،ينتج نعوشا الستعماله اخلاص أوال
والستعمال أعضاء أسرته ،وال يبيع سوى الفائض الذي يبقى لديه.
ظهر إنتاج البضائع أوال قبل ما يقارب 12ألف أو 10ألف سنة ،يف الشرق
األوسط ،يف إطار تقسيم أساسي أويل للعمل بني حرفيني مهنيني وفالحني ،أي
بنتيجة ظهور املدن .إننا نطلق على التنظيم االقتصادي الذي يغلب فيه اإلنتاج
من أجل التبادل من قبل منتجني ال يزالون أسياد شروط إنتاجهم ،نطلق عليه
اسم :اإلنتاج البضاعي الصغري .وبالرغم من أنه كانت مثة أشكال متعددة لإلنتاج
البضاعي الصغري ،ال سيما يف العصور القدمية وضمن منط اإلنتاج اآلسيوي ،مل
يشهد اإلنتاج البضاعي الصغري ازدهاره الرئيسي إالّ بني القرنني الربع عشر
والسادس عشر يف إيطاليا الشمالية والوسطى ويف البلدان الواطئة اجلنوبية
والشمالية ،نظرا الضمحالل القنانة يف هذه املناطق ويف تلك العصور ،ولكون
34
من االنتاج البضاعي الصغري إىل منط االنتاج الرأمسايل
مالكي البضائع الذين التقوا يف أسواقها أحرارا عموما ومتساوين باحلقوق إىل هذا
احلد أو ذاك.
إن طابع احلرية واملساواة النسبيتني هذا الذي ميز مالكي البضائع ،ضمن
جمتمع قائم على اإلنتاج البضاعي الصغري ،هو بالضبط الذي يسمح بإدراك وظيفة
التبادل بعينها :السماح باستمرارية مجيع النشاطات املنتجة الرئيسية ،بالرغم من
تقسيم للعمل بات متقدما وبدون أن ترهتن هذه النشاطات بقرارات متعمدة من
قبل اجلماعات أو أسيادها.
فمحل تنظيم العمل القائم على التوزيع ،املتعمد ،واملدبر سلفا ،لليد العاملة
بني شىت فروع النشاط الرئيسية لسد حاجات اجملتمع املباشرة ،حيل تقسيم للعمل
"فوضوي" و"حر" إىل هذا احلد أو ذاك ،يبدو فيه أن الصدفة تتحكم بذاك
التوزيع للطاقات اإلنتاجية احلية أو امليتة (أدوات العمل) .وحمل التخطيط التقليدي
أو الواعي لتوزيع هذه الطاقات حيل التبادل .لكنه ينبغي عليه أن حيل بطريقة
تضمن استمرارية احلياة االقتصادية (ليس بدون العديد من "احلوادث العابرة"
واألزمات وانقطاعات إعادة اإلنتاج) وتضمن عموما أن جتد مجيع النشاطات
الرئيسية من ميارسها.
.3قانون القيمة
إن الطريقة اليت تتحكم بالتبادل هي بالذات ما يضمن هذه النتيجة ،يف
األجل املتوسط على األقل .فتبادل البضائع حبسب كميات العمل الضرورية
إلنتاجها .وتبادل نتاجات يوم عمل مزارع بنتاجات يوم عمل حائك .وأنه لواضح
أن التبادل ال يستطيع أن يقوم سوى على هذا التعادل ،بالضبط عند بداية اإلنتاج
البضاعي الصغري ،عندما ال يزال تقسيم العمل بني الفالح واحلريف تقسيما أوليا
وعندما ال تزال نشاطات حرفية عديدة متارس يف املزرعة .ولوال ذلك لرتك هذا
النشاط املنتج أو ذاك بسرعة ،إذا كان يكافأ بأقل من النشاطات األخرى.
35
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
وحلصل نقص يف هذا اجملال ،نقص يرفع األسعار ويرفع بالتايل املكافأة اليت جينيها
القائمون هبذا النشاط .هكذا تكون النشاطات املنتجة قد أعيد توزيعها بني
خمتلف قطاعات النشاط ،مبا يعيد قاعدة التعادل :لقاء كمية معينة من العمل
املبذول ،احلصول على الكمية ذاهتا من القيمة يف التبادل.
إننا نطلق اسم "قانون القيمة" على القانون الذي حيكم تبادل البضائع
وحيكم ،بواسطة هذا التبادل ،توزيع القوى العاملة ومجيع الطاقات اإلنتاجية بني
شىت فروع النشاط .إنه بالفعل ،إذا ،قانون اقتصادي يقوم يف جوهره على شكل
من تنظيم العمل ،على عالقات معقودة بني البشر ومتميزة عن العالقات اليت
تشرف على تنظيم لالقتصاد خمطط وفقا لتقاليد منتجني متشاركني أو إلختياراهتم
الواعية.
يضمن قانون القيمة االعرتاف االجتماعي بالعمل بعد أن أصبح عمال خاصا.
وهبذا املعىن ،ينبغي أن يستند القانون إىل أساس من املقاييس املوضوعية ،املتساوية
للجميع .فال يعقل بالتايل أن يكون إسكايف كسول ،حيتاج إىل يومي عمل إلنتاج
حذاءين ينتجهما إسكايف ماهر يف يوم عمل ،ال يعقل أن يكون قد أنتج يف هناية
املطاف ضعفي القيمة اليت أنتجها اإلسكايف املاهر .مثل هذا التنظيم للسوق،
يكافئ الكسل أو قلة املهارة ،لو وجد ألدى مبجتمع قائم على تقسيم العمل
والعمل اخلاص إىل االرتداد السريع ،بل إىل االضمحالل.
إن تعادل أيام العمل ،الذي يضمنه قانون القيمة ،هو هلذا السبب تعادل
عمل بإنتاجية متوسطة اجتماعيا .هذه اإلنتاجية املتوسطة هي إمجاال مستقرة
ومعروفة لدى اجلميع يف جمتمع ما قبل رأمسايل ،ألن التقنية اإلنتاجية تتطور فيه
ببط شديد أو ال تتطور قطعا .نقول إذا إن قيمة البضائع حتددها كمية العمل
الضروري اجتماعيا إلنتاجها.
36
من االنتاج البضاعي الصغري إىل منط االنتاج الرأمسايل
.4ظهور الرأسمال
يف اإلنتاج البضاعي الصغري ،يصل املزارع الصغري واحلريف الصغري إىل السوق
ومعهما منتجات عملهما .فيبيعاهنا ليشرتيا منتجات حيتاجان إليها إلستهالكهما
اجلاري وال ينتجاهنا بنفسيهما وميكن تلخيص نشاطهما يف السوق بصيغة :البيع
من أجل الشراء.
بيد أنه سريعا ما يقتضي اإلنتاج البضاعي الصغري ظهور وسيلة تبادل مقبولة
لدى العموم (يطلق عليها أيضا اسم "املعادل العام") لتسهيل التبادل .إن وسيلة
التبادل هذه ،اليت ميكن مبادلة مجيع البضائع هبا دون فرق ،هي النقد .ومع ظهور
النقد ،يصبح باإلمكان أن تظهر بنتيجة تقدم جديد يف التقسيم االجتماعي
للعمل شخصية اجتماعية أخرى ،طبقة اجتماعية أخرى :صاحب املال ،املستقل
عن مالك البضائع بذاهتا واملقابل له .إنه املرايب أو التاجر املتخصص يف التجارة
الدولية .ويقوم صاحب املال هذا بنشاط يف السوق خمتلف جدا عن نشاط
الفالح الصغري أو احلريف .فبما أنه يصل إىل السوق ومعه مبلغ معني من املال ،مل
يعد شغله أن يبيع لكي يشرتي ،بل على العكس أن يشرتي لكي يبيع .إن
عما ينتجانه
الفالح أو احلريف الصغريين يبيعان لكي يشرتيا بضاعة خمتلفة ّ
بنفسيهما ،غري أن اهلدف من العملية يبقى سد حاجات مباشرة إىل هذا احلد أو
ذاك .وبالعكس ،فإن صاحب املال ال يستطيع أن "يشرتي لكي يبيع" من أجل
سد حاجاته فقط .إن "الشراء من أجل البيع" ال معىن له يف نظر صاحب
املصرف أو التاجر إالّ إذا باع لقاء مبلغ يفوق املبلغ الذي جاء به إىل السوق .إن
ازدياد قيمة املال عن طريق احلصول على فائض قيمة ،أي اإلثراء بوصفه هدفا
بذاته ،هو معىن نشاط املرايب أو التاجر.
إن الرأمسال -إذ أنه هو املعين ،بشكله األويل والبدائي ،شكل الرأمسال
النقدي -هو إذا كل قيمة حتاول أن حتصل على فائض قيمة ،كل قيمة تنطلق
حبثا عن فائض قيمة .هذا التعريف املاركسي للرأمسال يتعارض مع التعريف الشائع
37
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
يف املوجزات الربجوازية والقائل أن الرأمسال هو ببساطة كل أداة عمل ،أو حىت،
مبزيد من اإلهبام" ،كل سلعة دائمة" .مبثل هذا التعريف ،فإن أول قرد ضرب
شجرة موز بعصا للحصول على موز هو أول رأمسايل …
فلنؤكد مرة أخرى على الفكرة :إن مقولة "الرأمسال" ،شأهنا شأن مجيع
"املقوالت االقتصادية" ،ال ميكن فهمها إالّ بالنظر إىل كوهنا قائمة على عالقة
اجتماعية بني البشر ،أي عالقة تتيح لصاحب رأمسال أن يتملك فائض قيمة.
ال يتطابق وجود الرأمسال مع وجود منط اإلنتاج الرأمسايل .بالعكس ،فإن
رساميل قد وجدت وجرى تداوهلا طوال آالف السنني ،قبل والدة منط اإلنتاج
الرأمسايل يف أوروبا الغربية يف القرنني اخلامس عشر والسادس عشر.
وقد ظهر املرايب والتاجر أوال داخل جمتمعات ما قبل رأمسالية ،عبودية ،إقطاعية
أو قائمة على منط اإلنتاج االسيوي .إهنما يعمالن يف هذه اجملتمعات خارج دائرة
اإلنتاج بصورة رئيسية .ويؤمنان دخول املال إىل جمتمع طبيعي (هذا املال يأيت من
اخلارج عموما) ،ويدخالن منتجات كمالية أتت من بعيد ،ويوفران حدا أدىن من
التسليف للطبقات املالكة اليت ال حتوز على ثروات منقولة وللملوك واألباطرة
أيضا .مثل هذا الرأمسال ضعيف سياسيا ،وليس مبنأى عن االبتزاز والسلب
واملصادرة .وهو ذا أصال مصريه االعتيادي .لذا حيمي صاحب املال ثروته بغريه،
حىت أنه خيفي جزءا منها وحيرص على أالّ يوظفها بكاملها خوفا من أن جتري
مصادرهتا .فقد طالت املصادرات بعض أثرى جتمعات أصحاب الرساميل يف
العصر الوسيط ،أمثال فرسان املعبد( )14يف القرن الرابع عشر يف فرنسا .وقد خسر
( )14فرسان املعبد :مجعية فرسان شاركوا يف احلروب الصليبية واغتنوا فاصبحوا رجال مصاريف .وقد
صودرت ثروهتم واعدموا حرقا يف القرن الرابع عشر.
38
من االنتاج البضاعي الصغري إىل منط االنتاج الرأمسايل
رجال املصارف اإليطاليون ثرواهتم بعد أن مولوا حروب ملوك إنكلرتا ،ألن هؤالء
امللوك مل يسددوا ديوهنم.
إن الرأمسال ال يستطيع أن يرتاكم -أن ينمو -بصورة متواصلة إىل هذا احلد
أو ذاك ،إالّ عندما يكون ميزان القوى السياسي قد تغري إىل حد أصبحت عنده
املصادرات أصعب فأصعب .منذ ذلك احلني ،يصبح دخول الرأمسال يف دائرة
اإلنتاج ممكنا ،وتصبح معه والدة منط اإلنتاج الرأمسايل ،والدة الرأمسالية احلديثة،
ممكنة.
مل يعد اآلن صاحب الرساميل جمرد مراب أو مصريف أو تاجر .إنه مالك
وسائل إنتاج ،ومستأجر سواعد ومنظم لإلنتاج وصاحب معمل أو مصنع .ومل
يعد فائض القيمة مستخرجا من دائرة التوزيع .بل هو منتج بصورة مستمرة خالل
سريورة اإلنتاج ذاهتا.
يف اجملتمع ما قبل الرأمسايل عندما يعمل أصحاب الرساميل يف دائرة التداول
بصورة رئيسية ،ال يستطيعون أن يتملكوا فائض قيمة إالّ باستغالل مداخيل
طبقات أخرى يف اجملتمع بشكل طفيلي .وميكن أن يكون أصل فائض القيمة
الطفيلي هذا ّأما جزءا من الفائض الزراعي (من الريع اإلقطاعي مثال) امتلكه أوال
النبالء أو االكلريوس ،و ّأما جزءا من مداخيل احلرفيني والفالحني الضامرة .إن
فائض القيمة هذا هو يف جوهره نتاج اخلداع والسلب .وقد لعبت القرصنة والنهب
وجتارة الرقيق دورا رئيسيا يف تكون أوىل ثروات جتار إيطاليني وفرنسيني وفلمنديني
وأملان وإنكليز ،يف العصر الوسيط .ولعبت الحقا ممارسة شراء البضائع يف أسواق
بعيدة بأقل من قيمتها ،مث إعادة بيعها بأكثر من قيمتها يف أسواق منطقة البحر
املتوسط أو أوروبا الغربية والوسطى ،لعبت دورا مماثال.
39
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
إنه ملن الواضح أن فائض قيمة كهذا ال ينجم سوى عن نشاطات حتويل .وال
يزداد هبا جممل ثروة اجملتمع بأسره .بل خيسر بعضهم ما يرحبه بعضهم اآلخر.
وبالفعل فإن الثروة املنقولة اإلمجالية للبشرية مل تزد طوال آالف السنني إالّ ازديادا
بسيطا ،إالّ أن األمر قد تبدل منذ والدة منط اإلنتاج الرأمسايل .ذلك أن فائض
القيمة مل يعد ،منذ ذلك احلني ،مسحوبا ببساطة من سريورة تداول البضائع .بل
هو اآلن منتج بصورة مستمرة ،وبالتايل يزداد توسعا بصورة مستمرة ،خالل اإلنتاج
بالذات.
لقد رأينا أن املنتجني (عبيدا ،وأقنانا ،وفالحني) يف مجيع اجملتمعات الطبقية ما
قبل الرأمسالية كانوا مضطرين لتقسيم أسبوع عملهم أو إنتاجهم السنوي إىل قسم
كان بوسعهم استهالكه بأنفسهم (النتاج الضروري) ،وقسم كانت الطبقة السائدة
تتملكه (النتاج االجتماعي الفائض) .فإن الظاهرة ذاهتا حتصل يف املصنع
الرأمسايل ،بالرغم من أهنا مموهة مبظهر العالقات التجارية اليت تبدو كأهنا حتكم
"الشراء احلر والبيع احلر" لقوة العمل بني الرأمسايل والعامل.
عندما يبدأ العامل العمل يف املصنع ،يف بداية يوم عمله (أو أسبوع عمله)،
فإنه يضيف قيمة إىل املواد األولية اليت يعمل هبا .وبعد عدد من ساعات (أو أيام)
العمل ،يكون قد أعاد إنتاج قيمة تعادل بالضبط أجره اليومي (أو األسبوعي).
ولو توقف عن العمل يف تلك اللحظة بالذات ،يكون الرأمسايل مل حيصل على
فلس من فائض القيمة .غري أن الرأمسايل لن تكون لديه يف هذه الشروط أية
مصلحة يف شراء قوة العمل .فهو كاملرايب أو التاجر يف العصر الوسيط" ،يشرتي
لكي يبيع" .إنه يشرتي قوة العمل ليحصل منها على نتاج أعلى مما أنفقه ليشرتيها
هذه "الزودة" ،هذه "اإلضافة" ،هي بالضبط فائض قيمته ،أي رحبه .وأنه ملفهوم
بالتايل أن العامل ،إذا كان ينتج معادل أجره خالل أربع ساعات عمل ،سوف
يعمل ليس أربع ساعات بل ستا أو سبعا أو مثاين أو تسعا .فهو ،خالل الساعتني
أو الثالث أو األربع أو اخلمس "اإلضافية" ،ينتج فائض قيمة لصاحل الرأمسايل وال
41
من االنتاج البضاعي الصغري إىل منط االنتاج الرأمسايل
يلقى شيئا مقابله .إن مصدر فائض القيمة هو إذا عمل إضايف ،عمل جماين،
يتملكه الرأمسايل .وسوف يصرخ بعضهم" :بل هذه سرقة !" .واجلواب ينبغي أن
يكون "نعم وكال" .نعم من وجهة نظر العامل ،وكال من وجهة نظر الرأمسايل
و"قوانني السوق".
وبالفعل فإن الرأمسايل مل يشرت يف السوق "القيمة املنتجة أو اليت سوف ينتجها
العامل" .مل يشرت "عمل" العامل ،أي العمل الذي سوف يقوم به العامل (لو فعل
ذلك ألرتكب فعال سرقة بكل معىن الكلمة ودفع ألف فرنك لقاء ما قيمته ألفا
فرنك) .لكنه اشرتى قوة عمل العامل .ولقوة العمل هذه قيمة خاصة ،كما أن
لكل بضاعة قيمتها .فإن قيمة قوة العمل حتددها كمية العمل الضرورية إلعادة
إنتاجها ،أي إلعالة العامل وأسرته .وجيد فائض القيمة مصدره يف ظهور فارق بني
القيمة اليت ينتجها العامل وقيمة البضائع الضرورية لتأمني عيشه (باملعىن العريض
للكلمة) .هذا الفارق يعود الزدياد إنتاجية عمل العامل .ويستطيع الرأمسايل أن
يتملك فوائد ازدياد إنتاجية العمل ،ألن قوة العمل أصبحت بضاعة وألن العامل
قد وضع يف شروط مل تعد ختوله إنتاج عيشه اخلاص.
41
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
يستطيعون احلصول عليها .وقد حققت ثورة القرن الثامن عشر الصناعية ،اليت
جعلت اآلالت أساس اإلنتاج ،حققت هذا التحول بصورة هنائية.
ج .حتول قوة العمل إىل بضاعة .هذا التحول ينتج عن ظهور طبقة ال متلك شيئا
سوى قوة عملها وهي مضطرة ،من أجل العيش ،أن تبيع قوة العمل هذه
ملالكي وسائل اإلنتاج.
" أناس فقراء وكادحون يتحمل العديد منهم عبء نساء والعديد من األوالد
وال يملكون شيئا سوى ما يمكنهم كسبه بعمل أيديهم " ..
هو ذا وصف بارع للربوليتاريا احلديثة ،ورد يف التماس كتب يف مدينة اليد (يف
البلدان الواطئة) يف هناية القرن السادس عشر.
وملا كان هذا اجلمهور من الربوليتاريني ال ميلك حرية االختيار -سوى
االختيار بني بيع قوة عمله واجلوع الدائم -فهو مضطر ألن يقبل كثمن لقوة عمله
الثمن الذي تفرضه الشروط الرأمسالية العادية يف «سوق العمل» ،أي احلد األدىن
املعيشي املقر اجتماعيا .إن الربوليتاريا هي طبقة الذين يضطرهم هذا االكراه
االقتصادي إىل بيع قوة عملهم بصورة متواصلة إىل هذا احلد أو ذاك.
المراجع
ك .ماركس ،األجور واألسعار واألرباح.
ر .لوكسمبورغ ،مدخل إلى االقتصاد السياسي.
أ .ماندل ،مدخل إلى النظرية االقتصادية الماركسية.
أ .ماندل ،النظرية االقتصادية الماركسية.
ب .سالمة وج .فالييه ،مدخل إلى االقتصاد السياسي.
42
()5
االقتصاد الرأسمالي
.1خصائص االقتصاد الرأسمالي
يعمل االقتصاد الرأمسايل وفقا جلملة من املميزات اخلاصة به واليت نذكر من
بينها:
أ .ان اإلنتاج هو يف جوهره إنتاج بضائع ،أي إنتاج معد للبيع يف السوق .فبدون
البيع الفعلي للبضائع املنتجة ،ال تستطيع املنشآت الرأمسالية والطبقة الربجوازية
مبجملها أن حتقق فائض القيمة الذي أنتجه الشغيلة والذي حتتوي عليه قيمة
البضائع املصنوعة.
ب .جيري اإلنتاج ضمن شروط امللكية اخلاصة لوسائل اإلنتاج .هذه امللكية
اخلاصة ليست مبقولة حقوقية يف املقام األول ،بل هي مقولة اقتصادية .إهنا
تعين أن سلطة التصرف بالقوى املنتجة (وسائل اإلنتاج والقوى العاملة) ليست
يف حوزة اجملتمع ،بل هي مفتتة بني املنشآت منفصلة بعضها عن البعض اآلخر
تسيطر عليها جتمعات رأمسالية متميزة (مالكون فرديون ،عائالت ،شركات
مغفلة أو جتمعات مالية) .إن قرارات التوظيف اليت تؤثر إىل حد بعيد على
الظرف االقتصادي تتخذ هي أيضا بشكل مفتت ،على أساس املصلحة
اخلاصة واملستقلة لكل وحدة رأمسالية أو جتمع رأمسايل.
ج .يتم اإلنتاج ألجل سوق مغفلة وحتكمه ضرورات املزامحة .ومبا أن اإلنتاج مل
تعد حتد منه التقاليد (كما يف املشاعات البدائية) أو التشريعات (كما يف
مجعيات احلرف يف العصر الوسيط) ،فإن كل رأمسال خاص (كل مالك ،كل
منشأة أو كل جتمع رأمسايل) يسعى جهده لبلوغ أعلى رقم للمبيعات
43
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
والحتكار القسم األكرب من السوق دون املباالة بالقرارات املماثلة اليت تتخذها
منشآت أخرى تعمل يف اجملال ذاته.
د .إن هدف اإلنتاج الرأمسايل هو حتقيق احلد األقصى من الربح .وبينما كانت
الطبقات املالكة ما قبل الرأمسالية تعتاش من النتاج االجتماعي الفائض
وتستهلكه إمجاال بصورة غري منتجة ،يتحتم على الطبقة الرأمسالية هي أيضا أن
تستهلك جزءا من النتاج االجتماعي الفائض ،أي من األرباح اليت حققتها،
بصورة غري منتجة .غري أنه ينبغي عليها ،لكي حتقق هذه األرباح ،أن تتمكن
من بيع بضائعها ،األمر الذي يقتضي أن تستطيع بيعها يف السوق بسعر أدىن
من أسعار املنافسني .وينبغي يف سبيل ذلك أن تقدر على خفض تكاليف
اإلنتاجّ .أما الوسيلة األجنع خلفض تكاليف اإلنتاج (سعر التكلفة) فهي توسيع
قاعدة االنتاج ،أي زيادة اإلنتاج ،بواسطة آالت أكثر فأكثر اتقانا .غري أن
هذا يتطلب رساميل أعظم فأعظم .إن سوط املزامحة هو إذا الذي جيرب
الرأمسالية على السعي وراء احلد األقصى من الربح لتتمكن من تطوير
التوظيفات املنتجة إىل أقصى حد.
ه .هكذا يتبني أن اإلنتاج الرأمسايل ليس إنتاجا يف سبيل الربح فحسب ،بل إنتاج
من أجل تراكم الرأمسال .فإن منطق الرأمسالية يقتضي بالفعل أن يراكم القسم
األعظم من فائض القيمة بصورة منتجة (أي أن يتم حتويله إىل رأمسال إضايف
بشكل آالت ومواد أولية إضافية ،ويد عاملة إضافية) ،ال أن يستهلك بصورة
غري منتجة (االستهالك اخلاص للربجوازية وخدمها).
ويؤدي اإلنتاج من أجل تراكم الرأمسال إىل نتائج متناقضة .فمن جهة ،يستتبع
تطور اآلالت املستمر ازدهارا للقوى املنتجة وإلنتاجية العمل خيلق األسس املادية
لتحرر اإلنسانية من اضطرارها مكرهة إىل "العمل بعرق جبينها" .هي ذي الوظيفة
التقدمية تارخييا للرأمسالية .لكن تطور اآلالت ،الذي يفرضه البحث عن احلد
األقصى من الربح وعن تراكم الرساميل املتزايد بدون انقطاع ،هذا التطور يستتبع،
44
االقتصاد الرأمسايل
من جهة أخرى ،إخضاع العامل لآللة بصورة أكثر فأكثر قساوة وإخضاع
اجلماهري الكادحة لـ"قوانني السوق" اليت تفقدها دوريا التخصص والعمل.
إن االزدهار الرأمسايل للقوى املنتجة هو يف الوقت نفسه تطور متزايد احلدة
الستالب الشغيلة (وبصورة غري مباشرة ،استالب مجيع أفراد اجملتمع الربجوازي)
على صعيد أدوات عملهم ومنتجات عملهم وشروط عملهم وشروط عيشهم
عامة (مبا فيها شروط استهالكهم واستعماهلم لـ"وقت الفراغ") وعالقاهتم اإلنسانية
حقا مبواطنيهم.
من أجل احلصول على احلد األقصى من الربح وتطوير تراكم الرأمسال إىل أبعد
حد ممكن ،يتوجب على الرأمساليني أن يقلصوا إىل أقصى حد ذاك القسم من
ِ
بشكل أُجور .فإن هذه القيمة اجلديدة ،اليت أنتجتها قوة العمل والذي يعود إليها
القيمة اجلديدة ،هذا "الدخل املخلوق" ،تتحدد بالفعل يف سريورة اإلنتاج ذاهتا،
باستقالل عن أية مشكلة توزيع .وهي تقاس مبجموع ساعات العمل اليت بذهلا
جممل املنتجني املأجورين .فبقدر ما تكرب حصة األجور الفعلية اليت يدفعها ذاك
اجملموع ،تصغر حتميا حصة فائض القيمة .وكلما سعى الرأمساليون لزيادة احلصة
العائدة لفائض القيمة ،كلما اضطروا إىل تقليص احلصة املخصصة لألجور .إن
الوسيلتني الرئيسيتني اللتني جيهد الرأمساليون بواسطتهما لزيادة حصتهم ،أي لزيادة
فائض القيمة مها:
أ .إطالة يوم العمل (من القرن السادس عشر إىل منتصف التاسع عشر يف
الغرب ،وحىت أيامنا يف العديد من البلدان شبه املستعمرة) وتقليص األجور
الفعلية وختفيض "الحد األدنى" املعيشي .هذا ما يسميه ماركس زيادة فائض
القيمة املطلق.
45
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
ب .زيادة كثافة العمل وإنتاجيته يف دائرة السلع االستهالكية (وقد سادت هذه
الوسيلة يف الغرب منذ النصف الثاين للقرن التاسع عشر) .وبالفعل ،فإذا
مسحت زيادة إنتاجية العمل يف صناعات السلع االستهالكية ويف الزراعة ،إذا
مسحت للعامل الصناعي املتوسط بأن يعيد إنتاج قيمة تشكيلة حمددة من تلك
السلع االستهالكية بثالث ساعات عمل بدل االضطرار إىل العمل مخس
ساعات إلنتاجها ،يصبح بامكان فائض القيمة الذي يقدمه العامل لرب
عمله االنتقال من نتاج ثالث ساعات إىل نتاج مخس ساعات عمل مع بقاء
يوم العمل حمددا بثماين ساعات .هذا ما يسميه ماركس زيادة فائض القيمة
النسيب.
كل رأمسايل يسعى للحصول على احلد األقصى من الربح .ويسعى أيضا من
أجل ذلك لزيادة اإلنتاج إىل أقصى حد ،وألن ينخفض باستمرار سعر الكلفة
وسعر املبيع (اللذين حيددان بوحدات نقدية ثابتة) .وبنتيجة ذلك ،جتري املزامحة
يف األمد املتوسط اختيارا بني املنشآت الرأمسالية ،فتبقى األكثر إنتاجية واألكثر
"إيرادية" دون سواهاّ .أما املنشآت اليت تبيع بأسعار عالية فهي ال حتقق "احلد
األقصى من الربح" ،بل ينتهي هبا األمر إىل زوال رحبها كليا .إهنا تفلس أو
يستوعبها املنافسون.
إن املزامحة بني الرأمساليني تؤدي إىل تساوي معدل الربح .فينتهي األمر مبعظم
املنشآت إىل اضطرارها إىل االكتفاء بربح متوسط حتدده يف التحليل األخري الكتلة
اإلمجالية للرأمسال االجتماعي املوظف والكتلة اإلمجالية لفائض القيمة الذي ينتجه
جممل املأجورين املنتجني .وحدها املنشآت اليت تنعم بتقدم هام يف اإلنتاجية أو
هبذا الوضع االحتكاري أو ذاك ،حتصل على أرباح فائضة ،أي على أرباح تفوق
ذلك املتوسط .غري أن املزامحة الرأمسالية ال تسمح إمجاال لألرباح الفائضة أو
لالحتكارات بأن تستمر لوقت غري حمدود.
46
االقتصاد الرأمسايل
إن الفروقات بالنسبة لذلك الربح املتوسط هي اليت تتحكم إىل حد بعيد
بالتوظيفات يف منط اإلنتاج الرأمسايل .فترتك الرساميل القطاعات حيث الربح أدىن
من املتوسط وتتدفق حنو قطاعات حيث الربح أعلى من املتوسط (كانت ،مثال،
الرساميل تتدفق حنو صناعة السيارات يف الستينات ،مث تركتها لتتدفق حنو قطاع
الطاقة يف سبعينات قرننا) .لكن هذه الرساميل ،بتدفقها حنو القطاعات حيث
معدل الربح أعلى من املتوسط ،ختلق يف هذه القطاعات مزامحة حادة وفيض إنتاج
واخنفاضا ألسعار املبيع ولألرباح حىت يستقر معدل الربح يف املستوى ذاته إىل هذا
احلد أو ذاك يف مجيع القطاعات.
.3تطور األجور
إحدى ميزات الرأمسالية هي أهنا حتول قوة العمل البشرية إىل بضاعة .وحتدد
قيمة البضاعة -قوة العمل بتكاليف إعادة إنتاجها (أي قيمة مجيع البضائع
الضروري استهالكها إلعادة تكوين قوة العمل) .إن األمر يتعلق هنا إذا بكم
موضوعي ،مستقل عن التقديرات الذاتية أو العرضية لتجمعات أفراد ،أكانوا
عماال أو أرباب عمل.
بيد أن لقيمة قوة العمل ميزة خاصة باملقارنة مع قيمة أية بضاعة أخرى :إهنا
تتضمن ،عالوة على عنصر قابل للقياس بدقة ،عنصرا متغريا .إن العنصر الثابت
هو قيمة البضائع اليت تقتضيها إعادة تكوين قوة العمل من وجهة النظر
الفيسيولوجية (أي البضائع اليت تسمح للعامل باستعادة حراريات وفيتامينات،
والقدرة على بذل طاقة عضلية وعصبية حمددة يعجز بدوهنا عن العمل بالوترية
"العادية" اليت يفرضها التنظيم الرأمسايل للعمل يف برهة معينة)ّ .أما العنصر املتغري
فهو قيمة البضائع اليت تدخل يف "احلد األدىن املعيشي العادي" يف زمن وبلد
حمددين ،واليت ليست جزءا من احلد األدىن املعيشي الفيسيولوجي .ويسمي
ماركس هذه احلصة األخرية من قيمة قوة العمل باجلزء "التارخيي -األخالقي".
47
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
هذا يعين أنه ليس أيضا جبزء عرضي ،بل هو نتاج تطور تارخيي وحالة معينة يف
ميزان القوى بني الرأمسال والعمل .وعند هذه النقطة بالذات من التحليل
االقتصادي املاركسي ،يصبح الصراع الطبقي مباضيه وحاضره عامال مسامها يف
حتديد االقتصاد الرأمسايل.
األجر هو سعر السوق لقوة العمل .وكجميع أسعار السوق ،يتذبذب حول
قيمة البضاعة املعنية .إن متوجات اجليش االحتياطي الصناعي ،أي جيش البطالة
تساهم بصورة خاصة يف حتديد تذبذبات األجر ،وذلك بثالثة معان:
أ .عندما يعاين بلد رأمسايل من بطالة دائمة بالغة األمهية (عندما يكون بالتايل
متخلفا صناعيا) ،تتعرض األجور ألن تكون دائما ّإما دون قيمة قوة العمل أو
يف مستواها .هذه القيمة تكاد تقرتب من احلد األدىن املعيشي الفيسيولوجي.
ب .عندما تتقلص البطالة اجلماهريية الدائمة يف األمد الطويل ،ال سيما بنتيجة
التصنيع يف العمق واهلجرة اجلماهريية ،تستطيع األجور أن ترتقي فوق قيمة قوة
العمل يف مراحل الظرف االقتصادي املالئم .ويستطيع النضال العمايل أن
يؤدي يف األمد الطويل إىل دمج قيمة بضائع جديدة يف قيمة قوة العمل.
وميكن للحد األدىن املعيشي املعرتف به اجتماعيا أن يزداد ازديادا فعليا ،أي
أن يتضمن حاجات جديدة.
ج .ليست متوجات جيش االحتياط الصناعي مرهونة حبركات السكان (معدل
الوالدات والوفيات) وحركات اهلجرة الدولية للربوليتاريا فحسب ،بل هي
مرهونة أيضا وخاصة مبنطق تراكم الرأمسال عينه .ففي الصراع من أجل البقاء
يف وجه املزامحة ،ينبغي على الرأمساليني أن يستبدلوا اليد العاملة بآالت ("عمل
ميت") .ويقذف هذا االستبدال بصورة دائمة أفواجا من اليد العاملة خارج
اإلنتاج .وتلعب األزمات الدور نفسه .ويف املقابل ،يف مراحل الظرف
االقتصادي املالئم و"سخونة" االقتصاد ،عندما يتقدم تراكم الرأمسال بوترية
حادة ،يتقلص جيش االحتياط الصناعي.
48
االقتصاد الرأمسايل
ليس إذا من قانون صارم يتحكم بتطور األجور .فإن الصراع الطبقي بني
الرأمسال والعمل حيدد جزئيا هذا التطور ،حيث جيتهد الرأمسال لتخفيض األجور
إىل احلد األدىن املعيشي الفيسيولوجي وجيتهد العمال لتوسيع العنصر التارخيي
واملعنوي يف تركيب األجر وذلك بدمج املزيد من احلاجات اجلديدة املطلوب
تلبيتها يف هذا األجر .إن درجة االنسجام والتنظيم والتضامن والكفاحية والوعي
الطبقي يف صفوف الربوليتاريا هي إذا عوامل تساهم يف حتديد تطور األجور .غري
أنه يف األمد الطويل ميكن أن نالحظ بصورة غري قابلة للجدل ميال إىل اإلفقار
النسيب للطبقة العاملة .فإن حصة القيمة اجلديدة اليت ختلقها الربوليتاريا واليت تعود
إىل الشغيلة ،متيل إىل االخنفاض (األمر الذي ميكن باألصل أن يرافقه ارتفاع يف
األجور الواقعية) .إن الفارق بني احلاجات اجلديدة اليت أثارها تطور القوى املنتجة
وازدهار اإلنتاج الرأمسايل بالذات ،من جهة ،والقدرة على تلبية احلاجات بواسطة
األجور املقبوضة من جهة أخرى ،مييل إىل التوسع.
إن الفارق املتعاظم بني ازدياد إنتاجية العمل يف األمد الطويل وازدياد األجور
الواقعية هلو مؤشر واضح لإلفقار النسيب .فمنذ بداية القرن العشرين حىت بداية
السبعينات ،ازدادت إنتاجية العمل حبوايل مخسة أو ستة أضعاف يف الصناعة
والزراعة يف الواليات املتحدة األمريكية ويف أوروبا الغربية والوسطى .لكن أجور
العمال الواقعية مل تزدد سوى بضعفني أو ثالثة أضعاف خالل احلقبة ذاهتا.
إن منط اإلنتاج الرأمسايل ،من حيث ميزات سريه بذاهتا ،يتطور وفقا لقوانني
تطور معينة ختص بالتايل طبيعته اخلاصة:
ا .تركز الرأمسال ومتركزه
يف املزامحة ،تبتلع األمساك الكبرية األمساك الصغرية .فتتغلب املنشآت الكبرية
على املنشآت األصغر حجما اليت حتوز على إمكانيات أقل وال تستطيع أن
49
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
تستفيد من إجيابيات اإلنتاج واسع النطاق وال أن تدخل التقنية األكثر تقدما
وكلفة .فيزداد بالتايل حجم املنشآت الطليعية باستمرار (تركز الرأمسال) .قبل قرن،
كانت املنشآت اليت يعمل فيها 022أجري استثناءّ .أما اليوم ،فثمة منشآت
يعمل فيها أكثر من 122ألف أجري .ويف الوقت نفسه ،يتم ابتالع العديد من
املنشآت املغلوبة يف املزامحة من قبل منافسيها الظافرين (متركز الرأمسال).
ب .تبلرت السكان العاملني التدرجيي
يقتضي متركز الرأمسال بأن يتقلص باستمرار عدد أرباب العمل الصغار العاملني
حلساهبم اخلاص .وال ينفك قسم السكان العاملني املضطر إىل بيع قوة عمله
للعيش يزداد .هي ذي األرقام املتعلقة هبذا التطور يف الواليات املتحدة ،وهي تؤكد
امليل بصورة ساطعة:
تطور البنية الطبقية في الواليات المتحدة
(بالنسبة املئوية من السكان العاملني)
السنة األجراء المقاولون والمستقلون
1,,2 % 70 % ,7672
1,72 % 70 % ,,6,2
1722 % 7967 % ,26,2
1712 % 9167 % 076,2
1702 % 9,67 % 0,602
17,2 % 976, % 026,2
17,7 % 9,60 % 1,6,2
1702 % 976, % 19612
1772 % ,460 % 14622
1792 % ,767 % ,672
51
االقتصاد الرأمسايل
وخالفا ألسطورة شائعة ،فإن هذا اجلمهور الربوليتاري ،بالرغم من انقسامه إىل
شرائح عديدة ،تزداد درجة انسجامه ازديادا هاما بدل أن ترتاجع .إن الفرق بني
عامل يدوي ومستخدم يف مصرف وموظف حكومي صغري هو أقل اليوم مما كان
قبل نصف قرن أو قرن ،سواء من حيث مستوى املعيشة أو من حيث النزوع إىل
االنضمام إىل نقابة وإىل اإلضراب أو من حيث احتمال بلوغ الوعي املعادي
للرأمسالية.
إن تبلرت السكان التدرجيي يف النظام الرأمسايل ينجم باألخص عن إعادة
اإلنتاج التلقائية لعالقات اإلنتاج الرأمسالية من جراء التوزيع الربجوازي للمداخيل،
وهي إعادة إنتاج سبق أن ذكرناها أعاله .فاألجور ،منخفضة كانت أو مرتفعة ،ال
تستخدم إالّ لتلبية حاجات الربوليتاريني االستهالكية (سواء مباشرة أو مؤجلة).
ويعجز الربوليتاريون عن مراكمة ثروات .من جهة أخرى ،يستتبع تركز الرأمسال
تكاليف إنشاء أكثر فأكثر ارتفاعا تقطع الطريق إىل ملكية املنشآت الصناعية
والتجارية الكبرية ليس أمام جمموع الطبقة العاملة وحسب ،بل أيضا أمام الغالبية
العظمى من الربجوازية الصغرية.
ج .ازدياد الرتكيب العضوي للرأمسال
ميكن تقسيم رأمسال كل رأمسايل ،وبالتايل رأمسال مجيع الرأمساليني ،إىل قسمني.
يكرس األول لشراء آالت وأبنية ومواد أولية .وتبقى قيمته ثابتة خالل اإلنتاج،
حيث حتافظ عليها قوة العمل وتنقل جزءا منها إىل املنتجات اليت تصنعها .يطلق
ماركس على هذا القسم اسم الرأمسال الثابت .ويكرس القسم الثاين لشراء قوة
العمل ،أي لدفع األجور .ويطلق ماركس عليه اسم الرأمسال املتغري .هذا القسم
وحده ينتج فائض القيمة.
إن نسبة الرأمسال الثابت إىل الرأمسال املتغري هي يف آن واحد نسبة تقنية -
الستعمال هذه اآلالت أو تلك بصورة مرحبة ،جيب إعطاؤها هذه الكمية من
املواد األولية وجيب ختصيص هذا العدد من العمال والعامالت للعمل عليها -
51
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
ونسبة بالقيمة :هذا القدر من األجور منفق لشراء هذا العدد من العمال لتشغيل
هذا العدد من اآلالت اليت كلفت هذا املبلغ ،لتحويل مواد أولية هبذا السعر .يشري
ماركس إىل هذه النسبة املزدوجة بني الرأمسال الثابت والرأمسال املتغري بعبارة
الرتكيب العضوي للرأمسال.
ومع تطور الرأمسالية الصناعية ،متيل هذه النسبة إىل االزدياد .فإن كتلة متزايدة
من املواد األولية وعددا متزايدا (وأكثر فأكثر تعقيدا) من اآلالت سوف حيركها
عامل واحد (أو 12أو 122أو .)1222وسوف تقابل كتلة واحدة من األجور
قيمة متيل إىل االرتفاع أكثر فأكثر منفقة لشراء مواد أولية وآالت وطاقة وأبنية.
د .ميل املعدل الوسطي للربح إىل االخنفاض
هذا القانون يتبع بصورة منطقية القانون السابق .فإذا ازداد الرتكيب العضوي
للرأمسال ،نزع الربح إىل االخنفاض بالنسبة إىل الرأمسال اإلمجايل مبا أن الرأمسال
املتغري وحده ينتج فائض القيمة ،أي الربح.
إننا بصدد قانون ميلي وليس بصدد قانون يفرض نفسه بصورة "مستقيمة"
مثل قانون تركز الرأمسال أو قانون تبلرت السكان العاملني .وبالفعل ،فإن عوامل
شىت تعاكس هذا امليل .أهم هذه العوامل هو ازدياد معدل استغالل األجراء،
ازدياد معدل فائض القيمة (نسبة الكتلة اإلمجالية لفائض القيمة إىل الكتلة
اإلمجالية لألجور) .بيد أنه ال بد من أن نالحظ أن ازدياد معدل فائض القيمة ال
يستطيع أن يبطل االخنفاض امليلي للمعدل الوسطي للربح بصورة ثابتة .فثمة حد
ال يستطيع األجر الواقعي وال حىت األجر النسيب أن يسقطا حتته بدون هتديد
إنتاجية العمل االجتماعية ومردود اليد العاملة ،يف حني ليس من حد الزدياد
الرتكيب العضوي للرأمسال (فهو يستطيع أن يرتفع بال حدود يف املنشآت املؤلّلة
.)automatisées
52
االقتصاد الرأمسايل
53
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
مجيع التناقضات املالزمة لنمط اإلنتاج الرأمسايل تنفجر دوريا يف أزمات فيض
اإلنتاج .فإن امليل إىل أزمات فيض اإلنتاج الدورية ،وإىل سري اإلنتاج بدورات
جيتاز عربها بالتتايل مراحل اإلنعاش والرواج و"السخونة" واألزمة والكساد ،هذا
امليل مالزم لنمط اإلنتاج الرأمسايل ،وله وحده .ميكن أن خيتلف اتساع هذه
التموجات بني حقبة وأخرى ،غري أهنا واقع حتمي يف النظام الرأمسايل.
لقد حصلت أزمات اقتصادية (مبعىن انقطاعات يف إعادة اإلنتاج االعتيادية)
يف اجملتمعات ما قبل الرأمسالية ،وحتصل أيضا أزمات يف اجملتمع ما بعد الرأمسايل.
لكنها ليست يف كال احلالني أزمات فيض اإلنتاج بضائع ورساميل ،بل هي
باألحرى أزمات نقص يف إنتاج قيم استعمالية .إن الذي مييز أزمة فيض اإلنتاج
الرأمسالية هو أن املداخيل تنخفض والبطالة تنتشر والبؤس (واجلوع غالبا) حيالن،
ليس ألن اإلنتاج املادي قد اخنفض بل عكس ذلك ،ألنه ازداد بصورة ختطت
54
االقتصاد الرأمسايل
بكثري القوة الشرائية املتوفرة .فينخفض النشاط االقتصادي ألن املنتجات مل يعد
بيعها ممكنا وليس ألهنا نقصت ماديا.
يف أساس أزمات فيض اإلنتاج الدورية ،جند يف آن واحد ،اخنفاض املعدل
الوسطي للربح وفوضى اإلنتاج الرأمسايل وامليل إىل تطوير اإلنتاج دون اعتبار
احلدود اليت يفرضها منط التوزيع الربجوازي على استهالك اجلماهري الكادحة .إن
قسما متزايدا من الرساميل يصبح عاجزا عن احلصول على ربح كاف بنتيجة
اخنفاض معدل الربح .فتتقلص التوظيفات وتنتشر البطالة .ويتضافر مع هذا
العامل البيع خبسارة لعدد متزايد من البضائع ليسرع يف هبوط عام لفرص العمل
واملداخيل والقوة الشرائية والنشاط االقتصادي مبجمله.
إن أزمة فيض اإلنتاج هي يف آن واحد نتاج هذه العوامل والوسيلة اليت حيوز
عليها النظام الرأمسايل ليبطل مفعوهلا جزئيا فاألزمة تؤدي إىل اخنفاض قيمة البضائع
وإفالس منشآت عديدة .وتتقلص بالتايل قيمة الرأمسال اإلمجايل .هذا األمر يسمح
بإعادة صعود ملعدل الربح ونشاط الرتاكم .وتسمح البطالة اجلماهريية بزيادة معدل
استغالل اليد العاملة ،األمر الذي يؤدي إىل النتيجة ذاهتا.
إن األزمة االقتصادية تفاقم التناقضات االجتماعية وميكنها أن تنفذ إىل أزمة
اجتماعية وسياسية متفجرة .إهنا تشري إىل أن النظام الرأمسايل أصبح ناضجا
الستبداله بنظام أكثر فعالية وأكثر إنسانية ،ال يب ّذر املوارد البشرية واملادية .لكنها
ال تؤدي تلقائيا إىل اهنيار هذا النظام ،بل ينبغي أن يطيحه عمل واع من قبل
الطبقة الثورية اليت خلقها :الطبقة العاملة.
55
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
مشروع رأمسايل مأخوذ على حدة أو بالنسبة للطبقة البورجوازية ككل .وهذه
الطبقة واعية متاما للواقع الذي أكدته أوىل انفجارات النضاالت العمالية ،واملتمثلة
بأن تركيز القوى الربوليتارية وتوحيدها يشكالن هتديدا عظيما ملصاحلها.
لذا فتطور منط اإلنتاج مصحوب حبركة متناقضة مزدوجة :فمن جهة ،مثة امليل
التارخيي -األساسي على املدى الطويل -إىل توحيد الربوليتاريا ،أو جممل
الشغيلة املأجورين ،وإدخال التجانس إىل صفوفها ،ومن جهة أخرى ،هنالك
حماوالت متكررة لتفتيت الطبقة الربوليتارية وتقسيمها إىل شرائح عن طريق إخضاع
بعض شرائحها الستغالل مضاعف والضطهاد من نوع خاص ،يف حني يتم متييز
شرائح أخرى نسبيا .إن أيديولوجيات خاصة ،من مثل العنصرية ،والتمييز
اجلنسي ،والشوفينية ،وكره األجانب ،تلعب دور تربير وتثبيت هذه األشكال
اخلاصة من االستغالل املضاعف واالضطهاد ،اليت ولدت داخل البلدان الرأمسالية
األوىل بالذات ،لكن اليت زادها االستعمار واإلمربيالية حدة وارتفعا هبا إىل الذروة
على املستوى العاملي.
لقد كان االستخدام الكثيف لعمل النساء واألحداث واحدة من الوسائل
املفضلة اليت استخدمها الصناعيون األولون ،من أجل "كسر" األجور يف
املانيفاكتورات واملصانع األوىل .يف الوقت ذاته ،استندت البورجوازية إىل الكنيسة،
على وجه اخلصوص ،وإىل وكاالت أخرى لنشر األيديولوجيات الرجعية ،لكي تزرع
داخل الطبقة العاملة وشرائح كادحة أخرى من السكان الفكرة القائلة بأن "مكان
املرأة هو يف األسرة" وأنه ينبغي أالّ تتوىل النساء املهن املميزة (حيث قد يؤدي
ذلك أيضا إىل خفض األجور).
إن العامالت واملستخدمات يف النظام الرأمسايل يتعرضن يف الواقع لالستغالل
املضاعف من وجهتني .أوال ألهنن حيصلن مبعظمهن على مكافأة أدىن من مكافأة
الرجال ،سواء بتصنيفهن املتدين أو بدفع أجور أدىن هلن لقاء عمل متساو ،وهو
ما يزيد مباشرة مبلغ فائض القيمة الذي يتملكه رأس املال .مث ألن تنظيم احلياة
56
االقتصاد الرأمسايل
57
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
الربيطانية يف البدء ،مث إىل بريطانيا فيما بعد ،والصينيون إىل كل مناطق احمليط
اهلادي ،والكوريون إىل اليابان ،وموجات متتالية من املهاجرين إىل أمريكا الشمالية
(إنكليز ،وايرلنديون ،وإيطاليون ،ويهود ،وبولونيون ،ويونانيون ،ومكسيكيون،
وبورتوريكيون ،باإلضافة إىل العبيد السود يف القرون السابع عشر والثامن عشر
والتاسع عشر) واألرجنتني وأسرتاليا.
كل من هذه املوجات من اهلجرة الكثيفة قد صاحبتها بدرجات خمتلفة
ظاهرات متشاهبة من االستغالل املضاعف واالضطهاد .فاملهاجرون يعملون يف
القطاعات األقل أجرا ،وجيربون على أداء األشغال األكثر إساءة للصحة،
حمشورين يف الغيتوات واألكواخ ،حمرومني عموما من كل تعليم بلغاهتم األم .وهم
يتعرضون ملا ال حيصى من أشكال التمييز (السيما من أجل احلصول على احلقوق
املدنية والسياسية والنقابية املتساوية) ،بغية إعاقة تطورهم الثقايف واألديب وإبقائهم
فاقدي املعنويات معرضني لالستغالل املضاعف ،وتركهم يف حالة "عدم استقرار"
تفوق حالة الربوليتاريا الوطنية واملنظمة (تتضمن الطرد إىل بلدان املنشأ أو اإلبعاد
التعسفي).
إن املسبقات األيديولوجية املنتشرة يف صفوف الربوليتاريا "الوطنية" تربر بنظرها
االستغالل املضاعف وتبقي التفتيت والتجزئة الدائمني للطبقة العاملة إىل راشدين
وأحداث ،رجال ونساء" ،وطنيني" ومهاجريني ،مسيحيني ويهود ،سود وبيض،
عربانيني وعرب ،اخل.
وال ميكن للربوليتاريا أن ختوض بنجاح نضاهلا للتحرر -مبا فيه على مستوى
الدفاع عن مصاحلها األكثر مباشرة واألكثر أولية -إالّ إذا احتدت وتنظمت
بصورة تؤكد التضامن الطبقي والوحدة على صعيد كل املأجورين.
لذا فإن النضال ضد كل أشكال التمييز واالستغالل املضاعف اليت تتعرض هلا
النساء واألحداث واملهاجرون والقوميات واألعراق املضطهدة ليس واجبا إنسانيا
وسياسيا أوليا وحسب ،بل يتوافق كذلك مع املصلحة الطبقية جلميع الشغيلة .إن
58
االقتصاد الرأمسايل
الرتبية املنهجية للشغيلة باجتاه جعلهم ينبذون كل املسبقات القائمة على التمييز
بني اجلنسني والعنصرية والشوفينية وكره األجانب ،اليت تشكل قاعدة لالستغالل
املضاعف وجلهود التفتيت والتجزئة الدائمني للربوليتاريا ،هي إذا من املهمات
األساسية للحركة العمالية.
المراجع:
ك .ماركس ،األجور ،األسعار واألرباح.
ماركس-إجنلس ،البيان الشيوعي.
ف .إجنلس ،دحض دوهرينغ (الجزء الثاني).
ك .كاوتسكي ،مذهب كارل ماركس االقتصادي.
ر .لكسمبورغ ،مدخل إلى االقتصاد السياسي.
أ .ماندل ،مدخل إلى النظرية االقتصادية الماركسية.
ب .سالمة ج .فالييه ،مدخل إلى االقتصاد السياسي.
أ .ماندل ،النظرية االقتصادية الماركسية.
أ.ماندل ج .نوفاك ،النظرية الماركسية في االستالب.
59
()6
رأسمالية االحتكارات
ال يبقى سري منط اإلنتاج الرأمسايل على حاله منذ نشأته .فبدون تناول رأمسالية
املانيفكتورات اليت متتد من القرن السادس عشر حىت الثامن عشر ،ميكن متييز
طورين يف تاريخ الرأمسالية الصناعية حبصر املعىن:
طور رأمسالية املزامحة احلرة الذي يبدأ بالثورة الصناعية (بعد عام )1972
وينتهي يف مثانينات القرن التاسع عشر.
طور اإلمربيالية الذي ميتد منذ مثانينات القرن التاسع عشر حىت يومنا هذا.
طوال الطور األول من وجود الرأمسالية الصناعية متيزت بوجود عدد كبري من
املنشآت املستقلة يف كل فرع من الفروع الصناعية .ومل يكن بوسع أية منشأة أن
تسيطر على السوق .فكانت كل واحدة حتاول أن تبيع بثمن أقل لتتمكن من
تصريف بضاعتها.
تبدل هذا الوضع عندما أدى الرتكز والتمركز الرأمساليان إىل أنه مل يبق يف مجلة
من الفروع الصناعية سوى عدد حمدود من املنشآت ينتج مبجمله % 72أو 92
%أو % ,2من اإلنتاج .فأصبح بإمكان هذه املنشآت أن تتحد لتحاول
اهليمنة على السوق ،أي الكف عن خفض أسعار املبيع ،وذلك بتوزيع منافذ
التصريف بينها حسب ميزان القوى الراهن.
لقد سهلت مثل هذا االحندار للمزامحة احلرة الرأمسالية ثورة تكنولوجية هامة
حدثت يف الوقت نفسه :استبدال احملرك البخاري باحملرك الكهربائي واحملرك
61
رأمسالية االحتكارات
إن سريورة تركز ومتركز الرأمسال ذاهتا اليت تتحقق يف جمال الصناعة والنقاليات
حتصل أيضا يف جمال املصارف .ويف هناية هذا التطور ،يهيمن عدد صغري من
املصارف العمالقة على جممل احلياة املالية يف البلدان الرأمسالية.
إن الدور الرئيسي للمصارف يف النظام الرأمسايل هو منح قروض للمنشآت.
وعندما يصبح الرتكز املصريف متقدما جدا ،حيوز عدد صغري من رجال املصارف
على احتكار فعلي ملنح القروض .وجيرهم هذا األمر إىل ختطي سلوك الدائنني
السلبيني ،الذين يكتفون بقبض الفوائد على الرساميل املقروضة بانتظار تسديد
القروض عندما يبلغ الدين أجله .فاملصارف اليت متنح قروضا للمنشآت العاملة يف
نشاطات متماثلة أو متصلة ،جتد مصلحة كبرية يف ضمان إيرادية مجيع هذه
املنشآت ومالءهتا .إن مصلحتها تقتضي بأن حتول دون سقوط األرباح إىل الصفر
61
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
ال يعين ظهور االحتكارات أن املزامحة احلرة زالت .وال يعين باألحرى أن كل
فرع صناعي أصبح حتت اهليمنة النهائية ملنشأة واحدة .بل يعين قبل كل شيء ويف
قطاعات االحتكارات:
62
رأمسالية االحتكارات
أ .إن املزامحة مل تعد جتري بصورة عادية عن طريق خفض األسعار.
ب .أن الرتوستات الكبرية أصبحت ،بنتيجة ذلك ،حتصل على أرباح فائضة
احتكارية ،أي على معدل ربح أعلى من معدل ربح املنشآت العاملة يف
القطاعات غري االحتكارية.
وتستمر املزامحة من جهة أخرى:
أ .داخل قطاعات االقتصاد غري االحتكارية وهي ال زالت عديدة.
ب .بني االحتكارات ،بصورة عادية عن طريق تقنيات غري خفض أسعار املبيع
(ال سيما خفض سعر الكلفة ،واالعالنات ،اخل) ،وبصورة استثنائية أيضا
عن طريق "حرب أسعار" ،خاصة عندما يكون ميزان القوى بني
الرتوستات قد تغري ،وتكون الغاية تكييف تقسيم األسواق مع ميزان القوى
اجلديد هذا.
ج .بني االحتكارات "القومية" يف السوق العاملية ،عن الطريق "العادية"
لـ"حرب األسعار" بصورة رئيسية .بيد أن تركز الرأمسال ميكن أن يتقدم إىل
حد أنه حىت يف السوق العاملية ،ال يبقى سوى بعض املنشآت يف فرع من
الفروع الصناعية ،األمر الذي ميكن أن يؤدي إىل خلق كارتيالت دولية
تتقاسم منافذ التصريف.
.4تصدير الرساميل
ال تستطيع االحتكارات أن تسيطر على األسواق االحتكارية إالّ شرط أن حتد من
ازدياد اإلنتاج فيها ،وبالتايل تراكم الرأمسال .لكن هذه االحتكارات ذاهتا حتوز من
جهة أخرى على رساميل وافرة ،ال سيما بنتيجة األرباح الفائضة االحتكارية اليت
حتققها .إن عصر الرأمسالية اإلمربيايل يتميز إذا بظاهرة الرساميل الفائضة يف أيدي
احتكارات البلدان اإلمربيالية ،وهي رساميل تبحث عن حقول جديدة للتوظيفات
فيصبح تصدير الرساميل هو أيضا ميزة رئيسية للعصر اإلمربيايل.
63
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
هذه الرساميل تصدر حنو بلدان ميكن أن حتقق فيها رحبا أعلى من الربح
املتوسط يف القطاعات املتزامحة يف البلدان اإلمربيالية ،لتحفز يف تلك البلدان
صناعات مكملة للصناعة اإلمربيالية .وجيري استعماهلا قبل كل شيء لتطوير إنتاج
مواد أولية نباتية ومعدنية يف البلدان املتخلفة (يف آسيا وأفريقيا وأمريكا الالتينية).
طاملا كانت الرأمسالية تعمل يف السوق العاملية لبيع بضائعها وشراء مواد أولية
ومؤن فحسب ،مل يكن لديها مصلحة كبرية يف شق طريقها بالقوة العسكرية (بيد
أن هذه القوة كانت تستعمل هلدم احلواجز أمام دخول البضائع -مثال ،حرب
األفيون اليت خاضتها بريطانيا العظمى لتجرب اإلمرباطورية الصينية على رفع املوانع
اليت أعاقت استرياد األفيون القادم من اهلند الربيطانية) .لكن هذا الوضع تغري
عندما بدأ تصدير الرساميل حيتل مكانة مهيمنة يف عمليات الرأمسال الدولية.
ويف حني يدفع مثن بضاعة مباعة خالل بضعة أشهر كحد أقصى ،ال يتم
استهالك رساميل موظفة يف بلد ما سوى بعد سنوات طويلة .فتصبح بالتايل لدى
القوى اإلمربيالية مصلحة كبرية يف إقامة رقابة دائمة على البلدان اليت وظفت فيها
تلك الرساميل .وميكن أن تكون هذه الرقابة غري مباشرة -من خالل حكومات
عميلة للخارج لكنها يف دول مستقلة شكليا -يف البلدان شبه املستعمرة .كما
ميكن أن تكون مباشرة -من خالل إدارة تابعة مباشرة للدول اإلمربيالية -يف
البلدان املستعمرة .إن العصر اإلمربيايل يتميز إذا بـميل إىل تقسيم العامل إىل
إمرباطوريات استعمارية ومناطق نفوذ للدول اإلمربيالية الكربى.
لقد حصل هذا التقسيم يف فرتة معينة (خاصة يف حقبة )1722-1,,2
وفقا مليزان القوى القائم يف تلك الفرتة :هيمنة بريطانيا العظمى ،القوة اهلامة
لإلمربياليات الفرنسية واهلولندية والبلجيكية ،الضعف النسيب للدول اإلمربيالية
"الشابة" :أملانيا ،الواليات املتحدة ،إيطاليا واليابان.
64
رأمسالية االحتكارات
هكذا ،فإن العصر اإلمربيايل ال يشهد إقامة سيطرة حلفنة من كبار رجال املال
والصناعة على األمم اإلمربيالية فحسب .بل يتميز أيضا بإقامة سيطرة للربجوازية
اإلمربيالية يف حفنة من البلدان على شعوب البلدان املستعمرة وشبه املستعمرة،
اليت متثل ثلثي اجلنس البشري.
وتستخرج الربجوازية اإلمربيالية ثروات طائلة من البلدان املستعمرة وشبه
املستعمرة .وتدر رساميلها املوظفة يف هذه البلدان أرباحا فائضة استعمارية ،يتم
تصديرها من جديد إىل الدول اإلمربيالية .إن التقسيم العاملي للعمل القائم على
مبادلة منتجات الصناعة اإلمربيالية مبواد أولية مستخرجة يف املستعمرات ،هذا
التقسيم يؤدي إىل تبادل غري متساو ،تبادل فيه البلدان الفقرية كميات كربى من
العمل (ألنه عمل أقل كثافة) بكميات أدىن من العمل (ألنه عمل أكثر كثافة)
65
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
66
رأمسالية االحتكارات
67
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
يف سنيت 1790-1794قد سدد ضربة قاضية لألطروحة القائلة أننا نعيش يف
"اقتصاد مختلط" مزعوم ،يسمح فيه تنظيم احلياة االقتصادية من قبل السلطات
العامة بتأمني النمو االقتصادي والعمالة الكاملة وتوسيع رفاهية اجلميع بصورة غري
منقطعة .لقد أثبت الواقع مرة أخرى أن مقتضيات الربح اخلاص ال زالت تتحكم
هبذا االقتصاد وتتسبب فيه دوريا ببطالة مجاهريية وفيض إنتاج ،وأنه بالتايل اقتصاد
ال يزال رأمساليا.
كذلك فإن األطروحة القائلة أن املدراء والبريوقراطية ،بل التكنوقراطيني
والعلماء ،ال أكرب التجمعات الرأمسالية ،هم الذين يديرون اجملتمع الغريب ،أطروحة
ال تستند إىل أي برهان علمي جدي .إن العديد من "سادة" اجملتمع هؤالء قد
فقدوا منصبهم خالل فرتيت االنكماش األخريتني .فإن انتداب السلطات الذي
يقبل به الرأمسال الكبري وحيسنه داخل الشركات العمالقة اليت يسيطر عليها،
يشمل معظم صالحياته التقليدية ،ما عدا اجلوهري :قرارات التعيني األخري حول
األشكال والتوجهات األساسية الستثمار الرأمسال وتراكمه ،أي كل ما يتعلق
بـ"أقدس المقدسات" :أولوية ربح االحتكارات ،اليت ميكن التضحية يف سبيلها
بتوزيع أرباح األسهم على املسامهني .فالذين يرون يف هذا األمر برهانا على أن
امللكية اخلاصة مل تعد مهمة ،ينسون امليل إىل التضحية مبلكية الصغار اخلاصة
ألجل ملكية حفنة من الكبار ،وهو ميل مهيمن منذ بداية الرأمسالية.
المراجع:
لينني ،اإلمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية.
ر .هيلفردنغ ،الرأسمال المالي.
ماندل ،النظرية االقتصادية الماركسية (الفصول .)14 ،10،1,
ب .جاليه ،اإلمبريالية عام .1771
ب .سالمة ،سيرورة التخلف.
68
()7
النظام اإلمبريالي
.1التصنيع الرأسمالي وقانون التطور المتفاوت والمركب
69
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
ثالثة عوامل رئيسية (وعوامل إضافية عديدة لن نذكرها) حتدد هذا التغري
األساسي يف سري االقتصاد الرأمسايل الدويل:
أ .اتساع اإلنتاج باجلملة للعديد من بضائع البلدان اإلمربيالية اليت تغرق
السوق العاملية وحتوز على تقدم يف اإلنتاجية وسعر الكلفة بالنسبة لكل
إنتاج صناعي أويل يف البلدان املتخلفة إىل حد أن هذا اإلنتاج األخري ال
يعود يستطيع أن ينطلق فعال على صعيد واسع ويصمد جديا يف وجه
مزامحة اإلنتاج األجنيب .فتصبح الصناعة الغربية (والحقا الصناعة اليابانية
أيضا) هي اليت تستفيد أكثر فأكثر بعد تلك املرحلة من اإلفالس التدرجيي
للصناعة احلرفية والصناعة املنزلية واملانيفكتورة يف بلدان أوروبا الشرقية
وأمريكا الالتينية وآسيا وأفريقيا.
ب .أن فائض الرساميل ،الذي يظهر بصورة دائمة إىل هذا احلد أو ذاك يف
البلدان الرأمسالية املصنعة اليت تسيطر االحتكارات عليها تدرجييا ،يطلق
حركة واسعة من تصدير الرساميل حنو البلدان املتخلفة ويطور فيها فروع
إنتاج مكملة وليست منافسة بالنسبة للصناعة الغربية .هكذا فإن الرساميل
األجنبية اليت هتيمن على اقتصاد هذه البلدان تفرض عليها التخصص يف
إنتاج املواد األولية املعدنية والنباتية ويف إنتاج املؤن .عالوة على ذلك ،ففي
هذه البلدان اليت تنحدر تدرجييا إىل وضع البلدان املستعمرة أو شبه
املستعمرة ،تدافع الدولة قبل كل شيء عن مصاحل الرأمسال األجنيب .فهي
ال تتخذ بالتايل حىت اإلجراءات البسيطة حلماية الصناعة اجلنينية ضد
مزامحة املنتجات املستوردة.
ج .ختلق هيمنة الرساميل األجنبية على اقتصاد البلدان التابعة وضعا اقتصاديا
واجتماعيا حتافظ فيه الدولة على مصاحل الطبقات السائدة القدمية
وتدعمها ،بربطها مبصاحل الرأمسال اإلمربيايل ،بدل إزالتها بصورة جذرية إىل
71
النظام االمربيايل
إن تدفق الرساميل األجنبية حنو البلدان التابعة ،املستعمرة وشبه املستعمرة ،قد
تسبب طوال عقود متعاقبة بالنهب واالستغالل واالضطهاد ألكثر من مليار
إنسان من قبل الرأمسال اإلمربيايل ،األمر الذي يشكل إحدى اجلرائم الرئيسية اليت
تقع مسئوليتها على النظام الرأمسايل يف تارخيه .وإذا ظهرت الرأمسالية على األرض
وهي تنضح الدم والعرق من جميع مسامها كما قال ماركس ،فإن هذا التعريف
ال ينطبق يف مكان بالدقة اليت ينطبق هبا يف البلدان التابعة.
71
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
يندرج العصر اإلمربيايل يف املقام األول حتت شعار الفتح االستعماري .طبعا،
إن االستعمار أقدم من اإلمربيالية .فقد سبق أن أحل الفاحتون اإلسبان
والربتغاليون احلرق والقتل يف اجلزر اخلضراء والرأس األخضر وكذلك يف بلدان
أمريكا الوسطى واجلنوبية ،مبيدين يف كل مكان تقريبا قسما كبريا من السكان
احملليني ،إن مل يكن مجيعهم .ومل يتصرف املستعمرون البيض بطريقة أكثر إنسانية
إزاء هنود أمريكا الشمالية .وترافق فتح إمرباطورية اهلند من قبل بريطانيا العظمى
بسلسلة من الفظاعات ،وكذلك بالنسبة لفتح اجلزائر من قبل فرنسا.
ومع والدة العصر اإلمربيايل ،امتدت هذه الفظاعات إىل قسم كبري من إفريقيا
وآسيا وأوقيانيا .فتعاقبت على نطاق واسع اجملازر ونقل السكان وطرد الفالحني
من أراضيهم وإدخال العمل اإلجباري ،إن مل يكن القنانة بالفعل.
إن العنصرية «تربر» هذه املمارسات الال إنسانية بتأكيدها على تفوق العرق
األبيض و«رسالته التارخيية احلضارية» .وبصورة أكثر حذاقة ،جترد العنصرية
الشعوب املستعمرة من ماضيها اخلاص وثقافتها اخلاصة وعزهتا العرقية ،ال بل
جتردها من لغتها يف الوقت نفسه الذي تنتزع فيه منها ثرواهتا القومية وقسما هاما
من مثار عملها.
وإذا جترأ العبيد املستعمرون على التمرد ضد السيطرة االستعمارية ،جرى
قمعهم بوحشية أفظع من أن توصف .نساء وأطفال هنود ذهبوا ضحية اجملازر يف
حرب اهلنود يف الواليات املتحدة« ،متمردون» هنديون وضعوا أمام مدافع أطلقت
النار ،قبائل يف الشرق األوسط قصفها الطريان امللكي الربيطاين بال رمحة ،عشرات
اآلالف من اجلزائريني املدنيني ذهبوا ضحية اجملازر «انتقاما» من االنتفاضة الوطنية
يف مايو :1740كل ذلك ينذر بأوحش فظاعات النازية ،مبا فيها اإلبادة
اجلماعية الصرحية ،بل يكررها متاما .وإذا سخط برجوازيو أوروبا وأمريكا على هتلر
سخطا شديدا ،فألنه ارتكب جرمية انتهاك العرق األبيض عندما طبق على
72
النظام االمربيايل
شعوب أوروبية ،حلساب اإلمربيالية األملانية ،ما أصاب شعوب آسيا وأمريكا
وأفريقيا على يد اإلمربيالية العاملية.
إن اقتصاد البلدان التابعة خاضع برمته ملصاحل الرأمسال األجنيب وما يفرضه.
ففي معظم هذه البلدان ،تصل السكك احلديدية مراكز اإلنتاج العاملة من أجل
التصدير باملوانئ ،لكنها ال تصل املراكز املدينة الرئيسية بعضها ببعض .وخيدم
املؤمن نشاطات االسترياد والتصديرّ ،أما الشبكات املدرسية والصحية
البناء التحيت َّ
والثقافية فتعاين من ختلف خميف .إن القسم األعظم من السكان يعاين من األمية
واجلهل والبؤس.
أكيد أن دخول الرأمسال األجنيب قد مسح بتطور معني للقوى املنتجة وخلق
وطور جنينا متفاوت األمهية من الربوليتاريا يف املوانئ بعض املدن الصناعية الكبرية ّ
واملناجم واملزارع والسكك احلديدية واإلدارة العامة.
بيد أننا نستطيع أن نقول بدون مبالغة أن مستوى معيشة السكان املتوسطني
يف آسيا وأفريقيا وأمريكا الالتينية (عدا بعض البلدان صاحبة االمتيازات) قد راوح
مكانه أو تراجع خالل ثالث أرباع القرن اليت تفصل بني بداية االندفاع حنو
االستعمار الشامل للبلدان املتخلفة وانتصار الثورة الصينية.
لكي نفهم فهما أكثر تعمقا الطريقة اليت «مجدت» هبا السيطرة اإلمربيالية
البلدان املستعمرة وشبه املستعمرة يف تطورها وحالت دون تصنيع تدرجيي «عادي»
فيها على النمط الرأمسايل الغريب ،جيب أن نوسع الشرح أكثر حول طبيعة «كتلة
الطبقات االجتماعية» احلاكمة يف هذه البلدان خالل العصر اإلمربيايل
«الكالسيكي» وما تستتبعه هذه «الكتلة» بالنسبة للتطور االقتصادي
واالجتماعي.
73
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
عندما يدخل الرأمسال األجنيب بكثافة إىل البلدان املستعمرة وشبه املستعمرة،
تكون الطبقة السائدة احمللية مؤلفة إمجاال من مالك عقاريني (شبه إقطاعيني وشبه
رأمساليني مبقادير ختتلف حسب البلد املعين) متحالفني مع الرأمسال التجاري
واملصريف أواملرايبّ .أما يف البلدان األكثر ختلفا كبلدان أفريقيا السوداء ،فإننا جند
جمتمعات قبلية يف طور التفكك حتت التأثري املديد لتجارة العبيد.
ويتحالف إمجاال الرأمسال األجنيب مع هذه الطبقات السائدة احمللية ويعاملها
كوسيطات الستغالل الفالحني والشغيلة احملليني ويدعم عالقاهتا االستغاللية مع
شعوهبا اخلاصة .حىت أنه يرفع أحيانا بصورة هامة درجة االستغالل هذا بشكله ما
قبل الرأمسايل ويدجمه مع إدخال أشكال جديدة من االستغالل الرأمسايل .ففي
حول االستعمار الربيطاين الزمندار ،الذين كانوا يف األمس جمرد جباة البنغالّ ،
ضرائب يف خدمة األباطرة املغول ،حوهلم إىل مالك كاملي احلقوق لألراضي اليت
كانوا جيبون الضرائب عليها .هكذا تظهر ثالث طبقات اجتماعية هجينة يف
جمتمع البلدان املتخلفة ،تطبع بطابعها جتميد تطور هذه البلدان االقتصادي
واالجتماعي:
طبقة البرجوازية الكومبرادورية ،وهي برجوازية حملية تتكون يف البدء من جمرد
شركاء تعينهم املؤسسات األجنبية لالسترياد والتصدير ،ويغتنون من مث
ويتحولون تدرجييا إىل مقاولني مستقلني .غري أن منشآهتم تنحصر بصورة
رئيسية يف دائرة التجارة و«اخلدمات» ّأما أرباحهم فتوظف إمجاال يف التجارة
والربا وشراء األراضي واملضاربة العقارية.
طبقة التجار -المرابين ( أو التجار -المرابين -الكوالك) .إن الدخول
البطيء لالقتصاد النقدي يفكك تقاليد التعاون داخل املشاعة القروية .ومع
تعاقب احملاصيل السيئة واجليدة ،على أراض خصبة إىل هذا احلد أو ذاك،
يتقدم التفاضل االجتماعي يف القرية بدون رمحة .ويتواجه الفالحون األغنياء
والفالحون الفقراء ،وخيضع هؤالء أكثر فأكثر ألولئك ،حيث يضطر
74
النظام االمربيايل
الفالحون الفقراء إىل االستدانة لشراء البذور واملؤن عندما ال يكفي احملصول
حىت لتغطية احلاجات األكثر أولية .فيقعون حتت تبعية التجار -املرابني -
الفالحني األغنياء الذين يصادرون منهم تدرجييا ملكية حقوهلم وخيضعوهنم
إلبتزازات ال حتصى.
طبقة شبه البروليتاريا الريفية (اليت مشلت الحقا «اهلامشيني» املدينيني) .إن
الفالحني املفقرين واملطرودين من أراضيهم ال جيدون عمال يف الصناعة ،نظرا
لتخلفها .فيضطرون إىل البقاء يف الريف أو يؤجرون سواعدهم للفالحني
األغنياء أو يستأجرون قطع أرض لكي حيصلوا منها على عيشة بائسة لقاء
ريع عقاري (أو حصة من احملصول يف نظام احملاصصة) أكثر فأكثر هبظا.
وكلما زاد بؤسهم ونقص استخدامهم قوة ،كان الريع الذي هم على استعداد
لدفعه الستئجار حقل أكثر ارتفاعا .وكلما كان الريع العقاري أكثر ارتفاعا،
تراجعت مصلحة أصحاب الرساميل يف توظيفها يف الصناعة بل يستخدمون
رساميلهم باألحرى لشراء األرض .وكلما كان بؤس مجهور الفالحني أكرب،
ضاقت السوق الداخلية للسلع االستهالكية وبقيت الصناعة متخلفة وبقي
نقص االستخدام قويا.
ليس التخلف إذا نتيجة لنقص مطلق يف الرساميل أو املوارد .بل بعكس ذلك،
غالبا ما تشكل حصة النتاج االجتماعي الفائض من الدخل القومي حصة أكرب
يف البلدان املتخلفة مما يف البلدان املصنعة .إن التخلف نتاج بنية اجتماعية
واقتصادية ،نامجة عن السيطرة االمربيالية ،جتعل تراكم الرساميل النقدية ال يتجه
بصورة رئيسية حنو التصنيع وال حىت حنو التوظيف املنتج ،األمر الذي يتسبب يف
نقص استخدام (كمي ونوعي) ضخم إذا ما قورن بالبلدان اإلمربيالية.
75
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
كان حمتما مع مرور الزمن أال خيضع مئات املاليني من البشر لنظام استغالل
واضطهاد كانت تفرضه عليهم حفنة من كبار رأمساليي البلدان اإلمربيالية بواسطة
األجهزة اإلدارية والقمعية اليت يف خدمتها .فمدت حركة حترر قومي جذورها
تدرجييا يف صفوف املثقفني الشباب يف بلدان أمريكا الالتينية وآسيا وأفريقيا ،حركة
تبنت أفكارا دميوقراطية -برجوازية بل شبه اشرتاكية واشرتاكية من أفكار الغرب،
لتعارض السيطرة األجنبية على بالدها .إن النزعة القومية ذات التوجه املعادي
لإلمربيالية ،تتمحور يف البلدان التابعة حول املصاحل املختلفة لثالث قوى
اجتماعية:
يتم تبنيها قبل كل شيء من قبل البرجوازية القومية الصناعية الفتية ،يف كل
مكان حتوز فيه هذه األخرية على قاعدة مادية خاصة جتعل مصاحلها تتزاحم
مع مصاحل الدول اإلمربيالية املسيطرة .إن املثال األكثر منوذجية يف هذا الصدد
هو مثال حزب املؤمتر اهلندي الذي قاده غاندي والذي دعمته بقوة اجملموعات
الصناعية اهلندية الكبرية.
حبفز من الثورة الروسية ،ميكن أن يتم تبين النزعة القومية من قبل الحركة
العمالية الناشئة اليت سوف جتعل منها على األخص أداة تعبئة للجماهري
املدينية والقروية ضد السلطة القائمة .إن املثال األكثر منوذجية يف هذا الصدد
هو مثال احلزب الشيوعي الصيين منذ العشرينات ومثال احلزب الشيوعي يف
اهلند الصينية يف العقود الالحقة.
ميكن أن حتفز النزعة القومية انفجار متردات للبرجوازية الصغيرة المدينية
وللفالحين ،تتخذ كشكل سياسي شكل النزعة الشعبية القومية .إن ثورة
1712املكسيكية هي النموذج األخص هلذا الشكل من احلركة املناهضة
لإلمربيالية.
76
النظام االمربيايل
بوجه عام ،فإن تأزم النظام اإلمربيايل الذي عرف متزقات داخلية متتالية -هزمية
روسيا القيصرية يف احلرب ضد اليابان يف سنيت ،1720 -1724ثورة عام
1720الروسية ،احلرب العاملية األوىل ،ثورة عام 1719الروسية ،ظهور احلركة
اجلماهريية يف اهلند والصني ،أزمة سنوات 17,0 -1707االقتصادية ،احلرب
العاملية الثانية ،هزائم اإلمربيالية الغربية على يد اإلمربيالية اليابانية يف سنيت
، 1740-1741هزمية اإلمربيالية اليابانية يف سنة -1740تأزم النظام
اإلمربيايل هذا قد حفز حركة التحرر القومي يف البلدان التابعة حفزا قويا .وقد
تلقت هذه احلركة دفعها الرئيسي عند انتصار الثورة الصينية عام .1747
إن املشكالت التكتيكية واالسرتاتيجية اليت تنجم عن ظهور حركة التحرر
املستعمرة ،بالنسبة للحركة العمالية العاملية
َ املستعمرة والشبه
َ القومي يف البلدان
(واحمللية يف البلدان التابعة) ،سوف يتم تناوهلا بصورة أكثر تفصيال يف الفصل
العاشر ،النقطة ،4والفصل الثالث عشر ،النقطة .4أما هنا فنكتفي بالتأكيد
على أن الواجب اخلاص للحركة العمالية يف البلدان اإلمربيالية هو أن تؤيد بال
املستعمرة والشبه
َ شروط كل حركة وكل عمل فعلي تقوم هبما مجاهري البلدان
املستعمرة ضد االستغالل واالضطهاد اللذين تعاين منهما على يد الدول َ
اإلمربيالية .هذا الواجب يقتضي متييزا صارما بني احلروب اإلمربيالية ،وهي حروب
رجعية ،وحروب التحرر القومي اليت هي حروب عادلة بصرف النظر عن القوة
السياسية اليت تقود الشعب املضطهد يف هذه املرحلة من النضال أو تلك ،وينبغي
على الربوليتاريا العاملية يف هذه احلروب أن تعمل ألجل انتصار الشعوب
املضطهدة.
.5االستعمار الجديد
إن ازدهار حركة التحرر القومي غداة احلرب العاملية الثانية قد جر اإلمربيالية
إىل تعديل أشكال سيطرهتا على البلدان املتخلفة .فقد حتولت هذه السيطرة
77
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
تدرجييا من سيطرة مباشرة إىل غري مباشرة .وقد تقلص بسرعة عدد املستعمرات
حبصر املعىن ،اليت تديرها الدول االستعمارية مباشرة .وانتقل هذا العدد ،يف غضون
عقدين ،من حوايل السبعني إىل بعض الوحدات فقط .واهنارت مبعظمها
اإلمرباطوريات االستعمارية اإليطالية والربيطانية واهلولندية والفرنسية وأخريا الربتغالية
واإلسبانية.
مل حيصل طبعا زوال اإلمرباطوريات االستعمارية هذا دون مقاومة دموية
ومضادة للثورة من قبل قطاعات هامة من الرأمسال اإلمربيايل .تشهد على ذلك
احلروب االستعمارية الدموية اليت خاضتها اإلمربيالية اهلولندية يف أندونيسيا،
واإلمربيالية الربيطانية يف ماليزيا ويف كينيا ،واإلمربيالية الفرنسية يف اهلند الصينية ويف
اجلزائر ،كما تشهد عليه «احلمالت» األقصر مدة لكن اليت ال تقل دموية كحملة
السويس سنة 1707ضد مصر .غري أن هذه األعمال املشؤومة تبدو تارخييا
كمعارك رجعية .يقينا أن االستعمار املباشر كان حمكوما عليه بالزوال.
بيد أن زواله ال يعين البتة تفكك النظام اإلمربيايل العاملي .بل يستمر هذا
النظام يف الوجود ،وإن يف أشكال معدلة .فتبقى الغالبية العظمى من البلدان
شبه املستعمرة حمصورة يف تصدير املواد األولية .وتظل خاضعة جلميع النتائج
املضرة للتبادل االستغاليل غري املتساوي .ويستمر التباعد ،بدل التقارب ،بني
درجة تطور هذه البلدان ودرجة تطور البلدان اإلمربيالية .ويزداد بعد املسافة بني
القسم «الشمايل» والقسم «اجلنويب» من الكرة األرضية ،من حيث الدخل
الفردي ومستوى الرفاهية.
هذا ويقتضي حتول السيطرة اإلمربيالية املباشرة إىل سيطرة إمربيالية غري مباشرة
على البلدان املتخلفة ،إشراكا أوثق للربجوازية الصناعية «القومية» يف استغالل
اجلماهري الكادحة يف هذه البلدان ،ويستتبع أيضا إسراعا ما لسريورة التصنيع يف
مجلة من البلدان شبه املستعمرة .هذا ينجم يف آن واحد عن تبدل موازين القوى
78
النظام االمربيايل
السياسية (أي أنه يشكل تنازال حمتما للنظام حتت ضغط اجلماهري املتعاظم) وعن
تبدل املصاحل األساسية للمجموعات اإلمربيالية الرئيسية بذاهتا.
إن طبيعة البضائع املصدرة من قبل البلدان اإلمربيالية قد شهدت بالفعل تبدال
هاما .وأصبحت فئة «اآلالت والسلع التجهيزية ووسائل النقل» حتتل فيها
الصدارة بعد أن كانت حتتلها فئتا السلع االستهالكية والفوالذ .واحلال أنه
يستحيل أن تصدر الرتوستات االحتكارية الرئيسية قدرا أكرب فأكرب من اآلالت
إىل البلدان التابعة دون أن حتفز فيها بعض أشكال التصنيع (احملصور إمجاال وبوجه
خاص يف صناعة السلع االستهالكية).
ومن جهة أخرى ،فإن الشركات متعددة القوميات جتد يف إطار اسرتاتيجيتها
العاملية مصلحة يف االنغراس يف عدد من البلدان التابعة لتحتل فيها السوق منذ
البدء تقريبا ،نظرا لتوسع املبيعات الالحق الذي تتوقعه .هكذا تتعمم صيغة
املنشآت املشرتكة ( )joint-venturesبني الرأمسال اإلمربيايل والرأمسال الصناعي
«القومي» يف تلك البلدان ،أكان رأمساال خاصا أو رأمسال دولة ،حيث تشكل
هذه الصيغة إحدى ميزات البنية شبه االستعمارية .ويزداد بالتايل ثقل الطبقة
العاملة يف اجملتمع.
هذه البنية تظل منخرطة يف منظومة إمربيالية قاسية واستغاللية .ويبقى التصنيع
حمدودا ،حيث تكاد «سوقه الداخلية» ال تتعدى إمجاال ما بني %02و%00
من السكان :الطبقات امليسورة +التقنيون والكوادر ،إخل +الفالحون األغنياء.
ويظل بؤس اجلماهري هائال ،فتتزايد التناقضات االجتماعية بدل أن تتقلص :من
هنا تبقى طاقة االنفجارات الثورية املتتالية يف البلدان التابعة.
يف هذه الشروط ،تكتسب شرحية اجتماعية جديدة أمهية :أهنا بريوقراطية
الدولة اليت «تدير» إمجاال قطاعا مؤمما هاما وتنصب نفسها ممثلة لالهتمامات
79
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
القومية جتاه اخلارج ،لكنها تستغل يف الواقع احتكارها لإلدارة لتجري تراكمها
اخلاص على نطاق واسع.
المراجع:
لينني ،اإلمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية.
تروتسكي ،الثورة الدائمة.
تروتسكي ،األممية الثالثة بعد لينين.
ر .لكسمبورغ ،تراكم الرأسمال (الفصول الستة األخرية).
ن .بوخارين ،اإلمبريالية واالقتصاد العالمي.
جاليه ،اإلمبريالية عام .1771
ب.سالمة ،سيرورة التخلف.
ب .باران ،االقتصاد السياسي للتنمية.
هوبت -لويف -فايل ،الماركسيون والمسألة القومية (نصوص خمتارة).
ميخايل برات -براون ،بعد اإلمبريالية.
81
()8
نشأة الحركة العمالية الحديثة
منذ أن وجد عمال مأجورون ،أي قبل تكون الرأمسالية احلديثة بكثري ،حصلت
ظاهرات صراع طبقي بني أرباب العمل والعمال .فالصراع الطبقي ليس بنتاج
نشاطات حتريضية من قبل أفراد «يدعون إليه» .بالعكس ،فإن مذهب الصراع
الطبقي هو نتاج ممارسة الصراع الطبقي اليت سبقته.
تتمحور التجليات األولية لصراع األجراء الطبقي حول مطالب ثالثة على
الدوام .هذه املطالب هي التالية:
أ .زيادة األجور؛ وهي وسيلة فورية لتعديل توزيع الناتج االجتماعي بني
أرباب العمل والعمال لصاحل األجراء.
ب .إنقاص ساعات العمل دون ختفيض األجر ،وهي وسيلة مباشرة أخرى
لتعديل هذا التوزيع لصاحل الشغيلة.
ج .حرية التنظيم؛ ففي حني يستحوذ رب العمل ،مالك رأس املال ووسائل
اإلنتاج ،على القوة االقتصادية ،جيد العمال أنفسهم منزوعي السالح طاملا
هم خيوضون فيها بينهم صراعا تنافسيا للحصول على عمل .ضمن هذه
الشروط ،تصب «قواعد اللعبة» يف صاحل الرأمساليني على وجه احلصر،
الذين يستطيعون ختفيض مستوى األجور قدر ما يشاءون ،فيما يضطر
العمال للقبول هبا خشية فقدان عملهم ،وبالتايل لقمة عيشهم .ليس
للشغيلة فرصة احلصول على منافع من خالل النضال الذي يواجهون به
أرباب العمل ،إالّ عن طريق إلغاء هذه املنافسة اليت تفرق بينهم ،ورفضهم
81
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
مجيعا أن يعملوا ضمن شروط غري ممكن قبوهلا .إن التجربة تعلمهم سريعا
أنه إن مل تكن هلم حرية التنظيم ،كانوا منزوعي السالح يف مواجهة
الضغط الرأمسايل.
لقد اختذ الصراع الطبقي األويل الذي خيوضه الربوليتاريون طابعا تقليديا يتمثل
بالرفض اجلماعي للعمل ،أي باإلضراب .وينقل لنا مدونو أخبار ،قصص
إضرابات حدثت يف مصر والصني القدميتني .لدينا كذلك وقائع إضرابات حدثت
يف مصر يف ظل اإلمرباطورية الرومانية ،السيما يف القرن األول من التاريخ
امليالدي.
إن تنظيم إضراب يتطلب على الدوام درجة ما -أولية -من التنظيم الطبقي.
يتطلب على وجه اخلصوص معرفة أن خالص كل من األجراء يتوقف على عمل
مجاعي ،وهو حل قائم على التضامن الطبقي ،بالتعارض مع احلل الفردي (املتمثل
مبحاولة زيادة الربح الفردي دون اهتمام بدخول بقية األجراء).
هذه املعرفة هي الشكل األوىل للوعي الطبقي الربوليتاري .يضاف إىل ذلك أن
املأجورين يتعلمون فطريا خالل تنظيم إضراب أن ينشئوا صناديق مساعدة .يتم
إنشاء صناديق مساعدة والتعاون هذه أيضا للتخفيف قليال من عدم استقرار
الوجود العمايل ،وللسماح للربوليتاريني بالدفاع عن أنفسهم خالل فرتات البطالة،
إخل .تلك هي األشكال األولية للتنظيم الطبقي .إالّ أن هذه األشكال األولية من
الوعي والتنظيم الطبقيني ال تتطلب وعي األهداف التارخيية للحركة العمالية ،وال
فهم ضرورة عمل سياسي مستقل من جانب الطبقة العاملة.
هكذا جتد األشكال األوىل للعمل السياسي العمايل موقعها إىل أقصى يسار
الراديكالية الربجوازية الصغرية .إن مؤامرة املتساوين اليت نظمها غراكوس
82
نشأة احلركة العمالية احلديثة
بابوف( ،)10واليت متثل أول حركة سياسية حديثة هتدف إىل جتميع وسائل اإلنتاج،
ظهرت إبان الثورة الفرنسية إىل أقصى يسار اليعاقبة.
London يهيئ جمليء جمتمع اشرتاكي ،ويهيئ القوى املادية واألدبية،
Corresponding Societyاليت حاولت تنظيم حركة تضامن مع الثورة
الفرنسية .إالّ أن القمع البوليسي متكن من سحق املنظمة املذكورة .لكن نشأت
على الفور ،بعد هناية احلروب النابوليونية ،رابطة االقرتاع العام اليت تشكلت يف
منطقة مانشسرت -ليفربول الصناعية من عمال على وجه اخلصوص ،وكانت إىل
أقصى يسار احلزب الراديكايل (البورجوازي الصغري) .لقد تسارع بعد أحداث
بيرتلو الدامية يف عام 1,19انفصال حركة عمالية مستقلة عن احلركة البورجوازية
الصغرية ،ونشأ هكذا بعد قليل احلزب الشارطي أول حزب عمايل بصورة أساسية،
يطالب باالقرتاع العام.
.3االشتراكية الطوباوية
تلك احلركات األولية للطبقة العاملة قادها كلها إىل حد بعيد عمال بالذات،
أي عصاميون autodidactesكانوا غالبا ما يصوغون أفكار ساذجة حول
موضوعات تارخيية واقتصادية واجتماعية ،تتطلب دراسات علمية متينة كي تتم
معاجلتها بعمق .تطورت تلك احلركات إذا على هامش التطور العلمي يف القرنني
19و .1,على عكس ذلك ،ويف إطار هذا التطور العلمي بالذات تقع جهود
أوائل املفكرين الكبار الطوباويني من أمثال توماس مور (مستشار إنكلرتا يف القرن
،)17وكامبانيال (كاتب إيطايل يف القرن ،)19وروبيرت أوين ،وشارل فورييه
( )10أحد الوجوه األآثر تقدما اليت برزت إبان الثورة الفرنسية ومثلت مصاحل الكادحني الفرنسيني
لتلك الفرتة( .م)
83
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
84
نشأة احلركة العمالية احلديثة
.5األممية األولى
85
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
الشيوعيني الصغرية ،اليت كان يقودها ماركس) كحزب سياسي باملعىن احلديث
للكلمة .كانت تسري يف كل مكان يف ذيل الراديكالية البورجوازية الصغرية ،إالّ أهنا
انفصلت يف فرنسا عن هذه األخرية إبان أيام يونيو الدامية عام ،1,4,دون أن
تتمكن من تشكيل حزب سياسي مستقل (كانت اجملموعات الثورية اليت شكلها
أوغست بالنكي نواته إىل هذا احلد أو ذاك) .وأثر سنوات الردة الرجعية اليت تلت
هزمية ثورة ،1,4,كانت املنظمات النقابية والتعاونية التابعة للطبقة العاملة هي
اليت تطورت قبل كل شيء يف معظم البلدان ،باستثناء أملانيا ،حيث مسح
التحريض من أجل االقرتاع العام لالسال أن يشكل حزبا سياسيا عماليا هو
اجلمعية العامة للشغيلة األملان.
لقد اندمج ماركس واجملموعة الصغرية من نصرائه اندماجا حقيقيا مع احلركة
العمالية األولية يف ذلك العصر بتأسيس األممية األوىل عام ،1,74وقد هيأوا
بذلك تشكيل األحزاب االشرتاكية يف معظم بلدان أوروبا .ومن قبيل املفارقة
البالغة أن األحزاب اليت اجتمعت لتشكيل األممية األوىل مل تكن أحزابا عمالية .إن
تشكيل هذه األخرية هو الذي مسح بالتجميع القومي جملموعات حملية ونقابية
انضمت إىل األممية األوىل.
وحني تصدعت األممية بعد هزمية كومونة باريس احتفظ العمال الطليعيون
بوعي ضرورة جتمع من هذا النوع على املستوى القومي .وخالل السبعينات
والثمانينات ،وبعد العديد من احملاوالت الفاشلة ،تشكلت هنائيا أحزاب اشرتاكية
مستندة إىل احلركة العمالية األولية يف ذلك الزمن .وكانت اإلستثناءات املهمة
الوحيدة هلذه السريورة هي بريطانيا العظمى والواليات املتحدة ،فاألحزاب
االشرتاكية اليت تشكلت فيهما يف ذلك العصر بالذات بقيت على هامش حركة
نقابية كانت قد أصبحت قوية .ومل يظهر حزب العمال املستند إىل النقابات يف
بريطانيا إالّ يف القرن العشرين .ويف الواليات املتحدة ،ما يزال إنشاء حزب من هذا
النوع هو املهمة امللحة للحركة العمالية.
86
نشأة احلركة العمالية احلديثة
.7كومونة باريس
87
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
للمطالب االقتصادية واملطالب السياسية .محلت الطبقة العاملة للمرة األوىل على
استالم السلطة السياسية ،ولو على أرض مدينة واحدة .لقد عكست اجتاه الطبقة
العاملة لتدمري جهاز الدولة البورجوازي واستبدال الدميوقراطية البورجوازية
بدميوقراطية بروليتارية هي شكل رفيع من الدميوقراطية .بيّنت كذلك أنه من دون
قيادة ثورية واعية فإن البطولة العارمة اليت تعرب عنها الربوليتاريا يف خضم معركة
ثورية تظل غري كافية لضمان النصر.
المراجع:
ماركس وإجنلز ،البيان الشيوعي.
إجنلز ،من االشتراكية الطوباوية إلى االشتراكية العلمية.
بري ،تاريخ االشتراكية.
ماركس ،الحرب األهلية في فرنسا.
ليساغاري ،كومونة باريس.
مورتون وتيت ،تاريخ الحركة العمالية اإلنجليزية.
أبندروت ،تاريخ الحركة العمالية األوروبية.
تكون الطبقة العاملة اإلنجليزية.
تومسونّ ،
88
()7
إصالحات وثورة
إن والدة احلركة العمالية احلديثة وتطورها داخل اجملتمع الرأمسايل يقدمان لنا
مثال عن العمل املتبادل الذي ميارسه الواحد حيال اآلخر ،كل من الوسط
االجتماعي الذي يتواجد ضمنه الناس ،باالستقالل عن إرادهتم ،والعمل الواعي
إىل هذا احلد أو ذاك الذي يطورونه لتغيري هذا الوسط.
أن التغيريات على صعيد النظام االجتماعي ،اليت حدثت عرب العصور ،كانت
على الدوام نتيجة تغيري مفاجئ وعنيف ،بفعل حروب أو ثورات أو شيء من هذه
وتلك .ليس من دولة قائمة يف أيامنا هذه إالّ وكانت ناتج هكذا خضات ثورية،
فلقد قامت الدولة األمريكية على قاعدة ثورة 1997وحرب 1,70-1,71
األهلية ،ونشأت الدولة الربيطانية عن ثورة 174,وثورة ،17,7والدولة الفرنسية
عن ثورات 19,7و 1,,2و 1,4,و ،1,92والدولة البلجيكية عن ثورة
.1,,2والدولة النريلندية عن ثورة البلدان الواطئة يف القرن ،17والدولة األملانية
عن حروب ،1,91 -1,92و 171, -1714و ،1740 -17,7وعن
ثورات 1,4,و 171,اخل..
إالّ أنه من قبيل اخلطأ االفرتاض أنه يكفي استخدام العنف للتمكن من تغيري
البنية االجتماعية حسب مشيئة املقاتلني .فلكي تقوم ثورة بإحداث تغيري حقيقي
يف اجملتمع ويف ظروف حياة الطبقات الكادحة ،ينبغي أن يسبقها تطور خيلق
داخل اجملتمع القدمي القواعد املادية (االقتصادية والتقنية و…) والبشرية (الطبقات
االجتماعية املتميزة ببعض السمات النوعية اخلاصة هبا) للمجتمع اجلديد ،إذ حني
89
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
ال تتوفر تلك القواعد ،تنتهي الثورات ،مهما تكن عنيفة ،إىل وضع تعيد معه
إنتاج الظروف اليت هدفت إىل إلغائها.
إن االنتفاضات الفالحية الظافرة اليت تتعاقب على امتداد التاريخ الصيين تقدم
لنا املثال الكالسيكي على هذا الواقع ،فهي متثل يف كل مرة رد فعل الشعب ضد
املظامل واألعباء الضريبية اليت ال تطاق ،اليت كانت تلحق بالفالحني يف فرتات
احنطاط السالالت املتعاقبة اليت حكمت اإلمرباطورية السماوية .وقد كانت تؤدي
تلك االنتفاضات إىل قلب ساللة ووصول أخرى إىل السلطة ،منبثقة غالبا عن
قادة االنتفاضة الفالحية ذاهتم ،كما كانت احلال مع ساللة اهلانيني.
إن الساللة اجلديدة تشرع بإرساء شروط معيشة أفضل بالنسبة للفالحني.
لكن بقدر ما تتوطد سلطتها وتتدعم إدارهتا ،تزيد نفقات الدولة ،وهو ما يستتبع
زيادة الضرائب ،فيشرع املاندرينيون( ،)17الذين يدفع هلم يف البداية صندوق الدولة،
بإساءة استخدام سلطتهم ويقتطعون ألنفسهم ملكيات اعتباطية على حساب
أراضي الفالحني ،ناهبني منها ريعا «عقاريا» يضاف إىل الضريبة.
هكذا تعقب عقودا من احلياة الفضلى عودة الفالحني إىل مهاوي البؤس .إن
انعدام حدوث «قفزة إىل األمام» على صعيد قوى اإلنتاج ،وغياب تطور صناعة
حديثة قائمة على استخدام اآلالت ،يفسران هذا الطابع الدوري للثورات
االجتماعية يف الصني القدمية ،واستحالة توصل الفالحني إىل حترر طويل األمد.
91
اصالحات وثورة
قوى اإلنتاج داخل اجملتمع اإلقطاعي ،تلك القوى اليت غدت متعارضة مع استمرار
القنانة والنقابات احلرفية والتضييقات املفرطة على التداول احلر للسلع.
لقد ولّد هذا التطور كذلك طبقة اجتماعية جديدة هي البورجوازية احلديثة اليت
تدربت على النضال السياسي يف إطار كومونة القرون الوسطى ،واملناوشات اليت
كانت تتم يف ظل امللكية املطلقة ،قبل االنطالق يف طريق االستيالء على السلطة
السياسية.
إن اجملتمع البورجوازي يتصف عند نقطة معينة من منوه بتطور ميهد حتما لثورة
اجتماعية جديدة.
فعلى املستوى املادي ،تنمو قوى اإلنتاج إىل احلد الذي تصبح معه أكثر
فأكثر تصادما مع امللكية اخلاصة لوسائل اإلنتاج وعالقات اإلنتاج الرأمسالية .إن
منو الصناعة الكبرية ،وتركز الرأمسال وخلق الرتوستات ،والتدخل املتزايد من جانب
الدولة البورجوازية بغية «تنظيم» مسرية االقتصاد الرأمسايل ،متهد الطريق أمام
تشريك (التملك اجلماعي) وسائل اإلنتاج ،وأمام تسيريها من جانب املنتجني
املتشاركني بالذات ،وفقا خلطة موضوعة مسبقا.
ّأما على الصعيد البشري (االجتماعي) فتتكون وتتوطد طبقة جتمع شيئا فشيئا
كل امليزات املطلوبة لتحقيق هذه الثورة االجتماعية« :إن الرأمسالية تنتج مع
الربوليتاريا حفاري قبورها» ،هذه الربوليتاريا املرتكزة يف مشاريع كربى فاقدة أي أمل
باالرتقاء االجتماعي الفردي ،تكتسب عرب نضاهلا الطبقي اليومي تلك الصفات
األساسية ،املتمثلة بالتضامن اجلماعي والتعاون واالنضباط يف العمل ،اليت تسمح
بإعادة تنظيم أساسية لكل احلياة االقتصادية واالجتماعية.
وكلما تفاقمت التناقضات املالزمة للرأمسالية كلما احتدم الصراع الطبقي،
وكلما مهد تطور الرأمسالية طريق الثورة ،كلما أخذ وجهة انفجارات متنوعة
91
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
إالّ أن تاريخ الرأمسالية وتاريخ احلركة العمالية مل يتبعا خطا واضحا ومستقيما
بالقدر الذي كان يأمله املاركسيون حوايل عام .1,,2
إن التناقضات الداخلية لالقتصاد واجملتمع يف البلدان اإلمربيالية مل حتتدم فورا.
على العكس من ذلك ،شهدت أوروبا الغربية والواليات املتحدة ما بني هزمية
كومونة باريس واندالع احلرب العاملية األوىل مرحلة طويلة من االزدهار لقوى
اإلنتاج ،بطيء تارة ،ومتسارع طورا ،غطى «النشاط التدمريي» لتناقضات النظام
الداخلية وطمسه.
تلك التناقضات انفجرت بعنف عام ،1714وقد كان بني عالماهتا األوىل
على وجه اخلصوص ثورة 1720الروسية واإلضراب العام لشغيلة النمسا يف العام
ذاته .إالّ أن التجربة املباشرة للشغيلة واحلركة العمالية يف تلك البلدان مل تكن
تعكس تعمقا لتناقضات النظام ،بل على العكس االعتقاد بتطور تدرجيي ،سلمي
إىل حد بعيد وال رجعة فيه ،للتقدم حنو االشرتاكية (مل يكن األمر هو ذاته يف
أوروبا الشرقية ،من هنا الوزن احملدود لتلك األوهام يف بلداهنا املختلفة).
ال شك أن األرباح الكولونيالية الفائضة اليت راكمها اإلمربياليون مسحت هلم
بتقدمي إصالحات لشغيلة البلدان الغربية .إالّ أنه ينبغي أن نأخذ باحلسبان عوامل
أخرى لفهم هذا التطور.
إن اهلجرة الواسعة حنو البلدان البعيدة وازدهار الصادرات األوروبية وجهة سائر
بلدان املعمور حدث على املدى الطويل من «ضخامة جيش االحتياط
الصناعي» .لقد حتسنت هكذا موازين القوى بني رأس املال والعمل ،يف «سوق
92
اصالحات وثورة
العمل» ،لصاحل الشغيلة ،مما خلق قواعد الزدهار نقابية مجاهريية ال تقتصر على
العمال املتخصصني وحدهم .لقد ارتعبت البورجوازية إزاء كومونة باريس
واإلضرابات العنيفة يف بلجيكا ( ،)1,7, -1,,7والصعود الذي ال يقاوم يف
الظاهر لالشرتاكية -الدميوقراطية األملانية ،كما عملت على هتدئة اجلماهري
املنتفضة عن طريق إصالحات اجتماعية.
كانت النتيجة العملية للتطور املشار إليه حركة عمالية يف الغرب تكتفي على
الصعيد العملي بالنضال من أجل إصالحات ممكنة التحقيق فورا :من مثل زيادة
األجور وتدعيم التشريع االجتماعي وتوسيع احلريات الدميوقراطية ،اخل… كانت
تلك احلركة حتول املعركة من أجل ثورة اجتماعية إىل حقل الدعاية األدبية وتربية
الكادرات .توقفت هكذا عن إعداد نفسها بصورة واعية للثورة االشرتاكية ،معتقدة
أنه تكفي تقوية املنظمات اجلماهريية للربوليتاريا لكي تلعب هذه القوة العمالقة
آليا« ،ما أن حتل ساعة احلسم» ،دورا ثوريا.
.4االنتهازية اإلصالحية
مل تكتف األحزاب والنقابات اجلماهريية يف أوروبا الغربية بأن تعكس تطورا
مؤقتا لصراعات طبقية حمصورة مبعظمها يف حقل االصالحات ،لقد أصبحت
بدورها قوة سياسية زادت من حدة تكيف احلركة العمالية اجلماهريية مع الرأمسالية
«املزدهرة» للبلدان اإلمربيالية .أمهلت االنتهازية االشرتاكية -الدميوقراطية عملية
إعداد الشغيلة للتغريات املفاجئة يف املناخ االجتماعي والسياسي واالقتصادي اليت
كانت تعلن عن نفسها ،وأصبحت هكذا عامال مهما سهل استمرار الرأمسالية
على قيد احلياة يف خضم سنوات .170, - 1714
جتلت االنتهازية على الصعيد النظري عن طريق مراجعة للماركسية أطلقها
رمسيا إدوارد برنشتاين («احلركة كل شيء ،اهلدف ال شيء») الذي كان يطلب
من االشرتاكية -الدميوقراطية أن تتخلى عن كل نشاط عدا ذلك الذي يتوخى
93
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
تثبت التجربة هكذا العناصر األساسية للنظرية اللينينية حول حزب الطليعة.
إذا كان للطبقة العاملة أن تنخرط بذاهتا يف نضاالت طبقية بالغة االتساع حول
أهداف فورية ،وإذا كان بإمكاهنا أن تبلغ مستوى أوليا من الوعي الطبقي ،فال
ميكنها أن تصل تلقائيا إىل األشكال العليا من الوعي الطبقي السياسي ،اليت ال
94
اصالحات وثورة
غىن عنها من أجل توقع املنعطفات املفاجئة للوضع املوضوعي للتمكن من إجناز
مهام احلركة العمالية اليت ترتتب عليها ،واليت ال غىن عنها كذلك لالنتصار على
املناورات البورجوازية وعلى كل التأثريات اليت ميكن أن متارسها األيديولوجية
البورجوازية والبورجوازية الصغرية على اجلماهري الكادحة.
زد على ذلك أن احلركة اجلماهريية متر حتما حباوالت متفاوتة فاجلماهري
الواسعة ال تبقى على الدوام عند مستوى مرتفع من النشاط السياسي .إن منظمة
مجاهريية تسعى للتكيف مع املستوى املتوسط من نشاط تلك اجلماهري ووعيها
سوف تلعب إذا دورا كاحبا لتفتح النشاط الثوري الذي ال يتم إال يف فرتات
حمددة.
هلذه األسباب مجيعا ال غىن عن بناء منظمة طليعية للطبقة العاملة ،ال غىن عن
بناء حزب ثوري .هذا احلزب سوف يبقى أقليا يف األزمنة العادية ،إالّ أنه سيبقى
على استمرارية نشاط مناضليه وعلى مستوى وعيهم .سوف يسمح باحلفاظ على
مكاسب التجربة النضالية وبنشرها يف الطبقة ،ويظل مشدودا حنو نضاالت ثورية
قادمة ،ويرى يف هتيئة تلك النضاالت رسالته األساسية ،وهو سيسهل هكذا إىل
حد بعيد حدوث االنعطافات يف ذهنية الشغيلة املنظمني واجلماهري الكادحة
الواسعة ويف سلوكها ،وهي االنعطافات اليت تتطلبها التبدالت املفاجئة للوضع
املوضوعي.
طبعا،ال ميكن ألحزاب طليعية كهذه أن حتل حمل اجلماهري للسعي وراء حتقيق
ثورة اجتماعية بالنيابة عنها« .ال ميكن لتحرير الشغيلة أن يكون إالّ على أيدي
الشغيلة أنفسهم» .إن كسب أغلبية الشغيلة إىل جانب برنامج احلزب الثوري
واسرتاتيجيته وتكتيكه هو الشرط املسبق الذي ال بد منه لكي يتمكن حزب
طليعي من لعب دوره بالكامل.
95
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
لن يكون هذا الكسب ممكنا بصورة طبيعية إالّ يف حلظات «حارة» من األزمنة
ما قبل الثورية أو الثورية «يشري إليها» إنفجار حركات مجاهريية عفوية ضخمة.
لذا ليس من تعارض مطلق بني عفوية اجلماهري وضرورة بناء منظمة ثورية طليعية،
فهذه األخرية تستند إىل تلك العفوية وتواصلها وتكملها وتسمح هلا باالنتصار عن
طريق تركيز كل طاقتها على النقطة احلساسة ،املتمثلة بقلب السلطة السياسية
واالقتصادية لرأس املال.
لقد تطورت ،داخل شرائح أقلية يف احلركة العمالية والطبقة العاملة ،مواقف
يسارية متطرفة ترفض أي نضال من أجل حتقيق اإلصالحات ،وذلك كرد فعل
جتاه االنتهازية اإلصالحية.
إن النزعة اإلصالحية ال تتماثل إطالقا مع النضال من أجل اإلصالحات ،يف
نظر املاركسيني الثوريني ،فاإلصالحية هي وهم إلغاء الرأمسالية تدرجييا ،عن طريق
مراكمة اإلصالحات .إالّ أنه ميكن دمج املسامهة يف نضاالت لتحقيق إصالحات
فورية مع إعداد الطليعة العمالية لنضاالت مناهضة لرأس املال يصل حجمها إىل
حد التسبب بأزمة ثورية يف اجملتمع.
إن الرفض اجلذري لكل نضال من أجل إجناز إصالحات يستتبع القبول
السليب برتدي وضع الطبقة العاملة ،إىل أن يأيت اليوم الذي تصبح هذه قادرة فيه
على قلب النظام الرأمسايل بضربة واحدة .هذا املوقف هو يف الوقت ذاته طوباوي
ورجعي.
هو طوباوي ألنه يتجاهل أن الشغيلة املنقسمني على أنفسهم وفاقدي
املعنويات ،يوما بعد يوم ،بفعل عجزهم عن الدفاع عن مستوى معيشتهم ،وعن
عملهم وحرياهتم وحقوقهم األولية ،ليسوا بقادرين أبدا على مواجهة ظافرة حيال
طبقة اجتماعية متتلك الثروة والتجربة السياسية ،هي البورجوازية احلديثة .وهو
96
اصالحات وثورة
رجعي ألنه خيدم موضوعيا قضية رأس املال وأرباب العمل الذين هلم مصلحة يف
خفض األجور واإلبقاء على بطالة كثيفة وإلغاء النقابات وحق اإلضراب فيما لو
ترك الشغيلة أنفسهم يتحولون إىل عبيد مكتويف األيدي.
يرى املاركسيون الثوريون يف حترر الشغيلة وقلب الرأمسالية هناية مطاف حقبة
من القوة التنظيمية املتزايدة لدى الربوليتاريا ،والتماسك والتضامن الطبقي
املضاعف ،والثقة املتنامية بقواها اخلاصة .وال ميكن هلذه التحوالت الذاتية أن
تنجم عن الدعاية وحدها أو الرتبية الفكرية .إهنا حاصل جناحات مرتاكمة إبان
نضاالت يومية هي النضاالت من أجل اإلصالحات.
ليست اإلصالحية الناتج اآليل لتلك النضاالت أو النجاحات .إهنا نتيجتها يف
حالة واحدة تتحقق حني متتنع الطليعة العمالية عن تربية الطبقة على فكرة ضرورة
إطاحة النظام ،حني متتنع عن مكافحة تأثري األيديولوجيا البورجوازية الصغرية
والبورجوازية داخل الطبقة العاملة ،وعن االخنراط عمليا يف نضاالت مجاهريية غري
برملانية معادية لرأس املال تستهدف جتاوز طور اإلصالحات.
البد لألسباب ذاهتا من أن ينشط الثوريون يف النقابات اجلماهريية ويناضلوا
لتقوية املنظمات النقابية ال إلضعافها.
طبعا ،تكون النقابات عاجزة عادة عن اإلعداد ملعارك ثورية وعن تنظيمها،
فليست تلك وظيفتها ،إالّ أهنا ضرورية للدفاع عن مصاحل الشغيلة يوما بيوم يف
وجه مصاحل رأس املال .إن النضال الطبقي اليومي ال خيتفي ،حىت يف عصر
احنطاط الرأمسالية ،فبدون نقابات قوية تضم جزءا عظيما من الطبقة العاملة ،يتمتع
أرباب العمل بفرص كبرية للخروج منتصرين من تلك املناوشات اليومية .إن
التشكك واحلذر ،من جانب اجلماهري العمالية الواسعة حيال قواها اخلاصة هبا،
اللذين ينتجان عن جتارب بائسة كهذه ،يضران إىل حد بعيد بنمو وعي طبقي
رفيع لدى تلك اجلماهري.
97
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
يضاف إىل ذلك أن العمل النقايب مل يعد يتقوقع حتما يف دائرة النضال من
أجل رفع األجور ،ومن أجل خفض عدد ساعات العمل ،يف عصر الرأمسالية
احلديثة ،إذ أنه تواجه الشغيلة يوما بعد يوم مشكالت اقتصادية شاملة تؤثر على
مستوى حياهتم ،من مثل التضخم وإغالق املعامل والبطالة وتسريع وثائر العمل
وحماوالت الدولة للحد من ممارسة حق اإلضراب والتفاوض احلر خبصوص األجور،
اخل… هكذا جتد النقابة نفسها جمربة على اختاذ موقف ،عاجال أو آجال ،من كل
تلك املسائل ،فتصبح إذا مدرسة تربية للطبقة العاملة تتناول بني ما تتناول
مشكالت شاملة تطرحها الرأمسالية واالشرتاكية .تصبح حلبة تتواجه فيها اجتاهات
مؤيدة للتعاون الطبقي الدائم ،ال بل لدمج النقابات يف الدولة البورجوازية،
واجتاهات نضال طبقي ترفض إحلاق مصاحل الشغيلة بـ «مصلحة عامة» مزعومة،
ليست سوى مصلحة رأس املال وقد مت متويهها قليال .ومبا أن الثوريني املنخرطني
يف اجتاه الصراع الطبقي يدافعون ضمن هذه الشروط عن املصاحل املباشرة للجمهور
الكبري ،يف وجه حماوالت حرف النقابات عن وظيفتها األساسية ،فإن لديهم حظا
بالتأثري املتنامي داخل النقابات ،شريطة أن يعملوا بصرب ومثابرة وأال يتخلوا عن
حقل العمل اجلماهريي هذا للبريوقراطيني واإلصالحيني واليمينيني من كل األنواع.
يسعى الثوريون لكي يكونوا أفضل النقابيني أي لكي يضغطوا باجتاه تبين
النقابات وأعضائها لالقرتاحات املتعلقة بأهداف النضال وأشكال تنظيم
النضاالت ،تلك االقرتاحات األكثر توافقا مع املصاحل الطبقية الفورية للشغيلة.
إهنم ال يتوانون أبدا عن الدفاع عن تلك املصاحل الفورية ،يف حني يطورون بال
انقطاع دعايتهم العامة لصاحل الثورة االشرتاكية اليت ال ميكن بدوهنا توطيد أي
مكسب عمايل ،وال تقدمي حل هنائي ألي مشكلة حيوية ختص الطبقة العاملة.
زد على ذلك أن البريوقراطية النقابية األكثر فأكثر اندماجا يف الدولة
البورجوازية ،واليت تعمد أكثر فأكثر إىل إحالل سياسة مصاحلة طبقية و«سالم
اجتماعي» حمل مهمتها األصلية املتمثلة بالدفاع الذي ال يلني عن مصاحل أعضاء
98
اصالحات وثورة
النقابات ،تتوىل إضعاف النقابة موضوعيا إذ تدوس بأقدامها يوما بعد يوم مشاغل
وقناعات املنتسبني إليها .إن النضال من أجل الدميوقراطية النقابية والنضال من
أجل نقابية قائمة على الصراع الطبقي يتكامالن هكذا بصورة منطقية ،يف خضم
املعارك اليومية.
المراجع:
لينني ،ما العمل ؟
لينني« ،اليسارية» مرض الشيوعية الطفولي.
روزا لوكسمبورغ ،إصالح أم ثورة ؟
روزا لوكسمبورغ ،اإلضراب الجماهيري.
ل .تروتسكي ،النقابات في مرحلة انحطاط الرأسمالية.
ج .لوكاش ،لينين.
99
()11
الديموقراطية البورجوازية والديموقراطية البروليتارية
.1الحرية االقتصادية والحرية السياسية
إن احلرية السياسية واحلرية االقتصادية مفهومان متساويات يف نظر الكثريين
ممن ال يفكرون هبذه املسألة ،وهو ما تؤكده العقيدة الليربالية على وجه اخلصوص،
هذه العقيدة اليت تزعم اليوم اصطفافها «جبانب احلرية» يف مجيع احلقول،
وبالطريقة ذاهتا .إالّ أنه إذا أمكن حتديد احلرية السياسية بسهولة ،حبيث ال تستتبع
حرية البعض استعباد الغري ،فليس األمر هو ذاته بالنسبة للحرية االقتصادية .إن
حلظة من التفكري تربهن أن معظم مظاهر هذه «احلرية االقتصادية» تستتبع الال
مساواة على وجه التحديد ،وحرمان جزء كبري من اجملتمع من إمكانية االستمتاع
هبذه احلرية بالذات.
إن حرية شراء عبيد وبيعهم تفرتض أن يكون اجملتمع منقسما إىل جمموعتني:
جمموعة العبيد وجمموعة أسياد العبيد ،وتفرتض حرية متلك وسائل اإلنتاج الكربى
متلكا شخصيا وجود طبقة اجتماعية مضطرة لبيع قوة عملها ،إذ ما الذي ميكن
أن يفعله مالك مصنع كبري لو مل يكن أحد مضطرا للعمل حلساب الغري؟
لقد دافع بورجوازيو عصر صعود الرأمسالية املنسجمون مع أنفسهم عن مبدأ
حرية تشغيل األطفال يف سن العشر سنوات باألعمال املنجمية ،وحرية إجبار
الشغيلة على الكد ما بني 10و 14ساعة يف اليوم ،إالّ أهنم حظروا بشدة حرية
واحدة ،هي حرية جتمع الشغيلة اليت منعها يف فرنسا قانون لوشابلييه الذي مت تبنيه
يف أوج الثورة الفرنسية ،حبجة حتظري كل التكتالت من أصل حريف(.)19
) )19املقصود بـ Corporatisteأو «حريف» ما ينسب إىل مجعيات أهل احلرفة ،املنتشرة يف املرحلة
اإلقطاعية (م).
111
الدميقراطية الربجوازية والدميقراطية الربوليتارية
هكذا مل يكن صعبا إبان القرن 17التوجه إىل الشغيلة بشرح مفاده أن الدولة
الربجوازية مل تكن يوما «حيادية» يف الصراع الطبقي ،ومل تكن «حكما» بني رأس
املال والعمل ،وهي املكلفة بالدفاع عن «املصلحة العامة» ،ال بل أهنا مثلت أداة
للدفاع عن مصاحل رأس املال يف وجه مصاحل العمل .لقد كان حق التصويت
موقوفا على الربجوازية وحدها ،وهلا وحدها احلق املطلق لرفض تشغيل الشغيلة.
111
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
وما أن أضرب العمال ورفضوا مبجموعهم بيع قوة عملهم بالشروط اليت ميليها رأس
املال ،حىت ووجهوا برجال الدرك أواجليش الذين أطلقوا عليهم النار .لقد كانت
العدالة عدالة طبقية مبا ال يقبل الشك ،فالربملانيون والقضاء وكبار الضباط وكبار
املوظفني االستعماريني والوزراء واملطارنة كانوا ينتمون مجيعا إىل الطبقة االجتماعية
ذاهتا ،وكانوا يرتبطون فيما بينهم مجيعا بالروابط ذاهتا ،عنينا روابط املال واملصلحة،
ال بل العائلة .أما الطبقة العاملة فكانت مستبعدة كليا عن هذا العامل اجلميل!
تعدل هذا الوضع بدءا من اللحظة اليت انطلقت فيها احلركة العمالية احلديثة،
واكتسبت قوة تنظيمية مرهونة ،وانتزعت حق التصويت العام عن طريق نضاالت
مباشرة فرضت نفسها (إضرابات سياسية يف بلجيكا والنمسا والسويد وهولندا
وإيطاليا ،اخل .).أصبح للطبقة العاملة متثيل واسع يف الربملان (وهي وجدت نفسها
جمربة بذلك على أن تدفع حصة أكرب من الضرائب ،إالّ أن هذه قصة أخرى) .مثة
أحزاب عمالية إصالحية تشارك يف حكومات حتالف مع الربجوازية ،إالّ أهنا بدأت
تشكل أحيانا حكومات مؤلفة من ممثلني ألحزاب اشرتاكية -دميوقراطية على
وجه احلصر (بريطانيا ،سكاندينافيا).
مذ ذاك أصبح وهم قيام دولة «دميوقراطية» فوق الطبقات تكون «حكما»
حقيقيا و«مصاحلا» للتعارضات الطبقية ،أمرا مقبوال بشكل أسهل داخل الطبقة
العاملة ،وأهنا إلحدى الوظائف األساسية للنزعة اإلصالحية املراجعة أن تنشر تلك
األوهام بصورة واسعة .لقد كان ذلك حكرا على االشرتاكية -الدميوقراطية يف
املاضي ،إال أ ّن األحزاب الشيوعية املنخرطة يف طريق إصالحي جديد تنشر اليوم
النوع ذاته من األوهام .إالّ أن الطبيعة احلقيقية للدولة الربجوازية ،حىت األكثر
«دميوقراطية» تظهر للعيان حاال إذا تفحصنا يف الوقت ذاته مسارها العملي
والشروط املادية هلذا املسار.
إنه لنموذجي أنه كلما انتزعت اجلماهري الكادحة حق االقرتاع العام ودخل
املمثلون العماليون إىل الربملان بقوة كلما انتقل مركز ثقل الدولة القائمة على
112
الدميقراطية الربجوازية والدميقراطية الربوليتارية
الدميوقراطية الربملانية من الربملان إىل جهاز الدولة الربجوازي الدائم« :الوزراء يأتون
وميضونّ ،أما الشرطة فتبق».
واحلال أن جهاز الدولة هذا يفرز توحدا كامال مع الربجوازيتني الوسطى
والكربى ،بالطريقة اليت يتم هبا اختيار قياداته ،وبتلك اليت ينظم تسلسله وفقا هلا،
وبقواعد االختيار واملهنة اليت حتكمه .مثة وشائج أيديولوجية واجتماعية واقتصادية
ال تنفصم تشد هذا اجلهاز إىل الطبقة الربجوازية ،فكل املوظفني الكبار يقبضون
معاشات تسمح هلم مبراكمة خاصة لرأس املال ال بأس هبا ،ولو كانت متواضعة
أحيانا ،وهو ما حيفز هؤالء األشخاص بالذات ،على الصعيد الفردي ،للدفاع عن
امللكية اخلاصة ،ويثري اهتمامهم بسري االقتصاد الرأمسايل سريا حسنا.
يضاف إىل ذلك أن الدولة القائمة على الربملانية الربجوازية تنشد كليا إىل رأس
املال بواسطة السالسل الذهبية للتبعية املالية والدين العام .وال ميكن ألي حكومة
برجوازية أن حتكم دون اللجوء باستمرار إىل التسليف الذي تشرف عليه املصاريف
ورأس املال املايل والربجوازية الكربى .إن أي سياسة معادية للرأمسالية تكتفي
حكومة إصالحية برسم خطوطها العريضة تصطدم فورا بالتخريب املايل
واالقتصادي من جانب الرأمساليني .فـ«إضراب التثمريات» ،وهرب الرساميل،
والتضخم ،والسوق السوداء ،وهبوط اإلنتاج ،والبطالة ،تنجم مجيعها عن هذا الرد
يف مهلة زمنية قصرية جدا.
إن تاريخ القرن العشرين مبجمله يؤكد استحالة استخدام الربملان الربجوازي
واحلكومة املرتكزين إىل امللكية الرأمسالية والدولة الربجوازية استخداما منطقيا يف
وجه الربجوازية .فكل سياسة تود أن تتبع عمليا طريقا مناهضة للرأمسالية تصطدم
سريعا خبيار مصرييّ :أما االستسالم لقدرة رأس املال حتت تأثري االبتزاز والتهويل،
أو حتطيم جهاز الدولة الربجوازية وإحالل التملك اجلماعي لوسائل اإلنتاج حمل
عالقات امللكية الرأمسالية.
113
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
114
الدميقراطية الربجوازية والدميقراطية الربوليتارية
ذاته« ،حق» تأسيس جريدة يكلف إصدارها مئات املاليني من الفرنكات ،ومن
حيث الشكل يتمتع الغين والفقري بـ«احلق» ذاته ،حق شراء فرتة ظهور على شاشة
التلفزيون ،وبـ«القدرة» ذاهتا يف التأثري على الناخبني .إالّ أنه ملا كانت املمارسة
العملية لتلك احلقوق تفرتض مسبقا حتريك وسائل مادية ذات شأن فليس لغري
الغين وحسب أن يتمتع هبا كليا .سوف ينجح الرأمسايل يف التأثري على عدد كبري
من الناخبني الذين يرتبطون به ماديا ،ويف شراء صحف وحمطات إذاعة أو فرتات
بث تلفزيوين ،بفضل إمكاناته املالية .سوف «يقبض على ناصية» برملانيني
وحكومات بقوة رأمساله.
حىت لو طرحنا جانبا يف هناية املطاف كل هذه احلدود اليت تقف عندها
الدميوقراطية الربملانية الربجوازية ،ولو افرتضنا خاطئني أنه ال ينقصها شيء ،يبقى
أهنا ليست أكثر من دميوقراطية سياسية .لكن ما نفع مساواة سياسية بني الغين
والفقري -وهي مساواة ال عالقة هلا بالواقع -إذا كانت تتطابق يف الوقت ذاته مع
المساواة اقتصادية واجتماعية عظيمة ،ال تنفك تتعاظم ،وذلك منذ أكثر من
نصف قرن ،ال بل منذ أكثر من قرن؟ حىت لو كان األغنياء والفقراء يتمتعون
باحلقوق السياسية ذاهتا ،فاألولون حيتفظون مع ذلك بسلطة اقتصادية واجتماعية
عظيمة ال ميتلكها األخريون ،سلطة ختضع األخريين لألولني حتما يف احلياة
اليومية.
إن الطبيعة الطبقية للدولة املرتكزة إىل الدميوقراطية الربملانية الربجوازية تبدو
واضحة متاما حني نتفحص دورها القمعي .فنحن نعرف ما ال حيصى من
النزاعات االجتماعية اليت تدخل فيها رجال الشرطة والدرك واجليش بغية «حتطيم»
فرق إضراب ،وتفريق مظاهرات عمالية ،وإخالء معامل حيتلها الشغيلة وإطالق
النار على املضربني ،بينما ال نعرف حالة واحدة تدخلت فيها الشرطة والدرك أو
115
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
جيش الربجوازية لتوقيف أرباب عمل يصرفون عماال ،أو ملساعدة شغيلة على
احتالل معامل أغلقها رأس املال ،أو إلطالق النار على برجوازيني ينظمون غالء
املعيشة أو هرب الرساميل أو الغش الضرييب.
سوف يرد املدافعون عن الدميوقراطية الربجوازية بأن العمال أنتهكوا حرمة
«القانون» يف كل احلاالت آنفة الذكر ،وأهنم كانوا يهددون «النظام العام» الذي
يفرتض بقوى القمع أن تدافع عنهّ .أما حنن فنجيب بأن ذلك يؤكد متاما أن
«القانون» ليس حياديا على اإلطالق ،بل هو قانون برجوازي حيمي امللكية
الرأمسالية ،وأن قوى القمع يف خدمة تلك امللكية ،لذا فهي تتصرف بصورة خمتلفة
جدا حسبما يكون العمال ،أو الرأمساليون هم الذين يقرتفون انتهاكات شكلية
حبق «القانون» ،وأنه ال شيء يثبت بأفضل من ذلك الطابع الربجوازي قبل كل
شيء الذي تتسم به الدولة.
ال تلعب أجهزة القمع يف الظروف العادية أكثر من دور هامشي يف احلفاظ
على النظام الرأمسايل ،ال سيما أن هذا النظام حيظى باحرتام فعلي ،يف احلياة
اليومية ،من جانب الغالبية العظمى للطبقات الكادحة .إالّ أن األمر خيتلف كليا
يف فرتات األزمات احلادة (أكانت اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو عسكرية
أو مالية) ،حني يكون النظام الرأمسايل عرضة هلزات عميقة ،وحني تبدي الطبقات
الكادحة إرادهتا يف إسقاط النظام ،أو حني ال يعود هذا األخري قادرا على العمل
بشكل طبيعي.
إذ ذاك يتصدر القمع املسرح السياسي ،وتظهر الطبيعة األساسية للدولة
الربجوازية فجأة بكل عريها :جمموعة من الناس املسلحني يف خدمة رأس املال.
هكذا تتأكد قاعدة أكثر عمومية يف تاريخ اجملتمعات الطبقية :فكلما كان هذا
اجملتمع أكثر استقرارا كلما أمكنه منح حريات شكلية متنوعة للمضطهدين ،وكلما
كان عدمي االستقرار هتزه أزمات عميقة كلما كان عليه أن ميارس السلطة السياسية
عن طريق العنف الصريح.
116
الدميقراطية الربجوازية والدميقراطية الربوليتارية
هكذا نالحظ أن تاريخ القرنني 17و 02هو تاريخ العديد من جتارب القمع،
متارسها الديكتاتوريات الربجوازية ضد احلريات الدميوقراطية للشغيلة ،سواء كانت
ديكتاتوريات عسكرية أو بونابرتية أو فاشية ،إالّ أ ّن الديكتاتورية الفاشية هي
الشكل األكثر شراسة ومهجية للديكتاتورية املوضوعة يف خدمة رأس املال الكبري.
تتميز هذه الديكتاتورية على وجه اخلصوص بكوهنا ال تكتفي بإلغاء احلريات
املتعلقة باملنظمات الثورية أو الراديكالية للطبقة العاملة ،بل تسعى كذلك إىل
حتطيم كل شكل من أشكال التنظيم اجلماعي لدى الشغيلة ،ومن أشكال
مقاومتهم ،مبا فيها النقابات وأشكال اإلضرابات األكثر بدائية .إهنا تتميز كذلك
بواقع أن حماولة تذرير الطبقة العاملة ال ميكن أن حتضى بالفعالية عن طريق
االستناد فقط إىل جهاز القمع التقليدي (اجليش والدرك والشرطة والقضاة) ،بل
هي حتتاج إىل عصابات مسلحة خاصة تنبثق هي األخرى عن حركة مجاهريية،
هي حركة الربجوازية الصغرية املفقرة ،اليت أيأستها األزمة والتضخم ،واليت مل تفلح
احلركة العمالية يف جرها إىل خندقها عرب سياسة هجوم جريئة يف مواجهة رأس
املال.
وال ميكن للطبقة العاملة وطليعتها الثورية أن تكونا حياديتني إزاء صعود
الفاشية ،بل عليهما أن تستميتا يف الدفاع عن حرياهتما الدميوقراطية .لذا عليهما
أن تشكال جبهة موحدة تضم كل املنظمات العمالية ،مبا فيها أكثرها إصالحية
واعتداال ،من أجل مواجهة صعود الفاشية وسحق الوحش الشرير وهو ما يزال يف
البيضة .عليهما أن خيلقا وحداهتما للدفاع الذايت يف وجه عصابات رأس املال
املسلحة ،وإالّ يثقا حبماية الدولة الربجوازية .إن الطريق من أجل احلؤول دون
اهلمجية الفاشية املؤدية إىل معسكرات االعتقال واملذابح وعمليات التعذيب ،من
بوشنفالد إىل أوشويتز ،إمنا تكمن يف بناء املليشيات العمالية املستندة إىل مجاهري
الشغيلة ،حبيث تضم كل املنظمات العمالية ومتنع أي حماولة فاشية إلرهاب قطاع
من القطاعات اجلماهريية أو لكسر إضراب واحد ،أو لـ«ختريب» ندوة واحدة
117
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
ملنظمة عمالية .إن أي جناح على هذا الطريق يسمح للجماهري الكادحة باالنتقال
جبزم إىل اهلجوم املضاد وإىل اإلجهاز على اخلطر الفاشي ،ويف الوقت ذاته على
النظام الرأمسايل الذي أطلقه وغذاه.
.5الديموقراطية البروليتارية
118
الدميقراطية الربجوازية والدميقراطية الربوليتارية
مراجع:
كارل ماركس ،الحرب األهلية في فرنسا.
لينني ،الدولة والثورة.
لينني ،الثورة البروليتارية ،والمرتد كاوتسكي.
ل .تروتسكي ،كتابات عن ألمانيا.
املؤمتر اخلامس لألممية الرابعة :موضوعات حول انحدار الستالينية وسقوطها
(تضم وصفا مفصال ملؤسسات الدميوقراطية الربوليتارية يف ظل ديكتاتورية
الربوليتاريا).
119
()11
الحرب العالمية األولى والثورة الروسية
إن اندالع احلرب العاملية األوىل قد مثل اإلشارة األكثر وضوحا إىل أن
الرأمسالية قد دخلت يف طور احندارها ،فكل ما استطاعت أن تؤدي إليه من تقدم
للبشرية يتعرض ُمذ ذاك للتهديد .يتم تدمري دوري ملوارد مادية عظيمة :احلرب
العاملية ،األزمة االقتصادية ألعوام ،17,0-1707احلرب العاملية الثانية ،احلروب
اإلستعمارية ،والعديد من أزمات الركود االقتصادي .إن استمرار الرأمسالية على قيد
احلياة ينتهي إىل جمازر حقيقية لألرواح البشرية .والديكتاتوريات الدامية ،أكانت
عسكرية أو فاشية ،تأخذ يف طريقها مكتسبات الثورات الدميوقراطية الربجوازية
الكربى .إن البشرية أمام خيار مصريي فأما االشرتاكية و ّأما اهلمجية.
خالل العقد الذي سبق عام ،1714اجتهدت األممية االشرتاكية وكل احلركة
العمالية األممية يف تربية اجلماهري الكادحة وتعبئتها ضد صعود هتديدات احلرب.
فسباق التسلح وتزايد النزاعات «احمللية» وتفاقم التناقضات يف الصفوف اإلمربيالية
أنذرت باالنفجار الوشيك .لقد ذكرت األممية الشغيلة من كل البلدان بأن
مصاحلهم مشرتكة وأنه ليس عليهم أن يتحملوا أعباء اخلصومات املقرفة بني
املالكني ،وهي خصومات ألجل اقتسام األرباح املنهوبة من الربوليتاريني ومن
شعوب العامل املستعمرة.
بيد أنه حني انفجرت احلرب عام 1714ألقت القيادات االشرتاكية -
الدميوقراطية السالح أمام املوجة الشوفينية اليت أطلقتها البورجوازية .لقد التحقت
كل منها مبعسكر"ها" اإلمربيايل ضد معسكر خصوم برجوازيتها اخلاصة هبا ،ومل
111
احلرب العاملية األوىل والثورة الروسية
مذ ذاك كان على تناقضات االشرتاكية -الوطنية أن تنفجر سريعا ،فالقادة
االصالحيون األكثر مكرا برروا مواقفهم بكون اجلماهري مؤيدة للحرب وبأن حزبا
عماليا مجاهرييا عاجز عن الوقوف يف وجه املشاعر الشعبية املهيمنة .بيد أنه
سرعان ما مالت املشاعر اجلماهريية املهيمنة حنو االستياء ،ومعارضة احلرب،
والتمرد .إالّ أن القادة االشرتاكيني -الوطنيني األملان من أمثال شايدمان
ونوسكي ،والفرنسيني من أمثال رونوديل وجول غيسر ،مل يفعلوا شيئا حينذاك من
أجل «التكيف مع املشاعر املهيمنة داخل الطبقة العاملة» .ال بل حاولوا على
العكس أن يتحاشوا جبميع الوسائل انفجار اإلضرابات واملظاهرات اجلماهريية،
داخلني يف حكومات حتالف مع الربجوازية ،مساعدينها على قمع الدعاية املعادية
للنزعة العسكرية والداعية لإلضرابات والثورة ،خمربني تطور النضاالت العمالية.
111
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
112
احلرب العاملية األوىل والثورة الروسية
113
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
114
احلرب العاملية األوىل والثورة الروسية
ّأما تروتسكي فقد الحظ ضعف هذا التصور الكامن يف عجز الفالحني املزمن
(الذي وافق عليه لينني بعد عام )1719عن التشكل يف قوة سياسية مستقلة.
فعلى امتداد التاريخ احلديث مبجمله تلتحق طبقة الفالحني على الدوام بقيادة
بورجوازية أو بقيادة بروليتارية .فإذا كانت البورجوازية سوف تنتقل حتما إىل
معسكر الثورة املضادة ،يتوقف مصري الثورة على قدرة الربوليتاريا على اكتساب
اهليمنة السياسية داخل احلركة الفالحية ،وإرساء التحالف بني العمال والفالحني
بقيادهتا هي .بتعبري آخر ،مل يكن يف وسع الثورة الروسية أن تنتصر وتنجز مهامها
الثورية إالّ إذا استولت الربوليتاريا على السلطة السياسية وأقامت دولة عمالية،
مستندة إىل التحالف مع الفالحني الكادحني.
تعلن نظرية الثورة الدائمة هكذا أن املهام التارخيية للثورة الدميوقراطية -
البورجوازية (الثورة الزراعية ،االستقالل القومي ،احلريات الدميوقراطية ،توحيد البالد
ألجل إفساح اجملال أمام ازدهار الصناعة) يف عصر اإلمربيالية ال ميكن أن تتحقق
إالّ عن طريق إرساء ديكتاتورية الربوليتاريا املستندة إىل الفالحني الكادحني ،وذلك
ألن روابط ال حتصى تشد البورجوازية املسماة «قومية» أو «ليربالية» يف البلدان
املتخلفة إىل اإلمربيالية األجنبية من جهة ،وإىل الطبقات املالكة القدمية من جهة
أخرى .إن هذا التوقع الذي صاغه تروتسكي عام 1727قد تأكدت صحته كليا
يف جمرى ثورة 1719الروسية ،كما تأكد كذلك يف جمرى كل الثورات اليت
انفجرت مذ ذاك ،يف البلدان املتخلفة.
إن لينني العائد إىل روسيا من املهجر ملس ملس اليد اإلمكانات الثورية
العظيمة ،فأعاد توجيه احلزب البلشفي عن طريق «موضوعات أبريل» ضمن خط
نظرية الثورة الدائمة :ينبغي النضال من أجل استالم السوفييتات للسلطة ،ومن
أجل إرساء ديكتاتورية الربوليتاريا .هذا املوقف الذي طعن فيه يف البدء القادة
115
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
البالشفة القدامى (ومن بينهم ستالني وكامينيف ومولوتوف) الذين متسكوا بصيغ
عام ،1720وكانوا يرغبون بالتوحد جمددا مع املناشفة وبتقدمي دعم نقدي
للحكومة املؤقتة ،سرعان ما وافق عليه جممل احلزب ،ال سيما حتت ضغط العمال
البالشفة الطليعيني الذين تبنوه تلقائيا حىت قبل أن يصوغه لينني بصورة واعية.
هكذا اندمج أنصار تروتسكي مع البالشفة ،وهبوا مجيعا لكسب أغلبية الشغيلة.
بعد تطورات عديدة (انتفاضة يوليو املبكرة ،واالنقالب الفاشل املعادي للثورة
الذي قام به اجلنرال كورنيلوف يف أغسطس) حتولت تلك األغلبية لصاحل البالشفة
يف سوفييتات املدن الكربى منذ سبتمرب .1719مذ ذاك وضع النضال من أجل
االستيالء على السلطة على جدول األعمال .وهو ما حتقق يف أكتوبر (نوفمرب
حسب التقومي الغريب) بقيادة اللجنة العسكرية الثورية ملدينة برتوغراد ،اليت كان
يرأسها تروتسكي وتنبثق من سوفييت تلك املدينة.
جنح ذلك السوفييت يف أن يضمن مسبقا والء كل الفيالق تقريبا ،املتمركزة
داخل العاصمة القيصرية القدمية ،فلقد رفضت تلك الفيالق أن تطيع هيئة أركان
اجليش البورجوازي .هكذا رأينا أن االنتفاضة اليت تطابق موعدها مع موعد انعقاد
املؤمتر الثاين للسوفييتات لعموم روسيا حتققت تقريبا دون اهراق الدماء .هتاوى إىل
احلضيض جهاز الدولة القدمي واحلكومة املؤقتة ،بينما صوت املؤمتر الثاين
للسوفييتات بأغلبية كربى على انتقال السلطة لسوفييتات العمال والفالحني،
وللمرة األوىل يف التاريخ أقيمت على كامل أرض بلد كبري دولة تتخذ مثاال هلا
كومونة باريس ،دولة عمالية.
توقع تروتسكي يف نظريته عن الثورة الدائمة أنه ال ميكن للربوليتاريا ،بعد أن
تستويل على السلطة ،االكتفاء بتحقيق املهام التارخيية للثورة الدميوقراطية -
الربجوازية ،بل يكون عليها أن تبادر إىل االستيالء على املعامل وإلغاء االستغالل
116
احلرب العاملية األوىل والثورة الروسية
الرأمسايل والبدء ببناء جمتمع اشرتاكي .وهو ما حدث بالفعل يف روسيا بعد أكتوبر
.1719
فربنامج احلكومة اليت تولت السلطة يف املؤمتر الثاين للسوفييتات اكتفى للوهلة
األوىل بإقامة الرقابة العمالية على اإلنتاج ،على أساس أن املهام الفورية لثورة
أكتوبر هي قبل كل شيء إعادة السالم وتوزيع األراضي وحل املسألة القومية
وخلق سلطة سوفياتية حقيقية على كامل األراضي الروسية.
إالّ أن البورجوازية ما لبثت أن بدأت خترب تطبيق سياسة السلطة اجلديدةّ .أما
العمال الذين وجدوا أنفسهم أقوى فلم يتساحموا مع استغالل الرأمساليني ،وال مع
ختريبهم .هكذا مت االنتقال سريعا من إرساء الرقابة العمالية إىل تأميم املصارف
واملعامل الكربى ووسائط النقل .وسرعان ما أصبحت كل وسائل اإلنتاج -ما
خال تلك العائدة إىل الفالحني وصغار احلرفيني -بني أيدي الشعب.
كان على تنظيم اقتصاد قائم على امللكية اجلماعية لوسائل اإلنتاج أن يصطدم
حتما بالعديد من الصعوبات يف بلد شديد التخلف حيث مل تكن الرأمسالية قد
أجنزت ولو من بعيد مهمة خلق األسس املادية لالشرتاكية ،وكان البالشفة واعني
هذه الصعوبة وعيا تاما .إالّ أهنم كانوا على قناعة بأهنم لن يبقوا معزولني ملدة
طويلة ،فالثورة الربوليتارية كانت على وشك االندالع يف العديد من البلدان
املتقدمة صناعيا ،والسيما يف أملانيا .إن االندماج بني الثورة الروسية والثورة األملانية
والثورة اإليطالية كان قادرا على خلق قاعدة انطالق مادية ال تتزعزع لبناء جمتمع ال
طبقي.
لقد برهن التاريخ على أن تلك اآلمال مل تكن من دون أساس ،فالثورة
انفجرت عمليا يف أملانيا ،وكانت إيطاليا يف وضع شبيه جدا بني عامي 1717
و .1702وقد لعبت الثورة الروسية دورها كمفجر ومنوذج حمفز للثورة االشرتاكية
العاملية .إن االشرتاكيني -الدميوقراطيني الروس األوروبيني الذين سخروا فيما بعد
معتربين أن «أحالم» لينني وتروتسكي حول الثورة العاملية كانت من دون أساس،
117
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
وأنه حمكوم على الثورة الروسية أن تنعزل ،وأنه من قبيل الطوباوية التفكري ببناء
اقتصاد اشرتاكي يف بلد متخلف ،إمنا ينسون أن هزمية الصعود الثوري لعامي
1702-1717يف أوروبا الوسطى مل تكن نامجة إطالقا عن غياب النضاالت أو
العنفوان الثوري لدى اجلماهري ،بل عن الدور املضاد للثورة الذي لعبته االشرتاكية
-الدميوقراطية العاملية عن سابق تصور وتصميم.
هبذه املعىن ،فإن لينني وتروتسكي ورفاقهما بقيادهتم لربوليتاريا بلد أول حنو
االستيالء على السلطة السياسية ،فعلوا الشيء الوحيد الذي ميكن أن يفعله
ماركسيون ثوريون لتعديل موازين القوى لصاحل طبقتهم ،أال وهو االستغالل العميق
للفرص األكثر مناسبة اليت توجد يف بلد من البلدان ،من أجل إطاحة سلطة رأس
املال .وهذا ال يكفي حبد ذاته لتقرير مصري الصراع األممي بني رأس املال والعمل،
إالّ أنه يشكل يف كل حال الوسيلة الوحيدة للتأثري على مصري هذا الصراع يف اجتاه
مالئم ملصاحل الربوليتاريا.
المراجع:
لينني ،خطتا االشتراكية -الديموقراطية.
لينني ،الكارثة المحدقة وكيف نواجهها.
لينني ،هل يحتفظ البالشفة بالسلطة ؟
روزا لوكسمبورغ ،كراس جونيوس.
روزا لوكسمبورغ ،الثورة الروسية.
ليون تروتسكي ،تصورات ثالثة للثورة الروسية /خطاب كوبنهاغن
(( .)1732ومها ملخصان لنظرية الثورة الدائمة)
ليون تروتسكي ،تاريخ الثورة الروسية.
ليون تروتسكي ،الثورة الدائمة.
118
()12
الستالينية
.1إخفاق الصعود الثوري ألعوام 1723-1718في أوروبا
119
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
يتحقق على اإلطالق) أن حترف الشغيلة عن النضال ألجل السلطة .كما مل
ترتدد كذلك يف تنظيم العنف املعادي للثورة ،ال سيما عن طريق تنظيم الفرق
غري النظامية اليت دعاها نوسكي للنجدة يف مواجهة الثورة األملانية ،ولقد
كانت تلك الفرق نواة العصابات النازية الحقا.
-إن األحزاب الشيوعية الفتية اليت أسست األممية الثالثة كانت تنقصها التجربة
والنضج فاقرتفت العديد من األخطاء «اليسارية» أو اليمينية.
إن البورجوازية اليت أرعبها شبح الثورة قدمت تنازالت اقتصادية مهمة للشغيلة
دفعة واحدة ،السيما يوم العمل من مثاين ساعات واالقرتاع العام يف بلدان عدة،
وهو ما أوقف الصعود الثوري يف العديد من تلك البلدان .لقد انتهت االخفاقات
األوىل للثورة هبزائم دامية يف هنغاريا حيث رافق سحق مجهورية اجملالس اهراق دم
غزير ،كما يف إيطاليا حيث استولت الفاشية على السلطة عام .1700إالّ أن
تقوى تدرجييا واكتسب قاعدة مجاهريية أكثر فأكثر احلزب الشيوعي يف أملانيا ّ
اتساعا ،وانطلق يف 170,-1700لكسب النقابات الكربى وجمالس املشاريع.
ولقد كان عام 170,عام أزمة ثورية استثنائية يف البلد املذكور ،فاجليش
الفرنسي احتل الروهر ،وتفاقم التضخم ،وانفجر إضراب عام ظافر جنح يف قلب
احلكومة ،كما تشكلت حكومة حتالف بني االشرتاكيني اليساريني والشيوعيني يف
ساكس وتورينج .إالّ أن احلزب الشيوعي الذي أساءت األممية الشيوعية نصحه
فشل يف التنظيم املنهجي لالنتفاضة املسلحة يف اللحظة املناسبة ،فاستطاع رأس
املال الكبري أن يعيد تثبيت الوضع واستقرار املارك ،وأن يعيد إىل السلطة حتالفا
بورجوازيا ،مما أدى إىل وضع حد لألزمة الثورية ملا بعد احلرب.
121
الستالينية
اخنفض بشكل ذريع وأصابت اجملاعة مناطق واسعة من البالد .وبانتظار صعود
جديد للثورة العاملية ،ومن أجل تقدمي العالج هلذا الوضع ،قرر لينني وتروتسكي
القيام برتاجع اقتصادي .فلقد أبقى على امللكية املؤممة مبا خيص الصناعة الكربى
مبجملها واملصارف ونظام النقل ،إالّ أنه أعيدت حرية التجارة بصدد الفوائض
الزراعية بعد متام دفع الضريبة العينية ،باإلضافة إىل األعمال احلرفية والتجارة
والطناعية الصغرية اخلاصة.
كان البالشفة ينظرون إىل ذلك على أنه جمرد عمل مؤقت حسبوا خماطره على
الصعيد االقتصادي ،إذ أنه كان بإمكان الربجوازية الصغرية املغتنمة أن تعيد
باستمرار إنتاج الرتاكم الرأمسايل اخلاص .إالّ أن النتائج االجتماعية والسياسية
النعزال الثورة الربوليتارية يف بلد متخلف كانت أكثر رهبة من تلك املخاطر
االقتصادية .وهي تتلخص كالتايل :لقد فقدت الربوليتاريا الروسية يوما بعد يوم
املمارسة املباشرة للسلطة السياسية واالقتصادية .بدأت شرحية جديدة ذات
امتيازات تعتلي ظهرها ،وقد اكتسبت هذه البريوقراطية احتكارا حقيقيا ملمارسة
السلطة يف كل حقول اجملتمع.
مل تكن تلك السريورة نتيجة مؤامرة عن سابق تصور وتصميم ،بل جنمت عن
تفاعل جمموعة من العوامل .فلقد ضعفت الربوليتاريا عدديا بفعل اخنفاض اإلنتاج
الصناعي والنزوح إىل الريف ،كما فقدت تسيسها جزئيا حتت وطأة اجلوع
واحلرماناتّ .أما عناصرها األكثر وعيا فامتصها اجلهاز السوفيايت ،وكان الكثري من
أفضل أفرادها قد سقطوا يف احلرب األهلية .إن تلك الفرتة املضطربة مبجملها مل
تكن مناسبة لتكوين الكادرات املتميزة تقنيا وثقافيا داخل الطبقة العاملة .هكذا
احتفظت األنتليجنسيا البورجوازية الصغرية والبورجوازية باحتكارها للمعارف ،ذلك
أن فرتة قحط عظيم مالئمة الكتساب امتيازات مادية والدفاع عنها.
ال نعتقد أن هذه السريورة قد بقيت خارج إدراك املاركسيني الثوريني الروس،
فمنذ عام 1702قرعت املعارضة العمالية داخل احلزب الشيوعي السوفيايت جرس
121
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
اإلنذار ،وطرحت يف الوقت ذاته حلوال غري مناسبة إىل حد بعيد .ومنذ عام
1701أصبح شغل لينني الشاغل التفكري باخلطر البريوقراطي ،وكان يسمي الدولة
الروسية دولة عمالية مشوهة بريوقراطيا ويشري شبه عاجز إىل سطوة البريوقراطية
الوليدة على جهاز احلزب بالذات .ومنذ عام 170,تشكلت املعارضة اليسارية
الرتوتسكية اليت سوف جتعل من النضال ضد البريوقراطية نقطة من النقاط
األساسية يف برناجمها.
وقد يكون من قبيل اخلطأ االعتقاد أن صعود البريوقراطية السوفياتية ميثل ظاهرة
حتمية ،فإذا كانت تغرز جذورا عميقة يف الواقع االجتماعي واالقتصادي الروسي
يف أوائل العشرينات ،فقد كان ممكنا يف الوقت ذاته جماهبتها مع حظوظ جناح
حقيقية .كان برنامج املعارضة اليسارية الرتوتسكية يتجه مبجمله خللق شروط
مالئمة لتقومي الوضع من جديد.
أ .عن طريق تسريع تصنيع روسيا ،بزيادة الوزن النوعي للربوليتاريا يف اجملتمع.
ب .بزيادة األجور ومكافحة البطالة بغية تنمية ثقة اجلماهري العمالية بذاهتا.
ج .بالتوسيع الفوري للدميوقراطية السوفياتية والدميوقراطية داخل احلزب ،بغية رفع
مستوى النشاط السياسي ومستوى وعي الربوليتاريا الطبقي.
د .بزيادة حدة التمايز داخل الفالحني ،عن طريق مساعدة الفالحني الفقراء عرب
تقدمي قروض وآالت زراعية اليهم يف بناء تعاونيات إنتاجية ،وفرض ضرائب
تصاعدية على الفالحني األغنياء.
هـ .باإلبقاء على التوجه شطر الثورة العاملية ،وبتصحيح األخطاء التكتيكية
واالسرتاتيجية للكومنرتن.
لو فهم جممل القادة والكادرات البالشفة ضرورة إجناز برنامج من هذا النوع
وإمكان ذلك ،لكانت إعادة إطالق السوفييتات وممارسة الربوليتاريا للسلطة ممكنة
منذ أواسط العشرينات .إالّ أن معظم كادرات احلزب كانوا قد اخنرطوا من جانبهم
122
الستالينية
يف سريورة البقرطة .معظم القادة تأخروا كثريا يف فهم خطر املميت لصعود
البريوقراطية .إن ضعف «العامل الذايت» (أي احلزب الثوري) انظم إىل الشروط
املوضوعية املالئمة ،لتفسري انتصار البريوقراطية الستالينية يف االحتاد السوفيايت.
ليست البريوقراطية طبقة مسيطرة جديدة .وهي ال تلعب أي دور ضروري يف
سريورة اإلنتاج .إهنا شرحية ذات امتيازات اغتصبت ممارسة وظائف اإلدارة يف
الدولة واالقتصاد السوفياتيني ،ومتنح لنفسها على أساس احتكار السلطة هذا
منافع وفرية يف حقل االستهالك (أجور مرتفعة ،منافع عينية ،خمازن خاصة ،اخل).
ليست مالكة لوسائل اإلنتاج ،وال متلك أي ضمانة لالحتفاظ بتلك املنافع أو
توريثها ألوالدها ،إمنا كل شيء مرتبط مبمارسة وظائف نوعية خاصة.
إهنا شرحية اجتماعية متميزة من الربوليتاريا تقيم سلطتها على مكاسب ثورة
أكتوبر االشرتاكية ،كتأميم وسائل اإلنتاج والتخطيط االقتصادي واحتكار الدولة
للتجارة اخلارجية .وهي حمافظة كما احلال مع أي بريوقراطية عمالية ،إهنا تضع
احلفاظ على ما مت اكتسابه فوق كل مشروع يرمي إىل التوسع باملكاسب الثورية.
إهنا ختاف من الثورة العاملية اليت قد تؤدي إىل إنعاش النشاط السياسي
للربوليتاريا السوفييتية وتدمري سلطة البريوقراطية على هذا األساس .من هنا فهي
ترغب يف احلفاظ على الوضع القائم العاملي .إال أهنا تبقى ،من حيث هي شرحية
اجتماعية ،ضد إعادة الرأمسالية إىل االحتاد السوفيايت ،ذلك أن هذه قد تدمر
أسس امتيازاهتا بالذات (وهو ما ال مينع البريوقراطية من أن تكون الوسط املالئم
لنمو جمموعات ثانوية واجتاهات فرعية ميكن أن حتاول التحول إىل رأمساليني
جدد).
ليس االحتاد السوفيايت جمتمعا اشرتاكيا ،أي جمتمعا بال طبقات .إنه ما يزال،
متاما كما غداة ثورة أكتوبر ،1719جمتمعا انتقاليا بني الرأمسالية واالشرتاكية،
123
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
وميكن أن تتم إعادة الرأمسالية فيه ،لكن على أساس ثورة مضادة اجتماعية .كما
ميكن باملقابل إعادة إرساء السلطة املباشرة للشغيلة فيه ،لكن على أساس ثورة
سياسية تكسر احتكار ممارسة السلطة بأيدي البريوقراطية.
رغم أن االقتصاد السوفيايت هو نظام «سيطرة البريوقراطية على املنتجني»،
ورغم أنه أعطى األولوية زمنا طويال لتطور اآلالت على حساب استهالك
اجلماهري ،فهو ال يستحق وصمه بـ«الرأمسالية» .إن الرأمسالية نظام نوعي خاص
للسيطرة الطبقية ،يتصف بامللكية اخلاصة لوسائل اإلنتاج ،وباملنافسة واإلنتاج
البضاعي املعمم ،وبالطابع البضاعي لقوة العمل ،وحبتمية األزمات الدورية لفيض
اإلنتاج املعمم ،وحنن ال جند أيا من هذه املالمح األساسية يف االقتصاد السوفيايت.
إالّ أنه إذا مل يكن االقتصاد السوفيايت رأمساليا فهو ليس اشرتاكيا أيضا ،على
األقل باملعىن التقليدي للكلمة ،كما يتبني من كتابات ماركس واجنلز ولينني
بالذات .فاالقتصاد االشرتاكي يتحدد بنظام املنتجني املتشاركني الذين ينظمون
بأنفسهم حياهتم اإلنتاجية واالجتماعية عن طريق وضع تسلسل يف احلاجات اليت
ينبغي كفايتها تبعا للموارد اليت يف حوزهتم ولوقت العمل الذي هم مستعدون
لتكريسه للجهد اإلنتاجي ،واالحتاد السوفيايت على بعد بعيد عن هذا الوضع .إن
اقتصادا اشرتاكيا يتحدد بزوال كل إنتاج بضاعي ،وماركس واجنلز يوضحان أن
هذا الزوال ليس خاصا «باملرحلة الثانية» من اجملتمع الال طبقي ،اليت تطلق عليها
عادة تسمية «املرحلة الشيوعية» ،بل هو من مسات املرحلة األوىل املسماة
«اشرتاكية» ،وذلك على عكس العقيدة املعتمدة رمسيا يف االحتاد السوفيايت.
إن ستالني الذي فضل النظرية املضادة للماركسية حول اإلمكانية املزعومة
إلجناز بناء االشرتاكية يف بلد واحد ،إمنا كان يعرب بصورة جتريبية عن النزعة احملافظة
الربجوازية الصغرية لدى البريوقراطية السوفياتية املؤلفة من خليط من املوظفني
القدامى يف الدولة الربجوازية ومن حمدثي النعمة يف جهاز الدولة السوفياتية
124
الستالينية
.4ما هي الستالينية ؟
125
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
126
الستالينية
إالّ أن املناورات التكتيكية الستالينية اليت سامهت يف هزمية كذا من الثورات يف
العامل ،واليت سهلت وصول هتلر إىل السلطة يف أملانيا عام ،17,,وحكمت
على الثورة اإلسبانية لعام 17,7باهلزمية ،وأجربت اجلماهري الشيوعية الفرنسية
واإليطالية على إعادة بناء الدولة البورجوازية واالقتصاد الرأمسايل يف بالدها ما بني
1744و ،1747وأدت إىل سحق احلركة الثورية يف أندونيسيا والربازيل والشيلي
والعديد من البلدان األخرى مذ ذاك ،ال تتوافق إطالقا مع مصاحل االحتاد
السوفيايت كدولة ،بل مع املصاحل الضيقة املتعلقة بالدفاع عن امتيازات البريوقراطية
السوفياتية املتناقضة يف كل من تلك احلاالت مع املصاحل احلقيقية لالحتاد
السوفيايت.
.5أزمة الستالينية
إن احندار الثورة العاملية بعد عام 170,والوضع املتخلف لالقتصاد السوفيايت
مها الدعامتان الرئيسيتان لسلطة البريوقراطية يف االحتاد السوفيايت ،وهاتان
الدعامتان قد تآكلتا تدرجييا منذ هناية األربعينات.
فلقد تال عشرين عاما من هزائم الثورة صعود جديد للثورة العاملية ،احنصر يف
البدء يف بلدان متخلفة هي األخرى (يوغسالفيا ،الصني ،فيتنام ،كوبا) ،إالّ أنه
امتد إىل الغرب منذ مايو .177,وبعد سنوات من جهود «الرتاكم االشرتاكي»،
توقف االحتاد السوفيايت عن أن يكون بلدا متخلفا ،إذ هو اليوم القوة الصناعية
الثانية يف العامل ،ويبلغ املستوى التقين والثقايف فيه مستوى العديد من البلدان
الرأمسالية املتقدمةّ .أما الربوليتاريا السوفياتية فهي ،إىل جانب بروليتاريا الواليات
املتحدة ،الربوليتاريا األقوى من حيث العدد.
ضمن هذه الشروط ،بدأت تزول أسس سلبية اجلماهري يف البلدان اليت تسيطر
عليها البريوقراطية السوفياتية ،حيث تتوافق مع انتعاش النشاطات املعارضة
انقصافات داخل البريوقراطية بالذات اليت ختضع ،منذ القطيعة بني ستالني وتيتو
127
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
عام ،174,لسريورة متايز متنامية .إن التداخل بني العاملني يشجع على فورات
مفاجئة للنشاط السياسي اجلماهريي تنطلق على طريق الثورة السياسية ،كما
حدث يف أكتوبر -نوفمرب 1707يف هنغاريا ،أو خالل «ربيع براغ» عام
177,يف مجهورية تشيكوسلوفاكيا االشرتاكية.
جرى إىل اآلن قمع هذه احلركات اجلماهريية عرب التدخل العسكري
للبريوقراطية السوفياتية ،إالّ أنه مبقدار ما تنضج هذه السريورات ذاهتا يف االحتاد
السوفيايت فلن يكون بإمكان أية قوة خارجية أن توقف أمواج الثورة السياسية يف
أوروبا الشرقية واالحتاد السوفيايت ،وسوف يعاد إرساء الدميوقراطية السوفياتية ،ويتم
التحطيم النهائي ألي خطر يهدد بعودة الرأمسالية .سوف ميارس السلطة السياسية
الشغيلة والفالحون الكادحون ،كما سيصبح النضال من أجل الثورة االشرتاكية يف
سائر أحناء العامل أسهل مبا ال يقاس.
.6اإلصالحات االقتصادية
بعد موت ستالني ،والسيما يف بداية الستينات ،بدأت حركة إصالح واسعة
لطرائق التخطيط والتسيري يف االحتاد السوفيايت ويف العديد من «الدميوقراطيات
الشعبية» .وقد كانت اإلصالحات األكثر إحلاحا يف ميدان الزراعة ،حيث كان
إنتاج املواد الغذائية على أساس الفرد عند وفاة ستالني أدىن بعض األحيان مما كان
عليه عام ،170,وأدىن فيما خيص اإلنتاج احليواين ،مما كان عليه يف عهد
القياصرة .استهدفت تدابري متتالية إثارة اهتمام الفالحني ،وعقلنة استخدام
اآلالت الزراعية (اليت بيعت للكوخلوزات) ،وإقامة مزارع دولة عمالقة على
«األراضي البكر» يف كازاخستان ،واملضاعفة الكثيفة للتثمريات يف الزراعة.
ّأما اإلصالحات على صعيد الصناعة فكانت أكثر بطءا وترددا ،فالضرورة
املوضوعية لتلك اإلصالحات جنمت عن أزمة منو االقتصاد السوفيايت وعن
اخنفاض يف نسبة النمو السنوية لإلنتاج الصناعي ،وهي تتوافق مع نفاذ احلوافز
128
الستالينية
اليت مسحت بالتسيري كيفما أتفق لعملية التصنيع الواسع ،أي دون بذل جهد
لتوفري أقصى ما ميكن من نفقات اليد العاملة ،واملواد األولية واألراضي .لقد أدى
استنفاد االحتياطي لضرورة اعتماد حساب أكثر دقة ،وخيار أكثر عقالنية بني
خمتلف مشاريع التثمريات .إن ازدهار االقتصاد ومضاعفة املشاريع وموارها هددا
بزيادة التبذير إىل احلد األقصى ما مل يتم اعتماد طرائق إدارة وختطيط أكثر
عقالنية.
إن ضغط اجلماهري الكادحة اليت أهنكتها عقود من التضحيات والتوترات
وترغب يف حتسني استهالكها وتنويعه ،باإلضافة إىل ضرورة االقرتاب بالقرارات -
على مستوى الصناعة اخلفيفة -من تلك الرغبات االستهالكية ،قد فعال فعلهما
يف االجتاه ذاته .وقد شجع عنصر آخر أيضا السعي وراء االصالحات ،ونقصد
بذلك التأخر التكنولوجي املتناهي بالنسبة للثورة التكنولوجية الثالثة لالقتصاد
الرأمسايل ،وهو تأخر ناجم عن نظام حوافز مادية بالنسبة للبريوقراطية يثبط اهلمم
إزاء االختبار والتجديد على صعيد التكنولوجيا ،لذا مت تعديل شكل تلك احلوافز
ُمذ ذاك .لقد جرى االعتقاد باحلؤول دون تبذير املواد األولية وقوة العمل
وبتشجيع استخدام للتجهيز أكثر عقالنية ،عن طريق ربط العالوات املقدمة
للمديرين بـ«الربح» (الفرق بني سعر الكلفة وسعر املبيع) املفرتض أنه «يؤلف»
النتيجة اإلمجالية النهائية للمشروع ،بدل ربطها باإلنتاج اخلام املعرب عنه
مبصطلحات مادية .كانت النتائج متواضعة ،لكن إجيابية يف الصناعة اخلفيفة ،إالّ
أهنا مل تعدل أبدا يف طبيعة النظام اهلجينة ،ألن أسعار املبيع ظلت حتددها
سلطات اخلطة املركزية.
إن أمهية تلك اإلصالحات مجيعا حمدودة ،بقدر ما ال حتل املشكلة األساسية،
فما من «آلية اقتصادية» ،خارج الرقابة الدميوقراطية والعامة اليت ميارسها مجهور
املنتجني واملستهلكني ،ميكنها أن تبلغ احلد األقصى من املردود مقابل احلد األدىن
من اجلهود .كل إصالح مييل إىل إحالل شكل جديد من التعسفات البريوقراطية
129
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
والتبذيرات حمل الشكل السابق ،وليس هناك من عقلنة إمجالية للتخطيط ممكنة يف
ظل سلطة البريوقراطية وانتفاعها املادي املعترب حمركا رئيسيا لتنفيذ اخلطة .إن
اإلصالحات مل تعد الرأمسالية ومل تعد إدخال ربح املشاريع كدليل لقرارات التثمري،
إالّ أهنا زادت من تناقضات النظام الداخلية .فمن جهة زادت من حدة اندفاع
جناح من البريوقراطية لصاحل استقالل أكرب ملديري املعامل ،وألغت بعض مكاسب
الطبقة العاملة من مثل ضمان حق العمل ،وزادت من جهة أخرى من حدة
مقاومة الشغيلة للميول إىل حتطيم تلك املكتسبات واالقتصاد املخطط.
.7الماوية
كان انتصار الثورة الصينية الثالثة عام 1747أهم انتصار حققته الثورة العاملية
منذ انتصار ثورة أكتوبر االشرتاكية .فهو كسر التطويق الرأمسايل لالحتاد السوفيايت
وحفز حفزا عظيما سريورة الثورة الدائمة يف آسيا وأفريقيا وأمريكا الالتينية ،وعدل
موازين القوى بشكل حمسوس على املستوى العاملي على حساب اإلمربيالية .ولقد
مت ذلك االنتصار ألن القيادة املاوية للحزب الشيوعي الصيين قطعت على مستوى
املمارسة مع اخلط الستاليين القائل بـ«كتلة الطبقات األربع» وبالثورة على مراحل،
وقادت انتفاضة زراعية واسعة واجتهت حنو تدمري اجليش والدولة الربجوازية ،رغم
إعالناهتا املؤيدة لتحالف مع تشانغ كاي تشيك.
إالّ أن هذه الثورة الظافرة كانت منذ البدء مشوهة بريوقراطيا ،فالقيادة املاوية
ح ّدت من نشاط الربوليتاريا املستقل ،إذا مل متنعه منعا تاما ،والدولة العمالية اليت
أقيمت مل يتم إرساؤها على أساس اجملالس العمالية والفالحية املنتخبة دميوقراطيا.
انتشرت أشكال إدارة وامتيازات بريوقراطية تتشبه بتلك القائمة يف روسيا
الستالينية .وهو ما أدى إىل استياء متنام لدى اجلماهري ،السيما اجلماهري العمالية
والشابة ،سعى ماو إىل احتوائه عن طريق تفجري «الثورة الثقافية الربوليتارية
الكربى» بني عامي 1774و.1770
131
الستالينية
131
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
البريوقراطية .وهي إذ متاثل بصورة غري مسؤولة وغري علمية بني «البريوقراطية»
و«بورجوازية الدولة» يف االحتاد السوفيايت ،تربر مسبقا كل انعطافات السياسة
اخلارجية الصينية واجملموعات املاوية ،إىل حد وضع اإلمربيالية األمريكية واالحتاد
السوفيايت ،واألحزاب الربجوازية واألحزاب الشيوعية ،على قدم املساواة ،ال بل إىل
حد اعتبار االحتاد السوفيايت واألحزاب الشيوعية «العدو الرئيسي للشعوب»،
عارضة التحالف مع القوى اإلمربيالية العظمى واألحزاب البورجوازية يف وجه
االحتاد السوفيايت واألحزاب الشيوعية .زد على أن هذه التكتيكات تستند إىل
املوضوعة اليت تقول أن معظم البلدان الرأمسالية ليست اليوم إزاء مهمة الثورة
االشرتاكية ،بل فقط إزاء مهمة «النضال من أجل االستقالل القومي يف مواجهة
القوى العظمى».
إن الطابع االعتباطي هلذه النظريات مجيعا ،اليت ليست يف هناية املطاف أكثر
من تربيرات الحقة ملناورات بيكني الديبلوماسية ،متد جذورها يف تشويه املاركسية
املثايل واإلرادي ،فبحجة مكافحة «النزعة االقتصادية» اليت هي املراجعة
«األخطر» للماركسية ،يتوقف «املاويون األورثوذكسيون» عن اعتبار الطبقات
االجتماعية كحقائق موضوعية حتددها عالقات اإلنتاج اليت تعقدها يف إنتاجها
حلياهتا املادية .جتري مماثلة الطبقات االجتماعية مع خيارات إيديولوجية ،وال تعود
الربوليتاريا جمموع من حيصلون على أجور لقاء عملهم ،بل أولئك الذين «يسريون
وفقا خلط ماو تسي تونغ» .وهبذه الطريقة جتري مماثلة تيارات ذات أيديولوجية
بورجوازية أو بورجوازية صغرية داخل الطبقة العاملة مع «البورجوازية» أو
«ممثليها» ،والنضال األيديولوجي داخل احلركة العمالية مع «الصراع الطبقي بني
الربوليتاريا والبورجوازية» .يشكل ذلك مذ ذاك ركيزة رفض الدميوقراطية العمالية،
وتربير استخدام العنف والقمع داخل احلركة العمالية ،ورفض كل الرتاث املاركسي
-اللينيين للنضال من أجل اجلبهة املوحدة للمنظمات العمالية يف وجه العدو
الطبقي املشرتك .تتم مماثلة ديكتاتورية الربوليتاريا مع «فكر ماو تسي تونغ»،
132
الستالينية
وميارسها «حزب ماو تسي تونغ» .هكذا تغلق احللقة ،وبعد الدخول يف حرب
ضد سلطة البريوقراطية يف االحتاد السوفيايت ،تنتهي القيادة املاوية إىل تنصيب نظام
قيادة بريوقراطية شبيهة جدا بتلك املوجودة يف االحتاد السوفيايت ،حىت ولو
أحاطت هبا هبارج «دميوقراطية مباشرة» و«مشاركة» مجاهريية باختاذ القرارات .وال
يقل رفض ماو عن رفض ستالني أو خروتشيف أو برجينيف للنظرية اللينينية حول
ديكتاتورية الربوليتاريا كديكتاتورية مرتكزة إىل ممارسة السلطة من جانب جمالس
العمال والفالحني املنتخبة انتخابا حرا ودميوقراطيا.
المراجع:
أرنست ماندل ،حل البيروقراطية.
ل .تروتسكي ،دروس أكتوبر.
ل .تروتسكي ،المجرى الجديد.
ل .تروتسكي ،الثورة المغدورة.
م .ليفن ،معركة لينين األخيرة.
موضوعات املؤمتر الرابع واخلامس لألممية الرابعة :صعود الستالينية وانحدارها
-انحدار الستالينية وسقوطها.
مسيزدات أ (منشورات سوي).
بولونيا -هنغاريا ( 1756منشورات F.D.Iباريس).
133
()13
من النضاالت الجارية التي تخوضها الجماهير
إلى الثورة االشتراكية العالمية
منذ احلرب العاملية األوىل والشروط املادية الضرورية لقيام جمتمع اشرتاكي قيد
الوجود .فاملنشأة الكبرية أصبحت قاعدة اإلنتاج ،والتقسيم العاملي للعمل بلغ
مستوى عاليا ،وحتقق التداخل بني البشر مجيعا « -التشريك املوضوعي للعمل»
-إىل حد بعيد .مذ ذاك أصبح ممكنا من الناحية املوضوعية استبدال نظام امللكية
اخلاصة واملنافسة واقتصاد السوق بنظام قائم على التشارك بني مجيع املنتجني
وختطيط االقتصاد بغية حتقيق أغراض خمتارة حبرية.
134
من النضاالت اجلارية اليت ختوضها اجلماهري إىل الثورة االشرتاكية العاملية
135
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
136
من النضاالت اجلارية اليت ختوضها اجلماهري إىل الثورة االشرتاكية العاملية
التدخل املتواصل يف نضاالت اجلماهري بغية الوصول هبا إىل أن تتبىن عمليا برنامج
العمل هذا ،وبغية تزويد تلك النضاالت بأشكال تنظيم تؤول إىل خلق جمالس
عمالية.
إن ضرورة قيام أممية ثورية ،هي أكثر من مجع أحزاب ثورية قومية ،ضرورة
ترتكز إىل قواعد مادية صلبة .فالعصر اإلمربيايل هو عصر االقتصاد والسياسة
واحلروب العاملية ،واإلمربيالية هي نظام عاملي متمفصل ،وقوى اإلنتاج أصبحت
دولية منذ زمن بعيدّ .أما رأس املال فينتظم يوما بعد يوم على املستوى الدويل يف
تروستاته الكبرية متعددة اجلنسيات ،والدولة القومية صارت منذ زمن بعيد عائقا
دون التطورات الالحقة لإلنتاج واحلضارة .من هنا ال ميكن حل مشكالت
اإلنسانية إالّ على املستوى العاملي ،تلك املشكالت اليت خنتصرها باألمور التالية:
احلؤول دون احلرب النووية العاملية ،سد جوع نصف الكرة اجلنويب ،ختطيط النمو
االقتصادي ،التوزيع العادل للموارد واملداخيل بني الشعوب مجعاء ،محاية البيئة،
وضع العلم يف خدمة اإلنسان.
إنه ملن قبيل الطوباوية أن نريد ضمن هذه الشروط التقدم حنو االشرتاكية
فرادى ،أن نريد اإلجهاز على خصم منظم عامليا فيما حنتقر كل تنسيق أممي
للمشروع الثوري ،ال بل أن نريد مواجهة تروستات متعددة اجلنسيات عرب
نضاالت عمالية مقصورة على بلد واحد.
أضف إىل ذلك أن للنضاالت الثورية اجتاها موضوعيا وعفويا لالمتداد على
املستوى الدويل ،ال فقط ردا على تدخالت مضادة للثورة من جانب العدو
الطبقي ،بل كذلك ،على وجه اخلصوص ،بفعل احلافز الذي متارسه على شغيلة
العديد من البلدان .إن التأخري املتواصل خللق منظمة أممية حقيقية للثوريني ال يعين
التأخر فقط بالنسبة للضرورات املوضوعية لعصرنا بل كذلك بالنسبة لالجتاهات
العفوية للقطاعات اجلماهريية األكثر تقدما.
137
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
يف إطار الصعود اجلديد للنضاالت العمالية ولتجذر الشبيبة عرب العامل منذ
هناية الستينات ،الذي يرمز إليه مايو 177,يف فرنسا ،متكنت األممية الرابعة من
مضاعفة قواها بشكل حمسوس .إهنا اآلن موجودة يف 70بلدا ،ويف كل القارات.
عشرون من منظماهتا شهدت تطورا ذا شأن إذ حققت انغراسا حقيقيا وسط
اجلماهري ،وشاركت أحيانا من مستوى القيادة ،يف نضاالت طبقية مهمة .نشري يف
هذا اجملال إىل دور الرتوتسكيني الفرنسيني يف مايو 177,ويف تشكيل طليعة
عمالية ونقابية جديدة مذ ذاك .وإىل دور الرتوتسكيني األمريكيني يف التعبئة ضد
احلرب القذرة يف فيتنام ! وإىل دور الرتوتسكيني اإلسبانيني يف تكوين طليعة ثورية
جديدة ! وإىل دور الرتوتسكيني األرجنتينيني واملكسيكيني والكولومبيني يف خلق
تيار طبقي داخل احلركة اجلماهريية يف بلداهنم ! وإىل دور الرتوتسكيني السيالنيني
يف إعادة إطالق اليسار العمايل بعد احندار القيادة القدمية للحركة العمالية إىل
حضيض التعاون الطبقي .تلك األدوار تشكل بعض النتائج الرئيسية اليت مت
التوصل إليها ما بني 177,و.1799
138
من النضاالت اجلارية اليت ختوضها اجلماهري إىل الثورة االشرتاكية العاملية
األجور ،ميكن لرفع األسعار أن يبقي األرباح عند مستواها األصلي ،وإذا مت احلد
من دوام العمل ميكن تسريع وثريته ،وإذا انتزع الشغيلة تدابري ضمان اجتماعي
ميكن مضاعفة الضرائب اليت تصيب مداخيلهم ،حبيث يدفعون بذاهتم ما يبدو أن
الدولة متنحهم إياه ،اخل.
من أجل اخلروج من هذه الدائرة املفرغة ،ينبغي دفع اجلماهري لتضع ألنفسها
أهدافا لنضاالهتا اجلارية تتمثل مبطالب انتقالية يتعارض حتقيقها مع املسار الطبيعي
لالقتصاد الرأمسايل والدولة الربجوازية ،وينبغي أن تصاغ هذه املطالب حبيث
تفهمها اجلماهري ،وإالّ بقيت حربا على ورق .يلزم أن تكون يف الوقت ذاته قادرة
على أن تثري مبضموهنا ،وباتساع النضاالت اليت تستثريها ،رفضا إمجاليا للنظام
الرأمسايل ووالدة أجهزة من النموذج السوفيايت ،أجهزة ازدواجية سلطة .ليست
املطالب االنتقالية صاحلة فقط يف فرتة األزمة الثورية احلادة -ومن بينها مطلب
الرقابة العمالية -بل هي تتجه على وجه التحديد حنو توليد هكذا أزمة ثورية ،عرب
دفع الشغيلة إىل رفض النظام الرأمسايل ،سواء على املستوى العملي أو على
مستوى وعيهم.
بفعل تأخر الثورة االشرتاكية يف البلدان الصناعية املتقدمة جتد الربوليتاريا العاملية
نفسها يف مواجهة مهام خمتلفة يف أجزاء خمتلفة من العامل.
ففي البلدان املستعمرة وشبه املستعمرة ،ال ميكن للشغيلة والفالحني الفقراء أن
ينتظروا هرع عمال البلدان املصنعة ملساعدهتم .إن اندالع نضاالت مجاهريية
وحركات ثورية واسعة أمر حمتوم بفعل العبء الثقيل من القمع والبؤس الذي فرضته
اإلمربيالية على اجلماهري العمالية والفالحية يف تلك البلدان .على الشغيلة أن
يدعموا كل حركة مجاهريية معادية لإلمربيالية ،سواء كانت موجهة ضد السيطرة
األجنبية أو ضد االستغالل الذي متارسه الرتوستات األجنبية ،وسواء استهدفت
139
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
الثورة الفالحية أو تصفية ديكتاتوريات حملية دموية .إن الربوليتاريا اليت اكتسبت
القيادة السياسية لتلك احلركات اجلماهريية ،بفضل حزمها واجتهادها يف تبين
املطالب التقدمية لكل طبقات األمة وشرائحها املستغلة ،إمنا تقاتل ألجل استالم
السلطة ،ولتطيح يف الوقت ذاته مبلكية الربجوازية الصناعية وسلطتها.
ويف البلدان العمالية املتبقرطة ،تنتفض اجلماهري من أجل انتزاع حريتها
الدميوقراطية ،وذلك يف وجه احتكار ممارسة السلطة من جانب البريوقراطية ،وضد
انبعاث االضطهاد القومي ،وضد الفوضى والتبذير واالمتيازات املادية املالزمة
للتسيري البريوقراطي لالقتصاد .إهنا تطالب بتسيري الدولة العمالية بواسطة الشغيلة
أنفسهم ،املنظمني يف جمالسهم (السوفييتات) ،وبتسيري االقتصاد املخطط عن
طريق نظام جمالس شغيلة ممركز دميوقراطيا.
أما يف البلدان اإلمربيالية فتتحول حركات اجلماهري ضد االستغالل الرأمسايل
والتضييق على احلريات الدميوقراطية أو إلغائها ،بفضل الربامج االنتقايل وبناء قيادة
ثورية جديدة ،إىل نضاالت إلطاحة الدولة الربجوازية ومصادرة رأس املال ،فإىل
ثورة اشرتاكية ظافرة.
إن املهام املختلفة اليت تواجه الربوليتاريا والثوريني يف أجزاء خمتلفة من العامل -
أي مهام الثورة الدائمة يف البلدان املتخلفة ومهام الثورة السياسية املناهضة
للبريوقراطية يف البلدان العمالية املتبقرطة ،ومهام الثورة الربوليتارية يف البلدان
اإلمربيالية -إمنا تعكس التطور الال متساوي واملركب للثورة العاملية .فهذه األخرية
ال تنفجر بصورة متشاهبة يف كل البلدان ،إذ ال تعيش كل البلدان ضمن شروط
اجتماعية واقتصادية وسياسية متماثلة.
تكمن املهمة العليا للماركسيني الثوريني يف التوحيد التدرجيي لتلك احلركات
الثورة الثالث يف السريورة ذاهتا للثورة االشرتاكية العاملية .هذا التوحيد ممكن
موضوعيا بفضل كون طبقة اجتماعية واحدة ،هي الربوليتاريا ،قادرة لوحدها على
أن تقود إىل الشاطئ األمني املهام التارخيية املتمايزة للثورة يف كل من القطاعات
141
من النضاالت اجلارية اليت ختوضها اجلماهري إىل الثورة االشرتاكية العاملية
الثالثة اليت أشرنا إليها ،وسيصبح هذا التوحيد حقيقيا بفضل الرتبية والسياسة
األمميتني للطليعة الثورية اليت سوف تستخلص من النضاالت اجلارية يوما بعد يوم
جتارب تضامن أممي بني الشغيلة واملضطهدين يف كل البلدان ،وتقاتل بصورة
منهجية كره األجنيب والعنصرية وخمتلف املسبقات القومية ،من أجل إدخال هذا
الوعي األممي إىل أعماق اجلماهري الواسعة.
إن أحد الوجوه الرئيسية لعمل اجلماهري املباشرة ،حلركات التظاهر أو اإلضراب
الضخمة اليت يقومون هبا ،إمنا هو رفع مستوى وعيهم عن طريق تزايد ثقتهم
بأنفسهم.
يعتاد الشغيلة والفالحون الفقراء وصغار احلرفيني والنساء والشباب واألقليات
القومية والعرقية على التعرض خالل احلياة اليومية لالنسحاق واالستغالل
واالضطهاد من جانب خليط من املالكني واألقوياء .لديهم انطباع أن التمرد
مستحيل وغري جمد ،وأن قوة خصومهم كبرية لدرجة ينتهي معها كل شيء إىل
«العودة للنظام» على الدوام .إالّ أن هذا اخلوف ،هذا اإلحباط ،هذا الشعور
بالدونية والعجز ،يذوب فجأة يف مصهر التعبئة واملعارك اجلماهريية الكربى.
فاجلماهري تكتسب إذ ذاك وعيا عميقا لسلطتها العظيمة الكامنة ،منذ تتحرك
جمتمعة ،بصورة مجاعية ومتضامنة ،منذ تتنظم وتنظم معركتها بفعالية.
لذا يعلق املاركسيون الثوريون أمهية قصوى على كل ما يضاعف هذا الشعور
بالثقة بالذات لدى اجلماهري ،على كل ما حيررهم من السلوك املطواع واخلاضع
الذي تشربوه خالل اآلالف من سنوات سيطرة الطبقات املالكة« .لسنا شيئا،
فلنكن كل شيء» :إن هذه الكلمات من املقطع األول يف نشيدنا« ،نشيد
األممية» ،تلخص بصورة مدهشة تلك الثورة النفسية اليت ال بد منها ألجل انتصار
ثورة اشرتاكية.
141
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
على طريق التنظيم الذايت للجماهري ،تلعب دورا حيويا مجعيات دميوقراطية
للمضربني تنتخب جلان إضراب ،وكل آلية مشاهبة داخل أشكال أخرى للعمل
اجلماهريي .يف تلك اجلمعيات تتمرن اجلماهري على حكم ذاهتا بذاهتا ،وبتعلمها
قيادة نضاالهتا اخلاصة هبا تتعلم كيف تدير الدولة واالقتصاد غدا .إن أشكال
التنظيم اليت تعتاد هكذا عليها هي األشكال اجلنينية للمجالس العمالية القادمة،
للسوفييتات القادمة ،هي أشكال التنظيم األساسية للدولة العمالية اليت ينبغي
بناؤها.
إن وحدة العمل اليت ال بد منها من أجل مجع قوى الشغيلة املبعثرة ،الروح
الوحدوية العظيمة اليت جتمع عرب حاالت التعبئة واألعمال اجلماهريية الكربى
ماليني األشخاص الذين مل يعتادوا على العمل معا ،ال ميكن حتقيقها من دون
ممارسة أوسع قدر من الدميوقراطية العمالية .ينبغي للجنة إضراب منتخبة دميوقراطيا
أن تكون ،من حيث حتديدها ،منبثقة من كل املضربني يف املنشأة ،أو يف الفرع
الصناعي ،أو املدينة ،أو املنطقة ،أو البلد الذي يشهد حالة اإلضراب .إن استبعاد
ممثلي هذا القطاع أو ذاك من الشغيلة املعنيني ،حبجة أن آراءهم السياسية أو
الفلسفية ال تناسب قادة اإلضراب املؤقتني ،هو كسر لوحدة اإلضراب ،وبالتايل
كسر لإلضراب.
يطبق املبدأ ذاته على كل أشكال العمل اجلماهريي الواسع وعلى أشكال
التنظيم التمثيلية اليت يتخذها .إن الوحدة اليت ال غىن عنها من أجل حتقيق النصر
تفرتض الدميوقراطية العمالية مسبقا ،أي مبدأ عدم استبعاد أي تيار من املقاتلني.
فللكل احلق يف الكالم والتمثيل ،وللكل احلق يف الدفاع عن اقرتاحاهتم اخلاصة هبم
بغية تتويج النضال بالنصر.
إذا مت احرتام تلك الدميوقراطية فسوف حترتم األقليات بدورها قرارات
األكثريات ألهنا حتتفظ بإمكانية تعديلها على ضوء التجربة .وهبذا التأكيد
للدميوقراطية العمالية تبشر أشكال التنظيم الدميوقراطية لنضاالت الشغيلة بإحدى
142
من النضاالت اجلارية اليت ختوضها اجلماهري إىل الثورة االشرتاكية العاملية
مراجع:
ليون تروتسكي ،احتضار الرأسمالية ومهام األممية الرابعة (الربنامج
االنتقايل).
مؤمتر إعادة توحيد (املؤمتر العاملي السابع).
األممية الرابعة :الديالكتيك الحالي للثورة العمالية.
أرنست ماندل ،الرقابة العمالية.
أرنست ماندل ،الرقابة العمالية ،المجالس العمالية ،التسيير الذاتي
(نصوص خمتارة).
العصبة الشيوعية :مشروع برنامج.
وثائق المؤتمرين العالميين التاسع والعاشر لألممية الرابعة.
143
()14
كسب الثوريين للجماهير
.1التمايز السياسي داخل البروليتاريا
لقد رأينا (الفصل ،7النقطة )0كيف تولد احلاجة إىل حزب طليعي ثوري
من تقطع العمل املباشر ألوسع اجلماهري ،كما من الطابع العلمي لالسرتاتيجية
الضرورية لقلب سلطة الربجوازية .وعلينا أن نضيف اآلن عنصرا إضافيا هلذا
التحليل ،هو التمايز السياسي داخل الربوليتاريا.
تظهر احلركة العمالية يف كل بلدان العامل كمجموعة تيارات إيديولوجية خمتلفة.
وميكن أن نشري يف هذا اجملال إىل التيارات التالية :التيار االشرتاكي -الدميوقراطي،
وهو إصالحي تقليدي ! تيار األحزاب الشيوعية املوالية ملوسكو ،وهي من أصل
ستاليين وذات توجه إصالحي جديد متنام ،التيار الفوضوي أو النقايب الثوري !
التيار املاوي ! التيار املاركسي الثوري (األممية الرابعة) .تضاف إىل ذلك يف العديد
من البلدان تشكيالت وسيطة (وسطية) بني هذه التيارات األيديولوجية الرئيسية.
هلذا التمايز األيديولوجي داخل احلركة العمالية جذور موضوعية عديدة يف واقع
الربوليتاريا ويف تارخيها.
ليست الطبقة العاملة متجانسة كليا من زاوية ظروفها اإلجتماعية ،فحسبما
يكون الشغيلة يعملون يف الصناعة الكربى أو الصغرية ،استقروا يف املدينة منذ
أجيال عديدة أو فقط منذ زمن قريب ،تلقوا تدريبا عاليا أو متوسطا ،يؤدي ذلك
هبم لفهم أسرع أو أبطأ لصحة بعض األفكار األساسية لالشرتاكية العلمية.
فالعمال املتخصصون يفهمون ضرورة تنظيم نقايب بسرعة أكرب مما يفعل عمال
عاطلون عن العمل خالل نصف حياهتم .إالّ أن تنظيمهم النقايب مهدد أيضا
144
كسب الثوريني للجماهري
بالوقوع بسرعة أكرب ضحية النزعة احلرفية الضيقة ،اليت ختضع املصاحل العامة
للطبقة العاملة إىل املصاحل اخلاصة ألريستوقراطية عمالية تدافع على وجه اخلصوص
عن املكاسب املستحصل عليها فيما حتاول منع الوصول إىل مواقعها املهنية ،إنه
ألسهل لعمال املدن الكربى والصناعات الكبرية أن يعوا القوة الكامنة العظيمة
جلمهور الربوليتاريا الواسع وأن يؤمنوا بإمكانية نضال ظافر للربوليتاريا حنو انتزاع
السلطة واملصانع من الربجوازية ،بينما األمر أقل سهولة بالنسبة لعمال يشتغلون يف
مؤسسات صغرية ويعيشون يف مدن صغرية.
يضاف إىل انعدام جتانس الطبقة العاملة تنوع التجربة النضالية وتنوع طاقات
الشغيلة الفردية .فهذا الفريق العمايل خاض جتربة عشرة إضرابات (معظمها تتوج
بالنصر) والعديد من املظاهرات العمالية ،وهذه التجربة حتدد لديه جزئيا وعيا
خمتلفا عن وعي فريق آخر من الربوليتاريني مل خيض أكثر من جتربة إضراب واحد
(مين بالفشل) خالل عشر سنوات ،ومل يشارك ككتلة واحدة يف نضال سياسي.
هذا العامل أو املستخدم يندفع بشكل طبيعي إىل الدراسة ،يقرأ الكراسات
والكتب باإلضافة إىل قراءة صحيفته املفضلة ،بينما ال يقرأ عامل آخر على
اإلطالق .هذا ذو طبع مشاكس ،ال بل يتمتع مبواهب قيادية ،بينما ذاك ذو
شخصية سلبية ويفضل السكوت خالل االجتماعات .واحد يعقد صالت
بالرفاق دون صعوبة ،بينما اآلخر مشدود إىل حياة املنزل ويفضل االهتمام بعائلته.
كل ذلك يؤثر جزئيا يف سلوك الشغيلة وخيارهم السياسي على املستوى الفردي،
كما يؤثر يف مستوى وعيهم الطبقي عند حلظة حمددة.
ينبغي أن نأخذ بعني االعتبار أخريا التاريخ اخلاص للحركة العمالية يف كل بلد،
وتقاليدها القومية .فالطبقة العاملة الربيطانية اليت كانت األوىل اليت تصل إىل تنظيم
نفسها تنظيما طبقيا مستقال عن طريق احلركة الشارتية مل تعرف يوما حزبا
مجاهرييا مستندا إىل برنامج أو تربية ماركسيني ،ولو بدائيني .إن حزهبا اجلماهريي
قائم على النقابية اجلماهريية ،ومنبثق عنها ،عنينا حزب العمالّ .أما الطبقة العاملة
145
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
الفرنسية اليت ومستها بعمق تقاليد النصف األول من القرن ( 17البابوفية والبالنكية
والربودونية) فقد كبح اعتناقها للماركسية ضعف الصناعة الكربى النسيب وتوزعها
النسيب يف مدن املقاطعات الصغرية نسبيا .لقد توجب انتظار ازدهار املصانع
الكربى يف ضواحي باريس وليون ومارسيليا والشمال يف العشرينات والثالتينات
من هذا القرن ،الذي زاد حدة يف اخلمسينات والستينات ليتمكن اإلضراب
اجلماهريي من التحكم باجملرى العام للنضال الطبقي (يونيو ،17,7إضرابات
،174, - 1749مايو )177,وليصبح احلزب الشيوعي الفرنسي احلزب
املهيمن داخل الطبقة العاملة ،مضفيا عليها طابعا ينتمي بوضوح إىل املاركسية.
ولقد انطبعت الطبقة العاملة واحلركة العمالية اإلسبانيتان ،ملدة طويلة ،بتقاليد
النقابية الثورية اليت تأثرت عميقا بالتخلف احلاد للصناعة الكربى يف شبه اجلزيرة
اإليبريية ..إخل.
نتج تنوع التيارات األيديولوجية للحركة العمالية عن منطقها وتارخيها اخلاصني
هبا ،أي عن النقاشات والتعارضات النامجة عن جمرى النضال الطبقي بالذات.
فقد حدثت يف البدء القطيعة بني املاركسيني والفوضويني داخل األممية األوىل
انطالقا من اخلالف حول مسألة ضرورة االستيالء على السلطة السياسية ،مث
القطيعة بني الثوريني واإلصالحيني داخل األممية الثانية حول مسألة املشاركة يف
حكومات بورجوازية ،ودعم الدفاع القومي يف البلدان اإلمربيالية ،ودعم النضال
الثوري اجلماهريي الذي يهدد استمرار االقتصاد الرأمسايل والدولة الربجوازية
املستندة إىل الدميوقراطية الربملانية ،أو خنق ذلك النضال ! مث القطيعة بني
الستالينيني والرتوتسكيني (املاركسيني الثوريني) داخل األممية الثالثة واحلركة الشيوعية
الدولية ،بني أنصار نظرية الثورة الدائمة وخصومها ،وبني أنصار نظرية «الثورة على
مراحل» وخصومها ،بني أنصار طوىب إجناز بناء االشرتاكية يف بلد واحد
وخصومه ،وبالتايل أنصار إخضاع مصاحل الثورة العاملية للضرورات املزعومة هلذا
اإلجناز وخصومه.
146
كسب الثوريني للجماهري
إالّ أن هلذا التنوع يف التيارات األيديولوجية أيضا جذورا موضوعية ومادية أشد
عمقا ،من مثل تلك اليت قمنا إىل اآلن بتعريتها.
قاد تنوع التيارات األيديولوجية داخل احلركة العمالية إىل تفتيت املنظمات
السياسية للطبقة العاملة .ففي حني جند الوحدة النقابية يف العديد من البلدان
(بريطانيا ،البلدان السكندينافية ،أملانيا االحتادية ،النمسا) ،جند االنقسام الشامل
على صعيد املنظمات السياسية .وبوصفنا ماديني ،علينا أن نفهم أن وراء ذلك
أسبابا موضوعية ،وليس ناجتا صدفة عن «جرائم» «االنشقاقيني» أو عن «الدور
املشؤوم» هلذا أو ذاك من األفراد.
وإذا نظرنا إىل هذا االنقسام السياسي حبد ذاته فليس شرا ،فالطبقة العاملة
حققت العديد من انتصاراهتا األكثر دويا ضمن شروط تعايش أحزاب عدة
واجتاهات عدة تنتسب مجيعا إىل احلركة العمالية .إن مؤمتر السوفييتات الثاين لعامة
روسيا ،الذي قرر نقل مجيع السلطات إىل السوفييتات ،كان يتميز بالتفتت إىل
أحزاب واجتاهات سياسية خمتلفة على صعيد الطبقة العاملة ،تفتت أكثر حدة مما
نعرفه اآلن يف الغرب .إن انقسام الطبقة العاملة األملانية إىل أحزاب كبرية ثالثة
(والعديد من الشلل والتيارات الصغرية) مل حيل دون انتصار اإلضراب العام يف
مارس 1702الذي خنق يف البيضة حماولة االنقالب الرجعية الفاشية اليت قام هبا
فون كاب ،كما أن تنوع املنظمات السياسية والنقابية للربوليتاريا اإلسبانية يف يوليو
17,7مل مينعها من التغلب على االنتفاضة العسكرية -الفاشية يف معظم
أحواض البالد الصناعية.
إالّ أن الشرط املسبق لكيال يؤدي التبعثر السياسي للحركة العمالية إىل
إضعاف قوة اهلجوم لدى الطبقة العاملة مبجملها ،هو أالّ حيول دون وحدة عمل
الشغيلة ضد العدو الطبقي املتمثل بأرباب العمل والربجوازية الكربى واحلكومة
147
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
الربجوازية والدولة الربجوازيةّ .أما الشرط املسبق اآلخر فهو أالّ حيول دون النضال
السياسي واأليديولوجي من أجل هيمنة املاركسية الثورية داخل الطبقة العاملة
هبدف بناء احلزب الثوري اجلماهريي وبالتايل إعادة الدميوقراطية العمالية إىل عقر
دار احلركة العمالية املنظمة.
إن الرد الوحدوي للطبقة العاملة أمر ال غىن عنه على اإلطالق مبواجهة
هجمات الربجوازية على وجه اخلصوص .وميكن أن تكون تلك اهلجمات
اقتصادية ،من مثل الصرف من العمل وإقفال املنشآت وخفض األجور الفعلية،
اخل .كما ميكن أن تكون سياسية ،كاهلجمات ضد حق اإلضراب واحلريات
النقابية ،وضد احلريات الدميوقراطية للجماهري واحلركة العمالية ،وحماوالت إرساء
أنظمة تسلطية ،أو فاشية سافرة ،تلغي حرية التنظيم والعمل للحركة العمالية
مبجموعها .يف هذه احلاالت مجيعا ،ميكن فقط لرد مجاهريي وموحد أن يؤدي
باهلجوم الربجوازي إىل الفشل .ووحدة العمل الفعلية لدى الطبقة العاملة متر
باجلبهة الواحدة الفعلية لكل املنظمات العمالية ،بقدر ما تبقى سطوهتا داخل
قطاعات مهمة من الربوليتاريا واقعا حيا.
لقد كانت إحدى املآسي الكربى يف القرن 02هزمية الربوليتاريا األملانية بفعل
استيالء هتلر على السلطة يف ,2يناير ،17,,كنتيجة لرفض قياديت احلزب
الشيوعي األملاين واحلزب االشرتاكي األملاين أن تعقدا يف اللحظة املناسبة اتفاقا
إلقامة جبهة موحدة ضد الصعود النازي ،وعجزمها عن القيام بذلك .إن عواقب
تلك املأساة كانت على درجة من اخلطورة حبيث على مجيع الشغيلة أن حيفظوا
عن ظهر قلب الدرس الرئيسي لتلك التجربة :يف مواجهة صعود الفاشية ،ال غىن
عن اجلبهة املوحدة لكل املنظمات العمالية ،بغية احليلولة دون ارتقاء القتلة
واجلالدين سدة السلطة ،عن طريق عمل حازم وموحد تضطلع به اجلماهري
الكادحة.
148
كسب الثوريني للجماهري
إن الذرائع والعوائق دون حتقيق اجلبهة املوحدة ذات طبيعة أيديولوجية وسياسية
قبل كل شيء ،فمعظم الشغيلة يؤيدون تلقائيا كل مبادرة وحدوية .بني تلك
العوائق ذات الطبيعة السياسية واأليديولوجية ما يلي:
املمارسات القمعية للقادة االشرتاكيني -الدميوقراطيني الذين يضطلعون
مبسؤوليات داخل الدولة الربجوازية ،وللقادة الستالينيني يف الظروف ذاهتا .إن
الشرائح املتجذرة من الطبقة العاملة تشعر بالسخط على هكذا ممارسات تبدأ
بكسر اإلضرابات وتصل إىل التنظيم املنهجي للتجسس داخل املنظمات العمالية،
ال بل إىل تنظيم اغتيال القادة الثوريني أو حىت العمال العاديني (نوسكي !).
املمارسات البريوقراطية للقادة النقابيني اإلصالحيني والستالينيني ،ولقادة يف
األحزاب الشيوعية وصلوا إىل مواقع قيادية يف احلركة العمالية ،اخل .هذه املمارسات
اليت تعترب امتدادا ملمارسات البريوقراطية القمعية حيث متارس السلطة ،تثري كذلك
امشئزازا مربرا لدى العديد من شرائح الشغيلة.
الدور املعادي للثورة بصورة منهجية للقيادات التقليدية للحركة العمالية اليت
حتول دون منو الوعي الطبقي وتساعد موضوعيا (ال بل إراديا يف الغالب) على
حتقيق مشاريع معادية للثورة والعمال يقف وراءها رأس املال ،وتنشر األيديولوجية
البورجوازية والبورجوازية الصغرية يف صفوف الطبقة العاملة ،اخل.
إالّ أنه ضروري مكافحة العصبوية والتطرف اليساري جتاه منظمات الطبقة
العاملة اجلماهريية التقليدية ،اللذين ال حيوالن فقط دون حتقيق اجلبهة العمالية
املوحدة يف وجه العدو الطبقي ،بل كذلك دون النضال الفعال ضد هيمنة
القيادات اإلصالحية والستالينية على أغلبية الطبقة العاملة.
جند يف أساس األخطاء العصبوية واليسارية املتطرفة انعدام فهم الطبيعة املزدوجة
واملتناقضة للمنظمات اجلماهريية التقليدية واملتبقرطة يف احلركة العمالية .فالعصبوية
تتميز عموما على الصعيد الفكري بتضخيم وجه خاص للتكتيك أو
149
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
151
كسب الثوريني للجماهري
واملنطقية واحمللية ،كما بني الفروع داخل املنشآت واألحياء ،وذلك ملواجهة اهلجوم
املعادي بكل الوسائل املتوفرة.
إن رفض توسيع اجلبهة املوحدة لتشمل قيادة االشرتاكية -الدميوقراطية
اواألحزاب الشيوعية (وهي السياسة املسماة «سياسة املرحلة الثالثة» للكومنرتن،
اليت يستعيدها اليوم العديد من املنظمات املاوية -الستالينية) يقوم على عدم فهم
قصوي وطفويل للوظيفة املوضوعية لوحدة اجلبهة الربوليتارية ولشروطها املسبقة
الذاتية .إنه يفرتض مسبقا أن يكون مجهور الشغيلة االشرتاكيني (أو التابعني
للحزب الشيوعي) مستعدا لالخنراط يف العمل املوحد مع الشغيلة الثوريني ،دون
املوافقة املسبقة لقياداته «االشرتاكية-الفاشية» أو «املراجعة» .أي أهنا تفرتض
كون املهمة اليت ينبغي حلها قد مت حلها ،إالّ وهي مهمة فصل هذا اجلمهور عرب
جتربته اخلاصة عن قياداته االنتهازية .ولكن توجيه الدعوة بالضبط إىل قادة احلزب
االشرتاكي واحلزب الشيوعي لاللتقاء داخل جبهة موحدة يف وجه هجوم الرجعية،
يسمح للشغيلة الذين يتبعون تلك القيادات بان يعيشوا جتربة مثينة وال غىن عنها
مبا خيص مصداقية اولئك القادة وفعالياهتم وحسن نواياهم.
زد على ذلك أن افرتاض عدم ضرورة اخنراط قيادات احلزب االشرتاكي واحلزب
الشيوعي يف اجلبهة املوحدة العمالية ،إمنا خيتصر هذه اجلبهة إىل أقلية داخل الطبقة
العاملة ،وينشر أوهاما خطرية حول إمكانية دفع أرباب العمل ،أو الدولة
البورجوازية ،أو التهديد الفاشي ،إىل الوراء ،حتت ضربات نشاطات أقلية.
هل يعين ذلك أن تكتيك اجلبهة املوحدة حمدود بأهداف دفاعية؟ كال بالطبع،
فتنظيم كامل الطبقة العاملة كتشكيل مثايل -ولو ألهداف دفاعية يف البدء -
يعدل موازين القوى بني الطبقات ويقوي إىل حد بعيد قتالية الطبقات الكادحة،
وقوهتا الضاربة ،وقدرهتا على العمل السياسي وثقتها بأنفسهما ،فيخلق بالتايل
احتياطيا عظيما إضافيا للنضال ،ميكنه أن يتوىل التحويل السريع للنضال الدفاعي
إىل نضال هجومي .فأثناء االنقالب الفاشل الذي نظمه فون كاب يف مارس
151
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
1702يف أملانيا ،خلق الرد الظافر واملوحد للمنظمات العمالية األملانية ،خالل
أيام قليالت ،وضعا وافق أثناءه مناضلو منظمات عديدة -مبا فيها منظمات
إصالحية -على تشكيل ميليشيات عمالية مسلحة يف العديد من مدن الرور ،ال
بل طرح القادة النقابيون األكثر اعتداال ضرورة قيام حكومة عمالية .إن الرد الظافر
والوحدوي للجماهري اإلسبانية ضد االنقالب الفاشي الفاشل يف يوليو 17,7يف
معظم املدن الكربى أدى إىل التسليح الشامل للربوليتاريا وإىل االستيالء على
املصانع.
إن املاركسيني الثوريني الذين يرمون إىل االستفادة ما أمكن من هذه الطاقة
اهلجومية الكامنة للجبهة العمالية املوحدة ينادون بضرورة بناء اجلبهة املوحدة يف
القاعدة كما يف القمة ،دون أن يشكل هذا البناء إنذارا موجها ألحزاب الربوليتاريا
أو نقاباهتا أو مجاهريها .ويفرتض بناء من هذا النوع أن تضم اجلبهة املوحدة،
باإلضافة إىل االتفاقات و«الكارتيالت» القومية ،والنطقية ،اخل ..للمنظمات
العمالية ،جلانا قاعدية يف املنشآت واألحياء والنواحي ،جلانا ينبغي أن تكون
بأسرع ما ميكن جلانا منتخبة دميوقراطيا ،ومنخرطة يف حشودات وأعمال مجاهريية
منهجية .إن الدينامية اهلجومية لبنية من هذا النوع ،تفتح الطريق يف الواقع أمام
وضع ثوري ،إمنا هي أمر بديهي.
152
كسب الثوريني للجماهري
إن التمييز اجلوهري بني اجلبهة العمالية املوحدة و«كارتيل اليسار» ،أو
«اجلبهة الشعبية» ،يكمن يف أن اجلبهة العمالية املوحدة تستثري مبنطقها الرافع
لشعار «طبقة ضد طبقة» دينامية تصعيدية لنضال الربوليتاريا ضد الربجوازية،
بينما تستثري سياسة اجلبهة الشعبية باملقابل ،انطالقا من منطقها القائل بالتعاون
الطبقي ،دينامية كبح للنضاالت العمالية ،ال بل قمع للشرائح العمالية األكثر
جتذرا .ففي حني ال تنطوي اجلبهة العمالية املوحدة يف وجه اهلجوم الرأمسايل على
أي شرط مسبق للدفاع عن النظام الربجوازي وامللكية الرأمسالية (مهما يكن تعلق
القادة اإلصالحيني هبكذا دفاع) ،تقوم اجلبهة الشعبية على احرتام النظام
البورجوازي وامللكية ،الذي يؤدي انعدامه ،كما يقال ،إىل استحالة استقبال
«الربجوازية التقدمية» يف اجلبهة ،مبا «ميكن أن يقوي الرجعية» .إن كل منطق
اجلبهة الشعبية يتجه إذا إىل حرف النضاالت اجلماهريية ،أو احتوائها ،أو
حتطيمها ،وهو ما ليس واردا يف حال اتفاقات اجلبهة العمالية املوحدة.
طبعا ،إن التمييز بني جبهة عمالية موحدة وجبهة شعبية ال ينطوي على
اختالف «مطلق» ،وإن كان يطرح اختالفا ذا شأن ،تبعا للطبيعة الطبقية
املوضوعية لنوعي االتفاق .إذ ميكن أن يكون هنالك تطبيقات انتهازية لتكتيك
اجلبهة العمالية املوحدة يبدأ خالهلا قادة املنظمات اليت تزعم أهنا منظمات ثورية
بكبح النضاالت اجلماهريية بدورهم ،بذريعة «عدم إرعاب القادة اإلصالحيني»،
بينما ميكن للجماهري أن تنطلق يف بعض احلاالت من أوهام وحدوية تبذرها
اتفاقات جبهة شعبية من أجل زيادة حدة نضاالهتا ،ال بل خلق بىن تنظيم ذايت،
وهي مبادرات على املاركسيني الثوريني أن يؤيدوها بالطبع ويدعموها بكل
الوسائل.
لكن مهما تكن هذه احلاالت الوسيطة ،تبقى القضية املبدئية قضية حيوية ،إذ
علينا من وجهة نظر الصراع الطبقي أن ندعم سياسة اجلبهة العمالية املوحدة ،وأن
153
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
هكذا فإن إشكالية اجلبهة املوحدة العمالية ،كما إشكالية اجلبهة الشعبية،
تعيدنا يف النهاية إىل مسألة حيوية واحدة ،هي كيف ميكن للطبقة العاملة أن تنجز
تنظيما توحيديا لقوهتا ،باالستقالل التام عن البورجوازية ،رغم تفتتها إىل تيارات
أيديولوجية وأحزاب وشلل وبدع سياسية خمتلفة ،ورغم النقص يف مستوى املتوسط
لوعيها الطبقي.
إن الذين يدعون إىل الزوال املسبق هلذا التفتت ،كشرط مسبق لتحقيق التنظيم
الطبقي املوحد ،يالحقون سرابا ال أكثر ،فهذا التفتت موجود منذ قرن ،وال أدىن
إشارة إىل أنه سوف يزول قريبا .إن اعتبار هذا الزوال شرطا متهيديا يشبه القول
علميا أن وحدة اجلبهة الربوليتارية (إذا انتصارها) مستحيلة حىت مستقبل غري
منظور.
إن الذين يرون يف حتقيق وحدة عمل الطبقة ناتج اتفاقات على صعيد القمة،
باالستقالل عن املضمون الطبقي والدينامية املوضوعية اليت تثريها تلك االتفاقات
-عن طريق املماثلة مثال بني اجلبهة العمالية املوحدة واجلبهة الشعبية -ينسون أن
الوحدة احلقيقية للجبهة الربوليتارية مستحيلة إالّ على أساس طبقي .ليس معقوال
أن تقبل كل قطاعات الطبقة العاملة وشرائحها الكبح الذايت والبرت الذايت اللذين
تنطوي عليهما اتفاقات تعاون طبقي.
مثة إذا رابط وثيق بني وحدة عمل الطبقة العاملة مبجملها واألهداف النضالية
اليت يوافق عليها اجلميع ،ال بل أشكال النضال اليت تتبناها الطبقة .واملاركسيون
الثوريون يتمسكون حبزم بكل مبادرة وحدوية حقيقية ،ألهنم مقتنعون أن هكذا
154
كسب الثوريني للجماهري
مبادرات تقوي على الدوام كفاحية الشغيلة ووعيهم ،باجتاه النضال الطبقي احلازم
ضد رأس املال.
إن استقالل الربوليتاريا الطبقي ،الذي ال ميكن أن تتحقق بدونه وحدهتا ،يقع
حيال أرباب العمل على مستوى املشروع الصناعي والفرع .كما يقع حيال
األحزاب البورجوازية ،ال بل حىت حيال الدولة البورجوازية ،والدولة الدميوقراطية-
البورجوازية األكثر حرية .فالثقة بالنفس اليت تكسبها الطبقة العاملة ،اليت متر
بتجربة وحدوية حقيقية تشمل الطبقة بأكملها ،حتفزها للقبض بيديها االثنتني
على ناصية حل مشكالهتا مجيعا ،مبا فيها املشكالت املرتوكة عادة للربملان ،وهذا
سبب إضايف لكي يكون الثوريون احملامني األشد حزما وصالبة عن وحدة عمل
الطبقة العاملة كلها.
إن التمييز املبدئي ،الذي نقيمه بني اجلبهة العمالية املوحدة واجلبهة الشعبية،
تعرض غالبا لالهتام بأنه «دوغمائي» .والناقدون يرون أنه «ينكر ضرورة
التحالفات» ،وأنه بدون «حتالفات طبقية» ال جمال النتصار الثورة االشرتاكية.
لينني ذاته ،أمل يركز كل االسرتاتيجية البلشفية على ضرورة قيام حتلف بني
الربوليتاريا والفالحني؟
فلنشر أوال إىل أن كل مقارنة بني البلدان اإلمربيالية حاليا وروسيا القيصرية
مقارنة خادعة .ففي روسيا مل تكن متثل الربوليتاريا أكثر من %02من السكان
العاملنيّ .أما يف البلدان اإلمربيالية -باستثناء الربتغال -فالربوليتاريا ،أي مجهور
الذين يضطرون لبيع قوة عملهم ،متثل األغلبية الساحقة داخل األمة ،أو %92
إىل %72من السكان العاملني يف معظم تلك البلدان .إن وحدة اجلبهة
الربوليتارية (اليت تضم فيما تضم املستخدمني بالطبع) هي أمر أكثر حيوية بكثري
بالنسبة للثورة من التحالف مع الفالحني.
155
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
نضيف إىل ذلك أن املاركسيني الثوريني ليسوا معادين أبدا لتحالف بني
الربوليتاريا والبورجوازية الصغرية الكادحة (غري املستغِلة) يف املدن واألرياف ،حىت
يف البلدان اليت تكون هذه األخرية فيها أقلية .ففي العديد من البلدان اإلمربيالية،
مثل الربتغال وإسبانيا وإيطاليا وفرنسا ،ما يزال إرساء التحالف العمايل -الفالحي
ذا أمهية سياسية كربى ،وخصوصا اقتصادية ،من أجل انتصار الثورة االشرتاكية
وتدعيمها.
ّأما ما نرفضه فهو أن يكون التحالف بني األحزاب العمالية واألحزاب
البورجوازية ضروريا إلقامة حتالف الطبقات الكادحة .على العكس من ذلك،
فتحرير الفالحني وصغار البورجوازيني املدينيني من سيطرة البورجوازية يفرتض
مسبقا حتريرهم من الدعم الذي يقدمونه لألحزاب السياسية البورجوازية .ميكن
للتحالف -ال بل ينبغي -أن يقوم على اساس مصاحل مشرتكة ،وعلى الربوليتاريا
وأحزاهبا أن تقدم هلاتني الطبقتني أهدافا اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية
هتمها وتعجز الربجوازية عن حتقيقها هلا .وإذا كانت التجربة تثبت إرادة الربوليتاريا
انتزاع السلطة وحتقيق برناجمها ،فيمكنها أن حتوز على دعم جزء مهم من
البورجوازية الصغرية بغية حتقيق تلك األهداف.
156
كسب الثوريني للجماهري
وإذ تغوص الرأمسالية املعاصرة يف أزمة اجتماعية أكثر فأكثر تعميما (ال سيما
منذ النصف الثاين من الستينات) ،تتسم الصراعات االجتماعية -السياسية يف
البلدان اإلمربيالية بالدمج بني النضاالت الربوليتارية «الصرفة» وانفجارات استياء
ومترد اجتماعي لقطاعات واسعة من السكان ال تتشكل بكاملها من الربوليتاريا:
حركة مترد الشبيبة ،حركة حترر النساء ،حركة مترد القوميات املضطهدة.
حني نقول «ال تتشكل بكاملها من الربوليتاريا» ،نريد أن نقول ذلك
وحسب .إنه ملن العبث أن نعترب الشبيبة أو النساء أو األقليات العرقية والساللية
كـ«غري بروليتاري» ،ال بل «بورجوازية صغرية» مبجملها ،تبعا ملعايري أيديولوجية
نفسية .فجزء متزايد من النساء يف البلدان اإلمربيالية (أكثر من %02يف بعض
البلدان) يتألف من مأجورات وليس من ربات منازل ،وجزء مهم من الشباب
يتألف من شغيلة شبان ومن متدربني .إن السود البورتوركيني والشيكانو يف
الواليات املتحدة ،وااليرلنديني واملهاجرين من آسيا واهلند الغربية إىل بريطانيا،
والباسكيني والقشتاليني يف إسبانيا -وحنن نقتصر على هذه األمثلة الثالثة -مل
يتبلرتوا فقط إىل حد بعيد ،بل يشكلون كذلك جزءا مهما من بروليتاريا تلك
الدول بصورة إمجالية.
إن شروط حياة كل هذه الشرائح اليت يف وضع التمرد من نوع خاص -نساء،
وشباب وأقليات عرقية وقومية -ومطالبها اخلاصة هبا ،تستحق انتباها خاصا من
جانب احلركة العمالية وطليعتها الثورية ألسباب ثالثة بديهية.
أوال ،ألن هذه الشرائح تضم عموما القسم األكثر تعرضا لالستغالل واألكثر
بؤسا من الربوليتاريا الذي يتطلب اهتماما خاصا من جانب كل شغيل واع .مث إن
هذه الشرائح هي عموما ضحايا اضطهاد مزدوج ،مبا هي بروليتاريون ونساء
وشبيبة وأقليات ومهاجرون يف الوقت ذاته ...واحلال أن الربوليتاريا ليست قادرة
على التحرر هنائيا ،وال أن تلغي العمل املأجور وتبين جمتمعا ال طبقيا ،من دون أن
تصفي جذريا كل أشكال التمييز واالضطهاد والال مساواة االجتماعية .أخريا،
157
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
تسمح حركة مترد تلك الشرائح وحتررها باخنراط قطاعات غري بروليتارية ،تشكل
أجزاء من الشرائح املضطهدة املشار إليها أعاله ،يف النضال من أجل الثورة
االشرتاكية.
هذا التحالف ليس آليا طبعا ،فهو يتوقف على وزن التفاوت الطبقي الذي
سيستثريه التقاطب األقصى للقوى االجتماعية ،خالل السريورة الثورية ،داخل
حركة حترر النساء والشبيبة والقوميات واألعراق املضطهدة .إالّ أنه يتوقف أيضا
على قدرة احلركة العمالية ،وال سيما على قدرة طليعتها الثورية أن تقبض جبرأة على
ناصية القضية العادلة اليت يقاتل من أجلها املتعرضون لالضطهاد.
إن املاركسيني الثوريني يعرتفون مبربرات حركات التحرر املستقلة للنساء والشبيبة
والقوميات واألعراق املضطهدة ،ال فقط قبل اهنيار الرأمسالية ،بل حىت بعده ،هذا
االهنيار الذي ال ميحو بني ليلة وضحاها رواسب آالف السنني من املسبقات
القائمة على التمييز بني اجلنسني ،أو العرقية أو الشوفينية ،أو احلاقدة على
األجانب ،داخل اجلماهري الكادحة .ولسوف يسعون لكي يكونوا أفضل
املكافحني ،داخل هذه حلركات اجلماهريية املستقلة ،من أجل كل املطالب العادلة
والتقدمية ،ولكي يكونوا وراء التعبئات والنضال األكثر اتساعا واألكثر توحيدية.
كما سيكافحون يف الوقت ذاته منهجيا لصاحل حلول سياسية واجتماعية
إمجالية -استيالء الطبقة العاملة على السلطة وإلغاء النظام الرأمسايل -بدوهنا
يستحيل تقدمي حل عام ودائم للتمييز بني اجلنسني وللتمييز العرقي والشوفيين.
وسيكونون بصورة ليست أقل منهجية املدافعني األشداء عن تضامن كل املستغَلني
(بفتح الغني) وكل الربوليتاريني يف النضال من أجل مصاحلهم الطبقية ،بغض النظر
عن كل اختالف يف اجلنس أو العرق أو القومية .وكلما كانت معركتهم ضد كل
أشكال االضطهاد اخلاصة ،اليت تعاين منها هذه الشرائح املتعرضة الستغالل
مضاعف ،معركة أكثر حزما واقناعا ،كلما أصبح هذا النضال من أجل التضامن
الطبقي العام داخلها أكثر فعالية.
158
كسب الثوريني للجماهري
المراجع:
قرارات المؤتمر الثالث لألممية الشيوعية حول التكتيك.
لينني« ،اليسارية» مرض الشيوعية الطفولي.
تروتسكي ،إلى أين تتجه فرنسا ؟
تروتسكي ،كتابات حول إسبانيا.
تروتسكي ،كتابات حول ألمانيا.
تروتسكي ،الحركة الشيوعية في فرنسا.
ماندل ،حول الفاشية.
دانييل غريان ،الفاشية ورأس المال الكبير.
هنري فيرب ،الماركسية والوعي الطبقي.
ماندل ،لينين والوعي الطبقي البروليتاري.
159
()15
حول المجتمع الال طبقي
.1الهدف االشتراكي المقصود
إن اهلدف االشرتاكي الذي نرمي إىل بلوغه هو استبدال اجملتمع البورجوازي،
القائم على نضال اجلميع ضد اجلميع ،مبجتمع مجاعي ال طبقي ،حيث حيل
التضامن االجتماعي حمل الرغبة يف الثراء الفردي كمحرك أساسي للنشاط ،وحيث
يضمن ثراء اجملتمع التطور املنسجم جلميع األفراد.
إن املاركسيني ال يطمحون إىل «جعل الناس مجيعا متساوين» كما يزعم كل
اخلصوم اجلاهلني لالشرتاكية ،بل يودون أن يفسحوا يف اجملال ،للمرة األوىل يف
التاريخ البشري ،أمام تطور السلسلة الال متناهية من إمكانات الفكر والعمل لدى
كل فرد .إالّ أهنم يفهمون أن املساواة االقتصادية واالجتماعية ،وحترر اإلنسان من
ضرورة الكفاح ألجل خبزه اليومي ،ميثالن شرطا مسبقا للحصول على هذا
التحقيق الفعلي للشخصية اإلنسانية لدى كل األفراد.
إن جمتمعا اشرتاكيا يتطلب إذا اقتصادا متطورا إىل حد يلغي معه اإلنتاج وفقا
للحاجات اإلنتاج هبدف الربح .فاإلنسانية االشرتاكية لن تعود تنتج سلعا معدة
للتبادل يف السوق لقاء املال ،بل ستنتج قيما استعمالية توزع على مجيع أعضاء
اجملتمع هبدف كفاية كل حاجاهتم.
إن جمتمعا من هذا النوع سيحرر اإلنسان من قيود التقسيم االجتماعي
واالقتصادي للعمل .فاملاركسيون يرفضون املوضوعة اليت ترى أن بعض الناس
«ولدوا للقيادة» والبعض اآلخر «ولدوا للطاعة» .وليس أي من الناس معدا
بطبيعته ليكون طيلة حياته عامل منجم أو فرازا أو سائق حافلة كهربائية .يف كل
161
الدياليكتيك املادي
إنسان هتجع رغبة ممارسة عدد كبري من النشاطات املختلفة ،ويكفي أن نراقب
الشغيلة يف أوقات فراغهم لنتأكد من ذلك .ويف اجملتمع االشرتاكي ،سوف يسمح
املستوى الرفيع من التأهيل التقين والثقايف ألي مواطن أن يشغل نفسه بالعديد من
املهمات املتنوعة املفيدة للجماعة ،ولن يفرض اختيار «املهنة» فرضا على الناس،
بفعل قوى أو شروط مادية مستقلة عن إرادهتم ،بل سيتوقف ذلك االختيار على
حاجتهم اخلاصة هبم ،وعلى تطورهم الفردي .سيتوقف العمل عن أن يكون
نشاطا مفروضا يتهرب املرء منه ،ليصبح حتقيقا للذات وحسب ،وسيكون اإلنسان
حرا باملعىن احلقيقي للكلمة .إن جمتمعا من هذا النوع سوف جيهد إلزالة كل
أسباب النزاعات بني البشر ،وسيكرس للنضال ضد األمراض ولتكوين الطبع لدى
الطفل ،وللرتبية والفنون اجلميلة ،املوارد اهلائلة املبذرة اليوم على أهداف التدمري
والقسر .وبإزالة كل التناقضات االقتصادية واالجتماعية بني الناس تتم إزالة كل
أسباب احلرب أو الصراعات العنيفة .إن ارساء جمتمع اشرتاكي يشمل العامل
بأمجعه هو وحده الكفيل بتأمني هذا السلم الشامل الذي يصري شرطا الستمرار
اجلنس البشري على قيد احلياة يف عصر األسلحة الذرية والنووية احلرارية.
إذا كنا ال نكتفي باحللم مبستقبل مشرق ،وإذا كنا نريد الكفاح من أجل بلوغ
هذا املستقبل ،علينا أن نفهم أن بناء جمتمع اشرتاكي يقلب رأس على عقب
تقاليد الناس وعاداهتم اليت تبلورت خالل آالف السنني يف جمتمعات منقسمة إىل
طبقات ،هذا البناء خيضع لتحوالت مادية ليست أقل زعزعة ينبغي إجنازها مسبقا.
يتطلب بلوغ االشرتاكية قبل كل شيء إلغاء امللكية اخلاصة لوسائل اإلنتاج.
هذه امللكية تفرتض حتما يف عصر الصناعة الكربى والتقنية احلديثة (اليت ال ميكن
إلغاؤها دون حشر البشرية يف زاوية الفقر املعمم) قسمة اجملتمع إىل أقلية من
الرأمساليني املستغِلني (بكسر الغني) وأكثرية مستغَلة (بفتح الغني) من مأجورين.
161
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
إن بلوغ اجملتمع االشرتاكي يتطلب إلغاء العمل املأجور وبيع قوة العمل لقاء
أجرة ثابت من املال جيعل من املنتج جزءا عاجزا من احلياة االقتصادية .ينبغي أن
حيل حمل العمل املأجور تعويض العمل باحلصول احلر على كل اخلريات الضرورية
لكفاية حاجات املنتجني ،وال ميكن أن يولد وعي اجتماعي جديد وموقف جديد
يتخذه الناس بعضهم جتاه البعض اآلخر إالّ يف جمتمع يضمن لإلنسان هكذا وفرة
يف اخلريات.
هكذا وفرة يف اخلريات ليست طوباوية إطالقا ،شرط إدخاهلا تدرجييا
واالنطالق من عقلنة تدرجيية حلاجات الناس الذين حترروا من إكراه املنافسة ،ومن
مطاردة الثراء الفردي ،ومن استخدام اإلعالن الذي يهتم خبلق حالة عدم اكتفاء
دائم لدى األفراد .هكذا خلقت التطورات يف مستوى احلياة حالة إشباع
االستهالك اخلبز والبطاطا واخلضار وبعض الفواكه ،ال بل منتجات احلليب
والسمنة واللحم يف اجلزء األقل فقرا من سكان البلدان اإلمربيالية .كما أن اجتاها
مماثال يتجلى على صعيد األلبسة الداخلية واألحذية واألثاث املنزيل األساسي،
إخل .فهذه املنتجات مجيعا ميكن أن توزع بالتدريج جمانا ،دون تدخل املال ،ودون
أن يؤدي هذا إىل زيادات مهمة يف اإلنفاقات اجلماعية .واإلمكانية ذاهتا قائمة
بالنسبة للخدمات االجتماعية كالتعليم والعناية بالصحة والنقل املشرتك ،إخل.
إالّ أن إلغاء العمل املأجور ال يتطلب تبديل شروط املكافأة وتوزيع األموال
االستهالكية وحسب ،بل كذلك تبديل بنية املشروع التسلسلية ،وإحالل نظام
دميوقراطية املنتجني حمل نظام األمر احملصور باملدير (يساعده رؤساء املشاغل
ورؤساء الفرق ،إخل .).إن هدف االشرتاكية حكم الناس ذاهتم بذاهتم على كل
مستويات احلياة االجتماعية ابتداء باحلياة االقتصادية .إنه استبدال كل املندوبني
املعينني بقادة منتخبني ،كل املندوبني الدائمني بقادة ميارسون وظيفتهم بالتناوب.
على هذه الطريق يتم التوصل خللق شروط مساواة حقيقية.
162
الدياليكتيك املادي
إن الثروة االجتماعية اليت تسمح بإرساء نظام وفرة ،غري ممكن بلوغها إالّ عن
طريق ختطيط االقتصاد ،الذي يسمح بتاليف كل تبذير يتمثل بعدم استخدام
وسائل اإلنتاج والبطالة ،أو باستخدامها ألهداف متعارضة مع مصاحل البشرية.
ويبقى حترير العمل خاضعا للتطور العظيم للتقنية احلديثة (التطبيق اإلنتاجي للطاقة
الذرية بعد استجماع شروط األمن القصوى ،والبحث املكثف عن موارد طاقة
بديلة ،اإللكرتونيك والتوجيه من بعيد اللذان يسمحان باألمتتة الكلية لإلنتاج)
الذي حيرر اإلنسان أكثر فأكثر من املهام الثقيلة واحملطة .هكذا جييب التاريخ
مقدما على االعرتاض املبتذل القدمي على االشرتاكية« :من سيمارس إذا املهمات
الدنيا يف جمتمع اشرتاكي ؟»
إن التطور األقصى لإلنتاج ضمن الشروط األكثر ريعية بالنسبة للبشرية يتطلب
اإلبقاء على تقسيم دويل للعمل والتوسع به ،تقسيم معدل مع ذلك بعمق من
أجل إلغاء االنقسام إىل بلدان «متقدمة» وبلدان «تابعة» ،وإلغاء احلدود وختطيط
االقتصاد على املستوى العاملي .إن إلغاء احلدود والتوحيد الفعلي للجنس البشري
هو أيضا أمر سيكولوجي من أوامر االشرتاكية ،والوسيلة الوحيدة إللغاء الالّ
مساواة االقتصادية واالجتماعية بني األمم .وال يعين إلغاء احلدود إلغاء الشخصية
الثقافية اخلاصة بكل أمة ،بل يسمح على العكس بتأكيد هذه الشخصية بصورة
أكثر سطوعا مما هي احلال اليوم ،يف امليدان اخلاص هبا.
إن تسيري الشغيلة للمشاريع ،وتسيري مؤمتر جمالس الشغيلة لالقتصاد ،وتسيري
كل دوائر احلياة االجتماعية عن طريق التجمعات املعنية ،يتطلب هو اآلخر
شروط حتقيق مادية ،إذا شاء أالّ يكون ومهيا .وال غىن عن اخلفض اجلذري ليوم
العمل -أو اتباع الدوام النصفي -من أجل أن يتوفر للمنتجني الوقت لتسيري
املشاريع والكومونات ،ولكي ال تتشكل شرحية جديدة من املدراء احملرتفني.
ال غىن عن تعميم التعليم العايل -وتوزيع جديد لـ«وقت الدراسة» و«وقت
العمل» على امتداد كل حياة الرشد للرجل واملرأة -من أجل أن يزول بالتدريج
163
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
فصل العمل اليدوي عن العمل الذهين .كما ال غىن عن املساواة الدقيقة يف
املكافأة ويف التمثيل وفرص التأهيل العايل للنساء من أجل أالّ تستمر الال مساواة
بني اجلنسني بعد زوال الال مساواة بني الطبقات االجتماعية.
إن الشروط املادية لبلوغ جمتمع ال طبقي هي شروط ضرورية لكنها غري كافية،
فاالشرتاكية والشيوعية لن تكونا الناتج اآليل لتطور قوى اإلنتاج ،والختفاء النقص
يف احلاجيات ،والرتفاع مستوى التأهيل التقين والثقايف للبشرية .ينبغي كذلك
تبديل العادات والتقاليد والبىن الذهنية اليت تنتج عن آالف السنوات من
االستغالل والقمع وعن الشروط االجتماعية اليت تالئم الرغبة يف اإلثراء الفردي.
قبل كل شيء ،ينبغي انتزاع كل سلطة سياسية من الطبقات املسيطرة ومنعها
من استعادة تلك السلطة .إن التسليح العام للشغيلة ،الذي حيل حمل اجليوش
الدائمة ،مث التدمري التدرجيي لكل األسلحة وعجز أنصار حمتملني إلعادة حكم
األقلية عن إنتاج تلك األسلحة ،كل ذلك ينبغي أن يسمح ببلوغ اهلدف املشار
إليه.
إن ما يضمن استمرار الشروط اليت يستحيل معها العودة لنظام قمع واستغالل
يتلخص باألمور التالية :دميوقراطية جمالس الشغيلة ،ممارسة تلك اجملالس لكامل
السلطة السياسية ،الرقابة العامة على اإلنتاج وتوزيع الثروات ،تأمني علنية تامة
للنقاشات اليت تؤدي إىل القرارات السياسية واالقتصادية الكربى ،وصول الشغيلة
مجيعا إىل وسائل اإلعالم وتكوين الرأي العام.
يتعلق األمر فيما بعد خبلق الشروط املالئمة لكي يعتاد املنتجون على العيش
بأمان ويتوقفوا عن قياس جهودهم تبعا للمكافآت اليت يتوقعوهنا لقاءها .وال ميكن
هلذه الثورة النفسية أن تظهر إالّ حني تعلم التجربة الناس أن اجملتمع االشرتاكي
164
الدياليكتيك املادي
يضمن فعليا ،وبصورة دائمة ،كفاية حاجاهتم األساسية ،دون حساب كل واحد
منهم ،باملقابل ،يف الثروة االجتماعية.
إن جمانية الغداء واللباس الضروري ،واخلدمات العامة ،والعناية بالصحة،
والتعليم ،واخلدمات الثقافية ،سوف تسمح ببلوغ هذا اهلدف بعدما يكون قد مر
على اعتمادها جيالن أو ثالثة .فمنذ ذاك ال يعود ينظر إىل العمل كوسيلة
«لكسب املعيشة» أو لتأمني االستهالك اجلاري ،بل يصبح حاجة للنشاط اخلالق
الذي يساهم كل واحد عربه يف رخاء اجلميع وتطورهم.
إن التبديل الراديكايل لبىن القمع املتمثلة بالعائلة البطريركية وباملدرسة املتسلطة
املتقوقعة يف برجها العاجي ،وباالستهالك السليب لألفكار و«اخلريات الثقافية»،
سوف يتالزم مع هذه التحوالت االجتماعية والسياسية.
لن تتوىل ديكتاتورية الربوليتاريا قمع أية فكرة وأي تيار علمي أو أديب أو ثقايف
أو فين ،فهي لن ختاف من األفكار ،لقناعتها بتفوق األفكار الشيوعية .ومع ذلك
فلن تكون حيادية إزاء النضال األيديولوجي الذي يستمر .وسوف ختلق كل
الشروط املالئمة من أجل أن تتمثل الربوليتاريا املتحررة أفضل منتجات الثقافية
القدمية ،وتبين بالتدريج عناصر الثقافة الشيوعية املوحدة للبشرية القادمة .إن الثورة
الثقافية اليت ستطبع خبامتها بناء الشيوعية ستكون قبل كل شيء ثورة الشروط اليت
خيلق الناس من ضمنها ثقافتهم اخلاصة هبم ،وحتويل مجهور املواطنني من
مستهلكني سلبيني إىل منتجني ثقافيني فاعلني وخالقني.
والعائق األكرب الذي يبقى على البشرية أن تتخطاه خللق عامل شيوعي إمنا هو
املسافة الضخمة اليت تفصل اإلنتاج ومستوى معيشة الفرد يف البلدان املتقدمة
صناعيا عنهما يف البلدان املتخلفة .فاملاركسية تنبذ الطوىب الرجعية لشيوعية قائمة
على التقشف والعسر .إن تفتح احلياة االقتصادية واالجتماعية لشعوب نصف
الكرة اجلنويب ال يتطلب فقط ختطيطا اشرتاكيا لالقتصاد العاملي ،بل كذلك إعادة
توزيع جذرية للموارد لصاحل تلك الشعوب.
165
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
إن تبديل أمناط التفكري األنانية وقصرية النظر البورجوازية الصغرية اليت تواصل
احلياة اليوم على مستوى جزء مهم من الطبقة العاملة يف نصف الكرة الشمايل
سيسمح وحده ببلوغ هذا اهلدف .وعلى الرتبية األممية أن تسري حنو هذا اهلدف
جنبا إىل جنب مع عادة الوفرة اليت ستربهن أنه ميكن القيام بإعادة التوزيع تلك
دون إحداث تراجع يف مستوى معيشة اجلماهري الشمالية.
على أساس التجربة الغنية للثورات الربوليتارية منذ أكثر من قرن -أي منذ
كومونة باريس -ميكن أن منيز ثالثة أطوار من بناء جمتمع ال طبقي:
-طور االنتقال من الرأمسالية إىل االشرتاكية ،وهو طور ديكتاتورية الربوليتاريا،
واستمرار الرأمسالية يف بلدان مهمة ،واالستمرار اجلزئي لإلنتاج البضاعي
واالقتصاد النقدي ،واستمرار العديد من الطبقات والشرائح االجتماعية داخل
البلدان املنخرطة يف هذا الطور ،وبالتايل ضرورة استمرار الدولة من أجل الدفاع
عن مصاحل الشغيلة ضد مجيع أنصار العودة إىل مملكة رأس املال.
-طور االشرتاكية ،اليت ينجز بناؤها واليت تتميز بزوال الطبقات االجتماعية («
االشرتاكية هي اجملتمع الال طبقي » حسب تعبري لينني) ،وبزوال االقتصاد
البضاعي والنقدي واخفتاء الدولة وانتصار اجملتمع اجلديد على املستوى
العاملي .إالّ أ ّن مكافأة كل شخص يف الطور االشرتاكي (بغض النظر عن
الكفاية اجملانية للحاجات األساسية) سيستمر قياسها تبعا لكمية العمل الذي
يقدمه هذا الشخص للمجتمع.
-طور الشيوعية ،الذي يتميز بالتطبيق الكامل ملبدأ « من كل حسب قدرته،
ولكل حسب حاجته » ،وبزوال التقسيم االجتماعي للعمل والفصل بني
العمل اليدوي والعمل الذهين ،وبزوال الفروق بني املدينة والريف .سوف تعيد
البشرية تنظيم نفسها بشكل كومونات حرة من املنتجني-املستهلكني،
166
الدياليكتيك املادي
القادرين على إدارة أوضاعهم بأنفسهم دون أي جهاز منفصل ،وقد أعيد
دجمهم يف وسط طبيعي معاد تأهيله ،وقدمت هلم احلماية ضد خماطر تدمري
توازن البيئة.
إال أنه حني جند أنفسنا أمام جمتمع الحق للرأمسالية ختلص من احتكار السلطة
بني يدي شرحية بريوقراطية -أي إزاء سلطة فعلية للشغيلة -لن تعود هناك
حاجة ألية ثورة وأية قطيعة مفاجئة لتسجيل تعاقب هذه األطوار ،فهي ستنتج عن
تطور تدرجيي لعالقات اإلنتاج والعالقات االجتماعية ،وستكون تعبريا عن
االضمحالل التدرجيي للمقاوالت البضاعية واملال والطبقات االجتماعية والدولة
والتقسيم االجتماعي للعمل والبىن الذهنية اليت جنمت عن كل املاضي القائم على
الال مساواة والصراع االجتماعيني .إن اجلوهري يكمن يف الشروع حاال بسريورات
االضمحالل وعدم تأجيلها ألجيال قادمة.
هذا هو مثلنا األعلى الشيوعي ،وهو يشكل احلل الوحيد للمشكالت احلادة
اليت تواجهها اإلنسانية .وتكريس احلياة لتحقيقه يربهن عن اجلدارة بفطنة أفضل
أوالد جنسنا وشهامتهم ،باملفكرين األكثر جسارة واملقاتلني األكثر جرأة من أجل
حترير العمل ،باألمس كما اليوم.
المراجع:
كارل ماركس ،نقد برنامج غوتا.
فريدريك إجنلز ،دحض دوهرينغ ،اجلزء الثالث « :االشرتاكية ».
لينني ،الدولة والثورة.
بوخارين وبريو براجنسكي ،ألف باء الشيوعية.
ليون تروتسكي ،األدب والثورة -مشكالت احلياة اليومية.
الفارغ ،حق الكسل.
167
()16
الدياليكتيك المادي
.1الحركة الشاملة
إذا ع ــدنا إىل مض ــمون الفص ــول اخلمس ــة عش ــر الس ــابقة وحاولن ــا أن خنتص ــرها
بصــيغة واحــدة ،ال ميكننــا أن جنــد أفضــل مــن الصــيغة التاليــة :كــل شــيء يتغــري ،كــل
شيء يف حركة دائمة.
لقــد انتقلــت البش ـرية مــن اجملتمــع البــدائي غــري الطبقــي إىل اجملتمــع املنقســم إىل
طبقات ،الذي سيكون بدوره منطلقا للمجتمع االشـرتاكي الـال طبقـي الالحـق .إن
أمناط اإلنتاج تتعاقب ،وحىت قبل أن تزول ختضع لتبدالت متواصلة .ختتلف الطبقـة
املســيطرة اليــوم كث ـريا عــن طبقــة مــالكي العبيــد الــيت كانــت مهيمنــة يف اإلمرباطوريــة
الرومانيــة ،والربوليتــاري املعاصــر خيتلــف كلي ــا عــن القــن يف القــرون الوســطى .وب ــني
الرأمســايل صــاحب املعمــل الصــغري يف بدايــة القــرن التاســع عشــر ،والســيد روكفلــر أو
صــاحب تروســت رون بولنــك يف أيامنــا هــذه ،بــون شاســع .كــل شــيء يتغــري ،كــل
شيء يف حركة دائمة.
هــذه احلركــة الشــاملة ميكــن أن جنــدها علــى كــل مســتويات الواقــع ،ولــيس فقــط
مســتوى تــاريخ اجملتمعــات البش ـرية .فــاألفراد يتبــدلون ،خاضــعني لقــدر حمتــوم .إهنــم
يولــدون ويكــربون وينضــجون ويرشــدون ،مث يشــرعون باالحنــدار وينتهــون إىل املــوت،
وهذا القدر يصيب األنواع احلية كما يصيب األفراد .فـاجلنس البشـري مل يكـن حيـا
علــى الــدوام ،والعديــد مــن األن ـواع الــيت كانــت تقطــن يف املاضــي كوكبنــا ،مــن مثــل
الزواحــف العمالقــة يف العصــر الثالــث ،قــد انــدثرت ،بينمــا تنــدثر اآلن حتــت أعيننــا
أن ـواع أخــرى نباتيــة وحيوانيــة ،وذلــك جزئيــا كنتيجــة ألشــكال اخللــل الفوضــوية الــيت
أحدثها منط اإلنتاج الرأمسايل يف البيئة األرضية.
168
الدياليكتيك املادي
إن كوكبنا بدوره لن حييا إىل األبد ،ففقدان الطاقة حيكـم عليـه بـالزوال حتمـا يف
يــوم مــن األيــام .كمــا أنــه مل يكــن موجــودا منــذ البــدء ،فقــد ولــد مــن جمموعــة جنــوم
ليســت حبــد ذاهتــا إالّ واحــدة مــن جمموعــات ال حتصــى مشــاهبة هلــا يف الكــون .إن
احلرك ــة أو التط ــور الش ــامل ت ــتحكم بك ــل وج ــود ،وه ــذا الوج ــود م ــادي حب ــت ،ويف
أس ــاس امل ــادة ذرات تت ــألف ه ــي األخ ــرى م ــن دق ــائق أص ــغر ،وإدغام ــات ال ــذرات
تش ــكل جزيئ ــات تك ـ ّـون فيم ــا بينه ــا العناص ــر األساس ــية املختلف ــة للقش ــرة األرض ــية
واجلو .هكذا فإن األوكسجني واهليدروجني ،بعد أن يدخال يف إدغام مع ّـني ،مرمـوز
إليه بـ H2Oيؤلفان املاء ،بينمـا تشـكل اجلزيئـات األسـس الـيت تقـود عمليـة تكـوين
احلوامض األمينية.
هكــذا نــرى أن تطــور املــادة غــري العضــوية أدى إىل والدة املــادة العضــوية ،ضــمن
شــروط حمــددة .فــاحلوامض األمينيــة تشــكل الربوتيينــات الــيت تعمــل كخاليــا ،وهــذه
األخرية تسـتثري تطـور األنـواع احليـة ،أكانـت نباتيـة أو حيوانيـة .وتولـد يف جمـرى هـذا
التطور الكائنات احلية العليـا ،أو الثـدييات ،وتتفـرع عنهـا القرديـات الـيت حتـدر منهـا
النوع البشري.
مبا أن حركة شاملة متيز -كما يبدو -كل وجود ،فينبغـي أن نسـتخلص مالمـح
مشــرتكة بــني حركــة املــادة (أو الطبيعــة) وحركــة اجملتمــع اإلنســاين وحركــة معارفنــا (أو
العلــم ،الفكــر اإلنســاين) .إن الــدياليكتيك املــادي الــذي بلــوره مــاركس وإجنلــز يؤكــد
عرى يف الواقع هذه املالمح املشرتكة للحركة الشاملة. أنه ّ
يتجلى الدياليكتيك إذا ،أو منطق احلركة ،على ثالثة مستويات:
ديالكتيك الطبيعة وهو ديالكتيك موضوعي كليا ،أي مستقل عن الوجود
اإلنساين وعن مشاريع اإلنسان ونواياه أو حوافزه ،وهو ال يفعل مباشرة يف
169
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
التاريخ البشري .ال يستبعد ذلك أن تتمكن البشرية مع تطور قوى اإلنتاج
من استخدام قوانني الطبيعة من أجل إعادة تكييف بيئتها الطبيعية.
ديالكتيك التاريخ ،وهو ديالكتيك موضوعي إىل حد بعيد أوال ،ولكن
يشكل اقتحامه من جانب مشروع الربوليتاريا ،القاضي بإعادة بناء اجملتمع
وفقا لربنامج معد مسبقا ،إنعطافا ثوريا ،حىت لو ارتبط وضع هذا املشروع
وحتقيقه بشروط مادية موضوعية موجودة مسبقا ومستقلة عن إرادة البشر.
ديالكتيك املعرفة (الفكر اإلنساين) الذي هو ديالكتيك املوضوع -الذات
بامتياز ،وناتج تفاعل مستمر بني املوضوعات املطلوبة معرفتها (موضوعات
كل فرع من العلوم) وعمل الذوات اليت تسعى لفهمها واليت يشرطها
وضعها االجتماعي ،ووسائل التقصي املوروثة املوضوعة حتت تصرفها -
وسائل العمل كما املفاهيم -وحتويل تلك الوسائل عرب النشاط
االجتماعي اجلاري ،اخل.
مبقــدار مــا يشــكل اكتشــاف الــديالكتيك املوضــوعي طــورا مــن تــاريخ املعــارف
والفك ــر البشـ ــري (بلـ ــور ال ــديالكتيك يف البـ ــدء فالسـ ــفة إغرب ــق مثـ ــل هرياقلـ ــيط ،مث
استعاده سبينوزا وط ّـوره هيغـل) ،ميكـن أن خنضـع إلغـراء إرجـاع كـل الـديالكتيك إىل
ديالكتيك املوضوع -الذات ،وهو ما ميكن اعتباره خطأ.
واضـح أن كـل مــا نعرفـه ،ومـن بينــه مـا لــه عالقـة بـديالكتيك الطبيعــة ،إمنـا نعرفــه
بواسـ ــطة دماغنـ ــا وأفكارنـ ــا وممارسـ ــتنا االجتماعيـ ــة ،الـ ــيت حتـ ــددها شـ ــروط وجودنـ ــا
االجتم ــاعي .إالّ أن ه ــذا الواق ــع الب ــديهي ال حي ــول دون أن ن ــتمكن م ــن معرف ــة أن
احلياة أقدم من الفكر اإلنساين (ومـن التأكيـد مـن صـحة ذلـك ،ورؤيـة إثبـات ذلـك
عــن طريــق بـراهني عمليــة متعــددة) ،وأن األرض أقــدم مــن احليــاة ،والكــون أقــدم مــن
األرض ،وأن كل هذه احلركة هي حركة مستقلة عن العمـل وعـن وجـود اإلنسـان أو
فكره ،وأ ّن الفكر اإلنسـاين ذاتـه هـو نـاتج تلـك احلركـة :فـالفكر هـو املـادة الـيت تعـي
ذاهتا .ذلكم هو املعىن الدقيق ملفهوم« :الديالكتيك املادي».
171
الدياليكتيك املادي
أكثر من ذلك ،فبقدر ما تتحسن معارفنا وتصبح علمية أكثـر فـأكثر ،وبقـدرما
تقرتب املعرفة من الواقع (إن تطابقا كليا للمعرفـة والواقـع مسـتحيل ،ال سـيما لكـون
ه ــذا األخ ــري يف حال ــة تب ــدل دائ ــم) ،مبق ــدار م ــا تت ــابع مس ــرية تل ــك املعرف ــة احلرك ــة
املوضوعية للمادة أكثر فـأكثر .إن بوسـع ديالكتيـك فكرنـا العلمـي ،أو الـديالكتيك
املــادي ،أن يقــارب الواقــع ،بالضــبط لكــون حركتــه اخلاصــة تتوافــق أكثــر فــأكثر مــع
حركة املادة ،ال سيما بفضل املمارسة االجتماعية اليت تعرب عن سيطرة متنامية على
قــوى الطبيعــة ،ألن ق ـوانني املعرفــة والفهــم الــذهين للواقــع الــذي تطبقــه تتوافــق أكثــر
فأكثر مع القوانني اليت تقود احلركة الشاملة للواقع املوضوعي.
ينبغي أن نشري إىل وجود اختالف كبري بني تطور العلوم الطبيعيـة وتطـور العلـوم
االجتماعية أي معارفنا املتعلقة بكل ما يتخذ احلياة االجتماعيـة موضـوعا للبحـث،
مبا فيها معارفنا حول بدايات تطور العلوم مجيعا ،ومن بينها العلوم الطبيعية ،وحول
ديالكتيكها.
إن تط ــور العل ــوم الطبيعي ــة حم ــدد ه ــو اآلخ ــر تارخيي ــا واجتماعي ــا ،فالن ــاس ،وم ــن
بيــنهم العبــاقرة األكثــر جســارة ،عــاجزون عــن أن يطرحـوا أكثــر مــن عــدد معــني مــن
املشكالت العلمية يف كل عصـر ،وعـن أن حيلـوا أكثـر منـه .إهنـم خيضـعون لألفكـار
والرتبية املتلقاة ،واإلشكاليات اجلديدة تولد يف هذا السياق ،يف عالقـة مـع تبـدالت
مادية ،ال سيما تلك املتعلقة بالعمـل وبـأدوات العمـل وأدوات االستقصـاء العلميـة،
اخل .إالّ أن األمــر يتعلــق بتحدي ــد غــري مباش ــر ،ال تتوســطه بش ــكل مباشــر مص ــاحل
مادية طبقية .وال ميكن دحض نظريات علمية تقوم على براهني اختبارية عن طريـق
الرج ــوع إىل ال ــديالكتيك عموم ــا أو إىل األص ــل االجتم ــاعي أو املواق ــف السياس ــية
لــدى العلم ــاء ال ــذين ص ــاغوا تل ــك النظري ــات .ال ميك ــن دحض ــها إالّ ع ــرب نظري ــات
علميــة أخــرى جــرى الربهــان علــى صــحتها اختباريــا ،نظريــات حتلــل بشــكل أفضــل
واقعا أكثر تعقيدا.
171
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
خيتلــف األم ــر مــع العل ــوم االجتماعي ــة ،إذ هــي تتن ــاول ع ــن كثــب أكث ــر تنظ ــيم
اجملتمــع الطبقــي وبنيتــه .ووزن «األفكــار املتلقــاة واملوروثــة» أكــرب فيهــا ،ال ســيما أن
هذه األفكـار ليسـت سـوى التعبـري ،علـى املسـتوى اإليـديولوجي ،عـن مصـاحل ترمـي
للمحافظة على الواقع االجتماعي أو للثورة االجتماعية ،مصـاحل ميكـن إرجاعهـا يف
هناية املطاف إىل مواقف طبقيـة متضـادة .ودون أن نريـد حتويـل الفالسـفة واملـؤرخني
واالقتصاديني وعلماء االجتماع واألنتبولوجيا إىل «عمالء» واعني هلذه أو تلك من
الطبق ـ ــات االجتماعي ـ ــة ،منخ ـ ــرطني يف «مـ ـ ـؤامرة» لل ـ ــدفاع ع ـ ــن الوض ـ ــع الق ـ ــائم أو
ل ـ ـ ـ«تنظ ـ ــيم التخريـ ـ ــب» ،م ـ ــن البـ ـ ــديهي أن التحدي ـ ــد االجتمـ ـ ــاعي لتط ـ ــور العلـ ـ ــوم
االجتماعيــة هــو أكثــر مباشــرة وفوريــة بكثــري مــن تطــور العلــوم الطبيعيــة .ويف الوقــت
ذاته ،فإن موضوع العلـوم االجتماعيـة يتحـدد فـورا ،وبقـوة األشـياء ،ببنيـة اجملتمعـات
ال ــيت تـ ـرتبط هب ــا الوق ــائع املدروس ــة وبتارخيه ــا ،وه ــو م ــا ل ــيس ح ــال موض ــوع العل ــوم
الطبيعية.
يتميـز الــديالكتيك ،أو منطــق احلركـة ،عــن املنطــق الصـوري أو املنطــق الســكوين.
فاملنطق الصوري يقوم على ثالثة قوانني أساسية:
قانون التماثل :أ = أ .يبقى الشيء مساويا لذاته على الدوام.
قــانون التضــاد :أ ،خمتلفــة عــن ال -أ ،أ ال ميكــن أن تكــون مســاوية أبــدا لـ ـ
ال -أ.
قانون الثالـث املسـتبعدّ :أمـا أ ،و ّأمـا ال -أ .ال ميكـن لشـيء أن ال يكـون أ،
وأن ال يكون ال -أ.
تســمح لنــا حلظــة مــن التأمــل باالســتنتاج أن مــا مييــز املنطــق الصــوري هــو املســار
الـ ــذي يكمـ ــن يف وضـ ــع احلركـ ــة والتبـ ــدل بـ ــني هاللـ ــني .كـ ــل الق ـ ـوانني الـ ــيت أوردنـ ــا
صــحيحة ،إذا مل نأخــذ احلركــة باالعتبــار .أ تبقــى مســاوية لــذاهتا طاملــا مل تتغــري .أ
172
الدياليكتيك املادي
ختتلــف عــن ال -أ طاملــا مل تتحــول إىل نقيضــها .هنالــك أ ،او ال -أ طاملــا ليســت
هناك حركـة تـدغم أ مـع ال -أ ،إخل ،إخل .إزاء حتـول الشـرنقة إىل فراشـة واملراهـق إىل
راشد ،يصبح «قانون التماثل» غري كاف ،بوضوح.
إن غض النظـر عـن احلركـة والتحـول والتبـدالت مفيـد مـن زاويتـني :أوال للـتمكن
مــن دراســة ظــاهرات معينــة بصــورة معزولــة ومتواصــلة ،وهــو مــا يســمح ،دون شــك،
بتعمي ــق معارفن ــا ح ــول ه ــذه الظ ــاهرات .وبالت ــايل ،م ــن زاوي ــة عملي ــة ،ح ــني تك ــون
التبدالت احلادثة طفيفة للغاية حبيث ميكن جتاهلها عمليا.
فإذا اشرتيت كيلو سكر من حانوت السمان ،فاملساواة اليت يشري إليهـا امليـزان:
1ك ــج س ــكر = 1ك ــج ،ذات قيم ــة بالنس ــبة إيل ،نظـ ـرا لله ــدف العمل ــي للشـ ـراء.
فللتمكن من حتلية قهويت واإلبقاء على توازن موازنيت املنزلية ،ال يهم كثريا أالّ يكون
ال ــوزن الفعل ــي هل ــذه الرزم ــة كيل ــو غرام ــا ،ب ــل فق ــط 777غ ،وأن يك ــون وزن تل ــك
الرزمة األخرى 7,2غ (بسبب رطوبة اجلـو علـى األقـل) ،ففـرق صـغري جـدا ميكـن
جتاهلها من الزاوية العملية.
هــذا هــو الســبب يف أن املنطــق الصــوري مــا ي ـزال يســتخدم يف النظريــة كمــا يف
املمارس ــة ،ويف أن ال ــديالكتيك امل ــادي ال «ينك ــر» املنط ــق الص ــوري ب ــل يس ــتوعبه،
يعت ــربه أداة حتلي ــل ومعرف ــة مقبول ــة -لك ــن مقبول ــة ش ــرط فه ــم ح ــدودها :أي فه ــم
اســتحالة تطبيقهــا علــى ظــاهرات احلركــة وســريورة التبــدل .فمــذ نصــبح إزاء هكــذا
ظــاهرات يفــرض اللجــوء إىل مقــوالت الــديالكتيك ،أو منطــق احلركــة ،نفســه ،وهــي
مقوالت خمتلفة عن مقوالت املنطق الصوري.
173
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
وحركــة الشــيء ،مــن وجهــة النظــر الديناميــة ،هــي بالتحديــد انتقالــه مــن نقطــة إىل
أخرى.
يــدرس الــدياليكتيك أو منطــق احلركــة إذا ق ـوانني احلركــة علــى وجــه اخلصــوص،
واألشــكال الــيت تتبناهــا .وســوف نــتفحص تلــك الق ـوانني مــن وجهتــني :احلركــة تبعــا
للتناقض ،واحلركة تبعا للكلية.
لكل حركة سبب دائما ،والسـببية واحـدة مـن مقـوالت الـدياليكتيك األساسـية،
متامــا كمــا هــي مقولــة أساســية يف كــل علــم .وإنكــار الســببية هــو إنكــار إلمكانيــة
املعرفة ،يف هناية املطاف.
إن الســبب األخــري لكــل حركــة ،ولكــل تبــدل ،يكمــن يف التناقضــات الداخليــة
للموضــوع املتبــدل .كــل موضــوع ،كــل ظــاهرة ،يتغــري ،يتحــرك ،يتعــدل ،ويتحــول يف
التحليــل األخــري حتــت تــأثري تناقضــاته الداخليـة والتناقضــات الــيت تنــتج عــن عالقاتــه
بظاهرات أخرى (تناقضـات داخليـة يف « نظـام » املوضـوعات والظـاهرات الـيت هـو
جــزء منهــا) .هبــذا املعــىن ،غالبــا مــا مســي الــدياليكتيك ،حبــق ،علــم التناقضــات .إن
منطق احلركة ومنطق التناقضات تعريفان متماثالن عمليا للديالكتيك.
ينبغ ــي إذا لتحلي ــل ك ــل موض ــوع ،وك ــل ظ ــاهرة أو جمموع ــة م ــن الظ ــاهرات ،أن
يهدف لتحديد ما هي عناصره املكونـة املتناقضـة ،ومـا هـي احلركـة أو الديناميـة الـيت
تستثريها تلك التناقضات.
هكذا رأينا على امتداد عرضنا إىل أي حد يقوم الصراع الطبقي -وهـو حمصـلة
وجــود طبقــات اجتماعيــة متضــادة داخــل اجملتمــع -بتوجيــه حركــة تــاريخ اجملتمعــات
املنقسمة إىل طبقات .ميكننا أن نقول ،وحنن نشمل يف الوقت ذاتـه اجملتمـع البـدائي
غــري الطبقــي واجملتمــع املنقســم إىل طبقــات واجملتمــع االشـرتاكي القــادم ،أن التنــاقض
بني املستوى الذي بلغه يف بعض العهود تطـور قـوى اإلنتـاج (درجـة حتكـم اإلنسـان
174
الدياليكتيك املادي
175
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
ميكــن لقريــة صــغرية أن تتحــول تــدرجييا إىل قريــة كبــرية أو دســكرة ،ال بــل إىل مدينــة
صغرية .لكن بني مدينة وقرية ،ليس هنالك فرق كمي (عدد السكان واألبنية ،اخل)
وحســب ،بــل كــذلك فــرق نــوعي .فالنشــاط املهــين الغلبــة الســكان قــد تغــري ،وحــل
حمل املزارع العامل واملستخدم .لقد ولـدت بيئـة اجتماعيـة جديـدة تطـرح مشـكالت
اجتماعية مل تكن قائمة يف القرية ،من مثل مشكلة النقل املشـرتك ،وتظهـر طبقـات
اجتماعية جديدة وتناقضات جديدة فيما بينها.
جـ .النفي والتخطي
كل حركة متيل النتاج نفي لبعض ظاهراهتا ،ولتحويـل موضـوعات إىل نقيضـها.
احليــاة تنــتج املــوت ،وال ميكــن الشــعور بــاحلرارة إالّ تبعــا للــربد ،واجملتمــع الــال طبقــي
ينــتج اجملتمــع املنقســم إىل طبقــات ،الــذي ينــتج بــدوره جمتمعــا غــري طبقــي .إالّ أنــه
ينبغي التمييز بني النفي «الصرف» و«نفـي النفـي» ،الـذي هـو ختطـي التنـاقض إىل
مستوى أعلى ،يستتبع يف الوقت ذاته نفيا وحمافظة وارتفاعا إىل مستوى أعلى .لقد
كان للمجتمع البدائي الالطبقـي مسـتوى عـال مـن التماسـك الـداخلي ،تبعـا لفقـره
علــى وجــه التحديــد ،وخلضــوعه شــبه الكلــي لقــوى الطبيعــة .إن اجملتمــع املنقســم إىل
طبقات هو مرحلة من السيطرة العليا لإلنسان على قوى الطبيعة ،مثنها متزق أعمـق
للتنظـيم االجتمـاعيّ .أمـا يف اجملتمـع االشـرتاكي القـادم فهـذا التنـاقض سـيتم ختطيــه،
وســوف ينــدمج إذاك شــكل رفيــع مــن ســيطرة اإلنســان علــى الطبيعــة بشــكل رفيــع
أيضا من التماسك االجتماعي والتعاضد ،بفضل وجود جمتمع ال طبقي.
176
الدياليكتيك املادي
املضمون ،وهو يتوافق معه إذا ،إالّ أن ذلك ال يتعدى درجة معينة .فطبيعة الشكل
األكثــر حتجـرا تتعــارض مــع كــل توافــق مطلــق ودائــم مــع حركــة هــي النقــيض بالــذات
لكل ما هو متحجر.
ب .األسباب والنتائج
كل حركة تربز كسلسلة متداخلة من األسباب والنتـائج ،ميزجهـا بعضـها بـبعض
تفاعــل معقــد جــدا ،للوهلــة األوىل .إن ســبب العمــل املــأجور هــو التملــك اخلــاص
لوســائل االنتــاج الــيت أصــبحت حكـرا علــى طبقــة اجتماعيــة ،إالّ أن هــذا االحتكــار
يس ــتمر بالض ــبط كنتيج ــة للعم ــل امل ــأجور .ف ــاألجور ال تس ــمح باكتس ــاب العم ــال
وسائل اإلنتاج ،والعمل املأجور ينتج فائض قيمة يستملكه الرأمسـاليون ويتحـول إىل
ملكية بورجوازية لوسائل إنتاج إضافية ،وهكذا دواليك.
لك ــي ال نق ــع يف انتقائي ــة مبتذل ــة وعقيم ــة ،علين ــا تطبي ــق الطريق ــة التكوني ــة ،أي
البحــث عــن األصــل التــارخيي للحركــة الــيت حنـن بصــددها .هكــذا جنــد أن رأس املــال
وفائض القيمة سـابقان للعمـل املـأجور ،وأهنمـا انبثقـا مـن خـارج دائـرة اإلنتـاج ،وأنـه
قد حصل تراكم بدائي لرأس املال ،يكسر حلقة األسباب والنتائج ،عمل مـأجور-
رأس املال-عمل مأجور ،هذه احللقة املقفلة يف الظاهر.
جـ .العام واخلاص
لكل حركـة وكـل ظـاهرة ميـزات خاصـة هبـا .ورغـم هـذه امليـزات النوعيـة اخلاصـة،
فكــل حركــة ،كــل ظــاهرة ،ال ميكــن فهمهــا وتفســريها إالّ يف إطــار جمموعــات أوســع
وأعــم ،فالرأمساليــة الربيطانيــة يف القــرن التاســع عشــر ال تشــبه الرأمساليــة الربيطانيــة يف
النصــف الثــاين مــن القــرن العش ـرين ،وال الرأمساليــة األمريكيــة احلاليــة .كــل مــن هــذه
الرأمساليــات ميثــل تكوينــا اجتماعيــا خاصــا ،مــع االخن ـراط اخلــاص يف اقتصــاد عــاملي
تغ ــري ج ــدا يف ظ ــرف ق ــرن .بي ــد أن ــه ال ميك ــن فه ــم الرأمسالي ــة الربيطاني ــة يف العص ــر
الفيكتوري ،وال الرأمسالية الربيطانية اآلفلة املعاصـرة ،وال الرأمساليـة األمريكيـة احلاليـة،
177
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
خارج قوانني التطور العامة اليت تطبع الرأمسالية عمومـا .فالـديالكتيك العـام واخلـاص
ال يكتفـي ب ـ«دغـم» حتليــل «العـام» و«اخلـاص» .إنـه جيتهــد يف تفسـري اخلـاص تبعــا
للقوانني العامة ،ويف تعديل القوانني العامة تبعا لفعل العديد من العوامل اخلاصة.
د .النسيب واملطلق
إن فهــم احلركــة أو التبــدل الشــامل هــو فهــم وجــود مــا ال هنايــة لــه مــن احلــاالت
االنتقاليــة« .احلركــة هــي وحــدة التواصــل واالنقطــاع» (هيغــل) .لــذا فــإن واحــدة مــن
امليـزات األساســية للــديالكتيك هــي فهــم نســبية األشــياء ،هــي رفــض إقامــة ح ـواجز
مطلق ــة ب ــني املق ــوالت ،الس ــعي وراء توس ــطات ب ــني العناص ــر املتعارض ــة .ويس ــتتبع
التط ــور الش ــامل وج ــود ظ ــاهرات هجين ــة ،وج ــود أوض ــاع وح ــاالت «انتقالي ــة» ب ــني
احليات واملوت ،بني األنواع النباتية واحليوانية ،بني العصـافري والثيـديات ،بـني القـرود
واإلنسان ،جتعل التمايزات بني كل هذه املقوالت نسبية.
بي ــد أن ال ــدياليكتيك ق ــد اس ــتخدم مـ ـرارا عدي ــدة بص ــورة ذاتي ــة ،ك ـ ـ«ف ــن خل ــط
املفارق ــات» أو «ف ــن ال ــدفاع ع ــن املفارق ــات» .ويكم ــن الف ــرق ب ــني ال ــدياليكتيك
العلمـ ــي ،أداة معرفـ ــة الواقـ ــع ،والـ ــديالكتيك الـ ــذايت أو السفسـ ــطائية ،يف أن نسـ ــبية
الظــاهرات واملقــوالت تصــبح بــدورها شــيئا مطلقــا لــدى السفســطائيني .إهنــم ينســون
(أو يتناسون) أن نسبية املقوالت ليست سوى نسبية جزئية ،ال نسبية مطلقة ،وأنه
ينبغي إذا تنسيب النسبية.
يق ــول ال ــديالكتيك العلم ــي أن الف ــرق «املطل ــق» ب ــني احلي ــاة وامل ــوت حي ــد م ــن
إطالقيته وجود حاالت إنتقاليـة .كـل شـيء نسـيب ،فلـيس الفـرق بـني احليـاة واملـوت
إذا إال نس ـ ـ ـ ــبيا ،إذا مل يك ـ ـ ـ ــن مع ـ ـ ـ ــدوما ،حس ـ ـ ـ ــب ادع ـ ـ ـ ــاء السفس ـ ـ ـ ــطائي .إالّ أن
الديالكتيكي يرد عليه بقوله :مثة شيء مطلق يف الفرق بني احلياة واملـوت ،ال نسـيب
وحسب .جيـب أالّ خنـرج باالسـتنتاج العبثـي الـذي يكمـن يف إنكـار أن املـوت يبقـى
نفي احلياة ،إنطالقا من الواقع الثابت أن مثة العديد من املراحل الوسطية.
178
الدياليكتيك املادي
179
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
العمل ــي .إن بع ــض املفكـ ـرين غ ــري ال ــديالكتيكيني ميض ــون م ــن الكل ــي إىل اجلزئ ــي،
مفــرغني التنــاقض والكليــة يف الوقــت ذاتــه ،وذلــك فيمــا يغمضــون األعــني إزاء بعــض
عناصر الواقع املتناقضة اليت تبدو كما لو كانت جتعل التحليل « عظيم التعقيد ».
طبعا إن اختزاال ما« ،حصرا» لـ«الكليـة» بعناصـرها املكونـة احلامسـة ،أمـر حمتـوم
كمســعى أول ملقاربــة أي حتليــل علمــي .وهــذا األخــري هــو يف البــدء جمــرد بالضــرورة،
فب ــدون ه ــذا التجري ــد يس ــتحيل حتلي ــل الظ ــاهرة يف حركته ــا وم ــع تناقض ــاهتا .ك ــل
«تفســري» يبق ــى متعلق ــا بالظ ــاهرات الظ ــاهرة هــو وص ــف أكث ــر من ــه تفس ــري علم ــي
جلوهر تلـك الظـاهرات .إن األسـعار مـثال هـي ظـاهرات ظـاهرة ،والقيمـة ،أو العمـل
االجتماعي ،هي اجلوهر.
إالّ أنــه ينبغــي أالّ ننســى أن س ـريورة التجريــد احملتومــة هــذه تفقــر الواقــع .فكلمــا
اقرتبنا أكثر من الواقع كلما اقرتبنا من كلية غنية مبا ال حيصـى مـن الوجـوه الـيت علـى
التحليـل العلمـي واملعرفـة أن يفسـراها يف عالقاهتـا املتبادلـة ويف عالقاهتـا املتناقضــة يف
الوقت ذاته« :احلقيقة دائما ملموسة » (لينني) « .احلقيقي هو الكلية » (هيغـل).
إن الكلية هي جممل اجلوهر ،ومظاهره ،والتوسطات اليت تفسـر ملـاذا يتجلـى اجلـوهر
يف هذه املظاهر بالضبط ال يف مظاهر أخرى.
.7النظرية والممارسة
إن الدياليكتيك نظرية ،أو أداة ،للمعرفة .ميكن أن نعـرف الـدياليكتيك املـادي،
تارخييا ،كنظرية املعرفة لدى الربوليتاريا (وهـو مـا ال يـنقص يف شـيء طابعهـا العلمـي
املوضــوعي الــذي يتطلــب تثبتــا دائمــا ،وصــارما ،وموضــوعيا ،مــن دون مســبقات أو
حتيّـزات ،يف امليــدان العلمــي أيضــا) .وكــل نظريـة للمعرفــة ختضــع المتحــان صــارم هــو
امتحان املمارسة.
ليس ــت املعرف ــة ذاهت ــا ،يف التحلي ــل األخ ــري ،ظـ ـاهرة منفص ــلة ع ــن حي ــاة الن ــاس
ومصاحلهم .فهي سالح للمحافظة على النوع ،وسالح يسـمح لالنسـان بالسـيطرة
181
الدياليكتيك املادي
علــى قــوى الطبيعــة ،وســالح لفهــم (الحــق) جلــذور «املســألة االجتماعيــة» ووســائل
حلهــا .لقــد انبثقــت املعرفــة إذا مــن املمارســة االجتماعيــة لــدى االنســان ،ووظيفتهــا
حتسـ ــني هـ ــذه املمارسـ ــة .وتقـ ــاس فعاليتهـ ــا يف التحليـ ــل األخـ ــري بنتائجهـ ــا العمليـ ــة،
فالتثبت العملي من صحتها أفضل سالح ضد السفسطائيني واملتشككني.
ال يعــين ذلــك أن النظريــة تــذوب يف برنــامج مبتــذل قصــري النظــر .فغالبــا مــا ال
تظه ــر ف ــورا الفعالي ــة العملي ــة ،والط ــابع «الص ــحيح» أو«املغل ــوط» لفرض ــية علمي ــة.
هنا ل ـ ــك حاج ـ ــة للوق ـ ــت ،للمس ـ ــافة ،لتج ـ ــارب جدي ـ ــدة ،ولسلس ـ ــلة متتالي ـ ــة م ـ ــن
«امتحانات املمارسة» قبل أن يتمكن الطابع العملي لنظرية حمددة من فرض نفسه
فعليا يف املمارسة .ميكن للعديـد مـن الرجـال والنسـاء ،أسـرى املظـاهر ،وأسـرى رؤيـة
جزئية وسطحية للواقع ،رؤية مؤقتة للسريورة الثورية (اليت حتددها بدورها أيديولوجية
الطبق ــات أو الشـ ـرائح االجتماعي ــة غ ــري الثوري ــة) ،أن يش ــكوا ،رغ ــم أفض ــل النواي ــا
والقناعات االشرتاكية ،بعضهم بالطابع البورجـوازي للدميوقراطيـة الربملانيـة ،وبعضـهم
بضـ ــرورة ديكتاتوري ـ ــة الربوليتاري ـ ــا ،وال ـ ــبعض اآلخـ ــر بض ـ ــرورة انتص ـ ــار الث ـ ــورة األممي ـ ــة
الستكمال بناء جمتمع اشرتاكي حقا يف االحتاد السوفيايت أو يف بلد آخر.
بيــد أن الوقــائع تنتهــي يف خامتــة املطــاف باثبــات أي نظريــة كانــت علميــة حقــا،
أي قــادرة علــى فهــم الواقــع بكــل تناقضــاته ،وكــل حركتــه االمجاليــة وأي الفرضــيات
كانــت خاطئــة ،إي قــادرة علــى أن تفهــم فقــط أج ـزاء مــن الواق ـع ،عــرب عزهلــا عــن
الكليــة املبنيــة ،وبالتــايل عــاجزة عــن فهــم احلركــة علــى املــدى الطويــل بالــدياليكتيكها
األساســي .إن انتص ــار الثــورة االش ـرتاكية العامليــة ،وبل ــوغ جمتمــع ال طبق ــي ،س ــوف
يثبتان عمليا صحة النظرية املاركسية الثورية.
المراجع
فريدريك إجنلز ،لودينغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكالسيكية األلمانية.
181
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
182
()17
المادية التاريخية
نــرى يف اخلتــام أن نصــوغ بصــورة أكثــر منهجيــة املوضــوعات األساســية للماديــة
التارخيية ،اليت جرى اإلملام هبا سريعا يف الفصول األوىل من هذا الكتيب.
املخلوق الذي أصـبح إنسـانا حيـوان خـاص مـن حيـث مواصـفاته ونقـاط ضـعفه
البدنية .فمن جهـة هنـاك القامـة الواقفـة ،واليـد ذات اإلهبـام احلـر واملطـواع ،والعينـان
املرتفعتــان اللتــان تســمحان بالرؤيــة الناتئــة ،واللســان واحللــق واألوتــار الصــوتية الــيت
تسمح بالتلفظ بأصوات متقطعة ومدموجة ،والفـص اجلبهـي مـن الـدماغ والتالفيـف
املخية وقشـرة الـدماغ املتطـورة جـدا ،والتكـوير اجلمجمـي واحلـد مـن مسـاحة الوجـه،
اليت تسمح هبذا التطور :هذه الصفات اجلسدية مجيعا ال غىن عنها مـن أجـل صـنع
األدوات ،وهي تتحسن مع حتسن األدوات والعمل اإلنتاجي.
لكـن مــن جهــة أخــرى ،معظــم احلـواس واألعضــاء البشــرية أقــل تطــورا منهــا لــدى
أن ـواع حيوانيــة متخصصــة جــدا .فلــم يكــن بوســع اإلنســان البــدائي ،املضــطر حتــت
وطأة تغيـري يف املنـاخ حتمـا للرتجـل مـن األشـجار والعـيش يف السـهول املعشـبة علـى
غــذاء متنــوع ،أن يــدافع عــن نفســه ضــد آكــالت اللحــوم مــن احليوانــات عــن طريــق
ال ـ ــركض ك ـ ــالظيب ،وال ع ـ ــن طري ـ ــق التس ـ ــلق كالش ـ ــمبانزي ،وال ع ـ ــن طري ـ ــق الط ـ ـريان
كالعصــفور ،وال باالكتفــاء بقوتــه البدنيــة كاجلــاموس أو الغــوريال ،وال بفضــل قوقعــة
كتلك اليت لوحيد القرن .مل يكـن بوسـعه احلصـول لوحـده علـى الغـداء األكثـر إثـارة
للقابلي ــة ،نظـ ـرا لوج ــود ع ــدد ال حيص ــى م ــن اجملـ ـرتات ال ــيت تع ــيش مع ــه يف الس ــهل
املعشــب .مث أن الوليــد البشــري كــان س ـريع العطــب وعــاجزا بوجــه خــاص ،وغرائــزه
183
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
قليل ــة النم ــو بوض ــوح ،وه ــو مبثاب ــة جن ــني حقيق ــي خ ــارج ال ــرحم حمت ــاج كلي ــا لعناي ــة
أمهـات اجلماعـة (إن وضــع الوقـوف الــذي ضـيّق حـوض النســاء سـاهم بالتأكيــد يف
هذا الطابع املبكر للوضع لدى أفراد اجلنس البشري).
يف هـ ــذا اخللـ ــيط مـ ــن املي ـ ـزات ونقـ ــاط الضـ ــعف متـ ــد اجلـ ــذور إمكانيـ ــة التنظـ ــيم
االجتماعي وضرورته .فاإلنسان عاجز عن احلياة منعزال وعـن تـأمني معيشـته خـارج
التعــاون مــع آخـرين مــن نوعــه .وال تســمح لــه أعضــاء جســده غــري الناميــة باحلصــول
مباشــرة علــى طعامــه ،إذ عليــه أن ينــتج هــذا الطعــام بصــورة مجاعيـة ،بواســطة أدوات
تشكل امتدادا ألعضائه وحتسينا هلا .ذلك هو العمل املشـرتك جملموعـة بشـرية تـؤمن
هذا اإلنتاج .إن األطفال البشريني ينـدجمون باجلماعـة عـن طريـق الكسـب التـدرجيي
للطـ ــابع االجتمـ ــاعي ويتعلمـ ــون قواعـ ــد االسـ ــتمرار يف احليـ ــاة وتقنيتـ ــه كأعضـ ــاء يف
اجلماعة.
إن التنظــيم االجتمــاعي للبشــر واكتســاب األطفــال الطــابع االجتمــاعي يفرضــان
مســبقا أشــكاال عاليــة نوعيــا مــن التواصــالت بــني أعضــاء اجلماعــة البشـرية ،بالنســبة
إىل تلك اليت تعرفها أنواع حيوانية أخرى .هذه األشـكال الرفيعـة مـن اللغـة ،املرتبطـة
بتطــور القشــرة الدماغيــة ،تســمح بــانطالق القــدرة علــى التجريــد ،وعلــى الــتعلم ،أي
حفــظ دروس التجــارب ونقلهــا ،كمــا تســمح بإنتــاج املفــاهيم والفكــر والــوعي .هبــذا
املع ــىن ،تـ ـرتبط مواص ــفات اإلنس ــان املختلف ــة « -ص ــفتنا األنرتبولوجي ــة» -ارتباط ــا
وثيقا بعضها بالبعض اآلخر .فلكون االنسان «قردا عاريـا يسـري واقفـا» وألنـه يبقـى
بعد والدتـه «جنينـا خـارج الـرحم» ،عليـه أن يصـري صـانع أدوات ،حيوانـا اجتماعيـا
مطــورا للغتــه ،خيتــزن االنطباعــات والصــور املتتاليــة ،قــادرا علــى اســتخدامها لغايــات
التجريد ،قادرا على التفكري والتخيل واالخرتاع.
إن التفاعـل بــني هــذه املواصـفات ودغمهــا أمــر حاســم ،فثمـة قــرود متطــورة جــدا
تســتخدم أدوات وتس ــتطيع ح ــىت أن تتخط ــى أحيان ــا عتب ــة ص ــناعتها البدائي ــة ،ومث ــة
العديد من األنواع اليت تعرف أشكاال غريزية من التعاون اجلمـاعي ،ال بـل مثـة أنـواع
184
املادية التارخيية
كثــرية تعــرف أشــكاال بدائيــة مــن التواصــل .إالّ أن النــوع البشــري هــو الوحيــد القــادر
علــى صــنع األدوات بصــورة واعيــة أكثــر فــأكثر ،مــن أجــل أن تصــري أكثــر فــأكثر
اتقان ــا ،بع ــد أن مت تص ــميمها عل ــى ه ــذا احل ــال بش ــكل واع ،عل ــى قاع ــدة التجرب ــة
التدرجييــة ،الــيت يــتم نقلهــا بفضــل وســائل اتصــال أكثــر فــأكثر تنوعــا وأكثــر فــأكثر
اتقانـا .فـاألدوات تسـمح بتحريـر الفهـم ،وهـو مـا يسـمح بتحسـني األداة عـن طريــق
إتقان اللغة والقدرة على التجريدّ .أما اليد فتطور الدماغ الذي خيلـق شـروط حتسـني
قدراته عن طريق حتسني استخدام اليد.
إذا كــان حتويــل املقــدمات البشـرية إىل بشــر مشــروطا بوجــود بنيــة حتتيــة تشــرحيية
وعصــبية ،فهــو ال يقتصــر علــى هــذه البنيــة التحتيــة .فالــديالكتيك «إنتــاج /وســائل
اتصال» خيلق إمكانيـة تطـور غـري حمـدود لصـنع األدوات ،وبالتـايل اإلنتـاج البشـري،
تط ــور غ ــري حم ــدود للتج ــارب وإمكان ــات ال ــتعلم البش ـرية ،إذا مطاوع ــة وق ــدرة عل ــى
التكيف غري حمدودتني عمليـا لـدى اجلـنس البشـري .يصـبح اجملتمـع وثقافـة اإلنسـان
املادية طبيعته الثانية.
ينتج عن ذلك أنـه مـن العبـث إعـالن هـذه أو تلـك مـن املؤسسـات االجتماعيـة
(امللكية اخلاصة ،انعدام امللكية اخلاصة) «متعارضة مع الطبيعة البشرية» ،فاإلنسان
عاش ،وميكنه أن يعيش ،ضمن أقصى الشروط تنوعا ،وما من مؤسسة بدت ممتنعة
على التحول أو شرطا مسبقا مطلقا الستمرار اإلنسان على قيد احلياة .إن التأكيد
أن «الغريزة العدوانية» سوف هتيمن على التطور البشـري إمنـا هـو اخللـط بـني وجـود
ميل (يتعايش يف كـل حـال مـع نفيـه ،الـذي هـو غريـزة احلـس االجتمـاعي والتعـاون)
وحتقيق ــه .فالت ــاريخ وم ــا قب ــل الت ــاريخ يؤك ــدان وج ــود مؤسس ــات وش ــروط اجتماعي ــة
تسمح باحتواء هذا االجتاه وكبته ،بينما مثة مؤسسـات أخـرى تشـجع علـى العكـس
جتليه األكثر فأكثر إفراطا.
إن ديالكتيــك «اإلنتــاج -التـواص » يــتحكم بالشــرط اإلنســاين بكاملــه .فكــل
مـا يصــنعه اإلنســان «ميــر عــرب رأســه» ،واإلنتــاج البشــري يتميــز عــن التملــك احليـواين
185
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
للغذاء بواقع كونه لـيس نشـاطا غريزيـا .إنـه يشـكل عمومـا تنفيـذا ملشـروع جيـول أوال
يف رأســه ،إالّ أن هــذا «املشــروع» ال يســقط مــن الســماء ،وهــو لــيس ســوى عمــد
دم ـ ــاغ اإلنس ـ ــان إىل إع ـ ــادة إنت ـ ــاج ،أو ت ـ ــأليف ،عناص ـ ــر نش ـ ــاطات ال غ ـ ــىن عنه ـ ــا
الستمراره ومشكالهتا ،اليت اختربها هذا الدماغ وسجلها مئات املرات علـى أسـاس
ممارســة فعليــة .إن املاديــة التارخييــة هــي علــم اجملتمعــات اإلنســانية الــذي حيــاول أن
يعطي صورة عن ديالكتيك «اإلنتاج -التواصالت البشرية» وأن يشرحه.
علــى كــل جمتمــع بشــري أن ينــتج لكــي يســتمر علــى قيــد احليــاة ،فإنتــاج وســائل
العــيش -بــاملعىن الضــيق أو الواســع للكلمــة ،أي كفايــة احلاجــات االســتهالكية -
وأدوات العمــل وم ـواده الضــرورية هلــذا اإلنتــاج ،هــو الشــرط املســبق لكــل تنظــيم أو
نشاط اجتماعي أكثر تعقيدا.
تعت ــرب املادي ــة التارخيي ــة أن الطريق ــة ال ــيت ي ــنظم الن ــاس وفق ــا هل ــا إنت ــاجهم امل ــادي
تشــكل أســاس كــل تنظــيم اجتمــاعي .وحيــدد هــذا األســاس بــدوره كــل النشــاطات
االجتماعيــة األخــرى ،مــن مثــل إدارة العالقــات بــني اجلماعــات البش ـرية (ال ســيما
ظهــور الدولــة وتطورهــا) ،واإلنتــاج الفكــري ،والقــانون واألخــالق والــدين اخل .وهــذه
النشــاطات العائــدة -كمــا يقــال -للبنيــة الفوقيــة يف اجملتمــع ،يــتم ربطهــا باألســاس
دائما ،بصورة أو بأخرى.
لقــد صــدمت هــذه الفكــرة الكثــري مــن النــاس وال ت ـزال تصــدمهم .فهــل ميكــن
لألناجي ــل ،وش ــعر ه ــومريوس ،ومب ــادئ احل ــق الروم ــاين ،ومس ــرح شكس ــبري ،ورس ــم
ميكــايالنج ،وإعــالن حقــوق اإلنســان ،والبيــان الشــيوعي بالــذات ،أن تتوقــف علــى
الطريقــة الــيت كــان معاصــروها حيرثــون حقــوهلم وفقــا هلــا أو يــدعكون األج ـواخ ؟ إن
فهم موضوعة املادية التارخيية يتطلب البدء بصياغتها بشكل صحيح.
186
املادية التارخيية
ال تؤكد املادية التارخيية أبدا أن اإلنتاج املـادي (« العامـل االقتصـادي ») حيـدد
بص ــورة مباش ــرة وفوري ــة مض ــمون ك ــل النش ــاطات ،ال ــيت تنس ــب إىل البني ــة الفوقي ــة،
وشـكلها .واألسـاس االجتمـاعي -لـيس النشــاط اإلنتـاجي مـن حيـث هـو كــذلك،
كما ليس «اإلنتاج املادي» منظورا إليه لوحده ،بـل هـو العالقـات االجتماعيـة الـيت
يعق ــدها الن ــاس فيم ــا ينتج ــون حي ــاهتم املادي ــة .فاملادي ــة التارخيي ــة ليس ــت إذا حتمي ــة
اجتماعية -اقتصادية.
مث إن النش ــاطات عل ــى مس ــتوى البني ــة الفوقي ــة ال ت ــنجم مباش ــرة ع ــن عالق ــات
اإلنت ــاج االجتماعي ــة ه ــذه ،وال تتح ــدد هب ــا إالّ بالدرج ــة األخ ــرية .فب ــني مسـ ــتويي
النشـاط االجتمــاعي سلسـلة مــن التوسـطات ســوف منـر هبــا بإجيـاز يف النقطــة الثالثــة
من هذا الفصل.
أخ ـ ـ ـريا ،إذا كـ ـ ــان األسـ ـ ــاس االجتمـ ـ ــاعي حي ـ ــدد بالتحليـ ـ ــل األخـ ـ ــري الظـ ـ ــاهرات
والنش ــاطات عل ــى مس ــتوى البني ــة الفوقي ــة ،ميك ــن هل ــذه اإلخ ــرية أن تبادل ــه الفع ــل.
ونكتف ــي مبث ــال يف ه ــذا اجمل ــال .فللدول ــة عل ــى ال ــدوام طبيع ــة طبقي ــة حم ــددة ،وه ــي
تتناسب ذا مع قاعدة اجتماعية -اقتصادية حمددة ،إالّ أهنا تسـتطيع بـدورها تعـديل
تلك القاعدة جزئيا .فدولة امللكية املطلقة (يف القرون السادس عشر والسـابع عشـر
والثامن عشر ،يف أوروبا) الـيت علمـت خـالل قـرون عديـدة علـى انقـاد طبقـة النـبالء
اإلقطاعية من الدمار االقتصادي عن طريق اقتطاعات من مداخيل طبقة اجتماعية
أخــرى ،كانــت إىل حــد بعيــد وراء إحــالل منــط اإلنتــاج الرأمســايل حمــل منــط اإلنتــاج
اإلقطاعي عرب تطوير املركنتيلية واالستعمار وتشـجيع املـانيفكتورات والنظـام النقـدي
القومي ،اخل.
إن ك ــون النش ــاطات عل ــى مس ــتوى البني ــة الفوقي ــة تتح ــدد يف التحلي ــل األخ ــري
بالقاعدة االجتماعية ميكن تفسريه بعدة أسباب .فمن يشرفون على اإلنتـاج املـادي
وفائض اإلنتاج اإلجتماعي يشرفون يف الوقـت ذاتـه علـى مـن يتعيشـون علـى فـائض
اإلنتــاج االجتمــاعي .وسـواء وافــق املنظــرون والفنــانون والعلمــاء علــى هــذه التبعيــة أو
187
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
متــردوا عليهــا ،فهــي حتــدد مــع ذلــك إطــار نشــاطهم .والعالقــات االجتماعيــة علــى
صعيد اإلنتـاج تولـد نتـائج مـن حيـث أشـكال النشـاط يف دائـرة البنيـة الفوقيـة ،وهـذا
أيضــا مــن قبيــل التكييــف هلــا والــتحكم هبــا .إن عالقــات اإلنتــاج ترتافــق بأشــكال
تواصـل مسـيطرة يف كــل منـوذج مــن اجملتمعـات ،وهـو مــا يـؤدي إىل ظهــور بـىن ذهنيــة
مسيطرة تكيّف أشكال الفكر واخللق الفين اخل .اخل.
إن ديالكتي ــك األس ــاس/البني ــة الفوقي ــة االجتم ــاعيني يعي ــدنا إىل العالق ــات ب ــني
اإلنتاج املادي واإلنتاج الفكري .ويسمح تفحص أكثر تعمقا هلذه العالقـات بفهـم
افضل لتعقيد هذا الدياليكتيك ،كما يسـمح كـذلك بـإبراز أمهيـة العنصـر الفاعـل يف
هذا الدياليكتيك ،وهو عنصر ستتم معاجلته يف هناية هذا الفصل.
تعترب املادية التارخيية أن عالقات اإلنتاج تشكل أساس كـل جمتمـع ،الـذي تقـوم
علي ــه البني ــة الفوقي ــة :ه ــذان املس ــتويان يتعلق ــان يف الواق ــع بش ــكلني متم ــايزين م ــن
النش ــاط االجتم ــاعي .فاإلنت ــاج امل ــادي ه ــو املوض ــوع األساس ــي للنش ــاطات عل ــى
مس ــتوى األس ــاس االجتم ــاعي واإلنت ــاج األي ــديولوجي (الفلس ــفي وال ــديين والق ــانوين
والسياســي ،اخل) واإلنتــاج الفــين والعلمــي هــو املوض ـوع األساســي للنشــاطات علــى
مستوى البنية الفوقية االجتماعية .طبعا تشمل هذه األخـرية أيضـا نشـاطات جهـاز
الدولة الـيت ال تقتصـر أبـدا علـى امليـدان اإليـديولوجي وحـده (عاجلنـا مشـكلة الدولـة
يف الفصل الثالث) .لكن إذا استثنينا ذلك ،يبدو التمييز الذي أدخلناه مالئما.
وجتته ــد املادي ــة التارخيي ــة يف ش ــرح تط ــور ك ــل م ــن ه ــاتني ال ــدائرتني ،وت ــداخلهما
وعالقاهتما املتبادلة ،هذا الشرح يدمج أربعة مستويات من التحديد:
أ -كــل إنتــاج فكــري م ـرتبط بصــورة أو بــأخرى بســريورات عمــل مــادي ،وه ــو
يعمــل علــى الــدوام مــع بنيــة حتتيــة ماديــة خاصــة بــه .إن بعــض الفنــون هــي يف البــدء
188
املادية التارخيية
انبثاق مباشر من العمل املادي (الوظيفة السحرية للرسم البدائي ،أصول الـرقص يف
وضع قواعد احلركات اإلنتاجية ،دمج األناشيد يف اإلنتاج ،اخل.).
إن الثورات التكنولوجية تؤثر تأثريا عميقا يف الفن والعلم واإلنتاج األيـديولوجي،
ومثــة علــوم كاهلندســة وعلــم الفلــك واهليــدروغرافيا والبيولوجيــا والكيميــاء انبثقــت يف
عالقة وثيقـة مـع الزراعـة املرويـة والرتبيـة املتقدمـة للمواشـي وعلـم التعـدين الوليـدّ .أمـا
تقنية الطباعة يف القرن السـادس عشـر ،والراديـو والتلفزيـون يف القـرن العشـرين ،فهـي
مل تــؤثر فقــط تــأثريا عميقــا علــى نشــر األفكــار ،بــل كــذلك علــى شــكلها ،وبعــض
مضامينها .وال جدال يف تأثري اآلالت اإلليكرتونية على تطور العلم خالل الثالثـني
سنة األخرية.
ب -كــل إنتــاج فكــري يتطــور تبعــا لــدياليكتيك داخلــي خــاص بتارخيــه .فكــل
فيلسوف ،أو حقوقي ،أو كاهن ،أو عامل ،يبدأ طالبا ،وعرب دراساته يتمثل مفاهيم
(أو أنظمــة مفــاهيم) مت إنتاجهــا ســابقا ونقله ــا مــن حيــث هــي مفــاهيم إىل اجلي ــل
احل ـ ــايل .إن املنتج ـ ــني الفك ـ ـريني حيفظ ـ ــون ه ـ ــذه املف ـ ــاهيم ،أو فرض ـ ــيات العم ـ ــل أو
يعدلوهنا أو يقلبوهنا رأسا على عقب ،وفقـا لطـرق إنتـاج يسـتعريوهنا أو يبتـدعوهنا يف
إط ــار ال ــدياليكتيك اخل ــاص لنش ــاطهم .وك ــل جي ــل جدي ــد يعم ــل عل ــى اإلحتف ــاظ
بأجوبة على استفهامات نامجة عن املادة املعاجلة ،أو على تعميقها ،أو نفضها مـن
األس ــاس .وميكن ــه يف بع ــض األحي ــان أن يكتش ــف اس ــتفهامات جدي ــدة (تتطل ــب
م ــذاك أجوب ــة « ثوري ــة » :الث ــورات العلمي ــة ،والفني ــة ،والفلس ــفية ،اخل ،).أو إع ــادة
اكتشاف استفهامات حنتها جانبا أجيال عديدة سابقة.
ج -إال أن ه ـ ــذه التع ـ ــديالت يف معاجل ـ ــة املف ـ ــاهيم األيديولوجي ـ ــة ،واألش ـ ــكال
الفنيــة ،وفرضــيات العمــل العلميــة ،ال حتصــل بشــكل اعتبــاطي ،وال ضــمن أي مــن
الش ــروط االجتماعي ــة-التارخيي ــة ،ب ــل يكيفه ــا ،أو يس ــتثريها ،أو يس ــمح هب ــا س ــياق
189
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
) (17مذهب حيوية املادة القائل بأن النفس مبدأ الفكر واحلياة العضوية يف آن معا( .املعرب)
191
املادية التارخيية
الديني ــة والص ــوفية ،والفلس ــفات ال ــيت متج ــد الالعق ــالين وم ــذاهب «ال ــدم واألرض»
( )Blut und Bodenمــن حيــث هــي أســلحة معاديــة للعمــال ومعاديــة للثــورة
تشجع منو مناخ سابق للفاشية.
ال تس ــتتبع ه ــذه التحدي ــدات فك ــرة «مـ ـؤامرة منظم ــة» ب ــني طبق ــات اجتماعي ــة
حمـددة ومنتجــني فكـريني مـن حيــث هــم أفـراد ،وال فكــرة تواطــؤ واع مـن جانــب كــل
هؤالء املنتجني مع مشاريع سياسية حمددة .إهنا تعكس تفاعال موضوعيا ،ميكـن أن
يــتم أحيانــا ،لكــن لــيس بالضــرورة .فــاملنتجون الفكريــون ميكــن أن تســتخدمهم قــوى
اجتماعي ــة م ــن دون علمه ــم ،لك ــن ذل ــك ال يفع ــل أكث ــر م ــن تأكي ــد أن الوج ــود
االجتمـاعي هــو الـذي حيــدد الــوعي ،ال فقـط مبعــىن تكييفــه يف التحليـل األخــري ،بــل
كذلك مبعىن تعيني وظيفة حمددة له يف بنية جمتمع معني ويف تطور هذا اجملتمع.
كــل منــتَج يصــنعه اإلنســان هــو نــاتج دمــج عناصــر ثــالث هــي :موضــوع العمــل
وهو مادة أولية أنتجتها الطبيعة مباشرة أو مداورة ،وأداة العمـل ،وهـي وسـيلة إنتـاج
متطورة إىل هذا احلد أو ذاك خلقها اإلنسان (من قضبان اخلشب األوىل ومضارب
احلجــر املقطــوع إىل املاكينــات اآلليــة األكثــر تطــورا حاليــا ،والــذات القائمــة بالعمــل،
أي الشــغيل .وملــا كــان العمــل دائمــا اجتماعيــا وغــري فــردي بالدرجــة األخــرية ،فــإن
الذات العاملة تدخل حتما يف عالقة إنتاج اجتماعية.
وحىت لو كان موضوع العمل وأداة العمل عنصرين ال غىن عنهما لكل إنتاج،
ال ميكن تصور عالقات اإلنتاج االجتماعي بصورة « مشيأة » أي ال ينبغي النظر
إليها كما لو كانت تتعلق بعالقات بني األشياء ،أو بني ناس وأشياء .إن عالقات
اإلنتاج االجتماعية تتعلق بعالقات بني البشر ،وفقط بعالقات بني البشر .وتشمل
جمموع العالقات اليت يعقدها الناس فيما بينهم أثناء إنتاج حياهتم املادية .وال يعين
« جمموع العالقات » العالقات يف أمكنة العمل حبصر املعىن (« at the point
191
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
192
املادية التارخيية
احنط ــاط اإلمرباطوري ــة الروماني ــة يف الغ ــرب ،أو احنط ــاط اخلالف ــة املش ــرقية يف الش ــرق
األوسط.
إن الدياليكتيك بني قوى اإلنتاج وعالقات اإلنتاج االجتماعية هو الـذي حيـدد
يف القسم األكرب توايل العصور الكربى يف التاريخ اإلنساين ،وهـذا أصـح مـن تصـور
التفاعل فيمـا بينهـا كمـا لـو كـان توافقـا آليـا .كـل منـط إنتـاج ميـر مبراحـل متتاليـة مـن
الــوالدة والصــعود والنضــج واالحنطــاط والســقوط والــزوال .هــذه املراحــل تتوقــف يف
التحليل األخري على الطريقة الـيت تالئـم هبـا عالقـات اإلنتـاج -الـيت تكـون يف البـدء
جديــدة ،مث تتوطــد ،مث تــدخل يف أزمــة -إنطــالق قــوى اإلنتــاج ،أو تســمح بــه ،أو
تعيق ــه يوم ــا بع ــد ي ــوم .إن التمفص ــل ب ــني ه ــذا ال ــدياليكتيك والصـ ـراع الطبق ــي أم ــر
بــديهي ،فع ــرب عم ــل طبقــة اجتماعي ــة أو ع ــدة طبقــات اجتماعي ــة معين ــة وحس ــب،
ميكن لعالقات انتاج حمددة أن تُدخل أو حيافظ عليها أو يتم قلبها.
إن كــل تشــكيل اجتمــاعي ،أي كــل جمتمــع يف بلــد حمــدد وفــرتة حمــددة ،يتســم
دائما مبجموعة عالقات إنتاج ،فتشكيل اجتماعي ليس فيه عالقات إنتاج هو بلد
ال عمــل فيــه وال إنتــاج ،أي بلــد ال ســكان فيــه وال جمتمــع .إالّ أن كــل جمموعــة مــن
عالق ــات اإلنت ــاج االجتماعي ــة ال تس ــتتبع بالض ــرورة وج ــود من ــط إنت ــاج مس ــتقر ،وال
جتانس عالقات اإلنتاج املشار إليها.
إن منــط انتــاج مســتقر هــو جمموعــة عالقــات إنتــاج تعيــد إنتــاج ذاهتــا بصــورة آليــة
إىل هـذا احلـد أو ذاك ،عـرب ســري االقتصـاد بالـذات ،أو احلركــة العاديـة إلعـادة إنتــاج
ق ــوى اإلنت ــاج ،م ــع وج ــود دور مالئ ــم ،مه ــم إىل ه ــذا احل ــد أو ذاك ،تت ــواله بع ــض
عوامل البنية الفوقية االجتماعيـة .كانـت تلـك هـي احلـال خـالل قـرون عديـدة ،ويف
بلــدان كثــرية ،مــع منــط اإلنتــاج األســيوي ،والعبــودي ،واإلقطــاعي ،والرأمســايل ،كمــا
كانت تلـك هـي حـال منـط إنتـاج الشـيوعية القبليـة ،خـالل آالف السـنني .إن منـط
إنتــاج هــو هبــذا املعــىن بنيــة ال ميكــن تعــديلها بشــكل أساســي عــن طريــق التطــور ،أو
التوفيق أو اإلصالح الذايت ،إذ ال ميكن ختطي منطقه الداخلي إالّ عرب قلبه.
193
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
194
املادية التارخيية
إن املثـل املميــز لعالقــات إنتـاج هجينــة يســيطر فيهـا منــط إنتــاج مهيمنـة هــو مثــل
التش ــكيالت االجتماعي ــة املس ــماة « عاملثالثي ــة » (نس ــبة للع ــامل الثال ــث أو البل ــدان
املتخلف ــة ،أنظ ــر الفص ــل الس ــابع) .تتج ــاور هن ــا عالق ــات إنت ــاج س ــابقة للرأمسالي ــة،
ونصف رأمسالية ،ورأمسالية ،مندجمة بصورة جامدة حتت ضغط بىن االقتصاد العاملي
اإلمربياليــة.رغــم هيمنــة رأس املــال ،ورغــم االخن ـراط يف النظــام االمربيــايل ،ال تــتعمم
عالقات اإلنتاج الرأمسالية (وقبل كل شيء العالقة « عمل مأجور-رأس مـال منـتج
») ،رغــم أهن ــا قائم ــة وتتم ــدد ب ــبطء .إالّ أن ه ــذا الواق ــع ال ي ــربر أب ــدا اعتب ــار ه ــذه
التش ــكيالت االجتماعي ــة كم ــا ل ــو كان ــت « بل ــدانا إقطاعي ــة » وال فرض ــية هيمن ــة
عالقــات اإلنتــاج اإلقطاعيــة أو نصــف اإلقطاعيــة داخلهــا ،وهــو خطــأ نظــري يقرتفــه
العديد من املنظرين الستالينيني أو املاويني.
195
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
196
املادية التارخيية
إن ممارسة الناس االجتماعية هي اليت ختلق البىن االجتماعية اليت حتتويهم فيما
بعد ،وباملمارسة االجتماعية الثورية ميكن قلب هذه البىن بالذات .واملاركسية
حتمية بقدرما تؤكد أن هذه اخلضات ال ميكن أن حتصل يف أي من االجتاهات،
فعلى أساس القوى اإلنتاجية املعاصرة تستحيل إعادة إدخال اإلقطاعية أو شيوعية
مجاعات صغرية مكتفية ذاتيا من املنتجني-املستهلكني .إهنا حتمية مبعىن أن ثورات
اجتماعية تقدمية (« )» fortschrittlicheغري ممكنة إالّ إذا نضجت داخل
اجملتمع القدمي الشروط املادية املسبقة والقوى االجتماعية اليت تسمح خبلق تنظيم
اجتماعي أعلى.
إالّ أن املاركسية ليست جربية ألهنا ال تفرتض أن جميئ هذا اجملتمع اجلديد
سيكون الناتج احلتمي لنضج الشروط املسبقة املادية واالجتماعية الضرورية
لظهوره .فهذا اجمليء ال ميكن أن ينجم إال عن نتيجة الصراعات القوى
االجتماعية احلية .إنه ينتج إذا يف التحليل األخري عن درجة فعالية العمل الثوري.
فإذا كان هذا بدوره مشروطا جزئيا بظروف وموازين قوى اجتماعية ،ميكن للعمل
يسرعه.
الثوري أن يقلب بدوره تطور هذه الظروف وموازين القوى أو يكبحه أو ّ
حىت موازين قوى مالئمة للغاية ميكن أن « خترهبا » نقاط ضعف ذاتية لدى
الطبقة الثورية .هبذا املعىن يلعب « العامل الذايت التارخيي » (الوعي الطبقي
والقيادة الثورية للربوليتاريا) ،يف عصرنا عصر الثورات والثورات املضادة ،دورا رئيسيا
يف حتديد نتيجة املعارك الطبقية الكربى ،لتقرير مستقبل النوع البشري.
.6االستالب والتحرر
لقد عاشت البشرية طوال آالف السنني حياة التبعية الشديدة لقوى الطبيعة
اهلوجاء .مل يكن يف وسعها إالّ أن تسعى للتكيف مع بيئة طبيعية معينة ،وكل
جتمع بشري صغري مع بيئته اخلاصة به ،وكانت أسرية أفق ضيق وحمدود حىت ولو
197
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
198
املادية التارخيية
199
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
عالقات إنسانية أوسع فأوسع ،على املراكمة املتواصلة خلريات مادية أقل فأقل
نفعا.
إن املمارسة االجتماعية الثورية سوف ال تكتفي مذاك بقلب عالقات اإلنتاج،
بل ستقلب كل التنظيم االجتماعي ،وكل العادات التقليدية ،كما ستقلب ذهنية
الناس ونفسيتهم .وتذبل األنانية املادية وروح املنافسة بعد أن تكون التجربة اليومية
واملصاحل العظمى توقفت عن مدمها بالغذاء.
وسوف ختص البشرية بيئتها اجلغرافية ،وتبدل شكل الكرة وطبيعة املناخ،
وتوزيع احتياطات املياه الكربى ،يف حني حتفظ التوازن البيئي أو تعيده ،ال بل
ستهز إىل األعماق أساساهتا البيولوجية اخلاصة هبا .وهي لن تتمكن من اجناح
هذه املراهنات بصورة إرادية مطلقة ،باالستقالل عن شروط مسبقة وبنية حتتية
مادية كافية .لكن ما أن تتأمن هذه البنية التحتية حىت تصبح البشرية الفاعلة،
واألكثر فأكثر حرية يف خياراهتا ،الرافعة الرئيسية خللق إنسان جديد ،اإلنسان
الشيوعي احلر واملتخلص من االستالب .هبذا املعىن يصح أن نتكلم على أنسية
ماركسية وشيوعية.
المراجع
كارل ماركس ،مقدمة «مساهمة في نقد االقتصاد السياسي».
كارل ماركس وف .إجنلز ،األيديولوجية األلمانية.
ف .إجنلز ،لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكالسيكية األلمانية.
ف .إجنلز ،من االشتراكية الطوباوية إلى االشتراكية العلمية.
ف .إجنلز ،دور العمل في تحول القرد إلى إنسان.
بوخارين ،المادية التاريخية.
مهرينغ ،أسطورة لسنغ.
211
املادية التارخيية
211
المحتويات مفصلة
توطئة 3....................................... ................................
( )1التفاوت االجتماعي والنضاالت االجتماعية عبر التاريخ 5....................
.1التفاوت االجتماعي يف اجملتمع الرأمسايل املعاصر 0 .................................
.0التفاوت االجتماعي يف اجملتمعات السابقة 9 ......................................
.,التفاوت االجتماعي والتفاوت الطبقي, ..........................................
.4املساواة االجتماعية يف ما قبل التاريخ البشري 12 .................................
.0التمرد ضد التفاوت االجتماعي عرب التاريخ 11 ...................................
.7الصراعات الطبقية عرب التاريخ 1, ...............................................
( )2المصادر االقتصادية للتفاوت االجتماعي 15 ...............................
.1املشاعات البدائية القائمة على الفقر 10 .........................................
.0ثورة عصر احلجر املصقول 10 ..................................................
.,النتاج الضروري والنتاج االجتماعي الفائض 17 ...................................
.4اإلنتاج والرتاكم 1, ............................................................
.0سبب فشل كافة ثورات املاضي من أجل املساواة 17 ..............................
.7اضطهاد النساء ،أول شكل واسع لال مساواة االجتماعية02 ..................... .
( )3الدولة ،أداة السيطرة الطبقية 24 ...........................................
.1التقسيم االجتماعي للعمل ونشوء الدولة 42 .....................................
.0الدولة يف خدمة الطبقات املسيطرة 42 ...........................................
.,اإلكراه العنيف واالحتواء اإليديولوجي 42 ........................................
.4األيديولوجية السائدة واأليديولوجية الثورية 42 ....................................
.0الثورات االجتماعية والثورات السياسية 03 .......................................
.7خصائص الدولة الربجوازية 03 ..................................................
212
احملتويات
( )4من اإلنتاج البضاعي الصغير إلى نمط اإلنتاج الرأسمالي 33 ..................
.1اإلنتاج من أجل سد احلاجات واإلنتاج من أجل التبادل ,, .......................
.0اإلنتاج البضاعي الصغري ,4 ....................................................
.,قانون القيمة,0 ...............................................................
.4ظهور الرأمسال ,9 .............................................................
.0من الرأمسال إىل الرأمسالية,, ....................................................
.7ما هو فائض القيمة ؟ ,7 ......................................................
.9شروط ظهور الرأمسالية احلديثة 41 ...............................................
( )5االقتصاد الرأسمالي 43 ................... ................................
.1خصائص االقتصاد الرأمسايل 4, .................................................
.0سري االقتصاد الرأمسايل40 ......................................................
.,تطور األجور 49 ..............................................................
.4قوانني تطور الرأمسالية 47 .......................................................
ا .تركز الرأمسال ومتركزه47 .......................................................
ب .تبلرت السكان العاملني التدرجيي 02 ..........................................
ج .ازدياد الرتكيب العضوي للرأمسال01 ..........................................
د .ميل املعدل الوسطي للربح إىل االخنفاض 00 ...................................
ه .التحول املوضوعي لإلنتاج إىل إنتاج اجتماعي 0, ..............................
.0التناقضات املالزمة لنمط اإلنتاج الرأمسايل 0, .....................................
.7أزمات فيض اإلنتاج الدورية 04 .................................................
.9توحيد الربوليتاريا وتفتيتها 00 ...................................................
( )6رأسمالية االحتكارات 61 .................. ................................
.1من املزامحة احلرة إىل االتفاقات الرأمسالية 72 ......................................
.0الرتكزات املصرفية والرأمسال املايل 71 .............................................
.,رأمسالية االحتكارات ورأمسالية املزامحة احلرة70 ................................... .
.4تصدير الرساميل 7, ...........................................................
.0البلدان اإلمربيالية والبلدان التابعة70 .............................................
.7عصر الرأمسالية املتأخرة77 ......................................................
213
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
214
احملتويات
215
مدخل إىل االشرتاكية العلمية
216
احملتويات
217
المحتويات
توطئة , ....................................... ................................
( )1التفاوت االجتماعي والنضاالت االجتماعية عرب التاريخ 0 .......................
( )0املصادر االقتصادية للتفاوت االجتماعي 10 ...................................
( ),الدولة ،أداة السيطرة الطبقية 04 ............. ................................
( )4من اإلنتاج البضاعي الصغري إىل منط اإلنتاج الرأمسايل ,, .......................
( )0االقتصاد الرأمسايل 4, ...................... ................................
( )7رأمسالية االحتكارات 72 .................... ................................
( )9النظام اإلمربيايل 77 ........................ ................................
( ),نشأة احلركة العمالية احلديثة ,1 .............. ................................
( )7إصالحات وثورة ,7 ....................... ................................
( )12الدميوقراطية البورجوازية والدميوقراطية الربوليتارية 122...........................
( )11احلرب العاملية األوىل والثورة الروسية 112....................................
( )10الستالينية 117........................... ................................
( )1,من النضاالت اجلارية اليت ختوضها اجلماهري إىل الثورة االشرتاكية العاملية 1,4.....
( )14كسب الثوريني للجماهري 144............. ................................
( )10حول اجملتمع الال طبقي 172............... ................................
( )17الدياليكتيك املادي 17,.................. ................................
( )19املادية التارخيية 1,,....................... ................................
218
ئٚالـ ئؾطڃح ٍ٪أڀ غىٌز
من نحن
الي�سار الثوري احد تيارات اال�شرتاكية امل�رصية.
�أهدافنا هي :الإطاحة بالنظام الر�أ�سمايل منبع
الف�ساد والظلم والإثراء من عرق ودم ال�شعب،
و�إقامة دولة العدل الإجتماعى وامل�ساواة ،دولة
بال ا�ستغالل �أو طبقية ،بال �سادة �أو عبيد ،الكل
فيها مواطنون �أحرار مت�ساوون ،مت�شاركون يف
العمل والرثوة والعائد و�إدارة املجتمع.
و�سيلتنا هي :الثورة اجلماهريية يف مقدمتها العاملون
والفقراء يف املدن والريف ،تعمل بهم ،ومن
مدخل �إىل اجلهم ،وتقيم نظامهم.
نرف�ض :اى متييز بني الب�رش على �أ�سا�س العقيدة �أو
اال�شرتاكية العلمية اللون �أو اجلن�س �أو العرق.
ننا�ضل �ضد :اال�ستغالل الطبقي واال�ستبداد
هذا الكتاب عبارة عن جمموعة من والعن�رصية والتمييز بجميع �صوره واال�ستعمار
املحا�رضات حول اال�شرتاكية العلمية ،مبادئها وال�صهيونية.
و�أ�سا�سيتها ،يت�ضمن العنا�رص الأ�سا�سية يف ن�ؤيد :حق ال�شعوب يف احلرية وفى مقاومة اال�ستعمار
نظرية املادية التاريخية والنظرية االقت�صادية واال�ستبداد مبا يف ذلك املقاومة امل�سلحة ونتم�سك
املارك�سية وتاريخ احلركة العمالية وق�ضايا بحق الفل�سطينني يف كامل �أر�ضهم.
احلركة العمالية انطالق ًا من الق�ضايا امللمو�سة نقاوم :م�شاريع ال�سيطرة الإمربيالية والأمريكية،
ب�شكل مبا�رش للب�رش و�صو ًال اىل املفاهيم املجردة. والتدخل اال�ستعماري يف منطقتنا �أو يف اى مكان.
وميكن ا�ستخدام هذا الكتاب للتثقيف املبدئي مند �أيدينا � :إىل كل القوى التي تقاوم اال�ستبداد
للمنا�ضلني اال�شرتاكيني ،وهو الهدف الذي جمع واالمربيالية واال�ستغالل الطبقي والتدخل
اال�ستعماري ،للتعاون من اجل حتقيق العدل
من �أجله املنا�ضل املارك�سي البلجيكي� /أرن�ست واحلرية.
ماندل هذه املحا�رضات و�صاغها يف هذا الكتاب يف
عام .1974 �أ�شقائنا :كل ثوار العامل وكل املناه�ضني للر�أ�سمالية
واال�ستغالل وامل�شاريع اال�ستعمارية.
نحن :جزء من �شعب م�رص نعي�ش �آالمه ونحارب
توا�صل معنا معركته ون�سعى معه للتحرر من امل�ستغلني �أو
egy.revolutionary@gmail.com
امل�ستبدين ،حلمنا حلمه ،وطريقنا طريقه.
موقعنا على االنرتنت �شعارنا هو :حترير اجلماهري بيد اجلماهري.
www.elthawry.wordpress.com الي�سار الثوري