Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 18

‫الذاكرة العاملة واالستراتيجيات المعرفية للتعلم‬

‫د‪ .‬هدى بلمكي‬

‫املدرسة العليا لألساتذة – جامعة موالي إسماعيل مكناس‬

‫ماسترالتربية وهندسة التكوين‬

‫‪H.belmekki@umi.ac.ma‬‬

‫مدخل‬
‫يتأسس النظر في مفهوم التعلم‪ ،‬وفق التصور املعرفي‪ ،‬على االهتمام باملسارات الذهنية املسؤولة عنه‪ ،‬حيث" يهدف‬

‫املشروع العام للنظريات املعرفية للتعلم إلى بناء معرفة مدققة حول ما يقع في ذهن الفرد أثناء قيامه بمهام تفكيرية ‪-‬‬

‫والتعلم إحداها‪ -‬من ذلك ما يتحقق لدى املتعلم من مسارات ذهنية بالغة التعقيد‪...‬فالنظريات املعرفية تسعى إلى‬

‫توضيح إواليات معالجة املعلومات في الذهن (صورذهنية‪ ،‬تمثالت‪ ،)...‬وتعمل على النظرفي مسارات بنينة املعلومات‪،‬‬

‫وتخزينها بطريقة سليمة بقصد استعمالها في مرحلة الحقة"(بوعناني‪.2012( .‬م‪.‬د))‪ .‬بناء على ما سبق يمكن القول إن‬

‫دراسة التعلم وفق التصور املعرفي‪ ،‬ال تولي أهمية للسوك اإلنساني املرتبط به‪ ،‬بقدر ما تهتم بالعمليات الذهنية‬

‫املسؤولة عنه‪ ،‬وينعكس ذلك من خالل االهتمام بالسيرورات املعرفية‪ ،‬التي يقوم بموجبها املتعلم‪ ،‬بالتعرف على‬

‫املعلومات‪ ،‬وتخزينها‪ ،‬واسترجاعها‪ .‬يرتبط اهتمامنا في هذا املستوى بالتعلم املنتظم‪ ،‬والذي يختلف تماما عن‬

‫االكتساب‪ ،‬وهنا ينبغي التمييزبين هذين املفهومين اللذين كثيرا ما يستعمالن لإلحالة على نفس التصور‪" .‬فالتعلم هو‬

‫مجموعة مسارات امتالك معارف جديدة‪ ،‬وتخزينها في الذاكرة بطريقة تكون أكثرمالءمة مع إجراءات تحليلها‪ ،‬وإعادة‬

‫تأليفها وصياغتها بقصد استعمالها فيما بعد‪ ،‬وهو ما يتميز عن فعل االكتساب الذي يعد تو افقا منتظما مع النمو‬

‫املعرفي واالجتماعي للفرد‪ ،‬واملتحصل عبرمعالجات معرفية تلقائية للمعلومات التي يستقبلها من محيطه وقد وجهتها‬

‫تفاصيل استعداداته التواصلية واملعرفية للتفاعل مع الوسط الحال فيه وما يؤثثه من معلومات ومعارف" (بوعناني‪.‬‬

‫(‪. 2012‬م‪.‬د))‪ .‬يحيل هذا التمييز بين مفهومي االكتساب والتعلم‪ ،‬على خاصيتين أساسيتين‪ ،‬تتحدد األولى في وسم‬

‫التعلم بالقصدية والتوجيه‪ ،‬في حين تسم الثانية االكتساب بالعفوية وتربطه بالبيئة‪ .‬غيرأننا نرى في هذا املستوى‪ ،‬أن‬

‫التعلم يمكن يشمل االكتساب‪ ،‬أو بعض خصائصه‪ .‬تميز (‪ )Chevalier,N. (2004). P :7‬بين مسارين للتعلم‪ ،‬حيث‬
‫املسار األول‪ :‬صريح‪ ،‬في حين أن املسار الثاني‪ :‬ضمني‪ ،‬إذ يختلف التعلم الضمني عن التعلم الصريح في مجموعة من‬

‫املبادئ واألسس نوضحها من خالل الشكل التالي‪:‬‬

‫‪.‬‬

‫الخطاطة رقم (‪ :)1‬الفرق بين التعلم اضمني والتعلم الصريح حسب ‪Stevenson et Palmer 1994‬‬

‫‪ .1‬الذاكرة والتعلم‬
‫لقد أصبح موضوع الذاكرة من أهم املواضيع التي تتناولها األبحاث العلمية الحديثة‪ ،‬إذ يشكل تقاطعا أساسيا بين‬
‫كل من علم النفس املعرفي‪ ،‬واللسانيات املعرفية‪ .‬ذلك أن مفهوم الذاكرة يشير إلى الدوام النسبي آلثار الخبرة‪ ،‬ومثل‬
‫هذا الدوام دليل على حدوث التعلم‪ ،‬بل وشرط أساس ي له‪ .‬تتأسس العالقة بين الذاكرة والتعلم على مبدإ التالزم‪،‬‬
‫حيث يتطلب كل منهما وجود اآلخر‪ ،‬فبدون تراكم الخبرة املتعلمة ومعالجتها واالحتفاظ بها ال يمكن أن يتم التعلم‪،‬‬
‫وبدون التعلم بمفهومه العام يتوقف تدفق املعلومات عبر قنوات االتصال املختلفة‪ ،‬وتصبح الذاكرة عبارة عن بنية‬
‫محدودة ملعارف محدودة‪ .‬فإذا كان التعلم هو حدوث مجموعة من التغيرات والتعديالت التي تطرأ على السلوك بفعل‬
‫الخبرة السابقة املكتسبة واملتعلمة‪ ،‬فإن الذاكرة هي عملية تثبيت هذه التغيرات والتعديالت وحفظها وإبقائها جاهزة‬
‫عند اللزوم (أنظر‪ .)Kruger.J & Dunning.D. (1999). :‬لقد أكدت مجموعة من األبحاث (أنظر‪Andersen.G & :‬‬
‫‪ )all. (2004).‬أن العوامل التي تؤثر في التذكر‪ ،‬واالحتفاظ‪ ،‬واالسترجاع‪ ،‬هي العوامل نفسها املسؤولة عن التعلم‬
‫واالكتساب‪ .‬ومن هنا يستمد سؤالنا املرتبط بآليات اشتغال الذاكرة أثناء التعلم مشروعيته‪ ،‬لذلك سنحاول فيما يلي‬
‫الوقوف على أهم األبحاث التي قدمت على مستوى الذاكرة في عالقتها بالتعلم‪ ،‬من أجل الخروج بتصور عام حول‬
‫هندسة الذاكرة وآليات اشتغالها‪ ،‬وكذا املسارات املعرفية التي يتم تنشيطها تبعا لذلك أثناء عملية التعلم‪ ،‬باعتبارها‬
‫ّ‬
‫مسؤولة عنه وضرورية لتحقيقه‪ .‬إذ يؤسس النظر في هندسة الذاكرة وآليات اشتغالها العمق املعرفي للنظرفي مفهوم‬
‫التعلم باعتباره مجموعة من املسارات املعرفية الذهنية املتفاعلة فيما بينها‪ ،‬والتي تعتبر مسؤولة عن تبني الفرد‬
‫ملجموعة من االستراتيجيات املعرفية وامليطامعرفية ملعالجة املعارف واملعلومات‪ ،‬خصوصا عندما يتعلق األمر‬
‫بالتعلم املنتظم‪.‬‬

‫‪ .2‬هندسة الذاكرة‬

‫يحدد التصور الدينامي مفهوم الذاكرة في القدرة على االحتفاظ بمعلومات ذات طبيعة مختلفة وخاصة بالفرد‬
‫باعتبارها آلة سيكولوجية‪ ،‬وإحدى أهم الوظائف املعرفية‪ ،‬غير أن أي دراسة للذاكرة ترتكز على آليات اإلشتغال‬
‫بمعزل عن البنية تعتبر قاصرة وغير مكتملة‪ ،‬لذلك سعت بعض األبحاث إلى محاولة التوفيق بين دراسة الذاكرة من‬
‫حيث آليات اشتغالها وكذا من حيث تحديد بنيتها أو هندستها‪.‬‬

‫فيما يخص التصور الهندس ي للذاكرة‪ ،‬فقد ذهب "بادلي")‪ )(Beddeley. (2004). Pp :829-839‬إلى اعتبار الذاكرة‬
‫جهازا مكونا من مجموعة من "الذكيرات" التي تم تمييزها بحيث تصبح غير قابلة لالختزال‪ .‬وهو ما يؤكده من خالل‬
‫تجزيئه الذاكرة إلى مسارات فرعية يعتبر البعض منها قوالب منفصلة‪ ،‬ويعتبر البعض اآلخر مظاهر مختلفة لنفس‬
‫الجهاز‪ ،‬ومن خالل هذا التصور‪ ،‬قدم "بادلي" ثالثة أصناف كبرى للذاكرة‪ ،‬اعتمادا على ديمومة تخزين املعلومات‬
‫نقدمها في الشكل التالي (زغبوش‪.2008( .‬أ)‪ .‬ص‪:)30 :‬‬
‫‪:‬‬

‫‪+‬‬

‫الخطاطة رقم (‪ :)2‬نموذج توضيحي للذاكرة اإلنسانية (زغبوش‪.2008( .‬أ)‪ .‬نقال عن‪)Baddley. (1974)( :‬‬

‫يتأسس املنظور املعرفي للذاكرة على اعتبارها مسارات معرفية للتسنين والتخزين واالسترجاع‪ ،‬وهي في الوقت نفسه‬
‫مخزن تحدث فيه مختلف العمليات السابقة‪ .‬وبناء على ذلك‪ ،‬سنحاول فيما يلي تقديم الذاكرة من حيث محتواها‬
‫معتمدين في ذلك على التصورالهندس ي للذاكرة الذي قدمته عديد من األبحاث‪ ،‬وبعد ذلك سنسعى إلى تقديم اآلليات‬
‫املسؤولة عن اشتغالها مستفيدين من النقلة النوعية التي حققها علم النفس املعرفي في وصفه لهذه اآلليات‪.‬‬

‫لقد استلهمت األبحاث املقدمة حول هندسة الذاكرة أسسها النظرية من النقلة النوعية التي تمت على مستوى‬
‫اإلعالميات‪ ،‬وكذا من خالل دراسة مجموعة من الحاالت التي تعاني إصابات دماغية‪ ،‬وأخرى من فقدان الذاكرة والتي‬
‫تسمح بتقديم نماذج تفسيرية مهمة‪ ،‬ساعدت في الخروج بنماذج علمية لبنية الذاكرة وآليات اشتغالها‪ .‬إن " الحديث‬
‫عن هندسة الذاكرة ووظيفتها يفرض بالضرورة الحديث عن طبيعة محتوى هذه الذاكرة‪ ،‬إذ أن هندستها تنبني على‬
‫نوعية املعلومات التي تحتويها‪ ،‬فعندما نتحدث عن الذاكرة اإلجرائية فألنها تحتوي على معارف إجرائية‪ ،‬وعندما‬
‫نتحدث عن الذاكرة الداللية‪ ،‬فألنها تحتوي على معارف داللية‪( "...‬زغبوش‪.2008( .‬أ)‪ .‬ص‪ .)35:‬وبناء عليه تسعى‬
‫التوجهات املعرفية الحديثة إلى دراسة الذاكرة من خالل التمييز بين طبيعة املعلومات املخزنة في كل من الذاكرة‬
‫قصيرة املدى والذاكرة بعيدة املدى‪ ،‬معتمدة في ذلك على التقسيم الذي يعتمد على املدة الزمنية لإلحتفاظ‬
‫باملعلومات‪ ،‬واملقدم من طرف مجموعة من األبحاث السابقة‪ .‬في حين ذهبت أبحاث أخرى إلى تقسيم الذاكرة حسب‬
‫مكوناتها البنيوية إلى ثالثة أجزاء‪ :‬الذاكرة الحسية‪ ،‬والذاكرة قصيرة املدى‪ ،‬والذاكرة بعيدة املدى‪ .‬وفي هذا الصدد‬
‫يرى (زغبوش‪ .2008( .‬ب)‪ .‬ص‪ )198:‬أن التعلم تنظيم للمعارف التي ترتكز في جزء كبير منها على معلومات غير متوفرة‬
‫في املحيط اللحظي والتي تعتبر ذكريات ألحداث معيشة سابقا‪ ،‬يمكن أن تكون هذه الذكريات حديثة فتمتد إلى جزء‬
‫من الثانية أوأقدم من ذلك‪ .‬ويساهم هذا التقسيم في خلق تقسيم آخرعلى مستوى هندسة الذاكرة‪ ،‬غلى ذاكرة قصيرة‬
‫املدى وأخرى بعيدة املدى‪.‬‬

‫بناء على ما سبق‪ ،‬سنحاول فيما يلي تقديم هذه املكونات األساسية للذاكرة معتمدين في ذلك على عدد من التصورات‬
‫النظرية التي اهتمت بدراسة الذاكرة من خالل الربط بين التصورالوظيفي والتصورالبنيوي‪.‬‬

‫‪ .1.2‬الذاكرة الحسية‪:‬‬

‫تعرف الذاكرة الحسية باملخزن أو املسجل الحس ي (‪ ،)Sonsory Register‬وترتبط بقدراتنا الحسية‪ :‬السمعية‪،‬‬
‫والبصرية‪ ،‬واللمسية‪ ،‬والشمية‪ ،‬والذوقية‪ ،‬التي تقوم بدور آلي في نقل املؤشرات الحسية إلى الذاكرة قصيرة املدى‪،‬‬
‫حيث تحتفظ بالبعض منها‪ ،‬وال تحتفظ بالبعض اآلخر وفقا ألهمية املعلومات الواردة إليها‪ .‬وبذلك تنتظم الذاكرة‬
‫الحسية لتمريراملعلومات بين الحواس والذاكرة قصيرة املدى‪ ،‬وتسمح بنقل أربع إلى خمس وحدات معرفية‪ 1‬في الوقت‬
‫الواحد‪ ،‬علما بأن الوحدة املعرفية يمكن أن تكون كلمة‪ ،‬أو حرفا‪ ،‬أو جملة‪ ،‬أو صورة‪ ،‬ويختلف ذلك باختالف نظام‬
‫املعالجة‪ .‬وتتميز هذه الذاكرة بسعتها الزمنية القصيرة التي ال تتجاوز الثانية بعد زوال املثير الحس ي‪ ،‬وباعتبارها تعتمد‬
‫على الحواس‪ ،‬فهي تنقل صورا حقيقية عن العالم الخارجي وبدرجة عالية من الدقة‪ ،‬غير أنها ال تقوم بأي نوع من‬
‫املعالجة املعرفية للمعلومات بل تكتفي بتمريرالبعض منها للذاكرة قصيرة املدى (أنظر‪ :‬العتوم‪ .)2010( .‬ص‪.)123 :‬‬

‫لقد ذهبت األبحاث التي قدمها ()‪ ،)Neisser,U. (1967‬وآخرون‪ ،‬إلى التمييز بين نمطين من الذاكرة الحسية‪ .‬يرتبط‬
‫النمط األول باملؤشرات الحسية البصرية ويسمى "الذاكرة األيقونية" (‪ .)Iconic Memory‬ويرتبط النمط الثاني‬
‫باملؤشرات الحسية السمعية ويسمى "الذاكرة اإليكوية" (‪ ،)Echoic Memory‬ولقد قدمت هذه األبحاث مجموعة من‬
‫النتائج املهمة الخاصة بسعة كل من الذاكرة األيقونية والذاكرة اإليكوية‪ ،‬مؤكدة أن املعلومات تخزن في الذاكرة‬
‫األيقونية ملدة ال تزيد عن الثانية‪ ،‬ويمكن استدعاء هذه املعلومات مباشرة من الذاكرة األيقونية‪ ،‬كما أن دخول‬
‫معلومات جديدة لهذه الذاكرة يمحو املعلومات التي قبلها‪ ،‬وتمرر هذه األخيرة ما يقارب تسع إلى عشر وحدات من‬
‫املعلومات إلى الذاكرة قصيرة املدى ملعالجتها‪ ،‬وهو معدل يفوق املعدل العام للذاكرة الحسية ككل‪ .‬أما على مستوى‬
‫الذاكرة اإليكوية فبمجرد توقف املثير أو املؤشر السمعي تخزن املعلومات في هذه الذاكرة ملدة ال تتجاوز ثالثة ثواني‪،‬‬
‫وهي مدة زمنية أطول مما تسمح به الذاكرة األيقونية‪ ،‬وتمرر هذه الذاكرة من أربع إلى خمس وحدات من املعلومات‬
‫السمعية إلى الذاكرة قصيرة املدى من أجل معالجتها‪ .‬وعلى العموم فقد أكدت هذه األبحاث أن كال النمطين من‬
‫الذاكرة ال يقوم بأي نوع من املعالجة‪ ،‬بل يكتفي بتمرير املعلومات إلى الذاكرة قصيرة املدى‪ ،‬كما أشارت إلى قدرة‬

‫‪ 1‬يطابق مصطلح الوحدة المعرفية في هذا المستوى ما تشير إليه مجموعة من األبحاث بمصطلح "الرزمة" وهي من بين الترجمات المقترحة‬
‫لمصطلح (‪.)chunking‬‬
‫الذاكرة البصرية العالية في تمريرالوحدات املعرفية للذاكرة قصيرة املدى والتي تفوق قدرة الذاكرة الحسية ككل مما‬
‫يعكس أهمية املؤشرات البصرية أثناء التعرف‪.‬‬

‫لقد شكل مفهوم الذاكرة الحسية نقطة اختالف بين مجموعة من الباحثين‪ ،‬فمنهم من يعتبره مكونا أساسيا من‬
‫مكونات الذاكرة على غرار الذاكرة قصيرة املدى والذاكرة بعيدة املدى‪ ،‬ومنهم من يعتبرها آلية من آليات اشتغال‬
‫الذاكرة‪ ،‬باعتبار أن السجل الحس ي أو الذاكرة الحسية ال تقوم بأي نوع من أنواع املعالجة‪ ،‬بل هي عبارة عن مسار‬
‫تخزن بواسطته املعلومات في سجل‪ .‬لذلك آثرنا في هذا املقام‪ ،‬تقديمها كمكون من مكونات الذاكرة اإلنسانية‪،‬‬
‫وسنشير إليها كآلية أثناء تقديمنا آلليات اشتغال الذاكرة‪ ،‬ألن الغاية من تقديمنا مجموعة من الدراسات الخاصة‬
‫بالذاكرة في هذا املقام ليس هو إثبات تصور دون آخر بقدر ما هو محاولة لبسط املفاهيم الخاصة بالذاكرة اإلنسانية‬
‫في عالقتها بالتعلم‪ ،‬ولكي نفهم هذه العالقة البد من فهم البنية األساسية التي تنبني عليها سيرورات التعلم من خالل‬
‫تقديم التصوروالتصوراآلخرو اإلملام باملوضوع من زواياه املختلفة‪.‬‬
‫‪ .2.2‬الذاكرة قصيرة املدى‬

‫يرى "العتوم" (العتوم‪ .)2010( .‬ص‪ ، )127:‬أن الذاكرة قصيرة املدى تحتل مكانة وسطى بين أنماط الذاكرة الحسية‬
‫والذاكرة بعيدة املدى‪ ،‬حيث تستقبل معلومات إما من الذاكرة الحسية في طريقها إلى الذاكرة قصيرة املدى عبرمصفاة‬
‫(‪ )filtre‬االنتباه‪ ،‬أو من خالل الذاكرة بعيدة املدى عندما يتم استدعاء مجموعة من املعلومات الخاصة بالخبرات‬
‫السابقة لتفعيل عمليات تسنين املعلومات الجديدة وتحليلها‪ .‬وبناء عليه‪ ،‬ترتبط الذاكرة قصيرة املدى بمجموعة من‬
‫األنشطة الذهنية التي تتطلب التخزين املؤقت للمعلومات‪ ،‬وتعتبر الجهاز الخاص بتخزين املعلومات ومعالجتها أثناء‬
‫مسارات التعلم واالستنتاج والتفكير والفهم (‪ .)Atkinson,R.C. & Shiffrin,R.M. (1968). Pp :89-195‬كما تتميز‬
‫الذاكرة قصيرة املدى بمجموعة من الخصائص‪ ،‬أهمها قدرتها املحدود على االحتفاظ باملعلومات ملدة زمنية جد‬
‫قصيرة‪ ،‬ما لم يتم تكرارها أو معالجتها‪ .‬وكذا طاقتها التخزينية التي قدرها "ميلر" ()‪ )Miller. (1958‬ما بين خمس وتسع‬
‫وحدات معرفية (أو رزمة ‪ . )Chunks‬كما أشارت بعض الدراسات (راجع‪ :‬العتوم‪ .)2010( .‬ص‪ )127 :‬إلى أنه بمجرد‬
‫مروراملدة الزمنية املخصصة للذاكرة قصيرة املدى‪ ،‬تتخذ املعلومات مسارين‪ :‬إما يتم االحتفاظ بها في الذاكرة بعيدة‬
‫املدى‪ ،‬شرط تركيزاالنتباه؛ ألن حدوث أي مشتتات لالنتباه خالل معالجة املعلومات في الذاكرة قصيرة املدى يؤدي إلى‬
‫إضعاف احتمالية معالجة املعلومة وتخزينها في الذاكرة بعيدة املدى‪ ،‬أو يتم نسيانها‪.‬‬

‫‪ .3.2‬الذاكرة بعيدة املدى‬

‫تعتبر الذاكرة بعيدة املدى خزانا يضم كما هائال من املعلومات‪ ،‬واملعارف‪ ،‬والخبرات‪ ،‬التي اكتسبها الفرد عبر مراحل‬
‫حياته املختلفة‪ ،‬وهي ذات سعة غيرمحددة بكم معين من املعلومات‪ ،‬حيث ال يمكن أن يصل الفرد إلى مرحلة في حياته‬
‫تصبح معه الذاكرة ممتلئة‪ ،‬وال يستطيع استقبال املزيد‪ ...‬كما أنها غير محددة بزمن معين في التخزين؛ حيث تبقى‬
‫املعلومات مخزنة فيها ما دام اإلنسان على قيد الحياة‪ .‬تستمد الذاكرة بعيدة املدى معلوماتها من الذاكرة قصيرة‬
‫املدى‪ ،‬كما تقوم الذاكرة بعيدة املدى بتزويد الذاكرة قصيرة املدى باملعلومات عند الحاجة إليها إلتمام عمليات‬
‫التسنين أثناء التعامل مع املثيرات الحسية الجديدة‪ ،‬وملساعدة الفرد في مجموعة من املسارات املعرفية كالتفكير‬
‫والتعلم وحل املشكالت (راجع‪ :‬العتوم‪ .)2010( .‬ص‪.)132 :‬‬

‫لقد قسم الباحثون الذاكرة بعيدة املدى من حيث طبيعة املعلومات التي تحتويها‪ ،‬معتمدين في ذلك على دراسة‬
‫مجموعة من الحاالت املرضية التي تصيب الذاكرة‪ ،‬مما دفع إلى التمييزالوظيفي األولي بين شكلين من الذاكرة بعيدة‬
‫املدى‪ ،‬أي الذاكرة التي تتضمن مسارات معرفية والذاكرة التي تعتبر ذات وظيفة آلية‪ .‬وهو التقسيم الذي اعتمده كل‬
‫من "كوهن" ( ‪ )Cohen‬و"سكير" (‪ )Squire‬من خالل التمييز بين الذاكرة الصريحة والذاكرة اإلجرائية أو التنفيذية‬
‫(‪" ، )Neal,J, Cohen et Larry R,Squire. (1980). Pp : 207-210‬إنه التقابل القائم على التمييز بين "معرفة أن"‬
‫(‪ )Savoir que‬الذي يطابق معرفة واعية وواضحة باملعارف‪ ،‬وبين املهارات (‪ )Savoir -faire‬وهي الكفاءة املكتسبة التي‬
‫يمكن أن تتمظهربدون وعي" (زغبوش‪.2008( .‬أ)‪ .‬ص‪ ،)42:‬حيث يحيل هذا التقابل في املفهومين‪ ،‬ارتباطا بالتعلم‪ ،‬على‬
‫التمييزبين تعلم املعارف الصريحة واملهارات‪ ،‬وبين الكفايات التي تهدف إلى تحقيقها‪ .‬وسنحاول فيما يلي الوقوف على‬
‫هذين التقسيمين مع تحديد املكونات الخاصة بكل منهما‪:‬‬

‫الذاكرة اإلجرائية‬ ‫أ‪.‬‬

‫تضم الذاكرة اإلجرائية معلومات حول املهارات األدائية التي تعلمها الفرد من خالل املمارسة والخبرة‪ ،‬وتسمى هذه‬
‫الذاكرة باإلجرائية؛ ألن طبيعة املعطيات املتوفرة فيها تحدد تسميتها‪ ،‬حيث تسمح هذه الذاكرة بتحديد فعل أو‬
‫متوالية من األفعال‪ ،‬وتشير بشكل آلي إلى السلوك الواجب تبنيه في وضعية معينة‪ ،‬ومن ثـمة فإن املعلومات الخاصة‬
‫بهذا الجزء من الذاكرة تظهر على شكل سلوكات نقوم بها‪ ،‬كالقراءة والكتابة‪" .‬فإذا كانت الذاكرة اإلجرائية مستقرة‬
‫على املستوى الزمني وغيرمتأثرة كثيرا بعامل السن‪ ،‬فألنها تحتوي على معلومات ال يمكن للفرد التعبيرعنها إال بواسطة‬
‫سلوك معين"‪( .‬زغبوش‪ .2008( .‬ب)‪ .‬ص‪.)207:‬‬

‫ب‪ .‬الذاكرة الصريحة‪:‬‬

‫تضم الذاكرة بعيدة املدى مجموعة من املعارف الصريحة التي تسمح بتمثل العالقات بين املواضيع واألحداث‪ ،‬وهي‬
‫معلومات حول الخبرات‪ ،‬والحقائق‪ ،‬واملعارف‪ ،‬التي تعلمها الفرد خالل مراحل حياته املختلفة‪ .‬ويمكن للفرد النفاذ إلى‬
‫هذه الذاكرة من خالل ما سمع وما رأى‪ ،‬لذلك سميت أيضا "ذاكرة معرفية"‪ ،‬ألنها تضم معارف يمكن التعبير عنها‬
‫بواسطة كلمات أو تمثيل مصورن‪ .‬وتنقسم الذاكرة الصريحة إلى "ذاكرة إبيزودية"؛ وتحتوي على معلومات خاصة‬
‫بالسيرة الذاتية للفرد وخبراته املاضية وفق تسلسل زماني ومكاني محدد‪ .‬و"ذاكرة داللية"؛ وهي عصارة عدة إبيزودات‬
‫تمثل خالصة معنى املعارف والحقائق واملعلومات عن العالم املحيط بنا‪( .‬راجع‪ :‬زغبوش‪.2008( .‬أ)‪ .‬ص ص‪.)42-44 :‬‬

‫من خالل ما سبق يمكن القول إن الذاكرة اإلنسانية تنقسم‪ ،‬من حيث قدرتها على االحتفاظ باملعلومات‪ ،‬إلى ثالث‬
‫مكونات أساسية هي الذاكرة الحسية املرتبطة باملؤشرات الحسية السمعية والبصرية وغيرها من الحواس اإلنسانية‪،‬‬
‫وتسمح بنقل أربع إلى خمس وحدات معرفية وال تتجاوزسعتها الزمانية الثانية الواحدة بعد توقف املؤشرالحس ي‪ .‬وهي‬
‫ذاكرة ال تقوم بأي نوع من املعالجة‪ ،‬ثـم تليها الذاكرة قصيرة املدى والذاكرة بعيدة املدى‪ ،‬اللتان تحدد النظر فيهما‬
‫باعتبارنوع املعطيات التي تضمانها‪ .‬فالنسبة للذاكرة قصيرة املدى تتحدد املعلومات الصادرة إليها انطالقا من الذاكرة‬
‫الحسية‪ ،‬حيث تقوم الذاكرة قصيرة املدى باالحتفاظ باملعلومات أو نسيانها‪ ،‬إذ ال تتجاوزسعتها الزمانية ثـمانية عشر‬
‫ثانية‪ ،‬وتقدر طاقتها التخزينية بأربع إلى خمس وحدات معرفية‪ ،‬وتقوم هذه الذاكرة بتحويل املعلومات إلى الذاكرة‬
‫بعيدة املدى‪ ،‬كما تقوم باستدعاء عديد من املعلومات من هذه األخيرة التي تعتبر خزانا كبيرا يضم كل املعارف‬
‫والخبرات التي تعلمها الفرد خالل حياته‪ ،‬والتي تنقسم إلى ذاكرة إجرائية وأخرى صريحة‪ .‬كما تنقسم هذه األخيرة إلى‬
‫إبيزودية وداللية‪ .‬إن هذا التناغم القائم بين مكونات الذاكرة‪ ،‬يدفع الباحث إلى التساؤل حول اآلليات املسؤولة عن‬
‫اشتغال هذه البنية‪ ،‬وكذا عن املسارات املعرفية املنشطة أثناء هذا االشتغال‪.‬‬

‫من خالل سبق‪ ،‬يتضح أن هذا التقسيم البنيوي‪ ،‬للذاكرة‪ ،‬يحيل على أهمية مختلف هذه البنيات‪ ،‬في عملية التعلم‪،‬‬
‫إذ ال يتم التعلم بدونها‪ .‬حيث تمكن كل بنية من تفعيل مسار التعلم وفق خصوصيتها‪ ،‬خصوصا عندما يتعلق األمر‪،‬‬
‫بالعالقة املقررة بين الذاكرة قصيرة املدى‪ ،‬والذاكرة البعيدة املدى‪ ،‬باعتبارهما البنيتان املسؤولتان عن معالجة‬
‫املعلومات‪ .‬مما يدفع الباحث إلى التساؤل عن اآلليات التي يتم تفعيلها أثناء مسار التعلم في مختلف هذه البنيات‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬سنحاول فيما يلي‪ ،‬رصد آليات اشتغال الذاكرة‪ ،‬وخصوصا على مستوى العالقات التي يتم تفعيلها بين كل من‬
‫الذاكرة قصيرة املدى والذاكرة بعيدة املدى‪ ،‬من أجل محاولة فهم هذه القدرة املعرفية العالية وربطها بالتعلم للخروج‬
‫بخالصات علمية مقبولة‪.‬‬

‫‪ .3‬آليات اشتغال الذاكرة‬

‫يلخص البراديغم (‪ )Paradigme‬العام لألبحاث حول الذاكرة‪ ،‬املسارات املعرفية التي يتم تفعيلها أثناء اشتغال‬

‫الذاكرة في عالقة‪ :‬بين مثيرواستجابة‪ ،‬تمربموجبها املعلومات من املثيرإلى فاصل االحتفاظ عن طريق التسنين‪ .‬تم تليها‬

‫عملية االسترجاع التي تتم من خالل الذاكرة بعيدة املدى أو ما يسمى في تصور()‪)Tiberghien,G & Lecocq,P. (1983‬‬

‫بالذكرى‪ .‬غيرأن هذه البساطة التي تلخص بموجبها العمليات الذاكروية في استقبال املعلومات ثـم استرجاعها‪ ،‬دفعت‬

‫مجموعة من الباحثين إلى وضع تصورآخرتقسم بموجبه آليات اشتغال الذاكرة إلى آليات استقبال املعلومات‪ ،‬وآليات‬

‫االحتفاظ بها‪ ،‬وآليات استرجاعها‪" .‬فإذا كان التعلم يكمن في اكتساب تمثل للمحيط الطبيعي واالجتماعي الذي نعيش‬

‫فيه‪ ،‬وتغييره عند الحاجة‪ ،‬فإن التعلم سيصبح مستحيال دون تدخل مسارات معرفية أخرى تعمل على انتقاء‬
‫ْ‬
‫املعلومات الضرورية للتمثل والحفاظ عليها منشطة وتخزينها واسترجاعها" (زغبوش‪.2008( .‬أ)‪ .‬ص‪ .)47:‬لذلك‪ ،‬فإن‬

‫نشاط أجهزة الذاكرة (بمفهومها العام سواء أكانت طبيعية أو اصطناعية) يمر عبر مجموعة من املراحل‪ ،‬التي تحدد‬
‫في تزويد الجهاز باملعلومات‪ ،‬وتوفير وسيلة لتخزين هذه األخيرة بشكل يسمح بالنفاذ إليها واسترجاعها‪ .‬وتتميز هذه‬

‫املراحل بنوع من الترابط الذي يجعل كل تغيير يمس إحداها يؤثر على باقي املكونات‪ ،‬ويمكن التمثيل للمسار القائم‬

‫بين هذه املكونات من خالل الخطاطة التالية‪:‬‬

‫تمثل الخطاطة رقم (‪ ،) 3‬أهم مكونات الذاكرة التي سبق أن قمنا بتحليلها فيما سبق‪ ،‬كما توضح آليات اشتغالها‪.‬‬

‫وبناء عليه‪ ،‬سنحاول فميا يلي تحليل هذه اآلليات التي توظفها الذاكرة في معالجتها للمعلومات‪.‬‬
‫‪:‬‬

‫الخطاطة رقم (‪:)3‬نموذج ‪Atkinson‬و ‪ Shiffrin‬لتمثيل هندسة الذاكرة وكيفية انتقال املعلومات فيها‬

‫‪ .1.3‬آليات استقبال املعلومات‬


‫التسجيل الحس ي‬

‫ذهب مجموعة من الباحثين إلى اعتبارالذاكرة الحسية مكونا من مكونات الذاكرة كما أشرنا إلى ذلك سابقا‪ ،‬غيرأنها‬

‫ال تقوم بأي نوع من املعالجة‪ ،‬في حين أننا نقدم في هذا املقام التسجيل الحس ي باعتباره مسارا تخزن بواسطته‬

‫املعلومات في سجل (‪ )registre‬لفترة زمنية قصيرة‪ ،‬ويخضع جزء منها فقط لالنتباه‪ .‬وهو شرط أساس ي لتسجيل‬

‫املعلومات‪ ،‬حيث يترتب عن هذا االنتباه عملية التسنين التي تحدد باعتبارها مجموعة من عمليات تحويل املعلومات‬

‫الحسية إلى تمثالت ذهنية مؤقتة أو دائمة‪ .‬حيث إن تسنين املعلومات في الذاكرة قصيرة املدى يكون صوتيا أو بصريا‪،‬‬

‫أو تسنينا باملعنى‪ .‬ومن خالل استحضار البحث الذي أنجزه (زغبوش‪.2008( .‬أ)) حول عدد من الدراسات‪ ،‬يتضح أن‬

‫طبيعة التسنين تبقى متغيرا هاما في املعادلة التي تفيد أن كيفية تسنين املثير تحدد إمكانية حضوره في الذاكرة‪ .‬فإذا‬

‫كانت املعلومات ترمز صواتيا في الذاكرة قصيرة املدى‪ ،‬فإن تسنينها في ذاكرة العمل يمكن أن يكون صواتيا أو لسانيا‬

‫أو بصريا –مكانيا‪ .‬تدفعنا هذه الخالصة‪ ،‬إلى التفكير في مدى أهمية عمليتي االنتباه والتسنين باعتبارهما سيرورتين‬

‫معرفيتين أساسيتين في التعلم؛ فكلما كان انتباه املتعلم مركزا‪ ،‬كلما ارتفعت قدرته على تسنين املعلومات‪ .‬وكلما كان‬

‫التسنين في الذاكرة قصيرة املدى موجها لعناصر محددة في اللغة‪ ،‬أثناء عملية التعلم‪ ،‬كان تخزينها في الذاكرة بعيدة‬

‫املدى محققا بنفس الشكل‪ .‬مما يعني أن توجيه انتباه املتعلم ملجموعة من املعارف أثناء التعلم يساعده في تخزينها‬

‫بشكل جيد‪ ،‬ويساعده على استرجاعها بنفس القيمة‪ .‬لقد ذهبت مجموعة من األبحاث‪ 2‬إلى دراسة االنتباه باعتباره‬

‫عملية معرفية تؤدي مجموعة من الوظائف وتؤثر بشكل كبير على التعلم‪ ،‬إما سلبا أو إيجابا‪ .‬لقد برهنت بعض‬

‫الدراسات التجريبية‪ 3‬على عالقة الذاكرة باالنتباه‪ ،‬حيث تؤكد هذه األبحاث أنه كلما كان االنتباه موجها‪ ،‬كلما كان‬

‫اشتغال ذاكرة العمل جيدا‪ ،‬وكان التعلم ناجحا‪.‬‬

‫‪ .2.3‬آليات االحتفاظ باملعلومات‬

‫للمزيد من التفاصيل حور مسار االنتباه أنظر‪Marvin,M,C & Nicholas,B,T. (2007). :‬‬ ‫‪2‬‬

‫للمزيد من التفاصيل حول هذه األبحاث أنظر‪ :‬عاشور‪.)2005( .‬‬ ‫‪3‬‬


‫التخزين واالحتفاظ‬

‫تقوم الذاكرة بتخزين املعلومات وفقا ملقاس (‪ )Format‬محدد يسمح بالنفاذ إليها كيفما كان سياق البحث عنها‬

‫وغاياته‪ .‬لكن ليس كل ما يتم تسنينه يخزن في الذاكرة بالضرورة‪ ،‬ذلك أن مصير الجزء األكبر من املعلومات القادمة‬

‫من املحيط‪ ،‬هو االختفاء والنسيان بشكل سريع‪ .‬تفترض بعض األبحاث (راجع‪ :‬زغبوش‪.2008( .‬أ)‪ .‬ص‪ )50:‬أن تخزين‬

‫املعلومات يكون أسهل إذا تعددت إسناداتها‪ ،‬وتكون هذه اإلسنادات داخلية يمنحها الفرد من خالل ربط عالقات مع‬

‫معلومات متوفرة لديه من قبل‪ ،‬كما قد تكون خارجية يحملها املثير نفسه‪ .‬غيرأن تخزين املعلومات ال يضمن إمكانية‬

‫تذكرها في أية لحظة وال يفيد في توضيح كيفية االحتفاظ بها في الذاكرة‪ .‬لذلك ينبغي التمييز في هذا املستوى‪ ،‬بين‬

‫التخزين واالحتفاظ‪ ،‬ذلك أن التخزين ال يفيد االحتفاظ باملعلومات‪ ،‬إذ أن االحتفاظ عملية ترسيخ وتثبيت‬

‫للمعلومات‪ ،‬في حين أن التخزين احتفاظ موقت‪.‬‬

‫يرتبط مفهوم االحتفاظ بالتعلم بشكل كبير‪ ،‬حيث توصف آلية االحتفاظ بإعادة التعلم أو درجة التوفر‪ ،‬والذي يشير‬

‫إلى أن املعلومات التي تعلمها الفرد في املاض ي تصبح قابلة للنسيان بعد فترة من الزمن وخصوصا مع غياب التدريب‬

‫والتثبيت‪ .‬ومع ذلك فإن هذا االنخفاض في الذاكرة ال يعني أن املعلومات قد تم نسيانها أو فقدانها بالكامل من الذاكرة‪،‬‬

‫حتى وإن عجز الفرد عن تذكرها أو التعرف عليها‪ .‬ولذلك أكدت بعض الدراسات أن إعادة التعلم بعد فترة من الزمن‬

‫تستغرق وقتا وجهدا أقل مما استغرقته في املرة األولى للتعلم‪ ،‬مما يشير إلى وفر في التعلم والذاكرة املتوقع أن ينعكس‬

‫بانخفاض كمية الجهد والوقت الالزم للتعلم الالحق (راجع‪ :‬العتوم‪ .))2010( .‬لقد تم التمييز بين آليتين لالحتفاظ‬

‫بالذاكرة‪ ،‬وهما‪ :‬آلية التكرارالذهني؛ التي تخص الذاكرة قصيرة املدى‪ ،‬وآلية التدعيم؛ الخاصة بالذاكرة بعيدة املدى‪.‬‬

‫ويتحدد مفهوم التكرار الذهني في كونه آلية لتنشيط املعلومات في الذاكرة قصيرة املدى‪ ،‬قبل تالشيها ملدة تزيد عن‬

‫ثـمانية عشر ثانية‪ ،‬وذلك من خالل الحفاظ على املعلومات منشطة في انتظار خضوعها للتسنين‪ ،‬وانتقالها للذاكرة‬

‫بعيدة املدى‪ ،‬أواندثارها كلية إذا كانت أهميتها ضئيلة مقارنة مع املعلومات الواردة‪ .‬وتحيل آلية التدعيم على مجموعة‬

‫من العمليات التنشيطية التي يترتب عنها تو افق عال مع املحتوى السابق للذاكرة‪ ،‬من خالل ربط عالقات بين التمثالت‬

‫الذاكروية الجديدة مع تلك املرمزة سابقا‪ .‬لكن هذا ال ينفي كون عملية التدعيم قد تتطلب عمال معرفيا متكررا من‬

‫املراجعة الذهنية‪ ،‬ولذلك فهو يعتبر آلية أساسية للحفاظ على توفر املعلومات املرمزة في الذاكرة بعيدة املدى (راجع‪:‬‬

‫زغبوش‪.2008( .‬أ)‪ .‬ص‪ .) 51:‬تدفعنا املعطيات السابقة إلى طرح التساؤل التالي‪:‬‬
‫‪ -‬كيف يمكن استثـماراملعطيات املقدمة حول آليتي التكراروالتدعيم‪ ،‬تربويا في العملية التعليمية التعلمية؟ علما بأن‬

‫التعلم ال يتحقق بدونهما‪.‬‬

‫‪ .3.3‬آليات استرجاع املعلومات‬

‫أ‪ .‬التوفرواالسترجاع‬

‫إن توفراملعلومات في الذاكرة شرط أساس ي السترجاعها‪ ،‬ويرتكزالتوفرعلى عمليات التذكر‪ ،‬واالستعمال القادرة على‬

‫استرجاع املعلومة املالئمة في أية لحظة‪ ،‬الش يء الذي يدل على قوة التذكر وعلى دمج معلومات جديدة مع املعلومات‬

‫املتوفرة في الذاكرة‪ ،‬وفق مجموعة من املقومات من بينها؛ وجود معلومات سابقة في الذاكرة‪ .‬مما يسهل عملية‬

‫االحتفاظ بمعلومات جديدة‪ .‬وترتبط قدرات التعرف‪ ،‬وكذا التذكر ‪ -‬باعتبارهما إواليتين من إواليات االسترجاع ‪-‬‬

‫باملعارف املتوفرة في ذاكرة الفرد والتي تختلف من شخص آلخر (راجع‪ :‬زغبوش‪.2008( .‬أ)‪ .‬ص‪.)54:‬‬

‫أما عملية االسترجاع‪ ،‬فتشيرإلى إمكانية استعادة الفرد للمعلومات التي سبق له تخزينها‪ .‬ويتوقف استرجاع املعلومات‬

‫على مدى قوة آثارالتذكراملوجودة في الذاكرة‪ ،‬وعلى مستوى عالقة هذه اآلثارباالسترجاع‪ .‬وتعتبرهذه العملية من بين‬

‫أكثرالعمليات تعقيدا على مستوى الذاكرة بعيدة املدى‪ ،‬حيث إن كمية املعلومات التي تحتويها كبيرة‪ ،‬ونوعيتها مختلفة‬

‫لدرجة تجعل من الصعب في كثيرمن املو اقف استرجاع املعلومات املناسبة التي تتالءم واملهمة املطلوبة‪.‬‬

‫ب‪ .‬التذكروالتعرف‬

‫لقد تم التمييز بين إواليتين مختلفتين لالسترجاع هما التذكر والتعرف‪ ،‬ويتم التمييز بينهما باعتبار التذكر مسار بحث‬

‫نشيط عن املعلومات‪ ،‬ال تفترض وجود اتصال إدراكي بين املثيروالفرد‪ ،‬كما يسمح التذكرباسترجاع املعلومات في غياب‬

‫املوضوع أو الحدث املقابل له في الو اقع‪ .‬في حين يعتبر التعرف مسار معرفيا أكثر تعقيدا من التذكر‪ .‬إذ نتمكن من‬

‫التعرف على معلومة ال نستطيع تذكرها بما في ذلك الكلمات‪( .‬راجع‪ :‬زغبوش‪.2008( .‬أ)‪ .‬ص‪.)55:‬‬

‫تفيد املعطيات التي قدمناها أعاله أن دراسة الذاكرة تنقسم إلى جزأين أساسين‪ ،‬حيث يتحدد الجزء األول في دراسة‬

‫الذاكرة من حيث هي مجموعة من البنيات املختلفة (ذاكرة حسية‪ ،‬ذاكرة قصيرة املدى‪ ،‬ذاكرة بعيدة املدى)‪ ،‬املرتبطة‬

‫بالسعة والقياس الزمني‪ .‬ويتأسس الجزء الثاني على دراستها من حيث هي مجموعة من آليات االشتغال (آليات‬
‫استقبال املعلومات‪ ،‬وآليات االحتفاظ بها‪ ،‬وآليات استرجاعها‪ ،‬وآلية النسيان‪ .)4‬وكما أشرنا سابقا فإن أي دراسة‬

‫للذاكرة تعتمد جزءا دون آخر تعد دراسة قاصرة‪ ،‬ألنه ال يمكن فهم البنية بدون آليات االشتغال‪ ،‬ونقدم فيما يلي‬

‫نموذجا هندسيا للذاكرة اإلنسانية يروم مختلف البنيات واآلليات التي أشرنا إليها أثناء التحليل السابق (أنظر‬

‫الخطاطة رقم ‪.) 4‬‬

‫الخطاطة رقم (‪ :)5.1‬تخطيط عام لهندسة الذاكرة وآليات اشتغالها حسب (زغبوش‪))2008( .‬‬

‫توضح الخطاطة (‪ ،)4‬تصورا نموذجيا عاما يجمع بين هندسة الذاكرة وآليات اشتغالها‪ ،‬حيث تفيد العالمة ‪ ‬أن‬
‫املعلومات قد تالشت من الذاكرة (زغبوش‪.2008(.‬أ)‪.‬ص‪.)63:‬‬

‫‪ 4‬للمزيد من التفاصيل حول آلية النسيان أنظر‪ :‬زغبوش‪.2008( .‬أ)‪ .‬ص ص‪59-57 :‬‬
‫‪ .4‬ذاكرة العمل‬

‫الذاكرة قصيرة املدى أم ذاكرة العمل؟‬

‫لقد أكدت بعض من األبحاث‪ 5‬في السنوات األخيرة‪ ،‬أن الذاكرة قصيرة املدى ليست مجرد خزان يتصف بمحدودية‬
‫السعة والزمن‪ ،‬ألنها املسؤولة عن مجموعة من العمليات املعرفية الفاعلة (من بينها التعلم) في معالجة املعلومات‪.‬‬
‫وهي بذلك تشكل نظاما متكامال في الذاكرة وخصوصا في اتجاه معالجة املعلومات وتخزينها في الذاكرة بعيدة املدى‬
‫بشكل عام‪ .‬فهي قادرة على زيادة سعتها ومدة معالجتها للمعلومات من خالل التدريب والتسميع والتسنين‪ ،‬أو من خالل‬
‫تكرار املثير لفترات زمنية غير محددة‪ .‬لقد اعتبرت الذاكرة قصيرة املدى حلقة وصل بين الذاكرة الحسية (باعتبارها‬
‫بنية وليس آلية)‪ ،‬والذاكرة بعيدة املدى ألنهما يمدانها باملعلومات سواء من خالل البيئة الخارجية عن طريق الحواس‪،‬‬
‫أو من خالل الخبرات السابقة املخزنة في الذاكرة بعيدة املدى‪ .‬وهو ما ذهب إليه البحث الذي قام به‬
‫"بادلي"(‪ ، )Baddeley,A.D., & Hitch,G. (1974). Pp : 47–89‬حيث أكد على ضرورة تجاوزالتصورالذي يرى أن عمل‬
‫الذاكرة قصيرة املدى يتحدد في التخزين املؤقت للمعلومات بالشكل الذي تصل به إليها من املحيط الخارجي‪ .‬ذلك أنها‬
‫تقوم بتخزين املعلومات الواردة من املثيرات وتقوم بمعالجتها‪ ،‬وعن طريقها يتم استرجاع املعلومات من الذاكرة بعيدة‬
‫املدى‪ .‬فلو أخذنا عملية معرفية معقدة كالتحقيق أو االستدالل‪ ،‬أمكننا القول إن عمليات معرفية كهذه ال يمكن أن‬
‫تتحقق باالعتماد على قدرات التخزين املحدودة‪ ،‬ألنها تتطلب مجموعة من التعليمات الخاصة باملعارف اآلنية‬
‫واملخزنة‪ ،‬والنتائج الوسيطة لكل املعلومات املهمة‪ .‬وهذه القدرات ال تتو افق مع قدرات الذاكرة قصيرة املدى‪.‬‬

‫لقد حاولت عديد من األبحاث خلق حدود بين الذاكرة قصيرة املدى وذاكرة العمل ومن بين أهم هذه األبحاث ما قدمه‬
‫"بادلي" و "هيتش" سنة‪ 1974،‬حيث توصال إلى مجموعة من املعطيات التي توضح الفرق بين الذاكرة قصيرة املدى‬
‫وذاكرة العمل‪ ،‬وذلك من خالل التمييز بين نوعين من املهام‪ :‬تلك التي تتطلب تحويل املعلومات‪ ،‬وأخرى تتطلب‬
‫املعالجة واالسترجاع من الذاكرة بعيدة املدى‪ .‬وهو تمييزيشيرإلى بنيتين مختلفتين على مستوى الوظائف‪ ،‬ويحيل على‬
‫نوعين مختلفين من الذاكرة‪ .‬كما ذهب مجموعة من الباحثين إلى أبعد من ذلك‪ ،‬حيث أشار "ستيرنبرغ"‬
‫()‪ )Sternberg,R. (2003‬إلى كون ذاكرة العمل جزءا من الذاكرة بعيدة املدى ألنها تضم املعلومات التي تم استرجاعها‬
‫من الذاكرة بعيدة املدى وتعالج معلومات جديدة مخزنة في منطقة خاصة مؤقتا‪ ،‬كما أنها تضم الذاكرة قصيرة املدى‬
‫التي تستقبل املعلومات من الذاكرة الحسية‪ .‬لكن يبدو أن هذا التصور لم يقدم تفسيرات مالئمة ومقنعة‪ ،‬خصوصا‬
‫على مستوى مصير التخزين املؤقت للمعلومات‪ ،‬وكذا الكيفية التي يمكن أن تكون من خاللها ذاكرة العمل جزءا من‬
‫الذاكرة بعيدةاملدى‪ .‬إن هذا االختالف القائم بين الذاكرة قصيرة املدى وذاكرة العمل سيعرف نوعا من الخمود‬
‫انطالقا من ظهور نماذج‪ 6‬خاصة بذاكرة العمل‪ ،‬والتي حاولت تفسير تجاوز مفهوم الذاكرة قصيرة املدى‪ .‬وفي هذا‬
‫املستوى يؤكد "أندرسون" أنه "بالرغم من أن مفهوم الذاكرة قصيرة املدى الزال موجودا في صفحات أي كتاب في علم‬

‫‪ 5‬للمزيد من التفاصيل حول هذه األبحاث أنظر‪Rossi, J,P. (2006). « Psychologie de la mémoire ». :‬‬
‫‪ 6‬من بين أهم النماذج التي قدمت حول وصف ذاكرة العمل نجد‪ :‬نموذج ‪ /Baddeley1970-1986‬نموذج ‪ Case1985‬نموذج ‪Pascual-‬‬
‫‪/‬‬
‫‪leon1987-1970‬‬
‫النفس املعرفي‪ ،‬إال أنه ال أحد من علماء النفس املعرفي يقبله بخصائصه التقليدية‪ ،‬وال أحد يعطيه الدور الكبير في‬
‫معالجة املعلومات أو فهم الذاكرة بخصائصه الضيقة" (‪.)Anderson,J. (1995). P :171‬‬

‫لقد تم اقتراح نماذج خاصة بذاكرة العمل من طرف عدد من الباحثين (مثال‪ :‬نموذج )‪ ،Case,R.(1985‬و‬
‫نموذج)‪ ،)Pascual-leon.(1987-1970‬الذين حاولوا تجاوز التصور الكالس ي للذاكرة قصيرة املدى‪ .‬لكن من بين كل‬
‫هذه النماذج يعتبر النموذج الذي تم وضعه من طرف "بادلي" و"هيتش" سنة ‪ ،1974‬والذي طوره "بادلي" منذ سنة‬
‫‪ ،1986‬وحتى سنة ‪ ،2002‬من أبرز النماذج التي أوضحت عالقة ذاكرة العمل بتعلم اللغة ومعالجتها‪ .‬كما يعتبر هذا‬
‫النموذج من أكثر النماذج مقبولية في األبحاث السيكولوجية نظرا ملا يتميز به من بساطة في التقديم‪ ،‬وملا عرفه من‬
‫تأكيدات تجريبية ونورولوجية (راجع‪.) Roulin. J,L. (2006). P :291 :‬‬
‫يتكون نموذج "بادلي" لذاكرة العمل من منفذ مركزي (‪ )Administrateur centrale‬يتميز بسعة محدودة‪ ،‬ويعالج‬
‫املعلومات في مختلف أشكالها (بصرية‪ ،‬سمعية‪ ،)...‬ويقوم هذا األخير بدور عام في مر اقبة املسارات االنتباهية‬
‫(‪ )processus attentionnels‬وتنظيمها‪ .‬ويرتبط املنفذ املركزي بجهازين مساعدين هما الحلقة الفونولوجية ( ‪La‬‬
‫‪ )boucle phonologique‬املسؤولة عن االحتفاظ ومعالجة املعلومات الفونولوجية املرتبطة باللغة‪ ،‬واملذكرة‬
‫البصرية املكانية (‪ )agenda visuo-spatial‬التي تقوم باالحتفاظ باملعلومات البصرية واملكانية ومعالجتها‪( .‬أنظر‬
‫الخطاطة رقم‪.)5‬‬
Hage,C., Charlier,B., & :‫ (أنظر‬.)Baddeley. (1990.a)( ‫ نموذج ذاكرة العمل حسب‬:)5( ‫الخطاطة رقم‬
Leybaert, J. (2006). P :103

You might also like