Professional Documents
Culture Documents
آراء + عرض كتاب
آراء + عرض كتاب
حبيب فياض *
حيوية مؤّقتة سوف توّفرها االنتخابات الرئاسية اإليرانية المرتقبة لثنائية المحافظة ( )1واإلصالح،
بعدما خرجت هذه الثنائية عن فعاليتها التقليدية وبدأت الدخول في مرحلة األفول ،وذلك مع خروج
الرئيس اإلصالحي (الوسطي) حسن روحاني من السلطة في عام 2021من دون أن يستطيع إثبات
أّن الرافعة اإلصالحية قادرة على إخراج البالد من أزماتها ،وبالتالي ُخ فوت وهج التيار اإلصالحي
برّمته .إذ مّهد ذلك ،في المقابل ،لوصول الرئيس المحافظ السيد رئيسي إلى سّد ة الرئاسة؛ فكان الفتًا
أّن هذا األخير قد شغل منصب الرئاسة بهوية قيمّية محافظة ،ولكن بتوّج هات عملية إصالحية
جامعة ،فأّسس بذلك لكسر حّد ة االستقطاب الثنائي ،عبر التأسيس لسلطة ذات مشروعية من
المحافظين وتحظى ،في الوقت نفسه ،بمقبولية واسعة من جمهور اإلصالحيين .ففي ظّل عجز التيار
اإلصالحي (بما فيه االتجاه الوسطي) عن تحقيق الحّد األدنى من شعاراته اإلصالحية خالل إمساكه
مقاليد السلطة التنفيذية على امتداد أربع واليات رئاسية (خاتمي وروحاني) ،مع حرصه المستديم
على البقاء تحت سقف النظام؛ مقابل أّن التيار المحافظ بات ،بحكم الرضوخ لمقتضيات الواقع،
متصالحًا مع الكثير من شعارات اإلصالح ،وفي بعض األحيان متبّنيًا لها ،تحت عنوان عدم القدرة
على تجاهل الضرورات الموجبة للخوض موضوعيًا في المسارات اإلصالحية .كل ذلك ،كان من
شأنه أن يضع الجمهورية اإلسالمية على أبواب مرحلة جديدة من االنتظام السياسي ،عبر الدمج بين
ثنائية اإلصالح والمحافظة كمقّد مة لتجاوزها ،وتمهيدًا لالتجاه نحو اصطفافات سياسية جديدة تقوم
على توليفات مستحدثة ،ينبثق عنها ما يمكن تسميته بـ«الوسطية الجديدة».
في األصل ،ليست هي المّر ة األولى التي يتّم عبرها إعادة تشّك ل التّيارات الفاعلة وانتظامها تحت
لواء الثورة اإلسالمية .ففي بدايات الثورة ،تّم التحّو ل من التعّد دية الحزبية الموّز عة بين أحزاب
موالية للثورة (الحزب الجمهوري ،المؤتلفة ،فدائيان إسالم ،مجاهدي الثورة ،الطلبة السائرون)...،
نحو ثنائية علمائية ظّلت حاكمة على المشهد السياسي في إيران ما يقارب العقدين ،وهي موّز عة بين
يمين ،ممّثًال بجماعة «الرابطة العلمائية المناضلة» (روحانيت) ،ويسار ،ممثًال بجماعة «رابطة
العلماء المناضلين» (روحانيون) (.)2
الجماعة األولى ،كانت أقرب إلى النمط المعتدل في تفكيرها وأدائها ،ثّم ما لبث أن تحّو ل كثير من
قياداتها إلى رموز في التيار المحافظ الذي تبلور عمليًا في أواخر التسعينيات (آية هللا مهدوي كني،
موحدي كرماني ،ناطق نوري) .كما أن فريقًا آخر من هذه الجماعة خرج عنها وأّسس الحقًا ما
عرف بالتيار الوسطي (رفسنجاني وروحاني و.)...
فيما عرف عن الجماعة الثانية ،أي «الروحانيون» ،تشّد دها الثوري والعقائدي .غير أّن المفارقة
تكمن في التحّو ل الالحق لدى معظم رموزها نحو «االنفتاح واالعتدال» ( كروبي ،خاتمي،
محتشمي ،)...،بدءًا من أواسط التسعينيات ،وذهابهم إلى تأسيس التيار اإلصالحي بمعظم أحزابه
ومكوناته.
من هنا ،يبدو أّن االنتخابات هذه المّر ة ستشّك ل مرحلة انتقالية بين مرحلتين من عمر الجمهورية
اإلسالمية ،حيث سيتّم عبرها التحّو ل مجّد دًا وتدريجيًا من حّيز «الثنائية» القائمة بطرفيها األصولي
واإلصالحي ،إلى حّيز التعّد دية القائمة على ضبط االختالفات ،مترافقًا مع كل ما من شأنه تحقيق
المصلحة العاّمة تحت سقف النظام والحفاظ على الثوابت والمبادئ.
1
ورغم امتياز إيران اإلسالمية بالقدرة على التحّمل والتأقلم -أي تحّمل الضغوط والتأقلم مع
المتغّيرات -غير أّن االنتخابات هذه المّر ة تعتبر األكثر حساسية لكونها متزامنة مع تحّو الت
خارجية مفصلية ،من المرّج ح أن تضع إيران أمام تموضع إقليمي جديد ،وفقًا لمعادالت مستحدثة
قائمة على نمّو الحجم وتصاعد الدور وارتقاء الحضور وثقل المواجهة .وذلك مقابل تحّد يات داخلية
حقيقية ،تقوم على ضرورة تحقيق ما أمكن من مستلزمات التنمية االقتصادية ،والعدالة االجتماعية،
واإلصالح اإلداري ،ومكافحة الفساد ،والتكامل بين المكّو نات السياسية ،في ظّل كمون جماهيري
يراوح بين الرقابة على األداء والسياسات ،والتحّفز للمحاسبة في االستحقاقات االنتخابية المقبلة.
لقد أفسحت والية السيد رئيسي ،رغم قصر مّد تها ،المجال أمام إمكان والدة «الوسطيين الجدد»،
حيث فقدت الثنائية التقليدية المعهودة النموذج القادر على الجذب ،والمقّو م القادر على إحداث
التحّو الت العميقة نحو حلول جذرية للمشكالت واألزمات .إذ بدا واضحًا أّن الرئيس الراحل كان
يتحّر ك على مستوى السياسات واإلستراتيجيات عبر الجمع بين األصالة التي تعّبر عن عمق
االنتماء األصولي والمبدئي ،والمعاصرة التي تعكس ضرورات اإلصالح واالنفتاح .انطالقًا من
ذلك ،ثّمة مداخل عدة للحديث عن هذه الوسطية ،لعّل أبرزها قابلية إمساك العصا من الوسط في
المحاور الخالفية بين التيارين اإلصالحي والمحافظ ،واعتماد مبدأ الضّم والجمع حيث ال يترّتب
على ذلك أي تناقض أو اختالل .ذلك أن ثنائية المحافظين واإلصالحيين في إيران قامت على
االختالف والتباين في خمسة مجاالت أساسية ( )5موزعة ضمن ثنائيات فرعية محددة ،وهي ليست
قائمة بالضرورة على التعارض والتضاّد ،بل قابلة للتشّك ل وإعادة اإلنتاج وفقًا لتوليفات على قاعدة
الحّد األوسط بين الجانبين.
مالحظة على الهامش
إلى ما تقّد م ،ال بّد من اإلشارة إلى أّن فارق األصوات الذي تحّقق في الجولة األولى من االنتخابات
( 3ماليين صوت تقريبًا) لمصلحة الفريق األصولي/المحافظ ،ليس بالضرورة أن يتحّو ل تلقائيًا
لمصلحة المرّش ح جليلي ،بنحو يجعل فوزه مضمونًا .إذ من األخطاء الشائعة القول إّن كّل هذه
األصوات قابلة للتجيير أصوليًا ،وفي هذا اإلطار يجدر التوّقف عند ما يلي:
• نسبٌة من أصوات قاليباف َلم ُتعَط له لكونه محافظًا أصوليًا ،بل ُأعطيت له العتبارات شخصية
ومحلية وخدماتية ،وبالتالي هي أصوات ال يمكن احتسابها في خانة المعسكر األصولي.
• كّل األصوليين شاركوا في االنتخابات (أو بالحّد األدنى غالبيتهم الساحقة) ،ولكن ليس كّل
اإلصالحيين شاركوا ،ما يعني أّن األصوليين قد استهلكوا الحّد األقصى من طاقتهم االنتخابية ،بينما
اإلصالحيون الذين ظّلوا متفّر جين كانوا يترّقبون مجريات الجولة األولى لتحديد موقفهم من الجولة
الثانية.
• ثّمة إمكانية الستقطاب قسم من الرماديين نحو المشاركة في الدورة الثانية ،وهؤالء بمعظمهم من
اإلصالحيين أو المستقّلين األقرب إليهم.
• كان واضحًا تقّد م بزشكيان على جليلي في النقاط خالل المناظرتين اللتين تلتا الجولة األولى
لالنتخابات.
ّق
لذا ،من المتو ع أن ترتفع نسبة المشاركة من األربعين في المئة إلى ما يقارب الخمسين في المئة،
وهذه الزيادة ستكون بمعظمها لمصلحة بزشكيان ما يجعل حظوظه بالفوز أعلى وشبه مرّج حة.
هوامش:
2
( )1التسمية المتداولة حاليًا للتيار المحافظ هي «األصولي» ،إذ أطلق المحافظون هذه التسمية على
تيارهم تمييزًا ألنفسهم عن الرئيس أحمدي نجاد الذي كان محافظًا ثم اختلف معهم وخرج عنهم.
( )2الجماعتان كانتا جماعة واحدة تأّسست في عام ،1981ثم انشقت الثانية عن األولى في عام
.1987
( )3النقاط الخمس هي:
• والية الفقيه -بين الشرعية الدستورية والشرعية الدينية.
• االقتصاد -بين الخصخصة والتبعّية للدولة.
• الحّر يات العاّمة -بين التوسعة والتقييد.
• العدالة االجتماعية وتوزيع الثروة -بين الريعية والتنمية المستدامة.
• العالقات مع الغرب -بين االنفتاح النسبي واالنغالق المحدود.
4
* كاتب عربي
/https://www.al-akhbar.com/Opinion/383962
----------------------------
األيديولوجيا اإلبراهيمّي ة في الطبقة الوسطى الفلسطينية
صدقي عاصور *
يمكن تقسيم العالقة بين الخليج والمشرق إلى أربع مراحل :في البداية ،كانت المرحلة الكويتية،
عندما استضافت الكويت الحركات الوطنية الفلسطينية والعروبية .بعدها جاءت المرحلة السعودية،
عندما دعمت المملكة تحويل الطبقات العاملة واإلدارية الوافدة واألصيلة إلى جماعات سلفية
وجهادية اختبرت فاعليتها السياسية األولى في أفغانستان .بعدها جاءت الحقبة القطرية ،التي قامت
على استضافة شريحة عريضة من المعارضين السياسيين اإلسالميين والعلمانيين .أّما اليوم ،فنحن
نعيش المرحلة اإلماراتية ،وهذه بالمختصر قائمة على النفور التاّم من الحركات االجتماعية
المذكورة أعاله .وأّما الحركة االجتماعية التي تستضيفها اإلمارات وترعاها ،فهذه بحاجة إلى شرح
طويل يعود بنا إلى التسعينيات من القرن الماضي.
المال والجسد في مواجهة العقل والسالح
ًال
في عام ،1995كتب األكاديميان ريتشارد باربروك وأندي كاميرون مقا بعنوان «األيديولوجية
الكاليفورنية» ،والتي ظهرت خالل طفرة اقتصاد وادي السليكون ،حيث صهرت أفكار اليسار
الجديد المتحّد ر من الستينيات وأفكار اليمين الجديد المتحّد ر من الثمانينيات ،لتكوين اإلنسان «الهيبي
الريادي» المتحّر ر من الناحية االجتماعية ،والمحافظ من الناحية االقتصادية -السياسية ،والذي
يرى في الفردانية االقتصادية اليمينية (على حساب الحقوق الجماعية) عنصرًا ضروريًا في خلق
يوتوبيا رقمية -تقنية تساعد في الوصول إلى أعلى مراحل تحقيق الذات الفردانية.
في العالم العربي ،في نهايات العقد األّو ل من األلفّية ،ظهر فكٌر مشابه أسّميه يوتوبيا «صنع
المحتوى» .في البداية ،تّم توظيف هذا الحّيز في تغطية مشاريع جماعية كبيرة خالل الثورات
واالنتفاضات العربية بعد عام .2011وبعد مرور عقد كامل من النكسات والهزائم التي أخرجت
السياسة من صنع المحتوى -كما حدث مع باسم يوسف -باتت يوتوبيا صنع المحتوى هدفًا بحّد
ذاته.
هكذا تكّو ن اإلنسان العربي الفرداني المعادي للسياسة .وهكذا ولدت األيديولوجية اإلبراهيمية التي
تجمع ثالثة عناصر:
( )1الحّر ية االجتماعية -الجسدية والرقمية من المجتمع.
( )2الحرية االقتصادية من الدولة ،أي نسخ نموذج تحقيق الذات االقتصادية في دول الخليج الغنّية.
( )3المحافظة السياسية ،أي معاداة الحّر ية السياسية والفكرية ،وخاّصة السياسة الجماعية العربية
على المستوى اإلقليمي ،وتبّن ي األيديولوجية السلفية بشأن عدم جواز الخروج عن الحاكم.
هذا التحريم ينطبق طبعًا في العالقة مع الحاكم الخليجي وليس الحاكم المشرقي .هنا ال تمارس
السياسة بتاتًا في الخليج ،بينما تمارس في المشرق فقط على صعيد المكافحة النيوليبرالية للفساد التي
ال تقوم على أسس اقتصادية أو علمية بل على أساس «لماذا دولنا ليست مثل دبي؟».
5
من أجل فهم مبّس ط لأليديولوجية اإلبراهيمية ،يكفي النظر للحاضرين في «محاكمة» جبران باسيل
في «منتدى دافوس» ( :)2020الصحافية األميركية الشابة الشجاعة ،مبعوثة االتحاد األوروبي
ورجل األعمال النبيل اآلتي من اإلمارات ،كّلهم يقّر عون السياسي المشرقي الفاسد .هنا يتّم نسخ
نموذج الفساد األوروبي الذي تحّد ث عنه اليساري اليوناني يانس فاروفاكيس :الفساد التافه والقديم
يحدث في جنوب أوروبا (والمشرق العربي) والفساد المتطّو ر عالي التقانة يحدث في شمال أوروبا
(والخليج العربي).
أبعد من «الدحالنية»
بالنسبة إلى الوضع الداخلي الفلسطيني ،فقد بنت المرحلة الحالية ،على األقل ما قبل السابع من
تشرين ،األسَس للمرحلة اإلبراهيمية القادمة تمامًا كما وضعت المرحلُة العرفاتية في التسعينيات -
بالرغم من محطة انتفاضة األقصى -األسَس للمرحلة العباسية أي مرحلة فلسطين ضمن برنامج
«الشرق األوسط الكبير».
ّق
ال تكمن المشكلة فقط في محمد دحالن ،أو في الدحالنيين كمنش ين غاضبين ،بل تكمن في
األيديولوجية اإلبراهيمية التي لم تلد وقت توقيع اتفاقياتها ،بل استشرت قبل ذلك بكثير ،في طبقة
وسطى ترفض التطبيع العربي في المبدأ وتدينه ،لكنها تنشط في الحّيز االجتماعي والسياسي الذي
يعيد معسكر التطبيع العربي إنتاجه .هنا ظهرت في المجتمع الفلسطيني طبقة مهنية إدارية مهمتها
محاربة ثنائي المجتمع والدولة من أجل الحّر يتين الجسدية واالقتصادية ،على نسق ليبرالّيي الحزب
الديموقراطي في أميركا .تمامًا كما يضحك هؤالء األميركيون على نكات جون ستيوارت ،وتمامًا
كما ضحك المصريون الليبراليون على نكات باسم يوسف عن محمد مرسي ،يضحك فلسطينيو
الطبقة الوسطى (ضحكة األرستقراطيين) على نكات عالء أبو دياب عن السلطة (ذلك كّله قْبل أن
يذهب أبو دياب من أجل تقديم عرض كوميدي في اإلمارات).
هذا الصنف من وطنية الطبقة الوسطى استفاد لسنوات من نقد الوضع القائم ذاته الذي بنى هذه
الطبقة وطّو رها ،وذلك حّت ى تأتي أحداٌث مفصلية ِمثل هّبة أيار 2021التي وّج هت صفعًة للفكر
اإلبراهيمي و«طوفان األقصى» الذي أجبر المحتّل اإلبادي على استخدام العصا بدل الجزرة من
أْج ل إعادة تكريس الفكر اإلبراهيمي.
هكذا ،يتناسى سؤاُل «أين الضفة؟» أّن الطبقة الفلسطينية الوسطى اليوم هي نتاٌج لتغّيرات جذرية
في الطبقة الوسطى العربية .في السابق ،كنَت تحتار بين العمل في الكويت أو ليبيا ،دراسة القانون
في دمشق أو الهندسة في بغداد .رفاقك كانوا ينصحونك بتوفير المال من أْج ل زيارة المخّيمات
والتنظيمات الفلسطينية في لبنان وتناول الشاورما في الضاحية الجنوبية .باستثناء الضاحية ،هذا
العالم العربي اختفى منذ وقت بعيد ،اآلن تذهب إلى القاهرة فينصحك أصدقاؤك هناك -تحّسبًا
وتجّنبًا للمشاكل -بأن تعّر ف عن نفسك كأردني وليس كفلسطيني.
خاتمة
ًا
من البديهي ،إذ ،أّن األيديولوجية اإلبراهيمية ال تصلح أّيام الحروب االستعمارية اإلبادية بل هي
مناِس بة أكثر لدفع الفلسطيني إلى التصّر ف كالثائر األوكراني والبولندي عام 1989ضّد
البيروقراطية السوفياتية التي تشبه في أخطائها البيروقراطيَة الفلسطينية .كان يكفي أن ترى
منشورات الماركسيين التروتسكيين المتصهينين في الغرب كيف وقفوا إلى جانب إسرائيل منذ
6
السابع من تشرين ،وذلك حّت ى منتصف الشهر عندما دعموا خروج تظاهرات ضّد مقّر المقاطعة في
رام هللا ،حينها فّسر هؤالء التروتسكيون على هواهم أّن الشباب الفلسطيني أراد التخّلص من
البيروقراطية الفلسطينية للمطالبة باالنضمام إلى الغرب المتحّضر ،ال للمطالبة باالنتفاضة الشاملة
في الضّفة.
إّن النقد الشعبوي ألوسلو ،أو الطائف ،والسلطة الفلسطينية أو الحكومة اللبنانية ،أو االنقسام أو
الطائفية ،من دون نقد الهيمنة الخليجية واألميركية في بالدنا ،ليس إال رياضة للتنفيس عن الذات.
لقد جرى تعويم ِمثل تلك األدوات النقدية وُأفرغت من محتواها ،وخاّصة بعدما وجْد نا أنفسنا في
الخندق ذاته مع محمد دحالن وعبد هللا بن زايد الذي ينتقد الفساد في السلطة ويصفها بعصابة «علي
بابا واألربعين حرامي» ،بينما يتواطأ مع المستوطن بتسلئيل سموتريتش على تطبيق نسخته من
عقوبات قيصر من أجل تجويع صغار الموّظ فين والمدّر سين وأقالم المحاكم ليس فقط في الضّفة بل
في غزة .هذا بينما ينعم باألمان الماّد ي الحقوقيون ناقدو التخّلف والمؤّثرون الرياديون ناقدو الفساد.
* كاتب فلسطيني
/https://www.al-akhbar.com/Opinion/383961
------------------------------
“المحكمة الجنائية” من منظور الجيوبوليتيك والمقاومة
علي نصار
تواجه “المحكمة الجنائية الدولية” امتحاًن ا عسيًر ا في حرب اإلبادة الجماعية التي تشنها “إسرائيل”
على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة .لقد ذكرت الوثائق التأسيسية أن وظيفة هذه “المحكمة” هي
محاسبة الدول واألفراد المسؤولين عن ارتكاب “الجرائم ضد اإلنسانية” و”جرائم الحرب” و”جريمة
اإلبادة الجماعية” .لكن “المدعي العام” فيها ،كريم خان ،أعطى “الجيش اإلسرائيلي” مهلة سبعة
أشهر كاملة ( 8تشرين األول 2023ـ 20أيار ،)2024حتى يأتي بـ”النصر الحاسم” من خرائب
غزة .ولما تزايدت ضغوط حركة التضامن العالمية مع الفلسطينيين ،اضطر خان إلى طلب إصدار
مذكرات اعتقال بحق رئيس الحكومة “اإلسرائيلية” بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع فيها يؤاف
غاالنت ،إضافة إلى مسؤولين في المقاومة الفلسطينية.
حّر كت الخطوة التي اتخذها خان األسئلة الكبيرة عن وظيفة “المحكمة” وسائر “القضاء الدولي”.
ومن أهمها:
ـ أواًل ،أاّل تبدو “المحكمة” معلقة بـ”النظام الدولي األحادي القطب” القديم ،الذي يخضع لهيمنة
الواليات المتحدة األميركية منذ نهاية “الحرب الباردة” بانتصارها على االتحاد السوفياتي السابق
عام .1991
ـ ثانًيا ،هل أن تلكؤ “الموظفين ـ القضاة” ،ومنهم كريم خان ،شخصًيا ،في التصرف إزاء تلك
الحرب اإلجرامية على غزة ،هو الدليل الوحيد على انحياز “المحكمة” ضد “النظام الدولي المتعدد
األقطاب” الناشئ حالًيا.
7
“المحكمة” بين حَّد ي االستقواء واالستضعاف
بعد طلب المدعي العام إصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغاالنت ،إضافة إلى مسؤولين في
المقاومة الفلسطينية ،صّو ت مجلس النواب األمريكي ،يوم 5حزيران الجاري على قرار فرض
“عقوبات” على مسؤولي “المحكمة الجنائية الدولية” .رغم أن خطوة خان افتقرت إلى األخالق
واإلنصاف بمساواتها الجالد بالضحية.
زاد القرار ،الذي لقي حفاوة في اإلعالم اإلسرائيلي ،نقمة مؤسسة الحكم األمريكي على خان
و”المحكمة” .أول هذه النقمة جاء من وزير الخارجية أنطوني بلينكن ،الذي قال في بيان رسمي:
“نرفض مساواة المدعي العام بين إسرائيل وحماس .إنه أمر مخٍز ” .كما أبدى بلينكن “استعداد
اإلدارة للعمل مع الكونغرس على فرض عقوبات بحق مسؤولي المحكمة ،بعدما طلبوا إصدار تلك
األوامر”.
وبعد يومين كرر الرئيس جو بايدن رد وزيره ،وقال “إن الواليات المتحدة ال تعترف باختصاص
المحكمة الجنائية الدولية وإنه ال يمكن المقارنة بين إسرائيل وحركة حماس” .ويبدو أن نقمة
واشنطن قد فعلت فعلها في نفسه .فعقب كالم بايدن ،ظهر كريم خان في مقابلة صحفية عديم
الضمير ،يتسول الرضى األمريكي (ـ اإلسرائيلي) عنه ،إذ ردد ِبكل ِض َع ٍة نص الموقف األميركي:
“ال أقول إن إسرائيل بديمقراطيتها ومحكمتها العليا شبيهة بحماس ،بالتأكيد ،ال”.
ردود بلينكن ورئيسه بايدن ثم المشرعين األميركيين على طلب خان من “المحكمة” توقيف
مسؤولين “إسرائيليين” ،تبرهن أن “التزام الواليات المتحدة الحديدي ( )Ironcladبأمن
إسرائيل” قاطع .فضاًل عن ذلك ،فإن قادة الكيان الصهيوني ،يتمتعون بحماية الواليات المتحدة من
“المحكمة” بموجب تشريعات أمريكية صدرت وقت تأسيسها عام .2002
لدى المواطن العربي وأنصار فلسطين في العالم ،البراهين الساطعة على التزام أمريكا بأمن
“إسرائيل” .يكفي هؤالء أنهم يصبحون ويمسون على كثافة المشاركة األميركية في قيادة وتنفيذ
حرب اإلبادة الجماعية على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة .إال أن إثبات هذه البديهية السياسية
سيبقى مشوًش ا ،إذا لم نلحظ أن تخاذل كريم خان عن نصرة الحق الفلسطيني ،قد ساعد هرم السلطة
في واشنطن ،على ضبط “الميدان القضائي الدولي” لصالح حكومة اليهود الصهاينة وجرائمها.
مع جالء هذه البديهية ،ينكشف أمامنا هيكل الروابط الدقيقة التي تجمع “الجنائية الدولية” بنظام
الهيمنة األمريكية /الغربية الذي تعد “إسرائيل” إحدى أركانه .فـ”المحكمة” مذ قيامها ،عملت ضد
سيادة الدول الضعيفة في “النظام الدولي األحادي القطب” ،بحيث صار “القضاء الدولي” باًبا إلى
إنعاش السياسات النيوكولونيالية التي اتبعتها واشنطن ولندن وباريس.
إن محاباة “المحكمة الجنائية الدولية” للمصالح األميركية والغربية ،قد جعلها سالًح ا ذا حدين .وبين
حّد االستقواء وحّد االستضعاف ،تحركت “المحكمة” بشكل استفزازي بمواجهة العرب
في السودان وليبيا ،ولبنان وحتى في سوريا .كما أسفرت “مبادراتها” ضد األفارقة
في أوغندا وإفريقيا الوسطى والكونغو الديمقراطية وكينيا ومالي ،عن دعوة “منظمة االتحاد
األفريقي” أعضاءها إلى االنسحاب الجماعي من “المحكمة”.
8
“المحكمة” و”النظام الدولي األحادي القطب”
إن استضعاف هيئة “المحكمة” للدول المذكورة وَغ ْبن حقوقها السيادية ،ناجم عن تكيفها ،كما تكيف
سائر هيئات األمم المتحدة و”القضاء الدولي” ،مع “حاجات” هيمنة الواليات المتحدة األمريكية على
نظام العالقات الدولية األحادي القطب ،الذي كان نشأ على أنقاض النظام الدولي الثنائي القطب
األمريكي ـ السوفياتي ( 1945ـ .)1991كما شاب “الجنائية الدولية” فور والدتها ،بعض السمات
“الخلقية” وأبرزها الضعف التكويني إزاء الدول الكبرى مثل الصين وروسيا وكذلك أمريكا والهند،
التي رفضت جميعها االعتراف بالوالية القضائية لـ”المحكمة” على أفعالها وأفعال مواطنيها حماية
للسيادة القومية وحرًص ا عليها.
كان التكيف يعني االنضباط الشديد في تأمين المصالح األمريكية (ـ اإلسرائيلية) والغربية على
“جبهة القضاء الدولي”.
لقد ازدرى رئيس مجلس النواب األمريكي مايك جونسون “المحكمة” و”المدعي العام” في بيان
رسمي ،قال فيه إن حكومة بالده “ترفض السماح للبيروقراطيين الدوليين [أمثال خان وغيره]
بإصدار أوامر اعتقال للقيادة اإلسرائيلية” .وهذا االزدراء العقابي لم يحصل للمرة األولى في تاريخ
عالقة النظام األمريكي بـ”البيروقراطيين الدوليين” .فقد فرض الرئيس األمريكي السابق
دونالد ترامب أمًر ا تنفيذًيا في حزيران /يونيو عام ،2020يقضي بـ”حظر أصول موظفي المحكمة
الجنائية الدولية ومنعهم من دخول البالد” .وكان المستهدف بتلك العقوبات “المدعية العامة السابقة”
فاتو بنسودة ومسؤولين كبار آخرين في “المحكمة” .وبالفعل ،سرى مفعول قرار ترامب بعد ثالثة
أشهر من إعالنه.
كانت “خطيئة” بنسودة أنها قررت التحقيق في “جرائم حرب” ،ارتكبها جيش االحتالل األمريكي في
أفغانستان ،وكذلك ،جيش االحتالل اإلسرائيلي في فلسطين .فسخط وزير الخارجية في حينه ،مايك
بومبيو ،على “المحكمة” واتهمها ببذل “محاوالت غير مشروعة إلخضاع األمريكيين
لواليتها القضائية” .كما استنكر محاكمة العسكريين اإلسرائيليين على جرائمهم أمامها ،لـ”أننا ـ
حسبما قال ـ ال نعتقد أن الفلسطينيين مؤهلين كدولة ذات سيادة ،للحصول على عضوية كاملة في
المنظمات الدولية ،بما فيها محكمة الجنائية الدولية”.
بعد اختفاء الغامبية بنسودة من أروقة “القضاء الدولي” ،استردت “المحكمة” الثقة األمريكية بها في
عهد بايدن ،عقب انتخاب البريطاني كريم أحمد خان خلًفا لها يوم 12شباط .2021وكان أول
إنجاز قضائي للمدعي العام الجديد ،هو إغالق ملف التحقيق بـ”جرائم الحرب” التي يحتمل أن يكون
الجيش األمريكي قد ارتكبها بحق الشعب األفغاني ،الذي كانت بنسودة قد فتحته .بما فيه الجرائم
المماثلة التي ارتكبها “الجيش اإلسرائيلي” ضد أبناء وبنات الشعب العربي في فلسطين.
مخاض “النظام الدولي المتعدد األقطاب” وإعادة تشكيل الجيوبوليتيك
قبل مبادرة أمريكا و”إسرائيل” إلى شن حرب اإلبادة الجماعية على قطاع غزة منذ 8تشرين األول
،2023حضرت “المحكمة الجنائية الدولية” في السياق الجيوبوليتيكي لألزمة األوكرانية .فقد أطلق
تحرك روسيا لوقف تقدم جيوش حلف شمال األطلسي نحو حدودها الغربية والجنوبية ،ديناميكية
جديدة في نظام العالقات الدولية ،نحو والدة نظام دولي متعدد األقطاب ،يضعف الهيمنة األمريكية
9
والغربية في العالم المعاصر .ونتذكر أنه قبل أن تبدأ روسيا “العملية العسكرية الخاصة” في
أوكرانيا ،في 24شباط ،2022كانت األزمة السياسية في أوكرانيا قد بدأت تستعر منذ عام
،2010حينما توجه الرئيس األوكراني السابق فيكتور يانوكوفيتش إلى “بناء عالقات شراكة
استراتيجية وطيدة وطويلة المدى مع روسيا” .وبحسب تقرير الراديو البريطاني الحكومي (بي بي
سي) ،فإن “المراقبين الدوليين قد شهدوا بشفافية ونزاهة االنتخابات” التي فاز بنتيجتها يانوكوفيتش.
وقد اعترفت الواليات المتحدة واالتحاد األوروبي بنتائجها .لكن “ثورة الميدان” التي تصدر صفوفها
صهاينٌة من أمثال الفرنسي “الفيلسوف” برنارد هنري ليفي ومساعدة وزير الخارجية األمريكي
فيكتوريا نوالند أطاحت يانوكوفيتش في عام .2014
المهم ،أنه بعد عشر سنوات ،سوف يمتدح الرئيس األوكراني الحالي فولوديمير زيلينسكي تظاهرات
ثورة الميدان تلك ،ووصفها بأنها كانت “النصر األول في الحرب مع روسيا” .إال أن هيئة “الجنائية
الدولية” ،مثل كل الصهاينة ،تنكر سياق التاريخ السياسي ( ،)contextualizationبل تطمسه،
ألنها متشبثة بقواعد النظام الدولي األمريكي األحادي القطب دون سواها .وقد رأينا كيف أن
مذكرة اعتقال الرئيس فالديمير بوتين قد صدرت عن “المحكمة” يوم الجمعة في 17آذار ،2022
أي بعد ثالثة أسابيع على اندالع القتال في أوكرانيا ،حينما كان كريم خان قد أتم العام األول في
منصبه.
“المياه تكذب الغطاس”؟
نحن نجهل ما جرى في كواليس األمم المتحدة وحولها لكي “ينتخب” كريم خان “مدعًيا عاًما”.
لكن سيرته الذاتية تشير إلى تمرسه في عمل “المحكمة” لسنوات طوال قبل ذلك .فـ”على مدى ثمان
وعشرين عاًما ،كان مستشاًر ا لملكة بريطانيا ،ومدعًيا عاًما ،ومحامًيا عن الضحايا ومحامي دفاع
في محاكم وطنية ودولية” .ألن “كريم خان يحمل درجات علمية في القانون من كلية كينغ وجامعة
لندن ،كما درس القوانين اإلسالمية ودّر سها”.
لقد أطبق “مدِّر س القوانين اإلسالمية” فمه ،حينما وصف النواب األمريكيون “محكمة” خان
بـ”المحكمة غير الشرعية“ .بل إن “المدعي العام” عندما قرر بناء محضر اتهام بشأن “جرائم
الحرب” في قطاع غزة ،أنزل قادة المقاومة الفلسطينية يحيى السنوار ومحمد الضيف في منزلة
واحدة بجانب نتنياهو وغاالنت وسواهما من مجرمي جيش االحتالل الصهيوني الذي يرتكب
المجازر الجماعية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة ،بدعم أمريكي سافر.
إن القتال الدائر في غزة بين الفلسطينيين وحلفائهم و”اإلسرائيليين” وحلفائهم ،يشكل بؤرة من بؤر
الصراع اإلقليمي/الدولي إلعادة تشكيل الجيوبولتيك اإلقليمي /العالمي ،بين من يريدون التحرر من
إسار النظام القديم األحادي القطب ،ومن يتمسكون ببقاء هذا النظام وإجهاض والدة النظام الجديد
المتعدد األقطاب .وهذا هو سبب صمت كريم خان الطويل على حرب اإلبادة الجماعية التي
“تنظمها” تل أبيب وواشنطن في قطاع غزة .فهو ،شخصًيا ،متواطئ مع “سادة” النظام القديم،
“أبطال” هذه الحرب اإلجرامية المستمرة منذ ثمانية أشهر.
إن اتهام هذا “المسلم البريطاني” الذي هرع إلى استضعاف بعض الشعوب بسيف “العدالة الدولية”،
بتجاهل حقوق الشعب الفلسطيني في مقاومة االحتالل الصهيوني لبالده ،ليس جزاًفا وال زيًفا .إذ إنه
10
بقي متغاضًيا عن جرائم الجيش األمريكي ضد الشعب العربي وشعوب المسلمين من بعد 11أيلول
،2001رغم هول نتائج الدراسة اإلحصائية التي أصدرتها جامعة براون في الواليات المتحدة في
شهر أيار ،2023عن أعداد الضحايا العرب والمسلمين المدنيين الذين سفك الجيش
األمريكي دماءهم ،أثناء حروبه المدمرة التي شنها على العراق وسوريا وليبيا والصومال واليمن،
وفي أفغانستان وفي باكستان أيًض ا .حيث تفيد هذه النتائج بأن تلك الحروب العدوانية الظالمة التي
شنت منذ ذلك التاريخ ،قد هدرت حيوات نحو 4,5مليون ضحية ،كما أكرهت 38مليون مواطن
من تلك الدول على النزوح أو اللجوء عن أوطانهم وديارهم.
فإذا لم تكن مجازر “الجيش اإلسرائيلي” في قطاع غزة ومجازر الجيش األمريكي في بالد العرب
والمسلمين من صنوف “الجرائم ضد اإلنسانية” و”جرائم الحرب” و”جريمة اإلبادة الجماعية”،
فكيف تكون تلك “الجرائم” بل ما هي “الحرب” وما هي “اإلنسانية” .ال بد أن كريم خان حينما قال
أن “القانون الدولي ال يمكن أن يقف موقف المتفرج السلبي ،وال يمكن أن يكون خامًد ا” ،إنما قصد
“القانون الدولي” الذي جعله وأمثاله من “البيروقراطيين الدوليين” أداة لتوسع نظام الهيمنة
اإلمبريالية األمريكية ـ الغربية وتزيين “الوجه القبيح ألمريكا“.
إن فشل “المحكمة الجنائية الدولية” في إحقاق العدالة للشعوب والدول التي تجاهد هذا النظام
اإلستبدادي ،قد جعل المقاومة الوطنية ال “المحكمة” ،من أهم الديناميات اإلجتماعية ـ السياسية
إلقامة نصاب العدل اإلنساني .وهنا نستحضر المثل الشعبي القائل :أن “المياه تكذب الغطاس” .وقد
كذبت “الغطاس كريم خان” فعاًل .نقول ذلك ،رغم األنباء الجديدة عن احتمال إصدار المحكمة
الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال لنتنياهو وغاالنت .وبانتظار رد المقاومة التي وعدت باإلجابة على
مذكرات “المحكمة” ضد قادتها.
https://alcarmel.net/articles/6571
------------------------------
ماذا بعد المجاعة؟ عن اآلثار طويلة األمد للجوع في غزة
أفنان أبو يحيى
«أنا جعان كثير ،وعندي جنين في بطن زوجتي جعان كثير ،وزوجتي خايف عليها إلنها جعانة
كثير».
هذا ما كتبه الصحفي الفلسطيني من شمال غزة أسامة العشي 28 ،عاًما ،في منشور على
فيسبوك أصبح مساحًة يتشارك فيها الغزيون معاناتهم حول توفير قوت يومهم .خاض العشي حرًبا
لتأمين الطعام له ولعائلته التي تستهلك أقل من وجبة واحدة يومًيا ال تكفي حتى إلطعام شخص
واحد .اضطروا في مرات كثيرة لطبخ الحشائش وطحن أعالف الحيوانات أو البقاء «على لحم
بطنهم» جّر اء الحرب اإلسرائيلية المستمرة على غزة ،والتي انطوت على حصار شامل للقطاع
وتدمير لألراضي الزراعية ومنع إدخال المساعدات وارتفاع أسعار المنتجات الغذائية.
أسامة وزوجته وابنهما عائلة واحدة صغيرة من أصل مليون نسمة ،يقطن حوالي
[
700ألف منهم شمال القطاع ،تتوقع المنظمات الدولية أن يواجهوا المجاعة بحلول منتصف تموز.
11
]1ورغم أن األمم المتحدة لم تعلن بعد المجاعة بمعاييرها الرسمية[ ]2في غزة ،إال أنها وصفتها بأنها
شبه حتمية في ظل استمرار هذه الظروف .في الرابع والعشرين من حزيران الفائت ،قال المرصد
األورومتوسطي إن عدد األطفال الذين استشهدوا بفعل الجوع بلغ 49طفاًل ،فيما يواجه 3500
طفل خطر الموت بسبب سوء التغذية ونقص الُمكّمالت الغذائية والتطعيمات ،فيما ُيحتمل أن تكون
األرقام الفعلية أكثر من ذلك جّر اء نقص التوثيق والبالغات ودخوالت المستشفيات.
تعددت أشكال الجوع والموت واحد
منذ السابع من تشرين األول الماضي ،أصبح تجويع الفلسطينيين في غزة بمثابة هدف
سياسي .أعلن وزراء االحتالل الحصار الشامل على القطاع بما فيه منع إدخال الطعام والمساعدات
اإلنسانية وإغالق المعابر ،وفقد المزارعون القدرة على الوصول ألراضيهم الحدودية .وبينما كان
الغزيون ما زالوا يقطنون منازلهم بعد ،بدؤوا يستهلكون ما يتوافر لديهم من الطعام قبل أن تتعطل
ثالجاتهم في األيام األولى من الحرب جّر اء انقطاع إمدادات الكهرباء.
في أول رحلة نزوح ،غادر أسامة مع عائلته منزلهم في شمال غزة بمالبسهم وأوراقهم الثبوتية دون
أن يأخذوا معهم ما يصلح لألكل« ،كنا خايفين على حياتنا ،مين بخطرله إنه يموت جوع؟» .وفي
مراكز اإليواء ،اعتمد الناس على معونات محدودة من المعلبات توزعها األونروا وبرنامج األغذية
العالمي في ظل اإلغالق والدمار الذي طال المتاجر والمطاعم .وحتى عندما كانت بعض األسواق
مفتوحة ،فإنها خلت من الخضروات والفواكه واللحوم ،بعد أن أخرج االحتالل أكثر من %75من
مساحة األراضي الزراعية عن الخدمة في غزة وجّر ف جميع األراضي على امتداد السياج األمني
الفاصل بعمق يصل لقرابة 2كيلومتر.
«ابن اختي بس يالقي رغيف خبر ،بوكل نّصه وبخبي نّصه بجيبته لثاني يوم» .يقول أسامة إن
أسعار المنتجات الغذائية في السوق تضاعفت 25مرة عّما كانت عليه قبل الحرب ،حيث بلغ سعر
كيس الطحين الذي يزن 25كيلوغراًما أكثر من 400دوالر .تفاقمت تحديات الوصول للغذاء في
غزة جراء انهيار النظم الغذائية بما فيها توقف كافة مخابز غزة البالغ عددها 130
مخبًز ا وتعطل محطة تحلية المياه الوحيدة في شمال غزة وحاجة الناس لبيع طرود المساعدات
لتأمين احتياجات أكثر إلحاًح ا مثل األدوية أو خيم النزوح.
شهدت الهدنة التي بدأت في 24من تشرين الثاني الماضي تحسًن ا نسبًيا في إدخال الشاحنات .لكن
المساعدات توقفت بالكامل عن دخول الشمال بعد وقف الهدنة .وفي غضون ثالثة أشهر فقط من
الحرب ،بدأت وزارة الصحة بتسجيل أولى وفيات الجوع والتي طالت المسنين والنساء واألطفال
خصوًص ا ممن يعانون من األمراض المزمنة .على سبيل المثال ،توفي الطفل يزن الكفارنة10 ،
سنوات ،والمصاب بالشلل الدماغي وضمور العضالت بسبب سوء التغذية وحاجته لنظام غذائي
وأدوية خاصة للحفاظ على صحته.
أجبرت المجاعة عائلة يزن على النزوح إلى الجنوب لعالجه في مستشفى أبو يوسف النجار في
رفح ،إال أن حالته الصحية استمرت في التدهور حتى وفاته .ورغم أن االحتالل تعّمد استخدام
المساعدات شمال القطاع كوسيلة لمعاقبتهم وإجبارهم على النزوح ،إال أن حرب التجويع اتسعت
12
بكل األحوال لتطال بعض مناطق الجنوب أيًض ا مثل خان يونس ،حيث استشهدت في الثامن من
كانون األول الماضي الطفلة جنى قديح 14 ،عاًما ،نتيجة الجوع الشديد ودفنت في ساحة مدرسة
طيبة التي نزحت إليها .عانت جنى من الشلل الدماغي ،ولم تجد أسرتها ما ُيعيلها لثالثة أيام سوى
المياه غير الصالحة للشرب.
لم تكن شاحنات المساعدات عبر معبرْي رفح وكرم أبو سالم سوى «قطرة في محيط» ،خصوًص ا
وأن نصيب الشمال منها كان محدوًد ا جًد ا .خالل نيسان الماضي ،دخلت 4887شاحنة مساعدات
إلى غزة 1166 ،منها عبر معبر رفح ،و 3721منها عبر معبر كرم أبو سالم ،فيما لم يدخل إلى
شمال القطاع سوى 419شاحنة ]3[.عندما دمر الجيش اإلسرائيلي معبر رفح مطلع أيار بعد أن
أعلن سيطرته على الجانب الفلسطيني منه ،أصبح المعبر غير صالًح ا لالستخدام وتوقف دخول
المساعدات بالكامل.
بعد عشرين يوًما من وقف المعابر ،عادت شاحنات المساعدات لتدخل بالتنسيق مع مصر عبر معبر
كرم أبو سالم على الجانب اإلسرائيلي بمعدالت أقل من متوسط الشاحنات التي كانت تدخل قبل
عملية رفح ،وخالل هذه المدة ،دخلت أيًض ا أولى شاحنات الرصيف البحري األمريكي في 17أيار
الماضي .لم يسفر الرصيف عن تحسين كمية المساعدات اإلنسانية التي تدخل القطاع
إذ انخفضت إلى أقل من 100شاحنة يومًيا في النصف األول من حزيران ،خصوًص ا وأن تشغيله
قد تعّث ر أربع مرات خالل شهر من بدء عمله« .ال جدوى للرصيف األمريكي» قال المكتب
اإلعالمي الحكومي في غزة معتبًر ا أن اإلدارة األميركية لو كانت جادة لضغطت على االحتالل لفتح
المعابر وإدخال الشاحنات.
عواقب صحية مدى الحياة
«أقل واحد نزل عشرين كيلو ،صرنا عظم وجلد» ،يقول أسامة إن سوء التغذية انعكس في هزال
شديد أصاب معظم أهل القطاع ممن يعتمدون في الغالب على تقنين الطعام وتقاسمه مع أسر أخرى.
أكد التقرير الصادر عن لجنة مراجعة المجاعة آذار الماضي إن كامل السكان في القطاع يواجهون
مستويات عالية من انعدام األمن الغذائي الحاد ،في حين أن نصفهم في المرحلة الخامسة من
التصنيف المرحلي المتكامل لألمن الغذائي ،أي مرحلة الكارثة/المجاعة ،حيث كل تسعة من كل
عشرة أطفال تحت سن الثانية وأكثر من تسعة من كل عشر نساء حوامل ومرضعات يتناولن
مجموعتين غذائيتين أو أقل في اليوم.
تعّر ف األدبيات العلمية الجوع على أنه استجابة نفسية وفسيولوجية لنقص الغذاء ،إذ يشعر األفراد
بالجوع في غضون ساعات قليلة من عدم تناول الطعام ،لكنه عندما يستمر ألكثر من ذلك ،فإنه
يتحول لسوء تغذية في غضون أسبوعين ،أو أقل إذا كانت هناك احتياجات فسيولوجية أخرى للغذاء،
مثل النمو ومكافحة العدوى .وعندما ينتشر سوء التغذية على نطاق واسع ،تظهر المجاعة وهي أشد
أشكال انعدام األمن الغذائي التي تنطوي على أن يموت الناس جوًع ا بسبب عدم حصولهم على ما
يكفي من الطعام والعناصر الغذائية.
تابع جراح األطفال في مستشفى العودة ،محمد السبع ،حاالت سوء التغذية عند األطفال خالل هذه
الحرب .تبدأ األعراض في الظهور على األطفال خالل أسبوع ،حيث يؤدي نقص العناصر الغذائية
13
إلى أعراض أولّية تظهر خالل األيام األولى من سوء التغذية وتشمل التعب والنعاس واإلسهال
والشحوب والقيء وفقر الدم والعينين الغائرتين وآالم المفاصل .ال يمتلك األطفال مخزوًن ا كبيًر ا من
العضالت والدهون ،ولذلك على عكس البالغين ،فهم يحتاجون للغذاء من أجل النمو إلى جانب
الحفاظ على وظائف الجسم األساسية .يقول السبع إن األطفال ربما يحتاجون لمتوسط سعرات
حرارية أقل مما يحتاجه الكبار ،إال أن احتياجاتهم الغذائية متقدمة مقارنة بالبالغين.
يضيف أستاذ الصحة العالمية في كلية رولينز للصحة العامة بجامعة إيموري ،أرييه د .ستاين ،إن
معدة األطفال صغيرة بالنسبة الحتياجاتهم ولذلك فهم يحتاجون إلى وجبات متكررة أكثر ،باإلضافة
إلى أنهم أكثر عرضة لمجموعة من األمراض الُمعدية التي تعرض لها البالغون بالفعل في طفولتهم،
وتتطلب مكافحة العدوى استهالًك ا كثيًفا للطاقة والغذاء.
أزمة الجوع شمال غزة غير مرتبطة بنقص الغذاء فحسب ،بل بجودة الطعام المتوافر أيًض ا .يعتمد
أهالي الشمال على طحن اكل المواشي والطيور من الشعير والذرة أو طبخ األعشاب البرية التي قد
تكون سامة أو استهالك اللحوم الصناعية والمعلبات .أظهرت األبحاث العلمية أن استهالك األطعمة
المعلبة لفترات طويلة يزيد من المخاطر المحتملة لإلصابة بالسرطان وخفض امتصاص المعادن
والفيتامينات .في كثير من األحيان ،اضطر الغزيون الستهالك هذه المعلبات بعد انتهاء صالحيتها
ما تسبب باإلصابة بالتسمم .في ضوء ذلك ،يعاني في قطاع غزة نحو 700ألف شخص من
أمراض ُمعدية ،بينهم نحو 8آالف حالة مصابة بالتهاب الكبد الوبائي الفيروسي ،والناتج بشكل
رئيسي عن تناول طعام أو شراب ملّو ث أو انتقال العدوى من شخص مصاب.
تؤدي اإلصابة بالتهاب الكبد الوبائي من نوع Aإلى الحمى واإلرهاق والغثيان والقيء واإلسهال
المفاجئ وآالم البطن والمفاصل ،وتسوء هذه األعراض في ظل الكارثة البيئية المحيطة واكتظاظ
أماكن النزوح وتلوث المياه .قلما تتمكن المستشفيات من استقبال حاالت سوء التغذية واألمراض
الناتجة عنها ،جّر اء غياب الموارد الطبية الالزمة واستقبال اإلصابات %60-50« .من حاالت
سوء التغذية ما بنلحقهم» ،يقول طبيب األطفال في مستشفى كمال عدوان ،عماد دردونة ،إن الطواقم
الطبية ال يتوافر لديها اإلمدادات الالزمة لعالج الحاالت بشكل مناسب ،وأغلب األحيان يكون أقصى
ما يمكنهم القيام به من أجلهم هو إعطاؤهم محلواًل ملحًيا أو محلوًال سكرًيا .من المفترض أن تساعد
هذه المحاليل في عكس آثار الجفاف ]4[،لكن استخدامها في مراحل متقدمة من سوء التغذية
أو االعتماد عليها حصًر ا بدون خطة تشمل تزويد الجسم بالمواد الغذائية الالزمة قد ال تنعكس على
صحة المريض بأي تحّسن.
يحتاج عكس آثار سوء التغذية لبروتوكوالت طبية خاصة تعتمد بشكل رئيسي على التغذية المعوية
والوريدية حيث ُتوِص ل األنابيُب العناصَر الغذائية الالزمة إلى الدم مباشرة .يقول السبع إن
مستشفيات غزة ال تتوافر فيها أنابيب التغذية الالزمة إلطعام المرضى الذين ال يستطيعون إطعام
أنفسهم ،عدا عن انتهاء مخزوناتها من المكمالت الغذائية الخاصة ،ما يعني أن األعراض المبدئية
لدى األطفال تتفاقم على المدى القصير لتصبح عواقب صحية وخيمة تظهر في غضون أشهر
وتشمل اإلسهال المزمن واالنتفاخ بالسوائل وتباطؤ الجهاز الهضمي والتهاب السحايا وفقر الدم.
قد تستمر فترات عالج مرضى سوء التغذية وخصوًص ا من األطفال لسنوات جراء الحاجة للمتابعة
ومراقبة العالج وإجراء الفحوصات قبل البدء تدريجًيا في تناول نظام غذائي طبيعي.
14
وأحياًن ا ،يكونون عرضة لإلصابة بـ«متالزمة إعادة التغذية» وهي ردة فعل سلبية للجسم نتيجة
دخول الطعام إليه بعد فترة طويلة من االنقطاع عنه .تؤّد ي هذه المتالزمة لمجموعة من األعراض
القلبية والرئوية والعصبية وقد تفضي للوفاة .بالنسبة لدردونة ،فإن األطفال الناجين من سوء التغذية
قد يعانون من عواقب طويلة المدى مثل تقزم النمو وتراجع القدرة على التعلم وضعف الجهاز
المناعي واضطرابات التمثيل الغذائي ،إذ تظهر الدراسات أن عالمات التهاب األمعاء استمرت في
الظهور حتى بعد مرور 48أسبوًع ا على تعافي االطفال من سوء التغذية الحاد.
إذا حدث سوء التغذية أثناء الحمل ،فإن المواليد أكثر عرضة لإلصابة بمشاكل صحية مثل أمراض
القلب واألوعية الدموية مقارنة بأولئك الذين ولدوا مباشرة بعد انتهاء المجاعة .يقول ستاين إن
النساء اللواتي أنجبن بعد التعرض للمجاعة أثناء الحمل هن أكثر عرضة للسمنة في الخمسينات
وخطر اإلصابة بمرض السكري من النوع الثاني ،كما أن أطفالهّن يواجهون زيادة في بعض
األمراض العقلية النادرة (مثل الفصام) نتيجة نقص حمض الفوليك لدى الجنين.
واجه أسامة تحديات كثيرة في تأمين الطعام المناسب لزوجته أثناء حملها ،إذ كان يعتمد على «أهل
الخير» من أجل تغذيتها وتغذية الجنين قائاًل «اللي بشتري شوية خيار ،بخبيلي حبتين معّز ة» ،إال
أنها أصيبت بتسمم الحمل جراء استهالكها المياه المالحة .أنجبت زوجته ريما ابنهما البكر صهيب
في 21حزيران الجاري في والدة مبكرة مطلع شهرها التاسع .ورغم أنه يحمل الكثير من مالمح
والديه ،إاّل أنه يحمل كذلك اصفرار العينين ،ويعاني من ضعف شديد في الوزن ،ومن الكبد الوبائي.
الهوامش
[ ]1بحسب تقرير مشترك صادر عن منظمة الغذاء والزراعة وبرنامج األغذية العالمي مطلع
حزيران الماضي.
[ ]2والتي تشترط أن يعاني %20من العائالت من نقص حاد في الغذاء ويواجه %30من
األطفال من سوء تغذية حاد ويموت يوميًا شخصان بالغان على األقل أو أربعة أطفال من كل 10
آالف شخص بسبب الجوع أو المرض المرتبط بسوء التغذية.
[ ]3بلغ متوسط عدد الشاحنات التي تصل القطاع يوميا (خالل شهر نيسان) 163شاحنة ،مقارنة بـ
500شاحنة من المواد الغذائية والسلع كانت تصل غزة كل يوم قبل الحرب.
[ ]4عند التعرض للجوع لفترة طويلة ،تصبح الوظائف الحيوية لإلنسان أبطأ ،وهو ما يعني أنه
حتى لو شرب اإلنسان الكثير من الماء ،فإن جسده سيظّل يتخلص من هذا الماء ،وهو ما يعني
اإلصابة بالجفاف ،أو اإلصابة بانتفاخ السوائل.
https://www.7iber.com/politics-economics
---------------------------------
عرض كتاب
"مجموعة بيلدربيرغ ،نخبة القوة العالمية" 2014 -
15
دومينيكو مورو ،اقتصادي وعالم اجتماع إيطالي
الطاهر المعز
يتجاوز هذا العرض محتوى الكتاب ليتطرق إلى مجموعة بيلدربيرغ (التي كَت ْب ُت عنها سابًقا في
مناسَب َت ْي ن) غير المعروفة لدى الجمهور ،رغم نفوذها الكبير ،وإلى أشكال الُمحاباة
ال تحظى مجموعة بيلدربيرغ بشهرة كبيرة لدى الجمهور ،رغم نفوذها في العالم ،على مستوى
العالقات الدولية ،منذ إنشائها سنة ،1954وهي “المجموعة األكثر انتقائية في العالم” بحسب
وصف صحيفة الغارديان 29( .أيار/مايو )2014
تضم اللقاءات الّسنوية لمجموعة بيلدربيرغ حوالي 130شخًص ا يتم انتقاؤهم بعناية ،ليجتمعوا لمدة
ثالثة أيام ،وال ُيْس َم ُح للصحفيين بالوصول إلى مكان انعقاد هذه المؤتمرات ،وال تنشر المجموعة أي
بيانات صحفية ولم تنشر قائمة الضيوف سوى منذ بضعة سنوات .أما الهدف الرئيسي (غير
الّر سمي ،ألنه ال يوجد شيء رسمي) قبل انهيار اإلتحاد السوفييتي فهو "تنسيق جهود الواليات
المتحدة وأوروبا لوقف تقدم الشيوعية في أوروبا الغربية" ،وبعد سقوط جدار برلين واالتحاد
السوفييتي ،جمعت اجتماعات نادي بيلدربيرغ أكثر األشخاص نفوذًا في العالم في المجالين
االقتصادي والسياسي ،وممثلي حكومات حوالي عشرين دولة ،وممثلي حوالي عشر منظمات دولية
(المفوضية األوروبية والمجلس األوروبي ومنظمة التجارة العالمية والبنك المركزي األوروبي ،وما
إلى ذلك) والشركات الكبيرة متعددة الجنسيات (فيسبوك وشركة مايكروسوفت وصحيفة
اإليكونوميست وشركة غوغل ونستله وكوكا كوال ،)...وتنوعت موضوعات القمم األخيرة من
إدارة األزمات (خاصة منذ عام )2008إلى االضطرابات االقتصادية والسياسية ،وتتم النقاشات
شفويا بدون تصوير أو تدوين وثائق ،ونظرا لغياب وسائل اإلعالم فإن التسريبات شحيحة ،فضال
عن غياب أي تصويت وأي قرار رسمي ،ما ُيعّسر مهمة الراغبين في معرفة تفاصيل النقاشات
السنوية بدقة ،ألن مجموعة بيلدربيرغ هي المنظمة السياسية واالقتصادية األكثر سرية في العالم
والتي تجمع نخبة من أصحاب النفوذ ،مع تزايد اإلجراءات األمنية والقمعية ضد الصحفيين خالل
مؤتمرات القمة ،بهدف الِحفاظ على الّسّر ية وعدم تسريب أية معلومات وإبقاء المواطنين في حالة
جهل بوجود هذه الجماعة وبمدى ُقَّو ِتها.
يحلل كتاب دومينيكو مورو تنظيم "الُّن َخ ب" العابرة للحدود الوطنية ،واألسس االقتصادية لسلطتها،
والتوجهات والوسائل التي تنجح من خاللها هذه الُّن َخ ب في التأثير على حميع مستويات السلطة،
ويتضمن الكتاب جداول توضيحية وقوائم المشاركين في اجتماعات مجموعة بيلدربيرغ واللجنة
الثالثية ،وُيَع ّر ف مجموعة بيلدربيرغ بأنها "جهاز للرأسمالية النيوليبرالية بقيادة الواليات المتحدة
والتي تختار القادة األوروبيين :الرؤساء ورؤساء الوزراء والوزراء ومحافظي البنوك المركزية"،
ومن بينهم إيمانويل ماكرون وكريستين الغارد وجان كلود تريشيه وماريو دراغي وماريو مونتي
وأنغيال ميركل وبيل كلينتون وباراك أوباما وتوني بلير وديفيد كاميرون وغيرهم ،كما دعمت
المجموعة بعض أصحاب وُمِديِر ي الشركات متعددة الجنسيات مثل بيل غيتس (مايكروسوفت) ،أو
جيف بيزوس (أمازون) ،أو المصرفي ديفيد روكفلر ،أو بعض ُر موز القوة األمريكية مثل الجنرال
16
ديفيد بتريوس (المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية) أو هنري كيسنجر ،وجميعهم أعضاء أو
ضيوف في مجموعة بيلدربيرغ التي ساعدتهم على تعزيز نفوذهم ،محّلًّي ا ودوليا.
أعلن رجل األعمال إتيان دافينيون ،الرئيس السابق لمجموعة بيلدربيرغ (من 1999إلى ،)2011
سنة 2006بلهجة تهُّك ِمّية" :إننا نجتمع مرة واحدة في السنة لمدة ثالثة أيام ونحدد كيف يجب أن
يسيَر العالم خالل ال 365يوما القادمة ،ومن يجب أن يكون الرئيس أو الوزير أو الُمدير التنفيذي
للمصارف أو الشركات الُم ِه ّمة."...
تأسست مجموعة بيلدربيرغ سنة 1954بمبادرة من األمير الهولندي بيرنهارد بالتعاون مع رجل
األعمال األمريكي الثري ديفيد روكفلر ،وكان هدف اجتماع المجموعة ،في البداية ،هو تحسين
العالقات بين أوروبا والواليات المتحدة الحتواء الشيوعية بشكل أفضل .أما اليوم فإن هذا النادي
الذي يضم شخصيات مؤثرة وليبرالية للغاية هو مركز لصنع القرار وإدارة السلطة االقتصادية
والسياسية ،وكما ذكرنا فقد َت عاَظ َم ُنُفوذ هذا النادي فأصبح يختار أحياًن ا رئيس المفوضية األوروبية
ورئيس الواليات المتحدة ورؤساء حكومات البلدان األكثر نفوذًا ،وكذلك رؤساء وُمديري أكبر
الشركات العابرة للقارات...
انفتحت مجموعة بيلدربيرغ قليال فأصبحت تنشر قائمة الضيوف والمواضيع التي تمت مناقشتها،
ولكن المجموعة حافظت على سرية اإلجتماعات الُمغَلَق ة ،لكي ُت حافظ على نفوذها ،ألن هذه
المجموعة ُتَع ُّد من أكثر جماعات الضغط تأثيًر ا في األوساط النيوليبرالية ،وهي عبارة عن "حكومة
الظل" العالمية ،ويفوق تأثيرها بكثير األمم المتحدة.
ُتَع ُّد مجموعة بيلدربيرغ واحدة من أقدم األندية العالمية وأكثرها انغالًقا ،وَض َّم االجتماع األول
للمجموعة (سنة )1954سياسيين وُضّباًط ا ومصرفيين وصناعيين والتقى جميعهم في مستشفى
بيلدربيرغ في أوستيربيك بهولندا ،ومنذ ذلك الحين ،يجتمع ممثلو النخبة العالمية القادمين من البلدان
الغنية ،سنوًيا في فصل الربيع ،على انفراد وتحت رعاية المجموعة ،وشارَك – أو َت ّمت دعوة -
العديد من رؤساء الوزراء والوزراء ومحافظي البنوك المركزية والُمديرين التنفيذيين للشركات
وللمصارف الكبرى ،قبل تولي مناصبهم ،في أعمال مجموعة بيلدربيرغ أو اللجنة الثالثية ،وذكرنا
بعضهم في فقرة سابقة.
يفوق نفوذ هذه المجموعات أي مجموعة ضغط دولية ،ألنها تمتلك شبكات واسعة من الّنُفوذ ُتمّك نها
من تعزيز الروابط بين ممثلي الطبقات المهيِم َن ة من مختلف البلدان ومن مختلف قطاعات النشاط
السياسي واإلقتصادي والمالي والعسكري ،وتعمل هذه المجموعات على نشر النيوليبرالية من خالل
تنصيب الفئات األكثر استعداًد ا لخدمتها ،في وظائف استراتيجية في الحكومات والمنظمات الّد ولية
وعلى رأس الشركات متعددة الجنسيات والمجموعات المالية وشركات االستشارات االقتصادية
والقانونية العاملة على نطاق عالمي ،وتساهم مجموعة بيلدربيرغ في اكتساب هؤالء خبرة في دوائر
األعمال الدولية وفي اختيار القطاعات والبلدان التي ُتَم ِّك ُن من تنمية اُألُصول (الُممتَلكات) ومن
اقتناص ُفرص اإلستثمار في المناطق والقطاعات اإلستراتيجية...
ُتَص ّن ف مجموعة بيلدربيرغ أو اللجنة الثالثية بمثابة النادي الخاص ،لكن وجود هذه المنظمات أمر
مثير للقلق ألنها تتمتع بسلطة اتخاذ القرار الَم ْخ ِفّية ،خارج أي رقابة ديمقراطية أو أي سيطرة
17
شعبية ،ألن المعيار الوحيد الختيار أعضاء هذه النخبة (حوالي 130شخًص ا كل عام) هو ثرواتهم
الهائلة ،وانتماؤهم إلى عدد قليل من البلدان ،وال يتم انتخابهم من قبل أي شخص أو هيئة وال يتم
تفويضهم من قبل أي سلطة عامة ،وغالبًا ما يتصرفون سرًا ويتمثل هُمُهم الوحيد في تعزيز
النيوليبرالية وعقيدة السوق "ذاتية التنظيم" ،أي بدون تدخل الّد ولة ،سوى وقت األزمات للحصول
على المال العام ،بدون أي مقابل أو أي ُشُروط.
أنشأت الرأسمالية مؤسسات "خيرية" ومنظمات "غير حكومية" و"مجموعات تفكير " ومنظمات
تّد عي الّد فاع عن ِقَي م العدالة والُمساواة والشفافية وما إلى ذلك ،ولها نفوذ إعالمي وسياسي
واقتصادي يجعلها قادرة على اإلطاحة بحكومات وأنظمة سياسية ،بدعم من وكاالت اإلستخبارات
والحكومات ،مثلما حصل في أوروبا الشرقية ،وُيْظ ِه ُر نموذج مجموعة بيلدربيرغ ( و"المجتمع
المفتوح" و "الَو ْق ف الَقْو ِمي للديمقراطية" و"فريدوم هاوس" وغيرها) بوضوح إن الّتْع ِيين في
الوظائف الحكومية أو اختيار أو َت ْر ِقَي ة الُمشرفين على مصير الشعوب ( رؤساء دول وحكومات
ووزراء )...وإدارة المؤسسات المالية والّش ركات والمصارف المركزية ال يتم وفق الكفاءة والخبرة
بل بفضل "َت ْو ِص يات" وفق ُأُسس ومعايير إيديولوجية ،من خالل دعم بعض األشخاص الذين يتم
انتقاؤهم ،وفق والئهم ووفق درجة تفانيهم في خدمة رأس المال اإلحتكاري وفي نشر
النيوليبرالية...
==========================================
18