Professional Documents
Culture Documents
14779320783 Mda 09
14779320783 Mda 09
الدرس التاسع
فضيلة الشيخ /د .عبد اهلل بن منصور الغفيلي
احلمُد ِهلل َر ِّب الَع املني ،احلمد هلل محًد ا محًد ا ،أشكره شكًر ا شكًر ا ،وأشهد أن ال إله إال
اهلل ،وح ده ال ش ريك ل ه ،وأش هد أن حمم ًد ا عب ده ورس وله ،ص لى اهلل علي ه وعلى آل ه وص حبه
وسلم تسليًم ا كثًريا ،أَّم ا بعد..
فحَّي اكم اهلل أُّيها اِإل خوة واألخوات ،يف هذا ال درس املتج دد بكم ،ومبا ُيطرح في ه من
َم ساِئَل فقهيٍة يف كتاب البيوع ِم ن ُعمدة الفقه لإلمام ابن قدامة -رمحه اهلل تعاىل.
وكن ا ق د توقفن ا على َم ا يتعل ق بالَّض ماِن ،والض ماُن -كم ا ال خيف اُك م َأُّيه ا اِإل خ وة
احلضور واملشاهدون أيًض اَ -ض ُّم ِذ َّم َة الَّضاِم ن إىل ِذ َّم ِة ا ْض ُم ون َعنه ،وهي صورٌة تتكرر كث ًريا
ِم َمل
أنواعها ما يكون ِم ن ُق وِد الَّتوثي ِق ِه
َو َي ُع على سبيل التوثيق؛ ألَّن الُعُقوِد -كما ال خيفاكم -ن
َعلى سبيِل اإلمجاِل ثالثٌة :الضمان والرهن والكفالة.
وهذه الُعقود َتْنَش أ عن بيوع الُم داينات ،أي :ما يكون فيه الثمن أو ا َثِّم ن َديًنا.
ُمل
وهنا أود أوجه رسالًة لكل متعامٍل هبذا النوع من أنواع العقود وهو الَّض َم ان ،أن يكون
ذا بص ريٍة مبا ُيق ِد م علي ه ،ف إين ق د رأيت كث ًريا من الن اس َيْض َم ن َم ن حُي ب ،ومن َيعرف ،ومن
حَي تاج إليه ،وهو غري ُمَتصوٍر أَّن هذا الضمان التزاٌم منه بوفاء احلق إذا تعذر على ا ديِن الوفاء،
َمل
وبعض الَّن اس َيظن أن ه إذا َض ِم َن َفإمَّن ا َيض من اس تجابًة ونوًع ا من الوق وف مع ص احبه ،أو من
احتاج إليه ،لكنه ال ينظر إىل اآلثار اليت َتْنشأ َعن َذِلك.
فلرمبا َغَد ا طالب الدائن الَّضاِم ن بالد ن ،فيقول :كيف تطالبين وأنا حمس ،وأي إحساٍن
ٌن ْي
كما ُيقال يف التزاٍم ،أنت التزمَت اآلن ،فإن كان من إحساٍن ،فهذا ال مينع املطالبة بوفاء الدْين
الذي التزمَت بضمانه عن صاحبه ،وهذا األمر َس َّبَب إشكااًل كب ًريا عند الَّضاِم ن وعند ا ْض ُم ون
َمل
عنه ،وعند ا ْض ُم ون ،كيف؟
َمل
ِف ِم
َو َّج ه اإلشكال أن الَّضا ن َيستنكر َو َيستغربَ ،و َي ر ،وحيجم عن أداء هذا الدْين ،فرتاه
يقول مثال :لست أنا املدين أص اًل ،أَّم ا ا ْض ُم ون فإن وجه اإلشكال أن هذا الَّض اِم ن قد تسوء
َمل
عالقت ه مع ا ْض ُم ون ،ولرمبا تقاطعا ،فه و ك ان يري د اإلحس ان إلي ه يف البداي ة ،وتوثي ق العالق ة،
َمل
1
والوقوف معه ،مث انقلب اخلري ش ًّر ا ،واألمر شذًر ا ،وهذه ناجتٌة كما ذكرنا عن ضعف الَّتصور
والفهم واإلدراك واحلكمة لدى هذا الَّضاِم ن.
َّمُث إشكاٌل ثالٌث أيًض ا مع ا ْض ُم ون عنه وهو الدائن؛ ألن الدائن هبذا ُيَغِّر ُر بهَ ،و ُيَض يع
َمل
حقه ،هو يف ما أقدم على هذا البيع اآلجل ،أو هذا الدْين مع املدين إال ملا ضمنته أنت ،مث إذا
احتيج إليك وجاء االلتزام عليك ،قلت :أنا مايل ومايل ،وهتربت من ذلك ،هذا يا إخوة من
اخليان ة ،نعم ،وليس من أداء األمان ة ،واهلل يق ولِ﴿ :إَّن الَّل َه َي ْأُمُر ُك ْم َأن ُتَؤ ُّدوا اَألَم اَن اِت ِإىَل
َأْه ِلَه ا﴾ [النساء.]58 :
فعلى املرء إذا َض ِم َن ِإَّم ا َأن َيَتَص َّو ر َأَّنه ُه و ا َط الب متاًم ا كأمنا ص ار ه و َنْف ُس ه َم ديًنا
ُمل
اآلن؛ ألن الِّذ َّم َة كما قلنا ُض مت إىل ِذ َّم ِة املدين ،فهو َض َّم َّم ًة إىل ذم أخرى ،ولذلك ستأتينا
ٍة ِذ
مسائل أن الدائن له أن يطالب أًّيا منهما ،ما يلزم أن يطالب املدين أواًل مث يطالب الَّض اِم ن إذا
تعذر ذل ك ،ال ،إذا مل ي وِّف املدين بدين ه فإن ه عندئٍذ حيق ل ه -أي ال دائن -أن يط الب الَّض اِم ن
مباشرًة.
وهذا املعمول به عن دنا يف احملاكم اآلن؛ ألن الدائن يقول :ملاذا أطالب أنا ،هذا املدين
الذي هو مماط ٌل أو معس ٌر وقد أتعبين خالل هذه املدد ،مباشرًة أنتقل إىل ذلك الغض الذي رمبا
مل يعت د على مث ل ه ذه املماطل ة ،أو ه ذا األس لوب ،مث يفاج أ ه ذا املس كني بأن ه ق د أودع
بالسجن.
قد وقفت على حاالٍت كثريٍة من هذا الباب ،يط اَلب وليس لديه املبلغ أص اًل ،فيوضع
عندئٍذ يف السجن ،وتكون حاله بئيسًة ،وهل حيق له عندئٍذ أن يطالب املدين الذي هو ا ْض ُم ون
َمل
أم ال؟ سيأتينا -إن شاء اهلل تعاىل -اإلشارة إىل هذ.
إمنا ُأبني من ه ذه التقدمة أن ه ال ينبغي للم رء أن ُيق دم على الَّض َم اِن ِإاَّل ِإَذا َتَأك د ِم ن
َم ْق ِدَر ِته على الوفاء به ،وهكذا ال ينبغي أيًض ا أن يكون يف صف مديٍن تأيي ًد ا ودعًم ا أمام دائٍن
ِإاَّل َو َق د َو ِثَق ِبِه َو ِبُقدَر ِته َعلى الَو فاِء ،وهنا نؤكد على اجلميع باملبادرة إىل أداء احلقوق ،وتربئة
الذمة ،فهذا من أخطر ما يكون.
وقد تقدم لنا يف درٍس ماٍض َخ َطُر الدْين ،وأنه مينع صاحبه من املغفرة ،وأَّن النيب صلى
اهلل عليه وسلم كان -كما يف حديث أيب قتادة وغريه -ال ُيص ّلي على صاحب الدْين ،إال إذا
ُقض ي ذل ك عن ه ،وي وم القيامة ُيق اد للَّش اِة اَجللَح اِء ِم َن الَّش اِة الَق رَن اء ،ه ذا بني البه ائم ،فكي ف
2
األمر بني البشر ،وهذه احلقوق مبنيٌة على املشاحة ،ال املساحمة ،ولذلك ُيرَب ئ اإلنسان نفسه أمام
اهلل -جَّل وعاَل -من هذه الديون واحلقوق وااللتزامات.
أحياًن ا ال تك ون أنت املدين ،كم ا يف ه ذه الص ورة ،لكن ك ملتزًم ا ،فيك ون حال ك
كاملدين متاًم ا ،فاهلل اهلل بأن ال ُنقدم إال على ما تربأ به الذمة ونستطيع به القضاء ،وأداء احلق.
عق//د الض//مان ُيعُّد من العق ود ال يت ُتص نف على أهنا عق د توثي ٍق ،وذل ك ألن ه ينش أ عن
دْيٍن ،ويراد به إثبات هذا الدْين والقدرة على الوفاء به ،فهو يف حقيقة األمر ُيراد به استيفاء
الدْين؛ ألن الدْين ُيَو ىَّف مبثل الَّض َم اِن أو مبثل الرهِن .
وتعريفه كما قال غير واحٍد من أهل العلم هوَ" :ض ُّم ِذ َّم ِة الَّض اِم ن إىل ذمة ا ْض ُم ون،
َمل
أو َض ُّم ِذ َّم ٍة إىل ِذ َّمٍة".
ويمكن أن نعرفه بأنه" :التزام جائز التصرف ما وجب على غريه أو ما قد جيب".
"ال تزام ج ائز التص رف" أي :الَّض اِم ن" ،ما وجب على غ ريه" وه و املدين" ،أو ما ق د
جيب" أي أنه :لو ترتب دْيٌن على فالٍن فأنا ضامٌن ،مع أنه حىت اآلن مل يرتتب هذا الدْين.
وهذا املعىن يدل عليه حديث أيب قتادة رضي اهلل عنه حني ُقِّد َم ِإىل الَّنيب صلى اهلل عليه
وس لم رج ٌل ِلُيَص َّلي َعَلي ِهَ ،فَق اَل َص َّلى الَّل ُه َعَلْي ِه َو َس َّلَم َ« :ه ْل َعَلْي ِه َدْيٌن » ،ق الواَ :نَعْم َ ،ق اَل :
«َص ُّلوا َعَلى َص اِح ِبُك ْم » ،فقال َأُبو َقَتاَدَةَ" :ص ِّل َعَلْيِه َيا َرُس وَل الَّل ِه َو َعَلَّي َدْيُن ُه َفَص َّلى َعَلْي ِه" أي:
الدْين الذي َعَليِه َعلَّي ؛ فتقدم النيب صلى اهلل عليه وسلم وصلى عليه .وهذا هو التزام اإلنسان ملا
وجب على غريه.
أَّم ا التزامه مبا قد جيب على غريه ،مثل :يقول أو يكتب ورق ًة أن ما َيس َتِدين ( فالن )
من احملل التجاري فهذا الدْين من ضماين ،وأؤديه مىت ُطِلَب منه ،إذ مل َيقِدر َعَلى الَو َفاِء به.
ُح ْك ُم الَّض َم اِن :
ِن ِم ِب ِإ ِة ِل ِإ ِم
الَّض َم اُن ُمْس َتَحٌب ُح ْك ُم ه يِف َح ِّق الَّضا ن؛ ألنه ن َبا َعاَن اُملس م «َو َّن الَّل َه يِف َع ْو
اْلَعْبِد َم اَداَم اْلَعْبُد يِف َعْو ِن َأِخ يِه» ،بشرط أن يكون َقادًر ا عليه ،وأَّم ا إذا َض ِم َن َو ُه و َغُري َقاِدٍر َفِإَّنه
ِعنَد ِئٍذ َيَق ُع يِف املأِمث َ ،و ِيُك وُن َقد َجَتَّر َأ َعَلى َأْم ٍر َعِظ يٍم .
َو ُح ْك ُم ه يف َح ِق الَّضاِم ن -كما ذكرنا على هذا التفصيلُ -مستحٌب ِبَق ي ِد الُقْد َر ةَ ،و َأَّم ا
يف َح ِق ا ْض ُم ون عنه فهو جائٌز ،جيوز له أن َيطلَب الَّضماَن ِم ن َغريِه.
َمل
3
أركاُن الَّضَم اِن :
ميكن أن تكون على هذا النحو:
يشرتط يف الَّضاِم ن أن يكون بالًغ ا ُمكلًف ا َع اقاًل َر شيًد ا ،والبد أيًض ا من حريته ورضاه؛
ألن اإلنس ان ال ُيض من ش يًئا ال َيرضاه ،فه ذا الش رط وه و كون ه راضًيا ال ميكن أن يتحق ق إال
بالتأكد من القدرة على الضمان ،فلو ُألزم أحٌد بضماٍن عن أحٍد وهو غري راٍض لعدم مقدرته أو
مناسبة ذلك له ،أدى هذا إىل تضييع احلق ،وإشغال الذمم.
أم//ا الَم ْض ُم ون عن/ه :فيشرتط فيه أيًض ا كما يشرتط يف الَّض اِم ن بأن يكون بالًغ ا عاقاًل
رشيًد ا ،لكن ال ُيشرتط يف َح ِّق ِه أن يكون راضًيا ،وهذا على قول اجلمهور ،وذلك َمِل َتَق َّدم قبل
قلي ٍل يف حديث أيب قتادة ،حيث َلَّم ا التزم أبو قتادة وضمن هذا الدْين الذي على امليت ،جاز
ذل ك من غ ري حض وره ( أي :امليت ) ومعرف ة رضاه من َعَد ِم ه ،وه و إن ك ان ميًت ا ،فال ميكن
أصاًل أن ُيتصور معرفة ذلك.
وهذا أيًض ا ُيقال يف حق ا ْض ُم ون له ،فهو ال يشرتط رضاه؛ ألن املقصود أداء احلق له،
َمل
وإمنا يش رتط في ه ما يش رتط يف ص احبيه املتق دمني من جه ة احلري ة والبل وغ والرش د والعق ل،
ولذلك يقال أيًض ا إن الرضا غري مشرتٍط يف حق ا ْض ُم ون له حلديث أيب قتادة املتقدم.
َمل
أم//ا الَم ْض ُم ون في//ه فه//و :حمل ال دْين ،وه ذا جيوز أن يك ون معلوًم ا ،وجيوز أن يك ون
جمهواًل أيًض ا كما سيأيت بيانه.
تفضل يا شيخ اقرأ.
{احلمد هلل ،وصلى اهلل وسلم على رسول اهلل ،وعلى آله وصحبه ومن وااله ،أما بعد..
فاللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين واملشاهدين ومجيع املسلمني.
ْأ ا الَّد َل ِه اِ ،ل اِح ِبِه ِم ِم
قال ابن قدامة رمحه اهللَ( :و ِإْن َض َنُه َعْنُه َض ا ٌن ْ ،مَل َيْبَر َو َص َر ْيُن َع ْي َم َو َص
ُمَطاَلَبُة َمْن َش اَء ِم ْنُه َم ا)}
نعم ..هذه املسألة اليت ذكرناها قبل قلي ٍل ،وهي إن ضمن املدين ضامٌن ،فالدْين يكون
عليهما مجيًعا ،وللدائن عندئٍذ مطالبة من شاء منهما ،ألن الذمة قد صارت واحدًة ،ضمت ذمة
الَّضاِم ن إىل ذمة ا ْض ُم ون عنه ،ولصاحب احلق عندئٍذ أن يطالب من شاء منهما؛ ألن احلق ثبت
َمل
عندئٍذ يف ذمتيهما.
4
واجلمهور وهو املذهب عند احلنابلة على أن الضمان يتعدد فيه حمل الدْين فيطالب أيهما
شاء ،فاملدين خمٌري وقد استدلوا على ذلك بدليٍل وتعليٍل .
فمن الدليل :قوله صلى اهلل عليه وسلم« :الزعيم غارٌم» الذي هو الَّضاِم ن غارٌم ،فهو
قد غرم كما لو كان مديًنا متاًم ا بتم اٍم ،وأما التعليل فقالوا أن حقيقة الضمان يقوم على إشغال
ذمة الَّض اِم ن والتزامه ،وك ذلك احلال بالنس بة للمض مون ،وطاملا ك انت ذمت ه مش غولًة هبذا
الضمان فتجوز عندئٍذ مطالبته.
ِم ِم ِن ِم ِن
{ق الَ( :ف ِإ اْس َتْو ىَف َن اْلَم ْض ُمْو َعْن ُهَ ،أْو َأْبَر َأُهَ ،ب ِر َئ َض ا ُنُهَ ،و ِإْن َأْبَر َأ الَّض ا َن ْ ،مَل
َيْبَر ِأ اَألِص ْيُل)}
نعم أحسنت ..وهنا نشري إىل مسألٍة حىت ال يفوت حملها ،وهي أَّن عقد الضمان الزٌم،
من جهة الَّضاِم ن ،فال جيوز له ،أي :للضامن أن يفسخه؛ ألنه التزم بأداء ح ٍّق ،وفسخه عندئٍذ
تضييع للحق ،وهذا يف حق الَّضاِم ن.
ِم ِم
أَّم ا اَملْض ُم ون له ،فيجوز له أن ُيِرْب َئ الَّضا ن لو شاء ،فهو الزٌم يف حق الَّضا ن ،جائٌز
–أي :غري الزٍم ،ميكن فسخه يف حق ا ْض ُم ون له.
َمل
وهذا من العقود اليت جيتمع فيها اللزوم واجلواز بالنظر إىل طريف العقد فمن العقود ما
يك ون الزًم ا على الَّط َر فني ك البيع ،ومنه ا :ما يك ون ج ائًز ا على الط رفني كالوكال ة ،ومنه ا ما
يكون الزًم ا على طرٍف ،جائًز ا على طرٍف آخر كالضمان والرهن كما سيأيت أيًض ا بيانه.
ِم ِن ِم ِإِن
قول هَ( :ف اْس َتْو ىَف َن اْلَم ْض ُمْو َعْن ُهَ ،أْو َأْبَر َأُهَ ،ب ِر َئ َض ا ُنُه) ،أي :ل و أَّن ال دائَن
اس توىف من "ا ْض ُم ون عن ه" -أي :من املدين -وأخ ذ املبل غ ،فلنف رتض أن املبل غ عش رة آالف،
َمل
وجئت إىل الش يخ ص هيب ُأطالب ه بالعش رة آالف ،وأنت الش يخ الَّض اِم ن ،فلم ا أعط اين العش رة
آالف َتْبَر أ أنت تلقائًي ا ،ما حيتاج أن أبرئك أو يربئك غريي ،ألن حمل الضمان قد حل وانتهى
ومت الوفاء ،فهذا من حاالت إبراء الَّضاِم ن.
كما أَّن من حاالت إبراء الَّضاِم ن ،أن ُيربئه ا ْض ُم ون َله ،يعين :لو أَّن ا ْض ُم ون له أبرأ
َمل َمل
هذا الَّض اِم ن ،فقال :سواء أبرأ "ا ْض ُم ون عنه" "الَّض اِم ن" أي أن :الدائن أبرأ الَّض اِم ن ،أو أبرأ
َمل
املدين ،فق ال للم دين :أن ا متن ازٌل عن حقي ال ذي أطالب ك ب ه ،أو ق ال للض امن ال أحت اج إىل
5
ضمانك ،ويكفيين إن شاء اهلل التزام املدين ،فأنت يف ح ٍّل من هذا العقد عندئٍذ يربأ كما ذكر
املؤلف هنا ألن احلق سقط ،وإذا سقط األصل وهو احلق سقط تبًعا له الفرع.
ق الَ( :و ِإْن َأْبَر َأ الَّض اِم َن ْ ،مَل َيْبَر ِأ اَألِص ْيُل) ،مجي ل بالنس بة لل دائن في ه أو عن ده إب راءان،
إبراٌء يربأ معه غريه وإبراٌء ال يربأ معه إال من أبرأه ،هذا لغز ،كيف؟
الَّضاِم ن :إذا أبرئ من ا ْض ُم ون له وهو الدائن برئ؛ ألن ذلك ح ٌّق للدائن وهو يف قد
َمل
تنازل عنه وتوثيق الدْين.
أَّم ا إذا أبرأ الَّضاِم ن املدين فإنه يربأ املدين كما يربأ معه الَّضاِم ن أيًض ا ،ملاذا؟ ألن الَّضاِم ن
إمنا ضمن ه ذا املدين فعق د الض مان ف رع عن ه ذا العق د أص اًل عن عق د ال دْين ،وبالت ايل إذا مت
إب راء األص ل كم ا ذكرن ا ،وس قط احلق فال حمل للض مان عندئٍذ ،ألن الض مان ي دور مع احلق
وجوًدا وعدًم ا ،واآلن الدائن أبرأ املدين ،فعندئٍذ يربأ الَّضاِم ن.
إذن الحظوا إذا أبرأ الدائن املدين وهو ا ْض ُم ون عنه برئ الَّضاِم ن ،لكن إذا أبرأ الدائن
َمل
الَّض اِم ن فإن هذا ال يعين إبراء ا ْض ُم ون عنه ،وهو املدين ،فالدْين باٍق إمنا هو تنازٌل عن ماذا؟
األوىل فتن ازل عن احلق كل ه ،ومن ب اب أوىل أن يس قط حينئ ٍذ َمل
عن التوثق ة ،أما يف الص ورة
التوثيق.
{قالَ( :و ِإِن اْس َتْو ىَف ِم َن الَّضاِم ِن َ ،رَجَع َعَلْيِه)}
إن استوىف من الَّضاِم ن رجع عليه ،يعين :لو أَّن الدْين الذي ذكرنا اآلن بيننا حنن الثالث ة،
فاستوفيت أنا من الشيخ سعيد ،والشيخ سعيد ضامٌن ،استوفيت منك العشرة آالف ملا الشيخ
صهيب ما سددين ،جيد ،فسيلزمك أنت اآلن بناء على انشغال ذمتك والتزامك أن تؤدي هذا
املبلغ ،طيب ماذا تصنع؟ قال لك إذا استوىف من الَّضاِم ن أي الدائن من الَّضاِم ن رجع عليه ،يعين
الَّضاِم ن يرجع على ا ْض ُم ون عنه ،عن املدين ،يقول هات يل العشرة آالف اليت أخذهتا أو اليت
َمل
دفعتها عنك ،يكون حاله يف كأنه أقرضه ،أدى عنه هذا مراد املؤلف هنا.
{قالَ( :و َمْن َك َف َل ِبِإْح َض اِر َمْن َعَلْيِه َدْيٌن )}
هذه مسألٌة اآلن تتعلق بالكفالة ،والضمان يفرتق عن الكفالة؛ ألن الضمان التزاٌم ماٌّيل،
بينما الكفالة التزاٌم بدٌّين ،ما معىن هذا؟
6
معىن هذا أَّن الضمان تلتزم فيه بأداء احلق املايل ،بينما يف الكفالة تلتزم بإحضار البدن،
لكن ما تل تزم ب دفع املال ،وإن ك انت الكفال ة يف بعض ص ورها ق د تنقلب إىل مالي ٍة إذا ما
استطاع الشخص أن حُي ضر املكفول بدنًّيا ،وهذا سيأيت إن شاء اهلل تعاىل بيانه.
لكن قبل أن ننتقل عنه ،نشري يف الضمان إىل بعض التطبيقات املعاصرة ،منها :ما ُيعرف
خبط اب الض مان ،ال ذي تص دره أحياًن ا البن وك جله ات يتعامل معه ا بعض عمالئه ا املوث وقني،
فتج د أن شخًص ا يش رتي أو يتق دم إىل جه ٍة بعق ٍد معٍني ،فح ىت يتأك دوا من قدرت ه على الوف اء
ومن مالءته ،يستصدر هلم خطاًبا يضمن فيه البنك هذا الرجل هبذا املبلغ ،مبلغ العقد فيما لو مل
يقدر عليه ،واضح.
فهذه أحد صور الضمان املعاصرة ،هل جيوز أن يأخذ البنك أج ًر ا على هذا الضمان أم
ال؟
مجاهري الفقهاء املتقدمني مينعون هذا ،ولذلك يف صورتنا البسيطة قبل قليٍل ،الثالثية ،ما
جيوز للضامن الذي هو الشيخ سعيد ،أن يأخذ من ا ْض ُم ون عنه الذي هو الشيخ صهيب ما
َمل
جيوز أن يأخذ أجًر ا على ضمانه هذا ملاذا؟
قالوا :ألن الشيخ سعيد إذا سدد للدائن املبلغ ،ولنفرتض أنه هو العشرة آالف ،مث رجع
يأخذه من ا ْض ُم ون عنه الذي هو الشيخ صهيب املدين ،العشرة آالف وكان قد فرض أو التزم
َمل
املدين بأجرٍة للضامن ،فرجع عندئٍذ عليه بعشرة آالف وزيادٍة اليت هي األجرة فصار من الق رض
ال ذي ج ر نفًع ا ،ول ذلك امتن ع ب ل ُح كي االتف اق على املن ع ،وه و األح وط وإن ق ال بعض
املعاصرين جبوازه ،ال سيما فيما يقابل عمل البنك من جهد أو حنو ذلك.
{قالَ( :و َمْن َك َف َل ِبِإْح َض اِر َمْن َعَلْيِه َدْيٌن َفَلْم ْحُيِض ْر ُهَ ،لِز َمُه َم ا َعَلْيِه)}
الكفالة التزام جائز التصرف إحضار َبدن َم ن عليه احلق ،وتكون هذه الكفالة بالبدن،
كما هو واضٌح من هذا التعريف ،وهي من عقود التوثيق اليت قدمنا ذكرها.
الَّضماُن َيْض َمُن الَّد ْين ،بينما الَك َف اَلُة َتْض َمُن َمْن َعَلي ِه الَّد ْين ،يعين الضمان يضمن سداد
الدْين بينما الكفالة يكون فيها االلتزام بإحضار من عليه الدْين ،فإذا أحضره إىل من له الدْين
ب رئ ،وإذا تعذر علي ه إحض اره قلبت الكفال ة من كوهنا بدني ًة ،إىل كوهنا مالي ًة ،فيل تزم عندئٍذ
بأداء احلق عنه ،والكفالة جائزٌة بالكتاب والسنة ،ومن ذلك قوله تعاىلَ﴿ :لْن ُأْر ِس َلُه َمَعُك ْم َح ىَّت
7
ُتْؤ ُت وِن َمْو ِثًق ا ِّم َن الَّل ِه َلَت ْأُتَّنيِن ِب ِه ِإاَّل َأن َحُياَط ِبُك ْم َفَلَّم ا آَتْو ُه َم ْو ِثَق ُه ْم َق اَل الَّل ُه َعَلى َم ا َنُق وُل
َو ِكيٌل﴾ [يوسف ،]66:ومن السنة ما تقدم من قول النيب -صلى اهلل عليه وسلم -يف احلديث الذي
رواه أب و داود والرتمذي« :ال زعيم غ ارٌم» ،وال زعيم هن ا من َتَّز عم ش يًئا ،وال تزم ب ه عن غ ريه،
وه ذا يص دق على الض مان ،ويص دق على الكفال ة ،مث إَّن احلاج ة داعي ٌة إىل الض مان ،وإىل
الكفالة ،فلو أن الشرع مل جيزمها ،حلق بالن اس عنٌت كب ٌري ومشقٌة ،إذ أن الدائن أحياًن ا ،ال يثق
هبذا املدين ،في رتتب علي ه ضرٌر كب ٌري على املدين ،يف أن ه ال يتمكن من الوص ول إىل ما يري د؛
لعدم وجود النقد معه اآلن ،كما إن الدائن قد يريد أن يبيع سلعًة ،ومىت وجد من يضمن هذا
األداء غ ري ه ذا املدين باع ه ،فيس تفيد ال دائن ،ويس تفيد املدين ،ويس تفيد اجملتم ع هبذه املعاق دات
ال يت ت دور فيه ا الس لع ،وتك ون فيه ا املبايعات ،وه ذا يتعثر ويتعذر ل و قي ل بتحرمي الض مان أو
الكفالة.
وتصح الكفالة من الرشيد ،صاحب الرشد يعين ،البالغ ،العاقل ،أما الصغري والسفيه،
فليس أهاًل لتحمل مثل هذه األمانة.
كما تصح أيًض ا الكفالة من احملجور عليه لفلٍس ؛ ألن الذمة موجودٌة ،وإمنا ُح ِج َر عليه
يف املال فق ط ،ومبت دؤها إحض ار بالب دن ،وإمنا تنقلب إىل ال تزاٍم ماٍّيل إذا تعذر علي ه اإلحض ار،
ويكون هذا االلتزام بذمته ،فاحلجر عندئٍذ ال يؤثر على هذا كما قرر الفقهاء.
{قالَ( :و َمْن َك َف َل ِبِإْح َض اِر َمْن َعَلْي ِه َدْيٌن َفَلْم ْحُيِض ْر ُهَ ،لِز َم ُه َم ا َعَلْي ِهَ ،ف ِإْن َم اَت َ ،ب ِر َئ
َك ِف ْيُلُه)}.
إذا ك ان حًي ا ،فم ا ذك ره املؤل ف هن ا أن ه يل تزم عندئٍذ بإحض اره أو تنقلب الكفال ة إىل
كفالٍة ماليٍة.
وإن مات فال شيء عليه ،يعين :إن مات املكفول املدين فال شيء عليه ،ملاذا؟
ألن احلضور تعذر بسبٍب ليس إليه ،أي :هو مل يقصر يف ذلك ،وعندئٍذ تبطل الكفالة،
وهذا من الفروق بينها وبني الضمان ،ألن الضامن لو مات ما يسقط احلق ،احلق باٍق يف الذمة،
ألن الذمة صارت كما ذكرنا واحدًة.
إن ُأبرأ املكفول برئ الكفيل ،كما قلنا :إن ُأبرأ ا ْض ُم ون عنه ،برئ الَّضاِم ن؛ ألن احلق
َمل
عندئٍذ س قط ،والكفال ة والض مان لتوثي ق ه ذا احلق ،فكي ف يوث ق ح ق ال وج ود ل ه ،وإذا ب رئ
8
األصل برئ الفرع كما تقدم ،لكن إن أبرأ الكفيل الذي هو يف مقام الَّضاِم ن ،مل يربأ املكفول
ال ذي ه و املدين؛ ألن إب راء الكفي ل إس قاٌط من ال دائن حلق ه يف التوثي ق ،وتن ازٌل عن ه ذا احلق،
لكن احلق األصلي الذي هو الدْين باٍق ،هو إمنا أسقط الفرع وهو التوثيق ،مل يسقط األصل،
فيبقى األصل كما هو ،وهذا ظاهٌر .
هل تصح الكفالة في الحدود والقصاص؟
يعين :لو شخٌص عليه حٌّد ،أو عليه قصاٌص ،هل جيوز لشخٍص أن يقول :أطلقوه وأنا
كفيله؟ أم ال؟
هنا قاعدًة ميكن أن ُنَق ِّر َر ِفيَه ا َم ا َقَرَر ُه الُفَق َه اُء ،حيث قالوا :إَّن ُك َّل َش ْخ ٍص ال ميكن
االس تفاء من ه ،إذا تغيب املكف ول ،فال تص ح عندئٍذ الكفال ة من ه ،وه و ق ول مجه ور أه ل العلم،
يعين :ل و أن ه َم ا اس تطاع َأن حُي ض ر ه ذا الش خص ،ال ذي علي ه ح د س رقٍة مثال ،ه ل ميكنن ا أن
نقول :إَّن هذا الكفيل ُيقام احلد عليه ،فُتقطع يده ،وهو مل يسرق؛ ألنه تعذر عليه إحضار هذا
املكفول؟
احلدود ُت درأ بالشبهات ،وه ذا مل ُيق ارف َه َذ ا اَحلَّد ،وإمنا التزم فق ط باإلحضار ،ومثله
ختيلوا لو أن شخًص ا قال :أنا آيت هبذا القاتل ،اتركوه ،وهو علَّي ،وملا مضى مل ينو على شيٍء ،
وترك صاحبه هذا الذي أحسن إليه يتورط يف هذه الكفالة ،فهل يقال :أقيموا احلد على هذا
الكفيل؟ أبًد ا ال ُيقال هبذا ،وهذا كما ذكرنا هو قول مجهور أهل العلم.
خبصوص الكفالة ،ما يسمى اآلن بالكفالة التجارية ،والكفيل واملكفول ،هذا يف ليس
من هذا الباب يف شيٍء ،وإمنا هو نوٌع من التنظيم الذي ُيراد به ترتيب احلقوق وتنظيمها.
وميكن بعد ذل ك أن نلج يف ب اب ال رهن ،وال رهن من عق ود التوثي ق أيًض ا ،وه و العق د
الثالث ،حيث الضمان توثيق ،والكفالة كذلك ،مث الرهن ،فما املراد بالرهن هنا؟
الرهن :هو توثقة دْيٍن بعٍني ،ميكن استيفاؤه منها ،أو من مثنها ،توثقة دْيٍن بعٍني ،فيكون
البد عندئٍذ َّمث دْيٌن ألجل أن ينشأ عنه عقد الرهن.
ول ذلك ي ا إخ وة نق ول :إن عق ود التوثيق ات هي من العق ود التابعة؛ ألن العق ود على
قسمني :عقوٌد أصليٌة ،وعقوٌد فرٌع عنها ،وهي العقود التابعة هلا ،مبعىن أنه ال ميكن أن تتصور
9
ه ذه العق ود إال بوج ود العق ود األص لية ،فال توثي ق ،ال رهن ،ال ضمان ،ال كفال ة إال بوج ود
دْيٍن ،عقد بيٍع ،أو حنوه ،مما ينشأ عنه ما ُيشرع فيه االستيثاق ،كما هو احلال هنا.
التوثيق يكون بالكتابة ،كما قال تعاىلَ﴿ :يا َأُّيَه ا اَّلِذيَن آَم ُن وا ِإَذا َتَد اَينُتم ِبَد ْيٍن ِإىَل َأَج ٍل
ُّم َس ًّم ى َف اْك ُتُبوُه﴾ [البق رة ،]282 :ويك ون باإلش هاد ،كم ا ق ال تعاىلَ﴿ :و َأْش ِه ُد وا ِإَذا َتَب اَيْع ُتْم ﴾
[البق رة ،]282 :ويكون بالرهن ،كما قالَ﴿ :فِر َه اٌن َّم ْق ُبوَض ٌة﴾ [البق رة ،]283 :سواء كان ذلك يف
السفر ،أو يف احلضر ،كما هو مذهب الفقهاء األربعة ،وعليه أكثر أهل العلم ،وقد ثبت أن النيب
-صلى اهلل عليه وسلم -وهو يف احلضر رهن درعه عند يهودٍّي يف املدينة ،وقد مات النيب -
صلى اهلل عليه وسلم -ودرعه مرهونٌة عند هذا اليهودي ،وقد كنا عَّر جنا -إن كنتم تذكرون-
على هذا الدليل ،وبينا أن هذا الدليل فيه فوائد عديدٌة ،منها:
جواز التعامل مع أهل الكتاب. .1
جواز التعامل بالدْين. .2
جواز العقود ،عقود التوثيق التابعة ،ومنها الرهن. .3
وصورته :لو أننا مثلنا بأن األخ حسني يطلب من األخ ميكائيل مخسة آالف لاير ،وملا
أراد أن يعطي ه ه ذا املبل غ ،ق ال :ائت ين بكفي ٍل ضامٍن هبذا ال دْين ،أو كفي ٍل حيض رك للس داد أو
الوفاء.
ق ال األخ ميكائي ل :ليس عن دي من يض منين ،ولكن عن دي س لعٌة خبمس ة آالف لاير
تقدر ،وهذه السلعة مثاًل هي جهاز حاسب آيل هبذه القيمة ،خذه عندك ،فإذا جاء األجل ،ومل
أسددك هذا املبلغ ،تبيع هذا اجلهاز ،فإن زاد على اخلمسة آالف تعطيين ما زاد ،وإن كان مخس ة
آالف تربأ ذميت ،وإن كان أقل من ذلك ،أوفيتك ما كان من نقٍص .
إذن هذا اجلهاز احلاسب اآليل ،هو الرهن ،والراهن من هو؟
{ميكائيل}.
وهو الدائن أو املدين؟
{الدائن}.
ال ،دائًم ا اعكس وها ،ال راهن يعين ال ذي دف ع ال رهن ،ه و املدين ،واملرهتن ال ذي قب ل
الرهن ،هو الدائن ،فتصريفها متعاكس.
10
إذن الرهن هو العني ،والدْين يقابله ،وهو مرهوٌن ،والراهن هو املدين ،واملرهتن الذي
قبل الرهن ،يعين أخذه ،هو يف حقيقة األمر الدائن.
هذا هو الرهن صورته ومثاله.
{قال -رمحه اهللَ( :باُب ال َّر ْه ِن َ ،و ُك ُّل َم ا َج اَز َبْيُعُهَ ،ج اَز َر ْه ُن ُهَ ،و َم ا َالَ ،فَال َو َال َيْل َزُم
ِإَّال ِباْلَق ْبِض )}.
هنا ُيشار إىل ُح ْك ِم ال َّر هَن ،واملؤلف قد َمَجَع َعلى َعادتهِ ،ع َّد َة أحك اٍم يف ُح كٍم واح ٍد،
فذكر اُحلكَم َم ع َض اِبِطِه ،فالرهن حكمه مشروٌع جائٌز ،وهذا اجلواز بالكتاب كما قال تعاىل:
﴿َفِر َه اٌن َّم ْق ُبوَض ٌة﴾ ،وبالسنة مما جاء يف الصحيح ،أن النيب -صلى اهلل عليه وسلم -رهن درعه
عند يهودٍّي ،وباإلمجاع ،حيث أمجع أهل العلم عليه ،وباحلاجة الداعية إليه ،وهو مع ذلك ليس
واجًب ا ،فال يل زم ال دائن أو املدين أن ي رهن عن د اس تدانته ما يقاب ل ه ذا ،ه ذا ال دْين ،لكن ه ذا
مشروٌع يف حقه ،أو جائٌز يف حقه ،وهو نوٌع من التوثقة ،كما ذكرنا.
وينعقد الرهن بكل ما يدل عليه ،سواًء كان بلفظ الرهن ،أو كان بلف ٍظ آخر ،وهذا
على املذهب عند احلنابلة واملالكية ،وهم سائرون يف هذا ،كسائر العقود ،وذلك ألن املسلمني
مل يزالوا يتعاملون باملعاطاة ،وذهب الشافعية إىل أنه ال ينعقد إال بإجياٍب وقبوٍل ،فال يكفي فيه
املعاط اة ،كم ا ه و مذهب احلنابل ة واملالكي ة ،وق الوا :ه و عق ٌد يفتق ر إليهم ا ،يعين إىل اإلجياب
والقب ول ،خيفى في ه الرضا ،فالب د من التص ريح هبم ا ،وإن ك ان ال راجح ما ذهب إلي ه احلنابل ة
واملالكية ،وسواًء كان ذلك يف عقد الرهن ،أو يف غريه من العقود ،فتنعقد باملعاطاة ،وبكل ما
دل عليها.
والرهن يصح من جائز التصرف ،مالًك ا للرهن ،أو مأذوًنا له فيه ،يعين البد أن يكون
مالًك ا هلذا الرهن ،احلاسب اآليل الذي رهنه ميكائيل عند األخ حسني ،البد أن يكون مالًك ا ل ه،
ما يرهن حاسًبا آلًّيا لشخٍص آخر ،أو مأذوًنا له فيه ،وهذا هو املذهب ،وهو مذهب الشافعية؛
ألنه عقٌد ماٌّيل ،فلم يصح إال من أهله.
وهذا القصد منه اشرتاط أن يكون جائز التصرف ،وذهب بعض أهل العلم كاحلنفية إىل
جواز ذلك من الصيب ،إذا كان مأذوًنا له ،ولو مل يكن بالًغا ،واألقرب ما أشرنا إليه من اشرتاط
كونه جائز التصرف ،مالًك ا للمرهون ،أو مأذوًنا له فيه.
11
وهذا الرهن عقٌد الزٌم ،أو جائٌز ،نقول فيه ما قلنا يف الضمان ،فعندئٍذ كيف سيكون؟
عقد الزٌم من جهٍة ،جائٌز من اجلهة األخرى ،الزٌم على من؟
{املدين}.
أحس نت ،فال دْين ال ميكن ه أن ينف ك من ه ذا ال رهن ،فال ميكن األخ ميكائي ل أن يق ول
حلسني بعد شهر أنا واهلل احتجت احلاسب اآليل ،و أين أريد أن أفسخ عقد الرهن؛ ألين مسعت
يف درس الفقه ،أن عقد الرهن جائٌز ،نقول :نعم ،أصبَت يا شيخ ميكائيل ،هو جائٌز ،لكنه ليس
يف حق املدين ،الذي هو الراهن ،وإمنا هو جائٌز يف حق الدائن املرهتن ،فيجوز لألخ حسني أن
يق ول :ي ا أخ ميكائي ل ،أن ا تعاملُت معك ،وارحتُت إلي ك ،ووج دُت ص دقك ووف اءك ،خ ذ
جهازك استفد منه ،وقد فسخت عقد الرهن ،وال يلزمك أن توثق دينك به ،وإن شاء اهلل تعاىل
إنك َو ٌّيِف ،وعندئٍذ يكون قد تنازل عن حقه ،فهو جائٌز ،يعين جيوز فسخه يف حق الدائن ،وهو
املرهتن ،الزٌم يف ح ق املدين؛ ألن احلق تعل ق ب ه ،وثبت ،وه و من حق وق الط رف العق د اآلخ ر،
فال يسوغ عندئٍذ فسخه.
من ش//روطه :أن يكون عيًن ا ،وقد اختلف الفقهاء يف ذلك ،فمنهم من ج َّو ز الرهن يف
ال دْين واملن افع ،خبالف املذهب عن د احلنابل ة ،ال ذين يش رتطون أن يك ون عيًن ا ،ول ذلك يعِّر فون ه
بتوثيق الدْين بعٍني ،ميكن االستيفاء منها ،أو من مثنها ،وهذا قوٌّي .
الث//اني :أن يكون مما جيوز بيعه ،وهو ما ذكره املؤلف هنا ،قال :وكل ما جاز بيعه،
جاز رهنه ،فاحلاسب اآليل جيوز بيعه ،الكتاب جيوز بيعه ،البيت أو العقار جيوز بيعه ،الكامريات
ه ذه ال يت اآلن تص ورنا ،جيوز بيعه ا ،الطاول ة جيوز بيعه ا ،إذن جيوز رهن ه ذه كله ا ،لكن إذا
كان شيًئا ال جيوز بيعه ،فال جيوز رهنه ،مثاًل لو أراد شخص أن يرهن مصحًف ا ،فعند احلنابلة ال
جيوز بيع املصحف ،وبالتايل ال يصح رهنه عندهم ،كذلك لو أراد أن مثاًل يرهن بطاقة أحواٍل ،
ال تكون مما ُيرهن؛ ألنه ال جيوز بيعها ،فال ميكن االستيفاء منها ،مع أن هذا أيًض ا ممنوٌع نظاًم ا،
أيًض ا ل و أراد ش خص أن مثاًل ي رهن مخًر ا ،ما جيوز؛ ألن ه ال جيوز بيعه ا ،فال جيوز رهن ه ،إذن
قاعدٌة مهمٌة جًّدا ،وذلك ألن املراد من الرهن هو االستيفاء ،وإمنا يستوىف من بيعه ،ال من عينه،
وهذا ال يتأتى مع ما ال جيوز بيعه ،ولذلك كان هذا الضابط منضبًطا.
أيًض ا من شروط الرهن :أن يكون معلوًم ا ،فال جيوز رهن اجملهول ،ملاذا؟
12
ألن اجملهول قد ال ميكن االستيفاء منه ،مبا يوافق هذا الدْين ،لو شخٌص قال لك :أنا
سأستدين منك هذه العشرة آالف ،وما يف هذه احلقيبة اليت بيدي ،أو ما يف جييب ،هو رهٌن هلذا
ال دْين ال ذي ل ك علي ،نق ول :ما جيوز ه ذا ،الب د أن يك ون معلوًم ا؛ ألن ه ذا ن وٌع من الغ رر،
وهنا سيكون االستيفاء من هذا الدْين.
أيًض ا البد أن يكون مقدوًر ا على تسليمه ،لو أنك يا شيخ سعيد أقرضتين مخسني ألًف ا،
وطلبت مين توثق ًة ،فقلت لك :نعم أبشر ،يل سيارٌة مسروقٌة ،ولكنها رهن هبذا الدْين ،فإذا مل
أوف ك اخلمس ني أل ف ،فس ياريت ه ذه ميكن ك عندئٍذ البحث عنه ا ،وتق دمي البالغ ات فيه ا ،مث
االستيفاء منها إذا وقفت عليها ،نقول :ما جيوز هذا ،البد أن يكون مقدوًر ا على تسليمه.
{قالَ( :و َال َيْلَزُم ِإَّال ِباْلَق ْبِض َ ،و ُه َو َنْق ُلُه ِإْن َك اَن َم ْنُقْو ًالَ ،و الَّتْخ ِلَيُة ِفْيَم ا ِس َو اُه)}.
ق ال :وال يل زم إال ب القبض ،ه ذا في ه إش ارٌة إىل حال ة ل زوم ال رهن ،وحال ة ل زوم ال رهن
تكون بقبضه من ِقَبل املرهتن ،هذا عند مجهور أهل العلم ،فلو أين قلت لك :السيارة اليت عندي
رهٌن هبذا الدْين الذي لك علي ،لكين ما أخربتك إياها ،مث قبل أن تقبض السيارة تنتقل لك،
قلت لك :خالص ،أنا ال أريد أن أرهن السيارة ،فعندئٍذ ال يلزم ،ويكون الدْين ثابًت ا إذا استقر
من غ ري رهن ،ول ذلك على ال راهن ،أو على املرهتن ،ال ذي ه و ال دائن ،إذا أراد أن يوِّث ق ،أال
مُي ضي الدْين ،ويعطي البض اعة هلذا املدين ،إال بعد أن يقبض الرهن ،حىت يكون عندئٍذ الزًم ا،
وذلك لظاهر النصَ﴿ :فِر َه اٌن َّم ْق ُبوَض ٌة﴾.
وألن الرهن يف أصله عقد إرفاٍق ،يفتقر إىل القبول ،فافتقر إىل القبض أيًض ا ،كالقرض،
وهذا كما ذكرنا مذهب اجلمهور ،خالًف ا للسادة املالكية ،حيث قالوا بأنه يلزم مبجرد العقد؛
لعم وم قول ه تعاىلَ﴿ :ي ا َأُّيَه ا اَّل ِذيَن آَم ُن وا َأْو ُف وا ِب اْلُعُقوِد﴾ [املائدة ،]1 :وال رهن عق ٌد ،فيل زم في ه
ِإ ِم ِق ٍذ
عندئ الوفاء ،ولو مل يكن قبض من َبل املرهتن ،وهو الدائن ،ولقوله تعاىلَ﴿ :ف ْن َأ َن َبْع ُض ُك ْم
َبْع ًض ا َفْلُيَؤ ِّد اَّلِذ ي اْؤ ِمُتَن َأَم اَنَتُه ﴾ [البقرة.]283 :
قولهَ( :و ُه َو َنْق ُلُه) ،هذا ضابط القبض ،وهو نقله إن كان منقواًل ،والتخلية فيما سواه.
القبض يف أصله وضع اليد على الشيء ،وهو احليازة ،وكل ما أتى ومل حيدد ،بالشرع
كاحلرز فب العرف اح دد ،وك ذلك القبض ،وك ذلك حد السفر ،وغ ري ذل ك مما مل ي أت ضابٌط
حمدٌد له يف الشرع ،فينتقل يف ضبطه إىل ما تعارف عليه الناس ،مىت كان العرف مستقًر ا.
13
ف القبض يف املنق والت يك ون بالنق ل ،ويف املعدودات بالعد ،ويف املكيالت بالكي ل ،يف
العقار بالتخلية بينك وبينه ،مع عدم املانع من تصرفك فيه ،ولذلك يقال بأن الرهن قبضه يكون
يف كل شيٍء حبسبه ،كما هو احلال يف قبض املبيع وحنوه.
{(َو َقْبُض َأِم ِنْي اْلُمْر ِهَتِن َيُقْو ُم َم َق اَم َقْبِضِه)}.
ألنه نائٌب عنه ،فكان يف حكم قبض املرهتن ،فيلزمه عندئٍذ الرهن.
{(َو الَّر ْه ُن َأَم اَنٌة ِعْنَد اْلُمْر ِهَتِن َ ،أْو َأِم ْيِنِه)}.
ِف ِه
الَّر هُن أمانٌة ،واملرهتن أمٌني ،فال يضمنه ِإاَّل ِإَذا َتَع َّدى ي ،أو ف َّر ط يف ذلك ،وال ُيْس َتْثىَن
ِم نه ِإاَّل َم ا َج اَء َعنه -عليه الصالة والسالم« :الَّظْه ُر ُيْر َك ُب ِبَنَفَق ِتِه إَذا َك اَن َمْر ُه وًناَ ،و َلُنَب الَّد ِّر
ُيْش َر ُب ِبَنَفَق ِتِه إَذا َك اَن َمْر ُه وًناَ ،و َعَلى اَّلِذ ي َيْر َك ُب َو َيْش َر ُب الَّنَفَقُة» ،فهذا استثناٌء من القاعدة
األساسية.
وعندئٍذ يبقى َم ا َع َد اه على سبيل األمانة ،فال ُيتصرف فيه ،لكن هذا إذا كان ُيركب،
كحيواٍن ،أو حُي لب ،فيجوز عندئٍذ ركوب ه ،وجيوز حلبه ،ملا يقابل ذلك من إطعامه ،وسقايته،
ورعايته ،وما عداه من الصور ،يكون أمان ًة ،فال جيوز التصرف فيه ،وال يضمن األمني عندئٍذ،
وه و املرهتن تلف ه ،إال إذا تعدى أو ف َّر ط في ه ،ذل ك ألن ه ماٌل وضعت علي ه الي د ،ال ذي ه و ي د
املرهتن بإذن مالكه ،وهو الراهن ،فعندئٍذ يكون أميًنا.
القاعدة :كل ماٍل كان بإذن مالكه ،وضع اليد عليه ،يكون واضع هذه اليد أميًن ا ما مل
يتعد ،أو يفِّر ط.
وإن شاء اهلل تعاىل نستقبل يف حلق ٍة قادمٍة ،مزيد بياٍن وإيضاٍح ،ونأخذ سؤالك عندئٍذ
-إن شاء اهلل تعاىل ،وصلى اهلل وسلم على نبينا حممٍد.
14