Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 14

‫ُعمدة الفقه (‪)3‬‬

‫الدرس التاسع‬
‫فضيلة الشيخ‪ /‬د‪ .‬عبد اهلل بن منصور الغفيلي‬

‫احلمُد ِهلل َر ِّب الَع املني‪ ،‬احلمد هلل محًد ا محًد ا‪ ،‬أشكره شكًر ا شكًر ا‪ ،‬وأشهد أن ال إله إال‬
‫اهلل‪ ،‬وح ده ال ش ريك ل ه‪ ،‬وأش هد أن حمم ًد ا عب ده ورس وله‪ ،‬ص لى اهلل علي ه وعلى آل ه وص حبه‬
‫وسلم تسليًم ا كثًريا‪ ،‬أَّم ا بعد‪..‬‬
‫فحَّي اكم اهلل أُّيها اِإل خوة واألخوات‪ ،‬يف هذا ال درس املتج دد بكم‪ ،‬ومبا ُيطرح في ه من‬
‫َم ساِئَل فقهيٍة يف كتاب البيوع ِم ن ُعمدة الفقه لإلمام ابن قدامة ‪-‬رمحه اهلل تعاىل‪.‬‬
‫وكن ا ق د توقفن ا على َم ا يتعل ق بالَّض ماِن ‪ ،‬والض ماُن ‪-‬كم ا ال خيف اُك م َأُّيه ا اِإل خ وة‬
‫احلضور واملشاهدون أيًض ا‪َ -‬ض ُّم ِذ َّم َة الَّضاِم ن إىل ِذ َّم ِة ا ْض ُم ون َعنه‪ ،‬وهي صورٌة تتكرر كث ًريا‬
‫ِم َمل‬
‫أنواعها ما يكون ِم ن ُق وِد الَّتوثي ِق ِه‬
‫َو َي‬ ‫ُع‬ ‫على سبيل التوثيق؛ ألَّن الُعُقوِد ‪-‬كما ال خيفاكم‪ -‬ن‬
‫َعلى سبيِل اإلمجاِل ثالثٌة‪ :‬الضمان والرهن والكفالة‪.‬‬
‫وهذه الُعقود َتْنَش أ عن بيوع الُم داينات‪ ،‬أي‪ :‬ما يكون فيه الثمن أو ا َثِّم ن َديًنا‪.‬‬
‫ُمل‬
‫وهنا أود أوجه رسالًة لكل متعامٍل هبذا النوع من أنواع العقود وهو الَّض َم ان‪ ،‬أن يكون‬
‫ذا بص ريٍة مبا ُيق ِد م علي ه‪ ،‬ف إين ق د رأيت كث ًريا من الن اس َيْض َم ن َم ن حُي ب‪ ،‬ومن َيعرف‪ ،‬ومن‬
‫حَي تاج إليه‪ ،‬وهو غري ُمَتصوٍر أَّن هذا الضمان التزاٌم منه بوفاء احلق إذا تعذر على ا ديِن الوفاء‪،‬‬
‫َمل‬
‫وبعض الَّن اس َيظن أن ه إذا َض ِم َن َفإمَّن ا َيض من اس تجابًة ونوًع ا من الوق وف مع ص احبه‪ ،‬أو من‬
‫احتاج إليه‪ ،‬لكنه ال ينظر إىل اآلثار اليت َتْنشأ َعن َذِلك‪.‬‬
‫فلرمبا َغَد ا طالب الدائن الَّضاِم ن بالد ن‪ ،‬فيقول‪ :‬كيف تطالبين وأنا حمس ‪ ،‬وأي إحساٍن‬
‫ٌن‬ ‫ْي‬
‫كما ُيقال يف التزاٍم ‪ ،‬أنت التزمَت اآلن‪ ،‬فإن كان من إحساٍن ‪ ،‬فهذا ال مينع املطالبة بوفاء الدْين‬
‫الذي التزمَت بضمانه عن صاحبه‪ ،‬وهذا األمر َس َّبَب إشكااًل كب ًريا عند الَّضاِم ن وعند ا ْض ُم ون‬
‫َمل‬
‫عنه‪ ،‬وعند ا ْض ُم ون‪ ،‬كيف؟‬
‫َمل‬
‫ِف‬ ‫ِم‬
‫َو َّج ه اإلشكال أن الَّضا ن َيستنكر َو َيستغرب‪َ ،‬و َي ر‪ ،‬وحيجم عن أداء هذا الدْين‪ ،‬فرتاه‬
‫يقول مثال‪ :‬لست أنا املدين أص اًل ‪ ،‬أَّم ا ا ْض ُم ون فإن وجه اإلشكال أن هذا الَّض اِم ن قد تسوء‬
‫َمل‬
‫عالقت ه مع ا ْض ُم ون‪ ،‬ولرمبا تقاطعا‪ ،‬فه و ك ان يري د اإلحس ان إلي ه يف البداي ة‪ ،‬وتوثي ق العالق ة‪،‬‬
‫َمل‬
‫‪1‬‬
‫والوقوف معه‪ ،‬مث انقلب اخلري ش ًّر ا‪ ،‬واألمر شذًر ا‪ ،‬وهذه ناجتٌة كما ذكرنا عن ضعف الَّتصور‬
‫والفهم واإلدراك واحلكمة لدى هذا الَّضاِم ن‪.‬‬
‫َّمُث إشكاٌل ثالٌث أيًض ا مع ا ْض ُم ون عنه وهو الدائن؛ ألن الدائن هبذا ُيَغِّر ُر به‪َ ،‬و ُيَض يع‬
‫َمل‬
‫حقه‪ ،‬هو يف ما أقدم على هذا البيع اآلجل‪ ،‬أو هذا الدْين مع املدين إال ملا ضمنته أنت‪ ،‬مث إذا‬
‫احتيج إليك وجاء االلتزام عليك‪ ،‬قلت‪ :‬أنا مايل ومايل‪ ،‬وهتربت من ذلك‪ ،‬هذا يا إخوة من‬
‫اخليان ة‪ ،‬نعم‪ ،‬وليس من أداء األمان ة‪ ،‬واهلل يق ول‪ِ﴿ :‬إَّن الَّل َه َي ْأُمُر ُك ْم َأن ُتَؤ ُّدوا اَألَم اَن اِت ِإىَل‬
‫َأْه ِلَه ا﴾ [النساء‪.]58 :‬‬
‫فعلى املرء إذا َض ِم َن ِإَّم ا َأن َيَتَص َّو ر َأَّنه ُه و ا َط الب متاًم ا كأمنا ص ار ه و َنْف ُس ه َم ديًنا‬
‫ُمل‬
‫اآلن؛ ألن الِّذ َّم َة كما قلنا ُض مت إىل ِذ َّم ِة املدين‪ ،‬فهو َض َّم َّم ًة إىل ذم أخرى‪ ،‬ولذلك ستأتينا‬
‫ٍة‬ ‫ِذ‬
‫مسائل أن الدائن له أن يطالب أًّيا منهما‪ ،‬ما يلزم أن يطالب املدين أواًل مث يطالب الَّض اِم ن إذا‬
‫تعذر ذل ك‪ ،‬ال‪ ،‬إذا مل ي وِّف املدين بدين ه فإن ه عندئٍذ حيق ل ه ‪-‬أي ال دائن‪ -‬أن يط الب الَّض اِم ن‬
‫مباشرًة‪.‬‬
‫وهذا املعمول به عن دنا يف احملاكم اآلن؛ ألن الدائن يقول‪ :‬ملاذا أطالب أنا‪ ،‬هذا املدين‬
‫الذي هو مماط ٌل أو معس ٌر وقد أتعبين خالل هذه املدد‪ ،‬مباشرًة أنتقل إىل ذلك الغض الذي رمبا‬
‫مل يعت د على مث ل ه ذه املماطل ة‪ ،‬أو ه ذا األس لوب‪ ،‬مث يفاج أ ه ذا املس كني بأن ه ق د أودع‬
‫بالسجن‪.‬‬
‫قد وقفت على حاالٍت كثريٍة من هذا الباب‪ ،‬يط اَلب وليس لديه املبلغ أص اًل ‪ ،‬فيوضع‬
‫عندئٍذ يف السجن‪ ،‬وتكون حاله بئيسًة‪ ،‬وهل حيق له عندئٍذ أن يطالب املدين الذي هو ا ْض ُم ون‬
‫َمل‬
‫أم ال؟ سيأتينا ‪-‬إن شاء اهلل تعاىل‪ -‬اإلشارة إىل هذ‪.‬‬
‫إمنا ُأبني من ه ذه التقدمة أن ه ال ينبغي للم رء أن ُيق دم على الَّض َم اِن ِإاَّل ِإَذا َتَأك د ِم ن‬
‫َم ْق ِدَر ِته على الوفاء به‪ ،‬وهكذا ال ينبغي أيًض ا أن يكون يف صف مديٍن تأيي ًد ا ودعًم ا أمام دائٍن‬
‫ِإاَّل َو َق د َو ِثَق ِبِه َو ِبُقدَر ِته َعلى الَو فاِء ‪ ،‬وهنا نؤكد على اجلميع باملبادرة إىل أداء احلقوق‪ ،‬وتربئة‬
‫الذمة‪ ،‬فهذا من أخطر ما يكون‪.‬‬
‫وقد تقدم لنا يف درٍس ماٍض َخ َطُر الدْين‪ ،‬وأنه مينع صاحبه من املغفرة‪ ،‬وأَّن النيب صلى‬
‫اهلل عليه وسلم كان ‪-‬كما يف حديث أيب قتادة وغريه‪ -‬ال ُيص ّلي على صاحب الدْين‪ ،‬إال إذا‬
‫ُقض ي ذل ك عن ه‪ ،‬وي وم القيامة ُيق اد للَّش اِة اَجللَح اِء ِم َن الَّش اِة الَق رَن اء‪ ،‬ه ذا بني البه ائم‪ ،‬فكي ف‬
‫‪2‬‬
‫األمر بني البشر‪ ،‬وهذه احلقوق مبنيٌة على املشاحة‪ ،‬ال املساحمة‪ ،‬ولذلك ُيرَب ئ اإلنسان نفسه أمام‬
‫اهلل ‪-‬جَّل وعاَل ‪ -‬من هذه الديون واحلقوق وااللتزامات‪.‬‬
‫أحياًن ا ال تك ون أنت املدين‪ ،‬كم ا يف ه ذه الص ورة‪ ،‬لكن ك ملتزًم ا‪ ،‬فيك ون حال ك‬
‫كاملدين متاًم ا‪ ،‬فاهلل اهلل بأن ال ُنقدم إال على ما تربأ به الذمة ونستطيع به القضاء‪ ،‬وأداء احلق‪.‬‬
‫عق‪//‬د الض‪//‬مان ُيعُّد من العق ود ال يت ُتص نف على أهنا عق د توثي ٍق ‪ ،‬وذل ك ألن ه ينش أ عن‬
‫دْيٍن ‪ ،‬ويراد به إثبات هذا الدْين والقدرة على الوفاء به‪ ،‬فهو يف حقيقة األمر ُيراد به استيفاء‬
‫الدْين؛ ألن الدْين ُيَو ىَّف مبثل الَّض َم اِن أو مبثل الرهِن ‪.‬‬
‫وتعريفه كما قال غير واحٍد من أهل العلم هو‪َ" :‬ض ُّم ِذ َّم ِة الَّض اِم ن إىل ذمة ا ْض ُم ون‪،‬‬
‫َمل‬
‫أو َض ُّم ِذ َّم ٍة إىل ِذ َّمٍة"‪.‬‬
‫ويمكن أن نعرفه بأنه‪" :‬التزام جائز التصرف ما وجب على غريه أو ما قد جيب"‪.‬‬
‫"ال تزام ج ائز التص رف" أي‪ :‬الَّض اِم ن‪" ،‬ما وجب على غ ريه" وه و املدين‪" ،‬أو ما ق د‬
‫جيب" أي أنه‪ :‬لو ترتب دْيٌن على فالٍن فأنا ضامٌن ‪ ،‬مع أنه حىت اآلن مل يرتتب هذا الدْين‪.‬‬
‫وهذا املعىن يدل عليه حديث أيب قتادة رضي اهلل عنه حني ُقِّد َم ِإىل الَّنيب صلى اهلل عليه‬
‫وس لم رج ٌل ِلُيَص َّلي َعَلي ِه‪َ ،‬فَق اَل َص َّلى الَّل ُه َعَلْي ِه َو َس َّلَم ‪َ« :‬ه ْل َعَلْي ِه َدْيٌن »‪ ،‬ق الوا‪َ :‬نَعْم ‪َ ،‬ق اَل ‪:‬‬
‫«َص ُّلوا َعَلى َص اِح ِبُك ْم »‪ ،‬فقال َأُبو َقَتاَدَة‪َ" :‬ص ِّل َعَلْيِه َيا َرُس وَل الَّل ِه َو َعَلَّي َدْيُن ُه َفَص َّلى َعَلْي ِه" أي‪:‬‬
‫الدْين الذي َعَليِه َعلَّي ؛ فتقدم النيب صلى اهلل عليه وسلم وصلى عليه‪ .‬وهذا هو التزام اإلنسان ملا‬
‫وجب على غريه‪.‬‬
‫أَّم ا التزامه مبا قد جيب على غريه‪ ،‬مثل‪ :‬يقول أو يكتب ورق ًة أن ما َيس َتِدين ( فالن )‬
‫من احملل التجاري فهذا الدْين من ضماين‪ ،‬وأؤديه مىت ُطِلَب منه‪ ،‬إذ مل َيقِدر َعَلى الَو َفاِء به‪.‬‬
‫ُح ْك ُم الَّض َم اِن ‪:‬‬
‫ِن‬ ‫ِم ِب ِإ ِة ِل ِإ‬ ‫ِم‬
‫الَّض َم اُن ُمْس َتَحٌب ُح ْك ُم ه يِف َح ِّق الَّضا ن؛ ألنه ن َبا َعاَن اُملس م «َو َّن الَّل َه يِف َع ْو‬
‫اْلَعْبِد َم اَداَم اْلَعْبُد يِف َعْو ِن َأِخ يِه»‪ ،‬بشرط أن يكون َقادًر ا عليه‪ ،‬وأَّم ا إذا َض ِم َن َو ُه و َغُري َقاِدٍر َفِإَّنه‬
‫ِعنَد ِئٍذ َيَق ُع يِف املأِمث ‪َ ،‬و ِيُك وُن َقد َجَتَّر َأ َعَلى َأْم ٍر َعِظ يٍم ‪.‬‬
‫َو ُح ْك ُم ه يف َح ِق الَّضاِم ن ‪-‬كما ذكرنا على هذا التفصيل‪ُ -‬مستحٌب ِبَق ي ِد الُقْد َر ة‪َ ،‬و َأَّم ا‬
‫يف َح ِق ا ْض ُم ون عنه فهو جائٌز ‪ ،‬جيوز له أن َيطلَب الَّضماَن ِم ن َغريِه‪.‬‬
‫َمل‬
‫‪3‬‬
‫أركاُن الَّضَم اِن ‪:‬‬
‫ميكن أن تكون على هذا النحو‪:‬‬
‫يشرتط يف الَّضاِم ن أن يكون بالًغ ا ُمكلًف ا َع اقاًل َر شيًد ا‪ ،‬والبد أيًض ا من حريته ورضاه؛‬
‫ألن اإلنس ان ال ُيض من ش يًئا ال َيرضاه‪ ،‬فه ذا الش رط وه و كون ه راضًيا ال ميكن أن يتحق ق إال‬
‫بالتأكد من القدرة على الضمان‪ ،‬فلو ُألزم أحٌد بضماٍن عن أحٍد وهو غري راٍض لعدم مقدرته أو‬
‫مناسبة ذلك له‪ ،‬أدى هذا إىل تضييع احلق‪ ،‬وإشغال الذمم‪.‬‬
‫أم‪//‬ا الَم ْض ُم ون عن‪/‬ه‪ :‬فيشرتط فيه أيًض ا كما يشرتط يف الَّض اِم ن بأن يكون بالًغ ا عاقاًل‬
‫رشيًد ا‪ ،‬لكن ال ُيشرتط يف َح ِّق ِه أن يكون راضًيا‪ ،‬وهذا على قول اجلمهور‪ ،‬وذلك َمِل َتَق َّدم قبل‬
‫قلي ٍل يف حديث أيب قتادة‪ ،‬حيث َلَّم ا التزم أبو قتادة وضمن هذا الدْين الذي على امليت‪ ،‬جاز‬
‫ذل ك من غ ري حض وره ( أي‪ :‬امليت ) ومعرف ة رضاه من َعَد ِم ه‪ ،‬وه و إن ك ان ميًت ا‪ ،‬فال ميكن‬
‫أصاًل أن ُيتصور معرفة ذلك‪.‬‬
‫وهذا أيًض ا ُيقال يف حق ا ْض ُم ون له‪ ،‬فهو ال يشرتط رضاه؛ ألن املقصود أداء احلق له‪،‬‬
‫َمل‬
‫وإمنا يش رتط في ه ما يش رتط يف ص احبيه املتق دمني من جه ة احلري ة والبل وغ والرش د والعق ل‪،‬‬
‫ولذلك يقال أيًض ا إن الرضا غري مشرتٍط يف حق ا ْض ُم ون له حلديث أيب قتادة املتقدم‪.‬‬
‫َمل‬
‫أم‪//‬ا الَم ْض ُم ون في‪//‬ه فه‪//‬و‪ :‬حمل ال دْين‪ ،‬وه ذا جيوز أن يك ون معلوًم ا‪ ،‬وجيوز أن يك ون‬
‫جمهواًل أيًض ا كما سيأيت بيانه‪.‬‬
‫تفضل يا شيخ اقرأ‪.‬‬
‫{احلمد هلل‪ ،‬وصلى اهلل وسلم على رسول اهلل‪ ،‬وعلى آله وصحبه ومن وااله‪ ،‬أما بعد‪..‬‬
‫فاللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين واملشاهدين ومجيع املسلمني‪.‬‬
‫ْأ ا الَّد َل ِه ا‪ِ ،‬ل اِح ِبِه‬ ‫ِم‬ ‫ِم‬
‫قال ابن قدامة رمحه اهلل‪َ( :‬و ِإْن َض َنُه َعْنُه َض ا ٌن ‪ْ ،‬مَل َيْبَر َو َص َر ْيُن َع ْي َم َو َص‬
‫ُمَطاَلَبُة َمْن َش اَء ِم ْنُه َم ا)}‬
‫نعم‪ ..‬هذه املسألة اليت ذكرناها قبل قلي ٍل ‪ ،‬وهي إن ضمن املدين ضامٌن ‪ ،‬فالدْين يكون‬
‫عليهما مجيًعا‪ ،‬وللدائن عندئٍذ مطالبة من شاء منهما‪ ،‬ألن الذمة قد صارت واحدًة‪ ،‬ضمت ذمة‬
‫الَّضاِم ن إىل ذمة ا ْض ُم ون عنه‪ ،‬ولصاحب احلق عندئٍذ أن يطالب من شاء منهما؛ ألن احلق ثبت‬
‫َمل‬
‫عندئٍذ يف ذمتيهما‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫واجلمهور وهو املذهب عند احلنابلة على أن الضمان يتعدد فيه حمل الدْين فيطالب أيهما‬
‫شاء‪ ،‬فاملدين خمٌري وقد استدلوا على ذلك بدليٍل وتعليٍل ‪.‬‬
‫فمن الدليل‪ :‬قوله صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬الزعيم غارٌم» الذي هو الَّضاِم ن غارٌم‪ ،‬فهو‬
‫قد غرم كما لو كان مديًنا متاًم ا بتم اٍم ‪ ،‬وأما التعليل فقالوا أن حقيقة الضمان يقوم على إشغال‬
‫ذمة الَّض اِم ن والتزامه‪ ،‬وك ذلك احلال بالنس بة للمض مون‪ ،‬وطاملا ك انت ذمت ه مش غولًة هبذا‬
‫الضمان فتجوز عندئٍذ مطالبته‪.‬‬
‫ِم‬ ‫ِم‬ ‫ِن‬ ‫ِم‬ ‫ِن‬
‫{ق ال‪َ( :‬ف ِإ اْس َتْو ىَف َن اْلَم ْض ُمْو َعْن ُه‪َ ،‬أْو َأْبَر َأُه‪َ ،‬ب ِر َئ َض ا ُنُه‪َ ،‬و ِإْن َأْبَر َأ الَّض ا َن ‪ْ ،‬مَل‬
‫َيْبَر ِأ اَألِص ْيُل)}‬
‫نعم أحسنت‪ ..‬وهنا نشري إىل مسألٍة حىت ال يفوت حملها‪ ،‬وهي أَّن عقد الضمان الزٌم‪،‬‬
‫من جهة الَّضاِم ن‪ ،‬فال جيوز له‪ ،‬أي‪ :‬للضامن أن يفسخه؛ ألنه التزم بأداء ح ٍّق ‪ ،‬وفسخه عندئٍذ‬
‫تضييع للحق‪ ،‬وهذا يف حق الَّضاِم ن‪.‬‬
‫ِم‬ ‫ِم‬
‫أَّم ا اَملْض ُم ون له‪ ،‬فيجوز له أن ُيِرْب َئ الَّضا ن لو شاء‪ ،‬فهو الزٌم يف حق الَّضا ن‪ ،‬جائٌز‬
‫–أي‪ :‬غري الزٍم ‪ ،‬ميكن فسخه يف حق ا ْض ُم ون له‪.‬‬
‫َمل‬
‫وهذا من العقود اليت جيتمع فيها اللزوم واجلواز بالنظر إىل طريف العقد فمن العقود ما‬
‫يك ون الزًم ا على الَّط َر فني ك البيع‪ ،‬ومنه ا‪ :‬ما يك ون ج ائًز ا على الط رفني كالوكال ة‪ ،‬ومنه ا ما‬
‫يكون الزًم ا على طرٍف ‪ ،‬جائًز ا على طرٍف آخر كالضمان والرهن كما سيأيت أيًض ا بيانه‪.‬‬
‫ِم‬ ‫ِن‬ ‫ِم‬ ‫ِإِن‬
‫قول ه‪َ( :‬ف اْس َتْو ىَف َن اْلَم ْض ُمْو َعْن ُه‪َ ،‬أْو َأْبَر َأُه‪َ ،‬ب ِر َئ َض ا ُنُه)‪ ،‬أي‪ :‬ل و أَّن ال دائَن‬
‫اس توىف من "ا ْض ُم ون عن ه" ‪-‬أي‪ :‬من املدين‪ -‬وأخ ذ املبل غ‪ ،‬فلنف رتض أن املبل غ عش رة آالف‪،‬‬
‫َمل‬
‫وجئت إىل الش يخ ص هيب ُأطالب ه بالعش رة آالف‪ ،‬وأنت الش يخ الَّض اِم ن‪ ،‬فلم ا أعط اين العش رة‬
‫آالف َتْبَر أ أنت تلقائًي ا‪ ،‬ما حيتاج أن أبرئك أو يربئك غريي‪ ،‬ألن حمل الضمان قد حل وانتهى‬
‫ومت الوفاء‪ ،‬فهذا من حاالت إبراء الَّضاِم ن‪.‬‬
‫كما أَّن من حاالت إبراء الَّضاِم ن‪ ،‬أن ُيربئه ا ْض ُم ون َله‪ ،‬يعين‪ :‬لو أَّن ا ْض ُم ون له أبرأ‬
‫َمل‬ ‫َمل‬
‫هذا الَّض اِم ن‪ ،‬فقال‪ :‬سواء أبرأ "ا ْض ُم ون عنه" "الَّض اِم ن" أي أن‪ :‬الدائن أبرأ الَّض اِم ن‪ ،‬أو أبرأ‬
‫َمل‬
‫املدين‪ ،‬فق ال للم دين‪ :‬أن ا متن ازٌل عن حقي ال ذي أطالب ك ب ه‪ ،‬أو ق ال للض امن ال أحت اج إىل‬

‫‪5‬‬
‫ضمانك‪ ،‬ويكفيين إن شاء اهلل التزام املدين‪ ،‬فأنت يف ح ٍّل من هذا العقد عندئٍذ يربأ كما ذكر‬
‫املؤلف هنا ألن احلق سقط‪ ،‬وإذا سقط األصل وهو احلق سقط تبًعا له الفرع‪.‬‬
‫ق ال‪َ( :‬و ِإْن َأْبَر َأ الَّض اِم َن ‪ْ ،‬مَل َيْبَر ِأ اَألِص ْيُل)‪ ،‬مجي ل بالنس بة لل دائن في ه أو عن ده إب راءان‪،‬‬
‫إبراٌء يربأ معه غريه وإبراٌء ال يربأ معه إال من أبرأه‪ ،‬هذا لغز‪ ،‬كيف؟‬
‫الَّضاِم ن‪ :‬إذا أبرئ من ا ْض ُم ون له وهو الدائن برئ؛ ألن ذلك ح ٌّق للدائن وهو يف قد‬
‫َمل‬
‫تنازل عنه وتوثيق الدْين‪.‬‬
‫أَّم ا إذا أبرأ الَّضاِم ن املدين فإنه يربأ املدين كما يربأ معه الَّضاِم ن أيًض ا‪ ،‬ملاذا؟ ألن الَّضاِم ن‬
‫إمنا ضمن ه ذا املدين فعق د الض مان ف رع عن ه ذا العق د أص اًل عن عق د ال دْين‪ ،‬وبالت ايل إذا مت‬
‫إب راء األص ل كم ا ذكرن ا‪ ،‬وس قط احلق فال حمل للض مان عندئٍذ ‪ ،‬ألن الض مان ي دور مع احلق‬
‫وجوًدا وعدًم ا‪ ،‬واآلن الدائن أبرأ املدين‪ ،‬فعندئٍذ يربأ الَّضاِم ن‪.‬‬
‫إذن الحظوا إذا أبرأ الدائن املدين وهو ا ْض ُم ون عنه برئ الَّضاِم ن‪ ،‬لكن إذا أبرأ الدائن‬
‫َمل‬
‫الَّض اِم ن فإن هذا ال يعين إبراء ا ْض ُم ون عنه‪ ،‬وهو املدين‪ ،‬فالدْين باٍق إمنا هو تنازٌل عن ماذا؟‬
‫األوىل فتن ازل عن احلق كل ه‪ ،‬ومن ب اب أوىل أن يس قط حينئ ٍذ‬ ‫َمل‬
‫عن التوثق ة‪ ،‬أما يف الص ورة‬
‫التوثيق‪.‬‬
‫{قال‪َ( :‬و ِإِن اْس َتْو ىَف ِم َن الَّضاِم ِن ‪َ ،‬رَجَع َعَلْيِه)}‬
‫إن استوىف من الَّضاِم ن رجع عليه‪ ،‬يعين‪ :‬لو أَّن الدْين الذي ذكرنا اآلن بيننا حنن الثالث ة‪،‬‬
‫فاستوفيت أنا من الشيخ سعيد‪ ،‬والشيخ سعيد ضامٌن ‪ ،‬استوفيت منك العشرة آالف ملا الشيخ‬
‫صهيب ما سددين‪ ،‬جيد‪ ،‬فسيلزمك أنت اآلن بناء على انشغال ذمتك والتزامك أن تؤدي هذا‬
‫املبلغ‪ ،‬طيب ماذا تصنع؟ قال لك إذا استوىف من الَّضاِم ن أي الدائن من الَّضاِم ن رجع عليه‪ ،‬يعين‬
‫الَّضاِم ن يرجع على ا ْض ُم ون عنه‪ ،‬عن املدين‪ ،‬يقول هات يل العشرة آالف اليت أخذهتا أو اليت‬
‫َمل‬
‫دفعتها عنك‪ ،‬يكون حاله يف كأنه أقرضه‪ ،‬أدى عنه هذا مراد املؤلف هنا‪.‬‬
‫{قال‪َ( :‬و َمْن َك َف َل ِبِإْح َض اِر َمْن َعَلْيِه َدْيٌن )}‬
‫هذه مسألٌة اآلن تتعلق بالكفالة‪ ،‬والضمان يفرتق عن الكفالة؛ ألن الضمان التزاٌم ماٌّيل‪،‬‬
‫بينما الكفالة التزاٌم بدٌّين‪ ،‬ما معىن هذا؟‬

‫‪6‬‬
‫معىن هذا أَّن الضمان تلتزم فيه بأداء احلق املايل‪ ،‬بينما يف الكفالة تلتزم بإحضار البدن‪،‬‬
‫لكن ما تل تزم ب دفع املال‪ ،‬وإن ك انت الكفال ة يف بعض ص ورها ق د تنقلب إىل مالي ٍة إذا ما‬
‫استطاع الشخص أن حُي ضر املكفول بدنًّيا‪ ،‬وهذا سيأيت إن شاء اهلل تعاىل بيانه‪.‬‬
‫لكن قبل أن ننتقل عنه‪ ،‬نشري يف الضمان إىل بعض التطبيقات املعاصرة‪ ،‬منها‪ :‬ما ُيعرف‬
‫خبط اب الض مان‪ ،‬ال ذي تص دره أحياًن ا البن وك جله ات يتعامل معه ا بعض عمالئه ا املوث وقني‪،‬‬
‫فتج د أن شخًص ا يش رتي أو يتق دم إىل جه ٍة بعق ٍد معٍني ‪ ،‬فح ىت يتأك دوا من قدرت ه على الوف اء‬
‫ومن مالءته‪ ،‬يستصدر هلم خطاًبا يضمن فيه البنك هذا الرجل هبذا املبلغ‪ ،‬مبلغ العقد فيما لو مل‬
‫يقدر عليه‪ ،‬واضح‪.‬‬
‫فهذه أحد صور الضمان املعاصرة‪ ،‬هل جيوز أن يأخذ البنك أج ًر ا على هذا الضمان أم‬
‫ال؟‬
‫مجاهري الفقهاء املتقدمني مينعون هذا‪ ،‬ولذلك يف صورتنا البسيطة قبل قليٍل ‪ ،‬الثالثية‪ ،‬ما‬
‫جيوز للضامن الذي هو الشيخ سعيد‪ ،‬أن يأخذ من ا ْض ُم ون عنه الذي هو الشيخ صهيب ما‬
‫َمل‬
‫جيوز أن يأخذ أجًر ا على ضمانه هذا ملاذا؟‬
‫قالوا‪ :‬ألن الشيخ سعيد إذا سدد للدائن املبلغ‪ ،‬ولنفرتض أنه هو العشرة آالف‪ ،‬مث رجع‬
‫يأخذه من ا ْض ُم ون عنه الذي هو الشيخ صهيب املدين‪ ،‬العشرة آالف وكان قد فرض أو التزم‬
‫َمل‬
‫املدين بأجرٍة للضامن‪ ،‬فرجع عندئٍذ عليه بعشرة آالف وزيادٍة اليت هي األجرة فصار من الق رض‬
‫ال ذي ج ر نفًع ا‪ ،‬ول ذلك امتن ع ب ل ُح كي االتف اق على املن ع‪ ،‬وه و األح وط وإن ق ال بعض‬
‫املعاصرين جبوازه‪ ،‬ال سيما فيما يقابل عمل البنك من جهد أو حنو ذلك‪.‬‬
‫{قال‪َ( :‬و َمْن َك َف َل ِبِإْح َض اِر َمْن َعَلْيِه َدْيٌن َفَلْم ْحُيِض ْر ُه‪َ ،‬لِز َمُه َم ا َعَلْيِه)}‬
‫الكفالة التزام جائز التصرف إحضار َبدن َم ن عليه احلق‪ ،‬وتكون هذه الكفالة بالبدن‪،‬‬
‫كما هو واضٌح من هذا التعريف‪ ،‬وهي من عقود التوثيق اليت قدمنا ذكرها‪.‬‬
‫الَّضماُن َيْض َمُن الَّد ْين‪ ،‬بينما الَك َف اَلُة َتْض َمُن َمْن َعَلي ِه الَّد ْين‪ ،‬يعين الضمان يضمن سداد‬
‫الدْين بينما الكفالة يكون فيها االلتزام بإحضار من عليه الدْين‪ ،‬فإذا أحضره إىل من له الدْين‬
‫ب رئ‪ ،‬وإذا تعذر علي ه إحض اره قلبت الكفال ة من كوهنا بدني ًة‪ ،‬إىل كوهنا مالي ًة‪ ،‬فيل تزم عندئٍذ‬
‫بأداء احلق عنه‪ ،‬والكفالة جائزٌة بالكتاب والسنة‪ ،‬ومن ذلك قوله تعاىل‪َ﴿ :‬لْن ُأْر ِس َلُه َمَعُك ْم َح ىَّت‬

‫‪7‬‬
‫ُتْؤ ُت وِن َمْو ِثًق ا ِّم َن الَّل ِه َلَت ْأُتَّنيِن ِب ِه ِإاَّل َأن َحُياَط ِبُك ْم َفَلَّم ا آَتْو ُه َم ْو ِثَق ُه ْم َق اَل الَّل ُه َعَلى َم ا َنُق وُل‬
‫َو ِكيٌل﴾ [يوسف‪ ،]66:‬ومن السنة ما تقدم من قول النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يف احلديث الذي‬
‫رواه أب و داود والرتمذي‪« :‬ال زعيم غ ارٌم»‪ ،‬وال زعيم هن ا من َتَّز عم ش يًئا‪ ،‬وال تزم ب ه عن غ ريه‪،‬‬
‫وه ذا يص دق على الض مان‪ ،‬ويص دق على الكفال ة‪ ،‬مث إَّن احلاج ة داعي ٌة إىل الض مان‪ ،‬وإىل‬
‫الكفالة‪ ،‬فلو أن الشرع مل جيزمها‪ ،‬حلق بالن اس عنٌت كب ٌري ومشقٌة‪ ،‬إذ أن الدائن أحياًن ا‪ ،‬ال يثق‬
‫هبذا املدين‪ ،‬في رتتب علي ه ضرٌر كب ٌري على املدين‪ ،‬يف أن ه ال يتمكن من الوص ول إىل ما يري د؛‬
‫لعدم وجود النقد معه اآلن‪ ،‬كما إن الدائن قد يريد أن يبيع سلعًة‪ ،‬ومىت وجد من يضمن هذا‬
‫األداء غ ري ه ذا املدين باع ه‪ ،‬فيس تفيد ال دائن‪ ،‬ويس تفيد املدين‪ ،‬ويس تفيد اجملتم ع هبذه املعاق دات‬
‫ال يت ت دور فيه ا الس لع‪ ،‬وتك ون فيه ا املبايعات‪ ،‬وه ذا يتعثر ويتعذر ل و قي ل بتحرمي الض مان أو‬
‫الكفالة‪.‬‬
‫وتصح الكفالة من الرشيد‪ ،‬صاحب الرشد يعين‪ ،‬البالغ‪ ،‬العاقل‪ ،‬أما الصغري والسفيه‪،‬‬
‫فليس أهاًل لتحمل مثل هذه األمانة‪.‬‬
‫كما تصح أيًض ا الكفالة من احملجور عليه لفلٍس ؛ ألن الذمة موجودٌة‪ ،‬وإمنا ُح ِج َر عليه‬
‫يف املال فق ط‪ ،‬ومبت دؤها إحض ار بالب دن‪ ،‬وإمنا تنقلب إىل ال تزاٍم ماٍّيل إذا تعذر علي ه اإلحض ار‪،‬‬
‫ويكون هذا االلتزام بذمته‪ ،‬فاحلجر عندئٍذ ال يؤثر على هذا كما قرر الفقهاء‪.‬‬

‫{قال‪َ( :‬و َمْن َك َف َل ِبِإْح َض اِر َمْن َعَلْي ِه َدْيٌن َفَلْم ْحُيِض ْر ُه‪َ ،‬لِز َم ُه َم ا َعَلْي ِه‪َ ،‬ف ِإْن َم اَت ‪َ ،‬ب ِر َئ‬
‫َك ِف ْيُلُه)}‪.‬‬
‫إذا ك ان حًي ا‪ ،‬فم ا ذك ره املؤل ف هن ا أن ه يل تزم عندئٍذ بإحض اره أو تنقلب الكفال ة إىل‬
‫كفالٍة ماليٍة‪.‬‬
‫وإن مات فال شيء عليه‪ ،‬يعين‪ :‬إن مات املكفول املدين فال شيء عليه‪ ،‬ملاذا؟‬
‫ألن احلضور تعذر بسبٍب ليس إليه‪ ،‬أي‪ :‬هو مل يقصر يف ذلك‪ ،‬وعندئٍذ تبطل الكفالة‪،‬‬
‫وهذا من الفروق بينها وبني الضمان‪ ،‬ألن الضامن لو مات ما يسقط احلق‪ ،‬احلق باٍق يف الذمة‪،‬‬
‫ألن الذمة صارت كما ذكرنا واحدًة‪.‬‬
‫إن ُأبرأ املكفول برئ الكفيل‪ ،‬كما قلنا‪ :‬إن ُأبرأ ا ْض ُم ون عنه‪ ،‬برئ الَّضاِم ن؛ ألن احلق‬
‫َمل‬
‫عندئٍذ س قط‪ ،‬والكفال ة والض مان لتوثي ق ه ذا احلق‪ ،‬فكي ف يوث ق ح ق ال وج ود ل ه‪ ،‬وإذا ب رئ‬

‫‪8‬‬
‫األصل برئ الفرع كما تقدم‪ ،‬لكن إن أبرأ الكفيل الذي هو يف مقام الَّضاِم ن‪ ،‬مل يربأ املكفول‬
‫ال ذي ه و املدين؛ ألن إب راء الكفي ل إس قاٌط من ال دائن حلق ه يف التوثي ق‪ ،‬وتن ازٌل عن ه ذا احلق‪،‬‬
‫لكن احلق األصلي الذي هو الدْين باٍق ‪ ،‬هو إمنا أسقط الفرع وهو التوثيق‪ ،‬مل يسقط األصل‪،‬‬
‫فيبقى األصل كما هو‪ ،‬وهذا ظاهٌر ‪.‬‬
‫هل تصح الكفالة في الحدود والقصاص؟‬
‫يعين‪ :‬لو شخٌص عليه حٌّد‪ ،‬أو عليه قصاٌص ‪ ،‬هل جيوز لشخٍص أن يقول‪ :‬أطلقوه وأنا‬
‫كفيله؟ أم ال؟‬
‫هنا قاعدًة ميكن أن ُنَق ِّر َر ِفيَه ا َم ا َقَرَر ُه الُفَق َه اُء‪ ،‬حيث قالوا‪ :‬إَّن ُك َّل َش ْخ ٍص ال ميكن‬
‫االس تفاء من ه‪ ،‬إذا تغيب املكف ول‪ ،‬فال تص ح عندئٍذ الكفال ة من ه‪ ،‬وه و ق ول مجه ور أه ل العلم‪،‬‬
‫يعين‪ :‬ل و أن ه َم ا اس تطاع َأن حُي ض ر ه ذا الش خص‪ ،‬ال ذي علي ه ح د س رقٍة مثال‪ ،‬ه ل ميكنن ا أن‬
‫نقول‪ :‬إَّن هذا الكفيل ُيقام احلد عليه‪ ،‬فُتقطع يده‪ ،‬وهو مل يسرق؛ ألنه تعذر عليه إحضار هذا‬
‫املكفول؟‬
‫احلدود ُت درأ بالشبهات‪ ،‬وه ذا مل ُيق ارف َه َذ ا اَحلَّد‪ ،‬وإمنا التزم فق ط باإلحضار‪ ،‬ومثله‬
‫ختيلوا لو أن شخًص ا قال‪ :‬أنا آيت هبذا القاتل‪ ،‬اتركوه‪ ،‬وهو علَّي ‪ ،‬وملا مضى مل ينو على شيٍء ‪،‬‬
‫وترك صاحبه هذا الذي أحسن إليه يتورط يف هذه الكفالة‪ ،‬فهل يقال‪ :‬أقيموا احلد على هذا‬
‫الكفيل؟ أبًد ا ال ُيقال هبذا‪ ،‬وهذا كما ذكرنا هو قول مجهور أهل العلم‪.‬‬
‫خبصوص الكفالة‪ ،‬ما يسمى اآلن بالكفالة التجارية‪ ،‬والكفيل واملكفول‪ ،‬هذا يف ليس‬
‫من هذا الباب يف شيٍء ‪ ،‬وإمنا هو نوٌع من التنظيم الذي ُيراد به ترتيب احلقوق وتنظيمها‪.‬‬
‫وميكن بعد ذل ك أن نلج يف ب اب ال رهن‪ ،‬وال رهن من عق ود التوثي ق أيًض ا‪ ،‬وه و العق د‬
‫الثالث‪ ،‬حيث الضمان توثيق‪ ،‬والكفالة كذلك‪ ،‬مث الرهن‪ ،‬فما املراد بالرهن هنا؟‬
‫الرهن‪ :‬هو توثقة دْيٍن بعٍني ‪ ،‬ميكن استيفاؤه منها‪ ،‬أو من مثنها‪ ،‬توثقة دْيٍن بعٍني ‪ ،‬فيكون‬
‫البد عندئٍذ َّمث دْيٌن ألجل أن ينشأ عنه عقد الرهن‪.‬‬
‫ول ذلك ي ا إخ وة نق ول‪ :‬إن عق ود التوثيق ات هي من العق ود التابعة؛ ألن العق ود على‬
‫قسمني‪ :‬عقوٌد أصليٌة‪ ،‬وعقوٌد فرٌع عنها‪ ،‬وهي العقود التابعة هلا‪ ،‬مبعىن أنه ال ميكن أن تتصور‬

‫‪9‬‬
‫ه ذه العق ود إال بوج ود العق ود األص لية‪ ،‬فال توثي ق‪ ،‬ال رهن‪ ،‬ال ضمان‪ ،‬ال كفال ة إال بوج ود‬
‫دْيٍن ‪ ،‬عقد بيٍع ‪ ،‬أو حنوه‪ ،‬مما ينشأ عنه ما ُيشرع فيه االستيثاق‪ ،‬كما هو احلال هنا‪.‬‬
‫التوثيق يكون بالكتابة‪ ،‬كما قال تعاىل‪َ﴿ :‬يا َأُّيَه ا اَّلِذيَن آَم ُن وا ِإَذا َتَد اَينُتم ِبَد ْيٍن ِإىَل َأَج ٍل‬
‫ُّم َس ًّم ى َف اْك ُتُبوُه﴾ [البق رة‪ ،]282 :‬ويك ون باإلش هاد‪ ،‬كم ا ق ال تعاىل‪َ﴿ :‬و َأْش ِه ُد وا ِإَذا َتَب اَيْع ُتْم ﴾‬
‫[البق رة‪ ،]282 :‬ويكون بالرهن‪ ،‬كما قال‪َ﴿ :‬فِر َه اٌن َّم ْق ُبوَض ٌة﴾ [البق رة‪ ،]283 :‬سواء كان ذلك يف‬
‫السفر‪ ،‬أو يف احلضر‪ ،‬كما هو مذهب الفقهاء األربعة‪ ،‬وعليه أكثر أهل العلم‪ ،‬وقد ثبت أن النيب‬
‫‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬وهو يف احلضر رهن درعه عند يهودٍّي يف املدينة‪ ،‬وقد مات النيب ‪-‬‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬ودرعه مرهونٌة عند هذا اليهودي‪ ،‬وقد كنا عَّر جنا ‪-‬إن كنتم تذكرون‪-‬‬
‫على هذا الدليل‪ ،‬وبينا أن هذا الدليل فيه فوائد عديدٌة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫جواز التعامل مع أهل الكتاب‪.‬‬ ‫‪.1‬‬
‫جواز التعامل بالدْين‪.‬‬ ‫‪.2‬‬
‫جواز العقود‪ ،‬عقود التوثيق التابعة‪ ،‬ومنها الرهن‪.‬‬ ‫‪.3‬‬
‫وصورته‪ :‬لو أننا مثلنا بأن األخ حسني يطلب من األخ ميكائيل مخسة آالف لاير‪ ،‬وملا‬
‫أراد أن يعطي ه ه ذا املبل غ‪ ،‬ق ال‪ :‬ائت ين بكفي ٍل ضامٍن هبذا ال دْين‪ ،‬أو كفي ٍل حيض رك للس داد أو‬
‫الوفاء‪.‬‬
‫ق ال األخ ميكائي ل‪ :‬ليس عن دي من يض منين‪ ،‬ولكن عن دي س لعٌة خبمس ة آالف لاير‬
‫تقدر‪ ،‬وهذه السلعة مثاًل هي جهاز حاسب آيل هبذه القيمة‪ ،‬خذه عندك‪ ،‬فإذا جاء األجل‪ ،‬ومل‬
‫أسددك هذا املبلغ‪ ،‬تبيع هذا اجلهاز‪ ،‬فإن زاد على اخلمسة آالف تعطيين ما زاد‪ ،‬وإن كان مخس ة‬
‫آالف تربأ ذميت‪ ،‬وإن كان أقل من ذلك‪ ،‬أوفيتك ما كان من نقٍص ‪.‬‬
‫إذن هذا اجلهاز احلاسب اآليل‪ ،‬هو الرهن‪ ،‬والراهن من هو؟‬
‫{ميكائيل}‪.‬‬
‫وهو الدائن أو املدين؟‬
‫{الدائن}‪.‬‬
‫ال‪ ،‬دائًم ا اعكس وها‪ ،‬ال راهن يعين ال ذي دف ع ال رهن‪ ،‬ه و املدين‪ ،‬واملرهتن ال ذي قب ل‬
‫الرهن‪ ،‬هو الدائن‪ ،‬فتصريفها متعاكس‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫إذن الرهن هو العني‪ ،‬والدْين يقابله‪ ،‬وهو مرهوٌن ‪ ،‬والراهن هو املدين‪ ،‬واملرهتن الذي‬
‫قبل الرهن‪ ،‬يعين أخذه‪ ،‬هو يف حقيقة األمر الدائن‪.‬‬
‫هذا هو الرهن صورته ومثاله‪.‬‬

‫{قال ‪-‬رمحه اهلل‪َ( :‬باُب ال َّر ْه ِن ‪َ ،‬و ُك ُّل َم ا َج اَز َبْيُعُه‪َ ،‬ج اَز َر ْه ُن ُه‪َ ،‬و َم ا َال‪َ ،‬فَال َو َال َيْل َزُم‬
‫ِإَّال ِباْلَق ْبِض )}‪.‬‬
‫هنا ُيشار إىل ُح ْك ِم ال َّر هَن ‪ ،‬واملؤلف قد َمَجَع َعلى َعادته‪ِ ،‬ع َّد َة أحك اٍم يف ُح كٍم واح ٍد‪،‬‬
‫فذكر اُحلكَم َم ع َض اِبِطِه‪ ،‬فالرهن حكمه مشروٌع جائٌز ‪ ،‬وهذا اجلواز بالكتاب كما قال تعاىل‪:‬‬
‫﴿َفِر َه اٌن َّم ْق ُبوَض ٌة﴾‪ ،‬وبالسنة مما جاء يف الصحيح‪ ،‬أن النيب ‪-‬صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬رهن درعه‬
‫عند يهودٍّي ‪ ،‬وباإلمجاع‪ ،‬حيث أمجع أهل العلم عليه‪ ،‬وباحلاجة الداعية إليه‪ ،‬وهو مع ذلك ليس‬
‫واجًب ا‪ ،‬فال يل زم ال دائن أو املدين أن ي رهن عن د اس تدانته ما يقاب ل ه ذا‪ ،‬ه ذا ال دْين‪ ،‬لكن ه ذا‬
‫مشروٌع يف حقه‪ ،‬أو جائٌز يف حقه‪ ،‬وهو نوٌع من التوثقة‪ ،‬كما ذكرنا‪.‬‬
‫وينعقد الرهن بكل ما يدل عليه‪ ،‬سواًء كان بلفظ الرهن‪ ،‬أو كان بلف ٍظ آخر‪ ،‬وهذا‬
‫على املذهب عند احلنابلة واملالكية‪ ،‬وهم سائرون يف هذا‪ ،‬كسائر العقود‪ ،‬وذلك ألن املسلمني‬
‫مل يزالوا يتعاملون باملعاطاة‪ ،‬وذهب الشافعية إىل أنه ال ينعقد إال بإجياٍب وقبوٍل ‪ ،‬فال يكفي فيه‬
‫املعاط اة‪ ،‬كم ا ه و مذهب احلنابل ة واملالكي ة‪ ،‬وق الوا‪ :‬ه و عق ٌد يفتق ر إليهم ا‪ ،‬يعين إىل اإلجياب‬
‫والقب ول‪ ،‬خيفى في ه الرضا‪ ،‬فالب د من التص ريح هبم ا‪ ،‬وإن ك ان ال راجح ما ذهب إلي ه احلنابل ة‬
‫واملالكية‪ ،‬وسواًء كان ذلك يف عقد الرهن‪ ،‬أو يف غريه من العقود‪ ،‬فتنعقد باملعاطاة‪ ،‬وبكل ما‬
‫دل عليها‪.‬‬
‫والرهن يصح من جائز التصرف‪ ،‬مالًك ا للرهن‪ ،‬أو مأذوًنا له فيه‪ ،‬يعين البد أن يكون‬
‫مالًك ا هلذا الرهن‪ ،‬احلاسب اآليل الذي رهنه ميكائيل عند األخ حسني‪ ،‬البد أن يكون مالًك ا ل ه‪،‬‬
‫ما يرهن حاسًبا آلًّيا لشخٍص آخر‪ ،‬أو مأذوًنا له فيه‪ ،‬وهذا هو املذهب‪ ،‬وهو مذهب الشافعية؛‬
‫ألنه عقٌد ماٌّيل‪ ،‬فلم يصح إال من أهله‪.‬‬
‫وهذا القصد منه اشرتاط أن يكون جائز التصرف‪ ،‬وذهب بعض أهل العلم كاحلنفية إىل‬
‫جواز ذلك من الصيب‪ ،‬إذا كان مأذوًنا له‪ ،‬ولو مل يكن بالًغا‪ ،‬واألقرب ما أشرنا إليه من اشرتاط‬
‫كونه جائز التصرف‪ ،‬مالًك ا للمرهون‪ ،‬أو مأذوًنا له فيه‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫وهذا الرهن عقٌد الزٌم‪ ،‬أو جائٌز ‪ ،‬نقول فيه ما قلنا يف الضمان‪ ،‬فعندئٍذ كيف سيكون؟‬
‫عقد الزٌم من جهٍة‪ ،‬جائٌز من اجلهة األخرى‪ ،‬الزٌم على من؟‬
‫{املدين}‪.‬‬
‫أحس نت‪ ،‬فال دْين ال ميكن ه أن ينف ك من ه ذا ال رهن‪ ،‬فال ميكن األخ ميكائي ل أن يق ول‬
‫حلسني بعد شهر أنا واهلل احتجت احلاسب اآليل‪ ،‬و أين أريد أن أفسخ عقد الرهن؛ ألين مسعت‬
‫يف درس الفقه‪ ،‬أن عقد الرهن جائٌز ‪ ،‬نقول‪ :‬نعم‪ ،‬أصبَت يا شيخ ميكائيل‪ ،‬هو جائٌز ‪ ،‬لكنه ليس‬
‫يف حق املدين‪ ،‬الذي هو الراهن‪ ،‬وإمنا هو جائٌز يف حق الدائن املرهتن‪ ،‬فيجوز لألخ حسني أن‬
‫يق ول‪ :‬ي ا أخ ميكائي ل‪ ،‬أن ا تعاملُت معك‪ ،‬وارحتُت إلي ك‪ ،‬ووج دُت ص دقك ووف اءك‪ ،‬خ ذ‬
‫جهازك استفد منه‪ ،‬وقد فسخت عقد الرهن‪ ،‬وال يلزمك أن توثق دينك به‪ ،‬وإن شاء اهلل تعاىل‬
‫إنك َو ٌّيِف‪ ،‬وعندئٍذ يكون قد تنازل عن حقه‪ ،‬فهو جائٌز ‪ ،‬يعين جيوز فسخه يف حق الدائن‪ ،‬وهو‬
‫املرهتن‪ ،‬الزٌم يف ح ق املدين؛ ألن احلق تعل ق ب ه‪ ،‬وثبت‪ ،‬وه و من حق وق الط رف العق د اآلخ ر‪،‬‬
‫فال يسوغ عندئٍذ فسخه‪.‬‬
‫من ش‪//‬روطه‪ :‬أن يكون عيًن ا‪ ،‬وقد اختلف الفقهاء يف ذلك‪ ،‬فمنهم من ج َّو ز الرهن يف‬
‫ال دْين واملن افع‪ ،‬خبالف املذهب عن د احلنابل ة‪ ،‬ال ذين يش رتطون أن يك ون عيًن ا‪ ،‬ول ذلك يعِّر فون ه‬
‫بتوثيق الدْين بعٍني ‪ ،‬ميكن االستيفاء منها‪ ،‬أو من مثنها‪ ،‬وهذا قوٌّي ‪.‬‬
‫الث‪//‬اني‪ :‬أن يكون مما جيوز بيعه‪ ،‬وهو ما ذكره املؤلف هنا‪ ،‬قال‪ :‬وكل ما جاز بيعه‪،‬‬
‫جاز رهنه‪ ،‬فاحلاسب اآليل جيوز بيعه‪ ،‬الكتاب جيوز بيعه‪ ،‬البيت أو العقار جيوز بيعه‪ ،‬الكامريات‬
‫ه ذه ال يت اآلن تص ورنا‪ ،‬جيوز بيعه ا‪ ،‬الطاول ة جيوز بيعه ا‪ ،‬إذن جيوز رهن ه ذه كله ا‪ ،‬لكن إذا‬
‫كان شيًئا ال جيوز بيعه‪ ،‬فال جيوز رهنه‪ ،‬مثاًل لو أراد شخص أن يرهن مصحًف ا‪ ،‬فعند احلنابلة ال‬
‫جيوز بيع املصحف‪ ،‬وبالتايل ال يصح رهنه عندهم‪ ،‬كذلك لو أراد أن مثاًل يرهن بطاقة أحواٍل ‪،‬‬
‫ال تكون مما ُيرهن؛ ألنه ال جيوز بيعها‪ ،‬فال ميكن االستيفاء منها‪ ،‬مع أن هذا أيًض ا ممنوٌع نظاًم ا‪،‬‬
‫أيًض ا ل و أراد ش خص أن مثاًل ي رهن مخًر ا‪ ،‬ما جيوز؛ ألن ه ال جيوز بيعه ا‪ ،‬فال جيوز رهن ه‪ ،‬إذن‬
‫قاعدٌة مهمٌة جًّدا‪ ،‬وذلك ألن املراد من الرهن هو االستيفاء‪ ،‬وإمنا يستوىف من بيعه‪ ،‬ال من عينه‪،‬‬
‫وهذا ال يتأتى مع ما ال جيوز بيعه‪ ،‬ولذلك كان هذا الضابط منضبًطا‪.‬‬
‫أيًض ا من شروط الرهن‪ :‬أن يكون معلوًم ا‪ ،‬فال جيوز رهن اجملهول‪ ،‬ملاذا؟‬

‫‪12‬‬
‫ألن اجملهول قد ال ميكن االستيفاء منه‪ ،‬مبا يوافق هذا الدْين‪ ،‬لو شخٌص قال لك‪ :‬أنا‬
‫سأستدين منك هذه العشرة آالف‪ ،‬وما يف هذه احلقيبة اليت بيدي‪ ،‬أو ما يف جييب‪ ،‬هو رهٌن هلذا‬
‫ال دْين ال ذي ل ك علي‪ ،‬نق ول‪ :‬ما جيوز ه ذا‪ ،‬الب د أن يك ون معلوًم ا؛ ألن ه ذا ن وٌع من الغ رر‪،‬‬
‫وهنا سيكون االستيفاء من هذا الدْين‪.‬‬
‫أيًض ا البد أن يكون مقدوًر ا على تسليمه‪ ،‬لو أنك يا شيخ سعيد أقرضتين مخسني ألًف ا‪،‬‬
‫وطلبت مين توثق ًة‪ ،‬فقلت لك‪ :‬نعم أبشر‪ ،‬يل سيارٌة مسروقٌة‪ ،‬ولكنها رهن هبذا الدْين‪ ،‬فإذا مل‬
‫أوف ك اخلمس ني أل ف‪ ،‬فس ياريت ه ذه ميكن ك عندئٍذ البحث عنه ا‪ ،‬وتق دمي البالغ ات فيه ا‪ ،‬مث‬
‫االستيفاء منها إذا وقفت عليها‪ ،‬نقول‪ :‬ما جيوز هذا‪ ،‬البد أن يكون مقدوًر ا على تسليمه‪.‬‬
‫{قال‪َ( :‬و َال َيْلَزُم ِإَّال ِباْلَق ْبِض ‪َ ،‬و ُه َو َنْق ُلُه ِإْن َك اَن َم ْنُقْو ًال‪َ ،‬و الَّتْخ ِلَيُة ِفْيَم ا ِس َو اُه)}‪.‬‬
‫ق ال‪ :‬وال يل زم إال ب القبض‪ ،‬ه ذا في ه إش ارٌة إىل حال ة ل زوم ال رهن‪ ،‬وحال ة ل زوم ال رهن‬
‫تكون بقبضه من ِقَبل املرهتن‪ ،‬هذا عند مجهور أهل العلم‪ ،‬فلو أين قلت لك‪ :‬السيارة اليت عندي‬
‫رهٌن هبذا الدْين الذي لك علي‪ ،‬لكين ما أخربتك إياها‪ ،‬مث قبل أن تقبض السيارة تنتقل لك‪،‬‬
‫قلت لك‪ :‬خالص‪ ،‬أنا ال أريد أن أرهن السيارة‪ ،‬فعندئٍذ ال يلزم‪ ،‬ويكون الدْين ثابًت ا إذا استقر‬
‫من غ ري رهن‪ ،‬ول ذلك على ال راهن‪ ،‬أو على املرهتن‪ ،‬ال ذي ه و ال دائن‪ ،‬إذا أراد أن يوِّث ق‪ ،‬أال‬
‫مُي ضي الدْين‪ ،‬ويعطي البض اعة هلذا املدين‪ ،‬إال بعد أن يقبض الرهن‪ ،‬حىت يكون عندئٍذ الزًم ا‪،‬‬
‫وذلك لظاهر النص‪َ﴿ :‬فِر َه اٌن َّم ْق ُبوَض ٌة﴾‪.‬‬
‫وألن الرهن يف أصله عقد إرفاٍق ‪ ،‬يفتقر إىل القبول‪ ،‬فافتقر إىل القبض أيًض ا‪ ،‬كالقرض‪،‬‬
‫وهذا كما ذكرنا مذهب اجلمهور‪ ،‬خالًف ا للسادة املالكية‪ ،‬حيث قالوا بأنه يلزم مبجرد العقد؛‬
‫لعم وم قول ه تعاىل‪َ﴿ :‬ي ا َأُّيَه ا اَّل ِذيَن آَم ُن وا َأْو ُف وا ِب اْلُعُقوِد﴾ [املائدة‪ ،]1 :‬وال رهن عق ٌد ‪ ،‬فيل زم في ه‬
‫ِإ ِم‬ ‫ِق‬ ‫ٍذ‬
‫عندئ الوفاء‪ ،‬ولو مل يكن قبض من َبل املرهتن‪ ،‬وهو الدائن‪ ،‬ولقوله تعاىل‪َ﴿ :‬ف ْن َأ َن َبْع ُض ُك ْم‬
‫َبْع ًض ا َفْلُيَؤ ِّد اَّلِذ ي اْؤ ِمُتَن َأَم اَنَتُه ﴾ [البقرة‪.]283 :‬‬
‫قوله‪َ( :‬و ُه َو َنْق ُلُه)‪ ،‬هذا ضابط القبض‪ ،‬وهو نقله إن كان منقواًل ‪ ،‬والتخلية فيما سواه‪.‬‬
‫القبض يف أصله وضع اليد على الشيء‪ ،‬وهو احليازة‪ ،‬وكل ما أتى ومل حيدد‪ ،‬بالشرع‬
‫كاحلرز فب العرف اح دد‪ ،‬وك ذلك القبض‪ ،‬وك ذلك حد السفر‪ ،‬وغ ري ذل ك مما مل ي أت ضابٌط‬
‫حمدٌد له يف الشرع‪ ،‬فينتقل يف ضبطه إىل ما تعارف عليه الناس‪ ،‬مىت كان العرف مستقًر ا‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫ف القبض يف املنق والت يك ون بالنق ل‪ ،‬ويف املعدودات بالعد‪ ،‬ويف املكيالت بالكي ل‪ ،‬يف‬
‫العقار بالتخلية بينك وبينه‪ ،‬مع عدم املانع من تصرفك فيه‪ ،‬ولذلك يقال بأن الرهن قبضه يكون‬
‫يف كل شيٍء حبسبه‪ ،‬كما هو احلال يف قبض املبيع وحنوه‪.‬‬
‫{(َو َقْبُض َأِم ِنْي اْلُمْر ِهَتِن َيُقْو ُم َم َق اَم َقْبِضِه)}‪.‬‬
‫ألنه نائٌب عنه‪ ،‬فكان يف حكم قبض املرهتن‪ ،‬فيلزمه عندئٍذ الرهن‪.‬‬
‫{(َو الَّر ْه ُن َأَم اَنٌة ِعْنَد اْلُمْر ِهَتِن ‪َ ،‬أْو َأِم ْيِنِه)}‪.‬‬
‫ِف ِه‬
‫الَّر هُن أمانٌة‪ ،‬واملرهتن أمٌني ‪ ،‬فال يضمنه ِإاَّل ِإَذا َتَع َّدى ي ‪ ،‬أو ف َّر ط يف ذلك‪ ،‬وال ُيْس َتْثىَن‬
‫ِم نه ِإاَّل َم ا َج اَء َعنه ‪-‬عليه الصالة والسالم‪« :‬الَّظْه ُر ُيْر َك ُب ِبَنَفَق ِتِه إَذا َك اَن َمْر ُه وًنا‪َ ،‬و َلُنَب الَّد ِّر‬
‫ُيْش َر ُب ِبَنَفَق ِتِه إَذا َك اَن َمْر ُه وًنا‪َ ،‬و َعَلى اَّلِذ ي َيْر َك ُب َو َيْش َر ُب الَّنَفَقُة»‪ ،‬فهذا استثناٌء من القاعدة‬
‫األساسية‪.‬‬
‫وعندئٍذ يبقى َم ا َع َد اه على سبيل األمانة‪ ،‬فال ُيتصرف فيه‪ ،‬لكن هذا إذا كان ُيركب‪،‬‬
‫كحيواٍن ‪ ،‬أو حُي لب‪ ،‬فيجوز عندئٍذ ركوب ه‪ ،‬وجيوز حلبه‪ ،‬ملا يقابل ذلك من إطعامه‪ ،‬وسقايته‪،‬‬
‫ورعايته‪ ،‬وما عداه من الصور‪ ،‬يكون أمان ًة‪ ،‬فال جيوز التصرف فيه‪ ،‬وال يضمن األمني عندئٍذ‪،‬‬
‫وه و املرهتن تلف ه‪ ،‬إال إذا تعدى أو ف َّر ط في ه‪ ،‬ذل ك ألن ه ماٌل وضعت علي ه الي د‪ ،‬ال ذي ه و ي د‬
‫املرهتن بإذن مالكه‪ ،‬وهو الراهن‪ ،‬فعندئٍذ يكون أميًنا‪.‬‬
‫القاعدة‪ :‬كل ماٍل كان بإذن مالكه‪ ،‬وضع اليد عليه‪ ،‬يكون واضع هذه اليد أميًن ا ما مل‬
‫يتعد‪ ،‬أو يفِّر ط‪.‬‬
‫وإن شاء اهلل تعاىل نستقبل يف حلق ٍة قادمٍة‪ ،‬مزيد بياٍن وإيضاٍح ‪ ،‬ونأخذ سؤالك عندئٍذ‬
‫‪-‬إن شاء اهلل تعاىل‪ ،‬وصلى اهلل وسلم على نبينا حممٍد‪.‬‬

‫‪14‬‬

You might also like