Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 34

‫فقه الكتاب والسنة‪.

‬‬

‫املوضوع األول ‪:‬‬

‫(مقدمة يف علم التفسري ‪ ،‬وبيان األحكام الفقهية لسورة الفاحتة)‪:‬‬

‫أوال ‪ :‬مقدمة في علم التفسير‬

‫تعريفه ‪ :‬لغة‪ :‬قال ابن منظور يف لسان العرب ‪ ( :‬الَف ْسُر مبعىن‪ :‬البيان‪ ،‬وفسر الشيء يفسره «بالكسر»‪ ،‬ويفسره‬
‫«بالضم» فسرا‪ ،‬وفسره ‪ :‬أبانه‪ ،‬والتفسري مثله‪ ،‬والفسر ‪ :‬كشف املغطى‪ ،‬والتفسري ‪ :‬كشف املراد عن اللفظ املشكل)‬

‫واصطالحًا ‪ :‬قال الزرقاين يف مناهل العرفان بقوله ‪ :‬هو علم يبحث فيه عن أحوال القرآن الكرمي من حيث داللته‬
‫على مراد اهلل تعاىل بقدر الطاقة البشرية ‪.‬‬

‫موضوعه كالم اهلل اهلل الذي هو ينبوع كل حكمة ومعدن كل فضيلة‪ ،‬فيه نبأ ما قبلكم‪ ،‬وخرب ما بعدكم‪ ،‬وحكم ما‬
‫بينكم‪ ،‬ال خيلق على كثرة الرد‪ ،‬وال تنقضي عجائبه‪.‬‬

‫فائدته معرفة حكم اهلل يف العقائد والعبادات واملعامالت واألخالق ليفوز اإلنسان خبري الدنيا واآلخرة ‪.‬‬

‫فضله ‪ :‬إن فضل الشيء يعرف مبوضوعه وعلم التفسري موضوعه كالم اهلل الذي هو أشرف كالم ‪ ،‬فعلم التفسري‬
‫أشرف العلم وأفضلها شأنا وأعالها منزلة ‪.‬‬

‫نسبته ‪ :‬علم التفسري من أجل علوم الشريعة اإلسالمية وأرفعها قدرا وأعالها شأنا‪ ،‬كما هو أيضا أشرف العلوم‬
‫موضوعا وغرضا وحاجة إليه‪ ،‬ألنه متعلق بكالم اهلل تعاىل‪.‬‬

‫واضعه ‪ :‬أول من فسر القرآن من فسر القرآن‪ :‬هو اهلل فإن بعض القرآن يفسر بعضًا‪ ،‬فقد قال لرسوله ﷺ ‪:‬‬
‫﴿َفِإَذا َقَرْأَناُه َفاَّتبع قرآنه مث إن علينا بيانه﴾ فسره له‪ ،‬مث رسوله فقد أمره اهلل بيانه بعد أن بينه له؛ لقوله تعاىل ‪( :‬وأنزلنا‬
‫ِإَلْيَك الِّذْك َر ِلُتَبَنِّي ِللَّناِس َم ا ُنِّزَل ِإَليِه م) إذ كان القرآن ينزل على النيب ‪ -‬مفرقًا حسب احلوادث‪ ،‬والوقائع‪ ،‬وكان‬
‫ﷺ يفسر للصحابة‪ ،‬ويبني هلم ما ُأشكل عليهم من معاين اآليات املنزلة‪.‬‬

‫وأما من جعل علما مستقال ‪ ،‬فعلماء كثر ‪ ،‬أفضلهم ابن جرير الطربي (‪310‬هـ)‬

‫اسمه ‪ :‬علم التفسري ومسي علم التفسري ملا فيه من الكشف والتبيني واختص هبذا االسم دون بقية العلوم‪.‬‬
‫استمداده ‪ :‬من علم اللغة والنحو والصرف وعلم البيان والفقه وأصول الفقه والقراءات وحيتاج ملعرفة أسباب النزول‬
‫والناسخ واملنسوخ‪.‬‬

‫حكمه ‪ :‬وقد أمجع العلماء أن علم التفسري من فروض الكفايات وأجل العلوم الثالثة الشرعية ‪.‬‬

‫نشأته وتطوره ‪ :‬ظهر علم التفسري بالتزامن مع نزول اآليات القرآنية على الرسول ﷺ ‪ ،‬فكان يفسر اآليات‬
‫للصحابة هلل مث صار علم التفسري من العلوم الدينية املهمة يف اإلسالم‪ ،‬حيث عمل الصحابة اهلل على تفسري اآليات‬
‫القرآنية للمسلمني‪ ،‬وخصوصًا الذين دخلوا يف اإلسالم حديثًا‪ ،‬ومل يكونوا على علم كاف باللغة العربية‪ ،‬وقواعدها‪،‬‬
‫وهذا ما يدل على وظيفة علم التفسري ببيان‪ ،‬وتوضيح ما مل يفهم من اآليات القرآنية‪ ،‬ومع مرور الوقت حتول علم‬
‫التفسري إىل علم يدرس من قبل جمموعة من األشخاص من أصحاب العلم الوافر‪ ،‬والذين اهتموا بتفسري اآليات‬
‫القرآنية‪ ،‬ومجعوا تفاسريهم يف كتب للتفسري‪ .‬ومن أشهر املفسرين‪ :‬الصحايب عبد اهلل بن عباس رضي اهلل عنهما‪ ،‬وكان‬
‫يعرف باسم (ترمجان القرآن)؛ بسبب معرفته بالعلم الصحيح للتفسري‪ ،‬وأيضًا متيز الصحايب عبد اهلل بن مسعود رضي‬
‫اهلل عنه‪ ،‬بعلمه الوافر باآليات القرآنية‪ ،‬وقدرته على تفسريها تفسريًا صحيحًا‪ .‬أخذ بعض التابعني التفاسري من‬
‫الصحابة رضي اهلل عنهم‪ ،‬ومن هؤالء التابعني‪ :‬سعيد بن جبري‪ ،‬واحلسن البصري‪ ،‬مث عمل املفسرون على نقل‬
‫تفاسريهم‪ ،‬وتدوينها يف كتب من أجل احملافظة عليها‪ ،‬ومن أشهر التفاسري تفسري ابن جرير الطربي (‪310‬هـ) فهو من‬
‫أجل التفاسري وما أتى بعدها عالة عليه ‪.‬‬

‫ثانيا ‪ :‬األحكام الشرعية المستنبطة من سورة الفاتحة ‪:‬‬

‫سورة الفاحتة هي السورة األوىل يف ترتيب املصحف‪ ،‬والسورة اخلامسة نزوال بعد سور العلق واملدثر واملزمل والقلم‪ ،‬وهي‬
‫أول سورة نزلت مجلة واحدة‪ ،‬نزلت يف مكة املكرمة استنادًا لقوله ‪-‬تعاىل‪ -‬يف سورة احلجر‪( :‬ولقد آتيناك سبًعا من‬
‫املثاين والقرآن العظيم)‪ ،‬وقد أمجع املفسرون على مّك ية سورة احلجر‪.‬‬

‫واملقصود بالسبع املثاين أي سورة الفاحتة‪ ،‬املثاين مجع مثىن‪ ،‬ومسيت بذلك لتكرارها يف الصالة ‪ ،‬وعدد آيات سورة‬
‫الفاحتة‪ :‬سبع آيات إمجاعًا‪ ،‬وعدد كلماهتا‪ :‬مخس وعشرون كلمة ‪ ،‬وعدد حروفها‪ :‬مائة وثالث وعشرون حرفا‪،‬‬

‫أسماؤها ‪ :‬فتسمى الفاحتة‪ ،‬ألهنا مفتتح القرآن‪ ،‬قال النيب ﷺ ال َص اَل َة َلَم ن ْمَل َيْق َرُأ ِبَف اَحِتِة الِكَتاِب » وتسمى‬
‫أم الكتاب وأم القرآن والسبع املثاين قال النيب ﷺ قال‪« :‬أم القرآن هي السبع املثاين والقرآن العظيم»‬
‫وتسمى احلمد ألهنا افتتحت به قال النيب ﷺ «احلمُد ِهلل َرِّب اْلَعاَلِم َني هي السبع املثاين»‬

‫وتسمى الشافية‪ ،‬ألن فيها الشفاء والعالج‪.‬‬

‫وهي الواقية تقي قارئها من كل سوء‪ ،‬وهي الكافية تكفي عن غريها وال يكفي غريها عنها‪ ،‬وهي الراقية يرقى هبا‬
‫املؤمن‪ ،‬وهي الصالة‪.‬‬

‫قال ابن كثري‪ " :‬اشتملت هذه السورة الكرمية على محد اهلل ومتجيده والثناء عليه‪ ،‬بذكر أمسائه احلسىن املستلزمة‬
‫لصفاته العليا‪ ،‬وعلى ذكر املعاد‪ ،‬وهو يوم الدين‪ ،‬وعلى إرشاده عبيده إىل سؤاله والتضرع إليه‪ ،‬والتربؤ من حوهلم‬
‫وقوهتم‪ ،‬وإىل إخالص العبادة له وتوحيده باأللوهية تبارك وتعاىل‪ ،‬وتنزيهه أن يكون له شريك أو نظري أو مماثل‪ ،‬وإىل‬
‫سؤاهلم إياه اهلداية إىل الصراط املستقيم‪ ،‬وهو الدين القومي‪ ،‬وتثبيتهم عليه حىت يفضي هبم ذلك إىل جواز الصراط‬
‫احلسي يوم القيامة‪ ،‬املفضي هبم إىل جنات النعيم يف جوار النبيني والصديقني والشهداء والصاحلني‪ .‬واشتملت على‬
‫الرتغيب يف األعمال الصاحلة‪ ،‬ليكونوا مع أهلها يوم القيامة‪ ،‬والتحذير من مسالك الباطل‪ ،‬لئال حيشروا مع سالكيها‬
‫يوم القيامة‪ ،‬وهم املغضوب عليهم والضالون‪.‬‬

‫فضلها ‪:‬‬

‫*روى الرتمذي والنسائي بسند صحيح عن أيب هريرة اهلل قال‪ :‬من رسوُل الَّلِه ﷺ َعَلى َأيب بن كعب‪ ،‬فقال‬
‫أِحُتُّب أن ُأعلمك سورة مل ينزل يف التوراة ‪ ،‬وال يف اإلجنيل ‪ ،‬وال يف الزبور ‪ ،‬وال يف الفرقاِن ِم ْثُلها ؟ قلت‪ :‬نعم ‪ ،‬يا‬
‫رسول اهلل ‪ ،‬قال ‪ :‬فكيف تقرأ يف الَّص الِة ؟ َفَق َرْأُت عليِه ُأَّم الكتاب ‪ ،‬فقال َرُس وُل الَّلِه ﷺ ‪َ :‬واَّلِذي َنْف ِس ي‬
‫بيده‪ ،‬ما أنزلت سورة يف التوراة وال يف اإلجنيل وال يف الزبور ‪ ،‬وال يف الفرقاِن ِم ْثُلها ‪ ،‬وإهنا هلي السبع املثاين والقرآن‬
‫العظيم‬

‫*روى مسلم عن أيب هريرة اهلل قال ِمَس ْعُت َرُس وَل اِهلل ﷺ يقوُل ‪َ :‬قاَل الَّلُه َتَعاىَل ‪َ :‬قَس ْم ُت الَّص الَة بيين وبني‬
‫َعْبِدي ِنْص َف ِنْي ‪ ،‬ولعبدي ما سأل‪ ،‬فإذا قال العبد‪ :‬احلمُد ِلَّلِه َرِّب العاَلمَني ‪َ ،‬قاَل اُهلل َتَعاىَل ‪ِ :‬مَح َد يِن َعْبِدي‪ ،‬وإذا قال‪:‬‬
‫الرمحن الرحيم قال اهلل تعاىل‪َ :‬أْثىَن َعَلى َعْبِدي‪ ،‬وإذا قال‪ :‬مالك يوم الدين قال‪ :‬جمدين عبدي‪ ،‬وَقاَل َم َّرًة َفَّو َض ِإىل‬
‫َعْبِد ي‪ ،‬فإذا قال‪ِ﴿ :‬إَّياَك َنْع ُبُد وِإَّياَك َنْس َتِعُني َقاَل ‪ :‬هذا بيين وبني عبدي‪ ،‬ولعبدي ما سأل‪ ،‬فإذا قال‪ :‬اْه ِد َنا الِّص راَط‬
‫ا سَتِق يَم ِص راَط اَّلذين أنعمت عليهم غري املغضوب عليهم وال الَّض اِّلَني َقاَل ‪ :‬هذا ِلَعْبِد ي ولعبدي ما سأل»‪.‬‬
‫ُمل‬
‫* روى مسلم عن ابن عباس اهلل قال بينما ِج ِرْبيُل َقاِعُد ِعْنَد النيب ﷺ ِمَس َع َنِق يًض ا ِم ن َفْو ِقِه‪َ ،‬فَرَفَع َرْأَس ُه‪َ ،‬فَق اَل ‪:‬‬
‫هذا َباُب \‬

‫ِم َن الَّس َم اِء ُفِتَح اليوم مل يفتح ‪َ .‬قَّط ِإاَّل الَيوَم‪َ ،‬فَنَزَل ِم ْنُه َم َلُك ‪َ ،‬فَق اَل ‪ :‬هذا َم َلُك َنَزَل ِإىل اَألْر ِض ْمَل ينزل قط إال اليوم‪.‬‬
‫َف َّل ‪َ ،‬و َقاَل ‪َ :‬أْبِش ْر ُبوَرْيِن ُأوِتَتُه ما ْمَل ُيْؤ َتُه ما اين قبلك َفاَحِتُة الَك اِب ‪َ ،‬وَخ اِتي ُس وَرِة الَبَق ِة‪َ ،‬لن تقرأ حبرف منهما ِإاَّل‬
‫َر‬ ‫َو ُم‬ ‫َس َم‬
‫ِط‬
‫ُأْع يَتُه‬
‫تفسير سورة الفاتحة إجماال ‪:‬‬

‫(بسم اهلل ) أي أبتدئ قويل كالقراءة أو علمي كالكتابة بسم اهلل ليبعد الشيطان وتنزل بركة الرمحن‪ ،‬وإعانته يل يف قويل‬
‫وعملي‪( ،‬اهلل) علم على ذات اهلل جل جالله‪ ،‬ومعناه املألوه املعبود املستحق للعبادة وحده ال شريك له‪ ،‬ملا اتصف به‬
‫من صفات اجلالل والكمال سبحانه‪( ،‬الرحمن)‪ :‬املنعم بنعم عامة تشمل املؤمنني والكافرين (الرحيم) املنعم بنعم‬
‫خاصة باملؤمنني‬

‫(الحمد هلل) ‪ :‬احلمد هو وصف احملمود بالكمال املطلق على كل حال احلديث‪ « :‬كان رسول اهلل ﷺ إذا‬
‫أصابته السراء قال‪" :‬احلمد هلل الذي بنعمته تتم الصاحلات‪ ،‬وإن إصابته الضراء قال‪ :‬احلمد له على كل حال» ‪.‬‬
‫والفرق بينه وبني الشكر ‪ ،‬أن احلمد يكون على كل حال يف السراء والضراء أما الشكر فيكون يف السراء والنعماء‬
‫فالشكر أخصمن احلمد ‪ ،‬واحلمد أعم من الشكر ‪.‬‬

‫(رب العالمين) ‪ :‬أي املالك املتصرف أو السيد املطاع‪ ،‬وال يستعمل الرب لغري اهلل إال باإلضافة تقول رب الدار رب‬
‫العاملني ‪ :‬أي املريب للعاملني‪ ،‬وكل ما سوى اهلل فهو عامل‪ ،‬وتربيته تعاىل خللقه نوعان‪ :‬عامة‪ ،‬وخاصة‪.‬‬

‫فالعامة‪ :‬هي خلقه للمخلوقني ورزقهم وهدايتهم ملا فيه مصاحلهم اليت فيها بقاؤهم يف الدنيا‪.‬‬

‫واخلاصة‪ :‬تربيته ألوليائه فريبيهم باإلميان‪ ،‬ويوفقهم ويكملهم‪ ،‬ويدفع عنهم الصوارف والعوائق احلائلة بينهم وبينه‪.‬‬

‫وحقيقتها‪ :‬تربية التوفيق لكل خري‪ ،‬والعصمة من كل شر‪.‬‬

‫)مالك( قرئ‪) :‬مالك( قراءة عاصم ويعقوب والكسائي‪) .‬وملك( قراءة السبعة الباقيني‪.‬‬
‫ِئ‬ ‫ِف ِح‬
‫)يوم الدين( هو يوم القيامة‪ ،‬كما قال اهلل تعاىل‪َ( :‬و ِإَّن اْلُفَّج اَر َل ي َج يم يصلوهنا يوَم الِّديِن َوَم ا ُه م َعْنَه ا ِبَغا ِبَني‬
‫َوَم ا َأْد َراَك َم ا َيْوُم الِّديِن َّمُث َم ا َأْد َراَك َم ا َيْوُم الِّديِن َيْوَم ال متلك َنْف ٌس ِلَنْف ٍس َش ْيًئا َواَأْلْم ُر َيْوَم ِئٍذ ِلَّلِه )‬

‫واملالك هو‪ :‬املتصرف يف كل شيء‪ ،‬فله األمر والنهي‪ ،‬والعفو واملعاقبة وغري ذلك‪ ،‬وخص ملكه بيوم القيامة لظهوره‬
‫للخلق متام الظهور‪ ،‬واستسالم مجيع ملوك الدنيا الذين ادعو ألنفسهم الربوبية وامللك بغري حق يف الدنيا‪ ،‬كفرعون‬
‫وغريه‪.‬‬

‫)إياك نعبد وإياك نستعني( ‪ :‬أي خنصك وحدك بالعبادة واالستقامة‪ ،‬فال نعبد إال أنت وال نستعني إال بك‪ ،‬وذكره‬
‫لالستعانة بعد العبادة مع دخوهلا فيها الحتياج العبد يف مجيع عباداته إىل االستعانة باهلل تعاىل‪ ،‬فإنه إن مل يعنه اهلل مل‬
‫حيصل له ما يريده من فعل األوامر‪ ،‬واجتناب النواهي‪ ،‬ولذا قال النيب ﷺ‪ :‬أوصيك يا معاذ‪ ،‬ال تدعن يف دبر‬
‫كل صالة أن تقول‪" :‬اللهم أعين على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" رواه أمحد بسند صحيح والعبادة هي‪ :‬اسم‬
‫جامع لكل ما حيبه اهلل ويرضاه من األقوال واألعمال الظاهرة والباطنة‪.‬‬

‫واالستعانة هي‪ :‬االعتماد على اهلل تعاىل يف جلب املنافع‪ ،‬ودفع املضار‪ ،‬مع الثقة به يف حتصيل ذلك‪ ،‬والقيام بعبادة‬
‫اهلل واالستعانة به هو الوسيلة للسعادة األبدية‪.‬‬

‫)اهدنا الصراط املستقيم) ‪ :‬أي دلنا ووفقنا إىل الصراط املستقيم وهو الطريق الواضح الذي ال اعوجاج فيه‪ ،‬وثبتنا عليه‬
‫حىت املمات‪ ،‬فطلب املسلم للهداية معناه الزيادة منها واملوت عليها‪ ،‬والصراط املستقيم هو صراط الذين أنعم اهلل‬
‫عليهم من النبيني والصديقني والشهداء والصاحلني‬

‫(غري) صراط املغضوب عليهم وهم الذين عرفوا احلق وتركوه‪ ،‬أو غريوه وبدلوه كاليهود (وال) صراط‬

‫(الضالني) الذين تركوا احلق عن جهل وضالل كالنصارى‪.‬‬

‫وهذا احلكم ليس مقصورا على اليهود والنصارى فقط‪ ،‬بل يتناول كل من عمل عملهم وسار سريهتم‪ .‬ويستحب ملن‬
‫يقرأ سورة الفاحتة أن يقول بعدها آمني‪ .‬وهي ليست من الفاحتة قطعًا‪ ،‬ومعناها‪ :‬اللهم استجب‪.‬‬

‫األحكام الفقهية لسورة الفاتحة ‪:‬‬

‫أوال ‪ :‬هل البسملة آية من الفاتحة ‪:‬‬


‫أمجع أهل العلم على أن البسملة آية من سورة النمل يف قول اهلل ‪ِ( :‬إَّنُه ِم ْن ُس َلْيَم اَن َو ِإَّنُه ِبْس ِم اِهلل الَّرَمْحِن الرحيم ) مث‬
‫اختلفوا يف مسألة هل البسملة آية مستقلة من القرآن الكرمي أو من سورة الفاحتة أو من كل سورة سوى سورة التوبة‪،‬‬
‫أو أهنا ليست بآية على تسعة أقوال‪ ،‬املشهور منها أربع أقوال ‪:‬‬

‫القول األول ‪ :‬أن البسملة ليست آية من القرآن الكرمي مطلقا‪ ،‬إال يف سورة النمل فهي آية منها‪ ،‬وإمنا كتبت البسملة‬
‫يف أوائل السور لالستفتاح هبا‪ ،‬واالبتداء والتربك هبا والتيمن والفصل بني السور‪ .‬هذا القول صرح به قراء املدينة‬
‫والبصرة والشام‪ ،‬وهو قول اإلمام مالك ‪ ،‬وقول منسوب أليب حنيفة وبعض الصحابة واألوزاعي‪ ،‬وعن رواية عن اإلمام‬
‫أمحد ‪ .‬احتج ابن العريب هلذا القول بأن مسجد رسول اهلل باملدينة منذ زمن الرسول ﷺ حىت زمن اإلمام مالك‬
‫مل يقرأ فيه أحد قط‪ :‬بسم اهلل الرمحن الرحيم اتباعا للسنة‪.‬‬

‫كما احتج الباقالين والقرطيب هلذا القول بأن القرآن ال يثبت إال بالتواتر‪ ،‬وال تواتر هنا فيجب القطع بنفي كوهنا‬

‫من القرآن «يف أوائل السور»‪.‬‬

‫القول الثاين ‪ :‬أهنا آية من سورة الفاحتة فقط‪ .‬وهذا القول مروي عن ‪ :‬سعيد بن جبري وهو قول اإلمام الشافعي‪ ،‬ورواية‬
‫عن اإلمام أمحد بن حنبل‪ ،‬وروي عن إسحاق وأيب ثور وحممد بن كعب القرظي والزهري وعطاء بن أيب رباح وغريهم‪.‬‬
‫استدلوا هلذا القول بأدلة منها‪ :‬إثباهتا يف املصاحف مع الفاحتة وعدها من آياهتا‪ ،‬وحديث أم سلمة عندما سئلت عن‬
‫قراءة النيب فقالت ‪ :‬كان يقطع قراءته آية آية‪ ،‬بسم اهلل الرمحن الرحيم‪ ،‬احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬الرمحن الرحيم» رواه أبو‬
‫داود بإسناد صحيح ‪ ،‬ووجه استدالهلم أن الرسول قرأ البسملة مع الفاحتة‪ ،‬قالوا‪ :‬فدل هذا على أهنا آية منها‪ .‬كما‬
‫استدلوا حبديث أنس بن مالك عندما سئل عن قراءة النيب فقال‪ :‬كانت مدا‪ ،‬مث قرأ‪« :‬بسم اهلل الرمحن الرحيم‪ ،‬ميد‬
‫بسم اهلل‪ ،‬وميد بالرمحن وميد بالرحيم»‪ .‬رواه البخاري وقالوا‪ :‬فقراءة النيب ﷺ للبسملة باملد تدل على أهنا آية‬
‫من القرآن‪ ،‬إذ لو مل تكن آية من القرآن ملا قرأها الرسول باملد كما يقرأ القرآن ‪ .‬واستدلوا حبديث أيب هريرة أن النيب‬
‫ﷺ قال ‪ :‬إذا قرأمت‪ :‬احلمد هلل فاقرءوا ‪ :‬بسم اهلل الرمحن الرحيم) إهنا أم القرآن‪ ،‬وأم الكتاب‪ ،‬والسبع املثاين‪،‬‬
‫وبسم اهلل الرمحن الرحيم) إحداها » صحيح رواه البيهقي‪.‬‬

‫القول الثالث ‪ :‬أهنا آية أو بعض آية من كل سورة سوى سورة براءة‪ ،‬نسب هذا القول لعبد اهلل بن عباس وعبد اهلل بن‬
‫عمر وعبد اهلل بن الزبري وأيب هريرة‪ ،‬ومن التابعني ‪ :‬عن عطاء وطاووس بن كيسان وسعيد بن جبري والزهري‪ ،‬وهذا‬
‫القول هو املشهور من مذهب الشافعي‪ ،‬ورواية عن اإلمام أمحد ونسب أليب حنيفة وسفيان الثوري وعبد اهلل بن‬
‫املبارك وإسحاق بن راهويه واألوزاعي استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها‪ :‬ثبوت البسملة يف املصاحف مع كل‬
‫سورة سوى براءة مما يدل على أهنا آية أو بعض آية من كل سورة‪.‬‬

‫وما رواه أنس ‪ :‬مث قرأ ‪ :‬بسم اهلل بن مالك قال ‪ :‬أغفى النيب ﷺ إغفاءة مث تبسم ضاحكا فقال‪ :‬أنزل علي‬
‫سورة‪ ،‬الرمحن الرحيم ﴿ِإَّنا َأْع َطْيَناَك اْلَك ْو َثَر َفَص ِّل ِلَرِّبَك َواَحْلْر ِإْن َش اِنَئَك ُه َو األبرت ) رواه مسلم ‪ ،‬ووجه استدالهلم‬
‫من احلديث أن البسملة آية أنزلت مع سورة الكوثر فهي كذلك آية أو بعض آية من كل سورة تنزل معها وتعد منها‪.‬‬

‫القول الرابع‪ :‬أن البسملة آية مستقلة من القرآن وليست من السور‪ ،‬وإمنا هي آية تنزل مع كل سورة للفصل بينها وبني‬
‫اليت قبلها‪ .‬وهذا قول طائفة كبرية من أهل العلم منهم‪ :‬اإلمام أمحد بن حنبل يف النصوص الصرحية عنه‪ ،‬وعبد اهلل بن‬
‫املبارك وحممد بن احلسن الشيباين وأبو احلسن الكرخي‪ ،‬وأبو بكر الرازي وداود الظاهري‪ ،‬واختار هذا القول ابن خزمية‬
‫واجلصاص وابن قدامة وابن تيمية والزيلعي استدل القائلون هبذا القول على إمجاع الصحابة على إثباهتا يف املصحف‬
‫وكتابتهم هلا خبطه وقلمه‪ ،‬فنقلت نقله كما نقلت يف سورة النمل‪ ،‬فال جيوز اخلروج عن إمجاعهم وذلك ألهنم جردوا‬
‫املصحف من غري اآليات القرآنية كالتفسري وغريه‪ .‬كما استدلوا حبديث عبد اهلل بن عباس قال ‪ :‬كان النيب ﷺ‬
‫ال يعرف فصل السورة حىت تنزل عليه بسم اهلل الرمحن الرحيم‪ .‬رواه أبو داود بسند صحيح ‪ ،‬وقالوا‪ :‬كوهنا تنزل يدل‬
‫على أهنا آية من القرآن‪ ،‬وكوهنا للفصل بني السور يدل على أهنا ليست من السور وإمنا آية مستقلة‪.‬‬

‫ثانيا ‪ :‬قراءة البسملة في الصالة‬

‫اختلف العلماء يف حكم قراءة البسملة يف الصالة على عدة أقوال‪:‬‬

‫القول األول ‪ :‬أهنا جتب قراءهتا يف الصالة وجوب الفاحتة ألهنا آية منها‪ ،‬وهو قول عبد اهلل بن عباس وعبد اهلل بن‬
‫عمر والزهري وجماهد وإسحاق بن راهويه وأيب ثور‪ ،‬وهو املشهور يف املذهب الشافعي‪ ،‬ورواية عن اإلمام أمحد بن‬
‫حنبل‪ .‬هذا القول مبين على أن البسملة آية من الفاحتة‪ ،‬فتجب قراءهتا عندهم كما جتب قراءة بقية آيات الفاحتة‪،‬‬
‫كما يشرع اجلهر هبا عندهم كما جيهر ببقية آيات الفاحتة‪.‬‬

‫القول الثاين ‪ :‬أن قراءهتا يف الصالة مستحبة مع الفاحتة ومع كل سورة سوى سورة براءة كما هو منصوص يف‬
‫املصحف‪ ،‬وهذا قول مجهور أهل العلم ومنهم ‪ :‬أبو حنيفة والقول املشهور عن أمحد بن حنبل وأكثر أهل احلديث‪:‬‬
‫ألهنا آية مستقلة من القرآن وليست آية من السورة ال من سورة الفاحتة وال من غريها من السور‪ ،‬فال جتب قراءهتا ال‬
‫مع الفاحتة وال مع غريها‪ ،‬لكن تستحب قراءهتا معها ومع كل سورة عدا سورة التوبة‪ ،‬ودليلهم ما ثبت من حديث‬
‫أنس بن مالك وعائشة وأيب هريرة أن الرسول وخلفاءه ال جيهرون هبا‪ ،‬فلو كانت واجبة قراءهتا وجوب الفاحتة جلهروا‬
‫هبا كما جيهرون ببقية آيات الفاحتة‪.‬‬

‫القول الثالث ‪ :‬أنه ال تشرع قراءهتا يف املكتوبة ال سرا وال جهرًا‪ ،‬وهذا القول هو املشهور يف املذهب املالكي‪ ،‬إال أن‬
‫مالك قال بقراءة البسملة يف النفل وقيام الليل وملن يعرض القرآن عرًض ا‪ .‬ونقل القول بعدم مشروعية قراءهتا عن‬
‫األوزاعي هذا القول بين على أن البسملة ليست من القرآن‪ ،‬ال يف أول الفاحتة وال يف أوائل السور‪ ،‬وليست آية‬
‫مستقلة من القرآن‪ ،‬واستدل أصحاب هذا القول حبديث أن الرسول وخلفائه كانوا يستفتحون القراءة والصالة باحلمد‬
‫هلل رب العاملني‪ ،‬وحديث أيب هريرة ‪ :‬إن اهلل تعاىل يقول‪ :‬قسمت الصالة بيين وبني عبدي نصفني‪ ،‬نصفها يل ونصفها‬
‫لعبدي ولعبدي ما سأل‪ ،‬فإذا قال‪ :‬احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬قال اهلل‪ :‬محدين عبدي‪ ،‬وإذا قال‪ :‬الرمحن الرحيم‪ ،‬قال اهلل‪:‬‬
‫أثىن علي عبدي‪ ،‬وإذا قال‪ :‬مالك يوم الدين‪ ،‬قال اهلل عز وجل‪ :‬جمدين عبدي‪ ،‬ويف رواية فوض إيل عبدي‪ ،‬وإذا قال‪:‬‬
‫إياك نعبد وإياك نستعني‪ ،‬قال‪ :‬فهذه اآلية بيين وبني عبدي نصفني ولعبدي ما سأل‪ ،‬فإذا قال‪ :‬اهدنا الصراط‬
‫املستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غري املغضوب عليهم وال الضالني‪ ،‬قال‪ :‬فهؤالء لعبدي ولعبدي ما سأل»‪.‬‬

‫والراجح القول الثاين ‪.‬‬

‫ثالثا ‪ :‬الجهر بالبسملة في الصالة‬

‫اختلف أهل العلم يف حكم البسملة من حيث اجلهر هبا واإلسرار يف الصالة على أقوال‪:‬‬

‫القول األول ‪ :‬أنه يسن اجلهر هبا يف الصالة اجلهرية واإلسرار هبا يف الصالة السرية‪ .‬هذا القول روي عن عمر وعلي‬
‫وعبد اهلل بن الزبري وابن عباس وابن عمر وأيب هريرة ومعاوية بن أيب سفيان وشداد بن أوس وسعيد بن جبري وحممد بن‬
‫شهاب الزهري‪ ،‬وهو القول املشهور عن الشافعية ‪.‬‬

‫أما أدلتهم فهي نفسها أدلة القائلني بوجوب قراءة البسملة يف الصالة‪.‬‬

‫القول الثاين ‪ :‬أنه يسن اإلسرار بالبسملة يف الصالة مطلقا‪ ،‬وهو قول مجهور أهل العلم من احملدثني والفقهاء‪،‬‬
‫واستشهدوا بعدد من األدلة منها حديث أنس بن مالك عن النيب ﷺ وعن اخللفاء أيب بكر وعمر وعثمان‬
‫أهنم كانوا ال جيهرون بسم اهلل الرمحن الرحيم» صحيح مسلم‪ ،‬قال ابن تيمية‪ :‬أما حديث أنس يف نفي اجلهر فهو‬
‫حديث صريح ال حيتمل التأويل‪.‬‬
‫القول الثالث ‪ :‬التخيري بني اجلهر واإلسراء‪ ،‬وهذا القول يروى عن احلكم بن عتيبة وإسحاق بن راهويه وابن أيب ليلى‬
‫وابن حزم‪ ،‬اعتمد أصحاب هذا القول على اجلمع بني أدلة اجلهر وأدلة اإلسرار ‪.‬‬

‫والراجح ‪ :‬أن اجلهر واإلسرار بالبسملة قد وردا عن النيب‪ ،‬لكن اإلسرار هبا كان أكثر‪ ،‬ومن مث يرتجح الرأي الثاين ‪.‬‬

‫رابعا‪ :‬هل تجب قراءة الفاتحة في الصالة؟‬

‫اختلف الفقهاء يف حكم قراءة فاحتة الكتاب يف الصالة على مذهبني‪:‬‬

‫أ ‪ -‬مذهب اجلمهور (مالك والشافعي وأمحد أن قراءة الفاحتة شرط لصحة الصالة‪ ،‬فمن تركها مع القدرة عليها مل‬
‫تصح صالته‪.‬‬

‫ب ‪ -‬مذهب الثوري وأيب حنيفة أن الصالة جتزئ بدون فاحتة الكتاب مع اإلساءة وال تبطل صالته‪ ،‬بل‬

‫الواجب مطلق القراءة وأقله ثالث آيات قصار‪ ،‬أو آية طويلة‪.‬‬

‫استدل اجلمهور على وجوب قراءة الفاحتة مبا يلي‪:‬‬

‫أوًال‪ :‬حديث عبادة بن الصامت وهو قوله ﷺ ‪ :‬ال صالة ملن مل يقرأ بفاحتة الكتاب‪" .‬‬

‫ثانيًا‪ :‬حديث أيب هريرة أن رسول اهلل ﷺ ‪ :‬قال من صلى صالة مل يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج فهي‬
‫خداج‪ ،‬فهي خداج غري متام»‪ ،‬واألصل أَّن الَّص الة الناقصة ال ُتسمى صالة حقيقة‪.‬‬

‫ثالثًا‪ :‬حديث أيب سعيد اخلدري ‪« :‬أمرنا أن نقرأ بفاحتة الكتاب وما تيسر»‬

‫قالوا‪ :‬فهذه اآلثار كلها تدل على وجوب قراءة الفاحتة يف الصالة‪ ،‬فإن قوله ﷺ ‪ :‬ال صالة ملن مل يقرأ بفاحتة‬
‫الكتاب " يدل على نفي الصحة‪ ،‬وكذلك حديث أيب هريرة له فهي خداج قاهلا ثالثًا يدل على النقص والفساد‪،‬‬
‫فوجب أن تكون قراءة الفاحتة شرطًا لصحة الصالة ‪.‬‬

‫استدل الثوري وفقهاء احلنفية على صحة الصالة بغري قراءة الفاحتة بأدلة من الكتاب والسنة‪.‬‬

‫أما الكتاب‪ :‬فقوله تعاىل ‪َ ﴿ :‬فَأْقَرُءوا ما تيسر من القرآن) قالوا‪ :‬فهذا يدل على أن الواجب أن يقرأ أي شيء تيسر‬
‫من القرآن‪ ،‬ألن اآلية وردت يف القراءة يف الصالة بدليل قوله تعاىل ‪ِ ﴿ :‬إَّن َرَّبَك َيْع َلُم َأَّنَك َتُقوُم َأْد ىَن ِم ن ثلين الليل )‬
‫إىل قوله ( َفَأْقَرُءوا َم ا َتَيَّس َر ِم َن الُقرآِن ) ومل ختتلف األمة أن ذلك يف شأن الصالة يف الليل‪.‬‬
‫وذلك عموم عندنا يف صالة الليل وغريها من النوافل والفرائض لعموم اللفظ‪.‬‬

‫وأما السنة‪ :‬فما روي عن أيب هريرة اهلل أن رجًال دخل املسجد فصلى‪ ،‬مث جاء فسلم على النيب ﷺ فرد عليه‬
‫السالم وقال‪ :‬ارجع فصل فإنك مل تصل فصلى مث جاء فأمره بالرجوع‪ ،‬حىت فعل ذلك ثالث مرات‪ ،‬فقال والذي‬
‫بعثك باحلق ما أحسن غريه‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم‪ :‬إذا قمت إىل ا الصالة فأسبغ الوضوء‪ ،‬مث استقبل القبلة‬
‫فكرب‪ ،‬مث اقرأ ما تيسر معك من القرآن‪ ،‬مث اركع حىت تطمئن راكعًا‪ ،‬مث ارفع حىت تعتدل قائمًا‪ ،‬مث اسجد حىت تطمئن‬
‫ساجدًا‪ ،‬مث ارفع حىت تطمئن جالسًا‪ ،‬مث اسجد حىت تطمئن ساجدًا‪ ،‬مث ارفع حىت تستوي قائمًا‪ ،‬مث افعل ذلك يف‬
‫صالتك كلها"‪.‬‬

‫قالوا‪ :‬فحديث أيب هريرة يف تعليم الرجل صالته يدل على التخيري (اقرأ ما تيسر معك من القرآن) ويقوي ما ذهبنا‬
‫إليه‪ ،‬وما دلت عليه اآلية الكرمية من جواز قراءة أي شيء من القرآن‪.‬‬

‫وأما حديث عبادة بن الصامت‪ :‬فقد محلوه على نفي الكمال‪ ،‬ال على نفي احلقيقة‪ ،‬ومعناه عندهم (ال صالة كاملة‬
‫ملن مل يقرأ بفاحتة الكتاب ولذلك قالوا‪ :‬تصح الصالة مع الكراهية‪ ،‬وقالوا هذا احلديث يشبه قوله ﷺ ‪ :‬ال‬
‫صالة جلار املسجد إال يف املسجد‪" .‬‬

‫وأما حديث أيب هريرة فهي خداج‪ ،‬فهي خداج ‪ ...‬اخل فقالوا فيه ما يدل لنا ألن (اخلداج) الناقصة‪ ،‬وهذا يدل على‬
‫جوازها مع النقصان‪ ،‬ألهنا لو مل تكن جائزة ملا أطلق عليها اسم النقصان‪ ،‬ألن إثباهتا ناقصة ينفي بطالهنا‪ ،‬إذ ال جيوز‬
‫الوصف بالنقصان للشيء الباطل الذي مل يثبت منه شيء‪.‬‬

‫الراجح ‪ :‬ما ذهب إليه اجلمهور أقوى دليًال‪ ،‬وأقوى قيًال‪ ،‬فإن مواظبته على قراءهتا يف الفريضة والنفل ومواظبة‬
‫أصحابه الكرام عليها دليل على أنه ال جتزئ الصالة بدوهنا‪ ،‬وقد عضد ذلك األحاديث الصرحية الصحيحة‪ ،‬والنيب‬
‫عليه الصالة والسالم مهمته التوضيح والبيان‪ ،‬ملا أمجل من معاين القرآن‪ ،‬فيكفي حجة لفريضتها ووجوهبا قوله وفعله‬
‫ومما يؤيد رأي اجلمهور ما رواه مسلم عن أيب قتادة أنه قال ‪ :‬كان رسول اهلل ﷺ يصلي بنا فيقرأ يف الظهر‬
‫والعصر يف الركعتني األوليني بفاحتة الكتاب وسورتني‪ ،‬ويسمعنا اآلية أحيانًا‪ ،‬وكان يطول يف الركعة األوىل من الظهر‪،‬‬

‫ويقصر الثانية‪ ،‬وكذلك يف الصبح‪" .‬‬

‫ويف رواية ‪ :‬ويقرأ يف الركعتني األخريني بفاحتة الكتاب‪" .‬‬


‫قال الطربي‪ :‬يقرأ بأم القرآن يف كل ركعة‪ ،‬فإن مل يقرأ هبا مل جيزه إال مثلها من القرآن عدد آياهتا وحروفها‪ .‬قال‬
‫القرطيب‪ :‬والصحيح من هذه األقوال‪ ،‬قول الشافعي وأمحد ومالك يف القول اآلخر‪ ،‬وأن الفاحتة متعينة يف كل ركعة‬
‫لكل أحد على العموم لقوله ﷺ ‪ :‬ال صالة ملن مل يقرأ بفاحتة الكتاب "وقد روي عن عمر ‪ ،‬وعبد اهلل وأيب بن‬
‫كعب‪ ،‬وأيب أيوب األنصاري‪ ،‬وعبادة بن الصامت‪ ،‬وأيب سعيد اخلدري أهنم بن عباس‪ ،‬وأيب هريرة قالوا" ‪ :‬ال صالة‬
‫إال بفاحتة الكتاب ‪ .‬فهؤالء الصحابة القدوة‪ ،‬وفيهم األسوة‪ ،‬كلهم يوجبون الفاحتة يف كل ركعة‪.‬‬

‫خامسا ‪ :‬حكم قراءة الفاتحة للمأموم في الصالة الجهرية‬

‫الرأي األول ‪ :‬ال جتب قراءة الفاحتة على املأموم يف الصالة اجلهرية‪ ،‬وهذا مذهب احلنفية‪ ،‬واملالكية‪ ،‬واحلنابلة‪ ،‬والقدمي‬
‫عند الشافعية‪ ، ،‬وابن تيمية وهو قول أكثر العلماء‪.‬‬

‫األدلة‪:‬‬

‫‪ - 1‬من الكتاب‪ :‬قال تعاىل ‪) :‬وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترمحون )‬

‫وجه الداللة‪ :‬قال اإلمام أمحد ‪ :‬أمجع الناس على أن هذه اآلية يف الصالة‬

‫‪ - 2‬من السنة‪ :‬عن أيب موسى األشعري اهلل قال إن رسول اهلل ﷺ خطبنا فبني لنا سنتنا وعلمنا صالتنا‪،‬‬
‫فقال‪ :‬إذا صليتم فأقيموا صفوفكم‪ ،‬مث ليؤمكم أحدكم‪ ،‬فإذا كرب فكربوا‪ ،‬وإذا قرأ فأنصتوا » رواه مسلم ‪.‬‬

‫روى أبو داود والرتمذي وأمحد عن أيب هريرَة ‪َ " :‬أَّن َرُس وَل اِهلل ﷺ اْنَص َرَف ِم ْن َص اَل ٍة َجَه َر ِفيَه ا ِباْلِق َراَءِة َفَق اَل ‪:‬‬
‫ِه‬ ‫ِئ‬ ‫ِم‬ ‫ِع‬
‫(َه ْل َقَرَأ َم َي َأَح ٌد ْنُك ْم آ ًف ا ؟ ) ‪َ ،‬فَق اَل َرُج ٌل ‪َ :‬نَعْم ‪َ ،‬يا َرُس وَل الَّل ‪ ،‬ه ‪ ،‬قال ‪ِ( :‬إيِّن َأُقوُل َم ايِل َم ا َأَناَزُع‬
‫القرآن ؟ ) َقاَل ‪َ :‬فاْنَتَه ى الَّناُس َعِن اْل َراَء َمَع َرُس و ا ﷺ يَم ا َجَه َر ي الَّنُّيِب ﷺ اْل َراَء َن‬
‫ِب ِق ِة ِم‬ ‫ِف ِه‬ ‫ِف‬ ‫ِل ِهلل‬ ‫ِق ِة‬
‫الَّصَلَواِت ِح َني ِمَس ُعوا َذِلَك ِم ْن َرُس وِل الَّلِه ﷺ قال النيب ﷺ من كان له إمام فقراءة اإلمام له قراءة"‬
‫[أخرجه ابن ماجه]‪.‬‬

‫‪ -3‬من اآلثار ‪ :‬عن عطاء بن يسار‪ :‬أنه سأل زيد بن ثابت اهلل عن القراءة مع اإلمام؟ فقال‪ :‬ال قراءة مع اإلمام يف‬
‫شيء ‪.‬‬

‫‪ -4‬أن املأموم خماطب باالستماع إمجاعا‪ ،‬فال جيب عليه ما ينافيه؛ إذ ال قدرة له على اجلمع بينهما‪ ،‬فصار نظري‬
‫اخلطبة‪ ،‬فإنه ملا أمر باالستماع‪ ،‬ال جيب على كل واحد أن خيطب لنفسه‪ ،‬بل ال جيوز‪ ،‬فكذا هذا‪.‬‬
‫‪ - 5‬أنه لو كانت القراءة يف اجلهر واجبة أو مستحبة على املأموم للزم إما أن يقرأ مع اإلمام‪ ،‬وقراءته معه منهي عنها‬
‫بالكتاب والسنة‪ ،‬وإما أن يسكت اإلمام له حىت يقرأ‪ ،‬وهذا غري واجب بال نزاع بني العلماء‪ ،‬بل وال يستحب عند‬
‫مجاهري العلماء‪.‬‬

‫‪ -6‬أنه مل ينقل أن الصحابة كانوا يقرؤون خلف الرسول ﷺ يف سكنته األوىل أو الثانية‪ ،‬ولو كان مشروعا‬
‫لكانوا أحق الناس بعلمه وعمله‪ ،‬ولتوفرت اهلمم والدواعي على نقله‬

‫الرأي الثاين ‪ :‬ذهب الشافعية إىل وجوب قراءة املأموم للفاحتة يف الصالة اجلهرية والسرية‪.‬‬

‫دليلهم ‪ :‬قال النيب ﷺ ‪ :‬لعلكم تقرءون خلف إمامكم قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬ال تفعلوا إال بفاحتة الكتاب فإنه‬
‫الصالة ملن مل يقرأ هبا ‪ " .‬رواه أمحد وأبو داود وابن حبان ‪.‬‬

‫وهذا احلديث وإن حسنه العلماء إال أن البعض األخر ضعفه ‪.‬‬

‫وعن أيب هريرة اهلل أن النيب ﷺ قال‪َ( :‬مْن َص َّلى َص اَل ًة ْمَل َيْق َرُأ ِفيَه ا ِبَأِّم اْلُقْرآِن َفِه َي ِح َد اُج ‪َ ،‬فاَل ًنا‪َ ،‬غْيُر متام‪،‬‬
‫َفِق يَل َأِليِب ُه َرْيَرَة‪ِ :‬إَّنا َتُك وُن َوَراَء اِإْل َم اِم ؟ َفَق اَل ‪ -‬يعين أبو هريرة اهلل اقرأ هبا يف نفسك) رواه مسلم‪.‬‬

‫وجه الداللة ‪ :‬أنه جيب على املأموم أن يقرأ الفاحتة‪ ،‬وأهنا ال تسقط عنه إال إذا كان مسبوقًا وأدرك اإلمام راكعًا‪،‬‬
‫فحينئذ يتحملها اإلمام عنه‪.‬‬

‫الراجح ‪ :‬الرأي األول لقوة الدليل ‪.‬‬

‫سادسا‪ :‬حكم قراءة الفاتحة للمأموم في الصالة السرية‪.‬‬

‫جيب على املأموم قراءة الفاحتة يف الصالة السرية‪ ،‬وهذا مذهب الشافعية ‪ ،‬واختيار ابن العريب من املالكية ‪ ،‬و به قال‬
‫ابن حزم ‪ ،‬والصنعاين ‪ ،‬والشوكاين‬

‫األدلة‪:‬‬

‫أوال‪ :‬من السنة‬

‫عن عبادة بن الصامت له أن رسول اهلل ﷺ قال ‪ :‬ال صالة ملن مل يقرأ بفاحتة الكتاب‪.‬‬

‫وجه الداللة‪:‬‬
‫قوله ‪ :‬ال صالة « أنه نفى الصالة ملن مل يقرأ بفاحتة الكتاب عموما‪ ،‬ومل خيص منها حاال من أحوال املصلي ‪ ،‬ومن‪:‬‬
‫اسم موصول‪ ،‬واسم املوصول يفيد العموم‪ ،‬مبعىن‪ :‬أي إنسان مل يقرأ الفاحتة فال صالة له‪ ،‬سواء أكان مأموما‪ ،‬أم‬
‫إماما‪ ،‬أم منفردا ‪.‬‬

‫عن أيب هريرة اهلل قال ‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ من صلى صالة مل يقرأ فيها بفاحتة الكتاب‪ ،‬فهي خداج‪ .‬يقوهلا‬
‫ثالثا‪.‬‬

‫وجه الداللة‪:‬‬

‫قوله ﷺ فهي خداج مبعىن‪ :‬فاسدة غري صحيحة‬

‫ثانيا‪ :‬ألن أمر النيب ﷺ بقراءهتا عام يف كل صالة وحالة‪ ،‬وخص من ذلك حالة اجلهر بوجوب فرض‬
‫اإلنصات‪ ،‬وبقي العموم يف غري ذلك على ظاهره ‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬ألنه ال معىن لسكوت املأموم فيما ال جيهر فيه اإلمام‬

‫سابعا ‪ :‬الخطأ في قراءة الفاتحة‬

‫من ترك ترتيب قراءة الفاحتة‪ ،‬أو أبدل حرفا حبرف مع صحة لسانه‪ ،‬أو حلن حلنا خيل املعىن مل تصح قراءته وال صالته‪،‬‬
‫وهو مذهب الشافعية واحلنابلة‪ ،‬وقول للمالكية‪ ،‬وهو اختيار ابن باز‪ ،‬وابن عثيمني وذلك ألن من ترك حرفا من‬
‫الفاحتة وكذلك من ترك تشديدة فهي مبنزلة حرف؛ فإن احلرف املشدد قائم مقام حرفني مل يعتد هبا؛ ألنه مل يقرأها‪،‬‬
‫وإمنا قرأ بعضها‬

‫فرع أول‪ :‬إبدال الضاد يف قوله تعاىل ‪ :‬وال الضالني بالظاء‬

‫تصح صالة من أبدل الضاد يف اآلية بالظاء‪ ،‬وهو مذهب املالكية‪ ،‬وهو املشهور من مذهب احلنابلة‪ ،‬وقول أكثر‬
‫احلنفية‪ ،‬ووجه للشافعية‪ ،‬واختاره ابن تيمية‪ ،‬وابن كثري‪ ،‬وذلك لتقارب املخرجني‪ ،‬وصعوبة التفريق بينهما‬

‫فرع ثان‪ :‬تكرار الفاحتة لغري سبب‬

‫ال يشرع تكرار الفاحتة يف القيام الواحد من غري سبب‪ ،‬وهو مذهب اجلمهور‪ :‬احلنفية‪ ،‬واملالكية‪ ،‬واحلنابلة وذلك‬
‫لآليت‪:‬‬
‫أوال ‪ :‬أنه مل ينقل عن النيب ﷺ وال عن أصحابه‪ ،‬ولو كان هذا من اخلري لفعله النيب ﷺ وأصحابه‬

‫ثانيا ‪ :‬أن قراءة الفاحتة ركن يف الصالة‪ ،‬ويلزم من تكرارها تكرار الركن‬

‫ثالثا ‪ :‬خروجا من خالف من أبطل الصالة بتكرارها‬

‫ثامنا ‪ :‬العاجز عن قراءة الفاتحة‬

‫إذا مل يستطع األمي قراءة الفاحتة‪ ،‬فصالته صحيحة‪ ،‬إذا مل يقدر على تعلمها‪.‬‬

‫الدليل من اإلمجاع‪:‬‬

‫نقل اإلمجاع على ذلك ‪ :‬ابن تيمية‬

‫ما يفعل من عجز عن قراءة الفاحتة ‪:‬‬

‫من عجز عن قراءة الفاحتة فعليه قراءة سبع آيات من غريها إن أحسنها‪ ،‬فإن عجز أتى بأي ذكر‪ ،‬وهذا مذهب‬

‫الشافعية واحلنابلة‬

‫األدلة‪:‬‬

‫أوال‪ :‬من السنة‬

‫عن رفاعة بن رافع رضي اهلل عنه‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ إذا ا قمت إىل الصالة فتوضأ كما أمرك اهلل‪ ،‬مث قم‬
‫فاستقبل القبلة‪ ،‬مث كرب‪ ،‬فإن كان معك قرآن فاقرأه‪ ،‬وإن مل يكن معك قرآن‪ ،‬فامحد اهلل وهلله وكربه‪ ،‬فإذا ركعت فاركع‬
‫حىت تطمئن‪ ،‬مث ارفع رأسك فاعتدل قائما‪ ،‬مث اسجد فاعتدل ساجدا‪ ،‬مث ارفع رأسك فاعتدل قاعدا‪ ،‬حىت تقضي‬
‫صالتك‪ ،‬فإذا فعلت ذلك فقد متت صالتك‪ ،‬وإن انتقصت من ذلك شيئا فإمنا انتقصت من صالتك »‬

‫ثانيا ‪ :‬وألنه ركن من أركان الصالة‪ ،‬فجاز أن ينتقل فيه عند العجز إىل بدل؛ كالقيام‬

‫الموضوع الثاني ‪:‬‬

‫األحكام الفقهية املستنبطة من قول اهلل تعاىل ‪:‬‬


‫ِم‬ ‫ِإ‬ ‫ِح‬ ‫ِح‬
‫َوَيْس َأُلوَنَك َعِن اْلَم يِض ُقْل ُه َو َأًذى َفاْعَتِزُلوا الِّنَس اء يِف اْلَم يِض َواَل َتْق َرُبوُه َّن َح ىَّت َيْطُه ْرَن َف َذا َتَطَّه ْرَن َفْأُتوُه َّن ْن‬
‫َح ْيُث أَم َرُك ُم الَّلُه ِإَّن الَّلَه ِحُيُّب الَّتَّواِبَني َوِحُيُّب املتطهريَن (‪ ))222‬من سورة البقرة‪.‬‬

‫التحليل اللفظي ‪:‬‬

‫(احمليض) ‪ :‬مصدر ميمي مبعىن احليض‪ ،‬ويطلق احمليض على الزمان واملكان ويطلق على احليض جمازًا‪ .‬وأصل احليض‪:‬‬
‫السيالن‪ ،‬يقال‪ :‬حاض السيل وفاض‪ ،‬وحاضت الشجرة أي سالت‪ ،‬ومنه قيل للحوض حوض‪ ،‬ألن املاء حييض إليه‬
‫أي يسيل‪ .‬ويقال للمرأة‪ :‬حائض‪ ،‬وحائضة‬

‫(أذى) ‪ :‬قال عطاء أذى أي قدر ومستقذر‪ ،‬واألذى يف اللغة ما يكره من كل شيء ‪ ،‬وقيل‪ :‬ومسي احليض أذى لننت‬

‫رحيه وقدره وجناسته‪.‬‬

‫(فاعتزلوا) ‪ :‬االعتزال التنحي عن الشيء واالجتناب له‪ ،‬واملراد باعتزال النساء اجتناب جمامعتني‪ ،‬ال ترك اجملالسة أو‬
‫املالمسة فإن ذلك جائز‪.‬‬

‫(يظهرن) ‪ :‬بالتخفيف أي ينقطع عنهم دم احليض‪ ،‬وبالتشديد يطهرن مبعىن يغتسلن‪.‬‬

‫المعنى اإلجمالي‪:‬‬

‫يسألونك ‪ -‬يا حممد ‪ -‬عن إتيان النساء يف حالة احليض أحيل أم حيرم؟ قل هلم‪ :‬إن دم احليض دم مستقذر‪،‬‬
‫ومعاشرهتن يف هذه احلالة فيه أذى لكم وهلن‪ ،‬فاجتنبوا معاشرة النساء‪ ،‬ونكاحهن يف حالة احليض‪ ،‬وال تقربوهن حىت‬
‫ينقطع عنهن دم احليض ويطهرن‪ ،‬فإذا تطهرن باملاء فاغتسلن‪ ،‬فأتوهن من حيث أمركم اهلل يف املكان الذي أحله لكم‬
‫وهو (القبل مكان النسل والولد‪ ،‬وال تأتوهن يف املكان احملرم (الدبر) فإن اهلل حيب عبده النائب املتنزه عن الفواحش‬
‫واألقذار‪.‬‬

‫سبب النزول‪:‬‬
‫أوًال‪ :‬عن أنس له قال‪ « :‬كانت اليهود إذا حاضت امرأة منهن مل يؤاكلوها ومل يشاربوها ومل جيامعوها يف البيوت‪،‬‬
‫فسئل النيب عن ذلك فأنزل اهلل َوَيْس َأُلوَنَك َعِن احمليض ُقْل ُه َو أذى فاعتزلوا النساء يف احمليض فأمرهم النيب ﷺ‬
‫أن يؤاكلوهن ويشار بوهن وأن يكونوا معهن يف البيوت‪ ،‬وأن يفعلوا كل شيء إال النكاح‪ ،‬فقالت اليهود‪ :‬ما يريد‬
‫حممد أن يدع من أمرنا شيئًا إال خالفنا فيه »‬

‫لطائف التفسير‬

‫اللطيفة األوىل‪ :‬كان اليهود يبالغون يف التباعد عن املرأة حالة احليض‪ ،‬فال يؤاكلوهنا وال يشاربوهنا وال يساكنوهنا يف‬
‫بيت واحد‪ ،‬ويعتربوهنا كأهنا داء أو رجس وقذر‪ ،‬وكان النصارى يفرطون يف التساهل فيجامعوهنن وال يبالون باحليض‪،‬‬
‫فجاء اإلسالم باحلد الوسط افعلوا كل شيء إال النكاح) وهذا من حماسن الشريعة اإلسالمية الغراء حيث أمر املسلمني‬
‫باالقتصاد بني األمرين‪.‬‬

‫اللطيفة الثانية‪ :‬لفظ (احمليض) قد يكون امسًا للحيض نفسه‪ ،‬وقد يكون امسًا ملوضع احليض كاملبيت واملقيل موضع‬
‫البيتوتة وموضع القيلولة‪ ،‬ولكن يف اآلية الكرمية ما يشري إىل أن املراد باحمليض هو (احليض) ألن اجلواب ورد بقوله‬
‫تعاىل‪( :‬قل هو أذى) وذلك صفة لنفس احليض ال للموضع الذي فيه‪ .‬أفاده العالمة اجلصاص‪.‬‬

‫اللطيفة الثالثة‪ :‬قال ابن العريب‪ :‬مسعت الشاشي يف جملس النظر يقول‪ :‬إذا قيل‪ :‬ال تقرب (بفتح الراء كان معناه‪ :‬ال‬
‫تلبس بالفعل‪ ،‬وإن كان بضم الراء كان معناه‪ :‬ال تدن منه فلما قال تعاىل‪﴿ :‬وال تقربوُه َّن حىت يظهرن) دل على أن‬
‫املراد النيب عن مالبسة الفعل وهو إتياهنن يف حالة احليض‪.‬‬

‫األحكام الشرعية ‪:‬‬

‫الحكم األول‪ :‬ما الذي يجب اعتزاله من المرأة حالة الحيض؟‬

‫اختلف أهل العلم فيما جيب اعتزاله من املرأة يف حالة احليض على أقوال‪:‬‬

‫الذي جيب اعتزاله ما بني السرة إىل الركبة‪ ،‬وهذا مذهب أيب حنيفة ومالك‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫الذي جيب اعتزاله موضع األذى وهو الفرج فقط‪ ،‬وهذا مذهب الشافعي‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫حجة املذهب األول‪ :‬واحتج أ أبو حنيفة ومالك مبا روي عن عائشة قالت‪« :‬كنت أغتسل أغتسل أنا والنيب‬
‫ﷺ من إناء واحد كالنا جنب‪ ،‬وكان يأمرين فأتزر فيباشرين وأنا حائض وما روي عن عن ميمونة أهنا قالت‪« :‬‬
‫كان رسول اهلل ﷺ بيباشر نساءه فوق اإلزار وهن حيض»‬

‫ج ‪ -‬حجة املذهب الثاين‪ :‬واحتج اإلمام الشافعي بقوله ﷺ اصنعوا كل شيء إال النكاح وما روي عن‬
‫مسروق قال‪( :‬سألت عائشة ما حيل للرجل من امرأته إذا كانت حائضًا؟ قالت‪ :‬كل شيء إال اجلماع ) ‪.‬‬

‫ويف رواية أخرى‪( :‬إن مسروقًا ركب إىل عائشة فقال‪ :‬السالم على النيب وعلى أهل بيته‪ ،‬فقالت عائشة‪ :‬أبو عائشة‬
‫مرحبًا فأذنوا له‪ ،‬فقال‪ :‬إين أريد أن أسألك عن شيء وأنا استحي‪ ،‬فقالت‪ :‬إمنا أنا أمك وأنت ابين‪ ،‬فقال‪ :‬ما للرجل‬
‫من امرأته وهي حائض؟ قالت‪ :‬له كل شيء إال فرجها ‪.‬‬

‫الرتجيح‪ :‬ومن استعراض األدلة يرتجح لدينا املذهب األول‪ ،‬وهو الذي اختاره ابن جرير الطربي حيث قال‪« :‬وأوىل‬
‫األقوال يف ذلك بالصواب قول من قال‪ :‬إن للرجل من امرأته احلائض ما فوق املؤتزر ودونه ‪ .‬والعلة أن السماح‬
‫باملباشرة فيما بني السرة إىل الركبة قد تؤدي إىل احملظور‪ ،‬ألن من حام حول احلمى يوشك أن يقع فيه‪ ،‬فاالحتياط أن‬
‫تبعده عن منطقة احلظر وقد قالت عائشة رضي اهلل عنها بعد أن روت حديث املباشرة وأيكم ميلك إربه كما كان‬
‫رسول اهلل ﷺ ميلك إربه ؟ ومن جهة أخرى إذا اجتمع حديثان أحدمها فيه اإلباحة والثاين فيه احلظر‪ ،‬قدم ما‬
‫فيه احلظر‪ ،‬كما قال علماء األصول ‪.‬‬

‫الحكم الثاني‪ :‬ما هي كفارة من أتى امرأة وهي حائض؟‬

‫أمجع العلماء على حرمة إتيان املرأة يف حالة احليض‪ ،‬واختلفوا فيمن فعل ذلك ماذا جيب عليه؟‬

‫فقال اجلمهور‪( :‬مالك والشافعي وأبو حنيفة ‪ :‬يستغفر اهلل وال شيء عليه سوى التوبة واالستغفار‪.‬‬

‫وقال أمحد‪ :‬يتصدق بدينار أو نصف دينار‪ ،‬احلديث ابن عباس عن النيب ﷺ يف الذي يأيت امرأته وهي حائض‬
‫قال‪ :‬يتصدق بدينار أو بنصف دينار» ‪ ،‬وقال بعض أهل احلديث‪ :‬إن وطئ يف الدم فعليه دينار‪ ،‬وإن وطئ يف‬
‫انقطاعه فنصف دينار‪ .‬قال القرطيب‪ « :‬حديث ابن عباس ال تقوم به حجة‪ ،‬وأن الذمة على الرباءة» ‪.‬‬
‫الحكم الثالث‪ :‬ما هي مدة الحيض‪ ،‬وما هو أقله وأكثره؟‬

‫اختلف الفقهاء يف مدة احليض‪ ،‬ومقدار أقله وأكثره على أقوال‪:‬‬

‫ذهب األحناف إىل أن أقل احليض ثالثة أيام‪ ،‬مبعىن ‪ :‬أن املرأة إذا نزل منها دفعة واحدة من الدم فال يعترب عند‬
‫األحناف حيضًا‪ ،‬فال بد أنه يستمر معها ثالثة أيام‪ ،‬وأكثر أيام احليض عشرة أيام‪ ،‬فلو زاد على عشرة أيام فهو دم‬
‫استحاضة‪ .‬املالكية فقالوا ‪ :‬ال حد ألقله وال ألكثره‪ ،‬فلو أن الرحم دفع دفعة واحدة من الدم‪ ،‬أو حلظة واحدة‪ ،‬فهذا‬
‫الدم دم حيض عند املالكية‪ ،‬ألنه ال حد ألقله وال ألكثره‪.‬‬

‫احلنابلة والشافعية ‪ -‬فقالوا‪ :‬أقل احليض يوم وليلة؛ ألن احلائض عندهم ال بد أن يستمر معها الدم يومًا كامًال‪ ،‬وأكثر‬
‫احليض مخسة عشر يومًا‪.‬‬

‫والراجح ‪ :‬أنه ال حد ألقل مدة احليض وأكثره مخسة عشر يوما ‪ .‬وزاد الدم عن مخسة عشر يومًا فهو دم استحاضة‬

‫الحكم الرابع‪ :‬متى يحل قربان المرأة؟‬

‫دل قوله تعاىل‪َ :‬وال َتْق َرُبوُه َّن حىت َيْطُه ْرَن على أنه ال حيل للرجل قربان املرأة يف حالة احليض حىت تطهر‪ ،‬وقد اختلف‬
‫الفقهاء يف الطهر ما هو ؟‬

‫أ ‪ -‬فذهب أبو حنيفة إىل أن املراد بالطهر انقطاع الدم‪ ،‬فإذا انقطع دم احليض جاز للرجل أن يطأها قبل الغسل‪ ،‬إال‬
‫أنه إذا انقطع دمها ألكثر احليض وهو (عشرة أيام) جاز وطؤها قبل الغسل‪ ،‬وإن كان انقطاعه قبل العشرة مل جيز حىت‬
‫تغتسل أو يدخل عليها وقت صالة‬

‫ب ‪ -‬وذهب اجلمهور ( مالك والشافعي وأمحد إىل أن الطهر الذي حيل به اجلماع‪ ،‬هو تطهرها باملاء كطهور اجلنب‪،‬‬
‫وأهنا ال حتل حىت ينقطع احليض وتغتسل باملاء‪.‬‬

‫ج ‪ -‬وذهب طاووس وجماهد إىل أنه يكفي يف حلها أن تغسل فرجها وتتوضأ للصالة‪.‬‬

‫وسبب اخلالف أن اهلل تعاىل قال‪َ﴿ :‬وال َتْق َرُبوُه َّن حىت َيْطُه ْرَن َفِإَذا َتَطَّه ْرَن َفْأُتوُه َّن ِم ْن َح ْيُث َأَم َرُك ُم اهلل األوىل‬

‫بالتخفيف‪ ،‬والثانية بالتشديد‪ ،‬وكلمة ( طهر) يستعمل فيما ال كسب فيه لإلنسان وهو انقطاع دم احليض‪ ،‬وأما‬
‫(تطهر) فيستعمل فيما يكتسبه اإلنسان بفعله وهو االغتسال باملاء‪.‬‬
‫فحمل أبو حنيفة‪( :‬حىت يطهرن على انقطاع دم احليض‪ ،‬وقوله‪:‬‬

‫(َفِإَذا َتَطَّه ْرَن ) على معىن فإذا انقطع دم احليض‪ ،‬فاستعمل املشّد د مبعىن املخفف‪.‬‬

‫وقال اجلمهور معىن اآلية‪ :‬وال تقربوهن حىت يغتسلن‪ ،‬فإذا اغتسلن فأتوهن فاستعملوا املخفف مبعىن املشدد‪ ،‬واستدلوا‬
‫بقراءة محزة والكسائي ( حىت يطهرن) بالتشديد يف املوضعني‪.‬‬

‫وقالوا‪ :‬مما يدل على صحة قولنا أن اهلل عز وجل علق احلكم فيها على شرطني‪:‬‬

‫أحدمها‪ :‬انقطاع الدم وهو قوله تعاىل‪( :‬حىت يطهرن) أي ينقطع عنهن الدم‪.‬‬
‫الموضوع الثالث‬

‫األحكام الفقهية املستنبطة من آية الوضوء ‪:‬‬

‫(يا أيها اَّلِذ يَن آَم ُنوا إذا ُقْم ُتْم ِإىَل الَّصاَل ِة َفاْغ ِس ُلوا ُوُج وَه ُك ْم وَأْيِد يُك ْم ِإىَل اْلَمَراِفِق وامسحوا بروسكم وأرجلكم إىل‬
‫ِئِط‬ ‫ِم ِم‬ ‫ِإ‬ ‫ِإ‬
‫الكعبني َو ن ُك نُتم جنًبا َفاَّطَّه ُروا َو ن ُك نُتم َمْرَض ى َأْو َعَلى َس َف ٍر َأْو َج اَء َأَح ٌد ْنُك ْم َن اْلَغا َأْو ال مستم الِّنَس اَء َفَلْم‬
‫ِجَت ُد وا َم اًء فتيمموا صعيدا طيبا َفاْم َس ُح وا ِبُوُج وِه ُك ْم َوَأْيِد يُك ْم ِم ْنُه َم ا ُيِريُد اُهلل ِلَيْجَعَل َعَلْيُك ْم ِم ْن َح َرٍج َو َلِكْن ُيِريُد‬
‫ِلُيظِه َرُك ْم وليتم نعمته بعد عليكم لعلكم تْش ُك ُروَن (‪ ))6‬من سورة املائدة‪.‬‬

‫التحليل اللفظي‬

‫(إذا قمتم) ‪ :‬املعىن إذا أردمت القيام إىل الصالة كقوله فإذا قرأت القرآن فاستعذ باهلل ) [النحل‪ . ]98 :‬فليس املراد‬
‫القيام فعًال وإمنا املراد إرادة الفعل‪ ،‬كما تقول‪ :‬إذا ضربت فاتق الوجه أي إذا أردت الضرب‪.‬‬

‫(فاغسلوا) ‪ :‬الغسل بالفتح إسالة املاء على الشيء إلزالة ما عليه من وسخ وغريه‪.‬‬

‫(وجوهكم) ‪ :‬لفظ الوجه مأخوذ من املواجهة‪ ،‬وحده من أعلى اجلبهة إىل أسفل الذقن طوًال‪ ،‬ومن شحمة األذن إىل‬
‫شحمة األذن عرضًا‪.‬‬

‫(إىل الكعبني) ‪ :‬الكعبان العظمان الناتتان من جانيب القدم‪ ،‬ومسي كعبًا لعلوه وارتفاعه‪.‬‬

‫(من حرج) ‪ :‬أي من ضيق يف الدين‪ ،‬فقد وسع اهلل على املؤمنني حني رخص هلم يف التيمم‪.‬‬

‫المعنى اإلجمالي‬

‫بني اهلل تعاىل أحكام الوضوء والتيمم فقال‪ :‬إذا أردمت أيها املؤمنون القيام إىل الصالة‪ ،‬وأنتم حمدثون‪ ،‬فاغسلوا باملاء‬
‫الطاهر وجوهكم وأيديكم إىل املرافق‪ ،‬وامسحوا رؤوسكم‪ ،‬واغسلوا أقدامكم إىل الكعبني‪ ،‬وإذا كنتم حمدثني حدثًا‬
‫أكرب فاغتسلوا باملاء‪ ،‬وإن كنتم يف حالة املرض أو السفر أو حمدثني حدثًا أصغر‪ ،‬أو غشيتم النساء ومل جتدوا ماء‬
‫تتوضؤون به أو تغتسلون‪ ،‬فتيمموا بالرتاب الطاهر‪ ،‬فامسحوا وجوهكم وأيديكم إىل املرافق بذلك الرتاب‪ ،‬ما يريد اهلل‬
‫أن يضيق علي يكم يف أحكام الدين‪ ،‬ولكنه تعاىل يريد أن يظهركم من الذنوب واآلثام‪ ،‬ومن األقذار والنجاسات‪ ،‬ويتم‬
‫نعمته عليكم ببيان شرائع اإلسالم لتشكروه على نعمه‪ ،‬وحتمدوه على آالئه‪.‬‬
‫وجوه القراءات‬

‫‪ - 1‬قرأ اجلمهور (وأْرُج َلُك ْم إىل الكعبني) بفتح الالم‪ ،‬وقرأ محزة وأبو عمرو ( وأرُج ِلُك ْم ) بالكسر‪ ،‬فقراءة النصب‬
‫بالعطف على الوجوه واأليدي أي فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم‪ ،‬وقراءة اجلر للمجاورة‪ ،‬قال ابن األنباري‪ :‬ملا‬
‫تأخرت األرجل بعد الرؤوس نسقت عليها للقرب واجلوار‪.‬‬

‫اللطيفة ‪ :‬جميء املسح يف آية الوضوء ضمن األعضاء املفروض غسلها‪ .‬فيه إشارة لطيفة إىل أنه ينبغي مراعاة الرتتيب‬
‫يف الوضوء‪ ،‬فيغسل الوجه أوًال‪ ،‬مث اليدين إىل املرفقني ثانيًا‪ ،‬مث ميسح الرأس‪ ،‬مث يغسل القدمني‪ ،‬وهذا الرتتيب ‪ -‬وإن‬
‫مل يكن واجبًا يف بعض األقوال ‪ -‬إال أنه على كل حال مطلوب ومندوب‪ ،‬فيكون اتباع اهلدي النبوي أكمل وأوىل‪.‬‬

‫األحكام الشرعية ‪:‬‬

‫الحكم األول‪ :‬ظاهر قوله تعاىل‪( :‬إذا قمتم إىل الصالة يوجب الوضوء على كل قائم وإن مل يكن حمدثًا‪ ،‬وقد أمجع‬
‫العلماء على أن الوضوء ال جيب إال على احملدث‪ ،‬فيكون قيد احلدث مضمرًا يف اآلية ويصبح املعىن إذا قمتم إىل‬
‫الصالة وأنتم حمدثون) وإمنا أولوا اآلية هبذا التأويل لإلمجاع على أن الوجوب ال جيب إال على احملدث‪ ،‬وألن يف اآلية‬
‫ما يدل عليه‪ ،‬فإن التيمم يدل عن الوضوء وقائم مقامه‪ ،‬وقد قيد وجوب التيمم يف اآلية بوجود احلدث‪ ،‬فاألصل‬
‫جيب أن يكون مقيدًا به‪ ،‬ليتأتى أن يكون البدل قائمًا مقام األصل وألن األمر بالوضوء نظري األمر باالغتسال وهو‬
‫مقيد باحلدث األكرب يف قوله تعاىل‪( :‬وإن كنتم جنبا فاطهروا فيكون نظريه وهواألمر بالوضوء مقيدًا باحلدث األصغر‪.‬‬

‫ومما يدل على ذلك أن النيب ﷺ يوم الفتح الصلوات اخلمس بوضوء واحد‪ ،‬فقال عمر بن اخلطاب يا رسول‬
‫اهلل صنعت شيئًا مل تكن تصنعه ؟ فقال له عمدًا فعلته يا عمر يعين أنه أراد بيان اجلواز ألمته هبذا العمل‪.‬‬

‫وأما ما ورد من أنه وخلفاءه كانوا يتوضؤون لكل صالة‪ ،‬فإن ذلك مل يكن بطريق الوجوب‪ ،‬وإمنا كان بطريق‬
‫االستحباب‪ ،‬والرسول ﷺ كان دائمًا حيب األفضل‪ ،‬فليس يف فعله ما يدل على وجوب الوضوء لكل صالة‪.‬‬
‫الحكم الثاني‪ :‬ما هو حكم مسح الرأس وما مقداره؟‬

‫اتفق الفقهاء على أن مسح الرأس من فرائض الوضوء لقوله تعاىل‪ :‬وامسحوا برؤوِس ُك ْم ) ولكنهم اختلفوا يف مقدار‬
‫املسح على أقوال‪:‬‬

‫أ ‪ -‬قال املالكية واحلنابلة‪ :‬جيب مسح مجيع الرأس أخذًا باالحتياط‪.‬‬

‫ب‪ -‬وقال احلنفية‪ :‬يفرتض مسح ربع الرأس أخذًا بفعل النيب ﷺ مبسحه على الناصية‪.‬‬

‫ح‪-‬وقال الشافعية‪ :‬يكفي أن ميسح أقل شيء يطلق عليه اسم املسح ولو شعرات أخذًا باليقني‪.‬‬

‫دليل املالكية واحلنابلة استدل املالكية واحلنابلة على وجوب مسح مجيع الرأس بأن الباء كما تكون أصلية تكون زائدة‬
‫للتأكيد‪ ،‬واعتبارها هنا زائدة أوىل‪ ،‬واملعىن‪ :‬امسحوا رؤوسكم‪ ،‬وقالوا‪ :‬إن آية الوضوء تشبه آية التيمم‪ ،‬وقد أمر اهلل‬
‫تعاىل مبسح مجيع الوجه يف التيمم فامسحوا ِبُوُج وِه ُك ْم َوَأْيِد يُك ْم ِم ْنُه وملا كان املسح يف التيمم عامًا جلميع الوجه‪،‬‬
‫فكذلك هنا جيب مسح مجيع الرأس وال جيزئ مسح البعض‪ ،‬وقد تأكد ذلك بفعل النيب ﷺ حيث ثبت أنه‬
‫كان إذا توضأ مسح رأسه كله‪.‬‬

‫دليل احلنفية والشافعية واستدل احلنفية والشافعية بأن الباء (للتبعيض وليست زائدة‪ ،‬واملعىن‪ :‬امسحوا بعض رؤوسكم‪،‬‬
‫إال أن احلنفية قدروه بربع الرأس ملا روى عن املغرية بن شعبة أن النيب ﷺ كان يف سفر‪ ،‬فنزل حلاجته مث جاء‬
‫فتوضأ ومسح على ناصيته‪ .‬وأما الشافعية فقالوا‪ :‬الباء للتبعيض‪ ،‬وأقل ما يطلق عليه اسم املسح داخل بيقني‪ ،‬وما‬
‫عداه ال يقني فيه فال يكون فرضًا‪ ،‬وإمنا حيمل على الندب‪.‬‬

‫قال الشافعي‪ :‬احتمل قوله تعاىل‪ :‬وامسحوا برؤوسكم بعض الرأس‪ ،‬ومسح مجيعه‪ ،‬فدلت السنة على أن مسح بعضه‬
‫جيزئ‪ ،‬وهو أن النيب ﷺ مسح بناصيته‪ ،‬وقال يف موضع آخر‪ :‬فإن قيل قد قال اهلل َعَّز َوَج َّل فامسحوا‬
‫ِبُوُج وِه ُك ْم ) يف التيمم أجيزئ بعض الوجه فيه؟ قيل له مسح الوجه يف التيمم بدل من غسله‪ ،‬فال بد أن يأيت باملسح‬
‫على مجيع موضع الغسل منه‪ ،‬ومسح الرأس أصل فهذا فرق ما بينهما» ‪.‬‬

‫قال القرطيب‪« :‬أجاب علماؤنا عن احلديث بأن قالوا‪ :‬لعل النيب ﷺ فعل ذلك لعذر ال سيما وكان هذا الفعل‬
‫منه يف السفر وهو مظنة اإلعذار‪ ،‬وموضع االستعجال واالختصار‪ ،‬مث هو مل يكتف بالناصية حىت مسح على‬
‫العمامة‪ ،‬فلو مل يكن مسح مجيع الرأس واجبًا ملا مسح على العمامة» ‪.‬‬
‫الرتجيح ‪ :‬ذهب أكثر علماء اللغة كسيبويه وابن هشام والزخمشري أن الباء لإللصاق‪ ،‬املراد إلصاق املسح بالرأس"‪.‬‬
‫فيكون ما ذهب إليه املالكية واحلنابلة أرجح ‪.‬‬

‫الحكم الثالث‪ :‬ما هي الجنابة وماذا يحرم بها؟‬

‫اجلنابة معىن شرعي يستلزم اجتناب الصالة‪ ،‬وقراءة القرآن‪ ،‬ومس املصحف‪ ،‬ودخول املسجد إىل أن يغتسل اجلنب‬
‫لقوله تعاىل‪ :‬وإن كنتم جنبًا فاطهروا ‪ ،‬وقد بني النيب ﷺ احلصول اجلنابة سببني‪:‬‬

‫األول‪ :‬نزول املين للحديث الشريف املاء من املاء» أي جيب االغتسال باملاء من أجل املاء أي املين‪.‬‬

‫والثاين‪ :‬التقاء اخلتانني لقوله ‪ :‬إذا التقى اخلتانان وجب الغسل» ‪.‬‬

‫وكما جيب الغسل للجنابة جيب عند انقطاع احليض والنفاس لقوله تعاىل يف احليض‪ :‬وال تقربوهن حىت يطهرن)‬
‫[البقرة‪ ]222 :‬واحلديث فاطمة بنت أيب حبيش أنه قال هلا‪« :‬إذا أقبلت احليضة فدعي الصالة‪ ،‬وإذا أدبرت‬
‫فاغتسلي وصلي واإلمجاع على أن النفاس كاحليض‪.‬‬

‫الحكم الرابع‪ :‬حكم المريض والمسافر إذا وجد الماء‪.‬‬

‫ظاهر اآلية الكرمية يدل على جواز التيمم للمريض مطلقًا‪ ،‬ولكنه مقيد مبن يضره املاء كما روي عن ابن عباس ومجاعة‬
‫من التابعني من أن املراد باملريض الذي يضره املاء‪ ،‬ولذلك رأى الفقهاء أن املرض أنواع‪:‬‬

‫األول‪ :‬ما يؤدي استعمال املاء فيه إىل التلف يف النفس أو العضو‪ ،‬بغلبة الظن أو بإخبار الطبيب املسلم احلاذق‪ ،‬ويف‬
‫هذه احلالة جيوز التيمم باتفاق‪.‬‬

‫والثاين‪ :‬ما يؤدي استعمال املاء إىل زيادة العلة أو بطء املرض‪ ،‬ويف هذه احلالة جيوز التيمم عند املالكية واحلنفية وهو‬
‫أصح قويل الشافعية احلديث اجلماعة الذين خرجوا يف السفر فأصاب أحدهم حجر يف رأسه فشجه مث احتلم فخاف‬
‫من زيادة العلة إخل‪.‬‬

‫الثالث‪ :‬ما ال خياف معه تلفًا وال بطأ وال زيادة يف العلة‪ ،‬ويف هذه احلالة ال جيوز التيمم عند احلنفية والشافعية‪ ،‬ألنه مل‬
‫خيرج عن كونه قادرًا عن استعمال املاء‪ ،‬فال يرخص له يف التيمم‪ ،‬وعند املالكية جيوز له التيمم إلطالق النص (وإن‬
‫كنتم مرضى) ‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬أن يكون املرض حاصًال لبعض األعضاء‪ ،‬فإن كان األكثر صحيحًا وجب غسل الصحيح ومسح اجلريح وال‬
‫جيوز التيمم‪ ،‬وإن كان األكثر جرحيًا جيوز التيمم عند احلنفية‪ ،‬ومذهب الشافعية أنه يغسل الصحيح مث يتيمم مطلقًا‪،‬‬
‫وعند املالكية جيوز له التيمم مطلقًا‪.‬‬

‫ومن ذلك يتبني أن املريض يرخص له يف التيمم ولو كان املاء موجودًا خبالف املسافر فإن الرخصة له مقيدة بعدم‬
‫املاء‪.‬‬

‫الحكم الخامس ‪ :‬ما المراد بالمالمسة في اآلية الكريمة؟‬

‫اختلف العلماء يف املراد من املالمسة يف قوله تعاىل‪﴿ :‬أو ال مستم النساء)‬

‫فذهب علي‪ ،‬وابن عباس واحلسن إىل أن املراد به اجلماع‪ ،‬وهو مذهب احلنفية‪.‬‬

‫وذهب ابن مسعود‪ ،‬وابن عمر‪ ،‬والشعيب إىل أن املراد به اللمس باليد‪ ،‬وهو مذهب الشافعية‪.‬‬

‫قال ابن جرير الطربي‪« :‬وأوىل القولني يف ذلك بالصواب قول من قال‪ :‬عىن اهلل بقوله‪( :‬أو ال مستم النساء اجلماع‬
‫دون غريه من معاين اللمس‪ ،‬لصحة اخلرب عن رسول اهلل ﷺ أنه قبل بعض نسائه مث صلى ومل يتوضأ‪ ،‬مث روى»‬
‫عن عائشة قالت‪« :‬كان رسول اهلل يتوضأ مث يقبل‪ ،‬مث يصلي» ‪ ،‬وعن عائشة أن رسول اهلل ﷺ قبل بعض‬
‫نسائه مث خرج إىل الصالة ومل يتوضأ‪ ،‬قال عروة‪ :‬قلت‪ :‬من هي إال أنت؟ فضحكت »‬

‫وقد اختلف الفقهاء يف مس املرأة هل هو ناقض للوضوء أم ال؟ على أقوال‪.‬‬

‫أ ‪ -‬فذهب أبو حنيفة إىل أن مس املرأة غري ناقض للوضوء سواء كان بشهوة أم بغري شهوة‪.‬‬

‫ب ‪ -‬وذهب الشافعي إىل أن مس املرأة ناقض للوضوء بشهوة أم بغري شهوة‪.‬‬

‫ج ‪ -‬وذهب مالك وأمحد إىل أن املس إن كان بشهوة انتقض الوضوء‪ ،‬وإن كان بغري شهوة مل ينتقض‪.‬‬

‫قال اإلمام ابن رشد يف بداية اجملتهد» ‪« :‬وسبب اختالفهم يف هذه املسألة اشرتاك اسم اللمس يف كالم العرب‪ ،‬فإن‬
‫العرب تطلقه مرة على اللمس الذي هو بالليد‪ ،‬ومرة تكين به عن اجلماع‪ ،‬فذهب قوم إىل أن اللمس املوجب للطهارة‬
‫هو اجلماع يف قوله أو ال مستم النساء وذهب آخرون إىل أنه اللمس باليد‪ ،‬وقد احتج من أوجب الوضوء من اللمس‬
‫باليد بأن اللمس ينطلق حقيقة على اللمس باليد‪ ،‬وينطلق جمازًا على اجلماع‪ ،‬وإذا تردد اللفظ بني احلقيقة واجملاز‪،‬‬
‫فاألوىل أن حيمل على احلقيقة حىت يدل الدليل على اجملاز‪ .‬وقال اآلخرون‪ :‬إن اجملاز إذا كثر استعماله كان أدل على‬
‫اجملاز منه على احلقيقة‪ ،‬كاحلال يف اسم الغائط «الذي هو أدل على احلدث الذي هو جماز منه على املطمئن من‬
‫األرض الذي هو فيه حقيقة‪.‬‬

‫مث قال‪( :‬والذي أعتقده أن اللمس وإن كانت داللته على املعنيني إال أنه أظهر عندي يف اجلماع‪ ،‬وإن كان جمازًا ألن‬
‫اهلل تعاىل قد كىن باملباشرة واملس عن اجلماع ومها يف معىن اللمس) ‪.‬‬

‫الرتجيح‪ :‬ولعل هذا الرأي يكون أرجح‪ ،‬ألن به ميكن التوفيق بني اآلية الكرمية واآلثار السابقة‪ ،‬وألنه قد تعورف عند‬
‫إضافة املس إىل النساء معىن اجلماع‪ ،‬حىت كاد يكون ظاهرًا فيه‪ ،‬كما أن الوطء حقيقته املشي بالقدم‪ ،‬فإذا أضيف إىل‬
‫النساء مل يفهم منه غري اجلماع ‪.‬‬

‫الحكم الخامس ‪ :‬المراد بالصعيد الطيب‪.‬‬

‫اختلف أهل العلم يف املقصود بالصعيد ‪ ،‬هل هو الرتاب خاصة‪ ،‬أم هو وجه األرض‪ ،‬وإن كان رمال وحنوه‪ ،‬مما ليس‬
‫برتاب؟ فمنهم من قال ‪ :‬بأنه الرتاب فقط ‪ ،‬ومنهم قال هو كل ما و ما صعد على وجه األرض من تراب وحجر‬
‫ورمل وصخر‪.‬‬
‫َأ و ِنيَفَة اَأْل َزاِعُّي الَّث ِرُّي اْب ِريٍر الَّطِرَبُّي ‪ :‬الَّص ِعيُد ُك ُّل ا ِعَد َعَلى ْج ِه اَأْل ِض ِم اِب‬
‫ْر ْن ُتَر‬ ‫َو‬ ‫َم َص‬ ‫َو ُب َح َو ْو َو ْو َو ُن َج‬ ‫َفَق اَل َم اِلٌك‬
‫َوْحَص ا ونورة وزرنيخ وجص ورخام‪......‬‬ ‫َوَحَج ٍر َوَرَم ٍل‬
‫ِع‬ ‫ِذ‬
‫وذَه َب الشافعي وأبو يوسف وأَمْحُد َواْبُن اْلُم ْن ِر َو َد اُود الظاهري وشيخ اإلسالم ابن تيمية‪ِ :‬إىَل َأَّن الَّص يَد ُه َو الَّتَراُب‬
‫َفَق ط ‪ُ ،‬دوَن َس اِئِر َأْجَزاء اَأْلْر ِض "‪.‬‬

‫القول الراجح يف هذه املسألة‪ ،‬أنه جيوز التيمم بغري الرتاب من أجزاء األرض ‪ ،‬إذا مل جيد تراباء‬

‫الحكم السادس‪ :‬ما هي األسباب المبيحة للتيمم؟‬

‫ذكرت اآلية الكرمية أسباب التيمم وهي أربعة (املرض‪ ،‬السفر‪ ،‬اجمليء من الغائط مالمسة النساء) فالسفر يبيح التيمم‬
‫عند عدم املاء‪ ،‬واملرض أيًا كان نوعه مبيح للتيمم عند عدم املاء‪ ،‬وكذلك مالمسة النساء‪ ،‬واجمليء من الغائط عند‬
‫عدم املاء‪ ،‬لقوله تعاىل‪:‬‬
‫(فلم ِجَت ُد وا ماء فتيمموا صعيدًا طيبًا) فهذا القيد راجع إىل الكل‪ ،‬فالغالب يف املسافر أال جيد املاء‪ ،‬واملريض الذي‬
‫خيشى على نفسه الضرر يباح له التيمم ألنه ‪ .‬مع وجود املاء قد ال يستطيع االستعمال فيكون كالفاقد للماء‪ ،‬فهو‬
‫كمن جيد ماء يف قعر بئر يتعذر عليه الوصول إليه فهو عادم للماء حكمًا‪ ،‬ويدل عليه ما ورد يف السنة املطهرة من‬
‫حديث جابر اهلل قال‪« :‬خرجنا يف سفر فأصاب رجًال منا حجر فشجه يف رأسه‪ ،‬مث احتلم فسأل أصحابه فقال‪ :‬هل‬
‫جتدون يل رخصة يف التيمم ؟ فقالوا‪ :‬ما جند لك رخصة وأنت تقدر على املاء‪ ،‬فاغتسل فمات‪ ،‬فلما قدمنا على النيب‬
‫اهلل أخرب بذلك فقال‪ :‬قتلوه‪ ،‬قتلهم اهلل‪ ،‬أال سألوا إذا مل يعلموا؟ فإمنا شفاء العي السؤال» ‪ .‬ويدل عليه أيضًا ما روي‬
‫عن عمرو بن العاص رضي اهلل عنه أنه قال‪ :‬احتلمت يف ليلة باردة يف غزوة ذات السالسل‪ ،‬فأشفقت إن اغتسلت‬
‫أن أهلك‪ ،‬فتيممت مث صليت بأصحايب الصبح‪ ،‬فذكروا ذلك للنيب ﷺ فقال‪ :‬يا عمرو صليت بأصحابك‬
‫ِب‬ ‫ِإ‬
‫وأنت جنب؟ فأخربته بالذي منعين من االغتسال وقلت‪ :‬إين مسعت اهلل يقول‪﴿ :‬وال تقتلوا َأنُف َس ُك ْم َّن اهلل َك اَن ُك ْم‬
‫َرِح يمًا [النساء‪ ]29 :‬فضحك رسول اهلل ﷺ ومل يقل شيئًا «» ‪.‬‬

‫قال ابن تيمية يف حديث عمرو من العلم أن التمسك بالعمومات حجة صحيحة‪.‬‬

‫بقى أنه ما الفائدة إذًا من ذكر السفر واملرض يف مجلة األسباب ما دام املسافر واملريض واملقيم والصحيح‪ ،‬كلهم على‬
‫السوء ال يباح هلم التيمم إال عند فقد املاء؟‬

‫أجاب املفسرون عن ذلك بأن املسافر ملا كان غالب حاله عدم وجود املاء جاء ذكره كأنه فاقد املاء‪ ،‬وأما املريض‬
‫فاللفظ يشعر بأن املرض له دخل يف السببية ‪.‬‬

‫الحكم السابع ‪ :‬هل التيمم ضربة واحدة على الصعيد أم ضربتان ‪:‬‬

‫قال أهل العلم ‪ :‬إن األحاديث الواردة يف صفة التيمم مل يصح منها سوى حديث أيب جهيم؟ وحديث عمار‪ ،‬وما‬
‫عدامها فضعيف‪.‬‬

‫حديث أيب جهيم ورد بذكر اليدين جممًال فقد روى البخاري عن أيب اجلهيم األنصاِرُّي َقاَل ‪َ :‬أْقَبَل النيب ﷺ ِم ن‬
‫ْحَتِو ِبْثِر َمَجٍل َفَلِق َيُه َرُج ٌل َفَس َّلم عليه فلم يرد عليه النيب ﷺ حىت أقبل على اجلدار‪َ ،‬فمسح بوجهه ويديه‪ ،‬مث رد‬
‫عليه السالم‪.‬‬
‫وحديث عمار ورد بلفظ الكفني أخرج الشيخان عن عمار بن ياسر رضي اهلل عنهما‪ ،‬أنه قال‪ :‬أجنبت فلم أصب‬
‫املاء‪ ،‬فتمعكت يف الصعيد وصليت‪ ،‬فذكرت ذلك للنيب ﷺ فقال‪ :‬إمنا كان يكفيك هكذا‪ ،‬وضرب النيب‬
‫ﷺ بكفيه األرض‪ ،‬ونفخ فيهما‪ ،‬مث مسح هبما وجهه‪ ،‬وكفيه» ‪.‬‬

‫فيكون حديث عمار مبينا احلديث أيب جهيم‬

‫قال ابن عبد الرب‪( :‬أكثر اآلثار املرفوعة عن عمار ضربة واحدة‪ ،‬وما روي من ضربتني‪ ،‬فكلها مضطربة)‬

‫فذهب احلنفية والشافعية إىل أن الواجب يف التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين وذهبوا إىل أن الواجب يف‬
‫اليدين هو مسحهما إىل املرفقني‪ ،‬وذهب املالكية واحلنابلة إىل أن الواجب ضربة واحدة والفرض يف مسح اليدين إىل‬
‫الكوعني والزيادة إىل املرفقني سنة عند املالكية‪.‬‬

‫فوائد وأحكام من قوله تعالى‪:‬‬

‫﴿ َوَيْس َٔـُلْو َنَك َعِن اْلَم ِح ْيِض ۗ ُقْل ُه َو َاًذۙى َفاْعَتِزُلوا الِّنَس ۤاَء ىِف اْلَم ِح ْيِۙض َواَل َتْق َرُبْوُه َّن َح ىّٰت َيْطُه ْرَن ۚ َفِاَذا َتَطَّه ْرَن َفْأُتْوُه َّن‬
‫ِم ْن َح ْيُث َاَم َرُك ُم الّٰل ُهۗ ِاَّن الّٰل َه ِحُي ُّب الَّتَّواِبَنْي َوِحُيُّب اْلُم َتَطِّه ِرْيَن ﴾‬

‫‪ -1‬حرص الصحابة على تعلم أمر دينهم؛ لقوله تعاىل ‪ ( :‬ويسألونك ) ‪.‬‬

‫‪ -2‬خطاب اهلل لنبيه ﷺ تشريف وتكرمي له‬

‫‪ -3 .‬أنه ﷺ مبلغ عن اهلل ‪ -‬عز وجل ‪ -‬لقوله تعاىل ‪ُ ﴿ :‬قْل ُه َو َأًذى ) اآلية‪.‬‬

‫‪ -4‬أن احليض أذى وقدر جنس ننت‪ ،‬قدره اهلل على النساء‪ ،‬ترتك املرأة بسببه الصالة والصيام‪ ،‬ومينع الرجل من مجاع‬

‫زوجته‪ ،‬لقوله تعاىل ‪ُ ﴿ :‬قْل ُه َو َأًذى﴾‪.‬‬


‫‪ -5‬وجوب اعتزال النساء يف احمليض‪ ،‬أي‪ :‬يف مكان احليض وهو الفرج‪ ،‬لقوله تعاىل ‪َ ﴿ :‬فاْعَتِزُلوا الِّن ا يِف‬
‫َس َء‬
‫اْلَم ِح يِض ‪ ،‬وقال ﷺ اصنعوا كل شيء إال النكاح)‬

‫وعن مسروق قال‪ :‬قلت لعائشة ‪ :‬ما حيل للرجل من امرأته إذا كانت حائًض ا؟ قالت‪ :‬كل شيء إال الفرج‪.‬‬

‫وعنها رضي اهلل عنها قالت‪« :‬كانت إحدانا إذا كانت حائضا‪ ،‬فأراد رسول اهلل اهلل أن يباشرها أمرها أن تتزر من فور‬
‫حيضتها‪ ،‬مث يباشرها‪ .‬قالت‪ :‬وأيكم ميلك إربه‪ ،‬كما كان النيب ميلك إربه»‪ .‬أخرجه البخاري ومسلم‬
‫وعن ميمونة بنت احلارث رضي اهلل عنها قالت‪« :‬كان النيب ﷺ إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه‪ ،‬وهي‬
‫حائض‪ ،‬أمرها فاتزرت أخرجه البخاري ومسلم‬

‫فالذي حيرم من احلائض مباشرهتا يف الفرج‪ ،‬وهذا جممع على حترميه‪ .‬أما ما عدا الفرج فجائز مباشرهتا فيه سواء كان‬
‫فوق اإلزار أو حتته‪.‬‬

‫وما ورد من اآلثار يف النهي عن جمامعتها حتت اإلزار‪ ،‬فهو حممول على االحتياط‪ ،‬لئال يتوصل إىل اجلماع يف الفرج‪،‬‬
‫اجملمع على حترميه‪.‬‬
‫‪ -6‬إثبات احلكمة يف أحكام اهلل ‪ -‬عز وجل ‪ -‬الشرعية‪ ،‬لقوله تعاىل ‪ُ ﴿ :‬ق ُه َأًذى َفاْعَتِزُلوا الِّن ا يِف‬
‫َس َء‬ ‫ْل َو‬
‫اْلَم ِح يِض ) فأمر عز وجل باعتزال النساء يف احمليض؛ ألن احليض أذى‪ ،‬وقدم ذكر احلكمة والعلة على احلكم‪ ،‬ليكون‬
‫ذلك أدعى لقبول احلكم‪.‬‬
‫ِم‬ ‫ِا‬
‫‪ -7‬تأكيد وجوب اعتزال مجاع النساء يف الفرج حال احليض‪ ،‬وحترمي ذلك‪ ،‬لقوله تعاىل ‪َ ﴿ :‬ف َذا َتَطَّه ْرَن َفْأُتْوُه َّن ْن‬
‫َح ْيُث َاَم َرُك ُم الّٰل ُه﴾‪ ،‬فمن وطئ زوجته يف الفرج حال احليض فهو أئم وعليه التوبة واالستغفار‪.‬‬

‫‪ -8‬إذا طهرت املرأة من احليض‪ ،‬بأن انقطع دمها‪ ،‬وتطهرت باالغتسال باملاء‪ ،‬أو بالتيمم‪ ،‬عند فقد املاء‪ ،‬أو تعذر‬
‫استعماله جاز وطؤها يف الفرج‪ ،‬لقوله تعاىل ‪َ ﴿ :‬فِإَذا َتَطَّه ْرَن َفْأُتوُه َّن ِم ْن َح ْيُث َأَم َرُك ُم اهلل﴾ ‪ ،‬واألمر هنا لإلباحة ألنه‬
‫أم بعد حظر‪.‬‬

‫‪ -9‬إذا طهرت احلائض‪ ،‬بأن انقطع دمها مل جيز وطؤها حىت تغتسل؛ لقوله تعاىل ‪ :‬حىت يظهرن ) بتشديد الطاء‬
‫واهلاء‪ .‬وقوله تعاىل ‪( :‬فإذا تطهرن ) ‪.‬‬

‫‪ -10‬وجوب اغتسال احلائض بعد انقطاع احليض‪ ،‬لقوله تعاىل ‪َ ﴿ :‬فِإذا تطهرن ‪ -11 .‬حترمي وطء النساء يف‬
‫أدبارهن ملفهوم قوله تعاىل ‪َ :‬فْأُتوُه َّن ِم ْن َح ْيُث َأَم َرُك ُم اُهلل ) أي‪ :‬يف الفرح‪ ،‬دون الدير‪.‬‬
‫الموضوع الرابع ‪:‬‬
‫الَّس اِء َل ِليَّنَك َلًة َض ا ا ِل‬ ‫األحكان الفقهية املستنبطة من قول اهلل تعاىل ‪َ ﴿ :‬قْد َنرى تقل َوْج ِه َك يِف‬
‫َم َف ُنَو َقْب َتْر َه َفْو‬ ‫َب‬
‫ِم ِهِّب‬ ‫ِك ِل‬ ‫ِذ‬‫ِإ َّل‬ ‫ُّل‬
‫ُأوُتوا اْل َتاَب َيْع َلُم وَن َأَّنُه اَحْلُّق ْن َر ْم‬ ‫َوْجَه َك َش ْطَر املسجد احلرام وحيث َم ا ُك نُتم َفَو وا ُوُج وَه ُك ْم َش ْطَرُه َو َّن ا يَن‬
‫َوَم ا الَّلُه ِبَغاِفٍل َعَّم ا يعملون﴾ [سورة البقرة‪]144 :‬‬

‫المعنى اإلجمالي‬

‫كثريًا ما رأينا تردد بصرك ‪ -‬يا حممد ‪ -‬جهة السماء‪ ،‬تطلعًا للوحي وتشوقًا لتحويل القبلة‪ ،‬فتوجهتك إىل قبلة حتيها‪،‬‬
‫فتوجه يف صالتك حنو املسجد احلرام‪ ،‬وأنتم ‪ -‬أيها املؤمنون ‪ -‬استقبلوا بصالتكم جهته أيضًا‪ ،‬فهي قبلتكم وقبلة‬
‫أبيكم إبراهيم‪ ،‬وإن أهل الكتاب ليعلمون أن ذلك التويل شطر املسجد احلرام‪ ،‬هو احلق املنزل على نبيه ولكنهم‬
‫يفتنون ضعاف املؤمنني‪ ،‬ليشككوهم يف دينهم‪ ،‬بإلقاء الشبهات واألباطيل يف نفوسهم‪ ،‬وما اهلل يعاقل عما يعملون‬
‫فهو جل ثناؤه العليم بالظاهر والباطن‪ ،‬احملاسب على ما يف السرائر‪.‬‬

‫سبب النزول‬

‫أ ‪ -‬أخرج البخاري ومسلم عن الرباء بن عازب أن النيب اهلل كان أول ما نزن املدينة نزل على أخواله من األنصار‪ ،‬وأنه‬
‫صلى إىل بيت املقدس منة عشر شهرًا‪ ،‬وكان يعجبه أن تكون قبلته إىل البيت‪ ،‬وأنه صلى أول صالة صالها ( صالة‬
‫العصر) وصلى معه قوم‪ ،‬فخرج رجل ممن كان صلى معه قمر على أهل املسجد وهم راكعون‪ ،‬فقال‪ :‬أشهد باهلل لقد‬
‫صليت مع النيب ﷺ قبل مكة‪ ،‬فداروا كما هم قبل البيت‪ ،‬وكان الذي قد مات على القبلة قبل أن حتول قبل‬
‫البيت رجاًال قتلوا مل ندر ما تقول فيهم فأنزل اهلل‪َ﴿ :‬وَم ا َك اَن اُهلل ِلُيِض يَع َمبا َنُك ْم ﴾‪.‬‬

‫ب ‪ -‬وعن الرباء أن رسول اهلل ﷺ كان يصلي حنو بيت املقدس‪ ،‬ويكثر النظر إىل السماء ينتظر أمر اهلل فأنزل‬
‫اهلل‪ :‬وقد نرى تقلب وجهك يف السماء فقال رجال من املسلمني وددنا لو علمنا علم من مات منا قبل أن تصرف‬
‫إىل القبلة‪ ،‬وكيف بصالتنا خو بيت املقدس ﴿َوَم ا َك اَن اُهلل ِلُيِض يَع َمبا َنُك ْم ﴾‪.‬‬

‫وجوه القراءات‬

‫قرأ اجلمهور ﴿وما اهلل ِبَغاِفٍل َعَّم ا َيْع َم ُلوَن ﴾‪ .‬بالياء ﴿يف يعملون﴾ فيكون وعيدًا ألهل الكتاب‪ ،‬وقرأ احلمزة‬
‫والكسائي ﴿عَّم ا َيْع َم ُلوَن ﴾ بالتاء فيكون وعيدًا للفريقني‪ :‬املؤمنني والكافرين‪.‬‬
‫لطائف التفسير‬

‫اللطيفة األوىل‪ :‬قال الزخمشري‪ :‬إن (قد) هنا مبعىن (رمبا) وهي تلتكثري‪ ،‬ومعناه كثرة الرؤية ‪ ،‬والتعبري بقوله تعاىل ‪ :‬وقد‬
‫ترى مبعىن قد رأينا‪ ،‬ألن وقد تقلب املضارع ماضيًا كما يقول النحاة ومنه قوله تعاىل ‪ :‬وقد يعلم اهلل املعوقني)‬
‫[األحزاب‪ ]18 :‬وقوله‪َ﴿ :‬و َلَقْد َنْع َلُم َأَّنَك يضيق صدرك) [احلجر‪ 197 :‬أي قد علينا‪.‬‬

‫اللطيفة الثانية‪ :‬قال احملققون من أهل التفسري ‪ :‬يف قوله تعاىل ‪ :‬وقد نرى تقلب وجهك يف السماء فلتولينك قبلة‬
‫ترضاها يف هذه اآلية تنبيه لطيف على حسن أدبه حيث انتظر الوحي ومل يسأل ربه‪ ،‬وقد أكرمه اهلل تعاىل على هذا‬
‫األدب بقبلة حيبها ويهواها فقال تعاىل ‪ :‬فلتوليَّنَك ِقيَلة َتْرَض اها ويف سبب حمبته عليه الصالة والسالم التوجه إىل‬
‫املسجد احلرام وترك التوجه إىل بيت املقدس وجوه ‪:‬‬

‫األول‪ :‬خمالفة لليهود حيث كانوا يقولون‪ :‬خيالفنا حممد مث يتبع قبلتنا ولوال حنن مل يدر أين يستقبل‪.‬‬

‫الثاين‪ :‬أن الكعبة املشرفة كانت قبلة أبيه إبراهيم خليل الرمحن‪.‬‬

‫الثالث‪ :‬أنه عليه الصالة والسالم كان يرغب يف حتويل القبلة استمالة للعرب لدخوهلم يف اإلسالم‪.‬‬

‫الرابع‪ :‬منشأ الرسول ﷺ يف البلد األمني وفيه املسجد احلرام الذي هو قبلة املساجد فأحب أن يكون هذا‬
‫الشرف للمسجد الذي يف بلده ومنشته‪ .‬اللطيفة العاشرة يف التعبري عن (الكعبة) باملسجد احلرام إشارة لطيفة إىل أن‬
‫الواجب مراعاة اجلهة دون العني‪ ،‬والسر يف األمر بالتولية خاصًا وعامًا وقول وجهك شطر املسجد احلرام‪ ،‬مث قال‪:‬‬
‫﴿َوَح ْيُت َم ا ُك نُتْم َقْو ُلوا ُوُج وَه ُك ْم َش ْطَرة) مع أن خطاب اليت حطاب ألمته هو االهتمام لشأن القبلة‪ ،‬ودفع توهم أن‬
‫الكعبة قبلة أهل املدينة وحدهم‪ ،‬ألن األمر بالصرف كان فيها‪ ،‬فرمبا فهم أن قبلة بيت املقدس ال تزال باقية‪ .‬قال‬
‫الراغب‪ :‬أما خطابه اخلاص فتشريفًا له وإجيابًا لرغبته عليه الصالة والسالم ‪ ،‬وأما خطابه العام بعده فألنه كان جيوز أن‬
‫يعتقد أن هذا قد خص عليه الصالة والسالم به‪ ،‬كما خص يف قوله )قيم اليل( [املزمل‪ ،[12 :‬وملا كان حتويل القبلة‬
‫له خطر خصهم خبطاب مفرد‪.‬‬
‫األحكام الشرعية ‪:‬‬

‫الحكم األول‪ :‬ما المراد بالمسجد الحرام في القرآن الكريم؟‬

‫ورد ذكر (املسجد احلرام) له يف آيات متفرقة من القرآن الكرمي‪ ،‬ويف السنة املطهرة أيضًا‪ ،‬وقصد به عدة معان‪:‬‬

‫األول‪ :‬الكعبة‪ ،‬ومنه قوله تعاىل‪﴿ :‬قول وجهك شطر املسجد احلرام) أي جهة الكعبة‪.‬‬

‫الثاين‪ :‬املسجد كله‪ ،‬ومنه قوله ﷺ ‪« :‬صالة يف مسجدي هذا خري من ألف صالة فيما سواه إال املسجد‬
‫احلرام» وقوله عليه الصالة والسالم ‪« :‬ال تشد الرحال إال إىل ثالثة مساجد‪ :‬املسجد احلرام‪ ،‬ومسجدي هذا‪،‬‬
‫واملسجد األقصى» ‪.‬‬

‫الثالث‪ :‬مكة املكرمة كما يف قوله تعاىل‪ :‬اإلسبحان الذي أسرى بعبده ليًال من املسجد احلرام إىل املسجد األقصى)‬
‫[اإلسراء‪ ]1 :‬وكان اإلسراء من مكة املسجد احلرام [الفتح‪ )25( :‬وقد صدورهم عن دخول مكة‪.‬‬

‫املكرمة‪ ،‬وقوله تعاىل ‪ :‬هم الذين كفروا وصدوُك م عن الرابع‪ :‬احلرم كله (مكة وما حوهلا من احلرم كما يف قوله تعاىل ‪:‬‬
‫وإمنا املشركون جنس فال يقربوا املسجد احلرام بعد علمهم هذا كم [التوبة‪ ]28 :‬واملراد منعهم من دخول احلرم‪.‬‬

‫واملراد باملسجد احلرام هنا هو املعىن األول (الكعبة) واملعىن‪ :‬قول وجهك شطر الكعبة‪.‬‬

‫الحكم الثاني‪ :‬هل يجب استقبال عين الكعبة أم يكفي استقبال جهتها؟‬

‫استقبال القبلة فرض من فروض الصالة‪ ،‬ال تصح الصالة بدونه‪ ،‬إال ما جاء يف صالة اخلوف والفزع‪ ،‬ويف صالة‬
‫النافلة على الداية أو السفينة‪ ،‬فله أن يتوجه حيث توجهت به دابته ملا رواه أمحد ومسلم والرتمذي‪ :‬أن النيب كان‬
‫يصلي على راحلته حيثما توجهت به‪ ،‬وفيه نزلت (َفَأْيَنَم ا ُتَوُّلوا فتم وجه اهلل) (‪: 115‬البقرة)‬

‫وذهب العلماء إىل أن من مل يشاهد الكعبة فليتجه إىل جهتها واستدلوا بالكتاب والسنة وعمل الصحابة‪ ،‬واملعقول‪.‬‬

‫أ ‪ -‬أما الكتاب‪ :‬مظاهر قوله تعاىل ‪ :‬القول وجهك شطر املسجد احلرام ومل يقل‪ :‬شطر الكعبة‪ ،‬فإن من استقبل‬
‫اجلانب الذي فيه املسجد احلرام‪ ،‬فقد أتى مبا أمر به سواء أصاب عني الكعبة أم ال‪.‬‬

‫ب ‪ -‬وأما السنة‪ :‬فقوله عليه الصالة والسالم ‪« :‬ما بني املشرق واملغرب قبلة»‪.‬‬
‫وحديث‪« :‬البيت قبلة ألهل املسجد واملسجد قبلة ألهل احلرم‪ ،‬واحلرام قبلة ألهل األرض يف مشارقها ومغارهبا من‬
‫أمين» ‪.‬‬

‫ج ‪ -‬وأما عمل الصحابة فهو أن أهل (مسجد قباء) كانوا يف صالة الصبح باملدينة‪ ،‬مستقبلني لبيت املقدس‪،‬‬
‫مستدبرين الكعبة‪ ،‬فقيل هلم‪ :‬إن القينة قد حولت إىل الكعبة‪ ،‬فاستداروا يف أثناء الصالة من غري طلب داللة‪ ،‬ومل‬
‫ينكر النيب عليهم‪ ،‬وحتمي مسجدهم (بذي القبلتني) ‪ .‬ومعرفة عني الكعبة ال تعرف إال بأدلة هندسية يطول النظر‬
‫فيها‪ ،‬فكيف أدركوها على البديهة يف أثناء الصالة‪ ،‬ويف ظلمة الليل؟‬

‫د ‪ -‬وأما املعقول‪ :‬فإنه يتعذر ضبط (عني الكعبة) على القريب من مكة‪ ،‬فكيف بالذي هو يف أقاصي الدنيا من‬
‫مشارق األرض ومغارهبا؟ ولو كان استقبال عني الكعبة واجبًا‪ ،‬لوجب أال تصح صالة أحد قط‪ ،‬ألن أهل املشرق‬
‫واملغرب يستحيل أن يقفوا يف حماذاة نيف وعشرين ذراعًا من الكعبة‪ ،‬وال بد أن يكون بعضهم قد توجه إىل جهة‬
‫الكعبة ومل يصب عينها‪ ،‬وحيث اجتمعت األمة على صحة صالة الكل علمنا أن إصابة عينها على البعيد غري واجبة‬
‫وال يكلف اهلل نفسًا إال وسعها [البقرة‪]286 :‬‬

‫ومن جهة أخرى‪ :‬فإن الناس من عهد النيب عليه الصالة والسالم بنوا املساجد‪ ،‬ومل حيضروا مهندسًا عند تسوية‬
‫احملراب‪ ،‬ومقابلة العني ال تدرك إال بدقيق نظر اهلندسة‪ ،‬ومل يقل أحد من العلماء إن تعلم الدالئل اهلندسية واجب‪،‬‬
‫فعلمنا أن استقبال عني الكعبة غري واجب‪.‬‬

‫الحكم الثالث‪ :‬هل تصح الصالة فوق ظهر الكعبة؟‬

‫وبناء على اخلالف السابق‪ :‬هل القبلة عني الكعبة أم جهتها؟ النيب خالف آخر يف حكم الصالة فوق الكعبة‪ ،‬هل‬
‫تصح أم ال؟‬

‫فذهب الشافعية واحلنابلة‪ :‬إىل عدم صحة الصالة فوقها‪ ،‬ألن املستعلى عليها ال يستقبلها إمنا يستقبل شيئًا آخر‪.‬‬

‫وأجاز احلنفية‪ :‬الصالة فوقها مع الكراهية‪ ،‬ملا يف االستعالء عليها من سوء األدب‪ ،‬إال أن الصالة نصح بناء على‬
‫مذهبهم من أن القبلة هي اجلهة‪ :‬من قرار األرض إىل عنان السماء‪ ،‬واهلل تعاىل أعلم‪.‬‬
‫الحكم الرابع‪ :‬أين ينظر المصلي وقت الصالة؟‬

‫ذهب املالكية‪ :‬إىل أن املصلي ينظر يف الصالة أمامه‪.‬‬

‫وقال اجلمهور‪ :‬يستحب أن يكون نظره إىل موضع سجوده‪ ،‬وقال شريك القاضي‪ :‬ينظر يف القيام إىل موضع‬
‫السجود‪ ،‬ويف الركوع إىل موضع قدميه‪ ،‬ويف السجود إىل موضع أنفه‪ ،‬ويف القعود إىل حجره قال القرطيب‪ :‬يف هذه اآلية‬
‫حجة واضحة ملا ذهب إليه مالك ومن وافقه‪ ،‬يف أن املصلي حكمه أن ينظر أمامه ال إىل موضع سجوده لقوله تعاىل‪:‬‬
‫﴿وقول وجهك شطر املسجد احلرام) ‪.‬‬

‫حكمة التشريع‬

‫هذا البيت العتيق الذي رفع قواعده أبو األنبياء إبراهيم عليه السالم‪ ،‬هو قبلة أهل األرض‪ ،‬كما أن البيت املعمور قبلة‬
‫أهل السماء يطوفون حوله يستحون حممد اهلل‪ ،‬وقد اقتضت حكمة اهلل أن جيمع (أمة التوحيد على قبلة واحدة‪ ،‬عامر‬
‫خليله إبراهيم عليه السالم أن يبيين هذا البيت العتيق‪ ،‬ليكون مثابة للناس وأمنًا‪ ،‬ومصدرًا لإلشعاع والنور الرباين‪،‬‬
‫ومكانًا حلج بيته املعظم‪ ،‬يأتيه الناس من كل فج عميق ليشهدوا منافع هلم ويذكروا اسم اهلل يف أيام معلومات) [احلج‪:‬‬
‫‪ . ]28‬وقد أمر اهلل رسوله الكرمي بالتوجه إليه يف الصالة‪ ،‬بعد أن توجه إىل بيت املقدس سنة عشر أو سبعة عشر‬
‫شهرًا‪ ،‬وذلك احلكمة جليلة هي امتحان ميان الناس‪ .‬و اختبار صدق يقينهم‪ ،‬ليظهر املؤمن الصادق من الكاذب‬
‫املنافق‪ ،‬وليعيد هلذه األمة اليت اختارها اهلل‪ ،‬قيادة ركب اإلنسانية‪ ،‬بعد أن ختلت عنها ردحًا من الزمان كما قال تعاىل‪:‬‬
‫﴿ُه َو احتياكم َوَم ا َجَعَل َعَلْيُك م يف الدين من خرج ملة أبيُك ْم ِإْبَراِه يَم ُه َو مَس اُك ُم املسلمني من قبل ويف هذا ليكون‬
‫الرسول شهيدًا َعَلْيُك ْم َو َتُك وُنوا ُش َه َد اء َعَلى الناس ‪[ ) ...‬احلج‪.]178 :‬‬

‫فالكعبة املشرفة ‪ -‬زادها اهلل شرفًا وتعظيمًا ‪ -‬هي رمز التوحيد ‪ -‬ومظهر اإلميان‪ ،‬وقبلة أيب األنبياء إبراهيم خليل‬
‫الرمحن وحوهلا تلتقي أفئدة املاليني من املؤمنني ألهنا مظهر وحدهتم‪ ،‬وسر اجتماع كلمتهم‪ ،‬فال عجب أن يأمرهم اهلل‬
‫تعاىل بالتوجه إليها يف صالهتم‪ ،‬أينما كانوا يف مشارق األرض ومغارهبا كما قال تعاىل‪ :‬قول وجهك شطر املسجد‬
‫احلرام وحيث ما ُك نُتْم َفَوُّلوا ُوُج وَه ُك ْم َش ْطَرُه ‪......‬‬

‫قال اإلمام الفخر ‪( :‬وقد ذكروا يف تعيني القبلة يف الصالة حكمًا‪:‬‬


‫أحدها‪ :‬أن العبد الضعيف إذا وصل إىل جملس امللك العظيم‪ ،‬فإنه ال بد أن يستقبله بوجهه‪ ،‬وأال يكون معرضًا عنه‪،‬‬
‫وأن يبالغ يف الثناء عليه بلسانه‪ ،‬ويبالغ يف اخلدمة والتضرع له‪ ،‬فاستقبال القبلة يف الصالة جيري جمرى كونه مستقًال‬
‫للملك ال معرضًا عنه‪ ،‬والقراءة والتسبيحات جتري جمرى الثناء عليه‪ ،‬والركوع والسجود جيري جمرى اخلدمة‪.‬‬

‫وثانيها‪ :‬أن املقصود من الصالة حضور القلب‪ ،‬وهذا احلضور ال حيصل إال مع السكون وترك اإللتفات واحلركة‪ ،‬وهذا‬
‫ال يتأتى إال إذا بقي يف مجيع صالته مستقبًال جلهة واحدة على التعيني‪ ،‬فإذا اختص بعض اجلهات مبزيد شرف كان‬
‫استقبال تلك اجلهة أوىل‪.‬‬

‫وثالثها‪ :‬أن اهلل تعاىل حيب األلفة بني املؤمنني‪ ،‬وقد ذكر املئة هبا عليهم حيث قال ‪ :‬واذكروا نعمت اهلل َعَلْيُك ْم ِإْذ‬
‫ُك نُتْم َأْعَد اًء َفَأْلَف َبَنْي ُقُلوِبُك ْم َفَأْص َبْح ُتْم بنعمته إخوانًا ‪[ )...‬آل عمران‪ ]103 :‬ولو توجه كل واحد يف صالته إىل‬
‫ناحية‪ ،‬لكان ذلك يوهم اختالفًا ظاهرًا‪ ،‬معني اهلل تعاىل هلم جهة معلومة‪ ،‬وأمرهم مجيعًا بالتوجه حنوها‪ ،‬ليحصل هلم‬
‫املوافقة بسبب ذلك‪.‬‬

‫ورابعها‪ :‬أن اهلل تعاىل حص الكعبة بإضافتها إليه يف قوله‪﴿ :‬وطهر بييت) [احلج‪ )26( :‬وخص املؤمنني بإضافتهم‬
‫بصفة العبودية إليه يا عبادي) وكننا اإلضافتني للتخصيص والتكرمي‪ ،‬فكأنه تعاىل قال‪ :‬يا مؤمن أنت عبدي‪ ،‬والكعبة‬
‫بييت‪ ،‬والصالة خدميت‪ ،‬فأقبل بوجهك يف خدمين إىل بيين‪ ،‬وتقلبك إيل ‪. )..‬‬

You might also like