Professional Documents
Culture Documents
فقه الكتاب والسنة
فقه الكتاب والسنة
تعريفه :لغة :قال ابن منظور يف لسان العرب ( :الَف ْسُر مبعىن :البيان ،وفسر الشيء يفسره «بالكسر» ،ويفسره
«بالضم» فسرا ،وفسره :أبانه ،والتفسري مثله ،والفسر :كشف املغطى ،والتفسري :كشف املراد عن اللفظ املشكل)
واصطالحًا :قال الزرقاين يف مناهل العرفان بقوله :هو علم يبحث فيه عن أحوال القرآن الكرمي من حيث داللته
على مراد اهلل تعاىل بقدر الطاقة البشرية .
موضوعه كالم اهلل اهلل الذي هو ينبوع كل حكمة ومعدن كل فضيلة ،فيه نبأ ما قبلكم ،وخرب ما بعدكم ،وحكم ما
بينكم ،ال خيلق على كثرة الرد ،وال تنقضي عجائبه.
فائدته معرفة حكم اهلل يف العقائد والعبادات واملعامالت واألخالق ليفوز اإلنسان خبري الدنيا واآلخرة .
فضله :إن فضل الشيء يعرف مبوضوعه وعلم التفسري موضوعه كالم اهلل الذي هو أشرف كالم ،فعلم التفسري
أشرف العلم وأفضلها شأنا وأعالها منزلة .
نسبته :علم التفسري من أجل علوم الشريعة اإلسالمية وأرفعها قدرا وأعالها شأنا ،كما هو أيضا أشرف العلوم
موضوعا وغرضا وحاجة إليه ،ألنه متعلق بكالم اهلل تعاىل.
واضعه :أول من فسر القرآن من فسر القرآن :هو اهلل فإن بعض القرآن يفسر بعضًا ،فقد قال لرسوله ﷺ :
﴿َفِإَذا َقَرْأَناُه َفاَّتبع قرآنه مث إن علينا بيانه﴾ فسره له ،مث رسوله فقد أمره اهلل بيانه بعد أن بينه له؛ لقوله تعاىل ( :وأنزلنا
ِإَلْيَك الِّذْك َر ِلُتَبَنِّي ِللَّناِس َم ا ُنِّزَل ِإَليِه م) إذ كان القرآن ينزل على النيب -مفرقًا حسب احلوادث ،والوقائع ،وكان
ﷺ يفسر للصحابة ،ويبني هلم ما ُأشكل عليهم من معاين اآليات املنزلة.
وأما من جعل علما مستقال ،فعلماء كثر ،أفضلهم ابن جرير الطربي (310هـ)
اسمه :علم التفسري ومسي علم التفسري ملا فيه من الكشف والتبيني واختص هبذا االسم دون بقية العلوم.
استمداده :من علم اللغة والنحو والصرف وعلم البيان والفقه وأصول الفقه والقراءات وحيتاج ملعرفة أسباب النزول
والناسخ واملنسوخ.
حكمه :وقد أمجع العلماء أن علم التفسري من فروض الكفايات وأجل العلوم الثالثة الشرعية .
نشأته وتطوره :ظهر علم التفسري بالتزامن مع نزول اآليات القرآنية على الرسول ﷺ ،فكان يفسر اآليات
للصحابة هلل مث صار علم التفسري من العلوم الدينية املهمة يف اإلسالم ،حيث عمل الصحابة اهلل على تفسري اآليات
القرآنية للمسلمني ،وخصوصًا الذين دخلوا يف اإلسالم حديثًا ،ومل يكونوا على علم كاف باللغة العربية ،وقواعدها،
وهذا ما يدل على وظيفة علم التفسري ببيان ،وتوضيح ما مل يفهم من اآليات القرآنية ،ومع مرور الوقت حتول علم
التفسري إىل علم يدرس من قبل جمموعة من األشخاص من أصحاب العلم الوافر ،والذين اهتموا بتفسري اآليات
القرآنية ،ومجعوا تفاسريهم يف كتب للتفسري .ومن أشهر املفسرين :الصحايب عبد اهلل بن عباس رضي اهلل عنهما ،وكان
يعرف باسم (ترمجان القرآن)؛ بسبب معرفته بالعلم الصحيح للتفسري ،وأيضًا متيز الصحايب عبد اهلل بن مسعود رضي
اهلل عنه ،بعلمه الوافر باآليات القرآنية ،وقدرته على تفسريها تفسريًا صحيحًا .أخذ بعض التابعني التفاسري من
الصحابة رضي اهلل عنهم ،ومن هؤالء التابعني :سعيد بن جبري ،واحلسن البصري ،مث عمل املفسرون على نقل
تفاسريهم ،وتدوينها يف كتب من أجل احملافظة عليها ،ومن أشهر التفاسري تفسري ابن جرير الطربي (310هـ) فهو من
أجل التفاسري وما أتى بعدها عالة عليه .
سورة الفاحتة هي السورة األوىل يف ترتيب املصحف ،والسورة اخلامسة نزوال بعد سور العلق واملدثر واملزمل والقلم ،وهي
أول سورة نزلت مجلة واحدة ،نزلت يف مكة املكرمة استنادًا لقوله -تعاىل -يف سورة احلجر( :ولقد آتيناك سبًعا من
املثاين والقرآن العظيم) ،وقد أمجع املفسرون على مّك ية سورة احلجر.
واملقصود بالسبع املثاين أي سورة الفاحتة ،املثاين مجع مثىن ،ومسيت بذلك لتكرارها يف الصالة ،وعدد آيات سورة
الفاحتة :سبع آيات إمجاعًا ،وعدد كلماهتا :مخس وعشرون كلمة ،وعدد حروفها :مائة وثالث وعشرون حرفا،
أسماؤها :فتسمى الفاحتة ،ألهنا مفتتح القرآن ،قال النيب ﷺ ال َص اَل َة َلَم ن ْمَل َيْق َرُأ ِبَف اَحِتِة الِكَتاِب » وتسمى
أم الكتاب وأم القرآن والسبع املثاين قال النيب ﷺ قال« :أم القرآن هي السبع املثاين والقرآن العظيم»
وتسمى احلمد ألهنا افتتحت به قال النيب ﷺ «احلمُد ِهلل َرِّب اْلَعاَلِم َني هي السبع املثاين»
وهي الواقية تقي قارئها من كل سوء ،وهي الكافية تكفي عن غريها وال يكفي غريها عنها ،وهي الراقية يرقى هبا
املؤمن ،وهي الصالة.
قال ابن كثري " :اشتملت هذه السورة الكرمية على محد اهلل ومتجيده والثناء عليه ،بذكر أمسائه احلسىن املستلزمة
لصفاته العليا ،وعلى ذكر املعاد ،وهو يوم الدين ،وعلى إرشاده عبيده إىل سؤاله والتضرع إليه ،والتربؤ من حوهلم
وقوهتم ،وإىل إخالص العبادة له وتوحيده باأللوهية تبارك وتعاىل ،وتنزيهه أن يكون له شريك أو نظري أو مماثل ،وإىل
سؤاهلم إياه اهلداية إىل الصراط املستقيم ،وهو الدين القومي ،وتثبيتهم عليه حىت يفضي هبم ذلك إىل جواز الصراط
احلسي يوم القيامة ،املفضي هبم إىل جنات النعيم يف جوار النبيني والصديقني والشهداء والصاحلني .واشتملت على
الرتغيب يف األعمال الصاحلة ،ليكونوا مع أهلها يوم القيامة ،والتحذير من مسالك الباطل ،لئال حيشروا مع سالكيها
يوم القيامة ،وهم املغضوب عليهم والضالون.
فضلها :
*روى الرتمذي والنسائي بسند صحيح عن أيب هريرة اهلل قال :من رسوُل الَّلِه ﷺ َعَلى َأيب بن كعب ،فقال
أِحُتُّب أن ُأعلمك سورة مل ينزل يف التوراة ،وال يف اإلجنيل ،وال يف الزبور ،وال يف الفرقاِن ِم ْثُلها ؟ قلت :نعم ،يا
رسول اهلل ،قال :فكيف تقرأ يف الَّص الِة ؟ َفَق َرْأُت عليِه ُأَّم الكتاب ،فقال َرُس وُل الَّلِه ﷺ َ :واَّلِذي َنْف ِس ي
بيده ،ما أنزلت سورة يف التوراة وال يف اإلجنيل وال يف الزبور ،وال يف الفرقاِن ِم ْثُلها ،وإهنا هلي السبع املثاين والقرآن
العظيم
*روى مسلم عن أيب هريرة اهلل قال ِمَس ْعُت َرُس وَل اِهلل ﷺ يقوُل َ :قاَل الَّلُه َتَعاىَل َ :قَس ْم ُت الَّص الَة بيين وبني
َعْبِدي ِنْص َف ِنْي ،ولعبدي ما سأل ،فإذا قال العبد :احلمُد ِلَّلِه َرِّب العاَلمَني َ ،قاَل اُهلل َتَعاىَل ِ :مَح َد يِن َعْبِدي ،وإذا قال:
الرمحن الرحيم قال اهلل تعاىلَ :أْثىَن َعَلى َعْبِدي ،وإذا قال :مالك يوم الدين قال :جمدين عبدي ،وَقاَل َم َّرًة َفَّو َض ِإىل
َعْبِد ي ،فإذا قالِ﴿ :إَّياَك َنْع ُبُد وِإَّياَك َنْس َتِعُني َقاَل :هذا بيين وبني عبدي ،ولعبدي ما سأل ،فإذا قال :اْه ِد َنا الِّص راَط
ا سَتِق يَم ِص راَط اَّلذين أنعمت عليهم غري املغضوب عليهم وال الَّض اِّلَني َقاَل :هذا ِلَعْبِد ي ولعبدي ما سأل».
ُمل
* روى مسلم عن ابن عباس اهلل قال بينما ِج ِرْبيُل َقاِعُد ِعْنَد النيب ﷺ ِمَس َع َنِق يًض ا ِم ن َفْو ِقِهَ ،فَرَفَع َرْأَس ُهَ ،فَق اَل :
هذا َباُب \
ِم َن الَّس َم اِء ُفِتَح اليوم مل يفتح َ .قَّط ِإاَّل الَيوَمَ ،فَنَزَل ِم ْنُه َم َلُك َ ،فَق اَل :هذا َم َلُك َنَزَل ِإىل اَألْر ِض ْمَل ينزل قط إال اليوم.
َف َّل َ ،و َقاَل َ :أْبِش ْر ُبوَرْيِن ُأوِتَتُه ما ْمَل ُيْؤ َتُه ما اين قبلك َفاَحِتُة الَك اِب َ ،وَخ اِتي ُس وَرِة الَبَق ِةَ ،لن تقرأ حبرف منهما ِإاَّل
َر َو ُم َس َم
ِط
ُأْع يَتُه
تفسير سورة الفاتحة إجماال :
(بسم اهلل ) أي أبتدئ قويل كالقراءة أو علمي كالكتابة بسم اهلل ليبعد الشيطان وتنزل بركة الرمحن ،وإعانته يل يف قويل
وعملي( ،اهلل) علم على ذات اهلل جل جالله ،ومعناه املألوه املعبود املستحق للعبادة وحده ال شريك له ،ملا اتصف به
من صفات اجلالل والكمال سبحانه( ،الرحمن) :املنعم بنعم عامة تشمل املؤمنني والكافرين (الرحيم) املنعم بنعم
خاصة باملؤمنني
(الحمد هلل) :احلمد هو وصف احملمود بالكمال املطلق على كل حال احلديث « :كان رسول اهلل ﷺ إذا
أصابته السراء قال" :احلمد هلل الذي بنعمته تتم الصاحلات ،وإن إصابته الضراء قال :احلمد له على كل حال» .
والفرق بينه وبني الشكر ،أن احلمد يكون على كل حال يف السراء والضراء أما الشكر فيكون يف السراء والنعماء
فالشكر أخصمن احلمد ،واحلمد أعم من الشكر .
(رب العالمين) :أي املالك املتصرف أو السيد املطاع ،وال يستعمل الرب لغري اهلل إال باإلضافة تقول رب الدار رب
العاملني :أي املريب للعاملني ،وكل ما سوى اهلل فهو عامل ،وتربيته تعاىل خللقه نوعان :عامة ،وخاصة.
فالعامة :هي خلقه للمخلوقني ورزقهم وهدايتهم ملا فيه مصاحلهم اليت فيها بقاؤهم يف الدنيا.
واخلاصة :تربيته ألوليائه فريبيهم باإلميان ،ويوفقهم ويكملهم ،ويدفع عنهم الصوارف والعوائق احلائلة بينهم وبينه.
)مالك( قرئ) :مالك( قراءة عاصم ويعقوب والكسائي) .وملك( قراءة السبعة الباقيني.
ِئ ِف ِح
)يوم الدين( هو يوم القيامة ،كما قال اهلل تعاىلَ( :و ِإَّن اْلُفَّج اَر َل ي َج يم يصلوهنا يوَم الِّديِن َوَم ا ُه م َعْنَه ا ِبَغا ِبَني
َوَم ا َأْد َراَك َم ا َيْوُم الِّديِن َّمُث َم ا َأْد َراَك َم ا َيْوُم الِّديِن َيْوَم ال متلك َنْف ٌس ِلَنْف ٍس َش ْيًئا َواَأْلْم ُر َيْوَم ِئٍذ ِلَّلِه )
واملالك هو :املتصرف يف كل شيء ،فله األمر والنهي ،والعفو واملعاقبة وغري ذلك ،وخص ملكه بيوم القيامة لظهوره
للخلق متام الظهور ،واستسالم مجيع ملوك الدنيا الذين ادعو ألنفسهم الربوبية وامللك بغري حق يف الدنيا ،كفرعون
وغريه.
)إياك نعبد وإياك نستعني( :أي خنصك وحدك بالعبادة واالستقامة ،فال نعبد إال أنت وال نستعني إال بك ،وذكره
لالستعانة بعد العبادة مع دخوهلا فيها الحتياج العبد يف مجيع عباداته إىل االستعانة باهلل تعاىل ،فإنه إن مل يعنه اهلل مل
حيصل له ما يريده من فعل األوامر ،واجتناب النواهي ،ولذا قال النيب ﷺ :أوصيك يا معاذ ،ال تدعن يف دبر
كل صالة أن تقول" :اللهم أعين على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" رواه أمحد بسند صحيح والعبادة هي :اسم
جامع لكل ما حيبه اهلل ويرضاه من األقوال واألعمال الظاهرة والباطنة.
واالستعانة هي :االعتماد على اهلل تعاىل يف جلب املنافع ،ودفع املضار ،مع الثقة به يف حتصيل ذلك ،والقيام بعبادة
اهلل واالستعانة به هو الوسيلة للسعادة األبدية.
)اهدنا الصراط املستقيم) :أي دلنا ووفقنا إىل الصراط املستقيم وهو الطريق الواضح الذي ال اعوجاج فيه ،وثبتنا عليه
حىت املمات ،فطلب املسلم للهداية معناه الزيادة منها واملوت عليها ،والصراط املستقيم هو صراط الذين أنعم اهلل
عليهم من النبيني والصديقني والشهداء والصاحلني
(غري) صراط املغضوب عليهم وهم الذين عرفوا احلق وتركوه ،أو غريوه وبدلوه كاليهود (وال) صراط
وهذا احلكم ليس مقصورا على اليهود والنصارى فقط ،بل يتناول كل من عمل عملهم وسار سريهتم .ويستحب ملن
يقرأ سورة الفاحتة أن يقول بعدها آمني .وهي ليست من الفاحتة قطعًا ،ومعناها :اللهم استجب.
القول األول :أن البسملة ليست آية من القرآن الكرمي مطلقا ،إال يف سورة النمل فهي آية منها ،وإمنا كتبت البسملة
يف أوائل السور لالستفتاح هبا ،واالبتداء والتربك هبا والتيمن والفصل بني السور .هذا القول صرح به قراء املدينة
والبصرة والشام ،وهو قول اإلمام مالك ،وقول منسوب أليب حنيفة وبعض الصحابة واألوزاعي ،وعن رواية عن اإلمام
أمحد .احتج ابن العريب هلذا القول بأن مسجد رسول اهلل باملدينة منذ زمن الرسول ﷺ حىت زمن اإلمام مالك
مل يقرأ فيه أحد قط :بسم اهلل الرمحن الرحيم اتباعا للسنة.
كما احتج الباقالين والقرطيب هلذا القول بأن القرآن ال يثبت إال بالتواتر ،وال تواتر هنا فيجب القطع بنفي كوهنا
القول الثاين :أهنا آية من سورة الفاحتة فقط .وهذا القول مروي عن :سعيد بن جبري وهو قول اإلمام الشافعي ،ورواية
عن اإلمام أمحد بن حنبل ،وروي عن إسحاق وأيب ثور وحممد بن كعب القرظي والزهري وعطاء بن أيب رباح وغريهم.
استدلوا هلذا القول بأدلة منها :إثباهتا يف املصاحف مع الفاحتة وعدها من آياهتا ،وحديث أم سلمة عندما سئلت عن
قراءة النيب فقالت :كان يقطع قراءته آية آية ،بسم اهلل الرمحن الرحيم ،احلمد هلل رب العاملني ،الرمحن الرحيم» رواه أبو
داود بإسناد صحيح ،ووجه استدالهلم أن الرسول قرأ البسملة مع الفاحتة ،قالوا :فدل هذا على أهنا آية منها .كما
استدلوا حبديث أنس بن مالك عندما سئل عن قراءة النيب فقال :كانت مدا ،مث قرأ« :بسم اهلل الرمحن الرحيم ،ميد
بسم اهلل ،وميد بالرمحن وميد بالرحيم» .رواه البخاري وقالوا :فقراءة النيب ﷺ للبسملة باملد تدل على أهنا آية
من القرآن ،إذ لو مل تكن آية من القرآن ملا قرأها الرسول باملد كما يقرأ القرآن .واستدلوا حبديث أيب هريرة أن النيب
ﷺ قال :إذا قرأمت :احلمد هلل فاقرءوا :بسم اهلل الرمحن الرحيم) إهنا أم القرآن ،وأم الكتاب ،والسبع املثاين،
وبسم اهلل الرمحن الرحيم) إحداها » صحيح رواه البيهقي.
القول الثالث :أهنا آية أو بعض آية من كل سورة سوى سورة براءة ،نسب هذا القول لعبد اهلل بن عباس وعبد اهلل بن
عمر وعبد اهلل بن الزبري وأيب هريرة ،ومن التابعني :عن عطاء وطاووس بن كيسان وسعيد بن جبري والزهري ،وهذا
القول هو املشهور من مذهب الشافعي ،ورواية عن اإلمام أمحد ونسب أليب حنيفة وسفيان الثوري وعبد اهلل بن
املبارك وإسحاق بن راهويه واألوزاعي استدل أصحاب هذا القول بأدلة منها :ثبوت البسملة يف املصاحف مع كل
سورة سوى براءة مما يدل على أهنا آية أو بعض آية من كل سورة.
وما رواه أنس :مث قرأ :بسم اهلل بن مالك قال :أغفى النيب ﷺ إغفاءة مث تبسم ضاحكا فقال :أنزل علي
سورة ،الرمحن الرحيم ﴿ِإَّنا َأْع َطْيَناَك اْلَك ْو َثَر َفَص ِّل ِلَرِّبَك َواَحْلْر ِإْن َش اِنَئَك ُه َو األبرت ) رواه مسلم ،ووجه استدالهلم
من احلديث أن البسملة آية أنزلت مع سورة الكوثر فهي كذلك آية أو بعض آية من كل سورة تنزل معها وتعد منها.
القول الرابع :أن البسملة آية مستقلة من القرآن وليست من السور ،وإمنا هي آية تنزل مع كل سورة للفصل بينها وبني
اليت قبلها .وهذا قول طائفة كبرية من أهل العلم منهم :اإلمام أمحد بن حنبل يف النصوص الصرحية عنه ،وعبد اهلل بن
املبارك وحممد بن احلسن الشيباين وأبو احلسن الكرخي ،وأبو بكر الرازي وداود الظاهري ،واختار هذا القول ابن خزمية
واجلصاص وابن قدامة وابن تيمية والزيلعي استدل القائلون هبذا القول على إمجاع الصحابة على إثباهتا يف املصحف
وكتابتهم هلا خبطه وقلمه ،فنقلت نقله كما نقلت يف سورة النمل ،فال جيوز اخلروج عن إمجاعهم وذلك ألهنم جردوا
املصحف من غري اآليات القرآنية كالتفسري وغريه .كما استدلوا حبديث عبد اهلل بن عباس قال :كان النيب ﷺ
ال يعرف فصل السورة حىت تنزل عليه بسم اهلل الرمحن الرحيم .رواه أبو داود بسند صحيح ،وقالوا :كوهنا تنزل يدل
على أهنا آية من القرآن ،وكوهنا للفصل بني السور يدل على أهنا ليست من السور وإمنا آية مستقلة.
القول األول :أهنا جتب قراءهتا يف الصالة وجوب الفاحتة ألهنا آية منها ،وهو قول عبد اهلل بن عباس وعبد اهلل بن
عمر والزهري وجماهد وإسحاق بن راهويه وأيب ثور ،وهو املشهور يف املذهب الشافعي ،ورواية عن اإلمام أمحد بن
حنبل .هذا القول مبين على أن البسملة آية من الفاحتة ،فتجب قراءهتا عندهم كما جتب قراءة بقية آيات الفاحتة،
كما يشرع اجلهر هبا عندهم كما جيهر ببقية آيات الفاحتة.
القول الثاين :أن قراءهتا يف الصالة مستحبة مع الفاحتة ومع كل سورة سوى سورة براءة كما هو منصوص يف
املصحف ،وهذا قول مجهور أهل العلم ومنهم :أبو حنيفة والقول املشهور عن أمحد بن حنبل وأكثر أهل احلديث:
ألهنا آية مستقلة من القرآن وليست آية من السورة ال من سورة الفاحتة وال من غريها من السور ،فال جتب قراءهتا ال
مع الفاحتة وال مع غريها ،لكن تستحب قراءهتا معها ومع كل سورة عدا سورة التوبة ،ودليلهم ما ثبت من حديث
أنس بن مالك وعائشة وأيب هريرة أن الرسول وخلفاءه ال جيهرون هبا ،فلو كانت واجبة قراءهتا وجوب الفاحتة جلهروا
هبا كما جيهرون ببقية آيات الفاحتة.
القول الثالث :أنه ال تشرع قراءهتا يف املكتوبة ال سرا وال جهرًا ،وهذا القول هو املشهور يف املذهب املالكي ،إال أن
مالك قال بقراءة البسملة يف النفل وقيام الليل وملن يعرض القرآن عرًض ا .ونقل القول بعدم مشروعية قراءهتا عن
األوزاعي هذا القول بين على أن البسملة ليست من القرآن ،ال يف أول الفاحتة وال يف أوائل السور ،وليست آية
مستقلة من القرآن ،واستدل أصحاب هذا القول حبديث أن الرسول وخلفائه كانوا يستفتحون القراءة والصالة باحلمد
هلل رب العاملني ،وحديث أيب هريرة :إن اهلل تعاىل يقول :قسمت الصالة بيين وبني عبدي نصفني ،نصفها يل ونصفها
لعبدي ولعبدي ما سأل ،فإذا قال :احلمد هلل رب العاملني ،قال اهلل :محدين عبدي ،وإذا قال :الرمحن الرحيم ،قال اهلل:
أثىن علي عبدي ،وإذا قال :مالك يوم الدين ،قال اهلل عز وجل :جمدين عبدي ،ويف رواية فوض إيل عبدي ،وإذا قال:
إياك نعبد وإياك نستعني ،قال :فهذه اآلية بيين وبني عبدي نصفني ولعبدي ما سأل ،فإذا قال :اهدنا الصراط
املستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غري املغضوب عليهم وال الضالني ،قال :فهؤالء لعبدي ولعبدي ما سأل».
اختلف أهل العلم يف حكم البسملة من حيث اجلهر هبا واإلسرار يف الصالة على أقوال:
القول األول :أنه يسن اجلهر هبا يف الصالة اجلهرية واإلسرار هبا يف الصالة السرية .هذا القول روي عن عمر وعلي
وعبد اهلل بن الزبري وابن عباس وابن عمر وأيب هريرة ومعاوية بن أيب سفيان وشداد بن أوس وسعيد بن جبري وحممد بن
شهاب الزهري ،وهو القول املشهور عن الشافعية .
أما أدلتهم فهي نفسها أدلة القائلني بوجوب قراءة البسملة يف الصالة.
القول الثاين :أنه يسن اإلسرار بالبسملة يف الصالة مطلقا ،وهو قول مجهور أهل العلم من احملدثني والفقهاء،
واستشهدوا بعدد من األدلة منها حديث أنس بن مالك عن النيب ﷺ وعن اخللفاء أيب بكر وعمر وعثمان
أهنم كانوا ال جيهرون بسم اهلل الرمحن الرحيم» صحيح مسلم ،قال ابن تيمية :أما حديث أنس يف نفي اجلهر فهو
حديث صريح ال حيتمل التأويل.
القول الثالث :التخيري بني اجلهر واإلسراء ،وهذا القول يروى عن احلكم بن عتيبة وإسحاق بن راهويه وابن أيب ليلى
وابن حزم ،اعتمد أصحاب هذا القول على اجلمع بني أدلة اجلهر وأدلة اإلسرار .
والراجح :أن اجلهر واإلسرار بالبسملة قد وردا عن النيب ،لكن اإلسرار هبا كان أكثر ،ومن مث يرتجح الرأي الثاين .
أ -مذهب اجلمهور (مالك والشافعي وأمحد أن قراءة الفاحتة شرط لصحة الصالة ،فمن تركها مع القدرة عليها مل
تصح صالته.
ب -مذهب الثوري وأيب حنيفة أن الصالة جتزئ بدون فاحتة الكتاب مع اإلساءة وال تبطل صالته ،بل
الواجب مطلق القراءة وأقله ثالث آيات قصار ،أو آية طويلة.
أوًال :حديث عبادة بن الصامت وهو قوله ﷺ :ال صالة ملن مل يقرأ بفاحتة الكتاب" .
ثانيًا :حديث أيب هريرة أن رسول اهلل ﷺ :قال من صلى صالة مل يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج فهي
خداج ،فهي خداج غري متام» ،واألصل أَّن الَّص الة الناقصة ال ُتسمى صالة حقيقة.
ثالثًا :حديث أيب سعيد اخلدري « :أمرنا أن نقرأ بفاحتة الكتاب وما تيسر»
قالوا :فهذه اآلثار كلها تدل على وجوب قراءة الفاحتة يف الصالة ،فإن قوله ﷺ :ال صالة ملن مل يقرأ بفاحتة
الكتاب " يدل على نفي الصحة ،وكذلك حديث أيب هريرة له فهي خداج قاهلا ثالثًا يدل على النقص والفساد،
فوجب أن تكون قراءة الفاحتة شرطًا لصحة الصالة .
استدل الثوري وفقهاء احلنفية على صحة الصالة بغري قراءة الفاحتة بأدلة من الكتاب والسنة.
أما الكتاب :فقوله تعاىل َ ﴿ :فَأْقَرُءوا ما تيسر من القرآن) قالوا :فهذا يدل على أن الواجب أن يقرأ أي شيء تيسر
من القرآن ،ألن اآلية وردت يف القراءة يف الصالة بدليل قوله تعاىل ِ ﴿ :إَّن َرَّبَك َيْع َلُم َأَّنَك َتُقوُم َأْد ىَن ِم ن ثلين الليل )
إىل قوله ( َفَأْقَرُءوا َم ا َتَيَّس َر ِم َن الُقرآِن ) ومل ختتلف األمة أن ذلك يف شأن الصالة يف الليل.
وذلك عموم عندنا يف صالة الليل وغريها من النوافل والفرائض لعموم اللفظ.
وأما السنة :فما روي عن أيب هريرة اهلل أن رجًال دخل املسجد فصلى ،مث جاء فسلم على النيب ﷺ فرد عليه
السالم وقال :ارجع فصل فإنك مل تصل فصلى مث جاء فأمره بالرجوع ،حىت فعل ذلك ثالث مرات ،فقال والذي
بعثك باحلق ما أحسن غريه ،فقال عليه الصالة والسالم :إذا قمت إىل ا الصالة فأسبغ الوضوء ،مث استقبل القبلة
فكرب ،مث اقرأ ما تيسر معك من القرآن ،مث اركع حىت تطمئن راكعًا ،مث ارفع حىت تعتدل قائمًا ،مث اسجد حىت تطمئن
ساجدًا ،مث ارفع حىت تطمئن جالسًا ،مث اسجد حىت تطمئن ساجدًا ،مث ارفع حىت تستوي قائمًا ،مث افعل ذلك يف
صالتك كلها".
قالوا :فحديث أيب هريرة يف تعليم الرجل صالته يدل على التخيري (اقرأ ما تيسر معك من القرآن) ويقوي ما ذهبنا
إليه ،وما دلت عليه اآلية الكرمية من جواز قراءة أي شيء من القرآن.
وأما حديث عبادة بن الصامت :فقد محلوه على نفي الكمال ،ال على نفي احلقيقة ،ومعناه عندهم (ال صالة كاملة
ملن مل يقرأ بفاحتة الكتاب ولذلك قالوا :تصح الصالة مع الكراهية ،وقالوا هذا احلديث يشبه قوله ﷺ :ال
صالة جلار املسجد إال يف املسجد" .
وأما حديث أيب هريرة فهي خداج ،فهي خداج ...اخل فقالوا فيه ما يدل لنا ألن (اخلداج) الناقصة ،وهذا يدل على
جوازها مع النقصان ،ألهنا لو مل تكن جائزة ملا أطلق عليها اسم النقصان ،ألن إثباهتا ناقصة ينفي بطالهنا ،إذ ال جيوز
الوصف بالنقصان للشيء الباطل الذي مل يثبت منه شيء.
الراجح :ما ذهب إليه اجلمهور أقوى دليًال ،وأقوى قيًال ،فإن مواظبته على قراءهتا يف الفريضة والنفل ومواظبة
أصحابه الكرام عليها دليل على أنه ال جتزئ الصالة بدوهنا ،وقد عضد ذلك األحاديث الصرحية الصحيحة ،والنيب
عليه الصالة والسالم مهمته التوضيح والبيان ،ملا أمجل من معاين القرآن ،فيكفي حجة لفريضتها ووجوهبا قوله وفعله
ومما يؤيد رأي اجلمهور ما رواه مسلم عن أيب قتادة أنه قال :كان رسول اهلل ﷺ يصلي بنا فيقرأ يف الظهر
والعصر يف الركعتني األوليني بفاحتة الكتاب وسورتني ،ويسمعنا اآلية أحيانًا ،وكان يطول يف الركعة األوىل من الظهر،
الرأي األول :ال جتب قراءة الفاحتة على املأموم يف الصالة اجلهرية ،وهذا مذهب احلنفية ،واملالكية ،واحلنابلة ،والقدمي
عند الشافعية ، ،وابن تيمية وهو قول أكثر العلماء.
األدلة:
- 1من الكتاب :قال تعاىل ) :وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترمحون )
وجه الداللة :قال اإلمام أمحد :أمجع الناس على أن هذه اآلية يف الصالة
- 2من السنة :عن أيب موسى األشعري اهلل قال إن رسول اهلل ﷺ خطبنا فبني لنا سنتنا وعلمنا صالتنا،
فقال :إذا صليتم فأقيموا صفوفكم ،مث ليؤمكم أحدكم ،فإذا كرب فكربوا ،وإذا قرأ فأنصتوا » رواه مسلم .
روى أبو داود والرتمذي وأمحد عن أيب هريرَة َ " :أَّن َرُس وَل اِهلل ﷺ اْنَص َرَف ِم ْن َص اَل ٍة َجَه َر ِفيَه ا ِباْلِق َراَءِة َفَق اَل :
ِه ِئ ِم ِع
(َه ْل َقَرَأ َم َي َأَح ٌد ْنُك ْم آ ًف ا ؟ ) َ ،فَق اَل َرُج ٌل َ :نَعْم َ ،يا َرُس وَل الَّل ،ه ،قال ِ( :إيِّن َأُقوُل َم ايِل َم ا َأَناَزُع
القرآن ؟ ) َقاَل َ :فاْنَتَه ى الَّناُس َعِن اْل َراَء َمَع َرُس و ا ﷺ يَم ا َجَه َر ي الَّنُّيِب ﷺ اْل َراَء َن
ِب ِق ِة ِم ِف ِه ِف ِل ِهلل ِق ِة
الَّصَلَواِت ِح َني ِمَس ُعوا َذِلَك ِم ْن َرُس وِل الَّلِه ﷺ قال النيب ﷺ من كان له إمام فقراءة اإلمام له قراءة"
[أخرجه ابن ماجه].
-3من اآلثار :عن عطاء بن يسار :أنه سأل زيد بن ثابت اهلل عن القراءة مع اإلمام؟ فقال :ال قراءة مع اإلمام يف
شيء .
-4أن املأموم خماطب باالستماع إمجاعا ،فال جيب عليه ما ينافيه؛ إذ ال قدرة له على اجلمع بينهما ،فصار نظري
اخلطبة ،فإنه ملا أمر باالستماع ،ال جيب على كل واحد أن خيطب لنفسه ،بل ال جيوز ،فكذا هذا.
- 5أنه لو كانت القراءة يف اجلهر واجبة أو مستحبة على املأموم للزم إما أن يقرأ مع اإلمام ،وقراءته معه منهي عنها
بالكتاب والسنة ،وإما أن يسكت اإلمام له حىت يقرأ ،وهذا غري واجب بال نزاع بني العلماء ،بل وال يستحب عند
مجاهري العلماء.
-6أنه مل ينقل أن الصحابة كانوا يقرؤون خلف الرسول ﷺ يف سكنته األوىل أو الثانية ،ولو كان مشروعا
لكانوا أحق الناس بعلمه وعمله ،ولتوفرت اهلمم والدواعي على نقله
الرأي الثاين :ذهب الشافعية إىل وجوب قراءة املأموم للفاحتة يف الصالة اجلهرية والسرية.
دليلهم :قال النيب ﷺ :لعلكم تقرءون خلف إمامكم قالوا :نعم ،قال :ال تفعلوا إال بفاحتة الكتاب فإنه
الصالة ملن مل يقرأ هبا " .رواه أمحد وأبو داود وابن حبان .
وهذا احلديث وإن حسنه العلماء إال أن البعض األخر ضعفه .
وعن أيب هريرة اهلل أن النيب ﷺ قالَ( :مْن َص َّلى َص اَل ًة ْمَل َيْق َرُأ ِفيَه ا ِبَأِّم اْلُقْرآِن َفِه َي ِح َد اُج َ ،فاَل ًناَ ،غْيُر متام،
َفِق يَل َأِليِب ُه َرْيَرَةِ :إَّنا َتُك وُن َوَراَء اِإْل َم اِم ؟ َفَق اَل -يعين أبو هريرة اهلل اقرأ هبا يف نفسك) رواه مسلم.
وجه الداللة :أنه جيب على املأموم أن يقرأ الفاحتة ،وأهنا ال تسقط عنه إال إذا كان مسبوقًا وأدرك اإلمام راكعًا،
فحينئذ يتحملها اإلمام عنه.
جيب على املأموم قراءة الفاحتة يف الصالة السرية ،وهذا مذهب الشافعية ،واختيار ابن العريب من املالكية ،و به قال
ابن حزم ،والصنعاين ،والشوكاين
األدلة:
عن عبادة بن الصامت له أن رسول اهلل ﷺ قال :ال صالة ملن مل يقرأ بفاحتة الكتاب.
وجه الداللة:
قوله :ال صالة « أنه نفى الصالة ملن مل يقرأ بفاحتة الكتاب عموما ،ومل خيص منها حاال من أحوال املصلي ،ومن:
اسم موصول ،واسم املوصول يفيد العموم ،مبعىن :أي إنسان مل يقرأ الفاحتة فال صالة له ،سواء أكان مأموما ،أم
إماما ،أم منفردا .
عن أيب هريرة اهلل قال :قال رسول اهلل ﷺ من صلى صالة مل يقرأ فيها بفاحتة الكتاب ،فهي خداج .يقوهلا
ثالثا.
وجه الداللة:
ثانيا :ألن أمر النيب ﷺ بقراءهتا عام يف كل صالة وحالة ،وخص من ذلك حالة اجلهر بوجوب فرض
اإلنصات ،وبقي العموم يف غري ذلك على ظاهره .
من ترك ترتيب قراءة الفاحتة ،أو أبدل حرفا حبرف مع صحة لسانه ،أو حلن حلنا خيل املعىن مل تصح قراءته وال صالته،
وهو مذهب الشافعية واحلنابلة ،وقول للمالكية ،وهو اختيار ابن باز ،وابن عثيمني وذلك ألن من ترك حرفا من
الفاحتة وكذلك من ترك تشديدة فهي مبنزلة حرف؛ فإن احلرف املشدد قائم مقام حرفني مل يعتد هبا؛ ألنه مل يقرأها،
وإمنا قرأ بعضها
تصح صالة من أبدل الضاد يف اآلية بالظاء ،وهو مذهب املالكية ،وهو املشهور من مذهب احلنابلة ،وقول أكثر
احلنفية ،ووجه للشافعية ،واختاره ابن تيمية ،وابن كثري ،وذلك لتقارب املخرجني ،وصعوبة التفريق بينهما
ال يشرع تكرار الفاحتة يف القيام الواحد من غري سبب ،وهو مذهب اجلمهور :احلنفية ،واملالكية ،واحلنابلة وذلك
لآليت:
أوال :أنه مل ينقل عن النيب ﷺ وال عن أصحابه ،ولو كان هذا من اخلري لفعله النيب ﷺ وأصحابه
ثانيا :أن قراءة الفاحتة ركن يف الصالة ،ويلزم من تكرارها تكرار الركن
إذا مل يستطع األمي قراءة الفاحتة ،فصالته صحيحة ،إذا مل يقدر على تعلمها.
الدليل من اإلمجاع:
من عجز عن قراءة الفاحتة فعليه قراءة سبع آيات من غريها إن أحسنها ،فإن عجز أتى بأي ذكر ،وهذا مذهب
الشافعية واحلنابلة
األدلة:
عن رفاعة بن رافع رضي اهلل عنه ،قال :قال رسول اهلل ﷺ إذا ا قمت إىل الصالة فتوضأ كما أمرك اهلل ،مث قم
فاستقبل القبلة ،مث كرب ،فإن كان معك قرآن فاقرأه ،وإن مل يكن معك قرآن ،فامحد اهلل وهلله وكربه ،فإذا ركعت فاركع
حىت تطمئن ،مث ارفع رأسك فاعتدل قائما ،مث اسجد فاعتدل ساجدا ،مث ارفع رأسك فاعتدل قاعدا ،حىت تقضي
صالتك ،فإذا فعلت ذلك فقد متت صالتك ،وإن انتقصت من ذلك شيئا فإمنا انتقصت من صالتك »
ثانيا :وألنه ركن من أركان الصالة ،فجاز أن ينتقل فيه عند العجز إىل بدل؛ كالقيام
(احمليض) :مصدر ميمي مبعىن احليض ،ويطلق احمليض على الزمان واملكان ويطلق على احليض جمازًا .وأصل احليض:
السيالن ،يقال :حاض السيل وفاض ،وحاضت الشجرة أي سالت ،ومنه قيل للحوض حوض ،ألن املاء حييض إليه
أي يسيل .ويقال للمرأة :حائض ،وحائضة
(أذى) :قال عطاء أذى أي قدر ومستقذر ،واألذى يف اللغة ما يكره من كل شيء ،وقيل :ومسي احليض أذى لننت
(فاعتزلوا) :االعتزال التنحي عن الشيء واالجتناب له ،واملراد باعتزال النساء اجتناب جمامعتني ،ال ترك اجملالسة أو
املالمسة فإن ذلك جائز.
المعنى اإلجمالي:
يسألونك -يا حممد -عن إتيان النساء يف حالة احليض أحيل أم حيرم؟ قل هلم :إن دم احليض دم مستقذر،
ومعاشرهتن يف هذه احلالة فيه أذى لكم وهلن ،فاجتنبوا معاشرة النساء ،ونكاحهن يف حالة احليض ،وال تقربوهن حىت
ينقطع عنهن دم احليض ويطهرن ،فإذا تطهرن باملاء فاغتسلن ،فأتوهن من حيث أمركم اهلل يف املكان الذي أحله لكم
وهو (القبل مكان النسل والولد ،وال تأتوهن يف املكان احملرم (الدبر) فإن اهلل حيب عبده النائب املتنزه عن الفواحش
واألقذار.
سبب النزول:
أوًال :عن أنس له قال « :كانت اليهود إذا حاضت امرأة منهن مل يؤاكلوها ومل يشاربوها ومل جيامعوها يف البيوت،
فسئل النيب عن ذلك فأنزل اهلل َوَيْس َأُلوَنَك َعِن احمليض ُقْل ُه َو أذى فاعتزلوا النساء يف احمليض فأمرهم النيب ﷺ
أن يؤاكلوهن ويشار بوهن وأن يكونوا معهن يف البيوت ،وأن يفعلوا كل شيء إال النكاح ،فقالت اليهود :ما يريد
حممد أن يدع من أمرنا شيئًا إال خالفنا فيه »
لطائف التفسير
اللطيفة األوىل :كان اليهود يبالغون يف التباعد عن املرأة حالة احليض ،فال يؤاكلوهنا وال يشاربوهنا وال يساكنوهنا يف
بيت واحد ،ويعتربوهنا كأهنا داء أو رجس وقذر ،وكان النصارى يفرطون يف التساهل فيجامعوهنن وال يبالون باحليض،
فجاء اإلسالم باحلد الوسط افعلوا كل شيء إال النكاح) وهذا من حماسن الشريعة اإلسالمية الغراء حيث أمر املسلمني
باالقتصاد بني األمرين.
اللطيفة الثانية :لفظ (احمليض) قد يكون امسًا للحيض نفسه ،وقد يكون امسًا ملوضع احليض كاملبيت واملقيل موضع
البيتوتة وموضع القيلولة ،ولكن يف اآلية الكرمية ما يشري إىل أن املراد باحمليض هو (احليض) ألن اجلواب ورد بقوله
تعاىل( :قل هو أذى) وذلك صفة لنفس احليض ال للموضع الذي فيه .أفاده العالمة اجلصاص.
اللطيفة الثالثة :قال ابن العريب :مسعت الشاشي يف جملس النظر يقول :إذا قيل :ال تقرب (بفتح الراء كان معناه :ال
تلبس بالفعل ،وإن كان بضم الراء كان معناه :ال تدن منه فلما قال تعاىل﴿ :وال تقربوُه َّن حىت يظهرن) دل على أن
املراد النيب عن مالبسة الفعل وهو إتياهنن يف حالة احليض.
اختلف أهل العلم فيما جيب اعتزاله من املرأة يف حالة احليض على أقوال:
الذي جيب اعتزاله ما بني السرة إىل الركبة ،وهذا مذهب أيب حنيفة ومالك. -
الذي جيب اعتزاله موضع األذى وهو الفرج فقط ،وهذا مذهب الشافعي. -
حجة املذهب األول :واحتج أ أبو حنيفة ومالك مبا روي عن عائشة قالت« :كنت أغتسل أغتسل أنا والنيب
ﷺ من إناء واحد كالنا جنب ،وكان يأمرين فأتزر فيباشرين وأنا حائض وما روي عن عن ميمونة أهنا قالت« :
كان رسول اهلل ﷺ بيباشر نساءه فوق اإلزار وهن حيض»
ج -حجة املذهب الثاين :واحتج اإلمام الشافعي بقوله ﷺ اصنعوا كل شيء إال النكاح وما روي عن
مسروق قال( :سألت عائشة ما حيل للرجل من امرأته إذا كانت حائضًا؟ قالت :كل شيء إال اجلماع ) .
ويف رواية أخرى( :إن مسروقًا ركب إىل عائشة فقال :السالم على النيب وعلى أهل بيته ،فقالت عائشة :أبو عائشة
مرحبًا فأذنوا له ،فقال :إين أريد أن أسألك عن شيء وأنا استحي ،فقالت :إمنا أنا أمك وأنت ابين ،فقال :ما للرجل
من امرأته وهي حائض؟ قالت :له كل شيء إال فرجها .
الرتجيح :ومن استعراض األدلة يرتجح لدينا املذهب األول ،وهو الذي اختاره ابن جرير الطربي حيث قال« :وأوىل
األقوال يف ذلك بالصواب قول من قال :إن للرجل من امرأته احلائض ما فوق املؤتزر ودونه .والعلة أن السماح
باملباشرة فيما بني السرة إىل الركبة قد تؤدي إىل احملظور ،ألن من حام حول احلمى يوشك أن يقع فيه ،فاالحتياط أن
تبعده عن منطقة احلظر وقد قالت عائشة رضي اهلل عنها بعد أن روت حديث املباشرة وأيكم ميلك إربه كما كان
رسول اهلل ﷺ ميلك إربه ؟ ومن جهة أخرى إذا اجتمع حديثان أحدمها فيه اإلباحة والثاين فيه احلظر ،قدم ما
فيه احلظر ،كما قال علماء األصول .
أمجع العلماء على حرمة إتيان املرأة يف حالة احليض ،واختلفوا فيمن فعل ذلك ماذا جيب عليه؟
فقال اجلمهور( :مالك والشافعي وأبو حنيفة :يستغفر اهلل وال شيء عليه سوى التوبة واالستغفار.
وقال أمحد :يتصدق بدينار أو نصف دينار ،احلديث ابن عباس عن النيب ﷺ يف الذي يأيت امرأته وهي حائض
قال :يتصدق بدينار أو بنصف دينار» ،وقال بعض أهل احلديث :إن وطئ يف الدم فعليه دينار ،وإن وطئ يف
انقطاعه فنصف دينار .قال القرطيب « :حديث ابن عباس ال تقوم به حجة ،وأن الذمة على الرباءة» .
الحكم الثالث :ما هي مدة الحيض ،وما هو أقله وأكثره؟
ذهب األحناف إىل أن أقل احليض ثالثة أيام ،مبعىن :أن املرأة إذا نزل منها دفعة واحدة من الدم فال يعترب عند
األحناف حيضًا ،فال بد أنه يستمر معها ثالثة أيام ،وأكثر أيام احليض عشرة أيام ،فلو زاد على عشرة أيام فهو دم
استحاضة .املالكية فقالوا :ال حد ألقله وال ألكثره ،فلو أن الرحم دفع دفعة واحدة من الدم ،أو حلظة واحدة ،فهذا
الدم دم حيض عند املالكية ،ألنه ال حد ألقله وال ألكثره.
احلنابلة والشافعية -فقالوا :أقل احليض يوم وليلة؛ ألن احلائض عندهم ال بد أن يستمر معها الدم يومًا كامًال ،وأكثر
احليض مخسة عشر يومًا.
والراجح :أنه ال حد ألقل مدة احليض وأكثره مخسة عشر يوما .وزاد الدم عن مخسة عشر يومًا فهو دم استحاضة
دل قوله تعاىلَ :وال َتْق َرُبوُه َّن حىت َيْطُه ْرَن على أنه ال حيل للرجل قربان املرأة يف حالة احليض حىت تطهر ،وقد اختلف
الفقهاء يف الطهر ما هو ؟
أ -فذهب أبو حنيفة إىل أن املراد بالطهر انقطاع الدم ،فإذا انقطع دم احليض جاز للرجل أن يطأها قبل الغسل ،إال
أنه إذا انقطع دمها ألكثر احليض وهو (عشرة أيام) جاز وطؤها قبل الغسل ،وإن كان انقطاعه قبل العشرة مل جيز حىت
تغتسل أو يدخل عليها وقت صالة
ب -وذهب اجلمهور ( مالك والشافعي وأمحد إىل أن الطهر الذي حيل به اجلماع ،هو تطهرها باملاء كطهور اجلنب،
وأهنا ال حتل حىت ينقطع احليض وتغتسل باملاء.
ج -وذهب طاووس وجماهد إىل أنه يكفي يف حلها أن تغسل فرجها وتتوضأ للصالة.
وسبب اخلالف أن اهلل تعاىل قالَ﴿ :وال َتْق َرُبوُه َّن حىت َيْطُه ْرَن َفِإَذا َتَطَّه ْرَن َفْأُتوُه َّن ِم ْن َح ْيُث َأَم َرُك ُم اهلل األوىل
بالتخفيف ،والثانية بالتشديد ،وكلمة ( طهر) يستعمل فيما ال كسب فيه لإلنسان وهو انقطاع دم احليض ،وأما
(تطهر) فيستعمل فيما يكتسبه اإلنسان بفعله وهو االغتسال باملاء.
فحمل أبو حنيفة( :حىت يطهرن على انقطاع دم احليض ،وقوله:
(َفِإَذا َتَطَّه ْرَن ) على معىن فإذا انقطع دم احليض ،فاستعمل املشّد د مبعىن املخفف.
وقال اجلمهور معىن اآلية :وال تقربوهن حىت يغتسلن ،فإذا اغتسلن فأتوهن فاستعملوا املخفف مبعىن املشدد ،واستدلوا
بقراءة محزة والكسائي ( حىت يطهرن) بالتشديد يف املوضعني.
وقالوا :مما يدل على صحة قولنا أن اهلل عز وجل علق احلكم فيها على شرطني:
أحدمها :انقطاع الدم وهو قوله تعاىل( :حىت يطهرن) أي ينقطع عنهن الدم.
الموضوع الثالث
(يا أيها اَّلِذ يَن آَم ُنوا إذا ُقْم ُتْم ِإىَل الَّصاَل ِة َفاْغ ِس ُلوا ُوُج وَه ُك ْم وَأْيِد يُك ْم ِإىَل اْلَمَراِفِق وامسحوا بروسكم وأرجلكم إىل
ِئِط ِم ِم ِإ ِإ
الكعبني َو ن ُك نُتم جنًبا َفاَّطَّه ُروا َو ن ُك نُتم َمْرَض ى َأْو َعَلى َس َف ٍر َأْو َج اَء َأَح ٌد ْنُك ْم َن اْلَغا َأْو ال مستم الِّنَس اَء َفَلْم
ِجَت ُد وا َم اًء فتيمموا صعيدا طيبا َفاْم َس ُح وا ِبُوُج وِه ُك ْم َوَأْيِد يُك ْم ِم ْنُه َم ا ُيِريُد اُهلل ِلَيْجَعَل َعَلْيُك ْم ِم ْن َح َرٍج َو َلِكْن ُيِريُد
ِلُيظِه َرُك ْم وليتم نعمته بعد عليكم لعلكم تْش ُك ُروَن ( ))6من سورة املائدة.
التحليل اللفظي
(إذا قمتم) :املعىن إذا أردمت القيام إىل الصالة كقوله فإذا قرأت القرآن فاستعذ باهلل ) [النحل . ]98 :فليس املراد
القيام فعًال وإمنا املراد إرادة الفعل ،كما تقول :إذا ضربت فاتق الوجه أي إذا أردت الضرب.
(فاغسلوا) :الغسل بالفتح إسالة املاء على الشيء إلزالة ما عليه من وسخ وغريه.
(وجوهكم) :لفظ الوجه مأخوذ من املواجهة ،وحده من أعلى اجلبهة إىل أسفل الذقن طوًال ،ومن شحمة األذن إىل
شحمة األذن عرضًا.
(إىل الكعبني) :الكعبان العظمان الناتتان من جانيب القدم ،ومسي كعبًا لعلوه وارتفاعه.
(من حرج) :أي من ضيق يف الدين ،فقد وسع اهلل على املؤمنني حني رخص هلم يف التيمم.
المعنى اإلجمالي
بني اهلل تعاىل أحكام الوضوء والتيمم فقال :إذا أردمت أيها املؤمنون القيام إىل الصالة ،وأنتم حمدثون ،فاغسلوا باملاء
الطاهر وجوهكم وأيديكم إىل املرافق ،وامسحوا رؤوسكم ،واغسلوا أقدامكم إىل الكعبني ،وإذا كنتم حمدثني حدثًا
أكرب فاغتسلوا باملاء ،وإن كنتم يف حالة املرض أو السفر أو حمدثني حدثًا أصغر ،أو غشيتم النساء ومل جتدوا ماء
تتوضؤون به أو تغتسلون ،فتيمموا بالرتاب الطاهر ،فامسحوا وجوهكم وأيديكم إىل املرافق بذلك الرتاب ،ما يريد اهلل
أن يضيق علي يكم يف أحكام الدين ،ولكنه تعاىل يريد أن يظهركم من الذنوب واآلثام ،ومن األقذار والنجاسات ،ويتم
نعمته عليكم ببيان شرائع اإلسالم لتشكروه على نعمه ،وحتمدوه على آالئه.
وجوه القراءات
- 1قرأ اجلمهور (وأْرُج َلُك ْم إىل الكعبني) بفتح الالم ،وقرأ محزة وأبو عمرو ( وأرُج ِلُك ْم ) بالكسر ،فقراءة النصب
بالعطف على الوجوه واأليدي أي فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم ،وقراءة اجلر للمجاورة ،قال ابن األنباري :ملا
تأخرت األرجل بعد الرؤوس نسقت عليها للقرب واجلوار.
اللطيفة :جميء املسح يف آية الوضوء ضمن األعضاء املفروض غسلها .فيه إشارة لطيفة إىل أنه ينبغي مراعاة الرتتيب
يف الوضوء ،فيغسل الوجه أوًال ،مث اليدين إىل املرفقني ثانيًا ،مث ميسح الرأس ،مث يغسل القدمني ،وهذا الرتتيب -وإن
مل يكن واجبًا يف بعض األقوال -إال أنه على كل حال مطلوب ومندوب ،فيكون اتباع اهلدي النبوي أكمل وأوىل.
الحكم األول :ظاهر قوله تعاىل( :إذا قمتم إىل الصالة يوجب الوضوء على كل قائم وإن مل يكن حمدثًا ،وقد أمجع
العلماء على أن الوضوء ال جيب إال على احملدث ،فيكون قيد احلدث مضمرًا يف اآلية ويصبح املعىن إذا قمتم إىل
الصالة وأنتم حمدثون) وإمنا أولوا اآلية هبذا التأويل لإلمجاع على أن الوجوب ال جيب إال على احملدث ،وألن يف اآلية
ما يدل عليه ،فإن التيمم يدل عن الوضوء وقائم مقامه ،وقد قيد وجوب التيمم يف اآلية بوجود احلدث ،فاألصل
جيب أن يكون مقيدًا به ،ليتأتى أن يكون البدل قائمًا مقام األصل وألن األمر بالوضوء نظري األمر باالغتسال وهو
مقيد باحلدث األكرب يف قوله تعاىل( :وإن كنتم جنبا فاطهروا فيكون نظريه وهواألمر بالوضوء مقيدًا باحلدث األصغر.
ومما يدل على ذلك أن النيب ﷺ يوم الفتح الصلوات اخلمس بوضوء واحد ،فقال عمر بن اخلطاب يا رسول
اهلل صنعت شيئًا مل تكن تصنعه ؟ فقال له عمدًا فعلته يا عمر يعين أنه أراد بيان اجلواز ألمته هبذا العمل.
وأما ما ورد من أنه وخلفاءه كانوا يتوضؤون لكل صالة ،فإن ذلك مل يكن بطريق الوجوب ،وإمنا كان بطريق
االستحباب ،والرسول ﷺ كان دائمًا حيب األفضل ،فليس يف فعله ما يدل على وجوب الوضوء لكل صالة.
الحكم الثاني :ما هو حكم مسح الرأس وما مقداره؟
اتفق الفقهاء على أن مسح الرأس من فرائض الوضوء لقوله تعاىل :وامسحوا برؤوِس ُك ْم ) ولكنهم اختلفوا يف مقدار
املسح على أقوال:
ب -وقال احلنفية :يفرتض مسح ربع الرأس أخذًا بفعل النيب ﷺ مبسحه على الناصية.
ح-وقال الشافعية :يكفي أن ميسح أقل شيء يطلق عليه اسم املسح ولو شعرات أخذًا باليقني.
دليل املالكية واحلنابلة استدل املالكية واحلنابلة على وجوب مسح مجيع الرأس بأن الباء كما تكون أصلية تكون زائدة
للتأكيد ،واعتبارها هنا زائدة أوىل ،واملعىن :امسحوا رؤوسكم ،وقالوا :إن آية الوضوء تشبه آية التيمم ،وقد أمر اهلل
تعاىل مبسح مجيع الوجه يف التيمم فامسحوا ِبُوُج وِه ُك ْم َوَأْيِد يُك ْم ِم ْنُه وملا كان املسح يف التيمم عامًا جلميع الوجه،
فكذلك هنا جيب مسح مجيع الرأس وال جيزئ مسح البعض ،وقد تأكد ذلك بفعل النيب ﷺ حيث ثبت أنه
كان إذا توضأ مسح رأسه كله.
دليل احلنفية والشافعية واستدل احلنفية والشافعية بأن الباء (للتبعيض وليست زائدة ،واملعىن :امسحوا بعض رؤوسكم،
إال أن احلنفية قدروه بربع الرأس ملا روى عن املغرية بن شعبة أن النيب ﷺ كان يف سفر ،فنزل حلاجته مث جاء
فتوضأ ومسح على ناصيته .وأما الشافعية فقالوا :الباء للتبعيض ،وأقل ما يطلق عليه اسم املسح داخل بيقني ،وما
عداه ال يقني فيه فال يكون فرضًا ،وإمنا حيمل على الندب.
قال الشافعي :احتمل قوله تعاىل :وامسحوا برؤوسكم بعض الرأس ،ومسح مجيعه ،فدلت السنة على أن مسح بعضه
جيزئ ،وهو أن النيب ﷺ مسح بناصيته ،وقال يف موضع آخر :فإن قيل قد قال اهلل َعَّز َوَج َّل فامسحوا
ِبُوُج وِه ُك ْم ) يف التيمم أجيزئ بعض الوجه فيه؟ قيل له مسح الوجه يف التيمم بدل من غسله ،فال بد أن يأيت باملسح
على مجيع موضع الغسل منه ،ومسح الرأس أصل فهذا فرق ما بينهما» .
قال القرطيب« :أجاب علماؤنا عن احلديث بأن قالوا :لعل النيب ﷺ فعل ذلك لعذر ال سيما وكان هذا الفعل
منه يف السفر وهو مظنة اإلعذار ،وموضع االستعجال واالختصار ،مث هو مل يكتف بالناصية حىت مسح على
العمامة ،فلو مل يكن مسح مجيع الرأس واجبًا ملا مسح على العمامة» .
الرتجيح :ذهب أكثر علماء اللغة كسيبويه وابن هشام والزخمشري أن الباء لإللصاق ،املراد إلصاق املسح بالرأس".
فيكون ما ذهب إليه املالكية واحلنابلة أرجح .
اجلنابة معىن شرعي يستلزم اجتناب الصالة ،وقراءة القرآن ،ومس املصحف ،ودخول املسجد إىل أن يغتسل اجلنب
لقوله تعاىل :وإن كنتم جنبًا فاطهروا ،وقد بني النيب ﷺ احلصول اجلنابة سببني:
األول :نزول املين للحديث الشريف املاء من املاء» أي جيب االغتسال باملاء من أجل املاء أي املين.
والثاين :التقاء اخلتانني لقوله :إذا التقى اخلتانان وجب الغسل» .
وكما جيب الغسل للجنابة جيب عند انقطاع احليض والنفاس لقوله تعاىل يف احليض :وال تقربوهن حىت يطهرن)
[البقرة ]222 :واحلديث فاطمة بنت أيب حبيش أنه قال هلا« :إذا أقبلت احليضة فدعي الصالة ،وإذا أدبرت
فاغتسلي وصلي واإلمجاع على أن النفاس كاحليض.
ظاهر اآلية الكرمية يدل على جواز التيمم للمريض مطلقًا ،ولكنه مقيد مبن يضره املاء كما روي عن ابن عباس ومجاعة
من التابعني من أن املراد باملريض الذي يضره املاء ،ولذلك رأى الفقهاء أن املرض أنواع:
األول :ما يؤدي استعمال املاء فيه إىل التلف يف النفس أو العضو ،بغلبة الظن أو بإخبار الطبيب املسلم احلاذق ،ويف
هذه احلالة جيوز التيمم باتفاق.
والثاين :ما يؤدي استعمال املاء إىل زيادة العلة أو بطء املرض ،ويف هذه احلالة جيوز التيمم عند املالكية واحلنفية وهو
أصح قويل الشافعية احلديث اجلماعة الذين خرجوا يف السفر فأصاب أحدهم حجر يف رأسه فشجه مث احتلم فخاف
من زيادة العلة إخل.
الثالث :ما ال خياف معه تلفًا وال بطأ وال زيادة يف العلة ،ويف هذه احلالة ال جيوز التيمم عند احلنفية والشافعية ،ألنه مل
خيرج عن كونه قادرًا عن استعمال املاء ،فال يرخص له يف التيمم ،وعند املالكية جيوز له التيمم إلطالق النص (وإن
كنتم مرضى) .
الرابع :أن يكون املرض حاصًال لبعض األعضاء ،فإن كان األكثر صحيحًا وجب غسل الصحيح ومسح اجلريح وال
جيوز التيمم ،وإن كان األكثر جرحيًا جيوز التيمم عند احلنفية ،ومذهب الشافعية أنه يغسل الصحيح مث يتيمم مطلقًا،
وعند املالكية جيوز له التيمم مطلقًا.
ومن ذلك يتبني أن املريض يرخص له يف التيمم ولو كان املاء موجودًا خبالف املسافر فإن الرخصة له مقيدة بعدم
املاء.
فذهب علي ،وابن عباس واحلسن إىل أن املراد به اجلماع ،وهو مذهب احلنفية.
وذهب ابن مسعود ،وابن عمر ،والشعيب إىل أن املراد به اللمس باليد ،وهو مذهب الشافعية.
قال ابن جرير الطربي« :وأوىل القولني يف ذلك بالصواب قول من قال :عىن اهلل بقوله( :أو ال مستم النساء اجلماع
دون غريه من معاين اللمس ،لصحة اخلرب عن رسول اهلل ﷺ أنه قبل بعض نسائه مث صلى ومل يتوضأ ،مث روى»
عن عائشة قالت« :كان رسول اهلل يتوضأ مث يقبل ،مث يصلي» ،وعن عائشة أن رسول اهلل ﷺ قبل بعض
نسائه مث خرج إىل الصالة ومل يتوضأ ،قال عروة :قلت :من هي إال أنت؟ فضحكت »
أ -فذهب أبو حنيفة إىل أن مس املرأة غري ناقض للوضوء سواء كان بشهوة أم بغري شهوة.
ج -وذهب مالك وأمحد إىل أن املس إن كان بشهوة انتقض الوضوء ،وإن كان بغري شهوة مل ينتقض.
قال اإلمام ابن رشد يف بداية اجملتهد» « :وسبب اختالفهم يف هذه املسألة اشرتاك اسم اللمس يف كالم العرب ،فإن
العرب تطلقه مرة على اللمس الذي هو بالليد ،ومرة تكين به عن اجلماع ،فذهب قوم إىل أن اللمس املوجب للطهارة
هو اجلماع يف قوله أو ال مستم النساء وذهب آخرون إىل أنه اللمس باليد ،وقد احتج من أوجب الوضوء من اللمس
باليد بأن اللمس ينطلق حقيقة على اللمس باليد ،وينطلق جمازًا على اجلماع ،وإذا تردد اللفظ بني احلقيقة واجملاز،
فاألوىل أن حيمل على احلقيقة حىت يدل الدليل على اجملاز .وقال اآلخرون :إن اجملاز إذا كثر استعماله كان أدل على
اجملاز منه على احلقيقة ،كاحلال يف اسم الغائط «الذي هو أدل على احلدث الذي هو جماز منه على املطمئن من
األرض الذي هو فيه حقيقة.
مث قال( :والذي أعتقده أن اللمس وإن كانت داللته على املعنيني إال أنه أظهر عندي يف اجلماع ،وإن كان جمازًا ألن
اهلل تعاىل قد كىن باملباشرة واملس عن اجلماع ومها يف معىن اللمس) .
الرتجيح :ولعل هذا الرأي يكون أرجح ،ألن به ميكن التوفيق بني اآلية الكرمية واآلثار السابقة ،وألنه قد تعورف عند
إضافة املس إىل النساء معىن اجلماع ،حىت كاد يكون ظاهرًا فيه ،كما أن الوطء حقيقته املشي بالقدم ،فإذا أضيف إىل
النساء مل يفهم منه غري اجلماع .
اختلف أهل العلم يف املقصود بالصعيد ،هل هو الرتاب خاصة ،أم هو وجه األرض ،وإن كان رمال وحنوه ،مما ليس
برتاب؟ فمنهم من قال :بأنه الرتاب فقط ،ومنهم قال هو كل ما و ما صعد على وجه األرض من تراب وحجر
ورمل وصخر.
َأ و ِنيَفَة اَأْل َزاِعُّي الَّث ِرُّي اْب ِريٍر الَّطِرَبُّي :الَّص ِعيُد ُك ُّل ا ِعَد َعَلى ْج ِه اَأْل ِض ِم اِب
ْر ْن ُتَر َو َم َص َو ُب َح َو ْو َو ْو َو ُن َج َفَق اَل َم اِلٌك
َوْحَص ا ونورة وزرنيخ وجص ورخام...... َوَحَج ٍر َوَرَم ٍل
ِع ِذ
وذَه َب الشافعي وأبو يوسف وأَمْحُد َواْبُن اْلُم ْن ِر َو َد اُود الظاهري وشيخ اإلسالم ابن تيميةِ :إىَل َأَّن الَّص يَد ُه َو الَّتَراُب
َفَق ط ُ ،دوَن َس اِئِر َأْجَزاء اَأْلْر ِض ".
القول الراجح يف هذه املسألة ،أنه جيوز التيمم بغري الرتاب من أجزاء األرض ،إذا مل جيد تراباء
ذكرت اآلية الكرمية أسباب التيمم وهي أربعة (املرض ،السفر ،اجمليء من الغائط مالمسة النساء) فالسفر يبيح التيمم
عند عدم املاء ،واملرض أيًا كان نوعه مبيح للتيمم عند عدم املاء ،وكذلك مالمسة النساء ،واجمليء من الغائط عند
عدم املاء ،لقوله تعاىل:
(فلم ِجَت ُد وا ماء فتيمموا صعيدًا طيبًا) فهذا القيد راجع إىل الكل ،فالغالب يف املسافر أال جيد املاء ،واملريض الذي
خيشى على نفسه الضرر يباح له التيمم ألنه .مع وجود املاء قد ال يستطيع االستعمال فيكون كالفاقد للماء ،فهو
كمن جيد ماء يف قعر بئر يتعذر عليه الوصول إليه فهو عادم للماء حكمًا ،ويدل عليه ما ورد يف السنة املطهرة من
حديث جابر اهلل قال« :خرجنا يف سفر فأصاب رجًال منا حجر فشجه يف رأسه ،مث احتلم فسأل أصحابه فقال :هل
جتدون يل رخصة يف التيمم ؟ فقالوا :ما جند لك رخصة وأنت تقدر على املاء ،فاغتسل فمات ،فلما قدمنا على النيب
اهلل أخرب بذلك فقال :قتلوه ،قتلهم اهلل ،أال سألوا إذا مل يعلموا؟ فإمنا شفاء العي السؤال» .ويدل عليه أيضًا ما روي
عن عمرو بن العاص رضي اهلل عنه أنه قال :احتلمت يف ليلة باردة يف غزوة ذات السالسل ،فأشفقت إن اغتسلت
أن أهلك ،فتيممت مث صليت بأصحايب الصبح ،فذكروا ذلك للنيب ﷺ فقال :يا عمرو صليت بأصحابك
ِب ِإ
وأنت جنب؟ فأخربته بالذي منعين من االغتسال وقلت :إين مسعت اهلل يقول﴿ :وال تقتلوا َأنُف َس ُك ْم َّن اهلل َك اَن ُك ْم
َرِح يمًا [النساء ]29 :فضحك رسول اهلل ﷺ ومل يقل شيئًا «» .
قال ابن تيمية يف حديث عمرو من العلم أن التمسك بالعمومات حجة صحيحة.
بقى أنه ما الفائدة إذًا من ذكر السفر واملرض يف مجلة األسباب ما دام املسافر واملريض واملقيم والصحيح ،كلهم على
السوء ال يباح هلم التيمم إال عند فقد املاء؟
أجاب املفسرون عن ذلك بأن املسافر ملا كان غالب حاله عدم وجود املاء جاء ذكره كأنه فاقد املاء ،وأما املريض
فاللفظ يشعر بأن املرض له دخل يف السببية .
الحكم السابع :هل التيمم ضربة واحدة على الصعيد أم ضربتان :
قال أهل العلم :إن األحاديث الواردة يف صفة التيمم مل يصح منها سوى حديث أيب جهيم؟ وحديث عمار ،وما
عدامها فضعيف.
حديث أيب جهيم ورد بذكر اليدين جممًال فقد روى البخاري عن أيب اجلهيم األنصاِرُّي َقاَل َ :أْقَبَل النيب ﷺ ِم ن
ْحَتِو ِبْثِر َمَجٍل َفَلِق َيُه َرُج ٌل َفَس َّلم عليه فلم يرد عليه النيب ﷺ حىت أقبل على اجلدارَ ،فمسح بوجهه ويديه ،مث رد
عليه السالم.
وحديث عمار ورد بلفظ الكفني أخرج الشيخان عن عمار بن ياسر رضي اهلل عنهما ،أنه قال :أجنبت فلم أصب
املاء ،فتمعكت يف الصعيد وصليت ،فذكرت ذلك للنيب ﷺ فقال :إمنا كان يكفيك هكذا ،وضرب النيب
ﷺ بكفيه األرض ،ونفخ فيهما ،مث مسح هبما وجهه ،وكفيه» .
قال ابن عبد الرب( :أكثر اآلثار املرفوعة عن عمار ضربة واحدة ،وما روي من ضربتني ،فكلها مضطربة)
فذهب احلنفية والشافعية إىل أن الواجب يف التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين وذهبوا إىل أن الواجب يف
اليدين هو مسحهما إىل املرفقني ،وذهب املالكية واحلنابلة إىل أن الواجب ضربة واحدة والفرض يف مسح اليدين إىل
الكوعني والزيادة إىل املرفقني سنة عند املالكية.
﴿ َوَيْس َٔـُلْو َنَك َعِن اْلَم ِح ْيِض ۗ ُقْل ُه َو َاًذۙى َفاْعَتِزُلوا الِّنَس ۤاَء ىِف اْلَم ِح ْيِۙض َواَل َتْق َرُبْوُه َّن َح ىّٰت َيْطُه ْرَن ۚ َفِاَذا َتَطَّه ْرَن َفْأُتْوُه َّن
ِم ْن َح ْيُث َاَم َرُك ُم الّٰل ُهۗ ِاَّن الّٰل َه ِحُي ُّب الَّتَّواِبَنْي َوِحُيُّب اْلُم َتَطِّه ِرْيَن ﴾
-1حرص الصحابة على تعلم أمر دينهم؛ لقوله تعاىل ( :ويسألونك ) .
-3 .أنه ﷺ مبلغ عن اهلل -عز وجل -لقوله تعاىل ُ ﴿ :قْل ُه َو َأًذى ) اآلية.
-4أن احليض أذى وقدر جنس ننت ،قدره اهلل على النساء ،ترتك املرأة بسببه الصالة والصيام ،ومينع الرجل من مجاع
وعن مسروق قال :قلت لعائشة :ما حيل للرجل من امرأته إذا كانت حائًض ا؟ قالت :كل شيء إال الفرج.
وعنها رضي اهلل عنها قالت« :كانت إحدانا إذا كانت حائضا ،فأراد رسول اهلل اهلل أن يباشرها أمرها أن تتزر من فور
حيضتها ،مث يباشرها .قالت :وأيكم ميلك إربه ،كما كان النيب ميلك إربه» .أخرجه البخاري ومسلم
وعن ميمونة بنت احلارث رضي اهلل عنها قالت« :كان النيب ﷺ إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه ،وهي
حائض ،أمرها فاتزرت أخرجه البخاري ومسلم
فالذي حيرم من احلائض مباشرهتا يف الفرج ،وهذا جممع على حترميه .أما ما عدا الفرج فجائز مباشرهتا فيه سواء كان
فوق اإلزار أو حتته.
وما ورد من اآلثار يف النهي عن جمامعتها حتت اإلزار ،فهو حممول على االحتياط ،لئال يتوصل إىل اجلماع يف الفرج،
اجملمع على حترميه.
-6إثبات احلكمة يف أحكام اهلل -عز وجل -الشرعية ،لقوله تعاىل ُ ﴿ :ق ُه َأًذى َفاْعَتِزُلوا الِّن ا يِف
َس َء ْل َو
اْلَم ِح يِض ) فأمر عز وجل باعتزال النساء يف احمليض؛ ألن احليض أذى ،وقدم ذكر احلكمة والعلة على احلكم ،ليكون
ذلك أدعى لقبول احلكم.
ِم ِا
-7تأكيد وجوب اعتزال مجاع النساء يف الفرج حال احليض ،وحترمي ذلك ،لقوله تعاىل َ ﴿ :ف َذا َتَطَّه ْرَن َفْأُتْوُه َّن ْن
َح ْيُث َاَم َرُك ُم الّٰل ُه﴾ ،فمن وطئ زوجته يف الفرج حال احليض فهو أئم وعليه التوبة واالستغفار.
-8إذا طهرت املرأة من احليض ،بأن انقطع دمها ،وتطهرت باالغتسال باملاء ،أو بالتيمم ،عند فقد املاء ،أو تعذر
استعماله جاز وطؤها يف الفرج ،لقوله تعاىل َ ﴿ :فِإَذا َتَطَّه ْرَن َفْأُتوُه َّن ِم ْن َح ْيُث َأَم َرُك ُم اهلل﴾ ،واألمر هنا لإلباحة ألنه
أم بعد حظر.
-9إذا طهرت احلائض ،بأن انقطع دمها مل جيز وطؤها حىت تغتسل؛ لقوله تعاىل :حىت يظهرن ) بتشديد الطاء
واهلاء .وقوله تعاىل ( :فإذا تطهرن ) .
-10وجوب اغتسال احلائض بعد انقطاع احليض ،لقوله تعاىل َ ﴿ :فِإذا تطهرن -11 .حترمي وطء النساء يف
أدبارهن ملفهوم قوله تعاىل َ :فْأُتوُه َّن ِم ْن َح ْيُث َأَم َرُك ُم اُهلل ) أي :يف الفرح ،دون الدير.
الموضوع الرابع :
الَّس اِء َل ِليَّنَك َلًة َض ا ا ِل األحكان الفقهية املستنبطة من قول اهلل تعاىل َ ﴿ :قْد َنرى تقل َوْج ِه َك يِف
َم َف ُنَو َقْب َتْر َه َفْو َب
ِم ِهِّب ِك ِل ِذِإ َّل ُّل
ُأوُتوا اْل َتاَب َيْع َلُم وَن َأَّنُه اَحْلُّق ْن َر ْم َوْجَه َك َش ْطَر املسجد احلرام وحيث َم ا ُك نُتم َفَو وا ُوُج وَه ُك ْم َش ْطَرُه َو َّن ا يَن
َوَم ا الَّلُه ِبَغاِفٍل َعَّم ا يعملون﴾ [سورة البقرة]144 :
المعنى اإلجمالي
كثريًا ما رأينا تردد بصرك -يا حممد -جهة السماء ،تطلعًا للوحي وتشوقًا لتحويل القبلة ،فتوجهتك إىل قبلة حتيها،
فتوجه يف صالتك حنو املسجد احلرام ،وأنتم -أيها املؤمنون -استقبلوا بصالتكم جهته أيضًا ،فهي قبلتكم وقبلة
أبيكم إبراهيم ،وإن أهل الكتاب ليعلمون أن ذلك التويل شطر املسجد احلرام ،هو احلق املنزل على نبيه ولكنهم
يفتنون ضعاف املؤمنني ،ليشككوهم يف دينهم ،بإلقاء الشبهات واألباطيل يف نفوسهم ،وما اهلل يعاقل عما يعملون
فهو جل ثناؤه العليم بالظاهر والباطن ،احملاسب على ما يف السرائر.
سبب النزول
أ -أخرج البخاري ومسلم عن الرباء بن عازب أن النيب اهلل كان أول ما نزن املدينة نزل على أخواله من األنصار ،وأنه
صلى إىل بيت املقدس منة عشر شهرًا ،وكان يعجبه أن تكون قبلته إىل البيت ،وأنه صلى أول صالة صالها ( صالة
العصر) وصلى معه قوم ،فخرج رجل ممن كان صلى معه قمر على أهل املسجد وهم راكعون ،فقال :أشهد باهلل لقد
صليت مع النيب ﷺ قبل مكة ،فداروا كما هم قبل البيت ،وكان الذي قد مات على القبلة قبل أن حتول قبل
البيت رجاًال قتلوا مل ندر ما تقول فيهم فأنزل اهللَ﴿ :وَم ا َك اَن اُهلل ِلُيِض يَع َمبا َنُك ْم ﴾.
ب -وعن الرباء أن رسول اهلل ﷺ كان يصلي حنو بيت املقدس ،ويكثر النظر إىل السماء ينتظر أمر اهلل فأنزل
اهلل :وقد نرى تقلب وجهك يف السماء فقال رجال من املسلمني وددنا لو علمنا علم من مات منا قبل أن تصرف
إىل القبلة ،وكيف بصالتنا خو بيت املقدس ﴿َوَم ا َك اَن اُهلل ِلُيِض يَع َمبا َنُك ْم ﴾.
وجوه القراءات
قرأ اجلمهور ﴿وما اهلل ِبَغاِفٍل َعَّم ا َيْع َم ُلوَن ﴾ .بالياء ﴿يف يعملون﴾ فيكون وعيدًا ألهل الكتاب ،وقرأ احلمزة
والكسائي ﴿عَّم ا َيْع َم ُلوَن ﴾ بالتاء فيكون وعيدًا للفريقني :املؤمنني والكافرين.
لطائف التفسير
اللطيفة األوىل :قال الزخمشري :إن (قد) هنا مبعىن (رمبا) وهي تلتكثري ،ومعناه كثرة الرؤية ،والتعبري بقوله تعاىل :وقد
ترى مبعىن قد رأينا ،ألن وقد تقلب املضارع ماضيًا كما يقول النحاة ومنه قوله تعاىل :وقد يعلم اهلل املعوقني)
[األحزاب ]18 :وقولهَ﴿ :و َلَقْد َنْع َلُم َأَّنَك يضيق صدرك) [احلجر 197 :أي قد علينا.
اللطيفة الثانية :قال احملققون من أهل التفسري :يف قوله تعاىل :وقد نرى تقلب وجهك يف السماء فلتولينك قبلة
ترضاها يف هذه اآلية تنبيه لطيف على حسن أدبه حيث انتظر الوحي ومل يسأل ربه ،وقد أكرمه اهلل تعاىل على هذا
األدب بقبلة حيبها ويهواها فقال تعاىل :فلتوليَّنَك ِقيَلة َتْرَض اها ويف سبب حمبته عليه الصالة والسالم التوجه إىل
املسجد احلرام وترك التوجه إىل بيت املقدس وجوه :
األول :خمالفة لليهود حيث كانوا يقولون :خيالفنا حممد مث يتبع قبلتنا ولوال حنن مل يدر أين يستقبل.
الثاين :أن الكعبة املشرفة كانت قبلة أبيه إبراهيم خليل الرمحن.
الثالث :أنه عليه الصالة والسالم كان يرغب يف حتويل القبلة استمالة للعرب لدخوهلم يف اإلسالم.
الرابع :منشأ الرسول ﷺ يف البلد األمني وفيه املسجد احلرام الذي هو قبلة املساجد فأحب أن يكون هذا
الشرف للمسجد الذي يف بلده ومنشته .اللطيفة العاشرة يف التعبري عن (الكعبة) باملسجد احلرام إشارة لطيفة إىل أن
الواجب مراعاة اجلهة دون العني ،والسر يف األمر بالتولية خاصًا وعامًا وقول وجهك شطر املسجد احلرام ،مث قال:
﴿َوَح ْيُت َم ا ُك نُتْم َقْو ُلوا ُوُج وَه ُك ْم َش ْطَرة) مع أن خطاب اليت حطاب ألمته هو االهتمام لشأن القبلة ،ودفع توهم أن
الكعبة قبلة أهل املدينة وحدهم ،ألن األمر بالصرف كان فيها ،فرمبا فهم أن قبلة بيت املقدس ال تزال باقية .قال
الراغب :أما خطابه اخلاص فتشريفًا له وإجيابًا لرغبته عليه الصالة والسالم ،وأما خطابه العام بعده فألنه كان جيوز أن
يعتقد أن هذا قد خص عليه الصالة والسالم به ،كما خص يف قوله )قيم اليل( [املزمل ،[12 :وملا كان حتويل القبلة
له خطر خصهم خبطاب مفرد.
األحكام الشرعية :
ورد ذكر (املسجد احلرام) له يف آيات متفرقة من القرآن الكرمي ،ويف السنة املطهرة أيضًا ،وقصد به عدة معان:
األول :الكعبة ،ومنه قوله تعاىل﴿ :قول وجهك شطر املسجد احلرام) أي جهة الكعبة.
الثاين :املسجد كله ،ومنه قوله ﷺ « :صالة يف مسجدي هذا خري من ألف صالة فيما سواه إال املسجد
احلرام» وقوله عليه الصالة والسالم « :ال تشد الرحال إال إىل ثالثة مساجد :املسجد احلرام ،ومسجدي هذا،
واملسجد األقصى» .
الثالث :مكة املكرمة كما يف قوله تعاىل :اإلسبحان الذي أسرى بعبده ليًال من املسجد احلرام إىل املسجد األقصى)
[اإلسراء ]1 :وكان اإلسراء من مكة املسجد احلرام [الفتح )25( :وقد صدورهم عن دخول مكة.
املكرمة ،وقوله تعاىل :هم الذين كفروا وصدوُك م عن الرابع :احلرم كله (مكة وما حوهلا من احلرم كما يف قوله تعاىل :
وإمنا املشركون جنس فال يقربوا املسجد احلرام بعد علمهم هذا كم [التوبة ]28 :واملراد منعهم من دخول احلرم.
واملراد باملسجد احلرام هنا هو املعىن األول (الكعبة) واملعىن :قول وجهك شطر الكعبة.
الحكم الثاني :هل يجب استقبال عين الكعبة أم يكفي استقبال جهتها؟
استقبال القبلة فرض من فروض الصالة ،ال تصح الصالة بدونه ،إال ما جاء يف صالة اخلوف والفزع ،ويف صالة
النافلة على الداية أو السفينة ،فله أن يتوجه حيث توجهت به دابته ملا رواه أمحد ومسلم والرتمذي :أن النيب كان
يصلي على راحلته حيثما توجهت به ،وفيه نزلت (َفَأْيَنَم ا ُتَوُّلوا فتم وجه اهلل) (: 115البقرة)
وذهب العلماء إىل أن من مل يشاهد الكعبة فليتجه إىل جهتها واستدلوا بالكتاب والسنة وعمل الصحابة ،واملعقول.
أ -أما الكتاب :مظاهر قوله تعاىل :القول وجهك شطر املسجد احلرام ومل يقل :شطر الكعبة ،فإن من استقبل
اجلانب الذي فيه املسجد احلرام ،فقد أتى مبا أمر به سواء أصاب عني الكعبة أم ال.
ب -وأما السنة :فقوله عليه الصالة والسالم « :ما بني املشرق واملغرب قبلة».
وحديث« :البيت قبلة ألهل املسجد واملسجد قبلة ألهل احلرم ،واحلرام قبلة ألهل األرض يف مشارقها ومغارهبا من
أمين» .
ج -وأما عمل الصحابة فهو أن أهل (مسجد قباء) كانوا يف صالة الصبح باملدينة ،مستقبلني لبيت املقدس،
مستدبرين الكعبة ،فقيل هلم :إن القينة قد حولت إىل الكعبة ،فاستداروا يف أثناء الصالة من غري طلب داللة ،ومل
ينكر النيب عليهم ،وحتمي مسجدهم (بذي القبلتني) .ومعرفة عني الكعبة ال تعرف إال بأدلة هندسية يطول النظر
فيها ،فكيف أدركوها على البديهة يف أثناء الصالة ،ويف ظلمة الليل؟
د -وأما املعقول :فإنه يتعذر ضبط (عني الكعبة) على القريب من مكة ،فكيف بالذي هو يف أقاصي الدنيا من
مشارق األرض ومغارهبا؟ ولو كان استقبال عني الكعبة واجبًا ،لوجب أال تصح صالة أحد قط ،ألن أهل املشرق
واملغرب يستحيل أن يقفوا يف حماذاة نيف وعشرين ذراعًا من الكعبة ،وال بد أن يكون بعضهم قد توجه إىل جهة
الكعبة ومل يصب عينها ،وحيث اجتمعت األمة على صحة صالة الكل علمنا أن إصابة عينها على البعيد غري واجبة
وال يكلف اهلل نفسًا إال وسعها [البقرة]286 :
ومن جهة أخرى :فإن الناس من عهد النيب عليه الصالة والسالم بنوا املساجد ،ومل حيضروا مهندسًا عند تسوية
احملراب ،ومقابلة العني ال تدرك إال بدقيق نظر اهلندسة ،ومل يقل أحد من العلماء إن تعلم الدالئل اهلندسية واجب،
فعلمنا أن استقبال عني الكعبة غري واجب.
وبناء على اخلالف السابق :هل القبلة عني الكعبة أم جهتها؟ النيب خالف آخر يف حكم الصالة فوق الكعبة ،هل
تصح أم ال؟
فذهب الشافعية واحلنابلة :إىل عدم صحة الصالة فوقها ،ألن املستعلى عليها ال يستقبلها إمنا يستقبل شيئًا آخر.
وأجاز احلنفية :الصالة فوقها مع الكراهية ،ملا يف االستعالء عليها من سوء األدب ،إال أن الصالة نصح بناء على
مذهبهم من أن القبلة هي اجلهة :من قرار األرض إىل عنان السماء ،واهلل تعاىل أعلم.
الحكم الرابع :أين ينظر المصلي وقت الصالة؟
وقال اجلمهور :يستحب أن يكون نظره إىل موضع سجوده ،وقال شريك القاضي :ينظر يف القيام إىل موضع
السجود ،ويف الركوع إىل موضع قدميه ،ويف السجود إىل موضع أنفه ،ويف القعود إىل حجره قال القرطيب :يف هذه اآلية
حجة واضحة ملا ذهب إليه مالك ومن وافقه ،يف أن املصلي حكمه أن ينظر أمامه ال إىل موضع سجوده لقوله تعاىل:
﴿وقول وجهك شطر املسجد احلرام) .
حكمة التشريع
هذا البيت العتيق الذي رفع قواعده أبو األنبياء إبراهيم عليه السالم ،هو قبلة أهل األرض ،كما أن البيت املعمور قبلة
أهل السماء يطوفون حوله يستحون حممد اهلل ،وقد اقتضت حكمة اهلل أن جيمع (أمة التوحيد على قبلة واحدة ،عامر
خليله إبراهيم عليه السالم أن يبيين هذا البيت العتيق ،ليكون مثابة للناس وأمنًا ،ومصدرًا لإلشعاع والنور الرباين،
ومكانًا حلج بيته املعظم ،يأتيه الناس من كل فج عميق ليشهدوا منافع هلم ويذكروا اسم اهلل يف أيام معلومات) [احلج:
. ]28وقد أمر اهلل رسوله الكرمي بالتوجه إليه يف الصالة ،بعد أن توجه إىل بيت املقدس سنة عشر أو سبعة عشر
شهرًا ،وذلك احلكمة جليلة هي امتحان ميان الناس .و اختبار صدق يقينهم ،ليظهر املؤمن الصادق من الكاذب
املنافق ،وليعيد هلذه األمة اليت اختارها اهلل ،قيادة ركب اإلنسانية ،بعد أن ختلت عنها ردحًا من الزمان كما قال تعاىل:
﴿ُه َو احتياكم َوَم ا َجَعَل َعَلْيُك م يف الدين من خرج ملة أبيُك ْم ِإْبَراِه يَم ُه َو مَس اُك ُم املسلمني من قبل ويف هذا ليكون
الرسول شهيدًا َعَلْيُك ْم َو َتُك وُنوا ُش َه َد اء َعَلى الناس [ ) ...احلج.]178 :
فالكعبة املشرفة -زادها اهلل شرفًا وتعظيمًا -هي رمز التوحيد -ومظهر اإلميان ،وقبلة أيب األنبياء إبراهيم خليل
الرمحن وحوهلا تلتقي أفئدة املاليني من املؤمنني ألهنا مظهر وحدهتم ،وسر اجتماع كلمتهم ،فال عجب أن يأمرهم اهلل
تعاىل بالتوجه إليها يف صالهتم ،أينما كانوا يف مشارق األرض ومغارهبا كما قال تعاىل :قول وجهك شطر املسجد
احلرام وحيث ما ُك نُتْم َفَوُّلوا ُوُج وَه ُك ْم َش ْطَرُه ......
وثانيها :أن املقصود من الصالة حضور القلب ،وهذا احلضور ال حيصل إال مع السكون وترك اإللتفات واحلركة ،وهذا
ال يتأتى إال إذا بقي يف مجيع صالته مستقبًال جلهة واحدة على التعيني ،فإذا اختص بعض اجلهات مبزيد شرف كان
استقبال تلك اجلهة أوىل.
وثالثها :أن اهلل تعاىل حيب األلفة بني املؤمنني ،وقد ذكر املئة هبا عليهم حيث قال :واذكروا نعمت اهلل َعَلْيُك ْم ِإْذ
ُك نُتْم َأْعَد اًء َفَأْلَف َبَنْي ُقُلوِبُك ْم َفَأْص َبْح ُتْم بنعمته إخوانًا [ )...آل عمران ]103 :ولو توجه كل واحد يف صالته إىل
ناحية ،لكان ذلك يوهم اختالفًا ظاهرًا ،معني اهلل تعاىل هلم جهة معلومة ،وأمرهم مجيعًا بالتوجه حنوها ،ليحصل هلم
املوافقة بسبب ذلك.
ورابعها :أن اهلل تعاىل حص الكعبة بإضافتها إليه يف قوله﴿ :وطهر بييت) [احلج )26( :وخص املؤمنني بإضافتهم
بصفة العبودية إليه يا عبادي) وكننا اإلضافتني للتخصيص والتكرمي ،فكأنه تعاىل قال :يا مؤمن أنت عبدي ،والكعبة
بييت ،والصالة خدميت ،فأقبل بوجهك يف خدمين إىل بيين ،وتقلبك إيل . )..