Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 51

‫‪ - ۱‬معىن املقارنة والفقه املقارن‬

‫معىن املقارنة يف اللغة‪:‬‬

‫املقارن ة معناه ا يف اللغ ة اجلم ع واملقابل ة‪ ،‬م أخوذ من ق رن الش يء بالش يء‪ ،‬وق رن بينهم ا إذا مجعهم ا وقاب ل‬
‫بعض هما ببعض‪ ،‬يق ال‪ :‬دور ق رائن إذا ك انت متقابل ة أو متج اورة‪ ،‬ومن ه ِّمُسي اجلزء من الزم ان قرن ًا جلمع ه كث ريًا من‬
‫الس نني‪ ،‬وّمُسي اجلم ع من الّن اس يف عه د واح د قرن ًا جلمع ه أف رادًا كثرية‪ .‬ق ال اهلل تع اىل ‪( :‬مث أنَش ْأَنا ِم ْن َبْع ِدِه ْم َقْرنا‬
‫آَخ ِرين ((المؤمنون‪ .]٣١ :‬وقال سبحانه‪َ﴿ :‬أْمَل َيَرْو ا َك ْم َأْه َلْك َن ا من قبلهم من قرٍن َم َك نُه ْم يِف اَأْلْر ِض ) [األنعام‪.]٦ :‬‬
‫آخِريَن ) [املؤمنون‪ ]۳۱ :‬وقال تعاىل‪َ﴿ :‬فَم ا َباُل‬ ‫وجيمع القرن على قرون كما قال تعاىل‪﴿ :‬مث َأنَش ْأَنا ِم ْن َبْع ِدِه ْم َقْرنا َ‬
‫اْلُق ُروِن اُأْلوىَل ) [طه‪ ،]٥١ :‬ويس ّم ى صديق اإلنسان املالزم له قرين ًا‪ ،‬كما قال تعاىل‪َ﴿ :‬ق اَل َقاِئٌل ِم ْنُه ْم ِإيِّن َك اَن يِل‬
‫َقِرين ) [الصافات‪ ،]٥١ :‬وقد يسمى املالزم للشخص مطلقا قرينا أيضًا كما قال تعاىل‪َ﴿ :‬وَم ن َيْعُش َعن ِذْك ِر ال َّرَمْحِن‬
‫ُنَق ِّيُض َلُه َش ْيَط ًانا َفُه َو َلُه قرين [الزخرف‪ ]٣٦ :‬؛ أي‪ :‬مالزم له ال ينفك عنه‪ ،‬وجيمع القرين على قرناء كما قال تعاىل‬
‫‪َ( :‬وَقَّيْضَنا ُهَلْم ُقرناء َفَزَّيُنوا ُهَلم َّم ا َبَنْي َأْيِد يِه ْم َوَم ا َخ ْلَف ُه ْم [فصلت‪.]٢٥ :‬‬

‫هذا معىن املقارنة يف اللغة وقد عرفنا أنه يرجع إىل معىن اجلمع واملقابلة‪.‬‬

‫وإذن فيمكن أن نع رف مع ىن الفق ه املق ارن بأَّنه ‪ :‬الفق ه ال ذي جيم ع في ه بني أق وال األئم ة وأدلته ا‪ ،‬ومقابل ة‬
‫بعضها ببعض ‪.‬‬

‫وهذا تعريف عام وأَّم ا إذا أردنا أن نعرفه تعريف ًا خاص ًا كما اصطلح عليه العلماء‪ ،‬فيجب أن نقدم بني يدي‬
‫ذلك تفصيًال ملعاين أجزاء مجلته هكذا‪.‬‬

‫معىن الفقه املقارن اصطالحًا‪:‬‬

‫إذا علمت أن معىن الفقه لغة هو‪ :‬الفهم مطلقًا أو هو فهم األشياء الدقيقة عند بعض احملققني‪ ،‬وقد سبقت‬
‫ل ك معرف ة ذل ك يف أوائ ل كتب أص ول الفق ه‪ ،‬كم ا ذك ر فيه ا أيض ًا أن مع ىن الفق ه اص طالحًا ه و ‪ :‬العلم باألحكام‬
‫الشرعية الفرعية املستنبطة من أدلتها التفصيلية‪ ،‬وقد علمت أيضًا َّمما تقّد م أَّن معىن املقارنة هو اجلمع واملقابلة فحينئذ‬
‫ميكنك أن تعرف معىن الفقه املقارن اصطالحًا‪ ،‬وأن تعريفه هو كما يلي‪:‬‬

‫الفقه املقارن هو‪ :‬مجع أق وال العلماء املختلفة احلكم الشرعي للمسألة الواحدة الفرعية مع أدلتها ومقابلة‬
‫بعضها ببعض‪َّ ،‬مُث مناقشتها مناقشة علمية ليظهر بعد ذلك أي األق وال أقوى دليًال‪ ،‬وأقرهبا متشيًا مع قواعد الش ريعة‪،‬‬
‫حىّت يكون هو األرجح‪.‬‬

‫‪ -2‬موضوع املقارنة‬

‫مما ذكرناه من معىن الفقه املقارن ميكن أن ُيعرف موضوع املقارنة‪ ،‬وأَّنه هو املسائل الفرعية املختلف فيها بني‬
‫علماء الشريعة من أئمة املذاهب وغريهم‪ ،‬ممن سبقهم أو حلقهم من اجملتهدين‪.‬‬

‫فق د اختلف علماء الس لف واخللف يف كثري من املس ائل‪ ،‬ونقلت إلينا أق واهلم مدعم ة بأدلته ا املختلف ة‪ ،‬أو‬
‫وجهات نظرهم يف الدليل الواحد‪ ،‬إذا كان حيمل عدة أوجه‪.‬‬

‫فمثًال‪ :‬ق د اختلف وا يف ف رض الني ة يف الوض وء فق ال بعض األئم ة (كاحلنفي ة)‪ :‬إهَّن ا ليس ت فرض ًا من ف رائض‬
‫الوض وء‪ ،‬مس تدًال بأهَّن ا مل ُت ذكر يف الق رآن‪ ،‬وب أَّن الوض وء شرط من شرائط الَّص الة‪ ،‬فيمكن قياس ه على الطه ارة من‬
‫النجاسة والنية ليست شرطًا فيها وذهب آخرون من األئمة إىل أَّن الّنية فرض من فروض الوضوء اليت ال يصح الوضوء‬
‫بدوهنا وال جتوز به الَّص الة إاَّل إذا نوى‪ ،‬مستدلني حبديث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إمَّن ا األعمال بالنيات‪.....‬‬
‫احلديث‪ ،‬فإَّنه يدل على أَّن كّل عمل ال بد فيه من النية‪ ،‬وملا كان الوضوء عمًال وجب أن تكون الّنية من أركانه‪ ،‬كما‬
‫قالوا أيض ًا ‪ :‬إّن الوضوء طهارة من احلدث ال تستباح الَّص الة إال هبا‪ ،‬وهو بذلك نظري التيمم عند وجود سببه‪ ،‬وملا‬
‫ك ان ال تيمم متفق ًا على اشرتاط الّني ة لص حته وجب أن يكون الوض وء ك ذلك‪ ،‬كم ا اختلف وا ك ذلك يف فرض ية ق راءة‬
‫الفاحتة يف الَّص الة‪ ،‬فذهب كثري من األئمة إىل أن قراءة الفاحتة من فروض وله الَّص الة اليت ال تصح إال هبا عمًال بقوله‬
‫‪ :‬ال صالة ملن مل يق رأ فيها بفاحتة الكتاب»‪ ،‬وأمثال هذا احلديث الش ريف الذي يقضي ك ّل منها بأَّنه ال بد لصحة‬
‫الصالة من قراءة الفاحتة‪ ،‬وذهب غريهم من األئمة (كاحلنفية أيض ًا رمحهم اهلل) إىل أن ق راءة الفاحتة يف الَّص الة ليست‬
‫فرض ًا تتوقف عليه صحة الَّص الة‪ ،‬بل تصح الَّص الة بدوهنا‪ ،‬وأَّن أي جزء من القرآن ‪ :‬يصحح الَّص الة أخذا بقوله‬
‫تعاىل‪َ﴿ :‬فاْقَرُه وا َم ا َتَك َّس َر ِم َن القرءان ‪ .‬وإن كان تارك الفاحتة يعترب عندهم مسيئًا وصالته ناقصة إىل غري ذلك من‬
‫املسائل اليت اختلف العلماء فيها تبعًا الختالف الدليل ‪.‬‬

‫وكذلك اختلفوا يف مسائل أخرى دليلها واحد‪ ،‬لكنه حيتمل وجهات من النظر‪.‬‬

‫فمن ذلك اختالفهم يف عَّدة املطلقة اليت هي من ذوات القروء وليست حبامل أتعترب عدهتا باحليض فتكون‬
‫ثالث حيضات؟ أم تكون بالطهر فتعد بثالثة أطهار‪ ،‬تبعًا الختالفهم يف معىن القرء املراد من قوله تعاىل‪َ( :‬واْلُم َطَّلَق ُت‬
‫يرتبصَن ِبَأنُف ِس ِه َّن َثَلَثَة ُقُروو؛ ألَّنه لفظ مشرتك يطلق على كل من الظهر واحليض‪.‬‬

‫ومثل هذا اختالفهم يف املقدار املفروض مسحه من ال رأس يف الوض وء؛ أهو كل ال رأس أم بعضه‪ ،‬وإذا كان‬
‫املفروض هو البعض فهل هو بعض غري حمدود؟ أم هو حمدود ربع ال رأس مثًال ‪ ،‬تبع ًا الختالفهم يف معىن الباء يف قوله‬
‫تعاىل ‪َ) :‬واْم َس ُح وا ِبُرُءوِس ُك ْم ) وتبعًا للمأثور من عمله صلى اهلل عليه وسلم يف ذلك‪.‬‬

‫وغري هذا كثري من األمثلة اليت سرتد عليك فيما ستقرأه إن شاء اهلل تعاىل‪.‬‬

‫وخنلص من هذا إىل أن موضوع املقارنة إذا كان هو املسائل املختلف فيها بني األئمة فال جترى املقارنة حينئذ‬
‫يف املسائل املتفق عليها س واء أكانت من األصول أم من الفروع‪ ،‬كما أهَّن ا أيض ًا ال جترى يف املسائل األصلية‪ ،‬س واء‬
‫أكانت من العقائد اليت تذكر يف علم التوحيد‪ ،‬أم كانت من مسائل أصول الفقه اليت تذكر يف كتبه‪ ،‬كما ُيعلم ذلك‬
‫لكّل مطل ع يف كتبه ا‪ ،‬كم ا أن ه خيرج عن موض وع املقارن ة م ا ي ذكر أحيان ًا من مقارن ة الش ريعة اإلس المية أو بعض‬
‫مسائلها بالشرائع األخرى‪ ،‬سواء أكانت مساوية أم وضعية‪ ،‬فإَّن ذلك ال يسمى بالفقه املقارن ‪،‬اصطالحًا‪ ،‬كما خيرج‬
‫عن موضوع هذا الفن بالطرق األوىل ما يذكر من املسائل اخلالفية اليت ليست هلا صلة بالتشريع اإلسالمي‪.‬‬
‫‪ -3‬مصادر الفقه اإلسالمي ونشأة املذاهب الفقهية‬

‫أوًال ‪ :‬مصادره يف عصر الُّنبَّوة ‪:‬‬

‫بعث رسول اهلل اهلل إىل الَّناس كافة خامتًا للُّرسل بدين ناسخ جلميع األديان قبله‪.‬‬

‫فكان ال بد أن يكون دينه صاحلًا ملا يتلوه من األزمان كما جاءت شريعته شاملة لسائر البشر‪ ،‬فكان من‬
‫حكمة اهلل تعاىل أن أنزل عليه كتابًا منريًا مجع بني دفتيه أصول الشريعة الغ راء ميسرة للذكر‪ ،‬ومل يتعرض لفروع املسائل‬
‫إال قليًال كما يف املواريث وحنوها؛ ألهَّن ا وإن تكن فروع ًا فهي يف احلقيقة تأصيل متني ومنهاج قومي لقطع ن وازع الشر‪،‬‬
‫وس د ب اب فتن ة االختالف وأَّم ا أغلب أحكام الق رآن فق د ن زل أص وًال وقواع د يأخ ذ منه ا اجملته دون وأول و العلم م ا‬
‫يهديهم إليه رهبم من التفصيالت والفروع اليت ميكنهم استنباطها من نور آي الذكر احلكيم‪.‬‬

‫ُس َّنة وكان جبانب القرآن يف املقام الثاين من التش ريع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم تق ّرر ما فَّص له القرآن الكرمي‪ ،‬أو‬
‫تفصل ما أمجله وتشرحه شرحًا يبنّي املراد منه‪ ،‬أو تلحق بأص وله وقواعده ما أشارت إليه آيات الذكر احلكيم‪ ،‬مما قد‬
‫يندرج حتتها من أحكام ولوال بيان الُّس َّنة مل َيْس َتنِب للمجتهدين كما قد ما تضع يعترب أصال لغريه يرجع إليه يف فروع‬
‫كثرية‪.‬‬

‫وإذن؛ فاملص ادر ال يت يرج ع إليه ا الفق ه اإلس المي يف عص ر النب وة حمص ورة يف الق رآن الكرمي‪ ،‬والُّس َّنة النبوي ة‬
‫الشريفة ‪.‬‬

‫كيفية نزول القرآن‬

‫فأما القرآن الكرمي فقد كان ينزل على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم آيات أو سورًا متفرقة على حسب‬
‫الوقائع واحلوادث اليت كانت حتدث يف عهده ‪ ،‬فينزل عليه القرآن يف شأهنا‪.‬‬
‫كما قد ينزل إجابة عن أسئلة ُيسأل عنها ‪ ،‬أو استفتاءات ُيستفىت يف أحكامها ‪.‬‬

‫فمن النوع األول‪ :‬كثري من السور املكية كالضحى والكوثر وسورة األنعام وصدر سوريت املزمل واملدثر وأغلب‬
‫السور املكية‪ ،‬وبعض آيات السور املدنية كسورة اجملادلة والفتح والقتال وغريها من السور كثري‪.‬‬

‫ِر ِس ِر‬
‫ومن النوع الثاين‪ :‬ما يوجد غالبًا يف تضاعيف السور املدنية؛ كقوله تعاىل ‪َ( :‬يْسَتُلوَنَك َعِن اَخْلْم َواْلَم ْي ُقْل‬
‫فيهما إٌمْث َك ِب ٌري ‪ ،)...‬وقوله‪َ﴿ :‬وَيْس َتُلوَنَك َعِن اْلَيَت اَم ى ُقإْل صالح هلم خري ‪ ،)...‬وقوله‪َ ﴿ :‬يْس َتُلوَنَك َعِن اَأْلنَف اِل ُقِل‬
‫ِت‬ ‫ِح‬ ‫ِهلل‬
‫اَأْلنَف اُل َوالَّرُس ول‪ ،‬وقوله‪َ﴿ :‬وَيْسَتُلوَنَك َعِن اْلَم يِض ُقْل ُه َو َأَذى)‪ ،‬وقوله جل شأنه‪َ( :‬يْس َتْف ُتوَنَك ُقِل الَّلُه ُيْف يُك ْم‬
‫يِف الَك لل ه‪ ،‬وقول ه‪َ﴿ :‬وَيْس َتْف ُتوَنَك يِف الِّنَس اِء ُق ِل الَّل ُه ُيْف ِتيُك ْم ِفيِه َّن ‪َّ ،)...‬مُث ك ان جربي ل ي نزل ك ل ع ام يف رمض ان‬
‫فيت دارس القرآن م ع رسول اهلل ‪ ،‬ويرتبه له آي ات وسورًا كرتتيبه املوج ود اآلن يف املص احف وإمَّن ا مل ينزل الق رآن مجل ة‬
‫واحدة كما كانت تنزل الكتب السماوية على الّرسل السابقني حلكم عالية يعلمها رّب العاملني‪ ،‬وقد أشار إىل بعضها‬
‫يف قوله سبحانه ‪ :‬وقال الذين كفروا لوال نزل عليه الق ران مجلة وحدة كذلك لنبت ِبِه ُفَؤاَد َك َوَرَتْلَت ُه َتْرِتياًل وال يأتونك‬
‫ميثل إال جنتك ِباَحْلِّق َوَأْح َسَن َتْف ِس ريًا ‪ ،‬وقوله جل شأنه‪َ( :‬و ُقْرءاَنا َفَرْقنُه لتقراه على الَّناِس َعَلى ُمْك ٍث َوَنَّزْلَتُه َتنِزيال‬

‫وأَّم ا الُّس َّنة النبوية الش ريفة فكانت متمثلة يف أقواله وأفعاله وتقريراته‪ ،‬بل كل س ريته وما اشتملت عليه من‬
‫صفات كرمية وأخالق مجيلة ومثل عليا‪ ،‬كل ذلك يعترب سننًا له عليه الَّص الة والَّس الم‪ ،‬بيد أَّن ُس َّنته التش ريعية أخص‬
‫من ذلك إذ ختتص مبا فيه بيان األحكام‪.‬‬

‫وكان الَّص حابة رض وان اهلل عليهم إذا نزل هبم أمر‪ ،‬أو أرادوا بيان حكم فزع وا إليه ليأخذوا عنه دينهم‪ ،‬فيبني‬
‫هلم احلكم تارة بكتاب اهلل ‪ -‬ينزل به الوحي عليه من ربه ‪ -‬وتارة أخرى يفتيهم بقوله عليه الَّص الة والَّس الم‪ ،‬أو فعله‪،‬‬
‫أو تقري ره ا بنِّي للحكم‪ ،‬ك أن ي رى أح دهم يعم ل عمًال فيس كت علي ه‪ ،‬إذ ق د ت نّزه أن يس كت على منكر‪ ،‬كم ا أَّن‬
‫ُمل‬
‫اَّل‬‫ِإ‬ ‫ِإ‬ ‫ِن‬ ‫ِط‬
‫أفعاله وأقواله إ ا هي بوحي من ربه مصداقًا لقوله تعاىل‪ :‬و وما ين ُق َع اَهْلَوى ْن ُه َو َوْح ى ُيوَح ى ‪ ،‬وهلذا أمر‬ ‫مَّن‬
‫اهلل باإلقت داء ب ه واتباع ه يف أوام ره ونواهي ه فق ال تع اىل‪َ﴿ :‬وَأِط يُع وا الَّل َه َوَأِط يُع وا الَّرُس ول‪ ،‬وق ال‪َ﴿ :‬وَم ا اَلُك م الَّرُس وُل‬
‫َفُخ ُذ وُه َوَم ا َنَه نُك ْم َعْنُه َفانَتُه وا)‪ ،‬وقال‪َ﴿ :‬فْلَيْح َذ ِر اَّلِذ يَن َخياِلُفوَن َعْن َأْم ِرِه َأن ُتِص يَبُه ْم ِفْتَنٌة َأْو ُيِص يَبُه ْم َعَذ اٌب َأِليم)‪.‬‬

‫ومن هذا العرض الس ريع يت بنَّي أن التش ريع يف هذا العهد الكرمي قد احنصر يف كتاب اهلل وسنة رس وله ‪ ،‬وما‬
‫ك ان من اجته اد من ه علي ه الَّص الة والَّس الم‪ ،‬أو من ص حابته يف عه ده فـلـيـس بـخـارج عن ذل ك‪ ،‬إذ أن اجته اد‬
‫املصطفى صلى اهلل عليه وسلم ال بد أن ينزل الوحي عليه بتقريره أو تعديله وكذلك اجتهاد صحابته ال بد أن يق ّرهم‬
‫عليه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أو خيطئهم فيه ويرشدهم إىل وجه الصواب‪.‬‬

‫ويعنينا هنا بوجه خاص ‪ :‬أن نش ري إىل أن بعض الص حابة قد خيتلف م ع غ ريه منهم له يف عص ره ‪ ،‬إال أَّن‬
‫اختالفهم هذا ال يعد اختالف ًا يدخل يف موضوع املقارنة كما يظن البعض ذلك ملا قلنا من أهنم ال بد أن يرجع وا إىل‬
‫الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ويف هذه احلالة ال خيلو األمر من إحدى حاالت ثالث؛ ألَّنه إما أن يص ّوب الف ريقني‬
‫مجيعًا‪ ،‬أو خيطئهم مجيعًا‪ ،‬أو خيطئ أحدمها ويص ّوب اآلخر‪ ،‬فمثال احلالة األوىل ما حدث يف غزوة بين قريظة إذ قال‬
‫للَّص حابة ‪ :‬ال يص ّلني أح د منكم العص ر إال يف ب ين قريظ ة» فلم ا س اروا أدركتهم الَّص الة يف طري ق ف اختلفوا فص ّلى‬
‫بعضهم وأخر الباقون وملا رجع وا إىل رسول اهلل صوب الف ريقني ويف هذه احلالة ال يعد خالف ًا ؛ ألَّن تصويبه لكليهما‬
‫دليل على أَّن فعل كّل منهم جائز‪ ،‬وأَّن كًاّل منهما قد أخذ بطرف من طريف اجلواز واألخذ بأي أط راف اجلواز ال يعد‬
‫خالفًا ‪.‬‬

‫ومثال احلالة الثانية‪ :‬وهي أن خيطئ الفريقني مجيعًا ما حدث أن عّم ار بن ياسر كان هو وعمر بن اخلطاب ا‬
‫يف غزوة من الغزوات فأصبح ك ّل منهما ُج ُنبا‪ ،‬وليس معهما ماء يغتسالن به‪ ،‬فاختلفا؛ فأما عمر ف رأى أّن التيمم ال‬
‫جيزئ عن غسل اجلنابة وامتنع عن الَّص الة حىت وجد املاء فاغتسل وص ّلى‪ ،‬وأَّم ا عّم ار بن ياسر ف رأى أن التيمم جيزئ‬
‫عن اجلنابة عند فقد املاء‪ ،‬لكَّنه خلع ثيابه ومترغ جبسمه كله يف ال رتاب وص َّلى حىّت إذا وجد املاء اغتسل‪َّ ،‬مُث رجعا إىل‬

‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقَّص ا عليه خربمها‪ ،‬فقال عليه الصالة والسالم لعمر‪ :‬إّن اهلل تعاىل قال‪َ :‬أْو َلَمْس ُتُم‬
‫الِّنَس اَء َفَلْم جتدوا َم اًء َفَتَيَّم ُم وا‪ ،‬وأَّن هذا يشمل اجلنابه‪ ،‬وقال لعمار أَّنه قد كان يكفيك أن متسح وجهك ويديك‬
‫بالرتاب‪ ،‬فقد خطأمها مجيع ًا وأرشدمها إىل وجه الَّص واب‪ ،‬وإذن فقد زال اخلالف وأصبح قوالمها مع ًا كأن مل يكونا‪،‬‬
‫وصار احلكم ما وضحه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫أم ا احلالة الثالث ة‪ :‬وهي أن يص ّوب أحد الف ريقني وخيطئ اآلخر‪ ،‬فمثاهلا ما حدث أَّن بعض الصحابة كانوا‬
‫بغ زوة فج رح أحدهم يف موض ع التطه ري فاختلفوا كيف يفع ل ه ذا اجلريح عند الطه ارة فق ال بعضهم‪ :‬يتيمم‪ ،‬وقال‬
‫آخ رون‪ :‬ب ل يغتس ل باملاء فلم ا اغتس ل باملاء أص اب اجلرح منه م ا أدى إىل وفاته وملا رجع وا إىل رسول اهلل ص لى اهلل‬
‫ِذ ِإ‬
‫عليه وسلم خطأ من أفتوه بالغسل وقال‪« :‬هال سألوا إذ مل يعلم وا‪ ،‬فإَّن اهلل تعاىل يقول‪َ﴿ :‬فَتَتُلوا َأْه َل ال كِر ن ُك نُتْم‬
‫اَل َتْع َلُم وَن ‪َّ ،‬مُث دفع ديته من بيت املال إىل ورثته‪.‬‬
‫ومن هذا يتبنَّي أن قول املخطئني أصبح غري معترب‪ ،‬وقد زال اخلالف بزواله وصارت خالصة األح وال الثالثة‬
‫املتقّد مة أَّن خالف الَّص حابة يف عصره ال يعترب مم يدخل يف موضوع املقارنة‪ ،‬إذ إَّن التحقيق يف كل منهما يبني أنه ال‬
‫خالف‪.‬‬

‫ثانيًا ‪ :‬مصادر التشريع يف عهد الصحابة يل‬

‫ملا انتقل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل الرفيق األعلى‪ ،‬وانقطعت بوفاته مادة الوحي اليت كانت مصدر‬
‫التشريع والفتوى يف عصره ‪ ،‬قام الَّص حابة من بعده حبمل عبء الفتوى واستنباط األحكام فواجه وا بذلك أم رًا شاقًا‪،‬‬
‫إذ عرضت هلم من احلوادث ما مل يكن هلم به سابق عهد فاضطروا أن يبذلوا غاية ما يف وسعهم من اجلهد الستنباط‬
‫أحكامه ا وك انت ط ريقتهم يف ذل ك أهنم إذا عرض ت هلم حادث ة نظ روا يف كت اب اهلل تع اىل‪َّ ،‬مُث فيم ا علم وه من ُس َّنة‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فإن وجدوا يف نصوصهما أو يف أحدمها ما ميكن أخذ حكم احلادثة منه حكم وا فيها‬
‫مبا تقتضيه النصوص‪ ،‬وإن مل جيد أحد منهم فيما عنده من كتاب اهلل وسنة نبيه سألوا غريهم عن ذلك‪،‬فإن وجدوا‬
‫عند غريهم علمًا عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من قوله أو فعله أو قضائه قض وا به‪ ،‬كما حدث أليب بكر حني‬
‫جاءته اجلدة تطلب مرياثها من ابن بنتها الذي تويف بعد أن ماتت أمه‪ ،‬فقال هلا أبو بكر‪ :‬ما أرى لك يف كتاب اهلل‬
‫تعاىل شيئًا‪ ،‬ومل أعلم أَّن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قضى لك بشيء‪ ،‬ولكن انتظري حىت أسأل‪َّ ،‬مُث دخل على‬
‫مجع الصحابة فسأهلم هل تعلمون أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قضى للجدة بشيء من املرياث؟ فقام رجل من‬
‫الصحابة يقال له ‪ :‬حمّم د ابن مسلمة فقال ‪ :‬أشهد أَّن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قضى هلا بن بالسدس‪ ،‬فقال‬
‫أبو بكر‪ :‬هل معك شاهد آخر؟ فقام رجل آخر فشهد مبثل ما شهد به حممد بن مسلمة‪ ،‬فنفذ أبو بكر قضاء رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف اجلدة وأعطاها السدس‪.‬‬

‫ومثل هذا من احلوادث كثري‪ ،‬فأما إن أعياهم العثور على النص بعد البحث عنه واالستقصاء‪ ،‬مجع اخلليفة‬
‫رؤوس الَّص حابة من اجملته دين واملف تني وع رض عليهم احلادث ة ال يت عرض ت علي ه فأخ ذوا ينظ رون فيه ا‪ ،‬ف إن أمكنهم‬
‫إدخاهلا حتت عموم نص من كتاب اهلل أو ُس َّنة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أو قياسها على ما مياثلها من ح وادث‬
‫قد سبق أَّن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أفىت فيها مل يرتددوا يف إعطائها حكم ما أفاده عموم النص أو القياس‪،‬‬
‫ويصبح بذلك حكمها إمجاعيًا مىت اتفقوا عليه مجيعا‪ ،‬وقد حدث ذلك يف كثري من املسائل‪،‬‬

‫منها‪ :‬قتل من ارتد عن اإلسالم أو منع الزكاة بعد وفاة رسول اهلل ‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬مسألة مجع القرآن الكرمي يف مصحف واحد‪.‬‬

‫ومنها مسألة اخلالفة وملن تكون بعد وفاته ؟‬

‫فقد اختلف الَّص حابة يف بادئ األمر يف هذه املسائل كما هو معلوم من كتب احلديث‪َّ ،‬مُث استقر بعد ذلك‬
‫رأيهم وأمجعوا على احلكم يف كل منها فصارت أحكامها إمجاعية ال جيوز االختالف فيها من بعدهم؛ ألَّن اإلمجاع ال‬
‫جتوز خمالفت ه‪ ،‬وب ذلك قض ي على اخلالف يف كث ري من املس ائل ال يت ص ارت يف عه د الَّص حابة أو من بع دهم جممع ا‬
‫عليها وخرجت بذلك عن أن تكون من موضوع املقارنة ‪.‬‬

‫أما إن اختلف وا ومل يستقر رأيهم على شيء يف حكـم املسألة‪ ،‬بل كان لكّل منهم وجهة نظر تصلح لألخذ‬
‫هبا‪ ،‬نظ ر اخلليف ة يف أق واهلم‪ ،‬وه و إذ ذل ك أح دهم فاخت ار من بني ه ذه األق وال أقرهبا إىل حتقي ق املص لحة العام ة‬
‫للمسلمني‪ ،‬فقضى به وأنفذه إىل نوابه يف سائر األمصار من القضاة واملفتني وأخربهم به من غري إل زام ملن بعده بأن‬
‫يقض ي مبا قض ی ب ه كم ا ح دث أن أب ا بكر ك ان يس وي يف العط اء بني املس لمني ق ائًال ‪ :‬إمَّن ا املس لمون إخ وة‪ ،‬وإمَّن ا‬
‫نعطيهم إلسالمهم ولكّل مس ّلم حق يف بيت املال‪ ،‬فلما جاء عمر بن اخلطاب له من بعده فاضل بينهم يف العطاء‬
‫ق ائال ‪ :‬ال ُأس ّوي بني من قات ل رس ول اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم ومن قات ل مع ه‪ ،‬ولكّل منهم ا هلا وج ه ص حيح من‬
‫النظر‪.‬‬

‫وإذن؛ فخالصة ما كان يف عصر الصحابة وما تعطينا سريهتم وأعماهلم يف الفتوى والقضاء أهنم مل خيرج وا‬
‫عن كت اب اهلل وال ُس َّنة رس وله ‪ ،‬وعم ا اجتمعت علي ه كلمتهم‪ ،‬أو أذاهم إلي ه اجته ادهم ونظ رهم يف قواع د الش ريعة‬
‫العام ة وأص وهلا‪ ،‬وب ذلك احنص رت مص ادر التش ريع يف عص رهم يف أم ور أربع ة هي ‪ :‬كت اب اهلل تع اىل وس نة رس وله ‪،‬‬
‫وإمجاع اجملتهدين منهم‪ ،‬والرأي فيما اختلفوا فيه‪ ،‬وكان الرأي شامًال للقياس وغريه من النظر يف داللة النصوص احملتمل ة‬
‫واالستنباط من قواعد الشريعة العامة ومراعاة مصاحل العباد‪.‬‬
‫وأيًا ما كان فإن االختالف يف األحكام يف عصر الصحابة يعد نادرًا جبانب ما اتفق وا عليه وكان السبب يف‬
‫ذلك هو أن معظمهم مل يزل مقيما يف حاضرة اخلالفة وهي املدينة املنورة ‪ -‬على ساكنها أفضل الصالة والسالم ـ وال‬
‫سيما يف عصر اخلليفة العادل عمر بن اخلطاب له حيث كان ال يأذن ألحد من كبار الصحابة ومفتيهم باخلروج عن‬
‫املدين ة إاَّل للحاج ة امللح ة‪ ،‬وق د تس ىّن ل ه ب ذلك أن جيم ع عن د الض رورة مجي ع اجملته دين من الص حابة ل ريوا رأيهم يف‬
‫احلادثة اليت يريد أن يعلم حكمها‪ ،‬وسهل بذلك وجود اإلمجاع يف كثري من املسائل وحسم مادة اخلالف فيها ‪.‬‬

‫وقد كان اختالفهم رضي اهلل عنه إما الختالف وجهة النظر عندهم يف دالالت الّنصوص احملتملة‪ ،‬حيث إَّن‬
‫من النصوص ما حيتمل أكثر من معىن‪ ،‬وإما أن يرجع إىل اختالفهم فيما حيفظونه من ُس َّنة رسول اهلل ‪ ،‬فإهَّن ا مل تكن‬
‫قد دونت بعد فرمَّبا علم أحدهم حبديث ليس عند غريه فأفىت مبقتضاه‪ ،‬بينما علم آخر حديثًا غريه أفىت به‪ ،‬أو علم‬
‫ك ل منهم ا ُس َّنة لكَّن أح دهم يعلم م ا ينس خها أو خُي صص ها فيف يت ك ل مبا علم وق د يكون اختالفهم راجع ًا إىل‬
‫اختالف أنظارهم يف تطبيق النصوص العام ة‪ ،‬أو استنباط احلكم من قواعد الش ريعة وأصوهلا العامة تبع ًا ملا وهبه اهلل‬
‫لكل منهم دقة من الفهم وبعد النظر‪ ،‬وقد كان عمره وعلي من أبرز الصحابة يف ذلك‪ ،‬وقد وَّرث اجلميع علمهم ملن‬
‫بع دهم من الت ابعني‪ ،‬وه ؤالء ق د نقل وه م ع م ا أض افوا إلي ه مما أف اء اهلل ب ه عليهم من العلم إىل األئم ة اجملته دين من‬
‫أصحاب املذاهب الذين أسعدهم احلظ بتدوين مذاهبهم‪ ،‬أو من عاصرهم من األئمة الذين مل تدون مذاهبهم‪ ،‬وإمَّن ا‬
‫ُنقلت عنهم أق واهلم مبع ثرة يف كتب احلديث والتفس ري والفق ه ال يت ألفه ا س واهم‪ ،‬ومل خيرج أي منهم يف دائ رة اجته اده‬
‫عما أَّصَله من قبلهم من أصول األحكام ومصادر التشريع‪.‬‬

‫نشأة املذاهب‬

‫اتسعت الفتوحات اإلسالمية يف عهد اخلليفة الثاين عمر بن اخلطاب فاضطر أن يبعث إىل كل إقليم أو مصر‬
‫من األمصار مبن يعّلمهم دينهم‪ ،‬ويتوىل شئون القضاء والفتوى فيما يعرض عليه من احلوادث‪ ،‬وكان خيتار لذلك من‬
‫الصحابة من َتأَّم ل للفتوى واالجتهاد؛ كابن مسعود‪ ،‬وأيب موسى األشعري‪ ،‬وأمثاهلما ال إاَّل أَّنه كان كان مع ذلك ال‬
‫يسمح لكبار الَّص حابة مبغادرة مقر اخلالفة حىّت يتسىن له مجعهم ألخذ رأيهم واستشارهتم عند احلاجة‪ ،‬وكان يعلم‬
‫مواضع من أرسلهم للفتيا يف البالد‪ ،‬حىَّت إذا جد ما يستدعي مشورهتم أمكنه استدعاؤهم وإحضارهم‪ ،‬وبذلك قضى‬
‫على كثري من اخلالفات وتيسر اإلمجاع يف عصره له ‪.‬‬

‫فلم ا ت وىل اخلالف ة عثم ان بن عف ان مسح للص حابة ب اخلروج من عاص مة اخلالف ة وأعطى كال منهم اخلي ار يف‬
‫اإلقام ة والرحي ل‪ ،‬فارحتل كث ري منهم إىل البالد املفتوح ة كمص ر والش ام والع راق‪ ،‬وك انت ه ذه األخ رية أس عد األمص ار‬
‫حظ ًا بنزول كثري من الصحابة فيها واستيطاهنم إَّياها وال سيما بعد أن توىل اخلالفة اإلمام علي له‪ ،‬إذ جعل الع راق‬
‫عاص مة اخلالف ة ومرك ز احلكم‪ ،‬وحلق ب ه كث ري من الص حابة وبقي منهم كث ري باملدين ة مل يرض وا ب ديًال جبوار رس ول اهلل‬
‫ص لى اهلل علي ه وس لم وهن ا نش أ التن افس بني الع راق واحلج از يف العلم والثقاف ة وت أثر علم اء ك ل بل د من ه اتني‬
‫العاصمتني مبا تلقوه عن الصحابة الذين َعَّلُم وهم طرق الفتوى واالجتهاد‪ ،‬وكان أهل احلجاز أكثر الَّناس رواية حلديث‬
‫الَّرسول صلى اهلل عليه وسلم وتتبعًا لُس َّنته‪ ،‬وكانت احلجاز إذ ذاك على الفطرة البدوية اليت تتشابه حوادثها فقلما تنزل‬
‫حادثة إال وجدوا فيها أث رًا عن رسول اهلل ‪ ،‬أو حديثًا يروونه يف حكمها‪ ،‬فأغناهم ذلك عن كثري من العناء يف تعليل‬
‫األحكام واستعمال األقيسة‪ ،‬إاَّل عندما يعوزهم العثور على أثر يروى عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أو صحابته‪،‬‬
‫وقلما يكون ذلك‪.‬‬

‫وكانت الع راق على عكس هذا كله إذ كانت بالدهم متأثرة باحلضارة السابقة‪ ،‬واألمور فيها جتري على غري‬
‫الفطرة البدوية‪ ،‬وال سيما بعد ما ظهرت فتنة الشيعة واخلوارج يف عهد عليه وما بعده‪ ،‬حيث شاع وضع احلديث من‬
‫ه ؤالء وه ؤالء‪ ،‬فاض طر فقه اء الع راق أن يش رتطوا يف احلديث شروطًا مل يس لم معه ا إال القلي ل‪ ،‬فأخ ذوا يعلل ون‬
‫النصوص ويستعملون األقيسة عليها حىت اشتهروا باسم أهل القياس‪ ،‬كما اشتهر أهل احلجاز من قبلهم باسم أهل‬
‫احلديث‪ ،‬ونشأت يف كل من البلدين مدرسة تسمت هبذا االسم‪ ،‬فمدرسة احلديث باحلجاز‪ ،‬ومدرسة القياس بالعراق‬
‫وترىب يف كل من املدرستني رجال تشبعوا بطريقها ونسجوا على منواهلا‪ ،‬حىّت وصل ذلك إىل األئمة اجملتهدين أصحاب‬
‫املذاهب املدّو ن ة ‪،‬وغ ريهم فكان باحلج از اإلم ام مال ك هلل ومعاص روه من شيوخه وتالمي ذه كم ا نش أ ب العراق اإلم ام‬
‫األعظم أبو حنيف ة اهلل ومعاص روه من شيوخه وتالميذه ك ذلك َّمُث نشأ بع د ذل ك من مجع بني الطريق تني وت أثر بكلتا‬
‫املدرستني كاإلمام الشافعي اال اهلل واإلمام أمحد بن حنبل نه وكثري ممن عاصرهم‪ ،‬إاَّل أَّن احلظ مل يسعد أحدًا بتدوين‬
‫مذهبه وضبطه‪ ،‬أصوًال وفروعًا عدا األئمة األربعة املشهورين أبو حنيفة ومالك والشافعي وأمحد رمحهم اهلل‪ ،‬حيث قاموا‬
‫هم أنفسهم َّمُث أتباعهم من بعدهم بتدوين مذاهبهم وتأصيلها والتفريع عليها حىَّت صارت مذاهبهم هي قطب الرحى‬
‫ال ذي ت دور علي ه أم ور الفت وى والقض اء وانتش رت م ذاهبهم يف مجي ع أحناء البالد اإلس المية‪ ،‬حىّت ال يوج د بل د من‬
‫البالد‪ ،‬أو بقعة من األرض إال وهي آخذة مبذهب أو أكثر آخذة مبذهب أو أكثر من هذه املذاهب‪.‬‬
‫‪ - ٤‬نشأة املقارنة‬

‫وأهم مراجع الفقه املقارن‬

‫نشأة املقارنة ‪:‬‬

‫حينما دونت املذاهب واستقرت وُع رف أصحاهبا جاء من بعدهم قوم من العلماء انتهج وا يف تأليف كتبهم‬
‫على منهج مجعوا فيه بني أقوال األئمة أصحاب املذاهب املدونة وأقوال غريهم من السابقني عليهم‪ ،‬أو املعاص رين هلم‪،‬‬
‫ورمَّبا ُضَّم إىل ذلك ما ُيؤثر عن الصحابة وغريهم من األقوال يف املسألة الواحدة‪ ،‬فنظروا يف أدلة كل قائل‪ ،‬وضعفوا ما‬
‫بدا هلم ضعفه‪ ،‬ورجحوا ما رأوه راجحا يف نظرهم‪ ،‬وكان هذا العمل منهم يعترب مبدأ لنشأة املقارنة‪ ،‬وكان من أمثلة ما‬
‫دونوه تلك املناظرات اخلفيفة اليت كانت حتصل بني بعض الَّص حابة فمن ذاك مـا رووا أن ابن مسعود نه بلغه أَّن أبا‬
‫موسى األشعري استفيت يف رجل مَّص َتْد َي امرأته فسبقه لبنها إىل جوفه فقال أبو موسى هلذا الرجل ‪ :‬ما أراها ِإاَّل‬
‫َح ُرَم ت عليك‪ ،‬فجاء ابن مسعود إليه وقد أمسك بذراع الَّرجل وقال‪ :‬يا أبا موسى أترى هذا األمشط رضيعًا ! فقال له‬
‫أبو موسى فماذا ترى أنت فقال‪ :‬إَّن اهلل تعاىل يقول‪َ﴿ :‬واْلَواِل َد اُت ُيْرِض ْع َن َأْو َل َد ُه َّن َح ْو َلِنْي َك اِم َلِنْي ِلَمْن أَراَد َأن ُيِتَّم‬
‫الَّرَض اَعُة)‪ ،‬ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول‪« :‬إمَّن ا الرضاعة من اجملاعة»‪ ،‬وقد متت رضاعة هذا وفارق احلولني‪،‬‬
‫وال يرد الرضاع جوعته‪ ،‬فقال أبو موسى ه ‪ :‬ال تسألوين ما دام هذا اخلرب فيكم‪ .‬ومثل ذلك ما ذكروا أن ابن عباس‬
‫ما ذهب إىل عثمان بن عفان له فقال له‪ :‬مل حتجبون األم من الثلث إىل السدس باألخوين واهلل تعاىل يقول‪َ﴿ :‬فِإن‬
‫َك اَن له إخوة َفُأِلِّم ِه الُّس ُد ُس ؟ واألخ وان لـيـسـا بـإخـوة‪ ،‬فقال عثمان له ‪« :‬قد حجبها هبما قومك» يريد أَّن اإلمجاع‬
‫يف عهد أيب بكر وعمر وعلي حجبها هبما دّل على أن املراد باإلخوة يف اآلية ما زاد على الواحد‪ .‬ومن أمثلة ذلك‬
‫أيضًا ‪ :‬ما يروى أن أبا حنيفة واألوزاعي رمحهما اهلل التقيا فقال األوزاعي أليب حنيفة ‪ :‬ما لكم ال ترفعون أيديكم عند‬
‫الركوع وعند الرفع منه؟! فقال أبو حنيفة‪ :‬ال نفعل ذلك ملا حدث به ابن مسعود ه أنه صلى خلف رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلمكثريا فلم يره يرفع يديه إال يف تكبرية اإلح رام َّمُث ال يعود إىل شيء من ذلك‪ .‬فقال األوزاعي كيف وقد‬
‫روى ابن عمر أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كان يرفع يديه عند تكبرية اإلح رام‪ ،‬وعند الركوع‪ ،‬وعند الرفع منه‪،‬‬
‫فقد اَّتبع كل منهما أثرًا يروى عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من طريق يثق به وأمثال هذا كثري من املناظرات اليت‬
‫ك انت حتدث بني العلم اء‪ ،‬فلم ا دونت املذاهب وأَخ َذ أتباعه ا يف اس تنباط أص وهلا ك ان من عملهم أن تعرض وا‬
‫للمذاهب األخرى‪ ،‬والرّد على أدلة خمالفيهم‪ ،‬وكان هذا ما يسمى باالنتصار للمذاهب‪ ،‬ورمَّبا جرهم ذلك يف العصور‬
‫املتأخرة إىل التعصب واالندفاع وراء تشيعهم ملذاهبهم وحبهم لبيان أَّن ما يعتنقونه أحق باالتباع وأوىل به‪ ،‬إاَّل أَّن ذلك‬
‫مل مينع من وجود كثري من العلماء املنصفني الذين كانوا ينتصرون للح ِّق أين كان وأي ًا كان قائله مصداقًا لقول رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬ال تزال طائفة من أميت ظاهرين على احلق حىت تقوم الساعة)‬

‫أهم مراجع الفقه املقارن‪:‬‬

‫ذكرنا أَّن املقارنة نشأت مع نشأة املذاهب وأَّن أصلها يرجع إىل ما كان حيدث من مناظرات بني العلماء‪،‬‬
‫فلما جاء عصر التدوين وهو يبدأ بوجه عام من صدر الدولة العباسية‪َّ ،‬مُث استمر كث ريًا بعد ذلك‪ ،‬وأهم ما وصل إلينا‬
‫مما ميكن أن تصل إليه أيدي الباحثني ما جاء يف كتب اإلمام الشافعي ختلله من مناظرات كانت بينه وبني غريه‪َّ ،‬مُث‬
‫كت اب «التفس ري الكب ري» البن جري ر الط ربي‪ ،‬وكث ري من التفاس ري األخ رى؛ ككت اب ج امع أحكام الق رآن للقرط يب‪،‬‬
‫و(تفس ري آي ات األحكام) البن الع ريب واجلَّص اص‪ ،‬و«تفس ري الفخ ر ال رازي‪ ،‬والتفس ري املس ّم ى بـ‪« :‬فتح الق دير»‬
‫للشوكاين وغريها ‪.‬‬

‫َّمُث من كتب الُّس َّنة شرح البخ اري املس مى بـ‪« :‬فتح الب اري لإلم ام ابن حج ر العس قالين‪ ،‬و«شرح مس لم»‬
‫لإلمام النووي‪ ،‬وشرح منتقى األخبار املسمى بنيل األوطاره للشوكاين‪ ،‬وشرح بلوغ املرام املسمى سبل السالم للصنعاين‬
‫وعمدة األحكام البن دقيق العيد‪.‬‬

‫ومن كتب املذاهب‪« :‬فتح الق دير» للكم ال بن اهلم ام‪ ،‬شرح كت اب اهلداي ة»‪ ،‬وكت اب اجملم وع» للن ووي‪،‬‬
‫«شرح كت اب امله ذب للش ريازي وكت اب «املغ ين البن قدام ة احلنبلي‪ ،‬ومن الكتب العام ة ‪ :‬بداي ة اجملته د» البن رشد‬
‫الص غري وأعالم املوقعني البن القيم‪ ،‬و«احمللى» البن ح زم الظ اهري‪ ،‬على م ا يف األخ ريين مما ي وجب على املطل ع أن‬
‫يأخذ حذره‪.‬‬

‫ويف هذا القدر وما دونه كفاية واهلل أعلم‪.‬‬


‫‪ - 5‬كلمة موجزة‬

‫عن االجتهاد والتقليد والتلفيق‬

‫أ ـ االجتهاد ‪:‬‬

‫ه و يف اللغ ة ب ذل غاي ة الطاق ة يف حتّم ل أم ر شاق‪ ،‬وعن د الفقه اء ه و ب ذل الفقي ه غاي ة وس عه يف اس تنباط‬
‫األحكام الش رعية من أدلته ا ‪ ،‬ا‪ ،‬وه و هبذا املع ىن خ اص بطائف ة من أه ل العلم منحهم اهلل ق درة يف الفهم ون ورًا يف‬
‫البصرية وذكاء قويًا وملكة راسخة يف أنفسهم يستطيعون هبا النظر يف أدلة األحكام من كتاب اهلل تعاىل وُس َّنة رسول‬
‫اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم وغريه ا واس تنباط م ا أفادت ه من األحكام ول ذا ي روى عن اإلم ام مال ك هلل أَّنه ُس ئل عن‬
‫االجتهاد ما هو فقال‪ :‬إَّنه نور يقذفه اهلل يف قلب املؤمن يرى به احلق حقًا‪.‬‬

‫وقد كان االجتهاد يف عصر الَّنِّيب صلى اهلل عليه وسلم منه عليه الصالة والسالم ومن صحابته‪ ،‬فقد اجتهد‬
‫عليه الصالة والَّس الم يف كثري من احلوادث‪ ،‬ومن ذلك أَّنه نزل يف غزوة بدر منزًال فقال أحد الصحابة (وهو اُحلباب‬
‫بن املنذر) ‪ :‬أهذا منزل أمرك اهلل به؟ أم هو الرأي واحلرب واملكيدة؟ فقال عليه الَّص الة والسالم‪ :‬بل هو ال رأي واحلرب‬
‫واملكي دة»‪ ،‬فق ال احلب اب ‪ :‬أرى أن نتح ّول من ه إىل م اء ب در‪ ،‬فتح ّول علي ه الَّص الة والَّس الم إىل ذل ك املكان ومن‬
‫اجتهاد الصحابة ما ثبت أَّن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم َح كم سعدبن معاذ يف بين قريظة‪ ،‬بن َّمُث قال له بعد أن‬
‫َح َك م فيهم‪« :‬لقد حكمت حبكم اهلل يا معاذ‪ ،‬إىل غري ذلك من الوقائع الكثرية‪ ،‬وقد سبق لك أَّن اجتهاد النيب صلى‬
‫اهلل علي ه وس لم واجته اد ص حابته يف عه ده‪ ،‬ك ل منهم ا يرج ع إىل ال وحي؛ ألَّن اهلل تع اىل ال يق ّر نبي ه علي ه الص الة‬
‫والسالم على اخلطأ‪ ،‬كما أّنه عليه الَّص الة والَّس الم ال يق ّر أحدًا من الصحابة على خطأ‪ ،‬بل ال بد من إرشادهم إىل‬
‫الصواب ‪.‬‬

‫هذا يف عهد الُّنب َّوة‪ ،‬فلما انتقل الرسول صلى اهلل عليه وسلم إىل الرفيق األعلى‪ ،‬ومحل الَّص حابة بعده عبء‬
‫الفتوى‪ ،‬اضطروا إىل االجتهاد‪ ،‬فكان منهم السابقون املّربزون يف االجتهاد الذين ُيرجع إليهم يف الفتوى ومنهم دون‬
‫ذلك ممن ليسوا أهال لالجتهاد‪ ،‬فكان هؤالء يسألون أويل العلم فيما يعرض هلم من ح وادث يريدون معرفة أحكامها‪،‬‬
‫عمًال بقوله تعاىل ‪َ :‬نْس َتُلوا َأْه َل الِّذْك ِر ِإن ُك نُتْم اَل َتْع َلُم وَن ‪ ،‬وقد وَّرث الصحابة علمهم ملن بعدهم من التابعني فمش وا‬
‫على سريهتم‪ ،‬واقتدوا هبديهم واَّتبعوا سنتهم يف ذلك‪ ،‬وهكذا انتقل العلم من طبقة إىل أخرى‪.‬‬

‫ومن ذلك يعلم أَّن الَّناس بالنظر إىل العلم باألحكام الشرعية فريقان ‪:‬‬

‫أحدمها طبقة اجملتهدين وهم من وهبهم اهلل ملكة االجتهاد اليت يستطيعون هبا استنباط األحكام من أدلتها ‪.‬‬

‫والفريق الثاين ‪ :‬طبقة املقلدين الذين ال يستطيعون ذلك فسبيلهم إىل العلم أن يسألوا عنه ويتعلموه ويأخذوا‬
‫بقول األولني‪.‬‬

‫ب ‪ -‬التقليد ‪:‬‬

‫هو العمل بقول الغري دون معرفة الدليل أو دون معرفة وجه الداللة فيه‪ ،‬وهو إمَّن ا يكون ملن ليست لديه ملكة‬
‫االجتهاد‪ ،‬بأن ال يكون من أهل النظر يف الدالالت والقدرة على استنباط األحكام من أدلتها‪ ،‬وقد كان هذا الصنف‬
‫من الناس موجودًا من لدن عصر الَّص حابة ومن بعدهم إىل عص رنا ه ذا‪ ،‬إذ إَّنه ضرورة من ضرورات احلياة لتفاوت‬
‫الناس يف مداركهم واستعدادهم الفطري‪ ،‬إذ ليس كل واحد من الناس عنده أهلية النظر واالستنباط‪ ،‬ويشهد هلذا قوله‬
‫تعاىل‪َ﴿ :‬و َلْو َرُّدوُه ِإىَل الَّرُس وِل َو إىل أويل األمر منهم لعلمه اَّلِذ يَن َيْس َتْنِبُطوَنُه ِم ْنُه ْم ‪ ،‬وقول الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫(هال سألوا إذ مل يعلموا إمَّن ا شفاء العي السؤال)‪.‬‬

‫وهلذا أيض ًا أوجب اهلل على من مل يعلم أن يرج ع إىل مـن يـعـلـم فق ال ‪َ :‬فاس أُلوا َأْه َل ال ِّذْك ِر ِإن ُك نُتْم اَل‬
‫َتْع َلُم وَن ‪.‬‬

‫ومن رمحة اهلل تعاىل بعباده أَّنه مل جيعل االجتهاد فرض ًا على مجيع األف راد‪ ،‬فإنه يعلم أَّن مصاحلهم شىّت ‪ ،‬وأَّن‬
‫مط الب احلي اة خمتلف ة م ا بني حاج ات ال دنيا وال دين‪ ،‬فل و كل ف األف راد مجيع ا حتص يل وس ائل االجته اد يف ال دين‬
‫لتعطلت مصاحل الدنيا؛ ألَّن حتصيل وسائل االجتهاد يستدعي تفرغ ًا هلا قد يؤدي إىل ضياع غريها من مصاحل الدنيا‪،‬‬
‫فجع ل االجته اد واجب ًا كفائي ًا إذا ق ام ب ه البعض س قط عن الب اقني ووجب عليهم األخ ذ بق ول غ ريهم من العلم اء‪،‬‬
‫ويرشد إىل ذل ك قول ه تع اىل‪َ :‬وَم ا َك اَن اْلُم ْؤ ِم ُن وَن ِلَينِف ُروا َك اَفُة فل وال نف ر من ُك ِّل ِفْرَق ٍة ِّم ْنُه ْم َطاِئَف ٌة ِلَيَتَف َّق ُه وا يِف ال ِّديِن‬
‫َو ِلُينِذ ُروا قومهم إذا رجعوا إَلْيِه ْم َلَعَّلُه ْم ْحَيَذ ُروَن )‬
‫وعلى حكم جواز التقليد انعقد إمجاع السلف من الصحابة والتابعني‪ ،‬حيث كان الع وام يف زماهنم إذا وقعت‬
‫هلم حادثة حتتاج إىل بيان احلكم فيها فزعوا إىل اجملتهدين من الصحابة أو التابعني ليسألوهم عن اهلل فيها‪ ،‬وكان هؤالء‬
‫جييب وهنم من غ ري أن ينكروا عليهم ذل ك‪ ،‬أو ي أمروهم ب أن جيته دوا ليعرف وا احلكم بأنفس هم‪ ،‬فكان ذل ك إمجاع ًا من‬
‫الصحابة والتابعني على أّن من مل يستطع االجتهاد فطريق معرفته لألحكام هو سؤال اجملتهدين‪.‬‬

‫ج ‪ -‬التلفيق ‪:‬‬

‫حيث ثبت أن التقلي د ض رورة من الض رورات ال يت أجلأ إليه ا تف اوت الن اس يف اس تعدادهم الفط ري‪ ،‬وتن وع‬
‫مصاحلهم الدينية والدنيوية نقول ‪:‬‬

‫إَّن من املقلدين من إذا وقعت له احلادثة اليت حيتاج إىل معرفة حكمها يستفيت فيها أحد اجملتهدين‪ ،‬حىّت إذا‬
‫علم احلكم منه عمل به ومل يسأل غريه‪ّ ،‬مُث كّلما وقعت حادثة سأل ذلك نفسه وأخذ بقوله‪ ،‬فهذا املقلد مقلدًا يعترب‬
‫إلم ام واح د‪ ،‬ومن املقلدين من يستفيت عددًا من األئم ة يف املسألة فيفتيه كل حبكم قد خيالف م ا يقول به اآلخر؛‬
‫كمن توض أ فمس ح بعض رأس ه يف وض وئه‪ّ ،‬مُث س أل مالكي ًا أو شافعيًا عن نقض الوض وء خبروج ال دم فأفت اه بع دم‬
‫النقض به‪َّ ،‬مُث سأل حنفي ًا ‪ :‬عن نقض الوضوء باللمس فأفتاه بعدم النقض به أيض ًا فإذا صلى بعد ذلك فقد ص ّلى‬
‫بوضوء ال يصح عند املالكية لعدم مسحه مجيع الرأس‪ ،‬وهم جيعلون مسح مجيع ال رأس فرض ًا‪ ،‬وال يصح عند الشافعية‬
‫النتقاضه باللمس عندهم كما ال يصح عند احلنفية النتفاضه خبروج الدم‪ ،‬وقد عمل حينئذ يف تقليده هذا جبملة آراء‬
‫كّل منها مأخوذ من مذهب خيالف مذهب اآلخر‪ ،‬وهذا ما يسمى لتلفيق ‪.‬‬

‫وقد اختلف العلماء يف حكمه فمنهم من منعه ومنهم من أجازه وهو الصحيح؛ ألَّنه من التيسري يف الدين‬
‫ورفع احلرج الذي هو إحدى القواعد اليت قام على أساسها التش ريع اإلسالمي‪ ،‬كما قال تعاىل‪ :‬وما جعل عليكم يف‬
‫الدين من حرج‪ ،‬وقال‪ُ :‬يِري ُد اُهلل ِبُك ُم اْلُيْس َر َواَل ُيِري ُد ِبُك ُم اْلُمْس َر )‪ ،‬وقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬إن هذا‬
‫ال دين م تني‪ ،‬ولن يش اد ال دين أح د إال غلب ه‪ ،‬فيس روا وال تعس روا»‪ ،‬ول ذا ق ال اإلم ام الق رايف يف «ال ذخرية»‪« :‬انعق د‬
‫اإلمجاع على أّن أسلم فله أن يقلد من شاء من العلماء من غري حجر‪ ،‬وأمجع الصحابة رض وان اهلل عليهم على أن من‬
‫استفىت أبا بكر وعمر هلا وقّل دمها ‪ ،‬فله أن يستفيت أبا هريرة ومعاذ بن جبل وغريمها‪ ،‬ويعمل بقوهلما من غري نكري»‪،‬‬
‫وقال صاحب «التيسري يف شرح التحرير‪ :‬ليس هناك دليل من نص أو إمجاع يدّل على أَّن الفعل إذا كانت له شروط‬
‫فإنه جيب على املقلد أن يتبع جمتهدًا واحدًا يف هذه الشروط اليت يتوقف عليها هذا الفعل‪ ،‬فإَّنه إذا جازت خمالف ة‬
‫بعض األئم ة يف ك ّل م ا ذهب إلي ه‪ ،‬ك ان من ب اب أوىل أن جتوز خمالفت ه يف بعض م ا ذهب إلي ه‪ ،‬ه ذا فض ًال عن أّن‬
‫األئمة أنفسهم مل يلزم وا أحدًا بالتزام مذاهبهم‪ ،‬فقد نقل عن اإلمام مالك أَّنه مل يرض للخليفة املنصور العباسي أن‬
‫حيمل الناس مجيعًا على العمل مبا يف موطئه على ماكان من حتريه يف روايته‪ ،‬بل ثبت عنهم أن أخذ أحدهم باجتهاد‬
‫غريه ترخصًا أو موافقة جلماعة املسلمني‪ ،‬فقد ثبت عن اإلمام أمحد أَّنه يرى نقض الوضوء باحلجامة َفُس ئل عمن رأى‬
‫اإلمام احتجم وقام إىل الَّص الة دون أن يتوضأ أيصلي خلفه؟ فقال‪ :‬كيف ال أصلي خلف مالك وسعيد بن املسيب؟‬
‫كما ثبت عن أيب يوسف صاحب أيب حنيفة أَّنه اغتسل من بئر وص َّلى اجلمعة مث ت بنَّي له بعد الصالة أّن هذا البئر‬
‫كانت فيه ميتة فلم يعد الَّص الة‪ ،‬وقال ‪ :‬نأخذ بقول إخواننا احلجازيني‪.‬‬

‫إىل أمثال هذا من الشواهد اليت تدل على مقدار تسامح األئمة‪ ،‬واحرتام بعضهم بعض ًا‪ ،‬وعدم عيب أحدهم‬
‫على خمالفيه يف الرأي والفتوى‪.‬‬

‫ومن هذا كله يعلم أن التلفيق ال بأس به‪ ،‬ولذا شاع قول العلماء‪( :‬مذهب العامي مذهب مفتيه‪ )،‬و«من‬
‫قّلد عاملا لقي اهلل ساملًا»‬
‫‪ ٦‬ـ ما جيب أن يتوفر يف املقارنة واملقارن‬

‫إذا علمنا أَّن الَّناس خيتلفون بالنسبة إىل علمهم بأحكام الشريعة‪ ،‬وأَّن منهم أويل العلم من اجملتهدين‪ ،‬ومنهم‬
‫دون ذلك من املقلدين لتلك الطائفة السابقة‪ ،‬وأن ليس كل مسألة من مسائل الفقه متفق ًا على حكمها‪ ،‬بل كث ريًا ما‬
‫اختلف العلماء يف حكم املسألة الواحدة‪ ،‬وذلك من رمحة اهلل تعاىل بعباده إذ جيوز أن يأخذ السائل مبا أفتاه به واحد‬
‫أو أكثر من العلماء إذا علمنا ذلك‪ ،‬فإَّننا نقول‪ :‬إَّن املفيت جيب أن يكون على بصرية فيما أفىت به‪ ،‬وذلك بأن ينظر‬
‫يف أق وال العلماء ويق ارن بينه ا حىّت يعلم أرجحه ا فيتخ ذه ديدن ه يف االفتاء والقض اء وذلك يس تدعي منه أن يتحلى‬
‫بصفات خاصة أمهها ما يأيت‪:‬‬

‫أ ‪ -‬أما املقارنة نفسها فيجب أن تكون من أجل الوقوف على أقوال الفقهاء ومعرفة وجهة نظرهم يف املسألة‬
‫ال يت اختلف وا فيه ا والعلم بأدلته ا ال يت اس تندوا إليه ا‪ ،‬ليعلم أي آرائهم أرجح دليًال‪ ،‬وأق رب مس ايرة ل روح التش ريع‪ ،‬وال‬
‫جيوز أن تكون لتلمس تقوية مذهب معني تعصبًا له وغض ًا لغريه‪ ،‬كما وقع ذلك من بعض املتأخرين الذين تعصبوا‬
‫ملذاهب أئمتهم وحاولوا االنتصار هلا‪ ،‬ولو أذاهم ذلك إىل النيل من شخصية غريهم من األئمة فليس ذلك من شيمة‬
‫العلماء املنصفني‪ ،‬بل إّن هذا العمل مذموم شرعًا؛ ألَّنه مدعاة إىل التفريق بني املسلمني وتشتيت كلمتهم‪ ،‬وقد هُن ي‬
‫ِم ِد‬ ‫ِذ‬
‫عن ه يف اإلس الم بقول ه تع اىل‪َ﴿ :‬واَل َتُك وُن وا َك اَّل يَن َتَفَّرُق وا َواْخ َتَلُف وا ْن َبْع َم ا َج اَءُه ُم اْلَبِّيَنْت َوَأَو َلْي َك ُهَلْم َع َذ اٌب‬
‫َعِظ يٌم) وإذن ف الواجب أن يكون املقص ود من املقارن ة ه و التع رف على أق وى اآلراء وأقرهبا ل روح التش ريع ومس ايرة‬
‫قواعده العامة ‪.‬‬

‫ب ـ وأما ما جيب أن يتحلى به املقارن‪ ،‬وهو من يتصدى للمقارنة‪ ،‬فهو بوجه عام أن يكون واسع االطالع‬
‫يقظًا أمينًا يف نقله منصفًا يف حكمه‪ ،‬وذلك إمنا يكون مبراعاة األمور اآلتية‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ أن يتح ّرى النقل الصحيح من كتب األئمة املعرتف بصحة نسبتها إىل أصحاهبا وأن يعمد يف نقله إىل‬
‫أقوى اآلراء عند كل مذهب ممن يقارن بني مذاهبهم‪ ،‬فال جيوز له أن يقصد إىل نقل غري القوي من األق وال ليتمكن‬
‫من رّده ‪.‬‬

‫‪ ٢‬ـ وبعد أن ينقل أقوى اآلراء جيب أن يعمد إىل أقوى ما ذكروا من األدلة عليه‪ ،‬وال يتعّم د االقتصار على‬
‫دليل فيه ضعف ظاهر‪ ،‬ليتأتى له رده بسهولة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن يكون عاملا باألص ول ال يت اعتم دها ك ل إم ام يف طريق ة اس تنباطه ممن يق ارن بني آرائهم يف املس ألة‪،‬‬
‫ليعلم وجهة نظرهم يف استنباط األحكام من أدلتها‪ ،‬وليدرى أيهم سار على قواعده اليت اعتمدها‪ ،‬وأيهم خالفها‪.‬‬

‫‪ ٤‬ـ أن يق ارن بني ه ذه األدّل ة بع د اإلحاط ة بكيفي ة داللته ا‪ ،‬وذل ك ب أن يناقش ها مناقش ة جتري على س نن‬
‫القواعد العلمية املعرتف هبا يف املناقشات‪ ،‬فمثًال ال جيوز له أن يدعي ضعف حديث صححه األئمة‪ ،‬أو يدعي صحة‬
‫حديث مل يصححه أولو الشأن من أهل التصحيح والتضعيف‪ ،‬بل جيب عليه أن يلتزم القواعد املسلمة يف مناقشة كل‬
‫دليل‪ ،‬حىت تصبح مناقشته صحيحة مقبولة‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ أن يرّج ح من األق وال بعد مناقشة أدلتها ما يشهد له الدليل القوي‪ ،‬وهو ما سلم دليله من االع رتاض‬
‫عليه‪ ،‬أو أمكن اإلجابة على ما ورد عليه من مناقشات حبسب ما يغلب على ظنه‪ ،‬غري متأثر مبا سبق له أن اعتاده‬
‫من مذهب معني حىت يكون حكمًا عادًال جمردًا من مجيع املؤثرات‪ ،‬إاَّل من االنتصار للحق‪.‬‬
‫‪ -7‬فائدة املقارنة‬

‫إن من يدرس الفقه اإلسالمي املقارن حيصل على فوائد من دراسته تعود عليه بالنفع يف نفسه‪ ،‬كما تعود على غريه‬
‫من أفراد اجملتمع‪ ،‬وميكن أن نشري إىل بعض تلك الفوائد فيما يلي‪:‬‬

‫‪ - 1‬أن الدارس هلذا النوع من الفقه يصبح حميطًا بكثري من املسائل اليت اختلفت فيها آراء الفقهاء‪ ،‬ولذلك‬
‫ميكنه أن يساير ما تقضي به احلاجة عند عروض أي مسألة‪ ،‬فيختار من أقوال العلماء فيها ما هو أليق ببيئته وحاجة‬
‫الن اس يف ذلك فيف تيهم مبا يدفع حاجتهم‪ ،‬وهو على علم مبا أفىت به دون أن يوقعهم يف احلرج والعنت‪ ،‬م ع إمكان‬
‫اخلروج منه‪ ،‬ال سيما عند الضرورة وحبذا لو كان ما يفتيهم به أو يقضي به بينهم هو ما ترّج ح دليله عند املقارنة‪،‬‬
‫وتلك فائدة علمية وعملية تعترب الّثمرة احلقيقية من دراسة الفقه املقارن ‪.‬‬

‫‪ – ۲‬ومن تلك الفوائد االطالع على أق وال األئمة اجملتهدين يف املسائل اليت اختلف وا فيها وقارن بينها فعلم‬
‫دليل كل منهم‪ ،‬ووقف على طريقة استنباط احلكم من هذا الدليل‪ ،‬ويصبح الدارس بعد هذا االطالع على بصرية يف‬
‫دينه خترجه من عداد املقلدين تقليدًا حمضًا قد ُيذم عليه من يستطيع النظر يف األدلة‪.‬‬

‫‪ ٣‬ـ أَّنه إذا نظر فيما استند إليه كل إمام من األدلة يعلم أن منها ما يرجع إىل الّنصوص من كتاب اهلل‪ ،‬أو‬
‫ُس َّنة رسول اهلل ‪ ،‬ومنها ما يرجع إىل غري ذلك من قياس أو قاعدة عامة من قواعد التش ريع‪ ،‬وبذلك يتبني له فساد‬
‫زعم من يدعي أن فقهاء الش ريعة اإلسالمية قد استمدوا بعض األحكام من الق وانني الرومانية أو غريها من الق وانني‬
‫الوض عية‪ ،‬أو الس ماوية الس ابقة‪ ،‬أو أهّن م ق د ت أثروا يف فقههم بش يء من ذل ك فيص بح على يقني ال خياجله شك يف‬
‫استقالل الشريعة اإلسالمية‪ ،‬واستقالل فقهائها عن سائر ما سواها من التشريعات ‪.‬‬

‫‪ ٤‬ـ أن من درس الفقه املقارن يعرف األصول والقواعد اليت اعتربها كّل إمام يف استنباطه األحكام من أدلتها‪،‬‬
‫فترتىب عنده ملكة النظر يف األدلة‪ ،‬وكيفية استنباط األحكام منها‪ ،‬حىّت ال تكاد تعرض عليه حادثة من احلوادث إاَّل‬
‫أمكنه أن يعطيها ما يليق هبا من األحكام‪ ،‬فض ًال أنه عن بعد ذلك تطمئن نفسه إىل ما يعمل به من األحكام‪ ،‬أو‬
‫يفيت به غريه أو يقضي به بني الّناس‪ ،‬إذ ال ُيقدم على ذلك إاَّل وهو يعلم الدليل على ما أقدم عليه ‪.‬‬

‫‪ - 5‬ومن الفوائ د أيض ًا م ا يتض ح ل ه من مق دار جه د األئم ة الش اق يف اس تنباطهم األحكام من أدلته ا‪،‬‬
‫فيكون من اجلدير به أن حيرتم مجيع األئمة على الس واء دون مفاض لة بينهم أو تعص ب ألحدهم على غ ريه مىت علم‬
‫وجهة كل منهم يف الدليل الذي ارتكز عليه يف استنباطه‪ ،‬وأيقن أن كال منهم مل خيرج عن دائرة األدلة الشرعية‪ ،‬وال‬
‫س يما إذا ع رف أَّن كال منهم ك ان حيرتم رأي غ ريه‪ ،‬فحقي ق ب ه أن يقت دي هبم يف س ريهتم وه ديهم مق درًا جه دهم‪،‬‬
‫وحمرتما جلميع آرائهم‬

‫فتلك مجلة من الفوائد اليت خيرج دارس الفقه املقارن هبا من دراسته ‪.‬‬
‫‪ -8‬تفصيل أسباب االختالف بني العلماء‬

‫سبق أّنه مل يكن هناك خالف يف األحكام يف عصر النبوة‪ ،‬وأَّن اخلالف يف عصر الَّص حابة كان قليًال‪ ،‬حىت‬
‫كاد يلحق بالنادر‪ ،‬وكان سبب ندرته اجتماع الصحابة يف العصر األول يف مقر اخلالفة‪ ،‬فلما جاء عصر عثمان له‬
‫وانتش ر الص حابة يف األمص ار ُمعلمني وقض اة ومف تني‪ ،‬ختّرج على أي ديهم يف ك ّل مص ر من األمص ار ال يت اس توطنوها‬
‫علماء اتبعوا طريقهم‪ ،‬وساروا على هنجهم يف الفقه والفتوى والقضاء‪ ،‬ونشأ عن ذلك اتساع دائرة اخلالف بني أق وال‬
‫من بعدهم من األئمة والعلماء من أصحاب املذاهب املدونة وغريهم ‪.‬‬

‫وميكن إمجال أسباب اخلالف بني األئمة يف مخسة أمور هي‪:‬‬

‫أوًال‪ :‬ما يرجع إىل اللفظ ‪.‬‬

‫ثانيًا‪ :‬ما يرجع إىل الرواية‪.‬‬

‫ثالثًا ‪ :‬ما يرجع إىل التعارض بني األدلة‪.‬‬

‫رابعًا‪ :‬ما يرجع إىل العرف‪.‬‬

‫خامسًا‪ :‬ما يرجع إىل األدلة املختلف فيها ‪.‬‬

‫وإليك تفصيل الكالم على كل من هذه األسباب حبسب ترتيبها املذكور ‪:‬‬

‫السبب األول‪ :‬ما يرجع إىل اللفظ ‪:‬‬ ‫‪-‬‬

‫قد ينشأ اختالف األئمة يف احلكم بسبب كون اللفظ حمتمال ألكثر من معىن‪ ،‬ويرجع هذا إىل عدة حاالت‪:‬‬

‫احلالة األوىل‪ :‬أن يكون للفظ أكثر من معىن يف اللغة وذلك ما يعرب عنه باالشرتاك اللفظي‪ ،‬حنو لفظ القرء‬
‫بفتح الق اف وض مها‪ ،‬حيث يطل ق يف اللغ ة ت ارة على احليض‪ .‬كم ا يطل ق ت ارة أخ رى على الظه ر‪ ،‬كم ا يطل ق على‬
‫االنتق ال من أح دمها إىل اآلخ ر‪ ،‬ومن ذل ك نش أ اختالف العلم اء يف ع دة املطلق ة غ ري احلام ل إذا ك انت من ذوات‬
‫األق راء‪ ،‬تبع ًا الختالفهم يف املراد من القروء يف قوله تعاىل‪َ( :‬واْلُم َطَّلَق ُت يرتَّبْص َن ِبَأنُفِس ِه َّن َثَلَثَة ُقروو اي راد به الظهر أو‬
‫احليض بعد ما اتفقوا مجيعًا على أّن املراد أحدمها فقط‪ ،‬وإمنا اخلالف بينهم يف تعيني أحد املعنيني‪ ،‬فذهب مجاعة من‬
‫العلماء منهم احلنفية وأحد القولني عند احلنابلة إىل أن املراد بالقرء هو احليض؛ ألَّنه أكثر ما استعمل يف لسان الشرع‬
‫هبذا املعىن‪ ،‬كما يف قوله صلى اهلل عليه وسلم للمستحاضة‪ :‬دعي الصالة أيام أقرائك ؛ أي األيام اليت كنت حتيضني‬
‫فيها‪ ،‬وعلى هذا حكموا بأن املطلقة من ذوات القروء تعتد بثالث حيضات ‪.‬‬

‫وذهب كث ري من العلم اء غ ريهم ومنهم املالكي ة والش افعية إىل أن املراد من الق رء ه و الظه ر‪ ،‬أو االنتق ال من‬
‫الظه ر إىل احليض‪ ،‬اس تنادًا إىل م ا ثبت أّن الّن يب ص لى اهلل علي ه وس لم هنى عن الطالق يف احليض‪ ،‬وتال قول ه تع اىل‪:‬‬
‫﴿ِإَذا َطَّلْق ُتُم الِّنَس اَء َفَطِلُق وُه َّن ِلِع َّد ِهِتَّن ففهم من ذلك أّن الطالق إمنا جيوز يف الوقت الذي يصح للم رأة أن تعت ّد فيه‪،‬‬
‫و ا كان الطالق ال جيوز ِإاَّل يف الّطهر كان الّطهر هو الوقت الذي تعتد به املرأة‪ ،‬وإذن فقد حكم وا بأَّن املطلقة إذا‬
‫َّمل‬
‫كانت من ذوات القروء تعتد بثالثة أطهار ‪.‬‬

‫احلال ة الثاني ة‪ :‬أن يكون اللف ظ ل ه مع ىن حقيقي يف اللغ ة‪ ،‬ومع ىن آخ ر حقيقي يف ع رف الش رع‪ ،‬ب أن يكون‬
‫الشرع قد نق ل اللف ظ من معناه اللغ وي‪ ،‬واس تعمله يف حقيقة شرعية كلف ظ النكاح‪ ،‬فإَّنه يف أص ل اللغ ة يطلق على‬
‫الوطء‪ ،‬ولكّن الشرع استعمله يف العقد‪ ،‬فصار لفظ النكاح عند اإلطالق حيتمل معنيني‪ ،‬أحدمها لغوي هو الوطء‪،‬‬
‫وآخر شرعي وهو العقد‪ ،‬فاختلف العلماء يف أنه إذا ورد مطلقًا يف لسان الشرع من غري قرينة تدّل على املراد منه؛ ه ل‬
‫ي راد به املعىن اللغوي نظ رًا ألَّنه األصل‪ ،‬أو ي راد به الشرعي نظ رًا الستعمال الشارع؛ ومن هنا اختلف وا يف قوله تعاىل‪:‬‬
‫﴿َواَل َتنِكُح وا َم ا نكح اباُؤُك م ِّم َن الِّنَس اِء ( ‪ ،‬فذهب احلنيفة إىل أن املراد من النكاح يف قوله تعاىل‪َ﴿ :‬م ا َنَك َح َواَباُؤُك م‬
‫ِّم َن الِّنَس اِء ( هو الوطء‪ ،‬وعلى هذا فقد حكموا بأَّن املرأة اليت يطؤها الرجل مطلق ًا ولو بزين حترم على ابنه وأبيه وسائر‬
‫فروعه وأصوله نظرًا ألَّن لفظ النكاح قد ُأطلق بال قرينة‪ ،‬فيجب أن حيمل على حقيقته وهي هنا الوطء؛ ألَّن احلقيقة‬
‫مىت أمكنت وجب أال يعدل عنها إىل اجملاز إال بقرينة‪ ،‬وهنا قد أمكنت إرادهتا وال مانع منها‪ ،‬فوجب أن حيمل اللفظ‬
‫عليها ‪.‬‬

‫وذهب غريهم من األئمة كاألئمة الثالثة إىل أن املراد من النكاح يف اآلية هو العقد‪ ،‬فحكم وا بأَّن املرأة ال‬
‫حترم على االبن إذا وطئها أبوه بالزىن وال حترم على أص وله وفروعه كذلك‪ ،‬بل ال حُي ِّرم إاَّل العقد أو الوطء املستند إىل‬
‫سبب حيّل وطأها كامللك‪ ،‬وذلك ألَّن لفظ النكاح صار حقيقة شرعية يف العقد‪ ،‬فإذا أطلق يف لسان الشرع‪ ،‬وجب‬
‫أن يراد به العقد؛ ألَّن احلقيقة الشرعية أوىل من احلقيقة اللغوية عند إطالق اللفظ يف لسان الشارع‪.‬‬
‫وإذن فقد آل خالف األئمة إىل أن لفظ النكاح حينئذ هو عند بعضهم حقيقة يف الوطء‪ ،‬جماز يف العقد‪.‬‬
‫وعند اآلخ رين قد أصبح حقيقة يف العقد جمازًا يف الوطء‪ ،‬أو بعبارة أخرى إذا تردد اللفظ بني حقيقة لغوية وأخرى‬
‫شرعية فأيها يكون املراد به عند اإلطالق؟ فاجلمهور على تقدمي احلقيقة الشرعية‪ ،‬ورمبا ترجح جانبهم هنا مبا يروى أّن‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬ال حيرم بالزنا حالل«‬

‫احلال ة الثالث ة ‪ :‬أن يكون اللف ظ ق د اختل ف يف معن اه احلقيقي عن د اإلطالق‪ ،‬كلف ظ األم ر أو النهي‪ ،‬حيث‬
‫اختل ف العلم اء يف حقيق ة ك ّل منهم ا عن د اإلطالق‪ ،‬فق ال بعض العلم اء‪ :‬إّن األم ر حقيق ة يف الوج وب وإَّن الّنهي‬
‫حقيقة يف التحرمي‪ ،‬فإذا أطلق أيهما بال قرينة وجب أن ينصرف األمر إىل الوجوب‪ ،‬وأن ينصرف الّنهي إىل التحرمي‪،‬‬
‫وقال بعض آخر من العلماء ‪ :‬إّن حقيقة األمر هو الندب‪ ،‬وحقيقة النهي هي الكراهة‪ ،‬فإذا أطلق أيهما محل األمر‬
‫على الندب ومحل النهي على الكراهة‪ ،‬فأما إذا وجدت قرينة تدّل على املراد يف كل منهما‪ ،‬أو يف أيهما‪ ،‬وجب أن‬
‫يكون املراد به مادلت عليه القرينة‪ ،‬أما األمر فمثاله من الكتاب الكرمي قوله تعاىل‪َ﴿ :‬يَأُّيَه ا اَّلِذ يَن َءاَم ن وا إذا تداينم‬
‫ي دين إىل أج ل مس مى َف اْك ُتُبوه‪ ،‬وقول ه تع اىل يف نفس اآلي ة‪َ﴿ :‬وَأْش ِه ُد وا ِإَذا تبايعت ه ف إَّن بعض العلم اء ذهب إىل أن‬
‫هذين األمرين للوجوب فحكم بأن كتابة الدين فرض الزم‪ ،‬وأَّن اإلشهاد على البيع كذلك ال بد منه‪ ،‬فمن ترك كتابة‬
‫الدين‪ ،‬أو اإلشهاد على البيع كان آمثًا‪ ،‬وهذا مذهب الظاهرية ومن وافقهم؛ ألهَّن م محلوا األمر فيهما على الوجوب‪ ،‬إذ‬
‫القرينة تص رفه عنه عندهم وه ذه هي حقيقته عن د مجه ور العلم اء‪ ،‬غ ري أن اجلمهور محل وا األم ر فيهم ا على الندب‬
‫واإلرشاد‪ ،‬والتمسوا لذلك قرينة تصرفه عن الوجوب‪.‬‬

‫فمنهم من قال‪ :‬إن القرينة هي ما ثبت يف الُّس َّنة أّن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ابتاع من أعرايب بعريًا‪ ،‬ومل‬
‫يشهد حىّت تنازع معه األع رايب بعد ذلك‪ ،‬فشهد له خزمية‪ ،‬ومل يكن حاض رًا‪ ،‬فدل ذلك على أّن الشهادة على البيع‬
‫ليست فرضًا‪ ،‬وإمنا هي إرشاد من اهلل تعاىل لالحتياط‪ ،‬درءًا للتنازع‪ ،‬وحفظًا لألموال وكذلك قالوا يف كتابة الدين أيض ًا‬
‫بدليل قوله تعاىل‪﴿ :‬فإن أمن بعُض ُك م َبْع ًض ا َفْلُيَوِد اَّلِذ ي اْؤ ِمُتَن َأَم َنَت ُه‪ ،‬وأما من جيعل األمر حقيقة يف الندب فلم حيتج‬
‫إىل قرينة تصرفه عن الوجوب؛ ألَّنه يقول ‪ :‬إَّنه حقيقة يف الندب‪ ،‬واألصل احلمل على احلقيقة ‪.‬‬

‫ومن أمثلته أيض ًا قوله تعاىل‪َ ﴿ :‬واْلَوِلَد اُت ُيْرِض ْع َن َأْو َل َد ُه َّن فإَّن العلماء اختلف وا يف قوله ‪ُ( :‬يْرِض ْع َن )‪ ،‬إذ إّنه‬
‫مضارع يراد به األمر باإلرضاع ومقتضى إسناده إىل نون النسوة‪ ،‬وهن الوالدات أن يكون اإلرضاع واجب ًا عليهن‪ ،‬محًال‬
‫لألمر على حقيقته من الوجوب‪ ،‬وهذا هو مذهب املالكية‪ ،‬وذهب غريهم إىل أّن األمر هنا للندب‪ ،‬ولذلك التمس وا‬
‫له قرينة تصرفه عن الوجوب‪ ،‬وهي قوله تعاىل‪َ﴿ :‬و َع َل اْلَمْو ُلوِد َل ُه ِرْزُقُه َّن ‪ )،‬فقالوا ‪ :‬إن مقابلة اإلرضاع بالّرزق دليل‬
‫على أنه غري واجب‪.‬‬

‫وأما من يقول ‪ :‬إّن األمر للندب حقيقة فلم حيتج إىل قرينة‪ ،‬إاَّل إذا كان ممن يقول‪ :‬إّن إرضاع الطفل واجب‬
‫على األم‪ ،‬ويف القرآن كثري من األمثلة هلذه احلالة‪.‬‬

‫وأم ا أمث ال األوام ر يف الُّس َّنة فكث رية‪ ،‬منه ا قول ه ‪ :‬إذا ول غ الكلب يف إن اء أح دكم فليغس له س بعًا‪ ،‬إح داهّن‬
‫بالرتاب فإَّن اجلمهور قد محل األمر يف قوله ‪« :‬فليغسله سبعًا على الوجوب‪ ،‬بناء على أّنه حقيقته‪ ،‬وال يعدل عنها‬
‫إىل الندب إاَّل إذا وجدت قرينة تصرفه إليه‪ ،‬فحيث مل توجد هذه القرينة وجب محله على احلقيقة وهي الوجوب على‬
‫الراجح وحكموا بأَّن َغْس ل اإلناء الذي ولغ الكلب فيه واجب‪ ،‬كما جيب أن يكون سبعًا‪ ،‬إحداهن بالرتاب‪ ،‬غري أن‬
‫األحناف اكتف وا بالغسل ثالثا ملا ثبت عندهم أن أبا هريرة له وهو راوي احلديث املذكور كان يغسل ثالث ًا‪ ،‬وعندهم‬
‫أن عمل الراوي مقّد م على روايته إذا خيالفها؛ ألَّنه ال خيالفها إال ملوجب‪.‬‬

‫وأم ا املالكية فق د محل وا األم ر على الندب‪ ،‬فحكم وا بأن غسل اإلناء من ولوغ الكلب مندوب‪ ،‬والتمس وا‬
‫ل ذلك قرين ة تص رف األم ر من الوج وب إىل الن دب فق الوا ‪ :‬إن غس ل اإلن اء ليس لنجاس ة الكلب ؛ ألَّن الكلب إذا‬
‫أمسك الصيد على صاحبه مل جيب غسل موضع فمه؛ لقوله تعاىل‪( :‬فعل وا مما أمسكن عليكم فقد أباح أكل مصيد‬
‫الكلب دون أن ُيغس ل موض ع فم ه‪ ،‬وإذا ثبت أّن موض ع فم ه ليس بنجس ل زم من ذل ك أن اإلن اء ال ذي ول غ في ه‬
‫الكلب مل يتنجس‪ ،‬وحينئذ يكون األمر بغسله للنظافة تعبدًا‪ ،‬واألصل يف األوامر اليت ترد حث ًا على النظافة أن تكون‬
‫للندب‪َّ ،‬مُث إّن ما يدل على أن الغسل تعبدي حتديده بالسبع‪ ،‬إذ لو كان للتطهري لكان ال واجب أن يكون دائ رًا مع‬
‫زوال الَّنجاسة‪ ،‬حبيث لو زالت بأقل من سبع اکتفی به وإذا مل تزل بالسبع وجب الزيادة عليها حىّت تزول‪ ،‬وهذا فض ًال‬
‫على أّن كّل حي طاهر عندهم‪ ،‬وأما على القول بأن حقيقة األمر هي الندب‪ ،‬فال حاجة إىل القرينة اليت تدّل عليه‪،‬‬
‫إاَّل إذا كانوا يقولون بأن غسل اإلناء من ولوغ الكلب واجب عندهم فيلتمسون القرينة لصرف األمر ههنا من الندب‬
‫إىل الوج وب‪ ،‬ورمَّبا وج دت القرين ة يف ه ذا احلديث من رواي ة أخ رى وهي أن رس ول اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم ق ال‪:‬‬
‫«طهارة إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبعًا‪ ،‬إحداهن بالرتاب«‪.‬‬
‫ومن األمثل ة أيض ًا قول ه ‪( :‬ي ا معش ر الش باب من اس تطاع منكم الب اءة فلي تزوج‪ ،‬فإن ه أغض للبص ر وأحص ن‬
‫للفرج‪ ،‬وقد قال الظاهرية ومن وافقهم إّن األمر يف قوله ‪« :‬فليتزوج» يفيد الوجوب‪ ،‬محًال للفظ على حقيقته وخالفهم‬
‫اجلمهور فحكموا بأَّن األصل يف حكم الزواج أنه مندوب‪ ،‬وقالوا ‪ :‬إَّن من القرائن على الندب تعليل األمر يف احلديث‬
‫بأَّنه أغض للبصر وأحصن للفرج‪ ،‬إذ مقتضى هذا التعليل أن من يستطيع غض بصره وإحصان فرجه بغري الزواج مل‬
‫يكن الزواج واجبًا عليه‪ ،‬عمًال بالقاعدة اليت تقتضي بأَّن احلكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا ‪.‬‬

‫هذه بعض األوامر يف الكتاب والُّس َّنة‪ ،‬وأَّم ا الّن واهي فمن أمثلتها يف الكتاب الكرمي قوله تعاىل‪َ﴿ :‬واَل ُتْس ِرُفوا‬
‫إنه ال ِحُيُّب اْلُمْس ِرِفَني )‪ ،‬فإَّن من العلماء من محل النهي عن اإلس راف والتبذير على حقيقته من احلرمة مطلق ًا‪ ،‬فحكم‬
‫بأن التبذير ‪،‬حرام‪ ،‬وبذلك أجاز احلجر على املبذر ولو كان تبذيره يف مباح أو طاعة ومنهم من قال‪ :‬بأن التبذير يف‬
‫الطاعة ال حيرم حىت صار من أق واهلم املشهورة‪ :‬ال إس راف يف طاعة‪ ،‬وهلذا قالوا ‪ :‬إَّن من أنفق مجيع ماله يف طاعة ال‬
‫جيوز احلج ر عليه‪ ،‬وقال فريق آخ ر من العلم اء‪ :‬ال حيرم التب ذير إاَّل يف معص ية‪ ،‬فمن أنف ق مال ه يف طاع ة أو مب اح مل‬
‫يكن مب ذرًا‪ ،‬وأَّم ا من ق ال ب أَّن الّنهي حقيق ة يف الكراه ة فق د محل النهي يف اآلي ة على اإلرشاد إىل م ا ه و خلي ق‬
‫باملسلم‪ ،‬فقال إن شأن املؤمن أن يكون وسطا يف كل أموره عمًال بقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬وَك َذ ِلَك َجَعْلَنُك ْم ُأَّم ًة َوَس ًطا‪ ،‬وقوله‬
‫َّر ِزيَنَة الَّلِه‬
‫سبحانه ‪ :‬وابتغ فيما واتنك اهلل الدار اآلخرة وال تنس نصيبك من الُّد ْنيا‪ ،‬وكذا قوله سبحانه‪ُ﴿ :‬قْل َمْن َح َم‬
‫اَّليِت َأْخ َرَج لِعَباِدِه‪َ ،‬والَّطِّيَبِت ِم َن الِّرْزِق )‪.‬‬

‫ومن أمثلة النهي يف الُّس َّنة قوله صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إذا استيقظ أحدكم من نومه فال يغمس يده يف اإلناء‬
‫حىت يغسلها ثالثا»‪ ،‬فإَّن من العلماء كالظاهرية واحلنابلة من محل النهي على احلرمة‪ ،‬بناء على أهنا حقيقته فال يعدل‬
‫عنها إال بقرينة‪ ،‬وهلذا قالوا ‪ :‬حيرم على من استيقظ من نومه أن يغمس يده يف اإلناء قبل أن يغسلها ثالثًا ‪.‬‬

‫وذهب اجلمه ور إىل أّن الّنهي يف قول ه ‪ :‬ال يغمس ي ده حمم ول على الكراه ة وأَّن الغس ل من دوب‪ ،‬والتمس وا‬
‫لذلك قرينة تصرف هذا الّنهي عن احلرمة إىل الكراهة‪ ،‬فقال املالكية منهم ‪ :‬إَّن مما يدل على أن النهي هنا للكراهة م ا‬
‫ورد يف بعض روايات احلديث من قوله ‪« :‬فإَّن النائم ال يدري اين باتت يده»‪ ،‬فإن هذا يفيد أن علة النهي هي كون‬
‫الشخص ال يعلم ما أصاب يده‪ ،‬إذ رمبا أصابتها جناسة أو قذر حال نومه وملا كان هذا أم رًا مشكوكًا كان النهي عن‬
‫غمس اليد يف اإلناء بعد النوم لالحتياط‪ ،‬فكان الغسل مندوبًا إلزالة الشك‪.‬‬
‫كم ا التمس الش افعية قرين ة تق رب من ه ذا يف املع ىن فق ال الش افعي اهلل ‪ :‬إن من ع ادة الع رب أن ين اموا يف‬
‫ثوب واحد متسع دون س راويل‪ ،‬وكانوا إذ ذاك يستجمرون من قضاء احلاجة فيكتفون باألحجار أو حنوها‪ ،‬مما يزيل‬
‫جرم النجاسة دون أثرها فيبقى هذا األثر ويعفى عنه يف الَّص الة‪ ،‬ولكن ال يعفى عنه إذا أص اب عض وًا غري مكانه‪،‬‬
‫فرمبا انكش فت ع ورة أح دهم ح ال نوم ه ف وقعت ي ده على ه ذا األثر م ع م ا ه و مع روف من شّد ة احلر يف احلج از‪،‬‬
‫فيكثر الع رق وق د‪ ،‬يص يب ي ده شيء من ه ذا املكان َفُنه وا عن غمس أي ديهم يف األواين قب ل غس لها إلزال ة الش ك‬
‫احتياطًا ‪.‬‬

‫وبناء على هذين التعليلني كان املرء لو نام حمتاط ًا بأن لبس السروايل أو حنوها من قفازات أو غريها مل يكره‬
‫له غمس يده يف اإلناء قبل غسلها‪ ،‬وأما من قال بأَّن النهي حقيقة يف الكراهة فإَّنه ال حيتاج إىل قرينة على ذلك‪.‬‬

‫تنبيه ‪:‬‬

‫مما يلحق هبذه احلالة الثالثة فعله ‪ ،‬إذ قد اختلف العلماء يف أفعاله عليه الَّص الة والَّس الم إذا كانت ظاهرة يف‬
‫معىن القرينة‪ ،‬وجتردت عَّم ا يدّل على صفتها من الوجوب أو الندب أو االختصاص به عليه الَّص الة والسالم أو بغريه‪،‬‬
‫كما لو صّلى ركعتني يف وقت غري أوقات الفرائض والسنن‪ ،‬فهل تدّل صالته يف هذا الوقت على اجلواز أو الندب أو‬
‫الوجوب؟ يف ذلك أقوال رّج حوا منها داللتها على الندب‪.‬‬

‫احلالة الرابعة ‪ :‬أن يكون اللفظ له حقيقة معلومة‪َّ ،‬مُث ورد يف لسان الشارع واحتمل أن ي راد معناه احلقيقي‪،‬‬
‫أو أنه قد أريد منه اجملاز لقرينة وقع النزاع فيها بني العلماء‪ ،‬ومثال ذلك اللفظ اخلاص إذا أطلق يف لسان الشارع‪،‬‬
‫واحتمل أن یراد به العموم‪ ،‬أو اللفظ العام إذا ورد يف الشرع واحتمل أن ي راد به اخلصوص فإن كال منهما قد اختلف‬
‫فيه‪.‬‬

‫فمث ال األّو ل‪ :‬وه و اخلاص ال ذي احتم ل أن يكون املراد ب ه العم وم قول ه ‪( :‬ال ت بيعوا ال ذهب بال ذهب‪ ،‬وال‬
‫الفضة بالفضة‪ ،‬وال الرب بالرب‪ ،‬وال الشعري بالشعري‪ ،‬وال التمر بالتمر‪ ،‬وال امللح بامللح‪ ،‬إال مثًال مبثل‪ ،‬يدًا بيد)‬

‫فإَّن الظاهرية قد محل وا هذا احلديث على أنه من باب اخلاص الذي أريد به اخلصوص‪ ،‬فحكم وا بأَّن هذه‬
‫األص ناف الس تة هي ال يت حيرم فيه ا الرب ا‪ ،‬وال حيرم يف غريه ا‪ ،‬بن اء منهم على أّن ه ال جيوز تعلي ل األحكام‪ ،‬وال يق اس‬
‫على املنصوص منها شيء غري منصوص على حكمه‪ ،‬ولو اشرتك مع املنصوص يف املنصوص يف العلة‪.‬‬
‫وذهب غريهم من األئمة األربعة وكثري من العلماء إىل أن هذه األشياء الستة غري م رادة ألعياهنا‪ ،‬وإمنا ت راد‬
‫ملعان يشرتك معها فيها غريها‪ ،‬ولذلك حكم وا بأن الربا كما حيرم يف هذه األصناف الس ّنة حيرم يف غريها مما وجدت‬
‫فيه ه ذه املع اين‪ ،‬وإن ك انوا ق د اختلف وا يف عل ة التح رمي ال يت هي املع اين املش ار إليه ا يف األص ناف الس تة‪ ،‬فمنهم من‬
‫ق ال ‪ :‬إهنا التق دير م ع احتاد اجلنس‪ ،‬وه ذا ه و ق ول احلنفي ة ورواي ة عن اإلم ام أمحد ومنهم من ق ال‪ :‬إهّن ا االشرتاك يف‬
‫الطعم بالنسبة لألصناف األربعة األخرية والنقدية بالنسبة للذهب والفّض ة‪ ،‬وهذا هو مذهب الشافعية والرواية الثانية‬
‫عن د احلنابل ة‪ ،‬ومنهم من ق ال‪ :‬إّن العل ة هي كوهنا قوت ًا لآلدمي وميكن إدخاره ا‪ ،‬والنقدي ة يف ال ذهب والفض ة‪ ،‬وه ذا‬
‫مذهب املالكية على املشهور عندهم والرواية الثالثة للحنابلة‪ ،‬وعلى أي االحتماالت فقد صار هذا احلديث من باب‬
‫اخلاص الذي أريد به العام‪ ،‬وقد قال ابن رشد يف بداية اجملتهد»‪ :‬إن داللة احلديث على تع ّد ي حرمة الربا إىل غري‬
‫األص ناف املذكورة فيه ليست من باب القياس حىّت خيالف فيه الظاهرية‪ ،‬بل هي من الّد اللة اللفظية اليت تعترب من‬
‫داللة النصوص‪ ،‬فال ينبغي اخلالف فيها‪.‬‬

‫ومث ال الث اين ‪ :‬وه و الع ام ال ذي حيتم ل إرادة اخلص وص ب ه قول ه تع اىل‪ُ﴿ :‬ح ِّرَم ْت َعَلْيُك ُم اْلَم ْيَت ُة َوال َّد ُم َو ْحَلُم‬
‫اِخْلنزير) فقد اتفق العلماء على حرمة خنزير الرب‪ ،‬مُث اختلفوا يف خنزير البحر ‪.‬‬

‫ف ذهب احلنفي ة إىل حرمت ه محًال للف ظ الع ام على عموم ه وذهب غ ريهم إىل أن خ نزير البح ر ال حيرم؛ لقول ه‬
‫تعاىل‪ :‬أحل لكم صيُد اْلَبْح ِر َو َطَعاُمُه َم َتَنًع ا َلُك ْم َوالَّس َّياَرة‪ ،‬وقوله ملا سئل عن ماء البحر قال ‪ :‬هو الطهور ماؤه احلل‬
‫ميتته»‪ ،‬فقد أفادت اآلية أن صيد البحر كله حالل‪ ،‬ويدخل فيها اخلنزير‪ ،‬كما أّن احلديث قد أفاد أن ميتة البحر‬
‫حالل‪ ،‬سواء خنزيرًا أم غريه‪ ،‬مع أن ميتة حيوان الرب ال حتّل‪ ،‬فكان إشارة إىل ترجيح ما ذهب إليه اجلمهور‪.‬‬

‫احلال ة اخلامس ة ‪ :‬أن تكون مف ردات األلف اظ ظ اهرة الدالل ة على معناه ا احلقيقي‪ ،‬وإمنا عرض هلا االحتمال‬
‫عند الرتكيب كما يف قوله تعاىل‪َ( :‬واَّلِذ يَن َيْرُموَن اْلُم ْحَص َنِت َّمُث َلْو َيْأُتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم مثنني جل َد ًة َواَل َنْق بُل وا‬
‫ُهَلْم َش َه َد ٌة َأَبدا َوَأْو َليَك ُه ُم اْلَف ِس ُقوَن ِإاَّل اَّلِذ يَن َتاُبوا ِم ن َبع ِد ذِلَك َوَأْص َلُح وا َفِإَّن الَّلَه َغُف وٌر َرِح يٌم) فقد اشتملت اآلية‬
‫األوىل على ثالثة أحكام جيب تنفيذها على القاذف وهي جلده مثانني جلده‪ ،‬ورّد شهادته واحلكم عليه بالفسق‪ّ ،‬مُث‬
‫جاءت اآلية الثانية بعدها فاستثنت الذين تابوا‪ ،‬وهنا اختلف العلماء يف هذا االستثناء هل يرجع إىل األحكام الثالثة‬
‫قبله؟ وإذن فمن تاب قبل أن حيّد مل جيب حده‪ ،‬ومل يتغري فاسقًا وال ترّد شهادته‪ ،‬وإذن فقد سقط عنه احلد واعترب‬
‫عدًال تقبل شهادته وهذا مروي عن الشعيب بناء منه على أن االستثناء راجع إىل مجيع ما اشتملت عليه اآلية األوىل‬
‫من األحكام‪ ،‬وقال مجهور العلماء من األئمة األربعة وغريهم‪ :‬إّن االستثناء ال يرجع إىل احلد؛ ألَّنه من حقوق العباد‬
‫ال يت ال تس قط بالتوب ة‪ ،‬وإمنا يس قطها العف و أو الوف اء‪ّ ،‬مُث اختلف وا يف أن االس تثناء يرج ع إىل احلكمني األخ ريين؛ أو‬
‫يرج ع إىل األخ ري فق ط؟ فق ال احلنفي ة‪ :‬إن االس تثناء ال يرج ع يف ِإاَّل اجلمل ة األخ رية‪ ،‬وهي م ا تض منت احلكم علي ه‬
‫بالفس ق‪ ،‬وبن اء على ذلك فق د حكم وا بأَّن الق اذف إذا ت اب جيب حده ورد شهادته مهما ص لح وص ار من أع دل‬
‫الناس‪ ،‬وال حيكم عليه بالفسق؛ ألَّن فسقه قد ارتفع بالتوبة‪ ،‬وأَّم ا رّد شهادته فهو حكم مؤبد يف اآلية؛ لقوله تعاىل‪:‬‬
‫﴿َواَل َنْق َبُل وا ْمَل َش َه َد ٌة َأَب دا ‪ ،‬وال عجب أن يكون الش خص عدًال مُث ال تقبل شهادته‪ ،‬كما عه د ذلك يف األب إذا‬
‫شهد البنه أو عكسه‪.‬‬

‫وق ال األئم ة الثالث ة مال ك والش افعي وأمحد رمحهم اهلل ‪ :‬إن االس تثناء راج ع للحكمني املذكورين بع د احلد‪،‬‬
‫وبن اء على ذل ك فق د حكم وا ب أَّن الق اذف إذا ت اب ح ده‪ ،‬وقبلت شهادته وارتف ع عن ه وص ف الفس ق؛ ألَّن وجب‬
‫األص ل أن الش خص إذا ك ان ع دًال وجب قب ول شهادته‪ ،‬إال ملانع كالقراب ة أو حنوه ا ف إذا مل يوج د م انع من قب ول‬
‫شهادته إال كونه قاذف ًا‪َّ ،‬مُث ُعلمت توبته ارتف ع عنه الفس ق باإلمجاع‪ ،‬فإن مل يكن هن اك م انع من قبول شهادته غ ري‬
‫ذلك وجب قبوهلا ‪ .‬واهلل أعلم‪.‬‬

‫السبب الثاين من أسباب اختالف األئمة‪ :‬ما يرجع إىل الرواية ‪:‬‬ ‫‪-‬‬

‫الرواية هي‪ :‬الطريق الذي يـصـل بـالـّنـص إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أو هي ‪ :‬الرواة الذين رووه واحدًا‬
‫عن غريه حىت يكون آخرهم من ح ّد ث به عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ويسمى هذا الطريق إسنادًا أو سندًا‪،‬‬
‫وملا كان السند خيتلف تبع ًا لقلة الرواة وكثرهتم ؛ وكان حكم الّنص خيتلف تبع ًا لذلك‪ ،‬وجب أن نذكر نبذة نبني هبا‬
‫حكم كل نوع فنقول ‪:‬‬

‫أوًال ‪ :‬قد يروي النص رواة كثريون حبيث يستحيل عادة تواطؤهم (أي اتفاقهم على الكذب‪ ،‬مث ينقل هكذا‬
‫طبقة بعد طبقة يف مجيع سلسلة رّواته وهذا ما يس ّم ى بالتواتر ويسمى النص حينئذ مت واترًا‪ ،‬وذلك بأن يكون الرواة‬
‫عددًا غري حمصور لكثرهتم كثرة بالغة‪ ،‬أو عددًا ميكن حصرهم ولكنهم من بقاع خمتلفة وأصقع متباعدة‪ ،‬حتيل العادة‬
‫التقاءهم واتفاقهم على الكذب أو لغري ذلك من األسباب‪ ،‬ألفاظه مت واترة كما ثبت ذلك يف القرآن الكرمي حيث إّن‬
‫مجي ع إمجاع ًا يف الق راءات الس بع وعلى الص حيح يف الق راءات العش ر‪ ،‬ومن زعم ع دم الت واتر يف أي لف ظ من ألف اظ‬
‫القرآن يف إحدى الق راءات السبع فقد خالف اإلمجاع الثابت باليقني‪ ،‬وإمَّن ا اغرت بنسبة كل ق راءة إىل قارئ َك َوْر ش أو‬
‫َقاُلون أو حفص‪ ،‬فظّن أّنه مل يق رأ هبا إال هذا ال راوي‪ ،‬ومل يدر أّن الُق ّراء كانوا متعددين حبيث بلغ وا حد الت واتر يف كل‬
‫عصر‪ ،‬بل زادوا على أضعافه بكثري‪ ،‬وإمَّن ا نسبت بعض الق راءات إىل بعض الرواة ألَّنه كان أشهرهم يف ذلك الوقت‪،‬‬
‫فإذا قيل رواية حفص أو َوْر ش مثًال أو حنومها‪ ،‬فليس معناه‪ :‬أنه مل يروها إال هو‪ ،‬بل رواها كثري غريه عن شيخه وغري‬
‫شيخه من الرواة الكثريين غري أّن َح ْف صًا أو َوْرشًا اشتهر من بني أصحابه‪ ،‬حبيث صار كالعلم‪ ،‬كما أن شيخه كذلك‬
‫فاقتصر مدونو علم القراءات على نسبتها إليه كما يقتصر يف نسبة احلديث إىل البخاري مثًال لكونه أصح الكتب يف‬
‫احلديث‪ ،‬فيكتفى به ولو كان الكثري من أصحاب احلديث قد رووه ‪.‬‬

‫وهبذا فقد وجب أن جنزم بتواتر القرآن لفظًا‪ ،‬ونعتقد بأن ما بني دفيت املصحف من ألفاظ القرآن هي عني ما‬
‫أوحي إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كما قال تعاىل‪َ﴿ :‬و ِإَّنُه َلَتنِزي ُل َرِّب العلمَني َنَزَل ِبِه ال ُّروُح اَأْلِم ُني َعَلى َقْلِب َك‬
‫ِل‬ ‫ِف‬ ‫ِذ ِل‬ ‫ِل‬
‫َتُك وَن ِم َن اْلُم ن ِريَن ِب َس اٍن عرّيب ُّم ِبِني ‪ ،‬وكما قال سبحانه‪ِ﴿ :‬إَّنا ْحَنُن َنَّزْلَن ا الذكَر َو ِإَّنا َل ُه َحَل ُظوَن ‪ ،‬وقال‪َ﴿ :‬ذ َك‬
‫اْلِكَتُب اَل ف ه‪ .‬فق د تكّف ل اهلل حبفظ ه من ك ل م ا يعرتي ه من الش ك والتغي ري والتب ديل‪ ،‬فل و ك ان بعض ألفاظ ه أحادي ا‬
‫العرتاه الشك ويف ذلك تكذيب لوعد اهلل حبفظه ونفي الشك عنه)‪.‬‬

‫وإذا علمت ذل ك ف اعلم أن حكم املت واتر إفادت ه العلم اليقي ين ال ذي ي وجب اعتق اده والعم ل ب ه‪ ،‬وهبذا فق د‬
‫وجب العم ل م ا ج اء يف الق رآن الكرمي من األحكام‪ ،‬واعتق اد م ا س اقه جبمي ع من القص ص عن األنبي اء الس ابقني‬
‫وغريهم من األمم السابقة‪.‬‬

‫غ ري أن الق رآن الكرمي وإن ك ان قطعي الثب وت فق د يط رأ االحتم ال يف داللت ه لبعض م ا م ر من أس باب‬
‫االحتم ال يف األلف اظ‪ ،‬إال أن األص ل يف الق رآن الكرمي أن ه قطعي الدالل ة وأن االحتم ال خالف األص ل‪ ،‬ول ذا ق ال‬
‫اإلمام الشافعي ختلله ‪ :‬القرآن على ظاهره‪ ،‬فإن احتمل املعاين فأوالها به ما أشبه ظاهره»‪ ،‬وحينئذ فما جاء يف القرآن‬
‫الكرمي فأكثره حقائق قطعية جيب اإلميان هبا كأصول اإلسالم من صالة وصوم وحج وزكاة‪ ،‬وكذا ما أفاده من عقائد‬
‫التوحيد فيما يتعّل ق باإلالهيات والنب وات والغيبيات فكل ذلك قطعي‪ ،‬ومثل ذلك ما جاء يف القرآن كث ريًا َّمما يتعّل ق‬
‫باألحكام الفرعية اليت أصبحت معلومة من الدين بالضرورة كحرمة امليتة وما معها من احملرمات‪ ،‬وحترمي زواج اإلنسان‬
‫بأصوله وفروعه من نسب أو رضاعة‪ ،‬وقل ذلك يف مثل حترمي الربا والزين والقتل واخلمر وما معها وإجياب الكف ارات يف‬
‫الظه ار والقت ل واليمني إىل غ ري ذل ك َّمما ال ميكن حص ره‪ ،‬وق د أف اد الق رآن بطري ق قطعي يقي ين كم ا أف اد كث ريًا من‬
‫الواجبات وفضائل األخالق واآلداب الشرعية يف املعامالت وغريها بنفس هذا الطريق القطعي‪ ،‬وحينئذ ُيعلم خطأ من‬
‫زعم أن ألف اظ الق رآن كّله ا أو أكثره ا ظيّن الّد الل ة‪ ،‬ب ل احلق أن أك ثر الق رآن قطعي وأَّن األص ل يف ألفاظ ه أن تفي د‬
‫الداللة القطعية‪ ،‬وأن االحتمال يف بعض داللة ألفاظه طارئ‪ ،‬وال يصار إليه إاّل عند ق رائن تدّل على االحتمال فيه‪،‬‬
‫وإن شئت ضرب األمثال على ما تق ّد م فما عليك إال أن تتصفح آيات القرآن الكرمي‪ ،‬وتتلو منه ما تيسر من مثل‬
‫قول ه تع اىل ‪ :‬الَّل ُه اَل ِإَل َه إاَّل ُه َو اَحْلُّي اْلَق ُّي وُم ال َتْأُخ ُذ ُه ِس َنٌة َواَل ن وم ل ه م ا يف الَّس َمَواِت َوَم ا يف اَأْلْر ِض َم ن َذا اَّل ِذي‬
‫َيْشَف ُع ِعنَد ُه ِإاَّل ِبِإْذِنِه َيْع َلُم َم ا َبَنْي َأْيِد يِه ْم َوَم ا َخ ْلَف ُه ْم َواَل ِحُي يُطوَن ِبَش ْي ٍء ِم ْن ِعْلِم ِه ِإاَّل َمِبا َش اَء َو ِس َع ُك ْرِس ُّيُه السموات‬
‫واألرض وال يوُدُه ِح ْف ُظُه َم ا َوُه َو العلي العظيم وقوله سبحانه‪َ﴿ :‬حُمَّمٌد َّرُس وُل اِهلل َواَّلِذ يَن َمَعُه َأِش َّداُء َعَلى اْلُك َّفاِر رمحاء‬
‫بينهم) إىل ما شئت من تالوة آيات بينات ال يشك يف قطعية داللتها مسلم‪.‬‬

‫فأما ما عرض له االحتمال يف القرآن الكرمي لسبب لفظي فقد تقدم لك كثري من أمثلته ‪.‬وأما ما عرض له‬
‫احتمال التخصيص يف عمومه أو نسخه أو غري ذلك فإليك بعض أمثلته ‪.‬‬

‫أ ـ ق ال اهلل تع اىل ‪َ( :‬واْلُم َطَّلَق اُت َيَتَرَّبْص َن ِبَأنُف ِس ِه َّن َثاَل َث َة ف روع‪ ،‬ف إَّن ظ اهر ه ذا اللف ظ العم وم يف مجي ع‬
‫املطلقات من ذوات القروء‪ ،‬ولكن بعد التفحص يف غري هذه اآلية من آيات القرآن الكرمي علم أهنا قد ُخ صصت بآية‬
‫دلت على خ روج املطلق ة قب ل ال دخول‪ ،‬كم ا ُخ صص ت بآي ة أخ رى أخ رجت احلام ل‪ ،‬وب ذلك أص بح قول ه تع اىل ‪:‬‬
‫(َواْلُم َطَّلَق ُت َيَتَرَّبْص َن ِبَأنُف ِس ِه َّن َثَلَثَة ُقُرور ال يراد منه إال املطلقات بعد الدخول من ذوات األقراء الاليت لسن باحلوامل‪،‬‬
‫ِع‬ ‫ِم ِح ِم‬
‫وأما ما يظّن من ختصيصها بقوله تعاىل‪َ( :‬واَّليِت َيْس َن َن اْلَم يِض ن ِّنَس اَبُك ْم ِإن اْرَتْبُتْم َف َّد ُتُه َّن َثَلَثُة َأْش ُه ٍر َواَّليِت ْمَل‬
‫ِإ‬
‫َيْض ُن َف َّن هذا الظن غري عند تدقيق النظر ؛ ألَّن هؤالء اليائسات والصغريات صحيح لسن من ذوات القروء‪ ،‬فهّن‬
‫غ ري داخالت يف آي ة الق روء حىّت حيت اج إىل إخ راجهّن ‪ ،‬ول ذا ورد يف احلديث أن أيب بن كعب ق ال الرس ول ص لى اهلل‬
‫عليه وسلم بعد نزول آيات البقرة يف العدة‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬إن ناس ًا يقولون ‪ :‬قد بقي من الّنساء من مل تذكر عدهتن‬
‫يف القرآن‪ ،‬وهّن الصغريات واليائسات وذوات احلمل‪ ،‬فنزل قوله تعاىل‪َ﴿ :‬واَّليِت يِإْس َن ِم َن اْلَم ِح يِض ) ‪.‬‬

‫ب ‪ -‬ومن ذلك قوله تعاىل‪َ﴿ :‬فانِكُح وا َم ا َطاَب َلُك م ِّم َن النسلو َم ْثىَن َوُثَلَث َوُرَبَع ‪ ،‬فإَّن ظاهر قوله تعاىل‪:‬‬
‫﴿َم ا َطاَب َلُك م مَن الِّنَس لو يقتضي حّل التزوج بأي امرأة‪ ،‬س واء كانت من احملارم أو غريها‪ ،‬كما تقتضي ج واز اجلمع‬
‫بني األخ تني وغريمها يف العص مة الواح دة ولكن ه ذا العم وم ق د ُخ ص بقول ه تع اىل ‪ُ :‬ح ِّرَم ْت َعَلْيُك ْم َأَمَه ُتُك ْم ‪ ...‬إىل‬
‫آخر اآلية وأحلقت هبا الُّس َّنة حترمي اجلمع بني املرأة وعمتها أو خالتها كما أحلقت هبا بقية احملّرمات من الرضاع‪ ،‬ومن‬
‫ه ذا املثال ُيعلم أن ختص يص الع ام يف القرآن الكرمي قد يكون بالقرآن كما قد يكون بالُّس َّنة‪ ،‬وأمثلة هذا النوع من‬
‫ختصيص العام كثرية‪ ،‬لو تتبعناها لطال الكالم ويكفي أن تقول‪ :‬إن القاعدة العلماء أال ُيعمل بالعام إال بعد البحث‬
‫عن عن د مجه ور ختصيص ه لكثرة م ا ورد على العمومي ات من التخص يص حىَّت اشتهر ق وهلم‪ :‬م ا من ع ام إال وق د‬
‫ُخ ص»‪ ،‬بل إّن هذه القاعدة نفسها قد ُخ َّص ت أيض ًا مبثل قوله تعاىل‪َ﴿ :‬واُهلل ِبُك ِّل َش ْي ٍء َعِليٌم ؛ ألَّن هذه اآلية ال‬
‫يدخلها التخصيص أصًال ‪.‬‬

‫ج‪-‬ـ ومثال ما ورد عليه النسخ قوله تعاىل‪َ﴿ :‬واَّلِذ يَن يتوقون ينُك ْم َوَيَذ ُروَن َأْز َواًج ا َو ِص َّية ألزواجهم منًع ا إىل‬
‫احلول غرّي إخ راج فإَّنه يقتض ي أن ع دة املت وىف عنه ا زوجه ا ح ول كام ل‪ ،‬ولكن ه ذا ك ان أّو ل األم ر‪ّ ،‬مُث ُنِس َخ بقول ه‬
‫تعاىل‪َ ﴿ :‬واَّلِذ يَن ُيَتَوَّفْو َن ِم نُك ْم َوَيَذ ُروَن َأْز َواًج ا َيَتَرَّبْص َن ِبَأنُفِس ِه َّنأرَبَعَة َأْش ُه ٍر َو َعْش رًا‪ ،‬فقد صارت العدة هبذه اآلية أربعة‬
‫أشهر وعشر ليال‪ ،‬وقد دّل على هذا النسخ ما رواه البخاري وغريه ‪ :‬أن عبد اهلل بن الزبري قال لعثمان بن عفان له‬
‫حني كتابت ه املص احف‪ :‬إّن آي ة احلول ق د ُنس خت بآي ة األربع ة األشهر فلم تكتبه ا؟ ‪ ...‬أي‪ :‬ملاذا تكتب املنس وخ‪،‬‬
‫فقال عثمان له ‪ :‬لكيّن ال أستطيع أن أغري شيئًا يف القرآن كان يف عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫وهبذا ُيَرّد على من زعم عدم وجود النسخ يف الق رآن؛ كأيب مسلم األص فهاين وغ ريه‪ ،‬إذ القاع دة أن النسخ‬
‫يثبت بنص الص حابة علي ه؛ ألهنم أعلم بالتنزي ل وق د شاهدوا نزول ه‪ ،‬وإىل هن ا نكتفي هبذا الق در فيم ا يتعّل ق برواي ة‬
‫القرآن‪ ،‬مث نعود إىل رواية السنة الشريفة فنقول ‪:‬‬

‫من املعلوم أّن الُّس َّنة هي أقوال النيب صلى اهلل عليه وسلم وأفعاله وتقريراته‪ ،‬وطريق وصول شيء من ذلك إىل‬
‫غريه إما أن يكون باملشافهة واملشاهدة أو يكون بطريق الرواية عنه‪ ،‬مت رواية من بعدهم عمن رووه عن رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم َّمُث هكذا حىت وصل إىل من دّو نوه يف عصر هنضة التدوين للحديث‪ ،‬فأما الطريق األول وهو املشافهة‬
‫واملشاهدة كأن يسمع الصحايب من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ق وًال أو ي راه يفعل فعًال أو يقرر تقري رًا فذلك ال‬
‫يق ال في ه مت واتر أو غ ريه‪ ،‬ب ل ه و حّج ة قطعي ة عن د من مسع أو شاهد ت وجب العلم والعم ل مبقتض اه؛ ألَّن الس ماع‬
‫واملشاهدة من طرق العلم الضروري‪ ،‬كما هو معلوم عند من له إملام بالعلوم العقلية‪.‬‬

‫وأما الطريق الثاين وهو طريق الرواية والنقل الذي توجد فيه واسطة بني رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وبني‬
‫من بلغته ُس َّنته فإَّنه ينقسم كما أشرنا سابقًا إىل متواتر وغريه‪ ،‬وقد اتفق العلماء مجيعًا على أن املتواتر من الُّس َّنة حكمه‬
‫كحكم القرآن فيما ذكرنا آنفًا‪ ،‬غري أّن التواتر يف الُّس َّنة قد يكون لفظي ًا كما قيل يف حديث‪ :‬من كذب علي معتمدًا‬
‫فليتبوأ مقعده من النار»‪ .‬وقد يكون معنوّيًا كأكثر ما يروى من األحاديث املتواترة يف مثل أعداد الركعات والسجدات‬
‫يف الَّص الة ومقادير الزكوات وصفة احلج والعمرة‪ ،‬وغري ذلك‪ ،‬فهذا كله مما يفيد القطع واليقني‪ ،‬وجيوز ختصيص عموم‬
‫القرآن به‪ ،‬وكذا نسخه وتقييد مطلقه‪ ،‬وغري ذلك‪.‬‬

‫ثانيًا‪ :‬أَّم ا غري املتواتر من الُّس َّنة‪ ،‬فاجلمهور على أنه يسمى أحادًا‪ ،‬س واء قلت رواته أو كثرت‪ ،‬ما مل تبلغ حد‬
‫الت واتر‪ ،‬وحكم ه عن دهم ‪ :‬أّن ه يفي د الظن الق وي املوجب للعم ل‪ ،‬وجيوز ب ه ختص یص عم وم الكت اب‪ ،‬وتقيي د مطلق ه‬
‫واختلفوا يف النسخ‪.‬‬

‫وأما عند احلنفية فغري املتواتر قسمان‪ :‬مشهور و آحاد فاملشهور عندهم ما رواه ثالثة فأكثر من املوثوق هبم‬
‫أوهو ما كان آحادًا يف عصر الصحابة‪ّ ،‬مُث اشتهر فيمن بعدهم‪ ،‬وحكم هذا القسم عندهم أّنه كاملتواتر‪ ،‬فيجوز به‬
‫ختصيص الكتاب ونسخه وتقييد مطلقه ‪.‬‬

‫وأم ا اآلح اد عن دهم فه و م ا قلت روات ه عن ح د الت واتر والش هرة‪ ،‬وحكم ه عن دهم أن ه يفي د الظّن املوجب‬
‫للعمل‪ ،‬ما مل يتعارض مع أقوى منه من كتاب أو ُس َّنة مشهورة؛ ألهَّن م يقدمون الرتجيح على اجلمع يف التعارض كما‬
‫سيأيت‪ ،‬وهبذا ال ُينَس خ القرآن به‪ ،‬كما ال خُي صص عمومه‪ ،‬إاَّل إذا ُخ ص قبله مبا يصلح لتخصيصه‪ ،‬فإن مل خُي صص‬
‫بغريه قدم عموم القرآن عليه ؛ ألَّن العام عندهم قطعي الداللة‪ ،‬فال يعارضه ما يفيد الظّن ‪ ،‬ولذلك قالوا ‪ :‬ال ي زاد على‬
‫الكتاب خبرب الواحد»‪ّ ،‬مُث اشرتطوا للعمل به شروطًا ثالثة‪:‬‬

‫الشرط األول ‪ :‬أن ال خيالف الراوي ما رواه‪ ،‬فإن خالف ال ّراوي ما رواه َقَّدموا عمل ال راوي على روايته؛ ألَّنه‬
‫ع دل ثق ة فال خيالف م ا رواه إال ملوجب يقتض ي املخ الف‪ ،‬وق د تق دم مث ال ذل ك يف ح ديث غس ل اإلن اء من ول وغ‬
‫الكلب‪.‬‬

‫الشرط الثاين‪ :‬أن ال خيالف القياس‪ ،‬فإن خالف القياس مل ُيعَم ل به وُعِم ل بالقياس املخالف له‪ ،‬وهلذا مل‬
‫يعملوا حبديث املصراة وهو أّن النيب صلى اهلل عليه وسلم هنى عن التص رية وقال‪ :‬من اشرتى شاة فوجدها مص راة بعد‬
‫حلبها فهو باخليار إن شاء أمسكها‪ ،‬وإن شاء رّدها وصاعًا من متر»‪.‬‬

‫والتص رية هي ‪ :‬جتمي ع لنب الش اة وحنوه ا يف الض رع ح ىت يعظم اللنب في ه‪ ،‬فُيَخ َّي ُل للن اظر أهنا غزي رة اللنب‬
‫بطبيعتها وقد هنى عنها ملا فيها من الغش واخلداع واإلض رار باحليوان‪ ،‬وقد اعتربت يف هذا احلديث من العيوب اليت‬
‫توجب اخليار للمشرتي يف إمساك املص راة بالثمن الذي اشرتاها به‪ ،‬أو رّدها بعد احللب مع صاع من متر‪ ،‬وقد قال‬
‫احلنفية‪ :‬إن هذا احلديث خمالف للقياس من وجوه‪ :‬أحدها‪ :‬أن القياس يف الضمان أن يكون يف املثلي مبثله ويف املقوم‬
‫بقيمت ه‪ ،‬وملا ك ان اللنب مثلي ًا ك ان مقتض ى القي اس أن ه ي رّد مثل ه‪ ،‬وثانيه ا ‪ :‬أن مقتض ى القي اس أن خيتل ف الع وض‬
‫باختالف املعوض قّل ة وكثرة فيعوض القليل بالقليل‪ ،‬والكثري بالكثري‪ ،‬ولكن هذا احلديث قد خالف هذا القياس يف‬
‫جعل العوض شيئًا معين ًا ال خيتلف مقداره‪ ،‬وثالثها ‪ :‬أنه خمالف ملقتضى قاعدة‪ :‬اخلراج) بالضمان) فإَّن مقتضاها أّن‬
‫لنب املصراة ال يعوض؛ ألَّنه من اخلراج‪ ،‬إذ قد دخلت الشاة يف ضمان املشرتي بالعقد فكان له خراجها من اللنب‪ ،‬إىل‬
‫غري ذلك من وجوه املخالفة لألقيسة والقواعد اليت توجب عدم العمل هبذا احلديث عنهم ‪.‬‬

‫الشرط الثالث‪ :‬أن ال يكون خرب اآلحاد فيما تعم به البلوى؛ أي‪ :‬فيما يكثر وقوعه بني الناس فيحتاجون إىل‬
‫بيان حكمه‪ ،‬فإن كان هذا احلكم مروي ًا خبرب اآلحاد مل يعمل به عندهم تقدميًا لل رباءة األصلية عليه‪ ،‬وهلذا مل يعمل وا‬
‫حبديث نقض الوضوء باملس حيث قالوا ‪ :‬إّنه روي من طريق ام رأة تسمى بسرة بنت صفوان فقالوا ‪ :‬إّنه لو كان هذا‬
‫احلكم صحيحًا لورد من طريق الّرجال؛ ألَّنه أمر يقع بينهم وال تكون روايته خبرب الواحد‪ ،‬إذ مقتضى العادة أن يكون‬
‫ه ذا األم ر مش تهرًا بينهم‪ ،‬فتت وفر ال دواعي إىل نقل ه لعم وم احلاج ة إلي ه‪ ،‬ف وروده من طري ق واح د مل ي روه إاَّل ام رأة مما‬
‫يوجب الشك يف صحته‪ ،‬كما يوجب تقدمي غريه عليه‪ ،‬وهو ما رواه طلق بن علي أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫ُس ِئل عن مس اإلنسان فرجه هل ينقض الوضوء؟ فقال عليه الَّص الة والَّس الم‪« :‬إن هو إاَّل بضعة منك»؛ أي جزء‬
‫كسائر أعضاء اجلسم ال ينتقض الوضوء مبس شيء منها‪ ،‬هذا وقد ناقشهم اجلمهور يف هذه الشروط كّلها‪ ،‬ورّدوا‬
‫عليهم مبا يطول ذكره‪ ،‬فنرتكه اختصارًا ‪.‬‬

‫وخالصة الكالم أن احلديث مىت صحت روايته حبيث كان يف درجة احلسن أو الصحيح كان عند اجلمهور‬
‫حّج ة جيب العمل مبقتضاه‪ ،‬س واء أكان فيما تعم به البلوى أو خالفه ال راوي أو القياس أو كان خبالف ذلك‪ ،‬ولذا‬
‫قالوا ‪ :‬بأن النية يف الوضوء فرض‪ ،‬عمًال حبديث‪« :‬إمّن ا األعمال بالنيات‪ ،‬وحكموا بصحة القضاء بشاهد وميني‪ ،‬عمًال‬
‫مبا صح أَّن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قضى بشاهد وميني وإن كان يف ذلك عند احلنفية من الزيادة على الكتاب‬
‫خبرب الواحد‪ ،‬كما ذهب اجلمهور إىل فرضية الفاحتة يف الَّص الة‪ ،‬وفرض السالم يف ختامها إىل غري ذلك‪.‬‬

‫وإذا كان هذا موقف العلماء من خرب اآلحاد فنقول‪ :‬إّن احلديث قد يصل إىل بعض األئمة فيعمل به‪ ،‬بينما‬
‫مل يصل إىل بعضهم فيعمل بعموم القرآن أو بأدلة أخرى‪ ،‬ومثال ذلك ما يروى عن سعيد بن املسيب له أنه كان‬
‫يقول حبل املطلقة ثالثًا ملطلقها مبجرد أن يعقد عليها رجل غريه‪ ،‬مث يطلقها‪ ،‬عمًال بإطالق قوله تعاىل‪ :‬هو فإن طلقها‬
‫فال حتل له من بعد َح ىَّت َتنِكَح َزْوًج ا َغْيَره ؛ ألَّن النكاح يف عرف الشرع حقيقة )؛ يف العقد‪ ،‬ومل يبلغه حديث رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف ام رأة رفاعة القرظي حني طلقها ثالث ًا فتزوجت بعده رجًال زعمت أنه مل يطأها‪ ،‬وأرادت‬
‫الطالق منه لرتجع إىل رفاعه‪ ،‬فقال هلا عليه الَّص الة والَّس الم‪« :‬ال ‪ ،‬بل حىّت تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك كناية‬
‫عن الوطء‪ ،‬إذ إَّن هذا احلديث مفسر لآلية‪ ،‬فيكون النكاح فيها مبعىن الوطء‪ ،‬أو مبني هلا فيكون مفيدًا بأَّن العقد‬
‫املبيح للزواج األّو ل مشروط بالوطء بعده‪.‬‬

‫ومن ذلك ما روي عن ابن عباس ‪ :‬أنه كان ال حيرم إال ربا النسيئة‪ ،‬اعتمادًا على حديث أسامة بن زيد أّن‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬إمّن ا الربا يف النسيئة»‪ ،‬فكان من رأيه به أّن الّربا جائز فيما كان يدا بيد‪ ،‬ومل‬
‫يبلغه حديث عبادة بن الصامت وغريه أن النيب صلى اهلل عليه وسلم هنى عن األصناف الربوية اليت ذكرناها فيما سبق‬
‫أن يباع بعضها جبنسه إال مثًال مبثل‪ ،‬يدًا بيد‪ ،‬فلما بلغه ذلك رجع عما كان يراه‪.‬‬

‫ومن ذلك أيضًا ما يروى عن ابن عمر له أنه كان يقول ‪ :‬إَّن على املرأة إذا أرادت أن تغتسل من اجلنابة أن‬
‫تنقض م ا ك ان مض فورا من شعرها عمًال مبقتض ى قول ه تع اىل ‪ :‬وإن ُك نُتْم ُج ُنب ًا َف َأَطَه ُروا بتش ديد الط اء فإَّنه يقتض ي‬
‫املبالغة التطهري حىّت يصل املاء إىل البشرة‪ ،‬وعمًال مبقتضى حدیث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أنه قال‪ :‬من ترك‬
‫موضع شعرة من جنابة فعل اهلل به كذا وكذا من الّنار‪ ،‬ومل يبلغه حديث أم سلمة أهنا قالت يا رسول اهلل إين امرأة أشد‬
‫ضفر رأسي أفأنقضه لغسل اجلنابة فق ال ‪ :‬ال ‪ ،‬إمنا يكفيك أن حتثي على رأسك ثالث حثيات‪ّ ،‬مُث تفيضني عليك‬
‫املاء فتطهرين»‪ ،‬ومثله ما روته عائشة أهنا كانت تفعل ذلك حبضرة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫وقد يصل احلديث إىل مجيع األئمة فيعمل به بعضهم وال يعمل به اآلخرون‪ ،‬فيكون حّج ة عند البعض دون‬
‫البعض اآلخر‪ ،‬وذلك إما لوجود معارض له أقوى منه عند من يق ّد م الرتجيح على اجلمع يف الّتعارض كاحلنفية‪ ،‬أو‬
‫عارضه ما هو أقوى منه ومل ميكن اجلمع بينهما عند من يقول بتقدمي اجلمع مىت أمكن‪ ،‬أو ألنه قد وصل إىل بعضهم‬
‫من طري ق ص حيح‪ ،‬بينم ا وص ل إىل البعض اآلخ ر من طري ق في ه ض عف‪ ،‬أو ألن ه مل يس توف شروط العم ل ب ه عن د‬
‫بعضهم دون البعض اآلخر‪ .‬فتلك حاالت أربع إليك‪ ،‬أمثلتها فيما يلي‪:‬‬

‫‪ - ۱‬فمثال األّو ل وهو أن يكون قد عارضه ما هـ أقوى‪ ،‬قوله ‪ :‬ال تزّوج املرأة املرأة‪ ،‬وال املرأة نفسها» فإنه‬
‫قد تعارض مع قوله عليه الَّص الة والَّس الم‪« :‬الثيب أحق بنفسها من وليها‪ ،‬وقوله ‪ :‬ليس للويل مع الثيب أمر» فقدم‬
‫احلنفي ة العم ل باحلديثني األخ ريين لق وة س ندمها على العم ل باحلديث األّو ل ؛ ألَّنه أق ل منهم ا يف درج ة التص حيح؛‬
‫ألهنم يق دمون ال رتجيح على اجلم ع ول و أمكن‪ ،‬وأم ا اجلمه ور فق د مجع وا بني األح اديث؛ فحمل وا ح ديث النهي عن‬
‫تزويج املرأة نفسها على معىن أهّن ا ال تتوىل العقد بنفسها‪ ،‬ومحل وا أحاديث نفي تس ّلط الويل على الثيب على معىن أنه‬
‫ال ج رب ل ه عليه ا‪ ،‬وأهّن ا أح ق بنفس ها يف الّرض ا ب الزواج وال زوج وامله ر وم ا يتب ع ذل ك ؛ ألَّن القاع دة عن دهم ‪ : :‬أن‬
‫احلديث مىت صلح للحجية وجب العمل به واجلمع بينه وبني ما يعارضه مىت أمكن ؛ ألَّن إعمال الدليلني خري من‬
‫إمهال أحدمها ‪.‬‬

‫‪ - ٢‬أما إذا مل ميكن اجلمع بني األحاديث املتعارضة ولو كانت يف درجة واحدة فإنه يبحث عن املتقدم منه ا‬
‫واملتأخر فيكون املتأخر منها ناسخًا للمتقدم‪ ،‬كما يف حديثه أنه قال‪« :‬كنت هنيتكم عن زيارة القبور أال فزوروها فإهَّن ا‬
‫تذكر اآلخرة«‪.‬‬

‫ف إن مل ُيعلم املتق ّد م واملت أخر وجب اللج وء إىل ال رتجيح إن وج د واملرّج ح ات كث رية تعلم من كتب األص ول‪،‬‬
‫فإن مل يوجد رّج ح ترك احلديثني معًا إىل أي دليل غريمها ‪.‬‬

‫‪ - 3‬ومثال ما وصل أحد الفريقني من طريق صحيح بينما وصل إىل الفريق الثاين من طريق فيه ضعف بعض‬
‫األحاديث الدالة على توقيت املسح على اخلفني‪ ،‬واألحاديث الدالة على عدم التوقيت فيه‪ ،‬فقد عمل املالكية والليث‬
‫بن سعد مبا صح عندهم من حديث أيب‪ ،‬وهو ما رواه أبو داود عنه ‪ :‬قلت يا رسول اهلل منسح على اخلفني فقال‪:‬‬
‫«نعم»‪ .‬قلت‪ :‬يوم ًا‪ .‬قال‪« :‬يومني» قلت‪ :‬وثالثة‪ .‬قال‪« :‬وما شئت»‪ ،‬فإَّن هذا احلديث يقضي بأنه ال توقيت يف‬
‫املسح على اخلفني بينما يرى غريهم من األئمة أن املقيم ال يزيد على يوم وليلة وللمسافر ثالثة أيام بلياليهن‪ ،‬عمًال‬
‫حبديث علي له فيما رواه عنه مسلم قال‪ :‬قد جعل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ثالثة أيام ولياليهن للمسافر‪ ،‬ويومًا‬
‫وليلة للمقيم‪ .‬وحبديث عوف بن مالك األشجعي أن النيب صلى اهلل عليه وسلم أمر باملسح على اخلفني يف غزوة تبوك‬
‫ثالثة أيام ولياليهن للمسافر ويومًا وليلة للمقيم‪ .‬فقد ترجح عند كل ما صح يف نظره من احلديثني فعمل به ومل يعمل‬
‫باآلخر لعدم إمكان اجلمع بينهما ‪.‬‬

‫‪ ٤‬ـ ومثال ما مل يستوف الشروط عند البعض بينما يرى اآلخرون عدم اعتبار هذه الشروط‪ ،‬ما ذهب إليه‬
‫األئمة مالك وأبو حنيفة من وجوب قضاء صوم التطوع على من تعمد اإلفطار فيه عمًال مبا روي عن عائشة لنا أهنا‬
‫قالت ‪ :‬أهدي إىل حفصة طعام وكنا صائمني فأفطرنا ‪ ،‬مُث دخل صلى اهلل عليه وسلم فقلنا له‪ :‬يا رسول اهلل أهديت‬
‫إلينا هدية واشتهيناها فأفطرنا فقال ‪ :‬ال عليكما‪ ،‬صوما مكانه يومًا آخر»‪ ،‬فإَّن هذا احلديث قد استوىف شروط العم ل‬
‫به عند احلنفية واملالكية وإن كان مرسًال ؛ ألَّن املرسل عندهم حجة مىت صح إسناده وخالف الشافعية واحلنابلة رمحهم‬
‫اهلل‪ ،‬فلم يروا وجوب القضاء على من أفطر متعّم دًا يف صوم التطوع‪ ،‬ومل يعملوا هبذا احلديث؛ ألَّنه مرسل واملرسل عند‬
‫الش افعية يش رتط فيه شروط مل تس توف يف ه ذا احلديث‪ ،‬وعمل وا مبا روي عن الن يب ص لى اهلل علي ه وس لم أنه ق ال ‪:‬‬
‫الصائم املتطوع أمري نفسه؛ إن شاء صام وإن شاء أفطر»‪.‬‬

‫هذا وقد قال اإلمام الشافعي ختلله‪« :‬أمجع املسلمون على أن ‪ .‬من بلغته ُس َّنة رسول اهلل من طريق صحيح مل‬
‫يكن ل ه أن ي دعها إىل ق ول ك ائن من ك ان»‪ ،‬ومع ىن ذل ك ‪ :‬أن ه جيب العم ل بالُّس نة الّص حيحة إذا اس توفت شروط‬
‫العمل هبا عند من بلغته‪ ،‬ومل يوجد هلا معارض أقوى منها‪ ،‬إذا مل ميكن اجلمع بينهما‪ ،‬فأما إن وجد هلا معارض أقوى‬
‫ومل ميكن اجلم ع بينهم ا‪ ،‬أو مل تس توف شروط العم ل هبا عن د من اشرتط يف خ رب اآلح اد شروطًا أو ك انت حتتم ل‬
‫التأويل فإَّن ذلك مما يسّوغ تركها إىل أدّلة أخرى‪ ،‬ولذلك اختلفوا يف ثبوت خيار اجمللس مع صحة حديثه عند اجلميع‪،‬‬
‫وهو قوله ‪ :‬البيعان باخليار ما مل يتفرقا فإَّن هذا احلديث يقضي بأَّن كال من املتعاقدين يف البيع له اخليار يف إمضاء‬
‫العقد وتركه‪ ،‬ما مل حيصل بينهما التفّرق باألبدان‪ ،‬وقد عمل مبقتضى هذا احلديث كّل من الشافعية واحلنابلة والظاهرية‬
‫ومل يعمل مبقتضاه كل من احلنفية واملالكية‪ ،‬إما لتأويل الفرقة على معىن التفرق يف األق وال‪ ،‬بأن يتم بينهما اإلجياب‬
‫والقبول‪َّ ،‬مث ينتقال من ذلك إىل أمر آخر‪ ،‬وهذا تأويل احلنفية للحديث‪ ،‬ويروى مثله عن املالكية‪ ،‬وإما ألَّنه خمالف‬
‫لعمل أهل املدينة إذا كان عملهم على عدم اخليار للعاقدين بعد أن ميضيا عقدمها‪ ،‬ولو مل يتفرقا باألبدان‪ ،‬وعمل أهل‬
‫املدينة يعترب كاحلديث املتواتر عند املالكية‪ ،‬فيقدم على خرب اآلحاد أو يفسره‪.‬‬

‫السبب الثالث من أسباب اختالف األئمة‪ :‬ما يرجع إىل التعارض بني األدلة ‪:‬‬ ‫‪-‬‬

‫التعارض يف اللغة‪ :‬هو التقابل والتمانع‪ ،‬يقال‪ :‬عرض يل عارض؛ أي منعين مانع وقابلين فحال دون مقصدي‪.‬‬

‫ويف االصطالح‪ :‬هو أن يدّل كّل من الدليلني على نفي ما دّل عليه اآلخر؛ كأن يدّل أحدمها على املنع من فعل‬
‫شيء‪ ،‬ويدل اآلخ ر على وجوبه أو ج وازه‪ ،‬ومثال ه قوله تع اىل‪ :‬كتب َعَلْيُك ْم ِإَذا َح َض َر َأَح َدُك ُم اْلَم ْو ُت إن ترك خ ريا‬
‫اْلَوِص َّيُة ِلْلَواِلَد ْيِن َواَأْلْقَرِبَني )‪ ،‬فإَّنه يدل على وجوب الوصية لل وارث وغري ال وارث من القرابة وقد عارضه قوله ‪ :‬إَّن اهلل‬
‫قد أعطى كل ذي حق حقه‪ ،‬فال وصية ل وارث‪ ،‬فإَّنه يدل على منع الوصية لل وارثني فقد تعارض هذان الدليالن يف‬
‫الوصية للقرابة ال وارثني فقال بعض األئمة‪ :‬إن اآلية قد ُخ صصت باحلديث أو نسخت به‪ ،‬ومن أمثلة التعارض أيض ًا‬
‫قوله يف شاة ميمونة ملا مر عليها فوجدها ميتة قد ألقيت يف الطريق‪ :‬هال أخذمت جلدها فدبغتموه فانتفعتم به»‪ ،‬فإَّنه‬
‫يدل على جواز االنتفاع جبلد امليتة بعد الدبغ وهو معارض ملا روي عنه أنه قال ‪ :‬ال تنتفع وا من امليتة بشيء»‪ ،‬وهذا‬
‫احلديث األخري موافق لظاهر قوله تعاىل‪ُ( :‬ح ِّرَم ْت َعَلْيُك ُم اْلَم ْيَت ُة َفِإَّن كال من هذا احلديث واآلية يقضي مبنع االنتفاع‬
‫بشيء من امليتة مطلقًا‪ ،‬سواء بعد الدبغ أو قبله‪ .‬وقد دفع التعارض بني هذه األدلة بأَّن اآلية واحلديث الذي يوافقها‬
‫قد خصصهما حديث شاة ميمونة‪.‬‬

‫وملا ك ان التع ارض بني األدل ة ه و من أك ثر أس باب االختالف بني األئم ة‪ ،‬ومن املعل وم من ال دين بالض رورة أن‬
‫التعارض احلقيقي ال يقع بني األدلة الشرعية‪ ،‬إذ هو تناقض بينها‪ ،‬والتناقض ال يقع يف أدلة الش ريعة؛ ألنه يؤّدي إىل‬
‫اهلل كذب أحد الدليلني والدليل الشرعي مرجعه إىل وحي تعاىل‪ ،‬وقد تنّزه اهلل عن الكذب‪ ،‬وقد قال تعاىل يف القرآن‬
‫الكرمي ‪ :‬اَل َيْأِتيِه اْلَبِط ُل ِم ْن َبِنْي َيَد ْيِه َواَل ِم ْن َخ ْلِفِه َتنِزيٌل من حكيم محيد ‪ .‬وقال سبحانه‪َ﴿ :‬و َلْو َك اَن ِم ْن ِعنِد َغري اهلل‬
‫َلَوَج ُد وا ِفيِه اْخ ِتاَل ًفا َك ِثًريا‪ ،‬وهذا كما يدل على أّن التعارض احلقيقي ال يقع يف القرآن الكرمي‪ ،‬فإَّنه يدّل كذلك على أنه‬
‫ال يقع يف الُّس َّنة املشرفة‪ ،‬وال يف بقية أدلة الشرع الصحيحة؛ ألهَّن ا ترجع إىل الوحي كما تقدم‪ ،‬لقوله تعاىل‪( :‬وما ينطق‬
‫عن اهلوى إن هو إال وحي يوحى) ‪ ،‬وألن التعارض احلقيقي‪ ،‬إمّن ا يتصّور إذا كان كل من النصني املانع وغريه قد صدرا‬
‫يف وقت واح د‪ ،‬وال يعق ل أن الش ارع احلكيم ي أمر بالش يء وينهى عن ه يف وقت واح د؛ ألن ه عبث ال يص در من‬
‫العقالء‪ ،‬فضًال عن كتاب اهلل وسنة رسوله ‪ ،‬وإذن فال بد أن يكون كل من الدليلني املتعارضني حبسب الظاهر قد وردا‬
‫يف وقتني خمتلفني أو حالني خمتلفني كذلك‪ ،‬وهلذا فقد قال العلماء‪ :‬إّن ك ّل ما يبدو من التعارض بني األدلة‪ ،‬إمنا هو‬
‫حبسب الظاهر ال غ ري ؛ أي‪ :‬حبسب ما يبدو للناظر فيها‪ ،‬ومن َّمَث اتفقت كلمتهم على أنه ال بد من سلوك طريق‬
‫يؤدي إىل الوفاق بني األدلة والتخلص مما يبدو فيها من التعارض بأي خملص يتفق مع قواعد الشريعة الغراء‪.‬‬

‫غري أهّن م اختلف وا يف الطريق الذي جيب أن ُيسلك للتخلص من التعارض على مذهبني‪ :‬فذهب اجلمهور إىل أّن‬
‫طري ق التخلص من التع ارض أن يبحث أوًال عن إمكان اجلم ع بني املتعارض ني‪ ،‬ف إن أمكن وجب تقدميه‪ ،‬س واء ك ان‬
‫الدليالن من نوع واحد كالقرآن مع القرآن‪ ،‬والُّس نة مع السنة اليت يف درجتها‪ ،‬أو كانا من نوعني خمتلفني أو درجتني‬
‫كذلك‪ ،‬مىت صلح كّل منهما للحجية‪ ،‬بأن كان أحدمها من الكتاب واآلخر من الُّس َّنة الصحيحة‪ ،‬أو كانا السنة من‬
‫وأحدمها يف درجة الصحيح واآلخر يف درجة احلسن‪ ،‬ولذا قالوا يف قوله تعاىل‪َ( :‬واَّلِذ يَن ُيَتَوَّفْو َن ِم نُك ْم َوَيَذ ُروَن َأْز َواًج ا‬
‫يرتَّبْص َن ِبَأنُف ِس ِه َّن َأْرَبَعَة َأْش ُه ٍر َو َعْش رًا إّنـه مـخـصـص بـقـولـه سبحانه‪َ﴿ :‬وَأَو َلْت اَأْلْع َم اِل َأَج ُلُه َّن َأن َيَض ْع َن َح َلُه َّن ‪ ،‬وقالوا‬
‫يف قوله ‪( :‬األمي أحق بنفسها من وليها»‪ :‬إَّنه حممول على أهنا أحق بنفسها يف الرضا بالزاوج والزوج واملهر وما يتعلق‬
‫ب ذلك‪ ،‬دون ت ويّل العق د‪ ،‬مجع ًا بني ه ذا احلديث وقول ه ‪ :‬ال ت زوج املرأة ‪،‬املرأة‪ ،‬وال املرأة نفس ها»‪ ،‬كم ا ق الوا يف قول ه‬
‫تعاىل‪ُ :‬ك ِتَب َعَلْيُك ْم ِإَذا َح َض َر َأَح َدُك ُم اْلَمْو ُت إن ترك خريا الَوِص َّيُة ِلْلَواِلَد ْيِن َواَأْلْقَرِبَني ‪ :‬إّنه منسوخ أو مـخـصـص بقول ه‬
‫‪ :‬ال وص ية ل وارث»‪ ،‬وهكذا ترى أهنم قد ق دموا األدل ة اجلم ع بني م تی ص لحت للحجي ة على ال رتجيح بينه ا ؛ ألن‬
‫األص ل إعم ال ال دليلني م ىت أمكن‪ ،‬ويف اجلم ع إعم ال هلم ا‪ ،‬وأم ا ال رتجيح ففي ه إمهال ألح دمها‪ ،‬واإلعم ال خ ري من‬
‫اإلمهال فوجب تقدميه ‪.‬‬

‫إال أن طرق اجلمع كثرية‪ ،‬ما بني التخصيص والتأويل حبمل كل دليل على حال غري احلال اليت محل عليها الدليل‬
‫اآلخر‪ ،‬إىل غري ذلك مما خيتلف باختالف األنظار‪ ،‬ولذا اختلف العلماء يف اجلمع بني قوله ‪« :‬استنزهوا من البول؛‬
‫ألن عامة عذاب القرب منه وبني إذنه للعرنيني بشرب أبوال اإلبل‪ ،‬فقال بعضهم‪ :‬إن حديث االستنزاه خمصص حبديث‬
‫شرب أبوال اإلبل‪ ،‬فيكون حديث االستنزاه من البول حمموًال على بول اآلدمي‪ ،‬واحليوان غري مأكول اللحم‪ ،‬فهذا هو‬
‫الذي جيب التنزه منه؛ ألنه جنس‪ ،‬وأَّم ا حديث شرب العرنيني أبوال اإلبل فيكون داًال على طهارة بول احلي وان املأكول‬
‫اللحم‪ ،‬وهذا مسلك املالكية‪.‬‬

‫وسلك غريهم من اجلمهور يف طريق اجلمع بني احلديثني طريق التأويل حبمل حديث اإلذن بشرب األب وال على‬
‫حال التداوي‪ ،‬أخذًا من احلال اليت ورد فيها احلديث وأبقي حديث التنزه على حال االختيار‪.‬‬
‫َّل ِذ‬
‫فإن مل ميكن اجلمع بوجه م ا بني املتعارض ني جلأوا إىل النسخ إن علم التاريخ‪ ،‬وهلذا قالوا يف قوله تع اىل‪ :‬وا يَن‬
‫ُيَتَوَّف ون ِم نُك ْم َوَي َذ ُروَن َأْز َواًج ا َو ِص َّيٌة َألْز َواِج ِه م َّم َتًع ا إىل اَحلْو ِل َغْيَر إخ راج ‪ :‬إّنه منسوخ بقوله تعاىل‪َ :‬واَّل ِذ يَن يتوقون‬
‫منكم ويذرون أزواجا يرتبص ن بأنُف ِس ِه َّن أربع ة أشهر وعش را ؛ ألَّنه مل ميكن اجلمع بينهم ا‪ ،‬وق د علم أن آي ة األشهر‬
‫متأخرة يف النزول عن آية احلول‪.‬‬

‫وأيضًا قالوا يف قوله تعاىل ‪ :‬وَيَتَأُّيَه ا اَّلِذ يَن َءاَم ُنوا اَّتُق وا اهلل َو َذُروا َم ا َبِق َي ِم َن الِّربوا إن ُك نُتم ُّم ْؤ ِمِنَني ) إىل قوله حبانه‪:‬‬
‫﴿َو ِإن ُتْبُتْم َفَلُك ْم ُرُءوُس َأْم َواِلُك ْم اَل َتْظِلُم وَن َواَل تْظَلُم وَن ِإَّنه ناسخ ملا يفهم من قوله تعاىل‪( :‬اَل َت ْأُك ُلوا الرب وا أْض َعًف ا‬
‫ُمَض َعَفٌة ‪ ،‬حيث كانت آية البقرة متأخرة يف النزول عن آية األضعاف‪ ،‬وتأتيك أمثلة كثرية ملا سلكوه من طرق اجلمع‬
‫بالتخص يص وغ ريه‪ .‬ه ذا طري ق اجلمه ور‪ ،‬وه و تق دمي اجلم ع م ىت أمكن على ال رتجيح‪ ،‬ف إن مل ميكن اجلم ع‪ ،‬ومل يعلم‬
‫التاريخ جلأوا إىل الرتجيح بني الدليلني ‪.‬‬

‫وأما احلنفية ومن معهم فقد سلكوا طريقًا آخر يف دفع التعارض‪ ،‬وهو أهّن م يبدأون أّوًال بالبحث عن ُم َرّج ح ألحد‬
‫ال دليلني على اآلخ ر‪ ،‬ف إن ظه ر هلم ت رجيح أح د ال دليلني عمل وا ب الراجح وأمهل وا املرج وح وإن مل يظه ر ت رجيح أح د‬
‫الدليلني على اآلخر حبث وا عن التاريخ‪ ،‬فإن علموه جعل وا املتأخر ناسخًا للمتقدم‪ ،‬وإاّل جلأوا إىل اجلمع بأي وجه مما‬
‫تقدم‪ ،‬ولذا تراهم وقد عمل وا حبديث االستنزاه من البول فحملوه على العموم‪ ،‬وترك وا حديث شرب أب وال اإلبل؛ ألَّن‬
‫ح ديث االس تنزاه أرجح من ه ملا في ه من االحتي اط‪ ،‬وإن ك ان من املمكن ختصيص ه حبديث شرب األب وال ل و ك انوا‬
‫يقدمون اجلمع على الرتجيح‪ ،‬وكان من حجتهم يف ذلك أَّن العمل بالراجح من الدليلني هو ما يقضي به العقل‪ ،‬إذ‬
‫إن الظَّن ال يقاوم القطع‪ ،‬فكذا الظّن الضعيف ال يعمل به يف مواجهة الظن القوي عند التعارض بينهما ‪.‬‬

‫صور التعارض بني األدلة الشرعية ‪:‬‬

‫ملا كانت أدلة الشرع ال خترج عن كتاب اهلل تعاىل وُس َّنة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬واإلمجاع والقياس‪،‬‬
‫والقواع د العام ة املس تنبطة منه ا‪ ،‬وك ان اإلمجاع ال يق ع التع ارض بين ه وبني إمجاع آخ ر ملا يل زم علي ه من خط أ أح د‬
‫اإلمجاعني‪ ،‬وق د أخ رب أن اإلمجاع معص وم عن اخلط أ‪ ،‬فله ذا ال يق ع التع ارض بني إمجاعني‪ ،‬وإذا تع ارض اإلمجاع م ع‬
‫غ ريه من األدل ة وجب العم ل باإلمجاع‪ ،‬وتأوي ل ال دليل املع ارض ل ه مبا يتف ق م ع اإلمجاع‪ ،‬ول ذلك احنص رت ص ور‬
‫التعارض إمجاال يف ست صور هي‪:‬‬

‫‪ - ١‬التعارض بني نصني من الكتاب الكرمي‪.‬‬

‫‪ - ٢‬التعارض بني نصني من السنة الشريفة ‪.‬‬

‫‪ -3‬التعارض بني نص من الكتاب وآخر من الُّس َّنة‪.‬‬

‫‪ - ٤‬التعارض بني قياسني‪.‬‬

‫‪ - 5‬التعارض بني نص من السنة وقياس‪.‬‬

‫‪ - ٦‬التعارض بني دليل من هذه األدلة وقاعدة من القواعد اليت قال هبا األئمة أو بعضهم‪.‬‬

‫وإليك أمثلة هلذه الصور ‪:‬‬

‫‪ - ۱‬فمث ال التع ارض بني نص ني من الكت اب م ا تق ّد م ل ك من التع ارض بني قول ه تع اىل‪َ﴿ :‬واَّل ِذ يَن ُيَتَوَّفْو َن‬
‫ِل‬ ‫ِب ِس ِه‬ ‫ِم‬
‫نُك ْم َوَيَذ ُروَن َأْز َواًج ا َيَتَرَّبْص َن َأنُف َّن َأْرَبَع َة َأْش ُه ٍر َو َعْش ًرا‪ ،‬وبني قوله سبحانه ‪َ :‬وُأوَلُت اَأْلْع َم ا َأَج ُلُه َّن َأن َيَض ْع َن‬
‫َمَحَلُه َّن )‪ ،‬حيث يقتض ي ظ اهر األوىل أن ع دة املت ويف عنه ا زوجه ا هي أربع ة أشهر وعش رة أي ام مطلق ًا س واء ك انت‬
‫حامال أم غري حامل‪ ،‬ويقتضي قوله تعاىل‪َ﴿ :‬وُأَو َلُت اَأْلَمْحاِل ) أّن ع ّد ة احلامل هي وضع محلها س واء كانت ُمَطَّلقة أم‬
‫متوىف عنها زوجها‪ ،‬فتعارض ظاهر اآليتني يف احلامل ملتوىف زوجها‪ ،‬وقد ختلص عامة العلماء من هذا التعارض جبعل‬
‫آية الع ّد ة بوضع احلمل خمصصة آلية عدة الوفاة باألشهر‪ ،‬وقد اتفق احلنفية مع غريهم على سلوك طريق اجلمع بني‬
‫الدليلني يف هذا الوضع؛ ألَّنه ال جمال لرتجيح أحد الدليلني على اآلخر‪ ،‬غري أن احلنفية يقولون‪ :‬إّن آية وضع احلمل‬
‫ناسخة جزئي ًا آلية عدة الوفاة باألشهر؛ ألَّن نزول آية الع ّد ة بوضع احلمل متأخر عن نزول آية عدة الوفاة باألشهر‬
‫فكانت منفص لة عنه ا‪ ،‬وعن دهم أن من شرط التخص يص اتص ال املخص ص باملخص ص‪ ،‬بينم ا يق ول‪ :‬إّن ه من ب اب‬
‫اجلمع بالتخصيص‪ ،‬ورمّب ا كان الفرق دقيقًا بني القولني ‪.‬‬

‫وسلك علي وابن عباس له طريق ًا آخر يف اجلمع بني هاتني اآليتني فقاال ‪ :‬إّن املتوىف عنها زوجها إذا كانت‬
‫حامال تعتد بأبعد األجلني‪ ،‬مبعىن أهّن ا إن مضت عليها أربعة أشهر وعشر ليال قبل أن تضع مل تنقض عدهتا إاَّل بوضع‬
‫احلمل‪ ،‬وإن وضعت احلمل قبل أربعة أشهر وعشر مل خترج من عدهتا حىت تتم أربعة أشهر وعش رًا عمًال باآليتني مع ًا‪،‬‬
‫غري أن مذهب اجلمهور قد تأيد حبديث سبيعة األسلمية حني وضعت بعد وفاة زوجها وقبل مضي أشهر الع ّد ة عليها‬
‫فقال هلا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬لقد حللت لألزواج حني وضعت فتزوجي إن شئت» ‪.‬‬

‫ومن األمثل ة أيض ًا م ا تق دم ل ك ك ذلك من التع ارض بني آي يت ع دة الوف اة‪ ،‬إذ تقض ي إح دامها بأهنا ح ول‬
‫كامل‪ ،‬وتقتضي األخرى أهنا أربعة أشهر وعشر‪ ،‬وقد العلماء مجع بينهما بنسخ آية احلول بآية األشهر كما سلف‪.‬‬

‫ومن أمثل ة التع ارض بني نص ني من الكت اب أن يكون يف النص الواح د قراءت ان تقتض ي إح دامها خالف م ا‬
‫تقتضيه األخرى‪ ،‬كما يف قوله تعاىل﴿ ٰٓيَاُّيَه ا اَّلِذ ْي ٰاَم ُنْٓو ا ِاَذا ُقْم ُتْم ِاىَل الَّص ٰل وِة َفاْغ ِس ُلْوا ُوُج ْوَه ُك ْم َاْيِد َيُك ْم ِاىَل اْل اِف ِق‬
‫َمَر‬ ‫َو‬ ‫َن‬
‫َواْم َس ُحْوا ِبُرُءْو ِس ُك ْم َوَاْرُج َلُك ْم ِاىَل اْلَك ْع َبْي ﴾ حيــث قـرئ لف ظ ‪( :‬أرجلكم يف اآلي ة ب اجلّر والنص ب‪ ،‬ومها قراءت ان‬
‫سبعيتان وقراءة اجلر تقتضي مسح الرجلني يف الوضوء؛ ألهَّن ا تكون معطوفة على رؤوسكم‪ ،‬وفرض الرؤوس مسحها يف‬
‫الوض وء‪ ،‬والعط ف يقتض ي املش اركة يف احلكم‪ ،‬وأم ا ق راءة النص ب فتقض ي أن املف روض يف ال رجلني غس لهما؛ ألَّن‬
‫(أرجلكم حينئ ذ تكون عطف ًا على وج وهكم وأي ديكم‪ ،‬والوج ه واألي دي فرض هما الغس ل‪ ،‬فق د تع ارض مقتض ى‬
‫القراءتني‪.‬‬
‫فقال اجلمهور ومنهم األئمة األربعة إن الرجلني فرضهما الغسل‪ ،‬عمًال مبا تواتر عن رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم من أقواله وأفعاله وتقريراته مما يرجح قراءة النصب‪.‬‬

‫وذهب بعض العلماء إىل اجلمع بني الق راءتني حبمل ق راءة النصب على حال االختيار ومحل ق راءة اجلر على‬
‫لبس اخلف‪ ،‬كم ا ذهب بعض آخ ر إىل اجلم ع بني الق راءتني بإجياب املس ح والغس ل مع ًا لل ّرجلني يف الوض وء‪ ،‬وذهب‬
‫ابن حزم إىل أن قراءة اجلّر منسوخة بق راءة النصب‪ ،‬وهو مردود لعدم معرفة التاريخ للق راءتني حىّت يعلم املتقدم منهما‬
‫فُينَس خ باملتأخر‪ ،‬بينما يرى الشيعة عكس ذلك؛ إذ يعملون بقراءة اجلر املقتضية مسح الّرجلني يف الوضوء‪ ،‬وهو مردود‬
‫أيضا بأنه خمالف للمتواتر من ُس نته ‪.‬‬

‫ومن ذل ك أيض ًا قول ه تع اىل‪َ( :‬ف اْعَتِزُلوا الِّنَس اَء يِف اْلَم ِح يِض ومن َواَل َتْق َرُب وُه َّن َح ىَّت َيْطُه ْرَن ‪ ،‬حيث ق رأت‬
‫بتشديد الطاء وختفيفها مفتوحة‪ ،‬وقراءة التشديد تقتضي أال حيل القربان من املرأة حىّت تغتسل ملا فيها من املبالغة اليت‬
‫تقتضيه أن ينقطع الدم تأيت املرأة بعمل من جهتها زائد على انقطاعه‪ ،‬واملعهود يف الشرع أنه الغسل ؛ لقوله ألم سلمة‬
‫‪َّ .... :‬مُث تفيضني عليك املاء فتطهرين‪ ،‬وهبذا قال اجلمهور‪.‬‬

‫وأما احلنفية فقد محل وا ق راءة التشديد على ما إذا انقطع ال ّد م دون أقصى مدة احليض ومحل وا ق راءة التخفيف‬
‫على ما إذا انقطع الّد م عند بلوغ أقصى مدة احليض‪ ،‬وذهب غريهم إىل غري ذلك‪.‬‬

‫هذا ويف القرآن الكرمي كثري من هذه األمثلة‪.‬‬

‫‪ - ٢‬ومثال التعارض بني نصني من الُّس َّنة ما تقدم لك من التعارض بني قوله صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬الثيب‬
‫أحق بنفسها من وليها» وقوله ‪ :‬ال تزّوج املرأة املرأة‪ ،‬وال تزوج املرأة نفسها»‪ ،‬وقد تقدم لك أّن احلنفية رّج ح وا احلديث‬
‫األول لقوة سنده؛ ألن قاعدهتم تقدمي الرتجيح‪ ،‬وأن غريهم قد مجع بني احلديثني؛ ألَّن القاعدة عندهم وجوب اجلمع‬
‫بني األدلة متی صلحت للحجية ‪.‬‬

‫ومن األمثل ة أيض ًا م ا تق ّد م من ح ديث هني ه ص لى اهلل علي ه وس لم عن االنتف اع من امليت ة بش يء‪ ،‬املع ارض‬
‫حلديثه يف شاة ميمونة‪ ،‬وقد ذهب بعض العلماء إىل اجلمع بني احلديثني حبمل حديث النهي عن االنتفاع بامليتة على‬
‫أن ه ال ينتف ع هبا يف األك ل أو حنوه‪ ،‬كم ا ال ينتف ع باجلل د قب ل دبغ ه‪ ،‬وأم ا ح ديث شاة ميمون ة فمحم ول على ج واز‬
‫االنتفاع باجللد بعد الدبغ‪ ،‬وذهب بعض آخر من العلماء إىل اجلمع حبمل النهي عن االنتفاع بامليتة على امليتة من غري‬
‫مأكول اللحم‪ ،‬ومحل حديث شاة ميمونة على ميتة مأكول اللحم‪ ،‬وأما املالكية فقد ذهب وا إىل عدم ج واز االنتفاع‬
‫جبلد امليتة مطلقًا إال يف املاء واليابسات‪ ،‬وذلك بعد دبغه‪ ،‬ذهاب ًا منهم إىل أن الدبغ ليس مطه رًا على ما هو املشهور‬
‫عندهم‪ ،‬وخالفهم اإلمام أشهب منهم فقال ‪ :‬إّن الّد بغ مطهر جللد امليتة مطلقًا‪ ،‬كما هو مذهب الظاهرية‪.‬‬

‫ومن األمثلة أيض ًا ما سبق من تعارض حديثي ابن عمر وابن مسعود اهلل يف رفع اليدين عند الركوع والرفع‬
‫منه‪ ،‬بل إن أكثر ما يرد من التعارض‪ ،‬إمنا هو بني نصوص السنة‪ ،‬وقد علمت مذاهب األئمة يف كيفية التخلص منه‪،‬‬
‫إَّم ا بالرتجيح وإما باجلمع بأي طريق من طرقه‪ ،‬وإما بالنسخ‪.‬‬

‫وملا كان حديثا رفع اليدين ال ميكن اجلمع بينهما‪ ،‬فقد رجح احلنفية حديث ابن مسعود الذي يقضي بعدم‬
‫شرعية الرفع إال يف تكبرية اإلحرام بأَّنه موافق للرباءة األصلية‪ ،‬إذ األصل عدم التكليف‪ ،‬ورّج ح الشافعية واحلنابلة ومن‬
‫وافقهم ح ديث ابن عم ر ال ذي يقض ي مبش روعية الرف ع بأن ه مثبت واملثبت مق ّد م على الن ايف؛ ألَّن الن ايف حيتم ل ع دم‬
‫علمه فاعتمد على ما سبق أن شاهده من فعل رسول اهلل ‪ ،‬وأما املثبت فقد حكى ما شاهده بعد ذلك وهو عدل‬
‫ضابط فوجب تصديقه يف أخباره وكال القولني موجود عند املالكية ‪.‬‬

‫وأما التعارض بني نص من كتاب اهلل تعاىل وآخر من السنة‪ ،‬فمن أمثلته ما تق ّد م لك من التعارض بني قوله‬
‫تعاىل ‪ :‬لو كتب عليكم إذا حضر أحدكم ا ْو ُت إن ترك خ ًريا اْلَوِص َّيُة للوالدين واَأْلْقَرِبَني ‪ ،‬وقوله ‪ :‬ال وصية ل وارث»‪،‬‬
‫َمل‬
‫وقد علمت أن مجهور العلماء قد ذهبوا إىل نسخ اآلية باحلديث‪ ،‬وذهب ابن حزم ومن وافقه إىل أن احلديث خمصص‬
‫لآلية حيث عملوا باحلديث يف عدم جواز الوصية للورثة من األقربني‪ ،‬وعملوا باآلية يف األقربني غري الورثة‪ ،‬فأوجبوا هلم‬
‫الوصية‪.‬‬

‫ومن األمثلة أيض ًا ما سبق من تعارض قوله تعاىل ‪ :‬ناقَرُه وا َم ا َتَيَّس َر ِم َن اْلُقْرَم اِن مع قوله ‪ :‬ال صالة ملن مل‬
‫يقرأ بفاحتة الكتاب»‪.‬‬

‫وكذلك ما وقع من التعارض ظاهرًا بني قوله تعاىل‪ :‬وامنُتُك ُم اليِت َأْرَض ْع َنُك ْم َوَأَخ َواُتُك م من الرضعة ‪ ،‬وبني ما‬
‫ي روى عن ه أن ه ق ال‪« :‬ال حترم املص ة وال املص تان‪ ،‬وال اإلمالج ة وال اإلمالجت ان»‪ ،‬ف إَّن ه ذا احلديث يقتض ي ع دم‬
‫التحرمي بالرضعتني وما دوهنما‪ ،‬وتقتضي اآلية التحرمي هبما إلطالق الّرضاعة يف قوله تعاىل‪َ :‬أْرَض ْع َنُك ْم ) وللعموم يف قوله‬
‫تعاىل ‪ :‬وِم ن الَّرَض َعِة ‪.‬‬

‫وق د ذهب اجلمه ور إىل نس خ احلديث باآلي ة عمًال بق ول ابن مس عود وابن عم ر وابن عب اس ان ال دال على‬
‫النسخ‪ ،‬وقد سبق أّن من األدلة على النسخ قول الصحايب إن هذا النص منسوخ ؛ ألَّن الَّص حابة قد شاهدوا أوائل‬
‫التش ريعات وعرف وا منازهلا وأحواهلا وذهب بعض العلم اء ك ابن ح زم وغ ريه إىل العم ل باحلديث وجعل وه خمصص ًا ملا يف‬
‫اآلية من العموم‪ ،‬ومقّيدًا ملا فيها من اإلطالق‪ ،‬وقد تأيد قول اجلمهور‪ ،‬مبا ثبت أّن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قد‬
‫فرق بني زوجني زعمت امرأة أهّن ا أرضعتهما‪ ،‬ومل يسأل عليه الَّص الة والسالم عن مقدار إرضاعهما ‪.‬‬

‫ومثل ذلك قول اجلمهور يف حديث عائشة أهنا قالت‪ :‬كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات‬
‫حيرمن فنسخن خبمس‪ ،‬وتويف رسول اهلل وهن مما يتلى من الق رآن»‪ ،‬حيث قال اجلمهور ‪ :‬إّن اخلمس منس وخة أيض ًا‬
‫قبل وفاته ‪ ،‬لعدم صحة القول بالّنسخ بعده عليه الَّص الة والَّس الم‪ ،‬ولكن الشافعية يقولون ‪ :‬إّن هذا احلديث يعترب‬
‫مبثابة اخلرب‪ ،‬وليس قرآنًا‪ ،‬لعدم تواتره‪ ،‬وأقل درجات اخلرب أنه آحاد‪ ،‬وحديث اآلحاد يصح به ختصيص عموم القرآن‪،‬‬
‫وتقييد مطلقه‪ ،‬وعلى هذا فقد ذهب وا إىل أن دون اخلمس من الرضعات ال حيرم‪ ،‬وقد علمت أن هذا احلديث مل يرو‬
‫على أنه من الُّس َّنة‪ ،‬وإمنا يروى على أنه قرآن ‪ ،‬والقرآن ال يثبت بأخبار اآلحاد؛ ألن شرط صحته التواتر ‪.‬‬

‫‪ - 3‬وأما التعارض بني األقيسة بعضها وبعض‪ ،‬فمن أمثلته ما تق ّد م من تعارض قياس الوضوء على التيمم‪،‬‬
‫فإَّنه يقتضي وجوب النية يف الوضوء كما هي واجبة يف التيمم وقد عارضه قياس آخر هو أن يقاس الوضوء على طهارة‬
‫النجاسة‪ ،‬فيقتضي أن ال جتب النية فيه‪.‬‬

‫وقد ترجح القياس األول مبوافقته حلديث‪« :‬إمنا األعمال بالنيات؛ ألَّن هذا احلديث عام يف كل عمل فيشمل‬
‫الوض وء؛ ألَّنه من األعم ال‪ ،‬ولكن احلنفي ة رجح وا القي اس الث اين ملوافقت ه لظ اهر آي ة الوض وء؛ ألهَّن ا مل ت ذكر الني ة من‬
‫فروضه‪ ،‬وقد ورد هذا بأَّن عدم الذكر ال يدل على النفي وأَّن السنةمن وظيفتها البيان وإحلاق بعض ما مل ينص عليه‬
‫مبا نص علي ه الق رآن على أّن يف آي ة الوض وء نفس ها إشارة إىل الني ة حيث يق ول اهلل تع اىل‪ِ( :‬إَذا ُق ِإىَل ال لوِة‬
‫َص‬ ‫ْم ُتْم‬
‫َفاْغ ِس ُلوا ‪ ،)...‬فإن معناها اغسلوا أعضاء الوضوء بقصد الصالة ‪.‬‬

‫ومن أمثلة تعارض األقيسة أيض ًا أن مسح ال رأس يف الوض وء إذا قيس على مسح الوجه يف التيمم جبامع أن‬
‫كال فرض يف طهارة من احلدث ال تستباح الَّص الة إال هبا‪ ،‬وقد دخلت الباء يف الّنص الدال عليه‪ ،‬فإَّن هذا القياس‬
‫يقتضى وجوب مسح مجيع الرأس يف الوضوء‪ ،‬كما وجب مسح مجيع الوجه يف التيمم‪ ،‬وقد عارض هذا القياس قياس‬
‫آخر هو قياس مسح الرأس على مسح اخلف‪ ،‬فإَّن كال منهما فرض يف عبادة واحدة وملا كان اخلف ال جيب استيعابه‬
‫باملسح كان الّرأس كذلك غري واجب االستيعاب باملسح‪.‬‬
‫ه ذا‪ ،‬وليعلم أّن القياس إذا كان مستقًال بإثبات احلكم بأن مل يكن ‪ .‬مع ه نص يدّل على ه ذا احلكم من‬
‫كتاب أو ُس َّنة فإَّن التعارض حينئذ بني األقيسة يوجب النظر فيها‪ ،‬فإذا تبني رجحان أحدمها وجب تقدميه؛ ألَّنه يفيد‬
‫الظن القوي‪ ،‬وما دونه ال يفيد إاَّل ظنًا ضعيفًا‪ ،‬وال واجب العمل بأقوى الظنني يف التعارض‪ ،‬أما إن كان مع القياسني‬
‫املتعارضني نص فإَّن القياس يعترب حينئذ لالستئناس وترجيح جانب النص املوافق له‪ ،‬وحينئذ فالعربة بأقوى الّنصوص‬
‫يف الداللة على احلكم‪.‬‬

‫‪ - 4‬وأما تعارض القياس مع النص‪ ،‬فليعلم أوًال ‪ :‬أَّنه ال عربة بتعارض القياس مع نص من القرآن أو ُس َّنة‬
‫مشهورة‪ ،‬إاَّل إذا ُخ صص الّنص قبل ذلك مبا يصح ختصيصه به من نصوص أخرى أو إمجاع‪ ،‬فإن خص مبا ذكر جاز‬
‫ختصيص ه بالقي اس بع د ذل ك‪ ،‬أَّم ا الُّس َّنة األحادي ة فعن د احلنفي ة يق ع التع ارض بينه ا وبني القي اس املخ الف هلا؛ ألَّن‬
‫الشرط عندهم يف ُس َّنة اآلحاد أن ال ختالف القياس‪ ،‬وقال اجلمهور بتقدمي السنة الصحيحة على القياس إذا مل ميكن‬
‫اجلمع بينهما‪ ،‬فإن أمكن اجلمع مُج ع بينهما بتنزيل ك ّل من النص والقياس على حال‪ ،‬أو بتخصيص الُّس َّنة بالقياس‬
‫فإن مل ميكن اجلمع فال عربة بالقياس ‪.‬‬

‫وق د تق ّد م ل ك من األمثل ة على ذل ك ح ديث النهي عن التص رية ف إَّن احلنفي ة رّدوه مبخالفت ه للقي اس‪ .‬ولكن‬
‫اجلمهور قد عملوا به؛ ألَّنه ال عربة عندهم بالقياس يف مقابلة النص املخالف له ‪.‬‬

‫ومن األمثلة على ختصيص الكتاب العزيز بالقياس أَّن قوله ‪ :‬فإذا أحصن فإن أتني بفاِح َش ة َفَعَلَنْي َيْص ُف َم ا‬
‫َعَلى اْلُم ْحَص َناِت ِم َن اْلَع َذ اِب يفيد أَّن األمة إذا زنـت بـعـد الزواج يكون عليها نصف احلّد ال واجب على احلرة؛ أي‪:‬‬
‫أن جتلد مخسني وهذا الَّنص خمَّص ص؛ لقوله تعاىل‪( :‬الَّزاَيُة وال زاين فاجِل ُد وا ُك َّل َوِه ٍر ِّم ْنُه َم ا ِم اَئَة َج ْل َد ٍة‪ ،‬وإذن فيمكن‬
‫ختصيص هذا النص األخري بقياس العبد على األمة حىّت يكون عليه نصف حد احلّر إذا زىن ‪.‬‬

‫‪ - ٦‬بقي التمثيل لتعارض بعض القواعد مع بعض األدلة‪ ،‬وقد مثل وا هلذه بقوله ‪« :‬ال حيل دم امرئ مسلم‬
‫إال بإح دى ثالث؛ زن ًا بع د إحص ان‪ ،‬وكف ر بع د إميان‪ ،‬والَّنْف ُس ب الَّنفس»‪ ،‬ف إَّن ه ذا احلص ر يقتض ي أن ال حيل قت ل‬
‫مسلم بغري إحدى هذه اخلصال‪ ،‬وقد عارضه بعض القواعد العامة املأخوذة من الش ريعة وهي حفظ اجملتمع وسالمته‬
‫من تغلب الكف ار علي ه‪ ،‬فل و أَّن أح دًا جتس س على املس لمني وأبل غ إىل أع دائهم من الكّف ار م ا ق د ي ؤدي إىل تغلب‬
‫الكفار عليهم‪ ،‬وكذا لو َتّرَتس الكفار ببعض املسلمني بأن جعلوهم حائال ال ميكن تغلب املسلمني عليهم إال بقتل‬
‫من ترتس وا ب ه من املس لمني‪ ،‬ف إَّن املص لحة تقتض ي قت ل اجلاس وس وقت ل ال رتس حفاظ ًا على مجاع ة املس لمني‪ ،‬فق د‬
‫جعلت القواع د العام ة حاكم ة على الّنص بتفس ري احلص ر في ه بأن ه للمبالغ ة‪ ،‬احتياط ًا لل دماء أو دّلت على أن ه من‬
‫احلصر اإلضايف الذي ال ينايف وجود فرد آخر مياثله يف احلكم‪.‬‬

‫السبب الرابع من أسباب اختالف األئمة ‪ :‬ما يرجع إىل العرف ‪:‬‬ ‫‪-‬‬

‫العرف هو العادة الشائعة بني املسلمني وهو عند األئمة دليل معترب فيما مل يرد فيه نص خاص يبطله‪ ،‬فإن‬
‫ورد ما يبطله من النصوص صار العرف غري معترب‪ ،‬كما يف شرب اخلمر‪ ،‬والتعامل بالربا‪ ،‬وغري ذلك من العادات اليت‬
‫كانت شائعة يف صدر اإلسالم فمحاها اإلسالم بعد ذلك وأبدهلا بالتشريعات الصحيحة الصاحلة وكذا لو وردت‬
‫نصوص عامة تصادم العرف ومل ميكن تطويع العرف هلا كان العرف باطًال ال جيوز العمل به‪ ،‬أما إن أمكن تطويع‬
‫العرف للنصوص‪ ،‬بأن أمكن ختصيص الّنصوص به‪ ،‬ومل يرتتب على ذلك مفسدة جاز ختصيص الّنص به كما يف‬
‫االستصناع‪ ،‬وهو أن يذهب شخص إىل اخلياط ليدفع إليه ثوبًا خييطه بأجر معلوم على أن يكون اخليط وبطانة القوب‬
‫أو حشوه وحبكته من اخلياط‪ ،‬فإَّن ذلك وإن كان خمالفًا لظاهر النصوص العامة اليت تقتضي تعيني األجرة والعلم هبا‬
‫كما تقتضي العلم بالبيع والّثمن واالستصناع ليس فيه ذلك حيث أمجلت األجرة ومثن ما معها دون تعيني‪ ،‬لكن هذه‬
‫املخالفة ال ينشأ عنها ضرر يؤّدي إىل الّنزاع‪ ،‬ملا حيدث غالبًا من االتفاق على وصف كّل شيء مما يتفقان عليه‪.‬‬

‫لذا مل يكن هناك مانع من ختصيص النصوص العامة هبذا العرف ومثله كثري‪ ،‬مما يقع بني الناس يف معامالهتم‬
‫من شراء منزل ال ميكن الكشف عن جداره املدفون يف األرض أو شجرة ال يعلم مدى امتداد جذورها‪ ،‬إىل غري ذلك‪.‬‬

‫ومن املعروف أن عادات الناس وأع رافهم ختتلف باختالف األمصار واألقطار‪ ،‬فإَّن لكّل قطر من العرف ما‬
‫ق د خيالف اآلخ ر‪ ،‬وق د شرط العلم اء يف حتكيم الع رف وال نزول علي ه يف ختص يص الّنص وص أن يكون عام ًا‪ ،‬حبيث‬
‫يكون شامًال لقطر أو أقطار كبالد الغرب أو بالد الشام أو مصر أو احلجاز‪ ،‬ومن املعلوم أّن ك ّل قطر من األقطار قد‬
‫نشأ فيه إمام أو أكثر‪ ،‬كما نشأ اإلمام أبو حنيفة يف العراق‪ ،‬ونشأ اإلمام مالك يف احلجاز‪ ،‬ونشأ أئّم ة آخرون يف بالد‬
‫الغرب ومصر وكثري من األقطار‪ ،‬فتأثروا بعادات بالدهم والبيئات اليت نشأوا فيها‪ ،‬وكان هلم يف اجتهادهم من النظر‬
‫يف النصوص مبا يوّفق بينها وبني ما تعارف عليه أهل بالدهم‪ ،‬ورمبا اختلفت وجهات أنظارهم‪ ،‬تبعًا الختالف بيئتهم‪،‬‬
‫وترتب على ذلك اختالف فتاويهم‪ ،‬ولذا أفىت بعض العلماء يف بعض األقطار ‪ :‬بأنه ال جيوز أخذ األجرة على تعليم‬
‫القرآن‪ ،‬تبع ًا ملا ألفوه يف بالدهم ووجدوا عادات الناس عليه‪ ،‬وأفىت آخرون باجلواز‪ ،‬حيث مل جيد يف بالده من يقوم‬
‫ب التعليم حس بة دون أج ر‪ ،‬فوج د من املص لحة ت أجري املق رئني لتعليم الن اس الق رآن نش رًا للق رآن‪ ،‬وتيس ريًا للن اس يف‬
‫حتفيظه‪ ،‬كما أّن بعض األئمة يرى جواز بيع مثار البستان إذا ظهر الصالح يف بعضه‪ ،‬بينما مل جيوز غريه ذلك‪ ،‬وهذا‬
‫كله من اختالف العرف والعادات تبعًا الختالف البالد‪.‬‬

‫السبب اخلامس من أسباب اختالف األئمة‪ :‬ما يرجع إىل األدلة املختلف فيها بينهم ‪:‬‬ ‫‪-‬‬

‫إن األئم ة اهلالل بع د أن اتفق وا يف اجلمل ة على حجي ة كت اب اهلل تع اىل وُس َّنة رس وله ص لى اهلل علي ه وس لم‬
‫واإلمجاع‪ ،‬اختلف وا بع د ذل ك يف االحتج اج بغ ري ه ذه األدل ة‪ ،‬فق ال بعض هم هبا أو ببعض ها ومل حيتج هبا اآلخ رون‪،‬‬
‫وسنذكر من هذه األدلة التىي اختلف وا فيها ستة أدّلة جنعلها فيما يلي‪ّ ،‬مُث نذكر كلمة عن كل دليل منها‪ ،‬فأما إمجاهلا‬
‫فهو‪:‬‬

‫‪ - ١‬القياس ‪.‬‬

‫‪ - ٢‬مفهوم املخالفة ‪.‬‬

‫‪ -3‬قول الصحايب املشهور الذي مل يعرف له خمالف‬

‫‪ - ٤‬املصاحل املرسلة ‪.‬‬

‫‪ - 5‬استصحاب األصل‪.‬‬

‫‪ -6‬عمل أهل املدينة ‪.‬‬

‫وإليك تفصيل الكالم يف كل منها ‪:‬‬

‫الدليل األّو ل‪ :‬القياس‬

‫وهو كما ستعلمه يف علم األصول تشبيه أمر بآخر يف علة احلكم ليأخذ مثل حكمه‪ ،‬ويسّم ى املشبه يف هذه‬
‫احلال ة مقيس ًا واملش به ب ه مقيس ًا علي ه‪ ،‬ووج ه الش به بينهم ا ه و عل ة احلكم‪ ،‬وحكم املش به ب ه ه و ال ذي يثبت مثل ه‬
‫للمشبه‪ ،‬وبعبارة أخرى يسّم ى املشبه به أص ًال‪ ،‬واملشبه فرع ًا‪ ،‬واجلامع بينهما عّل ة‪ ،‬وملا كان األصل‪ ،‬إمنا يثبت حكمه‬
‫بنص أو إمجاع كان هذا احلكم من أركان القياس‪ ،‬وكان نتيجة القياس هو ثبوت مثل حكم األصل للفرع‪ ،‬ومثال ذلك‬
‫‪ :‬أن يق ال ‪ :‬أّن الرُب ق د ثبت باحلديث الش ريف أن ه حيرم فيه الرب ا‪ ،‬وملا ك ان األرز يش به الرب يف كون ك ل منهما قوت ًا‬
‫للناس‪ ،‬وجب أن يكون مثل الرب يف حكمه‪ ،‬وهو حرمة الربا فيه‬

‫وق د اتف ق األئم ة كّلهم على حج ة القي اس‪ ،‬ف أثبتوا ب ه كث ريًا من األحكام‪ ،‬ب ل إّن القي اس يعت رب من مف اخر‬
‫الش ريعة اإلسالمية‪ ،‬وأسباب مرونتها وصالحيتها ومشوهلا لكل ما جيد من احلوادث اليت مل يوجد فيها نص من كتاب‬
‫أو ُس َّنة‪.‬‬

‫غ ري أّن الظاهري ة مل يقول وا حبجيت ه م ع قي ام األدل ة عليه ا وانب ين على ذل ك خالفهم للجمه ور يف كث ري من‬
‫األحكام‪ ،‬نذكر من ذلك ما سبق أهّن م خالفوا يف ثبوت حرمة الربا يف غري األصناف الستة املنصوصة يف احلديث‪ ،‬وقد‬
‫تقدم ذكره بينما ذهب عامة الفقهاء من الَّص حابة ومن بعدهم إىل ثبوت حرمة الّربا يف األصناف السّنة وكّل ما ماثلها‬
‫من غريها؛ كاألرز‪ ،‬والعدس‪ ،‬والسمسم‪ ،‬واللوبيا وحنوها‪ ،‬وإن كان األئمة األربعة قد اختلف وا يف املعىن الذي يناط به‬
‫حرم ة الرب ا‪ ،‬فمنهم من ق ال ‪ :‬إَّنه احتاد اجلنس م ع التق دير بالكي ل أو ال وزن‪ ،‬ومنهم من ق ال ‪ :‬إَّنه الص الحية لطع ام‬
‫اآلدمي‪ ،‬ومنهم من قال ‪ :‬إَّنه االقتيات واالدخار‪ ،‬وقد قال ابن رشد يف بداية اجملتهد‪« :‬عن ثبوت حرمة الّربا يف غري‬
‫األص ناف املذكورة يف احلديث‪ ،‬إمّن ا هو من باب الثابت بداللة النص‪ ،‬ألَّن األصناف املذكورة يف احلديث قد ذكرت‬
‫للتنبي ه هبا على ثب وت احلكم فيم ا يس اويها‪ ،‬أو م ا ه و أوىل منه ا ب احلكم»‪ ،‬فه و مث ل قول ه تع اىل‪َ ﴿ :‬واَّل ِذ ْيَن َيْرُم ْو َن‬
‫اْلُم ْحَص ٰن ِت َّمُث ْمَل َيْأُتْوا ِبَاْرَبَع ِة ُش َه َد ۤاَء َفاْج ِل ُد ْوُه ْم ٰمَثِنَنْي َج ْل َد ًة ﴾ فقد نصت هذه اآلية على حكم من قذف احملصنة‬
‫من النساء‪ ،‬ومل تذكر حكم من َقَذ َف احملصن من الّرجال فثبت احلكم له بداللة النص‪.‬‬

‫ذلك أيضًا أّن الظاهرية قالوا ‪ :‬إذا مات غري ومن الفأرة يف الَّس ْم ِن أو غريه مل يتنجس‪ ،‬بناء على أن النص قد‬
‫ورد يف موت الفأرة يف الَّس ْم ن فقط بينما يقول غريهم من األئمة ‪ :‬إَّن ك ّل ذي دم ذايت إذا مات يف سائل غري املاء‬
‫فإنه ُينجسه قياسًا على الفأرة إذا ماتت يف الَّس ْم ِن ‪.‬‬

‫الدليل الثاين‪ :‬مفهوم املخالفة‪:‬‬


‫أن يكون احلكم مقيدًا بشرط أو صفة أو غري ذلك وهو من القيود فقد اختلف العلماء فيما إذا انتفى هذا‬
‫القيد هل ينتفي احلكم املقيد به تبعًا له؟ أو ال يدل انتفاء القيد على انتفاء احلكم؟ وذلك مثل قوله تعاىل‪َ﴿ :‬وَم ن ْمَّل‬
‫َيْس َتِط ْع ِم نُك ْم طوال أن ينِكَح اْلُم ْحَص َنِت اْلُم ْؤ ِم َن اِت َفِم ن َم ا َم َلَك ْت َأَمْينُك م من َفَنَيِتُك ُم اْلُم ْؤ ِم َن ِة ‪ ،‬فإَّن هذه اآلية قد‬
‫اشرتطت يف ج واز نكاح األم ة بعق د ال زواج ع دم اس تطاعة الط ول إىل احلرة‪ ،‬كم ا ُوِص َف ت األم ة باإلميان‪ ،‬ف اختلف‬
‫العلم اء فيمن وج د الط ول إىل نكاح احلّرة ه ل جيوز ل ه أن ي تزوج األم ة؟ كم ا اختلف وا فيم ا إذا ك انت األم ة من‬
‫الكتابيات؛ أحيل الزواج هبا ملن مل جيد طوًال إىل احلّرة؟‬

‫فذهب احلنفية إىل ح ّل الزواج هبا يف احلالتني؛ ال يقولون حبجية مفهوم املخالفة‪ ،‬فهو عندهم ال يدّل على‬
‫نفي احلكم‪ ،‬بل احلكم عند انتفاء القيد مبثابة املسكوت عنه يبقى على حكم األصل وهو احلّل‪ ،‬وذهب اجلمهور إىل‬
‫أنه ال جيوز ملن وجد الطول إىل احلّرة أن يتزوج األمة مطلق ًا‪ ،‬وال ملن مل جيد الطول أن يتزّوج أمة كتابية؛ ألن مفهوم‬
‫املخالفة عندهم ُح َّج ة‪ ،‬فينتفي احلكم بانتفاء شرطه أو قيده الذي قّيد به ما مل يوجد نص يدّل على خالفه‪ ،‬فإن وجد‬
‫نص قدم ؛ ألَّن الصراحة أقوى من داللة املفهوم‪.‬‬

‫الدليل الثالث‪ :‬قول الصحايب املشهور الذي مل يعرف له خمالف‬

‫ق د اشتهر من بني الَّص حابة أن اس ص اروا أعالم ًا الفت وى‪ ،‬يرج ع إليهم يف كث ري من األحي ان؛ كعم ر بن‬
‫اخلطاب‪ ،‬وعلي وابن مسعود وغريهم ‪ ،‬فلو أفىت صحايب من أمثال هؤالء يف حادثة حبكم‪ ،‬واشتهرت فت واه‪ ،‬ومل يعرف‬
‫له خمالف يف عهده فقد قال العلماء مجهور من األئمة‪ :‬إَّن قوله حّج ة‪ ،‬جيب العمل مبقتضاها‪ ،‬وخالف يف ذلك بعض‬
‫العلماء كالظاهرية حيث قالوا ‪ :‬ال حجة يف قول أحد دون رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ومن مث اختلف وا يف عدة‬
‫األم ة املطلق ة إذا ك انت من ذوات االق راء‪ ،‬فق د أفىت فيه ا عم ر بن اخلط اب له بأهنا تعت ّد بق رئني‪ ،‬وهبذا أخ ذ مجهور‬
‫العلماء‪ ،‬وخالف الظاهرية‪ ،‬وقالوا ‪ :‬إن عدهتا كعدة احلرة ثالثة أقراء ‪.‬‬

‫كم ا اختلف وا أيض ًا فيمن طل ق امرأت ه ثالث تطليق ات يف جملس واح د ه ل يلزم ه ثالث طلق ات أم واح دة‪،‬‬
‫وذلك أن عمر بن اخلطاب قد ألزمه الثالث واشتهرت فتواه بذلك‪ ،‬ومل يعلم له خمالف يف عهده‪ ،‬فذهب اجلمهور إىل‬
‫لزوم الثالث‪ ،‬وخالف بعض العلماء يف ذلك‪ .‬وسيأيت حتقيق هذا يف مبحث خاص إن شاء اهلل تعاىل‪.‬‬
‫الدليل الرابع‪ :‬املصاحل املرسلة‪:‬‬

‫املصلحة ما يتحقق هبا نفع‪ ،‬أو يندفع هبا ضرر‪ ،‬واملراد بكوهنا مرسلة أهّن ا مل يرد فيها نص خاص يؤيدها أو‬
‫يعارضها ولكن علم أهّن ا مما حيتاجه املسلمون يف إصالح جمتمعهم ودفع املفسدة عنه‪ ،‬وقد مثل وا هلا مبا تق ّد م من ترتس‬
‫الكف ار ببعض املس لمني‪ ،‬حبيث ل و مل يقت ل الرّت س ألدى إىل تغُّلب الكّف ار عليهم فه ل جيوز قت ل ال رتس املس لم ح ىت‬
‫يتوص ل ب ه إىل قت ل الكّف ار املتّرتس ني؟ وهبذا ق ال اإلم ام مال ك تعلل ه بن اًء من ه على أّن األص ل يف التش ريع اإلس المي‬
‫مراعاة مصاحل املسلمني‪ ،‬فإذا مل يوجد من النصوص ما يعارض هذه املصلحة‪ ،‬حبيث يدّل على إلغائها‪ ،‬فإَّنه يف هذه‬
‫احلالة حيكم باجلواز‪ ،‬بناء على أّن املصاحل املرسلة حجة عنده‪ ،‬إحلاق ًا هلا باملعهود من الشرع يف أنه ي راعي املصاحل يف‬
‫التش ريع‪ .‬وق د خ الف غ ريه يف ذل ك ألَّن من املص احل م ا نص على إلغائ ه‪ ،‬ومنه ا م ا نص على اعتب اره‪ ،‬فأص بح غ ري‬
‫املنصوص عليه مرتّددًا بني املعترب وامللغى‪ ،‬وحيث مل يرتجح جانب االعتبار مل جيز احلكم على مقتضاه‪ ،‬وقد رأيت أن‬
‫املالكية قد رّج حوا جانب االعتبار بكونه أغلب ما عهد من الشرع ‪.‬‬

‫الدليل اخلامس‪ :‬استصحاب األصل‪:‬‬

‫ومعناه ‪ :‬أن حيكم على الشيء يف املستقبل مبا ثبت له من احلكم يف املاضي‪ ،‬وقد قال به الشافعية وغريهم‬
‫رمحهم اهلل‪ .‬ولذا قالوا ‪ :‬إّن من فقد ومل ُيعلم حاله من حياة أو موت أنه حيكم ببقاء حياته استصحابًا لألصل؛ ألَّنه‬
‫قد فقد وهو حي فيبقى له هذا احلكم حىّت يعلم ما يدّل على خالفه‪ ،‬وإذن فتبقى زوجته يف عصمته كما يبقى ماله‬
‫يف ملكه ويرث غريه إن مات له من يرثه وخالفهم غريهم فقالوا ‪ :‬إّنه يضرب له أجل للبحث عنه‪ ،‬حىَّت إذا انقطع‬
‫األمل يف العثور عليه قضي بوفاته واعتدت ‪،‬امرأته وورث ماله‪ ،‬ومل َيِرث هو من غريه بناء على أن احلكم يتبع غلبة‬
‫الظّن ‪ ،‬فمىت غلب على الظن موته عمل ‪،‬به وانبنت عليه أحكامه؛ ألَّن غلبة الظّن كالعلم من األحكام‪.‬‬
‫الدليل السادس‪ :‬عمل أهل املدينة‪:‬‬

‫واملراد بأه ل املدين ة من ك انوا فيه ا يف عه د أص حاب رسول اهلل ص لى اهلل عليه وس لم وعه د الت ابعني الذين‬
‫أدركهم اإلم ام مال ك ختلل ه ‪ ،‬ف إذا شاع العم ل بينهم حبكم مل خيتلف وا في ه فيم ا بينهم‪ ،‬وإمَّن ا خ الفهم غ ريهم من أه ل‬
‫األمصار األخرى فإن اإلمام مالك نعاله أن یری عمل أهل املدينة أرجح من عمل غريهم فيقدم ما اجتمع وا عليه على‬
‫ما اجتمع عليه غريهم حيث مل يوجد من النصوص ما يؤيد فريق ًا دون آخر‪ ،‬أو وجد مع كل فريق ُس َّنة تؤّيده ؛ ألَّن‬
‫رواية أهل املدينة للسنن أرجح من رواية غريهم‪ ،‬فكذا يق ّد م عملهم؛ ألنه مبثابة املنقول املستفيض ملا شاهده التابعون‬
‫من عمل الصحابة الذين شاهدوا فعل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أو تقريره‪ .‬بينما يرى غري املالكية أّن الَّص حابة‬
‫ق د تفّرق وا يف األمص ار‪ ،‬وق د ك ان م ع ك ل منهم علم َّمما حفظ ه عن رس ول اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم‪ .‬وال خصوص ية‬
‫ألهل املدينة ميتازون هبا على غريهم‪ ،‬وقد نشأ عن ذلك اختالفهم يف مقدار الصاع من األمداد‪ ،‬إىل غري ذلك من‬
‫بعض األحكام‪.‬‬

‫وفيما ذكرنا من األمثلة كفاية وسنشرع بعون اهلل تعاىل يف املواضيع املق ّرر تطبيقها على ما تقدم من أسباب‬
‫اخلالف ‪.‬‬

You might also like