Professional Documents
Culture Documents
فقه المقارن
فقه المقارن
املقارن ة معناه ا يف اللغ ة اجلم ع واملقابل ة ،م أخوذ من ق رن الش يء بالش يء ،وق رن بينهم ا إذا مجعهم ا وقاب ل
بعض هما ببعض ،يق ال :دور ق رائن إذا ك انت متقابل ة أو متج اورة ،ومن ه ِّمُسي اجلزء من الزم ان قرن ًا جلمع ه كث ريًا من
الس نني ،وّمُسي اجلم ع من الّن اس يف عه د واح د قرن ًا جلمع ه أف رادًا كثرية .ق ال اهلل تع اىل ( :مث أنَش ْأَنا ِم ْن َبْع ِدِه ْم َقْرنا
آَخ ِرين ((المؤمنون .]٣١ :وقال سبحانهَ﴿ :أْمَل َيَرْو ا َك ْم َأْه َلْك َن ا من قبلهم من قرٍن َم َك نُه ْم يِف اَأْلْر ِض ) [األنعام.]٦ :
آخِريَن ) [املؤمنون ]۳۱ :وقال تعاىلَ﴿ :فَم ا َباُل وجيمع القرن على قرون كما قال تعاىل﴿ :مث َأنَش ْأَنا ِم ْن َبْع ِدِه ْم َقْرنا َ
اْلُق ُروِن اُأْلوىَل ) [طه ،]٥١ :ويس ّم ى صديق اإلنسان املالزم له قرين ًا ،كما قال تعاىلَ﴿ :ق اَل َقاِئٌل ِم ْنُه ْم ِإيِّن َك اَن يِل
َقِرين ) [الصافات ،]٥١ :وقد يسمى املالزم للشخص مطلقا قرينا أيضًا كما قال تعاىلَ﴿ :وَم ن َيْعُش َعن ِذْك ِر ال َّرَمْحِن
ُنَق ِّيُض َلُه َش ْيَط ًانا َفُه َو َلُه قرين [الزخرف ]٣٦ :؛ أي :مالزم له ال ينفك عنه ،وجيمع القرين على قرناء كما قال تعاىل
َ( :وَقَّيْضَنا ُهَلْم ُقرناء َفَزَّيُنوا ُهَلم َّم ا َبَنْي َأْيِد يِه ْم َوَم ا َخ ْلَف ُه ْم [فصلت.]٢٥ :
هذا معىن املقارنة يف اللغة وقد عرفنا أنه يرجع إىل معىن اجلمع واملقابلة.
وإذن فيمكن أن نع رف مع ىن الفق ه املق ارن بأَّنه :الفق ه ال ذي جيم ع في ه بني أق وال األئم ة وأدلته ا ،ومقابل ة
بعضها ببعض .
وهذا تعريف عام وأَّم ا إذا أردنا أن نعرفه تعريف ًا خاص ًا كما اصطلح عليه العلماء ،فيجب أن نقدم بني يدي
ذلك تفصيًال ملعاين أجزاء مجلته هكذا.
إذا علمت أن معىن الفقه لغة هو :الفهم مطلقًا أو هو فهم األشياء الدقيقة عند بعض احملققني ،وقد سبقت
ل ك معرف ة ذل ك يف أوائ ل كتب أص ول الفق ه ،كم ا ذك ر فيه ا أيض ًا أن مع ىن الفق ه اص طالحًا ه و :العلم باألحكام
الشرعية الفرعية املستنبطة من أدلتها التفصيلية ،وقد علمت أيضًا َّمما تقّد م أَّن معىن املقارنة هو اجلمع واملقابلة فحينئذ
ميكنك أن تعرف معىن الفقه املقارن اصطالحًا ،وأن تعريفه هو كما يلي:
الفقه املقارن هو :مجع أق وال العلماء املختلفة احلكم الشرعي للمسألة الواحدة الفرعية مع أدلتها ومقابلة
بعضها ببعضَّ ،مُث مناقشتها مناقشة علمية ليظهر بعد ذلك أي األق وال أقوى دليًال ،وأقرهبا متشيًا مع قواعد الش ريعة،
حىّت يكون هو األرجح.
-2موضوع املقارنة
مما ذكرناه من معىن الفقه املقارن ميكن أن ُيعرف موضوع املقارنة ،وأَّنه هو املسائل الفرعية املختلف فيها بني
علماء الشريعة من أئمة املذاهب وغريهم ،ممن سبقهم أو حلقهم من اجملتهدين.
فق د اختلف علماء الس لف واخللف يف كثري من املس ائل ،ونقلت إلينا أق واهلم مدعم ة بأدلته ا املختلف ة ،أو
وجهات نظرهم يف الدليل الواحد ،إذا كان حيمل عدة أوجه.
فمثًال :ق د اختلف وا يف ف رض الني ة يف الوض وء فق ال بعض األئم ة (كاحلنفي ة) :إهَّن ا ليس ت فرض ًا من ف رائض
الوض وء ،مس تدًال بأهَّن ا مل ُت ذكر يف الق رآن ،وب أَّن الوض وء شرط من شرائط الَّص الة ،فيمكن قياس ه على الطه ارة من
النجاسة والنية ليست شرطًا فيها وذهب آخرون من األئمة إىل أَّن الّنية فرض من فروض الوضوء اليت ال يصح الوضوء
بدوهنا وال جتوز به الَّص الة إاَّل إذا نوى ،مستدلني حبديث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :إمَّن ا األعمال بالنيات.....
احلديث ،فإَّنه يدل على أَّن كّل عمل ال بد فيه من النية ،وملا كان الوضوء عمًال وجب أن تكون الّنية من أركانه ،كما
قالوا أيض ًا :إّن الوضوء طهارة من احلدث ال تستباح الَّص الة إال هبا ،وهو بذلك نظري التيمم عند وجود سببه ،وملا
ك ان ال تيمم متفق ًا على اشرتاط الّني ة لص حته وجب أن يكون الوض وء ك ذلك ،كم ا اختلف وا ك ذلك يف فرض ية ق راءة
الفاحتة يف الَّص الة ،فذهب كثري من األئمة إىل أن قراءة الفاحتة من فروض وله الَّص الة اليت ال تصح إال هبا عمًال بقوله
:ال صالة ملن مل يق رأ فيها بفاحتة الكتاب» ،وأمثال هذا احلديث الش ريف الذي يقضي ك ّل منها بأَّنه ال بد لصحة
الصالة من قراءة الفاحتة ،وذهب غريهم من األئمة (كاحلنفية أيض ًا رمحهم اهلل) إىل أن ق راءة الفاحتة يف الَّص الة ليست
فرض ًا تتوقف عليه صحة الَّص الة ،بل تصح الَّص الة بدوهنا ،وأَّن أي جزء من القرآن :يصحح الَّص الة أخذا بقوله
تعاىلَ﴿ :فاْقَرُه وا َم ا َتَك َّس َر ِم َن القرءان .وإن كان تارك الفاحتة يعترب عندهم مسيئًا وصالته ناقصة إىل غري ذلك من
املسائل اليت اختلف العلماء فيها تبعًا الختالف الدليل .
وكذلك اختلفوا يف مسائل أخرى دليلها واحد ،لكنه حيتمل وجهات من النظر.
فمن ذلك اختالفهم يف عَّدة املطلقة اليت هي من ذوات القروء وليست حبامل أتعترب عدهتا باحليض فتكون
ثالث حيضات؟ أم تكون بالطهر فتعد بثالثة أطهار ،تبعًا الختالفهم يف معىن القرء املراد من قوله تعاىلَ( :واْلُم َطَّلَق ُت
يرتبصَن ِبَأنُف ِس ِه َّن َثَلَثَة ُقُروو؛ ألَّنه لفظ مشرتك يطلق على كل من الظهر واحليض.
ومثل هذا اختالفهم يف املقدار املفروض مسحه من ال رأس يف الوض وء؛ أهو كل ال رأس أم بعضه ،وإذا كان
املفروض هو البعض فهل هو بعض غري حمدود؟ أم هو حمدود ربع ال رأس مثًال ،تبع ًا الختالفهم يف معىن الباء يف قوله
تعاىل َ) :واْم َس ُح وا ِبُرُءوِس ُك ْم ) وتبعًا للمأثور من عمله صلى اهلل عليه وسلم يف ذلك.
وغري هذا كثري من األمثلة اليت سرتد عليك فيما ستقرأه إن شاء اهلل تعاىل.
وخنلص من هذا إىل أن موضوع املقارنة إذا كان هو املسائل املختلف فيها بني األئمة فال جترى املقارنة حينئذ
يف املسائل املتفق عليها س واء أكانت من األصول أم من الفروع ،كما أهَّن ا أيض ًا ال جترى يف املسائل األصلية ،س واء
أكانت من العقائد اليت تذكر يف علم التوحيد ،أم كانت من مسائل أصول الفقه اليت تذكر يف كتبه ،كما ُيعلم ذلك
لكّل مطل ع يف كتبه ا ،كم ا أن ه خيرج عن موض وع املقارن ة م ا ي ذكر أحيان ًا من مقارن ة الش ريعة اإلس المية أو بعض
مسائلها بالشرائع األخرى ،سواء أكانت مساوية أم وضعية ،فإَّن ذلك ال يسمى بالفقه املقارن ،اصطالحًا ،كما خيرج
عن موضوع هذا الفن بالطرق األوىل ما يذكر من املسائل اخلالفية اليت ليست هلا صلة بالتشريع اإلسالمي.
-3مصادر الفقه اإلسالمي ونشأة املذاهب الفقهية
بعث رسول اهلل اهلل إىل الَّناس كافة خامتًا للُّرسل بدين ناسخ جلميع األديان قبله.
فكان ال بد أن يكون دينه صاحلًا ملا يتلوه من األزمان كما جاءت شريعته شاملة لسائر البشر ،فكان من
حكمة اهلل تعاىل أن أنزل عليه كتابًا منريًا مجع بني دفتيه أصول الشريعة الغ راء ميسرة للذكر ،ومل يتعرض لفروع املسائل
إال قليًال كما يف املواريث وحنوها؛ ألهَّن ا وإن تكن فروع ًا فهي يف احلقيقة تأصيل متني ومنهاج قومي لقطع ن وازع الشر،
وس د ب اب فتن ة االختالف وأَّم ا أغلب أحكام الق رآن فق د ن زل أص وًال وقواع د يأخ ذ منه ا اجملته دون وأول و العلم م ا
يهديهم إليه رهبم من التفصيالت والفروع اليت ميكنهم استنباطها من نور آي الذكر احلكيم.
ُس َّنة وكان جبانب القرآن يف املقام الثاين من التش ريع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم تق ّرر ما فَّص له القرآن الكرمي ،أو
تفصل ما أمجله وتشرحه شرحًا يبنّي املراد منه ،أو تلحق بأص وله وقواعده ما أشارت إليه آيات الذكر احلكيم ،مما قد
يندرج حتتها من أحكام ولوال بيان الُّس َّنة مل َيْس َتنِب للمجتهدين كما قد ما تضع يعترب أصال لغريه يرجع إليه يف فروع
كثرية.
وإذن؛ فاملص ادر ال يت يرج ع إليه ا الفق ه اإلس المي يف عص ر النب وة حمص ورة يف الق رآن الكرمي ،والُّس َّنة النبوي ة
الشريفة .
فأما القرآن الكرمي فقد كان ينزل على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم آيات أو سورًا متفرقة على حسب
الوقائع واحلوادث اليت كانت حتدث يف عهده ،فينزل عليه القرآن يف شأهنا.
كما قد ينزل إجابة عن أسئلة ُيسأل عنها ،أو استفتاءات ُيستفىت يف أحكامها .
فمن النوع األول :كثري من السور املكية كالضحى والكوثر وسورة األنعام وصدر سوريت املزمل واملدثر وأغلب
السور املكية ،وبعض آيات السور املدنية كسورة اجملادلة والفتح والقتال وغريها من السور كثري.
ِر ِس ِر
ومن النوع الثاين :ما يوجد غالبًا يف تضاعيف السور املدنية؛ كقوله تعاىل َ( :يْسَتُلوَنَك َعِن اَخْلْم َواْلَم ْي ُقْل
فيهما إٌمْث َك ِب ٌري ،)...وقولهَ﴿ :وَيْس َتُلوَنَك َعِن اْلَيَت اَم ى ُقإْل صالح هلم خري ،)...وقولهَ ﴿ :يْس َتُلوَنَك َعِن اَأْلنَف اِل ُقِل
ِت ِح ِهلل
اَأْلنَف اُل َوالَّرُس ول ،وقولهَ﴿ :وَيْسَتُلوَنَك َعِن اْلَم يِض ُقْل ُه َو َأَذى) ،وقوله جل شأنهَ( :يْس َتْف ُتوَنَك ُقِل الَّلُه ُيْف يُك ْم
يِف الَك لل ه ،وقول هَ﴿ :وَيْس َتْف ُتوَنَك يِف الِّنَس اِء ُق ِل الَّل ُه ُيْف ِتيُك ْم ِفيِه َّن َّ ،)...مُث ك ان جربي ل ي نزل ك ل ع ام يف رمض ان
فيت دارس القرآن م ع رسول اهلل ،ويرتبه له آي ات وسورًا كرتتيبه املوج ود اآلن يف املص احف وإمَّن ا مل ينزل الق رآن مجل ة
واحدة كما كانت تنزل الكتب السماوية على الّرسل السابقني حلكم عالية يعلمها رّب العاملني ،وقد أشار إىل بعضها
يف قوله سبحانه :وقال الذين كفروا لوال نزل عليه الق ران مجلة وحدة كذلك لنبت ِبِه ُفَؤاَد َك َوَرَتْلَت ُه َتْرِتياًل وال يأتونك
ميثل إال جنتك ِباَحْلِّق َوَأْح َسَن َتْف ِس ريًا ،وقوله جل شأنهَ( :و ُقْرءاَنا َفَرْقنُه لتقراه على الَّناِس َعَلى ُمْك ٍث َوَنَّزْلَتُه َتنِزيال
وأَّم ا الُّس َّنة النبوية الش ريفة فكانت متمثلة يف أقواله وأفعاله وتقريراته ،بل كل س ريته وما اشتملت عليه من
صفات كرمية وأخالق مجيلة ومثل عليا ،كل ذلك يعترب سننًا له عليه الَّص الة والَّس الم ،بيد أَّن ُس َّنته التش ريعية أخص
من ذلك إذ ختتص مبا فيه بيان األحكام.
وكان الَّص حابة رض وان اهلل عليهم إذا نزل هبم أمر ،أو أرادوا بيان حكم فزع وا إليه ليأخذوا عنه دينهم ،فيبني
هلم احلكم تارة بكتاب اهلل -ينزل به الوحي عليه من ربه -وتارة أخرى يفتيهم بقوله عليه الَّص الة والَّس الم ،أو فعله،
أو تقري ره ا بنِّي للحكم ،ك أن ي رى أح دهم يعم ل عمًال فيس كت علي ه ،إذ ق د ت نّزه أن يس كت على منكر ،كم ا أَّن
ُمل
اَّلِإ ِإ ِن ِط
أفعاله وأقواله إ ا هي بوحي من ربه مصداقًا لقوله تعاىل :و وما ين ُق َع اَهْلَوى ْن ُه َو َوْح ى ُيوَح ى ،وهلذا أمر مَّن
اهلل باإلقت داء ب ه واتباع ه يف أوام ره ونواهي ه فق ال تع اىلَ﴿ :وَأِط يُع وا الَّل َه َوَأِط يُع وا الَّرُس ول ،وق الَ﴿ :وَم ا اَلُك م الَّرُس وُل
َفُخ ُذ وُه َوَم ا َنَه نُك ْم َعْنُه َفانَتُه وا) ،وقالَ﴿ :فْلَيْح َذ ِر اَّلِذ يَن َخياِلُفوَن َعْن َأْم ِرِه َأن ُتِص يَبُه ْم ِفْتَنٌة َأْو ُيِص يَبُه ْم َعَذ اٌب َأِليم).
ومن هذا العرض الس ريع يت بنَّي أن التش ريع يف هذا العهد الكرمي قد احنصر يف كتاب اهلل وسنة رس وله ،وما
ك ان من اجته اد من ه علي ه الَّص الة والَّس الم ،أو من ص حابته يف عه ده فـلـيـس بـخـارج عن ذل ك ،إذ أن اجته اد
املصطفى صلى اهلل عليه وسلم ال بد أن ينزل الوحي عليه بتقريره أو تعديله وكذلك اجتهاد صحابته ال بد أن يق ّرهم
عليه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أو خيطئهم فيه ويرشدهم إىل وجه الصواب.
ويعنينا هنا بوجه خاص :أن نش ري إىل أن بعض الص حابة قد خيتلف م ع غ ريه منهم له يف عص ره ،إال أَّن
اختالفهم هذا ال يعد اختالف ًا يدخل يف موضوع املقارنة كما يظن البعض ذلك ملا قلنا من أهنم ال بد أن يرجع وا إىل
الرسول صلى اهلل عليه وسلم ،ويف هذه احلالة ال خيلو األمر من إحدى حاالت ثالث؛ ألَّنه إما أن يص ّوب الف ريقني
مجيعًا ،أو خيطئهم مجيعًا ،أو خيطئ أحدمها ويص ّوب اآلخر ،فمثال احلالة األوىل ما حدث يف غزوة بين قريظة إذ قال
للَّص حابة :ال يص ّلني أح د منكم العص ر إال يف ب ين قريظ ة» فلم ا س اروا أدركتهم الَّص الة يف طري ق ف اختلفوا فص ّلى
بعضهم وأخر الباقون وملا رجع وا إىل رسول اهلل صوب الف ريقني ويف هذه احلالة ال يعد خالف ًا ؛ ألَّن تصويبه لكليهما
دليل على أَّن فعل كّل منهم جائز ،وأَّن كًاّل منهما قد أخذ بطرف من طريف اجلواز واألخذ بأي أط راف اجلواز ال يعد
خالفًا .
ومثال احلالة الثانية :وهي أن خيطئ الفريقني مجيعًا ما حدث أن عّم ار بن ياسر كان هو وعمر بن اخلطاب ا
يف غزوة من الغزوات فأصبح ك ّل منهما ُج ُنبا ،وليس معهما ماء يغتسالن به ،فاختلفا؛ فأما عمر ف رأى أّن التيمم ال
جيزئ عن غسل اجلنابة وامتنع عن الَّص الة حىت وجد املاء فاغتسل وص ّلى ،وأَّم ا عّم ار بن ياسر ف رأى أن التيمم جيزئ
عن اجلنابة عند فقد املاء ،لكَّنه خلع ثيابه ومترغ جبسمه كله يف ال رتاب وص َّلى حىّت إذا وجد املاء اغتسلَّ ،مُث رجعا إىل
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقَّص ا عليه خربمها ،فقال عليه الصالة والسالم لعمر :إّن اهلل تعاىل قالَ :أْو َلَمْس ُتُم
الِّنَس اَء َفَلْم جتدوا َم اًء َفَتَيَّم ُم وا ،وأَّن هذا يشمل اجلنابه ،وقال لعمار أَّنه قد كان يكفيك أن متسح وجهك ويديك
بالرتاب ،فقد خطأمها مجيع ًا وأرشدمها إىل وجه الَّص واب ،وإذن فقد زال اخلالف وأصبح قوالمها مع ًا كأن مل يكونا،
وصار احلكم ما وضحه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم.
أم ا احلالة الثالث ة :وهي أن يص ّوب أحد الف ريقني وخيطئ اآلخر ،فمثاهلا ما حدث أَّن بعض الصحابة كانوا
بغ زوة فج رح أحدهم يف موض ع التطه ري فاختلفوا كيف يفع ل ه ذا اجلريح عند الطه ارة فق ال بعضهم :يتيمم ،وقال
آخ رون :ب ل يغتس ل باملاء فلم ا اغتس ل باملاء أص اب اجلرح منه م ا أدى إىل وفاته وملا رجع وا إىل رسول اهلل ص لى اهلل
ِذ ِإ
عليه وسلم خطأ من أفتوه بالغسل وقال« :هال سألوا إذ مل يعلم وا ،فإَّن اهلل تعاىل يقولَ﴿ :فَتَتُلوا َأْه َل ال كِر ن ُك نُتْم
اَل َتْع َلُم وَن َّ ،مُث دفع ديته من بيت املال إىل ورثته.
ومن هذا يتبنَّي أن قول املخطئني أصبح غري معترب ،وقد زال اخلالف بزواله وصارت خالصة األح وال الثالثة
املتقّد مة أَّن خالف الَّص حابة يف عصره ال يعترب مم يدخل يف موضوع املقارنة ،إذ إَّن التحقيق يف كل منهما يبني أنه ال
خالف.
ملا انتقل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل الرفيق األعلى ،وانقطعت بوفاته مادة الوحي اليت كانت مصدر
التشريع والفتوى يف عصره ،قام الَّص حابة من بعده حبمل عبء الفتوى واستنباط األحكام فواجه وا بذلك أم رًا شاقًا،
إذ عرضت هلم من احلوادث ما مل يكن هلم به سابق عهد فاضطروا أن يبذلوا غاية ما يف وسعهم من اجلهد الستنباط
أحكامه ا وك انت ط ريقتهم يف ذل ك أهنم إذا عرض ت هلم حادث ة نظ روا يف كت اب اهلل تع اىلَّ ،مُث فيم ا علم وه من ُس َّنة
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فإن وجدوا يف نصوصهما أو يف أحدمها ما ميكن أخذ حكم احلادثة منه حكم وا فيها
مبا تقتضيه النصوص ،وإن مل جيد أحد منهم فيما عنده من كتاب اهلل وسنة نبيه سألوا غريهم عن ذلك،فإن وجدوا
عند غريهم علمًا عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من قوله أو فعله أو قضائه قض وا به ،كما حدث أليب بكر حني
جاءته اجلدة تطلب مرياثها من ابن بنتها الذي تويف بعد أن ماتت أمه ،فقال هلا أبو بكر :ما أرى لك يف كتاب اهلل
تعاىل شيئًا ،ومل أعلم أَّن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قضى لك بشيء ،ولكن انتظري حىت أسألَّ ،مُث دخل على
مجع الصحابة فسأهلم هل تعلمون أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قضى للجدة بشيء من املرياث؟ فقام رجل من
الصحابة يقال له :حمّم د ابن مسلمة فقال :أشهد أَّن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قضى هلا بن بالسدس ،فقال
أبو بكر :هل معك شاهد آخر؟ فقام رجل آخر فشهد مبثل ما شهد به حممد بن مسلمة ،فنفذ أبو بكر قضاء رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف اجلدة وأعطاها السدس.
ومثل هذا من احلوادث كثري ،فأما إن أعياهم العثور على النص بعد البحث عنه واالستقصاء ،مجع اخلليفة
رؤوس الَّص حابة من اجملته دين واملف تني وع رض عليهم احلادث ة ال يت عرض ت علي ه فأخ ذوا ينظ رون فيه ا ،ف إن أمكنهم
إدخاهلا حتت عموم نص من كتاب اهلل أو ُس َّنة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أو قياسها على ما مياثلها من ح وادث
قد سبق أَّن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أفىت فيها مل يرتددوا يف إعطائها حكم ما أفاده عموم النص أو القياس،
ويصبح بذلك حكمها إمجاعيًا مىت اتفقوا عليه مجيعا ،وقد حدث ذلك يف كثري من املسائل،
منها :قتل من ارتد عن اإلسالم أو منع الزكاة بعد وفاة رسول اهلل .
فقد اختلف الَّص حابة يف بادئ األمر يف هذه املسائل كما هو معلوم من كتب احلديثَّ ،مُث استقر بعد ذلك
رأيهم وأمجعوا على احلكم يف كل منها فصارت أحكامها إمجاعية ال جيوز االختالف فيها من بعدهم؛ ألَّن اإلمجاع ال
جتوز خمالفت ه ،وب ذلك قض ي على اخلالف يف كث ري من املس ائل ال يت ص ارت يف عه د الَّص حابة أو من بع دهم جممع ا
عليها وخرجت بذلك عن أن تكون من موضوع املقارنة .
أما إن اختلف وا ومل يستقر رأيهم على شيء يف حكـم املسألة ،بل كان لكّل منهم وجهة نظر تصلح لألخذ
هبا ،نظ ر اخلليف ة يف أق واهلم ،وه و إذ ذل ك أح دهم فاخت ار من بني ه ذه األق وال أقرهبا إىل حتقي ق املص لحة العام ة
للمسلمني ،فقضى به وأنفذه إىل نوابه يف سائر األمصار من القضاة واملفتني وأخربهم به من غري إل زام ملن بعده بأن
يقض ي مبا قض ی ب ه كم ا ح دث أن أب ا بكر ك ان يس وي يف العط اء بني املس لمني ق ائًال :إمَّن ا املس لمون إخ وة ،وإمَّن ا
نعطيهم إلسالمهم ولكّل مس ّلم حق يف بيت املال ،فلما جاء عمر بن اخلطاب له من بعده فاضل بينهم يف العطاء
ق ائال :ال ُأس ّوي بني من قات ل رس ول اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم ومن قات ل مع ه ،ولكّل منهم ا هلا وج ه ص حيح من
النظر.
وإذن؛ فخالصة ما كان يف عصر الصحابة وما تعطينا سريهتم وأعماهلم يف الفتوى والقضاء أهنم مل خيرج وا
عن كت اب اهلل وال ُس َّنة رس وله ،وعم ا اجتمعت علي ه كلمتهم ،أو أذاهم إلي ه اجته ادهم ونظ رهم يف قواع د الش ريعة
العام ة وأص وهلا ،وب ذلك احنص رت مص ادر التش ريع يف عص رهم يف أم ور أربع ة هي :كت اب اهلل تع اىل وس نة رس وله ،
وإمجاع اجملتهدين منهم ،والرأي فيما اختلفوا فيه ،وكان الرأي شامًال للقياس وغريه من النظر يف داللة النصوص احملتمل ة
واالستنباط من قواعد الشريعة العامة ومراعاة مصاحل العباد.
وأيًا ما كان فإن االختالف يف األحكام يف عصر الصحابة يعد نادرًا جبانب ما اتفق وا عليه وكان السبب يف
ذلك هو أن معظمهم مل يزل مقيما يف حاضرة اخلالفة وهي املدينة املنورة -على ساكنها أفضل الصالة والسالم ـ وال
سيما يف عصر اخلليفة العادل عمر بن اخلطاب له حيث كان ال يأذن ألحد من كبار الصحابة ومفتيهم باخلروج عن
املدين ة إاَّل للحاج ة امللح ة ،وق د تس ىّن ل ه ب ذلك أن جيم ع عن د الض رورة مجي ع اجملته دين من الص حابة ل ريوا رأيهم يف
احلادثة اليت يريد أن يعلم حكمها ،وسهل بذلك وجود اإلمجاع يف كثري من املسائل وحسم مادة اخلالف فيها .
وقد كان اختالفهم رضي اهلل عنه إما الختالف وجهة النظر عندهم يف دالالت الّنصوص احملتملة ،حيث إَّن
من النصوص ما حيتمل أكثر من معىن ،وإما أن يرجع إىل اختالفهم فيما حيفظونه من ُس َّنة رسول اهلل ،فإهَّن ا مل تكن
قد دونت بعد فرمَّبا علم أحدهم حبديث ليس عند غريه فأفىت مبقتضاه ،بينما علم آخر حديثًا غريه أفىت به ،أو علم
ك ل منهم ا ُس َّنة لكَّن أح دهم يعلم م ا ينس خها أو خُي صص ها فيف يت ك ل مبا علم وق د يكون اختالفهم راجع ًا إىل
اختالف أنظارهم يف تطبيق النصوص العام ة ،أو استنباط احلكم من قواعد الش ريعة وأصوهلا العامة تبع ًا ملا وهبه اهلل
لكل منهم دقة من الفهم وبعد النظر ،وقد كان عمره وعلي من أبرز الصحابة يف ذلك ،وقد وَّرث اجلميع علمهم ملن
بع دهم من الت ابعني ،وه ؤالء ق د نقل وه م ع م ا أض افوا إلي ه مما أف اء اهلل ب ه عليهم من العلم إىل األئم ة اجملته دين من
أصحاب املذاهب الذين أسعدهم احلظ بتدوين مذاهبهم ،أو من عاصرهم من األئمة الذين مل تدون مذاهبهم ،وإمَّن ا
ُنقلت عنهم أق واهلم مبع ثرة يف كتب احلديث والتفس ري والفق ه ال يت ألفه ا س واهم ،ومل خيرج أي منهم يف دائ رة اجته اده
عما أَّصَله من قبلهم من أصول األحكام ومصادر التشريع.
نشأة املذاهب
اتسعت الفتوحات اإلسالمية يف عهد اخلليفة الثاين عمر بن اخلطاب فاضطر أن يبعث إىل كل إقليم أو مصر
من األمصار مبن يعّلمهم دينهم ،ويتوىل شئون القضاء والفتوى فيما يعرض عليه من احلوادث ،وكان خيتار لذلك من
الصحابة من َتأَّم ل للفتوى واالجتهاد؛ كابن مسعود ،وأيب موسى األشعري ،وأمثاهلما ال إاَّل أَّنه كان كان مع ذلك ال
يسمح لكبار الَّص حابة مبغادرة مقر اخلالفة حىّت يتسىن له مجعهم ألخذ رأيهم واستشارهتم عند احلاجة ،وكان يعلم
مواضع من أرسلهم للفتيا يف البالد ،حىَّت إذا جد ما يستدعي مشورهتم أمكنه استدعاؤهم وإحضارهم ،وبذلك قضى
على كثري من اخلالفات وتيسر اإلمجاع يف عصره له .
فلم ا ت وىل اخلالف ة عثم ان بن عف ان مسح للص حابة ب اخلروج من عاص مة اخلالف ة وأعطى كال منهم اخلي ار يف
اإلقام ة والرحي ل ،فارحتل كث ري منهم إىل البالد املفتوح ة كمص ر والش ام والع راق ،وك انت ه ذه األخ رية أس عد األمص ار
حظ ًا بنزول كثري من الصحابة فيها واستيطاهنم إَّياها وال سيما بعد أن توىل اخلالفة اإلمام علي له ،إذ جعل الع راق
عاص مة اخلالف ة ومرك ز احلكم ،وحلق ب ه كث ري من الص حابة وبقي منهم كث ري باملدين ة مل يرض وا ب ديًال جبوار رس ول اهلل
ص لى اهلل علي ه وس لم وهن ا نش أ التن افس بني الع راق واحلج از يف العلم والثقاف ة وت أثر علم اء ك ل بل د من ه اتني
العاصمتني مبا تلقوه عن الصحابة الذين َعَّلُم وهم طرق الفتوى واالجتهاد ،وكان أهل احلجاز أكثر الَّناس رواية حلديث
الَّرسول صلى اهلل عليه وسلم وتتبعًا لُس َّنته ،وكانت احلجاز إذ ذاك على الفطرة البدوية اليت تتشابه حوادثها فقلما تنزل
حادثة إال وجدوا فيها أث رًا عن رسول اهلل ،أو حديثًا يروونه يف حكمها ،فأغناهم ذلك عن كثري من العناء يف تعليل
األحكام واستعمال األقيسة ،إاَّل عندما يعوزهم العثور على أثر يروى عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أو صحابته،
وقلما يكون ذلك.
وكانت الع راق على عكس هذا كله إذ كانت بالدهم متأثرة باحلضارة السابقة ،واألمور فيها جتري على غري
الفطرة البدوية ،وال سيما بعد ما ظهرت فتنة الشيعة واخلوارج يف عهد عليه وما بعده ،حيث شاع وضع احلديث من
ه ؤالء وه ؤالء ،فاض طر فقه اء الع راق أن يش رتطوا يف احلديث شروطًا مل يس لم معه ا إال القلي ل ،فأخ ذوا يعلل ون
النصوص ويستعملون األقيسة عليها حىت اشتهروا باسم أهل القياس ،كما اشتهر أهل احلجاز من قبلهم باسم أهل
احلديث ،ونشأت يف كل من البلدين مدرسة تسمت هبذا االسم ،فمدرسة احلديث باحلجاز ،ومدرسة القياس بالعراق
وترىب يف كل من املدرستني رجال تشبعوا بطريقها ونسجوا على منواهلا ،حىّت وصل ذلك إىل األئمة اجملتهدين أصحاب
املذاهب املدّو ن ة ،وغ ريهم فكان باحلج از اإلم ام مال ك هلل ومعاص روه من شيوخه وتالمي ذه كم ا نش أ ب العراق اإلم ام
األعظم أبو حنيف ة اهلل ومعاص روه من شيوخه وتالميذه ك ذلك َّمُث نشأ بع د ذل ك من مجع بني الطريق تني وت أثر بكلتا
املدرستني كاإلمام الشافعي اال اهلل واإلمام أمحد بن حنبل نه وكثري ممن عاصرهم ،إاَّل أَّن احلظ مل يسعد أحدًا بتدوين
مذهبه وضبطه ،أصوًال وفروعًا عدا األئمة األربعة املشهورين أبو حنيفة ومالك والشافعي وأمحد رمحهم اهلل ،حيث قاموا
هم أنفسهم َّمُث أتباعهم من بعدهم بتدوين مذاهبهم وتأصيلها والتفريع عليها حىَّت صارت مذاهبهم هي قطب الرحى
ال ذي ت دور علي ه أم ور الفت وى والقض اء وانتش رت م ذاهبهم يف مجي ع أحناء البالد اإلس المية ،حىّت ال يوج د بل د من
البالد ،أو بقعة من األرض إال وهي آخذة مبذهب أو أكثر آخذة مبذهب أو أكثر من هذه املذاهب.
- ٤نشأة املقارنة
حينما دونت املذاهب واستقرت وُع رف أصحاهبا جاء من بعدهم قوم من العلماء انتهج وا يف تأليف كتبهم
على منهج مجعوا فيه بني أقوال األئمة أصحاب املذاهب املدونة وأقوال غريهم من السابقني عليهم ،أو املعاص رين هلم،
ورمَّبا ُضَّم إىل ذلك ما ُيؤثر عن الصحابة وغريهم من األقوال يف املسألة الواحدة ،فنظروا يف أدلة كل قائل ،وضعفوا ما
بدا هلم ضعفه ،ورجحوا ما رأوه راجحا يف نظرهم ،وكان هذا العمل منهم يعترب مبدأ لنشأة املقارنة ،وكان من أمثلة ما
دونوه تلك املناظرات اخلفيفة اليت كانت حتصل بني بعض الَّص حابة فمن ذاك مـا رووا أن ابن مسعود نه بلغه أَّن أبا
موسى األشعري استفيت يف رجل مَّص َتْد َي امرأته فسبقه لبنها إىل جوفه فقال أبو موسى هلذا الرجل :ما أراها ِإاَّل
َح ُرَم ت عليك ،فجاء ابن مسعود إليه وقد أمسك بذراع الَّرجل وقال :يا أبا موسى أترى هذا األمشط رضيعًا ! فقال له
أبو موسى فماذا ترى أنت فقال :إَّن اهلل تعاىل يقولَ﴿ :واْلَواِل َد اُت ُيْرِض ْع َن َأْو َل َد ُه َّن َح ْو َلِنْي َك اِم َلِنْي ِلَمْن أَراَد َأن ُيِتَّم
الَّرَض اَعُة) ،ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول« :إمَّن ا الرضاعة من اجملاعة» ،وقد متت رضاعة هذا وفارق احلولني،
وال يرد الرضاع جوعته ،فقال أبو موسى ه :ال تسألوين ما دام هذا اخلرب فيكم .ومثل ذلك ما ذكروا أن ابن عباس
ما ذهب إىل عثمان بن عفان له فقال له :مل حتجبون األم من الثلث إىل السدس باألخوين واهلل تعاىل يقولَ﴿ :فِإن
َك اَن له إخوة َفُأِلِّم ِه الُّس ُد ُس ؟ واألخ وان لـيـسـا بـإخـوة ،فقال عثمان له « :قد حجبها هبما قومك» يريد أَّن اإلمجاع
يف عهد أيب بكر وعمر وعلي حجبها هبما دّل على أن املراد باإلخوة يف اآلية ما زاد على الواحد .ومن أمثلة ذلك
أيضًا :ما يروى أن أبا حنيفة واألوزاعي رمحهما اهلل التقيا فقال األوزاعي أليب حنيفة :ما لكم ال ترفعون أيديكم عند
الركوع وعند الرفع منه؟! فقال أبو حنيفة :ال نفعل ذلك ملا حدث به ابن مسعود ه أنه صلى خلف رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلمكثريا فلم يره يرفع يديه إال يف تكبرية اإلح رام َّمُث ال يعود إىل شيء من ذلك .فقال األوزاعي كيف وقد
روى ابن عمر أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كان يرفع يديه عند تكبرية اإلح رام ،وعند الركوع ،وعند الرفع منه،
فقد اَّتبع كل منهما أثرًا يروى عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من طريق يثق به وأمثال هذا كثري من املناظرات اليت
ك انت حتدث بني العلم اء ،فلم ا دونت املذاهب وأَخ َذ أتباعه ا يف اس تنباط أص وهلا ك ان من عملهم أن تعرض وا
للمذاهب األخرى ،والرّد على أدلة خمالفيهم ،وكان هذا ما يسمى باالنتصار للمذاهب ،ورمَّبا جرهم ذلك يف العصور
املتأخرة إىل التعصب واالندفاع وراء تشيعهم ملذاهبهم وحبهم لبيان أَّن ما يعتنقونه أحق باالتباع وأوىل به ،إاَّل أَّن ذلك
مل مينع من وجود كثري من العلماء املنصفني الذين كانوا ينتصرون للح ِّق أين كان وأي ًا كان قائله مصداقًا لقول رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم( :ال تزال طائفة من أميت ظاهرين على احلق حىت تقوم الساعة)
ذكرنا أَّن املقارنة نشأت مع نشأة املذاهب وأَّن أصلها يرجع إىل ما كان حيدث من مناظرات بني العلماء،
فلما جاء عصر التدوين وهو يبدأ بوجه عام من صدر الدولة العباسيةَّ ،مُث استمر كث ريًا بعد ذلك ،وأهم ما وصل إلينا
مما ميكن أن تصل إليه أيدي الباحثني ما جاء يف كتب اإلمام الشافعي ختلله من مناظرات كانت بينه وبني غريهَّ ،مُث
كت اب «التفس ري الكب ري» البن جري ر الط ربي ،وكث ري من التفاس ري األخ رى؛ ككت اب ج امع أحكام الق رآن للقرط يب،
و(تفس ري آي ات األحكام) البن الع ريب واجلَّص اص ،و«تفس ري الفخ ر ال رازي ،والتفس ري املس ّم ى بـ« :فتح الق دير»
للشوكاين وغريها .
َّمُث من كتب الُّس َّنة شرح البخ اري املس مى بـ« :فتح الب اري لإلم ام ابن حج ر العس قالين ،و«شرح مس لم»
لإلمام النووي ،وشرح منتقى األخبار املسمى بنيل األوطاره للشوكاين ،وشرح بلوغ املرام املسمى سبل السالم للصنعاين
وعمدة األحكام البن دقيق العيد.
ومن كتب املذاهب« :فتح الق دير» للكم ال بن اهلم ام ،شرح كت اب اهلداي ة» ،وكت اب اجملم وع» للن ووي،
«شرح كت اب امله ذب للش ريازي وكت اب «املغ ين البن قدام ة احلنبلي ،ومن الكتب العام ة :بداي ة اجملته د» البن رشد
الص غري وأعالم املوقعني البن القيم ،و«احمللى» البن ح زم الظ اهري ،على م ا يف األخ ريين مما ي وجب على املطل ع أن
يأخذ حذره.
أ ـ االجتهاد :
ه و يف اللغ ة ب ذل غاي ة الطاق ة يف حتّم ل أم ر شاق ،وعن د الفقه اء ه و ب ذل الفقي ه غاي ة وس عه يف اس تنباط
األحكام الش رعية من أدلته ا ،ا ،وه و هبذا املع ىن خ اص بطائف ة من أه ل العلم منحهم اهلل ق درة يف الفهم ون ورًا يف
البصرية وذكاء قويًا وملكة راسخة يف أنفسهم يستطيعون هبا النظر يف أدلة األحكام من كتاب اهلل تعاىل وُس َّنة رسول
اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم وغريه ا واس تنباط م ا أفادت ه من األحكام ول ذا ي روى عن اإلم ام مال ك هلل أَّنه ُس ئل عن
االجتهاد ما هو فقال :إَّنه نور يقذفه اهلل يف قلب املؤمن يرى به احلق حقًا.
وقد كان االجتهاد يف عصر الَّنِّيب صلى اهلل عليه وسلم منه عليه الصالة والسالم ومن صحابته ،فقد اجتهد
عليه الصالة والَّس الم يف كثري من احلوادث ،ومن ذلك أَّنه نزل يف غزوة بدر منزًال فقال أحد الصحابة (وهو اُحلباب
بن املنذر) :أهذا منزل أمرك اهلل به؟ أم هو الرأي واحلرب واملكيدة؟ فقال عليه الَّص الة والسالم :بل هو ال رأي واحلرب
واملكي دة» ،فق ال احلب اب :أرى أن نتح ّول من ه إىل م اء ب در ،فتح ّول علي ه الَّص الة والَّس الم إىل ذل ك املكان ومن
اجتهاد الصحابة ما ثبت أَّن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم َح كم سعدبن معاذ يف بين قريظة ،بن َّمُث قال له بعد أن
َح َك م فيهم« :لقد حكمت حبكم اهلل يا معاذ ،إىل غري ذلك من الوقائع الكثرية ،وقد سبق لك أَّن اجتهاد النيب صلى
اهلل علي ه وس لم واجته اد ص حابته يف عه ده ،ك ل منهم ا يرج ع إىل ال وحي؛ ألَّن اهلل تع اىل ال يق ّر نبي ه علي ه الص الة
والسالم على اخلطأ ،كما أّنه عليه الَّص الة والَّس الم ال يق ّر أحدًا من الصحابة على خطأ ،بل ال بد من إرشادهم إىل
الصواب .
هذا يف عهد الُّنب َّوة ،فلما انتقل الرسول صلى اهلل عليه وسلم إىل الرفيق األعلى ،ومحل الَّص حابة بعده عبء
الفتوى ،اضطروا إىل االجتهاد ،فكان منهم السابقون املّربزون يف االجتهاد الذين ُيرجع إليهم يف الفتوى ومنهم دون
ذلك ممن ليسوا أهال لالجتهاد ،فكان هؤالء يسألون أويل العلم فيما يعرض هلم من ح وادث يريدون معرفة أحكامها،
عمًال بقوله تعاىل َ :نْس َتُلوا َأْه َل الِّذْك ِر ِإن ُك نُتْم اَل َتْع َلُم وَن ،وقد وَّرث الصحابة علمهم ملن بعدهم من التابعني فمش وا
على سريهتم ،واقتدوا هبديهم واَّتبعوا سنتهم يف ذلك ،وهكذا انتقل العلم من طبقة إىل أخرى.
ومن ذلك يعلم أَّن الَّناس بالنظر إىل العلم باألحكام الشرعية فريقان :
أحدمها طبقة اجملتهدين وهم من وهبهم اهلل ملكة االجتهاد اليت يستطيعون هبا استنباط األحكام من أدلتها .
والفريق الثاين :طبقة املقلدين الذين ال يستطيعون ذلك فسبيلهم إىل العلم أن يسألوا عنه ويتعلموه ويأخذوا
بقول األولني.
ب -التقليد :
هو العمل بقول الغري دون معرفة الدليل أو دون معرفة وجه الداللة فيه ،وهو إمَّن ا يكون ملن ليست لديه ملكة
االجتهاد ،بأن ال يكون من أهل النظر يف الدالالت والقدرة على استنباط األحكام من أدلتها ،وقد كان هذا الصنف
من الناس موجودًا من لدن عصر الَّص حابة ومن بعدهم إىل عص رنا ه ذا ،إذ إَّنه ضرورة من ضرورات احلياة لتفاوت
الناس يف مداركهم واستعدادهم الفطري ،إذ ليس كل واحد من الناس عنده أهلية النظر واالستنباط ،ويشهد هلذا قوله
تعاىلَ﴿ :و َلْو َرُّدوُه ِإىَل الَّرُس وِل َو إىل أويل األمر منهم لعلمه اَّلِذ يَن َيْس َتْنِبُطوَنُه ِم ْنُه ْم ،وقول الرسول صلى اهلل عليه وسلم:
(هال سألوا إذ مل يعلموا إمَّن ا شفاء العي السؤال).
وهلذا أيض ًا أوجب اهلل على من مل يعلم أن يرج ع إىل مـن يـعـلـم فق ال َ :فاس أُلوا َأْه َل ال ِّذْك ِر ِإن ُك نُتْم اَل
َتْع َلُم وَن .
ومن رمحة اهلل تعاىل بعباده أَّنه مل جيعل االجتهاد فرض ًا على مجيع األف راد ،فإنه يعلم أَّن مصاحلهم شىّت ،وأَّن
مط الب احلي اة خمتلف ة م ا بني حاج ات ال دنيا وال دين ،فل و كل ف األف راد مجيع ا حتص يل وس ائل االجته اد يف ال دين
لتعطلت مصاحل الدنيا؛ ألَّن حتصيل وسائل االجتهاد يستدعي تفرغ ًا هلا قد يؤدي إىل ضياع غريها من مصاحل الدنيا،
فجع ل االجته اد واجب ًا كفائي ًا إذا ق ام ب ه البعض س قط عن الب اقني ووجب عليهم األخ ذ بق ول غ ريهم من العلم اء،
ويرشد إىل ذل ك قول ه تع اىلَ :وَم ا َك اَن اْلُم ْؤ ِم ُن وَن ِلَينِف ُروا َك اَفُة فل وال نف ر من ُك ِّل ِفْرَق ٍة ِّم ْنُه ْم َطاِئَف ٌة ِلَيَتَف َّق ُه وا يِف ال ِّديِن
َو ِلُينِذ ُروا قومهم إذا رجعوا إَلْيِه ْم َلَعَّلُه ْم ْحَيَذ ُروَن )
وعلى حكم جواز التقليد انعقد إمجاع السلف من الصحابة والتابعني ،حيث كان الع وام يف زماهنم إذا وقعت
هلم حادثة حتتاج إىل بيان احلكم فيها فزعوا إىل اجملتهدين من الصحابة أو التابعني ليسألوهم عن اهلل فيها ،وكان هؤالء
جييب وهنم من غ ري أن ينكروا عليهم ذل ك ،أو ي أمروهم ب أن جيته دوا ليعرف وا احلكم بأنفس هم ،فكان ذل ك إمجاع ًا من
الصحابة والتابعني على أّن من مل يستطع االجتهاد فطريق معرفته لألحكام هو سؤال اجملتهدين.
ج -التلفيق :
حيث ثبت أن التقلي د ض رورة من الض رورات ال يت أجلأ إليه ا تف اوت الن اس يف اس تعدادهم الفط ري ،وتن وع
مصاحلهم الدينية والدنيوية نقول :
إَّن من املقلدين من إذا وقعت له احلادثة اليت حيتاج إىل معرفة حكمها يستفيت فيها أحد اجملتهدين ،حىّت إذا
علم احلكم منه عمل به ومل يسأل غريهّ ،مُث كّلما وقعت حادثة سأل ذلك نفسه وأخذ بقوله ،فهذا املقلد مقلدًا يعترب
إلم ام واح د ،ومن املقلدين من يستفيت عددًا من األئم ة يف املسألة فيفتيه كل حبكم قد خيالف م ا يقول به اآلخر؛
كمن توض أ فمس ح بعض رأس ه يف وض وئهّ ،مُث س أل مالكي ًا أو شافعيًا عن نقض الوض وء خبروج ال دم فأفت اه بع دم
النقض بهَّ ،مُث سأل حنفي ًا :عن نقض الوضوء باللمس فأفتاه بعدم النقض به أيض ًا فإذا صلى بعد ذلك فقد ص ّلى
بوضوء ال يصح عند املالكية لعدم مسحه مجيع الرأس ،وهم جيعلون مسح مجيع ال رأس فرض ًا ،وال يصح عند الشافعية
النتقاضه باللمس عندهم كما ال يصح عند احلنفية النتفاضه خبروج الدم ،وقد عمل حينئذ يف تقليده هذا جبملة آراء
كّل منها مأخوذ من مذهب خيالف مذهب اآلخر ،وهذا ما يسمى لتلفيق .
وقد اختلف العلماء يف حكمه فمنهم من منعه ومنهم من أجازه وهو الصحيح؛ ألَّنه من التيسري يف الدين
ورفع احلرج الذي هو إحدى القواعد اليت قام على أساسها التش ريع اإلسالمي ،كما قال تعاىل :وما جعل عليكم يف
الدين من حرج ،وقالُ :يِري ُد اُهلل ِبُك ُم اْلُيْس َر َواَل ُيِري ُد ِبُك ُم اْلُمْس َر ) ،وقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :إن هذا
ال دين م تني ،ولن يش اد ال دين أح د إال غلب ه ،فيس روا وال تعس روا» ،ول ذا ق ال اإلم ام الق رايف يف «ال ذخرية»« :انعق د
اإلمجاع على أّن أسلم فله أن يقلد من شاء من العلماء من غري حجر ،وأمجع الصحابة رض وان اهلل عليهم على أن من
استفىت أبا بكر وعمر هلا وقّل دمها ،فله أن يستفيت أبا هريرة ومعاذ بن جبل وغريمها ،ويعمل بقوهلما من غري نكري»،
وقال صاحب «التيسري يف شرح التحرير :ليس هناك دليل من نص أو إمجاع يدّل على أَّن الفعل إذا كانت له شروط
فإنه جيب على املقلد أن يتبع جمتهدًا واحدًا يف هذه الشروط اليت يتوقف عليها هذا الفعل ،فإَّنه إذا جازت خمالف ة
بعض األئم ة يف ك ّل م ا ذهب إلي ه ،ك ان من ب اب أوىل أن جتوز خمالفت ه يف بعض م ا ذهب إلي ه ،ه ذا فض ًال عن أّن
األئمة أنفسهم مل يلزم وا أحدًا بالتزام مذاهبهم ،فقد نقل عن اإلمام مالك أَّنه مل يرض للخليفة املنصور العباسي أن
حيمل الناس مجيعًا على العمل مبا يف موطئه على ماكان من حتريه يف روايته ،بل ثبت عنهم أن أخذ أحدهم باجتهاد
غريه ترخصًا أو موافقة جلماعة املسلمني ،فقد ثبت عن اإلمام أمحد أَّنه يرى نقض الوضوء باحلجامة َفُس ئل عمن رأى
اإلمام احتجم وقام إىل الَّص الة دون أن يتوضأ أيصلي خلفه؟ فقال :كيف ال أصلي خلف مالك وسعيد بن املسيب؟
كما ثبت عن أيب يوسف صاحب أيب حنيفة أَّنه اغتسل من بئر وص َّلى اجلمعة مث ت بنَّي له بعد الصالة أّن هذا البئر
كانت فيه ميتة فلم يعد الَّص الة ،وقال :نأخذ بقول إخواننا احلجازيني.
إىل أمثال هذا من الشواهد اليت تدل على مقدار تسامح األئمة ،واحرتام بعضهم بعض ًا ،وعدم عيب أحدهم
على خمالفيه يف الرأي والفتوى.
ومن هذا كله يعلم أن التلفيق ال بأس به ،ولذا شاع قول العلماء( :مذهب العامي مذهب مفتيه )،و«من
قّلد عاملا لقي اهلل ساملًا»
٦ـ ما جيب أن يتوفر يف املقارنة واملقارن
إذا علمنا أَّن الَّناس خيتلفون بالنسبة إىل علمهم بأحكام الشريعة ،وأَّن منهم أويل العلم من اجملتهدين ،ومنهم
دون ذلك من املقلدين لتلك الطائفة السابقة ،وأن ليس كل مسألة من مسائل الفقه متفق ًا على حكمها ،بل كث ريًا ما
اختلف العلماء يف حكم املسألة الواحدة ،وذلك من رمحة اهلل تعاىل بعباده إذ جيوز أن يأخذ السائل مبا أفتاه به واحد
أو أكثر من العلماء إذا علمنا ذلك ،فإَّننا نقول :إَّن املفيت جيب أن يكون على بصرية فيما أفىت به ،وذلك بأن ينظر
يف أق وال العلماء ويق ارن بينه ا حىّت يعلم أرجحه ا فيتخ ذه ديدن ه يف االفتاء والقض اء وذلك يس تدعي منه أن يتحلى
بصفات خاصة أمهها ما يأيت:
أ -أما املقارنة نفسها فيجب أن تكون من أجل الوقوف على أقوال الفقهاء ومعرفة وجهة نظرهم يف املسألة
ال يت اختلف وا فيه ا والعلم بأدلته ا ال يت اس تندوا إليه ا ،ليعلم أي آرائهم أرجح دليًال ،وأق رب مس ايرة ل روح التش ريع ،وال
جيوز أن تكون لتلمس تقوية مذهب معني تعصبًا له وغض ًا لغريه ،كما وقع ذلك من بعض املتأخرين الذين تعصبوا
ملذاهب أئمتهم وحاولوا االنتصار هلا ،ولو أذاهم ذلك إىل النيل من شخصية غريهم من األئمة فليس ذلك من شيمة
العلماء املنصفني ،بل إّن هذا العمل مذموم شرعًا؛ ألَّنه مدعاة إىل التفريق بني املسلمني وتشتيت كلمتهم ،وقد هُن ي
ِم ِد ِذ
عن ه يف اإلس الم بقول ه تع اىلَ﴿ :واَل َتُك وُن وا َك اَّل يَن َتَفَّرُق وا َواْخ َتَلُف وا ْن َبْع َم ا َج اَءُه ُم اْلَبِّيَنْت َوَأَو َلْي َك ُهَلْم َع َذ اٌب
َعِظ يٌم) وإذن ف الواجب أن يكون املقص ود من املقارن ة ه و التع رف على أق وى اآلراء وأقرهبا ل روح التش ريع ومس ايرة
قواعده العامة .
ب ـ وأما ما جيب أن يتحلى به املقارن ،وهو من يتصدى للمقارنة ،فهو بوجه عام أن يكون واسع االطالع
يقظًا أمينًا يف نقله منصفًا يف حكمه ،وذلك إمنا يكون مبراعاة األمور اآلتية:
1ـ أن يتح ّرى النقل الصحيح من كتب األئمة املعرتف بصحة نسبتها إىل أصحاهبا وأن يعمد يف نقله إىل
أقوى اآلراء عند كل مذهب ممن يقارن بني مذاهبهم ،فال جيوز له أن يقصد إىل نقل غري القوي من األق وال ليتمكن
من رّده .
٢ـ وبعد أن ينقل أقوى اآلراء جيب أن يعمد إىل أقوى ما ذكروا من األدلة عليه ،وال يتعّم د االقتصار على
دليل فيه ضعف ظاهر ،ليتأتى له رده بسهولة.
3ـ أن يكون عاملا باألص ول ال يت اعتم دها ك ل إم ام يف طريق ة اس تنباطه ممن يق ارن بني آرائهم يف املس ألة،
ليعلم وجهة نظرهم يف استنباط األحكام من أدلتها ،وليدرى أيهم سار على قواعده اليت اعتمدها ،وأيهم خالفها.
٤ـ أن يق ارن بني ه ذه األدّل ة بع د اإلحاط ة بكيفي ة داللته ا ،وذل ك ب أن يناقش ها مناقش ة جتري على س نن
القواعد العلمية املعرتف هبا يف املناقشات ،فمثًال ال جيوز له أن يدعي ضعف حديث صححه األئمة ،أو يدعي صحة
حديث مل يصححه أولو الشأن من أهل التصحيح والتضعيف ،بل جيب عليه أن يلتزم القواعد املسلمة يف مناقشة كل
دليل ،حىت تصبح مناقشته صحيحة مقبولة.
5ـ أن يرّج ح من األق وال بعد مناقشة أدلتها ما يشهد له الدليل القوي ،وهو ما سلم دليله من االع رتاض
عليه ،أو أمكن اإلجابة على ما ورد عليه من مناقشات حبسب ما يغلب على ظنه ،غري متأثر مبا سبق له أن اعتاده
من مذهب معني حىت يكون حكمًا عادًال جمردًا من مجيع املؤثرات ،إاَّل من االنتصار للحق.
-7فائدة املقارنة
إن من يدرس الفقه اإلسالمي املقارن حيصل على فوائد من دراسته تعود عليه بالنفع يف نفسه ،كما تعود على غريه
من أفراد اجملتمع ،وميكن أن نشري إىل بعض تلك الفوائد فيما يلي:
- 1أن الدارس هلذا النوع من الفقه يصبح حميطًا بكثري من املسائل اليت اختلفت فيها آراء الفقهاء ،ولذلك
ميكنه أن يساير ما تقضي به احلاجة عند عروض أي مسألة ،فيختار من أقوال العلماء فيها ما هو أليق ببيئته وحاجة
الن اس يف ذلك فيف تيهم مبا يدفع حاجتهم ،وهو على علم مبا أفىت به دون أن يوقعهم يف احلرج والعنت ،م ع إمكان
اخلروج منه ،ال سيما عند الضرورة وحبذا لو كان ما يفتيهم به أو يقضي به بينهم هو ما ترّج ح دليله عند املقارنة،
وتلك فائدة علمية وعملية تعترب الّثمرة احلقيقية من دراسة الفقه املقارن .
– ۲ومن تلك الفوائد االطالع على أق وال األئمة اجملتهدين يف املسائل اليت اختلف وا فيها وقارن بينها فعلم
دليل كل منهم ،ووقف على طريقة استنباط احلكم من هذا الدليل ،ويصبح الدارس بعد هذا االطالع على بصرية يف
دينه خترجه من عداد املقلدين تقليدًا حمضًا قد ُيذم عليه من يستطيع النظر يف األدلة.
٣ـ أَّنه إذا نظر فيما استند إليه كل إمام من األدلة يعلم أن منها ما يرجع إىل الّنصوص من كتاب اهلل ،أو
ُس َّنة رسول اهلل ،ومنها ما يرجع إىل غري ذلك من قياس أو قاعدة عامة من قواعد التش ريع ،وبذلك يتبني له فساد
زعم من يدعي أن فقهاء الش ريعة اإلسالمية قد استمدوا بعض األحكام من الق وانني الرومانية أو غريها من الق وانني
الوض عية ،أو الس ماوية الس ابقة ،أو أهّن م ق د ت أثروا يف فقههم بش يء من ذل ك فيص بح على يقني ال خياجله شك يف
استقالل الشريعة اإلسالمية ،واستقالل فقهائها عن سائر ما سواها من التشريعات .
٤ـ أن من درس الفقه املقارن يعرف األصول والقواعد اليت اعتربها كّل إمام يف استنباطه األحكام من أدلتها،
فترتىب عنده ملكة النظر يف األدلة ،وكيفية استنباط األحكام منها ،حىّت ال تكاد تعرض عليه حادثة من احلوادث إاَّل
أمكنه أن يعطيها ما يليق هبا من األحكام ،فض ًال أنه عن بعد ذلك تطمئن نفسه إىل ما يعمل به من األحكام ،أو
يفيت به غريه أو يقضي به بني الّناس ،إذ ال ُيقدم على ذلك إاَّل وهو يعلم الدليل على ما أقدم عليه .
- 5ومن الفوائ د أيض ًا م ا يتض ح ل ه من مق دار جه د األئم ة الش اق يف اس تنباطهم األحكام من أدلته ا،
فيكون من اجلدير به أن حيرتم مجيع األئمة على الس واء دون مفاض لة بينهم أو تعص ب ألحدهم على غ ريه مىت علم
وجهة كل منهم يف الدليل الذي ارتكز عليه يف استنباطه ،وأيقن أن كال منهم مل خيرج عن دائرة األدلة الشرعية ،وال
س يما إذا ع رف أَّن كال منهم ك ان حيرتم رأي غ ريه ،فحقي ق ب ه أن يقت دي هبم يف س ريهتم وه ديهم مق درًا جه دهم،
وحمرتما جلميع آرائهم
فتلك مجلة من الفوائد اليت خيرج دارس الفقه املقارن هبا من دراسته .
-8تفصيل أسباب االختالف بني العلماء
سبق أّنه مل يكن هناك خالف يف األحكام يف عصر النبوة ،وأَّن اخلالف يف عصر الَّص حابة كان قليًال ،حىت
كاد يلحق بالنادر ،وكان سبب ندرته اجتماع الصحابة يف العصر األول يف مقر اخلالفة ،فلما جاء عصر عثمان له
وانتش ر الص حابة يف األمص ار ُمعلمني وقض اة ومف تني ،ختّرج على أي ديهم يف ك ّل مص ر من األمص ار ال يت اس توطنوها
علماء اتبعوا طريقهم ،وساروا على هنجهم يف الفقه والفتوى والقضاء ،ونشأ عن ذلك اتساع دائرة اخلالف بني أق وال
من بعدهم من األئمة والعلماء من أصحاب املذاهب املدونة وغريهم .
وإليك تفصيل الكالم على كل من هذه األسباب حبسب ترتيبها املذكور :
قد ينشأ اختالف األئمة يف احلكم بسبب كون اللفظ حمتمال ألكثر من معىن ،ويرجع هذا إىل عدة حاالت:
احلالة األوىل :أن يكون للفظ أكثر من معىن يف اللغة وذلك ما يعرب عنه باالشرتاك اللفظي ،حنو لفظ القرء
بفتح الق اف وض مها ،حيث يطل ق يف اللغ ة ت ارة على احليض .كم ا يطل ق ت ارة أخ رى على الظه ر ،كم ا يطل ق على
االنتق ال من أح دمها إىل اآلخ ر ،ومن ذل ك نش أ اختالف العلم اء يف ع دة املطلق ة غ ري احلام ل إذا ك انت من ذوات
األق راء ،تبع ًا الختالفهم يف املراد من القروء يف قوله تعاىلَ( :واْلُم َطَّلَق ُت يرتَّبْص َن ِبَأنُفِس ِه َّن َثَلَثَة ُقروو اي راد به الظهر أو
احليض بعد ما اتفقوا مجيعًا على أّن املراد أحدمها فقط ،وإمنا اخلالف بينهم يف تعيني أحد املعنيني ،فذهب مجاعة من
العلماء منهم احلنفية وأحد القولني عند احلنابلة إىل أن املراد بالقرء هو احليض؛ ألَّنه أكثر ما استعمل يف لسان الشرع
هبذا املعىن ،كما يف قوله صلى اهلل عليه وسلم للمستحاضة :دعي الصالة أيام أقرائك ؛ أي األيام اليت كنت حتيضني
فيها ،وعلى هذا حكموا بأن املطلقة من ذوات القروء تعتد بثالث حيضات .
وذهب كث ري من العلم اء غ ريهم ومنهم املالكي ة والش افعية إىل أن املراد من الق رء ه و الظه ر ،أو االنتق ال من
الظه ر إىل احليض ،اس تنادًا إىل م ا ثبت أّن الّن يب ص لى اهلل علي ه وس لم هنى عن الطالق يف احليض ،وتال قول ه تع اىل:
﴿ِإَذا َطَّلْق ُتُم الِّنَس اَء َفَطِلُق وُه َّن ِلِع َّد ِهِتَّن ففهم من ذلك أّن الطالق إمنا جيوز يف الوقت الذي يصح للم رأة أن تعت ّد فيه،
و ا كان الطالق ال جيوز ِإاَّل يف الّطهر كان الّطهر هو الوقت الذي تعتد به املرأة ،وإذن فقد حكم وا بأَّن املطلقة إذا
َّمل
كانت من ذوات القروء تعتد بثالثة أطهار .
احلال ة الثاني ة :أن يكون اللف ظ ل ه مع ىن حقيقي يف اللغ ة ،ومع ىن آخ ر حقيقي يف ع رف الش رع ،ب أن يكون
الشرع قد نق ل اللف ظ من معناه اللغ وي ،واس تعمله يف حقيقة شرعية كلف ظ النكاح ،فإَّنه يف أص ل اللغ ة يطلق على
الوطء ،ولكّن الشرع استعمله يف العقد ،فصار لفظ النكاح عند اإلطالق حيتمل معنيني ،أحدمها لغوي هو الوطء،
وآخر شرعي وهو العقد ،فاختلف العلماء يف أنه إذا ورد مطلقًا يف لسان الشرع من غري قرينة تدّل على املراد منه؛ ه ل
ي راد به املعىن اللغوي نظ رًا ألَّنه األصل ،أو ي راد به الشرعي نظ رًا الستعمال الشارع؛ ومن هنا اختلف وا يف قوله تعاىل:
﴿َواَل َتنِكُح وا َم ا نكح اباُؤُك م ِّم َن الِّنَس اِء ( ،فذهب احلنيفة إىل أن املراد من النكاح يف قوله تعاىلَ﴿ :م ا َنَك َح َواَباُؤُك م
ِّم َن الِّنَس اِء ( هو الوطء ،وعلى هذا فقد حكموا بأَّن املرأة اليت يطؤها الرجل مطلق ًا ولو بزين حترم على ابنه وأبيه وسائر
فروعه وأصوله نظرًا ألَّن لفظ النكاح قد ُأطلق بال قرينة ،فيجب أن حيمل على حقيقته وهي هنا الوطء؛ ألَّن احلقيقة
مىت أمكنت وجب أال يعدل عنها إىل اجملاز إال بقرينة ،وهنا قد أمكنت إرادهتا وال مانع منها ،فوجب أن حيمل اللفظ
عليها .
وذهب غريهم من األئمة كاألئمة الثالثة إىل أن املراد من النكاح يف اآلية هو العقد ،فحكم وا بأَّن املرأة ال
حترم على االبن إذا وطئها أبوه بالزىن وال حترم على أص وله وفروعه كذلك ،بل ال حُي ِّرم إاَّل العقد أو الوطء املستند إىل
سبب حيّل وطأها كامللك ،وذلك ألَّن لفظ النكاح صار حقيقة شرعية يف العقد ،فإذا أطلق يف لسان الشرع ،وجب
أن يراد به العقد؛ ألَّن احلقيقة الشرعية أوىل من احلقيقة اللغوية عند إطالق اللفظ يف لسان الشارع.
وإذن فقد آل خالف األئمة إىل أن لفظ النكاح حينئذ هو عند بعضهم حقيقة يف الوطء ،جماز يف العقد.
وعند اآلخ رين قد أصبح حقيقة يف العقد جمازًا يف الوطء ،أو بعبارة أخرى إذا تردد اللفظ بني حقيقة لغوية وأخرى
شرعية فأيها يكون املراد به عند اإلطالق؟ فاجلمهور على تقدمي احلقيقة الشرعية ،ورمبا ترجح جانبهم هنا مبا يروى أّن
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال« :ال حيرم بالزنا حالل«
احلال ة الثالث ة :أن يكون اللف ظ ق د اختل ف يف معن اه احلقيقي عن د اإلطالق ،كلف ظ األم ر أو النهي ،حيث
اختل ف العلم اء يف حقيق ة ك ّل منهم ا عن د اإلطالق ،فق ال بعض العلم اء :إّن األم ر حقيق ة يف الوج وب وإَّن الّنهي
حقيقة يف التحرمي ،فإذا أطلق أيهما بال قرينة وجب أن ينصرف األمر إىل الوجوب ،وأن ينصرف الّنهي إىل التحرمي،
وقال بعض آخر من العلماء :إّن حقيقة األمر هو الندب ،وحقيقة النهي هي الكراهة ،فإذا أطلق أيهما محل األمر
على الندب ومحل النهي على الكراهة ،فأما إذا وجدت قرينة تدّل على املراد يف كل منهما ،أو يف أيهما ،وجب أن
يكون املراد به مادلت عليه القرينة ،أما األمر فمثاله من الكتاب الكرمي قوله تعاىلَ﴿ :يَأُّيَه ا اَّلِذ يَن َءاَم ن وا إذا تداينم
ي دين إىل أج ل مس مى َف اْك ُتُبوه ،وقول ه تع اىل يف نفس اآلي ةَ﴿ :وَأْش ِه ُد وا ِإَذا تبايعت ه ف إَّن بعض العلم اء ذهب إىل أن
هذين األمرين للوجوب فحكم بأن كتابة الدين فرض الزم ،وأَّن اإلشهاد على البيع كذلك ال بد منه ،فمن ترك كتابة
الدين ،أو اإلشهاد على البيع كان آمثًا ،وهذا مذهب الظاهرية ومن وافقهم؛ ألهَّن م محلوا األمر فيهما على الوجوب ،إذ
القرينة تص رفه عنه عندهم وه ذه هي حقيقته عن د مجه ور العلم اء ،غ ري أن اجلمهور محل وا األم ر فيهم ا على الندب
واإلرشاد ،والتمسوا لذلك قرينة تصرفه عن الوجوب.
فمنهم من قال :إن القرينة هي ما ثبت يف الُّس َّنة أّن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ابتاع من أعرايب بعريًا ،ومل
يشهد حىّت تنازع معه األع رايب بعد ذلك ،فشهد له خزمية ،ومل يكن حاض رًا ،فدل ذلك على أّن الشهادة على البيع
ليست فرضًا ،وإمنا هي إرشاد من اهلل تعاىل لالحتياط ،درءًا للتنازع ،وحفظًا لألموال وكذلك قالوا يف كتابة الدين أيض ًا
بدليل قوله تعاىل﴿ :فإن أمن بعُض ُك م َبْع ًض ا َفْلُيَوِد اَّلِذ ي اْؤ ِمُتَن َأَم َنَت ُه ،وأما من جيعل األمر حقيقة يف الندب فلم حيتج
إىل قرينة تصرفه عن الوجوب؛ ألَّنه يقول :إَّنه حقيقة يف الندب ،واألصل احلمل على احلقيقة .
ومن أمثلته أيض ًا قوله تعاىلَ ﴿ :واْلَوِلَد اُت ُيْرِض ْع َن َأْو َل َد ُه َّن فإَّن العلماء اختلف وا يف قوله ُ( :يْرِض ْع َن ) ،إذ إّنه
مضارع يراد به األمر باإلرضاع ومقتضى إسناده إىل نون النسوة ،وهن الوالدات أن يكون اإلرضاع واجب ًا عليهن ،محًال
لألمر على حقيقته من الوجوب ،وهذا هو مذهب املالكية ،وذهب غريهم إىل أّن األمر هنا للندب ،ولذلك التمس وا
له قرينة تصرفه عن الوجوب ،وهي قوله تعاىلَ﴿ :و َع َل اْلَمْو ُلوِد َل ُه ِرْزُقُه َّن )،فقالوا :إن مقابلة اإلرضاع بالّرزق دليل
على أنه غري واجب.
وأما من يقول :إّن األمر للندب حقيقة فلم حيتج إىل قرينة ،إاَّل إذا كان ممن يقول :إّن إرضاع الطفل واجب
على األم ،ويف القرآن كثري من األمثلة هلذه احلالة.
وأم ا أمث ال األوام ر يف الُّس َّنة فكث رية ،منه ا قول ه :إذا ول غ الكلب يف إن اء أح دكم فليغس له س بعًا ،إح داهّن
بالرتاب فإَّن اجلمهور قد محل األمر يف قوله « :فليغسله سبعًا على الوجوب ،بناء على أّنه حقيقته ،وال يعدل عنها
إىل الندب إاَّل إذا وجدت قرينة تصرفه إليه ،فحيث مل توجد هذه القرينة وجب محله على احلقيقة وهي الوجوب على
الراجح وحكموا بأَّن َغْس ل اإلناء الذي ولغ الكلب فيه واجب ،كما جيب أن يكون سبعًا ،إحداهن بالرتاب ،غري أن
األحناف اكتف وا بالغسل ثالثا ملا ثبت عندهم أن أبا هريرة له وهو راوي احلديث املذكور كان يغسل ثالث ًا ،وعندهم
أن عمل الراوي مقّد م على روايته إذا خيالفها؛ ألَّنه ال خيالفها إال ملوجب.
وأم ا املالكية فق د محل وا األم ر على الندب ،فحكم وا بأن غسل اإلناء من ولوغ الكلب مندوب ،والتمس وا
ل ذلك قرين ة تص رف األم ر من الوج وب إىل الن دب فق الوا :إن غس ل اإلن اء ليس لنجاس ة الكلب ؛ ألَّن الكلب إذا
أمسك الصيد على صاحبه مل جيب غسل موضع فمه؛ لقوله تعاىل( :فعل وا مما أمسكن عليكم فقد أباح أكل مصيد
الكلب دون أن ُيغس ل موض ع فم ه ،وإذا ثبت أّن موض ع فم ه ليس بنجس ل زم من ذل ك أن اإلن اء ال ذي ول غ في ه
الكلب مل يتنجس ،وحينئذ يكون األمر بغسله للنظافة تعبدًا ،واألصل يف األوامر اليت ترد حث ًا على النظافة أن تكون
للندبَّ ،مُث إّن ما يدل على أن الغسل تعبدي حتديده بالسبع ،إذ لو كان للتطهري لكان ال واجب أن يكون دائ رًا مع
زوال الَّنجاسة ،حبيث لو زالت بأقل من سبع اکتفی به وإذا مل تزل بالسبع وجب الزيادة عليها حىّت تزول ،وهذا فض ًال
على أّن كّل حي طاهر عندهم ،وأما على القول بأن حقيقة األمر هي الندب ،فال حاجة إىل القرينة اليت تدّل عليه،
إاَّل إذا كانوا يقولون بأن غسل اإلناء من ولوغ الكلب واجب عندهم فيلتمسون القرينة لصرف األمر ههنا من الندب
إىل الوج وب ،ورمَّبا وج دت القرين ة يف ه ذا احلديث من رواي ة أخ رى وهي أن رس ول اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم ق ال:
«طهارة إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبعًا ،إحداهن بالرتاب«.
ومن األمثل ة أيض ًا قول ه ( :ي ا معش ر الش باب من اس تطاع منكم الب اءة فلي تزوج ،فإن ه أغض للبص ر وأحص ن
للفرج ،وقد قال الظاهرية ومن وافقهم إّن األمر يف قوله « :فليتزوج» يفيد الوجوب ،محًال للفظ على حقيقته وخالفهم
اجلمهور فحكموا بأَّن األصل يف حكم الزواج أنه مندوب ،وقالوا :إَّن من القرائن على الندب تعليل األمر يف احلديث
بأَّنه أغض للبصر وأحصن للفرج ،إذ مقتضى هذا التعليل أن من يستطيع غض بصره وإحصان فرجه بغري الزواج مل
يكن الزواج واجبًا عليه ،عمًال بالقاعدة اليت تقتضي بأَّن احلكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا .
هذه بعض األوامر يف الكتاب والُّس َّنة ،وأَّم ا الّن واهي فمن أمثلتها يف الكتاب الكرمي قوله تعاىلَ﴿ :واَل ُتْس ِرُفوا
إنه ال ِحُيُّب اْلُمْس ِرِفَني ) ،فإَّن من العلماء من محل النهي عن اإلس راف والتبذير على حقيقته من احلرمة مطلق ًا ،فحكم
بأن التبذير ،حرام ،وبذلك أجاز احلجر على املبذر ولو كان تبذيره يف مباح أو طاعة ومنهم من قال :بأن التبذير يف
الطاعة ال حيرم حىت صار من أق واهلم املشهورة :ال إس راف يف طاعة ،وهلذا قالوا :إَّن من أنفق مجيع ماله يف طاعة ال
جيوز احلج ر عليه ،وقال فريق آخ ر من العلم اء :ال حيرم التب ذير إاَّل يف معص ية ،فمن أنف ق مال ه يف طاع ة أو مب اح مل
يكن مب ذرًا ،وأَّم ا من ق ال ب أَّن الّنهي حقيق ة يف الكراه ة فق د محل النهي يف اآلي ة على اإلرشاد إىل م ا ه و خلي ق
باملسلم ،فقال إن شأن املؤمن أن يكون وسطا يف كل أموره عمًال بقوله تعاىلَ ﴿ :وَك َذ ِلَك َجَعْلَنُك ْم ُأَّم ًة َوَس ًطا ،وقوله
َّر ِزيَنَة الَّلِه
سبحانه :وابتغ فيما واتنك اهلل الدار اآلخرة وال تنس نصيبك من الُّد ْنيا ،وكذا قوله سبحانهُ﴿ :قْل َمْن َح َم
اَّليِت َأْخ َرَج لِعَباِدِهَ ،والَّطِّيَبِت ِم َن الِّرْزِق ).
ومن أمثلة النهي يف الُّس َّنة قوله صلى اهلل عليه وسلم« :إذا استيقظ أحدكم من نومه فال يغمس يده يف اإلناء
حىت يغسلها ثالثا» ،فإَّن من العلماء كالظاهرية واحلنابلة من محل النهي على احلرمة ،بناء على أهنا حقيقته فال يعدل
عنها إال بقرينة ،وهلذا قالوا :حيرم على من استيقظ من نومه أن يغمس يده يف اإلناء قبل أن يغسلها ثالثًا .
وذهب اجلمه ور إىل أّن الّنهي يف قول ه :ال يغمس ي ده حمم ول على الكراه ة وأَّن الغس ل من دوب ،والتمس وا
لذلك قرينة تصرف هذا الّنهي عن احلرمة إىل الكراهة ،فقال املالكية منهم :إَّن مما يدل على أن النهي هنا للكراهة م ا
ورد يف بعض روايات احلديث من قوله « :فإَّن النائم ال يدري اين باتت يده» ،فإن هذا يفيد أن علة النهي هي كون
الشخص ال يعلم ما أصاب يده ،إذ رمبا أصابتها جناسة أو قذر حال نومه وملا كان هذا أم رًا مشكوكًا كان النهي عن
غمس اليد يف اإلناء بعد النوم لالحتياط ،فكان الغسل مندوبًا إلزالة الشك.
كم ا التمس الش افعية قرين ة تق رب من ه ذا يف املع ىن فق ال الش افعي اهلل :إن من ع ادة الع رب أن ين اموا يف
ثوب واحد متسع دون س راويل ،وكانوا إذ ذاك يستجمرون من قضاء احلاجة فيكتفون باألحجار أو حنوها ،مما يزيل
جرم النجاسة دون أثرها فيبقى هذا األثر ويعفى عنه يف الَّص الة ،ولكن ال يعفى عنه إذا أص اب عض وًا غري مكانه،
فرمبا انكش فت ع ورة أح دهم ح ال نوم ه ف وقعت ي ده على ه ذا األثر م ع م ا ه و مع روف من شّد ة احلر يف احلج از،
فيكثر الع رق وق د ،يص يب ي ده شيء من ه ذا املكان َفُنه وا عن غمس أي ديهم يف األواين قب ل غس لها إلزال ة الش ك
احتياطًا .
وبناء على هذين التعليلني كان املرء لو نام حمتاط ًا بأن لبس السروايل أو حنوها من قفازات أو غريها مل يكره
له غمس يده يف اإلناء قبل غسلها ،وأما من قال بأَّن النهي حقيقة يف الكراهة فإَّنه ال حيتاج إىل قرينة على ذلك.
تنبيه :
مما يلحق هبذه احلالة الثالثة فعله ،إذ قد اختلف العلماء يف أفعاله عليه الَّص الة والَّس الم إذا كانت ظاهرة يف
معىن القرينة ،وجتردت عَّم ا يدّل على صفتها من الوجوب أو الندب أو االختصاص به عليه الَّص الة والسالم أو بغريه،
كما لو صّلى ركعتني يف وقت غري أوقات الفرائض والسنن ،فهل تدّل صالته يف هذا الوقت على اجلواز أو الندب أو
الوجوب؟ يف ذلك أقوال رّج حوا منها داللتها على الندب.
احلالة الرابعة :أن يكون اللفظ له حقيقة معلومةَّ ،مُث ورد يف لسان الشارع واحتمل أن ي راد معناه احلقيقي،
أو أنه قد أريد منه اجملاز لقرينة وقع النزاع فيها بني العلماء ،ومثال ذلك اللفظ اخلاص إذا أطلق يف لسان الشارع،
واحتمل أن یراد به العموم ،أو اللفظ العام إذا ورد يف الشرع واحتمل أن ي راد به اخلصوص فإن كال منهما قد اختلف
فيه.
فمث ال األّو ل :وه و اخلاص ال ذي احتم ل أن يكون املراد ب ه العم وم قول ه ( :ال ت بيعوا ال ذهب بال ذهب ،وال
الفضة بالفضة ،وال الرب بالرب ،وال الشعري بالشعري ،وال التمر بالتمر ،وال امللح بامللح ،إال مثًال مبثل ،يدًا بيد)
فإَّن الظاهرية قد محل وا هذا احلديث على أنه من باب اخلاص الذي أريد به اخلصوص ،فحكم وا بأَّن هذه
األص ناف الس تة هي ال يت حيرم فيه ا الرب ا ،وال حيرم يف غريه ا ،بن اء منهم على أّن ه ال جيوز تعلي ل األحكام ،وال يق اس
على املنصوص منها شيء غري منصوص على حكمه ،ولو اشرتك مع املنصوص يف املنصوص يف العلة.
وذهب غريهم من األئمة األربعة وكثري من العلماء إىل أن هذه األشياء الستة غري م رادة ألعياهنا ،وإمنا ت راد
ملعان يشرتك معها فيها غريها ،ولذلك حكم وا بأن الربا كما حيرم يف هذه األصناف الس ّنة حيرم يف غريها مما وجدت
فيه ه ذه املع اين ،وإن ك انوا ق د اختلف وا يف عل ة التح رمي ال يت هي املع اين املش ار إليه ا يف األص ناف الس تة ،فمنهم من
ق ال :إهنا التق دير م ع احتاد اجلنس ،وه ذا ه و ق ول احلنفي ة ورواي ة عن اإلم ام أمحد ومنهم من ق ال :إهّن ا االشرتاك يف
الطعم بالنسبة لألصناف األربعة األخرية والنقدية بالنسبة للذهب والفّض ة ،وهذا هو مذهب الشافعية والرواية الثانية
عن د احلنابل ة ،ومنهم من ق ال :إّن العل ة هي كوهنا قوت ًا لآلدمي وميكن إدخاره ا ،والنقدي ة يف ال ذهب والفض ة ،وه ذا
مذهب املالكية على املشهور عندهم والرواية الثالثة للحنابلة ،وعلى أي االحتماالت فقد صار هذا احلديث من باب
اخلاص الذي أريد به العام ،وقد قال ابن رشد يف بداية اجملتهد» :إن داللة احلديث على تع ّد ي حرمة الربا إىل غري
األص ناف املذكورة فيه ليست من باب القياس حىّت خيالف فيه الظاهرية ،بل هي من الّد اللة اللفظية اليت تعترب من
داللة النصوص ،فال ينبغي اخلالف فيها.
ومث ال الث اين :وه و الع ام ال ذي حيتم ل إرادة اخلص وص ب ه قول ه تع اىلُ﴿ :ح ِّرَم ْت َعَلْيُك ُم اْلَم ْيَت ُة َوال َّد ُم َو ْحَلُم
اِخْلنزير) فقد اتفق العلماء على حرمة خنزير الرب ،مُث اختلفوا يف خنزير البحر .
ف ذهب احلنفي ة إىل حرمت ه محًال للف ظ الع ام على عموم ه وذهب غ ريهم إىل أن خ نزير البح ر ال حيرم؛ لقول ه
تعاىل :أحل لكم صيُد اْلَبْح ِر َو َطَعاُمُه َم َتَنًع ا َلُك ْم َوالَّس َّياَرة ،وقوله ملا سئل عن ماء البحر قال :هو الطهور ماؤه احلل
ميتته» ،فقد أفادت اآلية أن صيد البحر كله حالل ،ويدخل فيها اخلنزير ،كما أّن احلديث قد أفاد أن ميتة البحر
حالل ،سواء خنزيرًا أم غريه ،مع أن ميتة حيوان الرب ال حتّل ،فكان إشارة إىل ترجيح ما ذهب إليه اجلمهور.
احلال ة اخلامس ة :أن تكون مف ردات األلف اظ ظ اهرة الدالل ة على معناه ا احلقيقي ،وإمنا عرض هلا االحتمال
عند الرتكيب كما يف قوله تعاىلَ( :واَّلِذ يَن َيْرُموَن اْلُم ْحَص َنِت َّمُث َلْو َيْأُتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم مثنني جل َد ًة َواَل َنْق بُل وا
ُهَلْم َش َه َد ٌة َأَبدا َوَأْو َليَك ُه ُم اْلَف ِس ُقوَن ِإاَّل اَّلِذ يَن َتاُبوا ِم ن َبع ِد ذِلَك َوَأْص َلُح وا َفِإَّن الَّلَه َغُف وٌر َرِح يٌم) فقد اشتملت اآلية
األوىل على ثالثة أحكام جيب تنفيذها على القاذف وهي جلده مثانني جلده ،ورّد شهادته واحلكم عليه بالفسقّ ،مُث
جاءت اآلية الثانية بعدها فاستثنت الذين تابوا ،وهنا اختلف العلماء يف هذا االستثناء هل يرجع إىل األحكام الثالثة
قبله؟ وإذن فمن تاب قبل أن حيّد مل جيب حده ،ومل يتغري فاسقًا وال ترّد شهادته ،وإذن فقد سقط عنه احلد واعترب
عدًال تقبل شهادته وهذا مروي عن الشعيب بناء منه على أن االستثناء راجع إىل مجيع ما اشتملت عليه اآلية األوىل
من األحكام ،وقال مجهور العلماء من األئمة األربعة وغريهم :إّن االستثناء ال يرجع إىل احلد؛ ألَّنه من حقوق العباد
ال يت ال تس قط بالتوب ة ،وإمنا يس قطها العف و أو الوف اءّ ،مُث اختلف وا يف أن االس تثناء يرج ع إىل احلكمني األخ ريين؛ أو
يرج ع إىل األخ ري فق ط؟ فق ال احلنفي ة :إن االس تثناء ال يرج ع يف ِإاَّل اجلمل ة األخ رية ،وهي م ا تض منت احلكم علي ه
بالفس ق ،وبن اء على ذلك فق د حكم وا بأَّن الق اذف إذا ت اب جيب حده ورد شهادته مهما ص لح وص ار من أع دل
الناس ،وال حيكم عليه بالفسق؛ ألَّن فسقه قد ارتفع بالتوبة ،وأَّم ا رّد شهادته فهو حكم مؤبد يف اآلية؛ لقوله تعاىل:
﴿َواَل َنْق َبُل وا ْمَل َش َه َد ٌة َأَب دا ،وال عجب أن يكون الش خص عدًال مُث ال تقبل شهادته ،كما عه د ذلك يف األب إذا
شهد البنه أو عكسه.
وق ال األئم ة الثالث ة مال ك والش افعي وأمحد رمحهم اهلل :إن االس تثناء راج ع للحكمني املذكورين بع د احلد،
وبن اء على ذل ك فق د حكم وا ب أَّن الق اذف إذا ت اب ح ده ،وقبلت شهادته وارتف ع عن ه وص ف الفس ق؛ ألَّن وجب
األص ل أن الش خص إذا ك ان ع دًال وجب قب ول شهادته ،إال ملانع كالقراب ة أو حنوه ا ف إذا مل يوج د م انع من قب ول
شهادته إال كونه قاذف ًاَّ ،مُث ُعلمت توبته ارتف ع عنه الفس ق باإلمجاع ،فإن مل يكن هن اك م انع من قبول شهادته غ ري
ذلك وجب قبوهلا .واهلل أعلم.
السبب الثاين من أسباب اختالف األئمة :ما يرجع إىل الرواية : -
الرواية هي :الطريق الذي يـصـل بـالـّنـص إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أو هي :الرواة الذين رووه واحدًا
عن غريه حىت يكون آخرهم من ح ّد ث به عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ويسمى هذا الطريق إسنادًا أو سندًا،
وملا كان السند خيتلف تبع ًا لقلة الرواة وكثرهتم ؛ وكان حكم الّنص خيتلف تبع ًا لذلك ،وجب أن نذكر نبذة نبني هبا
حكم كل نوع فنقول :
أوًال :قد يروي النص رواة كثريون حبيث يستحيل عادة تواطؤهم (أي اتفاقهم على الكذب ،مث ينقل هكذا
طبقة بعد طبقة يف مجيع سلسلة رّواته وهذا ما يس ّم ى بالتواتر ويسمى النص حينئذ مت واترًا ،وذلك بأن يكون الرواة
عددًا غري حمصور لكثرهتم كثرة بالغة ،أو عددًا ميكن حصرهم ولكنهم من بقاع خمتلفة وأصقع متباعدة ،حتيل العادة
التقاءهم واتفاقهم على الكذب أو لغري ذلك من األسباب ،ألفاظه مت واترة كما ثبت ذلك يف القرآن الكرمي حيث إّن
مجي ع إمجاع ًا يف الق راءات الس بع وعلى الص حيح يف الق راءات العش ر ،ومن زعم ع دم الت واتر يف أي لف ظ من ألف اظ
القرآن يف إحدى الق راءات السبع فقد خالف اإلمجاع الثابت باليقني ،وإمَّن ا اغرت بنسبة كل ق راءة إىل قارئ َك َوْر ش أو
َقاُلون أو حفص ،فظّن أّنه مل يق رأ هبا إال هذا ال راوي ،ومل يدر أّن الُق ّراء كانوا متعددين حبيث بلغ وا حد الت واتر يف كل
عصر ،بل زادوا على أضعافه بكثري ،وإمَّن ا نسبت بعض الق راءات إىل بعض الرواة ألَّنه كان أشهرهم يف ذلك الوقت،
فإذا قيل رواية حفص أو َوْر ش مثًال أو حنومها ،فليس معناه :أنه مل يروها إال هو ،بل رواها كثري غريه عن شيخه وغري
شيخه من الرواة الكثريين غري أّن َح ْف صًا أو َوْرشًا اشتهر من بني أصحابه ،حبيث صار كالعلم ،كما أن شيخه كذلك
فاقتصر مدونو علم القراءات على نسبتها إليه كما يقتصر يف نسبة احلديث إىل البخاري مثًال لكونه أصح الكتب يف
احلديث ،فيكتفى به ولو كان الكثري من أصحاب احلديث قد رووه .
وهبذا فقد وجب أن جنزم بتواتر القرآن لفظًا ،ونعتقد بأن ما بني دفيت املصحف من ألفاظ القرآن هي عني ما
أوحي إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كما قال تعاىلَ﴿ :و ِإَّنُه َلَتنِزي ُل َرِّب العلمَني َنَزَل ِبِه ال ُّروُح اَأْلِم ُني َعَلى َقْلِب َك
ِل ِف ِذ ِل ِل
َتُك وَن ِم َن اْلُم ن ِريَن ِب َس اٍن عرّيب ُّم ِبِني ،وكما قال سبحانهِ﴿ :إَّنا ْحَنُن َنَّزْلَن ا الذكَر َو ِإَّنا َل ُه َحَل ُظوَن ،وقالَ﴿ :ذ َك
اْلِكَتُب اَل ف ه .فق د تكّف ل اهلل حبفظ ه من ك ل م ا يعرتي ه من الش ك والتغي ري والتب ديل ،فل و ك ان بعض ألفاظ ه أحادي ا
العرتاه الشك ويف ذلك تكذيب لوعد اهلل حبفظه ونفي الشك عنه).
وإذا علمت ذل ك ف اعلم أن حكم املت واتر إفادت ه العلم اليقي ين ال ذي ي وجب اعتق اده والعم ل ب ه ،وهبذا فق د
وجب العم ل م ا ج اء يف الق رآن الكرمي من األحكام ،واعتق اد م ا س اقه جبمي ع من القص ص عن األنبي اء الس ابقني
وغريهم من األمم السابقة.
غ ري أن الق رآن الكرمي وإن ك ان قطعي الثب وت فق د يط رأ االحتم ال يف داللت ه لبعض م ا م ر من أس باب
االحتم ال يف األلف اظ ،إال أن األص ل يف الق رآن الكرمي أن ه قطعي الدالل ة وأن االحتم ال خالف األص ل ،ول ذا ق ال
اإلمام الشافعي ختلله :القرآن على ظاهره ،فإن احتمل املعاين فأوالها به ما أشبه ظاهره» ،وحينئذ فما جاء يف القرآن
الكرمي فأكثره حقائق قطعية جيب اإلميان هبا كأصول اإلسالم من صالة وصوم وحج وزكاة ،وكذا ما أفاده من عقائد
التوحيد فيما يتعّل ق باإلالهيات والنب وات والغيبيات فكل ذلك قطعي ،ومثل ذلك ما جاء يف القرآن كث ريًا َّمما يتعّل ق
باألحكام الفرعية اليت أصبحت معلومة من الدين بالضرورة كحرمة امليتة وما معها من احملرمات ،وحترمي زواج اإلنسان
بأصوله وفروعه من نسب أو رضاعة ،وقل ذلك يف مثل حترمي الربا والزين والقتل واخلمر وما معها وإجياب الكف ارات يف
الظه ار والقت ل واليمني إىل غ ري ذل ك َّمما ال ميكن حص ره ،وق د أف اد الق رآن بطري ق قطعي يقي ين كم ا أف اد كث ريًا من
الواجبات وفضائل األخالق واآلداب الشرعية يف املعامالت وغريها بنفس هذا الطريق القطعي ،وحينئذ ُيعلم خطأ من
زعم أن ألف اظ الق رآن كّله ا أو أكثره ا ظيّن الّد الل ة ،ب ل احلق أن أك ثر الق رآن قطعي وأَّن األص ل يف ألفاظ ه أن تفي د
الداللة القطعية ،وأن االحتمال يف بعض داللة ألفاظه طارئ ،وال يصار إليه إاّل عند ق رائن تدّل على االحتمال فيه،
وإن شئت ضرب األمثال على ما تق ّد م فما عليك إال أن تتصفح آيات القرآن الكرمي ،وتتلو منه ما تيسر من مثل
قول ه تع اىل :الَّل ُه اَل ِإَل َه إاَّل ُه َو اَحْلُّي اْلَق ُّي وُم ال َتْأُخ ُذ ُه ِس َنٌة َواَل ن وم ل ه م ا يف الَّس َمَواِت َوَم ا يف اَأْلْر ِض َم ن َذا اَّل ِذي
َيْشَف ُع ِعنَد ُه ِإاَّل ِبِإْذِنِه َيْع َلُم َم ا َبَنْي َأْيِد يِه ْم َوَم ا َخ ْلَف ُه ْم َواَل ِحُي يُطوَن ِبَش ْي ٍء ِم ْن ِعْلِم ِه ِإاَّل َمِبا َش اَء َو ِس َع ُك ْرِس ُّيُه السموات
واألرض وال يوُدُه ِح ْف ُظُه َم ا َوُه َو العلي العظيم وقوله سبحانهَ﴿ :حُمَّمٌد َّرُس وُل اِهلل َواَّلِذ يَن َمَعُه َأِش َّداُء َعَلى اْلُك َّفاِر رمحاء
بينهم) إىل ما شئت من تالوة آيات بينات ال يشك يف قطعية داللتها مسلم.
فأما ما عرض له االحتمال يف القرآن الكرمي لسبب لفظي فقد تقدم لك كثري من أمثلته .وأما ما عرض له
احتمال التخصيص يف عمومه أو نسخه أو غري ذلك فإليك بعض أمثلته .
أ ـ ق ال اهلل تع اىل َ( :واْلُم َطَّلَق اُت َيَتَرَّبْص َن ِبَأنُف ِس ِه َّن َثاَل َث َة ف روع ،ف إَّن ظ اهر ه ذا اللف ظ العم وم يف مجي ع
املطلقات من ذوات القروء ،ولكن بعد التفحص يف غري هذه اآلية من آيات القرآن الكرمي علم أهنا قد ُخ صصت بآية
دلت على خ روج املطلق ة قب ل ال دخول ،كم ا ُخ صص ت بآي ة أخ رى أخ رجت احلام ل ،وب ذلك أص بح قول ه تع اىل :
(َواْلُم َطَّلَق ُت َيَتَرَّبْص َن ِبَأنُف ِس ِه َّن َثَلَثَة ُقُرور ال يراد منه إال املطلقات بعد الدخول من ذوات األقراء الاليت لسن باحلوامل،
ِع ِم ِح ِم
وأما ما يظّن من ختصيصها بقوله تعاىلَ( :واَّليِت َيْس َن َن اْلَم يِض ن ِّنَس اَبُك ْم ِإن اْرَتْبُتْم َف َّد ُتُه َّن َثَلَثُة َأْش ُه ٍر َواَّليِت ْمَل
ِإ
َيْض ُن َف َّن هذا الظن غري عند تدقيق النظر ؛ ألَّن هؤالء اليائسات والصغريات صحيح لسن من ذوات القروء ،فهّن
غ ري داخالت يف آي ة الق روء حىّت حيت اج إىل إخ راجهّن ،ول ذا ورد يف احلديث أن أيب بن كعب ق ال الرس ول ص لى اهلل
عليه وسلم بعد نزول آيات البقرة يف العدة :يا رسول اهلل ،إن ناس ًا يقولون :قد بقي من الّنساء من مل تذكر عدهتن
يف القرآن ،وهّن الصغريات واليائسات وذوات احلمل ،فنزل قوله تعاىلَ﴿ :واَّليِت يِإْس َن ِم َن اْلَم ِح يِض ) .
ب -ومن ذلك قوله تعاىلَ﴿ :فانِكُح وا َم ا َطاَب َلُك م ِّم َن النسلو َم ْثىَن َوُثَلَث َوُرَبَع ،فإَّن ظاهر قوله تعاىل:
﴿َم ا َطاَب َلُك م مَن الِّنَس لو يقتضي حّل التزوج بأي امرأة ،س واء كانت من احملارم أو غريها ،كما تقتضي ج واز اجلمع
بني األخ تني وغريمها يف العص مة الواح دة ولكن ه ذا العم وم ق د ُخ ص بقول ه تع اىل ُ :ح ِّرَم ْت َعَلْيُك ْم َأَمَه ُتُك ْم ...إىل
آخر اآلية وأحلقت هبا الُّس َّنة حترمي اجلمع بني املرأة وعمتها أو خالتها كما أحلقت هبا بقية احملّرمات من الرضاع ،ومن
ه ذا املثال ُيعلم أن ختص يص الع ام يف القرآن الكرمي قد يكون بالقرآن كما قد يكون بالُّس َّنة ،وأمثلة هذا النوع من
ختصيص العام كثرية ،لو تتبعناها لطال الكالم ويكفي أن تقول :إن القاعدة العلماء أال ُيعمل بالعام إال بعد البحث
عن عن د مجه ور ختصيص ه لكثرة م ا ورد على العمومي ات من التخص يص حىَّت اشتهر ق وهلم :م ا من ع ام إال وق د
ُخ ص» ،بل إّن هذه القاعدة نفسها قد ُخ َّص ت أيض ًا مبثل قوله تعاىلَ﴿ :واُهلل ِبُك ِّل َش ْي ٍء َعِليٌم ؛ ألَّن هذه اآلية ال
يدخلها التخصيص أصًال .
ج-ـ ومثال ما ورد عليه النسخ قوله تعاىلَ﴿ :واَّلِذ يَن يتوقون ينُك ْم َوَيَذ ُروَن َأْز َواًج ا َو ِص َّية ألزواجهم منًع ا إىل
احلول غرّي إخ راج فإَّنه يقتض ي أن ع دة املت وىف عنه ا زوجه ا ح ول كام ل ،ولكن ه ذا ك ان أّو ل األم رّ ،مُث ُنِس َخ بقول ه
تعاىلَ ﴿ :واَّلِذ يَن ُيَتَوَّفْو َن ِم نُك ْم َوَيَذ ُروَن َأْز َواًج ا َيَتَرَّبْص َن ِبَأنُفِس ِه َّنأرَبَعَة َأْش ُه ٍر َو َعْش رًا ،فقد صارت العدة هبذه اآلية أربعة
أشهر وعشر ليال ،وقد دّل على هذا النسخ ما رواه البخاري وغريه :أن عبد اهلل بن الزبري قال لعثمان بن عفان له
حني كتابت ه املص احف :إّن آي ة احلول ق د ُنس خت بآي ة األربع ة األشهر فلم تكتبه ا؟ ...أي :ملاذا تكتب املنس وخ،
فقال عثمان له :لكيّن ال أستطيع أن أغري شيئًا يف القرآن كان يف عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم.
وهبذا ُيَرّد على من زعم عدم وجود النسخ يف الق رآن؛ كأيب مسلم األص فهاين وغ ريه ،إذ القاع دة أن النسخ
يثبت بنص الص حابة علي ه؛ ألهنم أعلم بالتنزي ل وق د شاهدوا نزول ه ،وإىل هن ا نكتفي هبذا الق در فيم ا يتعّل ق برواي ة
القرآن ،مث نعود إىل رواية السنة الشريفة فنقول :
من املعلوم أّن الُّس َّنة هي أقوال النيب صلى اهلل عليه وسلم وأفعاله وتقريراته ،وطريق وصول شيء من ذلك إىل
غريه إما أن يكون باملشافهة واملشاهدة أو يكون بطريق الرواية عنه ،مت رواية من بعدهم عمن رووه عن رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم َّمُث هكذا حىت وصل إىل من دّو نوه يف عصر هنضة التدوين للحديث ،فأما الطريق األول وهو املشافهة
واملشاهدة كأن يسمع الصحايب من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ق وًال أو ي راه يفعل فعًال أو يقرر تقري رًا فذلك ال
يق ال في ه مت واتر أو غ ريه ،ب ل ه و حّج ة قطعي ة عن د من مسع أو شاهد ت وجب العلم والعم ل مبقتض اه؛ ألَّن الس ماع
واملشاهدة من طرق العلم الضروري ،كما هو معلوم عند من له إملام بالعلوم العقلية.
وأما الطريق الثاين وهو طريق الرواية والنقل الذي توجد فيه واسطة بني رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وبني
من بلغته ُس َّنته فإَّنه ينقسم كما أشرنا سابقًا إىل متواتر وغريه ،وقد اتفق العلماء مجيعًا على أن املتواتر من الُّس َّنة حكمه
كحكم القرآن فيما ذكرنا آنفًا ،غري أّن التواتر يف الُّس َّنة قد يكون لفظي ًا كما قيل يف حديث :من كذب علي معتمدًا
فليتبوأ مقعده من النار» .وقد يكون معنوّيًا كأكثر ما يروى من األحاديث املتواترة يف مثل أعداد الركعات والسجدات
يف الَّص الة ومقادير الزكوات وصفة احلج والعمرة ،وغري ذلك ،فهذا كله مما يفيد القطع واليقني ،وجيوز ختصيص عموم
القرآن به ،وكذا نسخه وتقييد مطلقه ،وغري ذلك.
ثانيًا :أَّم ا غري املتواتر من الُّس َّنة ،فاجلمهور على أنه يسمى أحادًا ،س واء قلت رواته أو كثرت ،ما مل تبلغ حد
الت واتر ،وحكم ه عن دهم :أّن ه يفي د الظن الق وي املوجب للعم ل ،وجيوز ب ه ختص یص عم وم الكت اب ،وتقيي د مطلق ه
واختلفوا يف النسخ.
وأما عند احلنفية فغري املتواتر قسمان :مشهور و آحاد فاملشهور عندهم ما رواه ثالثة فأكثر من املوثوق هبم
أوهو ما كان آحادًا يف عصر الصحابةّ ،مُث اشتهر فيمن بعدهم ،وحكم هذا القسم عندهم أّنه كاملتواتر ،فيجوز به
ختصيص الكتاب ونسخه وتقييد مطلقه .
وأم ا اآلح اد عن دهم فه و م ا قلت روات ه عن ح د الت واتر والش هرة ،وحكم ه عن دهم أن ه يفي د الظّن املوجب
للعمل ،ما مل يتعارض مع أقوى منه من كتاب أو ُس َّنة مشهورة؛ ألهَّن م يقدمون الرتجيح على اجلمع يف التعارض كما
سيأيت ،وهبذا ال ُينَس خ القرآن به ،كما ال خُي صص عمومه ،إاَّل إذا ُخ ص قبله مبا يصلح لتخصيصه ،فإن مل خُي صص
بغريه قدم عموم القرآن عليه ؛ ألَّن العام عندهم قطعي الداللة ،فال يعارضه ما يفيد الظّن ،ولذلك قالوا :ال ي زاد على
الكتاب خبرب الواحد»ّ ،مُث اشرتطوا للعمل به شروطًا ثالثة:
الشرط األول :أن ال خيالف الراوي ما رواه ،فإن خالف ال ّراوي ما رواه َقَّدموا عمل ال راوي على روايته؛ ألَّنه
ع دل ثق ة فال خيالف م ا رواه إال ملوجب يقتض ي املخ الف ،وق د تق دم مث ال ذل ك يف ح ديث غس ل اإلن اء من ول وغ
الكلب.
الشرط الثاين :أن ال خيالف القياس ،فإن خالف القياس مل ُيعَم ل به وُعِم ل بالقياس املخالف له ،وهلذا مل
يعملوا حبديث املصراة وهو أّن النيب صلى اهلل عليه وسلم هنى عن التص رية وقال :من اشرتى شاة فوجدها مص راة بعد
حلبها فهو باخليار إن شاء أمسكها ،وإن شاء رّدها وصاعًا من متر».
والتص رية هي :جتمي ع لنب الش اة وحنوه ا يف الض رع ح ىت يعظم اللنب في ه ،فُيَخ َّي ُل للن اظر أهنا غزي رة اللنب
بطبيعتها وقد هنى عنها ملا فيها من الغش واخلداع واإلض رار باحليوان ،وقد اعتربت يف هذا احلديث من العيوب اليت
توجب اخليار للمشرتي يف إمساك املص راة بالثمن الذي اشرتاها به ،أو رّدها بعد احللب مع صاع من متر ،وقد قال
احلنفية :إن هذا احلديث خمالف للقياس من وجوه :أحدها :أن القياس يف الضمان أن يكون يف املثلي مبثله ويف املقوم
بقيمت ه ،وملا ك ان اللنب مثلي ًا ك ان مقتض ى القي اس أن ه ي رّد مثل ه ،وثانيه ا :أن مقتض ى القي اس أن خيتل ف الع وض
باختالف املعوض قّل ة وكثرة فيعوض القليل بالقليل ،والكثري بالكثري ،ولكن هذا احلديث قد خالف هذا القياس يف
جعل العوض شيئًا معين ًا ال خيتلف مقداره ،وثالثها :أنه خمالف ملقتضى قاعدة :اخلراج) بالضمان) فإَّن مقتضاها أّن
لنب املصراة ال يعوض؛ ألَّنه من اخلراج ،إذ قد دخلت الشاة يف ضمان املشرتي بالعقد فكان له خراجها من اللنب ،إىل
غري ذلك من وجوه املخالفة لألقيسة والقواعد اليت توجب عدم العمل هبذا احلديث عنهم .
الشرط الثالث :أن ال يكون خرب اآلحاد فيما تعم به البلوى؛ أي :فيما يكثر وقوعه بني الناس فيحتاجون إىل
بيان حكمه ،فإن كان هذا احلكم مروي ًا خبرب اآلحاد مل يعمل به عندهم تقدميًا لل رباءة األصلية عليه ،وهلذا مل يعمل وا
حبديث نقض الوضوء باملس حيث قالوا :إّنه روي من طريق ام رأة تسمى بسرة بنت صفوان فقالوا :إّنه لو كان هذا
احلكم صحيحًا لورد من طريق الّرجال؛ ألَّنه أمر يقع بينهم وال تكون روايته خبرب الواحد ،إذ مقتضى العادة أن يكون
ه ذا األم ر مش تهرًا بينهم ،فتت وفر ال دواعي إىل نقل ه لعم وم احلاج ة إلي ه ،ف وروده من طري ق واح د مل ي روه إاَّل ام رأة مما
يوجب الشك يف صحته ،كما يوجب تقدمي غريه عليه ،وهو ما رواه طلق بن علي أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
ُس ِئل عن مس اإلنسان فرجه هل ينقض الوضوء؟ فقال عليه الَّص الة والَّس الم« :إن هو إاَّل بضعة منك»؛ أي جزء
كسائر أعضاء اجلسم ال ينتقض الوضوء مبس شيء منها ،هذا وقد ناقشهم اجلمهور يف هذه الشروط كّلها ،ورّدوا
عليهم مبا يطول ذكره ،فنرتكه اختصارًا .
وخالصة الكالم أن احلديث مىت صحت روايته حبيث كان يف درجة احلسن أو الصحيح كان عند اجلمهور
حّج ة جيب العمل مبقتضاه ،س واء أكان فيما تعم به البلوى أو خالفه ال راوي أو القياس أو كان خبالف ذلك ،ولذا
قالوا :بأن النية يف الوضوء فرض ،عمًال حبديث« :إمّن ا األعمال بالنيات ،وحكموا بصحة القضاء بشاهد وميني ،عمًال
مبا صح أَّن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قضى بشاهد وميني وإن كان يف ذلك عند احلنفية من الزيادة على الكتاب
خبرب الواحد ،كما ذهب اجلمهور إىل فرضية الفاحتة يف الَّص الة ،وفرض السالم يف ختامها إىل غري ذلك.
وإذا كان هذا موقف العلماء من خرب اآلحاد فنقول :إّن احلديث قد يصل إىل بعض األئمة فيعمل به ،بينما
مل يصل إىل بعضهم فيعمل بعموم القرآن أو بأدلة أخرى ،ومثال ذلك ما يروى عن سعيد بن املسيب له أنه كان
يقول حبل املطلقة ثالثًا ملطلقها مبجرد أن يعقد عليها رجل غريه ،مث يطلقها ،عمًال بإطالق قوله تعاىل :هو فإن طلقها
فال حتل له من بعد َح ىَّت َتنِكَح َزْوًج ا َغْيَره ؛ ألَّن النكاح يف عرف الشرع حقيقة )؛ يف العقد ،ومل يبلغه حديث رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف ام رأة رفاعة القرظي حني طلقها ثالث ًا فتزوجت بعده رجًال زعمت أنه مل يطأها ،وأرادت
الطالق منه لرتجع إىل رفاعه ،فقال هلا عليه الَّص الة والَّس الم« :ال ،بل حىّت تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك كناية
عن الوطء ،إذ إَّن هذا احلديث مفسر لآلية ،فيكون النكاح فيها مبعىن الوطء ،أو مبني هلا فيكون مفيدًا بأَّن العقد
املبيح للزواج األّو ل مشروط بالوطء بعده.
ومن ذلك ما روي عن ابن عباس :أنه كان ال حيرم إال ربا النسيئة ،اعتمادًا على حديث أسامة بن زيد أّن
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال« :إمّن ا الربا يف النسيئة» ،فكان من رأيه به أّن الّربا جائز فيما كان يدا بيد ،ومل
يبلغه حديث عبادة بن الصامت وغريه أن النيب صلى اهلل عليه وسلم هنى عن األصناف الربوية اليت ذكرناها فيما سبق
أن يباع بعضها جبنسه إال مثًال مبثل ،يدًا بيد ،فلما بلغه ذلك رجع عما كان يراه.
ومن ذلك أيضًا ما يروى عن ابن عمر له أنه كان يقول :إَّن على املرأة إذا أرادت أن تغتسل من اجلنابة أن
تنقض م ا ك ان مض فورا من شعرها عمًال مبقتض ى قول ه تع اىل :وإن ُك نُتْم ُج ُنب ًا َف َأَطَه ُروا بتش ديد الط اء فإَّنه يقتض ي
املبالغة التطهري حىّت يصل املاء إىل البشرة ،وعمًال مبقتضى حدیث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أنه قال :من ترك
موضع شعرة من جنابة فعل اهلل به كذا وكذا من الّنار ،ومل يبلغه حديث أم سلمة أهنا قالت يا رسول اهلل إين امرأة أشد
ضفر رأسي أفأنقضه لغسل اجلنابة فق ال :ال ،إمنا يكفيك أن حتثي على رأسك ثالث حثياتّ ،مُث تفيضني عليك
املاء فتطهرين» ،ومثله ما روته عائشة أهنا كانت تفعل ذلك حبضرة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم.
وقد يصل احلديث إىل مجيع األئمة فيعمل به بعضهم وال يعمل به اآلخرون ،فيكون حّج ة عند البعض دون
البعض اآلخر ،وذلك إما لوجود معارض له أقوى منه عند من يق ّد م الرتجيح على اجلمع يف الّتعارض كاحلنفية ،أو
عارضه ما هو أقوى منه ومل ميكن اجلمع بينهما عند من يقول بتقدمي اجلمع مىت أمكن ،أو ألنه قد وصل إىل بعضهم
من طري ق ص حيح ،بينم ا وص ل إىل البعض اآلخ ر من طري ق في ه ض عف ،أو ألن ه مل يس توف شروط العم ل ب ه عن د
بعضهم دون البعض اآلخر .فتلك حاالت أربع إليك ،أمثلتها فيما يلي:
- ۱فمثال األّو ل وهو أن يكون قد عارضه ما هـ أقوى ،قوله :ال تزّوج املرأة املرأة ،وال املرأة نفسها» فإنه
قد تعارض مع قوله عليه الَّص الة والَّس الم« :الثيب أحق بنفسها من وليها ،وقوله :ليس للويل مع الثيب أمر» فقدم
احلنفي ة العم ل باحلديثني األخ ريين لق وة س ندمها على العم ل باحلديث األّو ل ؛ ألَّنه أق ل منهم ا يف درج ة التص حيح؛
ألهنم يق دمون ال رتجيح على اجلم ع ول و أمكن ،وأم ا اجلمه ور فق د مجع وا بني األح اديث؛ فحمل وا ح ديث النهي عن
تزويج املرأة نفسها على معىن أهّن ا ال تتوىل العقد بنفسها ،ومحل وا أحاديث نفي تس ّلط الويل على الثيب على معىن أنه
ال ج رب ل ه عليه ا ،وأهّن ا أح ق بنفس ها يف الّرض ا ب الزواج وال زوج وامله ر وم ا يتب ع ذل ك ؛ ألَّن القاع دة عن دهم : :أن
احلديث مىت صلح للحجية وجب العمل به واجلمع بينه وبني ما يعارضه مىت أمكن ؛ ألَّن إعمال الدليلني خري من
إمهال أحدمها .
- ٢أما إذا مل ميكن اجلمع بني األحاديث املتعارضة ولو كانت يف درجة واحدة فإنه يبحث عن املتقدم منه ا
واملتأخر فيكون املتأخر منها ناسخًا للمتقدم ،كما يف حديثه أنه قال« :كنت هنيتكم عن زيارة القبور أال فزوروها فإهَّن ا
تذكر اآلخرة«.
ف إن مل ُيعلم املتق ّد م واملت أخر وجب اللج وء إىل ال رتجيح إن وج د واملرّج ح ات كث رية تعلم من كتب األص ول،
فإن مل يوجد رّج ح ترك احلديثني معًا إىل أي دليل غريمها .
- 3ومثال ما وصل أحد الفريقني من طريق صحيح بينما وصل إىل الفريق الثاين من طريق فيه ضعف بعض
األحاديث الدالة على توقيت املسح على اخلفني ،واألحاديث الدالة على عدم التوقيت فيه ،فقد عمل املالكية والليث
بن سعد مبا صح عندهم من حديث أيب ،وهو ما رواه أبو داود عنه :قلت يا رسول اهلل منسح على اخلفني فقال:
«نعم» .قلت :يوم ًا .قال« :يومني» قلت :وثالثة .قال« :وما شئت» ،فإَّن هذا احلديث يقضي بأنه ال توقيت يف
املسح على اخلفني بينما يرى غريهم من األئمة أن املقيم ال يزيد على يوم وليلة وللمسافر ثالثة أيام بلياليهن ،عمًال
حبديث علي له فيما رواه عنه مسلم قال :قد جعل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ثالثة أيام ولياليهن للمسافر ،ويومًا
وليلة للمقيم .وحبديث عوف بن مالك األشجعي أن النيب صلى اهلل عليه وسلم أمر باملسح على اخلفني يف غزوة تبوك
ثالثة أيام ولياليهن للمسافر ويومًا وليلة للمقيم .فقد ترجح عند كل ما صح يف نظره من احلديثني فعمل به ومل يعمل
باآلخر لعدم إمكان اجلمع بينهما .
٤ـ ومثال ما مل يستوف الشروط عند البعض بينما يرى اآلخرون عدم اعتبار هذه الشروط ،ما ذهب إليه
األئمة مالك وأبو حنيفة من وجوب قضاء صوم التطوع على من تعمد اإلفطار فيه عمًال مبا روي عن عائشة لنا أهنا
قالت :أهدي إىل حفصة طعام وكنا صائمني فأفطرنا ،مُث دخل صلى اهلل عليه وسلم فقلنا له :يا رسول اهلل أهديت
إلينا هدية واشتهيناها فأفطرنا فقال :ال عليكما ،صوما مكانه يومًا آخر» ،فإَّن هذا احلديث قد استوىف شروط العم ل
به عند احلنفية واملالكية وإن كان مرسًال ؛ ألَّن املرسل عندهم حجة مىت صح إسناده وخالف الشافعية واحلنابلة رمحهم
اهلل ،فلم يروا وجوب القضاء على من أفطر متعّم دًا يف صوم التطوع ،ومل يعملوا هبذا احلديث؛ ألَّنه مرسل واملرسل عند
الش افعية يش رتط فيه شروط مل تس توف يف ه ذا احلديث ،وعمل وا مبا روي عن الن يب ص لى اهلل علي ه وس لم أنه ق ال :
الصائم املتطوع أمري نفسه؛ إن شاء صام وإن شاء أفطر».
هذا وقد قال اإلمام الشافعي ختلله« :أمجع املسلمون على أن .من بلغته ُس َّنة رسول اهلل من طريق صحيح مل
يكن ل ه أن ي دعها إىل ق ول ك ائن من ك ان» ،ومع ىن ذل ك :أن ه جيب العم ل بالُّس نة الّص حيحة إذا اس توفت شروط
العمل هبا عند من بلغته ،ومل يوجد هلا معارض أقوى منها ،إذا مل ميكن اجلمع بينهما ،فأما إن وجد هلا معارض أقوى
ومل ميكن اجلم ع بينهم ا ،أو مل تس توف شروط العم ل هبا عن د من اشرتط يف خ رب اآلح اد شروطًا أو ك انت حتتم ل
التأويل فإَّن ذلك مما يسّوغ تركها إىل أدّلة أخرى ،ولذلك اختلفوا يف ثبوت خيار اجمللس مع صحة حديثه عند اجلميع،
وهو قوله :البيعان باخليار ما مل يتفرقا فإَّن هذا احلديث يقضي بأَّن كال من املتعاقدين يف البيع له اخليار يف إمضاء
العقد وتركه ،ما مل حيصل بينهما التفّرق باألبدان ،وقد عمل مبقتضى هذا احلديث كّل من الشافعية واحلنابلة والظاهرية
ومل يعمل مبقتضاه كل من احلنفية واملالكية ،إما لتأويل الفرقة على معىن التفرق يف األق وال ،بأن يتم بينهما اإلجياب
والقبولَّ ،مث ينتقال من ذلك إىل أمر آخر ،وهذا تأويل احلنفية للحديث ،ويروى مثله عن املالكية ،وإما ألَّنه خمالف
لعمل أهل املدينة إذا كان عملهم على عدم اخليار للعاقدين بعد أن ميضيا عقدمها ،ولو مل يتفرقا باألبدان ،وعمل أهل
املدينة يعترب كاحلديث املتواتر عند املالكية ،فيقدم على خرب اآلحاد أو يفسره.
السبب الثالث من أسباب اختالف األئمة :ما يرجع إىل التعارض بني األدلة : -
التعارض يف اللغة :هو التقابل والتمانع ،يقال :عرض يل عارض؛ أي منعين مانع وقابلين فحال دون مقصدي.
ويف االصطالح :هو أن يدّل كّل من الدليلني على نفي ما دّل عليه اآلخر؛ كأن يدّل أحدمها على املنع من فعل
شيء ،ويدل اآلخ ر على وجوبه أو ج وازه ،ومثال ه قوله تع اىل :كتب َعَلْيُك ْم ِإَذا َح َض َر َأَح َدُك ُم اْلَم ْو ُت إن ترك خ ريا
اْلَوِص َّيُة ِلْلَواِلَد ْيِن َواَأْلْقَرِبَني ) ،فإَّنه يدل على وجوب الوصية لل وارث وغري ال وارث من القرابة وقد عارضه قوله :إَّن اهلل
قد أعطى كل ذي حق حقه ،فال وصية ل وارث ،فإَّنه يدل على منع الوصية لل وارثني فقد تعارض هذان الدليالن يف
الوصية للقرابة ال وارثني فقال بعض األئمة :إن اآلية قد ُخ صصت باحلديث أو نسخت به ،ومن أمثلة التعارض أيض ًا
قوله يف شاة ميمونة ملا مر عليها فوجدها ميتة قد ألقيت يف الطريق :هال أخذمت جلدها فدبغتموه فانتفعتم به» ،فإَّنه
يدل على جواز االنتفاع جبلد امليتة بعد الدبغ وهو معارض ملا روي عنه أنه قال :ال تنتفع وا من امليتة بشيء» ،وهذا
احلديث األخري موافق لظاهر قوله تعاىلُ( :ح ِّرَم ْت َعَلْيُك ُم اْلَم ْيَت ُة َفِإَّن كال من هذا احلديث واآلية يقضي مبنع االنتفاع
بشيء من امليتة مطلقًا ،سواء بعد الدبغ أو قبله .وقد دفع التعارض بني هذه األدلة بأَّن اآلية واحلديث الذي يوافقها
قد خصصهما حديث شاة ميمونة.
وملا ك ان التع ارض بني األدل ة ه و من أك ثر أس باب االختالف بني األئم ة ،ومن املعل وم من ال دين بالض رورة أن
التعارض احلقيقي ال يقع بني األدلة الشرعية ،إذ هو تناقض بينها ،والتناقض ال يقع يف أدلة الش ريعة؛ ألنه يؤّدي إىل
اهلل كذب أحد الدليلني والدليل الشرعي مرجعه إىل وحي تعاىل ،وقد تنّزه اهلل عن الكذب ،وقد قال تعاىل يف القرآن
الكرمي :اَل َيْأِتيِه اْلَبِط ُل ِم ْن َبِنْي َيَد ْيِه َواَل ِم ْن َخ ْلِفِه َتنِزيٌل من حكيم محيد .وقال سبحانهَ﴿ :و َلْو َك اَن ِم ْن ِعنِد َغري اهلل
َلَوَج ُد وا ِفيِه اْخ ِتاَل ًفا َك ِثًريا ،وهذا كما يدل على أّن التعارض احلقيقي ال يقع يف القرآن الكرمي ،فإَّنه يدّل كذلك على أنه
ال يقع يف الُّس َّنة املشرفة ،وال يف بقية أدلة الشرع الصحيحة؛ ألهَّن ا ترجع إىل الوحي كما تقدم ،لقوله تعاىل( :وما ينطق
عن اهلوى إن هو إال وحي يوحى) ،وألن التعارض احلقيقي ،إمّن ا يتصّور إذا كان كل من النصني املانع وغريه قد صدرا
يف وقت واح د ،وال يعق ل أن الش ارع احلكيم ي أمر بالش يء وينهى عن ه يف وقت واح د؛ ألن ه عبث ال يص در من
العقالء ،فضًال عن كتاب اهلل وسنة رسوله ،وإذن فال بد أن يكون كل من الدليلني املتعارضني حبسب الظاهر قد وردا
يف وقتني خمتلفني أو حالني خمتلفني كذلك ،وهلذا فقد قال العلماء :إّن ك ّل ما يبدو من التعارض بني األدلة ،إمنا هو
حبسب الظاهر ال غ ري ؛ أي :حبسب ما يبدو للناظر فيها ،ومن َّمَث اتفقت كلمتهم على أنه ال بد من سلوك طريق
يؤدي إىل الوفاق بني األدلة والتخلص مما يبدو فيها من التعارض بأي خملص يتفق مع قواعد الشريعة الغراء.
غري أهّن م اختلف وا يف الطريق الذي جيب أن ُيسلك للتخلص من التعارض على مذهبني :فذهب اجلمهور إىل أّن
طري ق التخلص من التع ارض أن يبحث أوًال عن إمكان اجلم ع بني املتعارض ني ،ف إن أمكن وجب تقدميه ،س واء ك ان
الدليالن من نوع واحد كالقرآن مع القرآن ،والُّس نة مع السنة اليت يف درجتها ،أو كانا من نوعني خمتلفني أو درجتني
كذلك ،مىت صلح كّل منهما للحجية ،بأن كان أحدمها من الكتاب واآلخر من الُّس َّنة الصحيحة ،أو كانا السنة من
وأحدمها يف درجة الصحيح واآلخر يف درجة احلسن ،ولذا قالوا يف قوله تعاىلَ( :واَّلِذ يَن ُيَتَوَّفْو َن ِم نُك ْم َوَيَذ ُروَن َأْز َواًج ا
يرتَّبْص َن ِبَأنُف ِس ِه َّن َأْرَبَعَة َأْش ُه ٍر َو َعْش رًا إّنـه مـخـصـص بـقـولـه سبحانهَ﴿ :وَأَو َلْت اَأْلْع َم اِل َأَج ُلُه َّن َأن َيَض ْع َن َح َلُه َّن ،وقالوا
يف قوله ( :األمي أحق بنفسها من وليها» :إَّنه حممول على أهنا أحق بنفسها يف الرضا بالزاوج والزوج واملهر وما يتعلق
ب ذلك ،دون ت ويّل العق د ،مجع ًا بني ه ذا احلديث وقول ه :ال ت زوج املرأة ،املرأة ،وال املرأة نفس ها» ،كم ا ق الوا يف قول ه
تعاىلُ :ك ِتَب َعَلْيُك ْم ِإَذا َح َض َر َأَح َدُك ُم اْلَمْو ُت إن ترك خريا الَوِص َّيُة ِلْلَواِلَد ْيِن َواَأْلْقَرِبَني :إّنه منسوخ أو مـخـصـص بقول ه
:ال وص ية ل وارث» ،وهكذا ترى أهنم قد ق دموا األدل ة اجلم ع بني م تی ص لحت للحجي ة على ال رتجيح بينه ا ؛ ألن
األص ل إعم ال ال دليلني م ىت أمكن ،ويف اجلم ع إعم ال هلم ا ،وأم ا ال رتجيح ففي ه إمهال ألح دمها ،واإلعم ال خ ري من
اإلمهال فوجب تقدميه .
إال أن طرق اجلمع كثرية ،ما بني التخصيص والتأويل حبمل كل دليل على حال غري احلال اليت محل عليها الدليل
اآلخر ،إىل غري ذلك مما خيتلف باختالف األنظار ،ولذا اختلف العلماء يف اجلمع بني قوله « :استنزهوا من البول؛
ألن عامة عذاب القرب منه وبني إذنه للعرنيني بشرب أبوال اإلبل ،فقال بعضهم :إن حديث االستنزاه خمصص حبديث
شرب أبوال اإلبل ،فيكون حديث االستنزاه من البول حمموًال على بول اآلدمي ،واحليوان غري مأكول اللحم ،فهذا هو
الذي جيب التنزه منه؛ ألنه جنس ،وأَّم ا حديث شرب العرنيني أبوال اإلبل فيكون داًال على طهارة بول احلي وان املأكول
اللحم ،وهذا مسلك املالكية.
وسلك غريهم من اجلمهور يف طريق اجلمع بني احلديثني طريق التأويل حبمل حديث اإلذن بشرب األب وال على
حال التداوي ،أخذًا من احلال اليت ورد فيها احلديث وأبقي حديث التنزه على حال االختيار.
َّل ِذ
فإن مل ميكن اجلمع بوجه م ا بني املتعارض ني جلأوا إىل النسخ إن علم التاريخ ،وهلذا قالوا يف قوله تع اىل :وا يَن
ُيَتَوَّف ون ِم نُك ْم َوَي َذ ُروَن َأْز َواًج ا َو ِص َّيٌة َألْز َواِج ِه م َّم َتًع ا إىل اَحلْو ِل َغْيَر إخ راج :إّنه منسوخ بقوله تعاىلَ :واَّل ِذ يَن يتوقون
منكم ويذرون أزواجا يرتبص ن بأنُف ِس ِه َّن أربع ة أشهر وعش را ؛ ألَّنه مل ميكن اجلمع بينهم ا ،وق د علم أن آي ة األشهر
متأخرة يف النزول عن آية احلول.
وأيضًا قالوا يف قوله تعاىل :وَيَتَأُّيَه ا اَّلِذ يَن َءاَم ُنوا اَّتُق وا اهلل َو َذُروا َم ا َبِق َي ِم َن الِّربوا إن ُك نُتم ُّم ْؤ ِمِنَني ) إىل قوله حبانه:
﴿َو ِإن ُتْبُتْم َفَلُك ْم ُرُءوُس َأْم َواِلُك ْم اَل َتْظِلُم وَن َواَل تْظَلُم وَن ِإَّنه ناسخ ملا يفهم من قوله تعاىل( :اَل َت ْأُك ُلوا الرب وا أْض َعًف ا
ُمَض َعَفٌة ،حيث كانت آية البقرة متأخرة يف النزول عن آية األضعاف ،وتأتيك أمثلة كثرية ملا سلكوه من طرق اجلمع
بالتخص يص وغ ريه .ه ذا طري ق اجلمه ور ،وه و تق دمي اجلم ع م ىت أمكن على ال رتجيح ،ف إن مل ميكن اجلم ع ،ومل يعلم
التاريخ جلأوا إىل الرتجيح بني الدليلني .
وأما احلنفية ومن معهم فقد سلكوا طريقًا آخر يف دفع التعارض ،وهو أهّن م يبدأون أّوًال بالبحث عن ُم َرّج ح ألحد
ال دليلني على اآلخ ر ،ف إن ظه ر هلم ت رجيح أح د ال دليلني عمل وا ب الراجح وأمهل وا املرج وح وإن مل يظه ر ت رجيح أح د
الدليلني على اآلخر حبث وا عن التاريخ ،فإن علموه جعل وا املتأخر ناسخًا للمتقدم ،وإاّل جلأوا إىل اجلمع بأي وجه مما
تقدم ،ولذا تراهم وقد عمل وا حبديث االستنزاه من البول فحملوه على العموم ،وترك وا حديث شرب أب وال اإلبل؛ ألَّن
ح ديث االس تنزاه أرجح من ه ملا في ه من االحتي اط ،وإن ك ان من املمكن ختصيص ه حبديث شرب األب وال ل و ك انوا
يقدمون اجلمع على الرتجيح ،وكان من حجتهم يف ذلك أَّن العمل بالراجح من الدليلني هو ما يقضي به العقل ،إذ
إن الظَّن ال يقاوم القطع ،فكذا الظّن الضعيف ال يعمل به يف مواجهة الظن القوي عند التعارض بينهما .
ملا كانت أدلة الشرع ال خترج عن كتاب اهلل تعاىل وُس َّنة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،واإلمجاع والقياس،
والقواع د العام ة املس تنبطة منه ا ،وك ان اإلمجاع ال يق ع التع ارض بين ه وبني إمجاع آخ ر ملا يل زم علي ه من خط أ أح د
اإلمجاعني ،وق د أخ رب أن اإلمجاع معص وم عن اخلط أ ،فله ذا ال يق ع التع ارض بني إمجاعني ،وإذا تع ارض اإلمجاع م ع
غ ريه من األدل ة وجب العم ل باإلمجاع ،وتأوي ل ال دليل املع ارض ل ه مبا يتف ق م ع اإلمجاع ،ول ذلك احنص رت ص ور
التعارض إمجاال يف ست صور هي:
- ٦التعارض بني دليل من هذه األدلة وقاعدة من القواعد اليت قال هبا األئمة أو بعضهم.
- ۱فمث ال التع ارض بني نص ني من الكت اب م ا تق ّد م ل ك من التع ارض بني قول ه تع اىلَ﴿ :واَّل ِذ يَن ُيَتَوَّفْو َن
ِل ِب ِس ِه ِم
نُك ْم َوَيَذ ُروَن َأْز َواًج ا َيَتَرَّبْص َن َأنُف َّن َأْرَبَع َة َأْش ُه ٍر َو َعْش ًرا ،وبني قوله سبحانه َ :وُأوَلُت اَأْلْع َم ا َأَج ُلُه َّن َأن َيَض ْع َن
َمَحَلُه َّن ) ،حيث يقتض ي ظ اهر األوىل أن ع دة املت ويف عنه ا زوجه ا هي أربع ة أشهر وعش رة أي ام مطلق ًا س واء ك انت
حامال أم غري حامل ،ويقتضي قوله تعاىلَ﴿ :وُأَو َلُت اَأْلَمْحاِل ) أّن ع ّد ة احلامل هي وضع محلها س واء كانت ُمَطَّلقة أم
متوىف عنها زوجها ،فتعارض ظاهر اآليتني يف احلامل ملتوىف زوجها ،وقد ختلص عامة العلماء من هذا التعارض جبعل
آية الع ّد ة بوضع احلمل خمصصة آلية عدة الوفاة باألشهر ،وقد اتفق احلنفية مع غريهم على سلوك طريق اجلمع بني
الدليلني يف هذا الوضع؛ ألَّنه ال جمال لرتجيح أحد الدليلني على اآلخر ،غري أن احلنفية يقولون :إّن آية وضع احلمل
ناسخة جزئي ًا آلية عدة الوفاة باألشهر؛ ألَّن نزول آية الع ّد ة بوضع احلمل متأخر عن نزول آية عدة الوفاة باألشهر
فكانت منفص لة عنه ا ،وعن دهم أن من شرط التخص يص اتص ال املخص ص باملخص ص ،بينم ا يق ول :إّن ه من ب اب
اجلمع بالتخصيص ،ورمّب ا كان الفرق دقيقًا بني القولني .
وسلك علي وابن عباس له طريق ًا آخر يف اجلمع بني هاتني اآليتني فقاال :إّن املتوىف عنها زوجها إذا كانت
حامال تعتد بأبعد األجلني ،مبعىن أهّن ا إن مضت عليها أربعة أشهر وعشر ليال قبل أن تضع مل تنقض عدهتا إاَّل بوضع
احلمل ،وإن وضعت احلمل قبل أربعة أشهر وعشر مل خترج من عدهتا حىت تتم أربعة أشهر وعش رًا عمًال باآليتني مع ًا،
غري أن مذهب اجلمهور قد تأيد حبديث سبيعة األسلمية حني وضعت بعد وفاة زوجها وقبل مضي أشهر الع ّد ة عليها
فقال هلا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :لقد حللت لألزواج حني وضعت فتزوجي إن شئت» .
ومن األمثل ة أيض ًا م ا تق دم ل ك ك ذلك من التع ارض بني آي يت ع دة الوف اة ،إذ تقض ي إح دامها بأهنا ح ول
كامل ،وتقتضي األخرى أهنا أربعة أشهر وعشر ،وقد العلماء مجع بينهما بنسخ آية احلول بآية األشهر كما سلف.
ومن أمثل ة التع ارض بني نص ني من الكت اب أن يكون يف النص الواح د قراءت ان تقتض ي إح دامها خالف م ا
تقتضيه األخرى ،كما يف قوله تعاىل﴿ ٰٓيَاُّيَه ا اَّلِذ ْي ٰاَم ُنْٓو ا ِاَذا ُقْم ُتْم ِاىَل الَّص ٰل وِة َفاْغ ِس ُلْوا ُوُج ْوَه ُك ْم َاْيِد َيُك ْم ِاىَل اْل اِف ِق
َمَر َو َن
َواْم َس ُحْوا ِبُرُءْو ِس ُك ْم َوَاْرُج َلُك ْم ِاىَل اْلَك ْع َبْي ﴾ حيــث قـرئ لف ظ ( :أرجلكم يف اآلي ة ب اجلّر والنص ب ،ومها قراءت ان
سبعيتان وقراءة اجلر تقتضي مسح الرجلني يف الوضوء؛ ألهَّن ا تكون معطوفة على رؤوسكم ،وفرض الرؤوس مسحها يف
الوض وء ،والعط ف يقتض ي املش اركة يف احلكم ،وأم ا ق راءة النص ب فتقض ي أن املف روض يف ال رجلني غس لهما؛ ألَّن
(أرجلكم حينئ ذ تكون عطف ًا على وج وهكم وأي ديكم ،والوج ه واألي دي فرض هما الغس ل ،فق د تع ارض مقتض ى
القراءتني.
فقال اجلمهور ومنهم األئمة األربعة إن الرجلني فرضهما الغسل ،عمًال مبا تواتر عن رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم من أقواله وأفعاله وتقريراته مما يرجح قراءة النصب.
وذهب بعض العلماء إىل اجلمع بني الق راءتني حبمل ق راءة النصب على حال االختيار ومحل ق راءة اجلر على
لبس اخلف ،كم ا ذهب بعض آخ ر إىل اجلم ع بني الق راءتني بإجياب املس ح والغس ل مع ًا لل ّرجلني يف الوض وء ،وذهب
ابن حزم إىل أن قراءة اجلّر منسوخة بق راءة النصب ،وهو مردود لعدم معرفة التاريخ للق راءتني حىّت يعلم املتقدم منهما
فُينَس خ باملتأخر ،بينما يرى الشيعة عكس ذلك؛ إذ يعملون بقراءة اجلر املقتضية مسح الّرجلني يف الوضوء ،وهو مردود
أيضا بأنه خمالف للمتواتر من ُس نته .
ومن ذل ك أيض ًا قول ه تع اىلَ( :ف اْعَتِزُلوا الِّنَس اَء يِف اْلَم ِح يِض ومن َواَل َتْق َرُب وُه َّن َح ىَّت َيْطُه ْرَن ،حيث ق رأت
بتشديد الطاء وختفيفها مفتوحة ،وقراءة التشديد تقتضي أال حيل القربان من املرأة حىّت تغتسل ملا فيها من املبالغة اليت
تقتضيه أن ينقطع الدم تأيت املرأة بعمل من جهتها زائد على انقطاعه ،واملعهود يف الشرع أنه الغسل ؛ لقوله ألم سلمة
َّ .... :مُث تفيضني عليك املاء فتطهرين ،وهبذا قال اجلمهور.
وأما احلنفية فقد محل وا ق راءة التشديد على ما إذا انقطع ال ّد م دون أقصى مدة احليض ومحل وا ق راءة التخفيف
على ما إذا انقطع الّد م عند بلوغ أقصى مدة احليض ،وذهب غريهم إىل غري ذلك.
- ٢ومثال التعارض بني نصني من الُّس َّنة ما تقدم لك من التعارض بني قوله صلى اهلل عليه وسلم :الثيب
أحق بنفسها من وليها» وقوله :ال تزّوج املرأة املرأة ،وال تزوج املرأة نفسها» ،وقد تقدم لك أّن احلنفية رّج ح وا احلديث
األول لقوة سنده؛ ألن قاعدهتم تقدمي الرتجيح ،وأن غريهم قد مجع بني احلديثني؛ ألَّن القاعدة عندهم وجوب اجلمع
بني األدلة متی صلحت للحجية .
ومن األمثل ة أيض ًا م ا تق ّد م من ح ديث هني ه ص لى اهلل علي ه وس لم عن االنتف اع من امليت ة بش يء ،املع ارض
حلديثه يف شاة ميمونة ،وقد ذهب بعض العلماء إىل اجلمع بني احلديثني حبمل حديث النهي عن االنتفاع بامليتة على
أن ه ال ينتف ع هبا يف األك ل أو حنوه ،كم ا ال ينتف ع باجلل د قب ل دبغ ه ،وأم ا ح ديث شاة ميمون ة فمحم ول على ج واز
االنتفاع باجللد بعد الدبغ ،وذهب بعض آخر من العلماء إىل اجلمع حبمل النهي عن االنتفاع بامليتة على امليتة من غري
مأكول اللحم ،ومحل حديث شاة ميمونة على ميتة مأكول اللحم ،وأما املالكية فقد ذهب وا إىل عدم ج واز االنتفاع
جبلد امليتة مطلقًا إال يف املاء واليابسات ،وذلك بعد دبغه ،ذهاب ًا منهم إىل أن الدبغ ليس مطه رًا على ما هو املشهور
عندهم ،وخالفهم اإلمام أشهب منهم فقال :إّن الّد بغ مطهر جللد امليتة مطلقًا ،كما هو مذهب الظاهرية.
ومن األمثلة أيض ًا ما سبق من تعارض حديثي ابن عمر وابن مسعود اهلل يف رفع اليدين عند الركوع والرفع
منه ،بل إن أكثر ما يرد من التعارض ،إمنا هو بني نصوص السنة ،وقد علمت مذاهب األئمة يف كيفية التخلص منه،
إَّم ا بالرتجيح وإما باجلمع بأي طريق من طرقه ،وإما بالنسخ.
وملا كان حديثا رفع اليدين ال ميكن اجلمع بينهما ،فقد رجح احلنفية حديث ابن مسعود الذي يقضي بعدم
شرعية الرفع إال يف تكبرية اإلحرام بأَّنه موافق للرباءة األصلية ،إذ األصل عدم التكليف ،ورّج ح الشافعية واحلنابلة ومن
وافقهم ح ديث ابن عم ر ال ذي يقض ي مبش روعية الرف ع بأن ه مثبت واملثبت مق ّد م على الن ايف؛ ألَّن الن ايف حيتم ل ع دم
علمه فاعتمد على ما سبق أن شاهده من فعل رسول اهلل ،وأما املثبت فقد حكى ما شاهده بعد ذلك وهو عدل
ضابط فوجب تصديقه يف أخباره وكال القولني موجود عند املالكية .
وأما التعارض بني نص من كتاب اهلل تعاىل وآخر من السنة ،فمن أمثلته ما تق ّد م لك من التعارض بني قوله
تعاىل :لو كتب عليكم إذا حضر أحدكم ا ْو ُت إن ترك خ ًريا اْلَوِص َّيُة للوالدين واَأْلْقَرِبَني ،وقوله :ال وصية ل وارث»،
َمل
وقد علمت أن مجهور العلماء قد ذهبوا إىل نسخ اآلية باحلديث ،وذهب ابن حزم ومن وافقه إىل أن احلديث خمصص
لآلية حيث عملوا باحلديث يف عدم جواز الوصية للورثة من األقربني ،وعملوا باآلية يف األقربني غري الورثة ،فأوجبوا هلم
الوصية.
ومن األمثلة أيض ًا ما سبق من تعارض قوله تعاىل :ناقَرُه وا َم ا َتَيَّس َر ِم َن اْلُقْرَم اِن مع قوله :ال صالة ملن مل
يقرأ بفاحتة الكتاب».
وكذلك ما وقع من التعارض ظاهرًا بني قوله تعاىل :وامنُتُك ُم اليِت َأْرَض ْع َنُك ْم َوَأَخ َواُتُك م من الرضعة ،وبني ما
ي روى عن ه أن ه ق ال« :ال حترم املص ة وال املص تان ،وال اإلمالج ة وال اإلمالجت ان» ،ف إَّن ه ذا احلديث يقتض ي ع دم
التحرمي بالرضعتني وما دوهنما ،وتقتضي اآلية التحرمي هبما إلطالق الّرضاعة يف قوله تعاىلَ :أْرَض ْع َنُك ْم ) وللعموم يف قوله
تعاىل :وِم ن الَّرَض َعِة .
وق د ذهب اجلمه ور إىل نس خ احلديث باآلي ة عمًال بق ول ابن مس عود وابن عم ر وابن عب اس ان ال دال على
النسخ ،وقد سبق أّن من األدلة على النسخ قول الصحايب إن هذا النص منسوخ ؛ ألَّن الَّص حابة قد شاهدوا أوائل
التش ريعات وعرف وا منازهلا وأحواهلا وذهب بعض العلم اء ك ابن ح زم وغ ريه إىل العم ل باحلديث وجعل وه خمصص ًا ملا يف
اآلية من العموم ،ومقّيدًا ملا فيها من اإلطالق ،وقد تأيد قول اجلمهور ،مبا ثبت أّن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قد
فرق بني زوجني زعمت امرأة أهّن ا أرضعتهما ،ومل يسأل عليه الَّص الة والسالم عن مقدار إرضاعهما .
ومثل ذلك قول اجلمهور يف حديث عائشة أهنا قالت :كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات
حيرمن فنسخن خبمس ،وتويف رسول اهلل وهن مما يتلى من الق رآن» ،حيث قال اجلمهور :إّن اخلمس منس وخة أيض ًا
قبل وفاته ،لعدم صحة القول بالّنسخ بعده عليه الَّص الة والَّس الم ،ولكن الشافعية يقولون :إّن هذا احلديث يعترب
مبثابة اخلرب ،وليس قرآنًا ،لعدم تواتره ،وأقل درجات اخلرب أنه آحاد ،وحديث اآلحاد يصح به ختصيص عموم القرآن،
وتقييد مطلقه ،وعلى هذا فقد ذهب وا إىل أن دون اخلمس من الرضعات ال حيرم ،وقد علمت أن هذا احلديث مل يرو
على أنه من الُّس َّنة ،وإمنا يروى على أنه قرآن ،والقرآن ال يثبت بأخبار اآلحاد؛ ألن شرط صحته التواتر .
- 3وأما التعارض بني األقيسة بعضها وبعض ،فمن أمثلته ما تق ّد م من تعارض قياس الوضوء على التيمم،
فإَّنه يقتضي وجوب النية يف الوضوء كما هي واجبة يف التيمم وقد عارضه قياس آخر هو أن يقاس الوضوء على طهارة
النجاسة ،فيقتضي أن ال جتب النية فيه.
وقد ترجح القياس األول مبوافقته حلديث« :إمنا األعمال بالنيات؛ ألَّن هذا احلديث عام يف كل عمل فيشمل
الوض وء؛ ألَّنه من األعم ال ،ولكن احلنفي ة رجح وا القي اس الث اين ملوافقت ه لظ اهر آي ة الوض وء؛ ألهَّن ا مل ت ذكر الني ة من
فروضه ،وقد ورد هذا بأَّن عدم الذكر ال يدل على النفي وأَّن السنةمن وظيفتها البيان وإحلاق بعض ما مل ينص عليه
مبا نص علي ه الق رآن على أّن يف آي ة الوض وء نفس ها إشارة إىل الني ة حيث يق ول اهلل تع اىلِ( :إَذا ُق ِإىَل ال لوِة
َص ْم ُتْم
َفاْغ ِس ُلوا ،)...فإن معناها اغسلوا أعضاء الوضوء بقصد الصالة .
ومن أمثلة تعارض األقيسة أيض ًا أن مسح ال رأس يف الوض وء إذا قيس على مسح الوجه يف التيمم جبامع أن
كال فرض يف طهارة من احلدث ال تستباح الَّص الة إال هبا ،وقد دخلت الباء يف الّنص الدال عليه ،فإَّن هذا القياس
يقتضى وجوب مسح مجيع الرأس يف الوضوء ،كما وجب مسح مجيع الوجه يف التيمم ،وقد عارض هذا القياس قياس
آخر هو قياس مسح الرأس على مسح اخلف ،فإَّن كال منهما فرض يف عبادة واحدة وملا كان اخلف ال جيب استيعابه
باملسح كان الّرأس كذلك غري واجب االستيعاب باملسح.
ه ذا ،وليعلم أّن القياس إذا كان مستقًال بإثبات احلكم بأن مل يكن .مع ه نص يدّل على ه ذا احلكم من
كتاب أو ُس َّنة فإَّن التعارض حينئذ بني األقيسة يوجب النظر فيها ،فإذا تبني رجحان أحدمها وجب تقدميه؛ ألَّنه يفيد
الظن القوي ،وما دونه ال يفيد إاَّل ظنًا ضعيفًا ،وال واجب العمل بأقوى الظنني يف التعارض ،أما إن كان مع القياسني
املتعارضني نص فإَّن القياس يعترب حينئذ لالستئناس وترجيح جانب النص املوافق له ،وحينئذ فالعربة بأقوى الّنصوص
يف الداللة على احلكم.
- 4وأما تعارض القياس مع النص ،فليعلم أوًال :أَّنه ال عربة بتعارض القياس مع نص من القرآن أو ُس َّنة
مشهورة ،إاَّل إذا ُخ صص الّنص قبل ذلك مبا يصح ختصيصه به من نصوص أخرى أو إمجاع ،فإن خص مبا ذكر جاز
ختصيص ه بالقي اس بع د ذل ك ،أَّم ا الُّس َّنة األحادي ة فعن د احلنفي ة يق ع التع ارض بينه ا وبني القي اس املخ الف هلا؛ ألَّن
الشرط عندهم يف ُس َّنة اآلحاد أن ال ختالف القياس ،وقال اجلمهور بتقدمي السنة الصحيحة على القياس إذا مل ميكن
اجلمع بينهما ،فإن أمكن اجلمع مُج ع بينهما بتنزيل ك ّل من النص والقياس على حال ،أو بتخصيص الُّس َّنة بالقياس
فإن مل ميكن اجلمع فال عربة بالقياس .
وق د تق ّد م ل ك من األمثل ة على ذل ك ح ديث النهي عن التص رية ف إَّن احلنفي ة رّدوه مبخالفت ه للقي اس .ولكن
اجلمهور قد عملوا به؛ ألَّنه ال عربة عندهم بالقياس يف مقابلة النص املخالف له .
ومن األمثلة على ختصيص الكتاب العزيز بالقياس أَّن قوله :فإذا أحصن فإن أتني بفاِح َش ة َفَعَلَنْي َيْص ُف َم ا
َعَلى اْلُم ْحَص َناِت ِم َن اْلَع َذ اِب يفيد أَّن األمة إذا زنـت بـعـد الزواج يكون عليها نصف احلّد ال واجب على احلرة؛ أي:
أن جتلد مخسني وهذا الَّنص خمَّص ص؛ لقوله تعاىل( :الَّزاَيُة وال زاين فاجِل ُد وا ُك َّل َوِه ٍر ِّم ْنُه َم ا ِم اَئَة َج ْل َد ٍة ،وإذن فيمكن
ختصيص هذا النص األخري بقياس العبد على األمة حىّت يكون عليه نصف حد احلّر إذا زىن .
- ٦بقي التمثيل لتعارض بعض القواعد مع بعض األدلة ،وقد مثل وا هلذه بقوله « :ال حيل دم امرئ مسلم
إال بإح دى ثالث؛ زن ًا بع د إحص ان ،وكف ر بع د إميان ،والَّنْف ُس ب الَّنفس» ،ف إَّن ه ذا احلص ر يقتض ي أن ال حيل قت ل
مسلم بغري إحدى هذه اخلصال ،وقد عارضه بعض القواعد العامة املأخوذة من الش ريعة وهي حفظ اجملتمع وسالمته
من تغلب الكف ار علي ه ،فل و أَّن أح دًا جتس س على املس لمني وأبل غ إىل أع دائهم من الكّف ار م ا ق د ي ؤدي إىل تغلب
الكفار عليهم ،وكذا لو َتّرَتس الكفار ببعض املسلمني بأن جعلوهم حائال ال ميكن تغلب املسلمني عليهم إال بقتل
من ترتس وا ب ه من املس لمني ،ف إَّن املص لحة تقتض ي قت ل اجلاس وس وقت ل ال رتس حفاظ ًا على مجاع ة املس لمني ،فق د
جعلت القواع د العام ة حاكم ة على الّنص بتفس ري احلص ر في ه بأن ه للمبالغ ة ،احتياط ًا لل دماء أو دّلت على أن ه من
احلصر اإلضايف الذي ال ينايف وجود فرد آخر مياثله يف احلكم.
السبب الرابع من أسباب اختالف األئمة :ما يرجع إىل العرف : -
العرف هو العادة الشائعة بني املسلمني وهو عند األئمة دليل معترب فيما مل يرد فيه نص خاص يبطله ،فإن
ورد ما يبطله من النصوص صار العرف غري معترب ،كما يف شرب اخلمر ،والتعامل بالربا ،وغري ذلك من العادات اليت
كانت شائعة يف صدر اإلسالم فمحاها اإلسالم بعد ذلك وأبدهلا بالتشريعات الصحيحة الصاحلة وكذا لو وردت
نصوص عامة تصادم العرف ومل ميكن تطويع العرف هلا كان العرف باطًال ال جيوز العمل به ،أما إن أمكن تطويع
العرف للنصوص ،بأن أمكن ختصيص الّنصوص به ،ومل يرتتب على ذلك مفسدة جاز ختصيص الّنص به كما يف
االستصناع ،وهو أن يذهب شخص إىل اخلياط ليدفع إليه ثوبًا خييطه بأجر معلوم على أن يكون اخليط وبطانة القوب
أو حشوه وحبكته من اخلياط ،فإَّن ذلك وإن كان خمالفًا لظاهر النصوص العامة اليت تقتضي تعيني األجرة والعلم هبا
كما تقتضي العلم بالبيع والّثمن واالستصناع ليس فيه ذلك حيث أمجلت األجرة ومثن ما معها دون تعيني ،لكن هذه
املخالفة ال ينشأ عنها ضرر يؤّدي إىل الّنزاع ،ملا حيدث غالبًا من االتفاق على وصف كّل شيء مما يتفقان عليه.
لذا مل يكن هناك مانع من ختصيص النصوص العامة هبذا العرف ومثله كثري ،مما يقع بني الناس يف معامالهتم
من شراء منزل ال ميكن الكشف عن جداره املدفون يف األرض أو شجرة ال يعلم مدى امتداد جذورها ،إىل غري ذلك.
ومن املعروف أن عادات الناس وأع رافهم ختتلف باختالف األمصار واألقطار ،فإَّن لكّل قطر من العرف ما
ق د خيالف اآلخ ر ،وق د شرط العلم اء يف حتكيم الع رف وال نزول علي ه يف ختص يص الّنص وص أن يكون عام ًا ،حبيث
يكون شامًال لقطر أو أقطار كبالد الغرب أو بالد الشام أو مصر أو احلجاز ،ومن املعلوم أّن ك ّل قطر من األقطار قد
نشأ فيه إمام أو أكثر ،كما نشأ اإلمام أبو حنيفة يف العراق ،ونشأ اإلمام مالك يف احلجاز ،ونشأ أئّم ة آخرون يف بالد
الغرب ومصر وكثري من األقطار ،فتأثروا بعادات بالدهم والبيئات اليت نشأوا فيها ،وكان هلم يف اجتهادهم من النظر
يف النصوص مبا يوّفق بينها وبني ما تعارف عليه أهل بالدهم ،ورمبا اختلفت وجهات أنظارهم ،تبعًا الختالف بيئتهم،
وترتب على ذلك اختالف فتاويهم ،ولذا أفىت بعض العلماء يف بعض األقطار :بأنه ال جيوز أخذ األجرة على تعليم
القرآن ،تبع ًا ملا ألفوه يف بالدهم ووجدوا عادات الناس عليه ،وأفىت آخرون باجلواز ،حيث مل جيد يف بالده من يقوم
ب التعليم حس بة دون أج ر ،فوج د من املص لحة ت أجري املق رئني لتعليم الن اس الق رآن نش رًا للق رآن ،وتيس ريًا للن اس يف
حتفيظه ،كما أّن بعض األئمة يرى جواز بيع مثار البستان إذا ظهر الصالح يف بعضه ،بينما مل جيوز غريه ذلك ،وهذا
كله من اختالف العرف والعادات تبعًا الختالف البالد.
السبب اخلامس من أسباب اختالف األئمة :ما يرجع إىل األدلة املختلف فيها بينهم : -
إن األئم ة اهلالل بع د أن اتفق وا يف اجلمل ة على حجي ة كت اب اهلل تع اىل وُس َّنة رس وله ص لى اهلل علي ه وس لم
واإلمجاع ،اختلف وا بع د ذل ك يف االحتج اج بغ ري ه ذه األدل ة ،فق ال بعض هم هبا أو ببعض ها ومل حيتج هبا اآلخ رون،
وسنذكر من هذه األدلة التىي اختلف وا فيها ستة أدّلة جنعلها فيما يليّ ،مُث نذكر كلمة عن كل دليل منها ،فأما إمجاهلا
فهو:
- ١القياس .
- 5استصحاب األصل.
وهو كما ستعلمه يف علم األصول تشبيه أمر بآخر يف علة احلكم ليأخذ مثل حكمه ،ويسّم ى املشبه يف هذه
احلال ة مقيس ًا واملش به ب ه مقيس ًا علي ه ،ووج ه الش به بينهم ا ه و عل ة احلكم ،وحكم املش به ب ه ه و ال ذي يثبت مثل ه
للمشبه ،وبعبارة أخرى يسّم ى املشبه به أص ًال ،واملشبه فرع ًا ،واجلامع بينهما عّل ة ،وملا كان األصل ،إمنا يثبت حكمه
بنص أو إمجاع كان هذا احلكم من أركان القياس ،وكان نتيجة القياس هو ثبوت مثل حكم األصل للفرع ،ومثال ذلك
:أن يق ال :أّن الرُب ق د ثبت باحلديث الش ريف أن ه حيرم فيه الرب ا ،وملا ك ان األرز يش به الرب يف كون ك ل منهما قوت ًا
للناس ،وجب أن يكون مثل الرب يف حكمه ،وهو حرمة الربا فيه
وق د اتف ق األئم ة كّلهم على حج ة القي اس ،ف أثبتوا ب ه كث ريًا من األحكام ،ب ل إّن القي اس يعت رب من مف اخر
الش ريعة اإلسالمية ،وأسباب مرونتها وصالحيتها ومشوهلا لكل ما جيد من احلوادث اليت مل يوجد فيها نص من كتاب
أو ُس َّنة.
غ ري أّن الظاهري ة مل يقول وا حبجيت ه م ع قي ام األدل ة عليه ا وانب ين على ذل ك خالفهم للجمه ور يف كث ري من
األحكام ،نذكر من ذلك ما سبق أهّن م خالفوا يف ثبوت حرمة الربا يف غري األصناف الستة املنصوصة يف احلديث ،وقد
تقدم ذكره بينما ذهب عامة الفقهاء من الَّص حابة ومن بعدهم إىل ثبوت حرمة الّربا يف األصناف السّنة وكّل ما ماثلها
من غريها؛ كاألرز ،والعدس ،والسمسم ،واللوبيا وحنوها ،وإن كان األئمة األربعة قد اختلف وا يف املعىن الذي يناط به
حرم ة الرب ا ،فمنهم من ق ال :إَّنه احتاد اجلنس م ع التق دير بالكي ل أو ال وزن ،ومنهم من ق ال :إَّنه الص الحية لطع ام
اآلدمي ،ومنهم من قال :إَّنه االقتيات واالدخار ،وقد قال ابن رشد يف بداية اجملتهد« :عن ثبوت حرمة الّربا يف غري
األص ناف املذكورة يف احلديث ،إمّن ا هو من باب الثابت بداللة النص ،ألَّن األصناف املذكورة يف احلديث قد ذكرت
للتنبي ه هبا على ثب وت احلكم فيم ا يس اويها ،أو م ا ه و أوىل منه ا ب احلكم» ،فه و مث ل قول ه تع اىلَ ﴿ :واَّل ِذ ْيَن َيْرُم ْو َن
اْلُم ْحَص ٰن ِت َّمُث ْمَل َيْأُتْوا ِبَاْرَبَع ِة ُش َه َد ۤاَء َفاْج ِل ُد ْوُه ْم ٰمَثِنَنْي َج ْل َد ًة ﴾ فقد نصت هذه اآلية على حكم من قذف احملصنة
من النساء ،ومل تذكر حكم من َقَذ َف احملصن من الّرجال فثبت احلكم له بداللة النص.
ذلك أيضًا أّن الظاهرية قالوا :إذا مات غري ومن الفأرة يف الَّس ْم ِن أو غريه مل يتنجس ،بناء على أن النص قد
ورد يف موت الفأرة يف الَّس ْم ن فقط بينما يقول غريهم من األئمة :إَّن ك ّل ذي دم ذايت إذا مات يف سائل غري املاء
فإنه ُينجسه قياسًا على الفأرة إذا ماتت يف الَّس ْم ِن .
فذهب احلنفية إىل ح ّل الزواج هبا يف احلالتني؛ ال يقولون حبجية مفهوم املخالفة ،فهو عندهم ال يدّل على
نفي احلكم ،بل احلكم عند انتفاء القيد مبثابة املسكوت عنه يبقى على حكم األصل وهو احلّل ،وذهب اجلمهور إىل
أنه ال جيوز ملن وجد الطول إىل احلّرة أن يتزوج األمة مطلق ًا ،وال ملن مل جيد الطول أن يتزّوج أمة كتابية؛ ألن مفهوم
املخالفة عندهم ُح َّج ة ،فينتفي احلكم بانتفاء شرطه أو قيده الذي قّيد به ما مل يوجد نص يدّل على خالفه ،فإن وجد
نص قدم ؛ ألَّن الصراحة أقوى من داللة املفهوم.
ق د اشتهر من بني الَّص حابة أن اس ص اروا أعالم ًا الفت وى ،يرج ع إليهم يف كث ري من األحي ان؛ كعم ر بن
اخلطاب ،وعلي وابن مسعود وغريهم ،فلو أفىت صحايب من أمثال هؤالء يف حادثة حبكم ،واشتهرت فت واه ،ومل يعرف
له خمالف يف عهده فقد قال العلماء مجهور من األئمة :إَّن قوله حّج ة ،جيب العمل مبقتضاها ،وخالف يف ذلك بعض
العلماء كالظاهرية حيث قالوا :ال حجة يف قول أحد دون رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،ومن مث اختلف وا يف عدة
األم ة املطلق ة إذا ك انت من ذوات االق راء ،فق د أفىت فيه ا عم ر بن اخلط اب له بأهنا تعت ّد بق رئني ،وهبذا أخ ذ مجهور
العلماء ،وخالف الظاهرية ،وقالوا :إن عدهتا كعدة احلرة ثالثة أقراء .
كم ا اختلف وا أيض ًا فيمن طل ق امرأت ه ثالث تطليق ات يف جملس واح د ه ل يلزم ه ثالث طلق ات أم واح دة،
وذلك أن عمر بن اخلطاب قد ألزمه الثالث واشتهرت فتواه بذلك ،ومل يعلم له خمالف يف عهده ،فذهب اجلمهور إىل
لزوم الثالث ،وخالف بعض العلماء يف ذلك .وسيأيت حتقيق هذا يف مبحث خاص إن شاء اهلل تعاىل.
الدليل الرابع :املصاحل املرسلة:
املصلحة ما يتحقق هبا نفع ،أو يندفع هبا ضرر ،واملراد بكوهنا مرسلة أهّن ا مل يرد فيها نص خاص يؤيدها أو
يعارضها ولكن علم أهّن ا مما حيتاجه املسلمون يف إصالح جمتمعهم ودفع املفسدة عنه ،وقد مثل وا هلا مبا تق ّد م من ترتس
الكف ار ببعض املس لمني ،حبيث ل و مل يقت ل الرّت س ألدى إىل تغُّلب الكّف ار عليهم فه ل جيوز قت ل ال رتس املس لم ح ىت
يتوص ل ب ه إىل قت ل الكّف ار املتّرتس ني؟ وهبذا ق ال اإلم ام مال ك تعلل ه بن اًء من ه على أّن األص ل يف التش ريع اإلس المي
مراعاة مصاحل املسلمني ،فإذا مل يوجد من النصوص ما يعارض هذه املصلحة ،حبيث يدّل على إلغائها ،فإَّنه يف هذه
احلالة حيكم باجلواز ،بناء على أّن املصاحل املرسلة حجة عنده ،إحلاق ًا هلا باملعهود من الشرع يف أنه ي راعي املصاحل يف
التش ريع .وق د خ الف غ ريه يف ذل ك ألَّن من املص احل م ا نص على إلغائ ه ،ومنه ا م ا نص على اعتب اره ،فأص بح غ ري
املنصوص عليه مرتّددًا بني املعترب وامللغى ،وحيث مل يرتجح جانب االعتبار مل جيز احلكم على مقتضاه ،وقد رأيت أن
املالكية قد رّج حوا جانب االعتبار بكونه أغلب ما عهد من الشرع .
ومعناه :أن حيكم على الشيء يف املستقبل مبا ثبت له من احلكم يف املاضي ،وقد قال به الشافعية وغريهم
رمحهم اهلل .ولذا قالوا :إّن من فقد ومل ُيعلم حاله من حياة أو موت أنه حيكم ببقاء حياته استصحابًا لألصل؛ ألَّنه
قد فقد وهو حي فيبقى له هذا احلكم حىّت يعلم ما يدّل على خالفه ،وإذن فتبقى زوجته يف عصمته كما يبقى ماله
يف ملكه ويرث غريه إن مات له من يرثه وخالفهم غريهم فقالوا :إّنه يضرب له أجل للبحث عنه ،حىَّت إذا انقطع
األمل يف العثور عليه قضي بوفاته واعتدت ،امرأته وورث ماله ،ومل َيِرث هو من غريه بناء على أن احلكم يتبع غلبة
الظّن ،فمىت غلب على الظن موته عمل ،به وانبنت عليه أحكامه؛ ألَّن غلبة الظّن كالعلم من األحكام.
الدليل السادس :عمل أهل املدينة:
واملراد بأه ل املدين ة من ك انوا فيه ا يف عه د أص حاب رسول اهلل ص لى اهلل عليه وس لم وعه د الت ابعني الذين
أدركهم اإلم ام مال ك ختلل ه ،ف إذا شاع العم ل بينهم حبكم مل خيتلف وا في ه فيم ا بينهم ،وإمَّن ا خ الفهم غ ريهم من أه ل
األمصار األخرى فإن اإلمام مالك نعاله أن یری عمل أهل املدينة أرجح من عمل غريهم فيقدم ما اجتمع وا عليه على
ما اجتمع عليه غريهم حيث مل يوجد من النصوص ما يؤيد فريق ًا دون آخر ،أو وجد مع كل فريق ُس َّنة تؤّيده ؛ ألَّن
رواية أهل املدينة للسنن أرجح من رواية غريهم ،فكذا يق ّد م عملهم؛ ألنه مبثابة املنقول املستفيض ملا شاهده التابعون
من عمل الصحابة الذين شاهدوا فعل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أو تقريره .بينما يرى غري املالكية أّن الَّص حابة
ق د تفّرق وا يف األمص ار ،وق د ك ان م ع ك ل منهم علم َّمما حفظ ه عن رس ول اهلل ص لى اهلل علي ه وس لم .وال خصوص ية
ألهل املدينة ميتازون هبا على غريهم ،وقد نشأ عن ذلك اختالفهم يف مقدار الصاع من األمداد ،إىل غري ذلك من
بعض األحكام.
وفيما ذكرنا من األمثلة كفاية وسنشرع بعون اهلل تعاىل يف املواضيع املق ّرر تطبيقها على ما تقدم من أسباب
اخلالف .