Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 53

‫الم َّدعى عليه‬‫الحكم على ُ‬ ‫ُ‬

‫لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬

‫عبد الرحمن بن يوسف اللحيدان‬


‫القاضي في المحكمة العامة بمكة المكرمة‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫الجمعية العلمية القضائية السعودية (قضاء)‬


‫مركز قضاء للبحوث والدراسات‬

‫‪‬‬
‫‪00966552689988‬‬
‫‪‬‬
‫‪00966112584669‬‬
‫‪‬‬
‫‪00966112584701‬‬

‫‪ M@qadha.org.sa‬‬
‫‪ www.qadha.org.sa‬‬
‫‪ @qdha‬‬
‫‪   /qadha.ksa‬‬

‫‪2‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫‪‬‬
‫مقدمة‬
‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم عىل املبعوث رمحة‬
‫للعاملني‪ ،‬نبينا حممد وعىل آله وصحبه أمجعني أما بعد‪:‬‬
‫فإن القضاء من أعظم ما تقوم عليه ركائز الدولة املسلمة‪،‬‬
‫واحلكم بام أنزل اهلل ‪ -‬تعاىل ‪ -‬شعرية من شعائر اإلسالم التي ال‬
‫جيوز تركها‪ ،‬ومن نِ َع ِم اهلل علينا يف هذه البالد أن َج َعل لنا القرآن‬
‫ٍ‬
‫قاض يف‬ ‫وح َّق ِّ‬
‫لكل‬ ‫مرجع ًا و َمصدر ًا لألحكام الرشعية‪ُ ،‬‬ ‫والسنة ِ‬
‫وإن بحث مسائل القضاء بعامة‬ ‫هذه البالد أن َي ْف َرح هبذه النعمة‪َّ ،‬‬
‫من األمهية بمكان‪ ،‬ال سيام وفيها البحث عام يصيب به القايض رشع‬
‫اهلل‪ ،‬وقد أكثر فقهاء األمة من الكالم عىل أحكام القضاء والتفصيل‬
‫ال ليس بعده ذكر‪ ،‬وما زال قضاتنا ‪ -‬بحمد اهلل تعاىل ‪-‬‬ ‫فيها تفصي ً‬
‫حلكَّام‪ ،‬مقتدين هبدهيم‪،‬‬ ‫سلف من القضاة وا ُ‬ ‫َ‬ ‫متتبعني آلثار من‬
‫وي ُس ُن أن نتذاكر مسائل قد ُتر َفع فوق‬ ‫متمسكني بام عليه األوائل‪ْ َ ،‬‬
‫قدرها‪ ،‬أو تعطى فوق ما تستحقه يف ميزان العدل‪ ،‬ومن ذلك مسألة‬
‫القضاء عىل الغائب‪ ،‬ولن أتكلم ها هنا عن املسألة ب ُع َجرها و ُب َجرها‪،‬‬
‫مدونة يف كتب الفقه ويسهل الوصول‬ ‫فقد أكثر فيها ال ُك َّتاب وهي َّ‬
‫حمل للطرح وال للنظر يف‬ ‫إليها‪ ،‬وإنام أردت اإلشارة إىل مسألة ليست َّ ً‬
‫كالم الفقهاء‪ ،‬وإنام ُوجد الكالم فيها مؤخر ًا‪ ،‬وهي مسألة‪( :‬احلكم‬
‫وسأبي فيها كالم فقهاء املذاهب‬ ‫ِّ‬ ‫املدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة)‪،‬‬
‫عىل َّ‬

‫‪3‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫األربعة وغريهم‪ ،‬وما أذكره ها هنا تذكر ٌة ومعذر ٌة َّ‬


‫لعل اهلل أن يرمحنا‬
‫يوم نلقاه واحلمد هلل أوالً وآخر ًا‪..‬‬
‫ٍ‬
‫قرب‬ ‫واملسأل ُة التي أردت احلديث عنها مسألة أعنوهنا بسؤال ُي ِّ‬
‫صورهتا‪:‬‬
‫املدعى عليه وسيلة من وسائل اإلثبات وطريق من‬
‫(هل غياب َّ‬
‫بمجردها؟)(‪.)1‬‬
‫َّ‬ ‫طرق احلكم‬
‫توس ٍع يف‬
‫وسأحص الكال َم عىل ما خيدم بحث هذه املسألة دون ُّ‬
‫ُ ُ‬
‫حكم القضاء عىل الغائب فليس هذا موضعه‪.‬‬
‫وقد رأيت أن أفصلها يف املسائل التالية‪:‬‬
‫املسألة األوىل‪ :‬املراد بالغائب يف كالم الفقهاء‪.‬‬
‫املسألة الثانية‪ :‬حكم القضاء عىل الغائب‪.‬‬
‫املسألة الثالثة‪ :‬رشط سامع الدعوى عىل الغائب‪.‬‬
‫ي َم ُل غياب َّ‬
‫املدعى عليه؟‬ ‫املسألة الرابعة‪ :‬عال َم ُ ْ‬
‫املسألة اخلامسة‪ :‬هل يلزم عند احلكم عىل الغائب وسامع‬
‫املدعي اليمني؟‬
‫ف َّ‬‫يلِ َ‬
‫البينة أن َ ْ‬
‫املدعى عليه لتغيبه دون بينة‪.‬‬
‫املسألة السادسة‪ :‬احلكم عىل َّ‬
‫واهللَ أسأل أن ييرس يل إهناء البحث فيها‪ ،‬وأن يبلغني ما متنَّيت‬
‫وأن جيعل ما كتبت شاهد ًا يل ال َّ‬
‫عيل إنه ويل ذلك والقادر عليه‪.‬‬

‫((( وال يدخل يف الكالم عىل هذه املسألة تغ ُّيب املدعى عليه بعد توجيه اليمني‬
‫عليه؛ إذ أن تلك مسألة أخرى خارجة عن حدود هذا البحث‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫املسألة األوىل‪ :‬املراد بالغائب يف كالم الفقهاء‬


‫أ ْط َل َق الفقهاء مصطلح الغائب‪َ ،‬‬
‫وس َّموا من يعنون به يف وصفهم‬
‫هذا وهم‪:‬‬
‫(‪ )1‬الغائب عن البلد‪:‬‬
‫ال ليحرض إىل البلد‪ ،‬وجعل‬ ‫وهو املسافر الذي حيتاج وقت ًا طوي ً‬
‫الغائب عىل حالني‪ :‬األول‪ :‬البعيد ُب ْع َد ًا متوسط ًا‪ :‬وهو الذي‬
‫َ‬ ‫املالكية‬
‫يبعد عن البلد قدر مسري عرشة أيا ٍم مع األمن أو مسافة يومني مع‬
‫اخلوف‪ ،‬الثاين‪ :‬البعيد جد ًا كالذي سافر من مكة إىل إفريقية ونحو‬
‫ذلك(‪ ،)1‬والغائب عند الشافعية‪ :‬من كان بمسافة بعيدة وضبطوه‬
‫بأنه‪ :‬الذي ال يرجع إىل موضعه ليالً‪ ،‬وقيل‪ :‬من كان عىل بعد مسافة‬
‫قرص(‪ ،)2‬وهبذا قال احلنابلة أيض ًا ‪ -‬أعني بأنه من كان عىل مسافة‬
‫قرص ‪.)3( -‬‬

‫((( ينظر‪ :‬البيان والتحصيل ط دار الغرب اإلسالمي (‪ ،)180/9‬ورشح اخلريش‬


‫عىل خمترص خليل ط دار الفكر (‪ )156/7‬و(‪ ،)172/7‬أما احلال الثالثة‪ :‬فقد‬
‫عدوا املدَّ عى عليه فيها حارض ًا كام سيأيت‪ ،‬وهي ما دون الثالثة أيام‪.‬‬
‫((( ينظر‪ :‬منهاج الطالبني ط دار الفكر ص(‪.)342‬‬
‫((( ينظر‪ :‬الكايف يف فقه اإلمام أمحد ط دار الكتب العلمية (‪ ،)241/4‬واإلنصاف‬
‫يف معرفة الراجح من اخلالف ت الرتكي (‪ ،)518/28‬ورشح املنتهى ط عامل‬
‫الكتب (‪ ،)530/3‬وكشاف القناع ط دار الكتب العلمية (‪.)353/6‬‬

‫‪5‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫(‪ )2‬املسترت يف البلد(‪:)1‬‬


‫قدر عليه(‪.)2‬‬ ‫وهو املمتنع عن احلضور الذي ال ُي َ‬
‫ض‬ ‫الح ُظ هذا القيد‪ :‬وهو االمتناع عن احلضور‪ ،‬أما إن مل َ ْ‬
‫يُ ُ‬ ‫و ُي َ‬
‫ملجلس احلكم ولكنه مل يمتنع فقد اتفق أهل العلم أنه ال جيوز احلكم‬
‫عليها(‪.)3‬‬
‫عد املمتنع يف حكم الغائب احلنابلة والشافعية‪ ،‬وذلك‬ ‫ويت ِّف ُق عىل ِّ‬
‫إذا ُوجد االمتناع واالستتار‪.‬‬
‫املدعى عليه‬‫حيض َّ‬‫ويث ُب ُت االمتناع واالستتار عند الشافعية إذا مل ُ ِ‬
‫ي ُض خالل ثالثة‬ ‫بعد بعث القايض من ينادي عىل داره بأنه إن مل َ ْ‬
‫ي ُض بعد هذا‬ ‫تم عليه‪ ،‬فإن مل َ ْ‬ ‫أيا ٍم ‪ -‬مث ً‬
‫ال ‪ -‬فإنه س ُي َس ِّمر بابه‪ ،‬أو َي ُ‬
‫اإلنذار‪ُ ،‬ع َّد ممتنع ًا‪ ،‬وجاز احلكم عليه(‪.)4‬‬
‫((( الغائب دون الثالثة أيام عند املالكية ال تسمع الدعوى عليه إال ببينة‪ ،‬ويكتب‬
‫إليه بشأن البينة ويعذر إليه يف كل حق‪ ،‬فإن مل يوكِّل ومل يقدُ م حكم عليه يف كل‬
‫يشء كاحلارض‪ ،‬ينظر‪ :‬البيان والتحصيل ط دار الغرب (‪ ،)180/9‬والرشح‬
‫الكبري للدردير ط دار الفكر (‪.)162/4‬‬
‫((( ينظر‪ :‬حاشية الرميل عىل أسنى املطالب ط دار الكتاب اإلسالمي (‪،)315/4‬‬
‫والبيان يف مذهب اإلمام الشافعي ط دار املنهاج (‪ ،)105/13‬ورشح املنتهى‬
‫ط عامل الكتب (‪.)530/3‬‬
‫((( ينظر‪ :‬القبس يف رشح موطأ مالك بن أنس ط دار الغرب ص(‪ ،)877‬واملسالك‬
‫يف رشح موطأ مالك (‪ ،)250/6‬وحكى االتفاق عىل هذا ابن القيم يف الطرق‬
‫احلكمية ط عامل الفوائد (‪.)524/2‬‬
‫((( ينظر‪ :‬البهجة الوردية ط امليمنية (‪ ،)266/5‬وحكى املاوردي من الشافعية‬
‫بأن االمتناع يثبت بغري ذلك فلينظر تفصي ً‬
‫ال يف احلاوي الكبري ط دار الفكر‬
‫(‪.)373/20‬‬

‫‪6‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫املدعى عليه من‬


‫ويثبت االمتناع واالستتار عند احلنابلة‪ :‬إذا أبى َّ‬
‫احلضور بعد إبالغه بطلب القايض له‪ ،‬فإن أبى أمر القايض صاحب‬
‫الرشطة بإحضاره فإن مل يستطع أ ْق َع َد عىل بابه من ُي َض ِّي ُق عليه يف‬
‫أرص عىل عدم‬ ‫دخوله وخروجه أو ما يراه احلاكم من التضييق فإن َّ‬
‫التغ ُّيب ُح ِك َم عليه(‪.)1‬‬
‫ويزيد املالكية رشوط ًا لسامع الدعوى ضد احلارض يف البلد‬ ‫ُ‬
‫أقل من ثالثة‬ ‫املمتنع من احلضور ومن كان مثله كالغائب مسافة ِّ‬
‫ويعذر إليه أوالً‬‫أيام‪ ،‬فيشرتطون للح ْك ِم عليه أن ي ْك ُتب إليه القايض ِ‬
‫َ َ‬ ‫ُ‬
‫حق‪ ،‬وي ِ‬
‫علمه أنه إن مل ُيوكِّل ومل‬ ‫يف احلضور وثاني ًا يف الب ِّينة ويف ِّ‬
‫كل ٍّ ُ‬
‫قدم للحكم عليه فيعامل معاملة احلارض(‪.)2‬‬ ‫َي ُ‬
‫وليس َع ُّد من هذا حاله حارض ًا عىل سبيل التخفيف عندهم‬
‫‪ -‬أعني املالكية ‪ ،-‬بل عىل سبيل التشديد؛ ألهنم شددوا كام ترى يف‬
‫املدعي عىل من هذه‬ ‫اإلعذار إليه حتى مع الب ِّينة‪ ،‬فحتى إن كان مع َّ‬
‫حاله ب ِّين ٌة فال ُيك َت َفى هبا‪ ،‬بل ال ُب َّد بعد سامع الب ِّينة من إعذار َّ‬
‫املدعى‬
‫عليه الذي يف البلد‪ ،‬و ُي َمكِّنو ُه من جرح الب ِّينة‪ ،‬وال يلزم عندهم‬

‫قوال واحد ًا‪ ،‬نص عىل ذلك أبو الربكات ابن‬ ‫(((  حيكم عىل من كان هذا حاله ً‬
‫تيمية يف املحرر يف الفقه ط مكتبة املعارف (‪ ،)210/2‬وأطلق احلنابلة االمتناع‬
‫واالستتار ومل أجد هلم يف ذلك حد ًا‪ ،‬وقد تناقلوا ما قرره أبو الربكات‪ ،‬ينظر‪:‬‬
‫رشح الزركيش عىل خمترص اخلرقي ط العبيكان (‪ ،)290/7‬واإلنصاف‬
‫للمرداوي ت الرتكي (‪.)525/28‬‬
‫((( ينظر‪ :‬البيان والتحصيل ط دار الغرب اإلسالمي (‪.)180/9‬‬

‫‪7‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫فشد ُدوا يف هذا تشديد ًا مل‬ ‫حيلف اليمني مع الب ِّينة إذا أقامها(‪َّ ،)1‬‬ ‫أن ِ‬
‫ُي َش ِّد ْد ُه احلنابلة والشافعية(‪ ،)2‬ونص ابن تيمية ‪ ‬عىل نحو ما‬
‫نص عليه املالكية يقول‪« :‬وإن أمكن القايض أن ُيرسل إىل الغائب‬
‫رسوالً‪ ،‬ويكتب إليه الكتاب والدعوى وجييب عن الدعوى بالكتاب‬
‫والرسول = فهذا هو الذي ينبغي‪ ،‬كام فعل النبي ‪‬‬
‫عليهم َق ْت َل صاحبهم‪ ،‬وكا َت َب ُهم‬‫األنصاري ِ‬
‫ُّ‬ ‫بمكاتبة اليهود َّملا ا َّدعى‬
‫ِ‬ ‫ومل ُي ِ‬
‫إنكار ُه إذا‬
‫ُ‬ ‫إقرار ُه أو‬
‫ب ُ‬ ‫كل غائب ُطل َ‬ ‫ض ُهم‪ ،‬وهكذا ينبغي يف ِّ‬ ‫ْ‬
‫مل ُي ِقم الطالب ب ِّينة‪ ،‬وإن أقام ب ِّينة فمن املمكن أيض ًا أن يقال‪ :‬إذا كان‬
‫اخلصم يف البلد مل جيِب عليه حضور جملس احلاكم‪ ،‬بل يقول‪ :‬أرسلوا‬
‫رسول‬‫ٌ‬ ‫عيل‪ ،‬وإذا كان ال ُب َّد أن يقوم مقامه‬ ‫إيل من يعلمني بام َّيدعي به َّ‬ ‫َّ‬
‫يب ِّلغه الدعوى‪ ،‬فإن املقصود من حضور اخلصم سامع الدعوى ور ُّد‬
‫ٍ‬
‫بإقرار أو إنكارٍ»(‪.)3‬‬ ‫اجلواب إما‬

‫((( ينظر‪ :‬ورشح خمترص خليل للخريش ط دار الفكر (‪.)163-162/7‬‬


‫((( لكوهنم يسمعون الب ِّينة عىل من هذا حاله‪ ،‬ويوجبون اليمني عىل املدَّ عي‪،‬‬
‫واملقصود‪ :‬أن قول املالكية بعدِّ ه حارض ًا ال غائب ًا ليس من باب التسهيل؛ إذ أن‬
‫قوهلم أشد من قول الباقني مع اشرتاطهم للبينة عند سامع الدعوى ضده‪.‬‬
‫((( األخبار العلمية من االختيارات الفقهية للبعيل ت اخلليل ص(‪ ،)489‬ثم قال يف‬
‫ص(‪« :)490‬ثم وجدت هذا منصوص ًا عن اإلمام أمحد يف رواية أيب طالب‪»...‬‬
‫وحكى عن اإلمام أمحد يف جواز القضاء بالعني املودعة عىل الغائب وأن اإلمام‬
‫أمحد قال‪« :‬ومن قال بغري هذا يقول‪ :‬له أن ينتظر بقدر ما يذهب الكتاب وجييء‪،‬‬
‫فإن جاء وإال أخذ الغالم املو َدع»‪ ،‬ثم ع َّلق ابن تيمية فقال‪« :‬وكالمه حيتمل ختيري‬
‫احلاكم بني يقيض عىل الغائب وبني أن يكاتبه يف اجلواب»ا‪ .‬هـ ونقلتها للفائدة‬
‫إذ تصلح لتخريج جواز األخذ بام ُأ ِد َع من املذكرات اجلوابية ونحوها‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫ت املم َتنِ َع عن احلضور‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬


‫والفرق أن الشافعية واحلنابلة جيعلون املس َت َ‬
‫يف ُحك ِم الغائب‪ ،‬وأما املالكية فيجعلو َن ُه كاحلارض‪ ،‬ومع ذلك‪ :‬فإن‬
‫اجلميع يشرتط وجود الب ِّينة وال جييز سامع الدعوى بدوهنا وسيأيت‪.‬‬
‫(‪ )3‬امليت ومن يف حكمه كغري املكلفني‪:‬‬
‫فغري املك َّلفني كالصبيان واملجانني ونحوهم هلم ُحك ُْم ال ُغ َّيب‪ ،‬يف‬
‫كالم الفقهاء(‪.)1‬‬
‫فاخلالصة‪:‬‬
‫أن الغائب ك ُُّل من مل َي ُك ْن يف جملس القضاء عند مجيع القائلني‬
‫بجواز القضاء عىل الغائب‪ ،‬إال يف صورة واحدة‪ :‬وهي صورة املس َت ِ ِت‬
‫يعدو َنه ِ‬
‫حاض ًا خالف ًا للشافعية واحلنابلة وقد‬ ‫ِ‬
‫واملم َتن ِع‪ ،‬فإن املالكية ُّ ُ‬
‫سبق بيانه وبيان ما يرتتب عليه من أحكام بحمد اهلل‪.‬‬

‫((( ينظر‪ :‬رشح خمترص خليل للخريش ط دار الفكر (‪ ،)172/7‬والرشح الكبري‬
‫عىل خمترص خليل للدردير ط دار الفكر (‪ ،)162/4‬وهناية املطلب يف دراية‬
‫املذهب ط دار املنهاج (‪ ،)504/18‬وحتفة املحتاج مع حوايش الرشواين‬
‫والعبادي ط دار إحياء الرتاث (‪ ،)186/10‬واإلنصاف يف معرفة الراجح‬
‫من اخلالف ت الرتكي (‪ ،)515/28‬وكشاف القناع ط دار الكتب العلمية‬
‫(‪.)353/6‬‬

‫‪9‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫املسألة الثانية‪ :‬حكم القضاء عىل الغائب‬


‫توطئة‪:‬‬
‫وتقدم كذلك‬
‫َّ‬ ‫تقدم يف املسألة السابقة ما ُيريد الفقهاء بالغائب‪،‬‬
‫َّ‬
‫األحوال التي يكون عليها الغائب‪ ،‬ففي اجلملة‪ :‬أن الغائب عند‬
‫الفقهاء هو من مل َي ُك ْن حارض ًا يف املجلس‪ ،‬وحتى عىل قول املالكية‬
‫القائلني بأن من كان يبعد عن جملس القايض ثالثة أيام فأقل يف حكم‬
‫جيوزون احلكم عليه‪ ،‬بعد‬‫احلارض= فهم ال يسمونه غائب ًا‪ ،‬ولكنهم ِّ‬
‫استيفاء ما يرونه احتياط ًا‪ ،‬فيحتاطون له ‪ -‬كام سيأيت ‪ -‬كام حيتاط‬
‫ٍّ‬
‫فلكل‬ ‫الشافعية واحلنابلة‪ ،‬غري أهنم ال يتفقون عىل نوع االحتياط‬
‫طريقته وهنجه‪ ،‬كام سيأيت‪.‬‬
‫خالف الفقهاء يف احلكم عىل الغائب‪:‬‬
‫َ‬ ‫و ُأ ِّبي ها هنا‬
‫صورة املسألة‪:‬‬
‫املدعى عليه‪:‬‬ ‫مد ٍع عىل مدعى عليه بمبل ٍغ ما ٍّيل‪ ،‬وكان َّ‬
‫إذا ادعى َّ‬
‫ٍ‬
‫حارض بمجلس القايض‪ ،‬ولكنَّ ُه معلو ُم املحل يف البلد‪ ،‬و َط َل َب ُه‬ ‫غري‬
‫َ‬
‫القايض فامتنع عن احلضور أو اس َت َت ْ‬
‫فهل للقايض أن حيك َُم عليه(‪)1‬؟‬
‫صورة أخرى‪:‬‬
‫بدين يف بلد للمدعى عليه فيه‬ ‫ٍ‬ ‫مد ٍع عىل مدعى عليه‬‫إذا ادعى َّ‬
‫املدعى عليه غري معلو ِم مكان اإلقامة‪ ،‬أو كان بعيد ًا جد ًا‬ ‫ٌ‬
‫مال‪ ،‬وكان َّ‬

‫((( تقدَّ م قريب ًا‪ :‬أن الفقهاء الثالثة ِّ‬


‫جيوزون احلكم عىل من هذه حاله إذا امتنع عن‬
‫احلضور‪ ،‬ومل يتمكن القايض من إحضاره وتقدم خالف املالكية‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫املدعى عليه يف بلده‪،‬‬


‫املدعي يف مواجهة َّ‬
‫وال يمكن سامع دعوى َّ‬
‫يك ونحوه فهل‬ ‫وكيل عنه وال من يقوم مقامه من َش ٍ‬
‫وليس يف البلد ٌ‬
‫َ‬
‫للقايض أن حيك َُم عليه؟‬
‫(‪)1‬‬

‫حترير حمل النزاع‪:‬‬


‫(‪ )1‬اتفق أهل العلم عىل جواز القضاء عىل امليت(‪.)2‬‬
‫ضد الغائب(‪.)3‬‬
‫املدعي َّ‬‫(‪ )2‬اتفق أهل العلم عىل جواز سامع ب ِّين َِة َّ‬
‫حلك ُْم عىل احلارض يف البلد‬‫جيوز ا ُ‬
‫(‪ )3‬اتفق أهل العلم عىل أنه ال ُ‬
‫القادر عىل احلضور غري املمتنع(‪.)4‬‬
‫((( وهذه أيرس صور احلكم عىل الغائب‪ ،‬ألن املدَّ عى عليه ليس حارض ًا يف البلد‪،‬‬
‫فليس يف سامع الدعوى ضده مانع رشعي‪ ،‬وال يدخل يف حكم اإلمجاع اآليت‪،‬‬
‫وينظر‪ :‬الرشح الكبري عىل املقنع ت الرتكي (‪.)516/28‬‬
‫((( ينظر‪ :‬روضة القضاة وطريق النجاة البن السمناين ط مؤسسة الرسالة‬
‫(‪ ،)191/1‬والذخرية للقرايف ط دار الغرب (‪ ،)114/10‬وحيث قد سبق‬
‫العزو إىل املذاهب الثالثة سوى احلنفية‪ ،‬فسأكتفي ها هنا يف تأييد ما نقل من‬
‫إمجاع بالعزو عىل بعض كتب احلنفية‪ ،‬ينظر‪ :‬البحر الرائق رشح كنز الدقائق ط‬
‫دار الكتاب اإلسالمي (‪ ،)18/7‬وحاشية ابن عابدين ط دار الفكر (‪)410/5‬‬
‫ويكون احلكم عىل الرتكة‪.‬‬
‫((( ينظر‪ :‬اختالف األئمة العلامء البن هبرية ط دار الكتب العلمية (‪،)406/2‬‬
‫والعزيز رشح الوجيز ط دار الكتب العلمية (‪ ،)511/12‬وموسوعة اإلمجاع‬
‫يف الفقه اإلسالمي ط دار الفضيلة (‪ ،)195/7‬واإلمجاع عىل سامع الب ِّينة دون‬
‫احلكم هبا كام سيأيت قريب ًا‪.‬‬
‫((( ينظر‪ :‬القبس يف رشح موطأ مالك بن أنس ط دار الغرب ص(‪ ،)877‬واملسالك‬
‫يف رشح موطأ مالك (‪ ،)250/6‬وحكى االتفاق عىل هذا ابن القيم يف الطرق‬
‫احلكمية ط عامل الفوائد (‪..)524/2‬‬

‫‪11‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫واختلفوا يف احلكم عىل الغائب عن البلد أو املسترت واملمتنع يف‬


‫األموال ونحوها(‪ )1‬عىل قولني(‪:)2‬‬
‫القول األول‪ :‬أنه ال جيوز احلكم عىل الغائب مطلق ًا‪،‬‬
‫وعامر واب ُن القاس ِم‬
‫ٌ‬ ‫رشيح‬
‫ٌ‬ ‫وهبذا قال احلنفية(‪،)3‬وبه قال‪:‬‬

‫أتعرض يف بحث هذه املسألة إىل الكالم عن حكم القضاء عىل الغائب يف‬‫((( لن َّ‬
‫غري األموال ونحوها‪ ،‬وللفقهاء فيام جيوز احلكم فيه عىل الغائب وما ال جيوز‬
‫تفصيالت تراجع يف حملها‪ ،‬ينظر‪ :‬رشح خمترص خليل للخريش ط دار الفكر‬
‫(‪ ،)173/7‬والبهجة الوردية ط امليمنية (‪ ،)266/5‬وأسنى املطالب ط دار‬
‫الفكر (‪ ،)315/4‬واملغني البن قدامة ط مكتبة القاهرة (‪.)96/10‬‬
‫((( زعم بعض الباحثني أن ابن حجر ‪ ‬حكى اإلمجاع عىل جواز القضاء‬
‫عىل الغائب يف حقوق اآلدميني‪ ،‬وقد رجعت إىل كالمه يف فتح الباري ط دار‬
‫املعرفة (‪ )171/13‬فوجدت نصه‪« :‬قوله (القضاء عىل الغائب) أي يف حقوق‬
‫اآلدميني دون حقوق اهلل باالتفاق»‪ ،‬واملتأ ِّمل يف كالمه ‪ ‬جيد أن االتفاق‬
‫الذي نقله ليس يف جواز سامع القضاء عىل الغائب يف حقوق اآلدميني‪ ،‬وإنام‬
‫أراد نفي جواز القضاء عىل الغائب يف حقوق اهلل‪ ،‬وهو ظاهر من كالمه إذ نقل‬
‫بعد ذلك خالف الفقهاء يف مسألة القضاء عىل الغائب فليتنبه له‪.‬‬
‫((( ينظر‪ :‬بدائع الصنائع ط دار الكتب العلمية (‪ )222/6‬و(‪ ،)8/7‬وتبيني‬
‫احلقائق ط دار الكتاب اإلسالمي (‪ ،)191/4‬وحاشية ابن عابدين ط دار الفكر‬
‫(‪ ،)414/5‬إال أن احلنفية استثنوا صور ًا منها ما ذكره الكاساين ‪ ‬قال‪:‬‬
‫«وكذلك إذا كان للغائب مال حارض وهو من جنس النفقة وله أوالد صغار‬
‫فقراء وكبار ذكور زمنى فقراء أو إناث فقريات ووالدان فقريان فإن كان املال يف‬
‫أيدهيم فلهم أن ينفقوا منه عىل أنفسهم وإن طلبوا من القايض فرض النفقة منه‬
‫فرض؛ ألن الفرض منه يكون إعانة ال قضاء وإن كان املال يف يد مودعه أو كان‬
‫دينا عىل إنسان فرض القايض نفقتهم منه» بدائع الصنائع ط دار الكتب العلمية‬
‫(‪ ،)28/4‬واعرتض هبا عليهم أصحاب القول الثاين‪ :‬إال أهنم أجابوا عنها بأهنا=‬

‫‪12‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫وح ِك َي عن ابن املاجشون من املالكية(‪ ،)2‬وهو رواي ٌة‬


‫واب ُن أيب ليىل(‪ُ ،)1‬‬
‫عن أمحد(‪.)3‬‬
‫بكل من مل َيكُن بني يدي القايض‪ ،‬إذ َج َع ُلوا‬
‫الغائب‪ِّ :‬‬
‫َ‬ ‫وح َّد احلنفية‬
‫َ‬
‫احلضور بني يدي القايض رشط ًا من رشوط جواز القضاء(‪.)4‬‬
‫القول الثاين‪ :‬جواز احلكم عىل الغائب ‪ -‬عىل ما‬
‫سبق ذكره يف املسألة السابقة ‪ -‬وهبذا قال املالكية(‪،)5‬‬

‫= ليست من القضاء عىل الغائب‪« ،‬ألن نفقة هؤالء واجبة من غري قضاء القايض‪،‬‬
‫وهلذا لو ظفروا بامله أخذوه من غري قضاء‪ ،‬ويكون القضاء إعانة هلم‪ ،‬فال يكون‬
‫قضاء عىل الغائب‪ »..‬تبيني احلقائق ط دار الكتاب اإلسالمي (‪.)311/3‬‬
‫((( ينظر‪ :‬اإلرشاف عىل مذاهب العلامء البن املنذر ط مكتبة مكة (‪،)203/4‬‬
‫رشيح‪ :‬فإنه ال يصح‬
‫ٌ‬ ‫وض َّعف ابن حزم النقل يف هذا عن رشيح‪ ،‬قال‪« :‬وأما‬
‫عنه؛ ألنه عن جمالد وجمالد ضعيف‪ ،‬والطريق األخرى‪ :‬إنام فيها أنه ال يلقن‬
‫خص ًام فقط» املحىل باآلثار ط دار الفكر (‪.)438/8‬‬
‫((( ينظر‪ :‬بداية املجتهد وهناية املقتصد ط دار احلديث (‪ ،)254/4‬إنام جعلته‬
‫هكذا عىل صيغة التمريض ألن الشيخ عليش نقل عن ابن املاجشون أنه قال‬
‫باحلكم عىل الغائب ينظر‪ :‬منح اجلليل ط دار الفكر (‪.)371/8‬‬
‫((( ينظر‪ :‬اإلنصاف يف معرفة الراجح من اخلالف ت الرتكي (‪.)516/28‬‬
‫((( ينظر‪ :‬بدائع الصنائع للكاساين ط دار الكتب العلمية (‪ ،)222/6‬ودرر احلكام‬
‫رشح جملة األحكام ط دار اجليل (‪.)630/4‬‬
‫((( ينظر‪ :‬البيان والتحصيل ط دار الغرب (‪ ،)180/9‬والرشح الكبري عىل خمترص‬
‫خليل للدردير ط دار الفكر (‪ ،)162/4‬ون َّبهت سابق ًا أن املالكية‪ :‬وإن مل يسموا‬
‫جوزوا احلكم عليه بعد إعذاره كام سيأيت‪ ،‬وعليه‬ ‫املمتنع واملسترت غائب ًا إال أهنم َّ‬
‫فيصح حكاية اخلالف يف املسألة بكوهنا مسألة واحدة‪ ،‬إذ املالكية ال يامنعون يف‬
‫احلكم عليه‪ ،‬وإنام يامنعون يف عدِّ ه غائب ًا‪ ،‬ويفرتقون ‪ -‬حقيقة ‪ -‬عن الشافعية=‬

‫‪13‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫والشافعية(‪ ،)1‬واحلنابلة(‪ ،)2‬والظاهرية(‪ ،)3‬وبه قال‪ :‬اب ُن شربمة‬


‫وسوار وأبو عبيد وإسحاق وأبو ثور(‪،)4‬‬ ‫ُ‬
‫والليث بن سعد َّ‬ ‫واألوزاعي‬
‫ُّ‬
‫وابن املنذر(‪.)5‬‬
‫أصحاب القول األول بجملة من األدلة منها(‪:)6‬‬ ‫ي ِ‬
‫ستد ُّل‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫الدليل األول‪:‬‬
‫طالب قال‪ :‬قال يل رسول اهلل ‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫عيل ِ‬
‫بن أيب‬ ‫حديث ِّ‬
‫ِ‬
‫اآلخر‪،‬‬ ‫ِ‬
‫لألول حتى َت ْس َم َع كال َم‬ ‫إليك َر ُج َل ِن فال َت ْق ِ‬
‫ض‬ ‫اض َ‬ ‫((إذا َت َق َ‬
‫عيل‪ :‬فام ِز ُ‬ ‫ِ‬
‫لت قاضي ًا َب ْع ُد(‪.)7‬‬ ‫وف تدري كيف َت ْقض)) قال ٌّ‬ ‫فس َ‬ ‫ُ‬

‫= واحلنابلة يف االحتياط حلق الغائب فقط‪ ،‬كام أن للاملكية تفصي ً‬


‫ال يف املال الذي‬
‫جيوز القضاء فيه عىل الغائب‪ ،‬وليس هذا مقصود البحث‪.‬‬
‫((( ينظر‪ :‬أسنى املطالب ط دار الكتاب اإلسالمي (‪ ،)315/4‬وهناية املحتاج ط‬
‫دار الفكر (‪.)268/8‬‬
‫((( ينظر‪ :‬اإلنصاف يف معرفة الراجح من اخلالف ت الرتكي (‪ ،)515/28‬ورشح‬
‫املنتهى ط دار عامل الكتب (‪.)530/3‬‬
‫((( ينظر‪ :‬املحىل البن حزم ط دار الفكر (‪.)434/8‬‬
‫((( ينظر‪ :‬املغني البن قدامة ط مكتبة القاهرة (‪ ،)95/10‬واإلرشاف عىل مذاهب‬
‫العلامء البن املنذر ط مكتبة مكة (‪.)203/4‬‬
‫((( ينظر‪ :‬اإلقناع البن املنذر (‪.)512/2‬‬
‫((( سأذكر فيام ييل‪ :‬أقوى ما استدل به الفريقان باختصار‪ ،‬ألن هذه املسألة‬
‫كاملدخل بني يدي مسألة البحث فلم َأر داعي ًا للتفصيل فيها‪ ،‬ويف املسألة عدد‬
‫من البحوث فلريجع هلا من أراد التوسع‪.‬‬
‫((( أخرجه الطياليس يف «مسنده» (‪ )97/1‬برقم‪ ،)100( :‬وابن أيب شيبة يف‬
‫«مصنفه» (‪ )656/11‬برقم‪ ،)23612( :‬وأمحد يف «مسنده» (‪= )195/1‬‬

‫‪14‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫وجه الداللة‪:‬‬
‫النبي ‪ ‬هناه عن القضاء ألحد اخلصمني قبل‬ ‫َّ‬ ‫أن‬
‫املدعى عليه َقضا ٌء‬ ‫غياب َّ‬ ‫ِ‬ ‫الدعوى مع‬ ‫امع َّ‬ ‫وس ُ‬
‫سامع كالم اآلخر‪َ ،‬‬
‫ي قبل سامع كالم اآلخر فكان منه َّي ًا عنه(‪.)1‬‬ ‫ألحد اخلَ ْص َم ْ ِ‬‫ِ‬
‫نوقش‪:‬‬
‫حضور اخلصمني‪ ،‬أما يف حال الغياب فليس‬ ‫ِ‬ ‫بأن ذلك يف حال‬
‫حاض ًا حتى ُي ْس َم َع منه(‪ ،)2‬بدليل قوله ‪:‬‬ ‫املدعى عليه ِ‬ ‫َّ‬
‫حل ْك ِم املذكور‪،‬‬‫ها يف ا ُ‬ ‫ور ُ َ‬ ‫إليك َر ُج َل ِن))‪َ َ :‬‬
‫فاشت َط ُح ُض َ‬ ‫اض َ‬ ‫((إذا َت َق َ‬
‫ٍ‬
‫واحد مل َ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ضا إليه يف‬ ‫ومفهومه‪ :‬أهنام إذا مل َي َت َق َ‬
‫ب‬ ‫ي ْ‬ ‫جملس‬ ‫وي ُ َ‬
‫اض َيا إليه َ ْ‬
‫حلكْم(‪.)3‬‬
‫عليه السامع من اآلخر قبل ا ُ‬
‫الدليل الثاين‪:‬‬
‫رسول اهلل ‪ ‬قال‪:‬‬ ‫َ‬ ‫حديث أ ِّم َس َل َمة ‪ :‬أن‬ ‫ُ‬
‫بح َّجتِ ِه من بعض‪ ،‬فمن‬
‫إيل‪ ،‬و َل َع َّل َب ْع َضكُم َأ َْل ُن ُ‬
‫ِ‬
‫((إ َّنك ُْم َت َتص ُم ْو َن َّ‬
‫= برقم‪ )646( :‬وأبو داود يف «سننه» (‪ )327/3‬برقم‪ )3582( :‬والرتمذي يف‬
‫«جامعه» (‪ )12/3‬برقم‪ )1331( :‬والنسائي يف «الكربى» (‪ )420/7‬برقم‪:‬‬
‫(‪ ،)8363‬وأبو يعىل يف «مسنده» (‪ )252/1‬برقم‪ )268/1( ،)293( :‬برقم‪:‬‬
‫(‪ )305/1( ،)316‬برقم‪ )323/1( ،)371( :‬برقم‪ )401( :‬وابن حبان‬
‫يف «صحيحه» (‪ )451/11‬برقم‪ )5065( :‬والضياء املقديس يف «األحاديث‬
‫املختارة» (‪ )317/2‬برقم‪ )388/2( ،)696( :‬برقم‪.)774( :‬‬
‫((( ينظر‪ :‬بدائع الصنائع ط دار الكتب العلمية (‪.)223/6‬‬
‫((( ينظر‪ :‬رشح الزركيش عىل خمترص اخلرقي ط دار العبيكان (‪.)287/7‬‬
‫((( ينظر‪ :‬الذخرية للقرايف ط دار الغرب (‪.)115/10‬‬

‫‪15‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫بحق أخيه شيئ ًا بقوله‪ ،‬فإنام أقطع له قطع ًة من النار‪ ،‬فال‬


‫ت له ِّ‬ ‫َق َض ْي ُ‬
‫ْيأ ُخ ْذ َها))(‪.)1‬‬
‫وجه الداللة‪:‬‬
‫«أن القضا َء مبنِ ٌّي عىل سامع كالم اخلصوم‪ ،‬وهذا يقتيض‬
‫سمع منه؛ فال جيوز القضا ُء عليه»(‪.)2‬‬ ‫الغائب فلم ُي َ‬
‫ُ‬ ‫ُح ُض ْو َر ُها‪ ،‬أما‬
‫نوقش‪:‬‬
‫بام نوقش به الدليل األول‪ ،‬وغاي ُة ما يف هذه األحاديث‪ :‬أ َّنه ال‬
‫خصم ِه دون َس َم ِع ُح َّجته(‪.)3‬‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫حارض بدعوى‬ ‫ُي ْق َض عىل‬
‫الدليل الثالث‪:‬‬
‫املدعي حتى ُي ْس َأ َل‬ ‫ي َت ِلفوا أنه لو كان ِ‬
‫حاض ًا مل َن ْس َمع ب ِّينَ َة َّ‬ ‫أهنم «مل َ ْ‬
‫املدعى عليه؛ فإذا كان غائب ًا َفأ ْح َرى أال ُت ْس َم َع»(‪.)4‬‬ ‫َّ‬
‫نوقش‪:‬‬
‫ومث ُل ُه‬‫املدعى عليه‪ ،‬أما الغائب ِ‬ ‫حال حضور َّ‬ ‫حممول عىل ِ‬
‫ٌ‬ ‫بأن ذلك‬
‫املدعي‬ ‫ت فسامع جوابِ ِه مم َتنِ ٌع لغيابه‪ ،‬وعد ُم سامع ب ِّينة َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫املم َتن ُع واملس َت ُ‬
‫ض ُر‬ ‫ِ‬
‫رضر وال ضار‪ ،‬وال َي َت َ َّ‬ ‫َ‬ ‫إرضار به‪ ،‬فال‬
‫ٌ‬ ‫املدعى عليه‬ ‫لتغ ُّيب َّ‬

‫((( أخرجه البخاري يف «صحيحه» (‪ )131/3‬برقم‪ )2458( :‬ومسلم يف‬


‫«صحيحه» (‪ )128/5‬برقم‪.)1713( :‬‬
‫((( موسوعة اإلمجاع يف الفقه اإلسالمي ط دار الفضيلة (‪ ،)114/7‬وينظر‪ :‬بداية‬
‫املجتهد وهناية املقتصد ط دار احلديث (‪.)255/4‬‬
‫((( ينظر‪ :‬املحىل البن حزم ط دار الفكر (‪.)437/8‬‬
‫((( قاله أبو جعفر الطحاوي يف خمترص اختالف العلامء ط دار البشائر (‪.)386/3‬‬

‫‪16‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫وع َي حا ُله واحتِ ْي َط ألجله‬


‫املدعي إن ر ِ‬
‫ُ‬ ‫املدعى عليه من سامع دعوى َّ‬ ‫َّ‬
‫والصبي‬
‫ِّ‬ ‫احلال يف شأن الدعوى عىل امليت‬ ‫ُ‬ ‫بام سيأيت ذكره‪ ،‬وكذا‬
‫عاجز عن اجلواب‬ ‫ٌ‬ ‫ٍ‬
‫واحد من هؤالء‬ ‫واملجنون بل هؤالء أبلغ؛ َفك ُُّل‬
‫ُفأ ِحلق بالغائب(‪.)1‬‬
‫ٍ‬
‫بجملة من األدلة منها‪:‬‬ ‫و َيس َت ِد ُّل أصحاب القول الثاين‬
‫الدليل األول‪:‬‬
‫ِ‬
‫لرسول اهلل‬ ‫هند أ ُّم معاوية‬
‫عن عائشة ‪ ‬قالت‪ :‬قالت ُ‬
‫ناح أن آخذ‬ ‫فه ْل َّ‬
‫عيل ُج ٌ‬ ‫شحيح‪َ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫رجل‬ ‫سفيان ٌ‬
‫َ‬ ‫‪ :‬إن أبا‬
‫ك باملعروف))(‪.)2‬‬ ‫((خ ِذي ما يك ِْفي ِ‬
‫س ًا؟ قال‪ُ :‬‬ ‫ِِ ِ‬
‫َ ْ‬ ‫من ماله َّ‬
‫وجه الداللة‪:‬‬
‫سفيان حارض ًا(‪.)3‬‬
‫َ‬ ‫النبي ‪َ ‬ق َض هلا ومل َيكُن أبو‬ ‫أن َّ‬
‫نوقش‪:‬‬
‫فتوى وليس ُحك َ ًْم وال َق َضا ًء‪،‬‬
‫ً‬ ‫النبي ‪‬‬ ‫بأن ذلك من ِّ‬
‫السؤال ال عىل ِ‬
‫هيئة‬ ‫ِ‬ ‫ويد ُّل عىل ذلك أمور منها‪ :‬أنه جاء عىل ِ‬
‫هيئة‬ ‫ُ‬
‫ٌ‬
‫النبي ‪ ‬أن ُي ْل ِز َم ُه‬ ‫ِّ‬ ‫الدعوى‪ ،‬ومنها‪ :‬أهنا مل َت ْط ُل ْ‬
‫ب من‬

‫((( ينظر‪ :‬املمتع رشح املقنع ت ابن دهيش (‪.)561/4‬‬


‫((( أخرجه البخاري يف «صحيحه» (‪ )79/3‬برقم‪ )2211( :‬ومسلم يف‬
‫«صحيحه» (‪ )129/5‬برقم‪ )129/5( ،)1714( :‬برقم‪،)1714( :‬‬
‫(‪ )130/5‬برقم‪.)1714( :‬‬
‫((( ينظر‪ :‬أسنى املطالب ط دار الكتاب اإلسالمي (‪ ،)315/4‬واملغني البن‬
‫قدامة ط مكتبة القاهرة (‪.)96/10‬‬

‫‪17‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫بذلك بل َذك ََر ْت ذلك عىل هيئة السائل‪ ،‬ومنها‪ :‬أهنا َس َأ َلت هل عليها‬
‫ناح من ذلك‪ ،‬وهذا ليس َطلب ًا للقضاء وإنام استفتاء وسؤال؛ إذ‬ ‫ُج ٌ‬
‫إثم من فعلها ذلك أم ال(‪.)1‬‬
‫سألت هل عليها ٌ‬
‫ْ‬
‫يقول ابن القيم ‪:‬‬
‫ِ‬
‫جواب‬ ‫«فهذه فتي ًا ال ُحك ٌْم؛ إذ مل َي ْد ُع بأيب سفيان‪ ،‬ومل َي ْس َأ ْل ُه عن‬
‫الدعوى‪ ،‬وال َس َأ َلَا الب ِّينة»(‪.)2‬‬
‫قال ابن عبد اهلادي ‪:‬‬
‫ِ‬
‫السبب‬ ‫ِ‬
‫إثبات‬ ‫تاج إىل‬‫«بل قد يقال‪َ :‬ي َت َع َّي للفتوى؛ ألن احلكم َي ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اج إىل ذلك يف الفتوى‪،‬‬ ‫ا ُمل َس ِّلط عىل األخذ من مال الغري‪ ،‬وال ُ ْ‬
‫ي َت ُ‬
‫ِ‬
‫الغائب‬ ‫حاض ًا يف البلد‪ ،‬وال ُي ْق َض عىل‬ ‫وقد يقال‪ :‬إن أبا سفيان كان ِ‬
‫َ‬
‫وسامع ِه الدعوى عليه يف املشهور من‬ ‫ِ‬ ‫إحضار ِه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫احلارض مع إمكان‬
‫مذاهب العلامء»(‪.)3‬‬
‫حمل النزاع َن ْق ُل ِ‬
‫اتفاق الفقهاء عىل َع َد ِم جواز‬ ‫وقد َس َب َق عند حترير ِّ‬
‫غري املم َتنِع‪.‬‬
‫حل ْك ِم عىل احلارض ِ‬ ‫ا ُ‬

‫((( ينظر‪ :‬إعالم املوقعني ط دار الكتب العلمية (‪ ،)273/4‬والقبس يف رشح‬


‫موطأ مالك بن أنس ط دار الغرب ص(‪ ،)877‬وفتح ذي اجلالل واإلكرام‬
‫برشح بلوغ املرام البن عثيمني ط املكتبة اإلسالمية (‪.)145/6‬‬
‫((( زاد املعاد ط مؤسسة الرسالة (‪ ،)429/3‬ووافق عىل هذا كذلك النووي وابن‬
‫حجر وغريه من أهل العلم ينظر‪ :‬فتح الباري ط دار املعرفة (‪.)510/9‬‬
‫((( تنقيح التحقيق ط أضواء السلف (‪.)64-63/5‬‬

‫‪18‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫الدليل الثاين‪:‬‬
‫ََ‬
‫حل ْك ِم بال َع ْد ِل كقوله تعاىل‪﴿ :‬وأ ِن‬ ‫الدالة عىل ا َ ُ‬
‫عموم األدلة ََّ‬
‫ٓ‬ ‫َ‬ ‫ۡ ُ َ ۡ َ ُ َ ٓ َ َ َّ ُ َ َ َّ‬
‫ۡ َ َ ُ ۡ (‪)1‬‬ ‫ۡ‬
‫ٱحكم بينهم بِما أنزل ٱلل ول تتبِع أهواءهم﴾ ‪ ،‬وكذا األدلة‬
‫النبي ‪(( :‬إذا َل َيك ُْن‬ ‫ِ‬
‫الدال ُة عىل احلك ِم بالب ِّينة كقول ِّ‬ ‫َّ‬
‫مني))(‪.)2‬‬ ‫ِ‬
‫طلوب ال َي ُ‬ ‫ب َب ِّينَ ٌة ف َع َل ا َمل‬ ‫لِلطالِ ِ‬
‫وجه الداللة‪:‬‬
‫النبي ‪َ ‬ج َع َل القضاء بال َب ِّينة أمر ًا مرشوع ًا‪ ،‬ومل‬ ‫أن َّ‬
‫ٍ‬
‫وغائب(‪.)3‬‬ ‫ٍ‬
‫حارض‬ ‫ُي َف ِّرق بني‬
‫الدليل الثالث‪:‬‬
‫إمجاع الصحابة ‪ ‬عىل القضاء عىل الغائب إذا ُو ِج َدت‬ ‫ُ‬
‫يقول اب ُن حزم ‪« :‬الصحيح عن عمر وعثامن‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫الب ِّينة(‪،)4‬‬
‫أحد من‬ ‫احلق ِقب َله‪ ،‬وال ي ِصح عن ٍ‬
‫َ ُّ‬ ‫القضاء عىل الغائب إذا َص َّح ُّ َ ُ‬
‫((( سورة املائدة‪ :‬آية رقم (‪.)٤٩‬‬
‫((( أخرجه البيهقي يف «سننه الكبري» (‪ )253/10‬برقم‪ )21266( :‬من طريق‬
‫إسحاق بن إبراهيم عن روح بن عبادة عن احلجاج بن أيب عثامن الصواف‬
‫واللفظ له‪ ،‬والدارقطني يف «سننه» (‪ )391/5‬برقم‪ )4513( :‬من طريق نعيم‬
‫بن محاد عن مروان بن معاوية عن احلجاج به‪ ،‬وأخرجه ابن أيب شيبة يف «مصنفه»‬
‫(‪ )681/10‬برقم‪ )21222( :‬من طريق حممد بن برش عن احلجاج به‪ ،‬ومن‬
‫طريقه أخرجه الطرباين يف «الكبري» (‪ )159/5‬برقم‪ ،)4937( :‬وأورده ابن‬
‫حجر يف «املطالب العالية» (‪ )207/10‬برقم‪ )2/2189( :‬بألفاظ متقاربة‪،‬‬
‫واللفظ املثبت لفظ البيهقي‪ ،‬وإسناده ثقات‪.‬‬
‫((( ينظر‪ :‬الذخرية للقرايف ط دار الغرب (‪.)113/10‬‬
‫((( حكى اإلمجاع يف املسألة ابن حزم كام سيأيت قريب ًا‪ ،‬والقرايف يف الذخرية ط دار‬
‫الغرب (‪.)114/10‬‬

‫‪19‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫ِ‬
‫قضاء‬ ‫خالف ذلك»(‪ ،)1‬وقال َب ْع َد أن َذك ََر عدد ًا من صور‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫الصحابة‬
‫الصحابة ‪ ‬عىل الغائب‪« :‬ولو ُت ُت ِّب َع ذلك للصحابة بعدما‬
‫جد ًا ‪-‬‬ ‫للنبي ‪ -‬صىل اهلل عليه وآله وسلم ‪ -‬ل َك ُث َر َّ‬ ‫ِّ‬ ‫يوجد من ذلك‬
‫أحد من‬ ‫يصح عن ٍ‬ ‫والذي أوردنا عن ُعمر‪ ،‬وعثامن صحيح‪ ،‬وال ِ‬
‫ُّ‬ ‫ٌ‬ ‫ََ‬
‫ٍ‬
‫بإسناد‬ ‫الصحابة ِخال ُف ُه أبد ًا»(‪ ،)2‬ومما اس َت َد َّل به ما روا ُه عبد الرزاق‬
‫ِ‬
‫ص‬ ‫ت َّب ُ‬ ‫أن ُع َم َر وعثامن ‪َ ‬ق َض َيا يف املفقود أن امرأته َت َ َ‬ ‫صحيح َّ‬
‫ٍ‬
‫زوج َها‬ ‫أشهر وعرش ًا بعد ذلك‪ ،‬ثم ُت َز َّوج فإن جاء ُ‬ ‫ٍ‬ ‫سنني وأربع َة‬ ‫أر َب َع َ‬
‫داق وبني امرأته(‪.)3‬‬ ‫الص ِ‬ ‫األول ُخ ِّي بني َّ‬
‫الدليل الرابع‪:‬‬
‫ٍ‬
‫وإنكار‪ ،‬فإِ ْن َأ َق َّر فالب ِّينَ ُة‬ ‫ٍ‬ ‫ض‪ :‬لكان بني‬
‫إقرار‬ ‫«أن الغائب لو َح َ َ‬
‫ِ‬
‫مانع من احلك ِم‬ ‫ُمواف َق ٌة‪ ،‬وإن أنك ََر فالب ِّين ُة ُح َّج ٌة‪ ،‬فلم َيكُن يف الغيبة ٌ‬
‫وإنكار ِه»(‪.)4‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫إقراره‬ ‫بالب ِّينة يف حال َتي‬
‫الدليل اخلامس‪:‬‬
‫ي يف بعض الصور‪،‬‬ ‫ِ‬
‫الغائبِ ْ َ‬ ‫استصحاب اإلمجا ِع يف القضاء عىل‬ ‫ُ‬
‫ومن ذلك‪:‬‬
‫إمجاعهم عىل القضاء عىل العاقلة وهم غائبون‪ ،‬وإمجا ُع ُهم يف‬
‫أعظم من الغائب(‪.)5‬‬ ‫ُ‬ ‫القضاء عىل امليت وهو‬

‫((( املحىل باآلثار البن حزم ط دار الفكر (‪.)438/8‬‬


‫((( املحىل باآلثار ط دار الفكر (‪.)440/8‬‬
‫((( مصنف عبد الرزاق (‪.)12317‬‬
‫((( أدب القايض للاموردي ط إحياء الرتاث (‪.)316/2‬‬
‫((( ينظر‪ :‬الذخرية للقرايف ط دار الغرب (‪)114/10‬‬

‫‪20‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫الرتجيح‪:‬‬
‫يرتجح عندي القول الثاين قول اجلمهور القائلني بجواز القضاء‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫املسائ ِل القادمة إن شاء اهلل‪ ،‬ألمور‪:‬‬ ‫عىل الغائب برشطِ ِه عىل ما يأيت يف‬
‫الدا َل َة عىل القضاء بالبين ِ‬
‫َات عا َّم ٌة مل ُت ََّصص‬ ‫األول‪ :‬أن األدلة َّ‬
‫ِّ‬
‫باحلارض‪.‬‬
‫رضوان اهلل عليهم‪ ،‬بل ُن ِق َل‬
‫ُ‬ ‫الثاين‪ :‬أ َّنه الذي َع ِم َل به الصحابة‬
‫إمجا ُع ُهم عليه كام سبق‪.‬‬
‫تقض به املصلحة‪ ،‬إذ لو ِقيل بأنه ال ُي ْق َض‬ ‫الثالث‪ :‬أنه الذي ِ‬
‫حق‪،‬‬ ‫حق من كان له عىل الغائب ٌّ‬ ‫عىل الغائب أل َّدى ذلك إىل ضياع ِّ‬
‫الناس‬
‫ُ‬ ‫ألخ َذ‬
‫حلك ُْم عىل الغائب َ‬ ‫يقول القرايف ‪« :‬وأل َّنه لوال ا ُ‬
‫أموال الناس وغا ُب ْوا‪ ،‬ف َت ِض ْي َع األموال‪ ،‬وجيوز ذهاب مال الغائب‬
‫القائلني‬
‫َ‬ ‫احلق»(‪ ،)1‬ويؤك ُِّد ذلك‪ :‬أن احلنفية ‪-‬‬ ‫قبل القدوم ِ‬
‫فيض ْي َع ُّ‬
‫عدد من املسائل إىل‬‫اض ُطروا يف ٍ‬ ‫‪-‬‬ ‫الغائب‬ ‫عىل‬ ‫ِ‬
‫القضاء‬ ‫ِ‬
‫جواز‬ ‫بعد ِم‬
‫ُّ‬ ‫ْ‬
‫يشء منها‪ ،‬كام اض ُط َّر بعضهم‬ ‫ٍ‬ ‫احلكم عىل الغائب وقد َس َب َق ُ‬
‫بيان‬
‫املدعى عليه لتقو َم‬‫ب عن َّ‬ ‫ي ْي ُ‬ ‫إىل إجياب إقامة (ا ُمل َس َّخ ِر) وهو الذي ُ ِ‬
‫الب ِّينَ ُة مع اإلنكار‪ ،‬و َي ْظ َه ُر من هذا إدراك ُُهم ألمهية مسألة القضاء عىل‬
‫الغائب(‪.)2‬‬

‫((( الذخرية للقرايف ط دار الغرب (‪.)114/10‬‬


‫((( ينظر‪ :‬البناية رشح اهلداية ط دار الكتب العلمية (‪ ،)52/9‬وحاشية ابن‬
‫عابدين ط دار الفكر (‪ ،)409/5‬ودرر احلكام يف رشح جملة األحكام ط دار‬
‫اجليل (‪.)578/4‬‬

‫‪21‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫املسألة الثالثة‪ :‬رشط سامع الدعوى عىل الغائب‬


‫القائلني بجواز القضاء عىل الغائب ُهم املذاهب الثالثة‬ ‫َ‬ ‫َس َب َق أن‬
‫حلكم‬ ‫سوى احلنفية‪ ،‬ولِ َّئل يفهم من هذا أن الفقهاء م َتس ِ‬
‫اه َ‬
‫لون يف ا ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ َ َ‬
‫حمل البحث ‪ ،-‬إذ أن‬ ‫خيد ُم املسألة ‪ّ -‬‬ ‫رأيت أن أذكر ما ِ‬ ‫ُ‬ ‫عىل الغائب‬
‫يشد ُدون يف احلكم عىل الغائب تشديد ًا‬ ‫ي ُد َّأنم ِّ‬ ‫الناظِ َر يف كالمهم َ ِ‬
‫حل ْك ِم عىل احلارض‪ ،‬و َي ْظ َه ُر ذلك جل َّي ًا يف اشرتاطِ ِهم‬ ‫يشد ُدونه يف ا ُ‬ ‫ال ِّ‬
‫الدعوى عىل الغائب إال مع وجود ب ِّي ٍنة‪.‬‬ ‫سم َع َّ‬ ‫َّأل ُت َ‬
‫الدعوى‬ ‫فقد ا َّت َف َق القائلون بجواز سامع الدعوى ِض َّد الغائب أن َّ‬
‫بينة(‪.)1‬‬‫ال ُتسمع عليه إال بوجود ٍ‬
‫ْ َ ُ‬
‫تعذ َر إحضاره لكونِ ِه غائب ًا‬ ‫يقول القرايف املالكي ‪..« :‬فإن َّ‬
‫فه َر َب وليس مع الطالب ب ِّين ٌة مل ُتسمع دعواه؛ لعدم‬ ‫أو كان ِ‬
‫حاض ًا َ‬
‫َ‬
‫الفائدة »(‪.)2‬‬
‫املجر َد ُة عىل‬‫َّ‬ ‫«الدعوى‬ ‫َّ‬ ‫ويقول اجلويني الشافعي ‪:‬‬
‫الدعاوى‬ ‫للمدعي ب ِّينَ ٌة‪ ،‬وإنام ُت ْف َر ُض َّ‬
‫الغائب‪ ،‬ال َخ ْ َي فيها إذا مل يك ُْن َّ‬
‫ب ممن َي ْب ِغي إقام َة الب ِّينَة»(‪.)3‬‬ ‫عىل ال ُغ َّي ِ‬
‫((( نقل االتفاق عىل ذلك املاوردي يف احلاوي ط دار الفكر (‪،)367/20‬‬
‫وينظر‪ :‬الذخرية ط دار الغرب (‪ ،)113/10‬ورشح خمترص خليل للخريش‬
‫ط دار الفكر (‪ ،)172/7‬والرشح الصغري للدردير مع حاشية الصاوي ط دار‬
‫املعارف (‪ ،)231/4‬والبيان يف مذهب اإلمام الشافعي للعمراين ط دار املنهاج‬
‫(‪ ،)105/13‬وأسنى املطالب ط دار الكتاب اإلسالمي (‪ ،)315/4‬والكايف‬
‫يف فقه اإلمام أمحد ط دار الكتب العلمية (‪ ،)241/4‬وكشاف القناع ط دار‬
‫الكتب العلمية (‪.)353/6‬‬
‫((( الذخرية ط دار الغرب (‪.)113/10‬‬
‫((( هناية املطلب يف دراية املذهب ط دار املنهاج (‪.)501/18‬‬

‫‪22‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫غائب عن‬ ‫ٍ‬ ‫ويقول العمراين الشافعي ‪« :‬إذا ا َّدعى عىل‬


‫املدعي ب ِّينَ ٌة بام ا َّدعاه مل َي ْس َمع‬
‫بحق فإن مل َيكُن مع َّ‬
‫جملس احلكم ٍّ‬
‫احلاكم دعواه؛ ألنه ال فائد َة يف سامعها»(‪.)1‬‬
‫ويقول الزركيش احلنبيل ‪ ‬يف سياق ر ِّده عىل من َمن ََع سامع‬
‫صح‬ ‫ِ‬
‫الدعوى ض َّد الغائب‪...« :‬وعليه فال حيك َُم عىل الغائب إال إذا َّ‬ ‫َّ‬
‫احل ُّق عنده وعليه‪ِ ،‬‬
‫وص َّحته بأن تقوم به بينة‪ ،‬فلو مل يكن به بينة مل‬ ‫َ‬
‫حيكم‪ ،‬بل وال يسمع الدعوى لعدم فائدهتا»(‪.)2‬‬
‫وهل يلزم أن تكون الب ِّينة شاهدين أم جيوز سامع الدعوى إذا كان‬
‫شاهد ويمني؟‬
‫ٌ‬ ‫مع املد َّعي‬
‫املدعي إال شاهد‬ ‫ِ‬
‫الغائب إذا مل َيكُن مع َّ‬ ‫جيوز سامع الدعوى ِض َّد‬
‫ُ‬
‫نص عىل ذلك املالكية(‪ ،)3‬والشافعية(‪ ،)4‬واحلنابلة(‪،)5‬‬ ‫واحد ويمني‪َّ ،‬‬
‫ِ‬
‫الشاه َد ْي ِن فسيأيت َّأنُم‬ ‫إال أن الشاهد واليمني َّملا كانا أض َع َ‬
‫ف من‬
‫يشد ُدون يف اليمني مع الشاهدين‪.‬‬
‫يشد ُدون فيها ما ال ِّ‬
‫ِّ‬
‫((( البيان يف مذهب اإلمام الشافعي للعمراين ط دار املنهاج (‪.)105/13‬‬
‫((( رشح الزركيش عىل خمترص اخلرقي ط العبيكان (‪.)286/7‬‬
‫((( ينظر‪ :‬رشح خمترص خليل للخريش ط دار الفكر (‪ )199/4‬وينظر إىل ما قرره‬
‫العدوي يف حاشيته عليه‪ ،‬وما نقله القرايف يف الذخرية ط دار الغرب (‪.)100/8‬‬
‫((( ينظر‪ :‬حتفة املحتاج يف رشح املنهاج مع حوايش الرشواين والعبادي‬
‫(‪ ،)164/10‬ومغني املحتاج إىل معرفة معاين ألفاظ املنهاج ط دار الكتب‬
‫العلمية (‪.)308/6‬‬
‫((( ينظر‪ :‬املبدع يف رشح املقنع ط دار الكتب العلمية (‪ ،)207/8‬واإلنصاف يف‬
‫معرفة الراجح من اخلالف ت الرتكي (‪.)521/28‬‬

‫‪23‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫املدعى عليه‬
‫الدعوى ضد َّ‬ ‫ش َط سامع َّ‬
‫بعض احلنابلة أن َ ْ‬ ‫ورأى ُ‬
‫ٍ‬
‫كاملة (شاهدين)‪ ،‬وأنه ال تسمع الدعوى ِض َّد‬ ‫الغائب‪ :‬وجو ُد ب ِّي ٍنة‬
‫الغائب إذا كانت الب ِّينَ ُة شاهد ًا ويمين ًا‪ ،‬يقول الشيخ مرعي الكرمي‬
‫‪« :‬وي َّتجه‪ :‬ال شاهد ويمني»(‪ ،)1‬وع َّلله الرحيباين ‪ ‬يف‬
‫مطالب أويل النهى فقال‪« :‬ولو فيام يقبل فيه؛ لضعفه‪ ،‬وهو م َّتجه»(‪.)2‬‬
‫الدعوى‬
‫امع َّ‬
‫ومما تقدم يتبني أنه ال جيوز عند أحد من الفقهاء َس ُ‬
‫ِض َّد الغائب إال بوجود ب ِّي ٍنة‪.‬‬

‫((( غاية املنتهى يف مجع اإلقناع واملنتهى ط غراس (‪.)598/2‬‬


‫((( مطالب أويل النهى ط املكتب اإلسالمي (‪.)527/6‬‬

‫‪24‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫املدعى عليه؟‬
‫املسألة الرابعة‪ :‬عال َم حيمل غياب َّ‬
‫استبان فيام سبق‪ :‬أن القائلني بجواز القضاء عىل الغائب‬ ‫َ‬
‫ولعل سؤاالً يتبادر إىل ِذ ْه ِن القارئ‬
‫الدعوى‪َّ ،‬‬ ‫يشرتطون الب ِّين َة لسامع َّ‬
‫املدعى‬ ‫ِ‬
‫إنكار َّ‬ ‫الكريم‪ :‬وهو أنه إذا َّقر ْر َنا بأن الب ِّينَ َة ال ُت ْس َم ُع إال َ‬
‫بعد‬
‫غائب‪ ،‬فعال َم محل الفقهاء غياب‬
‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫الصور‬ ‫واملدعى عليه يف هذه‬
‫عليه‪َّ ،‬‬
‫املدعى عليه؟‬
‫َّ‬
‫واجلواب أن يقال‪:‬‬
‫وقرر‬ ‫‪،‬‬ ‫املالكية‬ ‫ذلك‬ ‫عىل‬ ‫نص‬ ‫نكر‪،‬‬ ‫ُ‬
‫مل‬‫ا‬ ‫ِ‬
‫م‬ ‫ْ‬
‫ك‬ ‫ح‬ ‫يف‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ْد‬
‫َ‬ ‫ن‬ ‫إن الغائب ِ‬
‫ع‬
‫َّ‬
‫(‪)1‬‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫كسكُوتِه‪ ،‬كام َّقرروا بأن‬ ‫املدعى عليه ُ‬ ‫الشافعية واحلنابلة أن غياب َّ‬
‫احلاض إن سكت عن اجلواب‪،‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫املدعى عليه‬ ‫مواج َه ِة َّ‬
‫سم ُع يف َ‬ ‫ال َب ِّين َة ُت َ‬
‫حال الغياب(‪ ،)2‬يقول اجلويني ‪« :‬إذا‬ ‫ِ‬ ‫فل ُت ْس َمع الب ِّين ُة يف‬
‫يح‬‫ص ِ‬ ‫الدعوى‪ ،‬أو قال‪ :‬ال ُأ ِق ُّر‪ ،‬وال ُأ ْن ِك ُر‪ ،‬كان ذلك كال َّت ْ ِ‬ ‫بعد َّ‬
‫َت َ‬ ‫َسك َ‬
‫كوت‪ ،‬والب ِّينَ ُة‬ ‫باإلنكار»(‪ ،)3‬ويقول املرداوي ‪« :‬ال َغ ْي َب ُة ُس ٌ‬

‫((( ينظر‪ :‬الذخرية للقرايف ط دار الغرب (‪ ،)255/7‬وينظر‪ :‬حاشية الصاوي عىل‬
‫الرشح الصغري ط دار املعارف (‪.)530/3‬‬
‫((( ينظر‪ :‬أسنى املطالب ط دار الكتاب اإلسالمي (‪ ،)315/4‬ومغني املحتاج ط‬
‫دار الكتب العلمية (‪ ،)309/6‬ورشح املحيل عىل املنهاج مع حاشيتي قليويب‬
‫وعمرية (‪ ،)309/4‬وروضة الطالبني وعمدة املفتني ط املكتب اإلسالمي‬
‫(‪ ،)44/12‬واإلنصاف يف معرفة الراجح من اخلالف ت الرتكي (‪-446/28‬‬
‫‪ ،)447‬والفروع مع تصحيح الفروع ط الرسالة (‪ ،)203/11‬وكشاف القناع‬
‫ط دار الكتب العلمية (‪.)354/6‬‬
‫((( ينظر‪ :‬هناية املطلب يف دراية املذهب ط دار املنهاج (‪.)87/7‬‬

‫‪25‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫إنكار‪ ،‬عليه‪:‬‬ ‫السكوت‬


‫َ‬ ‫ساكت»(‪ ،)1‬وقد َّقرروا كذلك‪ :‬أن‬ ‫ٍ‬ ‫ُت ْس َم ُع عىل‬
‫ٌ‬
‫والساكت عندهم ُمن ِْك ٌر‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫السكوت‬ ‫املدعى عليه عىل‬ ‫غياب َّ‬
‫ُ‬ ‫ف ُي ْح َم ُل‬
‫ظه ُر وج ُه سامع الب ِّينة(‪.)2‬‬
‫وهبذا َي َ‬
‫املدعى عليه الغائب؛ إذ ال‬ ‫ِ‬
‫اإلقرار إىل َّ‬ ‫وعىل هذا‪ :‬فال جيو ُز نسب ُة‬
‫معام َل َة ا ُملنْكِ ٌر عند مجيع القائلني بجواز‬ ‫عام ُل َ‬‫قول‪ ،‬بل ُي َ‬
‫ٍ‬
‫لساكت ٌ‬ ‫ب‬‫ُينْ َس ُ‬
‫سوغوا سامع الب ِّينة مع َغ ْي َبتِ ِه‪.‬‬‫وألج ِل ذلك َّ‬ ‫ْ‬ ‫احلكم عىل الغائب‪،‬‬

‫((( اإلنصاف يف معرفة الراجح من اخلالف ت الرتكي (‪.)515/28‬‬


‫((( املراجع السابقة‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫املسألة اخلامسة‪ :‬هل يلزم عند احلكم عىل الغائب وسامع‬


‫املدعي اليمني؟‬
‫البينة أن حيلف َّ‬
‫طون الب ِّين َِة‬
‫ت َ‬ ‫إذا تبي أن القائلني بجواز القضاء عىل الغائب َ ِ‬
‫يش ُ‬ ‫َّ‬
‫سامع ِهم للب ِّينة أن الغياب يف ُحك ِم‬ ‫ِ‬ ‫وتبي أن َو ْج َه‬ ‫الدعوى‪َّ ،‬‬ ‫لسامع َّ‬
‫تقدم يف املسألة السابقة‪ ،‬فإذا‬ ‫إنكار كام َّ‬ ‫كوت‬‫الس َ‬ ‫ِ‬
‫ٌ‬ ‫السكوت‪ ،‬وأن ُّ‬ ‫ُّ‬
‫ت َع َدا َل ُت ُه َم عند القايض‬ ‫شاهد ْي ِن و َث َب َت ْ‬ ‫َ‬
‫الرشعي‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫املدعي‬
‫ض َّ‬ ‫أ ْح َ َ‬
‫املدعي مع هذه الب ِّينة؟‬ ‫حتليف َّ‬‫ُ‬ ‫فهل يل َز ُم‬
‫حل ْك ِم عىل الغائب يف هذه املسألة عىل‬ ‫اختلف القائلون بجواز ا ُ‬
‫قولني(‪:)1‬‬
‫املدعي عىل‬ ‫َّ‬ ‫حتليف‬
‫ُ‬ ‫القول األول‪ :‬أنه ال َي ْل َز ُم‬
‫الغائب مع ب ِّينَتِ ِه‪ ،‬وهبذا قال احلنابلة يف األشهر عندهم(‪،)2‬‬
‫أج ْد‬ ‫التحليف إن رأى القايض ذلك احتياط ًا(‪ ،)3‬ومل ِ‬ ‫َ‬ ‫وجيوزون‬ ‫ِّ‬
‫((( وسياق اخلالف هنا حيث قيل بجواز القضاء عىل الغائب عند املالكية‪ ،‬وذلك‬
‫يف حق الغائب غيبة متوسطة أو بعيدة‪ ،‬أما ما دون ذلك فيعدونه حارض ًا وقد‬
‫ذكرته سابق ًا‪.‬‬
‫((( ينظر‪ :‬اإلنصاف يف معرفة الراجح من اخلالف ت الرتكي (‪،)520/28‬‬
‫وكشاف القناع ط دار الكتب العلمية (‪.)354/6‬‬
‫((( ينظر‪ :‬كشاف القناع ط دار الكتب العلمية (‪ ،)354/6‬وغاية املنتهى يف مجع‬
‫اإلقناع واملنتهى ط غراس (‪ ،)598/2‬وقال املرداوي يف فوائد هذه املسألة‪:‬‬
‫«ال يمني مع بينة كاملة ‪ -‬كمقر له ‪ -‬إال هنا‪ .‬وعنه‪ ،‬بىل‪ ،‬فعله عىل بن أبى‬
‫طالب‪ . ،‬وعنه‪ ،-‬حيلف مع ريبة يف البينة‪ .‬وتقدم يف باب احلجر أنه إذا‬
‫شهدت بينة بنفاد ماله‪ ،‬أنه حيلف معها‪ .‬عىل الصحيح من املذهب‪ .‬وإذا شهدت‬
‫بإعساره‪ ،‬أنه ال حيلف معها‪ .‬عىل الصحيح من املذهب‪ .‬ولنا وجه‪ ،‬أنه حيلف‬
‫معها أيض ًا» اإلنصاف يف معرفة الراجح من اخلالف ت الرتكي (‪.)521/28‬‬

‫‪27‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫للظاهرية كالم ًا يف املسألة إال أن ظاهر كالم ابن حزم ‪ ‬أهنم‬


‫ال ُي ْل ِز ُمون باليمني(‪.)1‬‬
‫وع َّل ُلوا ذلك‪:‬‬
‫واليمني‬
‫َ‬ ‫املدعي‪،‬‬‫النبي ‪َ ‬ج َع َل الب ِّين َة يف جانب َّ‬ ‫بأن َّ‬ ‫َّ‬
‫اليمني معها‬ ‫ب‬ ‫ٍ‬
‫عادلة ف َلم َ ِ‬ ‫املدعي ببي ٍ‬
‫ُ‬ ‫ت ْ‬ ‫ْ‬ ‫نة‬ ‫ِّ‬ ‫املدعى عليه‪ ،‬وقد أتى َّ‬ ‫عىل َّ‬
‫حاض ًا(‪.)2‬‬ ‫املدعى عليه ِ‬ ‫كام لو كان َّ‬
‫َ‬
‫املدعي مع ب ِّينَتِ ِه ‪ -‬وإن كانت كامل ًة ‪-‬‬ ‫حتليف َّ‬‫ُ‬ ‫القول الثاين‪َ :‬ي ْل َز ُم‬
‫وجوب ًا‪ ،‬وهبذا قال املالكية(‪ ،)3‬والشافعية(‪ ،)4‬وهي الرواية الثانية عند‬
‫ومال إليها املو َّف ُق اب ُن قدامة‪ ،‬وهو الذي عليه ال َع َم ُل بني‬ ‫احلنابلة‪َ ،‬‬
‫أهل العلم(‪.)6‬‬‫أكثر ِ‬ ‫قال‬ ‫وهبذا‬ ‫‪،‬‬ ‫املرداوي‬ ‫ه‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫كام‬ ‫احلنابلة‬ ‫ِ‬
‫قضاة‬
‫ُ‬
‫(‪)5‬‬
‫ُ‬

‫((( ينظر‪ :‬املحىل البن حزم ط دار الفكر (‪.)434/8‬‬


‫((( ينظر‪ :‬الكايف يف فقه اإلمام أمحد ط دار الكتب العلمية (‪ ،)241/4‬والرشح‬
‫الكبري عىل املقنع ت الرتكي (‪ ،)520/28‬واملمتع رشح املقنع ت ابن دهيش‬
‫(‪.)561/4‬‬
‫((( ينظر‪ :‬الذخرية ط دار الغرب (‪ ،)113/10‬ورشح اخلريش عىل خمترص خليل‬
‫ط دار الفكر (‪.)172/7‬‬
‫((( ينظر‪ :‬هناية املطلب يف دراية املذهب ط دار املنهاج (‪ ،)503/18‬وأسنى‬
‫املطالب ط دار الكتاب اإلسالمي (‪.)315/4‬‬
‫((( ينظر‪ :‬اإلنصاف يف معرفة الراجح من اخلالف ت الرتكي (‪،)521/28‬‬
‫والتنقيح املشبع يف حترير أحكام املقنع ط دار أطلس اخلرضاء ص(‪.)484‬‬
‫((( عزاه ألكثر العلامء ابن مفلح يف املبدع ط دار الكتب العلمية (‪.)206/8‬‬

‫‪28‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫وع َّللوا ذلك‪:‬‬


‫ط‪ ،‬كام أن‬ ‫ط‪ ،‬فتكون اليمني لنفي ا ُملس ِق ِ‬ ‫احتامل ا ُملس ِق ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بوجود‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫حلق الغائب‪ ،‬ويكون ذلك منه باليمني مع‬ ‫ِ‬
‫باالحتياط ِّ‬ ‫مأمور‬ ‫القايض‬
‫ٌ‬
‫الب ِّينة(‪.)1‬‬
‫املدعي‪ ،‬وال ُي ْق َض له حتى‬ ‫وعىل هذا القول فاليمني واجب ٌة عىل َّ‬
‫حيلِ َف َها‪ ،‬وليست استظهار ًا(‪.)2‬‬
‫وها هنا مسألة مهمة‪:‬‬
‫شاهدين وهي أقوى‬ ‫ِ‬ ‫املدعي‬‫اليمني ها هنا إذا كانت ب ِّينة َّ‬ ‫َ‬ ‫وهي أن‬
‫املدعي إال شاهد ًا واحد ًا ويمين ًا ‪ -‬وقد‬ ‫ي ِض َّ‬ ‫املتعد َية‪ ،‬فإن مل ُ ْ‬
‫الب ِّينات ِّ‬
‫املدعي عىل‬‫إضايف عىل َّ‬ ‫ٌّ‬ ‫سبق بيان جوازه عندهم ‪ -‬فهل َي ْل َز ُم يش ٌء‬
‫الغائب؟‬
‫((( ينظر‪ :‬الذخرية للقرايف ط دار الغرب (‪ ،)113/10‬ورشح اخلريش عىل‬
‫خمترص خليل ط دار الفكر (‪ ،)172/7‬وهناية املطلب يف دراية املذهب ط دار‬
‫املنهاج (‪ ،)503/18‬وأسنى املطالب ط دار الكتاب اإلسالمي (‪)317/4‬‬
‫واملمتع رشح املقنع ت ابن دهيش (‪ ،)561/4‬ورشح املنتهى ط عامل الكتب‬
‫(‪ ،)531/3‬واإلنصاف يف معرفة الراجح من اخلالف ت الرتكي (‪.)520/28‬‬
‫((( ينظر‪ :‬رشح خمترص خليل للخريش ط دار الفكر (‪ ،)172/7‬ومنح اجلليل‬
‫رشح خمترص خليل ط دار الفكر (‪ ،)372/8‬وتبرصة احلكام يف أصول األقضية‬
‫ومناهج األحكام البن فرحون ط مكتبة الكليات األزهرية (‪ )331/1‬وذكر‬
‫بأنه الذي عليه الفتوى والقضاء‪ ،‬ونص عىل وجوهبا عند الشافعية الشيخ زكريا‬
‫األنصاري يف أسنى املطالب يف رشح روض الطالب ط دار الكتاب اإلسالمي‬
‫(‪ ،)317/4‬وظاهر صنيع املرداوي وغريه عند حكايتهم للخالف يف املسألة‬
‫أن ذلك عىل سبيل الوجوب‪ ،‬ملا سبق من جتويزهم حتليف املدَّ عي مع بينته حتى‬
‫عىل القول األول‪ ،‬ثم حكوا الرواية الثانية يف املذهب وهي الدالة عىل الوجوب‬
‫ينظر‪ :‬اإلنصاف يف معرفة الراجح من اخلالف ت الرتكي (‪.)520/28‬‬

‫‪29‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫ِ‬
‫اليمني‬ ‫املدعي يمين ًا أخرى بعد‬ ‫ون عىل َّ‬ ‫ِ‬
‫فيوج ُب َ‬ ‫أما عند الشافعية‪:‬‬
‫التي تكون مع الشاهد‪ ،‬وتكون لنَ ْف ِي ا ُملس ِق ِ‬
‫ط‪:‬‬ ‫ْ‬
‫يقول الشيخ زكريا األنصاري ‪(« :‬و ُي ْق َض عىل الغائب‬
‫حل َّج ِة واألخرى) َب ْع َد َها (لنفي‬
‫كميل ا ُ‬ ‫ِ‬ ‫ها ل َت‬‫أحد ُ َ‬
‫َي ُ‬ ‫ٍ‬
‫بشاهد ويمين ْ ِ‬
‫ويسمى يمني االستظهار»(‪.)1‬‬ ‫غريه‬ ‫أو‬ ‫ط) من ٍ‬
‫إبراء‬ ‫ا ُملس ِق ِ‬
‫َّ‬ ‫ْ‬
‫وبنحو هذا قال املالكية(‪.)2‬‬
‫وأما عند احلنابلة فعىل القول بلزوم اليمني فإنه يلزم أن يضاف إىل‬
‫ِ‬
‫صاد َق ٌة‪ ،‬يقول ُب ْر َهان الدين‬ ‫اليمني التي تكون مع الشاهد أن الب ِّينَ َة‬
‫اب ُن مفلح ‪« :‬وال َي َت َع َّرض يف يمينه لصدق الب ِّي ِنة لكامهلا‪،‬‬
‫ف معه»(‪.)3‬‬ ‫بخالف ما إذا أقام شاهد ًا‪ ،‬فإنه حيلِ ُ‬

‫((( أسنى املطالب يف رشح روض الطالب ط دار الكتاب اإلسالمي (‪،)317/4‬‬
‫وينظر‪ :‬حاشية الشربامليس عىل هناية املحتاج ط دار الفكر (‪.)268/8‬‬
‫((( ينظر‪ :‬رشح خمترص خليل للخريش ط دار الفكر (‪ )199/4‬وينظر إىل ما قرره‬
‫العدوي يف حاشيته عليه حيث قرر أنه قد يصحبه ثالثة أيامن يمينان لالستظهار‬
‫ويمني لتكملة النصاب‪ ...‬فلرياجع‪.‬‬
‫((( املبدع يف رشح املقنع ط دار الكتب العلمية (‪ ،)207/8‬واإلنصاف يف معرفة‬
‫الراجح من اخلالف ت الرتكي (‪ ،)521/28‬وحكى بعض احلنابلة وجه ًا آخر‬
‫وهو أنه ال يقبل عىل الغائب إال شاهدان فقط‪ :‬يقول الشيخ مرعي الكرمي‬
‫يف غاية املنتهى ط مؤسسة غراس (‪« :)598/2‬ومن ادعى عىل غائب مسافة‬
‫قرص بعمله أو ال أو مسترت بالبلد أو دون مسافة قرص أو ميت أو غري مكلف‪،‬‬
‫خرجها عىل ما حكوه يف‬ ‫وله بينة‪ ،‬ويتجه‪ :‬ال شاهد ويمني»ا‪.‬هـ‪ ،‬قلت‪ :‬ولعله َّ‬
‫مسألة الوارث ينكر التدبري فيقيم العبد الشاهد الواحد وحيلف معه اليمني‬
‫املورث د َّبره‪ ،‬فقد حكوا يف هذه املسألة روايتني‪ :‬األوىل‪ :‬أنه ال حيكم=‬
‫عىل أن ِّ‬

‫‪30‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫ألجل َح ِّق الغائب مع‬ ‫ِ‬ ‫شد ُدوا يف ذلك‬


‫ولك أن ترى أن الفقهاء َّ‬
‫فكيف ُ‬
‫احلال إذا كانت الب ِّينة‬ ‫َ‬ ‫الشاهد الواحد‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وجود َب ِّينة قو َّي ٍة وهي‬
‫ِ‬
‫الشاهد الواحد؟ كور َق ٍة تتضمن إقرار ًا‬
‫َ‬ ‫ضعيف ًة ال تر َت ِقي وال ُت َق ِ‬
‫ار ُب‬
‫منسوب ‪ -‬كذلك ‪ -‬للمدعى‬ ‫ٌ‬ ‫توقيع‬
‫ٌ‬ ‫منسوب ًا للمدعى عليه وعليها‬
‫ف القايض صحة نسبتها إليه؟! فإن هذه الب ِّينات‬ ‫عليه وال ِ‬
‫يعر ُ‬
‫ف معها‪.‬‬ ‫لقصورها عن مرتبة الشاهد الواحد ال َع ْد ِل ْأو َل بأن ُ ْ‬
‫ي َل َ‬

‫وجودها ابن قدامة يف املغني ط مكتبة القاهرة‬ ‫َّ‬ ‫= هبا‪ ،‬والثانية‪ :‬أنه حيكم هبا‪،‬‬
‫(‪ ،)356/10‬ووجه اتفاق املسألتني‪ :‬أن املد ِّبر ميت‪ ،‬وقد حكوا أنه أبلغ من‬
‫الغائب كام تقدم حكاية ذلك عنهم‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫املدعى عليه لتغيبه دون بينة‬


‫املسألة السادسة‪ :‬احلكم عىل َّ‬
‫صورة املسألة‪:‬‬
‫الغائب عن جملس احلكم‬ ‫َ‬ ‫أمحد‬
‫أقرض َ‬ ‫َ‬ ‫عبد اهلل بأنه‬‫يد ِع َي ُ‬ ‫أن َّ‬
‫املدعى عليه مل ُي ْر ِجع له منها شيئ ًا‪،‬‬ ‫وأن َّ‬ ‫ريال‪َّ ،‬‬ ‫ألف ٍ‬ ‫مبلغ ًا قدره مئة ِ‬
‫ُُ‬
‫املدعي بأ َّنه ليس لديه عىل دعواه ب ِّين ٌة‪،‬‬ ‫ويقر ُر َّ‬
‫ب إلزا َم ُه بدفعها‪ِّ ،‬‬ ‫ويط ُل ُ‬
‫ي ُض‪ ،‬فهل‬ ‫بموع ِد اجللسة ومل َْ‬
‫ِ‬ ‫املدعى عليه قد تب َّلغ‬ ‫أن َّ‬‫وجي ُد القايض َّ‬ ‫ِ‬
‫املدعى عليه ألجل أنه تغ َّيب عن اجللسة بعد‬ ‫للقايض أن حيك َُم عىل َّ‬
‫(‪)1‬‬
‫تب ُّلغه هبا دون احلاجة إىل ب ِّينة؟‬
‫مت قبل الكالم عىل هذه املسألة مجل ًة من املسائل التي هي‬ ‫قد ُ‬ ‫َّ‬
‫املدعى عليه يف‬ ‫أن َّ‬‫ي مما سبق َّ‬ ‫مقدمات للكالم عىل هذه املسألة‪ ،‬فت َب َّ َ‬
‫هذه الصورة يف ُح ْك ِم الغائب عىل مذهب الشافعية واحلنابلة‪ ،‬وهي‬
‫كذلك يف حكم الغائب عند املالكية ألنه ال يعرف أنه يف البلد أو‬
‫خارجه‪.‬‬
‫جيو ُز َ‬
‫ون‬ ‫املذاهب الثالث َة ‪ -‬خالف ًا للحنفية ‪ِّ -‬‬ ‫َ‬ ‫وتبي أيض ًا أن‬ ‫َّ‬
‫القضا َء عىل الغائب‪.‬‬
‫القائلني بجواز القضاء عىل‬ ‫َ‬ ‫ش َط سامع الدعوى عند‬ ‫وتبي أن َ ْ‬ ‫َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اإلثبات‬ ‫وسيلة‬ ‫جيوزون َ‬
‫كون‬ ‫الغائب‪ :‬أن يكون للمدعي ب ِّين ٌة‪ ،‬وأهنم ِّ‬
‫وتبي أيض ًا أهنم يزيدون يف‬ ‫يف القضاء عليه‪ :‬الشاهد واليمني‪َّ ،‬‬
‫االحتياط عند كوهنا كذلك ‪ -‬أعني عند كوهنا شاهد ًا ويمين ًا ‪-‬‬

‫((( وقد سبق التنبيه عىل أنه ال يدخل يف الكالم عىل هذه املسألة تغيب املدعى‬
‫عليه بعد توجيه اليمني عليه؛ إذ أن تلك مسألة أخرى خارجة عن حدود هذا‬
‫البحث‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫ب يمين ًا أخرى‪،‬‬ ‫املدعى عليه الغائب‪ ،‬ف َب ْع ُض ُهم ُي ِ‬


‫وج ُ‬ ‫حلق َّ‬ ‫احتياط ًا ِّ‬
‫املدعي مع‬ ‫ب َلفظ ًا إضافي ًا يف اليمني التي حيلفها َّ‬ ‫وبعض ُهم ِ‬
‫يوج ُ‬ ‫ُ‬
‫شاهده‪.‬‬
‫املدعى عليه ال ُي َع ُّد إقرار ًا‪ ،‬وإنام ُي َع ُّد‬ ‫وتبي أيض ًا‪ :‬أن غياب َّ‬ ‫َّ‬
‫بجواز القضاء‬ ‫ِ‬ ‫حممول عىل اإلنكار عند القائلني‬ ‫ٌ‬ ‫سكوت ًا‪ ،‬وأن سكو َت ُه‬
‫عىل الغائب كام سبق‪.‬‬
‫وإن الناظر يف هذه األمور بعني البصرية واإلنصاف ليجد َّ‬
‫أن‬
‫حل ْك ِم عىل‬ ‫يشد ُدوا يف ا ُ‬ ‫حل ْك ِم عىل الغائب ما مل ِّ‬ ‫شد ُدوا يف ا ُ‬ ‫الفقهاء َّ‬
‫احلاض ولو‬ ‫ِ‬ ‫املدعى عليه‬ ‫ِ‬
‫مواجهة َّ‬ ‫احلارض‪ ،‬فإن الدعوى ُت ْس َم ُع يف‬
‫املدعي عىل احلارض مع ب ِّينَتِ ِه وال‬ ‫مل ي ُك ْن َم َع ُه ب ِّينَ ٌة‪ ،‬و ُت ْس َم ُع دعوى َّ‬
‫الشاهد واليمني عىل‬ ‫ِ‬ ‫ون يف‬ ‫وج ُب ْو َن فيها يمين ًا‪ ،‬كام أنم ال ُي ِ‬
‫وج ُب َ‬ ‫ُي ِ‬
‫َّ ُ‬
‫احلاض شيئ ًا إضافي ًا‪ ،‬ال ِصي َغ ًة مع َّين ًة‪ ،‬وال يمين ًا أخرى‪ ،‬وهذا‬ ‫ِ ِ‬ ‫اخلصم‬
‫ِ‬
‫للغائب احتياط ًا بالغ ًا‪.‬‬ ‫أن الفقهاء احتا ُطوا‬ ‫بجالء عىل َّ‬ ‫ٍ‬ ‫يد ُّل‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫لبحث‬ ‫َان‬
‫َج ُد أنَّه ال َمك َ‬ ‫وبالنظر إىل ما َّقرر ُه الفقهاء يف هذا الشأن ن ِ‬
‫ش ٌط‬ ‫أن الب ِّينَ َة َ ْ‬‫دون ب ِّينة؛ إذ َّ‬ ‫املدعى عليه لتغ ُّيبِ ِه َ‬ ‫احل ْك ِم عىل َّ‬ ‫ِ‬
‫مسألة ُ‬
‫جيوز احلكم يف‬ ‫باتفاق ِهم(‪ ،)1‬ومن باب أوىل‪ :‬أ َّنه ال ُ‬ ‫ِ‬ ‫لسامع الدعوى‬
‫الدعوى دون ب ِّينة‪.‬‬
‫((( نقل االتفاق عىل ذلك املاوردي يف احلاوي ط دار الفكر (‪،)367/20‬‬
‫وينظر‪ :‬الذخرية ط دار الغرب (‪ ،)113/10‬ورشح خمترص خليل للخريش‬
‫ط دار الفكر (‪ ،)172/7‬والرشح الصغري للدردير مع حاشية الصاوي ط دار‬
‫املعارف (‪ ،)231/4‬والبيان يف مذهب اإلمام الشافعي للعمراين ط دار املنهاج‬
‫(‪ ،)105/13‬وأسنى املطالب ط دار الكتاب اإلسالمي (‪ ،)315/4‬والكايف‬
‫يف فقه اإلمام أمحد ط دار الكتب العلمية (‪ ،)241/4‬وكشاف القناع ط دار‬
‫الكتب العلمية (‪ ،)353/6‬وقد سبق حكاية ذلك عن فقهاء كل مذهب قريب ًا‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫للمدعي‬ ‫املدعى عليه الغائب دون ب ِّي ٍنة ُحك ٌْم َّ‬ ‫كام أن احلكم عىل َّ‬
‫بمجر ِد‬
‫َّ‬ ‫الع ْل ِم عىل أنه ال جيوز للقايض أن حيك َُم‬‫أهل ِ‬ ‫أج َع ُ‬ ‫بدعواه‪ ،‬وقد ْ َ‬
‫املدعي‪َ ،‬ن َق َل اإلمجاع عىل هذا مجع من العلامء‪:‬‬ ‫دعوى َّ‬
‫يقول ابن املنذر ‪..« :‬وقول مجيع أهل العلم أن أحد ًا ال‬
‫يعطى بدعواه شيئ ًا»(‪.)1‬‬
‫ويقول ابن عبد الرب ‪:‬‬
‫«وأمجعوا أنه ال يعطى أحد بدعواه وأن البينة عليه فيام يدعيه»(‪.)2‬‬
‫ويقول أبو الوليد الباجي ‪:‬‬
‫«ال خالف أنه ال حيكم ألحد بدعواه»(‪ ،)3‬والقول بأن القايض‬
‫حكم للمدعي بدعواه‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫املدعى عليه دون ب ِّينة‬ ‫حيكم بمجرد ختلف َّ‬
‫ومستند اإلمجاع يف هذه املسألة‪ :‬قول النبي ‪(( :‬لو‬
‫يعطى الناس بدعواهم الدعى ناس دماء رجال وأمواهلم ولكن‬
‫املدعى عليه))(‪ ،)4‬ويف احلديث اآلخر‪(( :‬إذا َل َيك ُْن‬ ‫اليمني عىل َّ‬
‫مني))(‪.)5‬‬ ‫ِ‬
‫طلوب ال َي ُ‬ ‫لِلطالِ ِ‬
‫ب َب ِّينَ ٌة ف َع َل ا َمل‬
‫((( ينظر‪ :‬اإلرشاف عىل مذاهب العلامء البن املنذر ط مكتبة مكة (‪.)41/8‬‬
‫((( االستذكار ط دار الكتب العلمية (‪.)210/7‬‬
‫((( املنتقى رشح املوطأ ط السعادة (‪ ،)204/5‬وحكى اإلمجاع عىل ذلك غري‬
‫من ذكرت‪ ،‬ولرتاجع‪ :‬موسوعة اإلمجاع يف الفقه اإلسالمي ط دار الفضيلة‬
‫(‪ )144/7‬وما بعدها‪.‬‬
‫((( أخرجه البخاري يف «صحيحه» (‪ )143/3‬برقم‪ ،)2514( :‬ومسلم يف‬
‫«صحيحه» (‪ )128/5‬برقم‪ )128/5( ،)1711( :‬برقم‪ )1711( :‬من‬
‫حديث ابن عباس ‪.‬‬
‫((( أخرجه البيهقي يف «سننه الكبري» (‪ )253/10‬برقم‪ )21266( :‬من طريق‬
‫إسحاق بن إبراهيم عن روح بن عبادة عن احلجاج بن أيب عثامن الصواف =‬

‫‪34‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫قرص ولو‬ ‫غائب مساف َة ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫يقول البهويت ‪(« :‬وإن ا َّدعى عىل‬
‫(م ْ َتنِ ٍع) من احلضور ملجلس احلكم (أي‬ ‫يف غري عمله أو) ا َّدعى عىل ُ‬
‫قرص أو ا َّدعى عىل ميت أو صغري‬ ‫دون مسافة ٍ‬ ‫ُم ْس َت ِ ٍت إما يف البلد أو َ‬
‫يك َْم َل ُه) بام‬ ‫ٍ‬
‫أو جمنون بال ب ِّينَة مل ُت ْس َم ْع دعواه) ألنه ال فائد َة فيها (ومل ُ ْ‬
‫حلديث ((لو يعطى الناس بدعواهم))‪.)1(»...‬‬ ‫ِ‬ ‫ا َّد َعا ُه‬
‫ومع هذا البيان الرصيح منهم ‪ -‬رمحة اهلل عليهم ‪ -‬فال فائدة من‬
‫بحث هذه املسألة حقيق ًة‪ ،‬و ُعلِ َم منه أيض ًا أنه ال قائِ َل بجواز ِسام ِع‬ ‫ِ‬
‫الدعوى عىل الغائب دون ب ِّينة‪.‬‬
‫املدعى عليه‬ ‫حل ْك ِم عىل َّ‬ ‫جواز ا ُ‬ ‫َ‬ ‫ولكن سمعت ورأيت من يرى‬
‫دون ب ِّي ٍنة ويس َتنِد يف ذلك إىل أ َّد ٍلة عا َّم ٍة‪ ،‬ومل يتف َّطن إىل ما‬
‫ملجر ِد تغ ُّيبِ ِه َ‬
‫َّ‬
‫أهل العلم يف شأن القضاء عىل‬ ‫َف ِه َم ُه ُ‬
‫أهل العلم منها‪ ،‬وال إىل ما َّقر َر ُه ُ‬
‫ون به وما رأي ُت ُهم يس َتنِدون عليه‪.‬‬
‫الغائب‪ ،‬وسأذكر ها هنا ما يس َت ِد ُّل َ‬
‫ول َف ْه ِم حقيقة خمالفة هذا القول ملا قرره الفقهاء فال ُب َّد من‬
‫استحضار ما سبقت حكايته عنهم‪.‬‬

‫= واللفظ له‪ ،‬والدارقطني يف «سننه» (‪ )391/5‬برقم‪ )4513( :‬من طريق نعيم بن‬
‫محاد عن مروان بن معاوية عن احلجاج به‪ ،‬وأخرجه ابن أيب شيبة يف «مصنفه»‬
‫(‪ )681/10‬برقم‪ )21222( :‬من طريق حممد بن برش عن احلجاج به‪ ،‬ومن‬
‫طريقه أخرجه الطرباين يف «الكبري» (‪ )159/5‬برقم‪ ،)4937( :‬وأورده ابن‬
‫حجر يف «املطالب العالية» (‪ )207/10‬برقم‪ )2/2189( :‬بألفاظ متقاربة‪،‬‬
‫واللفظ املثبت لفظ البيهقي‪ ،‬وإسناده ثقات‪.‬‬
‫((( كشاف القناع ط دار الكتب العلمية (‪.)354/6‬‬

‫‪35‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫أقوى ما رأي ُتهم ِ‬


‫يستد ُّل َ‬
‫ون به اآليت‪:‬‬ ‫ُ‬
‫أن رسول اهلل ‪‬‬ ‫(‪ )1‬عن أيب موسى األشعري ‪َّ ‬‬
‫أحد ُها ومل ِ‬
‫يأت‬ ‫اخل ْص َم ِن‪ ،‬فا َّت َع َدا املوعد‪،‬‬
‫كان إذا اخ َت َص َم إليه َ‬
‫فجاء ُ َ‬
‫َ‬
‫جاء عىل الذي مل َيِئ‪.‬‬‫رسول اهلل ‪ ‬ل َّلذي َ‬ ‫ُ‬ ‫اآلخر َق َض‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫والبعري‪ ،‬والذي‬ ‫ِ‬
‫والشاة‬ ‫الدابة‬
‫ذاك يف َّ‬ ‫فقال أبو موسى‪« :‬إنام كان َ‬
‫الناس» أخرجه الطرباين يف األوسط‪ ،‬وقال‪« :‬مل ِ‬
‫يرو‬ ‫ِ‬ ‫أمر‬ ‫ِ‬
‫نح ُن فيه ُ‬
‫خالد ب ُن ناف ٍع»(‪.)1‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫احلديث عن سعيد بن أيب برد َة إال‬ ‫هذا‬
‫وجه الداللة‪:‬‬
‫أن أبا موسى ع َّل َق احلكْم عىل ع َد ِم ِجم ِ‬
‫يء اخلصم‪ ،‬ومل َي ْذكُر ب ِّين ًة وال‬ ‫َّ‬
‫َ‬ ‫ُ َ‬
‫َيمين ًا وال ُنكُوالً ف ُع ِل َم منه أن للقايض أن حيك َُم عىل اخلصم َ‬
‫املتخ ِّلف‬
‫عن احلضور ألجل خت ُّل ِف ِه‪.‬‬

‫((( أخرجه الطرباين يف املعجم األوسط ط دار احلرمني (‪ )7541‬من طريق خالد‬
‫بن نافع األشعري عن سعيد بن أيب بردة عن أيب موسى األشعري ‪‬‬
‫وقال يف كنز العامل (‪( )14539‬ج‪ )849/5‬ط الرسالة‪« :‬أبو سعيد النقاش‬
‫وفيه خالد بن نافع‪ ،‬ضعيف»‪ ،‬وفيه كام ترى خالد بن نافع األشعري‪ ،‬وهو‬
‫ضعيف ضعفه أبو زرعة والنسائي‪ ،‬وقال أبو حاتم‪ :‬شيخ ليس بقوي يكتب‬
‫حديثه‪ ،‬ينظر‪ :‬اجلرح والتعديل البن أيب حاتم ط دار إحياء الرتاث (‪،)355/3‬‬
‫ولسان امليزان ط دار البشائر (‪ ،)342/3‬وقال اهليتمي يف جممع الزوائد ومنبع‬
‫الفوائد ط مكتبة القديس (‪« :)197/4‬وفيه خالد بن نافع األشعري‪ :‬قال أبو‬
‫حاتم‪ :‬ليس بقوي يكتب حديثه‪ ،‬وض َّعفه األئمة»‪ ،‬واخلالصة أن هذا احلديث‬
‫ضعيف‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫ونوقش من أوجه‪:‬‬
‫الوجه األول‪:‬‬
‫ضعيف‪ ،‬ألن يف إسناده خالد بن نافع األشعري‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫احلديث‬ ‫أن هذا‬
‫تبي ذلك‪ :‬فإن كان‬ ‫ضعيف‪ ،‬كام سبق عند ختريج احلديث‪ ،‬فإذا َّ َ‬ ‫ٌ‬ ‫وهو‬
‫ي َت ُاج إىل الكالم عليه؛ أل َّنه ال‬ ‫درج َة االعتبار فال ُ ْ‬‫احلديث مل يب ُل ْغ َ‬
‫أرج ُح منه‪ ،‬و َع َد ُم‬ ‫َ ِِ‬ ‫العمل به عىل َف ْر ِ‬
‫ُ‬
‫معارضته ملا هو َ‬ ‫ض عدم‬ ‫جيوز‬
‫ُ‬
‫أرج ُح‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫خمال َفتِ ِه للقواعد الرشعية‪،‬‬
‫احلديث ُم َع َار ٌض بام هو َ‬ ‫والواق ُع أن‬
‫تقدم‪ ،‬ومع ذلك‬ ‫منه من األدلة والقواعد الرشعية هذا مع ضعفه كام َّ‬
‫فإن عنه أجوب ًة ‪ -‬عىل فرض صحته ‪ْ َ -‬ت َم ُع بينه وبني نصوص‬ ‫ُك ِّله‪َّ :‬‬
‫الباب(‪ ،)1‬وستأيت يف األوجه التالية‪.‬‬
‫الوجه الثاين‪:‬‬
‫حل ْك ِم عىل الغائب م َّت ِف ُق ْو َن عىل أ َّنه ال ُ‬
‫جيوز‬ ‫ِ‬
‫بجواز ا ُ‬ ‫َّ‬
‫أن القائلني‬
‫الدعوى ضده إال بب ِّي ٍنة فكيف باحلكم بغري ب ِّي ٍنة! وقد سبق‬ ‫سامع َّ‬
‫نقل اتفاقهم عىل ذلك(‪ ،)2‬فإذا ُأ ِخ َذ ذلك ِ‬
‫بعني االعتبار‪ ،‬و ُع ِل َم َّ‬
‫أن‬

‫((( ينظر‪ :‬الفتح الرباين يف فتاوى الشوكاين ط مكتبة اجليل (‪.)4597/9‬‬


‫((( نقل االتفاق عىل ذلك املاوردي يف احلاوي ط دار الفكر (‪،)367/20‬‬
‫وينظر‪ :‬الذخرية ط دار الغرب (‪ ،)113/10‬ورشح خمترص خليل للخريش‬
‫ط دار الفكر (‪ ،)172/7‬والرشح الصغري للدردير مع حاشية الصاوي ط دار‬
‫املعارف (‪ ،)231/4‬والبيان يف مذهب اإلمام الشافعي للعمراين ط دار املنهاج‬
‫(‪ ،)105/13‬وأسنى املطالب ط دار الكتاب اإلسالمي (‪ ،)315/4‬والكايف‬
‫يف فقه اإلمام أمحد ط دار الكتب العلمية (‪ ،)241/4‬وكشاف القناع ط دار‬
‫الكتب العلمية (‪.)353/6‬‬

‫‪37‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫القضاء عىل الغائب عىل قولني‪َ :‬أ َح ُد ُها أ َّنه ال‬ ‫ِ‬ ‫أهل العلم اختلفوا يف‬
‫كم عىل‬ ‫حل َ‬‫أن ا ُ‬ ‫يك َُم عليه بالب ِّين َِة‪ُ ،‬ع ِل َم َّ‬ ‫َ‬
‫واآلخ ُر أ َّنه ُ ْ‬ ‫يك َُم عليه مطلق ًا‪،‬‬ ‫ُْ‬
‫قول مل َي ُق ْل ُه أحد من فقهاء اإلسالم‪.‬‬ ‫املدعى عليه بال ب ِّين ٍَة ٌ‬
‫َّ‬
‫فإن قيل‪ :‬فام اجلواب عن هذه األحاديث؟‬
‫فيقال‪:‬‬
‫الوجه الثالث‪:‬‬
‫حل ْك ِم عىل الغائب‬ ‫ح ُلوا هذه األحاديث عىل جواز ا ُ‬ ‫أهل العل ِم َ َ‬ ‫أن َ‬‫َّ‬
‫النبي ‪ ‬يف‬ ‫ِّ‬ ‫بالب ِّين َِة ال ِم ْن دون ب ِّي ٍنة‪ ،‬وهو الز ٌم؛ لقول‬
‫احلديث الذي أخرجه الشيخان‪(( :‬لو ُي ْع َطى ُ‬
‫الناس َبد ْع َو ُاه ْم ال َّد َعى‬
‫املدعى عليه)) (‪،)1‬‬ ‫اليمني عىل َّ‬
‫َ‬ ‫وأموالم ولكِ َّن‬
‫َُ‬ ‫ٍ‬
‫رجال‬ ‫دماء‬
‫َ‬ ‫ناس‬
‫ٌ‬
‫النبي ‪َ ‬حك ََم عىل‬ ‫بأن َّ‬‫ووج ُه الداللة منه‪ :‬أ َّنه لو ِق ْي َل َّ‬
‫املدعي‬ ‫املدعى عليه ألجل غيابِ ِه َف َقط َل َل ِز َم من ذلك أن يكون َأ ْع َطى َّ‬ ‫َّ‬
‫النبي ‪ ‬هذا املعنى يف هذا احلديث‪،‬‬ ‫بدعواه‪ ،‬وقد نفى ُّ‬
‫حديث آخر‪(( :‬إذا َل َيك ُْن‬ ‫ٍ‬ ‫طريق احلكم وأ َّنه باليمني‪ ،‬ويف‬ ‫َ‬ ‫وبي‬‫َّ‬
‫مني))(‪ ،)2‬يقول القايض أبو يعىل‬ ‫طلوب ال َي ُ‬‫ِ‬ ‫ب َب ِّينَ ٌة ف َع َل ا َمل‬ ‫لِلطالِ ِ‬
‫((( أخرجه البخاري يف «صحيحه» (‪ )143/3‬برقم‪ ،)2514( :‬ومسلم يف‬
‫«صحيحه» (‪ )128/5‬برقم‪ )128/5( ،)1711( :‬برقم‪ )1711( :‬من‬
‫حديث ابن عباس ‪.‬‬
‫((( أخرجه البيهقي يف «سننه الكبري» (‪ )253/10‬برقم‪ )21266( :‬من طريق‬
‫إسحاق بن إبراهيم عن روح بن عبادة عن احلجاج بن أيب عثامن الصواف‬
‫واللفظ له‪ ،‬والدارقطني يف «سننه» (‪ )391/5‬برقم‪ )4513( :‬من طريق نعيم‬
‫بن محاد عن مروان بن معاوية عن احلجاج به‪ ،‬وأخرجه ابن أيب شيبة يف =‬

‫‪38‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫حمل االستدالل‪« :‬ومعلو ٌم أ َّن ُه‬ ‫‪ ‬مع ِّلق ًا عىل حديث أيب موسى ِّ‬
‫بد ْع َوا ُه‪ ،‬ف َث َب َت أ َّنه َق َض بِ َب ِّين ٍَة»(‪.)1‬‬
‫مل َيكُن َي ْق ِض عليه َ‬
‫الوجه الرابع‪:‬‬
‫ي ُص ُل هبا اجلمع‬ ‫ِ‬ ‫ح ُل احلديث عىل ٍ‬
‫األوجه التي َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫عدد من‬ ‫أ َّن ُه ُيمكن َ ْ‬
‫بني هذا احلديث وغريه‪ ،‬فمن ذلك‪:‬‬
‫خاصم‬‫ي كانت بعد ال َّت ُ‬ ‫بني اخلَ ْص َم ْ ِ‬
‫أن يف احلديث‪ :‬أن املواعدة َ‬ ‫أ‪َّ -‬‬
‫حيث قال‪« :‬كان إذا اخ َت َص َم إليه اخلَ ْص َم ِن‪،‬‬ ‫النبي ‪ُ ،‬‬ ‫عند ِّ‬
‫املوع َد‪ »..‬ف ُعلم منه أنه َس َب َق للنبي ‪ ‬معهام‬ ‫ِ‬ ‫فا َّت َع َدا‬
‫ُ‬
‫الدليل من‬ ‫حماكمة‪ ،‬فال َق َضا ُء مل ُير َّتب عىل عدم حضور اخلَ ْص ِم‪ ،‬فأي َن‬
‫أن احلكْم كان ملجر ِد خت ُّل ِ‬
‫ف اخلَ ْص ِم عن احلضور؟ وهل‬ ‫َّ‬ ‫احلديث عىل َّ ُ َ‬
‫حلك َْم إ َّنام كان بام َح َص َل يف التحاكم‬ ‫بأن ا ُ‬ ‫هذا ال ُق ْو ُل َبأ ْو َل من أن َ‬
‫يقال َّ‬
‫يعارض‬ ‫ج َع ًا بني األدلة عىل َف ْر َض صحة هذا احلديث؟! وهل ِ‬ ‫األول َ ْ‬
‫األحاديث الصحيح َة‬ ‫َ‬ ‫اإلسناد ‪ -‬كام تقدم ‪-‬‬ ‫ِ‬ ‫الضعيف‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫احلديث‬ ‫هذا‬
‫ِ‬
‫احلديث‬ ‫ض ِص َّحة‬
‫الدعوى؟ َف َع َل َف ْر ِ‬
‫بمجرد َّ‬ ‫الدال َة عىل أ َّنه ال ُي ْق َض‬
‫َّ‬
‫َّ‬
‫جل ْم ِع بني هذا احلديث واألحاديث األخرى‪،‬‬ ‫املصي إىل ا َ‬ ‫ب‬ ‫فإنه َ ِ‬
‫ي ُ‬
‫ُْ‬

‫= «مصنفه»(‪ )681/10‬برقم‪ )21222( :‬من طريق حممد بن برش عن احلجاج به‪،‬‬


‫ومن طريقه أخرجه الطرباين يف «الكبري» (‪ )159/5‬برقم‪ ،)4937( :‬وأورده‬
‫ابن حجر يف «املطالب العالية» (‪ )207/10‬برقم‪ )2/2189( :‬بألفاظ متقاربة‪،‬‬
‫واللفظ املثبت لفظ البيهقي‪ ،‬وإسناده ثقات‪.‬‬
‫((( ينظر‪ :‬املسائل الفقهية من كتاب الروايتني والوجهني ط مكتبة املعارف‬
‫(‪ ،)85/3‬وينظر‪ :‬الرشح الكبري عىل املقنع ت الرتكي (‪.)518/28‬‬

‫‪39‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫ٍ‬
‫حديث‬ ‫تقديم ِه عىل‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ضعيف أو‬ ‫ال أن ُيصار إىل ترجيح حديث‬
‫ٍ‬
‫صحيح(‪.)1‬‬
‫املدعي فإ َّنه ال جيوز أن ُي ْق َط َع‬
‫ض هو َّ‬
‫يُ ْ‬‫إن كان الذي مل َ ْ‬‫ب‪ -‬أ َّنه ْ‬
‫فبأي ٍ‬
‫دليل‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫َح ُّق ُه إال‬
‫بإقراره ببطالن دعواه‪ِّ ،‬‬ ‫املدعى عليه‪ ،‬أو‬‫بيمني َّ‬
‫املدعي مع قول النبي ‪(( :‬ولكن اليمني عىل‬
‫يك َُم عىل َّ‬
‫ُْ‬
‫(‪)2‬‬
‫املدعى عليه))؟‬
‫َّ‬
‫النبي ‪َ ‬س ِم َع من‬ ‫َّ‬ ‫يقال َّ‬
‫بأن‬ ‫ت‪ -‬أ َّنه ُي ْم ِك ُن أن َ‬
‫املدعي‬‫للبت يف احلكم‪ ،‬إما بب ِّين ٍَة من َّ‬ ‫مر ٍة ما يكفي ِّ‬ ‫ِ‬
‫ي يف َّأول َّ‬ ‫صم ْ ِ‬‫اخلَ َ‬
‫املدعى عليه ونحو ذلك(‪.)3‬‬ ‫بيمني من َّ‬‫ٍ‬ ‫أو‬
‫ض من‬ ‫ِ‬
‫املتناز ُع فيها يف يد الذي َح َ َ‬ ‫َ‬ ‫العني‬
‫ُ‬ ‫ث‪ -‬أ َّنه يمكن أن تكون‬
‫النبي ‪ ‬أ َم َر ُه أن‬ ‫أن َّ‬ ‫فيكون ال َق َضا ُء املقصود َّ‬‫ُ‬ ‫ي‪،‬‬‫اخلصم ْ ِ‬
‫َ‬
‫حلك َْم له(‪.)4‬‬ ‫ا‬ ‫ب‬ ‫بيشء ِ‬
‫يوج‬ ‫ٍ‬ ‫يستم َّر ق ْب ُض ُه عليها لعدم حضور َخ ْص ِم ِه‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫املدعي‬ ‫ي هو َّ‬ ‫مك ُن أن يكون الذي َح َض من اخلَ ْص َم ْ ِ‬ ‫ج‪ -‬أ َّنه ي ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫النبي‬
‫ُّ‬ ‫فس ِم َع‬‫املدعى عليه‪َ ،‬‬ ‫غاب هو َّ‬ ‫َ‬ ‫أحض ب ِّينَ َت ُه‪ ،‬والذي‬ ‫وقد َ َ‬
‫وحك ََم ل ُه(‪.)5‬‬
‫‪ ‬ب ِّينَ َت ُه َ‬

‫((( ينظر‪ :‬رشح مشكل اآلثار ط الرسالة (‪ ،)59/12‬والفتح الرباين يف فتاوى‬


‫الشوكاين ط مكتبة اجليل (‪.)4592/9‬‬
‫((( ينظر‪ :‬الفتح الرباين من فتاوى الشوكاين ط مكتبة اجليل (‪.)4591/9‬‬
‫((( ينظر‪ :‬الفتح الرباين من فتاوى الشوكاين ط مكتبة اجليل (‪.)4597/9‬‬
‫((( ينظر‪ :‬الفتح الرباين من فتاوى الشوكاين ط مكتبة اجليل (‪.)4598/9‬‬
‫((( ينظر‪ :‬الفتح الرباين من فتاوى الشوكاين ط مكتبة اجليل (‪.)4599/9‬‬

‫‪40‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫وقد ذكر الشوكاين ‪ ‬مجلة كبرية من االحتامالت التي‬


‫الدالة‬
‫يمكن أن حيصل اجلمع هبا بني هذا احلديث وأحاديث الباب َّ‬
‫بمجر ِد دعواه‪.‬‬
‫َّ‬ ‫عىل أ َّنه ال ُي ْق َض َّ‬
‫للمدعي‬
‫رسول اهلل ‪ ‬كان‬ ‫َ‬ ‫(‪ )2‬الدليل الثاين‪ :‬عن َسمر َة َّ‬
‫أن‬
‫ِ‬ ‫الر ُج ُل‬
‫صاح َب ُه إىل الذي‬ ‫أحد ُ َ‬
‫ها‬ ‫فدعا ُ‬ ‫اآلخر‪َ ،‬‬
‫َ‬ ‫ب َّ‬ ‫يقول‪(( :‬إذا طا َل َ‬
‫ُ‬
‫حق َل ُه))(‪.)1‬‬‫جييء فال َّ‬ ‫ِ‬
‫يقض بينَ ُه َم فأبى أن‬
‫َ‬

‫((( أخرجه البزار يف مسنده ط مكتبة العلوم واحلكم برقم (‪ ،)4680‬من طريق‬
‫خالد بن يوسف السمتي عن أبيه يوسف‪ ،‬عن جعفر بن سليامن بن سمرة بن‬
‫جندب‪ ،‬وأخرجه الطحاوي يف مشكل اآلثار ط مؤسسة الرسالة برقم (‪)4635‬‬
‫من طريق مروان بن جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب عن حممد بن إبراهيم‬
‫بن خبيب بن سليامن بن سمرة بن جندب‪ ،‬مجيعهم عن جعفر بن سعد بن‬
‫سمرة بن جندب عن خبيب بن سليامن بن سمرة بن جندب عن أبيه‪ ،‬ومداره‬
‫عندمها عىل جعفر بن سعد‪ ،‬قال عنه ابن عبد الرب‪ :‬ليس بالقوي‪ ،‬وقال ابن‬
‫حزم وابن القطان ومغلطاي‪ :‬جمهول‪ ،‬وقال عبد احلق اإلشبييل‪ :‬ليس ممن يعتمد‬
‫عليه‪ ،‬ينظر‪ :‬إكامل هتذيب الكامل ط دار الفاروق احلديثة (‪ ،)218/3‬وهتذيب‬
‫التهذيب ط دائرة املعارف النظامية (‪ ،)94/2‬ويرويه عن جعفر عن خبيب بن‬
‫سليامن‪ :‬وهو جمهول أيض ًا قال ذلك ابن حجر وابن حزم وابن القطان الفايس‬
‫ينظر‪ :‬تقريب التهذيب ط دار الرشيد ص(‪ ،)192‬وهتذيب التهذيب ط دائرة‬
‫املعارف النظامية (‪ ،)135/3‬وإكامل هتذيب الكامل ط دار الفاروق احلديثة‬
‫(‪ ،)172/4‬ويف إسناد البزار يوسف السمتي وهو مرتوك احلديث كذاب‪ ،‬قاله‬
‫عمرو بن عيل وابن معني وأبو داود السجستاين‪ ،‬وقال عنه احلاكم‪ :‬ال يروي عنه‬
‫أهل الديانة واملعرفة‪ ،‬وقال أبو حاتم‪ :‬ذاهب احلديث‪ ،‬وقال ابن حجر‪ :‬يوسف‬
‫تالف‪ ،‬وما دام مداره عىل جعفر فاحلديث ضعيف لضعف جعفر وجهالة شيخه‬
‫خبيب‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫(‪ )3‬الدليل الثالث‪ :‬عن احلسن البرصي‪ :‬قال‪ :‬قال رسول اهلل‬
‫‪(( :‬من دعي إىل سلطان فلم جيب فهو ظامل ال حق‬
‫له))(‪.)1‬‬
‫ووجه الداللة من هذين احلديثني‪:‬‬
‫ظالِ ًا‪ ،‬وأ َّنه َّ َ‬
‫بي ُحك َْم ُه‬ ‫ي ُض َ‬
‫سمى من مل َ ْ‬
‫النبي ‪َّ ‬‬ ‫أن َّ‬ ‫َّ‬
‫وأنه ال َح َّق له‪.‬‬
‫ونوقش هذان احلديثان من عدة أوجه‪:‬‬
‫الوجه األول‪ :‬من جهة اإلسناد‪:‬‬
‫فمدار ُه عىل جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب‬
‫ُ‬ ‫أما حديث سمرة‬
‫عفر‬
‫ويرويه عن خبيب بن سليامن بن سمرة بن جندب‪ ،‬فأما َج ُ‬
‫((( أخرجه أبو داود يف املراسيل (‪ )391‬من طريق مسلم بن إبراهيم عن جعفر بن‬
‫حيان عن احلسن به‪ ،‬ومن طريق البيهقي يف السنن الكبري (‪ ،)20548‬وأخرجه‬
‫ابن أيب حاتم يف تفسريه برقم (‪ )14744‬عن أبيه عن موسى بن إسامعيل عن‬
‫مبارك عن احلسن به‪ ،‬وأخرجه الدارقطني يف سننه (‪ ،)4495‬من طريق حممد بن‬
‫سليامن املالكي عن عمرو بن عيل عن حييى بن سعيد القطان عن أيب األشهب عن‬
‫احلسن به‪ ،‬وهو من مراسيل احلسن‪ ،‬وقد قال اإلمام أمحد‪« :‬ليس يف املرسالت‬
‫يشء أضعف من مرسالت احلسن وعطاء بن أيب رباح فإهنام كانا يأخذان عن‬
‫كل أحد»‪ ،‬هتذيب الكامل يف أسامء الرجال ط مؤسسة الرسالة (‪،)83/10‬‬
‫وهتذيب التهذيب ط النظامية (‪ ،)266/2‬وجامع التحصيل للعالئي ط عامل‬
‫الكتب ص(‪ ،)78‬وقال عنه أبو حاتم‪« :‬هذا حديث منكر» العلل ابن أيب حاتم‬
‫ط احلمييض (‪ ،)295/4‬وقال عنه ابن كثري بعد أن ساقه يف تفسريه‪« :‬وهذا‬
‫حديث غريب‪ ،‬وهو مرسل» تفسري ابن كثري ط العلمية (‪ ،)68/6‬وقال عبد‬
‫احلق اإلشبييل يف أحكامه الوسطى بعد أن ذكر احلديث‪« :‬هذا مرسل‪ ،‬ومراسيل‬
‫احلسن عندهم ضعاف جد ًا» األحكام الوسطى ط مكتبة الرشد (‪.)341/3‬‬

‫‪42‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫شيخ ُه فمجهول كام س َب َقت اإلشارة إليه عند‬


‫فضعيف احلديث‪ ،‬وأما ُ‬
‫ُ‬
‫ختريج احلديث‪.‬‬
‫مرس ٌل‪ ،‬ومراسيل احلسن من أضعف‬
‫وأما حديث احلسن‪ :‬فهو من َ‬
‫املراسيل‪ ،‬كام سبقت اإلشارة إليه عند ختريج احلديث والكالم عىل‬
‫(‪)1‬‬
‫إسناده‪.‬‬
‫بصح ِة احلديث َّ‬
‫فإن عن داللته‬ ‫َّ‬ ‫الوجه الثاين‪ :‬أنه عىل َف ْر ِ‬
‫ض التسليم‬
‫عدد ًا من األجوبة(‪:)2‬‬
‫(‪ )1‬فمن أوجه اجلواب عن هذه األحاديث‪ :‬مجع ألفاظ هذه‬
‫األحاديث حتى يتبني املعنى منها‪ ،‬فقد أخرج حديث احلسن السابق‬
‫أتم يفرس املعنى‪ ،‬فساق بإسناده عن‬ ‫ابن أيب حاتم يف تفسريه بلفظ َّ‬
‫كمَ‬ ‫َ ۡ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ُ ٓ ْ َ َّ‬
‫ولِۦ ِلح‬ ‫احلسن يف قوله تعاىل‪ِ﴿ :‬إَوذا دعوا إِل ٱللِ ورس ِ‬
‫ۡ‬
‫َ ُ َّ ُ ُ ۡ َ ُّ َ ُ ٓ ْ‬ ‫ُ َ‬ ‫بَ ۡي َن ُه ۡم إ َذا فَر ‪ٞ‬‬
‫يق ّم ِۡن ُهم ُّم ۡع ِرضون ‪ِ ٤٨‬إَون يكن لهم ٱلق يأتوا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َّ َ ٌ ِ ۡ َ ُ ٓ ْ ۡ َ َ ُ َ‬ ‫ُُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َۡ ُ ۡ‬
‫إِلهِ مذ ِعنِني ‪ ٤٩‬أ ِف قلوب ِ ِهم مرض أم ٱرتابوا أم يافون أن يِيف‬
‫َّ ُ َ َ ۡ ۡ َ َ ُ ُ ُ َ ۡ ُ ْ َ ٰٓ َ ُ ُ َّ ٰ ُ َ‬
‫ٱلل علي ِهم ورسول ۚۥ بل أولئِك هم ٱلظلِمون ‪ ﴾٥٠‬قال‪« :‬كان‬
‫(‪)3‬‬

‫((( وينظر لالستزادة‪ :‬سلسلة األحاديث الضعيفة لأللباين (‪ )395/12‬وما‬


‫بعدها‪.‬‬
‫((( سئل احلافظ الشوكاين ‪ ‬عن هذه األحاديث وهل هي دالة عىل جواز‬
‫احلكم عىل املدَّ عى عليه دون ب ِّين ٍَة فأجاب عن ذلك من نحو ستني وجه ًا وذلك‬
‫يف فتاواه‪ ،‬وكثري مما سبق وما يأيت من األجوبة مأخوذ من كالمه ‪ ‬وما‬
‫وقفت عليه من كالم أهل العلم‪.‬‬
‫((( اآليات من سورة النور(‪.)50-48‬‬

‫‪43‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫أعر َض وقال‪:‬‬ ‫الرج ُل إذا أراد أن ي ْظ ِلم ُ ِ‬


‫النبي ‪َ ‬‬ ‫فدع َي إىل ُ ِّ‬ ‫َ َ‬ ‫َّ ُ‬
‫َ ۡ ْ َ ٰٓ َ ُ ُ َّ ٰ ُ َ‬
‫انطلق إىل فالن فأنزل اهلل‪﴿ :‬بل أولئِك هم ٱلظلِمون ‪ ﴾٥٠‬فقال‬
‫رسول اهلل ‪(( :‬من كان بينه وبني أخيه يشء يدعى إىل‬
‫حكم من حكام املسلمني فأبى أن جييب فهو ظامل ال حق له))(‪،)1‬‬
‫ووجه االستدالل به‪ :‬من وجهني‪:‬‬
‫ظالِ َ‬
‫ون‪،‬‬ ‫أ‪ -‬أن سبب احلديث ِ‬
‫ظاه ٌر يف َّأنم أناس حمقوقون ُ‬ ‫َ َ‬
‫ي َم ُل عليه ُّ‬
‫كل‬ ‫وأنُم إنام َمنَ َع ُهم من احلضور أهنم ظاملون‪ ،‬فال ُ ْ‬
‫َّ‬
‫ي ُض‪.‬‬
‫من مل َ ْ‬
‫حق له)) ٌ‬
‫بيان‬ ‫ب‪ -‬أن قوله ‪(( :‬فهو ظامل ٌ ال َّ‬
‫حل ْك ِم عليه)‪.(2‬‬
‫ملعنى اآلية‪ ،‬وليس فيه داللة عىل جواز ا ُ‬
‫(‪ )2‬ومن أوجه اجلواب عنه كذلك‪ :‬أن املعنى يف حديث احلسن‬
‫أن ذلك عىل وجه الذم‪ ،‬فيؤخذ منه َّ‬
‫أن‬ ‫ونحوه ‪ -‬عىل َفرض صحته ‪َّ :-‬‬
‫املدعى عليه‪ ،‬وهبذا استدل به الفقهاء(‪ ،)3‬وعليه‬
‫اإلجابة واجبة عىل َّ‬
‫ِطريق من ُط ُرق احلكم‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫اخلصم ْي‬ ‫فال دال َل َة فيه عىل أن َت َغيب ِ‬
‫أحد‬
‫َ‬ ‫ُّ َ‬

‫((( أخرجه ابن أيب حاتم يف تفسريه برقم (‪ )14744‬عن أبيه عن موسى بن‬
‫إسامعيل عن مبارك عن احلسن به‪.‬‬
‫((( ينظر‪ :‬حسن التنبه ملا ورد يف التشبه ط دار النوادر (‪.)238/2‬‬
‫((( ينظر‪ :‬التجريد للقدوري ط دار السالم (‪ ،)3067/6‬وتبرصة احلكام يف‬
‫أصول األقضية ومناهج األحكام ط مكتبة الكليات األزهرية (‪،)369/1‬‬
‫ومعني احلكام فيام يرتدد بني اخلصمني من األحكام ط دار الفكر ص(‪.)97‬‬

‫‪44‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫وسمعت من يعذرهم‪:‬‬
‫املدعى عليه‬ ‫بأن املن ِّظم السعودي م َّك َن القايض من ا ُ‬
‫حل ْك ِم عىل َّ‬
‫ض َب ًا من رضوب السياسة الرشعية‬ ‫ون هذا منه َْ‬ ‫عند تغ ُّيبِ ِه‪ ،‬قال‪ :‬ف َي ُع ُّد َ‬
‫املبن َّي ِة عىل املصلحة‪ ،‬ويستنِ ُدون عىل ما جاء يف الفقرة األوىل من املادة‬
‫السابعة واخلمسني من نظام املرافعات الرشعية ونصها‪« :‬إذا غاب‬
‫املدعى عليه عن اجللسة األوىل‪ ،‬ومل يكن تب َّلغ لشخصه أو وكيله يف‬ ‫َّ‬
‫فيؤجل النظر يف الدعوى إىل جلسة الحقة يب َّله هبا‬ ‫َّ‬ ‫الدعوى نفسها‬
‫املدعى عليه‪ ،‬فإن غاب عن هذه اجللسة دون عذر تقبله املحكمة‬ ‫َّ‬
‫ومل يكن تب َّلغ لشخصه أو وكيله فتحكم املحكمة يف الدعوى‪ ،‬ويعد‬
‫املدعى عليه غيابي ًا»‪.‬‬ ‫حكمها يف حق َّ‬
‫املدعى عليه ومل‬ ‫قالوا‪ :‬فقد م َّك َن املن ِّظ ُم القايض من احلكم عىل َّ‬
‫َي ْش َ ِتط وجو َد ب ِّي ٍنة‪.‬‬
‫و ُينا َق ُش هذا االستدالل من أوجه‪:‬‬
‫الوجه األول يف اجلواب عن املقدمة األوىل‪:‬‬
‫أنه ال اعتبار للسياسة إذا خالفت أدلة الرشع‪ ،‬فإن السياسة‬
‫ِ‬ ‫املرس َل ِة‪ ،‬وال‬ ‫ِ‬ ‫ض ِ‬
‫للمصلحة‬ ‫اعتبار‬
‫َ‬ ‫وب املص َل َحة َ‬ ‫ض ٌب من ُ ُ‬ ‫الرشعية َ ْ‬
‫إذا خالفت الرشع(‪.)1‬‬
‫الوجه الثاين يف اجلواب عن املقدمة األوىل‪:‬‬
‫أن املن ِّظم َج َع َل املادة األوىل يف هذا النظا ِم نظا ِم املرافعات‬
‫موضوعي‪ ،‬جا َء يف آخر‬ ‫وبي أ َّنه إجرائي ال‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ٌّ‬ ‫الرشعية يف بيان حدوده‪َّ ،‬‬
‫((( ينظر‪ :‬بدائع الفوائد ط عامل الفوائد (‪.)1088/3‬‬

‫‪45‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫نصه‪« :‬وتتق َّيد يف إجراءات َن َظ ِر َها بام ورد يف هذا‬ ‫املادة املذكورة ما ُّ‬
‫وج َع َل املن ِّظ ُم َم َر َّد‬
‫النظام»ا‪.‬هـ‪ ،‬وما نحن فيه موضوعي ال إجرائي‪َ ،‬‬
‫نص‬ ‫النَّ َظ ِر يف األمور املوضوعية أحكا َم الرشيعة اإلسالمية‪ ،‬جاء يف ِّ‬
‫املعروض ِة‬
‫َ‬ ‫املادة املذكورة‪« :‬املادة األوىل‪ُ :‬ت َط ِّب ُق املحاكم عىل القضايا‬
‫الكتـاب‬
‫ُ‬ ‫دل عليه‬ ‫الرشيعـة اإلسالم َّي ِة‪ ،‬وفق ًا ملا َّ‬
‫ِ‬ ‫أما َم َها أحكا َم‬
‫يصد ُر ُه و ُّيل األمر من أنظِ َم ٍة ال َت َت َع َار ُض مع الكتـاب‬ ‫والسن ُة‪ ،‬وما ِ‬
‫صد ُر ُه و ُّيل األمر من األنظمة بام ال‬ ‫والسنَّة»ا‪.‬هـ فقي َد العم َل بام ي ِ‬
‫ُ‬ ‫َّ َ َ‬ ‫ُّ‬
‫دون‬‫ملجر ِد تغ ُّيبِ ِه َ‬‫حلك ُْم عىل الغائب َّ‬ ‫يتعارض مع الكتاب والسنة‪ ،‬وا ُ‬
‫للسن َِّة‪،‬‬‫ف ُ‬ ‫كون كالم املن ِّظم ال حيتمله كام سيأيت ‪ -‬فهو خمالِ ٌ‬ ‫ب ِّي ٍنة ‪ -‬مع َ‬
‫ف لإلمجاع كام سبق‪.‬‬ ‫وخمالِ ٌ‬
‫فإن قيل‪ :‬فأين وجه املخالفة؟‬
‫فيقال‪:‬‬
‫النبي ‪« :‬لو يعطى‬
‫إن القول هبذا خمالف حلديث ِّ‬
‫الناس بدعواهم الدعى ناس دماء رجال وأمواهلم‪ »..‬وقد سبق‬
‫بمجر ِد‬
‫َّ‬ ‫للمدعي‬
‫حلك ُْم َّ‬ ‫أهل العلم قد َأ ْ َ‬
‫ج ُعوا عىل أ َّنه ال جيوز ا ُ‬ ‫قريب ًا أن َ‬
‫اعتبار هبذه املصلحة ملخالفتها لرشع اهلل‪.‬‬ ‫َ‬ ‫دعواه‪ ،‬وعليه؛ فال‬
‫الوجه الثاين‪ :‬يف اجلواب عن املقدمة الثانية‪:‬‬
‫املدعى عليه‬ ‫أنه ال ُي َس َّل ُم أن املن ِّظم َمكَّن القايض من ا ُ‬
‫حل ْك ِم عىل َّ‬
‫َّظر إىل الصورة الكل ِّية‬‫ويظه ُر هذا بالن ِ‬
‫َ‬ ‫الدعوى دون ب ِّي ٍنة‪،‬‬ ‫بمجر ِد َّ‬
‫َّ‬
‫ص ُم ْ َت َزأ من مادة‪:‬‬ ‫للنِّظام‪ ،‬ال بالنَّ َظ ِر إىل َن ٍّ‬

‫‪46‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫فإن املن ِّظ َم قد َج َع َل الباب التاسع يف إجراءات اإلثبات فقط‪،‬‬ ‫أ‪َّ -‬‬
‫السري عليه‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وبي إجراءات اإلثبات وما َي ْل َزم القايض‬ ‫و َف َّص َل فيه َّ‬
‫املدعي عن الب ِّي ِنة‪ ،‬وما جيريه عند‬ ‫وبي ما جيريه القايض عند َع ْج ِز َّ‬ ‫َّ‬
‫تغ ُّيب من كان اإلثبات يف مواجهته‪ ،‬فلو كان جمرد الغياب عند املن ِّظم‬
‫كافي ًا ملا احتاج إىل بيان هذه اإلجراءات‪ ،‬أو جلعله وسيلة من وسائل‬
‫حل ْك ِم‬ ‫ا‬ ‫من‬ ‫القايض‬ ‫ن‬ ‫َّ‬
‫ك‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ِّ‬
‫ظ‬ ‫املن‬ ‫إن‬ ‫َ‬
‫ال‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫ي‬ ‫أن‬ ‫ح‬ ‫اإلثبات‪ ،‬وعليه فال ِ‬
‫يص‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫ظاه ٌر يف املادة السادسة والعرشين بعد املئة‬ ‫الدعوى‪ ،‬كام هو ِ‬ ‫بمجر ِد َّ‬
‫َّ‬
‫من نظام املرافعات الرشعية وغريها من املواد ذات العالقة‪.‬‬
‫أن‬ ‫ب‪ -‬أن اللوائح التنفيذية للامدة السابعة واخلمسني‪ :‬ب َّينَت َّ‬
‫أن احلكم يكون بال ب ِّي ٍنة ونحوها مما هو‬ ‫النص املذكور ال يدل عىل َّ‬ ‫َّ‬
‫وسيلة من وسائل اإلثبات‪ ،‬جاء يف الالئحة التنفيذية اخلامسة للامدة‬
‫الدعوى‪:‬‬ ‫املدعى عليه بعد سامع َّ‬ ‫توج َهت اليمني عىل َّ‬ ‫ما نصه‪« :‬إذا َّ‬
‫ِ‬ ‫حض ْو ِر ِه‬ ‫فيب َّل ُغ بذلك‬
‫ألداء‬ ‫حسب إجراءات التبليغ‪ ،‬و ُي ْش َع ُر بوجوب ُ‬ ‫َ‬
‫ال وسوف‬ ‫ف بغري ُع ْذ ٍر تقب ُله املحكمة ُع َّد ِ‬
‫ناك ً‬ ‫ت َّل َ‬ ‫اليمني‪ ،‬وأنه إذا َ َ‬
‫َ ُ‬
‫ُي ْق َض عليه بالنُّكول وفق املادة الثالثة عرشة بعد املئة من هذا النظام‪،‬‬
‫إن كان له ُع ْذ ٌر َي ْمنَ ُع ُه من احلضور ‪ -‬تقبله املحكمة ‪ -‬ف ُيعا َم ُل‬ ‫أما ْ‬
‫ظاه ٌر‬ ‫وفق املادة الرابعة عرشة بعد املئة من هذا النظام»ا‪.‬هـ وهو ِ‬
‫ِ‬
‫إجراءات‬ ‫الدعوى عىل الغائب مع مراعاة‬ ‫أن القايض يسري يف َّ‬ ‫يف َّ‬
‫اليمي إال بعد‬ ‫حد َد ُه املن ِّظم‪ ،‬ومعلو ٌم أ َّنه ال ُي َص ُار إىل ْ ِ‬ ‫وفق ما َّ‬ ‫اإلثبات َ‬
‫اكتفائ ِه باليمني عن إقامة الب ِّينة عند‬ ‫ِ‬ ‫املدعي َع ْج َز ُه عن الب ِّينة أو‬ ‫تقرير َّ‬
‫من يقول بذلك من الفقهاء‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫املدعى عليه الغائب من االعرتاض‬‫فإن قيل‪ :‬بأن املن ِّظ َم َمكَّن َّ‬
‫ضده ولو اكتسب القطعية بالتامس إعادة النظر‪،‬‬‫حل ْك ِم الصادر َّ‬ ‫عىل ا ُ‬
‫وله ال َّط ْع ُن عىل احلكم باألحوال املذكورة باملادة املئتني من نظام‬
‫املرافعات الرشعية وهو ٍ‬
‫كاف‪.‬‬
‫فيقال‪:‬‬
‫احلق‬ ‫لكل حمكو ٍم عليه‪ِ ،‬‬
‫فلك ُِّل حمكو ٍم عليه ُّ‬ ‫احلق َم ْك ُف ْو ٌل ِّ‬
‫بأن هذا َّ‬
‫وح ُل هذا ِّ‬
‫احلق عىل املحكوم عليه غيابي ًا‬ ‫قد ِم بالتامس إعادة النظر‪ْ َ ،‬‬ ‫بال َّت ُ‬
‫فقط حتك ٌُّم‪ ،‬وجع ُله مستند ًا عىل إجازة املن ِّظم احلكم عىل الغائب دون‬
‫ٍ‬
‫بحال‪.‬‬ ‫ب ِّينة ال وجه له‬
‫مسوغات التامس إعادة النظر‬ ‫ص عىل َّ‬
‫أن من ِّ‬ ‫فإن قيل‪ :‬بأن املن ِّظم َن َّ‬
‫كون احلكم غياب َّي ًا يف الفقرة (و) من املادة املئتني من نظام املرافعات‬ ‫ُ‬
‫املدعى عليه بمجرد تغ ُّيبه؟‬ ‫كاف يف جواز احلكم عىل َّ‬ ‫الرشعية‪ ،‬وهو ٍ‬
‫فيقال‪:‬‬
‫كل من ُح ِك َم عليه‬
‫بأن ذلك غري مس َّل ٍم‪ ،‬فإن هذه الفقرة جاري ٌة عىل ِّ‬
‫املدعى‬
‫أي مادة جتيز للقايض أن حيك َُم عىل َّ‬ ‫غيابي ًا‪ ،‬وليس يف النظام ُّ‬
‫عليه إذا كان غائب ًا بال ب ِّينة‪ ،‬فلكل حمكوم عليه مع غيابه االعرتاض‬
‫بالتامس إعادة النظر استناد ًا عىل الفقرة املذكور حتى ملن ُح ِك َم عليه‬
‫غيابي ًا (بب ِّينة) بعد استيفاء ما جاء يف الفقرة (ط) من املادة السابعة‬
‫عرشة من نظام املرافعات الرشعية‪ ،‬وبعد الرفع ملحكمة االستئناف‬
‫استناد ًا عىل الالئحة التنفيذية الثامنة للامدة السابعة واخلمسني من‬

‫‪48‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫نظام املرافعات الرشعية وتصديقها للحكم‪ ،‬ف َي ِح ُّق ملن ُح ِك َم عليه‬


‫مصد ٍق من االستئناف مستوىف فيه الب ِّينة = االعرتاض وفق‬‫َّ‬ ‫بح ْك ٍم‬
‫ُ‬
‫املدعى عليه‬
‫الفقرة املذكورة فمن أين يؤخذ جتويز املنظم للحكم عىل َّ‬
‫بمجرد تغ ُّيبه؟!‬
‫ولوال أين سمعت من يستند عىل مثل ذلك ملا سقت هذه املناقشة‬
‫لضعفها‪ ،‬وال حجة ألحد مع كالم رسول اهلل ‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫اخلامتة‬
‫وبعد فإين أشري إىل أبرز النتائج التي توصلت إليها يف هذا البحث‪:‬‬
‫((‪(1‬أن الغائب يف اصطالح الفقهاء يطلق عىل الغائب عن جملس‬
‫احلكم‪ ،‬فيدخلون يف حكم الغائب املسترت واملمتنع‪ ،‬سوى‬
‫املالكية الذين جعلوا املوجود يف البلد الغائب عن املجلس‬
‫يف حكم احلارض‪ ،‬واستبان أن قوهلم أشد األقوال يف حق من‬
‫يسميه الشافعية واحلنابلة ممتنع ًا أو مسترت ًا‪.‬‬
‫((‪(2‬أن امليت وغري املك َّلف له حكم الغائب يف القضاء عليه‪ ،‬بل‬
‫هو أوىل كام ذكر الفقهاء‪.‬‬
‫((‪(3‬أن أهل العلم متفقون عىل جواز احلكم عىل امليت‪ ،‬وأهنم‬
‫متفقون عىل جواز سامع ب ِّينة املدعي الغائب ضد الغائب‪،‬‬
‫وأن خالفهم إنام هو يف احلكم هبا‪.‬‬
‫((‪(4‬أن أهل العلم متفقون عىل أنه ال جيوز احلكم عىل احلارض يف‬
‫البلد القادر عىل احلضور غري املمتنع‪.‬‬
‫((‪(5‬أن مجهور العلامء عىل جواز احلكم عىل الغائب خالف ًا للحنفية‪،‬‬
‫ومذهب اجلمهور هو الراجح عند الباحث‪.‬‬
‫((‪(6‬أن القائلني بجواز احلكم عىل الغائب اشرتطوا جلواز سامع‬
‫دعواه أن تكون لديه ب ِّينة‪ ،‬ونقل االتفاق عىل هذا‪.‬‬
‫املدعى عليه حممول عند من يقول بجواز احلكم‬ ‫((‪(7‬أن غياب َّ‬
‫عىل الغائب عىل السكوت‪ ،‬وأن السكوت عندهم حممول‬
‫عىل اإلنكار ال عىل اإلقرار‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫((‪(8‬أن مجهور القائلني بجواز احلكم عىل الغائب يشرتطون‬


‫املدعي حتى مع بينته الكاملة‬ ‫حيلف َّ‬ ‫باإلضافة إىل البينة أن ِ‬
‫ِّ‬
‫‪ -‬الشاهدان العدالن ‪ -‬وهو القول الذي عليه العمل بني‬
‫قضاة احلنابلة كام حكاه املرداوي عنهم‪.‬‬
‫املدعي عىل الغائب إن كانت شاهد ًا واحد ًا عدالً وأراد‬ ‫((‪(9‬أن بينة َّ‬
‫القايض أن ُيكم هبا مع اليمني كام حكم النبي ‪‬؛‬
‫املدعى عليه الغائب لضعف الب ِّينة‪،‬‬ ‫حلق َّ‬ ‫فيجب أن ُي َتاط ِّ‬
‫يمني أخرى لالستظهار كام عند‬ ‫ويكون االحتياط بأن تزاد ٌ‬
‫املالكية والشافعية‪ ،‬أو يزاد يف لفظ اليمني أن الشاهد صادق‪،‬‬
‫وسبق أن ما كان أضعف من الشاهد فهو أوىل بأن حيلِف‬
‫املدعي معه اليمني‪.‬‬ ‫َّ‬
‫(‪(1(1‬أنه مع مراعاة ما سبق من اتفاق الفقهاء عىل عدم جواز‬
‫سامع الدعوى ضد الغائب دون ب ِّينة‪ ،‬واتفاقهم عىل أن غياب‬
‫املدعى عليه ال حيمل عىل اإلقرار بل عىل اإلنكار‪ ،‬واتفاقهم‬ ‫َّ‬
‫عىل أنه ال جيوز احلكم للمدعي بمجرد دعواه = فبمراعاة‬
‫ذلك كله‪ :‬يعلم أنه ال جيوز احلكم عىل الغائب دون ب ِّينة‪ ،‬وأنه‬
‫مل يقل بجواز احلكم عليه لتغ ُّيبه أحد من الفقهاء‪.‬‬
‫(‪(1(1‬أن ما استدل به بعض املتأخرين عىل جواز احلكم عىل الغائب‬
‫ال يف احلكم عىل الغائب ال أكثر‪ ،‬وال‬ ‫لتغ ُّيبه غايته أن يكون دلي ً‬
‫يصح محلها عىل الغياب ال عىل اإلقرار وال عىل كونه وسيلة‬
‫من وسائل اإلثبات وطريق ًا من طرق احلكم‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫(‪(1(1‬أن األدلة التي استدل هبا بعض املتأخرين عىل جواز احلكم‬
‫معارضة‬
‫عىل الغائب ملجرد تغ ُّيبه ضعيفة‪ ،‬وهي مع ضعفها َ‬
‫لألدلة معارضة إلمجاع أهل العلم‪ ،‬وأن سبيل ما كان كذلك‬
‫أن جيمع بينه وبني غريه إن أمكن أو ي َّطرح وقد مجع أهل‬
‫العلم بني هذه األدلة وبني ما يعارضها عىل فرض صحة‬
‫مرت يف ثنايا البحث‪.‬‬ ‫ِ‬
‫دليل املخالف بأجوبة َّ‬
‫(‪(1(1‬أن استناد بعضهم عىل أن ويل األمر أجاز احلكم عىل الغائب‬
‫لتغ ُّيبه دون ب ِّينة مستدلني ببعض نصوص جمتزأة من نظام‬
‫املرافعات الرشعية = ال يصح‪ ،‬ألن نظام املرافعات نظام‬
‫إجرائي ال موضوعي‪ ،‬وأنه بالنظر إىل جمموع نصوص النظام‬
‫يلمح لذلك تلميح ًا‪.‬‬ ‫نجد أن ويل األمر مل ُ ِ‬
‫يز ذلك‪ ،‬بل ومل ِّ‬

‫هذا ما تيرس إيراده وبحثه‪ ،‬وأسأل اهلل بمنه وكرمه أن جيعل ما‬
‫ال عنده‪ ،‬وأن ينفع به وأن يكتب‬‫كتبته خالص ًا لوجهه الكريم‪ ،‬متقب ً‬
‫له القبول‪..‬‬
‫ِّ‬
‫وصل اللهم وسلم عىل نبينا حممد وعىل آله وصحبه أمجعني‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫الم َّدعى عليه لتغ ُّيبه دون ب ِّينة‬
‫الحكم على ُ‬
‫ُ‬

‫الفهرس‬

‫‪3‬‬ ‫مقدمة‬
‫‪5‬‬ ‫املسألة األوىل‪ :‬املراد بالغائب يف كالم الفقهاء‬
‫‪10‬‬ ‫املسألة الثانية‪ :‬حكم القضاء عىل الغائب‬
‫‪22‬‬ ‫املسألة الثالثة‪ :‬رشط سامع الدعوى عىل الغائب‬
‫‪25‬‬ ‫املدعى عليه؟‬
‫املسألة الرابعة‪ :‬عال َم حيمل غياب َّ‬
‫املسألة اخلامسة‪ :‬هل يلزم عند احلكم عىل الغائب وسامع البينة أن‬
‫‪27‬‬ ‫املدعي اليمني؟‬
‫حيلف َّ‬
‫‪32‬‬ ‫املدعى عليه لتغيبه دون بينة‬
‫املسألة السادسة‪ :‬احلكم عىل َّ‬
‫‪50‬‬ ‫اخلامتة‬

‫‪53‬‬

You might also like