العشق الالهى لطاهر أبو فاشا

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 99

‫العشق اللهى‬

‫تأليف ‪ :‬طاهر أبو فاشا‬

‫العدد رقم ‪ 512‬من سلسلة اقرأ الصادرة عن مؤسسة دار المعارف‬

‫إذا وصلت إلى الحقيقة عن طريق عقلك "‬


‫فأنت فيلسوف أو متفلسف‬
‫و إذا وصلت إلى الحقيقة عن طريق قلبك‬
‫" فأنت صوفى أو متصوف‬

‫"ط‪.‬أ"‬

‫أشواق و أذواق‬

‫كنا ثلثة نتحلق حول المائدة الثقافية التى يمدها التليفزيون العربى فى أمسيات الربعاءات ‪:‬‬
‫الدكتور كمال جعفر أستاذ الفلسفة السلمية بجامعة القاهرة ‪ .‬و الستاذ فاروق شوشة ‪ .‬و‬
‫‪.‬كاتب هذه السطور‬

‫" أما الموضوع الذى وضع أمامنا على مائدة الحوار فهو " العشق اللهى‬

‫و العشق اللهى مقام من مقامات التصوف العليا ل يصل إليه السالكون إل بعد أن يجتازوا‬
‫طريق ًا طويلً من المجاهدة النفسية ‪ ،‬و الرياضة الروحية‪ .‬و يتعرضوا لهزات عنيفة فى متاهات‬
‫‪.‬الوجود و الشهود‬

‫و من هذا المقام تسلل إلى أفكار أئمة المتصوفة بعض الشبهات‪ .‬فكانوا هدفاً لسهام أهل الظاهر‬
‫‪.‬عندما احتدم الصراع بين الفقهاء و المتكلمين من ناحية‪ .‬و هؤلء المتصوفة من ناحية أخرى‬
‫و اقتضانى هذا أن أعود إلى الغوص فى هذا البحر العميق للتمس تأصيلً لفكرة العشق اللهى‬
‫‪ :.‬حقيقته ‪ ،‬و مراتبه ‪ ،‬و ظواهره ‪ ،‬و أعراضه‬

‫و انقطعت لذلك أياماً خرجت منها موقراً بزاد من شراب القوم حملته معى إلى تلك الندوة‬
‫‪.‬الثقافية‬

‫***‬

‫و لكن الستاذ فاروق كان يقود الندوة ‪ .‬و يوجهها فى الخط الذى حدده و رسمه‪ .‬فكانت أسئلته‬
‫بمثابة حدود ليس لنا أن نتجاوزها ‪ ،‬أو نخرج عنها ‪ ،‬فلم يتسع المجال أمامى للشطح فى أودية‬
‫الذواق و الشواق التى يخوضها العشاق و أصحاب المواجيد من أهل الباطن ‪ ..‬و خرجت من‬
‫الندوة و ما زال فى الراووق أقباس لم يتسع لها وقت الندوة و لعلى أن أجد متسعاً لشئ منها‬
‫‪ .‬فى هذه السطور إن شاء ال‬

‫على الطريق‬

‫و من المعروف أن بواكير النزعة الصوفية قد ظهرت فى مطالع السلم قبل بعثته عليه الصلة‬
‫و السلم ‪ .‬بتحنثه فى غار حراء ‪ .‬و فيما كان يأخذ به نفسه – بعد البعثة – من العبادة و‬
‫‪ .‬الزهادة‬

‫و قد انتقلت هذه النزعة إلى الصحابة ‪ ،‬و من الصحابة انتقلت إلى التابعين ‪ ،‬و من هؤلء إلى‬
‫‪.‬تابع التابعين‬
‫و لكن هذه النزعة لم تأخذ وضعها كمنهج للحياة الروحية فى السلم إل فى أواخر القرن الثانى‬
‫‪ .‬للهجرة‬

‫فقد هبت على العالم السلمى – منذ أواخر هذا القرن – نسمات لطيفة تحمل طيوب المجاهدات‬
‫‪ .‬النفسية ‪ .‬و الرياضات الروحية الصوفية‬

‫لماذا ؟ و كيف ؟‬

‫ذلك أن الفتوحات العربية كانت قد بلغت مدى بعيداً‪ .‬و حُملت إلى البلد العربية الموال و‬
‫الخيرات من كل مكان ‪ .‬و أخذت الثقافات الجنبية تطرق أبواب الفكر العربى ‪ .‬و جعلت‬
‫الحضارة العربية تزدهر ‪ .‬و ارتقت و تنوعت وسائل العيش ‪ ،‬و استبحر العمران ‪ .‬و خرج‬
‫العرب من بداوتهم ‪ ،‬و زايلتهم خشونتهم ‪ .‬و داخل الترف حياتهم ‪ .‬و ركنوا إلى زخرف الحياة‬
‫الدنيا ‪ ،‬و انعكست على صفحة حياتهم أعراض الترف ‪ ،‬و اللهو ‪ .‬و العبث ‪ .‬و جميع السلبيات‬
‫‪ .‬التى تصيب المجتمعات الغنية المترفة‬

‫و كرد فعل لذلك ظهر تيار ينزع إلى الزهد ‪ ،‬و مجاهدة النفس ‪ ،‬و النقطاع للتأمل و العبادة ‪ .‬ثم‬
‫‪ .‬أصبح ذلك منهجاً يميز السالكين طريق ال فى دروب الرياضة الروحية ‪ ،‬و المجاهدة النفسية‬

‫***‬

‫و فى القرن الثالث الهجرى عندما اتسع اتصال العرب بغيرهم ‪ ،‬و امتدت جسور الثقافات ‪ .‬و‬
‫تلقحت الحضارات – عندئذ داخلت التصوف السلمى عناصر كلمية ‪ ،‬و أخرى فلسفية ‪ .‬و‬
‫انشعبت مشارع الشريعة ‪ ،‬فأصبح هناك " علم الظاهر " و يختص به الفقهاء و المتكلمون ‪.‬‬
‫‪ .‬كما أصبح هناك " علم الباطن " و يختص به الصوفيون‬

‫و تحددت معانى الصوفية بأفكارها و رموزها و مصطلحاتها ‪ .‬و ظهرت كلمة " التصوف " و‬
‫اشتقوا منها فعلً ‪ .‬فقالوا ‪ " :‬تصوف " إذا سلك طريق الزهادة ‪ .‬و ضرب فى طريق الرياضة‬
‫‪ .‬الروحية‬

‫ثم وقع الخلف فى اشتقاق الكلمة و نسبتها ‪ .‬فنظروا إلى مفهوم كلمة " التصوف " و قالوا ‪:‬‬
‫إن الصوفى منسوب إلى الصفاء ‪ ..‬ثم قالوا ‪ :‬إن هذا ليس بشئ لن النسب إلى الصفاء صفوىّ‬
‫‪ ( .‬بفتح الصاد و الفاء ) ل صوفى‬

‫صفّة " و أهل الصفة فى مسجد الرسول ‪ ..‬و لما كان النسب إلى‬
‫و قالوا إنها منسوبة إلى " ال ُ‬
‫‪ .‬الصفة " صفياً " ل " صوفياً " ‪ .‬فلذلك استظهروا أنها منسوبة إلى الصوف‬

‫‪ :‬و مما يؤيد ذلك فيما يقولون‬

‫‪-1‬صحة النسب ‪ .‬فالنسب إلى الصوف صوفىّ ‪.‬‬


‫‪-2‬و أن الصوف تتخذ منه " الخرقة " خرقة التصوف المشهورة التى كان الشيخ‬
‫يُلبسها للمريد ( التلميذ ) فهى لباس الفقراء ‪ .‬و الفقراء اسم من أسماء المتصوفة‬
‫‪.‬‬
‫‪-3‬و من المعروف أن بلد فارس كانت مركزاً هاماً من مراكز التصوف السلمى ‪ .‬و‬
‫كثير من أعلم الصوفية الكبار من الفرس ‪.‬‬
‫و كلمة التصوف فى الفارسية هى " بشمينا بوش " و معناها الحرفى " لبس الصوف " ‪.‬‬

‫و كان خصوم المتصوفة يأخذون عليهم ذلك ‪ .‬و ينددون بالخرقة و يقولون ‪:‬‬

‫و ل بكاءك إن غنى المغنونا‬ ‫ليس التصوف لبس الصوف ترقعه‬

‫***‬

‫و فى مواجهة الحرب العنيفة التى شنها الفقهاء و المتكلمون على المتصوفة – لجأ هؤلء إلى‬
‫الرمز و الغموض ‪ ،‬و سارت المناهج الصوفية فى تيارين ‪:‬‬

‫‪-1‬تيار فكرى نفسى يعتمد على الفلسفة الروحية ‪.‬‬


‫‪-2‬و تيار سلوكى يعتمد على الشيخ و المريد ‪ .‬و قالوا ‪ :‬إن المريد كان مراداً قبل أن‬
‫يكون مريداً ‪.‬‬

‫و ظهر فى سماء الحياة الروحية أقمار من أمثال السيدة رابعة العدوية التى كانت ‪ -‬بحق –‬
‫نغمة متقدمة من أنغام العشق اللهى الذى تردد بعد ذلك فى شعر الحسين بن منصور " الحلج‬
‫" و فى أشعار سلطان العارفين الشيخ الكبر " ابن عربى " ‪ ،‬و فى أشعار سلطان العاشقين "‬
‫ابن الفارض " و فى أشعار " السهروردى " الحكيم الشراقى يحيى بن حبش ‪ ..‬و غيرهم‬
‫ممن عرفوا الذواق ‪ .‬و خاضوا بحار الشواق ‪ .‬و ساروا على الطريق فكانت مجاهدتهم جسراً‬
‫إلى الحقيقة التى يتهدون إليها بما ورد فى الشرع ثم بقلوبهم و أرواحهم أكثر من عقولهم ‪.‬‬
‫فهم كما يقول " فريد الدين العطار " ل يثقون بالعقل كثيراً ‪ .‬لن مقصد الصوفى وراء العقل ‪..‬‬
‫و لو أن الناس رجعوا إلى قلوبهم و أرواحهم لما وقعوا فى الخلفات و المشكلت التى يجرهم‬
‫إليها تحكيم العقول ‪.‬‬

‫و فى هذا يقول سلطان العارفين ‪:‬‬

‫النص الذى نطق الكتاب المحكم‬ ‫ل تعتمد غير الذى تتلوه فى ( م )‬


‫العقل ‪ .‬مَن هادوا إليه و أسلموا‬ ‫و اعبد إله الشرع ل تعبد إله ( م )‬
‫فمنزّه معبوده و مجــــــــســـــم‬ ‫فالناس مختلفون فى معبودهم‬

‫و يردد ابن عربى هذا المعنى فى أكثر من موضع مؤكداً أن الدراك العقلى يخطئ و يصيب ‪..‬‬
‫أما الدراك الروحى فهو ضمان وصولك إلى الحقيقة ‪.‬‬

‫و هذا هو منهج الدراك الصوفى ‪.‬‬

‫و هو ‪ -‬عندهم – أصل المعرفة ‪.‬‬

‫القلب و الروح ‪ .‬و ليس العقل على أى حال ‪ .‬و فى هذا يقولون من ( لزوم ما ل يلزم ) ‪.‬‬
‫سرَّحه فى حيرة يلهو‬ ‫مَن رامه بالعقل مسترشداً‬
‫يقول من حيرته ‪ :‬هل هو ؟‬ ‫و شاب بالتلبيس أسراره‬

‫و هذا المنهج الروحى هو الذى أدخلهم فى هياكل النورانية ‪ .‬و فتح أمامهم آفاق الشراق و‬
‫المحبة ‪ ،‬و تأدى بهم إلى العشق اللهى ‪.‬‬

‫و من الذين سبقوا إلى تأصيل هذا المنهج ذو النون المصرى أبو الفيض ‪ ،‬فهو من أوائل من‬
‫تكلموا عن المقامات و الحوال ‪.‬‬

‫و كان يرى أن المعارف مراتب أعلها معرفة الخاصة من الولياء و المقربين الذين يعرفون‬
‫ال بقلوبهم ‪ .‬و أن هذه المعرفة أسمى و أيقن لنها ل تحصل بالتعلم و التكسب و الستدلل و‬
‫لكنها إلهام يفيضه ال على قلب عبده ‪ .‬فيعرف ربه بربه ‪.‬‬

‫بين المحبة و العشق‬

‫أل ترى أنك تستسيغ أن تقول " أحب‬


‫التفاح " مثلً و لكنك ل تستسيغ أن تقول‬
‫" أعشق التفاح " ‪.‬‬
‫و كلمة الحب تدل – من الناحية اللغوية – على الود ‪ .‬و الميل ‪ .‬و الرغبة ‪.‬‬

‫و الحب بحسب متعلقاته أنواع و درجات ‪ .‬فمنه حب الذات الذى ينتهى إلى ما نسميه " النانية‬
‫" ‪ .‬و منه حب الغير الذى يصل إلى ما نسميه " اليثار " ‪ ..‬و منه حب الحياة ‪ .‬و منه حب‬
‫الكون كله و هو صورة من صور الحب اللهى لن مِن صِدق الحب أن تحب ما يصدر عن‬
‫المحبوب ‪.‬‬

‫أما العشق ‪ .‬فهو – من الناحية اللغوية – إفراط المحب فى حب من أحب ‪ .‬و هو ‪ -‬أيضا – له‬
‫متعلقات و مراتب ‪ .‬تبدأ من الصورة المادية الحسية ‪ .‬ثم تنتقل فى مدارج الصعود حتى تصل‬
‫إلى الجمال المطلق و العشق اللهى ‪.‬‬

‫و الفراط فى الحب الذى نسميه عشقاً يتطلب نوعاً من التسامى فى المعشوق ‪ ..‬أل ترى أنك‬
‫تستسيغ أن تقول " أحب التفاح " و لكنك ل تستسيغ أن تقول أعشق التفاح ‪ -‬مثلً ‪-‬‬

‫حقيقته و مراتبه ‪:‬‬

‫و عن الحب و العشق يحدثنا " داود النطاكى " ‪ ،‬فى كتابه تزيين السواق بتفصيل أشواق‬
‫العشاق ‪ .‬و قد نُشر هذا الكتاب أخيراً فى ستة أجزاء خصص الجزء الول منها بالعشق اللهى ‪.‬‬

‫و نلحظ أن كتاب داود النطاكى هذا أكثره نقولٌ من كتاب " مصارع العشاق " لبى بكر‬
‫السرّاج ‪.‬‬

‫و يقول النطاكى إنه اعتمد على كتاب السراج ‪ ،‬و إنه أخذه و حذف منه العنعنات و السانيد و‬
‫التكرار ‪ .‬و أضاف إليه بعض الخبار ‪ .‬و رتبه فى فصول و بوّبه فى أبواب تتناول ماهية الحب‬
‫و حقيقته و مراتبه و علماته مستشهداً فى كل ذلك بالخبار و الشعار ‪.‬‬

‫***‬

‫و يقرر داود النطاكى أن الحب يدل على أريحية فى الطبع ‪ .‬و لطافة فى الشمائل ‪ ،‬لن غاية‬
‫العاشق أن يحصل على رضا معشوقه ‪ .‬و هو ل يحصل على رضا المعشوق و إعجابه إل إذا‬
‫حصل على صفات الكمال التى تمل نفس المحبوب و تقربه منه ‪.‬‬

‫و يروى أن ابن أبى كثير قال لبن الورقاء ‪ :‬هل عشقت حتى تكاتب و تراسل ؟ ‪ .‬قال ‪ :‬ل ‪..‬‬
‫فقال له ‪ :‬إذن لن تُفلح و ال أبداً ‪ .‬و أنشد ‪:‬‬

‫فأنت و عيرٌ فى الفلة سواء‬ ‫إذا أنت لم تعشق و لم تدرِ ما الهوى‬

‫و يرى الشيخ داود أن العشاق يعيشون فى مرتبة إنسانية أسمى و أعلى من حياة غيرهم ‪:‬‬

‫و ل خير فيمن ل يحب و يعشق‬ ‫و ما الناس إل العاشقون ذوو الهوى‬


‫و هو ينظر إلى الحب باعتباره غاية الحياة ‪ .‬فليس وراء التصال بالمحبوب غاية ‪ .‬و هو ل‬
‫يعدل بالحب ملك الدنيا و أعلق الحياة ‪.‬‬

‫و لو أن لى ما بين شرق إلى غرب‬ ‫ى من الهوى‬


‫و ما سرّنى أنى خل ّ‬

‫فإذا كان هذا هو شأن الحب بعامة فكيف بالحب الكبير ‪ .‬العشق اللهى ‪ ..‬و كيف يصل إليه‬
‫السالكون ‪ ..‬و هل هو مقام ‪ .‬أو هو حال ؟‬

‫***‬

‫يقسمون النفس باعتبار أصولها ثلثة أقسام ‪:‬‬

‫أولها ‪ :‬النفس المعدنية الجامدة التى ل تعقل ما يراد منها ‪ ..‬و ما يصدر عنها إنما يصدر‬
‫بالخاصية ‪ .‬أو بأمر أودعه ال فيها لمصالح يعلمها ‪.‬‬

‫و ثانيها ‪ :‬النفس النباتية و هى أرفع من الولى باعتبار الذبول و التحلل ‪ .‬أى أنها تعيش و‬
‫تموت ‪ .‬ففيها نوع حياة ‪.‬‬

‫و ثالثها ‪ :‬النفس الحيوانية ‪ ..‬و تفضل النفوس السابقة بالحركة الرادية ‪ ..‬و منها النفس‬
‫النسانية ‪ ،‬و هى أفضل النفوس لنها ‪ -‬كما يقول النطاكى ‪ -‬زبدة الكائنات ‪ .‬و ما دامت تملك‬
‫الحركة الرادية فهى مقتدرة على أن تتبع شهوات الجسم ‪ ،‬و عوارض التكثيف فتكون حيوانية‬
‫‪ ..‬أو تعمل على خلص النفس من ظلمة ماديتها ‪ .‬و إطلقها من قفص الجسم ‪ ،‬فتلحق بعالمها‬
‫الصلى ‪ ..‬و هذه هى النفس الملكية المتخلصة من عوارض الكثافة ‪ .‬المنتظمة فى محض‬
‫اللطافة ‪ .‬فالنسان منقسم كأصله ‪ ..‬متميز بفعله ‪.‬‬

‫الروح الكبر ‪:‬‬

‫و بهذا يحدد النطاكى مفهوم العشق اللهى ‪ .‬فهو نزوع الروح إلى الروح الكبر ‪ .‬الذى منه‬
‫المبتدى ‪ .‬و إليه المنتهى ‪.‬‬

‫و يوضح هذه الفكرة الدكتور عبد الوهاب عزام فى كتابه الممتع " فريد الدين العطار "‬
‫المؤرخ الصوفى الكبير الذى يقرر فى نصوص متعددة نقلها الدكتور عزام عن الفارسية ‪ -‬أن‬
‫روح النسان من روح ال ‪ .‬و أن الصوفية يحتجون لذلك بقوله تعالى ‪ ( :‬فإذا سويته و نفخت‬
‫فيه من روحى فقعوا له ساجدين ) و لهذا فإن صلة النسان بربه أقوى من صلته بالعالم ‪..‬‬
‫هكذا يقولون ‪.‬‬

‫و يشير الدكتور عزام هنا إلى قصيدة الشيخ الرئيس " ابن سينا " المشهورة ‪:‬‬

‫ورقـــاء ذات تعـــزز و تمنـــع‬ ‫هبطت إليك من المحل الرفع‬


‫و هى التى سفرت و لم تتبرقع‬ ‫محجوبة عن كل مقلة عارف‬
‫كرهت فراقك و هى ذات تفجع‬ ‫وصلت على كره إليك و ربما‬

‫فالورقاء هنا رمز للنفس النسانية التى هبطت من عالم الروح العلى إلى عالم الرض ‪..‬‬

‫و لهذا يحن الواصلون من السالكين إلى التصال بالصل و الرجوع إليه ‪ .‬و ل يزالون يتدرجون‬
‫فى معارج الوصول حتى يصلوا إلى مقام العشق اللهى ‪.‬‬

‫***‬

‫الطريق ‪:‬‬

‫و ل يصل السالكون إلى هذا المقام إل بعد مكابدة رياضية ‪ .‬و مجاهدة نفسية يُصَفون فيها‬
‫أنفسهم ‪ .‬و يسمونها " طريقاً " ‪.‬‬

‫و الطريق مراتب أو مراحل يسمونها " مقامات " و لكل مقام من هذه المقامات ظواهر‬
‫يسمونها " أحوالً "‬

‫و فرّقوا بين المقام و الحال ‪.‬‬

‫فالمقام هو الذى يصل إليه السالك بالمجاهدة و المكابدة ‪ ،‬و العمل و العبادة ‪ ،‬و الزهادة ‪.‬‬

‫و هكذا يأخذون أنفسهم بضروب من المعاناة فى سفرهم إلى ال ‪.‬‬

‫أللزاد أبكى ‪ .‬أم لطول مسافتى ؟‬ ‫و زادى قليل ما أراه مُبَلَّغى‬

‫فالمقام مجاهدة ‪ .‬و رياضة ‪ ،‬و سعى ‪ ،‬و عمل و اكتساب ‪.‬‬

‫أما الحال فهو ‪ -‬عندهم – معنى يَرِد على القلب من غير تعمد أو اجتلب ‪ .‬مثل الحزن ‪ .‬و‬
‫الشوق ‪ ،‬و الطرب ‪ .‬و النس ‪.‬‬

‫و لهذا قالوا ‪ " :‬الحوال مواهب ‪ .‬و المقامات مكاسب " ‪.‬‬
‫مقامات و أحوال ‪..‬‬

‫و من هذه المقامات و تلك الحوال تأتينا أنفاس رجال الوقت من الصوفية و فيها عبق و أقباس‬
‫من أنغام الشراق ‪ .‬و النس ‪ ،‬و الطرب ‪ ،‬و الوله ‪ ،‬و الحزن ‪ ،‬و كل ما يتقلب فيه السالك من‬
‫أحوال المحبة التى تتوهج بها أشعارهم ‪.‬‬

‫ففى مقام " الحفظ " يتجرد المحب للمحبوب وحده بحيث يكون الميل إلى سواه إشراكاً فى‬
‫الحب ‪ .‬أو ردة عن شرعة المحبة ‪ .‬و فى هذا يقول سلطان العاشقين ‪:‬‬

‫على خاطرى سهواً قضيتُ بردّتى‬ ‫فلو خطرت لى فى سواك إرادة‬

‫و ل يزال العاشق يتدرج فى معارج الشوق و الوجد ‪ .‬و يضرب فى مقاماته حتى يصل إلى‬
‫سوَى ) بحيث يرى المعشوق فى كل شئ ‪ .‬فهو‬ ‫مرتبة يتحول فيها إدراكه عن غير المعشوق ( ال ّ‬
‫ل يرى فى كل ما يراه سواه ‪ :‬سوى المحبوب الذى ل يغيب عنه أبداً ‪ .‬أو كما يقولون ‪:‬‬

‫و مثواك فى قلبى فأين تغيب‬ ‫خيالك فى عينى ‪ .‬و ذكرك فى فمى‬

‫و تجد هذا المعنى يتردد فى أشعارهم كثيراً ‪:‬‬

‫مَن عادتــه القرب‬ ‫على بُعـدك ل يصــبر ( م )‬


‫مَن تيمـه الحــــب‬ ‫و عن قربك ل يـصبر ( م )‬
‫فقد أبصـرك القلب‬ ‫فـــإن لــم تـــرك العـــيــــن‬

‫و قد يكون عجيباً ذلك الشجن ‪ ،‬و هذا الشوق ‪ ..‬لن الشوق ل يكون حقيقة إل فى حالة البُعد ‪.‬‬
‫فكيف به مع القرب ‪.‬‬

‫فى هذا يقولون ‪:‬‬

‫و أسأل عنهم من لقيت و هم معى‬ ‫و مِن عجـــب أنى أحــن إليــهمـو‬


‫و يشتاقهم قلبى و هم بين أضلعى‬ ‫و تطلبهم عينى و هم فى سوادها‬

‫و إذا وصل العاشق إلى مرتبة " العدم الكلى " فإنه ينصرف عن علئق هذه الحياة المادية‬
‫الفانية و يموت عنها ليعيش فى سلم مع نفسه حيث يرى أن " وجوده الحق " هو ذلك العدم ‪،‬‬
‫أو كما يقول الفارضى ‪:‬‬

‫ت بغـُصتى‬
‫و إن لم أمت بالحب عش ُ‬ ‫فمَوتى بها وجداً حياة هنيئة‬
‫و قريب من هذه المرتبة مرتبة " الفناء " و يقصدون بها فناء العاشق فى المعشوق‪.‬‬

‫و فى هذا يقول سلطان العاشقين ‪:‬‬

‫و لم تفنَ ما لم ( تُـجْـتـَلى ) فيك صورتى‬ ‫فلم تَـ ْهوَنِى ما لم تكن فىّ فاني ًا‬

‫و يقول الحسين بن منصور الحلج ‪:‬‬

‫و تحققتك فى السـر فنـاجـاك لسـانى‬


‫فاجتمعنا لمعـان ‪ .‬و افتـرقـنا لمـعانى‬
‫إن يكن غيبك التعظيم عن لحظ عيانى‬
‫فلقد صيرك الوجد من الحشـاء دانى‬

‫و الحلج هو صاحب البيتين المشهورين ‪ .‬حيث يقول فى مقام الفناء عندما يفنى المحب فى‬
‫المحبوب فل يرى فى نفسه و فيما حوله سواه ‪:‬‬

‫نحن روحان حلـلنا بدنـا‬ ‫أنا مَن أهوى و مَن أهوى أنا‬
‫و إذا أبصرتنى أبصرتنا‬ ‫فإذا أبــصـرتــَه أبصـــرتــنى‬

‫و ليس هذا المعنى مجرد خاطرة سنحت له ‪ ..‬و لكنه فكرة أصيلة ‪ ،‬تعاوده ‪ ،‬و تلح عليه و‬
‫يؤديها و يُعبر عنها بصور مختلفة ‪ .‬فهو يقول ‪:‬‬

‫تـُمزج الخمرة بالماء الزلل‬ ‫مُزجت روحك فى روحى كما‬


‫فـإذا أنـت أنـا فـى كــل حـال‬ ‫فـــإذا مسّــــك شــئ مســنى‬

‫و فى هذا ‪ -‬أيض ًا ‪ -‬يقول ‪:‬‬

‫لو يشا يمشى على خدى مشى‬ ‫لـى حبـيـب حبـه بـيـن الحــشـا‬
‫ت ‪ .‬و إن شئتُ يشـا‬
‫إن يشا شئ ُ‬ ‫روحه روحى ‪ .‬و روحى روحه‬

‫و من أجل هذه الرموز التى قد يسمونها " شطحات " اصطدم أهل الظاهر بأهل الباطن ‪ .‬و قام‬
‫الصراع ‪ -‬كما قلنا ‪ -‬بين الفقهاء و المتكلمين من ناحية ‪ ،‬و المتصوفة من ناحية منذ القرن‬
‫الثالث الهجرى ‪ .‬و أوذى كثير من أعلم الصوفية و استشهد بعضهم ‪.‬‬
‫أعلم و معالم ‪..‬‬

‫و رجال وصلوه‬ ‫قطع الليل رجال‬


‫و أناس سهروه‬ ‫رقدت فيه أناس‬

‫و فى تيه المحبة ما أكثر الذين تركوا لنا آثار أقدامهم على الرمال ‪ ..‬و ما أكثر الذين تقصوا‬
‫آثارهم ‪ .‬فوصل بعضهم و انقطعت السبيل ببعضهم ‪.‬‬

‫و لكننا نحط رحالنا فى رحاب سلطان العارفين ‪ ،‬و سلطان العاشقين ‪.‬‬

‫ابن عربى ‪ ،‬و ابن الفارض ‪.‬‬

‫أو قل وحدة الوجود ‪ .‬و وحدة الشهود ‪ ..‬فهذه هى الوجازة الكافية الشافية التى تضع بين أيدينا‬
‫خلصة الفلسفة الروحية عند ابن عربى ‪ ،‬و عند ابن الفارض و من لف لفهما ‪.‬‬

‫و وحدة الوجود مذهب يوحد بين الخالق و المخلوقات ‪ .‬أو يرد عناصر الكون فى تغيره و‬
‫ثبوته إلى أصل واحد عند من يقولون بالطبيعة ‪.‬‬

‫و فى متاهات تفسير العلقة بين الوجود و الموجود شطحوا فظهرت فى كلمهم رائحة القول‬
‫بالطبع ‪ ،‬أو رائحة القول بالعلة الولى ‪ .‬أو علة العلل و هى نزعات غير مقبولة على إطلقها ‪.‬‬
‫إذا أخذناها على ظاهرها ‪.‬‬

‫و كنا فى أيام الحداثة و نحن نتعاطى الدروس الولى فى علم الكلم نستظهر من متن "‬
‫الخريدة ‪ .‬للمام الدردير " قوله ‪:‬‬

‫فذاك كفر عند أهل الملة‬ ‫و مَن يقل بالطبع أو بالعلة‬

‫***‬

‫و فى الحق أن وحدة الوجود طريق زلق شائك تزل فيه القدام ‪ ،‬و تتصارع الحقائق و الوهام ‪.‬‬

‫و خلصة القول فيها ‪ -‬عندهم ‪ -‬أن ال و العالم شئ واحد ‪ .‬أليس ال موجودًا فى كل الوجود ‪..‬‬
‫فى كل مكان ؟ بلى ‪ .‬و لكن كيف ؟‬
‫قالوا ‪ -‬و ل المثل العلى ‪ -‬إن وجوده تعالى فى هذا العالم كوجود الماء فى الثلج ‪ .‬بمعنى أنهما‬
‫‪ -‬فى الحقيقة ‪ -‬شئ واحد ‪ .‬فالثلج هو الماء ‪ .‬و الماء هو الثلج ‪ .‬و إن اختلفت الشكول و‬
‫المظاهر ‪.‬‬

‫و أنشدوا فى ذلك ‪:‬‬

‫و أنت بها الماء الذى هو نافع‬ ‫و ما الخلق فى التمثيل إل كثلجة‬

‫و هذا كلم قريب الشبه من كلم الرواقيين الذين يرون أن الحقيقة مادية ‪ ،‬تسودها و توجهها‬
‫قوة أزلية ( ال ) ‪.‬‬

‫و فى هذا ملمح من الفلطونية الحديثة ‪ .‬و هى مذهب يجمع بين التصوف و الفلسفة أنشأه‬
‫فيلسوف " صعيدى " ولد بأسيوط فى القرن الثالث الميلدى و سمى نفسه " أفلطين " تأثرا‬
‫" بالمعلم الثانى " ‪.‬‬

‫و كان أفلوطين هذا يقول بنظرية " الفيض " و فحواها أن الخالق الواحد ‪ -‬جل شأنه ‪ -‬فاضت‬
‫عنه جميع المخلوقات ‪ .‬و أن كمال النسان ل يتحقق إل بتجرده من الجسد ‪ .‬و اندماجه مع‬
‫الواحد ‪ .‬و معرفته بالشهود ‪.‬‬

‫و هذا كما ترى فلسفة يمازجها التصوف ‪ .‬أو تصوف تشوبه الفلسفة ‪.‬‬

‫مخاطر و محاذير ‪:‬‬

‫إن القول بوحدة الوجود كالمشى على الشوك ‪ ..‬فهذا هو المنزلق الذى تردى منه المارقون إلى‬
‫الهاوية ‪ ..‬كما كان المعراج الذى صعد عليه الواصلون إلى عالم الذواق و الشواق على طريق‬
‫العشق اللهى حيث يرتفع اليقين إلى حقيقة أن روح النسان من روح ال ‪ ،‬و أن صلته بال‬
‫أقرب من صلته بالعالم ‪ .‬و فى هذا يقول أبو الفيض ذو النون المصرى ‪ " :‬إن بين الرب و‬
‫العبد حباً متبادلً ‪ ،‬و من ذاق الحب اللهى عرف الذات اللهية " ‪.‬‬

‫***‬

‫و قالوا ‪ :‬إن الروح ليست محدودة بالجسم ‪ ،‬و إل كانت جسماً ‪ .‬و لكنها موصولة به تثير‬
‫الشوق إلى المتزاج بالصل الذى هو كل شئ ‪ ،‬و ليس فى عالم الحقيقة حقيقة سواه ‪.‬‬

‫و فى بحار العشق اللهى ‪ .‬و فى متاهات الشوق تواجد القوم ‪ ،‬و ذهلوا عن أنفسهم ‪ ،‬و‬
‫شطحوا و أبعدوا فقال بعضهم ‪ " :‬أنا الحق " و نسب إلى بعضهم قوله " ما فى الجبة غير ال‬
‫" و صوروا تجاريبهم تلك الروحية العميقة فى أشعارهم الرمزية الغامضة فأثاروا عليهم أهل‬
‫الظاهر من الفقهاء و علماء الكلم الذين رموهم بالزيغ و المروق ‪ ،‬و اعتنوا بهم و أوسعوهم‬
‫رهقاً ‪ .‬و من هنا كانت المآسى و الفواجع التى امتحن بها هؤلء العلم ‪.‬‬
‫محن و فتن‬

‫فلم أر لى بأرض مستقرا‬ ‫طلـبتُ المـستـقـر بكــل أرض‬


‫و كان مناله حلواً و مُرا‬ ‫و نلتُ من الزمان و نال منى‬

‫و يتهمون الصوفية بالسلبية ‪ ،‬و النقطاع للتأمل و الزهادة ‪ .‬و النعزال عن قضايا الحياة ‪ .‬و‬
‫مشاكل الجماهير ‪.‬‬

‫و قد ل نرى رداً على هذه الدعوى أبلغ من الشارة إلى حياة الكثيرين من رجالهم فى " الربط‬
‫" يرابطون فيها مع المقاتلين ‪ ،‬و يستخدمون نفوذهم الروحى ‪ ،‬و يستثيرون الهمم ‪ ،‬و‬
‫يستنفرون الرجال ‪..‬‬

‫إن هذا يقودنا إلى اللمام بطرف من حياة رجل الوقت الصوفى الكبير الشهيد " الحسين أبى‬
‫منصور الحلج " و وقوفه راسخاً شامخ ًا كالجبل الشم فى وجه القوى التى تألبت عليه و هو‬
‫ل يملك غير دفء الحقيقة ‪ ،‬و عواطف الجماهير ‪.‬‬

‫***‬

‫كانت بغداد يومئذ قد انتهت إلى درك بعيد من النحلل و الفساد ‪ ،‬و شاع فيها الترف ‪ .‬و انتشر‬
‫الميل إلى الجوارى و الغلمان ‪.‬‬

‫و الناس على دين ملوكهم ‪ ،‬فقد كان على كرسى دولة الخلفة ‪ .‬الخليفة جعفر " المقتدر " و‬
‫كان صبياً لهياً يتدله فى حب جارية رومية شغفته حباً فأسلمها قياده ‪ ،‬و انصرف إلى العبث ‪.‬‬
‫و اللهو ‪ ،‬و المجون بين جواريه و غلمانه ‪ .‬تاركاً تصريف شئون الملك لوالدته ‪ ،‬و هى أم ولد‬
‫اسمها " شغب " فصار فى يدها كل شئ ‪ ،‬و أصبح إليها المر و النهى ‪.‬‬

‫و على الجانب الخر كانت الخلفات العقائدية تطحن " أهل الظاهر " و " أهل الباطن " معاً ‪،‬‬
‫فاحتربت الفرق الدينية من معتزلة ‪ .‬و حنابلة ‪ .‬و أشاعرة ‪ .‬و صوفية ‪.‬‬

‫***‬

‫و فى هذا الجو المضطرب الخانق ارتفعت صيحة " الحلج " و هاجم النحلل و الفساد فى‬
‫غير هوادة ‪ .‬و دعا إلى تطهير الحكم و نظافته ‪ ،‬فكان صوته أعلى من صوت الحاكم و بطانته ‪.‬‬
‫و التفت حوله الجماهير و قد أثارتهم دعوته ‪ ،‬و اهتز عرش الخلفة فى بغداد ‪ ،‬و اشتد‬
‫الصراع على الملك ‪ ،‬و نجحت الثورة و ارتفع إلى عرش الخلفة الشاعر البلغى المعروف "‬
‫عبد ال بن المعتز " ‪.‬‬
‫و لكنه لم يستمر فى دست الحكم إل يومًا واحداً ‪ ،‬فقد نجحت الثورة المضادة و التف حول‬
‫المقتدر خواصه و أنصاره فاستعاد عرشه ‪ .‬و قبض على ابن المعتز و قتله ‪.‬‬

‫***‬

‫و ظل صوت الحلج يقرع الفساد و يسوط المفسدين ‪.‬‬

‫و كان لبد لهم من إسكات ذلك الصوت الذى ظل مرتفعاً قوياً يطرب السماع و ينفذ منها إلى‬
‫القلوب ‪.‬‬

‫و كان الحلج يناضل فى أكثر من جبهة ‪ ..‬كان يقاوم الجبهة التى يقودها الحكام و بطائنهم‬
‫الذين أفسدوا الحياة السياسية فى بغداد ‪ ..‬كما كان يقاوم الجبهة التى يقودها علماء الظاهر من‬
‫الفقهاء و المتكلمين الذين يناصبون الصوفية العداء ‪ ،‬فاجتمع عليه هؤلء و هؤلء ‪ .‬و أخذوه‬
‫بكلمات لم يصلوا إلى أغوار معانيها ‪ .‬و اختلقوا عليه بعضها ‪ .‬و واجهوه بقوله " أنا الحق "‬
‫و رموه بالشعوذة ‪ ،‬و اتهموه بالمروق و اللحاد ‪ ،‬و ادعاء اللهية ‪ ،‬و القول بالحلول و التحاد‬
‫‪.‬‬

‫و جاءوا به مكبلً بالغلل ‪ ،‬و لم يعجزهم أن يدبروا الشهود ‪ ،‬و لم يكونوا فى حاجة إلى شهود‬
‫‪ ،‬فهم قد جاءوا به ليحكموا عليه ل ليحاكموه ‪.‬‬

‫و لكن إذا كانوا يريدون قتله فلماذا يقتلونه على هذه الصورة الرهيبة الراعبة التى تناقلها‬
‫الرواة ؟ !‬

‫و ثارت الجماهير ‪ .‬و اهتزت قوائم الحكم من جديد ‪ .‬فعجل ذلك بالنهاية ‪.‬‬

‫و العجيب العجيب أنهم اشتطوا فى تعذيبه ‪ ،‬و انصب عليه الجلدون بسياطهم و هو يبتسم ‪ ،‬و‬
‫يتواجد و يترنم قائلً ‪:‬‬

‫يا منية المتــمنى‬ ‫عجبت منك و مــــــــنى‬


‫ظننتُ أنــــك أنى‬ ‫أدنيتنى منك حـــــــــتى‬
‫أفنيتنى بك عنى‬ ‫و غبتُ فى الوجد حتى‬

‫و إذا كان هذا عجيباً فأعجب منه أنهم بتروا يديه ‪ ،‬و قطعوا قدميه و هو هو لم يجزع و لم يتألم‬
‫‪ ،‬و لم تفارق البتسامة شفتيه و هو يترنم و يتواجد و يقول ‪:‬‬

‫يطمع فى إفساده الدهر‬ ‫و حرمة الود الذى لم يكـــن‬


‫إل و فيه لكمو ذكـــــر‬ ‫ما قــُد لى عضو و ل مفصل‬
‫و إنه لعجيب و غريب حق ًا أل تفارق البتسامة شفتيه و أن يتواجد و يترنم و يرقص و هم‬
‫يجلدونه و يقطعون يديه و رجليه ‪.‬‬

‫ذلك ‪ -‬عند أهل الظاهر ‪ -‬من المستحيلت التى تخرق الناموس و تخرج عن المألوف ‪ .‬و لعل‬
‫هذه الخبار أن تكون من صنع الرواة ‪ .‬فهى ‪ -‬عندهم ‪ -‬شئ يخرج عن نطاق التصور و‬
‫التصديق ‪.‬‬

‫و أنا رجل عقلنى ‪ .‬أميل إلى المادية ‪ ،‬و ل أومن بالخرافات ‪ .‬و ل أصدق أن الشئ يكون إل أن‬
‫يكون لحدوثه سبب طبعى يدخله فى نطاق المعقول المقبول ‪.‬‬

‫و لكنى مع هذا أتصور أن ذلك شئ ممكن الوقوع ‪ ..‬و عندى لذلك أسباب و مبررات ‪ .‬و تفسير‬
‫مقنع ‪.‬‬

‫ذلك أن الحساس باللم ل يحدث لمجرد وقوع المؤثر ( السبب ) و إنما بانتقال أثر هذا المؤثر‬
‫إلى المخ ‪ ..‬و هو ينتقل إلى المخ بواسطة شعيرات دقيقة تصب فى النسيج العصبى الذى يليها‬
‫عن طريق " العصب الوارد " الذى يخترق النخاع الشوكى و يصل إلى قشرة المخ حيث يوجد‬
‫مركز الحساس ‪ ،‬و عندئذ يحدث الشعور باللم ‪ .‬و يظهر الثر فى مكان المؤثر ‪.‬‬

‫فالحساس عملية تتم فى المخ ‪ .‬و تظهر فى مكان حدوث المؤثر ‪.‬‬

‫فإذا سكت مركز الحساس فى المخ عن عملية الحساس باللم لى سبب فعندئذ ينعدم الشعور‬
‫باللم – كما هو الشأن مع مشرط الطبيب فى العمليات الجراحية ‪.‬‬

‫و اعتبر ذلك فى المخدور ‪ ،‬أو الواقع تحت تأثير " البنج " أو الغماء أو الستغراق ‪ ..‬فإذا‬
‫حدث شئ من ذلك فإن المخ ل يقوم بدوره فى عملية الحساس باللم ‪.‬‬

‫من الممكن أن نتصور أن هذه هى حالة " الثمل الروحى " التى ارتفعت إليها روح الحلج ‪ ،‬و‬
‫استغرقته إلى الدرجة التى يتعطل فيها المخ عن الحساس باللم و هم يجلدونه و يقطعون يديه‬
‫و رجليه ‪.‬‬

‫و قد نستأنس لذلك بما روته أخت الحلج عندما جاءها فى المنام بعد مصرعه فى قصة نذكرها‬
‫من باب الستئناس و ليس من باب الستدلل ‪ ،‬فقد ذكروا أن الحلج جاء لخته فى المنام بعد‬
‫مصرعه فقال لها ‪ :‬يا أخت إلى كم تبكين علىّ ؟ ‪ .‬فقالت ‪ :‬كيف ل أبكى و قد جرى عليك ما‬
‫جرى ‪ ..‬فقال لها ‪ :‬يا أخت ‪ ..‬عندما قطعوا يدى و رجلى ‪ .‬كان قلبى مشغولً بالمحبة ‪ ،‬و لما‬
‫صلبونى كنت شاهداً ربى فلم أدر ما فعلوا بى ‪.‬‬
‫و الحكمة الشراقية‬

‫و كذلك فعلوا بالسهروردى " المقتول " أبى الفتوح يحيى بن حبش الحكيم الشراقى الذى‬
‫جمع بين الفلسفة و التصوف فيما كان يسميه " علم النوار " و كان جماع حكمته الشراقية‬
‫أن الحقائق العلوية ل تنكشف بالفكر و إنما تنكشف بالذوق ‪.‬‬

‫و نجد فى أشعاره العذبة أقباس ًا من مواجيده و رموزه تتوهج فيها أشواقه التى يتغنى بها فى‬
‫قوله ‪:‬‬

‫فوصالكم ريحانهــــا و الراح‬ ‫أبداً تحـــــــن إليـــــــــكم الرواح‬


‫و إلى لذيذ لقائــــكم ترتــــاح‬ ‫و قلوب أهل ودادكم تشتاقـــــــكم‬
‫أبداً ‪ .‬فكل زمانــــهم أفــــراح‬ ‫ل يطربون لغير ذكر حبيبهــــــــم‬
‫حتى دعوا فأتاهم المفتــــــاح‬ ‫و ال ما طلبوا الوقوف ببابــــــه‬
‫فتهتكوا لما رأوه و صاحـــوا‬ ‫حضروا و قد غابت شواهد ذاتهم‬
‫حجُب البقا ‪ .‬فتلشت الشباح‬ ‫ُ‬ ‫أفناهم عنهم ‪ .‬و قد كُشــــفت لهم‬

‫***‬

‫و تنبهنا المراجع الصوفية إلى أنهم يقولون السهروردى " المقتول " تمييزاً له عن أبى حفص‬
‫عمر السهروردى الفقيه المتصوف ‪ .‬و كلهما من مواليد سهرورد و هى بُليدة من أعمال‬
‫فارس ‪.‬‬

‫و لقد كانت شطحات السهروردى و سبحاته الروحية فى مغاصات العشق اللهى و وحدة‬
‫الوجود أمرًا تعاظم أهل الظاهر من فقهاء الشام الذين ناظرهم فى حلب فظهر عليهم ‪ ،‬و‬
‫أحفظهم عليه فسعوا به لدى صلح الدين اليوبى ‪ ،‬فأمر ابنه " الظاهر " سلطان حلب بقتله‬
‫فقتلوه عام ‪ 1119‬م ‪.‬‬
‫و سلطان العارفين‬

‫أى قلب ملـــــــــــــكوا‬ ‫ليت شعرى هل دروا‬


‫أى شِعب سلــــــــــكوا‬ ‫و فؤادى لـــــو درى‬
‫أم تراهم هلــــــــــــكوا‬ ‫أتراهم سلـــــــــــموا‬
‫فى الهوى و ارتبكوا ؟‬ ‫حار أرباب الهــــوى‬

‫و كان سلطان العارفين الشيخ الكبر " ابن عربى " ممن أوغلوا فى مفازات وحدة الوجود ‪ ،‬و‬
‫انطلقوا منها إلى آفاق العشق اللهى و هو القائل ‪.‬‬

‫ركائبه فالحب دينى و إيمانى‬ ‫أدين بدين الحب أنّى توجهتْ‬

‫و لم يقل ابن عربى بوحدة الوجود و حسب ‪ ،‬و إنما قال أيضاً بوحدة الديان ‪ ،‬فالدين كله ل ‪ .‬و‬
‫هى نظرة سمحة متقدمة ‪.‬‬

‫و كان جماع فلسفته قوله ‪ " :‬سبحان من خلق الشياء و هو عينها " يعنى أن وجود‬
‫المخلوقات هو عين وجود الخالق ‪ ،‬و وجود ال تعالى هو الوجود الحقيقى و وجود العالم هو‬
‫الوجود الوهمى ‪.‬‬

‫و قد مر بنا كيف أخذوا الحلج بظاهر قوله " أنا الحق " ‪.‬‬

‫و كنا فى صدر الشباب نلم بكتاب ابن عربى الشهير " الفتوحات المكية ‪ .‬فى معرفة السرار‬
‫الملكية و الملكوتية " فنقرأ فيه ما يبهر عقولنا ‪ ،‬و يبلبل أفكارنا ‪ .‬كقوله فى مقدمة هذا الكتاب‬
‫‪ " :‬و لما حيرتنى هذه الحقيقة ‪ .‬أنشدت على علم الطريقة ‪ .‬للخليقة ‪:‬‬

‫يا ليت شعرى مَن المكلــّف ؟‬ ‫العبد حق ‪ .‬و الرب حق‬


‫أو قلت رب فهل يُكــَـلـــّــف ؟‬ ‫إن قلت عبد فــذاك نفى‬

‫و مثل ذلك أو أبعد منه إغراباً أبيات وردت فى " فصوص الحكم " تجدها فى " فص الحكمة‬
‫اللوطية " ‪.‬‬

‫و كنا فى أيام الحداثة نستظهر هذه البيات و نرويها للغراب و المباهاة ‪ .‬و لم تسمح لنا حداثة‬
‫السن يومئذ أن نحلق فى هذه الجواء البعيدة ‪ ،‬أو أن نقترب من حقيقة معناها الباطن ‪ .‬فهل‬
‫اقتربنا من حقائق معانيها الن بعد أن كل العمر ‪ .‬و تجاوزنا حدود الشباب ؟‬
‫***‬

‫ثم كان ابن عربى ‪ -‬إلى هذا ‪ -‬يثير قضايا كلمية مثيرة تنبع من رؤيته لوحدة الخالق و‬
‫المخلوق كما ترى فى قوله ‪:‬‬

‫و ما فعلوا الذى فعلوا‬ ‫تحاسبهم بما فـــعلوا‬


‫و أنت خلقت ما عملوا‬ ‫و تطلبهم بما عمـلوا‬
‫فأعظم منه ما جهــلوا‬ ‫لئن ُأخِذوا بما علموا‬

‫و لهذا لم يكن مستغرباً أن يثور به الفقهاء ‪ .‬و أهل الظاهر و الرأى من أمثال ابن تيمية ‪ ،‬و ابن‬
‫خلدون و ابن حجر ( العسقلنى ) و غيرهم ممن فسقوه و رموه باللحاد و الحلول و القول‬
‫بوحدة الوجود ‪ -‬كما يفهمونها ‪. -‬‬

‫و لم يكن مستغرباً ‪ -‬أيضاً ‪ -‬أن ينبرى للدفاع عنه أعلم من الفقهاء و أهل الرأى من أمثال‬
‫المام الرازى ‪ .‬و الصفدى ‪ .‬و مجد الدين الفيروزأبادى ( صاحب القاموس المحيط ) و غيرهم‬
‫ممن فهموه و عرفوا قدره و عدوه شيخهم الكبر ‪.‬‬

‫و عندما جاء ابن عربى إلى القاهرة ‪ .‬و نزل على جماعة من أهل الطريق فى " زقاق القناديل‬
‫" بحى الزهر ‪ -‬عندئذ انتشرت أفكاره هذه فأثارت علماء الظاهر فى مصر فسعوا بينه و بين‬
‫الملك العادل ‪ .‬فأوغروا صدره عليه فكاد يوقع به و لكنه نجا بنفسه و انحدر إلى بلد الشام‬
‫ليلقى وجه ربه فى دمشق و يدفن بها فى عام ‪ 1240‬م ‪.‬‬

‫و سلطان العاشقين‬
‫و ذاتى بآياتى علىّ استدلت‬ ‫إلىّ رسولً كنت منى مرسلً‬

‫و كان ممن ساروا على هذا الدرب سلطان العاشقين " شرف الدين أبو حفص عمر "‬
‫المعروف بابن الفارض الحموى أصلً ‪ .‬القاهرى مولداً و نشأة و وفاة ‪ ،‬فقد قدم أبوه من "‬
‫حماة " إلى مصر ‪ ،‬و تولى عملً يشبه عمل " القاضى الشرعى " من بعض الوجوه إذ كان‬
‫يقوم بإثبات ما يفرض للنساء من الحقوق على الرجال ‪ .‬و لهذا لقب بالفارض ‪.‬‬

‫و ابن الفارض هو شاعر العشق اللهى غير منازع ‪ .‬و لهذا لقب بسلطان العاشقين ‪ ..‬و قد‬
‫سلك طريق المجاهدة و الرياضة النفسية ‪ ،‬فساح فى وادى المستضعفين بالجبل المقطم ‪ ،‬كما‬
‫ساح بأودية مكة حيث قضى خمسة عشر عاماً عاد بعدها إلى القاهرة ليعطر أجواءها بنفحات‬
‫من طيوب شعره الذى لم يأخذ من جماله بعض التكلف الذى جعل يثقل الشعر فى هذا العصر و‬
‫العصور التالية ‪ .‬بتراكم المحسنات ‪ ،‬و التقديم و التأخير ‪ .‬و المشاكلة اللفظية و الغراب كما‬
‫ترى فى قوله ‪:‬‬

‫أنّ ‪ .‬عينى عينه لم تتأىّ‬ ‫كهلل الشك لول أنه‬

‫فى قصيدته ‪:‬‬

‫منعماً عرّج على كثبان طىّ‬ ‫ى‬


‫سائق الظعان يطوى البيد ط ّ‬

‫و لكنك إذا تجاوزت عما يعترضك من أمثال ذلك فإنك واقع على أطايب الفارضى و روائعه التى‬
‫يحلق بها فى سماء العشق اللهى ‪.‬‬

‫و إذا كان ابن عربى يقول بوحدة الوجود فإن ابن الفارض يذهب إلى وحدة الشهود ‪ .‬و هى‬
‫ليست بعيدة عن وحدة الوجود و لكنها تزيد عليها باتخاذ المتزاج بين المحب و المحبوب سبيلً‬
‫للمعرفة عن طريق الشهود ‪.‬‬

‫و مما يروى فى هذا الصدد أن ابن عربى قام بنفسه أن يضع شرحاً لقصيدة ابن الفارض " نظم‬
‫السلوك " و هى التائية الكبرى ‪ ..‬و سأل ابن عربى ابن الفارض فى ذلك فقال له ‪ :‬كتابك "‬
‫الفتوحات المكية " شرح لها ‪.‬‬

‫ثم إن ابن الفارض ‪ -‬كابن عربى ‪ -‬يقول بوحدة الديان ‪ .‬و أن الدين كله ل ‪.‬‬

‫و لبن الفارض ديوان شعر كبير شرحه البورينى " حسن البورينى " شرح ًا لغوياً و أدبياً ‪ .‬و‬
‫شرحه عبد الغنى النابلسى الصوفى الكبير شرحاً صوفياً ‪ ..‬و قد طبع الديوان مع شرح البورينى‬
‫و قطوف من شرح النابلسى فى جزأين كبيرين يقعان فى أكثر من خمسمائة صفحة من القطع‬
‫الكبير ‪.‬‬
‫و من هذا الديوان نقع على قصيدة " الخمر اللهية " و نقتطف منها هذا العناقيد ‪.‬‬

‫يقول الفارضى ‪:‬‬

‫سكرنا بها من قبل أن تُخلق الكرم‬ ‫شربنا على ذكر الحــــبيب مدامــــــــة‬
‫ولول سناها ما تصورها الوهـــــم‬ ‫ولول شذاها ما اهتــــديتُ لحـــــــــانها‬
‫نشاوى ول عار عليهم ول إثــــــم‬ ‫إذا ذكرت في الحي أصبــــح أهــــــــله‬
‫أقامت به الفراح وارتحل الهــــــم‬ ‫وإن خطرت يوماً على خاطر امـــرىء‬
‫لعادت إليه الروح وانتعش الجسم‬ ‫ولو نضحوا منها ثـــرى قبر مـــــــيت‬
‫خبير‪ .‬أجل عندي بأوصافها علـــم‬ ‫يقولون لي صِـــفها فأنت بوصفــــــها‬
‫ونور ول نار ‪ .‬و روح ول جســـم‬ ‫صفاء ول ماء‪ .‬ولطـــف ول هــــــــوا‬
‫شربتُ التي في تركها عندي الثم‬ ‫وقالوا‪ :‬شربت الثم ‪ ..‬كـــل ‪ .‬وإنمـــا‬
‫كذلك لم يسكن مع النغم الغــــــــم‬ ‫فما سكنتْ و الهم يوماً بموضــــــــــع‬
‫ومن لم يمت سكراً بها فاته الحزم‬ ‫فل عيش في الدنيا لمن عاش صاحي ًا‬
‫وليس له فيها نصيب ول سهم ‪..‬‬ ‫على نفسه فليبك من ضـــــــاع عمره‬

‫الحب اللهى و الحب البشرى‬

‫و سألنى الستاذ فاروق شوشة و نحن نجلس إلى مائدته الثقافية ‪ :‬هل هناك صلة بين الحب‬
‫اللهى و الحب البشرى ؟ ‪.‬‬

‫و الجواب ‪ :‬أن نعم ‪.‬‬


‫لن التصوف رحلة إلى الحقيقة عن طريق الدراك الوجدانى ‪ ،‬و الرتفاع عن ترابية الشباح ‪،‬‬
‫و التخلص من الكثافة ‪ .‬و الدخول فى عالم اللطافة ‪ -‬كما يقولون ‪ -‬حتى تصفو نفوسهم‬
‫لستقبال فيوض الحب اللهى ‪.‬‬

‫و من خصائص الحب أن يحب المحب كل ما يصدر عن المحبوب ‪ ..‬و من هنا كان حب‬
‫الواصلين للكون كله فما بالك بالنسان ‪.‬‬

‫و اعتبر ذلك فى المنهج السلوكى الذى يعتمد على الشيخ و المريد " التلميذ " ‪.‬‬

‫و هنا يرد قولهم ‪ :‬إن المريد كان مراداً قبل أن يكون مريداً‪.‬‬

‫و هنا تتجلى المحبة البشرية فى حب ال بين الشيخ و المريد ‪ .‬و بين المريد و المريدين ‪ .‬و‬
‫بين هؤلء و النسانية جمعاء ‪.‬‬

‫***‬

‫أما فى منهج الفلسفة الروحية فمع التسليم بوجود هذه الصلة فإنها تختلف فى الدرجة ‪ .‬لن‬
‫المر هنا يرجع إلى المقامات التى يجتازها المسافرون إلى ال كما يرجع إلى الحوال التى‬
‫يتقلبون فيها ‪ .‬فمنهم من يحب الكون كله باعتباره مظهراً يتجلى فيه جمال الصانع الكبر ‪ ..‬و‬
‫منهم من يشغله حبه تعالى عن حب غيره بحيث يستغرقه هذا الحب فل يحب سواه ‪ ..‬و قد‬
‫سُئلت السيدة رابعة العدوية ‪ :‬كيف حبك لرسول ال ‪ :‬فقالت ‪ ،‬إن و ال أحبه حب ًا شديداً و لكن‬
‫حب الخالق شغلنى عن حب المخلوق ‪.‬‬

‫إن هذا يعنى أن حب ال تعالى ‪ -‬إذا استغرق القلب ‪ -‬يطغى على كل حب فل يكون فى قلب‬
‫المحب مكان لغير المحبوب ‪ .‬أو كما يقول الحلج ‪:‬‬

‫فليس لخلق فى مكانك موضع‬ ‫مكانك من قلبى هو القلب كله‬

‫و لن الصوفيين يعيشون فى عالم من المواجيد الروحية دارت أنغامهم حول هذه المعانى ‪ .‬و‬
‫جاءت أشعارهم أقباس ًا من الوجد ‪ .‬و الشوق ‪ .‬و الذوق ‪ .‬و النس ‪ .‬و الطرب ‪ .‬و الحزن و‬
‫الفناء تبعاً للمقامات و الحوال ‪ ..‬على أى حال ‪ ،‬فعبقت أشعارهم بالنفحات القدسية ‪ .‬و النفاس‬
‫الروحانية ‪.‬‬

‫و لنا وقفة مع الشعر الصوفى ‪.‬‬


‫الشعر الصوفى‬

‫و الشعر الصوفى لون فريد فى الشعر العربى ‪ .‬ليس من حيث موضوعه و حسب ‪ .‬و لكن‬
‫من حيث أسلوبه ‪ .‬و طريقة أدائه ‪ .‬و رموزه و كناياته ‪.‬‬

‫و للشعر الصوفى معجمه الخاص ‪ ،‬و تعبيراته الرمزية الخاصة ‪ ،‬المر الذى شحنه‬
‫بالغموض ‪ ،‬و بخاصة بعد اتساع الفتوحات السلمية ‪ ،‬و اختلط الحضارات و لقاح الفكار‬
‫و الفلسفات ‪ ..‬عندما اختلط التصوف السلمى بعناصر كلمية ‪ .‬و أخرى فلسفية ‪.‬‬

‫و أنت تلتمس الرمزية فى مأثور الشعر العربى فل تكاد تعثر عليها إل فى أشعار المتصوفة‬
‫‪ .‬فهم يصوغون أفكارهم فى صور رمزية ل تخلو من ضبابية تتسم بالغموض فهم ‪ -‬مثلً ‪-‬‬
‫يذكرون الخمر بأسمائها و أوصافها و يريدون بها المعرفة ‪ ،‬أو الشوق و المحبة ‪ .‬و‬
‫الحبيب ‪ .‬و يذكرون الندامى و يقصدون بهم السالكين ‪ .‬و يذكرون أهل الدير و يريدون بهم‬
‫أصحاب المعارف ‪ ..‬فهم يستخدمون الرموز فى التعبير الفنى عن تجاربهم الروحية ‪.‬‬

‫و إذا سألت ‪ :‬لماذا الرمز ؟ و لماذا الغموض ؟ طالعك أكثر من جواب ‪.‬‬

‫فمن قائل ‪ :‬إن هذا الغموض يراد به الحرص على المعانى الصوفية ‪ ،‬و صون القداسة و‬
‫أسرار الروحانيات ‪.‬‬

‫و من الواضح أنهم حين يشطحون يخالفون فى شطحاتهم أهل الظاهر ‪ ،‬و يجتلبون‬
‫خصومتهم ‪ ،‬و يكونون هدفاً لحملتهم ‪ ،‬و لهذا لجئوا إلى الرمز و الغموض ليتسع لهم باب‬
‫التأويل ليخرجهم من مؤاخذة أهل الظاهر الذين يتربصون بهم ‪ ..‬و ربما كان أقرب مثل‬
‫لذلك ما حدث للشيخ الكبر " ابن عربى " عندما قال ‪:‬‬

‫كم ذا أراه و ل يرانى‬ ‫يا من يرانى و ل أراه‬

‫فقد أنكروا عليه ذلك ‪ ،‬و قالوا له ‪ :‬كيف تقول إنك تراه و ل يراك ؟ ! فقال ‪:‬‬

‫و ل أراه آخــذا‬ ‫يا من يرانى مجرم ًا‬


‫و ل يرانى لئذا‬ ‫كم ذا أراه منعـــــماً‬

‫فتخلص بذكر متعلقات للفعال بحيث يظهر المعنى بعيداً عما يوحى به ظاهر اللفاظ ‪.‬‬

‫على أن هناك تخريجًا مقنعاً و طريقاً نوجزه فيما يلى ‪:‬‬

‫فقد وجد القوم أنفسهم فى عالم روحى ل يستطيعون اللمام بأطرافه أو كما يقولون ‪:‬‬
‫من بحره غرقت فيه خواطره‬ ‫إذا تغلغل فكر المرء فى طرف‬

‫و قد وجدوا أنهم ل يستطيعون باللفاظ المحدودة ذات الحروف التسعة و العشرين أن‬
‫يعبروا عن هذا العالم غير المحدود ‪ .‬فلجئوا إلى الصيغ الرمزية و فى هذا يقولون ‪:‬‬

‫و عشرين حرفاً عن معانيك يقصر‬ ‫و إن قميص ًا خيط من نسج تسعة‬

‫***‬

‫و أخيرًا نقول ‪ :‬إن الغموض قد يكون مقصوداً لذاته ‪ ،‬لنه يحدث لذة فنية فى نفس المتلقى‬
‫إذا تأمل مطاوى الكلم و وصل إلى حل رموزه و فهم معناه ‪ ..‬و ذلك شبيه بالراحة النفسية‬
‫التى يجدها النسان عندما يصل إلى حل لغز من اللغاز ‪ ،‬و لهذا كانت اللغيز منذ كانت‬
‫رياضة عقلية محببة ‪.‬‬

‫***‬

‫و هناك خصيصة أخرى ينفرد بها الشعر الصوفى و هى ‪ :‬وحدة الموضوع ‪.‬‬

‫و إذا أنت تجولت فى بساتين الشعر الصوفى فسوف ترى أنها تنتظم أشجاراً متناظرة تنتمى‬
‫إلى أصل واحد ‪ .‬و تثمر نوعًا واحداً من الثمار ‪ ..‬و إذا كان هناك اختلف فهو فى الحجم ‪،‬‬
‫أو فى الجودة ‪ ،‬و ليس فى النوع على أى حال ‪.‬‬

‫و عهدك بدواوين الشعر التقليدى أن ينتظم الواحد منها ألواناً متباينة من القصائد المختلفة‬
‫ألوانها و فنونها ‪ ،‬ففيها المدح و الهجاء ‪ .‬و الغزل و الوصف ‪ ..‬إلخ خلفا لدواوين‬
‫الشعراء الصوفيين التى تمثل خطوة متقدمة فى وحدة الديوان الشعرى و تناوله موضوعاً‬
‫واحداً يتناولونه مباشرة فيطرقون باب الندم و التوبة و الستغفار و الدعاء ‪ ..‬أو يتناولونه‬
‫بصورة غير مباشرة فتكون قصائد العشق اللهى الذى يفغم أشعارهم بطيوب المواجيد‬
‫الروحية ‪.‬‬

‫***‬

‫و ليست دواوين الشعر الصوفى المكتوب بالعربية هى كل ما تغنى به شعراء التصوف‬


‫السلمى ‪ .‬و ل هى أكثره ‪ .‬بل هى النزر اليسير من هذا النتاج الضخم الغزير الذى نظمه‬
‫بالفارسية أعلم التصوف السلمى من الفرس ‪ .‬أو الذين تضرب أعراقهم إلى الفرس فل‬
‫سبيل إليه إل بمعرفة الفارسية ‪.‬‬

‫و صحيح أنه قد سبقت محاولت لترجمة بعضه إلى العربية ‪ .‬و لكنها كانت بمثابة قطرات‬
‫من بحر ‪ ..‬ثم هى ل يمكن أن تنقل هذا الشعر إلى العربية بكل صناعته الفنية ‪ .‬و خصائصه‬
‫الجمالية ‪ ،‬لن قصارى المترجم أن ينقل إلينا المعانى ‪ ،‬و ليست المعانى هى كل الشعر ‪.‬‬
‫و نحن نميل إلى رأى الجاحظ فإن شيخنا أبا عثمان يقول ‪ " :‬إن الشعر ل يترجم ‪ ،‬و ل‬
‫حوّل انقطع نظمه ‪ .‬و بطل وزنه ‪ .‬و سقط موضع العجب منه‬ ‫يجوز عليه النقل ‪ ،‬و إنه متى ُ‬
‫"‪.‬‬

‫و غنى عن البيان ‪ .‬أن شيخنا أبا عثمان ‪ .‬يتكلم عن الشعر الغنائى الذاتى ‪ .‬فهذا هو الشعر‬
‫العربى فى أيامه فلم ينتظم ديوان الشعر العربى ‪ -‬إلى أيامه ‪ -‬الشعر الملحمى أو القصصى ‪،‬‬
‫أو التمثيلى و مثل هذه اللوان من الشعر الموضوعى تيسر الحداث فيها ترجمتها من لغة‬
‫إلى لغة ‪.‬‬

‫***‬

‫و نحن نتجول فى بساتين الشعر الصوفى فنستروح أقسام هذه المواجيد ‪ ،‬و ننشق‬
‫عبيرها ‪ ،‬و نستجلى ملمحهم الصوفية فى تلك الشعار باعتبارها الصياغة الفنية لهذه‬
‫التجارب الروحية فى بحار الشوق و المحبة ‪.‬‬

‫و ربما كانت السيدة " رابعة العدوية " هى المقدمة الموسيقية الرائعة المبكرة التى سبقت‬
‫إلى التعبير عن تجربتها الروحية بهذه النغام الشائقة و الشيقة معاً ‪.‬‬

‫كانت تقول عن صلتها بال ‪ " :‬و ال ما عبدته خوفاً من ناره و ل طمعاً فى جنته ‪ .‬فأكون‬
‫كالجير السوء ‪ .‬إذا خاف عمل ‪ ..‬و لكنى أعبده حباً له ‪ .‬و شوقاً إليه " ‪.‬‬

‫و سئلت مرة ‪ " :‬كيف رأيت الحب بينك و بين المحبوب ؟ " ‪ .‬فقالت ‪ " :‬ليس للمحب و‬
‫حبيبه " بين " و إنما هو نطق عن شوق ‪ ،‬و وصف عن ذوق ‪ ،‬فمن ذاق عرف ‪ .‬و من‬
‫وصف فما وصف ‪..‬‬

‫و كيف تصف شيئاً أنت فى حضرته غائب ‪ ،‬و بشهوده ذائب ‪ ،‬و بصحوك منه سكران ‪ .‬و‬
‫بفراغك منه ملن " ‪.‬‬

‫و أنشدت ‪:‬‬

‫و أنا المشوقة في المحبة رابعــة‬ ‫كأسى و خمرى و النديم ثلثــــة‬

‫ساقى المدام على المدى متتابعة‬ ‫كأس المسرة و النعيم يديرهـــــا‬

‫و إذا حضرتُ فل أرى إل معـــه‬ ‫فإذا نظرتُ فل أرى إل لـــــــــــه‬

‫تال ما أذنى لعذلك سامـــــــــعة‬ ‫يا عاذلى إني أحب جمـــــــــــاله‬

‫أُجرى عيون ًا من عيوني الدامعة‬ ‫ت من حُرقى ‪ .‬و فرط تعلقى‬


‫كم ب ُ‬

‫يبقى و ل عينى القريحة هاجعة‬ ‫ل عبرتى ترفاً و ل وصـــلى له‬


‫و رابعة العدوية ‪ -‬بالنسبة للشعر الصوفى ‪ -‬تعتبر شاعرة مقلة و ليس لها ‪ -‬فيما نعلم ‪-‬‬
‫ديوان شعر مطبوع ‪ ،‬أو حتى مخطوط ‪ ..‬و إنما نعثر على نتف من أشعارها منثورة فى‬
‫مراجع المناقب و الطبقات ‪.‬‬

‫و لكننا نجد فى هذه الشعار اختلفاً فى النفاس ‪ -‬المر الذى يدل على أن بعض ما نُسب‬
‫إليها من الشعار مضاف إليها ‪ .‬محمول عليها و قد نسبوا إليها بعض أبيات أبى فراس‬
‫المشهورة ‪:‬‬

‫و ليتك ترضى والنام غضـــاب‬ ‫فليتك تحلو و الحياة مريـــــــرة‬


‫و بيني و بين العالمين خـــراب‬ ‫وليت الذي بيني و بينك عـــامر‬
‫و كل الذى فوق التراب تـــراب‬ ‫إذا صح منك الود ‪ .‬فالكل هــين‬

‫***‬

‫و قد بقى لنا من رابعة العدوية أخبار متناثرة ‪ ،‬نرى فى ضوئها ملمح السيدة رابعة ‪ ،‬كما‬
‫ى بتقديم‬
‫تبدو فى نفسى صورتها " شهيدة العشق اللهى " تلك الصورة التى أوحت إل ّ‬
‫السيدة رابعة فى هذه الصورة الفنية ‪ .‬التى صدحت بأغانيها أم كلثوم ‪ ..‬فهنا لنا وقفة بين‬
‫الحقيقة التاريخية ‪ .‬و الحقيقة الفنية إن صحّ هذا التعبير ‪.‬‬
‫شهيدة العشق اللهى‬

‫شخوص‬

‫عبد ال ‪ :‬والد رابعة‬

‫أمة ال ‪ :‬والدة رابعة‬

‫رابعة‬

‫المير‬

‫عمار ‪ :‬صاحب الخمارة‬

‫أبو حرام |‬
‫|‬
‫أصدقاء الحانة‬ ‫هشام |‬
‫|‬
‫حمزة |‬

‫مبروك ‪ :‬خادم‬

‫مالك ‪ :‬خادم‬

‫عبدة ‪ :‬خادمة رابعة‬

‫ابن زياد ‪ :‬مولى رابعة‬

‫علقمة |‬
‫|‬
‫أصدقاء ابن زياد‬ ‫ورد |‬
‫|‬
‫همام |‬
‫اللص‬

‫ابن دينار ‪ :‬فقيه متصوف‬

‫سفيان ‪ :‬فقيه متصوف‬


‫ميلد‬

‫كأنما ولد القرن الثانى الهجرى ليملى هذه الحوادث ‪:‬‬

‫مدينة البصرة ‪ .‬و كوخ صغير فى طرف المدينة تأوى إليه أسرة فقيرة ‪ :‬الشيخ عبد ال‬
‫( والد رابعة ) ‪ ،‬و زوجته أمة ال ‪ .‬و بناتهما الثلث ‪.‬‬

‫إنه يستقبل مولودًا جديداً ‪ .‬و يرجو أن يكون غلماً على بناته الثلث ‪ ..‬و جلس الشيخ‬
‫ناحية يفكر ‪.‬‬

‫و يصل إلى سمعه بكاء الوليد الجديد ‪.‬‬

‫و يعرف أن المولود بنت ‪ .‬و يرفع الب رأسه قائل و هو يتنهد ‪:‬‬

‫عبد ال ‪ :‬هيه يا صغيرتى ‪ .‬أنت ل تعرفين الحياة ‪ ،‬و لكنك تستقبلينها بالبكاء ‪ ( .‬ثم يتنهد و‬
‫هو يقول ) ‪ ..‬هكذا الدنيا ‪ ..‬بكاء ساعة نستقبلها ‪ .‬و بكاء ساعة نخرج منها ‪ (.‬و يصل إليه‬
‫صوت بكاء المولود ) ابكى ‪ ..‬ابكى يا صغيرتى ‪.‬‬

‫عائشة ‪ ( :‬الطفلة ) و أبكى أنا الخرى يا أبى ؟ ( تقولها فى سذاجة الطفولة )‬

‫عبد ال ‪ ( :‬فى ألم ) ‪ ..‬ل ‪ .‬ل يا عائشة ‪.‬‬

‫عائشة ‪ :‬حسبتك تريد هذا يا أبى ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ ( :‬يلطفها قائل ) ‪ ..‬عائشة ‪.‬‬

‫أسماء ‪ ( :‬و معها سكينة أختها تقبلن فى فرح ) ‪ ..‬أبى ‪ ..‬أبى ‪.‬‬

‫عائشة ‪ :‬أسماء ‪ .‬سكينة ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ ( :‬يسكتها ) انتظرى عائشة ‪.‬‬

‫أسماء ‪ ( :‬و فى صوتها لون الضحك ) ‪ ..‬أرأيت إلى أختنا الصغيرة يا أبى ‪.‬‬
‫عبد ال ‪ ( :‬من قلبه ) ‪ ..‬يا رب أنت قدرتَ فدبر ‪.‬‬

‫سكينة ‪ :‬كم هى جميلة يا أبى ‪.‬‬

‫أسماء ‪ ( :‬متضاحكة ) جميلة و لكنها تصرخ دائماً ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ ( :‬متضاحكاً فى ضحكة خفيفة ) ‪ ..‬لعلها تنادينى ‪.‬‬

‫سكينة ‪ ( :‬و فى صوتها لون الضحك ) ‪ ..‬أجل يا أبى ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ :‬يا للصغيرة المسكينة ‪.‬‬

‫أسماء ‪ :‬أل تكلم أمى يا أبى ؟ ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ :‬أفعل يا ابنتى ‪ .‬خذا أختكما هذه عنى فلعباها ‪.‬‬

‫عائشة ‪ ( :‬فى فرح ) و نلعب تحت النخيل يا أسماء ‪.‬‬

‫أسماء ‪ ( :‬و هى تنطلق معها ) تعالى يا عائشة ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ ( :‬و هو ينهض متثاقل ) ‪ ..‬أنت تعلم ‪ .‬و غيرك ل يعلم ‪ ( .‬ثم بصوت مرتفع ) ‪ ..‬ل‬
‫تذهبا بعيداً ‪.‬‬

‫سكينة ‪ ( :‬من بعيد ) ‪ ..‬نحن وراء النخيلت يا أبى ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ ( :‬يتجه إلى الكوخ و يفتح بابه و يدخل قائل ) ‪ ..‬كيف حالك الن يا أم البنات ؟‬

‫أمة ال ‪ ( :‬تبكى ) ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ :‬ل ‪ .‬ل تحزنى أمة ال ‪.‬‬

‫أمة ال ‪ ( :‬و هى تبكى ) ‪ ..‬كنت أرجو أن تكون هذه المرة ولداً تقر به عينك يا عبد ال ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ ( :‬و هو يقاوم و يغالب شعوره ) ‪ ..‬و لكن ال أرادها بنت ًا يا أمة ال ‪.‬‬

‫أمة ال ‪ ( :‬فى حسرة ) ‪ ..‬إنهن ثلث بنات يا عبد ال ‪ .‬و هذه رابعة ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ :‬أهو اعتراض على إرادة ال ؟ ‪.‬‬

‫أمة ال ‪ ( :‬مستنكرة ) ‪ ..‬معاذ ال ‪ ..‬و لكن أل ترى إلى ما نحن فيه من فقر و سوء حال ؟‬

‫عبد ال ‪ ( :‬بلهجة الستسلم ) ‪ ..‬إه ‪ ..‬يدبرها خالق الليل و النهار ‪.‬‬


‫أمة ال ‪ ( :‬بصوت يتهدج من العياء ) ليس فى الدار قطرة دهن ندهن بها موضع خلصها‬
‫‪ ..‬و ليس لدينا قنديل نستضئ به ‪ ،‬و ل خرق نلفها بها ‪ ..‬و ل ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ ( :‬يقاطعها ) ‪ ..‬كفى ‪ .‬كفى يا أمة ال ‪ ..‬أنت متعبة ‪.‬‬

‫أمة ال ‪ ( :‬فى حسرة ) ‪ .‬بنت و مسغبة ! إلى ال المشتكى ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ ( :‬فى لطف ) ‪ ..‬رويدك أم البنات ‪ .‬إنك و ال ل تعرفين أين يكون الخير ‪.‬‬

‫أمة ال ‪ ( :‬من خلل دموعها ) ‪ ..‬عبد ال ‪.‬‬

‫ل ) ‪ ..‬لقد و ال رأيت فيما يرى النائم بالمس كأن هاتفاً‬


‫عبد ال ‪ ( :‬يواصل حديثه قائ ً‬
‫يصيح بى ‪ :‬قم عبد ال ‪ .‬و اذهب إلى عيسى زاذان ‪. .‬‬

‫أمة ال ‪ :‬أمير البصرة ؟‬

‫عبد ال ‪ :‬نعم يا أم البنات ‪ ..‬و قال لى الهاتف ‪ " :‬إن المير سيعطيك عقيقة المولود " ‪.‬‬

‫أمة ال ‪ ( :‬بصوت حالم ) ‪ ..‬عقيقة المولود ! ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ :‬نعم ‪ .‬نعم ‪ .‬و فى يوم مشهود ‪.‬‬

‫أمة ال ‪ :‬أضغاث أحلم يا عبد ال ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ ( :‬يراجعها ) و لكنى قمت من نومى فاستعذت من الشيطان ‪ ..‬و قرأت ما تيسر من‬
‫القرآن ‪ ..‬ثم نمت ‪ .‬فإذا الهاتف هو الهاتف ‪ .‬و الكلم هو الكلم ‪.‬‬

‫أمة ال ‪ ( :‬فى دهشة ) ‪ ..‬عجباً ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ ( :‬يزيدها دهشاً ) ‪ ..‬و قمت من نومى فزعاً ‪ .‬فتوضأت ‪ .‬و صليت ‪ .‬و استعذت ‪ .‬و‬
‫قرأت ثم نمت ‪ .‬فإذا الهاتف للمرة الثالثة ‪ .‬فلم يبق إل أن تكون رؤيا صدق يا أم البنات ‪.‬‬

‫أمة ال ‪ ( :‬و قد ازداد عجبها ) هذا أعجب يا عبد ال ! ! ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ :‬و أى عجب يا أمة ال ؟ ‪.‬‬

‫أمة ال ‪ :‬و لماذا لم تفعل ما تؤمر ؟‬

‫عبد ال ‪ :‬أفعل إن شاء ال ‪.‬‬

‫أمة ال ‪ :‬و تذهب إلى المير يا عبد ال ؟ ‪.‬‬


‫عبد ال ‪ :‬أذهب يا أمة ال ‪.‬‬

‫أمة ال ‪ ( :‬و كأنها فى حلم ) و يعطيك عقيقة المولود ؟ ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ ( :‬و فى صوته لون الضحك ) فى اليوم المشهود ‪.‬‬

‫المولودة ‪ ( :‬تبكى فى أثناء كلمهما ) ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ ( :‬فى إشفاق ) يا للصغيرة المسكينة ‪ ( .‬ثم فى لطف ) ‪ ..‬انظرى أمة ال ‪ ..‬كم هى‬
‫جميلة ‪.‬‬

‫أمة ال ‪ :‬ما ذنب هذه الصغيرة ؟ ( و هى تبكى )‬

‫عبد ال ‪ ( :‬مواسيا ) ‪ ..‬ل تبكى أمة ال ‪ ..‬و أمّلى خيراً ‪ ..‬أنا ذاهب إلى المير ‪.‬‬

‫( و يظهر صهيل خيول و ترتفع بعض الصوات الخفيفة و هم يطرقون باب الكوخ ) ‪.‬‬

‫أمة ال ‪ ( :‬لزوجها ) ما هذا يا عبد ال ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ :‬ل أدرى أمة ال ‪ ( .‬ثم بصوت مرتفع ) ‪ ..‬من الطارق ؟‬

‫جندى ‪ ( :‬يصيح من الخارج ) ‪ ..‬افتح يا رجل ‪ ..‬إنه المير ‪.‬‬

‫أمة ال ‪ ( :‬تشهق و تقول فى دهشة ) ‪ ..‬يا إلهى ! ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ ( :‬و هو يسرع إلى الباب و يفتحه و يستقبل المير قائل ) ‪ ..‬يا سيدى ‪ ..‬لقد و ال‬
‫كنت على أن أسعى إلى المير ‪.‬‬

‫المير ‪ :‬بل نحن الذين نسعى إليك أيها العبد الصالح ‪.‬‬

‫البنات ‪ ( :‬مقبلت يتصايحن فى خوف و ذعر ) ‪ .‬أبى ‪ .‬أبى ‪ .‬ماذا يريدون بك ؟‬

‫ى إنه المير ‪.‬‬


‫عبد ال ‪ :‬ل تخافا يا ابنت ّ‬

‫‪:‬‬ ‫أسماء‬
‫( فى ذعر ) المير !‬
‫و سكينة ‪:‬‬

‫المير ‪ :‬ل تراعا يا صغيرتىّ ‪ .‬أنا فى ضيافة أبيكما ‪.‬‬

‫أسماء ‪ :‬مرحباً بك يا أمير ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ :‬ل أدرى ماذا أقول ‪ ..‬لقد كنت و ال فى طريقى إليك يا مولى ‪ .‬فساقك ال إلىّ ‪.‬‬
‫المير ‪ ( :‬فى دهشة ) ‪ ..‬هذا عجيب ‪ ( ..‬ثم يستدرك بسرعة ) ‪ ..‬و لكن لماذا كنت تقصدنى‬
‫‪.‬‬

‫عبد ال ‪ :‬بل لماذا جئت أنت يا سيدى ؟ ‪.‬‬

‫المير ‪ :‬قل لى أنت أولً ‪ :‬لماذا كنت تريد أن تسعى إلىّ ؟ ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ ( :‬و هو يتمثل الرؤيا التى رآها فى منامه ) ‪ ..‬إنه يا سيدى إنه ‪.‬‬

‫المير ‪ ( :‬يشجعه على الكلم ) ‪ ..‬إنه ماذا ؟ ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ :‬إنه حلم رأيته ‪ .‬و هاتف سمعته ‪.‬‬

‫المير ‪ ( :‬و قد فوجئ ) ‪ ..‬يا إلهى ‪ ..‬ماذا تقول يا عبد ال ؟ ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ ( :‬فى اضطراب و قد لحظ انفعاله ) هل ‪ ..‬هل أغضبتك يا سيدى ؟ ‪.‬‬

‫المير ‪ :‬أغضبتنى ! ! قل ‪ ..‬قل يا عبد ال ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ ( :‬متخوفاً ) سيدى ‪.‬‬

‫المير ‪ :‬كم مرة جاءك الهاتف ؟‬

‫عبد ال ‪ :‬ثلث مرات يا سيدى ‪.‬‬

‫المير ‪ ( :‬فى غاية التأثر ) ‪ ..‬ل إله إل ال ‪ ( .‬ثم يقبل عليه قائل ) ‪ ..‬و كلمك عن عقيقة‬
‫المولود ؟ ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ ( :‬فى دهشة ) ال ! ! من قال لك يا سيدى ؟‬

‫المير ‪ :‬الهاتف الذى قال لك يا عبد ال ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ :‬يا ربى ‪.‬‬

‫المير ‪ ( :‬مواصلً كلمه ) لقد رأيت ما رأيت ‪ .‬و سمعت ما سمعت ‪ ..‬و لهذا أتيت ‪ ( .‬و‬
‫يقدم له الصرة و هو يقول ) ‪ ..‬خذ ‪ .‬خذ يا عبد ال ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ :‬ما هذا ؟‬

‫المير ‪ :‬هذه عقيقة المولود ‪ ..‬و هذا هو اليوم المشهود ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ :‬الحمد ل ‪ .‬و الشكر لك يا أمير ‪.‬‬


‫المير ‪ :‬بل الحمد و الشكر ل ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ ( :‬مشيراً إلى حالته ) لقد صادف الغيث أوانه يا أمير ‪.‬‬

‫المير ‪ :‬لن تحمل هم الحياة ما دمت حياً يا عبد ال ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ :‬أطال ال حياتك و أحسن جزاءك ‪.‬‬

‫المير ‪ ( :‬و هو يتهيأ للنصراف ) سأراك يا عبد ال ‪ ..‬أليس كذلك ؟ ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ :‬كلما شئت يا أمير ‪.‬‬

‫المير ‪ :‬حسن ‪ .‬سلم عليك أيها العبد الصالح ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ ( :‬يشيعه قائل ) و على المير السلم ‪.‬‬

‫المير ‪ ( :‬يرتفع صوته لتسمعه أمة ال ‪ ،‬فى الداخل فى الخباء ) سلم لك أيتها الم‬
‫الصالحة ‪.‬‬

‫أمة ال ‪ ( :‬من الداخل ) و على المير السلم ‪.‬‬

‫المير ‪ ( :‬و هو ينطلق ) ‪ ..‬سلم على بناتكما الثلث ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ ( :‬يلحقه متضاحكاً ) و الرابعة يا أمير ‪.‬‬

‫المير ‪ ( :‬من بعيد ) ‪ ..‬و الرابعة ‪.‬‬

‫البنات ‪ ( :‬فى فرح ) دنانير ‪ ..‬دنانير يا أماه ‪.‬‬

‫أمة ال ‪ :‬عبد ال ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ :‬انظرى أمة ال ‪ ..‬إنها دنانير ‪.‬‬

‫أمة ال ‪ ( :‬فى فرح ) عقيقة المولود ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ ( :‬و هو يضحك ) فى اليوم المشهود ‪.‬‬

‫سكينة ‪ :‬إنه رزق أختنا الجديدة ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ :‬الرابعة ‪.‬‬

‫البنات ‪ ( :‬فى ترنم ) دنانير ‪ ..‬دنانير ‪ ..‬دنانير ‪.‬‬


‫فواجع‬

‫و مرت السنون ‪ ،‬و تعاقبت اليام ‪ ،‬و شبت البنات الثلث ‪ .‬و يفعت ( الرابعة ) ‪.‬‬

‫و كانت سنة جدباء ‪ .‬قحط فيها الناس ‪ .‬و كلب الزمان ‪ .‬و اجتاح البصرة الطاعون ‪ .‬و‬
‫رصد الحاكم أفواه الطرق على البصرة يمنع الدخول إليها و الخروج منها ‪.‬‬

‫و بات الناس من ذلك فى كرب عظيم ‪.‬‬

‫أبو محمد ‪ ( :‬معترضاً ) ‪ ..‬كل هذا غير صحيح ‪ ..‬و النص صريح ‪ " :‬ل عدوى و ل هامة ‪،‬‬
‫و ل طيرة و ل صفر " ‪.‬‬
‫عتبة ‪ ( :‬يعارضه ) ‪ ..‬و ما تقول فيما فعله عمر ؟ ‪.‬‬

‫أبو محمد ‪ :‬و ما تقول أنت فى هذا النص ؟ ‪.‬‬

‫عتبة ‪ :‬أقول ما قاله الصدر الول ‪ " :‬ل عدوى مؤثرة بنفسها "‬

‫( و ترتفع أصوات مختلطة ما بين موافق و معترض ) ‪.‬‬

‫أبو أسامة ‪ ( :‬مقبلً عليهم ‪ .‬يصيح بهم بصوت يطغى على ضجيجهم ) ‪ ..‬يا قوم ‪ .‬يا قوم ‪.‬‬

‫أبو محمد ‪ :‬أبو أسامة ! ‪.‬‬

‫عتبة ‪ :‬ما وراءك يا أبا أسامة ‪.‬‬

‫أبو أسامة ‪ :‬اسمعوا هذا و اتركوا هذا ‪.‬‬

‫أبو محمد ‪ :‬ماذا ؟ ‪.‬‬

‫أبو أسامة ‪ :‬لقد رصد المير جنوده على أفواه الطرق ‪ .‬يمنعون من فى البصرة من الخروج‬
‫منها ‪ .‬و يمنعون القادمين من الدخول إليها ‪.‬‬

‫مرة ‪ ( :‬فى غضب ) ‪ ..‬إذن فقد حبسنا المير مع الطاعون فى هذا البلد ‪.‬‬

‫أبو أسامة ‪ :‬حتى ل ينتشر الطاعون ‪.‬‬

‫عتبة ‪ ( :‬فى يأس ) أو يقضى ال أمرًا كان مفعولً ‪.‬‬

‫أبو أسامة ‪ ( :‬يهمس لعتبة ) عتبة ‪.‬‬

‫عتبة ‪ :‬ماذا ؟‬

‫أبو أسامة ‪ :‬انظر ‪ ،‬أليس هذا عبد ال ؟ ‪.‬‬

‫عتبة ‪ ( :‬و هو يتجه بنظره نحو إشارته ) ‪ ..‬بلى ‪ .‬و هؤلء بناته يمشين وراءه على‬
‫استحياء‪ ( .‬ثم يتركه و يسرع إلى عبد ال و هو يقول ) ‪ ..‬يا إلهى ‪ .‬إنه يتهالك على نفسه ‪.‬‬
‫( و يقبل على عبد ال قائل ) ‪ ..‬عبد ال ‪.‬عبد ال ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ ( :‬فى إعياء ) ‪ ..‬آه ‪. .‬‬

‫عتبة ‪ ( :‬و قد صار أمامه ) ماذا أصابك يا عبد ال ؟ ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ ( :‬فى غاية اللم ) ‪ ..‬عتبة ‪.‬‬


‫عتبة ‪ :‬ما بك يا عبد ال ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ ( :‬فى ألم مكتوم ) ‪ ..‬ل شئ ‪ ( .‬ثم يتنهد و يقول ) ‪ ..‬هيه ‪ .‬المر لصاحب المر ‪.‬‬

‫عتبة ‪ :‬و أولء بناتك يا عبد ال ؟ ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ ( :‬متألماً ) أجل يا عتبة ‪.‬‬

‫عتبة ‪ :‬ما شاء ال لقد كبرن يا عبد ال ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ ( :‬فى ألم مكتوم ) ‪ ..‬كبرن و كبر الزمان يا عتبة ‪.‬‬

‫عتبة ‪ ( :‬يهون عليه ) ‪ ..‬ل حيلة فى الرزق ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ :‬و ل شفاعة فى الموت ‪.‬‬

‫عتبة ‪ :‬و لكن من أين ؟ و إلى أين يا عبد ال ؟ ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ ( :‬فى تردد و ارتباك ) ‪ ..‬لقد كنت ‪ ..‬أردت ‪ ..‬لـ ‪ ..‬أقصد ( ثم يقطع كلمه و يلتفت‬
‫إلى بناته قائل ) ‪ ..‬أسماء ‪.‬‬

‫أسماء ‪ :‬أبى ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ :‬خذى أختيك و انطلقى بهما بعيداً أكلم عمكن فيما ل ينبغى لكن أن تسمعن ‪.‬‬

‫أسماء ‪ ( :‬و هى تنطلق ) تعالى يا سكينة ‪.‬‬

‫سكينة ‪ :‬تعالى عائشة ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ ( :‬فى ألم مكتوم ) ‪ .‬هيه ‪.‬‬

‫عتبة ‪ :‬تجلد عبد ال ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ :‬لقد جهدتنا الشدة يا عتبة ‪ .‬و كان المير عيسى ظلً فانحسر الظل ‪.‬‬

‫عتبة ‪ :‬رحم ال المير ‪ .‬و لك طول البقاء ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ ( :‬فى مرارة ) ‪ ..‬البقاء ! ‪ .‬لقد تركت أم البنات يأكلها الجوع ‪ .‬و يفترسها‬
‫الطاعون ‪ .‬و خرجت أبيع بناتى ‪ ..‬أبيع بناتى ‪.‬‬

‫عتبة ‪ ( :‬مستنكراً ) ‪ . .‬تبيع بناتك ؟ ! ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ :‬فى لحظة من لحظات اليأس قد يفكر النسان فيما ل يقدم عليه إنسان ‪.‬‬
‫عتبة ‪ ( :‬أشد استنكاراً ) ‪ .. .‬تبيع بناتك يا رجل ؟ ! ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ ( :‬بصوت يتهدج ) ‪ . .‬قلت أمسك عليهن الحياة ‪.‬‬

‫عتبة ‪ :‬أى حياة يا رجل ‪ ..‬حياة الذل و العبودية ؟ ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ :‬و ماذا أصنع يا عتبة ؟ ‪ .‬إذا أبقيتهن هلكن جوعاً ‪ .‬و إذا بعتهن هلكن ذلً ‪ .‬ماذا‬
‫أصنع يا عتبة ‪.‬‬

‫عتبة ‪ ( :‬متخوفاً ) ‪ .. .‬و أين الرابعة ؟‬

‫عبد ال ‪ ( :‬بصوت مختنق من البكاء ) ‪ .. .‬الرابعة ‪. .‬‬

‫عتبة ‪ ( :‬و قد ازداد شكه ) ‪ .. .‬أتراك بعتها ؟ ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ :‬بل تركتها فى خدمة أمها المريضة و خرجت بهؤلء ‪ ..‬و ليتنى وجدت من‬
‫يشترى ‪.‬‬

‫عتبة ‪ :‬عهدى بك غير هذا يا عبد ال ‪ ..‬ل يا رجل ‪ ( .‬و يخلع قباءه و هو يقول ) ‪ .‬ليس‬
‫هذا طريقك ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ :‬ماذا تصنع يا عتبة ؟ ‪.‬‬

‫عتبة ‪ ( :‬و هو يقدم له القباء ) ‪ .. .‬خذ ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ :‬ماذا ؟ ‪.‬‬

‫عتبة ‪ ( :‬و هو يقدمه له ) خذه ‪ .‬و ارجع ببناتك عبد ال ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ :‬ما هذا يا عتبة ‪.‬‬

‫عتبة ‪ :‬هذا قبائى ‪ .‬و لو كنت أملك غيره لقدمته لك ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ :‬تقدمه لى ! ‪.‬‬

‫عتبة ‪ :‬خذه فإنه يساوى شيئ ًا ‪ .‬و يسد حاجة ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ :‬ل يا أخى ‪ .‬أمسك عليك قباءك ‪ .‬أنت فقير مثلى ‪.‬‬

‫عتبة ‪ :‬و لكنى لست فى مثل حاجتك ‪ .‬هيا عبد ال ‪ ( .‬ثم ينادى ) ‪ .‬يا أسماء ‪ .‬يا أسماء ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ :‬و ‪ ..‬ماذا ؟ ‪.‬‬


‫أسماء ‪ ( :‬مقبلة عليه ) ‪ .‬لبيك يا عماه ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ :‬عتبة ‪.‬‬

‫عتبة ‪ :‬ارجع ببناتك عبد ال ‪ .‬و اعلم أن الذى خلق عباده ل ينساهم ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ ( :‬بصوت يتهدج ) ‪ .. .‬آمنت بال ‪.‬‬

‫أسماء ‪ ( :‬و قد اقتربت منهما هى و أختاها ) لبيك يا عماه ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ ( :‬بصوت متهدج ) ابنتى‬

‫سكينة ‪ ( :‬مقبلة مع أختها ) ‪ .. .‬أبى ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ :‬خذى بيدى يا ابنتى ‪ ( .‬و ينطلق مع بناته و هو يقول و صوته يبتعد‬
‫) ‪ .‬يا ما أنت كريم يا كريم ‪ ،‬يا ما أنت رحيم يا رحيم ‪ ..‬يا لطيف ‪ ..‬يا لطيف ‪.‬‬

‫على فراش الموت‬

‫و على فراش الموت كانت ترقد أمة ال و قد اشتدت عليها وطأة الطاعون ‪ .‬و بجانب‬
‫منامتها ركعت رابعة و هى تجهش بالبكاء ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬تبكى ) ‪.‬‬

‫أمة ال ‪ ( :‬على فراش الموت ) ‪ .. .‬ل ‪ .‬ل تبكى ‪ .‬يا ابنتى ‪ .‬يكفى ‪ .‬ما أنا فيه يا رابعة ‪. .‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬من خلل دموعها ) ‪ .. .‬بروحى أنت يا أماه ‪.‬‬


‫أمة ال ‪ ( :‬بصوت يرتعش ) ‪ .. .‬ابنتى ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬بصوت مختنق ) ‪ .. .‬مرض ‪ ..‬و مجاعة ‪.‬‬

‫أمة ال ‪ :‬الـ ‪ ..‬حمد ‪ ..‬ل ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬أماه ‪ ..‬أل تخبرينى أين ذهب أبى بأخواتى ‪.‬‬

‫أمة ال ‪ ( :‬تخفى عنها الحقيقة ) ‪ .. .‬ذهب ‪ ..‬إلى الـ ‪ ..‬أمير عيسى زاذان ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬و تنفجر باكية ) ‪ .. .‬ل يا أماه ‪ ..‬أنت تخفين عنى الحقيقة ‪ .‬لقد مات المير‬
‫بالطاعون منذ أيام ‪.‬‬

‫أمة ال ‪ ( :‬تبكى ) ‪ .. .‬ابنتى ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬أين أخواتى ‪ .‬أين أخواتى ‪.‬‬

‫أمة ال ‪ :‬ل تفكرى ‪ ..‬فى هذا ‪ ..‬يا رابعة ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬بصوت مختنق ) ‪ .. .‬أخواتى ‪ .‬أخواتى ‪.‬‬

‫أمة ال ‪ :‬اسكتى ‪ ..‬اسكتى بال يا ابنتى ‪.‬‬

‫( و يفتح الباب و يدخل عبد ال منهاراً )‬

‫رابعة ‪ :‬إنه أبى ‪.‬‬

‫أمة ال ‪ :‬لعله ‪ ..‬جاءكم ‪ ..‬بما تتبلغون به ‪.‬‬

‫ل و هو محطم ) ‪ .. .‬آه ‪ ..‬يا رب ‪.‬‬


‫عبد ال ‪ ( :‬داخ ً‬

‫أمة ال ‪ :‬عبد ال ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ ( :‬فى غاية الحزن ) ‪ ..‬كيف حالك الن يا أم البنات ؟ ‪.‬‬

‫أمة ال ‪ ( :‬بصوت متقطع ) ‪ .. .‬أقضيها من عمرى ساعات ‪ ..‬إنه الطاعون يا عبد ال ‪ .‬أبم‬
‫تجد طعاماً ؟‬

‫عبد ال ‪... ... :‬‬

‫أمة ال ‪ :‬و أين البنات يا عبد ال ؟ ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ :‬إنهن ورائى ‪ ( .‬ثم فى حسرة ) لم أجد من يشتريهن يا أمة ال ‪.‬‬


‫رابعة ‪ ( :‬تشهق من الفزع ) ‪ .‬و كنت تريد بيعهن يا أبى ؟! ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ ( :‬و كأنه يكلم نفسه ) ليتنى استطعت ‪ ..‬إذن لبقيت عليهن الحياة ‪ ..‬و لكنى كنت‬
‫مخطئاً ‪ ..‬الناس فى البصرة يبحثون عن اللقمة و ل ينظرون إلى الجوارى ‪.‬‬

‫البنات ‪ ( :‬داخلت ) ‪ .‬أماه ‪ ..‬أماه ‪.‬‬

‫أمة ال ‪ :‬أولدى ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬أسماء ‪ .‬سكينة ‪ .‬عائشة ‪.‬‬

‫أمة ال ‪ ( :‬بصوت مبحوح ) ‪ .‬عبد ال ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ ( :‬يتهالك على نفسه قائل فى غاية الجزع ) ‪ ..‬أمة ال ‪ ..‬أمة ال ‪.‬‬

‫البنات ‪ ( :‬فى غاية الجزع ) أمى ‪ ..‬أمى ‪ ..‬أماه ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ ( :‬على بكائهن ) ل حول و ل قوة إل بال ( و يقطع كلمته و يقع متهالكاً على‬
‫نفسه ) ‪.‬‬

‫البنات ‪ :‬أبى ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ :‬إن قدمىّ ل تحملن جسمى ‪ ..‬آه ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬صارخة ) ‪ .‬و أنت الخر يا أبى ‪.‬‬

‫عبد ال ‪ ( :‬بصوت مبحوح و هو يبكى ) ‪ .‬اسندينى يا ابنتى ‪ ..‬أولدى ‪ .‬أولدى ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬صارخة ) ‪ .. .‬أبى و أمى ‪.‬‬

‫البنات ‪ ( :‬بكاء ) ‪.‬‬


‫الشاردة‬

‫و خرجت البنات شاردات ‪ .‬و تفرقت بهن السبل ‪ .‬و هامت رابعة على وجهها حزينة و فى‬
‫يدها ناى تتنفس فيه أحزانها ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬يغلبها البكاء فترفع الناى و تتجه إلى السماء ) ‪ .‬غريبة الدار ‪ .‬يتيمة البوين ‪ .‬إذا‬
‫أمسيت ل أدرى أين أصبح ‪ .‬و إذا أصبحت ل أدرى أين أمسى ‪ .‬وا قلباه ‪ .‬إلى أين يا رباه ‪.‬‬
‫( ثم تغنى و هى تبكى غناء حزينا ) ‪.‬‬

‫(‪)1‬‬ ‫و غيرك ل يفيض نـــدى‬ ‫لغيرك ما مددتُ يـــــــــــدًا‬


‫فكيف ترد مَن قصـــــــدا‬ ‫و ليس يضيق بابك بـــــى‬
‫فكيف تذود مَــــــن وردا‬ ‫و ركنك لم يزل صمـــــــداً‬
‫ف إن عادى الزمان عدا‬ ‫و لطفك ياخفي اللطــــــــــ‬

‫***‬

‫و نحوك قد مددت يـــــدا‬ ‫على قلبي وضعت يـــــــــدا‬


‫و ل أدرى لي مـــــــدى‬ ‫سرى ليلي بغير هــــــــــدى‬
‫و يرعانى الجوى أبــــدا‬ ‫يطاردنى السى أبــــــــــــدا‬
‫و يطوينى الهوى جسـدا‬ ‫و ينشرنى فى الهوى روح ًا‬
‫كأنى فى الفضاء صـــدى‬ ‫و أطوى البيد طاويــــــــــة‬

‫***‬

‫و ليلي و الظــــلم ردى‬ ‫نهاري و الهجير لظــــــى‬


‫ضحِى فوا كبـــدا‬‫و إن أ ْ‬ ‫فوا كبدا إذا أ ْمسِــــــــــــى‬
‫فقدت الهل و السنــــدا‬ ‫و ليس سواك لي سنــــــد‬
‫فقدت الهل و السندا‬

‫( و تنفجر باكية )‬
‫عمار ‪ ( :‬صاحب الحانة الذى كان يمشى وراء أنغامها فى الصحراء و هى ل تشعر به ) ‪.‬‬
‫مرحى ‪ .‬مرحى ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬تشهق من الرعب و قد فوجئت به ) ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬يضحك ) ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬بصوت يتهدج ) ‪ .. .‬من أنت بحق السماء ؟‬

‫عمار ‪ ( :‬و قد استرعى نظره جمالها ‪ ..‬إلى جمال صوتها ) ‪ .‬بل من أنت يا ‪ ..‬جنية‬
‫الصحراء ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬انشقت عنك الرض أم هبطت من السماء ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬بل أنا وراءك منذ ساعة ‪ .‬و أنت مع هذه النغام ‪ .‬سابحة ل تحسين وقع القدام ‪ ..‬و‬
‫تسأليننى من أنا ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬فى خوف منه ) ‪ .. .‬و ما شأنك بى يرحمك ال ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬يواصل كلمه ) ‪ .. .‬فتاة تمشى وحدها فى البيداء ‪ ..‬ل أنيس لها غير هذا الناى‬
‫الباكى ‪ .‬و هذا الغناء الحزين ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬و هى تبكى ) ‪ . .‬دعنى لشأنى ‪ .‬دعنى ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬يترك كلمه و يقبل عليها ) أو ‪ ..‬ل ‪ .‬ل تجزعى يا صغيرتى ‪ .‬إن هاتين العينين لم‬
‫تُخلقا للبكاء ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬تبكى ) ‪. .‬‬

‫عمار ‪ :‬و هذه النغام السماوية ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬تبكى ) ‪. .‬‬

‫عمار ‪ ( :‬و يداعب خدها بيده قائلً ) ‪ .. .‬يا تبارك الخلق ‪ .‬ما أصبح و ما أملح ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬من خلل دموعها ) ‪ .. .‬دعنى ل تلمسنى ‪ .‬دعنى ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬ل تخافى يا صغيرتى ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬اتركنى ‪ .‬اتركنى ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬أنت ‪ .‬أنت يا صغيرتى ‪.‬‬


‫رابعة ‪ ( :‬من خلل دموعها ) ‪ ..‬غريبة الدار ‪ ..‬يتيمة البوين ‪ ..‬أرسف فى قيود الذل و‬
‫الهوان ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬ل تراعى يا صغيرتى ‪ ..‬إن جمالك هذا يجنبك كل هوان ‪ ..‬و ( ثم يستدرك قائلً ) ‪ .‬و‬
‫لكن ‪ .‬ما هذا الناى ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬إنه سلوة المحزون ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬و ما هذا الغناء ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬إنه عُللة المهموم ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬و من علمك هذه النغام يا جميلتى ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬علمنى إياها سهد الليل و هم النهار ‪.‬‬

‫عمار ‪ (:‬مأخوذا بجمالها و منطقها ) ‪ ..‬ل ل ‪ .‬أنت يا ‪ ..‬ما اسمك يا صغيرتى ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬اسمى رابعة ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬ينفجر ضاحكاً ) ‪ . .‬رابعة ‪ ..‬إذن فأين الثالثة و أين الثانية و أين الولى ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬إنك ل تهزل ‪ .‬إنهن أخواتى ‪ .‬نحن أربع يتيمات ‪ ..‬مات أبوانا فى الطاعون الذى‬
‫دهم البلد ‪ .‬و لما اشتدت المجاعة بالبصرة و قحط الناس خرجنا نلتمس الحياة ‪ ،‬و تفرقت‬
‫بنا السبل ‪ .‬فهمتُ على وجهى ل أعرف أين أمسى و ل أعرف أين أصبح ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬حسن ‪ .‬لقد وصلتِ يا جميلتى ‪ .‬و لكنى أعجب ‪ .‬كيف نجت الشاة من ذئاب الصحراء‬
‫‪ ( .‬ثم و هو مبهور بجمالها و قد اكتشف ملحتها أكثر ) ‪ ..‬يا ل ! ما هذا ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬خالية الذهن ) ماذا ؟‬

‫عمار ‪ ( :‬و هو يلتهمها بعينيه ) ‪ .‬طلعة كالصبح إذا أسفر ‪ ..‬و شعر كالليل إذا أظلم ‪ .‬و‬
‫صوت كالـ ‪ .‬كيف أصف صوتك يا ‪ ..‬يا رابعة ‪ ( .‬ثم يهمس لنفسه فى جشع ) ‪ .. .‬لقد وقعت‬
‫على صيد سمين ‪ ( .‬ثم يقبل عليها قائل ) ‪ . .‬أقبلى ‪ ..‬أقبلى ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬كل ‪ .‬كل دعنى ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬ل تراعى يا صغيرتى ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬دعنى ‪ .‬دعنى يا رجل ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬أيها الغزال النافر ‪.‬‬


‫رابعة ‪ :‬أستحلفك بالـ ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬يقاطعها ) ‪ .. .‬ل ‪ .‬ل تخافى يا صغيرتى ‪ .‬أنا ل أريد بك سوءاً ‪ ..‬و ل أريد لك إل‬
‫الخير ‪ ..‬أدبرى ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬دعنى بال ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬حسن حسن ‪ .‬ستكونين قينة تتحاكى بها حانات البُلــّة ‪ ..‬اسمك إذن رابعة ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬أجل يا سيدى ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬فما ولؤك ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬ولئى لل عتيك ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬أى بطونهم ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬بنو عدوة ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬إذن فأنت عدوية ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬أجل يا سيدى ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬هذا جميل ‪ ( .‬ثم يجرب وقع اسمها على السمع ) رابعة العدوية ‪ ..‬اسم جميل ‪ .‬و‬
‫مُسمَى أجمل ‪ ..‬تعالى ‪ ..‬تعالى ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬ل ‪ ..‬ل ‪ ..‬أتركنى لشأنى ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬ل تكونى حمقاء ‪ ..‬إنما أنتشلك مما أنت فيه ‪ ..‬تعالى معى ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬فى خوف ) ‪ ..‬إلى أين ؟ ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬فى غاية الجشع ) إلى حيث الذهب ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬الذهب ! ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬و الحرير و الديباج ‪ .‬هيا يا رابعة ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬فى حيرة ) ‪ .. .‬يا ربى ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬و هو ينطلق بها ) ‪ .‬بهذا الصوت الساحر ‪ ..‬و بهذا الجمال النادر ‪ ..‬سأصنع منك‬
‫شيئاً يمل ليالى البلة ‪ .‬هيا يا رابعة ‪ .‬ها ها ها ‪ ( .‬و يقهقه و صوته يبتعد )‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬موسيقى و ألحان كمال الطويل ‪ .‬و غناء أم كلثوم ‪.‬‬

‫أوحال‬

‫و عرف عمار كيف يجعل من هذه الشاردة اليتيمة قينة تتحاكى بها ليالى البلة ‪.‬‬

‫و تسامع الناس بهذه الشادية فتواكبوا على حانة عمار ‪ .‬و أقبلت عليه الدنيا ‪ .‬و أصبحت‬
‫عازفة الناى الشادية حديثاً تسرى به الركبان ‪.‬‬

‫و ازدحمت الحانة بعشاق اللهو و الطرب ‪.‬‬

‫و جلس القوم ينتظرون الجارية المغنية بينما يصل إلى أسماعهم صوت نايها المحزون ‪.‬‬

‫( رواد الحانة يضحكون و يصخبون ) ‪.‬‬


‫أصوات ‪ ( :‬تقهقه عالياً ) ‪.‬‬

‫حمزة ‪ :‬كأسك يا أبا حرام ‪.‬‬

‫هشام ‪ ( :‬و هو يرفع كأسه ) اشرب ‪.‬‬

‫حمزة ‪ :‬على صحتك ‪ ( .‬يظهر صوت الناى من بعيد و يعلو صوت الناى ) ‪.‬‬

‫حمزة ‪ ( :‬مشيراً إلى صوت الناى ) ‪ ..‬أتسمع يا أبا حرام ؟ ‪.‬‬

‫أبو حرام ‪ :‬ذلك هو الناى ‪.‬‬

‫هشام ‪ :‬إنها هى ‪ .‬هى و ال ‪ ..‬و لن ترى خير من أن تُسمع ‪.‬‬

‫أبو حرام ‪ :‬إن أنغامها تلمس قلبى يا هشام ‪.‬‬

‫هشام ‪ :‬المهم المغنى و ليس الغناء ( يشير إلى جمالها ) ‪.‬‬

‫أبو حرام ‪ ( :‬معترضاً ) ‪ ..‬بل الغناء ‪.‬‬

‫هشام ‪ ( :‬فى إصرار ) ‪ ..‬بل المغنى ‪.‬‬

‫ابو حرام ‪ :‬بل الغناء ‪.‬‬

‫هشام ‪ :‬بل المغنى ‪.‬‬

‫أبو حرام ‪ ( :‬يلزمه الحجة ) ‪ ..‬أنت تطلب الصهباء ‪ .‬أم تطلب الوعاء ؟ ‪.‬‬

‫حمزة ‪ ( :‬يضحك ) ‪.‬‬

‫هشام ‪ ( :‬يحتكم إليه و يستشهد به ) ‪ ..‬الغناء أم المغنى يا أخا تميم ؟ ‪.‬‬

‫حمزة ‪ ( :‬و فى صوته لون الضحك ) ‪ ..‬إذا وُجد الغناء وُجد المغنى ‪.‬‬

‫أبو حرام ‪ ( :‬محتداً ) ‪ ..‬و قد يوجد المغنى و ل يوجد الغناء ‪.‬‬

‫حمزة ‪ ( :‬يضحك ) ‪.‬‬

‫ل يحمل أوانى الشراب ) ‪ ..‬يا سادة ‪ .‬يا سادة ‪.‬‬


‫عمار ‪ ( :‬مقب ً‬

‫حمزة ‪ :‬أين أنت يا عمار ؟ ‪.‬‬


‫أبو حرام ‪ :‬و أين قينتك التى يتواصفها الشعراء ؟ ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬رابعة ؟ ‪.‬‬

‫هشام ‪ :‬أين رابعة يا عمار ؟ ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬آ ‪ .‬صبراً يا سادة ‪ ..‬إنها تتهيأ لمجلسكم ‪.‬‬

‫هشام ‪ ( :‬فى ضيق ) ‪ ..‬و لكنها تعزف نايها يا عمار ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬مرتبكاً ) ‪ ..‬آ ‪ .‬مـ ‪ . ..‬معذرة يا سادة ‪ ( ..‬ثم ينادى ) ‪ ..‬يا رابعة ‪ ..‬رابعة ‪.‬‬

‫( يسكت صوت الناى ) ‪.‬‬

‫شرْب النتظار ‪.‬‬


‫عمار ‪ :‬أقدمى رابعة فقد مل ال َ‬

‫( صوت باب )‬

‫رابعة ‪ ( :‬مقبلة عليهم تقول فى لطف و دلل ) ‪ ..‬و لكن النتظار تشويق ‪.‬‬

‫حمزة ‪ ( :‬مأخوذاً بجمالها ) ‪ ..‬رابعة ! ! ‪.‬‬

‫أبو حرام ‪ :‬يا تبارك الرحمن ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬و هى تتضاحك ) عموا مساء يا سادة ‪.‬‬

‫هشام ‪ :‬نعمت مساء يا رابعة ‪.‬‬

‫أبو حرام ‪ ( :‬معترضاً عليه ) ‪ ..‬إنها ليست رابعة ‪ ..‬إنها رائعة ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬تضحك ) ‪.‬‬

‫هشام ‪ ( :‬يشير إلى مقعد ) ‪ ..‬تفضلى ‪.‬‬

‫أبو حرام ‪ :‬ل ‪ .‬ل و ال ‪ ..‬إن مكانك فى الصدر يا رابعة ‪.‬‬

‫هشام ‪ ( :‬ينظر إليها و يتظرف أمامها على حساب زميله ) ‪ ..‬بل مكانها فى القلب يا أبا‬
‫حرام ‪.‬‬

‫أبو حرام ‪ ( :‬يفحمه قائلً ) ‪ ..‬أردت صدر المجلس يا لُـكَع ‪ .‬ها ها ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬تضحك معه ) ‪.‬‬


‫حمزة ‪ :‬يا عمار ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬الذى كان يشاركهم فى الضحك ) سيدى ‪.‬‬

‫أبو حرام ‪ :‬هات أجود أنبذة البلة ‪.‬‬

‫حمزة ‪ :‬و تخير و اذبح ‪.‬‬

‫هشام ‪ :‬و خذ جيادنا إلى علئفها فما أظن أننا مغادرو هذه الحانة ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬تضحك ) ‪.‬‬

‫حمزة ‪ ( :‬و هو يقدم لها الكأس ) ‪ ..‬كأسك يا رابعة ‪.‬‬

‫هشام ‪ ( :‬و هو يرفع كأسه ) ‪ ..‬اشرب على وجهها ‪.‬‬

‫أبو حرام ‪ ( :‬راجعاً إلى الخلف بينهما ) بل نشرب على صوتها ‪. ..‬‬

‫حمزة ‪ ( :‬متضاحكاً ) ‪ ..‬اشرب على خدها ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬يتدخل قائلً و هو يضحك ضحكة باهتة ) ‪ ..‬اشرب على كلها ‪ .‬ها ها ها ‪.‬‬

‫هشام ‪ ( :‬يزجره فى ترفع و كبرياء ) ‪ ..‬أسكت أنت يا رجل ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬متراجعاً بسرعة و هو يقطع ضحكته ) سكتُ ‪ .‬هه ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬تضحك ) ‪.‬‬

‫هشام ‪ ( :‬يقترح حلً ) ‪ ..‬نسأل رابعة ‪.‬‬

‫أبو حرام ‪ ( :‬معجباً بالفكرة ) جميل ‪ ..‬جميل ‪ ( .‬ثم يلتفت إلى رابعة قائلً ) ‪ ..‬أى نخب‬
‫تقترحين يا رابعة ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬فى دلل ) تسألوننى أنا ؟ ‪.‬‬

‫أبو حرام ‪ :‬نعم ‪ .‬نعم ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬و تقبلون حكمى ؟ ‪.‬‬

‫هشام و حمزة ‪ :‬نعم ‪ .‬نعم ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬إذن فلنشرب على الناى ‪.‬‬


‫أبو حرام ‪ ( :‬ضاحكاً ) نشرب على الناى ‪.‬‬

‫هشام ‪ ( :‬فى طرب ) ‪ ..‬أى نخب جميل ‪.‬‬

‫حمزة ‪ ( :‬و هو يرفع كأسه ) فلنشرب على الناى ‪ ( .‬ثم يستدرك بسرعة ) ‪ ..‬و لكن‬
‫أتُسمعيننا يا رابعة ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬فى لطف و دلل ) ‪ ..‬كل ‪.‬‬

‫أبو حرام ‪ ( :‬بلهجة الستنكار ) ‪ ..‬كل ؟! ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬فى دلل ) ‪ ..‬آ ‪.‬‬

‫أبو حرام ‪ :‬كيف يا رابعة ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬فى دلل ) ‪ ..‬هذا شئ ‪ .‬و هذا شئ ‪.‬‬

‫هشام ‪ ( :‬يحاول إغراءها ) ‪ ..‬و إذا أجزلنا لك العطاء ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬فى إباء يشوبه دلل ) ‪ ..‬أنا يا سيدى ل أبيع الغناء ‪.‬‬

‫أبو حرام ‪ ( :‬يقبل عليها قائلً ) ‪ ..‬و بالرجاء ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬إذا كنتم تحسنون الستماع ‪.‬‬

‫حمزة ‪ :‬أجل نُحسن الستماع ‪ ..‬سكوتاً يا قوم ‪.‬‬

‫أبو حرام ‪ :‬إيه رابعة ‪ .‬إنما تسمعك القلوب و الرواح ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬تشير إلى العازفين ‪ .‬فيبدأ العزف ‪ ..‬و تبدأ هى الغناء )‬

‫(‪)1‬‬ ‫يا صحبة الراح أهل الراح هل حانوا ؟‬


‫و هل تغنت على أيامها الحــــــــــــان‬
‫صبا الندامى و ما فى الحان ألحـــــان‬

‫الجميع ‪ :‬آ ‪.‬‬

‫أبو حرام ‪ :‬واطرباه ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬فى كأس عمرى بقايا مَن يُشاربنى‬


‫و مَن يطارحنى و العيش ريحـــان ؟ ‪.‬‬
‫الجميع ‪ :‬آه ‪.‬‬

‫هشام ‪ :‬ما سمعت كاليوم لحن ًا أشجى ‪.‬‬

‫أبو حرام ‪ :‬و ل نغماً أطرب ‪ ..‬هيه رابعة ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬ثمالة من دموع الشجو ألــــــــــــوان‬

‫إبريقها راح يبكى وهو فرحــــــــــان‬

‫ثمالة ‪ ،‬آه لو فاضــــــــــــت ‪ ،‬وآه إذا‬

‫غاضت ‪ ،‬و واهاً لها ‪ ،‬والقلب لهفان‬

‫عهدى بها و كئوس الصفو متــرعة‬

‫سكَيْرَان‬
‫سكْرَى ُ‬
‫بهن طاف عــــلى ال َ‬

‫هشام ‪ ( :‬صائحاً ) آى ‪ . . .‬بال يا سيدتى ‪.‬‬

‫أبو حرام ‪ :‬ماذا قلت يا روحى أنا ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬عهدى بها و كئوس الصفو متــرعة‬

‫سكَيْرَان‬
‫سكْرَى ُ‬
‫بهن طاف عــــلى ال َ‬

‫ل يشرب الراح ‪ ،‬إل أنـــــــــــه ثمل‬

‫نشوان والكأس فى كفيه نشــــوان‬

‫تُرى تعود الليالى والهوى معـــــنا‬

‫يا غربة الكأس ‪ ،‬ما للكأس ندمان‬

‫هشام ‪ ( :‬صارخاً من شدة الطرب ) ‪ ..‬آه ‪.‬‬

‫أبو حرام ‪ ( :‬يقبل عليه مستنكراً ) ‪ ..‬ما هذا ‪ ..‬يا هذا ؟ ‪.‬‬

‫هشام ‪ ( :‬فى غاية الطرب ) ‪ ..‬ألست تسمع يا أبا حرام ؟ ‪.‬‬

‫أبو حرام ‪ :‬أسمع ماذا يا منكر الصوت ‪.‬‬

‫هشام ‪ :‬أنا منكر الصوت يا ‪ ..‬يا ‪ ..‬يا ‪.‬‬


‫حمزة ‪ ( :‬يكمل له الكلم ) ‪ ..‬يا أخى اسكت ها ها ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬تضحك و الجميع يضحكون ) ‪.‬‬

‫أبو حرام ‪ ( :‬يتوعده ) ‪ ..‬و ال ‪ ..‬و ال ‪.‬‬

‫عوْدٌ إلى الغناء ‪ ( .‬ثم يقبل على رابعة قائلً ) نعم ‪.‬‬
‫حمزة ‪ ( :‬يقاطعه ) كفى يا أبا حرام ‪َ ..‬‬
‫نعم يا روح روحى ‪.‬‬

‫أبو حرام ‪ :‬مِن الول ‪.‬‬

‫هشام ‪ :‬ثمالة ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬تغنى ) ‪ ..‬ثمالة من دموع الشجو ألوان ‪.‬‬

‫هشام ‪ ( :‬فى أثناء غنائها ) ‪ ..‬آه ‪.‬‬

‫أبو حرام ‪ ( :‬يسكته ) ‪ ..‬اسكت ‪.‬‬

‫هشام ‪ :‬اسكت أنت ‪.‬‬

‫حمزة ‪ :‬اسكت أنت و هو ‪.‬‬

‫هشام ‪ ( :‬صائحاً ) ‪ ..‬و أنت أيضاً ‪.‬‬

‫حمزة ‪ :‬و أنا ‪.‬‬

‫الجميع ‪ ( :‬يضحكون ) ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬التى كانت تغنى ‪ ..‬تقطع غناءها و تنهض و قد ضايقتها مقاطعتهم ) ‪.‬‬

‫أبو حرام ‪ :‬ال ! رابعة ‪.‬‬

‫حمزة ‪ :‬إلى أين يا رابعة ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬فى سخرية ) يظهر أن السادة يجيدون الستماع أكثر من اللزم ‪ ..‬عموا مساء يا‬
‫سادة ‪.‬‬

‫هشام ‪ ( :‬و هو يمسك يدها فى عنف ) ‪ ..‬بل انتظرى رابعة ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬متألمة ) ‪ ..‬أى يدى ‪.‬‬


‫أبو حرام ‪ ( :‬فى غضب ) ‪ ..‬دعها يا هشام ‪.‬‬

‫هشام ‪ :‬و فيم ضربنا أكباد البل ؟! ‪ ..‬اجلسى ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬متألمة ) ‪ ..‬أى يدى ‪ .‬يدى ‪ .‬أى يا غليظ الكبد ‪.‬‬

‫هشام ‪ ( :‬مع سورة الخمر ) ‪ ..‬أحب الشارد من الغزلن ‪ .‬ها ها ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬دعنى ‪ ..‬دعنى أيها المخمور ‪ ..‬كفى كفى ‪. ..‬‬

‫أبو حرام ‪ ( :‬و قد أخذته سورة الخمر ) ‪ ..‬أقول لك ‪ :‬دعها يا هشام ‪.‬‬

‫هشام ‪ ( :‬يتحداه ) ‪ ..‬و إذا لم أدعها ؟ ‪.‬‬

‫أبو حرام ‪ ( :‬غاضبًا ) ‪ ..‬بل ستفعل و أنت راغم ‪.‬‬

‫هشام ‪ ( :‬فى غضب ) ‪ ..‬أكذا تكلمنى يا أبا حرام ؟ ‪ ( .‬و يترك يد رابعة و هو يقول لها )‬
‫اذهبى أنت ‪.‬‬

‫أبو حرام ‪ ( :‬و هو يتقدم إليه ) ‪ ..‬يا عريض القفا ‪.‬‬

‫هشام ‪ ( :‬يتقدم منه ) يا طويل الذنين ‪.‬‬

‫أبو حرام ‪ ( :‬و هو يستل سيفه ) ‪ ..‬مكانك أيها المخمور ‪.‬‬

‫هشام ‪ ( :‬صائحاً ) سيوفكم يا آل هشام ‪.‬‬

‫أبو حرام ‪ :‬سيوفكم يا آل ظالم ‪.‬‬

‫( ضجة و سيوف و حركة )‬

‫عمار ‪ ( :‬مقبلً يجرى و هو يصيح فى وسط الضجة ) ‪ ..‬يا سادة ‪ ...‬يا سادة ‪ ...‬أغمدوا‬
‫سيوفكم ‪.‬‬

‫حمزة ‪ :‬ابتعد أنت يا رجل ‪.‬‬

‫عمار‪ :‬بال ل تخربوا بيتى ‪ ..‬أغمدوا سيوفكم ‪ ..‬أغمدوا سيوفكم ‪.‬‬

‫( الصوات تبتعد حتى تتلشى تماماً )‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬الموسيقى و اللحن لرياض السنباطى ‪ .‬و الغناء لم كلثوم ‪.‬‬

‫يقظة‬

‫و انطلقت رابعة إلى حجرتها و أسرعت إليها خادمها عبدة و قد ملها الرعب مما كان ‪ .‬و‬
‫الخوف مما سيكون ‪.‬‬

‫عبدة ‪ ( :‬داخلة تلهث ) ‪ ..‬ماذا فعلت يا سيدتى ‪ ..‬لقد انقلبت الحانة رأساً على عقب ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬بصوت باك و هى تقاوم انفعالتها ) ‪ ..‬عبدة ‪.‬‬

‫عبدة ‪ :‬سوف ل يغفر لك عمار ما فعلت اليوم ‪.‬‬


‫رابعة ‪ :‬و لن أغفر لنفسى ما أفعل ‪ ..‬لقد مللت من هذه الحياة يا عبدة ‪ ( .‬ثائرة ) ‪ . .‬أولئك‬
‫السكارى ‪ .‬و رائحة الخمر التى تفوح من أفواههم ‪ ..‬و الفجور الذى يطل من أعينهم ‪ .‬ل يا‬
‫عبدة ‪ .‬ل ‪ ..‬ل ‪ .‬لن أكون شاة عند عمار ‪.‬‬

‫عبدة ‪ :‬و لكن سيدى سوف ل ‪. ..‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬تقاطعها ) ‪ ..‬لقد ضاقت نفسى بسيدك الـ ‪.‬‬

‫( و يفتح الباب فجأة و يدخل عمار ثائراً ) ‪.‬‬

‫ل تقطع جملتها ) عمار ‪.‬‬


‫رابعة ‪ ( :‬و قد رأته داخ ً‬

‫عمار ‪ ( :‬فى غاية الغضب ) ‪ ..‬و بعد يا رابعة ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬ماذا تريد يا عمار ؟ ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬أكذا علمتك منادمة القوم يا غانية ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬ثائرة ) ‪ ..‬ل يا عمار ‪ ..‬إنى أختنق ‪ ..‬أنا ل أطيق هذه الحياة يا عمار ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬يمن عليها و يذكرها ) ‪ ..‬و تطيقين التشرد فى الصحراء ؟! ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬و صوتها مختنق ) ليتك تركتنى فى الصحراء ألقى مصيراً غير هذا المصير ‪. .‬‬

‫عمار ‪ ( :‬فى شئ من السخرية ) ‪ ..‬و ل يرضيك ما صرت إليه يا رابعة ؟ ! ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬أفٍ لك يا عمار ‪ ..‬و أفٍ لهؤلء السكارى ‪ ..‬الخداع الذى أعيش فيه ‪ .‬كل ‪ .‬أنا ل‬
‫أطيق أن أتودد إلى من ل أود ‪..‬‬

‫عمار ‪ ( :‬فى سخرية ) ‪ ..‬كأنك تتألهين يا ابنة الليل ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬باكية ) ‪ ..‬الليل ‪ .‬و الظلم ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬ل أدرى و ال ماذا أصاب رابعة ؟ ! ! ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬أصابنى أن المخمور قد يفيق يا عمار ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬فى سخرية ) و أفقتِ يا رابعة ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬أجل يا عمار ‪ ..‬و سأغنى عندما أريد ‪ .‬و امسك عن الغناء عندما أريد ‪ ..‬و من الن‬
‫‪ .‬إذا غنيت فل شراب ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬أهى ثورة يا رابعة ؟ ! ‪.‬‬


‫رابعة ‪ ( :‬ثائرة ) ‪ ..‬أجل ‪ .‬على نفسى ‪ .‬و عليك ‪ .‬و على ظروفى و ما انتهيت إليه يا عمار ‪.‬‬

‫ت رابعة ‪ .‬أنت هنا ملكى و صنع يدى ‪.‬‬


‫عمار ‪ ( :‬فى غاية الغيظ ) ‪ ..‬وَ ِهمْ ِ‬

‫رابعة ‪ ( :‬منفعلة ) ‪ ..‬بل أنا ملك نفسى ‪ .‬و صنع ربى ‪ ..‬و لن أرضى بهذا السجن أبداً ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬لن تفرى من هذا القفص الذهبى ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬فى إصرار ) ‪ ..‬بل سأحطمه إذا اضطررت ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬ثائراً ) ‪ ..‬بل أنا الذى سأحطمه على رأسك يا فاجرة ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬صارخة ) ‪ ..‬عمار ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬و هو يخرج غاضباً ) ‪ ..‬سترين ‪ ..‬سترين يا رابعة ‪.‬‬

‫( و يصفق الباب وراءه بعنف ) ‪.‬‬


‫مراحل‬

‫كان ابن زياد فاتكاً تداريه مكانته فى قومه ‪ .‬و كانت له ثلة يجمعهم اللهو و الشراب ‪.‬‬

‫كانوا وجوهًا سمعوا برابعة ‪ .‬و ما انتهت إليه حانة عمار ‪.‬‬

‫ل يستطيعون لمكانتهم أن يذهبوا إليها ‪.‬‬

‫و ل يستطيعون لمجانتهم أن يمتنعوا عنها ‪.‬‬

‫( و نحن الن فى مجلس ابن زياد مع رفاقه و ندمانه )‬

‫الجميع ‪ ( :‬يضحكون ) ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ ( :‬و فى صوته لون الضحك ) ‪ ..‬أعرف هذا يا ورد ‪ ..‬لقد سمعت بها من أول يوم‬
‫‪.‬‬

‫ورد ‪ :‬و لكن ليس من يرى كمن يسمع يا ابن زياد ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ :‬أعرف هذا أيضاً يا ورد ‪.‬‬

‫ورد ‪ :‬إذن فما يمنعك أن ننتقل إلى حانة عمار ؟ ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ :‬و لماذا ل تنتقل حانة عمار إلينا ؟ ‪.‬‬

‫الجميع ‪ ( :‬يتضاحكون ) ‪.‬‬

‫علقمة ‪ :‬ماذا تقول يا ابن زياد ؟ ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ :‬أقول ما سمعته يا علقمة ‪.‬‬

‫ورد ‪ ( :‬و فى صوته لون الضحك ) تنتقل حانة عمار إلينا ؟ ! !‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ :‬نعم ‪ .‬إذ ل يصح أن ننتقل نحن إليها ‪.‬‬

‫ورد ‪ :‬و لكنها رابعة ‪.‬‬


‫ابن زياد ‪ ( :‬فى كبرياء ) ‪ ..‬و أنا ابن زياد يا ورد ‪.‬‬

‫ت من الذمة إن كنتُ قد فهمت شيئاً ‪.‬‬


‫علقمة ‪ ( :‬متضاحكاً ) ‪ ..‬برئ ُ‬

‫ابن زياد ‪ :‬ستفهمون كل شئ ‪.‬‬

‫ورد ‪ :‬متى يا ابن زياد ؟ ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ ( :‬ضاحكاً ) ‪ ..‬عندما ترون كل شئ ‪.‬‬

‫الجميع ‪ ( :‬يضحكون ) ‪.‬‬

‫علقمة ‪ ( :‬و فى صوته لون الضحك ) ‪ ..‬أنت اليوم مُغـْرب يا ابن زياد ‪ ..‬مُرْ لنا بالقِداح ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ :‬أتقامروننى يا قوم ؟ !‬

‫علقمة ‪ :‬ألست تريد يا ابن زياد ؟ ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ :‬بلى ‪ .‬و أنا قميرك يا علقمة ‪ ( .‬ثم ينادى ) ‪ ..‬يا مبروك ‪ ..‬مبروك ‪.‬‬

‫مبروك ‪ ( :‬داخلً ) ‪ ..‬مولى ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ :‬هات القداح يا مبروك ‪ ( .‬ثم يقبل على علقمة ) ‪ ..‬دونك الحلبة يا علقمة ‪.‬‬

‫علقمة ‪ ( :‬متضاحكاً ) على أى شئ تقامرنى يا ابن زياد ؟ ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ :‬على حانة عمار ‪.‬‬

‫علقمة ‪ ( :‬صائحاً ) على حانة عمار ! ‪ .‬ها ها ‪.‬‬

‫الجميع ‪ ( :‬يضحكون ) ‪.‬‬


‫على الطريق‬

‫فى حانة عمار ‪ .‬و رسل ابن زياد يقتربون منها ‪ .‬و عمار على بابها ‪.‬‬

‫مبروك ‪ ( :‬و هو يقترب من الحانة ) ‪ ..‬هذه حانة عمار يا مالك ‪.‬‬

‫مالك ‪ ( :‬و هو يشد زمام جواده ليهدئ من سرعته ) ‪ ..‬و هذه علماتها ‪ .‬ضجيج و صخب ‪.‬‬

‫مبروك ‪ :‬و هذا عمار واقف على بابها يستقبل روادها ‪.‬‬

‫الخادم ‪ ( :‬يتقدم إليهما قائل ) ‪ ..‬سيدى ‪.‬‬

‫مبروك ‪ ( :‬و هو يترجل عن جواده ) ‪ ..‬خذ جيادنا يا فتى ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬مقبل عليهما ) ‪ ..‬يا مرحباً ‪ .‬يا مرحباً ‪.‬‬

‫مبروك ‪ :‬كيف حالك اليوم يا عمار ؟ ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬دائم الشكوى ) ‪ ..‬حال ل تسر ‪ .‬و ل الحمد على أى حال ‪.‬‬

‫مالك ‪ ( :‬متضاحكاً ) ‪ ..‬الناس فى الحانة يكادون يطيرون من الطرب و أنت وحدك على‬
‫بابها حزين ! ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬يتصنع الحزن ) ‪ ..‬ذلك شأنى معها يا سيدى ‪.‬‬

‫مبروك ‪ :‬كيف يا عمار ؟ ‪.‬‬

‫ت حُرَفاؤه ‪ .‬و قل غـَناؤه ؟‬


‫عمار ‪ :‬و ماذا تريد من رجل كثر ْ‬

‫مبروك ‪ ( :‬متضاحكاً يقول بلهجة التعجيب ) ‪ ..‬إذا كثر الحرفاء تقل الرباح ! ! ‪.‬‬

‫مالك ‪ ( :‬و فى صوته لون الضحك ) ‪ ..‬منطق عمار ‪.‬‬


‫عمار ‪ ( :‬و هو يتصنع الحزن ) ‪ ..‬هيه ‪ .‬الشكوى لغير ال مذلة ‪ ( .‬و يفتح لهما باب الحانة‬
‫) ‪ ..‬تفضل ‪ .‬تفضل ‪.‬‬

‫أبو حرام ‪ ( :‬يندفع خارجاً من الحانة و هو غاضب ) ‪.‬‬

‫حمزة ‪ ( :‬خارج وراءه يصيح به ) ‪ ..‬انتظر انتظر أبا حرام ‪ ..‬أبا حرام ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬ماذا جرى ؟ ‪.‬‬

‫أبو حرام ‪ :‬ل و ال ‪ .‬لن أغشى هذه الحانة بعد اليوم ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬يستوفقه ) ‪ ..‬انتظر يا سيدى ‪.‬‬

‫أبو حرام ‪ :‬دعنى يا عمار ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬ماذا جرى ؟ ‪.‬‬

‫أبو حرام ‪ ( :‬فى غاية الغضب ) ‪ ..‬أُرسل إليها فترفض أن تنزل إلىّ ! ! ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬يحاول أن يهدئ من ثائرته ) ‪َ ..‬هوّن عليك يا سيدى ‪.‬‬

‫أبو حرام ‪ :‬و تأبى أن تشرب معى ! ‪ .‬أنا ؟ ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬مصيبتى فيها أنها ل تشرب ‪ .‬و ل تغنى على الشراب ‪.‬‬

‫أبو حرام ‪ ( :‬ساخراً ) ‪ ..‬نعم ؟ ‪ .‬منذ متى كان ذلك يا عمار ؟ ! ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬منذ شهور ‪ ..‬أتذكر يوم معركة الحانة يا سيدى ؟ ‪.‬‬

‫أبو حرام ‪ :‬و لكنها كانت تفعل ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬كان ذلك فى أول عهدها بهذه الحانة ‪ ..‬أما الن ‪ .‬و قد جعلت منها شيئاً آخر ‪ .‬فقد‬
‫أصبحتْ شيئ ًا آخر ‪.‬‬

‫أبو حرام ‪ :‬بل أنت الذى أصبحتَ شيئاً آخر ‪ ( .‬و يتركه و هو يقول ) ‪ .‬حرام علىّ حانتك بعد‬
‫اليوم يا عمار ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬يلحقه قائل ) ‪ ..‬انتظر يا أبا حرام ‪ ..‬سيدى ‪ .‬سيدى ‪ ( .‬ثم يقول لنفسه ) ‪ ..‬تعساً‬
‫لك يا رابعة ‪.‬‬

‫مبروك ‪ ( :‬و فى صوته لون الضحك ) يظهر أن وَرْقــَاءَك أصبحت صقراً يا عمار ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬أرأيت يا سيدى ‪ .‬أسمعت يا سيدى ‪.‬‬


‫مالك ‪ ( :‬فى سخرية خفيفة ) ‪ ..‬مسكين يا عمار ‪ .‬ها ها ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬كان نحساً ذلك اليوم الذى لقيتُ فيه رابعة ‪.‬‬

‫مبروك ‪ ( :‬داخلً فى الموضوع ) ‪ ..‬خلص ‪ .‬نُريحك منها يا عمار ‪.‬‬

‫ت و ال بأحوالها ‪ ..‬هذا الحزن الذى ل أدرى له‬


‫عمار ‪ :‬ليتك تفعل يا سيدى ‪ ..‬إننى ضق ُ‬
‫سبباً و دموعها التى ل أجد لها تفسيراً ‪ .‬و امتناعها عن الشراب ‪ .‬إنها تضحك و قلبها‬
‫يبكى ‪ .‬و ل أدرى لماذا كل هذا ‪.‬‬

‫مبروك ‪ :‬خلص ‪ .‬نشتريها ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬و هو يظن أنهم غير جادين و أن المسألة مجرد كلم ) ‪ ..‬أبوس رجلك ‪.‬‬

‫مالك ‪ :‬و تبيعها يا عمار ؟ ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬بتراب الفلوس ‪.‬‬

‫مبروك ‪ :‬فكم أمّلتَ فيها يا رجل ؟ ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬و هو يظن أنهم غير جادين ) خذوها بتراب الفلوس ‪ .‬أريحونى منها ‪ ..‬لقد و ال‬
‫ضقتُ بها ‪.‬‬

‫مالك ‪ ( :‬يهمس لمبروك و قد صدق عماراً ) يظهر أن مهمتنا أيسر مما كنا نتصور ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬أنا فى خدمتكما ‪ ..‬تفضل ‪.‬‬

‫مبروك ‪ ( :‬يخرج الصرة و يرمى بها إليه ) ‪ ..‬خُذ ‪ .‬خذ يا عمار ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬و قد وجد أن المر جد ) ‪ ..‬أه ؟ ؟ ‪.‬‬

‫مبروك ‪ :‬ماذا ؟ ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬ماذا أنت يا سيدى ؟! ‪.‬‬

‫مالك ‪ :‬هذا ثمن رابعة ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬فى جو المفاجأة ) رابعة ! ‪.‬‬

‫مبروك ‪ :‬إنه ليس تراب الفلوس ‪.‬‬

‫مالك ‪ :‬إنه ذهب عينٌ وازِنٌ يا عمار ‪.‬‬


‫عمار ‪ :‬كأنكم تشترونها حقيقة ؟ ! ‪.‬‬

‫مبروك ‪ ( :‬و فى صوته لون الضحك ) ‪ ..‬و كنت تظن أننا نشتريها مجازاً ؟ ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬مرتبكاً ) ‪ ..‬و لكنى ‪ .‬أنا ‪ .‬أنا ل أبيعها يا سيدى ‪.‬‬

‫مالك ‪ :‬ألست تشكو منها ؟ ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬و هو يضحك ضحكة باهتة ) ‪ ..‬لقد كنتُ أهزل يا سيدى ‪ .‬أتصدقون عماراً ‪ .‬أنا‬
‫كذوب ‪ .‬ها ها ها ‪.‬‬

‫مالك ‪ :‬و لكنك ستبيعها ‪.‬‬

‫مبروك ‪ :‬بل باعها بالفعل و قبض ثمنها ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬ل ‪ .‬ل ‪ .‬إننى أبيع أولدى و ل أبيعها ‪.‬‬

‫مبروك ‪ :‬و لكنك بعتها يا عمار ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬لن ترغمنى على ذلك ‪ ( .‬و يحاول أن يرد إليه الصرة ) ‪ ..‬خذ صرتك هذه يا سيدى ‪.‬‬

‫مالك ‪ :‬أنت واهم يا عمار ‪ .‬إنه ل يشتريها لنفسه ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬و لو ‪.‬‬

‫مالك ‪ :‬أتعرف لمن يشتريها ؟ ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬أي ًا كان ‪ ..‬لن أبيعها ‪ ( ..‬ثم بلهجة التهويل ) أبيع رابعة ! ! كيف يا سيدى ! ‪.‬‬

‫مالك ‪ :‬أنت ل تعرف شيئاً يا عمار ‪ ..‬إنه يشتريها لموله ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬و لو ‪.‬‬

‫مالك ‪ :‬أتعرف من موله ؟ ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬لن أبيعها ‪ ..‬لن أبيعها ‪.‬‬

‫مبروك ‪ :‬أجب عن سؤاله يا عمار ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬بلهجة الستخفاف و دون اكتراث ) ‪ ..‬و من يكون موله ؟ ‪.‬‬

‫مالك ‪ :‬إنه ابن زياد ‪.‬‬


‫عمار ‪ ( :‬منهاراً ) ‪ ..‬أه ‪ ..‬مَن ‪ ..‬ابـ ‪ ..‬ابن زياد ‪ ( .‬ثم يصيح و هو فى قمة النفعال ) ‪..‬‬
‫ضعْتَ يا عمار ‪.‬‬ ‫راحت رابعة ‪ .‬و ِ‬

‫مبروك ‪ ( :‬متضاحكاً ) ‪ ..‬و مع ذلك ‪ ..‬فسيعوضك سيدى عن ورقائك الذهبية كثيراً يا عمار‬
‫‪ .‬هيا بنا يا مالك ‪.‬‬

‫مالك ‪ :‬أمامنا يا عمار ‪.‬‬

‫( و فى الحانة يرتفع الصخب و تعلو ضجة رواد الحانة ) ‪.‬‬

‫الجميع ‪ ( :‬يتصايحون ) أين عمار ‪ .‬يا عمار ‪ .‬النبيذ يا غلم ‪.‬‬

‫الخادم ‪ ( :‬يعلو صوته فى وسط الضجة ) يا سادة ‪ .‬يا سادة ‪ ..‬مَن كان أمامه كأس فلينتهِ‬
‫منها ‪ ..‬و مَن كان أمامه شراب فليرفعه إنها رابعة ‪.‬‬

‫( و تنقطع الضجة و يبدأ عزف الجوقة الموسيقية ) ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬يهمس فى حزن ) ‪ ..‬انظر يا سيدى ‪ ..‬هكذا أدب الغناء صمت ‪ .‬و ل شراب ‪.‬‬

‫الكورس ‪ :‬حانة القدار‬


‫عربدت فيها ‪ ..‬لياليها ‪.‬‬
‫و دار النور ‪.‬‬
‫والهوى صاحى‬
‫هذه الزهــــار‬
‫كيف نسقيهــا ‪ ..‬وساقيهــــا‬
‫بهــــــا مخمــور‬
‫كيف يــا صاح ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬تغنى ) ‪ ..‬سألتُ عن الحب أه َل الهوى ( ‪. ) 1‬‬


‫سُقـَاة الدموع ندامى الجــــــــــــــــــــــــوى ‪.‬‬
‫فقالوا حنانك مِن شجـــــــــــــــــــــــــــــــوه‬
‫ومَن جده بك أو لهــــــــــــــــــــــــــــــــــوه‬
‫ومِن كدر الليل أو صفـــــــــــــــــــــــــــــوه‬
‫سَلِى الطير إن شئت عن شـــــــــــــــــــدوه‬
‫ففى شدوه لمسات الهـــــــــــــــــــــــــــوى‬
‫وبَرْح الحنين وشَرْح الجــــــــــــــــــــــوى‬

‫الكورس ‪ :‬أيكة الطيار‬


‫فى أغانيها لشاديها‬
‫على الغصان‬
‫سوْرة الراح‬
‫َ‬
‫يا غريب الدار‬
‫ِملْ بنا فيها نناجيها‬
‫مع النُدمان‬
‫و اترك اللحى‬

‫رابعة ‪ :‬ورحت إلى الطير أشكو الهــــــــــــــــــوى‬


‫وأسأله سر ذاك الجـــــــــــــــــــــــــــــوى‬
‫فقال ‪ :‬حنانك مِن جمــــــــــــــــــــــــــــره‬
‫ومِن صحو ساقيه أو سكــــــــــــــــــــــره‬
‫ومِن نهيه فيك أو أمـــــــــــــــــــــــــــــره‬
‫سَلِى الليل إن شئت عن ســــــــــــــــــــره‬
‫ففى الليل يُ ْبعَث أهل الهـــــــــــــــــــــــوى‬
‫وفى الليل يكمن سر الجــــــــــــــــــــــوى‬

‫الكورس ‪ :‬دوحة السرار‬


‫يا لياليها بواديها‬
‫هنا يلقاك‬
‫صُبح أفراحى‬
‫دائ ٌر دوّار‬
‫فى دياجيها يساقيها‬
‫على ذكراك‬
‫بين أقداحى‬

‫رابعة ‪ :‬ولما طوانى ال ُدجَى والجــــــــــــــــــــــوى‬


‫ت الهوى وعرفتُ الهـــــــــــــــــــــوى‬ ‫لقي ُ‬
‫ففى حانة الليل خَـمّـــــــــــــــــــــــــــــاره‬
‫سمّـــــــــــــــــــــــــــــاره‬‫وتلك النجيمات ُ‬
‫وتحت خيام الدجى نـــــــــــــــــــــــــــاره‬
‫وهمس النسائم أســـــــــــــــــــــــــــراره‬
‫وفى كل شئ يلوح الهـــــــــــــــــــــــوى‬
‫ولكن لمن ذاق طعم الهـــــــــــــــــــــوى‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫( ‪ ) 1‬الموسيقى و اللحن ‪ :‬محمد الموجى ‪ ..‬و الغناء ‪ :‬لم كلثوم ‪.‬‬
‫أمل‬

‫و كان صباح‬

‫فقد أرق عمار و لم ينم ليلته ‪ .‬و تردد فى الذهاب إلى رابعة ليفضى إليها بما كان ‪ .‬و تقع‬
‫عينه على عبدة و هى مقبلة من ناحية حجرة رابعة ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬مقبل على الخادم و هو يتأمل الحانة ) ما هذا ؟ ما هذا أيها النادل ؟‬

‫الخادم ‪ :‬سـ ‪ ..‬سـ ‪ ..‬سيدى ‪...‬‬

‫عمار ‪ :‬هذه الوانى ‪ ..‬و تلك الحواشى ‪ ،‬و الحانة كلها كما كانت بالمس ‪.‬‬

‫الخادم ‪ :‬إننى أعمل يا سيدى منذ الـ ‪...‬‬

‫خ ‪ ..‬إنك ل تحسن إل أن تأكل يا أبجر ‪ ..‬و مع‬


‫عمار ‪ ( :‬يقاطعه فى حدة ) أنت تعمل ! بخٍ ب ٍ‬
‫هذا فسوف أريك كيف تعمل ‪..‬‬

‫الخادم ‪ :‬فهمت يا سيدى ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬ارفع هذه ‪.‬‬

‫الخادم ‪ :‬أرفعها يا سيدى ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬و اضرب هذه الحواشى ‪.‬‬

‫الخادم ‪ :‬أفعل يا سيدى ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬غاضباً ) ما بالك جامداً ل تتحرك ‪ ..‬أهو الفعل كلم يا بليد ‪ ( .‬ثم و هو يمسكه من‬
‫أذنه ) الناس يقدمون علينا من أجل رابعة ‪ ..‬و ل أريد أن أفقدهم إذا فقدوها ‪ ..‬أفاهم‬
‫أنت ؟ !‬
‫الخادم ‪ ( :‬متألماً ) آه ‪ .‬أذنى ‪ ..‬أذنى ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬يدفعه ) انطلق إلى عملك أيها الغبى ‪ ..‬انطلق ‪ ( ..‬ثم يمشى و هو يغمغم ) حسبى‬
‫ال و نعم الوكيل ‪ .‬حسبى ال و نعم الوكيل ‪ ..‬هِه ‪ِ ..‬ههْ ‪.‬‬

‫( و تقع عينه على عبدة و هى مقبلة من ناحية غرفة رابعة )‬

‫عمار ‪ ( :‬يستوقفها ) ‪ ..‬عبدة ‪.‬‬

‫عبدة ‪ :‬سيدى ! ‪ .‬عم صباحاً يا سيدى ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬أين مولتك يا عبدة ؟ ‪.‬‬

‫عبدة ‪ :‬إنها فى حجرتها يا سيدى ‪.‬‬

‫ح من نومها بعد ؟ ‪ .‬لقد انتصف النهار أو يكاد ‪.‬‬


‫عمار ‪ :‬ألم تص ُ‬

‫عبدة ‪ :‬بل قامت منذ ساعة ‪ .‬و خلت إلى أحزانها ‪ .‬و ذلك شأنها فى هذه اليام ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬بلهجة اليائس ) ‪ ..‬خلص ‪ .‬انتهت ‪ .‬ستريح و تستريح ‪.‬‬

‫عبدة ‪ ( :‬و هى تهم بالرجوع ) ‪ ..‬هل تريد شيئاً يا سيدى ؟ ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬انتظرى أنت ‪ .‬أنا ذاهب إليها بنفسى ‪ ( .‬و يتجه إلى حجرة رابعة و يطرق بابها‬
‫طرقا خفيفا‪ .‬و يفتح الباب و يدخل ) ( و يتجه إليها حزيناً ) ‪ ..‬رابعة ‪ ..‬رابعة ‪.‬‬

‫رابعة ‪... ... :‬‬

‫عمار ‪ ( :‬فى ألم ) ‪ . .‬أل تردين علىّ يا رابعة ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬فى غضب و هى تقاوم انفعالها ) ‪ ..‬ماذا تريد يا عمار ؟ ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬فى ألم ) أريد أن أقول إننى مضطر إلى بيعك يا رابعة ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬و أى جديد فى هذا ؟ ‪ .‬إنك تبيعنى كل ليلة يا عمار ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬فى ألم ) ‪ ..‬و لكنها النهاية يا رابعة ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬بصوت مختنق ) حقاً ؟ ! ‪ .‬متى يا عمار ؟ ‪ .‬متى أخرج من هذا السجن البغيض ؟‬
‫‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬فى غاية اللم ) و تسمينه سجناً ؟ ‪.‬‬


‫رابعة ‪ :‬و أى سجن يا عمار ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬فى أسف ) إننى أبيعك مكرهاً يا رابعة ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬و متى ملكتنى حتى تبيعنى ؟ ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬بصوت مختنق ) ‪ ..‬إننى ل أملك نفسى يا ابنتى ‪.‬‬

‫ت ابنتك ؟ ! ‪.‬‬
‫رابعة ‪ ( :‬غاضبة ) الن صر ُ‬

‫عمار ‪ :‬ألم أنتشلك من الفقر و الجوع ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬فى ألم و سخرية و مرارة ) ‪ ..‬لتقدمنى طعاماً لكل نهم أكول ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬بل جعلت منك وردة تتعطر بأريجها نسمات البلة ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬ثائرة ) ‪ ..‬أل فاعلم يا عمار أن الوردة لها مكان آخر غير هذا التراب الذى‬
‫مرغتنى فيه ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬حزيناً ) ‪ ..‬على أى حال ‪ .‬لقد خرج المر من يدى ‪ ..‬أنا مغلوب على أمرى يا‬
‫رابعة ‪ .‬إنه مولى من آل زياد سمع بك فأرسل فى شرائك ‪ .‬و ل قبل لى برده و لست أدرى‬
‫ما ‪. ..‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬تقاطعه ) ‪ ..‬لن يكون لى مولى واحد خير من أن أكون مولة كل عربيد مخمور ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬أنت قاسية فى حكمك علىّ يا رابعة ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬أكنت تحسب أنى راضية بما أنا فيه يا عمار ؟ ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬و لكنى كنت أكرمك ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬كما يكرم الجزّار الشاة ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬إنك ل تفهمين شيئاً يا رابعة ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬ليتنى كنت كما تقول ‪ ..‬ليتنى كنت ل أفهم يا عمار ‪ .‬إنه قضاء جرى و أيام أرجو أل‬
‫تعود ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬و لكنك ستذكرين هذه اليام ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬فى ألم و مرارة ) ‪ ..‬نعم سأذكرها كثيراً ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬و ستندمين عليها ‪.‬‬


‫رابعة ‪ ( :‬من قلبها ) كل الندم ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬إنك تُحورين الكلم فما لهذا أردت ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬و لكنى أريد ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬لك ما تريدين ‪ ..‬و لكن اذكرى و أنت فى بيت ابن زياد ‪ .‬أننى أنا الذى رفعتك إليه ‪..‬‬
‫فلولى ما غنيت ‪ .‬و لول غناؤك ما اشتهرت ‪ ..‬و لول شهرتك ما ‪ ( ..‬ثم يقطع كلمته و قد‬
‫رآها تقوم و تتركه ) ‪ ..‬ال ! ‪ .‬رابعة ‪ .‬رابعة ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬تخرج و تصفق الباب وراءها بعنف ) ‪.‬‬


‫و رجاء‬

‫و استقبلت رابعة الحياة فى بيت سيدها الجديد ‪.‬‬

‫مبروك ‪ ( :‬و هو يقودها ) ‪ ..‬مِن هنا ‪ ( .‬يفتح بابًا و يقول لها ) ‪ ..‬هذه هى حجرتك يا رابعة‬
‫‪ ..‬ألست ترينها جميلة ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬فى غاية الفرح ) أجمل منها يا مبروك أننى تركت حانة عمار ‪ .‬و تركت الليل و‬
‫الهوى ‪.‬‬

‫مبروك ‪ ( :‬ضاحكا ) و ستكونين سعيدة فى بيت مولك الجديد ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬كل السعادة ‪ ( .‬ثم تقول و قد رأته ينصرف ) ‪ ..‬إلى أين يا مبروك ‪.‬‬

‫مبروك ‪ :‬انتظرى رابعة ‪ .‬لن أغيب كثيراً ‪ ..‬سأحضر لك ما أعده لك مولى و هو شئ كثير ‪.‬‬

‫( و يخرج و يغلق الباب وراءه )‬

‫رابعة ‪ ( :‬و قد خلت بنفسها ) ‪ ..‬بعداً لك يا حانة عمار ‪ .‬مرحباً بالحياة النظيفة فى بيت‬
‫سيدى ‪ .‬اليوم ل خمر و ل سكارى ‪ .‬ل خمر و ل سكارى ‪ ( .‬ثم بصوت يتهدج ) ‪ .. .‬إلهى‬
‫كما قدّرت لى أن أخرج من ذُل المعصية ‪ ...‬ف َيسّر لى أن أدخل فى عز الطاعة ‪ ..‬يا تواب ‪..‬‬
‫يا تواب ‪ ..‬يا تواب ‪.‬‬
‫فجيعة‬

‫و اجتمع أصحاب ابن زياد فى قصره ‪ .‬و قد جمعهم الشراب و القمار و الطرب ‪.‬‬

‫و وجدت السيدة رابعة أنها لم تبتعد كثيراً عن جو حانة عمار ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ ( :‬صائحاً ) ‪ ..‬يا غلم ‪ .‬الكاس و الطاس ‪.‬‬

‫همام ‪ ( :‬متضاحكاً ) ‪ ..‬و ال لو أنك جئتنا برابعة التى هى رابعة ما تطاولتَ هكذا يا ابن‬
‫زياد ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ ( :‬يفاجئهم ) ‪ ..‬و إذا كانت ؟ ‪.‬‬

‫علقمة ‪ ( :‬فى دهشة ) ‪ ..‬رابعة ! ! ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ ( :‬يضحك ضحكة خفيفة فيها معنى النتصار ) ‪.‬‬

‫ورد ‪ ( :‬فى إعجاب ) ‪ ..‬و اشتريتها يا ابن زياد ؟ ‪.‬‬


‫ابن زياد ‪ :‬كان لبد من ذلك يا ورد ‪ .‬ل يجمُل بالمشيخة من آل زياد أن يذهبوا إلى حانة‬
‫عمار ‪.‬‬

‫علقمة ‪ :‬إذن سنسمع يا ابن زياد ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ :‬و نشرب يا علقمة ‪.‬‬

‫همام ‪ ( :‬فى إعجاب ) ‪ ..‬يا لك يا ابن زياد ‪.‬‬

‫ورد ‪ :‬أجل ما كان لنا أن ننتقل إلى حانة عمار ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ :‬بل تنتقل حانة عمار إلينا ‪.‬‬

‫علقمة ‪ ( :‬متضاحكاً ) ‪ ..‬و مثلك مَن يفعلها يا ابن زياد ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ ( :‬ينادى ) ‪ ..‬يا مبروك ‪ .‬مبروك ‪.‬‬

‫مبروك ‪ ( :‬يتقدم قائل ) مولى ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ :‬رابعة يا مبروك ‪.‬‬

‫ورد ‪ ( :‬يتضاحك ) ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ ( :‬فى غاية النشوة ) ‪ ..‬إنها اليوم هنا ‪ ( ..‬و يرفع كأسه قائلً ) ‪ ..‬كأسك يا ورد ‪.‬‬

‫ورد ‪ :‬كأسك يا ابن زياد ‪.‬‬

‫ل يتقدم رابعة ) ‪ ..‬رابعة يا مولى ‪.‬‬


‫مبروك ‪ ( :‬داخ ً‬

‫ابن زياد ‪ :‬تعالى رابعة ‪ .‬أقدمى ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬داخلة ) ‪ ..‬سيدى الـ ‪ ( .‬و تقطع كلمتها و تشهق فى فزع و قد فوجئت بمجلس‬
‫الشراب ) هيه ‪ .‬وىْ ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ ( :‬و أصحابه يشاركونه فى الضحك من حركة خوفها ) ‪ ..‬اجلسى ‪ ..‬اجلسى يا‬
‫رابعة ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬بصوت يتهدج ) ‪ ..‬و لكنى ‪ .‬ل أجد مكانى يا سيدى ‪.‬‬

‫الجميع ‪ ( :‬يضحكون فى طرب و سرور ) ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ :‬أتسمع يا ورد ؟ ‪.‬‬


‫ورد ‪ :‬اجلسى رابعة ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬و قد فجعت فى جميع آمالها ) ‪ ..‬سيدى ‪.‬‬

‫ك رابعة ‪ ..‬أولئك صحبى و‬


‫ابن زياد ‪ ( :‬الذى فهم أنها تتحرج من منادمتهم أمامه ) ‪ ..‬ل علي ِ‬
‫للكاس بيننا حرمة و ذمام ‪.‬‬

‫ورد ‪ ( :‬و هو يقدم لها الكأس ) ‪ ..‬كأسك يا رابعة ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬بصوت فيه لون البكاء ) ‪ ..‬و هل بقى فى الكأس شراب ؟ ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ :‬خذيها يا رابعة ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬متمنعة ) ‪ ..‬سيدى ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ ( :‬آمراً ) ‪ ..‬خذيها من يده ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬فى غاية الحزن ) ‪ ..‬و خمر يا سيدى ؟ ! ‪ ..‬لقد كنتُ فى حانة عمار أغنى و ل‬
‫أشرب ‪.‬‬

‫همام ‪ ( :‬فى سخرية ) ‪ ..‬ما هذا يا ابن زياد ؟ ‪.‬‬

‫ورد ‪ :‬دعوها يا قوم ‪ .‬بال ل تكرهوها على ما تريد ‪.‬‬

‫علقمة ‪ :‬إذن فهو الغناء ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ ( :‬غاضباً ) بل الغناء و الشراب ‪ ..‬رابعة كما نريد ‪ .‬و لسنا كما تريد رابعة ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬حزينة ) ‪ ..‬ليتنى كنت أستطيع يا سيدى ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ ( :‬فى غضبه ) ‪ ..‬و من يستطيع غيرك يا ابنة الليل و الهوى ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬فى أسف و حزن ) ‪ ..‬كنت يا مولى ‪.‬‬

‫همام ‪ ( :‬مقهقهاً ) ‪ ..‬كانت هاهاها ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ ( :‬يسألها ) ‪ ..‬و ماذا جرى ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬جرى أننى تلمستُ فى بيتك أمناً لروحى ‪.‬‬

‫علقمة ‪ :‬و هل أنت خائفة ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬كل الخوف ‪.‬‬


‫ابن زياد ‪ِ :‬ممَ رابعة ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬من نفسى يا مولى ‪.‬‬

‫همام ‪ ( :‬فى ضيق ) ‪ ..‬حديث لن ينتهى ‪.‬‬

‫ت ‪ ،‬و ما أظن أنك مفسدة علينا ليلتنا ( ثم بلهجة المر ) ‪..‬‬


‫ابن زياد ‪ :‬أى رابعة ‪ .‬لقد أطل ِ‬
‫الكأس أول ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬بصوت يتهدج ) ‪ ..‬هيهات يا سيدى هيهات ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ ( :‬فى دهشة ) ‪ ..‬ماذا ؟ ‪.‬‬

‫علقمة ‪ ( :‬ضاحكاً ) امتناع هذا أم تمنع ؟ ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ ( :‬منفعلً ) ‪ ..‬رابعة ‪ ..‬أقول لك اشربى ‪ ..‬أقول لك تمنى ‪ ..‬هل سمعت ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬بصوت فيه لون البكاء ) ‪ ..‬كان ذلك و نحن على ضفاف البلة ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ ( :‬فى غيظ مكتوم ) ‪ ..‬و اليوم ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬اليوم نحن على ضفاف البـد ‪.‬‬

‫همام ‪ ( :‬فى سخرية ) ‪ ..‬كذا أيتها الناسكة الحَصَان ‪.‬‬

‫الجميع ‪ ( :‬يتضاحكون ) ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬باكية ) ‪ ..‬سيدى ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ ( :‬ثائراً ) ‪ ..‬هَلـُوك تتنزه عن الشرب و الغناء ! ! ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬متألمة ) وىْ ‪.‬‬

‫ورد ‪ ( :‬متدخلً ) يا قوم ‪ .‬يا قوم ‪.‬‬

‫ت خمسمائة دينار ‪.‬‬


‫ابن زياد ‪ :‬ألهذا دفع ُ‬

‫رابعة ‪ ( :‬بصوت يرتعش ) ‪ ..‬اغفر لى يا سيدى ‪ ..‬أنت ل تعرف قلوب الغوانى ‪ ..‬نحن نحن‬
‫إلى الحياة الشريفة حتى و نحن نتمرغ فى الوحال ‪ .‬لقد حسبت أننى صالحتُ ربى حين‬
‫طوانى بيتك و تركت حانة عمار ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ :‬بل تريدين أن ترجعى إلى السكارى هناك ‪.‬‬


‫رابعة ‪ ( :‬فى مرارة ) ‪ ..‬و هل بعدت عن السكارى هنا فى بيتـ ‪ ..‬؟ ‪.‬‬

‫صهْ‪.‬‬
‫ابن زياد ‪ ( :‬يقاطعها غاضباً و هو يصفعها ) ‪َ ..‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬و يدها على خدها ) ‪ ..‬و ‪ ..‬و تصفعنى يا سيدى ! ! ‪.‬‬

‫ورد ‪ ( :‬متألماً لها ) ‪ ..‬ما ض ّر لو شاركتنا يا رابعة ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬و هى تبكى ) ‪ ..‬يا أسفاً على ما فات ‪.‬‬

‫همام ‪ ( :‬فى ضيق ) ‪ ..‬ألهذه المناحة دعوتنا يا ابن زياد ؟ ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ :‬أيتها الدمية اللعوب ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬إن شرابى اليوم دموع و غنائى نحيب ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ :‬أهكذا تحكمين على نفسك ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬بل حكمتْ علىّ نفسى ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ ( :‬بلهجة الوعيد ) ‪ ..‬إذن فقد اخترت جزاءك ‪ ( .‬ثم ينادى ) ‪ ..‬يا مبروك ‪ ..‬يا‬
‫مبروك ‪.‬‬

‫ورد ‪ :‬أناتك يا ابن زياد ‪.‬‬

‫مبروك ‪ ( :‬داخلً ) ‪ ..‬مولى ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ :‬أين سوطك يا مبروك ؟ ‪.‬‬

‫مبروك ‪ :‬فى خدمة مولى ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ :‬أريدك أن تروض هذه القطة ‪.‬‬

‫ورد ‪ :‬رفقاً بالقوارير يا ابن زياد ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ ( :‬صائحاً ) ‪ ..‬عليك بها يا مبروك ‪.‬‬

‫مبروك ‪ ( :‬و هو يسحبها ) ‪ ..‬أمرك يا سيدى ‪ ..‬تعالى ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬تبكى و هى خارجة مع مبروك ) ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ ( :‬يشيعها قائل ) سأعلمك طاعة السادة يا هلوك ‪.‬‬


‫فى بحار الندم‬

‫و فى محبسها انطوت رابعة على نفسها تبكى و تناجى ربها فى قمة رياضتها الروحية ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬و هى تبكى ) ‪ ..‬إلهى و سيدى ‪ .‬أنا فى طريقى إليك ‪ .‬أخوض بحار الندم ‪ .‬فهل‬
‫أصل إليك يا سيدى ؟ ‪ .‬و إذا وصلت فهل تقبلنى ؟ ‪ ( .‬ثم بصوت يتهدج ) وا غوثاه ‪ .‬كم من‬
‫شهوة ذهبتْ لذتها ‪ ..‬و بقيتْ تبعتها ‪ ( .‬ثم تبكى و تغنى ) ‪:‬‬

‫على روحى جنتْ روحى‬ ‫على عينى بكت عينى‬


‫و بينك سر تبريحـــــــى‬ ‫هواك و ُبعْد ما بينــى‬

‫على عينــــــــــــــــــى‬
‫على روحـــــــــــــــــى‬
‫فيا غوثاه يا غوثــــــاه‬
‫و من طول النوى أوّاه‬
‫و آهٍ آهْ‬

‫***‬

‫و قد نام الخليونــــــــــا‬ ‫صحا من شجوه كأسى‬


‫إذا هام المحبونـــــــــــا‬ ‫فكيف أفر من نفســــى‬
‫على نفسى جنت نفسى‬
‫فيا ويله يا ويـــــــــله‬
‫و من طول النوى أواه‬
‫و آهٍ آهْ‬

‫***‬

‫و داعي الشوق يدعونى‬ ‫حيائى منك يبعدنـــــــى‬


‫و يقتلنى و يحيينــــــــى‬ ‫و وجه الصفح يخجلنى‬
‫و أيامى تقاضينــــــــى‬
‫على ما كان يا أسفـــاه‬
‫و من طول النوى أواه‬
‫و آهٍ آهْ‬

‫***‬

‫و قلتُ عساك تقبلنى‬ ‫خلوت إليك يا ربــى‬


‫و أيامى تطاردنـــــى‬ ‫فما بالى أرى ذنبـى‬

‫مددت يدى فخذ بيـــدى‬


‫إليك و منك يا ربــــــاه‬
‫و من طول النوى أواه‬
‫و آهٍ آهْ‬

‫( ثم تنخرط فى بكاء شديد ) ( و فى أثناء بكائها يفتح الباب و يدخل مبروك و فى يده‬
‫السوط )‬

‫مبروك ‪ ( :‬فى غلظة ) ‪ ..‬هيه ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬من خلل دموعها ) ‪ ..‬مبروك ‪.‬‬

‫مبروك ‪ ( :‬فى غلظة ) ‪ ..‬أل تزالين تبكين يا رابعة ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬و هل أملك غير الدموع يا مبروك ؟ ‪.‬‬

‫مبروك ‪ ( :‬بلهجة الوعيد ) ‪ ..‬أل تطيعين سيدك يا رابعة ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬فى مرارة ) ‪ ..‬ظننتُ أننى انتهيت من حانة عمار ‪ .‬فإذا بيت سيدى حانة أخرى ‪.‬‬

‫مبروك ‪ ( :‬فى غضب ) ‪ ..‬أقول ‪ .‬هل تطيعين سيدك يا رابعة ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬بصوت مختنق ) ‪ ..‬أشرب و أغنى ؟ ! ‪.‬‬

‫مبروك ‪ :‬و ما يمنعك أن تفعلى ؟ ‪.‬‬


‫ت أل سبيل إليه ‪ ..‬و أما الغناء فلن أغنى‬
‫رابعة ‪ ( :‬فى إصرار ) ‪ ..‬أما الشراب فقد علم َ‬
‫لمخلوق بعد اليوم ‪.‬‬

‫مبروك ‪ :‬و سيدك ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬إن لى سيدًا واحداً و لن أغنى لسواه ‪.‬‬

‫مبروك ‪ ( :‬ثائراً ) ‪ ..‬أنت عنيدة ‪ .‬و أنا أشد منك عنادًا ‪ .‬و سيدى أشد منى و منك ‪ ..‬و‬
‫سوف أنصب عليك بالسوط هكذا ( و هو يمشقها بسوطه ) ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬فى ألم مكتوم ) ‪ ..‬آه ‪ .‬أىْ ‪.‬‬

‫مبروك ‪ ( :‬و هو يمشقها بالسوط ) ‪ ..‬كل يوم ‪ ..‬هه ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬تحاول أن تكتم آلمها ) ‪ ..‬آه ‪.‬أى‪.‬‬

‫مبروك ‪ :‬هكذا ‪ ..‬هكذا ‪ ..‬هكذا ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬فى صراخ مكتوم ) ‪ ..‬آه ‪ ..‬أى ‪ ..‬آ ‪.‬‬

‫( و صوتها يبتعد حتى يتلشى )‬


‫و حدث ذات ليلة‬

‫و كانت رابعة فى محبسها تخوض بحار التجربة و تمارس رياضتها الروحية ‪ ،‬و هى‬
‫تتواجد و تبكى و تغنى ‪ ،‬و وصل صوتها إلى سمع مبروك ‪ .‬فنظر من خصاص الباب فإذا‬
‫قنديل يتحرك فوق رأسها و يتوهج ‪ .‬و هو غير معلق بشئ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬باكية على الناى منفردة فى مناجاتها ) ‪ ..‬يا حبيبى ‪ .‬سجا الليل و نامت العيون ‪.‬‬
‫و سكنت الوحوش فى الفلة ‪ .‬و هجعت الطيور فى الشجار ‪ ..‬و هدأت السماك فى البحار ‪.‬‬
‫و أنت وحدك ل تنام ‪ .‬فكيف أنام يا حبيبى ‪ .‬حبيبى ‪ :‬يقولون لى غنى ‪ ،‬لن أغنى لسواك ‪.‬‬
‫يعذبوننى ‪ ،‬ل أحس غير هواك ‪ ( .‬و يتهدج صوتها و هى تغنى ) ‪.‬‬

‫***‬

‫غريب على باب الرجاء طريـــــــــــــح‬


‫يناديك موصول الجوى و ينـــــــــــوح‬
‫يهون عذاب الجسم والروح سالــــــــم‬
‫فكيف و روح المستهام جــــــــــــروح‬
‫و أهواك و لكنى أخاف و أستحــــــــى‬
‫إذا قلت قلبى فى هواك جريـــــــــــــــح‬
‫طريقى إليك الوجد والسهد والضــــــنا‬
‫و دمع أدارى فى الهوى و يبــــــــــوح‬
‫و ليس الذى يشكو الصبابة عاشقــــــ ًا‬
‫و ما كل باكٍ فى الغرام قريــــــــــــــــح‬

‫***‬
‫يقولون لى ‪ :‬غنى وبالقلب لوعـــــة‬
‫أغنى بها فى خلوتى و أنـــــــــــــــوح‬
‫ولى فى طريق الشوق والليل هائــــــم‬
‫معالم تخفى تارة وتلــــــــــــــــــــــوح‬
‫و لى فى مقام الوجد حال و لوعــــــة‬
‫دموعى غبوق عندها و صــــــــــبوح‬
‫و أنت وجودى فى شهودى و غيبتى‬
‫و سرك نور النور أو هـــــــــو روح‬
‫و ما رحلت إل إليك مواجـــــــــــدى‬
‫و داعى الهوى بالوالهين يصــــــيح‬
‫غريب على باب الرجاء طريـــــــــح‬

‫( و فجأة ينفتح الباب و يدخل مبروك باكياً )‬

‫مبروك ‪ ( :‬و هو داخل يقول بصوت يتهدج ) ‪ ..‬رابعة ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬تشهق ‪ ..‬و قد فوجئت به داخلً فى هذه الساعة من الليل ) هيه ‪.‬‬

‫مبروك ‪ :‬رابعة ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬بصوت مختنق ) ‪ ..‬مبروك ‪.‬‬

‫مبروك ‪ :‬ل ‪ .‬ل تخافى يا رابعة ‪ ..‬لن أعذبك بعد اليوم ‪ .‬ماذا كنت تقولين يرحمك ال ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬بصوت يتهدج ) ‪ ..‬أسمعت حديثى إلى سيدى ؟ ‪.‬‬

‫مبروك ‪ :‬سمعت يا رابعة ‪ ..‬و رأيت أيضا ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬وا حرّ قلباه ‪.‬‬

‫مبروك ‪ :‬قومى رابعة ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬إلى أين يا مبروك ؟ ‪.‬‬

‫مبروك ‪ :‬قومى أساعدك على الفرار من عذاب مولك ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬و هى تبكى ) ‪ ..‬و كيف أفر من عذاب نفسى يا مبروك ؟ ‪.‬‬
‫مبروك ‪ :‬ل ‪ .‬ل تبكى رابعة ‪ ( .‬و يرمى بالسوط و هو يقول ) ‪ ..‬هذا هو السوط ‪ .‬لن أمسك‬
‫بسوء بعد اليوم ‪ .‬و ليذهب سيدى إلى الجحيم ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ ( :‬الذى سمع هو الخر و رأى يدخل قائل ) ‪ ..‬و لكنه ذهب إلى الجنة ‪.‬‬

‫مبروك ‪ ( :‬و قد فوجئ به ) سـ ‪ ..‬سـ ‪ ..‬سيدى ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ :‬ل بأس عليك يا مبروك ‪ .‬لقد سمعت كما سمعت ‪.‬‬

‫مبروك ‪ :‬و ‪ ..‬و رأيت القنديل يا سيدى ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ :‬انهض يا مبروك ‪ .‬إنى أعفو عنك ‪ ( .‬و يقبل على رابعة قائلً ) ‪ ..‬أما أنتِ يا‬
‫رابعة ‪ .‬فلست أدرى كيف أُكفر عن إساءتى إليك ‪ ..‬تعالى يا ابنتى ‪ ..‬خذ بيدها يا مبروك ‪. ..‬‬
‫طريق السالكين‬

‫و أنكر أصحاب ابن زياد و ندمانه ما كان من أمره ‪ .‬فقد رأوه غير ما كان بالمس ‪ ،‬و قد‬
‫جف مجلس الشراب ‪ ،‬و انطوى بساطه ‪ .‬فأقبلوا عليه لئمين ساخرين ‪:‬‬

‫الجميع ‪ ( :‬يضحكون و قد رأوه منصرفاً عن طريقهم ) ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ ( :‬يراجعهم و هم يقاطعونه ) ‪ ..‬ل ‪ .‬ل ‪ .‬أقسم لكم ‪.‬‬

‫همام ‪ ( :‬و فى صوته لون الضحك ) ‪ ..‬اسمع يا ابن زياد ‪ ..‬إنك هنا فى خمّارة الهوى ل‬
‫تدرى بما يقال ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ :‬أريد أن ‪..‬‬

‫ورد ‪ ( :‬يقاطعه ضاحكاً ) ‪ ..‬و متى كان للمحبين إرادة ؟ ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ :‬صدقونى إننى لم ‪. ...‬‬

‫علقمة ‪ ( :‬يقاطعه ) و ما يمنعك أن نرى ؟ ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ ( :‬ينزل على إرادتهم ) و هو كذلك ‪ ..‬سترون بأعينكم ‪ ( .‬ثم يصفق و هو ينادى )‬
‫‪ ..‬يا مبروك ‪ ..‬مبروك ‪.‬‬
‫مبروك ‪ ( :‬مقبلً عليه ) ‪ ..‬سيدى ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ :‬رابعة يا مبروك ‪.‬‬

‫مبروك ‪ :‬سيدتى رابعة ‪.‬‬

‫همام ‪ ( :‬ضاحكاً ) ‪ ..‬سيدته !‬

‫علقمة ‪ ( :‬و هو يضحك معهم ) ‪ ..‬لعلك قد جعلت منها سيدة بيتك يا ابن زياد ‪.‬‬

‫الجميع ‪ ( :‬يضحكون ) ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ :‬يا قوم ‪ .‬يا قوم ‪ .‬أشهد ال أنى ما تأدبتُ كما أدبتنى هذه السيدة ‪ ( .‬ثم يتدفق فى‬
‫حديثه ) ‪ ..‬قمتُ ليلة أتحسس أمرها فسمعتها فى جوف الليل تدعو دعا ًء انفطر له قلبى ‪..‬‬
‫ثم سمعتها تغنى غناءً كأنه يتنزل من السماء و نظرتُ من خصاص الباب فما راعنى إل‬
‫قنديل يضئ و يتحرك فوق رأسها و هو غير معلق بشئ ‪.‬‬

‫ورد ‪ ( :‬بلهجة التعجب ) ‪ ..‬سبحان ال ! ‪.‬‬

‫علقمة ‪ ( :‬بلهجة الشك ) ‪ ..‬أو كذا خيل إليك يا ابن زياد ؟ ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ :‬بل كذا سمعت ‪ .‬و كذا رأيت ‪ .‬و إذا كذبتنى أذنى فلن تكذبنى عينى أبداً ‪.‬‬

‫( و يفتح الباب و يدخل مبروك و هو يقود رابعة )‬

‫ابن زياد ‪ :‬رابعة ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬تقبل عليه قائلة ) لبيك يا موله ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ :‬تعالى يا ابنتى ‪..‬‬

‫علقمة ‪ ( :‬فى سخرية ) ‪ ..‬و تذهب فى تدليلها إلى هذا الحد ؟ ‪.‬‬

‫همام ‪ :‬فكيف شُربك معها ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬و مَن لى بأدب الشراب ‪ .‬و شهوده غياب ‪ .‬و حلوته عذاب ‪ .‬و بساط الندامى تراب‬
‫‪.‬‬

‫ورد ‪ :‬ترتيل هذا أم غناء ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬مستمرة ) ‪ ..‬و قد شرب الشاربون فغابوا عن الوجود ‪ ..‬و فنوا فى حقيقة‬
‫الموجود ‪.‬‬
‫ابن زياد ‪ ( :‬فى غاية التأثر ) ‪ ..‬أى رابعة ‪ .‬أيتها الخت الطيبة ‪ .‬لقد ندمتُ على سوء‬
‫معاملتى لك طوال هذه الشهور ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬ذلك بل ٌء شغلنا عنه الصبر عليه ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ :‬سؤا ًل واحداً يا رابعة ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬سل ما شئت يا سيدى ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ :‬ماذا كنتِ تقولين يا رابعة ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬يا إلهى ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ :‬غناء سمعته فخيل إلىّ أنى أرتفع فى السماء ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬ذلك حديث بينى و بين سيدى ‪ .‬و ليس للعبد أن يتحدث بحديث سادته ‪ .‬فكيف‬
‫بالسيد الكبر ؟ ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ ( :‬يتمثل شعرها الذى سمعها تغنيه ) ‪ ..‬غريب على باب الرجاء طريح ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬تصرخ باكية ) ‪ ..‬وا غوثاه ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ ( :‬فى غاية التأثر ) انهضى يا ابنتى ‪ .‬إنى أهبك نفسك ‪ ..‬أنت حرة لوجه ال ‪..‬‬
‫فإن شئت بقيت فى بيتى ل لتخدمينا نحن ‪ .‬و لكن لنخدمك أنت ‪ ..‬و إن شئت رحلت ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬من خلل دموعها ) ‪ ..‬بل أفضل الثانية ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ :‬ترحلين عنا ؟! ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬نعم ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ :‬و لكن إلى أين يا ابنتى ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬إليه ‪ .‬إليه هو ‪ ..‬و ليس إلى سواه ‪ ( .‬ثم تنهض خارجة و هى تقول فى ضراعة و‬
‫صوتها يبتعد ) ‪ ..‬سيدى ‪ .‬سيدى خذ بيدى ‪ .‬أنا فى طريقى إليك ‪ ..‬أنا فى طريقى إليك ‪.‬‬
‫دروس‬

‫و مرت اليام و تعاقبت السنون و كبر الصغير ‪ .‬و شيخ الكبير ‪ .‬و صارت رابعة حديث أهل‬
‫ال فى البصرة ‪..‬‬

‫عمار ‪ ( :‬و قد صار شيخاً ناسكاً )‬

‫و للهو منى و الخلعة جانب‬ ‫ب ل أضيعه‬


‫و ل منى جان ٌ‬

‫تلك هى البصرة منذ أنشأها عتبة بن غزوان ‪ ..‬لهو بجانبه جد ‪ .‬و عبث إلى جواره زهد ‪.‬‬

‫حسان ‪ ( :‬ضاحكاً ) ‪ ..‬و أنت تشرب من الوِرْدين يا عمار ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬بلهجة الستنكار ) ‪ ..‬و أنا فى هذه السن يا ابن أخى ؟ ! ‪.‬‬

‫حسان ‪ ( :‬غير مقتنع ) ‪ ..‬إم ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬كان ذلك قبل أن أصل إلى رابعة ‪.‬‬

‫خالد ‪ :‬و وصلت يا عمار ؟ ‪.‬‬


‫عمار ‪ :‬إنها صلة قديمة ترجع إلى أول عهدها بالطريق ‪ .‬منذ خرجت من حانتى ‪ ..‬ثم منذ‬
‫خرجت من بيت ابن زياد و قطعت آخر صلتها بدنيا الناس ‪.‬‬

‫خالد ‪ :‬و لكنها تقابلهم ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬قلت إنها قطعت صلتها بدنيا الناس ‪ .‬و لم أقل إنها قطعت صلتها بالناس ‪.‬‬

‫حسان ‪ :‬فلماذا ترفض هداياهم ؟ ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬بل رفضت ما هو أكثر ‪ ..‬إنها رفضت محمد بن سليمان الهاشمى !! ‪.‬‬

‫خالد ‪ :‬هذا عجيب ! ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬و أى عجب يا ابن أخى ؟ ‪.‬‬

‫حسان ‪ ( :‬فى دهشة ) ترفض الزواج من محمد بن سليمان الهاشمى !! ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬يزيده دهشة ) ‪ ..‬و أنت تعرف غلة ملكه ؟ ‪.‬‬

‫حسان ‪ :‬يقال إنها ثمانية آلف درهم ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬فى كل طلعة صباح ‪.‬‬

‫خالد ‪ :‬و مع هذا ترفض الزواج منه ؟ ! ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬إنك تنظر إليها بعينك التى تنظر بها إلى الناس ‪ ..‬إنها طراز آخر يا بنى ‪.‬‬

‫خالد ‪ :‬و حاجتها من الدنيا ؟ ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬قليلة ‪ .‬إنها ل تتزود إل إلى ال ‪.‬‬

‫خالد ‪ :‬و لكن أل تأكل ؟ ‪ .‬أل تشرب ؟‪ ..‬كيف تعيش يا سيدى ؟‪ .‬و من أين ؟ ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬إنها تأكل السهد و تشرب الدموع ‪.‬‬

‫خالد ‪ ( :‬بلهجة التعجب ) تأكل السهد و تشرب الدموع ؟ ! ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬هذا مقام ل تفهمه أنت يا بنى ‪ ..‬إنى و ال أشعر فى حضرتها بريح الجنة ‪.‬‬

‫خالد ‪ ( :‬فى إعجاب ) ‪ ..‬و غشيت مجلسها يا سيدى ؟ ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬و فى صوته لون الضحك ) ‪ ..‬مجلسها ‪ ( ..‬ثم يقبل عليه قائل ) ‪ ..‬و تسميه‬
‫مجلساً يا بنى ‪ ..‬صومعة ليس بها غير إبريق ‪ .‬و منامة هى محرابها ‪ ،‬و مشجب قصب‬
‫علقت عليه أكفانها ‪ ..‬و عليه نايها القديم ‪ .‬ذلك هو مجلسها ‪ ..‬و مع ذلك فهو قبلة القلوب ‪.‬‬
‫و ندوة أهل ال ‪.‬‬

‫خالد ‪ :‬يا إلهى ‪ ..‬وددتُ لو أخذتنى معك إليها ذات يوم ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬أسأل فى ذلك ‪.‬‬

‫خالد ‪ :‬و يحتاج المر إلى سؤال ؟ ‪.‬‬

‫عمار ‪ ( :‬فى شئ من غضب ) َمهْ يا ابن أخى ‪ ..‬تريد أن تسلك الطريق من نهايته ‪..‬‬
‫الطريق مراتب يا بنى ‪.‬‬

‫صالح ‪ ( :‬مقبلً عليهم ) ‪ ..‬السلم عليكم ‪.‬‬

‫حسان ‪ ( :‬يهمس لهم ) ‪ ..‬هذا صالح بن عبد الجليل ‪.‬‬

‫الجميع ‪ :‬و عليكم السلم و رحمة ال و بركاته ‪.‬‬

‫صالح ‪ ( :‬و قد لحظ غضب عمار ) ‪ ..‬ماذا بكم ؟ ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬ل شئ ‪ .‬كنا نتذاكر أخبار رابعة ‪.‬‬

‫صالح ‪ :‬حديث رابعة يمل البصرة و يمل كل مكان ‪ ..‬و لكن إذا أردتم أخبارها ثقة فعليكم‬
‫بابن دينار ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬ابن دينار ؟ ‪.‬‬

‫صالح ‪ :‬إنه يدون أخبار رابعة ‪ ..‬يمليها على تلميذه أبى الحسن فى جامع البصرة ‪.‬‬

‫خالد ‪ ( :‬ينهض قائل ) ‪ ..‬السلم عليكم ‪.‬‬

‫حسان ‪ :‬إلى أين يا خالد ؟ ‪.‬‬

‫خالد ‪ :‬إلى جامع البصرة ‪.‬‬


‫المحبة‬

‫و فى جامع البصرة كان الناس يتحلقون حول ابن دينار و هو يروى لهم أخبار رابعة و‬
‫يمليها على تلميذه أبى الحسن ‪.‬‬

‫ابن دينار ‪ :‬و تعاقبت اليام ‪.‬‬

‫أبو الحسن ‪ ( :‬و هو يكتب وراءه ) ‪ ..‬الـ ‪ ..‬أيام ‪.‬‬

‫ابن دينار ‪ :‬و مرت السنون و العوام ‪.‬‬

‫أبو الحسن ‪ :‬و الـ ‪ ..‬أعوام ‪.‬‬

‫ابن دينار ‪ :‬و خلعت ثوب الشباب ‪ .‬و خاضت بحار الندم ‪ .‬و سلكت طريق الواصلين ‪ .‬حتى‬
‫صارت ما هى عليه الن يا فتى ‪.‬‬

‫أبو الحسن ‪ :‬ما هى ‪ ..‬عليه ‪ ..‬الن ‪.‬‬

‫ابن دينار ‪ :‬اكتب يا فتى ‪ .‬و دخل عليها لص ذات ليلة و هى ساجدة ‪ ..‬فلم يتبينها اللص فى‬
‫الظلم و لم تحس هى به ‪ .‬و لما لم يجد شيئاً يسرقه همّ بالخروج ‪ .‬و فى هذه اللحظة انتهت‬
‫رابعة من صلتها و رفعت صوتها بالسلم ‪.‬‬
‫***‬

‫رابعة ‪ ( :‬و هى تختم صلتها ) ‪ ..‬السلم عليكم و رحمة ال ‪ .‬السلم عليكم و رحمة ال ‪.‬‬

‫اللص ‪ ( :‬فى غاية الرعب و قد فوجئ بها ) ‪ ..‬إه ‪ ..‬بـ بسم ال الرحمن الرحيم ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬فى لطف و سماحة ) ‪ ..‬ل ‪ .‬ل تخف يا أخى ‪.‬‬

‫اللص ‪ :‬و ‪ ..‬و من أنت ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬السلم عليك أولً ‪.‬‬

‫ت بحق ال ؟ ‪.‬‬
‫اللص ‪ :‬أين كن ِ‬

‫رابعة ‪ ( :‬فى عتاب رقيق ) أل ترد السلم يا أخى ؟ ‪.‬‬

‫اللص ‪ ( :‬فى ذهول ) تناديننى بأخيك و تُلقين إلىّ بالسلم ‪ .‬و قد دخلتُ بيتك سارقًا !! ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬و لكنك لم تسرق شيئاً ‪.‬‬

‫اللص ‪ :‬لننى لم أجد ما يُسرَق ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬يخجلنى أن تقصدنى فل تجد فى بيتى شيئاً ‪.‬‬

‫اللص ‪ ( :‬مأخوذاً ) ‪ ..‬أنتِ ‪ ..‬أنتِ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬أختك يا أخى ‪.‬‬

‫اللص ‪ ( :‬و هو يلهث ) ‪ ..‬أنت ‪ ..‬أنت ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬تقاطعه فى لطف ) قل لى أولً ‪ :‬لماذا تمد يدك إلى عبد مثلك ؟ ‪.‬‬

‫اللص ‪ :‬إنها الحاجة ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬و لماذا لم تقصد بها مولك ؟ ‪.‬‬

‫اللص ‪ ( :‬فى سخرية و ألم ) ‪ ..‬مولى ! ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬هل وقفت على بابه ؟ ‪.‬‬

‫اللص ‪ :‬بل هربت منه ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬و كيف تهرب منه و هو معك يا مسكين ؟ ‪.‬‬


‫اللص ‪ ( :‬و قد أدرك ما تعنيه رابعة ) ‪ ..‬أنتِ ‪ ..‬عمن تتكلمين يا سيدتى ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬أتكلم عنه ‪ ..‬هو ‪ ..‬السيد الكبر الذى ل يُغلَق بابه ‪ ..‬و ل يضيق رحابه ‪.‬‬

‫اللص ‪ ( :‬يبكى ) ‪.‬‬

‫ى سواه ‪.‬‬
‫رابعة ‪ :‬قم يا مسكين و توضأ من هذا البريق ‪ .‬و اتجِه إلى الغنى الذى ل غن ّ‬

‫اللص ‪ :‬أفعل إن شاء ال ‪ ..‬و لكن ‪ .‬أل سراج نستضئ به ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬و هل نحن فى ظلم ؟ ‪.‬‬

‫اللص ‪ :‬إننى ل أراك يا سيدتى ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬لنك تراه ‪ ( .‬ثم بصوت يتهدج ) ‪ ..‬و حتى ل نشغل العين بشئ سواه ‪.‬‬

‫اللص ‪ ( :‬يهمس ) ‪ ..‬ل إله إل ال ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬إلهى ‪ .‬و سيدى ‪ .‬و حبيبى ‪ :‬هذا عبد قد أتى بابى و لم يجد شيئاً ‪ ..‬و قد دللتُه على‬
‫بابك ‪ ..‬و وقفتُه برحابك ‪ ..‬و جعلته يلوذ بجنابك ‪ .‬فل تحرمه من فضلك و ثوابك يا غنى ‪..‬‬
‫يا غنى ‪ ..‬يا غنى ‪.‬‬

‫***‬

‫ابن دينار ‪ ( :‬يكمل قصتها مع اللص ) ‪ ..‬و استغرقت رابعة فى صلتها ‪ ..‬و استغرق اللص‬
‫فى صلته ‪ ..‬و انشطر الليل و هما غارقان فى صلتهما و دعائهما ‪ .‬فلما كان الفجر أفاقت‬
‫رابعة من استغراقها ‪ .‬فوجدت اللص ساجداً و هو يبكى و يقول ‪:‬‬

‫أما استحيتَ تعصينى‬ ‫إذا ما قال لى ربى‬


‫يعاتبنى و يُقصينـــى‬ ‫فما قولى له لمـــا‬

‫رابعة ‪ ( :‬تقبل على اللص قائلة فى عطف ) ‪ ..‬هون عليك يا أخى ‪.‬‬

‫اللص ‪ ( :‬فى رعب و قد فوجئ بصوتها و هو مستغرق ) ‪ ..‬أهْ ‪ .‬مَن ؟ من ؟‬

‫رابعة ‪ ( :‬تعاتبه فى رفق ) ‪ ..‬أهكذا تنسى أختك سريعاً ؟ ‪.‬‬

‫اللص ‪ :‬أين ؟ ‪ .‬أين أنا ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬أنت حيث أرادك ال أن تكون ‪.‬‬


‫اللص ‪ ( :‬و قد تذكر كل شئ ) ‪ ..‬آ ‪ .‬ل تؤاخذينى ‪ .‬أنت صاحبة الدار ‪ .‬و لكن هل قضينا‬
‫الليلة معاً ؟ ! ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬بل قضيناها معه ‪.‬‬

‫اللص ‪ :‬وا حرّ قلباه ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬كيف كانت ليلتك يا أخى ؟ ‪.‬‬

‫اللص ‪ ( :‬و صوته يتهدج ) ‪ ..‬وقفتُ على بابه بذلى و فقرى ‪ ..‬فقبل عذرى ‪ ..‬و جبر كسرى‬
‫( و يبكى ) ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬و لهذا تبكى ؟ ‪.‬‬

‫اللص ‪ :‬إننى أصلى بدموعى ‪ ..‬لقد تحررت روحى ‪ ..‬لقد وجدت نفسى أخيراً ‪ ( .‬ثم ينهض‬
‫صائحاً ) ‪ ..‬كل ‪ .‬أنا لست عبداً ‪ ..‬أنا حر طليق ‪ ..‬لقد عرفت طريقى ‪ ( .‬ثم يخرج و هو‬
‫يصيح ) ‪ ..‬أنا فى طريقى إليه ‪ ..‬أنا فى طريقى إليه ‪..‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬و هى تتجه إلى السماء ) ‪ ..‬إلهى ‪ .‬هذا عبد وقف ببابك ساعة فقبلته ‪ .‬و أنا مذ‬
‫عرفتك بين يديك ‪ ..‬أتراك قبلتنى ‪ ( .‬و تبكى ) ‪.‬‬

‫***‬

‫ابن دينار ‪ ( :‬يكمل قصتها مع اللص ) ‪ .‬و خرج اللص هائماً على وجهه ‪.‬‬

‫أبو الحسن ‪ ( :‬يضع القلم و يقبل على شيخه قائل ) ‪ ..‬يا عجباً يا سيدى ‪.‬‬

‫ابن دينار ‪ :‬إنها رابعة يا بنى ‪ ..‬إنك لم تدركها فى صدر شبابها ‪ .‬لقد كانت شيئاً يدير‬
‫الرءوس ‪.‬‬

‫أبو الحسن ‪ :‬يا عجباً للخطيئة تورث الـ ‪ ( ..‬ثم يقطع كلمته و يقول متحرزاً ) ‪ ..‬أستغفر ال‬
‫على أى حال ‪.‬‬

‫سفيان ‪ ( :‬مقبل عليهم ) ‪ .‬السلم عليكم ‪.‬‬

‫أبو الحسن ‪ ( :‬يهمس لشيخه ابن دينار ) ‪ ..‬هذا شيخنا سفيان ‪.‬‬

‫ابن دينار ‪ :‬و عليكم السلم و رحمة ال ‪ ..‬من أين يا سفيان ؟ ‪.‬‬

‫سفيان ‪ ( :‬فى ألم ) ‪ ..‬من عندها يا ابن دينار ‪.‬‬

‫ابن دينار ‪ :‬و كيف حالها اليوم ؟‬


‫سفيان ‪ :‬كما كانت بالمس ‪ .‬شيخوخة تعانيها ‪ .‬و ساعات تقضيها ‪.‬‬

‫ابن دينار ‪ :‬ل حول و ل قوة إل بال ‪ ( .‬ثم يقبل على تلميذه قائل ) ‪ ..‬النهاية ‪ .‬اكتب يا فتى‬
‫‪.‬‬

‫سفيان ‪ :‬ماذا تكتبون ؟ ‪.‬‬

‫ابن دينار ‪ :‬و هل نكتب إل أخبارها ‪.‬‬

‫سفيان ‪ :‬أخبارها ؟! ‪ .‬و هل تحتاج أخبار رابعة إلى كتابة يا ابن دينار ؟ ‪.‬‬

‫ابن دينار ‪ :‬إنما نكتبها للزمان يا أخى ‪.‬‬

‫سفيان ‪ :‬إذا أردتم مزيداً من أخبار رابعة فعليكم بخادمها عبدة ‪.‬‬

‫ابن دينار ‪ :‬خادمها عبدة ‪ .‬لقد أذكرتنى يا سفيان ‪ ( ..‬ثم لتلميذه ) ‪ ..‬اكتب ‪ ..‬اكتب يا أبا‬
‫الحسن ‪ ( .‬ثم بلهجة الملء ) ‪ ..‬حدثنى جعفر بن سليمان ‪ ..‬قال ‪ :‬حدثنى العباس بن الوليد‬
‫‪ ..‬قال ‪ :‬قالت خادمها عبدة ‪.‬‬

‫***‬

‫عبدة ‪ :‬كنت أقوم على خدمة سيدتى رابعة منذ أعتقت ‪ ..‬و ما زلت فى خدمتها إلى اليوم ‪.‬‬
‫فبينا أنا نائمة ذات ليلة خيل إلى أنى رأيت نوراً مل ما بين السماء و الرض ‪ ..‬فقمت من‬
‫نومى فزعة فسمعتها تبكى فى كبد الليل ‪ .‬حتى خيل إلى ان كل شئ يبكى معها ‪ .‬ثم سمعتها‬
‫تقول ‪:‬‬

‫رابعة ‪ :‬إلهى أنارت النجوم ‪ .‬و نامت العيون ‪ ..‬و غلقت الملوك أبوابها ‪ .‬و خل كل حبيب‬
‫بحبيبه و هذا مقامى بين يديك ‪ .‬و عزتك يا رب ما عبدتُك لجنتك ‪ .‬بل لمحبتك ‪ .‬و ليس من‬
‫أجلها قطعت عمرى فى الوصول إليك ‪ ..‬إنه الحب ‪ .‬الحب ‪ ..‬و الشوق ‪ .‬و كيف حبيك و‬
‫شوقى إليك ؟ ‪.‬‬

‫( ثم تبكى و هى تغنى )‬

‫(‪)1‬‬ ‫تركت الهوى ‪ ،‬مذ عرفت هواكا‬


‫وأغلقت قلبي عمّن عداكــــــــــا‬

‫وقمت أناجيك يا من تـــــــــرى‬


‫خفايا القلوب ولسنا نراكــــــــا‬

‫***‬
‫(‪)2‬‬ ‫( أحبك حبين‪ :‬حب الهــــــوى‬
‫وحباً لنك أهل لذاكــــــــــــــا‬
‫فأما الذى هو حب الهـــــــوى‬
‫فشغلى بذكرك عمن سواكـــــا‬
‫وأما الذى أنت أهل لــــــــــــه‬
‫فكشفك لى الحجب حتى أراكا‬
‫فل الحمد فى ذا ول ذاك لـــى‬
‫ولكن لك الحمد فى ذا وذاكـــا )‬

‫***‬

‫أحب حبين ‪ :‬حب الهـــــــــــــــوى‬


‫و حباً لنك أهل لذاكـــــــــــــــــــــا‬
‫وأشتاق شوقين ‪ :‬شوق النـــــوى‬
‫وشوقاً لقرب الخطى من حماكــــا‬
‫فأما الذى هو شوق النـــــــــــوى‬
‫فمسرى الدموع لطول نواكــــــــا‬
‫وأما اشتياقى لقرب الحمــــــــــى‬
‫فنار حياة خبت فى ضياكــــــــــــا‬
‫ولست على الشجو أشكو الهوى‬
‫رضيت بما شئت لى فى هواكــــا ‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫( ‪ ) 1‬موسيقى و ألحان رياض السنباطى ‪ .‬و غناء ‪ :‬أم كلثوم ‪.‬‬

‫(‪ ) 2‬البيات التى بين القواس من شعر السيدة رابعة ‪.‬‬


‫نهاية و بداية‬

‫و فى الكوخ الذى أصبح ندوة أهل ال ‪ .‬و على المنامة التى هى محراب رقدت رابعة ‪ -‬أو‬
‫ما بقى منها ‪ -‬تودع آخر ساعاتها من هذه الحياة الدنيا ‪ .‬و تستقبل أول ساعاتها من الخرة‬
‫‪.‬‬

‫خلق كثير من العلماء و المراء و السابلة وقوف على بابها ينتظرون قضاء ال ‪.‬‬

‫***‬

‫عمار ‪ ( :‬و قد صار شيخاً أرعشت صوته اليام ) ‪ ..‬ل حول و ل قوة إل بال ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ ( :‬بصوت مختنق ) ‪ ..‬أل نستطيع أن نلقى عليها نظرة يا سفيان ؟ ‪.‬‬

‫سفيان ‪ :‬أخشى أل يكون ذلك مستطاعاً يا ابن زياد ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ ( :‬و فى صوته لون البكاء ) ‪ ..‬و لكنى ‪ ..‬كنت ‪ ..‬أريد أن ‪ ..‬تسامحنى على ما فرط‬
‫منى يا سفيان ‪.‬‬

‫سفيان ‪ :‬غفر ال لك يا ابن زياد ‪ ..‬أل تزال تذكر هذه اليام ؟ ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ :‬و أندم عليها يا سفيان ‪.‬‬

‫سفيان ‪ ( :‬و قد رأى عبدة مقبلة ) ‪ ..‬هذه عبدة ‪.‬‬

‫ابن زياد ‪ ( :‬مقبل عليها ) ‪ .‬عبدة ‪.‬‬


‫عمار ‪ :‬تعالى عبدة ‪ ..‬كيف حالها الن ؟ ‪.‬‬

‫عبدة ‪ ( :‬تبكى ) ‪..‬‬

‫ابن زياد ‪ ( :‬فى غاية الضيق و اللم ) ‪ ..‬أل تجيبين سؤاله بدلً من هذا البكاء يا عبدة ؟ ‪.‬‬

‫سفيان ‪ ( :‬فى حزن عميق ) ‪ ..‬بل أجابت بهذه الدموع يا ابن زياد ‪ .‬انطلقى عبدة ‪ ..‬انطلقى‬
‫فلعلها فى حاجة إليك الن ‪.‬‬

‫عمار ‪ :‬ل حول و ل قوة إل بال ‪..‬‬

‫***‬

‫عبدة ‪ ( :‬داخلة عليها تقول بصوت مختنق ) ‪ ..‬سيدتى ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬بصوت يرتعش من الشيخوخة و المرض ) ‪ ..‬عجوز سُحلت مريرتها ‪ ..‬و قد‬
‫أوفت على الثمانين ‪ .‬يا حبيبى ‪ .‬لقد أنفقتها ثمانين عام ًا و أنا أسعى إليك ‪ ..‬و ما زلت أسعى‬
‫يا حبيبى ‪ ..‬فمتى أصل إليك يا روح روحى ؟ ‪.‬‬

‫( و فجأة ينبعث فى الجو صوت الناى ليعيد لرابعة أيامها الولى ‪ ..‬و يصل صوته إلى رابعة‬
‫وحدها فل يسمعه أحد سواها ) ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬فى دهشة و بصوت متقطع ) ‪ ..‬يا إلهى ‪ .‬هذا هو الناى ‪ ..‬الناى ‪.‬‬

‫عبدة ‪ :‬سيدتى ‪ .‬إن خلقاً كثيراً من العلماء و المراء و السابلة وقوف على بابك يبكون ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬بصوت ضعيف ) ‪ ..‬دعى الخلق للخالق ‪ ( .‬ثم فى دهشة تشير إلى صوت الناى‬
‫الذى تسمعه هى ) ‪ ..‬و لكن ‪ .‬اسمعى ‪ .‬عبدة ‪.‬‬

‫عبدة ‪ :‬أسمع ماذا ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬تشير إلى صوت الناى ) ‪ ..‬هذا ‪.‬‬

‫عبدة ‪ :‬أى شئ تعنين يا سيدتى ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬ألست تسمعين الناى يا عبدة ؟ ‪.‬‬

‫عبدة ‪ :‬أنا ل أسمع شيئاً ‪ ( .‬ثم تشهق و هى تكاد تصعق من الدهش ) ‪ ..‬هيه ‪ .‬يا إلهى ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬عبدة ‪.‬‬

‫عبدة ‪ ( :‬فى دهشتها تصيح ) ‪ ..‬إن وجهك تعود إليه نضرة الشباب ! ‪.‬‬
‫( و الناى مستمر تسمعه رابعة وحدها )‬

‫رابعة ‪ :‬ذلك هو الناى ‪ ..‬و تلك علماتها ‪ ..‬عبدة ‪.‬‬

‫عبدة ‪ ( :‬و صوتها مختنق ) ‪ ..‬سيدتى ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬أدخلى سفيان يحضر هذه الساعة ‪ ( .‬ثم تنخرط فى مناجاة عميقة و قد خرجت عبدة‬
‫) ‪ ..‬يا حبيبى ‪ ..‬هأنذى صاعدة إليك ‪ .‬و لكنى خائفة ‪ .‬ليس من نارك ‪ .‬و لكن من هجرك يا‬
‫حبيبى ‪.‬‬

‫( الناى مستمر )‬

‫سفيان ‪ ( :‬داخلً ) ‪ ..‬سلم أهل ال ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬سفيان ‪ ..‬تعال يرحمك ال ‪ ..‬أخبرنى ‪ ..‬أل تسمع صوت الناى ؟ ‪.‬‬

‫سفيان ‪ ( :‬ل يسمع شيئاً فهى وحدها التى تسمعه ) ‪ ..‬أى ناى يا أم الخير ؟ ‪.‬‬

‫رابعة ‪ ( :‬مشيرة إلى الصوت المستمر ) ‪ ..‬هذا ‪ ..‬أل تسمع يا سفيان ؟ ! ‪.‬‬

‫ك رابعة ‪ .‬أنا ل أسمع شيئاً ‪.‬‬


‫سفيان ‪ :‬وي ِ‬

‫رابعة ‪ ( :‬بصوت مختنق بالبكاء ) ‪ ..‬حتى أنت يا أخى ‪.‬‬

‫سفيان ‪ :‬ل عليك يا أختاه ‪ .‬إنك اليوم تسمعين ما ل نسمع ‪ ..‬و ترين ما نرى ‪.‬‬

‫رابعة ‪ :‬عبدة !‬

‫عبدة ‪ ( :‬بصوت مختنق ) ما ‪ ..‬ماذا ؟‬

‫رابعة ‪ :‬هاتى نايى القديم ‪.‬‬

‫عبدة ‪ ( :‬مستنكرة ) ما ‪ ..‬ماذا ؟‬

‫رابعة ‪ :‬الناى القديم ‪ ..‬إنه على هذا الكفن ‪ ..‬لقد عزفت عليه يوماً يا عبدة ‪ ..‬و أنا الن‬
‫ضعيفة ل أستطيع و ل أقوى ‪.‬‬

‫عبدة ‪ ( :‬و هى تبكى ) ل ‪ ..‬ل يا سيدتى !‬

‫رابعة ‪ :‬بل اعزفى عليه يا أختاه ‪ ..‬إن أنغامه اليوم ليست من الرض ‪ ..‬إنها أنغام من‬
‫السماء !‬

‫( يرتفع صوت الناى فجأة )‬


‫رابعة ‪ ( :‬و الناى مستمر ) ‪ .‬عندما تغمض عيناى ‪ .‬عندما ترتمى يداى ‪ .‬عندما أنطلق من‬
‫سجن هذا الجسد ‪ .‬عندما أتحرر من ترابيتى ‪ ..‬أطير إليك يا حبيبى على أنغام هذا الناى و‬
‫أزف إليك على ألحانه ‪ .‬يا أنت ‪ .‬يا أنا ‪ .‬يا هو ‪ .‬يا حبيـ ‪ ..‬يا حبيبى ! ( و هى تلفظ أنفاسها‬
‫الخيرة )‬

‫عبدة ‪ ( :‬تنفجر صارخة و هى ترتمى عليها باكية ) ‪ ..‬سيدتى ‪ .‬سيدتى ‪.‬‬

‫سفيان ‪ ( :‬فى خشوع ) ‪ ..‬كل نفس ذائقة الموت ‪.‬‬

‫عبدة ‪ ( :‬تبكى ) ‪.‬‬

‫سفيان ‪ :‬إنا ل و إنا إليه راجعون ! ‪.‬‬

‫( و ينبعث صوت الدفوف من بعيد )‬

‫عبدة ‪ ( :‬تشهق من الدهشة و تصيح ) ‪ ..‬هيه ‪ .‬سفيان ! ! ‪.‬‬

‫سفيان ‪ ( :‬فى ألم ) ماذا ؟ ‪.‬‬

‫عبدة ‪ :‬يا ربى ‪ ..‬إنها هى ‪ ..‬هى ‪ ..‬هى و ال ! ‪.‬‬

‫سفيان ‪ :‬هى مَن يا عبدة ؟ ‪.‬‬

‫عبدة ‪ :‬مولتى ! ‪.‬‬

‫سفيان ‪ :‬رابعة ؟ ‪.‬‬

‫عبدة ‪ :‬أل تسمع يا سفيان ‪ ..‬أل تراها مثلى ؟ ‪.‬‬

‫سفيان ‪ :‬إن مولتك جثة هامدة أمامك يا عبدة ‪.‬‬

‫عبدة ‪ :‬ل ‪ .‬ل ‪ .‬إنى أراها الن فى ثوب الصبا ‪ .‬إن وجهها يضئ ‪ .‬إنها تبتسم ‪.‬‬

‫سفيان ‪ ( :‬يضرب كفاً بكف ) لقد جُنت عبدة ‪.‬‬

‫عبدة ‪ :‬أل تراها يا سفيان ؟ ‪.‬‬

‫سفيان ‪ ( :‬فى غاية اللم ) عبدة ‪.‬‬

‫عبدة ‪ :‬إنهم يزفونها فى السماء ‪ .‬عروس فى ثوب العرس ‪ .‬وراءها حوريات من السماء ‪.‬‬
‫بأيديهن المزاهر و الدفوف ‪ ( .‬ثم تنادى بأعلى صوتها ) ‪ .‬سيدتى ‪ ...‬سيدتى ‪.‬‬
‫( ترتفع دقات الدفوف فتطغى على صياحها ) ‪.‬‬

‫***‬

‫(‪)1‬‬ ‫الحوريات ‪ :‬أوقدوا الشموس ‪ ..‬أنقروا الدفوف‬


‫موكب العروس ‪ ..‬فى السما يطوف‬
‫والمنى ‪ ..‬قطوف‬
‫أنقروا الدفوف‬

‫***‬

‫الرضا والنور والصبايا الحور‬ ‫رابعة ‪:‬‬


‫والهوى يدور‬
‫آن للغريب ‪ ..‬أن يرى حماه‬
‫يومه القريب ‪ ..‬شاطىء الحياة‬
‫والمنى قطوف‬
‫فى السما تطوف‬
‫أنقروا الدفوف‬

‫***‬

‫الحوريات ‪ :‬أوقدوا الشموس‬

‫***‬

‫يا حبيب الروح ‪ ..‬تائه مجروح‬ ‫رابعة ‪:‬‬

‫كله ‪ ..‬جروح‬

‫لئذ بالباب ‪ ..‬شوقه دعاه‬

‫والرضا رحاب ‪ ..‬يشمل العفاة‬

‫والمنى قطوف‬
‫فى السما تطوف‬

‫أنقروا الدفوف‬

‫الحوريات ‪ :‬أوقدوا الشموس ‪.‬‬

‫***‬
‫رابعة ‪ :‬طاف بالسلم ‪ ..‬طائف السلم‬
‫يوقظ النيام‬
‫عهده الوثيق ‪ ..‬واحة النجاة‬
‫أول الطريق ‪ ..‬هو منتهاه‬
‫والمنى قطوف‬
‫فى السما تطوف‬
‫أنقروا الدفوف‬

‫***‬

‫الحوريات ‪ ( :‬و أصواتهن تبتعد حتى تتلشى )‬

‫أوقدوا الشموس ‪ ..‬أنقروا الدفوف‬


‫موكب العروس ‪ ..‬فى السما يطوف‬
‫والمنى قطوف‬
‫فى السما يطوف‬
‫أنقروا الدفوف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫( ‪ ) 1‬الموسيقى و اللحن ‪ :‬محمد الموجى ‪ ..‬و الغناء ‪ :‬أم كلثوم ‪.‬‬
‫فهرس‬

‫صفحة‬
‫أشواق و أذواق ‪7 ......................................................................‬‬
‫على الطريق ‪9 ..........................................................................‬‬
‫بين المحبة و العشق ‪15 ................................................................‬‬
‫مقامات و أحوال ‪21 .....................................................................‬‬
‫أعلم و معالم ‪26 ........................................................................‬‬
‫محن و فتن ‪30 ...........................................................................‬‬
‫و الحكمة الشراقية ‪36 .................................................................‬‬
‫و سلطان العارفين ‪38 ...................................................................‬‬
‫و سلطان العاشقين ‪41 ..................................................................‬‬
‫الحب اللهى و الحب البشرى ‪45 .....................................................‬‬
‫الشعر الصوفى ‪48 .......................................................................‬‬
‫شهيدة الحب اللهى ‪55 .................................................................‬‬
‫شخوص ‪56 ...............................................................................‬‬
‫ميلد ‪57 ...................................................................................‬‬
‫فواجع ‪66 .................................................................................‬‬
‫على فراش الموت ‪72 ...................................................................‬‬
‫الشاردة ‪75 ................................................................................‬‬
‫أوحال ‪83 ..................................................................................‬‬
‫يقظة ‪93 ...................................................................................‬‬
‫مراحل ‪97 .................................................................................‬‬
‫على الطريق ‪100 ..........................................................................‬‬
‫أمل ‪110 .....................................................................................‬‬
‫و رجاء ‪114 ...............................................................................‬‬
‫فجيعة ‪116 ..................................................................................‬‬
‫فى بحار الندم ‪122 ........................................................................‬‬
‫و حدث ذات ليلة ‪127 .....................................................................‬‬
‫طريق السالكين ‪131 ......................................................................‬‬
‫دروس ‪136 ................................................................................‬‬
‫المحبة ‪140 .................................................................................‬‬
‫نهاية و بداية ‪150 .........................................................................‬‬
‫‪4268/1985‬‬ ‫رقم اليداع‬

‫الترقيم الدولى ‪977 - 02 – 1391 – 8‬‬

You might also like