Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 134

‫الخ َّر ِد‬

‫ات ُ‬‫الش�و َق نحو اآلنِس ِ‬


‫َ‬ ‫َ‬ ‫َو َّ ْ‬ ‫المن ِْج ِد‬ ‫دع َعن َْك ت َْذكَار َ ِ ِ‬
‫الخليط ُ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬
‫َار ُس ْعدَ ى ُش ْغ ُل َم ْن لم َي ْس َع ِد‬
‫ت َْذك ُ‬
‫ِ‬
‫َوالن َّْو َح في َأ ْطالَل ُس ْعدَ ى إِن َ‬
‫َّـما‬
‫اب َو ُخ ْذ بِ َه َذا ت َْهت َِدي‬ ‫يوم ِ‬
‫الح َس ِ‬ ‫َ َ‬ ‫اسم ْع َم َقالِي إِ ْن َأ َر ْد َت تخ ُّل ًصا‬
‫َو َ‬
‫اإل َما ِم األَ ْو َح ِد‬
‫ابن َحنْـ َب ٍل ِ‬
‫َـه َج ِ‬
‫ن ْ‬
‫و ِ‬
‫اقصدْ َفإِنِّي َق�دْ َق َف ْي ُت ُم َو َّفـ ًقا‬ ‫َ‬
‫والتَّـابِ ِعي�ن إِم�ا ِم كـ ُِّ�ل موح ِ‬
‫�د‬ ‫ب ُم َح َّم ٍد‬ ‫�ة َب ْعدَ َص ْح ِ‬‫َخ ِير الب ِري ِ‬
‫ُ َ ِّ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ‬

‫العالمة المجتهد أبو الخ َّطاب ال َك ْل َو َذ ُّ‬


‫اني‬
‫‪7‬‬

‫تقريظ فضيلة الشيخ محمد عصام الشطي الحنبلي‬


‫(((‬

‫الحمد هلل الذي بعث في كل عصر من ُيجدِّ د لهذه األمة أمر دينها‪ ،‬ويش ّيد أركانه‪،‬‬
‫وينصر سنته‪ ،‬ويحيي شريعته؛ ليعود إليها بريقها‪ ،‬ليلها كنهارها‪ ،‬اليزيغ عنها إال ٌ‬
‫هالك‪.‬‬
‫فبعث في هذه األمة نب ًّيا هو أفضل األنبياء ﴿ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ‬
‫ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ﴾ [الجمعة‪]٢ :‬‬
‫ثم‬
‫ثم الذين اتبعوهم‪ ،‬وساروا على نهجهم‪َّ ،‬‬ ‫الصحابة رضوان اهلل عليهم‪َّ ،‬‬ ‫ثم جاء َّ‬
‫ودونوا الحديث‪،‬‬ ‫رسخوا قواعد هذا الدين‪ ،‬فجمعوا القرآن‪ّ ،‬‬ ‫األئمة المجتهدون ا َّلذين َّ‬
‫َّ‬
‫ٍ‬
‫واستنبطوا األحكام الشرعية‪ ،‬والقواعد األصولية؛ ليكون المسلمون على ب ِّينة من أمر‬
‫السنَّة‬
‫دينهم ودنياهم‪ .‬وهكذا نشأت المذاهب المتَّبعة التي تلقاها المسلمون من أهل ُّ‬
‫والجماعة‪ ،‬بالقبول في سائر أنحاء المعمورة‪.‬‬
‫مخلصا لبيان هذه المذاهب والكالم‬
‫ً‬ ‫كما نحمده تعالى أن أنهض شبا ًبا مؤمنًا‬
‫ٍ‬
‫واحد منهم‪.‬‬ ‫كل‬ ‫األئمة المجتهدين‪ ،‬وما يتميز به ُّ‬
‫عن ّ‬
‫وقد طلب مني األخ الفاضل «الشيخ الدكتور مصطفى عل َّيان» ـ بحسن ظنّه بي ـ ‬
‫أن أقدّ م لكتابه‪ ،‬الذي يصدره في الوقت الراهن‪ ،‬والذي تناول فيه بالبيان والتوضيح‬

‫((( هو شيخنا ومجيزنا الشيخ المعمر الفاضل محمد عصام ابن القاضي حسن الشطي ـ حفيد شيخ‬
‫الحنابلة المشهور ـ قرأ على والده أكثر «مختصر الخرقي» مع مراجعة «المغني»‪ ،‬وقد قرأت‬
‫عليه أكثره وأشياء أخر‪.‬‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪8‬‬
‫المسلم معرفتُه عن اإلمام أحمدَ بن َ‬
‫حنبل رضي اهلل عنه وعن مذهبه‪،‬‬ ‫َ‬ ‫يهم‬
‫الكثير مما ّ‬
‫عما يسأل عنه الناس الذين يجهلون الكثير من الحقائق عنه وعن مذهبه ـ ‬
‫وأجاب َّ‬
‫السنَّة والجماعة ـ وجعل عنوان هذا الكتاب‪:‬‬
‫مذهب أهل ُّ‬
‫العقيدة والدّ ِ‬
‫عوة»‬ ‫ِ‬ ‫بن َ‬
‫حنبل في‬ ‫«منهج اإلما ِم أحمدَ ِ‬
‫ٍ‬
‫بشكل‬ ‫فكان مو َّف ًقا في تصنيفه وتبويبه‪ ،‬فقد جمع بين ِد َّفتيه الكثير من المعلومات‬
‫ٍ‬
‫واضح وسهل التَّناول‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫مقتضب‬
‫ِ‬
‫االحتياج القدو ُة‬ ‫مما يحتاج إليه شباب هذه األ ّم ِة في يومنـا هذا أشدّ‬ ‫َّ‬
‫ولعـل َّ‬
‫الصالحة التي تتصف بالوسط ّية التي عبر عنها ر ُّبنا بقوله تعالى‪﴿ :‬ﭪ ﭫ‬
‫ﭬﭭﭮ ﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ﴾ [البقرة‪.]١٤٣ :‬‬
‫رضي اهلل عنه إما ًما في الحديث والفقه والعقيدة‪ ،‬كما‬
‫َ‬ ‫وقد كان اإلمام أحمدُ‬
‫كان إما ًما في الدعوة والجهاد والصبر وال ّثبات‪ ،‬وإما ًما في العبادة والتقوى ُّ‬
‫والزهد‪،‬‬
‫فهو يتمتَّع بكل صفات القدوة التي يحتاج إليها الناس في يومنا هذا‪.‬‬
‫الحنبلي‪ ،‬وعن اإلمام‬
‫ّ‬ ‫كثيرا من الحقائق عن المذهب‬
‫لقد أوضح هذا الكتاب ً‬
‫ِ‬
‫والجماعة» وعن مذهبه‬ ‫السنَّة‬ ‫والخاص اسم «إما ِم ِ‬
‫أهل ُّ‬ ‫ّ‬ ‫أحمد‪ ،‬الذي أطلق عليه العا ّم‬
‫َ‬
‫«مذهب أهل السنة والجماعة»‪.‬‬
‫نسأل اهلل أن ينتفع المسلمون بهذا الكتاب‪ ،‬وأن يثيب مؤلفه ويوفقه‪.‬‬
‫رب العالمين‪.‬‬
‫والحمد هلل ّ‬

‫كتبه‪:‬‬ ‫في دمشق لعام ‪1437‬ﻫ‬


‫محمد (عصام الدين) ابن الشيخ حسن‬
‫الدمشقي‬
‫ّ‬ ‫الحنبلي‬
‫ّ‬ ‫الش ّط ّي‬
‫‪9‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫تقريظ فضيلة الشيخ العالمة إسامعيل بن حممد آل بدران الدومي احلنبيل‬

‫تقريظ فضيلة الشيخ العالمة إسماعيل بن محمد‬


‫(((‬‫آل بدران الدومي الحنبلي‬

‫ومن‬
‫الحمد هلل وكفى‪ ،‬والصالة والسالم على نبينا المصطفى‪ ،‬وآله وأصحابه ْ‬
‫و َفى وو َّفى‪.‬‬
‫وبعد‪:‬‬
‫قال اهلل تعالى في كتابه الكريم‪﴿ :‬ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ﴾ [فاطر‪،]28 :‬‬
‫وقال‪﴿ :‬ﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ﴾ [الزمر‪ ]9 :‬وقال‪:‬‬
‫﴿ﮤﮥ ﮦﮧﮨﮩ ﮪ﴾ [األنبياء‪ .]7 :‬وقال ﷺ‪َ « :‬ل ُ‬
‫موت قبيلة أهون‬
‫على اهلل من موت عالم»‪ ،‬وقال‪« :‬فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم»‪.‬‬
‫َّ‬
‫فإن شيخنا((( الدكتور مصطفى حمدو عليان الحنبلي قد أفادنا بمعلومات عن‬
‫ُ‬
‫القليل‪.‬‬ ‫اإلمام المبجل أحمد بن حنبل وعن مذهبه ومناقبه وعلومه ما ال يعرفه إال‬
‫ٍ‬
‫وتدقيق فوجدتُه جوهر ًة في هذا المذهب‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫بإمعان‬ ‫درست هذا الكتاب‬
‫ُ‬ ‫وقد‬
‫فب َّيـن فيه من الخفايا ما ال يـظهر وال يعرفه كثير من الـعلماء‪ ،‬ال سيما غير علماء‬
‫المذهب الحنبلي‪.‬‬

‫((( هو شيخنا ومجيزنا وهو أكبر فقهاء الحنابلة في الشام حال ًيا أخذ عن جمع من كبار الحنابلة‬
‫منهم‪ :‬عبد القادر الحتاوي وأحمد الشامي ـ مفتي الحنابلة ـ وعبد المجيد عبد المجيد ـ ‬
‫الملقب بالحنبلي الصغير ـ وأجازوه‪.‬‬
‫((( هذا من تواضع الشيخ مع طالبه ومحبيه وإال فهو شيخنا ونحن طالبه‪.‬‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪10‬‬
‫فجزاه اهلل خير الجزاء‪ ،‬وله الشكر على ما بذل من جهد وتمحيص وتدقيق ـ ‬
‫فلكم الشكر مع قبول تحياتي ـ‪ ،‬واهلل من وراء القصد‪.‬‬

‫كتبه‪ :‬خادم العلم والمذهب الحنبلي‪:‬‬


‫الشيخ إسماعيل محمد بدران الدومي الحنبلي‬
‫‪11‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫تقريظ فضيلة الشيخ العالمة إسامعيل بن حممد آل بدران الدومي احلنبيل‬
‫‪13‬‬

‫تقريظ المفكر اإلسالمي‬


‫(((‬‫فضيلة الشيخ جمال الدين سيروان‬

‫بِ ْسم اهلل الرحمن الرحيم‪ ،‬الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬وصالة وسالم على سيد‬
‫الخلق وحبيب الحق سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أتم التسليم‪.‬‬

‫لقد اطلعت على كتابكم القيم‪ ،‬حيث أسعدني أ َّيما إسعاد ما طرحتموه في‬
‫وتحر‬
‫ِّ‬ ‫ثنايا بحثكم المنهجي الرصين؛ إذ وفقكم اهلل تبارك وتعالى إلى فتح مبين‪،‬‬
‫دقيق‪ ،‬وأسلوب رائع‪ ،‬وإن أبرز ما لفت نظري براعتكم في االختصار غير المخل‪ ،‬مع‬
‫استيعاب للمقصود‪ ،‬ووصول إلى الهدف المنشود‪ ،‬ال غرو أن الكتاب تناول كبريات‬
‫المسائل المتعلقة بعقيدة اإلسالم وفقهه‪ .‬ممثلة بقامة نادرة ومشخصة بعمالق مكين‪،‬‬
‫أال وهو اإلمام الجليل أحمد بن َحنْ َبل رضي اهلل عنه‪.‬‬

‫إن المتتبع لتاريخ أمتنا يرى في الماضي ما يقارب وقوعه في الحاضر‪ ،‬إذ‬
‫تعرضت العقيدة إلى هجمات شرسة دعت اإلمام الفذ النبيه أن يتصدى لها بفكر نضر‪،‬‬
‫وعقل متفتح مع تمسك بالنقل الصحيح‪ ،‬وذلك ليربط العالقة بين العقل والنقل‪،‬‬
‫فالعقل الرشيد ال يخالف النقل السديد‪.‬‬

‫((( مفكر إسالمي وعضو مؤسس في االتحاد العالمي لعلماء المسلمين‪ ،‬وفي رابطة علماء الشام‪،‬‬
‫درس على كبار مشايخ الشام منهم‪ :‬الشيخ عبد الكريم الرفاعي‪ ،‬والشيخ محيي الدين الكردي‬
‫والشيخ أحمد الشامي مفتي الحنابلة‪ ،‬والشيخ سعيد األفغاني‪ ،‬له كتاب‪« :‬الوسطية في هذا‬
‫الدين»‪ ،‬وله تحقيق على كتاب الكافي للموفق ابن قدامة‪ ،‬لم يكتمل بعد‪.‬‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪14‬‬
‫ولما كان إمامنا العمالق في أعلى درجات التمكن واإلحاطة بالنقل‪ ،‬ورزقه اهلل‬
‫تعالى سع ًة في العقل‪ ،‬م َّثل في تلك الفتنة رمزية الرسوخ في العقيدة وسمة الوضوح‬
‫في الرؤية‪ ،‬مما دفعه أال تلين له قناة أمام التعذيب والسجن‪ ،‬وأال تغريه إغواءات من‬
‫حطام الدنيا‪.‬‬

‫وإننا في هذه األيام المريرة والظروف الصعبة التي تمر بها أمتنا‪ ،‬بمسيس الحاجة‬
‫إلى استحضار شخصية إمامنا الجليل‪ ،‬لتجريد الفهم الناصع والوعي المتألق والقصد‬
‫ومبادرا إلى‬
‫ً‬ ‫البين لمقاطع االعتقاد السليم بعيدً ا عن التجسيم‪ ،‬ونائ ًيا عن التعطيل‪،‬‬
‫عقيدة واضحة األركان‪ ،‬قوية البنيان‪ ،‬تتخذ سبيلاً للوفاق ال للشقاق‪ ،‬وطري ًقا لاللتئام‬
‫وليس لالختصام‪ ،‬ووشيجة للتواد من غير تصاد‪.‬‬

‫زورا ليتخذها وسيلة الستباحة‬


‫ألسنا نرى من ُيل ِّبس على األمة باسم العقيدة ً‬
‫الدماء‪ ،‬وسب ًبا في تفريق صف المسلمين‪ .‬من هنا تبرز أهمية مبادرة هذا الكتاب إلى‬
‫طرح هذا الفكر النير والهدف المشرق‪ .‬كذلك فإن الكتاب قد تعرض لتنزيالت‬
‫الشريعة في فقهها‪ ،‬واستعرض ما يحويه فقه اإلمام أحمد رضي اهلل عنه من سعة‬
‫في الرؤية ومرونة في البحث‪ ،‬مراع ًيا سماحة اإلسالم المنضوية في نصوص القرآن‬
‫الكريم والسنة المطهرة‪.‬‬

‫فإمامنا الجليل الفذ أحمد بن حنبل رضي اهلل عنه‪ ،‬استطاع أن يفتح لنا اآلفاق‬
‫الذهنية للنظر في هذين المصدرين المعصومين فانساح اجتهاده واسع األرجاء‬
‫منطل ًقا في جوانب الحياة حيث يستوعب من األحكام‪ ،‬ما ال يوجد في مذاهب‬
‫أخرى وما ذاك إال لما يمتلكه اإلمام الجليل من محصلة نادرة في الحديث النبوي‬
‫الشريف ونظر دقيق في القرآن الكريم‪ ،‬يضاف إلى ذلك التعلق في مقاصد الشريعة‬
‫ومآالت األحكام‪.‬‬
‫‪15‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫تقريظ املفكر اإلسالمي فضيلة الشيخ مجال الدين سريوان‬
‫تعرض الكتاب لهما‪ ،‬يعتبران في وجهة نظري المقصد‬
‫إن هذين الجانبين اللذين َّ‬
‫األسمى والهدف األسنى‪ ،‬الذي يجب على علماء أمتنا المبادرة إليه والسعي‬
‫إلى إيضاحه‪ ،‬وذلك إزاء ما يتعرض له شباب أمتنا في هذه األيام المليئة بالمحن‬
‫والمكتظة بالفتن من شبهات خطيرة‪ ،‬وتشظيات مريرة‪ .‬فما أحوجنا إلى دعوة لعقيدة‬
‫صافية نقية ال تشوبها أوهام وال تعتريها شكوك‪ .‬كذلكم إلى فقه ٍ‬
‫مرن يحاكي واق ًعا‬
‫تعقدت فيه الحياة وازدادت فيه العالقات ضبابية فال بد من فقه جريء محاط بنقل‬
‫صحيح‪ ،‬يستوعب مستجدات الحياة ونوازل العصر‪َّ .‬‬
‫وإن فقه اإلمام أحمد فيه من‬
‫هذا المطلب الكثير الكثير‪.‬‬

‫ختا ًما أدعو اهلل تبارك وتعالى ألخينا الحبيب د‪.‬مصطفى أبي الحسن الحنبلي‪،‬‬
‫أن يكافئه على ما بذل‪ ،‬وأن يجزيه الخير على ما قدم‪ ،‬وأن يسدد خطاه ويتقبل منه‪.‬‬

‫خويدم العلم جمال الدين سيروان‬


‫‪17‬‬

‫تقريظ فضيلة الشيخ عبد الرحمن ابن مفتي الحنابلة‬


‫(((‬‫في دوما الشيخ أحمد الشامي‬

‫الحمد هلل‪ ،‬نحمده ونستعينه ونستغفره‪ ،‬ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا وسيئات‬
‫أعمالنا‪ ،‬من يهده اهلل فال مضل له‪ ،‬ومن يضلل فال هادي له‪ ،‬وأشهد أن ال إله إال اهلل‬
‫وحده ال شريك له‪ ،‬وأشهد أن سيدنا محمدً ا عبده ورسوله‪َ ،‬م ْن أدى األمانة وبلغ‬
‫الرسالة ونصح األمة‪.‬‬

‫وبعد‪:‬‬

‫فقد أمرنا ربنا سبحانه وتعاىل يف القرآن الكريم أن نتأسى ونقتدي بنبينا محمد ﷺ‬
‫صاحب الشريعة اإلسالمية المطهرة في كل ما جاء به عن ربه من اعتقاد وقول وعمل‪،‬‬
‫فمن فعل ذلك فقد برهن على حبه لربه سبحانه‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ‬
‫ﭳﭴ ﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ﴾ [آل عمران‪.]31 :‬‬

‫وهذا االتباع للنبي الكريم ﷺ ال يتأتى بشكل صحيح إال إذا عرفنا سنته وأوامر‬
‫ربنا التي أمر بتبليغها‪ ،‬وهذا ال يكون إال باتباع أئمة الـهدى الذين اقتفوا أثر الرسول‬
‫الكريم واعتنوا بنقل كل ما جاء عنه ﷺ‪ ،‬ومن هؤالء األئمة األعالم إمام أهل السنة‬
‫اإلمام أحمد بن حنبل رضي اهلل عنه‪ ،‬من شهد له أقرانه من األئمة كالشافعي رحمه اهلل‬
‫بالعلم الغزير والتقوى واألخالق العالية الرفيعة‪.‬‬

‫((( هو شيخنا ومجيزنا ابن مفتي دوما الحنبلية‪ ،‬وقد درس عليه المذهب‪.‬‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪18‬‬
‫يعرفوا أبناء األمة بعلمائها العاملين‬
‫لذلك من الواجب على المشتغلين بالعلم أن ِّ‬
‫همهم ـ الوصول إلى مرضاة اهلل تعالى عن‬
‫همهم ـ كل ِّ‬
‫الذين يقتدى بهم‪ ،‬والذين كان ُّ‬
‫طريق نقل الدين لألمة بكل أمانة عملاً بقوله‪﴿ :‬ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ‬
‫ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ‬
‫ﯼ ﯽ﴾ [التوبة‪.]122 :‬‬

‫خيرا ـ بتعريف الناس بجوانب‬


‫ولـقد قام الدكتور مصطفى عليان ـ جزاه اهلل ً‬
‫مهمة ومضيئة من حياة اإلمام رحمه اهلل ومنهجه في الدعوة والعقيدة مما يحتاج إلى‬
‫وخصوصا طلبة العلم في هذا العصر الذي كثر فيه من يتكلم في‬
‫ً‬ ‫معرفته المسلمون‪،‬‬
‫أمور الدين بغير علم وال تحقيق‪.‬‬

‫ولقد كانت كتابته لهذا الموضوع بأسلوب سهل وواضح ومختصر؛ ليتسنى‬
‫لكل طالب علم االطالع عليه بوقت قصير‪ .‬أسأل اهلل أن يثيبه على ما كتب‪ ،‬وأن ينفع‬
‫القراء بقراءته‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬


‫‪19‬‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫تقريظ الشيخ حممد عبد الباسط آل الشيخ احلنبيل الرحيباين‬

‫تقريظ الشيخ محمد عبد الباسط‬


‫(((‬ ‫آل الشيخ الحنبلي الرحيباني‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬والصالة والسالم على سيد المرسلين‪ ،‬سيدنا محمد‬
‫وعلى آله وصحبه أجمعين‪.‬‬

‫وبعد‪:‬‬

‫فقد طلب مني فضيلة الدكتور مصطفى عليان أن أطلع على كتابه «إضاءات‬
‫على منهج اإلمام أحمد بن حنبل في العقيدة والدعوة» وأجبته لذلك‪ ،‬وبعد اطالعي‬
‫على الكتاب شكرته على هذه اإليضاحات‪ ،‬فطلب مني تقري ًظا للكتاب ظنًا منه أني‬
‫وخيرا مما يظن‪.‬‬
‫ً‬ ‫أهلاً لذلك‪ ،‬فدعوت اهلل أن يجعلني كما يظن‬

‫وقد َّقرظ الكتاب كل من السادة العلامء الشيخ حممد عصام حسن الشطي والشيخ‬
‫إسماعيل محمد بدران‪ ،‬والشيخ عبد الرحمن أحمد الشامي‪ .‬فجزى اهلل المؤلف خير‬
‫الجزاء على ما بذله من جهد لتوضيح ما خفي عن مذهب اإلمام أحمد‪ ،‬والذي كان‬
‫الناس يظنون أن المذهب فيه من الشدة ما جعل الناس يضربون المثل لكل متشدد‬
‫ومتعنت بقول‪ :‬ال تجعلها حنبلية‪ ،‬وهذا من األمثلة المفتراة على المذهب‪.‬‬

‫ولكن ُض ِر َب المثل بسبب تمسك اإلمام أحمد بعدم خلق القرآن يوم الفتنة‪،‬‬

‫((( هو شيخنا ومجيزنا وهو إمام وخطيب ومدرس للمذهب الحنبلي في مدينة الرحيبة الحنبلية‬
‫بالشام‪ ،‬وهو مجاز من والده‪ ،‬ووالده كان مفت ًيا للحنابلة هناك‪.‬‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪20‬‬
‫ولم يثنه السجن والتـعذيب عن سالمة معتقده‪ .‬وإال فقد وضح الدكتور مصطفى‬
‫سالسة المذهب واعتداله بكثير من المسائل التي لم توجد بغيره‪ ،‬مما جعل القانون‬
‫المصري والسوري يعتمدان على كثير من المسائل الفقهية على المذهب الحنبلي‪ .‬‬

‫وأختم كالمي بما ختم به جدي منظومته في الفقه الحنبلي وهو الشيخ السيد‬
‫قمت‬
‫محمد حسن الشيخ الصيادي الرفاعي الحنبلي الشهير بزنوب ـ وهي منظومة ُ‬
‫بتحقيقها ونشرها مع بعض اإلخوة الحنابلة بإشراف الوالد رحمه اهلل ـ حيث قال‪:‬‬
‫�كـر هلل عـل�ى اإللـه�ا ِم‬ ‫ُّ‬
‫والـش ُ‬ ‫فـالحم�دُ هللِ عـل�ى اإلنـع�ا ِم‬
‫عىل النبي املصطفى داعي اهلدى‬ ‫والسلا ُم س�رمدا‬
‫الصلا ُة ّ‬
‫ث�م ّ‬
‫ّ‬
‫ِ‬
‫األس�رار‬ ‫مع�ادن التق�وى م�ع‬ ‫ِ‬
‫األبــــرار‬ ‫وآلـ�ه وصحبـــ�ه‬
‫ٍ‬
‫بجم�ل س�ديد ْه‬ ‫م�ع نظمه�ا‬ ‫ق�د تم ِ‬
‫�ت األرج�وز ُة المفي�د ْة‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫حنب�ل‬ ‫ه�و اإلم�ام أحم�د ب�ن‬ ‫ِ‬
‫والمبجل‬ ‫ف�ي مذه�ب اإلم�ام‬
‫ِ‬
‫التحقيـر‬ ‫محمــد الرحيبـي ذي‬ ‫علـى لســان النـاظــم الفقــير‬
‫ِ‬
‫بالســؤال‬ ‫ويطلــب الـدعــا َء‬ ‫ِ‬
‫إخـــالل‬ ‫يستسمح القــرا َء من‬
‫ُ‬
‫أولاً وآخرا‬
‫ً‬ ‫والحمد هلل‬

‫‪.‬‬
‫‪21‬‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫مقدمة املؤلف‬

‫مقدِّ مة المؤ ِّلف‬

‫والسالم على س ّيد الخلق وخاتم المرسلين‪،‬‬


‫والصال ُة َّ‬
‫الحمد هلل رب العالمين‪ّ ،‬‬
‫آله وصحبه أجمعين‪ ،‬وعلى من اهتدى بهداه إلى يوم الدين‪.‬‬‫وعلى ِ‬

‫وبعد‪:‬‬

‫المعمر الشيخ محمد عصام ابن الشيخ حسن ابن الشيخ‬


‫َّ‬ ‫علي ُ‬
‫شيخنا‬ ‫أشار َّ‬
‫فقد َ‬
‫مشقي ـ سليل األسرة الشط ّية الحنبل ّية ـ ‬
‫ّ‬ ‫الش ّط ّي الدّ‬
‫محمد ابن الشيخ اإلمام حسن ّ‬
‫المهمة في مذهب‬ ‫اسة في زيادة توضيحِ بعض المسائل‬ ‫بكتابة كُر ٍ‬
‫ِ‬ ‫حفظه اهلل ورعا ُه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫َّ‬
‫حنبل رضي اهلل عنه‪ ،‬وفي الر ِّد على بعض الشبهات التي ُيتَّهم‬‫بن َ‬ ‫إمامنا المبجل أحمدَ ِ‬
‫بها المذهب‪.‬‬

‫ُـراسة‬
‫واستعنـت باهلل الـواحد األحد على إخراج هذه الك َّ‬
‫ُ‬ ‫فاستجبت لـذلك‬
‫ُ‬
‫المختصرة في التعريف بإمامنا وبمذهبه وبمنهجه‪ ،‬وأسميتها‪« :‬منهج اإلمام أحمد بن‬
‫ُطرق بعدُ في سيرته وحياته‪.‬‬ ‫حنبل في العقيدة والدعوة»‪َّ ،‬‬
‫فإن هذه الجوانب لم ت َ‬
‫وآرا ُء إمامنا ـ بحق ـ متزن ٌة ونافع ٌة في إصالح ٍ‬
‫كثير من شؤون األمة في هذا‬
‫العصر قال اإلمام أبو بكر الخلاَّ ل ـ رضي اهلل عنه ـ‪« :‬لو تد ّبر الناس كالم أحمد‬
‫ٍ‬
‫شيء‪ ،‬وعقلوا معاني ما يتكلم به وأخذوه بفه ٍم وتواضعٍ‪،‬‬ ‫ابن حنبل رحمه اهلل في كل‬
‫لعلموا أنه لم يكن في الدنيا مثله في زمانه‪ ،‬أتبع منه للحديث‪ ،‬وال أعلم منه بمعانيه‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪22‬‬
‫ٍ‬
‫شيء والحمد هلل‪ ...‬وجواباته لهم على معاني النصح والشفقة للمسلمين»(((‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وبكل‬

‫والسنّة‬
‫وقال شيخ اإلسالم ابن تيمية‪« :‬وأحمدُ كان أعـلم من غيره بالكتاب ّ‬
‫نصا كما‬ ‫وجد له ٌ‬ ‫ٍ‬
‫قول يخالف ًّ‬ ‫وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان؛ ولهذا ال يكاد ُي َ‬
‫ضعيف في الغالب إلاّ وفي مذهبه قول يوافق القول‬‫ٌ‬ ‫يوجد لغيره‪ ،‬وال يوجد له ٌ‬
‫قول‬
‫راجحا»(((‪ .‬كما َّ‬
‫أن‬ ‫ً‬ ‫األقوى وأكثر مفاريده ا ّلتي لم يختلف فيها مذهبه يكون قوله فيها‬
‫األئم ِة من جوابات المسائل المتعددة في الفروع‬ ‫ٍ‬
‫ابن تيمية يرى أنه لم ُينقل عن أحد من ّ‬
‫واألصول كما نُقل عن اإلمام أحمد‪.‬‬

‫أوسع المذاهب وهو‬


‫ُ‬ ‫الحنبلي هو‬
‫ّ‬ ‫المذهب‬
‫َ‬ ‫ورأى العلاّ مة محمد أبو زهرة ّ‬
‫أن‬
‫ِ‬
‫دالئل سعة‬ ‫المذهب ا ّلذي فتح باب االجتهاد ـ المنضبط ـ على مصراعيه‪ ،‬ومن‬
‫َ‬
‫التعديل في‬ ‫المذهب وتيسيره ـ كما قال ـ أنّه حين أراد القانون المصري سنة ‪1926‬م‬
‫بعض المواد الخاصة باألحوال الشخصية والمواريث والوصايا والوقف لم يجد ما‬
‫ِ‬
‫المذهب الحنبلي‪ ،‬بل لقد اقتبس منه ما يعدُّ تجديدً ا‬ ‫يسد رمقه‪ ،‬ويل ّبي حاجتَه إال في‬
‫والحق أنه ما من‬
‫ُّ‬ ‫يوافق بعض المطالب التي يطالب بها بعض الباحثين في االجتماع‪.‬‬
‫مسلم إال ويحتاج المذهب الحنبلي في حياته بسبب ما فيه من ُر ٍ‬
‫خص وتيسير ليسا‬
‫موجودين في غيره سواء في العبادات أو المعامالت‪.‬‬

‫الناس إىل دينهم؛ وإىل مذاهب السلف الصالح كأيب حنيفة‬


‫وإين ألرجو أن يعو َد ُ‬
‫واألوزاعي وال ّليث بن سـعد رضي اهلل عنهم‬
‫ّ‬ ‫ومالك والـشافعي وأحمد والثوري‬
‫ونفعنا بعلومهم‪.‬‬

‫((( السنة ‪.430/2‬‬


‫((( مجموع الفتاوى ‪.229 / 20‬‬
‫‪23‬‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫مقدمة املؤلف‬
‫مباحث ٍ‬
‫ثالثة هي‪:‬‬ ‫َ‬ ‫جعلت هذه الكراسة في‬
‫ُ‬ ‫وقد‬

‫المبحث األول‪ :‬في التعريف باإلمام أحمدَ وبمدرسته‪.‬‬


‫العقيدة والدَّ ِ‬
‫عوة‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫المبحث الثاني‪ :‬منهج اإلمام أحمد في‬

‫شبهات حول المذهب الحنبلي ور ُّدها‪.‬‬


‫ٌ‬ ‫المبحث الثالث‪:‬‬
‫ِ‬
‫طلبة‬ ‫يضع له ال َقبول عند‬ ‫يسر إتما َم هذا البحث؛ وأن‬ ‫ُ‬
‫َ‬ ‫فأسأل اهللَ القدير أن ُي َ‬
‫يكون وسيل ًة من وسائل اإلصالح واالئتالف بين المسلمين‪.‬‬
‫َ‬ ‫العلم‪ْ ،‬‬
‫وأن‬

‫فقد قال إمامنا‪ :‬تع ُّل ُم العلم وتعليمه أفضل من الجهاد(((‪ .‬وروي في األثر‪:‬‬
‫«ليس العلم بكثرة الرواية ولكن العلم بالدراية»‪.‬‬
‫ولدي�ه ط�ال تقش�في وتذلل�ي‬ ‫وتوس�لي‬
‫ُّ‬ ‫تضرعي‬
‫يا من إلي�ه ُّ‬
‫ِ‬
‫المنه�ل‬ ‫ِ‬
‫العط�اء‬ ‫ومح ّب� ًة ي�ا ذا‬ ‫الباب أرج�و توب ًة‬ ‫قرع�ت‬ ‫إني‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫أمسيت فر ًدا مؤنسي في منزلي‬
‫ُ‬ ‫فاغف�ر ذنوب�ي ي�ا إله وكُ� ْن إذا‬
‫ْ‬
‫ث�م إنِّي حنبلي‬
‫وجمي�ل عفوك ّ‬ ‫إلاّ الرج�ا‬
‫ّ‬ ‫مال�ي إلي�ك وس�يلة‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫((( الفروع البن مفلح ‪ ،523 /1‬اإلنصاف للمرداوي ‪.100 /4‬‬


‫المبحث األول‬
‫التعريف باإلمام أحمد بن حنبل وبمدرسته‬
‫‪27‬‬

‫المبحث األول‬
‫التعريف باإلمام أحمد بن حنبل وبمدرسته‬

‫إن اإلمام أحمد من أعلم أهل الحديث رواي ًة ودراي ًة‪ ،‬وهو ال ّثابت في المحنة‪،‬‬ ‫َّ‬
‫شرف عظيم‪ .‬لكن ال بد أن يكون هذا‬ ‫الذي ر َّد اهللُ به الفتنة‪ ،‬وإن االنتساب إليه َل ٌ‬
‫صحيحا وليس ادعا ًء يدعيه اإلنسان بل ال بدَّ من األدلة والبراهين من‬
‫ً‬ ‫االنتساب‬
‫أقوال اإلمام أحمد‪ ،‬وأقواله موجودة ومذهبه مستمر‪.‬‬
‫المطلب األول‬
‫التعريف باإلمام أحمد(((‪:‬‬
‫اإلمام أحمد بن حنبل هو سيد المحدّ ثين‪ ،‬وإمام الفقهاء في عصره‪ ،‬ورافع‬
‫السنّة‪ ،‬هو إمام المذهب الحنبلي‪ .‬بنى مذهبه على أصول جليلة‪ ،‬فتلقاه‬
‫لواء أهل ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫والجزيرة‬ ‫ومصر‬
‫َ‬ ‫والشا ِم‬
‫العراق ّ‬ ‫من بعده أئم ٌة ٌ‬
‫كبار عملوا على نشر المذهب في‬
‫العرب ّي ِة‪.‬‬
‫الح َّفاظ ّ‬
‫فتفرغ‬ ‫واإلمام أحمد طاف الدّ نيا ليجمع فقه الفقهاء‪ ،‬وحديث ُ‬
‫لالختيار والتنقيح‪ .‬قال أحمد بن شاذان العجلي‪« :‬سمعت أحمد يقول‪ :‬سافرت‬
‫ِ‬
‫والسواحل والمغرب والجزائر ومكة‬ ‫ِ‬
‫والشامات‬ ‫في طلب العلم والسنة إلى ال ّثغور‬

‫((( هذه المعلومات نقلتها من كتب عديدة أهمها‪ :‬سير أعالم النبالء لإلمام الذهبي‪ ،‬البداية والنهاية‬
‫الجوزي‪ ،‬ابن حنبل ألبي زهرة‪ .‬واستيعاب حياة اإلمام‬ ‫ّ‬ ‫البن كثير‪ .‬مناقب اإلمام أحمد البن‬
‫ٍ‬
‫أحمد بكل جوانبها يحتاج إلى مجلدات ولكن سأكتفي باليسير منها‪.‬‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪28‬‬
‫والمدينة والحجاز واليمن والعراقين جمي ًعا وأرض حوران وفارس وخراسان‬
‫والجبال واألطراف»(((‪.‬‬
‫فاإلمام أحمد بعد أن جمع األحاديث؛ تفرغ لالختيار والتنقيح‪ ،‬فكان فقهه‬
‫دقي ًقا مبن ًّيا على األد ّلة الصحيحة‪.‬‬
‫اسمه ونسبه‪:‬‬
‫هو أبو عبد اهلل‪ ،‬أحمد بن محمد بن حنبل بن هالل الذهلي الشيباني‪.‬‬
‫كان أبوه محمدُ ب ُن َ‬
‫حنبل قائدً ا وجند ًّيا في جيش خراسان(((‪ .‬مات شا ًّبا له‬
‫نحو من ثالثين سن ًة‪.‬‬
‫مولده‪:‬‬
‫ولدت في ربي ٍع األول سنة أرب ٍع وستين ٍ‬
‫ومئة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫قال صالح‪ ،‬قال لي أبي‪:‬‬
‫يتيما‪.‬‬
‫ور ِّب َي ً‬
‫ُ‬
‫طلبه الحديث ومحبته للعلم‪:‬‬
‫«ولِدَ أبو عبد اهلل ببغداد ونشأ بها‪ ،‬وطلب العلم بها‪،‬‬
‫قال الخطيب البغدادي‪ُ :‬‬
‫ثم رحل إلى الكوفة‪ ،‬والبصرة‪ ،‬ومكة‪ ،‬والمدينة‪ ،‬واليمن‪ ،‬والشام‪ ،‬والجزيرة»‪.‬‬
‫وقال عبد اهلل‪« :‬سمعت أبي‪ ،‬يقول‪ :‬ربما أردت البكور في الحديث‪ ،‬فتأخذ‬
‫أمي بثوبي‪ ،‬وتقول‪ :‬حتى يؤذن المؤذن»‪.‬‬

‫((( طبقات الحنابلة ‪.47/1‬‬


‫((( مناقب اإلمام أحمد ص‪ ،42‬أحمد بن حنبل لعبد الغني الدقر ص‪ 19‬وابن حنبل ألبي زهرة‬
‫ص‪.17‬‬
‫‪29‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫املبحث األول‪ :‬يف التعريف باإلمام أمحدَ وبمدرسته‬

‫شيوخه‪:‬‬
‫الشريعة ال بد فيه من التّل ّقي عن المشايخ الكبار‪ .‬أما‬
‫نحن نعلم أن علم ّ‬
‫سيض ّل(((‪ .‬واإلمام أحمد طلب العلم‬ ‫ٍ‬
‫أستاذ عال ٍم فإنه ِ‬ ‫من يأخذ العلم من غير‬
‫خمس عشر َة سن ًة‪ ،‬وعدة شيوخه الذين روى عنهم في «المسند» مئتان‬ ‫َ‬ ‫وهو ابن‬
‫وثمانون ونيف‪.‬‬
‫وقد أخذ اإلمام من شيوخ المدارس المتعددة مدرسة أهل الحديث‬
‫وأهل الرأي وأهل البيت(((؛ واجتمع بشيوخ التصوف ـ المتّزن ـ في عصره‪.‬‬
‫ووكيع‬ ‫وهشيم‬ ‫ومن مشايخه سفيان بن عيينة وإبراهيم بن ٍ‬
‫سعد ويحيى القطان‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫كثر ذكرهم‬
‫وخالئق ٌ‬
‫ُ‬ ‫مهدي وعبد الرزاق وأبو يوسف والشافعي‬
‫ٍّ‬ ‫وابن علية وابن‬
‫الحافظ ابن الجوزي وغيره على حروف المعجم‪.‬‬
‫أما تالمذته‪:‬‬
‫كان يجتمع في مجلس أحمد زهاء خمسة ٍ‬
‫آالف أو يزيدون نحو خمس‬
‫والس ْم َت‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫مئة يكتبون‪ ،‬والباقون يتعلمون منه حسن األدب َّ‬
‫مهدي ويزيد بن هارون‬
‫ٍّ‬ ‫وممن روى عن إمامنا المبجل‪ :‬عبد الرزاق وابن‬
‫والدمشقي‬
‫ّ‬ ‫ومسلم وأبو داود وأبو زرعة الرازي‬
‫ٌ‬ ‫وعلي بن المديني والبخاري‬
‫وإبراهيم الحربي وأبو بكر األثرم والبغوي وابن أبي الدنيا وأبو حاتم الرازي‬
‫ٍ‬
‫سعيد الدارمي والمروذي‬ ‫ُ‬
‫وعثمان بن‬ ‫َ‬
‫إسحاق‬ ‫ُ‬
‫وحنبل بن‬ ‫وأحمد بن أبي الحواري‬
‫وخالئق كثيرون ذكرهم الحافظ ابن الجوزي في المناقب على حروف المعجم‪.‬‬

‫((( ع َّلق شيخنا العالمة إسماعيل بدران هنا فقال‪« :‬قيل في هذا الخصوص‪ :‬من اتخذ كتابه شيخه‪،‬‬
‫فقد ضل وأضل»‪.‬‬
‫((( وقد التقى اإلمام أحمد بتالمذة اإلمام جعفرالصادق وأخذ عنهم‪ ،‬راجع في ذلك كتاب جعفر‬
‫الصادق واألئمة األربعة ألسد حيدر‪.‬‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪30‬‬
‫وقد اجتمع باإلمام الشافعي‪ٌّ ،‬‬
‫وكل منهما أخذ عن اآلخر‪.‬‬
‫من عبادته وجهاده‪:‬‬
‫وقد كان اإلمام أحمد عابدً ا زاهدً ا مجاهدً ا كثير الصيام والقيام وهذا من‬
‫الشرعي‪ ،‬قال المروذي‪ :‬رأيت أبا عبد اهلل يقوم لورده قري ًبا‬
‫ّ‬ ‫صفات طالب العلم‬
‫حر‪.‬‬
‫الس َ‬‫من نصف الليل حتى يقارب َّ‬
‫يصوم ويدمن‪ ،‬ثم يفطر ما شاء اهلل‪ .‬وال يترك صوم االثنين والخميس‬
‫وكان ُ‬
‫وأيام البيض‪.‬‬
‫قال العباس بن أبي طالب‪ :‬سمعت إبراهيم بن شماس‪ ،‬قال‪ :‬كنت أعرف‬
‫ٍ‬
‫جمعة إلى‬ ‫أحمد بن حنبل وهو غال ٌم وهو يحيي الليل‪ .‬وكان يختم القرآن من‬
‫ٍ‬
‫جمعة‪ ،‬وإذا ختم‪ ،‬دعا‪ ،‬ونحن نؤ ِّمن‪.‬‬
‫من جهاده‪ :‬قال عبد اهلل بن محمود بن الفرج‪ :‬سمعت عبد اهلل بن أحمد‪،‬‬
‫طرسوس‪ ،‬ورابط بها‪ ،‬وغزا‪ .‬ثم قال أبي‪ :‬رأيت العلم بها‬
‫َ‬ ‫يقول‪« :‬خرج أبي إلى‬
‫يموت»‪.‬‬
‫شهادة العلماء له باإلمامة‪:‬‬
‫ال بدَّ للعالم أن يشهد له بالعلم شيوخه وأهل العلم في عصره‪ ،‬وقد شهد‬
‫إلمامنا شيوخه وأقرانه منهم‪:‬‬
‫ـ اإلمام الشافعي‪:‬‬
‫ٍ‬
‫خصال‪ :‬إما ٌم‬ ‫قال الربيع بن سليمان‪« :‬قال لنا الشافعي‪ :‬أحمد إما ٌم في ثماني‬
‫في الحديث‪ ،‬إما ٌم في الفقه‪ ،‬إما ٌم في اللغة‪ ،‬إما ٌم في القرآن‪ ،‬إما ٌم في الفقر‪ ،‬إما ٌم في‬
‫الزهد‪ ،‬إما ٌم في الورع‪ ،‬إما ٌم في السنة»(((‪.‬‬
‫ُّ‬

‫((( طبقات الحنابلة ‪.3/1‬‬


‫‪31‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫املبحث األول‪ :‬يف التعريف باإلمام أمحدَ وبمدرسته‬

‫وقال حرملة‪ :‬سمعت الشافعي يقول‪ :‬خرجت من بغداد فما خلفت بها‬
‫رجلاً أفضل‪ ،‬وال أعلم‪ ،‬وال أفقه‪ ،‬وال أتقى من أحمد بن حنبل‪.‬‬
‫وكل منهما َ‬
‫أخذ عن اآلخر‪ ،‬وقد‬ ‫وقد اجتمع اإلمام أحمدُ باإلمام الشافعي‪ٌّ ،‬‬
‫كل منهما من اآلخر‪ ،‬قال أبو حاتم‪« :‬أحمد أكبر من الشافعي‪ ،‬وإنما أخذ‬ ‫استفاد ٌّ‬
‫ٍ‬
‫قريش»(((‪.‬‬ ‫الشافعي معرف َة الحديث من أحمد(((‪ ،‬وأخذ أحمد عنه التفتيق ولغة‬
‫الشافعي ألحمد‬
‫ّ‬ ‫قال ابن كثير رحمه اهلل تعالى في البداية والنهاية‪« :‬وقد قال‬
‫لما اجتمع به في الرحلة الثانية إلى بغداد سنة تسعين ومئة ـ وعمر أحمد إذ ذاك‬
‫صح عندكم الحديث فأعلمني به؛‬ ‫نيف وثالثون سن ًة ـ قال له‪ :‬يا أبا عبد اهلل إذا ّ‬
‫أذهب إليه حجاز ًّيا كان أو شام ًّيا أو عراق ًّيا أو يمن ًّيا»‪.‬‬
‫ٌ‬
‫وإجالل له‬ ‫تعظيم ألحمد‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ثم قال ابن كثير‪« :‬وقول الشافعي له هذه المقالة‬
‫وأنه عنده بهذه المثابة إذا صحح أو ضعف يرجع إليه وقد كان اإلمام أحمد بهذه‬
‫المثابة عند األئمة والعلماء‪ ...‬وقد َب ُعدَ صيته في زمانه واشتُهر اسمه في شبيبته في‬
‫اآلفاق»‪ ،‬انتهى كالم ابن كثير‪ .‬ولقد كانت المودة والمحبة بين اإلمامين مشهورة‪.‬‬
‫ـ اإلمام عبد الرزاق الصنعاني ـ صاحب «المصنّف» ـ‪:‬‬
‫وقال عبد الرزاق الصنعاني ـ‪ :‬ما رأيت أحدً ا أفقه وال أورع من أحمدَ ِ‬
‫بن‬
‫ٍ‬
‫جريج»‪.‬‬ ‫َ‬
‫حنبل‪ .‬قال الذهبي‪« :‬قال هذا‪ ،‬وقد رأى مثل الثوري ومالك وابن‬
‫ـ اإلمام ابن راهويه‪:‬‬
‫ِ‬
‫راهويه‪ :‬حدّ ثني أبي‪ ،‬قال‪ :‬قال لي أحمدُ بن حنبل‪:‬‬ ‫َ‬
‫إسحاق بن‬ ‫قال محمد بن‬

‫((( وشهد بذلك‪ :‬أبو حاتم وأبو زرعة وابن راهويه‪.‬‬


‫((( ع َّلق شيخنا العالمة إسماعيل بدران في معنى التفتيق فقال‪« :‬طالقة اللسان واستخراج الشيء‬
‫من الشيء كاالجتهاد مثالً»‪.‬‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪32‬‬
‫الشافعي‪ ،‬قال أبي‪ :‬وما رأى الشافعي‬
‫ّ‬ ‫تعال حتى أريك من لم ُي َر مث ُله‪ ،‬فذهب بي إلى‬
‫َ‬
‫مثل أحمد بن حنبل‪ .‬ولوال أحمد وبذل نفسه‪ ،‬لذهب اإلسالم ـ يريد المحنة‪.‬‬
‫وروي عن إسحاق بن راهويه‪ ،‬قال‪ :‬أحمد حجة بين اهلل وبين خلقه‪.‬‬
‫وقال ابن راهويه‪ :‬كنت أجالس أحمد وابن معين‪ ،‬ونتذاكر فأقول‪ :‬ما فقهه؟‬
‫ما تفسيره؟ فيسكتون إال أحمد‪.‬‬
‫ـ ابن أبي شيب َة صاحب «المصنف»‪:‬‬
‫قال أبو بكر بن أبي شيبة‪« :‬ال يقال ألحمد بن حنبل‪ :‬من أين قلت؟ ألنه ال‬
‫يقول شي ًئا إال بأثر بعد تمحيصه وتنقيحه»‪.‬‬
‫ـ أبو داود صاحب «السنن»‪:‬‬
‫قال أبو داود‪ :‬لقيت مئتين من مشايخ العلم فما رأيت مثل أحمد بن حنبل‪،‬‬
‫لم يكن يخوض في ٍ‬
‫شيء مما يخوض فيه الناس من أمر الدنيا فإذا ُذ ِكر العلم تك َّل َم‪.‬‬
‫ـ إبراهيم الحربي‪:‬‬
‫قال إبراهيم الحربي‪« :‬كل شيء أقول لكم‪ :‬هذا قول أصحاب الحديث‪ ،‬فهو‬
‫قول أحمد بن حنبل‪ ،‬هو ألقى في قلوبنا منذ كنّا غلمانًا اتباع حديث رسول اهلل ﷺ‪،‬‬
‫وأقاويل الصحابة واالقتداء بالتابعين»(((‪.‬‬

‫مقدار حفظه‪:‬‬
‫ٍ‬
‫حديث‪،‬‬ ‫قال عبد اهلل بن أحمد‪« :‬قال لي أبو زرعة‪ :‬أبوك يحفظ ألف ألف‬
‫فقيل له‪ :‬وما يدريك؟ قال‪ :‬ذاكرته فأخذت عليه األبواب»‪.‬‬

‫((( طبقات الحنابلة البن أبي يعلى رحمه اهلل ‪.234/1‬‬


‫‪33‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫املبحث األول‪ :‬يف التعريف باإلمام أمحدَ وبمدرسته‬

‫قال الذهبي في «السير»‪ :‬فهذه حكاي ٌة صحيح ٌة في سعة علم أبي عبد اهلل‪،‬‬
‫وكانوا يعدون في ذلك المكرر‪ ،‬واألثر‪ ،‬وفتوى التابعي‪ ،‬وما ُف ِّسر‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬
‫وإال فالمتون المرفوعة القوية ال تبلغ عشر معشار ذلك‪.‬‬
‫وعن أبي زرعة قال‪ :‬حزرت كتب أحمد يوم مات‪ ،‬فبلغت اثني عشر حملاً ‬
‫وعدلاً ‪.‬‬
‫قال اإلمام السفاريني في «غذاء األلباب»‪« :‬وفي ثمار منتهى العقول في‬
‫منتهى النقول لإلمام الحافظ جالل الدين السيوطي ما نصه‪ :‬انتهى الحفظ البن‬
‫بعيرا‪.‬‬
‫جرير الطبري فريد في علم التفسير‪ ،‬وكان يحفظ كت ًبا حمل ثمانين ً‬
‫ألف ٍ‬
‫بيت‬ ‫اس وحفظ ثالثمئة ِ‬ ‫ٍ‬
‫جمعة ألف ك َُّر ٍ‬ ‫وحفظ ابن األنباري في كل‬
‫من الشعر استشهادا للنحو‪ .‬وكان اإلمام الشافعي يحفظ من مر ٍة أو ٍ‬
‫نظرة‪ .‬وابن‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫ٍ‬
‫حديث‪.‬‬ ‫ألف ِ‬
‫ألف‬ ‫ٍ‬
‫واحدة‪ .‬وأبو زرعة كان يحفظ َ‬ ‫سينا الحكيم حفظ القرآن في ٍ‬
‫ليلة‬
‫ِ‬
‫بعض محفوظ اإلمام‬ ‫ٍ‬
‫حديث‪ .‬والكل من‬ ‫والبخاري حفظ عشرها أي مئة ألف‬
‫أحمد بن حنبل رضي اهلل عنه‪ .‬انتهى كالم السيوطي‪.‬‬
‫واحد من الحفاظ منهم ابن حجر العسقالني أنه لم ُي ِحط أحد‬
‫ٍ‬ ‫وذكر غير‬
‫بسنة المصطفى ﷺ غير اإلمام أحمد بن حنبل‪ .‬وهذه منقب ٌة امتاز بها عن سائر‬
‫هذه األمة وعمن مضى‪ ،‬وعمن بقي من األئمة»‪ .‬انتهى كالم السفاريني‪.‬‬

‫مرجعية اإلمام أحمد بن حنبل لألمة‪:‬‬

‫الصفات هيأت اإلمام أحمد ليكون مرجعي َة األ ّمة في عصره خاص ًة‬
‫كل هذه ِّ‬
‫بعد ثباته في المحنة‪.‬‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪34‬‬
‫فهو رأس العلماء في عصره‪ ،‬ومرجعهم في الفقه والعلل والحديث والعقائد‪:‬‬
‫قال الطبراني‪ :‬حدّ ثنا إدريس بن عبد الكريم المقرئ(((‪ ،‬قال‪ :‬رأيت علماءنا‬
‫مثل الهيثم بن خارجة‪ ،‬ومصعب الزبيري‪ ،‬ويحيى بن معين‪ ،‬وأبي بكر بن أبي‬
‫شيبة‪ ،‬وأخيه‪ ،‬وعبد األعلى بن حماد‪ ،‬وابن أبي الشوارب‪ ،‬وعلي بن المديني‪،‬‬
‫والقواريري‪ ،‬وأبي خيثمة‪ ،‬وأبي معمر‪ ،‬والوركاني‪ ،‬وأحمد بن محمد بن أيوب‪،‬‬
‫يونس‪،‬‬ ‫ومحمد بن ٍ‬
‫بكار‪ ،‬وعمرو الناقد‪ ،‬ويحيى بن أيوب المقابري‪ ،‬وسريج بن َ‬
‫وخلف بن هشا ٍم‪ ،‬وأبي الربيع الزهراني‪ ،‬فيمن ال أحصيهم‪ ،‬يعظمون أحمد‬
‫ويجلونه ويوقرونه ويبجلونه ويقصدونه للسالم عليه‪.‬‬
‫كبيرا حتى نُقل عن ابن المديني وذي النون‬
‫تعظيما ً‬
‫ً‬ ‫وكان العلماء يعظمونه‬
‫المصري وبشر الحافي ومهنا وأبي عبيد واألثرم وأبي داود وأبي ثور ويحيى بن‬
‫آدم أنهم كانوا يقولون لالمام أحمد‪ :‬إمامنا وسيدنا وشيخنا‪.‬‬
‫كثيرا من العلماء والفقهاء والمحدثين‪،‬‬
‫وعن عبد اهلل بن أحمد قال‪ :‬رأيت ً‬
‫وبني هاش ٍم وقريش واألنصار‪ُ ،‬يق ِّبلون أبي‪ :‬بعضهم يده وبعضهم رأسه‪ ،‬ويع ّظمونه‬
‫تعظيما لم أرهم يفعلون ذلك بأحد من الفقهاء غيره‪ .‬ولم أره يشتهي ذلك‪.‬‬
‫ً‬
‫وكان فقهاء بغداد يرجعون إليه في الـمشكالت الصعبة كما في مسألة‬
‫الخروج على الحاكم في عهد الواثق‪.‬‬
‫قال حنبل‪« :‬اجتمع فقهاء بغداد إلى أبي عبد اهلل في والية الواثق‪ ،‬وشاوروه‬
‫في ترك الرضا بإمرته وسلطانه‪ ،‬فقال لهم‪ :‬عليكم بالنّكرة في قلوبكم‪ ،‬وال تخلعوا‬
‫يدً ا من طاعة وال تشقوا عصا المسلمين‪ ،‬وال تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين‪،‬‬

‫((( وهو مقرئ العراق‪ ،‬أبو الحسن البغدادي‪ ،‬قرأ على خلف البزار وغيره‪ .‬وتصدر لإلقراء توفي‬
‫سنة اثنتين وتسعين ومئتين‪ ،‬وله ثالث وتسعون سن ًة‪ .‬سير أعالم النبالء ‪.42/27‬‬
‫‪35‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫املبحث األول‪ :‬يف التعريف باإلمام أمحدَ وبمدرسته‬

‫وذكر الحديث عن النبي ﷺ‪« :‬إن ضربك فاصبر» أمر بالصبر(((‪ .‬وفي هذه الرواية‬
‫دليل على أن الفقيه يلتزم النصوص الشرعية وإن خالفت رغبته وهواه‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫ٍ‬
‫حرب‪:‬‬ ‫وانظر إلى هذه الرواية لمعرفة تأثير العالِم في األمة‪ .‬قال إسماعيل بن‬
‫حصي ما ر َّد أحمد بن حنبل حين جيء به إلى العسكر فإذا هو سبعون أل ًفا(((‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُأ‬
‫وقال المروذي حين أخذ اإلمام أحمد‪ :‬فخرجت إلى رحبة دار الخليفة‬
‫فرأيت خل ًقا من الناس ال يحصي عددهم إال اهلل‪ ،‬والصحف في أيديهم واألقالم‬
‫ٍ‬
‫شيء تعملون؟ فقالوا‪ :‬ننتظر ما‬ ‫والمحابر في أذرعتهم‪ ،‬فقال لهم المروذي‪ :‬أي‬
‫يقول أحمد فنكتبه(((‪.‬‬
‫وقال غيره لإلمام أحمد‪َّ :‬‬
‫إن أعي َن الناس ممدود ٌة إليك‪ .‬يا هذا أنت اليوم‬
‫رأس والناس يقتدون بك(((‪ ،‬فواهلل إن أجبت إلى خلق القرآن ليجيب َّن بإجابتك‬
‫ٌ‬
‫خ ْل ٌق من خلق اهلل‪ .‬وكل ذلك يدل على أنه رئيس علماء األمة في ذلك العصر‪.‬‬
‫المحنة‪:‬‬
‫لقد عاش اإلمام أحمد فتن َة الدين وفتن َة الدّ نيا على مدى أكثر من عشرين‬
‫بشيء‪ ،‬وقد حاول الخلفاء معه بكل ٍ‬
‫حيلة حتى يستميلوه‬ ‫ٍ‬ ‫سن ًة‪ ،‬ولكنه لم يتلبس منها‬
‫يجلس معهم وال أن يراهم‪.‬‬
‫َ‬ ‫بالتَّرغيب والتَّرهيب‪ ،‬فلم يقبل أن‬
‫وقد غضب عليه ثالث ٌة من الخلفاء ـ المأمون والمعتصم والواثق ـ فسجنوه‬
‫وجلدوه ليوافقهم في بدعتهم؛ فلم يقبل ثم منعوه من التحديث وأمروه بالخروج‬

‫((( طبقات الحنابلة ‪.145/1‬‬


‫((( طبقات الحنابلة‪.10/1‬‬
‫((( مناقب اإلمام أحمد‪ ،‬ابن الجوزي‪ ،‬ص‪.408‬‬
‫((( وقال غيره لإلمام أحمد‪ :‬إن أعين الناس ممدود ٌة إليك‪.‬‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪36‬‬
‫يرض ْخ لهم‪ ،‬ولم‬
‫مرارا‪ .‬ومع ذلك لم َ‬
‫من بغداد‪ ،‬مع مالحقته ومراقبة بيته وتفتيشه ً‬
‫يأخذ بالتقية(((‪ ،‬فرحمة اهلل عليه ورضي عنه‪.‬‬
‫نهاية فتنة القول بخلق القرآن‪:‬‬
‫السنَّـ َة‪ ،‬وفرج عن الناس‪ ،‬وكان‬
‫ولي المتوكل جعفر فأظهر اهللُ ُّ‬
‫قال حنبل‪َ :‬‬
‫أبو عبد اهلل يحدّ ثنا ويحدث أصحابه في أيام المتوكل‪.‬‬
‫فانتهت بذلك فتنة الدّ ين بالنسبة لإلمام أحمد‪ ،‬وبدأت فتنة الدنيا والمال‬
‫يتقرب منه المتوكّل‪ ،‬ورفض كل هداياه‪ ،‬ورفض‬
‫والجاه فردها كلها‪ ،‬ورفض أن ّ‬
‫يجيب عن فتاوى‬
‫َ‬ ‫أن تكون له المرجعية العلمية األولى في الدولة‪ ،‬ورفض أن‬
‫السلطان؛ لئال تكون ذريع ًة لما بعدها‪.‬‬
‫وفاته‪ :‬سنة ‪241‬هـ‪:‬‬
‫قال عبد اهلل‪ :‬سمعت أبي يقول‪« :‬استكملت سب ًعا وسبعين سن ًة‪ ،‬ودخلت‬
‫فح َّم من ليلته‪ ،‬ومات اليوم العاشر»‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫في ثمان‪ُ ،‬‬
‫قال حنبل‪ :‬ولما طالت عل ُة أبي عبد اهلل كان المتوكّل يبعث بابن ماسويه‬
‫المتط ِّبب‪ ،‬فيصف له األدوية‪ ،‬فال يتعالج‪ .‬وقال ابن ماسويه‪ :‬ليست بأحمد ِع ّل ٌة‪،‬‬
‫إنما هو من قلة الطعام والصيام والعبادة‪.‬‬
‫وتوفي رضي اهلل عنه في ربيع األول سنة ‪241‬هـ‪.‬‬
‫أما ِجنازته قال الخالل‪ :‬سمعت عبد الوهاب الوراق‪ ،‬يقول‪ :‬ما بلغنا أن جم ًعا‬
‫في الجاهلية وال اإلسالم مثله ـ يعني‪ :‬من شهد الجنازة ـ حتى بلغنا أن الموضع‬
‫مسح وح ِزر على الصحيح‪ ،‬فإذا هو نحو من ألف ٍ‬
‫ألف‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫((( كان يقول‪ :‬إذا أجاب العالم تقي ًة كيف سيتّضح الحق للناس؟‬
‫‪37‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫املبحث األول‪ :‬يف التعريف باإلمام أمحدَ وبمدرسته‬

‫المطلب الثاني‬
‫ُ‬
‫أعالم الحنابلة وأوطانهم‬
‫حنبلي‪ ،‬ومنهم أعال ٌم‬
‫ٍّ‬ ‫ُثر‪ ،‬تُرجم لما يقرب سبعة آالف‬
‫علماء الحنابلة ك ٌ‬
‫لألمة كلها‪ ،‬فيكفي أن أربع ًة من أصحاب كتب الحديث الستة من الحنابلة‪.‬‬
‫ويكفي أن إمام متكلمي أهل السنة اإلمام األشعري قد انتسب إليه؛‬
‫حيث قال األشعري رضي اهلل عنه في «اإلبانة»‪« :‬قولنا الذي نقول به وديانتنا‬
‫محم ٍد ﷺ‪ ،‬وما‬ ‫عز ّ‬
‫وجل‪ ،‬وبسنّة نبينا ّ‬ ‫التمسك بكتاب اهلل ر ّبنا َّ‬
‫ُّ‬ ‫التي ندين بها‪،‬‬
‫روى عن السادة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث‪ ،‬ونحن بذلك معتصمون‪،‬‬
‫حنبل ـ نضر اهلل وجهه‪ ،‬ورفع‬
‫ّ‬ ‫وبما كان يقول به أبو عبد اهلل أحمد بن محمد بن‬
‫درجته وأجزل مثوبته ـ قائلون‪ ،‬ولما خالف قوله مخالفون؛ ألنّه اإلمام الفاضل‪،‬‬
‫والرئيس الكامل‪.»...‬‬
‫ِ‬
‫التصوف انتسبوا إليه ومنهم‪ :‬ذو النون المصري‪ ،‬وابن‬ ‫وإن كثيرا من ِ‬
‫أئمة‬ ‫ً‬
‫األعرابي واإلمام الجنيد(((‪ ،‬وسهل التستري‪ ،‬وأبو عمرو القرشي‪ ،‬واإلمام عبد‬
‫ولي إال على معتقد اإلمام أحمد»‪.‬‬
‫القادر الجيالني حيث قال‪« :‬ال يكون هلل ٌّ‬
‫وإن تقي الدين بن تيمية وابن قـيم الجوزية وابن الجوزي وابن قدامة‬
‫والحافظ عبد الغني المقدسي والضياء المقدسي وابن أبي الدنيا والطبراني وابن‬
‫شاهين وابن رجب والذهبي وابن عقيل والطوفي وابن مفلح والمرداوي‬
‫أيضا‪.‬‬
‫والسفاريني قد انتسبوا إليه ً‬
‫وكان منهم من تو ّلى قضاء بغداد ومكة والمدينة والقدس ومصر وغزة‬

‫((( نسبه ابن أبي يعلى الى الحنابلة في الطبقات‪.‬‬


‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪38‬‬
‫َّ‬
‫وبعلبك وحران وأصبهان‬ ‫والرملة واخلليل ومحص((( وحلب والصاحلية يف دمشق‬
‫ونجد‪ .‬ومنهم من تولى مشيخة األزهر‪ .‬ومنهم من تولى إمامة الحرمين‪.‬‬
‫أن منهـم كبار علماء أهل ال ُّلغة والقراءات مثل‪ :‬ثعلب((( وابن‬
‫ويكفي ّ‬
‫والز ّجاج والنحاس وغالم ثعلب وابن األنباري وأبو البقـاء العكبري‬
‫نفطويه ّ‬
‫والفرزدقي((( وابن هشام ـ وكان شافع ًّيا ثم تحنبل((( ـ وابن الخشاب‪.‬‬
‫ومن القراء‪ :‬أبو بكر بن مجاهد(((‪ ،‬وهو أول من س َّبع القراءات السبعة وهو‬
‫منصور الخياط المقرئ صاحب كتاب «المبهج»‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫شيخ الصنعة‪ ،‬وسبط أبي‬
‫كثيرا من المجددين في التاريخ اإلسالمي قد انتسبوا إليه كاألشعري‬
‫كما أن ً‬
‫وابن حزم ـ في األصول ـ والجيالني وابن الجوزي وابن قدامة وابن تيمية وابن‬

‫شخصا رأى النبي ﷺ فقال له‪ :‬إن خالدً ا ُولِد‬


‫ً‬ ‫حنبلي كان أبوه خالد شافع ًّيا فيقال‪ّ :‬‬
‫إن‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫قاض‬ ‫((( أول‬
‫ِ‬
‫له ولدٌ حنبلي فاتفق أنه كان ُولدَ له هذا فشغله لما كبر بمذهب الحنبلية‪ .‬انظر‪ :‬إنباء الغمر البن‬
‫حجر‪.134/8:‬‬
‫كثيرا من الكوفيين النحويين على مذهب‬ ‫((( على مذهب الكوفيين في النحو‪ ،‬والذي الحظته ّ‬
‫أن ً‬
‫اإلمام أحمد‪.‬‬
‫((( نسبة الى جده الفرزدق الشاعر‪ ،‬له كتب في التفسير والنحو والعروض مات سنة تس ٍع وسبعين‬
‫ٍ‬
‫وأربعمئة‪ .‬بغية النحاة ‪.95/2‬‬
‫((( وهو جمال الدين أبو محمد عبد اهلل بن يوسف بن هشام األنصاري الحنبلي النحوي العالمة‪،‬‬
‫كان شافع ًيا ثم تحنبل فحفظ مختصر الخرقي في دون أربعة أشهر وذلك قبل موته بخمس سنين‬
‫وأتقن العربية‪ ،‬قال ابن خلدون‪ :‬وما زلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية يقال‬
‫له ابن هشام أنحى من سيبويه‪ ،‬صنف مغني اللبيب عن كتب األعاريب وغيره‪.‬‬
‫ٍ‬
‫صحيح ألن أكثر شيوخه من الحنابلة ـ ومنهم عبد اهلل‬ ‫((( نسبه السبكي في طبقاته للشافعية وهو غير‬
‫كثير أن البسملة صارت‬ ‫ابن أحمد ـ وألنه كان يفتتح الصالة بالحمد ال بالبسملة‪ ،‬وقد ذكر ابن ٍ‬
‫كالشعار للشافعية‪.‬‬
‫‪39‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫املبحث األول‪ :‬يف التعريف باإلمام أمحدَ وبمدرسته‬

‫الق ِّيم وابن عبد الوهاب على اختالف اتجاهاتهم‪ ،‬إلاّ أنهم قد انتسبوا للمذهب‬
‫الحنبلي‪ ،‬مع أننا قد ال نتفق مع بعض آرائهم‪.‬‬

‫آفاق الحنابلة وأوطانهم‪:‬‬

‫تكون المذهب الحنبلي في بغداد‪ ،‬محل مولد اإلمام أحمد‪ ،‬سنة (‪164‬هـ)‬
‫َّ‬
‫ووفاته فيها سنة (‪241‬هـ)‪ ،‬وعنها انتشر في أنحاء العراق‪ ،‬ولم ينتشر خارج العراق‬
‫إلاّ في القرن الرابع فما بعد إذ خرج المذهب إلى الشام‪ ،‬وهو قاعدة الحنابلة الثانية‪،‬‬
‫في فلسطين‪ ،‬وأعمالها‪ :‬رامين‪ ،‬وجنين‪ ،‬ومردا‪ ،‬وقصبتها‪ :‬نابلس‪ ،‬وطول كرم من‬
‫أيضا‪ :‬شويكه‪ ،‬وسفارين‪ ،‬وكفر لبد‪ ،‬وكفر قدوم‪ ،‬وحجة‪،‬‬
‫قرى نابلس‪ ،‬ومن عملها ً‬
‫وطرابلس‪ .‬وفي دمشق وما حولها وبعلبك وما حولها‪.‬‬
‫ٍ‬
‫متتابعة‪ ،‬في بغداد ّأولاً ‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫زمانية‬ ‫ٍ‬
‫حقب‬ ‫وكانت عواصم قوته‪ ،‬وانتشاره في‬
‫ثم في الشام في القدس ونابلس وطول كرم‪ ،‬ودمشق وأعمالها‪ ،‬ثم صار له ٌ‬
‫شأن‬
‫في مصر بالقاهرة‪ ،‬ثم تحولت قاعدته العريضة في نجد قلب جزيرة العرب منذ‬
‫عشر تقري ًبا حتى اآلن(((‪.‬‬
‫الحادي َ‬
‫ْ‬ ‫القرن‬

‫أين ينتشر المذهب اليوم؟‬


‫ينتشر المذهب في هذا العصر في بعض القرى المحيطة بدمشق مثل دوما‬
‫والضمير والرحيبة‪ ،‬وفي فلسطين كقرى نابلس وطول كرم‪ ،‬وفي الحجاز واألحساء‬
‫ونجد وبعض إمارات الخليج العربي كالكويت والشارقة ورأس الخيمة وقطر‪.‬‬
‫جماعات جهادي ٌة في مصر والعراق‬
‫ٌ‬ ‫واليوم يأخذ بفقه اإلمام أحمد وعقيدته‬

‫((( المدخل المفصل ‪.498/1‬‬


‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪40‬‬
‫الهجري ـ إال أنهم بحاجة إلى تفقه في‬
‫ِّ‬ ‫عشر‬
‫الخامس َ‬
‫َ‬ ‫والشام ـ في هذا القرن‬
‫علوم الشريعة وأخذها عن شيوخها‪َّ ،‬‬
‫فإن الجها َد بغير علم إفسا ٌد في األرض واهلل‬
‫ال يحب الفساد‪ ،‬وفي األثر‪« :‬ال يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم»‪،‬‬
‫وأكثر المتصدرين اليوم في ساحات القتال وعلى شاشات التلفاز من األصاغر‬
‫وفهما؛ ولذلك كثرت الفتن‪.‬‬
‫ً‬ ‫المنقطعين إسنا ًدا‬

‫إقامة األدلة على رجحان مذهب إمام الملة‪:‬‬


‫قديما لذوي العقول‪ ،‬وفيها األدلة المقنعة على رجحان‬
‫فهذه رسالة كتبتها ً‬
‫رجحت المذهب‬
‫ُ‬ ‫مذهب اإلمام أحمد بن حنبل على غيره من المذاهب‪ .‬وقد‬
‫على غيره من عشرة وجوه هي‪:‬‬
‫األول‪ :‬أنه قد اجتمع فيه ما لم يجتمع في غيره‪ ،‬فقد تتلمذ على أبي يوسف‪،‬‬
‫وقرأ كتب محمد بن الحسن‪ ،‬وتتلمذ على كبار أهل الحديث كابن عيينة ويحيى‬
‫ابن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي وعبد الرزاق‪ ،‬مع معرفته الفائقة بالحديث‬
‫وعلله‪ ،‬حتى كان يرجع إليه اإلمام الشافعي ويسأله‪.‬‬
‫وتتلمذ على الشافعي وأخذ علم األصول منه‪ .‬مع إمامته في اللغة فقد كتب‬
‫منها أكثر مما كتب أبو عمرو‪ .‬وإمامته في التفسير فقد جمع في التفسير أكثر من‬
‫مئة ألف رواية‪ .‬وتفرد بقراءة قرآنية كما حكى ابن الجزري‪.‬‬
‫مع معرفته باختالف الناس وفتاوى أبي حنيفة ومالك والثوري والليث‬
‫ومحمد الباقر وجعفر الصادق والشافعي‪.‬‬
‫مع اجتماعه بأئمة التصوف النقي كبشر الحافي ومعروف الكرخي‪ .‬فجمع‬
‫نورا على نور‪.‬‬
‫الشريعة والطريقة والحقيقة‪ ،‬مما زاد مذهبه ً‬
‫‪41‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫املبحث األول‪ :‬يف التعريف باإلمام أمحدَ وبمدرسته‬

‫قال عبد الرزاق‪ :‬ما رأيت أحدً ا أفقه وال أورع من أحمد بن حنبل‪ .‬قال‬
‫الذهبي في «السير» معل ًقا عليه‪« :‬قلت‪ :‬قال هذا وقد رأى مثل الثوري ومالك‬
‫وابن جريج»‪.‬‬
‫وقيل ألبي زرعة اختيار أحمد وإسحاق أحب إليك أم قول الشافعي؟ قال‪:‬‬
‫بل اختيار أحمد فإسحاق‪ ،‬ما أعلم أحدً ا أسود الرأس أفقه من أحمد بن حنبل‪.‬‬
‫«سير أعالم النبالء»‪.‬‬
‫افعي رضي اهلل عنه خرجت من بغداد وما خ َّلفت‬ ‫الش ُّ‬ ‫وقال سيدنا اإلما ُم َّ‬
‫أورع وال أتقى وال أفقه وال أعلم من أحمد بن حنبل‪ .‬وقد ثبت أنه قال‬ ‫بها أحدً ا َ‬
‫ألحمد‪ :‬يا أبا عبد اهلل إذا صح عندكم الحديث فأعلمني به أذهب إليه حجاز ًيا‬
‫كان أو شام ًيا أو عراق ًيا أو يمن ًيا‪ .‬وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم‪ :‬سمعت أبي‬
‫يقول‪ :‬أحمد بن حنبل أكبر من الشافعي‪ ،‬وكان أحمد بارع الفهم لمعرفة الحديث‬
‫بصحيحه وسقيمه‪ ،‬وتعلم الشافعي أشياء من معرفة الحديث منه‪ ،‬وكان الشافعي‬
‫يقول ألحمد‪ :‬حديث كذا وكذا قوي اإلسناد محفوظ؟ فإذا قال أحمد نعم‪ ،‬جعله‬
‫أصلاً وبنى عليه‪.‬‬
‫ِ‬ ‫قول في منتهى الن ِ‬ ‫«ثمار منتهى ال ُع ِ‬
‫الحافظ‬ ‫ُّقول» لإلمام‬ ‫ُ‬ ‫ِ ُ‬ ‫قال السفاريني في‬
‫نصه‪:‬‬‫يوطي ما ُّ‬ ‫ِ‬
‫جالل الدِّ ِ‬
‫الس ِّ‬
‫ين ُّ‬
‫ٍ‬
‫حنبل رضي اهلل عنه» انتهى‪.‬‬ ‫«والكل من بعض محفوظ اإلمام أحمد بن‬ ‫ُّ‬
‫العسقالني أنه لم ُيحط أحدٌ‬ ‫ٍ‬
‫حجر‬ ‫واحد من الح َّف ِ‬
‫اظ منهم ابن‬ ‫ٍ‬ ‫وذكر غير‬
‫ُّ‬
‫ٍ‬
‫حنبل(((‪.‬‬ ‫بسنَّة المصطفى ﷺ غير اإلمام أحمد بن‬

‫نص اإلمام أحمد على أنه ال يجوز لمن لم يحفظ خمسمئة ألف حديث أن يفتي ـ أي‪:‬‬ ‫((( وقد َّ‬
‫اإلفتاء المطلق ـ ونحن نقلد من يحفظ هذا العدد وهذا غير متوفر عند غيرنا من المقلدين؛ ألن‬
‫أئمتهم ال يحفظون مثل هذا العدد‪.‬‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪42‬‬
‫وعمن بقي من‬ ‫وهذه منقب ٌة امتاز بها عن سائر هذه األ َّمة َّ‬
‫وعمن مضى‪َّ ،‬‬
‫األئمة‪.‬‬
‫َّ‬
‫َّوهم واهلل ما أجد‬ ‫ٍ‬
‫حنبل بالت ُّ‬ ‫الحربي‪ :‬يقول النَّاس أحمد بن‬
‫ُّ‬ ‫ولذا قال إبراهيم‬
‫ألحد من التَّابعين عليه مز َّية‪ ،‬وال أعرف أحدً ا يقدر قدره‪ ،‬وال يعرف من اإلسالم‬
‫مح َّله‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬اعتراف األئمة من أهل زمانه بإمامته في الفقه والحديث والقرآن‬
‫واللغة والورع والزهد‪ ،‬ومنهم الشافعي وأبو عبيد والحربي وابن المديني وأبو‬
‫ثور وعبد الرزاق وأبو زرعة وأبو حاتم وابن راهويه والنسائي والترمذي وأبو‬
‫داود وغيرهم‪ .‬وال عبرة بعد ذلك بأقوال شرذمة من المخالفين فنقل كالمهم‬
‫قبيح عقلاً ‪.‬‬
‫ٍ‬
‫حنبل‪.‬‬ ‫الوراق‪ :‬ما رأيت مثل أحمد بن‬
‫الوهاب َّ‬ ‫قال عبد َّ‬
‫شيء بان لك من فضله وعلمه على سائر من رأيت؟ قال‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫وأي‬
‫قالوا له‪ُّ :‬‬
‫ٍ‬
‫مسألة فأجاب فيها بأن قال حدَّ ثنا وأخبرنا وروينا‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫رجل ُسئل عن ستِّين ألف‬
‫أئمة الدُّ نيا فعلها‪.‬‬
‫قال السفاريني‪« :‬وهذه كاألولى ال يعلم أحدٌ من َّ‬
‫األئمة عن معشار عشر ذلك فأحجم عن الجواب عن‬
‫كثير من َّ‬
‫وقد سئل ٌ‬
‫أكثرها»‪.‬‬
‫شرق وال ٍ‬
‫غرب مثله‪ ،‬ما رأيت رجلاً أعلم‬ ‫قال أبو ٍ‬
‫عبيد‪ :‬صدق ليس في ٍ‬
‫بالسنَّة منه‪.‬‬
‫ُّ‬
‫حجة بين اهلل وبين‬ ‫ٍ‬
‫حنبل َّ‬ ‫ُ‬
‫إسحاق بن راهويه رضي اهلل عنه‪ :‬أحمد بن‬ ‫وقال‬
‫عبيده في أرضه‪.‬‬
‫‪43‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫املبحث األول‪ :‬يف التعريف باإلمام أمحدَ وبمدرسته‬

‫والزهد‬ ‫ٍ‬
‫حنبل في العلم ُّ‬ ‫ازي‪ :‬ما رأت عيناي مثل أحمد بن‬
‫الر ُّ‬ ‫وقال أبو زرعة َّ‬
‫وكل َخ ْي ٍر‪ ،‬ما رأت عيناي مثله‪ .‬وقال ً‬
‫أيضا‪ :‬ما رأيت أحدً ا أجمع‬ ‫ِ‬
‫والمعرفة ِّ‬ ‫والفقه‬
‫منه‪ ،‬وما رأيت أحدً ا أكمل منه‪.‬‬
‫وقال ابن رجب‪« :‬ومن تأمل كالمه في الفقه وفهم مأخذه ومداركه فيه‪ ،‬علم‬
‫قوة فهمه واستنباطه‪ .‬ولدقة كالمه في ذلك ربما صعب فهمه على كثير من أئمة‬
‫أهل التصانيف ممن هو على مذهبه‪ ،‬فيعدلون عن مآخذه الدقيقة إلى مآخذ أخر‬
‫ضعيفة يتلقونها عن غير أهل مذهبه‪ ،‬ويقع بسبب ذلك خلل كثير في فهم كالمه‬
‫وحمله على غير محامله‪ .‬وال يحتاج الطالب لمذهبه إال إلى إمعان وفهم كالمه‪.‬‬
‫ـي من فهمه وعلمه ما يقضي منه العجب‪ ،‬وكيف ال ولم يكن مسألة‬ ‫ِ‬
‫وقد ُرئ َ‬
‫سبق للصحابة والتابعين ومن بعدهم فيها كالم إال وقد علمه وأحاط علمه به وفهم‬
‫مأخذ تلك المسألة وفقهها‪ ،‬وكذلك كالم عامة فقهاء األمصار وأئمة البلدان ـ كما‬
‫يحيط به معرفته ـ كمالك‪ ،‬واألوزاعي‪ ،‬والثوري‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫وقد عرض عليه عامة علم هؤالء األئمة وفتاويهم‪ ،‬فأجاب عنها وجماعة‬
‫عرضوا عليه مسائل مالك وفتاويه من الموطأ وغيره‪ ،‬فأجاب عنها‪ .‬وقد نقل ذلك‬
‫عنه حنبل وغيره‪ .‬وإسحاق بن منصور عرض عليه عامة مسائل الثوري‪ ،‬فأجاب‬
‫ُب أصحاب أبي حنيفة وفهمها‪ ،‬وفهم مآخذهم في‬ ‫َب ُكت َ‬
‫عنها‪ .‬وكان أولاً قد كت َ‬
‫الفقه ومداركهم‪ ،‬وكان قد ناظر الشافعي وجالسه مدة وأخذ عنه‪.‬‬
‫وشهد له الشافعي ـ رضي اهلل عنه ـ تلك الشهادات العظيمة في الفقه والعلم‬
‫وأحمد مع هذا شاب لم يتكهل‪ .‬ومعلوم أن من فهم علم هذه العلوم كلها برع‬
‫شيء عنده معرفة الحوادث والجواب عنهـا‪ ،‬على قياس تلك‬ ‫ٍ‬ ‫فيها‪ ،‬فأسـهل‬
‫األصول المضبوطة والمآخذ المعروفة‪ .‬ومن هنا قال عنه أبو ثور‪ :‬كان أحمد إذا‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪44‬‬
‫سئل عن مسألة كأن علم الدنيا لوح بين عينيه‪ .‬او كما قال وال نعلم سنة صحيحة‬
‫علما‪ ،‬وكان أشد الناس اتبا ًعا للسنة إذا صحت‬
‫عن النبي ﷺ إال وقد أحاط بها ً‬
‫ولم يعارضها معارض قوي‪ .‬وترك األخذ بما لم يصح‪ ،‬وبما عارضه معارض‬
‫قوي جدً ا»‪ .‬انتهى كالم الحافظ ابن رجب‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬تأخره عن األئمة في الزمان مما مكنه من جمع الحديث النبوي‬
‫حيث حفظ ألف ألف حديث‪ ،‬وهذا لم يكن ألحد قبله وال بعده‪ .‬وقد دون‬
‫المسند كي يكون حجة للمسلمين‪ ،‬ولم يسبقه أحد إلى ذلك‪ .‬وهذا مكَّنه كذلك‬
‫من االطالع على مذاهب األئمة والحكم عليها‪ .‬قال العالمة ابن حمدان في «صفة‬
‫الفتوى» ‪« :47‬وكان اإلمام العالم السالك الناسك الكامل أبو عبد اهلل أحمد ابن‬
‫أئمة المذاهب المشهورة‪ ،‬ونظر‬
‫محمد بن حنبل رضي اهلل عنه‪ ،‬قد تأخر عن َّ‬
‫في مذاهبهم ومذاهب من قبلهم وأقاويلهم وسبرها وخبرها وانتقدها واختار‬
‫أرجحها وأصحها‪ ،‬ووجد من قبله قد كفاه مؤنة التَّصوير والتأصيل والتَّفصيل‪،‬‬
‫الصحيح‪ ،‬مع كمال‬
‫فتفرغ لالختيار والتَّرجيح والتنقيح والتكميل واإلشارة بين َّ‬
‫آلته وبراعته في العلوم الشرعية‪ ،‬وترجحه على من سبقه لما يأتي‪ ،‬ثم لم يوجد بعده‬
‫من بلغ محله في ذلك‪ ،‬كان مذهبه أولى من غيره باالتباع والتقليد‪ ،‬وهذا طريق‬
‫األئمة»‪.‬‬
‫اإلنصاف والسالمة من القدح في بعض َّ‬
‫يدونون‬
‫الرابع‪ :‬تدوين أكثر أقواله في حياته وبين يديه فقد كان كبار تالمذته ِّ‬
‫مسائله ويقرهم على ذلك‪ .‬فهذه مسائل عبد اهلل وصالح وأبي داود واألثرم‬
‫والكوسج والبغوي وغيرهم‪ .‬وفيها آالف المسائل الفقهية والحديثية واألصولية‪.‬‬
‫وبعض األئمة لم يكتب فقهه ولم يكتبه تالمذته بين يديه‪ ،‬ولم يدونوا أكثر مسائله‬
‫في حياته‪.‬‬
‫‪45‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫املبحث األول‪ :‬يف التعريف باإلمام أمحدَ وبمدرسته‬
‫وال يصح أن يقال َّ‬
‫بأن مذهبه ُد ِّون من قبـل الخالل‪ ،‬بل هو جمع أقواله‬
‫مدونه‪ .‬أما التدوين فقد حصل في عهد اإلمام‬
‫ومسائله‪ ،‬فهو جامع المذهب ال ِّ‬
‫وفي حضرته‪.‬‬
‫وقد اشتهر قوله في الناس ونقل مسائله أكثر من ‪ 310‬طالب غير المقلين‪،‬‬
‫فهذا الترمذي في سننه قد نقل في أكثر من ‪ 300‬موضع قول اإلمام أحمد مع غيره‬
‫من الفقهاء‪ ،‬وهي مسائل رواها عن الكوسج تلميذ أحمد‪ .‬وكذلك نقلها أبوداود‬
‫في السنن وابن المنذر وغيرهم‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬انتساب جماعات كثيرة من أهل الحديث والفقه واألصول واللغة‬
‫والتصوف وموافقته على مذهبه‪ ،‬وهم أكثر المذاهب في تدوين طبقات مذهبهم‪،‬‬
‫فلهم أكثر من عشرة كتب في طبقات المذهب‪ .‬مع اتصال إسناد المذهب إلى‬
‫اليوم دون أن يكون له دولة تدعمه كسائر المذاهب اإلسالمية‪ ،‬والمعروف في‬
‫التاريخ أن المذهب إذا لم يكن له سلطان يدعمه فإنه ينقرض‪ .‬وهذا دليل على‬
‫قوة المذهب‪.‬‬
‫السادس‪ :‬كثرة التيسير في المذهب مع االحتياط في العبادات دون تشديد‪.‬‬
‫والترخص في المعامالت دون تفريط واألمثلة كثيرة‪.‬‬
‫وخصوصا ما انفرد فيه ـ وهو ما ذكره ابن تيمية ـ مثل‬
‫ً‬ ‫السابع‪ :‬قوة أدلة أقواله‬
‫قوله بالمسح على العمامة والجوربين‪ ،‬فقد وافق فيها عد ًدا من الصحابة دون أن‬
‫علي بن عقيل‪« :‬قد خرج‬
‫يرد المنع عن غيرهم‪ .‬وقال العالمة المجتهد أبو الوفاء ّ‬
‫عن أحمد اختيارات بناها على األحاديث بنا ًء ال يعرفه أكثرهم‪ ،‬وخرج عنه من‬
‫دقيق الفقه ما ليس نرا ُه ألحد منهم»‪.‬‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪46‬‬
‫الثامن‪ :‬قرب مذهبه من روح الشريعة والتزامه النصوص دون أن يكون‬
‫ظاهر ًيا فقد أخذ بالقياس واالستحسان واالستصالح مع إدراكه لمقاصد الشريعة‪،‬‬
‫ووصوله مرتبة االجتهاد في االستنباط‪ ،‬وقد رد شيخ الشافعية ابن سريج على قول‬
‫الطبري وهو مقدم عند البعض على المزني في المذهب‪ ،‬قال الطبراني‪ :‬كنا في‬
‫مجلس بشر بن موسى يعني ابن صالح األسدي ومعنا أبو العباس بن سريج الفقيه‬
‫القاضي‪ ،‬فخاضوا في ذكر محمد بن جرير الطبري‪ ،‬وأنه لم يدخل ذكر أحمد بن‬
‫حنبل في كتابه الذي ألفه في اختالف الفقهاء‪ ،‬فقال أبو العباس بن سريج‪ :‬وهل‬
‫أصول الفقه إال ما كان يحسنه أحمد بن حنبل؟ حفظ آثار رسول اهلل ﷺ والمعرفة‬
‫بسنته واختالف الصحابة والتابعين رضي اهلل عنهم‪.‬‬
‫قال السفاريني‪« :‬لم يبق بعدما ذكره ابن سريج رحمه اهلل تعالى ِس َوى القياس‬
‫والرأي‪ ،‬وإنما يرجع إليه حيث ال نص‪ ،‬وأحمد رضي اهلل عنه َقدْ أحاط علمه‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫والصحابة والتابِعين‪ ،‬فهو أجدر األئمة بالصواب‬ ‫بالمنقول عن رسول اهلل ﷺ َّ‬
‫واهلل أعلم‪.‬‬
‫ونحن والشافعية والمالكية متفقون على أنه ال يذهب إلى القياس مع وجود‬
‫النص‪ ،‬وإن اختلفا في االحتجاج بأقوال الصحابة حيث ال يعارضها نص‪ ،‬وال‬
‫مثلها فمذهبنا اتباع المنقول‪ ،‬وتقديم خبر الرسول‪ ،‬وأقوال الصحابة الفحول‪،‬‬
‫بالشروط المذكورة في األصول‪ ،‬على القياس والمعقول‪ ،‬واهلل الموفق»‪.‬‬
‫التاسع‪ :‬أصوله العامة التي يوافق فيها جمهور الفقهاء مع أخذه بالمرسل‪،‬‬
‫وبقول الصحابي وبالحديث الضعيف‪ ،‬وله رأي خاص في اإلجماع ومنهج خاص‬
‫في الفتوى والتحديث‪ .‬وهذه أصول قد ال يشاركه في بعضها أحد‪ .‬ولم ينقل عنه‬
‫شذوذات فقهية‪.‬‬
‫‪47‬‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫شبهات حول املذهب احلنبيل ور ُّدها‬
‫ٌ‬ ‫املبحث الثالث‪:‬‬

‫مع تفرده المطلق عن األئمة بمئات المسائل‪ ،‬وتفرده عن الشافعي بأكثر من‬
‫تسعمئة مسألة‪ .‬قال الذهبي‪« :‬والقول بأن مذهب اإلمام أحمد ليس فيه مفردات‪،‬‬
‫تنكيت من المتعصبة على أنه ال حاجة لمذهب اإلمام أحمد؛ ألنه داخل في غيره»‪.‬‬
‫العاشر‪ :‬صحة معتقده ـ كسائر األئمة رضوان اهلل عليهم ـ في األسماء‬
‫والصفات اإللهية وفي اإليمان والقدر واألمور الغيبية مع ذمه للمجسمة والمعطلة‬
‫والنواصب‪ ،‬ودليل صحة معتقده انتساب اإلمام األشعري شيخ األشعرية إليه‬
‫وثناؤه عليه قال‪ :‬ونحن بذلك معتصمون وبما كان عليه اإلمام أحمد بن حنبل‬
‫نضر اهلل وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون‪ ..‬ألنه اإلمام الفاضل والرئيس‬
‫الكامل‪ ..‬فرحمة اهلل عليه من إمام مقدم وكبير مفهم وعلى جميع أئمة المسلمين‪.‬‬
‫وانتسـاب اإلمام عبد القادر الجيالني شيخ الـصوفية إليه‪ .‬وقد قال‪:‬ال‬
‫يكون هلل تعالى ولي إال على معتقد اإلمام أحمد‪ .‬وانتساب كثير من المجتهدين‬
‫المجددين إليه‪.‬‬
‫قال العالمة المجتهد ابن حمدان بعد ذكره ألدلة ترجيح المذهب في صفة‬
‫الفتوى‪« :‬فلذلك ونحوه تعين الوقوف ببابه واالنتماء إليه واالقتداء به واالهتداء‬
‫بنور صوابه‪ ،‬واالرتداء بهديه في وروده وإيابه واالقتفاء لمطالبه وأسبابه‪ ،‬واالكتفاء‬
‫بصحبة أصحابه؛ وألن مذهبه من أصح المذاهب وأكمل وأوضح المناهج وأجمل‪،‬‬
‫لكثرة أخذه له من الكتاب والسنة مع معرفته بهما وبأقوال األئمة وأحوال سلف‬
‫األمة‪ ،‬وتطلعه على علوم اإلسالم وتطلعه من األدلة الشرعية واألحكام‪ ،‬ودينه‬
‫التَّام وعمله العام‪ ،‬والثناء عليه من أكابر العلماء‪ ،‬وشهادتهم له باإلمامة والتقدم‬
‫على أكثر القدماء‪ ،‬وإطنابهم فِي مدحه وشكره وإسهابهم في نشر فضله وذكره‬
‫ولم يشكوا في صحة اعتقاده وانتقاده‪ ،‬وأن الصحة تحصل بإخباره والنفرة بإنكاره‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪48‬‬
‫والعبرة بإعتباره‪ ،‬والخبرة باختباره‪ ،‬والخيرة الختياره‪ ،‬بل يرجعون في دينهم إليه‬
‫ويعولون عليه ويرضون بما ينسب إليه ولو كذب عليه‪ ،‬فلله الحمد إذ وفقنا التباع‬
‫مذهبه واالبتداء بتحصيله وطلبه‪ ،‬ولالنتهاء إلى الرضى به لصحة مطلبه‪ ،‬وهذا‬
‫وأمثاله قليل من كثير ونقطة من بحر غزير»‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬


‫المبحث الثاني‬
‫منهج اإلمام أحمد في العقيدة والدعوة‬
‫‪51‬‬

‫المبحث الثاني‬
‫منهج اإلمام أحمد في العقيدة والدعوة‬
‫المطلب األول‬
‫والسنّة مع الرجوع إلى العلماء ال ِّثقات‬ ‫ِ‬
‫الكتاب ُّ‬ ‫ّباع‬
‫ات ُ‬

‫مشهور؛ فقد كان‬


‫ٌ‬ ‫اتباع القرآن والسنة النبوية وهذا‬
‫من أصول أحمد الرئيسة ُ‬
‫تحك رأسك إال بأثر فافعل»‪ .‬وقال‪« :‬إنما العلم ماأتى‬ ‫يقول‪« :‬إذا استطعت أن ال َّ‬
‫ٍ‬
‫هلكة»‪.‬‬ ‫من ُ‬
‫فوق»؛ أي‪ :‬وح ًيا‪ .‬وقال‪« :‬من ر َّد السنة فهو على شفا‬
‫وقال في رواية صالح‪« :‬ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون‬
‫عالما بالسنن»‪.‬‬
‫عالما باألسانيد الصحيحة‪ً ،‬‬
‫عالما بوجوه القرآن‪ً ،‬‬
‫ً‬
‫عالما بقول من تقدَّ م وإلاّ ‬
‫وقال في رواية حنبل‪« :‬ينبغي لمن أفتى أن يكون ً‬
‫فال يفتي»‪.‬‬
‫وقال في رواية يوسف بن موسى‪« :‬ال يجوز االختيار إلاّ لرجل عالم‬
‫بالكتاب والسنة»(((‪.‬‬
‫قياسا وال‬
‫ولم يكن اإلمام يقدم على الحديث الصحيح عملاً وال رأ ًيا وال ً‬
‫ٍ‬
‫حديث؛ ليكون‬ ‫صحابي‪ .‬وقد جمع المسند وهو ‪ 30‬ألف‬ ‫قول شيخ ٍ أو إما ٍم أو‬
‫ٍّ‬
‫حج ًة لألمة‪ .‬وهو أول من جمع سنة النبي ﷺ‪.‬‬

‫((( المسودة ‪ ،925 /2‬إعالم الموقعين ‪.45 /1‬‬


‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪52‬‬
‫وقد قال السبكي الشافعي‪« :‬وألف مسـنده وهو أصل من أصـول هذه‬
‫األمة»(((‪.‬‬
‫صحيحا ـ ‬
‫ً‬ ‫ولك َّن اإلمام أحمد ال يفتي بمجرد أن يجد حدي ًثا واحدً ا ـ ولو كان‬
‫بل ال بدَّ من جمع كل األحاديث في الباب لإلفتاء ـ وهذه آف ٌة من آفات من ُيسارع الى‬
‫الفتوى باألحاديث فقط ـ فقد قال‪« :‬من لم يجمع طرق الحديث؛ لم يفهم معناه»‪.‬‬
‫وقال‪« :‬إذا كان عند الرجل الكتب المصنفة فيها قول رسول اهلل ﷺ واختالف‬
‫الصحابة والتابعين؛ فال يجوز أن يعمل بما شاء‪ ،‬ويتخير فيقضي به‪ ،‬ويعمل به حتى‬
‫ٍ‬
‫صحيح»(((‪ .‬وفي هذا األثر‬ ‫أهل العلم ما يؤخذ به فيكون يعمل على ٍ‬
‫أمر‬ ‫يسأل َ‬
‫َ‬
‫حرمة اإلفتاء بكتب الحديث المجردة من غير مرجعية العلماء الثقات‪.‬‬
‫ونص‬
‫وقد شدّ د أحمد على ضرورة جمع السنة كلها قبل االجتهاد واإلفتاء؛ َّ‬
‫على أنه ال يجوز لمن لم يحفظ ‪ 400‬ألف حديث أن يفتي ـ أي اإلفتاء المطلق ـ‪.‬‬

‫فليس كل مسل ٍم وال كل طالب عل ٍم ً‬


‫قادرا على االستنباط من الكتاب والسنة‪،‬‬
‫وال على تمييز الناسخ من المنسوخ وال العام من الخاص‪ .‬وتكليفهم بذلك هو‬
‫خراب للدين والدنيا قال اإلمام‬
‫ٌ‬ ‫تكليف بما يشق عليهم وقد يكون محالاً ‪ .‬وهو‬
‫«ثم تكليفهم ـ أي‪ :‬تكليف العامة ـ االجتهاد يبطل‬
‫ابن قدامة في «روضة الناظر»‪ّ :‬‬
‫المعايش‪ ،‬ويوجب خراب الدنيا في طلب أهليته»‪.‬‬
‫شارحا قول ابن‬
‫ً‬ ‫وقال العالم ُة الطوفي في «شرح مختصر الروضة»‬
‫قدامة‪«« :‬ولعل أكثرهم»؛ أي‪ :‬أكثر العامة ـ لو تجرد لطلب أهلية االجتهاد «ال‬

‫((( طبقات الشافعية الكبرى ‪.31/2‬‬


‫((( إعالم الموقعين ‪.45/1‬‬
‫‪53‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫العقيدة والدَّ ِ‬
‫عوة‬ ‫ِ‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬منهج اإلمام أمحد يف‬

‫تجرد لتحصيل العلم؛ فمات بعد طور المدة فيه على‬


‫يدركها»‪ ،‬إذ قد وجد كثير ممن ّ‬
‫عاميته‪ ،‬إذ المجتهدون لعزة منصب االجتهاد كالملوك في األعصار ال يوجد منهم‬
‫إال الواحد بعد الواحد‪ ،‬فكانت «تتعطل األحكام بالكلية» لو ُك ّلف العامة االجتها ُد؛‬
‫ألنّهم مادة العلماء‪ ،‬فإذا تشاغلوا بطلب االجتهاد‪ ،‬انقطعت مادة العلماء وغيرهم‪،‬‬
‫العامي ال يقوم منه مجتهدٌ ‪ ،‬وينقطع بتشاغله بالعلم مادة طلبه‬
‫ُّ‬ ‫وتعطلت األحكام‪ ،‬إذ‬
‫العلم‪ ،‬فيشتغلون بضروراتهم عن طلبه‪ ،‬فيخلو الوقت عمن يسترشد في أحكام‬
‫الشرع»(((‪.‬‬
‫قال عبد اهلل‪ :‬سمعت أبي يقول‪ :‬قواعد اإلسالم أربع‪ :‬دال ودليل ومبين‬
‫ّ‬
‫فالدال‪ :‬اهلل تعالى‪ ،‬والدليل‪ ،‬القرآن‪ ،‬والمبين‪ :‬الرسول ﷺ‪ ،‬قال اهلل‬ ‫ومستدل‪.‬‬
‫تعالى‪﴿ :‬ﭨﭩ ﭪﭫﭬ﴾ [النحل‪ .]44:‬والمستدل‪ :‬أولو األلباب وأولو‬
‫العلم الذين يجمع المسلمون على هدايتهم‪ ،‬وال يقبل االستدالل إال ممن كانت‬
‫هذه صفته(((‪.‬‬
‫ولذلك كله أرشد اإلمام أحمد بن حنبل إلى اتباع العلماء األئمة الثقات‪:‬‬
‫ـ روى المروذي عن فتح بن أبي الفتح أنه قال ألبي عبد اهلل في مرضه الذي‬
‫مات فيه‪ :‬ادع اهلل أن يحسن الخالفة علينا بعدك‪ .‬وقال له‪ :‬من نسأل بعدك؟‬
‫فقال‪ :‬سل عبد الوهاب‪.‬‬
‫ِّساع في العلم‪.‬‬
‫حاضرا أنه قال له‪ :‬إنه ليس له ات ٌ‬
‫ً‬ ‫وأخبرني من كان‬

‫((( شرح مختصر الروضة للنجم الطوفي ‪.653-3‬‬


‫((( الـعدة في أصول الفقه ألبي يعلى ‪ ،208 /1‬وذكره المرداوي في التحرير والـفتوحي في‬
‫الكوكب المنير‪.‬‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪54‬‬
‫صالح مثله يوفق إلصابة الحق»(((‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫فقال أبو عبد اهلل‪ :‬إنه ٌ‬
‫رجل‬
‫ٍ‬
‫صالح من بعده كي يسأله‬ ‫فهذه رواي ٌة صريح ٌة في أن اإلمام أحمد أرشد ٍ‬
‫لفقيه‬
‫الناس فال يضلوا‪ .‬ولم يقل اإلمام ال تسألوا أحدً ا وعليكم باالجتهاد(((‪.‬‬
‫بالشافعي‬
‫ّ‬ ‫وقال مرشدً ا لفقه الشافعي كما في «حلية األولياء» ‪« :97/9‬عليك‬
‫فإنه أكبرهم صوا ًبا وأتبعهم لآلثار‪ ،‬قلت ألحمد‪ :‬فما ترى في كتب الشافعي التي‬
‫بمصر؟ قال‪ :‬عليك بالكتب التي وضعها‬
‫َ‬ ‫عند العراقيين أحب إليك أو التي عندهم‬
‫بمصر؛ فإنه وضع هذه الكتب بالعراق‪ ،‬ولم يحكمها‪ ،‬ثم رجع إلى مصر‪ ،‬فأحكم‬ ‫َ‬
‫ذاك»‪ .‬وكان يرشد إلى فقه اإلمام مالك‪.‬‬
‫مصادر األحكام ليست هي الكتاب والسنّة ْ‬
‫فقط ـ كما‬ ‫َ‬ ‫نضيف َّ‬
‫بأن‬ ‫َ‬ ‫وال بدَّ أن‬
‫نص على ذلك العلماء باإلجماع فهناك االستحسان واالستصحاب واالستصالح‬ ‫َّ‬
‫والقياس واإلجماع ـ وكل ٍ‬
‫فقيه ينبغي أن يجمع َّ‬
‫كل المصادر حتى يصل إلى الحكم‬
‫يزل أو ّ‬
‫يضل‪.‬‬ ‫الصحيح فال ّ‬
‫«لم نقول شي ًئا‬
‫وكان أحمد يستنكر الخروج عما قاله العلماء؛ ولذلك قال‪َ :‬‬
‫لم يقله أحد من أهل العلم قبلنا»(((‪ .‬ونقل حرب عن اإلمام أحمد قال‪« :‬ومن زعم‬
‫أنه ال يرى التقليد وال يقلد دينه أحدً ا فهو قول فاسق عند اهلل ورسول اهلل ﷺ»(((‪.‬‬
‫توجيه ذم أحمد للتقليد في الفقه‪:‬‬
‫والمتدبر لهذه األقوال يدرك أنهم ال ينكرون التقليد مطل ًقا ـ لما قدمنا‬

‫((( الورع ‪ ،7‬وذكره ابن مفلح في اآلداب وابن حمدان في صفة الفتوى‪.‬‬
‫((( ومن فوائد هذا الكالم أن الرجل الصالح يو ّفقه اهلل للخير وللحق‪.‬‬
‫((( السنة للخالل ‪.446 /1‬‬
‫((( طبقات الحنابلة ‪.37 /2‬‬
‫‪55‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫العقيدة والدَّ ِ‬
‫عوة‬ ‫ِ‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬منهج اإلمام أمحد يف‬

‫عنهم ـ ولكنهم ينكرون تقديم اآلراء على قول رسول اهلل ﷺ‪ ،‬وهذا من ورعهم‬
‫وفقههم‪ .‬كما أنهم يرشدون طالبهم إلى أن مصدر التشريع ـ الذي يجب الرجوع‬
‫إليه عند االختالف ـ هو القرآن والسنة‪ ،‬قال أحمد لمجتهدي تالميذه‪« :‬خذ من‬
‫حيث أخذوا»‪ .‬وقال لعامة الناس‪« :‬سلوا الفقهاء»‪.‬‬
‫رأي ابن تيمية والقاضي‪:‬‬
‫لإلمام أحمد تفصيل وضحه ابن تيمية رحمه اهلل‪ ،‬وقد أحسن في بيان ‬
‫هذه المسألة فرأى أن اإلمام أحمد فرق بين من يجوز له االستدالل واالجتهاد‬
‫وبين العوام وصغار الطلبة‪ ،‬قال ابن تيمية‪« :‬فقد نص أحمد في غير موضع على‬
‫أنه ال يجوز للعالم القادر على االستدالل أن يقلدهم‪ ،‬وقال‪ :‬ال تقلدوني وال‬
‫تقلدوا مالكًا وال الشافعي وال الثوري‪ .‬وكان يحب الشافعي ويثني عليه ويحب‬
‫إسحاق ويثني عليه ويثني على مالك والثوري وغيرهما من األئمة ويأمر العامي‬
‫أن يستفتي إسحاق وأبا عبيد وأبا ثور وأبا مصعب‪ .‬وينهى العلماء من أصحابه‬
‫كأبي داود وعثمان بن سعيد وإبراهيم الحربي؛ وأبي بكر األثرم وأبي زرعة؛ وأبي‬
‫حاتم السجستاني ومسلم وغيرهم‪ :‬أن يقلدوا أحدً ا من العلماء‪ .‬ويقول‪ :‬عليكم‬
‫باألصل بالكتاب والسنة»(((‪.‬‬
‫وقد َّ‬
‫حل تقي الدين ابن تيمية((( اإلشكال بذلك فمن امتلك أدوات االجتهاد‬

‫((( مجموع الفتاوى ‪.227 /20‬‬


‫((( ال بد من بيان قضية كثر فيها الجدل‪ ،‬وهي مكانة ابن تيمية في المذهب الحنبلي فأقول‪ :‬ما انفرد‬
‫به شيخ اإلسالم ابن تيمية عن المذهب لم يأخذ به الحنابلة في األصول والفروع‪ ،‬وما قرره‬
‫خرجه على المذهب اعتنوا به ونقلوه في كتبهم فهو صاحب ملكة تامة‪ .‬‬
‫داخل المذهب أو َّ‬
‫وهذا خالصة أبحاث كثيرة وما يعقلها إال العالمون‪.‬‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪56‬‬
‫فعليه أن يجتهد ويبحث عن الدليل‪ ،‬ومن لم يمتلك أدوات االجتهاد فاألولى أن‬
‫يرجع إلى العلماء‪ ،‬وهذا ما قاله ممهد المذهب وناشره القاضي أبو يعلى حيث‬
‫قال‪« :‬فقد منع أحمد من التقليد وندب إلى األخذ باألثر‪ ،‬وإنما يكون هذا فيمن‬
‫له معرفة باألثر واالجتهاد»(((‪.‬‬
‫التحذير من إحداث اآلراء الجديدة ومن الخروج عن المذاهب األربعة‪:‬‬
‫حذ َر اإلمام أحمد من الكالم في المسائل من غير أن يكون للمتكلم فيها‬ ‫َّ‬
‫إمام وقال في رواية الميموني‪« :‬من تكلم في شيء ليس له فيه إمام أخاف عليه‬
‫«لم نقول ما لم ُي َق ْل»‪.‬‬
‫الخطأ» ‪ ،‬وقال‪َ :‬‬
‫(((‬

‫وقال ابن تيمية في «الفتاوى المصرية»‪« :‬وقول القائل ال أتقيد بأحد هؤالء‬
‫األئمة األربعة إن أراد أنه ال يتقيد بواحد بعينه دون الباقين فقد أحسن بل هو‬
‫الصواب من القولين وإن أراد أني ال أتقيد بها كلها بل أخالفها فهو مخطىء في‬
‫الغالب قط ًعا إذا لحق ال يخرج عن هذه األربعة في عامة الشريعة ولكن تنازع‬
‫الناس هل يخرج عنها في بعض المسائل على قولين‪.»...‬‬
‫اإلفصاح‪َّ :‬‬
‫أن‬ ‫ِ‬ ‫وقال العالمة ابن مفلح في «الفروع» ‪« :103/ 11‬وفي‬
‫الحق ال يخرج عنهم‬ ‫كل من المذاهب األربعة َّ‬
‫وأن ّ‬ ‫اإلجماع انعقد على تقليد ٍّ‬
‫ويأتي في العدالة لزوم التَّمذهب بمذهب وجواز االنتقال عنه‪ ،‬قال َّ‬
‫الشيخ ابن‬
‫فإن اختالفهم‬ ‫ٍ‬
‫بمذمومة‪َّ ،‬‬ ‫كاألئمة األربعة‪ ،‬ليست‬ ‫تيمية‪ :‬النِّسبة إلى إما ٍم في الفرو ِع‬
‫َّ‬
‫حج ٌة قاطع ٌة»‪.‬‬
‫رحم ٌة واسع ٌة واتِّفاقهم َّ‬

‫((( المسودة ‪.468‬‬


‫((( اآلداب الشرعية ‪ ،63/2‬ثم قال‪ :‬وسأله إسحاق بن إبراهيم عن الحديث الذي جاء‪« :‬أجرؤكم‬
‫على الفتيا أجرؤكم على النار»‪ ،‬ما معناه؟ قال أبو عبد اهلل‪ :‬يفتي بما لم يسمع‪.‬‬
‫‪57‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫العقيدة والدَّ ِ‬
‫عوة‬ ‫ِ‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬منهج اإلمام أمحد يف‬

‫المطلب الثاني‬
‫اً‬
‫أول‪ :‬ومن منهجه‪ :‬عدم الدخول في التعقيدات الفكرية‬
‫والكالمية‪ ،‬وترك فضول الكالم وما ال فائد َة منه‪:‬‬

‫ـ ترك فضول الكالم في العقائد أسلم وأحكم‪:‬‬


‫متوقف على ورود الشرع‬
‫ٌ‬ ‫هذه قاعد ٌة جليل ٌة‪ ،‬فاإلطالق اللفظي في العقائد‬
‫ٍ‬
‫بجهة‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫بجهة أو ليس‬ ‫به فال يجوز القول ّ‬
‫إن اهلل مثلاً استوى بذاته وينزل بذاته أو أنّه‬
‫قال اإلمام الذهبي في تعليقه على قول بعض المحدثين‪« :‬إن اهلل استوى بذاته‬
‫وينزل بذاته»‪ ،‬قال‪ :‬وبال ريب ّ‬
‫أن فضول الكالم ْتركُه من حسن اإلسالم»(((‪.‬‬
‫ـ األصل التوقف في إطالق األلفاظ المحدثة نف ًيا وإثباتًا‪:‬‬
‫قال العالمة عثمان النجدي الحنبلي (ت ‪1097‬هـ) في كتابه «نجاة الخلف»‪:‬‬
‫«وأما ما تنازع فيه المتأخرون من األلفاظ المبتدعة في النفي واإلثبات‪،‬‬
‫متحيزا‪ ،‬ونحو‬
‫ً‬ ‫مثل قول القائل هو في جهة أو ليس في جهة‪ ،‬وهو متحيز أو ليس‬
‫نص ال عن الرسول ﷺ وال‬ ‫ذلك من األلفاظ التي تنازع فيها الناس‪ ،‬وليس فيها ٌّ‬
‫فإن هؤالء لم يقل أحدٌ‬ ‫ٍ‬
‫بإحسان وال أئمة المسلمين‪ّ ،‬‬ ‫عن الصحابة والتابعين لهم‬
‫متحيز وال ليس‬
‫ٌ‬ ‫جهة‪ ،‬وال قال‪ :‬ليس هو في ٍ‬
‫جهة‪ ،‬وال قال هو‬ ‫أن اهلل في ٍ‬‫منهم ّ‬
‫ٍ‬
‫بجوهر‪ ،‬فليس‬ ‫جوهر‪ ،‬وال قال ليس بجس ٍم وال‬
‫ٌ‬ ‫جسم أو‬
‫ٌ‬ ‫بمتح ّي ٍز‪ ،‬بل وال قال‪ :‬هو‬
‫أحد‪ ،‬بل وال له أن يوافق أحدً ا في إثبات ٍ‬
‫لفظ من هذه األلفاظ أو نفيه حتى‬ ‫على ٍ‬

‫((( العلو ‪ ،236‬علق شيخنا العالمة إسماعيل فقال‪« :‬هذا يوافق قول مالك رحمه اهلل لما ُس ِئ َل عن‬
‫اآلية الكريمة ﴿ﮉﮊﮋﮌ﴾ [طه‪ ]5:‬كيف استوى؟ قال‪ :‬االستواء معلوم والكيف‬
‫مجهول واإليمان به واجب والسؤال عنه بدعة»‪.‬‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪58‬‬
‫حق‬
‫باطلاً ر َّد‪ ،‬وإن اشتمل كالمه على ٍّ‬
‫ُ‬ ‫يعرف مراده‪ ،‬فإن أراد ح ًّقا قبل‪ ،‬وإن أراد‬
‫وباطل لم يقبل مطل ًقا ولم يرد جميع معناه‪ ،‬بل يوقف اللفظ ويفسر المعنى‪ ،‬كما‬ ‫ٍ‬
‫تنازع الناس في الجهة والتحيز وغيرهما‪ ،‬فلفظ الجهة قد يراد به شي ٌء موجو ٌد‬
‫ِ‬
‫نفس السماوات‪،‬‬ ‫غير اهلل فيكون مخلو ًقا‪ ،‬كما إذا ُأريد بالجهة نفس العرش‪ ،‬أو ُ‬
‫ٍ‬
‫بموجود غير اهلل تعالى‪ ،‬كما إذا أريد الجهة ما فوق العالم‪،‬‬ ‫وقد يراد بها ما ليس‬
‫منحصرا في المخلوقات فهذا باطل‪،‬‬
‫ً‬ ‫فمن أراد إثبات الجهة الوجودية وجعل اهلل‬
‫ومن أراد إثبات الجهة العدمية((( وأراد أن اهلل وحده فوق المخلوقات بائ ٌن عنها‬
‫حق‪ ،‬وليس في ذلك أن شي ًئا من المخلوقات حصره‪ ،‬وال أحاط به‪ ،‬وال عال‬
‫فهذا ٌّ‬
‫عليه‪ ،‬بل هو العالي عليها المحيط به»‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫كذلك لفظ الجهة في حق اهلل فاإلمام أحمد لم يكن ينفي الجهة وال يطلقها‬
‫لعدم ورود الدليل عليها‪ ،‬وإن كانت عقيدته هي إثبات العلو والفوقية مع نفي‬
‫الحد والمكان والغاية قال السيد الشريف الجرجاني في شرحه على «المواقف»‬
‫(‪« :)19/8‬والمنازع ُة مع هذا القائل راجع ٌة إلى اللفظ دون المعنى‪ ،‬واإلطالق‬
‫متوقف على ورود الشرع به»‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫اللفظي‬
‫ِ‬
‫كمسألة «لفظي في القرآن» قال‬ ‫وقد منع أحمد البحث في دقائق المسائل‬
‫منع من الخوض في المسألة من‬ ‫الذهبي‪« :‬فلقد أحسن اإلمام أبو عبد اهلل حيث َ‬
‫موهم‪ ،‬ولم يأت‬ ‫واحد من إطالق الخلقية وعدمها على اللفظ‬ ‫ٍ‬ ‫كل‬‫الطرفين؛ إذ ُّ‬
‫ٌ‬
‫ٍ‬
‫مخلوق‬ ‫كتاب والسنّ ٌة‪ ،‬بل الذي ال نرتاب فيه أن القرآن كال ُم اهلل ٌ‬
‫منزل غير‬ ‫ٌ‬ ‫به‬
‫واهلل أعلم»(((‪.‬‬

‫((( وحتى هذا اللفظ مبتدع‪.‬‬


‫((( سير أعالم النبالء ‪.338/21‬‬
‫‪59‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫العقيدة والدَّ ِ‬
‫عوة‬ ‫ِ‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬منهج اإلمام أمحد يف‬

‫ثان ًيا‪ :‬ومن منهجه عدم البحث في معاني المتشابه ـ كاالستواء ـ‪.‬‬
‫في آيات المتشابه يقول اهلل تعالى‪﴿ :‬ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝ‬
‫ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ‬
‫ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ‬
‫والصفات اإللهية من‬
‫ِّ‬ ‫ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ﴾ [آل عمران‪]7:‬‬
‫المتشابه‪ ،‬وقد سار اإلمام أحمد ـ لوعورة هذا الطريق ـ على طريقة السلف‬
‫إثبات نصوص المتشابه((( كما‬ ‫َ‬ ‫الصالح وهي‪ :‬التفويض ونعني بالتفويض‪:‬‬
‫هي‪ ،‬مع التسليم وتفويض المعنى إلى اهلل دون الخوض في التفصيالت مع‬
‫الفهم اإلجمالي لها‪ ،‬بما يتفق مع آيات المحكم‪ ،‬قال اإلمام أحمد‪« :‬نؤمن بها‪،‬‬
‫أن ما جاء به الرسول‬ ‫ونصدق بها‪ ،‬وال كيف وال معنى‪ ،‬وال نرد منها شي ًئا ونعلم ّ‬
‫صحاح‪ ،‬وال نرد على رسول اهلل قوله وال يوصف اهلل‬ ‫ٍ‬ ‫حق إذا كانت بأسانيد‬
‫ٌّ‬
‫غاية ﴿ﭡﭢ‬ ‫تعالى بأكثر مما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله بال حدٍّ وال ٍ‬
‫ﭣﭤﭥﭦﭧ﴾ [الشورى‪ ،]11:‬وال يبلغ الواصفون صفته وصفاتِ ِه‬
‫منه وال نتعدَّ ى القرآن والحديث؛ فنقول كما قال‪ ،‬ونصفه كما وصف نفسه؛ وال‬
‫ِ‬
‫ومتشابهه وال نزيل عنه صف ًة من صفاته‬ ‫ِ‬
‫محكمه‬ ‫نتعدَّ ى ذلك‪ ،‬نؤمن بالقرآن كله‬
‫لشناعة ُشنّعت»(((‪.‬‬
‫المبجل الشيخ إسماعيل بدران‪« :‬بال تمثيل وال تكييف وال‬
‫ّ‬ ‫قال شيخنا الفقيه‬

‫الصفات‬
‫((( قال المرداوي في التحبير ‪« :1396/3‬أو لظهور تشبيه في صفات اهلل تعالى‪ ،‬كآيات ِّ‬
‫بظاه ِر ِه فشبهوا وجسموا‪ ،‬وفر قوم من‬
‫وأخبارها‪ ،‬فاشتبه المراد منه على الناس؛ فلذلك قال قوم ِ‬
‫ُ‬
‫فأمروه كما جاء مع اعتقاد التَّنزيه فسلموا‪،‬‬
‫التَّشبيه فتأولوا وحرفوا فعطلوا‪ ،‬وتوسط قوم فسلموا ُّ‬
‫الصالح»‪ .‬وقال‪ :‬والحكمة في إنزال المتشابه ابتالء العقالء‪.‬‬
‫السلف َّ‬
‫السنة وأئمة ّ‬
‫وهم أهل ّ‬
‫((( اجتماع الجيوش اإلسالمية ‪ ،132‬ذم التأويل ‪.22‬‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪60‬‬
‫ثم‬
‫تعطيل»‪ .‬قلت‪ :‬قال المرداوي في «التحبير»‪« :‬قال المجدا بن تيمية في المسودة‪ّ :‬‬
‫بحث أصحابنا يقتضي فهمه إجمالاً ال تفصيالً»(((‪.‬‬
‫فكان اإلمام أحمدُ ُيثبت النصوص كما هي؛ ولكنه لم يكن يشغل الناس‬
‫في البحث في معانيها والكالم في دقائقها(((‪ ،‬مع االعتقاد ّ‬
‫بأن اهلل ال يشبهه شي ٌء‬
‫في ذاته وصفاته وأفعاله‪ .‬وقد أبدع العالمة ابن الجوزي في تصوير هذه المسألة‬
‫الخوض فيما يثير غبار ُش ٍ‬
‫بهة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وتعليلها فقال في «صيد الخاطر»‪« :‬نهى الشرع عن‬
‫وال يقوى على قطع طريقه إقدام الفهم‪ .‬وإذا كان قد نهى عن الخوض في القدر‪.‬‬
‫فكيف يجيز الخوض في صفات المقدر؟ وما ذاك إال ألحد أمرين‪ :‬إما لخوف‬
‫تعج ُز عن إدراك الحقائق»‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫إثارة شبهة تزلزل العقائد؛ أو ألن قوى البشر َ‬
‫رات الصوفية‪:‬‬‫ثال ًثا‪ :‬ومن منهجه‪ :‬ترك االشتغال بخَ َط ِ‬

‫ظهر في عصر اإلمام أحمد بعض الصوفية الذين يشطحون ويذكرون كال ًما‬
‫ِ‬
‫رجال الصوفية في عصر اإلمام قال‪:‬‬ ‫ال دليل عليه‪ .‬فقد روى ابن الجوزي أن أحد‬
‫«إن اهلل عز وجل لما خلق الحروف؛ سجدت الباء»‪ ،‬فنفر اإلمام أحمد منه وقال‪:‬‬ ‫َّ‬
‫«ن ِّفروا الناس عنه»؛ ألن هذه أمور غيبية ال فائدة منها‪.‬‬
‫ٍ‬
‫مفلح في «اآلداب الشرعية»‪« :‬فصل كراهة الكالم في الوساوس‬ ‫قال ابن‬
‫وخطرات المتصوفة‪.‬‬
‫عم ْن تكلم في الـوساوس والخطرات؛‬
‫قـال المروذي‪ُ :‬سئل أبو عبد اهلل َّ‬
‫((( التحبير ‪ ،1408 /3‬وانظر‪ :‬المسودة ‪.164 /1‬‬
‫فهون عليه اإلمام وقال‪:‬‬ ‫((( جاء لإلمام أحمد رجل َّ‬
‫ظل يتفكر في ذات اهلل حتى وقع في الوسوسة َّ‬
‫لعلك كنت تدمن الصوم؟ أفطر وكل دسم ًا وجالس القصاص‪ .‬فانظر كيف منعه من التفكر في‬
‫ذات اهلل‪ ،‬وأمره بمجالسة الوعاظ وهم أهل الرقائق‪.‬‬
‫‪61‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫العقيدة والدَّ ِ‬
‫عوة‬ ‫ِ‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬منهج اإلمام أمحد يف‬

‫فنهى عن مجالستهم وقال للسائل‪ :‬احذرهم‪ .‬وقال‪ :‬سمعت أبا عبد اهلل يقول‪:‬‬
‫ٍ‬
‫شيء‬ ‫فأي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫بكتاب ِ‬
‫ِ‬
‫الوسواس والخطرات وغيره‪ ،‬قلت‪َّ :‬‬ ‫ذكر‬ ‫جاءني األرمينيون‬
‫آخر للمروذي‪« :‬عليك‬ ‫قلت لهم؟ قال‪ :‬قلت‪ :‬هذا كله مكرو ٌه وقال في موض ٍع َ‬
‫بالعلم‪ ،‬عليك بالفقه»‪.‬‬
‫وقال إسحاق بن إبراهيم‪« :‬سمعت أحمد بن حنبل يقول‪َ :‬م ْن تكلم في‬
‫الخطرات التابعون تابعو التابعين»؟!‪.‬‬
‫وهذا ال يعني أن أحمد كان يحذر من طريقة التصوف التي تدعو إلى الزهد‬
‫والورع والتحقق في العبادات؛ بل لقد كان اإلمام أحمد من دعاة الزهد والورع‬
‫وموقفه من الحارث المحاسبي لم يكن بسبب تصوفه‪ ،‬بل كان بسبب وقوع‬
‫الحارث في التعقيدات الكالم َّية التي ال دليل عليها‪ .‬حيث صار يفاضل بعض‬
‫ٍ‬
‫ببعض وليس ألنّه يتكلم في الحقائق‪ ،‬ويدعو إلى الزهد بل أحمد مدح‬ ‫كالم اهلل‬
‫كالمه في الحقائق‪.‬‬
‫ٍ‬
‫دقيقة‬ ‫ٍ‬
‫مسألة‬ ‫أن ِهجران أحمد للحارث كان بسبب‬ ‫ونص ابن تيمية على ّ‬
‫من مسائل الكالم والمشيئة ال بسبب التصوف‪ ،‬قال ابن تيمية في «درء تعارض‬
‫السبب الذي ذكره‬ ‫ُ‬
‫«هجران أحمدَ للحارث لم يكن لهذا ّ‬ ‫العقل والنقل» ‪:148/7‬‬
‫ٍ‬
‫كالب الذي وافق المعتزلة على‬ ‫أبو حامد؛ وإنما هجره؛ ألنه كان على قول ابن‬
‫الصفات‬
‫وصحة طريق التركيب‪ ،‬ولم يوافقهم على نفي ّ‬ ‫ّ‬ ‫صحة طريق الحركات‬
‫موصوف‬
‫ٌ‬ ‫مطل ًقا بل كان هو وأصحابه يثبتون أن اهلل فوق الخلق‪ٍ ،‬‬
‫عال على العالم‪،‬‬
‫بالصفات ويقررون ذلك بالعقل»‪.‬‬
‫واتفق أن اإلمام أحمد أمر بعض صحبه أن يجلسه بحيث يسمع كالم الحارث‬
‫وال يراه‪ ،‬ففعل‪ .‬فتكلم الحارث وأصحابه يسمعون كأنّما على رؤوسهم الطير‪،‬ثم‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪62‬‬
‫رأيت كهؤالء‪ ،‬وال‬
‫أخذوا يبكون فبكى أحمد حتى أغمي عليه وقال لصاحبه‪ :‬ما ُ‬
‫سمعت في علم الحقائق مثل كالم هذا الرجل‪ ،‬لكن ال أرى لك صحبتهم»‪.‬‬
‫واضح من اإلمام أحمد لكال ِم الحارث في الحقائق‪ ،‬وال ننسى أن‬
‫ٌ‬ ‫فهذا ثنا ٌء‬
‫نذكر أن المحاسبي كان يحمل التقدير لإلمام‪ ،‬مؤيدً ا موقفه من المحنة قال عبد اهلل‬
‫ابن أحمد بن حنبل‪ :‬كتب لي الفتح بن شخرف الخراساني‪ :‬يقولون‪ :‬علماء األزمنة‬
‫ثالثة‪ :‬ابن عباس في زمانه؛ والشعبي في زمانه؛ والثوري في زمانه‪ ،‬وأنا قلت‬
‫للحارث المحاسبي‪ :‬وابن حنبل في زمانه‪ .‬فقال المحاسبي‪ :‬نزل باإلمام أحمد ما‬
‫لم ينزل بسفيان الثوري واألوزاعي(((‪.‬‬
‫راب ًعا‪ :‬ومن منهجه‪ :‬السكوت عام جرى بني الصحابة ريض اهلل عنهم أمجعني‪:‬‬
‫منهج اإلمام أحمد في الفتنة‪ :‬السكوت عنها؛ لعدم الفائدة منها‪ ،‬قال أبو بكر‬
‫المروذي‪ :‬قيل ألبي عبد اهلل ونحن بالعسكر‪ ،‬وقد جاء بعض رسل الخليفة فقال‪ :‬يا‬
‫علي ومعاوية؟ قال‪ :‬ما أقول فيهم إال الحسنى(((‪.‬‬
‫أبا عبد اهلل‪ ،‬ما تقول فيما كان بين ٍّ‬
‫ألحد أن يكتب هذه األحاديث التي فيها ذكر أصحاب‬ ‫ٍ‬ ‫أحب‬ ‫وقال‪ :‬ال‬
‫ُّ‬
‫ٍ‬
‫شيء في‬ ‫ٌ‬
‫حالل وال حرا ٌم وال سن ٌن‪ .‬قلت‪ :‬اكتبها؟ قال‪ :‬ال تنظر فيها وأي‬ ‫النبي ال‬
‫تلك من العلم عليكم بالسنن والفقه وما ينفعكم‪.‬‬
‫وروى الخالل عن أحمد بن الحسن الترمذي قال‪« :‬سألت أبا عبد اهلل‬
‫وعلي وعائش َة وأظن ذكر معاوي َة؟‬
‫ٍّ‬ ‫ِ‬
‫والزبير‬ ‫قلت‪ :‬ما تقول فيما كان من أمر طلح َة‬
‫فقال‪َ :‬من أنا أقول في أصحاب رسول اهلل كان بينهم شي ٌء اهلل أعلم»(((!‪.‬‬

‫((( حلية األولياء ‪.167/9‬‬


‫((( السنة للخالل ‪ 460/2‬وكان المأمون قد عزم على نشر سب معاوية‪.‬‬
‫((( المرجع نفسه‪.‬‬
‫‪63‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫العقيدة والدَّ ِ‬
‫عوة‬ ‫ِ‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬منهج اإلمام أمحد يف‬

‫خامسا‪ :‬ترك ما الفائدة منه في الحياة العملية‪:‬‬


‫ً‬
‫ٌ‬
‫«فصل في كراهة السؤال عن الغرائب‬ ‫قال ابن ٍ‬
‫مفلح في «اآلداب الشرعية»‪:‬‬
‫وعما ال ينتفع به وال يعمل به وما لم يكن»‪.‬‬
‫ومأجـوج‬
‫َ‬ ‫يأجوج‬
‫َ‬ ‫قال المروذي‪ :‬قال أبو عبد اهلل‪ :‬سـألني ٌ‬
‫رجل مر ًة عن‬
‫العلم حتى تسأل عن ذا؟‬
‫َ‬ ‫أحك َْم َت‬
‫أمسلمون هم؟ فقلت له ْ‬
‫أتوضأ بماء‬
‫وقال أحمد بن جيان القطيعي‪ :‬دخلت على أبي عبد اهلل فقلت‪ّ :‬‬
‫النورة؟ فقال‪ :‬ما أحب ذلك‪ ،‬فقلت‪ :‬أتوضأ بماء الباقلاّ ء؟ قال‪ :‬ما أحب ذلك‪،‬‬
‫فسكت فقال‪:‬‬‫ُّ‬ ‫قال‪ :‬ثم قمت فتع ّلق بثوبي وقال‪ :‬أيش تقول إذا دخلت المسجد؟‬
‫تقول إذا خرجت من المسجد؟ فسكت فقال‪ :‬اذهب فتع ّلم هذا»‪.‬‬ ‫أيش ُ‬
‫شرار المسائل يعمون بها‬ ‫رار عباد اهلل ينتقون‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫وقال الحسن البصري‪ :‬ش ُ‬
‫رجل للشعبي‪ :‬إني خبأت لك مسائل‪ .‬فقال أخبئها‬ ‫مالك‪ :‬قال ٌ‬
‫عباد اهلل‪ .‬وقال اإلمام ٌ‬
‫نور يهدي اهلل به‬‫العلم والحكمة ٌ‬
‫مالك‪ُ :‬‬‫إلبليس حتى تلقاه فتسأله عنها‪ .‬وقال اإلمام ٌ‬
‫وليس بكثرة المسائل‪.‬‬
‫من يشاء َ‬
‫أقول‪ :‬هذا في العبادات فكيف بالعقائد؟!‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬


‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪64‬‬

‫املطلب الثالث‬
‫التوسط‬
‫ُّ‬ ‫ومن منهج اإلمام أمحد‬
‫ُ‬
‫واالعتدال يف مسائل العقيدة‬
‫ِ‬
‫معرفة طريقته فيها‪،‬‬ ‫اإلمام أحمد هو أكثر األئمة كال ًما في العقائد وال بدَّ من‬
‫وسط في موضوع اإليمان بين الخوارج والمرجئة‪ ،‬وفي موضوع الصحابة‬ ‫ٌ‬ ‫فهو‬
‫وسط بين الجهمية‬‫ٌ‬ ‫يعة والنّواصب‪ ،‬وفي موضوع الصفات‬ ‫الش ِ‬ ‫ٌ‬
‫وسط بين ِّ‬ ‫وآل البيت‬
‫التصوف البدعي وبين أهل الجفاف‬ ‫ٌ‬
‫وسط بين‬ ‫ِ‬
‫المجسمة‪ ،‬وهو‬ ‫ِ‬
‫المعطلة وبين‬
‫ُّ‬
‫والقياس على‬
‫َ‬ ‫الرأي‬
‫َ‬ ‫وسط بين أهل الرأي الذين ُيقدِّ َ‬
‫مون‬ ‫ٌ‬ ‫الروحي والجمود‪ ،‬وهو‬
‫األثر وأهل الظاهر الذين ينكرون القياس‪ ،‬ويتركون توليد المسائل‪ ،‬ويعتمدون‬
‫ٍ‬
‫تمحيص‪.‬‬ ‫على كل ٍ‬
‫أثر من غير‬
‫ٌ‬
‫وسط بين أهل الجمود والتقليد وبين أهل‬ ‫وفي موضوع التقليد واالجتهاد‬
‫ٍ‬
‫شروط‪ .‬وفي موضوع علم الكالم‬ ‫َ‬
‫ضوابط وال‬ ‫االنفالت الذين ا ّدعوا االجتهاد بال‬
‫ِ‬
‫والفالسفة الذين قدّ موا العقل على النقل‪ ،‬وبين الحشوية الذين‬ ‫ٌ‬
‫وسط بين المعتزلة‬
‫ٌ‬
‫وسط‬ ‫أخذوا باألثر ولو كان ضعي ًفا في العقائد‪ .‬وفي الفقه والعبادات والمعامالت‬
‫بين المتشددين والمتساهلين‪ .‬وفي كل هذه المواضيع سنجد لإلمام أحمد أقوالاً ‬
‫وكال ًما بما ال نجده لغيره من األئمة المتقدمين‪.‬‬
‫نعرف نظرتَه إلى‬
‫َ‬ ‫نذكر وسطي َة اإلمام أحمد في العقيدة‪ ،‬ينبغي أن‬
‫وقبل أن َ‬
‫تقليد الرجال والمشايخ في العقائد‪ .‬فاإلمام أحمدُ ينكر التقليدَ في العقائد‪ ،‬وينكر‬
‫والتفرق‪َّ .‬‬
‫وإن ما نراه اليوم‬ ‫ُّ‬ ‫االتّباع األعمى للمشايخ؛ ألن هذا من أسباب الضالل‬
‫في المسلمين من ال ُفرقة هو بسبب تقديس أقوال مشايخهم‪ ،‬والغلو في نصرتها‪،‬‬
‫‪65‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫العقيدة والدَّ ِ‬
‫عوة‬ ‫ِ‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬منهج اإلمام أمحد يف‬

‫قال ابن الجوزي‪« :‬التقليد لألكابر أفسدَ العقائدَ ‪ ،‬وال ينبغي أن يناظر بأسماء‬
‫اإللف‬
‫ُ‬ ‫الرجال‪ ،‬إنما ينبغي أن يتبع الدليل»‪ .‬وقال ابن عقيل‪« :‬من أكبر اآلفات‪:‬‬
‫ٍ‬
‫بدليل‪ ،‬فهو أعظم‬ ‫قول مع َّظ ٍم في النفس ال‬ ‫ِ‬
‫لمقالة من سلف‪ ،‬أو السكون إلى ٍ‬
‫ٍ‬
‫حائل عن الحق‪ ،‬وبلوى تجب معالجتها»(((‪.‬‬
‫وقال اإلمام أحمد‪ :‬من ضيق علم الرجل أن يقلد في اعتقاده الرجال»(((‪.‬‬
‫وقيـل له‪ :‬إن ابن المبارك يخالفك في المـسألة؟ فقال‪ :‬ابن المبارك لـم ينزل‬
‫من السماء(((‪.‬‬
‫خاطئ يؤدي إلى الضالل‬ ‫ٌ‬ ‫أمر‬
‫فإعطاء أقوال المشايخ صفة الوحي الر َّباني ٌ‬
‫والفساد‪.‬‬
‫مجهور احلنابلة إىل عدم ِص َّحة التَّقليد يف أصول الدّ ين كمعرفة اهلل‬
‫ُ‬ ‫ذهب‬
‫ولقد َ‬
‫نص على ذلك اإلما ُم أحمدُ وأبو‬ ‫ِ‬
‫وصحة الرسالة‪ ،‬ونحوها‪َّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫تعالى‪ ،‬ووحدانيته‪،‬‬
‫عقيل وابن الجوزي وأبو الخطاب وابن قدامة والطوفي وابن حمدان‬ ‫ٍ‬ ‫يعلى وابن‬
‫وابن النجار وآل تيمية في «المسودة» وغيرهم‪.‬‬
‫قال في «المسودة» آلل تيمية‪« :‬قال أحمد‪ :‬إنَّه ال يجوز التقليد فيما يطلب‬
‫قطعي ويجوز التقليد فيما يطلب فيه الظن ـ مثل‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫بدليل‬ ‫فيه الجزم وال يثبت إال‬
‫ٌ‬
‫تفصيل ج ّيدٌ ‪ .‬ولنقدم اآلن على آراء اإلمام‬ ‫ظني»(((‪ ،‬وهذا‬
‫الفقه ـ وإثباته بدليل ٍّ‬
‫أحمد في العقائد لنعرف وسطيته بين ِ‬
‫الف َر ِق‪:‬‬

‫((( من كتاب شرح الكوكب المنير للعالمة ابن النجار الفتوحي‪.‬‬


‫((( تلبيس إبليس البن الجوزي ‪.101‬‬
‫((( قال شيخنا الشيخ إسماعيل‪« :‬أي ليس معصو ًما وال نب ًيا»‪.‬‬
‫((( المسودة آلل تيمية ‪.458‬‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪66‬‬
‫ّأو اًل‪ :‬وسطي ُة آرائه بين الخوارج والمرجئة في موضوع اإليمان والتكفير‪:‬‬
‫فرق اإلمام أحمد بين اإلسالم واإليمان؛ ويجعل اإلسالم األعمال الظاهرة‬ ‫ُي ِّ‬
‫واإليمان األعمال القلبية أو الباطنة على الراجح‪ ،‬وتارك العمل ال يخرج من دائرة‬
‫اإلسالم يعني ال يكفر ولكنه يخرج من دائرة اإليمان‪ .‬هذا خالصة ما نقله الحافظ‬
‫ابن رجب وغيره‪.‬‬
‫فهو بذلك وسط بين الخوارج الذي يكفرون تارك العمل؛ ويستبيحون دماء‬
‫ٍ‬
‫شبهة؛ وبين المرجئة الذين قالوا‪ :‬إنَّه ال يضر مع اإليمان معصية‪،‬‬ ‫المسلمين بأدنى‬
‫المحرمات‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ويتساهلون في ترك العمل وارتكاب‬
‫ٍ‬
‫تكفير لهما‪ ،‬قال الخالل‪« :‬أخبرني‬ ‫ولقد ذ َّم اإلما ُم أحمد الطائفتين من غير‬
‫أن أبا عبد اهلل قال‪ :‬الخوارج قوم ٍ‬
‫سوء ال أعلم‬ ‫حرب بن إسماعيل الكرماني ّ‬
‫َّبي ومن عشرة‬ ‫ُ‬
‫الحديث فيهم عن الن ّ‬ ‫صح‬
‫شرا منهم‪ .‬وقال‪َّ :‬‬
‫في األرض قو ًما ًّ‬
‫ٍ‬
‫وجوه(((‪ .‬وأما المرجئة فقد روى َّ‬
‫أن المرجئة من أخطر الفرق على اإلسالم؛‬
‫ُفرغ الدي َن من حقائقه وهي الفرائض والشرائع واألخالق‪.‬‬
‫ألنّها ت ِّ‬
‫الخوارج أخطر الفرق على اإلسالم‪ ،‬فما هي صفاتهم؟‬
‫ـ االجتهاد في العبادة‪ ،‬والتشدُّ د باألمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتّمويه‬
‫على المسلمين واستباحة دمائهم‪ :‬قال س ّيدنا اإلمام المبجل أحمد بن حنبل‪« :‬وأما‬
‫الخوارج فمرقوا من الدين؛ وفارقوا الم ّلة‪ ،‬وشردوا عن اإلسالم‪ ،‬وشذوا عن‬
‫الجماعة‪ .‬فضلوا عن السبيل والهدى‪ ،‬وخرجوا على السلطان‪ ،‬وس ُّلوا السيف‬
‫قال بقولهم‪،‬‬‫على األ ّم ِة‪ ،‬واستح ّلوا دما َءهم وأموالهم‪ ،‬وعادوا من خالفهم إلاّ َم ْن َ‬
‫بيت ضاللتِهم‪.(((»...‬‬‫وثبت معهم في ِ‬
‫وكان على مثل قولهم ورأيهم َ ُ‬
‫((( السنة للخالل ‪.145/1‬‬
‫((( طبقات الحنابلة ‪.34/1‬‬
‫‪67‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫العقيدة والدَّ ِ‬
‫عوة‬ ‫ِ‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬منهج اإلمام أمحد يف‬

‫ـ ومن صفاتهم تحسين القول وإساءة العمل‪ ،‬والعمل على فرقة المسلمين(((‪.‬‬
‫ـ ومن صفاتهم اتّباع المتشابه والمجادلة فيه قال اإلمام محمد بن الحسين‬
‫الشراة الخوارج ا ّلذين قال اهلل‬
‫اآلجري الحنبلي‪« :‬هذه صفة الحرورية‪ ،‬وهم ّ‬
‫ّ‬
‫وجل‪﴿ :‬ﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ‬ ‫عز‬
‫ّ‬
‫ﯚﯛﯜ﴾ [آل عمران‪ ،]7:‬وقد حذر النبي ﷺ أمته ممن هذه صفته»‪ .‬ثم‬
‫روى عن عائشة رضي اهلل عنها قالت‪ :‬إن رسول اهلل ﷺ قرأ هذه اآلية‪﴿ :‬ﮗﮘ‬
‫ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ‬
‫ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ﴾ ِ‬
‫اآلية [آل عمران‪ ،]7:‬فقال ﷺ‪ :‬إذا رأيتم الذين‬
‫عز ّ‬
‫وجل‪ ،‬فاحذروهم»(((‪.‬‬ ‫يجادلون فيه‪ ،‬فهم الذين عنى اهلل ّ‬
‫الح والور ِع فعن ابن عباس رضي اهلل عنهما ـ ‬
‫الص ِ‬ ‫ـ ومن صفاتهم تك ّل ُ‬
‫ف ّ‬
‫وذكر له الخوارج‪ ،‬واجتهادهم وصالحهم ـ فقال رضي اهلل عنه‪ :‬ليسوا هم بأشدّ‬
‫اجتها ًدا من اليهود والنصارى‪ ،‬وهم على ضاللة(((‪.‬‬
‫ـ ومن صفات الخوارج‪ :‬أنهم يقتلون المسلمين‪ ،‬ويتركون المشركين(((‪.‬‬
‫فالخوارج يكفرون المخالف لهم في المذهب‪ ،‬ويكفرون مرتكب الكبيرة قال‬
‫ابن الجوزي(((‪:‬‬

‫((( مسند اإلمام أمحد ‪ 224/3‬برقم ‪ ،13362‬والرشيعة ‪ ،22/1‬والبيهقي يف السنن الكربى ‪.171/8‬‬
‫((( الشريعة ‪.24/1‬‬
‫((( رواه اآلجري في الشريعة ‪.24/1‬‬
‫((( مسند أحمد ‪ 68/3‬برقم ‪ ،11666‬صحيح البخاري ‪ 1219/3‬برقم ‪ ،3166‬سنن أبي داود‬
‫‪.387/4‬‬
‫((( تلبيس إبليس ‪.116‬‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪68‬‬
‫«والكف َع ْن أهل القبلة‬
‫ُّ‬ ‫حذر اإلمام أحمد من تكفير أهل القبلة فقال‪:‬‬‫«وقد َّ‬
‫بعمل إال أن يكون فِي ذلك‬
‫ٍ‬ ‫بذنب‪ ،‬وال تخرجه من اإلسالم‬ ‫ٍ‬ ‫وال تُكفر أحدً ا منهم‬
‫حديث فيروى الحديث كما جاء‪ ،‬وكما روى وتصدقه وتقبله وتعلم أنه كما روي‬ ‫ٌ‬
‫نحو ترك الصالة وشرب الخمر وما أشبه ذلك أو يبتدع بدع ًة ينسب صاحبها إلى‬
‫الكفر والخروج من اإلسالم فاتبع األثر فِي ذلك وال تجاوزه»(((‪ .‬وقال اإلمام‬
‫أبو الحسن األشعري رحمه اهلل في «مقاالت اإلسالميين» ‪« :34 / 1‬اختلف‬
‫ٍ‬
‫بعض‬ ‫بعضا ِ‬
‫وبر َئ بعضهم من‬ ‫كثيرة ضلل بعضهم ً‬ ‫ٍ‬ ‫الناس بعد نبيهم ﷺ في أشيا َء‬
‫فصاروا فر ًقا متباينين وأحزا ًبا مشتتين إال أن اإلسالم يجمعهم ويشتمل عليهم»‪.‬‬
‫صفة المؤمن ـ كما قال اإلمام أحمد ـ الدعاء ألئمة المسلمين‬ ‫أن من ِ‬ ‫كما َّ‬
‫بالصالح‪ ،‬وال تخرج عليهم بسيفك‪،‬‬ ‫بالصالح قال‪« :‬والدعاء ألئمة المسلمين ّ‬
‫ٍ‬
‫ناحية أخرى‪ ،‬فإ َّن إنكار منكرات‬ ‫وال تـقاتل في فتنة وتلزم بيتك»‪ ،‬ولكن من‬
‫ٍ‬
‫صالح ـ بل‬ ‫السالطين وإزالتها باليد ليس من الخروج عليهم ـ كما قال في رواية‬
‫هو من إنكار المنكر(((‪.‬‬
‫الكف عن أهل ال إله إلاّ اهلل؛ لحديث أبي داود عن‬ ‫ُّ‬ ‫ومن صفات أهل السنة‬
‫عم ْن َ‬
‫قال ال إله إلاَّ اهللُ‪ ،‬ال تكفره‬ ‫الكف َّ‬
‫ُّ‬ ‫«ثالث من ِ‬
‫أصل اإليمان‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫أنس مرفو ًعا‪:‬‬
‫ماض منذ بعثني اهللُ حتى تقاتل‬ ‫ٍ‬ ‫بذنب‪ ،‬وال تخرجه عن اإلسالم بعمله‪ ،‬والجهاد‬
‫ُ‬
‫واإليمان باألقدار»‪.‬‬ ‫آخر أمتي الدجال‪ ،‬ال يبطله جور جائر‪ ،‬وال عدل عادل‪،‬‬

‫((( طبقات الحنابلة ‪.27 /1‬‬


‫فيحرمون التعامل مع العسكر‬
‫((( ولكن ُيغالي بعض الناس في التعامل مع كل ما له صلة بالحكام‪ِّ ،‬‬
‫وجدت رواي ًة عن اإلمام أحمد ير ُّد على هؤالء‪ ،‬قال أبو بكر األحول‪:‬‬
‫ُ‬ ‫وربما كفروهم‪ ،‬وقد‬
‫سألت أبا عبد اهلل أحمد بن حنبل قلت‪ :‬أبيع للجند؟ فتبسم وقال‪ :‬الدرهم أين ُض ِر َب أليس في‬
‫ُ‬
‫دارهم؟ أي‪ :‬أليست النقود تُصدرها الدولة؟ فكيف تُحرم التعامل معهم!‬
‫‪69‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫العقيدة والدَّ ِ‬
‫عوة‬ ‫ِ‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬منهج اإلمام أمحد يف‬

‫المرجئة‪:‬‬
‫اإلرجاء هو القول َّ‬
‫بأن اإلسالم هو مجرد اإلقرار بالشهادتين أو هو القول‬
‫ُ‬
‫والعمل بها‪ ،‬وهذا يؤدي‬ ‫بأن المعرفة كافي ٌة‪ ،‬أي‪ :‬المعرف ُة للفرائض دون وجوبِها‬
‫َّ‬
‫َ‬
‫أحوال‬ ‫صلح‬
‫فإن الدِّ ي َن أنزله اهلل تعالى ل ُي َ‬ ‫ِ‬
‫وجوهره‪َّ ،‬‬ ‫ِ‬
‫شعائره‬ ‫إلى تفريغ الدين من‬
‫ِ‬
‫المرجئة وإنكار قولهم‪،‬‬ ‫البشر الظاهرة والباطنة‪ ،‬والثابت عن اإلمام أحمد ذ ُّم‬
‫ٌ‬
‫وعمل‪ .‬فمن ترك‬ ‫وإقرار‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫اإليمان في اصطالح الشرع((( اعتقا ٌد‬ ‫فعنده رحمه اهلل‬
‫العمل خرج من دائرة اإليمان وبقي في دائرة اإلسالم ـ وبذلك يخالف الخوارج ـ‪.‬‬
‫قال ابن البنا الحنبلي‪« :‬وأما المرجئة فقال أحمد‪ :‬هم الذين يقولون من قال‬
‫ال إله إال اهلل محمد رسول اهلل‪ ،‬وفعل سائر المعاصي لم يدخل النار أصلاً »(((‪.‬‬
‫أناسا يقولون‪ :‬من أقر بالصالة‬
‫أن ً‬ ‫قال حنبل‪ :‬حدثنا الحميدي قال‪« :‬وأخبرت ّ‬
‫والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شي ًئا حتى يموت‪ ..،‬فهو مؤم ٌن ما لم‬
‫مقرا بالفرائض واستقبال القبلة‪،‬‬
‫يكن جاحدً ا‪ ،‬إذا علم أن تركه ذلك فيه إيمانه وكان ًّ‬
‫فقلت‪ :‬هذا الكفر الصراح وخالف كتاب اهلل وسنة رسوله وعلماء المسلمين‪ .‬قال‬
‫تعالى‪﴿ :‬ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥ‬
‫ﮦﮧﮨ﴾ [البينة‪.»]٥ :‬‬
‫وقال حنبل سمعت أبا عبد اهلل أحمد بن حنبل يقول‪ :‬من قال هذا؛ فقد‬
‫كفر باهلل‪ ،‬ورد عليه أمره وعلى الرسول ما جاء به عن اهلل(((‪ .‬ولذلك ال يكفي في‬

‫((( أما في اللغة فهو التصديق‪.‬‬


‫((( أصول السنة البن البنا ‪.89‬‬
‫((( رواه الاللكائي ‪ 957/5‬والخالل ‪.587/3‬‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪70‬‬
‫َ‬
‫ليكون الدين هو‬ ‫اإلسالم اإلقرار فقط بل ال بد معه من إقامة الفرائض والشعائر‬
‫الحاكم الفعلي في حياة الناس والمصلح الحقيقي لهم‪.‬‬
‫وقـال الحافظ ابن رجب في «فتح الباري» ‪« :22 /1‬وإذا كـانت هذه‬
‫البنيان‪ ،‬فإذا ُف ِقد شي ٌء من بقية‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫كبقية‬ ‫ِ‬
‫خصال اإلسال ِم‬ ‫دعائم البنيان وأركانه‪ ،‬فبقية‬
‫البنيان ولم يسقط بفقده‪.‬‬‫ُ‬ ‫سمى اإلسالم الواجب؛ نقص‬ ‫الخصال الداخلة في ُم َّ‬
‫وأما هذه الخمس‪ ،‬فإذا زالت كلها؛ سقط البنيان‪ ،‬ولم يثبت بعد زوالها وكذلك‬
‫إن زال منها الركن األعظم وهو الشهادتان‪ ،‬وزوالهما يكون باإلتيان بما يضادهما‬
‫وال يجتمع معهما‪ .‬وأما زوال األربع البواقي‪ :‬فاختلف العلماء هل يزول االسم‬
‫بزوالها أو بزوال واحد منها؟ أم ال يزول بذلك؟ أم يفرق بين الصالة وغيرها‬
‫فيزول بترك الصالة دون غيرها؟ أم يختص زوال اإلسالم بترك الصالة والزكاة‬
‫إسحاق قال‪ :‬غلت المرجئ ُة حتّى صار من‬ ‫َ‬ ‫حرب عن‬
‫ٌ‬ ‫خاصة»‪ .‬وقال‪« :‬ونقل‬
‫قولهم‪ :‬إن قو ًما يقولون‪َ :‬م ْن ترك الصلوات المكتوبات وصوم رمضان والزكاة‬
‫والحج وعامة الفرائض من غير جحود لها ال نكفره‪ُ ،‬يرجى أمره إلى اهلل بعد‪ ،‬إذ‬
‫وظاهر هذا‪ :‬أنه يكفر بترك‬ ‫هو ِ‬
‫مق ٌّر فهؤالء الذين ال شك فيهم ـ يعني أنّهم مرجئ ٌة‪.‬‬
‫ُ‬
‫هذه الفرائض»‪.‬‬
‫وإن بعض الفقهاء اليوم ُيرددون كالم المرجئة للر ّد على المتسرعين في‬ ‫ّ‬
‫دراية بحقيقتها ـ فيصلون إلى تميي ِع الدين‪ ،‬وتضييع حدوده‬ ‫ٍ‬ ‫التكفير ـ من غير‬
‫وسط بين الجافي عنه‪ ،‬والغالي فيه‪.‬‬‫ٌ‬ ‫وشرائعه‪ ،‬ودين اهلل‬
‫كل َم ْن خالفه بأنه من الخوارج؛ ّ‬
‫ألن علما َءنا‬ ‫ِ‬
‫وصف ِّ‬ ‫وليحذر المسلم ِمن‬
‫عرفوا الخوارج فقال العالمة المو ّفق ابن قدام َة في «المقنع»‪« :‬وهم القوم الذين‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫بتأويل سائ ٍغ ولهم منع ٌة وشوك ٌة وعلى اإلمام أن يراسلهم‬ ‫يخرجون عن طاعة اإلمام‬
‫‪71‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫العقيدة والدَّ ِ‬
‫عوة‬ ‫ِ‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬منهج اإلمام أمحد يف‬
‫ٍ‬
‫مظلمة‪ ،‬ويكشف ما يدعونه من‬ ‫ويسألهم ما ينقمون منه‪ ،‬ويزيل ما يذكرونه من‬
‫ٍ‬
‫شبهة»‪.‬‬
‫قال في «اإلنصاف»‬ ‫تنبيهات نفيس ٌة حيث َ‬
‫ٌ‬ ‫ولِمنقح المذهب العالمة المرداوي‬
‫ظاهر قولِه‪( :‬وهم الذين يخرجون على اإلمام‬ ‫ُ‬ ‫«تنبيهات‪ :‬أحدها‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫‪:311/10‬‬
‫ٍ‬
‫بتأويل سائ ٍغ ولهم منع ٌة وشوك ٌة) أنه سوا ٌء كان اإلمام عادلاً أو ال‪ ،‬وهو المذهب‪.‬‬
‫وعليه جماهير األصحاب‪ ...‬الثاني‪ :‬مفهوم قوله‪( :‬ولهم منع ٌة وشوك ٌة) أنّهم لو‬
‫يسيرا‪ :‬أنهم ال ُيع َطون حكم البغاة وهو صحيح‪ ،‬وهو المذهب‪ ،‬وعليه‬
‫كانوا جم ًعا ً‬
‫جماهير األصحاب»‪.‬‬
‫ثان ًيا‪ :‬وسطية آرائه في موضوع الصحابة وآل البيت بين الشيعة والنواصب‪:‬‬
‫الشيعة هم الذين يبغضون أصحاب رسول اهلل والنواصب هم الذين يبغضون‬
‫آل بيت رسول اهلل‪ ،‬وكلتاهما فرقتان مغاليتان ظهرتا في التاريخ اإلسالمي وال تزال‬
‫أفكارهما موجود ًة إلى اليوم عند جماعات من المسلمين‪ .‬قال النبي ﷺ‪« :‬يا علي‬
‫ومبغض ٍ‬
‫قال»‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫محب ٍ‬
‫غال‬ ‫ٌّ‬ ‫يهلك فيك اثنان‪:‬‬
‫السنة ـ وأحمد باألخص((( ـ عرف للصحابة ح َّقهم‪ ،‬ولم يطعن فيهم‬ ‫وأهل ُّ‬
‫ِ‬
‫ّواصب (والخوارج)‪.‬‬ ‫ِ‬
‫البيت ح َّقهم‪ ،‬ولم يط َع ْن فيهم كالن‬ ‫وعرف ِ‬
‫آلل‬ ‫َ‬ ‫كالشيعةِ‪،‬‬
‫ّ‬
‫فأنزل كلاًّ منهم منزلتَه الواجبة في الشرع‪.‬‬
‫ْ‬
‫يدرك‬ ‫لع على أقوال اإلمام أحمد في آل البيت وفي اإلمام علي‬‫ومن ي َّط ْ‬
‫قاس بهم أحدٌ وأنهم رحم ٌة‬ ‫محبته الشديدة لهم‪ ،‬فقد كان يرى َّ‬
‫أن آل البيت ال ُي ُ‬
‫من اهلل لألمة(((‪.‬‬

‫((( ألنه أكثر من تكلم في هذه المسائل بعلم وحكمة‪.‬‬


‫((( حيث قال‪« :‬الشافعي رحمة من اهلل ألنه من آل محمد ﷺ» حلية األولياء ‪.98/9‬‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪72‬‬
‫حنبل ـ ما تقول في التّفضيل؟ َ‬
‫قال في‬ ‫بن َ‬ ‫قال عبدُ اهلل‪ :‬قلت ألبي ـ أحمدَ ِ‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫طالب‬ ‫علي بن أبي‬‫فعلي؟ قال‪ :‬يا بني‪ُّ ،‬‬
‫فقلت‪ٌّ :‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫وعثمان‪.‬‬ ‫وعمر‬
‫َ‬ ‫الخالفة أبو ٍ‬
‫بكر‬
‫بيت ال يقاس بهم أحدٌ (((‪.‬‬‫من أهل ٍ‬
‫بعلي‬
‫علي زينها ‪ .‬وقال‪ :‬من لم ُير ِّبع ِّ‬
‫(((‬ ‫وقال‪ّ :‬‬
‫إن الخالفة لم تزي ْن عل ًّيا بل ٌّ‬
‫ِ‬
‫الخالفة فال تُكلموه وال تُناكحوه(((‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫طالب في‬ ‫ابن أبي‬
‫وعمر وعثمان‬
‫َ‬ ‫قال أبو ٍ‬
‫بكر‬ ‫وقال ابن منيعٍ‪ :‬قلت ألحمدَ ‪ :‬يا أبا عبد اهلل من َ‬
‫علي رحمه اهلل ما‬ ‫ٍ‬
‫وعلي أليس هو عندك صاحب سنّة؟ قال‪ :‬بلى لقد روي في ٍّ‬ ‫ٍّ‬
‫نبي بعدي(((‪.‬‬‫تقشعر منه الجلود قال‪ :‬أنت مني بمنزلة هارون من موسى إال أنه ال َّ‬ ‫ُّ‬
‫غلوا فجعله‬
‫علي قد يعتبرها بعضهم ًّ‬
‫مناقب لس ّيدنا ٍّ‬
‫َ‬ ‫أثبت اإلما ُم أحمد‬
‫بل َ‬
‫ٍ‬
‫منصور قال‪ :‬كنا عند أحمد بن حنبل‬ ‫قسيم النّار روى ابن أبي يعلى عن محمد بن‬
‫َ‬
‫فقال له ٌ‬
‫رجل‪ :‬يا أبا عبد اهلل ما تقول في هذا الحديث الذي ُيروى أن عل ًّيا قال‪« :‬أنا‬
‫لعلي‪« :‬ال يحبك‬ ‫أن النبي ﷺ قال ٍّ‬‫قسيم النار» فقال‪ :‬وما تنكرون من ذا أليس روينا ّ‬
‫منافق» قلنا‪ :‬بلى قال‪ :‬فأين المؤمن؟ قلنا‪ :‬في الجنة قال‪:‬‬
‫إال مؤم ٌن وال يبغضك إال ٌ‬
‫فعلي قسيم النار(((‪.‬‬
‫وأين المنافق؟ قلنا‪ :‬في النار قال‪ٌّ :‬‬
‫ناصبي‪ ،‬ومن يطلع على أقواله يعلم كذب‬
‫ٌّ‬ ‫وقد اتّهم الشيعة اإلمام أحمد بأنه‬
‫دعاويهم‪ ،‬وكيف يكون ناصب ًّيا وهو يبغض يزيدَ بن معاوي َة والحجاج الثقفي وال‬

‫((( مناقب أحمد ص‪.219‬‬


‫ٍ‬
‫((( طبقات الحنابلة ‪ .185/1‬ونحن في هذا العصر بحاجة الى إظهار مثل هذه األقوال لدرء الفتن‬
‫بين المسلمين‪.‬‬
‫((( طبقات الحنابلة ‪.45/1‬‬
‫((( السنة ‪.407/2‬‬
‫((( طبقات الحنابلة ‪.317/1‬‬
‫‪73‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫العقيدة والدَّ ِ‬
‫عوة‬ ‫ِ‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬منهج اإلمام أمحد يف‬

‫يوالي حزبهما؛ فقد قيل ألحمد‪ :‬أيؤخذ الحديث عن يزيد؟ فقال‪ :‬ال وال كرامة‬
‫نحب يزيدَ ؟‬
‫إن أقوا ًما يقولون إنّا ُّ‬ ‫أوليس هو َ‬
‫فعل بأهل المدينة ما فعل! وقيل له‪َّ :‬‬
‫فقال‪ :‬وهل يحب يزيدَ من يؤمن باهلل واليوم اآلخر(((؟ وقال عن الحجاج‪ :‬هو رجل‬
‫ٍ‬
‫سوء وأنه من الظالمين‪.‬‬
‫«الس ِّر المصون»‪:‬‬
‫وقال الحافظ ابن الجوزي عليه الرحمة والرضوان في كتابه ِّ‬
‫السنة أن يقولوا‪ّ :‬‬
‫إن‬ ‫ٍ‬
‫«من االعتقادات العامة التي غلبت على جماعة منتسبين إلى ُّ‬
‫أخطأ في الخروج عليه‪.‬‬‫َ‬ ‫يزيدَ كان على الصواب وأن الحسين رضي اهلل تعالى عنه‬
‫ولو نظروا في السير لعلموا كيف ُع ِ‬
‫قدت له البيع ُة و ُأ ِلز َم الناس بها ولقد فعل في ذلك‬ ‫ِّ َ‬
‫بواد كلها توجب فسخ العقد‪،‬‬‫كل قبيحٍ ثم لو قدَّ رنا صح َة عقد البيعة فقد بدت منه ٍ‬ ‫ُّ‬
‫عامي المذهب يظن أنه يغيظ بذلك الرافضة»(((‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫جاهل ِّ‬ ‫وال يميل إلى ذلك إال كل‬
‫وقال شيخ االسالم ابن تيمية عن يزيدَ ‪« :‬وال كان من الصحابة باتِّفاق العلماء‪،‬‬
‫وال كان من المشهورين بالدين والصالح»(((‪ .‬وقال‪« :‬ولكن جرى بسببه ما جرى‬
‫من مصرع «الحسين» وفعل ما فعل بأهل الحرة ولم يكن صاح ًبا وال من أولياء اهلل‬
‫والسنّة والجماعة»(((‪ .‬وقال‪« :‬وأما‬
‫الصالحين وهذا قول عا ّمة أهل العقل والعلم ّ‬
‫من قتل» الحسين «أو َ‬
‫أعان على قتله أو رضي بذلك فعليه لعنة اهلل والمالئكة‬
‫والناس أجمعين؛ ال يقبل اهلل منه صر ًفا وال عدلاً »(((‪.‬‬

‫((( اآلداب الشرعية ‪.285/1‬‬


‫((( الفروع ‪.154/6‬‬
‫((( مجموع الفتاوى ‪.410/3‬‬
‫((( المصدر السابق ‪.483/4‬‬
‫((( المصدر السابق ‪.487/4‬‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪74‬‬
‫ِ‬
‫بمحبة أحمد ومواالته ألهل البيت‪،‬‬ ‫الش ِ‬
‫يعة المنصفين‬ ‫ُ‬
‫شيوخ ّ‬ ‫اعترف‬
‫َ‬ ‫وقد‬
‫فقد قال ابن الوزير الشيعي الزيدي في «العواصم والقواصم»‪« :‬هذا ٌ‬
‫دليل على‬
‫ِ‬
‫حنبل ـ ألهل البيت وقيامه بحق القرابة وقد وصفه‬ ‫شدة مواالته ـ أي أحمدَ ب َن‬
‫يدي ـ حيث نقل عن أحمد أنه قرئ‬ ‫الز ُّ‬
‫باهلل ـ الشيعي ّ‬
‫ُّ‬ ‫بذلك اإلمام المنصور‬
‫لبرئ من‬ ‫ٍ‬
‫مجنون َِ‬ ‫بأئمة أهل البيت فقال‪ :‬لو ُق ِرئ هذا على‬ ‫ٌ‬
‫مسلسل ّ‬ ‫عليه إسنا ٌد‬
‫جنونه‪.»..‬‬
‫ٍ‬
‫تدليل‪ ،‬وقد‬ ‫أما محبة اإلمام أحمد للصحابة فهي مشهورة ال تحتاج إلى‬
‫كان يرد على الشيعة الغالية التي تسب الصحابة فقال‪« :‬ومن انتقص واحدً ا من‬
‫ذكر مساويه كان متبد ًعا‬ ‫ٍ‬
‫أصحاب رسول اهلل ـ ﷺ ـ أو أبغضه لحدث كان منه أو َ‬
‫سليما»(((‪.‬‬
‫حتى يترحم عليهم جمي ًعا ويكون قلبه لهم ً‬
‫محم ٍد ﷺ‬
‫وقال‪« :‬ينتحلون حب آل محمد ﷺ وكذبوا بل هم المبغضون آلل ّ‬
‫السنَّة واألثر من كانوا وحيث‬ ‫محم ٍد المتّقون ُ‬
‫أهل ّ‬ ‫دون الناس؛ إنما الشيع ُة آلل ّ‬
‫محم ٍد ﷺ وجميع أصحاب‬ ‫محمد ﷺ وجميع أصحاب ّ‬
‫ٍ‬
‫كانوا الذين يحبون آل ّ‬
‫ٍ‬
‫منقصة»(((‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بسوء وال ٍ‬
‫عيب وال‬ ‫محم ٍد ـ ﷺ ـ وال يذكرون أحدً ا منهم‬
‫ّ‬
‫ُ‬
‫أفضل الصحابة هم الخلفاء الراشدون‪:‬‬
‫علي‪ ،‬ولكن‬ ‫ُ‬
‫عثمان ثم ٌّ‬ ‫عمر ثم‬ ‫ومذهبنا أن أفضل الصحابة هو‪ :‬أبو ٍ‬
‫بكر ثم ُ‬
‫صرح أئمة الحنابلة‬ ‫ٍ‬
‫ليس هذا التفضيل قطع ًيا وال هي أفضل ّية من كل وجه كما َّ‬
‫المتأخرين مثل الشيخ أبي بكر خوقير الحنبلي األثري ـ مفتي الحنابلة في الحجاز‬

‫((( طبقات الحنابلة ‪.244/1‬‬


‫((( المصدر السابق‪.‬‬
‫‪75‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫العقيدة والدَّ ِ‬
‫عوة‬ ‫ِ‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬منهج اإلمام أمحد يف‬

‫في بداية القرن العشرين‪ .‬حيث قال في كتابه «ما ال بدَّ منه في أمور الدين على طريقة‬
‫السلف واإلمام أحمد»‪« :‬ما معنى التفضيل واألفضلية بين الخلفاء الراشدين؟ هي‬
‫وعمر رضي اهلل عنهما كانت على‬
‫َ‬ ‫بمعنى ِع َظم النفع في اإلسالم فخالفة أبي ٍ‬
‫بكر‬
‫وعلي‬
‫ٍّ‬ ‫َ‬
‫عثمان‬ ‫الرسالة في جمع الناس وتآلف الكلمة وتدبير الحرب وخالفة‬ ‫قدَ ِم ّ‬
‫ٍ‬
‫شخص على رفيقه‬ ‫ِ‬
‫فليست األفضلي ُة تفضيل‬ ‫النبو ِة‪،‬‬
‫رضي اهلل عنهما كانت على قدم ّ‬
‫من جميع الوجوه حتى تعم النسب والشجاعة والعلم ونحو ذلك وال بمعنى زيادة‬
‫الفضل والثواب عند اهلل تعالى؛ فإنه من الغيب ا ّلذي ال يعلمه إال اهلل»‪.‬‬
‫معرف ُة أحمد بدرجات الصحابة وفضائلهم‪:‬‬
‫الصحابة؛ ويعرف بعد ذلك فضل كل‬
‫يترحم على جميع ّ‬
‫كان اإلما ُم أحمدُ ّ‬
‫واحد منهم ومقامه‪ ،‬فحين ُسئل اإلمام أحمد عن الخلفاء الراشدين ذكر األربعة‬‫ٍ‬
‫ٍ‬
‫سويد‬ ‫إبراهيم بن‬ ‫ولم ُي ْ‬
‫دخل معاوي َة معهم‪ .‬فقد روى ابن أبي يعلى الحنبلي عن‬
‫َ‬
‫ُ‬
‫وعثمان‬ ‫وعمر‬
‫ُ‬ ‫األرمني قال‪ :‬قلت‪ :‬ألحمد بن حنبل؛ من الخلفاء قال‪ :‬أبو ٍ‬
‫بكر‬
‫ِ‬
‫بالخالفة في زمن‬ ‫وعلي رضي اهلل عنهم قلت‪ :‬فمعاوي ُة؟ قال‪ :‬لم يكن أحدٌ َّ‬
‫أحق‬ ‫ٌّ‬
‫علي رضي اهلل عنه ورحم اهلل معاوي َة»(((‪.‬‬
‫علي من ٍّ‬
‫ٍّ‬
‫أيضا من طريق عبد اهلل‬
‫وأخرج الحافظ العالمة أبو الفرج ابن الجوزي ً‬
‫علي ومعاوي َة؟ فأطرق ثم قال‪ :‬اعلم‬
‫ابن أحمد بن حنبل‪ :‬سألت أبي ما تقول في ٍّ‬
‫ٍ‬
‫رجل قد‬ ‫أن عل ًّيا كان كثير األعداء ففتش أعداؤه له عي ًبا فلم يجدوا‪ ،‬فعمدوا إلى‬
‫لعلي»(((‪.‬‬
‫حاربه فأطروه كيا ًدا منهم ٍّ‬
‫((( طبقات الحنابلة ‪ .94/1‬وفي مذهبنا يرجح ما عمل به الخلفاء الراشدون على غيره‪ .‬انظر‪:‬‬
‫المختصر في أصول الفقه البن اللحام ‪ ،171‬شرح الكوكب المنير البن النجار ‪.700‬‬
‫((( في الموضوعات ‪.24/2‬‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪76‬‬
‫ٍ‬
‫حجر العسقالني في «فتح الباري»‪:‬‬ ‫قال الحافظ أمير المؤمنين العلاّ مة ابن‬
‫«فأشار بهذا إلى ما اختلقوه لمعاوية من الفضائل مما ال َ‬
‫أصل له‪ ،‬وقد ورد في‬
‫يصح من طريق اإلسناد‪ ،‬وبذلك‬ ‫ُ‬
‫أحاديث كثير ٌة لكن ليس فيها ما ُّ‬ ‫فضائل معاوية‬
‫جزم إسحاق بن راهويه والنسائي وغيرهما»(((‪.‬‬
‫الرافضة‬ ‫ُّ‬
‫كل هذه األقوال من اإلمام أحمد ترد على الناصبة أولاً وعلى ّ‬
‫علي وآل البيـت عليهم‬
‫ثان ًيا‪ ،‬فقد افترى الروافض على اإلمام أحمد أقوالاً في ذم ٍّ‬
‫النواصب باإلما ِم أحمدَ ً‬
‫زورا وبهتانًا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫كذب وافترا ٌء‪ .‬وتستّر‬
‫السالم وكلها ٌ‬
‫ِ‬
‫ّواصب‪ ،‬فالشيعة‬ ‫الش ِ‬
‫يعة والن‬ ‫ٌ‬
‫وسط بين ّ‬ ‫ونحن نجد ّ‬
‫أن اإلما َم أحمدَ ب َن حنبل‬
‫سبوا صحابة رسول اهلل ﷺ ولعنوهم‪ ،‬والنواصب طعنوا يف آل ِ‬
‫البيت عليهم السالم‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ترضـوا عن جميع الصحابة‪،‬‬
‫وأما اإلمام أحمد بن حنبـل والحنابلة فقد ّ‬
‫َ‬
‫عثمان ثم‬ ‫عمر ثم‬
‫ثم َ‬ ‫وأنكروا على من يس ُّبهم‪ ،‬وأثبتوا الخالفة الراشدة ألبي ٍ‬
‫بكر ّ‬
‫علي وهم أفضل الصحابة‪ .‬وأثبتوا فضائل آل البيت عليهم السالم وأبغضوا قتلة‬ ‫ٍّ‬
‫ُ‬
‫رضوان اهلل عليه ورأوا أنه قتل مظلو ًما شهيدً ا‪ ،‬وسكتوا عما جرى بين‬ ‫الحسين‬
‫ِ‬
‫والزبير ومعاوي َة‪،‬‬ ‫الصحابة مع قولهم بأح ّقية علي فيها دون ٍ‬
‫طعن في عائش َة وطلح َة‬
‫الحق‪ ،‬ولكنّهم أخطؤوا في اجتهادهم رضي اهلل عنهم‪.‬‬ ‫طلب ِّ‬ ‫فك ُّلهم اجتهد في ِ‬
‫لة والمشب ِ‬
‫هة‬ ‫ثال ًثا‪ :‬وسطية آرائه يف موضوع الصفات اإلهلية بني اجلهمي ِة املع ّط ِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫مة‪:‬‬‫المجس ِ‬
‫ّ‬
‫وبتصور اإلنسان‬
‫ّ‬ ‫موضوع الصفات اإللهية موضوع شائك يتصل باللغة ّأولاً ‪،‬‬
‫الر ِّب‪ ،‬وذهن اإلنسان‬
‫عن اإلله الذي يعبده‪ ،‬واللغة عاجز ٌة عن التعبير عن صفات ّ‬

‫((( فتح الباري ‪.104/7‬‬


‫‪77‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫العقيدة والدَّ ِ‬
‫عوة‬ ‫ِ‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬منهج اإلمام أمحد يف‬

‫قاصر عن اإلحاطة الدقيقة بصفات اهلل تعالى؛ ألن الصفات تتبع الموصوف‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫فكما أن الموصوف ـ وهو اهلل ـ ال يحاط به‪ ،‬وال يعرف بحدٍّ وال ٍ‬
‫غاية‪ ،‬كذلك‬ ‫ُ‬
‫صفاته يؤخذ بها بما قد جاء في الشرع من غير تحديد لها أو تنقير عن دقائقها‬
‫وحقائقها‪.‬‬
‫النووي في‬
‫ُّ‬ ‫مما أخذ بها علماء أهل السنة‪ ،‬قال اإلمام‬
‫هذه القواعد هي ّ‬
‫توضيح هذا المذهب عند شرح أحاديث الصفات‪:‬‬
‫«اعلم ّ‬
‫أن ألهل العلم في أحاديث الصفات وآيات الصفات قولين‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬وهو مذهب معظم السلف أو كلهم أنه ال ُيتكلم في معناها؛ بل‬
‫ِ‬
‫بجالل اهلل تعالى وعظمته‬ ‫يقولون‪ :‬يجب علينا أن نؤم َن بها؛ ونعتقد لها معنى يليق‬
‫ِ‬
‫واالنتقال‬ ‫التجس ِم‬ ‫مع اعتقادنا الجازم َّ‬
‫أن اهللَ تعالى ليس كمثله شي ٌء وأنه منز ٌه عن‬
‫ُّ‬
‫ٍ‬
‫جماعة من‬ ‫والتح ُّي ِز في جهة وعن سائر صفات المخلوق‪ ،‬وهذا القول هو مذهب‬
‫المتكلمين‪ .‬واختاره جماع ٌة من محققيهم وهو أسلم‪.‬‬
‫والقول الثاني‪ :‬وهو مذهب معظم المتكلمين أنّها تتأول على مايليق بها‬
‫بأن يكون عار ًفا بلسان‬
‫على حسب مواقعها؛ وانما يسوغ تأويلها لمن كان من أهله ْ‬
‫وقواعد األصول والفروع ذا رياضة في العلم»(((‪ ،‬ونسبه إلى اإلمام ٍ‬
‫مالك‬ ‫ِ‬ ‫العرب‬
‫محكي‬ ‫ٍ‬
‫وجماعات من السلف وهو‬ ‫واألوزاعي فقال‪«:‬هو مذهب أكثر المتكلمين‬
‫ٌّ‬
‫يليق بها بحسب مواطنها(((‪ ،‬فعلى‬ ‫هنا عن ٍ‬
‫مالك واألوزاعي أنّها تتأول على ما ُ‬

‫((( شرح مسلم للنووي ‪.19/3‬‬


‫((( تنبني مسألة التأويل على مسألة المجاز‪ ،‬وجماهير العلماء على وقوع المجاز‪ ،‬قال منقح المذهب‬
‫«الصحيح الذي عليه جماهير العلماء‪ :‬أن المجاز‬
‫العالمة المرداوي في التحبير شرح التحرير‪َّ :‬‬
‫األئمة األربعة قالوا بأن المجاز واقع‪ :‬ابن مفلح في «أصوله»»‪.‬‬ ‫واقع في ال ُّلغة‪َّ ،‬‬
‫وممن نقل أن َّ‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪78‬‬
‫تنزل‬
‫أنس وغيره معناه ّ‬ ‫تأويل ِ‬
‫مالك بن ٍ‬ ‫هذا تأولوا هذا الحديث تأويلين‪ :‬أحدهما ُ‬
‫رحمتِه وأمره ومالئكتِه»(((‪.‬‬
‫أما الطوائف األخرى؛ فقد تطرفوا في آرائهم فمنهم من ّنزه اهلل حتى نفى‬
‫صفة بحجة أنها تشبه المخلوق فنفوا السمع والبصر واإلرادة والكالم‬ ‫عنه كل ٍ‬
‫والقدرة‪ ،‬وهؤالء هم المعتزل ُة والجهم ّي ُة‪.‬‬
‫ومنهم المشبهة ـ كالسالمية والكرامية ـ الذين بالغوا في اإلثبات كردة فعل‬
‫على المع ّطلة‪ ،‬وع ّطلوا اللغة عن معانيها وأثبتوا النصوص المتشابهة على معناها‬
‫الحسي فوقعوا في التجسيم والتشبيه‪.‬‬
‫وبصرا وإراد ًة‬
‫ً‬ ‫قال شيخنا الشيخ إسماعيل بدران‪« :‬والصحيح أن له سم ًعا‬
‫وكال ًما وقدر ًة تليق بجالله سبحانه وتعالى‪ ،‬بال تمثيل وال تكييف وال تعطيل‪،‬‬
‫وهذا اعتقاد أهل السنة والجماعة والسلف الصالح»‪.‬‬
‫وقد ذ َّم اإلما ُم أحمدُ والحنابل ُة كلتا الطائفتين المعطلة والمجسمة‪ ،‬فأخذوا‬
‫باإلثبات مع التسليم والتفويض وعدم القطع بمرادها؛ لعدم ورود الدليل القطعي‬
‫َ‬
‫بدران الحنبلي في «العقود الياقوتية‬ ‫على تفسيرها‪ .‬قال العالم ُة عبدُ القادر بن‬
‫قال‪ :‬أثبت تعالى لذاته صف َة الكالم والسمع‬ ‫ٍ‬
‫حينئذ أن ُي َ‬ ‫المنجي‬ ‫‪« :»57‬فاالعتقاد‬
‫ّ‬
‫والبصر واالستواء فنحن نؤمن بذلك ون ِ‬
‫َكل حقيقتَه إليه سبحانه وتعالى وعلى هذا‬
‫ٍ‬
‫بإحسان‬ ‫كان السلف الصالح من الصحابة والتابعين من الصحابة والتابعين لهم‬
‫الفرقة التي أخبر النبي ﷺ بنجاتها وسلك صراطها األئم ُة المقتدى بهم‬ ‫وتلك ِ‬
‫من الفقهاء والمحدّ ثين‪.»...‬‬
‫قال الـعالمة األصولي الطوفي في« شرح مختصر الروضة» ‪:155 /2‬‬

‫((( شرح مسلم ‪.36/6‬‬


‫‪79‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫العقيدة والدَّ ِ‬
‫عوة‬ ‫ِ‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬منهج اإلمام أمحد يف‬
‫«ولمثل هذا نهى السلف عن الكالم في ذات اهلل تعالى؛ َّ‬
‫ألن كثرة النظر في ذلك‬
‫بعض العلماء العارفين»‪.‬‬
‫صرح بذلك ُ‬ ‫الرب من القلب‪ ،‬وقد َّ‬
‫تسقط مهابة ِّ‬
‫التنزيه عند اإلمام أحمد‪:‬‬
‫أثبت اإلمام أحمد صفات اهلل تعالى‪ ،‬ولكنّه نفى لواز َم التّجسيم واألعضاء‬
‫ِ‬
‫البشر(((‪.‬‬ ‫والجوارح والحدود والغايات وكل ما يخطر ِ‬
‫ببال‬
‫ُسئل اإلمام أحمد رضي اهلل عنه عن االستواء فقال‪« :‬استوى كما أخبر ال‬
‫كما يخطر للبشر»(((‪.‬‬
‫وقد ُسئل اإلمام أحمد‪ :‬كم بيننا وبين العرش؟ قال‪ :‬دعوة مسل ٍم يجيب اهلل‬
‫دعوته(((‪ .‬فاإلمام يربط السائل بالمعنى الذي يفيده؛ ويزيد من إيمانه وال يجيبه‬
‫توسوسا‪ ،‬وهذا منتهى الحكمة القائمة‬
‫ً‬ ‫حائرا ُم‬
‫يشوش عليه عقيدتَه ويبقيه ً‬‫بكال ٍم ِّ‬
‫وجل في نفوس‬ ‫عز ّ‬ ‫على ربط العقيدة باألثر التربوي اإليماني لتعظيم الباري ّ‬
‫باني النبوي الذي استعمله المر ّبون العارفون في‬‫الر ُّ‬
‫المنهج َّ‬
‫ُ‬ ‫السامعين‪ ،‬وهو‬ ‫َّ‬
‫إصالح المجتمعات‪.‬‬
‫وقد أنكر اإلمام أمحد عىل من يصف اهلل بمعنى من معاين اجلسمية واستعمل‬
‫االستدالل المنطقي في الرد على المجسمة فقال‪« :‬إن األسماء مأخوذ ٌة بالشريعة‬
‫ٍ‬
‫وسمك‪،‬‬ ‫ض‬‫وعر ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫وال ّلغة‪،‬‬
‫االسـم على كل ذي طول ْ‬‫َ‬ ‫وأهـل اللغة وضعوا هذا‬

‫((( قال شيخنا الشيخ إسماعيل بدران‪« :‬بمعنى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير‪ ،‬وكل ما‬
‫خطر ببالك فاهلل بخالف ذلك»‪.‬‬
‫((( ذكره السفاريني في لوامع األنوار‪ .‬واإلمام الحصني في دفع ُش َبه من ش َّبه َّ‬
‫وتمرد ونسب ذلك‬
‫على السيد الجليل أحمد‪ .‬ص‪.17‬‬
‫((( اإلبانة ‪ .187/3‬والطبقات ‪.402/1‬‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪80‬‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫جسما‬ ‫خارج عن ذلك ك ِّله‪ ،‬فلم ُ‬
‫يجز أن يسمى ً‬ ‫ٌ‬ ‫وتأليف‪ ،‬واهلل تعالى‬ ‫وصورة‬ ‫وتركيب‬
‫لخروجه عن معنى الجسمية ولم يجئ في الشريعة ذلك فبطل»(((‪.‬‬
‫التجزؤ واالنقسا َم عن اهلل تعالى قال أبو الفضل التميمي‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫واإلمام أحمد ينفي‬
‫بن حنبل رضي اهلل عنه والذي كان يذهب إليه‪ّ ،‬‬
‫أن اهلل‬ ‫«جملة اعتقاد اإلما ِم أحمدَ ِ‬
‫التجزؤ وال القسم ُة وهو واحدٌ من كل‬
‫ُ‬ ‫عز وجل واحدٌ ال من ٍ‬
‫عدد ال يجوز عليه‬
‫موصوف بما أوجبه السمع واإلجماع‬
‫ٌ‬ ‫وجه دون ٍ‬
‫وجه وأنه‬ ‫جهة وما سواه واحدٌ من ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وذلك دليل إثباته وأنه موجو ٌد»(((‪.‬‬
‫وكان اإلمام ينفي الجوارح واألعضا َء عن اهلل‪ .‬قال شيخ الحنابلة أبو الفضل‬
‫التميمي في «اعتقاد اإلمام المبجل صفحة ‪« :»7‬وكان يقول‪ :‬إن هلل تعالى يدين‬
‫وهما صفة له في ذاته((( ليستا بجارحتين وليستا بمركبتين وال جسم وال من‬
‫جنس األجسام وال من جنس المحدود والتركيب وال األبعاض والجوارح‪ .‬وال‬
‫يقاس على ذلك وال له مرفق وال عضد وال فيما يقتضي ذلك من إطالق قولهم‪:‬‬
‫يدٌ إال ما نطق القرآن به أو صحت عن رسول اهلل ﷺ ـ السنة فيه»‪.‬‬

‫((( اعتقاد اإلمام المبجل ألبي الفضل التميمي الحنبلي ‪ .298‬ونقله الحافظ البيهقي عنه في مناقب‬
‫نحكم على األلفاظ والعقائد‪.‬‬
‫َ‬ ‫أحمد ص‪ .42‬ونستنتج من ذلك أنه ال بد من فهم اللغة حتى‬
‫((( اعتقاد اإلمام المبجل ‪.3‬‬
‫((( رشح العالمة مرعي الكرمي ذلك يف أقاويل الثقات ص‪ 193‬بقوله‪« :‬ومذهب السلف والحنابلة‬
‫أن المراد إثبات صفتين ذاتيتين تسميان يدين يزيدان على النعمة والقدرة‪ »..‬ثم قال‪« :‬قال البيهقي‪:‬‬
‫المتقدمون من هذه األمة لم يفسروا ما ورد من اآلي واألخبار في هذا الباب مع اعتقادهم‬
‫بأجمعهم أن اهلل واحدٌ ال يجوز عليه التبعيض‪ ،‬قال وذهب بعض أهل النظر إلى أن اليمين يراد‬
‫جارحة فكل موض ٍع ذكرت فيه من الكتاب أو السنة فالمراد بذكرها‬ ‫ٍ‬ ‫به اليد واليد هلل صف ٌة بال‬
‫تعلقها بالمكان المذكور معها من الطي واألخذ والقبض والبسط والقبول واإلنفاق وغير ذلك‬
‫بحال‪ .‬وهذا مذهب‬‫تعلق الصفة الذاتية بمقتضاه من غير مباشرة وال مماسة وليس في ذلك تشبي ٌه ٍ‬
‫الحنابلة»‪ .‬اهـ كالم الكرمي‪.‬‬
‫‪81‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫العقيدة والدَّ ِ‬
‫عوة‬ ‫ِ‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬منهج اإلمام أمحد يف‬

‫وقال‪« :‬واهلل تعالى ال يلحقه التغير والتبدل وال الحدود قبل خلق العرش‬
‫وبعده»‪.‬‬
‫كام أن اإلمام أمحد يمنع التأويل لئلاّ يفيض إىل التعطيل وإىل نفي ما أثبته اهلل‬
‫لنفسه‪ ،‬وكان يمنع من الخوض في معاني هذه الصفات اإللهية؛ ألن القطع بالمراد‬
‫خطير(((‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ال بدَّ فيه من الدليل والقول في اهلل بغير عل ٍم ٌ‬
‫شأن‬
‫نص عليه العلماء الكبار كابن حمدان والبلباني‬ ‫والمذهب عندنا الذي َّ‬
‫ٍ‬
‫بصادر عن رسول اهلل أو عن‬ ‫أن تأويل الصفات اإللهية محرم إال‬ ‫وغيرهما ّ‬
‫ٍ‬
‫السلف األوائل‬‫أحد أصحابه‪ .‬ويكون التأويل حينئذ مراد ًفا للتفسير عند علماء َّ‬
‫وثعلب واب ُن األعرابي والطبري‪ ،‬ونسبه ابن الجوزي إلى جمهور‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫الليث‬ ‫منهم‬
‫المفسرين وأهل اللغة(((‪ .‬وقال ثعلب وابن األعرابي‪ :‬التفسير والت ُ‬
‫ّأويل واحدٌ وهو‬
‫كشف المراد عن المشكل(((‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ومجاهد‬ ‫صحابي تأويل ابن ع ّب ٍ‬
‫اس‬ ‫ومن هذه التأويالت الصادرة عن‬
‫ٍّ‬
‫للساق في قوله‪﴿ :‬ﰝﰞﰟﰠ﴾ [القلم‪ ]42:‬بالشدة والكرب‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫والضحاك‬
‫وقد رواه الطبري وابن أبي حات ٍم وغيرهما‪.‬‬
‫قال العالم ُة اإلما ُم ابن حمدان الحنبلي في «نهاية المبتدئين» ـ وهو أشهر‬
‫كتب الحنابلة في االعتقاد وأحسنها ـ‪« :‬ويحرم تأويل ما يتع ّلق به سبحانه من‬
‫بصادر عن رسول اهلل ﷺ أو عن بعض أصحابه(((‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫الكتاب والسنة وتفسيره‪ ،‬إال‬

‫((( الحق أن الحنابلة وأهل الحديث وقفوا مع التفويض تور ًعا من القول في اهلل بغير علم‪ ،‬وأن‬
‫متكلمي أهل السنة ما اضطروا إلى التأويل إال للرد على أهل األهواء والضالل‪ٌّ .‬‬
‫فكل مأجور‬
‫بحسب قصده‪.‬‬
‫((( انظر‪ :‬مجموع الفتاوى ‪.368/17‬‬
‫((( انظر‪ :‬تاج العروس‪ ،323/13‬القاموس المحيط ‪ ،587/1‬تهذيب اللغة ‪.135/3‬‬
‫ّ‬
‫يستدل بقوهلم‪ ،‬ويستأنس به‪.‬‬ ‫((( ويف قبول تفسري التابعي روايتان يف املذهب‪ ،‬إال ّ‬
‫أن اإلمام أمحد كان‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪82‬‬
‫وأحاديث كآية النجوى وقوله أن ﴿ﯰﯱ﴾ وقال‪:‬‬ ‫َ‬ ‫وقد تأول أحمد ٍ‬
‫آيات‬ ‫ّ‬
‫قدرته وأمره وقوله ﴿ﯩﯪ﴾ قال‪ :‬قدرته ذكرهما ابن الجوزي في «المنهاج»‬
‫كثيرا من‬
‫واختار هو إمرار اآليات كما جاءت من غير تفسير‪ .‬وتأول ابن عقيل ً‬
‫وتأول أحمد قول النبي ﷺ‪« :‬الحجر األسود يمين اهلل في‬
‫اآليات واألخبار‪ّ .‬‬
‫األرض» ونحوه»(((‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫وهذا شيخ اإلسالم ابن تيمية يرى أنّه ال يجوز ذ ّم ّ‬
‫كل التأويل؛ ّ‬
‫ألن فيه ما‬
‫جار على القواعد واألصول‪ ،‬قال في مجموع الفتاوى ‪« :21/6‬وقد‬ ‫هو مقبول ٍ‬
‫تقد َم أنَّا ال نذ ُّم َّ‬
‫كل ما ُيسمى تأويلاً مما فيه كفاي ٌة وإنما نذ ُّم تحريف الكلم عن‬
‫بالرأي‪ »...‬وقال‪َّ :‬‬
‫«ألن من‬ ‫والسنّة والقول في القرآن ّ‬ ‫مواضعه‪ ،‬ومخالفة الكتاب ّ‬
‫السلف»‪.‬‬
‫منقول عن بعض َّ‬ ‫ٌ‬ ‫صحيح‬
‫ٌ‬ ‫المعاني التي قد تسمى تأويلاً ما هو‬
‫أعلم الناس‬
‫فسر أحمد القرآن بمقتضى اللغة‪ ،‬قال العالمة ابن مفلح ُ‬
‫وقد ّ‬
‫بالمذهب‪« :‬ويجوز تفسير القرآن بمقتضى اللغة‪ ،‬فعله أحمد‪ ،‬نصره القاضي‬
‫تفسير‬
‫ُ‬ ‫عربي‪ ...‬وتعليم التأويل مستحب‪ ،‬وال يجوز‬
‫وأبو الخطاب وغيرهما؛ ألنه ٌّ‬
‫برأيه من غير لغة‪ ،‬وال نقل‪ ،‬ذكره القاضي وغيره»(((‪ ،‬وعليه ْ‬
‫فإن لم ينقل التأويل‬
‫عن السلف الصالح فهو تأويل باطل»‪.‬‬
‫والصوف ّية‪:‬‬
‫ّصوف ّ‬
‫توسط اإلمام أحمد في نظرته إلى الت ّ‬
‫راب ًعا‪ُّ :‬‬
‫التصوف وبين أهل الفرا ِغ ُّ‬
‫الروحي‬ ‫ُّ‬ ‫ٌ‬
‫وسط بين أهل‬ ‫قلنا‪ :‬إن اإلمام أحمد‬
‫شر‬ ‫والجمود وأقواله معتدل ٌة متزن ٌة ُيثني على ما فيه ٌ‬
‫خير عند الصوفية وينكر ما فيه ٌّ‬
‫وشطح‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫وابتداع‬
‫ٌ‬
‫((( نهاية المبتدئين ص(‪ .)35‬وقد قال كذلك البلباني في مختصر نهاية المبتدئين‪.‬‬
‫((( الفروع ‪.380 /2‬‬
‫‪83‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫العقيدة والدَّ ِ‬
‫عوة‬ ‫ِ‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬منهج اإلمام أمحد يف‬

‫فقد نقل أئمة المذهب ومنهم‪ :‬العلاَّ مة اب ُن مفلحٍ الحنبلي والعالمة البهوتي‬
‫والعالمة السفاريني عن إبراهيم بن عبد اهلل القالنسي قال‪ :‬قيل ألحمد بن حنبل‪:‬‬
‫إن الصوفية يجلسون في المساجد بال عل ٍم على سبيل التوكُّل قال‪ :‬العلم أجلسهم‪،‬‬
‫خبز وخرق ٌة‪ ،‬فقال‪ :‬ال أعلم على وجه‬ ‫فقيل‪ :‬ليس مرادهم من الدنيا إال كسرة ٍ‬
‫األرض أقوا ًما أفضل منهم‪ ،‬قيل‪ :‬إنهم يستمعون ويتواجدون قال‪ :‬دعوهم يفرحون‬
‫غشى عليه‪ ،‬ومنهم من يموت فقال‪﴿ :‬ﯻﯼ‬ ‫مع اهلل تعالى ساع ًة‪ ،‬قيل‪ :‬فمنهم من ُي َ‬
‫ﯽﯾﯿﰀﰁﰂ﴾ [الزمر‪.(((]47:‬‬
‫وقال العلاَّ مة ابن تميم الحنبلي ـ وهو أحد أصحاب الوجوه في المذهب ـ‪:‬‬
‫«كان اإلمام أحمد يعظم الصوفية ويكرمهم»(((‪.‬‬
‫وكان اإلمام قبل مصاحبته للصوفية يقول لولده عبد اهلل رحمه اهلل تعالى‪« :‬يا‬
‫سموا أنفسهم صوفي ًة‪ ،‬فإِنهم‬‫ولدي عليك بالحديث‪ ،‬وإِياك ومجالس َة هؤالءالذين ُّ‬
‫فلما صحب أبا حمزة البغدادي الصوفي‪،‬‬ ‫ربما كان أحدهم جاهلاً بأحكام دينه»‪َّ .‬‬
‫وعرف أحوال القوم‪ ،‬أصبح يقول لولده‪« :‬يا ولدي عليك بمجالسة هؤالء القوم‪،‬‬
‫ِ‬
‫فإِنهم زادوا علينا بكثرة العلم والمراقبة والخشية والزهد ّ‬
‫وعلو الهمة»(((‪.‬‬
‫أئمة اإلسالم منهم‪ :‬اإلمام النووي‬ ‫وقد جاء الثناء على الصوفية عن ٍ‬
‫كثير من ّ‬
‫رحمه اهلل تعالى((( واإلمام الشاطبي(((‪ ،‬واإلمام الحاكم صاحب «المستدرك»(((‪،‬‬

‫((( الفروع ‪ .238/5‬كشاف القناع ‪ ،184/5‬غذاء األلباب شرح منظومة اآلداب ‪ .120 /1‬وذكره‬
‫أئمة هذا الشأن‪.‬‬
‫الرحيباني في مطالب أولي النهى ‪ .253/5‬ولم يضعفوا هذا الخبر‪ ،‬وهم ّ‬
‫((( انظر‪ :‬عقيدة اإلمام أحمد الملحقة بطبقات الحنابلة ‪.279/2‬‬
‫((( «تنوير القلوب» ص‪ 405‬للعالمة الشيخ أمين الكردي‪.‬‬
‫((( انظر‪ :‬طبقات الشافعية ‪.151/1‬‬
‫((( انظر‪ :‬االعتصام ‪.89/1‬‬
‫((( انظر‪ :‬المستدرك ‪.18/3‬‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪84‬‬
‫والعز بن عبد السالم(((‪ ،‬واإلمام تقي الدين ابن تيمي َة(((‪ ،‬والعلاَّ مة ابن القيم(((‪،‬‬
‫والذهبي‪ .‬وابن كثري املفرس املحدث‪ ،‬واحلافظ ابن حجر العسقالين‪ ،‬والشوكاني‬
‫(((‬

‫وحجة اإلسالم اإلمام الغزالي رحمهم اهلل أجمعين‪.‬‬

‫الصوفية طائف ٌة من أهل ُّ‬


‫السنَّة ال يجوز تكفيرها‪:‬‬
‫عدَّ العلماء والمؤرخون الصوفية الصحيحة طائف ًة من طوائف أهل السنة(((‪،‬‬
‫السنّة والجماعة‪ :‬والصنف‬ ‫قال اإلمام عبد القاهر البغدادي‪« :‬في بيان أصناف أهل ّ‬
‫والصوف ّي ُة ا ّلذين أبصروا فأقصروا واختُبروا فاعتَبروا‪ ،‬دينهم‬
‫الزها ُد ُّ‬
‫السادس منهم ّ‬
‫التوحيدَ ونفي التشبيه‪.(((»..‬‬
‫كثريا من كبار القادة والفاحتني كانوا من الصوف ّية ومنهم‪ :‬ألب أرسالن‬
‫أن ً‬ ‫كام ّ‬
‫السلجوقي((( ـ الذي قتل ستين أل ًفا من الصليبين في مالذكرد ـ ونور الدين زنكي‬
‫وصالح الدين األيوبي((( ومحمد الفاتح وسليمان القانوني الذي فتح نصف أوروبا‬

‫((( القواعد ‪.179/2‬‬


‫َ‬
‫مسلك الجنيد من‬ ‫((( قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (جزء ‪ 14‬ـ صفحة ‪( )355‬فمن َ‬
‫سلك‬
‫أهل التصوف والمعرفة كان قد اهتدى ونجا وسعد»‪.‬‬
‫((( أقواله كثيرة في مدارج السالكين‪.‬‬
‫((( انظر‪ :‬رسالته في التصوف في مجموع رسائله ‪.1043/2‬‬
‫((( كذلك مدح ابن بدران الدمشقي الحنبلي الصوفية المتقدمين وذكر أن من المتأخرين من كان‬
‫على قدمهم ومنهم من خلط كالمه بالفلسفة‪ .‬انظر‪ :‬المواهب الربانية‪ ،‬المكتب اإلسالمي ‪.168‬‬
‫((( كتاب الفرق بين الفرق ص‪ ،189‬وكذلك عدها الزبيدي‪.‬‬
‫((( وكان أشعر ًيا ووزيره نظام الملك الذي نشر مدارس األشاعرة‪.‬‬
‫((( يذكر المقريزي في الخطط أن ّأو َل من أدخل الزوايا الصوفية الى مصر هو صالح الدين األيوبي‬
‫وهو من تربى في مدرسة اإلمام عبد القادر الجيالني ومدرسة اإلمام الغزالي‪.‬‬
‫‪85‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫العقيدة والدَّ ِ‬
‫عوة‬ ‫ِ‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬منهج اإلمام أمحد يف‬

‫والظاهر بيبرس ـ الذي كسر المغول ـ واألمير عبد القادر الجزائري وعمر المختارـ ‬
‫الذين قاوموا االحتالل األوروبي ـ‪.‬‬
‫شك عند الباحثين والمؤرخين ّ‬
‫أن من أدخل اإلسالم إلى أعماق‬ ‫وال يوجد ٌّ‬
‫أفريقيا وأوربا والهند والجزر األندونيسية واآلسيوية هم الصوفية بسبب دعوتهم‬
‫وجهادهم‪.‬‬

‫إنكار شطحات الصوفية واجب‪:‬‬

‫نسكت عن املنكرات التي تقع من بعض املنتسبني إىل التصوف‪،‬‬


‫َ‬ ‫وال يعني أن‬
‫فإن دين اهلل ال يحتمل مجامل ًة ومداهن ًة‪ .‬فاإلمام أحمد لم يكن يقبل كل ما يفعله‬
‫الصوفية؛ بل لقد كان ينكر عليهم ما يعارض الشريعة‪ .‬فكان ينكر السياحة في‬
‫األرض لغير قصد وينكر فهم بعضهم للتوكل‪ ،‬وينكر على من ترك العمل‪ ،‬وقيل‬
‫لإلمام أحمد بن حنبل ـ رضي اهلل عنه ـ ما تقول فيم ْن جلس في بيته أو مسجده‬
‫وقال‪ :‬ال أعمل شي ًئا حتى يأتيني رزقي؟ فقال أحمد‪« :‬هذا ٌ‬
‫رجل لم يسمع العلم‬
‫أما سمع قول النبي ﷺ‪ّ :‬‬
‫(إن اهلل جعل رزقي تحت ظل رمحي)‪ .‬وكان أصحاب‬
‫رسول اهلل ﷺ يتّجرون في البر والبحر ويعملون في نخيلهم والقدوة بهم»‪.‬‬
‫وكان ينكر عليهم ترك الزواج‪ .‬قال المروذي‪ :‬وسمعت أبا عبد اهلل يقول‬
‫ليس العزوبية من أمر اإلسالم‪ ...‬لو ترك الناس النكاح؛ لم يغزوا‪ ،‬ولم يحجوا‬
‫ولم يكن كذا ولم يكن كذا‪.‬‬
‫وينكر حديثهم في الوساوس والخطرات التي تعارض الشرع‪ ،‬وينكر‬
‫ٍ‬
‫لعبادة‬ ‫مخصوص‬ ‫والسنّة الصحيحة‪ ،‬وينكر أن ُي َ‬
‫تخذ يو ٌم‬ ‫ٍ‬
‫ٌ‬ ‫تقديم شيء على القرآن ّ‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪86‬‬
‫يكثر الناس من زيارة قبور الصالحين((( ـ إذا‬ ‫ٍ‬
‫مخصوصة من غير ٍ‬
‫وينكر أن َ‬
‫ُ‬ ‫دليل‪.‬‬
‫أ َّد ْت إلى مخالفات شرعية ـ وينهى عن الصالة عندها‪.‬‬
‫ٌ‬
‫معتدل‪:‬‬ ‫ٌ‬
‫موقف‬ ‫موقف شيخ اإلسالم ابن تيمية من الصوفية‬
‫ِ‬
‫«وألجل ما وقع‬ ‫وتوس َط فقال‪:‬‬
‫َّ‬ ‫وقد أنصف ابن تيمية في الحكم عليهم‬
‫تناز ُع الناس في طريقهم؛ فطائف ٌة ذ َّمت‬
‫كثير منهم من االجتهاد والتنازع فيه؛ ُ‬ ‫في ٍ‬
‫ٍ‬
‫طائفة‬ ‫السنّة؛ ون ُِقل عن‬
‫الصوفية والتصوف‪ .‬وقالوا‪ :‬إنّهم مبتدعون خارجون عن ّ‬
‫معروف وتبعهم على ذلك طوائف من أهل‬ ‫ٌ‬ ‫من األئمة في ذلك من الكالم ما هو‬
‫الفقه والكالم‪ .‬وطائف ٌة غ َلت فيهم‪ ،‬وا ّدعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد‬
‫ذميم‪ .‬والصواب‪ :‬أنهم مجتهدون في طاعة اهلل‬ ‫األنبياء وكال طرفي هذه األمور ٌ‬
‫المقرب بحسب اجتهاده‪ ،‬وفيهم‬ ‫كما اجتهدَ غ ُيرهم من أهل طاعة اهلل ففيهم السابق َّ‬
‫المقتصد الذي هو من أهل اليمين وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ‬
‫هة‬‫وفيهم من يذنب فيتوب أو ال يتوب»(((‪ ،‬وقال في الخالف الدائر بين المتف ّق ِ‬

‫((( اتفق الحنابلة على أنه ال يجوز الدفن في المساجد‪ ،‬ألنها لم تُب َن لذلك‪ ،‬قال شيخ الحنابلة‬
‫في األزهر الشريف ـ بداية القرن العشرين ـ الشيخ محمد الذهبي البسيوني رحمه اهلل في‬
‫«األقوال المرضية لنيل المطالب األخروية» ـ وقد نال كتابه هذا جائزة و ُأوصي بتدريسه ـ‪:‬‬
‫«وحرم الدفن في المساجد ألنها لم تُب َن لذلك»‪ ،‬ولكن توسط بعض أئمة الحنابلة في مسألة‬
‫بناء حجرة وقبة على القبور فذهب المجد ابن تيمية وابن عقيل وابن تميم والسامري إلى جواز‬
‫ذلك في ملكه ـ بشرط أن ال تُتخذ مساجد ـ قال المرداوي في «اإلنصاف»‪« :‬وقال صاحب‬
‫المستوعب‪ ،‬والمجد‪ ،‬وابن تميم‪ ،‬وغيرهم‪ :‬ال بأس بقبة وبيت وحظيرة في ملكه‪ .‬وقدمه في‬
‫مجمع البحرين‪ ،‬لكن اختار األول‪ .‬وقال المجد‪ :‬يكره ذلك في الصحراء‪ ،‬للتضييق والتشبيه‬
‫بأبنية أهل الدنيا‪ .‬وقال في المستوعب‪ :‬ويكره إن كان في مس َّبلة»‪ ،‬وقال ابن مفلح نقلاً عن ابن‬
‫عقيل في الفصول‪« :‬وقال في الفصول‪ :‬القبة والحظيرة والتربة إن كان في ملكه فعل ما شاء‪،‬‬
‫وإن كان في مسبلة كره‪ ،‬للتضييق بال فائدة»‪ .‬فالمسألة فقهية‪.‬‬
‫((( رسالة في الصوفية والفقراء ص‪.5‬‬
‫‪87‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫العقيدة والدَّ ِ‬
‫عوة‬ ‫ِ‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬منهج اإلمام أمحد يف‬

‫والمتصوفة في كتابه «اقتضاء الصراط المستقيم» ‪«« :19 / 3‬وأنت تجد ً‬


‫كثيرا من‬
‫المتفقهة‪ ،‬إذا رأى المتصوفة والمتعبدة ال يراهم شي ًئا وال يعدهم إال جهالاً ضاللاً ‪،‬‬
‫كثيرا من المتصوفة‪ ،‬والمتفقرة‬
‫وال يعتقد في طريقهم من العلم والهدى شي ًئا‪ ،‬وترى ً‬
‫ال يرى الشريعة وال العلم شي ًئا‪ ،‬بل يرى المتمسك بها منقط ًعا عن اهلل وأنه ليس عند‬
‫أهلها مما ينفع عند اهلل شي ًئا‪ ،‬وإنما الصواب‪ :‬أن ما جاء به الكتاب والسنة‪ ،‬من هذا‬
‫وهذا‪ :‬حق‪ ،‬وما خالف الكتاب والسنة من هذا وهذا‪ :‬باطل»‪.‬‬
‫مسائل محدثة مختلف فيها أجازها اإلمام أحمد‪:‬‬

‫كثر طلب ُة العلم من الخالف في مسائل عديدة ويبدع بعضهم ً‬


‫بعضا ولو‬ ‫ُي ُ‬
‫رجعوا إلى كالم السلف الصالح النعدم الخالف‪ ،‬ومن هذه المسائل‪:‬‬
‫التسبيح بالحصى والسبحة‪:‬‬
‫مسألة السبحة هي كمسألة التسبيح بالحصى أو النوى‪ ،‬إذ ال اختالف بينهما‪.‬‬
‫وقد أجاز اإلمام أحمد بن حنبل التسبيح بالحصى أو النوى‪.‬‬
‫سأل الكوسج اإلمام أحمد‪ :‬يسبح الرجل بالنوى؟ فقال أحمد‪ :‬قد فعل‬
‫ذلك أبو هريرة وسعد ـ رضي اهلل عنهما ـ‪ ،‬وما بأس بذلك‪ ،‬النبي ﷺ قد عدَّ ‪ .‬قال‬
‫إسحاق‪ :‬كما قال‪.‬‬
‫وهذا جواب ٍ‬
‫فقيه ينبع ال َفهم والفقه من ثناياه‪ ،‬وكيف ال وهو إمام أهل‬
‫السنة في عصره‪ ،‬ونفهم من جواب اإلمام أحمد ما يلي‪:‬‬
‫أثر أبي هريرة وأثر سعد بن أبي وقاص صحيحان عند اإلمام أحمد‪،‬‬ ‫َّ‬
‫ـ أن َ‬
‫وقد أخذ بهما‪.‬‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪88‬‬
‫َّ‬
‫ـ أن اإلمام أحمد أوجد للسبحة أصلاً وهو فعل النبي ﷺ في العدِّ عند‬
‫التسبيح‪ ،‬فأجاز العد بالنوى لوجود العلة ذاتها‪ ،‬وهي العلة نفسها الموجودة في‬
‫السبحة‪.‬‬
‫ـ أن اإلمام أحمد ال يسارع في الحكم بالبدعة على األفعال((( طالما وجد‬
‫لها أصلاً في السنة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫عقدة‪،‬‬ ‫وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي‪« :‬وكان ألبي هريرة ٌ‬
‫خيط فيه ألفا‬
‫فال ينام حتى يسبح به»(((‪.‬‬
‫مكروها أو مبتد ًعا‪ ،‬فقد قال عبد اهلل‪:‬‬
‫ً‬ ‫أن ترك النبي ﷺ للفعل ال يجعل الفعل‬
‫رأيت أبي ـ اإلمام أحمد ـ ينشف بمنديل بعد الوضوء‪ ،‬فقيل له‪ :‬حديث ابن عباس‬
‫عن ميمونة في عدم المسح ؟ فقال‪« :‬ليس ذلك بالب ِّين‪ ،‬إنما قال النبي ﷺ ووصفه‬
‫بيده يعني رده وأشار بيده»‪ ،‬ويؤخذ من هذا أن ليس كل ما تركه النبي ﷺ والسلف‬
‫الصالح ُيعدُّ بدعة‪ ،‬فالنبي ﷺ ـ مثلاً ـ ترك جمع القرآن في مصحف واحد وجاء‬
‫الصحابة وفعلوا ذلك‪.‬‬
‫التوسل والتبرك‪:‬‬
‫انتشر عند بعض الناس أن الحنابلة يمنعون التوسل والتبرك‪ ،‬قال العالمة‬
‫عبد اهلل القدومي ـ شيخ الحنابلة في فلسطين ـ في رسالته «المنهج األحمد في‬
‫درء المثالب التي تُنمى إلى مذهب اإلمام أحمد‪« :‬ومنها ما اشتهر عـند العا َّمة‬
‫الصالحين‪،‬‬ ‫مشاهد َّ‬ ‫ُ‬ ‫تصوفة زماننا ِمن َّ‬
‫أن علماء الحنابلة يمنعون من زيارة َ ِ‬
‫خصوصا ُم ِّ‬
‫ً‬
‫((( مع أن بعض السلف كابن مسعود أنكر العد بالحصى‪.‬‬
‫((( جامع العلوم والحكم‪ ،‬في شرح الحديث الخمسين‪ .‬والحديث رواه أبو نعيم في «الحلية»‬
‫‪.383/1‬‬
‫‪89‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫العقيدة والدَّ ِ‬
‫عوة‬ ‫ِ‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬منهج اإلمام أمحد يف‬

‫كرمين‪ ،‬ويدخل في ذلك زيارة قبر نبينا محمد ﷺ التي هي من‬


‫الم َّ‬
‫وقبور األنبياء ُ‬
‫أعظم القربات‪ ،‬وأجل الطاعات‪ ،‬وأنهم ينكرون كرامات األولياء‪ ،‬وينكرون على‬
‫توسل بهم إلى اهلل تعالى و َمـن نسب ذلك لمذهب اإلمام أحمد فقد أع َظ َم‬
‫من َّ‬
‫والحق أن الحنابلة وسط في ذلك»‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫ِ‬
‫الفر َية»‪.‬‬
‫ـ فقد قال إمامنا المبجل أحمد في منسكه الذي رواه عنه المروذي ما نصه‪:‬‬
‫«وسل اهلل حاجتك متوسلاً إليه بنبيه ﷺ ُت ْق َض من اهلل عز وجل»(((‪.‬‬
‫وقال اإلمام العالمة المرداوي في كتابه «اإلنصاف» ‪« :456/2‬قال اإلمام‬
‫أحمد للمروذي‪ :‬يتوسل بالنبي ﷺ في دعائه‪ .‬وجزم به في المستوعب وغيره»‪.‬‬
‫يتبرك بشعر من شعر النبي ﷺ ويستشفي بها ويجيز‬‫ـ وكان اإلمام أحمد بن حنبل ّ‬
‫التبرك بمنبر رسول اهلل‪ ،‬قال اإلمام الذهبي في ِ‬
‫«س َير أعالم النبالء» ‪:212 / 11‬‬
‫«ومن آدابه‪ :‬قال عبد اهلل بن أحمد بن حنبل رأيت أبي يأخذ شعر ًة من شعر النبي ﷺ‬
‫فيضعها على فيه يقبلها وأحسب أني رأيته يضعها على عينه ويغمسها في الماء‬
‫ويشربه يستشفي به»‪.‬‬
‫المنكر على أحمد؟ وقد ثبت أن عبد اهلل سأل‬
‫ُ‬ ‫المتنطع‬
‫ُ‬ ‫قال الذهبي‪« :‬أين‬
‫أباه عمن يلمس رمانة منبر النبي ﷺ ويمس الحجرة النبوية فقال‪« :‬ال أرى بذلك‬
‫بأسا»‪ .‬أعاذنا اهلل وإياكم من رأي الخوارج ومن البدع»(((‪ .‬انتهى كالم الذهبي‪.‬‬
‫ً‬
‫خصوصا في عصرنا‬
‫ً‬ ‫كثيرا ليس محمو ًدا‪،‬‬
‫أقول‪ :‬ولك َّن فتح باب التبرك ً‬
‫الحالي‪ ،‬حيث صار بعض الشيوخ الذين ينتسبون للتصوف يغالون في ذلك‪.‬‬

‫((( ذكره ابن تيمية بهذا اللفظ في الرد على األخنائي (ص ‪.)168‬‬
‫((( فانظر كيف جعل الذهبي إنكار التبرك من االبتداع في الدّ ين وليس العكس‪.‬‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪90‬‬
‫كفر وشرك‪،‬‬
‫ب وال نقول‪ :‬إنّه ٌ‬
‫ستح ٌّ‬ ‫ونحن ال نقول‪ّ :‬‬
‫إن التمسح بالقبور ُم َ‬
‫ِ‬
‫األدب‪ .‬وما أحسن ما‬ ‫قوي‪ ،‬ولكن نقول تركُه َأولى من ِ‬
‫باب‬ ‫فهذا يحتاج لدليل ٍّ‬
‫الكرمي في «غاية المنتهى» ‪ 934 /1‬ـ وهو من أشهر متون الحنابلة‬
‫ُّ‬ ‫قاله العلاّ م ُة‬
‫تمس ٌح به‪،‬‬ ‫الفقهية ـ‪« :‬وال بأس بلمس ٍ ٍ‬
‫قبر بيد ال س َّيما من تُرجى بركته وال يشرع ُّ‬
‫وصال ٌة عنده أو قصدُ ه ألجل ٍ‬
‫دعاء معتقدً ا أن الدعاء هناك أفضل من الدّ عاء في‬
‫غيره‪ ،‬أو النذر له ونحو ذلك»‪.‬‬
‫أما االستعانة باألنبياء واألولياء فيما ال يقدر عليه إال اهلل؛ فالواجب من ُعها؛‬
‫وسألت شيخنا العالمة المتكلم‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫بمخلوق‪.‬‬ ‫ألن اإلمام أحمد ذهب إلى أنه ال ُيستعا ُذ‬
‫َّ‬
‫األصولي صالح الغرسي عن ذلك فقال‪« :‬لم تكن هذه االستغاثة باألولياء عند‬
‫منعها‪ .‬ونقل لي أحدُ مشايخي عن عالمة المعقوالت‬‫الصوفية األوائل» و َذهب إلى ِ‬
‫َ َ‬
‫أن األَولى‬
‫الشيخ المتكلم األصولي عبد الكريم المدرس الشافعي رحمه اهلل تعالى َّ‬
‫حرصا على التوحيد في قلوبهم‪ .‬قال العالمة مرعي الكرمي ـ شيخ‬
‫ً‬ ‫منعها للعوام‬
‫الحنابلة في فلسطين ـ في كتابه العظيم «غاية المنتهى» ‪ 279 /6‬مع شرحه للعالمة‬
‫ٍ‬
‫كشمس‬ ‫ٍ‬
‫كوكب)‬ ‫مصطفى الرحيباني ـ شيخ الحنابلة في الشام ـ‪(« :‬أو سجد لصن ٍم أو‬
‫كفر؛ ألنه أشرك به سبحانه وتعالى‪(،‬ويتجه السجود للحكام والموتى بقصد‬ ‫قمر َ‬‫أو ٍ‬
‫كفر) قولاً واحدً ا باتّفاق المسلمين (والتحية) لمخلوق بالسجود له (كبيرةٌ)‬
‫العبادة ٌ‬
‫ميت (مع اإلطالق) العاري عن‬‫لمخلوق حي أو ٍ‬
‫ٍ‬ ‫من الكبائر العظام‪ ،‬والسجود‬
‫ٍّ‬
‫إثما وأعظم جر ًما إذ السجود ال يكون إال هلل وهو‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫لخالق أو مخلوق (أكبر ً‬ ‫كونه‬
‫اتجا ٌه حس ٌن) (أو جعل بينه وبين اهلل وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم)‬
‫كفر (إجما ًعا قاله الشيخ) تقي الدين ابن تيمية»‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫وقال مفتي الحنابلة في الشام الشيخ محمد جميل الشطي في كتابه «الوسيط‬
‫‪91‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫العقيدة والدَّ ِ‬
‫عوة‬ ‫ِ‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬منهج اإلمام أمحد يف‬

‫بين اإلفراط والتفريط» صفحة ‪« :5‬ونزور الصالحين أحيا ًء وأمواتًا وال نزيد في‬
‫والسؤال من اهلل تعالى‬
‫زيارة قبورهم على قراءة المشروع وإن شئنا زيادةً؛ فالدّ عا ُء ُّ‬
‫والتوسل بحقهم عليه وجاههم لديه وال نطلب منهم ما ال ُيطلب إال من اهلل كالشفاء‬
‫ّ‬
‫ٌ‬
‫وشرك‪ ،‬وبدونه غير مشرو ٍع فال ينبغي»‪.‬‬ ‫كفر‬ ‫فعل َ‬
‫ذلك مع اعتقاد التأثير ٌ‬ ‫والرزق فإن َ‬
‫قلت‪ :‬ولكننا كذلك ال نكفر من يفعل ذلك ـ إذا لم يعتقد ـ‪ ،‬وال نستبيح‬
‫ٍ‬
‫غامضة‪ .‬روى أبو عبيد القاسم في كتاب‬ ‫َ‬
‫مسائل‬ ‫دماء المخالفين بتكفيرنا لهم في‬
‫«اإليمان» أن رجلاً سأل الصحابي الجليل جابر بن عبد اهلل بمكة‪ :‬هل كنتم تسمون‬
‫كافرا؟ فقال‪ :‬معاذ اهلل‪ .‬قال‪ :‬فهل تسمونه مشركًا؟ قال‪ :‬ال‪.‬‬
‫أحدً ا من أهل القبلة ً‬
‫ِ‬
‫للذكر والدعاء‪:‬‬ ‫االجتماع يوم عرف َة‬
‫ُس ِئل اإلمام أحمد عن التعريف بالقرى ـ أي االجتماع في المساجد للدُّ عاء‬
‫ٍ‬
‫حريث بالكوفة‬ ‫ٍ‬
‫عباس بالبصرة وعمر بن‬ ‫والذكر يوم عرفة((( ـ فقال‪ :‬قد فعله اب ُن‬
‫وخير وقد كان يفعله‬
‫ٌ‬ ‫وهو دعا ٌء‪ ،‬قيل له‪ :‬يكثر الناس قال‪ :‬وإن كثروا هو دعا ٌء‬
‫محمد بن واس ٍع واب ُن سيري َن والحسن وذكر جماع ٌة من البصريين(((‪.‬‬
‫خير ود ٍ‬
‫عاء؛ حتى وإن كثر الناس ـ وليس في‬ ‫فقد أجازه أحمد لما فيه من ٍ ُ‬
‫أن بعض العلماء في عصره قد تشدَّ د‪ ،‬وجعل‬ ‫السنّة النبوية ـ مع ّ‬
‫دليل من ّ‬ ‫ذلك ٌ‬
‫ذلك من البِدَ عِ‪.‬‬
‫نصا على العلة‪ ،‬وكل ما ُوجد‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وهذه الرواية ذات فائدة كبيرة؛ ألن فيها ًّ‬
‫((( قال األثرم‪ :‬سألت أبا عبد اهلل عن التعريف في األمصار يجتمعون في المساجد يوم عرفة قال‪:‬‬
‫وثابت ومحمد بن‬ ‫وبكر‬ ‫ٍ‬
‫واحد قال‪ :‬أبو عبد اهلل الحسن‬ ‫بأس فعله غير‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫أرجو أن ال يكون به ٌ‬
‫واسع كانوا يشهدون المسجد يوم عرفة‪.‬طبقات الحنابلة ‪.66/1‬‬
‫((( طبقات الحنابلة ‪.216/1‬‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪92‬‬
‫وخير‬ ‫تخرج على قول أحمد ‪ ،‬فكل اجتما ٍع فيه ٌ‬
‫ذكر ودعا ٌء‬ ‫فيه مثل هذه العلة َّ‬
‫(((‬
‫ٌ‬
‫قياسا على هذه الرواية‪ .‬وقال البهوتي رحمه اهلل في «كشاف القناع»‬
‫جائز ً‬
‫فهو ٌ‬
‫(‪« :)366/1‬قال الشيخ ابن تيمية‪ :‬ويستحب الجهر بالتسبيح والتحميد والتكبير‬
‫ٍ‬
‫صالة»‪ ،‬وقال النووي رحمه اهلل ـ كما في «شرحه على مسلم» ‪:84/5‬‬ ‫عقب كل‬
‫اس رضي اهلل عنهما‪« :‬كنت أعلم اذا انصرفوا بذلك اذا سمعت‬ ‫«قال ابن ع ّب ٍ‬
‫ب رفع الصوت‬ ‫ستح ُّ‬ ‫التكبير عقب الصالة»‪ .‬هذا ٌ‬
‫دليل لما قاله بعض السلف أنه ُي َ‬
‫بالتكبير والذكر عقب المكتوبة‪« .‬وقال الحافظ العالمة ابن رجب الحنبلي في‬
‫ظاهر كالم‬
‫ُ‬ ‫فتح الباري ‪ :399 /7‬وقال القاضي أبو يعلى في «الجامع الكبير»‪:‬‬
‫يس ُّن لإلمام الجهر بالذكر والدعاء عقب الصلوات بحيث يسمع‬ ‫أحمد‪ :‬أنه َ‬
‫المأموم‪ ،‬وال يزيد على ذلك»‪.‬‬
‫نصوصا تدل على أنه كان يجهر ببعض الذكر‪ ،‬ويسر الدعاء‪،‬‬
‫ً‬ ‫وذكر عن أحمد‬
‫وهذا هو األظهر‪ ،‬وأنه ال يختص ذلك باإلمام‪ .‬فإن حديث ابن ع ّب ٍ‬
‫اس هذا ظاهره‬
‫أيضا‪.‬‬‫يدل على جهر المأمومين ً‬
‫‪...‬وقد كان أصحاب رسول اهلل يجهرون بالذكر عقب الصلوات‪ ،‬حتى‬
‫ي ِ‬
‫سمع من يليهم‪ ...‬وأما النهي عن رفع الصوت بالذكر‪ ،‬فإنما المراد به‪ :‬المبالغة‬ ‫ُ‬
‫في رفع الصوت‪ .‬فإن أحدهم كان ينادي بأعلى صوته‪( :‬ال إله إال اهلل‪ ،‬واهلل أكبر)‬
‫فقال لهم النبي‪« :‬أربعوا على أنفسكم‪ ،‬إنكم ال تنادون أصم وال غائ ًبا» وقال‬
‫قيس‪ :‬كان الناس يذكرون اهلل عند غروب الشمس‪ ،‬يرفعون أصواتهم‬ ‫عطية بن ٍ‬
‫بالذكر‪ ،‬فإذا خفضت أصواتهم؛ أرسل إليهم عمر بن الخطاب أن يرددوا الذكر‪.‬‬

‫ٍ‬
‫مسألة‬ ‫نص المجتهد على ُحك ٍم في‬ ‫((( قال العالمة الطوفي في شرح مختصر الروضة ‪« :638/3‬إذا َّ‬
‫ٍ‬
‫مسألة ُوجدت فيها تلك الع َّلة كمذهبه فيها‪ ،‬إذ الحكم يتبع الع َّلة»‪.‬‬ ‫لع َّل ٍة ب َّينها‪ ،‬فمذهبه في ِّ‬
‫كل‬
‫‪93‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫العقيدة والدَّ ِ‬
‫عوة‬ ‫ِ‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬منهج اإلمام أمحد يف‬

‫خرجه جعفر الفريابي»‪ .‬اهـ كالم ابن رجب‪ .‬وقال الوزير العالمة ابن هبيرة‬ ‫ّ‬
‫الحنبلي في كتابه العظيم ـ الذي اتفقت المذاهب على تدريسه ـ «اإلفصاح عن‬
‫معاني الصحاح» ‪ 174 /1‬حين شرح حديث عمر‪« :‬نعمت البدعة هذه» عند جمع‬
‫أن عمر رضي اهلل عنه أحدث‬ ‫الناس في التراويح‪ ،‬قال ابن هبيرة‪« :‬فيه من الفقه ّ‬
‫ٍ‬
‫محدث‬ ‫االجتماع لصالة التراويح‪ ،‬وكان هذا من أحسن ما ُأحدث(((‪ ،‬وليس كل‬
‫على اإلطالق يهجر ويكره»(((‪.‬‬
‫تعريف البدعة عند الحنابلة‪:‬‬
‫قال العالمة البعلي في «المطلع على أبواب المقنع» ص‪« :245‬والبدعة‪:‬‬
‫مثال سابق‪ ،‬والبدعة‪ :‬بدعتان‪ ،‬بدعة هدى‪ ،‬وبدعة ضاللة‪.‬‬ ‫مما ُع ِمل على غير ٍ‬
‫والبدعة‪ :‬منقسمة بانقسام أحكام التكليف الخمسة‪ ،»..‬وقال الحافظ ابن رجب‬
‫في جامع العلوم والحكم ‪« :128 /2‬قوله‪« :‬وإياكم ومحدثات األمور‪ ،‬فإن كل‬
‫بدعة ضاللة»‪ ،‬تحذير لألمة من اتباع األمور المحدثة المبتدعة‪ ،‬وأكد ذلك بقوله‪:‬‬
‫كل بدعة ضاللة والمراد بالبدعة‪ :‬ما أحدث مما ال أصل له في الشريعة يدل عليه‪،‬‬
‫فأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه‪ ،‬فليس ببدعة شر ًعا‪ ،‬وإن كان بدعة لغة»‪.‬‬
‫الصالة على النبي ﷺ بعد األذان‪:‬‬
‫من المسائل التي تُثار حولها اإلشكاالت مسأل ُة الصالة على النبي بعد‬
‫النبي ﷺ أمر بالصالة عليه بعد األذان وهذا‬
‫بأن َّ‬‫األذان من المؤذن‪ ،‬ونحن نقول‪َّ :‬‬

‫((( قال شيخنا الشيخ إسماعيل‪« :‬بل هي سنة ألنها عن أحد الخلفاء الراشدين لقوله ﷺ‪« :‬عليكم‬
‫بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين‪.»»..‬‬
‫((( قال العالمة الخلوتي في حاشيته على المنتهى‪« :‬وما ُيف َع ُل في عهد الخلفاء الراشدين ِم ْن ِ‬
‫غير‬
‫يكون بدع ًة»‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫إنكار ال‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪94‬‬
‫صر َح‬
‫بأن هذه الزيادة ليست من األذان‪ ،‬وقد َّ‬ ‫يعم السامع والمؤذن‪ .‬مع العلم َّ‬ ‫ُّ‬
‫يعم السامع والمؤ ِّذن‪ ،‬قال‬
‫فقها ُء الحنابلة المعاصرين في نجد بأن األمر بالصالة ُّ‬
‫الشيخ ابن جبرين رحمه اهلل في شرح «أخصر المختصرات»‪« :‬فيصلي السامع‬
‫على النبي ﷺ وكذلك المؤذن نفسه؛ وذلك ألنه موطن إجابة للدعاء‪ ،‬ومن‬
‫موقوف بين‬
‫ٌ‬ ‫أسباب إجابة الدعاء تقديم الصالة على النبي ﷺ لحديث‪« :‬الدعاء‬
‫السماء واألرض حتى يصلى على النبي»‪ .‬انتهى كالم ابن جبرين‪.‬‬
‫سرا فاألصل عندنا في‬ ‫جهرا أو ً‬
‫أقول‪ :‬والخالف هل تكون الصالة عليه ً‬
‫وجهرا أو جماعة وفرادى‪ ،‬األصل في كل‬ ‫ً‬ ‫سرا‬
‫المذهب أن العبادات التي تؤدى ً‬
‫ذلك اإلباحة ألنها تطوع‪ .‬قال الموفق ابن قدامة في «المغني» (‪« :)442/1‬يجوز‬
‫التطوع جماعة وفرادى ألن النبي ﷺ فعل األمرين كليهما وكان أكثر تطوعه منفر ًدا‪،‬‬
‫وصلى بحذيفة مرة وبابن عباس مرة وبأنس وأمه واليتيم مرة وأ َّم أصحابه فى بيت‬
‫عتبان مرة‪ ،‬وأ ّمهم فى ليالي رمضان ثال ًثا‪ ،‬وهي كلها صحاح جياد»‪ .‬وقد قال الشيخ‬
‫الفقيه عبد اهلل البسام مثل ذلك في كتابه «االختيارات» ـ وهو من أكبر فقهاء الحنابلة‬
‫في نجد في القرن الخامس عشر الهجري ـ‪.‬‬
‫ـ هل الصالة قبل الجمعة بدعة؟‬
‫قال المرداوي في «اإلنصاف»‪« :‬قال عبد اهلل رأيت أبي يصلي في المسجد‬
‫ٍ‬
‫ركعات قبل الخطبة فإذا‬ ‫ٍ‬
‫ركعات وقال‪ :‬رأيته يصلي‬ ‫إذا أذن المؤذن يوم الجمعة‬
‫ونكس رأسه‪.‬‬
‫َ‬ ‫قرب األذان أو الخطبة تر ّبع‬
‫وقال ابن ٍ‬
‫هانئ‪ :‬رأيته إذا أخذ في األذان‪ ،‬قام فصلى ركعتين أو أرب ًعا قال‬
‫وقال‪ :‬أختار قبلها ركعتين وبعدها ستًا‪ .‬وصالة أحمد تدل على االستحباب»(((‪.‬‬

‫((( اإلنصاف ‪.406/2‬‬


‫‪95‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫العقيدة والدَّ ِ‬
‫عوة‬ ‫ِ‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬منهج اإلمام أمحد يف‬

‫المطلب الرابع‬
‫والتيسير في العبادات‬
‫ُ‬ ‫ومن منهجه‪ :‬التّوسع ُة‬
‫ٍ‬
‫تحايل‬ ‫ٍ‬
‫انحالل أو‬ ‫والمعامالت من غير‬
‫شاع عند‬
‫مذهب اإلمام أحمد من أوسع المذاهب وأيسرها؛ وليس كما ُي ُ‬
‫العوام وصغار طلبة العلم‪ ،‬قال العلاّ مة أبو زهرة في كتابه الرائع «ابن حنبل»‪« :‬إن‬
‫مذهب اإلمام أحمد من أوسع المذاهب وأيسرها في العبادات والمعامالت‪..‬‬
‫ِ‬
‫ ـ المنضبط ـ على مصراعيه»‪.‬‬ ‫ِ‬
‫االجتهاد‬ ‫باب‬
‫فتح َ‬
‫وقد َ‬
‫ّأو اًل‪ :‬التيسير في األحكام من العبادات والمعامالت والشروط والنكاح‬
‫وغيرها(((‪ :‬تم َّيز مذهب اإلمام َأحمد في‪َ « :‬أبواب الطهارة» بالقول بطهارة بول‬
‫وروث مأكول اللحم‪ ،‬ولوال هذا لضاق األَمر‪ .‬وبالقول بالمسح على الجوربين‬
‫(والجورب لباس القدمين) لعامة أهل العصر‪ ،‬على مدار العام(((‪.‬‬

‫تفرد به المذهب ولو في رواية أو‬


‫((( ليس مقصودي هنا نقل المعتمد في المذهب‪ ،‬وإنما إظهار ما َّ‬
‫وجه كما فعل أبو الخطاب الكلوذاني في «االنتصار» وغيره من علماء المذهب‪.‬‬
‫((( أفتى بذلك شيخ الحنابلة باألزهر ورئيس لجنة اإلفتاء فيه الشيخ العالمة عبد اللطيف السبكي‬
‫الحنبلي‪ ،‬الذي كان له دور بارز في مواجهة االنفالت الخلقي ومواجهة الجماعات المتشددة‪،‬‬
‫مخولاً لرئاسة مشيخة األزهر لوال فتواه في معارضة الرئيس المصري عام ‪1969‬م‪.‬‬
‫كما أنه كان َّ‬
‫كثيرا الشيخ محمد أبو زهرة في الفقه الحنبلي‪ .‬وفتواه هذه نقلها الشيخ بكر‬
‫وقد كان يرجع إليه ً‬
‫أبو زيد كما هي في المدخل دون إشارة‪ .‬قال الموفق ابن قدامة في الكافي ‪ 72/1‬عند تعداده‬
‫لشروط الجورب‪« :‬الثاني‪ :‬أن يمكن متابعة المشي فيه‪ ،‬فإن كان يسقط من القدم لسعته‪ ،‬أو ثقله‬
‫لم يجز المسح عليه؛ ألن الذي تدعو الحاجة إليه هو الذي يمكن متابعة المشي فيه‪ ،‬وسواء في‬
‫ذلك الجلود والخرق والجوارب لما روى المغيرة ـ رضي اهلل عنه‪ :‬ـ «أن النبي ـ ﷺ ـ‪ :‬مسح‬
‫على الجوربين والنعلين»‪ .‬أخرجه أبو داود والترمذي‪ ،‬وقال‪ :‬حديث حسن صحيح‪ .‬قال=‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪96‬‬
‫قال العالمة البهوتي في «المنح الشافيات شرح منظومة المفردات» ‪/1‬‬
‫‪« :160‬ألن الصحابة ـ رضي اهلل عنهم ـ مسحوا على الجوارب ولم ُيعرف لهم‬
‫مخالف في عصرهم‪ ،‬والجورب في معنى الخف؛ ألنه ملبوس ساتر لمحل‬
‫الفرض يمكن متابعة المشي فيه أشبه الخف‪ ،‬وقولهم ـ يقصد الذين لم يجوزوا‬
‫المسح على الجورب من الحنفية والشافعية والمالكية ـ‪ :‬ال يمكن متابعة المشي‬
‫فيه؛ أي‪ :‬في الجورب ولو ثخينًا‪ ،‬قلنا‪ :‬إنما يجوز المسح عليه إذا ثبت بنفسه‪،‬‬
‫وأمكن متابعة المشي فيه وإال فال‪ ،‬وأما الرقيق فليس بساتر»‪.‬‬

‫تميز مذهب اإلمام َأحمد َبأ ّن األَصل في العقود والشروط هو ّ‬


‫«الصحة»‪،‬‬
‫وهذا يفتح حرية المتعاقدين في إِبرام العقود‪ ،‬والشروط‪ ،‬بنا ًء على هذا األَصل‪،‬‬
‫صح ُة البيع بالمعاطاة‪ .‬وصحة‬ ‫ِ‬
‫وتستمر فى التوسع ما لم تصادم ن ًَّصا(((‪ .‬ومن مذهبه‪ّ :‬‬
‫ُّ‬
‫بيع التقسيط((( وصحة المزارعة والمساقاة‪ .‬ومن نظر في «كتب المفردات»((( في‬
‫المذهب؛ رأى فيها من التيسير ورفع الحرج الخير الكثير‪.‬‬
‫قال العالمة المنقور النجدي الحنبلي (ت ‪1125‬هـ) في «الفواكه العديدة‬
‫َ‬
‫مسائل‬ ‫في المسائل المفيدة» ص‪« :52‬وأنت إذا نظرت إلى مذهب أحمد في‬

‫= اإلمام أحمد‪ُ :‬يذكر المسح على الجوربين عن سبعة أو ثمانية من أصحاب رسول اهلل ﷺ‪،‬‬
‫وألنه ملبوس ساتر للقدم يمكن متابعة المشي فيه‪ ،‬أشبه الخف‪ .‬فإن شد على رجليه لفائف‪،‬‬
‫لم يجز المسح عليها؛ ألنها ال تثبت بنفسها إنما تثبت بشدها»‪.‬‬
‫وشرط فقد ذهب الجمهور إلى عدم جوازه وذهب الحنابلة إلى‬‫ٍ‬ ‫((( كالجمع في العقد بين بي ٍع‬
‫جوازه‪ .‬انظر‪ :‬المنح الشافيات للبهوتي ص‪.416‬‬
‫((( قال العالمة أبو زهرة في كتابه عن اإلمام أحمد بأن هذا البيع ال يصح على مذهب من المذاهب‬
‫إال مذهب الحنابلة‪.‬‬
‫تفر َد به المذهب ُيعدُّ بالمئات‪ ،‬والمسلمون بحاجتها اليوم‪.‬‬
‫((( وما َّ‬
‫‪97‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫العقيدة والدَّ ِ‬
‫عوة‬ ‫ِ‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬منهج اإلمام أمحد يف‬
‫ٍ‬
‫كثيرة وجدته وس ًطا بين المذاهب‪ .‬وأنا أذكر لك بعض مسائل مما تدعو حاجة‬
‫ذهب إليه أحمد وس ًطا‬
‫الناس إليه من مذهب اإلمام أحمد‪ ،‬وبعض مسائله مما َ‬
‫بين المذاهب‪.‬‬
‫أيضا‬
‫طاهر وهذا ً‬
‫ومني ما يؤكل لحمه ٌ‬
‫مني اآلدمي ّ‬
‫أن ّ‬‫ـ ومن ذلك أن مذه َبه َّ‬
‫فيه رخص ٌة‪.‬‬
‫غيره من الحنابلة‬
‫ـ ومما ذكره المنقور إباحة االستمناء للحاجة‪ ،‬وقد ذكر ُ‬
‫أنه جائز لمن خاف على نفسه الزنى أو اللواط أو خاف على بدنه ولم يقدر على‬
‫الزواج أو التسري‪ ،‬وهو ما ذكره البهوتي وابن النجار والحجاوي وغيرهم(((‪.‬‬
‫وسع فيه اإلمام أحمد‬
‫ـ وفي وضع المصلي يديه في الصالة حال القراءة؛ ّ‬
‫يضع يمينَه‬
‫الس َّرة وفوقها‪ .‬قال الكوسج في مسائله رقم ‪ :214‬أين ُ‬
‫تحت ُّ‬
‫فأجازه َ‬
‫على شمالِه؟‬
‫واسع»‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫قال اإلمام أحمد‪« :‬كل هذا عندي‬
‫قلت‪ :‬إذا وضع يمينه على شماله أين يضعهما؟ قال‪ :‬فوق السرة وتحته‪ ،‬كل‬
‫هذا ليس بذاك‪.‬‬
‫وفي نزوله إلى السجود‪ ،‬فتح اإلمام أحمد باب التيسير والتخيير‪ ،‬وكذلك‬
‫في االستفتاح‪.‬‬

‫((( جاء في مطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى ‪(« :225/5‬ومن استمنى من رجل وامرأة لغير‬
‫حاجة؛ حرم) فعله ذلك (و ُع ِّزر) عليه؛ ألنه معصية وإن فعله (خو ًفا) على نفسه من الوقوع في‬
‫الزنى أو اللواط أو خوف ًا (على بدنه؛ فال شيء عليه) قال مجاهد‪ :‬كانوا يأمرون فتيانهم ِ‬
‫يستع ّفوا‬
‫به (فال يباح) االستمناء (إال إذا لم يقدر على نكاح‪ ،‬ولو أ َمة) ألن ذلك إنما يباح للضرورة‪ ،‬وهي‬
‫مندفعة بذلك‪ ،‬وقياسه المرأة؛ فال يباح لها إال إذا لم يرغب أحد في نكاحها»‪ .‬ومثله في كشاف‬
‫القناع للبهوتي وفي «منتهى اإلرادات» البن النجار وشرحه للبهوتي وحاشيته للخلوتي‪.‬‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪98‬‬
‫أن األضحية والعقيقة سن ٌة وليستا ً‬
‫فرضا‪ .‬وأنه إذا اجتمعت صالة‬ ‫ـ ومن ذلك ّ‬
‫العيد والجمعة في يوم يرخص لمن حضر العيد بعدم حضور الجمعة‪.‬‬
‫ورأى صحة الجمع بين الصالتين للسفر والمرض والمطر والريح الشديدة‬
‫ٍ‬
‫معيشة؛‬ ‫الباردة والثلج والجليد والوحل والشغل‪ ،‬كما لو كان ترك الجمع ُي ِعي ُق ُه عن‬
‫خاف فوات رفقته‪ ،‬وقد احتجم ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬
‫وظيفة يحتاجها(((‪ ،‬أو خو ًفا على ماله أو‬ ‫أي‪:‬‬
‫اإلمام أحمد بعد الغروب ثم تعشى ثم جمع بينهما في وقت إحداهما(((‪ .‬وفي‬
‫المذهب أكثر من عشرين سب ًبا للجمع بين الصالتين ذكرها الحنابلة‪.‬‬
‫ـ قراءة اإلمام من المصحف‪ :‬قال ابن ٍ‬
‫هانئ‪« :‬سألته عن الرجل يؤم في‬
‫بأس به‪ ،‬قد كانت عائشة تأمر مولى لها يؤ ّمها‬
‫رمضان في المصحف؟ فقال‪ :‬ال َ‬
‫في شهر رمضان في المصحف‪ ،‬وعدّ ٌة من أصحاب النبي ﷺ والحسن ومحمد‬
‫بأسا‪.‬‬
‫بن سيرين وعطاء‪ ،‬لم يكونوا يرون به ً‬
‫وقال‪ :‬أمرني أبو عبد اهلل‪ ،‬أن أؤم الناس في المصحف ففعلته»(((‪.‬‬
‫ـ ومن ذلك جواز األخذ من اللحية‪ :‬جاء في كتاب الوقوف والترجل للخالل‬
‫(ص‪« :)129 :‬أخبرني حرب‪ ،‬قال‪ :‬سئل أحمد عن األخذ من اللحية؟‬
‫ِ‬
‫القبضة‪.‬‬ ‫قال‪ :‬كان ابن ُعمر يأخذ ما زاد عن‬
‫وعن محمد بن هارون أن إسحاق حدثهم قال‪ :‬رأيت أبا عبد اهلل يأخذ من‬
‫طولها‪ ،‬ومن تحت ح ْلقه»(((‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬أعذار الجمع بين الصالتين في نيل المآرب شرح دليل الطالب ‪.190 /1‬‬
‫((( الفروع ‪ ،57 /2‬كشاف القناع ‪..6 /2‬‬
‫هانئ ‪.)487 ،485( 97/1‬‬‫((( مسائل ابن ٍ‬
‫((( أحكام أهل الملل للخالل ص‪.11 :‬‬
‫‪99‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫العقيدة والدَّ ِ‬
‫عوة‬ ‫ِ‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬منهج اإلمام أمحد يف‬

‫إلى غير ذلك من المسـائل التي فيها النَّفع العام لسائر المسلمين‪.‬‬
‫ٌ‬
‫وسط بين المذاهب مثل‪:‬‬ ‫وأما المسائل التي مذهبه فيها‬
‫ٍ‬
‫بشهوة وبغيرها؛ ومذهب أبي‬ ‫ـ مس المرأة‪ ،‬فمذهب الشافعي ينقض مطل ًقا‬
‫ٍ‬
‫بشهوة نقض وإال‬ ‫بشهوة وغيرها؛ ومذهب أحمد إن كان‬‫ٍ‬ ‫حنيفة ال ينقض مطل ًقا‬
‫فال‪ .‬وهو مذهب اإلمام مالك‪.‬‬
‫ـ والبسملة عند الحنفية ال يقرؤها ـ الصحيح أنها ليست آية عندهم ـ وعند‬
‫سرا(((‪.‬‬
‫جهرا ومذهب أحمد يقرؤها استحبا ًبا ً‬
‫(((‬
‫الشافعية يقرؤها وجو ًبا ً‬
‫ٌ‬
‫وسط بين الحنفية والشافعية فيقرأ إذا لم‬ ‫ـ وفي قراءة المأموم خلف اإلمام‬
‫يسمع وال يقرأ إذا سمع اإلمام‪.‬‬
‫ثان ًيا‪ :‬عدم التشدد في الفتوى واإلرشاد إلى األيسر‪:‬‬
‫فقد قال اإلمام‪« :‬ال ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهب‪ ،‬وال يشدد‬
‫عليهم»(((‪ .‬وقال‪« :‬ال أعنف من قال شي ًئا له وجه وإن خالفناه»(((‪.‬‬
‫وكان أحد تالمذته ـ إسحاق بن بهلول ـ قد سمى كتابه كتاب االختالف ـ ‬
‫بين الفقهاء ـ فقال له أحمد‪ :‬سمه كتاب السعة(((‪.‬‬

‫((( ويجوز في المذهب الجهر بها أحيانًا كما قال ابن تيمية‪.‬‬
‫((( انتهى من مجموع المنقور بتصرف يسير‪ ،‬ثم قال‪ :‬ومن ذلك مسائل كثيرة مذهبه فيها أضيق‬
‫المذاهب وأشد المذاهب‪ ...‬ثم ذكر بعض األمثلة وغالبها في الطهارة والصالة مثل وجوب‬
‫المضمضة واالستنشاق ومسح جميع الرأس ووجوب الترتيب والمواالة في الوضوء ووجوب‬
‫الترتيب في قضاء الفوائت‪ .‬ومذهبه فيها األخذ باألحوط مع الدليل‪.‬‬
‫((( اآلداب الشرعية ‪.186/1‬‬
‫((( الفروع ‪.150/1‬‬
‫((( طبقات الحنابلة ‪.110/1‬‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪100‬‬
‫والرعاف فقيل له‪:‬‬
‫وكان اإلمام أحمد بن حنبل يرى الوضوء من الحجامة ُّ‬
‫فإن كان اإلمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ تصلي خلفه؟ فقال‪ :‬كيف ال أصلي‬
‫خلف سعيد بن المسيب ومالك؟(((‪.‬‬
‫سألت أحمد‬
‫ُ‬ ‫قال أبو بكر الخالل أخبرني الحسين بن بشار المخرمي قال‪:‬‬
‫اكتب لي‬ ‫ابن حنبل عن مسألة في الطالق فقال‪ :‬إن َ‬
‫فعل حنث فقلت‪ :‬يا أبا عبد اهلل ْ‬
‫بخطك فكتب لي في ظهر الرقعة قال‪ :‬أبو عبد اهلل إن فعل حنث قلت‪ :‬يا أبا عبد اهلل‬
‫إن أفتاني إنسان يعني أن ال يحنث فقال أحمد‪ :‬لي تعرف حلقة المدنيين؟ قلت‪:‬‬
‫أئمة الحنابلة ومنهم مفتي‬
‫نعم فإن أفتوني يدخل قال‪ :‬نعم ‪ .‬وهذا ما سار عليه ّ‬
‫(((‬

‫احلنابلة يف زمانه الشيخ العالمة حممد بن عبد اهلل بن فريوز األحسائي ـ رمحه اهلل ـ ‬
‫ٍ‬
‫مسألة ُعرضت عليه أن مذهب الحنابلة فيها أنه يتع َّين إحالتها إلى‬ ‫حيث قضى في‬
‫مالكي ليقضي فيها‪ ،‬ألنه المذهب الغالب الذي جرى به عرف البلد‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫فقيه‬
‫ٍّ‬
‫ثال ًثا‪ :‬النهي عن تتبع الرخص ِ‬
‫والح َيل‬
‫وال يعني سعة المذهب ويسره الترخص والتسـاهل في أحكام الشريعة‬
‫فاإلمام أحمد نهى عن تتبع الرخص التي قال بها العلماء؛ ألن من تتبع رخص‬
‫العلماء تزندق‪ ،‬قال ابن النجار الفتوحي في «شرح الكوكب المنير» ص‪:577‬‬
‫«ويحرم على العامي «تتبع الرخص» وهو أنه كلما وجد رخصة في مذهب عمل‬
‫بها‪ ،‬وال يعمل بغيرها في ذلك المذهب‪« .‬ويفسق بتتبع الرخص‪ .‬ألنه ال يقول‬
‫بإباحة جميع الرخص أحد من علماء المسلمين»‪.‬‬
‫أيضا عن التحايل في شرع اهلل‪ .‬فقد قال أبو داود في «المسائل»‬
‫ونهى إمامنا ً‬
‫((( الفتاوى الكبرى البن تيمية ‪.317/2‬‬
‫((( طبقات الحنابلة ‪.140/1‬‬
‫‪101‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫العقيدة والدَّ ِ‬
‫عوة‬ ‫ِ‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬منهج اإلمام أمحد يف‬

‫ض ُسن َِن‬ ‫ون لِنَ ْق ِ‬


‫الر ْأ ِي‪َ ،‬ف َق َال‪َ :‬ي ْحتَا ُل َ‬ ‫ص ‪ 368‬عنه أنه « َذك ََر ا ْل ِح َي َل ِم ْن َأ ْم ِر َأ ْص َح ِ‬
‫اب َّ‬
‫ون فِي ا ْل ِح َيل فِي الأْ َ ْي َمان ويبطلون الأْ َ ْي َمان‬ ‫ب ِم َّما َي ُقو ُل َ‬ ‫عج ُ‬ ‫ول اهلل ﷺ‪ .‬وكان َي َ‬ ‫رس ِ‬
‫َ ُ‬
‫بالحيل َو َق َال اهلل َت َعا َلى ﴿ﮒﮓﮔﮕﮖ﴾ [النحل‪.]91 :‬‬
‫ل لاَ نر َاها»‪ .‬وهذه‬
‫َ‬ ‫وروى ابنه صالحٍ في «المسائل» ‪ 130/3‬أنه قال‪« :‬ا ْل ِح َي‬
‫الحيل محرم ٌة سواء أكانت في العبادات أو البيوع والمعامالت أو المناكحات فإن‬
‫سنوات من عمره وهو يخادع اهلل والمؤمنين ثم ال يجدُ نفسه‬ ‫ٍ‬ ‫اإلنسان قد يمكث‬
‫على شيء فتكون صالته أو زكاته أو زواجه أو بيعه وشراؤه قائمة على باطل وما‬
‫ُبني على باطل فهو باطل(((‪.‬‬
‫قال ابن قدامة في «المغني»‪« :‬والحيل كلها محرمة ال تجوز في شيء من‬
‫الدين‪ ،‬وهو أن يظهرا عقدا مباحا يريدان به محرما‪ ،‬مخادعة وتوسلاً إلى فعل‬
‫ما حرم اهلل تعالى‪ ،‬واستباحة محظوراته‪ ،‬أو إسقاط واجب‪ ،‬أو دفع حق‪ ،‬ونحو‬
‫ذلك‪ .‬قال أيوب السختياني رحمه اهلل تعالى‪« :‬إنهم ليخادعون اهلل تعالى كما‬
‫يخادعون صب ًيا لو كانوا يأتون األمر على وجهه كان أسهل علي»‪.‬‬
‫راب ًعا‪ :‬التضييق من باب اإلفتاء بالمصالح المرسلة‪:‬‬
‫توسع بعض المعاصرين في اإلفتاء بما يراه من مصلحة محتملة والحنابلة‬
‫ضيقوا هذا الباب جدً ا؛ ألن فتحه خطير على الشريعة قال العالمة المرداوي في‬
‫بحجة خال ًفا‬
‫َّ‬ ‫«التحبير شرح التحرير» ‪(« :1933 /7‬وليست هذه المصلحة‬
‫الشافعية) وقال في الشرح‪« :‬اختلف العلماء في هذه المصلحة‪،‬‬ ‫لمالك وبعض َّ‬
‫بحجة‪ .‬قال ابن‬
‫َّ‬ ‫وتسمى المصلحة المرسلة‪ .‬فذهب األكثر‪ :‬إلى أنها ليست‬

‫((( وينبني على ذلك مسائل كثيرة منها‪ :‬عدم صحة نكاح المحلل‪ ،‬وبيع العينة‪ ،‬وعدم سقوط‬
‫الشفعة بالحيلة على إبطالها‪ ،‬وعدم حل الخمر بتخليلها عالج ًا‪ .‬ذكرها ابن النجار‪.‬‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪102‬‬
‫بحجة»‪ .‬قال ابن مفلح‪ :‬فليس هذه‬
‫«والصحيح أنها ليست َّ‬
‫َّ‬ ‫قدامة في «الروضة»‪:‬‬
‫بحجة خال ًفا لمالك وبعض الشافعية»‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫المصلحة َّ‬
‫وقد اعتبر الموفق ابن قدامة أن الحكم بمجرد المقاصد والمصالح هو‬
‫حكم بالعقل المجرد‪ ،‬ور َّد على قول خطير محكي عن اإلمام مالك رحمه اهلل‬
‫ـ وال يصح نقله عنه ـ فقال الموفق في «روضة الناظر» ص‪« :484‬كان ـ أي‬
‫وحكما بالعقل المجرد‪ ،‬كما حكي أن‬
‫ً‬ ‫الحكم بالمصالح ـ وض ًعا للشرع بالرأي‪،‬‬
‫مالكا قال‪« :‬يجوز قتل الثلث من الخلق الستصالح الثلثين»‪ .‬وال نعلم أن الشرع‬
‫حافظ على مصلحتهم بهذا الطريق‪ ،‬فال يشرع مثله»‪.‬‬
‫خامسا‪ :‬يسر المذهب الحنبلي في باب أحكام النساء(((‪:‬‬
‫ً‬
‫المصري الت َ‬
‫ّعديل‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫القانون‬ ‫من دالئل سعة المذهب وتيسيره؛ أنه حين أراد‬
‫في بعض المواد الخاصة بالمرأة؛ لم يجد ما يسـدّ رمقه ويل ّبي حاجته إلاّ في‬
‫المذهب الحنبلي‪.‬‬
‫وأما إنصاف اإلمام أحمد للمرأة فهو مأخو ٌذ من َفهمه لروح النصـوص؛‬
‫فالنساء شقائق الرجال وقد أوصى النبي ﷺ به ّن‪ .‬وهذه بعض المسائل في ذلك‪:‬‬
‫ـ هل للمرأة أن تشترط أال يتزوج عليها؟‬
‫قال الكوسج‪ :‬امرأ ٌة اشترطت على الرجل عند عقدة النكاح‪ :‬أن ال تتزوج‬
‫علي وال تتسرى وال تخرجني من داري؟‬
‫ّ‬
‫تفرد به المذهب ولو في رواية أو‬
‫((( ليس مقصودي هنا نقل المعتمد في المذهب وإنما إظهار ما َّ‬
‫وجه كما فعل أبو الخطاب الكلوذاني في «االنتصار» وغيره من علماء المذهب والمقدسي في‬
‫منظومته في المفردات‪.‬‬
‫‪103‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫العقيدة والدَّ ِ‬
‫عوة‬ ‫ِ‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬منهج اإلمام أمحد يف‬

‫تسرى فهي مخيرةٌ‪،‬‬ ‫قال اإلمام أحمد‪ :‬هذه الشروط ك ُّلها لها‪ .‬فإن َّ‬
‫تزوج أو ّ‬
‫فار ْقته‪ ،‬قال النبي ﷺ‪« :‬إن أحق الشروط أن‬‫فإن شاءت أقامت معه‪ ،‬وإن شاءت َ‬
‫يوفى به ما استحللتم به الفروج»‪ .‬قال إسحاق‪ :‬كما قال(((‪.‬‬
‫الصحيح من المذهب ـ وهو‬ ‫ـ وذهب إلى عدم وجوب تغطية الوجه على َّ‬
‫ما قرره المرداوي في «اإلنصاف»(((‪ .‬قال ابن مفلح في كتابه «اآلداب الشرعية»‬
‫‪ 613/1‬ما نصه‪:‬‬
‫«هل يسوغ اإلنكار على النساء األجانب إذا كشفن وجوههن في الطريق؟‬
‫ينبني الجواب على أن المرأة هل يجب عليها ستر وجهها أو يجب غض‬
‫النظر عنها؟ وفي المسألة قوالن‪ :‬قال القاضي عياض في حديث جرير رضي اهلل‬

‫((( مسائل الكوسج ‪.1053‬‬


‫((( قال شيخنا الشيخ إسماعيل مع ّل ًقا‪« :‬بل يجب تغطيته لورود األدلة والنصوص بذلك»‪ .‬قلت‪:‬‬
‫في المسألة خالف في المذهب كما ال يخفى على فضيلتكم‪ .‬قال ابن قدامة في المغني ‪/7‬‬
‫‪« :102‬فأما نظر الرجل إلى األجنبية من غير سبب‪ ،‬فإنه محرم إلى جميعها‪ ،‬في ظاهر كالم‬
‫أحمد‪ .‬قال أحمد‪ :‬ال يأكل مع مطلقته‪ ،‬هو أجنبي ال يحل له أن ينظر إليها‪ ،‬كيف يأكل معها ينظر‬
‫إلى كفها؟ ال يحل له ذلك‪ .‬وقال القاضي‪ :‬يحرم عليه النظر إلى ما عدا الوجه والكفين؛ ألنه‬
‫عورة‪ ،‬ويباح له النظر إليها مع الكراهة إذا أمن الفتنة‪ ،‬ونظر لغير شهوة‪ .‬وهذا مذهب الشافعي‬
‫لقول اهلل تعالى‪﴿ :‬ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ﴾ [النور‪ ]31 :‬قال ابن عباس‪ :‬الوجه‬
‫والكفين‪ ،‬وروت عائشة‪« :‬أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول اهلل ﷺ في ثياب رقاق‪،‬‬
‫فأعرض عنها‪ ،‬وقال‪ :‬يا أسماء‪ ،‬إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إال هذا‬
‫وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه» رواه أبو بكر‪ ،‬وغيره؛ وألنه ليس بعورة‪ ،‬فلم يحرم النظر إليه‬
‫بغير ريبة‪ ،‬كوجه الرجل ولنا قول اهلل تعالى‪﴿ :‬ﯟﯠﯡﯢﯣ ﯤﯥ﴾‬
‫[األحزاب‪ ..]53 :‬وقال في «اإلنصاف» ‪ :453/1‬قوله (والحرة كلها عورة‪ ،‬حتى ظفرها‬
‫وشعرها‪ ،‬إال الوجه) الصحيح من المذهب أن الوجه ليس بعورة‪ .‬وعليه األصحاب‪ .‬وحكاه‬
‫أيضا‪ .‬قال الزركشي‪ :‬أطلق اإلمام أحمد القول بأن جميعها‬‫القاضي إجما ًعا‪ .‬وعنه الوجه عورة ً‬
‫عورة‪ ،‬وهو محمول على ما عدا الوجه‪ ،‬أو على غير الصالة‪.‬‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪104‬‬
‫عنه قال‪ :‬سألت رسول اهلل ﷺ عن نظر الفجأة؟ فأمرني أن أصرف بصري‪ .‬رواه‬
‫مسلم‪ .‬قال العلماء رحمهم اهلل تعالى‪ :‬وفي هذا حجة على أنه ال يجب على المرأة‬
‫أن تستر وجهها في طريقها وإنما ذلك سنة مستحبة لها ويجب على الرجل غض‬
‫البصر عنها في جميع األحوال إال لغرض شرعي‪ .‬ذكره الشيخ محيي الدين النووي‬
‫ولم يزد عليه‪.‬‬
‫فعلى هذا هل يشرع اإلنكار؟ ينبني على اإلنكار في مسائل الخالف وقد‬
‫تقدم الكالم فيه‪ ،‬فأما على قولنا وقول جماعة من الشافعية وغيرهم‪ :‬إن النظر إلى‬
‫األجنبية جائز من غير شهوة وال خلوة‪« .‬انتهى كالم ابن مفلح‪ .‬قلت‪ :‬ولو كان‬
‫ُعرف البلد تغطية الوجه فيجب العمل بالعرف خشي َة الفتنة وانتشار المفاسد‪َّ ،‬‬
‫ألن‬
‫شبرا وتنتهي با ًعا‪.‬‬
‫الفتن تبدأ ً‬
‫ـ وذهب إلى كراهة زواج العجوز من الصغيرة‪.‬‬
‫وأما النذر بالطالق فقد ُس ِئل اإلمام أحمد عن رجل نذر أن يطلق امرأته؟‬
‫ٍ‬
‫شيء من المعصية أكثر من‬ ‫فقال‪ :‬ال يط ّلق ويكفر‪ .‬قيل له‪ :‬هو معصي ٌة؟ قال‪ُّ :‬‬
‫وأي‬
‫الطالق؟ إذا طلقها فقد أهلكها(((‪.‬‬
‫وقال عن طالق الوالدين‪« :‬وال يلزمه أن يط ّلقها على معنى اإليجاب؛ ألن‬
‫طالق المرأة الصالحة ليس من بر الوالدين في ٍ‬
‫شيء»((( وقد رد اإلمام أحمد على‬ ‫ّ‬
‫من استدل عليه بتطليق عمر لزوجة ابنه فقال‪ :‬حتى يكون أبوك كعمر!‬
‫ـ وذهب إلى جواز أن يجعل الرجل الطالق بيد زوجته‪ .‬وذهب إلى َّ‬
‫أن‬

‫((( الروايتين والوجهين ‪.144/2‬‬


‫((( مسائل الكوسج ‪.1729/4‬‬
‫‪105‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫العقيدة والدَّ ِ‬
‫عوة‬ ‫ِ‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬منهج اإلمام أمحد يف‬
‫ٍ‬
‫واحدة إال إذا لم تع َّفه‪ ،‬وخشي من الوقوع في الزنا‬ ‫ٍ‬
‫زوجة‬ ‫األَولى االقتصار على‬
‫ِ‬
‫والمرأة ـ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الرجل‬ ‫حق‬
‫فله أن يتزوج ـ وفي ذلك حفظ ّ‬
‫قص َر؛‬
‫وأذن للمرأة أن تخرج لحاجتها‪ .‬وأن الرجل يجب عليه النفقة‪ .‬فإن َّ‬
‫فلها أن تطلب الطالق‪ .‬وذهب إلى أن الرجل ال يضرب زوجته إال على تركها‬
‫الفرائض ـ الصلوات الخمس ـ فقد سأله الشالنجي عما يجوز ضرب المرأة‬
‫عليه؟ فقال‪ :‬على ترك فرائض اهلل ويضربها ضر ًبا رفي ًقا غير ٍ‬
‫مبرح(((‪.‬‬
‫ـ وذهب إلى أن للمرأة حق الفسخ أو الطالق إذا كان زوجها يضربها بال‬
‫وسواس‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫جنون أو‬ ‫ٍ‬
‫سبب أو كان به‬
‫حرب‪ :‬سألت أحمـد عن كسب‬
‫ٌ‬ ‫كسب المرأة لها قال‬
‫َ‬ ‫ـ وذهب إلى أن‬
‫المرأة؟ قال‪ :‬لها‪.‬‬
‫ـ وذهب إلى أن لها حق الحضانة فقال‪ :‬األم أعطف عليهم إلى سب ٍع فيخيرون‪.‬‬
‫ّ‬
‫وأن المرأة لها حق اختيار الزوج؛ وأنها تُستأذن في الزواج؛ وأن لها حق‬
‫النظر إلى الخاطب‪ّ ،‬‬
‫وأن لها أن تظهر أمامه بما تلبس عاد ًة قال العالمة أبو بكر‬
‫عبد العزيز ـ غالم الخالل ـ ال بأس أن ينظر إليها عند الخطبة حاسرةً‪ ...‬وقال‬
‫أحمد في رواية حنبل‪« :‬ال بأس أن ينظر إليها وإلى ما يدعوه إلى نكاحها من يد‬
‫أو جسم ونحو ذلك» والصحيح من المذهب كما قال المرداوي والمعمول به‬
‫في الفتوى ـ كما في «منتهى اإلرادات» ‪ 627/2‬و«كشاف القناع» ‪10/5‬ـ جواز‬
‫ٍ‬
‫ورأس وهو من‬ ‫ٍ‬
‫ورقبة وقد ٍم‬ ‫كوجه ٍ‬
‫ويد‬ ‫ٍ‬ ‫نظر الخاطب إلى ما يظهر عاد ًة من المرأة‬
‫ِ‬
‫الـمذهب‪.‬‬ ‫مفردات‬

‫((( المغني البن قدامة‪.‬‬


‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪106‬‬
‫وفي الـمذهب جواز خروج المرأة المعتدة لحاجتها وكسبها‪ ،‬قال ابن‬
‫قوت لها إال من كسبها بضاع ًة تعملها خارج‬
‫نصر اهلل‪« :‬لو كانت ـ المعتدة ـ ال َ‬
‫بيتها فهل لها ذلك ـ أي الخروج ـ؟ لم يصرحوا به وهذا المفهوم يشعر بجواز‬
‫ذلك‪ .‬قاله في حاشية المغني»(((‪.‬‬
‫وفي المذهب وجوب أن يبذل الرجل لزوجته ما اعتادته كالقهوة عملاً ‬
‫بالعرف قال الشيخ عثمان النجدي في هداية الراغب ‪« :772 /3‬وأما القهوة‬
‫فينبغي وجوبها لمن اعتادتها لعدم غناها عنها عاد ًة وعملاً بالعرف»‪.‬‬
‫سادسا‪ :‬من أدلة اتساع المذهب الحنبلي(((‪:‬‬
‫ً‬
‫واألدلة على ذلك عديدة منها‪:‬‬
‫مفتوحا‪ .‬‬
‫ً‬ ‫‪1‬ـ إن المذهب الحنبلي هو الوحيد الذي أبقى باب االجتهاد‬
‫قال الشيخ محمد أبو زهرة‪« :‬فالحنابلة يفتحون الباب لكل من استأهل‬
‫أن يكون مجتهدً ا وتحققت فيه أوصاف االجتهاد وقد ذكرناها في صدر هذا‬
‫الكتاب بل إنهم أكثر من هذا يرون أن وجود مجتهد مستقل مطلق فرض كفاية‬
‫عصر ألنه يـ َّجدُ للناس من األحداث ما يجعله‬
‫ٌ‬ ‫اليصح أن يخلوا عنه أو منه‬
‫علم بالفتوى وحتى ال‬
‫يضل الناس ويفتي من ليس له ٌ‬ ‫وجوده ضرور ًيا حتى ال ّ‬
‫يخرجون عليها وكأنها‬
‫يندرس علم الكتاب والسنة فيرجع الناس إلى المذاهب ّ‬
‫أصول بذاتها بدل أنهم يرجعون إلى الكتاب والسنة»‪ ،‬وإنه ألجل هذا ولغيره‬
‫كبيرا ونموه يرجع مع هذا إلى أمور ثالثة‪ :‬أصوله‪،‬‬
‫نموا ً‬
‫نمى المذهب الحنبلي ً‬
‫الفتاوى‪ ،‬التخريج فيه»‪.‬‬

‫((( انظر‪ :‬حاشية ابن عوض على الدليل ‪.264 /2‬‬


‫((( ويصلح كل مثال ذكرته هنا أن يكون رسالة جامعية‪.‬‬
‫‪107‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫العقيدة والدَّ ِ‬
‫عوة‬ ‫ِ‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬منهج اإلمام أمحد يف‬

‫‪2‬ـ ومنها أن المذهب الحنبلي تم َّيز بتعدد الروايات واألوجه وهذا يعني‬
‫أنه يحتوي المذاهب األخرى ويزيد عليها فال يحتاج المقلد لهذا المذهب‬
‫مفتوحا للفقهاء بحسب‬
‫ً‬ ‫أن َ‬
‫ينتقل إلى غيره‪ ،‬وقد أبقى المذهب باب االختيار‬
‫أزمنتهم وظروفهم قال العالمة المجتهد الطوفي في شرح مختصر الروضة بعد‬
‫أن ذكر هذه المسألة‪« :‬فمن فرضناه جاء بعد هؤالء‪ ،‬وبلغ من العلم درجتهم أو‬
‫قاربهم‪ ،‬جاز له أن يتصرف في األقوال المنقولة عن صاحب المذهب كتصرفهم‪،‬‬
‫ويصحح منها ما أدى اجتهاده إليه‪ ،‬وافقهم أو خالفهم‪ ،‬وعمل بذلك وأفتى»‪.‬‬
‫‪3‬ـ ومنها توسع المذهب في باب الشروط والعقود والشركات ففي‬
‫اختيارات شيخ اإلسالم ابن تيمية قال‪« :‬تصح الشروط التي لم تخالف الشرع‪،‬‬
‫نصا على صحة الشرط‪ ،‬سواء‬
‫في جميع العقود‪ ،‬وعن أحمد نحو العشرين ً‬
‫اشترط على البائع فعلاً أو تركًا في البيع‪ ،‬مما هو مقصود للبائع‪ ،‬أو المبيع نفسه‪،‬‬
‫فيصح البيع والشرط‪.»..‬‬
‫‪4‬ـ ومنها توسع المذهب في باب تحكيم العرف والعادة وما عليه عمل‬
‫العقالء مما ال ترده الشريعة قال العالمة ابن النجار في شرح مختصر التحرير‬
‫أيضا «تحكيم العادة» وهو‬
‫المسمى بالكوكب المنير ‪« :450 /4‬ومن أدلة الفقه ً‬
‫معنى قول الفقهاء َّ‬
‫«إن العادة محكمة» أي‪ :‬معمول بها شر ًعا؛ لحديث يروى عن‬
‫عبد اهلل بن مسعود رضي اهلل تعالى عنه‪ ،‬موقو ًفا عليه وهو «ما رآه المؤمنون حسنًا‬
‫فهو عند اهلل حسن»‪ ،‬ولقول ابن عطية في قوله تعالى‪﴿ :‬ﭵﭶﭷﭸ﴾‬
‫[األعراف‪ :]199:‬إن معنى العرف‪ :‬كل ما عرفته النفوس مما ال ترده الشريعة‪...‬‬
‫وضابطه كل فعل رتب عليه الحكم‪ ،‬وال ضابط له في الشرع وال في اللغة‪،‬‬
‫كإحياء الموات‪ ،‬والحرز في السرقة‪ ،‬واألكل من بيت الصديق‪ .‬وما يعدّ قبضا‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪108‬‬
‫وإيدا ًعا وإع ًطاء وهدي ًة وغص ًبا‪ ،‬والمعروف في المعاشرة وانتفاع المستأجر بما‬
‫جرت به العادة‪ .‬وأمثال هذه كثيرة ال تنحصر‪.‬‬
‫ومأخذ هذه القاعدة وموضعها من أصول الفقه في قولهم «الوصف‬
‫المعلل به قد يكون عرف ًّيا»؛ أي‪ :‬من مقتضيات العرف وفي باب التخصيص في‬
‫تخصيص العموم بالعادة»‪.‬‬
‫وقد أحصيت مئات المسائل عللها السادة الحنابلة بأنها مما جرى عليه‬
‫العمل وبالعرف‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬


‫‪109‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫العقيدة والدَّ ِ‬
‫عوة‬ ‫ِ‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬منهج اإلمام أمحد يف‬

‫المطلب الخامس‬
‫ُ‬
‫واقعي ُة اإلمام أحمد في مسائل السياسة الشرعية‬
‫اً‬
‫أول‪ :‬وجوب إقامة حاكم يقوم بأمر الناس ومعاونته على الخير‪:‬‬
‫خير من صالحي األمة‪،‬‬ ‫العادل الصالح هو ٌ‬‫َ‬ ‫أن الحاكم‬‫يرى اإلمام أحمد َّ‬
‫ويرى وجوب إقامة هذا الحاكم للقيام بشؤون الناس وحفظ حقوقهم‪ .‬قال اإلمام‬
‫أحمد بن حنبل‪«:‬الفتنة إذا لم يكن إما ٌم يقوم بأمر الناس»(((‪ ،‬وقال‪ :‬ال بدَّ للناس من‬
‫حاك ٍم‪ .‬أتضيع حقوقهم؟!‬
‫ويرى اإلمام أحمد استحباب الدُّ عاء للحاكم المسلم فقال‪ :‬لو كان لي دعوة‬
‫صالح لهم‪ .‬وكان أحمد يؤيد‬‫ٌ‬ ‫مجابة لجعلتها في إمام المسلمين؛ ألن صالحه‬
‫خير كما فعل في فتح عمور ّي َة؛ وكما فعل في محاربة بابك الخرمي‬ ‫الحكام فيما فيه ٌ‬
‫أيضا كان ال‬
‫الباطني صاحب إحدى الفتن الخطيرة في التاريخ اإلسالمي‪ .‬ولكنه ً‬
‫يعاون األمراء ال َّظـ َلمة على ظلمهم وبغيهم؛ بل كان ير ُّد عليهم ويبين ضاللهم‪،‬‬
‫ويرى أن األمراء ال َّظـ َلمة ومن عاونهم في جهنَّم‪ ،‬بل كان ال ُي ُ‬
‫كلم أجناد السلطان‬
‫وال ُيفتيهم‪.‬‬
‫واقعي في نظرته إلى الحكام وكيفية التعامل معهم؛ فهو‬‫ٌّ‬ ‫واإلمام أحمد‬
‫يناصحهم‪ ،‬ويقف في وجههم إذا زاغوا كما فعل في فتنة خلق القرآن؛ حيث ُس ِجن‬
‫السالح والخروج‪ .‬مع ّ‬
‫أن فقهاء بغداد شاوروه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بحمل ّ‬ ‫ُفي‪ ،‬ولكنه لم يأمر‬
‫وجلد ون َ‬
‫ُ‬
‫في ذلك وكانوا يأتمرون بأمره‪ .‬قال أبو بكر المروذي‪« :‬سمعت أبا عبد اهلل يأمر‬
‫خاص ًة‬
‫إنكارا شديدً ا»((( وكان يقول‪ :‬أن تبقى الفتنة ّ‬
‫بكف الدماء‪ ،‬وينكر الخروج ً‬
‫ّ‬

‫((( السنة للخالل ‪.58/1‬‬


‫((( السنة للخالل ‪.139/1‬‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪110‬‬
‫خير من أن تصير عامة‪ .‬وقال‪« :‬واالنقياد إلى من ولاَّ ه ال َّله أمركم ال تنزع يدً ا من‬
‫ٌ‬
‫ومخرجا وال تخرج‬
‫ً‬ ‫طاعته؛ وال تخرج عليه بسيفك حتى يجعل ال َّله لك ً‬
‫فرجا‬
‫مخالف‬
‫ٌ‬ ‫مبتدع‬
‫ٌ‬ ‫َع َلى السلطان وتسمع وتطيع وال تنكث بيع ًة فمن فعل ذلك فهو‬
‫بأمر هو هلل معصي ٌة فليس لك أن تطيعه البتّة‪،‬‬ ‫مفارق للجماعة وإن أمرك السلطان ٍ‬
‫ٌ‬
‫واجب‬
‫ٌ‬ ‫وليس لك أن تخرج عليه وال تمنعه حقه‪ .‬واإلمساك فِي الفتنة سن ٌة ماضي ٌة‬
‫لسان ولكن‬‫ٍ‬ ‫فتنة ٍ‬
‫بيد وال‬ ‫لزومها فإن ابتليت فقدم نفسك دون دينك وال تعن َع َلى ٍ‬
‫َ‬
‫اكفف يدك ولسانك وهواك واهلل المعين»‪.‬‬
‫ْ‬
‫الشرعي التي توفرت‬
‫ّ‬ ‫لذا كان يرى رضي اهلل عنه حرم َة الخروج على اإلمام‬
‫تقصير((( ـ فإنما فسقه على نفسه وعليه ما‬
‫ٌ‬ ‫فسق أو‬
‫فيه الشروط ـ وإن ظهر منه ٌ‬
‫حملتم ـ وهذا كله موافق ًة لألحاديث واآلثارـ مع عدم سكوته‬
‫ُح ِّمل وعليكم ما ِّ‬
‫عن منكرات السالطين‪.‬‬
‫وسيلة أو كيف ّي ٍة بالسلم أو الغلبة‬
‫ٍ‬ ‫وكان يرى َّ‬
‫أن من اجتمع المسلمون عليه بأي‬
‫بنص َم ْن َقبله فإنه يحر ُم الخروج عليه(((‪،‬‬‫أو المشاورة أو القرعة أو االختيار أو ِّ‬
‫قال اإلمام أحمد في «أصول السنّة»‪« :‬و َمن خرج على إما ٍم من ّ‬
‫أئمة المسلمين‪ ،‬وقد‬
‫كان الناس اجتمعوا عليه‪ ،‬وأقروا له بالخالفة بأي ٍ‬
‫وجه كان بالرضا أو بالغلبة فقد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫شق هذا الخارج عصا المسلمين‪ ،‬وخالف اآلثار عن رسول اهلل‪ ،‬فإن مات الخارج‬ ‫َّ‬
‫عليه مات ميتة جاهلية»(((‪ .‬قال المرداوي في «اإلنصاف» ‪« :310 /10‬نصب‬

‫((( إن ظهر من اإلمام الشرعي ـ التي توفرت فيه الشروط السابقة ـ الفسق والتقصير فيجب الصبر‬
‫عليه كما جاء في األحاديث واآلثار‪ .‬ويحرم طاعته في معصية ويحرم الخروج عليه‪.‬‬
‫((( ولكن كل ذلك مرشوط بالبيعة كام قال أبو يعىل‪ ،‬وال تصح اإلمام ُة بالوراثة إال بعدَ البيعة قال‬
‫العالمة ابن محدان احلنبيل يف هناية املبتدئني ص‪« :64‬وال تستحق ـ اإلمامة ـ باإلرث والنسب»‪.‬‬
‫((( طبقات الحنابلة ‪.244/1‬‬
‫‪111‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫العقيدة والدَّ ِ‬
‫عوة‬ ‫ِ‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬منهج اإلمام أمحد يف‬

‫كفاية على األصح‪ .‬فمن ثبتت إمامته‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬


‫كفاية‪ .‬قال في الفروع‪ :‬فرض‬ ‫اإلمام‪ :‬فرض‬
‫بإجماع‪ ،‬أو بنص‪ ،‬أو باجتهاد‪ ،‬أو بنص من قبله عليه‪ .‬وبخبر متعين لها‪ :‬حرم قتاله‪.‬‬
‫وكذا لو قهر الناس بسيفه‪ .‬حتى أذعنوا له ودعوه إما ًما‪ .‬قاله في الكافي وغيره»‪.‬‬
‫الكفر ويحا ّد اهلل ورسوله من الحكام؛ فإن اإلمام أجاز الخروج‬
‫َ‬ ‫أما من ُي ِ‬
‫ظهر‬
‫ٍ‬
‫مضلة؛ فال تجيبوه وإن‬ ‫عليه قال ابن حمدان حاكيا عن أحمد‪« :‬من دعا إلى ٍ‬
‫بدعة‬ ‫ً‬
‫قدرتم على خلعه فاخلعوه»‪.‬‬
‫أن الناس في ذلك‬ ‫ودرجات‪ .‬كما ّ‬
‫ٌ‬ ‫مراتب‬
‫ُ‬ ‫والحكام في تنفيذهم شرع اهلل‬
‫ودرجات‪ ،‬واإلمام رضي اهلل عنه ما كان ُيسارع إلى التكفير؛ بل كان يرى‬ ‫ٌ‬ ‫مراتب‬
‫ُ‬
‫وأن عدم تطبيق بعض‬ ‫مخرج‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬ ‫غير‬ ‫مخرج من الم ّلة‪ٌ ،‬‬
‫وكفر ُ‬ ‫ٌ‬ ‫كفر‬
‫الكفر كفران‪ٌ :‬‬
‫َ‬ ‫أن‬
‫كفر‪ ،‬ورأى القاضي أبو يعلى أن عدم تنفيذ الحدود‬ ‫كفر دون ٍ‬ ‫أحكام الشرع هو ٌ‬
‫أن الحاكم القادر على إيقا ِع الحدود‬‫خرجا من الملة‪ ،‬إال ّ‬ ‫كفرا ُم ً‬
‫الشرعية ال يعدُّ ً‬
‫شيخ اإلسالم ابن‬‫وعاص هلل تعالى ـ إذا لم ينكر فرض ّيتها ـ‪ ،‬ورأى ُ‬ ‫ٍ‬ ‫آثم‬
‫وتنفيذها ٌ‬
‫ِ‬
‫العجز على الخالفة وأنّه ال‬ ‫تيمي َة أن الخالفة هي األصل والملك ُيعمل به عند‬
‫يرضى بالملك دون الخالفة إال اإلباح ّي ُة والمرجئ ُة كما قال رحمه اهلل في كتابه‬
‫«السياس ُة الشرع ّي ُة»‪ .‬حيث قال ابن تيمية إن ترك الخالفة ٌ‬
‫سبب للذ ّم والعقاب‬
‫ألن النبي ﷺ استا َء من‬‫بعض الدّ ين الواجب؛ ّ‬ ‫وقال‪ :‬إن ترك الخالفة هو ترك ُ‬
‫ونص إمام الحرمين الجويني وشيخ الحنابلة أبو يعلى‬ ‫الملك بعد ذكر الخالفة» َّ‬
‫أن الخالفة هي األصل والملك استثنا ٌء‪.‬‬
‫ثان ًيا‪ :‬توسطه في األمر بالمعروف واإلنكار على الناس‪:‬‬
‫ومن منهجه التر ّفق بالناس عند أمرهم بالمعروف فقد قال لمن يريد األمر‬
‫بالمعروف‪« :‬يأمر بالرفق والخضوع‪ ،‬ثم قال‪ :‬إن أسمعوه ما يكره ال يغضب فيكون‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪112‬‬
‫يريد ينتصر لنفسه» أ َّما اإلنكار على السالطين؛ فقد قال العالمة ابن الجوزي‪« :‬من‬
‫التعريف والوعظ‪ ،‬فأ َّما تخشي ُن‬
‫ُ‬ ‫األمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع السالطين‬
‫ِ‬
‫شرها‬‫يحر ُك فتن ًة يتعدى ُّ‬
‫القول نحو‪ :‬يا ظالم يا من ال يخاف اهلل‪ ،‬فإن كان ذلك ِّ‬
‫جائز عند جمهور العلماء‬ ‫إلى الغير لم يجز‪ ،‬وإن لم يخف إلاّ على نفسه فهو ٌ‬
‫وحمل السلطان‬ ‫ُ‬ ‫قال‪ :‬والذي أراه المنع من ذلك؛ ألن المقصو َد إزال ُة المنكر‪،‬‬
‫أكثر من فعل المنكر الذي قصد إزالته قال اإلمام‬ ‫ِ‬
‫المنكر ُ‬ ‫باالنبساط عليه على ِ‬
‫فعل‬
‫ٌ‬
‫مسلول وعصاه»‪ .‬فأ َّما ما‬ ‫أحمد ـ رضي اهلل عنه ـ‪ :‬ال يتعرض للسلطان ّ‬
‫فإن سيفه‬
‫جرى للسلف من التعرض ألمرائهم؛ فإنهم كانوا يهابون العلماء‪ .‬فإذا انبسطوا‬
‫عليهم احتملوهم في األغلب‪ ،‬وألحمد من حديث عطية السعدي‪« :‬إذا استشاط‬
‫السلطان‪ ،‬تس ّل َط عليه الشيطان»»‪.‬‬
‫ورفق في األمر بالمعروف‬ ‫ٍ‬
‫مداراة ٍ‬ ‫وقال اإلمام أحمد‪« :‬والناس يحتاجون إلى‬
‫والردى‪ ،‬فيجب عليك نه ُيه وإعال ُمه؛ ألنه‬ ‫ٍ‬
‫بال غلظة‪ ،‬إال رجلاً مباينًا‪ ،‬معلنًا بالفسق ّ‬
‫لفاسق حرم ٌة‪ ،‬فهذا ال ُحرم َة له»(((؛ ولذلك؛ فإن لألمر بالمعروف‬ ‫ٍ‬ ‫يقال‪ :‬ليس‬
‫والنهي عن المنكر شرو ًطا ينبغي على النَّاس معرفتها فال ُينكر إال ما اتُّفق على‬ ‫َ‬
‫حرمته كالزنى والخمر والقمار وال ّلواط والسحر والشعوذة والربا ـ ومقدمات‬
‫خالف بين المذاهب اإلسالمية ـ كوجه المرأة والدخان((( ووضع‬ ‫ٌ‬ ‫ٍّ‬
‫كل ـ أما ما فيه‬
‫ِ‬
‫بالمعروف للخالل ‪.33‬‬ ‫األمر‬
‫((( انظر‪ُ :‬‬
‫((( قال العالمة الرحيباني في «مطالب أولي النهي» ‪« :219 /6‬وكل أهل مذهب من األربعة فيهم‬
‫من حرمه‪ ،‬وفيهم من كرهه‪ ،‬وفيهم من أباحه‪ ،‬ولكن غالب الشافعية والحنفية قالوا إنه مباح أو‬
‫مكروه‪ ،‬وبعضهم من حرمه‪ ،‬وغالب المالكية حرمه‪ ،‬وبعض منهم كرهه‪ ،‬وكذا أصحابنا سيما‬
‫النجديون إال أني لم أر من األصحاب من صرح في تأليفه بالحرمة‪ ،‬وظاهر كالم المصنف‬
‫هنا وفي رسالة ألفها فيه‪ :‬اإلباحة‪ ،‬وظاهر كالم الشيخ منصور في آداب النساء الكراهة‪ .‬ومن‬
‫مباحا=‬
‫العلماء من فصل بين من يسكره ومن ال يسكره‪ ،‬وهو الصواب إذ اإلنسان لو تناول ً‬
‫‪113‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫العقيدة والدَّ ِ‬
‫عوة‬ ‫ِ‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬منهج اإلمام أمحد يف‬

‫اليدين في الصالة ـ فال ُينكَر‪.‬‬


‫اعتداله في الجرح والتعديل‪:‬‬
‫كان إمامنا رضي اهلل عنه متزنًا في حكمه على الرجال فال ُيسقط عدال َة‬
‫المخالف لمجرد مخالفته قال أبو حاتـم‪« :‬حادثت أحمد بن حنبل فيمن شرب‬‫ِ‬
‫زالت لهم‪ ،‬ال‬
‫ٌ‬ ‫النبيذ من محدِّ ثي أهل الكوفة وسميت له عد ًدا منهم‪ .‬فقال‪ :‬هذه‬
‫نسقط بزالتهم عدالتهم»(((‪.‬‬
‫وروى الخطيب البغدادي في تاريخه ‪ 261/10‬باسناده عن يعقوب بن‬
‫ٍ‬
‫صالح األزدي رافض ًّيا وكان يغشى‬ ‫يوسف المطوعي قال‪ :‬كان عبد الرحمن بن‬
‫رافضي! فقال‪:‬‬
‫ٌّ‬ ‫أحمد بن حنبل فيقربه ويدنيه فقيل له‪ :‬يا أبا عبد اهلل عبد الرحمن‬
‫أحب قو ًما من أهل بيت النبي ﷺ! نقول له ال تحبهم هو ثق ٌة»‪.‬‬‫رجل ّ‬ ‫سبحان اهلل ٌ‬
‫وكان اإلمام أحمد يمدح الرجل ويبالغ ثم يذكر غلطه في الشيء بعد‬
‫الشيء‪ ،‬ويقول‪ :‬نعم الرجل فالن‪ ،‬لوال أن خلة فيه‪.‬‬
‫فهذا منهج الربانيين في الجرح والتعديل‪ ،‬ومع ذلك‪ .‬فكان يرى مشروعية‬
‫التحذير من أهل الضالل ـ عند التحقق من ضاللهم ـ فقد ُس ِئل‪ :‬ترى للرجل أن‬
‫وجهه وقال‪:‬‬ ‫ويسكت عن الكالم في ِ‬ ‫يشتغل بالصو ِم والص ِ‬
‫َ‬
‫فكلح ُ‬
‫َ‬ ‫أهل البدعِ؟‬ ‫َ‬ ‫الة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫= مجم ًعا عليه فسكر منه‪ ،‬حرم عليه تناوله؛ ألنه يضره في عقله ودينه‪ ،‬وأما أنا فال أشك في‬
‫كراهته؛ لما قدمناه‪ ،‬ولما فيه من النقص في المال‪ ،‬ولكراهة رائحة فم شاربه كأكل البصل‬
‫النّيء والثوم والكراث ونحوها‪ ،‬وإلخالله بالمروءة بالنسبة ألهل الفضائل والكماالت‪ ،‬وكان‬
‫أحمد ال يعدل بالسالمة شي ًئا‪ .‬وأما التحليل والتحريم فلم أقطع بواحد منهما؛ لقصر باعي وقلة‬
‫اطالعي‪ ،‬ولعدم الدليل الصريح»‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫((( المسودة ص‪.265‬‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪114‬‬

‫«إذا هو صا َم وص َّلى واعتزل َ‬


‫الناس أليس إنما هو لنفسه؟ قلت‪ :‬بلى قال‪ :‬فإذا‬
‫ِ‬
‫ولغيره يتك ّل ُم أفضل»(((‪.‬‬ ‫تكلم كان له‬
‫َ‬
‫ولكن هذا التحذير إنما يكون من ِق َبل العلماء الفاهمين الجامعين للعلوم‬
‫الشرعية المجازين في الفقه واألصول واالعتقاد والبالغة والنحو والقرآن والسنة‪،‬‬
‫َ‬
‫الجهل عند أكثرهم طا ٍغ والدّ عاوى‬ ‫وليس دعاة المنابر والشاشات الفضائية‪َّ ،‬‬
‫فإن‬
‫عندهم عريض ٌة‪.‬‬

‫ثال ًثا‪ :‬الجهاد في سبيل اهلل والطائفة الناجية‪:‬‬

‫جهاد الكفار والمشركين له مكان ٌة كبير ٌة عند اإلمام أحمدَ ‪ ،‬فقد كان يذهب‬
‫إلى الثغور‪ ،‬ويجاهد بنفسه‪ ،‬وكان يشيع المجاهدين في ذهابهم إلى الثغور‪ ،‬ويحث‬
‫ِ‬
‫للقتال وإغاثة المسلمين‪ ،‬وكان يراسل العلماء واألمراء في‬ ‫على إعداد العدّ ِة‬
‫ٍ‬
‫ماض ال‬ ‫ِ‬
‫الفرائض وهو‬ ‫ِ‬
‫األعمال بعد‬ ‫ُ‬
‫أفضل‬ ‫نصرة المسلمين‪ ،‬ويرى َّ‬
‫أن الجها َد‬
‫جائر‪ ،‬ويرى أن اهلل يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر‪ ،‬وكان يفرق بين‬ ‫جور ٍ‬
‫يبطله ُ‬
‫ِ‬
‫بخالف ال ّثاني‪ .‬فإذن‬ ‫جهاد الدّ فع وجهاد الطلب؛ فاألول ال يحتاج إلى إذن اإلمام‬
‫أمير؛ اختلفوا وتنازعوا في األمر‪ ،‬ورأى‬
‫واجب‪ ،‬ورأى أنّه إن لم يكن لهم ٌ‬
‫ٌ‬ ‫األمير فيه‬
‫ٍ‬
‫بأمور من المباحات فيجب عليهم طاعته‪ .‬قال العالمة ابن قدامة‬ ‫أن األمير إذا أمرهم‬
‫تطوع به الجها ُد‪ :‬قال أحمد رحمه اهلل ال أعلم شي ًئا‬
‫في «الشرح الكبير»‪« :‬وأفضل ما ُي َّ‬
‫من العمل بعد الفرائض أفضل من الجهاد‪ .‬روى ذلك عنه جماعة من أصحابه قال‬
‫ُ‬
‫أفضل من السبيل وقال الفضل بن‬ ‫البر‬
‫األثرم قال أحمد‪ :‬ال نعلم شي ًئا من أبواب ّ‬
‫زياد‪« :‬سمعت أبا عبد اهلل ـ وذكر له أمر الغزو فجعل يبكي ـ ويقول‪ :‬ما من أعمال‬

‫((( اآلداب الشرعية ‪.230/1‬‬


‫‪115‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫العقيدة والدَّ ِ‬
‫عوة‬ ‫ِ‬ ‫املبحث الثاين‪ :‬منهج اإلمام أمحد يف‬

‫البر أفضل منه وقال عنه غيره‪ :‬ليس يعدل لقاء العدو شي ٌء‪ .‬ومباشرة القتال بنفسه‬
‫أفضل األعمال والذين يقاتلون العدو هم الذين يدفعون عن اإلسالم وعن حريمهم‬
‫فأي ٍ‬
‫عمل أفضل منه؟ الناس آمنون‪ ،‬وهم خائفون قد بذلوا ُم َهج أنفسهم»‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫الروم والمشركين‪ .‬فقد سئل عن ال َّطائفة‬ ‫أما ال َّطائفة النَّاجية فهي كل من َ‬
‫قاتل ُ‬
‫الناجية فقال‪« :‬هم أهل المغرب هم الذين يقاتلون الروم كل من قاتل المشركين‬
‫هانئ‪ .‬وأهل المغرب هم أهل الشام كما روى اإلمام‬ ‫فهو على الحق» رواه ابن ٍ‬
‫ُ‬
‫القتال شرع ًّيا‬ ‫َ‬
‫يكون هذا‬ ‫أحمد عن سيدنا معاذ بن ٍ‬
‫جبل رضي اهلل عنه‪ .‬ثم ال بدَّ أن‬
‫يقوده العلما ُء الفقها ُء العاملون العارفون‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بجهاد‪ .‬وإنما فتنة‬ ‫وأما القتال بين المسلمين مهما اختلفت مذاهبهم؛ فليس‬
‫وكل قتال على الدنيا وعلى الملك والسلطة فهو فتن ٌة‪ .‬قال البربهاري‪« :‬وإذا وقعت‬
‫الفتنة؛ فالزم جوف بيتك‪ ،‬وفِ َّر من جوار الفتنة‪ ،‬وإياك والعصبي َة‪ّ ،‬‬
‫وكل ما كان من‬
‫َ‬
‫شريك ل ُه»‪.‬‬ ‫قتال بين المسلمين على الدنيا فهو فتن ٌة‪ ،‬فات ِّق اهلل وحدَ ه ال‬
‫والجهاد مصطلح شرعي قد عرفه الفقهاء بتعريف دقيق‪ ،‬قال في «اإلقناع»‬
‫مع شرحه على «الكشاف» ‪ 32 /3‬في تعريف الجهاد‪« :‬وهو قتال الكفار خاصة‬
‫بخالف المسلمين»‪ .‬فقد جعل الحنابلة قتال المسلمين مهما كانوا ليس من الجهاد‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬


‫المبحث الثالث‬
‫شبهات حول مذهب اإلمام أحمد بن حنبل‬
‫ٌ‬
‫‪119‬‬

‫المبحث الثالث‬
‫شبهات حول مذهب اإلمام أحمد بن حنبل‬
‫ٌ‬

‫ٍ‬
‫بفقيه‪:‬‬ ‫الشبهة األولى‪ :‬أن اإلمام أحمد ُمحدّ ٌ‬
‫ث وليس‬
‫خاص وذلك لسببني‪:‬‬
‫مذهب أو فق ٌه ٌّ‬
‫ٌ‬ ‫ُينكر بعض الباحثني أن يكون لإلمام أمحد‬
‫فقيها‪.‬‬ ‫أحدهما‪ :‬أن اإلمام أحمد محدّ ٌ‬
‫ث وليس ً‬
‫ثانيهما‪ :‬أن اإلمام أحمد نهى عن كتابة فقهه ولم يدون إال المسند فقط فلم‬
‫ينقل فقهه!‬
‫ِ‬
‫ولنترك العالم َة أبا زهرة يرد على ابن خلدون هذه الشبهة‪ ،‬فقد قال في‬
‫كتابه «ابن حنبل» ص‪:352‬‬
‫«قال فيلسوف التاريخ اإلسالمي ابن خلدون في مذهب أحمدَ من ُ‬
‫حيث‬
‫قل ُة أتباعه في البالد اإلسالمية‪« :‬فأما مذهب أحمد فمق ّلده ٌ‬
‫قليل؛ لبعد مذهبه عن‬
‫ٍ‬
‫ببعض»‪.‬‬ ‫االجتهاد‪ ،‬وأصالته في معاضدة الرواية واألخبار بعضها‬
‫وترى من هذا أن فيلسوف المؤرخين يضرب على نغمة الذين أنكروا على‬
‫وعدوه من علماء الحديث ال من الفقهاء لهذا االعتبار‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫وصف االجتهاد‬
‫َ‬ ‫أحمد‬
‫فهو ـ وإن كان ال يخرجه من زمرة الفقهاء ـ يصف فقهه بأن االجتهاد فيه قليل‬
‫وأنه يغلب عليه الرواية واألخبار‪...‬‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪120‬‬
‫ٍ‬
‫مسلمة وب َّينَّا أن أحمد رضي اهلل عنه كان‬ ‫أن هذه القضية غير‬ ‫وقد ذكرنا َّ‬
‫ٍ‬
‫سليمة من السنة المروية واآلثار‬ ‫ٍ‬
‫أسس‬ ‫فقيها وكان مجتهدً ا وكان اجتهاده مبن ًّيا على‬
‫ً‬
‫الصحاح الثابتة من أقضية الصحابة والتابعين فكان يبني على ما علم من أخبار‬
‫ويقيس عليها‪...‬‬
‫نصف أحمد عندما أشار بق ّل ِة اجتهاده‬
‫وعلى ذلك نقرر أن ابن خلدون لم ي ِ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫رواية ال‬ ‫فقهه فق ُه‬ ‫وكثرة رواياته؛ ليفهم أنه كان محدّ ًثا أكثر مما كان ً‬
‫فقيها أو ُ‬
‫ٍ‬
‫دراية»‪.‬‬ ‫فِق ُه‬
‫فقهه الواسع‬ ‫ٍ‬ ‫ْ‬
‫يدرك ّ‬
‫بكل إنصاف َ‬ ‫أقول‪ :‬ومن ينظر في مسائل اإلمام أحمد؛‬
‫وفهمه الدقيق‪.‬‬
‫قال العالمة األصولي الفقيه أبو الوفا ابن عقيل‪« :‬من عجيب ما سمعته عن‬
‫ٌ‬
‫محدث‪ .‬قال‪ :‬وهذا‬ ‫هؤالء األحداث الجهال أنهم يقولون‪ :‬أحمد ليس ٍ‬
‫بفقيه‪ ،‬لكنه‬
‫ٍ‬
‫اختيارات بناها على األحاديث بنا ًء ال يعرفه أكثرهم‪ ،‬ور ّبما‬ ‫غاية الجهل؛ ّ‬
‫ألن له‬
‫نوادر بالغ ًة في الفهم إلى أقصى‬
‫نوادر أحمد َ‬
‫زاد على كبارهم‪ .‬ثم قال‪ :‬ولقد كانت ُ‬
‫طبقة‪ .‬و َمن هذا فقهه واختياراته ال يحسن بالمنصف أن يغض منه في هذا العلم‬ ‫ٍ‬
‫تمزق فؤا ُده من خمول كلمته وانتشار علم أحمد حتى‬ ‫مبتدع قد َّ‬
‫ٌ‬ ‫وما يقصد هذا إال‬
‫أكثر العلماء يقولون أصلي أصل أحمد وفرعي فرع فالن فحسبك ممن يرضى‬
‫إن َ‬
‫به في األصول قدوة»‪.‬‬
‫ِ‬
‫األدلة على فقهه بالحديث وفهمه لمعانيه‪:‬‬ ‫من‬
‫قال ابن أبي حات ٍم‪ :‬ثنا أحمد بن سلم َة‪ :‬سمعت إسحاق بن راهويه يقول‪:‬‬
‫كنت أجالس بالعراق أحمد بن حنبل‪ ،‬ويحيى بن معين‪ ،‬وأصحابنا‪ .‬وكنا نتذاكر‬
‫‪121‬‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫شبهات حول املذهب احلنبيل ور ُّدها‬
‫ٌ‬ ‫املبحث الثالث‪:‬‬
‫ٍ‬
‫وثالثة‪ .‬فيقول يحيى من بينهم‪ :‬وطريق كذا‪ .‬فأقول‪ :‬أليس‬ ‫الحديث من طريقين‬
‫صح هذا بإجماع منا فيقولون‪ :‬نعم؛ فأقول‪ :‬ما تفسيره ما فقهه فيقفون كلهم‪،‬‬
‫قد َّ‬
‫إلاّ أحمدَ بن حنبل‪.‬‬
‫وكان أحمدُ يفتي فتوى واسع ًة في حياة شيوخه((( وقد شهد له إمام الفقهاء‬
‫باإلمامة في ِ‬
‫الفقه‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫في عصره اإلمام الشافعي‬
‫ٍ‬
‫معين‬ ‫ماتت امرأ ٌة لبعض أهل العلم‪ ،‬قال‪ :‬فجاء يحيى بن‬ ‫ْ‬ ‫قال فوران‪:‬‬
‫فجاء أحمد بن‬ ‫حائض‪ .‬قال‪َ :‬‬
‫ٌ‬ ‫والدورقي‪ .‬قال‪ :‬فلم يجدوا امرأ ًة تغسلها إال امرأ ٌة‬
‫جلوس‪ ،‬فقال‪ :‬ما شأنكم؟ فقال أهل المرأة‪ :‬ليس نجد غاسل ًة إال‬ ‫ٌ‬ ‫حنبل‪ ،‬وهم‬
‫ائضا‪ ،‬قال‪ :‬فقال أحمد بن حنبل‪ :‬أليس تروون عن النبي ﷺ «يا عائشة‪،‬‬ ‫امرأ ًة َح ً‬
‫يجوز أن‬ ‫َك َليس ْت في ِ‬
‫يدك»‬ ‫ناوليني ا ْل ُخمرةَ‪َ .‬قا َل ْت‪ :‬إني ح ِائ ٌض‪َ ،‬ف َقال‪ :‬إن َ ِ‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫حيضت ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬
‫تغسلها‪ .‬قال‪ :‬فخجلوا وبقوا‪.‬‬
‫حبيب النرسي قال رأيت أبا عبد اهلل أحمد بن حنبل في مسجد‬ ‫ٍ‬ ‫قال نوح بن‬
‫ٍ‬
‫ومائة مستندً ا إلى المنارة؛ وجاءه أصحاب الحديث‬ ‫الخيف في سنة ٍ‬
‫ثمان وتسعين‬
‫وهو مستندٌ ‪ ،‬فجعل يعلمهم الفقه والحديث ويفتي لنا في المناسك‪.‬‬
‫معرفته الدقيقة بحديث الحفاظ وفقه الفقهاء من كافة المدارس والمذاهب‪:‬‬
‫عالمـا بأقوال مدرسة أبي حنيفة وحاف ًظـا لها قال عباس‬
‫لـقد كان اإلمام ً‬
‫سمعت أحمد يقول‪ :‬أول ما طلبت اختلفت إلى أبي يوسف القاضي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الدوري‪:‬‬
‫وقال عبد اهلل‪ :‬كتب أبي عن أبي يوسف ومحمد الكتب‪ ،‬وكان يحفظها‪ ،‬فقال لي‬
‫مهنا‪ :‬كنت أسأله فيقول‪ :‬ليس ذا في كتبهم‪ ،‬فأرجع إليهم؟ فيقولون‪ :‬صاحبك أعلم‬
‫منا بالكتب‪.‬‬

‫((( وكان شيوخه يقدمونه للصالة فيهم‪.‬‬


‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪122‬‬
‫عالما بمذهب الشافعي القديم والجديد قال‪« :‬عليك بالشافعي؛ فإنه‬
‫وكان ً‬
‫أكبرهم صوا ًبا وأتبعهم لآلثار قلت ألحمد‪ :‬فما ترى في كتب الشافعي‪ :‬التي عندَ‬
‫بمصر؟ قال عليك بالكتب التي وضعها بمصر؛‬
‫َ‬ ‫العراقيين أحب إليك أو التي عندهم‬
‫فإنه وضع هذه الكتب بالعراق ولم يحكمها‪ ،‬ثم رجع إلى مصر فأحكم ذاك»(((‪.‬‬
‫محم ٍد‬ ‫ٍ‬
‫طالب إلى اإلمام ّ‬ ‫وكان عار ًفا بأقوال آل البيت من اإلمام ٍّ‬
‫علي بن أبي‬
‫الباقر وجعفر الصادق‪.‬‬
‫وأما معرفته بأحاديث المحدثين؛ فهذا ال َ‬
‫جدال فيه‪ .‬فقد كانت معرفته واسع ًة‬
‫ٍ‬
‫ومالك‬ ‫ِ‬
‫شيوخه فكان يستدرك على وكي ٍع واألوزاعي‬ ‫ودقيق ًة تعلو على معرفة‬
‫ٍ‬
‫هارون‪.‬‬ ‫مهدي ويزيدَ بن‬ ‫والشافعي ويحيى القطان وابن‬
‫ٍّ‬
‫ٍ‬
‫رجب في معرفة اإلمام أحمد بأقـوال الفقهاء وفتاويهم‪:‬‬ ‫قال الحافظ ابن‬
‫«وقد ُر ِئ َي من فهمه وعلمه ما يقضي منه العجب‪ ،‬وكيف ال ولم يكن مسألة ٌ‬
‫سبق‬
‫للصحابة والتابعين ومن بعدهم فيها كال ٌم إال وقد علمه‪ ،‬وأحاط علمه بها‪ ،‬وفهم‬
‫مأخذ تلك المسألة وفقهها‪ ،‬وكذلك كالم عامة فقهاء األمصار وأئمة البلدان كما‬
‫ٍ‬
‫كمالك‪ ،‬واألوزاعي‪ ،‬والثوري‪ ،‬وغيرهم‪ .‬وقد ُعرض عليه عامة‬ ‫يحيط به معرفته‬
‫علم هؤالء األئمة وفتاويهم‪ ،‬فأجاب عنها‪ .‬وجماع ٌة عرضوا عليه مسائل ٍ‬
‫مالك‬
‫وفتاويه من الموطأ وغيره‪ ،‬فأجاب عنها‪ .‬وقد َن َقل ذلك عنه ُ‬
‫حنبل وغيره‪ .‬وإسحاق‬
‫ابن منصور عرض عليه عامة مسائل الثوري‪ ،‬فأجاب عنها‪ .‬وكان ّأولاً قد كتب‬
‫كتب أصحاب أبي حنيفة وفهمها‪ ،‬وفهم مآخذهم في الفقه ومدركهم‪ ،‬وكان قد‬
‫ناظر الشافعي وجالسه مدّ ًة وأخذ عنه»(((‪.‬‬

‫((( حلية األولياء ‪.97/9‬‬


‫((( الرد على من اتبع غير المذاهب األربعة ‪.9‬‬
‫‪123‬‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫شبهات حول املذهب احلنبيل ور ُّدها‬
‫ٌ‬ ‫املبحث الثالث‪:‬‬

‫كالطبري‬
‫ِّ‬ ‫ومن ُّ‬
‫الشبهات المتّصلة بهذه الـشبهة عدم اعتداد بعض العلماء‬
‫وابن عبد البر بفقه اإلمام أحمد‪:‬‬
‫البر في عدم اعتدادهما‬
‫بالطبري وابن عبد ّ‬
‫ّ‬ ‫لقد أكثر المخالفون من االحتجاج‬
‫صرحا ّ‬
‫بأن أحمد ليس‬ ‫صح َة هذا النقل عنهما وأنهما ّ‬
‫بفقه اإلمام أحمد‪ ،‬ولنفرض ّ‬
‫فقيها ـ مع أني لم أجدْ ذلك عنهما ـ‪.‬‬
‫ً‬
‫فالطبري حين سئل عن عدم اعتداده بفقه اإلمام أحمد قال‪ :‬لم أجد له‬
‫أصحا ًبا ينقلون فقهه‪ .‬فخالف الطبري كان مع الحنابلة المعاصرين له ال مع اإلمام‬
‫كبيرا كما سيأتي ـ‪ ،‬أقول‪:‬‬
‫تعظيما ً‬
‫ً‬ ‫أحمد ـ ألن الطبري له ٌ‬
‫قول يعظم فيه اإلمام أحمد‬ ‫ّ‬
‫يضر اإلما َم أحمدَ وقد شهد له الفقهاء المجتهدون‬
‫لنفرض جدلاً صحة ذلك فماذا ّ‬
‫بالفقه والعلم واالجتهاد‪.‬‬
‫اإلمام الطبري يعظم اإلمام أحمد‪:‬‬
‫لقد وجدت للطبري قولاً مسندً ا عن الثقات في تبجيل اإلمام أحمد فهو‬
‫الرشدُ والهدى كما قال‪.‬‬ ‫اإلمام المتبع وفي اتباعه ُّ‬
‫ٍ‬
‫صحيح قال‪« :‬عن محمد بن جرير‬ ‫ٍ‬
‫باسناد‬ ‫فقد روى عنه اإلمام الاللكائي‬
‫صحابي‬
‫ٍّ‬ ‫أثر فيه نعلمه عن‬
‫الطبري قال‪ :‬وأما القول في ألفاظ العباد بالقرآن فال َ‬
‫تابعي قفا‪ ،‬إال ع ْن َم ْن في قوله الشفاء والغناء وفي اتّباعه الرشدُ‬
‫ٍّ‬ ‫مضى وال عن‬
‫األئمة األول أبي عبد اهلل أحمد بن محمد بن حنبل‬ ‫والهدى ومن يقوم لدينا مقا َم ّ‬
‫فإن أبا اسماعيل الترمذي حدّ ثني قال‪ :‬سمعت أبا عبد اهلل أحمد بن محمد بن‬
‫حنبل يقول‪ :‬اللفظية جهمي ٌة قال اهلل تعالى‪﴿ :‬ﯬﯭﯮﯯ﴾ ممن يسمع‪.‬‬
‫قال ابن جرير‪ :‬وسمعت جماع ًة من أصحابنا ال أحفظ أسماءهم يحكون‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪124‬‬
‫جهمي ومن‬
‫ٌّ‬ ‫ٌ‬
‫مخلوق فهو‬ ‫عنه ـ أي عن أحمد ـ أنه كان يقول من قال لفظي بالقرآن‬
‫مبتدع‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ٍ‬
‫مخلوق فهو‬ ‫قال غير‬
‫قال ابن جرير‪ :‬وال قول عندنا في ذلك يجوز أن نقوله غير قوله إذ لم يكن‬
‫َّبع»(((‪.‬‬
‫لنا إما ٌم نأتم به سواه وفيه الكفاية والمقن َُع وهو اإلما ُم المت ُ‬
‫وبذلك ينتهي الخالف حول اإلمام الطبري‪ ،‬وتتبين الحقائق المسندة‪،‬‬
‫ٍ‬
‫صحيحة‪ ،‬وهذا ال ينفي وجود‬ ‫ٍ‬
‫مسندة وال‬ ‫ويتضح أن الروايات التاريخية غير‬
‫ٍ‬
‫خالف بين الطبري ومعاصريه من الحنابلة بل والحنفية وأهل الحديث‬
‫معاصر له ـ ‬
‫ٌ‬ ‫هذا‪ ،‬وقد رد شيخ الشافعية ابن سريج على الطبري ـ وهو‬
‫وذكر أننا لو سلمنا بأن أحمد محدّ ٌ‬
‫ث‪ ،‬فإن الفقه ال يقوم إال على معرفة األحاديث‬
‫ٍ‬
‫حديث! قال الطبراني‪ :‬كنا في مجلس بشر بن‬ ‫فقيها بال‬
‫واآلثار فكيف يكون الفقيه ً‬
‫ٍ‬
‫سريج الفقيه القاضي ـ شيخ‬ ‫ٍ‬
‫صالح األسدي ومعنا أبو العباس بن‬ ‫موسى يعني ابن‬
‫الشافعية ـ‪ ،‬فخاضوا في ذكر محمد بن جرير الطبري وأنه لم يدخل ذكر أحمد ابن‬
‫ٍ‬
‫سريج‪ :‬وهل‬ ‫حنبل في كتابه الذي ألفه في اختالف الفقهاء‪ ،‬فقال أبو العباس بن‬
‫أصول الفقه إال ما كان يحسنه أحمد بن حنبل؟ حفظ آثار رسول اهلل ﷺ والمعرفة‬
‫بسنته واختالف الصحابة والتابعين رضي اهلل عنهم‪.‬‬
‫ابن عبد البر واإلمام أحمد‪:‬‬
‫ألف ابن عبد البر كتابه «االنتقاء في فضائل الثالثة الفقهاء» وخصصه لترجمة‬
‫سبب ذلك‬ ‫بعض ِ‬
‫طلبة العلم َّ‬
‫أن َ‬ ‫األئمة الثالثة‪ :‬أبي حنيفة ومالك والشافعي(((‪ ،‬فظ َّن ُ‬
‫هو عدم اعتداده بفقه أحمد‪ ،‬وهذا غير صحيحٍ َّ‬
‫ألن كتاب االنتقاء كتاب مختصر‪،‬‬

‫((( اعتقاد أهل السنة لاللكائي ‪.355/2‬‬


‫((( والكتاب ال يدل على أنه في الفقه بل في بيان الفضائل‪.‬‬
‫‪125‬‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫شبهات حول املذهب احلنبيل ور ُّدها‬
‫ٌ‬ ‫املبحث الثالث‪:‬‬

‫أما في كتبه المطولة كاالستذكار فقد أثنى على اإلمام أحمد‪ ،‬ووجدته ينقل رأي‬
‫أحمد في أغلب المسائل‪ ،‬ويثني عليه بالفقه والحديث واإلمامة‪.‬‬
‫وهذه بعض أقوال ابن عبد البر في االستذكار‪:‬‬
‫ـ «وسئل أحمد بن حنبل ـ وهو إمام أهل الحديث والمقدّ م في معرفة علل‬
‫النقل فيه ـ عن الصالة على الجنازة في المسجد فقال‪ :‬ال بأس بذلك»(((‪.‬‬

‫ـ وقال‪« :‬وحسبك بأحمدَ إمام ًة في الحديث ً‬


‫وعلما بصحيحه من سقيمه»(((‪.‬‬
‫ووصفه في مواضع أخرى باالجتهاد وأخذه بالقياس وأنه من األئمة الذين‬
‫دارت عليهم الفتوى‪.‬‬
‫بل حتى في كتابه «االنتقاء» ص‪ 107‬يذكر اإلمام أحمد فيقول‪« :‬كان مح ّله‬
‫من العلم والحديث ما ال خفاء به وكان إمام الناس في الحديث‪ ...‬وكان من‬
‫اختيار في الفقه على مذهب أهل الحديث‬
‫ٌ‬ ‫أعلم الناس بحديث الرسول ﷺ‪ ،‬وله‬
‫وهو إمامهم»‪.‬‬
‫يدو ْن في عصره؟‬
‫هل كتب اإلمام أحمد فقهه؟ أو هل فقه اإلمام أحمد لم ّ‬
‫يدون كتا ًبا شاملاً في الفقه كمعظم األئمة السابقين‪ ،‬ألنّه‬‫اإلمام أحمد لم ِّ‬
‫كان يكره أن يختلط رأيه بحديث رسول اهلل‪ ،‬إال أنه مع ذلك ألف ‪ 30‬كتا ًبا في‬
‫الحديث والفقه والتفسير والعقيدة‪ ،‬وصحيح أنه لم يدون كتا ًبا شاملاً في الفقه إال‬
‫كتاب‪ .‬و َأنها مكتوب ٌة تحت‬‫أن طالبه دونوا مسائله وحفظوها لنا وهي نحو مئتي ٍ‬
‫لج ِّلها‪ .‬وقد تناقلها العلماء منذ القرن الثالث إلى اليوم‪.‬‬
‫نظره‪ ،‬وإشرافه‪ ،‬وإقراره ُ‬
‫((( ‪.46/3‬‬
‫((( ‪.195/8‬‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪126‬‬
‫وعلماء الحنابلة منذ القرون األولى نقحوا كالم اإلمام أحمد في األصول‬
‫والفقه والعقائد ورجحوا الراجح منه‪ ،‬وأقواله موجود ٌة ومخدوم ٌة‪ ،‬وفقهاء‬
‫المذهب ألفوا الكتب المختصرة والمتوسطة والمطولة لتسهيل الدراسة والفتوى‬
‫وعشر كما‬ ‫وتسع‬ ‫ٍ‬
‫روايات‬ ‫صحيحا أن مسائل المذهب فيها سبع‬ ‫والقضاء‪ .‬وليس‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬
‫يزعم المخالفون‪ ،‬فآالف المسائل لم يختلف فيها قول اإلمام أحمد وما اختلف‬
‫فيها ال يتجاوز الــ ‪ % 5‬منها‪.‬‬
‫جمع أقوال اإلمام أحمد‪:‬‬
‫دون إال في عصر الخلاَّ ل‬ ‫يظن بعض طلبة العلم ّ‬
‫أن مذهب اإلمام أحمد لم ُي َّ‬
‫ألن الخالل جامع أقوال اإلمام أحمد‪ .‬أما التدوين؛ فقد حصل في‬ ‫وهذا ٌ‬
‫خطأ‪َّ ،‬‬
‫عهد اإلمام أحمد وبين يديه؛ إذ كان يسأله طالبه فيجيب عنها‪ ،‬وهم يكتبون فال‬
‫ينهاهم‪.‬‬
‫وقد جمع أبو بكر الخالل سائر ما عند تالمذة اإلمام أحمد من أقوالـه‬
‫وفتاويه وكالمه في العلل‪ ،‬والرجال والسنة والفروع‪ ،‬حتى حصل عنده من ذلك‬
‫ماال يوصف كثرةً‪ .‬ورحل إلى النواحي في تحصيله‪ ،‬وكتب عن نحو من مئة‬
‫كثيرا من ذلك عن أصحاب أصحابه‪ ،‬ثم أخذ‬ ‫نفس من أصحاب اإلمام‪ .‬ثم كتب ً‬ ‫ٍ‬
‫كتاب «الجامع في علوم اإلمام أحمد‬ ‫ف َ‬ ‫في ترتيب ذلك‪ ،‬وتهذيبه‪ ،‬وتبويبه‪ .‬وأ َّل َ‬
‫وأقواله » في بضعة عشر مجلدةً‪ ،‬أو أكثر‪ .‬وكذلك فعل تلميذه أبو بكر عبد العزيز‪.‬‬
‫ِ‬
‫اآلالف وصل‬ ‫ِ‬
‫بعشرات‬ ‫إذ قام بجمع مسائل اإلمام‪ ،‬وانتصر لها‪ ،‬وهي مسائل تعدُّ‬
‫تفر َد به اإلما ُم أحمد عن‬
‫أكثرها‪ ،‬وفيها من الفقه والحكمة الكثير‪ ،‬وفيها ما َّ‬ ‫لنا ُ‬
‫ٍ‬
‫مسألة‪.‬‬ ‫مما أحصاه علماء المذهب فبلغ ثالثة آالف‬ ‫المذاهب الثالثة َّ‬
‫وفي هذا العصر‪ ،‬جمعت أقوال اإلمام أحمد في كل العلوم؛ فبلغت أكثر‬
‫‪127‬‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫شبهات حول املذهب احلنبيل ور ُّدها‬
‫ٌ‬ ‫املبحث الثالث‪:‬‬

‫من عشرين مجلدً ا‪ .‬فيها عشرات آالف المسائل‪ ،‬فكيف لو أراد اإلمام أحمد أن‬
‫أضعاف ذلك‪.‬‬
‫َ‬ ‫يصنف الكتب‪ ،‬ويستدل على أقواله ويرد أقوال غيره؟ لبلغت‬
‫الشبهة الثانية‪ :‬أن اإلمام أحمد والحنابلة من المجسمة المشبهة‪:‬‬
‫ـة الص ِ‬
‫افية؛‬ ‫بعض المتكلمين لتشويه العقيدة الحنبلي ِ‬‫وهي شبهة ُيطلقها ُ‬
‫َّ‬ ‫ّ‬
‫يسير‪ ،‬ولنا في ذلك‬
‫وحل هذه الشبهة ٌ‬‫ولتنفير الناس عن مذهب هذا اإلمام الجليل‪ُّ .‬‬
‫ٌ‬
‫طرق هي‪:‬‬
‫التجسيم‬
‫ُ‬ ‫ويعرفوه‪ْ ،‬‬
‫فإن كان‬ ‫األولى‪ :‬أننا نطالبهم بأن يحدُّ وا لنا التجسيم ِّ‬
‫ِ‬
‫ّفويض على ما وضحناه‬ ‫ِ‬
‫الصحيحة كما هي ـ مع التّسلي ِم والت‬ ‫ِ‬
‫األحاديث‬ ‫هو رواية‬
‫الح كلهم مجسم ٌة‪.‬‬
‫الص ُ‬
‫لف ْ‬
‫ا ـ فالس ُ‬
‫ّ‬ ‫ساب ًق‬
‫بأن التجسيم عند غيرنا من المخالفين‬ ‫الثانية‪ :‬أنّنا نقلب عليهم األمر بأن نثبت ّ‬
‫حق اهلل تعالى هو هشا ُم بن الحكم‪،‬‬ ‫أكثر منه عندنا‪ .‬فأول من قال بالجسمية في ّ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫كرام رأس‬ ‫الشيع ُة عقيدة المعتزلة ـ وابن َّ‬
‫وهو من الشيعة األوائل ـ قبل أن يتبنى ّ‬
‫والسالمية ـ من المجسمة الغالية ـ كثير منهم‬ ‫المجسمة كان حنف ًيا‪َّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫الكرامية‬
‫وكثير من محدِّ ثي‬
‫ٌ‬ ‫جيالن كانوا مجسم ًة‪.‬‬
‫َ‬ ‫تف ّقه على المذهب المالكي‪ ،‬وشافع ّي ُة‬
‫الشافعية قد صنفوا كتب التوحيد على طريقة المحدثين‪ ،‬وأدخلوا فيها الغث‬
‫يسمي كتابه‪« :‬كتاب الشرك‬ ‫والسمين‪ ،‬ومنهم ابن خزيمة الذي كان الفخر الرازي ِّ‬
‫ال التوحيد»‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬أننا نحتج بكالم كبار المتكلمين من المعتزلة واألشعرية على براءة‬
‫المعتقد الحنبلي من التجسيم‪ ،‬ومنهم‪ :‬ابن الوزير اليماني الزيدي‪ ،‬وابن أبي الحديد‬
‫الشيعي حيث قال في «شرح نهج البالغة» ‪« :229 /3‬فأما أحمد بن‬ ‫ّ‬ ‫المعتزلي‬
‫ّ‬
‫تجسيم أصلاً ‪ ،‬وإنما كان يقول بترك التأويل فقط‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫حنبل فلم يثبت عنه تشبي ٌه وال‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪128‬‬
‫ويطلق ما أطلقه الكتاب والسنة‪ ،‬وال يخوض في تأويله‪ ،‬ويقف على قوله تعالى‪:‬‬
‫﴿ﯔﯕﯖﯗﯘ﴾‪ ،‬وأكثر المحصلين من أصحابه على هذا القول»‪.‬‬
‫ومنهم السيف اآلمدي األصولي المتك ّلم األشعري حيث نفى عنهم شبهة‬
‫التجسيم في قولهم بالحرف والصوت حيث قال‪« :‬نعم؛ لو قيل إن كالمه بحروف‬
‫وأصوات ال كحروفنا وأصواتنا كما َّ‬
‫أن ذاته وصفاته ليست كذاتنا وصفاتنا‪ ،‬كما‬
‫ٍ‬
‫مستبعد عقلاً »‪.‬‬ ‫فالحق أن ذلك غير‬
‫ُّ‬ ‫قال بعض السلف‪.‬‬
‫ومنهم الدَّ واني حيث برأهم من التجسيم في مسألة العلو والفوقية‪.‬‬
‫ومنهم الحافظ ابن حجر العسقالني أمير المؤمنين في الحديث‪ ،‬ومنهم‬
‫اآللوسي الحنفي ـ الحفيد ـ‪.‬‬
‫على أننا ال ننكر أنه قد انتسب إلى الحنابلة بعض المجسمة ولكنهم ق ّل ٌة‬
‫وال يمثلون المذهب‪ ،‬وعقائد القوم تؤخذ من كتبهم المعتبرة وهي‪:‬‬
‫«نهاي ُة المبتدئين» البن حمدان ـ وهي أشهر عقائدنا المعتمدة ـ‪ ،‬ومختصره‬
‫واألثر» للعالمة عبد الباقي المواهبي‪ ،‬والواسطية البن تيمية‪،‬‬
‫ُ‬ ‫البن بلبان‪« ،‬العي ُن‬
‫«لوامع‬
‫ُ‬ ‫و«نجاة الخلف» للشيخ عثمان النجدي‪ ،‬و«الدرة المض ّية» وشرحها‬
‫للسفاريني‪ ،‬ومختصره َّ‬
‫للشطي‪ ،‬و«لمعة االعتقاد» البن قدامة‪.‬‬ ‫األنوار» َّ‬
‫أما في أصـول الفقه؛ َّ‬
‫فإن من كتبنا المعتبرة «روضة الناظر» البن‬
‫قدامة‪ ،‬ومختصره المسمى بالبلبل للطوفي‪ ،‬و«التحرير» للمنقح العالء المرداوي‬
‫وهو أحسن كتبنا وأوسعها في األصول‪ ،‬و«مختصر التحرير» المسمى بـ«الكوكب‬
‫المنير» البن النجار الفتوحي‪.‬‬
‫‪129‬‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫شبهات حول املذهب احلنبيل ور ُّدها‬
‫ٌ‬ ‫املبحث الثالث‪:‬‬

‫وأما في الفقه؛ فدليل الطالب‪ ،‬و«زاد المستقنع»‪ ،‬ثم «منتهى اإلرادات»‪،‬‬


‫و«اإلقناع» وشرحيهما للعالمة البهوتي‪ ،‬و«غاية المنتهى في الجمع بين اإلقناع‬
‫والمنتهى» لمرعي الكرمي‪ ،‬فهذه كتبنا في العقائد واألصول والفروع المحررة‬
‫والمعتبرة لدينا‪ ،‬وأما الكتب المطولة فكثيرة‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬


‫‪131‬‬

‫الخاتمة‬

‫الحمد هلل‪ ،‬والصالة والسالم على رسول اهلل‪ ،‬وعلى آله وصحبه ومن وااله‪.‬‬
‫وبعد‪:‬‬
‫ِ‬
‫كرامات هذا المذهب الجليل أنه استمر عبر القرون دون انقطا ٍع‬ ‫َّ‬
‫فإن من‬
‫على الرغم من عدم وجود دولة ترعاه ـ بخالف المذاهب األخرى ـ والواقع‬
‫ومستمران في‬
‫ّ‬ ‫التاريخي والمشاهد يثبت أن فكر اإلمام أحمد وفقهه موجودان‬
‫األمة‪ ،‬وأسانيدُ كتبه ومذهبه قد اتصلت بنا وبغيرنا في هذا العصر والحمد هلل‬
‫ٍ‬
‫عظيمة؛ إذ إن بقاء جماعة الحنابلة في‬ ‫لحكمة ربان َّي ٍة‬
‫ٍ‬ ‫تعالى‪ .‬وما أرى ذلك إال‬
‫حواضر العالم اإلسالمي في بغداد أولاً ثم في مصر والشام ثم في بالد الحرمين‬
‫منارات للعلم؛ وذلك لتصحيح مسار‬‫ٍ‬ ‫كبير للمسلمين‪ ،‬إذ جعلهم اهلل‬‫خير ٌ‬ ‫فيه ٌ‬
‫الغلو في الفكر والسلوك‪.‬‬ ‫المسلمين‪ ،‬وإلنكار ّ‬
‫السنّة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فينبغي على العلماء والدعاة وطلبة العلم أن يعملوا على وحدة أهل ّ‬
‫والجماعة وزيادة األلفة بين طوائفهم وجماعاتهم وطرقهم المتعددة؛ َّ‬
‫فإن علما َء‬
‫ِ‬
‫الحنابلة يس َعون إلى االتفاق واالئتالف مع طوائف أهل السنة(((‪.‬‬
‫قال شيخ الحنابلة في فلسطين العالمة عبد اهلل بن عودة صوفان القدومي‬

‫((( ومما ُيذكر أن أبا الحسن الحنبلي شيخ الحنابلة في عصره كان يقول ألصحابه‪ :‬تمسكوا بهذا‬
‫الرجل ـ الباقالني األشعري ـ فإنه إن ذهب فلن نجد في اإلسالم مثله‪ .‬وفي جنازته مشى حاف ًيا‬
‫وقال‪ :‬هذا الذي ر َّد على الرافضة والخوارج والنصارى‪ .‬وظل يزور قبره كل يوم‪.‬‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪132‬‬
‫رحمه اهللُ تعالى في كتابه‪« :‬المنهج األحمد في ِ‬
‫درء المثالب التي تنمى لمذهب‬ ‫ُ‬
‫اإلمام أحمد»‪« :‬فإن هذه الفرق الثالثة هم المعبر عنهم بـ(أهل السنة والجماعة)‪،‬‬
‫وهم أهل الظهور في جميع األعـصار واألمصار‪ ،‬وهم الطائفة المنصورة‪ ،‬وهم‬
‫السواد األعـظم‪ ...‬وأهل الحديث واألشعرية والماتريدية‪ :‬فرق ٌة واحد ٌة متفـقون‬
‫َّ‬
‫أصول الدين على التّوحيد‪ ،‬وتقد ير الخير والشر‪ ،‬وفي شروط النبوة والرسالة‪،‬‬
‫في ُ‬
‫وفي مواالة الصحابة كلهم‪ ،‬وما جرى مجرى ذلك‪ :‬كعدم وجوب الصالح‬
‫الم َو ِّحدين‬
‫واألصلح‪ ،‬وفي إثبـات الكسب‪ ،‬وإثبات الشفـاعة‪ ،‬وخروج عصاة ُ‬
‫آيات الص ِ‬
‫فات وأحاديثها هل‬ ‫والخالف بينهم في مسائل قليلة‪ :‬كتأويل ِ‬
‫ُ‬ ‫من النار‪.‬‬
‫ّ‬
‫متــنع»»‪ .‬انتهى كالم العالمة القدومي الحنبلي‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫جائز أو ُم‬
‫هو ٌ‬
‫وقد أثبت القدومي اجتماع أهل السنة في مسائل األصول واالختالف في‬
‫مسائل ٍ‬
‫قليلة فقط‪ ،‬وهذا ما أثبته كذلك الحنابلة ومنهم‪ :‬العالمة السفاريني والعالمة‬ ‫َ‬
‫عبد الباقي المواهبي والعالمة الشطي والعالمة ابن سلوم والشيخ خلف الدحيان ـ ‬
‫شيخ الحنابلة بالكويت ـ رحمهم اهلل‪.‬‬
‫وال يجوز أن نسعى للفرقة والخالف؛ َّ‬
‫ألن الحنابلة في أصول الفقه متفقون‬
‫مسائل ٍ‬
‫قليلة‪ ،‬وفي أصول الدّ ين‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫والمالكية) إلاّ في‬ ‫ِ‬
‫(الشافعية‬ ‫مع جمهور الفقهاء‬
‫َ‬
‫مسائل‬ ‫ِ‬
‫والماتريدية) إال في‬ ‫ِ‬
‫(األشاعرة‬ ‫متفقون مع جمهور متكلمي أهل السنة‬
‫المطولة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫والخالف فيها فرعي كما ُيعرف ذلك من ك ِ‬
‫ُتب األصلين‬
‫قال علي الخواص رحمه اهلل‪« :‬ال يقوم الدين إال باالتفاق عليه ال باالختالف‬
‫فيه‪ ،‬ثم ال يصح للعلماء اتفاق إال إذا خرجوا عن رق الشهوات النفسانية‪ ،‬وما لم‬
‫يخرجوا فال يصح لهم ارتباط قلوبهم مع بعضهم أبدً ا»‪.‬‬
‫‪133‬‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫اخلامتة‬

‫وروى اإلمام أحمد في «الزهد» ‪ 107‬عن سيدنا اإلمام علي بن أبي طالب‬
‫كرم اهلل وجهه في صفة العلماء العارفين أنه قال‪« :‬تعلموا العلم؛ تعرفوا به‪،‬‬
‫واعملوا به؛ تكونوا من أهله‪ ،‬فإنه سيأتي من بعدكم زمان ينكر الحق فيه تسعة‬
‫أعشارهم‪ ،‬ال ينجو فيه إال كل نؤمة‪ ،‬أولئك أئمة الهدى ومصابيح العلم»‪.‬‬
‫ويوحدَ‬
‫ِّ‬ ‫يجمع َ‬
‫شمل المسلمين؛‬ ‫َ‬ ‫أسأل اهلل تعالى القاهر فوق عباده أن‬ ‫ُ‬
‫الكراسة في منهج اإلمام أحمد والحنابلة؛ إذ‬ ‫كلمتَهم‪ ،‬وأن ينفع طلبة العلم بهذه ّ‬
‫الصحاف‪.‬‬ ‫ُجم َع في غيرها من ِّ‬ ‫والخالف‪َّ ،‬‬
‫وقل أن ت َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الجدل‬ ‫حوت قضايا َك ُث َر فيها‬
‫بالس ِنة‪،‬‬
‫وتمسك ُّ‬
‫َّ‬ ‫األثر‪،‬‬
‫بالحق‪ ،‬واتَّبع َ‬
‫ِّ‬ ‫وقد قال اإلمام أحمد‪« :‬رحم اهلل عبدً ا َق َال‬
‫َّوفيق»‪.‬‬
‫بالصالحين‪ .‬وباهلل الت ُ‬ ‫واقتدى َّ‬
‫الحات‪.‬‬
‫ُ‬ ‫الص‬
‫تتم ّ‬
‫والحمد هلل الذي بنعمته ُّ‬

‫كتبه خادم المذهب الحنبلي‬


‫د‪ .‬مصطفى حمدو عليان(((‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫((( باحث متخصص يف املذهب احلنبيل‪ ،‬إمام وخطيب يف األردن‪ ،‬حاصل عىل شهادة الدكتوراه في‬
‫الشريعة‪ ،‬ومجاز بخمس قراءات قرآنية‪ ،‬ومجاز بالمذهب الحنبلي باألسانيد المتصلة رواي ًة‬
‫ودراي ًة‪.‬‬
‫‪135‬‬

‫فهرس املحتويات‬

‫الصفحة‬ ‫املوضوع‬

‫‪5‬‬ ‫الشيخ حممد عصام بن الشيخ حسن َّ‬


‫الشطي احلنبيل ‪..............................‬‬
‫‪7‬‬ ‫املقدمة‪.........................................................................‬‬
‫‪9‬‬ ‫املقدمة‪.........................................................................‬‬
‫املبحث األول‪13 ..................................................................‬‬
‫التعريف باإلمام أمحد بن حنبل وبمدرسته ‪13 ...................................‬‬
‫املطلب األول ‪13 ..............................................................‬‬
‫التعريف باإلمام أمحد ‪13 .......................................................‬‬
‫اسمه ونسبه ‪41 ................................................................‬‬
‫مولده ‪14 ......................................................................‬‬
‫طلبه احلديث وحمبته للعلم‪14 ................................................. :‬‬
‫شيوخه‪15 .....................................................................‬‬
‫أما تالمذته ‪15 .................................................................‬‬
‫ـ من عبادته وجهاده ‪16 ........................................................‬‬
‫شهادة العلامء له باإلمامة ‪16 ....................................................‬‬
‫ـ ابن أيب شيب َة صاحب املصنف‪18 .............................................:‬‬
‫مقدار حفظه ‪18 ...............................................................‬‬
‫مرجعية اإلمام أمحد بن حنبل لألمة ‪19 ..........................................‬‬
‫إضاءات عىل منهج اإلمام أمحد‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪136‬‬
‫الصفحة‬ ‫املوضوع‬

‫املحنة ‪21 ......................................................................‬‬


‫هناية فتنة القول بخلق القرآن ‪21 ................................................‬‬
‫وفاته‪ :‬سنة ‪241‬هـ ‪22 .........................................................‬‬
‫املطلب الثاين ‪22 ...............................................................‬‬
‫ُ‬
‫أعالم احلنابلة وأوطاهنم‪22 .....................................................‬‬
‫آفاق احلنابلة وأوطاهنم‪24 ......................................................‬‬
‫املبحث الثاين‪27 ...................................................................‬‬
‫منهج اإلمام أمحد يف العقيدة والدعوة ‪27 ........................................‬‬
‫املطلب األول ‪27 ..............................................................‬‬
‫والسنّة مع الرجوع إىل العلامء ال ِّثقات‪27 ...........................‬‬ ‫ِ‬
‫الكتاب ُّ‬ ‫ّباع‬
‫ات ُ‬
‫رأي ابن تيمية والقايض‪30 ....................................................:‬‬
‫ـ املطلب الثاين‪31 ..............................................................‬‬
‫ومن منهجه‪ :‬عدم الدخول يف التعقيدات الفكرية والكالمية‪13 ................. ،‬‬
‫وترك فضول الكالم وما ال فائد َة منه‪13 ........................................:‬‬
‫املبحث الثالث ‪39 .................................................................‬‬
‫التوسط‪39 ..............................................‬‬
‫ومن منهج اإلمام أمحد ُّ‬
‫ُ‬
‫واالعتدال يف مسائل العقيدة ‪93 ................................................‬‬
‫اخلوارج أخطر الفرق عىل اإلسالم‪ ،‬فام هي صفاهتم؟‪41 .........................‬‬
‫املرجئة ‪34 .....................................................................‬‬
‫معرف ُة أمحد بدرجات الصحابة وفضائلهم ‪94 ...................................‬‬
‫التنزيه عند اإلمام أمحد ‪35 ......................................................‬‬
‫الصوفية طائف ٌة من أهل ُّ‬
‫السنَّة ال جيوز تكفريها ‪75 ...............................‬‬
‫‪137‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫فهرس املحتويات‬
‫الصفحة‬ ‫املوضوع‬

‫إنكار شطحات الصوفية واجب‪85 ........................................... :‬‬


‫ٌ‬
‫معتدل‪59 ...................:‬‬ ‫ٌ‬
‫موقف‬ ‫موقف شيخ اإلسالم ابن تيمية من الصوفية‬
‫مسائل حمدثة خمتلف فيها أجازها اإلمام أمحد‪60 .................................‬‬
‫التسبيح باحلىص والسبحة‪60 ..................................................:‬‬
‫التوسل والتربك‪61 ........................................................... :‬‬
‫ِ‬
‫للذكر والدعاء‪63 ........................................ :‬‬ ‫ـ االجتامع يوم عرف َة‬
‫ـ الصالة عىل النبي ﷺ بعد األذان‪65 .......................................... :‬‬
‫ـ هل الصالة قبل اجلمعة بدعة؟‪65 .............................................‬‬
‫املطلب الرابع ‪66 ..............................................................‬‬
‫والتيسري يف العبادات‪66 ..................................‬‬
‫ُ‬ ‫ومن منهجه‪ :‬التّوسع ُة‬
‫ٍ‬
‫حتايل‪66 ....................................... :‬‬ ‫ٍ‬
‫انحالل أو‬ ‫واملعامالت من غري‬
‫وجوب إقامة حاكم يقوم بأمر الناس ومعاونته عىل اخلري‪37 .................... :‬‬
‫توسطه يف األمر باملعروف واإلنكار عىل الناس‪67 ............................. :‬‬
‫اعتداله يف اجلرح والتعديل ‪77 ..................................................‬‬
‫الجهاد في سبيل اهلل والطائفة الناجية ‪77 ........................................‬‬
‫املبحث الثالث ‪79 .................................................................‬‬
‫شبهات حول مذهب اإلمام أمحد بن حنبل‪79 ...................................‬‬ ‫ٌ‬
‫ٍ‬
‫بفقيه‪97 ............................:‬‬ ‫ث وليس‬‫الشبهة األوىل‪ :‬أن اإلمام أمحد محُ دّ ٌ‬
‫األدل ُة عىل فقهه باحلديث وفهمه ملعانيه ‪80 .....................................‬‬
‫معرفته الدقيقة بحديث احلفاظ وفقه الفقهاء من كافة املدارس واملذاهب‪81 .....:‬‬
‫كالطبري وابن‬
‫ِّ‬ ‫ومن ُّ‬
‫الشبهات المتّصلة بهذه الـشبهة عدم اعتداد بعض العلماء‬
‫عبد الرب بفقه اإلمام أمحد ‪83 ....................................................‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫‪138‬‬
‫الصفحة‬ ‫املوضوع‬

‫اإلمام الطربي يعظم اإلمام أمحد‪38 .............................................‬‬


‫ابن عبد الرب واإلمام أمحد‪84 ....................................................‬‬
‫وهذه بعض أقوال ابن عبد الرب يف االستذكار ‪58 ................................‬‬
‫يدو ْن يف عرصه؟ ‪85 ........‬‬
‫هل كتب اإلمام أمحد فقهه؟ أو هل فقه اإلمام أمحد مل ّ‬
‫مجع أقوال اإلمام أمحد‪68 .......................................................‬‬
‫الشبهة الثانية‪ :‬أن اإلمام أمحد واحلنابلة من املجسمة املشبهة ‪87 ...................‬‬
‫اخلامتة ‪89 .........................................................................‬‬
‫فهرس المحتويات‪93 .............................................................‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

You might also like