Professional Documents
Culture Documents
أيها الداعية هذا زادك الرسالة الدعوية لمكتب رسالة الأزهر أسامة الأزهري
أيها الداعية هذا زادك الرسالة الدعوية لمكتب رسالة الأزهر أسامة الأزهري
للتوا�صل
بريد �إلكتروني (�إيميل) المكتبalazharmessage@hotmail.com :
رابط �صفحة مكتب ر�سالة الأزهرfacebook.com/OfficeofAlAzharmessage :
ب�سم اهلل الرحمن الرحيم
مكتب ر�سالة الأزهر
(الآفاق ،والطموح ،وبرامج العمل)
الحمد هلل رب العالمين ،وال�صالة وال�سالم على �سيدنا وموالنا محمد ،خير خلق اهلل �أجمعين،
ورحمة اهلل تعالى للعالمين ،وخاتم النبيين والمر�سلين ،اللهم �صل و�سلم وبارك عليه وعلى �آله و�أ�صحابه
ومن تبعهم ب�إح�سان �إلى يوم الدين.
�أما بعد:
فبرعاية كريمة من الإمام الأكبر �شيخ الأزهر ال�شريف الأ�ستاذ الدكتور �أحمد الطيب ،ومن �صاحب
الف�ضيلة ،مفتي الديار الم�صرية ،الأ�ستاذ الدكتور علي جمعة ،ومن معالي وزير الأوق��اف الأ�ستاذ
الدكتور محمد عبد الف�ضيل القو�صي ،وتحت مظلة الرابطة العالمية لخريجي الأزهر ينطلق (مكتب
ر�سالة الأزهر) لن�شر �أنوار المنهج الأزهري.
الر�سالة:بيان حقيقة المنهج الأزهري الأ�صيل من خالل �إعادة تن�شيط العقل الأزهري ،وتنمية
قدراته لقيادة التغيير الآم��ن للأمة الإ�سالمية في �ضوء �أ�صالة منهج الأزه��ر ،وفي �ضوء متطلبات
الحا�ضر ،وتحديات الم�ستقبل.
ِق َي ُم َنا:
( -1ثق ٌة) بالنف�سٌ ،
وعي بالذات وب�شرف ما �أقامنا اهلل تعالى فيه �إذ جعلنا �أزهريين.
�( -2إيمانٌ) ب�أ�صالة الدور التاريخي للأزهر.
( -3وفا ٌء ووال ٌء وانتما ٌء) للمنهج الأزهري.
�( -4صد ٌق) في الن�صح للأمة المحمدية.
( -5امتدادٌ) ل�سل�سلة الإ�سناد العلمي الأزهري المنير.
وت�شتمل كل ورقة من تلك الأوراق البحثية على بحث تاريخي واجتماعي مو�سع ،يقوم با�ستقراء
تاريخي م�ستوعب ،لأثر الأزهر ال�شريف في تلك الق�ضايا ،من خالل ر�صد كتب التواريخ والتراجم
والمذكرات ال�شخ�صية للأعيان والزعماء ،اللتقاط تلك ال�شذرات المنثورة هنا وهناك ،والتي �إذا تم
�ضم بع�ضها �إلى بع�ض ،ات�ضحت لنا الأبعاد الجليلة ،للآثار االجتماعية ،التي ترتبت على ن�شاط علماء
الأزهر و�أبنائه ،ويقترح مبدئ ًيا �أن ت�صدر (�سل�سلة الأوراق البحثية) ب�صفة �شهرية �إن �شاء اهلل.
-الإ�صدار الثاني :كتاب دوري عنوانه( :ر�سالة الأزهر):تقوم �سل�سلة (ر�سالة الأزهر)
بمخاطبة المفكرين والكتاب والمثقفين وال�صحفيين ،وتدور حول تاريخ الأزهر ال�شريف ،ومنهجه العريق
المن�ضبط ،ومواقفه التاريخية المجيدة ،وا�ستيعابه للجن�سيات المختلفة من الوافدين والمبعوثين،
وقيادته للثورات ،وانتزاعه لحقوق ال�شعب الم�صري من يد المحتلين والغا�صبين والفا�سدين ،مع
قيامه الم�ستمر بتقويم المت�سلطين على ال�شعب الم�صري الكريم ،مع و�صف الأجواء العلمية الجليلة
في الجامع الأزهر ،مع بيان الآثار الخطيرة التي تترتب على االبتعاد عن المنهج الأزهري ،حيث تنت�شر
المناهج المتطرفة المتع�صبة المت�سلطة ،ويتوقع مبدئ ًيا �أن ت�صدر �سل�سلة( :ر�سالة الأزهر) ب�صفة
�شهرية.
-الم�سار الثاني :ثمرته بعيدة ن�سبيا ،لكنه عمل ت�أ�سي�سي ،تبقى ثماره للأجيال من بعدنا ،حيث
يهدف �إلى الت�سجيل والجمع والتوثيق لذاكرة �أزهرية كاملة� ،أو دائرة معارف �أزهرية متكاملة ،وي�شتمل
على الم�شاريع الأربعة:
• الم�شروع الأول( :جمهرة �أعالم الأزهر ال�شريف)� :إذ ال يوجد بين �أيدينا كتاب �شامل وم�ستوعب
لتراجم الأعالم الأزهريين ،من ن�ش�أة الأزهر �إلى يومنا هذا ،بحيث يكون موازيا مثال لكتاب (الأعالم)
للزركلي ،بل بقيت تراجم الأزهريين م�شتتة في بطون كتب التراجم والتواريخ والأثبات ،بل هناك عدد
من التراجم الأزهرية المهمة في الدوريات والمجالت ال�صادرة من �أوائل القرن الميالدي الما�ضي �إلى
يومنا هذا ،فكان البد من �إن�شاء جمهرة تاريخية �شاملة ،تقوم بجمع ال�سير والتراجم لعلماء الأزهر،
ويترتب على هذا العمل الك�شف عن كنوز نفي�سة من �أخبار علماء الأزهر ،و�سيرهم ،و�أحوالهم العلمية،
ون�ش�أتهم العلمية ،واهتماماتهم ،مما يعود بالنفع الغزير على الأجيال القادمة.
• الم�شروع الثاني( :تاريخ الأزهر ويومياته من ن�ش�أته �إلى الع�صر الحا�ضر) :ويعتمد هذا الم�شروع
على �إن�شاء جمهرة تر�صد الأحداث التاريخية التي مرت على الأزهر من ن�ش�أته �إلى الع�صر الحا�ضر،
مما يرجع �إلى �أبنيته وعمارته ،ومناهجه ،ومواقفه ،والأح��داث التاريخية المهمة التي عاي�شها� ،أو
�شارك في �صناعتها ،وهذا محور �شديد الأهمية.
• الم�شروع الثالث( :معالم المنهج الأزه��ري)� :إذ ال بد من �إن�شاء جمهرة مو�سعة حول المنهج
الأزهري ،ومكوناته ،و�سماته ،ومعالمه ،وخ�صائ�صه ،حتى نورث الأجيال القادمة الأمانة الأزهرية
كاملة.
•الم�شروع الرابع( :ال�شبهات حول الأزهر) :وهو م�شروع يعتمد على ر�صد كل ما يثار حول الأزهر
من �شبهات ،مع التحليل والرد ،والك�شف عن الحقائق.
هذه لمحة عن المهام التي ينه�ض بها (مكتب ر�سالة الأزه��ر) ،ون�س�أل اهلل تعالى التوفيق،
والمعونة ،ون�س�أله �سبحانه كمال الوفاء واالنتماء والخدمة لهذا المنهج الأزه��ري العريق العتيق،
و�صلى اهلل على �سيدنا محمد وعلى �آله و�صحبه و�سلم.
وكتبه
�أ�سامة ال�سيد محمود الأزهري
� -أيها الأزهري!! �أنت من ورثة النبوة ،ووراثة النبوة ال تقت�صر على العلوم والمعارف ال�شرعية
وحدها ،بل تت�سع لت�شمل م�شاهد الغيب ،وقوة المعرفة باهلل ،والحر�ص على الخلق ،وال�شفقة بهم،
وامتالء القلب �إقباال عليهم ،وتوجها �إلى اهلل تعالى في �أوقات الأ�سحار ت�ضرعا وتبتال في �ش�أن العباد
والخالئق ،مع تمام الأن�س باهلل ،وقوة الهمة في ال�سعي �إليه ،و�شدة اليقين فيه.
� -أيها الأزهري!! �أنت باب مفتوح ما بين ال�سماء والأر�ض ،لك حظ وافر من المناجاة ،والت�أله،
والخلوة �إلى اهلل ،وتمام اليقظة في تعظيمه �سبحانه و�إجالله ،وما يفي�ض به القلب من وهج التقوى
وتمام التوقير واالنطراح والفاقة بين يدي اهلل جل �شانه هو الذي يورث نفو�س النا�س من
والخ�شيةُ ،
حولك ثقة فيك وفي ديانتك ،وانقيادا لك.
� -أيها الأزهري!! بواطن العباد و�أديانهم �أمانة بين يديك ،وجواهر م�ستودعة عندك ،والأم ُر ِدينٌ ،
فاتق اهلل فيهم ،و�أح�سن القيامة بالأمانة ،واقدر لها قدرها ،وقم بحق اهلل تعالى فيهم.
� -أيها الأزهري!! �إن لم تدرك �أن وراثة النبوة ،وح�سن خالفة النبي �صلى اهلل عليه و�سلم في �أمته،
�أمر جليل ،و�ش�أن مهيب ،ومطلب فخيم ،فال خير فيك.
� -أيها الأزه��ري!! �أنت �سائ ٌر على درب النبيين ،فانظر جاللة بواطن الأنبياء في معرفة اهلل
و�إجالله ،والفهم عنه ،وتمام االن�ضباط على م��راده ،و�شدة القيام في �ش�أن الخلق ،وبذل الأعمار
ال�شريفة في الهداية.
� -أيها الأزهري!! �إذا توالك اهلل برعايته ،ووا�صلك بمعونته ،فقد �أ�صبت �سعادة الدارين،
وحالفك التوفيق في كل مطلب ،ف�أقم على بابه ،وكنت قد نظمت هذا المعنى �شعرا فقلت:
� -أيها الأزه��ري!! الأزه��ر ال�شريف م�صنع الرجال الأكابر ،المت�ضلعين من العلوم ،من ذوي
البواطن الموارة ،الممتلئة ببحور اليقين والربانية ،الفائ�ضة بالتقوى والرحمة ،العامرة بالهمم العظام
في جمع العلوم ،و�إدراك مقا�صد ال�شرع ،و�شدة االعت�صام بالأكابر والتخلق ب�آدابهم ،فافهم واحفظ
وانه�ض ،واهلل حفيظ عليك ،وهو يتولى هداك.
بقلم
�أ�سامة ال�سيد محمود الأزهري
ب�سم اهلل الرحمن الرحيم
الحمد هلل رب العالمين ،وال�صالة وال�سالم على �سيدنا محمد� ،سيد الأولين والآخرين ،وخاتم
النبيين والمر�سلين ،ورحمة اهلل تعالى للعالمين ،اللهم �صل و�سلم وبارك عليه وعلى �آله و�أ�صحابه ،ومن
تبعهم ب�إح�سان �إلى يوم الدين.
�أما بعد:
فهذه �أبعا ٌد وت�أمالتٌ وغ ْو ٌ�ص في تكوين الداعية ،ومحاول ٌة للتنقيب والإلمام بم�سالك �صناعة
و�سعي في ك�شف النقاب عن الموارد التي ال بد من امتزاجها في عقلية الداعية.
الدعاة �إلى اهللٌ ،
كامل ،عن المكونات النف�سية�صحيح ٍ
ٍ والحقيقة �أن �صناعة الدعاة فنٌّ دقيقٌ ،يحتاج �إلى ت�صو ٍر
والعقلية والمعرفية واالجتماعية للداعية ،و�أن يكون هذا الت�صور ناب ًعا من المعين النبوي ال�شريف ،ثم
أمالت مو�سع ٍة في تكوينهم
وتتبع لم�شاهير الدعاة المعروفين ،عبر طبقاتهم و�أعيانهم ،مع ت� ٍ من درا�س ٍة ٍ
و�أدائ�ه��م ،وخ�صو�صا من ا�شتهر منهم ب��الأداء الم�ؤ ِّثر ال ُموحي (الكاريزما) ،القادر على تحريك
النا�س ،كالإمام ابن الجوزي رحمه اهلل تعالى ،و�أخبار ت�أثيره الدعوي العجيب منثورة في �أواخر كتابه:
طرف مهم جدً ا في رحلة ابن جبير رحمه اهلل ،فجاء و�صفه مواف ًقا (الق�صا�ص والمذكرين)((( ،ومنها ٌ
لما حكاه ابن الجوزي رحمه اهلل عن نف�سه ،وو�صف به مجال�سه.
و�سوف �أ�سوق هنا ذلك الن�ص المطول ،الذي و�صف فيه الرحالة ابن جبير مجال�س وعظ الإمام
�أبي الفرج ابن الجوزي ت597هـ ،وهو جدي ٌر بالت�أمل والدرا�سة ،والغو�ص فيما وراءه من مكونات.
قال محمد بن �أحمد بن جبير الكناني الأندل�سي ،المتوفى �سنة 614هـ -رحمه اهلل تعالى -في
رحلته( :ثم �شاهدنا �صبيحة يوم ال�سبت بعده مجل�س ال�شيخ الفقيه ،الإمام الأوحد ،جمال الدين �أبي
الف�ضائل بن علي الجوزي ،ب�إزاء داره ،على ال�شط ،بالجانب ال�شرقي ،وفي �آخره على ات�صال من ق�صور
الخليفة ،وبمقربة من باب الب�صلية �آخر �أبواب الجانب ال�شرقي ،وهو يجل�س به كل يوم �سبت.
ف�شاهدنا مجل�س رجل لي�س من عمرو وال زيد ،وفي جوف الفرا كل ال�صيد� ،آية الزمان ،وقرة عين
الإيمان ،رئي�س الحنبلية ،والمخ�صو�ص في العلوم بالرتب العلية� ،إمام الجماعة ،وفار�س حلبة هذه
ال�صناعة ،والم�شهود له بال�سبق الكريم في البالغة والبراعة ،مالك �أزمة الكالم في النظم والنثر،
مهياري االنطباع ،و�أما نثره
ُّ فر�ضي الطباع،
ُّ والغائ�ص في بحر فكره على نفائ�س الدر ،ف�أما نظمه
في�صدع ب�سحر البيان ،ويعطل ال َم َث َل ب ُق ّ�س و�سحبان.
((( الق�صا�ص والمذكرين�/ص ،/371ط :المكتب الإ�سالمي ،بيروت� ،سنة 1409هـ1988-م ،تحقيق :الدكتور :محمد لطفي ال�صباغ.
ف�إذا �أ�ضيف �إلى ذلك كونه �شفاف النف�س ،بعيد النظر ،عميق الفكرة ،مقبال على الخلق بالرحمة،
خبي ًرا بطبائع النا�س ،ومداخل نفو�سهم ،وكيفية فهمهم وتفهيمهم ،وم�سالك الأخذ الرفيق ب�أيديهم
�إلى اهلل تعالى ،ف�إنه �إذا ا�ستجمع ذلك كان داعيا كامال ،على قدم النبوة.
((( طبع للمرة الثانية في :دار الكتاب العربي ،دم�شق-القاهرة� ،سنة 2011م.
والداعية الذي كمل تكوينه كذلك� ،سواء ب�سواء ،ي�أخذ مقدارا موزونا من ذلك العلم ،ويخلطه
بقدر معلوم من الترغيب ،وي�ضيف �إليه ن�سبة محددة من التلطف ،وح�سن الت�أني ،ولطف الت�أتي،
وي�صب على ذلك كله ع�صارة من فهم طبائع النا�س ومداخل عقولهم وقلوبهم ،و ُي َق ِّل ُب ذلك كله في
النا�س
عقله ولبه وف�ؤاده ،حتى تختمر المعاني عنده ،فيرى �آفاقها وم�آالتها ونتائجها ،ف�إذا ما ح َّدث َ
إدراك ،مقدرا خطورة ما ي�صنع ،مدر ًكا �أنه �أمين على �أديان الخلق ،قائم وب�صر و� ٍ
ٍ تكلم عن معرف ٍة
مقام النبوة في البالغ عن اهلل ،والبد من �أن يقدم بين يدي ذلك كله �صفاء ذهن ،ونقاء �سريرة ،و�شدة
وارت�ساما وفه ًما
ً تجرد للحق ،و�صدقا في ن�صح النا�س وتب�صيرهم ،وعلما ودرا�سة وحفظا وتح�صيال،
للم�سلك النبوي الرحيم الهادي ،في الداللة على اهلل ،والأخذ ب�أيدي الخالئق �إليه.
ف�إن �شفع ذلك بعروج في معارج الت�أله والتعلق بالمولى ،ومعرفة جالل الربوبية ،والتحلي بالتقوى،
قائما بواجب تعظيم المولى وتوقيره وتمجيده ،حتى يكون روحا �صافية تم�شي بين النا�س ،ونبعا من
اليقين قد تفجر بين العباد ،ودفقا من النور ،وبابا مفتوحا بين النا�س وبين الغيب ال�شريف ،فذلك هو
الذي ي�ستحق ا�سم الداعية على �أكمل �أو�صافه ،و�أح�سن هيئاته.
و�إال فهو حائر م�ضطرب ،ي�ستوقف النا�س عند كل مفترق طرق ،لي�س�أل ،ثم يخطيء الدخول �إلى
موا�ضع الطريق ،ثم يتخبط وي�ضل ال�سبيل ،فكذلك الداعي� ،إذا لم يح�سن الإلمام بم�سالك المعارف،
وفنون العلوم ،وطرائق الخطاب ،ومعالم الفكر.
وقدر معي مبلغ ال�ضرر الكامن في داعية قد خال من مثل هذا الت�أهيل ،ف�إذا به لي�س له من الإدراك
وليت �شعري ،كيف ينه�ض رجل للدعوة �إلى اهلل تعالى ،وهو ال يدري المخارج لما ي�ؤ�س�سه من
مداخل ،وال يرى نتائج ما ي�شيده من مقدمات ،وال يلم بت�صور كلي لطريقة بناء المدعو ،وال يعرف
الم�سالك والمزالق في الطريق الذي يزج بالنا�س فيه ،وال ي�ستبين ما يحدثهم عنه ،بل َي ْب ُر ُز عليهم
ُم َ�شت ََّت الفكر ،مبعثر الر�ؤى ،يدفع بكل در�س في اتجاه ،وتتهاوى منه خطب الجمعة ،ممزقة ،متناثرة،
بحيث تذهب كل خطبة في مهيع �أو طريق غام�ض مبهم.
و�إجمال القول �أنه البد له من وجود خريطة معرفية محكمة ،ي�ست�شف منها الت�ضاري�س والمعالم
والم�شتمالت والمكونات التي البد من �أن يخو�ض مع النا�س فيها ،وتظهر وت�سري في طرحه الدعوي ،مع
غو�ص تام في ال�سيرة النبوية المطهرة ،وت�أمل تام في هدي النبوي العظيم ،وكثرة مطالعة في الأحوال
روحي ،وطاقة معنوية متدفقة ،تملأ قلوب النا�س يقينا عند
زاد ٍّالنبوية ال�شريفة الهادية ،كل ذلك مع ٍ
�سماعه.
و�سوف نتابع ب�إذن اهلل تعالى التنقيب والغو�ص على تلك المكونات ،التي ترت�سم بها الخريطة
المعرفية الدعوية عند الداعية ،ونطيل النظر في �سير الدعاة الأكابر ،من �أعيان الأمة و�أعالمها ،في
الم�شرق والمغرب ،حتى ن�ستخل�ص من �سيرهم و�أخبارهم خرائط المعارف عندهم ،ثم نكتب ذلك
تباعا هنا في هذه ال�سل�سلة ب�إذن اهلل.
و�أول ما �أف�ضي به �إليك �أيها الداعية� ،أنه البد من �أن يت�ضمن خطابك الدعوي محاور �أربعة،
يدور كالمك وطرحك في فلكها ،وي�ستمد منها ،ويغزل من خيوطها ن�سيجا فكريا ودعويا رائقاُ ،م ْع ِج ًبا
َح َ�س ًنا ،وهذه المحاور هي� :إحياء مقا�صد العبادات ،وثانيها� :إحياء مقا�صد العقائد ،وثالثها� :إحياء
التاريخ الإ�سالمي بكل ما فيه من علوم و�آداب وفنون وح�ضارة ،وتجربة ب�شرية راقية ،يظهر فيها �أثر
�سريان الوحيين ال�شريفين في حياة الب�شر ،و�أن ال�شرع عندما عا�ش به النا�س قادهم �إلى �سعادة الدنيا
ات ال َع ْ�صر ،و�إليك البيان والتف�صيل:
والآخرة ،ورابعها� :إدراك ِ�س َم ِ
و�أن التعبد معناه :التزام المكلف الإتيان بهذه العبادات في مواقيتها ،وبكيفياتها وهيئاتها
الم�شروعة ،والمواظبة على ذلك ،تعبدا وتقربا �إلى اهلل رب العالمين ،وقياما ب�أمره الجليلَ ،ج َّل �شانه،
وال ين�صرف عنها لعدم خ�شوعه فيها ،بل يواظب عليها ،ثم يعالج النف�س حتى تتح�صل على الخ�شوع
والتدبر.
وينبغي �أن يقوم المكلف بذلك المق�صد ،بالتوازي مع المق�صد الثاني ،والذي هو التخلق ،والتخلق
معناه القيام بالم�ضمون التربوي الأخالقي الكامن في العبادة ،فالبد من �إيقاع العبادة على نحو
معين من المعاي�شة والفهم ،وا�ستلهام المرامي والمقا�صد ،مما ي�ؤدي �إلى تحقيق وبنمط ٍ
ٍ مخ�صو�ص،
ذلك الم�ضمون التربوي ،و�إلى �سريان المعاني القد�سية ،والآداب العليا �إلى �سلوك الإن�سان ،ل�شدة فهمه
عن اهلل ،ول�شدة �إدراكه مقا�صد العبادة ،و�أنها لها حرم يحيط بها ،من الآداب الرفيعة ،فال ي�صح �أن
تقع في الأداء الب�شري جرداء ،معزولة من ال�سياق العام من الت�صرف الإن�ساني ،بل البد من تطويع
ال�سلوك العام لقيمها و�آدابها و�أ�سرارها.
النا�س مقا�صد العبادة في التعبد فقط ،ويغيب عنهم الم�ضمون التربويوالذي يقع الآن �أن َيخْ ت َِز َل ُ
الأخالقي تماما ،فتراهم ي�صلون وي�صومون ،ويقومون ب�سائر الفرائ�ض ،ثم ترى مع ذلك نمط ال�سلوك
االجتماعي عندهم في غاية العدوانية والتحامل والظلم ،والبعد عن قيم ال�شرع ال�شريف ،مع �أن اهلل
تعالى قال( :اتل ما �أوحي �إليك من كتاب ربك و�أقم ال�صالة �إن ال�صالة تنهى عن الفح�شاء والمنكر
بم�ضمون تربوي �أخالقي ،يف�ضيٍ ولذكر اهلل �أكبر) (العنكبوت� ،آية ،)45فربط �سبحانه ال�صالة
بالإن�سان �إلى معاي�شة العبادات على نح ٍو راقٍ من الفهم عن اهلل ،والقيام بواجب الإجالل والخ�شية
والتوقير ،تنح�سر به عن النف�س المطامع والأه��واء ،وتذوب به رعونات النف�س و�شهواتها ،و ُي ِفيقُ به
الإن�سان من الغفلة ،حتى تكون ال�صالة بابا من المعارج الروحية ،التي يرى فيها العبد جالل مقام
الربوبية ،ف�إذا بال�صالة قد حجزت الإن�سان عن المعا�صي والظلم والمكر وال�شحناء والبغ�ضاء وما
�أ�شبه.
وقل مثل ذلك في ال�صيام ،وكيف �أن ال�شرع ال�شريف ربطه بال�سلوك االجتماعي ،فقال �صلى اهلل
�صوم �أحدكم فال يرفث وال ي�صخب ،ف�إن �سا َّبه �أح ٌد �أو قاتله فليقل� :إني
يوم ِعليه و�سلم( :و�إذا كان ُ
وقل مثل ذلك في الحج ،والزكاة و�سائر العبادات ،حتى ترجع العبادة في ذهن الم�سلم و�سلوكه
منبعا للخلق ،الذي هو �شعار هذه الملة ال�سمحة.
فانتبه �أيها الداعية �إلى �سريان هذا المعنى الجليل في خطابك الدعوي ،وا�ستخرج من مقا�صد
ال�صالة ومن مقا�صد ال�صيام ومن مقا�صد الحج و�سائر العبادات مادة لخطبك ودرو�سك ،ويمكنك
�أن ت�ستعين في هذا الباب بكتاب�( :إحياء علوم الدين) لحجة الإ�سالم �أبي حامد الغزالي ت505هـ،
م�صحوبا بتخريج �أحاديثه للحافظ الناقد الجليل زين الدين �أبي الف�ضل عبد الرحيم بن الح�سين
العراقي ت806هـ ،وقد طبع تخريج الحافظ العراقي مع الإحياء غير مرة ،ومن �أجود تلك الطبعات
على الإطالق طبعة ال�شعب.
ولعل �أجل ن�سخ الإحياء على الإطالق ،تلك الن�سخة التي طبعت م�ؤخرا في دار المنهاج ،في ع�شرة
مجلدات كبار ،ف�إنها ن�سخة فائقة الجودة ،في غاية ال�ضبط والإتقان ،وقد روجعت على ع�شرين ن�سخة
خطية ،فجاء الكتاب في تلك الطبعة ق�شيبا محبرا.
ويمكنك �أي�ضا اال�ستعانة في هذا الباب بكتاب( :مقا�صد ال�صالة) ،ل�شيخ الإ�سالم العز بن
عبدال�سالم ت660ه �ـ ،رحمه اهلل تعالى ،وقد بلغ من جاللة �ش�أن هذا الكتاب �أن الملك ال�سلطان
الأ�شرف كان يطلب �أن يقر�أ عليه الت�صانيف ال�صغار للإمام العز بن عبد ال�سالم ،قال الإمام المجتهد
التاج ال�سبكي في( :طبقات ال�شافعية الكبرى)( :مثل« :الملحة في اعتقاد �أهل الحق» ،التي ذكر
بع�ضها في الفتيا ،وقرئت عليه «مقا�صد ال�صالة» في يوم ثالث مرات ،تقر�أ عليه ،وكلما دخل عليه
�أحد من خوا�صه يقول للقارئ« :اقر�أ مقا�صد ال�صالة البن عبد ال�سالم حتي ي�سمعها فالن ينفعه اهلل
ب�سماعها» ،حتى قال والدي -يق�صد والده �شيخ الإ�سالم التقي ال�سبكي -رحمه اهلل« :لو قرئت مقا�صد
ال�صالة على بع�ض م�شايخ الزوايا� ،أو على متزهد� ،أو مريد� ،أو مت�صوف ،مرة واحدة ،في مجل�س ،لما
�أعادها فيه مرة �أخرى»)((( ،ي�شير �إلى �شدة ح�ضور �أثرها ،في الك�شف والتبيين لمقا�صد ال�صالة.
((( طبقات ال�شافعية الكبرى ،/239/8/ط :دار هجر للطباعة� ،سنة 1413هـ ،تحقيق :الدكتور محمود الطناحي ،وال�شيخ عبد الفتاح
الحلو ،رحمهم اهلل.
ف�إيمانه باهلل تعالى ،و�أ�سمائه الح�سنى ،و�صفاته العلى ،ينبغي �أن يملأ القلب والعقل والوجدان
رهبة وتعلقا وتمجيدا وتقدي�سا لرب العالمين َج َّل �شانه ،ليكون ذلك محو ًرا و� ً
أ�سا�سا ل�صدور الت�صرفات
من الإن�سان ،فكيف ي�ؤمن ب�أن اهلل تعالى علي ٌم ،ال يخفى عليه �شيء في الأر�ض وال في ال�سماء ،ثم هو
يت�ستر بعد ذلك بالمعا�صي ويخلو بالإثم ،وال يبالي �أن يمتلئ خاطره مكرا و�شحناء وتحايال ،و�إيقاعا
للأذى بالخلق ،وكيف ي�ؤمن ب�أن اهلل حكيم ثم يت�سخط على �أقداره.
توارت في العقل ،وتحولت �إلى كلمات خاوية ،لي�س والحقيقة �أن المعاني العليا لجالل الربوبية قد ْ
لها امتداد وال فروع وال ثمار ،فهو ي�ستح�ضر معنى الغيب ،ف�إذا به ي�ؤمن بمدلول الكلمة �إيمانا عقليا
مجردا ،يكفل له النجاة في الآخرة ،لكنه لي�س حا�ضرا وال ناب�ضا وال ُم ِ�ش ًّعا وال م�ؤ ِّثرا ،ف َم َث ُل هذا الإيمان
كمثل الرجل المقيد ،الذي ال يتحرك وال ي�سعى في الأر�ض بالعمران.ِ
فانتبه �أيها الداعية �إلى وجوب �أن يت�ضمن خطابك الدعوي تحريكا وبعثا و�إنعا�شا لهذه العقائد
ال�شريفة الكامنة في القلوب ،و�أنها تقت�ضي من العبد االرتباط بالحقائق الكونية الكبرى ،و�شدة اليقين
فيها ،و�شدة ح�ضور �أثرها في كالم المكلف وفكره وت�صرفاته وحركة حياته.
وخذ عندك مثاال على ذلك :ق�ضية المالئكة ،وهي ركن من �أركان الإيمان ال�ستة ،والكل ي�ؤمن
بها بف�ضل اهلل تعالى �إيمانا منجيا في الآخرة ،لكنها ق�ضية غائبة تماما عن �شعور المكلف ووجدانه
وت�صرفه و�سلوكه ،بل لي�س لها �أدنى ح�ضور في كالمه وتعامله ،ف�أين هو من ا�ستح�ضار كونهم كراما
كاتبين ،يعلمون ما نفعل ،و�أنهم ر�ضي اهلل عنهم يحلمون العر�ش في �أرفع مراتب الغيب ،وبينما هم في
ات ال ُق ْد�سية الممجدة ،البالغة العظمة والجالل� ،إذا هم ي�سبحون بحمد ربهم ،وي�ؤمنون ال�س ُب َح ِ
تلك ُ
به ،وي�ستغفرون للذين �آمنوا ،ويتوجهون �إلى اهلل تعالى في �ش�أن التائبين ،و�أنهم يتعاقبون فينا بالليل
والنهار ،و�أنهم حفظة كرام ،و�أنهم يرافقون العبد في كل حال ،و�أنهم يت�أذون مما يت�أذى منه بنو �آدم،
وقد �ألف الحافظ ال�سيوطي رحمه اهلل تعالى كتابا حافال جليال ،ح�شد فيه الأحاديث والآثار الواردة
فنحن نريد للمخاطبين �أن تنجلي الحقائق الإيمانية �ساطع ًة را�سخة م�س ِف َر ًة في قلوب العباد،
ك َف َل ِق ال�صبح ،وكالم�صباح المنير ال�ساطع ال ُم َّت ِق ِد في ال�صدور النقية ،حتى يتحرك �أحدهم على ظهر
متالطم من العالقات واالرتباطات،ٍ بحر
الأر�ض ،في�سعى في �ش�أن معا�شه ،ويخالط النا�س ،ويغرق في ٍ
و�شئون العباد ،وتقلبات الأحداث ،و�أخبار االقت�صاد وال�سيا�سة ،فال يطغى ذلك كله على ذلك النور في
قلبه ،وال تتراكم تلك ال�شئون عليه ،فتبهت لها حقائق ارتباطه بالغيب ال�شريف ،بل يبقى رجا�ؤه ومحبته
وتعلقه وخ�ضوعه وا�ستمداده من رب العالمين جل �شانه �ساطعا في القلب ،الم ًعا منيرا مزهرا كال�سراج،
بحر من الرجاء
ويظل ذلك العبد قائما بواجب وقته ،مخالطا للنا�س ،وقلبه في كل ذلك غارق في ٍ
الئحا
والفاقة واالنطراح بين يدي المولى ،يناجيه ويتوجه �إليه ،وي�شهد فعل اهلل وتدبيره ل�شئون العبادً ،
جليا من وراء عالم الأ�سباب والقوانين والأ�شخا�ص والزحام والق�ضايا والأزمات والأحداث.
ومن �ش�أن تلك الحقائق العليا �أن تبهت في القلب ،و�أن ت�ضعف وتتوارى ،حتى ينعدم �أثرها ،لأنها
معان قد�سية �شريفة غالية ،تتفلت من ال�صدر� ،إال �إذا حر�ص العبد عليها ،وتعلق بها ،وتفقدها في
نف�سه ما بين حين و�آخرها ،و�أمدها بالوقود كل حين ،والوقود هو دوام اال�ستح�ضار لها ،ودوام التعر�ض
لمجال�س البر والخير ،التي تذكر العبد باهلل ،وتزيح عن قلبه الركام المنهمر عليه كل يوم من �شئون
العباد و�أخبار النا�س ،والجرائم ،والعنف ،وال��زواج والطالق ،وال�صحة والمر�ض ،و�أح��وال الأقارب
والأرحام ،وم�شكالت العمل ،و�أخبار الجيران ،وق�ضايا المجتمع ،مع �سيل موازٍ من الأهواء والمطامع
والأغرا�ض وال�شهوات وال�شبهات والمفاهيم العقلية الملتب�سة ال�شائكة.
يومي
فال�سبيل �إلى �إبقاء تلك العقائد والمعاني حية ناه�ضة ناب�ضة م�ؤثرة هو �أن يكون للعبد ِو ْر ٌد ٌ
دائم من التذكير باهلل تعالى وجالله ،وعظمته وقيوميته وحكمته وتدبيره ،و�أن يكون هناك تذكير دائم
ب�أن اهلل تعالى خالق مدبر على الدوام ،و�أنه ال تخلو لحظ ٌة �أو بره ٌة من خلق ِه و�إيجا ِده و�إمدا ِده ،وتنزل
ال�شئون الإلهية لتدبيره �أمور الخالئق ،و�أن �شئون الخالئق �أجمعين بيده ،و�أنه يخف�ض ويرفع ،ويعطي
ويمنع ،ويعز ويذل ،و�أ َّنه له العزة والجبروت والكبرياء والعظمة ،و�أن النا�س والأبنية والأحداث ،والمدن
ويمكن اال�ستعانة هنا بكتاب( :مو�سوعة �أ�سماء اهلل الح�سنى) ،لف�ضيلة ال�شيخ محمد راتب
النابل�سي ،حفظه اهلل تعالى ،حيث يتعر�ض ل�شرح الأ�سماء الح�سنى على نحو يقرب معانيها ،ويعين
على ا�ستح�ضار جالل اهلل تعالى ،ويب�سط ما يقت�ضيه كل ا�سم من �أ�سمائه الم�شرفة ،من تعلق وتخلق،
والكتاب مطبوع.
وقد جمع الباحث الدكتور �إبراهيم علي �أحمد محمد خليل �أطروحة جامعية �شديدة الأهمية،
ا�سمها( :ظاهرة االنف�صام بين العقيدة وال�سلوك ،درا�سة ميدانية على عينة من طلبة الجامعات
الم�صرية) ،وهي مطبوعة(((.
لقد قامت ح�ضارة الم�سلمين على العمل والإنتاج والتعب والجهد ،حتى رجعت عليهم عوائد
العمل زراع ًة و�صناع ًة ،وبنا ًء وعمرانا م�ستبحرا ،وتوفرت عندهم احتياجات الإن�سان ،وحققوا الكفاية
والكفاءة ،ومن لم يكفه عمله �أنفقوا عليه من الزكاة ،ف�إن لم تكفه الزكاة �أنفقوا عليه من ال�صدقة ،ف�إن
لم تكفه �أنفقوا عليه من الوقف ،وما �أدراك ما دور الوقف في تاريخ الم�سلمين.
لقد �أن�ش�أوا من الوقف م�ؤ�س�سات خيرية ل�شراء �أكفان الموتى وتجهيزهم ودفنهم ،وم�ؤ�س�سات
لليتامى واللقطاء ،ورعايتهم وكفالتهم ،وم�ؤ�س�سات للمقعدين والعميان والعجزة ،وم�ؤ�س�سات خيرية
وقفية لتح�سين �أحوال الم�ساجين ورفع م�ستواهم ،وم�ؤ�س�سات وقفية لتزويج من ال ي�ستطيع الزواج،
وتحجيج من ال ي�ستطيع الحج ،وم�ؤ�س�سات لإمداد الأمهات بالحليب وال�سكر ،كل ذلك مجانا ،بل لمح�ض
العطاء والرخاء للإن�سان ،حتى حقق الم�سلمون بالعمل والزكاة وال�صدقة والوقف الرخاء للإن�سان في
كافة احتياجاته ،فانتقلوا �إلى رعاية الأكوان وخدمتها ،ف�أن�ش�أوا من الوقف م�ؤ�س�سات خيرية مجانية
لعالج الحيوانات المري�ضة ،و�إطعامها ،ورعايتها عند عجزها ،حتى كان وقف المرج الأخ�ضر في
دم�شق لرعاية الخيول والحيوانات الم�سنة �إلى �أن تموت.
فهذا هو التطبيق المبا�شر للقر�آن الكريم ،والهدي النبوي العظيم ،وهذا هو االمتداد الطبيعي
للوحيين ال�شريفين ،حتى يتحقق للإن�سان كفايته من كل وجوه الحياة وخدماتها ،فيتفرغ للكماالت
النف�سية والأخالقية والروحية ،ويبدع ويفكر ويت�أمل ،وي�ؤلف ويخترع ،ويقبل على اهلل تعالى بنف�س
�ساكنة را�ضية ،تحب اهلل وتحب الخلق.
كانت مدينة قرطبة في عهد عبد الرحمن الثالث الأم��وي عا�صمة الأندل�س الم�سلمة ،تنار
بالم�صابيح ليال ،وي�ست�ضيء الما�شي ب�سرجها ع�شرة �أميال (�ستة ع�شر كيلومترا) ال ينقطع عنه
ال�ضوء� ،أزقتها و�شوارعها مبلطة ،قمامتها مرفوعة من ال�شوارع ،محاطة بالحدائق الغناء ،حتى كان
القادم �إليها يتنزه �ساعات في ريا�ضها وب�ساتينها قبل �أن ي�صل �إليها ،وكانت حماماتها ت�سعمائة حمام،
وبيوتها مائتين وثالثة وثمانين �ألف بيت ،وق�صورها ثمانون �ألف ق�صر ،وم�ساجدها �ستمائة م�سجد،
وكان كل من فيها متعلما ،وكان في جانبها ال�شرقي مائة و�سبعون امر�أة كلهن يكتبن الم�صاحف بالخط
الكوفي ،وكان فيها ثمانون مدر�سة يتعلم فيها الفقراء مجانا ،هذا في ناحية واحدة من نواحيها ،وهكذا
كانت �سائر المدن والحوا�ضر في ديار �أهل الإ�سالم ،كبغداد ،ودم�شق ،وقرطبة ،وغرناطة ،و�إ�شبيلية،
كل هذا في الوقت الذي ي�صف فيه الأفي�س ورامبو في التاريخ العام انجلترا في القرن ال�سابع
الميالدي �إلى ما بعد العا�شر ب�أنها فقيرة في �أر�ضها ،منقطعة ال�صالت بغير بالدها� ،سمجة وح�شية،
تبنى البيوت بغير حجارة منحوتة ،وت�شيدها من تراب مدقوق ،وتجعلها في وطاء من الأر�ض ،م�ساكن
�ضيقة المنافذ ،غير محكمة الإغ�لاق ،وا�صطبالت وحظائر ال نوافذ لها ،وكانت البيوت في باري�س
ولندن تبنى من الخ�شب والطين المعجون بالق�ش والق�صب (كبيوت القرى عندنا منذ ن�صف قرن)،
ولم يكن فيها منافذ وال غرف مدففة ،وكانت الب�سط مجهولة عندهم ،ال ب�ساط لهم غير الق�ش ين�شرونه
على الأر�ض.
ف�أكثر �أيها الداعية من المطالعة والقراءة في هذا التاريخ ،العامر بالعلوم ،والآداب ،والعمران،
والفنون ،والح�ضارة ،والعطاء ،والرخاء ،وافتح للنا�س نافذة يطلون منها على �أثر القر�آن وال�شريعة في
بناء الإن�سان والرحمة به و�إ�سعاده في الدنيا والآخرة ،و�ضمن �أيها الداعية خطابك الدعوي �أطرافا
من ذلك كله ،حتى ال يت�صور النا�س �أن ال�شريعة تعني العقوبة والقهر ،بل يفهمون عن اهلل مراده
بعباده ،ويمكن اال�ستعانة هنا بكتاب في غاية الأهمية ،للدكتور م�صطفى ال�سباعي رحمه اهلل تعالى،
ا�سمه( :من روائع ح�ضارتنا)((( وكتاب( :روائع الأوقاف في الح�ضارة الإ�سالمية)((( ،للدكتور راغب
ال�سرجاني ،وما �أ�شبه تلك الكتب.
و�سمات الع�صر تبد�أ بالنظر والفكر الفل�سفي ،وتتحول بعد ذلك �إلى �سلوك عام ،وواقع ملمو�س،
وثقافة �شائعة ،وهي �سمات كثيرة ،تقارب الثالثين �سمة ،منها :ال�شعبية �أو الم�ساواة المطلقة� ،أو تذويب
النخبة ،ومنها :الن�سبية ،ومنها �سبق الن�شاط على الفكر ،ومنها :معيارية الإنجاز دون الأخالق ،ومنها:
((( طبع الكتاب في :دار الوراق للن�شر والتوزيع ،بيروت� ،سنة 1420هـ1999-م.
((( طبع الكتاب في دار نه�ضة م�صر ،القاهرة� ،سنة 2010هـ.
فالبد لك �أيها الداعية من نظر طويل ،وقراءة وا�سعة في باب�( :سمات الع�صر) ،حتى تقتدر
على اال�ستيعاب والإلمام بالأحداث المتالحقة في الدنيا من حولك ،لأن الإن�سان �إذا عجز ذهنه عن
ا�ستيعاب الواقع من حوله ،وتالحقت عليه الأحداث ال�صاخبة من احتالل وحروب و�أزمات ،و�أحداث
دولية ،وتحوالت في الفكر والثقافة ونمط المعي�شة ،ف�إنه ي�شعر في داخله بالعجز ،وين�سحب من الحياة
بالتدريج ،وال ي�شارك فيها م�شاركة فاعلة م�ؤثرة� ،أو �أنه يندفع �إلى الخو�ض فيها ،مع جهل تام بالن�سب
والمكونات والأفكار والر�ؤى والفل�سفات والعوامل التي تحرك الواقع من حولنا ،ويمكن اال�ستعانة هنا
بكتاب �شديد الأهمية ل�شيخنا �سماحة العالمة ال�شيخ علي جمعة حفظه اهلل تعالى ،ا�سمه�( :سمات
الع�صر ،ر�ؤية مهتم)(((.
كانت هذه �صفحات وت�أمالت في تكوين الدعاة على مختلف م�ستوياتهم ،الروحية والنف�سية
والمعرفية ،و�أ�س�أل اهلل تعالى التوفيق ،و�سوف نتابع ب�إذن اهلل تعالى التقاط هذه المالمح والمعاني،
ونفي�ض الحديث فيها ،حر�صا على تقديم الزاد اللزم والمالئم للدعاة �إلى اهلل ،و�صلى اهلل على �سيدنا
وموالنا محمد ،وعلى �آله و�صحبه و�سلم.
9 �-أَ ُّي َها ال َّد ِاع َي ُة !! هَ َذا َزادُك ،ت�أمالت فى كيفية �صناعة الدعاة
10 -مقدمة
20 ثالثا� :إحياء التاريخ الإ�سالمي بكل ما فيه من علوم و�آداب وح�ضارة
24 -الفهر�س