Professional Documents
Culture Documents
1مراحل_تدوين_السنة_النبوية___د_عمر_النشوقاتي (1)
1مراحل_تدوين_السنة_النبوية___د_عمر_النشوقاتي (1)
( )
،
، ،
،
1
وذادوا عنها بألسنتهم وأقالمهم ،وبذلوا ُوسعهم في روايتها ،وضبطها ،وبيان كتـبتِها ورواتها،
وتحملوا في ذلك مش ّقة الدّ أب والكالل ،وصعوبة االنتقال والت َّْرحال،
ّ وأسانيدها ومتونها وعللها،
وبذل النّفوس واألموال ،فرحمهم الله تعالى ورضي عنهم ،وجزاهم عن األمة َّ
كل خير.
وقبل الدخول في ُصلب موضوع التدوين ال بدَّ من اإلشارة إلى أمر هام جد ًا ،وهو أن نقل
السنة النبوية ووصولها إلينا لم يكن عن طريق التدوين وحده ،وال عن طريق الحفظ وحده ،بل
ُ
عوامل عديدة ،كلها ساهمت في حفظ هذه السنة النبوية تضافرت على نقله وصيانته وروايته
مرحل ًة بعد أخرى ،حتى وصلت إلينا بفضل الله سالمة من كل دخيل:
فأول هذه العوامل :حفظ الصحابة والسلف الصالح لحديث النبي ﷺ في صدورهم ،وتبدأ
عوامل هذا الحفظ من عند سيدنا رسول الله ﷺ الذي ع َّلم أصحابه هذه السنة من خالل أساليب
تربوية عظيمة ساهمت في تلقيهم لهذه السنة وحفظها في عقولهم وقلوبهم وكيانهم وسلوكهم
على حفظ وتلقي ما يسمعونه: وحياتهم العملية ،باإلضافة إلى حرص الصحابة
( ) أخرجه البخاري في كتاب التهجد ،باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى ،رقم (.)1172
1
2
الله ﷺ ول ِ كالمه وحالوة منطقه ﷺ فتقول« :كان ر ُس ُ المجلس الواحد ،وتصف السيدة عائشة
سر ُد سردكم هذا ،ول ِكنَّه ث حديث ًا لو عدَّ ه العاد ألحصاه»( .)1وتقول أيض ًا« :ما كان رس ُ ِ
ول الله ﷺ ي ُ ُ ُ ُ ُيحد ُ
كان يتـك َّل ُم بكالم ُيبِ ْيـنُه ،ف ْصل يحف ُظه من جلس إليه»(.)2
وغير ذلك من األساليب التعليمية العظيمة التي تساهم في ترسيخ الحديث في عقول
وأعظم عامل من عوامل حفظ الصحابة للحديث.
ُ السامعين ،فهذا ُ
أول
ِ
لحديث ،ويدعو لمن يحرص على ذلك ِ
حفظ ا النبي ﷺ كان يحث أصحابه على ثم إن
َّ
بالنضارة :يقول ﷺ« :نضر الله امرء ًا سمع منا حديث ًا فحفظه حتى يبلغه»( .)3ويحب أن يقرب من
« :كان ﷺ يحب أن يليه المهاجرون واألنصار؛ مجلسه من كان أكثر استعداد ًا للحفظ ،يقول أنس
ليحفظوا عنه»( .)4ويأمرهم ﷺ بالتبليغ عنه ﷺ« :بلغوا عني ولو آية»( ،)5ويحذ ُر أمته من الكذب عليه
َّ
كل التحذير ،كما في الحديث المتواتر عنه ﷺ« :من يقل علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار»(.)6
فلذلك كان الصحابة رضي الله عنهم يحرصون على حفظ ما يسمعون من النبي ﷺ ،وكثير ًا
ما كانوا يتحفظون ما يسمعونه فور سماعه ،وشواهد هذا كثيرة في السنة النبوية ،منها قول أنس
( ) أخرجه البخاري في كتاب المناقب ،باب صفة النبي ﷺ ،رقم ( ،) 3567ومسلم في كتاب الزهد والرقائق ،باب التثبت في 1
( ) أخرجه الترمذي في أبواب العلم ،باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع ،رقم ( ،)2656وقال( :حديث حسن) .والحديث 3
3
« :كنا قعود ًا مع نبي الله ﷺ فعسى أن نكون ستين رجالً ،فيحدثنا الحديث ثم يدخل لحاجته،
فنتراجعه بيننا هذا ثم هذا ،فنقوم كأنما زرع في قلوبنا»(.)1
قوة إيمان الصحابة رضي الله عنهم وصدق محبتهم لرسول الله ﷺ ،يجلسون
أضف إلى ذلك ّ
في مجلسه كأن على رؤوسهم الطير أدب ًا معه ﷺ ،ليعقلوا عنه ويفهموا حديثه ﷺ ،فكانُوا َّ
يتلقون
عملي، ثم يترجمونها إلى سلوك ِ ُ رسول ِِ
ٍّ فتخالط قلوبهم ،وتجري في عروقهمَّ ، الله ﷺ، الكلمة من
ول دون نسيانِه ،وكما كان بعض علماء التابعين
ويح ُ ِ
شك يضم ُن لهم حفظ الحديث ُ وهذا من ِ
غير ٍّ
يقول( :كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به)(.)2
فهذا العامل األول من عوامل نقل هذه السنة وهو وسيلة الحفظ في الصدور ،وأخبار
الصحابة والتابعين وأتباعهم في الحفظ أخبار مدهشة تمأل األسفار ،وتدهش العقول واألفكار،
ويحتاج هذا الجانب إلى محاضرات مستقلة.
وهناك عامل مهم جد ًا من عوامل النقلُ ،نقل به قسم مهم من السنة النبوية؛ أال وهو التواتر
العملي في كثير من قضايا األحكام الشرعية العملية ،فقد تلقى أصحاب رسول الله ﷺ عنه بشكل
واستمر هذا التواتر جي ً
ال بعد جيل في قسم َّ عملي ،وتلقى عنهم التابعون ذلك بالتواتر العملي،
مهم من السنة النبوية ،وذلك كألفاظ األذان وهيئات الصالة ومقادير الزكاة والكثير من أعمال
ٍّ
الحج وأحكام المعامالت ،وأصول األخالق اإلسالمية ،والكثير من األمور التفصيلية العملية التي
ُنقلت بهذا التواتر ،وهذا النوع من طرق النقل أقوى بكثير من مجرد الرواية أو الحفظ أو الكتابة،
وألهمية هذا التواتر العملي اعتمد عليه األئمة المجتهدون ،وعدوا ما نقل بهذه الطريقة أمور ًا
ُمجمع ًا عليها تكتسب بهذا التواتر درجة القطعية ،واعتمد اإلمام مالك ذلك في عمل أهل المدينة
( )2انظر جامع بيان العلم وفضله البن عبد البر (.)708/1
4
على وجه الخصوص ،لكون المدينة مهبِط الوحي ،وقد توارث أه ُلها آخر ما تركهم عليه
رسول الله ﷺ.
ونصل اآلن إلى الكالم عن التدوين ،وهو العامل الثالث من عوامل نقل السنة وحفظها
ووسائل وصولها إلينا ،وإنما بدأت بالكالم عن العاملين السابقين ألبين أنه لم يكن التدوين
الوسيلة الوحيدة لنقل الحديث ،بل اقترن معه أمران عظيمان هما :الحفظ في الصدور ،وهو
ِ
المترجم للسنة النبوية في حياة الصحابة والتابعين ،وانضم إلى ذلك األصل ،والسلوك العملي
جهود المحدثين في التأصيل لشروط قبول الحديث وتمييز الصحيح من السقيم ،مما يطمئن
المسلم َّ
كل الطمأنينة بسالمة هذه السنة النبوية العظيمة من كل دخيل.
وقبل أن نبدأ بالكالم في ُصلب الموضوع ال بدَّ من التمييز بين مصطلحين اثنين يختلفان في
مدلولهما ،أال وهما :مصطلح الكتابة ،ومصطلح التدوين.
فالتدوين يراد به تصنيف الحديث النبوي ضمن دواوين ومصنفات ومؤلفات تكون مرجع ًا
للناس وطالب العلم ،وهذا حصل بعد صدور األمر بالتدوين الرسمي في عهد عمر بن عبد العزيز
كما سيأتي ،وأما الكتابة فهي مجرد أن يكتب الراوي الحديث في صحف خاصة من دون ترتيب
وتبويب ،يكتبها لنفسه ليستعين بها على الحفظ ،ف ْلنعلم هذا بادئ ذي بدء ألنه يترتب عليه حل
الكثير من اإلشكاالت حول الموضوع.
وكما هو شأن كل علم من العلوم ،بل شأن كل أمر من أمور الحياة ،فإن كل علم من العلوم
يبدأ شيئ ًا فشيئ ًا ثم يتطور ،كما قال اإلمام ابن األثير الجزري في مقدمة كتابه «النهاية في غريب
5
الحديث»( :كل مبتدئ لشيء لم ُيسبق إليه ،ومبتدع ألمر لم ُيتقدَّ م فيه عليه ،فإنه يكون قلي ً
ال ثم
يكثر ،وصغير ًا ثم يكبر)(.)1
وهكذا كان الشأن في كتابة الحديث الشريف وتدوينه ،فقد بدأ الحديث ُيكتب بشكل
متفرق ،ثم بصحف مجموعة ،ثم بمصنفات مرتبة مبوبة ،ثم بموسوعات جامعة شاملة.
فتدوين الحديث ـ بمعنى الجمع في ديوان يكون مرجع ًا للناس ـ لم يبدأ في زمن النبي ﷺ،
وأما الكتابة في الصحف فقد بدأت منذ عهده ﷺ وبإذنه ،لكنه ﷺ نهى أوالً عن كتابة شيء غير
القرآن؛ خشية أن يختلط كتاب الله عز وجل بغيره ،فالمصلحة تقتضي في تلك المرحلة الحرص
أن رسول الله ﷺ على كتاب الله عز وجل قبل كل شيء ،روى مسلم عن أبي سعيد الخدري
ِ
قال« :ال تكتُـ ُبوا عني ،وم ْن كتب عني غير ال ُقرآن فلي ُ
مح ُه»(.)2
ثم لما ِأمن النبي ﷺ من ذلك أذن لبعض الصحابة الذين استأذنوه في كتابة الحديث
،كما روى أبو داود في الشريف ،وأبرزهم في ذلك وأشهرهم عبد الله بن عمرو بن العاص
قال :كنت أكتب َّ
كل شيء أسمعه من رسول الله ﷺ أريد حفظه ،فنهتني قريش، سننه عنه
فأمسكت عن
ُ ورسول الله ﷺ بشر يتكلم في الغضب والرضا؟! ُ كل شيء تسم ُعه وقالوا :أتكتب َّ
ِ
فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ ،فأومأ ُبأص ُبعه إلى فيه فقالُ « :اكت ْ
ُب؛ فوا َّلذي نفسي بيده ما ُ الكتاب،
خر ُج ِمن ُه َّإال ح ٌّق»(.)3
ي ُ
وقد ذكر العلماء وجوه ًا متعددة للتوفيق بين أحاديث النهي عن الكتابة واإلباحة لها ،ومن
ذلك ما ذكره اإلمام النووي (ت676هـ) حيث قال( :وأجابوا عن أحاديث النهي بجوابين،
6
أحدهما :أنها منسوخة ،وكان النهي في أول األمر قبل اشتهار القرآن لكل أحد ،فنُهي عن كتابة
غيره خوف ًا من اختالطه واشتباهه ،فلما اش ُتهر و ُأمنت تلك المفسد ُة ُأذن فيه ،والثانيَّ :
أن النهي ُ
نهي
وخيف اتكا ُله على الكتابة ،واإلذن لمن لم يوثق بحفظه)(.)1 تنزيه لمن وثق بحفظه ِ
وكما أشار النووي فقد اختلف السلف الصالح من الصحابة والتابعين في حكم الكتابة ،ثم
حصل اإلجماع على الجواز بل على الوجوب الكفائي ألسباب عدة ،أهمها :الخوف من اندراس
العلم بذهاب العلماء ،والخوف من أن يدخل إلى الحديث الشريف ما ليس منه.
فلم يكن االهتما ُم في عهد النبي ﷺ وأصحابه متوجه ًا إلى تدوين الحديث؛ النشغالهم بتدوين
معه ون ِ
سخه بعد وفاته ،لك َّن الكتابة المتفرقة للحديث قد بدأت القرآن الكريم في حياته ﷺ ،ثم ج ِ
الصنف األول :كتابة دعت إليها ضرورة إدارة الدولة اإلسالمية ،ككتابة العهود والمواثيق،
ورسائل النبي ﷺ إلى الملوك ،وكتبه ﷺ إلى أمرائه وعماله ،وهي عديدة تشتمل على مهمات
العقيدة وما يحتاجون إليه من األحكام ،وكتابة الخلفاء الراشدين إلى األمراء والعمال ،مثل كتاب
في بعض األحكام القضائية. علي
في فريضة الصدقة ،وصحيفة ٍّ أبي بكر الصديق
الصنف الثاني :كتابة احتاج إليها بعض الصحابة في قضايا خاصة ،ومن ذلك طلب أبي شاه
ـ وهو من أهل اليمن ـ أن تُكتب له خطبة النبي ﷺ يوم فتح مكة ،فقال رسول الله ﷺ« :اكتبوا
7
ألبي شاه»(.)1
الصنف الثالث :جهود فردية في كتابة الحديث ،وأبرزها كتابة عبد الله بن عمرو بن العاص
لصحيفته التي سماها بالصحيفة الصادقة ،والتي سنتحدث عنها بعد قليل.
وبعد انتقال النبي ﷺ إلى الرفيق األعلى حرص الكثير من الصحابة رضي الله عنهم بعده
على االهتمام بحفظ حديثه وروايته والعناية به ،بل اهتم عدد غير قليل من الصحابة وكبار التابعين
بكتابة الحديث على امتداد القرن األول الهجري.
وهنا ينبغي أن نستحضر الفرق بين الكتابة والتدوين ،فقد يسمع بعض الناس من غير أهل
االختصاص أن الحديث لم يدون قبل نهاية القرن األول ،فيظن أن الحديث قد نقل بالمشافهة
المحضة فقط مدة قرن من الزمن ،والواقع أن الذي لم يبدأ هو التدوين في الدواوين والمصنفات
المرتبة ،أما الكتابة فهي كثيرة في ذلك العهد ،وإن كان الحفظ هو األصل ،تدل على ذلك روايات
كثيرة جد ًا تبلغ حد التواتر المعنوي ،تشير بشكل واضح إلى وجود الكتابة بشكل واسع.
وال بد هنا من أن نشير بشكل سريع إلى أشهر الصحف التي كتبها الصحابة في عهد النبي ﷺ
وبعده ،فمن ذلك:
التي سماها بالصحيفة الصادقة ،والتي اقتصر 1ـ صحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص
فيها على ما سمعه من النبي ﷺ مباشرةً ،وكان يعتز بها ويحرص عليها ،روى الدارمي عنه
قال( :ما ُيرغ ُبني في الحياة إال الصادق ُة والو ْه ُط ،فأما الصادقة فصحيفة كتبتُها من رسول الله ﷺ،
وأما الو ْه ُط فأرض تصدَّ ق بها عمرو بن العاص ،كان يقوم عليها)( .)2وروى الرامهرمزي عن
( ) البخاري ،كتاب اللقطة ،باب :كيف تعرف لقطة أهل مكة ،رقم ( ،)2434ومسلم ،كتاب الحج ،باب تحريم مكة وصيدها، 1
رقم (.)1355
( ) الدارمي ،المقدمة ،باب من رخص في كتابة العلم ،رقم (.)513
2
8
مجاهد قال( :رأيت عند عبد الله بن عمرو صحيف ًة ،فذهبت أتناولها ،فقال :مه يا غالم بني
مخزوم ،قلت :ما كنت تمنعني شيئ ًا! قال :هذه الصادقة ،فيها ما سمعتُه من رسول الله ﷺ ليس
بيني وبينه فيها أحد)(.)1
يحفظ الصحيفة الصادقة في صندوق له ِحلـق؛ خشي ًة عليها وكان عبد الله بن عمرو
تم
من الضياع ،وقد اشتملت الصحيفة الصادقة على مئات األحاديث ،وتمتاز بأنها من أول ما َّ
تدوينه من الحديث النبوي ،وأنها مروية باللفظ ليس بالمعنى ،كما أن كل أحاديثها قد سمعها عبد
الله من رسول الله مباشرة دون إرسال.
وقد حفظها أوالده وحفدته من بعده ،فالكثير مما يرويه حفيده عمرو بن شعيب في روايته
عن أبيه عن جده كان من هذه الصحيفة ،وقد أودع الكثير منها اإلمام أحمد في مسنده.
أكثر الصحابة حديث ًا عن رسول الله ﷺ ،وقد 2ـ كتب أبي هريرة :فقد كان أبو هريرة
له ،لكنه لم يكن يكتب في كان يحفظ الحديث في صدره حفظ ًا عجيب ًا ،ببركة دعاء رسول الله
( :ما كان أحد أعلم بحديث رسول الله ﷺ مني ،إال ما كان من عبد الله حياة النبي ﷺ ،يقول
بن عمرو؛ فإنه كان يكتب بيده ويعيه بقلبه ،وكنت أعيه بقلبي وال أكتب بيدي)(.)2
لكن العديد من تالمذته قاموا بكتابة الكثير من حديثه ،وأخذ هذه الكتب فحفظها عنده؛ حتى
هما ُم بن منبه الذي كتب عنه
ال يغ َّيـر في حديثه أو يبدل فيه ،ومن أبرز من كتب عنه من حديثه ّ
رفت بالصحيفة الصحيحة ،وقد وصلتنا هذه الصحيفة بحمد الله ،ونقلها اإلمام أحمد
صحيفة ُع ْ
بتمامها في مسنده ،كما روى البخاري ومسلم الكثير من أحاديثها في صحيحيهما ،وطبعت هذه
الصحيفة طبعات عدة ،أبرزها بتحقيق الدكتور رفعت فوزي عبد المطلب بالقاهرة ،مع دراسة وافية
9
عنها.
وممن كتب من الصحابة أو كتب عنهم بعض تالميذهم :علي بن أبي طالب ،وجابر بن عبد
الله ،وأنس بن مالك ،وسمرة بن جندب ،وسعد بن عبادة ،وعبد الله بن عباس ،وغيرهم رضي الله
عنهم.
وأما عصر التابعين فال يحصى ما ُكتب في عهدهم من الصحف الكثيرة ،ويعد ما كتبوه صلة
الوصل بين الصحابة في القرن األول ،وبين المصنفين األوائل في القرن الثاني ،فممن كتب منهم
الحديث(:)1
في حياتها ،وكان يحث ـ عروة بن الزبير الذي كتب عن خالته عائشة أم المؤمنين
تالمذته على الكتابة وعلى المعارضة بعد الكتابة ـ يعني مقابلة الكتاب مع الشيخ ـ ،وهو من أوائل
من ألف في السيرة والمغازي.
ـ وعكرمة مولى ابن عباس ،ومجاهد بن جبر ،وهما من أبرز تالميذ ابن عباس ،وكتبا عنه
الكثير من علمه والسيما في التفسير.
إلي من النسيان)،
ـ وأبو قالبة عبد الله بن زيد الجرمي الذي كان يقول( :الكتاب أحب َّ
وكانت عنده كتب كثيرة أوصى بها بعد موته لتلميذه أيوب السختياني ،فجيء بها إليه حمل بعير،
فرواها أبو أيوب السختياني وأخذها عنه المصنفون األوائل.
ـ وعطاء بن أبي رباح ،الذي كان يقول لطالبه( :يا غلمان تعالوا اكتبوا ،فمن كان منكم
ال يحسن كتبنا له ،ومن لم يكن معه قرطاس أعطيناه من عندنا).
( )1تنظر الروايات في ذلك في كتاب« :دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه» للدكتور محمد مصطفى األعظمي
( )143/1وما بعدها.
11
لكن كانت السم ُة العامة لما كُتب في هذا القرن الكتابة بغير ترتيب أو تبويب ،وفي ذلك
يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي (ت795هـ)( :والذي كان ُيكتب في زمن الصحابة والتابعين لم
يكن تصنيف ًا مرتب ًا مبوب ًا ،إنما كان ُيكتب للحفظ والمراجعة)(.)1
هذا وقد قام الدكتور محمد مصطفى األعظمي في كتابه «دراسات في الحديث النبوي
وتاريخ تدوينه» بإحصاء أسماء الصحابة الذين كتبوا شيئ ًا من الحديث أو كُتب عنهم من حديثهم،
ِ
والروايات عنهم التي تثبت كتابة الحديث في عهد فزادوا على خمسين صحابي ًا ،أورد أسماءهم
الصحابة رضي الله عنهم بشكل كبير .وأما في عهد التابعين فقد ذكر أكثر من مئة وخمسين تابعي ًا
ممن كتبوا شيئ ًا من الحديث أو كانت عندهم صحف مكتوبة ،قبل أن يأمر الخليفة عمر بن عبد
بتدوينه رسمي ًا ،وبعد ما أمر به ،وهذا فيه أبلغ الرد على من يقول :إن السنة النبوية بقيت العزيز
على طول القرن األول تروى بالمشافهة المحضة.
وإن هذه الصحف التي كتبت في زمن الصحابة والتابعين وإن لم تصلنا بصورتها األولى
بخطوط أصحابها ،إال أنها شكَّلت المرتكز األول الذي اعتمد عليه المصنفون فيما بعد ،فسمعوا
هذه الصحف على أصحابها أو على تالميذهم ،وانتسخوها منهم ،ورووها عنهم باإلسناد المتصل
،فإن النسخة التي كتبها إليهم ،ومثال ذلك الصحيفة الصادقة لعبد الله بن عمرو بن العاص
بيده لم تصلنا ،إال أنها بقيت محفوظة في العهود األولى يتناقلونها بالرواية ،وكان حفيده عمرو بن
ضمنها اإلمام أحمد في مسنده ،فوصلتنا بهذه الطريقة ولله
شعيب يحدث منها كما قلنا ،حتى َّ
الحمد.
المرحلة الثانية :مرحلة التدوين الرسمي إلى نهاية القرن الثاني الهجري:
11
بدأت طالئع التدوين الرسمي على يد أمير مصر عبد العزيز بن مروان بن الحكم (ت بعد
80هـ) والد الخليفة عمر بن عبد العزيز ،فقد روى ابن سعد عن يزيد بن أبي حبيب (أن عبد العزيز
بن مروان كتب إلى كثير بن مرة الحضرمي ـ وكان قد أدرك بحمص سبعين بدري ًا من أصحاب
رسول الله ﷺ ـ أن يكتب إليه بما سمع من أصحاب رسول الله ﷺ من أحاديثهم ،قال :إال حديث
أبي هريرة فإنه عندنا)(.)1
فهذا أقدم خبر يدل على ابتداء التدوين برعاية الدولة ،إال أن االنطالقة الواسعة في ذلك إنما
كانت في عهد ابنه الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى (ت101هـ) ،حتى عُدَّ ت
جهو ُده في هذا الباب نقطة تحول مهمة جد ًا في تاريخ تدوين الحديث النبوي الشريف.
لما خشي من ضياع العلم بموت العلماء ،أصدر وذلك أن الخليفة عمر بن عبد العزيز
أوامره بالشروع في كتابة الحديث النبوي الشريف ،ويمكن أن ألخص جهوده ومنهجه في التدوين
في النقاط اآلتية:
1ـ كتب إلى عماله على األمصار يأمرهم بتدوين ما عندهم من الحديث ،كما روى البخاري
عن عبد الله بن دينار (ت127هـ) قال( :كتب عمر بن عبد العزيز إلى والي المدينة أبي بكر ابن
فت دروس العلم وذهاب العلماء)(.)2 حزم :انظر ما كان من حديث رسول الله ﷺ فاكتبه؛ فإني ِخ ُ
2ـ أمر من يتولى ذلك أن يجتهد في الفحص عن الصحيح الثابت فيكتبه دون غيره ،فقد
روى الدارمي األثر المذكور عن عبد الله بن دينار بلفظ( :كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن
إلي بما ثبت عندك من الحديث عن رسول الله ﷺ)( .)3فقوله:
محمد بن عمرو بن حزم :أن اكتب َّ
( ) البخاري ،كتاب العلم ،باب :كيف يقبض العلم ،قبل الرقم (.)100
2
12
(بما ثبت عندك) ،يدل على أنه أمرهم بالتثبت والتحري.
بالذكر مرويات من ُعرفوا بالعلم وسعة الرواية ،كما روى خص عمر بن عبد العزيز
3ـ َّ
ابن أبي حاتم عن مالك (ت179هـ) قال( :لم يكن عندنا أحد بالمدينة عنده من عل ِم القضاء ما
كان عند أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ،وكان َّ
واله عمر بن عبد العزيز ،وكتب إليه أن يكتب
له العلم من عند عمرة بنت عبد الرحمن والقاسم بن محمد ،فكتبه له)(.)1
،مات أبوه وهو صغير، القاسم بن محمد فهو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق
ُ وأما
في بيتها ،حتى صار من سادات التابعين وأحد فقهاء المدينة السبعة. فر َّبته عمته السيدة عائشة
خصهما
فعمر بن عبد العزيز لم يقصد االقتصار في التدوين على حديث القاسم وعمرة ،بل َّ
بالذكر ألهمية ما عندهما؛ ألنهما تربيا في بيت أم المؤمنين عائشة
،وهو بيت النبوة ،فأراد أن
أقرب الناس إلى رسول الله ﷺ ومن أعلم عدنه ،فأم المؤمنين عائشةالحديث من م ِ
ُ ُيكتب
ُ
الصحابة بحديثه عليه الصالة والسالم.
بالمصاحف ،روى 4ـ حرص على إرسال ما كُتب إلى األمصار ،كما فعل سيدنا عثمان
عمر بن عبد العزيز بجمع السنن،
ابن عبد البر عن ابن شهاب الزهري (ت124هـ) قال( :أمرنا ُ
13
فكتبناها دفتر ًا دفتر ًا ،فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفتر ًا)(.)1
بخطوات رديفة تؤيد هذا المشروع وتثريه ،فمن ذلك: كما قام عمر بن عبد العزيز
1ـ أمر بنشر العلم في المساجد إلحياء السنة بذلك ،ففي رواية البخاري تعليق ًا لكتاب عمر
بن عبد العزيز( :و ْل ُت ْفشوا العلم و ْلت ْجلِسوا حتى ُيع َّلم من ال يعلم؛ فإن العلم ال يهلِك حتى يكون
سر ًا)( .)2وروى الرامهرمزي عن عكرمة بن عمار قال :سمعت كتاب عمر بن عبد العزيز ،يقول:
(أما بعد ،ف ْأ ُمر أهل العلم أن ينشروا العلم في مساجدهم؛ فإن السنة كانت قد ُأميتت)(.)3
خصص أعطيات من بيت المال لطالب العلم ليتفرغوا لطلب علوم القرآن والسنة ،روى
2ـ َّ
أبو ُزرعة الدمشقي في تاريخه عن أبي بكر بن أبي مريم قال( :كتب عمر بن عبد العزيز إلى والي
حمص :أن ُم ْر ألهل الصالح من بيت المال بما ُيغنيهم؛ لئال يشغلهم شاغل عن تالوة القرآن وما
حملوا من األحاديث)(.)4
وألجل هذه الجهود التي قام بها الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز عدَّ ه العلما ُء المجدد
والسبب في ذلك عد ُله المعروف ،ومشرو ُعه في تدوين السنة المطهرة (.)5
ُ على رأس المئة األولى،
ولعل أول من بادر إلى تدوين الحديث بعد أمر عمر بن عبد العزيز اإلمام محمد بن مسلم ابن
شهاب الزهري (ت421هـ) ،وقد كانت له سابقة في كتابة الحديث منذ أيام الطلب ،كما روى عبد
الرزاق عن صالح بن كيسان (ت بعد 140هـ) قال( :اجتمعت أنا واب ُن شهاب ونحن نطلب العلم،
( ) البخاري ،كتاب العلم ،باب :كيف يقبض العلم ،قبل الرقم (.)1002
( ) كتاب المحدث ،الفاصل بين الراوي والواعي (ص )603رقم (.)873 3
( ) انظر :التنبئة بمن يبعثه الله على رأس كل مئة ،السيوطي( ،ص.)50
5
14
فاجتمعنا على أن نكتب السنن ،فكتبنا َّ
كل شيء سمعناه عن النبي ﷺ ،ثم كتبنا أيض ًا ما جاء عن
عت)(.)1
أصحابه ،فقلت :ال ،ليس بسنة ،وقال هو :بلى ،هو سنة ،فكتب ولم أكتب ،فأنْجح وض َّي ُ
فدون الكثير
فلما صدر األمر بالتدوين في العهد األموي كان الزهري من طالئع المدونينَّ ،
اهتم الخلفاء األمويون باستكتاب ما
من الحديث النبوي الشريف وأخبار السيرة المطهرة ،حتى َّ
عند الزهري من الحديث كما روى أبو نعيم األصفهاني عن ابن شهاب الزهري قال( :لقيني سالم
كاتب هشام ـ يعني هشام بن عبد الملك (ت125هـ) ـ فقال :إن أمير المؤمنين يأمرك أن تكتب
من أمثلة ذلك :تدوين عامر بن شراحيل الشعبي (ت103هـ) ألحاديث الطالق ،كما روى
الرامهرمزي عنه قال( :باب من الطالق جسيم ،إذا اعتدَّ ت المرأة و ِرثت) ،وله كتب أخرى في
15
موضوعات متعددة ،وقد عنون الرامهرمزي لهذا الخبر( :التبويب في التصنيف)( .)1فهذه خطوة
أولى من خطوات التبويب والترتيب وجمع النظير إلى النظير.
فقد شاع التصنيف في سائر األمصار اإلسالمية كما رأينا ،وقد وصلنا الكثير من هذه الكتب
بفضل الله؛ كالسيرة البن إسحاق ،وجامع معمر بن راشد ،وجامع عبد الله بن وهب ،وكتب اإلمام
الشافعي ،ومصنف عبد الرزاق ،كل هذا وصلنا من مصنفات القرن الثاني ،وما لم يصلنا منها استوعبته
مصنفات القرن الثالث كالكتب الستة ونحوها بطريقة الرواية ،فوصلنا مضمونه ولله الحمد والمنة.
وال َّ
شك أن أبرز ما وصلنا من مصنفات هذا القرن «موطأ اإلمام مالك» على تنوع رواياته،
حيث طلب منه تصنيفه أبو جعفر المنصور ثاني الخلفاء العباسيين ،ومنهجه يمثل نموذج ًا
لمصنفات تلك المرحلة ،فهو مرتب على األبواب ،لكن مع الجمع بين المسند والمرسل،
والجمع بين الحديث المرفوع وبين آثار الصحابة والتابعين ،ومثله لكن مع التوسع والشمول
16
مصنف عبد الرزاق الذي جمع فيه نحو عشرين ألف حديث وأثر ،ويعد ديوان ًا ضخم ًا لفتاوى
الصحابة والتابعين.
المرحلة الثالثة :التصنيف في القرن الثالث الهجري الذي يسمى عصر السنة الذهبي ،ويتلوه
تطور التصنيف بشكل كبير ،وتنوعت مقاصد األئمة في تصانيفهم ،وظهرت
القرن الرابع ،وفيهما َّ
طرائق مختلفة في التصنيف ،أبرزها وأشهرها طريقتان:
4ـ التصنيف على طريقة المسانيد ،وفيها تُرتَّب األحاديث حسب أسماء الصحابة ،فتُجمع
ُ
أحاديث كل صحابي في ترجمة خاصة ،وأبرز مصنفات هذا النوع مسند اإلمام أحمد الذي جمع
فيه نحو ثالثين ألف حديث.
وتمتاز المسانيد باقتصارها على األحاديث المرفوعة دون أقوال الصحابة والتابعين ،ولكن
الغرض األساس منها هو جمع ما ُيروى ،فلذلك كانت معظم المسانيد تشتمل على الصحيح
والحسن والضعيف والواهي ،وما يحتج به وما ال يحتج به.
2ـ التصنيف على طريقة األبواب ،وهي طريقة الموضوعات الفقهية وغيرها ،واألصل في هذه
الطريقة أن يقصد صاحبها تقديم مادة حديثية جيدة تصلح للعمل ،فلذلك يحرص أصحاب الكتب
المبوبة غالب ًا أن يذكروا ما يصلح للعمل به دون شديد الضعف ،وفي ذلك يقول الحافظ ابن حجر في
مقدمة «تعجيل المنفعة»( :أصل وضع التصنيف للحديث على األبواب أن ُيقتصر فيه على ما يصلح
لالحتجاج أو االستشهاد ،بخالف من رتب على المسانيد فإن أصل وضعه مطلق الجمع)(.)1
وأبرز من اختار التصنيف على هذه الطريقة أصحاب الكتب الستة المشهورة ،التي تعد من
المعول عليها ،والتي اقتصرت على األحاديث المرفوعة غالب ًا ،وهي الجامع
َّ أهم دواوين السنة
17
الصحيح للبخاري ،وصحيح مسلم ،وجامع الترمذي ،وسنن أبي داود والنسائي وابن ماجه .إال أن
اإلمام البخاري ومسلم ًا اقتصرا في تصنيفهما على الحديث الصحيح ،بينما جمع أصحاب السنن
بين الصحيح والحسن والضعيف الصالح للعمل أو االستشهاد غالب ًا.
وال بد قبل ختام هذه المحاضرة من التنبيه على أمرين مهمين على غاية من األهمية:
أوالً :قد يطلع من لم يكن من أهل هذا الفن على كتب الحديث كصحيح البخاري ،فيجد
اإلسناد بين البخاري وبين النبي ﷺ أربع وسائط أو خمسة أو ستة أو أقل أو أكثر ،فيظن أن هذه
السلسلة قد تناقلت الحديث بالمشافهة المحضة ك َّل هذا الزمن الطويل ،وهذا خطأ كبير نشأ عن
عدم معايشة لظروف الرواية ومصطلحات أهلها.
والحقيقة أن الكثير من هذه األسانيد التي تبدو شفاهية محضة تعتمد على صحف مكتوبة
ورواية من طريق مصنفات سابقة موجودة في حوزة األئمة المصنفين ،لكنهم كانوا يحرصون على
رواية الحديث باإلسناد ولو كان منقوالً من كتاب سابق.
فالمصنفون في القرن الثالث كالبخاري ومسلم وغيرهما اعتمدوا على كتب أئمة القرن الثاني
التي أخذوها بالسماع والقراءة على شيوخهم ،ككتب مالك ،وعبد الله بن المبارك ،وسفيان الثوري،
وعبد الله بن وهب وغيرهم ،وهؤالء اعتمدوا على كتب المصنفين األوائل كالزهري وطبقته ،والتي
أخذوها عنهم أيض ًا بالقراءة والسماع ،واستعملوا في العزو إليها طريقة الرواية بصيغة حدثنا
وأخبرنا.
قال اإلمام البخاري في صحيحه :حدثنا عبد الله بن يوسف :أخبرنا مالك ،عن ابن شهاب،
،أنها قالت« :ما ُخير رسول الله بين أمرين إال أخذ عن عروة بن الزبير ،عن عائشة
18
أيسرهما ،ما لم يكن إثم ًا ،فإن كان إثم ًا كان أبعد الناس منه»(.)1
فالحديث رواه اإلمام البخاري من طريق موطأ اإلمام مالك ،والموطأ كان في متناول يده،
وقد أخرج اإلمام مالك هذا الحديث في الموطأ بلفظه سند ًا ومتن ًا ،والبخاري قد سمع الموطأ من
شيخه عبد الله بن يوسف التنيسي الذي أخذه عن مؤلفه ،فعبر عن ذلك بقوله :حدثنا عبد الله بن
يوسف :أخبرنا مالك.
و ُق ْل مثل ذلك في رواية مالك عن شيخه الزهري ،فقد كان مالك يقرأ على الزهري حديثه
دونها أو ُدونت عنه ،والدليل على ذلك ما رواه الرامهرمزي عن عبيد الله بن عمر
من الكتب التي َّ
بن حفص العمري قال( :ما أخذنا عن ابن شهاب ـ يعني الزهري ـ إال قراءةً ،كان يقرأ لنا مالك،
وكان جيد القراءة)( .)2فهذا الخبر يدل على وجود كتب الزهري بين يدي اإلمام مالك منذ طلبه
للحديث.
فحين يسمع غير المختص تسلسل الرواية بحدثنا وأخبرنا يظن أن النقل كان بالمشافهة
المحضة ،وهو فهم خاطئ نتج عن عدم ممارسة الصطالحات المحدثين ،وعدم معرفة متخصصة
بمنهجهم القويم.
ثاني ًا :إذا كان موضوع هذه المحاضرة يركز على التدوين ،فإن أئمة الحديث األوائل لم
يكتفوا بالتدوين وحده ،بل جمعوا إليه الحفظ كما قلنا ،واشترطوا في المادة المدونة أيض ًا أن
يسمعها الطالب من لفظ الشيخ أو أن يقرأها بين يديه ،ليصوب ما يمكن أن يتطرق إلى الحديث
من التصحيف والتحريف ،وذلك أن الكتابة في العهد األول لم تكن منقوطة وال مشكولة ،فإذا
اعتمد الطالب على الكتاب وحده فقد يقرأ الكلمة على غير وجهها ،أما إذا سمعها وقرأها على
( )1البخاري ،كتاب المناقب ،باب صفة النبي ﷺ ،رقم ( ،)3561وانظر موطأ مالك ،ما جاء في حسن الخلق (.)912/2
( ) كتاب المحدث ،الفاصل بين الراوي والواعي (ص )429رقم (.)4792
19
شيوخه الذين كانوا سمعوها على شيوخهم فحينئذ يأمن من احتماالت الخطأ والتصحيف،
ويكون قد جمع بين تحصيل الحديث مكتوب ًا ،وتحمله على أهله مشافهة ،وهذا منتهى ما ُيتصور
من الضبط واإلتقان.
روى الخطيب البغدادي عن ابن عون قال( :قلت البن سيرين (ت110هـ) :ما تقول في
رجل يجدُ الكتاب ،يقرؤه أو ينظر فيه؟ قال :ال ،حتى يسمعه من ثقة)( .)1ويقول اإلمام مسلم بن
الحجاج (ت261هـ) في كتاب «التمييز» بعد أن ذكر تصحيف ًا البن لهيعة( :وابن لهيعة إنما وقع في
الخطأ في هذه الرواية أنه أخذ الحديث من كتاب موسى بن عقبة إليه فيما ُذكر ،وهي اآلفة التي
نخشى على من أخذ الحديث من الكتب من غير سماع من المحدث أو ع ٍ
رض عليه ،فإذا كان أحدُ
هذين ـ السماع أو العرض ـ فخليق أن ال يأتي صاحبُه التصحيف القبيح وما أشبه ذلك من الخطأ
الفاحش)(.)2
وفي الختام أقول :أليس منهج المحدثين في توثيق السنة النبوية المطهرة مظهر ًا من مظاهر
قول الله عز وجل( :إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)[سورة ِ
الحجر.]9 :
21