Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 20

‫مراحل تدوين السنة النبوية‬

‫محارضة ألقاها فضيلة الشيخ الدكتور عمر النشوقايت‬

‫‪،‬‬ ‫‪،‬‬ ‫‪،‬‬

‫(‬ ‫)‬
‫‪،‬‬

‫‪، [9 :‬‬ ‫]‬ ‫(‬ ‫)‬

‫‪،‬‬ ‫‪،‬‬
‫‪،‬‬

‫‪1‬‬
‫وذادوا عنها بألسنتهم وأقالمهم‪ ،‬وبذلوا ُوسعهم في روايتها‪ ،‬وضبطها‪ ،‬وبيان كتـبتِها ورواتها‪،‬‬
‫وتحملوا في ذلك مش ّقة الدّ أب والكالل‪ ،‬وصعوبة االنتقال والت َّْرحال‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وأسانيدها ومتونها وعللها‪،‬‬
‫وبذل النّفوس واألموال‪ ،‬فرحمهم الله تعالى ورضي عنهم‪ ،‬وجزاهم عن األمة َّ‬
‫كل خير‪.‬‬

‫وقبل الدخول في ُصلب موضوع التدوين ال بدَّ من اإلشارة إلى أمر هام جد ًا‪ ،‬وهو أن نقل‬
‫السنة النبوية ووصولها إلينا لم يكن عن طريق التدوين وحده‪ ،‬وال عن طريق الحفظ وحده‪ ،‬بل‬
‫ُ‬
‫عوامل عديدة‪ ،‬كلها ساهمت في حفظ هذه السنة النبوية‬ ‫تضافرت على نقله وصيانته وروايته‬
‫مرحل ًة بعد أخرى‪ ،‬حتى وصلت إلينا بفضل الله سالمة من كل دخيل‪:‬‬

‫فأول هذه العوامل‪ :‬حفظ الصحابة والسلف الصالح لحديث النبي ﷺ في صدورهم‪ ،‬وتبدأ‬
‫عوامل هذا الحفظ من عند سيدنا رسول الله ﷺ الذي ع َّلم أصحابه هذه السنة من خالل أساليب‬
‫تربوية عظيمة ساهمت في تلقيهم لهذه السنة وحفظها في عقولهم وقلوبهم وكيانهم وسلوكهم‬
‫على حفظ وتلقي ما يسمعونه‪:‬‬ ‫وحياتهم العملية‪ ،‬باإلضافة إلى حرص الصحابة‬

‫رضه للحديث‪ ،‬وأسالي ُبه التربوية العظيمة في التعليم‪،‬‬ ‫ِ‬


‫طريقة ع ِ‬ ‫ِ‬
‫رسول الله ﷺ في‬ ‫فـروع ُة ِ‬
‫بيان‬
‫كانت السبب األعظم في حفظ الصحابة للحديث‪ ،‬فقد كان رسول الله ﷺ يستعمل األساليب‬
‫التعليمية التربوية التي تزيد من ترسيخ الحديث في عقول أصحابه‪1 ،‬ـ كمراعاته التدرج في‬
‫التعليم‪2 ،‬ـ واستعماله أسلوب الحوار والمساءلة‪3 ،‬ـ وضربه لألمثال من واقع الحياة‪4 ،‬ـ وج ِ‬
‫معه‬
‫بين القول واإلشارة في التعليم‪5 ،‬ـ وتكراره لألمر المهم ثالث ًا‪6 ،‬ـ واستعماله ألسلوب التلقين‬
‫فيما يريد منهم حفظه بحروفه‪ ،‬كما جاء في أحاديث عديدة منها حديث االستخارة‪ ،‬يقول جابر بن‬
‫عبد الله رضي الله عنهما‪« :‬كان رسول الله ﷺ يعلمنا االستخارة في األمور كلها‪ ،‬كما يعلمنا‬
‫السورة من القرآن»(‪7 .)1‬ـ كل ذلك مع تأنيه ﷺ في كالمه‪ 8 ،‬ـ وعدم إطالته على أصحابه في‬

‫( ) أخرجه البخاري في كتاب التهجد‪ ،‬باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى‪ ،‬رقم (‪.)1172‬‬
‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫الله ﷺ‬ ‫ول ِ‬ ‫كالمه وحالوة منطقه ﷺ فتقول‪« :‬كان ر ُس ُ‬ ‫المجلس الواحد‪ ،‬وتصف السيدة عائشة‬
‫سر ُد سردكم هذا‪ ،‬ول ِكنَّه‬ ‫ث حديث ًا لو عدَّ ه العاد ألحصاه»(‪ .)1‬وتقول أيض ًا‪« :‬ما كان رس ُ ِ‬
‫ول الله ﷺ ي ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُيحد ُ‬
‫كان يتـك َّل ُم بكالم ُيبِ ْيـنُه‪ ،‬ف ْصل يحف ُظه من جلس إليه»(‪.)2‬‬

‫وغير ذلك من األساليب التعليمية العظيمة التي تساهم في ترسيخ الحديث في عقول‬
‫وأعظم عامل من عوامل حفظ الصحابة للحديث‪.‬‬
‫ُ‬ ‫السامعين‪ ،‬فهذا ُ‬
‫أول‬
‫ِ‬
‫لحديث‪ ،‬ويدعو لمن يحرص على ذلك‬ ‫ِ‬
‫حفظ ا‬ ‫النبي ﷺ كان يحث أصحابه على‬ ‫ثم إن‬
‫َّ‬
‫بالنضارة‪ :‬يقول ﷺ‪« :‬نضر الله امرء ًا سمع منا حديث ًا فحفظه حتى يبلغه»(‪ .)3‬ويحب أن يقرب من‬
‫‪« :‬كان ﷺ يحب أن يليه المهاجرون واألنصار؛‬ ‫مجلسه من كان أكثر استعداد ًا للحفظ‪ ،‬يقول أنس‬
‫ليحفظوا عنه»(‪ .)4‬ويأمرهم ﷺ بالتبليغ عنه ﷺ‪« :‬بلغوا عني ولو آية»(‪ ،)5‬ويحذ ُر أمته من الكذب عليه‬
‫َّ‬
‫كل التحذير‪ ،‬كما في الحديث المتواتر عنه ﷺ‪« :‬من يقل علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار»(‪.)6‬‬

‫فلذلك كان الصحابة رضي الله عنهم يحرصون على حفظ ما يسمعون من النبي ﷺ‪ ،‬وكثير ًا‬
‫ما كانوا يتحفظون ما يسمعونه فور سماعه‪ ،‬وشواهد هذا كثيرة في السنة النبوية‪ ،‬منها قول أنس‬

‫( ) أخرجه البخاري في كتاب المناقب‪ ،‬باب صفة النبي ﷺ‪ ،‬رقم (‪ ،) 3567‬ومسلم في كتاب الزهد والرقائق‪ ،‬باب التثبت في‬ ‫‪1‬‬

‫الحديث‪ ،‬بعد الرقم (‪.)3003‬‬


‫( ) أخرجه التّرمذي في ُأبواب المناقب‪ ،‬باب‪ :‬في كالم النبي ﷺ رقم (‪ ،)3639‬وقال‪( :‬حديث حسن)‪.‬‬‫‪2‬‬

‫( ) أخرجه الترمذي في أبواب العلم‪ ،‬باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع‪ ،‬رقم (‪ ،)2656‬وقال‪( :‬حديث حسن)‪ .‬والحديث‬ ‫‪3‬‬

‫نص على ذلك السيوطي في تدريب الراوي (‪.)77/2‬‬


‫بمجموع رواياته متواتر‪َّ ،‬‬
‫(‪ )4‬أخرجه أحمد في المسند‪ ،‬رقم (‪.)13774‬‬
‫(‪ )5‬أخرجه البخاري في كتاب أحاديث األنبياء‪ ،‬باب ما ذكر عن بني إسرائيل‪ ،‬رقم (‪.)3461‬‬
‫(‪ )6‬أخرجه البخاري في كتاب العلم‪ ،‬باب إثم من كذب على النبي ﷺ‪ ،‬رقم (‪.)109‬‬

‫‪3‬‬
‫‪« :‬كنا قعود ًا مع نبي الله ﷺ فعسى أن نكون ستين رجالً‪ ،‬فيحدثنا الحديث ثم يدخل لحاجته‪،‬‬
‫فنتراجعه بيننا هذا ثم هذا‪ ،‬فنقوم كأنما زرع في قلوبنا»(‪.)1‬‬

‫قوة إيمان الصحابة رضي الله عنهم وصدق محبتهم لرسول الله ﷺ‪ ،‬يجلسون‬
‫أضف إلى ذلك ّ‬
‫في مجلسه كأن على رؤوسهم الطير أدب ًا معه ﷺ‪ ،‬ليعقلوا عنه ويفهموا حديثه ﷺ‪ ،‬فكانُوا َّ‬
‫يتلقون‬
‫عملي‪،‬‬ ‫ثم يترجمونها إلى سلوك‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫رسول ِ‬‫ِ‬
‫ٍّ‬ ‫فتخالط قلوبهم‪ ،‬وتجري في عروقهم‪َّ ،‬‬ ‫الله ﷺ‪،‬‬ ‫الكلمة من‬
‫ول دون نسيانِه‪ ،‬وكما كان بعض علماء التابعين‬
‫ويح ُ‬ ‫ِ‬
‫شك يضم ُن لهم حفظ الحديث ُ‬ ‫وهذا من ِ‬
‫غير ٍّ‬
‫يقول‪( :‬كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به)(‪.)2‬‬

‫فهذا العامل األول من عوامل نقل هذه السنة وهو وسيلة الحفظ في الصدور‪ ،‬وأخبار‬
‫الصحابة والتابعين وأتباعهم في الحفظ أخبار مدهشة تمأل األسفار‪ ،‬وتدهش العقول واألفكار‪،‬‬
‫ويحتاج هذا الجانب إلى محاضرات مستقلة‪.‬‬

‫وهناك عامل مهم جد ًا من عوامل النقل‪ُ ،‬نقل به قسم مهم من السنة النبوية؛ أال وهو التواتر‬
‫العملي في كثير من قضايا األحكام الشرعية العملية‪ ،‬فقد تلقى أصحاب رسول الله ﷺ عنه بشكل‬
‫واستمر هذا التواتر جي ً‬
‫ال بعد جيل في قسم‬ ‫َّ‬ ‫عملي‪ ،‬وتلقى عنهم التابعون ذلك بالتواتر العملي‪،‬‬
‫مهم من السنة النبوية‪ ،‬وذلك كألفاظ األذان وهيئات الصالة ومقادير الزكاة والكثير من أعمال‬
‫ٍّ‬
‫الحج وأحكام المعامالت‪ ،‬وأصول األخالق اإلسالمية‪ ،‬والكثير من األمور التفصيلية العملية التي‬
‫ُنقلت بهذا التواتر‪ ،‬وهذا النوع من طرق النقل أقوى بكثير من مجرد الرواية أو الحفظ أو الكتابة‪،‬‬
‫وألهمية هذا التواتر العملي اعتمد عليه األئمة المجتهدون‪ ،‬وعدوا ما نقل بهذه الطريقة أمور ًا‬
‫ُمجمع ًا عليها تكتسب بهذا التواتر درجة القطعية‪ ،‬واعتمد اإلمام مالك ذلك في عمل أهل المدينة‬

‫( ) أخرجه أبو يعلى الموصلي في مسنده‪ ،‬رقم (‪.)4091‬‬ ‫‪1‬‬

‫(‪ )2‬انظر جامع بيان العلم وفضله البن عبد البر (‪.)708/1‬‬

‫‪4‬‬
‫على وجه الخصوص‪ ،‬لكون المدينة مهبِط الوحي‪ ،‬وقد توارث أه ُلها آخر ما تركهم عليه‬
‫رسول الله ﷺ‪.‬‬

‫ونصل اآلن إلى الكالم عن التدوين‪ ،‬وهو العامل الثالث من عوامل نقل السنة وحفظها‬
‫ووسائل وصولها إلينا‪ ،‬وإنما بدأت بالكالم عن العاملين السابقين ألبين أنه لم يكن التدوين‬
‫الوسيلة الوحيدة لنقل الحديث‪ ،‬بل اقترن معه أمران عظيمان هما‪ :‬الحفظ في الصدور‪ ،‬وهو‬
‫ِ‬
‫المترجم للسنة النبوية في حياة الصحابة والتابعين‪ ،‬وانضم إلى ذلك‬ ‫األصل‪ ،‬والسلوك العملي‬
‫جهود المحدثين في التأصيل لشروط قبول الحديث وتمييز الصحيح من السقيم‪ ،‬مما يطمئن‬
‫المسلم َّ‬
‫كل الطمأنينة بسالمة هذه السنة النبوية العظيمة من كل دخيل‪.‬‬

‫وقبل أن نبدأ بالكالم في ُصلب الموضوع ال بدَّ من التمييز بين مصطلحين اثنين يختلفان في‬
‫مدلولهما‪ ،‬أال وهما‪ :‬مصطلح الكتابة‪ ،‬ومصطلح التدوين‪.‬‬

‫فالتدوين يراد به تصنيف الحديث النبوي ضمن دواوين ومصنفات ومؤلفات تكون مرجع ًا‬
‫للناس وطالب العلم‪ ،‬وهذا حصل بعد صدور األمر بالتدوين الرسمي في عهد عمر بن عبد العزيز‬
‫كما سيأتي‪ ،‬وأما الكتابة فهي مجرد أن يكتب الراوي الحديث في صحف خاصة من دون ترتيب‬
‫وتبويب‪ ،‬يكتبها لنفسه ليستعين بها على الحفظ‪ ،‬ف ْلنعلم هذا بادئ ذي بدء ألنه يترتب عليه حل‬
‫الكثير من اإلشكاالت حول الموضوع‪.‬‬

‫وكما هو شأن كل علم من العلوم‪ ،‬بل شأن كل أمر من أمور الحياة‪ ،‬فإن كل علم من العلوم‬
‫يبدأ شيئ ًا فشيئ ًا ثم يتطور‪ ،‬كما قال اإلمام ابن األثير الجزري في مقدمة كتابه «النهاية في غريب‬

‫‪5‬‬
‫الحديث»‪( :‬كل مبتدئ لشيء لم ُيسبق إليه‪ ،‬ومبتدع ألمر لم ُيتقدَّ م فيه عليه‪ ،‬فإنه يكون قلي ً‬
‫ال ثم‬
‫يكثر‪ ،‬وصغير ًا ثم يكبر)(‪.)1‬‬

‫وهكذا كان الشأن في كتابة الحديث الشريف وتدوينه‪ ،‬فقد بدأ الحديث ُيكتب بشكل‬
‫متفرق‪ ،‬ثم بصحف مجموعة‪ ،‬ثم بمصنفات مرتبة مبوبة‪ ،‬ثم بموسوعات جامعة شاملة‪.‬‬

‫فتدوين الحديث ـ بمعنى الجمع في ديوان يكون مرجع ًا للناس ـ لم يبدأ في زمن النبي ﷺ‪،‬‬
‫وأما الكتابة في الصحف فقد بدأت منذ عهده ﷺ وبإذنه‪ ،‬لكنه ﷺ نهى أوالً عن كتابة شيء غير‬
‫القرآن؛ خشية أن يختلط كتاب الله عز وجل بغيره‪ ،‬فالمصلحة تقتضي في تلك المرحلة الحرص‬
‫أن رسول الله ﷺ‬ ‫على كتاب الله عز وجل قبل كل شيء‪ ،‬روى مسلم عن أبي سعيد الخدري‬
‫ِ‬
‫قال‪« :‬ال تكتُـ ُبوا عني‪ ،‬وم ْن كتب عني غير ال ُقرآن فلي ُ‬
‫مح ُه»(‪.)2‬‬

‫ثم لما ِأمن النبي ﷺ من ذلك أذن لبعض الصحابة الذين استأذنوه في كتابة الحديث‬
‫‪ ،‬كما روى أبو داود في‬ ‫الشريف‪ ،‬وأبرزهم في ذلك وأشهرهم عبد الله بن عمرو بن العاص‬
‫قال‪ :‬كنت أكتب َّ‬
‫كل شيء أسمعه من رسول الله ﷺ أريد حفظه‪ ،‬فنهتني قريش‪،‬‬ ‫سننه عنه‬
‫فأمسكت عن‬
‫ُ‬ ‫ورسول الله ﷺ بشر يتكلم في الغضب والرضا؟!‬ ‫ُ‬ ‫كل شيء تسم ُعه‬ ‫وقالوا‪ :‬أتكتب َّ‬
‫ِ‬
‫فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ‪ ،‬فأومأ ُبأص ُبعه إلى فيه فقال‪ُ « :‬اكت ْ‬
‫ُب؛ فوا َّلذي نفسي بيده ما‬ ‫ُ‬ ‫الكتاب‪،‬‬
‫خر ُج ِمن ُه َّإال ح ٌّق»(‪.)3‬‬
‫ي ُ‬

‫وقد ذكر العلماء وجوه ًا متعددة للتوفيق بين أحاديث النهي عن الكتابة واإلباحة لها‪ ،‬ومن‬
‫ذلك ما ذكره اإلمام النووي (ت‪676‬هـ) حيث قال‪( :‬وأجابوا عن أحاديث النهي بجوابين‪،‬‬

‫(‪ )1‬النهاية في غريب الحديث (‪.)5/1‬‬


‫( ) مسلم‪ ،‬كتاب الزهد والرقائق‪ ،‬باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم‪ ،‬رقم (‪.)3004‬‬ ‫‪2‬‬

‫( ) أبو داود‪ ،‬كتاب العلم‪ ،‬باب في كتابة العلم‪ ،‬رقم (‪.)3648‬‬


‫‪3‬‬

‫‪6‬‬
‫أحدهما‪ :‬أنها منسوخة‪ ،‬وكان النهي في أول األمر قبل اشتهار القرآن لكل أحد‪ ،‬فنُهي عن كتابة‬
‫غيره خوف ًا من اختالطه واشتباهه‪ ،‬فلما اش ُتهر و ُأمنت تلك المفسد ُة ُأذن فيه‪ ،‬والثاني‪َّ :‬‬
‫أن النهي ُ‬
‫نهي‬
‫وخيف اتكا ُله على الكتابة‪ ،‬واإلذن لمن لم يوثق بحفظه)(‪.)1‬‬ ‫تنزيه لمن وثق بحفظه ِ‬

‫وكما أشار النووي فقد اختلف السلف الصالح من الصحابة والتابعين في حكم الكتابة‪ ،‬ثم‬
‫حصل اإلجماع على الجواز بل على الوجوب الكفائي ألسباب عدة‪ ،‬أهمها‪ :‬الخوف من اندراس‬
‫العلم بذهاب العلماء‪ ،‬والخوف من أن يدخل إلى الحديث الشريف ما ليس منه‪.‬‬

‫هذا وقد مر تدوين الحديث بمراحل عدة‪:‬‬

‫المرحلة األولى‪ :‬كتابة الحديث في عصر النبي ﷺ وأصحابه‪:‬‬

‫فلم يكن االهتما ُم في عهد النبي ﷺ وأصحابه متوجه ًا إلى تدوين الحديث؛ النشغالهم بتدوين‬
‫معه ون ِ‬
‫سخه بعد وفاته‪ ،‬لك َّن الكتابة المتفرقة للحديث قد بدأت‬ ‫القرآن الكريم في حياته ﷺ‪ ،‬ثم ج ِ‬

‫منذ العهد النبوي دون أن تكون مشروع ًا متكام ً‬


‫ال لتدوين السنة‪ ،‬ولدى النظر في األخبار الواردة في‬
‫كتابة الحديث في ذلك العهد نجدها على ثالثة أصناف‪:‬‬

‫الصنف األول‪ :‬كتابة دعت إليها ضرورة إدارة الدولة اإلسالمية‪ ،‬ككتابة العهود والمواثيق‪،‬‬
‫ورسائل النبي ﷺ إلى الملوك‪ ،‬وكتبه ﷺ إلى أمرائه وعماله‪ ،‬وهي عديدة تشتمل على مهمات‬
‫العقيدة وما يحتاجون إليه من األحكام‪ ،‬وكتابة الخلفاء الراشدين إلى األمراء والعمال‪ ،‬مثل كتاب‬
‫في بعض األحكام القضائية‪.‬‬ ‫علي‬
‫في فريضة الصدقة‪ ،‬وصحيفة ٍّ‬ ‫أبي بكر الصديق‬

‫الصنف الثاني‪ :‬كتابة احتاج إليها بعض الصحابة في قضايا خاصة‪ ،‬ومن ذلك طلب أبي شاه‬
‫ـ وهو من أهل اليمن ـ أن تُكتب له خطبة النبي ﷺ يوم فتح مكة‪ ،‬فقال رسول الله ﷺ‪« :‬اكتبوا‬

‫(‪ )1‬شرح النووي على مسلم (‪.)130-129/9‬‬

‫‪7‬‬
‫ألبي شاه»(‪.)1‬‬

‫الصنف الثالث‪ :‬جهود فردية في كتابة الحديث‪ ،‬وأبرزها كتابة عبد الله بن عمرو بن العاص‬
‫لصحيفته التي سماها بالصحيفة الصادقة‪ ،‬والتي سنتحدث عنها بعد قليل‪.‬‬

‫وبعد انتقال النبي ﷺ إلى الرفيق األعلى حرص الكثير من الصحابة رضي الله عنهم بعده‬
‫على االهتمام بحفظ حديثه وروايته والعناية به‪ ،‬بل اهتم عدد غير قليل من الصحابة وكبار التابعين‬
‫بكتابة الحديث على امتداد القرن األول الهجري‪.‬‬

‫وهنا ينبغي أن نستحضر الفرق بين الكتابة والتدوين‪ ،‬فقد يسمع بعض الناس من غير أهل‬
‫االختصاص أن الحديث لم يدون قبل نهاية القرن األول‪ ،‬فيظن أن الحديث قد نقل بالمشافهة‬
‫المحضة فقط مدة قرن من الزمن‪ ،‬والواقع أن الذي لم يبدأ هو التدوين في الدواوين والمصنفات‬
‫المرتبة‪ ،‬أما الكتابة فهي كثيرة في ذلك العهد‪ ،‬وإن كان الحفظ هو األصل‪ ،‬تدل على ذلك روايات‬
‫كثيرة جد ًا تبلغ حد التواتر المعنوي‪ ،‬تشير بشكل واضح إلى وجود الكتابة بشكل واسع‪.‬‬

‫وال بد هنا من أن نشير بشكل سريع إلى أشهر الصحف التي كتبها الصحابة في عهد النبي ﷺ‬
‫وبعده‪ ،‬فمن ذلك‪:‬‬

‫التي سماها بالصحيفة الصادقة‪ ،‬والتي اقتصر‬ ‫‪1‬ـ صحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص‬
‫فيها على ما سمعه من النبي ﷺ مباشرةً‪ ،‬وكان يعتز بها ويحرص عليها‪ ،‬روى الدارمي عنه‬
‫قال‪( :‬ما ُيرغ ُبني في الحياة إال الصادق ُة والو ْه ُط‪ ،‬فأما الصادقة فصحيفة كتبتُها من رسول الله ﷺ‪،‬‬
‫وأما الو ْه ُط فأرض تصدَّ ق بها عمرو بن العاص‪ ،‬كان يقوم عليها)(‪ .)2‬وروى الرامهرمزي عن‬

‫( ) البخاري‪ ،‬كتاب اللقطة‪ ،‬باب‪ :‬كيف تعرف لقطة أهل مكة‪ ،‬رقم (‪ ،)2434‬ومسلم‪ ،‬كتاب الحج‪ ،‬باب تحريم مكة وصيدها‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫رقم (‪.)1355‬‬
‫( ) الدارمي‪ ،‬المقدمة‪ ،‬باب من رخص في كتابة العلم‪ ،‬رقم (‪.)513‬‬
‫‪2‬‬

‫‪8‬‬
‫مجاهد قال‪( :‬رأيت عند عبد الله بن عمرو صحيف ًة‪ ،‬فذهبت أتناولها‪ ،‬فقال‪ :‬مه يا غالم بني‬
‫مخزوم‪ ،‬قلت‪ :‬ما كنت تمنعني شيئ ًا! قال‪ :‬هذه الصادقة‪ ،‬فيها ما سمعتُه من رسول الله ﷺ ليس‬
‫بيني وبينه فيها أحد)(‪.)1‬‬

‫يحفظ الصحيفة الصادقة في صندوق له ِحلـق؛ خشي ًة عليها‬ ‫وكان عبد الله بن عمرو‬
‫تم‬
‫من الضياع‪ ،‬وقد اشتملت الصحيفة الصادقة على مئات األحاديث‪ ،‬وتمتاز بأنها من أول ما َّ‬
‫تدوينه من الحديث النبوي‪ ،‬وأنها مروية باللفظ ليس بالمعنى‪ ،‬كما أن كل أحاديثها قد سمعها عبد‬
‫الله من رسول الله ‪ ‬مباشرة دون إرسال‪.‬‬

‫وقد حفظها أوالده وحفدته من بعده‪ ،‬فالكثير مما يرويه حفيده عمرو بن شعيب في روايته‬
‫عن أبيه عن جده كان من هذه الصحيفة‪ ،‬وقد أودع الكثير منها اإلمام أحمد في مسنده‪.‬‬

‫أكثر الصحابة حديث ًا عن رسول الله ﷺ‪ ،‬وقد‬ ‫‪2‬ـ كتب أبي هريرة‪ :‬فقد كان أبو هريرة‬
‫له‪ ،‬لكنه لم يكن يكتب في‬ ‫كان يحفظ الحديث في صدره حفظ ًا عجيب ًا‪ ،‬ببركة دعاء رسول الله‬
‫‪( :‬ما كان أحد أعلم بحديث رسول الله ﷺ مني‪ ،‬إال ما كان من عبد الله‬ ‫حياة النبي ﷺ‪ ،‬يقول‬
‫بن عمرو؛ فإنه كان يكتب بيده ويعيه بقلبه‪ ،‬وكنت أعيه بقلبي وال أكتب بيدي)(‪.)2‬‬

‫لكن العديد من تالمذته قاموا بكتابة الكثير من حديثه‪ ،‬وأخذ هذه الكتب فحفظها عنده؛ حتى‬
‫هما ُم بن منبه الذي كتب عنه‬
‫ال يغ َّيـر في حديثه أو يبدل فيه‪ ،‬ومن أبرز من كتب عنه من حديثه ّ‬
‫رفت بالصحيفة الصحيحة‪ ،‬وقد وصلتنا هذه الصحيفة بحمد الله‪ ،‬ونقلها اإلمام أحمد‬
‫صحيفة ُع ْ‬
‫بتمامها في مسنده‪ ،‬كما روى البخاري ومسلم الكثير من أحاديثها في صحيحيهما‪ ،‬وطبعت هذه‬
‫الصحيفة طبعات عدة‪ ،‬أبرزها بتحقيق الدكتور رفعت فوزي عبد المطلب بالقاهرة‪ ،‬مع دراسة وافية‬

‫( ) كتاب المحدث‪ ،‬الفاصل بين الراوي والواعي (ص‪ )367‬رقم (‪.)324‬‬


‫‪1‬‬

‫(‪ )2‬أخرجه اإلمام أحمد في مسنده‪ ،‬رقم (‪.)9231‬‬

‫‪9‬‬
‫عنها‪.‬‬

‫وممن كتب من الصحابة أو كتب عنهم بعض تالميذهم‪ :‬علي بن أبي طالب‪ ،‬وجابر بن عبد‬
‫الله‪ ،‬وأنس بن مالك‪ ،‬وسمرة بن جندب‪ ،‬وسعد بن عبادة‪ ،‬وعبد الله بن عباس‪ ،‬وغيرهم رضي الله‬
‫عنهم‪.‬‬

‫وأما عصر التابعين فال يحصى ما ُكتب في عهدهم من الصحف الكثيرة‪ ،‬ويعد ما كتبوه صلة‬
‫الوصل بين الصحابة في القرن األول‪ ،‬وبين المصنفين األوائل في القرن الثاني‪ ،‬فممن كتب منهم‬
‫الحديث(‪:)1‬‬

‫في حياتها‪ ،‬وكان يحث‬ ‫ـ عروة بن الزبير الذي كتب عن خالته عائشة أم المؤمنين‬
‫تالمذته على الكتابة وعلى المعارضة بعد الكتابة ـ يعني مقابلة الكتاب مع الشيخ ـ‪ ،‬وهو من أوائل‬
‫من ألف في السيرة والمغازي‪.‬‬

‫ـ وعكرمة مولى ابن عباس‪ ،‬ومجاهد بن جبر‪ ،‬وهما من أبرز تالميذ ابن عباس‪ ،‬وكتبا عنه‬
‫الكثير من علمه والسيما في التفسير‪.‬‬

‫إلي من النسيان)‪،‬‬
‫ـ وأبو قالبة عبد الله بن زيد الجرمي الذي كان يقول‪( :‬الكتاب أحب َّ‬
‫وكانت عنده كتب كثيرة أوصى بها بعد موته لتلميذه أيوب السختياني‪ ،‬فجيء بها إليه حمل بعير‪،‬‬
‫فرواها أبو أيوب السختياني وأخذها عنه المصنفون األوائل‪.‬‬

‫ـ وعطاء بن أبي رباح‪ ،‬الذي كان يقول لطالبه‪( :‬يا غلمان تعالوا اكتبوا‪ ،‬فمن كان منكم‬
‫ال يحسن كتبنا له‪ ،‬ومن لم يكن معه قرطاس أعطيناه من عندنا)‪.‬‬

‫(‪ )1‬تنظر الروايات في ذلك في كتاب‪« :‬دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه» للدكتور محمد مصطفى األعظمي‬
‫(‪ )143/1‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫لكن كانت السم ُة العامة لما كُتب في هذا القرن الكتابة بغير ترتيب أو تبويب‪ ،‬وفي ذلك‬
‫يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي (ت‪795‬هـ)‪( :‬والذي كان ُيكتب في زمن الصحابة والتابعين لم‬
‫يكن تصنيف ًا مرتب ًا مبوب ًا‪ ،‬إنما كان ُيكتب للحفظ والمراجعة)(‪.)1‬‬

‫هذا وقد قام الدكتور محمد مصطفى األعظمي في كتابه «دراسات في الحديث النبوي‬
‫وتاريخ تدوينه» بإحصاء أسماء الصحابة الذين كتبوا شيئ ًا من الحديث أو كُتب عنهم من حديثهم‪،‬‬
‫ِ‬
‫والروايات عنهم التي تثبت كتابة الحديث في عهد‬ ‫فزادوا على خمسين صحابي ًا‪ ،‬أورد أسماءهم‬
‫الصحابة رضي الله عنهم بشكل كبير‪ .‬وأما في عهد التابعين فقد ذكر أكثر من مئة وخمسين تابعي ًا‬
‫ممن كتبوا شيئ ًا من الحديث أو كانت عندهم صحف مكتوبة‪ ،‬قبل أن يأمر الخليفة عمر بن عبد‬
‫بتدوينه رسمي ًا‪ ،‬وبعد ما أمر به‪ ،‬وهذا فيه أبلغ الرد على من يقول‪ :‬إن السنة النبوية بقيت‬ ‫العزيز‬
‫على طول القرن األول تروى بالمشافهة المحضة‪.‬‬

‫وإن هذه الصحف التي كتبت في زمن الصحابة والتابعين وإن لم تصلنا بصورتها األولى‬
‫بخطوط أصحابها‪ ،‬إال أنها شكَّلت المرتكز األول الذي اعتمد عليه المصنفون فيما بعد‪ ،‬فسمعوا‬
‫هذه الصحف على أصحابها أو على تالميذهم‪ ،‬وانتسخوها منهم‪ ،‬ورووها عنهم باإلسناد المتصل‬
‫‪ ،‬فإن النسخة التي كتبها‬ ‫إليهم‪ ،‬ومثال ذلك الصحيفة الصادقة لعبد الله بن عمرو بن العاص‬
‫بيده لم تصلنا‪ ،‬إال أنها بقيت محفوظة في العهود األولى يتناقلونها بالرواية‪ ،‬وكان حفيده عمرو بن‬
‫ضمنها اإلمام أحمد في مسنده‪ ،‬فوصلتنا بهذه الطريقة ولله‬
‫شعيب يحدث منها كما قلنا‪ ،‬حتى َّ‬
‫الحمد‪.‬‬

‫المرحلة الثانية‪ :‬مرحلة التدوين الرسمي إلى نهاية القرن الثاني الهجري‪:‬‬

‫( ) شرح علل الترمذي (‪.)37/1‬‬


‫‪1‬‬

‫‪11‬‬
‫بدأت طالئع التدوين الرسمي على يد أمير مصر عبد العزيز بن مروان بن الحكم (ت بعد‬
‫‪80‬هـ) والد الخليفة عمر بن عبد العزيز‪ ،‬فقد روى ابن سعد عن يزيد بن أبي حبيب (أن عبد العزيز‬
‫بن مروان كتب إلى كثير بن مرة الحضرمي ـ وكان قد أدرك بحمص سبعين بدري ًا من أصحاب‬
‫رسول الله ﷺ ـ أن يكتب إليه بما سمع من أصحاب رسول الله ﷺ من أحاديثهم‪ ،‬قال‪ :‬إال حديث‬
‫أبي هريرة فإنه عندنا)(‪.)1‬‬

‫فهذا أقدم خبر يدل على ابتداء التدوين برعاية الدولة‪ ،‬إال أن االنطالقة الواسعة في ذلك إنما‬
‫كانت في عهد ابنه الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى (ت‪101‬هـ)‪ ،‬حتى عُدَّ ت‬
‫جهو ُده في هذا الباب نقطة تحول مهمة جد ًا في تاريخ تدوين الحديث النبوي الشريف‪.‬‬

‫لما خشي من ضياع العلم بموت العلماء‪ ،‬أصدر‬ ‫وذلك أن الخليفة عمر بن عبد العزيز‬
‫أوامره بالشروع في كتابة الحديث النبوي الشريف‪ ،‬ويمكن أن ألخص جهوده ومنهجه في التدوين‬
‫في النقاط اآلتية‪:‬‬

‫‪1‬ـ كتب إلى عماله على األمصار يأمرهم بتدوين ما عندهم من الحديث‪ ،‬كما روى البخاري‬
‫عن عبد الله بن دينار (ت‪127‬هـ) قال‪( :‬كتب عمر بن عبد العزيز إلى والي المدينة أبي بكر ابن‬
‫فت دروس العلم وذهاب العلماء)(‪.)2‬‬ ‫حزم‪ :‬انظر ما كان من حديث رسول الله ﷺ فاكتبه؛ فإني ِخ ُ‬

‫‪2‬ـ أمر من يتولى ذلك أن يجتهد في الفحص عن الصحيح الثابت فيكتبه دون غيره‪ ،‬فقد‬
‫روى الدارمي األثر المذكور عن عبد الله بن دينار بلفظ‪( :‬كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن‬
‫إلي بما ثبت عندك من الحديث عن رسول الله ﷺ)(‪ .)3‬فقوله‪:‬‬
‫محمد بن عمرو بن حزم‪ :‬أن اكتب َّ‬

‫( ) الطبقات الكبرى البن سعد (‪.)451-450/9‬‬ ‫‪1‬‬

‫( ) البخاري‪ ،‬كتاب العلم‪ ،‬باب‪ :‬كيف يقبض العلم‪ ،‬قبل الرقم (‪.)100‬‬
‫‪2‬‬

‫( ) الدارمي‪ ،‬المقدمة‪ ،‬باب من رخص في كتابة العلم‪ ،‬رقم (‪.)504‬‬


‫‪3‬‬

‫‪12‬‬
‫(بما ثبت عندك)‪ ،‬يدل على أنه أمرهم بالتثبت والتحري‪.‬‬

‫بالذكر مرويات من ُعرفوا بالعلم وسعة الرواية‪ ،‬كما روى‬ ‫خص عمر بن عبد العزيز‬
‫‪3‬ـ َّ‬
‫ابن أبي حاتم عن مالك (ت‪179‬هـ) قال‪( :‬لم يكن عندنا أحد بالمدينة عنده من عل ِم القضاء ما‬
‫كان عند أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم‪ ،‬وكان َّ‬
‫واله عمر بن عبد العزيز‪ ،‬وكتب إليه أن يكتب‬
‫له العلم من عند عمرة بنت عبد الرحمن والقاسم بن محمد‪ ،‬فكتبه له)(‪.)1‬‬

‫وهنا نقف وقفة تأمل عند هذين التابعيين َّ‬


‫الذين حدَّ دهما عمر بن عبد العزيز‪ ،‬وهما‪ :‬عمرة‬
‫بنت عبد الرحمن والقاسم بن محمد‪.‬‬
‫‪ِ ،‬‬
‫ومن أعلم الناس بحديثها‪،‬‬ ‫فعمر ُة بنت عبد الرحمن تلميذة السيدة عائشة أم المؤمنين‬
‫وكان عمر بن عبد العزيز يقول‪( :‬ما بقي أحد أعلم بحديث عائشة من عمرة)(‪.)2‬‬

‫‪ ،‬مات أبوه وهو صغير‪،‬‬ ‫القاسم بن محمد فهو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق‬
‫ُ‬ ‫وأما‬
‫في بيتها‪ ،‬حتى صار من سادات التابعين وأحد فقهاء المدينة السبعة‪.‬‬ ‫فر َّبته عمته السيدة عائشة‬

‫خصهما‬
‫فعمر بن عبد العزيز لم يقصد االقتصار في التدوين على حديث القاسم وعمرة‪ ،‬بل َّ‬
‫بالذكر ألهمية ما عندهما؛ ألنهما تربيا في بيت أم المؤمنين عائشة‬
‫‪ ،‬وهو بيت النبوة‪ ،‬فأراد أن‬
‫أقرب الناس إلى رسول الله ﷺ ومن أعلم‬ ‫عدنه‪ ،‬فأم المؤمنين عائشة‬‫الحديث من م ِ‬
‫ُ‬ ‫ُيكتب‬
‫ُ‬
‫الصحابة بحديثه عليه الصالة والسالم‪.‬‬

‫بالمصاحف‪ ،‬روى‬ ‫‪4‬ـ حرص على إرسال ما كُتب إلى األمصار‪ ،‬كما فعل سيدنا عثمان‬
‫عمر بن عبد العزيز بجمع السنن‪،‬‬
‫ابن عبد البر عن ابن شهاب الزهري (ت‪124‬هـ) قال‪( :‬أمرنا ُ‬

‫( ) الجرح والتعديل (‪.)21/1‬‬


‫‪1‬‬

‫(‪ )2‬تهذيب التهذيب البن حجر العسقالني (‪.)439/12‬‬

‫‪13‬‬
‫فكتبناها دفتر ًا دفتر ًا‪ ،‬فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفتر ًا)(‪.)1‬‬

‫بخطوات رديفة تؤيد هذا المشروع وتثريه‪ ،‬فمن ذلك‪:‬‬ ‫كما قام عمر بن عبد العزيز‬

‫‪1‬ـ أمر بنشر العلم في المساجد إلحياء السنة بذلك‪ ،‬ففي رواية البخاري تعليق ًا لكتاب عمر‬
‫بن عبد العزيز‪( :‬و ْل ُت ْفشوا العلم و ْلت ْجلِسوا حتى ُيع َّلم من ال يعلم؛ فإن العلم ال يهلِك حتى يكون‬
‫سر ًا)(‪ .)2‬وروى الرامهرمزي عن عكرمة بن عمار قال‪ :‬سمعت كتاب عمر بن عبد العزيز‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫(أما بعد‪ ،‬ف ْأ ُمر أهل العلم أن ينشروا العلم في مساجدهم؛ فإن السنة كانت قد ُأميتت)(‪.)3‬‬

‫خصص أعطيات من بيت المال لطالب العلم ليتفرغوا لطلب علوم القرآن والسنة‪ ،‬روى‬
‫‪2‬ـ َّ‬
‫أبو ُزرعة الدمشقي في تاريخه عن أبي بكر بن أبي مريم قال‪( :‬كتب عمر بن عبد العزيز إلى والي‬
‫حمص‪ :‬أن ُم ْر ألهل الصالح من بيت المال بما ُيغنيهم؛ لئال يشغلهم شاغل عن تالوة القرآن وما‬
‫حملوا من األحاديث)(‪.)4‬‬

‫وألجل هذه الجهود التي قام بها الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز عدَّ ه العلما ُء المجدد‬
‫والسبب في ذلك عد ُله المعروف‪ ،‬ومشرو ُعه في تدوين السنة المطهرة (‪.)5‬‬
‫ُ‬ ‫على رأس المئة األولى‪،‬‬

‫ولعل أول من بادر إلى تدوين الحديث بعد أمر عمر بن عبد العزيز اإلمام محمد بن مسلم ابن‬
‫شهاب الزهري (ت‪421‬هـ)‪ ،‬وقد كانت له سابقة في كتابة الحديث منذ أيام الطلب‪ ،‬كما روى عبد‬
‫الرزاق عن صالح بن كيسان (ت بعد ‪140‬هـ) قال‪( :‬اجتمعت أنا واب ُن شهاب ونحن نطلب العلم‪،‬‬

‫( ) جامع بيان العلم وفضله (‪ ،)331/1‬رقم (‪.)438‬‬ ‫‪1‬‬

‫( ) البخاري‪ ،‬كتاب العلم‪ ،‬باب‪ :‬كيف يقبض العلم‪ ،‬قبل الرقم (‪.)100‬‬‫‪2‬‬

‫( ) كتاب المحدث‪ ،‬الفاصل بين الراوي والواعي (ص‪ )603‬رقم (‪.)873‬‬ ‫‪3‬‬

‫( ) تاريخ أبي زرعة الدمشقي (‪ )634/1‬رقم (‪.)1840‬‬ ‫‪4‬‬

‫( ) انظر‪ :‬التنبئة بمن يبعثه الله على رأس كل مئة‪ ،‬السيوطي‪( ،‬ص‪.)50‬‬
‫‪5‬‬

‫‪14‬‬
‫فاجتمعنا على أن نكتب السنن‪ ،‬فكتبنا َّ‬
‫كل شيء سمعناه عن النبي ﷺ‪ ،‬ثم كتبنا أيض ًا ما جاء عن‬
‫عت)(‪.)1‬‬
‫أصحابه‪ ،‬فقلت‪ :‬ال‪ ،‬ليس بسنة‪ ،‬وقال هو‪ :‬بلى‪ ،‬هو سنة‪ ،‬فكتب ولم أكتب‪ ،‬فأنْجح وض َّي ُ‬

‫فدون الكثير‬
‫فلما صدر األمر بالتدوين في العهد األموي كان الزهري من طالئع المدونين‪َّ ،‬‬
‫اهتم الخلفاء األمويون باستكتاب ما‬
‫من الحديث النبوي الشريف وأخبار السيرة المطهرة‪ ،‬حتى َّ‬
‫عند الزهري من الحديث كما روى أبو نعيم األصفهاني عن ابن شهاب الزهري قال‪( :‬لقيني سالم‬
‫كاتب هشام ـ يعني هشام بن عبد الملك (ت‪125‬هـ) ـ فقال‪ :‬إن أمير المؤمنين يأمرك أن تكتب‬

‫لولده حديثك‪ ،‬فقال له‪ :‬لو سألتني عن حديثين ُأ ُ‬


‫تبع أحدهما اآلخر ما قدرت على ذلك‪ ،‬ولكن‬
‫قل يوم إال يأتيني قوم يسألونني عما لم ُأسأل فيه باألمس‪ ،‬فبعث‬
‫إلي كاتب ًا أو كاتبين؛ فإنه َّ‬
‫ابعث َّ‬
‫إلي سن ًة)(‪ .)2‬والظاهر أن األمويين َّ‬
‫حصلوا الكثير من علم الزهري‪ ،‬فقد روى ابن‬ ‫بكاتبين اختلفا َّ‬
‫سعد عن معمر بن راشد (ت‪153‬هـ) قال‪( :‬كنا نرى أنا قد أكثرنا عن الزهري‪ ،‬حتى ُقتل الوليد بن‬
‫يزيد ـ آخر الخلفاء األمويين ـ فإذا الدفاتر قد ُحملت على الدواب من خزائنه من ِعل ِم الزهري)(‪.)3‬‬

‫والترتيب شيئ ًا فشيئ ًا‪ ،‬شأنه في ذلك شأن‬


‫ُ‬ ‫الجمع‬
‫ُ‬ ‫تطور التدوين في هذه المرحلة من حيث‬
‫و َّ‬
‫كل علم في بدايات تدوينه‪ ،‬فبعد أن كان الحديث يكتب من غير ترتيب وتبويب ألجل الحفظ‬
‫والمراجعة بدأت تظهر معالم التصنيف والتبويب‪ ،‬فصاروا يجمعون كل باب على حدة في‬
‫صحيفة‪:‬‬

‫من أمثلة ذلك‪ :‬تدوين عامر بن شراحيل الشعبي (ت‪103‬هـ) ألحاديث الطالق‪ ،‬كما روى‬
‫الرامهرمزي عنه قال‪( :‬باب من الطالق جسيم‪ ،‬إذا اعتدَّ ت المرأة و ِرثت)‪ ،‬وله كتب أخرى في‬

‫( ) مصنف عبد الرزاق (‪ )258/11‬رقم (‪.)20487‬‬ ‫‪1‬‬

‫( ) حلية األولياء (‪.)361/3‬‬


‫‪2‬‬

‫( ) الطبقات الكبير (‪.)435/7‬‬


‫‪3‬‬

‫‪15‬‬
‫موضوعات متعددة‪ ،‬وقد عنون الرامهرمزي لهذا الخبر‪( :‬التبويب في التصنيف)(‪ .)1‬فهذه خطوة‬
‫أولى من خطوات التبويب والترتيب وجمع النظير إلى النظير‪.‬‬

‫المبوبة‪ ،‬فقد حصل االعتناء بالترتيب والتبويب‬


‫َّ‬ ‫ثم بدأت تظهر مرحلة المصنفات الجامعة‬
‫في طبقة تالميذ الزهري وتالميذهم في القرن الثاني الهجري‪ ،‬وفي هذه المرحلة شاع التصنيف‬
‫وقل ِمصر من األمصار اإلسالمية إال وصنف علماؤه في الحديث‪،‬‬
‫بين أئمة الحديث بشكل واسع‪َّ ،‬‬
‫ففي مكة‪ :‬عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج (ت‪150‬هـ)‪ ،‬وسفيان بن عيينة (ت‪198‬هـ)‪ ،‬وفي‬
‫المدينة‪ :‬محمد بن إسحاق (ت‪151‬هـ)‪ ،‬ومالك بن أنس (ت‪179‬هـ)‪ ،‬وفي الشام‪ :‬عبد الرحمن‬
‫بن عمرو األوزاعي (ت‪157‬هـ)‪ ،‬وفي العراق‪ :‬سفيان الثوري (ت‪161‬هـ)‪ ،‬ووكيع بن الجراح‬
‫(ت‪197‬هـ) كالهما بالكوفة‪ ،‬وحماد بن سلمة بالبصرة (ت‪167‬هـ)‪ ،‬وفي خراسان‪ :‬عبد الله بن‬
‫المبارك (ت‪181‬هـ)‪ ،‬وفي مصر‪ :‬عبد الله بن وهب (ت‪197‬هـ) واإلمام الشافعي (ت‪204‬هـ)‪،‬‬
‫وفي اليمن‪ :‬معمر بن راشد (ت‪154‬هـ)‪ ،‬ثم تلميذه عبد الرزاق الصنعاني (ت‪211‬هـ)‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬

‫فقد شاع التصنيف في سائر األمصار اإلسالمية كما رأينا‪ ،‬وقد وصلنا الكثير من هذه الكتب‬
‫بفضل الله؛ كالسيرة البن إسحاق‪ ،‬وجامع معمر بن راشد‪ ،‬وجامع عبد الله بن وهب‪ ،‬وكتب اإلمام‬
‫الشافعي‪ ،‬ومصنف عبد الرزاق‪ ،‬كل هذا وصلنا من مصنفات القرن الثاني‪ ،‬وما لم يصلنا منها استوعبته‬
‫مصنفات القرن الثالث كالكتب الستة ونحوها بطريقة الرواية‪ ،‬فوصلنا مضمونه ولله الحمد والمنة‪.‬‬

‫وال َّ‬
‫شك أن أبرز ما وصلنا من مصنفات هذا القرن «موطأ اإلمام مالك» على تنوع رواياته‪،‬‬
‫حيث طلب منه تصنيفه أبو جعفر المنصور ثاني الخلفاء العباسيين‪ ،‬ومنهجه يمثل نموذج ًا‬
‫لمصنفات تلك المرحلة‪ ،‬فهو مرتب على األبواب‪ ،‬لكن مع الجمع بين المسند والمرسل‪،‬‬
‫والجمع بين الحديث المرفوع وبين آثار الصحابة والتابعين‪ ،‬ومثله لكن مع التوسع والشمول‬

‫( ) كتاب المحدث‪ ،‬الفاصل بين الراوي والواعي (ص‪ )609‬رقم (‪.)889‬‬


‫‪1‬‬

‫‪16‬‬
‫مصنف عبد الرزاق الذي جمع فيه نحو عشرين ألف حديث وأثر‪ ،‬ويعد ديوان ًا ضخم ًا لفتاوى‬
‫الصحابة والتابعين‪.‬‬

‫المرحلة الثالثة‪ :‬التصنيف في القرن الثالث الهجري الذي يسمى عصر السنة الذهبي‪ ،‬ويتلوه‬
‫تطور التصنيف بشكل كبير‪ ،‬وتنوعت مقاصد األئمة في تصانيفهم‪ ،‬وظهرت‬
‫القرن الرابع‪ ،‬وفيهما َّ‬
‫طرائق مختلفة في التصنيف‪ ،‬أبرزها وأشهرها طريقتان‪:‬‬

‫‪4‬ـ التصنيف على طريقة المسانيد‪ ،‬وفيها تُرتَّب األحاديث حسب أسماء الصحابة‪ ،‬فتُجمع‬
‫ُ‬
‫أحاديث كل صحابي في ترجمة خاصة‪ ،‬وأبرز مصنفات هذا النوع مسند اإلمام أحمد الذي جمع‬
‫فيه نحو ثالثين ألف حديث‪.‬‬

‫وتمتاز المسانيد باقتصارها على األحاديث المرفوعة دون أقوال الصحابة والتابعين‪ ،‬ولكن‬
‫الغرض األساس منها هو جمع ما ُيروى‪ ،‬فلذلك كانت معظم المسانيد تشتمل على الصحيح‬
‫والحسن والضعيف والواهي‪ ،‬وما يحتج به وما ال يحتج به‪.‬‬

‫‪2‬ـ التصنيف على طريقة األبواب‪ ،‬وهي طريقة الموضوعات الفقهية وغيرها‪ ،‬واألصل في هذه‬
‫الطريقة أن يقصد صاحبها تقديم مادة حديثية جيدة تصلح للعمل‪ ،‬فلذلك يحرص أصحاب الكتب‬
‫المبوبة غالب ًا أن يذكروا ما يصلح للعمل به دون شديد الضعف‪ ،‬وفي ذلك يقول الحافظ ابن حجر في‬
‫مقدمة «تعجيل المنفعة»‪( :‬أصل وضع التصنيف للحديث على األبواب أن ُيقتصر فيه على ما يصلح‬
‫لالحتجاج أو االستشهاد‪ ،‬بخالف من رتب على المسانيد فإن أصل وضعه مطلق الجمع)(‪.)1‬‬

‫وأبرز من اختار التصنيف على هذه الطريقة أصحاب الكتب الستة المشهورة‪ ،‬التي تعد من‬
‫المعول عليها‪ ،‬والتي اقتصرت على األحاديث المرفوعة غالب ًا‪ ،‬وهي الجامع‬
‫َّ‬ ‫أهم دواوين السنة‬

‫(‪ )1‬تعجيل المنفعة (‪.)236/1‬‬

‫‪17‬‬
‫الصحيح للبخاري‪ ،‬وصحيح مسلم‪ ،‬وجامع الترمذي‪ ،‬وسنن أبي داود والنسائي وابن ماجه‪ .‬إال أن‬
‫اإلمام البخاري ومسلم ًا اقتصرا في تصنيفهما على الحديث الصحيح‪ ،‬بينما جمع أصحاب السنن‬
‫بين الصحيح والحسن والضعيف الصالح للعمل أو االستشهاد غالب ًا‪.‬‬

‫وال بد قبل ختام هذه المحاضرة من التنبيه على أمرين مهمين على غاية من األهمية‪:‬‬

‫أوالً‪ :‬قد يطلع من لم يكن من أهل هذا الفن على كتب الحديث كصحيح البخاري‪ ،‬فيجد‬
‫اإلسناد بين البخاري وبين النبي ﷺ أربع وسائط أو خمسة أو ستة أو أقل أو أكثر‪ ،‬فيظن أن هذه‬
‫السلسلة قد تناقلت الحديث بالمشافهة المحضة ك َّل هذا الزمن الطويل‪ ،‬وهذا خطأ كبير نشأ عن‬
‫عدم معايشة لظروف الرواية ومصطلحات أهلها‪.‬‬

‫والحقيقة أن الكثير من هذه األسانيد التي تبدو شفاهية محضة تعتمد على صحف مكتوبة‬
‫ورواية من طريق مصنفات سابقة موجودة في حوزة األئمة المصنفين‪ ،‬لكنهم كانوا يحرصون على‬
‫رواية الحديث باإلسناد ولو كان منقوالً من كتاب سابق‪.‬‬

‫فالمصنفون في القرن الثالث كالبخاري ومسلم وغيرهما اعتمدوا على كتب أئمة القرن الثاني‬
‫التي أخذوها بالسماع والقراءة على شيوخهم‪ ،‬ككتب مالك‪ ،‬وعبد الله بن المبارك‪ ،‬وسفيان الثوري‪،‬‬
‫وعبد الله بن وهب وغيرهم‪ ،‬وهؤالء اعتمدوا على كتب المصنفين األوائل كالزهري وطبقته‪ ،‬والتي‬
‫أخذوها عنهم أيض ًا بالقراءة والسماع‪ ،‬واستعملوا في العزو إليها طريقة الرواية بصيغة حدثنا‬
‫وأخبرنا‪.‬‬

‫وبما أن موطأ مالك بين أيدينا فلنأخذ هذا المثال التطبيقي‪:‬‬

‫قال اإلمام البخاري في صحيحه‪ :‬حدثنا عبد الله بن يوسف‪ :‬أخبرنا مالك‪ ،‬عن ابن شهاب‪،‬‬
‫‪ ،‬أنها قالت‪« :‬ما ُخير رسول الله ‪ ‬بين أمرين إال أخذ‬ ‫عن عروة بن الزبير‪ ،‬عن عائشة‬

‫‪18‬‬
‫أيسرهما‪ ،‬ما لم يكن إثم ًا‪ ،‬فإن كان إثم ًا كان أبعد الناس منه»(‪.)1‬‬

‫فالحديث رواه اإلمام البخاري من طريق موطأ اإلمام مالك‪ ،‬والموطأ كان في متناول يده‪،‬‬
‫وقد أخرج اإلمام مالك هذا الحديث في الموطأ بلفظه سند ًا ومتن ًا‪ ،‬والبخاري قد سمع الموطأ من‬
‫شيخه عبد الله بن يوسف التنيسي الذي أخذه عن مؤلفه‪ ،‬فعبر عن ذلك بقوله‪ :‬حدثنا عبد الله بن‬
‫يوسف‪ :‬أخبرنا مالك‪.‬‬

‫و ُق ْل مثل ذلك في رواية مالك عن شيخه الزهري‪ ،‬فقد كان مالك يقرأ على الزهري حديثه‬
‫دونها أو ُدونت عنه‪ ،‬والدليل على ذلك ما رواه الرامهرمزي عن عبيد الله بن عمر‬
‫من الكتب التي َّ‬
‫بن حفص العمري قال‪( :‬ما أخذنا عن ابن شهاب ـ يعني الزهري ـ إال قراءةً‪ ،‬كان يقرأ لنا مالك‪،‬‬
‫وكان جيد القراءة)(‪ .)2‬فهذا الخبر يدل على وجود كتب الزهري بين يدي اإلمام مالك منذ طلبه‬
‫للحديث‪.‬‬

‫فحين يسمع غير المختص تسلسل الرواية بحدثنا وأخبرنا يظن أن النقل كان بالمشافهة‬
‫المحضة‪ ،‬وهو فهم خاطئ نتج عن عدم ممارسة الصطالحات المحدثين‪ ،‬وعدم معرفة متخصصة‬
‫بمنهجهم القويم‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬إذا كان موضوع هذه المحاضرة يركز على التدوين‪ ،‬فإن أئمة الحديث األوائل لم‬
‫يكتفوا بالتدوين وحده‪ ،‬بل جمعوا إليه الحفظ كما قلنا‪ ،‬واشترطوا في المادة المدونة أيض ًا أن‬
‫يسمعها الطالب من لفظ الشيخ أو أن يقرأها بين يديه‪ ،‬ليصوب ما يمكن أن يتطرق إلى الحديث‬
‫من التصحيف والتحريف‪ ،‬وذلك أن الكتابة في العهد األول لم تكن منقوطة وال مشكولة‪ ،‬فإذا‬
‫اعتمد الطالب على الكتاب وحده فقد يقرأ الكلمة على غير وجهها‪ ،‬أما إذا سمعها وقرأها على‬

‫(‪ )1‬البخاري‪ ،‬كتاب المناقب‪ ،‬باب صفة النبي ﷺ‪ ،‬رقم (‪ ،)3561‬وانظر موطأ مالك‪ ،‬ما جاء في حسن الخلق (‪.)912/2‬‬
‫( ) كتاب المحدث‪ ،‬الفاصل بين الراوي والواعي (ص‪ )429‬رقم (‪.)479‬‬‫‪2‬‬

‫‪19‬‬
‫شيوخه الذين كانوا سمعوها على شيوخهم فحينئذ يأمن من احتماالت الخطأ والتصحيف‪،‬‬
‫ويكون قد جمع بين تحصيل الحديث مكتوب ًا‪ ،‬وتحمله على أهله مشافهة‪ ،‬وهذا منتهى ما ُيتصور‬
‫من الضبط واإلتقان‪.‬‬

‫روى الخطيب البغدادي عن ابن عون قال‪( :‬قلت البن سيرين (ت‪110‬هـ)‪ :‬ما تقول في‬
‫رجل يجدُ الكتاب‪ ،‬يقرؤه أو ينظر فيه؟ قال‪ :‬ال‪ ،‬حتى يسمعه من ثقة)(‪ .)1‬ويقول اإلمام مسلم بن‬
‫الحجاج (ت‪261‬هـ) في كتاب «التمييز» بعد أن ذكر تصحيف ًا البن لهيعة‪( :‬وابن لهيعة إنما وقع في‬
‫الخطأ في هذه الرواية أنه أخذ الحديث من كتاب موسى بن عقبة إليه فيما ُذكر‪ ،‬وهي اآلفة التي‬
‫نخشى على من أخذ الحديث من الكتب من غير سماع من المحدث أو ع ٍ‬
‫رض عليه‪ ،‬فإذا كان أحدُ‬
‫هذين ـ السماع أو العرض ـ فخليق أن ال يأتي صاحبُه التصحيف القبيح وما أشبه ذلك من الخطأ‬
‫الفاحش)(‪.)2‬‬

‫يدون في عهد السلف‪ ،‬فإنا نقول‪ :‬إن أئمة‬


‫فإذا كان بعض المنتقدين يظنون أن الحديث لم َّ‬
‫الحديث لم يكتفوا بالتدوين فحسب‪ ،‬بل جمعوا إليه التلقي بالمشافهة من أهله‪ ،‬والحفظ في‬
‫الصدور‪ ،‬وكلما نقصت هذه الشروط في الراوي نقصت مرتبته‪ ،‬وكلما خ َّفت هذه الشروط في‬
‫الحديث نزلت درجته‪ ،‬فأي منهج توثيقي أعظم من منهج المحدثين؟‬

‫وفي الختام أقول‪ :‬أليس منهج المحدثين في توثيق السنة النبوية المطهرة مظهر ًا من مظاهر‬
‫قول الله عز وجل‪( :‬إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)[سورة ِ‬
‫الحجر‪.]9 :‬‬

‫والسالم عليكم ورحمة الله وبركاته‪.‬‬


‫د ‪ .‬عمر النشوقايت‬ ‫‪ 1440 / 5 / 5‬هـ‬
‫‪ 2019 / 1 / 11‬م‬
‫( ) الكفاية (‪ )359/2‬رقم (‪.)1131‬‬
‫‪1‬‬

‫( ) التمييز (ص‪ )188‬بعد الرقم (‪.)57‬‬


‫‪2‬‬

‫‪21‬‬

You might also like